مُهْتَدِينَ} (البقرة: 7) [4] .
تنبيه:
وتأييدا لما ذكرنا فقد صرح أحد تلاميذ المستشرقين وممن يدعى كذبا من أبناء الإسلام قال: "إنّ جميع الذين درسوا الإسلام عن طريق البحث العلمي الغربي هم بلا استثناء تلاميذ المستشرقين وخدمهم, فعليهم أن يجددوا فهم الإسلام كما تعلّموه من الغرب, لا كما جاء من الله والرسول".
وقد ذكر اللورد كرومر قائلا: "إنّ بريطانيا عزمت أن لا تمنح استقلالا, ولا تعطي الحرية لأي مستعمرة من مستعمراتها مالم تُربِّي جيلاً من أبناء تلك المستعمرة ليقوموا بخدمتها" [5] .
ولقد كانت هذه الكلمة حقيقة واقعة مشاهدة إلى الآن, هذه التي ذكرها كورمر إذ أنجبت بالفعل جيلا وفيّاً لخدمة بريطانيا, ومنهم نماذج كثيرة, وللقراء الكرام نموذجا على ذلك وهو الشيخ.. صاحب كتاب: (الإسلام وأصول الحكم) , وقد جاء فيه ما يلي: "إنه من الملاحظ البيِّن في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أنّ حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظا, وأنّ وجودها بينهم كان أضعف وجودا, فلسنا نعرف لهم مؤلفا في السياسة, ولا مترجما, ولا نعرف لهم بحثا في أنظمة الحكم, ولا أصول السياسة, اللهم إلاّ قليلا لا يقام له وزناً إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون", ثم يضيف إلى ذلك قوله: "فما لهم قد وقفوا حيارى أمام ذلك العلم, وارتدوا دون مباحثه خاسرين؟ مالهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون, وكتاب السياسة لأرسطو, وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقّبوه بالمعلم الأول؟ مالهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة, وأنواع الحكومات عند اليونان, وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم النحو, وأن يروِّضوهم برياضة بيدبا الهندي في كتاب كليلة ودمنة, بل رضوا أن يمزجوا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر, وإيمان وكفر؟ " [6] .(2/257)
عظمة الإسلام:
والعجب العجاب والعظمة البالغة من الإكبار والاحترام لقوة الإسلام العظيم الرهيبة, والمؤيد بالقوة العلمية الخارقة؛ إذ أنّ الله تعالى - وهو أحكم الحاكمين حقا - يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" [7] .
فقد برهنت الوقائع المتناهية والأدلة الثابتة بصدق ما ذكرنا آنفا, إذ وقف بوجه هذا الشيخ.. ومن دار بفلكه رجل نصراني من أتباع الصليب يرده بعنف, ويفنّد مزاعمه وأباطيله ويجهله بنفس المؤلف هو الأستاذ بطرس بطرس غالي, وهذا ما يكفيه خزيا, وردّه هذا يقع في عشرين صفحة من 171-191, وفي فصل كامل ونحن لا نستطيع أن نسطِّر هذا التفنيد كله لافتراءات الشيخ.. على الإسلام وجهله به إلا أننا نقتبس منه بعض الشيء ليستنير القارئ المسلم الكريم والباحث المنصف بعظمة الإسلام وقوته الحركية المولدة الدافعة نحو التقدم والازدهار, وهذه حقيقة عظمة الإسلام في كل زمان ومكان, (والفضل ما شهدت له الأعداء) , قال الدكتور بطرس بطرس غالي: "وآراء الأستاذ.. في رأينا تنطوي على كثير من المبالغة؛ فقد أثبتت الدراسات التي قام بها العلماء أخيراً, أنّ هناك مفكّرين سياسيين في الإسلام لا يقلون شأنا عن المفكرين السياسيين في الأمم الأخرى فهناك عشرات [8] من العلماء ألّفوا في علم السياسة ممن سنعرض لبعضهم بالإيجاز ولبعضهم بشيء من التفصيل:
4- بعض رجال الفكر السياسي الإسلامي:(2/258)
1- ومن هؤلاء المؤلفين (أبو بكر الطرطوشي) من رجال القرن الثاني عشر وكان تلميذ لابن حزم, من أكبر علماء الأندلس في إشبيلية, ثم رحل إلى المشرق, ودرس في بغداد, وله كتاب في علم السياسة اسمه (سراج الملوك) قدمه للوزير المأمون بفسطاط.. وهو يتناول فيه نصائح للملوك ويحلّل صفات الولاة, والقضاة, والعلاقة بين الحاكم الأعلى ورعيته ونظام الدولة, وصفات الوزراء, والجلساء, والشروط الواجب توافرها في حاشية السلطان, وعلاقة السلطان ببيت المال وموظفيه, وكيف يعامل أهل الذمة ونحو ذلك. وقد ذكره ابن خلدون في مقدمته وأثنى عليه.
2- ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله كان معاصرا للسلطان صلاح الدين الأيوبي, وألف له كتابا أسماه (المنهج المسلوك في سياسة الملوك) .
3- ومنهم ابن حماتي المصري كان قبطيا ثم أسلم, وله كتاب (قوانين الدواوين) وثانيهم كتاب (الفاشوش في أحكام قراقوش) عرف باسم قراقوش وهو وزير صلاح الدين الأيوبي.
4- ومنهم عثمان بن إبراهيم النابلسي الذي كان يشرف على الدواوين المصرية في القرن الثالث عشر, وألّف كتابا اسمه (لمع القوانين المضيئة) .(2/259)
هؤلاء وكثير غيرهم من المذكورين في مؤلف الدكتور بطرس وغيرهم من الذين نعرفهم نحن من أعلام الإسلام القدامى والمعاصرين لفيه الكفاية على افتراءات وجهل الشيخ مما دعا الدكتور يقول أيضا: "هذه مما تبيح لنا أن نعدهم من قادت الفكر السياسي, إلا أن كتبهم تدل على أنّ الأستاذ [9] قد بالغ في قوله: إن الحركة العلمية عند المسلمين لم يكن للعلوم السياسية حظ فيها". ثم يستطرد الدكتور بطرس في ردّه على أكاذيب وجهل الشيخ.. "وهناك مؤلفون آخرون لا نتجاوز الحق إذا عددناهم من قادة الفكر السياسي في العالم, وسنعرض لبعضهم بشيء من التفصيل"نذكر هنا الأسماء فقط:
أولا: أبوا النصر الفارابي (870-950م) .
ثانيا: ابن أبي الربيع (القرن التاسع الميلادي) .
ثالثا: أبو حامد الغزالي (1058 – 1902 م) .
رابعا: ابن خلدون (1332 – 1406 م) .
خامسا: عبد الرحمن الكواكبي (1848 –1902 م) . [10]
وناهيك عن ذكر العلم الفذ الذكي البارع المجاهد العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية (661- 278هـ , 1262- 1328م) , وتلميذه النجيب ابن قيم الجوزية, ثم الشيخ الورع العالم المجاهد وقائد النهضة الإسلامية ومحارب البدع والضلال الشيخ محمد بن عبد الوهاب السعودي, ولد في (1115- 1206 م) ,وله من العمر 92عاماً. ومؤلفاتهم في السياسة والإدارة وفي جميع المجالات ومقاومتهم ووقوفهم بصلابة في وجه الأعداء.
5- قاعدة:(2/260)
عندما ينحرف أو يتخلى عن الإسلام أهله فإنّ الله تعالى يهيئ من أعدائه أناسا ليدافعوا عنه سواء شعروا أم لم يشعروا, وهذا سر من أسرار بقائه وديمومته, كما هيأ الدكتور بطرس للرد على افتراء وجهل الشيخ.. والأدلة على هذا كثيرة قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الأنعام 129. وقال في تأييده للرسول صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} التوبة:40
6- الإدارة العامة والسياسة:
وبما أنّ الإدارة العامة تعد تارة فرعا مهما من فروع العلوم السياسية [11] , وتارة تعد السياسة فرعا منها, وتارة تعتبر الإدارة العامة علما وفنا مستقلا قائما بذاته [12] , وإن كان هذا العلم لشديد الصلة مع غيره من العلوم, وهذا هو ما سنقوم بتبيانه وشرحه وتوضيحه لمن يجهل بالإسلام العظيم من تلاميذ المستشرقين الحاقدين, وغيرهم ممن يخبط فيه خبط عشواء لم تصب. والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة حقائق الإسلام العظيم في جميع المجالات, وبالأخص في هذا الزمان بالذات الذي تكالب الأعداء عليهم من جميع الجهات وتزيّن لهم الأنظمة البشرية الفاسدة بدعايتها المسمومة, وليعلموا أن لا ملجأ لهم ولا عاصم من غارات الأعداء الهمجية الوحشية إلا الإسلام العظيم, وأنه لا يحقق لهم العدالة والحرية والمساواة في بلادهم إلا الإسلام بكليته وتمامه, لذا فمن أوجب الواجبات عليّ أن أبيّن ما خفي على المسلمين من التعريف بالإسلام العظيم عامة, والإدارة العامة فيه خاصة, وكيف تناولها بأسلوبه السلس الرصين, وتشكيلاته وتنظيماته السليمة الرشيدة, لا كما عرفته البيروقراطية [13] الضالة العاجزة التي تعج وتعصف بمشكلاتها المستعصية دون حل إلا اللهم الظلم والاستبداد, والرجوع بالإنسان إلى الوحشية وسيادة الغاب في التعامل الوظيفي, وهذا هو الفساد والدمار.(2/261)
7- الإدارة العامة:
فالإدارة العامة الناجحة لأكبر دليل عل تقدم البلاد وازدهارها, والرديئة لأكبر دليل عل تأخر البلاد وتخلّفها, وهي المحرّر الوحيد الذي يعرف بها مقياس درجة الارتفاع والانخفاض بالنسبة للتقدم والتخلف؛ ولأنها تهتم بالتنظيم والتخطيط والتنسيق والقيادة والعلاقات الإنسانية مع مراعاة التوازن بين المادة والقيم, لذلك كان إعادة النظر دائما في الإصلاح الإداري بالنسبة للأمم المتمدنة والشعوب الراقية أمر لابد منه بين فترة وفترة أخرى معينة ومحدودة ومستمرة وفق قواعد مرسومة ثابتة.
8- الشذرة:
وشذرة كل ما تقدم أن الإسلام العظيم نظام كامل شامل للحية الطيبة السعيدة, له أعداء كثر قديما وحديثا, لذا فمن المفروض عليّ أن أبيِّن حقائق الإسلام في علم وفن (الإدارة العامة) , وإني لأرجو أن قد وفقت لما قلت, وما سأقوله عن الإدارة العامة سابقا ولاحقا, والله تعالى أسأل أن يجمع كلمتنا على الإسلام وحده فقط.
- انتهى المدخل -
للبحث صلة
--------------------------------------------------------------------------------
[1] إذا المسلم الغيور يرغب بالمزيد للتوسع عليه أن يدرس كتاب (أسرار الماسونية) للجنرال المسلم التركي جواد رفعت آتلخان ترجمة الأستاذ نور الدين الواعظ. وكتابا (هل نحن مسلمون) صفحة 132وما بعدها, ومقدمة (شبهات حول الإسلام) تأليف الأستاذ محمد قطب.
[2] رواه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوة, خرّج هذا الحديث من كتاب (مشكاة المصابيح) بهذا اللفظ الجزء الثاني تحقيق الالباني, وقال عنه: حديث صحيح.
[3] مقتطفات من كتاب ظلال القرآن لسيد قطب (المجلد الرابع) تفسير سورة التوبة.
[4] عن مقال باللغة الإنجلزية للسيدة (مريم جميلة) من مجلة المسلم الصادرة من قبل الطلبة المسلمين في لندن.(2/262)
[5] من كتاب (المؤامرة الصهيونية والعالم الإسلامي) باللغة الإنجليزية للفاروقي.
[6] المدخل في علم السياسة ص 171 في 28/10/1967 حررنا مقالا بعنوان (الإسلام علاجنا) نشر في جريدة (الرافدان) البغدادية لو رجع الشيخ.. إليه بالتأكيد فسينبذ كل ما يستوحيه من أسياده.
[7] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية للشيخ تقي الدين ابن تيمية ص14.
[8] يذكر الدكتور بطرس بأنه هناك العشرات من العلماء ألّفوا في علم السياسة, وهذا طبعا لاطلاعه المحدود, ولكن علماء المسلمين الذين ألّفوا في علم السياسة هم مئات بل الألوف, ونحن على استعداد بأن نقدم الإحصائية إن أراد الدكتور؛ لأن الحكم جزء مهم من الإسلام والحرية فريضة من فرائضه.
[9] إنيّ لم أذكر اسم الشيخ لأعرفه للقراء, ولكن من يريد اسمه يرجع إلى الكتاب الذي ذكرناه سلفا.
[10] المدخل إلى علم السياسة للدكتور بطرس مع الاشتراك تشاهد التفصيل من صفح ة 1 7 1 إلى 191 في المبحث الرابع.
[11] العلوم السياسية ترجمة مهيبة مالكي الدسوقي 192.
[12] دراسة في الإدارة العامة دوايت والدو صفحة 22 وما بعدها.
[13] تعني البيروقراطية: التبذير والفساد وعدم التقيد, ولكن المفهوم الفني لهذا اللفظ هو (حكومة المكتب) أو (الإدارة عن طريق المكاتب) راجع كتاب (البيروقراطية والمجتمع في مصر) صفحة 1 تأليف مورو بيرجر ترجمة وتقديم الدكتور محمد توفيق رمزي.(2/263)
متى
عبد العزيز القارئ
(متى؟) إنها علامة استفهام كبيرة؟ قد يمليها الواقع من حولك؟ الواقع البعيد البعيد عما تريده وتحلم به, ويخيل إليك أنه لا يزال يتباعد حلمك عنك حتى تتحول هذه العلامة إلى علامة يأس.
يا بدرُ فاسمع ما حوى صدري
بحر المنى سلَّّمتُهُ أمري
سارت بلُجَّته مراكبُنا
الشوقُ يدفعها ولا تدري
لما رأت في الأُفْقِ مُنْيَتَها
كالآل يُشرِقُ في دجى القفر
وتنازعتها الريح في صلَفٍ
لكنها طارت بلا صبر
حتى إذا طالت مسيرتها
ومضى بها دهرٌ إلى دهر
والأفق يضحك من تشوُفِها
متماديا في البعد والهجر
ضاعت بذلك الليل وُجهتَها
وتخبطت في مَهْمهٍ مرِّ وتلفتت
وتلفتَتْ تبغي سلامتها
وقيادُها في قبضة السحر
لكنها أعْيَت وفارقها
ماكان تعهده من الصبر
حتّام هذا الموج يحملنا
أتراه يصحبنا إلى الحش
وإلام هذا الشوق نحمله
ونزيده جمرا على جمر
الشوق زاد تأجُّجاً ولظىً
هل مُزنةٌ تُرويه بالقطر
والأفْقُ ذاك متى سندركه
والبدر, هل ندنو من البدر؟
والليل طال أليس بارقةٌ
فيه أما للّيل من فَجرِ؟
عبد العزيز القارئ(2/264)
من أخبار الجامعة
تقرير إداري عن سير الدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة يقدم إلى المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية في دورته الخامسة.
نحمد الله تعالى ونشكره ونصلي ونسلم على خير خلقه وخاتم أنبيائه محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد: أصحاب السماحة والفضيلة ورئيس وأعضاء المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية: إنه ليسرّنا أن نقدم إليكم تقريرنا الخامس عن سير الدراسة في الجامعة الإسلامية, وتنفيذ نظامها والسعي إلى تحقيق أهدافها, إنفاذاً لما جاء في المادة (11) من نظام الجامعة الإسلامية الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/18 وتاريخ 18/5/86هـ وقبل ذلك نود أن نقدم شكرنا وتقديرنا لحضراتكم على ما تجشمتموه من عناء السفر وما تحملتموه من وعثائه لكي تلبوا دعوة الجامعة الإسلامية وتشاركوا في هذا الاجتماع لتساهموا من طريقه بالعمل على مساعدة الجامعة الإسلامية لبلوغ أهدافها النبيلة, وغاياتها الدينية السامية, ونسأل الله تعالى أن يجزل لكم المثوبة, ويجزيكم على ذلك أفضل جزاء وأعظمه. وإننا إذ نرفع إليكم هذا التقرير نرجو أن تتكرموا مشكورين بدراسته وإبداء آرائكم وملاحظاتكم القيمة على ما جاء فيه.
لقد عقد مجلسكم الموقر دورته السابقة وهي الدور الرابعة له خلال شهر شعبان من عام 1386هـ الموافق لشهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1966م.
وقد كان نظام المجلس الذي كان قائما إلى ما قبل ذلك التاريخ بقليل قد حدد انعقاد دورات المجلس مرة كل عام, ولكن صدر نظام الجامعة الجديد معدلا للنظام السابق, فنص في المادة (16) منه على أن يكون انعقاد المجلس الاستشاري بناء على دعوة من رئيسه أوبناء على يقدم من ثلث أعضائه.
وذلك بناء على ما اقترحته مجلسكم الموقر عند صياغة مشروع ذلك النظام.(2/265)
ونظرا لوجود بعض المواضيع التي تتطلب الاستنارة بآرائكم, والاستفادة من علمكم وخبرتكم, فقد رأت رئاسة الجامعة توجيه الدعوة لحضرتكم إلى عقد الدورة الخامسة للمجلس الاستشاري للجامعة في هذا الاجتماع المبارك. وأهم ما نقدمه إلى مجلسكم في هذه الدورة موضوعان:
· أولهما: موضوع إنشاء قسم للتخصص في الجامعة, والبحث في مشروع نظامه, وأوراقه مرفقة بهذا تحت عنوان ملحق رقم واحد (1) .
وقد رأت رئاسة الجامعة أن الحاجة تدعو إلى إنشاء هذا القسم تمشيا مع ما جاء في المادة رقم (23) من نظام الجامعة؛ ولأنه قد تخرج حتى الآن من القسم الجامعي أربعة أفواج, ويوشك الفوج الخامس على التخرج إن شاء الله.
ولا شك أن إيجاد التخصص في دراسة الشريعة الإسلامية في هذه الجامعة المباركة لطلبتها الذين ينتسبون من الناحية الرسمية الدولية إلى دول متعددة وبلاد متباعدة, فرصة ينبغي أن تنتهز, بل هدف جليل ينبغي أن يتحقق لذلك تعرض رئاسة الجامعة على حضراتكم مشروع نظام التخصص المذكور الذي أعده مجلس الجامعة بغية إبداء الرأي فيه.
· ثانيهما: مشروع إنشاء كلية ثالثة في الجامعة باسم (كلية اللغة العربية) تعني بتسهيل دراسة علوم اللغة العربية وآدابها لأبناء المسلمين في هذه الجامعة, ونشفع لحضراتكم بهذا صورة قرار مجلس الجامعة بهذا الصدد تحت عنوان ملحق رقم (2) .
وبعد فإننا نجمل بعض ما حققت الجامعة من تقدم, وما قطعت من مراحل خلال الفترة الواقعة بين انعقاد الدورة الرابعة لمجلسكم الموقر وانعقاد هذه الدورة.
لقد سارت الدراسة في الجامعة سيراً حسناً ولله الحمد, وقد زاد عدد المدرسيين زيادة تتناسب مع زيادة الطلاب, وكان كل شهر يمر يزيد المدرسين والعاملين في الجامعة خبرة في التعليم الجامعي على خبرتهم وتجارب نافعة إلى تجاربهم.(2/266)
وقد كانت الجامعة تعاني نقصا في السنوات السابقة لبعض الوقت من تأخر العام الدراسي بسبب عدم وصول بعض المدرسين المتعاقدين في الوقت المحدد لعودتهم لأمور خارجة عن إرادتهم, مثل مسائل جوزات السفر, وسمات الدخول, أما الآن فقد أمكن تلاقي ذلك وأصبحت الدراسة تبدأ من الوقت المحدد لبدئها دراسة متكاملة.
كما أن المقررات الدراسية أصبحت متوفرة بأيدي الطلبة أول العام الدراسي.
وقد قام نفر من أصحاب الفضيلة أعضاء هيئة التدريس بالجامعة بتكليف من رئاسة الجامعة بتأليف كتب ومذكرات لبعض المواد التي لم يقرر لها كتاب معين, وقامت الجامعة بطبع بعض الكتب المذكورة وبعضها طبعته على الآلة الناسخة.
كما أنه قد تم الآن معادلة الشهادات الصادرة من عدد كبير من المعاهد والمدارس الإسلامية في الخارج من قبل لجنة المعادلات المختصة في المملكة, وبذلك تم قبول عدد من الطلاب من خريجي المعاهد والمدارس الإسلامية المذكورة ووضعهم بالكان اللائق بهم بطريقة ميسرة.
وشيء آخر له أهمية قد تم منذ سنتين: وهو الإشراف الاجتماعي على الطلبة, فقد عينت الجامعة أحد أساتذتها الأفاضل في وظيفة المشرف الاجتماعي وشملت اختصاصاته كل ما يتعلق بأمور الطلبة بعد انتهاء الدوام الرسمي مثل الإشراف على قضاء أوقاتهم وذلك بتنظيم اجتماعات التعارف, والتمرين على الخطابة, وما أشبه ذلك إلى جانب حل مشاكل الطلاب التي قد تعرض لهم. وقد استمرت الجامعة في سيرها إلى أهدافها النبيلة وتحقيق الغرض السامي الذي أنشئت من أجله, وذلك بتوفيق الله سبحانه وتعالى ثم بدعم من جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز - رعاه الله - وحكومته السنية, حتى وصلت الآن إلى ما ترونه بأعينكم وتلمسونه بأيديكم, ويكفي للتدليل عليه أن نعقد بعض المقارنات السريعة بين ما كانت عليه الجامعة في أول إنشائها وبين ما أصبحت عليه الآن:(2/267)
· أ- كان عدد طلابها عند انتهاء السنة الأولى 255 طالبا ينتمون إلى 27 جنسية وقد أصبح عدد طلابها الآن 963 طالبا ينتمون إلى 72 جنسية هي:
1 - المملكة العربية السعودية
2 - اليمن
3 - الجنوب العربي
4 - بيحان
5 - حضر موت
6 - إريتريا
7 - الحبشة
8 - الصومال
9 - كينيا
10- غيانا (أمريكا الجنوبية)
11- قطر
12- البحرين
13- العراق
14- سوريا
15- لبنان
16- الأردن
17- فلسطين
18- السودان
19- مصر
20- ليبيا
21- تونس
22- الجزائر
23- غانا
24- نيجيريا
25- عمان
26- النيجير
27- موريتانيا
28- تركيا
29- إيران
30- أفغانستان
31- الباكستان
32- الهند
33- الفلبين
34- أندونيسيا
35- تايلند
36- مالي
37- ماليزيا
38- السنغال
39- سيلان
40- بورما
41- تركستان
42- جنوب إفريقيا
43- أستراليا
44- ألمانيا
45- الكنغو
46- توجو
47- محلديب
48- جزائر القمر
49- غينيا
50- فولتا العليا
51- نيبال
52- اليونان
53- تشاد
54- ساحل العاج
55- الولايات المتحدة الإمريكية
56- مدغشقر
57- فرنسا
58- مورشوس
59- ليبيريا
60- اليابان
61- روديسيا
62- سنغفورة
64- رأس الخيمة
65- زنجبار
66- بورندي
67- أوغندة
68- الصين
69- البرتغال
70- داهومي
71- سيراليون
72- الكمرون.(2/268)
هذا بالإضافة إلى طلاب مدرسة دار الحديث التابعة للجامعة والذين يبلغ عددهم 312) طالبا وبذلك يبلغ مجموع عدد الطلاب المنضمين تحت لواء الجامعة الإسلامية (1275) طالبا لا تزيد نسبة السعوديين فيهم على 20% ويضاف إلى ذلك (120) طالبا يدرسون في معهد التضامن الإسلامي الثانوي في مقديشوالذي تشرف عليه الجامعة الإسلامية.
· ب- كانت موازنة الجامعة 3 ملايين ريال وأصبحت الآن أكثر من 9 ملايين ريال.
· ج- كان عدد الكتب في مكتبة الجامعة (870) كتابا أصبحت الآن سبعة عشر ألفا وثلاثمائة وخمسين كتابا تزيد باستمرار.
· د- كانت في الجامعة كلية واحدة ومعهد ثانوي, واليوم يوجد فيها كليتان ومعهد للدراسة المتوسطة وشعبة لتعليم اللغة العربية لغير العرب, هذا بالإضافة إلى دار الحديث بالمدينة المنورة ومعهد التضامن الإسلامي مقديشو.
· هـ- كان عدد غرف الجامعة 87 غرفة وأصبح عددها الآن 266 غرفة.
· و كان عدد المنح التي وزعت على العالم الإسلامي عام انعقاد الدورة الرابعة للمجلس 117منحة وفي هذا العام الدراسي اعتمدت الحكومة السعودية مشكورة 280 منحة.
· ز- كان عدد المدرسين فيها 26 مدرسا هذا بالإضافة إلى عدد من وظائف التدريس المعتمد في الجامعة والتي لم يتم ملؤها حتى الآن.
كانت مباني الجامعة في الساب لا تفي بمتطلبات الجامعة المتجددة فأصبحت الآن ولله الحمد على ما تشاهدونه من حسن البناء ومتانته واتساعه حتى أن مباني المكتبة العامة وقاعة المحضرات وكلية الشريعة تعد الآن مضرب المثل في جمال التصميم وقوته وكمال ملاءمته لأغراض التعليم, وأصبحت الأنموذج لمباني التعليم الإسلامي في طول العالم الإسلامي وعرضه.(2/269)
ولا ينقصها إلا تشجيرها تشجيرا كاملا بسبب وقوعها في منطقة ليس فيها مياه جوفية, ولكن حكومة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم حفظه الله قد رصدت مبلغ (ربع مليون ريال) لتمويل لمرحلة الأولى من مشروع مد أنابيب المياه إلى الجامعة من مسافة 9 كيلومترات.
ونرجوأن يتم ذلك في المستقبل القريب وحينئذ يتم تشجيرها ويكمل جمالها بحول الله وقوته. وقد تمت مباني الجامعة القائمة الآن بالفعل على مراحل ثلاث, كان آخرها المشروع رقم (3) الذي بلغت تكاليفه (خمسة ملايين ومائتين وأربعة عشر ريالا) , ويتكون مما يلي:
أ- مستودعات كبيرة واسعة للجامعة.
ب- قاعة واسعة للمحاضرات تشتمل على مدرج يحتوي على (1157) كرسيا عدى الساحات الإضافية وغرف للمحاضرين والمنصة الواسعة لهم وغرف المترجمين.
ج- مبنى المكتبة العامة للجامعة ويشتمل على غرف وخزائن الكتب وقاعات المطالعة وغرف الإدارة وقدرت المكتبة بأنها تتسع لنصف مليون كتاب.
د - مبنى رئاسة الجامعة يشتمل على مكتب الرئيس ومكتب الأمين العام ومكاتب لكبار موظفي الأقسام في الجامعة.
هـ- مبنى كلية الشريعة وهوأحدث طراز في فن المعمار ويشتمل على قاعات للمحاضرات وفصول واسعة للدراسة يبلغ مجموع اتساعها حوالي 1700 طالبا بالإضافة إلى أقسام إدارة الكلية والباحات والحدائق التي يقضي فيها الطلبة أوقاتهم في أثناء الفسح.
أما المباني التي تم إنجازها واستلمتها إدارة الجامعة قبل عامين وتعتبر المرحلة الثانية فبيانها كالتالي:
أ - مبنى لكلية الدعوة وأصول الدين يشتمل على اثنتي عشرة قاعة للمحاضرات عدى الإدارة ومكتبة الكلية.. الخ.
ب - فصول للمعهد الثانوي.
ت - ثلاث وحدات سكنية للطلبة تتكون كل وحدة منها من (22) غرفة إلى جانب قاعة واسعة للاستقبالات والمرافق اللازمة.
ث - مطعم فسيح للطلاب.(2/270)
ج - حظائر لسيارات الجامعة ومباني للورشة الخاصة بإصلاحها.
وليس هذا فحسب بل إن الجامعة وضعت مخططا عاما لمشروعاتها العمرانية خلال عشرين عاما تقدر تكاليفه (بخمسين مليوناً من الريالات السعودية) . ويأخذ بعين الاعتبار نموالجامعة في المستقبل وما يمكن أن يزاد فيها من كليات وما يلحق بها من معاهد ويشتمل على ما يلي:
أ - مسجد جامع كبير.
ب - مبنى معهد الدراسة المتوسطة.
ت - مبنى المعهد الثانوي.
ث - مبنى مجلة الجامعة ومطابعها المزمع إنشائها في المستقبل.
ج - مبنى قسم التخصص.
ح - مبنى قسم الدعوة والبحوث الإسلامية.
خ - مهاجع للطلبة عددها (8) يتسع كل منها لأربعمائة طالب.
د - مبنى المطعم المركزي, ويضم أربع قاعات كبيرة
ذ - مبنى مستشفى يتسع لمائة سرير مع العيادات المختلفة وأماكن الكشف اللازمة.
ر - مبان سكنية إفرادية للموظفين الذين تقضي طبيعة عملهم السكنى في الجامعة.
ز - مبان سكنية صغيرة للمراقبين والفراشين الذين يسكنون في الجامعة.
س - ملاعب عامة مكشوفة لكرة القدم وميادين للمسابقة وحمام للسباحة.
ش - ملاعب مغطاة لألعاب القوى.
وكان المشروع رقم (3) الذي أوضحناه سابقا هوالمرحلة الأولى منه.
أما المرحلة الثانية فهي بناء مهاجع للطلبة, انتهت مصلحة الأشغال العامة - مشكورة- من إعداد التصاميم والدراسات العامة لها وتكلف مع خزانات المياه العلوية والسفلية حوالي (ستة ملاين ريال) .(2/271)
ولا حاجة التذكير حضراتكم أنه لولا الله سبحانه وتعالى ثم العناية الفاقة التي يوليها جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز حفظه الله وحكومته الموقرة وأنها لم تبخل على الجامعة الإسلامية أن تقوم بما قامت به وكان أبرز مثال على ذلك أن مشروع مباني الجامعة الذي يوشك على الانتهاء والذي تبلغ تكاليفه حتى الآن (خمسة ملايين ومائتي ألف ريال) صادف الظروف التي صاحبت إعداد ميزانية الدولة السعودية في عام 1387هـ, ومنها تأثير الحرب الناتجة عن العدوان اليهودي وانخفاض الواردات الرئيسية للملكة, وما تحمله ميزانية المملكة من معونة الدعم العربي الذي تقرر في المؤتمر الخرطوم فلم تكن هذه الأمور على وجاهتها سببا لتأجيل أو نقص المبالغ المالية المخصصة لمشاريع الجامعة الإسلامية.
شعبة اللغة العربية:
كان مما ارتأه مجلسكم الموقر في دورته الثالثة إنشاء شعبة لتعليم اللغة العربية لغير العرب, وقد تمّ بالفعل تنفيذ ذلك فأنشئت شعبة لتدريس اللغة العربية, مدة الدراسة فيها سنة واحدة, إن لم ينجح فيها الطالب درس سنة أخرى. وقد رأت رئاسة الجامعة أن يكون القبول فيها مقتصرا على البلاد التي لا يوجد فيها تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية مثل جنوب كوريا واليابان والولايات المتحدة الإمريكية. وقد تخرج من الشعبة المذكورة عدد من الطلبة من بينهم طلاب من النمسا وأمريكا الجنوبية وجنوب إفريقية وروديسيا واليونان والصين وليبيريا وجزائر ومحلديب.
المكتبات:
غنى عن القول أن نشير إلى أن المكتبة في الكليات والمعاهد العلمية النظرية هي بمثابة المعمل للكليات والمعاهد العلمية, بل إن من الأقوال الشائعة أن أركان الدراسة في الجامعة هي ثلاثة: أستاذ, وطالب, وكتاب, ولذلك حرصت رئاسة الجامعة على أن تدعم المكتبة العامة أوالمركزية - كما يعبر بعضهم - وتوسعها بحيث تضم كتبا في جميع فروع المعرفة.(2/272)
وإلى جانب ذلك قامت رئاسة الجامعة بإنشاء مكتبات فرعية لكل كلية ومعهد تابع لها.
وقد تم إنشاء مكتبة لكلية الشريعة للمعهد الثانوي ,كما يجري العمل في إنشاء مكتبة لكلية الدعوة وأصول الدين, هذا إلى جانب مكتبة دار الحديث التي تقوم الجامعة في الوقت الحاضر بتزويدها بنسخ من الكتب التي تزود بها المكتبات الأخرى.
الطلاب المتخرجون:
لقد تخرج في الجامعة بعد انعقاد مجلسكم الموقر فوجان من الطلاب الجامعيين نرفق بهذا بيانا بإعدادهم وجنسياتهم تحت عنوان ملحق رقم (3) , وبذلك يبلغ مجموع عدد الطلاب الجامعين المتخرجين (286) من الطلاب, كما أنّ المعهد الثانوي التابع للجامعة قد تخرج منه أيضا فوجان حصلوا على شهادة إتمام الدراسة الثانوية, ومعظمهم فضلوا الاستمرار في الدراسة إلى إكمال المرحلة الجامعية. وقد أوضحنا عددهم وبيان جنسياتهم في قائمة مرفقة بهذا تحت عنوان ملحق رقم (4) . وجميع الطلاب الذين أتموا دراستهم في الجامعة أخذوا أماكنهم في الوظائف الدينية وفي الدعوة الإسلامية ما بين قاض ومفت ومدرّس وداعية ومرشد إلى الله, وقد تعاقدت دار الإفتاء في المملكة العربية السعودية مع طائفة منهم للعمل في الدعوة والإرشاد وتوجيه المسلمين في أقطار إفريقية شرقها وغربها وجنوبها ووسطها حتى بلغ عدد الأقطار التي وجه إليها الدعاة المذكورون أكثر من عشرين قطرا, وأنه لمما يبشر بالخير أن صلتهم بالجامعة الإسلامية لا تزال تتجدد كل حين, فهم يبعثون إليها بالتقارير عن أعمالهم ويلتمسون منها ما قد يحتاجون إليه مما يزيدهم مضيا في عملهم ونشاطا في أداء مهمتهم, والجامعة لا تألو جهدا في إمدادهم بما يعينهم على مهمتهم.
الرعاية الصحية لطلبة الجامعة:
إن توسيع الجامعة لم يقتصر على ميدان التعليم بل شمل الميادين الأخرى.(2/273)
فقد تم توسيع مستوصف الجامعة فدعم بزيادة طبيبين, باشر أحدهما العمل قبل سنة, ويجري العمل على التعاقد مع الآخر , هذا من جانب تزويده بمختبرات التحليل وغرف الأشعة وتوسيع صيدليته.
وكل الخدمات الصحية تؤدى بالمجان للطلبة ة الأساتذة والموظفين وغيرهم ممن لهم صلة بالجامعة, وذلك إلى جانب الوسائل الأخرى التي توفرها الجامعة لطلبتها مثل: صرف تذاكر استقدامهم على حسابها, وترحيلهم على حسابهم - أيضا - بعد التخرج, وفي أثناء الدراسة تدفع لهم مكافآت مالية شهرية قدرها (300) ريال لكل طالب يدرس في القسم الجامعي, و (250) ريال لكل طالب يدرس فيما دون القسم الجامعي.
هذا بالإضافة إلى توفير المساكن الصحية المزودة بالماء والكهرباء والأثاث اللازم بالمجان, كما ننقلهم سياراتها بعد صلاة العصر يوميا إلى المدينة لأداء الصلوات في المسجد النبوي وتعود بهم إلى الجامعة بعد العشاء. وأيضا توفر لهم الكتب الدراسية الكبيرة بالمجان.
مجلة الجامعة:
كان مما أوصى مجلسكم الموقر بالسعي إلى تحقيق إصدار مجلة قوية للجامعة, وإن تكون الخطوة الأولى لذلك. وإصدار مجلة للطلبة تتبعها مجلة الجامعة.
توزيع الكتب والنشرات:
لقد توسعت الجامعة في العامين الآخرين في توزيع المصاحف الكريمة وتفسيرها باللغة الإنجليزية, وتوزيع الكتب والنشرات الإسلامية في خارج المملكة مما تصدره الجامعة ومما تشتري من المؤلفين الآخرين. وقد أحدثت مكتبا خاصا لهذا الغرض وهو يعمل جادا في هذا الأمر. كما تقوم بمبادلة الجامعات والكليات الأخرى بمطبوعاتها ومنشوراتها, وبخاصة المحضرات التي يلقيها أساتذتها في المواسم الثقافية التي تقيمها ومجلة الجامعة.
بعثات الجامعة:(2/274)
استمرت الجامعة في إرسال البعثات إلى بلاد الإسلامية النائية وبخاصة قارة إفريقية؛ وذلك للاطّلاع على أحوال المسلمين, والتعرف على أوضاعهم, وتكوين فكرة واضحة عن مشاكلهم, ولاختيار بعض الطلبة الذين يلتحقون بالجامعة من البلاد الإفريقية البعيدة عن الجامعة والتي لا يتوفر فيها التعليم الإسلامي. ولمساعدة الهيئات الإسلامية ماديا ومعنويا. وهذا بيان بالبعثات التي أوفدتها الجامعة حتى الآن.
أ - في عام 1384هـ بعثة مكونة من ثلاث أشخاص برئاسة الأمين العام للجامعة.
ب - في عام 1385هـ بعثة مكونة من ثلاثة مشائخ برئاسة فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كبير المدرسين في الجامعة.
ت - في عام 1386هـ بعثتان, إحداهما إلى غرب إفريقيا, والأخرى إلى شرقها ووسطها لاختيار الطلبة.
ث - في عام 1387هـ بعثت الجامعة مدرّسين, أحدهما إلى معهد التضامن الإسلامي في مقديشو والأخر إلى أقطار شمالي إفريقية.
ج - هـ في عام 1388هـ بعثة واحدة إلى جامعة أهل الحديث المركزية في بنارس بالهند.
ح - في مطلع عام 1389هـ بعثة مكونة من أستاذين للتدريس في جامعة أهل الحديث بالهند لمدة سنة دراسية قابلة للتجديد.
وقد كانت البعثات السابقة تعود إلى الجامعة بتقارير ومعلومات مفصلة عن أحوال المسلمين هناك.
معهد التضامن الإسلامي في مقديشو:
حسب الإرشادات السامية التي تفضل بإصدارها جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز - حفظه الله - فقد أسست المملكة العربية السعودية في مدينة مقديشو عاصمة الصومال معهدا إسلاميا ثانويا باسم: معهد التضامن الإسلامي. تشرف رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة عليه من الناحية الإدارية والمالية, وتشرف الجامعة الإسلامية عليه من ناحية المناهج وتعيين المدرسين. وقد انتدبت الجامعة أحد مدرسيها لإدارته كما تعين للتدريس فيه بعض خريجيها.(2/275)
هذا ما أحببنا بسطه لحضراتكم في هذا التقرير تاركين إيضاح بعض الأشياء لأننا أوضحناها لكم في تقارير سابقة.
وإننا في الختام لنكرر شكرنا لحضراتكم ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويزيد جلالة الملك فيصل - حفظه الله - توفيقا إلى خدمة الإسلام والمسلمين, وأن يجمع كلمة المسلمين على طاعته, ويوفق قادتهم إلى ما يحبه ويرضاه إنه سميع قريب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس مجلس الجامعة الإسلامية
· غادر المدينة كل من فضيلة الشيخ عمر محمد مساعد الأمين العام للجامعة وفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد المدرس بالجامعة متوجهين إلى كل من الأردن وسوريا ومصر وذلك للتعاقد مع مدرسين للعمل في كليات الجامعة.
· انتقلت أقسام الإدارة بالجامعة إلى المباني الجديدة التي تم استلامها مؤخرا من شركة بخيت للمقاولات. والجدير بالذكر أن هذه المباني أقيمت على أحدث طراز.
· تتلقى إدارة التعليم بالجامعة سيلا من طلبات الالتحاق وقد تجاوز عددها الألفين من أكثر من ستين دولة.
· قامت الجامعة بتزويد المكتبات التي أنشأتها وزارة الصحة في بعض مستشفيات المملكة بكمية من الكتب, وقد تلقت خطاب شكر على ذلك من الوزارة. كما قامت بتزويد المركز الصيفي بالمدينة التابع لوزارة المعارف بكميات أخرى.
من الأخبار العالمية:
عقد في مدينة (آخن) بألمانيا الغربية مؤتمر ضم ممثلين عن عدد من المنظمات الطلابية الإسلامية في (أندونيسيا والباكستان والكويت والسودان وأوربا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا) , وتمخض المؤتمر عن تكوين (الاتحاد العالمي الإسلامي للمنظمات الطلابية) .. وانتخب المؤتمرون أعضاء الأمانة العامة للإتحاد كما يلي:
- أحمد توتونجي أمينا عاما.
- نور خالص مجيد أمينا عاما مساعدا.(2/276)
- مصطفى محمد أمينا للشؤون المالية.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} . (الفرقان/46,45) .(2/277)
ندوة الطلبة
لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية
بقلم:صالح بن سعيد بن هلابي
هذه لمحات خاطفة ونظرات عابرة عن حياة إمام جليل وعبقري حكيم أقام الدنيا وأقعدها في عهده بالعلم والفكر والجهاد طول حياته, وأحيا تراثا عظيما للأمة الإسلامية كاد أن يذهب وينطمس بين الفلسفة وحذلقة علم الكلام, وبين الشعوذة والفرق الباطنية القتالة.
في هذه اللمحات العابرة نحاول أن نضع أيدينا على مفتاح هذه الشخصية العظيمة وكنه حقيقتها وبعض خصائصها وجهادها العظيم المتواصل ضد أعداء الإسلام بكل أصنافهم وأشكالهم..
نشأته وطلبه للعلم:(2/278)
ولد ابن تيمية بحران من أعمال أورفه في تركيا سنة 661 هـ وهاجر أبواه به وبإخوانه إلى دمشق تخلصا وفرارا من ظلم التتار, وقد لاقوا في هجرتهم متاعب ومصاعب كثيرة لولا عناية الله عز وجل أن وصّلهم بالسلامة. وصل بن تيمية إلى دمشق وهو طفل صغير وكان والده من كبار علماء الحنابلة, فسارع إلى حفظ القرآن الكريم وطلب العلوم الشرعية على اختلاف أنواعها من كبار الشيوخ والمحدثين الذين أدهشهم بقوة ذهنه وفرط ذكائه, ولم يكد يبلغ من العمر بضعة عشر عاما حتى أتقن معظم فنون الشريعة, وحاز قصب السبق فيها, قرأ مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات عديدة, وسمع الكتب الستة الكبار, ومن مسموعاته: (معجم الطبراني الكبير) . وأفتى وله من العمر بضعة عشر عاما. ولم يكتف بالفنون الإسلامية بل تعدى إلى غيرها من الفنون التي كانت سائدة في ذلك العصر, فدرس الفلسفة وعلم الكلام وتعمق فيهما وردّ على أصحابها, والديانات المسيحية واليهودية وكتب فيها كتبا عظيمة, ومن أروع كتبه في المسيحية كتابه العظيم: (الجواب الصحيح على من بدل دين المسيح) في أربع مجلدات الذي نقض فيه عقائد المسيحية من أساسها, هذه العقلية الجبارة التي أوتيت هذا الذكاء الخارق كان ورائها سر عظيم وهي مراقبة الله في السر والعلانية, والوقوف عند حدوده مع الجد والنشاط والرغبة المخلصة في طلب العلم وإظهاره للأمة على حقيقته.
وهذا ما يعبر عنه ابن تيمية عن بنفسه بقوله: "إنه ليقف خاطري في المسألة أو الشيء أو الحالة التي تشكل عليّ فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر, وينحل إشكال ما أشكل, وقد أكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي".
وهكذا أمضى ابن تيمية حياته في طلبه للعلم حتى أصبح من كبار العلماء يشار إليه بالبنان.
ثناء العلماء عليه:(2/279)
كان موضع الإعجاب والإجلال من المنصفين وبمن اجتمع بهم, ويشهد له كبار علماء عصره بالعلم والفضل والجهاد.
قال المحدث ابن دقيق العيد - حين رآه واجتمع به وقد كان حجة عصره في الحديث - قال: "رأيت رجلا جميع العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع مما يريد".
وقال الحافظ أبوالحجاج يوسف المزي المتوفى سنة 742 هـ: "ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه, وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه".
وقال الحافظ كمال الدين الزملكاني - قاضي قضاة الشافعية المتوفى بالقاهرة سنة 727هـ-: "كان ابن تيمية إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لايعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدا لا يعرف مثله, وكان من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا من مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك, ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه, ولا تكلم في علم من العلوم سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه, وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين, وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد"إلى أن قال فيه:
وصفاته جلت عن الحصر
ماذا يقول الواصفون له
هو بيننا أعجوبة الدهر
هو حجة الله قاهرة
أنوارها أَرْبَتْ على الفجر [1]
هو آية في الخلق ظاهرة
وقال فيه شيخ النحاة أبوحيان حين اجتمع به:
داع إلى الله فرد ماله وزر
لما أتانا تقي الدين لاح لنا
خير البرية نور دونه القمر
على محياه من سيما الآل صحبوا
بحر تقاذف من أمواجه الدرر
حبر تسربل منه دهرنا جسرا
مقام سيد تيم إذ عصت مضر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
وأخمد الشر إذ طارت له شرر
وأظهر إذ أثاره درست
أنت الإمام الذي قد كان ينتظر(2/280)
كم ذا تحدث عن حبر يجيء فها
وقد أثنى عليه معظم أهل عصره أعظم الثناء والذين ظهر لهم الحق على يديه وحسبنا ما ذكرنا, ولولا ضيق المجال لطال بنا الكلام, ومن أراد التوسع والوقوف على ترجمة هذا الإمام الجليل المجدد العظيم فعليه أن يقف على بعض من ترجم له من معاصريه مثل ابن الوردي في تاريخه, وابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) , وابن الألوسي في (جلاء العينين) , وابن رجب في (طبقاته) , ومحمد بن شاكر الكتبي في (فوات الوافيات) , وابن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب) , والحافظ الذهبي في كتبه العديدة التي أفاض فيها عن حياته وجهاده والذي وصف مصنفاته بأنها بلغت إلى خمسمائة مجلد.
دراسات عن ابن تيمية:
وفي القرن الأخير ظهرت دراسات مستقلة وكتب مستفيضة عن هذا الإمام الجليل, بعضها تتناول نواحي معينة من حياته, وبعضها تلم جميع حياته وسيرته وآرائه الفقهية وفتاويه, وممن كتب على سبيل المثال لا الحصر:
- العلامة الشيخ رشيد رضا.
- الشيخ طاهر الجزائري.
- الشيخ منير الدمشقي.
- الشيخ حامد الفقي.
- الشيخ محب الدين الخطيب.
- الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة.
- الشيخ محمد نصيف.
- الشيخ عبد الصمد شرف الدين.
- الشيخ سليمان الصنيع.
- الشيخ محمد أبوزهرة.
- الشيخ عبد العزيز الراعي.
- الشيخ محمد خليل هراس.
- الشيخ محمد بهجة البيطار.
- الشيخ عبد المالك بن إبراهيم.
- الأستاذ الدكتور علي سامي النشار.
- الدكتور محمد يوسف موسى.
- الأستاذ محمود مهدي الإستانبول.(2/281)
وحتى المستشرفين قد اعتنوا به عناية كبيرة وفي مقدمتهم المستشرق الفرنسي (هنري لاوست) الذي خصه بعناية كبيرة, والذي جعل آرائه السياسية والاجتماعية موضوعاً لإحدى الرسالتين اللتين حصل بهما على الدكتوراه من باريس, كما ترجم بعض مؤلفاته إلى اللغة الفرنسية مع دراسة وتقديم لها, كما تحصل على الدكتوراه من جامعة كمبردج بإنجلترا الدكتور محمد رشاد سالم برسالته التي كان بعنوان (موافقة العقل للنقل عند ابن تيمية) , وقد سافر الدكتور رشاد سالم إلى هولندا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا والهند واطلع على ما أمكنه الإطلاع عليه من مخطوطات ابن تيمية هناك, وصوّر كثيرا من هذه المخطوطات, ولقي عناءا كبيرا في رحلاته وبحوثه هذه, كما مكث مدة طويلة في دمشق نقل كثيرا من مخطوطات ابن تيمية, وهو عازم على نشر تراث ابن تيمية إن مد الله في أجله وأعانه على مهمته أن يقف جزءا كبيرا من جهده على نشر هذه المؤلفات بعد تحقيقيها وإخراجها في أحسن صورة, وتكون مقسّمة على ثلاثة أقسام - حسب تقسيمه -:
o القسم الأول: مؤلفات ابن تيمية وهو المخصص لنشر كل ما ألفه, وهو ينقسم إلى فرعين:
- الأول: لنشر الكتب الكبيرة.
- والثاني: لنشر الرسائل والقواعد المختلفة.
o القسم الثاني: تراجم ابن تيمية ويحاول في هذا القسم نشر كل ما كتب عن سيرة شيخ الإسلام.
o القسم الثالث: دراسات عن ابن تيمية وفي هذا القسم يتناول آراه المختلفة بالدراسة والتحليل ويهتم بوجه خاص بما يتعلق بالعقيدة والرد على المتكلمين والفلاسفة والفرق المختلفة والصوفية على اختلافها [2] .(2/282)
فتسأله تعالى أن يعين الدكتور على هذا المشروع العظيم, ويبارك في جهوده حتى يخرجه في أحسن صورة, ولا يفوتني هنا أن الحكومة السعودية - وفقها الله - طبعت مؤخرا (فتاوى ابن تيمية) في ثلاثين مجلدا بمطابع الرياض وهذا مشروع عظيم لا يستهان به.
صفات المؤمن
هيهات هيهات أهلك الناس الأماني, قول بلا عمل, ومعرفة بغير صبر, وإيمان بلا يقين, مالي أرى رجالا ولا أرى عقولا, وأسمع حسيسا ولا أرى أنيسا, دخل القوم والله ثم خرجوا, وعرفوا ثم أنكروا, إنما دين أحدكم لعقه على لسانه, إذا سئل: أمؤمن أنت؟ قال: نعم, كذب ومالك يوم الدين, إنّ من أخلاق المؤمن قوة في الدين, وحزما في لين, وإيمانا في يقين, وعلما في حلم, وحلما بعلم, وكيسا في رفق, وتجملا في فاقة, وقصدا في غنى, وشفقة في نفقة, ورحمة لمجهود, وعطاء في الحقوق, وإنصافا في استقامة, قانع بالرزق, حامد على الرخاء, صابر على البلاء.
الحسن البصري
--------------------------------------------------------------------------------
العقود الدرية من مناقب بن تيمية للحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المتوفى سنة 744هـ.
[1]
انظر مقدمة كتاب (منهاج السنة) لابن تيمية تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ص10.
[2](2/283)
نظرات تحليلية في القصة القرآنية
عرض وتحليل بقلم: الشيخ محمود فكري المدرس بالجامعة
(قصص وعبر) آخر كتاب صدر للأديب الإسلامي والقصّاص الكبير الأستاذ محمد المجذوب, وهو حلقة في سلسلة مباركة يعزم الأستاذ على إصدارها من مجموعة مؤلفات في موضوعات شتى, وقد كان وقوفي على هذا الكتاب مناسبة طيبة للتحدث عن الأستاذ الفاضل وأدبه, وقصصه, وعن كتابه الأخير بالذات, ولعلّ معرفتي الوثيقة والقديمة بالأستاذ الكريم تجعلني أقدر على الكتابة من غيري في هذا الموضوع.
الأستاذ المجذوب من أبرز أدباء سورية, وممن لهم الشهرة الذائعة في الأوساط الأدبية, في العالم العربي, وله العشرات المؤلفات في مختلف الموضوعات, كلٌّ منها له مكانته في مكتبة القارئ العربي. ومؤلّفات الأستاذ تعالج مختلف القضايا الأدبية, والفكرية, والاجتماعية في محيط الأمة الإسلامية, وكل ذلك بأسلوب أدبي رائع, وبيان بارع, وفكرة نيرة, وبصيرة نافذة.(2/284)
والأستاذ شاعر مطبوع وهو في مصاف شعراء الطبقة الأولى في العالم العربي اليوم, فهو على هذا فارس حلبتي النثر والنظم, وللأستاذ ديوان مطبوع وأخرى في طريقها إلى الطبع, والخيط الذي يجمع بين سائر ما كتبه الأستاذ وما قاله من شعر ونثر هو نبل المقصد, وسمو الفكرة, وجمال الغاية إلى سحر اللفظ, وروعة البيان, وجودة الأسلوب. فمؤلفات الأستاذ على اختلاف مناحيها من قبيل الأدب الموجه الذي تفرض فيه الغاية نفسها على القارئ فرضا, وتبدو حية بارزة خلف كل عبارة من عبارات الأستاذ, ولا يرد على الأستاذ وطريقته في الكتابة ما يقوله أهل الأدب من أن التقيد في الأدب من عيوب هذا الفن, وأن الأديب لا يعطيك ما عنده من روائع إلا إذا أطلقت له العنان وتركته على سجيته, وأزحت الحدود والقيود من أمامه. وهذا الكلام صحيح من جهة وفاسد من جهة أخرى, أو صحيح من فئة وفاسد من فئة أخرى, صحيح أنّ الفكرة إذا فرضت على الأديب فرضا وألزم الكتابة فيها تكون قيداً له, وعيبا في إنتاجه, ولكن الأديب إذا كان مستهاما بفكرته التي يكتب لها, مؤمنا بها, بل لا يملك إلا أن يكتب عنها, فحينئذ لا تكون الفكرة والغاية عيبا في الأديب, وقيدا في طاقته, بل يكون الخروج عن هذه الفكرة الأثيرة لدي الكاتب عيبا فيه وفي إنتاجه؛ لأنه حينئذ يكلّف الكتابة فيما لا يريد. وعلى هذا فالأستاذ المجذوب حينما يلتزم الفكرة الإسلامية في كتاباته كلها, ويعالج جميع القضايا التي يتطرق لها من وجهة النظر الإسلامية, وحينما يصرُّ على الكتابة في الموضوعات الأخلاقية النافعة, فإنّ هذا الالتزام ليس عيبا في الأستاذ وإنتاجه الأدبي, بل هو ميزته على سائر الأدباء من كتاب عصره, لأن الفكرة التي يلتزم بها الأستاذ في كتاباته لم تفرض عليه فرضا من سلطة عليا تريد له أن يحب هذه الفكرة ويدندن حولها في الوقت الذي لا يحبها هو أو لا يؤمن بها. بل إن الفكرة الإسلامية التي يتقيد بها الأستاذ في(2/285)
كتاباته - بمعنى أن لا تخرج كتاباته عن الخلق الإسلامي, والأدب الإسلامي والقيم الإسلامية - هي (ليلاه) التي هام بها, وخالط حبها بشاشة قلبه, وسرى روحها في روحه, وآمن بها عقله, وقلبه, ولبّه, ولو حاول الانفكاك عنها لما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لأنه لا يرى معنى للحياة بدونها, وإذا كان الأمر كل شيء في حياة الإنسان فمن العبث الاشتغال بغيره. ولعل أعداء الأدب الموجه صنف من أولئك التافهين الذين يريدون للأدب أن يبقى في وهدته التي تردى فيها على أيديهم, ألا وهي وهدة الجنس وحفرة الشهوة والرذيلة, فكل أدب لا يدغدغ غرائز الساقطين من الناس ويداعب شهواتهم الدنيئة, ويستثير فيهم الغرائز الحيوانية, والمعاني البهيمة الهابطة, يجعلونه أدبا موجها مقيدا قاصرا. فعلى الأدب عند هؤلاء أن يلزم الفراش فراش الرذيلة حتى يكون أدبا حرا طليقا مبدعا, ولكن إن حاول السمو حول فكرة علوية تفتح أمام الإنسان آفاق الحياة الصحيحة, وتربأ بإنسانيته عن هذا السقوط والتردي المشين, فهو يتهم بالقصور والتقيد وتتلمس له العيوب.(2/286)
وبعد هذا نقول: فإن أدب الشيخ المجذوب موجه ومقيد, وجماله في توجهه وتقيّده, موجه نحو الإسلام وبالإسلام, ومقيد بنظرته للحياة والكون والإنسان. ولأن يعيش الإنسان لخصائص الخير التي فيه, ولأن يستجيب للمعاني العلوية التي في فطرته, ولأن يلبي أشواق النفحة الربانية في روحه خيرٌ من أن يسقط في حفرة الطين, وأن ينقلب في الحمأ المسنون. وقد يكون من الغريب ومما يتنافى مع اتجاه أدباء هذا العصر - وخاصة كتاب القصة فيه - أن يتجه الأستاذ المجذوب إلى القصة الإسلامية التي يعتبر رائدها بلا منازع.., من الغريب في منطق أدباء اليوم أن يتجه الأستاذ إلى القصة الهادفة التي لا ينكر دورها بين وسائل التربية والتوجيه, في الوقت الذي يعكف فيه كتاب القصة على وثن الجنس, ويقصرون كل جهودهم لإثارة الغرائز الأرضية الدنيئة المستكنة في الجيل الساقط الذي يخاطبونه, ويستدرون بمثل ذلك الأدب الرخيص السحت الذي يقتاتون به, ولكن الأستاذ المجذوب نكب عن هذه الطريقة الشائنة واختط لنفسه طريقا رشدا آثر فيه الفضيلة على الرذيلة, وقدم فيه المال الحلال على المال الحرام, وفضّل أن يسلك طريق الحق, ولا يصده عنه قلة السالكين, وازور عن طريق الباطل دون أن تغريه كثرة الهالكين, وخاطب في الإنسان عنصر الخير والسمو في فطرته التي عملت قوى الشر مجتمعة على تلويثها, وإطفاء نورها وطمس معالم الحق فيها.(2/287)
فأدب الأستاذ بجملته - وقصصه بالأخص- نوع من الأدب البنّاء والهادف, الذي يؤدي دوره في إنارة سبيل القارئ العربي في معترك الحياة في هذه الحقبة العصيبة من حياته. وقصص الأستاذ المجذوب كسائر أدبه تجمع عناصر الجمال التي نراها تنحصر في المعنى الجميل, والمبنى الجميل. ولعل آخر كتب الأستاذ وهو (قصص وعبر) بجمع بين هذين العنصرين على الوجه الأكمل بالنسبة إلى قصصه, وذلك لأن موضوع الكتاب هو القصص القرآني الذي يعتبر بدون ريب ذروة ما دون باللغة العربية من قصص, وهذا يضمن للكتاب جمال المعنى في أروع صوره, وأما أسلوب الكتاب فهو خلاصة وحصيلة نصف قرن تقريبا من الثروة الأدبية التي جمعها الأستاذ, وهذا يضمن له جمال المبنى.
وقد تناول الأستاذ في كتابه هذا جملة كبيرة من قصص القرآن الكريم, وعالجها على الشكل التالي:
أولا: عرض القصة القرآنية عرضا إجماليا يبرز أهم معالمها دون الخوض في التفاصيل والجزئيات.
ثانيا: استنباط العبر والعظات ومحاولة استخراج المغزى والمرمى والغاية التي سيقت لأجلها القصة.
ثالثا: تحليل لأسلوب النص القرآني, ونظرات في العبارات التي حملت تلك المعاني الكريمة.
وقد استفاد الأستاذ الكريم من القرآن العظيم كثيرا في لفظه ومعناه, وهو الذي لازم القرآن وعاش بأجوائه طيلة حياته. وأعانته ملازمة القرآن هذه على أن يغوص في أعماق القصة القرآنية ليستخرج درّاتها الغالية, وجواهرها الثمينة, وحكمها البالغة, كما أن ترطب لسانه المستمر بالقرآن صقل ذلك اللسان, وصبغه بصبغة القرآن, فجرى عليه البيان ينساب غضا طريا, وكذلك تدبر قلبه المستمر له جعل الحكمة تتفجر في جوانبه, والعبرة تسبق إلى فكره, والنور يشرق في بصيرته.(2/288)
ولقد صاحب التوفيق صاحب الكتاب في خطواته الثلاث في عرض القصة, واستنباط عبرها, وتحليل أسلوبها, وعيب هذا الكتاب هو أن الأستاذ كان مقيدا بوقت معين محدد يناقش خلاله القصة, وذلك في حلقات إذاعية, الأمر الذي كان كثيراً ما يجعل الأستاذ يكبح جماح القلم حتى لا يسترسل, وقد اعتذر الأستاذ عن هذا بأن قال: "إن الكتاب هو نموذج لعمل أكبر منه سيتناول القصة القرآنية بالتفصيل الأوفى في الخطوات الثلاث التي ذكرناها ... "
وبعد فإن لدي نماذج كثيرة من الكتاب تبيّن صورا من الجمال الذي يعلو صفحاته, ويبدو من خلال عباراته وعبره, ولكنّي لم أرد أن أقتطع تلك النماذج من موضعها التي سكبت فيها, داعيا القارئ إلى الوقوف عليها في أماكنها الكثيرة من الكتاب, ولأني أُومِنُ بأن الزهر في الروض أجمل منه في الآنية.
الرفق بالحيوان
"بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش, فوجد بئرا فنزل فيها فشرب, ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش, فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي, فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب, فشكر الله له فغفر له.
قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟
فقال:"نعم, في كل كبد رطبة أجر".
(البخاري)(2/289)
هذه إسلاميتنا
بقلم الشيخ: أبو بكر جابر الجزائري المدرس بالجامعة
العمل الصالح:
حقا إن العمل الصالح هو أحد مبادئ إسلاميتنا المحببة إلى نفوسنا. والمراد بالعمل الصالح: ما كان محققا لسعادة المسلم الدنيوية والآخروية على السواء, أو عاملا على تحقيقها معا, ولا يكون العمل الصالح كذلك إلا إذا وصف بالصلاح, ووسم به من قبل الشارع الحكيم, فلا يوصف عمل بالصلاح ولا يوسم به ما لم يكن قد أمر الله تعالى به, أوأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم, أو أرشد إليه, أو أذن فيه. ومن هنا كنا نحن أبناء الإسلام نعمل ولا نكل, ونواصل العمل في غير سآمة ولا كلل؛ لأن العمل من مبادئ إسلاميتنا, وسبب رئيسي من أسباب سعادتنا. ومن الأعمال الصالحة التي تعتبر دعائم إسلاميتنا, ومن أقوى عوامل الفوز والنجاح فيها ما يلي: العلم، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، حسن الخلق، الجهاد.
1 – العلم:
أول عمل يقوم به المسلم في حياته طلب العلم والمعرفة؛ لأن ذاك واجب كل فرد من أفراد الأمة المسلمة ذكرا كان أو أنثى [1] .
وتنقسم المعرفة في إسلاميتنا إلى قسمين:
أ - ما يجب على كل فرد بعينه الحصول عليه, وذلك معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى, ومعرفة رسله, وخاصة نبي الإسلام محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وما يجب لله عز وجل, ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من طاعة وتعظيم, وكيفية عبادة الله تعالى فيما تعبّد المؤمنين به؛ من اعتقاد ونية وقول وعمل, مما شأنه تهذيب النفوس وتزكيتها, وتقويم الأخلاق وإصلاحها.(2/290)
ب - ما يجب على مجموع الأمة المسلمة دون جميعها, وذلك كمعرفة العلوم المادية من طب وصناعة, وكل ما من شأنه أن يحفظ كيان الأمة, ويحقق لها عزتها وقوتها, حتى تؤدي رسالتها في الحياة كاملة, رسالة العدل في الأرض, وتحقيق الخير, حيث رشحها الله تعالى لذلك في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} , وفي قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} , والاجتباء: الاختيار لنشر كلمة الحق: (لا إله إلا الله) , والعدل والمساواة بين بني الإنسان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} , "لا فضل لعربي على عجمي, ولا أبيض ولا أسود إلا التقوى".
ومن هنا كانت إسلاميتنا التي نعيش لها, وندعو إليها, ونوالي لها, ونعادي من أجلها, كانت تفرض في مبدأ العمل: طلب العلم, قال الله تعالى - شارعها وواضع مبادئها وتعاليمها -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} . وقال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} , وقال صلى الله عليه وسلم- حامل راية إسلاميتنا -: "طلب العلم فريضة على كل مسلم".
2 – الصلاة:(2/291)
إن إقامة الصلاة في مجتمعنا الإسلامي الطاهر الحر لهو أكبر مظهر من مظاهر القوة والنظام والوحدة واحترام الواجب, فإنه بمجرد أن يعلن عن دخول وقت الصلاة: حي على الصلاة, حي على الفلاح, الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله, تتوقف الحركة, ويسكن العمل, ويهرع أفراد الشعب إلى المساجد القائمة هنا وهناك, في كل شارع من شوارع المدينة, وساحة من ساحاتها, يهرع الكل لأداء أكبر طاعة لله المعبود الحق, تكسبهم شحنة جديدة من الإيمان, يقوون بها على العمل المثمر النافع, ويترفعون بها عن الدنايا والرذائل, وعن كل سلوك شائن يحفظ المجتمع الإسلامي بطابعه الخاص من الطهر والصفاء والقوة والنشاط والوحدة والنظام. ومن هنا كانت إسلاميتنا تعتبر الفرد الذي يترك الصلاة عضوا فاسدا في المجتمع الإسلامي, يعالج فورا فيبرأ وإلا يبتر؛ خشية سرايا الفساد لبقية الأعضاء الصالحة, وذلك حفاظا على طهارة المجتمع وقوته ونظامه..
3- الزكاة:
مبدأ الزكاة في إسلاميتنا قائم على تحقيق هدفين عظيمين:
أولهما: تطهير نفس المؤمن من رذيلة الشح والبخل وداء الشره والحرص والطمع وعبادة المادة ,وهي أدواء خطيرة متى تأصّلت في الفرد سلبته كل معاني الإنسانية الكريمة, وصيرته حيواناً تافها, لا يرجى منه خير لنفسه, ولا لأفراد مجتمعه.(2/292)
ثانيهما: مقاومة التضخم المالي لدى الأفراد, وتوزيع الخير بين أفراد المجتمع الإسلامي, وإشاعة الرحمة فيه حتى لا يشعر فرد منه بالحرمان, أو أن يد الجوع تقوى على أن تغتاله في يوم من الأيام, كما أن الزكاة تكون سهما كبيرا في خزانة الدولة, إذ نسبة اثنين ونصف في المائة من كل الأموال المتداولة بين الناس, والمختزنة في المصارف, والصناديق الخاصة تعود سنويا إلى خزانة الدولة, نسبة لا يستهان بها في تدعيم مالية الدولة, وتقوية مركزها المالي, ومن هنا كانت إسلاميتنا تفرض الزكاة فرضا في أموال الأفراد, وتطالب بها, وتأخذها بالرضا أو الكره, وتنظم جبايتها, وتحسن صرفها في أوجهها المخصصة لها, تحقيقا لهدف سعادة المسلم في حياته الدنيا والآخرة!.
4- الصوم:(2/293)
يعتبر الصوم في إسلاميتنا أكبر عامل في تقوية أفراد مجتمعنا الإسلامي, وتهذيب شعورهم, وترقية أرواحهم, وإرهاف إحساساتهم, وتنمية عواطف الخير فيهم, وإعداد كل فرد منهم لأن يكون قويا في إرادته, وعزمه, وتصميمه, لا تشوبه المغريات, ولا تستميله الشهوات, صبورا عند الشدائد, لا تضعفه الأهوال, ولا تثنيه عن عزمه الويلات والمخاوف. كما أنّ مبدأ الصوم في إسلاميتنا يساعد على رفع مستوى الصحة العام في الأمة, أو صوم شهر في السنة تقاوم به سائر الفضلات والرواسب في البطن, والتي تنتج عادة عن استمرار عملية الأكل والهضم. كما أن الصوم مقاوم لتضخم السمن وامتلاء البطن بالشحم؛ الذي من شأنه أن يقلل من نشاط الفرد, ويضعف من سرعة حركته عند مزاولة أعماله, والقيام بواجباته في الحياة, مثل ما أن الصوم من الناحية الاجتماعية من أهم عوامل تعويد الأمة الاتحاد والنظام وتحقيق مبدأ المساواة, يتجلى ذلك في إمساك الأمة في لحظة واحدة من أول النهار, وإفطارها في لحظة واحدة من آخر النهار, لا فرق بين غنيها وفقيرها, ولا بين شريفها ووضيعها, أو قويها وضعيفها؛ إذ الكل أمام هذا الواجب متساوون, لا ميزة لأحد منهم على الآخر.
5- الحج:
إنّ ما يحققه الحج إلى بيت الله الحرام من مكاسب كبيرة, ومنافع عديدة للأمة المسلمة لا يمكن حصره, وإنما يمكن الإشارة إلى بعض مكاسبه ومنافعه فيما يلي:
1- مغفرة ذنب المؤمن وتكفير ما ألم به من سيئات, تحت تأثير ضعفه وعجزه الأصيل, وإخفائه أحيانا في مقاومة قوى الشر المختلفة, والمحدقة به من كل جانب, وفي كل زمان ومكان, قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".(2/294)
2- إجتماع العديد من المسلمين في مكة المكرمة على اختلاف أجناسهم, وتباعد ديارهم, وتعرف بعضهم أحوال بعض, وتبادل الآراء في الإصلاح, والعمل المثمر المفيد للمسلمين, والمحقق لهم الخير والسعادة, إذ الحج يمثل أكبر مؤتمر سنوي يعقد في العالم على أكمل حال وأحسن وجه.
3- رياضة نفس الفرد المسلم على البذل والعمل والاغتراب والتضحية, بما يكسب المسلم طاقة كبيرة من الإيمان والنشاط العضلي والعقلي. ومحاسن الأخلاق لا يحصل عليها بغير أداء عبادة الحج المقدسة بحال من الأحوال.
6- حسن الخلق:
إذا كانت المذاهب المادية اليوم من إشتراكية ورأسمالية وغيرهما تقوم على أساس غير أخلاقي, فتبيح الظلم والغش والكذب والنفاق والتضليل والخداع والباطل والمغالطة والتمويه في سبيل الوصول إلى أهدافها المادية الخسيسة, فإن إسلاميتنا قائمة على دعائم الأخلاق الفاضلة, ومرتكزة على أصول القيم الروحية الكريمة, من صدق ووفاء وعفة وحياء وعدل وخير ورحمة وتبشير, وتحرم على معتنقي مبادئها الظلمَ والجور والاعتداء والغش والخداع والكذب والنفاق والفحش والبذاء وكل أنواع الشر والفساد, وفي أي صورة من الصور, أوشكل من الأشكال, ولم تكتف بمجرد الحظر والتحريم, بل تدعوا أبناءها إلى محاربة الجريمة ومطاردتها حيث ما كانت, حتى يخلص المجتمع الإسلامي لأبنائه طاهراً طهارة الأرواح المؤمنة, ونقيا نقاء السماء قال تعالى- في كتاب إسلاميتنا-: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .(2/295)
ولذا نحن إذ ندعو الشرق والغرب معا إلى إسلاميتنا فإننا ندعوهم إلى الخروج من حياة المادة المدمرة إلى حياة السمو الروحي والكمال النفسي, ندعوهم إلى الخروج من الصراع لأجل الباطل والشر للصراع من أجل الخير والحق, بالرغم من إعراض العالم اليوم عن إسلاميتنا المخالفة لما ألفه من حب الاستعلاء والظلم والطغيان, ولما اعتاده من عيشة الشر والفساد, فإننا لا نزال ندعو إلى إسلاميتنا, ونجاهد من أجلها, حتى يقيض الله تعالى لها من يحتضنها, وينقذ بها البشرية من وهدة الشر والفساد التي تردت فيها, وحتى يتخلص العالم الإنساني من حيرته التي عاشها لعدة قرون وما وجد لها من مخرج إلى اليوم.
7 - الجهاد:
تعد إسلاميتنا الجهاد بأنواعه الأربعة من أفضل الأعمال الصالحة, وتعتبره فريضة كل مسلم في الحياة؛ لأنه قوامها وذروة سنامها وحارس مبادئها وحافظ مكاسبها, فلذا هي تلزم أبناءها ومعتنقي مبادئها القيام بما يلي:
1- توطين النفس على الجهاد إذ تقول تعاليمنا: "من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق".
2- إعداد العدة له لقول الله تعالى – واضعها -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} . ويستلزم هذا الأمور التالية:
· أ _ تدريب كل شاب مسلم بلغ الثامنة عشرة من عمره على فنون الحرب المختلفة ووسائل الدفاع الضرورية بصورة إجبارية أداء لفريضة الجهاد.
· ب _ إمتلاك الأسلحة المختلفة, وكل ما يجد في العلم من أسلحة وبناء المصانع والمعامل المنتجة في داخل البلاد.
· ج _ تقوية الجيوش المرابطة والغازية وتدعيمها بكل وسائل التدعيم والتقوية بما يضمن لها الانتصار قي كل معركة تخوضها ضد الباطل والشر, وبما يمكنها من دفع كل معتد ظالم.(2/296)
· د _ إبعاد الجيش عن أسباب الفشل والضعف ومن أخطرها معاصي الله تعالى بالفسق عن أمره والخروج عن طاعته.
· ي _ إصلاح نفس الجندي وتزكية روحه بوسائل الإصلاح والتهذيب المختلفة حتى يحتفظ في كل وقت باستعداده للفداء والتضحية والاستشهاد في سبيل الله تعالى.
هذا في الجهاد الخاص وهو جهاد المحاربين لدعوة الله تعالى والصادين الناس عنها, وأما في الجهاد العام فإن إسلاميتنا تلزم كل مسلم أن يجاهد نفسه في ذات الله تعالى بأن يحملها على أن تتعلم أمور الدين وتعمل بها وتعلمها ويصرفها عن هواها ويقاوم رعوناتها,
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} , ويجاهد الشيطان يدفع ما يأتي به من الشبهات, وترك ما يزينه من الشهوات {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} , ويجاهد الفاسق بتغيير ما يأتون من المنكر ويحملهم على ما يتركون من معروف "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان".
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انطلاق لا دفاع
الذي يدرك طبيعة هذا الدين، يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان, ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية بالمعنى الضيِّق الذي يفهم اليوم من اصطلاح (الحرب الدفاعية) كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر, أما هجوم المستشرقين الماكر أن يصوِّروا حركة الجهاد في الإسلام إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير الإنسان في الأرض بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري, وفي مراحل محددة, لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.
(سيد قطب)
--------------------------------------------------------------------------------(2/297)
[1] من أراد الوقوف على تفاصيل تعليم المرأة المسلمة فليراجع رسالة (حقوق المرأة) لكاتب المقال.(2/298)
الإسلام دين الفطرة.. صالح لكل زمان ومكان
للشيخ محمد مريسي محمد المدرس بالجامع ة
أيها الأخ المسلم: تعالى بنا نستعرض تشريعات الإسلام في كل نواحيه, من عقيدة وعبادة, ومعاملة, وأخلاق, واجتماع, لنرى أنها سايرت الفطر السليمة النظيفة, التي لم تتدنس بتقاليد أفقدتها الإحساس الواعي الفاهم, الذي يستطيع أن يدرك الغث من السمين, والجيد من الزيف, فاختلط عليها الأمر, وانقلبت عليها الأوضاع, فظنت الحسن قبيحا, والقبيح حسنا, وسارت في متاهات الشهوات والأهواء, حتى أصبحت كما قال الشاعر الحكيم:
حتى يرى بالحسن ما ليس بالحسن
يقضي على المرء في أيام محنته(2/299)
نعم, تعال بنا نستعرض مسائل الإسلام, ولتكن أول المسائل: العقيدة؛ دعاك الإسلام إلى عبادة الله وحده, ونهاك عن عبادة غيره أيا كان هذا الغير, وبيّن لك أنّ الله خص بالعبادة دون سواه؛ لأنه مالك الأمر كله, ليس لأحد معه من عمل, فهو الخالق, الرازق, المعطي, المانع, المحيي, المميت, يعز من يشاء, ويذل من يشاء, بيده وحده الخير {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} , ثم برهن في الآية نفسها على قدرته على ذلك فقال: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . وإذن فمن العبث أن يستمد الإنسان العون من غير ربه, وأن يطلب تحقيق آماله من غير خالقه, فهو المسؤول وحده, ولا يملك أحد لأحد شيئا, مهما أوتي من جاه, أو سلطان, فالجاه والسلطان مستمدان من الله سبحانه, ولو شاء أن يسلبهما لسلبهما. ودروس الأيام عبرة وذكرى, والذكرى تنفع المؤمنين, ألم ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, رفعت الأقلام وجفت الصحف". وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن إذ يقول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . من هذا كله نستطيع أن ندرك فساد فطر هؤلاء الذين وكلوا أمورهم إلى غير الله, وظنوا أنهم واصلون إلى(2/300)
أغراضهم ماداموا في أحضان من اتخذوهم درعا واقية من دون الله, ولهذا عاشوا أذلاء, وسيموتون كذلك, وها هو ذا الحديث القائل: "من استعز بالله عزّ, ومن استعز بغير الله ذلّ", وها هو القرآن يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}
المسألة الثانية: العبادة والمعاملة: وهي في تنوّعها عامل هام من عوامل تكوين الشخصية الإسلامية الحقة, التي تعرف لله حقه, وللناس حقوقهم, فتكون أسلوباً من الهداية, وعنواناً على الخير الجامع الشامل, قل بربك: ما هذا الإنسان الذي يقف بين يدي ربه, وفي محرابه, يركع له ويسجد له, ويؤدي عبادة الصلاة في خشوع, إن دل على شيء فإنما يدل على عبودية خالصة لله, هي التطبيق العملي الذي يتجاوب مع العقيدة, عقيدة الإخلاص لله والاستعانة به, إنه المسلم الذي يعد عنوانا واضحا على الإسلام الحق, والإيمان الحق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} , وجميل من القرآن أن يعقب هذا بطلب الهداية إلى طريق الله المستقيم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}(2/301)
أيها الأخ المسلم: ما أروع أن ترى المسلمين صفوفا متراصة, منتظمة متحدة في حركتها وسكونها, في ركوعها وسجودها, تأتم بإمام واحد, يسبق إلى فعل الأركان, فيتبعه جميع المؤتمين به, وهكذا تراهم يركعون بركوعه, ويسجدون بسجوده, ويستمعون لقراءته, ويؤمنون على دعائه, ولا ينتهون من صلاتهم إلا بانتهائه, وما هذا كله إلا الوحدة والنظام, واتباع الأمر, وحسن الإقتداء في رغبة وحب, لا في إكراه وبغض. ولو استعرضت جميع الشرائع الوضعية الموجودة, مهما كان نظامها, ومهما كان وضعها, لا تراها تخلق في الجماعة هذا النظام المحكم, ولا هذه الطاعة التي تنبع من القلب, فكانت كما قدمنا حبا ورغبة, لا كراهية وبغضا. وهكذا لو استعرضت جميع العبادات من صيام وزكاة وحج, وما إلى ذلك من تبيان الحلال والحرام في كل شيء, لبان لك أن تشريع الله ما بني إلا على أساس المصلحة, التي تحقق السعادة الجامعة الشاملة للفرد والمجموع. هذا التشريع السماوي ذو الحكمة العالية السامية صالح لكل جماعة, في كل مكان, وفي كل زمان, ومهما تغيرت الأيام, واختلفت السنون, بأحداثها ومسائلها, فإن هذا التشريع لا يتغير بتغيرها, ولا يتبدل بتبدلها, بل هو صالح لها على جميع أوضاعها, ضامن لكل أهل زمان السعادة إذا ما عملوا بأحكامه, واستمسكوا بآدابه, وهاهم أولاء المسلمون الأولون, استطاعوا بإيمانهم واستمساكهم بدينهم أن يملكوا العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ,استطاعوا أن يهزوا عروش الأكاسرة والقياصرة, ويجلسوا على عرش الدنيا ملوكا حكاما, وأئمة أعلاما, وقد حقق الله لهم وعده في قرآنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ(2/302)
بِي شَيْئاً} .
أيها الأخ المسلم: إذا قلت لك: إن تشريع السماء صالح لكل زمان ومكان, أستطيع أن أقول لك: إن تشريع الأرض غير صالح لهما, ولذلك نراه دائما في تغيير أو تبديل, وما يشرع اليوم ينقض غدا, وما يصلح لهذه الجماعة لا يصلح للجماعة الأخرى, ولذلك نرى لكل طائفة من طوائف العالم تشريعها ودستورها الملائم لحال أهلها؛ لأن الشرائع تتطور بتطور الأمم, وتتغير بتغير أحوالها, فتوضع الشرائع الوضعية موافقة لحال العصر, الذي وضعت فيه, والبيئة التي سنت من أجلها, وكثير ما يظهر نقص التشريع, وتتكشف نواحي الضعف فيه, فيستنون شرائع أخرى, وهكذا دواليك, لا استقرار لتشريع وضعي مهما كان واضعوه؛ لأن العقل البشري مهما أوتي من قدرة على الفهم وتقدير الأوضاع, لا يسلم من الأخطاء, ولهذا لم يترك الله الناس لعقولهم, بل أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين, يرشدونهم إلى الحق, ويوجهونهم إلى صراط الله المستقيم, الذي قال فيه –سبحانه-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
نعم, تشريع الله لا يتغير أبدا ولا يتبدل؛ لأن واضعه حكيم عليم بأحوال الأمم وأوضاعها, فوضع لها التشريع الذي يحمل في طياته سعادة البشرية جمعاء, مهما كانت أحوالها, ولهذا اعترف كثير من مستشرقي الغرب بدين الإسلام كسبيل إلى الإصلاح العام الشامل للفرد والمجموع, ودستورٌ ينقذ البشرية من دوافع الشر وعوامل الفساد, وها هو ذا رجل إنجليزي مستشرق يقول في إحدى المجلات الإنجليزية: "لو بعث محمد بن عبد الله يحمل كتابه في يديه لأمكن أن ينقذ سفينة العالم من الغرق", وسئل الكاتب الإنجليزي المعروف بأدبه وفلسفته (برنارد شو) : ما رأيك في الإسلام؟ قال: "الإسلام حسن, ولكن أين المسلمون!) .
للحديث بقية.
الجماهير:(2/303)
قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} . وقال الشاعر:
بألف رأس حمار عقل إنسان؟
اتبع حكيما ودع جمهورهم أترى(2/304)
الإسلام والحياة
بقلم: أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
1 - القرآن الكريم.. والحياة
القرآن الكريم: كتاب الله الخالد الذي أُحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدن حكيم خبير, نزل به الروح الأمين, على رسول الإنسانية محمد عليه الصلاة والسلام, منجما حسب الوقائع والمناسبات, من ليلة السابع عشر من رمضان, للسنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول, حيث أوحى إليه في غار حراء, الذي كان يتحنّث فيه, أول آية وهي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وكان في هذا الابتداء إشعار بالدعوة الإسلامية إلى العلم, والتنويه بشأنه, وأنّ شعار هذا الدين العلم الذي يرفع الله به الأمم, ويعز به الجماعات.
واستمر نزول القرآن حتى التاسع من ذي الحجة, للسنة العاشرة من الهجرة, والثالثة والستين من ميلاد الرسول, حيث أوحى إليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} .
وبتمام نزول القرآن الكريم كملت شريعة الإسلام, وأتم الله على أمته نعمته, والقرآن بهذا التمام والكمال صار دستور المسلمين في حياتهم الاجتماعية, والسياسية, والاقتصادية والروحية, ومرجع العقائد, والعبادات, والمعاملات.
أحكمه رب العزة, فأتقن إحكامه, وفصله فأحسن تفصيله, فبه من الآداب الفاضلة والأخلاق الحميدة, والتوجيهات السديدة, والقيم السامية, ما هو كفيل برقي الأمم العاملة به, المتمسكة بتعاليمه.(2/305)
وهو روح الإسلام الذي يشع فيه الكينونة والوجود, وقلبه الذي ينبض بالحيات والحركة, والدفع والتدفق, وعقله الذي تلألأت به شهب المنى, ودرت أثداء الأمل.
وهو الجامعة الإسلامية العالمية, التي ترسمت معالم الإخاء, وشعت بقواعد المساواة, وخفقت بأعلام الحق, وعلائم الكمال.
والمعنى الذي يفهم من لفظ (القرآن) كبير جدا, لا يدانيه معنى في القوة والتأثير, وإنّ المؤمن الذي يتلوه لتنثال على خاطره منه دلالات وطيوف, تملا النفس خشوعا وروعة وجلالا.
وفي كلمة القرآن معنى الجامعة, التي احتوت على جميع العناصر الصلاحية, لكل الأزمنة, والأمكنة, والبيئات, والمجتمعات والعصور.
والقرآن الكريم: وعي, ووحي, وإشعاع, وكتاب تربية, وبرهان قاطع, وآية ساطعة, وتشريع روحي, وقانون واف, وسياسة أخاذة, ونظام دولي, وإصلاح اجتماعي, ومجمع علمي, ودائرة معارف يرجع إليها أهل الفكر, ويعتمد عليها أرباب النظر.
والقرآن فوق هذا وذاك: القاعدة الروحية التي تنطلق منها الإمدادات الإلهية, والفيوضات السماوية. وإذا كان الإنسان ذلك الكائن الحي لا وجود له ولا حياة بغير الروح والقلب والعقل, فإن المسلمين لا كيان لهم ولا حياة بغير القرآن, فهو لهم الروح والعقل والقلب, وهولهم: الضياء والشفاء والغذاء والجرس الذي لا ينتهي له مدى, ولا ينضب له معين. تنشده الأمة فتجد فيه مبتغاها من التشريعات الفردية, والعلائق الأسرية, والمعاملات الاقتصادية, والاجتماعية, والحربية, والقوانين المدنية, والأنظمة الدولية, وبعبارة أدق وأوجز: تجد فيه الأمة كل ما تحتاج إليه في حياتها العامة والخاصة, والدين والدنيا.
نادى الناس بنداءات إلهية, أججت العواطف, وحركت العقول من ركدتها, وبعثت في النفوس ثورة رائعة, كان لها المدى البعيد في تحويل مجرى الإنسانية.(2/306)
ولقد وعى التاريخ عن الثورية في القرآن ما لم يعه لأي حدث آخر في هذا الكون, سواء في معارك التهذيب النفسي, حينما وجد الناس يسودهم الهوى, ويسوسهم الجهل, فأصبحوا بهديه مثالا يحتذى.
أو في معارك السلام يوم تدفقت سيول العرب من منابعها, وخاض جنود الحق بفتحاتهم أرجاء الدنيا. وما أصدق رسول الله إذ يقول في حديث يرويه الترمذي: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم, وخبر ما بعدكم, هو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله, وهو حبل الله المتين, وهو الذكر الحكيم, وهو الصراط المستقيم, هو الذي لا تزيغ به الأهواء, ولا تلتبس به الألسنة, ولا يشبع منه العلماء, ولا يخلق على كثرة الرد, ولا تنقضي عجائبه, هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد, من قال به صدق, ومن عمل به أجر, ومن حكم به عدل, ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
وما أبلغ ما قاله الدكتور موريس الفرنسي في وصف القرآن "إنه بمثابة ندوة علمية للعلماء, ومعجم اللغة للغويين, ومعلم النحو لمن أراد تقويم لسانه, وكتاب عروض لمحب الشعر, وتهذيب العواطف, ودائرة معارف للشرائع والقوانين" [1] .(2/307)
ولقد اشتمل القرآن الكريم على ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية, منها حوالي سبعمائة وخمسون آية كونية وعلمية, احتوت أصول وحقائق تتصل بعلوم الفلك والطبيعة, وما وراء الطبيعة, والأحياء, والنبات, والحيوان, وطبقات الأرض, والأجنة, والوراثة, والصحة, والصحة النفسية, والوقائية, والتعدين, والصناعة, والتجارة, والمال, والاقتصاد,.. الخ. واحتوت باقي الآيات على الأصول والأحكام في المعاملات, وعلاقات الأمم والشعوب في السلم والحرب, وفي سياسة الحكم, وإقامة العدل, والعدالة الاجتماعية, والتضامن الاجتماعي, وكل ما يتصل ببناء المجتمع. وفي رسم شخصية المسلم الكامل؛ خلقا, وأدبا, وعلما, وفيما يجب أن يحتذيه من المثل العليا, وما يتحلى به من مكارم الأخلاق.
وهذا كله بخلاف العبادات, والعقائد, والتكاليف, وبخلاف القصص, وما احتواه من مواعظ, وأمثال, وغير ذلك من شتى أمور الدين والدنيا, مما كان محلا للدراسة, والاستنتاج, والتخريج, والتأصيل, والبحث, والتنقيب. وكان أساساً لعلوم الفقه, والتفسير, والحديث, والأصول, والأخلاق, والاجتماع, والبلاغة, والأدب, وغيرها, سواء كانت عقلية أم نقلية.(2/308)
وكانت معانيه دائما كالماء الصافي الزلال في بلور الإناء, ومهما تشكل الماء بلون الإناء بحسب الزمان والمكان فهو نفس الماء الذي لا يتغير لونه, ولا ينضب معينه, ولا يتسنه طعمه, ويظل هو نفس القرآن الذي لا تبلى مع الزمان جدته, ولا تنقضي عجائبه, كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم, ذلك أنه من العمق والاتساع, ومن العموم والشمول, بما يقبل تفهم البشر له, أيا كان مبلغهم من العلم, وبما يفي بحاجاتهم في كل عصر, ويتجاوب في يسر مع أهل البداوة؛ لأنه لا يلتوي على الأفهام, ويبهر في عمق أهل المدنية, الذين صعدوا في سلم الرقى, وبرعوا في فنون العلم والمعرفة؛ لأنه يزخر كما يزخر البحر, في قاعه الدرر واللآلئ, لمن استطاع الغوص إليها في الأعماق [2] .
ويضيق المقام عن الإفاضة في هذه المجالات الواسعة العميقة, فلا مندوحة من الاجتزاء والاكتفاء, وإيراد بعض الأصول والحقائق وإلى اللقاء.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر كتاب التربية في كتاب الله ص 6 للشيخ محمود خالد مطبعة الاعتصام القاهرة 1388هـ.
[2] راجع المحاضرات العامة للأزهر ص 20سنة 1378هـ مطبعة الأزهر.(2/309)
الأعداء الثلاثة
للشيخ حسين محمد مخلوف
محاضرة ألقاها على طلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف، مفتي الديار المصرية سابقاً، وعضو جماعة كبار العلماء، وعضو رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وأحد أعضاء المجلس الاستشاري للجامعة.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه المجاهدين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فقد أتاح الله تعالى لي في هذه المرة زيارة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التي أنشئت في عام 1381هـ، كما زرتها في أعوام سابقة، فرأيتها نامية ذاخرة بطلاب العلم والدين من نيف وستين جنسية من مختلف الأقطار الإسلامية، وفدوا إليها بعزائم قوية، ورغبات صادقة وقلوب مؤمنة مخلصة للتغذي بعلومها, والنهل من معينها, على يد أساتذة فضلاء، فألفوا من المملكة وعلمائها، ومديري الجامعة صدوراً رحبة وعناية فائقة، ومساكن جميلة، ومرافق كاملة، وفوق ذلك وجدوا مدداً سخياً، كريماً وافياً, وجواً صالحاً، وبيئة سليمة، وحياة شريفة، يظلها الإسلام الحنيف، والأدب الرفيع, ويسبغ عليها التقى والصلاح، ذلك الجوار الكريم للرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.
ولهذه الجامعة الإسلامية ميزة كبرى على نظائرها في بعض الأقطار الإسلامية لا تزاحمها فيها, وهي مزيد العناية بالعلوم الإسلامية وتعليمها، وبالأخلاق والآداب، وحسن السيرة, ووسائل الدعوة إلى الإسلام، والسخاء في الإنفاق على طلابها، وتوفير أسباب إقامتهم في رحابها، وشدة الحرص على تحقيق أهدافها وغاياتها.
كيف وهي متوجة بهذه النسبة الكريمة، مشرفة بهذا الشرف الرفيع الذي لا يدانيه شرف، وحسبها أنها في دار الهجرة، وفي رحاب أفضل الرسل، وأكرم الخلق على الله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(2/310)
ومما بهرني في هذه الزيارة منشئات جديدة على أحسن طراز وأجمل رواء، وأضخم بناء منها مساكن للطلاب، وقاعات للدراسة في الكليتين، كلية الشريعة وكلية الدعوة وأصول الدين، وصالة فخمة للمحاضرات يندر مثلها في جامعات أخرى، وغير ذلك مما عنيت به المملكة في هذه الجامعة المثالية، وأنفقت فيه الأموال الوفيرة بسخاء، وعما قريب بمشيئة الله تعالى يفتتح البناء الجديد في ثوبه القشيب وجلاله الرائع، فرجوت من الله تعالى تحقيق الأمل، وإتمام العمل على أحسن حال وأكمله، والمثوبة للقائمين به بإخلاص نية، وحسن قصد لوجه الله تعالى، وخدمة الإسلام.
وفي الجامعة عدا هاتين الكليتين قسم إعدادي يؤهل الطلاب للانتظام في السلك الجامعي، وشعبة تعليمية تعلم اللغة العربية لمن لا يحسنها من الوافدين للجامعة من الأقطار الأخرى، ولكل من الكليتين منهج دراسي خاص لما يدرس من العلوم والمواد واف بالغرض المنشود.
وقد تخرج إلى الآن من الكليتين مائة وثمانية وعشرون جامعياً في أربع سنوات منذ افتتاحها، ينتمون إلى اثنين وعشرين جنسية.
وعاد أكثرهم إلى البلاد التي وفدوا منها يحملون رسالة الإسلام، وعلوم الإسلام أصولاً وفروعاً، ويدعون إلى التوحيد الصافي من الشوائب، الخالص من البدع والأهواء، في صدق وإخلاص وعزم وقوى، ونقاء من الشبه وتزييف للباطل، والتحريف الذي روجه أعداء الإسلام من الفرق الضالة المعروفة.
ولا شك أن في ذلك نوع من الجهاد في سبيل الله، له أثره المحمود في إصلاح القلوب، وتطهير العقول وصلاح الأعمال، ونشر العلم والعرفان، ونقاء المجتمع الإسلامي من الأدران.(2/311)
وهناك مرض خطير أصاب المسلمين فأوهن قواهم، وأذهب ريحهم، وأغرى بهم أعداءهم، وجرّ إليهم الويلات، ذلك هو مرض التفرق والاختلاف بين جماعات المسلمين والتنابذ والتعادي، وهو مرض وبيل، وداء خطير يجب أن ينال من عناية الدعاة إلى الله والعلماء التقاة ما يزول به الداء ويشفى هذا السقام.
فقد أوجب الله عليهم في هذا الموقف أن يبصروا المسلمين بمغبة التنازع والتفرق، وأنه محرم عليهم، وأنه يجب عليهم الآن بعد نزول البلاء وتحقق النذر أن تتصافى قلوبهم وتطهر من الضغائن والأحقاد صدورهم، وتقلع عن الهواجس والأهواء جماعاتهم وتتراحم وتتواد، وتتعاطف، وتلتقي على كلمة سواء في جهاد الأعداء واستعادة العزة والكرامة، ودفع الأسواء.
والله تعالى يقول:} وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم} , ويقول:} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا {، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً", ويقول: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى", إلى كثير من الآيات والأحاديث في هذا المقام الناهية عن التفرق، الحاثة على الاجتماع والوئام والتعاون والتناصر.
فمن أهم الواجبات على الدعاة إلى الله, وعلى سائر العلماء أن ينصحوا ويفصحوا ويبصروا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وعلى من يعصي تدور الدوائر.
ولقد حلت بالمسلمين الكارثة الماثلة الآن بسبب هذا التفرق الممقوت والإعراض عن الاعتصام بحبل الله المتين، وهو كلام رب العالمين وعن أحاديث سيد المرسلين، فعلينا أن ندعو إلى الرجوع إليهما والائتمام بهما في كل شؤوننا {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .(2/312)
وهذا كتاب ربنا وشريعة نبينا نور وهدى وبصائر لمن استمع إليهما، وفيهما كل الخير والفلاح في كل زمان وأمة ومكان، فلنأخذ بهما، ولننبذ كل ما يخالفهما، والله تعالى كفيل بنصرنا على أعدائنا} وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ {,} إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .
ذلك هو العدو الداخلي، وهذا طريق الخلاص منه، والانتصار عليه، فهل نحن سالكون هذا الطريق المشروع الآمن؟ نرجو من الله التوفيق له.
أما العدو الخارجي، فاعلموا أيها الإخوان أن أعداء الإسلام كثيرون، قد أجمعوا مع تفرقهم في النحل والمذاهب والآراء على الكيد للإسلام، وكتابه ورسوله، ودعوته، وبلاده، وحاضره، ومستقبله بمختلف الوسائل بحنق وغيظ وتدبير وخطط مرسومة.
فهناك الصهاينة الباغون يدبرون للإسلام منذ قرون أسوأ التدبير وأخفاه سعياً وراء تفتيت الجماعة الإسلامية, وإشعال نار الفتن بين المسلمين، والفرقة والاختلاف في كل مهامهم، بأساليب شتى لا يتسع هذا المقام لشرح تفصيلها.
وإنما أذكر وسيلة واحدة خفيت حقيقتها على كثير هي (الإخاء الماسوني) فقد أنشئوا نظام الماسونية، وأقاموا له فروعاً في أكثر الدول، وشكلوا جمعياته فيها، ووضعوا له نظماً، واصطلاحات ورسوماً، يتعارف بها الأعضاء المنتسبون له من كل دولة، وأهم مبادئه الإخاء بين جميع الأعضاء مهما اختلفت دياناتهم وجنسياتهم وبلادهم، فيصبح الماسوني أخاً للماسوني، يضحي في سبيله بكل غال، ويعاونه بكل وسيلة، ويحقق أغراضه مهما تعارضت مع دينه أو وطنه أو أخلاقه، فاليهودي يتآخى مع المسلم، والمسلم يتآخى مع المسيحي، والمسيحي يتآخى مع الملحد، وكلهم إخوة متناصرون، يُضحُّون في سبيل هذه الأخوة بكل شيء، وبذلك تحل الرابطة بين المسلم وأخيه المسلم إذا تعرضت مع الأخوة الماسونية، ويحل محل رابطة الإسلام وأخوته التي شرعها الله تعالى رابطة الماسونية الأثيمة.(2/313)
وقد اغتر بهذه الدسسية بعض القدامى، فانخرطوا في سلك الماسونية ومجامعها الدولية بسلامة نية, وحسبوها أخوة بريئة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتورَّطوا فيها كثيراً، والحمد لله قد خفّت وطأتها نوعاً حيث ظهرت العداوة أخيراً في وضح النهار، وقد كانت في أول الأمر خفية متوارية أبان الضعف والتدبير.
هذه إحدى مكائد الصهيونية العقائدية والاجتماعية.
واليهود كما تعلمون قوم بهتٌ يأكلون السحت، ولا يعيشون إلا بالحرام، ولا يبالون في سبيل المال بشيء من الدين أو الأخلاق أو حرمة الأعراض، فهم عبّاد المال أينما وجد، وبأي طريقة اكتسب، وهم يساكنون المسلمين في بلادهم منذ القدم قبل أن يحتلون فلسطين ويكوِّنوا لهم دولة, فنشروا الربا بين المسلمين، وأغروهم بمكاسبه الهائلة، فتبعهم من ضعُفَ إيمانُه وخلقُه من المسلمين. واليهود في كل العالم ملوك المال، القابضون بأيديهم على زمام الاقتصاد، حتى في أميركا فبه يتحكمون, ويملون سياستهم على كثير من الدول والبلاد والأشخاص ما في ذلك شك، ذلك بعض خطر اليهود، والاحتياط منه ودرؤه عن المسلمين أن يأخذوا بكتاب الله في تحريم الربا بجميع صوره وأشكاله، وفي آداء حق المال لمن يستحقه كما أمر الله تعالى.
وبذلك تنقطع مادة من أعظم مواد الشر والفتنة التي يقيمها اليهود وأقاموها من قديم في بلاد الإسلام.
وهذا كتاب ربنا بين أيدينا في هذا المجال صريح فيه وعلاج شاف لمن يبغيه.
أما المسيحيون وهم العدو الثاني فقد مثلوا دورهم في الكيد للإسلام، وإيذاء المسلمين بصور شتى, منها فتنة التبشير في البلاد الإسلامية (كما يسمونه) لإدخال المسيحية فيها وإبعاد الراغبين في الإسلام عن الإسلام.(2/314)
يقيمون لتحقيق أغراضهم المستشفيات المجانية وينفقون الأموال الطائلة في الترغيب في المسيحية بمختلف الطرق, وفي الطعن في الإسلام بكل افتراء، ولهم في إفريقيا وخاصة في وسطها ومجاهلها مجال فسيح, وقد ساعدهم في مهمتهم الاستعمار الخبيث الذي منيت به تلك الأصقاع, فلم يكن استعماراً إقليمياً سياسياً اقتصادياً فحسب وإنما كان مع كل ذلك استعماراً دينياً فظيعاً.
وقد بقي ولا يزال أهل تلك الأصقاع يعانون آثاره حتى بعد الاستقلال وخلع نير الاستعمار، ولدينا من ذلك صادق الأخبار.
هذه دسيسة مسيحية ظاهرة.
وهناك دسيسة أخرى جميلة الظاهر، قبيحة الباطن هي دسيسة الدعوى العامة إلى تحديد النسل أو تنظيمه كما يقولون في البلاد الإسلامية، وقد دعا إليها كثير، وخاضت فيها الصحف مراراً، ولا تزال موضع الحديث ومحاولة التنفيذ، وإليكم طرفاً من تاريخها.
نبتت هذه الفكرة بادئ بدء من المسيحيين حتى خافوا كثرة النسل في المسلمين بسبب جواز تعدد الزوجات, وشريعة الإسلام على خلاف ما هو عند المسيحيين في تحريمه, وحسبوا لكثرة المسلمين حسابها لما فيها من القوة والعزة والغلبة، وقديماً قيل: "إنما العزة للكاثر"؛ ولأنها سبب العمل لرفع نير الاستعمار والتخلص من استغلال الأجنبي لموارد الرزق في البلاد, وبقاء البلاد لأهلها أرضاً وغلة وثمرات, فأشاعوا في طول البلاد وعرضها أن كثرة التناسل ستؤدي بالشعوب وتسبب القحط الماحق عما قريب, وبالتالي الهلاك والفناء بعد الفناء, بحجة أن حاصلات البلاد لا تكفي لمؤن أهلها, والعلاج لذلك تحديد النسل أو تنظيمه حتى لا يتزايد وينمو, وبدأوا وأعادوا في ذلك, وانتحلوا إحصاءات وبينات في ذلك لا تحمل في ظاهرها إلا الوجه الاقتصادي.(2/315)
واغتر بذلك بعض المسلمين فرسموا خططهم وأخذوا يكتبون في ذلك, وألقى بعض المتعلمين بدلالهم فيه حتى قاسه بعضهم على العزل المعروف, وقال بجوازه شرعاً, فجوّز التحديد أيضاً قياساً عليه.
وقد خضنا عباب هذا الموضوع منذ سنين, وكتبنا فيه في الصحف وغيرها، وكشفنا عن الباعث على إثارته, وأنّ حكم العزل مختلف فيه بين الأئمة كما ذكره الإمام ابن القيم في زاد المعاد؛ فمنعه فريق كثير, وأجازه بعضهم بشرط رضا الزوجة الحرة به، وقلنا إنه ضرر اجتماعي؛ لأن مصلحة المسلمين في كثرتهم لمقاومة الاستغلال والاحتلال, وللجهاد في سبيل الله, وفي سبيل إنقاذ البلاد, وهاهي الحروب الطاحنة تفني العديد من الأنفس فما لم تكن في الأمة عوض عنهم تذل وتخضع.
على أن الأرزاق بيد الخلاق، وليس الرزق مقصوراً على الزراعة ولا على الإنتاج، وهناك الصناعات والتجارات والعالم كله رقعة واحدة يستفيد بعضهم من بعض، وكلٌّ ينتفع بما عند الآخر بطريق التبادل, والدعوى العامة لتحديد النسل خطر على المسلمين، ولا تجوز شرعاً، فقد ورد أنّ الشارع يباهي بأمته وكثرتها الأمم الأخرى يوم القيامة، وأثبتنا ذلك في فتاوينا المطبوعة بمصر، وأهبنا بالمسلمين أن يكفوا عن هذه الدعوة العامة والدعاية الخطيرة.
وأخيراً حذّرنا ونحذر من هذه الدسيسة الخبيثة الأجنبية، والله المستعان.
والدول المسيحية بأسرها لا تحمل للإسلام والمسلمين إلا أشد البغض, وتدبر لهم أسوأ التدبير، علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
وبهذه المناسبة نقول: إن على المسلمين العمل الجدي على الاكتفاء الذاتي، في كل أمورهم عما بأيدي تلك الدول, من صناعات وعلوم وغيرها, حتى يقفوا معهم موقف الند للند، وبذلك يخشون بأس المسلمين ويحسبون لهم ألف حساب.
ولنقتصر في القول في الصهيونية والمسيحية على ما قدمنا كأمثلة ظاهرة على ما يحبكون للمسلمين من تدبير وسوء.(2/316)
ونقول: إنّ أمامنا الآن عدواً شديد الخطر, واسع الحيلة والمكيدة، وهو الشيوعية الملحدة الضالة التي تناهض الأديان كلها وخاصة الإسلام، ولذلك نراها تناهض اليهودية والمسيحية بهوادة ورفق، ولكنها تناهض الإسلام بقسوة وجبروت وطغيان وحنق، وترى في تعاليم الإسلام أعظم عقبة وألد عدو لها، تعمل جاهدة للقضاء عليه.
انظروا إلى ما فعلت الصين، وما فعلت روسيا في الأمم المسلمة الشرقية كالتركستان، أبادت أكثرهم واستلبت بلادهم وأموالهم، وحرمتهم من شعائر دينهم، حتى أصبح الجهر بالصلاة جريمة فظيعة يعاقب عليها بالحديد والنار، ولقد سمعت أن قبر الإمام البخاري أصبح مزبلة تجمع فيه القمامات، وكلكم يعرف ما يفعله الشيوعيون في أندونيسيا وباكستان وغيرهما ضد المسلمين، وطغيانهم أشبه، بل أكثر وأطم من طغيان المغول في الزمن الغابر، بل هم خلفاؤهم في هذه الفظائع.
الشيوعية شرّ مستطير، وقد زحفت إلى كثير من البلاد الإسلامية، وكلكم تعرفون أنباءها من الصحف وغيرها ولا تتوقف في زحفها، وذلك لضعف المسلمين في الأقطار التي منيت بها وتفرق كلمتهم، وتمزق جامعتهم ومجافاتهم لتعاليم دينهم.
إنّ خطة الشيوعية الاستحواذ على أقطار الإسلام، وصرف الشباب الناشئ عن الإسلام إلى ما يريدون, وتصوير مبادئهم بصور خلابة كاذبة حتى يقبل الناس عليها ويرون فيها المنقذ للفقراء، ذلك هو الخطر الداهم, وسيتفاقم لو ظللنا في عجابة وجهالة وتفرق وتمزق ومقاطعة لأحكام الإسلام الحنيف، فهل آن للمسلمين أن يفيقوا من غفلتهم, وأن يجمعوا ما تشتّت من أمرهم, وأن يقفوا صفاً واحداً ضد هذا الهجوم الباغي الأثيم؟.(2/317)
هل آن للمسلمين أن يعرفوا أنّ الشيوعية لا تبقي منهم باقية, لا على أرواح, ولا على أعراض, ولا على أموال, ولا على جماعة, ولا على تعليم إذا انتصرت, وأخيراً تمحو الإسلام والعياذ بالله في أقطار الإسلام، وأن يعرفوا أن العاصم لهم من هذا الشر المستطير هو الرجوع إلى دينهم الحنيف والاتحاد والتعاون.
أيها المجاهدون، أيها الطلاب، أيها العلماء، أيها القادة أيقظوا قومكم من غفلاتهم، ودقوا أجراس الانتباه فوق رؤوس نيامهم, وأفهموهم أن الخطر يحدق بهم، وأن الإسلام يناديهم من أعلى منابره، ومن الحرمين الشريفين، ومن حرم أولى القبلتين أن يدفعوا عنه هذا الخطر ويردوا البغاة على أعقابهم.
تلك هي كلمتكم الآن قبل كل كلام تريدونه؛ لأن العدو ليس على الأبواب، وإنما هو في داخل الأرجاء جاثم على الصدور.
أنقذوا الشباب من فتنته وجهالته وغرامه بتقليد الأجنبي.
علّموهم حكم الله ورسوله في هذا الموقف الخطر.
نادوا كل مقتدر على حمل لواء المعارضة للعدو للخروج للميدان للجهاد.
نادوا الجميع بالوحدة الشاملة، وتطهير القلوب من المحن والأضغان والوقوف صفاً واحداً كالبنيان المرصوص في درء هذه الفتنة.
علّموهم أن الإسلام دين الوحدة دين الاجتماع، دين الوئام، دين الألفة، دين السلام ما سلم دين الجهاد إذا هيض جناحه, هو الدين العاصم من كل الشرور والمحقق للخير كله ولسعادة الأولى والآخرة.
ذكّروهم بالتاريخ الماضي وكيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون على قتلهم وكثرة عدوهم وعتاده، ولكنهم كانوا أقوياء بالحق والصدق والإيمان والعمل الصالح، ولذلك نصرهم الله على أعدائهم وأذل الشرك والطغيان في بلاده.(2/318)
علم الله أني أشعر بالخطر العظيم على الإسلام والمسلمين من الشيوعية ودعاتها شعوراً قوياً، وأسأل الله أن يحفظنا منها، وأن يوفّق المسلمين لما فيه صلاح أمرهم وجمع شملهم وتوحيد كلمتهم، وينصرهم على أعدائهم، وأن يذلّ أعداء الإسلام على اختلاف أساليبهم وهو القادر على ذلك والمستعان في كل أمر، والقوي المتين القاهر ولا مرجع في كشف الضر سواه سبحانه.(2/319)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
للشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فإنّ من أهم الواجبات الإسلامية التي يترتب عليها صلاح المجتمع وسلامته ونجاته في الدنيا والآخرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك هو سفينة النجاة كما ثبت في صحيح البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قوم استهموا على سفينة, فأصاب بعضهم أعلاها, وبعضهم أسفلها, فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً, وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا", فتأمل أيها المسلم هذا المثل العظيم من سيد ولد آدم ورسول رب العالمين، وأعلم الخلق بأحوال المجتمع, وأسباب صلاحه وفساده، تجده واضح الدلالة على عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه سبيل النجاة، وطريق صلاح المجتمع، ويتضح من ذلك أيضاً أنه واجب على المسلمين، وفرض عليهم القيام به؛ لأنه هو الوسيلة إلى سلامتهم من أسباب الهلاك. وقد أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم، بسبب صفاتها الحميدة التي من أهمها: قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال عز وجل:} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ {, وتأمل أيها المسلم الذي يهمه دينه وصلاح مجتمعه كيف بدأ الله سبحانه في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان، مع كون الإيمان شرطاً لصحة جميع العبادات, يتبين لك عظم شأن(2/320)
هذا الواجب، وأنه سبحانه إنما قدم ذكره لما يترتب عليه من الصلاح العام. وقال عز وجل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} , فانظر يا أخي كيف بدأ في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الصلاة والزكاة، وما ذاك إلا لما تقدم بيانه من عظم شأنه وعموم منفعته وتأثيره في المجتمع، وتدل الآية أيضاً على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أخلاق المؤمنين والمؤمنات، وصفاتهم الواجبة التي لا يجوز لهم التخلي عنها، أو التساهل بها، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد ذم الله سبحانه من ترك هذا الواجب من كفار بني إسرائيل, ولعنهم على ذلك, فقال سبحانه في كتابه المبين من سورة المائدة} لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ؛ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {, وفي هذه الآية إرشاد من الله سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أنّ سبب لعن كفار بني إسرائيل وذمهم هو عصيانهم واعتداؤهم, وأنّ من ذلك عدم تناهيهم عن المنكر فيما بينهم, لتحذر هذه الأمة سبيلهم الوخيم, ويبتعدوا عن هذا الخلق الذميم، ويتضح من ذلك أن هذه الأمة متى تخلقت بأخلاق كفار بني إسرائيل المذمومة استحقت ما استحقه أولئك من الذم واللعن؛ لأنه لا صلة بين العباد وبين ربهم إلا صلة العبادة والطاعة، فمن استقام على عبادة الله وحده وامتثال أوامره، وترك نواهيه استحق من الله الكرامة فضلاً منه وإحساناً, وفاز بالثناء الحسن والعاقبة الحميدة، ومن حاد عن سبيل الحق استحق(2/321)
الذم واللعن, وباء بالخيبة والخسران، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.
وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
فاتق الله أيها المسلم في نفسك وجاهدها لله، واستقم على أمره، وجاهد من تحت يديك من الأهل والذرية وغيرهم، وأْمُرْ بالمعروف وانْهَ عن المنكر حسب طاقتك في كل مكان وزمان، عملاً بهذه الأدلة الشرعية التي ذكرتها لك آنفاً، وتخلّق بأخلاق المؤمنين, واحذر من أخلاق الكافرين والمجرمين، واحرص جهدك على نجاتك, ونجاة أهلك وإخوانك المسلمين، كما قال عز وجل:} وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا {, وقال سبحانه:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "يا أيها الناس إنّ الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتسألونني فلا أطيعكم، وتستنصروني فلا أنصركم" خرجه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه وهذا لفظ ابن حبان.(2/322)
والمعروف يا أخي هو كل ما أمر الله به ورسوله، والمنكر هو كل ما نهى عنه ورسوله، فيدخل في المعروف جميع الطاعات القولية والفعلية، ويدخل في المنكر جميع المعاصي القولية والفعلية، ثم اعلم يا أخي أنّ كل مسلم راع على من تحت يديه, ومسئول عن رعيته، كما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته".
فاتق الله يا عبد الله، وأعد جواباً لهذا السؤال، قبل أن ينزل بك من أمر الله ما لا قبل لك به، والله المسئول أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم، وأن يوفقنا وسائر المسلمين للقيام بأمره، والثبات على دينه، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتواصي بالحق، والصبر عليه بصدق وإخلاص، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(2/323)
مع الصحافة
الصحفي الذي أنشأ حزبا شيوعيا ثم تحول إلى الفكر الإسلامي
نقلا عن جريدة الميثاق
نشرت جريدة الميثاق الإسلامي في عددها (996) تحقيقا صحفيا مع الكاتب المشهور محمد جلال كشك.
في بيروت على موعد سابق التقيت بالكاتب الإسلامي المجاهد الأستاذ: محمد جلال كشك. وعلى امتداد ما يقارب الثلاث الساعات كنت أناقشه وأستمع إليه وهو يتحدث بانطلاق وسلاسة حديث الإنسان المدرك لقضيته, العامل لها, المتفاني في عمله.
الأستاذ جلال كشك مثال حي لشاب يعيش آلام وطنه الصغير مصر, ووطنه الكبير العلم الإسلامي, فقد جعله تفاعله الدائم مع الأحداث السياسية التي مر بها الوطن العربي يبحث عن المنقذ, عن الفكر الذي يبني الأمة, ويواجه بها تحديات العصر.. ولعل أولى تحديات عصرنا التي تصفع العالم العربي والإسلامي بعنف هي إسرائيل. وفي بحثه عن الفكر القائد اعتنق الشيوعية عام 1946م, وعمره آنذاك 17سنة. وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي المصري (تعاليم الراية) .
والحديث عن الحزب الشيوعي المصري يقودنا بالضرورة إلى توضيح هام, وهو أنه لم يكن في مصر حزب شيوعي واحد, أو حزبان باعتبار التقسيم الدولي بقيادة الحركة الشيوعية بين موسكو وبكين, كلا, كان في مصر ما يقارب العشرين حزبا شيوعيا: منهم (تنظيم الراية) الذي شارك في تأسيسه الأستاذ جلال, ومنها (الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني) , ومنها (الحركة الديمقراطية الشعبية- د. ش-) , ومنها (أسكرا) , ومنها (المنظمة الشيوعية المصرية) .. الخ.
وبعد خمس سنوات من الانتظام في الحركة الشيوعية المصرية اعتزل الأستاذ جلال الحزب الشيوعي عام 1950م على أثر خلاف حول الكفاح المسلح في القتال والموقف من حكومة الوفد.(2/324)
يقول الأستاذ جلال: "هنالك فترة مرّ بها كل ماركسي في أطوار تخليه الرسمي عن العمل في الحزب, يقول فيها: إن الماركسية فلسفة عظيمة ... إلا أن الماركسين العرب انحرفوا عنها, وهذا في الواقع بسبب فساد الماركسية نفسها".
وعاش الأستاذ بين عدم الانتماء حتى عام 1958م حيث تبيّن له بصورة واضحة (خيانة الشيوعين للفكر العربي حينما عارضوا الوحدة العربية) .
وفي عام 1962م كتب سلسلة مقالات بعنوان (خلافنا مع الشيوعين) .. فردت البرافدا لأول مرة تهاجم صحفيا مصريا باسمه وقالت: "إنّ استمرار جلال كشك في الصحافة المصرية يسيء للاتحاد السوفيتي", فأخرج من حقل الصحافة عام 1964م إلى عام 1967م, حيث قضى ثلاث سنوات حرم فيها حق العمل - أي عمل -, ثم أعيد للعمل في مؤسسة (أخبار اليوم) .
والأستاذ جلال كشك كاتب إسلامي غزير الإنتاج, فله الآن 13 مؤلفا إسلاميا, وخمس كتب كتبها في المرحلة الشيوعية "ولا أحب ذكرها الآن"كما يقول, والجدير بالذكر أن أحد كتبه الشيوعية (الجبهة الشعبية) كان يدرس في مناهج الأحزاب الشيوعية المصرية للأعضاء المنتظمين.
والأستاذ جلال متزوج وله ثلاث أولاد: أحمد وخالد وعمر, ويقيم وأسرته الآن بيروت في هجرة لا يدري هل تطول أم تقصر.
ماذا بقي للماركسية:
قلت للأستاذ جلال كشك: نعرف أنك كنت شيوعيا ثم انتقلت للفكر الإسلامي.. فما هي أسباب ذلك؟ وكيف حدث اعتناقك للشيوعية؟ .. وكيف عدلت عن ذلك؟.(2/325)
في الحقيقة كثيرا ما أسأل هذا السؤال, وإن كنت أعتقد أن السؤال الجدير بالبحث الآن هو: لماذا يبقى الإنسان ماركسيا بعد أن فقدت الماركسية كل مبرراتها؟ فقد اعتنقت الماركسية في الأربعينيات للبحث عن حل لمشاكل مجتمعنا, وكان من المفروض أن تقود الأحزاب الشيوعية الثورة العربية في المغرب العربي ضد الاستعمار الفرنسي, وفي الشرق ضد الاستعمار البريطاني, ثم ضد الصهيونية التي تركزت فيها كل متناقضات الإمبريالية العالمية, ولكن الذي حدث أنّ حربنا ضد إسرائيل, والحرب الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي في المغرب, لم تقم فقط خارج نطاق الأحزاب الشيوعية بل وضد هذه الأحزاب.
الأحزاب الشيوعية في المغرب العربي رفضت الثورة ضد فرنسا, والأدلة على ذلك واضحة في تاريخ الحزب الشيوعي الفرنسي, وفي مذكرات بن بركة عن الحزب الشيوعي المغربي.
وفي الشرق العربي قاتلت وشنق بعض قادتها دفاعاً عن حق إسرائيل في البقاء. فقد أصدر مثلا الشيوعيون العراقيون عام 1953م بيانا نشرته جريدة (القاعدة) الناطقة باسم الشيوعيين العراقيين كتبت الجريدة:
"إن الشعب العراقي يرفض بإباء أن يحارب الشعب الإسرائيلي الشقيق", وأضافت "..لا مصلحة في الحرب للكادحين العرب واليهود بل للبرجوازية العربية العفنة", نلاحظ أنها لم تساو حتى في الرجعيات بل نصت على البرجوازية العربية.
والحزب الشيوعي المصري وصف حرب فلسطين بأنها "دبرها الاستعمار وإرادتها الرجعية"كما جاء في تقرير الرفيق (خالد) !.(2/326)
ويواصل الأستاذ جلال يقول: "وفي اعتقادي أن هناك سببا ذاتيا لخيانة الشيوعية العربية وهو خضوعهم في المغرب العربي لتوجيهات الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يصوّت في الجمعية الوطنية الفرنسية على ميزانية الحرب ضد الجزائر, ويوجه الأحزاب الشيوعية في المغرب العربي ضد الثورة البرجوازية بزعم أن الحركة التقدمية عليها أن تنتظر الثورة البروليتارية في فرنسا.
وفي المشرق العربي كان زعماء الأحزاب الشيوعية كلهم يهود, مثلا (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) كان يتزعمها هنري كورييل وهو يهودي, و (الديمقراطية الشعبية) كان يرأسها يوسف درويش وريمون دويك وهما يهوديان, و (أسكرا) يرأسها إيللى شيورتز وهو يهودي, و (المنظمة الشيوعية المصرية – م. ش.م -) ترأسها أوديت وزوجها سلمون وهما يهوديان, المحرر وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي عام 1947م السيد شلمون دلال يهودي, وسكرتير الحزب الشيوعي السوري اللبناني قبل انتخاب خالد بكداش جكوب تيير يهودي, وبعد انتخاب خالد بكداش أرسلوا فرج الله الحلولتل أبييب لتنظيم العمل واستخدموا نخمان ليفنسكي مستشار للحزب.
كان من البلاهة - إذن - أن نتوقع من هؤلاء اليهود أن يقودوا حربا ضد إسرائيل, بل وكان وجودهم وكفاحهم جزء من المخطط الصهيوني لإقامة إسرائيل, هذا هو السبب الذاتي لإفلاس الماركسية في الوطن العربي.
لكن هناك سبب موضوعي وهو: إفلاس الماركسية كنظرية عالمية.
ونلاحظ أنه منذ انتصار ثورة الصين لم تقم ثورة واحدة بقيادة حزب شيوعي, بل إن الثورات الناجحة كلها كانت ضد الحزب الشيوعي. وأرجوا من الشباب المتحمسين الذين يصرخون باسم جيفارا أن يقرأوا مذكراته ليعرفوا إن كان يقاتل ضد الحزب الشيوعي البوليفي..
الماركسية خدمة لمصالح روسيا:(2/327)
إن الماركسية قد تحولت إلى سياسة تخدم المصالح القومية للاتحاد السوفياتي, ومن ثم أصبح على الثوريين أن يفتشوا على الحل خارجها.. فكانت الخطوة الثانية وهي الاعتزاز بالقومية.. قوميتنا التي تتعرض لخطر الإبادة الصهيونية. فكان الالتفات إلى التراث والتاريخ والتعرف على الينابيع الثورية في الإسلام.. وفي اعتقادي أن نسبة كبيرة ممن يعتنقون الماركسية إنما يرجع ذلك إلى جهلهم بالإسلام.
أين موقف الشيوعيين الثوري من الاستعمار الصهيوني لبلادنا؟
أين كتائبهم المسلحة؟ ما موقفهم من المشروع السوفياتي الذي يطالب بحدود آمنة وقوات دولية تضمن هذه الحدود.. أي الاعتراف ببقاء إسرائيل, وتصفية الحركة الفدائية؟
كنا نتوقع أن يكون الشيوعيون عند خط النار ضد إسرائيل ولوبوصفها قاعدة للأمبريالية الإمريكية.. ولكن العكس هوما نراه.
الحزب الشيوعي الأردني يرفض رسميا الكفاح المسلح ضد إسرائيل.
الحزب الشيوعي العراقي يشن الحرب في مؤخرة الجيش العراقي..
إن الشيوعية قد انحازت وبصفة نهائية في العالم العربي إلى المعسكر المعادي للثورة العربية.
لو أن الشيوعيين عارضوا المشروع السوفياتي الآن لاستطعنا أن نحصل على تدعيم أكبر من (صديقنا) الاتحاد السوفياتي..
إني أسألك: ما هي الثورية إن لم تكن الحرب ضد إسرائيل الآن؟ وهل الذي يرفض الحرب ضد إسرائيل ويؤيد الرقص التوقيعي في الجامعة تقدمي؟ أم الشيخ الذي يستشهد في سيناء والجولان والضفة الغربية حتى لوكان يبقي امرأته في الحجاب؟
إن التقدمية هي موقف من حركة التاريخ.. وفي اعتقادي أن الصراع ضد الغزو الصهيوني يجب أن يكون الآن الخط الفاصل الذي تنقسم فيه كل القوى في الوطن العربي.
هم ودينهم:
يا أستاذ جلال ما هي صلة الإسلام بالصراع ضد الصهيونية؟(2/328)
ما من قضية زيّفت باتفاق مثل قضية الوجود الإسرائيلي في قلب بلادنا, تقوم دولة تحمل اسم نبي من التوراة ليس لها دستور؛ لأن الأحزاب الدينية تصر على أن التوراة هي الدستور, محرم فيها العمل يوم السبت ولم نر في ذلك أيّ إخلال باقتصادها وارتباطاتها بالبنوك العالمية التي تتعطل يوم الأحد, بل يحرصون على أن تكون الجلسة الأسبوعية للكنيست يوم الأحد, ومحرم فيها على الجيش طبخ الطعام يوم السبت..تقول يائيل دايان في (مذكرات جندي) : "أكلنا طعاما مطهوا يوم السبت 3 يونيو بتصريح خاص من (الحاخام الأكبر) . جيش إسرائيل الذي يوشك أن يمتلك القنبلة الذرية يمتنع عن طبخ الطعام يوم السبت. وبنقوريون وشازار يسيران ميلا ونصف على الأقدام في جنازة شرشيل؛ لأنها صادفت يوم السبت, ومحرم في التوراة ركوب وسائل النقل يوم السبت! , وعمر بنقوريون 78سنة, وعمر شازار 76سنة في وقت الجنازة, ولم تجد الصحافة العالمية ولا الرأي العام الإنجليزي في ذلك مدعاة للسخرية, ولكنها تجد في ذلك مدعاة للإعجاب. نصف المصلين في مسجد الخليل من العسكريين اليهود نفخوا في البوق إيذانا بانتهاء الصوم. وجميع طائرات شركة (العال) الإسرائيلية وسفن شركة (زيم) لا تقدم لحم الخنزير. في إسرائيل أحزاب دينية معترف بها ولها وزنها. الزواج المدني غير معترف به لحد أنهم رفضوا إعطاء الجنسية لحفيد بنقوريون؛ لأنه من أم غير يهودية. اللغة العبرية لغة رسمية: درسوا بها الصواريخ, وإفساد الرادار! وضرب الطائرات على المدرجات! وألّفوا بها أدباً نالوا به جائزة نوبل العالمية. في نفس الوقت ولأجل أن تقوم إسرائيل صدروا إلينا عملاء يجعلون لب كفاحهم فصل الدين عن الدولة.. ويصابون بالفالج عندما يسمعون بأن الدستور سينص على أن دين الدولة الإسلام. ويسودون الصحائف في أضرار رمضان على الإنتاج - ونحن أمة مستهلكة والحمد لله-, والذين ألغو شعار الهجوم (الله أكبر) من الجيش ولم يعيدوه إلا بعد النكسة(2/329)
بخمسة عشر شهرا, بينما أول دبابة إسرائيلية دخلت سيناء مكتوب عليها آية من التوراة.. ونصاب بالذين تشغلهم صعوبة اللغة العربية, ويبحثون عن حروف أخرى لها أو عزلها عن مجال العلم بزعم أنها لغة متخلفة.. والعبرية التي انقرضت منذ ألفي سنة أصبحت لغة العلم؛ لأنه لا توجد لغة متخلفة ولغة متقدمة..إنما توجد أمم متخلفة وأمم متقدمة.. وتوجد أمم عاجزة تفقد الثقة في كل مقوماتها.
من هنا فإن الوضع الصحيح بقضية فلسطين هي أنها قضية فلسطينية عربية إسلامية, ولن يقهر التعصب الباطل للتوراة إلا الإيمان الحق بالقرآن, ولن يقهر التآمر العالمي اليهودي إلا حركة بعث إسلامي تحرر فلسطين, وتبدأ في نفس الوقت من خلال وحدة الدم, ومن خلال وضع المبدأ الإسلامي العظيم وهو الجهاد, موضع التطبيق, تتشكل عوامل وحدة الأمة الإسلامية واستكمال مقومات الحضارة الإسلامية.
التعايش السِّلمي معناه سيطرة إسرائيل:
يا أستاذ جلال.. العالم العربي خلال عام ونصف بعد هزيمة حزيران يتحدث عن الحل السلمي والحل السياسي لقضية فلسطين, فما رأيك في هذا الحل السياسي والسلمي؟
أعتقد أننا يجب أن نتكلم بصراحة, فما من أمة تواجه لحظة مصيرية مثل التي تواجهنا الآن, إنّ الاعتراف بإسرائيل, وقبول التعايش السلمي معها يعني بكل وضوح قبول السيطرة الإسرائيلية على المصير العربي. والذين يطالبون بالحل لا يريدون إلا الاستمرار في التسلط على الشعوب العربية في ظل الحماية الإسرائيلية. وكلما طالت حكاية الحل السلمي كلما زاد التفوق الإسرائيلي.
الزمن ليس معنا
ألا يمكن أن يكون الحل السلمي مناورة لكسب الوقت لاستكمال التسلح, كما يقول دعاته؟(2/330)
هذا ما يروجه أنصار الحل السلمي, وهو استمرار للتفكير التضليلي الذي يزعم أن الحرب تكسب خلال سباق التسلح مع أنه ليس فيهم من يدّعي أن العرب سيحصلون على سلاح لا يمكن لإسرائيل أن تحصل عليه, وواضح من سباق التسلّح أن إسرائيل تتفوُّق دائما مع ظهور احتمال الوصول لتسوية دولية تفرض حضراً على تصدير الأسلحة للشرق الأوسط. ومن ذلك يتضح أننا نخسر عسكريا كلما مر الوقت؛ لأن قوات إسرائيل تصبح أكثر دراية بالأرض المحتلة, وتستكمل معدات أحدث من إمريكا, وفي كل يوم يتضح أنه لا سبيل إلى النصر إلا بأن ندخل عنصرا لا تستطيع إسرائيل استيراده وهو الشعب والأرض, فنقاتل بكل الشعب وعلى كل الأرض. ولكن سياسة الحل السلمي تهدف إلى منع الشعب من خوض المعركة؛ لأنه بصراحة توجد نظم تخشى شعوبها أكثر مما تخشى جيش إسرائيل.
إذن هل تعتقد أن العمل الفدائي هو الطريق السليم لتحطيم استسلامية الحل السياسي, وإدخال كل الشعب وكل الأرض في المعركة؟ وهل في إمكان الفدائيين أن يزيلوا إسرائيل من الوجود؟
مؤكد أن العدوان الإسرائيلي الآن قد أصبح من الوضوح بحيث لا يمكن حصره داخل نطاق الحدود الفلسطينية فمصر محتلة..وسوريا محتلة..وعندما نتحدث عن العمل الفدائي فإننا نتصوره (فلسطينيا وسوريا ومصريا) , ولكن لأنه ليس للفلسطينيين حكومة ولا يتمتعون بنظام ثوري فقد كانوا السابقين إلى حمل السلاح لتحرير أوطانهم. والخطر الحقيقي الذي تخشاه القوى الاستعمارية من نشاط الفدائيين يكمن في حتمية امتداده ليفجر الثورة المسلحة في الوطن العربي ضد الاعتداء الإسرائيلي, وضد الذين يحمون هذا الاعتداء بمنعهم الشعب بمقاتلته. وإن تصوري للمستقبل هو أنّ الحركة الفدائية الفلسطينية ستفجِّرُ الثورة العربية التي بدورها ستحرك البركان الإسلامي القادر على أن يدكّ إسرائيل, ويحرق كل عناصر الضعف والانهيار والهزيمة.(2/331)
لذلك أرى أن واجب كل مسلم الآن, وكل ثوري وكل عربي, وكل فلسطيني, وكل شريف, مهما كان جنسه أو دينه أن يجنّد كل إمكانياته لدعم (منظمة فتح) التنظيم الشرعي والثوري للثورة الفلسطينية. وأن نسحق مؤامرات التعدد والانشقاق والعمليات الصبيانية التي تحركها أسماء ذات تاريخ مريب في بذر الشقاق والانقسام في العراق وسوريا والجنوب العربي.
رأيك في الإخوان:
لنتحول إلى مجال آخر ونسألك عن رأيك في الحركة الإسلامية في مصر؟
أولاً يجب أن أقول: إنني لم أكن يوماً ما منتميا إلى حركة الإخوان المسلمين ولا أزال غير منتميا, ولا شك أن لي بعض التحفظات على ما مر من أحداث..غير أن هنالك أمور تستدعي التأمل: مصرع حسن البنا, وضرب الإخوان عام 1948م أي في المرحلة الأولى من إنشاء إسرائيل.. ثم ضرب الإخوان عام 1954م إلى حد اعتقال 18 ألف إنسان في يوم واحد كما قال الرئيس جمال عبد الناصر أمام المؤتمر القومي قبل عامين من غزو إسرائيل لمصر عام 1956م.. ثم اعتقال الإخوان وإعدام سيد قطب عام 1965م أي قبل عامين من الغزو الإسرائيلي التالي لمصر.. هذه كلها حقائق تستدعي التأمل.
ولا شك أنّ شباب الإخوان كانوا القوة الوحيدة المدربة على القتال بين المدنيين المصريين كما شهد بذالك الرئيس أمام المؤتمر القومي.
ولا شك أنهم (متعصبون!!) إسلاميا, أي أنهم سيستخدمون خبرتهم العسكرية بدافع من (تعصبهم الديني) لمقاتلة التعصب الإسرائيلي كما حدث في فلسطين عام 1948م.
هذه الظواهر يجب أن نعيد فيها النظر, وأن نفكر كيف تدبر هذه المؤامرات قبيل كل غزوة إسرائيلية. وكل يوم يتأكد أنه بغير حركة إسلامية لا يمكن مواجهة التحديات التي تواجه أمتنا, وفي نفس الوقت نجد أن كتابات الغرب اليمينية واليسارية تصب حقدها على الحركات الإسلامية.(2/332)
كل هذا يدفعنا إلى أن نقدر الجهود المخلصة التي كانت تدفع الشباب إلى البحث عن حل إسلامي. وإذا لم يكن قد استطاع الوصول إلى الحل الذي يخلص أمتنا فيجب أن ندرك خطورة وصعوبة المهمة التي تصدى لها, فالحلول ليست جاهزة يمكن استيرادها كما هو الحال في الماركسية. والقوى العالمية المتفوقة بغير حد تتربص بكل محاولة إسلامية.. وشرطة العدو الصليبي سرعان ما تنقض على كل تجمع, ويجب أن نذكر أنه إلى يونيو عام 1967م لم يشنق في العالم العربي غير المسلمين.. بينما إيللي كوهين قبض عليه في مصر عام 1954م وأفرج عنه لعدم ثبوت الأدلة في القضية المعروفة بفضيحة (لاقون) , في نفس الوقت الذي كانت فيه المخابرات (صلاح نصر) تعتقل 18 ألف شخص في اليوم الواحد كإجراء وقائي.
كل هذا يؤكد صعوبة المهمة التي وهب البعض نفسه لها, ولكن أعتقد أنها لم تذهب هباء.. فلولا جهادهم ومعاركهم لما اهتدى الكثيرون إلى الفكر الإسلامي.
نداء للرفاق القدامى:
وفي ختام حديثنا يا أستاذ جلال, هل تحب أن تقول شيئا إلى أهل السودان؟
أحب أن أوجه كلمة لزملائي في الحزب الشيوعي السوداني الذين عشنا معهم سنوات الجامعة, والذين أعتقد أنهم أفضل الشيوعيين في المنطقة نظرا لثقافتهم العربية وللمناخ الإسلامي الذي يعيشون فيه في السودان..
أرجو من كل منهم أن يسأل نفسه: هل يناضل من أجل تلك الأهداف التي آمن بها في الأربعينيات؟؟ هل انحصرت التقدمية والكفاح في منع إقرار الإسلام كدين للدولة؟؟ إنني أتمنى أن نلتقي مرة أخرى في ميدان القتال ضد إسرائيل.. فهناك في المعركة ستمتحن كل المبادئ وكل الشعرات. فالذي يؤمن أن المستقبل له في هذا الوطن هو الذي سيقاتل من أجل حرية هذا الوطن.
وبالنسبة للجنوب.. إنني أسألهم: هل إفريقيا مسلمة متضامنة مع العرب أو إفريقيا غير مسلمة؟ ومع بيافرا, ومع الصهيونية ضد العرب؟؟.
حرب الطبقات(2/333)
من أشهر شعارات الشيوعيين: "حرب الطبقات", وبهذه المناسبة قسم أحد الكتاب الروس الشعب الروسي بعد ثورة 1917م فقال:
"يتكون شعب الإتحاد السوفياتي من ثلاث طبقات:
أ- طبقة موجودة في معسكرات الاعتقال في سبيريا.
ب- وطبقة سبق لها أن نفيت إلى هناك.
ج- وطبقة ستنفى قريبا".(2/334)
الفتاوى
لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز
كتب (ف. ت) من ألمانيا يسأل عن مسألتين:
الأولى: يقول فيها: إن المجازر المسيحية في معظم البلاد الأوروبية والأمريكية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي, وعلى ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة. فما حكم ذلك؟.
والثانية: يسأل فيها عن حكم شحم الخنزير؟ وأنه بلغه عن بعض علماء العصر حل ذلك؟.
الجواب عن المسألة الأولى أن يقال: قد دل كتاب الله العزيز والسنة المطهرة وإجماع المسلمين على حل طعام أهل الكتاب بقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُم} الآية من سورة المائدة, هذه الآية الكريمة قد دلت على حل طعام أهل الكتاب, والمراد من ذلك ذبائحهم, وبذلك ليسوا أعلى من المسلمين, بل هم في هذا الباب كالمسلمين, فإذا علم أنهم يذبحون ذبحا يجعل البهيمة في حكم الميتة حرمت كما لو فعل ذلك مسلم لقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} الآية. فكل ذبح من مسلم أو كتابي يجعل الذبيحة في حكم المنخنقة, أو الموقوذة, أو المتردية, أو النطيحة, فهو ذبح يحرِّم البهيمة, ويجعلها في عداد الميتات لهذه الآية الكريمة, وهذه الآية يخص بها عموم قوله سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} كما يخص بها الأدلة الدالة على حل ذبيحة المسلم إذا وقع منه على وجه يجعل ذبيحته في حكم الميتة.(2/335)
أما قولكم: إن المجازر المسيحية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وفي ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة فقد سألت بعض أهل الخبرة عن معنى الصرع والقصف؛ لأنكم لم توضحوا معناهما, فأجابنا المسؤول: بأن الصرع هو إزهاق الروح بواسطة الكهرباء من غير ذبح شرعي, وأما القصف: فهو قطع الرقبة مرة واحدة, فإن كان هذا هو المراد من الصرع والقصف فالذبيحة بالصرع ميتة؛ لكونها لم تذبح الذبح الشرعي الذي يتضمن قطع الحلقوم والمريء وإسالة الدم, وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكُلْ, ليس السن والظفر". وأما القصف بالمعنى المتقدم فهو يحل الذبيحة لأنه مشتمل على الذبح الشرعي, وهو قطع الحلقوم والمريء والودجين, وفي ذلك إنهار الدم مع قطع ما ينبغي قطعه, أما إن كان المراد بالصرع والقصف لديكم غير ما ذكرنا فنرجو الإفادة عنه حتى يكون الجواب على ضوء ذلك. ووفق الله الجميع لإصابة الحق.(2/336)
المسألة الثانية: وهي شحم الخنزير, فالجواب عن ذلك: أنّ الذي عليه الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم هو تحريم شحمه تبعا للحمه, وحكى الإمام القرطبي والعلامة الشوكاني إجماع الأمة الإسلامية؛ لأنه إذا نص على تحريم الأشرف فالأدنى أولى بالتحريم؛ ولأن الشحم تابع للّحم عند الإطلاق, فيعمه النهي والتحريم؛ ولأنه متصل به اتصال خلقه فيحصل به من الضرر ما يحصل بملاصقته وهو اللحم؛ ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه سلم ما يدل على تحريم الخنزير بجميع أجزائه, والسنة تفسر القرآن وتوضح معناه, ولم يخالف في هذا الباب أحد فيما نعلم, ولو فرضنا وجود خلاف لبعض الناس فهو خلاف شاذ مخالف للأدلة والإجماع الذي قبله فلا يلتفت إليه. ومما ورد من السنة في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين عن جابر رصي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الفتح فقال: "إن الله ورسوله حرّما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.." الحديث, فجعل الخنزير قرين الخمر والميتة, ولم يستثن شحمه بل أطلق تحريم بيعه, كما أطلق تحريم الخمر والميتة, وذلك نص ظاهر في تحريمه, والأحاديث في ذلك كثيرة.
الأخ عبد الباقي بن عبد الرزاق الفلبيني الطالب بالجامعة الإسلامية يسأل عن القول المختار في العدد الذي تنعقد به الجمعة؟.
قد اختلف العلماء - رحمهم الله - في هذه المسألة على أقوال كثيرة:
1- أشهرها: أن العدد الذي تنعقد به الجمعة أربعون رجلا, وبه قال الإمامان مالك والشافعي رحمهما الله وجماعة, وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله, واحتجوا على ذلك بما روي أن أول جمعة جمعت في المدينة كانت بهذا العدد.
2- وقيل: تنعقد باثني عشر رجلاً, وهو قول ربيعة ابن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك بن آنس رحمة الله عليهم.(2/337)
3- وقيل: تنعقد بأربعة, وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
4- وقيل: تنعقد بثلاثة, وهذا القول هو قول الأوزاعي إمام أهل الشام في عصره رحمه الله, وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ذكرها عنه جماعة من أصحابه, منهم الموفّق في المقنع, وصاحب الفروع وغيرهما, واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
5- وقيل: تنعقد باثنين.
وفي المسألة أقوال أخرى سوى ما ذكرنا ذكرها أبو محمد بن حزم وغيره.
وأصح الأقوال في هذه المسألة قول من قال: تنعقد بثلاثة لوجوه, منها:
- أن الأصل وجوب إقامة الجمعة على أهل القرى والأمصار, فلا يجوز لهم تركها إلا بحجة, ولا حجة في تركها لمن بلغ هذا العدد.
- ومنها أن الثلاثة أقل الجمع في اللغة العربية, وإطلاق الجمع على الاثنين خلاف الأغلب المشهور في اللغة, فحمل الأدلة الشرعية على ما هو الأغلب أولى وأحوط في الدين.
- ومنها أن بقية الأقوال لا حجة عليها واضحة توجب الأخذ بها والتعويل عليها, فوجب العدول عنها, والأخذ بالقول الذي يجمع الأدلة, ويبرر الذمة وتحصل به الحيطة لطالب الحق. ولو كان العدد فوق الثلاثة شرطا في إقامة الجمعة لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إليه الأمة, فلما لم يوجد شيء من ذلك دل ذلك على أنه ليس بشرط لإقامتها. أما الثلاثة فلا حاجة إلى التنبيه على وجوب إقامتها عليهم؛ لأنهم أقل الجمع, وقد دل النص والإجماع على أنها لا تقام إلا في جماعة, والثلاثة أقل الجماعة كما تقدم.
(غ. غ) يسأل عن: حكم من ترك طواف الوداع من الحجاج؟(2/338)
الجواب: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينفر أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت" أخرجه مسلم في صحيحه من حديث بن عباس رضي الله عنه, وخرّجه الشيخان من حديثه أيضا قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض" وقد ودع عليه الصلاة والسلام البيت حين فرغ من أعماله في حجة الوداع وأراد السفر وقال: "خذوا عني مناسككم".
هذه الأحاديث كلها تدل على وجوب طواف الوداع إلا على الحائض والنفساء, فمن تركه من الحجاج فعليه دم لكونه خالف السنة وترك نسكا واجبا, هذا هو الصحيح من أقوال العلماء, وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "من ترك نسكا أو نسيه فليُهرِق دماً", وهذا قول أكثر العلماء. أما الحائض والنفساء فليس عليها وداع لحديث ابن عباس المذكور وما جاء في معناه.
(غ. غ) أيضا يسأل عن: حكم النيص الحيوان المعروف؟
الجواب: قد اختلف العلماء - رحمهم الله - في حكمه؛ فمنهم من أحله, ومنهم من حرّمه, وأصح القولين أنه حلال؛ لأن الأصل في الحيوانات الحل, فلا يحرم منها إلا ما حرمه الشرع, ولم يرد في الشرع ما يدل على تحريم هذا الحيوان, وهو يتغدى بالنبات كالأرنب والغزال, وليس من ذوات النبات المفترسة فلم يبق وجه لتحريمه, والحيوان المذكور نوع من القنافذ ويسمى الدلدل ويعلو جلده شوك طويل, وقد سئل ابن عمر رضي الله عنه عن القنفذ فقرأ قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية, فقال شيخ عنده: إن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه خبيثة من الخبائث" فقال ابن عمر: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك فهو كما قال".(2/339)
فاتضح من كلامه رضي الله عنه أنه لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن القنفذ شيئا, كما اتضح من كلامه أيضا عدم تصديقه الشيخ المذكور, والحديث المذكور ضعّفه البيهقي وغيره من أهل العلم بجهالة الشيخ المذكور, فعلم مما ذكرنا صحة القول بحله وضعف القول بتحريمه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المدرسة الأولى
من لي بتربية النساء فإنها
في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
الأم روض أن تعهده الحيا
بالري أورق أيُّما إيراق
حافظ إبراهيم(2/340)
القدوة المتمثلة!
للشيخ صالح رضا المدرس بالجامعة
وتظل (المدينة الفاضلة) قابعة في زوايا المكتبات, يتراكم عليها غبار الأزمان المتعاقبة, وهي تنظر إلى الفلاسفة الذين رأوها بعين الازدراء؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يقيموها على أرض الواقع في عالم الحقيقة وتنظر إلى الناس من حولها نظرة إشفاق ورحمة؛ لأنهم لا يستطيعون بطبيعتهم وجبلتهم أن يتمثلوا الحقائق المجردة, ويتبعوا النظم الأخلاقية ما لم تكن ماثلة أمامهم في رجال يتحلون بها, ويقيمونها في أنفسهم, ثم في مجتمعهم, فإن لم تقم التعاليم والأخلاق في الرجال ظلّت حروفا تسود الكتب, وأشباحا يتصورها الخيال في عالمه, وتستبعدها الحقيقة من عالمها.
ولئن شاركت الفاسفة الأديان في دعوتها إلى الأخلاق, فقد فارقتها, وقصرت عنها, بأن كانت الفلسفة تصوراً لما يجب أن يكون عليه الإنسان, وكان هذا التصور من نتاج الإنسان نفسه, فظلّت نظم الفلسفة خاصة ببعض من يطابق عقله عقل الفيلسوف واضع النظام, وبقي عامة الناس في منأى عن تلك الفلسفة.(2/341)
وأما الأديان فقد غايرت الفلسفة في منشئها ومنهاجها, حيث كانت منزلة من خالق الإنسان, ومبدع الحياة, العالم بجبلة الإنسانية, وما يصلح لها, وما يصلحها, فكانت في منهاجها وسبيل دعوتها مسايرة لجبلة الإنسان, ومن أكبر مظاهر تلك الموافقة أن أرسل الله - عز وجل - رجل من جنس البشر الذين يعيشون على وجه الأرض؛ ليكون لهم قدوة يتبعونه, ويقتفون أثره, إذ من جبلة الناس أن لا يقلدوا إلا من كان من جنسهم, وأشار الله عز وجل إلى ذلك في قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} (95- الإسراء) , وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (9- الأنعام) . فلما كان على الأرض بشر كان الرسول بشرا, وكانت مهمة هذا الرسول أن يكون صورة صادقة لدعوته, في أوامرها ونواهيها, في خلقها وآدابها, ولذلك كانوا يقولون: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (88- هود) , ولذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقتدي ونتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
فالأوامر والنواهي قد بينت ووضحت, ولكن القدوة التي تمثلت الإسلام كاملا والتي يجب أن نتبعها في ذلك, ونقتفي أثرها, ونمضي معها, هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو من جنسنا فما عمله يمكننا أن نعمله, فلذا اتبعه السلف الصالح من الصحابة فنجحت دعوة الإسلام, وانتشرت في أنحاء المعمورة, تنقذ البشرية من العبودية لغير الله تعالى.(2/342)
وإنّ الله عز وجل عندما أراد أن يزيل خلقا من أخلاق الجاهلية, لا يرضاه الإسلام, خلقا راسخا في النفوس, متمكِّناً منها, لا تتصور خلافه, ولا تقدر على تركه, قد سار عليه آباؤها, ومضى الأولون على تقريره والعمل به, وعندما أراد أن يرفع ذلك, جعل رسوله يفعل كفعلهم, فيتبنى زيدا, ويدعى زيد بن محمد, فينزل الله سبحانه آيات تبطل هذا التبني, وأنه كلام لا حقيقة له, فيقول سبحانه: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ, ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (4 - 5 الأحزاب) .
ولا يقف الأبطال عند هذا, بل يجعل الله - عزّ ثناؤه - رسوله يخالف هذه العادة من قواعدها وأسسها, فيزوِّجُه مطلقة من كان متبنيا له, وكانت العرب لا تجيز ذلك بناء على قواعد البنوة والأبوة المزعومتين, ويقول الله - جل وعز -: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (37- الأحزاب) .(2/343)
وهكذا يعلمنا الله - عز وجل - تأثير القدوة حين تتمثل ما تعلم في انتشال الناس من وهدات الجاهلية, ولقد علم الصحابة هذا التأثير للعمل في الإقتداء والإتباع, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرغ من صلح الحديبية مع أهل مكة فيأمر أصحابه أن ينحروا ثم يحلقوا رؤوسهم, ولكن الصلح كان في نظر كثير منهم ذلاًّ وهوانا لا يليق بالمسلم, فكانوا في ذلك في غم شديد, فأبطأوا في تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يعمل رجل واحد, مع تكرار الأمر ثلاث مرات, ويدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينا, لما لقيه من الناس, فها هو يأمرهم ولا يأتمروا, وتلهم أم سلمة رضي الله عنها إلى الحل الذي يحل هذه الأزمة, فإذا بالحل هو (القدوة المتمثلة) , فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو خالقك".
فما كاد الصحابة يرون النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ويحلق حتى قاموا جميعا ينحرون ويحلقون, وهكذا كان للعمل أكبر تأثير في الاستجابة للأوامر, وعرفت أم سلمة هذا لما تلقنته من بيت النبوة.
ولمن يريد أن يأخذ صورا عن تأثير القدوة المتمثلة في النفوس, فما عليه إلا أن يمر على السيرة النبوية فيستقي من كل حادثة فيها صورة كاملة للتأثير الفعال للأسوة الحقة, فهذا علي رضي الله عنه يحدثنا عن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "كنا إذا حمى الوطيس واحمرّت الحدق لذنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما أحد أقرب من العدو منه"(2/344)
لو حدثك إنسان عن الشجاعة طيلة اليوم لما استطاع أن يعطيك الصورة الحقيقية لها كما يعطينا إياها هذا الحديث, فليست الشجاعة جعجعة فارغة, وكلاما أجوفا, وخطبا رنانة؟ , وإنما عمل فعال, ونزال يكون صاحبه أقرب ما يكون إلى العدو, حتى يحتمي به الأبطال, كعلي بن أبي طالب, هذه صورته صلى الله عليه وسلم في الجهاد في ساح الوغى وصورته في الوقوف أمام قومه, يخالفهم يشتم آلهتهم, لا تخفى على أحد, وأنها من أكبر صور الشجاعة الحقة.
وكذلك في (الكَرَمِ) تحدثنا السيرة عن كرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان أكرم الناس, وكان أجود بالخير من الريح المرسلة, ويأتي الوصف الدقيق لكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك عندما أعطى غنماً بين جبلين, فعاد الرجل إلى قومه ليقول: "يا قوم أسلموا؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر".
هذا الوصف الدقيق المعبر عن الكرم الحقيقي, والدافع الصحيح له, فالمانع للعبد من الإنفاق, والحافز له على البخل, ما هو إلا خشية الفقر, وخوفه من مستقبل حياته, أو مستقبل أهله وأولاده, فيأتي وصف كرمه صلى الله عليه وسلم بأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر, معتمدا بذلك على خزائن الرحمن, فيعطي بذلك المثل الأعلى للكرام المثل الذي احتذاه الصحابة, فقدم أبو بكر ماله, وعمر نصفه, وعثمان جهز جيش العسرة, وكانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة, وينسون أنفسهم عند الإنفاق, فلا يبقى معهم ما يشترون به ما يطعمون, كما فعلت عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
وقل مثل هذا في الوفاء بالعهد, وذلك بعد صلح الحديبية, عندما جاء أبو جندل يرسف في قيده فيرده رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم, وذلك لأن الصلح ابتنى على رد كل مسلم يأتيه.
وكذلك في عبوديته لله عز وجل حينما يترك الأمر للناقة عند دخول المدينة المنورة, ويقول لأصحابه: "دعوها فإنها مأمورة".(2/345)
وصورة الثقة بالله ونصره عندما قال له أبو بكر رضي الله عنه الصديق - وهما في طريق الهجرة -: "لو أنّ أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا", فيقول له - بيقين الواثق ثقة المتوكل -: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما, لا تحزن إنّ الله معنا".
إلى غير ذلك من الصور التي كانت للصحابة الأسوة الكاملة, والقدوة العاملة, فكانوا يرون الأخلاق العظيمة متجسدة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدفعهم إلى الإتباع, ويحفزهم إلى التخلق بأخلاق المصطفى صلى اله عليه وسلم, وبذلك تخرّجوا من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم, وكل منهم يحمل الإسلام في عمله وأخلاقه قبل خطابه وكلماته, فكانوا صورة صادقة للإسلام, وأسوة مطبقة لما يدعون الناس إليه, فدخل الناس في دين الله أفواجا, وانهارت الممالك أمامهم ذليلة خاضعة أمام قوتهم, مكبرة لأخلاقهم وآدابهم.
هذا ما كان, وأما ما صار الأمر إليه في هذه العصور, فقد غدا الدعاة يتكلمون ولا يعملون, فإذا سألت أحدهم عن ذلك قال: "خذوا أقوالنا ولا تقلدون في أعمالنا".
وبهذا أصبحت دعوة الإسلام -كأي دعوة أرضية - كلاما يحمل, وفكرة تتبنى, ليس لها في عالم الواقع حقيقة ومثالا, ولا رصيد في سماء التطبيق, فلهذا لم تعد الاستجابة للدعاة كاملة, إذ ترك الداعية لبعض ما يدعوا الناس إليه يشككهم في دعوته, قائلين: "لو كان خيرا لسبقنا إليه".
فنسأله تعالى أن يجعلنا ممن يعمل بما يعلم, ويكون قدوة صالحة للمجتمع الإسلامي الكامل. والله الموفق.
حبّ السلامة
حب السلامة يثني هم صاحبه
عن المعالي ويغري المرء بالكس
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا
في الأرض أو سلما في الجو واعتزل
ودع غمار العلى للمقدمين على
ركوبها واقتنع منهن بالبلل
الطغرائي(2/346)
العدد 5
فهرس المحتويات
1- أخبار الجامعة
2- التراويح أكثر من ألف عام: بقلم الشيخ عطية محمد سالم
3- التقدم والرجعية: بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي
4- الغزو الفكري: بقلم الشيخ ممدوح فخري
5- الإسلام والحياة: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
6- القرآن ومعركة المصطلحات: بقلم الشيخ أحمد حسن
7- المدلسون (3) : بقلم الشيخ حماد الأنصاري
8- المسجون: عبد العزيز القارئ
9- الوصول إلى القمر: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
10- دراسات أدبية: أبو العتاهية (بقلم الشيخ محمد شريف الزيبق)
11- رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرءوف اللبدي
12- قصة في الاتجاه الآخر: بقلم أبي صفوان
13- لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية: بقلم الطالب: صالح بن سعيد بن هلابي
14- مؤتمر القمة الإسلامي: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
15- مع الصحافة: نقلا عن مجلة الحضارة الإسلامية
16- مقتطفات من كتاب الثقلاء: للشيخ محمد العبودي
17- من تاريخ المذاهب الهدامة - كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (2)
بقلم: محمد بن مالك اليماني
18- ندوة الطلبة - من ظلمات الوثنية إلى ضياء الإسلام: بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
19- نعمة الأمن: بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
20- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(2/347)
أخبار الجامعة
تم انتقال كلية الشريعة إلى المباني الجديدة الواقعة في غرب الجامعة وبذلك انفصلت إدارتها عن كلية الدعوة وأصول الدين. والجدير بالذكر أن المباني الجديدة أقيمت على أحدث طراز حيث تحتوي على المزايا المناسبة للجو الدراسي للكلية.
بدأت الدراسة في جميع أقسام الجامعة يوم الأربعاء الموافق 20 رجب للعام الدراسي 89/90 هـ.
وصل إلى المدينة المنورة الأساتذة الآتية أسمائهم حيث انضموا إلى هيئة التدريس بالجامعة:
- الأستاذ محمد الصادق عرجون المصري الجنسية عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا. من مؤلفاته: (خالد بن الوليد، عثمان بن عفان الخليفة المفترى عليه، التصوف في الإسلام، نظام الحكم في الإسلام، النقد الأدبي عند العرب - رسالة نال بها الدكتوراه -، حرية الفكر في الإسلام أبو حامد الغزالي) .
- الشيخ محمود وفاء إبراهيم هاشم المصري الجنسية (العالمية مع الإجازة في التدريس في جامعة الأزهر) .
- الشيخ حسن السيد متولي المصري الجنسية (العالمية مع الإجازة مع التدريس في جامعة الأزهر) .
- الشيخ محمد المهدي محمود علي المصري الجنسية (العالمية مع الإجازة في التدريس) .
- الشيخ عبد الجواد السيد البنا المصري الجنسية (شهادة التخصص من شعبة الفقه الحنفي والأصول من جامعة الأزهر) .
- الشيخ محمد سعيد مولوي السوري الجنسية (ماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة القاهرة) .
- الشيخ ناجي محمد شفيق عجم السوري الجنسية (ماجستير في أصول الفقه من جامعة الأزهر) .(2/348)
كما وصل إلى المدينة الأستاذ ف. عبد الرحيم عبد السبحان الهندي الجنسية (ماجستير في أصول اللغة في جامعة الأزهر وماجستير في اللغة العربية من جامعة الإسلامية بعليكرة بالهند وبكالريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة مدراس) حيث انضم إلى هيئة التدريس بشعبة اللغة العربية بالجامعة.
تم تعين الأساتذة السعوديين الآتية أسماءهم للتدريس في المعهد الثانوي التابع للجامعة وهم:
الأستاذ حامد عبد القادر الأحمدي
الأستاذ علي بن مشرف العمري
الأستاذ رويعي بن راجح
الأستاذ عبد العزيز القارئ
والجدير بالذكر أن المذكورين من خرجي الجامعة لهذا العام.
- استلمت مكتبة العامة للجامعة دفعة جديدة من الكتب بلغت 1700 كتاب وبذلك يصل عدد الكتب التي وصلت إلى المكتبة 17886كتابا ولا تزال رئاسة الجامعة تعمل جاهدة على أن تكون مكتبة الجامعة في القريب العاجل من أكبر المكتبات الموجودة في المملكة.
- تم أخيرا طبع كتاب (في إفريقيا الخضراء) بمطابع دار الثقافة ببيروت وهو من تأليف محمد العبودي الأمين العام للجامعة والكتاب يحتوي على معلومات هامة وقيِّمة عن أقطار إفريقيا الغربية والوسطى وذلك بعد أن قام المؤلف برحلتين إلى هناك رئيسا لوفد الجامعة وقد شرع في توزيع الكتاب على الكليات والمعاهد الإسلامية في الخارج.
- من زوار الجامعة في الأسبوع الأخير من رجب زار الجامعة الأستاذ عبد البديع صقر.
- كما قام بزيارة الجامعة أيضا الشيخ أحمد المحايري وهو خرجي الجامعة ويعمل حاليا لحساب دار الإفتاء السعودية في سيراليون وله جهود مشكورة في الدعوة الإسلامية هناك وقد قام بالاتصال بالمسئولين في الجامعة حيث لقي كل تفهم وترحيب.(2/349)
دراسات أدبية
أبو العتاهية
بقلم الشيخ محمد شريف الزيبق المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
هو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان أبو إسحاق من الموالي وولاؤه في قبيلة عنزة فهو عنزي بالولاء وكان جده كيسان من سبي عين التمر وهو أول سبي دخل المدينة سباهم خالد بن الوليد وقدم بهم على أبي بكر رضي الله عنه وأم أبي العتاهية وتكنى أم زيد كانت أيضا مولاة لبني زهرة.
وقد اشتهر بلقب أبي العتاهية - وليس هذا كنيته فكنيته أبو إسحاق كما سبق - وعتاهية كلمة تدل على معان كثيرة يقول بن منظور في لسان العرب: "عته في العلم: أولع به وحرص عليه والعتاهة والعتاهية مصدر عته مثل الرفاهة والرفاهية، والعتاهية ضلال الناس من التجنن والدهش والتعته المبالغة في الملبس والمأكل ورجل عتاهية أحمق وتعته تنظف وأبو العتاهية الشاعر المعروف ذكر أنه كان له ولد يقال له عتاهية وقيل: لو كان الأمر كذالك لقيل أبو عتاهية بغير تعريف".
والسبب في تلقيبه به أن الخليفة المهدي قال له يوما: "أنت إنسان متحذلق - أي متظرف – متعته، فاستوى له من ذلك لقب غلب عليه دون اسمه وكنيته [1] .
ويقول بن منظور: "لقب بذلك لأن المهدي قال له: أراك متخلطا متعتها، وكان قد نعته بجارية للمهدي واعتقل بسببها وعرض عليها المهدي أن يزوجها له فأبت، واسم الجارية عتبة. وقيل: لقب بذلك لأنه كان طويلا مضطربا. وقيل: لأنه يرمى بالزندقة ولأنه كان يحب المجون والتعته".
وقد أصاب المهدي في إطلاق هذا اللقب أبي العتاهية على الشاعر لدلالته أبلغ دلالة على صفاته الجسمية والخلقية فدل على اختلاطه واضطرابه ومجونه وطوله وتعتهه بحب عتبة.(2/350)
وكانت ولادة الشاعر في عين التمر وهي قرية قرب الأنبار غربي الكوفة سنة 130 وانتقل مع أبيه صغيرا إلى الكوفة وكانت الكوفة مدينة العلماء والمحدثين والعباد والزهاد، وقد عاصر فيها الشاعر أمثال علقمة بن قيس وعمرو بن عتبة بن فرقد والربيع بن خيثم وأويس القرني والنخعي والشعبي وسفيان الثوري وشريك القاضي وابن أبي ليلى وأبي حنيفة والكسائي والفراء.
ومع اتساع الكوفة وانتشار الرخاء نشأت فيها طوائف من المُجَّان يقولون الشعر، متنقلين على معاهد اللهو، وموغلين في حمأة المفاسد، يفسقون ويتهتكون ويتزندقون وينعتون أنفسهم بالظرف، وأنهم حلية الأرض ونقش الزمان. . أمثال حماد عجرد ووالبة ابن الحباب ومطيع بن إياس ويحي بن زياد وشراعة بن زندبود [2] .
فيحي بن زياد مثلا كان زنديقا وكان يتصنع الظرف وحسن المظهر، يقول فيه الخطيب البغدادي: "كان شاعرا أديبا ماجنا نسب إلى الزندقة وكان صديقا لمطيع، وحماد، ووابلة وغيرهم من ظرفاء الكوفيين" [3] .
في هذه البيئة نشأ أبو العتاهية وكان يخالط هؤلاء الشعراء المجان، ويختلف إلى حلقات العلماء ومجالس العباد، وقد كان فقيرا فكان يعمل مع أبيه في بيع الفخار بالكوفة، وقال الشعر وبرع فيه وهو حدث، وظهر نبوغه في وقت مبكر.
روي أنه اجتاز بفتيان جلوس يتناشدون الشعر، وكان يحمل قفص فخار ويدور به ويبيع منه، فسلم ووضع القفص عن ظهره ثم قال للفتيان: "أراكم تتذاكرون الشعر وتقولونه أفأقول شيئا منه فتجيزونه؟ فإن فعلتم فلكم علي عشر دراهم وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم؟ ". فهزئوا منه وسخروا وقالوا: "نعم لا بد أن نشتري بأحد القمارين رطبا يؤكل، فإنه قمار حاصل". وجعل رهنه على يد أحدهم، ففعلوا فقال: أجيزوا
ساكني الأجداث أنتم(2/351)
وجعل بينه وبينهم وقتا وعلامة في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس ولم يجزوا البيت وجب القمار عليهم فلم يأتوا بشيء، فأخذ الدراهم وجعل يهزأ منهم وتمم الشعر:
مثلنا بالأمس كنتم
ليت شعري ما صنعتم أربحتم أم خسرتم
ومع أن أبا العتاهية بدأ حياته مع المجان والمتخنثين وفساق الشعراء، وكان في أول أمره يتخنث ويحمل زاملة المخنثين، فإن بواكير شعره كانت في الزهد ووصف الموت وأحواله ونزل (الحيرة) وهي قريبة من الكوفة فهوى امرأة نائحة من أهل الحيرة لها حسن وجمال وتدعى سعدى وكان ينظم لها الشعر الذي تنوح به على الموتى، وكانت سعدى مولاة لبني معن ابن زائدة وقد أدت صلته بها إلى خلاف ومهاجاة بينه وبين عبد الله ابن معن بن زائدة [4] .
انتقاله إلى بغداد:
وفد أبو العتاهية إلى بغداد في خلافة المهدي (158- 169) في نحو الثلاثين من عمره وكانت بغداد - التي أنشأها أبو جعفر المنصور سنة 149هـ - قد أخذت في الازدهار فانتقل النشاط العلمي من الكوفة والبصرة إليها بعد أن أصبحت دار الخلافة ودار الإسلام. وكان أبو العتاهية حين وصل إلى بغداد يجتهد في الوصول إلى قصر الخلافة، فأقبل يمدح المهدي، ويفكر في الوسائل التي تدنيه منه. يقول ابنه محمد: "فلما تطاولت أيامه أحب أن يشهر نفسه بأمر يصل به إليه، فلما بصر بعتبة راكبة في جمع من الخدم تتصرف في حوائج الخلافة تعرض لها، وأمل أن يكون تولعه بها هو السبب الموصل إلى حاجته، وانهمك في التشبيب والتعرض في كل مكان لها، والتغرد بذكرها وإظهار شدة عشقها" [5] .
وله مع عتبة حوادث عديدة منها ما رواه المبرد أن أبا العتاهية أهدى إلى المهدي برنية صينية فيها ثوب ممسك فيه سطران مكتوبا عليه بالغالية:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة
لله والقائم المهدي يكفيها
إني لأيأس منها ثم يطمعني
فيها احتقارك للدنيا وما فيها(2/352)
قال: فهم أن يدفع إليه عتبة. فقالت له: "يا أمير المؤمنين مع حرمتي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار متكسب بالشعر؟ ". فبعث إليه: "أما عتبة فلا سبيل لك إليها وقد أمرنا لك بملء برنية مالا" [6] .
وكان يتجاسر على التشبيب بها في مقدمة مدائحه للمهدي فقد روى الحافظ بن عبد البر في مقدمته لديوان شعر أبو العتاهية أن الشعراء حضروا يوما عند المهدي فقدم أبو العتاهية في الإنشاد فقال بشار بن برد لأشجع السلمي: "يا أخا سليم من هذا الذي قدم للإنشاد علينا؟ أهو ذلك الكوفي الملقب؟ ". قال: "نعم". فقال بشار: "لا جزى الله خيرا من جمعنا به أيستنشد قبلنا؟ ". فقال له أشجع: "هو ما ترى". . فأنشد أبو العتاهية:
تدل فأحمل إدلالها
ألا ما لسيدتي ما لها
جنيت سقى الله أطلالها
وإلا ففيما تجنت وما
م قد أسكن الحب سربالها
ألا إن جارية للإما
تجاذب في المشي أكفالها
مشت بين حور قصار الخطا
وأتعب باللوم عذابها
وقد أتعب الله نفسي بها
فقال بشار: "أبهذا الشعر يقدم علينا؟ ". فلما أتى على قوله:
إليه تجرر أذيالها
أتته الخلافة منقادة
ولم يك يصلح إلا لها
فلم تك تصلح إلا له
لزلزلت الأرض زلزالها
ولو رامها أحد غيره
لما قبل الله أعمالها
ولو لم تعطه نيات القلوب
إليه ليبغض من قالها
وإن الخليفة من قول لا
فاهتز بشار طربا، وقال: "يا أخا سليم أترى الخليفة لم يطر طربا عن فراشه لما يأتي به هذا الكوفي؟ ".
وقضى أبو العتاهية مدة طويلة يتغزل بعتبة حتى شاع فيها شعره، فأمر المهدي بجلده وإدخاله السجن، ولم يعف عنه إلا بشفاعة خاله يزيد بن منصور الحميري [7] .(2/353)
وفي أيام الرشيد عاد الشاعر يتغزل بعتبة والسعي للزواج منها. حدث أبو العباس يحي بن ثعلب قال: "كان أبو العتاهية قد أكثر في مسألة الرشيد في عتبة فوعده بتزويجها وأنه يسألها في ذلك. ثم دعا به وقال: "ضمنت لك يا أبا العتاهية، وفي غد تقضى حاجتك إن شاء الله". وبعث إلى عتبة: "إن لي إليك حاجة فانتظرني الليلة في منزلك". فأكبرت ذلك وأعظمته وصارت إليه تستعفيه، فحلف أن لا يذكر لها حاجته إلا في منزلها. فلما كان الليل سار إليها ومعه جماعة من خواص خدمه فقال لها: "لست أذكر حاجتي أو تضمنين قضاءها". قالت: "أنا أمتك وأمرك نافذ فيما خلا أمر أبي العتاهية، فإني حلفت لأبيك رضي الله عنه بكل يمين يحلف بها بر وفاجر، وبالمشي إلى بيت الله الحرام حافية، كلما انقضت عني حجة وجبت علي أخرى لا أقتصر على الكفارة، وكلما أفدت شيئا تصدقت به إلا ما أصلي فيه". وبكت بين يديه فرق لها ورحمها وانصرف عنها. وغدا عليه أبو العتاهية فقال له الرشيد: "والله ما قصرت في أمرك ومسرور وحسين ورشيد وغيرهم شهود لي بذلك"، وشرح له الخبر. قال أبو العتاهية: "فلما أخبرني بذلك مكثت مليا لا أدري أين أنا قائم أو قاعد، وقلت: الآن يئست منها إذ ردتك وعلمت أنها لا تجيب أحدا بعدك". فلبس أبو العتاهية الصوف وقال في ذلك من أبيات [8] :
قطعت منك حبائل الآمال
وحططت عن ظهر المطي رحالي
ووجدت برد اليأس بين جوانحي
وأرحت من حلي وترحالي
هي قصيدة طويلة تعتبر من أروع قصائده ومنها:
يا دار كل تشتت وزوال
الآن يا دنيا عرفتك فاذهبي
فغدا علي وراح بالأمثال
والآن صار لي الزمان مؤدبا
وتفرغت هممي عن الأشغال
والآن أبصرت السبيل إلى الهدى
يفضي إلي بمفرق وقذال
ولقد أقام لي المشيب نعاته
ومنها:
نسبا يقاس بصالح الأعمال
وإذا تناسبت الرجال فما أرى
رجل يصدق قوله بفعال
وإذا بحثت عن التقي وجدته(2/354)
فتراه بين مكارم ومعال
وإذا اتقى الله امرؤ وأطاعه
تاجان تاج سكينة وجلال
وعلى التقي إذا ترسخ في التقى
ومنها:
في قبره متفرق الأوصال
يا أيها البطر الذي هو في غد
وأرى مُناك طويلة الأذيال
حذف المنى عنه المشمر في الهدى
من لاعب قرح بها مختال
ولقلما تلقى أغر بنفسه
حتى متى بالغي أنت تغالي
يا تاجر الغي المضر نفسه
خسرت ولم تربح يد البطال
الحمد لله الحميد بمنه
وتشيب منه ذوائب الأطفال
لله يوم تقشعر جلودهم
مل فيه إذ يقذفن بالأحمال
يوم النوازل والزلازل والحوا
زن والأمور عظيمة الأهوال
يوم التغابن والتباين والتوا
بمقطعات النار والأغلال
يوم ينادي فيه كل مضلل
علت الوجوه بنضرة وجمال
للمتقين هناك نزل كرامة
فلها بريق عنده وتلالي
زمر أضاءت للحساب وجوهها
خمص البطون خفيفة الأثقال
وسوابق عز محجلة جرت
خلق الرداء مرقع السربال
من كل أشعث كان أغبرنا حلا
في دار ملك جلالة وظلال
نزلوا بأكرم سيد فأظلهم
ومنها:
والموت يقطع حيلة المحتال
حيل ابن آدم في الأمور كثيرة
حرك الخطى وطلوع كل هلال
ومن النعاة إلى ابن آدم نفسه
أخلقت يا دنيا وجوه رجال
مالي أراك لحر وجهك مخلقا
من كل عارفة أتت بسؤال
قست السؤال فكان أعظم قيمة
ممن يضن عليك بالأموال
كن بالسؤال أشد عقد ضنانة
في الوزن ترجح بذل كل نوال
وصن المحامد ما استطعت فإنها
نسي المثمر زينة الإقلال
ولقد عجبت من المثمر ما له
فابذله للمتكرم المفضال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا
فاشدد يديك بعاجل الترحال
وإذا خشيت تعذرا في بلدة
فرج الشدائد مثل حل عقال
واصبر على غِيَر الزمان فإنما(2/355)
وهكذا نجد في هذه القصيدة ملامح فن أبي العتاهية في الزهد الممزوج بالحكمة والمرصع والاقتباسات البديعة من كتاب الله عز وجلو كلام السلف الصالح، وقد أبدى بن الأعرابي إعجابه البالغ بهذه القصيدة وقال: "ما رأيت قط شاعر أطبع ولا أقدر على البيت من أبي العتاهية وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر"، وثار برجل كان في مجلسه لأنه قال: "إن أبا العتاهية ضعيف الشعر". فقال له: "الضعيف والله عقلك، لأبي العتاهية تقول ضعيف الشعر؟! " [9] .
ونذكر أخيرا في سبب توبة أبي العتاهية من مصاحبة المجان وقرض الشعر في الغزل والهجاء والمديح، وقصر شعره على الزهد والحكمة، ما روي عن أبي سلمة الغنوي أنه سأل أبا العتاهية: "ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟ ". فأجابه:"إذن والله أخبرك. إني لما قلت:
أهدت لي الصد والملالات
الله بيني وبين مولاتي
فكان هجرانها مكافاتي
منحتها مهجتي وخالصتي
أحدوثة في جميع جاراتي
هيَّمني حبها وصيرني
رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتيا أتاني فقال: "ما أصبت أحدا تدخله بينك وبين عتبة يحكم علينا بالمعصية إلا الله تعالى؟ ". فانتبهت مذعورا وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل" [10] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الأغاني 4/4
[2] ثمار القلوب للثعالبي 407
[3] تاريخ بغداد 14/104
[4] الأغاني 14/53.
[5] تاريخ بغداد 6/256.
[6] مروج الذهب 3/240
[7] الأغاني 4/42
[8] مروج الذهب3/274
[9] ابن عبد البر في المقدمة.
[10] تاريخ بغداد 6/258.(2/356)
رسائل لم يحملها البريد
بقلم الشيخ عبد الرءوف اللبدي المدرس بكلية الشريعة
تلميذي القديم وزميلي الجديد:
كتبت إلي أنك قد انتهيت من دراساتك العليا, وأنك على وشك أن تصبح زميلا جديدا في ميدان التعليم, هنيئا لك ذاك النجاح! ومرحبا بهذه الزمالة الجديدة!.
سألتني أن أمدك بشيء من النصح، وأن أزودك ببعض التجارب تجارب الآخرين قلما تفيد أيها الزميل الجديد، ومع ذلك فلن تراني عليك ضنينا غير أني أحب أن أقول شيئا قبل أن أمضي بعيد في هذه الرسالة, أحب أن أقول لك: ابحث عن عمل آخر إذا كنت لا تحب التعليم, ولا تجد فيه ري ظمأ، ولا قرة عين.
أنت مقبل على عمل شاق يرهق الجسم والعقل، يشغلك النهار وزلفا من الليل، فإذا لم تكن لديك رغبة صادقة فيه ظلمت نفسك، وظلمت كثيرا من طلاب العلم معك.
إن إخفاق كثير من الناس في أعمالهم والوظائف، مرده في كثير من الأحوال إلى أنهم لم ينالوها عن رغبة واقتدار، وإنما هي أشياء عثروا بها في ظلمات الليل، أو عثرت بهم وهم عنها غافلون.
سرني أيها الزميل الكريم ما نلته من نجاح وسرني أن تصبح من ذوي الشهادات العالية، ولعلك نشرت هذا في الصحف، وعلقت وثائقه على جدران غرفة الاستقبال، ليراه الزائرون، وليذيعوا به في المجالس.
ليس بالغريب أن يشعر الإنسان بالزهو حين يصبح شيئا مذكورا بعد أن لم يكن، غير أني لا أحب أن تزهو بهذا على عباد الله، وأن تقف أمام طلابك نفاشا تفتح به فاك، وتجحظ له عيناك، وتميل برأسك ذات اليمن تارة وذات اليسار تارة أخرى.
قد تجلب عليك الوظيفة أموالا ما كنت لتجدها أيام كنت طالبا، فتزين لك نفسك أن تظهر شخصيتك عن طريق البزة الأنيقة، والحذاء اللامع، والملابس الفارهة، وأن تخرج على الناس يوما بعد يوم في حلة جديدة، تميس فيها كأنك في ليلة الزفاف. إلا ما تزين لك نفسك! وبئست طريقة تلك الطريق!.(2/357)
لا يخدعنك ما حصلته في الجامعة من العلم عن مواصلة الإطلاع والقراءة، فأنت لم تحصل من العلم إلا قليلا، وهذه الشهادات التي حملتها بعد سنوات طويلة لا تغنيك شيئا أمام طلابك إذا دارت رحى النقاش، وناشتك أسئلتهم من كل جانب، فيفلت الزمام من بين يديك، وتتخلف عن مركز القيادة، وهيهات أن تجد المقيل من هذا العثار!.
أرجو أن لا تسلك سبيل الفرار في غرف التدريس، والفرار أيها الزميل الجديد ألوان شتى، وطرق مختلفة، لا أريد أن أقصها جميعا عليك، ولا أريد أن أعددها لك.
يشق بعض المدرسين أحيانا أن يمضي قدما في مناقشة الموضوع وبسط ما فيه من مسائل، فيتسلل على حين غفلة من الطلاب، أو على حين يقظة، ويعطف بعنان لسانه إلى موضوع آخر يلذ لكثير من الطلاب سماعه، فيحدثهم عن ذكرياته: ذكريات الطفولة، وذكريات المدرسة، وذكريات الجامعة، وذكريات الحياة وما وقع له فيها من طرائف، وما شاهده فيها من أعاجيب.
ولعلك سمعت أو رأيت في أثناء جلوسك على مقاعد الدراسة، وأنت تودع مدرسا وتستقبل آخر، لعلك سمعت أو رأيت من يحدث تلاميذه أخبارا خاصة عن أسرته وأبنائه وذوي قرباه، كأنما الفصل صديق حميم، فهو يفضي إليه ببنات صدره وأفراح قلبه.
لا أريد أن أذهب أبعد من هذا خشاة أن أنسى شيئا أنا حريص على أن أحذرك منه، وأخاف أن تقع فيه، ذلك أن يجرك الطلاب إلى الحديث عن السياسة، أو تجرهم أنت إلى الحديث عنها، فتشب في الفصل (حرائق) لا تستطيع إطفاءها حنى آخر العام، ويفسد عليك من الأمر مالا تجد إلى إصلاحه سبيلا.
أحب أن تلتزم موضوع الدرس، وألا تحيد عنه، وإذا دهمتك ضرورة عابرة، أو غلبتك مناسبة طارئة، وقفت عندها قليلا وقوف العابر العجلان.
الحذر الحذر أن تتصيد المناسبات لتلقي عن كاهلك أثقال الدرس، وتخرج عن الجادة إلى الشعاب والأودية!!.(2/358)
أقبل على طلابك كما يقبل الصباح، يحمل النشاط والحياة والنور، فيقبلوا عليك مستيقظين واعين، ويسيروا معك على الطريق شوطا بعيدا، دون أن يدركهم فتور، أو يغشاهم النعاس، يسألون فتجيب، وتسأل فيجيبون، وتكون من وراء ذلك حركة ذهنية دائبة، لكم فيها غنم كبير ومنافع.
لا تقبل عليهم كما يقبل الليل، ثقيل الوطأة، بطيء الخطا، تمشي كأنما رجلاك شدتا بالسلاسل، يقرؤون في وجهك الخذلان والفتور والتكلف، وتكلمهم بلسان عاثر، وفكر مشرَّد، غير آبه لما يجري من حولك، فيعقد الطلاب الندوات الصغيرة في فصلك على غير موعد، ويتخذون القرارات وأنت لا تدري، ويقع فريق منهم في نوم عميق يحملون فيه أن قد مرضت، وأخذت إجازة طويلة للأمد.
كن جريئا واسع الصدر، وتقبل أسئلة الطلاب العلمية، ومناقشاتهم في موضوع البحث، بنفس راضية، وقلب مطمئن، وإذا رأيت في غمرة الحوار والنقاش رأيا من الآراء على الصواب، ولكنه مخالف لرأيك، فلا تسفهه، ولا تحاول التقليل من شأنه، غرورا منك، وتفردا بالصواب، قابل ذلك بالاعتراف والثناء والتشجيع، ولا يغلبنك على نفسك الهوى.
لست معصوما من الخطأ، فلا يعظمن على نفسك الرجوع إلى حق إذا نبهك أحد إليه، أو تبين لك الأمر فيما بعد، ولا حاجة إلى أن يحمر وجهك من خجل، أو يصفر من خوف، أو تضطرب ساقك من تحتك، وطن النفس على هذا منذ يومك الأول، فإنه لا بد ملاقيك.
لا يحملنك خلاف الرأي بينك وبين طلابك، ونقاشهم لك على الحقد والثأر، إنهم طلاب علم، قد يوسوس لك الشيطان أن أحدا منهم يريد أن تزل بك القدم، فلا تستجيب إلى تلك الوساوس، وظن بهم خيرا، وكن لهم رائد علم، لا قائد كتيبة.
لا ترفع بينك وبين طلابك جدارا من الكبرياء والتعاظم، لتحول بينهم وبين أن يسألوك عن غامض المسائل، كن أخا لهم، ودعهم يشعرون بهده الأخوة، فلا يتجافون عن سؤال، ولا يمسكهم الحياء عن المناقشة.(2/359)
إياك أن يتولاك الكذب والغرور!! فتجيب عما تعلم وما لا تعلم، كن صريحا في شجاعة، وقل لا أعلم فيما لا تعلم، إنك إن تجبهم عن جهالة فسوف يتكشّف أمرك ذات يوم، ويبرح الخفاء، وتضيع الثقة بينك وبين طلابك، وتفقد أعز ما يملكه المدرس في دنيا التعليم.
الطلاب في غرف التدريس سواسية، فليس فيهم صديق تواده وتحابيه، ولا عدو تحاده وتجافيه، أقبل بوجهك على القريب والبعيد، وتقبل سؤال الغبي والفطن، وكن شجرة دانية القطوف، طيبة الجنى.
ماذا سيكون نصبك هذا العام؟! وما الذي ستكون عليه غرفة المدرسين في معهدك؟! أتراها تكون كنافخ الكير؟! أم تراها تكون كبائع العطر؟! ومهما يكن من أمر، فأفضل مكان تأوي إليه في حصص الفراغ هو المكتبة، هنالك تنجو من الأحياء، وتخلص إلى جماعة من الموتى، ماتت معهم الأحقاد والأطماع وتفاهات دنياهم، وتركوا وراءهم علما ينفع الناس.
أنت لا تزال في ربيع العمر وشرخ الشباب، فلا تذهبن ساعات فراغك أباديد، وظف شيئا من الفراغ لعمل أدبي، أو دراسة علمية، واترك في عالم الأدب ودنيا العلماء شيئا ذا بال.
لا تنتظر إلى أن تعضك الشيخوخة بأنيابها، ويتقوس الظهر من هرم، فليست الحياة ساعة تديرها في المعصم، ولا ثوبا تلبسه إذا شئت، وتخلعه حينما تريد..
يؤسفني أيها الزميل الجديد أني لم أبلغ بعد ما أردت! إني مشفق عليك، وأخشى أن أفت في عضدك، فتخلد إلى أرض الخمول، وتبقى على الشاطئ نفاية بحر، وأنا الذي أريد أن تحلق في الأجواء البعيدة، وأن تركب الأمواج غير خائف.
ولقد عهدتك ذا قلب سليم، وعزيمة تفري، وغايات تريد بها وجه الله، فدعني إذن أكتب إليك ما تبقى من هذه الرسالة:(2/360)
الحساب في الدنيا ليس كحساب الآخرة، حساب الآخرة {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أما الدنيا فلها حسابات أخرى لم يكتبها رقيب عتيد، لا أريد أن أقدمها إليك، فسوف تراها رأي العين وتلمسها بالأصابع، ستطعمها فتذوقها مرة، وتشمها فتنشقها كريهة، وتسمعها فتصك الآذان.
لا تحزن أيها الزميل الجديد إن خفت بك الموازين في الدنيا وخفت بإخوانك المدرسين، وثقلت موازين ذوي الجهالة في بعض الميادين، وإذا رأيت الناس من حولك أسرعوا وقد أبطأت، فلا تقلب كفيك على ما أنفقت من سنوات طويلة وجهد جاهد في سبيل العلم، فعند الله الجزاء الأوفى! ثروتك في هذه الدنيا ما يضيء في رأسك وصدرك، وهذا المال الذي ما يكاد ينزل في جيبك حتى ينوي الرحيل.
اصبر! اصبر صبرا جميلا! اصبر كما صبر أولو العزم من المدرسين! طريقك وعر طويل، وزادك ذو غصة وقليل! فاستعن بالله وتوكل عليه، وإنه نعم المولى ونعم النصير.
عبد الرؤوف البلدي(2/361)
في الاتجاه الآخر
بقلم أبي صفوان
كان (أبو جميل) في الخامسة والستين يوم صدر قرار إحالته على التقاعد. وهي السن التي طالما حجبها عن الناس وعن رؤسائه بوجه خاص، خشية استعجال هذه النتيجة التي ظل خمس سنوات يدافعها بكل ما أوتي من حيلة وما بذل من رجاء.. ولكن لكل شيء نهايته، ولم يكن بد لمثله من أن يصير إلى هذه النهاية يوما ما شاء أو أبى. لذلك كان عليه أن يوطن نفسه لاحتمال هذه الحياة الجديدة، حياة ما بعد الوظيفة، بكل ما فيها من فراغ ووحدة. ولشدة ما فكر في أيامه القابلة هذه حين يجد نفسه خارج العمل فلا يدري كيف يزجي أعباءها، ولا كيف يملأ فراغها!..
ولا غرابة في ذلك فإن امرأ كأبي جميل بسيط طيب القلب، لا حظَّ له في خبرة الحياة خارج نطاق عمله النمطي في ديوان المالية، يتعذر إليه أن يغير بسهولة طريقة حياته التي جثم في قالبها قرابة نصف قرن حتى أصبح كالمنفي عن دنيا الناس، لا يكاد يفهم ما يشغلهم من شئونها. وكان بادي الرأي شديد التعويل على دنانيره المئتين التي استطاع أن يحتفظ بها من بقايا مرتباته خلال هذا الزمن عملا بالمثل الذي يقول: (قرشك الأبيض ليومك الأسود) وقد جاء اليوم الأسود بهذه البطالة التي ترهقه، فجدير به أن يفيد منها باتخاذ عمل يشغل به الفراغ.. على أن (حساب القرايا لا ينطبق على حساب السرايا) فما أن غادر قيود الوظيفة حتى ألفى نفسه عاجزا عن أي تفكير في الموضوع, أشبه بمملوك قضى أيام نشاطه في أغلال الرق، ثم فوجئ بإطلاق حريته على غير إعداد سابق فكانت حريته نفسها أشد الأعباء عليه..(2/362)
ولقد يظن بعض الذين يعرفون الرجل أن له ولدا باسم (جميل) . والحق أنه لم يلد قط، ولم يفكر أن يعرف ما إذا كان السبب في هذا العقم هو أو زوجته وإنما هو اسم أبيه كني به منذ الطفولة على عادة بلده, تيمنا بأن يكون له في قابل الأيام ولد يحي له اسم ذلك الوالد. وقد مر به زمن جاش به شوقه إلى الولد، فراح يطوف بزوجته مقابر الأولياء ومقامات الصالحين حاملا إليها النذور النفسية رجاء أن تعطف عليه فتتوسط بحاجته لدى الله!.. ولكن هؤلاء صموا عنه فلم تُجْدِه نذوره.. ثم ما لبثت الأيام أن عملت عملها في إطفاء ذلك الشوق، حتى ألف وزوجته وضعهما ورضيا، بنصيبهما من قدر الله.. وبات عليهما أن يوجها كل همهما إلى العبادة التي لا عزاء مثلها في مثل وحشتهما تلك..
ولم تكن العبادة شيئا طارئا على أبي جميل - كشأن كثير من الناس - وبخاصة في أوساط أولئك الموظفين الذين تشغلهم دنياهم عن ربهم فلا يذكرونه إلا بعد التقاعد. وعندئذ يهبون المساجد بقية عمرهم.. كلا فقد كان صاحبنا قديم الاتصال بالصلاة غير قليل التردد على بيوت العبادة.. بل كان من أبناء (الطريقة) الذين لا يكتفون بالعبادة المكتوبة حتى يضيفوا إليها الأذكار التي يكفلهم بها المشايخ وقد بلغ من ورعه أنه لا يفارق (دلائل الخيرات) وورد (ابن سلطان) فهما رفيقاه أينما حل.. يراجع تلاوتهما كلما وجد إلى ذلك سبيلا!.. وقد أعطى القرآن من نفسه حظا أسبوعيا يعاوده صباح كل جمعة، حيث يتلو سورة الكهف عدة مرات..
وهو إنما انخرط في سلك الطريقة عملا بإشارة المرحوم والده الذي علمه منذ الطفولة أن لابد للإنسان من الشيخ فمن لا شيخ له فالشيطان شيخه!..(2/363)
وطبيعي أن يفر من الشيطان ما وسعه الجهد.. ولم يكن في حاجة إلى طويل تردد في اختيار شيخه.. أنه ليس خيرا من جاره أبي سعيد، وخاله أبي فتوح.. للذين اتخذا من الشيخ (فويضل) إماما وقدوة.. فليسلك طريقهما هو وزوجته وشقيقته.. وهم مجموع الأسرة.. ومنذ ذلك اليوم بدأ تعلقه بالشيخ وأخذ نفسه بالتردد على دروسه وحضور حلقاته مساء كل اثنين وجمعة..
ومن قبل طالما سمع أخبار الشيخ (فويضل) على ألسنة دعاته، يعرضون على الناس كمالاته، ويقصون كراماته.. ولم يكن من أهل الشكوك ولله الحمد فلم يجد مانعا من تصديقهما؟ والتطوع بنقلها إلى من لم تبلغه. ولما باشر الاتصال بالشيخ كان على أتم الاستعداد للاندماج في جوه.. وهاهو ذا اليوم قد قطع شوطا بعيدا في تقاليد الطريق التي تفرض على المريد أن يكون أطوع للشيخ من بنائه، وأشد احتراما له من أبيه وأمه.. فهو إذا دخل عليه مجلسا دب على قوائمه حتى ينتهي إليه، فيقبل يديه وركبتيه، ثم يتراجع إلى الخلف حتى يأخذ مكانه في الحلقة. وإذا دخل الشيخ الجامع نهض له مع الجميع، ثم لا يقعد حنى يستقر في موضعه الذي يجب أن يظل محجوزا له إلى أن يحتله!!. وإذا جلس الشيخ للوعظ أطرق إلى الأرض في خشوع عميق مجاهدا نفسه لكي يجعل قلبه هو الذي يتلقى النفحات..
وكان ذوبانه السريع في هذا الجو جد الطبيعي، إذا وجد فيه متعة سرعان ما عوضته عن مشاغل العمل الذي فقده، وردت إليه ما حرمه من الأُنْس الذي كان ينعم به في ظل رؤسائه وزملائه أثناء عمله الماضي..(2/364)
لقد مضى سني الوظيفة كلها كاتبا صغيرا، يتلقى تعليمات رؤسائه في تنظيم الجداول، أو نسخ القوائم بدقة، كأنه الآلة الحاسبة لا يعتريها الخطأ إلا بمقدار ما تخطئ يد العامل في تحريك أرقامها. فطبيعي إذن أن يجد في مجتمع الطريقة وفي ظل الشيخ ذاته ما ينقذه من الخلل الذي كاد يستولي على وجوده عقيب انتزاعه من عمله المألوف.. ومن هنا جعل أنسه يزداد اطرادا بنسبة اندماجه في ذلك الجو، وباتت ثقته بكرمات الشيخ تتضاعف على أساس تصاعدي من النسبة نفسها..(2/365)
وكان في مبدأ الأمر يحاول أن يثبت نظره في وجه الشيخ طلبا للثواب الذي تقرره المحكمة المتداولة بين المريدين: (النظر إلى وجه الشيخ عبادة) .. فيجد في ذلك غبطة سعيدة لا يعرف لها مثيلا في غير هذا الموقف.. ولكن هيبة الشيخ صارت به أخيرا إلى الأعضاء، فيكتفي بإحضار الشيخ في قلبه وهو يردد ورده من الذكر أو يستمع إلى مواعظه الشافية!. وهو مع ذلك ينفذ بهذا تعاليم الشيخ الذي كثيرا ما سمعه يقول لمريديه: (من أول واجبات المريد أن يتصور شيخه في فؤاده كلما خلا إلى أوراده أو أصغى إلى إرشاده..) وقد مرن على ذلك حتى أصبح له عادة ثابتة.. يجلس بين الشيخ كاسر البصر ويكلمه إذا كلمه في هدوء وخفوت بالغين وهو كاسر البصر أيضا حتى إنه ليحاول تفسير ذلك لنفسه فلا يجد إلا هذه العبارة التي أصبحت من كلماته المألوفة: إن عيني لتعجزان عن مواجهة نور الشيخ! والحق أن في وجه الشيخ (فويضل) لسرا غريبا.. فهو منسجم التقاطيع إلى حد يمكن وصفه بالجمال وفي بشرته بياض نقي يأتلف مع تلك اللحية السوداء الأنيقة، التي توحي للناظر بإنه في أواسط العقد الرابع قمة الشباب. ولا شك أن لشكل عمته الملتفة في أنحناء لولبي حول تلك القلنسوة البيضاء الذاهبة إلى الأعلى على شكل صنوبري أثرا ما في ذلك الإيحاء الغامض الذي يستشعره الناظر إليه. بيد أن أكبر أسرار شخصيته كامن في عينيه.. إن لعينيه هاتين لشكلا خاصة ذا تأثير عميق.. فهما متوسطتا الفتحتين وبياضهما تمازجه حمرة من نوع يكاد يكون خاصا وفي سواد إنسانيهما تحدث دقيق يبعث إلى عين الرائي بإشعاع حاد أشبه بمحرق شديد التركيز.. وإذا نظرت إلى الشيخ كله وهو منتصب في جبنه القصيرة خيل إليك أنك تنظر إلى ممثل غير ناجح يعرض دور شيخ على المسرح!.(2/366)
ومهما يكن فقد وجد أبو جميل في الشيخ فويضل ضالته التي لم يحلم بأسعد منها، وهو في ظله مطمئن الضمير يملؤه اليقين أنه قد استقر على الطريق الموصل إلى الله. ولم يكن هذا شعوره وحده فقط، بل إنه كذا شعور زوجنه وشقيقته اللتين سبقتاه مراحل في التسامي الروحي، فلم يشغلهما شاغل عن دروس الشيخ، ولا يصرفهما شيء عن حلقات الذكر التي يخصصها عادة للنساء..
ومن أجل هذا كان سرور الأسرة بالغا عندما جاء الشيخ يطلب يد فاطمة شقيقة أبي جميل لأخيه.. فقد اعتبر هذا الطلب منه لفتة كريمة.. ولم يكتم أبو جميل تقديره لهذه النعمة الإلهية, فراح يؤكد لزوجته وشقيقته.. أنها لفرصة ليس أسعد منها الزيادة القرب من سيدنا الشيخ!.
.. وكان أبو جميل يعالج في نفسه فكرة لم يستقر منها على وجه منذ عشاء أمس.. وذلك حين سمع الشيخ يحض على الإنفاق في سبيل الله.. ويذكر الناس أن أحب الصدقة عند الله ما يقدم عن طريق الشيخ.. وأن عليه تبعات كثيرة لا سيبل إلى النهوض بها إلا بمعونة المريدين.. ولقد رأى الكثيرين يستجيبون لهذه الدعوة فيقدمون تبرعاتهم السخية لأمين الشيخ، إلا هو فقد أخر تبرعه ريثما يقطع بالمبلغ الذي يجب أن يدفعه. أما الآن فقد اهتدى إلى أفضل الوجوه. أليست دنانيره المائتان ذخرا ليوم الحاجة!! وأي مكان أصلح للادخار من سبيل الله..
فليدفع بدنانيره جميعا إلى يد الشيخ الذي لا عمل له إلى القيام بحقوق الله.. وحسبه وزوجته ما يجري عليه من مرتبه التقاعدي الذي يربو على مائتي ليرة سورية.. وهو مبلغ يكفيهما ويزيد.. ما دامت فاطمة ستكون زوجة لشقيق الشيخ, تعيش في بحبوحة من البركة التي لا خير يضاهيها..
وما هو إلا أن أحرز موافقة زوجته وشقيقته على الأمر, حتى عمد إلى تنفيذه عملا بالحكمة المأثورة: (خير البر عاجله..)(2/367)
وهكذا, وفي اليوم نفسه حقق أبو جميل رغبته الخيرة, فقدم إلى الشيخ مائتي ذهب, ليضعها حيث يشاء من وجوه الخير، وأبلغه موافقة شقيقته على أن تكون زوجة لأخيه.. بل خادما في المطبخ..
-2-
كانت مباركة حقا تلك الصلة التي ربطت بين أسرتي الشيخ وأبي جميل عن طريق المصاهرة, إذ أتاحت للفريقين فرصا للتزاور لم تكن من قبل.. وقد تلطف الشيخ فأعطى فاطمة من قربه فوق المنتظر, فهو قلما ينقطع يوما واحدا عن زيارتها في بيت أخيه الذي قليلا ما يأوي إليه في أوقات متباعدة بسبب غيابه أكثر الأيام خارج المدينة.. وهذه دون ريب نعمة كبيرة من حق فاطمة التي يحسدها عليها الكثيرات من مريدات الشيخ.. وليس حظ أبي جميل وزوجته منها دون ذلك إذ أصبح يعيرهما من الاهتمام أضعاف ما ألفياه قبلا.. وقد خصص لزيارتهما حصة من يوم الجمعة الذي وقف زياراته على أولي الأرحام.. فهو بذلك يعتبرهما منهم وهذا ضرب من التكريم أكبر مما يستحقان.
على أن ثمة ظاهرة جعلت تقلق خاطر أبي جميل وزوجته وقد بدأت بعد أسابيع قليلة من زواج فاطمة.. هذه التي نشأت في حجرهما ومنحاها كل ما في قلبيهما من حنان الأبوة..
إنهما يألمان أشد الألم إذ يرينها فريسة لهزال شديد يكاد يذهب بكل نضارتها المعهودة! لقد نزلت دار الحاج سليم شقيق الشيخ وهي كالزهرة في ذروة التفتح فما تلمحها عين امرأة إلا ضربت أنفها إعحابا بجمالها, وراحت تعيذها من السوء بألف صلاة على النبي.. أما الآن فقد اعترى الزهرة ذبول مفاجئ أوشك أن يطفئ وهج الصبا في ذلك الجسد الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة إلا أياما قليلة!
ولم يكن يسيرا معرفة السبب في هذا التغيير السريع.. ذلك أن فاطمة تجاهلت ما يقولونه في هذا الصدد وحاولت التأكيد أنها غاية ما يرام في عشها الجديد!..(2/368)
وكان على أم جميل أن تخلو بها تستكشف أمرها, لعل ثمة سببا نسويا تستطيع أن تعالجه أو ترشدها إلى علاجه.. ولكن عبثا, فلم تزد فاطمة على جوابها الأول شيئا!
وأخيرا كان التفسير الوحيد الذي استقرت عليه خواطر أبي جميل وزوجته في شأن فاطمة هو أنها تسرف على نفسها في التهجد وقيام الليل وفي الصوم.. وكل هذا من شأنه أن يصير بصاحبه إلى مثل هذا الشحوب.. لذلك جعلا يذكرانها بما يجب على المرأة في حق زوجها من حيث العمل بمرضاته, فلا تأتي من نوافل العبادات إلا ما يوافقه عليه. ولا شك أن المجاهدة إلى هذا الحد ضارة بجسدها الذي لا يجوز لها أن تفرط به, إلا في الحدود التي لا تزعج نظر الزوج..
وكانا يحسبان أن الأمر سينتهي بمجرد هذا التذكير.. ولذلك تضاعف قلقهما إذا استمرت صحة فاطمة بالتدهور, وبدا عليها بعد أيام وجوم صرفها إلى صمت طويل, لا تكاد تخرج عنه إلا لضرورة قصوى!..
وكان هذا كافيا لحمل أخيها وزوجته على الإلحاح في استكشاف أمرها، إلحاحا لم تستطع المقاومة له فإذا هي تنفجر بالبكاء ثم تقول في صوت مرتجف: "إنني سأموت قريبا إذا ظللت في هذا البيت! "على أن هذه الكلمة لم تزد الأمر إلا تعمية.. فزادها استيضاحا واستمر في إلحاحهما، فلم تتمالك أن تقول في شبه ذهول: "إنه الشيخ..يراودني على نفسي..! "
وفرك أبو جميل عينيه ومسح جبهته، بينما كانت امرأته فخذيها بقوة، وخرج صوتهما معا يرددان: الشيخ!! الشيخ..
وأتم أبو جميل عبارته: هذا مستحيل.. مستحيل يا فاطمة
واستأنفت زوجته تقول: لا بد أنك رأيت هذا في الحلم!..
ولكن فاطمة لم تعد تطيق هذا التردد فأجابت في إصرار وهي تشد على كل حرف: "بل يقظة.. لقد بدأ يعبث بصدري يزعم رقيتي.. فتمالكت وأحست به الظن.. حتى راح يسمعني من الكلام ما يزلزل الأرض.. ولا يزال حتى اليوم يحاول محاولته القذرة!.."(2/369)
وصمتت قليلا لتسترد أنفاسها.. ثم رفعت عينيها إلى السماء ضارعة: "يا إلهي!.. لا أحد يصدقني فأنقذني.. أنقذني أنت..! "
-3-
لم يغمض لأبي جميل جفن طوال ليلته وقد اختلط عليه الأمر بادي الرأي فما يدري أفي يقظة هو أم في حلم متصل..
لقد شلت الخواطر القلقة قواه الواعية فشغلته حتى عن أوراده المنظمة، وهاهي مسبحته ذات ألف حبة مكومة لم تمسها يد وهي المرة الأولى التي يهجرها منذ عدة أشهر!.
إنه ليطلق العنان لتصوراته فيستعيد ما سمعه من فاطمة ثم يحاول أن يحاكمه أو يناقشه فلا ينتهي إلى قرار.. وكيف يستطيع القطع بصحة ما سمع وفي ذلك القضاء على أعز أمانيه وأحب ملذاته الروحية..
ذلك البناء الضخم من الثقة والحب والكرامات، تريد فاطمة أن تحطمه بل تريد أن تمحه بكلمة!. إنه لأمر فوق قدرته.. إنه لا يستطيع الاستسلام في سهولة لهذه التهم التي ربما لا تتجاوز الأوهام ولكن فاطمة.. إنها فاضلة بل آية في الفضل والتقوى.. فكيف يعقل أن ترمي شيخها جزافا بمثل هذه الكبائر؟!.. وإنها لكبائر لو صحت لا سمح الله لطعنت سمعتها هي أيضا!..
مستحيل.. مستحيل أن يفعل الشيخ ذلك!.. مستحيل أن تتهم فاطمة نفسها وشيخها بشيء لم يقع!.. إذن فلا بد أن تكون على توهم.. على خطأ في فهم ما حدث!.(2/370)
وأطرق قليلا.. وجعلت أصابعه تعبث على غير هدى في أسفل لحيته التي بلغ عمرها اليوم ستة أشهر وجعل يحدث نفسه: لماذا نسرع في قبول التأويلات الظاهرية لتصرفات هؤلاء السادة!.. إنهم بطبيعة مسلكهم غرباء عن دنيا الناس فلا غرو أن يسيئوا تفسير أحوالهم.. وهذه كتبهم المعتبرة تفيض بأخبار أولياء.. كانوا عجبا في مخالفتهم لظواهر الشريعة والآداب العامة!.. كما طالعه بذلك أمس كتاب (القطب الصمداني) الذي يسميه (الطبقات الكبرى) !.. حتى ليذكر بوضوح أنه قرأ ما قرأ من هذه الغرائب في الصفحة الخامسة والثلاثين بعد المئة ثم الخمسين بعد المئة من جزئه الثاني.. كأنما يطالعها الساعة!..
أجل.. إنها لصور عجيبة من كرامات أهل الله.. يتنكر لها الجاهلون من أهل الظاهر، ولكن أصحاب الباطن هم وحدهم الذين يعرفون، فلا تصرفهم مفارقات الشريعة عن موافقات الحقيقة!..
والشيخ - قدس الله سره - أليس واحد من أولئك الأشخاص الذين اصطفاهم الله من الأمكنة والأزمنة والأشخاص.. فلماذا نجيز لأنفسنا محاسبته على بوادر من كلمات وحركات لا بد أن تكون معانيها فوق مستوى أفهامنا..!
أن من (أدب الطريق) متابعة الشيخ دون التفات.. لأن كل انصرف عنه نزعة من عمل الشيطان.. ولا ريب أن حوادث الشيخ اليوم مع فاطمة لا تعدو أن تكون ضربا من هذه الأحوال الغامضة على أمثالنا، وكل تشكك في شأنها إنما هو ضرب من الوسواس، يطلقه الشيطان في طريقنا لينغص علينا صفاء الاستسلام!.(2/371)
ولقد سمع الشيخ قبل أيام وفي إحدى حلقاته الخاصة يحدث تلاميذه - وهو أحدهم -عن أهمية هذه المتابعة في تربية المريد. ومن الأمثلة التي قصها آنئذ عليهم خبر ذلك المريد.. الذي أنبأه شيخه أن أمه تضطجع مع رجل، فعليه أن يذهب حالا ليأتيه برأسه.. فلم يلبث أن مضى إلى الدار وعلى الرغم من أنه وجد أباه هو المضطجع مع أمه لم يتردد من تنفيذ أمر الشيخ فاحتز رأسه وجاء به ليضعه بين يديه وهو يقول: "هاهو الرأس يا سيد الشيخ.. ولكن لا تنس أنه أبي!..". وهنا أمره الشيخ أن يعيد النظر إلى الرأس فإذا هو رأس رجل آخر وإنما كان تمثيله شكل أبيه من عمل الشيطان الذي اتخذ من ذلك وسيلة لدفع المريد إلى معصية الشيخ. فكان المريد بطاعته لشيخه أقوى من الشيطان!
ولقد كان لهذه القصة وقعها العميق في قلوب سامعيها.. أزالت منها كل أثر للتردد في وجوب الطاعة. ولعل أبا جميل نفسه كان أشد تأثرا بها واعتزاما لتحقيقها في سلوكه مع شيخه.. فما له الآن يسمح لوسواس الشيطان أن يراوده فيسمع في شيخه مثل هذه الريب المستحيلة ومن ثم يسمح للشك أن يتطرق إلى ثقته في وقت هو أحوج ما يكون إلى التشبث به!!
كلا.. كلا.. إنها من عمل الشيطان.. وليست مهمة المريد إلا مجاهدة النفس بإعدادها للانتصار على نزعات الشيطان..
ولكن.. فاطمة.. إنها والله لفاضلة.. وهي تقول: إنه عبث بصدرها وأنه فاتحها بطلب السوء!! نعوذ بالله. أفتكذب فاطمة في ذلك؟..ولماذا؟..
-4-(2/372)
وتفتقت ذاكرة أبي جميل عن أشياء وأشياء.. وتذكر فيما تذكر تلك الاتهامات الخبيثة التي طالما سمعها من أعداء الشيخ، يروجونها عنه ليفسدوا ثقة الناس به سمعهم يتهمونه باستنزاف أموال مريديه ليشتري بها المزيد من المتاع والعقار.. حتى إنهم لم يتورعوا عن اتهامه بسحب السجادة التبريزية الكبيرة من المسجد ليزين بها منزله.. بل لقد جاوزوا ذلك إلى ميدان السياسة.. قاتل الله السياسة ومن يشتغل فيها.. فرموه بتأييد الملاحدة، وإطراء الشيوعية ومساندة الطغاة من الحكام، مقابل سكوتهم على مفاسده.. وإغضائهم عن سلبه أموال المساكين والمخدوعين..!
ولم يستطع الاستسلام طويلا لهذه التصورات.. وامتلأت نفسه بالاشمئزاز من هؤلاء الأعداء وراح يهمس: ألا قبحا لهؤلاء المفترين!.. لقد سمموا الجو من حول الشيخ.. وهاهم أولاء الآن يكادون يسممون نفسي بهذه المفتريات.. التي لا وجود لها إلا في مخيلاتهم!..
ولم يستطع - وهو يعلن هؤلاء الخصوم - إلا أن تعجب من براعتهم في اختلاق العيوب للشيخ حتى اسمه نفسه لم يسلم من هؤلاء الخبثاء، فراحوا ينسجون حوله الأقاصيص زاعمين أن أباه سماه فاضلا ولكن الناس الذين رأوا مناقبه فيما بعد نقلوه إلى فويضل!! استصغارا لشأنه واستنكارا لمسلكه. ولكنهم بدون ريب كاذبون.. كاذبون.. ولعن الله الكاذبين!
وهنا وجد نفسه يتساءل: ولكن أحقا لا وجود لهذه الأشياء خارج مخيلات هؤلاء!؟ ألا يحسن بالإنسان أن يفكر ويبحث! وهل مجرد التفكير في مثل ذلك يعد من عمل الشيطان..
ومرة أخرى تتفتق ذاكرته.. ويتذكر ويتذكر.. يتذكر أن الشيخ قد سافر فعلا إلى موسكو.. وعاد ليحدثهم عن الإسلام الظافر هناك وعن سعادة المسلمين في ظل الشيوعية.. أفكان يصف الواقع أم كان - كما زعم مبغضوه - تاجرا يؤدي ما قبض ثمنه..(2/373)
ثم يذكر أن الشيخ قد أيد أحد الطغاة الملاحدة.. إذ كان يتصيد ذكره تصيدا أثناء الحلقات ليدعوا له ويسمع مريديه يدعون له.. لأنه في رأيه الرجل الذي ينهض الإسلام على يديه.. فلما هزم الطاغي انصرف إلى تمجيد خالعيه.. ثم لم يدع بعد غاصبا إلا بالغ في إطراء فضله ونشر الطيب من ذكره.. والناس - هؤلاء المفترين - مع ذلك يقولون: إن الشيخ يداهن القوم للمنفعة وأن كل ما تعانيه البلاد من البلاء إنما يعود إلى جرائم أولئك الذين كان الشيخ يروج لهم الدعاية في أوساط المغفلين من هؤلاء المريدين!!
ولقد رأى بعينه تلك السجادة الهائلة التي طال حديث الدساسين عنها رآها في دار الشيخ تغطي أرض البهو جميعا.. ولا شك أنها جلبت من المسجد نفسه.. ولكن.. لم يحسبون ذلك سيئة للشيخ وهو إنما وضعها هناك لاستقبال المصلين أنفسهم.. أليس مريدوه كلهم من ذلك المسجد.. وبالتالي أليست داره بمثابة الجامع وأكثر.. فأي فرق إذن بين أن تكون هذه السجادة هنا أو هناك. إنها من بيت الله لبيت الله والحكم في الحالين واحد.. وقبح الله المضللين..
وحسب أبو جميل أنه قد تغلب على كل ريبة في صاحبه.. ولم يدر أنه قد أطلق لشكوكه العنان، تهدم في نفسه وتبني كما يشاء..
إنه لواقع تحت شعور غريب يشبه ما يحسه الغريق عندما يرتفع رأسه فوق الماء.. وخيل إليه أن في الحياة أشياء كثيرة فاته النظر إليها من قبل على كثرة ما مر بها ورآها.. فهو الآن كسالك الصحراء يتطلع إلى البعيد فيرى السفن والقوافل والفرسان والنخيل.. وعشرات المرئيات الجميلة.. بيد أنه كلما دنا من موقع الرؤية أخذت هذه المنظورات بالتلاشي حتى لا يبقى منها شيء.. ومن الناحية الأخرى هو كالمحدق في أبعاد الأفق.. يلمح نقاط سواد خلال طبقات الغمام فلا يعيرها التفاتا ولكنها لا تلبث أن تتضح كلما صفا الأفق فإذا هي أخيرا سرب عريض من قاذفات القنابل تملأ بأحجامها وهديرها الفضاء..(2/374)
وهنا فوجئ أبو جميل بصوت المؤذن يدعو الناس إلى صلاة الفجر.. فنهض من مقعده على الشرفة ليردد معه أنشودته الحية في تأثر بالغ ثم ما لبث أن غادر مع زوجته البيت متجهين نحو المسجد القريب.
وبدلا من أن يعودا إلى بيتهما عقيب الصلاة أخذ طريقهما في الاتجاه الآخر.. وعلى مدخل بيت فاطمة خاطب أبو جميل زوجته قائلا: ستعودين بها إلى البيت حالا.. أما أنا فسأدخل على فويضل ولن أعود حتى أسترد أموالي..(2/375)
لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية
بقلم الطالب: صالح بن سعيد بن هلابي
لا بد للدارس لحياة ابن تيمية من معرفة الأحوال الفكرية والاجتماعية والسياسية في عصره حتى يأخذ وينظر من خلال تلك الحالة إلى حياة ذلك الإمام العظيم، فقد كان عصره وهو القرن السابع والثامن الهجري يموج موجا بالأفكار الدخيلة على الأمة الإسلامية حيث تشعبت الأفكار واختلفت الآراء في كثير من المسائل الشرعية وخاصة مسائل العقيدة التي يبنى عليها أساس كل شيء.
فقد عاصر بن تيمية فرقا كثيرة من الفرق الإسلامية التي شطحت وابتعدت عن الحق ونابذت أهل الحق في كثير من المسائل الأصولية.
وأكثرها امتدت جذورها إلى دينات أخرى من نصرانية ويهودية ووثنية جاء الإسلام على إنقاذها أو إبطالها من أساسها فمن شيعة إمامية على اختلاف مشاربها وتباعد ديارها، ومن رافضة غلاة أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي ومن معتزلة فلسفية حكمت العقل وحده، ومن جبرية مستسلمة يقولون إن الإنسان لا إرادة له وأنه كالريشة في مهب الرياح تصرفه كيف يشاء..
ومن منتسبة للأشعري آمنت ببعض الصفات وأنكرت بعضها أو أولتها ونصبت نفسها الفرقة الوحيدة التي تمثل أهل السنة والجماعة.
كل هذه الأفكار والفرق عاش ابن تيمية كل حياته في خضمها يجاهد بقلمه ولسانه ويدافع عن جوهر العقيدة الإسلامية دفاع المستميت المتفاني في سبيلها، فقد كتب عن الشيعة والروافض كتابا ضخما عظيما في أربع مجلدات سماه ((منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)) وهو رد على كتاب ((منهاج الكرامة)) لمؤلفه ابن مطهر الحلي الشيعي المتوفى سنة 726هـ وقد كتب ابن مطهر كتابه هذا بصفة خاصة إلى الملك (الجايتو خدابنده) وهو أحد الملوك الإيلخانية ومن أحفاد الملك ((جنكير خان)) يدعوه فيه إلى مذهب الشيعة الإمامية.(2/376)
وقد تناول ابن تيمية فيه أصول مذهبهم وتصدى للتفصيل والبسط فيه بعقلية جبارة مؤمنة يعرف كيف يضع النقاط على الحروف ويضرب على المحز من حيث لا يشعرون فرد مذهبهم إلى جذوره الأصيلة التي يبنون عليها فقد كان بحق نقض كلامهم وتهافتهم في كل باب يفتحونه على أنفسهم ولا يستطيعون إغلاقه..
ابن تيمية والصوفية الفلسفية:
تطورت فكرة التصوف والصوفية في عهد ابن تيمية إلى أفكار خبيثة تهدم الإسلام هدما صريحا وتقيم وثنية فلسفية باسم الزهد والولاية والكرامة فقد تحول مفهوم التصوف الدال على الصفاء وتزكية النفس - وإن كان أصل الاسم من أساسه خطأ - تحول هذا مفهوم إلى المفهوم آخر وهو القول بوحدة الوجود أو بمعنى آخر حلول الله في بعض مخلوقاته - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وقد تزعم هذا القول وأعلنه في كتبه العديدة ومن أشهرها كتاباه ((الفتوحات المكية)) و ((فصوص الحكم)) ذلك الملحد الخبيث أبو بكر محي الدين بن عربي الطائي الأندلسي ومن أقواله الكافرة:
الرب حق والعبد حق
يا ليت شعري من المكلف؟؟
إن قلت عبد فذلك رب
أو قلت رب أنى يكلف؟؟
فسر هذا الكلام عند أتباعه الذين يتبعونه وهم لا يدركون حقيقته بأن فيه رموزا وإشارات لا يدركها أهل الشرع، وإنما هي للخواص وخواص الخواص، وأصبح له أتباع في ذلك العصر وهم الذين لا يدركون حقيقة هذا الكفر، ثم جاء من بعده ابن الفارض يفلسف مذهب الحلول على رأيه ويدعي الألوهية في بعض الأحيان.
ومن أقواله الكافرة:
لها صلواتي في المقام أقيمها
وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ناظر إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أداء كل ركعة(2/377)
رأى ابن تيمية هذا الكفر البواح ودعوى الألوهية والتفكير الفلسفي الوثني الذي ما كان خطر ببال أحد من المشركين والوثنيين الجاهليين في الجاهلية الأولى بل كانوا مع عبادتهم لغير الله تعالى يؤمنون بأن الله رب السماوات والأرض وأنه هو الرزاق الخالق فهذا زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي يقول:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وهو القائل:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطي يعمر فيهرم
فأين هذا القول من قول ابن عربي وابن الفارض وغيره من الملاحدة في ذلك العصر. رأى بن تيمية هذا الانحطاط في الفكر حيث أخذ يسري في الأمة وأصبح يشار إلى هؤلاء بالبنان تارة التصوف والزهد وتارة باسم الكرامة والولاية. فثار ثورته وانقض عليهم كالأسد يردُّ على أقولهم الباطلة وأخذ يردها إلى أصولها الوثنية القديمة ويشهرها في الناس حتى يكونوا على بينة من أمرهم. والواقع لم يكن ابن تيمية وحده الذي كفَّر ابن عربي وغيره من هؤلاء بل هناك من كبار علماء من أهل السنة وغيرهم من كفر ابن عربي وألفوا فيه الرسائل العديدة أو ذكروه في تراجم كتبهم مثل الحافظ بن حجر العسقلاني في لسان الميزان وأبي حيان المفسر في تفسيريه ((البحر والنهر)) قال شيخ الإسلام بن دقيق العيد: "لي أربعون سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جوابا بين يدي الله تعالى، وقد سألت شيخنا سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام عن ابن عربي فقال: "شيخ السوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا". وقد بالغ ابن المقري فحكم بكفر من شك في كفر طائفة ابن عربي. فهؤلاء أئمة الصوفية الحلولية وَجَدَ ابن تيمية أقوالهم منتشرة في العامة والخاصة إلا من عصم الله وقليل ما هم.
مناظراته ودفاعه عن العقيدة:(2/378)
اشتهر أمر ابن تيمية وذاع صيته في العامة والخاصة وأصبح يشار إليه بالبنان وتعقد له المناظرات فلا يستطيع أحد أن يقف أمامه أو يناظره إلا أفحمه وقطع لسانه ومن هنا دب الحسد والحقد إلى قلوب مخالفيه وأعدائه وفي هذه الفترة بالذات وفي سنة 698 هـ يأتيه سؤال في العقيدة من حماة في مسألة صفات الله عز وجل فأجاب السائل في عدة كراريس وهي المعروفة اليوم بالرسالة ((الحموية)) جاء في أولها: "قولنا في الصفات ما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.."إلى أن قال: "ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وصفاته من هؤلاء الأصاغر أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل لقرآن والإيمان؟؟ ". وقد شنع عليهم في هذه الرسالة أعظم تشنيع وبين سقطاتهم وتهالكهم في هذا الباب فحين انتشرت هذه الفتاوى بيت العامة والخاصة ومضى عليهم زمن طويل لم يسمعوا هذا الكلام قام عليه الحساد من أهل الطوائف ومن جعل علم الكلام والفلسفة يفضل كلام الله ورسوله في الاستدلال ورموه بما هو منه بريء كبراءة الذئب من دم يوسف ولكن الذي يلفت النظر أن أحدا منهم لم يستطع أن يرد عليه أو يناظره إنما شكوه إلى القاضي جلال الدين الحنفي وهو أشعري المذهب أو ماتريدي وأرسل القاضي في طلب الشيخ ابن تيمية فلم يحضر إنما رد عليه في رسالة قائلا: "إن العقائد أمرها ليست إليك وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي وحده". وفي يوم الجمعة اجتمع القاضي وبعض فقهاء المذاهب بالشيخ وناقشوه في عقيدته وحصلت لهم مناظرة أمام الناس فأجابهم شجاعة وبسالة(2/379)
ولم يستطع أحد أن ينال منه في هذه المرة.
وفي السنة 705 هـ في شهر رجب قامت محنة أخرى على هذا الإمام الجليل من قبل الطوائف المعادية وبعض الفقهاء وذلك بسبب انتشار فتوى في العقيدة على أثر سؤال جاءه من أرض واسط وبين فيها مذهب السلف في الصفات ورد على المتكلمين والمؤولين والمحرفين والمشبهين فقامت قومتهم واشتكوه في هذه المرة إلى السلطان وإلى قصر السلطان جاء شنكير وأحضر الأمير نائب السلطان بالشام الفقهاء ة العلماء وأحضر الشيخ ابن تيمية إلى مجلس نائب السلطان على أن يعقد لهم مناظرة ويسأله عن اعتقاده وحين بدأ الشيخ يجيب ويدافع عن عقيدة الحق ويشرح الذي دفعه إلى كتابتها كان يقاطع أثناء كلامه لئلا يتمكن من إيضاحها للحاضرين هو يقول لنائب السلطان: "لو أن يهوديا طلب من السلطان الإنصاف لوجب عليه أن ينصفه وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو بل قد أطلب الإنصاف منه وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون علي ليحاكموا على افترائهم ... " إلخ ما قاله رضي الله عنه ولولا ضيق المجال لسقنا المجادلة بكاملها.
وفي نفس السنة ثارت ثورة طائفة تسمى بالأحمدية ثارت على الشيخ ابن تيمية وحضر جماعة منهم يشتكون الشيخ إلى نائب السلطان وأن يكف عنهم ويتركهم وشأنهم وما هم عليه وخالصة أعمالهم أنهم يستعملون السحر ويتعاطون بعض الأشياء الشيطانية ويدخلون النار أمام الناس بزعمهم أن هذه الأعمال ولاية أكرمهم الله بها، فانبرى لهم ابن تيمية في المجلس وقال: "إن هذه أحوال شيطانية باطلة وأكثر أحوالكم من باب الحيل والبهتان ومن أراد منكم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام ويغسل جسده غسلا جيدا ثم يدلكه بالخل والإشناق ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقا ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته بل هي حالة من أحوال الدجاجلة المخالفين للشريعة".(2/380)
فقال شيخ منهم: "نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع". قال ابن كثير: "فضبط عليهم الحاضرون تلك الكلمة وكثر الإنكار عليهم من كل أحد". وألف ابن تيمية بعد هذا المجلس فيهم كتابا سماه شيوخ الأحمدية أو الطريقة الأحمدية بيَّن فيه مذاهبهم ومن أين أخذوا هذا السحر وأظهر حكم الإسلام فيهم وفي أمثالهم من المشعوذين، ولقد عاصر ابن تيمية هذه الفرق وأعطى كل قسم حقه ولم يدخر وسعا في كشف حقائقهم وأباطيلهم ولم يعرف عنه التواني أو المداهنة أو المراوغة بل كان سيفا مسلولا على هذه الفرق الضالة التي أفسدت عقيدة الأمة الإسلامية وكادت أن تذهب بها أدراج الرياح..(2/381)
مؤتمر القمة الإسلامي
نائب رئيس الجامعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فإن من تأمل القرآن الكريم الذي أنزله الله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين يجد فيه بيانا شافيا لعوامل النصر وأسباب التمكين في الأرض والقضاء على العدو مهما كانت قوته ويتضح له أن تلك الأسباب والعوامل ترجع كلها على عاملين أساسيين وهما: الإيمان الصادق بالله وبرسوله والجهاد الصادق في سبيله ومعلوم أن الإيمان الشرعي الذي علق الله به النصر وحسن العاقبة يتضمن الإخلاص لله في العمل والقيام بأوامره وترك نواهيه كما يتضمن وجوب تحكيم الشريعة في كل أمور المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يتضمن أيضا وجوب إعداد ما يستطاع من القوة للدفاع عن الدين والحوزة ولجهاد من خرج عن الحق حتى يرجع إليه.
أما العامل الثاني وهو الجهاد الصادق فهو أيضا من موجبات الإيمان ولكن الله سبحانه نبه عليه وخصه بالذكر في مواضيع كثيرة من كتابه وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر به الأمة ورغبها فيه لعظم شأنه ومسيس الحاجة إليه لأن كثير من الخلق لا يردعه عن الباطل مجرد الوعد والوعيد بل لابد في حقه من وازع سلطاني يلزمه بالحق ويردعه عن الباطل ومتى توفر هذان العاملان الأساسيان وهما:(2/382)
الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله لأي أمة أو دولة كان النصر حليفها وكتب الله لها التمكين في الأرض والاستخلاف فيها وعد الله الذي لا يخلف وسنته التي لا تبدل وقد وقع لصدر هذه الأمة من العز والتمكين والنصر على الأعداء ما يدل على صحة ما دل عليه القرآن الكريم وجاءت به سنة الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام وكل من له أدنى إلمام بالتاريخ الإسلامي يعرف صحة ما ذكرناه وأنه أمر واقع لا يمكن تجاهله وليس له سبب إلا ما ذكرنا آنفا من صدق ذلك الرعيل الأول في إيمانهم بالله ورسوله والجهاد في سبيله قولا وعملا وعقيدة وإليك أيها الأخ الكريم بعض الآيات الدالة على ما ذكرنا لتكون على بينة وبصيرة ولتقوم بما تستطيعه من الدعوة إلى سبيل ربك وتنبيه إخوانك المسلمين على أسباب النصر وعوامل الخذلان ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . وقد أجمع أهل التفسير على أن نصر الله سبحانه وتعالى هو نصر دينه بالعمل به والدعوة إليه وجهاد من خالفه ويدل على هذا المعنى الآية الأخرى من سورة الحج وهي قوله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر} . وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . ولا ريب أن المؤمن هو القائم بأمر الله المصدق بأخباره المنتهي عن نواهيه المحكم لشريعته وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وقال عز وجل في بيان صفات المؤمنين(2/383)
المتقين: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّاب ِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} تأمل يا أخي هذه الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة ثم حاسب نفسك بتطبيقها حتى تكون من المؤمنين الصادقين والمتقين الفائزين ولا ريب أن الواجب على كل من ينتسب إلى الإسلام من ملك أو زعيم أو أمير أو غيرهم أن يحاسب نفسه وأن يجاهدها على التخلق بهذه الأخلاق الكريمة والعمل بهذه الأعمال الصالحة وأن يلزم من تحته من الشعوب بهذه الأخلاق والأعمال التي أوجبها الله على المسلمين وأن يصدق في ذلك ويستعين بالله عليه وأن يولي الأخيار الذين يعينونه على تنفيد أمر الله ورسوله حسب الإمكان وأن يعضدهم حسب الإمكان وأن يتعاون مع غيره من الملوك والزعماء والأعيان في هذا الأمر الجليل الذي به عزتهم ونصرهم وتمكنهم في الأرض كما قال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال سبحانه في سورة الأنفال آمرا لعباده بإعداد القوة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ(2/384)
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} . وأمرهم بالحذر من الأعداء ومكائدهم فقال تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} وقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} فانظر يا أخي هذا التعليم العظيم والتوجيه البليغ من فاطر الأرض والسموات وعالم السرائر والخفيات الذي بيده تصريف قلوب الجميع وبيده أزمة الأمور يتضح لك من ذلك عناية الإسلام بالأسباب وحثه عليها وتحذيره من إهمالها أو الغفلة عنها ويتبن لك من ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن يعرض عن الأسباب أو يتهاون بشأنها كما أنه لا يجوز له الاعتماد عليها بل يجب أن يكون اعتماده على الله وحده موقنا بأنه سبحانه هو الذي بيده النصر وهذا هو حقيقة التوكل الشرعي وهو الأخذ بالأسباب والعناية بها مع الاعتماد على الله والتوكل عليه وقد نبه الله سبحانه على هذا المعنى في عدة آيات منها قوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ(2/385)
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فذكر التقوى أولا وهي أول الأسباب لأن حقيقتها طاعة الله ورسوله في كل شيء وإن ذلك الأخذ بالأسباب الحسية والمعنوية والسياسية والعسكرية ثم ذكر التوكل فقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . أما الجهاد الصادق فذكره سبحانه في عدة آيات وذكر ما يترتب عليه من النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة وبيَّن صفات المجاهدين الصادقين ليتميزوا من غيرهم فقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فتأمل أيها المؤمن هذه الصفات العظيمة للمجاهد الصادق حتى يتضح لك حال المسلمين اليوم وحال المجاهدين السابقين وحتى تعرف سر نجاح أولئك وخذلان من بعدهم وأنه لا سبيل إلى إدراك النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة إلا بالتخلق بالأخلاق التي أمر الله بها ودعا إليها وعلق بها النصر وقد(2/386)
أوضحها الله سبحانه في كتابه المبين في هذه الآيات التي ذكرناها وغيرها وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وقد جمع الله سبحانه في هذه الآيات أسباب النصر وردها إلى عاملين أساسيين وهما الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ورتب على ذلك مغفرة الذنوب والفوز بالجنة في الآخرة والنصر في الدنيا والفتح القريب وأخبر سبحانه أن المسلمين يحبون النصر والفتح ولهذا قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} فإذا كان ملوكنا وزعمائنا في مؤتمرهم هذا يرغبون رغبة صادقة في النصر والفتح القريب والسعادة في الدنيا والآخرة فقد أوضح الله لهم السبيل وأبان لهم العوامل والأسباب المفضية إلى ذلك فما عليهم إلا أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة مما سلف من تقصيرهم وعدم قيامهم بما يجب عليهم من حق الله وحق عباده وأن يتعاهدوا صادقين على الإيمان بالله ورسوله وتحكيم شريعته والاعتصام بحبله وجهاد الأعداء صفا واحدا بكل ما أعطاهم الله من قوة وأن ينبذوا المبادئ المخالفة لشريعة الله وحقيقة دينه وأن يعتمدوا عليه سبحانه دون غيره من المعسكر الشرقي أو الغربي وأن يأخذوا بالأسباب ويعدوا ما استطاعوا من قوة بكل وسيلة أباحها الشرع وأن يكونوا مستقلين ومنحازين عن سائر الكتل الكافرة من شرقية وغربية متميزين بإيمانهم بالله ورسوله واعتصامهم بدينه وتمسكهم(2/387)
بشريعته..
أما السلاح وأصناف العدة فلا بأس بتأمينها من كل طريق ومن كل وسيلة لا تخالف الشرع المطهر والله المسؤول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا المؤتمر مباركا وأن ينفع به عباده وأن يجمع به شمل المسلمين ويصلح قادتهم ويوفق المجتمعين فيه لما فيه رضاه وعز دينه وذل أعدائه ورد الحق المسلوب إلى مستحقه ونبذ ما خالف دين الإسلام من مبادئ وأخلاق إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان.
نائب رئيس الجامعة(2/388)
مع الصحافة
نقلا عن مجلة الحضارة الإسلامية
نشرت مجلة حضارة الإسلام التي تصدر من دمشق المقال التالي وذلك في العدد الرابع آب/أيول 1969م:
أحشفا وسوء كيلة
هذا مثل تضرب به العرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين، فمثل من يكون كذلك مثل من لا يكتفي ببيع أردأ أنواع التمر - وهو الحشف - وإنما يجمع إلى ذلك سوء الكيل أيضا. والذي أعنيه كائن وراء هذا الذي أقول، فأنت واجد إذا أنعمت النظر أن هناك صنفين من البشر تبدو في سلوكهم صلة القربى مع هذا المثل الواضح المستبين.
أما الصنف الأول: فهو أولئك الناس الذين يقعدهم جهلهم أو عجزهم عن تحمل تبعات الإسلام في صفاته ودعوته إلى استقامة العمل والوقوف عند حدود الله عز وجل.. فيُحَمِّلُون الإسلام نفسه حصيلة جهلهم أو عجزهم عن الاستقامة على الطريق التي قد تكون من الوعورة بحيث يهابها ضعاف النفوس، ويرهبها الذين يثقلهم حب الشهوات والعافية والطمع في العاجلة والغرض والقريب. فبدلا من التنقيب عن المرض الذي به قعدوا عن مسايرة ركب الإسلام والأمانة في التزام حدوده, تراهم ينعون على الإسلام أنه غير صالح للحياة، أو أنه لا يساير ركب التطور..أو..أو.. وقد يذهلك التعداد بشعبه الشيطانية وألوانه المخزية.
ولو أن هؤلاء النفر من الناس استطاعوا أن يتحرروا - ولو بعض الشيء - من عبوديتهم لغير الله جل وعز، وتزودوا بشيء من المعرفة، وأضاءت نفوسهم بقبس من نور التقوى والهداية لسلم لهم وضوح الرؤية وأبصروا الأمور على حقيقتها وأدركوا أن العلة لا تكمن في هذا الدين الذي أكمله الله وأتم به النعمة ورضيه لعباده أجمعين. وإنما تكمن في أنفسهم هم ولأيقنوا أنهم في موطن العلة التي باضت وفرَّخت في عقولهم وحولت طاقاتهم إلى نزوات وشهوات.(2/389)
فهؤلاء الصنف من البشر بدل أن يستأنفوا الطريق لإصلاح الخطأ يجمعون إلى جهلهم أو عجزهم اتهام الإسلام تبرئة لنفوسهم الجاهلة العاجزة المريضة وتسويغا لما يكون من انحرافهم عن جادة الصواب والعياذ بالذي قال في كتابه - وهو أصدق القائلين -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
أما الصنف الثاني فهو أولئك الذين يمثلون ظاهرة التخلف عن طريق الإسلام في دعوته إلى العلم والمعرفة، والالتزام النفسي أمام انتصارات أولئك الذين يمسكون اليوم بزمام الحضارة الحديثة وقد جمعوا العلوم المادية من أطرافها، وباتوا يطالعون العالم كل يوم بحديد.
فهؤلاء لا يحملون جهلهم وانهزامهم ويسكتون, بل يحاولون أن يتمسحوا بأذيال الإسلام فيفترون عليه الكذب بما يكون من قالتهم: "الدين لا يرضى بالصعود إلى القمر - مثلا - وهذا أمر يجوز, وذلك في نظر الإسلام لا يجوز.."إلى آخر ما ترى وتسمع من الجود بالفتاوى وطرح الأحكام.(2/390)
ويا عجبا لأمر الجهل ماذا يصنع بصاحبه، يورده موارد الهلكة ويسلكه في قطيع التائهين.. ولو أن الأمر في تصرف الجاهل يقتصر على دائرة شخصية ضيقة لهان الخطب ونفعت الحيلة، ولكن الأمر يتعدى إلى دائرة أوسع وأشمل هي دائرة الجماعة, والطامة الكبرى في أولئك الذين يلصقون بالدين زورا وبهتانا ما ليس منه ويفترون عليه ما هو منه براء, الدين الذين قام عليه كيان الأمة وغذى تاريخها الحضاري - بل تاريخ الإنسانية -عبر قرون وقرون هذا الدين.. يحاول بعض الناس أن يكسوه لباسا نسيجه جهلهم وبلاهتهم ليبنوا للجهالة صرحا الذي يضمن استمرارهم على ما هم عليه وليسوغوا ذلك الانحراف الذي يتسربلونه، حين باتت العودة إلى مفهومات الإسلام الصحيحة والتزود بشيء من العلم والمعرفة من الأمور التي يتجافون عنها، وكأنما ضرب بينهم وبينها بسور لا يقضى عليه حتى يَلْفَظُوا أنفاسهم فيستريحوا ويريحوا, وتبارك الذي أنزل فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
وأود - بجانب ذلك - أن أؤكد على التنبه إلى الالتزام النفسي الذي أشرت إليه من قريب؛ لأنه أمر في غاية الخطورة على حياة الأمة حين ننظر إلى الأمد البعيد ونحاول أن نضع القضية في إطارها الطبيعي.(2/391)
ولعل ذلك كله هو السر الذي يكمن وراء الغثاء الذي تلقيه بعض الأفواه باسم الدين وتلقيه بعض الحناجر على منابر المسلمين في موضوعات تعرض - فيما تعرض - لأحدث مرحلة علمية وصل إليها فكر هذا الإنسان المخلوق حين استطاع - بعد أن زحف مئات ومئات الألوف من السنين - أن يصعد إلى القمر الذي قدره الله منازل والذي تفصله عن كوكبنا الأرضي مسافة تبلغ أربعمائة كيلومتر أو تزيد. والذي يحز في النفس أن هذا الغثاء يتمثل في قول بعضهم: "الصعود إلى القمر حرام". وقول آخرين من قبل: "هذا أمر لا يمكن أن يكون". وأمر ثالث بعد هذا كلِّه هو ما أصاب بعض النفوس الجاهلة أو المريضة من تعب حيال القضية الإيمانية الكبرى في وجود الله وقدرته سبحانه وتعالى, ناسين أنه عز وجل هو القاهر فوق عباده وأنه هو بكل شيء محيط وأنه هو الذي أودع في الكون ما أودع من خصائص وسخر ذلك للإنسان.
إلا أن القول بهذا كلِّه أو بشيء منه جهل بالعلم والإسلام معا, ولو ذكرنا أن الإسلام بدأ رسالته على الأرض بقوله تعالى: {اقْرَأ} ، وأن الآيات التي تكرم العلم وتحث عليه بلغت الحد الوافر في كتاب الله تعالى وأن رسول الله كان من وظيفته في هداية الناس كونه يعلمهم الكتاب والحكمة ويخرجهم من الظلمات إلى النور وأن في أحاديثه عليه الصلاة والسلام الكثير الكثير من النصوص التي تكرم العلم العلماء وأن ما وراء فرض العين من العلوم هو فرض كفاية ويشمل كثيرا من العلوم التجريبية التي تلمس آثارها اليوم عند أعدائنا الذين أمسكوا بزمام الحضارة الحديثة بلا أخلاق وسخروا شعوب العالم لأهوائهم وسلطانهم وما يبتغون.
وأن القرآن جعل طريقا واسعة رحبة من طريق الإيمان بالله التدبر والتفكر في السموات والأرض والنظر فيهما وفي هذا الخلق العجيب الذي تنزه عن التفاوت والعيب، كما أراد له الله أن يكون.. نعم لو ذكرنا ذلك - واليسير منه يكفي - لما كان هذا الذي نشكو منه اليوم.(2/392)
فياليت شعري كيف يمكن أن يكون النظر إن لم يكن هنالك علم؟ وكيف يمكن أن يكون هناك تدبر إن لم يكن هنالك معرفة تساعد على هذا التدبر؟ إن القرآن دل العربي في الماضي على ما يمكن أن يدركه كما نرى مثلا في قوله تعالى جَاعِلاً النظر طريق الإيمان: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} باعتبار أن الناقة لها ما لها من أثر في حياة العربي في مطعمه ومشربه وسفره وراحته وما إلى ذلك، وظلت أمور كثيرة وكثيرة لا يظهر إعجاز القرآن فيها إلا العلم الذي يصل إليه العقل البشري مرحلة بعد مرحلة.
فأنى لنا أن نقول: "هذا يجوز وهذا لا يجوز". مع أن التدبر في آلاء الله مرتبط بالإيمان أتم ارتباط. والمفروض بالمؤمن العاقل أن يزيد إيمانه ويقوى يقينه بمثل هذا.. إن اكتشافنا لجانب صغير صغير من مخلوقات الله تبارك وتعالى لا يحملنا في الشك في وجود الله وإنما يزيد يقيننا بوجوده وعظمته سبحانه والاعتراف بأن هذا النظام في المجموعة الشمسية وغيرها لا يمكن أن يصدر إلا من خالق عليم حكيم مبدع له الخلق والأمر.
إلا أن الإسلام لا يهاب العلم لأنه دعا بحرارة إليه ولا يرهب ما يصل إليه العقل البشري من اكتشاف لكوكب أو كواكب من هذا الخلق البديع الذي لا ترى فيه من تفاوت, لأنه جعل النظر والتدبر والتفكر طريق الإيمان - والحمد لله - وهذه خاصية تميز بها الإسلام.
وأكثر من هذا لقد كان المفروض أن تصل أمتنا إلى هذه المرحلة قبل هؤلاء الناس بعدة قرون أن لو ظللنا مع الإسلام وسلم لنا خطنا البياني في صعود صاعد بما يشرق عليه من ضياء هذا الدين الذي تربّى في ظله آلاف الرجال الذين كانوا يتقربون إلى الله تعالى بما يخطون للأمة من معالم المعرفة. وعلى ما ضاع من تراثنا على أيدي التتار الصليبيين والفتن والحروب ما تزال الآثار في المخطوط والمطبوع شاهدة على هذا الذي نقول ولن تعدم الدنيا منصفا - ولو مع الأعداء - يعترف بذلك.(2/393)
فبدلا من الانهزام والتوكؤ الجاهل على الدين وتلبيسه الثوب المفترى لا بد من الشعور بمزيد من المسؤولية والمحاولة الجادة لاستئناف الطريق الواعية التي تعي كل شيء قدره في ظل الإسلام ولن ترضى الأمة أن يكون فينا أناس يحاولون باسم الدين أن يضمنوا الاستمرار على حساب جهل الأمة بدينها وبناء قصور من الأوهام والخيالات والخرافات باسم الدين, والدين من هذا كال براء.
إن التاريخ ما يزال ينعى على أولئك الذين كانوا ينتسبون إلى غير الإسلام في أوروبا ويحاولون أن يحاربوا العلم باسم الدين لأن بقائهم فيما هم عليه بسلطانهم وسيطرتهم على الناس مرهون بأن يظل هؤلاء الناس يغطون في سبات عميق من الجهل والخرافة والانحراف. كان ذلك يوم كانت يد الإسلام العالمة العارفة الحكيمة القوية في مشرق عالمنا الكبير ومغربه تشق جيوب الظلام في العالم كله.
مرة ثانية نقول لهؤلاء وأولئك: أحشفا وسوء كيلة!! ألا لا يجمعن الجاهل إلى جهله بالإسلام والعاجز إلى عجزه عن متابعة طريق الإسلام إلقاء التبعة على الإسلام. ألا يضمن أولئك الجهلة والمنهزمون في أعماقهم إلى هذا البلاء أن يستخدموا الافتراء وسيلة لاستمرار وجودهم وكيانهم والإسلام دين العلم والمعرفة والنور.
ألا وليعلم الرواد الذين أكرمهم الله بوافر من الإيمان والهدى أن جانبا كبيرا من التوعية يقع على عواتقهم في مثل هذه الأمور فدعوة الإسلام لا يتجزأ وبناء متكامل كما أراد الله أن يكون.
ومعقد الأمانة في هذا الباب أن من المنكر أن تقبله نفس مؤمن أن ينضم إلى بلاء هذه الأمة في ديارها وأرضها بلاء تأصيل الجهالة واعتبارها من الإسلام باسم الحفاظ على الدين وتقوى الله عز وجل ليكون للأعداء ما يريدون من بقاء الأمة في الوهدة التي عليها اليوم.(2/394)
إنه لا بد أن تمسك الأمة بالزمام من جديد وذلك بموالاتها حقائق الإسلام في العلم والمعرفة والإفادة بوعي وأمانة مما عند الآخرين وجعل العلم والمعرفة في طاعة الله وتحقيق رسالة الإنسان، كيما يستأنف مسلم اليوم طريق مسلم الأمس فلا تتقطع الجسور بين مسلم الغد وبين الذين حملوا رسالة طريق المعرفة - معتزين بإسلامهم - إلى العالمين. وجل الذي قدَّر فهدى وتبارك الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم وسبحان الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(2/395)
مقتطفات [1] من كتاب الثقلاء
للشيخ محمد العبودي
للشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعة
كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا استثقل رجلا يقول: "اللهم اغفر له وأرحنا منه"وكان الإمام الأعمش - واسمه سليمان بن مهران - إذا رأى ثقيلا قال: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} .
وقيل للأعمش: "لما عمشت عيناك؟ " قال: "من نظري إِلى الثقلاء! ".
وذكر اليوسي أن بعض الثقلاء استأذن على ابن المبارك فلم يأذن له فكتب إليه ذلك الثقيل:
هل لذي حاجة إليك سبيل
لا طويل قعوده بل قليل
فأجابه ابن المبارك:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل
وقليل من الثقيل طويل
وقال سفيان بن عيينة: قلت لأيوب السختياني: "ما لك لا تكتب على طاووس؟ "قال: "أتيته فوجدته بين ثقيلين".
ونقل عن السدي المفسر أنه قال: "لقد ذكر الله الثقل في القرآن في قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ! ".
وكان لابن سيرين رحمه الله خاتم مكتوب عليه: أبرمت فقم. . فإذا استثقل إنسانا دفعه إليه!.
وذكر الزمخشري أن الشعبي رحمه الله عاده ثقيل, فأطال الجلوس ثم قال: "ما أشد ما مر عليك في مرضك؟ "فقال الشعبي: "قعودك عندي! ".
وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير المعوذتين: "ومنهم من مخالطهم حمى الروح, وهو الثقيل البغيض الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك, ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك, ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، بل إنه إن تكلم فكلامه كالعصا تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه وفرحه به. فهو يحدث من فيه كلما تحدث. ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض". ثم قال ابن القيم:(2/396)
"ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما جلس إلى جانبي ثقيل، إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر. ورأيت يوما عند شيخنا - يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية - رجلا من هذا الضرب, والشيخ يتحمله، وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إلي وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع. ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة أو كما قال".
وحدث العباس بن بنان قال: "كنا عند أبي بكر بن عياش يقرأ علينا كتاب مغيرة، فغمض عينيه، فحركه أحدنا وقال له: "تنام يا أبا بكر؟ ". فقال: "لا، ولكن مر ثقيل فغمضت عيني! "
وأنشد الخفاجي عن الزاهد بن عمران:
إلمام كلَّ ثقيل قد أضر بنا
نريد نَقْصَهُمُ والشر يزداد
ومن يخف علينا لا يُلمّ بنا
وللثقيل على الساعات ترداد
وروى عن محمد بن خلف بن الززبان عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "من أمن الثقيل فهو الثقيل".
وروى بسنده أيضا عن علي بن الحسن قال: كان أبو أسامة إذا أبصر ثقيلا قال: "قد تغميت السماء! "
وعن ابن سنان القطان قال: "كان وكيع إذا جلس إليه ثقيل، غمض عينيه، وقام عنه! ".
وعن عبد الله بن شبرمة، قال: سمعت الشعبي ينشد:
ومن الناس من يخفّ ومنهم
كرحى البزر ركبت فوق ظهري
وذكر عبيد الله بن عمر أن يحيى بن سعيد - رحمه الله - جاءه مرة رجل يستثقله, فقال لي: من بالباب؟ فقلت: فلان, فصك رأسه بأصابع يديه كلها، وقال: يا أبا سعيد، جبل، جبل! فلما انصرفت مررت بالرجل وهو جالس على الباب فلا أدرى أذن له أم لا.
وروى سلمة بن شبيب قال: سمعت أبا أسامة يقول: إيتوني بمستمل خفيف على اللسان, خفيف على الفؤاد, إياي والثقلاء, إياي والثقلاء!
كلمة بليغة(2/397)
يحكى أن الفيلسوف الإغريقي (ديوجيتر) ارتفع فوق هضبة عالية وصاح: "يا أيها الناس. فلما سارعوا إليه واجتمعوا حوله، هز رأسه وقال: لما أنادكم..إنما أنادي الناس".
كتاب: يا أيها الإنسان
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ذكرنا تخريج المقتطفات مع نسبتها إلى مصادرها المطبوعة والمحفوظة في مكانها من الكتاب الذي لا يزال محفوظا.(2/398)
من تاريخ المذاهب الهدامة
كتاب أسرار الباطنية (2)
بقلم محمد بن مالك اليماني
وقد رأيت أيها الناس وفقنا الله وإياكم للصواب وجنبنا وإياكم طرق الكفر والارتياب أن أذكر أحبال هذه الدعوة الملعونة لئلا يميل إلى مذهبهم مائل ولا يصيبو إلى مقالتهم لبيب عاقل ويكون في هذا القدر من الكلام في هذا الكتاب إنذار لمن نظره، وأعذار لمن وقف عليه واعتبره.
باب: اعلموا يا إخواني في الإسلام أن لكل شيء من أسباب الخير والشر والنفع والضر والداء والدواء أصولا، وللأصول فروعا، وأصل هذه الدعوة الملعونة التي استهوى بها الشيطان أهل الكفر والشقوة ظهور (عبد الله [1] بن ميمون القداح) في الكوفة، وما كان له من الأخبار المعروفة والمنكرات المشهورة الموصوفة، ودخوله في طرق الفلسفة واستعماله الكتب المزخرفة، وتمشيته إياها على الطغام ومكيدته لأهل الإسلام.(2/399)
وكان ظهوره في سنة ست وسبعين ومائتين من التاريخ للهجرة النبوية، فنصب للمسلمين الحبائل وبغى لهم الغوائل ولبس الحق بالباطل {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ، وجعل لكل آية من كتاب الله تفسيرا ولكل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلا، وزخرف الأقوال وضرب المثال، وجعل لآي القرآن شكلا يوازيه ومثلا يضاهيه. وكان الملعون عارفا بالنجوم معطلا لجميع العلوم {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . فجعل أصل دعوته التي دعاها وأساس بِنْيَتِه التي بناها الدعاء إلى الله وإلى الرسول ويحتج بكتاب الله ومعرفة مثله وممثوله والاختصاص لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالتقديم والإمامة والطعن على جميع الصحابة بالسب والأذى، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله من سب أصحابي" [2] . وقال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" [3] . وقال صلى الله عليه وسلم: "من سب أصحابي [4] فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ومن سب الله كبه الله على وجهه في النار". فأفسد بتمويهه قلوب الجهال وزين لهم الكفر والضلال وله شرح يطول فيه الخطاب غير أني أختصر. وفيما أشرحه كفاية واعتبار لأولي الألباب والأبصار. وكان هذا الملعون يعتقد اليهودية ويظهر الإسلام، وهو من اليهود من ولد الشلعلع من مدينة بالشام يقال لها سلمية [5] ، وكان من أحبار اليهود وأهل والفلسفة الذين عرفوا جميع المذاهب وكان صائغا يخدم (شيعة) إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وكان حريصا على هدم الشريعة المحمدية لما ركب الله في اليهود من عداوة الإسلام وأهله والبغضاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يروجها يدخل به على الناس حتى يردهم عن الإسلام ألطف من دعوته إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه(2/400)
وسلم وكان قد خرج في أيام قرمط [6] البقار - وكان اسمه أو لقبه لأنه كان يقرمط في سيره إذا مشى [7]- ولذلك نسب أهل مذهبه ومذهب بن ميمون إلى قرمط لأنهما اجتمعا وعملا ناموسا يدعوان إليه وكانا يعرفان النجوم وأحكام الزمان فدلهما الوقت على تأسيس ما عملاه فخرج ميمون إلى الكوفة وأقام بها مدة وله أخبار يطول شرحها مما كان منه ومن علي بن فضل والمنصور صاحب مسور وأبي سعيد الجنابي وأنا أشرح ذلك عند انتهائي إليه إن شاء الله تعالى وأما قرمط البقار فإنه خرج إلى بغداد وقتل هناك لا رحمه الله.
باب ذكر ما كان من القداح وعقبه لعنه الله وتعلق بسببه ودخل ضلالته ومذهبه:
وكان أول أولاده "عبيد" [8] وهو "المهدي"ثم "محمد"وهو "القائم"ثم "الطاهر"إسماعيل المنصور ثم "المعز"ثم "العزيز"ثم "الحاكم"ثم "الظاهر"ثم "معد المستنصر" [9] هؤلاء الذين ينسبون إليه إلى عصرنا هذا فانتسبوا إلى ولد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وانتحالهم انتحال كاذب وليس لهم في ذلك برهان وأهل الشرف ينكرون ذلك فإنهم لم يجدوا لهم في الشرف أصلا مذكورا ولا عرفوا لهم في كتاب الشجرة نسبا مشهورا بل الكل يقصيهم عن الشرف وينفيهم عن النسب إلا من دخل معهم في كفرهم وضلالتهم فإنه يشهد لهم بالزور ويساعدهم في جميع الأمور وقد زعموا أنهم ولد محمد إسماعيل بن جعفر الصادق وحاش لله ما كان لمحمد إسماعيل من ولد ولا عرف ذلك من الناس أحد بل هم {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} .(2/401)
الدليل على ذلك وعلى بطلان ما ذكروه أنهم يقولون معد المستنصر بن الظاهر ابن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي وهو عبيد [10] بن ميمون ثم يقولون ابن الأئمة المستورين من ولد إسماعيل بن جعفر الصادق فإذا سألهم سائل عن هؤلاء المستورين حادوا عن الجواب [11] وكان للسائل لهم الارتياب. وقالوا هم أئمة قهروا فتستروا ولم يؤمروا بإظهارهم ولا ذكرهم لأحد وهذا من أعظم الشواهد على بطلان ما ذكروه وانتسبوا إليه.
والدليل على أنهم من أولاد اليهود استعمالهم اليهود في الوزارة والرياسة وتفويضهم إليهم تدبير السياسة ما زالوا يحكِّمون اليهود في دماء المسلمين وأموالهم وذلك مشهور عنهم يشهد بذلك كل أحد.
باب خروج ميمون القداح من سلمية إلى الكوفة:
وقد ولد له عبيد وهو الذي يسمونه عبيد الله المهدي فأقاما بالكوفة مدة طويلة حتى تهيأ لهما ما كانا يطلبان وإلى أن أجابهما إلى ذلك تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون منهم علي بن فضل الجدني اليماني، وأبو القاسم ابن زاذان الكوفي المسمى المنصور عند كونه باليمن في مسور وأبو سعيد الجنابي صاحب الأحساء والبحرين وأبو عبد الله الشيعي صاحب كتامة في المغرب والحسن [12] بن مهران المسمى بالمقنع الخارج فيما وراء النهر من خرسان ومحمد بن زكريا الخارج في الكوفة ولا بد أن أذكر أصح خبر كل منهم مختصرا إن شاء الله تعالى:
باب في ذكر أبي سعيد الجنابي لعنه الله:
كان فيلسوفا ملعونا ملك البحرين واليمامة والأحساء وادعى فيها أنه المهدي القائم بدين الله فاستفتح ... [13] ودخل مكة وقتل الناس في المسجد الحرام ومنع الناس من الحج واقتلع الركن وراح به إلى الأحساء وقال في ذلك شعرا:
ولو كان هذا البيت لله ربنا
لصب علينا النار من فوقنا صبا
لأنا حججنا حجة جاهلية
مجللة لم نبق شرقا ولا غربا
وإنا تركنا بين زمزم والصفا(2/402)
جنائز لا تبغي سوى ربها ربا
وله لعنه الله أشعار في ذلك تركتها اختصارا وكان دخوله مكة سنة سبع عشرة وثلاثمائة وقتل فيها ثلاث عشر ألفا عليه لعنة الله.
باب ذكر الحسن بن مهران المعروف بالمقنع:
خرج فيما وراء النهر وله أخبار شنيعة وكان حكيما فيلسوفا ملعونا ذكروا أنه عمل قمرا بالطلسم يطلع في السنة أربعين ليلة ولقد كنت أكذب ذلك حتى صححه لي جماعة من أهل خراسان وذكروا أنه بنى حصنا وعمل فيه لولبا فكان المسلمون إذا أتوا لقتاله قذفوا بالحجارة ولا يدرون من أين يقذفون فمال إليه خلق كثير حتى بعث الله عليهم بغلام حكيم فأمر المسلمين أن يحفروا حول الحصن فوقعوا على اللوالب فأخرجوها ودخلوا عليه فقتلوه وقيل إنه أحرق نفسه قبل دخولهم عليه فأمكن الله سبحانه وتعالى منه.
باب ذكر محمد بن زكريا لعنه الله:
أحسب أن اسمه زكرويه بن مهرويه القرمطي وكان قد خرج بالكوفة فخرج إليه المكتفي أمير المؤمنين من بني العباس فقتله لعنه الله ولا رحمه.
صدقة مقبولة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق. فقال: الهم لك الحمد على سارق؟. لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية. فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية. فقال: اللهم لك الحمد على زانية؟. لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني. فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني؟؟. فأتي فقيل له: أمَّا صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأمَّا الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأمَّا الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله".
متفق عليه..(2/403)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المصنف يذكر ميمونا مرة وابنه أخرى كما هنا وقد جارينا على الأصل في ذلك، وفيما يسوقه من أنبائهما هنا بعض المخالفة لما ذكره عبد القهار في (الفرق) وابن النديم في (الفهرست) والمقريزي في (الخطط) وغيرهم فكل منهم دوَّن ما بلغه من الأنباء وفي تمحيص ذلك كله طول.
[2] ولفظ الطبراني عن ابن عباس مرفوعا: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وفي سنن الترمذي: "إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقالوا: لعنة الله على شركم". وفي الباب أحاديث يعضد بعضها بعضا.
[3] أخرجه رزين وله طرق ضعيفة.
[4] ولفظ أم سلمة عند أحمد: "من سب عليا فقد سبني".
[5] سلمية: بليدة بالشام من أعمال حمص.
[6] قرمط: وهو حمدان بن الأشعث وكان خروجه سنة 264 كما يذكره بن المهذب. وكان ظهور الجنابي بالبحرين سنة 286.
[7] يعني يقارب بين خطواته. ومنهم من يقول إنه كان أحمر البشرة فلقب بقرمط و (كرمت) الآجر في اللغة الرومية فعرب وقيل قرمد ثم قرمط.
[8] إليه تنسب دولتهم فيقال الدولة العبيدية بمصر ويتورع أهل التحري من تلقيب دولتهم بالفاطميين حيث لم يثبت نسبهم المزعوم كما حققه أهل التحري من ثقات المؤرخين.
[9] والمستنصر هذا توفي سنة 487هـ فيكون المؤلف من أواسط القرن الخامس.
[10] لم أر من جعل عبيد بن ميمون مباشرة والمشهور أنه سعيد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون، خرج سعيد هذا متنكرا إلى مصر ثم إلى المغرب فادعى هناك أنه علوي فاطمي بعد أن ادعى قبل ذلك أنه عقيلي وتسمى هناك أيضا عبيد الله وتلقب بالمهدي حتى تم له ما هو مشروح في التواريخ.(2/404)
[11] ومن المعروف عند المؤرخين أن المعز العبيدي لما قرب إلى مصر بعد فتحها بمعرفة قائده وخرج الناس تلقائه اجتمع به جماعة من الأشراف فقال له أحدهم: "إلى من ينتسب مولانا؟ ". فقال له المعز: "سنعقد مجلسا ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا". فلما استقر المعز بالقصر جمع الناس في مجلس عام وجلس لهم وقال لهم: "هل بقي من رؤسائكم أحد؟ ". فقالوا: "لم يبقى معتبر". فسل عند ذلك نصف سيفه وقال: "هذا نسبي". ونثر عليهم ذهبا كثيرا وقال: "هذا حسبي". فقالوا جميعا: "سمعنا وأطعنا". وفي المحضر الذي أصدره أهل العلم ببغداد سنة 402هـ " ... أنهم أدعياء لا نسب لهم في ولد علي رضي الله عنه.."ومن جملة من وقَّع عليه الشريفان الرضي والمرتضى وأبو محمد الأكفاني القاضي أبو محمد الإسفرايني، وأبو حسين القدوري وغيرهم من كبار الأئمة. وهذا حكم شرعي يجب أن يخضع له ولو أعطي أحد هؤلاء الدنيا بحذافيرها لما حكم بما يخالف الحق والصدق عندهم كما لا يخفى على من درس سيرهم، والشعر المنسوب إلى الشريف الرضي غير متصور ثبوته عنه، ولم يكن القادر بالله بقادر على إكراههم على خلاف ما يرونه، وكلمة بن خلدون عن هوى خاص وكذا توهم المقريزي كما هو مبسوط في ((الإعلان بالتوبيخ)) للسخاوي.
[12] وله عدة أسماء عطاء وحكيم.
[13] هنا بالأصل نقص ولعل الناقص (ثم قتله خادم له صقلبي راوده في الحمام سنة 301هـ وتولى بعده ابنه الأكبر سعيد فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان بن الحسن بن بدان الجنابي حنى استفحل أمره.(2/405)
ندوة الطلبة
من ظلمات الوثنية إلى ضياء الإسلام
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
حينما كنت طالبا في كلية شبلي بمدينة أعظم كده منذ تسع سنوات تقريبا وقعت يدي على بعض الكتب التي تتعلق بقواعد الإسلام، فأقبلت على دراستها بكل رغبة واجتهاد، وأول كتاب قرأته هو ((الدين الحق)) المترجم باللغة الهندية لفضيلة الشيخ أبي الأعلى المودودي حفظه الله. وبدأ هذا الكتاب بقول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وكنت جاهلا بمعاني القرآن الكريم ومع ذلك فقد أثّرت ترجمة الآية في نفسي تأثيرا شديدا؛ لأني كنت أعتقد دين آبائي اعتقادا جازما أنه الحق والعداوة للإسلام كانت راسخة في قلوبنا نتيجة الاتهامات الكاذبة الشائعة لملوك المسلمين من قبل المؤرخين الهندكييين الذين كنا ندرس كتبهم في المدارس الحكومية، ويزعم هؤلاء المؤرخون إن المسلمين قد حكموا البلاد بالظلم والعدوان.
وهذا يتركز في أذهان الطلاب الهندكيين لأجل ذلك يجد الطالب نفسه مضطرا لمعاداة المسلمين وبغضهم.. وازدادت تلك العداوة حتى عمَّت البلوى وكنت ممن يكن البغضاء للمسلمين، فجعلت أبحث في الكتب الإسلامية عن الإسلام ليلا ونهارا لعلي أستطيع بذلك الطعن فيه، ولكن الأمر قد انعكس حينما أثَّرَت هذه الكتب في نفسي تأثيرا ألجأني إلى هجر الكتب الدراسية التي كنت أدرس في ذلك الوقت.
ومن المعلوم أن الدين الهندكي كان منذ آلاف السنين هو المصدر الوحيد للحضارة الهندية وأساس قوانينها، لذلك كنت في قلق واضطراب من ((ويدك وهرم)) وقد بقيت بضع سنين في هذه العصبة الجاهلية.(2/406)
والمؤرخون الهندكيين يكنون للمسلمين عداوة شديدة في صدورهم ويكشفون عنها الحجب في كتبهم التاريخية. أحيانا يطعنون في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الطاهرة بقولهم إنه كان راغبا في الحياة الدنيا ولذاتها وهذا الجهل المركب تركز في عقول الشباب الهندكيين.
ومهما يكن فإن عداوة الإسلام كانت من تراث آبائنا، فإذا نظرت إلى أحوال المسلمين لم أجد فيها ما يرغبني، فإنهم متخلفون من الوجهة الاقتصادية والوجهة الخلقية، لذلك كان معظم الناس يقولون أن الإنسان اليوم في أشد الحاجة إلى الهدى والرشاد ممن يهديه إليهما بعد أن ضل ضلالا بعيدا.
وبالجملة فإن جميع الأسباب لمعاداة المسلمين والإسلام كانت متوفرة لدى الطالب الهندكي، ولا يستطيع الطالب بمعلوماته القليلة الضيقة يبحث مباحث توصله إلى دين الحق، ويكشف عنه ظلمات اللبس وسحب الجهل إذ؛ ليس من المعقول أن تعتبر هذه المعلومات الضئيلة كافية لحل مسائل الحياة الإنسانية، فوجدت نفسي مضطرا للرجوع إلى (ويدك وهرم) ليطمئن قلبي بما أختار وأسير على الطرق القويم، لكن ما وجدت فيه إلا أساطير الأولين من عبادة النار والبحر والأشجار والأحجار وغيرها من الجمادات والبهائم التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فكيف بغيرها.
وأحيانا يعلل خلق الكون بصورة شنيعة قبيحة فيها رائحة منتنة يفر منها الإنسان اللبيب وهاأنذا أسوق إليك أيها القارئ الكريم بعضها:
يقول الدكتور تاراجند الفيلسوف الهندكي في كتابه: (فكرة ويد) : إن الأضحية (أي ذبح الحيوان) آية لصلاح العالم، وهي وسيلة القوة للخالق إذا تعب من الخلق وذهبت قوته فالملائكة يستردون هذه القوة بالأضحية فينزل بها المطر وتطلع بها الشمس ويأتي بها الطوفان لأن هذه هي السبب الوحيد الذي تتم به إرادة الخالق (ص30) .(2/407)
(وشو) : هو الإله الثالث في اعتقادهم، وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما وهو على كل شيء حفيظ، له أعين في جميع الجهات كلها، وله وجه في جميع الجهات، له أيد وأرجل كثيرة وهو وحده لا شريك له. (ريتي ويد 10-81-2-4)
وهو ذات واحدة يسمى برم برش - أفضل الناس - له آلاف الرؤوس وآلاف الأعين وآلاف الأرجل وهو محيط بجميع العالم ومنفصل عنه وكل ما كان وما يكون فهو صادر منه وهو مالك الحياة الأبدية ولا يعاقب على أي عمل يعمله لأن أعماله كلها خير.
(فكرة ويدانت) : يقول المفكر الهندوكي وويكانند في كتابه HINDUISM))
خرج هذا العالم من العدم إلى الوجود بإرادة الخالق، المادة والروح والخالق كل منها أزلي وقديم لا يجري عليها زمان ولا يأتي عليها حدوث تدوم الحياة كما يدوم الخالق وكذلك تدوم الفطرة ولكنها تتغير بتغير الزمن. أما الخالق فهو موجود في كل زمان ومكان عالم بكل شيء ليس له صورة حسية ولن يستطيع أحد أن يصل إلى رفعته إذا ادعى أحد لنفسه أنه الله فقد كفر به. (ص64-61)
(فكرة منو السمرتي) : إن هذا الكتاب هو المأخذ الأساسي لقانون الهنادك ودونك الباب الأول الذي يبحث فيه عن الخلق:
إن هذه الدنيا كانت غامضة لا توجد لها علامة ولا وسيلة يتوسل إليها ثم ظهر - برميشور - (إله الآلهة) بمادة التكوين وأراد أن يخلق خلقا من ذاته فخلق الماء وألقى فيه النطفة وأصبحت هذه النطفة بيضة فإذا - ببرهما - الخالق يخرج منها وكسر البيضة نصفين فخلق من أحدهما الجنة ومن الثاني الأرض والسماء وما بينهما والجنات الثمانية والبحور الهادئة، ثم خرج من فمه (براهمن) ومن عضده (جهري) ومن فخذه (ويسن) ومن رجله (شودر) فما دام براهما مستيقظا فالدنيا باقية وإذا أخذه النوم تقوم القيامة - من باب الأول إلى الخامس ثم العاشر -.(2/408)
(فكرة بران) يعد بران عند الهندكيين من الكتب المقدسة أسفاره أكثر من أن تحصى ولكن كله ينسب إلى ويدوياسي فاختلف أصحاب بران في خلق العالم وجاءوا بالقصص الماجنة البذيئة ودونك بعضعها:
يقول صحاب بران ((ديوي بهكوت)) الخالق لهذا العالم هو امرأة من شرى بور اسمها - شرى - وهي التي خلقت الآلهة الثلاثة المعروفين لديهم ((برهما)) (خالق الحياة) ((وشنو)) (الرازق) و ((مهيش)) (قابض الأرواح) .
لما أرادت هذه المرأة أن تخلق العالم وضعت إحدى يديها على الأخرى فإذا ببرهما خرج منها وأمرته أن يتزوجها فأبى لأنه اعتقد أنه ولدها فغضبت المرأة غضبا شديدا فأحرقته ثم أعادت عملها فخرج منها ((وشنو)) فأمرته أن يتزوج بها فأبى فأحرقته أيضا ثم أعادت العمل فخرج ((مهيش)) فأمرته أن يتزوجها فامتنع إلا بشرط وهو أن تغير صورتها وتأتي بصورة غيرها ففعلت ما طلب منها ثم طلب ((مهيش)) أن تحي أخويه اللذين أحرقتهما، فأحيتهما ثم طلب أن تخلق امرأتين يتزوج كل واحد منهما بواحدة ففعلت وتزوج كل واحد منهم بواحدة فهؤلاء الآلهة الثلاثة هم الذين خلقوا العالم ويديرونه (ستيسارتق بركاش الباب 11) .
وفي هذه الكتب المقدسة عندهم أفعال ينسبونها إلى الخالق لا يرضى أحد من الناس أن ينسب إليه - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - فكان مثلي بعد الدراسة ((ويدك وهرم)) كمثل رجل فر من المطر خوفا من البلل ووقف تحت الميزاب أو كما قال الشاعر العربي:
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وبعد ذلك انشرح صدري للخروج من دين آبائي وطرح العقيدة الجاهلية والدخول في الإسلام وسجدت شكرا لله القائل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام} .
الأمور التي حملتني على الدخول في الإسلام:
1- أن الإسلام ليس دينا موروثا عن الآباء بل هو لكل من يفتح له صدره.(2/409)
2- ليس في الإسلام فوارق جنسية ولا عصبيات جاهلية فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (الحجرات)
3- أن الأخوة الإسلامية في الإسلام مقدم على جميع علاقات النسب والوطن كما بين الله تعالى في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . (سورة التوبة)
4- أن الحديث العهد بالإسلام يصبح كواحد من عشيرة المسلم المولود في الإسلام قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} وإن العالم الإسلامي يعبر له وطنا حقيقيا مصدقا لقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت)
5- أن الإسلام قانون لجميع شؤون الحياة الإنسانية وهو يقدم أحسن حل في المشاكل الفردية والاجتماعية وقد أخطأ الذين يحصرون الإسلام في المساجد والخانقاهات والأربطة.
هذه الأمور المهمة الثابتة التي أدركت حقيقتها قبل تسع سنوات في الأيام الجاهلية وكنت على دين آبائي فاهتديت بحمد الله لتركه واتجهت إلى الإسلام بكل وجودي وهو حق لا يرتاب فيه عاقل فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام.(2/410)
ولما دخلت في الإسلام أصابني مصائب شتى {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} وصدق الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
المرحلة الأولى: أن والدي حرمني من التعليم العالي وأخرجني من ((مدينة أعظم كره)) وبعثني إلى ((كلكتا)) حيث صرت غريبا لا أجد فيها أحدا من المسلمين أعرفه ويعرفني ولكن الله يسر لي في غربتي من أرشدني وأعارني ما كنت في حاجة إليه من الكتب ولولا ذلك لكان إسلامي في خطر عظيم، والحقيقة أن هذه المرحلة كانت على أشد ما يتصور وبعد الوصول إلى كلكتا مباشرة بحثت عن مركز الجماعة الإسلامية فوجدته وحصلت على بعض الكتب الهندية المترجمة وبدأت أطالعها لأستعد للمرحلة الآتية. وقد اطمأنت نفسي بمصاحبة الشيخ عبد التواب حفظه الله في هذه المرحلة فأحمد الله الذي يسر لي الأمور إلى هذا الحد وأيضا أشكر المخلصين الذين ساعدوني كل المساعدة في اللحظات الخطيرة والله لا يضيع أجر المحسنين.
المرحلة الثانية: هذه المرحلة كانت مرحلة البحث والمناظرة مع النساك الهندكيين مع صغر سني وقلة علمي وبعدي عن المسلمين وكلما فكرة في البحث والمناظرة التي جرت بيني وبين النساك الهندكيين تعجبت كيف انتصرت عليهم وقد كانت القوى الكافرة متألبة على إسلامي على اختلاف مسالكها ومذاهبها.(2/411)
لا أذكر من أسألتهم إلا سؤالا واحد وهو قولهم: "لم تختارون الإسلام مع أن المسلمين في شدة وضيق وتفرق وفقر وبعد عن الأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة؟ "فأجبتهم قائلا: "ما اخترت الإسلام إلا بعد مطالعة قواعد الإسلام لا بدراسة أحوال المسلمين اليوم وإن كنتم في ريب منه فأعرضوا علي ما أشكل عليكم من أصل الإسلام وعقيدته". ولكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح فبهتوا وسكتوا وانقلبوا خائبين يلومون أنفسهم كما هي عادة المعاندين عند المحاولة فصدق عليهم قول الله عز وجل: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . فما كنت أرجع إلى بيتي إلا وقلبي مطمئن بالإيمان واستمر هذا البحث والنقد خمسة عشر يوما متوالية.
المرحلة الثالثة: ثم جاءت مرحلة الأذى والتعذيب التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر فمن أذاهم حبسهم الماء والطعام عني وانقضوا علي ضربا بالعصا والنعال فاستمروا بجهودهم شهرين متتابعين وبعد ما يئسوا من رجوعي إلى دينهم تآمروا على قتلي ولولا أن الله أنجاني منهم بلطفه الخفي لقتلوني شر قتلة، فيسر الله لي طريق الهجرة وهاجرت إلى مكان هادئ تاركا والدي والرفقاء والأصدقاء والكثير من العشيرة الأقربين لأحافظ على ديني وإيماني كل المحافظة بفرح وسرور، كما هاجر أبونا إبراهيم عليه السلام قائلا: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .(2/412)
المرحلة الرابعة: فلما خرجت من وطني مهاجرا إلى ربي ووصلت إلى بعد 400 كيلومتر غربا إلى بلدة بدايون أردت أن أقرأ القرآن وأتعلم اللغة الأردية فعينت مدرسا للغة الهندية والإنجليزية والتاريخ والرياضيات في مدرسة إسلامية صغيرة، وفي أوقات الفراغ كنت أتعلم القرآن. ولكن الهندكيين علموا بذلك سنتين ولم يرضوا بهذا فجاءت المؤامرات الأخرى. ووجدت نفسي مضطرا إلى الخروج من هذه الناحية إلى ناحية أخرى بعيدة عنها وهي مدارس في جنوب الهند وتبعد عنها بدالون ألفي ميل.
ولما وصلت إلى مدارس التحقت بمدرسة دينية معروفة تسمى ((بجامعة دار السلام)) وهي محاطة بالجبال والأشجار ذات بهجة ومنظر ممتع يسر الناظرين، ثم أصبحت طالبا رسميا في تلك المدرسة وهذه المدرسة تهتم بالتعليم والتربية متمسكة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فبذلك حفظني الله من التعصب للمذاهب واتباع الأهواء والفرق المبتدعة والطرائق الخرافية.
فطفقت أتعلم اللغة العربية وآدابها وعلومها والعلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه، وتعلمت شيئا من المنطق والفلسفة. واستمرت دراستي ست سنين، ثم بعد التخرج في المدرسة قدّمت طلبا للالتحاق بالجامعة الإسلامية إلى صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كي أنهل العلوم الشرعية من مناهلها الصافية فقبل الشيخ طلبي فسافرت من بلاد الهند إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سائلا الله تعالى أن يجعلني من الحنفاء المخلصين له الدين ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
الحرية
حين تكون الحاكمية العليا في مجتمع لله وحده متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررا كاملا وحقيقيا من العبودية للبشر.
ولا حرية في الحقيقة ولا كرامة للإنسان في مجتمع بعضه أرباب يشرعون وبعضه عبيد.(2/413)
المعالم / سيد قطب(2/414)
نعمة الأمن
بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بكلية الشريعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين..أما بعد:
فقد روى الترمذي وقال حسن غريب: من طريق سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا".
إن من أعظم نعم الله على عباده أن يصبح الإنسان آمنا على نفسه مطمئنا على عرضه، لا يخاف ظلم ظالم ولا جور جائر، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن من اجتمع له الأمن في وطنه والصحة في بدنه مع وجود قوت يومه فقد جمعت له الدنيا ولم يفته منها شيء حيث يقول فيما جاء من الأثر: "من أصبح منكم في آمنا في سربه، معفى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا"أي اجتمعت لديه أسباب النعيم العاجل، ولم يفته من مسرات الحياة شيء. والأمن في البلاد مع الصحة في الأبدان نعمة يجب أن تشكر فإن من فاتته هذه النعمة لم يسعد من الحياة من شيء ولذلك جاء في الحكم: "نعمتان مجحودتان الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان".(2/415)
وقد امتن الله تبارك وتعالى على أهل مكة في مواضع كثيرة في كتابه بنعمة الأمن ليلفت الناس إلى شكرها وينبههم إلى خطرها، وجعل ذلك آية من آياته وبرهانا من براهين عظمته وقدرته وألوهيته وربوبيته حيث يقول: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وكما قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون} . وكما قال عز وجل: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} . وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أسباب الأمن، وأن أساسها الإيمان بالله وعدم الظلم ولذلك قال في قصة إبراهيم عليه السلام حينما هدده قومه بأن أصنامهم ستسلبه الأمن: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم بيَّن أصول الأمن وأعظم أسبابه فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فإن العبد إذا آمن بالله عز وجل والتجأ إليه وامتنع عن المظالم كان حريا بوقاية الله من شرور أعدائه على حد قول الشاعر:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة
من الدروع وعن عال من الأطم(2/416)
وكما قال الشاعر:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهن آمان
وقد وعد الله تبارك وتعالى أهل الأديان والعمل الصالح أن يمكن لهم في الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا وفي ذلك يقول عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . كما وعد الله تبارك وتعالى كل من عمل صالحا من ذكر أو أنثى بالحياة الطيبة والتي يكون الأمن من أبرز مظاهرها حيث يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وقد نبه إبراهيم عليه السلام إلى خطر نعمة الأمن في البلاد فدعا الله تبارك وتعالى أن يجعل دار ولده إسماعيل آمنة حيث يقول عز وجل في دعوته: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} وكما قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} .(2/417)
وقد استجاب الله تبارك وتعالى دعاء إبراهيم عليه السلام فجعل دار إسماعيل عليه السلام حرما آمنا وجعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا وفي ذلك يقول: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} ، ووصفت مكة بأنها البلد الأمين حيث يقول: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} ، ما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تطبيق شريعة الإسلام، والعمل بأحكامه وتحليل حلاله وتحريم حرامه مما يورث البلاد أمنا، ويهبها استقرارا، فقد صح الخبر أن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانت أخت عدي قد أوصته أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: "أرى أن تلحق بمحمد فإن يكن نبيا فالسابق إليه فضل وإن يكن ملكا فأنت أنت". فلما قدم عدي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي ما يمنعك من الدخول في الإسلام؟ "ثم قال له: "والله ليتمن هذا الأمر حتى تسير الظعينة من صنعاء إلى الحيرة فلا تخاف من نفسها إلا الذئب"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد بين الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الأسباب السالبة للأمن الجالبة للخوف، فجعل منها محاربة دين الله وفي ذلك يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .(2/418)
كما تهدد تبارك وتعالى من كفر بنعمة الله أن يبدله من بعد أمنه خوفا وأن يلبسه لباس الجوع وفي ذلك يقول: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .(2/419)
ولقد أشار نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم إلى عظيم نعمة الأمن وطلب من قومه أن يشكروا الله عز وجل عليها، وأنذرهم بأنها ستسلب منهم إن لم يعترفوا لله عز وجل بها وفي ذلك يقول الله عز وجل حاكيا مقالة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم لقومه: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . ولقد ضرب الله تبارك وتعالى مثلا كذلك بلاد سبأ إذ كانوا يعيشون آمنين في بلاد لهم فيها آية جنتان عن يمين وشمال، فلما أعرضوا عن دين الله مزقهم كل ممزق وجعلهم أحاديث وفي ذلك يقول عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ. وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا(2/420)
قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .
عبد القادر شيبة الحمد
إني تذكرت والذكرى مؤرقة
مجدا تليدا بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
تجده كالطير مقصوصا جناحاه
محمود غنيم(2/421)
التراويح أكثر من ألف عام
الحلقة الأولى
بقلم الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
بحث تاريخي يحمل روح الفقهاء يقدمه فضيلة الكاتب للقراء. والموضوع في الحقيقة حساس يتقبل كثيرا من المناقشة ولا يزال يحتاج إلى كثيرا من البحث والتنقيب ولذلك فإن فضيلة المؤلف ببحثه هذا الجديد يثير الفرصة مرة أخرى لإيفاء (التراويح) حقها والهدف الأول والأخير هو الحق ولذلك فإنه ينتظر بفارغ الصبر آراء القراء وملاحظاتهم وفوائدهم حول الموضوع الذي سيستمر في حلقات متتابعة إن شاء الله.
(المجلة)
أولا: العهد النبوي:
لا شك أن ميدان التشريع وأصله إنما هو ما يكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن العصر النبوي هو عصر التشريع لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} , ولقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إلى غير ذلك من النصوص ويلحق بذلك عصر الخلفاء الراشدين لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
والتراويح وإن اختصت برمضان فإنها داخلة في عموم قيام الليل، وقد جاءت النصوص في عموم قيام الليل، وفي خصوص تراويح رمضان.
فمن عموم التهجد بالليل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} ، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} .
أما خصوص قيام رمضان فالواقع أنها وإن كانت أخص من قيام الليل من حيث الزمن، فهي أعم منه من جهة الطلب.
التدرج في مشروعية التراويح:
وبالتأمل في نصوص التراويح يظهر أنها أخذت سبيل التدرج والتطور التصاعدي وذلك كالآتي:(2/422)
أ - الترغيب المطلق: كما في حديث أبي هريرة عند مسلم وساقه البيهقي ج2ص492 ما نصه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". قال البيهقي: "رواه مسلم في الصحيح عن يحي بن يحي، ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك". ومثله عن أبي هريرة عند البيهقي، وقال: "رواه البخاري عن يحي بن بكير". فهذا ترغيب من غير تحديد بعدد ولا إلزام بفعل ولهذا قال أبو هريرة في سنن البيهقي: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيها بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
ب- ثم جاء التنصيص على أن قيامه سنة مفروضة بفرضية صيامه كما في حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه ذكر شهر رمضان فقال: "إن رمضان شهر افترض الله صيامه وإني سننت للمسلمين قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه". ففي هذا النص تدرج من مطلق الطلب إلى أنه سنة وزاد في قوتها اقتران سنية قيامه بفرضية صيامه كما تفيده دلالة الاقتران المعروفة في الأصول.
نتيجة هذا الترغيب:(2/423)
كانت نتيجة هذا الترغيب أن بادر الناس إلى قيامه أفرادا وجماعات يأتمون بمن معهم شيء من القرآن لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الناس يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان بالليل أوزاعا يكون مع الرجل شيء من القرآن فيكون معه النفر الخمسة أو الستة أو أقل من ذلك أو أكثر يصلون بصلاته"، قالت: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من ذاك أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي ففعلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى العشاء الآخرة فاجتمع إليه من في المسجد فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا طويلا، ثم انصرف فدخل وتركت الحصير على حاله، فلما أصبح النهار تحدثوا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن كان بالمسجد تلك الليلة، فأمسى المسجد زاخا بالناس فصلى بهم صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء الآخرة ثم دخل بيته، وثبت الناس فقال لي: "ما شأن الناس"فقلت له: "سمع الناس بصلاتك البارحة بمن كان في المسجد فحشدوا لذلك لتصلي بهم". قال: "اطو عنا حصيرك يا عائشة". ففعلت، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم غير غافل وثبت الناس مكانهم حتى خرج إليهم إلى الصبح فقال: "أيها الناس أما والله ما بت والحمد لله ليلتي غافلا ما خفي عليَّ مكانكم ولكني تخوفت أن يفرض عليكم اكفلوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا". رواه المروزي بهذا اللفظ ورواه البيهقي وذكر الليالي ثلاثا أو أربعا. وفي مجمع الزوائد عن جابر قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات وأوتر فلما كان القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا فلم نزل فيه حتى أصبحنا ثم دخلنا.." الحديث. وأصل الحديث في البخاري ومسلم. وفيه وفي السنن للبيهقي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام صلى في رمضان عشرين ركعة ولكنه ضعيف بأبي شيبة.(2/424)
ففي هذا الحديث على رواية المروزي قيام الناس مع من معه شيء من القرآن فهو تدرج من الترغيب إلى الاستناد المقرون بفرضية الصيام، إلى القيام بالفعل في المسجد مع من معه شيء من القرآن ثم خطوة أخرى وهي القيام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته وإن كان لم يشعر بهم على الصحيح كما في سؤاله عائشة: "ما شأن الناس" وقوله: "اطو عنا حصيرك".
وأصرح من هذا حديث أنس عند المروزي: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه ثم جاء آخر ثم جاء آخر حتى كنا رهطا، فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خلفه تجوز في صلاته، ثم دخل منزله، فلما دخل منزله صلى صلاة لم يصلها عندنا فلما أصبحنا قلنا يا رسول الله: أو فطنت لنا البارحة"، فقال: "نعم، وذلك الذي حملني على ما صنعت". ففي هذا الحديث ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم في أول صلاته لقول أنس: "فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خلفه"، كما أن فيه ما يشعر أنه صلى الله عليه وسلم بدأ صلاته تلك في المسجد بدليل قوله: "تجوز في الصلاة ثم دخل منزله". وكما يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم علم بصلاتهم خلفه ولم ينكر عليهم، وأصرح من ذلك دلالة على صلاته صلى الله عليه وسلم في المسجد حديث عائشة عند البيهقي عن عروة بن الزبير رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل يصلي في المسجد فصلى رجال يصلون بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك. وساقت قصة صلاته اليالي إلى الليلة الرابعة. قالت: "عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم". ففيه دلالة صريحة أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة في المسجد، وفيه دلالة على امتلاء المسجد بالمصلين.
وهده خطوة أخرى وهي امتلاء المسجد بعد أن كانوا أوزاعا فقد عجز المسجد عن أهله ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج إليهم خشية أن تفرض عليهم.(2/425)
إذن فقد كان من الممكن أن يخرج إليهم لولا تلك العلة التي هي خشية أن تفرض عليهم. وكأن الصلاة بهم والاجتماع إليها أمر جائز لولا الشفقة عليهم وخشية تكليفهم بها ثم يعجزون ولقد أقر صلاة غيره بجماعة من الناس سواء في البيوت أو في المسجد.
أما في البيوت فلحديث أبي بن كعب عند المروزي قال عن جابر رضي الله عنه جاء أبي بن كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فقال: "يا رسول الله كان معي الليلة شيء". قال: "وما ذاك؟ "قال: "نسوة داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي خلفك بصلاتك فصليت بهن ثمان ركعات فسكت عنه، وكان شبه الرضاء".
وأما في المسجد فحديث أبي هريرة عند المروزي أيضا قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد"فقال: "ما هؤلاء؟ "قيل: "هؤلاء أناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي بهم فهم يصلون بصلاته". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصابوا"أو "نعم ما صنعوا".
ثم كانت المرحلة قبل الأخيرة وهي ما جاء في حديث أنس. وحديث أنس عند المروزي "كان النبي صلى الله عليه يجمع أهله ليلة إحدى وعشرين، ويصلي بهم إلى ثلث الليل، ثم يجمعهم ليلة اثنين وعشرين فيصلي بهم إلى نصف الليل، ثم يجمعهم ليلة الثالث والعشرين فيصلي بهم إلى ثلثي الليل. ثم يأمرهم ليلة الرابع والعشرين أن يغتسلوا ويصلي بهم حتى يصبح ثم لا يجمعهم". فهذا الحديث نص في أنه صلى الله عليه وسلم قام بأهل بيته ثلاث ليال مددا متفاوتة. ويتدرج الأولى إلى الثلث الليل والثانية إلى نصفه والثالثة إلى ثلثيه.
وليس ببعيد أن يوحي هذا العمل بين الرغبة في الخير وبين الخوف من أن تفرض، لما يفهم من أنه كان في العشر الأواخر وهي محل الرغبة أكثر وكذلك التدرج في إطالة المدة استجابة لتلك الرغبة. كما يفهم من عدم المواصلة إلى آخر الشهر خشية أن يفرض.(2/426)
ثم جاءت المرحلة الأخيرة في التدرج من حديث أبي ذر قال في المنتقى: "رواه الخمسة وصححه الترمذي"ورواه أيضا البيهقي ونصه في السنن: "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا من الشهر شيئا حتى كانت ليلة ثلاث وعشرين قام بنا حتى ذهب نحو ثلث الليل ثم لم يقم بنا من الليلة الرابعة وقام بنا من الليلة الخامسة حتى ذهب نحو من نصف الليل، فقلنا: "يا رسول الله لو نفلتنا بقية الليل". فقال: "إن الإنسان إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته"، ثم لم يقم بنا ليلة السادسة وقام السابعة وبعث إلى أهله، واجتمع الناس حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح".
قال البيهقي: "ورواه مهيب عن داود قال: "ليلة الرابع وعشرين والسابع مما يبقي، وقال ليلة ست وعشرين الخامس مما يبقي وليلة ثمان وعشرين الثالث مما يبقى".
ففي هذا الحديث وصول بصلاة التراوح إلى حد التجمع والتقرير عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قولهم له: "لو نفلتتا بقية الليلة". وفي هذا دلائل على أمرين:
أ- الأول: أنه صلى الله عليه وسلم علم بهم وأقرهم على تجمعهم في المسجد كما أنه في السابعة وعشرين بعث إلى أهله ويشهد لهذا الجزء ما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان العشر الأواخر شد المئزر وطوى فراشه وأيقظ أهله.(2/427)
ب- الأمر الثاني: أنه وإن لم يحدد صلى الله عليه وسلم عددا من الركعات إلا أنه أقرهم على طلبهم الزيادة عما كان وإلى بقية ليلتهم. فلم ينكر عليهم طلب الزيادة ولكنه أرشدهم إلى ما يعوض عنها وهو قيامهم مع الإمام حتى ينصرف. وهذا مثل قصة (زينب) لما مر عليها صلى الله عليه وسلم وهي تسبح على حصى أو نوى حتى رجع فوجدها على تلك الحالة فقال لها: "لقد قلت كلمات تعدل كل ما قلت سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه". فلم ينكر عملها وأرشدها إلى ما هو خير منه وهكذا هنا لم ينكر طلبهم الزيادة وأرشدهم إلى ما هو خير منه بل إلى ما يساويه فحسب.
وعليه فهنا صلاة في جماعة بإمام ومأمومين في المسجد وهذا غاية الإثبات لصلاة التراوح في المسجد جماعة وبإمامته صلى الله عليه وسلم.
ثم جاءت الليلة السابعة والعشرون فكانت عامة شاملة شملت أهله صلى الله عليه وسلم مع عامة الناس.
عدد الركعات في ذلك العصر:
1- جاء عن جابر أربع ركعات
2- جاء في بعض النصوص أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثمان ركعات.
3- وجاء في نص ضعيف عشرين ركعة.
4- وجاء الإطلاق بدون تحديد مع التقرير على طلب الزيادة إلى بقية ليلتهم.
5- وجاء التدرج من ثلث الليل ثم نصف الليل ثم ثلثي الليل. وهل كان ذلك بزيادة في عدد الركعات أم بإطالة في القراءة مع عدم الزيادة في عدد الركعات طيلة الليالي الثلاث وإلى أي حد كانت إطالة القراءة والقيام.(2/428)
كيفية صلاتها: جاء عن حذيفة رضي الله عنه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في رمضان فركع فقال في ركوعه: "سبحان ربي العظيم مثل ما كان قائما، ثم سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما، ثم جلس يقول: ربي اغفر لي, ربي اغفر لي مثل ما كان قائما، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما، فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال إلى الغداة". فهذا نص في بيان تطويل الصلاة في أربع ركعات في رمضان خاصة.
أما عموم قيام الليل: فقد عقد البخاري بابا بعنوان: كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وساق حديث عبد الله بن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم "يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ "قال: "مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة". (البقية على صفحة 78) .
مقابلة شخصية:(2/429)
قال الربيع بن زياد الحارثي: "كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين فكتب إليه عمر بن الخطاب يأمره بالقدوم عليه هو وعامله، فلما قدمنا المدينة أتيت (يرفأ) فقلت: يا يرفأ ابن سبيل مسترشد أخبرني أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة. فأخذت خفين مطرقين ولبست جبة صوف ولثت رأسي بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه وصعد فينا نظره وصوب فلم تأخذ عينه أحد غيري فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: فكم ترزق؟ قلت: خمسة دراهم كل يوم. قال: كثير فما تصنع بها؟ قلت: أتقوت منها شيئا وأعود بباقيها على أقارب لي فما فضل منها على فقراء المسلمين. فقال: لا بأس ارجع موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعد فينا وصوب فلم تقع عيناه إلا علي فدعاني فقال: كم سنوك؟ فقلت: ثلاث أربعون سنة. قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام وأصحابي حديثو عهد بلين العيش وقد تجوعت له فأتى بخبز يابس وأكسار بعير، فجعل أصحابي يعافون ذلك وجعلت آكل فأجيد الأكل فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سخت في الأرض ولم ألفظ بها فقلت: يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا؟. فزجرني وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك له بيوم ويطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز لينا وباللحم غريضا. فسكن من غضبه وقال: هذا قصدت؟ قلت: نعم. قال: يا ربيع إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق ورقائق وصناب ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا..} ثم أمر أبا موسى أن يقرني وأن يستبدل أصحابي.
العقد الفريد - ج1
(تتمة التراويح)(2/430)
فهذا نص لا حد فيه وأنه يصلي مثنى مثنى إلى أن يخشى الصبح.
وساقه البخاري أيضا عن ابن عباس رضي الله عنه كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشر ركعة يعني بالليل.
وحديث مسروق عن عائشة أنه سألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت: "سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتين الفجر".
ثم بوب البخاري أيضا باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره.
وساق بسنده إلى عائشة رضي الله عنها: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا"، قالت عائشة: فقلت: "يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ "فقال: "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي".
ولئن كانت عائشة وصفت صلاته صلى الله عليه وسلم بالطول والحسن وحددتها بإحدى عشرة ركعة فقد جاء حديث حذيفة عند مسلم "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، وكان إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، أو سؤال سأل، أو تعوذ تعوذ، ثم ركع نحوا مما قام ثم قام نحوا مما ركع ثم سجد نحوا مما قام". قال ابن حجر بعد أن أورد هذا الحديث: "وهذا إنما يتأتى في نحو ساعتين، فلعله أحيا تلك الليلة كلها".
فهذا مما يدل على طول القيام إلى حد أن تستغرق الركعة الواحدة ساعتين.
وقد جاء عند البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائما حنى هممت بأمر سوء"قلنا: "وما هممت؟ "قال: "هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم". فتحصل لنا من هذا كله أن صلاة التراويح كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنها مشروعة عنه صلى الله عليه وسلم ابتداء وأنها أخذت تتطور على عدة مراحل فكانت كالآتي:
تطورها في العصر النبوي:(2/431)
1- أولا: بدأت بالترغيب فيها دون أن يعزم عليهم.
2- ثانيا: انتقلت إلى السنة والندب مقرونة بفرضية الصيام.
3- ثالثا: أديت بالفعل أداها أوزاع من الناس.
4- رابعا: تسلل الناس إلى مصلاه صلى الله عليه وسلم فأتموا به صلى الله عليه وسلم وهو لا يشعر بهم وهو لا يقر على باطل.
5- خامسا: تقريره صلوات الله وسلامه عليه لمن يصلى بالناس سواء في المسجد أو في البيت.
6- سادسا: صلاته هو صلى الله عليه وسلم بالفعل بأهل بيته.
7- سابعا: صلاته هو صلى الله عليه وسلم بالفعل بأهل بيته وبالناس عدة ليال متفرقة.
أما العدد أي عدد الركعات:
أ- فقد صلى أربع ركعات استغرقت الليل كله.
ب- وصلى ثمان ركعات.
جـ- وصلى إحدى عشر ركعة لا تسل عن حسنهن وطولهن.
د- وصلى ثلاث عشرة ركعة.
وهذا ما يقتصر عليه بعض المتأخرين ولكن:
1- جاء الإطلاق بدون حد من قام رمضان إيمانا واحتسابا.
2- جاء تقريره على طلب الزيادة لو نفلتنا بقية ليلتنا؟
3- وهناك مبحث لم يتطرق إليه أحد فيما أعلم وهو:
أن عائشة رضي الله عتها قالت: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط ودخل بيتي إلا وصلى أربعا أو ستا". وجاء عنها أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
فلو جمعنا حديث ابن عباس (13) ركعة مع حديث عائشة (6) ركعات بعد العشاء مع (2) ركعتين يفتتح بهما صلاة الليل لكان مجموع ذلك كله (13 + 6 = 19 +2= 21) إحدى وعشرون ركعة. وهو العدد الذي جمع عمر رضي الله عنه الناس عليه مع أُبَي ابن كعب ويكون هذا العدد مستندا إلى سنة لا مجرد اختيار عمر رضي الله عته والله أعلم.
وبعد هذا فلا يحق لأحد أن يمنع الزيادة على ثمان ركعات وقوفا عند حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها أو يعيب فعل عمر متهما إياه بمخالفة السنة حاشاه رضي الله عنه.(2/432)
عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
كان عهد الصديق رضي الله عنه غير طويل، وكان الناس حدثاء عهد بعهد النبوة فلم تتكون عوامل تغيير تذكر بالنسبة للتراويح. ولهذا لم يذكر أحد أن التراويح في عهد الصديق رضي الله عنه طرأ عليها جديد مستدلين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرَغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك وكان الأمر على ذلك". قال البيهقي: "زاد أحمد بن منصور الرمادي في روايته في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر رواه مسلم في الصحيح. ورواه مالك بسنده إلى ابن شهاب وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك في صدر خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما".
ولكن حديث عائشة عند البيهقي قالت: "كنا نأخذ الصبيان من الكُتَّاب ليقوموا بنا في شهر رمضان فنعمل لهم (القلية) و (الخشكنانج) "وعند المروزي: "فنعمل لهم (القلية) و (الخشكار) وهو خبز سمراء".
فهو نص على إقامة التراويح بإمامة الصبيان. وقطعا لم يكن ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهل كان في عهد الصديق فيكون تطويرا جديدا أم في عهد عمر؟ والذي يظهر أنه كان في عهد الصديق رضي الله عنه لأنه كان في عهد عمر كما سيأتي ترتيب أئمة للرجال وإمام للنساء وعلى كل ففيه تطوير جديد، فإن كان في عهد الصديق فهو جديد عما كان من قبل وهو الراجح وإن كان في عهد عمر فيغلب على الظن أن ذلك كان في البيوت لأنهن لن يأخذن الصبيان من الكتاب وعمر جاعل إمام لهن، ولا سيما عائشة رضي الله عنها فأحرى بها رضي الله عنها أن تصلي في بيتها وقد يجتمع لها من النساء.
القراءة زمن الصديق:(2/433)
وقد ظلت القراءة طويلة في زمن الصديق رضي الله عنه لما في حديث عبد الله ولد الصديق، فعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر".
وقد طرأ في هذا العصر أيضا نوع مقارنة بين القراء. فكان الناس يميلون إلى من كان حسن الصوت بالقراءة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في عهد عمر رضي الله عنه.
في عهد عمر رضي الله عنه:
جاء عهد عمر رضي الله عنه والحال كما كان عليه من قبل يصلون أوزاعا فُرادى وجماعات في البيوت وفي المسجد يصور ذلك أكمل تصوير أثران هما: أثر إياس الهذلي، وأثر عبد الرحمن بن عبد.
أ - الأثر الأول: عن نوفل قال إياس الهذلي: كان الناس يقومون في رمضان في المسجد وكانوا إذا سمعوا قارئا حسن القراءة مالوا إليه. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: "قد اتخذوا القرآن أغاني والله لئن استطعت لأغيرن هذا"، فلم تمر ثلاث حتى جمع الناس على أبي ابن كعب. وقال عمر: "إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة". رواه المروزي.
ب - الأثر الثاني: وهو أثر عبد الرحمن بن عبيد - بالتنوين - (القارّي) خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاعا متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: "إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل"ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم: "نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون"يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري.
التطور الجديد:
نجد في الأثرين السابقين تطويرا جديدا على يد عمر رضي الله عنه وهو جمع الأوزاع والأشتات على قارئ واحد. وهذا التطور وإن تعددت أسبابه فقد جمع عدة مصالح.(2/434)
فالأثر الأول يشير إلى أن السبب له صلة بحسن القراءة وفي هذا مجال فسيح لمنافسة القراء وتسابق المصلين، وهو أمر لو طال به المدى لابتعدت الشقة بسببه بين المصلين، فوحد القارئ لتتوحد القراءة. وقد يؤخذ منها درء المفسدة على جلب المصلحة؛ لأن تتبع المصلين لمن هو أحسن صوتا مجال لتحسين الصوت بالقراءة وهو أمر مرغوب فيه غير أنه قد يكون مدعاة إلى التغالي حتى يصل إلى التغني كما أشار عمر رضي الله عنه من قبل فجمعهم على قارئ واحد سدا للذريعة ودرءا للمفسدة.
والأثر الثاني يشير إلى وجود جماعات وأفراد لا تربطهم عوامل موحدة، ولو طال بهم المدى أيضا لافتقدوا عامل الائتلاف والاتحاد وضاعت ثمرة الجماعة فوحد الإمام ليجتمع المأموم وكانت نعمة البدعة في كلا الأمرين. وإلى هنا تم توحيد المصلين للتراويح على إمام واحد وهو أبي بن كعب.
تعدد الأئمة:
وقد جاء عنه رضي الله عنه أنه جعل إمامين للرجال وهما أبي بن كعب وتميم الداري، وكانا يقومان في الليلة الوحدة يتناوبان. يبتدئ الثاني حيث ينتهي الأول كما جاء في رواية السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وذلك مع المحافظة على طول القراءة كما في الرواية الأخرى له: كنا نصلي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان ثلاث عشرة ركعة، ولكن والله ما كنا نخرج إلا وجاه الصبح كان القارئ يقرأ في كل ركعة بخمسين، آية ستين آية. وكما في رواية السائب أيضا أنهم كانوا يقرؤون بالمئين من القرآن وأنهم كانوا يعتمدون على العصا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فالذي تحدد في هذين الأثرين هو:(2/435)
أ – تعدد الأئمة بعد إمام واحد. وهو أُبَي، وسواء كان ذلك رفقا بالإمام الأول فجعل معه آخر يساعده، أو كان ترويحا للمأمومين وتنشيطا للمصلين ولا سيما وقد كانوا حدثاء عهد بتعدد الأئمة حينما كانوا يصلون أوزاعا.
وقد مضى عمر رضي الله عنه إلى أبعد من هذا فجعل إماما للنساء، وانتخب أكثر من إمام للتراويح، أما إمام النساء فهو سليمان بن أبي حتمة. فكما جاء عند المروزي قال: وعن هشام بن عروة عن أبيه: جعل عمر بن الخطاب للناس قارئين فكان أبي بن كعب يصلي بالرجال وكان بن أبي حتمة يصلي بالنساء. فهذا الأثر يفيد أن إمامة سليمان ابن أبي حتمة بالنساء كانت أثناء إمامة أبي للرجال، أي أنهما كانا يصليان في وقت. هذا لهؤلاء وهذا لؤلائي.
وقد كان ذلك أقصى ما وصلت إليه التراويح من حيث النشاط والصبر وطول القيام وكثرة القراءة.
ثم أخذت قي التدرج إلى الأسهل فتعددت الأئمة وخففت القراءة وكثرت الركعات.
أما تعدد الأئمة أكثر من ذلك فهو كما في رواية عاصم عن أبي عثمان رحمه الله أن عمر رضي الله عنه جمع القرآن في رمضان فأمر أخفهم قراءة أن يقرأ ثلاثين آية وأوسطهم خمسا وعشرين وأثقلهم قراءة عشرين.
فنرى هنا تعدد الأئمة وهو أكثر ترويحا وتخفيفا على نفس الإمام وعلى المأمومين، ثم نرى أيضا تخفيف القراءة فأقصاها ثلاثون بعد أن كانت تصل إلى الستين والمئين. بل نجد أثرا آخر وهو أن عمر رضي الله عنه أمر أبيا فأمهم في رمضان فكانوا ينامون ربع الليل ويقومون ربعه وينصرفون بربع لسحورهم وحوائجهم. وكان يقرأ بهم خمس آيات ست آيات في كل ركعة ويصلي بهم ثمان عشر ركعة شفعا يسلم في كل ركعتين، ويروحهم قدر ما يتوضأ المتوضئ ويقضي حاجته، بهذا يتضح إلى أي مدى حدث تغيير وتجفيف في الكيفية والقراءة.
أما عدد الركعات فكالآتي:(2/436)
1- فتقدم أن أول ما أمر عمر أُبَيًّا أن يقوم بالناس أنه أمره بثمان ركعات. وكان يقرأ فيها بالمئين، وكانوا لا ينصرفون إلا ي وجه الفجر.
2- وتقدم أن عمر أمر أُبَيًّا وتَمِيماً أن يقوما للناس ثلاث عشرة ركعة. وهذا بالنسبة إلى ما جاء من ثمان ركعات يكون معها ثلاث وترا. وقد جاءت رواية محمد بن سرين أن معاذا أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس إحدى وأربعون ركعة. ومعاذ أبو حليمة هذا, قال في التقريب: "هو معاذ بن الحارث الأنصاري البخاري القاري أحد من أقامه عمر بمصلى التراويح. وقيل هو آخر يكنى أبا الحارث صحابي صغير استشهد بالحرة ... "اهـ.
والحرة كانت سنة 63 يؤيد هذا العدد ويفصله رواية أبي زيد عن صالح مولى التوأمة قال: "أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون فيها بخمسة، فكانت الترويح إحدى وأربعون ينقصها أي ستة وثلاثون ركعة.
وصالح هذا قال في التقريب: "هو صالح بن نبهان المدني مولى التوأمة بفتح المشناة وسكون الواو وبعدها همزة مفتوحة, صدوق اختلط في أخر أمره".
قال بن عدي: "لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي زيد وابن جرير، من الرابعة مات سنة 125. والرواية هنا عنه من رواية الأقدمين. وهو ابن أبي ذئب كما مثل ابن عدي لما لا بأس به عنه. فهو هنا يقول: أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعون ركعة ويوترون منها بخمسة. وهذا موافق لما قاله محمد بن سرين أن معاذا بن حليمة القاري كان يصلي بالناس إحدى وأربعين ركعة أي ستا وثلاثين قياما وخمسة وترا.
أ - فتكون التراويح زمن عمر رضي الله عنه بدأت بثلاث عشرة ركعة أي بما فيها الوتر.
ب - ثم إلى ثلاث وعشرين بما فيها الوتر ثلاث.
ج - ثم بست وثلاثين ومعها خمس ركعات وترا. والمجموع إحدى وأربعين ركعة إلا أننا نلاحظ أن كثرة الركعات معها تخفيف القراءة لأنه:(2/437)
أولا: ثمان ركعات، أو ثمان عشرة ركعة، يقرؤون بالمئين. وكانوا لا ينصرفون إلا على وجه الفجر. وعليه قلنا تكون القراءة لست وثلاثين ركعة كالقراءة لثمان أو لست عشرة ركعة.
بل وجدنا عمليا أن عمر رضي الله عنه جمع القراء فأمر من كان أخف قراءة أن يقرأ بثلاثين بينما كانت القراءة بخمسين بستين كما تقدم.
وعليه لا يكون تعارض بين الروايات الواردة وعدد الركعات للتراويح زمن عمر رضي الله عنه. كما قال الباجي رحمه الله في شرح الموطأ ج1ص208 ما ملخصه: قد اختلفت الروايات فيما كان يصلى به في رمضان في زمان عمر رضي الله عنه. فروى السائب بن يزيد إحدى عشرة ركعة، وروى يزيد بن رومان ثلاثا وعشرين ركعة، وروى نافع مولى ابن عمر أنه أدرك الناس يصلون بتسع وثلاثين ركعة يوترون فيها بثلاث.
فيحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه بدأ بثمان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أفاده حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: "ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات". وأمرهم مع ذلك بطول القراءة يقرأ القارئ بالمئين في الركعة فلما ضعف الناس عن ذلك أمرهم بثلاث وعشرين ركعة على وجه التخفيف عنهم من طول القيام، واستدرك بعض الفضيلة بزيادة الركعات وكان يقرأ البقرة في ثمان ركعات أو اثني عشرة ركعة، وقد قيل: إنه كان يقرأ من ثلاثين آية إلى عشرين آية. وكان الأمر على ذلك إلى يوم الحرة، فثقل عليهم القيام فنقصوا في القراءة وزادوا في عدد الركعات فجاءت ستة وثلاثين ركعة والوتر بثلاث فمضى الأمر على ذلك ولعل التخفيف إلى ستة وثلاثين وقع قبل الحرة كما جاء في رواية محمد بن سرين أن معاذ أبا حليمة كان يقوم بهم إحدى وأربعين ركعة. وهو ما مات إلا في وقعة الحرة.(2/438)
والذي يهمنا ما ظهر من التدرج في التراويح في زمن عمر رضي الله عنه بالتخفيف من القراءة وزيادة عدد الركعات فكانت قلة الركعات معها كثرة القراءة وكثرة القراءة معها قلة الركعات.
مناقشة "نعمة البدعة":
وقبل أن ننتقل من عهد عمر إلى عهد عثمان رضي الله عنهما يحسن إيراد الجواب على قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة"لجمعه الناس على قارئ واحد وصلاتهم إياها في جماعة. فما مراده بقوله هذا وما الجمع بين قوله: "نعمت"وبين كونها بدعة؟
وخير ما نسوق في ذلك هو كلام شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء صراط المستقيم) ص 275 ما نصه قال: "فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فإنه قال: "إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه". ولا صلاتها جماعة بدعة بل هي سنة في الشريعة بل قد صلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا. وصلاها كذلك في العشر الأواخر في جماعة مرات. وقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. رواه أهل السنن.
وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها على حال الانفراد. وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة.
وكان الناس يصلون جماعة في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرهم وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم وأما قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه"فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا: "الصاحب ليس بحجة".
فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث.(2/439)
فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب. نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف على إحدى الروايتين فيفيدهم هذا (حسن تلك البدعة) أما غيرها فلا.
ثم نقول أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي.
فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى ((بدعة)) في اللغة لأنه عمل مبتدأ كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة. كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرون إلى الحبشة "وإن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين محدث لا يعرف".
ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة. فلفظ "البدعة"في اللغة أعم من لفظ "البدعة"في الشريعة.
وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" لم يُرِد به كل عمل مبتدأ، فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ. وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم. وإذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى. وقد قال لهم في الليلة الثالثة أو الرابعة لما اجتمعوا: "إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم فصلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".(2/440)
فعلل النبي صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض، وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم فانتفى المعارض".
وساق بعد ذلك أدلة أخرى كجمع القرآن ونفى عمر ليهود خيبر، وقتال أبي بكر لمانعي الزكاة. ثم قال مبينا ضابط البدعة الحسنة من السيئة بما نصه: "والضابط في هذا والله أعلم أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة، إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه. فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه، فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهنا قد يجوز إحداث ما تدعوا إليه الحاجة إليه - قال رحمه الله عبارة مفادها أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر من غير تفريط -.
وكذلك إن كان المقتضى لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض وقد زال بموته".أهـ
هذا هو كلام شيخ الإسلام بن تيمية بنصه في بيان كلمة عمر رضي الله عنه "نعمت البدعة". وأعتقد أنه واضح في الرد على من يحتج بها على أن صلاة التراويح جماعة بدعة أو أن العدد الذي ورد عن عمر فيها 21 ركعة بدعة.
غير أن البحث في إثبات ذلك العدد عنه أو عدم إثباته ويكفي في ذلك روايات مالك في الموطأ والله تعالى أعلم.(2/441)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
وردت من الأخ إبراهيم. م.ض. الأسئلة التالية:
البنوك
إذا احتاج الرجل إلى شيء من المال لمؤنة البيت أو تسديد أجرة الدار أو نحو ذلك ولم يجد من يقرضه ولا من يستدين منه فهل يجوز له أن يستدين من البنك؟
والجواب: إن كانت الاستدانة من البنك على طريقة شرعية كأن يأخذ منه قرضا بمثله من دون زيادة أو يشتري منه سلعة إلى أجل معلوم ولو بأكثر من ثمنها الحاضر فلا بأس, أما إذا اقترض منه على وجه الربا فهذا لا يجوز لأن الله سبحانه حرم الربا في كتابه العظيم وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام وورد فيه من الوعيد ما لم يرد في أكل الميتة ونحوها قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} . قال أهل التفسير معنى ذلك أنه يقوم من قبره يوم القيامة كالمجنون. ثم قال الله سبحانه بعد ذلك: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} .
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء. رواه مسلم في صحيحه.(2/442)
والآيات والأحاديث في تحريم الربا والوعيد عليه كثيرة مشهورة وليس عَدْمُ المحتاج من يقرضه أو يبيع عليه يجعله في حكم المضطر الذي تبيح له الميتة أو الربا, هذا قول لا وجه له من الشرع لأن في إمكان المحتاج أن يعمل بيده حتى يحصل ما يسد حاجته أو يسافر إلى بلاد أخرى حتى يجد من يقرضه أو يبيع عليه بالدين إلى أجل. والمضطر هو الذي يخشى على نفسه الموت إذا لن يأكل من الميتة ونحوها بسبب شدة المجاعة وعدم قدرته على ما يسد رمقه بالكسب ولا بغيره وليست حاجة هؤلاء الذين يعاملون البنوك بالربا في حكم الضرورة التي تبيح الميتة ونحوها وكثير من الناس سهل عليهم أمر الربا حتى صار يعامل فيه ويفتي الناس به بأدنى شبهة وما ذاك إلا لقلة العلم وضعف الإيمان وغلبة حب المال على النفوس نسأل الله السلامة والعافية مما يغضبه, ومهما أمكن عدم التعامل مع البنك وعدم الاقتراض منه ولو بالطرق الشرعية التي ذكرنا آنفا فهو أولى وأحوط لأن أموال البنك لا تخلو من الحرام غالبا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" والله المستعان.
كشف الوجه واليدين
قال الله سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ؛ زعم بعض الناس أن معنى قوله سبحانه: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو الوجه والكفان وأنه يباح للمرأة كشف وجهها وكفَّيْها في البيت وخارجه واحتج على ذلك بأن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال لها: "إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يجوز أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلا كفيه ووجهه".؟(2/443)
والجواب: الذي دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن المرأة كلها عورة وليس لها أن تكشف شيئا من جسدها للأجنبي لا الوجه ولا غيره ومما ورد في ذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
وروي عن جماعة من السلف منهم ابن عباس رضي الله عنهما أن الجلباب ما تلقيه المرأة على رأسها ووجهها وتبدي عينا واحدة. وقال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ} الآية. والوجه والكفان من أعظم الزينة. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} . ولم يستثن شيئا لا الوجه ولا غيره. وهذه الآية وإن كانت في أمهات المؤمنين فالحكم يعمهن ويعم غيرهن وليس هناك دليل فيما نعلم على تخصيصهن بالحكم والعلة التي ذكرها الله وهي قوله سبحانه: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} تعم الجميع لأن الطهارة مطلوبة لجميع المسلمين والمسلمات. وأما قوله سبحانه في آية النور: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فعنه جوابان:
أحدهما: أن المراد من ذلك ما ظهر من الملابس لأنه لا يمكن ستره ولا يجب عليها لبس الخلقان من الملابس التي تزري بها فأباح الله سبحانه إظهار الملابس المعتادة البعيدة عن الفتنة وهذا معنى ما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في تفسير هذه الآية الكريمة.(2/444)
والجواب الثاني أن المراد بقوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفان كما قال بن عباس رضي الله عنهما وجماعة من السلف ولكن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب ثم أمرن بستر الوجه والكفين بعد نزول آية الحجاب وهي آية الأحزاب المتقدمة وممن نص على ذلك شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله ويدل على هذا المعنى ما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت حين تخلفت عن الجيش في غزوة الإفك وسمعت استرجاع صفوان بن المعطل: "فخمرت وجهي لما سمعت صوته، وكان قد عرفني قبل الحجاب". فدل ذلك على أن النساء بعد نزول آية الحجاب صرن يخمرن وجوههن. وصح عن أختها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: "كنا نخمر وجوهنا إذا دنا منا الركب". وروي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذا دنا منا الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها". والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة أما حديث أسماء الذي ذكرتم في السؤال وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يحل أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه" فهو حديث ضعيف الإسناد ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لانقطاعه وضعف بعض رواته.
أما انقطاعه فلأن خالد بن دريك الذي رواه عن عائشة لم يلقها ولم يسمع منها وهذه علة تضعف الحديث وتسقط العمل به كما نبه إلى ذلك أبو داود رحمه الله لما أخرج الحديث المذكور. وأما ضعف بعض رواته فلأن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي وهو ضعيف لا يحتج بروايته فاتضح بهذا أن الحديث المذكور لا يجوز الإحتجاج به على إباحة كشف المرأة وجهها وكفيها عند الأجانب لما عرفت من ضعفه بسبب انقطاعه وضعف بعض رواته والله ولي التوفيق.
احتفالات المولد(2/445)
أحدث بعض المشايخ احتفالات لا أعرف لها وجها في الشرع كالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وبليلة الإسراء والمعرج والهجرة النبوية. نرجو أن توضحوا لنا ما دل عليه الشرع في هذه المسائل حتى نكون على بيِّنة؟
الجواب: لا ريب أن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها النعمة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} الآية. وقد توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعد ما بلَّغ البلاغ المبين وأكمل الله به شرائع الدين، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرج مسلم في صحيحه عنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". ومعنى قوله: "فهو رد"أي مردود لا يجوز العمل به لأنه زيادة في الدين لم يأذن الله بها، وقد أنكر الله سبحانه في كتابه المبين على من فعل ذلك فقال عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الجمعة: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثتها وكل بدعة ضلالة".(2/446)
والأحاديث والآثار في إنكار البدع والتحذير منها كثيرة لا يسع هذا الجواب لذكرها. وهذه الاحتفالات التي ذكرت في السؤال لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنصح الناس وأعلمهم بشرع الله وأحرصهم على هداية الأمة وإرشادها إلى ما ينفعها ويرضي مولاها سبحانه ولم يفعلها أصحابه رضي الله عنهم وهم خير الناس وأعلمهم بعد الأنبياء وأحرصهم على كل خير ولم يفعلها أئمة الهدى في القرون المفضلة وإنما أحدثها بعض المتأخرين بعضهم عن اجتهاد واستحسان من غير حجة وأغلبهم عن تقليد لمن سبقهم في هذه الاحتفالات. والواجب على جميع المسلمين هو السير على ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والحذر مما أحدثه الناس في دين الله بعدهم فذلك هو الصراط المستقيم والمنهج القويم كما قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا على أصحابه هذه الآية ثم خط خطا مستطيلا فقال: "هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله، وقال: "هذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". وقال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ومما ذكرنا من الأدلة يتضح لك أن هذه الاحتفالات كلها بدعة يجب على المسلمين تركها والحذر منها والمشروع للمسلمين هو العناية بدراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بها في جميع الزمان لا في وقت المولد خاصة وفيما شرع الله غنية وكفاية عما أحدث من البدع.(2/447)
أما ليلة الإسراء فالصحيح من أقول أهل العلم أنها لا تعرف، وما ورد في تعيينها من الأحاديث فكلها أحاديث ضعيفة لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال أنها ليلة 27 من رجب فقد غلط؛ لأنه ليس معه حجة شرعية تؤيد ذلك. ولو فرضنا أنها معلومة فالاحتفال بها بدعة؛ لأنه زيادة في الدين لم يأذن الله بها. ولو كان ذلك مشروعا لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أسبق إليه وأحرص عليه ممن بعدهم. وهكذا زمن الهجرة لو كان الاحتفال به مشروعا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو فعلوه لنقل، فلما لم ينقل دل ذلك على أنه بدعة.
وأسأل الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين. وأن يعيذنا وإياكم وإياهم من جميع البدع والمحدثات. وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(2/448)
التقدم والرجعية
(1)
بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي
محاضرة ألقاها فضيلة الدكتور على طلبة الجامعة الإسلامية
هاتان الكلمتان لم تكن تستعملهما العرب بهذا المعنى الذي يقصده بهما كتاب العصر الحاضر لأنهما مما ترجمه المترجمون باللغة العربية ناقلين له من اللغات الأوروبية فتلقاه كتاب العربية واستعملوه في كلامهم وكتبهم.
والرجعية نسبة إلى الرجع وهو مصدر رجع يرجع رجعا أي عاد إلى مكانه الذي كان فيه أو إلى حال كان فيها وفعله بهذا المعنى اللازم.
قال ابن منظور في لسان العرب: "ومصدره لازما الرجوع ومصدره واقعا الرجع يقال رجعته رجعا فرجع رجوعا". اهـ.
والرجعية عند المعاصرين صفة الرجعي الذي يرجع في أفكاره وعقائده إلى الزمان الماضي وهو زمن الانحطاط والظلم والجهل والاستئثار والإصرار على الخرافات والأوهام التي انقشع الظلام فيها عن بصائر المتقدمين والمتمدنين السائرين حثيثا في ركب الحضارة الطالبين للحقيقة ولا يمنعهم منها مانع من العقيدة أو عادة يتعصب الرجعيون لها فهم - أعني المتقدمين - دائما في طليعة هذا الركب أغنياء أقوياء سعداء علماء سائرون إلى الأمام متعاونون مع الشعوب التقدمية ينظرون إلى آبائهم وأسلافهم نظرة ازدراء أو رحمة وشفقة ويسخرون منهم كلما ذكروا أحوالهم.
بداية عصر النهضة والتقدم عند الأوروبيين وكيف كانت الحالة قبل ذلك:
ينبغي أن نذكر هنا كيف كانت الحال قبل النهضة ليعرف فضلها, ويتبين لكل ذي عينين الفرق الشاسع بين التقدميين والرجعيين الذين يصرون على تقديس العصور المظلمة على حد تعبير خصومهم.(2/449)
قال جوزيف مكيب في كتابه (مدنية العرب في الأندلس) وقد ترجمته وعلقت عليه وطبع في بغداد سنة 1369 هـ 1950 م وسبب ترجمتي له أني كنت في غرناطة أثناء الحرب العالمية الأخيرة لأن الفرنسين نفوني من الأراضي التي كانت تحت أيديهم وهي القسم الأكبر, والقسم الذي كان بيد الأسبانيين كان ممتدا على شاطئ البحر الأبيض لا يزيد عرضه على (50ميلا) وكنت ولا أزال مصابا بداء الربو أحتاج إلى البعد عن البحر.
وكان الطلبة المغاربة الذين يدرسون في جامعة غرناطة ملتفين حولي, مترددين على زيارتي وكان الأساتذة الإسبانيون الذين يعلمونهم لا ذمة لهم ولا أمانة وذلك شأن أكثر الأساتذة في البلاد التي تنعدم فيها الحرية ويسود فيها الاستبداد, فكانوا يفترون على التاريخ ويزعمون أن المسلمين الفاتحين للأندلس من الشرقيين والمغربيين كانوا سيئ الأخلاق جهالا عتاة وكان حكمهم جائرا قاسيا, فمحوا كل خلق كريم من الشعب الإسباني وعلموه مساوئ الأخلاق فكل خلق سيء مرذول يوجد في الشعب الإسباني هو من آثار الحكام المسلمين, وكنت قد اطلعت على كتابين ألفهما في تاريخ المسلمين في إسبانيا المؤلف الإنكليزي الشهير الذائع الصيب (جوزيف مكيب) أحدهما كبير والآخر صغير فعمدت إلى الصغير فترجمته بالعربية ليكون سلاحا بيد الطلبة المغاربة وغيرهم من المسلمين يواجهون به كل عدو جاحد مكابر.(2/450)
وهذا المؤلف عدو للأديان كلها وقد ذكرت له ترجمة واسعة في أول الكتاب إلا أن طعنه في الإسلام أقل وأخف من طعنه في النصرانية, لأن علماء شعبه الذين يرد عليهم من الإنكليزيين وسائر الأوروبيين كلهم نصارى وقد أستثقل تفاحش قوله وشتائمه للنصارى ولكني أضطر إلى نقلها إذا كانت ممزوجة مع اعترافه بفضل المسلمين وسبب هذا الاستثقال حب الإقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن طعانا ولا لعانا ولا فاحشا ولا متفحشا ولما طبع هذا الكتاب ووصلت نسخ منه إلى تطوان في زمن الاستعمار الإسباني صادر الحكام الإسبانيون تلك النسخ وزجوا بالكتبي الذي كان يبيعها في السجن وليس ذلك بعيدا من أخلاقهم وقد حبسوني أنا بنفسي قبل أن ينشر الكتاب وقبل أن يعلموا بوجوده وكان ذلك تهورا منهم وطغيانا لوساوس كان شيطانهم يوسوس لهم بها ولمقالات كنت بعثتها في البريد الإنكليزي بتطوان إلى الأستاذ المجاهد الشهيد الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه فقد اطلعوا عليها بواسطة بعض الموظفين المغاربة في البريد الإنكليزي ثم أنقذني الله منهم وأنقذ ذلك الجزء من المغرب من حكمهم ونسأله سبحانه أن ينقذ الباقي وهو (سبتة, ومليلية ووادي الذهب والصحراء المغربية والساقية الحمراء) ويوفق المغاربة لغسل هذا العار إنه على كل شيء قدير.
قال جوزيف مكيب في كتابه مدنية العرب في الأندلس:
الفصل الأول
لقد أطلقت لفظ العصور المظلمة كسائر المؤرخين في (تويليفي) هذا على أكثر عصور الممالك النصرانية انحطاطا على العموم وخصوصا القرن العاشر المسيحي تنصرت الممالك الأوروبية قبل ذلك بخمس قرون أو ستة قرون تقريبا مضت من يوم تغلب البوابي - جمع بابا - والأساقفة على إرادة الملوك وحثوهم على إبادة كل مصدر من مصادر الإلهام يخالفهم فأغلقوا المدارس والمعاهد وقضوا على العلم والأدب.(2/451)
وإذا استثنينا بعض المواضع في أوروبا كالبندقية إذ كان فيها بقية تافهة إصطلاحية من علم اليونانيين تخفف من شرهم وهمجيتهم فإن أوروبا كلها كانت في تباب وخراب اقتصاديا واجتماعيا وعقليا وكان ذلك العهد أشد سواد وظلمة وانحطاطا من سائر العصور البابوية وفي ذلك الزمان أطلق الأساقفة والقسيسون والرهبان والراهبات الأعنة في الدعارة والشهوات البهيمية ولم يكونوا في ذلك الزمان يستترون حتى بجلباب النفاق ولو أن غنيا مليونيا من أهل هذا العصر كان في ذلك الزمان لقدر أن يشتري مملكة بأسرها وكان تسعة وتسعون في المائة خدما يعاملون بأقسى ما يعامل به العبيد ولم يكن ولا واحد في المائة من الرجال ولا واحد في الألف من النساء تقدر على القراءة وكان الضعيف مضطهدا مقهورا مسحوقا تحت الأقدام مغموسا في الطين والدم بل حتى القوي كان مهددا بالأوبئة الوافدة والسيوف اللامعة على الدوام والنجوم ذوات الأذناب في السماء وجنود العفاريت الهائلة في الهواء كذلك إن أردت أن تعرف أفكار النصرانية الاجتماعية فادرس القرن العاشر فلا زخارف أقوال الواعظين ولا كذب المعتذرين ولا الإذعان السياسي من المؤرخين يقدر أن يخفي عن ذوي الألباب عظم تبعة الكنيسة ولا سيما البابوية في ذلك الزمان الذي بلغ فيه الانحطاط إلى دركة لا نظير لها وإنه لفصل من أشد فصول البشرية شقاء وحزنا من الفصول التي استشهدت فيها الإنسانية وأنه لأفضع فصول من فصول غضب الله. حقا لقد حطم "بولوس"من ناحية و"أوكستين"من ناحية أخرى مدنية الإنسان فهل هذا الذي سمياه - بعيدين عن اتباع الهوى - (مدينة الله) .
يقصد المؤلف بهذا الكلام رجلين على يديهما انتشرت النصرانية المحرفة التي يعزو إليها المؤلف كل ما أصاب الناس من الشقاء وينبغي أن أذكر للمستمعين الكرام ترجمتي هذين الرجلين باختصار:(2/452)
أما "بولوس"ويسميه الأوروبيون (بول الرسول) وتعده الكنيسة من الرسل الإثني عشر من أصحاب عيسى عليه السلام وكان "بولس"يهوديا يونانيا ولد في "طرسوس"ولا يعرف بالتحقيق تاريخ ولادته وقد خمن المؤرخون أن يكون قد ولد سنة عشر للميلاد وكان عالما بعلوم اليهود واليونان وكان يعد من فقهاء اليهود وكان شديد العداوة لكل من آمن بالمسيح محرضا على قتلهم ولما كان في نحو الثلاثين من عمره ادعى أنه رأى رؤيا تدل على أن النصرانية حق فصار نصرانيا متعصبا وبعد ما قضى "بولوس"بقية عمره أي خمسا وثلاثين سنة في حل وترحال مطوفا في أقطار آسيا الصغرى وأوروبا في البر والبحر يدعو الناس إلى النصرانية ويخبرهم بأن الله أمره بذلك ويبني الكنائس ويؤسس الجماعات ويركب الأخطار وأعداؤه من اليهود الحاقدين عليه والنصارى الحاسدين له ينصبون له الشباك ويكيدون له المكائد وقد سجن مرارا وقتل في رومية سنة 65بتاريخ النصارى وله مؤلفات كثيرة معروفة مقدسة عند النصارى.(2/453)
وأما "أوكستين"ويسمى باللاتينية (أغسطونيوس) فقد ولد في "تاغستة"وهي بليدة من توميديا في إفريقيا غير بعيدة عن قرطجنة وهي في هذه الأيام من أعمال تونس في 13من تشرين الثاني سنة 354وتوفي في 18 آب سنة 430 بتاريخ النصارى وكان أبوه وثنيا وأمه نصرانية متعصبة وكان في أول أمره بعيد على التدين والصلاح ثم اشتغل بدراسة الفلسفة ولما بلغ من عمره 29 سنة انتقل إلى إيطاليا فاجتمع بالعلماء ثم دخل في النصرانية بإلحاح من أمه وألف كتاب سماه (الاعترافات) ذكر فيه سيرته قبل التدين بالنصرانية وبعده ثم رجع إلى بلده "تاغستة"ثم أخذ يعظ في الكنيسة إلى أن صار أسقفا وبقي فيها 35 سنة وألف تآليف كثيرة في الديانة النصرانية منها تفسير الزبور ومنها حواش على الأناجيل الأربعة وله كتابان آخران أحدهما كتاب (الاعترافات) وقد تقدم ذكره والثاني (مدينة الله) وإليه أشار "جوزيف مكيب"الذي ترجمت كتابه وسميته "مدنية العرب في الأندلس"ومقصوده بهذا الكتاب الرد على الوثانيين الذين يعبدون الأوثان والأصنام ودعوتهم إلى الدخول في مدينة الله بإيمانهم بدين النصارى الذي يقصر العبادة على ثلاث أقانيم فقط أولها الأب وثانيها الإبن وهو عيسى عليه السلام وثالثها روح القدس وهو قد يظهر في بعض الأحيان على شكل حمامة أو غيرها يقول كاتب هذه المحاضرة وليت شعري ما الفرق بين عبادة الأوثان والأصنام وبين عبادة الأقانيم الثلاثة؟ صدق الله العظيم {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ(2/454)
كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة المائدة.
ثم قال "جوزيف مكيب"في وصف انحطاط الأوروبيين قبل فتح المسلمين الأندلس وبعده بزمن طويل:
"اعلم أن أمهات المدن الأوروبية لم توجد فيها قنوات لصرف المياه القذرة حتى بعد مضي ستمائة سنة من ذلك التاريخ أي من سنة 756-1356م فكانت المياه المنتنة النجسة تجري في طول شوارع باريس ولندن ويضاف إلى ذلك أنها لم تكن مبلطة أو تجتمع فيتكون منها برك حتى بعدما علمت النهضة في أوروبا عملها قرونا طوالا أما في مدن المور فكانت الشوارع مبلطة منورة قد سويت فيها مجاري المياه أحسن تسوية في أواسط القرن العاشر قال "سكوت": بعض القنوات التي كانت تحت الشوارع لصرف المياه القذرة في "بلنسية"تقدر أن تكتسح سيارة وأصغر قناة منهن تقدر أن تكتسح حمار وكانت الشوارع مجهزة أحسن تجهيز بالشرطة وهذا النظام الصحي السامي كانت تعضده النظافة العامة التي يراها الأمريكيون في هذه العصور شيئا واجبا ولكنها في ذلك الزمن كانت في نظر الأوروبيين أعجوبة من أعاجيب الرقي التام فكان في قرطبة وحدها تسعمائة حمام عام وكانت الحمامات الخاصة كثيرة في كل مكان أما في بقية بلاد أوروبا فلم يكن فيها ولا حمام واحد وكان أشراف أوروبا ورؤساء الإقطاع منهمكين في الرذائل إلى حد يحجم الإنسان عن وصفه ولم يكن لبس الكتان معروفا في أوروبا حتى أخذت (موضة) - أي طراز - لبس الكتان النظيف من المحمديين ولم تكن الزاربي أيضا تصنع هناك وكان الحشيش يغطي قصور الأمراء ومصطبات الخطابة في المدارس وكان الناس والكلاب ينجسون المحلات إلى حد يعجز عنه الوصف ولم يكن لأحد منهم منديل في جيبه وفي ذلك الوقت لم تكن الحدائق تخطر ببال أحد من أهل الممالك النصرانية ولكن في إسبانيا(2/455)
العربية كان الناس من جميع الطبقات يبذلون الجهود والأموال في تجميل حدائقهم العطرة البهية وكانت الفسقيات تترقرق مياهها صعودا في صحون الدور والقصور والأماكن العامة ولا يزال في صحن الجامع الكبير في قرطبة حوضان كبيران جميلان من مرمر يزينان ذلك الصحن حيث كان كل مصلي يتوضأ قبل أن يدخل إلى المسجد ووصفهما "سكوت"في هذا الزمان فقال هذان الحوضان اللذان كانا من قبل متوضأ للمسلمين الغيورين من جميع الآفاق والآن يمدان بالماء سكان قرطبة النصارى ذوي المناظر القذرة والأخلاق السبعية والجهل العظيم بمزايا الشعب الطاهر العاقل المهذب الذي تنتمي إليه الذكريات الفاخرة من الفن والصناعة هذان الحوضان يشهدان شهادة مرضية بأن لا دوام للمدنية العليا وأن الإنسان دائما يميل بطبعه إلى التقهقر والرجوع إلى أحوال الهمجية ويشهدان بما لسلطة القسيسين من المقدرة على فعل الشر وأن سياستهم التي لن تجد لها تبديلا أسست على قاعدة احتقار مواهب عبيدهم العقلية وهذه العدد التي أعدها الخلفاء بفرط ذكائهم ظهر أثرها في زيادة خارقة للعادة في السكان على حين كانت جميع بلاد أوروبا لا يتضاعف سكانها إلا بعد مضي أربعة أو خمسة قرون ولم تنحصر عنايتهم الأبوية في حفظ الصحة والحياة فقط فمع كثرة النفوس المفرطة كانوا لا يرون أحد يصاب بمصيبة إلا نفسوا عنه الكرب وواسوه وهذا فيما لم يمكن اتقاؤه منها.(2/456)
وكان يساعدهم على اتقاء النكبات اتخاذهم نظاما حسنا في استخدام البطالين في إصلاح الطرق والأشغال العامة وكان "عبد الرحمن الثاني"قد أعلن أن كل من يريد العمل يمنحه ودوائر العدل التي خلفتها محاكم التفتيش وغرف التعذيب كما أثبته المحققون كانت منزهة عن كل ريبة أو فساد وكانت المعارف والتعليم أحسن مما كانت فيه ممالك الروم ولم يكن يضاهيها إلا ما بلغه اليونانيون من المعارف العلية في أرقى أيامهم والخلفاء أنفسهم شيدوا المشافي (جمع مستشفى) ودور الأيتام كما كان يفعل ملوك اليونانيين ومنذ زال ملكهم زالت هذه المؤسسات في أوروبا وكان الأعيان والتجار لا يألون جهدا ما اقتفوا آثار الخلفاء في العمل بهدي القرآن في مثل هذه الخيرات وكان الخلفاء أنفسهم يعودون المرضى ويبحثون عن المكروبين لينفسوا كربهم والنساء اللائي كن نزلنا إلى دركة الخدم في بلاد أوروبا لكراهية القسيسين للزواج وإيثارهم العزوبة كن على خلاف ذلك عند المور مكرمات مالكات حريتهن والكرم إن لم نقل البذخ والسرف اللذان حلا محل التقشف والتعصب في دمشق انتقلا إلى الأندلس فكانا كافيين لحفظ مركز المرأة والعشرة الخشنة التي يعشر بها المسلمون المرأة كما هو مشهور عندنا لم توجد في الأندلس والنساء في القصر الملكي بقرطبة كن يساعدن الخلفاء في تدبير الأمور وكان طلب العلم مباحا لهن بكل حرية وكثير منهن كان لهن ولع شديد بالعلوم الرائجة في ذلك الزمن من فلك وفلسفة وطب وغيرها وكانت النساء يتبرقعن في خارج بيوتهن ولكنهن كن مكرمات وفي منازلهن كن مشرفات ومحترمات ولا حاجة إلى أن أتكلم في ظرف المور ولطفهم وشهامتهم لأنهم هم الذين طبعوا الشعب الإسباني طبعا لا يمحى أبدا على الاحترام الشخصي واللطف الذي لا يزال من خواصه المستميلة حتى في الصناع والفلاحين وهناك مزية أخرى يمتاز بها المور وهي التسامح الديني.(2/457)
في أول الأمر كان هناك بلا شك شهداء يعني مقتولين لمخالفتهم الدين ولكن لا مناسبة بين ذلك وبين المذبحة التي عملها الإسبانيون أخيرا في ذرية المور.
وأما بعد استقلال المملكة العربية في الأندلس فإذا استثنينا معاملتهم لطوائف الثوار من النصارى كأهل طليطلة الذين كانوا على الدوام ينتظرون الخلاص من ناحية الشمال فقد كان أهل الأديان جميعا يعاملون بالحسنى وكانت على اليهود والنصارى فريضة مالية قليلة تخصم وكانوا يتمتعون بحماية حقوقهم فكثر عددهم وعظم بذلك الخرج الذي يؤخذ منهم.
وقد رخصوا لنصارى طليطلة في المحافظة على كنائسهم الكبرى ورخص لهم أن يبنوا عددا كثيرا من الكنائس وكانت لهم في طليطلة ست كنائس وكانوا مستمسكين بالعلاقات الودية مع جيرانهم حتى أثار فيهم القسيسون الضغينة الدينية وأما ما يخص اليهود الذين كانوا يتمتعون بعصرهم الذهبي حينئذ وارتقوا إلى أعلى درجة في العلوم ونالوا أعلى المناصب في دولة مور فسأتكلم عليه في فصل آخر.
وهذه النبذة المجملة في ذكر مدينة المور ستزداد وضوحا وتفصيلا عند الكلام على وصف حياة قرطبة وغرناطة ولا بد أن القارئ علم مما ذكرناه آنفا تفوق المدنية التي يزعمون أنها وثنية تفوقا خارقا للعادة ولا بد رأى أثرها في أوروبا المتوحشة وهذا صحيح لا يمتري فيه أحد من المؤرخين.
والمؤرخون لا يقابلون بين المور والنصارى لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا كالذي يقيس أهل "بوستون"- مدينة في إمريكا - بقبائل "إسكيمو"وذلك عجب عجيب.
قال "ستنلي لين بول"في شأن النصارى الذين فتحوا شمال إسبانيا كانت غزوات النصارى لعنة عظيمة على من يكون لهم فريسة وكانوا خشنا جاهلين أميين لا يقدر على القراءة إلا قليل منهم جدا ولم يكن لهم من الأخلاق إلا مثل ما لهم من المعارف يعني لم يكن لهم منها شيء وأما تعصبهم وقسوتهم فهو ما يمكن نتوقعه من الهمج البرابرة" ا-هـ.(2/458)
ونكتفي بهذا القدر من صفة حال أهل أوروبا قبل فتح المسلمين لجنوب بلادهم وإقامة مدنية عظيمة أدهشت العالم وفتحت لأهله بابا ليخرجوا من ظلمات الهمجية والجهل إلى نور المدنية والعلم وقد اقتبس الأوروبيون من المسلمين الفاتحين المعلمين المهذبين قبسة من علومهم وآدابهم وكانت أساسا لنهضتهم ولا شك أن العلم والمدنية اللذين سبق إليهما المسلمون في الحجاز أولا حيث نزل القرآن وأشرق نور الإسلام ثم في دمشق والأندلس وبغداد ثانيا هما أعظم تقدم شهده العالم قبل نهضة الأوروبيين فالمسلمون أئمة العلم والحضارة والأخلاق لو تركوا ذلك التقدم ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام لكانوا رجعيين مذمومين منتكسين خاسرين وكذلك الأوروبيون لو رجعوا من نهضتهم وتقدمهم إلى ما كانوا عليه في زمن نهضة المسلمين لكانوا رجعيين أشقياء مخذولين خاسرين ولكن الأوروبيين استمروا في نهضتهم من الوجهة المادية وقلت عنايتهم بالوجه الخلقية وقد بلغوا اليوم أوج المدنية والسعادة المادية ولا يزالون دائبين في طلب الكمال وإذا التفتوا إلى الوراء وشهدوا ما كانوا فيه من الجهل والظلمة اغتبطوا واستعاذوا بالله من ذلك العهد ولهم الحق في ذلك ولو أراد بعضهم الرجوع إلى تلك العصور المظلمة كما يسمونها هم أنفسهم لحكم عليه عقلاؤهم بالجنون وسفهوا رأيه واحتقروه وهو بذلك جدير أما المسلمون ومنهم العرب فإن معظمهم مسلمون وغير المسلمين منهم قليلون والحكم للغالب فقد أخذت علومهم ومدنيتهم في الجزر بعد ذلك المد العظيم منذ مئات السنين ولم يزالوا يرجعون إلى الوراء وينحطون من عليائهم حتى بلغوا أسفل سافلين وكانوا بالنسبة للأوروبيين كدلوين اختلفا صعودا وهبوطا فكلما تقدم الأوروبيون في العلم والمدنية اللذين اقتبسوها من المسلمين ازداد المسلمون توغلا وهبوطا في الجهل والتأخر اللذين اقتبسوهما من الأوروبيين ولا شك أن استمرارهم في هذه الحال لا يزيدهم إلا خبالا فماذا ينبغي لهم(2/459)
أن يعلموا لاستعادة علمهم ونورهم ومجدهم؟ أيعودون إلى جهاليتهم الأولى يطلبون منها الخلاص ولا خلاص فيها؟ أم يعودون إلى جاهلية الأوربيين؟.
قال قائل لا هذا ولا هذا ولكن يقتبسون من الأوروبيين مدنيتهم الحاضرة ويعتبرون أنفسهم كأنهم خلقوا خلقا جديدا ويقطعون النظر عن الماضي خيره وشره قلنا لهم هذا تقليد ومحاكاة لا ثمرة لهما أبدا ولابد لكل بناء من أساس ولو أرادوا أن يفعلوا ذلك ما استطاعوا إليه سبيلا فإن الأوروبيين حين اقتبسوا العلم والمدنية من المسلمين لم ينسلخوا من تاريخهم وعاداتهم وعقائدهم ولو فعلوا ذلك لصاروا مسلمين وإنما أخذوا من أساتذتهم المسلمين ما كانوا في حاجة إليه حسبما بدا لهم ولم يتركوا شخصيتهم ولا جنسيتهم وبذلك بلغوا من الرقي ما هم فيه إلا أنهم أغفلوا جانبا من علوم الإسلام وهو ما يتعلق بالنفس وتزكيتها والصعود بها من دركات المادة الصماء إلى أوج السعادة الروحية.(2/460)
وهذا الجانب الذي أغفلوه هو الذي سبب لهم ما هم فيه اليوم من الشقاء بالتخاصم والتنازع والتحاسد والتحارب وسعى كل فريق منهم إلى الاستئثار بأطايب الحياة وشهواتها وملذاتها وحرمان من سواهم من البشر وإذا كان آباؤنا قد سبقوا إلى العلم والنور والمدنية والأخلاق الفاضلة ورجعنا حن إلى اقتفاء آثارهم وإحياء علومهم لم نكن راجعين وإنما نحن متقدمون أحسن التقدم إلا إذا قلنا إن العلوم المدنية والحضارة قد وقفت في الحد الذي وصل إليه أسلافنا فيجب أن نقف عندما وصلوا إليه ولا نقتبس شيئا جديدا نافعا أبدا وحينئذ نكون جامدين ولا نستحق الحياة فبعض الكتاب من المسلمين المتهورين الذين لا يَزِنُونَ أفكارهم بل يهرفون بما لا يعرفون إذا سمعوا الأوروبيين يستنكرون عصورهم المظلمة ويسمونها رجعية ويستعذون بالله منها يقلدونهم في أقوالهم كالببغاءات ويحاكونهم في أفعالهم كالقردة ولا يعلمون الفرق بين ماضينا وماضيهم فإن ماضيهم كما قال علماؤهم ظلمات مدلهمة لا نور فيها أما نحن فبالعكس ماضينا علم ونور وحضارة مزدهرة وقوة وعز وسعادة فرجوعنا إليه هو عين التقدم ولا يتنافى ذلك مع اقتباس ما جد من العلوم والأعمال النافعة.
والحكمة ضالة المؤمن أما حاضرنا فهو كماضيهم ظلمات بعضها فوق بعض ولنا مثال آخر مع فرق سننبه عليه وهو الشعب الياباني فإنه اقتبس الحضارة الأوروبية وبلغ فيها شأوى يفوق أساتذته أو فاقهم مع المحافظة على مقوماته ومعنوياته ولا يتنازل عن شيء منها فماذا نقول في هذا الشعب أهو تقدمي أم رجعي؟ لا يستطيع أحد أن يقول هو رجعي فإنه في طليعة الشعوب المتقدمة وقد أصيب بهزيمة عظيمة في الحرب العالمية الأخيرة فلم تقضي عليه ولم توقف تقدمه ولا يزال هذا الشعب يقدس ملكه ويعتقد أنه ابن الشمس ويقوم بخدمته بطقوس لا تعقل ولم يضره ذلك ولا نقص تقدمه لأنه لا يخطو خطوة في طلب التقدم إلا بعقل ووعي ولا يحب التقليد أبدا.(2/461)
لما كنت مقيما في برلين كنت أتردد على مطعم صيني أحيانا وكنت أراه مع اختلاف أطعمته عن المطاعم الجرمانية يشابهها في التأنق والزخرفة ويؤمه دائما الأغنياء من الأوروبيين الذين عاشوا مدة في الشرق وألفوا أطعمته بنسائهم وبناتهم وأولادهم وكثير منهم كانوا يأكلون الرز بالعيدان كعادة الصينيين إلا أنهم يشربون الحساء بدون صوت سواء منهم الشرقيون والغربيون كعادة الأوروبيين فإنهم يستنكرون الشرب بصوت وكان في ذلك الوقت في برلين ثلاثة مطاعم صينية وسمعت بمطعم ياباني فذهبت إليه لأوازن بينه وبين المطاعم الصينية فلم أر فيه شيئا من التأنق وكان صغيرا رأيت فيه نحو خمسة وعشرين آكلا كلهم رجال يابانيون ولا يوجد فيه إلا امرأتان اثنتان عجوز في المطبخ وأخرى توزع الطعام والذي استرعى نظري فيه وتعجبت منه هو شرب الحساء بأصوات منكرة تتجاوب أصداؤها فقلت في نفسي هؤلاء اليابانيون كلهم يقيمون في بلاد الجرمانية ويعرفون عادات الجرمانيين حق المعرفة وأنهم يستقبحون الشرب بصوت فقد رغبوا عن عاداتهم وتباروا في الشرب بأصوات عالية فما مقصودهم بذلك؟ أظن أن مقصودهم بذلك الاعتزاز بعادتهم مهما كانت لأنهم لم يسافروا إلى أوروبا بقصد تعلم آداب الأكل وأدب الشرب وأدب الرقص وأدب الغناء وما أشبه ذلك لأنهم يرون آدابهم أكمل الآداب ولا يبغون بها بديلا ولكنهم جاءوا لأغراض لا يمكن أن تحصل في بلادهم وفي ذلك عبرة للمقلدين.(2/462)
هذا اليابانيون وثنيون يعبدون غير الله وهو نقص كبير في معنوياتهم وإهمال لتزكية أنفسهم وتوجيهها لما خلقت له ولما يرفعها ويسمو بها إلى الملأ الأعلى ويبلغ بها أعلى مراتب الكمال الإنساني ولكنهم لما تجنبوا التقليد في اقتباسهم علوم الأوروبيين وأخذوا منهم العلم على بصيرة واستقلال وبعقل وروية كما فعل الأوروبيون مع المسلمين أدركوا الثمرة نفسها التي أدركها الأوروبيين وهي السعادة المادية المنغصة بسبب إهمال النفس ولو أن اليابانيين هموا بالرجوع إلى ما كانوا عليه قبل مائة عام لكانوا سفهاء رجعيين ولزيادة الإيضاح أقول كيف كان العرب وسائر الشعوب التي أسلمت وحسن إسلامها قبل الإسلام وكيف صاروا بعد الإسلام؟.(2/463)
الجواب أنهم كانوا قبل الإسلام من الوجهة الخلقية في أسفل الدركات يقتلون أولادهم من الفقر أو خوف الفقر والمراد من قتلهم من الفقر أن يكونوا فقراء فيقتلون من يولد لهم لعجزهم عن إعاشته بالتغذية وسائر ما يحتاج إليه والمراد بقتلهم خوف الإملاق أن يقتلوا الولد مخافة أن تفضي بهم حياته إلى الفقر في المستقبل ولذلك جاء في القرآن الكريم في سورة الأنعام151 {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} وفي سورة الإسراء 31 {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} وكانوا يئدون بناتهم أي يدفنونهم حيات وكانوا يعبدون التماثيل من الحجارة كما يعبدها كثير من البشر في هذا الزمان وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله وكانوا يستقسمون بالأزلام يضعون عيدانا في كيس قد كتب على بعضها أمرني ربي أن أفعل وعلى بعضها نهاني ربي أن أفعل وبعضها غفل لا كتابة عليه فيدخل الواحد منهم يده فإذا صادفت العود الذي فيه الأمر أقدم على عمله وإذا صادفت العود الذي فيه النهي أحجم عن عمله وإذا صادفت العود المهمل أعاد الاستقسام وكانوا يتيمنون ويتشاءمون بالطير يزجرون الطائر فإن طار إلى اليمين استبشروا وإن طار إلى الشمال تطيروا وخافوا.(2/464)
وكانوا يخافون من الجن ويعوذون برؤسائهم أي يطلبوا الحماية منهم وكانوا يأكلون الميتة والدم ولا يورثون امرأة ولا صبيا بل كانوا يرثون النساء أنفسهن باعتبارهن أموالا وكان بعضهم يقتل بعضا على أتفه الأمور ويضيعون أموالهم في القمار والمنافرة وهي أن يتنافر اثنان للتفاخر فيعقر هذا بعيرا من إبله وينحر ويعقر الآخر مثله حتى تفنى إبل كل منهما وكانوا أشتاتا كل قبيلة لوحدها لا كلمة تجمعهم ولا عقيدة ولا دين ولا شريعة وكانوا أذلاء سكان القسم الشرقي تحت حكم الفرس وسكان القسم الغربي تحت حكم اليونان وسكان وسط الجزيرة كانوا فوضى ولم يحفظ التاريخ لوسط الجزيرة وغربها وشرقها حضارة تذكر أما أهل الجنوب فقد كانت لهم حضارة قضى عليها جيرانهم من الحبشة وأهل فارس فكيف صارت حالهم بعد الإسلام؟.
كل أهل العلم يعلمون أنهم صاروا أسعد الناس صاروا أئمة أهل الدنيا في الدين والدنيا وصاروا حكام العلم وقد رأيتم في هذا المقال شهادة العلماء الأوروبيين المنصفين لطائفة منهم وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى إقامة دليل فهل الاعتزاز بهذا المجد والبناء عليه والتمسك به يعد رجعية؟ إن كان الأمر كذلك عند هؤلاء السفهاء فحيا الله الرجعية وحي عليها وأهلا وسهلا بها ألا ساء ما يحكمون.
ويقال لهؤلاء التقدميين المخدوعين أين تذهبون؟ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا فقرا وذلة وشتاتا وجهلا وحزنا وشقاء فإن لكم ما سألتم وستضرب عليكم الذلة والمسكنة وتبوءون بغضب من الله زيادة على ما أنتم عليه ذلكم بأنكم تقتلون المصلين في المساجد وتشردون علماء الإسلام المصلحين فريقا حبستم وفريقا تقتلون والله عزيز ذو انتقام.
وما ظالم إلا سيبلى بأظلم
وما من يد إلا يد الله فوقها
الرجعية والتقدم في نظر الإسلام:(2/465)
تقدم أن العقل الصحيح يرى التقدم في العلم والعدل وسائر الأخلاق الكريمة فكل أمة اتصفت بالعلم والأخلاق فهي متقدمة وإن كان قبل مليون سنة وكل أمة اتصفت بالجهل ومساوئ الأخلاق فهي متأخرة ساقطة مذمومة ملعونة وإن كانت ستجيء بعد خمسمائة سنة والإسلام دين العقل يوافق هذا ولا يخالفه أبدا فلا عبرة بالزمان ولا بالمكان قال الله تعالى في سورة النساء {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} .
تتمة التقدم والرجعية
قال الحافظ بن كثير: روى العوفي عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام لا دين إلا الإسلام وكتابنا ينسخ كل كتاب ونبينا خاتم النبيين وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} وخير بين الأديان فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن} إلى قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} .(2/466)
وقد تبين لك أن الإسلام الصحيح الذي لم تخالطه العصبية والعقائد الخرافية يبني التقدم كله - روحيا كان أم ماديا - على أساس العمل النافع والاعتقاد الصحيح وإذا سمعت القرآن يقول: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} ويقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
ومثل ذلك فيه كثير فإنه لا يريد البتة أن تكون أمة متمسكة بالإسلام شقية في هذه الدنيا محرومة من جميع حقوقها مدوسة تحت الأقدام مخذولة في جميع تصرفاتها مهزومة في جميع حروبها مكبلة مخذولة خاضعة ذليلة تتكفف غيرها من الأمم طول حياتها ثم هي في الدار الآخرة سعيدة عالية الدرجة عند الله وافرة الحظ في دار الكرامة تدخل الجنة وتسعد برضوان الله فإن ذلك وهم وخيال قال تعالى في سورة الإسراء: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} قال القاسمي في تفسيره:(2/467)
"ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الإهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة وأضل سبيله في الدنيا لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الإهتداء بها وهو في مكان الكسب باقي الاستعداد ولم يبق هناك شيء من ذلك. قيل الأعمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته ومجاز في أعمى البصيرة وهو عدم الإهتداء إلى طريق النجاة وقيل حقيقة فيهما فالأمة العمياء التي لا تبصر طريق النجاة والسعادة في الدنيا مع إمكان رؤيتها بالعقل الذي أعطيته وبإرشاد الله لها بالآيات البينات التي تدلها وتهديها طريق السعادة وتحذرها من طريق الشقاء فهي في الآخرة التي لا تملك وسائل للتوبة والتبصر والرجوع إلى الحق أشد عمى وأضل سبيلا لأنها في دار الجزاء وكانت من قبل في دار العمل فلم تزرع شيئا نافعا يمكنها أن تحصده في آخرتها وإنما زرعت أسباب الشقاء والشر فهي في الآخرة تحصد الندامة وبعبارة أخرى قد وعدها الله السعادة في الداريين إن أطاعته وعملت ما أمرت به وتركت ما نهيت عنه واتبعت رضوانه وأوعدها بالشقاء في الدارين إن عصت أمره وفعلت ما نهاها عنه واتبعت ما أسخطه والواقع في هذا الزمن أنها عصت الله وارتكبت ما نهيت عنه وعميت عن أسباب النجاة مع وضوحها فعاقبها الله في هذه الدنيا بالحرمان والخذلان والذلة والهوان وسيعاقبها في الآخرة عقابا أشد وستكون في الآخرة أشد أعمى وأبعد عن النجاة كما قال الله تعالى في سورة الرعد: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} . وقال تعالى في سورة الطلاق: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ(2/468)
يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رسولا يتلوا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} .
المراد بالقرية هنا الأمة قال الحافظ بن كثير: "يقول تعالى متوعدا لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرع مخبرا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِه} .أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} . أي منكرا فظيعا {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} . أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفع الندم {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} . أي أعد لهم عذابا شديدا أي في الدار الآخرة مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا.(2/469)
ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَاب} . أي الأفاهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم {يَا أُولِي الأَلْبَاب} ، {الَّذِينَ آمَنُوا} . أي صدقوا بالله ورسله قد أنزل إليكم ذكرا يعني القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وقوله تعالى: {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} قال بعضهم: {رَسُولاً} منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر، وقال بن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسيرا له ولهذا قال: {رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات} أي في حال كونها بيِّنة واضحة جلية {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.
وقد سمَّى الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} . قد تقدم تفسير مثل هذا غير مرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة.(2/470)
وقال تعالى في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فأنت ترى أن الله تعالى وعد الذين يعملون الصالحات ويتمسكون بالإيمان أن يحيهم حياة طيبة في الدنيا ويجزيهم جزاء حسنا في الآخرة فإذا أحياهم حياة سيئة بالشقاء والحرمان فذلك دليل قاطع على أنهم عملوا السيئات وأن الله سيعذبهم أكثر مما عذبهم في الدنيا إذا عرف المسلمون ومنهم العرب هذه الحقيقة وجب عليهم أن يكونوا على يقين أن كل حركاتهم في هذه الأزمنة الأخيرة لا يزيدهم إلا خبالا ولا تكون عليهم إلا وبالا فيجب عليهم أن يبحثوا عن طريق جديد وجهة جديدة ولن يجدوها إلا في الرجوع إلى القرآن وقد تحديناهم نحن وأساتذتنا مئة سنة أن يجدوا سبيلا أخرى للخلاص فلم يجدها ولن يجدوها أبدا.
ومن ذلك تعلم علم اليقين أن السفهاء الذين يسمون الرجوع إلى القرآن والتمسك بالإسلام رجعية. هم شر رجعيين في العالم ولا تجد لرجعيتهم نظرا بين الرجعيات في هذه الدنيا وإذا تجرؤا وزعموا أنهم تقدميون فإن جميع أهل الأرض يلعنونهم ويسخرون منهم وذلتهم وفقرهم وجهلهم وحقارتهم شهودا عدول على كذبهم، أضف إلى ذلك طيشهم واستبدادهم وفقدان العدل والمساواة بينهم وإنهم فوضى يخبطون خبط عشواء في ليلة ظلماء، لا استقرار عندهم ولا أمن يثور بعضهم على بعض ويفني بعضهم بعضا كل ثائر يريد أن ينعم بالاستبداد والطغيان ولو مدة قصيرة ومع ذلك يمدحون الثورة ويجعلونها من القواعد المرغوب فيها لذاتها وإن لم يترتب إلا زيادة الشقاء والشتات والدموع والدماء لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون.
مقصود الأوروبيين والنصارى بالرجعية:(2/471)
يرى الأوربيون النصارى أن التمسك بالأساليب التي أكل عليها الدهر وشرب وأقام الدليل على أنها خطأ رجعية مذمومة محالفة للشقاء الذي يزول حتى تزول تلك الأساليب، فمن ذلك الاستمرار على الجهر بما ينفع الناس في دينهم وأخلاقهم ومعاشهم وأرزاقهم، ومن ذلك التعصب للعقائد والأنظمة، فكل أمة تكون متفرقة فرقا عديدة لكل فرقة عقيدتها وكل فرقة تبغض من يخالفها في العقيدة من مواطنيها بغضا يحملها على عداوتهم والكيد لهم وآذاهم فهي فرقة رجعية، وإن كانت فرق الأمة كلها كذلك فالأمة كلها رجعية بعيدة عن التقدم والسير في طريق الفلاح لأنه ثبت بالبرهان القاطع عندهم أن الأمة لا تستطيع التعاون على ما فيه خيرها وسعادتها إلا إذا نبذت التعصب وساد فيها التسامح بين الفرق.
ومن ذلك التعصب للنظام كالجمهورية والملكية مثلا فكل شعب يتعصب لنظامه ويبغض كل من خالفه ولا يكفيه ذلك حتى يعاديه ويكيد له ولا يتعاون معه ولا يتبادل معه المصالح فهو شعب رجعي مذموم عندهم ولذلك تجد الشعوب المتقدمة الملكية كبريطانيا والدانمارك والسويد والنرويج وبلجيكا ولوكسمبورج وهولندا لا تبغض الدول الجمهورية لكونها جمهورية كالولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسة أو سويسرة وجرمانية وإيطالية بل تتواد معها وتتعاون معها وتتبادل معها المصالح وكل فريق يترك للفريق الآخر الحرية فيما اختره لنفسه، ومن الأمثلة العجيبة في ذلك أن إيرلندة المستقلة اختارت النظام الجمهوري وخرجت على أمتها البريطانية، وكلهم يسكنون بلادا متصلة وينتسبون نسبا واحدا ولوشاءت بريطانية أن تتعصب وتكيد لإيرلندة كما يفعل الرجعيون لسحقتها في يوم واحد وأجبرتها على الانضمام لها ولكنهما تعيشان في سلام.(2/472)
ومن ذلك التعصب للأساليب القديمة في الفلاحة والملاحة والصناعات، فلو وجد شعب يحرث على الدواب وعرضت عليه الجرارات العصرية فمنعه التعصب من قبولها لكان رجعيا مذموما محروما، ولو وجدت قرية تستضيء بالقناديل والزيت والفتل وعرضت عليها الكهرباء فرفضتها لكان أهلها رجعيين مذمومين.
وهكذا يقال في قرية يطحن أهلها بالأيدي فعرضت عليهم طاحونة بالكهرباء فرفضوها، وفي قوم يسافرون في البحر بسفن شراعية فعرضت عليهم البواخر التي تمخر البحار كأنها الأعلام وقس على ذلك فهذا هو الفرق بين الرجعية والتقدم عند نصارى أوروبا.
أما دراسة الدين في الجامعات وتخصيص كل جامعة عظيمة كلية عظيمة محترمة مكرمة لتعلم اللاهوت (ثيولوجي) وإقامة الصلوات في كنيسة الكلية وإيجاد أعمال دينية محترمة لهم في شعبهم وامتلاء الكنائس يوم الأحد بالمصلين والمصليات من التلاميذ والطلبة والأساتذة وعامة الشعب وحضور أساتذة الجامعة ومشاركتهم في الصلوات والاحتفال بتخرج عدد كبير من الأطباء كل سنة في تلك الكليات، وتبرع بملاين من الدولارات والجنيه لنشر النصرانية خارج أوروبا وأمريكا وبناء المستشفيات والمدارس والكنائس والإرساليات في آسيا وإفريقيا فلا يعدون شيئا من ذلك رجعية، ومن ذلك الحكم الاستبدادي الذي لا يستند إلى انتخاب ولا برلمان ولا مجلس شيوخ فإنهم يعدونه رجعية ولذلك ترى أكثر دول أوروبا وأمريكا تبغض نظام الحكم في إسبانيا وتشمئز منه، على أنهم ليسوا سالمين من التعصب الديني وإن كانوا يذمونه وقد عاشرتهم وخبرتهم فرأيت فيهم من التعصب الديني أشد التعصب حتى فيما بينهم كالبرتستانين والكاثوليكين وفيهم من يبغض الإسلام بلا سبب تعصبا للنصرانية، ولي على ذلك أدلة لو ذكرتها لطال الكلام.
(البقية في العدد القادم)
مثل قرآني(2/473)
{ ... أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأََمْثَالَ} .
الرعد /19
فدائيون
كان كعب بن الأشرف رجلا من طي وأمه من بني النفير وهو من زعماء اليهود بالمدينة آذى المسلمين وشبَّب بنسائهم وحاك المؤامرات لحربهم والقضاء عليهم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اكفيني ابن الأشرف بما شئت"ثم قال: "من لي بابن الأشرف فقد آذاني"، فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: "أنا لك به يا رسول الله". وفي ليلة الرابع عشر من ربيع الأول من السنة الثالثة من الهجرة توجهت السرية بقيادته واشتراك أبي نائلة سلكان بن سلامة وعباد بن بشر إلى قلعة بن الأشرف في ديار بني النضير حسب اتفاق سابق معه على رهن بعض السلاح عنده مقابل كمية من الطعام وكان قد طالبهم عدو الله برهن نسائهم وأبنائهم فرفضوا.
وعند القلعة استنزلوه إلى شعب العجوز (ويقع في غرب منها) وقتلوه فصاح صيحة سمعها أهل الحصون المجاورة من اليهود فأوقدوا المشاعل ليكشفوا عن العملية دون جدوى، ورجعت السرية من ديار بني أمية وحرة العريض ولما بلغوا بقيع الغرقد كبروا فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم وعرف أنهم قتلوا عدو الله فلما انتهوا إليه قال: "أفلحت الوجوه". قالوا: "ووجهك يا رسول الله". ورموا برأس كعب بين يديه.
ابن إسحاق| طبقات بن سعد |نهاية الأدب باختصار(2/474)
الغزو الفكري
بقلم الشيخ ممدوح فخري
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
لقد كان سقوط الخلافة الإسلامية وزوال الدولة العثمانية من أكبر الكوارث التي تعرض لها المسلمون في العصر الحديث وذلك أن هذه الدولة كانت تمثل المظهر الأخير من مظاهر قوة المسلمين وسيادتهم، وقد تضافر لذلك السقوط أسباب عديدة وعوامل شتى منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي ومنها ما هو ذاتي، ولسنا بصدد تعداد هذه العوامل أو مناقشتها ولكنا نركز على عاملين مهمين منها كان لهما الدور الأكبر في انهيار الخلافة والنصيب الأوفر من تركتها وهما الكيد اليهودي من الداخل والغزو الصليبي من الخارج. أجل لقد التقى الدس اليهودي مع المكر الصليبي على تحطيم القوة السياسية والعسكرية للمسلمين والتي كانت متمثلة في الدولة العثمانية. ونحن نستدرك قبل كل شيء ونقول:(2/475)
إن الخلافة العثمانية لم تكن خلافة راشدة بل لها عيوبها الكثير ولكن مع ذلك فإن إصلاح الخلافة خير من إسقاطها. وعلى أية حال فقد زالت الخلافة واختفى هذا المنصب من حياة المسلمين للمرة الأولى، وزال بذلك رأس هذه الأمة عن جسدها وبقيت بعده جثة هامدة لا تبدي حراكا وهان بالتالي على الكلاب أن تنهشها وعلى الأفاعي أن تنفث سمومها فيها. ولقد كان دور اليهود في هذا الصراع دور دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان وذلك باندساسهم في مراكز الدولة الحساسة بواسطة منظماتهم السرية وخلاياهم الماسونية ففتوا في عضدها ونخروا في عودها إلى أن أقوت، فلما جوبهت بعد ذلك بالغزو الصليبي لم تلبث أن انهارت وخرت. وفرح المجرمون يومئذ بنصرهم وفازوا بأمنية من أعز أمانيهم ألا وهو قطع الخيط الذي كان ينتظم المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم كما ينتظم الخيط حبات العقد وألسنتهم كما ينتظم الخيط حبات العقد ألا وهو خيط الخلافة المنسوج من روح الإيمان والأخوة الإسلامية. وبانقطاع ذلك الخيط تناثرت فرائد العقد وانتهبتها اللصوص وبترت أوصال الأمة الواحدة فأصبحت أمما، وقسمت أجزاء الوطن الواحد فأصبح أوطانا وتقاسيم القتلة تركة المقتول. وكان هذا كما قلنا من أكبر الكوارث التي ألمت بالمسلمين وذلك لما ترتب عليه من آثار بعيدة المدى كما سنرى شيئا منه في هذه الكلمة. وأما التخطيط والإحكام اللذين عمل على أساسهما أعداء الإسلام بعد هدم الخلافة فقد أعظم خطرا مما قبله وذلك ما أن دالت دولة الإسلام وزالت شوكته حتى سارع الأعداء إلى الأخذ بالأسباب البعيدة التي تحول دون عودة الإسلام إلى الحياة من جديد، هذا الدين العملاق الذي كان ظهوره خطر على الكافرين على اختلاف أنواعهم والذي أجلاهم عن الجزيرة العربية كلها واستخلص من أيديهم أجزاء شاسعة من آسيا وإفريقيا واقتحم عليهم ديارهم في أوروبا وراحت خيوله تنطلق برسالة التوحيد من المحيط إلى المحيط في فترة لا تزيد(2/476)
على ربع قرن.
أجل لقد سارع أعداء هذا الدين إلى الأخذ بجميع الأسباب التي تبقيه صريعا وتضمن لهم السيطرة الدائمة على المسلمين وعلى بلادهم، ووضعوا لذلك مخططا رهيبا وسهروا على تنفيذه بدقة وإحكام إلى أن أتى جميع الثمار المرجوة منه. وسنحاول في هذه العجالة أن نلم بأبرز خطوط تلك المؤامرة الرهيبة التي استهدفت وجود المسلمين باعتبارهم أمة وأرضا وحضارة.
أولا: فكرة فصل الدين عن الدولة:
وهذا يعني باختصار إقصاء الدين عن الحياة والحيلولة بينه وبين أداء مهمته التي جاء لأجلها وسجنه في المعابد والأديرة والكهوف مع منعه من التدخل في شؤون الحكم والسياسة والاقتصاد والتعليم وسائر مرافق الحياة الحية وتفويض كل ذلك إلى مردة من الطواغيت الذين يتألهون على العباد ويستكبرون في الأرض ويسعون فيها فسادا ويستذلون الرقاب ويقيمون للناس شريعة الهوى والشيطان بدلا من شريعة الرحمن وهداية القرآن وينصبون من أنفسهم سدنة للدين الجديد الذي أتوا به. وقد كانت هذه الفكرة من أخطر ما جلبه الغزو الفكري إلى بلاد المسلمين فقد جاء الغزاة إلى الشرق المسلم وهم حديثو عهد بالتحرير من الطغيان البابوي الذي رزحوا تحت نيره زمنا طويلا وعانوا منه ما عانوا باسم الدين، واستطاعوا بعد صراع مرير إقصاء البابا ودينه من حياتهم ثم انطلقوا في الأرض وهم يحملون فكرة فصل الدين عن الدولة بمعنى أن الدولة سلوكها كله وفي جميع شؤونها الخاصة والعامة لا تسترشد بمبادئ الدين ومعتقداته ورجال الحكم والسياسة أحرار في تصرفاتهم بغير وازع أو رقيب من الدين والدين بحد ذاته لا يعدو أن يكون علاقة خاصة بين العبد وربه. وجاءوا إلى الشرق مزودين بهذه الفكرة ليجدوا في الشرق دينا عظيما يلبي جميع حاجات الإنسان في حياته الخاصة والعامة وينظم علاقته بربه وعلاقته بأخيه الإنسان. فكان هذا الدين بشموله وواقعيته وتكامل نظرته إلى الوجود أعظم عدو جابهوه لذلك(2/477)
ولتستقر أقدامهم في أرض الإسلام لا بد من الحيلولة بين الإسلام والحياة وذلك بتشويه فكرة أبنائه عنه ومسخ مفهوم الدين في نفوس المسلمين وجعله رهبانية سجين الصوامع. وقد أشار إلى هذا المعنى رئيس وزراء بريطانيا (غلاديستون) في مجلس العموم البريطاني حيث قال وهو يشير إلى القرآن الكريم: "لا قرار لكم في مصر ما دام هذا الكتاب في أيدي المصريين". وفعلا نجحت مخططاتهم واستطاعوا أن يزيحوا الإسلام تلك العقبة العظيمة عن طريقهم وذلك بإيجاد أجيال من المسلمين يؤمنون كما أراد لهم أسيادهم بضرورة فصل الدين عن الدولة، ويطلقون بين الحين والآخر تلك الكلمة الخبيثة: "الدين لله والوطن للجميع"، والواقع أن الدين لله والوطن لله والكون كله لله فلا يجوز أن يكون فيه ما لا يرضي الله وهكذا أصبح أبناء المسلمين عونا على دينهم مع أعدائهم وحملوا عن الأعداء عبئا كبيرا في محاربة الدين حتى يتفرغ الأعداء للإفساد في مجالات أخر.
فكرة القوميات والعصبيات الجاهلية:(2/478)
لقد أدرك أعداء الإسلام بأن قوة المسلمين تكمن في هذا الدين وفي اجتماعهم حول مبادئ هذا الدين وتمسكهم برابطة الأخوة الإسلامية التي تنتظمهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولذلك كان لابد من فصم عُرى هذه الأخوة التي تشد المسلم إلى أخيه وتكون منهم قوة رهيبة يحسب لها الأعداء ألف حساب على ما جاء في الحديث الشريف "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وكانت فكرة القوميات هي البديل الجديد للأخوة الإسلامية، فانطلق أعداء الإسلام مع أُجَرَائِهم لإحياء العصبيات النتنة من قبورها وجمع رفاتها وبعث الحياة فيها من جديد بعد أن أماتها الإسلام من قرون. واستطاعوا أن يذكِّروا الناس بماضيهم الذي كانوا عليه قبل الإسلام وعملوا على بعث الحضارات الجاهلية البائدة وإحياء مظاهرها وتعظيم تلك المظاهر وعرضها عرضا مغريا يوحي بأصالتها وعراقتها، ونفخوا في الناس روح التقديس لتلك الرسوم البالية فانتسب الناس لآبائهم بدلا من الانتساب لدينهم ونسوا مفهوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ونسوا قوله تعالى في الحديث القدسي المأثور: "جعلت نسبا وجعلتم نسبا فقلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقلتم فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم". ونسوا قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أحمر إلا بالتقوى".(2/479)
وهكذا وبهذه القوميات النتنة تفتت وحدة المسلمين وعادت الأمة الواحدة أمما شتى لا تربطها بأخواتها رابطة سوى الانتماء الاسمي إلى الإسلام، وفَقَدَ المسلمون بذلك أعظم سلاح في أيديهم بعد إيمانهم بالله، وهان على عدوِّهم بعد ذلك أن يفترس كل جماعة على حدة دون أن تنتصر لها الجماعة الأخرى.
فكرة الوطنية:
لا شك أن وحدة الوطن من عوامل وحدة الأمة وتماسكها ومن عناصر قوتها لذلك خطط الأعداء لتجزئة الوطن الإسلامي الواحد ولجعله أوطانا تفصل بينها الحدود والسدود المنيعة التي تحول دون التقاء الإخوة على غاية واحدة وتحت لواء واحد. وكان لهم ذلك، ووجدت دويلات وممالك وإمارات زائفة أراد لها الأعداء أن تكون فكانت. ولكن الأمر لم ينته عند التجزئة بل لا بد من التبرير والإبقاء على هذه التجزئة وذلك بربط الناس وشدهم إلى الأرض بعد أن قطعوا صلتهم بالسماء فكان لذلك هذا التغني بالأوطان وكان هذا التمجيد للأوطان وكان هذا التفاني في سبيل الأوطان، وغدا حب الوطن وسيلة لمرضاة الشيطان فالمسلم يحب وطنه ولا شك ويعتبر الدفاع عنه جزء من الدفاع عن دينه وكيانه وسيادته على أساس أن الوطن هو الأرض التي تقام عليها شعائر دينه ولا بد للدين من أرض ليستقر عليها وتطبق أحكامه ومبادئه فيها لهذا المعنى كان المسلم الذي يموت دون أرضه شهيدا وكان الدفاع عن الوطن حتما لازما. فالوطن لا يحب لذاته وإنما لأنه قد يكون وسيلة لمرضاة الله وذلك بإقامة الدين فوق أرضه، وأما إذا كان الدين غريبا في الوطن ما فالتعلق بذلك الوطن لمجرد كونه وطنا مظهر من مظاهر الوثنية والعصبية فالوطن بغير دين وثن. ولا يفهم من هذا بأن المسلم يتنازل عن وطنه بيسر وسهولة، بل يفهم منه أن المسلم لا يتمسك بوطنه إلا ليعبد الله على أرضه، وأنه يجاهد ليكون الدين كله لله في كل أرض الله في وطنه وغير وطنه.
فكرة العلمانية:(2/480)
جاء الغزاة إلى الشرق المسلم ولما ينفضوا أيديهم بعد من ركام الكنيسة التي دمروها في أوروبا لتوهم وتحرروا بذلك من سلطان رجال الدين وأباطيلهم وأضاليلهم وخرافاتهم التي كانت تفرض عليهم باسم الدين والدين منها بريء فلما أثبتت التجارب والتقدم الفكري الهائل مناقضة آراء الكنيسة وأهوائها لحقائق العلم، وانجلى ذلك الصراع المرير بين الدين والعلم بهزيمة مروعة لدين الكنيسة صنف رواد النهضة العلمية أن الكنيسة في عداد الخرافات والخزعبلات والأوهام والأساطير التي لا تمت إلا الحقائق العلمية بصلة أخرجوها بذلك من مجال اليقينيات إلى مجال الشك والظنيات والتخيلات, وأفقدوها بذلك قداستها وجدارتها ومكانتها وهذا كله حق لا ريب فيه بالنسبة لجل آراء الكنيسة وأهواء رجالها، ولكنه بالنسبة للإسلام وهو وحده الدين الحق المحفوظ بحفظ الله باطل كله. وهذه مبادئ الإسلام جملة تثبت أمام التحدي العلمي الهائل مدى أربعة عشر قرنا ثبوتا رائعا مذهلا، بل لا يزيد التحدي والتقدم العلميان إلا رسوخا في قلوب المؤمنين به ولا تكون الكشوف العلمية إلا من جملة البراهين على عظمة هذا الدين. ولكن الغزاة وهم في غمرة انتصارهم على دين الكنيسة لم يكن لديهم استعداد للتمييز بين دين ودين, بل التهموا جملة الأديان وحاربوها جميعا، وكان على الإسلام الذي بارك العلم وأكبر العلماء وتعهد أكبر حركة علمية في التاريخ القديم ووضع أسس الحركة العلمية الحديثة, كان على الإسلام هذا أن يتحمل خرق رجال الدين لا من أبنائه أو في بلاده بل في أوروبا. ويتهم بما اتهمت به الكنيسة من محاربة العلم ومصادمة العقل. وكما أن النهضة العلمية والفكرية نشأت في أوروبا في ظلال الإلحاد فكذلك امتدت جذورها وفروعها إلى سائر البلاد وهي تحمل سمة الإلحاد والتنكر القاطع لكل ما لا يقع تحت التجربة ويخضع للحواس، ولا مجال هنا لمناقشة الملاحدة في تنكرهم لحقائق الدين الكبرى، ولكنها الإشارة إلى أن(2/481)
الإلحاد هو السمة البارزة لحضارة اليوم وهو مظهر من أكبر مظاهر الغزو الفكري لبلادنا.
شعارات المدنية والحضارة والتقدم:
وكذلك من مظاهر الغزو الفكري لبلادنا وشبابنا التغني بالشعارات الجوفاء التي لا مدلول لها، وإطلاق الاصطلاحات الضبابية الفارغة والكلمات القاتمة الموهمة وجعل ذلك كله مبررا للتخلص من كل قديم مهما كان ذلك القديم خيرا نافعا. فكل قديم مناف للمدنية والتقدم وكل جديد هو الحضارة, وبناء على هذا المقياس فقد ترك الدين وهجرت الأخلاق ونبذت الفضائل، وتخلى الناس عن الأعراف والتقاليد الأصلية لأمتنا واستغني عن كل ذلك لأنه قديم وكل قديم ينافي المدنية والرقى، ولله در الرافعي حيث كتب على غلاف كتابه: ((تحت راية القرآن)) وهو كتاب يبحث في المعركة بين القديم والحديث: إلى الذين يريدون تجديد اللغة والدين والتاريخ والشمس والقمر. يريد الرافعي أن يقول: لا يمكن التخلص من كل قديم. وليس كل قديم ضارا بدليل أن الشمس والقمر قديمان ولا يمكن الاستغناء عنهما وغيرهما كثير جدا. فإيجاد هذا النوع من التعرض بين القديم والمدنية والرقى ودون تمييز بين الضار والنافع أصبح مفهوما مركوزا في نفوس الخاضعين للغزو الجديد كمظهر من مظاهر هذا الغزو. مع أن جميع الفضائل قديمة.
الحركة النسائية وفكرة تحرير المرأة:(2/482)
لم يكن يخفى على الغزاة ومريديهم أمر المرأة ودورها في الهدم والتدمير لذلك أولوها اهتمامهم الزائد وعنايتهم البالغة وبحّت حناجرهم وهم ينادون بتحريرها واسودت صحفهم وهم يطالبون بحقوقها وكأن الديانات ما جاءت إلا لترشد الناس إلى ظلم المرأة وهضم حقوقها، وجاءوا هم ليرفعوا عنها هذا الحيف الذي عانت منه أجيالا طوالا. وإذا أردت أن تكون موضوعيا ومحددا في مناقشة أحدهم ترى أن خلاصة شغبهم وصراخهم وعويلهم حول هذا الأمر لا يتجاوز تجريد المرأة من دينها وخلقها ثم من حجابها وثيابها. فالظلم كله هو أن تبقى المرأة متمسكة بدينها وخلقها وعفتها وطهارتها، مسبغة عليها حجاب الصون والعفة، والعدل كله أن تتحرر من كل ذلك. وكنتيجة طبيعية لانهزام المسلمين انهزموا أيضا في هذا الميدان وحقق الغزاة انتصارا مذهلا مروعا، وجردت المرأة من حليها في الظاهر والباطن فأبدت عورتها للناس وتبرجت تبرجا أشد من تبرج الجاهلية الأولى وانطلقت في الشوارع كاسية عارية مائلة مميلة تغري الناس بزينتها وتحرضهم على الرذيلة وتدمر كل شيء بإذن أسيادها وأساتذتها من الغزاة وعملائهم. فتحطمت الأسر وهدمت البيوت وشاعت الفاحشة في الذين آمنوا وقوضت أركان المجتمع الإسلامي وسرى الانحلال والانهيار في كل جوانبه، وكان للأعداء ما أرادوا.
تلك أبرز مظاهر الغزو الفكري في نظرنا وأما أهم وسائل هذا الغزو فهي ما يلي:(2/483)
برامج التعليم: بعد أن استقر الغزاة في بلادنا رأوا أنهم لا قرار لهم في أرضنا ما لم يتبعوا غزوهم هذا بانقلاب فكري وغزو ثقافي فإن سيوف الغزو الثقافي أمضى بكثير من سيوف الغزو العسكري ولتحقيق هذه الغاية أحدثوا انقلابا جذريا في برامج التعليم ومناهج دور العلم ووضعوا مخططا جديدا يكفل لهم إيجاد أجيال من المسلمين تدين بدينهم وتقول بقولهم وتفعل بفعلهم ولا تَمُتُّ إلى الإسلام إلا بصلة الانتماء الاسمي في الوقت الذي تتنكر فيه للإسلام في العقيدة والسلوك. وكانت المدارس التي طبقت هذه المناهج نوعين: مدارس المبشرين التي تدار بواسطة الغزاة مباشرة ومدارس تدار بواسطة أذناب الغزاة تحت ألقاب إسلامية خادعة. وآتت هذه المدارس أكلها وأنبتت نابتة من المسلمين على أعين الغزاة وتحت سمعهم وبصرهم, فكانت كما أريد لها أن تكون متنكرة لكل تراثها الفكري والروحي والحضاري مكبرة ومجلة للغازي وحضارته وتراثه ورسالته. وبعبارة أخرى كانت هذه الأجيال الجديدة هي الهجين الذي أدخل على الأمة الإسلامية وليس منها. أجيال هي غربية عن هذه الأمة وعن عقيدتها وعن حضارتها وعن فكرتها وعن نظرتها للحياة والكون والإنسان. وزيادة في إحكام الخطة وحرصا على استمرار الحرب ضد الإسلام، فقد عهد المستعمرون الغزاة إلى هذا الجيل الذي رُبِّي في محاضنهم وغذي بلبانهم وأشرب قلبه حبهم وتقديسهم عهدوا إليه بإدارة البلاد ووضعوا مقدرات المسلمين وبلادهم تحت تصرف هؤلاء فكان منهم القادة والسادة ومنهم الوزير والأمير وتسرب الغزاة إلى دماء هؤلاء وعقولهم وأفكارهم وأصبحوا يحاربون المسلمين بهم ومن خلفهم، وتكفل هؤلاء المستعمرون الجدد من أبناء البلاد بتنفيذ مخطط أسيادهم وآبائهم الروحيين والسهر على تعاليمهم وأفكارهم في بلاد المسلمين وأصبحوا وسيلة لكل شر يريد الأعداء إلحاقه بالمسلمين وبعد خروج الغزاة الظاهرين المكشوفين من أكثر بلاد المسلمين أصبح هؤلاء الغزاة المقنعون(2/484)
والمستترون من أبناء المسلمين هم العدو الأكبر لهذه الأمة لأنهم يقومون بدور العدو بمحاربة الإسلام وزيادة ويتفننون في ذلك بما لا يستطيع العدو الظاهر أن يفعله فجميع مظاهر الغزو الفكري تتمثل فيهم وجميع وسائله في أيديهم، بل حماة ذلك الغزو وحملته وطلائعه في بلاد المسلمين وعلى أيديهم يتوالى خروج المسلمين عن دينهم وارتداد أبنائهم، وتنشأ الأجيال الجديدة التي لا تعرف الإسلام إلا تاريخا مشوها. وينفذ مخطط الأعداء بحذافيره والذين درسوا في مدارس المبشرين والمستعمرين ونشأوا على مناهجهم، يضعون للمسلمين برامج ومناهج على غرار مدارس المبشرين والمستعمرين والحلقة متصلة هكذا. وانسلاخ المسلمين عن دينهم وخروجهم عن عقيدتهم وتنكرهم لحضارتهم مستمر هكذا أيضا.(2/485)
وسائل الإعلام: ومما يلي برامج التعليم في كونها وسيلة من أكبر وسائل الغزو الفكري أجهزة الإعلام على اختلاف أنواعها من صحافة وإذاعة وتلفزة ودور عرض (السينما) . فإن الأيدي الخبيثة الأثيمة من أعداء الإسلام قد وضعت هذه الأجهزة في أيدي ربائبها وغلمانهما وصنايعها ممن لا يقلون حربا للإسلام عن أسيادهم، وهكذا أصبحت أجهزة الإعلام في معظم بلاد المسلمين كمخدر دائم يستعمل لصد الناس عن دينهم ولا دور لها إلا تحطيم المثل والقيم والأخلاق والتحريض المستمر ليلا نهارا على الفاحشة، وعلى مخالفة الآداب، وعلى ازدراء الفضائل والخروج على كل عرف صالح تعارفه الناس. والصنم الذي تعبده أجهزة الإعلام في معظم بلاد المسلمين وتدندن حوله وتسبحه وتقدسه، هو صنم الجنس فقلما تنشر كلمة أو تعرض صورة أو تذاع أغنية إلا وهي عن الجنس وللجنس وحول الجنس، والإلحاح المستمر حول هذا الموضوع في كل وقت ومناسبة وبكل وسيلة قد سد على الناس الطرق وألجأهم إلى الانغماس فيه إلجاء فإذا تناولت مجلة فصورها وأحاديثها تنطق بالفحشاء وتتحدث عن الحب وإذا فتحت المذياع فالأغاني الماجنة المائعة تصك آذانك بالعهر المذاب وتصلي للحب، وإذا نظرت إلى الرائي (التلفزيون) فهناك الحياة الحب والحب الحياة وكل شيء عن الحب شاخص أمامك وماثل بين يديك هذه هي الحقيقة والواقع بالنسبة لمعظم بلاد المسلمين التي وقعت فريسة في أيدي المرتدين من أبنائها والذين يستوردون المبادئ والعقائد والشرائع والتعليمات من الأعداء ثم ينفذونها بدقة وأمانة.(2/486)
تنظيم القوى الكافرة والغازية والاهتمام بمراكز القوة: حتى يستمر تيار الغزو الفكري في اجتياحه لابد من الأخذ بالأسباب التي تبقي عليه وتضمن له النمو والازدهار وذلك باحتلال مراكز القوة كالجيش والحرص على أن لا تتسرب إليه روح مؤمنة والسهر الدائم على أن يكون حارسا أمينا للأفكار الدخيلة المناقضة للإسلام أو لثمار الغزو الفكري ثم تنظيم جنود الغزو عملائه في المنظمات حزبية تعمل على أسس مدروسة ومنسقة وتغزو جميع مرافق الدولة المهمة وتضمن بذلك الإشراف المباشر على سير الغزو وتطمئن على سلامة الخطة وحسن سير العمل وتنفذ تعاليمها بطريقة منظمة دقيقة يعرف فيها كل دوره في المعركة ومسؤوليته في العمل فلا تضيع التابعات ولا تفقد المسؤوليات.
هذه باختصار أهم مظاهر الغزو الفكري ووسائله، وقد عملت هذه الوسائل مجتمعة على إيجاد جيل الردة الذي قدِّر لنا أن نشاهده. أجل لقد تضافرت جهود هذه الوسائل على اقتلاع الإسلام من قلب أبنائه وعلى قتل روح الجد والرجولة والعمل في جموع شباب هذا الجيل، الذي يشكو من تمزق في ضميره واضطراب في تفكيره وصراع في نفسه وقلق قاتل في حياته كلها. شباب هذا الجيل تربة خصبة ألقيت فيها بذرة خبيثة فكان هذا النبات النكد وكان هذا الفصام وهذا الإزدواج في الشخصية بين الآثار الإسلامية في النفس وفي البيئة وبين بريق الغزو الجديد وزخارفه ومغرياته ومعطياته للنفس والهوى والشباب.(2/487)
إن روح الحضارة الجديدة الخبيثة قد تلوثت فطرة الشباب المسلم وطمست معلمها النظيفة وانتزعت من قلبه مثله العليا وتعشقه للتسامي وأشواقه للخلود لتعطيه الإخلاد إلى الأرض والنزوع إلى سفاسف الأمور والركون إلى الشهوات والملذات والإنكباب على مراتع الرذيلة ومباذل الأخلاق، إن هذا الأفيون الذي جاء به الغزاة والمغلف بغلاف المدنية والحضارة جرد شبابنا من كل مقوماته وبنى له معبدا ضخما هائلا في تنميقه وتزيينه أمهر المهرة من الخبراء والفنيين ألا وهو معبد الجنس ووضع في داخله صنم يعبد وهو الحب، وراح يدعو إلى الدخول في الدين الجديد بكل ما أوتي من قوة وبكل ما يملك من وسائل جبارة حتى جعل الجنس كل شيء في حياة شباب هذا الجيل، هذا الشباب الذي يعاني ظمأ روحيا وسغبا نفسيا واختلالا كبيرا في السلوك بين متطلبات روحه وجسده. وبإفساد هذا الجيل على هذه الشاكلة ووضع المخطط لإفساد الأجيال المقبلة نال العدو منا كل ما يريد. وأكبر دليل على ذلك أن هذا الشباب المنخور المهزوز المتهالك على الملذات والأسير للشهوات حينما وضعه موجهوه وأسياده في مراكز القيادة والتوجيه عبث بمقدرات البلاد والعباد وأهلك الحرث والنسل، وأهدر الكرامات وانتهك الأعراض وصادر الحريات، وكان وجوده وصمة على الإنسانية، والحيف الذي تعرضت له البلاد على أيدي هؤلاء كان أعظم مما تعرضت له أيدي الصليبين والتتار.
تلك هي أهم مظاهر الغزو الفكري ووسائله، فعلى الذين لا يزالون على إيمانهم بالإسلام وولائهم له وانتمائهم الحقيقي إليه أن ينتزعوا هذه الوسائل من أيدي الغزاة الجدد ويجردوهم بذلك من سلاحهم الذي به يدمرون ويقضوا بالتالي على مظاهر هذا الغزو قبل أن تجتاحهم فلوله.
موكب(2/488)
لما قدم عمر بن الخطاب الشام قدم على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف، فتلقاهما معاوية في موكب عظيم فجاوز عمر حتى أخبر به فرجع إليه فلما قرب منه نزل إليه فأعرض عنه عمر، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا، فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: "لقد اتبعت الرجل"، فأقبل عليه فقال: "يا معاوية أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك"، قال: "نعم يا أمير المؤمنين". قال: "ولم ذاك؟ "، قال: "لأننا في بلد لا نتمنع فيه من جواسيس العدو ولابد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتني بذلك أقمت عليه وإن نهيتني عنه انتهيت". فقال: "لئن كان الذي تقول حقا إنه رأي أريب وإن كان باطلا فإنه خدعة أديب وما آمرك به ولا أنهاك عنه". فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه". فقال: "لحسن موارده جشمناه". العقد الفريد/ ح1(2/489)
الإسلام والحياة
بقلم أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
2 - القرآن والعقل:
من أوضح سمات القرآن الكريم، التي لفتت نظر الباحثين في القرآن من المسلمين وغير المسلمين، إشادة القرآن بالعقل وتوجيه النظر إلى استخدامه للوصول إلى الحقيقة، فقد دعا القرآن بطريق مباشر وغير مباشر، وصراحة وضمنا، وجملة وتفصيلا، إلى تعظيم العقل والرجوع إليه.
ويحرص القرآن على تأكيد هذا المعنى، حتى أنه ليكرر هذه الدعوة بشكل يلفت النظر ويثير الاهتمام.
ويشير القرآن إلى العقل بمعانيه المختلفة، مستخدما لذلك كل الألفاظ التي تدل عليه أو تشير إليه من قريب أو بعيد، من التفكر والقلب والفؤاد واللب والنظر والعلم والتذكر والرشد والحكمة والفقه والرأي، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدور حول الوظائف العقلية على اختلاف معانيها وخصائصها وظلالها، مما يعتبر إيحاءات قوية بدور العقل الإنساني وأهميته في الحياة. وهذه الألفاظ في مجموعها تكوّن دائرة واحدة يتصل معناها جميعا بالعقل ووظائفه في أوسع معانيه.
هذا وكلمة العلم التي وردت في القرآن في أربعين وخمسمائة آية ليس المقصود بها في القرآن علم الدين وحسب، وإنما يقصد بها كل علم نافع يرفع من قدر الإنسان وينمي مواهبه العقلية، ويجعله أكثر خبرة ومعرفة بأمور الدنيا واستفادة منها وإفادة بها.
أثر القرآن في تنمية القوى العقلية:
نزل القرآن بين العرب وباللغة العربية، وكان العرب عند نزول القرآن مختلفين في عقائدهم ومعتقداتهم اختلافا كبيرا، منهم المشركون عبدة الأصنام، ومنهم من كان يعتنق النصرانية أو اليهودية، ومنهم الأحناف الذين ترجع عقيدتهم إلى ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام، ومن هؤلاء وأولئك من كان يتطلع إلى دين جديد ونبي جديد، ولكن لا يدرون من أي قبيلة سيكون ذلك النبي وبأي دين سيأتي.(2/490)
غير أن رأيا عاما كان منتشرا بينهم وهو قرب مقدم النبي الذي تحدثت عنه الكتب السماوية وملأ خبره أرجاء الجزيرة العربية.
وقد حدثنا القرآن عن هذه الأنماط المختلفة من العرب وذوي العقائد المتباينة وخاطبهم جميعا ومنهم من كان ينكر الخالق ويقول: {مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} .
ومنهم من كان يعترف بوجود الخالق ولكنه ينكر البعث ويقول: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . وكان معتنقو الأديان الكتابية على خلاف فيما بينهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} .
وعلى الرغم من وجود هذه المعتقدات والآراء، إلا أن التاريخ لم يثبت أن هذه المعتقدات والآراء كانت تقوم على منهج عقلي أو فلسفي واضح ولم يتح للعرب أن يبلوروا هذه المعتقدات في فلسفة فكرية ذات قواعد ومنهج محددين، بل كانت قاعدتهم الفكرية هي قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . وهذه القاعدة من شأنها أن تحجر على الفكر: النظر والبحث والتأمل، وبالتالي توقف النمو العقلي عن الوصول إلى الحقائق المتصلة بالإنسان والكون والحياة ماديا وروحيا.(2/491)
ويمكن أن نقول: إن العالم الإنساني كان مغمورا بموجة طاغية من فساد الاعتقاد. بعضه يهيم في عماء الجهل والتقليد الأعمى، وعبادة الأهواء؛ لأن الوثنية التي كانت من مواريث الجهل والتبعية العمياء استحوذت على العقول والأفهام وبعضه يرسف في أغلال الحجر العقلي ومضلته، ويقي هذا الفساد مستحكما في هؤلاء وهؤلاء، حتى جاء الإسلام لإصلاح هذه الأوضاع الفاسدة، وتحرير الإنسان من هذه الأغلال الجاثمة على عقله وفكره. كانت مهمة القرآن هي العمل على إبطال القاعدة الخاطئة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} . وتحرير الإنسان من أغلال الحجر العقلي، وسيطرة التبعية العمياء، وتربيته على حرية الفكر واستقلال الإرادة، ليكمل بذلك عقله ويستقيم تفكيره وتتهذب قواه.
فوجَّه القرآن الفكر إلى كل ما من شأنه أن يدعو إلى استعمال العقل والتدبر والتأمل حتى تزول تلك الحجب الكثيفة التي تحول بين العقل والرؤيا الصحيحة للأشياء، وليخلق أمة جديدة هي أمة القرآن العاقلة المفكرة الباحثة الدارسة التي تعلي من شأن العقل وتستخدمه في مختلف شؤونها، وتفتح أمامه آفاقا غير محدودة لاستكناه حقائق الوجود في هذا العالم الكبير.
ولقد اشتملت توجيهات القرآن العقلية على أصول ومبادئ عامة صلحت لأن تكون منهجا فكريا سليما حدد المسلمون موقفهم من مشاكل الكون والحياة، وبالتالي مكنت هذه المبادئ والتوجيهات المسلمين من الاستفادة من تلك الدرة الإلهية التي منحها الله للإنسان وهي: (العقل) فنمته وجعلته يمارس الوظيفة الأساسية التي خلق من أجلها.(2/492)
طالَب القرآن كل ذي عقل بالنظر في عوالم السموات والأرض وما فيهما من الدلائل الواضحة كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَ رْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّه} ، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} ، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} ، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} .
واستنهض العقول، ووجه الأفهام، وأيقظ الحواس، ونبه المشاعر، بالتعقيب على بيان الآيات الكونية والتشريعية بمثل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ، {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} ، وبشر الذين يستمعون القول فينظرون إليه نظر البصير ويتبعون منه ما يدل على الحق ويرشد إلى طريق العلم والقوة.(2/493)
ولم يكتف القرآن بهذا، بل ذم الغافلين، ونعى عليهم غفلتهم وإعراضهم عن الآيات الكونية التي يشاهدونها في كل لحظة وتطالعهم بدلائلها في كل آونة كما في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأََنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} .
وعاب القرآن على أسرى التقليد إعراضهم عن الحق وجمودهم على ما وجدوا عليه آباءهم كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} .
فالتقليد الأعمى من شر ما تبتلى به الأفراد والجماعات لأنه يميت مواهب الفكر والنظر ويوجب ركودها وجمودها.
والقرآن الكريم فوق هذا وذاك قرر حق الإنسان في حرية الفكر واستقلال الإرادة، وحرية الفكر التي جعلها الإسلام رائد للتفكير ونبراسا للعقول والأفهام؛ هي الحرية التي تطلق العقول الأفهام من أغلال الحجر العقلي والكبت الفكري، وتحررها من سيطرة التقليد والتبعية العمياء، وتجلي لها معالم الحقائق، وتجعل قيادة التوجيه قيادة بناء وإصلاح.(2/494)
وزاد الإنسان ذلك بأن قرر تحرير الإنسان من أصفاد الجهل وظلمته؛ لأن الجهل يقتل مواهب الفكر والنظر، ويطفئ نور القلوب، ويعمي البصائر، ويميت عناصر الحياة والحركة والقوة في الأمم، ويفسد على الناس مناهج حياتهم.
فذم الجهل والجاهلين في مواطن كثيرة كما في قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة} ، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .
وعاب الذين يتبعون الظنون والأوهام كما في قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} ، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ} .
وعظم شأن العلم وحثَّ على طلبه والسعي إليه كما في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سلك طرقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة"، "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة".(2/495)
ونوه بفضل الحكمة وما فيها من السمو والتألق والارتفاع كما في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس".
ورفع منزلة العلماء وجعلهم أهل خشيته وقرن شهادتهم بشهادته تعالى وشهادة الملائكة كما في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} ، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} .
وجعلهم ينابيع العلم وموارد المعرفة ورواد الحق كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ الْعَالِمُونَ} .(2/496)
القرآن ومعركة المصطلحات
بقلم الشيخ أحمد حسن المدرس بالعهد الثانوي
تخوض أمتنا معركة حاسمة في جميع مجالات الحياة، ولا سيما في ميدان الفكر والثقافة، حيث تستعمل في هذه المعركة كل أنواع الأسلحة الفتاكة، التي تهدف إلى بلبلة الأفكار، وإشاعة الفوضى والانحلال، والانسلاخ من العقيدة والتراث والتاريخ، والإتيان على بنيان هذه الأمة من القواعد..
ومن أخطر هذه الأسلحة، سلاح المصطلحات والشعارات، الذي طرحه الغرب [1] للتداول في عالمنا الإسلامي مع بدء الغزو الفكري، ولم يمضي كبير وقت، حتى شاعت هذه المصطلحات وذاعت بعد أن رددتها وسائل الإعلام، وعممتها الصحف والمجلات، وأقحمت في صلب المناهج والكتب الدراسية وأصبحت اليوم عملة دارجة، تطالعك بها الأغاني الشعبية، وأحاديث الدهماء، فضلا عن أنصاف المتعلمين والمثقفين، الذين يلهجون بذكرها - حين يستريحون وحين يسرحون - ليثبتوا للناس أنهم بلغوا الحلم، وآنسوا من أنفسهم الرشد! وتأتي خطورة هذه المصطلحات والشعارات، من أن كل مصطلح أو شعار، مرتبط ارتباطا وثيقا بشجرته الفكرية التي يمثلها، ويتغذى منها، ويعيش عليها، وبالتالي فهو حينما يطرح للتداول في مجتمع جديد، لا بد أن يحمل معه رصيده وفلسفته وتاريخه ولا بد أن يلقي بظلاله وإيحاءاته وقيمه في هذا المجتمع الذي يحسن استقبال الوافد الجديد - بحكم تقاليد الضيافة العربية - ويخلي له البيت، ويرفع من طريقه العقبات، وإيثارا لمبدأ التسامح الديني الذي عرفنا به!! ونتنازل - بسماحة حاتم - عن مصطلحاتنا وشعاراتنا، ليخلوا الجو لضيف الثقيل، الذي يبيض ويفرخ، ويستوطن ويستعرب، وعلى المصطلح الإسلامي أن يغادر أرضه وبلاده، ليعيش لاجئا ذميا في بلد آخر، أو يكتفي أن يعيش في زاوية ميتة من زوايا التاريخ علما بأنهم يلاحقونه حتى في مثل هذه الزاوية، ويلبسونه لباسا جديدا، ويفسرونه تفسيرا مشوها حتى(2/497)
يفقد حرارته، ويخبو ضوءه، وتسكن إشعاعاته، ثم يضربون حوله ستارا حديديا يمنع الناس من الوصول إليه ويمنعه من أن يلقي إليهم بشهاب قبس أو جذوة من نار..
وتقوم المعركة داخل المجتمع، إذا شعر العقلاء بخطورة هذا المصطلح، حيث ينبهون الناس إلى حقيقته وأهدافه وأنه ليس صديقا زائرا، وإنما هو غازٍ، فاتح وعدو فاتك..
ويستنجد بالمصطلح بالطابور الفكري الخامس، الذي يهب للوقوف إلى جانبه، ويشهر سلاحا آخر من المصطلحات والشعارات، فهؤلاء الذين يحاربون المصطلح الجديد: رجعيون!! برجوازيون!! خونة!! عملاء!! رأسماليون!! ديمانموجيون!! ثيوقراطيون!! إمبرياليون!! ..إلى هذا المسلسل الأجنبي..!!
ويحفظ العوام والدهماء، و (البروليتاريا) هذه المصطلحات، من كثرة ترديدها، على مسامعهم، ويظنون أنهم إذا ما رددوها، قد صاروا في عداد العلماء، واجتازوا بذلك مرحلة الأمية، وأصبح بإمكانهم أن يتحدثوا للناس ويخطبوا في المجالس والاحتفالات، ويناقشوا في المراكز والمنتديات، ويقدموا لنا نظريات في بناء الدولة والمجتمع، ويقدوا الأمة بمفكريها وعقلائها إلى هذا الدرك الهابط والمستنقع الآسن، حيث يسود الجهل وينزوي العلم، وتنقلب القيم، وتختلط المفاهيم، فتضيع الحقائق وتنتشر الفوضى وينحل المجتمع، فيقتل الناس بعضهم بعضا، وتسود شريعة الغاب، فتطل الذئاب، وتنبح الكلاب وينعق البوم، ويسود الوجوم، ويسجل التاريخ نهاية أمة..(2/498)
.. ومن هنا كان علينا أن ننتبه لخطر هذه المصطلحات فهي بمثابة الجسم الغريب الذي يدخل جسم الإنسان، فإما أن يطرحه على هذا الجسم، وإما أن يقتل هذا الجسم، أو يضعفه ويمرضه، وليس هناك حل وسط، ولا نستطيع نحن أن نقف في وجه هذه المصطلحات موقفا سلبيا فقط بل لابد من موقف إيجابي أيضا، بل هو الأصل الذي نعوِّل عليه، وهذا الموقف الإيجابي يعني أن نطرح مصطلحاتنا الإسلامية بقوة للتداول، ويفضل أن تكون المصطلحات مصطلحات قرآنية أولا قبل كل شيء، ذلك أن المصطلح القرآني، هو المصطلح الرباني الذي لا يوازيه أي مصطلح آخر من حيث الصياغة والمحتوى، أو من حيث الدقة والتحديد، أو من حيث الشيوع والذيوع، والاقتصار على المصطلح القرآني - إن وجد - يوفر علينا كثيرا من المشاكل التي تنتج عن المصطلحات الاجتهادية التي تختلف باختلاف المجتهدين والتي تؤدي إلى تعدد المصطلحات لمفهوم واحد، مما يضعف هذه المصطلحات، ويسلبها القوة والقدرة على الصمود في وجه المصطلحات الغربية، كما يؤدي إلى نوع من بلبلة في الأفكار واختلاط المفاهيم بين المسلمين أنفسهم..
ولا تزال أمتنا تعاني من كثير من المصطلحات - التاريخية - التي دخلت إلى تراثنا، ولم تكن مصطلحات قرآنية، مما أثار الخصومات والمعارك الكلامية التي قتلت وقت المسلمين، وشغلتهم عن الجهاد، وفرقتهم شيعا وطوائف، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .(2/499)
وإذا أخذنا على سبيل المثال مصطلح (التصوف) .. هذا المصطلح الذي ليس قرآنيا والذي بدأ في العصر العباسي حينما أطلق على جماعة من الناس قاموا يحاربون الترف والنعيم الذي ساد الدولة العباسية، ويدعون إلى الزهد في هذه الدنيا الفانية.. ثم تطور ليعني طريقة في السلوك والتربية والأخلاق، ثم دخلته مفاهيم وأفكار هندية ونصرانية وأعجمية تخالف عقيدة الإسلام وأفكاره، ثم ليصبح بعد ذلك نظريات فلسفية تقول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود.. ثم ليصبح طرقا متعددة لها أول وليس لها آخر، تملأ العالم الإسلامي، وكل واحدة منها تعتقد أنها الفرقة الناجية، وأن الحق لا يجاوزها، وتتهم غيرها بالانحراف والفسوق.. وعاش المسلمون فترة طويلة من تاريخها يتنابزون بالألقاب، ويأكل بعضهم لحم بعض وما تزال أثار هذه الحياة تلوِّن بعض أنحاء العالم الإسلامي..
فلو أننا عمدنا إلى مصطلح قرآني، لنطلقه على الحالة الأولى التي بدأت في العصر العباسي، وهي دعوة الناس إلى إيثار الآخرة على الدنيا، وتحذيرهم من الترف والنعيم، لم نصل إلى ما وصلنا إليه من نتائج وآثار، ما نزال نعاني منها حتى يومنا هذا.. ولو فتشنا في القرآن الكريم عن مصطلح لمثل هذه الحالة لوجدنا - مثلا - كلمة (الإحسان) يمكن أن تؤدي هذا المدلول، دون أن تدخل تلك الأفكار الغربية التي دخلت تحت كلمة (تصوف) .. ذلك أن الكلمات القرآنية يحدد معناها اللغة ويعطيها مفهومها القرآن، فلا مجال في ذلك للزيادة والنقصان، ولو حاولنا أن نتبيَّن مفهوم القرآن لهذا المصطلح (الإحسان) لوجدناه كما يلي:(2/500)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ..} كما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، حين سئل عن الإحسان فقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك".
وفي مواجهة المصطلحات الغربية الوافدة، لابد لنا من أن نعيد طرح مصطلحاتنا القرآنية بقوة - والتي تمتاز بالإضافة لما قدمنا - بأنها تحمل طابع العقيدة دائما، حيث تعطيها الأولوية في كل شيء مما يجعلها منسجمة مع نظرتنا العامة إلى الحياة، والتي نستمدها من القرآن نفسه، فلا نقع في تناقض بين عقيدتنا ومصطلحاتنا - كما هو حادث اليوم بعد فشو المصطلحات الغربية - حيث نشاهد الاضطراب الذي يعم المسلمين جميعا بعد أن أصبحت هذه المصطلحات بدهيات مسلمة، وحقائق مقررة، عند العوام والخوص، مما حدا ببعض المفكرين إلى استعمال هذه المصطلحات، وإعطائها مفهوم إسلاميا، وقطعها عن جذورها التاريخية والفكرية، إرضاء لهذه الجماهير التي سحرتها هذه المصطلحات والشعارات، وبدلا من أن تكون هذه المصطلحات جسرا يعبره المنادون بها إلى الإسلام - كما كان يظن - غدت جسرا يعبره المسلمون إلى تلك الأفكار والقيم التي تمثلها هذه الشعارات، لأن الجسر الذي يكون صالحا للذهاب، فهو صالح للإياب أيضا، خاصة وقد جاءت هذه الدعوة في ظروف غير مناسبة، حيث كانت تلك الشعارات والمصطلحات قد وصلت إلى الحكم وأخذت طريقها للتنفيذ، وعبرت بالمسلمين ذلك الجسر إلى الجاهلية.(3/1)
وبعد خفت حدة المعركة قليلا، بانتصار موقوت للمصطلحات الجاهلية الحديثة، فعلى رجال الفكر الإسلامي أن يراجعوا أنفسهم، وينظروا فيما قدموا، ويتأملوا كثيرا فيما حدث ويدفعوا بالمصطلحات القرآنية للناس من جديد، محددة واضحة متميزة، مقارنة مع مصطلحات الجاهلية مع بيان الفروق الكبيرة، وتحطيم الجسور المقامة، ووضع الناس أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما الإسلام وإما الجاهلية، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} ومن ثم.. تستبين سبيل المؤمنين.
وإذا ما حاولنا تبيّن بعض هذه المصطلحات التي اقتحمت علينا أسوارنا وغدت مدار حياتنا وحاولنا تفهمها وإدراكها، وعقدنا مقارنة بينها وبين مصطلحاتنا القرآنية، فإننا نجد الفروق الشاسعة التي ليست هي في الواقع إلا فروقا بين ثقافتين ودينين، وحضارتين أي بين إسلام وجاهلية.
مصطلح الوطنية:
نأخذ على سبيل المثال: مصطلح (الوطنية) و (الوطن) و (المواطن) و (الوطني) ، والذي لم يفطن له أحد فيما أعلم.(3/2)
هذا المصطلح لم يكن معروفا في تاريخنا، وكلمة (مواطن) لا مدلول لها في المعجم الإسلامي، لأن الولاء في الإسلام للعقيدة، لا للأرض ولا للقوم، ولا لغيرها من الاعتبارات الأخرى التي دخلت ثقافتنا حديثا بتأثير الغزو الفكري الأوروبي حيث استلهمت من أوروبا الغربية خصوصا فرنسا وإنكلترا [2] ولو أننا رجعنا إلى القرآن الكريم لاستخلاص المصطلح الإسلامي لم نجد ذكرا للوطن ولا للمواطن، وإنما يستعمل القرآن كلمة أخرى وهي (الدار) - معرفة بالألف واللام تارة، وبالإضافة تارة أخرى - فمن الأول قوله تعالى في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في معرض حديثه عن الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} . ومن الثاني حدثه عن المهاجرين حيث يقول: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ... } ومن ذلك قوله مخاطبا بني إسرائيل: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} ..
فالعقيدة في الإسلام قبل (الوطن) أو (الدار) وفي حالة التعارض على المسلم أن يهاجر من بلده ويترك داره {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا..} ومن هنا كان المصطلح الإسلامي (دار الإسلام) مصطلحا قرآنيا - بالمعنى لا باللفظ - تبرز فيه العقيدة قبل الأرض، وتستمد الأرض فيه قيمتها من العقيدة التي فوقها، والناس في دار الإسلام لا ينسبون إلى الأرض (مواطنون) وإنما ينسبون إلى عقائدهم (مسلمون) .(3/3)
وكذلك الأمر بالنسبة إلى غير دار الإسلام، فهناك دار العهد، ودار الحرب؛ ودار العهد هي التي ترتبط بدار الإسلام بمعاهدة أو ميثاق، ودار الحرب هي التي لا ترتبط بدار الإسلام بعهد ولا ميثاق، ورعايا هذه الدُّور يسمون معاهدين أو محاربين..
وهكذا نجد المصطلح الإسلامي مصطلحا محددا يرتبط بالعقيدة، ويمنع من اختلاط المفاهيم الجديدة التي جاءتنا بها المصطلحات الجاهلية، ويحدد سلوك المسلم على أساس العقيدة لا على أساس الوطن، الذي يطلب منه في بعض الأحيان أن يتخلى عن عقيدته لمصلحة وطنية!! وخوفا من أن يؤدي ذلك تفرقة طائفية!! بين أبناء الوطن الواحد.. حيث أصبحت الدعوة إلى الإسلام في دار الإسلام أمرا مستنكرا.. والمناداة بالعودة إلى الإسلام الذي يشكل أبناءه 99% من سكان العالم العربي.. دعوة طائفية!! تحارب بكل وسيلة وذلك لأن هناك 1% من غير المسلمين يسكنون العالم العربي، وعلى المسلمين إذن أن يتخلوا عن عقيدتهم وشريعتهم وأخلاقهم وحضارتهم إرضاء لهذا الواحد بالمائة من غير المسلمين!! وهذا هو آخر ما وصلت إليه النظم والنظريات الديمقراطية الحديثة التي تقوم على أساس حكم الأكثرية!!.
مصطلح القومية:(3/4)
ولو أخذنا مصطلحا آخر (القومية) الذي انتشر حديثا في بلادنا، وأصبح يدل على مذهب واتجاه، ويحمل مفهوما فكريا، هذا المصطلح لا وجود له في تاريخنا وثقافتنا، وإن كانت كلمة ((قوم)) موجدة في ثقافتنا وتراثنا، ولكنها لا تعني أكثر من مجموعة من الناس يرجعون إلى أصل واحد، ويعيشون حياة مشتركة، و (القومية) كمفهوم لم تظهر إلا مؤخرا وقد ظهرت في ألمانيا أولا وأخذت طابعا عرقيا معينا متميزا، عن بقية الأجناس البشرية، وصنفت القومية الألمانية القوميات الأخرى ووضعت لها سلما يتميز الناس على هذا الأساس العرقي، ثم انتشرت في أنحاء العالم، ويلاحظ بأن هذه الدعوة تركز على العرق والجنس دون العقيدة والاتجاه ومن هنا لا نجد لهذه الدعوة مجالا في الإسلام، وإنما نجد جذورها التاريخية تعود إلى الشيطان الذي امتنع من السجود لآدم لأنه خلق من طين بينما خلق هو من نار {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وإذا كانت دعوى الشيطان صحيحة في الخلق دون الخيرية فدعوة هؤلاء ليست صحيحة في الخيرية ولا في الخلق لأن الناس خلقوا من أب واحد وأم واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} ، وكونهم شعوبا وقبائل لا يغير من الواقع شيئا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وهكذا يبرز ميزان التفاضل الذي يقوم على التقوى والعمل الصالح، ويكون اختلاف الناس شعوبا وقبائل سبيل لتعارف والتقارب، ولا شك أن التميز العنصري الذي يسود العالم اليوم إنما هو نتيجة من نتائج الدعوات القومية، غير أن (القومية) في ذاتها لا تحمل مضمونا فكريا حقيقيا ولا مذهبا اجتماعيا معينا، وإنما هو وعاء(3/5)
فارغ يمكن ملأه بأي فكرة أخرى، ومن هنا نرى أن مصطلح (القومية العربية) الآن أصبح وعاءً للاشتراكية، ومازال بعض المسلمين والمحسوبون على الفكر الإسلامي يستعملون هذا المصطلح ويريدون أن يقولوا: إن محتواه هو الإسلام، ويظنون أن المصطلح مازال فارغا ويمكن ملؤه بالفكرة الإسلامية، وهؤلاء ولا شك واهمون لأنهم يستعملون (القومية) بمعنها اللغوي، بينما يستعملها الآخرون بمفهومها الغربي الذي يناقض الإسلام مناقضة كلية، والعوام الذين أصبحت الكلمة على أفواههم وفي متناول ألسنتهم لا يفرقون بين المدلولين، ويسقوهم (الطابور) الخامس الفكري لخدمة القومية العنصرية ومحتواها الاشتراكي، وهم يظنون أنهم ينصرون الإسلام ويجاهدون في سبيل الله، ويزيدهم خداعًا وتضليلاً موقف هؤلاء المحسوبين على الفكر الإسلامي، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. ولو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أن هذا التقسيم القومي لا أساس له، وأن القرآن قسّم الناس إلى قسمين على أساس العقيدة لا أساس الجنس فهناك (الذين آمنوا) (والذين كفروا) وهناك (المسلمون) و (الكافرون) وتحت كل من النوعين يمكن أن يكون أقوام وأجناس مختلفة، ولكن العقيدة هي التي تجمعهم في كل الحالتين، وهكذا بدأت هذه الاصطلاحات تختفي من مجتمعنا بعد أن نعق غراب القومية في دار الإسلامي، وكان من نتائج هذه الدعوة الخبيثة أن تفتت دار الإسلام إلى قوميات متصارعة يقتل فيها المسلمون بعضهم بعضا خدمة للجاهلية وانتصارا للعصبية المنتنة.(3/6)
ويتفرع عن هذه الدعوة إلى القومية دعوة إلى الوحدة، وقد أصبحت الوحدة شعارا رائجا في حياتنا المعاصرة، ولو رجعنا إلى ثقافتنا وتراثنا لم نجد مثل هذه الدعوة، وإنما هي بضاعة استوردناها مع مفهوم القومية الغربي، وبما أن الوحدة عندهم كانت تابعة لمفهوم القومية، فهكذا صارت عندنا وأصبحنا ندور في فلك الفكر الغربي حيث نستعمل اصطلاحاته وننتظر أن تحل بنا حتمياته وحتى لكأن خط التاريخ الغربي هو الخط الذي لابد أن تسلكه كل أمة وليس لها من دونه بديل! ويلاحظ أن شعار الوحدة أضحى شعارا خاليا من مضمون الإسلام بل أصبح يحمل محتوى القومية لأن الوحدة المقصودة إنما هي الوحدة القومية العربية، ولما كان مفهوم القومية بطبيعته فارغا فقد ملأه بالاشتراكية مما اضطرهم في النهاية إلى القول بوحدة الهدف بدلا من وحدة الصف، وهكذا سلكوا هذا الطريق الوعر الشاق لإبعاد مفهوم الإسلام بحجة الطائفية والأقليات والوطنية والقومية لينتهوا أخيرا إلى مفهوم فكري مستورد بديل من المفهوم الإسلامي، ولو رجعنا إلى القرآن الكريم لم نجد دعوة للوحدة العربية ولا لغيرها، وإنما نجد دعوة إلى الاعتصام بحبل الله والاستمساك بعروته الوثقى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} ولا شك أن مفهوم هذه الآية يحقق الوحدة الإسلامية التي لا يمكن أبدا أن تتحقق بالجهد البشري. وهكذا كانت الدعوة إلى الوحدة دعوة إلى الفرقة أثارت النعرات والعصبيات والصراع الطبقي والقومي الذي مهد لإسرائيل أن تضرب ضربتها في الوقت المناسب دون أن تلقى مقاومة تذكر. بينما كانت الدعوة إلى الإسلام في الظاهر دعوة إلى تفريق القوم الواحد إلى قسمين مؤمنين وكافرين، كما كانوا يتحدثون عن القرآن فيقولون: (سحر يؤثر، يفرق بين المرء وأهله ومواليه) ، ولكنها في الحقيقة كانت دعوة للاستمساك والاعتصام بحبل الله والتي نتج عنها أعظم وحدة حقيقية عرفها التاريخ لأنها كانت وحدة قلوب قبل(3/7)
أن تكون وحدة بلاد ووحدة قرآن قبل أن تكون وحدة معلقات!! ووحدة إسلام قبل أن تكون وحدة جاهلية، وصدق الله العظيم إذ يصف هذه الوحدة {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} ، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} .
قيادة متلاشية:
إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست ماديا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره لأنه لم يعد يملك رصيدا من القيم يسمح له بالقيادة.
المعالم: سيد قطب
--------------------------------------------------------------------------------
1 المقصود بالغرب هنا ليس الاصطلاح السياسي الذي يشمل دول أوروبا الغربية وإنما المقصود به المصطلح الحضاري الذي يشمل الكتلة الشرقية والغربية باعتبار أن الفكر الاشتراكي غربي في أصوله وجذوره وأن الشيوعية لم يكن إلا رد فعل للرأسمالية الغربية وكلاهما تسيران في خط تاريخي واحد.
2 انظر في هذا كتاب (برناردلويس) : الغرب والشرق والأوسط الفصل الرابع ص 105-146(3/8)
المدلسون
(3)
بقلم الشيخ حماد الأنصاري المدرس بكلية الدعوة
(ع) سعيد بن عبد العزيز الدمشقي ثقة من كبار الشاميين من الطبقة الأوزاعي روى عن زياد بن أبي سودة عن ميمونة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو الحسن ابن القطان: "لا ندري أسمعه منه أو دلسه". من الثانية توفي سنة 197هـ.
(ع. ب. س) سعيد بن أبي عروبة البصري: رأى أنس رضي الله عنه وأكثر عن قتادة وهو ممن اختلط. وصفه النسائي وغيره بالتدليس. من الطبقة الثانية من طبقات المدلسين ذكرته في الثقات المختلطين توفي سنة 156هـ.
(ع. ب.س) سفيان بن سعيد الثوري الإمام المشهور الفقيه العابد الحافظ الكبير وصفه النسائي وغيره بالتدليس وقال البخاري: "ما أقل تدليسه". من الثانية مات سنة 161هـ عن أربعة وستين سنة.
(ع) سفيان بن عيينة الهلالي الكوفي ثم المكي: الإمام المشهور بقية الحجاز في زمنه. كان يدلس لكن لا يدلس إلا عن ثقة كثقته. وحكى بن عبد البر عن أئمة الحديث أنهم قالوا: يقبل تدليس بن عيينة؛ لأنه إن وقف أحال على ابن جريج ومعمر ونظرائهما. وهذا عين ما رجحه ابن حبان وقال: "هذا شيء ليس في الدنيا إلا لابن عيينة فإنه كان يدلس ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ولا يكاد يوجد لابن عيينة خبر دلس فيه إلا وقد بين سماعه عن ثقة مثل ثقته". ثم مثل لذلك بمراسيل كبار الصحابة فإنهم لا يرسلون إلا عن صحابي. وقد سبق ابن عبد البر إلى هذا الكلام أبو بكر البزار وأبو الفتح الأزدي ولفظهما: "أن من كان هذه صفته وجب قبول حديثه". وكذا قال أبو بكر الصيرفي في دلائله: "كل من ظهر تدليسه عن غير الثقات لم يقبل خبره حتى يقول حدثني أو سمعت". من الطبقة الثانية توفي 198هـ عن إحدى وسبعين سنة.(3/9)
(ع. ب) سفيان بن عيينة آخر: سمع عمر وجابرا، يدلس ليس بشيء، وهو مولى مسعر بن كدام من أسفل. قاله البرهان الحلبي في تبينه انتهى لفظ العجلي في ثقاته. ثم قال البرهان: "فإن صحت الكتابة فقد ذكره تمييزا رأيته كذلك في الثقات التي رتبها شيخنا الحافظ نور الدين الهيثمي وأثبت أنها صحيحة".
قال الحافظ في طبقاته: "ليس الأمر كما ظن البرهان من أن سفيان بن عيينة شخصان وذلك لأن بن عيينة مولى بني هلال. وقد ذكر الذهبي في فوائد رحلته أنه لما اجتمع بابن دقيق العيد سأله من أبو محمد الهلالي؟ فقال: سفيان بن عيينة. فأعجبه استحضاره وإنما نسب لمسعر لأن مسعرا من بني هلال صليبة ولعل العجلي إنما قال فيه ليس بشيء لأمر آخر وهو علة الاختلاط."ثم راجعت أصل الثقات للعجلي فوجدته قال ما نصه: "سفيان بن عيينة وقال ولد البرهان موفق الدين أبو ذر لم يظن والدي بل حقق ذلك بقول والدي غير الأول". وقد قال العجلي: "سمع عمر وجابرا". وأين الأول منهما من السماع. نعم فالأول يروي عن عمرو بن دينار والزهري وزيد بن أسلم وسفيان ابن سليم وعنه شعبة ومسعر من شيوخه وابن المبارك من أقرانه وأحمد وإسحاق وابن معين وابن المديني وطبقتهم وتبين من هذا أنهما شخصان كما قال البرهان في التبين. من الثانية لم أجد وفاته.
(ع. س) سلمة بن تمام الشقري: من أتباع التابعين. ذكره بن حبان في ثقات التابعين. وذكر بن أبي حاتم ما يدل على أنه كان يدلس. ولذلك قال العلائي في كتابه التحصيل في المراسيل: "كأنه يدلس". من الطبقة الأولى لم يذكر الحافظ ولا الخزرجي وفاته.(3/10)
سليمان بن داود أبو داود الطيالسي: الحافظ المشهور بكتبه من الثقات المكثرين. قال محمد بن المنهال: "حدثنا يزيد بن زريع حدثنا شعبة فذكر حديثين، قال يزيد: حدثت بهما أبا داود فكتبهما عني ثم حدث بهما عن شعبة". قال الذهبي: "دلسهما وكان ماذا". قال الحافظ: "قال يزيد بن زريع سألته يعني أبا داود عن حديثين لشعبة فقال: لم أسمعهما منه. ثم حدث بهما عن شعبة ويحتمل أن يكون تذكرهما وإن كان دلسهما". نظر فإن صيغة محتملة فهو تدليس الإسناد وإن ذكر صيغة صريحة فهو تدليس الإجازة. من الطبقة الثانية توفي سنة 204هـ.
(تنبيه) تقدم في المقدمة أن الإمام الشافعي قال: "إن الشخص إذا دلس مرة واحدة كان مدلسا".
(ع) سليمان بن طرخان التيمي: تابعي مشهور من صغار تابعي أهل البصرة وكان فاضلا. وصفه النسائي وغيره بالتدليس. من الطبقة الثانية.
(ع. ب.س) سليمان بن مهران - بكسر الميم - الملقب بالأعمش: مشهور بالتدليس. وفي الميزان: كان يدلس على الحسن البصري وغيره ما لم يسمعه. وفيه أيضا: يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به. فمتى قال: حدثنا فلا كلام ومتى قال عن تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ أكثر عنهم كإبراهيم النخعي وأبي وائل وأبي صالح السمان فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال. ذكرته في فتح الوهاب في الألقاب. من الثانية توفي سنة 148 هـ.
(ع. ب) سويد بن سعيد الحدثاني: بفتح المهملة والمثلثة نسبة إلى حديثة بلد على الفرات مشهور. وهو من الموصوفين بالتدليس، وصفه به الدارقطني والإسماعيلي وغيرهما. وقد تغير في آخر عمره بسبب العمى فضعف بسبب ذلك. وكان سماع الإمام مسلم منه قبل ذاك في صحته. من الرابعة توفي سنة 240 هـ.
(ع. ب) شياك الضبي: صاحب إبراهيم النخعي من أهل الكوفة. ثقة له ذكر في صحيح مسلم ذكره الحاكم في علومه فيمن كان يدلس. من الطبقة الأولى.(3/11)
(ع. ب) شريك بن عبد الله النخعي القاضي: مشهور وكان من الأثبات فلما ولي القضاء تغير حفظه وكان يتبرء من التدليس. ونسبه عبد الحق في الأحكام إلى التدليس وسبقه إلى وصفه به الدارقطني. من الطبقة الثانية توفي ستة 177 هـ.
(ب) شعيب بن أيوب الصريفني: قال فيه ابن حبان: "كان يدلس". من الثالثة مات سنة 261 هـ ولأبي داود عنه فرد حديث.
(ع) شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص: يروي عن جده روى عنه ابنه عمرو مشهور. وروى عنه أيضا ولد له آخر عمر وثابت البناني وعطاء الخراساني وغيرهم. وجل ما يروي عنه عن ولده عمرو وستأتي ترجمته إن شاء الله في العين.
واختلفوا في سماعه منه فجزم بأنه سمع منه ابن المديني والبخاري والدارقطني وأحمد ابن سعيد الدارمي وأبو بكر بن زياد النيسابوري وقال أحمد بن حنبل: "أراه سمع منه".
وجزم بأنه لم يسمع منه ابن معين وقال إنه وجد كتاب عبد الله بن عمرو فحدث منه وقال ابن حبان: "من قال إنه سمع من جده فليس بصحيح".
وقال الحافظ: "وقد صرح بسماعه من جده في أحاديث قليلة فإن كان الجميع صحيحا وجدت صورة التدليس". من الثانية.
(ع) شعيب بن عبد الله: قال علي بن المديني: "حدثني حسين بن الحسن الأشقر عن شعيب بن عبد الله عن أبي عبد الله عن نوف عن علي رضي الله عنه فذكر حديثا قال: "فقلت لحسين ممن سمعته قال من شعيب فقلت لشعيب من حدثك قال: أبو عبد الله الجصاص عن حماد القصاب فقلت لحماد القصاب من حدثك قال: بلغني عن فرقد عن نوف", فإذا هو قد دلس عن ثلاثة, أي أسقطهم. من الثالثة.
الصاد:
(ع) صالح بن أبي الأخضر: ذكر روح بن عبادة أنه سئل عن حديث عن الزهري فقال: "سمعت بعضا وقرأت بعضا وذكر روح بن عبادة ووجدت بعضا ولست أفصل ذا من ذا. من الطبقة الخامسة توفي سنة بضع وخمسين ومائة..(3/12)
(ع) صقران بن صالح بن دينار الدمشقي أبو عبد الله المؤذن: وثقه أبو داود وغيره. ينسب إلى تدليس التسوية يأتي خبره في ذلك في ترجمة محمد بن المصطفى الحمصي. من الثالثة توفي سنة 237 هـ.
(ع. ب) طاوس بن كيسان الفقيه اليماني: التابعي المشهور أحد الأعلام ذكر حسين الكرابيسي في أثناء كلام له أنه أخذ عن عكرمة كثيرا من علم ابن عباس رضي الله عنه. قال بن معين: "لا أراه سمع عنهما". وقال أبو داود: "لا أعلمه سمع منهما". وقال الحافظ العلائي: "لم أر أحدا وصفه بذلك". من الأولى مات سنة 106 هـ.
(ع.) طلحة ابن نافع الواسطي أبو سفيان الراوي عن جابر: صدوق مشهور بكنيته معروف بالتدليس. وصفه بذلك الدارقطني والحاكم. من الثالثة لم أجد له وفاة.
العين:
(ب) عاصم بن عمرو بن قتادة الظفري العلاّمة في المغازي: ذكر له الحاكم في سند حديثا في الزكاة عن قيس بن سعد بن عبادة في بعثه ساعيا، ثم قال: "على شرط مسلم". وقال الذهبي عقيبه: "بل منقطع عاصم لم يدرك قيسا". وإذا كان كذلك فقد تقدم إن هذا إرسال خفي وليس بتدليس على الأصح فلا ينبغي أن يعد عاصم من المدلسين.
(ع) عبادة بن منصور الناجي البصري قال مهنا: "سألت الإمام أحمد عنه فقال: "كان قد رأوا أحاديثه منكرة وكان يدلس". وقال الساجي: "ضعيف مدلس". وقال البخاري: "ربما يدلس عبادة عن عكرمة". من الرابعة توفي سنة 152هـ.
(ع) عبد الله بن زياد بن سمعان المدني: ضعفه الجمهور، ويكنى بأبي عبد الرحمن. قال البخاري: "سكتوا عنه". وقال بن معين: "ليس بثقة". وكان أحمد بن إبراهيم بن سعد يحلف أن ابن سمعان يكذب. وقال الجوزجاني: "ذاهب الحديث". وروى ابن قاسم عن مالك كذاب. ووصفه ابن حبان بالتدليس. من الخامسة.(3/13)
(ع) عبد بن عطاء الطائفي نزيل مكة: من صغار التابعين. قضيته في التدليس مشهورة رواها شعبة عن أبي إسحاق السبيعي قال شعبة: "سألت أبا إسحاق السبيعي عن عبد الله بن عطاء الذي روى عن عقبة وكان تناوب رعية الإبل؟ قال: شيخ من أهل الطائف. فلقيت بن عطاء فسألته أسمعته من عقبة بن عامر فقال: لا حدثنيه سعد ابن إبراهيم. فلقيت سعدا فقال: حدثنيه زياد بن محمد المحدق. فلقيت زياد فقال: حدثني رجل عن شهر بن حوشب". رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة وقد رواه نصر بن عواد عن شعبة بقصة أطول من هذا من الطبقة الأولى.
(ع. ب) عبد الله بن أبي نجيح المكي: أكثر عن مجاهد وكان يدلس عنه وصفه بذلك النسائي روى عنه ابن الحداد الإمام أبو بكر الفقيه المصري الشافعي. من الثالثة توفي سنة 131هـ.
(ع. ب) عبد الله بن لهيعة الحضرمي قاضي مصر: اختلط في آخر عمره وكثرت عنه المناكير في روايته قال بن حبان: "كان صالحا ولكنه كان يدلس عن الضعفاء". من الخامسة توفي سنة 174هـ.
(ب) عبد الله بن مروان أبو الشيخ الحراني: يروي عن زهير عن معاوية وغيره روى عنه حسين بن منصور وإبراهيم الهيثم. قال عنه بن حبان في ثقاته: "يعتبر حديثه إذا بيّن السماع في خبره". ومقتضى هذا أنه يدلس. من الطبقة الثالثة.
(ع) عبد الله بن وهب المصري: الفقيه المشهور، وصفه بالتدليس محمد بن سعد في طبقاته. من الأولى مات سنة 199هـ عن أربع وسبعين سنة.
(ع) عبد الله بن واقد أبو قتادة الحراني: متفق على ضعفه قال الحافظ: "متروك وكان أحمد يثني عليه وقال يعني أحمد لعله كبر واختلط وكان يدلس". من الخامسة توفي سنة 210هـ.(3/14)
(ع. ب) عبد الجليل بن عطية القيسي أبو صالح المصري: عن شهر بن حوشب وغيره. صدوق، وثقه ابن معين وروى عنه أبو نعيم. قال البخاري: "ربما وهم". وقد ذكره ابن حبان في ثقاته وقال: "ويعتبر حديثه عند بيان السماع في خبره إذا روى عن الثقات وكان دونه ثبت". ومعنى هذا أنه يدلس. من الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين الخمسة.
(ع) عبد ربه بن نافع أبو شهاب الحناط بالمهملة والنون نزيل المدائن: وثقه بن معين ولينه النسائي وأشار الخطيب في مقدمة تاريخه إلى أنه دلس حديثا. من الأولى توفي سنة 171هـ.
(ع. ب) عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي: ذكر بن حبان في الضعفاء أنه كان يدلس. وكذا وصفه به الدارقطني. قال أبو العرب: "سمع الإفريقي من جلة التابعين وكان قد ولي قضاء إفريقيا وكان عدلا صلبا في قضائه، وأنكروا عليه أحاديث ذكرها البهلول بن راشد قال: سمعت سفيان الثوري يقول جاءنا الإفريقي بستة أحاديث يرفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم أسمع أحدا يرفعها:
أولا: حديث أمهات الأولاد.
ثانيا: حديث الصدائي: حين أذن قبل بلال فأراد بلال أن يقيم فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صداء قد أذن، ومن أذن فهو يقيم".
ثالثا: "إذا رفع الرجل رأسه من آخر سجدة واستوى جاسا فقد تمت صلاته وإن أحدث".
رابعا: حديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا خير في من لم يكن عالما أو متعلما".
خامسا: حديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغد عالما أو متعلما ولا تكن الثالث فتهلك".
سادسا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فضل؛ آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة".(3/15)
قال أبو العرب فهذه الغرائب التي لم يرويها غيره ضعف ابن معين حديثه. قال عيسى بن سكين قال محمد بن سحنون قلت لسحنون: "إن أبا حفص الفلاس قال ما سمعت يحي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي يحدثان عن الإفريقي". فقال سحنون: "لم يصنعا شيئا فإن عبد الرحمن ثقة". من الخامسة توفي سنة 156هـ.
(ع) عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: ثقة. قال بن معين: "لم يسمع من أبيه". وقال بن مديني: "لقي أباه وسمع منه حديثين حديث الضب وحديث تأخير الوليد الصلاة". وقال العجلى: "يقال إنه لم يسمع من أبيه إلا حرفا واحدا محرم الحلال كمستحل الحرام". وذكر البخاري في التاريخ الأوسط من طريق بن خثيم عن القاسم ابن عبد الرحمن عن أبيه أني مع أبني فذكر الحديث في تأخير الوليد الصلاة". قال البخاري: "سمعته يقول: "لم يسمع من أبيه"وحديث ابن خثيم أولى عندي". وقال أحمد: "كان له عند موت أبيه ست سنين"، والثوري وشريك يقولان: "سمع من أبيه"وإسرائيل يقول في حديث الضب عنه: "سمعت". وأخرج البخاري في التاريخ الصغير من طريق القاسم ابن عبد الرحمن عن أبيه: "لما حضرت عبد الله الوفاة قلت له: "أوصني". قال: "إياك من خطيئتك". وسنده لا بأس به. قال الحافظ: "فعلى هذا يكون الذي صرح فيه بالسماع من أبيه أربعة، أحدها موقوف وحديثه عنه كثير ففي السنن خمسة عشر وفي المسند زيادة على ذلك سبعة أحاديث معظمها بالعنعنة وهذا هو التدليس". من الثالثة. توفي سنة 77هجرية.
(ع) عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي: محدث مشهور من طبقة عبد الله بن نمير تكلم فيه بالتدليس: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: "بلغنا أنه كان يدلس". من الثالثة.توفي سنة 195هجرية.(3/16)
المسجون
عبد العزيز القارئ
المساجين كثيرون لا يحصى لهم عدد!! في العالم يبني السجون قبل أي شيء آخر، لكني رأيت منهم مسجونين؛ لا أدري أيهما أعظم وزورا من صاحبه.. وأشنع حالا وأكبر ضررا..
البائسُ المَسْجُونُ هَلْ يَنْبَجِسُ
أمْ هل تُفيقُ من الغِوايةِ أنفسُ
هذا يَسِيرُ بِدِينهِ مُتَأرْجِحاً
والآخرُ المسكينُ أصبحَ يَنعُسُ
والحقُ أمْسَى حائراً في أمرِهم
ما بينَ أحمقَ بالرّدى يَتَلَبَّسُ
ومُغَفِّلٍ طمستْ حقيقةَ دينِهِ
أكمامُه فهو الغَنِيُ المُفْلِسُ
قد أعجبتْني في الغُوَاةِ عِمَارةٌ
لكنها بُنِيَتْ بِغَيْرِ أَسَاسِ
وضحكْتُ من قومٍ تكدَّسَ عِنْدَهُمْ
ذاك الأساسُ وهمْ بلا إحساسِ
لا هؤلاءِ بقادرينَ على البِنَا
والآخرونَ مَهَالِكٌ للناسِ
فبأيّهمْ ترضى الحيَاةُ وكلّهُمْ
يمشي ولا يدري إلى الإفلاسِ
يا قومُ هل يكفي لنهضةِ أمةٍ
سُبُحاتُ درويشٍ وفَتْوَى عالمِ
وتَرَاكمُ الصُلَحاءِ في أنحائِنا
من غير ما صوتٍ لهمْ في العَالَمِ
من غيرِ ما يدرونَ ما هو يومُهُمْ
فضلاً عن الأمرِ الخفيِّ القادِمِ
ما بينَ مُنْعَزلٍ إلى أحلامِهِ
ومُجَنْدَلٍ في القيدِ ليسَ بقَائِمِ
يا قومُ أيُّ طرقةٍ هَذِي التي
جَمَدَتْ بكمْ في الدَّهرِ أيَّ جُمود
هلاّ انطلقتمْ بالقلوبِ وبالحِجى
وخرَجْتُمُ من ظلمةِ (التقليدِ)
هلاّ كما فَعَلَ (النَّبِيُّ) وصحبُهُ
بعثوا الوَرَى (بحضارةِ التوحيدِ)
يا قومُ لا يرجَى لأيِّ عزيمةٍ
قلبٌ يُصَفِدُهُ الهَوَى بِقيودِ
العقاب(3/17)
"ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت فاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر". (البزار ورجاله رجال الصحيح)(3/18)
الوصول إلى القمر
لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
"ليس في الأدلة النقلية - فيما نعلم - ما يدل على امتناع الوصول إلى الكواكب "
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد: فقد تكرر السؤال هذه الأيام عما يدعيه بعض رواد الفضاء من الوصول إلى سطح القمر وعما يحاولونه من الوصول إلى غيره من الكواكب، ولكثرة التساؤل والخوض في ذلك رأيت أن أكتب كلمة في الموضوع تنير السبيل وترشد إلى الحق في هذا الباب - إن شاء الله - فأقول: إن الله سبحانه وتعالى حرم على عباده القول بغير علم وحذرهم من ذلك في كتابه المبين فقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} . وأخبر سبحانه أن الشيطان يأمر بالقول عليه بغير علم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . وأمر سبحانه عباده المؤمنين بالتثبت في أخبار الفاسقين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . فالواجب على المسلمين عموما وعلى طلبة العلم خصوصا الحذر من القول على الله بغير علم.(3/19)
فلا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول هذا حلال وهذا حرام أو هذا جائز وهذا ممتنع إلا بحجة يحسن الاعتماد عليها وإلا فليسعه ما وسع أهل العلم قبله وهو الإمساك عن الخوض فيما لا يعلم وأن يقول: الله أعلم أو لا أدري.
وما أحسن قول الملائكة عليهم السلام لربهم عز وجل: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم إذا سألهم الرسول صلى الله عليم وسلم عن شيء لا يعلمونه قالوا: "الله ورسوله أعلم". وما ذاك إلا لكمال علمهم وإيمانهم وتعظيمهم لله عز وجل وبعدهم عن التكلف ومن هذا الباب وجوب التثبت فيما يقوله الكفار والفساق وغيرهم عن الكواكب وخواصها وإمكان الوصول إليها وما يلتحق بذلك, فالواجب على المسلمين في هذا الباب كغيره من الأبواب التثبت وعدم المبادرة بالتصديق أو التكذيب إلا بعد حصول المعلومات الكافية التي يستطيع المسلم أن يعتمد عليها ويطمئن إليها في التصديق أو التكذيب, وهذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى في الآية السابقة من سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية والتبين هو التثبت حتى توجد معلومات أوقرائن تشهد لخبر الفاسق بما يصدقه أو يكذبه ولم يقل سبحانه: "إن جاءكم فاسق بنبإ فردوا خبره". بل قال: {فَتَبَيَّنُوا} لأن الفاسق سواء كان كافرا أو مسلما عاصيا قد يصدق في خبره فوجب الثبت في أمره وقد أنكر الله سبحانه على الكفار تكذيبهم بالقرآن بغير علم فقال جل وعلا: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} وما أحسن ما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله في قصيدته الكافية الشافية:(3/20)
إن البدار برد شيء لم تحط
علما به سبب إلى الحرمان
وأعظم من ذلك وأخطر الإقدام على التكفير أو التفسيق بغير حجة يعتمد عليها من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا من الجرأة على الله وعلى دينه ومن القول عليه بغير علم وهو خلاف طريقة أهل العلم والإيمان من السلف الصالح رضي الله عنهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما". وقال صلى الله عليه وسلم: "من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" أي رجع عليه ما قال وهذا وعيد شديد يوجب الحذر من التكفير والتفسيق إلا عن علم وبصيرة كما أن ذلك ما ورد في معناه يوجب الحذر من ورطات اللسان والحرص على حفظه إلا من الخير - إذا علم هذا-.(3/21)
فلنرجع إلى موضوع البحث المقصود فنقول قد تأملنا ما ورد في الكتاب العزيز من الآيات المشتملة على ذكر الشمس والقمر والكواكب فلم نجد فيها ما يدل دلالة صريحة على عدم إمكان الوصول إلى القمر أو غيره من الكواكب وهكذا السنة المطهرة لم نجد فيها ما يدل على عدم إمكان ذلك وقصارى ما يتعلق به من أنكر ذلك أو كفر من قاله ما ذكره الله في كتابه الكريم في سورة الحجر حيث يقول سبحانه: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} . وقال تعالى في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} . وقال في سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلأِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . وقال سبحانه في سورة الملك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} . وقال في سورة نوح: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} . وظنوا أن ما ذكره الله في هذه الآيات الكريمات وما جاء قي معناها يدل على أن الكواكب في داخل السماء أو ملصقة بها فكيف يمكن الوصول إلى سطحها وتعلقوا أيضا بما قاله بعض علماء الفلك من أن القمر في السماء الدنيا وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة وقد نقل ذلك كثير من المفسرين وسكتوا والجواب أن(3/22)
يقال ليس في الآيات المذكورات ما يدل على أن الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب في داخل السماء ولا أنها ملصقة بها وإنما تدل الآيات على أن هذه الكواكب في السماء وأنها زينة لها ولفظ السماء يطلق في اللغة العربية على كل ما علا وارتفع كما في قوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} . قال جماعة من المفسرين هاتين الآيتين: إن {في} للظرفية وأن {السماء} المراد بها العلو واحتجوا بذلك على أن الله سبحانه وتعالى في جهة العلو فوق العرش وما ذاك إلا لأن إطلاق السماء على العلو أمر معروف في اللغة العربية وقال آخرون من أهل التفسير إن {في} هنا بمعنى على وأن المراد بـ {السماء} هنا السماء المبنية كما قال سبحانه: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} أي على الأرض وعلى هذا المعنى يكون المعنى أن الله سبحانه فوق السماء فيوافق ذلك بقية الآيات الدالة على أنه سبحانه فوق العرش وأنه استوى عليه استواء يليق بجلاله عز وجل ولا يشابهه فيه استواء خلقه كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وقال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . ومن أنكر هذا المعنى ووصف الله سبحانه بخلافه فقد خالف الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة الدالة على علو الله سبحانه واستوائه على عرشه استواء يليق بجلاله من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل كما خالف إجماع سلف الأمة ومن هذا الباب قوله سبحانه في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً(3/23)
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . ذكر جماعة من المفسرين أن مراد الله سبحانه في هذه الآية: {وأنزل من السماء ماء} أن المراد بـ {السماء} هنا هو السحاب سمي بذلك لعلوه وارتفاعه فوق الناس ومن هذا الباب أيضا قوله في سورة الحج: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} . الآية.. قال المفسرون معناه فليمدد بسبب إلى ما فوقه من سقف ونحوه فسماه سماء لعلوه بالنسبة إلى من تحته ومن هذا الباب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} . الآية.. فقوله هنا في {السماء} أي في العلو وقال صاحب القاموس: "سما سموا ارتفع وبه أعلاه كأسماه"إلى أن قال: "والسماء معروفة وتذكر وسقف كل شيء"انتهى. والأدلة في هذا الباب في كلام الله وكلام رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكلام المفسرين وأئمة اللغة على إطلاق لفظ السماء على الشيء المرتفع كثيرة إذا عرف هذا فيحتمل أن يكون معنى الآيات أن الله سبحانه جعل هذه الكواكب في مدار بين السماء الدنيا والأرض وسماه سماء لعلوه وليس فيما علمنا من الأدلة ما يمنع ذلك وقد ذكر الله سبحانه أن الشمس والقمر يجريان في فلك في آيتين من كتابه الكريم وهما قوله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . وقوله سبحانه في سورة يس: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . ولو كانا ملصقين بالسماء لم يوصفا بالسبح لأن السبح هو الجري في الماء(3/24)
ونحوه وقد ذكر بن جرير رحمه الله في تفسيره المشهور أن الفلك في لغة العرب هو الشيء الدائر وذكر في معناه عن السلف عدة أقوال ثم قال ما نصه: "والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . ذكر عن الحسن كطاحونة الرحا وجائز أن يكون موجا مكفوفا وأن يكون قطب السماء وذلك أن الفلك في كلام العرب هو كل شيء دائر فجمعه أفلاك" ونقل رحمه الله عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أنه قال ما نصه: "الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر وقرأ {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} . وقال تلك البروج بين السماء والأرض"انتهى.
وقد نقل الحافظ بن كثير رحمه الله في التفسير كلام ابن زيد هذا وأنكره ولا وجه لإنكاره عند التأمل لعدم الدليل على نكارته. وقال النسفي في تفسيره ما نصه: "والجمهور على أن الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم"انتهى.(3/25)
وقال الألوسي في تفسيره (روح المعاني) ما نصه: "وقال أكثر المفسرين هو موج مكفوف تحت السماء يجري فيه الشمس والقمر"انتهى. وعلى هذا القول في تفسير الفلك والآيات المتقدمة آنفا لا يبقى إشكال في أن الوصول إلى القمر أو غيره من الكواكب لا يخالف الأدلة السمعية ولا يلزم منه قدح فيما دل عليه القرآن من كون الشمس والقمر في السماء ومن زعم أن المراد بالأفلاك السماوات المبنية فليس لقوله حجة يعتمد عليها فيما نعلم بل ظاهر الأدلة النقلية وغيرها يدل على أن السماوات السبع وغير الأفلاك يحتمل أنه أراد سبحانه بالسماء في الآيات المتقدمة السماء الدنيا كما هو ظاهر في آية الحجر وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} . ولم يرد سبحانه أن البروج في داخلها وإنما أراد سبحانه بقربها وتنسب إليها كما يقال في لغة العرب فلان مقيم في المدينة أو في مكة وإنما هو في ضواحيها وما حولها وأما وصفه سبحانه للكواكب بأنها زينة للسماء فلا يلزم منه أن تكون ملصقة بها ولا دليل على ذلك بل يصح أن تسمى زينة لها وإن كانت منفصلة عنها وبينها وبينها فضاء كما يزين الإنسان سقفه بالقماش والثريات الكهربائية ونحو ذلك من غير ضرورة إلى إلصاق ذلك به ومع ذلك يقال في اللغة العربية فلان زين سقف بيته وإن كان بين الزينة والسقف فضاء وأما قوله سبحانه في سورة نوح: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} . فليس في الأدلة ما يدل على أن معناه أن الشمس والقمر في داخل السموات وإنما معناه عند الأكثر أن نورها في السموات لا أجرامهما فأجرامهما خارج السموات ونورهما في السموات والأرض وقد روى ابن جرير رحمه الله عند هذه الآية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ما يدل على هذا المعنى حيث قال في تفسيره: "حدثنا عبد(3/26)
الأعلى قال حدثنا ابن ثور عن عمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: "إن الشمس والقمر وجوههما قبل السموات وأقفيتهما قبل الأرض". انتهى
وفي سنده انقطاع لأن قتادة لم يدرك عبد الله بن عمرو، ولعل هذا إن صح عنه مما تلقاه عن بني إسرائيل وظاهر الآية يدل على أن نورهما في السموات لا أجرامهما وأما كون وجوههما إلى السموات وأقفيتهما إلى الأرض فموضع نظر والله سبحانه وتعالى أعلم بذلك.(3/27)
وأما قول من قال من أهل التفسير أن ذلك من باب إطلاق الكل على البعض لأن القمر في السماء الدنيا والشمس في الرابعة كما يقال رأيت بني تميم وإنما رأيت بعضهم فليس بجيد ولا دليل عليه وليس هناك حجة يعتمد عليها فيما تعلم تدل على أن القمر في السماء الدنيا والشمس في الرابعة وأما قول من قال ذلك من علماء الفلك فليس بحجة يعتمد عليها لأن أقوالهم غالتا مبنية على التخمين والظن لا على قواعد شرعية وأسس قطعية فيجب التنبه لذلك, ويدل على هذا المعنى ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} الآية.. حيث قال ما نصه: "قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} أي واحدة فوق واحدة وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط أو هو من الأمور المدركة بالحس مما علم من التسيير والكسوفات, فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا فأدناها القمر في السماء الدنيا وهو يكسف ما فوقه وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة وأما بقية الكواكب وهي الثوابت ففي فلك ثامن (فلك الثوابت) والمتشرعون منهم يقولون هو الكرسي والفلك التاسع وهو الأطلس والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك وذلك أن حركته مبدأ الحركات وهي من المشرق إلى المغرب وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب ومعها يدور سائر الكواكب تبعا ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها فإنها تسير من المغرب إلى المشرق وكل يقطع بحسبه فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة والشمس في كل سنة مرة وزحل في كل ثلاثين سنة مرة وذلك بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة, هذا ملخص ما يقولون في هذا المقام على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها". انتهى(3/28)
فقول الحافظ رحمه الله هنا على اختلاف بينهم.. الخ, يدل على أن علماء الفلك غير متفقين على ما نقله عنهم آنفا من كون القمر في السماء الدنيا وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة..الخ وغير ذلك مما نقله عنهم ولو كانت لديهم أدلة قطعية على ما ذكروا لم يختلفوا ولو فرضنا أنهم اتفقوا على ما ذكر فاتفاقهم ليس بحجة لأنه غير معصوم وإنما الإجماع المعصوم هو إجماع علماء الإسلام الذين توفرت فيهم شروط الاجتهاد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي علة الحق منصورة" الحديث. فإذا اجتمع علماء الإسلام على حكم اجتماعا قطعيا لا سكوتيا فإنهم بلا شك على حق لأن الطائفة المنصورة منهم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال على الحق حتى يأتي أمر الله، وظاهر الأدلة السابقة، وكلام الكثير من أهل العلم أو الأكثر كما حكاه النسفي، والألوسي أن جميع الكواكب ومنها الشمس والقمر تحت السموات وليست في داخل شيء منها، وبذلك يعلم أنه لا مانع من أن يكون هناك فضاء بين الكواكب والسماء الدنيا يمكن أن تسير فيه المركبات الفضائية ويمكن أن تنزل على سطح القمر أو غيره من الكواكب ولا يجوز أن يقال بامتناع ذلك إلا بدليل شرعي صريح يجب المصير إليه كما أنه لا يجوز أن يصدق من قال إنه وصل إلى سطح القمر أو غيره من الكواكب إلا بأدلة علمية تدل على صدقه, ولا شك أن الناس بالنسبة إلى معلوماتهم عن الفضاء ورواد الفضاء يتفاوتون فمن كان لديهم معلومات قد اقتنع بها بواسطة المراصد أو غيرها دلته على صحة ما ادعاه رواد الفضاء الأمريكيون من وصولهم إلى سطح القمر فهو معذور في تصديقه ومن لم يتوفر لديه المعلومات الدالة على ذلك فالواجب عليه التوقف والتثبت حتى يثبت لديه ما يقضي التصديق أو التكذيب عملا بالأدلة السالف ذكرها ومما يدل على إمكان الصعود إلى الكواكب قول الله سبحانه في سورة الجن فيما حكاه عنهم: {وَأَنَّا(3/29)
لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً, وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} . فإذا كان الجن قد أمكنهم الصعود إلى السماء حتى لمسوها وقعدوا منها مقاعد فكيف يستحيل ذلك على الإنس في هذا العصر الذي تطور فيه العلم والاختراع حتى وصل إلى حد لا يخطر ببال أحد من الناس حتى مخترعيه قبل أن يخترعوه. أما السموات المبنية فهي محفوظة بأبوابها وحرسها فلن يدخلها شياطين الجن والإنس كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} . وقال تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} . وثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء مع جبريل لم يدخل السماء الدنيا وما بعدها إلا بإذن فغيره من الخلق من باب أولى وأما قوله سبحانه في سورة الرحمن: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} . فليست واضحة الدلالة على إمكان الصعود إلى الكواكب لأن ظاهرها وما قبلها وما بعدها يدل على أن الله سبحانه أراد بذلك بيان عجز الثقلين عن النفوذ من أقطار السموات والأرض وقد ذكر الإمام ابن جرير رحمه الله وغيره من علماء التفسير في تفسير هذه الآية الكريمة أقوالا أحسنها قولان. أحدهما: أن المراد بذلك يوم القيامة وأن الله سبحانه أخبر فيها عن عجز الثقلين يوم القيامة عن الفرار من أهوالها وقد قدم ابن جرير هذا القول وذكر في الآية التي بعدها ما يدل على اختياره له والقول الثاني: أن المراد بذلك بيان عجز الثقلين عن الهروب من الموت لأنه لا سلطان لهم يمكنهم من الهروب من الموت كما أنه لا سلطان لهم على الهروب من أهوال يوم القيامة وعلى هذين القولين(3/30)
يكون المراد بالسلطان القوة ومما ذكرناه يتضح أنه لا حجة في الآية لمن قال إنها تدل على إمكان الصعود إلى الكواكب وأن المراد بالسلطان العلم، ويتضح أيضا أن أقرب الأقوال فيها قول من قال أن المراد بذلك يوم القيامة, أخبر الله سبحانه فيها أنه يقول ذلك للجن والإنس في ذلك اليوم تعجيزا لهم وإخبارا أنهم في قبضة الله سبحانه وليس لهم مفر مما أراد بهم ولهذا قال بعدها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} . فالمعنى - والله أعلم - أنكما لو حاولتما الفرار في ذلك اليوم لأرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران منهما, أما في الدنيا فلا يمكن أحدا النفوذ من أقطار السموات المبنية لأنها محفوظة بحرسها وأبوابها كما تقدم ذكر ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} . (فاطر 3)(3/31)
العدد 6
فهرس المحتويات
1- أمر يستدعي الانتباه (مترجم من بعض نشرات أحرار الإسلام الباكستانية)
ترجمة: عاصم حداد
2- إنا لله وإنا إليه راجعون: المجلة
3- أين القمر؟ : للشيخ حماد بن محمد الأنصاري
4- أيها الشاعر مهلا: بقلم الشيخ رمضان أبو العز
5- إحرص على ما ينفعك: لعبد الله بن أحمد قادري
6- الإسلام وعمل المرأة: للشيخ إبراهيم السلقيني
7- التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي (2) : بقلم الشيخ عطية محمد سالم
8- التقدم والرجعية (2) : بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي
9- الدعوة إلى الله وأثرها في المجتمع: نائب رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
10- الشباب: بقلم الدكتور محمود بابللي
11- أضواء على المذاهب الهدامة - الماسونية: بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
12- حقائق عن نيجيريا: بقلم الطالب: عبد الرشيد هدية الله الاووى النيجيري
13- ندوة الطلبة - (دراسات في الديانات الهندية) - الديانة الهندوسية (1)
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
14- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (3) : لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
15- رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -: بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
16- رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
17- عتاب وتحذير: للشيخ محمد المجذوب
18- في مناسبات الآيات والسور: للشيخ أحمد حسن
19- لمحات تاريخية من حياة شيخ الإسلام ابن تيميّة: بقلم: الطالب صالح بن سعيد بن هلابي
20- مع الصحافة - ظهر الآن سر التآمر على الخلافة الإسلامية: نقلا عن جريدة الميثاق المغربية
21- من تاريخ المذاهب الهدامة - كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (3)
بقلم: محمد بن مالك اليماني
22- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(3/32)
أمر يستدعي الانتباه
مترجم من بعض نشرات أحرار الإسلام الباكستانية
ترجمة: عاصم حداد
لقد كانت سنة ألف وثمانمائة وسبعة وخمسين الميلادية عهدا مليئا بالاضطراب الدامي الداخلي في تاريخ القارة الهندية حيث كان الحكم الإنكليزي يبذل أقصى جهوده ليحل نفسه محل الحكم الإسلامي فيها فرفع المسلمون علم الجهاد ضده وقد ساهم في هذا الجهاد المقدس وأدى واجبه الديني كل مسلم في الهند من المرحوم الملك بهادر شاه ظفر إلى كل صغير عامي تحت قيادة علماء الإسلام، ولو لم يتزعم المسلمين الخونة من أنفسهم مثل مرزا غلام مرتضي في بنجاب لما كان وجه خريطة العالم الإسلامي كما نراه اليوم.
مرزا غلام مرتضي هذا هو المتنبي القادياني، ولما كان المسلمون في طليعة العناصر المقاومة للاستعمار البريطاني فإن حكومة بريطانيا بعد أن تم لها الاستيلاء والسيطرة على الهند بوسائل المكر والخديعة والظلم والعدوان.
وبمساعدة بعض الخونة من المنتسبين إلى الإسلام كما أشرنا بعثت بعثة رسمية في سنة 1896 من لندن إلى الهند برئاسة السير وليم هنتر لتقصي الحقائق ومعرفة طبيعة المسلمين ومزاجهم واتجاهاتهم نحو الحكم البريطاني وتقديم المقترحات بشأن جعل المسلمين يوالون للإنكليز، ومكثت البعثة سنة كاملة في الهند للتعرف عن أحوال المسلمين وتنفيذ ما أنيط بها.
وفي عام 1870 انعقد مؤتمر لهذه البعثة في القاعة البيضاء بلندن اشتركت فيه علاوة على مندوبي البعثة المذكورة عدد من قساوسة البعثة التبشيرية في الهند بدعوة خاصة فقدم في هذا المؤتمر كل من هاتين البعثتين تقريرها على حدة وقد نشر ذلك في السنة نفسها باسم مقدم الأمبراطورية البريطانية في الهند.
وهانحن نقدم لقرائنا الكرام بعض المقتبسات: تقري رئيس البعثة السير وليم هنتر:(3/33)
من عقيدة المسلمين الدينية أنهم لا يمكن أن يعيشوا تحت حكم أجنبي ويرون من واجبهم الديني القيام بالجهاد ضد الحكم الأجنبي، وبفكرة الجهاد هذه فإن المسلمين فيهم جأش كبير وحماسة شديدة وهم مستعدون للجهاد في كل وقت وباختصار فإنه من الممكن أن تثيرهم فكرتهم هذه ضد الحكومة في كل لحظة.
تقرير القساوسة:
إن أغلبية ساحقة من سكان الهند ميالة بطبيعتها إلى الاعتقاد في مشايخ الطرق وعلى هذا إذا نجحنا في الحصول على خائن من المسلمين أنفسهم يستعد للقيام بدعوى النبوة الظلية فإنه لابد أن يلتف حوله وينضم إلى حلقته آلاف من الناس بكل سهولة، والأمر الذي له الأهمية الأساسية في هذا الشأن هو جعل أحد المسلمين مستعدا للقيام بهذه الدعوة.
وهذه المشكلة إذا توصلنا إلى حلها فإننا نستطيع أن نربي نبوة هذا الشخص ونتخذ الوسائل اللازمة لترقيتها تحت ظل الحكومة.
وقد سبق أن هزمنا كل حكومة محلية في القارة بحكمتنا العلمية، لقد كنا في مرحلة غير التي نحن الآن فيها وقد تم لنا اليوم السيطرة على كل شبر من أرض الهند، وقد استتب الأمن واستقر السلام في ربوعها؛ فعلينا أن نتبع في الظروف الراهنة مخططا يسبب الفوضى والتفرق بين سكان هذه القارة.
قراؤنا الكرام:
الإنكليز عدو الإسلام فقد خطب كليد ستون رئيس وزراء بريطانيا في البرلمان وقال والمصحف الكريم في يده: لا يمكننا أن نحكم بهدوء وطمأنينة ما زال هذا الكتاب في العالم، ورمى المصحف على الأرض عليه لعائن الله.
لقد كان الجهاد حسب تعاليم القرآن الكريم فريضة مقدسة لدى المسلمين ملأت سكان القرى والبوادي من جزيرة العرب شجاعة وإيمانا حتى احتلوا عروش قيصر وكسرى.
فلذا أعداء الإسلام بيتوا الخطط وحاكوا الدسائس والمكائد ليبحثوا عن خائن من بين المسلمين يدعي النبوة يلغي فريضة الجهاد ويجعل طاعة سيده الإنكليز فريضة مقدسة في أعناق المسلمين.(3/34)
فمن واجبكم أيها القراء أن تفكروا قليلا لتعرفوا من هو هذا الخائن الذي قام من بيننا بدعوى النبوة فألغى فريضة الجهاد وحرم على المسلمين الخروج على الإنكليز؟.
ألا وهو المتنبي غلام أحمد القادياني فاعتبروا يا أولي الأبصار.(3/35)
الشباب
بقلم الدكتور محمود بابللي
رحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي لقوله:
شباب قنع لا خير فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا
1- عنصر الشباب:
عنصر الشباب هو عنصر الحياة المتدفقة، عنصر الفعالية الوثابة، عنصر الأمل الباسم والغد المشرق، العنصر الذي تبنى عليه الأمة مستقبلها، العنصر الذي يسجل في التاريخ أنقى وأنصع صفحاته، هذا العنصر هو الذي نهيب به أن يعيد لهذه الأمة ماضيها الزاهر، وأن يحقق في حاضره ما نعتز به في مستقبلنا القريب، وما يعتز به أحفادنا في أجيالهم المتلاحقة.
إن هذا العنصر هو معقد الرجاء ومحط الآمال وموضع الامتحان والابتلاء، إنه عنصر التضحية والفداء، عنصر الإقدام والعمل، عنصر التجديد والبناء.
وهذه الكلمات ليست كلمات حماسية عاطفية، وإنما هي حقائق نلمسها في شبابنا وننتظر منه أن يحققها في أمته بتحقيقها في نفسه.
فما هي حقيقة الشباب وما هو واجب الشباب؟
2ـ حقيقة الشباب:
إن الشباب هو في مراحل العمر أنضرها وأباها وأقواها عزيمة، وهو في جسم الأمة إكسير الحياة المتدفق الذي ترجو منه الجديد في كيانها والإعداد لمستقبلها.
وليس هناك أقدر من الشباب على تحمل التبعات والمسؤوليات، وليس هناك أقدر من الشباب على صنع العجائب.
وقد قال عنه أبو العتاهية في أرجوزته ذات الأمثال: "روائح الجنة في الشباب".
فالشباب هو الشعلة التي تحمل الضياء للأمة، وهو السواعد المفتولة والزنود العامرة، والصدور الواسعة والقامات المرتفعة الفارهة، هو عنصر الجمال وعنصر القوة وعنصر الإرادة والتصميم، وهو خلاصة الدم النقي الفوار.
وقيل في الأمثال العربية تذكرة لما هو عليه حال الشباب وتبصرة لما سيؤول إليه:
"أواه لو عرف الشاب، وآه لو قدر المشيب".(3/36)
ولابد يوما أن يزول هذا الشباب، وأن يندم صاحبه على ما فرط في أيامه، وعندئذ يتمثل قول أبي العتاهية:
بكيت على الشاب بدمع عيني
فلم يغن البكاء ولا النحيب
فيا أسفا أسفت على شباب
نعاه الشيب والرأس الخضيب
عريت من الشباب وكان غضا
كما يعرى من الورق القضيب
فياليت الشباب يعود يوما
لأخبره بما فعل المشيب
هذه هي حقيقة الشباب، فما هو واجبه؟
3ـ واجب الشباب:
إن من أولى واجبات الشباب أن يحافظوا على هذا الشباب وأن يستفيدوا من هذا الشباب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك ... " [1] .
وأن يعرفوا ما هي قيمة الشباب وما هو أثره في كيان الأمة وليس للشباب أن يلهو في وقت الجد وليس له أن يتقاعس عن العظائم في كل الأمور وليس له أن يتواكل أو يتردد أو يسوف وإنما هي العزيمة والإقدام والعمل، لأنها من طبيعة الشباب إن للشباب مثلا أعلى تتوق إلى تحقيقه نفوسهم فيجب أن لا تقصر هممهم عن السعي إليه، ونفوس الشباب تواقة إلى المجد، وإلى إحراز البطولات وتحقيق العظائم العلمية في شتى الميادين الاجتماعية والثقافية والعسكرية والفنية والاقتصادية.
إن المثل الأعلى للشباب أن يكونوا رواد هذه الأمة في شتى العلوم والمعارف وأن لا يرضوا لأنفسهم ولأمتهم دون الثريا مقعدا وهذا لا يتحقق لهم إلا إذا تخلقوا بالأخلاق الحميدة والعزيمة الصادقة والإرادة الفولاذية، والصبر الطويل والعمل الدائب.
وإن الأمور الحسنة لا تخفى على ذي عين بصيرة، لذلك فإن من واجب الشباب أن يقبلوا من أنفسهم أو من غيرهم أو من محيطهم إلا ما هو صالح ونافع وجميل.
إن التعاون على تأييد الحق ونصرته والأخذ على يد الظالم هو من طبيعة الشباب لأن الشباب لم تتركز فيه الرذائل والمفاسد فهو لا يزال في طهره ونقائه وكل ما لا يتفق وفطرته السليمة أمر منكر ومكروه.(3/37)
إن واجب الشباب أن تتفتح بصيرته على الهدى والأخلاق الحسنة، وأن يبتعد عن سفاسف الأمور، وأن يتخذ لنفسه مثلا أعلى يعمل جاهدا على تحقيقه.
والمثل الأعلى له مجالات واسعة ففي كل حقل لابد أن يكون فيه من يستحق أن يكون مثلا أعلى.
وخير الأمثلة العليا للشباب المسلم الصحابة الكرام الذين قال عنهم الرسول - صلى اللهعليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
وسير الصحابة نماذج عالية من علو الهمة ومن البذل ومن التضحية ومن محاسبة النفس ومن التمثل والتحلي بمحاسن الأخلاق ومن الاستهانة بزخرف الحياة الدنيا ومن الحرص على كل ما يرضي الله سبحانه ما إن تمسك به الشباب لاستقام توجيههم، ولتطبعت نفوسهم على هذه الصفات والمزايا ولحسن مردودهم وصلحت عاقبتهم.
وبعد ذلك يحق لهذا الشباب أن ينطلق في ميادين الحياة جميعها متسلحا بهذه الأخلاق الحسنة والصفات الممتازة، وأن يكون مثلا فيها لمن يعاشره أو يعمل معه أو يتصل به.
ذلك لأننا مفتقرون إلى هذه العناصر المثالية، ولا يستطيع تأمينها إلا الشباب فيما إذا وعوا هذه الحقيقة.
والشيء الذي يساعد الشباب على تأدية رسالته في كل ميدان يقتحمه هو محاسبته لنفسه وتحققه من صحة المنطلق الذي باشر السير فيه.
وهذه المحاسبة لها أهميتها، لأن الشباب لا يعدم من نفسه أو من أصدقائه أو من معارفه أو من محيطه من يجعله موضع موازنته وقياسه، وسبل النجاح مفتحة لكل من يريد سلوكها، ولكنها تحتاج إلى همم عالية وإلى إرادة وعزم وإلى تصميم ومباشرة وإلى صبر ودأب.(3/38)
ومتى خطط الشباب لنفسه منطلقه في هذه الحياة عليه أن ينظر إلى أعظم شخصية سبقته في هذا المنطلق، وأن يتخذ منها مثالا على إمكانية بلوغ هذه المنزلة والتفوق عليها، وأن يتعاون مع من يساعده على سلوك هذا المنطلق ويتجنب من لا يفيده في ذلك، وأن يحرص كل الحرص على أن لا يفوت على نفسه الفرصة، لأن ما ضاع منه لا يعود، وإنما قد يتداركه بعض الشيء، والمثل العربي يقول: "ما ضاع من مالك أو من وقته ما علمك"
وليستفيد الشباب من تجارب من سبقهم في هذا المنطلق، وليتعرفوا ما ارتكبه البعض منهم من أخطاء، وليعملوا على تجنبها، لأن تجارب من سبقنا في مضمار الحياة هي دروس نافعة لنا، إن استفدنا منها تجنبنا كثيرا من الزلل ووفرنا على أنفسنا كثيرا من الجهد، ولم نضيع من الوقت ما نحن بحاجة إلى الاستفادة منه.
والشباب المتعلم المثقف هو أقدر على تحمل المسؤولية وتقدير التبعات، وهو أولى من غيره بأن يقدر هذه المعاني ويوليها حقها، لأن له من ثقافته ما يدفع به إلى سلوك سبل المجد في كل منطلق، وهو موضع أمل الأمة ومحط أنظارها؛ فإذا ما جعل التفوق هدفه وصل في النتيجة إلى تحقيق هذا الهدف، وكان أسوة لغيره فيه، لأن طبيعة النفوس تواقة إلى تقليد غيرها (ولو بالظاهر) ، وغالبا ما يكون التقليد في المظاهر.
والذي يؤكد لنا هذه الظاهرة تسابق الناس إلى تقليد بعضهم بعضا في كثير من المظاهر الاجتماعية انسياقا وراء عدوى التقليد، دون أن يحكموا في ذلك دينهم أو أن يأخذوا الأمر عن بصيرة ويتقن من جدواه.
فللمظاهر تأثيرها الفعال على النفوس، ولها عدواها الخاصة بها، حتى أنها لتسري في المجتمع سريان النار في الهشيم (تلتهم الأخضر واليابس) إلا من رحم ربك، فيختلط الأمر على الرجل الحكيم، حتى يظن أن مجاراة الناس في هذه المظاهر خير من مخالفتهم.(3/39)
ولهذا تكون المظاهر في الأمور المحمودة أجدى على الأمة من غيرها، لأن الأغلبية ستندفع في تقليدها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان قادة الأمة في طليعة المتمسكين بهذه المظاهر المحمودة، لأن غالبية الناس تبع لهم.
ولنأخذ مثلا على هذه المظاهر المحمودة حرص الناس على التعلم وشدة إقبالهم عليه في الآونة الأخيرة، فلو لم يكن منشأ هذه الظاهرة من علية القوم لما رأينا هذا الإقبال الشديد عليه من عامة الناس.
والتزود من العلم شيء محمود لذاته ولا حدود له إطلاقا، فهو أوسع منطلق وأعوده بالنفع، ورب العالمين يوجه رسوله الكريم لأن يتزود من العلم بقوله جل شأنه: {وقل رب زدني علما} .
والعلم لا يقتصر على تعلم القراءة والكتابة، لأن تعلم القراءة والكتابة هو مفتاح العلم ووسيلته، ومن يتوقف عند هذه الحدود أخرى به أن يعد من الأميين.
وميدان العلم فسيح وفسيح جدا، ولا يستطيع أن يلم به فرد أو مجموعة أو أمة أو جيل، ولابد له من جهود جبارة ومن تعاون شامل، ومن دأب واستمرار، لأنما توصلت إليه المدنية الحاضرة من علوم وفنون وهو حصيلة الأزمان السابقة وجهود العلماء المتلاحقة منذ تفتح الإنسان على العلم حتى الآن.
وكل شيء يحتاج إليه الإنسان في حياته نجد للعلم أثرا فيه، وكلما ازدادت ثقافة الأمة ازدادت أحوالها تحسنا.
والعلم لا يأتي إلا بالتعلم، والتعلم لا يأتي طفرة، وإنما لابد له من سنين طويلة ومن جهد ومن دأب واستمرار لأن طالب العلم نهم لا يشبع منه أبدا، فهو لذلك عندما يذوق لذته يندفع إليه دون تردد، ويستمر فيه دون انقطاع، وأقدر من يعي هذه الحقائق هم شباب الجامعات وطلاب المعاهد العليا على اختلاف أنواعها.
وإنني أخص بهذه الكلمة هؤلاء الشباب الذين هم رواد هذه الأمة وطليعة نهضتها، وموضع ثقتها ومقصد رجائها في تحقيق كل ما تهدف إليه في مستقبلها القريب والبعيد.(3/40)
والعلوم النظرية لا تغني عن التزود من العلوم العملية، ولكل منهما ضرورة، وقد يفرض واقع الأمة على الشباب أن يتداركوا ما تحتاج إليه الأمة من أحد هذين النوعين أكثر من النوع الآخر.
وعلى هذا يكون التخطيط في مثل هذه الشؤون أمرا ضروريا مفروضا على ولاة أمر الأمة.
ولابد من تضافر الجهود في هذه السبيل، لأن دفع الآباء لأبنائهم في منطلق واحد أمر لا تحمد نتيجته، ولابد من تنويع المنطلقات وتوفير الأسباب لبيان ضرورتها وفائدتها.
واقتحام منطلقات جديدة قد يحقق فرصا ومنافع لكثير من الشباب جميعهم أو أغلبهم في منطلق واحد أو ما كانت لتتحقق لو أنهم اندفعوا في منطلقات مسبوقة.
وللأمة أمجاد ومفاخر، ولا يحافظ عليها إلا تلاحق الأمجاد والمفاخر، فإذا انطفأت الشعلة في الشباب بانصرافهم عن هذا الواجب العظيم، عاشت الأمة ذليلة في حاضرها، ودب اليأس إلى باقي عناصر الأمة، وتغلب الشك على صدق نسبة هذه الأمجاد إلى أصول هؤلاء الشباب، وطمع الغير في السيطرة والتغلب على هذه الأمة، ويكون السبب في هذا كله تقريبا تفريط الشباب في واجبهم، وكم لهذا التفريط من نتائج سيئة وعواقب وخيمة.
ولذلك أهيب بهؤلاء الشباب وأخص بقولي المثقفين منهم، أن لا يفتحوا ثغرة في صفوف هذه الأمة، وأن يكونوا مفاتيح خير لها في كل منطلق وميدان ومغاليق شر لكل ضلالة وفساد وانحلال.
وأن يكونوا على يقين من حسن النتيجة فيما لو صدقوا أنفسهم ولم يخدعوها بالأماني، وبذلوا في سبيل ذلك من الجهد والدأب والسهر ما يهون أمام الهدف الذي ينشدونه، وهو إحلال هذه الأمة في مكانها الذي أعده الله لها في قوله جل وعلا: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} .(3/41)
والله سبحانه وتعالى يدعونا إلى العمل ويحضنا عليه ويجعل بعضنا رقيبا على بعض ويجعل الرسول شهيدا علينا وهو شهيد على الجميع يوم تسأل كل نفس عما أسلفت: {وقل اعملوا فسير الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] من حديث رواه الترمذي مرسلا.(3/42)
أضواء على المذاهب الهدامة (الماسونية)
بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وحزبه.
أما بعد:
فهذه أضواء على المذاهب الهدامة التي استشرى خطرها على الإنسانية وعظم ضررها على جميع المجتمعات.
وهذه المذاهب الهدامة تتمثل الآن في الماسونية وفروعها من الشيوعية والاشتراكية والصهيونية، كما تتمثل كذلك في القوميات وعلى الأخص في بلادنا تتمثل العربية التي أسسها دعاة النصرانية وعقدوا لها أول مؤتمر في باريس سنة 1910م.
وسنتكلم إن شاء الله على كل مذهب من هذه المذاهب لنلقي الضوء عليه ليهلك من هلك عن بينة ويحي من يحي عن بينة، وأملا أن يعرف أبناؤنا مواقع الشر حتى لا يقعوا فيه على حدّ قول القائل:
عرفت الشر لا للشـ
ر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشـ
رمن الناس يقع فيه
الماسونية جمعية سرية يهودية الأصل، ومعنى ماسون أو فرمسون: (البناؤون الأحرار) .
وقد أسس المحفل الأعظم لهذه الجمعية لأول مرة في بريطانيا عام 1717م، وقد زعم دعاتها أنهم يهدفون إلى مبادئ ثلاثة هي: الحرية، والإخاء، والمساواة.
ومقصودهم من الحرية في الواقع أن يتحرر الناس من أديانهم وأن يرتكب الإنسان ما شاء له هواه دون رادع أوزاجر، وأن يخالف جميع ما تأمر به الشرائع، وأن تفعل المرأة ما شاءت من الزيغ والرجس والفساد والتهتك والانحلال تحت ستار الحرية…
كما أن مقصودهم من الإخاء هو محاربة روح التمسك بالدين وأنه لا فرق بين يهودي ونصراني ومسلم ومجوسي وبوذي وشيوعي فالناس كلهم إخوان وعليهم أن يحاربوا أي استمساك بأي دين ويسمون من يلتزم مبادئ دينه بأنه متعصب مذموم.(3/43)
كما أن مقصودهم من المساواة كذلك هو ملء قلوب الفقراء بالحقد والضغينة ضد الأغنياء، وملء قلوب الأغنياء بالحقد والضغينة على الفقراء.
وبعد مائتي سنة تقريبا من وجود المحفل الأعظم الماسوني في بريطانيا انتشرت المحافل الماسونية في العالم ولا سيما في فرنسا وروسيا وأمريكا والهند.
حتى صار في أمريكا وحدها عام 1907م أكثر من خمسين محفلا ماسونيا رئيسيا تتبعها آلاف المحافل.
ثم نشرت المخابرات الإيطالية عام 1927م في عهد موسوليني أنها اكتشفت 36 ألف جمعية ماسونية في العالم يتبعها ملايين الناس.
وقد عمد الماسون إلى اصطياد رجال ونساء إلى فخاخهم من جميع الديانات ممن يأملون فيهم أن يخدموا أهدافهم في بلادهم، فإذ تمت تجاربهم على العضو وأيقنوا أنه يستطيع أن يكون عبدا مطيعا لمبادئهم وأغراضهم بذلوا حوله كل ما يستطيعون من وسائل الدعاية لتركيزه.
وصار له عندهم وصف كسكرتير أعظم أو أستاذ أو قطب أو قطب المحفل الماسوني الذي ينتمي إليه، ولا يصل العضو إلى هذه المراتب إلا بعد اختبار شاق، فهم في بادئ دعوة العضو وبعد أن يدرسوه نفسيا يدخل العضو في سرداب طويل مليء بالجماجم الإنسانية المعلقة بالسيوف والخناجر التي تكاد تمس رأسه وهو مار من تحتها ويقال له: هذه رؤوس من باحوا بالسر.
ثم تعصب عيناه ويتسلمه رجلان قويان نشيطان ويضعان حبلا على عنقه كأنهما يريدان شنقه وهو مستسلم لهما ثم يدفعانه إلى غرفة سوداء فيرفعان غطاء عينه ليرى صندوقا ثم يدخلانه في الصندوق وحبل المشنقة في عنقه إذا وجدوا منه استسلاما كاملا فعلوا به كقوم لوط، فإذا لم يجدوا منه اية مقاومة اعتبر ناجحا واعطي الدرجة التي يستحق…
وقد بدأ الماسون في تشكيل هيئات أخرى لتظهر في صورة غير ماسونية كان من بينها الشيوعية الحديثة والاشتراكية والصهيونية.(3/44)
فهذه المذاهب الثلاثة تلتقي مع الماسونية في أغراضها وأهدافها، وإن تشكلت بأشكال مختلفة، ولذلك رأينا شعار الشيوعية من (المنجل) شبيها بشعار الماسونية من المطرقة والسدان وآلات الهدم والبناء.
ولذلك رأينا دعاة الاشتراكية في البلاد العربية مع اختلافهم يرددون نفس شعار الماسونية فهتافهم: الحرية والوحدة والاشتراكية، وهي في الحقيقة عين ما يردده الماسون: الحرية والإخاء والمساواة.
فالهدف الأول لم يختلف حتى في الاسم، والهدف الثاني معناه عندهما واحد، وكذلك الهدف الثالث.
والماسون يتفقون مع الصهيونية في أنهما يعملان حقيقة لإعادة بناء هيكل سليمان، كما أن الأفعى رمز للماسونية والصهيونية جميعا، وقد تمثل ذنبها في القدس ورأسها يدور ليبتلع العالم ويرجع ليلتقي بالذنب بعد أن تقضي هذه الأفعى على مقدرات جميع الأمميين.
وقد قسمت الماسونية جمعياتها حسب مخططاتها وأغراضها فبعض هذه الجمعيات لإثارة الطلاب وبعضها للاستيلاء على أفكار الصحفيين والكتاب والمؤلفين، وبعضها لإثارة العمال والفلاحين وبعضها مختصة بالعسكريين، وبعضها لإحداث الانقلابات والفتن والقلاقل في الدول إلى غير ذلك.
فالماسون وراء الثورة الفرنسية وهم وراء مذبحة استنبول التي ذبح فيها 68ألف مسلم عام 1908م وهم كذلك وراء حرب البلقان عام 1912م، والتي أثارت كذلك الحرب العالمية الأولى، وهم كذلك مدبروا الانقلاب ضد السلطان عبد الحميد، وهم كذلك مزيلوا الخلافة الإسلامية.
كما أن الماسون قد يؤيدون دعوات ليسوا في الأصل منشئيها إذا وجدوا أن هذه الدعوات تخدم بعض أغراضهم ولو إلى حين.(3/45)
ولذلك أيدوا داروين في نظرية التطور والارتقاء وبذلوا كل دعاية ممكنة لترويج مذهبه الفاسد، لأنه يحدث بلبلة ضد الأديان؛ كذلك أيدوا دعاة القومية العربية مع أنها في الواقع مؤسسة نصرانية كما سيجيء، ومع أنها كذلك تخالف بعض مبادئهم ضد الأمميين، لكنها لما كان ترويجها يحطم روح الدين في نفوس أهلها ويؤدي إلى محاربة الأديان قام الماسون بالترويج والدعاية لها.
وكان من أعظم وسائل الماسون هو الاستيلاء على وسائل الدعاية في العالم من الصحافة والإذاعة والكتابة وغيرها من شؤون الإعلام.
كما أن من أعظم وسائلهم الاستيلاء على المناصب الحساسة في إدارة الدول بوضع خبراء من اليهود أو مؤيديهم في تلك المناصب، وإليكم بينا بأسماء ووظائف بعض هؤلاء كما جاء في كتاب أسرار الماسونية للجنرال جواد رفعت آتلخان:
(مكتب السكرتارية لهيئة الأمم المتحدة وهو أهم شعبة فيها)
يهودي الدكتور أج اس بلوك رئيس قسم التسليح 1
يهودي أنتوني كولات رئيس الأمور الاقتصادية 2
يهودي أنش كار روزنبرغ المشاور الخاص للشؤون الاقتصادية 3
يهودي دافيد ونتراوب رئيس قسم الميزانية 4
يهودي كارل لا جمتي رئيس قسم الخزائن والواردات 5
يهودي هنري لانكير معاون سكرتير الشؤون الاجتماعية 6
يهودي الدكتور ليون استيننك رئيس قسم المواد المتبادلة 7
يهودي الدكتور شيكويل رئيس قسم حقوق الإنسان 8
يهودي أج أي ويكوف رئيس دائر مراقبة البلاد غير المستقلة 9
يهودي بنيامين كوهين مساعد السكرتير العام لقسم الاستعلامات العامة 10
يهودي جيء بنيوت ليفي رئيس قسم الأفلام 11
يهودي الدكتور إيفان كرنو مساعد السكرتير العام لشعبة القوانين 12
يهودي أبراهام أج فيللر رئيس الشعبة القانونية 13
يهودي جي سآنذ برك مشاور شعبة القانون الدولي 14(3/46)
يهودي دافيد زايلو دويسكي رئيس قسم المطبوعات 15
يهودي جرجورا بنوفيح رئيس قسم المترجمين 16
يهودي ماركس ارامو فيج رئيس قسم التصاميم 17
يهودي مارك شولبر رئيس قسم 18
يهودي بي سي جي كن مدير المحاسبة العامة 19
يهودي مرسيدس بركمن مدير الذاتية 20
يهودي الدكتور أي سنجر رئيس قسم المراجعات 21
يهودي باول رادزياتكو رئيس أطباء قسم الصحة العالمية 22
(مركز الاستعلامات في هيئة الأمم المتحدة)
يهودي جرري شبيرو رئيس قسم الاستخبارات لمركز جنيف 1
يهودي بي. ليتفكر رئيس قسم الاستخبارات لمركز الهند 2
يهودي هنري فاست رئيس قسم الاستخبارات لمركز الصين 3
يهودي الدكتور جالوس رئيس قسم الاستخبارات ستاوسكي لمركز وارسو 4
(شعبة الأقسام الداخلية لهيئة الأمم المتحدة)
يهودي دافيد آي. مريس رئيس الأقسام الداخلية الدولية 1
(الحقيقي موسكوفيج)
يهودي في. كبريل كارسز رئيس الأقسام الداخلية لمنطقة خط الاستواء 2
يهودي جان روزنر مخابر بولونيا لشعبة الأقسام الداخلية (مؤسسة التغذية والزراعة)
3
يهودي أندري ماير رئيس شعبة التغذية والزراعة 4
يهودي أي بي جاكسون الممثل الدانماركي في شعبة التغذية والزراعة 5
يهودي آي فريس الممثل الهولندي في شعبة التغذية والزراعة 6
يهودي آم ام لييمين رئيس شعبة التعمير 7
يهودي كير واكاردوس رئيس شعبة التعايش 8
يهودي بي كاردوس رئيس شعبة المتفرقات 9
يهودي أم أزاكل (حسقيل) رئيس شعبة الاقتصاد التحليلي 10
يهودي جي بي كاكان المشاور الفني لشعبة الغابات 11
يهودي أم أي هارير من رئيس شعبة صيانة الغابات 12
يهودي جي ماير رئيس قسم التغذية 13
يهودي أف ويسل رئيس قسم الإدارة 14
(اليونسكو مؤسسة التعليم والثقافة والفن)(3/47)
لقد ثبت أن شعبة التعليم والثقافة والفن تدار من قبل شخصيتين يهوديتين، وهما:
يهودي آلف سومر فيلد رئيس لجنة التبادل الخارجي 1
يهودي جي ايزنهارد رئيس لجنة تنظيم الثقافة العالمية 2
وهناك آخرون في هذه الشعبة وهم:
يهودي ام لافهن رئيس شعبة الثقافة العالمية 1
يهودي اج كابلن رئيس قسم الاستعلامات العام 2
يهودي س اج ويتز رئيس قسم الميزانية والإدارة 3
يهودي اس سامول سيليكي رئيس شعبة الذاتية 4
يهودي بي ابراميسكي رئيس شعبة الإيواء والسياحة 5
يهودي بي ويرمل رئيس مكتب هيئة التعيين 6
يهودي الدكتور أي ويلسكي رئيس المصلحة الفنية لشعبة صحارى آسيا 7
(بنك الإعمار الدولي)
يهودي ليونارد بي رست المدير الاقتصادي للبنك 1
يهودي لو يولد جميلة الممثل الجيكوسلفاكي في مجلس شورى الإدارة 2
يهودي أي يولاك عضو الشورى لمجلس الإدارة 3
يهودي أي ام جونك الممثل الهولندي في مجلس شورى الإدارة 4
يهودي بي منديس الممثل الفرنسي في مجلس شورى الإدارة 5
يهودي جي ام برنلبس ممثل بيرو في مجلس شورى الإدارة 6
يهودي ام ام مندلس سكرتير بنك الإعمار الدولي 7
يهودي وي ابراموفيج ممثل يوغسلافيا في مجلس شورى الإدارة 8
(صندوق النقد الدولي)
وهذه المؤسسة تشكل العمود الفقري لهيئة الأمم المتحدة:
يهودي جوزيف كولدمن العضو الجيكوسلفاكي في هيئة الإدارة 1
يهودي بي منديس الممثل الفرنسي في هيئة الإدارة 2
يهودي كميل كات المدير العام لمؤسسة صندوق النقد الدولي 3
يهودي لويس رامينسكي مدير إدارة قسم كندا في المؤسسة 4
يهودي دبل يـ كاستر مدير إدارة قسم هولندا في المؤسسة 5
يهودي لويس ألتمن معاون مدير العام 6
يهودي أي أم برنستن مدير قسم التدقيق 7(3/48)
يهودي ليو ليفانفال المشاور الأقدم للمؤسسة 8
يهودي جوزيف كولد المشاور الأقدم للمؤسسة 9
(مؤسسة اللاجئين الدولية)
يهودي ماير كوهن المدير العام لقسم الصحة والمداواة العالمية 1
يهودي بيير جا كو يسن المدير العام لإعادة واستيطان اللاجئين 2
(مؤسسة الصحة العالمية)
يهودي زت دوستجمن رئيس الشعبة الفنية 1
يهودي جي ماير رئيس قسم الطب 2
يهودي دكتور ام كودمن المدير العام لقسم الجراحة 3
يهودي أي زارب المدير العام للمؤسسة 4
(مؤسسة التجارة العالمية)
يهودي ماكس لوتنز رئيس اللجنة الداخلية 1
يهودي أف سي وولف رئيس قسم الاستعلامات الدولية 2
هذه أضواء على المذهب الأول من المذاهب الهدامة وإلى اللقاء إن شاء الله في العدد القادم للحديث عن الشيوعية المذهب البكر للماسونية.(3/49)
حقائق عن نيجيريا
بقلم الطالب: عبد الرشيد هدية الله الاووى النيجيري
نيجيريا اسم مأخوذ من نهر (نيجر) الممتد من بلاد النيجر، ويصب هذا النهر من جبال (فوتا جالون) في أراضي غينيا الشقيقة.
ولما كان نيجر مستمدا من (نيغرو) بمعنى الزنجي الأسود، أطلق هذا الاسم على النهر المنسوب إليه فأصبح نهر (نيغرو) أي نهر (نيجر) .
وكان لهذا النهر الكبير شهرة عظيمة كما كان من أكبر الأنهار بنجيريا؛ وهو نهر استفاد منه كثير من المكتشفين القدماء ليصلوا إلى بعض بلدان إفريقيا حيث لا وسائل أخرى للتنقلات، ومن أولئك المكتشفين (منغو بارك) وقد سافر منه مرتين يستكشف منبع هذا النهر: المرة الأولى 1796م، والأخرى 1805م، فخسر نفسه قبل بلوغ المرام.
ونظراؤه في ذلك الميدان (كلابارتن) و (لا ندر) و (بارث) وغيرهم فتتبعوا نيجر إلى ان وصلوا إلى مصبه.
وبالاستقراء والاطلاع على كتب تاريخ نيجيريا نرى أن الأسبان ثم الإفرنج هم الذين أطلقوا على نيجيريا هذا الاسم.
ولا يزال الفرق بين اسمي الأرضين المتجاورتين: (نيجر) و (نيجيريا) دقيقا جدا ولا سيما عند النسبة إليهما؛ والسبب في هذا هو اشتقاق الاسمين من اسم النهر.
موقعها جغرافيا:
تقع نيجيريا ما بين 4و41 شمالا من درجة30 من خطوط العرض أسفل خط الاستواء، تحدها من شمالا بلاد (نيجر) ، وشرقا بلاد (الجمهورية الكامرونية) ، وغربا بلاد (الداهومي) ، وجنوبا المحيط الأطلسي.
وهي من أشهر الأقطار التي تنتج قسطا كبيرا من المنتجات العالمية، فريدة في نظامها وتقدمها المتواصل في قارة إفريقيا خصوصا وفي هذا المعمور أجمع.(3/50)
ومدينة (أبادن) عاصمتها الغربية تعتبر أكبر وأوسع المدن الرئيسية في إفريقيا الاستوائية، وعاصمتها الرئيسية (جزيرة لاجوس) الجميلة بمينائها الكبير وبقصورها الشاهقة وبناياتها العالية، وهي آخر ما انتهت إليه هذه المدنية الحديثة وتلك الحضارة العصرية، وفيها مجلس للنواب ومجلس للشيوخ، كما فيها محكمة عليا، ويسكنها رجال السلطة التشريعية والسفراء من جميع أنحاء العالم، والمتعمقون في شتى العلوم الثقافية والتجار الأثرياء من الأجانب والمدنيين ورجال الدين والجماعات الإسلامية، مثل جمعية "أحمدية"، و "أنصار الدين"، و"جماعة إسلامية"، و"نور الدين"، وغيرها من الجمعيات.
وهي بلاد مطيرة تنعم بأمطار غزيرة طوال السنة.
مساحتها:
356,669 ميلا مربعا، وتعادل أربع مرات حجم مساحة المملكة البريطانية المتحدة بالتقريب.
سكانها:
56 مليون نسمة، وهذا العدد المذكور يوافق تعداد عام 1963م وهو الأخير.
المسلمون منهم75%، والباقي يضم المسيحيين وعبدة الأوثان وغيرهم من البدائيين، بمعنى الذين ما دانوا بأي دين من الأديان، بل لا يعرفون سوى التناسل والعمل، وفيهم ينجح تبشير المبشرين المسيحيين الذين يدخلون المنازل لغرس فكرتهم الخادعة في قلوب ساكنيها.
انقسام نيجيريا باعتبار القبائل والمناطق:
انقسمت نيجيريا إلى أقاليم ثلاثة سابقا، إقليم الشمال والغرب والشرق، وفي خلال سبع سنين خلت تفرعت من الغرب منطقة تدعى "الغرب الأوسط"، وسكانها أقل من سكان الأقاليم الثلاثة الأصلية، وهذه المناطق تتألف من حوالي مائتي قبيلة تتكلم بعدة لغات ولهجات مختلفة.
والإقليم الشمالي يبلغ سكانه: 39,777,986 ومساحته: 381,783.
والإقليم الغربي يبلغ سكانه: 10,378,500 ومساحته: 45,376.
والإقليم الشرقي يبلغ سكانه: 13,388,646 ومساحته 46,065.(3/51)
ويبلغ سكان العاصمة الفدرالية (لاجوس) : 675,353 وسكان منطقة الغرب المتوسط:3 ,533 ,337.
أهم القبائل وسكانها:
1ـ قبيلة هوسا (7540000) وموطنهم الإقليم الشمالي.
2ـ قبيلة أيبو في الشرق وعددها (7536000) .
3ـ قبيلة يوربا في الغرب والجنوب وعددها (5849000) .
4ـ قبيلة أيجو على مقربة من الغرب ويبلغ عددها (3,000,000) .
5ـ قبيلة فلاتة في الشمال وهي (3,030,000) .
6ـ قبيلة الكانوري (310,000) .
عادات هذه القبائل:
اشتهر أهل الشمال بالكرم والوفاء وتحمل المكاره التي تحدثها النوازل المفجعة والتنقلات، وهم أهل نسك وعبادة، ومعاملاتهم لغيرهم حسنة جدا، وبالشمال قبائل كثيرة، أشهرها هوسا وفلاتة وبرنو ونوفى، وهم مولعون بتجارة الطنبول أي "غورو"، مع أن أشجاره لا توجد لديهم بل في الغرب، والفول السوداني وبتربية المواشي من الإبل والبقر والغنم، وبزراعة الدخن والذرة والأرز والبقول والخضار وبحياكة الثياب والخياطة والحدادة والجزارة وصنعة القلانيس، وتكثر فيهم السياحة والتجول حتى إنه لا تخلو بلدة من قبيلة هوسا والفلاة في غرب إفريقيا وفي بعض البلدان العالمية، ولغتهم الهوساوية وأصبحت من اللغات الحية تدرس في بعض الجامعات والمدارس العالمية.
وقد غلب على كثير من أبناء الشمال تلك الحضارة الحديثة إذ نبغوا في علوم وفنون شتى، وحصلوا بذلك على مناصب رفيعة وتقديرات فائقة.
وقبائل يوربا مشتهرة في قديم الأزمان بقلة الصبر وعدم تحمل المصائب وسرعة الانتقام من خصمهم إن مد إليهم يد الإيذاء والخيانة.
والسبب تأخر الإسلام في الدخول إلى مملكتهم، وبعد نعمة الإسلام تخلقوا بفضائل الأخلاق وقويت فيهم تعاليم الإسلام كما تشهد صفحات التاريخ القديمة بشجاعتهم ومثابرتهم وثباتهم أمام الأعداء أيام الحروب.
وهم قوم يرأسهم أمير منهم ويبالغون في إكرامه بأنواع الحفاوة والتكريم.(3/52)
وكل قبيلة تخضع لسيطرة رئيسها الذي كثيرا ما يفرط في الاستعلاء عليها خوفا من أن تخرج عن سبيل آبائها الأوليين.
وهذه العادات والتقاليد وأمثالها تعم البلاد كما لا يزال أثرها موجودا إلى الآن.
وأما الصغار ولاسيما الطلاب منهم فقد بلغ خوفهم من مشايخهم أو كبارهم إلى درجة لا يستحسنها الإسلام، حيث لا يسلمون عليهم ونعالهم بأرجلهم، بل بعد أن يخلعوها مهابة وتكريما ثم يبركون وهم ناكسون رؤوسهم حفاوة وإجلالا.
وهذا مما أخذ عليهم لأنهم علموا ببطلانه إلا أنه من صعب عليهم فراقه.
ولا يخلو إقليم من نوع من هذا التسليم والتبجيل، ماعدا الذين رحمهم ربي مثل أهل "سوكوتو"، إحدى مدن الشمال الرئيسية، فقد اشتهر بين علمائها عدم البروك وخلع النعال منذ عهد بعيد، والآن ولله الحمد والمنة قد نشطت حركات تقاوم هذه العادات التي لا يقرها كتاب الله الكريم ولا سنة ولا إجماع.
حرفتهم:
أهمها الزراعة ولكثرة الغابات والأراضي الرخوة الخصبة كان أكثرهم فلاحين، يكثرون من زراعة المأكولات والمطعومات ويعنون بها أكثر من غيرها.
ويزرعون كذلك بعض المنتجات النيجيرية الرئيسية ومن الثانية "كاكاو"، التي تصنع منها أصناف من القهوة والشاي مثل (فيتاكوب) و (ميلو) و (أوفالتين) وغيرها.
وهؤلاء المزارعون يجيدون زرع النخيل وعصر زيتها وزرع البقول التي تنتج منها كميات متعددة في كل عام.
ومن مزروعاتهم (كاسافا) باللغة الإنجليزية، أو أيغى باليوربا.
الشرق: - عاداته وحرفه -:
لقد شابهت مهنه التي للغرب وغيره من الأقاليم إلا أن الثروات البترولية والمعدنية يستخرج معظمها من حقوله، وله معامل أخرى يمتاز بها عن غيره.(3/53)
وأما عاداتهم فننقل فيما يلي إلى أذهانكم نص مقالة العلامة النيجيري الجليل الشيخ آدم الألوري صاحب "موجز تاريخ نيجيريا"عن أخلاق وعادات قبائل أيبو الشرقية، قال: "وأما قبائل أيبو، فهي فطرية إلى عهد غير بعيد، وإنما استيقظت منذ قرن، ومن طباعها سرعة الغضب والاستبسال والتمرد وحب الاستقلال..وكانت قبائل متفرقة لا تجمعها أية رابطة ولا تتكون القرية إلا من أسرة واحدة لا تخضع لرئيس ولا سلطان".
كيف دخل الإسلام في نيجيريا:
إن الإسلام لم يزل في نيجيريا منذ أوائل القرن الأول الهجري كلمع تلوح في سواد عظيم، وبورود الغرباء وهم في طريقهم إلى الحج من الديار المغربية يزداد اتضاحا وكذلك بورود التجار.
إلى أن ظهر "الشيخ المغيلي"الذي فتح مدرستين عظيمتين في (كشنة) و (كونو) ولم يزل أثرهما رغم طغيان المادة واشتداد أعاصير الظلام بالحروب التوسعية العادية ورغم البدع الفاشية إلى أن ظهر "الشيخ عثمان بن فود"مع أخيه عبد الله مجددا للدين ومعيدا له أنواره الآفلة، فحارب في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وأظهره الله على معظم بلاد نيجيريا شمالا وغلابا، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، وهو جد الزعيم الشهيد "أحمدو بللو"، سردونا سوكوتو رحمه الله، وذلك في القرن الثالث الهجري.
وفيما يلي مقالة العلامة المذكور آنفا عن كيفية دخول الإسلام في نيجيريا وهي التي تزيد الموضوع وضوحا:
"لقد انبثق فجر الإسلام على سماء نيجيريا في أوائل القرن الأول الهجري الذي فتح فيه المسلمون العرب شمال إفريقيا وجزء من غربها، وقد اندفع تيار الإسلام إلى نيجيريا من منبعين؛
أولهما: من مصر عبر السودان العربي وبلاد فور وباغرمي وبرنو.
وثانيهما: من شمال إفريقيا إلى جنوب الصحراء حتى وصل إلى المناطق الغابية الساحلية".(3/54)
ثم أضاف قائلا: "لم يكتسح الإسلام القبائل والشعوب اكتساحا ولا أدرجها إدراجا في أول دخوله، ولكنه تسلل فيها تسللا قد يتسرب إلى ناحية دون الأخرى، فتكون بجوار قبيلة مسلمة قبيلة أخرى كافرة، أو تكون في قبيلة واحدة مدينة مسلمة وبجانبها مدينة وثنية " [1] .
بعض من آثار تمسكهم بالدين الإسلامي [2] :
تعلم المسلمون الدين وما يتعلق به من أركان وقواعد، ثم تمسكوا به حق التمسك كما أنهم لم يزالوا يقيمون الشعائر الدينية.
بنوا مساجد ومدارس كثيرة، وبنوا كذلك مساجد جامعة، وفي (كنو) مسجد جامع مشهور، وفي سكوتو اثنان وفي كادونا اثنان، وفي لاجوس كذلك مساجد جامعة عدة، وكذا في أبادن التي يبلغ سكانها 600,000 مما يدل على اهتمامهم البالغ بالدين وشعورهم الحي وإيمانهم الراسخ برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أيام العيد في نيجيريا:
بهذا المشعر العظيم والذكرى الجليلة يستبين للقراء اهتمام مسلمي نيجيريا بدينهم وشعورهم المشكور نحو إحياء ذكرى ذلك اليوم الكبير الذي فرج الله تعالى فيه عن سيدنا وأبينا إبراهيم بكبش عظيم.
وإن أتيحت الفرصة للقراء فنيجيريا ترحب بهم وبشهودهم عيد الفطر أو الأضحى فيها.
يستقبل المسلمون عيدهم وهم في غمرة من الفرحة والبشر، وقبل حلوله بأسبوعين تقريبا تزين المدن كلها بأنواع من أدوات التجميل، مثل إنارتها بأنواع من مصابيح ملونة، وتعليق أعلام نيجيريا التي تتمثل في قطع صغيرة من الثياب في أكثر هذه المدن، ثم تصلح الشوارع وتمهد من جديد، وتوضع وسط كل مفترق من الطرق لوحات تحمل هذه الكلمات وأشباهها: "كل عام وأنتم بخير"، "مع تمنيات طيبة بالعام الجديد"، "عدت ياعيد مرة ثانية"، "عيد أولاد وأموال وسلامة"، وهلم جر.
يخيط المسلمون لأنفسهم وأزواجهم وأولادهم أفخر الملابس، ويشترون الأحذية وغير ذلك من حلى فاخرة جميلة وخمر أنيقة زيادة على زينة العيال.(3/55)
ولا ينفرد أهل المدن بهذا كله، بل يشاركهم أهل الريف فيه كذلك، بحيث يرجع كبيرهم وصغيرهم ويئوب قويهم وعجوزهم إلى المدينة لمشاركة بعضهم بعضا في أفراحه وابتهاجاته، حتى ليكاد يحمل مريضهم إليها لشدة كراهتهم البقاء في القرية، لذا تمتلئ المدينة بالناس والزوار والمهنئين من كل جانب، ويتطلعون جميعا إلى مجيء ذلك اليوم الكبير، يوم تخلو البيوت من سكانها صباحه، وتتضايق الطريق بالعائدين من المصلى ضحاه، وبجم غفير من الزائرين المهنئين أمسيته وعشيته.
ذلك اليوم الذي يخرج المسلمون فيه إلى ميدان الصلاة متتابعين كالجراد المنتشر، تتوحد صفوفهم كما تتساوى أصواتهم في ذكر الله تعالى الذي أنعم بالبقاء إلى ذلك اليوم، منهم ركاب الخيل والدراجات والسيارات، ومنهم رجالة لا يسأمون المشي ولا يتعبون من التهليل والتسبيح..يجتمعون في المصلى وهم أجناس عديدة وقبائل شتى، وحدهم فيه الإسلام وجمعهم في الصفوف أداء لصلاة العيد المبارك واقتداء بسنة نبينا محمد عليه أطيب الصلاة والسلام.
وفي هذا اليوم السعيد والناس كلهم يتركون أعمالهم وحرفهم ويغلقون مصانعهم، ويعطلون المدارس والإدارات الحكومية وغيرها حرصا على إحياء هذا المشعر العظيم.
صلة المسلمين بالمسيحيين:
يعيش المسلمون في نيجيريا في جو من المحبة والأخوة الإسلامية، وأحوالهم مع المسيحيين أو الوثنيين سيئة جدا، لا يسالمونهم ولا يوادونهم فضلا عن الجلوس معهم.
ويضطر لأجل ذلك من يقاربهم من المسيحيين إلى الانفراد بالسكن مع ما له وما عليه.
ويبتعدون عن عبدة الأوثان أشد ابتعاد لقبح حالتهم وعاداتهم التي منها وضع بعض الأطعمة عند مفترق الطرق في صحون مزينة بزيت أحمر مع مبلغ من النقود، وإن مر بالصحون من المسلمين كسرها ووضع على الزيت التراب مبغضا هذه الحالة الكريهة المنتنة وهذا الشرك الأكبر.(3/56)
وإذا عاد واضع الطعام وجاعل النقود ولم يعثر على شيء ورأى ما حل بالصحون من كسر طار فرحا وضحكا مغتبطا قائلا: إن الأوثان أكلته بل قبلته!، ولولا حسن تصرفاته وحركاته ما رحبن بتضحياته وقربانه، ولا يبالي بالصحون المكسورة الملوثة بالتراب مع أنه يرى ذلك.
والمسلمون (أعانهم الله) لو شعروا بإفساد المسيحيين وفحشهم بجوارهم لنهوهم عن ذلك ولا جروا عليهم كل ما نص عليه الدين من هجران وإعراض وعدم السلوك في مسالكهم.
والغريب أنهم يشاركوننا في كثير من أفعالنا دون الصلاة ولا يعتنقون الإسلام إلا نادرا، بل يعملون ليلا نهارا على أن يتحول المسلم إلى المسيحية.
وأبناء الوقت مع شديد الأسف لا يتخذون من ذلك عبرة بل يصبحون ضعفاء أمام حيلهم ومكايدهم، فينضمون إليهم لسهولة دينهم وخلوه من التكاليف على زعمهم؛ وغالبا يحدث هذا لأبنائنا الذين يتلقون دروسهم في أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وغيرها.
هذا وكثير ما يجالس المسلم أضداده في الدين في المدارس والإدارات الحكومية مع مراعاة حقوق بعضهم بعضا بحيث لا تحصل مشاغبة ولا مشاجرة.
وقد جالست المدرسين والمدرسات المسيحيين إذ كنت مدرسا معهم أدرس اللغة العربية في مدرسة ثانوية تدعى: "المدرسة العالية الإسلامية"، وأخرى مدرسة: "عصابة الدين العالية للبنات"، وأكثر الدروس تتلقى بالإنجليزية.
قل المسيحي من الطلاب والطالبات وقل المسلم من المدرسين والمدرسات إذ كنت الوحيد المسلم ضمنهم، العميد والعميدة مسيحيان والمدرستان كما استبان من اسميهما لجمعيات مسلمة.(3/57)
ندخل صباحا على دعاء أقرأه للطلاب وجميع الأساتذة يعرفون هذا الدعاء كما علموا كثيرا من أناشيدنا العربية، ودائما يستطيبون قيامنا بديننا، وقد كلفتهم إدارة المدرستين مرافقتنا إلى المسجد الجامع مع بعده عن مقر الدراسة ليحافظوا على الأولاد ويمنعونهم من التخلف عن أداء الصلاة، وذلك في كل يوم جمعة، فتراهم ينفذون هذا الأمر طوعا وكرها.
دراسة اللغة العربية في نيجيريا:
لقد فر الكثير من أبناء نيجيريا من تعلم اللغة العربية..ذلك لأن إخوانهم الذين يتعلمون اللغة الإنجليزية يرتقون إلى درجة المجد والعلا وتسهل لهم قضاء حاجاتهم، وهم الفريق المنغمس في رغد العيش؛ فلا يبلغ قاصد اللغة العربية إلى هذه الدرجة الرفيعة مهما حمل من شهادات عليا ومهما تفوق وتخصص في كثير من المواد الدراسية، مع أن اللغة العربية تعتبر أشرف لغات العالم وهي لغة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولغة القرآن الكريم.
إن اللغة الإنجليزية هي التي تستعمل في الإدارات وتعترف الحكومة بها أكثر من غيرها إذ أنها اللغة الرسمية، والمستثنى من هذه المحن والمشاكل هو الشمال لأنه يقضي فيه بكتاب الله، ويرتقي طلاب العلم إلى أسمى الدرجات.
والواقع في الغرب والجنوب يخالف ذلك، فلذا يسارع أبناؤهما إلى دراسة اللغة الإنجليزية، ولكن وإن كان هذا هو الحاصل، لابد من إصلاح نياتنا وإحسان ظننا بالله فما دامت اللغة العربية هي الوسيلة الموصلة إلى معرفة الله تعالى حق المعرفة فلن يذهب تعبنا سدى إن شاء الله؛ فإنه من ينصر الله ناصره، كما أنه ليس ببعيد أن ترتفع العربية التي يفرون منها إلى درجة لا تدرك ولا تمارى في بلادنا إن شاء الله.(3/58)
هذا ونشاهد الآن في كثير من المدن الرئيسية النيجيرية مدارس عربية مستقلة (أي خاصة بتدريس اللغة العربية) وغيرها (تدرس فيها اللغة العربية والإنجليزية) وكذلك في بعض المساجد، وبذلك تنحل المشاكل شيئا فشيئا إذ أنتجت هذه المدارس أساتذة يجيدون العربية ويستفيدون بها، ولو لم ترق مراتبهم، وبالتدرج ستصبح لغة معترفا بها رسمية إن شاء الله.
وإذ ذاك ينال الخريجون بالشهادة العليا حقوقهم كاملة، وإن خلت من اللغة الأجنبية، ولكن إذا فقدناها وما كان معنا من اللغة العربية إلا الشيء القليل، والبلاد بحاجة إلى من يجيدها ويتقنها، فكيف يكون مصيرنا؟
وقد قيل بأن فاقد الشيء لا يعطيه، فهبوا يا شباب نيجيريا خاصة ويا شعوب العالم الإسلامي عامة لتعلم هذه اللغة المقدسة ولا تتوانوا في تحصيل فنونها، ولا تقنطوا من روح الله، واصبروا لأنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون.
إذا الأمر أعيا اليوم فانظر به غدا لعل عسيرا في غد يتيسر
والجدير بالذكر أن هذه المدارس العربية المتنوعة تهتم بتعليم طلابها التفسير والفقه والحديث والنحو والمطالعة والتجويد والخط والحساب والأدب العربي مع تلخيص النصوص، والتاريخ والجغرافيا وعلم الطبيعة والإملاء والصرف والأخلاق والتوحيد والبلاغة المنطق وغيرها من المواد الثقافية.
وتنقسم هذه المدارس إلى مراحل ابتدائية وإعدادية وثانوية ثم عالية جامعية.
ويتلقى في بعض الجامعات دراسات أخرى إسلامية بشكل لا بأس به مثل جامعة (أحمدو بللو) بزاريا، وجامعة (أبادن) التي تأسست سنة 1368هـ وقد أنشئ فيها قسم خاص بالعربية ويسمى كلية الآداب، وقسم الباكلوريوس في العربية والإنجليزية.(3/59)
وهناك جامعة (لاجوس) وجامعة (أنسكا) وجامعة (إيفي) ومعاهد دينية كالمعهد النيجيري بأبادن ومركز التعليم العربي (بأغيغي) ومعهد (شاغامو) ومدرسة النهضة العربية (بأبادن) والمدرسة المباركة (بأبادن) والمدرسة الأموية (باوو) ومعهد التعليم العربي (بأوو) ودار العلوم (بالورن) والمعهد العربي (باوو) ومركز التعليم (بأوو) وغياث الدين (بلاجوس) وغيرها.
تجتمع فيهن عدة جنسيات لتلقى علومها ولأحراز الفوائد والتجارب الجسام لتتمكن من بناء مستقبلها وخدمة أوطانها.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]ـ من موجز تاريخ نيجيريا، والكتاب يكفي مرجعا لمن أراد التوسع في معرفة الكثير عن نيجيريا كعاداتها الاجتماعية وصلتها بالعرب والأدب العربي النيجيري وأهم المدن النيجيرية.
[2]ـ نفس المصدر.(3/60)
ندوة الطلبة دراسات في الديانات الهندية (الديانة الهندوسية)
(1)
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
مما لاشك فيه أن لكل أمة من الأمم الماضية والحاضرة عقيدة رئيسية تؤمن بها وتسير على وفقها في معالجة مشاكلها وإصلاح أحوالها في أفرادها وجماعتها تستعين بسنتها وتقضي القضايا بمقتضاها وأن الباحث يدرك حقيقة الأنظمة بمطالعة عقيدتها، فإذا تخلت الأنظمة والأديان عن العقيدة المركزية كانت كجسم متحرك دون روح، فأهم ما يؤخذ على الديانة الهندوسية أنها خالية من العقيدة الأساسية التي تبني عليها أمورها وترجع إليها الأمة لدى اختلافها، وعلماء الهندوس يشعرون بخلوها من هذه العقيدة بل يفتخرون بذلك.
يقول الزعيم الهندي (غاندي) : "ومن حظ الديانة الهندوسية أنها ليست لها عقيدة رئيسية فإذا سئلت عنها أقول: أن عقيدتها هي عدم التعصب والبحث عن الحق بالطريقة الحسنة، أم الاعتقاد بوجود الخالق وعدمه فكلاهما سواء، ولا يلزم لأي رجل من رجال الهندوس أن يؤمن بالخالق فهو هندوكي سواء آمن أو لم يؤمن (هندو هرم) ".
يقول في موضع آخر من هذا الكتاب: "من حسن حظ الديانة الهندوسية أنها تخلت عن كل عقيدة ولكنها محيطة بجميع العقائد الرئيسية والجواهر الأساسية للأديان الأخرى".
يقول الدكتور: رادها كرشنا رئيس الجمهورية الهندية سابقا: "إن الديانة الهندوسية لا تنتمي إلى قوم من الأقوام بل هي ثمرات لتجارب الأمم التي أدت دورها في تكوين الفكر الهندوكي كما يدل عليه وجود تمثال "شيو" [1] ، في الآثار القديمة من "موهن جودرا " [2] ، فكان أهل الهند يعبدون الأصنام قبل الدور الأول وفبل ورود قوم "آريا "، ولذلك تأثر كتابهم المقدس "ويدا "، الذي جاء به قوم آريا من "منكوليا"وشرق آسيا بالحياة الدرورية القديمة. فالحضارة التي تكونت من هذه المصادر المختلفة هي الآن تسمى بالديانة الهندوسية.(3/61)
فسبب خلوها من العقيدة المركزية والأسس الرئيسية تغيرت الديانة الهندوسية وتبدلت إلى حد لا يتصور حتى فقدت اسمها الحقيقي (ويدرك دهرم) وسميت باسم الهندوكية التي ليس لها أصل في اللغة السنسكرتية.
فإما أن نقول إن اسمها مأخوذ من كلمة اندس (اسم الهند القديم) أو من كلمة (سندهو) يعني السكان الذين شرق نهر سند، أو نقول إنه مأخوذ من كلمة هندو بمعنى اللصوص في اللغة الفارسية.
الكتب المقدسة
بسبب فقدان العقيدة لم يتفق علماء الهندوس على أمر ما حتى على الكتب المقدسة التي يعتبرونها مصدرا أساسيا للديانة الهندوسية وللحضارة الهندية، ولكن ادعى بعض المحققين الجدد أن الإيمان بالكتب المقدسة أمر متفق عليه عند جميع الفرق الهندوسية وهذه دعوى بلا دليل، فإن الفرق الكثيرة لا تؤمن "بويدا"، ولا تحترمه كالديانة البوذية والجينية والسيخية.
فإن قيل: إن هذه الفرق ليست من الديانة الهندوسية؛ فنقول: عندنا شهادات من علماء الهندوس الكبار الذين لا يعتقدون بخروج هذه الفرق عن الديانة الهندوسية مثل الزعيم الهندي غاندي الذي يقول: "نحن لا نعتقد أن الديانة البوذية والجينية خارجة عن الديانة الهندية (هندو دهرما) (HINDU DHARMA) ، وإليه ذهب المحقق الكبير "وويكانند"، هذه من الناحية التاريخية.
أما من حيث الواقع فلم نجد أحدا من هذه الفرق يعمل بتعليمات ويدا كلها حتى الجماعة الجديدة آربا سماج [3] التي قامت بتبليغ ويدا ونشره وأهم أهدافها تجديد العمل على أصول ويدا، ولكن شتان بين ما بينهم وبين ويدا، فإنه يحرم عبادة الأصنام وبناء المنادر [4] ، وعقيدة الأوتار [5] ، كما نبه عليهم الدكتور رادها كرشنا رئيس الجمهور الهندية سابقا.(3/62)
إن آريا ويدك كانوا لا يعرفون بناء المعابد وعبادة الأوثان بل هذا كله من حضارة دروار لكن نرى أن عقيدة الأوتار وبناء المنادر (المعابد) وعبادة الأصنام هي أصل أساسي للديانة الهندوسية ويعتقد كثير من المحققين الهندوس بصحتها مثل وويكانند، وآربند، وكوسن، والدكتور رادها كرشنا، وغاندي، وغيرهم فأين عملهم بويدا وبما جاء به.
ومن المعلوم عند المتخصصين في الديانة الهندوسية أن ويدا ينادي بأعلى صوته بأضحية الحيوان فإليكم أيها القارئ بعضها.
تقول الملائكة: "يا اندر (إله المطر) إن وشنو إله الرزق يطبخ لك مائة جاموس " (رك ويد 6-11-17) .
وفي موضع آخر: "هم يطبخون الثور وأنت تأكله" (رك ويد 10-28-3) .
وفي موضع آخر: "إن اندرا مع العباد يطبخ الثور السمين" (رك ويد 10-27-3) .
وفي موضع آخر يقول اندرا: "هي تطبخ لي خمسة عشر ثورا وأنا آكلهم فأكون سمينا" (رك ويد 10-86-14) .
هذه الاقتباسات جئنا بها من رك ويد والآن نتوجه إلى "ياجورويد" [6] لترى أن هذه الأبواب من الباب الثاني والعشرين إلى الخامس والعشرين كلها مملوءة بأضحية الحيوان ولكن القانون الهندوسي تأثر بالديانة الجينية فحرم ذبح الحيوان كليا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هذه الآثار تدل على عبادة الأصنام قبل قوم: "دراود"وكان قوم دراود هم أصل سكان القارة الهندية قبل ورود قوم "آريا"،سنة 1500ق م. والمؤرخون يؤرخون تاريخ الهند منذ بداية قوم "دراود"لأنهم كانوا يعيشون في الدور الأول المسمى بالعهد الحجري النحاسي والأدوار ثلاثة: الأول: حينما كان الإنسان يعيش في الجبال والغابات ولم تكن عنده حضارة ولا تمدن، بل كانت حياته حياة وحشية هذه هي حياة دراود.(3/63)
الثاني: يبدأ منذ ما سكن الإنسان البوادي والقرى وكون الجماعة والمجتمع وملك على نفسه أميرا أو رئيسا واستعمل المصنوعات مثل البنادق والمجانيق.
الثالث: هو الدور الحاضر المسمى بدور القنابل الذرية.
[2] بلدة معروفة في باكستان في وادي سند فيها آثار يرجع تاريخها إلى حوالي 3300ق م.
[3] مؤسسها ديانتد (1824ـ1883م) وهي أكبر جماعة هندوسية قامت لنشر الدعوة الهندوسية والكتاب الأساسي عندها: ستيارتها بركاش، لمؤسسها واهتم المصنف في هذا الكتاب بالرد على جميع الأديان المعروفة وجعل أربعة عشر بابا فالباب الثالث عشر فيه رد على دين النصارى ويحتوي الباب الرابع عشر ردا على الإسلام، وقد اعترض على القرآن الكريم باعتراضات عددها حوالي159 اعتراضا وتحت كل اعتراض انتقادات عدة، فقام بالرد عليه الشيخ ثناء الله الأمر لشري رحمه الله من كبار علماء أهل الحديث وكتب كتابا سماه: حق بركاش وأجاب عن كل اعتراض، وأفحمهم فجزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين، ثم قام الشيخ إمام الدين رام تكري حفظه الله وهو لايزال مكبا على رده فكتب كتابا سماه دلائل القرآن في جواب افتراء ديانند.
وقد ترجم ستيارته بركاش إلى لغات متعددة منها: الأردية والبنجالية والكجراتية والكنارية والمليالمية والتلكوية والأريسة والسندية.. هذه من اللغات الهندية، ومن الغات الأجنبية مثلا: النيبالية والإنكليزية والروسية والإيطالية والصينية، فبلغ عدد نسخه حوالي 8 ملايين، فليتأمل المسلم العاقل كم أفسد هذا الكتاب شعوبا مختلفة وأمما كثيرة من الشرق والغرب.
[4] اسم معابد الهندوس كالنيسة والمسجد.
[5] مجيء الإله بصورة الإنسان في اعتقادهم وسيأتي تفصيله إن شاء الله.
[6] سيأتي تفصيله قريبا في باب المصادر الأساسية.(3/64)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب [3]
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
سورة النساء
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الآية.
هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الآية.
والجواب عن هذا:
أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية، والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر، والمقصود من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية كما يدل عليه قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} الآية.
وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك ابن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} نزلت في عائشة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها.
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تملني فيما تملك ولا أملك، يعني القلب، انتهى من ابن كثير.(3/65)
ـ قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} الآية، هذه الآية تدل على أن الزانية لا تجلد بل تحبس إلى الموت أو إلى جعل الله لها سبيل.
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنها لا تحبس بل تجلد مائة جلدة إن كانت بكرا وجاء في آية منسوخة التلاوة باقية الحكم أنها إن كانت محصنة ترجم.
والجواب ظاهر وهو أن حبس الزواني في البيوت منسوخ بالجلد والرجم [1] أو أنه كانت له غاية ينتهي إليها هي جعل الله لهن السبيل فجعل الله السبيل بالحد كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا"الحديث.
ـ قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} الآية، هذه الآية تدل بعمومها على منع الجمع بين كل أختين سواء كانتا بعقد أم بملك يمين، وقد جاءت آية تدل بعمومها على جواز جمع الأختين بملك اليمين وهي قوله تعالى في سورة قد أفلح وسورة سأل سائل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ, إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، فقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ، اسم مثنى محلى بأل والمحلى بها من صيغ العموم كما تقرر في علم الأصول، وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، اسم موصول وهو أيضا من صيغ العموم كما تقرر في علم الأصول أيضا، فبين هاتين الآيتين عموم وخصوص من وجه يتعارضان بحسب ما يظهر في صورة هي جمع الأختين بملك اليمين فيدل عموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} على التحريم، وعموم: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، على الإباحة كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "أحلتهما آية وحرمتهما أخرى".(3/66)
وحاصل تحرير الجواب عن هاتين الآيتين أنهما لابد أن يخصص عموم إحداهما بعموم الأخرى، فليزم الترجيح بين العمومين، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر، لوجوب العمل بالراجح إجماعا؛ وعليه فعموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} أرجح من عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من خمسة أوجه:
ـ الأول: أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} نص في محل المدرك المقصود بالذات لأنّ السورة سورة النساء وهي التي بين الله فيها من تحل منهن ومن تحرم وآية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المتقين فذكر من جملتها حفظ الفرج فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها.
ـ الثاني: أن آية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} ، وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، يخصصه عموم: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ، الآية، والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص والعام الذي لم يدخله تخصيص هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص ووجهه ظاهر.(3/67)
الثالث: أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} غير وارد في معرض مدح ولا ذم، وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وارد في معرض مدح المتقين والعام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلف أكثر العلماء في اعتبار عمومه؛ فأكثر العلماء على أن عمومه معتبر كقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم, وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} ، فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم وخالف في ذلك الإمام الشافعي رحمه الله قائلا إن العام الوارد في معرض المدح أو الذم لا عموم له لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم.
ولذا لم يأخذ الشافعي بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في الحلي المباح لأن الآية سيقت للذم فلا تعم عنده الحلي المباح؛ فإذا حققت ذلك فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه عند بعض العلماء.
ـ الرابع: إنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين فالأصل في الفروج التحريم حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة.
ـ الخامس: إن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله في سورة المائدة والعلم عند الله.
فهذه الأوجه الخمسة التي بينا يرد بها استدلال داود الظاهري بهذه الآية الكريمة على جمع الأختين في الوطء بملك اليمين، ولكنه يحتج بآية أخرى وهي قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فإنه يقول الاستثناء راجع أيضا إلى قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ، فيكون المعنى على قوله وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا يحرم فيه الجمع بين الأختين.(3/68)
ورجوع الاستثناء لكل ما قبله من المتعاطفات جملا كانت أو مفردات هو الجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
من قبل الاستثناء فكلا يقف
وكل ما يكون فيه العطف
دون دليل العقل أو ذي السمع
خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ولذلك لا يرى قبول شهادة القاذف ولو تاب وأصلح، لأن قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} ، يرجع عنده لقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فقط أي إلا الذين تابوا فقد زال عنهم فسقهم بالتوبة، ولا يقول برجوعه لقوله: ولا تقبلوا لهم شهادة إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، بل يقول: لا تقبلوها لهم مطلقا لاختصاص الاستثناء بالأخيرة عنده.
ولم يخالف أبو حنيفة أصله في قوله برجوع الاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} ، لجميع الجمل قبله أعني قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} ، لأن جميع هذه الجمل جمع معناه في الجملة الأخيرة وهي قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} ، لأن الإشارة في قوله ذلك شاملة لكل من الشرك والقتل والزنى فبرجوعه للأخيرة رجع للكل فظهر أن أبا حنيفة لم يخالف فيها أصله، ولأجل هذا الأصل المقرر في الأصول لو قال رجل: هذه الدار حبس على الفقراء والمساكين وبنى زهرة وبني تميم إلا الفاسق منهم فإنه يخرج فاسق الكل عند المالكية والشافعية والحنابلة.(3/69)
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق في هذه المسألة هو ما حققه بعض المتأخرين كابن الحاجب من المالكية والغزالي من الشافعية والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف وأن لا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة، وإنما قلنا أن هذا هو التحقيق لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية، وإذا رددنا هذا النزاع إلى الله وجدنا القرآن دالا على قول هؤلاء الذي ذكرنا أنه هو التحقيق في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} ، فالاستثناء راجع للدية فهي تسقط بتصدق مستحقها بها ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ.
ومنها قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ, إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} ، فالاستثناء لا يرجع لقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف.(3/70)
ومنها أيضا قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً, إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} ، فالاستثناء في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} لا يرجع قولا واحدا إلى الجملة الأخيرة التي أقرب الجمل إليه أعني قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} ، إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} ، والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة ابن عامر.
وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها.
ومنها أيضا قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، فالاستثناء ليس راجعا للجملة الأخيرة التي يليها أعني: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} ، لأنه لولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان كلا ولم ينجح من ذلك قليل ولا كثير حتى يخرج بالاستثناء.
واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء؛ فقيل: راجع لقوله: {أَذَاعُوا بِهِ} .(3/71)
وقيل: راجع لقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وإذا لم يرجع للجملة التي يليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها.
وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها وعليه فالمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان إلا قليلا كمن كان على ملة إبراهيم كورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وأضرابهم وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، أن معناه: لاتبعتم الشيطان كلا، قال: والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم، واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:
قليل المثالب والقادحة
أشم ندى كثير النوادي
يعني لا مثلبة ولا قادحة.
قال مقيده عفا الله عنه: إطلاق القلة وإرادة العدم كثير في كلام العرب ومنه قول الشاعر:
قليل بها الأصوات إلا بغامها
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة
يعني أنه لا صوت في تلك الفلاة غير بغام راحلته.
وقول الآخر:
قليلا لدى من يعرف الحق عابها
فما بأس لو ردت علينا تحية
يعني لا عاب فيها عند من يعرف الحق.
وعلى هذين القولين الأخيرين فلا شاهد في الآية وبهذا التحقيق الذي حررنا يرد استدلال داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة أيضا والعلم عند الله.
ـ قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، هذه الآية تدل على أن الإماء إذا زنين جلدن خمسين جلدة، وقد جاءت آية أخرى تدل بعمومها على أن، كل زانية تجلد مائة جلدة، وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} .
والجواب ظاهر: وهو أن هذه الآية مخصصة لآية النور لأنه لا يتعارض عام وخاص.(3/72)
ـ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، هذه الآية تدل بظاهرها على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ونظيرها قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك هي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الآية.
ووجه الجمع بين ذلك مختلف فيه اختلافا مبنيا على الاختلاف في حكم هذه المسألة:
فجمهور العلماء على أن شرع من قبلنا إن ثبت بشرعنا فهو شرع لنا ما لم يدل دليل من شرعنا على نسخه لأنه ما ذكره لنا في شرعنا إلا لأجل الاعتبار والعمل، وعلى هذا القول فوجه الجمع بين الآيتين أن معنى قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ، أن شرائع الرسل ربما ينسخ في بعضها حكم كان في غيرها أو يزاد في بعضها حكم لم يكن في غيرها، فالشرعة إذن إما بزيادة أحكام لم تكن مشروعة قبل وإما بنسخ شيء كان مشروعا قبل فتكون الآية لا دليل فيها على أن ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ولم ينسخ أنه ليس من شرعنا لأن زيادة ما لم يكن قبل أو نسخ ما كان قبل كلاهما ليس من محل النزاع.
وأما على قول الشافعي ومن وافقه أن شرع من قبلنا شرع ليس شرعا لنا إلا بنص من شرعنا أنه مشروع لنا، فوجه الجمع أن المراد بسنن من قبلنا وبالهدى في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} ، أصول الدين التي هي التوحيد لا الفروع العلمية بدليل قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الآية.(3/73)
ولكن هذا الجمع الذي ذهبت إليه الشافعية يرد عليه ما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة (ص) عن مجاهد أنه سأل ابن عباس من أين أخذت السجدة في (ص) فقال ابن عباس: " {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، فسجدها داود فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، ومعلوم أن سجود التلاوة من الفروع لا من الأصول، وقد بين ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدها اقتداء بداود وقد بينت هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتي فلذلك اختصرتها هنا.
ـ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} الآية، هذه الآية تدل على أن إرث الحلفاء من حلفائهم، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} .
والجواب أن هذه الآية ناسخة لقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية ونسخها لها هو الحق خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في القول بإرث الحلفاء اليوم إن لم يكن له وارث.
وقد أجاب بعضهم بأن معنى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أن من الموالاة والنصرة وعليه فلا تعارض بينهما والعلم عند الله.
ـ قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} ، هذه الآية تدل على أن الكفار لا يكتمون الله من خبرهم شيئا يوم القيامة، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، وقوله تعالى: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} ، وقوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} .(3/74)
ووجه الجمع في ذلك هو ما بينه ابن عباس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، مع قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} ، وهو أن ألسنتهم تقول والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فكتم الحق باعتبار اللسان وعدمه باعتبار الأيدي والأرجل، وهذا الجمع يشير إليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وأجاب بعض العلماء بتعدد الأماكن فيكتمون في وقت ولا يكتمون في وقت آخر والعلم عند الله.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، لا تعارض بينه وبين قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} .
والجواب ظاهر وهو أن معنى قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} أي مطر وخصب وأرزاق وعافية يقولوا هذا ما أكرمنا الله به: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} ، أي جدب وقحط وفقر وأمراض يقولوا هذه من عندك أي من شؤمك يا محمد وشؤم ما جئت به، قل لهم كل ذلك من الله، ومعلوم أن الله هو الذي يأتي بالمطر والرزق والعافية كما أنه يأتي بالجدب والقحط والفقر والأمراض والبلايا، ونظير هذه الآية قول الله في فرعون وقومه مع موسى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} ، وقوله تعالى في قوم صالح مع صالح: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} الآية، وقول أصحاب القرية للرسل الذين أرسلوا إليهم: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الآية.(3/75)
وأما قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي لأنه المتفضل بكل نعمة، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي من قبلك ومن عملك أنت إذ لا تصيب الإنسان سيئة إلا بما كسبت يداه كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وسيأتي إن شاء الله تحرير المقام في قضية أفعال العباد بما يرفع الإشكال في سورة الشمس في الكلام على قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ، والعلم عند الله تعالى.
ـ قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قيد في هذه الآية الرقبة المعتقة في كفارة القتل خطأ بالإيمان، وأطلق الرقبة التي في كفارة الظهار واليمين عن قيد الإيمان حيث قال في كل منهما: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يقل مؤمنة؛ وهذه المسألة من مسائل تعارض العارض المطلق والمقيد وحاصل تحرير المقام فيها: أن المطلق والمقيد لهما أربع حالات:
الأولى: أن يتفق حكمهما وسببهما كآية الدم التي تقدم الكلام عليها؛ فجمهور العلماء يحملون المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا، وهو أسلوب من أساليب اللغة العربية لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت كقول الشاعر، وهو قيس بن الخطيم:
ـدك راض والرأي مختلف
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ
فحذف راضون لدلالة راض عليها، ونظيره أيضا قول ضابئ بن الحارث البرجمي:
فإني وقيارا بها لغريب
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
وقول عمرو بن أحمر الباهلي:
بريئا ومن أجل الطوى رماني
رماني بأمر كنت ووالدي
وقال بعض العلماء: إن حمل المطلق على المقيد بالقياس، وقيل: بالعقل وهو أضعفها، والله تعالى أعلم.(3/76)
والحالة الثانية: أن يتحد الحكم ويختلف السبب كما في هذه الآية، فإن الحكم متحد وهو عتق رقبة، والسبب مختلف وهو قتل خطأ وظهار مثلا؛ ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية، ولذا أوجبوا الإيمان في كفارة الظهار حملا للمطلق على المقيد خلافا لأبي حنيفة.
ويدل لحمل هذا المطلق على المقيد، قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة معاوية بن الحكم السلمي: "اعتقها فإنها مؤمنة" ولم يستفصله عنها هل هي كفارة أو لا، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال، قال في مراقي السعود:
منزلة العموم في الأقوال
ونزلن ترك الاستفصال
الحالة الثالثة: عكس هذه، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم؛ فقيل: يحمل فيها المطلق على المقيد، وقيل: لا, وهو قول أكثر العلماء ومثاله: صوم الظهار وإطعامه، فسببهما واحد وهو الظهار وحكمهما مختلف لأن هذا صوم وهذا إطعام، وأحدهما مقيد بالتتابع وهو الصوم والثاني مطلق عن قيد التتابع وهو الإطعام، فلا يحمل هذا المطلق على المقيد.
والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة مثلوا له بإطعام الظهار، فإنه مقيد بكونه قبل أن يتماسا، مع أن عتقه وصومه قيدا بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، فيحمل هذا المطلق على المقيد فيجب كون الإطعام قبل المسيس.
ومثّل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، وأطلق الكسوة عن القيد بذلك حيث قال: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} ، فيحمل المطلق على المقيد فيشترط في الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم.(3/77)
الحالة الرابعة: أن يختلفا في الحكم والسبب معا ولا حمل فيها إجماعا، وهو واضح، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا؛ أما إذا ورد مقيدين بقيدين مختلفين فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما، ولكنه ينظر فيهما فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء فيقيد بقيده وإن لم يكن أحدهما أقرب له فلا يقيد بقيد واحد منهما ويبقى على إطلاقه لاستحالة الترجيح بلا مرجح.
مثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر: صوم كفارة اليمين فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع، وصوم التمتع مقيد بالتفريق، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع لأن كلا من اليمين والظهار صوم كفارة بخلاف صوم التمتع فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع، وقراءة ابن مسعود: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} لم تثبت لإجماع الصحابة على عدم كتب (متتابعات) في المصحف.
ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم قضاء رمضان فإن الله قال فيه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق مع أنه قيد صوم الظهار بالتتابع وصوم التمتع بالتفريق، وليس أحدهما أقرب إلى قضاء رمضان من الآخر فلا يقيد بقيد واحد منهما بل يبقى على الاختيار إن شاء تابعه وإن شاء فرقه، والعلم عند الله تعالى.(3/78)
قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} ، الآية، هذه الآية تدل على أن القاتل عمدا لا توبة له وأنه مخلد في النار، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ} - إلى قوله -: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات} ، الآية. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية.
وللجمع بين ذلك أوجه:
ـ أن قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} ، أي إذا كان مستحلا لقتل المؤمن عمدا، لأن مستحل ذلك كافر قاله عكرمة وغيره، ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جبير وابن جرير عن ابن جريج من أنها نزلت في مقيس بن صبابة فإنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه قتيلا في بني النجار ولم يعرف قاتله فأمر له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدية فأعطتها له الأنصار مائة من الإبل وقد أرسل معه النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من قريش من بني فهر فعمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتله وارتد عن الإسلام وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة مرتدا وهو يقول في شعر له:
سراة بني النجار أرباب فارع
قتلت به فهرا وحملت عقله
وكنت إلى الأوثان أول راجع
وأدركت ثأري وأضجعت موسدا(3/79)
ومقيس هذا هو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا أؤمنه في حل ولا في حرم"، وقتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح فالقاتل الذي هو كمقيس بن صبابة المستحل للقتل المرتد عن الإسلام لا إشكال في خلوده في النار، وعلى هذا فالآية مختصة بما يماثل سبب نزولها بدليل النصوص المصرحة بأن جميع المؤمنين لا يخلد أحد منهم في النار.
ـ الوجه الثاني: أن المعنى فجزاؤه أن جوزي مع إمكان ألا يجازى إذا تاب أو كان له عمل صالح يرجح بعمله السيء ... وهذا قول أبي هريرة وأبي مجلز وأبي صالح وجماعة من السلف.
ـ الوجه الثالث: أن الآية للتغليظ في الزجر، ذكر هذا الوجه الخطيب والآلوسي في تفسيريهما وعزاه الآلوسي لبعض المحققين واستدلا عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، على القول بأن معناه: ومن لم يحج، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيحين للمقداد حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب: "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن يقول الكلمة التي قال"، وهذا الوجه من قبيل كفر دون كفر، وخلود دون خلود، فالظاهر أن المراد به عند القائل به أن معنى الخلود المكث الطويل، والعرب ربما تطلق اسم الخلود على المكث الطويل ومنه وقول لبيد:
صما خوالد ما يبين كلامها
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا
إلا أن الصحيح في معنى الآية الوجه الثاني والأول، وعلى التغليظ في الزجر حمل بعض العلماء كلام ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لكل ما سواها، والعلم عند الله تعالى.(3/80)
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر أن القاتل عمدا مؤمن عاص له توبة كما عليه جمهور علماء الأمة وهو صريح قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية، وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ، وقد توافرت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، وقد قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس لان هذه الأمة بالتخفيف من بني إسرائيل لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أي كل واحد منهما في محله، الجلد للبكر والرجم للثيب.(3/81)
رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -
بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
المدرس بكلية الشريعة
في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك من هذا العام فقدت المملكة العربية السعودية علمها الشامخ وكوكبها الأغر ونجمها اللامع ومشعلها الوضاء سماحة المفتي ورئيس القضاة ورئيس الجامعة الإسلامية والكليات والمعاهد العلمية: الشيخ الجليل العالم العامل الذي طال عمره وحسن عمله محمد بن إبراهيم آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب غفر الله له ورحمه.
وكان لوفاته الأثر البالغ في النفوس لما للفقيد رحمه الله من مكانة مرموقة وأعمال جليلة، وهذه لمحة قصيرة عن سماحته رأيت إثباتها في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي هي إحدى المؤسسات العلمية التي يرأسها سماحته في أول عدد يصدر بعد وفاته.
وموضوع الحديث عن سماحته مشاع لا يخفى على الكثير من الناس، لكنها الرغبة في أداء بعض ما يجب لهذا الرجل الفذ، الذي جمع بين العلم والعمل، وإن هي إلاّ حاجة في نفس يعقوب قضاها، رحم الله الفقيد، ولا فتننا بعده، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
نسبه:(3/82)
هو صاحب السماحة الشيخ الجليل أبو عبد العزيز محمد بن الشيخ إبراهيم المتوفى سنة 1329هـ رحمه الله ابن الشيخ عبد اللطيف المتوفى سنة 1293هـ رحمه الله ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن المتوفى سنة 1285هـ رحمه الله ابن شيخ الإسلام الإمام مجدد القرن الثاني عشر محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206هـ رحمه الله، ينتهي نسبه إلى ذلك الإمام المبارك الذي أظهر الله به السنة المحمدية في وقت اشتدت فيه غربة الدين وكثر فيه تعلق الخلق بغير رب العالمين؛ فأرشد النّاس إلى الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحذرهم من طرق الجحيم الطرق التي سلكها أعداء الله من المغضوب عليهم والضالين، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
ولادته وأبرز شيوخه وتلامذته:
ولد رحمه الله وغفر له في اليوم السابع من شهر محرم سنة إحدى وعشرة بعد الثلاثمائة والألف 1311هـ، في مدينة الرياض.
ونشأ في بيت العلم والفضل والتقى والصلاح، فتغذى بلبان العلم والإيمان، وتسلح بسلاح المعرفة والعقيدة السليمة منذ نعومة أظفاره حتى آل أمره إلى أن صار مرجع العلماء وأبرز الفقهاء ونادرة الأذكياء.
أخذ العلم عن والده الشيخ إبراهيم وعن عمه الشيخ عبد اللطيف وعن الشيخ سعد بن عتيق وعن الشيخ حمد بن فارس وغيرهم ممن فقهه الله في دينه ونور بصيرته.
ثم أخذ ينشر العلم ويرشد إلى الخير ويحذر من الشر صابرا محتسبا حتى تخرج على يديه الأعداد الكبيرة من العلماء الذين قاموا بمهام القضاء والتدريس وغيرها في المملكة العربية السعودية، ومن أبرزهم: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائبه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد الرئيس العام للإشراف الديني بالمسجد الحرام.
أعماله رحمه الله:(3/83)
بعد وفاة عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف سنة 1339هـ، أسند إليه عمله، وقام مقامه في الإفتاء ومشيخة علماء نجد وملحقاتها، ثم تولى رئاسة القضاء في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، وعند تأسيس الكليات والمعاهد العلمية باقتراحه ومشورته أسندت إليه رئاستها ثم رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ورئاسة رابطة العالم الإسلامي وغيرها من الأعمال العظيمة التي أنيطت بسماحته والتي كان الناس يزاولها بقوة وحزم إلى نهاية أمره.
وما كان تقليد ولاة أمور المسلمين لسماحته هذه الأعمال إلاّ لكونه موضع الثقة التامة، وما كان تقلده إياها إلاّ حرصا منه على أن تسير الأمور فيها على أكمل وجه وأحسن حال.
هذا وإنّ المدة التي بين وفاة عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف سنة 1339هـ وبين وفاته رحمه الله سنة 1389هـ خمسون سنة قضاها في الدعوة إلى الحق، والجهاد في سبيل الله، والذب عن شريعته، والعمل بجد وحزم فيما ينفع المسلمين، أجزل الله له الثواب، وأسكنه فسيح الجنان.
مؤلفاته:
ورغم كثرة هذه الأعمال التي نهض بها، والتي يشق القيام بها على الجماعة من الرجال خلف وراءه من الفتاوى ما يبلغ المجلدات الكثيرة، وقد جمع بعضها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وأكثرها في ملفات دار الإفتاء، ونرجو الله أن يوفق المسؤولين لنشرها ليعم الانتفاع بها، كما أنّ له نصائح توجيهية عامة وخاصة ورسائل قيمة كبيرة الفائدة قد طبع كثير منها.
صفاته رحمه الله:
وكان سماحته غفر الله له من الرجال القلائل الذين يعدون من نوادر الزمان لما منحه الله من الصفات الجمة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(3/84)
فقد كان رحمه الله إلى جانب غزارة علمه وسعة اطلاعه وقوة ذاكرته أرجح العقل ثاقب الرأي، صبورا حليما، ذا أناة وروية، وذا شخصية فذة، تذوب أمامها الشخصيات الكبيرة، مهيب الجانب، مع تواضعه وبعده عن الترفع، عالي الهمة، رجل علم وعمل، حافظا لوقته معنيا بعمارته في خدمة الإسلام والمسلمين بعزيمة لا تعرف الكسل وهمة لا يشوبها فتور داعيا إلى الله على بصيرة لا يخشى في الله لومة لائم إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي وفقه الله للاتصاف بها.
وقد فقد بصره في السابعة عشر من عمره، ولكن الله عوضه قوة في البصيرة ونورا في القلب وإشراقا في حياته المباركة المعمورة بتقوى الله والجهاد في سبيله.
وفاته رحمه الله:
انتقل إلى رحمة الله تعالى ضحى في أول الساعة الخامسة من يوم الأربعاء الموافق الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1389هـ، وصلى عليه في المسجد الجامع الكبير في الرياض عقب صلاة الظهر أم الناس في الصلاة عليه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، واكتظ المسجد بالمصلين عليه من خاصة الناس وعامتهم على الرغم من قصر المدة التي بين وفاته ووقت صلاة الظهر.
وكان على رأس الذين حضروا الصلاة عليه جلالة الملك فيصل حفظه الله حيث أدى الصلاة عليه مع الناس في الجامع الكبير ثم ذهب إلى المقبرة ولم يزل على حافة القبر حتى دفن رحمه الله.
وقد نقل من المسجد إلى المقبرة على أكتاف الرجال في مسافة تقرب من اثنين كيلومترا، واكتظت الشوارع بالمشاة وبالسيارات التي تحمل المشيعين لجنازته، ولم تكن المصيبة فيه مصيبة أسرة بل كانت المصيبة عامة لا تكاد تلقى أحدا إلاّ وهو يتمثل بقول الشاعر:
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما(3/85)
وكانت وفاته رحمه الله على أثر مرض أصابه في كبده في أواخر شهر شعبان حيث دخل المستشفى في الرياض، وفي أوائل شهر رمضان سافر إلى لندن ثم عاد منها إلى الرياض في مساء يوم الخميس الثامن عشر من شهر رمضان، ومنذ عودته وهو في غيبوبة يفيق أحيان فيذكر الله ويستغفره حتى توفاه الله تعالى.
ومدة عمره ثمان وسبعون سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام رحمه الله وغفر له، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يفتح له أبواب الجنة الثمانية ليدخل من أيها شاء إنّه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلاّ به.
وقد أرخت سنة وفاته بهذه الأبيات:
سماحة الشيخ العظيم المنزله
الثاقب الرأي بحل المشكلة
مفتي الديار رأس كل قضاتها
مع درر علم الشرع كل أنّ له
وفاته بأحرف أرختها
فقلت (جد جواد واغفر لي وله)(3/86)
رسائل لم يحملها البريد
بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
شقيقي القمر:
وهكذا جاءت الأنباء تقول: لقد عاد أول القادمين إليك من أبنائي سالمين، فقد أشفقت عليه النوائب، وأمهله الموت.
لقد هزت هذه العودة أبنائي المبثوثين على ظهري هزا عنيفا، ورجتهم رجا، وتركتهم في أمر مريج، فمصدق ومكذب، وحائر تجحظ عيناه، ولا تنبس شفتاه.
تركت أبنائي وشأنهم، يتحاورون ويعجبون، ورحت أرقص فرحا، واهتز مرحا، وأملأ الفضاء حبورا، ولم لا أفعل هذا يا شقيقي القمر؟!، وأنا التي تكابد الشوق إليك منذ آماد بعيدة، وتعاني حرقة الصبابة من حبك كر الغداة ومر العشي، وتخشى أن يصيبك السوء على تطاول العصور والأحقاب.
لقد كتب الله لي النجاح، وبلغني ما كنت أؤمل، وجاءتني البشرى بما تتمتع به من حياة طيبة، ومنعة، وشباب، كعهدي بك أيام الطفولة، أفلا يحق لي أن أفرح وأمرح، وأتيه تيه الفائزين، وأزهو زهو الظافرين؟!.
الله يعلم كم بذلت في سبيل لقياك من جهد ومال ورجال، وكم تحملت من سهر ودأب ونصب، فحري بي اليوم أن أطيب نفسا، وأن أقر عينا، وأن تبتل جوانحي، وأن يسكت عني القلق والخوف.
ولكن…. ولكن أخشى ما أخشاه - الأخ الكريم - أن تكون قد أصابتك حمى الحسد والغيرة، حين هبط على سطحك أول رائد؛ فأخذت تقول لنفسك: وأنى لهذه الأخت أبناء يجبون الفضاء، ويطيرون من كوكب إلى كوكب، وقد عهدتها جرداء بلقاء، لا تعرف الأنس ولا الجان، ولا النبات ولا الحيوان؟!.(3/87)
شيء مؤسف ـ أيها الأخ الكريم ـ أن يطوف بي طائف من هذه الظنون، وأن أفصح عنه في أول رسالة أبعث بها إليك، ولكني خشيت أن يتصيدك الشيطان فيمن تصيد، وأن يوقع بيننا العداوة والبغضاء؛ فقد علمتني تجارب أبنائي ما لا تعلمه أنت، فكم من صديقين حميمين، أو أخوين شقيقين، غنى أحدهما ولم يغن الآخر، أو طار أحدهما في الآفاق، وبقي الآخر فوق ثراى، فأغرى بينهما الشيطان؛ فإذا هما عدوان لدودان.
لهذا أحببت أن أصارحك بدأة ذي بدء، إبقاء على ما بيننا من ود، وصلة أرحام بيننا ونسب.
الحق - أيها الأخ الكريم - أن حالتي في كثير من أمرها ليست بالحالة التي تبعث على الحسد، أو تثير الغيرة في نفس أخ كريم مثلك، فمذ هبط آدم على ظهري، وأنا أعاني من أبنائه شرا مستطيرا، وأسأل الله مخلصا أن يعجل بيوم القيامة، لأتخلص من هؤلاء على ظهري، ومن أولئك الذين هم في بطني، فيلقى كل منهم ما يستحق من نعيم الجنة، أو عذاب السعير.
لست ممن يجحدون نعم الله عليهم، أو يستخفون بها، ولا يشكرون حق على أن أعترف أن في بني آدم رجالا ونساء هم مناط عزتي وفخاري، إذا ما تنافست الكواكب، وتاه بعضها على بعض، إنهم لجديرون حقا أن تغبطني فيهم، وأن تتمنى على الله أن لو كنت حملت على ظهرك أناسا أمثالهم.
لست الآن بسبيل أن أعدهم لك، أو أقص أخبارهم عليك، ولكن رجلا على رأسهم لن أنساه ما حييت، ولا يستطيع قلمي أن يمسك عن الكتابة دون أن يذكر اسمه، ذلك هو محمد، وما أظنك إلا قد سمعت هذا الاسم، وما أظنك إلا قد عرفت خبره، فذكره قد طار في كل سماء، وحط في كل كوكب.
لا تتسع هذه الرسالة لأن أذكر غيره من المرسلين والنبيين، ومن علماء الدنيا والدين، ومن الشهداء الأبرار، وأبطال الحروب الأخيار، ومن المصلحين الذين أخلصوا في العمل، والأدباء الذين صدقوا في القول.(3/88)
لا تتسع هذه الرسالة لأن أذكر غيره، ولا يتسع له الوقت، فمذ قتل قابيل هابيل وأنا أتمنى على الله أن ييسر سبيل لقياك، وأن يتح فرصة الاتصال بك، لأشكو إليك همومي، وأسمعك نحيبي وأنيني، وأشكرك في أفراحي ومراحي، وأستشيرك في كثير من أمري، فاليوم، وقد يسر الله الفرصة وأتاح، أجدني غير ذات قدرة، ولست بذات وقت، لأن أكتب إليك كثيرا.
لقد كان من نعم الله عليك ـ أيها الأخ الكريم ـ أن لم يذلل سطحك لأبناء آدم مهادا ومعاشا، عليهم إذا ما ألموا بك أن يتزودوا بالأنفاس التي يتنفسون، وبالطعام الذي يطعمون، وبالشراب الذي يشربون، ليس من البخل في شيء، ولا من العار، ألا يسمعوا منك أهلا ولا مرحبا، نعم، إنهم أبنائي، مني خلقوا، وإليّ يعودون، أطيب نفسا إذا طابوا، وأسوء حالا إذا ساءوا، ولكن هذه الدماء التي رويت منها بقاعي حتى شرقت، وهذه الجثث التي طعمت منها أرجائي حتى تخمت، وهذا الظلم الذي يأخذ به الأقوياء الضعفاء، وهذا الكيد الذي يكيده ذوو المعارف والتجارب والقوة لذوي الجهالة والفطرة والضعف، هذا كله نزع ما في قلبي من حنان الأمهات، وعطف الوالدات.
الخير في كثير، والرزق على وجهي واسع، وعطاء الله ماله من نفاد، ولكن كثيرا من أبنائي يستأثرون بالخير على غير حاجة، ويحرمون الآخرين على ما بهم من مغبة وضر، وتود طوائف شتى أن تكون ذات الأمر والنهي، إن حقا وإن باطلا، ليس لأحد معها سلطان.
ما أوغر صدري، وحرق حشاي، إلاّ أولئك الذين يشعلون الفتن في كل مكان، ثم يقولون: ما أقبح دخانها، ويثيرون الحرب والخصام بين الشعوب ثم يبكون الأمن والسلام، ويسلبون الناس خيراتهم، ويسيمون فيهم الأمراض، ثم يمنون عليهم قليلا من عطاء، وشيئا من دواء، أي بنوة هذه؟! وأي أبناء هؤلاء؟! أي أم تطيب لها الحياة، وهي لا تنام على غير أنين، ولا تستيقظ على غير جراح!!(3/89)
هنيئا لك أيها الأخ الكريم ليلك ونهارك! هنيئا لك ليلك الذي تنامه ريان الجفون، مطمئن الأنفاس، مثلوج الفؤاد!
هنيئا لك نهارك الذي تستمتع به رخى البال، هادئ النفس، ساكن البلابل!
أما أنا - واحسرتاه - فلا أعرف الهناءة ليلا أو نهارا.
حيوان البر والبحر يتنازع، ويقضي بعضه على بعض، يدفعه الجوع وحب البقاء، أما أبناء آدم فلا أدري علام يتنازعون، ولم يتدافعون، وفيم يقتل بعضهم بعضا؟!
لقد كنت أدري، ولكني أصبحت لا أدري، لطول ما رأيت، وكثرة ما سمعت، فلكل معتد دعوى، ولكل ظالم نداء، ولكل مغتصب راية، ولكل منتصر حجة وبيان.
سل أيها القمر الساري أشعتك الناعمة اللينة الجميلة التي تغمر بها وجهي، وتطوف بأرجائي، وتقبل وجوه الناس جميعا دون محاباة.
سلها أيها القمر المنير، فقد صحبتني منذ الطفولة، وعرفت كل جيل، وابتسمت لكل قبيل، ورأيت السيوف التي تقطر الدماء، والقنابل التي تطمس المدن، رأت قبور الأحياء للأحياء، وعذاب الظالمين للأبرياء، وكيف تكون المنايا أعذب الأماني.
سلها، هل هناك من حافز غير جموح الغرائز، وحب السلطة، وهل هناك غايات سوى مغانم طمع، ومكاسب جشع، وهل هناك آراء وعقائد غير ترهات وأباطيل، ودعاوى وأضاليل، زينها خيال جامح، وموهها حقد دفين.
والآن دعني أحدثك حديثا آخر لعله يسرك، ويستهويك.
إنني جميلة، جميلة حقا، وعلى قسمات وجهي سحر وفتون، حتى هذا الإنسان الذي أفسد حياته، وأفسد الحياة من حوله، لقد خلقه الله في أحسن تقويم، وأبدع صورة.(3/90)
جبالي متطاولة في الفضاء، وقد ضيفت الثلوج فوق القمم، فحينا تبرح وترحل، وحينا تقيم ولا تريم، ترتدي السحب تارة فلا يبدو لك منها شيء، وتتعرى حينا فتبدي كثيرا من الزينة، أشجار على السفوح يتهادى فيها النسيم فتميس أغصانها عجبا ودلالا، وتعصف فيها الرياح فتخر ركعا وسجودا، وصخور رقدت في مضاجعها مطمئنة، نائمة، حالمة؛ وصخور نتأت غاضبة، متحدية، ترى فيها الخصام والشر والتحفز.
وأودية وشعاب بين هذه الجبال، عميقة، سحيقة، يضل فيها النهار، ويضيع فيها البصر.
وعلى السفوح عيون ومياه تنحدر عجلى، تغني وتنشد فرحا بلقاء أمها بعد فراق طويل.
وعلى وجهي مروج فسيحة، مطمئنة، مخضرة، ضاحكة، بهيجة، تلقاك بلطف، وتنساب إلى نفسك برفق، وتجذب عينيك برقة، فلا تبغيان عنها حولا ولا تملان إليها نظرا، وتودان لو بقيت طويلا تمتعهما، وتستمتع.
وعلى مسافات تطول وتقصر، تشق ثراي أنهار على موعد مع البحر، تارة تخشى أن يفوتها، فتعدو غاضبة، معربدة الدفق، لها زمجرة وزبد، وتارة تعروها الثقة، فتسير الهوينى، هادئة الأنفاس، قد سكت عنها الغضب.
وعلى شواطئ بحاري جمال, وجلال, وخيال، وأناشيد، وقصائد شعر تروى دون نهاية، وقصائد حب وسلام وغزل، ترويها الأمواج إلى الرمل، وقصائد سخط وخصام وملل، تلقيها الأمواج على الصخر.
ولا أخلو من صحارى مسفرة لا تتبرج ولكنها جميلة، تعشقها الأنفس، وتهواها الأفئدة، حين تسيل على وجهها أشعتك، وتغشاها سكينة الليل، فتسمو بمن فيها إلى آفاق واسعة عميقة من الجمال والجلال والمهابة، وتقربهم فيها إلى الله.
هكذا خلقت وهكذا أعيش أيها الأخ الحبيب، أما أنت…!!
أختك المشتاقة: الأرض(3/91)
عتاب وتحذير
للشيخ محمد المجذوب
دعوني أنفثُ بعض الألمْ عتابًا لكمْ يا أهيْل الحَرَمْ
أتدرونَ فيمَ غدت أرضُكم ولا زرعَ فيها مزار الأممْ!
وما بالُ حبكُم قد عرى
إلى منتهى الدهر في كل دَمْ؟
ف باتَ التغني بذكراكمُ
ن شيدَ الحياة على كل فمْ
كأنكم أكبدُ المسلمين
فصحتُها من أجلّ النعمْ
.. أذاك لفضل لكم في الأنام؟
وفي حلبة السيف أم بالقلم!
وقد أوشك العلمَ أن يستحيل
لديكمْ، ويا أسفا، للعدمْ!
وقد طالما أتحفَ الحَرَمانِ
الوجود بكل إمام علم
وكم فاتح أخرجا للورى ليخرجهم من سحيق الظلم
فمروا على الأرض مرّ الغُيوث تبثُ الجَمَالَ وتُحيي الرمم
فشقوا العيونَ لعمي القلوب وذادوا عن الآخرين الصمم
وبالعزم والدم والمكرمات أقاموا صوى فوق القمم
أولاك الأُلى قد غدوتم بهم أحبّ إلى الخلق من ذي الرحم
ولولاهم، وهمُ نعمة السـ ماء، لكنا كبعض النّعم
ولولا الرسول ووحي الكتاب لكانوا وكنا غثاء الخِصَم
تراث النبوة.. أي الفخارِ يدانيه يوم تُعدُ القيم
لو العالمون حووا بعضه لعزبه عُربُهم والعجم
هجرتم معالمه الهاديات إلى كل منزلق متهم
وكان الأحق بأن تجعلوه منار حياتكم الملتزم
ألم تلمحوا أدمع المسجدين تكاد عليكم أسى تضطرم
تركتم نواحيها تشتكي عقوق الجوار لباري النسم
وقد رحتم تملئون الدروب ولا يعتريكم شعور الندم
تمر الجموع بكم للصلاة وصدر الطريق بكم مزدحم
فلا تنزون عن الناظرين ولا تحذرون حلول النقم
وكم ذي سفهٍ يستهين
بأقدس ما تقتضيه الحرم
فيُصْلِي المصلين مذياعه هراءً له مثل وقع الحمم
فلا هو يعرف قدر الصلاة
ولا من يُعرِّفه من أَمَم
وكم ثم ذات سقام رأت
فراغ المجال لأهل السقم
فراحت تحدى بأغوائها(3/92)
هدى الله لا تتقي أي ذم
تجوب المدينة في حلة
تكاد تُصرّح بالمكتتم
وتقتحم الحرم المستغيث
برب البرية مما ألم
وليس لذي غيرة جرأة
يقول بها للخليع احتشم
وكيف!..ولو جاءها منكرا
لأنكر إنكاره أو شتم
كأن الحياة غدت عندكم
سباقا إلى اللهو لا ينسجم
تؤججه سورة الجائعين لجمع الحطام ورفع الأطم
وللركض خلف طيوف السراب
بباريس أو في ظلال الهرم
ومن ثم كان اصطياد النقود
لدى جلكم مبتغاه الأهم
فذوا العجز لا يستحق البقاء
لديكم، ورب الغنى محترم
وفي أرضكم يستحيل الشحيح
من الوافدين أليف الكرم
وهذا الذي قد رزقتم به
كنوز الشعوب التي لم ترم
وهذا الذي قد أثار السعار
إلى كل سحت وهاج القرم
فشوه معنى الوجود الصحيح
لدى الأكثرين وأبلى الذمم
فباتت قوى الحق معزولة
وراء القلوب بحكم العدم
فياليت شعري أين المصير
إذا ما استمرت زحوفُ الضرَمَ!
وأين الفرار، وأين النجاء
وربكم الطالب المنتقم!
كأني بكم في حبال القضاء
وقد حان وقت العقاب الأصم
تصيحون يا ربنا رحمة
ولا رحمة يوم جَزِّ اللمم
وتبغون معتصمًا من يديه
وهيهات..ما منهما معتصم
..فهل عودة يا غواة الحرم
إلى الله قبل البلاء العمم!
فإني لأخشى غدا أن تلاقوا
كما لقيت سبأ في إرم
ولستم بأعظم منهم وإن فا
ق ذنبهم ذنبكم في العظم
وقد جرفتهم سيول العذاب
ولم يجدهم حَوْلُهم حين طم
ولن يعجز الله أمر العصاة
وفي قول (كن) ألف سيل العرم
وهل يتخلى عن الحرمين
ولم يبق غيرهما للأمم!(3/93)
في مناسبة الآيات والسور
للشيخ أحمد حسن
المدرس بالمعهد الثانوي
تعريف المناسبة:
في اللغة: المشاكلة والقرابة.
في الاصطلاح: عرفه البقاعي بقوله: "علم تعرف منه علل الترتيب".
وموضوعه: أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب.
وثمرته: الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له وما وراءه وما أمامه، من الارتباط والتعلق الذي هو كلحمة النسب، هذا بالنسبة لعلم المناسبة بشكل عام؛ أما:
علم مناسبات القرآن:
فهو علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة، لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال، وتوقف الإجازة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب من ذلك فيها، ويفيد ذلك المقصود من جميع جمله.
ونسبته من علم التفسير، نسبة البيان من علم النحو [1] .
وعلم المناسبة على نوعين:
1- مناسبة الآي بعضها لبعض؛ وهي بيان ارتباطها وتناسقها كأنها جملة واحدة، ومرجعها إلى معنى رابط بينها عام أو خاص، عقلي أو حسي، أو غير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين ونحوه [2] .
2- مناسبة السور بعضها لبعض، وهو ثلاثة أنواع:
- أحدها: تناسب بين السورتين في موضوعهما، وهو الأصل والأساس.
- ثانيهما: تناسب بين فاتحة السورة والتي قبلها كالحواميم.
- ثالثها: مناسبة فاتحة السورة لخاتمة ما قبلها، مثل (وإدبار النجوم … والنجم إذا هوى) .
ويوجد نوع رابع من المناسبة، وهو مناسبة فاتحة السورة لخاتمتها، أفرده السيوطي بالتأليف كتب فيه جزءا صغيرا سماه (مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع) [3] .
شرف هذا العلم وفائدته:
المناسبة علم شريف، متحرر نبه العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول.(3/94)
وفائدته: جعل أجزاء الكلام بعضها آخذ بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء [4] .
قال الإمام فخر الدين الرازي: "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"، وقال بعض الأئمة: "من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض لئلا يكون منقطعا، وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم وفوائده غزيرة".
قال أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم".
وقال الشيخ العز بن عبد السلام: "المناسبة علم حسن، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر".
وقال البقاعي: "… وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب، ويتمكن من اللب، وذلك لأنّ يكشف أن للإعجاز طريقين:
أحدهما: نظم كل جملة على حيالها.، بحسب التركيب.
والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب.
والأول أقرب تناولا وأسهل ذوقا؛ فإن كل من سمع القرآن من ذكي وغبي يهتز لمعانيه، ويحصل له عند سماعه روعة بنشاط، ورهبة مع انبساط، لا تحصل عند سماع غيره، ولكلما دقق النظر في المعنى عظم عنده موقع الإعجاز، ثم إذا عبر الفطن من ذلك إلى تأمل ربط كل جملة بما تلته وما تلاها خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متباينة المقاصد؛ فظن أنّها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما كان حصل له بالسماع من الهز والبسط، فربما شككه ذلك، وتزلزل إيمانه، وزحزح إيقانه.(3/95)
وربما وقف كثير من أذكياء المخالفين عن الدخول في هذا الدين، بعدما وضحت إليه دلائله، وبرزت له من جمالها دقائقه وجلائله لحكمة أرادها منزله، وأحكمها بجمله ومفصله، فإذا استعان الله، وأدام الطرق لباب الفرج بإنعام التأمل وإظهار العجز، والوثوق بأنّه في الذروة من إحكام الربط، كما في الأوج من حسن المعنى واللفظ، لكونه من جلّ عن شوائب النقص، وحاز صفات الكمال إيمانا بالغيب، وتصديقا بالرب، قائلا ما قال الراسخون في العلم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، فانفتح له ذلك الباب ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار، رقص الفكر فيه طربا، وسكر والله استغرابا وعجبا، وطاش لعظمة ذلك جنانه، فرسخ من غير ريبة إيمانه، ورأى أن المقصود بالترتيب معان جليلة الوصف بديعة الرصف، عليَّة الأمر، عظيمة القدر، مباعدة لمعاني الكلام على أنّها منها أخذت، فسبحان من أنزله وأحكمه وفصله، وغطّاه وجلاّه، وبينه غاية البيان وأخفاه، وبذلك أيضا يوقف على الحق من معاني آيات حار فيها المفسرون لتضييع هذا الباب من غير ارتياب… وبه تتبين لك أسرار القصص المكررات، وأنّ كل سورة أعيدت فيها قصة فلمعنى أدعى في تلك السورة استدل عليه بتلك القصة غير المعنى الذي سيقت له في السورة الثانية السابقة، ومن هنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم، والإيجاز والتطويل، مع أنّه لا يخالف شيء من ذلك أصل المعنى الذي تكونت به القصة، وعلى قدر غموض تلك المناسبات يكون وضوحها بعد انكشافها".
أول من تكلم بالمناسبة:(3/96)
قال الشيخ أبو الحسن الشهراباني: "أول من أظهر علم المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري [5] ، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه الآية؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة".
من أفرده بالتصنيف:
لقد أفرده بالتصنيف الأستاذ أبو جعفر بن الزبير [6] شيخ الشيخ أبي حيان في كتاب سماه: (البرهان في مناسبة ترتيب القرآن) ، والشيخ برهان الدين البقاعي في كتابه: (نظم الدرر في تناسب الآي والسور) [7] ، والسيوطي في كتابه: (أسرار التنزيل) ، و (تناسق الدرر في تناسب السور) ، و (مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع) ، وأبو الفضل عبد الله محمد الصديق الغماري في كتابه: (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) ، وللمولوي أشرف علي التهانوي كتاب أسماه: (سبق الغايات في نسق الآيات) ، وللمعلم عبد الحميد الفراهي كتاب أسماه: (دلائل النظام) ، وإن كان النظام عنده أعم من المناسبة كما سيأتي.
من عرض له من المفسرين:
ممن اعتنى بالمناسبة من المفسرين الإمام الرباني ابو الحسن علي بن أحمد بن الحسن البخيبي اليمني الحرّالي، نزيل حماة من بلاد الشام في تفسيره الذي يقول فيه البقاعي:"… فرأيته عديم النظير، وقد ذكر فيه المناسبات، وقد ذكرت ما أعجبني منها وعزوته إليه".
وابن النقيب الحنفي في تفسيره، وهو في نحو ستين مجلدا، يذكر فيه المناسبات بالنسبة إلى الآيات لا جملها وإلى القصص لا جميع آياتها.
والفخر الرازي في كتابه: (التفسير الكبير) ، وأبو السعود في تفسيره، والمراغي في تفسيره، والزمخشري في الكشاف، والسيد رشيد رضا في تفسير المنار، والمخدوم المهايمي الهندي في تفسيره: (تبصير الرحمن وتيسير المنان) ، وسيد قطب في كتابه: (في ظلال القرآن) .(3/97)
وممن عرض له من الكتاب الدكتور محمد عبد دراز في كتابه: (النبأ العظيم) ، والمعلم الفراهي [8] في كتابه: (فاتحة نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان) ، (ودلائل النظام) ، هذا بالإضافة إلى ما كتبه الزركشي في (البرهان) ، والسيوطي في (الإتقان) ، وإن كان ما قاله السيوطي لا يختلف كثيرا عما قاله الزركشي.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع مقدمة تفسير البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآي والسور.
[2] انظر الإتقان للسيوطي ص108، من الجزء الثاني.
[3] انظر الجواهر البيان في تناسب سور القرآن للغماري: ص14،16.
[4] توهم عبارة الزركشي أن علم المناسبة هو الذي يجعل أجزاء الكلام بعضها آخذ بأعناق بعض، في حين أن الارتباط قائم وموجود في الأصل، ولكن علم المناسبة هو الذي يكشف هذا الارتباط ويميط عنه اللثام فيبدو بعد أن كان خافيا.
[5] هو أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري الفقيه الشافعي الحافظ، رحل في طلب العلم إلى العراق والشام، ومصر وقرأ على المزني، ثم سكن بغداد، وصار إماما للشافعية بالعراق, وتوفي عام 324هـ، انظر: اللباب:2/252، طبقات القراء:1/449، شذرات الذهب:2/302.
[6] هو أبو جعفر أحمد بن إبراهيم الزبير الأندلسي النحوي الحافظ صاحب كتاب: الذيل على الصلة، توفي عام807 هـ، انظر ترجمته في الدرر الكامنة:1/84ـ86.
[7] مخطوط بدار الكتب المصرية ومنه نسخة مصورة بالمكتبة الأزهرية.
[8] هو حميد الدين ابن أحمد عبد الحميد الأنصاري الفراهي ولد رحمه الله 1280هـ في قرية فريها من قرى مديرية أعظم كره في الهند، له مؤلفات كثيرة في علوم القرآن وهو صاحب التفسير: نظام القرآن، ودلائل النظام، والتكميل في أصول التأويل، ومفردات القرآن، وجمهرة البلاغة، وغيرها توفي عام 1349هـ.(3/98)
لمحات تاريخية من حياة شيخ الإسلام ابن تيميّة
بقلم: الطالب صالح بن سعيد بن هلابي
لم يكن ابن تيمية العالم المجتهد في علوم الشريعة وفروعها أو الناقد اللاذع لخصومه من المخالفين له في العقيدة أو المحدث البارع في علوم الحديث ومعرفة طبقات الرجال، ولم يكن ذو عقلية جبارة عظيمة حتى وصل به الحد أن ينال من كبار الفلاسفة والمناطقة وبيان أخطائهم وهفواتهم في علومهم التي أدخلوها في علوم الشريعة، لم يكن كل هذا فحسب وإنما كان أيضا مع هذا كله قائدا عسكريا عظيما وسياسيا محنكا نابغا، فقد كتب الرسائل العديدة في السياسة الإسلامية من أهمها رسالة السياسة الشرعية بين الراعي والرعية ورسالة الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية وفتاوى أخرى لا تحصى مما حدا بالمستشرق الفرنسي هنري لا وست أن يجمع آراءه في السياسة الاجتماعية وأن يجعلها موضوعا لإحدى الرسالتين اللتين تحصل بهما على الدكتوراه من باريس كما أشرت إلى ذلك في الحلقة الأولى من هذه المجلة الغراء في العدد الرابع من السنة الأولى.
ابن تيمية وعهد التتار:(3/99)
واجهت العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري هزة عنيفة وكارثة يندر نظيرها في تاريخ العالم كله منذ أن خلق الله الدنيا بكاملها - اللهم إلا ما كان من الحرب العالمية الأولى والثانية التي ذهب الملايين فيهما - ألا وهي هجوم التتار على العالم الإسلامي حيث كان بلاء عظيما ومحنة لا تقاس بأي محنة عادية تمر على المسلمين مر الكرام, فقد بدأ هؤلاء الوحوش في بخارى ودمروها ثم توجهوا إلى سمرقند وأبادوها ثم على قزوين ومرو ونيسابور حتى وصلت جيوشهم بغداد وهناك قامت المذابح ودمرت المدن بكاملها واستمر القتل بضعا وثلاثين يوما حتى تعفنت الشوارع من الجثث المرمية فيها ولا يستطيع القلم أن يصف في هذه العجالة ما جرى من محن وبلاء ويكفينا أن نقتطف كلمة المؤرخ الإسلامي الشهير ابن الأثير المتوفى 630هـ حيث كتب لنا عن تلك الحوادث المروعة وقلبه يتفطر ألما وحسرة ولا يجري القلم بما يكن في الصدر.(3/100)
يقول ابن الأثير [1] : " لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فياليت أمي لم تلدني وياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا - إلى أن قال - وهذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها وعمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ أن خلق الله تعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون"إلى آخر ما كتبه رحمه الله بكل حسرة وندامة [2] .
التتار على أبواب الشام:
ما أن وصلت أنباء التتار بأنهم زاحفون على بلاد الشام وأنهم يريدونها حتى بدا الخوف والذعر في البلاد وبدأ الناس يرحلون من الشام إلى مصر وإلى الحصون المنيعة خارج الشام يحملون أطفالهم ونساءهم ويبيعون أمتعتهم وملابسهم بأرخص الأثمان، وأخذوا يشترون الحمير والبغال لكي يرحلوا عليها حتى وصل قيمة البغل والجمل الواحد ألف درهم وانتشرت الفوضى والاضطرابات فكسرت الدكاكين ونهبت أموال الناس وهرب المساجين من السجون وخرج كبار أعيان البلد ونوابها وبعض من علمائها وأخذ كل ينجو بنفسه وبأهله من هذا البلاء المقبل على الأمة حتى أصبح لا يتكامل الصف الواحد في يوم الجمعة في المسجد الجامع الذي كان يغص بالمصلين، هذه بعض روايات الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية والذي عاصر هذه الحوادث بنفسه وهو عالم الشام وشيخها وتلميذ ابن تيمية.(3/101)
وإذا أردنا أن نتعرف على هؤلاء الوحوش من هم؟ وما هي ديانتهم؟ حتى تعطى لنا صورة واضحة عن اتجاهاتهم.
إنهم من جهة الصين بلى الله بهم الأمة في فترة من الزمن، أما ديانتهم فهم وثنيون، يقول ابن الأثير: " وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئا يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال فإذا جاء الولد لا يعرف ".
ولعل الشيوعية ترجع إلى أصلهم إلا أن أولئك كانوا وثنيين والشيوعية لا تعترف بوجود الله مطلقا، ولكن نرى أن التتار أسلموا فيما بعد كما سيأتي.
موقف ابن تيمية من الاضطرابات:
رأى ابن تيمية تلك الاضطرابات والنهب والسلب في البلاد فوقف وقوف الجبال الراسيات فلم يفر أو يخرج من البلد كما فعل غيره لأن له قلبا يحول بينه وبين الفرار وله شعور يمنعه من أن يترك العامة من غير مواس وله دين يردعه من أن يترك أمور الناس فوضى لا حاكم لها، وهو هو في علمه ودينه وعظمته أحس ابن تيمية بهذه المحنة فجمع أعيان البلاد الذين لم يفروا بعد، ورد عليهم أمورهم وثبتهم وأخذ يتلو عليهم آيات القرآن الكريم الواردة في الجهاد وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتفق معهم على ضبط الأمور وأن يذهب على راس وفد منهم يخاطبون ملك التتار في الامتناع عن الدخول إلى دمشق.
ابن تيمية في مقابلة ملك التتار:
ذهب الشيخ ابن تيمية مع الوفد الشامي وكان رئيسا للوفد إلى مقابلة (قازان) ملك التتار وقائدهم.(3/102)
يقول ابن كثير: " وقد كسا الله الشيخ حلة من المهابة والإيمان والتقى ولقد قال أحد الذين شاهدوا اللقاء، كنت حاضرا مع الشيخ فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل ويرفع صوته ويقرب منه.. والسلطان مع ذلك مقبل عليه مصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه؛ وإن السلطان من شدة ما أوقع الله في قلبه من الهيبة والمحبة سأل من هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله ولا أثبت قلبا منه ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل ".
ومما خاطبه به في هذه المقابلة وعن طريق الترجمان: " قل لقازان أنت تزعم أنك مسلم [3] ، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت ثم خرج بعد هذا القول من عنده معززا مكرما ".
ويقول صاحب كتاب: القول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي عن هذه المقابلة: " إنهم لما حضروا مجلس قازان قدم لهم الطعام فأكل منه الجميع إلا ابن تيمية فقيل له لماذا لا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامك وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس.. وطلب منه قازان الدعاء له فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فأن تفعل به وتصنع "، فكان يدعو وقازان يؤمن على دعائه.
يقول الراوي: حين أخذ ابن تيمية يدعو بدأنا نجمع ثيابنا خوفا من أن يقتل في المجلس ويطرطس دمه في ثيابنا؛ فخرجنا من عنده وقلنا له: كدت أن تهلكنا معك، ثم اختلفوا في ما بينهم فسلكوا طريقا وهو مع جماعة سلكوا طريقا آخر، فما أن وصل إلى الشام إلا وهو محفوف بنحو ثلاثمائة فارس استقبلوه في أثناء الطريق وشكروه على مساعيه الحميدة التي قام بها.(3/103)
ليت شعري هل تعود هذه العظمة والصولة والجولة في العالم الإسلامي لعلماء الإسلام اليوم أم إلى اندثار ومسخ وتشويه، والجواب بسيط أقول: لو وجد معشار من يقوم بعمل ابن تيمية من الإخلاص في القول والعمل لصنع المعجزات في تاريخنا اليوم هذا الذي أبى أن يأكل على مائدة هذا الطاغية الجبار وأخذ يدعو عليه فكيف بمن يحيك الفتاوى للظلمة الفجرة بديك رومي وبضع دجاجات يأكلها على حساب الإسلام؛ فهل يستطيع أن يغير شيئا في مجرى التاريخ؟ كلا وألف كلا.
نتائج هذه المقابلة:
أنتجت هذه المقابلة خيرا لأهل الشام وإن كانت محدودة حيث أمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعلن الأمان بمنشور عام في البلد وسكنت النفوس واطمأنت الأحوال وبعد أيام من هذه المحنة بدأ العبث من الجند خارج المدينة وحاول بعض الذين مالؤا التتار تسليم القلعة إلى جيوش التتار فأرسل في الحال ابن تيمية إلى قواد القلعة قائل: " لا تسلموا القلعة وقاتلوا دونها ولو إلى آخر حجارة فيها وإلى آخر قطرة منكم "، وكان يدور على الجنود بنفسه خارج المدينة وربما بات معهم الليالي يتلو عليهم آيات الجهاد في سبيل الله، ومن هنا ندرك شخصية هذا الإمام الجليل وأنه لم تكن صلته بعوام الناس في دروس الوعظ والإرشاد وإثارة روح الجهاد في نفوسهم بل كانت صلته وثيقة بكبار القواد في الجيش كما كانت مع الأمراء والنواب كما ستعرف ذلك قريبا.
نظر ابن تيمية في واقع الجيوش الجرارة من جيوش التتار وأنه لا مفر لهم من القتال فوالى الاجتماعات وعقد المجالس المتتالية للعامة والخاصة وأخذ يحرض على القتال ويتلو آيات الجهاد والأحاديث الواردة في ذلك وكان يتأول قوله تعالى: {ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} ، وكان يقسم بالله عزوجل: " إنكم لمنصورون على هؤلاء "، فيقول له بعض الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: أقولها تحقيقا لا تعليقا.(3/104)
وأخذ يراسل الملوك والسلاطين والأمراء في كل ناحية، وخاصة السلطان الناصر بن قلاوون سلطان مصر ورغب الناس في الإنفاق في سبيل الله.
بعد هذه المجالس المتتالية أعلن إعلان عام أن لا يسافر ولا يخرج من البلد أحد إلا بمرسوم خاص.
ابن تيمية يسافر إلى مصر:
طلب الأمراء ونائب السلطنة بالشام من ابن تيمية أن يسافر إلى مصر بنفسه ليستحث السلطان على المجيء ليحضر بنفسه ويدرك ما عليه الناس من الخوف والذل والرعب، فوافق ابن تيمية على السفر إلى السلطان وما أن وصل إلى مصر حتى وجد السلطان قد دخل القاهرة وتفرقت جيوشه وعساكره بعد أن سمع الناس أنه خارج إلى الشام لملاقاة التتار فاجتمع به ابن تيمية وحثه على عودة الجيش وصرخ في وجهه قائلا: " إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن.. إلى أن قال: لو قدر أنكم لستم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم" [4] ، ثم حث الأمراء والسلطان بالخروج بالجيش إلى ملاقاة العدو.
رجع ابن تيمية إلى الشام، ويقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه ابن تيمية عند هذه النقطة في وصف محنة أهل الشام: " وأتاهم الأمن من ثلاث نواح فابن تيمية قد عاد إليهم وهو أمنهم وملاذهم وتأكدوا إقبال جند السلطان ثم تأكد لديهم أمر آخر وهو أن التتار قد عادوا من عامهم هذا لما أحسوا بأن خصومهم قد أعدوا العدة وأخذوا الأهبة ولا حظوا ضعفا في أنفسهم ولم يتقدموا وهو على هذا الضعف ".(3/105)
فإذن لم يحصل قتال في هذه السنة وعاد ابن تيمية إلى دروسه ومجالسه العلمية وهو لم يفارقها إلا بالقدر الذي يضطر إليه في مقابلات الملوك والأمراء والسلاطين ومخاطبة القواد والاتصال بالجنود على جبهات القتال، ونرى ابن تيمية في هذه الفترة وقد صار مبسوط اليد والسلطان نراه يقيم الحدود ويحارب الرذائل ويقوم الأخلاق في الأمة؛ يقول الحافظ ابن كثير: " دار الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ففرح الناس بذلك فرحا شديدا " [5] .
ابن تيمة في الميدان:
جاء التتار بجمعهم وجموعهم إلى الشام سنة 702هـ وأحاطوا بدمشق من كل مكان وأرجف المرجفون وبلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالا شديدا، وتحالف العلماء والقضاة والأمراء في هذه المرة وابن تيمية على رأس الجميع يثبت القلوب ويعدهم بالنصر وكان يتأول قوله تعالى: {ومن بغى عليه لينصرنه الله} ، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنكم لمنصورون فيقول له بعض الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: أقولها تحقيقا لا تعليقا، وأفتى الناس بالفطر إذ كانت هذه وقعة "شقحب " في رمضان وتردد بعض الجند في قتال هؤلاء لأنهم يزعمون أنهم مسلون فأفتاهم ابن تيمية وبين حكم الإسلام فيهم وأنهم من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية حتى كان يقول هم: " إذا رأيتموني وأنا في ذلك الجانب - أي معهم - وعلى رأسي المصحف فاقتلوني"، وكان يدور على الجند والأمراء في الميدان فيأكل أمامهم ليبين لهم أنه مفطر ويروي لهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عام الفتح: " إنكم ملاقوا العدو غدا والفطر أقوى لكم "،.
وطلب منه السلطان قبيل المعركة أن يقف معه وتحت راية مصر فأبى قائلا: " السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم " [6] .(3/106)
بدأت المعركة والتحم القتال بين الفريقين ودارت رحى الحرب ومضى يوم كامل وهم في معركة دائرة حتى غطاهم الليل بسواده وهربت جيوش التتار واعتصمت بالجبال وبعد أن ظلت سيوف المسلمين تنوشهم من كل مكان وحاصرهم حصارا شديدا فقتلوا منهم أمما لا يحصى عددهم إلا الله تعالى.
وهكذا رأت جيوش التتار الهزيمة المنكرة ولأول مرة في تاريخها الطويل وحروبها المدمرة، حين وقف في وجهها أمثال الإمام العظيم ابن تيمية؛ والواقع أن ابن تيمية لم ينقذ الشام أو مصر فحسب من شرور هؤلاء، ولكن أنقذ العرب والإنسانية بكاملها حيث كانوا مخاف الشرق والغرب.
وقد كانت غاراتهم أشبه بهزات عنيفة تغير وجه الأرض.
يقول جيبون المؤرخ الغربي في تصوير هول الغارات التي يشنونها: " إن بعض سكان السويد قد سمعوا عن طريق روسيا نبأ ذلك الطوفان المغولي فلم يستطيعوا أن يخرجوا كعادتهم إلى الصيد في سواحل أنجلترا خوفا من المغول" [7] .
هذه لمحات خاطفة عن هذا الإمام الجليل والقائد العظيم الذي أنقذ به العالم الإسلامي كله بل والغرب كله كما رأينا من نص جيبون ولا يسع المجال لسرد كل ما قيل في هذا الباب:
هذا هو ابن تيمية الذي آمن بوعد ربه والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} ، وهو القائل عز شأنه: {كان حقا علينا نصر المؤمنين} .
هذا هو ابن تيمية الذي لا زال في كثير من الأوساط العلمية مظلوما مبغوضا لا يعرف له قدره ولا جهاده العظيم المتواصل، وإني أسأل الله أن يهيء لهذه الأمة في فترتها العصيبة من أمثال ابن تيمية لينقذوا العالم الإسلامي الذي وقع تحت أيدي الصهيونية والشيوعية الملحدة والصليبية الحاقدة واليهودية المجرمة من بلاد الإسلام والمسلمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا.(3/107)
--------------------------------------------------------------------------------
[1]ـ في كتابه الكامل ج12.
[2]ـ انظر تفاصيل هذه الحوادث في تاريخ الكامل لابن الأثير ج12 والبداية والنهاية لابن كثيرج13 ص300، ودائرة المعارف للبستاني6ص51 مادة (تتر)
[3]ـ هو رابع ملك مسلم من ملوك التتار وقد توفي سنة703هـ.
[4]ـ البداية والنهاية: ج14ص15.
[5]ـ البداية والنهاية: ج14ص11
[6]ـ البداية والنهاية: ج14ص26.
[7]ـ ابن تيمية للشيخ عبد العزيز المراغي.(3/108)
إنا لله وإنا إليه راجعون
في العشر الأواخر من رمضان سنة 1389 هـ انتقل إلى رحمته تعالى سماحة المفتي الأكبر للديار السعودية ورئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
والمجلة إذ تقدم عزاءها إلى أبنائه وذويه وإلى نائب رئيس الجامعة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز وإلى جميع أعضاء الجامعة أساتذة وموظفين وطلابا وإلى العالم الإسلامي.. نسأل الله عزوجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ومغفرته ويجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والجدير بالذكر أن سماحة الفقيد كان يشغل إلى جانب ما ذكر منصب رئاسة القضاة بالمملكة ورئاسة الرابطة للمعاهد والكليات ورئاسة الرابطة الإسلامية بمكة المكرمة.
المجلة(3/109)
مع الصحافة
ظهر الآن سر التآمر على الخلافة الإسلامية
(نشرت جريدة الميثاق التي تصدرها رابطة علماء المغرب في العدد 94 من سنتها السابعة المقال التالي:
نعم ظهر السر في تآمر الدول الغربية بالأمس القريب على الخلافة الإسلامية حتى أطاحوا بها على يد ثلة من ربائبهم وصنائعهم ممن زعموا أنهم رواد البعث الإسلامي أو العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وشوهوا سمعتها وألحقوا بعدها كل وصمة من الرجعية والتأخر، وجعلوا الجالس على عرشها باستحقاق عبد الحميد الثاني مثال الرعونة والاستبداد، ثم خلعوه فلم يستقم لها أمر بعده.
فها هو البابا يصول ويجول، ويتدخل في القضايا السياسية الكبرى، لصالح المسيحية طبعا، ويسافر إلى إفريقيا متفقدا رعاياه، متقبلا فروض الطاعة من الرؤساء المسيحيين الذين فرض بعضهم فرضا على دول إسلامية مئة في المئة تقريبا مركزا عمله على الإقليم النيجيري المنفصل عن أم الوطن بمؤامرة مسيحية مكشوفة، وهذا يعني أن المسيحية ومستقبلها في القارة السمراء لها من يرعاها ويتعدها سواء من الناحية المادية أو المعنوية في حين أن الديانة الأخرى وهي الإسلام الذي يعتنقه أكثر من ثلثي سكان إفريقيا لا تجد من يهتم بها أو يحميها من مؤامرات الصليبيين الجدد وحلفائهم الاستعماريين.
إن هذا الفراغ في العالم الإسلامي هو ما سعى إليه من كانوا يسمون في مطلع هذا القرن بالشبان الترك ومن حذا حذوهم من المغفلين العرب المسلمين الذين فتلوا في الذروة والغرب من حيث لا يشعرون لتحقيق أمل الغرب المسيحي في القضاء على خلافة الإسلام وتفريق كلمة المسلمين وتقسيمهم إلى دويلات وشعوب متباينة متقاطعة حتى صاروا إلى ما نراهم عليه الآن من تشتت وتفتت وتمزق، وما يتبع ذلك من ضعف وذل وهوان.(3/110)
ولقد قلنا مرارا أن القارة الوحيدة التي يجب أن تكون إسلامية هي قارتنا الإفريقية، نادينا بذلك في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي وبينا الأخطار التي تتهدد الإسلام فيها بتولية قيادة منظمة الوحدة الإفريقية إلى رئيس غير مسلم، وكتبنا في ذلك المقالات المتعددة وتحدثنا به في غير ما مؤتمر، وهاهو ذلك الخطر يكشف عن وجهه، وهاهو ذا الإسلام غريب في داره، يتيم بين أهله وذويه، لا يجد من يهتم به ولا من يدافع عنه.
ولو كانت دولة الخلافة الإسلامية قائمة لساندت النيجيريين الاتحاديين ولارتفع صوت الإسلام باستنكار المؤامرات المسيحية ضد وحدة التراب النيجيري، تلك المؤامرات التي يشترك في تدبيرها حتى الصليب الأحمر الذي يعتبر منظمة إنسانية حيادية، ومن واجبه أن يبقى كذلك، ويبلغ الأمر إلى أن ينتقل الكرسي الرسولي - كما يسمونه - إلى عين المكان ليبارك المساعي التي تبذل من أجل تعزيز الانفصاليين البيافريين، وإن تظاهر بالدعوة إلى السلام ومحاولة التوفيق بين المسيحية والإسلام, لكن من غير أن يكون هناك طرف وزعامته الروحية المسيحية.
فهل تكون في هذا عبرة للرؤساء والقادة المسلمين الذين جعلوا قضية الإسلام دبر آذانهم، فليراجعوا موقفهم ويعلموا أن سياستهم هذه منبوذة من شعوبهم ولا يرضى عنها أيضا حتى الكمشة من المسيحيين غير المخلصين لأوطانهم من شعوبهم، لأن هذه الكمشة لا تريد أن يعود الحكم المسيحي الاستعماري لبلاد الإسلام والبلاد العربية خاصة.
إننا نهيب بالدول الإسلامية إلى أن تعلن تأييدها للقضايا الإسلامية والدين لا بأي اسم آخر وليتقدم إلى ذلك من عنده بقية من إيمان ولا عليه فيمن خالفه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .(3/111)
من تاريخ المذاهب الهدامة
كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (3)
بقلم محمد بن مالك اليماني
باب ذكر علي بن فضل الجدني لعنه الله:
من ذرية جدن و (الأجدون) من سبأ صهيب وأصله من جيشان [1] ، وكان في أوله ينتحل الإثني عشرية فخرج للحج ثم زار [2] ، قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم مضى إلى الكوفة لزيادة قبر الحسين بن علي - رضي الله عنه - فلما وصل إلى الكوفة وزار قبر الحسين - رضي الله عنه - بكى على القبر بكاء شديدا وجعل ينوح ويقول بأبي أنت يا ابن الزهراء المضرح بالدماء الممنوع من شرب الماء وكان ميمون القداح على القبر وولده عبيد فلما بصرا به سرهما وطمعا به وعلما أنه ممن يميل إليهما ويدخل في ناموسهما فقال: ميمون أيها الشاب ما كنت تفعل لو رأيت صاحب هذا القبر؟ قال: إذا والله أضع له خدي وأجاهد بين يديه حتى أموت شهيدا، فقال ميمون: أتظن أن الله قطع هذا الأمر؟ قال له علي بن فضل: لا ولكن لا اعلم ذلك فهل عندك منه خبر أيها الشيخ؟ فقال أخبرك به إن شاء الله عند الإمكان ثم قام ميمون فتعلق به؛ قال ميمون: تقف بهذا المسجد إلى غد، فوقف أياما فلم ير له خبرا، فودع أصحابه وقال لهم: أما أنا فلا أبرح هاهنا حتى أتنجز وعدا قد وعدته، فأخذ له من المؤونة ما يكفيه فوق أربعين يوما وميمون وولده يرمقانه من حيث لا يعلم بهما، فلما رأى ميمون صبره أعجبه، وعلم أنه لا يخالفه في شيء من دعوته والميل إلى كفره وضلالته؛ فأتاه عبيد فوثب إليه فاعتنقه، وقال: سبحان الله يا سيدي وعدني الشيخ وعدا فأخلفني فقال: لم يخلفك، وإنما قال: أنا آتيك غدا إن شاء الله، وله في هذا مخرج على ضميره، ثم جلسا وجرى بينهما الكلام، وقال له: يا أخي اعلم أن ذلك الشيخ أبي وقد سره ما رأى من صبرك وعلو همتك وهو يبلغك محبوبك إن شاء الله، ثم أخذه بيده فأوصله إلى الشيخ؛ فلما رآه قال: الحمد لله الذي رزقني رجلا(3/112)
نحريرا مثلك استعين به على أمري وأكشف له مكنون سري، ثم كشف له أمر مذهبه لعنهما الله؛ فأصغى إليه واشرأب قلبه وتلقى كلامه بالقبول، وقال له علي: والله إن الفرصة ممكنة في اليمن، وإن الذي تدعو إليه جائز هناك وناموسنا يمشي عليهم وذلك لما أعرف فيهم من ضعف الأحلام وتشتيت الرأي وقلة المعرفة بأحكام الشريعة المحمدية، فقال له ميمون: أنا موجهك إلى المنصور الحسن بن زاذان، وكان ينسب إلى ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكان أبوه ممن ينتحل مذهب الشيعة الإثنى عشرية، وكان من أهل الضلالة، وكان من أهل الكوفة، فلما دخل ميمون الكوفة وظفر بالحسن بن زاذان علم أنه مسعود وأنه ينال ملكا وشرفا، وذلك من طريق معرفته بالنجوم والفلسفة، فجعل ميمون يلطف به ويرفق فيكشف له مذاهب الفلسفة ومقالهم، فلم يزل به حتى قبل منه وركن إلى قوله، وما زال به حتى مال إلى معتقده وصار من دعاته الذين يدعون إليه وإلى ولده.
فعند ذلك قال ميمون: يا أبا القاسم إن الدين يماني والحكمة يمانية وكل أمر يكون مبدأه من قبل اليمن فإنه يكون ثابتا ثبوت نجم النجم، وذلك أن إقليم اليمن أعلى أقاليم الدنيا، ولابد من خروجك إلى هنالك أنت وأخوك علي بن فضل اليماني فسيكون لكما شأن وملك وسلطان في اليمن، فكونا على أهبة.
فقال له: الأمر إليك يا سيدي، قال المنصور، فكنت أنا وعلي بن فضل وعبيد لا نزال نكثر المذاكرة في مجلس الشيخ، وكان يقول عند تمام الوقت ومضى ستة أدوار من الهجرة المحمدية أبعثكما إلى اليمن تدعوان إلى ولدي هذا فسيكون له ولذريته عز وسلطان.(3/113)
وأخذ عليّ وعلى علي بن فضل العهود والمواثيق لولده، فلما كان أوان خروجنا، قال لنا ميمون: هذا هو الوقت الذي كنا ننتظره، فاخرجا في هذا الموسم ثم وجهنا بالحج وعهد إلينا، ثم خلا بي وأوصاني بالاستتار حتى أبلغ مرادي، وقال لي الله الله بصاحبك فاحفظه وأكرمه بجهدك، ومره بحسن السيرة في أمره فإنه شاب ولا آمن نبوته، وخلا بعلي بن فضل وقال: الله بصاحبك وقره واعرف له حقه ولا تخالفه فيما يراه لك إنه اعرف منك، وإنك إن خالفته لم ترشد.
قال المنصور فلما صرت في بعض الطريق لحقني كمد عظيم لحال الغربة وإذا بحاد يقول:
يا أيها الحادي المليح الزجر
نشر مطاياك بضوء الفجر
تدرك ما أملته من أمر
قال: فلما سمعت ذلك سررت به واستبشرت فوصلت مكة مع الحاج وذلك في أيام محمد بن يعفر الحوالي [3] ، ثم أقبلنا نسأل عن أخبار اليمن، فقيل لنا: إن الأمير محمد بن يعفر رد المظالم واعتزل عن الناس ورجع إلى التنسك والعبادة، فقلنا: ولم فعل ذلك؟
فقيل لنا: إنه قيل له أن في هذه السنة يخرج عليه خارجي فيكون زوال أمره على يديه، ويقال إنه رد في يوم واحد ألف دينار، وكان في بني حوال رجل يقال له إبراهيم فقال:
يا ذا حوال يا مصابيح الأفق
تداركوا عزكم لا ينفتق
فتطلبون رتق مالا يرتتق
فأيكم قام بها فقد سبق
فقام ولد محمد بن جعفر.
قال محمد بن مالك الحمادي رحمه الله:
فلما خرج علي بن فضل مع الحاج هو والمنصور وصارا في (غلافقة) [4] ، افترقا وقال كل واحد منهما لصاحبه: أعلمني بأمرك وما يكون منك فوصل المنصور إلى (الجند) [5] ، وصاحب الأمر علي بن فضل إلى ناحية (جيشان) .(3/114)
فأما يومئذ جعفر بن إبراهيم المناخي وخرج المنصور فإن ميمونا كان قال له: لا يظهر أمرك إلا من موضع يقال له: (عدن لاعة) [6] ، فإنه أقوى لأمرك وأمضى لناموسك، وإنما دله على ذلك الفلسفة وعرف ما سطره في كتبهم من تسمية الأقاليم والبلدان وتقويم الكواكب السبعة، فلما صار المنصور إلى الجند سأل عن (عدن لاعة) ؟ فقالوا: لانعرف إلا (عدن أبين) [7] ، بتجارة تصلح لعدن كما يفعل التجار، فأقام أياما فيها يسأل عن (عدن لاعة) مدة بقائه هنالك فبصر به شيخ من تجار عدن فأنكره فسأله عن حاله؟ فقال: أنا رجل من أهل العراق وكنت حاجا في هذه السنة، قال: فهل عندك خبر؟ فقال: لست صاحب أخبار وعما تريد أن أخبرك عنه؟ قال له العدني: هل حدثت في الشام أحداث؟ فقال: لا علم لي بشيء، فلم يزل به حتى أعلمه ما في ضميره، فعاهده المنصور على كتمان سره، وسأله عن (عدن لاعة) ؟ فقال: هي معروفة ولا يزال أهلها من التجار يصلون إلينا وأنا أعلمك بهم إذا وصلوا.
يقال: إن هذا العدني جد بني الوزان فاسدي المذهب، وبنوا الوزان إلى اليوم رفضة شيع.(3/115)
فلما وصل التجار من (عدن لاعة) ، ومن عيان [8] ، فسألهم عن الموضع فأخبروه عنه وأنه في ناحية بلادهم، وهي قرية صغيرة، فمن أعلمك من الناس بها؟، قال: الناس يسمعون بذكر البلدان، فلما عزموا على الرحيل تأهب للخروج معهم وقال: أنا رجل من أهل العلم، وقد رغبت بالخروج معكم إلى بلدكم، ففرحوا به وأكرموه، وقالوا: مرحبا بك نحن أحوج إلى من يبصرنا في أمر ديننا، ونحن نكفيك المئونة، ونحملك؛ فأثنى عليهم وشكرهم وقال: لا حاجة لي فيما عندكم، وإنما أردت وجه الله تعالى، فارتحل معهم فكان يسامرهم ويروي لهم أحسن الأخبار، فأحبوه وأصغوا إليه وإلى قوله؛ فكانوا يحدقون به إكراما له وتبجيلا حتى قدموا (لاعة) ، فادعى الفقه في مذهب السنة والجماعة فتسامع به الناس وأقبلوا إليه من كل ناحية وهو مستعمل الورع وحسن السيرة حتى مالت إليه مخاليف المغرب (لاعة واردان [9] وحجة وعيان وبلدان بياض [10] ) ، فأمرهم بجمع الزكاة عن أموالهم فاستعمل عليهم منهم ثقات وعدولا يقبضون أعشار أموالهم على ما يوجبه الفقه.(3/116)
فأقام سنتين بعد قتل (محمد بن يعفر) ، واختلاف بني حوال فيما بينهم، فقال لهم: قد رأيت أن تبنوا موضعا منيعا يكون لبيت مال المسلمين، فعزموا على ذلك ولم يخالفوه فيما أمرهم به فأجمعوا على بناء موضع يقال له: (عبر محرم) ، وهو جبل تحت مسور وهو موضع بني العرجي قوم من سلاطين المغرب همدان، فلما بنى الجبل وحصنه حمل إليه كل ما يحتاج إليه بعد أن ساعده إلى إرادته خمسمائة رجل، وأخذ عليهم العهود والمواثيق، ثم إنه بعد ذلك ارتكب الحصن هو وأصحابه ونقلوا حريمهم وأموالهم بعد أن أخرج الحوالي عسكرا في جنح الليل إلى موضع كانوا فيه يقال له: (الحيفة) في ناحية (لاعة) فقتل من أصحاب المنصور اثنى عشر وارتكب الجبل (عبر محرم) بمعاملة لبني العرجي، وأنكر الناس أمره وأضرموا النار لحربه؛ فكتب إليهم أني ما طلعت هذا الجبل إلا لأحصن به نفسي من السلطان، فلم يقبلوا منه وجاسوا إليه فقاتلوه فهزمهم وقتل منهم بشرا كثيرا, فعظم حينئذ شأنه وشاع إلى جميع العشائر ذكره، وبلغ الأمير ذلك فكتب إلى جميع العشائر حوله يحرضهم على قتاله فقاتلوه مرارا وهو ينتصر عليهم.(3/117)
ثم استنجدوا عليه رجلا من سلاطين شارو يقال له: أبو إسماعيل، وبالحوالي صاحب صنعاء فأمدهم بالعساكر الكثيرة فهزمهم وقتل منهم قتلا كثيرا فازداد بذلك ذكره وعظم أمره ودخل في طاعته من كان حوله طوعا وكرها واستعمل الطبول والرايات وأظهر مذهبه ودعا إلى عبيد بن ميمون وكان يقول: والله ما أخذت هذا الأمر بمالي ولا بكثرة رجالي وإنما أنا داعي المهدي الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فانهمك إليه عامة الناس ودخلوا في بيعته ثم سمت به همته إلى ارتكاب جبل مسور حصن يقال له: فاير [11] فيه خمسمائة رجل ومأمور للحوالي، فلم يزل الملعون يتلطف حتى عامل مع عشرين رجلا منهم فارتكب الجبل بالليل فأصبح في رأسه وقصد من كان في بيت (فاير) وفتحوا له العشرون الذين عاملوه وقالوا: (ادخلوها بسلام آمنين) ، فقال: المنصور اخرجوا منها فإنا داخلون.
وسأل صاحب الحصن الأمان على نفسه ومن معه فأمنهم، فلما رأى المنصور صاحب الحصن مقبلا نزل عن دابته ومشى إليه واعتنقه فزال عنه الرعب، وقال له: إن معي مالا للسلطان فمن يقبضه، فقال المنصور لعنه الله: لسنا ممن يرغب في مال السلطان وما طلعت هذا الجبل لأخذ أموال الناس، وإنما طلعت لإصلاح الإسلام والمسلمين، خذ مال صاحبك فأده إليه.
فذكروا أنه لعنه الله طلع جبل مسور في ثلاثة آلاف رجل ومعه ثلاثون طبلا، فكانت طبوله إذا ضربت سمعت إلى المواضع البعيدة من المغرب.(3/118)
ثم إنه بعد ذلك حصن الحصن ودربه وبنى فيه دار الإمرة وهو بيت ريب وهو أول من أسسه وجعل فيه من يثق به من أهل مذهبه، ثم بنى بيت ريبة ودرب الجبل من كل ناحية وجعل له بابين، وبنى بيت الريبة قصرا وسماه دار التحية فعند ذلك أحل ما حرم الله وكان يجمع أصحابه في ذلك القصر ونسائهم ويرتكبون الفواحش، وأقام يحارب من حوله من القبائل ويبعث إليهم بالعساكر، فأبادهم وأخذ أموالهم وقتل رجالهم حتى دخلوا في طاعته كارهين ذلك، واستولى على جميع مخاليف المغرب قهرا، واستعمل عليهم رجلا من أهل مذهبه يقال له: أبو الملاحف، فأقام بناحية جبل (تيس) واليا للمنصور، وخرج بنفسه وعساكره إلى بلاد (شارو) فاستفتحها وحاصر صاحبها أبا إسماعيل الشاوري سبعة إلى مسور ثم خرج إلى ناحية (شبام) أشهر حتى استنزله من حصنه ورجع حمير [12] فأقام يحاربهم لمدة طويلة وخرجت عساكره إلى ناحية المصانع من بلدة حمير فاقام هناك في مراكز الحمير فتحموا عليه وقتلوا جماعة من عسكره فانهزموا إلى مسور، فغفل عنهم أياما يسيرة وعامل رجلا يقال له: الحسين بن جراح وكان في الضلع (ضلع شبام) واليا على أن يعضده على شبام ويكون أمرها إليه فعاقده على ذلك وخرج بنفسه وعساكره وقام معه الحسين بن جراح ففتح (شبام الأهجر) فأخرج منها بني حوال وحمل إلى مسور جميع ما غنمه من مسالك بني حوال وأموالهم.
وأقام شهرا، وندم ابن الجراح على ما كان منه في معاملته وخاف على نفسه وحالف رجلا يقال له: ابن كبالة من قواد بني حوال كان واليا على صنعاء؛ فجاش ابن كبالة بقبائل حمير وهمدان وخالف ابن جراح القرمطي فصاروا في وجهه وابن كبالة يقابله على درب شبام، فضاق حال الملعون القرمطي وخرج منهزما بالليل هو وأصحابه إلى مسور فذكرا أنّه ما خرج إلا بنفسه، وترك خيله وأقام في شبام حتى رجع لها القرمطي ثانية، وذلك عند دخول علي بن فضل صنعاء، وأنا أذكر ما كان منهما لعنهما الله.(3/119)
وقد كان المنصور كتب قبل أن يختلف هو وعلي بن فضل إلى ميمون وولده يخبره بما فتح من البلاد، ووجه إليهما بهدايا وطرف من طرف اليمن، وكان ذلك سنة تسعين ومائتين، فلما وصلت هديته إلى القداح وولده سرهما ذلك، وقال لولده: هذه دولتك قد أقبلت.
ثم إن المنصور أقام في مسور إلى أن جرى بينه وبين علي بن فضل الجدني اختلاف ومحاربة، وأنا أشرح ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وكان موت المنصور لعنه الله سنة اثنتين وثلاثمائة، وولي الأمر من بعده عبد الله ابن عباس الشاوري.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] جيشان، والأجدون، وسبأ وصهيب، بلدان في اليمن معروفة إلى اليوم.
[2] لا عجب في قصده القبور للزيارة وهي مخالفة للشرع لأنه باطني زنديق.
[3] بنو يعفر من حمير بقية الملوك التبابعية استبدوا بصنعاء، مقيمين للدعوة العباسية، وكان آخرهم أسعد بن يعفر ثم أخوه محمد، فدخلوا في طاعة بني زياد.
[4] وهي تعرف اليوم بغليفقة بلدة بساحل اليمن كانت من أشهر موانيه.
[5] الجند: مدينة باليمن تبعد عن صنعاء جنوبا بستة أيام، وهي أول موضع ظهرت فيه الدعوة الإسماعيلية باليمن منها قام منصور اليمن، ومنها قام محمد بن الفضل الداعي سنة 340هـ وممن وصل إليها من الدعاة أبو عبد الله الشيعي صاحب الدعوة بالمغرب، وفيها قرأ الصليحي في صباه كما ذكره عمارة.
[6] عدن لاعة: بلدة في غرب صنعاء تبعد عنها مسيرة أيام.
[7] عدن أبين: هي عدن لحج الثغر الطبيعي لليمن.
[8] عيان: بلدة في اليمن بالقرب من عدن لاعة.
[9] لعلها عزان.
[10] بلدان باليمن معروفة إلى اليوم تابعة لقضاء حجة.
[11] حصن من أمنع حصون اليمن إلى يومنا هذا.
[12] شبام حمير: مدينة بأسفل جبل كوكبان وهي غير شبام حضرموت
.(3/120)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
ورد سؤال عن حكم استعمال الأسورة النحاسية، وقد ثبت لها بعض الخصائص لمكافحة مرض (الروماتيزم) .
الذي أرى في هذه المسألة ترك الأسورة المذكورة سداً لذريعة الشرك وحسماً لمادة الفتنة بها والميل إليها وتعلق النفوس بها رغبة في توجيه المسلم بقلبه إلى الله سبحانه ثقة به واعتمادا عليه واكتفاء بالأسباب المشروعة المعلومة إباحتها بلا شك وفيما أباح الله ويسر لعباده غنية عما حرم عليهم وعما اشتبه أمره وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"، وقال عليه الصلاة والسلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، ولا ريب أن تعليق الأسورة المذكورة يشبه ما تفعله الجاهلية في سابق الزمان فهو إما من الأمور المحرمة الشركية أو من وسائلها وأقل ما يقال فيه إنه من المشتبهات فالأولى بالمسلم والأحوط له أن يترفع بنفسه عن ذلك وأن يكتفي بالعلاج الواضح الإباحة البعيد عن الشبهة، هذا ما ظهر لي ولجماعة من المشايخ والمدرسين.
بيان أن الأشياء التي يتقى بها خطر السحر قبل وقوعه والأشياء التي يعالج بها بعد وقوعه من الأمور المباحة شرعا:
أما النوع الأول: وهو الذي يتقى به خطر السحر قبل وقوعه فأهم ذلك وأنفعه هو التحصن بالأذكار الشرعية والدعوات والتعوذات المأثورة.
ومن ذلك قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة مكتوبة بعد الأذكار المشروعة بعد السلام.(3/121)
ومن ذلك قراءتها عند النوم، وآية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم وهي قوله سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .
ومن ذلك قراءة قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس خلف كل صلاة مكتوبة وقراءة السور الثلاث ثلاث مرات في أول النهار وأول الليل.
ومن ذلك قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل وهما قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إلى آخر السورة.
وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح"، وصح عنه أيضا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، والمعنى والله أعلم كفتاه من كل سوء.
ومن ذلك الإكثار من التعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق في الليل والنهار، وعند نزول أي منزل في البناء أو الصحراء أو الجو أو البحر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من نزل منزلا فقال: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك".(3/122)
ومن ذلك أنه يقول المسلم في أول النهار وأول الليل ثلاث مرات: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم"، لصحة الترغيب في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه الأذكار والتعوذات من أعظم الأسباب في اتقاء شر السحر وغيره من الشرور لمن حافظ عليها بصدق وإيمان وثقة بالله واعتماد عليه وانشراح صدر لما دلت عليه، وهي أيضا من أعظم العلاج لإزالة السحر بعد وقوعه مع الإكثار من الضراعة إلى الله وسؤاله سبحانه أن يكشف الضر ويزيل البأس.
ومن الأدعية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك في علاج الأمراض من السحر وغيره وكان - صلى الله عليه وسلم - يرقي بها أصحابه: "اللهم رب الناس اذهب البأس أشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما"، ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي قوله: "بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك", وليكرر ذلك ثلاث مرات.(3/123)
ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضا وهو علاج نافع للرجل إذا حبس عن جماع أهله أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه ويجعلها في إناء يصب عليه من الماء ما يكفيه للغسل ويقرأ فيها: آية الكرسي، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس وآيات السحر التي في سورة الأعراف وهي قوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} ، والآيات التي في سورة يونس وهي قوله سبحانه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ، فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ، والآيات التي في سورة طه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى، قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى، قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اْلأعْلَى، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ، وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب بعض الشيء ويغتسل بالباقي وبذلك يزول الداء إن شاء الله، وإن دعت الحاجة لاستعماله مرتين أو أكثر فلا بأس حتى يزول الداء.(3/124)
ومن علاج السحر أيضا وهو من أنفع علاجه بذل الجهود في معرفة موضع السحر في أرض أو جبل أو غير ذلك فإذا عرف واستخرج وأتلف بطل السحر.
هذا ما تيسر بيانه من الأمور التي يتقى بها السحر ويعالج بها والله ولي التوفيق.
وأما علاجه بعمل السحر الذي هو التقرب إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات لا يجوز لأنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك وفق الله المسلمين للعافية من كل سوء وحفظ عليهم دينهم إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.(3/125)
أين القمر؟
للشيخ حماد بن محمد الأنصاري
المدرس بكلية الشريعة
أقوال السلف تومئ إلى أن القمر وغيره من الكواكب في فلك دون السماء
الحمد لله وكفى، وصلى الله على المصطفى، وبعد:
فعلى إثر الحادثة التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية وبلغت أخبارها أنحاء العالم وهي ما أشيع عن وصول الإنسان إلى سطح القمر، تساءل كثير من الناس عن القمر هل هو مغروز في السماء المبنية أو هو دون السماء؟
وانقسم الناس في ذلك إلى مصدق بهذا النبأ تصديقا كاملا وإلى مكذب به وربما تجاوز في ذلك إلى تفسيق القائلين بالصعود أو تكفيرهم بينما وقف فريق ثالث من أخبار هذه الحادثة موقف التثبت والإستبانة حيث أنه لا يمكنه إعطاء معلومات يقينية على الرحلة إلى القمر ولم يظهر لهم مقتضى النصوص الشرعية في ذلك لوجود ظواهر ألفاظ آيات يحسبونها تقتضي استحالة النزول على القمر ولوجد ما ذكر توقف هؤلاء عن التصديق والتكذيب.(3/126)
هذا وقد قام فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية في هذا المجال بجهد مشكور أبان فضيلته أنه لا يعلم نصا صريحا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يمنع من وصول الإنسان إلى القمر، وما أحب أن أضيف زيادة إلى ما ذكره فضيلته فقد وفى البحث حقه، غير أني سبق أن جمعت في هذا الموضوع بعض النقول عن أئمة الإسلام وعلماء التفسير بمعالجة الموضوع من زاوية غير التي تناولها بالبحث والتحقيق فضيلته، وذلك أن بحثي في خصوص ما قرره علماء التفسير على بعض الآيات القرآنية المتعلقة بالأفلاك مما يبين أن القمر والشمس وغيرهما من الكواكب كل يسبحون دون السماء المبنية، وقد تناوله علماء الإسلام بالبحث فأبدوا فيه وأعادوا مما يدل على اطلاعهم وعمق تفكيرهم، وبعد نظرهم، وأنهم حينما يدرسون النصوص القرآنية يدرسونها ككل، ويحاولون التوفيق بين نصوصها، وأنهم بذلك قد خلفوا لنا ثروة فكرية وعلمية لا يمكن تقديرها، وأن التقصير والإهمال وعدم متابعة البحث كان ممن جاء بعدهم، وهذا هو ما دفعني إلى نشر هذه النقول ليشاركني في العلم بها إخواني من القراء الذين يعتزون بتراثهم الإسلامي؛ فأقول مستعينا بالله فإنه خير مستعان به:
إن الآيات التي تعرضت للقمر وغيره من الكواكب كثيرة أذكر منها خمس آيات وأقرنها بما روي عن السلف في تفسيرها مع ملاحظة أن مثل هذا التفسير ليس للرأي فيه مجال.
فالآية الأولى - من سورة الأنبياء قال تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .(3/127)
ذكر ابن جرير في تفسيره الجليل بسنده إلى ابن زيد أنه قال - في قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} -: "أي الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر"، وقرأ ابن زيد قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} ، وقال تلك البروج بين السماء والأرض وليست في الأرض {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال ابن زيد فيما بين السماء والأرض النجوم والشمس والقمر".
وقال القرطبي (ج 15- ص33) قال الحسن البصري: "الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة ولو كانت ملصقة ما جرت".
قال القرطبي أيضا: "والأصح أن السيارة تجري في الفلك وهي سبعة أفلاك دون السماوات المطبقة التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت فالقمر في الفلك الأولى ثم عطارد ثم الزهرة ثم الشمس ثم المريخ ثم المشتري ثم زحل والثامن فلك البروج والتاسع الفلك الأعظم " (ج11ـ ص 286) .
وقال البغوي في تفسيره المعروف عند الآية المتقدمة الذكر آنفا {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} : "وقال آخرون - يعني من علماء التفسير - الفلك موج مكفوف دون السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم".
وقال السيوطي في الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور: "أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو الشيخ عن حسان بن عطية في قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "الشمس والقمر والنجوم مسخرة في فلك بين السماء والأرض".(3/128)
وأما آية سورة يس: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فقد ذكر ابن كثير في تفسيره المشهور أن عبد الرحمن بن زيد ين أسلم قال: "فيها يسبحون في فلك بين السماء والأرض"، وقال ابن كثير - بعد ذكره هذا الأثر - "ورواه بن أبي حاتم وهو غريب جدا بل منكر"، قلت: وليس بغريب ولا منكر لأنّ هذا الأثر روي عن عبد الرحمن بن زيد كما ذكره ابن كثير، وروي أيضا عن حسان بن عطية كما مرّ عند ابن أبي حاتم فانتفت الغرابة والنكرة، وأضف إلى هذا أن ابن جرير أسند هذا التفسير عن ابن زيد حيث قال: حدثني يونس قال أخبرني ابن وهب قال: قال زيد فذكره.
وأما آية سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} الآية، فقد تقدم قريبا عند آية سورة الأنبياء أن ابن زهير قرأها وقال: "تلك البروج بين السماء والأرض وليس في الأرض".
وأما آية سورة نوح: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً, وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} الآية…فقد قال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف للزمخشري: أخرج ابن مردويه في تفسيره من رواية حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنّه قال: "إنّ الشمس والقمر ووجوههما مما يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض"، قلت: أخرجه الحاكم في مستدركه قال: أخبرنا محمد بن صالح بن هانئ حدثنا الحسين بن الفضل حدثنا عفان بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة عن يونس عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنه: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} ، قال ابن عباس: "وجهه إلى العرش وقفاه إلى الأرض"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ورمز له الذهبي في تلخيصه (م) يعني أنّه على شرط مسلم.(3/129)
وقال السيوطي في الدر عند هذه الآية: أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} قال ابن عباس رضي الله عنه: "وجهه يضيء السماوات وظهره يضيء الأرض".
وقال السيوطي أيضا: "أخرج عبد بن حميد عن شهر بن حوشب أنّه قال: اجتمع عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وكان بينهما بعض العتب فتعاتبا فذهب ذلك فقال عبد الله بن عمرو لكعب الأحبار: "سلني عما شئت ولا تسألني عن شيء إلاّ أخبرتك بتصديق قولي من القرآن"، فقال له كعب الأحبار: "أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السماوات السبع كما هو في الأرض؟ ", قال: "نعم, قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً, وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} الآية.
وأخرج ابن جرير وعبد الرزاق وعبد حميد وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة واللفظ لابن جرير قال: حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "إنّ الشمس والقمر وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض وأنا أقرأ بذلك آية من كتاب الله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} ".
وقال ابن جرير أيضا: حدثني محمد بن بشار قال ثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة في قوله عز وجل: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} الآية، قال قتادة: ذكر لنا أن عبد الله ابن عمرو بن العاص كان يقول: "إن ضوء الشمس والقمر في السماء اقرؤا إن شئتم: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} الآية".
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: عبد الله بن عمر في الآية المذكورة: "إن الشمس والقمر وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض".(3/130)
وروى ابن جرير من طريق هشام الدستوائي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص هذا التفسير كما مرّ - وهي أعني الواسطة - شهر بن حوشب فانتفى التدليس عن رواية قتادة فصار الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص متصل السند ولم يبق فيه إلاّ شهر بن حوشب، قال صاحب الخلاصة: "وثقه يحي بن معين والإمام أحمد"وقال يعقوب بن سفيان: "شهر وإن قال عنه ابن عون تركوه فهو ثقة"، وقال الحافظ في التقريب: "صدوق كثير الإرسال والأوهام"، قلت: قال الذهبي:"قد ذهب إلى الاحتجاج به جماعة"، قال حرب الكرماني عن أحمد: "ما أحسن حديثه ووثقه"، قال أبو عيسى الترمذي: "قال محمد - وهو الإمام البخاري - شهر حسن الحديث وقوى أمره"، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: "ثقة شامي"وروى عباس الدوري عن ابن معين: "ثبت".
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبوالشيخ صاحب كتاب العظمة كما في الدر المنثور عن عطاء في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} قال عطاء: "إن القمر يضيء لأهل السماوات كما يضيء لأهل الأرض".
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن الحسن البصري في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} قال: "وجوههما في السماء وظهورهما إليكم"، ويعني بقوله في السماء أي في العلو فالسماء تطلق على معاني كثيرة منها السحاب كقوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} يعني من السحاب، ومنها مجرد العلو، كقوله تعالى: {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي في العلو، ومنها السقف كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء} الآية، أي إلى سقف البيت، ومنها المطر كقول الشاعر: ...
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا(3/131)
يعني إذا نزل المطر، وسمي المطر بالسماء لأنّه يأتي من علو، ومنها السماء المبنية كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} .
وأخرج ابن المنذر كما في الدر المنثور عن عكرمة في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} قال عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما: "يضيء نور القمر فيهن كلهن كما لو كان سبع زجاجات أسفل منها شهاب أضاءت كلهن فكذلك نور القمر في السماوات كلهن لصفائهن".
وأما آية سورة يونس: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} ، فقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أنّه قال: "وجوههما إلى السماء وأقفيتهما إلى الأرض".
قال القرطبي في تفسيره: "إن وجه القمر إلى السماء وإذا كان كذلك فنوره في السماوات"، وقال: "معنى (نورا) أي لأهل الأرض ولأهل السماء"، وقال أيضا (ج11ص28) : "قال ابن زيد الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر وهي بين السماء والأرض"، وقال القشيري: "إن الشمس وجهها في السماوات وقفاها في الأرض".
قال الآلوسي في روح المعاني (ج17ص37) عند آية سورة الأنبياء التي تقدمت في أول البحث قال: "قال أكثر المفسرين: الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر"، وكذلك قال أبو حيان في البحر المحيط (ج6ص310) .
وقال النسفي في تفسيره (ج3ص78) عند آية سورة الأنبياء ما نصه: "والجمهور على أن الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر".
فهؤلاء ثلاثة من أئمة الصحابة في مقدمتهم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم تومئ النقول المسند عنهم في تفسير الآيات المتقدمة إلى أنّ القمر والشمس وسائر الكواكب دون السماء المبنية في فلك يسبحون وليس مغروزة في السماء المبنية بل الذي في داخلها نورها لا جرمها.(3/132)
كما أن سبعة من أئمة التابعين وتابعيهم: الحسن البصري، وأبو العالية والرياحي وعكرمة وقتادة وعطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وحسان بن عطية ـ تصرح تفاسيرهم للآيات السابقة بأنّ جميع الكواكب بما فيها القمر والشمس كل في فلك دون السماء المبنية يجرون، وقد نقل عنهم هذه الروايات بأسانيدها العلماء من أئمة التفسير منهم: أبو جعفر بن جرير في تفسيره، وأبو القاسم البغوي، وابن كثير الدمشقي، والقرطبي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والسيوطي في الدر، وأبو حيان في البحر المحيط والنسفي والآلوسي وغيرهم ممن يطول البحث بذكرهم.
هذا وفي قول عكرمة وعطاء في قوله عز وجل: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} في قولهما: "يضيء نور القمر فيهن كلهن"، دليل صريح على أنّ (فيهن) متعلق بقوله عز وجل (نورا) لا بـ (جعل) كما ظنه بعض المعاصرين، على أن تقديم المجرور على عامله في اللغة العربية وفي القرآن الكريم والسنة النبوية، من أمثلته قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} حيث تقدمت (فيها) على عاملها (خالدون) والتقدير والله أعلم بأسرار كتابه: هم خالدون فيها، هكذا (وجعل القمر فيهن نورا) أي وجعل القمر نورا فيهن، ولو استقصينا ما قيل في هذا الموضوع لطال بنا الكلام، ولكن نكتفي بهذا القدر وفيه الكفاية.
وننتقل إلى إمكان الصعود على القمر وغيره من الكواكب فنقول: هذه المسالة قد وفاها حقها من البحث فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية وبيّنها بيانا شافيا كافيا، إلاّ أنّه لا نصدق كل من ادعى الوصول إلى القمر حتى يثبت ذلك بخبر ثقات عدول، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية.
هذا كل ما أستطيع أن أدلي به في مثل هذه الحادثة الغريبة في بابها وأقول كما قال الناظم: ...
وإذا لم تر الهلال فسلم
لأناس رأوه بالأبصار(3/133)
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/134)
أيها الشاعر مهلا
بقلم الشيخ رمضان أبو العز
كتب الأستاذ محمود غنيم كلمة رثاء عن أحمد حسن الزيات نشرتها له مجلة الوعي الإسلامي التي تصدر في الكويت وعنوان الكلمة ذكريات عن أحمد الزيات وذلك في عدد الوعي المؤرخ غرة صفر 1389.
والأستاذ محمود غنيم من شعرائنا النابهين، أجاد القول في كثير من أغراض الشعر وبوجه خاص في الإسلاميات فله فيها شعر جيد.
وقد ضمن الأستاذ الشاعر كلمته عن محاسن الزيات ومدائحه الشيء الكثير لا من حيث أسلوب الزيات فحسب بل وفي النواحي الأخلاقية وما إليها وذلك كقوله: "انقطعت بموت الزيات آخر حلقة من سلسة كتاب النثر الفني أمثال المويلحي والمنفلوطي والسيد وتوفيق البكري ومصطفى صادق الرافعي وصادق عنبر وغيرهم".
وكقوله: "وعندي أن أسلوب الزيات وأضرابه أجدر بأن يطلق عليه الشعر الحر".
وهذا الذي ذكره الأستاذ الشاعر مما لا ينازعه فيه أحد بل أعتقد أن الأستاذ الزيات سامي في الأسلوب فرسان مدرسة ابن العميد التي يطلق عليها طبقة (الشعر المنثور) .
ولكن الذي حز في النفس أن يتغاضى الشاعر عن الزلة الكبرى التي ختم بها صاحبه حياته تلك التي كادت أن تلحقه بالدرك الأسفل من النفاق والكفر البواح.
أعاذك الله أيها الصديق من سرف الهوى ومن جموح العاطفة ومن جور الميزان ومن الانحراف عن قصد السبيل.
لقد كنت أولى الناس ببيان الهاوية السحيقة التي تردى فيها الزيات بل بتجسيمها وتضخميها، وشدة حرصه عليها؛ فلو قد فعلت ما كان عليك أدنى ملام، بل كنت أحرى لأنه إنما وقع في أعز شخصية وفدت على الوجود أعز علينا من آبائنا وأبنائنا وأنفسنا التي بين جنبينا: شخصية خير البشر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
كيف تغاضيت أيها الصديق عن كلمة الزيات المجرمة في حق وحدة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ثم في حق وحدة صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه.(3/135)
كيف تغاضيت عن قول الزيات: "كانت الوحدة المحمدية كلية عامة لأنها قائمة على العقيدة ولكن"، ثم انظر كيف استدرك على الوحدة المحمدية، استدرك بقوله: "ولكن العقيدة قد تضعف وقد تتحول"، قبح من استدراك وقبح من رضي به …
ثم يقول عن وحدة صلاح الدين: "وكانت الوحدة الصلاحية قائمة على السلطان"هكذا ثم استدرك استدراكا آثما بقوله: "ولكن السلطان قد يضعف وقد يزول".
ثم جاء بالوحدة التي لا استدراك عليها في رأيه الخائب بقوله: "أما الوحدة الفلانية فلها ضمانات الاشتراكية في الرزق والحرية في الرأي والديمقراطية في الحكم".
وبذالك فاقت هذه الأخيرة الوحدتين السابقتين وكانت أمكن منهما لقوله بعد ذلك: "وهذه الضمانات لها البقاء والخلود".
لقد سخر القدر أيما سخرية من القزم الذي تطاول على أمثل وحدة بجعلها دون وحدة عبيد أو زيد بأن انفصمت ومزقت شر ممزق وحدة عبيد هذه بعد بضعة أيام من لوثة الزيات، ولكنه لم يرعو ولم يصحح خطأه بعد هذا الانفصام الشنيع.
إن هؤلاء الذين قرنت الزيات بهم كانوا من متانة الخلق والدين بمكان؛ فهذا الشيخ علي يوسف والمنفلوطي وغيرهم رغم ظروفهم القاسية لم تزل بهم قدم كما زلت بصاحبك، أما الرافعي فلو كان حيا ساعة لوثة الزيات لصنع له سفودا أذاب به شحمه وورمه وكان جديرا بأن ينسيه وساوس الشيطان رحم الله الرافعي رحمة واسعة.
أكانت تعاليم محمد - صلى الله عليه وسلم - أقل حرية وديمقراطية من عبيد أو زيد، أيعقل هذا كبرت كلمة تخرج من فيه، ومع هذا وبعد هذا تجعله أيها الصديق من عباد الله المخلصين وتستمطر رحمة الله عليه بقولك: "رحم الزيات رحمة واسعة وجزاه على ما أسلفه من خير للعرب والأدب أحسن ما يجزي عباده المخلصين".
أي إخلاص يا صديقي، إن كان ثمة إخلاص فهو إخلاص للمردة والشياطين، ولن يكون بحال إخلاصا لرب العالمين.(3/136)
أيها الشاعر: زن دعاءك كما تزن شعرك، ولا تخبط كما يفعل الذين لا يعلمون، فلقد هوى الزيات بسقطته إلى الدرك الأسفل من النفاق.
ولا يجمل بمثلك أن تمر على هذه الزلة الشنيعة مر المتستر على الجريمة، أو مر من آوى محدثا، لكأني بك إنما أردت الوفاء للزيات بعد غيبه الثرى، ولكن يا صديقي إن هذا الوفاء في غير محله، إذ كيف توفى لرجل لم يوف هو لنفسه بل خان حياته وماضيه، فخسر نفسه ثم انظر كيف حط من قيمة صلاح الدين رحمه الله، وذلك بقوله: "أما الوحدة الصلاحية فقد قامت على السلطان … الخ"، فكأنه يقول إنها قامت لمجرد السلطان وليس لله فيها شيء، ومن هذا الذي حط من شأنه، إنه قاهر أوربا الصليبية مجتمعة، ولكن هل يستغرب هذا من رجل حط من وحدة خير البشر جميعا.
أو كأنك - يا صديقي - إنما أردت تعمل بقول بعضهم: "اذكروا محاسن موتاكم"وما هو إلا كلام عامي لا يزن بميزان الحقيقة شروى نقير؛ بل الواجب التبيان حتى لا ينخدع قارئ بمديحك له فكان الواجب أن تذكر بدلا من هذا قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون َلا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، ولا شك أن اعتباره وحدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون وحدة عبيد أو زيد تلك التي ولدت ميتة لهو أكبر استهزاء بالله ورسوله.
كان الأولى بك أن تقذفه بشعرك التهكمي حتى بعد موته حتى لا ينخدع قراؤك ويمرون المسألة كأن لم يكن هناك شيء من مثل هذا الشعر الذي أنشدتنيه يوم أن كنا معا بالزقازيق الذي قلته في كفيف مصر:
كفيف بمصر (طوى) المبصريـ
ن وأمسى يقود زمام العلوم
وسوف يعين عما قريب
بحلوان يرصد فيها النجوم
وسقطة الزيات طمت وزادت على زلة الكفيف.
والأدهى والأمر ألا يعتنق الزيات الزيغ والضلال إلا عندما شارف أجله على الانتهاء في اللحظة التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر ـ نعوذ بالله من سوء الخاتمة ـ(3/137)
كان الواجب ياصديقي أن تحذو حذو شاعر آخر أصاب المحز بل أن تسبقه وتكون أنت قدوته، قال الشاعر الأديب للزيات:
رويدك قد جاوزت سبعين حجة
ودوم في عينيك - لو تبصر - القبر
أراك ركبت الصعب والصعب جامح
وعظمك وهن والمدى مهمه قفر
وصيدك ختال يلوح ليختفي
ويقصر عنه السيف والقوس والصقر
دع الغي للفتيان يرجى رشادهم
ويرجى لهم من خبط عشوائها عذر
لقد ذكرت أن الزيات ترجم (رفائيل) وهي لأكبر شعراء فرنسا (لامرتين) فكيف غاب عنه قول (لامرتين) في حق الوحدة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
قال لامرتين: "ضآلة الوسائل التي استخدمت مع عظم النتائج التي حصلت، إذا أردنا أن نحكم على هذا الرجل فمن في الوجود نستطيع أن نقرنه بمحمد؟ "، وهو لاشك استفهام إنكاري من أبرع ما يمكن.
إنه لا أسلوب الزيات ولا شهرته ينفعان في زحزحة هذا الكفر البواح الذي نطق به.
وكان لزاما عليك أيها الصديق حين مدحت خلقه وحياته أن تذكره بهذه الزلة {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}
وأخيرا كلمة عتاب إلى الأخ عبد المنعم النمر رئيس تحرير (الوعي) : كيف تغاضيت عن التعليق الواجب بعد الكلمة مباشرة "فإلى متى يا قوم إلى متى نجامل على حساب الدين"، وعلى حساب سمعة نبينا عليه الصلاة والسلام، والبيان الواضح الجلي في هذا المقام حتم لزام.(3/138)
إحرص على ما ينفعك
عبد الله بن أحمد قادري
المدرس بالمعهد الثانوي
في حالة واحدة فقط تستطيع أن تكون شجاعا شجاعة نادرة لا توجد إلا في شخص اتصف بصفتك التي بسببها اكتسبت تلك الشجاعة النادرة تلك هي أن تكون مسلما حقا.
وإذا كان الأمر كذلك فيجب على المسلم ولا سيما الداعي إلى الله أن يتجلى بصفة عظيمة بها نجح الأنبياء والرسل وكل داع إلى الله. تلك الصفة التي تتلاشى أمام صاحبها كل الصعاب ويصغر في عينه كل جبار عنيد.. ويكون المتحلي بها دائما رابط الجأش هادئ البال لا يتزلل لحدوث مصيبة أو إرجاف مرجف، ولا يجبن عند لقاء عدو في معركة حرب مسلحة سافرة، ولا يتهيب من قول حق في أي مقام وفي أي مناسبة ولأي فرد أو جماعة، لأنه واثق من استعلائه واندحار عدوه..
لماذا! لأنه يتحصن بحصن منيع الجانب لا تهدده آلات الهدم عالي الأسوار، لا يتسلقها متسلق بسلمه، ولا يعلوها فضائي بقمره الصناعي، ولا تؤثر فيها قذائف مدفعي ماهر.
إنها تلك الصفة العظيمة التي وقف بها هود عليه السلام بمفرده أمام قومه عاد العتاة الأشداء الذين كانوا يتحدون عالم زمانهم ويقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة} وقف هود أمامهم يتحدى جموعهم ويقلل من شأنهم ويحتقر قوتهم المادية، كما يسخر من آلهتهم التي كانوا يظنون أنها تصيب من تشاء بمكروه، كما قال تعالى في سورة هود عن قومه المكذبين: {إِنْ نَقُولُ إِلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} أي أصابك بعض معبوداتنا بمكروه من جنون ونحوه.
فماذا كان جواب نبي الله هود عليه السلام؟(3/139)
قال {إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} يا سبحان الله! شخص واحد من البشر ليس له نصير من البشر اشتد حقد قومه الطغاة مجتمعين عليه ثم يقول لهم: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} !؟
إن هذا الموقف في عرف الناس وطبيعتهم البشرية يعتبر لأول وهلة تهور أو إلقاء بالنفس إلى الهلاك، وتركا لما يجب من الاتزان والحكمة التي يحفظ الإنسان بها نفسه، وإذن فيحق للمرء عندما يرى هذا الموقف الذي وقفه هود أن يتساءل: لماذا وقف هذا الموقف الذي يظهر لأول مرة أنه في غير محله، لأن بعض القوم وليس كلهم في استطاعتهم أن يهجموا عليه فيقتلوه، أو يحبسوه، أو ينفوه من أرضه، فتنقطع بذلك دعوته التي يجب عليه أن يلتمس لها سبل النجاح!
نعم يتساءل المرء هذا التساؤل عندما يقيس الأمور بمقاييسها الأرضية، ولذا أجاب ربنا على هذا التساؤل جوابا شافيا كافيا يلفت النظر البشري الأرضي إلى أن الأمر أعلى وأعظم من ذلك التصور الذي نشأ عنه هذا التساؤل، أنه أمر سماوي عظيم بعيد عن مقاييس البشر القاصرة، إنها تلك الصفة العظيمة تفويض العبد كل أموره إلى ربه تعالى واعتماده عليه اعتمادا كاملا، موقنا أن كل المخلوقين لا يقدرون أن يصيبوه بمكروه لم يرد الله إصابته به، كما أن كل المخلوقين لا يقدرون أن يؤتوه خيرا لم يرد الله إيتاءه إياه..
إنها صفة التوكل؛ ولذا قال بعد ذلك التحدي: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم} أي خالقي وخالقكم المتصرف في وفيكم وفي العالم كله {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وهو سبحانه حكيم عادل يضع الأمور في مواضعها وينصر من يستحق النصر ويخذل من يستحق الخذلان لا يحيف ولا يجور {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .(3/140)
وكل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يلجئون إلى هذا الحصن المنيع عندما تحيط بهم المصائب والمحن وتتآمر عليهم قوى الشر والعدوان بالحديد والنار وأنواع التعذيب، ومنهم خاتمهم وإمامهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي ضرب المثل الأعلى في الاعتماد على ربه أمام أعدائه سادة قريش العتاة الذين اشتد غيظهم عليه وتألبوا ضده وعملوا بكل جهد وبكل وسيلة يطيقونها على أن يقبروه ليقبروا معه دعوته، وآذوه بكل أنواع الأذية باللسان تارة وباليد أخرى في مكان سنحت لهم الفرصة فيه حتى بيت الله الحرام.
ومع ذلك كله وقف - صلى الله عليه وسلم - أمامهم صامدا صمود الجبال الراسية أمام الأعاصير، لا يزيده آذاهم إلا صلابة وبقاء على مبدئه وعقيدته، وشجاعته نادرة إذ كان يسب آلهتهم ويسفه أحلامهم وعقول آبائهم، غير مبال ولا مكترث بما حصل ويحصل من الأذى الذي لا يطيقه إلا من رزق الاعتماد على الله، وتبعه على ذلك أصحابه رضي الله عنهم القلة المستضعفون الذين يطول ذكر بلائهم في سبيل الله دون أن يتزلزلوا أو تخور قواهم ليتراجعوا قيد شبر عن مبدئهم الذي آمنوا به.
قل لي بربك: لماذا كل ذلك؟
إنه وربي الاعتماد الكامل على خالقهم الذي سلموا له أنفسهم بقولهم (لا إله إلا الله) عن إيمان صادق به وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - اعتمدوا عليه واثقين من وفائه بوعده بنصرهم وخذلان أعدائهم، كما قال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} .
ولنأخذ بعض الآيات القرآنية في هذا الباب لنرى تكيف رسل الله عليهم الصلاة والسلام ولا سيما خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام بها.(3/141)
1ـ أخبر الله تعالى ورسوله وأصحابه بأنه وحده المالك المتصرف ينصر من يشاء ويخذل من يشاء، فإن أراد نصرهم لم يقدر أحد على خذلانهم وإن أراد خذلانهم لم يقدر أحد على نصرهم، ثم أمرهم بالاعتماد الكامل على ربهم دون من سواه لينالوا نصره إياهم على أعدائهم فقال: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} , {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
2ـ جعل الاعتماد عليه وحده دليل الإيمان فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
3ـ حصر المتصفين بالإيمان الكامل فيمن اتصف بخمس صفات هي: الخوف من الله عند ذكره، وزيادة الإيمان به عند سماع آياته، والاعتماد عليه، وإقام الصلاة، والإنفاق من رزق الله فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ, الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ, أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} الآية.
4ـ أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنين بالاكتفاء به أي الاعتماد عليه وحده فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
5ـ أخبر سبحانه أن من اعتمد عليه كفاه فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} .(3/142)
6ـ أخبر الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تكيفوا بتلك الصفة التي حثها عليها وأمرهم بها في أحرج المواقف التي بلغت فيها القلوب الحناجر، حتى لقد ازدادوا بها إيمانا وثقة بربهم، وإن الذي يفقد هذه الصفة عند نزول الشدائد هم المنافقون والذين لم يدخل الإيمان قلوبهم فقال عن المنافقين: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} وقال عن المؤمنين: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .
7ـ أخبر الله تعالى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنين أن إرجاف المرجفين وتجمع الأعداء ضدهم مهما كانت قوتهم وكثرتهم لا يزيدهم إلا إيمانا اعتمادا على ربهم، إذ جاء المرجفون يخوفون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بجموع الأعداء من قريش الذين يريدون القضاء عليهم وعلى عقيدتهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} .
وهذه الكلمة نفسها: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم أيضا حينما ألقي في النار كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
8ـ أخبر الله عن مؤمن آل فرعون أنه عندما ألقى كلمته الأخيرة وأحس بالخطر منهم لجأ إلى ربه معتمدا عليه وحده ليخلصه من القوم، وقد خلصه الله من مكرهم وخذل أعداءه، وجازاهم بما يستحقون، حيث قال تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ, فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} .
تصويب وتخطئة:(3/143)
علم مما مضى من البحث أن التوكل على الله من الأسس الهامة التي قام عليها دين كل رسول، وأن الإيمان لا يصح بدون توكل، وأن المراد بالتوكل تفويض العبد كل أموره الدينية والدنيوية إلى ربه تعالى، مع الأخذ بالأسباب، وهو أمر واضح لا لبس فيه ولا خفاء على من فهم دين الإسلام فهما صحيحا لا انحراف فيه..
غير أن هناك بعض من جنى على الإسلام ممن لا يفهموه على وجه العموم، كما لم يفهموا التوكل على الله على وجه الخصوص، كما أراد الله تعالى، ففرط بعضهم وأفرط آخرون؛ ولهذا رأيت أن أبين تفريط المفرط وغلو الغالي وصواب المصيب معتمدا في التخطئة والتصويب على نصوص الشريعة التي يسلك سبيلها العقل الصحيح والفطرة السليمة.
فأقول وبالله تعالى توفيقي وعليه توكيلي واعتمادي:
إن الناس في فهم التوكل ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
أفرط وبالغ فرأى أن التوكل على الله المراد منه ترك الأسباب التي جعل الله مسبباتها مربوطة بها، فعمل هذا القسم بهذا الفهم الخاطئ حتى رأى بعضهم أن من التوكل على الله الإلقاء بالنفس في المفازات الخالية بدون حمل زاد ولا ماء، وأن من التوكل ترك التداوي مهما بلغ المرض من الخطر، ومعنى هذا أن التوكل أن يلقي الإنسان بنفسه في المهالك التي يترجح فيها عادة ضرر الموت فما دونه، دون أن يتخذ وقاية مباحة، وهو أمر عجيب يبرأ منه الدين وحاملوه الفاهمون لحكمه وأسراره كما يأتي بيان ذلك في القسم الثالث إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني:
فرط وأساس تفريطه أنه فهم معنى التوكل ما فهمه القسم الأول، وقارن بين ذلك الفهم وبين السنن الكونية والأسباب المباحة الطبيعية فتعارض عنده الأمران، وصعب عليه التوفيق بينهما بمقتضى هذا الفهم، فرجح جانب الأسباب مستقلة بمسبباتها توجدها إذا شاءت وتعدمها إذا أرادت، وكلا الفهمين خطأ، وكلا الفريقين ضال والصواب الذي لاشك فيه هو:
القسم الثالث:(3/144)
فهو التوكل على حقيقته وهو: تفويض الأمور الدينية إلى الله تعالى، وتفويضها إليه يستلزم كلا من الاعتماد عليه لأنه أمر به والأخذ بالأسباب لأنه هو الذي جعلها أسبابا، وطلب هذا هو مقتضى التفويض الكامل يعتقد صاحبه أن هناك أسبابا يجب أن تعمل لتوجد مسبباتها، كما يعتقد أن الأسباب والمسببات جميعا تحت تصرف القدرة الإلهية إذا شاء الله للأسباب أن تؤثر في مسبباتها أثرت، وإن شاء أن يبطل ذلك التأثير أبطله، ويعتقد أن عليه أن يأخذ بالسبب دون أن يتلكأ ما دام يعرف أنه غير محظور مع الاستعانة بالله والاعتماد عليه ولا يعتقد أن السبب - مجردا - كفيل بوجود المسبب، ويتضح المراد من البحث السابق بأمور كثيرة نذكر منها ما يلي:
1ـ أن الله جعل الأكل سببا في إذهاب الجوع، وهو أمر لا يستطيع أن يكابر فيه أحد، ومع ذلك قد يوجد من يأكل ولا يشبع إذا ما أراد الله ذلك، وقد أنبأ من أثق به أنه يعرف شخصا كان يأكل طوال الليل والنهار إذا استطاع وأنه لا يشبع، فكون الأكل مذهبا للجوع يوجب الأخذ بالسبب، وكونه قد لا يذهبه يوجب الاعتماد على الله في إذهابه.
2ـ وجعل الله الشرب سببا في إذهاب العطش، وهو أمر واضح كذلك، ومع ذلك قد يوجد من يشرب ولا يروى، كالإبل التي تصاب بداء الهيام، فكون الشرب مذهبا للعطش يوجب الأخذ بالسبب، وكونه قد يوجد من لا يذهب الشرب عطشه يوجب الاعتماد على الله.
3ـ وجربت كثير من الأدوية لشفاء كثير من الأمراض، ومع ذلك قد يوجد من يداوي بتلك الأدوية لتلك الأمراض ولا يشفى، فكون الدواء مذهبا للداء يوجب الأخذ بالسبب، وكونه قد يوجد من لا يفيده ذلك يوجب الاعتماد على الله.(3/145)
4ـ والعادة في التفوق العسكري في العدد والعتاد والخبرة موجب لنصر من توفر ذلك له وهزيمة عدوه، ومع ذلك قد يوجد من هو متفوق عددا وعدة وخبرة ثم ينهزم أمام من هو أضعف منه في ذلك، فكون القوة موجبة للنصر موجب للأخذ بالسبب، وكونه قد ينهزم من توفر له ذلك يوجب الاعتماد على الله، والأمثلة لذلك لا تستطاع حصرا.
ولنلقي نظرة خاطفة على موقف الأديان السماوية من فهم التوكل على الله متمثلا في أئمة الهدى وقادة الخير رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
1ـ فهذا نوح عليه السلام يأمره ربه الذي يقول للشيء كن فيكون أن يصنع سفينة لينجو فيها هو وأتباعه المؤمنون عندما يعم الطوفان الأرض فيهلك كل من لم يكن فيها، فأمره الله بصنع سبب طبيعي مع أنه قادر على أن ينجيه وقومه بدونها ولم ينس نوح ربه الاعتماد عليه حينما أراد الركوب في السفينة إذ قال لقومه: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . وكذلك موسى حينما أراد الدخول ببني إسرائيل البحر بأمر ربه ليخلص بهم من فرعون وقومه الذين كتب هلاكهم، أمره ربه أن يضرب بعصاه البحر فضربه فانفلق، مع أن الله قادر على فلقه بدون العصا، وماذا كانت تفعل العصا لولا قدرة الله التي كانت وراءها.
2ـ وهذا إبراهيم عليه السلام يأخذ بالسبب الطبيعي لنجاته من قومه الذين ما كانوا ليدعوه لو بقي عندهم يدعوهم إلى دين الله الحق، فقرر الهجرة إلى أرض أمره الله بالهجرة إليها، وعندما ألقى في النار لم يتزلزل ولم يضعف لاعتماده على ربه الذي جعلها بردا وسلاما عليه.(3/146)
3ـ وكذلك موسى عليه السلام عندما قتل القبطي وتآمر القوم ليقتلوه فجاء من نصحه بالخروج لم يتلكأ بل خرج من فوره آخذا بالأسباب الطبيعية، ولم ينس ربه بل أظهر اعتماده عليه، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ, فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، فخروجه أخذ بالسبب، ونداؤه ربه ليسلمه من أعدائه اعتماد على الله.
4ـ وهذا خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام يختفي في الغار ثلاثة أيام مع صديقه - رضي الله عنه - ويقول له عندما يراه يخاف عثور القوم عليهم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما! ويقول الله عنهما: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} ، فاختفاؤه - صلى الله عليه وسلم - في الغار أخذ بالسبب الطبيعي وقوله: إن الله معنا، اعتماد على الله تعالى.
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى ولا طيرة"، حثاً على التوكل وعدم اعتقاد أن السبب مستقل بنفسه، ويقول: "فر من المجذوم"، حثا على الأخذ بالأسباب الطبيعية ... ومن أجمع الأحاديث النبوية وأكملها في الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله تعالى حديث أبي هريرة عند مسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان".(3/147)
فقد حث في هذا الحديث على الأخذ بالأسباب عموما دينية كان أو دنيوية بقول: "احرص على ما ينفعك"، وقوله: "ولا تعجز"، كما حث على التوكل والاعتماد على الله بقوله: "واستعن بالله"، وقوله: "وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل"؛ فما ينفعك شر أن تسعى في حصوله وما يضرك شر أن تسعى في دفعه؛ فإذا بذلت جهدك ثم لم يحصل لك المطلوب ولم يندفع عنك المكروه فعندئذ يجب عليك التسليم والصبر على قدر الله، فلا تقل قبل السعي في ذلك: قدر الله وتتقاعس عن مصالحك؛ فإن هذا عجز وقد نهاك الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه ومن أين علمت أن ذلك قدر ولا دافع له، وما أدراك لعل النهاية تكون في صالحك، وأحب أن أضرب لك مثالين يوضحان المقصود:
الأول: لو فرضنا أن مقاتلا مسلما أصيب من قبل العدو بجروح خطيرة والإسعاف على أتم استعداد لمعالجته فامتنع من العلاج وقال: قدر الله علي الموت بهذه الجروح فهل يجوز له ذلك؟
أقول لا يجوز ذلك لأمور:
الأول: أن في ترك التداوي عندئذ تعريضا لتعذيب نفسه وازدياد آلامه وانبعاث الروائح الكريهة منه.
الثاني: أنه لا يدري عن تقدير الله فلعل أجله يكون طويلا أكثر مما يتصور فهو عجز منهي عنه.
الثالث: أن في معالجته عمل سبب قد يكون في صالح المسلمين في الوقت القريب ضد أعدائهم الكفار، ولو أخر التداوي طال وقت ضعفه الذي يمنعه من معاودة جهاد أعدائه.
المثال الثاني: لو فوجئ أهل بلدة ما بهجوم شديد من أعدائهم الكفار، فهل يجوز لهم: قدر الله ويستسلموا للعدو يستحل دماءهم ويستبيح أموالهم ونساءهم ويعيث في أرضهم الفساد؟
لاشك من له أدنى مسكة من عقل فضلا عن المسلم أن ذلك لا يجوز وأنه يجب أن يعمل أهل البلد بالأسباب المستطاعة ضد عدوهم فإن نصروا حمدوا الله وقد عملوا جهدهم، وإن هزموا فعند ذلك يقولوا: قدر الله وما شاء فعل.(3/148)
وعند الترمذي وابن ماجة والحاكم عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا"، رمز له السيوطي في الجامع الصغير بالصحة، وقال شارحه المناوي: "قال الترمذي: حسن صحيح وقال الحاكم صحيح وأقره الذهبي ورواه النسائي عنه أيضا" (5-311) مناوي.
ولنقف قليلا متأملين في معنى هذا الحديث فالطير تعرف مصالحها ومضارها وتسعى لحصول الأولى ودفع الثانية، لكنها ليست كالآدميين تعرف الأشياء بالتفصيل، فهي تطير من أكنانها في أرض الله لا تدري ماذا تصيب في يومها، فيسهل الله أرزاقها وأرزاق أفراخها الصغار التي لا حول لها ولا قوة، فترجع وقد شبعت وتزودت، وكذلك الآدمي إذا سعى لحصول رزقه وتوكل على ربه سهل له رزقه؛ فالتوكل الحقيقي هو التفويض الكامل لجميع الشؤون الدينية والدنيوية إلى الله سبحانه مع فعل السبب والاعتماد على الله في حصول السبب بدليل ما في هذا الحديث.
فالطير التي هي المشبه به لم تبق في أكنانها حتى يأتيها رزقها، وإنما تخرج منها جياعا متنقلة من مكان إلى آخر حتى يرزقها الله فترجع شباعا.
ولنتأمل بعض آيات القرآن الكريم التي يحفظها العامي كالعالم، ويقرؤها كل منا مرارا في اليوم في كل ركعة من صلواتنا فرضا كانت أو نفلا لنجد أنه لابد من الجمع بين الأمرين: فعل السبب والاعتماد على الله والاستعانة به في حصول المسبب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} الخ، فكل مصل يقصد من صلاته - بعد امتثال ربه - ثوابه بدخول الجنة فالعبادة سبب ودخول الجنة ورضا الله مسبب، ولكنه لا يعتمد على مجرد المسبب بل يعتمد على الله مع ذلك ويستعين به في ذلك ويسأله الهداية ولهذا يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} .(3/149)
ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - كعادته في كل بحوثه - في هذا البحث بكلام قليل جامع بين فيه مواقف الناس من التوكل على الله والأخذ بالأسباب وثمرات تلك المواقف فقال:- يعني الله تعالى – "الذي خلق السبب والمسبب والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى وإذا كان كذلك:
1- فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد.
2- ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل.
3- والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع.
4- بل العبد يجب أن يكون توكله وداؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيره ما شاء". (1-13) مجموع الفتاوى.
وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله:
"وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها إن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا". (ص69 فتح المجيد) .
والخلاصة أن المتوكل الحقيقي من حرص على ما ينفعه فبذل الأسباب في حصوله واعتمد على ربه في ذلك، وعلى دفع ما يضر فبذل الأسباب لدفعه واعتمد على ربه في ذلك وصبر على قضاء الله الذي لا راد له، وعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، وكان شجاعا لا يخاف إلا ربه سبحانه وتعالى.(3/150)
هذا وأرجو أن أكون قد وفقت لبيان جانب كبير لهذا البحث الهام، وأن يغفر الله خطئي إن كنت أخطأت فإن: " كل بني آدم خطاءون وخير الخطاءين التوابون"، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(3/151)
الإسلام وعمل المرأة
للشيخ إبراهيم السلقيني
المدرس بكلية الشريعة
لقد عني الإسلام أتم العناية بإعداد المرأة الصالحة للمساهمة مع الرجل في بناء صرح المجتمع على أساس من الدين والفضيلة، والخلق القويم، وفي حدود خصائص كل من الجنسين الرجل والمرأة، فرفع شأنها، وكون شخصيتها، وقرر حريتها، ثم أناط بها من شؤون الحياة ما يتلاءم مع طبيعتها، فإذا نهضت بأعبائها أصبحت زوجة صالحة، وإما مربية ودعامة قوية في صرح المجتمع إذا صلح المجتمع كله.
لقد اعتبر الإسلام المرأة كائنا إنسانيا مكرما فحفظ عليها حريتها، وأجاز لها التصرف كما تشاء في أموالها ضمن الدائرة المشروعة، وجعل لها حقا في الميراث فقال تبارك وتعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [1] ، وجعل لها الحق في أن تملك وتبيع وتشتري، وتهب وتقبل الهبة، وترهن وتعقد باسمها العقود، دون حاجة إلى إذن زوجها أو ولي أمرها، ولا يوزن الإسلام في ذلك بأي تشريع حديث، فإن حالة المرأة في فرنسا إلى الآن أشبه بحالة الرق، فلا يجوز للمتزوجة مثلا بيع ولا شراء ولا هبة ولا عقد إلا بإذن زوجها، وفي أكثر النظم المبتدعة تقلب المرأة اسم أسرتها وتنسب إلى أسرة زوجها، وفقدان الاسم رمز وعنوان لفقدان الشخصية، ولو أردنا أن نعدد ما منحه الإسلام للمرأة وما خصها من مزايا لطال بنا المجال، وحسبنا أن نعلم أن المرأة قد تحررت في ظل الإسلام إلى درجة لم تبلغ ولن تصل إليها في ظل أي فلسفة أو نظام آخر، ويعرف كل إنسان ذلك، ولا ينكره إلا من ختم على قلبه، فحجب عن رؤية الحق والاعتراف به.(3/152)
كما اعتبر الإسلام المجتمع جهازا تؤلف المرأة نصفه، أو قل الرجل هو إحدى رئتي المجتمع والمرأة هي الرئة الأخرى، بكلتيهما يتنفس المجتمع ويحي؛ فالرجل والمرأة في خضم هذه الحياة كمؤسسي شركة أو مصنع وزعت أعماله المتعددة على العاملين فيه،، وكل يقوم بنصيبه، ولكل فيما يعمل علم وحكمة وتدبير، فلا ينكر أحد أن دور المرأة في المجتمع غير دور الرجل، ولو كانت مهمتها تشبه الرجل مهمة الرجل لكان المجتمع صالح للبقاء سواء أكان مؤلفا من الرجال وحدهم، أو من النساء وحدهن، أما ولكل من هذين الكائنين عمله واختصاصه فلابد من توفرهما معا ليحصل للمجتمع كماله.
وهكذا فالمرأة نصف وجودنا الذي نزاحم به ونكاثر ونبني، وهي أيضا التي تصنع تاريخ النصف الآخر وتلهمه؛ فهل للمرأة رسالة أعظم من هذه الرسالة لو أديت على وجهها الصحيح لما وجدت المرأة متسعا من الوقت، ولا فراغا من الزمن.
وخروج المرأة من البيت إحدى المشكلات الهامة في العصر الحاضر، والحقيقة أن خروج المرأة من بيتها أو عدم خروجها منه مرتبط بمهمة المرأة وواجباتها في هذه الحياة، وما ألقي على عاتقها من أعباء، ثم نرى صلة ذلك بخروجها من البيت.
ما هي المهمة الرئيسة للمرأة في هذه الحياة؟ وما هي واجبات الرجل؟
لاشك أن الرجل والمرأة هما عماد البيت، ومما لا ريب فيه أيضا أن سعادة البيت وبالتالي المجتمع لا تتوفر إلا حينما يعرف كل منا لرجل والمرأة ماله وما عليه بغية تحقيق السعادة المنشودة، فالرجل بما وهبه الله من القوة الجسمية جعله قواما على المرأة يعتني بشؤونها وشؤون أطفالها، وينصرف إلى عمله ليكسب القوت له ولأفراد أسرته، ويؤمن لهم الحياة الكريمة، فمجال عمله إذن هو خارج البيت، وهذا لا يشك فيه أحد.(3/153)
وهنا يأتي دور المرأة حيث يتاح لها أن تنصرف إلى شؤون البيت الداخلية، والإشراف على تربية أطفالها وإشاعة الحبور والسعادة في بيتها، وقد وضع عنها الإسلام جميع الواجبات التي تتعلق بخارج البيت، فلا تجب عليها صلاة الجمعة، ولا يجب عليها الجهاد إلا في حالة النفير العام، ولم تطلب منها صلاة الجماعة ولا حضور المساجد، وإن كان قد رخص لها في حضور المساجد.
صفوة القول: أن خروج المرأة من البيت لم يحمد، وخير الهدي في الإسلام أن تلازم المرأة بيتها كما تدل عليه الآية الكريمة: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ} [2] دلالة واضحة، ولكن الإسلام لم يشدد في هذا الباب لكون خروج المرأة من بيتها قد يكون من اللازم في بعض الحالات كخروجها لحج أو مداواة أو أداء شهادة؛ ولا يغير ذلك شيئا من القاعدة في نظام الاجتماع الإسلامي، وهي أنّ دائرة عمل المرأة هي البيت، وأن الدروس التي يتلقاها الطفل في حجر أمه سيكون لها أكبر الأثر في مستقبل حياته.
وعلى هذا فإذا تجاوزت المرأة الحد، وأسرفت في الخروج من البيت فمن للأطفال ليرعاهم؟ ومن للبيت يشرف عليه إشرافا دقيقا؟ هل يترك ذلك للخادمة! وهل يهمها من شؤون البيت ما يهم صاحبته؟ وهل كل بيت فيه خادمة؟ وهل كل خادمة متعلمة عاقلة؟ وهل هي جديرة بما يلقى إليها من مهام تربوية، وهي على كل حال إمرأة من جنسها، وصدق من قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
همّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أما تخلت أو أبا مشغولا(3/154)
فسعادة البيت لا تتحقق إلا أن توجد زوجة، ولن يشيع الحنان إلا أن تتولاه أم، وفي سبيل الاستقرار البيتي، وقطعا لدابر الفوضى والنزاع جعل الإسلام القوامة للرجل تمشيا مع سياسة التنظيم التي يحرص عليها الإسلام حرصا شديدا، فتوحيد القيادة ضروري لأمن السفينة، وفي سفينة البيت لابد من قيادة تتحمل التبعة، ولكنها في الإسلام قيادة الرعاية والمسؤولية، وليست قيادة التحكم والاستعلاء؛ فمن هو أهل لهذه القيادة؟
المرأة المشبوبة العواطف، السريعة الانفعال، بحكم فطرتها التي تؤهلها لوظيفتها الأولى في رعاية الأطفال، وتعطير جو البيت بالجمال أم الرجل الذي كلفه الإسلام الإنفاق والقيام بأعباء التكاليف البيتية لتخلو المرأة إلى عبئها الضخم وتنفق فيه طاقتها ووسعها؟
ولهذا جعل الإسلام لكل من الرجل والمرأة وظيفة أساسية، فللمرأة اختصاصها ومواهبها وللرجل اختصاصه ومواهبه، ولابد أن يتوفر كل منهما على ما هيئ له، وهذا التباين الفطري في وضعهما ووظيفتهما هو سر تآلفهما وتعاطفهما، فإذا انحرفت أنوثة المرأة واتجهت إلى الرجولة، وانحرفت رجولة الرجل واتجهت إلى الأنوثة والتخنث كان في ذلك فساد المجتمع واضطرابه، وكلما اتجهت فطرة الرجل أو المرأة إلى كمالها الذي هيأه الله لها اتجه العالم إلى السعادة المنشودة والخير العميم، فإذا اكتملت رجولة الرجل اكتمل حلمه وجلادته، وشجاعته، وتساميه عن الريب، وتفانيه في سبيل الله.
وإذا اكتملت أنوثة المرأة اكتملت معها الأمومة السامية، والزوجية السعيدة، وتناهت معها معاني الرحمة والحب، والوفاء والحنان، ولذلك توخى الإسلام المصلحة العامة حين لم يطلق للمرأة الخروج من البيت وقصر ذلك على ما يعود بالفائدة على المرأة أولا، وعلى المجتمع ثانيا.(3/155)
إن المرأة في البيت تصنع البطولات والفضائل، وهي بعد ذلك المصدر الروحي لإشعاع الرحمة والمودة كما ذكر القرآن الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [3] ، وليست إشاعة المودة والرحمة في البيت بالأمر الرخيص الهين الذي يتصوره المحرومون، فإن الدنيا بما فيها من ذهب أو متاع لا تساوي في ميزان الحق مثقال ذرة إذا خلت من المودة والرحمة والاستقرار.
ومن سر المرأة الصالحة في البيت أنها الجهاز الروحي الذي يلقي في روع الرجل اسرار القوة ومعاني الثقة، وأن كلمة واحدة منها وهو يشكو متاعب الزمان أو مكائد الرجال لكفيلة بأن تمده بطاقات عجيبة من الهمة والأمل والثقة، فإذا به إنسان جديد وبناء غير الذي يوشك أن ينهار.
إن المرأة بقيامها على المهد، ورعايتها لأطفالها حق الرعاية إنما تصنع مستقبل وطنها، ولسنا ندري عملا في الحياة يفوق في شرفه وسمو غايته هذا العمل، وإذا كنا نقلد غيرنا في عمل المرأة وخروجها من البيت فللنظر إلى واقع المرأة عند غيرنا من الأمم.(3/156)
لقد كان من أفظع نتائج الحرب العالمية خطرا قتل ما يقدر على الأقل بعشرة ملايين شاب من أوروبا وأمريكا في ميدان القتال، فنتج عن ذلك مجموعة من النتائج الخطيرة، حيث ملايين من الأسر قد وجدت نفسها في نهاية الحرب بلا عائل، إما لأن عائلها قد قتل في الحرب، أو شوه بدرجة تعجزه عن العمل، أو فقد عقله وأعصابه بفعل الحياة الدائمة للخنادق والغازات السامة، والغازات المدمرة، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الذين خرجوا من الشباب القادرين على العمل لم يكونوا كلهم على استعداد لأن يتزوجوا ويكفلوا أسرة، فإن حياة الحرمان الشنيعة التي عاشوها أربع سنوات كاملة في أثناء الحرب لم تترك في نفوسهم فسحة لتحمل التبعات، والكدح في سبيل الآخرين، لقد خرجوا منهومين يريدون الاستمتاع في الحياة، يريدون أن يطفئوا السعار الملهوف، فلا بأس بالمرأة كصديقة تستجيب للرغبة اللاهفة، أو جسدا يشتري بالنقود، ولكن لا مرحبا بها زوجة وأما.
ومن ناحية ثانية فإن الدمار الذي أحدثته الحرب كان يستلزم طاقة إنتاجية هائلة للتعويض ولم يكن من تبقى من الرجال كافيا لحركة التعمير الشاملة المطلوبة في كل مكان.
والتقى الأمران على شيء واحد يجب على المرأة أن تعمل في السوق والمصنع والمنجم، وفي كل مكان يمكن أن تعمل فيه وإلا هلكت جوعا هي ومن تعول واضطرت المرأة كارهة أو راغبة أن تترك حياة المنزل المستقرة، وتنزل إلى المعترك الصاخب الذي لا يرحم ولا يجير، وانتهزت المصانع والشركات فرصة الحاجة الملحة التي تعانيها المرأة فشغلت النساء بأجور أقل من أجور الرجال، وإن كن يقمن بنفس العمل ونفس القدر من الساعات، وأصبحت للمرأة عندهم قضية؟ هي قضية المساواة في الأجور.(3/157)
لقد استخدمت المرأة لقضيتها كل سلاح من الاحتجاج والإضراب والتهديد ومع ذلك لم تظفر بنتيجة، وبدا للمرأة أنها طالما بقيت بعيدة عن مصدر التشريع فلا فائدة ترجى من وراء الصياح، ولا بد أن يكون لها صوت في البرلمان وقامت المرأة والتي لم تكن تطالب سوى المساواة في الأجور في بادئ الأمر قامت تقول نحن سيان في الخليقة الرجل لا يفضلنا بشيء ولا مزية له علينا.
نتساءل بعد كل هذا هل عندنا أسباب موضوعية لحدوث ما حدث عند غيرنا؟ هل حدث في تاريخنا القديم أو الحديث أن أعطينا المدرسات مثلا راتبا أقل من راتب المدرسين كما تصنع انكلترا إلى هذه اللحظة وكما يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه معركة التقاليد بحجة أن المرأة تأخذ إجازة حمل وولادة ورضاع بينما الرجل لا يأخذ مثل هذه الإجازات؟.
هل حدث عندنا شيء غير الاستعمار الذي استعمر الأرض بجنوده واستعمر كذلك كثيرا من القلوب والأرواح والمشاعر والأفكار فنشأت طبقة تقلد المستعمر تقليد القرود.
ليست المرأة في الإسلام لمجرد الولادة والحضانة والإرضاع، كما أن الولادة في الإسلام ليست السب والشتم، إنما هي تكوين فكري ونفسي وخلقي للأطفال، إنها جهد ضخم شاق يحتاج إلى ثقة واختصاص، لذلك حرص الإسلام كل الحرص على تهذيب المرأة وتقوية الإيمان في ضميرها وتوفير الضمانات المعيشية لها.
إن الإسلام يبذل كل هذا لأنه يحسب دائما حساب الأجيال القادمة التي تقوم بتربيتها الأجيال الحاضرة، ويهذب الحاضر ليكون في الغد نتاج نظيف، وهو في هذا يعنى بالرجل والمرأة كليهما، ولكنه يعنى بالمرأة خاصة لأن الأم هي المنشئة لخلق الأجيال.(3/158)
وتقوم بأخطر مهمة في حياة البشرية ومهمة رعاية الإنتاج البشري، وصيانته من الفساد، والتحلل والانهيار، وليس كما يقول الفارغون والفارغات إننا نعطل نصف المجتمع عن العمل، إنها لحماقة ما بعدها حماقة في عصر التخصص أن تنزع المرأة من اختصاصها الذي لا يحسنه غيرها لكي تشترك في الإنتاج المادي الذي يملك الرجل أن يقوم به، وتملك أن تقوم به العدد والآلات.
وإذا كنا في عصر الاختصاص والتخطيط فجدير بنا أن نعرف كيف خطط الإسلام ورسم لنا في هذا المجال إنه كما يفهم من نصوصه وقواعده يجيز للمرأة أن تعمل خارج البيت ضمن الشروط التالية:
1- ألا يتعارض عملها خارج البيت مع وظيفتها الأساسية التي خلقت لها.
2- أن يكون العمل ضمن الدائرة التي تختص ببنات جنسها وتتفق مع تكوينها الجسماني وفطرتها وذلك كالأعمال النسوية من تدريس للنساء وتمريض وتطبيب لهن.
3- أن تلتزم حدود الآداب الإسلامية وما فرضه الله عليها من حجاب وما حرم من اختلاط.
أما العلم فهو فريضة، كل ما في الأمر أن تتعلم ما يناسب فطرتها ويعدها لمهمتها الكبرى ذلك لأن القدرة الإلهية حين فرقت هذا التفريق أرادت أن يكون للرجل اختصاص في الحياة غير اختصاص المرأة، وما اختلاف التكوين الجسماني إلا نتيجة ليتجه كل لما أعد له فأي المنهجين أصلح للمجتمع وأليق بفطرة الحياة أن تثقف المرأة في مهمتها وضمن دائرة وظيفتها أو تثقف فيما ليس لهذه المهمة بصلة.
فإذا كانت الظروف تدعونا إلى أن يكون من الفتيات طبيبات لبنات جنسهن أو معلمات فلا بأس، أما تعليم الكيمياء والهندسة مثلا وأمثالهما من العلوم فضرب من الترف لا يكون إلا على حساب المهمة الأصلية التي أعدت لها الفتاة وعلى حساب مزاحمة الرجل.(3/159)
لقد أدخلت الفتاة كلية الزراعة والهندسة والعلوم في بعض البلدان، فما جنت؟ لم تجن إلا خروجها من مشاعر الأنوثة إلى السترجال الخشن والمرأة امرأة مهما بلغت لا تستغني عن أن تكون زوجة, وأما لهذا تهدف فطرتها وتهفو نفسها في حنان بالغ إلى تعيم البيت والأمومة.
إن المدارس التي تعلم الطبيب كيف يحارب العلل وينقذ المرضى، وتعلم التاجر كيف يروج بضاعته ويحسنها، والزارع كيف يجود حاصلاته وتسلم من الآفات، والصانع كيف يتقن صناعته يرقى بفنه، والأديب كيف يجني ثمار الأدب وينتفع بها.
إن المدارس التي تعد كلا من هؤلاء لوظيفته ومركزه الخاص جدير بها أن تعد الفتاة، ووظيفتها تختلف عن وظيفة الرجل للقيام بدورها الخطير.
فمما لا شك فيه أن الفتاة أحوج إلى دراسة نفسية الطفل في مراحل نموه، ومعرفة طرق العناية به خلقا وجسميا، وإلى دراسة قواعد حفظ الصحة والنظام منها إلى دروس في الميكانيك، وأحوج إلى علم التدبير المنزلي والتفصيل منها إلى الهندسة والفراغية وحساب المثلثات، وأحوج إلى دروس الدين الذي يهذب نفسها ويسمو بعواطفها، وينقي سريرتها ويطبعها طابع الأمومة الصحيحة والخلق القويم، ويعرفها بما لها وما عليها تجاه زوجها وأولادها.
وعلى أي حال فقد كان للغرب ظروفه، وقد أعفانا الله من هذه الظروف المدمرة، أفلا نحمد الله بالرجوع إليه والسير في الطريق الذي ارتضاه.(3/160)
لقد نسيت المرأة أو تناست في كثير من بلدان العالم أن البيت هو المقر الأساسي لها، ونسيت مهمتها الرئيسة التي خلقت لها، نسيت أن استقرارها في بيتها وأدائها لواجبها لهو أكبر وأجل خدمة تؤديها لوطنها، ألا ليتها تدرك ما لوظيفتها من أهمية، وأثر حياة الشعوب والأمم، إنها أخطر من عمل المعامل الذرية والهيدروجينية ألا ليتها تعلم مقدار ما يعود على البلد من عظيم النفع والمجد إذا قامت المرأة بواجبها في إعداد الجيل القادم وتنشئته تنشئة طيبة صالحة، وإعداده إعدادا قويا سليما فالمرأة الناضجة هي القادرة في هذه الأيام على تحمل المسؤولية في إدارة شؤون البيت، وما يتبعه من التزامات وفي رعاية الأولاد والإشراف على تربيتهم وتهذيبهم فكيف توفق المرأة بين ما ذكرت وبين ما عليه حالتها الآن في كثير من البلدان من إهمال لبيتها وأولادها حتى أصبح الوقت الذي تمضيه خارج البيت أكثر منه داخله.
وإن هنالك من يظن أن في استطاعة المرأة الجمع بين أداء واجباتها العائلية والعمل الخارجي، ولست أدري كيف يمكن الجمع بين هذا وذاك مع وجود ما سبق إيضاحه وتحديده من المسؤوليات؟ كيف توفق بين هذه الواجبات التي تطلب استقرار في البيت وبين ما هو حادث الآن من قضائها أغلب وقتها خارجه؟ تاركة للخدم مسؤولية البيت والأولاد وهم طائفة يعلم الله أنهم لا يفهمون مسؤولية أنفسهم لما هم عليه من جهل مطبق وإهمال شنيع!؟ وحادثة المربية التي استعانت بمادة الأفيون في تخدير الطفل ليريحها من بكائه أثناء غياب والدته الموظفة ليست ببعيدة.(3/161)
ثم لماذا تصر بعض النساء على فكرة الخروج من البيت والعمل في ميدان الرجل؟ ألا يمكن أن تتم المساواة كل في حيز الذي أعده الله له؟ وبدون أن يطغى أحدهما على اختصاص الآخر! وهل حينئذ تصبح دعوى المساواة أم دعوى تخريب حين يقال للجندي على الحدود: ما هذا الظلم؟ حيث تعيش بعيدا عن أهلك معرضا للخطر، والمرأة لا تخرج من البيت؟ إن المساواة تقضي أن تذهب إلى البيت وأن تخرج المرأة إلى خط النار؛ وأن يقال للعامل: ما هذا التخلف؟ حيث تقف وراء الآلة على قدميك ساعات بينما الموظف والمدير ورئيس الدائرة والوزير يقعد ست ساعات وراء الطاولة، إن المساواة تقضي أن يصبح العامل مديرا ورئيسا وأن يحشر الموظفون والرؤساء والقواد والمدراء إلى المعامل ليعملوا وراء الآلات، هل هذه دعوى مساواة أم دعوى تخريب؟
إن الدكتور محمد عوض يعلل هذه الظاهرة بقوله: "يقول علماء النفس إن هذه الظاهرة مردها إلى شيء يسمونه مركب نقص، وهو عبارة عن حالة نفسية تجعل صاحبها في سخط على عمله ووظيفته يرى أنه لم يعط العمل الذي يتفق مع كيانه وأنه لو قلد الأمر الذي يشتهيه لنبغ وأبدع".
وسواء ما يزعمه علماء النفس هو التعبير الصحيح أو لم يكن، فإن مهمة المرأة الحقيقة الرئيسية داخل بيتها وإذا تبقى للمرأة بعد ذلك شيء من الفراغ فتستطيع أن تستغله في الإصلاح لبنات جنسها، ولقد ثبت بالتجربة العلمية أن المشكلات الاجتماعية التي نشأت عن هدم المرأة لعرشها كثيرة أهمها:
1- هدم التوازن الاقتصادي والانتهاء إلى أزمة اقتصادية ذلك لأن المرأة حينئذ تصبح منافسة للرجل والأصل في الرجل أن يكون مسؤولا عن عائلته وأولاده.
2- انتشار العزوبة.
3- هدم الحياة العائلية وإفساد العلاقات الزوجية وإهمال تربية الأولاد.
بهذه المناسبة أكرر العجب أيضا!(3/162)
ولماذا تتطلع المرأة لكل ما هو من اختصاص الرجل ومن واجباته؟ ترى هل عقمت البلاد من الرجال؟ من يرشدني إلى ميدان من ميادين الرجل تنقصه الأيدي العاملة، ولا يوجد من الرجال من يملؤه ويسد الفراغ فيه؟
إن البلاد وخصوصا التي تزاحم المرأة فيها الرجل في حيرة شديدة كيف توجد أعمالا لهذا الجيش من العاطلين الذي يعول كل واحد منهم عائلة تتكون من زوجة وأولاد وأحيان أمهات وأخوات، يحدث هذا في الوقت الذي نجد فيه عددا ضخما من الفتيات والعاملات يشتغلن في الوظائف والمحلات وأغلبهن لهن من يقوم برعايتهن والصرف عليهن وبرغم ذلك يعملن وينافسن الرجل ولا دافع لهذا إلا التقليد والاستزادة ثم يصرفن الأجور في الترف وعلى ما تتطلبه منهن تلك المدنية الزائفة، من كماليات متعددة، وتبرج فاضح، وقد ثبت بما لايدع مجالا للشك أن توظيف المرأة في وظائف الدولة يزاحم الرجال في ميدان عملهم وفي الوقت الذي تزدحم فيه دوائر الدولة عندهم بالموظفات نرى العديد من المتعلمين حملة الشهادات يتسكعون في الطرقات لا يجدون عملا.
إن توظيف المرأة بدلا من الرجل عمل لا يبرره المنطق والمصلحة، حيث نخرج المرأة من بيتها ونأتي بها إلى دواوين الدولة والمعامل والمؤسسات، ثم نطرد الشباب من مكانه ونرده إلى البيت والشارع، فهذا قلب للأوضاع، وإفساد للمجتمع، وسير بقافلة البلاد إلى طريق الفوضى والأزمات.
لقد تولت الفطرة السليمة تقسيم العمل بين الرجل والمرأة على نحو عادل، فالزوجة تحمل الجنين تسعة أشهر في بطنها ثم ترضعه، وتقوم على مهده ومدارج طفولته، وجعلت القدرة الإلهية ذلك وقفا عليها وحدها وأعدتها إعدادا خلقيا له لا خيار لها في تقبله أو الفكاك منه، وهي في أثناء ذلك تتعرض لكثير من الضعف والألم والسقم وغيره مما يوهن عزمها ويضعف صحتها فلا تكون قادرة على اليسير من العمل.(3/163)
أما الرجل فقد أعفى مما أعدت له المرأة، وأعفي تبعا لذلك من موجبات السقم والألم، فكان عليه أن يقوم بالعمل الخارجي ويسعى في جلب قوته وقوت عياله؛ فهو لا يقدر على حمل الجنين في بطنه وولادته وحضانته وإرضاعه وخدمته، والحنان عليه كما تحضنه الأم وتشفق عليه، وذلك هو حكم الفطرة، فليست المرأة إذن خادما ذلولا مسخرا لخدمة الرجل، وليس الرجل معفيا من التكاليف، ولكنهما في تعاون معا على أداء مسؤوليات الحياة لكل منهما نصيبه، وفي ذلك بعض معنى قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [4] ، ومن ثم ندرك حكمة إعفاء المرأة من النفقة على نفسها وجعل ذلك من واجبات الرجل، فإنه ما كان يسوغ في منطق العدالة أن يثقلها بالحمل والوضع والرضاعة دون أن يقوم من جانبه بما يقابل ذلك من توفير النفقة لها.
فنحن إزاء سياسة فاضلة تقوم بتوزيع العمل بين الزوجين على أساس من العدالة التامة والمساواة والشورى.
أهذه قيمة الإنسان في حضارة المادة ووثنية المال؟(3/164)
إن كثيرين عندنا يغالطون حين يزعمون أن مساواة المرأة لا تتم إلا أن تقوم بعمل الرجل، وأن سر قوة الغربيين واختراعاتهم في أن المرأة تعمل عمل الرجل وأنّه لا يجوز للمرأة أن تكون عالة على أبيها أو زوجها أو أخيها؛ وإنني أقول: إن هذه الادعاءات ليست إلا مغالطة، ولا وزن لها في ميزان المنطق السليم، فليس الموظف الذي يقبض راتبه من خزينة الدولة يشعر أنّه عالة على الدولة بل يقبض راتبه بكل كرامة واعتزاز لأنّه يؤدي واجبا اجتماعيا نبيلا، والمرأة حين تكون في بيت أبيها قبل الزواج إنما تتمرس على شؤون البيت وأعماله وإداراته، فهي في عمل اجتماعي نبيل ثم إذا تزوجت بعد ذلك فهي في عمل يستغرق كل وقتها، فهل هي حينئذ تكون عالة على زوجها؟ أم أنها ستقوم بأعمال مرهقة قد تكون أكثر إرهاقا من عمل الزوج؟ وحينئذ هل تترك عملها في البيت لتعمل في خارجه؟ أم تقوم بالعملين معا؟!
إن ترك عملها في البيت لتعمل في الخارج إخلال بنواميس الحياة وخيانة للأمانة التي أوكلت بالمرأة، وفي قيامها بالعملين معا إرهاق لجسمها، وهو ظلم منها لنفسها ما بعده ظلم، وظلم من المجتمع لها، فالإسلام حين أراد منها أن تتفرغ لأعبائها وألزم زوجها أو وليها الإنفاق عليها إنما جعل هذا حقا لها؛ والإسلام بذلك صانها من الابتذال، وكفاها مشقة العمل فوق عملها المرهق، فهل انقلبت العناية بالمرأة في نظرها وفي نظر من عميت بصائرهم إلى احتقار وازدراء.(3/165)
إن على المرأة أن تتحمل كل ما تحملته المرأة الغربية، في خروجها من البيت وعملها خارجه، وعليها أن تقبل بكل النتائج في هذا الأمر، فعليها أن تتكفل بنفقات حياتها ودراستها منذ تجاوز الخامسة عشرة، وعليها أن تعمل كثيرا لتدخر ما تقدمه لمن ترغب في الاقتران به من مال يرضيه، وعليها أن تشارك الزوج بعد ذلك في نفقات البيت والأولاد، وعليها أن تستمر في العمل لكسب قوتها، ولا يحق لها أن تطالب أبا أو أخا أو زوجا بأي معونة، وعليها أن تفتش عن عمل لها أينما كان في المكاتب التجارية، في المخازن الكبرى، في بيع الجرائد، في الأحذية، في جمع القمامة، في حراسة الأبنية الكبيرة، في حمل الأثقال لتنظيف المراحيض، في كل ما يشتغل فيه الرجل، وهذه أعمال نرى أو نسمع أن المرأة عند غيرنا أنها تقوم بها في جميع بلاد أوروبا، وفي بلاد الاتحاد السوفياتي حيث اقتحمت المرأة في تلك البلاد كل عمل لتعيش.
هذه هي حالة المرأة في البلاد التي يريد تقليدها بعض الذين فسدت ضمائرهم على حين أن المرأة عندنا تبقى في بيتها يكد الرجل ليرعاها، فإذا كانت المرأة عندنا اليوم ترغب في العمل خارج بيتها، ولا تتعرض إلا لأعمال السهلة لا مشقة فيها فيجب عليها أن تنتظر الأعمال الشاقة المرهقة كالمرأة الغربية، فمساواة المرأة بالرجال على ما يزعمون من شأنها أن تجعلها تقوم بكل ما يقوم به كما هو الأمر عند من تريد أن تقلده.
وأهم ما في الأمر من خطورة أن فسح المجال أمام المرأة للعمل خارج البيت ينشأ عنه تفكك الأسرة، وتشرد الأطفال، وهذا من أكبر العوامل في انحلال المجتمع وانهياره، وهو ما وقع فيه الغرب ودفع بالمفكرين منهم إلى الشكوى والإعلان عن قرب انهيار حضارتهم نتيجة لذلك.(3/166)
يقول أوجست كونت مؤسس علم الاجتماع الحديث في كتابه النظام السياسي: "لو نال النساء يوما من الأيام هذه المساواة المادية التي يتطلبها لهن الذين يزعمون الدفاع عنهن فإن ضمانتهن الاجتماعية تفسد على قدر ما تفسد حالتهن الأدبية لأنهن في تلك الحالة سيكنّ خاضعات لمزاحمة قوية بحيث لا يمكنهن القيام بها".
ولما كتبت زوجة هيركور الشهيرة بالمدافعة عن حقوق النساء إلى الفيلسوف الاشتراكي برودون تسأله عن رأيه في مسألة النساء؟ أجابها كما يقول في كتابه ابتكار النظام: "بأن هذه الجهود المبذولة من النساء لا تدل إلا على علة أصابت جنسهن"، ثم يقول: "إن حالة المرأة إذا جرت على النسق الذي تريدينه كما هو حالة الرجل فيكون أمرها قد انتهى لأنها تصير مستعبدة مملوكة".
ويقول الفيلسوف الاقتصادي جول سيمون في مجلة المجلات المجلد/17/ كما ينقل الدكتور مصطفى السباعي في كتابه المرأة بين الفقه والقانون: "النساء قد صرن الآن نساجات طباعات وقد استخدمتهن الحكومة وبهذا فقد اكتسبن بضعة دريهمات ولكنهن في مقابل ذلك قد قوضن دعائم أسرهن تقويضا، نعم إن الرجل صار يستفيد من كسب امرأته ولكن بإزاء ذلك قل كسبه لمزاحمتها له في عمله".
ويقول: أوغست كونت أيضا: "يجب أن تكون الحياة النسوية منزلية على قدر الإمكان ويمكن تخليصها من كل عمل خارجي ليمكنها على ما يرام أن تحقق وظيفتها الحيوية".
ويقول جيوم فربرو الشهير في أحوال الإنسان وتطوراته في مجلة المجلات المجلد/18/ما يلي: "يوجد في أوروبا كثير من النساء اللواتي يتعاطين أشغال الرجال ويلجئون بذلك إلى ترك الزواج بالمرة وأولاء يصح تسميتهن بالجنس الثالث".
ويقول جول سيمون أيضا: "المرأة التي تشتغل خارج البيت تؤدي عمل عامل بسيط ولكنها لا تؤدي عمل امرأة".(3/167)
هذه بعض أقوال الغربيين ولا يتسع المجال لأكثر من هذا، وأنا لنذكر أن هتلر في آخر أيامه قد بدأ بمنح الجوائز لكل امرأة تترك عملها خارج البيت وتعود إلى بيتها، وكذلك فعل موسوليني يومئذ.
إن أهم حجة يستند إليها المتحمسون لاشتغال المرأة خارج بيتها هو أن اشتغالها يزيد في الثروة القومية وأن البلاد تخسر كثيرا يقصر عمل المرأة على أعمال البيت عدا ما فيه من تعويد على الكسل وقتل وقتها بما لا يفيد وتقويض هذه الحجة سهل إذا تذكرنا الحقائق التالية:
1- أن اشتغال المرأة يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيرا سيئا باعتبار أن اشتغالها فيه مزاحمة للرجل في ميدان نشاطه الطبيعي مما يؤدي إلى نشر البطالة في صفوف الرجال كما وقع في جميع البلاد التي أخذت المرأة فيها طريقها إلى العمل خارج البيت في السوق والمصنع ووظائف الدولة.
2- إذا ثبت أن اشتغال المرأة يؤدي إلى بطالة الرجل كان من المحتمل أن يكون ذلك الرجل الذي زاحمته أباها أو أخاها فأي ربح اقتصادي للأسرة إذا كان اشتغال المرأة يؤدي إلى بطالة عميدها والمكلف بالإنفاق عليها.
3- إن مصالح الشعوب لا تقاس دائما بالمقياس المادي فلو فرضنا أن اشتغال المرأة يزيد في الثروة القومية إلا أنّه من المؤكد أن الأمة تخسر بذلك خسارة معنوية واجتماعية ومادية لا تقدر فأي الخسارتين أبلغ ضررا؟ الخسارة المادية أم الخسارة المعنوية والاجتماعية.
إن النظر إلى كل فرد في المجتمع كآلة منتجة تهتم الدولة بزيادة إنتاجها هو رجوع بالإنسان إلى الوراء إلى عهود العبودية والسخرة وهذا ما لا ترضاه الإنسانية الكريمة.(3/168)
على أن هذه النظرة المادية لا تنطبق على واقعنا وواقع المجتمعات الأخرى حتى الشيوعية نفسها، فهنالك في كل مجتمع فئات معطلة عن الإنتاج المادي للتفرغ لأمور هامة خطرة، فالجيوش والموظفون لا يزيدون في ثروة الأمة المادية، وقد رضيت كل الأمم أن يتفرغ الجيش لحماية البلاد، والموظفون لإدارة الشؤون دون أن تلزمهم الكسب، فهل يقال: إن هذا تعطيل للثروة القومية في البلاد؟
إن خوض الأمة معارك الدفاع عن حياتها وانتزاع حقها واستقلالها من أيدي الغاصبين ترحب به كل أمة، بل لا تستطيع أي أمة أن تفعل غيره، فكم تلحق الأمة من خسائر بشرية ومادية في سبيل الدفاع المشروع وهل يجرؤ أحد أن يدعو الأمة إلى تسريح جيشها، وعدم شراء الأسلحة والذخائر وصنعها وعدم مقاومة المغيرين بحجة أن في ذلك كله خسارة مادية وإضرار بالإنتاج القومي والثروة العامة.
لاشك بأن هؤلاء المنادين باشتغال المرأة خارج بيتها لا يوافقون على حرمان الأمة من جهود أفراد الجيش والموظفين من الناحية الاقتصادية في سبيل مصلحة أغلى وأثمن من المنفعة الاقتصادية، إذا كان ذلك كذلك فهل يكون التفرغ لشؤون الأسرة أقل فائدة من تفرغ الجيش لحماية البلاد!؟، أم يريدون أن ترهق المرأة بالعملين معا، ثم أي عاقل يعرف خطورة رسالة المرأة في البيت يعتبر تفرغها لأداء هذا الواجب سجنا، فلم لا نقول: إن الموظف في ديوانه والزارع في مزرعته بأنه في سجن، ثم أي معنى لقول من يقول: إن وجود المرأة في البيت يعودها الكسل، إن أمثال هؤلاء لا يعرفون متاعب البيت وأعماله، وكيف تشكو المرأة من عنائه، فما يمسي المساء إلا وهي منهوكة القوى هذا إذا قامت بواجبها كما يجب.(3/169)
ومن هنا ندرك أن الخطر الذي يحدق اليوم بالحضارة الغربية كما أحدق من قبل بالحضارتين اليونانية والرومانية نتيجة عمل المرأة واختلاطها بالرجال سيحدق بنا نحن مع فارق واضح وهو أن هذه الحضارات جميعا التي كان تبرج المرأة وخروجها واختلاطها وعملها خارج البيت مرضا من أمراضها القاضية عليها، قد بلغ أصحابها ذروة الحضارة عندهم، بينما يحدق بنا الخطر ونحن في بداية طريق النهوض.
ومن العجيب أن يريد لنا البعض أن نبدأ من حيث انتهى غيرنا وأن نساير غيرنا في أمر أخذ يعلن أنه سيقضي على حضارته، وليس للأمة مصلحة في استجلاب هذا الخطر إلى بيوتها وأسرها هانئة تنعم بالاستقرار والتماسك والحب والثقة، الأمر الذي لا يعرفه غيرنا بعد أن تفشت فيهم تلك الأمراض بل بدأوا يحنون إليه ويعلنون عن أسفهم للحرمان منه وخلاصة القول في هذا الموضوع: إننا لا بد أن نختار أحد طريقين: طريق إسلامنا الذي يصون كرامة المرأة ويفرغها لأداء رسالتها كزوجة وأم، وفي سبيل ذلك يتكفل المجتمع ضمان حاجتها المعاشية، وليس في ذلك غضاضة عليها ما دامت تتفرغ لأهم عمل فالمرأة التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بشمالها.(3/170)
أو بين طريقة الغرب التي ترهقها بمطالب الحياة وتجبرها على أن تكدح وتعمل لتأمين معيشتها مع وظيفتها كزوجة وأم، وبذلك تخسر نفسها، ويخسر المجتمع استقرار حياة الأسرة وتماسكها ولهذا علينا أن نختار، ونحن المسلمين ما رأينا خيرا من طريق الإسلام لأنه نظام الله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [5] ، فجدير بنا أن نتمسك بإسلامنا لأننا لم نر نساء خيرا من نسائنا ما تمسكن بحجابهن وتقيدن بأحكام الإسلام وآداب ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج عائشة وأسماء وخولة ورابعة، وألافا من المربيات الفضليات، اللاتي ولدن أولئك الرجال الذين كانوا فرسان الميادين والمنابر، وكانوا سادة الدنيا وقادة العالم، وكانت النساء أمهات أولئك السادة والقادة.
ولنذكر جميعا قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [6] ، هذا هو الحق وما بعد الحق إلا الضلال.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [7] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة النساء آية:7.
[2] سورة الأحزاب آية 33.
[3] سورة الروم آية21.
[4] سورة البقرة آية228.
[5] سورة المائدة آية50.
[6] سورة الأحزاب آية36.
[7] سورة فصلت آية53.(3/171)
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي
بقلم الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
الحلقة الثانية
عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما
أما في عهد عثمان رضي الله عنه فإن عليا بنفسه كان يؤم الناس في التراويح أكثر ليالي الشهر، كما في سنن البيهقي رحمه الله عن قتادة عن الحسن قال: "أمّنا علي بن أبي طالب في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه عشرين ليلة، ثم احتبس، فقال بعضهم: قد تفرغ لنفسه، ثم أهم أبو حليمة معاذ القارئ، فكان يقنت".
ففي هذا العهد تولى علي رضي الله عنه بنفسه إمامة الناس عشرين ليلة، وفيه أيضا كان القنوت في العشر الأواخر.
أما مسألة القنوت فكان كذلك "أبيّ" يقنت في النصف الأخير من رمضان رواه البيهقي.
ولم نجد جديدا في عدد الركعات، وأغلب الظن أنها كانت على ما كانت عليه زمن عمر رضي الله عنه، لما سيأتي من عدد ركعاتها في عهد علي رضي الله عنه.
الدعاء في ختم القرآن:
غير أننا وجدنا هنا في عهد عثمان رضي الله عنه عملا يكاد يكون جديدا في التراويح وهو الدعاء بختم القرآن في نهاية الختمة، وذلك لما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني ج2 ص171 قال: "فصل في ختم القرآن، قال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله فقلت: أختم القرآن، أجعله في الوتر أو في التراويح؟، قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام، قلت بما أدعو؟ قال: بما شئت، قال: ففعلت بما أمرني، وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه".(3/172)
قال حنبل: "سمعت أحمد يقول: في ختم القرآن إذا فرغت من قراءة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة"، قال العباس بن عبد العظيم: "وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة، ويروي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان".
فقوله رأيت أهل مكة يفعلونه وفعل سفيان بن عيينة معهم، ثم قول العباس بن عبد العظيم أدركنا الناس بالبصرة وبمكة وبروي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان يدل أنّه كان عملا عاما في تلك الأمصار مكة والبصرة والمدينة، ويشير إلى أنّه لم يكن قبل زمن عثمان.
كما يدل على أنّه من عمل عثمان رضي الله عنه إن صحت عبارته، ويروي أهل المدينة في هذا شيئا…الخ.
وعلى كل فقد فعله أحمد رحمه الله مستدلا بفعل أهل الثلاثة المذكورة ومستأنسا بما يروي أهل المدينة في هذا عن عثمان رضي الله عنه، مما يدل على أنّه كان موجودا بالمدينة عمل دعاء الختم الذي يعمل اليوم في التراويح مع طول القيام، وسيأتي نصه في سياق مذهب أحمد رحمه الله تعالى إن شاء الله.
العباس بن عبد العظيم:
أما العباس بن عبد العظيم الذي أسند إليه القول سابقا: أدركنا الناس بالبصرة ومكة ويوي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان؛ فإنّ العباس هذا قد ترجم له في التهذيب ج5 ص122 مستهلا يقول: "عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل بن توبة العنبري أبو الفضل البصري الحافظ"، وعدّ من روى عنهم نحو العشرين، ثم قال: "وجماعة، وعند الجماعة ولكن البخاري تعليقا"، ثم عدّ عشرة أشخاص ممن أخذوا عنه ثم قال وغيرهم.
ثم قال: قال أبو حاتم: "صدوق"، وقال النسائي: "مأمون"، وذكر ثناء العلماء عليه، وأخيرا قال: قال البخاري والنسائي: "ومات سنة256"ثم قال: "قلت - أي صاحب التهذيب - وقال مسلمة: "بصري ثقة".(3/173)
وقال عنه في التقريب: "عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل العنبري أبو الفضل البصري ثقة حافظ من كبار الحادية عشرة مات سنة40 - حث م عم".
ورمزه بحرف: (خت) أي للبخاري تعليقا، وحرف (م) أي لمسلم، وحرف (عم) أي للجماعة سوى الشيخين.
فتبين بذلك أن نقله عن أهل المدينة نقل ثقة حافظ، والله تعالى أعلم.
فيكون الجديد في التراويح في عهد عثمان رضي الله عنه أنّ عليا بنفسه كان يؤم الناس فيها عشرين ليلة، وأنّه وجد دعاء ختم القرآن.
عهد علي رضي الله عنه:
أما عهد علي رضي الله عنه فجاء في سنن البيهقي أنّه رضي الله عنه جعل للرجال إماما وللنساء إماما، ولكنه كان يؤمهم بنفسه في الوتر؛ فعن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: "دعا القراء في رمضان فأمر منهم رجلا أن يصلي بالناس عشرين ركعة، قال وكان علي رضي الله عنه يوتر بهم"، قال البيهقي: "وروى هذا من وجه آخر عن علي".
فقد وجدنا هنا تجديدا في زمن علي حيث أنّه كان في عهد عثمان رضي الله عنه يصلي بهم التراويح وفي العشر الأخير يقتصر لنفسه، وهنا نجد عليا رضي الله عنه يصلي بهم الوتر.
أما إمام النساء في زمن علي رضي الله عنه فهو عرفجة الثقفي كما عند المروزي، قال عرفجة الثقفي: "أمرني علي رضي الله عنه فكنت إمام النساء في قيام رمضان".
ففي زمن علي رضي الله عنه كانت التراويح عشرين والوتر ثلاث، وهذا أغلب الظن كما كانت في عهد عثمان رضي الله عنه، وعهد عمر رضي الله عنه، وأن الزيادة إنما أحدثت بعد عهد علي رضي الله عنه أي الست والثلاثين المتقدمة.
وفي زمنه أيضا تولى هو الإمامة في صلاة الوتر على خلاف عثمان وعمر رضي الله عنهما.
ما بين عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه(3/174)
مما تقدم يظهر للمتأمل أن عدد ركعات التراويح كان مستقرا إلى ثلاث وعشرين، منها ثلاث ركعات وترا كما في رواية يزيد بن الرومان عند مالك كما تقدم، قال: "كان الناس يقومون زمن عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة؛ وهو كما قال عنه في التقريب: يزيد بن الرومان المدني مولى آل الزبير ثقة من الخامسة، مات سنة ثلاثين أي بعد المائة، فيكون قد عني بزمن عمر فقط، وإلا لقال: "وعثمان وعلي".
وعليه تكون الزيادة التي وردت في روايات كل من معاذ القارئ وصالح مولى التوأمة أنها وجدت بعد عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، لأنها محددة بما قبل الحرة، ولم تعين أي وقت كان قبلها.
فإذا كانت النصوص تحدد بثلاث وعشرين زمن عمر، وتظل تنص على ثلاث وعشرين أيضا من فعل علي في عهد علي فيكون من البين أن هذا العدد كان مستقرا وثابتا إلى زمن علي رضي الله عنه، وأن الزيادة إنما جاءت بعده، وقد استمرت إلى عمر بن عبد العزيز فيما بعد.
تحديد الزيادة التي طرأت على عهد علي رضي الله عنه:
1- أولا: جاءت رواية نافع مولى ابن عمر رضي الله عنه كما تقدم عند الباجي أنّه قال: "أدركت الناس يصلون بسبع وثلاثين ركعة يوترون منها بثلاث".
أي أن التراويح زادت من عشرين إلى ست وثلاثين ماعدا الوتر ثلاث؛ ونافع مات سنة 117 أي بعد وفاة عمر بن عبد العزيز رحمه الله بست عشرة سنة، لأنّ عمر مات سنة 101.
وقوله: أدركت الناس، يشير إلى أنّ ذلك من قبل خلافة عمر بن عبد العزيز، وقد صرح بهذا العدد في عهد عمر بن العزيز رحمه الله أبان بن عثمان أيضا، وداود بن قيس عند المروزي؛ قال: "أدركت المدينة في زمن أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يصلون ستا وثلاثين ركعة يوترون بثلاث، وفي بعض الروايات ويوترون بخمس".
وبالنظر في رواية داود بن قيس وإحدى روايتي نافع يتبين أن التروايح كانت في عهد عمر بن عبد العزيز ستا وثلاثين ركعة.(3/175)
وبالنظر في رواية معاذ القارئ وإحدى روايتي نافع الأخرى يتبين لنا أن تلك الزيادة وجدت قبل عمر بن عبد العزيز، لأنّ فيها أنّه كان يصلي إحدى وأربعين ركعة..
وإحدى روايتي نافع أنّه أدرك الناس يصلون ستا وثلاثين ويوترون بخمس ومجموعها إحدى وأربعون، فتتفق روايات كل من نافع وداود بن قيس وصالح مولى التوأمة على وجود إحدى وأربعين ركعة، منها الوتر بخمس، وأن ذلك من قبل عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وأنّه أقرها على ذلك.
وقد استمرت إلى ما بعده كما سيأتي من رواية وهب بن كيسان.
وقد قال الشافعي رحمه الله في كتابه الأم: ج1ص142 ما نصه: "ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين، وأحب إلى عشرين لأنّه روي عن عمر، وكذلك يقومون بمكة، ويوترون بثلاث".
عهد الأئمة الأربعة رحمهم الله
أولا: عهد مالك رحمه الله إمام دار الهجرة:
لقد أدرك مالك رحمه الله عمر بن عبد العزيز، وأدرك من حياته ثمان سنوات لأنّ عمر رحمه الله مات سنة101، ومالك ولد سنة93، فكانت وفاة عمر بعد ولادة مالك بثمان سنوات أي حين كان مالك في أوائل طلب العلم، وقد جاءت النصوص أنّ عدد ركعات التراويح ستا وثلاثين أثناء وجود مالك؛ بل كانت موجودة وعمره أربع وثلاثون سنة كما في رواية وهب بن كيسان، قال: "ما زال الناس يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث إلى اليوم في رمضان"وقد مات وهب سنة127.
وقد نص مالك رحمه الله بما هو أصرح من ذلك حيث جاء عن ابن أيمن عند المروزي قال مالك: "أستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة ثم يسلم الإمام والناس، ثم يوتر بهم بواحدة"، وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة؛ فيفهم من قول مالك هنا: "وهذا العمل قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة"، أنّ التسع والثلاثين بما فيها الوتر كانت قبل عمر بن عبد العزيز، وأنّه العدد الذي أقره واستحبه مالك وأخذ به.(3/176)
ولذا كان يكره أن ينقص عن هذا العدد، كما روى ابن القاسم عنه قال: "سمعت مالكا يذكر أن جعفر بن سليمان أرسل عليه يسأله أننقص من قيام رمضان فنهاه عن ذلك، فقيل له: قد كره ذلك؟ أي قيل لابن القاسم قد كره مالك ذلك، قال: نعم…"راجع المدونةج1ص222.
وقد قام الناس هذا القيام قديما، قيل له: فكم القيام؟ فقال: تسع وثلاثون ركعة بالوتر، وسيأتي نص مذهب مالك مفصلا في ذلك على حدة إن شاء الله، مع نصوص المذاهب الأربعة بعد، والمراد هنا ذكر حالة التراويح في عصره في المسجد النبوي.
وقد أدرك الشافعي مالكا وأخذ عنه، وجاء عن الشافعي أيضا هذا العدد في المدينة المنورة، قال الزعفراني عن الشافعي: "رأيت الناس يقومون بالمدينة تسعا وثلاثين ركعة".
أما مذهبه فأشار عليه بقوله عقب ذلك "وأحب إلي عشرون"، قال: "وكذلك يقومون بمكة"أي بالعشرين، قال: "وليس في شيء من هذا ضيق، ولا حد ينتهي إليه لأنّه نافلة فإن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وهو أحب إلي، وإن أكثروا السجود فحسن".
وسيأتي تفصيل مذهبه إن شاء الله عند ذكر المذاهب الأربعة في المسألة، وعليه فلا جديد في عدد الركعات، ولكن قد وجد جديد في نواح أخرى منها:
1- منها كيفية القراءة أي مقدارها، فقد كانت بعشر آيات في كل ركعة كما في رواية عبد الرحمن بن القاسم عند المروزي: "سئل مالك عن قيام رمضان بكم يقرأ القارئ؟ قال: بعشر عشر، فإذا جاء السور الخفيفة فليزد مثل الصافات، وطسم، فقل: له خمس، قال: بل عشر آيات".
ونص ابن وهب في المدونة الكبرىج1ص223: "أن عمر بن عبد العزيز أمر القراء يقومون بست وثلاثين ويوترون بثلاث، ويقرأ بعشر آيات في كل ركعة".(3/177)
بينما نجد في زمنه من يقرأ القرآن كل ليلة، قال مالك: "كان عمر بن جعد من أهل الفقه والفضل، وكان عابدا، ولقد أخبرني رجل أنّه كان يسمعه في رمضان يبتدئ القرآن في كل يوم، قيل له: كأنه يختم! قال: نعم، وكان في رمضان إذا صلى العشاء انصرف، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين قامها مع الناس، ولم يكن معهم غيرها"، فقيل له: "يا أبا عبد الله فالرجل يختم القرآن كله في ليلة؟ قال: ما أجود ذلك إن القرآن إمام خير أو إمام كل خير".ا. هـ
الجهر بالبسملة:
2ـ ومنها أنّه وجد في زمنه هيئة افتتاح القراءة لم تكن من قبل، وهي الجهر بالبسملة والاستعاذة.
قال ابن وهب: "سألت مالكا قلت: أيتعوذ القارئ في النافلة؟ قال: نعم، في شهر رمضان يتعوذ في كل سورة يقرأ بها يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قيل له: ويجهر بذلك؟ قال: نعم؛ قيل له: ويجهر في رمضان بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: نعم".
وعن ابن القاسم: "سئل مالك عن القراءة إذا كبر الإمام افتتح بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ قال: لا أعلمه يكون إلا في رمضان، فإن قراءنا يفعلون ذلك، وهو من الأمر القديم".
وقوله: هو من الأمر القديم يشهد له ما جاء عن أبي الزناد قال: "أدركت القراء إذا قرءوا في رمضان تعوذوا بالله السميع من الشيطان الرجيم ثم يقرؤون"، قال المروزي: "وكان إذا قام في رمضان يتعوذ حتى لقي الله لا يدع ذلك".
وأبو الزناد مات سنة 130هـ أي بعد عمر بن عبد العزيز وقبل مالك.
وجاء أنّ قراء عمر بن عبد العزيز كانوا لا يدعون التعوذ في رمضان، ولعل هذا هو مراد أبي الزناد بقوله أدركت القراء، يعني قراء عمر بن عبد العزيز، لأنّ بين وفاته ووفاة عمر بن عبد العزيز تسعة عشر سنة فقط.(3/178)
وظل هذا الأمر بعد أبي الزناد إلى سعيد بن إياس قال: "رأيت أهل المدينة إذا فرغوا من أم القرآن ولا الضالين، وذلك في شهر رمضان يقولون: "ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم".
أما حكم المسألة عند ملك فكما قال الباجي في شرح الموطأ: "مسألة: ولا بأس بالاستعاذة للقارئ في رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، وروى عنه أشهب في العتبية: "ترك ذلك أحب إليّ".
وقد وجه الباجي كلا الروايتين، والواقع أن البسملة كما قيل: إنها حرف أي جاءت رواية في القراءات السبع بإثباتها، وراية بإسقاطها، وهما عن نافع رحمه الله.
فرواية ورش ترك البسملة، وراية قالون عنه إثباتها وعليه البيت الآتي في القراءات:
قالون بين السورتين بسملا
وورش الوجهان عنه نقلا
ونافع هو قارئ المدينة، وعنه أخذ مالك، ومالك في ذلك رجح قراءة قالون، والرواية عن ورش التي فيها الإثبات.
أما ما يبدأ به القراءة في أول ليلة من رمضان فقد قال المروزي قال أبو حازم: "كان أهل المدينة إذا دخل رمضان يبدءون في أول ليلة بـ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} .
وأخبرني الشيخ حماد الأنصاري المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة أنّ هذا هو عمل البلاد إلى اليوم وقد تركهم يفعلونه قبل أن يهاجر إلى المدينة، وقد باشر هذا بالفعل حينما كان إماما في بلاده في التراويح، وأهل تلك البلاد كلهم على مذهب مالك.
مقارنة بين قيام أهل المدينة وأهل مكة في ذلك الوقت:
مما تقدم من كلام مالك أنّه يستحب أن يقوم الناس بثمان وثلاثين ويوترن بواحدة أي تمام تسع وثلاثين، مع ما تقدم من كلام الشافعي أنّه أدرك الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين؛ فإنّ ذلك كله يبين ما كان عليه القيام بالمدينة زمن مالك والشافعي.
ولكن الشافعي قال فيما تقدم: "وأحب إليّ عشرون"، وقال: "وكذلك يقومون بمكة"، ثم قال: "إنّه نافلة وليس في ذلك حد ينتهي إليه".(3/179)
ومن مجموع هذه الأقوال يثار سؤال وهو:
لم كان أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ويستحبه مالك، في الوقت الذي لا يقوم فيه أهل مكة إلاّ بعشرين وهو أحب إلى الشافعي؟
أما قول الشافعي رحمه الله: "وأحب إليّ عشرين، وأنّه قيام مكة"؛ فإنّ الظاهر والله تعالى أعلم أنّ الأصل أي ما كان عليه العمل زمن الخلفاء الثلاثة: عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعليه إجماع الصحابة أنهم قاموا بذلك العدد في المسجد، وقام به علي بنفسه في زمنه، أي أمر القارئ أن يصلي بعشرين وكان هو يوتر لهم، وقال أبو زرعة في طرح التثريب ج1ص198: "والسر في العشرين أن الراتبة في غير رمضان عشر ركعات فضوعفت فيه لأنّه وقت جد وتشمير".
وعلى كل فهو عمل يدخل في سنة الخلفاء الراشدين المهديين رضوان الله عليهم.
فكان أهل مكة عاملين بالأصل، وليس هناك موجب للزيادة على العشرين، وإن كانت كما قال الشافعي: "إنّه تطوع وليس في ذلك حد ينتهي إليه".
أما قيام أهل المدينة بست وثلاثين فهو زائد عن ذاك الأصل، وهو وإن كان تطوعا فلم يستحبه مالك؟ ثم ولم زاد أهل المدينة على ما كان الأصل مع أنّ المتوقع أن يكونوا هم أولى بالوقوف عند ما هو الأصل: عشرين ركعة.
والجواب عن ذلك ما حكاه النووي في المجموع شرح المهذب، وحكاه غيره من أن المسألة من باب الاجتهاد في الطاعة، والمنافسة في الخير، وأنّ الموجب الأساسي لذلك هو أن أهل مكة كانوا إذا تروحوا ترويحة قاموا إلى البيت فطافوا سبعا، وصلوا ركعتي الطواف، ثم عادوا إلى الترويحة الأخرى.
ومعلوم أنّ الترويحة أربع ركعات بتسليمتين وكانت الاستراحة تقع بين كل أربع ركعات فيكون لديهم فرصة للطواف أربع مرات بين التراويح، فأراد أهل المدينة أن يتعوضوا عن الطواف فجعلوا ترويحة مقابل كل طواف.(3/180)
قال النووي في المجموع ما نصه: "وأما ما ذكروه من فعل أهل المدينة فقال أصحابنا سببه أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين طوافا ويصلون ركعتين، ولا يطوفون بعد الترويحة الخامسة، فأرد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربع ركعات فزادت ست عشرة ركعة، وأوتروا بثلاث فصار المجموع تسعا وثلاثين والله أعلم".
قال الزركشي وهو من أعلام المائة الثامنة في كتابه: (إعلام الساجد بأحكام المساجد) ص260: ما نصه: "قال الماوردي والروياني: اختلفوا في السبب في ذلك على ثلاثة أقوال: أي سبب الزيادة على العشرين المذكورة:
أحدها: أن أهل مكة كانوا إذا صلوا ترويحة طافوا سبعا إلاّ الترويحة الخامسة فإنهم يوترون بعدها، ولا يطوفون فتحصل لهم خمس ترويحات وأربع طوافات فلما لم يكن لأهل المدينة مساواتهم في أمر الطواف الأربع، وقد ساووهم في الترويحات الخمس، جعلوا مكان كل أربع طوافات أربع ترويحات، زوائد فصارت تسع ترويحات، فتكون ستا وثلاثين ركعة لتكون صلاتهم مساوية لصلاة أهل مكة وطوافهم.
والثاني: السبب فيه أن عبد الملك بن مروان كان له تسعة أولاد فأراد أن يصلي جميعهم بالمدينة فقدم كل واحد منهم فصلى ترويحة فصارت ستا وثلاثين.
والثالث: أن تسع قبائل من العرب حول المدينة تنازعوا في الصلاة، واقتتلوا فقدم كل قبيلة منهم رجلا، فصلى بهم ترويحة فصارت سنة والأول أصح"، انتهى منه.
والظاهر أن السبب الحقيقي إنما هو الأول فقط لأنّ الثاني وإن كان يعطينا فكرة عن أبناء الأمراء والخلفاء ومنازل الشرف وميادين المنافسة بالتقدم إلى الصلاة بالناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنه كان من الممكن حصول ذلك لهم بالتناوب لكل واحد ليلة، ويبقى العدد على ما هو عليه.(3/181)
أما الثالث: فهو فضلا عن أنّ فيه صورة العصبية فإنّه أبعد أن يكون في الصدر الأول، ولا سيما للمسجد إمام مسؤول عنه، وقد صلوا جميعا بصلاته فريضة العشاء، فكيف يتنازعون عليه في النافلة.
إختصاص أهل المدينة بهذا العدد:
وهل هذا العمل خاص بأهل المدينة أم لغيرهم لمن أراد المنافسة في الخير؟.
فقد ناقش العلماء هذه المسألة: فأكثر الشافعية يقولون هو خاص بهم.
قال الزركشي الشافعي في كتابه إعلام الساجد: في خصائص المدينة في المسألة العشرين: قال ما نصه: "قال أصحابنا وليس لغير أهل المدينة أن يجاوروا أهل مكة ولا ينافسوهم"انتهى.
وقال ولي الدين العراقي في طرح التثريب ج1ص98 ما نصه: "وقال الحليمي من أصحابنا في منهاجه فمن اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين أيضا لأنهم إنما أرادوا بما صنعوا الاقتداء بأهل مكة في الاستكثار من الفضل لا المنافسة كما ظن بعض الناس".
والظاهر من مذهب المالكية أنفسهم أنها ثلاث وعشرون ركعة، أي في غير المدينة.
وجاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجموع ج22ص272 في كلامه على قيام رمضان ما نصه: قال: "ثم كان طائفة من السلف يقومون أربعين ركعة ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن".
وعلى هذا فلا يقوم دليل على خصوصية هذا العدد بأهل المدينة إلاّ بالعمل وبالنقل على مدى الزمن إلى القرن السابع ومن ثم إلى أواخر عهد الأشراف وقبل العهد السعودي.
وقد تقدم أن سبب زيادة أهل المدينة على أهل مكة أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين سبعا ويصلون ركعتين سنة الطواف فجعل أهل المدينة مكان كل طواف ترويحة زائدة حتى بلغ عدد تراويحهم ستا وثلاثين.(3/182)
وهذا على إطلاقه يفيد أن هذا العمل أي الطواف كان لجميع أهل مكة، ولكن الواقع خلاف ذلك، وهو أنّ أهل مكة كانوا يصلون بأربعة أئمة للمذاهب الأربعة، ولم يكن يفعل ذلك أي الطواف بين التراويح إلا إمام الشافعية فقط، وهذا بناء على ما ذكره ابن جبير في رحلته وقد كان في مكة سنة579 قال: "والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهادا، وذلك أن يكمل التراويح المعتادة التي هي تسليمات ويدخل الطواف مع الجماعة، فإذا فرغ من السبع وركع عاد لإقامة تراويح آخر وضرب بالفرقعة الخطيبة ضربة يسمعها كل من في المسجد لعلو صوتها كأنها إيذان بالعودة إلى الصلاة فإذا فرغوا من تسليمتين ثم عادوا للطواف هكذا إلى أن يفرغوا من عشر تسليمات فيكمل لهم عشرون ركعة ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون، وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا".
ومعلوم أن الشافعية في غير مكة لا يزيدون على ثلاث وعشرين ركعة، والعلم عند الله تعالى.
وبهذا العرض تنهي المائة الثانية ثم قد استهل عصر التأليف والتدوين والاجتهاد والاستنباط والأئمة الأربعة رحمهم الله، وفي أوائل المائة الثالثة بدأ تميز المذاهب الأربعة، وسنفرد لهم فصلا نورد فيه مذاهبهم رحمهم الله كل مذهب على حدة وذلك في نهاية البحث إن شاء الله بعد الفراغ من العرض المسلسل تاريخيا، ونعقد مقارنة بين أقوال المذاهب في حكم التراويح وعددها والقراءة فيها وعمل الختم، وختم أهل مكة وختم أهل المدينة.
ثم نعقبه بمتنوعات عن التراويح مما يتم به العرض وبالله التوفيق وإلى المائة الثالثة.(3/183)
التقدم والرجعية (2)
بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
الرجعية في نظر الدول التي لا تدين بدين:
عبرت بالدول ولم أعبر بالشعوب، لأنّ حرية الفرد في شعوبها أمر مستهجن لا قيمة له، فلا سبيل إلى معرفة مقدار تمسك شعوبها بالدين أو عدمه، فلا نستطيع أن نحكم على حكامه فهم يزعمون أنّ الدين (أفيون) الشعوب؛ قالوا: "لأنّ الدين شيء لا تفهمه العامة فهو منحصر في رؤساء الكنائس وهؤلاء الرؤساء يستحوذون على الشعب بالترغيب والترهيب، ويتصرفون فيه وفي رؤسائه وأمرائه وسوقته حسب أهوائهم ويوجهونه إلى أي وجهة شاءوا كما تسوق الرعاة الأغنام".
ولو أنّ هؤلاء الحكام طالبوا بالتحرير من سلطان رجال الكنيسة ليختار الشعب الوجهة التي يريدها في عقيدته ونظامه وحكمه وعلمه ومعيشته وتعليمه وشؤونه الاجتماعية كما فعل الخارجون على الكنيسة البابوية لربما كان قولهم مفهوما؛ ولكنهم يدعون إلى محو سلطان الكنيسة الذي يخوف الناس بعذاب الله ويبشرهم بالسعادة الروحية بعد الموت، ليقيموا بدله سلطاننا ماديا تحت لمعان السيوف والنفي والقتل والتعذيب وكتم الأنفاس وكبت الحريات ومضايقة الناس في أرزاقهم وأعمالهم وتعليمهم ومساكنهم وأطعمتهم وإقامتهم.
والطامة الكبرى أنّهم يفرضون عليهم دينا آخر وعقيدة أخرى لا يقولون لهم أنها جاءت من الله ولا من الرسل ولا من الأنبياء، ولكن من أشخاص مثلهم من أبناء جلدتهم ومن يتجرأ على رفض شيء من تلك العقائد فالويل له ماذا ينتظره من العذاب المهين أو الموت الزؤام فهم ينقلونهم من ضيق إلى أضيق ومن دين غير مفهوم بادعائهم إلى عقائد غير معقولة يجزمون ببطلانه ويكرهونها ولا يجدون عنها محيصا فهم كما قال الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار(3/184)
وإن كان القسيسون يبشرون أتباعهم بنعيم الفردوس فتمتلئ أرواحهم سعادة وغبطة، ولا يأخذون من أموالهم إلاّ ما تبرعوا به عن طيب نفس؛ فإنّ الحكام التقدميين يسلبونهم كل شيء، ولا يبيحون لهم أن يملكوا شيئا: لا مسكنا، ولا حيوانا، ولا شبر أرض يزرعونه، ولا تجارة، ولا صناعة يستغلونها، ولا يتعلم الطلبة من العلوم إلا ما يشتهون أعني الحكام، ولا يلقي مدرسا درسا في علم من العلوم الاجتماعية أو يكتب كلمة في كتاب أو صحيفة أو رسالة في البريد، بل لا يتكلم بكلمة أمام رفاقه بل أمام أهل بيته إلاّ إذا وزنها بميزان الذهب خوفا من أن تكون مخالفة للتعليم والقوانين والعقائد الاشتراكية فتخطفه الزبانية.
وإذا أراد الحكام تسلية عامتهم وتبشيرهم حدثوهم بمتخيلات لا يمكنهم تصديقها أبدا يقولن لهم:
نحن الآن في البداية، وكل بداية صعبة كما يقول المثل الألماني، فاصبروا على قلة الغذاء، وضيق المسكن، وخشونة الملبس، وكثرة ساعات العمل وقسوته وصعوبته، فسيأتي زمان هو المقصود بالذات إن لم ندركه نحن فستدركه الأجيال المقبلة، وحينئذ لا يشتغل العامل إلاّ خمس ساعات في اليوم والليلة، ولا توضع أقفال على مخازن الطعام والثياب، وتكون الأموال مشاعة بين أبناء الشعب كل واحد يأخذ لنفسه منها ما شاء ويشتغل إذا شاء، وينام إذا شاء، ويسافر أين شاء، ويلبس ما شاء، ويركب ما شاء.
وهذا التبشير من السادة الحاكمين وأذنابهم وأبواقهم يجب على المحكومين وهم عامة الشعب أن يتلقوه بالتصفيق والهتاف والتمجيد، وإلاّ توجه إليهم تهمة خطيرة وهي الرجعية والبرجوازية والميل إلى الرأسمالية وما أشبه ذلك، ولو كان أولئك العامة يستطيعون التعبير عما في ضمائرهم لأنشدوا قول ابن فراس:
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا مت ظمآنا فلا نزل المطر(3/185)
فالتقدم عند هؤلاء الحكام ينحصر في إمامين مقدسين معصومين من الخطأ، جميع آرائهما حق، وليس لأحد أن يفسر هذه الآراء إلا الحكام الحاضرون، ولو فرضنا أنّ هؤلاء الحكام استبدلوا بحكام آخرين لم يبق لهم صلاحية للتفسير، وما فسروه من قبل لا تلزمه العصمة من الخطأ، وقد ينسخ كله دفعة واحدة، والقول ما يقوله الحكام الحاضرون، وكل شيء يخالف آراء الإمامين حسب تفسير الحكام الحاضرين فهو رجعية تتنافى مع التقدم.
ولو فرضنا أنّ حاكما فسر شيئا من آراء الإمامين اليوم لوجب على الشعب كله بعلمائه وحكمائه وكتابه أن يتلقى تفسيره بالقبول والتقديس؛ وإلاّ كان رجعيا، وإن لم ينته يكون خائنا، فلو عزل ذلك الحاكم غدا لأصبح تفسيره عديم القيمة مرغوبا عنه، بل قد يكون منكرا وضلالا، وهذا كله شاهدناه بأعيننا وسمعناه بآذاننا، ولكننا لم نفهمه والله المستعان.
كنت في برلين الغربية أتيمم للصلاة، لأنّي كنت مريضا لا أقدر على استعمال الماء، فرآني شاب من برلين الشرقية، فقال لي: "ماذا تصنع؟ "فقلت: "هو ما ترى"، فقال: "وهل هذا من الدين؟ "، قلت: "نعم"؛ قال: "هذا شكلي لا معنى له ولا فائدة، أما الوضوء ففيه تنظيف للأعضاء المغسولة، وأما المسح بالتراب فليس فيه إلاّ التلويث".
فقلت: "سمعتك تذكر أن - ستالين - ألف كتابا في التربية وتثني على ذلك الكتاب مع أن ستالين رجل عسكري، قضى عمره كله في المراتب العسكرية، ولم نسمع أنّه كان يوما ما معلما ولا مدير مدرسة ولا مشتغلا بالتربية، فمن أين جاءه علم التربية حتى ألف فيه كتابا نفيسا!؟؛ فثناؤك عليه شكلي وتقليد، وإنما أثنيت على كتابه الذي ألفه في علم التربية لأنّه رئيس دولة وزعيم حزب، فشهادتك له تملق محض.
أما معنى التيمم فهو معنى الصلاة، فإنّ الله غني عن العالمين، فإذا عظموه بالصلاة والدعاء والتمسح بالتراب فإنّما ذلك لتزكية نفوسهم وتكملتها".(3/186)
وبعد موت ستالين أسقطه خلفه من درجة التقديس، وظهرت له ذنوب، وأخطاء كثيرة، وهذا الخلف نفسه شرب بالكأس نفسها.
وحاصل ما تقدم أن الدول التي لا تدين بالنصرانية تقدس نحلتها وتعدها تقدما، وتعد كل ما خالفها رجعية أو برجوازية، وتذم كل مخالف، ونحن لا نستطيع أن نفهم أن سويسرا مثلا رجعية أو ناقصة التقدم.
الرجعية عند الشعوب العربية في العصور الأخيرة:
اعلم أنّ العرب في هذا الزمان أعني دولتهم منقسمون إلى قسمين:
قسم يسمون أنفسهم تقدميين واشتراكيين فإذا قيل لهم: هذا لفظ مبهم، فأي اشتراكية تعنون؟ يقولون: نعني الاشتراكية العربية.
فيقال لهم: إن العرب كانوا بعد جاهليتهم لا يعرفون إلا الإسلام، ولا يدعون إلاّ إليه ولا يتبعون إلاّ القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ الاشتراكية غير موجود في الكتاب والسنة، ولم نر لهم تعريفا جامعا لهذه النحلة، ولا حدا يحد بها.
أما الأعمال التي يقومون بها ويعلنون أنّها من مفاهيم الاشتراكية فإنهم يختلفون فيها، أما إن كانوا يعنون بالاشتراكية المستوردة من أوروبا ففي أوروبا نوعان من الاشتراكية:
الاشتراكية التي هي مقدمة الشيوعية، كما في شرق أوروبا وفي يوغوسلافية والصين ماعدا فرموزة وألبانيا والأحزاب الشيوعية في الشعوب الأوروبية.
والاشتراكية الديمقراطية: كاشتراكية حزب العمال في بريطانيا وألمانيا وبلجيك وفرنسا وغيرها.(3/187)
وهناك اشتراكية انقرضت وهي الاشتراكية الوطنية التي كان عليها هتلر وموسوليني، وأظن أن هذه الاشتراكية هي التي تلهج بها بعض الدول العربية فهي إلى اشتراكية هتلر أقرب وأشبه، مع فارق عظيم وهو أن الشعب الألماني الذي كان من وراء هتلر شعب عظيم في مقدمة شعوب الحضارة والعلم والمدنية العصرية، بخلاف شعوب تلك الدول؛ فإنها لم تبلغ في ذلك نصيبا يذكر، فهي مما يسمى على سبيل التفاؤل بالشعوب النامية، كما يسمى اللديغ سليما، ولذلك كان لاشتراكية هتلر نجاح مؤقت في جميع الميادين بخلاف هذه الدول فإننا إلى الآن لم نشاهد لها شيئا من النجاح الذي كان للحزب الناتسي، أما الحرية والديمقراطية بمعناهما الصحيح فإنّ نصيب هذه الدول منهما أقل من نصيب الحزب الناتسي.
والقسم الثاني: ممالك وإمارات وهذه الممالك والإمارات سائرة على ما كانت عليه من قبل لم تتخذ لنفسها اسما جديدا، وكلها تأخذ بأسباب الحضارة على حسب ما تسمح لها أحوالها ومقدراتها، وكلها تدعو إلى التعاون والتآخي بين العرب، ولا تنكر الوحدة إذا سارت في طريقها الطبيعي مرحلة بعد مرحلة، وإنما تنكر العدوان والتدخل في الشؤون الداخلية أن يقع من دولة في شؤون دولة أخرى، وهذا هو المعقول الممكن، على أنني لا اهتم كثيرا بهذه الوحدة إلا إذا كانت مبنية على قواعد الإسلام، وكذلك لا أهتم بالعرب إلاّ إذا كانوا مسلمين قولا وفعلا.
وآية ذلك أن يتبعوا القرآن وما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكونوا أمة واحدة كما كانوا في دولة النبي ودولة الخلفاء.(3/188)
ولا فرق بين عربي وغير عربي عندما قال تعالى في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ, إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، ولم يقل: وإن طائفتان من العرب اقتتلوا، ولا قال: إنّما العرب إخوة.
وليس مقصودي غمط حقوق الجماعات العربية التي تدين بالإسلام؛ فإنّ ذلك ظلم، والله لا يحب الظالمين، بل نعامل المواطنين من العرب غير المسلمين بالعدل والإحسان إلى أن يطمئنوا على حقوقهم ويثقوا بمواطنيهم المسلمين كل الثقة ويأمنوا بآرائهم؛ لأنّ الإسلام دين الرحمة والمحبة والعدل قال تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وبحكم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم يجب على أمته أن يكونوا رحمة للعالمين.
ثم إنّ للعرب غير المسلمين على العرب المسلمين حق القرابة وصلة الرحم، والمخالفة في الدين لا تسقط هذا الحق ولو طبق العرب المسلمين مع العرب غير المسلمين ما جاء به الإسلام لما احتاجوا إلى أن يوجسوا في أنفسهم خيفة أو يطلبوا حماية من الدول النصرانية الأجنبية، أو أن يؤلفوا أحزابا على أسس تنقض عرى الإسلام وتقضي على الإخوة الإسلامية ليشغلوا المسلمين بها ويشتتون شملهم ويفرقوا جمعهم كما هم الواقع في بعض الأقطار العربية، وهذه الدول التي تسمي نفسها تقدمية اشتراكية تظهر عداوة شديدة للمالك والإمارات لا لشيء إلاّ لأنها لم توافقها على مذهبها الجديد.(3/189)
ومن عداوتها لها أنّها تسميها رجعية تريد أنها بمجرد تسميتها نفسها تقدمية واشتراكية وجدت طريق السعادة وسلكته، وهي تريد من تلك الممالك أن تجد هذا الطريق وتسلكه معها، فإن لم تفعل استحقت القطيعة والهجران والمكايد وتربص الدوائر زيادة على الشتائم التي تصب عليها ليل نهار.
وحجة هذه الممالك في رفضها لما عرض عليها من هذا المذهب الجديد أنّها ليست كاليتامى القاصرين أو الصبيان السفهاء حتى تطمع الدول الاشتراكية أن تضع نفسها في مقام الوصاية والتربية والتأديب والإشراف والنظر في مصالحها.
ثم إنّ هذه الممالك والإمارات لم تر شيئا من التقدم والتحسن على تلك الدول ولا على شعوبها بعد انتحالها للنحلة الجديدة، لا في العقائد، ولا في الأخلاق، ولا في الاقتصاد، ولا في السياسة، ولا في القوة الحربية، ولا في الروابط الاجتماعية، بل عكس ذلك هو الواقع، وهي مع ذلك تدعو إلى روابط الأخوة والصداقة، وتبادل المصالح والمنافع، وتنشد قول طرفة:
فمالي أراني وابن عمي مالكا
متى أدن منه ينأى عني ويبعد
ولما كان الاستطراد من طبعي الذي لا أنفك عنه، وأعلم أنّ أكثر المستمعين يصعب عليهم فهم هذه الأبيات التي هي من الأدب الجاهلي العالي، أردت أن أشرحها لهم ليتمكنوا من فهما ويلتذوا بإنشادها.
يقول في هذا البيت: ما بال ابن عمي مالكا كلما أردت أن أتقرب إليه وأتودد إليه يجفوني ويبعد عني؟
وآيسني من لك خير طلبته
كأنا وضعناه إلى رمس ملحد
يقول: قنطني ابن عمي هذا من كل خير طلبته حتى كأنّه ميت لا يرجى خيره.
على غير شيء قلته غير أنني
نشدت ولم أغفل حمولة معبد
يقول: ثم إنّ الجفاء هذا الذي وقع من ابن عمي لم يكن له سبب فإنني لم أسيء إليه لا بقول ولا بفعل، ولكني طلبت إبل أخي معبد وبحثت عنها حتى وجدتها ولم أهملها، ولا يعقل أن يكون هذا سببا للعداوة والجفاء.
وقربت بالقربى وجدك أنه(3/190)
متى يك أمر للنكيثة أشهد
يقول: ولم أقصر في مراعاة واجبات، وأقسم بحظك وحقك أيها المخاطب أنّه لا يصيب ابن عمي أمر يجهده ويكربه إلاّ حضرت ونصرته ودافعت عنه.
وإن أدع للجلى أكن من حماتها
وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد
يقول: متى دعوتني إلى الأمر العظيم الذي ينزل بك أبادر إلى حمايتك من مكروه وإن جاءك الأعداء يبغون قتالك بجهدهم وقوتهم أبذل كل جهد في دفعهم عنك.
وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم
بشرب حياض الموت قبل التهدد
يقول: وإن طعن الأعداء في عرضك وأرادوا أن يخدشوا شرفك وأساءوا إليك بقول الفحش أذيقهم الموت وأباغتهم به قبل التهديد والوعيد، أو الإنذار والتحذير.
بلا حدث أحدثته وكمحدث
هجائي وقذفي بالشكاة ومطرد
يقول: إن ابن عمي مالكا يعاملني بهذه المعاملة القاسية بدون ذنب فعلته كأنني مذنب فيهجوني ويذمني ويشكوني ويصيرني طريدا بعيدا.
فلو كان مولاي امرءا هو غيره
لفرّج كربي أو لأنظرني غد
يقول: فلو كان ابن عمي رجلا آخر من أهل المروءة لكشف عني المكروه كما أكشفه عنه أو لأمهلني على الأقل إلى المستقبل حتى يتبين لي صدقي في مودتي ولم يقابل إحساني بالإساءة.
ولكن مولاي امرؤ هو خانقي
على الشكر والتسآل أو أنا مفتدى
يقول: ولكن ابن عمي رجل يضيق علي مع شكري له والسعي في إرضائه وابتغاء الإحسان منه يعاملني معاملة العدو الذي يعمد إلى خنق عدوه إلاّ أن يفتدي نفسه بمال أو نحوه.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
والظلم وإن كان يؤلم من القريب والبعيد فإنّه من القريب أشد إيلاما وأكثر مرارة من الضرب من السيوف القواضب.
فذرني وخلقي أنني لك شاكر
ولو حل بيتي نائيا عند ضرغد(3/191)
يقول: فاتركني يا ابن عمي على طبيعتي وحسن عشرتي فإني لا أقابل إساءتك بمثلها، وهذا هو الواجب عليك وسأشكرك عليه كأنه نعمة أسديتها إليّ، ولو كنت بعيد الديار أسكن في جبل ضرغد.
ألفاظ يتبجح بها كثير من الناس في هذا الزمان كالثورة والجمهورية والديمقراطية والحرية:
وقد شرحتها في مقال: (أيها العرب لا تتخذوا التفرقة وسيلة إلى الوحدة) .
وقد نشر في صحف كثيرة منها مجلة البعث، ومجلة الإيمان المغربية؛ ولذلك لا أطيل القول في شرح هذه الألفاظ.
فالثورة: هي خروج الشعب على حاكمه أو حكامه إذا أساءوا التصرف وجاروا وظلموا، أو لم يكونوا أهلا للأمانة التي جعلت في أيديهم كما وقع في الثورة الفرنسية وفي ثورة سكان الولايات المتحدة الأمريكية على حكامهم البريطانيين؛ فإذا توفرت أسباب الثورة، وكان القائم بها هو الشعب، وكان قادتها مخلصين مصلحين لا يريدون بثورتهم رئاسة ولا مالا، وإنما يريدون رفع الجور وإزالة الفساد وتحرير الشعب، فإن الثورة يكتب لها النجاح وتؤتي أكلها.
أما إذا كان القائمون بها عصبة لهم مآرب وأغراض قد أوغر صدورهم الحسد وتراءت لهم الأماني فأوقدوا نيران الثورة وأعملوا السلاح في شعبهم وسفكوا الدماء ليتوصلوا للمراتب التي لم يزالوا يمتنونها؛ فقد يتفطن لهم القابضون على زمام الحكم ويخمدون أنفاسهم ويصيرون مسخرة للساخر ويخسرون كل شيء، وقد لا يتفطنون لهم فتنجح الثورة نجاحا مؤقتا إلى أن تسنح الفرصة لعصبة أخرى فيقبضوا عليهم ويسقونهم بالكأس التي سقوا بها غيرهم، فيقال فيهم ما قيل في أبي مسلم الخرساني:
ظننت أن الدين لا يقتضي
فاستوف بالكيل أبا مجرم
أشرب بكأس كنت أنت تسقي بها
أمر في الحلق من العلقم(3/192)
ويستمتع أصحاب الثورة الثانية بالحكم ما شاء الله أن يستمتعوا حتى تتمكن منهم عصابة أخرى فتثب عليهم وثبة الأسد الذي كان مريضا فجاءه الثعلب بالحمار للمرة الثانية فلم يفلته وهكذا دواليك.
فبشر الشعب الذي أصيب بمثل هذه الثورات بعذاب أليم، ومن يمدح مثلها أو يتمنى حدوثها في وطنه فهو غاش لقومه ساع في هلاكهم.
الجمهورية:
أما الذين يمدحون الجمهورية لذاتها، فليسوا أقل ضلالا من الذين يمدحون الثورة لذاتها بقطع النظر عن العواقب والنتائج، إذا كان الشعب جاهلا منحطا في أخلاقه ليس له رابطة متينة تربط بين أفراده وطوائفه، قد ساد فيه الغش وقل فيه الإخلاص وخربت الذمم؛ فإنّ لا يصلح للحياة السعيدة لا بالنظام الملكي ولا بالنظام الجمهوري لأنّ الرؤساء الذين كانوا يحكمونه في العهد الملكي هم أنفسهم الذين يحكمونه في العهد الجمهوري؛ ولا يعقل أن يكونوا في العهد الملكي ذئابا يعيثون فسادا ثم ينقلبوا في العهد الجمهوري ملائكة أبرارا.
وأنا أظن أن الملكية إذا كانت ثابتة الأساس قد أذعن لها الشعب وانخرط في سلكها منذ زمان طويل، وكان ذلك الشعب منحطا في أخلاقه جاهلا أنّ الملكية خير له من الجمهورية، لأنّ الملك يجمع كلمته ويوحد صفوفه، ويحفظ أهله من أن يصيروا فوضى كغنم بلا راع.
أما إذا كان الشعب رشيدا، وكان رؤساؤه ذوي علم وحكمة ونزاهة وإخلاص وأخلاق سامية، فإنهم ينجحون، سواء أصاروا على النظام الملكي أم على النظام الجمهوري؛ والواقع يشهد بهذا.(3/193)
فبريطانيا بنظامها الملكي تتمتع بسعادة اجتماعية ورفاهية واستقرار، تحسدها عليه كثير من الجمهوريات، ولا يفكر أحد من حكمائها وقادتها باستبدال النظام الملكي، والانتقال إلى الجمهورية، وهذا الرضا والاطمئنان لا يختص بالبريطانيين فقط، بل هناك شعوب راقية سعيدة في حياتها، ديمقراطية في سلوكها حرة في تصرفاتها قد ربطت مصيرها بهذه الدولة الملكية شعوب (كمونويلث) ككندا واستراليا ونيوزيلندا وغيرها ممن يدور في فلكها، وهناك ممالك أخرى قد ذكرتها من قبل في غاية الاستقرار والرفاهية.
ومن زعم أنّ الجمهورية مرغوبة لذاتها أو ضرورية لكل شعب فإنّ زعمه باطل لا يثبت أمام النقد إلاّ كما يثبت الثلج في السهول إذا أشرقت عليه شمس الربيع؛ إذا فالشأن كل الشأن أن يكون رؤساء الشعب علماء حكاما، مخلصين صالحين فعلى أي نظام كانوا فإنّهم يقودون سفينة شعبهم إلى شاطئ السلامة.
ونحن نرى الشعوب المختلفة في نظام الحكم متعاونة متصافية بغاية الإخلاص كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فقد مضى على تعاونهما في السلم والحرب زمن طويل، ولم تحاول إحداهما أن تقلب الأخرى إلى نظامها.
إذا فهذه الحزازات التي توجد في نفوس الحكومات العربية والجمهورية وما يعتريها من الاشمئزاز والكراهية للنظام الملكي حتى ربما أنّها تسعى في إسقاطه وتبالغ في شتمه وتصفه بالرجعية كل ذلك خطأ فاحش لم يعالجه طبيب ولا راق، والاستمرار فيه يتنافى مع المصلحة العامة لتلك الشعوب ويفضي إلى عواقب وخيمة.
الديمقراطية:
الإسلام نظام كفيل بسعادة كل من تمسك به من جماعات وأفراد ودول، ولا يحتاج أن يستعير من غيره شيئا، وهو لا يتفق مع نظام رأس المال، ولا مع الشيوعية، ولا مع الاشتراكيات بأنواعها.(3/194)
وقد سبق إلى كل خير يوجد في هذه النظم، وتجنب كل شبر فيها، فإذا وصفت الأمة بأنها ديمقراطية فقد جهلتها وجهلت عليها؛ فالإسلام مبني على العدل والإحسان وفيهما سعادة البشر أجمعين.
أما دعاة الديمقراطية في هذا الزمان فإنهم يصفونها بأن يحكم الشعب نفسه بنفسه بواسطة الانتخاب العام، فكل جماعة من الناس تختار نائبا يمثلها أو ينوب عنها في مجلس يسمى: البرلمان؛ وهذا المجلس هو الذي يختار رئيس الوزراء ويعينه، ورئيس الوزراء يختار نوابه من أولئك النواب أو من غيرهم بموافقة المجلس، وكل فرد من أفراد الشعب له الحق أن ينتقد النواب والوزراء ورئيسهم في حدود القانون الذي يمنع التعدي والظلم، وهذا القانون يضعه علماء إختصاصيون ويقره المجلس.
قالوا: وهذا أرقى ما وصل إليه العقل البشري في الحرية والمساواة فكل من وقع عليه الظلم يستطيع أن يدفعه عنه بواسطة نائبه، وكذلك من تعسر عليه الوصول إلى حق يستعين بنائبه على الوصول إليه.
وحرية الاعتقاد والانتقاد في ضمن القانون وإبداء الرأي وسائر الحريات مكفولة فلا يعاقب أحد بحبس أو غرامة إلاّ إذا خالف القانون المتفق عليه.
وتوزع الحقوق والواجبات بالتساوي، فلا يعفى من الواجبات أحد كيف ما كان مركزه، فيكون كل فرد آمنا مطمئنا على نيل حقوقه لا يحتاج إلى تملق ولا تعلق، فلا يخاف الإنسان إلا مما قدمت يداه.
ومع هذا التحري كله فقد يقع الغش في الانتخاب، فإن مالك المزرعة ومالك المعمل إذا رشح نفسه للنيابة يشعر الفلاحون والمزارعون بأنّ من اللياقة أن ينتخبوا مالك مزرعتهم ويشعر العمال كذلك أنّه ينبغي عليهم أو يجب عليهم أن ينتخبوا مالك معملهم فيختل ميزان المساواة.(3/195)
وهناك سبب آخر لامتعاض الناس في البلدان (الديمقراطية) وهو وجود الأحزاب المختلفة كالمحافظين والعمال والأحرار؛ فالمحافظون يرون إعطاء الحرية أفراد الشعب كيف ما كانت كسكك الحديد والمعدن والمصانع الكبرى ويقولون: إن ذلك هو الأصلح لشعبهم ليتنافس أفراده وجماعاته، كالشركات مثلا في العمل لتكثير المنتوجات واستثمار البلاد واستخراج كنوزها، وبذلك يقع الازدهار والتقدم في جميع الميادين.
ويقول العمال الاشتراكيون: إن البلاد كلها بثمراتها ومعادنها وكنوزها ملك للشعب كله؛ فيجب أن تكون منابع الثروة الكبرى في يد الحكومة لئلا يستولي عليها أفراد قليلون يحتكرونها ويستحوذون على الأرزاق خصوصا مع إباحة الربا فتصير جماهير الشعب الكادحة التي بعرق جبينها استخرجت تلك الأموال والأرزاق خدما وعبيدا لفئة قليلة من ذوي رؤوس الأموال المحتكرين.
وتتهم الأحزاب بعضها بعضا بعدم النزاهة في الانتخاب، ولكن لما كانت الأحزاب متعددة يكون من السهل على كل حزب أن يكتشف ويفضح دسائس الحزب الآخر، فيزول الحيف ويقع التوازن.
فحزب العمال يبذل جهده في تأميم المنابع الكبرى، وحزب المحافظين يبذل جهده في ترك الناس أحرارا في المضاربة والاستثمار، وكل منهما يرى أن وجهته أفضل لشعبه؛ وقد ساروا على هذا منذ زمان طويل ورضوا به واعتقدوا أنّه أفضل ما يقدم البشر عليه من العدالة.(3/196)
وهناك استعمال آخر للديمقراطية وهو استعمالها لفظا مرادفا لاشتراكية الشيوعية، وهذا الاستعمال دعاية مجردة غير معقولة، لأنّ كل شعب يحكم بنظام الحزب الواحد لا يمكن أن يكون ديمقراطيا، وحتى ذلك الحزب الواحد لم ينتخبه الشعب، وإنما طائفة تسلطت عليه بالقهر والغلبة وأسرته واستعبدته شر استعباد وصارت تتكلم باسمه، وتستخدمه بلا رحمة ولا شفقة، وقد سبته جميع الحريات: حرية الكلام، حرية الاعتقاد، وحرية العمل وحرية الإضراب عن العمل وحرية المطالبة بزيادة الأجور، أو بزيادة الطعام أوالكسوة أو التدفئة، وقد تقدمت الإشارة إلى بعض ما تقاسيه هذه الشعوب المخنوقة المستعمرة شر استعمار.
الحرية:
ومن العجب أنّ هؤلاء الجبابرة الذين يحكمون شعوبهم بالحديد والنار حكما كله دماء ودموع، وقهر وكبت، وإذلال وإهانة، ومع ذلك يتغنون بالديمقراطية والحرية وهم يعلمون أنهم أبعد الناس عن الحرية والديمقراطية، ولكن كما قيل في المثل وهو مأخوذ من الحديث الصحيح: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وعليه يقال: إذا لم تستح فقل ما شئت، ونظمه بعضهم فقال وأجاد:
إذا لم تخش عاقبة الليالي
ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
ومن أراد زيادة الاطلاع على ما كان عليه الأوروبيون إلى زمان قريب جدا من الانحطاط والهمجية، وما كان عليه المسلمون في الأندلس في زمن العلم والحضارة والرقي الحسي والمعنوي؛ فليقرأ كتاب: (مدنية العرب في الأندلس) ، الذي ترجمه كاتب هذه المحاضرة بالعربية لمؤلفه الذائع الصيت (جوزيف مكيب) ، ولا تزال عندي منه بعض مئات، وهذا ما بدا لي إيراده في بيان ما يسمى بالرجعية والتقدم، كتبته تبصرة لإخواننا المسلمين الذين لا يعرفون ما ينطوي تحت هاتين الكلمتين من الغش والتضليل؛ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
إستدراك:(3/197)
لما فرغ القارئ من قراءة محاضرتي، قام صاحب الفضيلة الأستاذ المرشد العربي الموفق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله فأشار بتلطفه المعهود وأدبه السامي إلى أنّه قد يفهم مما قلته في عموم المسلمين الذين يعملون السيئات وغيرها كالحكم بغير ما أنزل الله، وقد عذبهم الله في الدنيا كما أوعدهم في كتابه وسيعذبهم في الآخرة أكثر مما عذبهم في الدنيا، ولم أستثن في ذلك شعبا من الشعوب ولا دولة من الدول حتى كأنهم متساوون في الجريمة.
وكان ينبغي لي أن استثني من قام منهم بشيء من الواجب على قدر استطاعته؛ وهذا حق فإن الشعب السعودي والمملكة السعودية بقيادة ملكها الإمام المصلح جلالة الملك فيصل والأئمة السابقين من أسلافه رحمهم الله لم يزالوا يحكمون شريعة الله، ويتخذون القرآن إماما والسنة سراجا، يضيئان لهم ظلمات الحياة الدنيا بانتشار الأمن على الأنفس والأموال والأعراض في بلادهم إلى حد لا يوجد له نظير في الدنيا، حتى إني لما كنت في ألمانيا قبل الحرب وقبل تقسيمها وهي في عنفوان قوتها، وحدثت الناس هناك بالأمن الذي يتمتع به سكان المملكة السعودية تفصيلا سألوني: أين يتخرج رجال شرطة هذه المملكة رؤساؤها؟ فقلت: يتخرجون في مدرسة القرآن في المسجد؛ فأبدوا شكهم في ما أخبرتهم به، وقالوا: لا يوجد في الدنيا أحسن من الشرطة الألمانية ومع ذلك لا يوجد عندنا مثل ما ذكرت من الأمن!
وهذا الثواب المعجل في الدنيا يدل دلالة قطعية على أنّ الله الذي لا يخلف الميعاد سيثيب إمام هذه الدولة وأسلافه ورجال دولته وأعوانه المخلصين في الدار الدنيا كما قال تعالى في سورة النحل30: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ, جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ} .(3/198)
وأشهد بالله أني لما دعاني سمو الأمير مساعد بن عبد الرحمن إلى الحج سنة سبع وخمسين بتاريخ النصارى، وأظنه يوافق سنة ست وسبعين للهجرة، كنت راكبا في طائرة سويسرية من بغداد إلى الظهران، وكانت المضيفة من القسم المتكلم بالألمانية من سويسرا؛ فأخذت تدور على ركاب الطائرة، لما أرادت أن تدخل في سماء المملكة العربية السعودية وتقول لهم لا يطلب أحد منكم خمرا حتى نجتاز المملكة السعودية، ولا يجوز لأحد منكم أن يمسك زجاجة خمر ولو فارغة؛ فإنّ الحكومة السعودية تعاقبنا على ذلك، وتكلمت معي باللغة الألمانية لأنها عرفت من قبل أني أتكلم بها، وشرحت لي خوف قائد الطائرة وجميع الموظفين من رجال المملكة السعودية، وأنهم لا يتساهلون مع أي طائرة يجدون فيها شرابا مسكرا ظاهرا؛ قالت: فنحن نخبئ جميع الأشربة المسكرة حتى القوارير الفارغة إلى أن نخرج من هذه المملكة، فأخبرتها أني مسلم وأن عقيدتي والحمد لله مطابقة لهذا الحكم، وأنا أحمد الله على وجود مملكة في الدنيا تنفذ هذا الحكم.
ونحن نشاهد شريعة القرآن تنفذ على رؤوس الأشهاد، في هذه المملكة الفذة، فيقتل القاتل المتعمد، ويرجم من الزناة من يستحق الرجم، ويجلد من يستحق الجلد مع التغريب، وتقطع يد السارق، ويقام الحد على الشارب، ولا يحكم حاكم في جميع أرجائه إلاّ بشريعة القرآن، فكيف يستطيع مسلم أو منصف أن يسوي بينهما وبين من يحل ما حرم الله، ويحكم بغير ما أنزل الله.(3/199)
نعم إنّ أشباه القردة من المقلدين لمن يسمونهم بالمستعمرين ويسلقونهم بألسن حداد ليل نهار في إذاعاتهم وصحفهم هؤلاء القردة يسمون شريعة الله ورسوله التي سار عليها المسلمون حين كانوا سادة العالم، يسمونها: رجعية، ويسمون المنفذين لها - أيده الله بروح منه -: رجعيين؛ وقد تقدم جوابهم أعلاه في هذه المحاضرة بما يلقمهم الأحجار، ولا يدع لهم مجالا للفرار؛ وإني لأشكر صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على هذا التنبيه الذي تفضل به، فلا زال مصدرا لكل خير وكمال.(3/200)
الدعوة إلى الله وأثرها في المجتمع
نائب رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
لقد رفع الله شأن الدعاة إليه، وأبلغ في الثناء عليهم حيث يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، ولا ريب أنّ هذا الثناء يحفز الهمم ويلهب الشعور ويخفف عبء الدعوة ويدعو إلى الانطلاق في سبيلها بكل نشاط وقوة.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري رحمه الله أنّه تلى هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية؛ فقال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا النّاس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله".انتهى.
ولا ريب أنّ الرسل عليهم الصلاة والسلام هم سادة الناس في الدعوة إلى الله، وهم أولى الناس بهذه الصفات الجليلة التي ذكرها الحسن رحمه الله وأولاهم بذلك، وأحقهم به على التمام والكمال إمامهم وسيّدهم وأفضلهم وخاتمهم نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وصبر على الدعوة إلى ربه أتم صبر وأكمله حتى أظهر الله به الدين وأتم به النعمة، ودخل الناس بسب دعوته في دين الله أفواجا.(3/201)
ثم سار أصحابه الكرام بعده على هذا السبيل العظيم، والصراط المستقيم، فصدقوا في الدعوة، ونشروا لواء الإسلام في غالب المعمورة، لكمال صدقهم وعظيم جهادهم، وصبرهم على الدعوة صبرا لا يعتريه ضعف أو فتور، وتحقيقهم الدعوة والجهاد بالعمل في جميع الأحوال, فضربوا بذلك بعد الرسل أروع الأمثال وأصدقها في الدعوة والجهاد والعلم النافع والعمل الصالح، وبذلك انتصروا على أعدائهم، وبلغوا مرادهم، وحازوا قصب السبق في كل ميدان، وهم أولى الناس بعد الرسل بالثناء والصفات السالفة التي ذكرها الحسن.
وكل من سار على سبيلهم وصبر على الدعوة إلى الله، وبذل فيها وسعه، فله نصيبه من هذا الثناء الجزيل الذي دلت عليه الآية الكريمة والصفات الحميدة التي وصف بها الحسن الدعاة إلى الحق.
وصح عن النبي صلى الله غليه وسلم أنّه قال: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا"، وقال لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم".
وفي هذه الأحاديث وما جاء في معناها تنبيه للدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله على أنّ المقصود من الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه: هو هداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وانتشالهم من وهدة الشرك وعبادة الخلق إلى عز الإيمان ورفعة الإسلام وعبادة الإله الحق الواحد الأحد، الذي تصلح العبادة لغيره ولايستحقها سواه سبحانه وتعالى.(3/202)
وليس المقصود من الدعوة والجهاد هو سفك الدماء وأخذ المال واستراق النساء والذرية، وإنما يجيء ذلك بالعرض لا بالقصد الأول؛ وذلك عند امتناع الكفار من قبول الحق وإصرارهم على الكفر، وعدم إذعانهم للصغار وبذل الجزية حيث قبلت منهم، فعند ذلك شرع الله للمسلمين قتالهم، واغتنام أموالهم واسترقاق نسائهم وذرياتهم، ليستعينوا بهم على طاعة الله، ويعلموهم شرع الله، وينقذونهم من موجبات العذاب والشقاء، ويريحوا أهل الإسلام من كيد المقاتلة وعدوانهم، ووقوفهم حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام، ووصوله إلى القلوب والشعوب.
ولا ريب أنّ هذا من أعظم محاسن الإسلام التي يشهد له بها أهل الإنصاف والبصيرة من أبنائه وأعدائه، وذلك من رحمة الله الحكيم العليم الذي جعل هذا الدين الإسلامي دين رحمة وإحسان وعدل ومساواة يصلح لكل زمان ومكان، ويفوق كل قانون نظام.
ولو جمعت عقول البشر كلهم وتعاضدوا على أن يأتوا بمثله أو أحسن منه لم يستطيعوا إلى ذلك من سبيل، فسبحان الذي شرعه ما أحكمه وأعدله، وما أعلمه بمصالح عباده، وما أبعد تعاليمه من العبث وما أقربها من العقول الصحيحة والفطر السليمة.
فيا أيها الأخ المسلم، ويا أيها العاقل الراغب في الحق تدبر كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وادرس ما دلا عليه من التعاليم القويمة والأحكام الرشيدة والأخلاق الفاضلة تجد ما يشفي قلبك ويشرح صدرك ويهديك سواء السبيل.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(3/203)
العدد 7
فهرس المحتويات
1- أيها الإنسان: عبد العزيز القارئ
2- أخبار الجامعة
3- التروايح أكثر من ألف عام (3) : بقلم الشيخ عطية محمد سالم
4- بحوث هامة حول الزكاة: نائب رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
5- الشمس في نصف الليل: للدكتور تقي الدين الهلالي
6- الطريق الجديدة (قصة قصيرة) : بقلم الشيخ: محمد سعيد المولوي
7- النبوة: اصطفاء وقدوة: للشيخ أحمد مختار البزرة
8- بين التفوق والنجاح: بقلم: الدكتور محمود بابللي
9- تتمة - النبوة: اصطفاء وقدوة: للشيخ محمد مختار البرزة
10- حالة المسلمين في اليونان: بقلم الطالب: محمد جهاد حافظ رشاد
11- حكم العمل بالحديث الضعيف: بقلم الشيخ: علي مشرف
12- ندوة الطلبة - دراسات في الديانات الهندية - المصادر الأساسية للديانة الهندوسية (2)
بقلم: الطالب محمد ضياء الرحمن الأعظمي
13- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (4) : لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
14- رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
15- في ظلال سورة الأنفال: للشيخ أبي بكر الجزائري
16- فلا تدعو مع الله أحداً: بقلم الشيخ: عبد الله محمد الغنيمان
17- محب الدين الخطيب - لمحات من حياته وقبسات من أفكاره: بقلم الشيخ: ممدوح فخري
18- من طلائع الشيب: بقلم الطالب: عبد القادر محمد النيجري
19- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
20- مع الصحافة - يهودية وصهيونية: نقلا عن مجلة الوعي الإسلامي
21- أضواء على المذاهب الهدامة - الشيوعية: بقلم الشيخ: عبد القادر شيبة الحمد
22- بين الحياة والموت: للشيخ محمد المجذوب
23- من تاريخ المذاهب الهدامة - كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (4) : بقلم محمد بن مالك اليماني
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(3/204)
أيها الإنسان
عبد العزيز القارئ
ما لهذي النار تزداد جحيماً
أيها الإنسان: نار أججت
وسقوا قلبك بركاناً أثيما
ألبسوا جلدك ثوباً ناعماً
أحرقوك اليوم حتى لا تقاوما
هيكل أنت، أديم فارغ
هل تريني اليوم إنساناً سليما
أيها الإنسان: عيني يئست
أي جانٍ قذف الحقد رجوما
ما لأرضي بالرزايا ملئت
في ربى الشرق ولا الغرب رحيما
خففت الوطء فإنا لن نرى
هات كفيك، لنرتاد النجوما
أيها الإنسان: حطم سجنهم
لطخوا التاريخ فيه والقديماً
عالم يبنونه في أسفل
في الأعالي الشم، نبنيه عظيماً
هات كفيك لنبني عالماً
ونرى الدهر صباحاً مستديما
فهناك الشمس أزجت دفئها
قد تجلى وبدا النوم عقيما
أيها الإنسان هذا المنتهى
وغيوم الليل هذي لن تدوما
فانزع الأغلال فالفجر أتى
نجعل الدنيا وما فيها نعيماً
أعطني اليوم فؤاداً مؤمناً
نقلب الدنيا على البغي جحيما
أعطني اليوم حساماً مسلماً(3/205)
حالة المسلمين في اليونان
بقلم الطالب: محمد جهاد حافظ رشاد
كلية الدعوة وأصول الدين
قبل أن أبدأ من تقديم بين يدي موضوعنا بالتحدث قليلاً عن مختلف أوضاع المسلمين في اليونان.
1- دراسة جغرافية عن مسلمي اليونان:
يبلغ عدد المسلمين في اليونان حوالي 200 ألف نسمة من أصل تركي يعيشون في الجهة الشمالية الشرقية من اليونان بمنطقة تراقيا الغربية. وحدودها شرقاً: تراقيا الشرقية أو بتعبير آخر تركيا الأوربية وشمالا ً: بلغاريا وغرباً مقدونيا وجنوباً: البحر الأبيض المتوسط أو بحر إيجه.
ويجتمع مسلمو اليونان في منطقتين بصورة رئيسية، وعاصمة هاتين المنطقتين (كموتيني) باليونانية وبالتركية (كوملجنة) وبالقرب منها مدينة (كسانتي) باليونانية وبالتركية (إسكجة) ويبلغ عدد المسلمون في هاتين المدينتين النصف من مجموع السكان من المسلمين واليونانيين. كما يوجد المسلمون في ولايات أخرى ولكن بنسبه قليلة كما في (ألكساندر وبوليس) باليونانية و (دده آغاج) بالتركية. وبالقرب من السواحل الغربية التركية للبحر الأبيض المتوسط توجد بعض الولايات التي يقيم فيها المسلمون بنسبة ضئيلة، كما في جزيرة (رودس) بالقرب منها جزيرة (كوس) باليونانية (استانكوى) بالتركية حيث يبلغ مجموع المسلمين في هاتين الجزيرتين 15ألفاً تقريباً.
2- الحالة الدينية:(3/206)
أكثر المسلمين في اليونان متمسكون بعقائدهم وعباداتهم ويتحلون بالأخلاق الإسلامية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم. ويضاف إلى ذلك نسبة عالية من الجيل الجديد الذي بدأ يتنكر لعقيدته الإسلامية كما في كثير من أنحاء العالم الإسلامي، ومن الأسباب الرئيسية لتنكر هذه الفئة لدينها قلة الدعاة الذين يفهمون جوهر الإسلام ويجيدون الدعوة الصالحة إليه. أما حالة المسلمين الذين يعيشون على بعد 800ميل من ترقيا الغربية، أعني جزيرة (رودس) فلا تشجع أبدا بل تبعث الأسى والحسرة في النفوس؛ ذلك أن هذه المجموعة المسلمة تعيش شبه منعزلة عن كل ما يمت بصلة إلى الإسلام، حيث أنهم أصبحوا منعزلين بعد إنفصال جزيرتهم عن تركية وعاشوا هملاً. وأستطيع أن أقول أنه لم يصل إليهم داعية إسلامي منذ خمسين سنة في الوقت الذي لم يظهر بينهم خلال ذلك من يتعلم أصول دينه ويدعو الناس إليه حيث أصبح أبناء الجيل الجديد لا يفقهون من أمر إسلامهم شيئاً. اللهم إلا أن يكون مسلماً في حفيظة النفوس. ومن النتائج المؤلمة لهذا الجهل بالدين أن لا تتورع الفتاة المسلمة اسماً أن تتزوج من رجل نصراني. وفي جزيرة (رودس) خمسة مساجد من بقايا عهود الدولة العثمانية تبكي على الإسلام زوال دولته من هاتيك الديار ومحظوظ المسجد من بين هذه المساجد ما أقيمت فيه صلاة الجمعة والعيدين، وهذه المساجد تركت لتنهار وحدها وكأنها لم تبن ليعمرها المصلون، ومن الملاحظ أن حالة المسلمين في تراقيا الغربية تبعث الأمل في النفوس لدى مقارنة حالهم بحالة المسلمين في جزيرة رودس؛ حيث نرى أن في مدينة كوملجنه خمسة عشر مسجداً كبيراً إلى جانب المساجد الصغيرة الموجودة في الأحياء حيث تقام الصلاة في كل مسجد من هذه المساجد بأوقاتها الخمسة كما توجد في القرى التي يقطنها المسلمون الأتراك مساجد ترتفع مآذنها دالة على دين سكانها. كما يوجد في كل ولاية من ولايات تراقيا الغربية المسلمة فقيه، يتولى أمور(3/207)
النكاح والطلاق والميراث والمعاملات الشرعية والإشراف على أئمة المساجد وخطبائها ومؤذنيها ومدرسيها. كما توجد في كل ولاية إدارة للأوقاف الإسلامية لا تخضع لأي إشراف من الحكومة اليونانية. ويشرف على هذه الإدارات هيئة منتخبة لمدة أربع سنوات تتولى صرف واردات الأوقاف على إصلاح شأن المساجد ومساعدة المدارس الإسلامية وصرف رواتب الأئمة والواعظين والمؤذنين.
3- الحالة الاجتماعية:
يوجد في تراقيا الغربية ثلاث جمعيات أقدمها: أولاً: جمعية (اتحاد إسلام) اتحاد مسلمي اليونان التي أسست عام 1932ميلادي وبإشراف الشيخ مصطفى صبري أفندي - رحمه الله رحمة واسعة - الذي كان شيخ الإسلام لعهد آخر سلاطين الدولة العثمانية السلطان وحيد الدين، وقد توقفت هذه الجمعية عن نشاطها أثناء الحرب العالمية الثانية والحروب الداخلية في اليونان، ثم عادت لتبذل جهد المقل. ومن الأهداف الرئيسية لهذه الجمعية: التمسك بأهداب الدين الإسلامي الحنيف، والأخوة الإسلامية، وتبليغ ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس وإيضاح ما نسب إلى الإسلام من بدع وضلالات والحث على العودة إلى منبع الإسلام الصافي في الكتاب والسنة، ويبلغ عدد الأعضاء المنتسبين إلى هذه الجمعية حوالي 5000 شخص ويتولى رياستها الشيخ حافظ علي رشاد الذي شارك في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس الشريف. كما شارك في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي الأول الذي عقد في جدة، والثاني عقد في مكة المكرمة عام 1384هـ ومن أهم خدمات هذه الجمعية:
1. بعد مناقشات طويلة مع الحكومة اليونانية نجحت في إحباط مشروع طرحته الفئات المنحرفة يقوم على إجبار الطلاب على لبس القبعات في المدارس.
2. وفي إحباط مشروع يقضي بتبديل حروف العربية بالحروف اللاتينية في المدارس وخارجها.(3/208)
3. ووفقت الجمعية بنجاح في إعادة مئات الأوقاف الإسلامية من البيوت والدكاكين، والحقول والبساتين بعد استملاك الحكومة لها أثناء الحربين الأولى والثانية أو من استملاك الناس إلى حظيرة الأوقاف الإسلامية.
4. نشر وتوزيع منشورات وكتب مدرسية دينية.
ثانياً: جمعية (انتباه الإسلام) تنبيه الإسلام وباعتبار هذه الجمعية لازالت حديثة العهد فإنها لم تقدم بعد للمسلمين خدمات تذكر وإن كنا نعقد عليها بعض آمال في خدمة مسلمي اليونان.
ثالثاً: (تورك كنجلر برلكي) جمعية شبان الأتراك، وهذه الجمعية أكثر إمكانية مادية من الجمعيتين السابقتين وهدفها الوقوف في وجه الجمعيات الإسلامية والحد من نشاطها. وتضم في عضويتها أناساً تنكروا لدينهم وضلوا عن السبيل السوي وجعلوا العصبية القومية فوق أخوة الإسلام. ونتيجة لإمكانات هذه الجمعية المادية وقيام أعداء الإسلام بتزويدها بالإمكانات اللازمة فإنها تقوم بإصدار ثلاث صحف أسبوعية كل صحيفة بورقتين وبأسماء (آقين-الهجوم -مليت –القومية -وتراقيا) في الوقت الذي تقوم فيه جمعية اتحاد مسلمي اليونان بإصدار صحيفة واحدة نصف شهرية وبورقة واحدة تحت اسم (محافظة كار_حفظ الدين أو المحافظون) مع قيام جمعية تنبيه الإسلام بإصدار صحيفة واحدة أسبوعياً وبورقة واحدة تحت اسم (ثبات_الثبات) ويمثل مسلمي اليونان ثلاثة أشخاص ينتخبون مرة كل أربع سنوات، يتولون رعاية مصالح المسلمين لدى الحكومة اليونانية.
4- الحالة الثقافية:
توجد في تراقيا الغربية من المدارس الابتدائية أكثر من200 مدرسة يتعلم فيها أبناء المسلمين العلوم العصرية إلى جانب العلوم الإسلامية بنسبة قليلة ومدرستان متوسطتان وأخريان ثانويتان كما يوجد مدرستان تتوليان تدريس العلوم الشرعية بصفة خاصة وهما:(3/209)
(المدرسة الرشادية الشرعية والمدرسة الخيرية الشرعية) علماً بأن الحكومة اليونانية هي التي تتولى الإنفاق على هذه المدارس وأكثر مدرسيها من المسلمين ويوجد بين أبناء المسلمين من يتابع تحصيله العالي في مختلف فروع الجامعات التركية واليونانية مثل أنقرة واستانبول وأثينا وسالونيك. ومنهم من يتابع دراسته العالية في العلوم الشرعية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة والجامعة الأزهرية في القاهرة وكلية الشريعة في بغداد وكلية الهيات في أنقرة.
5- الحالة الاقتصادية:
الحالة الاقتصادية للمسلمين الذين يعيشون في اليونان منحطة جداً وضعيفة إذا قورنت بالحالة الممتازة لليونانيين غير المسلمين الذين يعيشون في تركيا ويعمل غالبية مسلمي اليونان بالزراعة ومن محصولاتهم (القمح والشعير والعنب والزيتون) بالإضافة إلى الثروة الحيوانية. وتعتبر الجماعات الإسلامية في اليونان من أضعف الطبقات وأفقرها وينعدم نهائياً أصحاب الأعمال التجارية الضخمة أو الصناعات الشهيرة.
أكثر المناطق الإسلامية في تراقيا الغربية حاجة إلى الإرشاد هي المناطق المحاذية لبلغاريا وهي بالذات من المناطق العسكرية التي يحظر فيها التجول وهي القرى الجبلية في هذه المناطق التي قلما تصل إليها أقدام الدعاة، هذه المناطق التي لا يسمح لدعاة غير اليونانيين بالتجول فيها ولضعف سكانها اقتصادياً جعلتهم في معزل عن العالم وخاصة العالم الإسلامي، حيث توشك أن تنقطع صلتهم بالإسلام ومناطق جزيرتي رودس واستانكوى المذكورتين آنفاً.(3/210)
وقد كان معروفاً لدينا سابقاً بعض الحقائق التي زادتها حوادث الأيام الأخيرة تثبيتاً وهي أن مسلمي اليونان يحتاجون إلى المساعدة من ثلاث نواح، ولو لم يكن مسلمو اليونان بحاجة إلى هذه المساعدات لكان وجودهم على صورة أقلية في دولة أوربية سبباً في انقراضهم شيئاً فشيئاً فمثلاً: كما ذكرت عن مسلمي رودس سابقاً لم يبق لهم من الإسلام إلا الاسم ومصير مسلمي اليونان لن يكون خيراً مما وصل إليه حال المسلمين الذين يقطنون في الدول المجاورة الشيوعية مثل بلغاريا ويوغسلافيا وألبانيا فيما إذا لم تمد إليهم يد العون. على أية حال فإن مسلمي اليونان قد ترك لهم نوع ما من الحرية ولكن لا يجب أن تنسينا هذه الحرية وجوب مد يد العون إليهم.
ونبدأ الآن بتوضيح عناصر المساعدة التي يحتاج إليها مسلمو اليونان:
أولاً: (التثقيف الديني) إن المسلمين في اليونان بحاجة إلى تثقيف ديني متين رغم وجود بعض المدارس الدينية والتي تكون عاجزة عن أداء رسالتها بوجه حسن نتيجة افتقارها إلى التوجيه المعنوي والمساعدة المادية. ولا تكاد تقوم بواجبها نحو أئمة المساجد وخطبائها ومؤذنيها إلا بشق النفس وعلاج هذه المشكلة فتح المدارس المتوسطة والثانوية بإمكانات قوية واختيار عناصر إسلامية ذات ثقافة عالية وصدق في العقيدة للتدريس فيها. حتى تصبح هذه المدارس قادرةً على تخريج دعاة صالحين للسير بالناس نحو دينهم الصحيح وذلك خلال فترة 5-10سنوات بحيث يصبح هؤلاء الخريجون أساتذة في المدارس ووعاظاً ومرشدين في المساجد وبين الناس.
وأن أقل ما علينا من واجبات نحو هذه الفئات الإسلامية تثقيفها بثقافة تجعل الفرد قادراً على معرفة ما يجب على المسلم أن يعرفه.(3/211)
ثانياً: (التوجيه الديني) يكاد الدعاة من أبناء الجيل الحاضر ينعدمون في المجتمع الإسلامي في اليونان في حين أصبح الوعاظ المتقدمون في السن قلة يشار إليهم بالبنان، بالإضافة إلى سطحية ثقافتهم الدينية. ويوجد في الأزهر حالياً ما بين 15-20 طالباً يتلقون العلوم الإسلامية، وإذا قارنا عدد الطلبة من أبناء مسلمي اليونان الذين يتلقون العلم في الأزهر بالطلبة الخمسة الذين يدرسون في المملكة العربية السعودية وجدنا ارتفاع نسبة الأولين إلى الآخرين وتوصلنا إلى ضرورة قبول أكبر عدد ممكن من أبناء مسلمي اليونان في معاهد المملكة العربية السعودية.
ونتمنى أن تولي رابطة العالم الإسلامي ودار الإفتاء والجامعة الإسلامية عناية أكبر إلى مسألة إيفاد الوعاظ والدعاة إلى مسلمي اليونان.(3/212)
ثالثاً: (توزيع النشرات الدينية) من المعلوم أن للدعاية وإصدار النشرات دوراً كبيراً في توجيه العالم في هذا العصر ونرى ضرورة إصدار النشرات التي تطلع المسلمين في اليونان على حقيقة دينهم وتساهم في الحد من تيار الإلحاد الذي يجرف الشباب خاصة. هذا الجيل الذي لم يطلع على العلوم الإسلامية ولم يحاول الاندماج في جمعية إسلامية، أليست النشرات السبيل الوحيد لنا للاتصال بهذا الجيل الذي ينفر من تعاليم دينه ومن الاتصال بنا؟ وفي اعتقادنا أن تأثير هذه النشرات إن أحسن اختيارها سيكون أكثر فعالية من بناء مسجد على ما في هذا العمل، أعني بناء المسجد من أهمية كبيرة، وبين أيدي مسلمي اليونان الآن خمسة صحف -كما أشرت آنفاً - تقف الثلاثة منها على قوة إمكانياتها لهدم ما تبنيه الأخرتان على قلة إمكانتها. مع ملاحظة افتقار الصحيفتين الإسلاميتين إلى جودة الطباعة وصعوبة تأمين الورق المطلوب لدرجة تجعلها مدينتين وعاجزتين عن الصدور بانتظام والوقوف على القدمين بصعوبة بالغة بالمساعدات المحلية المحدودة جداً. فأية مشكلة تستطيع كل واحدة من هاتين الصحيفتين معالجتها؟ وأي ألم من آلام المسلمين في اليونان تقدر على إيصالها إلى خارج اليونان بهذه الإمكانات الضئيلة؟ وأي تأثير لصحيفة نصف شهرية بين أناس يجرفهم تيار المادية الكافرة وبهرج الحضارة الأوربية؟(3/213)
هذه العناصر الثلاثة التي أوضحتها، واقترحت بعض الحلول لمشاكلها تمس جميع المسلمين، لا مسلمي اليونان وحدهم. أما إمكانياتنا لمعالجة هذه المشاكل على الصعيد المحلي فتكاد تكون في غاية الضعف. وأملنا كبير أن نحظى بعناية كافية من قبل رابطة العالم الإسلامي ودار الإفتاء السعودية والجامعة الإسلامية وكل المنظمات الإسلامية العالمية لنتمكن من معالجة هذه المشاكل المصيرية بالنسبة لمسلمي اليونان، لأن نتائج معالجة مشاكلنا الآنفة الذكر لن تكون محصورة في حدود الجماعات الإسلامية في اليونان بل ستتعداها إلى إخواننا المسلمين الذين يعيشون في الدول الشيوعية المجاورة لنا والتي لا تألو جهداً في القضاء على الإسلام والمسلمين حيثما وجدوا ويمكن أن نكون نحن مسلمي اليونان قدوة صالحة لهؤلاء الإخوة. ولا بد لوصول قبس نور الإسلام إلى هؤلاء، رغم الحواجز التي تعترض سبيلنا إليهم فلن تقوى أجنحة الذباب أن تحجب نور الشمس.
وختاماً أملي كبير أن تنال اقتراحاتي ما تستحق من عناية وأرجو أن أكون قد وفقت لتشخيص المرض ووصف الداء تاركاً لرابطة العلم الإسلامي ودار الإفتاء والجامعة الإسلامية ولكل المنظمات الإسلامية تقديم الدواء وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
يقولون لي فيك انقباض وإنما
رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم
ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما كل برق لاح لي يستفزني
وما كل من لاقيت أرضاه منعما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت
أقلب كفي نحوه متندما
ولم أقض حق العلم إن كان الأمر كلما
بدا طمع صيرته لي سلما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيت ولكن لأخدما
أأسقى به عزا وأسقيه ذلة
إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم(3/214)
ولو عظموه في النفوس تعظما
ولكن أذلوه فهان ودنسوا
محياه بالأطماع حتى تجهما
الجرجاني(3/215)
حكم العمل بالحديث الضعيف
بقلم الشيخ: علي مشرف
المدرس بالمعهد الثانوي
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، (رواه أحمد وأصحاب السنن الستة وغيرهم) وقال صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين"، رواه مسلم.
عندما يسمع المؤمن مثل هذين الحديثين ترتعد فرائصه خشية أن يكون أحد هذين الرجلين:
أولهما: الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثانيهما: الناقل للحديث المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقع فيه المؤمن الصادق في إيمانه والذي ليس له هوىً يقوده إلى القول عليه ما لم يقله خصوصاً إذا سمع مثل هذا الوعيد الشديد أما الناقلون للحديث المكذوب على رسول الله - فما أكثرهم ويا للأسف - ويا ليت هذا مقتصر على طلاب العلم الصغار ولكن لا تكاد تسمع عالماً يتكلم في مسألة علمية ولا واعظاً يعظ ولا كاتباً يكتب إلا ويتحدث بالمكذوب أو بالضعيف دون أن يبين درجته- بل لا يكتفي بقوله يروى وإنما يقول قال رسول الله جازماً أنه قال، وهذا داء مستفحل في كثير من علماء المسلمين وخصوصاً المتأخرين منهم، وهذا منشؤه إما التكاسل عن البحث في سند الحديث والكشف عن صحته، أو التعصب الأعمى لمذهب معين فهم سمعوا الناس قالوا شيئاً فقالوه دون أن يبحثوا في ما قيل لهم هل هو ثابت أم لا؟(3/216)
وإذا ناقشت أحدهم في حديث ما قال هذا في فضائل الأعمال ثم احتج عليك بقول بعض الأئمة- إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، دون أن يعرف مدلول هذه العبارة من هؤلاء الأئمة وهذه العبارة هي: منسوبة إلى الإمام أحمد ابن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك، ولو عرف هؤلاء مدلول هذه العبارة لما سولت لهم أنفسهم أن يحتجوا بهذا في إثبات حجتهم في العمل بالحديث الذي لا تقوم به حجة حتى ولو في فضائل الأعمال دون أن يدققوا النظر في معنى الضعيف عند هؤلاء الأئمة والذين قالوا بالتساهل فيه في فضائل الأعمال إذا شئت أن تعرف مدلول هذه العبارة عندهم فإليك أقوال بعض المحققين من العلماء. في مدلولها لدى أولئك الأئمة قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (ج18ص65) : "قول أحمد: "إذا جاء الحلال والحرام شدّدنا في الأسانيد وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد"وكذلك ما عليه العلماء بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به، فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملاً من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم".(3/217)
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (ج1ص31) : "ليس المراد بالضعيف عند أحمد الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسم من الصحيح وقسم من أقسام الحسن ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب"، وقال العجاج في التعليق على هذه العبارة: "وفي بعض الضعيف عند أحمد الحسن في اصطلاح من جاء بعده"، وقال طاهر الجزائري في كتابه توجيه النظر إلى أصول الأثر، ص292: "قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب منهاج السنة النبوية – إن قولنا إن لحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن كحديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي إما صحيح وإما ضعيف، والضعيف نوعان ضعيف متروك وضعيف ليس بمتروك، فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح فجاء من لا يعرف اصطلاح الترمذي فسمع قول بعض أئمة الحديث الضعيف أحب إلي من القياس فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي"، وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على اختصار علوم لحديث لأبن كثير (ص92) .(3/218)
"وأما ما قاله أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك ـ إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا، فإنما يريدون به فيما أرجح والله أعلم أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن في عصرهم متقرراً واضحاً بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة أو الضعف فقط". وقال الدكتور صبحي الصالح في كتابه علوم الحديث ومصطلحة ص (210) : "يتناقل الناس هذه العبارة (يجوز العمل بالضعيف في فضائل الأعمال) فيسوغون بها جميع ما يتساهلون في روايته من الأحاديث التي لم تصبح عندهم ويدخلون في الدين كثيراً من التعاليم التي لا تستند إلى أصل ثابت معروف وإن هذه العبارة ليست على مر العصور أكثر من صدى لعبارة أخرى مماثلة لها منسوبة إلى ثلاثة من كبار أئمة الحديث وذكرهم مع قولهم السابق، ثم قال ـ على أن عبارة هؤلاء الأئمة لم تفهم على وجهها الصحيح فغرضهم من التشديد ليس مقابلة أحدهما بالآخر كتقابل الصحيح بالضعيف في نظرنا نحن وإنما كانوا إذا رووا في الحلال والحرام يشددون فلا يحتجون إلا بأعلى درجات الحديث وهو المتفق في عصرهم على تسميته بالصحيح فإن رووا في الفضائل ونحوها مما لا يحتمل الحل والحرمة لم يجدوا ضرورة للتشدد وقصر مروياتهم على الصحيح بل جنحوا إلى ما هو دونه في الدرجة وهو الحسن الذي لم تكن تسميته قد استقرت في عصرهم وإنما كان يعتبر قسماً من الضعيف في اصطلاح المتقدمين وإن كان في نظرهم أعلى درجة مما اصطلح بعدهم على وصفه بالضعيف، ولو أن الناس فهموا أن تساهل هؤلاء الأئمة في الفضائل إنما يعني أخذهم بالحديث الحسن الذي لم تبلغ درجته الصحة، لما طوعت لهم أنفسهم أن يتناقلوا تلك العبارة السابقة (يجوز العمل بالضعيف في فضائل الأعمال) . فمما لا ريب فيه في نظر الدين أن الرواية الضعيفة لا يمكن أن تكون(3/219)
مصدراً لحكم شرعي ولا لفضيلة خلقية لأن الظن لا يغني من الحق شيئاً، والفضائل كالأحكام من دعائم الدين الأساسية ولا يجوز أن يكون بناء هذه الدعائم واهياً على شفا جرف هار، لذلك لا نسلم برواية الضعيف في فضائل الأعمال ولو توافرت له جميع الشرط التي لاحظها المتساهلون في هذا المجال وذكر الشروط ـ ثم قال: لا نسلم برواية الضعيف رغم هذه الشروط لأن لنا مندوحة عنه مما ثبت لدينا من الأحاديث الصحاح والحسان وهي كثيرة جداً في الأحكام الشرعية والفضائل الخلقية ـ ولأننا رغم توافر هذه الشروط لا نؤنس من أنفسنا الاعتقاد بثبوت الضعيف ولولا ذلك لما سميناه ضعيفاً وإنما يساورنا دائماً الشك في أمره ولا ينفع في الدين إلا اليقين" انتهى كلامه. هذه أقوال بعض العلماء في مدلول كلمة أولئك الأئمة.
ولقد شنع الإمام مسلم في مقدمة صحيحه على رواة الأحاديث الضعيفة فقال: "أعلم وفقك الله تعالى إنه يجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الرواية وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه وأن ينفي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، وقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، فدل بما ذكرنا من هذه الآية أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول"وقد أطال الإمام مسلم في التشنيع على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة في مقدمة صحيحة من أراد ذلك فليرجع إليه فإنه مفيد.(3/220)
وقد نقل القاسمي في كتابه قواعد التحديث ص:113 "الذين قالوا لا يعمل بالحديث الضعيف لا في الأحكام ولا في الفضائل. قال حكاه ابن سيد الناس في عيون الأثر عن يحيى بن معين ونسبه في فتح الغيث لأبي بكر بن العربي ثم قال والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضاً. يدل عليه شرط البخاري في صحيحه وتشنيع الإمام مسلم على رواة الضعيف كما أسلفنا ـ وعدم إخراجهما في صحيحهما شيئاً منه وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله أيضاً حيث قال في الملل والنحل ص83 م2 ما نقله أهل المشرق والمغرب أو كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في الطريق رجلاً مجروحاً بكذب أو غفلة أو مجهول الحال، فهذا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه"انتهى. وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه صحيح الجامع الصغير. ج1ص45 قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح الترمذي (ق112-2) : "وظاهر ما ذكره مسلم في مقدمة كتابه، يعني الصحيح يقتضي أنه لا تروى أحاديث الترغيب والترهيب إلا عمن تروى عنه الأحكام) "قال الشيخ ناصر. قلت: "وهذا الذي أدين الله به وادعوا الناس إليه، أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقاً لا في الفضائل والمستحبات ولا في غيرهما ذلك لأن الحديث الضعيف إنما يفيد الظن المرجوح بلا خلاف أعرفه بين العلماء وإذا كان كذلك فكيف يقال يجوز العمل به، والله عز وجل قد ذمه في غير ما آية من كتابه ـ فقال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" متفق عليه. ثم قال واعلم أنه ليس لدى المخالفين لهذا القول اخترته أي دليل من كتاب ولا سنة"ـ وقد أطال البحث في هذه المسألة في كتابة المشار إليه، وقال في كتابه صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص7: "قال رسول الله صلى الله(3/221)
عليه وسلم: "اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم" فإذا نهي عن رواية الحديث الضعيف فبالأحرى العمل به، والحديث رواه ت، حم وغيرهما صحيح".
هذه بعض أقوال العلماء في عدم العمل بالحديث الضعيف مطلقاً لا في الفضائل ولا في غيرهما فعلى المؤمن إذا أراد أن يستدل بحديث في مسألة من المسائل أن يصحح ما سيبني عليه مسألته يقول الأستاذ سعيد حوى في كتابه المسمى الرسول صلى الله عليه وسلم ص37 ج1: "الملاحظة الأولى أن معرفة صحة الحديث وتأكيد ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يسبق دراسة المضمون لأن كثيراً من الكلام دس عليه وقد قام العلماء بتمحيص الصحيح من كل ما روي عنه صلى الله عليه وسلم فلابد من الرجوع إلى ما أثبتوه أولاً ليكون تحليل المضمون قائماً على أساس سليم، وينبغي أن يتوفر هذا في كل دراسة لها علاقة برسول الله صلى الله عليه وسلم".
انتهى إن على المؤمن أن يتحرى صحة الحديث وثبوته عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو المصدر الثاني من مصادر الإسلام فيجب أن يستدل بما ثبت منه سواء كان في فضائل الأعمال أو في غيرها، والفضائل كالأحكام من دعائم الدين وهي من الأحكام الخمسة المعروفة في أصول الفقه، ولأن البدع والخرافات وغيرها لم يأت غالبها إلا عن طريق الأحاديث الواهية أو الموضوعة أو الضعيفة ولو تتبعت ذلك لوجدت أن كل مخرف أو مبتدع إنما يستند إلى حديث موضوع أو ضعيف أو حكاية عن بعض الناس أو رئى مناميه.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه إنه على كل شيء قدير وصلى الله على نبينا محمدا وعلى آله وصحبه وسلم.(3/222)
ندوة الطلبة
دراسات في الديانات الهندية
المصادر الأساسية للديانة الهندوسية (2)
بقلم الطالب ضياء الرحمن الأعظمي
إذا عرفنا أنهم لا يتقيدون بعقيدة رئيسية سهل علينا أن نقول: إن كل فرقة لها مصدر خاص ولا علاقة بينهما وبين غيرها.
فأساس الديانة البوذية هو تعليمات مقدسة وتجاوب مستمرة، وكذلك أساس الديانات السيخية (كروكرنتها) وأساس الديانة الجينية (كتب كثيرة لا تضبط ولا تحصى) . فكذلك أساس الديانة الهندوسية هو كما يلي:
1. أربع ويدات.
2. رواية علماء ويدات وعملهم.
3. أسوة الصديقين والصالحين حسب زعمهم.
4. نداء الضمير الإنساني.
ما هو ويدا؟
إن ويدا له أربعة أجزاء رك ويد - شام ويد - آثار ويد - ياجور ويد؛ ورك ويد هو الأصل الأساسي والثلاثة الباقية إما مأخوذة من الأصل أو أن فيها شيئاً غير مهم.
يقول العالم الهندوسي شردها نند: "وإذا أنعمنا النظر في رك ويد وجدنا أن غيره أخذ منه نقصاناً وزيادة؛ أما ياجور ويد فليس بشيء فكثير من المحققين أخرجوه من مجموعة ويدات هكذا جاء في الكتاب المقدس (كيتا) يعني أن ويدا ثلاثة - رك ويد - شام ويد - آثار ويد".
ثم هذه الوايدات كلهم تنقسم إلى قسمين:
الأول: المتون المسمى بـ (سمهثا) .
الثاني: الشروح المسمى بـ (براهمن) هكذا نقل عن كاتب ويد (ياسك) .
أما الذين قسموه إلى ثلاثة أقسام فزادوا قسماً ثالثاً وهو آرنيك [1] والأسفار المقدسة (أبا نشد) التي دونت بعدها فهي كلها مأخوذة من آرنيك وبعضها من براهمن، وقد بلغ عدد أبا نشد حوالي مائة وثمانية ولكن المعتبر منها الهندوس ستة عشر على حد تعبير (شنكر اجار) [2] .
ما هي حقيقة ويدات؟(3/223)
يقول أصحاب وشنو: "إن ويد ألهم أولاً إلى العباد والزهاد (رشي ومنى) وأنه كان فيه مائة ألف أشلوك (آيات) ولكن غاب كثير منها بمرور الزمان فجاء رجل اسمه (وياس) (المولود سنة 950ق م كما علم من الآثار القديمة في هستنابور) ورتب ما بقي منه وجعله على أربعة أقسام ي ج – يجر – سامن – أتهرون".
تلخيص ما تقدم:
1. إن ويدات على ثلاثة أقسام سمهت – براهمن - آرنيك.
2. إن أبا نشد مأخوذ من آرنيك يسمى ويدانت (مصدر معروف للتصوف كما نبه عليه كثير من المحققين الجدد مثل الدكتور شاعر الشرق محمد إقبال) .
3. بلغ أشلوك ويدا مائة ألف ولكن ضاع منه الكثير.
4. إن عدد أبا نشد مائة وثمانين ولكن المعتبر منه ستة عشر والباقي كله مسروق مزور.
5. رتب ويدا رجل اسمه (ويدو ياس) (معروف عند الهندوس هو الذي كتب لهم بهارت وكيتا وبران) وسيأتي تفصيله إن شاء الله.
الحمد لله الذي حفظ لنا كتابه الأخير من عبث العابثين وتحريف المدجلين وصدق الله العظيم: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لحافظون} .
السمرتى:
ومن الكتب المقدسة المعتبرة عند الهندوس (إسمرتى) يعنون به القوانين له عدد كثير ولكن اتفقت آراء العلماء الهندوس على منو اسمرتى وهو قانون قديم كما جاء في الباب (1- 34- 35-36) بقدم العالم لأن برهما ألقى هذا إسمرتى في قلب (منو) .
والقوانين الهندوسية سواء تتعلق بالأمور الدنيوية أو الدينية كلها تؤخذ من هذا الكتاب، فإذن هو أساس لقضايا المحكمة الشرعية الهندوسية ولم تختلف واحدة من الفرق الهندوسية سواء البوذية أم الجينية أم السيخية في الأخذ منه بل كلها اتفقت في ذلك.
من أشهر تعليمات (منو اسمرتى) :
1. البحث في خلق الكون.
2. البحث في الطبقات الأربعة في المجتمع الهندوسي وتقسيم وظائفها.
3. البحث في أعمار الإنسان.(3/224)
أ - تفصيله طلب العلم من حين الولادة إلى خمس وعشرين يسمى برهما جاريه آشرما.
ب - الحياة العائلية من خمس وعشرين إلى خمسين يسمى (كرهستا آشرما)
ج - ترك الدنيا من خمسين إلى خمس وسبعين يسمى سنياس آشرما.
د - الإرشاد والتوجيه من خمس وسبعين إلى المنية.
بران:
كأنة ويد خامس عند العوام لأن فهم ويد متوقف عليه وهو موجود منذ القدم - كما هو الشأن في ويدا - فيه توضيحات وتماثيل لقصص ويدا فالذي يريد أن يعرف حقيقة ويدا فعلية بـ بران فأنة يوضح كل حكاية وقصة بالتمثيل.
يبلغ عدده حوالي ثماني عشرة وأعظمه رتبة وأكثره تداولا بين الناس (بهكوت بران) فالهندوس يتلونه كل يوم بعد الصبح بكل أدب واحترام.
اختلف الباحثون في عصر كتابته فذهب جلهم إلى أنه قديم قدم ويدا فمرتبه هو صاحب ويد يعنى ويدو ياس ولكن المتدبر يعرف كذب هذه النسبة إليه بكل سهوله ويسر بأسباب:
1. لا يقدر أحد أن يؤلف في حياته القصيرة مثل هذه الكتب المقدسة الكثيرة يعنى أربع ويدات مها بهارت ثم ثمانية عشرة بران.
2. إذا قارنا بعضه ببعض عرفنا أنه مصدر تضاد واختلاف فمثلاً أصحاب بران (شيوا) جعلوا شيوا إلها أعظم وغيره خداما له وأصحاب بران (وشنو) جعلوه إلها أعظم وغيره خداماً له وأصحاب بران (ديوى) جعلوا ديوى مصدر الخلق وغيرها خداماً لها وهلم جراً وصدق الله العظيم {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} .
فهذه النصوص المذكورة تدل على أن ويد وياس لم يصنف بران كله بل أصحاب بران افتروا عليه. والرأي الصحيح هو أنه ألف بعد زمن ويدا واشترك في تصنيفه كثير من المصنفين المتأخرين، ولكن لما أرادوا له الاحترام والتقديس نسبوه إلى ويد وياس، إلى هذا أشار المحقق الكبير الهندوسي ديانند.(3/225)
هذه هي حقيقة تاريخية لبران الذي يرتل ويتلى في الحفلات والمجامع وعند عقد الزواج كالقرآن والتوراة والإنجيل. فإذا تأملنا في مباحثه نجد أشياء ينفر منها العقل السليم.
من لي بإنسان إذا أغضبته
وجهلت كان الحلم رد جوابه
وإذا طربت إلى المدام شربت من
أخلاقه وسكرت من آدابه
وتراه يصغي للحديث بقلبه
وبسمعه ولعله أدرى به
--------------------------------------------------------------------------------
[1] فيه تعليمات للرهبان وتاركي الدنيا.
[2] كان من أكبر شراح أبا نشد ومجدد للديانة الهندوسية وقد صمد أمام الدعوة البوذية صموداً عجيباً حتى أخرجها من مولدها ووطنها يقول بعض المحققين "لولا شنكراجار لاندرست الديانة الهندوسية ولم تستطع المقاومة أمام أفكار البوذية".(3/226)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (4)
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة الإسلامية
سورة المائدة
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل بعمومها على إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ولو سموا عليها غير الله أو سكتوا ولم يسموا الله ولا غيره لأن الكل داخل في طعامهم وقد قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدى ومقاتل بن حيان أن المراد بطعامهم ذبائحهم كما نقله عنهم ابن كثير ونقله البخاري عن ابن عباس ودخول ذبائحهم في طعامهم أجمع عليه المسلمون مع أنه جاءت آيات أخر تدل على أن ما سمي عليه غير الله لا يجوز أكله وعلى أن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يجوز أكله أيضاً، أما التي دلت على منع أكل ما ذكر عليه اسم غير الله فكقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} في سورة البقرة وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في المائدة والنحل وقوله في الأنعام: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} والمراد بالإهلال رفع الصوت باسم غير الله عند الذبح. وأما التي دلت على منع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه فكقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ.. وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فإنه يفهم عدم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه والجواب عن هذا مشتمل على مبحثين:(3/227)
الأول: في وجه الجمع بين عموم آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مع عموم الآيات المحرمة لما أهل به لغير الله فيما إذا سمّى الكتابي على ذبيحته غير الله بأن أهل بها للصليب أو عيسى أو نحو ذلك.
المبحث الثاني: في وجه الجمع بين آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أيضاً مع قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما إذا لم يسم الكتابي الله ولا غيره على ذبيحته. أما المبحث الأول، فحاصله أن بين قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وبين قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} عموماً وخصوصاً من وجه تنفرد آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في الخبز والجبن من طعامهم مثلاً وتنفرد آية {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في ذبح الوثني لوثنه ويجتمعان في ذبيحة الكتابي التي أهل بها لغير الله كالصليب أو عيسى فعموم قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يقتضي تحريمها وعموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يقتضي حليتها وقد تقرر في علم الأصول أن الأعمين من وجه يتعارضان في الصورة التي يجتمعان فيها فيجب الترجيح بينهما والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر كما قدمنا في سورة النساء في الجمع بين قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} مع قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وكما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
وإن يك العموم من وجه ظهر
فالحكم بالترجيح حتما معتبر(3/228)
فإذا حققت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذين العمومين أيهما أرجح فالجمهور على ترجيح الآيات المحرمة وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك ورواه إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد ذكره صاحب المغنى وهو قول ابن عمر وربيعة كما نقله عنهما البغوي في تفسيره وذكره النووي في شرح المهذب عن على وعائشة ورجح بعضهم عموم آية التحليل بأن الله أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون كما احتج به الشعبي وعطاء على إباحة ما أهلوا به لغير الله قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن عموم آيات المنع أرجح وأحق بالاعتبار من طرق متعدده: منها قوله صلى الله عليه وسلم: "والإثم ما حاك في النفس" الحديث, وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". ومنها أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما تقرر في الأصول وينبني على ذلك أن النهي إذا تعارض مع الإباحة كما هنا فالنهي أولى بالتقديم والاعتبار لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام بل صرح جماهير من الأصوليين بأن النص الدال على الإباحة في المرتبة الثالثة من النص الدال على نهي التحريم لأن نهي التحريم مقدم على الأمر الدال على الوجوب لما ذكرنا من تقديم درء المفاسد على جلب المصالح والدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة للاحتياط في البراءة من عهدة الطلب وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول بقوله:
وناقل ومثبت والآمر
بعد النواهي ثم هذا الاخر
على إباحة الخ ...(3/229)
فإن معنى قوله: "والأمر بعد النواهي"أن ما دل على الأمر بعد ما دل على النهي فالدال على النهي هو المقدم وقوله: "ثم هذا الآخر على إباحة"يعني أن النص الدال على الأمر مقدم على الإباحة كما ذكرنا فتحصل أن الأول النهي فالأمر فالإباحة فظهر تقديم النهي عما أهل به لغير الله على إباحة طعام أهل الكتاب. واعلم أن العلماء اختلفوا فيها حرم على أهل الكتاب كشحم الجوف من البقر والغنم المحرم على اليهود هل يباح للمسلم مما ذبحه اليهودي فالجمهور على إباحة ذلك للمسلم لأن الذكاة لا تتجزأ وكرهه مالك ومنعه بعض أصحابه كابن القاسم وأشهب واحتج عليهم الجمهور بحجج لا ينهض الاحتجاج بها عليهم فيما يظهر وإيضاح ذلك أن أصحاب مالك احتجوا بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قالوا المحرم عليهم ليس من طعامهم حتى يدخل فيما أحلته الآية فاحتج عليهم الجمهور بما ثبت في صحيح البخاري من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مغفل رضي الله عنه على أخذ جراباً من شحم اليهود يوم خيبر وبما رواه الإمام أحمد ابن حنبل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز وشعير وإهالة سنخة أي ودك متغير الريح وبقصة الشاه المسمومة التي سمتها اليهودية له صلى الله عليه وسلم ونهش ذراعها ومات منها بشر بن البراء بن معرور وهي مشهورة صحيحة قالوا أنه صلى الله عليه وسلم عزم على أكلها هو ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أو لا وقد تقرر في الأصول أن ترك الاستفصال بمنزلة العموم في الأقوال كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
ونزلن ترك الاستفصال
منزلة العموم في المقال(3/230)
والذي يظهر لمقيدة عفا الله عنه أن هذه الأدلة ليس فيها حجة على أصحاب مالك أما حديث عبد الله بن مغفل وحديث أنس رضي الله عنهما فليس في واحد منهما النص على خصوص الشحم المحرم عليهم ومطلق الشحم ليس حراماً عليهم بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فما في الحديثين أعم من محل النزاع والدليل على الأعم ليس دليلاً على الأخص لأن وجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص بإجماع العقلاء ومثل رد هذا الاحتجاج بما ذكرنا هو القادح في الدليل المعروف عند الأصوليين بالقول بالموجب وأشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
والقول بالموجب قدحه جلا
وهو تسليم الدليل مسجلا
من مانع أن الدليل استلزما
لما من الصور فيه اختصما(3/231)
أما القول بالموجب عند البيانيين فهو من أقسام البديع المعنوي وهو ضربان معروفان في علم البلاغة وقصدنا هنا القول بالموجب بالاصطلاح الأصولي لا البياني وأما تركه صلى الله عليه وسلم الاستفصال في شاة اليهودية فلا يخفي أنه لا دليل فيه لأنه صلى الله عليه وسلم ينظر بعينه ولا يخفي علية شحم الجوف ولا شحم الحوايا ولا الشحم المختلط بعظم كما هو ضروري فلا حاجة إلى السؤال عن محسوس حاضر وأجرى الأقوال على الأصول في مثل الشحم المذكور الكراهة التنزيهية لعدم دليل جازم على الحل أو التحريم لأن ما يعتقد الشخص أنه حرام عليه ليس من طعامه والذكاة لا يظهر تجزؤها فحكم المسألة مشتبه ومن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه وأما البحث الثاني: وهو الجمع بين قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مع قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما إذا لم يذكر الكتابي على ذبيحته اسم الله ولا اسم غيره فحاصله أن في قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وجهين من التفسير أحدهما وإليه ذهب الشافعي وذكر ابن كثير في تفسيره لها أنه قوي أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه هو ما أهل به لغير الله وعلى هذا التفسير فمبحث هذه الآية هو المبحث الأول بعينه لاشيء آخر.(3/232)
الوجه الثاني: أنها على ظاهرها وعليه فبين الآيتين أيضاً عموم وخصوص من وجه تتفرد آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فيما ذبحه الكتابي وذكر عليه اسم الله فهو حلال بلا نزاع وتنفرد آية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما ذبحه وثني أو مسلم لم يذكر اسم الله عليه فما ذبحه الوثني حرام بلا نزاع وما ذبحه المسلم من غير تسمية يأتي حكمه إن شاء الله ويجتمعان فيما ذبحه كتابي ولم يسم الله عليه فيتعارضان فيه فيدل عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} على الإباحة ويدل عموم {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} على التحريم فيصار إلى الترجيح كما قدمنا واختلف في هذين العمومين أيضاً أيهما أرجح فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية وقال بعضهم بترجيح عموم {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال النووي في شرح المهذب: "ذبيحة أهل الكتاب حلال سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا لظاهر القرآن العزيز هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وحكاه ابن المنذر عن علي والنخعي وحماد بن سليمان وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق وغيرهم فإن ذبحوا على صنم أو غيره لم يحل"انتهى محل الغرض منه بلفظه. وحكى النووي القول الآخر عن علي أيضاً وأبي ثور وعائشة وابن عمر. قال مقيدة عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن لعموم كل من الآيتين مرجحاً وأن مرجح آية التحليل أقوى بالاعتبار أما آية التحليل فيرجح عمومها بأمرين:(3/233)
الأول: أنها أقل تخصيصاً وآية التحريم أكثر تخصيصاً لأن الشافعي ومن وافقه خصصوها بما ذبح لغير الله وخصصها الجمهور بما تركت فيه التسمية عمداً قائلين أن تركها نسياناً لا أثر له وآية التحليل ليس فيها من التخصيص غير صورة النزاع إلا تخصيص واحد وهو ما قدمنا من أنها مخصوصة بما لم يذكر عليه اسم غير الله على القول الصحيح وقد تقرر في الأصول أن الأقل تخصيصاً مقدم على الأكثر تخصيصاً كما أن ما لم يدخله التخصيص أصلا مقدم على ما دخله وعلى هذا جمهور الأصوليين وخالف فيه السبكي والصفي الهندي وبيّن صاحب نشر البنود في شرح مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروى في شرح قوله:
تقديم ما خص على ما لم يخص
وعكسه كل أتى عليه نص
أن الأقل تخصيصاً مقدم على الأكثر تخصيصاً وأن ما لم يدخله التخصيص مقدم على ما دخله عند جماهير الأصوليين وأنه لم يخالف فيه إلا السبكى وصفي الدين الهندي.
والثاني: ما نقله ابن جرير ونقله عنه ابن كثير عن عكرمة والحسن البصري ومكحول أن آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ناسخة لآية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وقال ابن جرير وابن كثير أن مرادهم بالنسخ التخصيص ولكنا قدمنا أن التخصيص بعد العمل بالعام نسخ لأن التخصيص بيان والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل.
ويدل لهذا أن آية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} من سورة الأنعام وهي مكية بالإجماع وآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} من المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة. وأما آية التحريم فيرجع عمومها بما قدمنا من مرجحات قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} لأن كلتاهما دلت على نهي يظهر تعارضه مع إباحة وحاصل هذه المسألة أن ذبيحة الكتابي لها خمس حالات لا سادسة لها.(3/234)
الأولى: أن يعلم أنه سمى الله عليها وهذه تؤكل بلا نزاع ولا عبرة بخلاف الشيعة في ذلك لأنهم لا يعتد بهم في الإجماع.
الثانية: أن يعلم أنه أهل بها لغير لله ففيها خلاف وقد قدمنا أن التحقيق أنها لا تؤكل لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} .
الثالثة: أن يعلم أنه جمع بين اسم الله واسم غيره وظاهر النصوص أنها لا تؤكل أيضاً لدخولها فيما أهل لغير الله.
الرابعة: أن يعلم أنه سكت ولم يسم الله ولا غيره فالجمهور على الإباحة وهو الحق والبعض على التحريم كما تقدم.(3/235)
الخامسة: أن يجهل الأمر لكونه ذبح حالة انفراده فتؤكل على ما عليه جمهور العلماء وهو الحق إن لم يعرف الكتابي بأكل الميتة كالذي يسل عنق الدجاجة بيده فإن عرف بأكل الميتة لم يؤكل ما غاب عليه عند بعض العلماء وهو مذهب مالك ويجوز أكله عند البعض بل قال ابن العربي المالكي: "إذا عايناه يسل العنق الدجاجة بيده فلنا الأكل منها لأنها من طعامه والله أباح لنا طعامه" واستبعده ابن عبد السلام قال مقيده عفا الله عنه: هو جدير بالاستبعاد فكما أن نسائهم يجوز نكاحهن ولا تجوز مجامعتهن في الحيض فكذلك طعامهم يجوز لنا من غير إباحة الميتة لأن غاية الأمر أن ذكاة الكتابي تحل مذكاة كذكاة المسلم وما وعدنا به من ذكر الحكم ما ذبحه المسلم ولم يسم الله عليه فحاصله أن فيه ثلاثة أقوال. أرجحها وهو مذهب الجمهور أنه إن ترك التسمية عمداً لم تؤكل لعموم قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وإن تركها نسياناً أكلت لأنه لو تذكر لسمّى الله. قال ابن جرير: "من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول الحجة وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"قال ابن كثير: "أن بن جرير يعني بذلك ما رواه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله"ثم قال ابن كثير: "أن رفع هذا الحديث خطأ أخطأ فيه بن عبيد الله الجزري والصواب وقفه على بن عباس كما رواه بذلك سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي ومما استدل به البعض على أكل ذبيحة الناسي للتسمية دلالة الكتاب والسنة والإجماع على العذر بالنسيان ومما استدل به البعض لذلك حديث رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله رأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسم الله على كل مسلم" ذكر ابن كثير هذا الحديث(3/236)
وضعفه بأن في إسناده مروان بن سالم أبا عبد الله الشامي وهو ضعيف.
القول الثاني: أن ذبيحة المسلم تؤكل ولو ترك التسمية عمداً وهو مذهب الشافعي رحمه الله كما تقدم لأنه يرى أنه ما لم يذكر اسم الله عليه يراد به ما أهل به لغير الله لا شيء آخر وقد ادعى بعضهم انعقاد الإجماع قبل الشافعي عل أن متروك التسمية عمداً لا يؤكل ولذلك قال أبو يوسف وغيره: "لو حكم الحاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفته الإجماع"واستغرب ابن كثير حكاية الإجماع على ذلك قائلاً: "إن الخلاف فيه قبل الشافعي معروف".
القول الثالث: أن المسلم إذا لم يسم على ذبيحته لا تؤكل مطلقاً تركها عمداً أو نسياناً وهو مذهب داود الظاهري وقال ابن كثير: "ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين أنهما كرها متروك التسمية نسياناً والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيراً"ثم ذكر ابن كثير أن ابن جرير لا يعتبر مخالفة الواحد أو الاثنين للجمهور فيعده إجماعاً مع مخالفة الواحد أو الاثنين ولذلك حكى الإجماع على أكل متروك التسمية نسياناً مع أنه نقل خلاف ذلك عن الشعبي وابن سيرين.
مسائل مهمة تتعلق بهذه المباحث:(3/237)
المسألة الأولى: اعلم أن كثيراً من العلماء من المالكية والشافعية وغيرهم يفرقون بين ما ذبحه أهل الكتاب لصنم وبين ما ذبحوه لعيسى أو جبريل أو لكنائسهم قائلين أن الأول مما أهل به لغير الله دون الثاني فمكروه عندهم كراهة تنزيه مستدلين بقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} . والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه أن هذا الفرق باطل بشهادة القرآن الكريم لأن الذبح على وجه القربة عبادة بالإجماع فقد قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} الآية فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله فقد جعله شريكاً مع الله في هذه العبادة التي هي الذبح سواء كان نبياً أو ملكاً أو بناءً أو شجراً أو حجرً أو غير ذلك لا فرق في ذلك بين صالح وطالح كما نص عليه تعالى بقوله: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} ثم بين أن فاعل ذلك كافر بقوله تعالى: {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} . وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية. فإن قيل قد رخص في كل ما ذبحوه لكنائسهم أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي والعرباض بن سارية والقاسم بن مخيمرة وحمزة ابن حبيب وأبو سلمة الخولاني وعمر بن الأسود ومكحول والليث بن سعد وغيرهم، فالجواب: أن هذا قول جماعة من العلماء من الصحابة ومن بعدهم وقد خالفهم فيه غيرهم وممن خالفهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والإمام الشافعي رحمه الله والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ(3/238)
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الآية فنرد هذا النزاع إلى الله فنجده حرم ما أهل به لغير الله وقوله: {لِغَيْرِ اللَّهِ} يدخل فيه الملك والنبي كما يدخل فيه الصنم والنصب والشيطان وقد وافقونا في منع ما ذبحوه باسم الصنم وقد دل الدليل على أنه لا فرق في ذلك بين النبي والملك وبين الصنم والنصب فلزمهم القول بالمنع وأما استدلالهم بقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فلا دليل فيه لأن قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ليس بمخصص لقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} لأنه ذكر فيه بعض ما دل عليه عموم {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} .(3/239)
وقد تقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص على الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي ثور محتجاً بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام، فإذا حققت ذلك فاعلم أن ذكر البعض لا يخصص العام سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} أو ذكر كل واحد منهما على حدة كحديث الترمذي وغيره "أيّما إهاب دبغ فقد طهر" مع حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: "هلا أخذتم إهابها " الحديث فذكر الصلاة الوسطى في الأول لا يدل على عدم المحافظة على غيرها من الصلوات وذكر إهاب الشاة في الأخير لا يدل على عدم الانتفاع بإهاب غير الشاة لأن ذكر البعض لا يخصص العام وكذلك رجوع ضمير البعض لا يخصص أيضاً على الصحيح كقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} فإن الضمير راجع إلى قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} وهو لخصوص الرجعيات من المطلقات مع أن تربص ثلاثة قروء عام للمطلقات من رجعيات وبوائن وإلا هذا أشار في مراقي السعود مبيناً معه أيضاً أن سبب الواقعة لا يخصصها وأن مذهب الراوي ر يخصص مرويه على الصحيح فيها أيضاً بقوله:
ودع ضمير البعض والأسبابا
وذكر ما وافه من مفرد
....................................
ومذهب الراوي على المعتمد
وروي عن الشافعي وأكثر الحنفية التخصيص بضمير البعض وعليه فتربص البوائن ثلاثة قروء مأخوذ من دليل آخر أما عدم التخصيص بذكر البعض فلم يخالف فيه إلا أبو ثور وتقدم رد مذهبه ولو سلمنا أن الآية معارضة بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فإنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك مثل هذا الذي تعارضت فيه النصوص بقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".(3/240)
المسألة الثانية: اختلف العلماء في ذكاة نصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهراء وجذام ولخم وعاملة ونحوهم فالجمهور عل أن ذبائحهم لا تؤكل قال ابن كثير: "وهو مذهب الشافعي"ونقله النووي في شرح المذهب عن على وعطاء وسعيد ابن جبير ونقل النووي أيضاً إباحة ذكاتهم عن ابن عباس والنخعي والشعبي وعطاء الخرساني والزهري والحكم وحماد وأبي حنيفة وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وصحح هذا القول ابن قدامة في المغنى محتجاً بعموم قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وحجة القول الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه قال: "ما نصارى العرب بأهل كتاب لا تحل لنا ذبائحهم"وما روي عن علي رضي الله عنه: "لا تحل ذبائح نصارى بنى تغلب لأنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدل فصاروا كالمجوس لما أشكل أمرهم في الكتاب لم تؤكل ذبائحهم"ذكر هذا صاحب المهذب وسكت عليه النووي في الشرح قائلاً: "إنه حجة الشافعية في منع ذبائحهم"ويفهم منه عدم إباحة أكل ذكاة اليهود والنصارى اليوم لتبديلهم لا سيما فيمن عرفوا منهم بأكل الميتة كالنصارى.(3/241)
المسألة الثالثة: ذبائح المجوس لا تحل للمسلمين قال النووي في شرح المهذب: "هي حرام عندنا وقال به جمهور العلماء ونقله ابن المنذر عن أكثر العلماء"وقال: "وممن قال به سعيد بن المسيب وعطاء بن أبى رباح وسعيد ابن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والنخعي وعبيد الله بن يزيد ومرة الهمذاني والزهري ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وقال ابن كثير في تفسير قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} : "وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعاً وإلحاقاً لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم خلافا لأبى ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد ابن حنبل ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء حتى قال عنه الأمام أحمد: "أبو ثور كاسمه"يعنى في هذه المسألة وكأنه تمسك بعموم حديث روى مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ولكن لم يثبت بهذا اللفظ وإنما الذي في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عوف "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر" ولو سلم صحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فدل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل"انتهى كلام ابن كثير بلفظه واعترض عليه في الحاشية الشيخ السيد محمد رشيد رضا بما نصه فيه "أن هذا مفهوم لقب وهو ليس بحجة"، قال مقيده عفا الله عنه: الصواب مع الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى واعتراض الشيخ عليه سهو منه لأن مفهوم قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مفهوم علة لا مفهوم اللقب كما ظنه الشيخ لأن مفهوم اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما علق فيه الحكم باسم جامد سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع وضابطه أنه هو الذي ذكر ليمكن الإسناد إليه فقط لا لاشتماله على صفة تقتضي تخصيصه بالذكر(3/242)
دون غيره أما تعليق هذا الحكم الذي هو إباحة طعامهم بالوصف بإيتاء الكتاب صالح لأن يكون مناط الحكم بحلية طعامهم وقد دل المسلك الثالث من مسالك العلة المعروف بالإيماء والتنبيه على أن مناط حلية طعامهم هو إيتاؤهم الكتاب وذلك بعينه هو المناط لحلية نكاح نسائهم لأن ترتيب الحكم بحلية طعامهم ونسائهم على إيتائهم الكتاب لو لم يكن لأنه علته لما كان في التخصيص بإيتاء الكتاب فائدة ومعلوم أن ترتيب الحكم على وصف لو لم يكن علته لكان حشوا من غير فائدة يفهم منه أنه علته بمسلك الإيماء والتنبيه قال في مراقي السعود في تعداد صور الإيماء:
وذكره في الحكم وصفا قد ألم
كما إذا سمع وصفا فحكم
ومنعه مما يفيت استفد
إن لم يكن علته لم يفد
......................
ترتيبه الحكم عليه واتضح
ومحل الشاهد منه قوله: "استفد ترتيبه الحكم عليه"وقوله: "وذكره في الحكم وصفا أن لم يكن علته لم يفد"ومما يوضح ما ذكرنا أن قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} موصول وصلته جملة فعلية وقد تقرر عند علماء النحو في المذهب الصحيح المشهور أن الصفة الصريحة كاسم الفاعل واسم المفعول الواقعة صلة أل بمثابة الفعل مع الموصول ولذا عمل الوصف المقترن بأل الموصولة في الماضي لأنه بمنزلة الفعل كما أشار له في الخلاصة بقوله:
وغيره إعماله قد ارتضي
وإن يكن صلة أل ففي المضي(3/243)
فإذا حققت ذلك علمت أن الذين أوتوا الكتاب بمثابة ما لو قلت وطعام المؤتين الكتاب بصيغة اسم المفعول ولم يقل أحد أن مفهوم اسم المفعول مفهوم لقب لاشتماله على أمر هو المصدر يصلح أن يكون المتصف به مقصودا للمتكلم دون غيره كما ذكروا في مفهوم الصفة فظهر أن إيتاء الكتاب صفة خاصة بهم دون غيرهم وهى العلة في إباحة طعامهم ونكاح نساءهم فادعاء أنها مفهوم لقب سهو ظاهر وظهر أن التحقيق أن المفهوم في قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مفهوم علة ومفهوم العلة قسم من أقسام مفهوم الصفة فالصفة أعم من العلة وإيضاحه كما بينه القرافي أن الصفة قد تكون مكملة للعلة لا علة تامة كوجوب الزكاة في السائمة فإن علته ليست السوم فقط ولو كان كذلك لوجبت في الوحوش لأنها سائمة ولكن العلة ملك ما يحصل به الغنى وهي مع السوم أتم منها مع العلف وهذا عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة وظهر أن ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هو الصواب وقد تقرر في علم الأصول أن المفهوم بنوعيه من مخصصات العموم أما تخصيص العام بمفهوم الموافقة بقسميه فلا خلاف فيه وممن حكى الإجماع عليه الآمدي السبكي في شرح المختصر ودليل جوازاه أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ومثاله تخصيص حديث "ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" أي يحل العرض بقوله مطلني والعقوبة بالحبس فإنه مخصص بمفهوم الموافقة الذي هو الفحوى في قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} لأن فحواه تحريم إذاهما فلا يحبس الوالد بدين الولد وأما تخصيصه مفهوم المخالفة ففيه خلاف والأرجح منه هو ما مشى عليه الحافظ ابن كثير تغمده الله برحمته الواسعة وهو التخصيص به والدليل عليه ما قدمنا من أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما وقيل لا يجوز التخصيص به ونقله الباجي عن أكثر المالكية وحجة هذا القول أن دلالة العام على ما دل عليه المفهوم بالمنطوق وهو مقدم على المفهوم ويجاب بأن المقدم عليه منطوق خاص لا ما هو من(3/244)
أفراد العام فالمفهوم مقدم عليه لان إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما واعتمد التخصيص به صاحب مراقي السعود في قوله في مبحث الخاص في الكلام على المخصصات المنفصلة:
وقسمي المفهوم كالقياس
واعتبر الإجماع جل الناس
ومثال التخصيص بمفهوم المخالفة تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة" الذي يشمل عمومه السائمة لا زكاة فيها فيخصص بذلك عموم في أربعين شاة شاة والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة: ما صاده الكتابي بالجوار ح والسلاح حلال للمسلم لأن العقر ذكاة الصيد وعلى هذا القول الأئمة الثلاثة وبه قال عطاء والليث والأوزاعيث وابن المنذر وداود وجمهور العلماء كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب وحجة الجمهور واضحة وهى قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وخالف مالك وابن القاسم ففرقا بين ذبح الكتابي وصيده مستدلين بقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} لأنه خص الصيد بأيدي المسلمين ورماحهم دون غير المسلمين قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله أعلم أن هذا الاحتجاج لا ينهض على الجمهور وأن الصواب مع الجمهور وقد وافق الجمهور من المالكية أشهب وابن هارون وابن يونس والباجي واللخمي ولمالك في الموازية كراهته قال ابن بشير: "ويمكن حمل المدونة على الكراهة".
المسألة الخامسة: ذبائح أهل الكتاب في دار الحرب كذبائحهم في دار الإسلام قال النووي: "وهذا لا خلاف فيه"ونقل ابن المنذر الإجماع عليه.
قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ..} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا تحاكم إليه أهل الكتاب مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهى قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ..} الآية.(3/245)
والجواب أن قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} ناسخ لقوله: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن اسلم وعطاء الخراساني وغير واحد قاله ابن كثير. وقيل معنى {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي إذا حكمت بينهم فاحكم بما أنزل الله لا باتباع الهوى، وعليه فالأولى محكمة والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أو آخران من غيركم} الآية: هذه الآية تدل على قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} وقوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} ، أي فالكافرون أحرى برد شهادتهم وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، وقوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء..} الآية والجواب عن هذا على قول من لا يقبل شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر أنه يقول إن قوله: {أو آخران من غيركم} منسوخ بآيات اشتراط العدالة والذي يقول بقبول شهادتهما يقول هي محكمة مخصصة لعموم غيرها وهذا الخلاف معروف ووجه الجواب على كلا القولين ظاهر وأما على قول من قال أن معنى قوله: {ذوا عدل منكم} أي من قبيلة الموصي وقوله: {أو آخران من غيركم} أي من غير قبيلة الموصي من سائر المسلمين، فلا إشكال في الآية ولكن جمهور العلماء على أن قوله {من غيركم} أي من غير المسلمين وأن قوله {منكم} أي من المسلمين وعليه فالجواب ما تقدم والعلم عند الله تعالى.(3/246)
قوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} . هذه الآية يفهم منها أن الرسل لا يشهدون يوم القيامة، على أممهم وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أنهم يشهدون على أممهم كقوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} وقوله تعالى: {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء} . والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو اختيار ابن جرير وقال فيه ابن كثير: "لاشك أنه حسن"، أن المعنى لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا فلا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شئ فنحن وإن عرفنا من أجابنا فإنما نعرف الظواهر ولا علم لنا بالبواطن وأنت المطلع على السرائر وما تخفي الضمائر فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم.
الثاني: وبه قال مجاهد والسدي والحسن البصري كما نقله عنهم ابن كثير وغيره أنهم قالوا لا علم لنا لما اعتراهم من شدة هول يوم القيامة ثم زال ذلك عنهم فشهدوا على أممهم.
الثالث: وهو أضعفها أن معنى قوله: {ماذا أجبتم} ماذا عملوا بعدكم وما أحدثوا بعدكم؟ قالوا لا علم لنا ذكر ابن كثير وغيره هذا القول ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن.
قوله تعالى: {قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} . هذه الآية الكريمة تدل على أن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة وقد جاء في بعض الآيات ما يوهم خلاف ذلك كقوله: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وقوله: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} . والجواب أن آية {أدخلوا آل فرعون} وآية {إن المنافقين} لا منافاة بينهما لأن كلا من آل فرعون والمنافقين في أسفل دركات النار في أشد العذاب وليس في الآيتين ما يدل على أن بعضهم أشد عذابا من الآخر وأما قوله: {فإني أعذبه} الآية فيجاب عنه من وجهين:(3/247)
الأول: وهو ما قاله ابن كثير أن المراد بالعالمين عالموا زمانهم وعليه فلا إشكال ونظيره قوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} كما تقدم.
الثاني: ما قاله البعض من أن المراد به العذاب الدنيوي الذي هو مسخهم خنازير ولكن يدل على أنه عذاب الآخرة ما رواه ابن جرير عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أنه قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون". وهذا الإشكال في المائدة لا يتوجه إلا على القول بنزول المائدة وأن بعضهم كفر بعد نزولها أما على قول الحسن ومجاهد أنهم خافوا من الوعيد فقالوا لا حاجة لنا في نزولها فلم تنزل فلا إشكال لكن ظاهر القول تعالى: {أني منزلها} يخالف ذلك وعلى القول بنزولها لا يتوجه الإشكال إلا إذا ثبت كفر بعضهم كما لا يخفى.(3/248)
رسائل لم يحملها البريد
بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
أمّاه
لقد تركت الجامعة, وتركت الدراسة في كلية الحقوق, وأصبحت فدائيا, نعم ... فدائيا! أقول هذا وأنا أعلم أي نبأ أسوقه إليك, وأية مصيبة ستحل بك, ولكن ماذا أصنع؟! ماذا أصنع يا أماه؟! علي أن أقوم بعمليات الفدائية, وأخشى أن تقضي عليك المفاجأة المروعة, حين تجدينني بين يديك جثة خرساء, جثة غارقة في التراب والدماء, وظنك أني أسرح وأمرح في أفناء الجامعة, وأفياء الحدائق.
حاولت في بداية هذا الأمر أن أكتب إليك ما أنا عازم عليه, وقضيتها ليلة تائهة النجوم, ضائعة القمر, أثبت وأمحو, وأمحو وأثبت, كم مرة كتبت إليك هذا النبأ ثم انثنيت, وكم مرة وضعت الرسالة في الغلاف ثم مزقتها, يا لله لتلك الليلة! لقد تنفس صباحها, ولكن الرأي عندي لم يتنفس.
أما اليوم فلا تردد ولا كتمان, ولا حيرة ولا تخوف, لقد برح الخفاء, وآن له أن يبرح, تدريباتي العسكرية قاربت النهاية, وعملياتي الفدائية في الأرض المغصوبة أوشكت أن تبدأ, والعام الدراسي يطوى أخريات لياليه وأيامه, وأبناء بلدتي الذين كنت زميلا لهم في الجامعة يحزمون أمتعتهم, ويطوفون بالأسواق يشترون الهدايا.
سوف يعودون إلى البلدة كما كنت أعود في السنوات الخالية, وسوف يطرقون الأبواب على أهليهم, فتتفتّح لهم ضاحكة مستبشرة, سوف تغمر الفرحة بيوتاً كثيرة هنا وهناك على مقربة منك ومبعدة, وسوف تغصّ هذه البيوت بالمهنئين مع النهار, وبالسامرين مع الليل.(3/249)
أما أنت أيتها ألام الرائم, فلن يطرق الباب عليك ذلك الطارق الذي تتوقعين, إنه لن يعود مع هؤلاء العائدين, هذه الرسالة التي أكتبها إليك اليوم, هي التي ستعود هذا العام, وتقرع عليك الأبواب، لك الله يا أماه! لك الله! كم تحمّلتِ في سبيلي من متاعب ومصاعب, عشرون عاما تتابعت آخذاً بعضها بعناق بعض, وأنا أتقلب في أحضانك العاطفة، تحت أجنحتك الوارفة, دون أن يعينك على الحياة زوج, أو يقف إلى جانبك فيها البنون, إنما هي عشرات من غراس الزيتون لا يكاد جناها يفي بحاجات الحياة.
كم وفرت لي لذيذ الطعام والشراب, وحرمت منه جسمك الغرثان, لم يكن ليصدق من يراك ويراني صغيرا أمشي خلفك تارة, وأثب عن يمينك ويسارك تارة أخرى, ما كان ليصدق أن هذا الطفل الذي تسيل أعطافه صحة وحياة, ويطفح وجهه رفاهاً ونعمة -أنه ابن هذه المرأة الطاوية البطن, المعروقة العظام, العارية الأشاجع.
هذا الطفل الذي ربيته وأنفقت عليه من شبابك عشرين ربيعا, صابرة تنتظرين فيه العزاء والعوض عن أبيه, صادفة عن الخاطبين وهناء الزواج حرصا عليه وإبقاء على حب والدة, هذا الطفل الذي أوشكت أن تبلغي به ما كنت تؤملين، هذا الطفل الذي كنت تتوقعين أن يؤوب إليك هذه الأيام حاملاً شهادته العالية بدلا من أن يبعث إليك بهذه الرسالة يخيل إليك اليوم أنه قد ضاع من بين يديك, وأنك قد فقدته أبدا, أو أن يعود إليك كما عاد أبوه من قبل عشرين عاماً محمولاً من المعركة, قد نزفت دماؤه, ولمّا يمض على زواجكما سنه كاملة.
كنت تريدينني ذا مكانة تتيهين بها على سائر الأمهات, نسكن بيتاً جميلاً مطلاً على القرية من فوق رابية الزيتون, نغدو ونروح في سيارة فارهة كيفما نشاء وأنّى نريد, كنت تريدين أن تثأري لسنوات الحرمان الطويلة, كنت تريدين ... وتريدين ... وأريد ... وأريد ...(3/250)
أحلام جميلة طالما رأيناها, وأمال حلوة طالما عشناها, وهاهي ذي اليوم تتقشع كما يتقشع ضباب الصباح مع أشعة الشمس المشرقة.
يا إله السموات والأرض غفرانا ورحمة!! ويا أيتها الأم الصابرة معذرة إليك, وحنانا من لدنك!!
كان عليّ أن أبقى إلى جوارك براً بك وإحساناً, ولكن هذه المصيبة الحطوم التي حطمت داراً من ديار المسلمين لم يكن في مقدوري أن أقف حيالها متفرجاً من بعيد, أقرأ الصحف, وأسمع الإذاعات, ثم أصيح ملء شدقيّ: مرحى لهذا, وتعساً لذاك.
لم يعد في استطاعتي بعد هذا أن أقرأ كتاباً, أو أصغي إلى محاضر, أو أفهم شيئاً من هذه القوانين التي تتحدث عن حقوق الناس والشعوب والدول, هذه القوانين التي يخيل إلي أنها لم تكتب إلا لتدرس في الجامعات, وتنال بها الشهادات, ويتبارى فيها الخطباء على منابر هيئة الأمم المتحدة, أمّا التطبيق والعمل فله قوانين أخرى يعرفها وحش الغاب وحيوان البحر، تعرفها الدول القوية التي تقول للدول الضعيفة والشعوب الغافلة وهي تفترسها نريد أن نمدّك بأسباب الحياة, ونهديك سبيل الحضارة والتقدم.
يعرفها أناس في الشرق والغرب يتباكون علي الضحايا والفرائس, وهم الذين أحلوها دار البوار.
أية حقوق أدرس, وقد ضاعت حقوقي في الحياة باسم الحق والعدالة؟! وأي قانون أتعلم, قد ضاعت بلادي من فوق الأرض باسم قانون الأمر الواقع؟! يا لله من كيد الظالمين! ! ويا لله من خداع الأقوياء!!(3/251)
كان لزاما أن أمضي قدما في الطريق الذي اختاره الله لي, وهداني إليه, وان أتنكب هؤلاء الناس: هؤلاء الشباب الذين يجوبون الشوارع تصيداً للفتيات, وبحثاً عن السوءى, ويقضون لياليهم في دور الخيالة والملاهي عابثين معربدين, أو على المقاهي يتساقون ما لذ وطاب من ألوان الشراب, يمضون الأحاديث الماجنة, ويتثاءبون من فراغ وكسل, ثم يهربون كما تهرب الفئران إلى جحورها كلما سمعوا هدير طائرة, أو دوي مدفع, أو طلقات رصاص.
شكراً لله رب العالمين الذي لم يعجل لي بالزواج, فأصبح ذا بنات وبنين, أتعلل بالسعي عليهم, والكسب لهم, والخوف على مستقبلهم من اليتم والفقر والضياع, كأنما اطلعت على الغيب, أو اتخذت عند الرحمن عهداً.
أحمدك يا إلهي حمداً كثيراً أن لم تجعلني ذرب اللسان, واسع الحيلة, ذا خلابة أخدع الناس بما أتلمس من معاذير, وأدلس في العلل, لأنجو من أداء الحقوق, وألقي عن كاهلي أثقال الواجبات.
لقد وضعت أصابعي العشر في آذاني وأنا أمر بأولئك الذين يثبطون العزائم صائحين! أنريق الدماء, ونكدس الجثث, لتكون منابر المجد لفلان وفلان؟! أنضحي بحياتنا في سبيل أناس لا يستحقون الحياة؟! مررت بهم وأنا أقول: إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى.
أمّاه:
إذا كان في الناس من يقاتلون من وراء مبادئ حزبية, أو زعامات سياسية, فلست منهم في شئ, لست قنبلة من هذه القنابل التي يطلقها أناس آمنون وراء الجدران راتعون في لذات النعيم.
لم يستخفني إلي الموت سراب مجد, ولا أماني الشهرة, ولا ضلالة عمياء من هذه الضلالات التي يتيه في ظلماتها شباب الضياع, وإنما هو الجهاد, أسير في طريقه, ولا أبتغي به غير الله, ولكل امرئ ما نوى.(3/252)
تركت مسارح اللهو ومراتع الصبا, تركت فراشي الوثير, يغطيه الصوف والحرير, تركت الطعام الهنيء والشراب المريء, تركت أسمار الصيف الغافية على أضواء القمر ونسمات الليل المتبردة, تركت مجالس الشتاء الهادئة الدافئة على أنفاس المواقد, وتركت المحاضرات والمحاضرين ودراسة القانون, وكم تركت وتركت ... تركت هذا كله غير آسف, تركته مسرعا إلى مسارح الوحش ووكنات الطير, أتنقل في الجبال, وأهبط الأودية, دون أن تضل بي الشعاب والثنايا, أو تتنكر لي المغاور والكهوف, لا أبالي أن افترش الثرى, وأن أتوسد الحجر, وأن أبيت على الطوى, أعدو في صبيحة كل يوم سبعة أميال أو تزيد, دون أن أشكو أو يسمح لي بالشكوى, لم أعد أعرف الكنّ في زمهرير الشتاء, ولا القيلولة في هواجر الصيف, وسيّان لديّ أن أسير في غسق الليل وأن أسير في وضح النهار.
لعلك تتساءلين من إشفاق وعجب, وأنت تضعين كفّاً على خد, وتقولين: أني لك هذا -يابنيّ- وأنت على ما أنت عليه؟!
ما أسرع ما تغيرت يا أمّ عمّا تعهدين!! إن فتاك الذي كان يمور في الشحم واللحم كخراف العيد المعلوفة قد سقط عنه شحمه ولحمه وأصبح عوداً صليبياً من عيدان السنديان, هيهات أن ينثني أو يتكسر.
لا شئ يستهويني هذه الأيام مثل إطلاق الرصاص, وضرب المدافع, وتفجير القنابل, والفتكات الخاطفة بالسلاح الأبيض.
ما أكثر ما أحتضن السلاح وأقلبه بين يدي! ثم أقبله بلهفة وحنان, وأنا أقول: غداً غداً سترسل المنايا إلى كل معتد كفّار, إلى أولئك الذين في آذانهم وقر, وعلى أبصارهم غشاوة، أولئك الذين لا يفهمون الكلمات المطبوعة, ولا الألفاظ المسموعة, غداً غداً ستكتب لهم سطوراً من الجثث وحروفاً من الأشلاء مغموسة بالدماء, ستكتبها على القمم والسفوح وفي بطون الأودية, على التلال والسهول وجوانب الطرق.
غداً غداً أيها السلاح ستريني ما وعدتني, وأريك ما وعدتك.
أمّاه:(3/253)
كم تمنيت أن تكوني على مقربة, فتملئي عينيك وقلبك مني, وأملأ قلبي وعيني منك قبل أن أغادر أرض التدريب والتجارب.
أغلب الظن أني سأجتاز الحدود إلى أرض الصراع والعراك في خلال أسبوعين, ما أجملها صورة حين أرى الأعداء يتساقطون صرعى رصاصاتي, وأشاهد الأشلاء تطير بين السماء والأرض مما أقذفهم به من قنابل!!
لا تخافي عليّ من الموت, بل اسأليه تعالى أن يكتبه لي, أو أن يكتب لي النصر.
لم يبق لي في الحياة بعد هذه الهزيمة عزة, ولن يغسل العار إلا السيف, لماذا أخادع نفسي، وأخادع الناس, وثياب الخزي تجلّل جسدي كله؟!
إذا كنت من المؤمنين حقاً فهذا حق الله علي, وإذا كنت من الموقنين بالآخرة, فلم التعلق بهذه الدنيا على ذل وهوان, وحرق مساجد وتحريف قرآن, وهتك عرض, واغتصاب أرض؟! وإذا لم يحق علي الجهاد اليوم فمتى يكون حقا؟!
لا تجزعي علي أيتها الأم, واحتسبيني عملاً صالحاً تقدمينه بين يديك عند الله, وذخرا تدخرينه ليوم يقول فيه الإنسان: يا ليتني قدمت لحياتي.
لا تعدي نفسك في الثواكل, ولا تخالي ابنك قد ضاع سدى, دعي الناس يحسبون كيف يشاءون, ما عليك من حسابهم من شئ, فلله الأمر من قبل ومن بعد ويوم يقوم الحساب.
لا تنظري إلى الخلف يا أماه! فيطول ليلك، ويطول همك, وتذهب نفسك حسرات, ولكن انظري إلى الأمام, فذلك خير وأهدى سبيلا, انظري إلى الأمام بعيدا ... بعيدا ... انظري إلى ما بعد الموت ... انظري إلى الدار الآخرة, انظري إلى جنات الله وإلى جوار الله, هنالك ستلاقين أبي هنالك ستلاقين ابنك الوحيد, هنالك سنلتقي جميعاً إن شاء الله.
ابنك الفدائي
ما على عثمان(3/254)
خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها", قال ثم نزل صلى الله عليه وسلم مرقاة من المنبر ثم حث فقال عثمان: "عليّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها"فحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم يده كالمتعجب وقال: "ما على عثمان ما عمل بعد هذا".
أحمد والبيهقى وأبو نعيم في الحلية(3/255)
في ظلال سورة الأنفال
للشيخ أبي بكر الجزائري
المدرس بكلية الشريعة والواعظ بالمسجد النبوي الشريف
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
هذه السورة أيها الإخوة الصالحون تسمى سورة الأنفال، لذكر لفظ الأنفال فيها، وسماها بعض السلف بسورة بدر لاشتمالها على ذكر جوانب عديدة من غزوة بدر.
وهي السورة الثامنة من الكتاب، وسابعة الطّوال إذا أخذنا برأي من يقول: إنها مع التوبة تكمل السبع الطوال، وذلك لاتحاد موضوعهما تقريبًا، ولعدم الفصل بينهما بالكلمة الشريفة، ولأن سورة يونس إلى المئين أقرب منها إلى الطول، وإن عدها بعضهم أو جمهورهم رحمهم الله من السبع الطوال.
والمواضيع التي تعالجها هذه السورة الكريمة هي إجمالا: العقيدة بتركيزها وتعميقها في النفوس المؤمنة. والسلوك بتهذيبه، وإصلاحه حتى يتلاءم مع العقيدة الإسلامية، ويكون دليلها، وبرهانا عليها. الجهاد بذكر قوانينه وطرف من آدابه. الغنائم وحكم قسمتها وطريق توزيعها بين المجاهدين الأبرار. المعاهدات الحربية والسلمية وكيفية إبرامها وحلها.(3/256)
هذه السورة، أيها الإخوة الصالحون مفتتحة بكلمة: يسألونك عن الأنفال، وهي جملة متضمنة لسؤال وجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بخصوص ملكية غنائم بدر، واستحقاقها: أهي للشبيبة أم للشيوخ؟ للأنصار هي أم للمهاجرين؟ حيث وقع النزاع، ذلك كما سيذكر بعد. وهذا السؤال الذي تضمنته هذه الجملة في قائمة هذه السورة ليس هو الأول ولا الأخير، مما كان يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أسئلة مختلفة يحكيها الله سبحانه وتعالى بلفظ يسألونك عن كذا.... ويلقن رسوله صلى الله عليه وسلم الإجابة عنها. وأعظم هذه الأسئلة كان يوجه من المؤمنين طلباً لشرح حكم، أو تفسيراً لإجمال، أو كشفاً لشبهة وذلك كسؤالهم عن القتال في الشهر الحرام، وعما ينفقون من أموالهم، وعلى من ينفقون، وعن حكم الخمر والميسر، وحكم خلط أموالهم بأموال يتاماهم، وعن مخالطة الحائض أيام حيضها إلى غير ذلك من التساؤلات والاستفسارات التي كان يتطلبها واقع المسلمين وهم في كل يوم يتلقون الجديد والمزيد من الأحكام والتشريع تكميلاً لهم وإعداداً للخلافة في الأرض والوصاية على البشر وقيادتهم.
كما كانت بعض الأسئلة توجه من المشركين تكذيباً لمضمونها، أو استبعاداً لوقوعه كسؤالهم عن الساعة، وعن موعد العذاب الموعدين به. كما كان البعض الآخر يوجه من اليهود تحدياً للرسول وتعجيزاً له، أو كشفاً عن حقيقة دعواه النبوة، ومدى صدقه فيها وذلك كسؤالهم إياه - فداه أبي وأمي - عن الروح، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، وعن قرى أهل الجنة: أول طعام يقدم لهم عند دخولهم الجنة. وعما يكسب الولد شبهاً بأمه، أو أبية، إلى غير ذلك من الأسئلة المعروفة في الكتاب الكريم، والمعلومة في السنة الشريفة.(3/257)
وكون الحق تبارك وتعالى يتولى الإجابة عن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأسئلة وفي غيرها تبياناً للأحكام، وإنارة الطريق، وإدحضا للباطل، ودفعاً للشبهات هو تحقيق ولايته تعالى لأوليائه. ومصداق قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} .
إنه ما عرضت شبهة لولي من الأولياء، ولا لنبي من الأنبياء إلا وأزالها الله ولي المؤمنين من قلوب أوليائه، وأحل محلها نور المعرفة واليقين. ولا عورضت دعوة الحق بحجة باطلة، أو طريقة ماكرة إلا ودحض الله حجة المبطلين، وأحبط كيد الماكرين. يشهد لهذا ما ذكر برهاناً على كونه تعالى يخرج أولياءه من الظلمات إلى النور وذلك في مواقف ثلاثة:
أولها: موقف إبراهيم ولي الرحمن، مع النمرود ولي الشيطان حيث حاج الثاني بباطله إبراهيم في حقه، فدحض الله الباطل بالحق فزهق، وبهت الذي كفر. وأخرج إبراهيم من ظلمة الباطل إلى نور الحق، وهو ظافر منتصر. وثانيها موقف النبي أو الولي الذي مر بقرية وهي خاوية على عروشها؛ متهدمة البنيان خالية من السكان، فغين على قلبه ما قال معه: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} ؟ فأخرجه الله من تلك الظلمة التي عرضت لقلبه بأن أماته ثم أحياه، وأراه من آيات قدرته ما أشبعه يقيناً ورواه، وهكذا جميل الله تعالى الولي مع من يتولاه.(3/258)
وثالثها موقف الخليل مع ربه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} ، وكان الخليل لم يكتف في إيمانه بعلم اليقين فأراد الوصول به إلى عين اليقين. فكان كمن عرضت له شبهة في ظاهرة الحياة كيف تكون، وما كان أبداً من أهل الظنون أو الفتون بل سؤاله دال صراحة على صدق إيمانه بقدرة ربه إذا قال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} ، ولم يقل كيف تقدر على إحياء الموتى. وأجابه الله وليه ومولاه. وأراه من مظاهر قدرته ما طمأن قلبه، ودفعه إلى مقام عين اليقين. وسلام على إبراهيم في المرسلين، وكذلك يجزي الله المحسنين.
ووجه العبرة من هذا أيها الإخوة المسلمون أن العبد متى حقق ولايته لله بإيمانه الصادق، وتقواه لله، وتجرد لدعوة الخلق إلى الخالق ليعبدوا ربهم ويوحدوه ويسلموا له قلوبهم ووجوههم ويطيعوه. متى كان العبد هكذا لن يعدم من الله تعالى نصره ولا تأييده، ولا إرشاده، ولا توفيقه، إن تصدى له مبطل نصره عليه وهزمه بين يديه، وإن عرضت له شبهة كشفها له وأعقبه نوراً في قلبه، إن واجهته مشكلة ومهما كانت صعبة أو عويصة وفقه لحلها، وأخرجه منها معافى سليماً، وعزيزاً كريماً. والحمد لله ولي المؤمنين، ومنزل الكتاب ومتولي الصالحين هذا وأما الأنفال التي كانت مثار النزاع، والتي اقتضت مصلحة الجماعة المؤمنة في حكم الله وليهم ومتوليهم أن يرد شأنها إلى الله ورسوله، فيحكم الله فيها بما يريد. ولن يريد إلا الحق والخير ويقسمها الرسول حسب أمر ربه ووحيه إليه. فإن قول المفسرين فيها مختلف غير أن المعنى لا يخطئ.(3/259)
إن الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية المعركة شجع المجاهدين بقوله من قتل كذا فله كذا ... ومن أسر كذا فله كذا ... ولما انتهت المعركة بنصر حاسم للمسلمين حاول بعض الغانمين الاستئثار بما غنموه دون غيرهم من إخوانهم المجاهدين مما أثار بعض الخصومة. والنزاع الأمر الذي لا يمكن أن تقر عليه جماعة الإيمان بحال من الأحوال من أجل ما قد يؤدي إليه من الفوضى والخلاف، وذلك مما لا يليق بهم، ولا يتفق وحقيقة جماعة تؤمن بالله، وتقاتل طول الحياة لحماية دين الله، وأولياء الله، ولتأمين دعوة الحق بين الخلق.
فلذا لما اختلفوا وتساءلوا أجيبوا برد القضية لله ورسول الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} . وأمروا بتقوى الله عز وجل، وإصلاح ذات بينهم، وطاعة ربهم ونبيهم وهذه من مقتضيات إيمانهم وهم مؤمنون. وأما الغنائم وقسمتها وقد ردت إلى الله فسيحكم الله فيها بما هو الحق والعدل. وبما يحقق الخير للجميع.
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
قد اشتملت هذا القدر من الآية على الأمر بثلاثة أشياء هي في غاية الأهمية بالنسبة إلى حياة الجماعة المسلمة وسعادتها في الدنيا والآخرة، تلك هي الأمر بتقوى الله عز وجل، وإصلاح ذات بين الجماعة عند وجود فساد فيها بالفرقة والخلاف بين أصحابها، وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بالله واليوم الآخر المهيأ لذلك والمعد له، والمساعد عليه.(3/260)
أما التقوى فإن عليها مدار كل إصلاح يراد للفرد أو للجماعة، وبدونها لا يتحقق أي خير أو إصلاح أبداً، ومن هنا قدم الأمر بها على غيرها، وكانت هذه الآية وصيه الله الثابتة لهذه الأمة المسلمة، ولمن سبقها من أهل الكتاب قال تعالى في سورة النساء: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} .
ومعنى التقوى العام: خشية الله تعالى المالئة للقلب، المسخرة لجوارح العبد في طاعة الرب تبارك وتعالى فعلاً وتركاً. وقد تطلق ويراد بها معنىً خاص، فتكون في كل مقام بحسبه، ومن ذلك أنها هنا بمعنى توقي سنة الله تعالى في الإقبال على الدنيا، والتنافس فيها، والجري وراء حطامها الفاني، وما يجر ذلك من تحاسد وتقاطع، وخلاف يفضي بالجماعة إلى الهلاك والدمار.
وأما إصلاح ذات البين وبعد إصابتها بما أفسدها من الخلاف والنفرة، فإن الأمر به من أوجب الواجبات وألزم اللازمات، إذ لو يسمح لمرض الخلاف أن ينتشر في صفوف الجماعة، ولداء الحسد والبغضاء أن يستشري في جسمها. لأودى قطعاً بحياتها، وأفضى بها إلى هلاك محتم، وخسران مبين ومن هنا أمر الله تعالى الجماعة المسلمة على الفور ولأول خلاف بدر منها أمرها بإصلاح ذات بينها، وإحلال الوئام بين أفرادها محل الخلاف، والود والصفاء محل العداوة والبغضاء.(3/261)
وأما طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فإنها شعار الجماعة المؤمنة التي لا يمكن أن تتخلى عنه، أو تعيش بدونه، إذ منه تستمد نظامها وقوتها، وكامل مقوماتها في الحياة. إن الجماعة المؤمنة بدون الطاعة الكاملة لله ورسوله لا يمكن أن تكون شيئاً في الوجود، أو تحقق لها خيراً ما في الحياة. ولعل هذا هو السر في الأمر بها في هذا المقام بعد الأمر بالتقوى، والطاعة لله والرسول بعد الأمر بالتقوى مشعراً بأهمية الطاعة للجماعة المؤمنة، ومهيجاً لها على الاستعداد وتوطين النفس عليها لتؤديها كاملة في المنشط والمكره، والعسر واليسر.
وأخيراً قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإن هذه الجملة الشرطية ذات مدلول خاص في هذا السياق من الكلام، فإنه يؤتى بها بعد الأمر أو النهي للتهييج على الطاعة والحمل المؤكد على الامتثال، لأن الإيمان هو الطاقة المحركة للمؤمن، والإرادة الموجهة له، فبدون الإيمان لا يتأتى للعبد أن يطيع ويخلص، أو يعمل ويصدق بحال من الأحوال، حتى صار في عرف قانون الإيمان لا يعرف إيمان حقيقي بلا عمل صالح، ولا عمل صالح بلا إيمان.
ومن هنا حسن أن تذكر هذه الجملة بعد الأمر بالتقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول، تذكيراً بالإيمان، وتهييجاً للنفوس على العمل، وتهديداً لها بسلب الإيمان الذي هو خاصيتها وأغلى ما تملك، إذا هو لم يوجد له أثره في الطاعة والسلوك.
ولذا يقدر جواب هذا الشرط محذوفاً استغني عن ذكره بذكر ما سيقت لتأكيده من امتثال الأمر، والتسليم بالطاعة. والتقدير: إن كنتم مؤمنين فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله.(3/262)
هذا.. وموجز القول في هذه الآية الكريمة: أن المجاهدين من أهل بدر لما انتهت المعركة بنصرهم على أعداء لا إله إلا الله وأعدائهم اختلفوا في شأن قسمة الغنائم المعبر عنها في الآية بالأنفال حيث أراد الشبان الاستئثار بها دون الشيوخ بدعوى أن أثرهم في المعركة كان أكبر. ولم يرض لهم الشيوخ بذلك فرفع النزاع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} الخ ... فرد الله ملكيتها إليه وإلى رسوله حسماً للخلاف وقطعاً لشجرته، وأمر المتنازعين فيها بتقواه عز وجل، وإصلاح ذات بينهم، وبطاعته وطاعة رسوله مذكراً إياهم بالإيمان الذي هو أصل كل خير ومفتاح كل سعادة. وبعد تسع وثلاثين من هذه الآية نزلت آية أربعين تبين قسمة ما اختلفوا فيه من الأنفال {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية. فجعلت الغنيمة خمسة أقسام، قسماً لله ورسوله.. وأربعة أقسام للمجاهدين عموماً من كان له أثر في المعركة كبير أو لم يكون له سوى وجوده فيها بنية الجهاد.
ما في الآية من الهداية القرآنية:
نختم درس هذه الآية الشريفة ببيان بعض ما اشتملت عليه من الهداية القرآنية وذلك:
1- الجماعة المؤمنة إذا اختلفت في شيء ترد أمره إلى الله ورسوله للحكم فيه بما هو الحق والخير قال تعالى في توجيه هذه الجماعة المؤمنة: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، ولهذا ردوا أمر خلافهم إلى الرسول وحكم الله فيه بما هو الحق والخير لهم.(3/263)
2- الميل إلى الدنيا والرغبة فيها طبع هذا الإنسان، وعليه فإنه إذا لم يجد من التربية الإلهية والتوجيه النبوي ما يقوِّم به طبعه، ويخفف من حدته، ويقلل من تأثيره على سلوكه، أودى به طبعه وأهلكه، والعياذ بالله تعالى. فلولا عناية الله بأهل بدر، وما أولاهم من تربية وتوجيه لهلكوا بخلافهم أو لأفضى بهم إلى مشارف الهلاك على الأقل.
3- الجماعة المسلمة المهيأة لقيادة البشر لا ينبغي لها أن تتورط في حب المال وجمعه، ولا الانغماس في الترف والشهوات، فإن ذلك يقعد بها قطعاً عن بلوغها أهدافها وغاياتها في إصلاح الخلق.
4- تقوى الله عز وجل خير ما يوصف من دواء لعلاج النفوس وتطهير القلوب ولذا لما بدا من أهل بدر ما قد يرى أنه ناجم عن مرض الشهوة في حب المال والرغبة فيه، أمرهم الله بالتقوى، وحثَّهم على الطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم.
5- الجماعة المسلمة لا بد لها من قيادة عليا تجمعها إليها عند كل خلاف، أو تصادم في أي أمر من الأمور الدنيوية والدينية على حد سواء.
6- المبادرة إلى القضاء على كل سبب للفرقة أو الخلاف بين الجماعة المؤمنة إبعاداً لها من ورطة العداوات والبغضاء.
7- إعداد أفراد الجماعة المؤمنة بطاعة الله والرسول لأن يكونوا أسرع إجابة لنداء الواجب، وأكثر تلبية لصوت الحق كلما قال هلم لجهاد ونصرة.(3/264)
فلا تدعو مع الله أحداً
بقلم الشيخ: عبد الله محمد الغنيمان
المدرس في المعهد الثانوي
قرأت في إحدى المجلات الإسلامية قريباً قصيدة مما يسمى بالشعر الحر تحت عنوان: (يا سيدي) ولاحظت فيها كلاماً لا يتناسب وعقيدة الإسلام حيث أن الدعاء هو مخ العبادة كما في الحديث الذي يرويه الترمذي وغيره, وهذا قد وجه نداءه وشكايته إلى الرسول طالباً أن يدعوا لنا وأن يبارك لنا كما يقول: "يا سيدي يا مصطفى الإله ادع لنا"وكرر هذا المعنى ويقول: "يا سيدي شكاية الأتباع للمسود", وهذه شكوى إلى رسول الله فيما لا يملكه إلا الله, ودعاء له, ومعلوم أن الدعاء من أخص العبادة التي لا يجوز صرفها إلى غير الله, لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لغيره. وقد ذكر الله في كتابه كفر الذين يدعون من دون الله من يزعمون أنهم يقربونهم إلى الله زلفى مع اعتقادهم أن الله هو الخالق المتصرف بالكون وحده, كما ذكر تعالى دعاء الميت والغائب ونهى عنه وتوعد عليه قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} والظلم هنا هو الشرك الذي ذكر تعالى أنه لا يغفره, ومن مات عليه فقد حرم الله عليه الجنة, ولم يستثن أحداً من المدعوين, والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلّغ عن الله وقد حذّر عن هذا كل التحذير بل نهى عمّا هو أقل من ذلك بكثير لما قال له رجل: "ما شاء لله وشئت"قال: "أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده", وقد قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . ومعروف ما فعله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وقوله: "يا بني فلان أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني من الله شيئاً" حتى قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً",(3/265)
فكيف يجوز بعد هذا أن يجعل صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وعباده في ما لا يقدر عليه إلا الله من دعاء وغيره, وقد خاطبه الله تعالى بقوله: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} , فليتأمل هذا الوعيد المرتب على دعوة غيره وخاطب به تعالى نبيه ليكون أبلغ في التحذير أفيظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينهاه عن هذا ويذكر الوعيد عليه ثم يرضى أن يفعله أحد معه أو مع غيره؟ , كلا، ودعوة غير الله تنافي الإخلاص الذي هو دينه ولا يقبل سواه {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} , وقد ذكر الله تعالى اختصاصه بالدعاء في قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} فأخبر أن دعوة الحق له خاصة وما ليس بحق فهو باطل لا يحصل به نفع لمن فعله بل هو ضرر في العاجل والآجل لأنه ظلم في حق الله وفي حق المدعو, يبين هذا توعده تعالى من دعا الأنبياء والصالحين والملائكة بقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} نزلت في الذين يدعون عيسى عليه السلام وأمه وعزيراً والملائكة باتفاق أكثر المفسرين من الصحابة والتابعين والأئمة فلا يظن عاقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرضي بشيء قد توعد الله من فعله مع عيسى وأمه والعزير والملائكة, وكونه صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل لا يلزم أن يختص دونهم بأمر نهى الله عنه عباده عموماً وخصوصاً بل هو مأمور أن ينهى عنه ويتبرأ منه كما تبرّأ منه المسيح ابن مريم عليه السلام كما في الآيات في آخر سورة المائدة (111) إلى (118) وكما تبرأت منه الملائكة في الآيات في سورة سبأ (39) إلى (41) .
وليعلم أن الدعاء قسمان:(3/266)
أ- دعاء الحي الحاضر ما هو في مقدوره واستطاعته, كسؤال الدعاء من الغير والنصر والإعانة بما يقدر عليه, فهذا جائز باتفاق المسلمين بهذه الشروط, والأدلة عليه كثيرة وظاهرة.
ب- دعاء الميت والغائب ما لا يقدر عليه إلا الله, مثل سؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة الملهوف وهداية القلوب وإصلاح الشأن وما أشبه ذلك, فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ولم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان لا مع الرسول ولا مع غيره وهذا مما يعلم بالضرورة أنه ليس من دين الإسلام وبهذا يعلم خطأ القائل: "يا سيدي يا مصطفى الإله ادع لنا", وقوله: "يا سيدي شكاية الأتباع للمسود"وأن هذا وما أشبهه مناف لدعوة الرسول, والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(3/267)
محب الدين الخطيب
لمحات من حياته وقبسات من أفكاره
بقلم الشيخ: ممدوح فخري
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
في بقعة من أجمل بقاع القاهرة، في جزيرة الروضة السابحة في النيل الهادئ، كان يقيم ذلك الراحل العظيم محب الدين الخطيب الذي تناقلت الصحف نعيه في الأسبوع الماضي, أجل لقد مات محب الدين ذلك الكاتب الكبير والمفكر الجليل والعالم المحقق. والمسلم الغيور على عقيدته وتراثه وأمته، فرحمه الله وطيب ثراه وجعل الجنة متقلبه ومثواه.(3/268)
في تلك الجزيرة الجميلة وفي الأعوام الأخيرة من عمره المبارك الميمون كان لي الشرف التعرف على ذلك المسلم العظيم الذي كنت قد قرأت له وعنه قبل لقائه فعظم في عيني وسما في نفسي ووجدت لدي الرغبة العظيمة في التعرف عليه والالتقاء به، وكان ذلك أثناء دراستي في الجامع الأزهر حيث تشرفت بزيارته في مكتبته الكبيرة في شارع الفتح في الروضة في ذلك الحي الهادئ الحالم، وبين أكداس وتلال من الكتب وخلف نظارته الساقطة على أنفه وتحت طربوشه الأحمر وفي جلبابه الأبيض كان يجلس محب الدين وعلى محياه معالم الثمانين التي قضاها في جهاد دائم بقلمه ولسانه وقلبه ويده. وكانت زيارة مباركة تلك التي تلتها زيارات شبه دورية لسنوات أقمتها هناك. وكان على أثر ذلك أن توثقت به صلاتي وكثرت له زياراتي، وعدت من ذلك كله بحصيلة مباركة من توجيهاته القيمة وإرشاداته السديدة وتجاربه الكثيرة خلال عمره المديد أضف إلى ذلك مجموعه من الكتب النادرة التي وجدتها في مكتبته الكبيرة التي كانت تعلوها طبقة سميكة من الغبار لأنها لم تمسسها يد منذ سنين، لقد تعرفت على محب الدين رحمه الله في الوقت الذي تنكر له فيه المجتمع الذي كان يعيش فيه وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت بأني كنت الوحيد الذي كان يقصده في أيامه الأخيرة ولكني في كل مرة كنت أحرص على أن أصحب معي مجموعه جديدة من الشباب المسلم الذين كنت أحرص على أن يتعرفوا به ويأخذوا عنه، لقد كان يعيش أيامه الأخيرة رحمه الله في غربة قاتلة ولم يكن يتصل بالمجتمع الذي يعيش فيه إلا عن طريق بعض الصحف التي كان مشتركاً فيها. وحتى أصحاب المكتبات لم يكونوا على صلة به وبمطبوعاته القيمة التي كان يصدرها, وأذكر أني قد أحضرت كثيراً من مطبوعاته لبعض المشايخ والطلاب وأصحاب المكتبات التي كانوا يطلبونها مني لصلتي به.(3/269)
وفي الأسطر التالية سأذكر لمحة عن حياته وصوراً من الخواطر والذكريات عنه وفاء بحق ذلك الرجل الذي كان لدينه ووطنه وأمته.
لمحة عابرة عن حياته: ولد رحمه الله عام 1305 في دمشق الشام من أسرة عريقة أصيلة النسب هاشمية تعود أصولها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان أبوه وجده عالمين جليلين وعنهما أخذ معلوماته الأولى، وبدأ تعليمه الأولى في دمشق وأتمه في بيروت، وأما شيخه الذي كان يجله كثيراً أو يذكره بخير دائماً فهو المرحوم الشيخ طاهر الجزائري وكان يقول رحمه الله: "منه تعلمت عروبتي وإسلامي"، وقد مدحه بقصيدة جميلة في شبابه لا يتسع المجال لذكرها، ثم سافر رحمه الله إلى استانبول والتحق هناك بكليتي الحقوق والآداب وفي تلك الأثناء التقى بمجموعة من المثقفين العرب الذين كانوا يدرسون في استانبول ورأى منهم انهيارا في شخصيتهم وذوباناً في غيرهم وتزلفاً إلى غير العربية والعرب, فأسس جمعية النهضة العربية، لتذكر العرب بأصالتهم وبدورهم القيادي في حياة البشرية.
وبعد إتمام دراسته هناك عاد إلى دمشق ولكن لم يطلب له المقام فيها من جراء مضايقات بعض الجهات المسؤولة فسافر إلى بيروت ومنها إلى استانبول ثم قصد أخيراً إلى القاهرة، وحينما تأزمت الأوضاع في الجزيرة العربية وفي بلاد الشام وقامت الثورة العربية الكبرى التحق بها محب الدين وأشرف على تحرير جريدة القبلة التي كان يصدرها الشريف حسين، ولكن سرعان ما تبيّن حقيقة الشريف حسين أنه لم يكن يريد ثورة إصلاحية مسلمة شاملة وإنما قام بثورته للحفاظ على منصبه وطمعاً في منصب أعلى تخلى عنه، وكان يقول: "إن الشريف حسين وأولاده يريدون الأوطان مزارع للملوك".(3/270)
لقد قامت في تلك الفترة في البلاد العربية حركات وجمعيات كثيرة وساهم محب الدين رحمه الله في نشاط الكثير منها، ولكنه كان مخالفاً لكثيرين من رواد تلك الحركات، لقد وجد يومئذ نوعان من الحركات العربية، نوع عنصري قومي يريد تحطيم الأخوة الإسلامية وضرب الخلافة وتهديم الدولة العثمانية بسلاح النعرات القومية والعصبيات الوطنية, وهذا النوع كان يلقي التأييد الكلي من المستعمرين ومن النصارى والملاحدة بين المسلمين ونوع يؤمن بخصائص الأمة العربية الأصيلة وجدارتها بحمل رسالة الإسلام وقيادة الأمة الإسلامية وزيادتها بهذا الدين مع الإبقاء على الخلافة الإسلامية والرابطة الإيمانية في نوع من الحكم الذاتي الذي يبرر خصائص كل قطر وكل أمة أو الأمة العربية بالذات, ومن دعاة هذه الحركة كان محب الدين رحمه الله. وقد دعا لفكرته هذه في بلاد الشام إلى أن دخلت القوات الفرنسية دمشق وغادرها فيصل ابن الشريف حسين قبل دخول تلك القوات فاضطر محب الدين أيضاً إلى مغادرتها متخفياً في زي تاجر جمال عربي، إلى أن وصل إلى القاهرة بجواز سفر مزور حصل عليه من يافا في طريقه إلى مصر.
وبعد أن ضرب محب الدين رحمه الله في أرجاء الوطن الإسلامي الكبير من الأستانة إلى اليمن إلى العراق إلى مصر في مهمات عظيمة رأى أخيرا أن يستقر في مصر، ويجعل منها منطلقاً لدعوته وميداناً لجهاده لما لمصر من المكانة والتأثير في العالم الإسلامي كله.
وفي هذه المرحلة الجديدة مرحلة الاستقرار توضحت معالم شخصية محب الدين وتحددت مبادئ دعوته، وبرزت آراؤه وأفكاره بشكل واضح ومركز واستمر يدعو لها بعزيمة لا تعرف الكلل وبهمة لا تعرف الملل إلى أن وافاه الأجل وهو صابر محتسب.(3/271)
بعد أن استقر محب الدين رحمه الله في مصر عمل بعض الأعمال الفرعية ثم أسس المكتبة السفلية الكبرى ومطبعتها، وجعلها كبرى وسائله في جهاده الطويل المدى وكفاحه الطويل النفس وجعل ينشر فيها من كنوز التراث الإسلامي عشرات الكتب، ويطبع فيها رسائل من تأليفه وتأليف كبار العلماء والمفكرين من إخوانه، ثم أصدر منها مجلته الأولى (الزهراء) والتي استمرت عدة سنوات، ثم أصدر مجلته الأسبوعية (الفتح) التي تعتبر إلى يومنا هذا من أقوى المجلات الإسلامية التي ظهرت في العالم العربي، لقد استمرت مجلة الفتح تصدر خمسة وعشرين عاماً في مرحلة من أصعب المراحل التي مرت بها الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث، وقد تبنت الفتح في تلك المرحلة العصيبة قضايا العلم الإسلامي واستقطبت حولها كتاب العلم الإسلامي كله، وتصدت للدفاع عن حقائق الإسلام وحقوق المسلمين.
وقد بين رحمه الله الفكرة الداعية إلى إصدار الفتح في إحدى افتتاحياتها فقال: "إن الفتح أنشئت لمماشاة الحركة الإسلامية وتسجيل أطوارها ولسد الحاجة إلى حاد يترنم بحقائق الإسلام مستهدفاً تثقيف النشء الإسلامي وصبغه بصبغة إسلامية أصيلة يظهر أثرها في عقائد الشباب وأخلاقهم وتصرفاتهم وحماية الميراث التاريخي الذي وصلت أمانته إلى هذا الجيل من الأجيال الإسلامية التي تقدمته" (العدد الأول من عام 1353) .(3/272)
ومن هذه الكلمة الجامعة يبدو أن الفتح كانت مدرسة كبرى تعنى بتثقيف الجيل المسلم وتربيته ومعالجة قضايا واقعه على اختلاف أنواعها. وفي مدة ربع قرن من الزمان والفتح تفتح آفاقاً جديدة أمام المسلمين من الوعي الإسلامي الصحيح والفكر السياسي النير والمعالجة السليمة لقضايا العالم الإسلامي على ضوء هذا الدين الحنيف، وبعد هذا الجهاد المرير مع مختلف أعداء الإسلام في الحاضر والماضي على صفحات الفتح اضطر محب الدين رحمه الله إلى إيقافها وحينما سئل عن سبب ذلك قال: "أوقفتها حينما أصبح حامل المصحف في هذا البلد مجرماً يفتش ويعاقب"، ولكن إذا توقفت الفتح فإن محب الدين لم يتوقف وإنما استمر في طريقه الذي اختطه لنفسه من نصرة هذا الدين حتى الرمق الأخير. فإلى جانب التحقيق والتعليق وكتابة الرسائل والإشراف على ما يطبع في مطبعته الكبيرة تولى رئاسة تحرير مجلة الأزهر لمدة ست سنوات من 952 إلى 985/م وقبل ذلك كان قد أسس جمعية الشبان المسلمين بالتعاون مع عدد كريم من شخصيات مصر وعلمائها وعلى رأسهم العلامة المحقق أحمد تيمور والشيخ الجليل محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق وغيرهما.(3/273)
وعن غايته من تأسيس هذه الجمعية يقول رحمه الله: "كنت أنا وأحمد تيمور باشا والسيد محمد الخضر حسين حريصين على أن تكون هذه المؤسسة الأولى للإسلام في مصر قائمة على تقوى من الله وإخلاص، وكنا حريصين على أن يتولى إدارتها رجال يعرفون كيف يصمدون لتيار الإلحاد الجارف بعد أن استولى المتابعون للإستعمار على أدوات الثقافة والنشر في العالم الإسلامي وفي مصر على الخصوص"، ويقول أيضاً: "وكانت الجمعية حدثاً كبيراً من أحداث الحركة الإسلامية لأن دعاة الإلحاد والتحلل كان قد استفحل أمرهم وظنوا أن قيادة الأمة قد أفلتت من أيدي ممثلي الإسلام وانتظمت إلى أيديهم". وهذه الجمعية وإن انحرفت عن كثير من الغايات التي وجدت لأجلها فإنها لا تزال قائمة إلى يومنا هذا ولها مجلتها الناطقة باسمها، ومن على منبرها وفي مواسمها الثقافية قد استمعنا لعدد كبير جداً من علماء مصر ومفكريها.(3/274)
وعلى أثر سوء تفاهم مع القائمين على الأزهر استقال رحمه الله من رئاسة تحرير مجلة الأزهر، وكان ذلك آخر عمل رسمي له، ثم انزوى في مكتبته ومطبعته وقطع تقريباً كل صلة له بذلك المجتمع وانكب على التأليف والتحقيق, وحتى الأعمال التجارية الصرفة كانت شبه مقطوعة مع المكتبات المصرية وكان جل تعامله في آخر أمره مع المؤسسات والمكتبات السعودية. واليوم الوحيد الذي كان يخرج فيه إلى المجتمع من جزيرته الهادئة القصية هو يوم الجمعة بعد العصر حيث يذهب إلى سوق الكتب المقامة على سور حديقة الأزبكية في القاهرة ويشتري من الكتب المختلفة القديمة والحديثة وكان يحملها بيديه الكليلتين وعلى كاهله أعباء الثمانين ويتمايل في مشيته ويتعثر حتى يجد سيارة تقله إلى بيته وقد ثابر على هذه العادة الكريمة إلى ما قبيل وفاته رحمه الله, وقد جمع من ذلك مكتبة ضخمة خاصة به فاقت على ما أعتقد كل مكتبة خاصة في مصر ماعدا مكتبة العقاد، حيث بلغ تعداد كتبه الخاصة ما يزيد على عشرين ألف كتاب وكانت فهارسها تبلغ خمسة وستين مصنفاً. وكان رحمه الله قد جعلها قبل وفاته وقفاً على أهل العلم من ذريته وقد بنى ولده قصي داراً جديدة في محلة الدقى في القاهرة وخصص الطابق الأول منها لتلك المكتبة، كما قال ذلك هو رحمه الله.
ولقد كان رحمه الله محتفظاً بحيويته حتى أواخر أيام حياته وكان يعزو ذلك إلى اعتداله في حياته كلها في مأكله ومشربه ومنكحه. وكان ذا صبر وجلد على العمل لا يعرف معهما السامة والملل. وكان منظماً في شؤونه كلها عصامياً في تدبير أمره وتكوين ثروته وبناء حياته وشخصيته.(3/275)
ولقد ترك رحمه الله ثروة فكرية كبيرة وتتمثل في مجموعة الكتب والرسائل والتعليقات، والتحقيقات التي كتبها في مراحل عمره المختلفة, وجميع كتاباته تتميز بالأسلوب الأدبي الرفيع والبيان البديع والحرارة الصادقة في العاطفة والفكرة العلمية المحققة. ومن أهم الآثار الفكرية التي خلفها رحمه الله هي ما يلي:
1- كتاب توضيح الصحيح, وهو شرح الصحيح البخاري بقلمه, وقد رأيت منه مجلدات في بداية طبعة له حيث كنت هناك, ولا أدري في كم جزء تم الكتاب أو لم يتم ولكن الأستاذ أنور الجندي قال في كتابة مفكرون وأدباء بأنة في ثمانية أجزاء كبار وهو قطعا قد اطلع عليه بعدي.
2-كتاب الحديقة, وهو مختارات في الأدب الإسلامي في مختلف العصور وفي مختلف الموضوعات وهو في أربعة أجزاء.
3- كتاب مع الرعيل الأول.
4- كتاب اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب.
5- كتاب البهائية.
6- رسالة الجيل المثالي.
7- حملة رسالة الإسلام الأولون.
8- الغارة على العالم الإسلامي - ترجمة -.
9- تاريخ مدينه الزهراء.
10- الأزهر ماضيه وحاضره.
11- الخطوط العريضة للديانة الاثني عشرية الأمامية.
وله تعليقات قيمة على كتب عديدة منها:
1- تعليقاته الرائعة على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي المالكي. وهي أكبر وأهم من الكتاب.
2- وكذلك تعليقات على كتاب المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي.
3- وتعليقاته على مختصر التحفة الاثني عشرية للألوسي.
4- وتعليقاته المفيدة على كتاب الإكليل للهمداني.(3/276)
وقد طبع كتاب الأدب المفرد للبخاري مع تخريج أحاديثه, وكذلك طبع فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر مع الإشارة إلى الأبواب التي تفرقت فيها الأحاديث بالتعاون مع محمد فؤاد عبد الباقي. وما نشر كتابا إلا وكتب مقدمة علمية عن المؤلف وعن الكتاب ثم هناك مئات من المقالات التي كتبها في موضوعات شتى خلال عمره المديد في الزهراء والفتح والأزهر وغيرها من الصحف والمجلات.
وكان رحمه الله يجيد اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية.
تلك هي لمحة عن حياة ذلك الرجل الراحل العظيم اقتصرنا فيها على ما حضرنا, وما أجدره رحمه الله أن يكتب عنه كتابة مستفيضة للوقوف على مراحل حياته والاستفادة من تجاربه وخبرته.
وأريد الآن في الشطر الثاني من هذه الكلمة أن أقرب للقراء الكرام أبرز النواحي الفكرية من اتجاهات محب الدين.
لقد كان يدعو باختصار شديد إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. وفي هذا المجال يقول رحمه الله: "إنني من أنصار الإصلاح الإسلامي وكنت ولا أزال أفهم هذه الكلمة الاصطلاحية أن الإسلام هو الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما فهمه منهم التابعون". فالإصلاح الإسلامي من البدع الطارئة وتخليصه من الدخيل الذي يحسب الجاهلون أنه منه وما هو منه. ومن الإصلاح الإسلامي بث روح النشاط بين المسلمين لإحياء مقاصد دينهم وتحقيق أغراضة وحسن التعبير عنه من الدعوة إليه وتأليف الكتب عن حقائقه وأحكامه وتاريخه. ومع هذه الدعوة إلى الإسلام بجملته فقد كانت هناك نقاط هي أبرز من غيرها في تفكيره وهو أشد اعتناء بها من غيرها وأهم هذه النواحي هي ما يلي:(3/277)
السلفية الصافية: كان رحمه الله من أشد أنصار السلفية النقية في العقيدة والعبادة, وهذه سمة بارزة في كل كتاباته، وقد تحصلت لديه هذه الفكرة ونما عنده هذا الاتجاه لأنه قرأ في شبابه في دمشق كثيراً من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية المطبوع منها والمخطوط في المكتبة الظاهرية وذلك بواسطة شيخه المرحوم الشيخ طاهر الجزائري, وظل مقتنعاً بهذا الاتجاه قوي الإيمان به, مدافعاً عنه بقلمه ولسانه, متصدياً لكل من يتعرض له, مروجاً للكتب المهمة التي تدعوا إليه, وقد كان له فضل كبير في تنمية هذا الاتجاه لدي ورعايته في نفسي, فجزاه الله عني وعن المسلمين وعن الإسلام خيراً.(3/278)
الوقوف في وجه الباطنية والرافضة: من أهم المواضيع التي فازت بالكثير من اهتمام المرحوم موضوع الرافضة والباطنية ولقد كان شديد العناية بهذا الموضوع متتبعاً لمراحل كيد الرافضة للإسلام, واقفاً على الأصول التي يقوم عليها باطلهم مدركاً خطرهم العظيم على الإسلام في الماضي والحاضر, ودورهم الكبير في تحريف العقيدة الإسلامية الصحيحة, وتشويه التاريخ الإسلامي المشرق, وكانت لديه الأصول الخطية والمطبوعة من كتب الرفض والباطنية، وكثيرا ما أطلعنا على مخازيهم من كتبهم, وفي اعتقادي أن محب الدين رحمه الله كان يسقط عن المسلمين فرض كفاية في تصديه لحملات الباطنية على الإسلام وفي وقوفه على الدوافع الحقيقة لتلك الحملات وإحاطته مراحل سريان سرطان هذه الفرق الصالة وسمومها في عقيدة المسلمين وتاريخهم, وكان يقول: "إن الرفض والباطنية تعبير عن الحقد الدفين والمرير في قلوب المجوس واليهود على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم أقاموا المسجد الأقصى على أنقاض هيكل سليمان, وأخمدوا نار المجوس إلى الأبد, وحينما جبنوا عن مجابهة الإسلام وجها لوجه دخلوا في سراديب تحت الأرض وأعلنوا على الإسلام وحملته حربا ضروسا دامية مازالت تتوقد نارها ويزداد أوراها على مدى هذه القرون المتطاولة من تاريخ الإسلام, وفي السنوات الأخيرة استطاع الرافضة في ظروف أن يفتتحوا في القاهرة دارا سموها دار التقريب، وهي أجدر أن تسمي بدار التخريب لأن غايتها الأولي والأخيرة هي تخريب عقائد المسلمين وتقريبهم نحو ضلال الرافضة وتهديم الجامع الأزهر كما صرح بذلك يوماً ما رئيس تلك الدار - القحى - في مجلس خاص نقله عنه أحد أصدقائنا الثقات, وقد استطاعت هذه الدار أن تشتري مجموعة من علماء السوء ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أُجراء لديها ومروجين لأباطيلها. وحينما توصل بعض هؤلاء إلى مراكز عالية في بعض المؤسسات العالمية الإسلامية حاولوا فرض تدريس مذهب الرافضة رسميا(3/279)
وسارع بعض المرتزقة من العلماء للتأليف فيه فعلا، وحينئذ توجه نفر كريم من علماء الأزهر الغيورين على رسالة الإسلام إلى الأستاذ محب الدين رحمه الله وقالوا له: "إن الكتابة في موضوع الرفض ومحاولات فرضه للتدريس أصبحت فرض عين عليك"وطلبوا منه أن يكتب في ذلك فكتب يومئذ كتابه النفيس جداً وهو: (الخطوط العريضة للديانة الاثني عشرية) , وأبان فيه الأسس التي يقوم عليها دين الرافضة من كتبهم ومراجعهم التي كانت بحوزته, وأتى بنقول مخزية لا مجال لرفضها لأنها من أمهات كتبهم مع تحديد الكتاب والمجلد ورقم الصفحة أو مكان الطبع وتاريخه, وأظهر فيه بكل جلاء كيف أن الرافضة في حقيقية أمرهم يعبدون آل البيت, وفي غيبة هؤلاء يعبدون مجتهديهم, وكيف يحكمون بارتداد جميع الصحابة ما عدا خمسة فقط, وكيف يجعلون من أصول دينهم التبري من الشيخين أبى بكر وعمر رضي عنهما، ويعتبرون لعنهما من القربات ويسمونهما بالجبت والطاغوت، وبصنمي قريش, ويجعلون لعنهما من جملة أوراد ختم الصلاة, ويسمون قاتل عمر (بابا شجاع الدين) , ويحتفلون بيوم مصرع عمر رضي الله عنه, ويتهمونه رضي الله عنه في عرضه, ويقولون بتحريف القرآن الكريم وبنقصه, ولهم في ذلك كتاب: (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) ، وكيف يؤمنون بعقيدة الرجعة, وهي القيامة الصغرى, وكيف يطعنون في عرض عائشة رضي الله عنها، مع بيان الأصول اليهودية التي لا شك فيها لذلك الدين الزنيم. كل هذا وغيره قد كشف عنه محب الدين رحمه الله بأسلوب علمي محقق لا مجال للشك فيه, وأذكر أنه قد أعارني يومئذ إحدى نسختيه الوحيدتين اللتين لم يكن في مصر غيرهما لأن الكتاب طبع خارج مصر. ولقد كنت شديد الإشفاق عليه رحمه الله من كيد الباطنية وأن تناله أيديهم بسوء وهي الأيدي المجرمة القذرة التي نالت شخص الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعرضه وأشخاص أصحابه الكرام وأعراضهم وعقيدة الإسلام وشريعته وتاريخه.(3/280)
تحقيق حوادث التاريخ الإسلامي وتنقيته مما لحق به من الدس والافتراء:
لقد سألته مرة رحمه الله عن أفضل كتاب في التاريخ الإسلامي؟ فأجاب: بأن التاريخ الإسلامي لم يكتب بعد, وأفضل ما كتب فيه: تاريخ البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله, وكان يعتقد بأن تشويه تاريخ الإسلام والمسلمين كان مقصودا كتشويه عقائده وشرائعه, وكان يؤمن بأن إدراك الأمة لأمجاد ماضيها مفاخرة من أعوانها على تقويم حاضرها. ولنفي الدسائس والافتراءات اللصيقة بتاريخ المسلمين, وللإجلاء عن عظمة ذلك التاريخ وصانعيه كان يدعو إلى دراسة التاريخ على طريقة المحدثين بالتثبت من الروايات التاريخية وأسانيدها الصحيحة، على ضوء ما هو مشهور ومعروف من سلوك صانعي التاريخ من الصحابة والتابعين، ولابد من تجريد التاريخ من الخبث الذي لحقه على أيدي أعداء الإسلام وعلى رأس هؤلاء: الرافضة, وفي هذا المجال يقول رحمه الله: "والإسلام الذي لم تفتح الإنسانية عينيها على أعلى منه رتبة وأعظم منه محامد يجتهد مؤرخوه في تشويه صفحاته والحط من قدر رجاله لأن الذين دونوا تاريخ الإسلام كانوا أحد رجلين: رجل جاء بعد سقوط دولة فتقرب إلى رجال الدولة الجديدة بتسويء محاسن الدولة القديمة، ورحل اتخذ من الشموس الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، مثلا أعلى، فكل قمر من أقمار العرب مذموم عنده موصوفا بالضآلة والنقص؛ لأنه لا يراه إلا على نور تلك الشموس التي لا تقاس مواهب غيرهم بهم, بل إن عثمان وتضحياته الملائكية محيت فضائلها من أدمغة المسلمين لسوء بيان المؤرخين, ومعاوية الذي تتمنى أية أمة من عظام الأمم أن يكون لها رجل يتصف بعشر مواهبه وفضائله, صرنا نسمع ذمه من أقذر الناس وأحط السوقة, والأمين الذي كان كبار الصحابة يجاهدون تحت قيادته طائعين مختارين لصقت به أكاذيب تقرب الكثيرون بها إلى الله جهلا وتعصبا, أقول هذا وأنا علوي، ولكنى أخاف أن يقوض المسلمون صروح فضائلهم وأن(3/281)
يهدموا قلاعا هي من دواعي الفخر, بينما أبناؤنا يتعلمون من الأوربيين وصنائعهم تمجيد رجال لو كشف الغطاء عن تاريخهم الحقيقي لشممنا نتنه" (مقدمة ديوان مجد الإسلام) .
ويبين أهمية تصحيح التاريخ فيقول: "أنا مؤمن من صميم قلبي أن رسالة الإسلام جديرة بأن تستقبل من مظاهر العظمة في تهذيب الإنسانية أبهر وأزهر مما كان لها في الماضي ولن تستوفى هذه الرسالة مهمتها إلا بإرجاع الإنسانية كلها إلى نظام الفطرة الطاهرة وذلك متقف على شيء واحد هو أن يعرف العرب والسلمون من هم وممن هم وما هي رسالتهم في الحياة. ولن يكون ذلك إلا إذا بنوا مناهج تعليمهم وأسس ثقافتهم ومعالم أدبهم على هذه المعرفة والإيمان بلوازمها وتعميم طريقهم نحو أهدافها. ورأس ذلك وعموده تصحيح تاريخ العروبة والإسلام وتجريد مما دس فيه. لقد كان محب الدين رحمه الله فخورا جدا بأمجاد الإسلام ومفاخر المسلمين وكان يحزن كثيرا لبقاء بلك الأمجاد والمفاخر بعيدة عن أذهان الشباب المسلم خاصة والمسلمين عامة, وله في مجال تخليد الأمجاد الإسلامية وإظهارها بثوبها القشيب اللائق عمل عظيم لا يجوز أن يذكر محب الدين إلا ويذكر معه, هذا العمل العظيم هو ديوان مجد الإسلام للشاعر الكبير أحمد محرم, وقصة هذا الديوان يلخصها محب الدين رحمه الله في مقدمة الديوان بما مضمونه باختصار: لقد كان يقرأ في المدارس العثمانية شيئا من اللغة الفارسية وآدابها من جملة مقرراتها، وكان أستاذ تلك اللغة يبالغ أمامهم في وصف (الشاهنامة) للفردوسي، وبيانها المنظوم المعجز, ويحدثهم عن صاحبها وكيف أنه أحاط بتاريخ الفرس القديم ثم اتصل بأحد ملوكهم فأعطاه جناحا في قصره وكلفه بأن ينظم أمجاد الفرس فأقام في ذلك القصر ثلاثين عاما وهو ينظم الشعر الرائع في أمجاد فارس حتى بلغت الشاهنامة وهي الديوان الذي وضعه لذلك (ستين ألف بيت) . كان يسمع محب الدين ذلك ويقول: "أليس في دنيا العروبة والإسلام من يقوم(3/282)
للعروبة والإسلام بمثل هذا العمل الأدبي الكبير ليتعرف شبابنا إلى أكمل قومية برأها الله في الدهر الأول وأعدها للقيام بأكمل رسالات الله, أيكون للمجوسية وظلمات الظلم كتاب يخلدها ولا يكون للفطرة السليمة الكاملة ورسالة الله العظمى من يدل عليها ويدفع الناس في طريقها (أليس من العار أن يكون للفرس الذين حفل تاريخهم زمن جاهليتهم بالشنائع ديوان مفاخر يغطي فيه البيان على العيوب ويلون ذا الوجهة منها بألوان زاهية ويسلط على ضئيل الخير منها شعاعا قويا مكبرا بأعظم المكبرات فتكون من ذلك (شاهنامة الفردوس) وأن يكون لليونان زمن وثنيتهم وأوهامهم لصبيانية ديوان مفاخر كالإلياذة تتغنى بها الانسانية إلى يوم الناس هذا والإسلام الذي لم تفتح الدنيا عينيها على أعلى منه رتبة, وأعظم منه محامد يجتهد مؤرخوه في تشويه صفحاته والحط من قدر رجاله". لقد بقيت هذه الفكرة تعمل عملها في نفس محب الدين رحمه الله حتى التقى بالشاعر أحمد شوقي رحمه الله وتحدث معه عن الشاهنامة والإلياذة واقترح على أمير الشعراء أن يكون اعظم أحداث امارته في الشعر إهداء مثل هذه الهدية إلى العروبة والإسلام وأدبهما وعظمتهما من ماضيهما وحاضرهما ومستقبلهما (وهذا كلامه) , واستمع شوقي إلى هذا الحديث ولم يعد ولم يرفض ثم زار شوقي وفد في منزله لتجديد الحديث معه فبقي عند موقفه من الصمت والابتسام ثم ظهر بعد ذلك كتيبه عن دول الإسلام وعظماء التاريخ, ولعله كان من أثر ذلك الاقتراح.. ولكن المطلوب (كما يقول رحمه الله) كان أعظم من ذلك وقديما قيل: (اذا عظم المطلوب قلّ المساعد) , ثم اتصل الأستاذ المرحوم بالشاعر الكبير أحمد محرم وقويت بينهما الصلة والمحبة فاقترح عليه ما اقترح على شوقي من تسجيل أمجاد الإسلام في ديوان من الشعر الرائع وقال له: "لعل الله قد ادّخر لك هذه المهمة واختارك لها لأنك أقرب شعرائنا إلى إخلاص القول والعمل وأكثرهم توخيا لمرضاته", فاستجاب أحمد محرم(3/283)
رحمه الله لهذه الدعوة, وكان من ذلك ديوان مجد الإسلام أو الإلياذة الإسلامية التي نظمها أحمد محرم رحمه الله وهو ديوان كبير يقع في 450 صفحة نظم فيه الشاعر أهم أحداث السيرة النبوية والغزوات والوفود، ويقول محب الدين رحمه الله في وصف هذا الديوان في مقدمتة: "إن أمجاد العروبة والإسلام أعظم من أن يحيط بها شاعر ولاسيما وأكثرنا لايزالون متأثرين بما شوهت الشعوبية من تاريخنا ومع ذلك كان ديون مجد الإسلام أعظم ما ظهر للناس حتى الآن مجموعا في كتاب واحد من ومضات هذه الأمجاد وستتمتع به نفوس محبي الأدب الرفيع والنظم البليغ أزمانا".
وأقول إن مما يؤسف له أن ديوان مجد الإسلام بقي طوال ثلاثين عاما مخطوطا ومحبوسا في الأدراج, والشاعر الكبير لا يجد من ينشره بتمامه رغم المحاولات الكثيرة مع المسؤولين الا ما كان من نشر محب الدين نفسه لفقرات منه في صحيفته الفتح وفي مجلة الأزهر، إلى أن مات أحمد محرم رحمه الله قبل نشره وكادت تضيع أجزاء منه إلى أن قامت مكتبة دار العروبة بنشره قبل حوالي ثمان سنوات تقريبا. إن ديوان مجد الإسلام من أعظم الأعمال الأدبية والشعرية في تاريخنا وهو عمل أدبي رفيع وشعر رائع بليغ, ومع ذلك فإني أكاد أجزم بأن ثلاثة أرباع المثقفين في البلاد العربية لا يعرفون شيئا عن ديوان مجد الإسلام ولا عن الشاعر الكبير أحمد محرم الذي نظمه وكذلك لا يعرفون شيئاً عن الديوان المستقل الذي نظمه أحمد محرم لسائر شعره. لقد حرصت الجهات المعادية للإسلام في الأوساط الأدبية والثقافية على إهمال الشعراء والأدباء الإسلاميين وحارب الأقلام المؤمنة وأعطت مكان الصدارة فيها للأدعياء من المارقين والملاحدة وذلك حرصا منها على تضليل الأجيال المسلمة وتسميم أفكار النشء وتشويهها.
إيمانه بامتزاج العروبة والإسلام:(3/284)
يقول الأستاذ أنور الحندي في كتابه (أدباء ومفكرون) : "ولست أعرف كاتبا كان أوضح رأيا في ربط الإسلام بالعروبة على النحو الذي يحقق فلسفة اليقظة وبناء النهضة كما يفعل السيد محب الدين الخطيب منذ سنوات طويلة فهو مؤمن بامتزاجهما واستحالة انفصامهما وهذه عبارته: "إن العروبة ظئر الإسلام وإن العروبة والإسلام كلاهما من كنوز الإنسانية وينابيع سعادتها، إذا عرف أهلها قيمتها وإذا أتيحت لهما أسباب الظهور للناس على حقيقتهما. وإذا ذلت العرب ذل الإسلام". ويقول: "إننا عرب قبل أن نكون مسلمين, وهذا حق, ولكن لم نكن شيئا قبل الإسلام".(3/285)
كان المرحوم قوي الإيمان بخصائص الأمة العربية وأصالتها واستعدادها للخير وجدارتها بحمل رسالة الله وبطيب عنصرها ونقاء جوهرها، وصفاء فطرتها. ولقد أدرك محب الدين رحمه الله انهيار الخلافة الإسلامية وزوال الدولة العثمانية, وعاش في مرحلة من أحرج مراحل التاريخ الإسلامي الحديث وهي مرحلة خضوع العالم الإسلامي الضعيف للغزو الصليبي القوي وحضر احتضار (الرجل المريض) كما كان يسمي الأعداء الدولة العثمانية في أخريات أيامها وشهد النقلة الخطيرة في حياة المسلمين في تاريخهم الحديث من معالم الحياة الإسلامية وتقاليدها الأصيلة إلى الطراز الجديد من الحياة القائمة على أساس الحضارة الغربية الغازية والقائمة على الإلحاد والإباحية مع الانسلاخ التام من كل القيم والمثل والأخلاق وشهد إفلاس العنصر التركي وعجزه عن المضي في تحمل أعباء الرسالة الإسلامية، وشهد دعاة القومية الطورانية من ملاحدة الترك يتسلقون إلى مراكز السلطة في الدولة العثمانية وينهون الخلافة ويحاولون فرض القومية التركية على الشعوب الأخرى الخاضعة للدولة العثمانية في حركة عنصرية تحاول إذابة تلك الشعوب في العنصر الحاكم دون أية مميزات أو مؤهلات للقومية المتحكمة سوى القهر والغلبة وخاصة بعد تنكرها للإسلام. في هذا الجو افتقد محب الدين رحمه الله الأمة العربية والدور الذي يمكن أن تلعبه وقدراتها وخصائصها التي ترشحها للقيام بذلك الدور. لذلك تغنى بالأمة العربية وباستعداداتها ولكنه لم يفهم من العربية يوماً ما شيئا غير الإسلام، وكان ينال من الكتاب المسلمين الذين يفرقون بين العروبة والإسلام ويعتبرهم من جملة من ساهم في نجاح الحركة القومية البعيدة عن الدين. ولم يكن يوما ما قوميا عربيا، وكان يغضب إذا وضع في صف القوميين العرب الذين ساهموا في القضاء على الخلافة الإسلامية, وإنما كان يدعوا كما قال: "إلى الحكم الذاتي الذي يبرز خصائص الأمة العربية في ظل الإسلام(3/286)
والخلافة".
لقد كان رحمه الله يؤمن بالسر العظيم الكامن وراء اختيار الله تعالى للعربية لغة لكتابه وللأمة العربية حاملة لأكمل رسالاته، يقول رحمه الله: "وأمجاد العروبة لا ينفك تاريخها من تاريخ الإسلام بحال فإذا حيل بين الإسلام والعروبة كانت العروبة جسما بلا روح, وكان الإسلام روحا بلا جسد, وهذا تاريخنا العربي من بدايته إلى اليوم لا نراه ازدهر وانتعش, وكان مظهر العز والقوة إلا في الأدوار التي كان الإسلام يزدهر فيها وينتعش ويأخذ نصيبه من العز والقوة ويكذب من يظن أن العرب تنمو عزتهم بروح أجنبية غير روح الإسلام". (مقدمة مجد الإسلام) .
ويقول رحمه الله في تعليقه على ديوان مجد الإسلام: "وستتمتع به نفوس محبي الأدب الرفيع والنظم البليغ أزماناً وأزماناً إلى أن يوجد الشاعر الذي يكتشف سر الله في اختياره العربية لغة لتنزيله, والعروبة بيئة لأكمل رسله, وأهلها أصحابا وأعوانا على حمل رسالته إلى آفاق آسيا وأفريقية ثم إلى أوروبا".
وفي حديثه عن شيخه طاهر الجزائري رحمه الله يقول: "من هذا الشيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي, منه عرفت أن المعدن الصدئ الآن الذي برأ الله منه في الدهر الأول أصول العروبة ثم تخيرها ظئراً للإسلام إنما هو معدن كريم لم يبرأ الله أمة في الأرض تدانيه في أصالته وسلامته وصلابته وعظيم استعداده للحق.
وإلى هذا كان يدعو رحمه الله إلى الأخذ بأسباب القوة وبكل نافع من نتاج الحضارة الحديثة مع المحافظة على المثل والقيم والأخلاق القديمة لأن الخير كله قديم, وكان يركز على إصلاح المدارس ومناهج التعليم ووسائل الإعلام.(3/287)
هذه قبسات من أفكار محب الدين رحمه الله ولمحات من حياته حاولت فيها قدر الإمكان أن أقدم خلاصة عن الناحيتين اللتين قصدتهما. وقبل أن أختم كلمتي هذه أتوجه بهذا النداء الحار إلى كل من قصي بن محب الدين الخطيب نجل المرحوم, وفضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز, والوجيه الفاضل السيد محمد نصيف صديقي المرحوم الكريمين أن يبذلوا كل ما في وسعهم لجمع المقالات المشتتة التي كتبها المرحوم في مختلف الصحف وخاصة في الزهراء والفتح والأزهر ونشرها للعالم الإسلامي حصيلة فكرية رائعة وثروة ثقافية كبرى تعتبر من عيون ما أنتجه الفكر الإسلامي الحديث, وكذلك طبع مذكراته إن وجدت.
ونصيحتي للشباب المسلم أن يقرأ كل كتاب أو رسالة أو تعليق كتبه محب الدين رحمه الله.
وأخيرا وبعد جهاد مضن كريم استمر قرابة قرن كامل أعطى خلاله محب الدين رحمه الله للإسلام نور عينيه وحياة قلبه وثمرة قلمه وفكره وأسهر ليله وأعمل نهاره, بعد كل هذا فقد سكن ذلك القلب الكبير الذي كان يخفق بحب الإسلام وخبا نور تينك العينين, وهدأت تلك اليد المرتعشة التي حملت القلم للدفاع عن الإسلام والمسلمين دهرا طويلا وسقط ذلك اليراع وتحطم، لقد مات محب الدين.(3/288)
من طلائع الشيب
بقلم الطالب: عبد القادر محمد النيجري
في شبابي كرعت كاس التهاني
وتعاطيت كل ما قد عناني
راح عني الشباب والتفت الشـ
ـيب سريعا وحل في أذقاني
إنه منذر يقول وضيف
لا يساويه سائر الضفيان
مستحق التكريم فوق احترام
لضيوف الورى عظيم الشان
قلت ما الشأن قال شأني اتعاظ
ثم وعظ لسائر الشبان
لا يغرنكم الشباب فكم من
قارع سنه بفوت الأوان
جاهدوا أنفساً تميل إلى ما
هو شر لها بغض العيان
واغنموا من أوقاتكم كل غال
إنما الوقت صارم هندوان
وإذا الشيب لا ح في فود مرء
أنذرته الحياة بالهجران
وإذا حل في السواد مشيب
صبغته أصابع السلوان
وأطل المنون من كوة السطح
وأرخى الإياس سبط البنان
وتقوت مطامع اللحد فيه
واستكانت مطامع الشيطان
كل من ينثر الغبار عليه
دهره فلينفضه بالإذعان
من أتاه الوقار فليشكرنه
وشكور الوقار كف اللسان
وإذا النور لاح فيك قشيباً
إنه من كرامة المنان
من ينل رغوة الشباب فسعيا
مدّ من عيشه لقسمٍ ثان
قيل في الشيب إنه ليس نورا
مستضاء به مقالا شجاني
كم بكى من طلوعه وتباكى
جامد العين فلقد الاتزان
لا أرى منهج القويم اتعاظ
واتباع الرسول والقرءان
فكرة الشائب السليم لقاح
سبقتها تجارب الأزمان
والذي شب عاقلا في أناس
من ذوي العلم والتقى والبيان
وأتاه المشيب بعد اغتنام الوقت والنيل من جميع الأماني
فهنيئاً له بما ناله من
كرم العيش وارتفاع المكان
والذي ينفع البرية في مجتمع القوم سالم البنيان
لم يكن ينفع البرية عضو
فاسد شؤمه على الأركان
أيها الشبل كن فتياً نزيهاً
يتولى العمران بالعمران
لا تكن هادما لما شيدته
من بناياتها يد الإخوان(3/289)
والذي تبغيه أحببه للنا
س ولا تنحرف عن الميزان
والذي تبتغيه إن كنت شيخاً
فأته اليوم مع ذوي الأسنان
ما تدنهم به يدينك به النا
س كذا حكم سائر الأديان
والقضايا مسلمات لمن شا
ء ومن شاء خاض في النكران
وختام المقال مسك وما نر
جوه حسن الختام بالإيمان(3/290)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
هل يوجد الرسول عليه الصلاة والسلام في كل مكان، وهل كان يعلم الغيب؟
الجواب: قد عُلم من الدين بالضرورة وبالأدلة الشرعية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوجد في كل مكان وإنما يوجد جسمه في قبره فقط في المدينة المنور، أما روحه ففي الرفيق الأعلى في الجنة، وقد دل على ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عند الموت: "اللهم في الرفيق الأعلى"ثلاثاً ثم توفي، وقد أجمع العلماء الإسلام من الصحابة ومن بعدهم أنه عليه الصلاة والسلام دفن في بيت عائشة رضي الله عنها المجاور لمسجده الشريف ولم يزل جسمه فيه إلى حين التاريخ، أما روحه وأرواح بقية الأنبياء والمرسلين وأرواح المؤمنين فكلها في الجنة لكنها على منازل في نعيمها ودرجاتها حسب ما خص الله به الجميع من العلم والإيمان، والصبر على حمل المشاق في سبيل الدعوة إلى الحق، أما الغيب فلا يعلمه إلا الله وحده، وإنما يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الخلف من الغيب ما أطلعهم الله عليه مما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة بيانه من أمور الجنة والنار وأحوال القيامة وغير ذلك مما دل عليه القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة كأخبار الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ونزول المسيح عيسى بن مريم في آخر الزمان وإثبات ذلك لقول الله عز وجل في سورة النمل: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون} وقوله سبحانه: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} الآية من سورة الأنعام، وقولة سبحانه في سورة الأعراف: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسي السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد(3/291)
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ما يدل على أنه لا يعلم الغيب منها ما ثبت في جوابه لجبريل لما سأله عن الساعة قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل". ثم قال: "في خمس لا يعلمهن إلا الله"وتلا قوله سبحانه: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث} الآية من سورة لقمان، ومنها أنه عليه الصلاة والسلام لما رمى أهل الإفك عائشة رضي الله عنها بالفاحشة لم يعلم براءتها إلا بنزول الوحي كما في سورة النور، ومنها أنه لما ضاع عقد عائشة في بعض الغزوات لم يعلم صلى الله عليه وسلم مكانه وبعث جماعة في طلبه فلم يجدوه فلما قام بعيرها وجدوه تحته، وهذا قليل من كثير من الأحاديث الواردة في هذا المعنى.
أما ما يظنه بعض الصوفية من علمه بالغيب وحضوره صلى الله عليه وسلم لديهم في أوقات احتفالهم بالمولد وغيره فهو شيء باطل لا أساس له وإنما قادهم إليه جهلهم بالقرآن والسنة وما كان عليه السلف الصالح فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية مما ابتلاهم به، كما نسأله سبحانه أن يهدينا وإياهم جميعاً صراطه المستقيم إنه سميع مجيب.
ما حكم ما يتعاطاه بعض الناس من الاجتماع على آلات الملاهي كالعود والكمان والطبل وأشباه ذلك وما يضاف إلى ذلك من الأغاني ويزعم أن ذلك مباح؟
قد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على ذم الأغاني وآلات الملاهي والتحذير منها وأرشد القرآن الكريم إن استعمالها من أسباب الضلال واتخاذ آيات الله هزوا كما قال تعالى: {ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين} .(3/292)
وقد فسر أكثر العلماء لهو الحديث بالأغاني وآلات الطرب وكل صوت يصد عن الحق وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف". والمعازف هي الأغاني وآلات الملاهي. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي آخر الزمان قوم يستحلونها كما يستحلون الخمر والزنا والحرير وهذا من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم فإن ذلك وقع كله والحديث يدل على تحريمها وذم من استحلها كما يذم من استحل الخمر والزنا والآيات والأحاديث في التحذير من الأغاني وآلات اللهو كثيرة جداً. ومن زعم أن الله أباح الأغاني وآلات الملاهي فقد كذب وأتى منكراً عظيماً نسأل الله العافية من طاعة الهوى والشيطان وأعظم من ذلك وأقبح وأشد جريمة من قال إنها مستحبة ولا شك أن هذا من الجهل بالله والجهل بدينه بل من الجرأة على الله والكذب على شريعته وإنما يستحب ضرب الدف في النكاح للنساء خاصة لإعلانه والتمييز بينه وبين السفاح ولا بأس بأغاني النساء فيما بينهن مع الدف إذا كانت تلك الأغاني ليس فيها تشجيع على منكر ولا تثبيط عن واجب ويشترط أن يكون ذلك فيما بينهن من غير مخالطة للرجال ولا إعلان يؤذي الجيران ويشق عليهم وما يفعله بعض الناس من إعلان ذلك بواسطة المكبر فهو منكر لما في ذلك من إيذاء المسلمين من الجيران وغيرهم ولا يجوز للنساء في الأعراس ولا غيرها أن يستعملن غير الدف من آلات الطرب كالعود والكمان والرباب وشبه ذلك بل ذلك منكر وإنما الرخصة لهن في استعمال الدف خاصة أما الرجال فلا يجوز لهم استعمال شيء من ذلك لا في الأعراس ولا في غيرها وإنما شرع الله للرجال التدرب على آلات الحرب كالرمي وركوب الخيل والمسابقة بها وغير ذلك من أدوات الحرب. كالتدرب على استعمال الرماح والدرق والدبابات والطائرات وغير ذلك كالرمي بالمدافع والرشاش والقنابل وكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله وأسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين(3/293)
وأن يوفقهم للفقه في دينه وتعلم ما ينفعهم في جهاد عدوهم والدفاع عن دينهم وأوطانهم إنه سميع مجيب.(3/294)
أخبار الجامعة
· بدأت الجامعة موسمها الثقافي لعام 89/90هـ وذلك مساء الاثنين الموافق 20/10/
89 بمحاضرة عنوانها (من أسرار الحج) ألقاها فضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز وذلك في مقر دار الحديث بالمدينة وقد استمع إلى المحاضرة جمع غفير من أهل العلم ورجال التربية والمدرسين وطلاب العلم.
وفي الأسبوع التالي وفي 27/10/89هـ ألقى فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري المدرس بكلية الشريعة بالجامعة.. المحاضرة الثانية وكانت بعنوان (الجهاد في الإسلام) .
· صدر العدد الأول من السنة الثانية من (مجلة الجامعة) وهو حافل بالبحوث والمقالات
بأقلام نخبة من علماء الجامعة والمفكرين من سائر البلاد. والجدير بالذكر أن الدار السعودية للنشر والتوزيع بجدة استلمت كمية كبيرة منها، لتوزيعها على المكتبات في سائر أنحاء البلاد. بصفتها المتعهد بتوزيع المجلة. هذا بالإضافة إلى كميات كبيرة أخرى ترسلها إدارة الجامعة إلى المؤسسات والجمعيات الإسلامية في سائر أنحاء العالم الإسلامي.
· من زوار الجامعة في الأسابيع الأخيرة الماضية:
زار الجامعة: السيد سي.إيم. محمد السكرتير بوزارة الخارجية الهندية وقد اجتمع بالمسئولين ولقي منهم كل ترحيب.. ثم قدمت له الجامعة هدية لسيادته مجموعة من الكتب والمطبوعات باللغة الإنجليزية والعربية.
كما قام بزيارة الجامعة سعادة السفير الفلبيني حيث استقبله أعضاء البعثة الفلبينية بالجامعة في المطار.. وقد اجتمع سعادته بفضيلة نائب رئيس الجامعة والمسئولين..
وزار الجامعة أيضاً الأستاذ حسن إدريس رئيس قسم التربية والتعليم بالمجلس الإسلامي في كلنتان..
· وفي 28/10/89هـ قام بزيارة الجامعة وفد رسمي من الاتحاد العام لكليات المغرب(3/295)
يرافقهم سعادة مدير التعليم بالمدينة الأستاذ عبد العزيز الربيع مدير ومدير التربية الفنية بوزارة المعارف الأستاذ محمد الحجار والأستاذ أحمد غلام.
هذا وقد اجتمع أعضاء الوفد بفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز وفضيلة الدكتور تقي الدين الهلالي المدرس بكليات الجامعة ودام الاجتماع حوالي نصف ساعة قام بعدها أعضاء الوفد بالتجول في أقسام الجامعة وشاهدوا منشئاتها الحديثة وزاروا الطلاب في فصولهم الدراسية في كليتي الشريعة وأصول الدين..
وبعدها تلقوا كميات من الكتب والمطبوعات وأعداداً من مجلة الجامعة وذلك هدية من إدارة الجامعة الإسلامية.
· أرسلت الجامعة كميات من الكتب باللغة الإنجليزية والعربية إلى جمعية التبليغ بزامبيا..
وذلك بعد أن رفع الحاج إبراهيم منش من زامبيا إلى إدارة الجامعة طلباً بذلك.
· في 1/11/89 هـ زار الجامعة أعضاء البعثة الطبية وبعثة الحج الإندونيسية برئاسة الأستاذ
سمعون.. يرافقهم الأستاذ محمد عمر مراد المشرف على شؤون الحج بالسفارة الإندونيسية بجده.
وكان من زوار الجامعة أيضاً:
· السيد مختار شور السكرتير العام بوزارة التجارة في الجمهورية الموريتانية السيد مكه حبيب
تال زعيم الشباب المسلمين في السنغال.
· السيد محمود دي سل ضابط متقاعد من الجمهورية الموريتانية.
· السيد تجان نذير سل. من دكار.
· وفد جمعية رابطة العلماء بالعراق محافظة الرمادي.
· محمد البغى جه الأمين العام لنقابة مدرسي اللغة العربية في السنغال.
· محمد منير الزبير من باكستان الغربية محرر جريدة الاعتصام وسكرتير مدرسة أهل
الحديث.
· الوفد الموريتاني:
رئيس الوفد: معالي وزير التربية أحمد بن عمر.(3/296)
وعضوية كل من: محمد بن غالي حاكم منطقة بو تيلميت. الحاج الحسن بن ملاوي من كبار التجار في نواكشوط. عبد بن محمد فال من كبار التجار في نواكشوط. بيكر باه من رؤساء القبائل.
· محمد شاكر الناق- عبد الغني أبو بكر مدرسان للغة العربية في بورتو نوفو بداهمي.
· السيد الأستاذ محمد بن أسلم سكرتير جمعية دعوة تبليغ الإسلام (تييم خانه بمليبار) .
· الدكتور لطفي روغان من أنقرة من تركيا عضو المجلس الديني والأستاذ بكلية الإلهيات.
صدر حديثا كتاب (منهاج المسلم) الطبعة الثانية للشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس بكلية الشريعة بالجامعه. وتمتاز هذه الطبعة بزيادات وتنقيحات من المؤلف كما أنها بدت فاخرة جيدة فيما يقارب الستمائة صفحة..
كما صدر أيضاً كتاب (دخول الإسلام إلى حضرموت) . لمؤلفه الأستاذ صالح بن هلابي وهو يطبع لأول مرة. ويعتبر دراسة فريدة من نوعها لهذا الحدث العظيم في تاريخ هذا الجزء الهام من الجزيرة العربية.. والجدير بالذكر أن المؤلف لا يزال طالباً في السنة الثالثة من كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة.
نشاطات الندوات
قرر مجلس الجامعة تعليمات للإشراف الاجتماعي وفيها القيام بندوات تربوية تحت إشراف المشرف الاجتماعي يدعى لكل اجتماع مدرسان أو أكثر لإلقاء كلمات توجيهية والإجابات على أسئلة الطلاب التي تعد لهم في شتى المواضيع والمناسبات.
وقد قام المشرف الاجتماعي بمباشرة هذه الندوات في آخر السنة الدراسية 88 الماضية حيث حصلت خمسة ندوات وفي مطلع السنة الدراسية الحالية 89 بدأت الندوات كالتالي:
1- الندوة الأولى في البناء الأول من المباني السكنية لطلاب الجامعة في 4/8/1389هـ وحضر هذا الاجتماع من المشايخ:
- الدكتور تقي الدين الهلالي وألقى كلمة بعنوان (هدف طالب العلم الناجح) .(3/297)
- الشيخ عبد المحسن العباد وألقى كلمته بعنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .
- الشيخ محمود الطحان وألقى كلمة بعنوان (الأخوة) .
- كما ألقى أحد طلاب المبنى كلمة بعنوان (أحوال الصحابة) .
2- الندوة الثانية في المبنى الثاني في 10/8/1389هـ وحضر هذا الاجتماع من المشايخ:
- الشيخ إبراهيم السلقيني وألقى كلمة بعنوان (واجب طالب العلم) .
- الشيخ ممدوح فخري وألقى كلمة بعنوان (الجانب الروحي في حياة الطالب) .
3- الندوة الثالثة في البناء الثالث في 18/8/1389هـ وحضرها من المشاي:
- الشيخ ربيع هادي المدخلي وطلب منه الحاضرون أن يتكلم عن حالة المسلمين في الهند فألقى كلمة في ذلك، والجدير بالذكر أنه كان عضواً في بعثة الجامعة العلمية إلى مدارس الهند.
- الشيخ سعيد المولوي وألقى كلمة بعنوان (صلة الأدب بالدعوة)
- كما ألقى الطالب الموريتاني خليل جاكيتي كلمة بعنوان (رمضان شهر الصيام ومدرسة النفوس)
- وألقى الطالب سالم باكوين من حضرموت قصيدة (القدس) .
4- الندوة الرابعة في المبنى التاسع في 25/8/1389هـ وحضر من المشايخ:
- الشيخ علي مشرف العمري وألقى كلمة بعنوان (حكم العمل بالحديث الضعيف) .
- والشيخ رامز عبد الفتاح وأجاب على أسئلة عامة مختلفة.
- كما ألقى الطالب محمود صالح عبد الرحمن من كينيا كلمة بعنوان فوائد الاجتماعات.
- وألقى الطالب جمعة باشا من السنغال كلمة بعنوان العلم وفوائده.
5- الندوة الخامسة وحضرها من المشايخ محي الدين القضماني وألقى كلمة بعنوان (التاريخ الإسلامي وأثره في حياة المسلمين) .
- كما ألقى الطالب محمد خير من الصومال كلمة بعنوان الأخوة في الإسلام.(3/298)
- وألقى الطالب أحمد الحصين كلمة بعنوان الماركسية والغزو الفكري. ومن الجدير بالذكر أن أسئلة كثيرة منها المشايخ الذين يحضرون الندوة في جو رائع مفعم بالأخوة والمحبة.
في تاريخ 10/11/89 عقدت الندوة الأولى في الموسم الثاني في قاعة مبنى الإدارة القديمة وكان البرنامج كما يلي:
1- قراءة ما تيسر من القرآن.
2- كلمة فيها بيان أهداف الندوات وفوائدها للطالب عبد الحميد أبو زنيد الذي يعتبر رئيس اللجنة المباشرة لإدارة الندوات.
3- كلمة بعنوان: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) للطالب: الصديق الأمير من السودان.
4- التعريف ببلد إسلامي وكان البلد المعرف في هذا الاجتماع: (إندونيسيا) للطالب: الإندونيسي مغفور عثمان.
5- كلمة فضيلة الشيخ محمد الشريف الزبيق بعنوان (نحن والحضارة الغربية) تناول فيها واجب المسلمين نحو هذه الحضارة بأن يأخذوا النافع منها ويتركوا الضار.
ويلاحظ أن كلمات أصحاب الفضيلة تؤخر إلى نهاية البرنامج حتى تتسنى لهم الفرصة لملاحظة أبنائهم الطلبة وإعطاء الإرشادات اللازمة.
6- ثم الإجابة على الأسئلة وتولاها الشيخ الزيبق أيضاً.
7- ثم شكر وتعليق للمشرف الاجتماعي. وانفضت الجلسة.
في 11/1189 عقدت الندوة في قاعة المبنى الثاني، وكان برنامجها كما يلي:
1- قراءة ما تيسر من القرآن.
2- كلمة بعنوان: (الدعوة في أرض الوطن) للطالب أبي هريرة عبد الرحمن من الفلبين.
3- كلمة بعنوان: (التقوى) لأحمد القبيسي من العراق.
4- التعريف ببلد إسلامي (نيجيريا) للطالب النيجيري: يوشع صادق.
5- الخطر الصهيوني والصليبي لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد.
6- الإجابة على الأسئلة تولاها فضيلة الشيخ المذكور.
8- تعليق المشرف وكان حضا للطلاب على اغتنام فرصة هذه اللقاءات وما فيها من فوائد.(3/299)
في 25/11/89 عقدت الندوة الثالثة في المبنى الثاني وكانت كما يلي:
1- قراءة ما تيسر من القرآن.
2- واجب الشاب المسلم للطالب عبد الرحمن عثمان من الصومال.
3- قصيدة للطالب أحمد صياصنه من سوريا بعنوان: هذا هو الطريق.
4- كلمة قيمة جداً بعنوان: صياغة المسلم وبناء المجتمع لفضيلة الشيخ أحمد حسن فرحات.
5- التعريف ببلاد تايلاند لأحد طلابها.
6- الإجابة عن الأسئلة تولاها فضيلة الشيخ أحمد حسن.
7- شكر من المشرف وإجابة عن بعض الأسئلة التي وجهت إليه.
نشاطات الرحلات
من النشاطات التربوية التي يقوم بها الإشراف الاجتماعي نشاط الرحلات والهدف منها هو:
1- التعريف على الأماكن التاريخية لتطبيق المعلومات التي تدرس عنها.
2- زيادة المعلومات التي لم تتح الفرص لاستيعابها في فصول الدراسة.
3- حل بعض المشاكل العلمية حين التقاء المشايخ بأبنائهم الطلبة.
4- تحقيق التعارف بين الطلاب.
5- الاستجمام والراحة العقلية والتمتع بالسياحة في الفضاء والقيام ببعض الألعاب الرياضية.
6- القيام بالدعوة والإرشاد في المساجد التي تتوجه الرحلة إلى منطقتها.
وفي خلال السنة الدراسية 88/1389هـ قام الطلاب بالتعاون مع الإشراف الاجتماعي بعدد من الرحلات. وآخرها رحلة قاموا بها إلى منطقة (أحد) .. اشترك فيها فضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز ابن باز ومن المدرسين الشيخ عبد القادر شيبة الحمد والشيخ حماد الأنصاري.
وكان من أهم فقرات برنامج هذه الرحلة:
1- تلاوة القرآن الكريم.
2- كلمة توجيهية لفضيلة نائب رئيس الجامعة.
3- كلمة للشيخ عبد القادر شيبة الحمد عن الجهاد في سبيل الله.
4- قام الشيخ حماد الأنصاري على رأس فريق من الطلاب بتمثيل صلاة الخوف عملياً.(3/300)
5- كلمة ألقاها الطالب صالح ابن سعيد بن هلابي بعنوان محنة الإسلام في القرن الرابع عشر.
6- قصيدة عن غزوة أحد ألقاها الطالب سليمان العمري.
هذا بالإضافة إلى زيارة منطقة الغزوة والاستماع إلى شرح مفصل على أرض المعركة ثم زيارة قبور الشهداء الزيارة الشرعية.
وقد كانت رحلة ممتعة حافلة إلى جانب ما ذكر بألوان شتى من مظاهر البهجة تظللها الأخوة والمحبة بوارف الظلال.. وعندما عاد الجميع إلى المدينة كانت القلوب تحمل معها ذكريات جميلة جليلة عن هذه الرحلة.(3/301)
مع الصحافة
يهودية وصهيونية
تنقلا عن مجلة الوعي الإسلامي
مقال للشيخ محمد الغزالي الكاتب المعروف نشرته مجلة الوعي الإسلامي في عددها الصادر بتاريخ ذي القعدة 1389هـ يناير 1970م ننشره بتصرف.
سمعته يقول: اليهودية شيء والصهيونية شيء آخر.. اليهودية دين سماوي كالنصرانية والإسلام أما الصهيونية فنزعة سياسية متطرفة استغلها الاستعمار الغربي لبلوغ مآربه اليهودية دين قديم له مصادره المقدسة أما الصهيونية فحركة حديثة ولدت في نهاية القرن التاسع عشر للميلاد وغذتها ونمتها ظروف عنصرية ودولية طارئة.
قلت له: تعني أن اليهودية لا أطماع لها في فلسطين وأنها لم تبيت عدوانا على العرب الآمنين، وأن التوراة والتلمود وسائر الأسفار المقدسة بريئة مما تفعله الآن دولة إسرائيل وأن الحرب المعلنة علينا من خمسين سنة ليست دينية؟!
قال: نعم هذا بدقة ما أريد أن أذكره.. قلت: أو لو قرأت عليك من نصوص الكتب المقدسة ما يدحض هذه الأوهام. قال: كيف؟ يستحيل أن تتضمن هذه الكتب استباحة أرضنا وجنسنا والاستهانة بحقوقنا المؤكدة.
قلت بل سأقرأ عليك من الكتب المقدسة المتداولة بين أيدي القوم ما يزيح هذه الغشاوة عن الأعين وما يشرح أن فلسطين كانت ملكاً لبني إسرائيل خاصا بهم وأنهم أجلوا منها عقاباً إلهياً للآثام التي ارتكبوها وأن الإله الذي عاقبهم تجاوز بعد عن سيئاتهم وقرر إعادتهم إلى أرضهم الأولى كي تفيض عليهم سمناً وعسلاً وخمراً. وإن هذا الإله ندم على ما فعل بشعبه المختار ورد إليه مجده ووطنه كي تتوطد سلطته وسيادته على أنقاض غيره من الأمم.
هكذا تقول صحائف التوراة والتلمود وإصحاحات العهد القديم التي يتعبد اليهود في المشرق والمغرب بتلاوتها والتي يستَوْحون منها سياستهم في القديم والحديث على السواء!!(3/302)
وعلى ضوء هذه السطور المقدسة، بل على نارها المحرقة أكلت حقوق العرب وتواصى الأوربيون والأمريكيون باجتياحها.
ثم جاء اليهود في الوقت المناسب ليتسلموا أرض الميعاد التي حدثتهم كتبهم عنها، وباشروا حرب الإبادة التي لابد منها ليسود جنسهم وتقوم مملكتهم!!
وقد كانوا في إقبالهم من شتى القارات إلى فلسطين معبئين بشعور ديني عارم تعمل من ورائه هذه النصوص، كما أنهم في بنائهم دولة إسرائيل ومقاتلتهم العرب أصحاب الأرض كانوا مفعمين بهذه العاطفة الدينة المتركزة على كلمات التوراة والتلمود وإصحاحات العهد القديم.
إننا معشر المسلمين نؤمن بموسى وتوراته أما ما دونه جامعوا العهد القديم ونسبوه إلى الله فأمر آخر يتجاوز فيه الحق والباطل والجد والهزل!!
ونحن نجزم بأن الله لعن بني إسرائيل لعصيانهم وعدوانهم، ونستفيد هذه الحقيقة من كتابنا الوثيق قبل استفادتها من أي شيء آخر فهل تغير من خلائق اليهود ما استحقوا من أجله اللعن؟
لقد مرت آلاف السنين على هذا الشعب المطارد، قاتل الأنبياء المتمرد على وحي السماء!
وبعث الله عيسى إليهم فكذبوه وحاولوا قتله وبعث إليهم محمداً من بعده فكذبوه وحاولوا قتله.
وتتابعت الأعصار وهم حيث حلوا في أرض الله نماذج للأثرة والقسوة وأكل الربا وإشاعة الخنا بيد أن كاتب العد القديم وَعَد اليهود بأنهم سيعودون إلى فلسطين التي نفوا منها وتوارث القوم هذا الأمل، وأحسوا كأن هذا القطر إرث لابد أن يؤول إليهم، وأن غيرهم طارئ عليه يجب أن يزول، وعلى هذا الأساس عومل العرب وعولج وجودهم التاريخي والديني!(3/303)
ولنقرأ هذه الكلمات من العهد القديم: "برائحة سروركم أرضي عنكم حين أخرجكم من بين الشعوب وأجمعكم من الأراضي التي تفرقتم فيها وأتقدس فيكم أمام عيون الأمم فتعلمون أني أنا الرب حيث آتي بكم إلى أرض إسرائيل إلى أرض التي رفعت يدي لأعطي آبائكم إياها". (41-42) من الإصحاح العشرين حزقيال أيُّ نشوة دينية تغمر اليهود وهم قادمون من كل فج صوب أرض فلسطين؟ وهذا النص الديني يسوقهم! وقبل أن أستطرد في إيراد النصوص الدينية التي تحدث اليهود عن أرض الميعاد وعن قيام دولة جديدة لهم لابد من أن أقف لأشرح وأشرح!
إن بني إسرائيل لم يحدثوا توبة يستحقون بها الرحمة العليا، فهم تائهون عن الحق في مجال الاعتقاد والعمل، وهم وراء أزمات الإيمان والأخلاق التي تزلزل الكيان البشري وتهدده بالدمار الفاشل.
وعودتهم الجزئية إلى فلسطين ترجع أولا وآخرا إلى طبيعة الجبهة المناوئة لهم أو إلى أحوال الأمة التي ورثت الدعوة من بعدهم. إن العرب تخلوا عن قيادة الدعوة العالمية للإسلام بل تجردوا من جملة فضائله وعزائمه بل تسلمت السلطة في بعض أقطارهم حكومات ترفض الإسلام دولة وتكرهه نظاماً (!) في هذا الليل المعتكر من الفتن المتلاحقة قد يأذن الله لليهود بعودة لا قرار لها لأن اليهود لا يحملون بذور رسالة إنسانية صالحة ولأن حملة الرسالة الإسلامية الباقية سوف يستفيقون من غفلتهم أو يتغلبون على هزائمهم ويستأنفون مقاتلة اليهود حتى يجهزوا عليهم.
أليس من تعاجيب الليالي أن تتخلى الأمة العربية عن الإسلام؟ عن الحق الذي رفع الله به قدرها؟ وتزعم وسائل الإعلام بها أن قضية فلسطين ليست إسلامية! وذلك في الوقت الذي يتشبث العبريون فيه بتوراتهم ويعدون فيه فلسطين قسمة إلهيه لهم؟(3/304)
وهل يبحث عاقل عن سر هزائم العرب بعد هذا التفاوت الهائل في الروح المحرك لكلا الفريقين؟ فلنقرأ عن أرض الميعاد لا كما يتحدث كتاب الصهيونية، بل كما يتحدث العهد القديم نفسه لنقرأ هذا النص الطويل:
"لذلك فقل لبيت إسرائيل هكذا قال السيد الرب ليس لأجلكم أنا صانع يا بيت إسرائيل بل لأجل اسمي القدوس الذي بخستموه في الأمم حيث جئتم، فأقدس اسمي العظيم المبخس في الأمم، والذي بخستموه في وسطهم، فتعلم المم أني أنا الرب يقول السيد الرب: حين أتقدس فيكم قدام أعينهم وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم في جميع الأراضي وآتي بكم إلى أرضكم وأرش عليكم ماء طاهراً فتطهرون من كل نجاساتكم ومن كل أصنامكم أطهركم وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحا جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها وتسكنون الأرض التي أعطيت آباءكم إياها وتكونوا لي شعباً وأنا أكون لكم إلهاً.. وأخلصكم من كل نجاستكم.
وأدعو الحنطة وأكثرها ولا أضع عليكم جوعاً وأكثر ثمر الشجرة وغلة الحقل لكيلا تناولوا بعد عار الجوع بين الأمم فتذكرون طرقكم الرديئة وأعمالكم غير الصالحة وتمقتون أنفسكم أمام وجوهكم من أجل آثامكم وعلى رجساتكم لا من أجلكم أنا صانع - يقول السيد الرب - في يوم تطهيري إياكم من كل آثامكم أسكنكم في المدن فتبنى الخرب وتفلح الأرض الخربة عوضاً عن كونها خربة أمام عيني كل عابر، فيقولون هذه الأرض صارت كجنة عدن والمدن الخربة والمقفرة والمهدمة محصنة معمورة فتعلم الأمم الذين تركوا حولكم أني أنا الرب بنيت المنهدمة وغرست المقفرة أنا الرب وتكلمت وسأفعل هكذا قال السيد الرب.
بعد هذه أطلب من بيت إسرائيل لأفعل لهم أكثرهم كغنم أناس كغنم مقدس كغنم أورشليم في مواسمها، فتكون المدن الخربة ملآنة غنم أناس فيعلمون أني أنا الرب" (22-38) الإصحاح السادس والثلاثون حزقيال.(3/305)
وهذا نص أيضاً: "هوذا عينا السيد الرب على المملكة الخاطئة وأبيدها عن وجه الأرض غير أني لا أبيد بيت يعقوب تماماً - يقول الرب - لأنه هاأنذا أمر فأغربل بيت إسرائيل بين جميع الأمم كما يغربل في الغربال وحبة لا تقع إلى الأرض. بالسيف يموت كل خاطئ شعبي من القائلين لا يقترب الشر ولا يأتي بيننا في ذلك اليوم أقيم مظلة داود الساقطة وأحصن شقوقها وأقيم روحها وأبنيها كأيام الدهر لكي يرثوا بقية أدوم وجميع الأمم الذين دعي اسمي عليهم - يقول الرب الصانع هذا -.
ها أيام تأتي يقول الرب يدرك الحارث الحاصد ودائس العنب بأذر الزرع، وتقطر الجبال عصيراً أو تسيل جميع التلال وأذر سبي شعبي إسرائيل فيبنون مدناً خربة ويسكنون ويغرسون كروماً ويشربون خمرها ويصنعون جنات ويأكلون ثمارها وأغراسهم في أرضهم ولن يقلعوا بعد أرضهم التي أعطيتهم قال الرب إلهك.." (8-15) الإصحاح التاسع، عاموس ونختم بهذا النص:
"هكذا قال رب الجنود: هاأنذا أخلص شعبي من أرض المشرق ومن أرض مغرب الشمس وآتي بهم فيسكنون في وسط أورشليم ويكونون لي شعباً وأنا أكون لهم إلها بالحق والبر" (7-8) الإصحاح الثاني، زكريا.
هذه نصوص لم يكتبها موسى ديان في هذا القرن ولم يكتبها هرتزل في القرن الماضي ولم تتمخض عنها مؤتمرات الصهيونية المنعقدة في سويسرا أو فرنسا.. إنها عند ذويها آيات وحي يتلى ومعالم دين يتبع.
وليس اليهود وحدهم الذين يوفون بهذه الوعود السماوية لبني إسرائيل بل كثير من النصارى الذين يجعلون إصحاحات العهد القديم أجزاء من الكتاب المقدس، خصوصا الكنائس الإنجيلية (البروتستانت) الذين يمثلون أكثر شعوب إنجلترا والولايات المتحدة!!.
ولكن عصابة من الكتاب العرب أخذت على عاتقها تغطية هذه الحقائق الدينية والزعم بأن (إسرائيل) تمثل الصهيونية ولا تمثل اليهودية وإن الدين لا علاقة له بهذه الحرب الناشبة لإبادة العرب وتهويد فلسطين!.(3/306)
أهو الجهل الأعمى؟
ربما. ومن البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه لا لمن يبصره.
أهو الإقصاء المتعمد لدور الإسلام في المعركة؟
ذلكم أغلب الظن، بل هو جملة اليقين وعمل أولئك الكتاب هو تسميم الفكر العربي حتى يدخل العرب معركتهم الحاسمة بلا روح أي بلا إيمان ديني واضح دافع.
ربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل:
ولكن الخير كذلك.
وبأنه مخالف:
ولكن الحق كذلك.
وبأنه محير:
ولكن الحسن كذلك.
وبأنه كثير التكاليف:
ولكن الحرية كذلك.
الرافعي(3/307)
أضواء على المذاهب الهدامة
الشيوعية
بقلم الشيخ: عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة
أطلق العرب على المذهب الاقتصادي الذي تسير عليه روسيا ومن نحا نحوها (الشيوعية) وهي في أصل اللسان العربي من قولهم سهم شائع إذا كان غير مقسوم. وهذه المادة استعملت في اللسان العربي في عدة أحوال كذلك وكلها تدور على الذيوع والانتشار فمن ذلك قول العرب (الشاع) للمنتشر من بول الناقة.
(تاريخ)
مزدك:
عرف العالم القديم الشيوعية في صور شتى ومن ذلك ما أثر عن (مزدك) الفارسي الذي ظهر في عهد الملك (قباد) ملك فارس، وكان هذا الملك ضعيفاً مهيناً فسدت في عهده الرعية فزعم مزدك أنه نبي، وأخذ ينهى الناس عن المباغضة والمخالفة والقتال وأعلن أن سبب هذه الفتن هي النساء والأموال لذا رأى أن تباح النساء لكل راغب، وأن تباح الأموال لكل طالب حتى يشترك فيها الناس اشتراكهم في الماء والهواء.
وقد انتشر مذهبه في عامة بلاد فارس ودخل فيه (قباد) نفسه.
وقام الفقراء بتقتيل الأغنياء، وصار الجماعة منهم يدخلون على الرجل فيقتلونه ويثبون على أمواله ونسائه فغضب لذلك بعض عظماء فارس وبخاصة أنو شروان بن الملك قباد وزعيم آخر يقال له_ ساجور_ وتآمروا على مزدك وقتلوه وخلعوا قباد وعينوا أخاه_ جاماسب_ ملكاً عليهم وحاولوا القضاء على الفتنة المزدكية، غير أن قباد استطاع أن يعود إلى الملك وأن يحبس أخاه.
فقوى بذلك شر المزدكية من جديد واستمرت إلى أن قتل قباد وتولى بعده ابنه انو شروان الذي ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلما استقل بالملك وجلس على السرير وقال لخواصه:
"إني عاهدت الله إذا صار إليّ الملك ألا أبقي على أحد من المزدكية الذين أفسدوا أموال الناس ونسائهم".
وكان عند سريره رجل مزدكي فقال لانو شروان:(3/308)
أتقتل أتقتل الناس جميعاً؟
فنظر إليه انو شروان وقال له:
"أتذكر يا ابن الخبيئة يوم طلبت من أبي أن يأذن لك بالمبيت عند أمي فأذن لك، ولما ذهبت إلى حجرتها لحقت بك وقبلت رجلك التي أثر نتن جوربها في أنفي وتضرعت إليك حتى وهبتها لي ورجعت؟ "
فأقر الرجل أمام الحاشية بما قال الملك، فأمر بقتله فضربت عنقه وأحرقت جثته، ثم أمر انو شروان باستئصال شأفة المزدكية وقضى عليهم.
(كارل ماركس)
كما عرفت الشيوعية في العصر الحديث في صورة متقاربة بزعامة رجال تكاد تتشابه ظروف حياتهم مع حياة مزدك الفارسي وأشهر هؤلاء الزعماء (كارل ماركس) .
حياته:
وقد ولد كارل ماركس 1818من أبوين يهوديين غير أن أباه لم يستقر على دين آبائه اليهود، فقد تنصر وترك دين اليهودية. أما كارل ماركس فقد ظهر في أول شبابه حريصاً على الدين فقد أثر عنه أنه كان يقول آنذاك:
"الدين أساس الحياة الإنسانية، وهو يلقننا الحكمة والخير".
نفسيته:
بيد أن خبيثة ماركس كانت تعلن عن نفسها في كثير من الأحيان. وقد كان هذا الإعلان يبدو تناقضه في كثير من الأحوال، ويعلل ذلك (اوتورهل) الماركسي إذ يقول:
"إنه كان نموذجياً فيما كان يعانيه من اختلال نشاطه الروحي وكان على الدوام متقلباً حقوداً لا يزال في تصرفه عرضة لتأثير سوء الهضم والانتفاخ وهياج الصفراء وكان موسوساً يغلو كجميع الموسوسين في الشعور بمتاعبه الجسدية".
وقد عثر على رسالة كتبها والد ماركس يصف فيها حل ولده بأنه يقضي جل لياليه مرهقاً جسده وعقله في دراسة لا لذة فيها معرضاً عن جميع الملهيات في طلب المشكلات الغامضة ليهدم غداً ما بناه اليوم.(3/309)
وقد كان ماركس يهمل دروسه ويتقطع عن معهده الأسابيع المتواصلة متابعاً لما شذ من الآراء التي يبنيها اليوم ويهدمها غداً أو باحثاً عن اللذة الجنسية والمتاع الجسدي. وقد شغف أولا بدراسة المذاهب الاقتصادية وحصل على شهادة الدكتوراه بالمراسلة من جامعة جينا الألمانية عام 1841م.
وكان ماركس أيام حياته الدراسية عالة على أبيه –هرشل- فلما مات أبوه صار عالة على أمه وأخته حتى عجزتا عن مواصلة الإنفاق عليه، فصار يلجأ إلى الاستدانة من أقربائه وأصدقاءه وبخاصة من - انجلز - قرينه في الدعوة على الشيوعية.
وكان أصدقائه إذا ضاقوا من طلباته حاولوا أن يكلفوه ببعض الأعمال التي قد تدر عليه بعض الرزق ولكنه كان يبوء بالفشل في كل عمل يسند إليه.
وكان ماركس قد تعرف على فتاة بارعة الجمال أثناء دراسته للحقوق في جامعة بون تدعى جيني ولم يكن أحد قد اشتم منه رائحة نزعته الشيوعية إلى ذلك الحين وكان عمره لا يتجاوز العشرين. وقد وقعت الفتاة في قلبه وهام بها، ولم يكن في أول أمره ذلك يفكر في الزواج منها نظراً لأنها من طبقة فوق طبقته أهله، والتقاليد تقف حجر عثرة في سبيله غير أن الفتاة بادلته الحب ورغبت في الزواج منه ولم تعبأ بالفوارق الطبقية التي توجد بينهما.
وقد بذل ماركس وجيني كل ما يستطيعان لتحقيق حلمهما في الاقتران الرسمي وتمكين عواطفهما المشبوبة من الحصول على ثمرة طويلة، حتى تمكنا من ذلك إذ أعلنت الفتاة في عزم وإصرار أنها لن تتخلى عن ماركس مهما كانت الفوارق الطبقية بينهما، وأنها راضية به على أية حال.
وعلى الرغم من تحقيق هذا الحلم فقد بدأ ماركس يشعر بالحقد الثائر نحو نظام الطبقات الذي كاد يحول بينه وبين حبيبته جيني، وقد بدأت مشكلة المعاش له ولزوجته تتعقد أمام ماركس فقد زادت نفقاته ولم يتحسن إنتاجه ولا سيما بعد أن صار ذا أولاد.(3/310)
وقد صورت زوجته جيني ماصارت إليه هي وزوجها من البؤس في كتاب إلى صديق لها تطلب منه أن يمد لها يد المساعدة قالت فيه:
"أئذن لي أن أصف لك يوماً من أيام هذه الحياة، وسترى أن غيرنا لم يقاس ما قاسيناه، فأنا مريضة سقيمة ومع أن ثديي وظهري بهما أوجاع وآلام بالغة فإنني مضطرة إلى أن أرضع طفلي الرابع الحديث الولادة لأنني لا أستطيع أن ادفع أجرة مرضعة، ولكن كان طفلي يرضع الحزن والألم والوجع فيتلوى من المرض ليلاً ونهاراً. ومع هذا الفقر والحاجة فقد دخلت علينا صاحبة المنزل وطلبت منا أجرة البيت كما طالبت بما علينا لها من القروض، ولما كنا عاجزين عن الدفع فقد حجزت على كل ما نملك في البيت حتى فراش الطفل وباعته بما لها علينا من الدين، ثم طردتنا إلى الشارع والمطر ينهمر بغزارة، والبرد القارس لا يرحم، وبذل زوجي ماركس كل ما في وسعه من جهد فلم نجد من يقبل إيواءنا".
كما كتبت جيني مرة أخرى تصف إحدى ليالي البؤس التي مرت بها وبماركس فتقول:
"أحست ابنتنا بنزلة شعبية، وصارعت الموت ثلاثة أيام ثم ماتت وأخذنا نبكي عليها ولم يكن لدينا ما نجهزها ونكفنها به، وأبقينا الجثة حتى نجد ما نستعين به على دفنها، ومضيت إلى جار فرنسي مهاجر فأعطاني جنيهين!..
واأسفاه!.. وفدت أبنتنا إلى الدنيا فلم تجد مهداً وعندما غادرت الدنيا لم نجد كفناً".
من هذه الصور نستطيع أن نعرف الدوافع التي حدت بماركس أن يكون داعياً لمصارعة الطبقات ثائراً عنيداً في الدعوة إلى الشيوعية، عبداً ضارعاً أمام محراب المادية.. ينفث سمومه في نواح متعددة من أوربا ولاسيما في إنجلترا حتى مات عام 1883م.
ولما قامت الثورة الروسية ضد القياصرة من أسرة_ روما نوف_ بعد الحرب العالمية الأولى وتسلم قيادة الثورة لينين أحد الماركسيين ظهرت الشيوعية الرسمية الأولى مرة في العصر الحديث.
(المذهب الماركسي)
روحه وصورته:(3/311)
للمذهب الماركسي روح وصورة، أما روحه: فهي فلسفته في الكون وأنه لا أثر فيه لغير المادة فلا إيمان إلا بالمادية.
وأما صورته: فهي المخططات الرئيسية التي لا بد منها القيام المجتمع الشيوعي.
المادية:
أعلن ماركس بأنه لا يؤمن بغير المادة، وأن كل شيء في الوجود إن هو إلا أثر من آثار المادية والمادية في نظر كارل ماركس تعني عدم الإيمان بالغيب كما تعني الكفر بالله فاطر السماوات والأرض، وإنكار جميع المظاهر الدينية والمذاهب الروحية، والمنازع الأخلاقية، والتقاليد ونظام الزواج والأسرة، وكذلك إنكار العواطف والتأثيرات النفسية والوجدانية، والعلوم والمعارف والآداب فهذه كلها في نظره من تضليلات أصحاب الثروة (الرأسماليين) لاستغلال الفقراء والمساكين. وليس هناك إلا المادة فهي التي تكون وقائع التاريخ وما المظاهر الكونية كلها إلا مادة بحتة.
الدين:
يزعم ماركس أن الدين وسيلة من وسائل الاستغلال، اخترعه أصحاب الثروة والمسيطرون على مصادر الإنتاج ليخدروا به الشعب حتى يسهل استغلالهم وتتيسر سرقتهم وقد اضطرب ماركس في شأن الدين اظطراباً عنيفاً فمرة يقول فيه: أنه "أفيون الشعب"الذي يخدرها عن رؤية الحقائق المادية. ومرة يزعم أنه انعكاس القوى الظاهرية التي تسيطر على معيشة الإنسان اليومية على معنى أن الإنسان يرى في المناظر الطبيعية قوة جبارة لا مناص له من الخضوع لها، فتراه يعبد منها ما لا يدركه. وطورا يصفه بأنه تزلف من واضعيه إلى أرباب السلطان وأصحاب رؤوس الأموال. وحينا يقول:
"إنه الغذاء الخادع للضعفاء لأنه يدعوهم إلى احتمال المظالم في الوقت الذي لا يتمكن من إزالتها". وأحياناً يقول: "هو خمرة الشعوب يروضها على الفقر والمسكنة ويلهيها بما يغريها من نعيم الآخرة عن نعيم الدنيا ليستأثر به سادة المجتمع ويغتصبوا منه علانية أو يسرقوا منه خلسة ما يطيب لهم أن يغتصبوه أو يسرقوه".(3/312)
وموقف ماركس المظطرب في الدين قرينه لاظطرابه النفسي، وعجز ظاهر عن مقارعة الشرائع وقد فاق ماركس الدهريين في إنكار ما وراء المادة إذ قالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْر} .
فإن ماركس حاول أن يفسر المظاهر الدينية بهذه الآراء المظطربة.
فأين الرأسماليون الذين أتى وحيهم بالإسلام؟ وهل علم ماركس والماركسيون بقصة الملأ من قريش حينما أرسلوا أحد زعمائهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له:
"إن كنت تريد المال جمعنا لك منه ما تريد حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد الملك ملكناك علينا، وإن كان بك شيء عالجناك".
وحينما انتهى سفير قريش من هذا الخطاب يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"انتهيت يا عم؟ ثم يقرأ أول سورة فصلت حتى يبلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} .
وحينئذ تتسرب أنوار الحقيقة إلى قلب ذلك السفير ويخاف على نفسه فيضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: "ناشدتك الرحم أن تكف". ثم يأتي إلى قومه وينصحهم طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
"إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليس من كلام البشر".
وهل علم ماركس والماركسيون قصة الملأ من قريش حينما اجتمعوا في بيت أبي طالب يقولون له:
"إما أن تنهى محمداً عن تسفيه أحلامنا، وتضليل معتقداتنا أو تخلى بيننا وبينة"حتى يقول له عمه:
"يا ابن أخي لو أبقيت على نفسك فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".(3/313)
وهل يظن ماركس والماركسيون الملأ من قوم فرعون هم الذين أوحوا إلى رسول الله موسى عليه السلام بالدين الفذي جاءهم به ودعاهم إليه فيقول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟} فيقول: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} .
فيقول لمن حوله: {أَفَلا تَسْمَعُونَ؟}
حتى يقول موسى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} فيقول فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} . فيقول موسى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} حتى يقول فرعون: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} فيقول موسى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} .
وهل يظن ماركس والماركسيون أن الملأ من قوم فرعون أو من بني إسرائيل هم الذين أوحوا إلى موسى بتحريم المراباة وأن يقاد للنفس بالنفس، والعين بالعين، والأذن بالأذن والسن بالسن، وأن الجروح قصاص.
وهل يظن ماركس أن أغنياء اليهود والرومان هم الذين أوحوا إلى عيسى بن مريم حتى جاء بالإنجيل وهو الذي أثر عنه أنه يقول:
"إن دخل إلى مجمعكم رجل واحد بخواتيم الذهب في لباس بهي ودخل معه فقير بلباس وسخ فنظرتم إلى اللابس اللباس البهي وقلتم له:
- أجلس هنا حسناً.
- قف أنت هناك أو أجلس تحت موطئ القدمين.
فهل لا ترتابون في أنفسكم وتصيرون قضاة أفكار شريرة؟ ".
وهل علم ماركس أن رجلاً من فقراء المسلمين مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع بعض أصحابه رضي الله عنهم فقال ما تقولون في هذا قالوا:
"حري به إن خطب ألا يخطب، وإن قال ألا يستمع، وإن شفع أن لا يشفع، ثم مر رجل من أغنياء المسلمين فقال ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري به إن خطب أن يخطب، وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع". فقال عليه الصلاة والسلام:(3/314)
"هذا- يعني الفقير - خير من ملء الأرض مثل هذا - يعني الغني -".
ولا شك أن ماركس يجهل هذه الحقائق ولا يدري عنها شيئاً ولو أدعى معرفتها لكانت البلية أخطر والمصيبة أعظم:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
الأخلاق والآداب:
يحارب الماركسيون جميع الأخلاق التي قد يتصف بها شعب من الشعوب أو فرد من الأفراد، بدعوى أن هذه الأخلاق سواء كانت فردية أو جماعية ما هي إلا أثر من الآثار التي أوحى بها (الإقطاعيون) وإن هي إلا خداع وتضليل للعمال والفلاحين من قبل الملاك وأصحاب الأموال.
والخلق الوحيد الذي آمن به الشيوعيون هو وجوب مخالفة سائر الأنظمة الأخلاقية ومحاربة عموم أنواع الآداب المرعية في المجتمعات الإنسانية وبخاصة ما كان منها نتيجة للأوامر الإلهية.
وقد قادهم هذا الشذوذ الخلقي إلى هتك الأسرة ومحاربة ناموس الزواج ورأوا أن هدم ذلك من أقوى دعائم الشيوعية فتساوى الزواج والزنى في نظامهم, وحسن في أعينهم وقاع أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم وعماتهم وخالاتهم. وانحطوا في سلوكهم الأخلاقي عن كثر من الحيوانات العجماوات.
وقد أصبحت لفظه (الكرامة) عندهم لفظه مرذولة فالمحبوب لديهم أن يطوروا بالرفقاء الأنذال. وأضحت كلمة (الشرف) من الألفاظ المدسوسة على الإنسانية بواسطة أصحاب الإقطاع فيجب أن تداس بالأقدام، و (الأمانة) دسيسة خبيثة من دسائس المحافظة على رؤوس الأموال.
المعارف والعلوم:
كما ينكرون أشد الإنكار أن تأتي من طريق السماء، وإنما تكون فقط وليد حاجته المادية ومطالبه الحيوانية.
أما العلوم والمعارف والنظريات التي لا تخضع لهذا التفسير الشيوعي فهي في نظرهم:
تضليلا ... وتخيلات ... وأوهام
(المخططات الرئيسية لقيام المجتمع الشيوعي) :
يرى ماركس أنه لا بد لقيام المجتمع الشيوعي_ من خمسة أركان يبنى عليها وهي:(3/315)
1- استيلاء الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين على مقاليد الحكم في أول الأمر.
2- تأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثورة.
3- القضاء على رأس المال.
4- القضاء على الطبقات.
5- ثم القضاء على الحكومة.
1 - (استيلاء الطبقة الكادحة على مقاليد الحكم)
يرى ماركس أن (الأجراء) ولا سيما الأجراء في الصناعة قابلون (للثورة الاجتماعية) لأنهم لا يملكون شيئاً في المصانع، ولعلهم كذلك يحملون في الغالب قلوباً مملؤة بالحقد والضغينة على أصحاب الأموال، وهم الأداة السهلة اللينة التي تؤثر فيها مختلف الدعايات لذلك اعتبر ماركس أن أول المخططات الضرورية لقيام المجتمع الشيوعي هو قيام الطبقة الكادحة_ البروليتاريا_ من العمال الصناعيين والأجراء الزراعيين بالاستيلاء على مقاليد (الحكم) ومناصب الدولة حتى يهدم بهم الحكومات القائمة.
ونحن لا نرى عيباً في هذه القاعدة من حيث أن تكون الحكومة من طبقة الفقراء فإن الفقر والغنى في نظرنا أعراض غير ذاتية بل تتغير وتتبدل، إذ المال ظل زائل وعارية مستردة، والمرء عندنا بأخلاقه وآدابه لا بأمواله وكثرة متاعه.
وما المال والأهلون إلا ودائع
ولابد يوماً أن ترد الودائع
غير أننا لا نرى أن يكون المسيطرون على مقاليد (الحكم) ولابد من طبقة الفقراء، إذ الغالب عليهم الفوضى والجهل ولله در الشاعر إذ يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
غير أن نظام الماركسيين ينص على:
(أن قيام حكومة العمال والفلاحين هو شيء (مؤقت) وأنه حركة انتقالية إلى مرحلة الشيوعية الحقيقية التي لا تبقى فيها حكومة وإنما ينطلق الشعب حراً بلا حكومة ولا سلطان) .(3/316)
بيد أن واقع الحياة الشيوعية لم ير هذه النظرية مطبقة في أي قطر من الأقطار التي بليت بهذا النظام. فجميع البلاد التي صالت إلى الشيوعية قامت حكومتها من جنس الحكومات التي كانت في تلك البلاد قبل الحكم الشيوعي.
ولم يقع أبداً أن صارت حكومة شيوعية من طبقة العمال والفلاحين ففي روسيا مثلاً كان الدور الذي قامت به الطبقة الكادحة هو إشعال نار الثورة ضد الحكم القيصري والقضاء عليه، ولما تم لرؤساء الحزب الشيوعي ما أرادوا من سقوط عرش آل (روما نوف) قبض رؤساء الحزب الشيوعي على زمام الحكم وأزاحوا العمال والفلاحين من الطريق وردوهم مدحورين إلى مصانع والمزارع ليقاسوا تحت سخط الحزب الشيوعي أشد ألوان المهانة والإرهاق.
وقد قام العمال والفلاحون بعدة ثورات كانت تقابل بأنكى صنوف القمع والإرهاب، ولم تمنع وسائل التعذيب الإجرامية هؤلاء من أن يقوم الكثير منهم بإحراق المحاصيل وتبديد الماشية والأموال حتى لا تقع في يد هؤلاء الحكام المستبدين.
وقد حاول (ستالين) أن يقضي على ثورات الطبقة الكادحة بألوان شتى من أنواع القتل والحبس والنفي في مجاهل (سيبيريا) والتهديد والوعيد فلم يفلح.
وفي منشور له في هذا الصدد يقول:
"لكي يضمن الكولخوزيون المزارعون لأنفسهم الحياة والعيشة يتطلب ذلك منهم أن يعملوا في (الكولخوزات) المزارع التعاونية ويحافظوا عليها ولا ينسوا مسئوليتهم تجاهها"ولما قال العمال لستالين:
"لقد انتقلت السلطة وتركزت في يد حزب واحد هو حزبنا ولن يشاركنا في توجيه الدولة أي فئة أخرى، وهذا ما يعنيه بالدكتاتورية العمالية".
وهكذا نرى المخطط الأول من المخططات التي رسمها ماركس للمجتمع الشيوعي لم تكن إلا حبراً على ورق كما يقولون، بل صار العمال والفلاحون في المجتمع الشيوعي أحط أنواع العمال والفلاحين في العالم.
2- (تأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة) :(3/317)
يرى الماركسيون أن السبب الرئيسي لتكوين الطبقات هو وسائل الإنتاج ومصادر الثروة فلابد للقضاء على (نظام الطبقات) من القيام:
أولاً: بتأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة، وجعلها بدل أن تكون ملكاً لبعض الأفراد أن تصير ملكاً لجميع الأمة.
وهذا التأميم كذلك يعتبر خطوة أولى لخطوة تليها هي القضاء التام على رؤوس الأموال والملكيات الفردية مهما كان نوعها وهذه النظرية لا ترى أية حرمة لمن بيده شيء من مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، كما لا ترى أية قيمة لما بذله الأفراد في سبيل مشروع ولو في الأصل على الأقل للحصول على ما بأيديهم من أموال.
ولسنا نجادلهم بالأدلة الدينية التي توجب مراعاة الحرم والمحافظة على حقوق ذوي الحقوق فإن الدين في نظرهم هو "أفيون الشعوب" وإنما نقول لهم:
لقد أممتم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، فماذا فعلتم بهذه الأموال المؤممة، وكان المفروض بناء على دعواكم الأساسية أن تصير ملكاً للمجموع يتساوون في الانتفاع بها. فهل صار في متناول كل فرد من أفراد أمتكم أن يحصل على شيء من هذه الأموال يسد بها عازته ويقضى منها وطره وحاجته؟
والواقع أن الأموال المؤممة إنما انتقلت من ملك أربابها ومكتسبيها إلى خزينة الدولة ليتصرف فيها الحكام حسب أغراضهم وأهوائهم وليبذلوا ما شاءوا في سبيل امتداد حكمهم وسلطانهم ولينغمسوا بها في الشهوات والملاذ إلى حلوقهم وأذقانهم. وقد كانت نتيجة هذا التأميم سلب أسباب الغنى من الأغنياء وإدامة الفقر والمسكنة للمساكين والفقراء.
3- (القضاء على رأس المال) :
والمخطط الثالث من المخططات اللازمة لقيام المجتمع الشيوعي هو القضاء على (رأس المال) بدعوى أن رأس المال يشكل العمود الرئيسي للظلم الواقع على رأس (الطبقة الكادحة) .(3/318)
أما كيفية هذا الظلم فيقرر الماركسيون بأن قيمة كل شيء هو العمل الإنساني الذي بذل فيه، وإذا لم يكن هناك استغلال وجب أن يأخذ العامل ثمرة العمل كلها، إلا أن أصحاب رأس المال (يستغلون) اضطرار العامل فلا يعطيه من قيمة عمله إلا جزاءً يسيراً قد لا يفي بكفايته ولا يقوم بحاجته الضرورية من القوت ثم يأخذ صاحب رأس المال الزيادة لنفسه، ويصرفها في توسيع ثروته فيزداد إمعاناً في الظلم وإغراقاً في سرقة حقوق العامل.
وهذه الزيادة بين رأس المال الأصلي وقيمة الإنتاج يسميها كارل ماركس (القيمة الفاضلة) .
وهذه القيمة الفاضلة قد ذهب أكثرها إلى صاحب رأس المال، وقد كان من حق العامل أن يستولي على هذه القيمة الفاضلةكلها، لأنها في الواقع عند (ماركس) قيمة عملة وثمرة كده لذلك رأى ماركس من الضروري القضاء على رأس المال حتى تتحطم السلاسل والأغلال التي يكبل بها الرأسماليون العمال والكادحين، ولا بد أن يسري على الجميع بعد ذلك قانون قاطع هو:
"إن لكل حسب حاجته، ومن كل حسب طاقته"ومعنى ذلك أن الدولة تكفل لكل إنسان قدر ما يحتاجه في معاشه من مطعم وملبس ومسكن، وتكلفه في نظير ذلك أن يبذل للدولة ما يطيقه من العمل!
هذا.. ودعوى الماركسيين أن رأس المال يشكل العمود الرئيسي للظلم الواقع على رأس الطبقة الكادحة هي دعوى فاسدة بل رأس المال قد يكون سبباً في كثير من الأحيان في مد يد المساعدة والعون للطبقة الكادحة وتيسير أسباب المعايش لهم.
كما أن دعوى الماركسيين أن قيمة كل شيء هو العمل الإنساني الذي بذل فيه، وأن العدالة تقتضي أن يحصل العامل على جميع القيمة الفاضلة هي دعوى منافية للعدل والإنصاف كذلك لما فيها من إلغاء اعتبار الأدوات والآلات التي بذلها صاحب رأس المال والتي يسرت للعامل هذا العمل، كما أن أبسط قواعد الاقتصاد تبرهن على أن قيمة الشيء ليست العمل الإنساني الذي بذل فيه.(3/319)
فالسلعة الواحدة قد يصنعها عامل في يوم ويصنعها عامل آخر في يومين، وقد يباع كتاب في سنة ما بدينار واحد ولا يساوي في سنه أخرى أكثر من ربع دينار، وهذا الصنف من الشراب قد يرتفع سعره في بلد وينخفض في بلد آخر في نفس الوقت مع أن العمل الإنساني الذي بذل فيه إنما هو عمل واحد.
بل قيمة الشيء غالباً تخضع لنظام (العرض والطلب) .
كما أن القانون الذي قرروا أن يكون لكل حسب حاجته ومن كل حسب طاقته، هو قانون خيالي، لأن حاجات الناس متفاوتة كتفاوت طبائعهم، أي أن هذا العامل قد يكفيه قليل من الخبز والادام لتوليد طاقة العمل في بنيته، وقد يزامله عامل آخر في نفس العمل ولا يكفيه ضعفه من الخبز والادام لتوليد طاقة العمل لديه، كما أن بعض العمال قد يستطيع مباشرة عمله في الشتاء بلباس خفيف ولا يستطيع زميله في العمل أن يباشر إلا بلباس ثقيل قد يكلفه ضعف ما يحتاجه زميله السابق.
ومما يبين فساد هذه النظرية ومجافاتها لنظام الطبيعة والفطرة هو: عجز الشعوب التي سقطت في براثن دعاة الشيوعية عن تطبيقها، كما أنهم صاروا المثل الأسوأ في ظلم الطبقة الكادحة من الفلاحين والعمال.
فقد صار العامل في روسيا - مثلاً - يطلب منه أن يقدم أقصى ما يستطيع تقديمه من طاقة في مدة معينة، ثم تبيع الحكومة مجهود هذا العامل بأكثر مما كلفته حاجته التي فرضت أنها مساوية لمجهوده.
فمجهود العامل الذي يساوي ألف ريال كان ينبغي أن يحصل في نظيره على قدر حاجته التي يرى نفسه محتاجة إليها وقد تصل إلى ألف ريال مثلاً.
.. غير أن الحكومة هي التي حددت حاجته بنفسها دون أن يحددها المحتاج نفسه، فقد قدرت له –مثلاً- ستمائة ريال فسرقت منه إذا أربعمائة ريال.(3/320)
وبهذا يكون هؤلاء الماركسيون قد وقعوا في انحس مما عابوه على أصحاب رؤوس الأموال. على أن الدعوة للقضاء على رأس المال قد فشلت عند التطبيق لدى الشيوعيين فقد اضطرت روسيا –مثلاً- إلى أن تبيح للفلاحين أن يمتلكوا قطعاً صغيرة من الأراضي يستثمرونها لاستهلاكهم بشرط أن لا يعاونهم في استثمارها آخرون، كما نصت على ذلك المادة (السابعة والتاسعة) من الدستور السوفيتي كما أباحت الحكومة للفرد (تملك) أشياء أخرى كالماشية والبغال وإن كانت الحكومة قد فرضت على الملكيات الفردية الصغيرة ضرائب باهظة حتى تتلاشى وتموت.
(3- القضاء على الطبقات) :
ذكرنا في بحث تأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة أن الماركسيين يرون أن السبب الرئيسي لتكوين الطبقات وجود وسائل الإنتاج ومصادر الثروة وأنهم قرروا أن لابد للقضاء على نظام الطبقات من القيام بتأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة وكأنهم بهذا يقررون أن القضاء على (الطبقات) لازمة من لوازم النظام الشيوعي بل هو أشد ضرورة من التأميم. لذلك أذاعوا وأشاعوا أنهم يركبون كل صعب وذلول لتحقيق ذلك الأمر الخطير.
تعريف الطبقة:
الطبقة في نظر أكثر الباحثين هي الفئة من الناس التي تختلف في مركزها الاجتماعي عن باقي الفئات التي تشكل معها مجتمعاً ما.
فالعمال الزراعيون والصناعيون طبقة، وصغار الملاك طبقة، والمتوسطون في الأملاك طبقة، وأصحاب الثراء الواسع والملك العريض والإقطاعيون طبقة، والمهرة العسكريون طبقة، والأمراء والنبلاء طبقة، ورجال الدين طبقة.
وقد يصير الإنسان في طبقة من هذه الطبقات بسبب النسب كما قد يصير إليها بسبب العلم، ولا مانع أن ينتقل الإنسان من طبقة إلى طبقة أسفل، على حد قول القائل:
وعرفته الكر والإحجاما
نفس عصام سودت عصاما
وصيرته بطلاً مقداما
وقول القائل:
أبوك أب حر وأمك حرة
وقد يلد الحران غير نجيب(3/321)
وهذا التعريف (للطبقة) لا يمنع وجود تعاون بين طبقة وأخرى إذ هذا التفاوت الطبقي ضرورة من ضرورات العمران وسبب وجوده تفاوت الفطر. ولذلك يقال (الإنسان مدني بالطبع) قرر الله تعالى في القرآن الكريم هذه الحقيقة إذ يقول:
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
تعريف الطبقة عند ماركس:
أما كارل ماركس فقد عرف الطبقة: "أنها الطائفة التي تكون لها مصالح معارضة لمصالح طبقة آخرى"وعلى هذا التعريف لا بد ن فرض الشقاق والنزاع ودوام الصراع بين عموم الطبقات ولذلك زعم الماركسيون أنه من الضروري القضاء على نظام الطبقات وإيجاد مجتمع ديمقراطي على مستوى واحد تنعدم فيه جميع الفورق الطبقية على أية حال. وقد سعى الشيوعيون جهدهم وبذلوا كل ما يمكن بذله لتحقيق هذه الغاية فهل انعدم من المجتمع الشيوعي نظام الطبقات؟!
وجود الطبقات في المجتمع الشيوعي:(3/322)
والواقع أن المجتمع الشيوعي يتمثل فيه ما يتمثل في غيره من الطبقات فلا يزال في روسيا – مثلا – طبقة العمال والفلاحين، وطبقة القادة العسكريين، وطبقة رجال البوليس السري، والمخابرات، وطبقة العلماء والرجال الأكاديمين، وطبقة المهندسين، وطبقة الفنانين والرقاصين، وطبقة زعماء الحزب الشيوعي. وقد وجدت هذه الطبقات في المجتمع الشيوعي بحسب تفاوت الدخل الذي قدرته الحكومة لهؤلاء حسب ميزان الاحتياج الذي صنعوه. فقد جعل المعدل الوسط لحاجة العمال والفلاحين ما بين 600 – 700 روبل، كما جعل المعدل الوسط للفنانين والرقاصين يتراوح ما بين 1400 إلى 2000 روبل. وجعل المعدل الوسط للقادة العسكريين والعلماء والمهندسين يتراوح بين4000 إلى 7000 روبل. وقد عمدت الحكومة بعد الحرب العالمية الثانية إلى بناء منازل لأعضاء الأكاديمية ومنحت كل واحد منهم سيارة وسائقا خاصا، وبهذا تكون الشيوعية الرسمية قد أو جدت نظاما طبقيا انحس مما عند غيرهم من نظام الطبقات، ولا شك أن محاربة أساس النظام الطبقي ما هو إلا الوقوف في وجه الطبيعة التي طبع الله الناس عليها، وحرب للفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وقد سجلت حوادث التاريخ أن محارب الفطرة مدحور والمتصدي لقهر الطبيعة مقهور.
ولسنا بهذا نقرر ترفع وتعالي طبقة على طبقة، أو بغي فئة على فئة، فنحن لا نري فضل الرجل بماله، ولا نرى فضله بوظيفية، ولا نرى فضله بنسبه، وإنما الفضل عندنا بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والمرء في الواقع بأصغريه قلبه ولسانه.
(5 – القضاء على الحكومة)
الدعامة الخامسة من دعائم النظام الشيوعي هي القضاء على الحكومة والدولة. والشيوعيون يعتبرون أن القضاء على الحكومة هو النهاية الحتمية للنظام الشيوعي وفي ذلك يقول ماركس:(3/323)
-"...... وبعد أن تزول المنازعات بين الطبقات زوالا نهائيا خلال التطور وبعد أن يتركز الإنتاج كله في أيدي الأفراد المتشاركين عندئذ تفقد السلطة العامة طابعها السياسي"ثم يقول أيضا:
-"..... والدولة هي سلطة الطبقة المنظمة تزول بزوال الطبقة وعندئذ يكون عهد الشيوعية بكل ما تعني الكلمة". وكأن ماركس يقول إن وجود الحكومة مهما كانت من العوامل التي تقيد الشعب وتحول دون صبغته بكامل حريته فلا بد من زوال الحكومة لينطلق الشعب في طريق حريته إلى أقصى الحدود. وكأن ماركس يرى أن حقيقة الشيوعية لا يمكن أن تتكامل ما دام على رأس الشعب حكومة تدبره وفي ذلك يقول:
-".... الشيوعية هي عهد تسوده الحرية وعصر يزدهر فيه الإنسان أكمل ازدهار فهو يحتم مع زوال الطبقات زوال الحكومة".
ونحن لا نستطيع أن نجزم هل كان ماركس جادا فيما يقول حينما يقرر هذه الحقيقة على أنها من دعائم النظام الشيوعي؟ وهل كان ماركس متمتعا بقواه العقلية حينما يخرج على الناس بمثل هذه النظرية التي لم يعرفها التاريخ البشرى في مجتمع ما من المجتمعات المتمدنة والهمجية على حد سواء؟ وحتى لو فرض وجودها في مجتمع بدائي همجي فهل يجيز العقل وجود مثلها في مجتمع ذي حاجات متفاوتة بل وإلحاح في طلب الكماليات. وهل ظن ماركس أن فطر الناس المتباينة وطبائعهم المتنازعة سيئول بها الحال إلى الزوال فيعيش الناس في الأرض يأكلون من نباتاتها المختلفة ولحوم حيواناتها المتغايرة الطبائع، ثم يصيرون في نفس الوقت كملائكة السماء؟!(3/324)
ولا نذهب بعيدا لنراجع نحن أو غيرنا في ذلك حوادث التاريخ وإنما نلقي نظرة عابرة على واقع الحكومة في (المجتمع الشيوعي) فالمعروف الذي لا يشك فيه من عنده أدنى إطلاع أن الحكومة في بلاد الشيوعيين ومن ينحو نحوها تسير في طريق (الدكتاتورية) إلى حد لا نظير له في المجتمعات الأخرى: فمن مقررات ستالين: "أن تقرير المصير لأي فرد أو أمة أو جماعة يجب ألا يتضارب مع حق الحزب الذي يمثل الجماهير الكادحة في أن يحكم حكما دكتاتوريا".
بين الشيوعية والاشتراكية
يستعمل الكثيرون الشيوعية والاشتراكية على معنى واحد غير أن بعض الناس يفرق بين الاشتراكية والشيوعية في الجملة من وجوه:
1- أن الاشتراكية هي الخطوة الأولى للشيوعية.
2- أن الاشتراكية لا تمانع في قيام حكومة من طبقة العمال والفلاحين بخلاف الشيوعية الحقيقية فإنها لا تجيز أي نوع من الحكومات.
3- أن الشيوعية لا تبيح أي نوع من الملكيات بخلاف الاشتراكية فإنها تجيز وجود بعض الملكيات الفردية في حدود ضيقة وعلى قواعد تؤدي في النهاية إلى تلاشي هذه الملكيات.
الإسلام والاشتراكية
هذا ولم يزعم زاعم – مهما كان أن الإسلام والشيوعية قد يلتقيان، فلم نسمع إلى الآن صوتا واحدا يقول (أن الإسلام لا يتنافى مع الشيوعية) إذا أصل الشيوعية هو إنكار الألوهية والدين وإنما سمعنا أن بعض الناس – قد يكونون من المنتسبين للإسلام أو للعلم – يزعمون أن الإسلام لا يتنافى مع الاشتراكية وقد يتعامون عن أن الاشتراكية مذهب، خاص ذاتية هذا المذهب تخلف ذاتية الإسلام في روحه وصورته، كما يتجاهلون أن الإسلام دين الله الحق قد أتى بجميع ما يسعد الناس في معاشهم ومعادهم.(3/325)
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك بابا من أبواب الخير إلا دل الناس علية ولا بابا من أبواب الشر إلا حذر الناس عنه بيد أنهم يقولون: أن بعض نصوص القرآن كقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} . وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاثة في الماء، والنار، والكلأ". تدل على صحة المذهب الاشتراكي وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على جهل هؤلاء بحقيقة الإسلام عموما، وبمعنى هذه الآية وذلك الحديث خصوصا فالآية نزلت تشرح مصرف الفيء, وهو نوع خاص له طابع خاص من بين الأموال الإسلامية. وأما الحديث فقد بين موضع الشركة وهو الماء، النار، والكلأ, ولفظ الحديث يدل مفهومه على أن ما عدا هذه الأشياء الثلاثة من الأشياء التي يمكن أن يتملكها الإنسان لا اشتراك فيها, ولو سلمنا جدلا أنه قد يفهم من هذه الأدلة الدلالة على صحة المذهب الاشتراكي – وإن كانت لا تدل بظاهر ألفاظها على ذلك كما أشرنا – فإن صريح الكتاب وصحيح السنة يدل بما لا مجال للشك فيه على حفظ ممتلكات الناس وأموالهم فيستمعوا إلى قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وإلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا", ثم يؤكد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فيقول: "اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد".
ولا يختلف اثنان من أهل العلم في صحة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "من غضب شبرا من أرض طوقه الله بسبع أرضين يوم القيامة" فهذا هو دين الإسلام. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .(3/326)
موصفات خيالية
جاء رجل إلى نخاس فقال له: "اطلب لي حمارا ليس بالصغير المحتقر ولا بالكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفق، وان كثر الزحام ترفق، لا صادم السراري ولا يدخلني تحت السواري، إن أقللت علفه صبر، وإن زدته شكر، وان ركبته استقام، وان ركبه غيري هام". فقال له النخاس: "إصبر فان مسخ الله أحدهم حمارا شريته لك".(3/327)
بين الحياة والموت
للشيح محمد المجذوب
رباه.. حار الطبيب
وانهار صبري العجيب [1]
ومل وقع أنيني
حتى الفراش الكئيب
إذا تشكيت كرباً
ثارت هناك كروب
وهل يطيق قراراً
من احتواه اللهيب!
فمعدتي في التهاب
أكاد فيه أذوب
وفي الجوانح هول
منه الوليد يشيب
يزلزل الظن منه
وتستغيث الجنوب
وكلها في عراك
حصاده التعذيب
والقلب من ذا وهذا
في محنة لا تغيب
ولست أدري ولا الطب
ما العلاج المصيب
لكنني رغم ضري
راضٍ فلا أستريب
عسى يخفف فيه
من عاتقي الذنوب
تحب فهو الزبيب
والضرب إن جاء ممن
يا علةً لم تذرني
مذ ذر هذا المشيب
كم زاغ عنها خبير
وضل فيها لبيب
فخاب كل علاج
لأنهم لم يصيبوا
حتى أطل (ابن مُلا)
فاستعلن المحجوب
قال: المرارة فيها
حجارة وندوب
وبالجراحة يرجى
لك الشفاء القريب
وكل جهد سواها
فضائع أو جديب
وصدق الرسم ما قد
جلاه ذاك الأريب
فحبذا مبضع فيه
غوثي المطلوب
وهاك جسمي فأعمل
به المُدى يا طبيب
فإن توفق فهذا
ما تشتهيه القلوب
وإن قضى الله أمراً
فليس منه هروب
وساعة ثم يأتي
ما خبأته الغيوب
يسار بي نصف ميتٍ
حيث المصير الرهيب
فليت شعري حياة
وراءها أم (شعوب)
وما يقدره ربي
فهو الأثير الحبيب
ومن رجا رحمة الله
مخلصاً لا يخيب
فيا ملاذ البرايا(3/328)
إذا الرزايا تنوب
إليك أسلمت أمري
وقد برتني الخطوب
ورق لي ورثى لي
حتى الخلى المريب
وقال كل محب
هنيهة ويذوب
فارأف بمن بات إلا
لقاك لا يستطيب
واغفر فإن الخطايا
ضاقت بهن الدروب
فإن يكن غير أهل
لعفوك (المجذوب)
فبحر فضلك وردٌ
لكل جانٍ يثوب
وهو الذي غمر الكون
فيضه المسكوب
لو لاه ما كان للخلق
في الوجود نصيب
ولم تقدر لحي
على التراب دبيب
فكيف يحرم منه
هذا الكسير الغريب
ألم تقل (يا عبادي
ادعوني فإني قريب!)
وقد دعوتك يا رب
والبلاء عصيب
فإن تخيب رجائي
فأين أين المجيب!
أركان الداعية
إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال تحتاج إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور:
إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدوا عليه تلون، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع أو بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والخديعة عنه والخديعة بغيرة.
الشهيد حسن البنا
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كان الشيخ الشاعر قد أدخل المستشفى العام بالمدينة محمولا وبعد أن أجرى الطبيب فحوصاته عليه قرر وجوب إجراء عمليه في أسرع وقت.. وفي الدقائق التي سبقت إدخاله غرفة العمليات جادت قريحته بهذه الأبيات الرائعة.(3/329)
من تاريخ المذاهب الهدامة
كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (4)
بقلم محمد بن مالك اليماني
باب ذكر علي بن فاضل بن أحمد الجدني لعنه الله:
كان من خبره أنه لما افترق هو والمنصور بغلافقة وخرج إلى اليمن أيضاً وفيها جعفر بن إبراهيم المناخي وخرج إلى جعفر من (أبين وفيها رجل من الأصابح يقال له محمد بن أبي العلاء فخرج القرمطي إلى جيشان ثم خرج إلى (سرويافع) فتفرسهم فعلم أنهم أسرع الناس إلى إجابته فطلع رأس جبل وبنى فيه مسجداً وأخذ بالنسك والعبادة، فكان نهاره صائماً وليله قائماً، فأنسوا إليه وأحبوه وافتتنوا به، ثم إنهم قلدوه أمرهم وجعلوا حكمهم إليه فسألوه أن ينزل من ذلك الجبل ويسكن بينهم. فقال: "لا أفعل هذا ولست أسكن بين قوم جهال ضلال إلا أن يعطوني العهود والمواثيق أن لا يشربوا الخمر"ففعلوا له ذلك وإنهم ينكرون المنكر وينكرون أهل المعاصي بأجمعهم فلم يزل يخدعهم بعبادته حتى بلغ إرادته وأمرهم ببناء حصن في ناحية (سرويافع) فأطاعوه وسمعوا لأمره ثم إنه انهبهم أطراف بلدان ابن أبي العلاء وأراهم أن ذلك جهاد لأهل المعاصي حتى يدخلوا في دين الله طوعاً أو كرهاً، وأمرهم أن يتخطفوا بلاد ابن أبي العلاء فاشتد بأسهم فكانوا لا يلقون جمعاً إلا هزموا وظفروا عليهم وذلك لما سبق من علم الله من فتنة المسلمين على يديه لعنه الله، فلما شاع ذكره وسمع به جعفر ابن إبراهيم كاتبه وفرح به وذلك لشحناء بينه وبين ابن أبي العلاء لقرب القرمطي إليه فكاتبه جعفر على مطابقته على حرب ابن أبي العلاء ووجه من عنده عسكراً إلى القرمطي وتعاقدا أن يكون جميع ما يفتح من بلدان ابن أبي العلاء بينهما نصفين، فخرج القرمطي لحرب ابن أبي العلاء بقبائل يافع وعسكر جعفر فهزمهم ابن أبي العلاء وقتل منهم قتلا كثيرا وانهزم القرمطي إلى (سبأ صهيب) فلما كان الليل جمع أصحابه وقال لهم: "إني أرى رأياً(3/330)
صائباً أن القوم قد أمنوا منا وقد علمتم ما فعلوه بنا وأرى أن نهجم عليهم فإنا نظفر بهم فأجابوه إلى ذلك وهجم عليهم إلى (حنفر) فقتل ابن أبي علاء وعسكره واستباح ما كان له, وأخذ من خزائنه تسعين ملحماً في كل واحد عشرة آلاف، فلما رجع إلى بلاد يافع عظم شأنه وشاع ذكره وأجابه قبائل مذحج بأسرها وزبيد ومالا يحصى عدده، فلما بلغ ذلك جعفر أغتم غماً شديداً وسفر إليه ينظر ما عنده فسأله أن يقسم ما أخذ من (حنفر) فجمع القرمطي القبائل والعساكر ولقي السفير في أعظم زي من العدة والعدد، فلما عرفه السفير بما جاء به جمع العساكر وقال: "إن جعفر أرسل إلي لما بيني وبينه من العهد بقسمة ما غنمت وقد أحضرتكم شهوداً على تسليمه إليه لأني لا رغبه لي في المال إنما قمت لنصرة الإسلام" فشكروه على ذلك، ثم احضر المال فقسمه شطرين وسلم إلى السفير وقال::انصرف إلى صاحبك ليلتك وقل له: يستعد لحربي"وكتب معه كتاباً إليه يذكره فيه أنه بلغني ما أنت عليه من ظلم المسلمين وأخذ أموال الناس "آنا قمت لأميت المظالم وأرد الحق إلى أهله، فإن أردت تمام ما بيني وبينك فرد الظلامات إلى أهلها وأدفع لأهل دلال دية ما قطعت من أيديهم". وذلك أن جعفرا قطع أيدي ثلاثمائة رجل من أهل دلال على حجر بالمذيخرة [1] يقال أن أثر الدم على الحجر إلى اليوم، فلما كان العام المقبل خرج القرمطي بالجمع الكثير فدخل المعافر فأمر جعفر بلزوم نقيل بردان عند التعكر [2] وخرج في لقائه أكثر من ألف فارس فانهزم القرمطي مولياً إلى بلاد يافع فجمع جموعاً كثيرة ورجع لهزم جموع جعفر إلى المذيخرة فتتبعه جعفر بصاحب تهامة فأنجده بغسكر عظيم فطلع حتى صار في موضع يقال له الراهدة بناحية (عبهة) فلما سمع به القرمطي خرج إليه في جنح الليل فظفر به وقتل جعفراً في الحوالة بنحلة.(3/331)
قال محمد بن مالك الحمادي رحمه الله تعالى: وكان هذا جعفر بن إبراهيم ظلوماً غشوماً سفاكاً للدماء وأنه قال في شعر له طويل قدر مائتي بيت في حرب كانت بينه وبين جعفر الحوالي في شيء من شعره:
إذا ما تجعظروا بطشنا بقدرة
ونفعل ما شئنا وما نتجعظر
فما قبلنا ولا بعد بعدنا
لمفتخر فخراً إذا عد مفخر
سوى الطيبين الطاهرين الذين هم
من الرجس والعاهات والسوء طهر
سلالة إسماعيل ذي الوعد والوفا
ودعوة إبراهيم والبيت يعمر
محمد الهادي النبي وصنوه
على وسبطاه شبيرو [3] شير
ونسلهم الهادين بالحق والتقى
بطاعتهم رب السماوات يأمر
ومولاتي الزهراء التي عدل مريم
وصهر الرسول مولاي حيدر
رويدك عني بالملامة أنني
بها وبهم أزهو وأعلوا وأفخر
الأكل مجد ما خلا مجد أحمد
وعترته من دون مجدي يقصر
وكل امرء والى سوى آل أحمد
فذاك الذي الدنيا مع الدين يخسر
بهم زادني الرحمن عزا ومفخراً
فأحمده حمداً كثيراً وأشكر
أنا ابن أبى إسحاق منصور حمير
وفارسها والشعشعان المظفر
فلولاي لم يخلق سرير ممهد
ولولاي لم ينصب على الأرض منبر
أنا قمر الدنيا وعمي سراجها
وجدي الذي كانت الأرض تعمر
هم أنزلوني منزل العز حيث لا
يراني إلا دوني الطرف يحسر
أصول ولا يعدي علي واعتدي
وأخمد نيران الحروب وأسعر
وطعمي للأعداء مر وعلقم
وطعمي لأهل السلم شرب معنبر
ألم تر أن البغي مهلك أهله
وأن الذي يبغى عليه سينصر
رجع الحديث إلى علي بن فضل القرمطي لعنه الله أنه لما قتل جعفراً أظهر كفره وادعى النبوة وأحل البنات والأخوات وفي ذلك يقول الشاعر على منبر الجامع في الجند:
خذي الدف يا هذه والعبي [4]
وغني هزاريك ثم أطربي
تولي نبي بني هاشم
وهذا نبي بني يعرب
لكل نبي مضى شرعه(3/332)
وهذي شرائع هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة
وحط صيام ولم يتعبض
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
وإن صوموا فكلي وأشربي
ولا تمنعي نفسك المعرسين
من أقربي ومن أجنبي
فكيف تحلي لهذا الغريب
وصرت محرمة للاب
أليس الغراس لمن ربه
وسقاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء
حلال فقد ست من مذهب
والشعر طويل وكله تحليل محرمات الشريعة والاستهانة بها ثم خرج يريد الحوالي وخرج قبل ذلك إلى بلاد (يحصب) [5] فدخل (منكث) [6] فأحرقها ثم خرج يريد الحوالي صاحب صنعاء فلما بلغ بلد (عنس) وكان للحوالي مأمور في هران [7] فأرسل إليه القرمطي يدخل فيها هم عليه فأجابه إلى ذلك فنزل إليه ودخل في ملته وقرمطته وكان معه خمسمائة فارس رجع منهم إلى صنعاء إلى الحوالي مائة وخمسون وخرج القرمطي يريد صنعاء فلما سمع به الحوالي وبالجموع التي معه وعلم أنه لا طاقة له به خرج من صنعاء هارباً إلى الجوف فدخل القرمطي صنعاء فأقام فيها الفحشاء وأمر الناس بحلق رؤوسهم ثم التقى هو وصاحب مسور الحسن بن منصور ويقول إنما أنا سيف من أسيافك والمنصور يهابه ويخافه على نفسه لما يرى من شهامته وإقدامه فعزم على الخروج إلى مخالف (البياض) فنهاه المنصور وقال له قد ملكنا اليمن بأسره ولم يبقى إلا الأقل فعليك بالتأني والوقوف في صنعاء سنة وأنا في (شبام) فيصلح واحد ما استفتح ثم بعد ذلك يكون لنا نظرة فإنك إن خرجت من صنعاء خالف أهلها وفسد علينا ما ملكناه فلم يقبل منه وقال لابد من الخروج واستفتح تهامة فخرج إلى مخاليف البياض وهي بلاد وعرة فلما توسط بينهم ومعه قدر ثلاثين ألفاً أحاطوا وقطعوا عليه الطرق ولم يقدر على التخلص فلما سمع المنصور خاف عليه وأغار إليه واستنقذه فرجع إلى شبام وعاد إلى صنعاء وخرج إلى جبال حضور ثم إلى احراز ثم إلى ملحان ونزل المهجم وقتل صاحبها هو إبراهيم(3/333)
بن علي رجل من عك [8] واستفتح الكدرى [9] ورجع إلى ملحان [10] وسرى بالليل إلى الزبيد وفيها المظفر بن حاج ومعه ستمائة فارس وهجم عليهم في أربعين ألفاً فاحاط بعسكره فقتل المظفر بن الحاج وكان المنصور مأموراً لصاحب بغداد وسبى القرمطي من زبيد أربعة آلاف عذراء ثم خرج منها إلى الملاحيط وأمر صائحه وعسكره يا جند الله يا جند الله فلما اجتمعوا إليه قال قد علمتم أنا مجاهدون وقد أخذتم من نساء الخصيب ما قد علمتم من نساء الحصيب تفتن الرجال فيشغلنكم عن الجهاد فليذبح كل رجل منكم ما في يده فسميت الملاحيط والمشاحيط لذلك قم رجع إلى المذيخرة دار مملكته وأمر بقطع الحج وقال: حجوا إلى الحرف واعتمروا إلى الثاني موضعان معروفان هنالك.
فلما أصبحت اليمن بيده وقتل الأضداد مثل المناخي وجعفر بن الكرندي والرؤساء وطرد بني (زياد) وكانوا رؤساء مخلاف جعفر ولم يبق له ضد يناوئه عطل المنصور وخلع عبيد بن الميمون الذي كان يدعوا إليه فيكتب إليه المنصور يعاتبه ويذكره ما كان من إحسان القداح وقيامه بأمرهما وما أخذ عليهما من العهد لأبنه فلم يلتفت إلى قوله وكتب إليه إنما هذه الدنيا شأن من ظفر بها افترسها ولى بأبي سعيد الجنابي أسوة لأنه خلع ميموناً وابنه ودعا إلى نفسه وأنا ادعوا إلى نفسي فما نزلت على حكمي ودخلت في طاعتي وإلا خرجت إليك وقد كان [11] سعيد الجنابي دخل مكة في ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة وقتل فيها ثلاثة عشر ألفاً وقطع الركن يوم النحر وهو القائل لعنه الله:
فلو كان هذا البيت لله ربنا
لصب علينا النار من فوقنا صبا
لأنا حججنا حجة جاهلية
مجللة لم تبق شرقاً ولا غربا
وأنا تركنا بين زمزم والصفا
كتائب لا تنبغي سوى ربها ربا
ولكن رب العرش جل جلاله
لم يتخذ بيتاً ولم يتخذ حجبا(3/334)
في شعر طويل [12] وقد كان الخليفة ببغداد كتب إليه يذكر له ما فعل ويتوعده على ما استحل فأجابه أبو سعيد [13] القرمطي:
(بسم الله الرحمن الرحيم والحمد الله رب العالمين والعاقبة للمتقين، من أبي الحسن الجنابي الداعي إلى تقوى الله القائم بأمر الله والآخذ بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قائد الإرجاس المسمى بولد العباس.
أما بعد عرفك الله مراشد الأمور وجنبك التمسك بحبل الغرور_ فأنه وصل كتابك بوعيد وتهديدك وذكرك ما وضعته من نظم كلامك ونمت به من فخامة أعظامك من التعلق بالأباطيل والإصغاء إلى فحش الأقاويل_ من الذين يصدون عن السبيل فبشرهم بعذاب أليم على حين زوال دولتك ونفاذ منتهى طلبتك وتمكن أولياء الله من رقبتك وهجومهم على معاقل أوطانك صغراً وسبيهم حرمك قسراً وقتل مجموعتك صبر أولئك حزب الله إلا أن حزب الله هم المفلحون وجند الله هم الغالبون هذا قد خرج عليك الإمام المنتظر كالأسد الغضنفر في سرابيل الظفر متقلداً سيف الغضب مستغنياً عن نصر العرب لا يأخذه في الله لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم قد اكتنفه العز من حواليه وسارت الهيبة بين يديه وضربت الدولة عليه سرادقا والقت عليه قناعها بوائقها وانقشعت طخاء الظلمة ودجنة الضلالة وغاضت بحار الجهالة ليحق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون.
قال محمد بن مالك الحمادي رحمه الله تعالى يرجع الحديث إلى قصة صاحب مسور وعلي بن فضيل لعنهما الله تعال.(3/335)
وذلك ان صاحب مسور لما علم ان على بن فضل غير تاركه لما ذكر في كتابه عمد الى جبل مسور فحصنه واعد فيه جميع ما يحتاج اليه للحصار وقال لاصحابه انى لأخاف هذا الطاغيه ولقد تبين لي في وجهه الشر حيث واجهته في (شبام) فلم يلبث علي بن فضل أن خرج لحرب المنصور واختار لحربة عشرة آلاف مقاتل من يافع ومذ حج وزبيد وعنس وقبائل العرب فدخل قرية (شبام) وخرج المنصور بلقائه ألف مقاتل إلى موضع يقال له المصانع من بلد حمير فضبطوا ذلك الجبل فزحف اليهم فقتتلوا من اول النهار إلى الليل فخرج علي بن فضل على طريق العصد ودخل (لاعة) مصعد إلىجبل الجميمة مقاتلا للمنصور فضرب فيها مضاربه ورجع إلى أصحاب حضور المصانع [14] فلزموا بيت ربيته وضبطوا الجبل فأقسم الا يبرح حتي يستنزل المنصور فحاصرة ثمانيه اشهر وقيل أن المنصور حمل من سوق طمام خمسمئة حمل ملح قبل وصول علي بن فضل وعق له في الجبل عقا واسع في موضع كثير التراب واوقدوا فوقه الحطب اياما حتي استملح الجبل فصار ملحا كله ثم نقله إلى الخزائن ثم إن علي إبن فضل مل المقام فلما علم منه المنصور ذلك دس عليه أمر الصلح فقال لست ابرح وقد علم اهل اليمن قصدي لمحاصرته الا ان يرسل إلى بعض ولدة فيكون ذلك لي مخرجا عند الناس ويعلمون انه قد دخل في طاعتي فأرسل اليه ولدة ودفعه بالتي هي احسن فرجع إلى (مذيخرة) فأقام عنده ولد المنصور سنه ثم ردة إلي ابيه وبرة وطوقه بطوق من الذهب ثم اقام بمذيخرة يحل الحرمات وير تكب الفواحش وامر الناس باستحلال البنات والاخوات وكان يجمع اهل مذهبه في دار واسعه يجمع فيها الرجال والنساء بالليل ويأمر بإطفاء السرج وأخذ كل واحد من وقعت يده عليه وروى أن عجوزاً محدوبة الظهر وقعت مع رجل منهم فلما تبين بها خلاها فتعلقت بثيابه وقالت (دوبد من ذى الحكم الأمي ر [15] ) فجرت مثلاً.
ويقال إن أيامه لعنه الله كانت سبع عشر سنة ومات مسموماً سنة ثلاثة وثلاثمائة.(3/336)
وكان سبب موته لعنه الله أن رجلاً من أهل بغداد يقال أنه شريف وصل إلى الأمير أسعد بن أبي [16] يعفر الحوالي وكان في ذلك الوقت هارباً من القرمطي في الجوف من بلد همدان مستجيراً ببني الدعام وأن ذلك البغدادي وهب نفسه لله وللإسلام وقال الأمير تعاهدني وأعاهدك أني ‘ذا قتلت القرمطي كنت معك شريكاً فيما يصل إليك فعاهده على ذلك وكان طبيباً حاذقاً فخرج فكان مع كبار أهل دولة القرمطي يفتح لهم العروق ويسقيهم الدواء ويعطيهم المعجونات حتى وصفوه للقرمطي بالحذق بالطب وفتح العروق وقالوا أن مثلك لا يستغني أن يكون في حضرة مثلة ثم إنه احتاج إلى إخراج الدم فأمره أن يفصده فعمد إلى السم فجعله على شعر رأسه فدخل على القرمطي فسلم عليه فأمره أن ينزع ثيابه ويلبس غيرها ثم أخرج المبضع ثم مصه وعلي بن فضل ينظر إليه ثم مسحه برأسه فتعلق به من السم حاجته ثم فصده وخرج من ساعته فركب دابته وخرج هارباً فلما أحس عدو الله بالموت أمر بقتل الطبيب فلم يوجد فلحقوا به دون (نقيل صيد) [17] بازاء قينان [18] فقتلوه هناك رحمه الله تعالى ومات القرمطي لا رحمه الله.
وولى الأمر من بعده ولده فأفأ وشاع موته في الناس ووصل إلى الحوالي جماعة من رؤساء الناس بنو المحابي والأنبوع وغيرهم فزحف بالعسكر الغليظ لحرب القرامطة فدخل الدعكر [19] ثم تقدم إلى جبل التومار فحاصر القرامطة فدخل الدعكر ثم تقدم إلى جبل التومار فحاصر القرامطة وسلط الله سبحانه وتعالى عليهم سيف النقمة لا يخرج لهم جمع إلا هزموا أو قتلوا وأيد أسبحانه وتعالى امسلمين بنصره.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ, وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . فأقام يحاصر القرامطة سنة ويقال إن من شدة عزمه وحزمه وتقصيه أنه ما حل عدته ولا سلاحه بل يصلي وعليه عدته وسلاحه حتى فتح الله عليه وقتل القرامطة وأحيا الإسلام.(3/337)
ليس كولاة الأمر من أهل زماننا الذين غرقوا في الملذات واتبعوا الشهوات ولم يرغبوا في المكارم والنجدات وعظوا فلم يتعظوا وناموا فلم يستيقظوا ونظروا ما حل بغيرهم فلم يعتبروا. وقد قيل في المثل السائر:
أوشكت بعد أخيك تصبح أصلعا
وإذا رأيت أخوك يحلق رأسه
ومن عجز عن رعاية رعيته وجار علبيها في حكمه وقضيته، ودل على زوال مملكته وتعجيل منيته، وقد قال الأول:
ونام عنها تولى رعيها الأسد
ومن رعى غنما في أرض مسبعة
وإذا فرط الراعي في أمر رعيته وطاوع نفسه الدنيه، وذهب عنه الآنفة والحمية فقد عظمت عليه البلية. وقال الأفواه الأودي:
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم
فإن تولت فبالأشرار ينقادوا
تهدي الأمور بأهل الرأي ما ضحلت(3/338)
رجع الحديث إلى محاصرة الأمير الحوالي فروي أنه نصب المنجنيقات فهدم الذخيرة بعد سنة ودخل على القرامطة فقتلهم وأخذ من الغنائم مالا يحصى وسبى بنات القرمطي وكن ثلاثا فصار اثنتين في رعين وواحدة وهبها الأمير لابن أخيه قحطان أباد الله القرامطة على يد الأمير الحوالي بمنة وسعادته، وجعل لا يسمع بأحد منهم إلا قتله، ورجع إلى صنعاء وقد أطفأ جمرة الشك وملك جميع البلاد وزالت الفتنة وأراح الله من القرامطة وطهر منهم البلاد وأمن منهم العباد، وسار الأمير في الناس بأحسن سيرة وعدل في الرعية ورد بني المحابي إلى مخلاف جعفر، وجرت المكاتبة بين الأمير الحوالي والأمير إبراهيم بن زياد [20] والناصر أحمد بن يحي الإمام الهادي صاحب صعده [21] وتعاقدوا على المعاضدة والمناصرة وقتل القرامطة حيث ما وجدوا. وذكروا أنه كان يوجد عنوان كنتم بركة في بركه ونعمة مشتركة والأرض فيما بيننا قد حصلت في شبكة وكان الخارج إذا خرج من بلد أحدكم لذنب أذنبة كاتب فيه وسأل الصفح عنه. وصفت لهم المعيشة واستقامت لهم الدولة ولزم كل واحد منهم بلده ولم يطمع واحد على صاحبه. ألف الله بين قلوب المسلمين ولم يبق من القرامطه إلا شرذمة قليلة من أولاد المنصور في ناحية مسور وأبادهم الله تعالى على يد الدعام بن إبراهيم والناصر بن يحيى وأنا أذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المذيخرة: ناحية في قضاء العدين.
[2] التعكر: حصن من أشهر حصون اليمن بجوار مدينة الجند.
[3] هما اسمان لابني هارون عليه السلام، ويقال أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى بهما سبطيه.
[4] في نسخة اليافعي "واضربي".
[5] يحصب: مخلاف كبير من مخالف اليمن يضم كثير من القبائل اليمانية ومنه بلاد (تريم) و (عنس) و (صنعاء) و (همدان) .(3/339)
[6] بليدة في بلاد عنس.
[7] حصن من حصون ذمار في اليمن.
[8] عك: قبيلة في تهامة اليمن.
[9] الكدرى: مدينة قديمة في تهامة اليمن وقد اندثرت.
[10] ملحان: جبل من جبال السراة في اليمن.
[11] هكذا الأصل والصحيح "وقد كان أبو طاهر أخو سعيد".ز.
[12] ومن قوله:
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
أنا بالله وبالله أنا
[13] هكذا في الأصل، وقد سبق أنه قتل سنة 301هـ فالصواب "فأجابه أبوطاهر سليمان بن أبي سعيد".
[14] حضور المصانع: جبل عظيم في اليمن وهو غير جبل شعيب.
[15] وفي نسخة البهاء الجندي مؤرخ اليمن "دوبد من ذي حكم به الأمير"ثم قال: " (دو) بمعنى (لا) في بعض لغات اليمن و (ذي) بمعنى (الذي) "وقال البهاء الجندي: "سألت جمعاً منهم عن جمع النساء مع الرجال هكذا فأنكروه"أهـ لكنه غريب منه أن ينظروا منهم الاعتراف بمثل هذه الشناعة البالغة وهي معروفة في فروعهم إلى اليوم. ز.
[16] هكذا في الأصل، والصواب حذف (أبي) قال الجندي قال الطبيب لأسعد الأمير: "إن أنا عدت تقاسمني ما يصير إليك من الملك" لكنه قتل ولم يعد. ز.
[17] النقيل في لغة اليمن العقبة وهي الأكمة المرتفعة.
[18] بوادي السحول المعروف بقينان وقد زاره الجندي سنة696هـ. ز.
[19] وفي بعض الكتب (التعكر) .ز.
[20] أحد ملوك بني زياد في زبيد.
[21] أحد أئمة الزيدية في اليمن وهو الذي خرج من المدينة المنورة إلى اليمن وسيرته معروفة.(3/340)
التراويح أكثر من ألف عام
بقلم الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
الحلقة الثالثة
إلى حضرات القراء الكرام قدمنا في الحلقات السابقة من هذا البحث التراويح في العهد النبوي وعهد الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم الآن نقدم ما بعد عهدهم إلى نهاية الألف عام: ما جرى على التراويح في المسجد النبوي من زيادة أو نقص ومن صورة أو شكل.
وقد أبدينا الرأي أنه بحث تاريخي فقهي وأنه للجميع وقد التمسنا من كل من يقف على هذا المبحث سابقاً أو لاحقاً أن يتكرم بإبداء ما عنّ له من توجيه ويهدي إلينا ما وقف عليه مما لم نطلع عليه في المراجع التي بين أيدينا أو مما لم يصل إلينا. ولاسيما مع ضيق الوقت وكثرة العمل وضعف الجهد مما يجعلنا نلتمس من الجميع المشاركة في هذا العمل وبالله التوفيق.
المائة الثالثة..
مضت المائة الثانية والتراويح ست وثلاثون وثلاثة وتر فيكون المجموع تسع وثلاثون. وكان هناك من يرى إحدى وأربعين ركعة كما تقدم.
ودخلت المائة الثالثة وكان المظنون أن تظل على ما هي عليه تسع وثلاثون بما فيه الوتر.
ولكننا وجدنا نصاً للترمذي رحمه الله المتوفى في أواخر المائة الثالثة في سنة 279أن التراويح بلغت إحدى وأربعين ركعة بالوتر. فقال: "واختلف أهل العلم في قيام رمضان فرأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر وهو قول أهل المدينة. والعمل على هذا عندهم بالمدينة".
فقوله: "والعمل على هذا عندهم بالمدينة"ظاهر في بقاء هذا العمل أو وجوده بالفعل عند حكاية له.(3/341)
فهل زادت التراويح في المائة الثالثة إلى إحدى وأربعين ركعة أي عمل بأحد الأقوال المتقدمة. أم أنهم اعتبروا التسع والثلاثين تراويح وزادوا لها ثلاثاً فصارت إحدى وأربعين كما تقدم بحث هذه المسألة في أول الكلام على عدد الركعات في زمن عمر بن عبد العزيز وزمن مالك رحمه الله على كل فإن الستة والثلاثون مؤكد وجودها والباقي بين تتمة التسع والثلاثين أو الإحدى والأربعين.
المائة الرابعة والخامسة والسادسة
عادت التراويح في تلك الفترة كلها إلى عشرين ركعة فقط بدلاً من ست وثلاثين كالسابق.
لأن المنطقة كلها أي منطقة الشرق الأوسط بل من مصر والحجاز والعراق قد شهدت اضطراباً شديداً بسبب نزاع العبيديين مع العباسيين.
وقد بدأ حكم العبيديين في مصر سنة 359 تسع وخمسين وثلاثمائة أي في منتصف المائة الرابعة، وظل منبر الحجاز مؤرجحاً بين العباسيين في العراق والفاطميين في مصر حوالي مائتي سنة إلى أن توفي آخر خليفة عبيدي سنة 567 سبع وستون وخمسمائة أي منتصف القرن السادس.
وباستيلاء الفاطميين على الحجاز تغيرت الأوضاع تغيراً شديداً، ولاسيما من جهة الأمن، والسنة وظهور البدع لأنهم لم يكونوا على مذهب أهل المدينة آنذاك.
قال ابن جبير في رحلته وقد وصل المدينة سنة 580 ثمانين وخمسمائة وصور ما شاهده من بدع هؤلاء آنذاك في المدينة، ملخصة من رحلته سنة 179 قال: "وفي يوم الجمعة وهو السابع من محرم سنة 580 شاهدنا من أمور البدع أمراً ينادي له الإسلام يا لله يا للمسلمين، وذلك أن الخطيب وصل للخطبة وصعد منبر النبي صلي الله عليه وسلم وهو ما يذكر على مذهب غير مرضي وكان ضد الشيخ الإمام (العجمي) الذي كان ملازما لصلاة الفريضة في المسجد المكرم فالإمام الراتب على طريقة من الخير والورع لائقة بإمام مثل ذلك الموضع الكريم.(3/342)
فلما أذن المؤذنون قام هذا الخطيب أي الذي قدم للخطبة وهو من الشيعة وقد نفد منه الرانيان السوداوان وقد ركزنا بجانبي المنبر الكريم فقام بينهما فلما فرغ من الخطبة الأولى جلس جلسة خالف فيها جلسة الخطباء المضروب بها المثل في سرعة وابتدر الجمع (مردة) من الخدم يخترقون الصفوف ويتخطون الرقاب كدية (أي شحاذة) على الأعاجم والحاضرين لهذا الخطيب القليل التوفيق، فمنهم من يطرح الثوب النفيس ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير. فيعطيها وقد أعدها لذلك، ومنهم من يخلع عمامته لينبذها.
ومن النساء من تطرح خلخالها إلى يطول الوصف، والخطيب جالس على المنبر يلحظ هؤلاء المستجدين بلحظات يكرها الطمع إلى أن كاد الوقت ينقضي والصلاة تفوت، وقد ضج من له دين واجتمع له من ذلك السحت كوماً عظيماً أمامه.
فلما أرضاه قام وأكمل خطبته وصلى بالناس، وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين، يائسين من فلاح الدنيا متحققين من أشراط الساعة"اهـ بإيجاز.
فمن هذا يظهر لنا الوضع في المسجد النبوي مما يؤكد طروء تغيير الأوضاع العامة في المسجد عما كانت عليه من قبلهم.
وقد أكد ذلك ما قاله ابن فرحون في مخطوط له أثناء حديثه عن المسجد النبوي ما نصه: "ولم يكن لأهل السنة خطيب ولا إمام ولا حاكم منهم"، أي من أهل السنة، ثم قال: "والظاهر أن ذلك منذ أن استولى العبيديون على مصر والحجاز فإن الخطبة بالمدينة كانت باسمهم إلى سنة 662 اثنتين وستين وستمائة أي إلى منتصف القرن السابع حيث تغلب العباسيون على الحجاز وأقيمت الخطبة لهم من ذلك العهد إلى يومنا هذا"اهـ. أي إلى يوم المؤلف.
ثم قال: "وكان أخذ الخطابة من آل سنان سنة 682 أثنين وثمانون وستمائة"اهـ.(3/343)
ويشهد لهذا ما وقع في مكة من وهن علمي, كما جاء في كتاب السيد السباعي في تاريخ مكة ج1 ص 165 في حديثه عن الناحية العلمية في مكة في العهد العباسي الثاني قال: "ثم ما لبث أن توزع أعلام مكة في الأمصار فضعف النشاط العلمي فما وافى القرن الرابع الهجري حتى كانت علامات الضعف قد زادت وضوحاً في البلاد. وكان العالم الإسلامي قد زخر في هذا العهد بالاختلافات الدينية فاشتدت دعوة الخوارج وشاعت أقوال المعتزلة، والمرجئة، وذاعت المذاهب الشيعية على اختلاف أنواعها"، إلى قوله: "أما المذهب الشيعي فقد وجد على خلاف غيره من يناصره في مكة والمدينة وبعض مدن الحجاز في أوقات مختلفة".
ومما يؤيد القول بوجود مناصرين للمذهب الشيعي في مكة والمدينة ما ذكره السيد السباعي في تاريخ مكة أيضاً قوله: "وما لبث الأشراف في مكة على إثر اتصالهم بالفاطميين أن أضافوا إلى الآذان عبارة (حي على خير العمل) وهو تقليد كان يتبعه الفاطميون. وكان ذلك في عام 358أي في المائة الرابعة".
فقد نص على وهن الحالة العلمية، وعلى مناصرة الأشراف للمذهب الشيعي تبعاً للسياسة آنذاك في كل من مكة والمدينة وهو بعد المنطقة عن مقر الحكم العباسي في بغداد. والحكم الفاطمي في مصر. وتنازع الطرفين لمنبر الحرمين رغبة في التأييد لمكانة الحرمين من العالم الإسلامي وأن من استولى عليهما فقد أصبح أحق بالخلافة. ومن وراء ذلك يستدر الحاكمون بمكة والمدينة عطاء كلا الجهتين. وهكذا دواليك ثم قال: "وقد ظل الوهن العلمي على ذلك أي في مكة والمدينة طيلة القرن الرابع والخامس والسادس للهجرة".
فتصوير السباعي لوهن الحالة العلمية وتصوير ابن جبير لحالة الجمعة مما يؤكد حتماً وقوع تغير في صلاة التراويح في المسجد النبوي في تلك الفترة وهي مدة حكم الفاطميين على الحجاز. وقد امتد حكم الفاطميين على العالم الإسلامي إلى سنة 567 وانتهى بموت الخليفة العاضد آخر خلفاء العبيدين.(3/344)
ولكن على أي صورة كان التغيير إلى مذهب الشيعة أنفسهم أصحاب الحكم أم إلى مذهب الشافعي الذي كان سائداً بمكة ثم نقلوه إلى المدينة والجدير بالذكر أن مذهب الشيعة في التراويح هو كما قال الحلي وغيره من أئمتهم ما نصه: "نافلة شهر رمضان، والأشهر في الروايات استحباب ألف ركعة في شهر رمضان زيادة على النوافل المرتبة يصلي في كل ليلة عشرين ركعة ثمان بعد المغرب. واثنتي عشرة ركعة بعد العشاء على الأظهر. وفي كل ليلة من العشر الأواخر ثلاثين على الترتيب المذكور. وفي ليالي الأفراد الثلاث في كل ليلة مائة ركعة زيادة على ما عليه"ولهم تفصيلات في ذلك فمن أرادها فليراجعها في ج1 ص 65 من كتاب الشريعة للحلي. والذي يظهر أن التغيير الذي وقع للتراويح كان على مذهب الشافعي رحمه الله لما جاء في أقوال أبي زرعة عن أبيه ما نصه: "ولما تولى والدي إمامة المسجد النبوي أعاد إليها سنتها أي في التراويح بست وثلاثين ركعة. ولكنه كان يصلي التراويح في أول الليل عشرين ركعة كالمعتاد وستة عشر ركعة بعد منصف الليل مراعاة للخلاف"فقوله: "يصلي التراويح أول الليل عشرين ركعة"يدل على أنه أخذ بمذهب الشافعي بقرينه قوله: "مراعاة للخلاف"وقوله "كالمعتاد"يدل على أنه العدد الذي كان معتاداً من قبله وأبو زرعة من أعيان القرن الثامن وشافعي المذهب.
ومما يدل على أن مذهب الشافعي هو الذي كان مقدماً في مكة والمدينة في عهد الفاطميين ما نقله ابن جبير عن صورة الختم في رمضان في التراويح بمكة في القرن السادس. وكان الحكم بها للفاطميين كما أفاده قوله ما ملخصه: "أن هلال شهر رمضان استهل ليلة الاثنين التاسع عشر من ديسمبر وصيام أهل مكة ليوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أوصى الأمير بذلك ووقع الإيذان بالصوم ليلة الأحد المذكور لموافقة مذهبه ومذهب شيعته العلويين ومن والاهم". لأنهم يرون صيام يوم الشك فرضاً حسبما يذكره.(3/345)
ثم قال: "وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقاً فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إماماً لها في ناحية من نواحي المسجد، والحنبلية كذلك، والحنفية كذلك والزيدية ... "الخ اهـ.
وقد بين أن صلاة أهل مكة كلهم عشرون ركعة فقط حيث قال: "والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهاد وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات ويدخل في الطواف مع الجماعة". وذكر طوافهم وعودتهم إلى أن قال: "هكذا إلى أن يفرغوا من عشر تسليمات فيكمل لهم عشرون ركعة ثم يصلون الشفع والوتر وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئاً". اهـ.
فظهر بذلك كله أن التراويح في تلك الفترة وهي فترة حكم العبيديين عادت إلى عشرين ركعة عملاً بمذهب الشافعي إلى أن أعادها أبو زرعة مع تغيير في صورة الأداء كما سيأتي إن شاء الله في المائة الثامنة.
المائة الثامنة
عادت التراويح فيها إلى ست وثلاثين ركعة ولكن مع اختلاف في الأداء وهذا ما يفهم مما وجد في كتاب (طرح التثريب في شرح التقريب) للإمام زين الدين أبي الفضل والد الحافظ ولي الدين أبى زرعة العراقي المولود في عام 725 خمس وعشرين وسبعمائة، والمتوفى ولده عام818 ثمانية عشر وثمانمائة أي أنهما عمّرا ما بين أوائل المائة الثامنة إلى أوائل المائة التاسعة.
ساق أبو زرعة على حديث صلاته ذات ليلة في المسجد في رمضان فصلى بصلاته أناس..الخ فذكر الشرح وما يتعلق بفقه الحديث ثم تعرض لذكر عدد الركعات في التراويح والخلاف فيها، ومناقشة كلام الناس في الزيادة على العشرين ركعة وأنها سنة أهل المدينة، ثم قال وهو محل الشاهد:(3/346)
"ولما ولى والدي رحمه الله إمامة المسجد النبوي أحيا سنتهم القديمة في ذلك مع مراعاة ما عليه الأكثر فكان يصلي التراويح أول الليل بعشرين ركعة على المعتاد. ثم يقوم آخر الليل في المسجد بست عشرة ركعة فيختم في الجماعة في شهر رمضان ختمتين واستمر على ذلك عمل أهل المدينة بعده فهم عليه إلى الآن". اهـ. راجع طرح التثريب ج1ص98.
فقوله رحمه الله: "ولما ولي والدي إمامة مسجد المدينة أحيا سنتهم القديمة"يدل على أنه طرأ على التراويح تغيير في الفترة التي قبل والده.
وقوله: "فكان يصلي التراويح أول الليل بعشرين ركعة على المعتاد"يدل أيضاً على أنها كانت قبله عشرين ركعة وهو العدد المعتاد عندهم من قبله.
وقوله: "واستمر على ذلك عمل أهل المدينة"أي على عشرين ركعة أول الليل وستة عشر بعد منتصف الليل تتمة الستة والثلاثين ركعة السابقة.
وقوله: "فهم عليه إلى الآن"نص على وجود ذلك العمل إلى حياة المؤلف في أوائل المائة التاسعة في سنة 818 ثمانية عشر وثمانمائة.
المائة التاسعة
وبناء على ما تقدم من كلام أبي زرعة تكون التراويح قد استمرت على ست وثلاثين ركعة مفصلة كالسابق عشرين في أول الليل وستة عشر في آخره. وقد استمر هذا العمل إلى نهاية المائة التاسعة وأوائل المائة العاشرة كما ينص عليه السمهودي في الآتي:
المائة العاشرة وهي تمام الألف سنة
دخلت المائة العاشرة والتراويح في المسجد النبوي ست وثلاثون ركعة كما جاء عند السيد السمهودي في كتابه (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) ج1 ص84 في المسألة (الثمانون) فيما اختصت به المدينة عن غيرها من البلدان ما نصه:(3/347)
"الثمانون: اختص أهلها في قيام رمضان بست وثلاثين ركعة على المشهور عند الشافعية، قال الرافعي والنووي: قال الشافعي: رأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة، منها ثلاث للوتر، قال أصحابنا: وليس لغير أهل المدينة ذلك لشرفهم بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره"اهـ. وقد توفي السمهودي سنة 911 وهو شافعي المذهب أيضاً وسيأتي أن ولده كان من أئمة الشافعية في المسجد النبوي.
ثم قال في المرجع نفسه ص85: "والقيام بهذا العدد بالمدينة باق إلى اليوم إلا أنهم يقومون بعشرين ركعة عقب العشاء، ثم يأتون آخر الليل فيقومون بست عشرة ركعة". هـ فنص على وجود العدد والكيفية التي أعادها أبو زرعة رحمه الله.
تنبية: تقدم ذكر الشافعي رحمه الله عدد التراويح (تسع وثلاثون) منها ثلاثة للوتر ولم يفصل نوع وكيفية الصلاة للوتر والمعروف عند الشافعي رحمه الله أنه ثلاث مفرقات. ولكن السيد السمهودي أشار إلى تغيير في الكيفية حيث قال عقب كلامه الأول ما نصه: "فوقع له خلل في أمر الوتر نبهنا عليه في كتاب (مصابيح القيام في شهر الصيام) وكنت قد ذكرت لهم ما يحصل به إزالة ذلك ففعلوه مدة، ثم غلبت الحظوظ النفسية على بعضهم فعاد الأمر كما كان".
قوله هنا: "فوقع لهم خلل في أمر الوتر نبهنا عليه ... إلخ"لم نعلم ما نوع هذا الخلل وما هو تنبيهه عليه. والمعلوم أنه لا يوجد خلاف في الوتر إلا في صورته ما بين الجمع والتفريق كما هو بين الأحناف يجمعون الثلاثة كالمغرب, والجمهور يفرقون بينهما يسلمون من اثنتين ويأتون بواحدة مفردة.
والأحناف يقنتون في الوتر إلا أن الحنابلة يجهرون فيه والأحناف يسرون والشافعية والمالكية يقنتون في الصبح إلا أن الشافعية بعد الركوع والمالكية قبله.(3/348)
ولعل الخلل هو بسبب تعدد الأئمة وتعدد صور الوتر كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله عند الكلام عن المائة الثالثة عشرة وإيراد رسالة الشيخ سليمان العمري في الوتر وكلام أئمة وعلماء المسجد النبوي أنذاك في هذا الموضوع.
ما بعد الألف المائة الحادية عشرة:
يغلب على الظن أنه لم يطرأ تغيير على التراويح في المائة الحادية عشرة لأننا وجدنا كلام السيد السمهودي المتوفى سنة 911 أن التراويح كانت ستاً وثلاثين ركعة وثلاثة وترا فالمجموع تسع وثلاثون وأنهم كانوا يصلونها على فعله أبو زرعة رحمه الله.
ثم وجدنا للشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته التي كتبها عن المدينة في المائة الثانية عشرة أن التراويح أيضاً تسع وثلاثون ركعة مما يؤكد أنها مضت في طريقها إلى عهده وشاهدها على ما جاء عنه تفصيله كالأتي:
المائة الثانية عشرة(3/349)
دخلت المائة الثانية عشرة والتراويح على حالها كما كانت قبل الألف عشرون ركعة في أول الليل وست عشرة ركعة في آخره وتسمى الستة عشرية كما جاء من وصف الشيخ النابلسي في رحلته إلى المدينة وما نقلته مجلة العرب عن الرحلة في عدد ذي القعدة الجزء الخامس من السنة الأولى للمجلة سنة 1386ص430 نقلاً عن الشيخ النابلسي قوله: "كنا نصلي عند الشيخ السيد علي السمهودي، وولدي يصلي إماما وكان ولد السمهودي إماما من أئمة الشافعية أنذاك وقال: "إن عادة أهل المدينة بعد فراغ الصلاة التراويح يخرجون من الحرم، ويقفلون أبوابه، فإذا مضى وقت من الليل نحو الثلاث ساعات أو أربع يعود كثير منهم, فيفتحون أبواب الحرم ويوقدون القناديل، ويصلون ست عشرة ركعة جماعة يسمونها الستة عشرية"اهـ. وهذا هو محل الشاهد على بقاء التراويح على ما كانت عليه زمن السمهودي في المائة العاشرة ولم يطرأ عليها تغيير إلا أنهم يسمون الصلاة التي في آخر الليل الستة عشرية أي نظراً لعدد الركعات ست عشرة ركعة وهذا مما يؤكد أن التراويح ظلت بعد الألف تسع وثلاثون ركعة منها ثلاثة وتراً وتصلى عشرين أول الليل وست عشرة آخره. غير أنه قد وجد أو كان موجوداً من قبل تعدد الأئمة للتراويح حسب تعدد الإمامة للفريضة والذي كان موجوداً آنذاك أئمة لمذهبين فقط هما الشافعية، والحنفية وكان عدة خطباء للائمة الثلاثة أي بزيادة المذهب المالكي، كما جاء في مجلة العرب أيضاً في الجزء الرابع من سنتها الأولى عدد شوال سنة 1386هـ ص334 نقلاً عن رحلة النابلسي أيضاً ما نصه: "وللحرم الشريف خمسة عشر إماما منهم الحنفيون ومنهم الشافعيون وله واحد وعشرون خطيباً، منهم اثنا عشر خطيباً حنفيين، وثمان خطباء شافعيين، وخطيب واحد مالكي.(3/350)
فالأئمة يصلون بالنوبة في كل يوم إمام واحد من الحنفية، وإمام واحد من الشافعية فيبدؤون من الظهر إلى الصبح والإمام الشافعي يصلي أولاً، ثم الإمام الحنفي إلا في المغرب فيتقدم الحنفي لكراهة تأخير المغرب عنده.
ويصلي الإمام الحنفي يوماً في محراب النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الروضة الشريفة فيصلي الإمام الشافعي ذلك اليوم في المحراب الذي خلف المنبر (محراب السلطان سليمان عليه الرحمة والرضوان) ثم في ثاني يوم يصلي الإمام الشافعي كذلك. ويصلي الحنفي مثل ما صلى هو أول يوم". وهؤلاء يصلون التراويح أيضاً في وقت كل لجماعته إلا في ليلة الختم للشافعي فإنهم يصلون جميعاً العشاء والتراويح خلف إمام واحد هو إمام الشافعية وكان إمام الشافعية هو المقدم آنذاك. في الفريضة يصلي أولاً وفي التراويح يختم هو أولاً أيضاً في حفل وحفاوة بالغة كالآتي:
صورة الختم بالمدينة في المائة الثانية عشرة
قال النابلسي يصف حضوره لختم القرآن العظيم في صلاة التراويح في الروضة الشريفة مع السادة الشافعية. وما شاهده بنفسه كالآتي:
"جاء في مجلة العرب ج9 من سنتها الأولى سنة 1387 عدد ربيع الأول. نقلاً عن رحلة النابلسي ما نصه: وذكر أي النابلسي: "أنهم يختمون في كل رمضان في صلاة التراويح ختماً كاملاً، يجعلونه ليلة السابع والعشرين من رمضان وأن الحنفية يجعلون الختم ليلة التاسع والعشرين من رمضان". والنابلسي حنفي المذهب.(3/351)
ثم قال: "وجلسنا في الروضة الشريفة حين أذن العشاء، واجتمع الناس وحضر العلماء والأعيان، والأكابر على طبقاتهم، كل واحد منهم له سجادة مبسوطة في مرتبته، وحضر مفتي الحنفية، ومفتي الشافعية، وقاضي المدينة، وشيخ الحرم، وخدام الحجرة المطهرة، والخطباء والأئمة كلهم، وكان الشريف سعد بن زيد أمير الحجاز قد سافر قبل ذلك مع أولاده وعساكره إلى جهة مكة"أي أنه لم يحضر لسفره. ولعل هذا يشير إلى حضور الأمير في مثل ذلك اليوم.
قال: "وحضر المؤذنون كلهم فأقاموا الصلاة، وصلى الإمام بالناس كلهم صلاة العشاء". أي أنهم جميعاً صلوا بصلاة إمام واحد فريضة العشاء على غير المعتاد في بقية الأيام. وذلك تمهيداً لصلاتهم جميعاً التراويح بإمام واحد ولذا قال: "وكانت النوبة في الإمامة للشاب الفاضل حادي الفضائل السيد عمر بن السيد السمهودي الشافعي". أي أن إمامة الشافعية موزعة على عدة أشخاص من الشافعية أنفسهم ويتناوبون الصلاة بالشافعية وكذلك الحال عند الأحناف لهم عدة أئمة كما تقدم بيان عدد الجميع.
ثم قال - وهو محل شاهد -: "ثم صلى بهم التراويح إلى أن فرغ منها". أي أن الإمام الشافعي وهو السيد عمر بن السيد السمهودي شافعي المذهب صلى بالجميع التراويح تلك الليلة إلى أن فرغ منها.
ثم قال مبيناً صورة الختم وحفاوتهم به: "فاجتمع المؤذنون في الروضة الشريفة وأنشدوا القصائد النبوية المشتملة على المديح، وذكر الروضة، والمنبر والحجرة المطهرة وحصل الخشوع والبكاء. وأنشدوا القصائد في وداع شهر رمضان، وضج الناس بذلك، وكانت الهيبة العظيمة والجلال والخشوع.(3/352)
وقد أشعلوا الشموع الكثيرة، وصفوها في الروضة الشريفة والقناديل العديدة موقدة ومباخر الطيب بالعنبر والعود دائرة، وماء الورد كأنه سحابة هامرة وكل جماعة من الحاضرين قدامهم طبق موضوع من الزهور والفل والفاغية، وأنواع الرياحين، حتى أرسل شيخ الحرم إلى الإمام بعد فراغه بالخلعة السنية الفضية الذهبية. وقام الناس يباركون له الختم الشريف وهو جالس في محراب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك المقام المنيف وقد حصل لنا كمال الثواب والأجر في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وزرنا النبي صلى الله عليه وسلم"ثم ذكر رجلاً من أهل اليمن مجذوب الحال كان يحمل قربة ماء من البئر الذي في صحن الحرم النبوي ويقول شقا شقا ولا يأخذ شيئاً من أحد. ثم ذكر انتهاء ذلك الحفل وانصرف ذلك الجمع واطفئت القناديل والشموع.
وبهذه المناسبة فإن عمل الاحتفال المذكور لختم القرآن في رمضان كان معمولاً به في مكة من القرون السابقة حيث جاء عند ابن جبير في رحلته وصف عمل الحفل المذكور بأعظم وأكبر من هذه الصورة سنوردها آخر البحث إن شاء الله.
كما أنه كان موجودا أيضاً بالمدينة في نهاية العهد التركي وعلى أوضاع متعددة سيأتي ذكرها عند الكلام على القرن الرابع عشر إن شاء الله في أواخر عهد الأتراك والأشراف. ولا نستبعد أن تكون صورة الختم تلك ممتدة من ذي قبل وليست وليدة القرن الثاني عشر فقط. ولا سيما وأن المقدم فيه هو ختم الشافعية الذين لهم الأولوية في الإمامة من زمن مسبق من على عهد الأتراك أنفسهم والذين يناصرون المذهب الحنفي مما يدل على أن هذا الحفل ليس من مبتكرات الأتراك بل لعله من بقايا الفاطميين والله أعلم.
المائة الثالثة عشرة أواخر العهد التركي(3/353)
دخلت المائة الثالث عشرة والتراويح على حالتها الأولى حيث لم يطرأ ما يستوجب تغييرها تبعاً لوضع المنطقة كلها؛ لأن المدينة ومكة ظلتا تحت حكم الأشراف حكماً مباشراً وإن كانت تبعاً للخلافة العثمانية في تلك الفترة.
وتقدم لنا أن الحجاز ظل تحت حكم الأشراف من قبل وإن كان مؤرجحا بين الفاطميين والعباسين إلى أن قامت الخلافة العثمانية التركية، ابتداء من السلطان سليم بمصر، سنة 922 ودعا له منبر مكة سنة 923 وظلت الحجاز أيضاً بأيدي الأشراف تحت سلطان الخلافة العثمانية. إلى أن قامت الحرب العالمية الأولى وانتهت الخلافة بانتهائها وكان آخر قائد تركي بالمدينة هو فخري باشا، قائد الحامية التركية، وسلم المدينة سنة 1337هـ.
وآخر أمير للأشراف بمكة الشريف الحسين، وبالمدينة الشريف علي. وفي سنة 1345 نودي بالشريف الحسين ملكا على البلاد العربية.
فلم تخرج المدينة في تلك الفترة عن الحكم المباشر للأشراف سواء كان ذلك في أوائل العهد التركي أو في أواخره. فلم يطرأ في المائة الثالث عشرة أي تغيير على التراويح إلى أن دخلت المائة الرابع عشرة أي هذا القرن الحالي. وقد شاهد المعاصرون التراويح على ما كانت عليه إلا أنه تعددت لها الأئمة في المسجد النبوي على النحو الآتي بيانه في الكلام على القرن الرابع عشر إن شاء الله.(3/354)
بحوث هامة حول الزكاة
نائب رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه. أما بعد فإن الباعث لكتابة هذه الكلمة هو النصح والتذكير بفريضة الزكاة التي تساهل بها الكثير من المسلمين فلم يخرجوها على الوجه المشروع مع عظم شأنها وكونها أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يستقيم بناؤه إلا عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمسٍ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" متفق على صحته. وفرض الزكاة على المسلمين من أظهر محاسن الإسلام ورعايته لشئون معتنقيه لكثرة فوائدها ومسيس حاجة فقراء المسلمين إليها فمن فوائدها تثبيت أواصر المودة بين الغني والفقير لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها ومنها تطهير النفس وتزكيتها والبعد بها على خلق الشح والبخل كما أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ومنها تعويد المسلم صفة الجود والكرم والعطف على ذوي الحاجة ومنها استجلاب البركة والزيادة والخلف. كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يقول الله عز وجل: يا ابن آدم أنفق ننفق عليك" إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة.(3/355)
وقد جاء الوعيد الشديد في حق من بخل بها أو قصر في إخراجها قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ, يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} فكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة كما دل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الإبل والبقر والغنم الذي لا يؤدي زكاتها وأخبر أنه يعذب بها يوم القيامة وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول أنا مالك كنزك" ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .(3/356)
والزكاة تجب في أربعة أصناف، الخارج من الأرض من الحبوب الثمار، والسائمة من بهيمة الأنعام، والذهب والفضة وعروض التجارة، ولكلٍّ من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود لا تجب الزكاة فيما دونه فنصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق والوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مقدار النصاب من التمر والزبيب والحنطة والأرز والشعير ونحوها ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أربع حفنات بيدي الرجل المعتدل الخلقة إذا كانت يداه مملوئتين. وأما نصاب السائمة من الإبل والبقر والغنم ففيه تفصيل مبين في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي استطاعة الراغب في معرفته سؤال أهل العلم عن ذلك ولولا قصد الإيجاز لذكرناه لتمام الفائدة.(3/357)
وأما نصاب الفضة فمائة وأربعون مثقالاً ومقداره بالدرهم العربي السعودي ستة وخمسون ريالاً. ونصاب الذهب عشرون مثقالاً ومقداره من الجنيهات السعودية أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنيه والواجب فيها ربع العشر على من ملك نصاباً منهما أو من أحدهما وحال عليه الحول والربح تابع للأصل فلا يحتاج إلى حول جديد كما أن نتاج السائمة تابع لأصله فلا يحتاج إلى حول جديد إذا كان أصله نصاباً. وفي حكم الذهب والفضة الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم سواء سميت درهماً أو ديناراً أو دولاراً أو غير ذلك من الأسماء إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة أو الذهب وحال عليها الحول وجبت فيها الزكاة ويلتحق بالنقود حلي النساء من الذهب والفضة خاصة إذا بلغت النصاب المتقدم وحال عليها الحول فإن فيها الزكاة وإن كانت معدة للاستعمال أو العارية في أصح قولي العلماء لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار" الخ الحديث المتقدم. ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى بيد امرأة سوارين من ذهب فقال: "أتعطين زكاة هذا"قالت:"لا"قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار"فألقتهما وقالت: "هما لله ولرسوله" أخرجه أبو داود والنسائي بسند حسن وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب فقالت: "يا رسول الله أكنز هو"فقال صلى الله عليه وسلم: "ما بلغ أن يزكى فزكي فليس بكنز"مع أحاديث أخرى في هذا لمعنى. أما العروض وهي السلع المعدة للبيع فإنها تُقوَّم في آخر العام ويخرج ربع عشر قيمتها سواء كانت قيمتها مثل ثمنها أو أكثر أو أقل لحديث سمرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع" رواه أبو داود. ويدخل في ذلك الأراضي المعدة للبيع والعمارات والسيارات والمكائن الرافعة للماء وغير ذلك من أصناف السلع المعدة(3/358)
للبيع. أما العمارات المعدة للإيجار لا للبيع فالزكاة في أجورها إذا حال عليها الحول أما ذاتها فليس فيها زكاة لكونها لم تعد للبيع وهكذا السيارات الخصوصية والتكاسي ليس فيها زكاة إذا كانت لم تعد للبيع وإنما اشتراها صاحبها للاستعمال وإذا اجتمع لصاحب سيارة الأجرة أو غيره نقود تبلغ النصاب فعليه زكاتها إذا حال عليها الحول سواء كان أعدها للنفقة أو للتزوج أو لشراء عقار أو لقضاء دين أو غير ذلك من المقاصد لعموم الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الزكاة في مثل هذا والصحيح من أقوال العلماء أن الدَّين لا يمنع الزكاة لما تقدم. وهكذا أموال اليتامى والمجانين تجب فيها الزكاة عند جمهور العلماء إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول ويجب على أوليائهم إخراجها بالنية عنهم عند تمام الحول لعموم الأدلة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ لما بعثه إلى أهل اليمن: "إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم"والزكاة حق الله لا تجوز المحاباة بها لمن لا يستحقها ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسه نفعاً أو يدفع ضراً ولا أن يقي بها ماله أو يدفع بها عنه مذمة. بل يجب على المسلم صرف زكاته لمستحقيها لكونهم من أهلها لا لغرض آخر مع طيب النفس بها والإخلاص لله في ذلك حتى تبرأ ذمته ويستحق جزيل المثوبة والخلف.(3/359)
وقد أوضح الله سبحانه في كتابه الكريم أصناف أهل الزكاة فقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وفي ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين العظيمين تنبيه من الله سبحانه لعباده على أنه سبحانه هو العليم بأحوال عباده ومن يستحق وهو حكيم في شرعه وقدره فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وإن خفي على بعض الناس بعض أسراره حكمه ليطمئن العباد لشرعه ويسلموا لحكمه والله المسئول أن يوفقنا والمسلمين للفقه في دينه والصدق في معاملته والمسابقة إلى ما يرضيه والعافية من موجبات غضبه إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(3/360)
الشمس في نصف الليل
للدكتور تقي الدين الهلالي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
كنت قرأت منذ زمن طويل أخبار القبائل التي تسمى (إسكمو) وأحوال معيشتهم، ومساكنهم وأسفارهم وحالة الجو في بلادهم، وذلك معروف في كتب الجغرافية، والذي يهمنا هنا من أخبار الأراضي القطبية ما شاع أن السنة عندهم يوم واحد، نهار وليلة، ستة أشهر للنهار، وستة أشهر لليل.
ولم أؤمل قط أن أرى تلك الأراضي، لما قرأته من شدة البرد وتراكم الثلوج هناك، وأنهم يلجئون إلى لبس الجلود والاختباء في بيوت يحيط بها الثلج من كل جانب، إلى غير ذلك من الأخبار.
وفي صيف سنة 1936اجتمعت بالدكتور/ زين العابدين خير الله الحلبي وكان أستاذاً في مستشفى الأمراض الخاصة بالنساء في جامعة مار بورك بألمانيا، فأخبرني أن الأراضي القطبية واسعة، وليست محصورة في الأراضي التي يسكنها قبائل (إسكمو) وأنه هو نفسه زار الأراضي القطبية في شمال النرويج، وأن سكانها متمدنون، وأنه أقام هناك نحو اثني عشر يوماً لم ير فيها ظلمة ولا ليلاً، بل كلها كانت نهاراً.(3/361)
ومن ذلك الحين عزمت على زيارة هذه الأراضي في أقرب وقت ممكن. فلما أشرفت السنة الدراسية على نهايتها ذهبت إلى السفارة النرويجية في الرباط، وسألتها عن الأراضي القطبية التي لا تغيب فيها الشمس بضعة أشهر، فأخبروني أن الأمر كذلك، وأن هناك نواحي تابعة للحكومة النرويجية تبقى الشمس فيها مشرقة مدة ثلاثة أشهر من أول مايو (أيار) إلى آخر يوليو (تموز) فتأهبت للرحلة وتوجهت من مكناس في سيارتي يسوقها الحاج أحمد هارون في اليوم الثاني من يوليو، وسرنا متوكلين على الله من مكناس إلى تطوان، ثم عبرنا البحر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، ثم سرنا عبر إسبانيا ففرنسا فألمانيا، فالدانمارك، فالسويد فالنرويج، وتركنا السيارة في مدينة (أوسلو) عاصمة النرويج، وركبنا القطار والسيارات مدة يومين، فوصلنا مدينة (ناروك) ، وشاهدنا الشمس مشرقة مدة أربعة وعشرين ساعة.
أوقات الصلاة في الأراضي القطبية
كنت عازما قبل أن أصل إلى تلك البلاد أن أصلي خمس صلوات في مدة اثنتي عشر ساعة، ثم أترك الصلاة اثنتي عشر ساعة، فتكون خمس صلوات في أربع وعشرين ساعة.
فلما وصلت إلى تلك البلاد تغير رأيي، وظهر لي أن تُتبَع أوقاتُ الصلاة في تلك البلاد الأراضي الجنوبية من البلاد النرويجية، فيصلي المصلي صلاة الصبح وقت طلوع الفجر في الجنوب، ويصلي الظهر حين تزول الشمس في الجنوب، وهكذا الشأن في جميع الصلوات، بناء على قاعدة: "ما قرب من الشيء يعطي حكمه"، وكذلك يفعل الصائم في رمضان إذا جاء في وقت الشمس، أو في وقت الظلام.
هل في الأراضي القطبية فصول؟(3/362)
ينبغي أن يعلم أن في تلك البلاد ما يشبه الفصول الأربعة، وقد تقدم أن الشمس تستمر مشرقة من أول مايو (أيار) إلى آخر يوليو (تموز) ثم تغيب غياباً جزئياً في أول غشت (آب) في كل يوم تبقى غائبة أكثر من اليوم الذي قبله، فيكون الليل قصيراً والنهار طويلاً، ولا يزال الأمر كذلك، يزداد الليل طولاً والنهار قصراً إلى آخر أكتوبر (تشرين الثاني) فتغيب الشمس وتبقى ثلاثة أشهر غائبة.
وفي أول فبراير (شباط) تطلع الشمس، ثم لا تلبث أن تغيب، فيكون النهار قصيراً والليل طويلاً، ولا يزال النهار يطول، والليل يقصر إلى آخر إبريل (نيسان) ثم ينعدم الليل. فهذه مدد تشبه الفصول الأربعة في البلاد التي يكون فيها الليل والنهار طول السنة.
وقد عرفنا حكم أوقات الصلاة في الأشهر الثلاثة الشمسية، ومثلها الأشهر الثلاثة المظلمة. بقي حكم أوقات الصلاة في ربيع تلك البلاد وخريفها، وهما مدتان، يكون فيهما ليل جزئي ونهار جزئي، فكيف الحكم في أوقات الصلاة والصيام؟
لا يمكن أن نفكر في هذه المسألة ثم نبدي رأينا فيها إلا إذا أحطنا علماً بليلها ونهارها، كيف يطول وكيف يقصر، فالليلة الأولى بعد انتهاء مدة الشمس، وهي أول ليلة من غشت (آب) كم طولها؟
فإذا كان طولها نصف ساعة أو أقل، فهل يحكم عليها بأنها ليلة تصلى فيها المغرب والعشاء والصبح عند نهايتها، ويفطر الصائم ويتسحر فيها، ويصوم نهارها، ويصلي الظهر والعصر في وسطه، أم يستمر على اعتبار توقيت العاصمة (أوسلو) ويعتبر الليل ليلاً، والنهار نهاراً؟ وما مقدار الساعات التي يبلغها الليل طولاً حتى يعتبر أنه ليل، وإذا مضى أكثر الأشهر الثلاثة وقصر النهار جداً يعود السؤال نفسه. وهكذا يقال في المدة الثانية التي تبتدئ من شهر فبراير (شباط) وتنتهي في آخر إبريل (نيسان) .(3/363)
فإن قيل: أنت أول من بدأ هذا البحث، فعليك أن تجيب عن أسئلتك، وتبدي رأيك؟ قلت: يمنعني من ذلك أنني من أهل الحديث المتبعين للسلف الصالح المتجنبين للرأي، المعتبرينه كالميتة لا يجوز الأكل منها إلا بقدر الضرورة. فما نزل من المسائل وتحقق وقوعه، وسئلنا عنه أفتينا فيه بالرأي قائلين: إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمنا، والله بريء منه، كما قال عبد الله بن مسعود.
أما مدة الشمس فقد وجب علينا أن نجتهد في حكم أوقات الصلاة فيها، لأن ذلك وقع ونزل، وقسنا عليه مدة الظلام، لأنهما سواء. أما المدتان الأخريان فندعهما حتى يحتاج بعض المسلمين إلى معرفة الحكم، فييسر الله له من يفتيه.
وقد كان السلف الصالح، إذا سئل أحدهم عن مسألة استحلف السائل بالله، أنها وقعت، فإن حلف له أفتى فيها برأيه، وإلا قال: دعها إذا نزلت ييسر الله لها من يفتي فيها.
وما زعمه بعض المتقدمين من أن بلاد بلغار يقصر فيها الليل والنهار جداً وهم، وقد لاحظت أن الليلة الأخيرة التي مضت قبل وصولنا إلى بلاد الشمس في نصف الليل، كما يسمونها، لم تكن مظلمة، حتى أني مع ضعف بصري، وأنا راكب في السيارة كنت أرى الأشجار، وأغصانها ولا توجد ظلمة أصلاً، إلا أن الشمس مختفية، ومن حين يتوسط الإنسان بلاد النرويج متوجهاً من الجنوب إلى الشمال تقل ظلمة الليل شيئاً فشيئاً حتى تنعدم بانعدام الليل نفسه. فسبحان الخلاق العليم.(3/364)
ولاحظت أيضاً: كما لاحظ من معي أن الشمس في نصف الليل تكون قريبة من الأرض كأنها تريد أن تغيب، لكنها لا تغيب، بل تأخذ في الارتفاع وتدور في السماء، فتشكل دائرة من نصف الليل إلى نصف الليل. قال الله تعالى في سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فأخبر سبحانه وتعالى أن السير في الأرض يزيد في العقل والعلم المكتسب بالتجارب، وقل ربي زدني علماً.
وهناك في تلك الناحية قبائل بدوية تسكن الخيام، ولها ماشية، وهي الأيائل، وهي نوع من الحيوان يشبه الظباء، إلا أنها أكبر منها، وقرونها متشعبة -كالأشجار- يحلبونها ويأكلون لحومها، وينتفعون بجلودها. ولا يستطيع شيء من سائر الحيوان كالبقر والغنم أن يعيش في تلك البلاد غير الأيائل، لشدة بردها، وكثرة ثلوجها، ولتلك القبائل لباس خاص.
وسمعت أنهم وثنيون، لا يدينون بالنصرانية التي يدين بها أهل تلك البلاد، ولا أعلم مقدار هذا الخبر من الصحة، وليس هذا الجو خاصاً بشمال النرويج، بل يعم كذلك شمالي السويد.
وقد علمت أن من أراد أن يشاهد الأراضي القطبية التي في شمال السويد يستطيع أن يسافر إليها بالقطار.
أما مدينة ناروك التي تقدم ذكرها فقد سافرنا إليها من (أوسلو) ، بعض المسافة بالقطار، وبعضها بالسيارة، وكنا في كل بضع ساعات نجتاز خليجاً من خلجان البحر، بمعدّية، وهي باخرة كبيرة، تدخلها السيارات، فتبقى فيها نصف ساعة أو أكثر حتى تصل إلى البر، فتخرج السيارة منها وتستأنف سيرها.
وقد رأيت القطار نفسه يعبر البحر في معدّية بين ألمانيا الشرقية والدانمارك في مدة ساعتين. وتلك المعدّية الضخمة عظيمة الحجم، ذات ثلاث طبقات، يصعد إلى الطبقة العليا بالمصعد الكهربائي.(3/365)
وهناك معدّية رأيتها تستعمل بين سبتة والجزيرة الخضراء، وهي أيضاً عظيمة، ولكنها دون تلك، وليس مقصودي أن أصف هذه الرحلة، لأن وصفها يحتاج إلى مؤَلَّف مستقل، وإنما ذكرت ما تقدم استطراداً.
من وحي الأندلس قصيدة من بحر جديد
لما مررنا بأرض الأندلس في رحلتنا إلى شمال أوروبا تذكرت أهل الأندلس المسلمين، وما كان لهم من المجد والسؤدد، فقلت هذه القصيدة، وهي من بحر جديد اخترعته. وأجزاؤه أربعة: مستفعلاتكم مستفعلين مرتين. له عروض واحدة صحيحة، لها ضربان، أولهما مذيل، والثاني عار عن التذييل.
وكل هذه التفاعيل بفتح العين ومعناها: مستخرجاتكم مستخرج أيها المسلمين، فالزموا مستخرجاتكم ولا تهملوها.
وقد أحدث العرب المولدون أوزاناً شعرية زائدة على بحور الشعر بعد زمان العرب الأقحاح، ونظموا عليها شعراً كثيراً، ثم جاء زمان الموشحات والأزجال، فاشتغل بها العرب في الشرق والغرب، واشتملت على أدب جم. ونظم بهاء الدين زهير شعراً أخترع له وزناً خاصاً، وهو قوله:
يا من لعبت به شمول
ما ألطف هذه الشمائل
فلا غرابة إذا اقتديت به، وألقيت دلوي في الدلاء. وهذا نص القصيدة:
لما بدا لنا جمالكم
أضحت قلوبنا أسرى الغرام
وانبعثت بها مودة
تنمو وتزدهي على الدوام
قد طال هجركم وصدكم
وما رثيتم للمستهام
ولم نزل نفي بعهدكم
وما رعيتم لنا ذمام
فهل سمعتم بقاتل
لمن يحبه هذا حرام
هبوا أسيركم لو نظرة
صلوا عميدكم لو بالكلام
أما ترونني متيماً
لم تدر مقلتي أي منام
محبتي لكم عفيفة
غدت بريئة من كل ذام
وعاذل أتى يلومني
كلامه غدا مثل الكِلام
فقلت: يا فتى ويك اتئد
فأنت طالب مالا يرام
عذلك زادني صبابة
فكف أو فزد من الخصام(3/366)
يا موطناً غدا مفتخرا
بخير أمة من الأنام
بالعرب إذ علوا مراتبا
قد بلغوا بها أقصى المرام
أندلساً دعيت في الورى
وجنة سمت خير المقام
معجزة فلم ير الورى
لها مماثلا لو في المنام
كيف افتخارنا بمجدهم
ونحن لم نزل بلا نظام
والخلف ما لهم مفتخر
لكن عليهم بالاحتشام
إلا إذا حيوا واتحدوا
وارتجعوا إلى نهج الكرام
واتبعوهم في دينهم
دين محمد بدر التمام
فالعرب مالهم معتصم
إلا بحبله ولا التئام
والعز عنهم مبتعد
إلا إذا اقتدوا بذا الإمام
فهو حياتهم في بدئهم
وهو حياتهم على الدوام
وكلما اقتفوا خلافه
فهو ضلالة وهو الحسام
صلى عليه من أرسله
هدى ورحمة يجلو الظلام
ما غردت ضحى حمامة
وأشرقت ذكا بعد غمام
والآل والصحاب كلهم
أزكى صلاته مع السلام
وقد اطلع على هذه القصيدة الأديب الكبير العالم المحقق العبقري عبد الله كنون فأعجبته وأثنى عليها.
وفي الإياب من هذه الرحلة عرجنا على قرطبة وزرنا مسجدها، فاعتراني شعور فيه روعة وإجلال وإعجاب، وحزن، لا أقدر أن أصفه بلسان ولا أظن أن شخصاً له شعور إنساني يرى ذلك المسجد ولا يعتريه مثل ذلك الشعور، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم.
وصف جامع قرطبة
من أمثال العرب: "أن الحديث لذو شجون"، وقد بدا لي أن أنقل هنا وصف مسجد قرطبة الجامع من كتاب مدينة المور في الأندلس الذي ترجمته بالعربية من أصله الإنجليزي لمؤلفه (جوزيف ماك كيب) ليرى القارئ العربي المسلم شيئاً من مجد أسلافه. وهذا نص ما قاله في وصف مسجد قرطبة:(3/367)
"لم يبق من آثار قرطبة في القرون الوسطى إلا أثر واحد، وهو جامعها الذي لا يزال إلى اليوم، جميع أطفال قرطبة يسمونه مسجداً، ولولاه ما تجشم أحد عناء السفر لمشاهدة قرطبة، ولو كانت خمسة أميال منه، ولكن الناس من جميع أنحاء الدنيا يسافرون إليها ليشاهدوه.
وهو أعظم معبد في الدنيا بعد كنيسة (سنت بيترس) ، وهو آية لا نظير لها من الهندسة والبناء، وظاهر هذا المسجد لا يستولي على اللب، ولم يكن المور الذين كانوا يفضلون الإقامة داخل البيوت أكثر من خارجها يعتنون كثيراً بالظاهر.
وأما الداخل فهناك العجائب، إذا دخلت الجامع من أي باب من أبوابه التسعة عشر يخيل إليك أنك تائه في غابة من أشجار المرمر، ففيه ثمانمائة وستون سارية من المرمر والرخام واليسر، وفيه غير ذلك ألف واثنتي عشرة سارية. وفيه تسعة عشر رواقاً، ينتهي كل منها بباب من الأبواب التسعة عشر، وله سقف خشبي منخفض نسبياً، وقد زخرف أحسن زخرفة بالأرجوان والذهب.
وفي الأعياد الكبيرة توقد مائتان وثمانون ثرياً من الفضة والنحاس، يحترق فيها الزيت والعطر، وتتلألأ فيها آلاف كثيرة من المصابيح، فتلقي أنوارها على ذلك المشهد. وأكبر ثرياً منها كان محيطها ثمانية وثلاثين قدماً (فوت) يحمل ألفاً وأربعمائة وأربعاً وخمسين مصباحاً، ولها مرآة تعكس النور، فيزيد شعاعه تسعة أضعاف. وفيها (6000) ألف طبق من الفضة مسمرة بالذهب، ومرصعة باللؤلؤ.
وكان الجامع قد شُيِّد مع مضافته في القرن الثامن والتاسع والعاشر. والمحراب الذي هو أقدس محل في مسجد المور، كان فيه حنيتان، وكان أعظم زخرفاً من سائر المساجد. وآخر المحراب يشبه صدفة من رخام، وله مدخل يتلألأ كالذهب الخالص أو الديباج بفسيفسائه الجميلة، وأحيل القارئ على كتب زخرفة البناء أو كتب الاستدلال، ليرى عجائب هذا الجامع العظيم.(3/368)
وكان بناؤه من النصارى المنتمين إلى الكنيسة اليونانية، وكانت بينهم وبين المور مودة، فجلبوهم لبنائه، وهو أثر لمدينة زاهرة، لا يضاهيها اليوم شيء في الدنيا كلها وكان عبد الرحمن الأول مؤسس هذه الدولة، قد جعل مدينة قرطبة على مثال مدينة دمشق التي قضى فيها أوائل عمره، وهو الذي ابتدأ بناء الجامع وأتمه الخلفاء الذين جاءوا بعده. وبلغت نفقاته على ما حدث به مؤرخو العرب (300.000.000) دولار، وكان هذا آخر عمل عمله في حياته، وقد شيد غير هذا هو وخلفاؤه ورجال دولتهم قصوراً فخمة، ومساجد كثيرة، كانت تزيد المدينة في كل سنة جلالة وبهاء". اهـ
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
لكن لا ينبغي لنا أن نقتصر على الافتخار بمجدهم، بل ينبغي لنا ويتحتم علينا أن نعمل بقول من قال:
لسنا وإن أحسابنا كرمت
يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
فنسأل الله أن يوفقنا لإحياء ذلك المجد الشامخ، إنه على ذلك قدير.(3/369)
الطريق الجديدة
(قصة قصيرة)
بقلم الشيخ: محمد سعيد المولوي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
كان كل شيء ذلك اليوم رائعا وجميلا في نظري, فالشمس مشرقة دافئة حلوة تحن الأرض إلى أشعتها تنفض بها عن شعرها قطرات الندى التي صبها عليها الليل قبل أن يرحل وكانت الأشجار تهتز طرية فرحة على أنغام الطيور والعصافير, وقد اكتست من خضرة الثوب ما راق وتوشى بدنانير الذهب ورق الخريف, وكان النسيم يهب ناعما رقيقا لينا وكأنه أم تمر بيدها على خد وليدها تداعبه وتخشى عليه, وكانت دمشق لا تزال تستقبل الوافدين إليها للالتحاق بجامعتها فتفتح لهم يديها وتضمهم إلى صدرها ضمة حنان ورأفة فتمسح عنهم غبار السفر وتضفي عليهم من رونقها ما يأخذ بالعقول ويسرح الألباب.
وكانت السيارة تنطلق بنا منحدرة من تلال الزبداني تعجب من حال شباب ما عرفوا في حياتهم سوى الضحك والمزاح، وما حملوا من هموم الحياة شيئاً وما أدركوا معنى المسئولية, وأصوات هؤلاء الشباب تعلو وتنخفض مع كل ضحكة لطيفة ونكتة حتى وصلت بنا إلى مشارف دمشق ثم مالت نحو الجنوب لتقف أمام مستشفى المجتهد، ثم تقذف ما في صدرها فتتعالى أصداء الضحكات وبقايا الابتسامات أمام باب المستشفى ثم تخفت لتنتقل إلى الردهة الخارجية حيث كان يقف صف طويل من الشباب ينتظرون نتائج فحوص صدورهم الشعاعية.
وقفت في الرتل الطويل، وكنت لا أزال أضحك وأفرح وأعلق على كلام أصدقائي وأنا انتظر دوري حتى صرت أمام الكوة الصغيرة ودفعت بالورقة المرقومة إلى الموظف وأنا مطمئن النفس إلى أنه سيمهرها بخاتمه كما يمهر غيرها وأنطلق مع الأصحاب عائدين ولكن الموظف قلب أوراقا أمامه ثم قال: انتظر قليلاً.(3/370)
أحسست ببعض القلق في نفسي، ومال عليّ صديقي فاروق يقول: "ما باله؟ "قلت: "لست أدري ولكنه طلب أن أنتظر قليلاً", قال: "لا بأس سنسبقك إلى نادي الجامعة ونلقاك هناك"قلت: "حسناً", وبقيت أنتظر قرابة نصف ساعة وكلما أطللت على الرجل كان يستمهلني حتى ضاق صدري وفرغ صبري, وأخيراً جاءني رجل يلبس قميصاً أبيض فنادى علي باسمي ولبيت متلهفاً وأخذني جانباً ثم قال: أتسعل؟
- نعم, عندما أصاب بالبرد, قال: ليس ذلك أعني.
- ماذا تعني إذن..
- هل تسعل سعلاً خفيفاً متقطعاً؟
- لا..
- لابد..
- لكن ذلك لا يحصل.
- هل تحس بوجع في خاصرتك؟!
- لا..
- أبداً..
- أحياناً عندما أركض وأكون أكثرت من شرب الماء..
- ليس هذا ما أعني.
- إذن ماذا..؟
- هل تؤلمك خاصرتك في الليل؟
- لا.
- هل تعرق..؟
- نعم, في الصيف وعندما أو عندما ألعب الملاكمة أو كرة القدم..
- أيضا ليس هذا ما أريد..
- ماذا تريد..هل تعرق في الليل..؟
- ليس دائما وإنما في وقت الحر.
وضاق ذرع الرجل بي فتركني ومال على نافذة صغيرة فأخذ منها علبة زجاجية صغيرة ثم قال: خذ هذه وابتعد جانباً ثم تقشع فيها.
وما فهمت كلامه فقلت: وما معنى تقشع؟
- أسعل سعالاً شديداً ثم ابصق فيها ما تخرجه من صدرك.
- ولكن كيف أسعل وأنا لا أحس بحاجة للسعال..
- جرب..
وانتحيت جانباً وتساعلت حتى تعبت ثم أتيته بما وضعته في العلبة.
فقال: هذا لعاب.. ولا يصلح.
قلت: وما أصنع هذا ما استطعته؟
- انتظر، ثم أخذ ملقطاً حديدياً بيده اليسرى وآخر بيده اليمنى قد لقط قطناً ثم أمسك لساني بالأيسر ودس القطن في سقف حلقي، وأخرجه يحافظ عليه كما يحافظ على جوهرة ثم رمى به في علبه زجاجية صغيرة.(3/371)
كان صبري قد فرغ وبدأت أحس أن الأمر جد وأنه لابد لي معرفة ما يريد.. فقلت: قل لي ما الأمر..؟
- قال: لاشيء إلا أننا نشك أن تكون مصاباً بالسل..
ضحكت ضحكة صفراء ولكني أحسست أن الأرض قد مادت من تحت قدماي ونظرت إلى الرجل أمامي فرأيته يترنح يمنة ويسرة فأمسكت بالحائط واستندت عليه وتماسكت أنفاسي، حتى إذ هدأت قليلاً قلت: ولكن هذا غير معقول فمن أين يأتيني السل؟ فإن البيئة التي أعيش فيها بيئة صحية وبيتنا لا تغيب عنه الشمس من الصباح حتى المساء وطعامي جيد، وأيامي أمضيها بالرياضة والسرور.
وأجابني الرجل بجفاء: لا ندري، وعلى كل حال فسنصور لك صدرك صورة شعاعية كبيرة للتثبت، وقد أخذنا من حلقك جراثيم سنزرعها لتحقق من الأمر..
ثم التفت وقال: اتبعني..
سرت وراءه وقد عقدت يدي وراء ظهري وأنا لا أكاد أصدق ما أسمع. أيمكن أن يكون ما يقوله حقيقة..؟
لا, هذا غير معقول.. ولكن من أين له أن يتهمني بمثل هذا الاتهام لولم يكن صحيحاً.. لا.. لا أصدق.. وقطع على تصوراتي أمره لي بخلع ملابسي والوقوف وراء لوحة التصوير.
كانت الغرفة مستورة النوافذ في ستائر سوداء جعلتني أحس برهبة في نفسي فأحسست بالضيق يملأ على أنفاسي فكدت أختنق ووقفت وراء اللوحة وأنا شارد الذهن مسلوب الإرادة، وأصبحت كالآلة, فما انتهيت حتى لبست ملابسي ثم وقفت بجانبه أنتظر منه الأمر.. وخطر لي أمل في الرجاء فقلت: السنة الماضية كنت مسجلاً بالجامعة وقد أجريت الفحص الشعاعي فما قالوا لي شيئاً.
قال: ليس شرطاًً ثم إن قسمنا حديث التأسيس وآلاتنا جديدة.
وقطع بحديثه خيط العنكبوت ونظرت إليه فأردف: اليوم السبت تحضر يوم الأربعاء لأخذ النتيجة ثم التفت ودخل الحجرة.(3/372)
خرجت من المستشفى وأنا لا أكاد أصدق ما حصل ورحت أفرك عيني هل أنا في حلم؟.. لا فهي الحقيقة، وزال كل جمال للدنيا من عيني فما عدت أرى أمامي إلا سواداً ومشيت وأنا أترنح يمنة ويسرة ونظرت إلى الشمس فإذ هي لا تثير بي إحساساً ولا تحرك شعوراً وكان جبل قاسيون يجثم أمامي شامخاً فأحسست به وكأنه على صدري وحاولت أن أستنشق الهواء فإذا الهواء جامد قاسي لا يدخل رئتي واندفع سعال بسيط يهز كياني كله.. لقد كان الرجل صادقاً فها أنا أسعل سعالاً خفيفاً.. ولكن مدافعة عنيفة ثارت في نفسي.. لا يمكن أن يكون هذا.. وكان ثقل رأسي قد بلغ مني مبلغه وكأن مطارق عنيفة تهوى على جمجمتي تكاد أن تحطمها.
كان منظر الأشجار أصفر باهت تعلوه سمة الموت ومغادرة الحياة!.. وكانت زقزقة العصافير ضوضاء مزعجه ترهق الشعور وتدعوا إلى الضيق، وكان النسيم بارداً ثقيلاً تمجه الصدور وتخشاه، وكانت سحن الناس كئيبة مقترة لا تفتر عن بسمة ولا تنم عن تفاؤل.
وصلت البيت فأدرت المفتاح ودخلت كان البيت موحشاً مقفراً لا أثر فيه للحياة أو الحركة، فالأهل كلهم في الزبداني، وأكببت على فراشي وترغرغت الدموع في عيني، وغلبني سعال خفيف، وأحسست بعرق غزير يبل جسدي, فبكيت وبكيت.. وقمت فوقفت أمام المرآة أنظر في وجهي.. وثارت في نفسي تساؤلات: أيمكن أن يكون هذا الوجه الأزهر وجه مسلول.. وجاء الجواب: ألا ترى الشمعة قبل أن تذوي يشتد لهيبها. أيمكن أن يكون هذا الصدر الذي ينم عن قوة، وهذان الساعدان المفتولان قطعة من جسمي المسلول.. وكان الجواب: كم من أشياء ننخدع بها في الحياة، أنسيت أنك في مسبح بولدان في الأسبوع الماضي شعرت بوهن وضيق في صدرك شديد، وأن أصدقائك عزوا ذلك إلى شدة برودة الماء.(3/373)
وانهزمت مقاومتي واقتنعت أنني مسلول.. وعدت إلى فراشي فاستلقيت على ظهري ورحت أحدق في السقف.. وقفزت إلى ذهني أسماء أصدقائي الذين ماتوا فمأمون دهسته السيارة ونحن نلعب الكرة أمام المدرسة, وموفق غرق في مسبح المزة، وسالم أصيب بالتهاب السحايا.. وطن في أذني صوت راح يعلو ويعلو حتى صرت لا أسمع غيره, وغداً سيقولون: يونس مات بالسل عليه رحمة الله.
ووضعت إصبعي في أذني، وعبثاً حاولت أن أخلص من هذه الهواجس ومر أمامي شريط حياتي قصيراً. سريعاً فما وجدت فيه ما يسر.. وكدت أصيح وأصرخ وغلبني الخوف والرهبة وقمت مسرعاً وفتحت الباب وانطلقت إلى الشارع. كان اليأس قد ملك على نفسي وحرت أين أذهب، وقررت أن أعود إلى الزبداني وخطر في بالي أن أصدقائي قد يكونون بانتظاري بالجامعة وأحسست بقرف شديد ونفور عنيف من الجامعة ومن فيها، وأي أمل لي وراءها.. وبدأت أشعر بالكراهية لها، فلولاها لما عرفت أنني مسلول.. لو بقيت جاهلاً ما أنا عليه لكان خيراً لي فإنني سأبقى متمتعاً بالحياة.. ولكن الآن انتهى كل شيء ولم يبق من الحياة إلا القليل.
وسرت وكأني أجر رجلي حتى وصلت منطلق السيارات وامتطيت واحدة وجلست بجانب النافذة, وأسندت رأسي إلى الزجاج..(3/374)
لست أدري كم بقيت منتظراً, ومتى سارت السيارة, لكن الذي لا أزال أذكره أن المستقبل.. كان يبدو أمامي مظلماً قاتماً, فكم سمعت أن المسلول يعيش شهرين أو ثلاثة ثم يموت.. وقفزت إلى ذهني جنازة ابن جارنا صلاح الذي مات مسلولاً وهم يخرجونها من الدار وأخوه محمد متهالك القوى وأبوه منكس الرأس وأمه تصيح من النافذة يا ولدي صلاح وتكاد تلقي بنفسها، ثم غابت لتظهر بدلا منها صورة جنازتي وهم يخرجونها من الدار ووالدي المسكين يتكئ على عصاه ودموعه تنهمر على لحيته وأمي تصيح من وراء الباب وأخوتي قد انتفشت شعورهم، وأصدقائي ينكسون رؤوسهم يتظاهرون بالحزن والأسى.. ورسخ في نفسي أن النهاية قريبة لابد منها وتنوعت الأفكار التي اعترضتني، فإني فيما تبقى لي من الآيام سأعتزل الناس والأصدقاء وسأجعل لي صحنا خاصا وملعقة خاصة وسأمنع أمي وإخوتي من القرب مني، وسأترك الدنيا وما فيها، ولكن ماذا أصنع بهذه الآيام المتبقية ستبدو مملة متعبة لا أرى فيها جمالاً، ولا متعة ولا روعة! ولم أجد جواباً، كنت أدور بذهني وأدور ثم أعود إلى نفس الأفكار حتى وصلت السيارة الزبداني فترجلت منها، وسرت نحو البيت..
لم يعد مصيف الزبداني الآن يعني لي شيئاً وقد كان بالأمس الروضة الغناء، والجمال الطبيعي الرائع، والمتعة المتفجرة والسعادة المتجددة. كان انعدام المسؤولية والبحث عن اللهو, كان الرحلة والغناء والضحكة، كان المرأة الجملية والنكتة الحلوة، والسير اللطيف كان الهواء العليل، والماء البارد وثمار الطبيعة اللذيذة، كان الجبل في شموخه والجدول في خريره والمغارة في سرها والدرب بترابه، والغصن في ترنحه وميلانه، والآن كلمة الزبداني كلمة فارغة لا معنى لها.
وصلت البيت وقرعت الباب وفتحت لي أمي ونظرت في وجهي، وانحنيت على يدها أقبلها.. وأحست بجمودي.. قالت: ما بك؟ .. وأجبت بانكسار وضعف: لا شيء ابتعدي عني..
- ما بك هل جرى شيء..؟(3/375)
- لا.. أتركيني, وغلبني البكاء وهرعت إلى والدتي تضمني إلى صدرها بحنان وتكرر السؤال عليّ, وأنا أدفعها برفق وأسعى ألا أجعل أنفاسي تلاقي وجهها.. وبعد حين:
- قلت: إنني مصاب بالسل..
- ونظرت أمي إليّ نظرة هي نسيج من الحنان والشفقة والاستغراب، ثم قالت: ومن قال لك ذلك..
- الطبيب..
- أعوذ بالله.. لا يا بني لا تستمع إلى هذا الكلام فمن أين يأتيك السل.
- لقد قالوا لي ذلك في المستشفى وهم يعتمدون على التصوير الشعاعي.. ورحت أقص على أمي ما جرى.. وأنا مضطرب أرتجف وكان خطان من الدموع يغادران عينيها، وبصمت ليرسما طريق الحنان والمحبة على وجنتيها.
ومدت أمي يدها إلى صدري فوضعتها عليه ثم راحت تقرأ سورة الانشراح وما حفظت من الأدعية والتعويذات ورأسي موضع على صدرها في اطمئنان فلما انتهت أمسكت وجهي بيديها ثم قبلتني في رأسي وقالت:
إسمع يا ولدي.. إن ما قيل لك كلام فارغ لا تصدقه فليس بك شيء وإن كنت تثق بي فصدقني، ثم لو كان بك شيء فلا تذكر ذلك لأحد فسأكون في خدمتك وسأقدم إليك ما تحتاجه من طعام مغذ وأستأجر لك دارا في الشتاء هنا وسأوفر لك سبل الراحة حتى يشفيك الله.. ألا تعرف ابنة خالتي سلمى لقد كانت مثلك زهرة في مقتبل العمر وأصيبت بالسل.. بسبب سوء التغذية والحياة البائسة التي كانت تحياها والتعب الشديد الذي كانت تقوم به لسد نفقات أسرتها.. لقد بذلت أمها كل ما تستطيع من أجلها، فمنعتها عن الناس وقدمت لها كل ما تحتاجه من طعام ودواء حتى باعت أكثر ما تملك ولم يبق سوى الفراش الذي تنام عليه البنت وقد شفاها الله، وهي في صحة جيدة.. ألم ترها.
كان كلام أمي مقنعا ولكنه انزلق في أذني ليخرج من الثانية وأجبتها إرضاء.. نعم رأيتها..(3/376)
لست أدري كيف أمضيت يومي ذاك فقد انعزلت في فراشي وامتنعت عن الطعام وأبعدت عني إخوتي ورحت أفكر في كل لحظة في ثلاثة أشياء: السعال، العرق، ألم الخاصرة.. وما أن أظل المساء حتى كانت فكرة خطيرة قد سيطرت عليّ وملأت عليّ تفكيري، لا أمل في الحياة فلم أتحمل العذاب بقية عمري لم لا أنتحر! إن مغارة النابوع التي كنا نتباهى فيها بإطلاق الرصاص منذ يومين قريبة من البيت ومسدس أخي لا يزال في مكانه الذي وضعته فيه بعد أن استعرته منذ يومين لأفتخر أمام أصحابي أني أحسن إطلاق الرصاص، وإذا انتحرت هناك فلن يراني أحد ولن يحس بي أحد فنادراً ما يدخل المغارة إنسان.
مضى علي الليل طويلاً كئيباً مملا متعبا، كنت أسعى إلى النوم فلا أستطيع وأتقلب يمنة ويسرة بلا فائدة، حتى ضجرت، فقمت من فراشي وخرجت من الغرفة.. كان سهل الزبداني مغموراً بضوء القمر الساطع الذي يحتجب أحياناً بمرور بعض الغيوم البسيطة، وكانت الأرض تتبدد متنوعة الظلال والألوان ولكن ذلك لم يثر بي إحساساً مع أني كم أمضيت من الليالي ساهراً أرقب مثل هذا المنظر وأتمتع به وأتمتم بأغنية أو أستمع إلى المذياع.. وهبت نسمة باردة لفحت صدري فأهويت بيدي على منامتي أجمعها على صدري، ثم عدت إلى الغرفة.
جلست على طرف السرير وأطرقت برأسي إلى الأرض وتساءلت: كم بقي للصباح؟ ثم نظرت في ساعتي, لا يزال بيني وبين الفجر أربع ساعات.. ما أطولها.. مع انقضائها سأستريح.. سأنتحر.. سأموت..
وانتفض جسدي عند ذكر الموت وبدا لي وحشا فظيعا فاغرا فمه يريد أن يبتلعني.. ولكن تماسكت وتصوّرت وقع النبأ على أمي وأبي, والحزن والأسى الذي يسيطر عليها وترغرغت الدموع بعيني، وتصورت أصدقائي يحفون بالجنازة ويقفون على القبر والخطباء يؤنبونني وتصورت مجالس الصحب وقد عادت إلى ما كانت عليه من الهرج والمرج وقد خلا مكاني فيها فلا يذكرني أحد إلا نادراً.(3/377)
وأحسست بجسدي منهكاً والتعب يأخذ مني مأخذه فاضطجعت على طرف السرير وأخذتني سنة من النوم ثم أفقت ضيق الصدر مكروب النفس مظلم الإحساس ونظرت في ساعتي فإذا الفجر قريب، وتذكرت الموت فأحسست بالعرق يغمر جسدي.. وطاف في ذهني.. ألم يسألك الطبيب: هل تعرق؟ .. ها هو ذا العرق.. وأحسست بألم في خاصرتي، وانطلق من صدري سعال خفيف ضعيف.. لا ريب أنها كل العلامات والإشارات.. فلا مجال للمراهنة.. إذن لابد من الموت.
وراعني خاطر الموت.. كيف أموت وإلى أين أمضي.. إلى المقبرة. أيصبح هذا الجسد الغض الطري تحت التراب تلعب فيه الديدان، تتوسد التراب ليس له من كساء إلا قطعة من كفن أبيض رخيص, وإذا نزل المطر ورشحت قطراته على وجهي فمن يزيح تلك القطرات.. وهاتان العينان الجميلتان من يبعد عنهما القذى، وهذا الشعر المصفف الحلو الذي كنت أقضي زمناً طويلاً أمام المرآة أمشطه وأرجّله وأتباهى به بين الأصدقاء من سيزيح عنه التراب وينظف شعراته؟.
كنت سارحاً في تأملاتي حين فجأني صوت المؤذن يصيح من على المئذنة: يا أرحم الراحمين..
كنت كمن مس شريطاً من الكهرباء فاختلج جسدي كله.. وثاب عقلي: يا أرحم الراحمين.. يا أرحم الراحمين, ووجدتني أقولها وأرددها، وانتبهت إلى نفسي فأين كنت؟ السل.. الانتحار.. هل نسيت رحمة الله؟ هو الذي خلقني وهو الذي يتصرف بي وأين الرضا بالقضاء؟، ثم ما هي نتيجة الانتحار.. جهنم وهل أطيقها.. أخر الدنيا والآخرة..وهل الانتحار مما يخلصني مما أنا فيه؟.(3/378)
ثاب إلى عقلي وأدركت أن ما كنت فيه كان للشيطان فيه حظ كبير, صحيح قد أكون مريضا.. ولكن أليس الله هو الشافي ألم يسأله أيوب الشفاء فشفاه, أوليس هو الذي شفى الأبرص والأكمه.. ثم إذا لم يشفني أو ليس المرض كفارة للذنوب وإذا كنت سأموت بعد بضعة أشهر من الداء واستعجلته الآن فما هو الكسب أخاف من الموت لأقع فيه سريعا، والنظرة الباسمة إلى الحياة أليست تنبع من الداخل وكذلك النظرة المظلمة البائسة.. فكثير من التصورات والأفكار تكون انعكاسا لرأي ثابت أو عاطفة خاصة أو حالة معينة للإنسان..ثم من أين أحدد أنني سأموت في غضون أشهر وهل أعطاني الله علمه في هذا، ولكن..ربما يكون السل قد بلغ مبلغه وأكون على أبواب الوفاة؟! (3/379)
ولمع في ذهني خاطر برقت له جوانب نفسي وأضاءت ظلمات قلبي وأحسست بالراحة الشديدة وكنت كالمجنون الذي أحس بالهواء أو كالغريق تحسس يد المنقذ.. لم لا أتوب إلى الله وأستغفره مما فرطت فيه وأستأنف حياة جديدة تقوم على التقى والعبادة وتمثل أوامر الله.. وثار سؤال في نفسي.. وهذه الذنوب الكثيرة والمعاصي ماذا تصنع بها وأنت لا تتوب للتوبة وإنما خروجا مما أنت فيه.. وعرفت بفطرتي أن هذا السؤال من عمل الشيطان.. وتذكرت قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} , وملأ قلبي نور القرآن بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وتبسمت ثم انفجرت باكياً وأنا أرفع يدي عاليا وأقول: الحمد لله.. الحمد لله يا أرحم الراحمين. رضيت بقضائك يا أرحم الراحمين, وعلا صوت المؤذن يصيح: الله اكبر فانتفضت وقلت: الله أكبر الله اكبر.. ثم قمت فاتجهت نحو البحرة المتوسطة لباحة الدار فتوضأت ثم قلت: اللهم إني قد أسرفت من الذنوب الكثير وأنت الغفور الرحيم..اللهم إني أعاهدك وأشهدك أنني استغفرك وأتوب أليك.. ثم اتجهت نحو الغرفة أريد ردائي ومفتاح الدار.. ووقعت عيني على الكوة التي وضعت فيها المسدس فأشحت بوجهي عنها، وقلت: أستغفرك اللهم.. كانت المرة الأولى في الزبداني التي أهبط فيها المسجد مصليا صلاة الصبح، دخلت المسجد الرحب فأحسست بالنور يملأ نفسي والبهجة تغمر قلبي, والسعادة تسيطر علي.. وطفرت الدموع من عيني فتركتها تسيل وأردتها أن تشفع لي ذنوبي ووقفت خاشعاً متذللا فصليت السنة ثم انطلقت في الدعاء وغلبني الوجد فيما شعرت بنفسي ولا بمن حولي.. غير أن يداً نحيلة لجسد شيخ متهدم كانت تربت على كتفي لتقول: بارك الله فيك يا بني.. لا تنسني من دعائك.(3/380)
مضى ذلك اليوم على خلاف أمسه فقد عمدت إلى الطعام كما كنت أصنع قديما، وبديت باشا ضاحكا أمام أمي وإخوتي، ولعلهم استغربوا حالي, إلا إنهم رأوا مني عزوفا عن مزاح بارد كنت أعكف عليه, وأغنيات تافهة كنت أرددها, ورأوا مني منظرا ما عهدوه في حياتي إلا قليلا، ذلك أني صاحبت المصحف وعنيت بالتزام صلاة الجماعة.
وعادت السيارة بعد أيام لينطلق بي منحدرة من تلال الزبداني نحو مدينة دمشق، فموعد الصورة الجديدة الصوري وزرع الجراثيم في هذا اليوم, لكن السيارة كانت هادئة فلم يكن فيها صخب ولا هرج ولا مرج، وإنما تمتمة بسيطة لشاب هادئ وادع يسرج نظره في المصحف حينا وفي المناظر حينا آخر.
كان كل شيء ذلك اليوم رائعا وجميلا في مظهري، فالشمس باسمة مشرقة دافئة حلوة تحن الأرض إلى أشعتها تنفض بها عن شعرها قطرات الندى التي صبها عليها الليل قبل أن يرحل, وكانت الأشجار تهتز طربة فرحة على أنغام الطيور والعصافير, وقد اكتست من خضرة الثوب ما راق, وتوشي بدنانير الذهب وورق الخريف, وكان النسيم يهب ناعما رقيقا لينا, وكأنه أم تمر بيدها على خد وليدها تداعبه وتخشى عليه.. دخلت المستشفي وقلبي تسيطر عليه السكينة التي يدافعها الأمل بالشفاء والخوف من المرض، ووقفت على كوة الموظف فدفعت إليه بالورقة المقومة للصورة.. وأخرج الرجل ظرفا كبيرا، راح يقرأ ما كتب على غلافه باللغة الأجنبية، ثم استأذنني قليلا ودخل غرفة الطبيب.(3/381)
انتابني شعور من القلق يشابه ما ينتاب الطالب الذي ينتظر نتيجة امتحانه، فلا يزال هناك أمل يتردد قد يخبو فقد لا أكون مصابا إصابة شديدة، ولكن الأمل بالله قائم ورحت أرقب الباب بلهفة من ساعات عديدة، وأخذت أتحرك قليلا فلا أكاد أغادر النافذة حتى أعود إليها وعيناي مسمرتان على الباب لا تفارقانه. وظهرت قامة الرجل فاتحا الباب فحدقت في وجهه لكنه لم يعرني انتباها وإنما صاح على الخادم أن يذهب إلى المختبر وأن يحضر تقرير الطبيب الجرثومي, ثم عاد إلى الغرفة ومر الخادم بعد قليل يحمل ورقة بيده فاخترق ألي الغرفة المغلقة ... كان قلبي يدق.. وكانت نفسي مضطربة، ومع هذا فكنت أحس براحة شديدة، فتعلقي بنتيجة التصوير والفحص لم يذهب طمأنينتي إلى الله, ورحت أتضرع إلى الله وأدعو وأتذلل, وكنت في حالة من الانكسار ندر أن تمر في حياة الإنسان وندر أني مررت بها.
وأخيرا جاء الرجل.. ونظرت إلى شفتيه كما ينظر المتهم المظلوم إلى شفتي قاض ظالم ونظر إلي باسما ثم قال: اطمئن.. فلقد فحصنا الصورة الكبيرة فما وجدنا بها شيئا وقد كبرناها مقاطع مقاطع فما وجدنا شيئا ونظرنا في نتيجة الزرع الجرثومي فوجدناها سلبية فاذهب واطمئن..
وقلت: لكن كيف تعلل الصورة الأولى وما فيها؟..
ضحك, وقال: لا هذه قضية بسيطة فكثيرا ما يتفس الإنسان وقت لقط الصورة فتأتي مشوشة وقد تفسد عند تحميضها فنضطر إلى إجراء ما رأيت للتأكد من المرض والسلامة..
لست أدري ماذا انتابني وأنا أسمع كلام الرجل بسلامتي، كدت أصفق، أصيح, أقفز, أنادي على الناس ليشهدوا أني معافى, أضمه, وأقبله, أبكي, عواطف متعددة اجتاحتني.. ولكني تذكرت فضل الله علي فخررت على الأرض ساجدا, وقلت: الحمد لله والدموع تترغرغ في عيني..ثم انطلقت مسرعا أريد أن أخرج على الناس والأهل والصحب ليعلموا أن ما قيل عني كان غير صحيح..(3/382)
انطلقت من باب المستشفى والسعادة تغمرني, والطرب مسيطر عليّ يستفزني, وكانت خطواتي سريعة غير متزنة, وانتبهت إلى نفسي أنني أدندن بأغنية قديمة.. وتوقفت عن الغناء وقلت: أستغفر الله, فالوقت وقت حمد واستغفار ثم انطلقت أتمتم: الحمد الله.. الحمد الله.
وصلت البيت وكان فارغا كما تركته منذ أربعة أيام فلا يزال الأهل في الزبداني, ومدت يدي إلى جيبي أبحث عن المفتاح, ولاحت مني نظرة إلى شباك سلوى, صديقة الأيام الماضية, وابتسمت ولوّحت لي بيديها كعادتها وأحسست أن يدي ترتفع لترد على التحية, وأن شفتي بدأتا تفتران عن ابتسامة وفي نفس اللحظة كان صوت المؤذن لأذان الظهر قد انطلق: الله أكبر.. وتذكرت التوبة وعهدي لله.. فارتخت يدي.. وجمد وجهي وقلت: الله أكبر ثم نظرت نحو المسجد فرأيت مئذنة سامقة في الجو تذكر بالصعود والتسامي والارتفاع عن كل ما في الدنيا من مغريات.. رددت مرة أخرى: الله اكبر, فقد وضحت الطريق وظهرت السبيل.. فلا مجال للعودة أو التردد وتركت المفتاح في جيبي وأدرت ظهري لسلوى وما تعنيه من مغريات الدنيا ثم اتجهت نحو المسجد للصلاة فما أحلى التوبة, وما أحلى الطريق الجديدة!!(3/383)
النبوة: اصطفاء وقدوة
للشيخ أحمد مختار البزرة
المدرس بكلية الدعوة
إن العالم يتطلع في هذا العصر إلى أمة تتحمل الواجب المقدس في الدفاع عن الإنسان، هذه الأمة يجب أن تصير قدوة، ولا تصير قدوة إلا إذا عرفت في تاريخها مثلاً يحتذى.
المحاضرة الرابعة في الموسم الثقافي لعام 89-90 الذي تقيمه الجامعة الإسلامية بالمدينة. وقد ألقاها المحاضر على جمع غفير من رجال العلم والحجاج وطلاب الجامعة بمقر دار الحديث.
يعيش إنسان العالم المعاصر أياماً شداداً؛ تظله غيوم التشاؤم، ويملأ نفسه اليأس، إنه في عالم العصر الحديث؛ عصر المدنية الغربية الذاهبة شرقاً وغرباً؛ مدنية المعجزات العلمية والمخترعات الباهرات، مدنية شقَّ صانعوها أجواء الفضاء وحزموا الحقائب للسفر إلى الكواكب؛ مدنية فتحت لأعينها آيات رائعات على عظمة قدرة الله الخالق ودلائل على البارئ المقدر الحكيم! ومع ذلك فإن إنسان هذه المدنية في قنوط وعجز وخوف؛ خوف من مدنيته التي شيدتها يداه، ينظر في كل مكان فيرى رؤوس القنابل النووية في البر والبحر والجو مشرعة تريد أن تنقضَّ، فيغمض عينيه ويهرب بنفسه إلى دنيا الوجوديين والعراة والخنافس والمخدرات؛ خوف على خوف إذا وضع يده على قلبه أنكره. إنسان هذه المدنية يلوك خيبة مريرة، لقد قضى قروناً بحثاً عن السعادة والمعرفة والحق والخير والجمال، وأقام دهراً طويلاً يتشدق بالحرية والعدالة والمساواة، لكنه أخفق في تحصيلها، وأخذ بنفسه وبالآخرين لما فرض نفسه وحضارته عليهم دليلاً وقيما. فأشقى نفسه وألقى على أمم الأرض الشقاء.(3/384)
إنسان هذه المدنية - على عديد تجاربه في الحياة وضخامة وسائله وإمكاناته - ليس كالإنسان الذي كرمه الخالقة أول مرة وأمر الملائكة بالسجود له. إنه إنسان فقَدَ نقاء الفطرة، وانحط عن مرتبة الكمال الأمثل، إنسان رضي بالأرض قسما وباع السماء بيعة وكس، وقطع بينه وبينها الأسباب وعاش في الأرض للأرض لا لربه ولا لنفسه، ومنها اشتق معناه الوجودي معنى مادياً بحتاً، ووزن نفسه بترابها؛ بذهبها أو حديدها أو نحاسها أو زينتها أو حبها فلم يعرف لنفسه قدراً وقيمة إلا بمقدار ما جمع منها وما حاز. وكان الوزن عند الله الحق والعدل والخير والأمانة.
كان هذا انحرافا كبيراً عن الصراط المستقيم الذي هدى الله إليه الإنسان؛ انحرافاً قذف به إلى الجانب المظلم الداكن من الحياة؛ إلى الخوف بعد الأمن.. إلى الظلم بعد العدل.. إلى العبودية بعد الحرية.. إلى الشقاء بعد السعادة.. إلى القلق بعد الطمأنينة.. إلى الكفر بعد الإيمان.. إلى الحرب بعد السلام.
ويقف هذا الإنسان وقد أعد كل شيء للحرب والفتك ليخادع نفسه كما خدعها مراراً وليبحث ويتحدث في السلام.
يالها من أغنية حلوة عذبه! كذلك يتغنى السجناء بأناشيد الحرية من وراء القضبان.
قالت خديجة رضي الله عنها: "الله السلام ومنه السلام" 1. وحق ما قالت، فمن أراد السلام فليلتمسه في حمى الله؛ في شريعته ومبادئه.
وأية جدوى في البحث عنه في قلوب خاوية من تعاليم الرب لم تبق فيها شهوة المادة شعاعاً من نور، ولا نبضة من رحمه؟.
إن السلام ينبثق من المحبة، والمحبة تتفجر من الإيمان. وأن الحرب تلدها البغضاء، والبغضاء سليلة الكفر والإلحاد. إذن لا أمل للإنسانية في سلام ونجاة وللكفر والإلحاد في الأرض دولة وسلطان.(3/385)
إن خلاص الإنسانية الحقيقي أن تجد سبيلاً إلى محبة؛ محبة خالصة منزهة وليست هي في المادة! فإن المادة تستولي على قلب الإنسان ولا تورثه إلا أثرة وشحناء. وليست المحبة في الإلحاد، فإن الإلحاد في حقيقته حقد جاحد؛ حقد مخلوق متكبر على الخالق المنعم. وكيف يعطى قلب خلا من الإيمان جاحد بموجده، حاقد على ربه محبة صادقة نقية معينة؟ وهل يجتمع نقي الحب وأسود الحقد في قلب واحد؟.
إن مستنقع الحقد لا ينبت فيه إلا الخبيث، وإن الإلحاد فحمة الحقد على نور السماء.
تعيش البشرية هذه الأيام الشداد، وعلى الذين يستطيعون أن يقدموا لها شيئاً في إنقاذها أن يسرعوا في أداء واجبهم قبل أن تحق من الله كلمة العذاب.
إن الدول الكبرى قدَّمت ما عندها للآخرين؛ القوة المادية الجبارة التي لا ترحم وقالت هذه الدول كلمتها "البقاء والحق للأقوى"فقضت بذلك على آمال الإنسانية التاريخية بالعدالة والإخاء لقد قالت هذه الدول كلمتها الأخيرة، وما في كلمتها إلا الاستعباد والظلم والاضطهاد وخنق الروح والضمير. وإن الواجب يفرض على أولئك الذين عرفوا في تاريخهم وشريعتهم قانوناً غير مظلم والاستعباد أن يقولوا كلمتهم.
إن الدول الكبرى قالت كلمتها، وحيل بيننا نحن المسلمين وبين كلمتنا أن نقولها في حاضرنا ومستقبلنا وفي حاضر الإنسانية ومستقبلها. وأني لأقول - وما قولي بادعاء - ما على ظهر الأرض أمة غيرنا عندها للحق بيان ومنهج، فإن كتابنا يحتفظ بكلمة السماء في صفائها الأزلي الأوَّلي، وإن تاريخنا يشهد بواقع تطبيقي حسن لهذه الكلمة.(3/386)
إن العالم يتطلع في هذا العصر المضني إلى أمة تتحمل الواجب المقدس في الدفاع عن الإنسان وإخراجه من الظلام إلى النور؛ أمة تستطيع بما فيها من ذخر روحي، وما عندها من قيم إلهية أن تكون أرقى بني الإنسان فكرا وشعورا وأنبله غاية وهدفا، وأقدره على تسلم القيادة في معمع الأخطار. هذه الأمة يجب أن تصير قدوة ولا تصير قدوة إلا إذا عرفت في تاريخها مثلا يقتدى، فريدا كاملا من البشر؛ كاملا في إنسانيته، في حبه الخير وبغضه الشر، لا عوج في طريقته ولا انحراف في شخصيته، تجده كتلة من المعاني الخالدة المتجسدة كلمات وعمل وتنظيم. إذا اتبعته أمته، وتبنت أهدافه ورفعت شعاره، وانطلقت في دروب سيرته صارت حياتها أشبه شيء بحياته.
هذه الأمة التي تستطيع ذلك بإذن ربها هم المسلمون، وذلك المثال الرفيع هو محمد صلى الله عليه وسلم.
إنه لم يبق لنا في هذه الأيام الشداد إلا أن نعود على نبع الفطرة الصافي نستقي منه؛ إنه لابد من العودة إلى الأنبياء.
ولقد جاء كبار الرسل أممهم على حال لا تختلف بما فيها من قلق وظلم وفساد والإلحاد وانحدار في القيم الإنسانية عن عصرنا. فلنقف إذن لحظات مع:
1- مع عصر النبوة.
ولننظر:
2- في اصطفاء الذات النبوية.
ولنتأمل:
3- في إعداد الله للرسول:
أ- إعداداً نفسياً.
ب- التمهيد لظهوره تاريخياً.
ج- والتهيئة له اجتماعيا.
فإذا أحطنا بذلك بدت لنا
4- ضرورة القدوة.
عصر البعثة النبوية:(3/387)
لا مراء في أن عصر البعثة النبوية عصر ممتاز بين الأعصر الزمنية له في علم الله ميعاد معلوم كسر من أسرار الغيب, حتى يأذن الله بإنزال رسالته على عبده المختار. (ولوددت لو يتسع للقول مجال للحديث عن خصائص عصر النبوة, لكن المحاضرة تضيق عن هذا القصد. حتى الحديث الفائض عن عصر البعثة المحمدية يزيد على حظنا من الوقت. ومن ثم أجتزئ بالكلام عن العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله علية وسلم, لعلنا نظفر بفائدة وحكمه) .
فليس من شك إذن أن الله يختار للنبي عصره, ويؤقت له: ميلاده, ومبعثه, ووفاته. ولقد قال تعالى لموسى عليه السلام بعد أن ذكره بأطوار ماضيه وكلاءته له فيه {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} 1 وكذلك فإن ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم على قدر وموعد إلهي مع الزمان, وكان عام الفيل الذي ولد فيه عاما حافلا في تاريخ الإنسانية, عاما مليئا بالأحداث الضخام. أقبل فيه أبرهة الأشرم يريد هدم الكعبة بعد أن نجح الأحباش في احتلال اليمن. وكان أبرهة قائداً جلدا طموحا بعيد الأهداف, قد أزمع أن يجعل من اليمن قاعدة ملك له تنطلق منها عساكره للسيطرة على جزيرة العرب سيطرة سياسية وعسكرية واقتصادية, وأن يشد إليه قبائل العرب المتنافرة المتدابرة بخيوط وأوتار يحركها ويضرب عليها كيفما شاء. وأعمل أبرهة الفكر وكان ذا نظرة استعمارية داهية, لا يعوزها شيء من حنكة المتخصصين باستعمار الشعوب في العصر الحديث, فصمم خطته لتحويل العرب تحويلا دينيا يجعل الطريق أمامه معبدا ذللا لتحقيق أغراضه الاستعمارية. وهو أمر لا يختلف في عن الغزو الفكري وأهدافه الذي يستهدف العرب والمسلمين اليوم.
وكان أبرهة نصرانيا فأراد حمل العرب على اعتناق النصرانية بالمكر والسيف, فكان صاحب أول حمله صليبيه في التاريخ على بلاد العرب.(3/388)
وهذا ما أدركه العرب واضحا من غرض تحركاته العسكرية, وأفصح عنه عبد المطلب وهو أخذ بحلقة باب الكعبة يستغيث الله:
لاهم أن العبد يمنع
رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم غدوا محالك 2
وكانت الكعبة منذ أغوار الزمن مثابة العرب وأمنهم ومهوى أفئدتهم يلتفون حولها بمشاعرهم وشعائرهم في جو من الرضا العضوي والتقديس لمقام إبراهيم من منزلة في قلوبهم, وارتقت مطامع أبرهة إلى القضاء على أسباب وحدة العرب الروحية المجتمعة في الكعبة واستبد به التفكير في تهديمها فجاءت خطته تعد في الحقيقة تغيير جذري في مرافق العرب ومستقبلهم (خطة لا تختلف في كثير عن خطة اليهود في تحريق المسجد الأقصى وزعزعة قواعده لقطع صله المسلمين بمسجد يشدون إليه الرحال) . وقدَّم أبرهة لهذه الخطة النكراء ببناء القليس - كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض - 3 وأوضح الغرض منها في تقرير أرسله إلى سيده ملك الحبشة يقول فيه: "لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب" 4 ولما عرضها للعرب لم تهو إليها أفئدتهم وأنكروا مضاهاتها لمقام إبراهيم عليه السلام, وأحدث بناؤها رد فعل عنيف في نفوسهم تجلى في إعراضهم عنها ونهوض بعضهم للتعبير عن سخطهم ونقمتهم وهوانها عليهم بأساليب خاصة فردية فأيقن أبرهة بإفلاس القليس ما دام للعرب حول الكعبة مقام فبيَّت غزو مكة وتهديم كعبتها المشرفة, وعبأ جيشه وأعلن بالزحف.(3/389)
ولم يكن طريقه إلى مكة لا أشواك فيه, إذ من العسير على العرب أن يتسامعوا بغزو بيت الله الحرام فلا يستثارون ولا يثورون. فهب فريق ممن أوتوا حمية وغيرة يعترضون جيش أبرهة اللجب. وكانت أولى المقاومة من قوة يمانية على رأسها الملك ذو نفر 5 صمد لأبرهة بقبيلته وجماعات من العرب، ولم يكن ثمة تكافؤ بين الفريقين، فأحاط به أبرهة وأسره وكبَّله وسيره في الجيش تشهيراً وتخويفاً وردعاً للآخرين. على أن مصير ذي نفر لم يمنع قوة عربية أخرى للمقاومة من قبيلة خثعم بقيادة سيدها نفيل بن حبيب 6 فلم يلبث إلا يسيرا حتى أسر وأدني للقتل ولكنه أعلن ولاءه وولاء قبيلته الكبيرة لأبرهة وتطوع أن يكون دليله في طريق مخوف، فرضي أبرهة من ذلك ليأمن ظهر الجيش وليستفيد من حصر القوى العربية معه. وكان من خطته أن يتحاشى سفك الدماء ما استطاع حتى يأمن الثارات والحزازات ويضمن للمستقبل صفاء القلوب، ولما حاصر ثقيفاً في الطائف خرجوا إليه وأعلنوا الطاعة والعبودية لأبرهة ورضوا بأن يهدم بيت الله على أن يسلم لهم بيت اللات 1 وقد كشف إخفاق المقاومة العربية عن نواح خطيرة في واقع العرب:
1- عظم مكانة الكعبة في نفوسهم واستعداد العرب للقتال في سبيل بقائها. ولكن هذه النية الحسنة لم تظفر بالقدرة المنفذة.
2- عجز قوى المقاومة عن اجتماع بعضها البعض وتنسيق خططها.(3/390)
3- انشغال غالبية العرب في الجزيرة وخارجها بخصومتهم المحلية، وعداوتهم القبلية وأحقادهم التاريخية عن الاحتشاد لقضية كبرى في حياتهم ومستقبل وجودهم، وجعلها فوق العداء القبلي والخصومات السياسية. وقد عانت جزيرة العرب قبل الإسلام عبر أمد مديد حروباً وغزوات فيما بين القبائل، فاستنزفت قواها في غير طائل، وغرقت في الحروب حتى كادت تتفانى، ولهذا، ولم تستطع أن تتناسى الخصام العنيد والعداء المميت وأن تنسلخ من أضعاف وأحقاد تتوارثها جيلاً بعد جيل. فبات تلاقيها أمراً مستحيلاً استحالة التقاء الماء والنار. ولعل هذه الحال تكشف عن معنى العظيم في معجزة الله في قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2 هكذا كانوا يوم أصحاب الفيل في استعصاء على الالتقاء في سبيل أية قضية حتى ألفت بينهم كلمة التوحيد ورسالته الله.
4- ضعف القوة المعنوية وانخفاض المستوى النفسي لدى المقاومين منهم؛ إذ سرعان ما ألقوا بأيديهم إلى الاستسلام وحرصوا وكانوا أشد حرصاً على الحياة، ورضوا بأن يكونوا عبيداً وأعواناً وعملاء في صفوف الأعداء يكشفون لهم الطريق ويتحسسون لهم أحوال القبائل الأخرى مما يدل على أن الحياة لديهم كانت بشكلها الرفيع أو الوضيع، الذليل أو العزيز أحب إليهم وأغلى عندهم من أية قضية لهم، بل لا أجحد التاريخ إذا قلت أن العرب قبل محمد صلى الله علية وسلم لم يكن لهم قضية يضحون في سبيلها إلا قضايا خفيفة جزئية تأكل منهم ولا تعطيهم، قضايا العداء والثأر المحلي.(3/391)
ويظهر جلاء الأمر إذا قابلنا بين موقفهم من أبرهة وموقف العرب المسلمين من أعدائهم الكفرة؛ قيل لزيد ابن الدثنة وهو يقدَّم للقتل: "أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة. . تؤذيه، وأني جالس في أهلي" 1.
وكان قياصرة الروم أحياناً يروزون حرص المسلمين على دينهم فيغرونهم الإغراء المذهل ليفتنوهم، فما ينفصمون من دينهم شعرة فيلبس القياصرة من ثباتهم ويقينهم، ذلك أن صار للعرب قضية يعيشون لها، ولا يجدون شيئاً باهظاً أن يستشهدوا في سبيلها. ولا يفلح عرب ولا مسلمون لا قضية لهم، وخير القضايا طراً قضية السماء.(3/392)
5- الانقسام والسطحية في العقيدة: ولعل أفدح العوامل في مأساة العرب عام الفيل - وفي كل مأساة من مآسي تاريخهم كله - خمود نيران الحمية الدينية في القلوب, وفقدان الأشداء من المؤمنين: أعمدة الثبات والتثبيت في الملمات والحروب. فبينما كان أعداءهم الأحباش يتقدمون إلى بيت الله الحرام بحمية صليبيه طاغية, كانت أفئدة العرب خلواً من شعور ديني مقدس دفاق قادر على دحر الموجة الصليبية. ولو فتشنا قلوبهم يوم ذاك لما وجدنا فيها حقيقة من حقائق الدين, ولا معنى واضحا من معانية يعتصبون به وينطلقون منه. كل ما فيها يوم ذاك ظلال من دين إبراهيم غمرها من الوثنية غبار كثيف. . أفسدت عليهم الأصنام دين التوحيد وباعدت بين معتقداتهم وقلوبهم وألقت البغضاء بينهم إذ ذهبت كل قبيلة بصنم, تعبده دون القبائل الأخرى, فكان هذا الانقسام في الدين عاملا خطيرا في تفتيت وحدتهم كأمة لها دور في التاريخ. حتى صارت بعض القبائل لا تجد ضيرا في تهديم الكعبة إذا سلم لها إلهها كما رضيت ثقيف بذلك على أن تبقى لها اللات وجرى العرب في عبادة الأوثان على تقليد ذميم وليس لها في طباعهم وتفكيرهم أصالة واستقرار. ولم يكن في مقدور الأوثان أن تلهب القلوب بحمية ما. فاجتمع لهم إلى الانقسام السطحية في الدين, وهو داء عياء خذال قتال في المواقف الكبرى التي يتقرر فيها المصير, وكان العرب يوم ذاك بما هم عليه من هذا على شفا الضياع والهلاك؛ لئن لم يخلعوا الأصنام التي قسمتهم والوثنية التي أماتت شعورهم وحميتهم ذهبوا وضاعوا وهلكوا. ولهذا لما أراد الله بهم خيرا بدلهم بعقائدهم المشتتة الباهتة المميتة عقيدة التوحيد المجمعة المتألقة بالنور الدفاقة بالحياة. قال تعالى يذكرنا بهذه النعمة الكبرى والمنة العظمى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ(3/393)
عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [1] , ولا غرو أن المعجزة الرائعة التي حققها المسلمون في مجال الفتوح والدعوة ما كانت لتنجز على أيديهم لولا العقيدة الجديدة؛ عقيدة التوحيد التي وحدت القلوب والصفوف والخطط والعمل.
لما كر أبرهة الأشرم في الطائف إلى مكة يتقدمه أبو رغال الثقفي دليلا علم أن قد صفى المقاومة العربية بأدنى وأبخس ثمن. والحق أن أبرهة لم يعوق مسيره من اليمن إلى مكة حرب ضروس, وإنما مناوشات يتبعها استسلام وخضوع وتبعية.(3/394)
ورضي أبرهة عن هذه النتائج أيما رضا إذا وفرت عليه الوقت والجهد والدماء، ولم يخامره شك في أنه أوفى على بلوغ مأربه عندما أنزله أبو رغال بالقرب من مكة. وقد طمع أن يظفر من قريش بمثل ما ظفر من ثقيف وغيرها، بتسليم كلي ليبلغ ما أراد من تهديم الكعبة برضا من أهل الحرم على مشهد من العرب وعلى أسمع العالم وبصره ليدعي هوان أمره على أهله، إمعانا في الامتهان لسكانه والمهانة لحجاجه وقاصديه. وانطلاقا من هذا القصد أرسل دورية تأديبية هجمت على أموال لقريش فساقته إلى المعسكر، ثم بعث رسولاً إلى قريش يطلب إليهم أن يرسلوا إليه بسيدهم لمباحثته. فوجهت إليه بسيدها عبد المطلب بن عبد مناف بن هاشم، شيخ وقور مهيب جاوز المئة من عمره، جرب الأيام وجربته فطن يضع القول مواضعه مخلص للبيت ولرب البيت، فسلك أبرهة مسلكاً لإرهابه وإدخال الوهن على نفسه ليسهل فرض رغباته وطلباته عليه، فأعوز إلى رجاله أن يطوفوا بعبد المطلب على الأسرى من أسياد العرب وملوكهم، فأدخل على ذي نفر وكان في حديد، ورأى نفيلاً الحنفي وآخرين مقهورين على أمرهم يقومون بخدمة أبرهة ورجاله، فحزت المرارة في نفسه إذ رأى رجالات العرب قد هزموا نفسياً وعسكرياً. وعرف عبد المطلب أنه مقبل على معركتين مع أبرهة؛ نفسية وعسكرية. وأيقن أن الثانية لا نفع في خوضها فرغب عنها غير مستسلم وأما الأولى فصمم على الثبات فيها. ولما أذن له بالدخول على أبرهة دخل ميدان الحرب النفسية ونظر أبرهة في وجه عبد المطلب بحثاً عن معاني الخوف والفرق والتخاذل فلم يجد شيئاً ووجد مهابة وصرامة وحفاظاً. وفرضت شخصية الشيخ المهيب الثابت الوقور نفسها على الغازي فانحط عن عرشه وجلس على البساط وأجلس سفير قريش وسيدها إلى جانبه، لعل اللين والتواضع أجدى إذ لم ينفع التخويف والترهيب.(3/395)
كانت هذه مظاهر من الحفاوة والإكرام اصطنعها الداهية ليستميل إليه عبد المطلب وليبعث فيه ثقة واطمئناناً إذ بدا لأبرهة أن مقدرات مكة وكعبتها أمست بين أنامله وأن قريشاً في قبضته؛ رجالها ونساءها وأموالها، وإن جيشه قادر على الفتك وإنزال العار. وكان أبرهة يريد الكعبة لا قريشاً وأستقدم عبد المطلب ليهب أبرهة له قريشاً وليأخذ منه الكعبة فيظفر بما أراد وقد من على قريش وسيدها وأفضل. وأما عبد المطلب فقد جاء أبرهة وهو يحمل معه أمانتين؛ أمانة الله فهو حاجب الكعبة وساقي الحجيج, وأمانة قومه فهو نائب قريش وصاحب كلمتها في هذا الموقف الصعب. ولقد توقع أبرهة أن يتهالك عبد المطلب على كرسيه يطلب رحمته كما فعل من قبله, وأدرك عبد المطلب ما في نفس أبرهة فصمت, ولم يفتح الحديث تجاهلا منه للأمر العظيم الذي يريده أبرهة, وتحاشيا أن يطلب مطلبا يتخذ منه أبرهة ركيزة للمساومة على الكعبة. لقد كان عبد المطلب في موقف ضنك فإن أية كلمة تحمل معنى الاسترحام لقريش والإبقاء عليها تنطوي على تنازل خطير في حق بيت الله الحرام. ومن ثم آثر ألا يتكلم في منجاة قومه حتى ألا يضيَّع أمانة الله ولما ضاق أبرهة بصمته سأله عن حاجته فقال: "حاجتي أن يرد علي الملك مئتي بعير أصابها لي"أهذا المَطْلَب كان همَّ عبد المطلب ومصدر قلقه؟ ألهذا طيف به في الجيش وعلى الأسارى واستقدم إلى الملك؟ وماذا يفعل بالشاء والبعير ومكة كلها في خطر داهم, كلا لم يكن هذا المطلب من واقع الحساب في شيء, ولكن عبد المطلب عمد إلى تجاهل مراد أبرهة تجاهلا تاما ليعلمه أن لا تنازل عنده في حق بيت الله الحرام ولو قيد شعرة, وأن التسليم بتهديمه ليس موضوع بحث على الإطلاق ولا مساومة فيه. وفهم أبرهة ما في طلب القرشي من معنى فاستشاط غضباً وعمد إلى إثارة الموضوع من قبله قائلا - وهو مغيظ -: "قد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم زهدت فيك حين كلمتني, أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك,(3/396)
وتترك بيتاً هو دينك, ودين آبائك قد جئت لهدمه, لا تكلمني فيه [2] وأجاب عبد المطلب بقول مرهف حاسم لا مجال بعده لجدال أو ادهان: "إني أنا رب الإبل, وإن للبيت ربا سيمنعه" [3] . وخرج من عند أبرهة إلى قومه خرج من المعركة النفسية منتصراً, ولم يظفر منه بطائل, ولقد كان في الكلمات الموجزة الحادة كل ما أراد عبد المطلب أن يفصح عنه وأن يفهم الغازي. قال له: "أنا رب الإبل؛ الإبل مال اكتسبتُه واكتسبتْه قريش فلي ولهم الحق أن يطلبوه. وإذا كان لي ولهم الحق في طلب أو مباحثة أو جدل فيما هو ملك لنا ومن حقنا. وأما البيت فهو بيت الله وليس لي ولا لأحد فيه من الحق كما في الإبل, ولا يحل لي بحال من الأحوال أن أتكلم فيه, أو أساوم عليه, أو أتذلل لك في أمره فإن ربه أولى به وبحمايته". إن عبد المطلب قد أوضح في هذا القول البليغ الحدود التي تقف عندها صلاحيات الزعامة, والموقف العدل الحق الذي إن التزمه الزعيم كان من الموفقين. فبيَّن فيه أن ثمة حقوقا كبرى في حياة الأمة وذمما تاريخية وإلهية لا يحق لأي ذي سلطان أو نفوذ أن يمسها وأن يجعل في مهب أهوائه ومصالحه إن شاء أخفرها أو ساوم عليها. وإن التاريخ يشهد بأن النصر يقف دائما حيث يقف أولئك الزعماء الذين يلتزمون الحق الأعلى لا يجاوزنه ولا يقبلون به عدلا أو حلا وسطا. وقد رضي الله لعبد المطلب صلابته في حرمة بيت الله وثباته فأرسل على الغزاة العتاة جنداً من السماء: {طَيْراً أَبَابِيلَ, تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ, فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [4] وما كان هذا التوفيق الإلهي في تلك الساعة لعبد المطلب نفسه وإنما لجنين في رحم آمنة بنت وهب قد بلغ منه سبعة أشهر وكان أبوه في تلك الأثناء في يثرب يلفظ أنفاسه الأخيرة وأمه تجلس في بيتها تنتظر عودة زوجها الغائب وتترقب مع الناس قلقة أوبة حميها في معسكر أبرهة: هذا الجنين الذي أذن الله له أن يتنسم أنسام مكة بعد خمسين يوما(3/397)
من غزوة أصحاب الفيل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, به قد وفق الله جده وأكرمه وأكرم العرب والعالمين.
كانت هزيمة أصحاب الفيل وما زالت آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته جعلها بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت المنة بها على أهل مكة عظيمة, ولكن القوم كانوا في جاهلية ظلماء فما أن ذهب عنهم الروع وفزع عنهم حتى عادوا يسدرون في غيهم ومظالمهم ومفاسدهم. ولم تكن الإشارة التي حملتها المعجزة لتنزعهم من الغي والضلال, فأتم الله عليهم وعلى العالمين فضله بمعجزة أعلى وأسمى فأرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ليبوئهم مكانا عزيزا كريما؛ في عام الإنقاذ هذا ولد المنقذ الأكبر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء العرب وهم أعجز الناس عن حماية حوزتهم وحرمهم ورد الغزاة فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى صنع الله منهم فاتحي العالم ومنائر الحق والحكمة.
هكذا كان ماضي أجدادنا عام الفيل ما أردنا من تفصيل الحديث فيه إلا الذكرى والاعتبار. وأيم الله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [5] .
2- اصطفاء الذات النبوية.
الاصطفاء انتخاب الله صفوة البشر ليكونوا المثال الواقعي الحي للمثل الإلهية والقيم الربانية التي ارتضاها للبشرية شرعة ومنهاجا, تخوض بها تجربة الحياة والابتلاء بغية النجاة والظفر بمرضاة الله تعالى.(3/398)
إن تجسيد القيم في أفعال وخطط يعطيها معناها الإمكاني الحق إذ يتعرف الناس على هذه المثل في واقع حياتي حي, فلتلتحم الفكرة العلوية بصورتها الأرضية, وتجري الأفكار والتعاليم الإلهية ملموسة دفاقة في الأرض جريان السيل لا ظن ولا توهم ولا مراء. ومن ثم ينتخب لها أولئك الذين تبدو العقيدة فيهم رائعة الجلاء والنقاء كما ينم البلور ذو الصفاء عما حوى, حتى إنك لا تميز بين الوعاء وما وعى. هؤلاء الصفوة يتولى الله سبحانه اختيارهم وهو العليم الخبير، ويجعل فيهم بقدرته ومشيئته الاستعداد للنبوة ليكونوا حقائق العقيدة المتحركة على الأرض. هذه النخبة يمكن أن يقال فيها: "أنها ليست وليدة بيئتها ولا من صنع مجتمعها, أنها جنس منفصل وجد كالغريب في بقعه نائية. وأنها لتحس بغربتها قبل أن يأتيها خبر السماء وتتجافى عن ضلال الناس كأن عالمها غير عالمهم وكأن قوة علوية تجتذبها إليها -تلمس آثارها وتشعر بتأثيرها فيما يجري لها ولكن تبقى محجوبة عن السر حتى يكشف الحجاب ويأتيها الوحي - فيتصل حبلها المقطوع بالعالم الذي كانت تستشعر وجوده ولا تدري كنهه, وتجد نفسها بعد ضلال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى, وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [6] وتعرف حقيقتها ومهمتها فيزول عنها الإحساس بالغربة, وتستشعر نفسها وكيانها بقوة وتمكن, وتأخذ في التلقي من الله تلقيا تلقائيا آنيا فلا تتردد ولا تتحرج ولا تجادل ولا تماري, وإنما تستجيب للأمر وتتمثل للأمر للكلمة الإلهية آنيا كما ينبثق النور آنيا لا يدري أول شعاعه من أخره لسرعته تلك الاستجابة التي تلمس حقيقتها في إبراهيم. . {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [7] ولم لا يسلم للحظته وقد بحث طويلا عن ربه في ملكوت السموات والأرض فلما اجتباه ربه وكشف حيرته وهدى ضلاله لم يبق إلا الامتثال والتلبية. عندها يعلم المصطفى المختار أسباب عزوفه عن قومه ونفوره من(3/399)
تقاليدهم وعباداتهم, ويوقن أن عناية الله كانت تلاحظه قبل الوحي الصريح والخبر الوثيق فيلجأ إلى ربه ليستمد منه وليستضيء بنوره ويغرف من معين هديه. وتتمايز نفسه تمايزا كليا عما حولها وتصبح قوة فعاله تأتي بالمعجزات ولا تبالي بالمعوقات. فلا تهاب أن تدخل معبد الوثنين الفأس بيدها تهزأ بالأصنام وتجعلها جذاذ ثم تقف وحدها تتحدى صخب الجمهور الضال, وطغيان الحاكم الجبار والتحريق بالنار, وتقابل التحدي صخب العجاج بتحد صليب مرهف نافذ. ولا عجب أن تقف وحدها على الصفا لتقول كلمتها المأمورة بها وتبلغ رسالته المنوطة بها, وليس عجيبا أن تقول: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري, على أن أترك هذا الأمر, حتى يظهره الله, أو أهلك فيه, ما تركته" [8] لأنها أيقنت أن معنى وجودها هو أداء رسالة الله, فإن لم تؤديها فلا معنى لبقائها. ولهذا تبلغ في الاستبسال مدى لا تحتمله النفوس الأخرى, وفي الصبر شأوا يعجز عنه أولو العزم في غير الأنبياء, وتصبح شجاعتها وصبرها موضع الدهشة من الخصوم. وهذا التحدي المنتصر؛ تحدى فرد وحده لأمة أو مم لا يصدر عن أفراد عاديين, إذ لا يملك فرد مستضعف أعزل أن يغير نظام العقيدة, والمجتمع والتاريخ لأُمة إلا إذا أيدته قوة قاهرة على القوى فاستمد من ذخرها للصمود والهجوم والانتصار إن هؤلاء الأفراد الذين اختارهم الله وخلق فيهم هذه القدرات والإمكانيات هم وحدهم أمم, فإن كلا منهم مبدأ أمة جديدة وتاريخ محدث, جمع الله له في نفسه القوى اللازمة للمستقبل الجديد, فسرت منه إلى قلوب الأجيال قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [9] .(3/400)
وفي القران الكريم إشارات واضحة إلى تلك الصفوة المختارة في ملايين البشر المبعوثين في الأرض قال تعالى مخبرا عن طريقته في الإرسال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [10] وهو يعلم أولئك الذين يطيقون النهوض بتبعاتها إذ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [11] ومن ثم كان اصطفاؤه لأفراد مخصوصين متميزين ذهبوا بخلود الذكر في الدنيا والآخرة: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ, ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [12] .(3/401)
وهؤلاء الأصفياء - على تباعد الزمان فيما بينهم - بعضهم من بعض, فإن بينهم نسبا هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله للبشر منذ أبيهم آدم, ولما بعث خاتم الأنبياء وسيد المرسلين كان اختياره من صفوة الصفوة؛ إن محمدا صلى الله عليه وسلم خير نسمة برأها الله بين سابق البشر ولاحقهم. إن أكمل الرسالات وخاتمتها تستلزم رسولا هو أكمل ما خلق الله من بشر وأطهر. وهذا أمر هيأ الله له الأسباب منذ آدم عليه السلام, قال عليه الصلاة والسلام: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت في القرن الذي أنا فيه" [13] وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري دلالة كافية على انتخاب إلهي مستمر خلال أجيال البشرية حتى استخرج منهم محمدا صلى الله عليه وسلم وكان استخراجه من بيت أوله النبوة قال عليه الصلاة والسلام -في حديث رواه مسلم-: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة, واصطفى من بني كنانة قريشا, واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم" [14] وكان علية الصلاة والسلام يقول: "أنا دعوة أبي إبراهيم" [15] فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء نفسه وجسده الطهر, إذ اختاره ربه من أطهر نطفة في الأصلاب. روي عن عائشة رضى الله عنها قوله صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح غير سفاح" [16] وثبت في الصحيح قوله: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر" [17] ولا عجب فهو مصطفى الأصفياء: طاهر مطهر, وسيد الأنبياء.
3- إعداد الله لعبدة للرسالة:(3/402)
إذا كان لبعث النبي عند الله ميعاد معلوم فإن أحواله وأوضاعه في مختلف مراحل حياته جارية على تقدير وتدبير من الله العزيز الحكيم؛ يختار له الوسط الذي يكتنفه, والمؤثرات التي تحيط به, ويفاعل بين نفسه وبين ما وضعه فيه, فيخلق فيها ردود الفعل المناسبة للمستقبل القريب. إن الله هو الذي يصنع الأنبياء, وينشئهم النشأة المواتية للرسالة, إنه رب العالمين الذي تقبل مريم: {بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [18] وهو الذي صنع موسى على عينه, ووضعه في قصر فرعون آية كبرى من آيات التحدي لطغيان سادر, غير مرعو, لينشأ في حجور الجبابرة, ويخرج من عندهم أكبر ناقم, وأشد ساخط على الظلم وتعبيد الشعوب.
ومن ثم لم يكن شئ في حياة محمد صلى الله عليه وسلم قبل المبعث إلا بتدبير الله الخالص وتهيئته وقد يبدو أن كلامنا هذا تحصيل حاصل فكل ما في الوجود إنما هو بتقديره عز وجل. ولكن قلنا ما قلناه لنوجه الأنظار إلى أهميه الظروف والحوادث التي عاشها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنكتنه مغزاها العميق ,ولنطيل الفكرة في هذه التنشئة التي انتهت إلى تفجير الحكمة الخالدة في فوائده تلك الحكمة التي رفعها الله نبراسا هاديا مشعا للبشرية إلى يوم الدين.
إن حياة تتفتح عن الحكمة الكلية الأخيرة للإنسانية لجديرة بالتفكر والتدبر والاعتبار وبأن تتأمل في شكلها ومضمونها والأحداث التي صنعت مادتها.
أ- الإعداد النفسي:(3/403)
كان أول وحي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء شديد الوطأة. لقد عانى حادثة غير عادية ولا مألوفة , خفية العلة, ولا يفسر حدوثها بسب من الأسباب الظاهرة (كما ينشأ الغيث في السحاب , مثلا) فإن مصدرها ليس عالم الشهادة بل عالم الغيب. هنالك لا يسع الإنسان إلا أن يتلقى بالقبول المطلق والتصديق الكلى , لأن أحداثه فوق منطق الأرض المحدود بالسبب والنتيجة. لذلك لا يقدر على احتمال الوحي إلا الأنبياء الذين أعدهم الله للثبات عند رؤية الملاك, وتصديق ما جاءهم من خبر السماء. ولم يصادف الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسا لم تهيأ لاستقباله , بل جاءه بعد إعداد طويل من رب العالمين, عرف فيه حوادث غيبية المنشأ, لم يدر لها علة ظاهرة. فكانت مقدمة صالحة لاستقبال الوحي, رفقا من الله برسوله, ورحمة بنفسه البشرية.(3/404)
وكأن بعض هذه الحوادث كانت تقول له قبل مبعثه: لست وحدك, ولا لنفسك وإنما أنت للذي يعدك ويرعاك لتكون امرأ غير الآخرين, وإن في غدك لأمرا فترقبه, فتبعث فيه تساؤلا وتطلعا وترقبا, وربما كان من شأنها أن حببت إليه العزلة والتحنث في حراء. واستقبل أولاها وهو طفل مسترضع في بني سعد يوم جاءه الملكان فشقا صدره واستخرجا قلبه وغسلاه بالثلج والبرد. حادثة فوق إمكان العقل الإنساني ولكنها على الله هينة لذلك لم يكد أبواه في الرضاع يستمعان خبرها من فم الطفل البريء الصادق حتى طارا به إلى أمه في مكة فزعا أن يكون بدأ به عرض مرضي إذ لم يستطيعا أن يصدقا طفلا في أمر لم يألفاه. ومن أدراهما أن من بين أيديهما نبي منتظر؟ ولكن الطفل لم ينس الحادثة, ومرت في شعوره خفيفة الوقع وهو صغير, فلما شب على الأيام تألقت في ذاكرته وإحساسه, ولا شك أنها شغلت تفكيره حتى مبعثه, فلما جاءه الملك ليلة الإسراء, وشق صدره للمرة الثانية وغسل قلبه بماء زمزم استعدادا للسفر به إلى الملأ الأعلى والمثول بين يدي الله تيقن أن حادثة الطفولة كانت إحدى براهين النبوة ليتعرفها في نفسه, وليثبت يوم يزعزع كيانا في غار حراء والملك يفته ويقول {اقْرَأْ} [19] ويوم يقول لخديجة رضي الله عنها: "مالي أي شيء عرض لي؟ لقد خشيت على نفسي" [20] في هذه الساعات من الزعزعة الحيرة كان تذكر هذه الحادثة وما أشبهها أنفع شئ في الثبات واليقين, وتستبين حقائق الحاضر بدلائل من الماضي. وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مغزاها الكامل إذ سئل خبرنا عن نفسك يا رسول الله [21] فجعلها عليه الصلاة والسلام إحدى أربع علامات للنبوة عرفها في نفسه. ومن يدري؟ ربما ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته يستشعر العذوبة والراحة النفسية التي أحس بها عندما استخرج الملكان من قلبه علقة سوداء وغسلاه بالثلج والبرد: إننا لنسمعه يقول في دعاء له "اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج,(3/405)
والماء, والبرد" [22] وثمة حوادث تقصد مع تنبيه النفس إلى حينانتها وحياطتها من الوسط الجاهلي. وللبيئة أثر في النفس لا يدفع, وقد تولى حفظ نفس نبيه صلى الله عليه وسلم من أقذارها وإخطارها, حتى يتم له الطهر ويسلم له النظر السليم, والإحساس اليقظ وليفرق بين القيم الحقيقة التي هي كمال الإنسان وبين القيم التي هي النقص والخسران ولقد شاء الله - ومشيئته حق ونور - أن تتمايز هذه النفس عن محيطها لتبصر مساوئه وتنقده نقدا دقيقا عادلا حرا تنقده وهي تنظر فيه بنور الله نقدا لا يعرف الادهان ولا أنصاف الحلول فإن الحق لا يتجزأ أو لا يجزئ بعضه عن بعض؛ إننا لنجد الله قد حمى نبيه أن ينكشف إزاره عن العورة إذا تعرى الصبيان أو الرجال وهم يحملون الأحجار للعب أو لبناء الكعبة [23] وفي هذا صيانة لنفسه النبوية من أن تتأذى بما يبعث في النفس من أحاسيس غير كريمة. وحماه من حضور مجالس اللهو والغناء وكان حييا. وكانت الكعبة تزخر بالأصنام وقريش تذبح لها في الأعياد, فحال الله بين نبيه وبينها فلم يمس حياته صنما ولم يحظر عيدا لها. لقد فارق قومه في باطلهم مفارقة كبيرة عرفتها عشيرته فيه قبل النبوة, ومن أعجبها وقوفه بعرفة مع الناس, على حين كانت قريش مما يقفون في المزدلفة.
ذلك أن الله أنعم عليه بالحس السليم الذي يميز بين الحق والباطل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد في قومه فضلا نوَّه به ومِنْ هذا ثناؤه على حلف الفضول الذي تعاقدت قريش فيه على رد الحقوق للمضطهدين وعلى حماية الضعفاء منها ومن غيرها, فقال فيه: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" [24] ولعل هذه العدالة في الحكم ظاهرة الدلالة في قوله: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق" [25] .(3/406)
هذه الحوادث وإضرابها من إرهاصات النبوة لم يمنحها المحدثون من كتاب السيرة ما تستحق من عناية وبحث فتجاوزا عن كثير منها, ولم يتلبثوا عندها إلا يسيرا. ولو أمعنوا النظر وتتبعوا أحوال المصطفين والأنبياء لو جدوا فيها سنة من سنن الله في أعداد أنبيائه.
فمن ذلك رؤيا آمنة بنت وهب حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم إنه: "خرج منها نور أضاء لها قصور الشام" [26] .
وحدثت آمنة وحيدها وأثيرها محمدا صلى الله عليه وسلم برؤياها قريرة متفائلة بمستقبل ولدها. فلما أوحي إليه أدرك أنها إحدى أمارات النبوة فحدث بها [27] .
فهل نجد ما يشبه هذه البشارة لدى أمهات الأنبياء والرسل؟ هل كانت تصدر إليهن الإشارات الإلهية بمستقبل الصغير المنتظر؟ نعم, كانت هذه الإشارات إلى بعضهن أبلغ في الدلالة وأجلى في الصراحة, بل كانت إعلاما وإخبار مكشوفا. فأخبر الله أم موسى عليه السلام وموسى في أيامه الأولى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [28] وأعلم الصديقة مريم بمستقبل عيسى قبل أن تلقى إليها الكلمة. . {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [29] ولا شك أن وضع الصديقة الفريد كان أحوج إلى وضوح الإعلام من آمنة ومن أم موسى, إذ كانت تحتاج إلى أن تصدق نفسها في أمرها حتى تقوى على الصمود في وجه تكهنات الناس وتخرصاتهم. ومن ثم حمل عيسى عليه السلام معه آيه خلقه ونبوته عندما نادى أمه من تحتها حين وضعته [30] وفي مخاطبته المجتمع المستنكر المتهم وهو في المهد [31] .
كذلك بشرت الملائكة نبي الله زكريا بحيي عليه السلام [32] , ومن قبل جاءت إبراهيم البشرى بإسحاق ويعقوب [33] .(3/407)
هذه الدلائل هنا صريحة ولإعلام أم موسى بها, ومريم وزكريا وإبراهيم وزوجه إعلاما مكشوفا, أسباب لا تخفى, ولم يكن سبب منها لآمنة. فكان رؤياها النور الذي أضاء لها القصور من بصرى الشام رمزا للمستقبل. ولو أن الأمر يتطلب ما فوق الرمز لجاءها من الله بيان. ولكنها أعطيت ما يكفيها لتتنبه لشأن وليدها. ولم يعترض حياتها وحياة وليدها من الظروف النادرة أو الخطرة أو المغايرة للمألوف - كظرف إبراهيم وزكريا - ما يقتضي الوحي. فكان الرمز هو القدر المناسب الكافي ليبعث في نفس آمنة التوقع والتفاؤل.
ب- التمهيد التاريخي للرسول:
وتلك التوطئات غرضها إعداد الرسول لقبول الرسالة ليطمئن بها قلبه, وليعلم أنه قد جاءه الحق من ربه. وهي لا تعدو في أثرها نفس الرسول ولا تستهدف غيره ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم قد سبق أمر الله أن تختم به الرسالات, وأن يقضي على آثار المرسلين أجمعين, وأن يجعل دعوته عامة لكل عاقل على ظهر الأرض. وهو أمر لم يكتمه الله عن البشر. وإنما هيأ له الأذهان, ووجه إليه الأنظار منذ زمن بعيد, إعلاء لشأنه وإظهارا لأهمية رسالته, وليكون الناس معها على وعد غير مكذوب ولتشرئب نفوسهم إلى الكمال المرتقب وليتشرفوا إلى الانتساب إلى الرسالة الخالدة, وليعلموا أن كمال النبوة وتمام الحق فوق ما حضرهم أو عرفوا من أمر الأنبياء والرسل وليحيي الأمل نفوسا كانت تألم وتتأذى من جهل منتشر وباطل مستمر.
وإرسال الأنبياء عموما أمر لم يكتمه الله عن خلقه, فأعلنه لهم منذ أبيهم آدم وأخبرهم أنه قارب الإنقاذ والنجاة. قال تعالى لما اقترف آدم الخطيئة وهبط من الجنة: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [34] ثم أصدر الله لرسله إعلاما غيبيا بمبعث نبي يتمم به الله الرسالات فكان هذا إرهاصا وتمهيدا تاريخيا لمحمد صلى الله عليه وسلم.(3/408)
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [35] فصار الناس بذلك على موعد مع الزمان بمبعث نبي نوه الله بذكره, وأخذ العهد له عليهم منذ الزمن السحيق. وفي الآية دلالة بينة على علو مكانة النبي الموعود به, والحقبة الزمنية المبعوث فيها. ومن ثم ألح بدعوته منذ أجيال وأجيال. وبهذا يجعل الله ميعاد مبعثه منارة تاريخية, يجمل أن نتخذه حدا فاصلا في التاريخ البشري؛ ما كان منه قبل محمد وما يكون منه بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وكان احتفاء الله به عظيما؛ لأنه في تقديره - عز وجل - وتوقيته له, حدث ثقيل في حياة البشر ومستقبلهم. وكيف لا يكون شيئا ثقيلا وحاضرهم في الدنيا, ومستقبلهم الأخير يوم القيامة مرهونان بما حققا من اقتراب منه, وتصديق به, أو ابتعاد عنه وتكذيب. وبهذا يتجلى المعنى التاريخي الإنساني العظيم في الآية التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس, على جبل الرحمة, في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [36] كان يوما مشهودا فاضلا تمت فيه الكلمة الإلهية والنعمة الرحمانية على بني آدم. وكان الله جعل من هذا اليوم قبلة زمانية اتجهت إليها أفئدة الأنبياء والمؤمنين بهم, إقرارا منهم على أنفسهم بأن كلا منهم مرحلة في تاريخ النبوات, وحلقة في سلسلة المرسلين. وشاء الله فأتم السلسلة بمحمد صلى الله عليه وسلم فجاءت رسالته لا يجهلها المؤمنون الصادقون من أهل الكتاب, يعرفونها {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} , وهي تحمل الإيمان بالرسل(3/409)
السابقين, والتقدير لجهودهم في تبليغ الكلمة الربانية إلى الناس, والثناء على صدقهم, وتضحياتهم في سبيل إنقاذ الإنسان من براثين الشيطان, وباركت جهادهم, وحيث إخلاصهم: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [37] .
ويبدو أن الأنبياء الذين بعثوا في الزمن المبكر, لم يتجاوز علمهم بالنبي صلى الله عليه وسلم سوى الإخبار بمبعثه, وأخذ العهد عليهم, أو دعوة حارة تجري على لسان إبراهيم عليه السلام فتفتح لها أبواب السماء, وتلتقي بما قدر الله منذ الأزل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [38] فلما تأخر الزمان وأنزلت التوراة والإنجيل, توضحت الإشارات وذكرت العلامات, وصار الذين عندهم علم الكتاب على بينة من مجيء رسول {اسْمُهُ أَحْمَدُ} [39] لا يخطئونه. إن رأوه أدركوا يومه. فقد وضح الله لهم كثيرا من علاماته؛ مكان بعثه, مهاجرة, وصفاته. ثم أتى على التوراة والإنجيل ما أتى من التبديل والتغير. وأفسدت الوثنية الدين الذي جاء به عيسى, ودخل أتباعه من بعده في الشرك إذ قالوا: إن الله ثالث ثلاثة. واختفى دين التوحيد فلم يستمسك به إلا رهبان أو أساقفة قلة, منقطعون في الصوامع, أو الكنائس يتجافون عن الناس في شركهم, وفساد عقيدتهم, ولا يجرؤون على النعي عليهم خوفا من بطشهم وتنكيل الحكام بهم. وأغلب الظن أن هؤلاء النفر القليل احتفظوا بصفاء دين عيسى عليه السلام, بما خبؤوا في صوامعهم من صحف الإنجيل الذي كان أقرب شيء إلى الأصل الذي أنزل على نبي الله عيسى عليه السلام. قال ابن هشام لما ذكر الراهب بحيرى: "فلما نزل الركب المصري من أرض الشام, وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية, ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب, إليه يصير علمهم(3/410)
عن كتاب فيها, فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر" [40] . ويلتقي هذا الحديث بحديث سليمان الفارسي رضي الله عنه - الذي تقلب في كنائس عدد من الأساقفة الصالحين قبل أن يصير إلى أرض العرب قبيل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم - إذ قال له أسقف عمورية وهو على فراش الموت, وكان آخر أسقف رافقه: "والله ما أعمله أصبح اليوم أحد على مثل ما كان عليه الناس, آمرك به أن تأتيه, ولكنه قد أظل زمان نبي, وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام, يخرج بأرض العرب, مهاجره إلى أرض بين حرتين فيهما نخل به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل". فكان هؤلاء ينتظرون الوعد الحق؛ ظهور النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل [41] .
وكانت القراءة المجردة عن الهوى في التوراة والإنجيل كافية لأن تحمل أهل الكتاب على إيمان: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [42] .
لقد نزلت التوراة والإنجيل يحملان الشهادة التاريخية الواضحة الثابتة على سر من أسرار الغيب العظمى لم يكتمه الله, ولم يجمله, عن اليهود والنصارى أعذارا لهم, وليكونوا السابقين إليه. ومن أولى بنصر كلمه الله ممن يعرفها؟ ولكنهم كانوا قوما فرقوا دينهم شيعا وأحزابا وأتت عليهم عصور من الحسد والبغضاء والعصبية فلم يفلحوا في التجرد من ذلك, والإخلاص للحق المنزل, فمنَّ الله بالدين على قوم أميين سلمت فطرهم من رسوبات الخلاف الديني ومن العقد النفسية, والصيغ المنطقية الموات, فلم يلبثوا أن صاروا به خير الأمم- والحمد لله والمنة -.
ج- التهيئة الاجتماعية:(3/411)
هذه توطئات بالنبوة, منها نفسية ذاتية, ومنها تاريخية لتعد النفس النبوة والفكر الإنساني الديني فلا يبدو الوحي غريبا للموحى إليه. ولا إلى الذين عرفوا الكتب المقدسة قبل, فهي بذلك تصل النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق العلوي وتجعله على شفا الوحي والرسالة, وتضعه حيث وضعه الله في السلم الزماني من تاريخ النبوات.
غير أن الرسالة لابد لها من ظرف اجتماعي تملؤه وتتحرك في أنحائه, وتنتشر فيه. ومن ثم كانت التوطئة الاجتماعية, وإعداد من حول النبي للتصديق بنبوته أمرا يتسق والتوطئة النفسية والتاريخية.(3/412)
ولو نظرنا باقي المجتمع القرشي, قبل المبعث لوجدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم, ملحوظ المكانة فيه, ظاهر الشخصية, مرضي السيرة, مرجوا للخير, يدل علي ذلك لقب (الأمين) الذي أضفوه عليه. وهو لقب - لو سبرنا بعيد مدلولاته - ضخم المحتوي, فالأمانة سجية تجمع لصاحبها سلامة السريرة والسلوك, وصدق الطوية والفعل, فلا تناقض بين مظهره ومخبره, بل يصدق فعله قوله, ويصدق قوله وجدانه وخبيئة نفسه. فالأمانة أول معني لها الاطمئنان والثقة؛ اطمئنان الآخرين إلى شخص الأمين, وثقتهم بما يصدر عنه. وهي سجية لا يشهد بها لامرئ إلا بعد التجربة والاختبار المتواتر [43] المستمر. ويمكن أن يقال بحق: إن الأمين من أمن الناس لسانه ويده. وهكذا كانت قريش قبل المبعث لا تخشى من رسول الله صلى الله عليه وسلم معرة, ولا يتخوفون منه كذبا, ولا يتوقعون منه إلا استقامة, وخطة حميدة, ولا يعرفون فيه إلا نبلا وشرفا ووفاء. ولا نكاد نجد لقبا أجمع لخصال المروءة والرجولة والعدالة من لقب الأمين. وهي خلال ترشح صاحبها لسيادة الرئاسة والزعامة. وهو لقب ينطوي خصال نابعة من الذات, ومن جوهر النفس ولا ينم عن صفة جسدية - كلقب أبي لهب مثلا - أو على خصلة وحيدة غالبة, منفصلة عن مجموع الخصال التي تؤلف التكامل في الخلق والنفس, - كلقب الفيض والفياض مثلا للكريم المترف - ولا أظن أنه لقِّب في قريش غير محمد بهذا اللقب. ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم في قومه زعيما, ولا طالب زعامة, ولم تعرف له - قبل النبوة - فئة تدعمه ولا شاعر يمدحه. فيكون لقبه منهم وإنما هو لقب فاز به بإجماع قريش كلها رجل كان أبعد الناس عن حياة ذات قصد نفعي, أو إشادة بالذات, وأزهد الناس في تقدم الصفوف, بلد الرئاسة والشرف. وبهذا يكون مجتمع مكة قد شهد على نفسه, وشهد عليه التاريخ بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي كان وحيد قومه في خصال الخير, وأسباب الفضل والعدل,(3/413)
ومؤهلات الزعامة. ولو تحرينا الإنصاف قلنا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان ولم يزل وحيد الناس, قاطبة, فيها.
ونحن الذين نؤمن بالله ربا وبمحمد نبيا لا نطلب الدليل على صدق ذلك. ولكن الله أقام الأدلة - على ما ذكرناه - في أحداث اجتماعية هامة, لمن شاء أن يتفكر ويتدبر لتظهر هذه المزايا على حقيقتها في مجال التطبيق والعمل في أصدق مظهر في الواقع. وخير حادثة اجتماعية يحيط إطارها بهذه المزايا حادثة الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع الركن إلى مكانه من الكعبة, عند تجديد بناءها قبل المبعث بخمس سنوات.(3/414)
لما بنى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بيت الله الحرام، وأذن إبراهيم في الناس بالحج, وجاءه المؤمنون من كل فج عميق, وعبرت على ذلك قرون, احتلت الكعبة مكانها الأقدس في قلوب العرب, وعلت مكانة الذين حولها يتعهدون الحجابة, والسقاية, والرفادة, والعمارة والشعائر. وتمتعوا بنفوذ وسلطان وأمن, وأصابوا سؤددا وغنى. فتنافس المتنافسون من جرهم ثم خزا عة على مكة وبيتها الحرام, واستضعفوا أبناء إسماعيل, وغلبوهم على أمر البيت. فاعتزل أبناء إسماعيل السلطة والحكم, وصاروا قطعا حلولا وصرما في قومهم بني كنانة [44] في السهول والبوادي والجبال, فيما حول مكة, يكاثرون, ويظهرون على مناوئيهم حتى رث أمر خزاعة, فجمع أحد رجالهم الأشداء, قصي بن كلاب, القبائل من فهر, وهي التي تؤلف بمجموعها قريشا, واستعان بقوة من اليمن [45] , وضرب خزاعة ضربة قاصمة خلصت مكة بعدها له، وانتهي إليه الحكم فيها بغير منازع. وكان قصي بن كلاب أول جد قرشي، لرسول الله صلى الله عليه وسلم حكم مكة فاجتمع له ما للملوك من أسباب الملك، ومن المهابة والسلطان، فدانت له قريش كلها بالسمع والطاعة وجمع في يده السلطة السياسية والدينية فأتاح ذلك لأبنائه [46] فرصاً للنبوغ والظهور والشرف والثراء. ولم يكن له في قريش كلها منافس، وما كان أبناؤه يخشون من بعده مزاحماً، وبدأ البيت الحاكم في مكة في أحسن أحواله منعة جانب، واتحاد رأي ومذهب. ولكن قصياً قبل وفاته أحدث فيه أول زعزعة، إذ جعل الأمر من بعده لابنه عبد الدار، وهو أقل أولاده حظاً من شرف وسؤدد. وكانت الأنظار تتجه إلى عبد مناف لما أصاب من شرف في حياة أبيه، ولكن الأخوة أذعنوا لأمر الأب المهيب، والأمر الحازم، فقد كان قصي لا يخالف ولا يرد عليه بشيء صنعه. واستطاعت هيبة قصي، ومراعاة أبنائه لحقه، واحترامهم لكلمته فيهم ولذكراه أن تحفظ الأمر بينهم من بعده كما أراده أبوهم من غير شقاق أو خصام، وحكم عبد الدار(3/415)
واكتنفته أخوته يساعدونه يعملون لبيتهم ولأنفسهم، لا خلاف ولا نزاع، ولكن أبناءهم من بعدهم لم يكونوا مثلهم في ضبط النفس، والحفاظ على وحدة الحكم فحمي وطيس المنافسة بين أبناء العمومة: بين بني عبد مناف وبين بني عبد الدار. وكان لكل فريق أنصار، ومؤيدين متكافئون وأتى على قريش يوم إذا البيت الحاكم فيه بيتان، وإذا القبيلة قبيلتان، قد تعاقد كل فريق على الموت والفناء فلم يبق إلا السيف والدم، وكانت هذه اللحظة شديدة الحرج، بالغة الخطورة في حياة قريش، ومستقبلها كله، فكان الضياع والخسران والغدر الماحق في انتظارهم جميعاً. وإذا تكافأت القوى المتصارعة وخاف الخطر الناس جميعاً أتيح للعقل دور، وللحكمة مكان. وهكذا كان إذ تداعى الفريقان إلى الصلح، وانتهى الاتفاق إلى إشراك بني عبد مناف في حكم مكة. ثم لم يلبث بنو عبد مناف أن عزوا بني عبد الدار بمكارمهم ومآثرهم، فأخملوا ذكرهم وانصرفت السيادة لبني عبد مناف، وارتفع المجد والشرف بهم. وتعلقت بهم قلوب قريش من غير إكراه وظفروا بتقدير واحترام غيرهم من الأمم بما أوتوا من كياسة وخطة حكيمة نفعوا بها بلدهم وقومهم.
والحق أن البيت المنافي ظهر فيه شخصيات لم يظهر لها نظائر في بيوتات قصي الأخرى. كان هاشم بن عبد مناف من أقواها، وعبد المطلب بن هاشم من أعلاها قبل الإسلام. وقد أقرت قريش كلها بالسيادة لهما. ولكن النزاع الأول خلف وراءه مضاعفات نشأت منها أعراض خطيرة في قريش: لا شك أن قريشاً عند النزاع لم تختلف فيما بينها على زعامة آل قصي إذ كانت تسلم بزعامة هذا البيت تسليما، وما كان فيها أحد على مستوى المنافسة، وإنما كان الخلاف على أبناء قصي يكون زعيماً. ولكن الخلاف بعث في قريش حركة سياسية: دبت خفية، ثم حبت خفيفة. ثم سمعت عاملة نشيطة:(3/416)
لما انقسمت قريش حول أبناء قصي فريقين يختصمان فيهم، كان هذا - ولأول مرة - إشراكاً فعلياً لها في السياسة الداخلية للحكم، وإسهاماً عمليا في اختيار الزعيم، أو الاتفاق عليه. وقد وقف كل بطن منها في السلاح في وجه الآخر يوم ذاك وحمل هذا معه روح الانشقاق والتنافس.. وإذا كان الصلح قد رد السيوف في أغمادها، فإنه لم يرد إلى القلوب صفاءها ورضاها، وأصبح من العسير أن يرضى بطن من البطون، بحظ من الشرف والمكانة أقل من حظ خصومه، فنشطت حركة من التنافس الداخلي بين بطون قريش، ظلت في غلوائها حتى فتح الله على محمد صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وقد دفع أحقاد قصي وهاشم وإخوته هذا التنافس الاجتماعي قدماً في طرق مأمونة، ففتحوا لقومهم مجالات السعي والكسب الوافر، وعقدوا لهم الاتفاقيات التجارية مع الأمم المجاورة ومهدوا لهم السبل، ونظموا لهم رحلة الشتاء والصيف، فانطلقت قريش من قبيلة تكتسب من التبادل المحلي، إلى بيوتات تجارية يضربون في الآفاق وتنصب في أوعيتهم الأموال. وتفتحت مواهبهم، واتسعت مداركهم وعرفوا الخطأ من المجتمعات. ورفع هذا من قدرهم عند العرب جميعاً، وصرفهم هذا السعي الخارجي عن التنازع والصداع في الداخل. فلم تلق قريش من تسويد أبناء قريش إلا خيراً ولم تنازعهم على ما في أيديهم من أمر البيت، بل أولتهم أمورها، ورضيت عن سياستها فيها، وأجلت قريش بعد قصي رجلين من أحفاده هاشماً، وابنه عبد المطلب، أقرت لهما بالسيادة وأعظمت مكانهما. وأتت على قريش في تطورها الاجتماعي عشرات السنين، تبدلت فيها المنازل الاجتماعية تبدلاً ملحوظاً - كما هو الشأن في التطور الاجتماعي لكل أمة - فاغتنى كثير كانوا فقراء، وافتقر قوم كان أهلوهم ذوي مال. ونبه من كان خاملاً، وتقدم إلى القمة كثيرون لم يكونوا شيئاً مذكوراً. وصارت أكثر بطون قريش أفراس رهان، وقد نزلوا كلهم إلى الحلبة بعد موت عبد المطلب - آخر سيد في قصي قبل الإسلام - ولم(3/417)
يستطع ولده أبو طالب من بعده أن يحتل مكان أبيه (فكانت أمور البيت بينه وبين أخيه العباس) وإن كانت قريش تجل مكانه، وترعى جانبه، وتعلي قدره. فكان أبو طالب سيد بني هاشم وبني عبد مناف. ولم تكن سيادته في قريش كلها. بشهد بذلك أن أبا جهل استطاع أن يؤلب عليه قريشاً، ففرضت عليه الحصار الاقتصادي، والعزلة الاجتماعية في الشعب، حين استشرى العداء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين.
لقد ظهرت أزمة سياسية حادة بعد موت عبد المطلب نتيجة الحركة السياسية الاجتماعية السابقة، هي أزمة الزعامة: لمن السيادة في مكة بعد عبد المطلب؟ كان كثير من البطون على قدر متقارب من الوجاهة الاجتماعية، مما جعل الأزمة عسيراً حلها. وهذه الأزمة وإن لم تعلن عن نفسها في شعر أو ندوات أو تكتلات سياسية، فقد كانت كامنة في الأنفس على أهبة الظهور، عند أية بادرة، فيها للتنافس مجال. وهذا ما حدث حقاً عندما اختصمت قريش فيمن يرفع الركن إلى موضعه، وهم يبنون الكعبة؟ إن من يرفع الركن يوم ذاك هو السيد المطاع. ربما ما كانوا ليختلفوا على عبد المطلب لو كان حياً ولكن قريشاً فقدته ولم تتفق على غيره، وكانت أزمة حادة قسمت مرة أخرى قريشاً إلى فريقين، وكادوا يحتكمون إلى السيوف، لقد فقدوا السيد الزعيم، وودوا لو يظفرون به حتى لا تراق دماءهم على جدران الكعبة المقدسة المشرفة، وانتظروا، وقلبوا بينهم أمرهم، وقالوا: ليقض بيننا أول من يطلع علينا من باب الصفا. وطلع عليهم الزعيم؛ طلع محمد بن عبد الله. وكان صوت واحد مجلجل، كله فرح ورضا وقبول: "هذا الأمين رضينا، هذا محمد" [47] .
لقد كان محمد بن عبد الله - إذ كان رجل مواقف - كان الزعيم المرتجى؟ فما سبب هذا الرضا الجماعي؟(3/418)
لن تتعب أنفسنا بالتنويه بنسبة العريق. وهو وإن كان من أسباب الرضا. لكنه لم يكن السبب الأساسي فلو كان ذلك، فإن أبا طالب كان بين ظهرانيهم، وهو أسن منه، وسيد عشيرته يوم ذاك، ولكن السبب في شخصه لا في نسبه - مع إحترامنا البالغ لنسبه الزكي صلى الله عليه وسلم. لقد قالوا: "هذا الأمين"فأشاروا إليه باللقب، ولم يشيروا إليه بالنسب.
كانت الأمانة سر الرضا، وهي صفة أوضحنا مدلولها ومضمونها، وتفرد رسول الله بها. وكانت قريش تبتغي حكماً، مجرداً من الهوى، قادراً على أن يلقي عواطفه العصبية جانباً، وأن يعلوا على خصومتهم، فيقضي بينهم ولا يدخل فيها. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قرشياً هاشمياً من البيت الذي يلي شؤون الكعبة، وما هو بالغريب عن قضايا قومه، وما يحزبهم، ومع ذلك رأت فيه مختلف البطون من قريش ضالتها المنشودة، ومفتاح الفرج في أزمتها العصبية، فهذا الأمين في اعتبارها إذن فوق العصبية المحلية؛ رجل يستطيع كل قرشي أن يجد عنده الإنصاف والعدل والنزاهة. لا يخشى منه تحيز، ولا ميل عن الحق إلى القريب، أو صديق، أو نصير. حقاً قد احتكمت قريش إلى رجل منها، ولكنه في هذا التقدير فوقها كلها؛ رجل لا يعبد ما تعبد، وليس من دينها في شيء هو عندها مثال العدالة والاستقامة والصدق.
وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في نفوس القوم، وما هم فيه من خلاف، وحضره الحل المرضي توفيقاً من الله وعوناً. أمر بثوب، فبسط ووضع الركن فيه، وجعل ممثلي البطون على أطرافه، وأمرهم أن يرفع كل من ناحية، حتى إذا حاذوا مكانه، رفعه بيديه الطاهرتين، ووضعه في مكانه وبنا فوقه.
لقد كان رافع الركن إلى موضعه ابن إبراهيم عليه السلام، الذي دعا ربه مخلصاً {ربنا وأبعث فيهم رسولاً منهم} [48] فوضعه محمد صلى الله عليه وسلم في المكان الذي وضعه فيه أبوه من قبل أول مرة عندما رفع البيت.(3/419)
ورضيت قريش أن يفوز كل منها من الشرف بنصيب، وبردت بذلك أكبادها ولكنها رضيت بأمر أعلى وأبعد مغزى؛ رضيت أن يفوز بالشرف كله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إذ كان هو الرافع للركن حقيقة.
لقد كان في هذه الحادثة معتبر، لو استطاع خصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردعوا نفوسهم بعد المبعث، وأن يحكموا المنطق والعقل، كما فعلوا عند تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أطلقوا لغرورهم ولهواهم العنان، وركبوا الشر، فانتهى من لم يسلم منهم إلى سوء المصير.
إن الدرس البليغ الذي كان بإمكان قريش أن تتعلمه من نجاح رسول الله، صلى الله عليه وسلم في حل أزماتها في الجاهلية هو أن هذه القبيلة ذات الحيوية والإمكانات لا يمكن أن يستقيم أمرها وتتحد كلمتها، وتبلغ الفلاح، حتى تتخلى عن العصبية الضيقة وتذعن للحق وتنقاد للناصح الأمين، ولقد دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سنوات ثمان من بناء الكعبة إلى الحق، فاستنفرت عنه، فذاقت ما ذاقت من الويل والخسارة، ولم يصلح شأنها ولم تبلغ عزها الحق إلا عندما أسلمت له يوم الفتح وانقادت والتفت حوله كما التفت حوله يوم رفع الركن.
4- القدوة:
ولكن لم خص الله أنبياءه بتلك العناية الكبرى والحفاوة العظمى، وصنعهم كما أراد، كما قال لموسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [49] .
لأي دور عظيم أعدهم الله إذا صاغهم الصياغة النبوية الفريدة؟
لو علمنا جلال المهمة الملقاة إليهم لعرفنا بعض السر.
لقد ألقى إليهم واجب ثقيل ليس مثله في المهمات العظام شيء أبداً، إنه الواجب الذي يملي عليهم أن يبدؤوا عصراً جديداً ملءه النور، ومدنية محدثة شعارها العلم والتقدم وأن يكونوا أمة هادفة إلى إنقاذ الإنسان وإسعاده بالبلوغ به مرضاة ربه.
إن الله يختار للنهوض بهذه المهمة التي تنوء بأمم الأرض كلها رجلاً فرداً.(3/420)
فكيف أدى النبي ما عهد به إليه، وأنفذه على وجهه، فتوفاه الله وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة فجعله في الخالدين؟
إن الإلمام بذلك يعين سبلاً وحدها تسلك، وطرقاً وحدها تتبع في إحياء حضارة الإنسان بالعلم والإيمان، وما من مؤمن يطلع على مواقف الرسول الخالدة صلى الله عليه وسلم في القرآن والسيرة إلا يتقن أن استيعاب روح هذه المواقف وتمثلها هو الخطة الوحيدة في تكوين مجتمع إسلامي صحيح سليم.
إنه وجب الاقتداء إذ ثبت الاصطفاء وإذا كان العسير علينا أن نحيط بتلك المواقف في هذه العجالة فلإشارة إلى بعضها كافية:
أ - الاقتراب:
وأول هذه المواقف وأعظمها خطراً هو انفصال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسياً وروحياً عن عصر الجاهلية والاتجاه بالقلب والنفس إلى العالم الأعلى، إلى الله، وهذا المسلك مبدأ الانطلاق في تكوين الأمة وبزوغ حضارة الإسلام وقد سمى الله تعالى هذه الطريقة بالاقتراب. قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [50] ويغدوا النبي بانفصاله عن الوقع الجاهلي مركز إشعاع متجدد ويجتذب إليه عناصر مجبولة على الخير نافرة من أذى الجاهلية فتسبح في فلك النبي وتخضع لجاذبيته وتستلم منه القيم، والمثل فتتفجر إمكانياتها بتأثيره في طريق الخير، وتنصرف قلوبها إلى الله تريد وجهه. إنهم الرجال المعرفون بالصحابة الذين صنعوا بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تاريخ الدعوة الأول، وقد صدر الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالتزام هذه الفئة التي هي نواة المجتمع الإسلامي: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [51] .(3/421)
وأوصى الله نبيه والمؤمنين بالانقطاع إليه فقال: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [52] فكان التبتل فعال الأثر في سيرة الرسول الكريم إذ جعله في منأى عن الزلل والخطأ. فجاءت سيرته عليه الصلاة والسلام وحياته في المقام الأسمىمن الكمال والتمام، والبعد عن النقصان والانحراف. ولم يفارق هذه التبتيل مرحلة من مراحل الدعوة وموقفاً من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم العامة، والخاصة، ألم تكن قرة عينه في الصلاة ألم يكن يقوم الليل حتى تتورم قدماه؟
ولقد سرت هذه الروح إلى الصحابة، رضوان الله عليهم فحققوا خالد المآثر وكانت عندهم شيئاً قليلاً فيما عرفوا الله من حق عليهم.
ومن ثم لا تبعث الروح الإسلامية وقادة كما كانت في الصدر الأول إلا بجلاء النفوس وتنقيتها وإعدادها لاستقبال الإشعاع الثاقب الحي، الذي نتلقاه من الرسول صلى الله عليه وسلم، إن أوغلنا في سيرته وعشنا في ظل مواقفه، وفي صميم مبادئه ومقاصده ولا ينشأ جيل كالجيل المحمدي الأول إلا إذا جليت القلوب من صدأ القرون، ومن أوزار المبادئ الدخيلة، والأفكار الغازية، والمفاهيم المخالفة للفطرة، فإذا نجحنا في التحرر والاقتراب من مركز الإشعاع الروحي أحيا الله فينا ما أحياه في الصحابة، وبعث منا جيلاً كجيلهم، ولهذا نرى في فترات متباعدة من تاريخنا رجالاً متميزين لا يشبهون غيرهم، يعيشون كالأغراب، في عصورهم روحهم وأسلوبهم روح الصحابة وأسلوبهم لا يخافون بأساً ولا يخشون رهقاً، يُرهبون ولا يرهبون ينتصرون ولا يُهزمون، وإن ضاقت بهم أنفس الطغيان فسجنتهم أو عذبتهم، أو قتلتهم فإن في موتهم النصر إذ يسجلون بذلك على الطاغية هزيمته النفسية أمام مبادئ الإسلام والحق والعدل.
إن أبا جهل لما غيب حربته في حشا سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم كان قد تردى من الهزيمة النفسية في (غور) سحيق.(3/422)
إن استشهاد رجال الحق يزيد شعلة الإيمان توهجاً، وليل الطغيان وحشة وهولا.
--------------------------------------------------------------------------------
1 ** سورة طه، الآية: 40
2 ** ابن هشام: السيرة م1 ص51.
3 ** ابن هشام: السيرة م1 ص 43.
4 ** المصدر نفسه: م1 ص 43.
5 ** المصدر نفسه: م1ص46
6 ** المصدر نفسه: م1 ص46
1 ** المصدر نفسه: م1 ص47
2 ** الأنفال: الآية 63.
1 ** السيرة لأبن هشام: م2 ص172 والقائل هو أبو سفيان بن حرب.
[1] آل عمران: 103.
[2] السيرة لابن هشام م1 ص500.
[3] المصدر نفسه. وكان التحدي أعظم إذ قال له أبرهة: "ما كان ليمتنع مني". فقال له عبد المطلب: "أنت وذاك".
[4] سورة الفيل.
[5] سورة ق: 37.
[6] الضحى: 6- 7.
[7] البقرة: 121.
[8] السيرة لابن هشام: م1 ص266.
[9] النحل: 120.
[10] الحج: 75.
[11] الأنعام: 124.
[12] آل عمران: 24.
[13] ابن كثير في البداية والنهاية: ج2 ص256 عن صحيح البخاري.
[14] البداية والنهاية ج2 ص256 لابن كثير: عن صحيح مسلم.
[15] السيرة لابن هشام م1 ص166 رواه ابن إسحاق عن ثور بن يزيد. وقال فيه ابن كثير في المرجع السابق: هو إسناد جيد.
[16] البداية والنهاية ج2 ص256 رواه الزهري عن عروة عن عائشة. رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى عن ابن عباس: "ولدت من لدن آدم من نكاح غير سفاح".
[17] المصدر نفسه ص257.
[18] آل عمران: 37.
[19] سورة العلق: 1.
[20] البداية والنهاية لابن كثير: ج3 ص7.
[21] ابن هشام: م1 ص166.(3/423)
[22] الأذكار للنووي: ص43. ومن هذا القبيل ما كان يومئ بالرسالة المقبلة بصريح اللفظ. قال عليه الصلاة ولسلام: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" رواه مسلم وصدق رسول الله فإن تسليم الحجر عليه قبل الوحي كان لتنبيه فكره وإثارة شعوره وتوجيهه إلى استشراف ما هو غيبي المصدر.
[23] تقرأ البداية والنهاية ج2 ص287.
[24] السيرة لابن هشام: م1 ص134.
[25] رواه مالك في الموطأ في ص 904 تحقيق فؤاد عبد الباقي وهو حديث مدني صحيح متصل في وجوه صحاح.
[26] السيرة لابن هشام: م1 ص166.
[27] المصدر نفسه.
[28] القصص: 7.
[29] آل عمران: 45.
[30] مريم 23: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} .
[31] مريم 31: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} .
[32] آل عمران 39: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} .
[33] هود 71: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} .
[34] البقرة: 28.
[35] آل عمران 81.
[36] المائدة: 3.
[37] الصافات: 181.
[38] البقرة: 129.
[39] الصف: 6.
[40] السيرة لابن هشام: ص181.
[41] المصدر نفسه: ص218.
[42] البقرة: 121.
[43] لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا وقال لقريش: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ "قالوا: "نعم". من حديث رواه ابن كثير في البداية والنهاية ج3 ص38 عن الإمام أحمد.(3/424)
[44] ابن هشام: م1 ص117.
[45] قضاعة وكان عليها رزاح بن ربيعة أخو قصي لأمه. انظر ابن هشام م1 ص118.
[46] انظر ابن هشام: م1 ص130- 137.
[47] ابن هشام م1 ص197.
[48] البقرة: 129.
[49] طه: 39.
[50] العلق: 19.
[51] الكهف: 28.
[52] المزمل: 8.(3/425)
بين التفوق والنجاح
بقلم: الدكتور محمود بابللي
الفرق الواضح بين التفوق والنجاح، لأن التفوق أبعد غاية من النجاح، ولأن تأمين النجاح لا يعني تحقيق التفوق إن لم يصل النجاح إلى مرتبة عليا تقصر عنها المتقاعسين.
والنجاح أمر مرغوب فيه عند طلاب النجاح في كل ما ينشدونه من أمورهم الحياتية، وحدود النجاح قد تكون قريبة المنال من كل مجد ودؤوب، غير أن التفوق لا يناله إلا من أصاب حظاً كبيراً من النجاح.
وإذا ضربنا مثلاً على الفارق بين التفوق والنجاح علامات المتخرجين من أحد المعاهد العليا نجد أن من يحصل على نسبة 50% يعتبر ناجحاً.
وقد يحصل المتفوق على نسبة أعلى إذ قد تقارب أحياناً العلامات التامة. فهل يصح التساوي بين النجاح وبين من قارب الغاية في التفوق؟
إن هذه المقدمة توضح أن النجاح أمر نسبي وأن التفوق أمر نسبي، وشتان ما بينهما وأن مثلهما في المدرسة أو المعهد مثل قياسي يراد منه تقريب المفهوم لمعنى التفوق ومعنى النجاح. فهنالك من يفرض نفسه فرضاً بتفوقه في ميدان اختصاصه وهنالك من يجر نفسه جراً. ليدرك أدنى مستوى للنجاح. وشتان بين الاثنين.
وشبابنا في ميدان العلم والعمل إن لم يكن التفوق غايتهم فإن واقعنا سوف لا يتغير كثيراً عما نحن عليه، لأنهم أمل المستقبل وبناته، ولهم من مثلهم الأعلى - وهو الإسلام - خير حافز لأن يدفع بهم إلى أعلى المستويات في كل منطلق وفي كل ميدان.(3/426)
والأمة هي مجموعة الأفراد الذين تتألف منهم، فإن تحقق في هؤلاء الأفراد ما يرتفع بهم عن المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى ارتفعت الأمة بهم وعرفها الجميع بأنها أمة مجدة عاملة ذات مستوى عال ومقام محترم، وتمكنت هذه الأمة من فرض احترامها على الغير بما يتحلى به أفرادها من صفات سامية وهمم عالية ومثل أعلى رفيع المنال بعيد الغاية.
والأمة الإسلامية اليوم في بداية يقظة وقد أدركت أنها متخلفة عن ركب الحضارة, وأن منطلقها إن لم يكن بمثل القوة التي تدفع بالغير للتفوق في ميادين العلم والعمل، بقيت مستذلة مستضعفة، لأن العلم - بمفهومه الواسع - يحتاج إلى شباب يؤمنون بضرورته، ويعملون على تحقيقه لينتج أثره فيهم. ولن يتم لهم ذلك إن لم يكن التفوق مبتغاهم وهدفهم في كل حقل وفي كل ميدان.
والتفوق يحتاج إلى همم عالية وعزم شديد وإقدام ودأب، ويجب أن لا يكون التفوق مقصوراً على فئة دون أخرى أو على ناحية دون ناحية، لأن أمور الحياة متشابكة ومتداخلة، ولابد من التفوق في كل ميدان وفي كل منطلق حتى نتدارك ما فات، ونلحق بالركب الحضاري ومن ثم نكون له هداة ومثلاً أعلى.
وبداية المنطلق في خط التفوق تبدأ في كل طالب وعامل، فإن جعل هدفه قريب المنال تباطأت همته وقصرت خطواته وإن جعله بعيد المنال وعزم على أن يناله اطرح الملاذ والشهوات جانباً وعمل بجد ودأب، وبإخلاص وعزم وإذا به بعد فترة من الزمن يجد نفسه مقصراً، وهو المجد، ويجد نفسه أنه لا يزال جاهلاً وهو الذي قطع شوطاً كبيراً في التعلم، لأن بعد الغاية يستتبع التعالي على الدنايا والنظر إلى ما سبق من جهد أنه قليل ولابد من مضاعفته، وهكذا تنطلق الأمة بانطلاق أفرادها في كل ميدان إذ كانت غايتهم تحقيق المثل الأعلى وهو التفوق والوصول إلى أعلى مراتب النجاح في شتى المنطلقات.(3/427)
ولما كانت الأمم هي الصورة الصادقة لواقع أفرادها، لذلك فإن مثل الأفراد ينطبق على الأمم، فإن كانت الأمة مقصرة في إدراك ما تبتغيه يكون التقصير من هؤلاء الأفراد، لأنهم لم يعملوا في رفع مستوى أمتهم لهبوط مستواهم.
لذلك نجد أن بعض الأمم إذ تحاول أن تدرك خطا من النجاح تدفع بأفرادها إلى أن يعملوا بوعي ودأب، وبمقدار ما يتكون عندهم مثل هذا الوعي والدأب يتحقق للأمة إدراك بعض مستويات النجاح، فما هو مقياس التفوق وما هو مقياس النجاح بين الأمم؟!
إن النجاح يمكن أن نعبر عنه بأنه إدراك أولى مستويات الحياة الحرة، ومن هنا يخرج من نطاق البحث الأمم المستذلة أو المستضعفة، إذ أن حياة الأمم رهن بحريتها وبمقدار ما تحققه لأبنائها من مستويات النجاح، وهذا يعني أن الأمة لا بد لها أولاً من الحرية لكي يعمل أبنائها في مصلحة أنفسهم ولابد لها ثانياً من العمل لإدراك بعض مستويات النجاح.
وهنالك من الأمم - الحرة طبعاً - من قطعت أشواطاً بعيدة في مستويات النجاح وبلغت درجة من التفوق لم تدانيها فيها أمة أخرى، فمثل هذه الأمة تبقى سيدة نفسها وسيدة كثير من الأمم ما دامت - هذه الأمم - في حاجة إليها.
وليس النجاح إلا مفتاحاً للتفوق فيما ذا كان المثل الأعلى للأمة أبعد شوطاً من أن يتحقق بسهولة، لأن بعد الغاية يستتبع بعد الهمة، وعلو الهمة من الإيمان، وليس أتفه في نظر (الهمام) من أن يجد نفسه قد حقق بغيته، وانقطعت غايته، لأنه بذلك يقضي على قوة الاندفاع فيه ويخمد جذوة هذه القوة ويعود القهقرى فيهرم ويموت. وهذا المثل ينطبق على الأمة أيضاً فما هو نصيب أمتنا من التفوق أو قل من النجاح؟.(3/428)
إن هذا النصيب أمر موضع نظر, وليس أدل على ذلك من واقع التخلف الذي نعيشه بالنسبة للنهضة المعاصرة. ومقياس التفوق لا يقصر على الحضارة المادية فقط، لأن مدلوله يشمل مفاهيم الحياة بجميع مرافقها.
وأمامنا الآن منظمات عالمية منبثقة عن هيئة الأمم المتحدة لها أوسع النشاطات في المجالات التنظيمية والتوجيهية اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وما إلى ذلك من الشؤون الأخرى التي توليها عنايتها الخاصة.
وهذه المنظمات فيها ممثلون عن بعض الأمم المنضمة إلى هيئة الأمم المتحدة وفيها عاملون مختصون متفرغون لإدارة أمور هذه المنظمات.
وإذا تعرفنا على عناصر هؤلاء العاملين المختصين في هذه المنظمات نجد نسبة ضئيلة جداً تعمل فيها من أبناء أمتنا ونجد غالبية العاملين من العناصر الأخرى.
وقد قيل بأن نسبة العاملين من الصهاينة في هذه المنظمات كبيرة جداً، ومن هذه النسبة نستطيع أن نستنتج أثر هؤلاء في هذه المنظمات وما يمكن أن يفعلوه أو يقدموه لأمتهم من خدمات، وما يمكن أن يحصلوا عليه من عون أو تأييد لدى الكثير من الأمم (المتخلفة أو النامية) التي يكثر فيها أمثال هؤلاء الخبراء، وما لهم من أثر ونفوذ لدى الدول المتقدمة الأخرى.
فهل توصل هؤلاء الخبراء إلى إشغال هذه المناصب الحساسة دون جدارة أو تفوق؟
أن الأصل في تحقيق الهدف صحة المنطلق، ويعني هذا القول أن وصول أمثال هؤلاء إلى مثل هذه المناصب قد تم في بداية أمره نتيجة لما عندهم من كفاءات واختصاصات عالية، ومن ثم قد يكون من المحتمل وقوع مساعدة أو مساندة هؤلاء المتفوقين الأوائل لبعض عناصرهم بغية تقريبهم وجلبهم إلى هذه المنظمات مع العمل على استبعاد غيرهم.(3/429)
وهذا أمر واقعي ومؤكد، وهو في مصلحة هؤلاء الصهاينة، لأنهم يهدفون من ورائه توسيع دائرة نفوذهم في هذه المنظمات، والوصول من وراء هذا النفوذ إلى تحقيق أغراضهم عن طريقه.
وإذا أردنا تقليص نفوذ هؤلاء الصهاينة من هذه المنظمات، فهل من الممكن أن يكون مردود هذا التقليص في مصلحة أبنائنا، أو أنه بإمكان أبنائنا إشغال مناصبهم؟
إن الواقع يجعلنا نستبعد هذه الفرضية، إذ أن إمكانات أبنائنا العلمية لا تؤهلهم لأن يملؤوا فراغ هؤلاء، ولابد لإِشغال هذه المناصب من عناصر علمية أخرى، لذلك فسيتقدم إليها من تتحقق فيه الشروط المطلوبة من أية أمة من الأمم الأخرى.
وبعض أبناء الأمم الأخرى قد لا يقل عداؤهم لأمتنا عن عداء الصهاينة، وقد تكون الصهيونية ذات نفوذ عليهم أيضاً، لأن عناصر التفوق اليهودي في عالم المادة بارزة في كل نشاطات الأمم، لذلك فإن المشكلة تبقى دون حل.
وإن أقرب طريقة لكي تفرض نفسك على الغير وتفرض عليهم احترامك هو أن تكون كفؤا لهذه المناصب وأجدر بها من غيرك, وأن يكون عندك من التفوق ما يساعدك على التقدم عن غيرك, وإزاحة كل من يحرص على منافستك على هذه المكانة.
وهذا أمر لا يتحقق إن لم يكن في أمتنا علماء كثيرون جداً، وأن يبرز فيهم نبغاء متفوقون تعترف لهم الأمم الأخرى بهذا التفوق، وترى أنها بحاجة لأمثالهم حتى نتمكن من إشغال هذه المناصب الحساسة الخطيرة.
وهل يتحقق لنا ذلك، إن كانت غاية شبابنا من الدراسة أن ينجحوا - جراً - أو أن يحصلوا على الشهادة المطلوبة في أدنى الدرجات، وأن تنتهي دراستنا عند انتهاء تقديم الفحص إلى هذه الشهادة، وأن نتوقف عن كل نشاط علمي بعد نيل هذه الشهادة وأن لا يدفع بنا علو الهمة إلى متابعة الدراسات العلمية والإسهام فيها بكل ما هو جديد ونافع؟!(3/430)
إن واقع امتنا - علي ما فيه من مظاهر اليقظة - واقع مؤلم. وقد يدعو إلى اليأس أحيانا؛ لأن مظاهر الحضارة التي تغمر بلادنا لا تعنى أننا أربابها، وإنما نحن من المستهلكين لنتاج هذه الحضارة.
ولو انقطع عنا مورد هذا النتاج لعدنا إلى تخلفنا السابق حتى في مظاهر هذه الحضارة لأننا ما دمنا بعيدين عن الإبداع وجاهلين مبادئ الإيجاد والصنع، فنحن عالة على غيرنا حتى ننتقل من هذه الحالة إلى حاله تمكننا من الاعتماد على أنفسنا عند الملمات.
ولإيضاح هذه الفكرة أورد مثلاً عليها: حالة ألمانيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فإن هذه البلاد قد تهدمت منشآتها ومصانعها وتضررت في مواردها واقتصادياتها، وحتى في أبنائها الشيء الكبير فهل ماتت هذه الأمة أم أنها عادت إلى الحياة أقوى مما كانت عليه من قبل؟
إن واقع القوة الألمانية يؤكد أنها استعادت مكانتها الأولى، وأنها تفوقت حتى على المتغلبين عليها في شتى الميادين العلمية إلا في النواحي الممنوعة عليها بحكم شروط المنتصر.
فلو أن هذه الأمة كانت صفراً من ناحية الإبداع الفني والتطبيق العلمي وكان جل أبنائها منصرفين إلى القيل والقال، وإلى إضاعة الوقت والمال في اللهو والعبث، وإلى قتل حيوية شعبها في التافه من الأمور، فهل كانت حققت منجزاتها العلمية الحالية؟
وكذلك أمة اليابان التي تسابق دول العالم في التقدم العلمي والصناعي، باستثناء ما هو محظور عليها، فهل تقهقرت لخسرانها الحرب العالمية الثانية وخضوعها للولايات المتحدة الأمريكية.
إن واقع الأمة اليابانية يؤكد أن مبدأ التفوق عندها هو الأصل حتى استطاعت أن تتغلب على الصعوبات العديدة التي اجتاحتها أثناء الحرب وبعدها بزمن قليل.(3/431)
ولولا الجد والإخلاص في العمل والوعي الصادق عند أبناء هاتين الأمتين وتحقيق التفوق في ميدان العلوم والفنون لما كانت توصلت هاتان الدولتان إلى هذه المكانة العلمية الفريدة بين الأمم.
إن التفوق ليس أمنية تبتغي فحسب وإنما هو غاية تقصر عن تحقيقها بغاث الطير، ولابد لتحقيق هذا التفوق من نفوس كبار وعزائم جبارة وتعاون مثمر وإخلاص صادق وتفان وبذل، وإيثار وتضحية.
وليست هذه كلمات مثالية يصعب تحقيقها، وإنما هي مفتاح النهضات عند كل أمة تبتغي الحياة لأبنائها، وعندما تحلت بها أمتنا في غابر أيامها حققت التفوق على من يعاصرها من الأمم، وحققت معنى ما جاء في الأثر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم بين الأمم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود أو كالشامة السوداء في جلد البعير الأبيض".
فهذا التمايز الواضح الصارخ لما أرادنا الرسول أن نكون عليه هو التفوق المقصود في بحثنا هذا في أن نكون متفوقين في كل شيء. وأن لا نكون عالة على غيرنا من الأمم ولولا ذلك لما صح معنى هذا التمايز مطلقاً.
والتفوق في شتى الميادين لا بد له من منطلق, وأولى منطلقاته هو العلم [1] والتزود منه بخير زاد، لأن العلم هو أساس كل نهضة وحضارة وصدق الله العظيم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
والعلم لا يأتي بمجرد التمني والمزاعم، وإنما لابد له من عمل, ولابد له من إخلاص, ولابد له من همة من تعب وسهر, ولابد له من أخلاق, ولابد له من سلطان يأطر الناس عليه أطراً.
وإن لم يتحقق في أمتنا مفهوم التفوق فستبقى دون غيرها من الأمم وسيتغلب عليها من يسلك سنن الحياة، وسنكون مستذلين مستضعفين عاجزين عن أن نتبوأ المكانة اللائقة بنا كخير أمة أخرجت للناس.(3/432)
ولكل مجتهد نصيب، ومن طلب العلا سهر الليالي، ومن سار على الدرب وصل، والله الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وردت في هذا المقال بعض المصطلحات العامة الشائعة كـ (العلم) و (النهضة) و (الحضارة) , ولاشك أن مدلول هذه المصطلحات في الثقافة الغربية يختلف عنه في ثقافتنا, ولاشك - أيضاً – أن كاتبنا يكتب بروح إسلامية, ومن هنا فهو حينما يتحدث عن (العلم) و (النهضة) و (التخلف) و (الحضارة) , فهو يقصد مضمونها الإسلامي البعيد عن كل شوائب المادية والإنحراف. وحبذا لو حدد علماؤنا وكاتبنا مصطلحاتهم, إذن لخرجنا من دائرة اللبس والتشابه. ودخلنا في دائرة الوضوح والإحكام.(3/433)
تتمة - النبوة: اصطفاء وقدوة
للشيخ محمد مختار البزرة
لقد كان لكل من هؤلاء الأبطال عالم مستقل, منفصل عن حاضرهم متصل بعالم الرسول والصحابة. حققوه بإخلاصهم وانقطاعهم إلى الله.
ب - الحب:
والاقتراب كما أوضحنا عملية نفسية خالصة لا بد في استمرارها من قوة في القلب ذات ديموية وتوهج وهذه القوة هي الحب؛ حب الله والرسول حبا يغمر سائر العواطف والنزاعات ويتألق صدقا ونقاء. وهو حجر الأساس في الإيمان, قال عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده, ووالده, والناس أجمعين" [1] .
ذلك أن حب الرسول هو حب للعقيدة التي أمر بنشرها في الأرض وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [2] .
إن حب العقيدة في الإسلام فوق حب النفس والحياة.
ج - العقيدة فوق الثروة والمال:
فلا غرو من أن يجعل الله العقيدة فوق المادة والدعوة فوق المال.(3/434)
إن الثروة والموارد الاقتصادية لا بد منها في الإنشاء والتعمير اللذين هما ثمرة من ثمار العقيدة. ولكن الله يرد أن يهيمن الدين على القوى المادية وأن يسخرها فيما ينفع الناس ويأبى أن يعلو الشغف بالثروة على حب الله والرسول ويغضب أن يتخذ الدين مطية استغلال يصرفه أصحاب المصالح الخاصة فيما يعود عليهم بنفع شخصي. ولعل هذا يفسر لنا حكمة الله في اختيار الأنبياء والقادة من غير ذوي الثروات الذين يرفعون المصلحة الخاصة على العقيدة والمصلحة العامة وينفصلون عن الأمة في قضيتها الكبرى. ولهذا قال نبي بني إسرائيل لأغنيناهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [3] وكان منهم ما توقعه إذ اعترضوا على ملكية طالوت ولم يعرهم الله اهتمامه فنصر عبده طالوت من غير مدد فيهم ومن غير ثرواتهم. وإن بعضهم ليحارب النبي المختار حفاظاً على مصلحته أو مصلحة عشيرته وهل يسفر موقف أبي سفيان قبل الفتح، وموقف أبي جهل بغير هذا؟.(3/435)
والإسلام لا يحرم الغنى ولا يزهد فيه ولكن يجعله في خدمة العقيدة، وقد رضي الله الغني لبعض أنبيائه والملوك الصالحين عندما جعل نفوسهم فوق المال، فخلت قلوبهم من محبة الثروة، وسمت على المادة فجعلوا العقيدة فوقها وكانت عندهم للدين خادماً وتبيعاً. هذا نبي الله سليمان سأل ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه العجب العجاب، وفجر الكنوز بين يديه واستخرجت له الثروات من جوف الأرض، ومن قاع البحار فكانت عنده كلها خارج قلبه، ولم يشغله إلا بحب الله وكلمة التوحيد ولم تستطيع هذه الأموال الخلابة أن تظفر من قلبه بشيء وكان هذه ابتلاء لسليمان أيما ابتلاء. وظهر هذا جلياً في موقفين من مواقفه: أولاً إذ جاءه وفد بلقيس بهدية ثمينة ظناً منها أن سليمان ملك كسائر الملوك يرضي المال طموحه فكان جوابه.. {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [4] ولو كان سليمان جماعاً شَرِهاً لارتضى بها، فإن من تسلط عليه حب المال لا يشبعه إلا التراب. والموقف الثاني: إذ لام نفسه على انشغاله باستعراض خيل الجهاد حتى توارت الشمس بالحجاب أو فاتته الصلاة فأدب نفسه أيما تأديب؛ أكب بنفسه على سوق الخيل وأعناقها وكان قد أجهدها الجري والسباق ونضحت بالعرق فطفق يمسحه عنها، يفعل ذلك وهو الملك بين يديه الإنس والجن تخدمه، قهراً لنفسه التي استمتعت بالخير برهة فنسيت ذكر ربها وإذلالا لها وتأديبا.(3/436)
وتتجلى هذه الظاهرة أيضاً في موقف الفاتح الصالح ذي القرنين إذ عرض عليه أهل ما بين السدين مالاً عظيماً يؤدونه سنوياً له ليبني لهم سداً يحميهم من غارات يأجوج ومأجوج فرفض العرض ودعاهم إلى الاعتماد على أنفسهم ومساعدته بالرجال والمعادن لينفعهم بخبرته ويقيم لهم ردماً خير من السد: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} [5] .
لقد كان سليمان وذو القرنين عليهما السلام أغنى أهل الأرض في يومهم وكان المال لا يدخل في حسابهما في شيء إلا بما ينفع عباد الله وبما يرضي الله. واختاره الله محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً لا نشب عنده ولا متاع وقال الأثرياء من العرب: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [6] ولما رأوا الدعوة تنتشر انتشار البرق علموا أن ليس معدن العظمة المال، وأن العظمة الحقيقية في القيم الربانية وفي الشرع الإلهي الذي يستقر في قلب ويجري عملا صالحاً وقد تدفقت الأموال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعلق بقلبه شيء منها ولا تزود بغير زاد سنة. نهض مرة بعد التسليم مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته قال: "ذكرت شيئاً من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته" [7] .
ورأت أمهات المؤمنين الأموال تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتاقت نفوسهن إلى التوسعة ورغبن فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى الرسول إلا أن يكون هو وبيته مثلاً على الرضا بالكفاية وجاءهن من الله التخيير؛ إما الصبر على رسول الله على ما أراد الله له من تقديم الآخرة على الدنيا وإما التسريح والتمتيع، فاخترن الله ورسوله.(3/437)
ومن ثم كانت دعوة الأنبياء خالصة لله لم يبتغوا بها منفعة لأنفسهم أو جزاء دنيويا. وما من رسول إلا قال لقومه: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلآَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [8] .
د - الصبر والثبات والبطولة:
وإن تأنس بالرسل فلتأنس بما كانوا عليه من صبر وثبات وإقدام.
رجل أعزل نازل وحده أمه حتى انقادت له على الإسلام. فبأي سلاح فرق النبي صفوف الخصوم الألداء؟ إنه الصبر والثبات وإني لأحسبه أمضى سلاح في دك أسوار الجاهلية والوثنية.
كانت معركة الرسول صلى الله عليه وسلم بين فئتين غير متكافئتين كما قضت حكمة الله أن ينازل الرسول وحده قوة مناوئة ذات عدد، فلابد من الصمود في وجهها صموداً باسلاً يكشف عن ثبات الحقيقة التي يدعو إليها. ويفضح زيف العقائد التي يتشبث بها الجاهليون وما من نبي إلا جعل الله في عزيمته من الثبات ما تزول منه الجبال وما يزول؛ موقف راسخ، ملءه الحزم والتصميم والإقدام يريد أن يفتح قلوباً مغلقة، وأن ينفذ إلى ضمائر مظلمة وفي نفسه قوة لا تقهر وإرادة لا تنثني، إذ آمن أن الله معه، هذا التحدي نجده في إنذار هود قومه: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ, إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [9] .(3/438)
فالصبر إذا ميدان التجربة، وهو الكاشف الحقيقي للأفكار المتصارعة وفائدتها الكبرى هو هذا الالتحام والنزال بين العقيدتين وكان من الهين على رسول الله أن ينسحب بالفكرة، والرسالة إلى أرض، لا يلقي فيها مقاومة ولكنه عندئذ لا يربح المعركة، وما يكون كسب المعركة إلا باللقاء, ولهذا أمر محمد صلى الله عليه وسلم بنوع خاص من الصبر هو الصبر الجميل. وهذا الصبر جميل في أسلوبه وفي عواقبه اتصال بالمناوئين وهجوم على قلوبهم بالعقيدة ومجابهتهم بالحق، بما لدى الرسول من الحكمة والموعظة الحسنة حتى إذا طاشت أحلامهم وثاروا به ثبت لهم ولم يتراجع حتى يرهبهم صبره وتهزمهم عقيدته ولا أبلغ من تصوير هذا الواقع من انهزام الكفار انهزام عقيدة ونفس من قوله تعالى فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ, كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ, فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [10] .
ومن ثم تبدو مواقف النبي صلى الله عليه وسلم خارجة عن طاقة أي إنسان، ولو كان شديدا ولعل هذه البطولة هي التي تكسبه الأنصار بل تنتزع الرجال من صفوف الخصوم إلى صفوف الأنصار تأخذهم روعة الموقف البطولي، فيعبرون البرزخ إلى معسكر النبي صلى الله عليه وسلم. ألم يعبر عمر وخالد وغيرهما البرزخ جهارا.
إن هذه المواقف الخالدة في عالم البطولة فرضت احترام النبي على الأعداء، فقال فيه أحد معارضيه: "هو القرم الذي لا يقدع أنفه" [11] وهي التي بعثت الإعجاب في عمه أبي طالب وعشيرته، فاحتملوا من أجله ما احتملوا.(3/439)
ولكني - معذرة - إذا أطلقت اسم البطولة على صبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم أظفر بكلمة أبلغ في الدلالة منها، فإن بطولة محمد والأنبياء عليهم السلام، ليست كبطولة الرجال الممتازين الأقوياء ليست كبطولة القياصرة والأباطرة، وقادة الجيوش من قيصر روما ونابليون إلى مونتغمري ورومل وغيرهم، فإن أمثال هؤلاء كانوا أبطالاً لأنفسهم. صفق لهم الناس لحظات، فما زالوا أو سقطوا لم يبق منهم إلا أشباح باهتة، ولم يبق من بطولاتهم إلا ذكرى كالصدى الضائع في مجاهيل الأرض، أما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن بطلاً لنفسه، وإنما لخير الإنسانية وهداها، فما في بطولته صلف، ولا كبرياء، ولا طغيان ولا تمجيد لذاته بل كانت بطولته العدالة، والحق والإنصاف والتقوى. ولذلك ما زالت مواقف صبره وجهاده، تفيض من القيم الإنسانية البطولية، ولم تستطع العصور، ولن تستطيع أن تفقدها من جدارتها شيئاً.
وخير من كلمة البطولة اسم النبوة؛ فالنبوة فوق البطولة، وما بينهما، كما بين الأرض والسماء، ولأمر ما لقبه أحد كتاب الغرب "بطل الأبطال" [12] .
هـ - المسؤولية والعهد:
كان استبسال الرسل في نشر الدعوة، والتمكين، وفاء منهم بعهد الله، ذلك لأنهم قد واثقوا الله على الإخلاص له ومنح حياتهم كلها للرسالة قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} .
وعلى هذا لم يعرفوا لوجودهم معنى ولا غاية غير إنفاذ كلمة الله على أتم وجه وأصدق أداء وهذه المسؤولية في الحفاظ على الدين والاستمساك به ونشره في الأرض، تنتقل إلى المؤمنين من بعدهم قال تعالى بعد تلك الآية: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} .(3/440)
والمؤمنون الصادقون لا يدخرون جهداً في اتباع الطريقة المثلى لإعلاء كلمة الله، والوفاء بعهده حتى يفدوا الدين المأثور الخالد والمطلب الأسنى لهم. به يحيون ومن أجله يحيون، فأي تضييع لجانب منه خسارة لا تعوض، فيكون الجهد الإيجابي البناء في حياة الأمة أن يحتفظوا بالدين صافياً خالصاً لا ينفصلون عنه في صغيرة أو كبيرة من شؤون دنياهم أو آخرتهم حتى لا يرتدوا إلى النقصان وفي النقصان الانحطاط والخسران.
إن العقيدة الإسلامية تبعث في نفوس أتباعها تسامياً رائعاً يدركون به معنى إنسانيتهم وتكاملها الصاعد في سبيل الله، لذلك كان أشد ما يخشاه الأنبياء هو الابتعاد أو التراجع أو انتهاء الحياة على غير شريعة الله، فتكون في ذلك مأساة الإنسان الحقيقية، مأساة ضلاله وضياعه وخسرانه في دار الابتلاء فكانت وصية إبراهيم لأبنائه أن يستمسكوا بالدين حتى الرمق الأخير، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [13] .
لقد تمت نعمة الله على الإنسان بالإسلام، به يعرف غاية وجوده وسبيله إلى الفوز والكمال، فإن أنف منه واستعلى على نعمة الله أضاع حقيقته وخسر نفسه قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [14] .
وكان مما يقلق بال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحدر المسلمون في سلم القيم الربانية التي بلغوها بالإسلام فكان يقول: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" [15] .(3/441)
وربما كان مصدر هذا القلق ما علمه الرسول من أن المؤمنين في موقف دقيق، يتطلب منهم أن يقيموا التوازن العادل بين تعاليم الله ورغبات النفوس، فإن أي ترجيح للأهواء ينتهي إلى تغلب قيم الأرض على قيم السماء فكان عليه الصلاة والسلام ينبه إلى الأعراض الخطيرة التي تنشأ من ذلك في حياة المسلمين فقال: "ما نقض قوم عهد الله ورسوله إلا تسلط عليهم عدو من غيرهم، يأخذ بعض ما كان في أيديهم وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله، وتجبروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" [16] . ولا يعوزنا الدليل في حياتنا الحاضرة على صدق الخبر.
فلم كتب علينا أن نقاسي سريعاً مما صنعته أيدينا، وجلبناه على أنفسنا؟ ألسنا بمسلمين، ألسنا أحق الناس برحمة الله ورأفته؟
بلى، ولكن الله قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [17] وإن الله قد وعد هؤلاء رفيع المنزلة، وسنى الجوائز وعالي المقامات وعظيم الثواب، ولكن ليس وعداً جزافاً، إن هو إلا جزاء الواجبات العظيمة والمهمات الشاقة التي كلف بها المؤمنين.
إننا نجد في شرع الله كله أن هؤلاء الذين حباهم ربهم بالفضل العظيم والمسؤولية الكبرى في موقف بالغ الدقة والحساسية، وإن أساءوا عوقبوا ضعفين، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً, وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [18] .
ذلك أن الله يجعل الثواب والعقاب مكافئاً لأحوال المكلف ومقدار التكليف، والإحسان أو الإساءة فيه.(3/442)
ألا ترى أن فرعون {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [19] لأنه المسؤول عن استخفافه قومه، وإيرادهم النار! , وأن امرأة فرعون بنى الله لها قصراً في الجنة، إذ استطاعت أن تنجو بقلبها من الوسط الكافر، وهو أمر لا بد فيه من الجهد والعناء، ومكافحة الموانع والحوائل مكافحة مريرة، في سبيل استنقاذ النفس من براثن الكفر الحاكم؟
لقد استبان الأمر، إذ حصحص الحق، إننا عهد إلينا بالقوامة على الناس والشهادة عليهم في اتباع شرع الله، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [20] .
لقد كرمنا الله بمسؤولية الشهادة على الناس ما حكمنا بشريعة الله والرسول.
فبذلك نكون من المحسنين ومن رحمة الله قريبين، وأجرنا بإذن الله أجران: أجر الإسلام وأجر القيام على الناس بالإسلام.
فإن أبينا الكرامة وتخلينا عن الواجب وقع علينا ما أنذرنا الله به ورسوله نالتنا عقوبة الله مضاعفة وخسرنا خسرانا كبيراً خسرنا أنفسنا وخسرنا حق الشهادة على الناس، فلم يعترف لنا به الأمم، بل صرنا موطئ أقدامهم وقصعة أكلهم، وموضع المهانة والإذلال إن اصطفاء الأمة الإسلامية لرسالة الله، تضعها في هذا الموقف الدقيق الحساس، وتجعل منها أمة نسيج وحدها: أمة من شجرة مباركة طيبة لا شرقية ولا غربية تولي وجهها شطر المسجد الحرام، فلا تدور في فلك أحد، بل تدور في فلكها الأمم، لأنها منحت دور الشهيد في تنفيذ شرع الله، والقائم بهذه المهمة لا يستوحي من غيره، ولا يقبل خضوعا، ولا تبعية، ولا تتم له الرسالة إلا بالاستقلال عن المؤثرات الغريبة، وبامتلاك قوة التأثير والتوجيه.
خاتمة:(3/443)
وهكذا يتحقق الاقتداء بالأخذ من عالم الاصطفاء والتأثر بالمصطفين الأخيار تأثراً يتفاوت عمقاً بتفاوت استعداد المتأثرين وإخلاصهم، وحرصهم على التمثل والانفصال والضرب من المثل المصطفى، ثم تجري عملية التمثل الذاتي والتربية الوجدانية، يأخذ المؤمن بها نفسه.
فإذا انتقلت إليه الصفات والأخلاق وصارت في سلوكه وأفعاله ظهر أثرها في المجتمع وانتفعوا بها، واصطبغت بها أعمال الأمة إذا كثر المعتقدون، وغلبوا على الخبث، وبهذا ترتقي الأمة، وتبدأ عصراً جديداً ومدنية جديدة، أركانها الأخلاق والمبادئ الإلهية التي لا تحد من نشاط الإنسان ولا تضيق عليه المجال بل تفتح ملكاته وإمكانياته، على ما في هذا الوجود من الأسرار والعجائب ليزداد يقينا على يقين، وتقدما على تقدم وكمالا على كمال.
لا هزيمة في الاسلام
عن علي رضي الله عنه قال: "لما انجلى الناس عن رسول الله صلى لله عليه وسلم يوم أحد نظرت في القتلى فلم أر رسول الله فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى ولكن أرى الله غصب علينا بما صنعنا فرفع نبيه فمالي خير من أن أقاتل حتى أقتل, فكسرت جفن سيفي ثم حملت على القوم بأفرجوا إلي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه مسلم والبخاري والإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجة.
[2] آل عمران: 31.
[3] البقرة: 246.
[4] النمل: 26.
[5] الكهف: 95.
[6] الزخرف: 31.
[7] رواه البخاري. انظر رياض الصالحين ص57.
[8] الشعراء: 109.
[9] هود: 56.
[10] المدثر: 50.
[11] ينسب هذا القول لأبي سفيان قبل إسلامه وينسبه بعضهم لورقة بن نوفل وكان من المشجعين للرسول. انظر لسان العرب ق. ع.(3/444)
[12] هو توماس كارليل مؤلف كتاب الأبطال.
[13] البقرة: 132.
[14] البقرة: 130.
[15] رواه أحمد في مسنده ومسلم والبخاري والنسائي وابن ماجة.
[16] في حديث رواه ابن هشام في السيرة م2 ص631 عن عبد الله بن عمر رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس بلفظ مختلف وقال حديث صحيح. وهو خمس بخمس؛ ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنز ل الله إلا فشا فيهم الفقر، وظهرت فيعم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، طففوا المكيال إلا منعوا الثبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر.
[17] الأعراف: 56.
[18] الأحزاب: 31.
[19] هود: 98..
[20] البقرة 143.(3/445)
العدد 8
فهرس المحتويات
1-أخبار الجامعة - مرسوم ملكي كريم
2- من تاريخ المذاهب الهدامة- كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (5) : بقلم: محمد بن مالك اليماني
3- الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح: بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
4- التخدير الجَماعي: بقلم الشيخ رمضان أبو العز
5- الضّوابط الأخلاقيّة للاقتصاد الإسلامي: بقلم الدكتور محمود بابللي
6- المدلسون (5) : بقلم الشيخ حماد الأنصاري
7- المسؤولية في الإسلام: بقلم الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
8- بين الرضى والغضب: للشيخ محمد المَجذوب
9- تعليم الإناث وتربيتهن: بقلم الدُكتُور تقيِّ الدِّين الهلاليِ
10- حكم الاستغاثة بغير الله سبحانه: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
11- ندوة الطلبة- دراسات في الديانات الهندية (3) - بهكوت كيتا: بقلم: الطالب محمد ضياء الرحمن الأعظمي
12- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (5) : لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
13- في ظِلال سُورَةِ الأنْفَال (2) : بقلم الشيخ أبو بكر الجزائري
14- معَ الصَحَافة - إنسان عالمنا الإسلامي الجديد: نقلا عن جريدة الرائد
15- منجل: عبد العزيز القارئ
16- نفح الطيب من مَدينَة الحبيب: بقلم الشيخ محمد المجذوب
17- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة االشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(3/446)
أخبار الجامعة
مرسوم ملكي كريم
صدر المرسوم الملكي بتعيين فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيسا للجامعة الإسلامية.
وفيما يلي نص الأمر الملكي الكريم المبلغ إلى فضيلته من قبل سعادة رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء.
صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
بعد التحية: ـ
لقد صدر الأمر الملكي الكريم تحت رقم أ - 147 وتاريخ 15-9-1390هـ. بمايلي: ـ
بعون الله تعالى
نحن فيصل بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية بعد الاطلاع على المادة الخامسة من نظام الموظفين العام، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (42) وتاريخ 29-11-1377هـ.
وبناء على ما عرضه علينا نائب رئيس مجلس الوزراء
أمرنا بما هو آت: ـ
أولاً ـ يعين الشيخ (عبد العزيز بن باز) رئيسا للجامعة الإسلامية بالمرتبة الممتازة وبراتبها المقرر.
ثانياً ـ على نائب رئيس مجلس الوزراء تنفيذ أمرنا هذا.
وإني إذ أبلغكم هذه الثقة الغالية، أسأل الله أن يتولى الجميع بتوفيقه لما يحبه ويرضاه ودمتم.
رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء
التوقيع
صالح العباد
صورة لصاحب السمو وزير المالية والاقتصاد الوطني.
صورة لمعالي رئيس ديوان الموظفين العام.
صورة لسعادة نائب رئيس ديوان المراقبة العامة.(3/447)
غادر المدينة المنورة فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي، الأمين العام للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لحضور المؤتمر الأول للمؤسسات الإسلامية في أمريكا اللاتينية الذي عقد في مدينة سان باول بالبرازيل ممثلا المملكة العربية السعودية في ذلك المؤتمر وقد ألقى فضيلته كلمة المملكة العربية السعودية في المؤتمر وبين فيها اهتمام المملكة وعلى رأسها جلالة الملك فيصل المعظم حفظه الله بفكرة التضامن الإسلامي وسعيها الحثيث إلى أن يلتقي المسلمون في كل مكان على صعيد العقيدة الصحيحة والأخوة والتعاون.
كما أشار فضيلته إلى أن المملكة تقدم كل ما تستطيعه من عون ومساعدة للمؤسسات الإسلامية وتقويتها لتتمكن من القيام بواجبها في خدمة الإسلام والمسلمين على الوجه الأكمل.
ويذكر أن سفر فضيلته كان بناء على أمر جلالة الملك فيصل المعظم حفظه الله، ونظراً لما كان لهذه الكلمة من أثر طيب في نفوس أعضاء الوفود المختلفة التي شاركت في المؤتمر فقد رأت مجلة الجامعة نشرها فيما يلي:
أيها الإخوة في الإسلام: أحييكم بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إننا نحمل إليكم هذه التحية الإسلامية من إخوانكم في المملكة العربية السعودية…
إننا نحمل إليكم تحية عاهل البلاد السعودية، وقائدها الأمين المؤتمن على الحرمين الشريفين جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز حفظه الله.
إنها تحية عطرة من مهابط الوحي في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، من جوار الكعبة المشرفة ومن مسجد رسول الله سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
إنها تحية من المركز الذي تتجه إليه وجوه المسلمين جميعا في أنحاء العالم من أقصى شرقه إلى أقصى غربه، ومن شماله إلى جنوبه خمس مرات في كل يوم وليلة، وإليه تهفو القلوب، وتهوي الأفئدة.(3/448)
أيها الإخوة في الإسلام: إن المسافة الجغرافية الشاسعة التي تفصل بين المملكة العربية السعودية، وبين هذا الركن من أمريكا الجنوبية إنما تتحول إلى قوة اتصال هائلة إذا كانت الرابطة هي رابطة الأخوة الإسلامية، والعلاقة الإيمانية.
ذلك بأن الأخوة الإسلامية الصادقة لا تستطيع عوامل التفريق أن تفعل فيها شيئا، سواء أكانت تلك العوامل جغرافية، أو لغوية, فالإسلام لا يعرف إلا أخوة المسلمين جميعا في جميع أنحاء الأرض.
إخواني المسلمين: لقد أمر جلالة الملك فيصل - حفظه الله - بأن نأتي إلى هذه البلاد لنبلغكم تحيات جلالته، ولنشارككم في اجتماعكم، ونطّلع على أحوالكم، وشؤونكم.
أيها الإخوة المسلمون: لقد نادت المملكة العربية السعودية ولا زالت تنادي بأن يكون التضامن الإسلامي أساسا للعلاقات بين جميع المسلمين، أخذا من مدلول قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وأن يكون التعاون والتآخي هو السائد بينهم عملا بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} , وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} , وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه، وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ولايكذبه" الحديث, والرابطة الإسلامية بين المسلمين أقوى، وأمتن من رابطة النسب أو العنصر أو القومية، وسنسوق على ذلك مثلين اثنين فقط نرى أن فيهما الكفاية.(3/449)
أولهما: قصة أبي لهب، وأبو لهب بن عبد المطلب هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم تنفعه قرابته من الرسول لأنه لم يؤمن به، ولم يستجب لدعوته الإسلامية أي: لأنه لم يكن مسلماً، وقد أنزل الله تعالى في ذمه سورة من القرآن تتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ, مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} إلخ السورة.
والمثال الثاني: في بلال بن رباح - رضي الله عنه -، وبلال بن رباح هو حبشي أي: إفريقي وقبل إسلامه كان مملوكا فأعتقه أبو بكر، وقد جعله الإسلام مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أفضل الصحابة، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه سمع خشف نعلي بلال في الجنة" وقد قال عنه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا"يعني بذلك بلالا.
هذان مثالان على أن العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم أقوى من علاقة النسب أي: أقوى من علاقته بعمه أو بأخيه من النسب إذا لم يكن مسلما.
ذلك ما جاء به الإسلام، وما قرره، وأخذ به المسلمون الأوائل، وهذا ليس غريبا لأن رابطة الإسلام بين المسلمين رابطة روحية، وهي علوية سماوية، ورابطة القرابة بين الأقراب رابطة بدنية، والبدن من تراب فهي رابطة ترابية.
ولكن أيها الإخوة المسلمون: الشأن كل الشأن في أن يكون المسلم مسلما صحيح الإسلام، محققا للشروط التي يجب أن تتوفر في المسلم، لا أن يكتفي بأن يقول إني مسلم، ويظهر بمظهر المسلم ويقتصر على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"…
فكون المرء مسلما يقتضي أن يتجنب ما نهى عنه الإسلام، ويأتي ما يستطيع أن يأتيه مما يأمر به الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه".(3/450)
أيها الإخوة: إن دعوة التضامن الإسلامي التي تنادي بها المملكة العربية السعودية لا تعني إلحاق الضرر بأحد، وإنما تستهدف نفع المسلمين، ورفع شأنهم، وتبادل المصالح الدينية، وغيرها فيما بينهم.
أيها الإخوة في الإسلام: إننا إذا نظرنا إلى المسلمين اليوم وجدنا حالة بعضهم ليست حالة مرضية، فما هو السبب؟
الجواب: السبب هو عدم التزام المسلمين بالإسلام الصحيح.
إن الإسلام رتب الجزاء على العمل، وقرن الثواب على الخير بفعل الخير لا بالدعوى وحدها، قال بعض السلف: "ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال".
إننا لنذكر، والأسى يقطع قلوبنا، والحزن يملأ نفوسنا ما عليه بعض المسلمين الآن من تفرق واختلاف ونزاع وشقاق مما سبب لهم كوارث، ومصاعب عظيمة لا يستفيد منها إلا عدوهم المتربص بهم، ونعتقد أنهم إذا رجعوا إلى دينهم، وحكموا شرع الله في خلافاتهم، ووكلوا أمورهم إلى عقلائهم وحكمائهم فإنهم سوف ينزعون عنها، ويعودون إلى أخوتهم، وتعاونهم.
وقد يقول أحدنا: كيف العمل لإصلاح المسلمين، ومن أين نبدأ بالإصلاح؟
الجواب: العمل أولا أن يبدأ كل منا بنفسه فيصلحها، ومعنى إصلاحها أن يأخذها بأوامر الإسلام، وينهاها عن نواهيه، ثم يعمل على إصلاح عائلته، وأهل بيته، ثم ينشر ما استطاع نشره من الوعي الإسلامي، والدعوة إلى الخير بين المسلمين، ولا شك أن ناشئة المسلمين يجب أن يكون لهم النصيب الأكبر من الرعاية، والعناية، والتنشئة على الخير وعلى حب السلام، والدعوة إليه.
أما أنتم أيها الإخوة المسلمون الذين حافظتم على إسلامكم في هذه الديار القصية التي لم يبلغها الإسلام إلا بواسطتكم فإننا لنرجو أن يكتب الله لكل واحد منكم أجر الصابرين على دينهم في آخر الزمان.(3/451)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل الصابر على دينه في آخر الزمان كالقابض على الجمر، له أجر خمسين"قالوا: يا رسول الله منا أم منهم؟ قال: بل منكم! " أي: له أجر خمسين رجلا من الصحابة رضي الله عنهم.
والذي نرجوه منكم - أيها الإخوان الأحباب - أن تتذكروا أن الإسلام دين دعوة وإرشاد، وأن الدعوة إليه ليست قاصرة على رجال العلم به أو من يقال لهم رجال الدين، بل إن على كل مسلم أن يدعو إلى الله، ويرشد إلى الإسلام حسب علمه وقدرته، قال تعالى مخاطبا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يعني: إن سبيلي، أي طريقي، ومنهجي في الحياة أن أدعوا إلى الله على بصيرة من الأمر، وأن يكون كل من اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
إذا فإن كل مسلم يجب أن يكون مبشرا بالإسلام، وذلك بحسب قدرته، واستطاعته وعلمه.
قد يقال: إنه ليس من الممكن أن يكون كل مسلم عالما بأمور الإسلام على وجه الشرح، والتفصيل، وقد يكون ذلك صحيحا، ولكن هذا لا يمنع من الدعوة إلى الإسلام بما يعرفه منه، فإذا احتاج الأمر إلى معرفة تفصيل العبادات، ودقائق المعاملات فذلك واجب العلماء بالدين الذي قال الله تعالى فيهم: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وأهل الذكر العلماء بأمور الدين.
ثم إن الدعوة إلى الإسلام كما تكون بالقول والبيان, فإنها كذلك تكون بالأفعال.
فيجب على كل مسلم أن يكون مثالاً للأخلاق الفاضلة، وأن يكون متحلياً بالسلوك الحميد حتى تكون حالته تلك خير دعوة للإسلام، وأفضل تعريف بالإسلام لمن لا يعرفون عنه شيئا.(3/452)
ذلك لأن كثيراً من الناس أو أكثرهم ينظرون إلى الأشياء نظرة عاجلة، ويزنون المرء بأفعاله لا بأقواله، وكم من مسلم جنى على الإسلام بتخليه عن خصلة واحدة من الخصال التي يأمر الإسلام بالتزامها، مثل الصدق في المعاملة، والمحافظة على الوعد، وعدم الغشّ في البيع, والشراء، والأخذ, والعطاء.
وكم من أناس كرهوا الدخول في الإسلام لما شاهدوه من بعض ممن ينتسبون إلى الإسلام من تهاون بالأخلاق الفاضلة أو عدم شعور بالمسؤولية.
إن عدم تمسك المسلم بالآداب، والأخلاق الإسلامية الصحيحة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الناس من غير المسلمين يفهمون الإسلام على غير حقيقته، بل ويحملون عنه فكرة خاطئة، وصورة مشوهة ليس في صالح الدعوة الإسلامية بطبيعة الحال.
لقد حث الإسلام على الخصال الحميدة، ونهى عن الخصال الذميمة، فصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لقد أدّبني ربي فأحسن تأديبي" وقال الله مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} لقد حث الإسلام على صدق الوعد قال الله تعالى عن نبيه إسماعيل عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
فذكر في هذا الحديث خصالاً ثلاثاً تجعل الرجل منافقاً وليس مؤمناً كامل الإيمان وهي الكذب في الحديث وخلف الوعد، وخيانة الأمانة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم محرماً الغشّ: "من غشنا فليس منا".
وقال محرّما أذى الجار: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه" والبوائق: الغوائل والشرور فلا يكون أحدكم مؤمنا كامل الإيمان إلا إذا كان جاره آمنا من شره.(3/453)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
وإكرام الجار، والمعاملة بالإحسان تشمل المسلمين وغير المسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة" والمعاهد هو غير المسلم الذي بينه وبين المسلمين عهد أو ذمة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "لم يرح رائحة الجنة" وهذا من باب الوعيد والتحذير.
هذه أمثلة موجزة على أن الإسلام جاء بالحث على الأخلاق الفاضلة، والتزام الخصال الحميدة، ولو حاولنا استقصاء ذلك لطال الكلام.
إخواني في الإسلام: إن الإسلام في هذه البلاد قد دخلها بواسطتكم وواسطة إخوان بررة لكم. وإنه الآن أمانة في أعناقكم، ولا نشك أنكم تجتهدون في أن تؤدوا الأمانة ما استطعتم إن شاء الله، وإن لكم على إخوانكم في المملكة العربية السعودية التي ترعى الأماكن الإسلامية المقدسة أن يبذلوا كل ما يستطيعون بذله من مساندة، وتعضيد…
فالله الله في إسلامكم، والله الله في أبنائكم من ناشئة المسلمين في هذه البلاد إنكم إن فرطتم - لا قدر الله - في تربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة فإن ذلك قد يكون معاول لهدم الإسلام وعدم انتشاره في هذه البلاد، وإنكم إن شاء الله ستكونون عند حسن الظن بكم، وستقومون بما تستطيعونه.
وفقكم الله وسدد خطاكم، وجعلنا وإياكم هداة مهتدين إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
(علام الهم؟)(3/454)
مر إبراهيم بن أدهم على رجل ينطق وجهه الهم والحزن، فقال إبراهيم: يا هذا إني سائلك عن ثلاثة فأجبني: فقال له الرجل: نعم. فقال إبراهيم: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟ قال: كلا. قال: أفينقص من رزقك شيء قدره الله؟ قال: كلا. قال: أفينقص من أجلك لحظة كتبها الله لك في الحياة؟ قال: كلا. فقال إبراهيم: فعلام الهم".
زوار الجامعة لإسلامية
زار الجامعة الإسلامية صاحب المعالي فضيلة الأستاذ الدكتور عبد العزيز كامل وزير الأوقاف وشئون الأزهر الشريف في الجمهورية العربية المتحدة وكان في استقبال معاليه فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد العبودي وبعض الأساتذة وكبار الموظفين وقد زار معاليه مكتبات الجامعة وكليتي الشريعة والدعوة والمعهد الثانوي فيها. ثم قدمت له الجامعة هدية لسيادته مجموعة من الكتب والمطبوعات التي تتعلق بتاريخ المدينة المنورة والمملكة العربية السعودية والتي كان بعضها من تأليف أساتذة الجامعة الإسلامية بالإضافة إلى أعداد مجلة الجامعة الإسلامية.
ـ كما زار الجامعة صاحب الفضيلة الشيخ الشاذلي النيفر المدرس بالجامعة التونسية ومن كبار علماء تونس، وقد زودته الجامعة بكمية من الكتب والمطبوعات وأعداد مجلة الجامعة.
ـ وكذلك زار الجامعة الإسلامية الأستاذ محمد غالي وكيل مفوضية الشعوب الإسلامية في الجمهورية الموريتانية وقد زود بكمية من الكتب والمطبوعات وأعداد مجلة الجامعة.
ـ وأيضا زار الجامعة فضيلة الشيخ الأمين بن الشيخ مدير مدارس ابن عامر في موريتانيا، وقد ألقى فضيلته محاضرة قيمة بالجامعة الإسلامية حضرها طلاب الجامعة والأساتذة وقد زود بالكتب والمطبوعات وأعداد مجلة الجامعة الإسلامية.(3/455)
ـ وقد زار الجامعة الإسلامية الأستاذ أمين أحمد الكاظمي رئيس القسم العربي بكلية بتنة بالهند وقد طلب من الجامعة تزويده بالمناهج الدراسية فيها بغية الاستفادة منها لوضع مناهج بالكلية المذكورة.
بيان بالمكتبات التي زودتها الجامعة الإسلامية بالكتب والمطبوعات وأعداد المجلة في داخل المملكة
مكتبة إدارة نادي المجد الريفي في ينبع ـ المنطقة الغربية.
مكتبة مدرسة مرات الابتدائية.
مكتبة مدرسة صلاح الدين الأيوبي بالزلفي.
مكتبة المدرسة السعودية في بيشة.
مكتبة المسجد الريفي بعنيزة.
مكتبة التوعية الإسلامية بغامد بلجرشي.
مكتبة مدرسة صلاح الدين بعنيزة.
مكتبة نادي الربيع بالوجه.
مكتبة المتوسطة السابعة / القعقاع بن عمرو.
مكتبة مدرسة الصحراء بالمسيجيد.
مكتبة مركز التنمية الاجتماعية.
مكتبة مدرسة القويعية الابتدائية.
مكتبة معهد النور بالمدينةالمنورة.
بيان بالمكتبات التي زودتها الجامعة الإسلامية بالكتب والمطبوعات وأعداد المجلة في خارج المملكة
المركز الرئيسي لجماعة النصر الإسلامي ـ كادوني نيجيريا. بواسطة فضيلة الشيخ أبو بكر جوبي عضو رابطة العالم الإسلامي بمكة.
الملحق الثقافي بتونس.
الملحق الثقافي في الجزائر.
الملحق الثقافي بكراتشي.
إتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية.
المدير العام للمركز الإسلامي في نيجيريا ـ كامل حسين.
أمين مكتبة جامع الهاشمي العامة بالكاظمية ـ العراق.
مدير مدرسة ابتدائية في نيجيريا الشيخ عباس يونس.
مدير مدرسة نور الإسلام في أجيبو - نيجيريا - الشيخ صلاح الدين.
مدير معهد التعليم العربي بنيجيريا الحاج خضر صلاح الدين.
مكتبة جامعة البصرة ـ العراق.
مكتبة محمد بن القاسم في باكستان الغربية.(3/456)
مكتبة الجمعية العلمية بصنعاء ـ اليمن.
مكتبة معهد رأس الخيمة العلمي.
المكتبة السلفية الريحانية ببني ظبيان.
مكتبةالحركة الاجتماعية في بعلبك الأستاذ مرتضى الحسيني.
مكتبة مدرسة النور الإسلامية في كينيا ـ الشيخ عيدروس بن علوي الرفاعي.
جمعية الشباب المسلمين في نيروبي بكينيا.
مكتبة معهد العين وعجمان بالخليج العربي.
مدير المدارس العربية في نيامي بنيجيريا.
الجزولي نوح مدير مدرسة العلوم العربية في النيجر.(3/457)
حكم الاستغاثة بغير الله سبحانه
رئيس الجامعة الإسلامية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد فقد نشرت صحيفة المجتمع الكويتية في عددها 15 الصادر في 19/4/1390هـ. أبياتا تحت عنوان (في ذكرى المولد النبوي الشريف) تتضمن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستنصار به لإدراك الأمة ونصرها وتخليصها مما وقعت فيه من التفرق والاختلاف بإمضاء من سمّت نفسها (آمنة) , وهذا نص الأبيات المشار إليها:
يا رسول الله أدرك عالما
يشعل الحرب ويصلى لظاها
ي ارسول الله أدرك أمة
في ظلام الشك قد طال سراها
يا رسول الله أدرك أمة
في متاهات الأسى ضاعت رؤاها
إلى أن قالت:
يا رسول الله أدرك أمة
في ظلام الشك قد طال سراها
عجل النصر كما عجلته
يوم بدر حين ناديت الإله
فاستحال الذل نصرا رائعا
إن لله جنودا لا تراها(3/458)
هكذا توجه هذه الكاتبة نداءها واستغاثتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طالبة منه إدراك الأمة بتعجيل النصر ناسية أو جاهلة أن النصر بيد الله وحده ليس ذلك بيد النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من المخلوقات كما قال الله سبحانه في كتابه المبين: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} , وقال عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} . وقد علم بالنص والإجماع أن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان تلك العبادة والدعوة إليها كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} , وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} , وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقال عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ, أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} . فأوضح سبحانه في هذه الآيات المحكمات أنه لم يخلق الثقلين إلا ليعبدوه وحده لا شريك له وبيّن أنه أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للأمر بهذه العبادة والنهي عن ضدها وأخبر عز وجل أنه أحكم آيات كتابه وفصلها لئلا يعبد غيره سبحانه, والعبادة هي توحيده وطاعته بامتثال أوامره وترك نواهيه وقد أمر الله بذلك في آيات كثيرات منها قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الآية, وقوله عز وجل:(3/459)
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} , وقوله سبحانه: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} , والآيات في هذا المعنى الكثيرة كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه من الأنبياء وغيرهم, ولا ريب أن الدعاء من أهم أنواع العبادة وأجمعها فوجب إخلاصه لله وحده كما قال عز وجل: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} , وقال عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَداً} , وهذا يعم جميع المخلوقات من الأنبياء وغيرهم لأن (أحدا) نكرة في سياق النهي فتعم كل من سوى الله سبحانه، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} , وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الله سبحانه قد عصمه من الشرك, وإنما المراد من ذلك تحذير غيره ثم قال عز وجل: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} , فإذا كان سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لو دعا غير الله يكون من الظالمين فكيف بغيره. والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر كما قال الله سبحانه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} , وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} , فعلم بهذه الآيات وغيرها أن دعاء غير الله من الأموات والأشجار والأصنام وغيرها شرك بالله عز وجل ينافي العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها, وهذا هو معنى لا إله إلا الله - فإن معناها لا معبود حق إلا الله فهي تنفي العبادة عن غير الله وتثبتها لله وحده كما قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} , وهذا هو أصل الدين وأساس الملة ولا تصح العبادات إلا بعد صحة هذا الأصل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ(3/460)
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} , وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ودين الإسلام مبني على أصلين عظيمين: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده, والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فمن دعا الأموات من الأنبياء وغيرهم أو دعا الأصنام أو الأشجار أو الأحجار أو غير ذلك من المخلوقات أو استغاث بهم أو تقرب إليهم بالذبائح والنذور أو صلى لهم أو سجد لهم فقد اتخذهم أربابا من دون الله وجعلهم أندادا له سبحانه وهذا يناقض هذا الأصل وينافي معنى لا إله إلا الله كما أن من ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله لم يحقق معنى شهادة أن محمدا رسول الله وقد قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} , وهذه الأعمال هي أعمال من مات على الشرك بالله عز وجل وهكذا الأعمال المبتدعة التي لم يأذن بها الله فإنها تكون يوم القيامة هباء منثورا لكونها لم توافق شرعه المطهر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق على صحته. وهذه الكاتبة قد وجهت استغاثتها ودعاءها للرسول صلى الله عليه وسلم وأعرضت عن رب العالمين الذي بيده النصر والضر والنفع وليس بيد غيره شيء من ذلك ولا شك أن هذا ظلم عظيم وشرك وخيم, وقد أمر الله عز وجل بدعائه سبحانه ووعد من يدعوه بالاستجابة وتوعد من استكبر عن ذلك بدخول جهنم كما قال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} , أي صاغرين ذليلين, وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الدعاء عبادة وعلى أن من استكبر عنه فمأواه جهنم, فإذا كانت هذه حال من استكبر عن(3/461)
دعاء الله فكيف تكون حال من دعا غيره وأعرض عنه, وهو سبحانه القريب المجيب المالك لكل شيء والقادر على كل شيء كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} , وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الدعاء هو العبادة وقال لابن عمه عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: "إحفظ الله يحفظك، إحفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" أخرجه الترمذي وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار" رواه البخاري، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه سئل أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك"، والند: هو النظير والمثيل, فكل من دعا غير الله أو استغاث به أو نذر له أو ذبح له أو صرف له شيئا من العبادة سوى ما تقدم فقد اتخذه ندا لله سواء كان نبيا أو وليا أو ملكا أو جنيا أو صنما أو غير ذلك من المخلوقات، أما سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه والاستعانة به في الأمور الحسية التي يقدر عليها فليس ذلك من الشرك بل ذلك من الأمور العادية الجائزة بين المسلمين، كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} , وكما قال تعالى في قصة موسى أيضا: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} , وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأمور التي تعرض للناس ويحتاجون فيها إلى أن يستعين بعضهم ببعض, وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الناس أنه لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا فقال في سورة الجن: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً, قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} , وقال تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً(3/462)
وَلا ضَرّاً إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} , والآيات في هذا المعنى كثيرة, وهو صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلا ربه ولا يستغيث إلا به وكان في يوم بدر يستغيث بالله ويستنصره على عدوه ويلحّ في ذلك ويقول: "يا رب أنجز لي ما وعدتني"، حتى قال الصديق الأكبر أبو بكر - رضي الله عنه -: "حسبك يا رسول الله, فإن الله منجز لك ما وعدك", وأنزل الله سبحانه في ذلك قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ, وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} , فذكرهم سبحانه في هذه الآيات استغاثتهم به وأخبر أنه استجاب لهم بإمدادهم بالملائكة ثم بين سبحانه أن النصر ليس من الملائكة وإنما أمدهم بهم للتبشير بالنصر والطمأنينة وبين أن النصر من عنده فقال: {وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} ، وقال عز وجل في سورة آل عمران: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} , فبين في هذه الآية أنه سبحانه هو الناصر لهم يوم بدر فعلم بذلك أن ما أعطاهم من السلاح والقوة وما أمدهم به من الملائكة كل ذلك من أسباب النصر والتبشير والطمأنينة وليس النصر منها بل هو من عند الله وحده, فكيف يجوز لهذه الكاتبة أو غيرها أن توجه استغاثتها وطلبها النصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض عن رب العالمين المالك لكل شيء والقادر على كل شيء.(3/463)
لا شك أن هذا من أقبح الجهل بل من أعظم الشرك فالواجب على الكاتبة أن تتوب إلى الله سبحانه توبة نصوحا وذلك بالندم على ما وقع منها والإقلاع منه والعزم على عدم العود إليه تعظيما لله وإخلاصا له وامتثالا لأمره وحذرا مما نهى عنه، هذه هي التوبة النصوح وإذا كانت من حق المخلوقين وجب في التوبة أمر رابع وهو رد الحق إلى مستحقه أو تحلله منه, وقد أمر الله عباده بالتوبة ووعدهم قبولها كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} , وقال في حق النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} , وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً, يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} , وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} , وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تجب ما كان قبلها" ولعظم خطر الشرك وكونه أعظم الذنوب وخشية الاغترار بما صدر من هذه الكاتبة ولوجوب النصح لله ولعباده حررت هذه الكلمة الموجزة وأسأل الله عز وجل أن ينفع بها وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين جميعا وأن يمن علينا جميعا بالفقه في الدين والثبات عليه وأن يعيذنا والمسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ...(3/464)
ندوة الطلبة
دراسات في الديانات الهندية (3)
بهكوت كيتا
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي.
هذا الكتاب يحتوي على إرشادات (كرشنا) [1] في المسائل الحربية فهو بحث (أرجن) [2] للخروج إلى ساحة القتال.
قد نال هذا الكتاب مقاما عظيما في الديانة الهندوسية فتأثرت به حياتهم ويتمنون أن يمثلوا سيرة كرشنا في الخلق والشجاعة وانقاذ البشر من أيدي الطغاة والظلام، يقول غاندي:
"إن كيتا كتاب مقدس لا يماثله غيره ولا يحاذيه، فيه عقيدة صالحة وأخلاق حسنة لجميع أصحاب الفكر والدعوة أن يعرفوا قدر هذا الكتاب ويحترموه ويوقروه ويجعلوه مصدرا لأصولهم الدينية" هندوم هرم. Hindud Haram.
كأن غاندي ظن أن الأديان الأخرى خالية عن العقيدة الصالحة كالديانة الهندوسية فأشار عليهم بأخذ كيتا مصدرا وأصلا وهذا يدل على قلة علمه وعدم تفكييره، بل على شدة تعصبه.
وقد طعن بعض المحققين الجدد على هذا الكتاب لأنه سبب الحرب الهندية الكبرى (مهابهارت) التي أكلت عددا كبيرا من المواطنين وأغرقت أموالا طائلة لا تحصى.. وينادي هذا الكتاب إلى يومنا هذا بالحرب والجدال، وهذا ينافي أصل الديانة الهندوسية القائلة في أصولها (أهنسا يرمودهرما) (أفضل الدين ترك القتال والحرب) وكان غاندي من أكبر الدعاة لهذه الأصول، فنقديسه لكيتا يوقعنا في الشك والتضاد.
يقول الدكتور رادها كرشنا: "إن كيتا من أحسن الكتب في فلسفة الدين والأخلاق مع أنه ليس إلهاميا مثل أسمرتي، ولكن إن قلنا إن ميزان الحسن والقبح هو التأثير الجميل فأقول: هذا الكتاب أحسن من الجميع لأن له تأثيرا حسنا في الأفكار الهندية. indian inheritance.
فإذا عرفنا قدر هذا الكتاب فلنعرف حقيقته التاريخية:(3/465)
يقول غاندي [3] : "أنا لا أعتقد في كيتا صحة وجوده التاريخي بل هو كتاب تمثيلي وتخيلي وضعه المصنف لتقريب معاني (مها بهارت) لأنه لم يثبت عندي وجود كرشنا تاريخيا". هندوم هرم ص18.
رامائن [4]
هذا الكتاب مقدم على كيتا وغيره فيه سيرة راما جندر وعصره سابق على عصر كرشنا، وله مرتبة رفيعة جدا، الهندوس يحتفلون كل سنة بحياته التمثيلية التي تستغرق حوالي شهر كامل في جميع نواحي الهند ـ وهي من أكبر الاحتفالات للديانة الهندوسية تسمى بـ (دسهره) .
وينقسم رامائن إلى قسمين:
1ـ بالميكي رمائن: هذا هو الأصل المكتوب بالسنسكرتية، وكان بالميكي معاصرا له فكلما كتب شيئا عرضه على راما وإخوانه وهم يقرونه.
ومن أهمية بالميكي أن (تارومني) سمع هذا الكلام بنفسه وصدقه ثم جاء (برهما) إلى (بالميكي) وأمره بكتابة (رامائن) وهدده إن أخفى منه شيئا أو كذب عليه (باب بالكاند بالميكي رامائن) .
مع هذا الاهتمام التام والسعي الكامل لم ينتشر رامائن هذا في أقطار الهند لأنه مكتوب بالسنسكرتية وهي من اللغات الميتة.
2 ـ (تلسي رامائن) نقل هذا الكتاب من السنسكرتية إلى الهندية قبل أربعمائة سنة - في ظل الدولة الإسلامية في عهد جلال الدين أكبر [5] فانتشر في جميع المقاطعة الهندية وتوجه الناس إليه أكثر من بالميكي فأخذ مقاما عظيما في قلوبهم.
أما من الناحية التاريخية فقد عده بعض المحققين من الكتب المكذوبة حتى قال غاندي: "أفلا تنظرون إلى (تلسى) كيف استهزأ بالنساء وحقرهن ومدح (بليشن) الذي خان أخاه الشقيق وأرشد (راما) إلى فتح وطنه وجعله بمثابة الإله الذي ظلم زوجته" هندود هرم ص33.
وكذلك أن (تلسى) يحقر المنبوذين [6] (الطبقة الرابعة تسمى بـ شودر) ومهد الطريق إلى ضربهم بدون أي ذنب.
أما النقطة المهمة فهي: ما مقام راما في بالميكي رامائن وتلسى رامائن؟(3/466)
فالأمر الذي لا غبار عليه هو أن تلسى جعل راما في مقام الإله نزل بصورة البشر لإنقاذ الناس من ظلم الملك (راون) (ملك سيلان) وهذا أمر جلي لا خفاء فيه يعرفه كل من له أدنى مسكة من علم بالديانة الهندوسية، والاختلاف هو في بالميكي رامائن لأنه أول تصنيف في حياة رامائن بل هو المصدر الوحيد الذي تعرف به حياته.
وقد اختلف الباحثون في هذه المسألة فأنكر المحققون الجدد وجود راما بصورة الإله [7] ولكن نجد في أول الكتاب مايلي:
"إن الملائكة اجتمعت عند (وشنو) (الرازق) وألحت عليه أن يهبط إلى الأرض بصورة (راما) لإنقاذ البشر من ظلم راون".
ثم بعد النصر جاء برهما مع الملائكة في حفلة الفتح وأثنى عليه بقوله: "إن راما إله نزل على الأرض للحرب مع راون". Indian Inheritation
هذه هي حقيقة رامائن الذي جعل راما بمثابة الإله وسيأتي النقد على هذه العقيدة في باب (أوتار) إن شاء الله.
عقيدة أوتار
معنى كلمة أوتار في اللغة السنسكرتية (النزول) واصطلاحا عند الهندوس: نزول الرب إلى الأرض بصورة الإنسان لإصلاح الناس كما ورد في كيتا.
"إذا تزلزل الحق أمام الباطل وغلب الفساق على الصالحين نزل بهكوان (الإله) لإحقاق الحق وحفظ الصالحين".
والأوتار له أربعة مقاصد:
1- تغليب النساك والزهاد على الفجار.
2- فلاح الدنيا وإهلاك الدجالين.
3- رفع ثقل الأرض.
4- إظهار الأسوة الحسنة (شرى بهكوت كيتا) .
وأوتار له أربعة أقسام:
الأول: بورن أوتار، يعنون به النزول الكامل, ومن شرطه أن تكون قوة المرسل غير متناهية تساوي قوة برهما مثل أوتار (راما) و (كرشنا) .
الثاني: أنسن أوتار الذي يرسل لغرض خاص وهو دون الأول مثل أوتار (نرسنك) .
الثالث: (كلا أوتار) الذي يكون أدنى من أنسن مثل أوتار (منو كشيب) .(3/467)
الرابع: (أوهياكارى أوتار) الذي يعطي في فترة من حياته قوة كقوة برهما ثم تزول عنه كما كان شأن أوتار ويدوياس الذي منح قوة كقوة برهما في حين تأليفه (ويدا) ثم سلبت منه.
هذه هي العقيدة المعروفة لدى الهندوس يعتقدها كبيرهم وصغيرهم، ولكن لما رجعنا إلى كتابهم المقدس (ويدا) رأينا أنه لا يصدق بما ذهب إليه جمهور الهندوس بل إنه يدعى إرسال الرسل من بني آدم كما في عقيدة الإسلام، فقد جاء في الباب الثاني عشر اشلوك رقم 1 من رك ويد ما نصه:
(أكنن دوتن ورى ماهى) Agni Dutan Viri Mahi
يعني (نحن نتنخب أكنى رسولا) أكنى اسم الرسول.
(دوتن) : رسول.
(ورى ماهى) ننتخب صيغة المتكلم والجمع للتعظيم The Massanger [8]
فقد فصلت لكم أيها القراء هذا التفصيل لأن علماء الهندوس يتخبطون في تفسير هذا الأشلوك (الآية) فيفسرونه حسب شهواتهم إرضاء لعوام الهندوس ومعاندة لعقيدة الإسلام فيقولون: "دوتن بمعنى الإله وأكنى بمعنى إله النار"مع أن ويدا نفسه يرد عليهم فقد جاء فيه:
(منو شياسو أكنمن) يعني إنما أكنى بشر ولكن ذهب الله بأبصارهم ففسروا هذا الأشلوك على غير معناه لأن الشيطان استحوذ عليهم فأضلهم عن الصراط المستقيم، ولأن خاتم الرسل وأفضل الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام لم يبعث من بني جلدتهم فكفروا به ظلما وعدوانا، مع أن أوصافه عليه الصلاة والسلام مذكورة في كتابه المقدس (ميران) فقد جاء فيه:(3/468)
"أن رجلا جاء في المنام إلى الملك (بهرج) ملك السند فقال: "أيها الملك إن دينك آريا وهرم صحيح في مكانه ولكن عليك أن تلحق بدين رجل ظهر في الصحراء" (يعني أرض العرب) وهو مختون (خلاف للهندوس) ليس له جوتى (إرخاء الشعر وربطه على الرأس مثل العقاص كما يفعل نساك الهندوس) وعنده لحية طويلة له كلام يسمع (انتشار الإسلام) اصطفاه برهما (للرسالة) يأكل الطيبات من اللحوم (خلافا لنساك الهندوس والجليتية) تظهر على يديه معجزات كثيرة (مثل انشقاق القمر) [9] وهو محفوظ من أعدائه "إشارة إلى مؤامرات قريش"اسمه (محامد) (يعني جامع الفضائل) إشارة إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه الشهادة موجودة في كتابهم المقدس ولكن لما جاء إليهم رسول من الله يتلو عليهم آياته ويزكيهم كفروا به. فأين إيمانهم بدينهم آريا وهرم, والله لو كانوا مؤمنين صادقين بدينهم لكانوا مؤمنين بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
(منابع الشرك)
قدمنا هذه الاقتباسات من الكتب المقدسة التي تدعى ألوهية أوتار ثم رددنا عليها باقتباس من كتابهم المقدس الأصلي (ويدا) وهنا يسأل السائل ما سبب الاختلاف وجعل الرسالة آلهة؟ فيجاب: إن الديانة الهندوسية قد تخلت عن العقائد الصالحة كما تقدم البحث، لأجل هذا صار الهندوس أحرارا في أعمالهم ومعتقداتهم، لأن ميزان العدل والحق قد ارتفع عنهم فهم ما زالوا مختلفين في المسائل الدينية بدون مرجع يرجعون إليه، ولما ظهرت على أيدي الأنبياء والصالحين المعجزات وخوارق العادات ظنوا أنهم ليسوا بشرا بل هم آلهة نزلوا من السماء فصاروا يعظمونهم ويعبدونهم من دون الله!(3/469)
وكذلك وجود الخالق عندهم فهو ذات مبهمة لا تتصف بصفة من الصفات، وهو موجود في مكان وزمان يعجز الإدراك البشري عن تصوره فاحتاج الإنسان إلى معبود ظاهر وإله محسوس يستغيث به عند النازلة ويدعوه في الأوقات الحرجة، فجعلوا يبحثون عن الذوات النافعة مثل الأنهار التي تسقي الزرع والأشجار التي تعطي الثمرة، والنار التي ينتفع بها في طبخ الطعام، والبقرة التي تدر اللبن. وهكذا فهذه المظاهر كلها بمثابة الإله المعبود مما لا يقره كتابهم المقدس ويدا، وهذا أقبح الشرك الذي ينفر منه كل لبيب من الهندوس ولكن تغلغل في عقولهم فلم يستطيعوا خلاصا منه.
إلى هذا أشار العالم الهندوكي (دنكر) في كتابه (العناصر الأربعة للحضارة الهندية) .
كان من عقيدة ويد وهرم أن قدرة الخالق منقسمة إلى أشخاص متعددة (ديوتا) فكان الإنسان يتوجه في دعائه إلى هؤلاء الأشخاص لقضاء الحاجة التي يملكها هذا الشخص. فمثلا كانوا يتوجهون في استنزال المطر إلى (اندرا) وفي إشعال النار إلى أكنى، وفي طلب الأولاد إلى (كامديو) وهكذا.
هذه هي فلسفة تعدد الآلهة عند الهندوس فنحمد الله الذي أخرجنا من هذه الظلمات بعضها فوق بعض، ومهد لنا الطريق إلى التوحيد الذي وصفه بقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ،) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وصدق الله العظيم.
--------------------------------------------------------------------------------
-[1] سيأتي بيانه في باب عقيدة الأوتار.
-[2] اسم رجل معروف بالشجاعة والبطولة.(3/470)
-[3] وهو الذي ابتدع دينا جديدا مخلوطا بمبادئ الإسلام والعقيدة الهندوسية سماه "الدين الإلهي"فأدخل في عقيدة الإسلام من الخرافات الهندوسية ما لا يرضى بها الإسلام والمسلمون فقام أمام دعوته بعض العلماء الكبار منهم الداعية الكبير أحمد السرهندي الملقب (مجدد الألف الثاني) .
-[4] إله عندالهندوس له علم بجميع الأشياء صغيرها وكبيرها.
[5]- أخو الملك راون الظالم الذي انتصر عليه راما انتصارا عظيما سيأتي بعض تفصيله في باب الشخصيات الكبرى إن شاء الله.
-[6] عددهم في الهند مائة وعشرون مليونا يعني ضعف المسلمين، هذه الطبقة المظلومة فيها تجاذب شديد بين الإسلام والمسيحية والبوذية فكل فرقة تدعوها إلى دينها ولكن أكثر ميلانها إلى الديانة البوذية لسبب خاص أريد ان أذكره لأن فيه عبرة للمسلمين.
قبل ثلاثين سنة ترأس عليهم الدكتور (أمباوكر) - أحد واضعي قانون الجمهورية الهندية - فتوجه إلى دراسة الديانات ليخرج الطبقة الراعية من ظلم الهندوس وعدوانهم فبعد بحث وتحقيق تأثر بالإسلام أكثر من غيره وأعلن في الصحف الهندية أنه لا يوجد دين أفضل من الإسلام على وجه الأرض، ولكن المسلمين فرقوا هذا الدين إلى فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا فلا فائدة لنا بالدخول في الإسلام لأننا نبقى كما كنا كافرين، فأمر أصحابه أن يدخلوا في الديانة البوذية جريدة (زيندار) سنة 1936.
أوردنا هذا النص ليتفكر ويتدبر كل من له أدنى معرفة بأحوال المسلمين ليرى كيف أن بعض المسلمين يصدون عن سبيل الله ويمنعون الناس عن الدخول في الإسلام.
فندعوا أصحاب الفكر والرأي إلى أن يعتبروا هذه النقطة الحساسة ويغيروا سلوكهم ومناهجهم ويفتحوا صدورهم لكل من توجه إليهم بكل مودة ورحمة ويعللوا التنافر فيما بينهم من المسائل الخلافية الفرعية التي لا توافق عقيدة الإسلام وما يدريكم لعل الله يريد بالمسلمين خيرا.
-[7] بمعنى GDOS(3/471)
-[8] أي: International - Sancrit - Dictionary
-[9] قد ثبتت هذه المعجزة في الهند حين وقوعها فإن (السامري) ملك مليبار رأى شق القمر بنفسه وأمر بتسجيل هذه الحادثة في سجله الرسمي فسافر من الهند وقابل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ومات في الطريق عند رجوعه إلى الهند (تاريخ فرشته) .(3/472)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (5)
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس الجامعة
سورة الأنعام
· قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ..} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن الله مولى الكافرين ونظيرها قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} . والجواب عن هذا أن معنى كونه مولى الكافرين أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء, ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين أي ولاية المحبة والتوفيق والنصر، والعلم عند الله تعالى. وأما على قول من قال: إن الضمير في قوله: {رُدُّوا} , وقوله: {مَوْلاهُمُ} عائد على الملائكة فلا إشكال في الآية أصلاً, ولكن الأول أظهر.
· قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} , هذه الآية الكريمة يفهم منها أنه لا إثم على من جالس الخائضين في آيات الله بالاستهزاء والتكذيب. وقد جاءت آية تدل على أن من جالسهم كان مثلهم في الإثم وهي قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} إلى قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} .
اعلم أولا أن في معنى قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وجهين للعلماء:
الأول: أن المعنى: وما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء, وعلى هذا الوجه فلا إشكال في الآية أصلا.(3/473)
الوجه الثاني: أن معنى الآية وما على الذين يتقون ما يقع من الكفار في الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء, وعلى هذا القول فهذا الترخيص في مجالسة الكفار للمتقين من المؤمنين كان في أول الإسلام للضرورة ثم نسخ بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} , وممن قال بالنسخ فيه مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير. فظهر أن لا إشكال على كلا القولين. ومعنى قوله تعالى: {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} على الوجه الأول أنهم إذا اجتنبوا مجالستهم سلموا من الإثم ولكن الأمر باتقاء مجالستهم عند الخوض في الآيات لا يسقط وجوب تذكيرهم ووعظهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لعلهم يتقون الله بسبب ذلك, وعلى الوجه الثاني فالمعنى أن الترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير لعلهم يتقون الخوض في آيات الله بالباطل إذا وقعت منكم الذكرى لهم وأما جعل الضمير للمتقين فلا يخفى بعده والعلم عند الله تعالى.(3/474)
· قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} ، يتوهم منه الجاهل أن إنذاره صلى الله عليه وسلم مخصوص بأم القرى وما يقرب منها دون الأقطار النائية عنها لقوله تعالى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} , ونظيره قوله تعالى في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} . وقد جاءت آيات أخر تصرّح بعموم إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الناس كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاس} ، والجواب من وجهين:
الأول: أن المراد بقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} شامل لجميع الأرض كما رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة - حرسها الله - كجزيرة العرب مثلا فإن الآيات الأخر نصت على العموم كقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه عند عامة العلماء ولم يخالف فيه إلا أبو ثور, وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة المائدة، فالآية على هذا القول كقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} , فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم كما هو واضح والعلم عند الله تعالى.(3/475)
· قوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} , وقوله أيضاً: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} , أثبت في هاتين الآيتين التشابه للزيتون والرمان ونفاه عنهما.
والجواب: ما قاله قتادة - رحمه الله - من أن المعنى متشابها ورقها, مختلفا طعمها, والله تعالى أعلم.
· قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ، هذه الآية الكريمة توهم أن الله تعالى لا يرى بالأبصار, وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه يرى بالأبصار، كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وكقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، فالحسنى: الجنة, والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وكذلك قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} على أحد القولين، وكقوله تعالى في الكفار: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، يفهم من دليل خطابه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن المعنى: لا تدركه الأبصار أي في الدنيا فلا ينافي الرؤية في الآخرة.
الثاني: أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة, وهذا قريب في المعنى من الأول.
الثالث: وهو الحق: أن المنفي في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكنه, أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك.(3/476)
وحاصل هذا الجواب أن الإدراك أخص من مطلق الرؤية لأن الإدراك المراد به الإحاطة, والعرب تقول: "رأيت الشيء وما أدركته", فمعنى لا تدركه الأبصار: لا تحيط به كما أنه تعالى يعلمه الخلق ولا يحيطون به علما، وقد اتفق العقلاء على أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم, فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية مع أن الله تعالى لا يدرك كنهه على الحقيقة أحد من الخلق, والدليل على صحة هذا الوجه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى مرفوعا: "حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"، فالحديث صريح في عدم الرؤية في الدنيا ويفهم منه عدم إمكان الإحاطة مطلقا. والحاصل أن رؤيته تعالى بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة؛ لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلا، وأما في الشرع فهي جائزة وواقعة في الآخرة ممتنعة في الدنيا، ومن أصرح الأدلة في ذلك ما رواه مسلم وابن خزيمة مرفوعا: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا"والأحاديث برؤية المؤمنين له يوم القيامة متواترة والعلم عند الله تعالى.
· قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} , لا يعارض آيات السيف لأنها ناسخة له.
· قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ} ، هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باق بقاء لا انقطاع له أبدا ونظيرها قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ, خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّك} ، وقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} ، وقد جاءت آيات تدل على أنّ عذابهم لا انقطاع له كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} .
والجواب عن هذا من أوجه:(3/477)
أحدها: أن قوله تعالى: {إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ} معناه إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها وهم أهل الكبائر من الموحدين، ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة والضحاك وأبي سنان وخالد بن معدان واختاره ابن جرير وغاية ما في هذا القول إطلاق ما ورد ونظيره في القرآن {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} .
الثاني: أن المدة التي استثناها الله هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم قاله ابن جرير أيضا.
الوجه الثالث: أن قوله {إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ} فيه إجمال وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبداً, وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له, والظهور من المرجحات, فالظاهر مقدم على المجمل كما تقرر في الأصول.
ومنها: أنّ "إِلاّ" في سورة هود بمعنى: "سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض". وقال بعض العلماء: إن الاستثناء على ظاهره وأنه يأتي على النار زمان ليس فيها أحد، وقال ابن مسعود: "ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون أحقابا"، وعن ابن عباس: "أنها تأكلهم بأمر الله". قال مقيده - عفا الله عنه -: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن هذه النار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين كما جزم به البغوي في تفسيره؛ لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة, وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن, أما ما يقول كثير من العلماء من الصحابة ومن بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته, وإيضاحه أن المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم الصحيح وغيرها راجع إليها:
الأولى: أن يقال بفناء النار وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها.(3/478)
الثانية: أن يقال إنهم ماتوا وهي باقية.
الثالثة: أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية.
الرابعة: أن يقال: إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخف عليهم. وذهاب العذاب رأسا واستحالته لذة لم نذكرهما من الأقسام لأنا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب, ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذة, فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما, وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه.
أما فناؤها فقد نص تعالى على عدمه بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} , وقد قال تعالى: {إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّك} في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار وبيّن عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} , وبقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} , وقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ} ، وبيّن عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} , فمن يقول إن للنار خبوة ليس بعدها زيادة سعير رد عليه بهذه الآية الكريمة. ومعلوم أن (كُلَّمَا) تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها، ونظيرها قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} الآية. وأما موتهم فقد نصّ تعالى على عدمه بقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} , وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} , وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح, وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". وأما إخراجهم منها فنص تعالى على عدمه بقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} , وبقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} .(3/479)
وأما تخفيف العذاب عنهم فنص تعالى على عدمه بقوله: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} , وقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّ عَذَاباً} , وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} , وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} , وقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} , وقوله تعالى: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} , وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} . ولا يخفى أن قوله: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} كلاهما فعل في سياق النفي فحرف النفي ينفي المصدر الكامن في الفعل فهو في معنى لا تخفيف للعذاب عنهم ولا تفتير له, والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات, بل يلزمه ذهابهما رأسا, كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} وإقامته النصوص عليها بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .
فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فرض أن الله أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها لأنه وعيد وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح, وأن الله تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده وأن الشاعر قال:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فالظاهر عدم صحته لأمرين:
الأول: أنه يلزم جواز ألاّ يدخل النار كافر لأن الخبر بذلك وعيد وإخلافه على هذا القول لا بأس به.(3/480)
الثاني: أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذب رسله حيث قال: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيد} ِ , وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل كقولهم "سها فسجد"أي سجد لعلة سهوه, و"سرق فقطعت يده"أي لعلة سرقته فقوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيد} أي وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل ونظيرها قوله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلاّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} .
ومن الأدلة الصريحة في ذلك تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار حيث قال: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ, مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} , ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقّ} , وقوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيد عصاة المؤمنين لأن الله بيّن ذلك بقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .(3/481)
فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام تعيّن القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبداً بلا انقطاع ولا تخفيف بالتقسيم والسبر الصحيح, ولا غرابة في ذلك لأن خبثهم الطبيعي دائم لا يزول فكان جزاؤهم دائما لا يزول, والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} الآية، فقوله: {خَيْراً} نكرة في سياق الشرط فهي تعم, فلو كان فيهم خير ما في وقت ما لعلمه الله، وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ، وعودهم بعد معاينة العذاب لا يستغرب بعده عودهم بعد مباشرة العذاب لأن رؤية العذاب عيانا كالوقوع فيه لا سيما وقد قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} , وقال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الآية. وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص كما أشار له تعالى بقوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} , وبقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} . والعلم عند الله تعالى.(3/482)
· قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية، هذا الكلام الذي قالوه بالنظر إلى ذاته كلام صدق لا شك فيه؛ لأن الله لو شاء لم يشركوا به شيئا ولم يحرموا شيئا مما لم يحرمه كالبحائر والسوائب وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا} , وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} , وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} , وإذا كان هذا الكلام الذي قاله الكفار حقا فما وجه تكذيبه تعالى لهم بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ} ، ونظير هذا الإشكال بعينه في سورة الزخرف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} .
والجواب أن هذا الكلام الذي قاله الكفار كلام حق أريد به باطل فتكذيب الله لهم واقع على باطلهم الذي قصدوه بهذا الكلام الحق، وإيضاحه: أن مرادهم أنهم لما كان كفرهم وعصيانهم بمشيئة الله وأنه لو شاء لمنعهم من ذلك فعدم منعه لهم دليل على رضاه بفعلهم فكذبهم الله في ذلك مبيّنا أنه لا يرضى بكفرهم كما نص عليه بقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} , فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية يلزمها الرضى وهو زعم باطل بل الله يريد بإرادته الكونية ما لا يرضاه بدليل قوله: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} والذي يلازم الرضى حقا إنما هو الإرادة الشرعية والعلم عند الله تعالى.
· قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية.(3/483)
هذه الآية تدل على أن هذا الذي يتلوه عليهم حرّمه ربهم عليهم فيوهم أنّ معنى قوله: {أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أن الإحسان بالوالدين وعدم الشرك حرام والواقع خلاف ذلك كما هو ضروري وفي هذه الآية الكريمة كلام كثير للعلماء وبحوث ومناقشات كثيرة لا تتسع هذه العجالة لاستيعابها منها: أنها صلة كما يأتي، ومنها: أنها بمعنى أبينه لكم لئلا تشركوا ومن أطاع الشيطان مستحلا فهو مشرك بدليل قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ، ومنها - أن الكلام تمّ عند قوله: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} وأنّ قوله: {عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا} : اسم فعل يتعلق بما بعده على أنه معموله. منها غير ذلك. وأقرب تلك الوجوه عندنا هو ما دل عليه القرآن لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن, وذلك هو أن قوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} مضمن معنى ما وصاكم ربكم تركا وفعلا, وإنما قلنا إن القرآن دل على هذا لأن الله رفع هذا الإشكال وبين مراده بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيكون المعنى: وصاكم ألا تشركوا ونظيره من كلام العرب قول الراجز:
حج وأوصى بسليمى إلا عبدا
أن لا ترى ولا تكلم أحدا
ومن أقرب الوجوه بعد هذا وجهان:
الأول: أن المعنى: يبينه لكم لئلا تشركوا.
الثاني: إن (أن) من قوله: {أَلاّ تُشْرِكُوا} مفسرة للتحريم والقدح فيه بأن قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} معطوف عليه وعطفه عليه ينافي التفسير مدفوع بعدم تعيين العطف لاحتمال حذف حرف الجر فيكون المعنى: ولأنّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه كما ذهب إليه بعضهم ولكن القول الأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى وعليه فلا إشكال في الآية أصلا.
سورة الأعراف(3/484)
· قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} الآية, هذه الآية الكريمة تدل على أن الله يسأل جميع الناس يوم القيامة ونظيرها قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ, عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} , وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} ، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} , وكقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو أوجهها لدلالة القرآن عليه وهو أن السؤال قسمان: سؤال توبيخ وتقريع, وأداته غالبا (لم) ، وسؤال استخبار واستعلام وأداته غالبا (هل) فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع, والمنفي هو سؤال: الاستخبار والاستعلام، وجه دلالة القرآن على هذا أن سؤاله لهم المنصوص في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ, مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} , وكقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} ، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ، إلى غير ذلك من الآيات، وسؤال الله للرسل ماذا أجبتم لتوبيخ الذين كذبوهم كسؤال الموؤودة بأي ذنب قتلت لتوبيخ قاتلها.
الوجه الثاني: أن في القيامة مواقف متعددة ففي بعضها يسألون وفي بعضها لا يسألون.
الوجه الثالث: هو ما ذكره الحليمي من أن إثبات السؤال محمول على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، وعدم السؤال محمول على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه، ويدل لهذا قوله تعالى فيقول: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} والعلم عند الله تعالى.(3/485)
· قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} الآية.
في هذه الآية إشكال بين قوله: {مَنَعَكَ} مع (لا) النافية؛ لأن المناسب في الظاهر لقوله: {مَنَعَكَ} بحسب ما يسبق إلى ذهن السامع لا ما في نفس الأمر هو حذف (لا) فيقول: "ما منعك أن تسجد"دون "ألا تسجد"وأجيب عن هذا بأجوبة؛ من أقربها هو ما اختاره ابن جرير في تفسيره وهو أن في الكلام حذفا دل المقام عليه وعليه فالمعنى: ما منعك من السجود فأحوجك أن لا تسجد إذ أمرتك وهذا الذي اختاره ابن جرير قال ابن كثير: "إنه حسن قوي".
ومن أجوبتهم أن (لا) صلة ويدل له قوله تعالى في سورة (ص) : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} الآية، وقد وعدنا فيما مضى أنا إن شاء الله نبيّن القول بزيادة (لا) مع شواهده العربية في الجمع بين قوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وبين قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} .
· قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} هذه الآية الكريمة يتوهم خلاف ما دلت عليه من ظاهر آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الآية، الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: وهو أظهرها أن معنى قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي بطاعة الله وتصديق الرسل ففسقوا أي بتكذيب الرسل ومعصية الله تعالى فلا إشكال في الآية أصلا.(3/486)
الوجه الثاني: أن الأمر في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أمر كوني قدري لا أمر شرعي، أي قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا، والأمر الكوني القدري كقوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، والأمر في قوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أمر شرعي ديني فظهر أن الأمر المنفي غير الأمر المثبت.
الوجه الثالث: أن معنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} : أي كثرناهم حتى بطروا النعمة ففسقوا، ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعا من حديث سويد بن هبيرة ـ رضي الله عنه ـ: "خير مال امرئ مهرة مأمورة أو سكة مأبورة"فقوله مأمورة أي كثيرة النسل وهي محل الشاهد.
قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} الآية، وأمثالها من الآيات كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} ، وقوله: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} ، وقوله: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} الآية، لا يعارض قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ، ولا قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} ، لأن معنى {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} ونحوه أي نتركهم في العذاب محرومين من كل خير والله تعالى أعلم.
· قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} الآية، هذه الآية تدل على شبه العصا بالثعبان وهو لا يطلق إلا على الكبير من الحيات وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} الآية، لأن الجان هو الحية الصغيرة، والجواب عن هذا أنه شبهها بالثعبان في عظم خلقتها وبالجان في اهتزازها وخفتها وسرعة حركتها فهي جامعة بين العظم وخفة الحركة على خلاف العادة.(3/487)
في ظِلال سُورَةِ الأنْفَال (2)
بقلم الشيخ أبو بكر الجزائري
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
يقول الله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ, الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ, أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
بسم الله، والحمد لله وبعد، لقد ذكرنا عند دراستنا للآية السابقة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأنْفَالِ ... } الآية, إن المواضيع التي تعالجها هذه السورة القرآنية الكريمة إجمالا هي:
1- العقيدة بتركيزها في النفوس المؤمنة وتعميقها.
2- السلوك بتهذيبه، وإصلاحه حتى يتلاءم مع العقيدة الإسلامية، ويكون دليلا لها، وبرهانا عليها.
3- الجهاد بذكر قوانينه، وطرف من آدابه، وعوامل النصر أو الهزيمة فيه.
4- الغنائم، وحكم قسمتها، وطريقة توزيعها بين المجاهدين.
5- المعاهدات الحربية والسلمية، وكيفية إبرامها ونقضها.
6- حكم الأسرى، والهجرة والموالاة في الإسلام.(3/488)
والآن وقد أشرنا إلى هذا ليتمكن القارئ الكريم من تفيء ظلال هذه السورة من أول مده إلى نهايته، نعود لندرس هذه الآيات الثلاث، ويحسن أن نشير أولا إلى المناسبة بين الآية السابقة، وبين هذه الآيات فنقول: لما كان الإيمان هو السلطان الذي يحكم تلك الجماعة المؤمنة، ويخضعها للقيادة النبوية، والمنهاج الإلهي، يوجهها إلى حيث كمالها وسعادتها، ولم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم وهو قائدها ما يعتمد عليه في أمرها ونهيها، وقيادتها وتوجيهها إلا إيمانها وإيمانها فقط، إذ هو الذي قامت عليه حقيقتها، وانبنى عليه كيانها فصارت به أمة مستعدة للفوز متهيئة للكمال, فبموجبه تؤمر، وبموجبه تنهى، وعلى أساسه تدعى إلى الخير فتقبل مسرعة، وتزجى عن الشر فتنفر منه خائفة مذعورة، ألم تر أنها يوم اختلفت في الأنفال, وكاد الخلاف يفضي بها إلى القتال والانحلال لم يكن لها ما تقاد به إلى وحدة الصف، وجنة الوئام إلا الإيمان فبه أمرت فانقادت، وبه دعيت فأجابت: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
ولما كان الإيمان بهذه المثابة ناسب أن يبين لها مزيدا من آثار الإيمان في نفوس المؤمنين, وسلوكهم وأحوالهم، وليكون ذلك بمنزلة وضع مرقاة جديدة لهم ليرتقوا بها إلى منازل الإيمان الكبرى، ويبلغوا الغاية من الكمال البشري في هذه الدار، ويصبحوا بذلك أهلا لجوار الله تعالى وكرامته. فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ..} في ثلاث آيات بينات اشتملت على خمس صفات رسمت بها الصورة الكاملة للمؤمن الحق الذي يستحق الإنعام والتكريم.(3/489)
وأولى هذه الصفات هي وجل القلب عند ذكر الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} , والوجل: رقة القلب، واضطراب النفس للوارد القوي الذي تضعف معه, ويكون بالشوق والحب، كما يكون بالخوف والرهبة، ويعقبه عادة طمأنينة القلب كالأثر لازم له، يشهد لهذا مثل قوله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ..} , وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . ومن مظاهر الوجل القوية أن تفيض روح العبد عند ذكر الله تعالى بأسمائه أو صفاته، أو وعيده رهبة وخوفا أو حبا وشوقا، الذين فارقوا هذه الحياة بهذا الوارد القوي خلق قد لا يحصون كثرة. ودون هذا المظهر قشعريرة الجلد، وذرف الدمع، وهدوء النفس وسكون القلب، وأدنى مظاهر وجل القلب عند ذكر الرب: أن يقال للعبد: اتق الله في واجب تركه أو مكروه ارتكبه، فيقع في الحال فيأتي الواجب الذي تركه، أو يترك الحرام الذي ارتكبه. وليس وراء هذا مطمع في وجود الإيمان.(3/490)
وثاني هذه الصفات زيادة الإيمان بسماع الآيات: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وتلاوة الآيات قراءتها من خطيب على منبر، أو واعظ، أو مرشد، من قارئ يتهجد بليل، أو متعلم يرتل بالنهار، فذو الإيمان الحق لمجرد سماعه آيات الله تتلى ترتفع درجة إيمانه إلى مستوى أدناه أن يخف معه لقضاء الواجب، وترك المكروه، وأعلاه أن يصبح الغيب عنده شهادة، والمعقول كالمحسوس، ويوضح هذا المعنى الذي في زيادة الإيمان رؤية المرء شخصا عند طلوع الفجر، ثم رؤيته مرة أخرى عند الإسفار، ثم ثالثة عند طلوع الشمس وارتفاع النهار، أليست الرؤى الثلاث قد اختلفت اختلافا كبيرا، فالأولى لم تعد أكثر من رؤية شبح أو شخص غير معروف، والثانية كانت رؤية شخض عرف بها معرفة إجمالية، أما الثالثة فإنها رؤية عرف معها الشخص بكامل سماته وخصائصه وفوارقه؟؟
فإذا كانت الرؤية واحدة واختلفت آثارها باختلاف قوة الضوء وضعفه، فكذلك الإيمان يقوى ويضعف ويزيد وينقص, والدليل على ذلك آثاره في قوة اليقين وصلاح الحال، والاستقامة في السلوك. فالمؤمن الحق هو الذي يزيد إيمانه لسماع كلام ربه جل جلاله ومن لم يجد أثر الزيادة في إيمانه عند سماع كلام ربه فليشك في وجود إيمانه وليفتش عنه ليتعرف أي العواصف المادية ذهبت به.(3/491)
إن الإيمان أيها الإخوة القارئون بمثابة محرك السيارة الآلية، فإنه متى كان صالحا حرك السيارة ودفع بها إلى الأمام، وبقدر ما يصب عليه الوقود تزداد حركته وسرعته، وبقدر ما ينقص الوقود تنقص قوته وسرعته وكذلكم الإيمان سواء بسواء. فالإيمان الذي لا يقوى على دفع المؤمن إلى أعلى المراتب كالجهاد بالنفس والمال، أو أدناها كترك الشر والبعد عن الإثم ليس بإيمان، والمؤمن الذي يدعى إلى خير فتتلى عليه الآيات الداعية إليه والحاضة عليه فلا يتحرك ولا يجيب يستحي العاقل أن يقول فيه: مؤمن، أو يصفه بالإيمان، إذ للإيمان حقيقته ككل الأشياء، فإذا لم توجد تلك الحقيقة فمن المكابرة أو المغالطة أن يسمى هذا إيمانا وصاحبه مؤمنا.
وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرّ ذات مرة يوم بحارثة الأنصاري فقال له - بعد السلام -: "كيف أصبحت يا حارثة؟ "قال: "أصبحت مؤمنا حقا"، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "انظر ما تقول, فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال حارثة: "عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي, وأظمات نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني انظر إلى أهل النار يتضاغون فيها (يتصياحون) ", فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: "يا حارثة عرفت فالزم- ثلاث مرات -".
والشاهد من إيراد هذا الأثر إثبات هذه الحقيقة العلمية وهي أن لكل شيء حقيقة من طريق الاستدلال بالسنة النبوية.(3/492)
وثالث هذه الصفات: التوكل على الله دون سواه {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فإيمان العبد بأن الله حي لا يموت، وأنه لا يخرج شيء عن سلطانه وقهره وتدبيره، وأن شيئا لا يكون إلا بإذنه ومشيئته، وأنه لا يملك عطاء ولا منعا سواه، ولا ضرا ولا نفعا غيره، وإيمان العبد بهذا يحتم عليه التوكل على الله دون سواه {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوت} , وبعدم التوكل على الله تعالى يكون العبد عرضة لنفي الإيمان عنه، إذ من حقيقة الإيمان بالله تعالى وصفاته التوكل عليه دون غيره. هذا وما هو التوكل؟ التوكل: صفة تفويض إنجاح المساعي, وإثمار الأعمال وإنتاج المقدمات إلى الله تعالى، إذ هو الذي يملك ذلك على الحقيقة دون غيره من خلقه، وثمرة التوكل العاجلة الإقدام على العمل في حزم، وإتيان الأسباب في غير توان، ووضع المقدمات في غير حيرة ولا تردد، مع طمأنينة القلب، وهدوء البال، واستراحة الضمير، فلا قلق للمتوكل على الله، ولا مخاوف تنتابه في الحياة، يؤمر بالجهاد فيرمي بنفسه في معاركه ومعامعه في غير هيبة ولا وجل، يكفر بذره في التربة ولا يفكر في الحصاد، ويضع رجله في الفرز أو على درجة سلم الطائرة وهو مسافر بإذن الله ولا يفكر في الوصول غايته ومنتهاه، إذ ذاك ليس له، وإنما هو لله، والله قد أمر العبد وقد فعل، فلم إذن يفكر العبد في غير ما هو له، وإنما هو لله.
هذه بعض ثمرات التوكل: عمل، وأمل، وهدوء بال وطمأنينة خاطر. وأما غير المتوكلين فلا تسأل عن مدى المخاوف التي تنتابهم والقلق والحيرة والهم الذي يصيبهم في كل ساعة من ساعات حياتهم، وقد يقعد بأحدهم خوفه من عدم تحقيق الهدف أو الوصول إلى الغاية ما يقعد به عن العمل مرة واحدة، فتمشي عليه الحياة وتخلفه مواكبها ملوما محسورا.(3/493)
ولعل القارئ قد لمح من هذه الكلمات أن التواكل غير التوكل، وأن ترك الأسباب معصية لله تعالى وفسق عن أمره، وتفص من النظام الذي وضعه للكون وربط به الحياة. كما أن الاعتماد على الأسباب وتجاهل الحقيقة فيها وأنها ليست هي الخالقة المنتجة، وإنما الخالق هو الله متى شاء أثمرت، ومتى لم يشأ لها ذلك لم تثمر، فجهل هذه الحقيقة شرك في ربوبية الله وهو أقبح الصفات وأسوأ أنواع الشرك والكفر والعياذ بالله.
ومن علامات كفر المؤمنين بالأسباب، الكافرين بالخالق بها والمسبب لها، أنهم يحرصون على إعدادها وإحضارها حرصا يعصون معه الله الذي سخرها لهم ووفقهم لإتيانها، فيترك أحدهم الصلاة، أو يترك حج بيت الله، أو يتعامل بالربا، أو يتعاطى الخنا، أو يمنع الحقوق الواجبة، أو يظلم غيره ويتعدى على سواه حرصا منه على أسباب النجاح وتوفيرها حتى يصل إلى غايته ويفور ببغيته.
والذي ألفت النظر إليه هنا هو خفاء معنى التوكل على الناس، حتى أصبح الكثير لا يفرق بين التوكل الذي هو أخص صفات المؤمن، وأقوى دعائم الإيمان، وبين التواكل الذي هو الجبن والمهانة والضعف.
وقد سرى هذا الجهل بالتوكل في المسلمين أزمنة طويلة حتى صار عدوهم الذي مكنوه من رقابهم في شتى ديارهم وأقطارهم يعيبهم بالتوكل، وينسب كل ضعف فيهم إلى عقيدتهم وحتى انخدع له الكثير فتفصوا من الإسلام، وخرجوا من الدين! وهذه إحدى نتائج جهل الأمة بأصول دينها، وحقائق شريعتها، وساءت الحال اليوم بين المسلمين أكثر، فبعض آمن بالأسباب وكفر بالله مسببها، فجرى وراءها يعدها ويحضرها غير مبال بالمأذون فيه المشروع منها، وغير المأذون ولا المشروع، فعبد الأسباب وأطاعها، وتمرد على الله وعصاه، وبعض كفر بالأسباب وتجاهلها وقعد عن إحضارها وإعدادها ومنى نفسه بأنه المتوكل على الله. وسدر في غيه وجهله حتى فاتته قافلة الحياة ولم يؤب بأكثر من ضياع الحياة، وسخط الله، إذ تجاهل أمر الله وعصاه.(3/494)
معَ الصَحَافة
إنسان عالمنا الإسلامي الجديد
نقلا عن جريدة الرائد
إن هذا الجيل الناهض الذي تغافل وأهمل أولياؤه في بنائه بناءا حازما شريفا، قد نشأ على غير أخلاق أمته ووطنه، وقد غزي في عقر داره بالعقلية الأجنبية المارقة، حتى أصبح خاضعا خضوعا تاما ومتهافتا أمام العقائد الغربية المتطرفة، فهو الآن لا يملك من زمام نفسه وعقله شيئا، كما أنه لا يريد لنفسه، ولا للجيل الذي يأتي بعده طريقا موافقا لطريق أمته وقومه، بل إنما يريد أن يكون إنسانا غير الإنسان السابق، إنسانا لا يجتمع مع سلفه إلا في تراب الوطن وألفاظ اللغة فحسب، وأنها لمؤامرة ناجحة من الغرب لإفساد أمة كان لها تاريخ، وكان لها سبق في مجالات الحياة.
إن هذا الإنسان الجديد الذي نشأ وتربى على الصورة التي أرادها له الغرب، أصبح لا يرضى للدين أن يبقى في مكان عزيز في هذا الوطن ولا يرضى للإسلام أن يعيش محترما في هذه الأرض التي لم يعزها ولم يرفع مكانتها إلا الإسلام، لقدسيته ولعظمته ثم لا يكتفي هذا الجيل الجديد بالسخط على الإسلام، بل وكأنه يخفي في نفسه هذه أشد أنواع العداوة والحقد، فهو يريد أن يقوم معه ومع أفكاره بمعركة فاصلة في كل المجالات التي بقي الإسلام يقوم فيها بنشاطه، إن هذا الإنسان الجديد لا يتلكأ للوصول إلى هذا الغرض عن الاتيان بأخبث الأعمال وأسوأ أساليب الغزو والجدال، إنه لا يتلكأ في أن يملأ الأمة الإسلامية، والأمة العربية، وهي جزء منها إلا عذابا ونكبات ما وراءها من نكبات.
إن هذا الإنسان الجديد الذي بدأ ينشأ في العالم الإسلامي اليوم، ويقوم بأعماله التعسفية في الحياة الخاصة والعامة في أقطار عالمنا، قد أصبح أصل الداء ورأس الفساد في بيئتنا الحاضرة، وبه بدأت قيمنا تفسد ومقومات اجتماعيتنا تضيع، وجهتنا الفكرية والشعورية في الحياة بدأت تتغير تغيرا هائلا.(3/495)
لقد كنا قبل اليوم نملك لأنفسنا شخصية متميزة في كل مجالات الحياة وكنا أمة قائدة معلمة، أمة بناءة، معطية غازية وسيدة، أمة أنارت العقول والقلوب، وقادت الجماعات البشرية الضالة والجاهلة إلى ما فيه خيرها وصلاحها في الدينا والآخرة.
وذلك لأننا كنا نملك في كل مجالات حياتنا مصابيح ساطعة الضياء تنير لنا ولغير نا طرق الهدى والتقدم، قد كنا سمحاء، رحاب الصدور أيضا، نقتبس من غيرنا ما كان ينقصنا من معارف الدنيا، نستفيدها من غير تضايق أو تحجر، ثم لا نحبسها ولا نبخل بها أيضا، يعرف ذلك عنا الشرق والغرب، فكم من معارف وعلوم نقلناها من القدماء وأدينا أمانتها إلى الأجيال القادمة بدقة وأمانة، من غير أن يؤثر اقتباسنا واستفادتنا هذه على مقومات حياتنا أو يرزأ مقدسات تراثنا أو يغير من طرازنا بل إنما كان موقفنا من كل ثروة إنسانية أو سماوية رفيعة أن نستفيد من أصل لبابها، وننقلها إلى غيرنا بأمانة وكرامة، دون أن نذوب تحت شمس أي حضارة أو ثقافة، نجدها في حظيرة الحضارات والثقافات، بخلاف ما أصبحنا اليوم وصرنا إليه من التهافت والذوبان أمام الحضارة التائهة الأوروبية، لقد تهافتنا أمام هذه الحضارة المغرورة الفاسقة كل التهافت، وجعلنا أنفسنا من أذنابها، ومن السائرين وراء ركبها متقنعين بما ترميه إلينا مصحوبا بشعور الاحتقار والمقت من فتات مائدتها، صابرين على أذى المن والإهانة منها.
إنها أسوأ حالة مرت على العالمين العربي والإسلامي جميعا، كان يجب علينا أن نتقزز من أهونها وأدناها تقززا، لو كان فينا قليل من الحياء والإيمان.(3/496)
لقد صبرنا على الذلة والمهانة وعلى الهزائم والنكبات، ولم نجترئ على أن نترك التشبث بأذيال أوروبا، وأن نعود إلى ركبنا الإسلامي، الذي انتصرنا فيه، وبلغنا إلى المجد الخالد وسعدنا فيه بالتربع على مناصب القيادة الزعامة العالميتين، قد يقولون إن ذلك يعود إلى سوء حظنا، نعم، ولكنه يعود إلى سوء تدبيرنا وسوء حكمتنا أيضا، فقد أهملنا تربية أجيالنا وناشئتنا وتركناها هملا تتخبط في متاهات كل عقيدة باطلة، ونظرية متطرفة فاسدة، وترتع في كل حقل من الإباحية والتحلل والضلال، وتنشأ على أرذل الأخلاق، بعيدة عن إسلامها مستغنية عن دينها، مجردة عن خصائصها وسماتها، متحررة عن أخلاقية أسلافها وبلادها، زاهدة في الحياة العصامية والرجولية القوية التي عاش فيها أبطالنا منذ القديم.
بعد أن كان الموجهون والمشرفون على التربية والتعليم، وآباء الأجيال الناشئة في كل بلاد الإسلام قبل يومنا هذا، يعرفون مسئوليتهم تجاه تربية النشء والأجيال الناهضة، وكانوا يقومون بها خير قيام، فاستمرت الأمة الإسلامية بجهودهم وإخلاصهم محتفظة بقيمتها المعنوية والإنسانية العظيمة، ثم خلف من بعد ذلك خلف أضاعوا مسئوليتهم، وتناسوا واجبهم وتكاسلوا في عملهم، وتركوا هذا الجيل الجديد نهبة لكل نوع من الأفكار والنظريات والعقائد، تغزوه وتنتصر عليه، فكان ما كان من سوء العاقبة وفساد الحال مما يجأر بشكواه كل صغير وكبير في العالم الإسلامي.
نقلا عن جريدة الرائد التي يصدرها النادي العربي بندوة العلماء، لكهنو (الهند) في عددها 19 من السنة 11 وتاريخ 22 محرم 1390هـ أول أبريل 1970م.(3/497)
منجل
عبد العزيز القارئ
أيها الناس أعِدّوا للردى
واستفيقوا فاللظى يستعرُ
قامت النارُ من الشرق فهلْ
تعلمون اليوم ما يُنتَظرُ
والضحايا الكُثْرُ في تلك الرُبا
والدمارُ الزاحف المنتشر
(منجلٌ) يهدم في عالمكمْ
لو ترون اليوم ما يَسْتتر
حملوا الناس على (مِطْرقةٍ)
فالورى من بأسها منقهر
بدماء البؤس خاضوا ثورةً
سوف تُفْنى الأرضَ لو تقتدر
شاع نارُ الذل في آفاقكم
من يريد الذلّ؟ من ينتحر؟
يا شعوبَ الأرض غُضّوا طَرْفكمْ
يا بني آدمَ لا تعتبروا
أطبقوا اليوم على أجفانكمْ
ليس في الأيام أمرٌ خَطَرُ
لا تثيروا ساكناً مُنْقبراً
في قفا الغفلة لن تنقبروا
والضحايا لَمْلِمُوا أكفانَهمْ
قَدّمُوا أشلاءكمْ يا بشر
أتخافون إذا الذئبُ عَوَى؟
إنه ذئبٌ جميل (أحمر) !
يا قطيعاً ضاع في أوهامه
سوف يُؤْويك صديقٌ أشِرُ
يادعاةَ الكفر إما نلتقي
في بحار الموت أو ننتصرُ
أوقدوا النارَ فأنتمْ أهلُها
واشحذوا السكين فيكم تُكْسَرُ
لو ملأْتمْ كلّ أرضٍ فجأةً
بالردَى فاللهُ منكمْ أكبر
قد ملأنا الأمس من أشلائهمْ
عندما هاجَ المغولَ الظفرُ
وكسرناه صليباً غازياً
حينما جارَ الصليبُ الأصفر
يا بني الملة فيكمْ حَرّها
في رباكم نارُها تنتشر
اتركوا الحلمَ على أعقابكمْ
ليس ُيجْدي في لظاها النظر
ليس (للمنجل) إلا بطشةٌ
فادفنوه قبل أن تندثروا
إن للبغي دواءً ناجعاً
عزمةٌ مؤمنةٌ لا تَغْفِرُ(3/498)
نفح الطيب من مَدينَة الحبيب
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
لعل أفضل تعريف للسعادة أنها لحظات انخطاف تحلق بالنفس البشرية وراء حدود المكان والزمان، فتضع عنها آصار التراب، وتحررها من أغلال الحقد والأثرة، فلا ترى إلا الجمال، ولا تستشعر سوى الحب.
وإذا كان لهذا التعريف ظل من الحقيقة فأنا سعيد، ولكن سعادتي لا تتقيد بلمعات تبرق ثم تمحي، بل هي جلوات متصلة، بدأت منذ حطت بنا ماخرة الهواء في مطار المدينة المنورة، ثم لم تنقطع.. وليس ذلك بعجيب..إنها مدينة المصطفى التي حقق بها الله دعوة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، حين أوحى إليه أن يسأله (مدخل صدق) فكانت طيبة هي المدخل الذي سأل.
والدار والإيمان مدخل الصدق..إنما هي إشارات إلهية إلى معان لا يدرك مدلولها إلا القلب الذي تفتح في جو الوحي، فهو يطل من خلال حروف القرآن على عوالم لا سبيل إلى وصفها بقلم أو لسان.
وفي كل مكان كلام عن السلام، ولكنه كلام منطوق بلغة الحرب، وادعاء مكذوب تفضحه روائح الحقد، الذي يمزق وشائج الأرحام، ويحطم وحدة الإنسانية، حتى ليستحيل الإنسان في جحيمها خنجرا يفتك، أو ثعلبا يراوغ..ولكن في هذه الأرض التي باركها الله تسترد تلك الكلمات مضمونها السليب، فإذا هي واقع يعيشه المؤمن، وطهرا روحيا لا يتسلل إليه ضغن.. فكأنه شريد انتزع من مرابع أنسه، فراح يضرب في الأرض على غير هدى، فما إن احتواه عالم المدينة حتى وجد ضالته، فاستراح بعد عناء، وسعد بعد شقاء، وأدرك في عمق معنى الحديث النبوي الصحيح "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"، ولا غرو.. فهو هنا يتفاعل مع حقائق هذا الخبر النبوي بكل وجوده، بعد أن كان منه على حدود الألفاظ، يؤمن بها دون أن يستطيع لمدلولها تحديدا..(3/499)
في (طيبة الطيبة) يعيش المسلم الحق تاريخ الدعوة الإلهية في مرحلتها الثانية، مرحلة التنظيم والجهاد والبناء، يعشه حياة حارة خافقة، ترجمت فيها الكلمات المكتوبة إلى أشعة وظلال وأنسام وألحان، يحسها في كل خفقة هواء، وفي كل ذرة هباء…
هذه الروضة المطهرة بين المنبر والقبر المنور، قد طالما احتوت شخص الحبيب، ساجدا ومعلما ومبلغا.. فما أسعد المؤمن حين يضع جبهته في البقعة المباركة التي طالما شهدت سجداته…ويتنفس في الجو نفسه الذي طالما مازح نفحاته، ويمس الأرض نفسها التي طالما سعدت بخطواته!
وأية غبطة يمكنها أن تضاهي تلك التي يستشعرها المؤمن هناك، وهو يرى إلى جانبه تلك الروضة الأخرى التي شرفها الله، بأن جعلها مسكن حبيبه في حياته ومثواه في مماته.!
ثم أليس هنا قد وقف صاحبه في الغار وصديقه المفضل يعالج صعقة المسلمين يوم الكارثة الكبرى، إذ سرى في القوم نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم فزلزلت المدينة زلزالها، وذهلت العقول، وانهار الجلد، حتى أقبل عليهم يذكرهم بخبر السماء الذي صرفتهم عنه فجأة الهول!. أليس ها هنا قد سالت دماء الفاروق بيد القومية الحاقدة.. التي آثرت المجد الجنسي على الحق الرباني، فرفضت دعوة الله، ثم حاولت اطفاء شعلته، بالقضاء على الرجل الذي صنع الإسلام منه مثل العدالة الأعلى للعالمين…
أليس من هنا.. من هذا الحرم الأطهر بدأت كتائب الإسلام زحفها لاسئصال النكسة الجاهلية، التي تخبط فيها أهل الردة، فأماطت عن أبصارهم العمى، وأعادتهم إلى جنة الإسلام نادمين منيبين، بعد أن تبينوا أن الإسلام دين الأبد، ونظام اليوم والغد، لا يموت بموت أحد!..
أوليس من قلب هذا الحرم بدأت الانطلاقة الأولى بمشعل الإسلام إلى خارج حدود الجزيرة، تبدد الظلام، وتوقظ النيام، وتنشر أنى توجهت بذور الأمن والسلام…(3/500)
والمدينة حرم كلها، وفي كل شبر من هذا الحرم ذكريات وعبر ودروس، بها يجدد المسلم طاقته، ويشحن مدخراته، ويتزود بالقوة الروحية التي تعده لمجابهة الأحداث، بأقباس من العزيمة فوق مستوى الأحداث.. إنه حيثما يتلفت يستقبل الآثار الموحية.. فهنا (أحد) الجبل الذي يحبنا ونحبه.. أحد الذي شهد انتصار القلة المؤمنة، حين أخضعت نفسها لأمر قائدها المعصوم وهو يحركها بقانون السماء، ثم شهد المحنة الفاجعة التي نزلت بها حين وجد فيها من تستهويه الدنيا فيخالف عن أمره وهو يظن أنه غير ملوم..
وهنا بقية الخندق الذي يعلمنا كيف فهم المسلمون الأولون أمر ربهم بالاستعداد فلم يدخروا وسعا لتحصين وجودهم بكل ما وسعهم استخدامه من قوى الطبيعة، ولم يبخل واحد منهم بجهد يملكه، وهو يرى سيد ولد آدم المزود بعصمة الله، يتقدمهم في جرف التراب، وشق الصخور، حتى ليلجأون إليه في كل ما يعجزهم من ذلك، كما اعتادوا أن يلوذوا به في ساحات الروع، كلما احمرت الحدَق، وحمي وطيس القتال…
وهناك في الجانب الآخر.. ينتصب مسجد قباء كالحمامة البيضاء، المسجد الذي تعدل فيه الصلاة عمرة، لأنه أسس على التقوى فكان بذلك رمز الخلود، الذي يحققه الإخلاص للأحد المعبود.. تنتابه جموع المؤمنين صباح مساء، للتزود من موعود الأجر، الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مصليه…
ولا جرم إن منظر هذا المسجد الخالد ليذكر أولي الألباب كل يوم، بمأساة ذلك المسجد البائد، مسجد الضرار، الذي أسس ليكون مركز تجسس لأعداء الله ورسوله، فكان مصيره مصير الخيانة، تنتفخ حتى تتراءى ضخمة كبيرة، ولكنها ما إن تواجه الحقيقة حتى تتلاشى كأطياف السراب، حين تستكشفها العين المبصرة…(4/1)
وهنالك على مقربة من المدينة الحبيبة خاض الاسلام أول معاركه الأبدية مع قتلة الأنبياء من يهود، وقد بلغت مؤامراتهم ذروة الهول حين أحاطوا برسول الله وصحابته من وراء، بينما أحدقت الوثنية بالمدينة من أمام، بكل ما تملك من حول وطول وخيلاء، واندفع خفافيش المنافقين من الداخل يبثون ألغام الخيانة في الخفاء.. فكانت محنة ابتلي بها المؤمنون وزلزلوا زلزالا كبيرا.. ولكنها لا تزدهم إلا تثبيتا وإيمانا، كما تزيد النار الذهب صفاء ولمعانا، فلم يهنوا ولم يستكينوا حتى دفع الله البلاء، وهزم الحلفاء وكفى المؤمنين القتال.
تلكم الذكريات.. هي بعض دروس الوحي، يتلقاها المؤمن في مهبط الوحي، فيتعلمون منها كيف يربطون وجودهم بأهداب الرسالة، التي ألفت في ربع قرن، من الأميين الضائعين في صحراء المجهول، خير أمة أخرجت للناس.. ثم قذفت بهم إلى الدنيا، كما تقذف الشمس بأشعتها، حياة للأرض الميتة، وضياء للأعين الزائغة، ودفئا للأكبد المقرورة، فإذا هم بعد قسوة الذئاب، رسل الرحمة الربانية، يحررون عباد الله من كل عبودية لسواه، ويضعون عن إخوتهم المعذبين أغلال السفاحين، فتعود بفضلهم إلى الحياة الذاوية بهجتها، وتشرق الأرض بعد الظلمة بنور ربها.
من هذه الذكريات يتعلمون دروس الصبر الذي قهر اليأس، ليثبتوا في وجه أعاصير اليوم، كما ثبت أسلافهم على أعاصير الأمس، واثقين بنصر الله كما وثقوا، مخلصين جهادهم لله كما أخلصوا.(4/2)
وليس أحوج من مسلمي اليوم - معاصري النكبة المخزية - إلى الاستمداد من هذه المعاني, وهم يخوضون معركة الحياة والممات، في وجه أعداء لا عداد لهم، منهم اليهود، وفيهم المنافقون، وبينهم المثبطون، وعلى رأسهم المتواطئون مع أعداء الإيمان، المتاجرون بمدّ عيات الإسلام، يرفعون أصواتهم باسمه كلما رأوا في الإشادة به منفعة، ولكنهم لا يستكفون عن إقامة السدود دون أشعته، خشية أن يفسد مؤامراتهم التي يبيتونها عليه في الظلام!..
إن المؤمن الذي يسعد بزيارة هذا البلد الحبيب، لا يسعه أن ينسى كونه في عاصمة الإسلام الأولى، العاصمة التي عرفت البشرية فيها أولى أنموذج كامل للدولة الربانية، التي حطمت حواجز العصبيات الأسرية والقبلية والجنسية، فردت الناس بذلك إلى أخوة لم يصنعها الدم، ولكن نسجتها العقيدة التي يعلن قانونها الأساسي، أن البشر كلهم لآدم وآدم من تراب، أكرمهم عند الله أتقاهم، العاصمة التي انتهت إليها ذات يوم أزمة الدنيا، فهي تملي إرادتها على الحياة والناس، فتحكم ترفاتهم، كما تحكم القوانين الكونية حركة الفلك، لأن إرادتها من إرادة الله، وما وظيفتها إلا تحقيق المثل الأعلى للنظام الذي شاء الله أن يكون ضابط الأمن ومناط السعادة، لكل حي على هذه الأرض.
ولكن أشدّ ما يحزن هذا المؤمن.. أن يرى واقع هذه العاصمة، وقد تجردت من سلطان الخلافة، فلم تعد الدنيا كعهدها بالأمس.. لأن اليهودية التي ألبت الغوغاء على ثالث الخلفاء، قد شاء القدر أن تعرقل حركة المد السعيد، فيتحول مركز الثقل عنها إلى غيرها.. ثم لا يزال إرثها هذا ينتقل من بلد إلى آخر، حتى استحال مزقا تتوزعها الأيدي بين إقليم وإقليم؟
أجل.. لقد سلبت المدينة الحبيبة سلطانها السياسي على ربوع المسلمين، ولكن هل انقطع أثرها في وجودهم؟ هل فتر إيحاؤها إلى قلوبهم..؟(4/3)
إن نظرة واحدة إلى هذه السيول البشرية، متدفقة عليها من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، لتقدم الجواب الشافي على هذا التساؤل.. إذ تؤكد أن هذا الحرم المرموق لم يزل هو صاحب السلطان النافذ في قلوب مئات الملايين من أتباع سيد المرسلين..؟
ولعل أروع ما احتفظت به مدينة المصطفى من تراث الماضي العظيم هو تلك الطمأنينة التي تغمر بظلها الوارف على كل شيء، حتى النبات والطير والحيوان فضلا عن الإنسان …
إنك هنا في متحف بشري عجيب، تطل منه على مواكب البشر، في مختلف ألوانهم ولغاتهم وأزيائهم.. وأكثر ما تشهد ذلك في المسجد النبوي، حيث ينصب السيل البشري الوافد من أنحاء الدنيا، كيفما اتجهت هناك تجد نفسك مع أخ لك لم تلده أمك، يعجز لسانه عن ترجمة شعوره, فتقوم يده مقام لسانه يصافحك.. فتحس أنه يضع قلبه على راحته ليقدمه إليك حبا وشوقا ورحمة..
وتغادر المسجد النبوي إلى الشارع، ولكن سرعان ما تشعر أنه لم يغادرك لأن روحه مرفوفة على أنحاء البلد الطاهر.. حتى الباعة الذين عرفتهم في كل بلد لا يمنحونك من لطفهم إلا بمقدار ما تنفحهم من نقودك، حتى هؤلاء عليهم هنا من جوار الحرم طابع مميز، أكثر ما يطلعك في تلك الثقة الغريبة التي يقابلونك بها في كل حانوت، ولا أكاد أستثني.. إنك لتشتري من أحدهم السلعة فتقدم إليه ورقة النقد ليرد إليك التتمة، فإذا لم يجد لديه ما يفي، أعاد إليك ورقتك معتذرا وهو يقول: "تعطيني فيما بعد"فكأنك من أحب معارفه إليه، وأنت الذي لم تره قط، ولم يلمح لك وجهاً من قبل! .
وتمضي هنا وهناك متفرجا مستكشفا، فلا تشعر أنك فارقت هذا الوحي أو فارقك.. أنّى سِرت تسمع تحية الإسلام، وأنّى اتجهت أحسست بنفحات السلام، رقة في الحديث، ورفقا في المعاملة، وأمنا في كل شيء..(4/4)
أجل.. إنها نفحات الحرم المبارك، تغمر بروحها كل شيء، فالطيور التي عهدتها تجفل حتى من شبح الإنسان، قد تقع عليك أو تدنوا إليك ولا ترى لها نفرة، إلا أن تخشى منك وطأة الغفلة.. وفي هذه الغمار النورانية يعيش الإنسان آمن السرب، مطمئن القلب، خالي الذهن من كل شاغل يصرفه عن الاستغراق في ملكوت الله …
ولا عجب، إن في مدينة الحبيب لبقية تحسها القلوب من المجتمع الأول الذي أنشأته تربيته المثلى، فكان صورة من الأخوة التي حُدّدت فيها قيمة الإنسان على أساس من الأخلاق دون الأعلاق، فلا ترى هنا أبيض يستكبر على أحمر، ولا تجد في حرمه المطهر من يقول لملون ليس هذا بمكانك، بيد أنك لا تعدم أن ترى في أي لحظة رجلا يصافح جاره وهو يقول له يا أخي.. لا تنسنا من دعائك…
أوليس في هذا السلام والطمأنينة والأخوة والضالة التي يفتش عنها المفكرون، ويتهلف إليها الحزانى والمعذبون..؟ أجل وربي، وسيظلون عبثا يفتشون، وعبثا يكدحون، حتى يعرفوا طريقهم إلى روح هذه البلدة المصفّاة، التي أخبر الصادق الأمين أنها محصنة بالملائكة من الدجال والطاعون.
ولكن.. ولنعلنها صريحة إن هذه النفحة، نفحة السلام والغبطة الروحية، في خطر.. إنما الخطر يزحف من الخارج مع السموم الوافدة من هنا وهناك وهنالك.. تلك التي تريد، بكل ما تملك من قوة الإغراء والإغواء، أن تُعَكّر على الجو الطهور صفاء الفطرة، وأن تصرف القلوب عن ريها الروحي إلى وهم كالماء الأجاج، لا يزداد منه القلب غبّا إلا ازداد ظمأ… تماما كما في الآخرين الذين خدعتهم تلك السموم الدخلية , فسلختهم من أخلاق الإسلام، حتى لم يبق في أيديهم من دليل عليه غير الهوية المزورة…(4/5)
فليقف أهل الحرم بوجه ذلك الخطر الزاحف…وليتذكروا أنهم الأسوة، وأن المسلمين عنهم يأخذون، وبهم يقتدون، وليزودوهم بنفحات مباركات من عبير النبوة، الذي لم يشخصوا إليهم من مئات الأميال وآلافها إلا شوقا إليه، وحرصا عليه..
وبعد.. فأنا لم أعد الحقيقة عندما قلت إنني سعيد.. سعيد منذ حطت بي الطائرة في مدرج الوطن الحبيب.. وطن القلب الذي لا يجد المؤمن قراره إلا في ظلاله…(4/6)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
ورد علي سؤال من بعض الإخوة الباكستانيين هذا ملخصه: ـ
ما حكم الذين يطالبون بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية ويحاربون حكم الإسلام وما حكم الذين يساعدونهم في هذا الطلب ويذمون من يطالب بحكم الإسلام ويلمزونهم ويفترون عليهم وهل يجوز اتخاذ هؤلاء أئمة وخطباء في مساجد المسلمين؟.
والجواب: ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، لا ريب أن الواجب على أئمة المسلمين وقادتهم أن يحكموا الشريعة الإسلامية في جميع شؤونهم وأن يحاربوا ما خالفها.(4/7)
وهذا أمر مجمع عليه بين علماء الإسلام ليس فيه نزاع بحمد الله والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة معلومة عند أهل العلم منها قوله سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) , وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:59) , وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} (الشورى:10) , وقوله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50) , وقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة:45) , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة:47) , والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله أو أن هدي غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر ضال كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال.(4/8)
وبما ذكرنا من الأدلة القرآنية وإجماع أهل العلم يعلم السائل وغيره أن الذين يدعون إلى الإلحاد أو الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام كفار ضلال أكفر من اليهود والنصارى لأنهم ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يجوز أن يجعل أحد منهم خطيبا أو إماما في مسجد من مساجد المسلمين ولا تصح الصلاة خلفهم وكل من ساعدهم على ضلالهم وحكم ما يدعون إليه وذم دعاة الإسلام ولمزهم فهو كافر ضال حكمه حكم الطائفة الملحدة التي سار في ركابها وأيدها في طلبها وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (التوبة:23) .
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق والله يقول وهو يهدي السبيل ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق وأن يكبت أعداء الإسلام ويفرق جمعهم ويشتت شملهم ويقي المسلمين شرهم إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه…
رئيس الجامعة الإسلامية
يا أيها المُسْبِل عن جانبيْ
خدّيه شطرَيْ لحيةٍ مظلمهْ
شوْهتَ وجهاً كان في غُنَيةٍ
لولاهما عن هذه المَشْتَمَهْ
أُعجِبتَ بالكفر فآثرتَهُ
على هُدى أُمتك المسلمه
ورحتَ تقفو إثرَ أذنابهِ(4/9)