العدد 1
فهرس المحتويات
1- أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم: للشيخ عبد المحسن العباد
2- الاختبار: للشيخ عبد العزيز القاري
3- البضاعة الفاسدة: للشيخ أبي بكر جابر الجزائري
4- الثقافة الإسلامية: للشيخ أحمد حسن
5- الجامعة الإسلامية
6- ندوة الطلبة: كيف نعمل للإسلام - لجلال الدين مراد
7- الفتاوى: الشيخ عبد العزيز بن باز
8- الفقه في الدين: للشيخ حماد الأنصاري
9- القدس.. والفتوحات: لمحمد محمد صالح ضيائي
10- دروس من الوحي: للشيخ محمد شريف الزيبق
11- ذكرياتي في أفريقيا: للشيخ محمد العبودي
12- شكوى: للشاعر محمد إقبال
13- صفحة من التاريخ: للشيخ أبي عمر
14- طرائف - وسوانح
15- طرق الدعوة إلى الله: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
16- قبسات من نور النبوة في الدعوة والتعليم: للشيخ صالح رضا
17 - ماليزيا: لمحمد أحمد ملاك
18- مشاكل الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام: للشيخ عطية سالم
19- مع الصحافة: الطريق إلى مجتمع عصري: لأحمد علي الإمام
20- معركة الإسلام على مدى التاريخ: للشهيد سيد قطب
21- مكتبات المدينة ومخطوطاتها: للشيخ محمود ميره
22- ملحمة قرآنية: للشيخ محمد المجذوب
23- هذه المجلة: لفضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية - الشيخ عبد العزيز بن باز
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(1/1)
هذه المجلة
لفضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:-
فهذا هو العدد الأول من مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، نقدمه إلى القراء الكرام راجين أن يجدوا فيه ما يفيدهم وينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وما يزيدهم بصيرة وفقها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما نرجو أن تكون هذه المجلة نبراسا لحل مشاكلهم وإنارة السبيل لهم.
ولقد تأخر صدور مجلة الجامعة الإسلامية وكان هناك بعض الآراء تقول بأنه لا ينبغي ذلك بل ينبغي أن تصدر مجلة الجامعة مع افتتاح الجامعة نفسها حتى تكون تلك المجلة لسانا ناطقا للجامعة يشرح أهدافها ومراميها ويوضح سير أمورها إلى غايتها.
إلا أن الرأي الأغلب قد استقر على أن يترك الحديث لأعمال الجامعة في مرحلة تأسيسها لا لأقوالها وأن تكون ثمرتها ملموسة لا موصوفة. وهكذا أوعزنا إلى المسئولين عن المجلة بأن تكون ميدانا تجري فيه أقلام المنتمين إلى الجامعة الإسلامية وغيرهم من رجال الفكر والعلم في جميع الأقطار لتكون بمثابة نقطة الالتقاء تتجمع حولها تلك الأقلام، لاسيما وهي المجلة التي تصدر عن المدينة المنورة عاصمة المسلمين الأولى ومنطلق الغزاة والفاتحين والدعاة المصلحين. وإن هذه المجلة تستهدف أن تكون ذات مستوى يتمكن من فهمه أغلبية القراء في البلدان الإسلامية وغيرها فهما يمكنهم من متابعة ما ينشر فيها وهضمه، ولن تكون مقصورة على الصفوة من العلماء والفقهاء والباحثين قصرا يمنع سواهم من ذوي الثقافات المتوسطة أو المستويات العليمة المحدودة أن يفهموها وينتفعوا بما ينشر فيها. الشيء الذي ستتجنبه المجلة إنما هو لغو القول وسفساف الأمور وكلما في نشره ضرر للمسلين أو خطر على وحدتهم وتضامنهم. وستكون – بإذن الله – مجلة إسلامية ثقافية لا مجلة سياسية حزبية تلك هي خطتها وذلك هو هدفها.(1/2)
إن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة مؤسسة حديثة التكوين بالنسبة إلى عمر الجامعات والمؤسسات العلمية الكبرى فهي لم تستكمل من عمرها السابعة؛ ولكنها – بحمد الله – قد قطعت شوطا بل أشواطا طيبة إلى الهدف المقصود من إنشائها، فتخرج منها مئات من الطلاب الذين ينتسبون إلى عشرات من أوطان المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وأخذوا أماكنهم في تلك الأوطان وغيرها يعلمون الناس الخير ويرشدونهم إلى الصواب.
ولن أفيض هنا بالتحدث عن هذه الجامعة فذلك له مكان آخر من المجلة وإنما القصد هنا الإشارة إلى هدف المجلة. وأسأل الله مخلصا أن يأخذ بأيدينا إلى مواقع الحق والصواب. وأن يرزقنا جميعا صادق القول وصالح العمل وأن ينصر دينه ويعلي كلمته إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(1/3)
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم
للشيخ عبد المحسن العباد
المدرس في الجامعة
الحمد لله حمداً كثيراً طيبا مبارك فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده سبحانه ولا نحصي ثناء عليه أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فارتضى له الإسلام دينا، وجعل القرآن له خلقا، أمتن عليه بالصفات الفاضلة، ثم أثنى عليه قائلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .ونشهد أن لا إ له إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر وبيده الخير وهو على كل شيء قدير، يعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، قسم بينهم أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم فجعل نصيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من الرزق كفافا ومن الأخلاق أكملها وأحسنها وأوفاها، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(1/4)
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه بعثه الله إلى أهل المعمورة ليجدد به صلة السماء بالأرض، فأنزل عليه الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، ختم به الرسل وختم بكتابه الكتب وجعله معجزته الخالدة، فهدى الناس به إلى الصراط المستقيم وحذرهم السبل التي تنتهي بهم إلى الجحيم، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن وحشة القلوب وتقلباتها في أنواع المعبودات إلى انسها وثباتها على عبادة فاطر السموات والأرض، قد أعظم الله عليه المنة وأتم به وعليه النعمة إذ بعثه ليتم مكارم الأخلاق. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين اختارهم الله لصحبته ونشر سنته، فجعلهم طليعة الخيار، وصفوة الأبرار، وعلى من سلك سبيلهم وسار على منوالهم مترسما خطاهم، مقتفيا آثارهم، عامر القلب بحبهم، رطب اللسان بذكرهم بالجميل اللائق بهم بالثناء عليهم بما هم أهله والدعاء لهم بما علمنا الله في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .(1/5)
أما بعد: فموضوع هذه المحاضرة موضوع حبيب إلى النفوس المؤمنة هو (أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها) وكيف لا يكون حبيبا إلى النفوس الحديث عن أخلاق نبي بعثة الله رحمة للعالمين، نبي لا نكون مؤمنين حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا والناس أجمعين، نبي لا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعا لما جاء به صلى الله عليه وسلم، نبي رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من ذكره عنده فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين. وهذا الموضوع العظيم الذي اخترته وآثرت الحديث فيه اعتذر مقدما عن تقصيري في توفيته حقه واعتقد أن توفيته حقه على الحقيقة نادر إن لم يكن متعذرا لكن كما يقولون.. ما لا يدرك كثيرة لا يترك قليلة.
نعم إن جهد المقل أعرضه في هذه السوق التي أتاحت لي رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أن أساهم فيها، وأسأل الله العظيم رب كل شئ ومليكه أن يوفقنا جميعا للتأدب بآداب هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وأن يحينا على دين الإسلام الذي ارتضاه لنا دينا حتى يتوفانا عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا به. وقبل الشروع في نفس الموضوع أرى أن أتحدث بين يديه إجمالا عن شدة الحاجة إلى بعثته صلى الله عليه وسلم، واختيار الله له واعتزاز المشركين على ذلك، والامتنان على الناس ببعثته، وضرب أمثلة للأمور والخصال التي حصلت بين يدي بعثته توطئة وتمهيدا لها.
شدة الحاجة إلى بعثته صلى الله عليه وسلم:(1/6)
ما أكثر نعم الله على عباده وما أحوجهم دائما وأبداً إلى شكره سبحانه على هذه النعم التي أمتن عليهم بها في قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} وقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وأعظم نعمة أنعم بها على هذه الأمة أن بعث فيها رسولها الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ليرشد إلى كل نافع في الحاضر والمستقبل، ويحذر من كل ضار في العاجل والآجل، أرسله على حين فترة من الرسل، واند راس من الكتب في وقت انتشرت فيه الضلالة وعمت فيه الجهالة وبلغت البشرية منتهى الانحطاط في العقائد والعادات والأخلاق فانتشلهم به من هوة الضلالة ورفعهم إلى صرح العلم والهداية، فأزاح به عن النفوس تعلقها بغير خالقها وفاطرها سبحانه وتعالى، ووجهها إليه بقلبها وقالبها حتى لا يكون فيها محل لغيره سبحانه، بل تكون معمورة بحبة وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه تستسلم لأوامره، وترعوي عن زواجره ونواهيه. شيء من أمراض القلوب التي انتشرت قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم، وكيف عالجها صلوات الله وسلامه عليه. خلق الله الإنسان مركبا من شيئين بدون وروح، وجعل لكل منهما ما يغذيه وينميه، وأرشد إلى طرق العلاج التي يعالج بها كل منهما عندما يطرأ عليه مرض أو سقم فقد أغدق نعمه على عباده وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} . أما الروح فقد استحكمت أمراضها قبل بعثته صلوات الله وسلامه عليه حتى كانت من قبيل الأموات فأحياها الله بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} . وأرشد سبحانه إلى أن شفاء أمراضها وجلاء أسقامها إنما هو بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ(1/7)
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} .
نعم لقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم في مجتمع انتشرت فيه الأمراض القلبية على اختلافها وتنوعها وأعظم هذه الأمراض على الإطلاق تعلق القلوب بغير الله وصرف خالص حقه سبحانه إلى غيره من مخلوقاته، فعالج صلى الله عليه وسلم هذا المرض الخطير والداء العضال باستئصاله وتطهير القلوب من أدرانه أولا، ثم شغلها وعمارتها بحب الله وخوفه ورجائه وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له لكونه سبحانه المتفرد بالخلق والإيجاد، فهو بحق المستحق لأن يعبد وحده لا يعبد معه غيره كائنا ما كان، وقد لقي صلوات الله وسلامه عليه من المشركين في هذا السبيل ألوانا مختلفة من الإيذاء، فصبر حتى ظفر بنصر الله وتأييده وكانت العاقبة له صلى الله عليه وسلم وأنصاره والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين والعاقبة للمتقين والعاقبة للتقوى، ولقي أيضا منهم ألوانا من المعارضة والتعنت أوضحها الله في كتابه العزيز في سورة الحجر والإسراء وغيرها من سور القرآن ومن ذلك ما ذكره الله عنهم في سورة ص {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} . وقد حملهم على هذه المقالة الكبر والحسد، ومثل هذه المقالة التي حكاها الله عن كفار قريش ما ذكره الله سبحانه في سورة القمر عن قوم صالح بقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} وأبرز الطرق التي عالج بها صلى الله عليه وسلم ذلك الداء الذي هو(1/8)
أعظم الأدواء على الإطلاق إلزام الكفار بأن يفردوا الله في العبادة لما كانوا معترفين بانفراده سبحانه بالربوبية، وأكتفي بالتمثيل لذلك بما ذكره الله سبحانه في سورة النمل من الآيات التي أوضحت تلك الطريقة غاية الإيضاح وذلك قوله سبحانه: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وبما ذكره الله سبحانه في سورة الحج من التصوير العجيب والتمثيل البليغ لعجز المعبودات التي أشركوها مع الله حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ..} .(1/9)
ومن الأمراض التي عالجها صلى الله عليه وسلم بحكمته الظلم والجور، وازدراء المساكين، والتفاخر بالأحساب والأنساب. فنشر فيهم العدل، وعمهم الاطمئنان والاستقرار، وصار مقياس الفضل بينهم تقوى الله بدلا من اعتبار ذلك بالحسب والنسب، وقد أعلنها صلى الله عليه وسلم صريحة في حجة الوداع في أعظم جمع شاهده عليه الصلاة والسلام حيث قال: "ألا لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، الناس لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم " أو كما قال. ولما بلغه صلى الله عليه وسلم شأن المخزومية التي سرقت أمر بقطع يدها فراجعه أسامه بن زيد فأنكر صلى الله عليه وسلم عليه ذلك وقال صلى الله عليه وسلم المقالة التي برهن بها عن مدى تحقيق العدالة: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". وقد أشار صلى الله عليه وسلم في جوابه لأسامة ابن زيد بأن العدول عن العدل سبب هلاك الأمم المتقدمة حيث قال: "إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.."(1/10)
ولما قسم صلى الله عليه وسلم غنائم حنين وأكثر العطاء للمؤلفة قلوبهم وجد الأنصار رضي الله عنهم في أنفسهم شيئا إذا لم يصبهم ما أصاب الناس، فأتى إليهم صلى الله عليه وسلم وقال: "ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم بي، وعالة فأغناكم الله بي" وقد ذكرهم الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه النعمة وأنها من أعظم النعم عليهم فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} . وقال سبحانه: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .(1/11)
هذه بعض الأمراض التي انتشرت قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، منّ الله سبحانه وتعالى على البشرية بإرسال رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لينقلها من ذل عبادة المخلوق إلى عز طاعة الخالق جل وعلا، ومن الظلم والجور وسفك الدماء إلى ساحة العدل والأمن والاطمئنان، من الفرقة والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، من التعاون على الإثم والعدوان إلى التعاون على البر والتقوى، من الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الغش والخيانة إلى النصح والأمانة، من الجزع والهلع والاعتراض على قضاء الله إلى الصبر والثبات والرضى بما قدره الله وقضاه، وفي الجملة: من كل ضار عاجلا وآجلا إلى كل نافع في الحال والمآل. وقد أرشد الله سبحانه إلى شكره على ذلك بعبادته وحده لا شريك له في قوله سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .
اختيار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:(1/12)
يقول الله سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن الله سبحانه وتعالى منفرد بالخلق يقول للشيء الذي أراده كن فيكون، وتدل أيضا على أن تلك المخلوقات التي أوجدها من العدم لم يسوها أختار منها ما شاء وله الحكمة البالغة فخصه بالتفضيل، فقد اختار من أرضه مكة حرسها الله فجعلها مقر بيته الحرام من دخله كان آمنا وصرف قلوب الناس إليه وأوجب على المستطيع منهم حجة، وحرم صيده، وقطع شجره، وضاعف الأعمال الصالحة فيه، وحذر من الخروج عن طاعته سبحانه وأشار إلى عقوبة إرادة السوء في الحرم بقوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . ويلي ذلك مهاجر رسوله صلى الله عليه وسلم هذه المدينة المباركة حرم رسول الله صلى عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". واختار سبحانه من الشهور شهر رمضان ففضله على سائر الشهور، واختار منه ليلة القدر ففضلها على سائر الليالي، واختار من الأيام يوم عرفه فجعله أفضل الأيام، واختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة فجعله أفضلها، وأختار من الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل فوكلهم بأسباب الحياة، واختار من البشر أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ففضلهم على غيرهم وجعل أفضلهم أولي العزم منهم، واختار الخليلين إبراهيم ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما فجعلهما أفضلهم، وجعل محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الخليلين، وأمته خير الأمم فهو عليه الصلاة والسلام إمام المتقين وسيد المرسلين وخليل رب العالمين وخاتم النبيين، أقام الله به الحجة على الثقلين الجن والإنس، وأول قبر ينشق عند النفخ في الصور قبره، ولا يدخل الجنة أحد قبله، واختصه سبحانه بالمقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون وهو الشفاعة العظمى في فصل القضاء التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل كل واحد يقول نفسي(1/13)
نفسي أذهبوا إلى غيري حتى تنتهي إليه صلوات الله وسلامه عليه فيقول: "أنا لها" ثم يشفع فيشفعه الله وصدق الله العظيم حيث يقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وقد أشار سبحانه في كتابة العزيز إلى اختياره من يشاء بقوله سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" فهو صلى الله عليه وسلم بنص هذا الحديث الشريف خلاصة خلاصة خلاصة باعتبار شرف النسب كما كان خلاصة باعتبار الفضل وعلو المنزلة عند الله.
اعتراض المشركين على اختيار الله له صلى الله عليه وسلم(1/14)
ولما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ليهديهم به إلى الصراط المستقيم قابله المشركون بما يستطيعونه من الأذى والمناوأة وتأليب الناس عليه وتحذيرهم منه، فوصفوه بأشنع الأوصاف فقالوا: "أنه ساحر"وقالوا: "أخرى أنه كاهن"وقالوا: "مجنون"هذا وهم أعلم الناس بماضيه المشرق الوضاء، ولكن الذي حملهم على ذلك الكبر والحسد. فقد أخبر الله عنهم في كتابه العزيز أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير مازا دهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وقال سبحانه وتعالى مخبرا عنهم: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} . إلى أن قال مشيرا إلى حسدهم له صلوات الله وسلامه عليه: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} . وقال سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} . ثم قال مخبرا عن اعتراضهم على الله في اختياره لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . فأنكر عليهم ذلك وبين أن الأمر أمره، والخلق خلقه، والفضل فضله يؤتيه من يشاء فهو أعلم حيث يجعل رسالته فقال سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} . ونظير هذا قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} . وقال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ(1/15)
لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ - إلى أن قال- قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُم} . وقال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} وقد روى الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به"فأنزل الله {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} . وروي أن الأخنس بن شريق دخل على أبي جهل فقال: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا"فقال أبو جهل: "ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي بالسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش"، وقال: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي ينزل عليه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به ولا نصدقه". وهكذا يبلغ الكبر والحسد بهؤلاء القوم الذين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، حملهم ذلك على تجاهل الحقيقة وإبداء خلاف المستقر في القلوب، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم متبعين في ذلك إمامهم في الضلال والحسد إبليس اللعين حيث فسق عن أمر ربه له بالسجود لآدم كبرا وحسدا استنادا منه لعنة الله على أنه أفضل منه على زعمه، لكونه خلق من نار وآدم عليه الصلاة والسلام خلق من طين..
امتنان الله سبحانه على الثقلين برسالته صلى الله عليه وسلم(1/16)
من رحمة الله سبحانه بعباده أن أرسل فيهم رسله يبشرون وينذرون كلما ذهب نبي خلفه نبي حتى ختمهم نبي الرحمة محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَة} . ولقد اختار منهم سيدهم وإمامهم فجعله خاتم النبيين واختصه بخصائص ومزايا لم يشاركه فيها أحد منهم، كما اختص أمته بخصائص ليست لغيرهم من الأمم السالفة، ومن تلك المزايا التي أمتاز بها على غيره من المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين أن بعثه إلى الأسود والأحمر بل إلى الجن والإنس جميعا كما قال الله سبحانه عن الجن الذين استمعوا لقراءته صلى الله عليه وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي -فذكر من بينها- وكان النبي يبعث إلى قومه خاص وبعثت إلى الناس عامة". وفي ذلك يقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} ويقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . وقد أوضح ذلك صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحة حيث قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.." قال سعيد بن جبير رحمه الله مصداق ذلك في كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ(1/17)
مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} . ولا شك أن أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض هي إرسال هذا النبي الكريم الذي أكمل الله به الدين وجعله حجة على الناس أجمعين. وقد أخبر الله في كتابه العزيز عن إبراهيم بأدعية من بينها: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .وقد أجاب الله دعائه فبعث في الأمين وفي غيرهم محمدا صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وتلك النعمة العظمى والمنة الجسيمة نوه الله بها في معرض الثناء على نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . ومنها قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} . ومنها قوله سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ(1/18)
رَحِيمٌ} . وإنما كان إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أعظم منة أمتن بها على عباده لأن في ذلك تخليص من وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي بسبب الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والابتعاد عن الشرك الذي لا يغفره الله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
التمهيد لبعثته صلى الله عليه وسلم
ومن حكمة الله وفضله أن هيأ لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه جميع أسباب الشرف والرفعة وعلو المنزلة، ووفر فيه جميع الخصال التي تؤهله للقيام بأعباء الرسالة العظمى التي اصطفاه واختاره لها صلوات الله وسلامه عليه، وفيما يلي أذكر على سبيل المثال بعض تلك الأسباب والخصال وأبين كيف كانت توطئة وتقدمة لبعثته صلى الله عليه وسلم:
أولا: أن الله سبحانه جعله عريق النسب، كريم المنبت، اصطفاه من أشرف قبائل العرب قبيلة قريش التي شهد لها غيرها بالسيادة والقيادة، وهذه سنة الله في رسله كما جاء ذلك في سؤال هرقل ملك الروم لأبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف نسبه فيكم"قال أبو سفيان: "هو فينا ذو نسب"ثم قال هرقل عند ذلك: "الرسل تبعث في نسب قومها"وإنما كانت هذه سنة الله في رسله ليسد على أعدائهم باب القدح فيهم والتنقيص لهم، فلا يجد أعداؤهم سبيلا إلى إلصاق العيوب بهم.(1/19)
ثانيا: أنه صلى الله عليه وسلم نشأ فقيرا يتيما في كفالة جده عبد المطلب ثم عمه أبي طالب وذلك من أسباب التواضع والتحلي بالصفات الحميدة والبعد عن الصفات الذميمة كالكبر والظلم وغير ذلك، وقد ذكر الله ذلك منوها بتفضله على نبيه صلى الله عليه وسلم بإيوائه وإغنائه وهدايته حيث قال سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} . ثم أرشده إلى شكر هذه النعمة بأن يعطف على اليتامى والمساكين ويتحدث بنعمة الله عليه قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} . وهذه تربية إلهية لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ذكرها الله في كتابه العزيز تنبيها لعباده المؤمنين بأن يحملوا أنفسهم على تلك الصفات الحميدة وغيرها شكرا لله سبحانه على توفيقه لهم بالهداية بعد الضلالة، والغنى بعد الفقر، وغير ذلك من نعمه عليهم، والمعنى لا تقهر ولا تنهر الفقير فقد كنت فقيرا تكره أن تنهر، ولا شك أن تذكير الإنسان بنعمة الله عليه من أقوى الأسباب في الإقدام على الخير والأحجام عن الشر لمن وفقه الله..(1/20)
ثالثا: إن الله سبحانه وتعالى نشأه نشأة صالحة، وأنبته نباتا حسنا متحليا بكل خلق كريم بعيدا عن كل وصف ذميم، شهد له بذلك موالوه ومعادوه، ولكن من لم يشأ الله هدايته تعامى عن هذا كله وأظهر خلاف ما يبطنه كبرا وحسدا، وفي توفيق الله لنبيه صلى الله عليه وسلم للاتصاف بالصفات النبيلة والسلامة من الأخلاق الرذيلة قطع لألسنة أعدائه وإسكات لهم عن أن يعيروه بأدنى عيب، أو يصفوه بشيء من النقص، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يغدر قال: "لا"ولم يستطع مع شدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن يقول أكثر من قوله بعد نفي الغدر عنه: "ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها"قال: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة". وقد تحرز من الكذب خوفا من ملك الروم فأعداؤه صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون وصفه حقيقة بوصف معيب، أما الكذب والافتراء عليه صلى الله عليه وسلم فقد قالوا عنه: "أنه ساحر"وقالوا عنه: "شاعر"وقالوا عنه: "أنه كاهن"وغير ذلك، وقد صانه الله سبحانه من ذلك الذي الصقوه به ومن كل عيب، وأنكر على المشركين افتراءهم وكذبهم عليه وأخبر بأنه من ذلك براء فقال سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} .(1/21)
رابعا: أنه صلى الله عليه وسلم نشأ أميا بين أميين لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء من الله بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وفي نشأته صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة قطع للطريق التي ينفذ منها الكفار إلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.. فيما جاء به عن الله وأنه من أساطير الأولين قرأها أو كتبها لو كان كذلك، وقد أوضح الله ذلك بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} . ثم أشار إلى حصول الريبة من أعدائه لو كان قارئا كاتبا بقوله: {إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . وتلك الطريق التي قطعت عليهم بجعله صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب سلكوها كذبا وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم التام ببعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا إنما يعلمه بشر ويأبى الله إلا إن يتم نوره ويظهر دينه فيجيبهم بأن لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا الذي جاءهم به لسان عربي مبين. ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى عند إنكاره على قومه صلى الله عليه وسلم ما يقومون به من المعارضة والمناوأة له صلى الله عليه وسلم يلفت أنظارهم إلى ماضيه المشرق الوضاء، ويذكرهم بعلمهم ومعرفتهم التامة لحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه فيقول سبحانه: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} ويقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . ثم إنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأنه ليس له إلا التبليغ عن الله، وأنه لو شاء الله(1/22)
ما حصلت منه صلى الله عليه وسلم تلاوة ولا حصل لهم علم بذلك فقال: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} . ثم ذكرهم بماضيه قبل إنزال القرآن عليه وما اتصفت به من جميل الصفات، وأنه قد بقي فيهم قبل أن يبعثه الله أربعين سنة ملازما لأسباب الرفعة بعيدا عن أسباب الضعة والهوان فقال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} . أنكر عليهم وصفهم له بالكذب والافتراء مع أنهم أعلم الناس به، وأن ذلك مخالف للفطر والعقول السليمة فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} . ثم أخبر بأنه لا أحد أشد ظلما وأكبر جريمة من أثنين المفتري على الله والمكذب بما جاء عن الله فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ..} .
خامسا: ومن الأمور التي حصلت بين يدي بعثته صلى الله عليه وسلم توطئة وتمهيدا لها الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره.(1/23)
سادسا: أنه صلى الله عليه وسلم رعى الغنم بمكة وفي ذلك تمهيد وتهيئة لإرساله إلى الناس كافة ليرشدهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وتحذيرهم مما يعود عليهم بالأضرار العاجلة والآجلة، وإنما كان رعية الغنم بمكة توطئة وتقدمة لبعثته صلى الله عليه وسلم لأن هذا العمل مدعاة إلى التحلي بجميل الصفات كالتواضع والسكينة والوقار مع مافيه من اشتغال الراعي بالرعية وبذله الأسباب التي تؤدي إلى سلامتها وقوتها فيعتني بها ويرتاد لها المراعي الخصبة ويبتعد بها عن الأراضي المجدبة، ويحميها من الذئاب، ويسلك بها الطرق السهلة ويحيد بها عن السبل ذات الشدة والوعورة، وهذه سنة الله في رسله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامة عليه ولله الحكمة البالغة في ذلك، فمزاولة مثل هذا العمل فيه ترويض للنفس وتهيئة لها للقيام بأعباء الرسالة، فهو بلا شك درس عملي لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم يكسبهم مرونة وخبرة لينتقلوا من تربية الحيوان إلى تربية بني الإنسان..
أخلاقه صلى الله عليه وسلم
تعريف الخلق:
الخلق بضم اللام وسكونها الدين والطبع والسجية قاله ابن الأثير في غريب الحديث: "وفي الاصطلاح يطلق إطلاقين أحدهما أعم من الثاني فيطلق على الصفة التي تقوم بالنفس على سبيل الرسوخ ويستحق الموصوف بها المدح أو الذم، ويطلق على التمسك بأحكام الشرع وآدابه فعلا وتركا، ومن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة قال يا رسول الله أخلقين – تخلقت بهما أم جبلت عليهما قال "بل جبلت عليهما"قال: "الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله"ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق" وقول عائشة رضي الله عنها في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} كان خلقه القرآن.(1/24)
هذا تعريف الخلق في اللغة والاصطلاح. ننتقل بعده إلى الحديث عن أخلاقه الفاضلة وسجاياه الحميدة في جميع مراحل حياته صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا أجتمع فيه من أوصاف المدح والثناء ما تفرق في غيره، قد صانه الله سبحانه وحفظه من أدنى وصف يعاب صاحبه كل ذلك حصل له من ربه فضلا ومنه قطعا لألسنة أعدائه الذين يتربصون به ويقفون في طريق دعوته مؤذين له محذرين منه أحب شيء إليهم تحصيل شيء يعيبونه به وأنى لهم ذلك.
فقد نشأ صلى الله عليه وسلم في أول أمره إلى آخرة لحظة من لحظاته متحليا بكل خلق كريم، مبتعدا عن كل وصف ذميم، فهو أعلم الناس وأنصحهم وأفصحهم لسانا، وأقواهم بيانا، وأكثرهم حياء، يضرب به المثل في الأمانة والصدق والعفاف. أدبه الله فأحسن تأديبه فكان أرجح الناس عقلا، وأكثرهم أدبا، وأوفرهم حلما، وأكملهم قوة وشجاعة وشفقة، وأكرمهم نفسا، وأعلاهم منزلة، وبالجملة كل خلق محمود يليق بالإنسان فله صلى الله عليه وسلم منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه شهد له بذلك العدو والصديق.
وفيما يلي أورد بعض الشهادات التي شهد له بها الموالون له والمعادون الدالة دلالة بينة على تمسكه بالأخلاق الحسنة قبل أن يبعثه الله تعالى وذلك معلوم من الدين بالضرورة:
1- شهادة خديجة رضي الله عنها:
لما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأول مرة ورجع إلى خديجة أخبرها الخبر وقال: "لقد خشيت على نفسي". فقالت له رضي الله عنها: "كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق".رواه البخاري.
2- شهادة كفار قريش عند بنائهم الكعبة:(1/25)
ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا جميعا وقالوا جاء الأمين جاء محمد. وقد كانوا يلقبونه بلقب الأمين لما يعلمونه من أمانته صلوات الله وسلامه عليه ...
3 - شهادة كفار قريش بصدقه صلى الله عليه وسلم:
ثبت في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي – لبطون قريش – حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي" قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال: أبو لهب: "تبا لك ألهذا جمعتنا.."
4 - شهادة أبي جهل بصدقه صلى الله عليه وسلم:
تقديم الحديث الذي رواه الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نكذبك لكن نكذب ما جئت به". فأنزل الله {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .
ولما قال له الأخنس بن شريق: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ "فقال: "ويحك والله إن محمدا صادق وما كذب محمد قط"الخ..
5- شهادة أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ووفائه:(1/26)
فقد روى البخاري في صحيحة عن ابن عباس رضي الله عنه أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا ذهبوا إلى الشام لأجل التجارة في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادا فيها أبا سفيان وكفار قريش.فأتوه بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: "أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي"فقال: "أبو سفيان فقلت أنا أقربهم نسبا"فقال: "أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال: لترجمانه قل لهم أني سائل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه. فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبا لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: "كيف نسبه فيكم"قلت: "هو فينا ذو نسب"قال: "فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله"قلت: "لا"قال: "فهل كان من آبائه من ملك"قلت: "لا"قال: "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفائهم"فقلت: "بل ضعفاؤهم"قال: "أيزيدون أم ينقصون"قلت: "بل يزيدون"قال: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه" قلت: "لا"قال: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال"قلت: "لا"قال: "فهل يغدر"قلت: "لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة"قال: "فهل قاتلتموه"قلت: "نعم"قال: "فكيف كان قتالكم إياه"قلت: "الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه"قال: "بماذا يأمركم"قلت: "يقول أعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة"فقال: "للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذالك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قلت فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه(1/27)
بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، قلت لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم إتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون
وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به إليه مع دحية بن خليفة الكلبي – فقرأه قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات فأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام..
ففي هذه القضية آيات بينان ودلالات واضحات على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به ومحل الشاهد من القصة شهادة أبي سفيان بن حرب وهو من أشد أعدائه في ذلك الوقت على – اتصاف الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله بالصدق وأنهم لا يتهمونه بالكذب وبالوفاء وأنه لا يغدر.
6 - شهادة السائب المخزومي له صلى الله عليه وسلم بحسن المعاملة والرفق قبل النبوة:(1/28)
روى أبو داود وغيره أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: "مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري، وفي لفظ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداريني ولا تماريني، وفي لفظ شريكي ونعم الشريك كنت لا تداري ولا تماري".
7 - شهادة عبد الله بن سلام رضي الله عنه بصدقه صلى الله عليه وسلم:
روى أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كنت ممن أنجفل فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فسمعته يقول: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ".
8 - شهادة مكرز بن حفص بن الأحنف له صلى الله عليه وسلم بالوفاء في جميع مراحل حياته:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية قد أبرم صلحا بينه وبين قريش على أن يرجع ويعتمر من العام المقبل، ومن الشروط التي اشترطتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة بسلاح الراكب فقط (السيوف مغمدة) فلما قدم صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء استعد بالخيل والسلاح لا ليدخل بها الحرم وإنما لتكون في متناول يده لو نكثت قريش، وعندما قرب صلى الله عليه وسلم من الحرم بعث بها إلى يأجح. وكان خبر ذلك السلاح قد بلغ قريشا فبعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر". فقال صلى الله عليه وسلم: "وقد بعثنا به إلى يأجح" فقال مكرز: "بهذا عرفناك بالبر والوفاء".
(أخلاقه صلى الله عليه وسلم في القرآن)(1/29)
تفضل الله تعالى على خليله محمد صلى الله عليه وسلم بتوفيقه للاتصاف بمكارم الأخلاق وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ثم أثنى عليه ونوه بذكر ما يتحلى به من جميل الصفات في آيات كثيرة من كتاب الله العزيز أقتصر على إيراد بعضها من ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فقد أخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة عما كان عليه المصطفى من أخلاق فاضلة ووصف خلقه صلى الله عليه وسلم بأنه عظيم، وأكد ذلك بثلاثة أشياء بالأقسام عليه بالقلم وما يسطرون، وتصديره بأن، وإدخال اللام على الخبر، وكلها من أدوات تأكيد الكلام، وذلك الخلق العظيم الذي كان صلى الله عليه وسلم ورد تفسيره عن السلف الصالح بعبارات متقاربة، ففسره ابن عباس رضي الله عنه بأن الدين العظيم وهو دين الإسلام وبهذا التفسير فسره أيضا مجاهد والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيرهم، وفسره الحسن بأنه آداب القرآن، وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنه أنها سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن"ومعنى ذلك أن امتثال ماأمره الله به واجتناب ما نهاه عنه في القرآن وصار له خلقا وسجيه، وقد أشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما يوضح هذا المعنى في حديث آخر متفق على صحته وهو أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه سبحانك اللهم وبحمدك اللهم أغفر لي يتأول القرآن" أي كان يدعوا بهذا الدعاء امتثالا لما أمره الله به في سورة النصر في قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه..} .(1/30)
وقد نوه سبحانه بما جبل نبيه عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة والرأفة بالمؤمنين والحرص على ما ينفعهم في دينهم وأخراهم، والتألم من كل ما يشق عليهم بقوله سبحانه ممتنا على المؤمنين بإرساله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ والأغلال} ، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} .وأشار سبحانه إلى ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من اللطف والرفق بأمته بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} . أما ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من النصح والأمانة والقيام بأداء الرسالة على الوجه الذي أراده الله فقد ذكره سبحانه
بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . ويقول تعالى يعني محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} وفيها قراءتان -بالظاء - والمراد به المتهم، وبالضاد والمراد به البخيل، وكلا هذين منفي عنه صلى الله عليه وسلم فليس هو - متهم بكتمان ما أرسله الله به وليس ببخيل بما أنزل الله عليه بل يبذله لكل أحد-.
أخلاقه صلى الله عليه وسلم في سنته وأقوال صحابته رضي الله عنهم:(1/31)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله بالرسالة العظمى في الذروة العليا من الأخلاق الحسنة صدقا وأمانة وكرما وحلما وشجاعة وعفة وقناعة وغير ذلك من الصفات التي يحظى بالإجلال والإكبار من حصل على واحدة منها فضلا عمن جمعت له وتوفرت فيه.
ولما بعثه الله سبحانه بالنور والهدى إلى الثقلين الجن والإنس زاده الله قوة في هذه الخصال الحميدة إلى قوته حتى بلغ الحد الأعلى الذي يمكن أن يصل إليه إنسان مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إنما بعثت لأتم صالح الأخلاق"وقد نوه الله سبحانه بتفضله وامتنانه على نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} . وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} .(1/32)
وقد اختار سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أصحابا هم خير هذه الأمة المحمدية التي هي خير الأمم، وقفوا حياتهم في سبيل تبليغ دعوته وحفظ سنته تحقيقا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ورثوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما جاء به من الحق ورثوه لمن جاء بعدهم حتى هيأ الله له رجالا قاموا بتدوينه منهم بل على رأسهم الإمامان الجليلان البخاري ومسلم وغيريهما من المحدثين فقد أفنوا أعمارهم جزاهم الله خيرا الجزاء في تقييد تلك الدور الثمينة التي ورثوها عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة السلاسل الذهبية المتصلة بأمثال مالك ونافع وشعبة وأحمد وعلي بن المديني وغيرهم من خيار هذه الأمة وهذه الدرر الثمينة التي توارثوها ونعم الإرث هي تشمل أقواله صلى الله عليه سلم وأفعاله وتقريرا ته وبيان خلقه وأخلاقه ولهذا يعرف المحدثون الحديث بأنه ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي.
ولقد اعتنى هؤلاء الورثة الكرام بتدوين ما جاءهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم، وبما يتعلق بأخلاقه ومزاياه على سبيل الخصوص، فمنهم من أفرد ذلك بالتأليف، ومنهم من عقد له أبوابا خاصة ضمن المؤلفات العامة أورد فيها ما يتصل بخوفه صلى الله عليه وسلم ورجائه وخشيته لربه، وجوده وكرمه وإيثاره وحياته ووفائه وصدقة وأمانته وإخلاصه وشكره وصبره وحلمه وكثرة احتماله، ورفقه بأمته وحرصه على التيسير عليها، وعفوه وشجاعته وتواضعه وعدله وزهده وقناعته، وصلته لرحمه، وكثرة تبسمه، وعفته وغيرته، إلى غير ذلك من آحاد حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
تفصيل القول في أخلاقه صلى الله عليه وسلم:(1/33)
وهذه الأخلاق التي أشرنا على بعض آحادها يحتاج تفصيلها وبسط القول فيها إلى عدة محاضرات. أما المحاضرة الواحدة فلا تكفي إلا للإشارة على بعض تلك الأخلاق والمزايا الحميدة التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، فأجدني مضطرا إلى الاقتضاب والإيجاز حسب الإمكان..
1-جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم:
وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه في خلق الجود والكرم مبلغا لم يبلغه غيره، ووصل فيه إلى الغاية التي ينتهي عندها الكمال الإنساني. ومن توفيق الله له صلى الله عليه وسلم أن جعل جوده يتضاعف في الأزمنة الفاضلة يقول ابن عباس رضي الله عنه في الحديث الصحيح: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة". جاد بنفسه في سبيل الله فكسرت رباعيته وشج وجهه وسال الدم منه صلوات الله وسلامه عليه. والجود بالنفس أقصى غاية الجود؛ وجاد بجاهه ومن أمثلة ذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم لمغيث زوج بريرة رضي الله عنهما لما عتقت واختارت فراقه أشار عليها أن تبقى في عصمته رحمة منه صلى الله عليه وسلم بزوجها مغيث. وأخص الأمثلة في ذلك ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من شفاعته في أهل الموقف التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل فتنتهي إليه فيقول أنا لها صلى الله عليه وسلم وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة قد دعا بها فاستجيب له، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" وجاد صلى الله عليه وسلم بما أعطاه الله من المال فما سئل صلى الله عليه وسلم شيئا من الدنيا قط فقال لا ولقد جاءت إليه صلى الله عليه وسلم امرأة ببردة منسوجة فقالت نسجتها بيدي لأكسوكها فأخذها صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها ولبسها فقل رجل من الصحابة: "أكسينها يا رسول الله". فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم"(1/34)
فدخل منزله فطواها وبعث بها إليه فقال له بعض الصحابة: "ما أحسنت، لبسها رسول الله عليه وسلم محتاجا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا". فقال: "إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني"قال سهل بن سعد رضي الله عنه: "فكانت كفنه"، هذا مثل من أمثال اتصافه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم فهل بعد هذا كرم يصدر من مخلوق؟ وهل وراء هذا الإيثار إيثار؟. ولقد وصف الله الأنصار في كتابه العزيز بصفة الإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . وهذه الصفة الكريمة التي اتصفوا بها أسوتهم فيها وفي غيرها من مكارم الأخلاق سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام يقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . ولما رجع من حنين التف حوله الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أعطوني ردائي فلو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا..".(1/35)
وجوده صلى الله عليه وسلم في العطاء لبعض الناس إنما هو لتأليفهم على الإسلام، فكثيرا ما كان يخص حديثي العهد بالإسلام بوافر العطاء دون من تمكن الإيمان في نفوسهم. ففي غزوة حنين أعطى أكابر قريش المئات من الإبل ومنهم صفوان بن أمية فقد روى مسلم في صحيحة أنه قال: "لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ فما برح يعطيني حتى إنه من أحب الناس إلي", وروى أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر". وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل تلك الغنم الكثيرة التي لكثرتها ملأت ما بين جبلين وماذا كانت نتيجة هذا الإعطاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد كانت حصول الغرض الذي من أجله أعطاه وهي أنه أصبح داعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان بدافع من نفسه رسولا لرسول الله إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام ويبين لهم كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبذل المال في سبيل نصرة الإسلام والدعوة إليه والترغيب فيه، ينفق مال الله الذي آتاه في سبيل الله حتى توفاه الله ودرعه مرهونة في دين عليه صلوات الله وسلامه عليه.(1/36)
الاختبار
عبد العزيز القاري
ليست هذه دعوة للقضاء على الاختبارات، ولا هي مطالبة بتخفيف العلم، ولكنها أحاسيس طالب نقلها بأمانة.
العين جاحظة والظهر منكوس
والرأس قد سئمت منه الكراريس
هذي الدفاتر والأسفار قد نثرت
فوق البساط وما تقوى لها العيس
فكيف أحملها أم كيف أحفظها
والذهن قد حشرت فيه القواميس
ماذا جنيت إذا ما زيد يضربه
عمرو و (أخفشهم) بالحكم مهووس
أصبحت قاضيهم إن حائض طلقت
أو بائع جأرت منه المفاليس
ماذا عليّ إذا ما دولة سقطت
أو دولة نشأت أو قال قسيس!
هذا مهم وهذا غير ذاك وذا
مالت إلى حفظة مني الأحاسيس
عل السؤال به يأتي إذا حشروا
كل الرفاق، وما في القصد تلبيس
فيا لها كتبا هزت مضاجعنا
فهل ترى فسدت منا المقاييس؟
حتى تروعنا من طول وطأتها
فنحن فيه غزاة أو محابيس؟
والاختبار بدأ في الأفق بارقة
فالقلب قد قرعت فيه النواقيس
يوم القيامة يا هذا الكسول أتى
هذا النعيم وهذا الروع ملموس
ذاك النفير ألم تسمع بضجته
وهذه غرف فيها المتاريس
قد هيئوا لك أمرا لو فطنت له
ما ابتاع عقلك طول العام إبليس
هذا المجد بدت في الأفق جنته
والنار قد سقطت فيها المناحيس
من هول محشرها ذابت مفاصلهم
فالغيظ منكتم والآه محبوس
فالله أسأله من عونه مددا
به يعود اختياري وهو مأنوس(1/37)
البضاعة الفاسدة
للشيخ أبي بكر جابر الجزائري
المدرس في الجامعة
أداء لواجب نصيحة الأخوة المسلمين ألفت نظرهم إلى أن هناك بضاعة فاسدة قد حملت إلى الديار الإسلامية بواسطة الأحداث المفترين، ومع الأسف فقد خفي فساد هذه البضاعة المستوردة على كثير من أبناء الإسلام، وانطلى عليهم زيفها، فتورطوا فيها أكبر تورط ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكعينات لهذه البضاعة الخبيثة أقدم ما يلي:
1- إرضاء الضمير والإخلاص للوطن.
2- سكتة حداد على أرواح كذا..
3- الرجعية والرجعيون.
وأوضح ذلك فأقول: إنك ترى الرجل إذا قام بعمل إصلاحي، أو أحسن خدمة ما، يقول فعلت كذا إرضاء لضميري، أو إخلاصا لوطني، ويعجب بذلك المغرورون من إخوان الإسلام، وما يدرون أن هذا التعبير دخيل على الإسلام وليس مما هو معروف لدى المسلمين بحال، بل هو يتنافى مع جوهر العقيدة الإسلامية التي هي الإخلاص لله في كل عمل صالح، وطلب مرضاة الله بكل خير يقدمه الإنسان.
فالمسلم إذا عمل صالحا، أو أتقن عملا، يقول فعلت كذا أو أتقنت عمل كذا ابتغاء وجه الله، وطلبا لمرضاته سبحانه وتعالى، فلم يجعل من ضميره أو وطنه إلها يطلب مرضاته ويخلص العمل له. وإنما يفعل هذا إنسان لا يؤمن بالله ولا يرجو رحمته أو يخاف عذابه.
وبذلك عرفنا أن هذه العبارة بضاعة فاسدة مستوردة من البلاد التي لا يؤمن أهلها بالله ولا يرجون له وقارا.
فليحذر المسلم فإنها خبيثة منتنة، ومنها ما شاع بين الناس اليوم من قولهم عند المناسبات:
سكتة حداد على أرواح الشهداء. فهذه السكتة لم يعرفها الإسلام ولم يقرها نظامه بحال من الأحوال، لأنها تتنافى أيضا مع مبادئه وتعاليمه، فالمسلمون عند ما يذكرون شهداءهم وأمواتهم يصلون عليهم أو يسغفرون لهم ويترحمون عليهم. أما أن يسكتوا فقط فلا لا..(1/38)
فهذه (السكتة الحداد) إذا بضاعة مستوردة من ديار لا يؤمن أهلها بأن للروح بعد الموت حياة أكمل من هذه الحياة قد تتنعم فيها أو تعذب بحسب كسبها في هذه الدار، فلذا هم لا يصلون ولا يستغفرون أو يترحمون، فليحذر هذا المسلمون، وليبعدوا هذه النفايات الشيوعية خارج ديارهم فإنها خطر على وجودهم الروحي وكرامتهم الإسلامية.
وأخيرا كلمة (الرجعية)
إن هذه الكلمة وإن كانت مستوردة بدون شك ومن البلاد الناقمة على الدين والمتدينين، فإن لها شبها لدى المسلمين وهو كلمة (السلفية) التي هي عبارة عن التمسك بما كان عليه سلف هذه الأمة من عقائد وآداب وأخلاق، ولذا فهي كلمة مدح لا ذم، والسلفي من الرجال مبجل مكرم عند المسلمين.
أما كلمة الرجعية الخبيثة فالأصل فيها أن الدول البلشفية لما ثارت على الكنيسة وقضت على الديانة المسيحية في بلادها، وانقلبت البلاد إلى شيوعية بحتة لا مجال فيها للدين أو التدين أصبح كل من يحن إلى عهد التدين الماضي ولو بعبادة أو ما دونها كإشارة يتهم بعدم الرضا عن العهد الشيوعي ويوصف بكلمة (رجعي) ليسهل عليهم الانتقام منه والضرب على يديه تحت ستار كلمة الرجعية المجملة المبهمة والتي يخفي معناها على سواد الناس، وتفسر عندهم بالفساد والجمود، في حين أن معناها ما ذكرنا: الالتفات إلى عهد الدين والتدين الماضي، فلهذا كان من الظلم والكفر أن يوصف بها المسلم، أو تقال بين المسلمين. لأن وصف المسلم بها ومعناها كما سبق: السخرية بالإسلام وإظهار النقمة عليه.
وخلاصة القول أن كلمة الرجعية كسابقتها من البضاعة المستوردة الخبيثة التي وصلت إلى الديار الإسلامية بواسطة ترجمة ونقل الأحداث المغرورين من أنباء الإسلام، فعلى المسلمين إذا أن ينتبهوا لمثل هذه البضاعة الرخيصة وأن يلفظوها بعيدا عنهم فإنها من نفايات الأفكار، من رجس الشيوعية والإلحاد، وقى الله المسلمين وديارهم كل سوء ومكروه آمين.
الإخلاص والرياء(1/39)
لا تحتقر عملا قدمته بنية خالصة فالقليل مع الإخلاص كثير، والكثير مع الرياء قليل، والمحاسب الخبير لا تعجبه كثرة الدنانير، وإنما تعجبه جودتها..
((هكذا علمتني الحياة))(1/40)
الثقافة الإسلامية
للشيخ أحمد حسن
المدرس في الجامعة
خصائصها، تاريخها، مستقبلها..
إنه عنوان كتاب جديد صدر أخيرا عن (دار الإرشاد) اللبنانية للدكتور عبد الكريم عثمان المدرس بجامعة الرياض، ولا بأس أخي القارئ من أن تضع يدك في يدي لنسير معا نرتاد آفاق هذا الكتاب، ونعيش مع مؤلفه لحظات هانئة، فلعلنا بذلك نعوض ما فاتنا من الاستماع إلى حديثه العذب، ونبراته القوية، ولفتاته البارعة، حيث تحدث في هذا الموضوع حديثا حيا على مدرج جامعة الرياض.
إن الحديث عن الثقافة الإسلامية حديث شيق وممتع وضروري، وذلك لما للثقافة من أثر كبير في حياتنا المعاصرة وخاصة بعد أن تعرضت ثقافتنا الإسلامية لأعنف هجوم فكري وغزو حضاري في تاريخها، ولقد صدر عدد من الكتب حول هذا الموضوع، فقد أصدر الأستاذ مالك بن نبي كتابا أسماه (مشكلة الثقافة) ، كما صدر كتاب آخر عن مؤسسة فرانكلين الأمريكية بعنوان (الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة) .
وهو يشتمل على عدة بحوث ألقيت في مؤتمر عقد بأمريكا في صيف سنة 1953واشتركت في الدعوة إليه جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس. وهذا الكتاب يمثل حلقة من حلقات الغزو الفكري للثقافة الإسلامية، وهو تخطيط غير مباشر للمنحنيات والدروب التي ينبغي أن يسير فيها البحث الإسلامي والثقافة الإسلامية، وهو باختصار الشرك الذي وضعته الولايات المتحدة للفكر الإسلامي المعاصر، وهي تريد من ذلك إسلاما أمريكيا يصنع على عينها. أما كتاب الأستاذ مالك فهو ليس مقصورا على الثقافة الإسلامية، وإنما هو يبحث عن الثقافة بشكل عام وتدخل فيه الثقافة الإسلامية كما تدخل غيرها, وهو يريد دائما - على طريقته في كل بحوثه - أن يصل إلى قوانين عامة، وخطوط عريضة، وهو حين يتحدث عن الثقافة الإسلامية إنما يتحدث عنها في إطار الثقافة العالمية، ولا شك أنه أول كتاب من نوعه في المكتبة العربية، وننصح المثقفين بالرجوع إليه، والإفادة منه.(1/41)
أما كتاب الدكتور عبد الكريم عثمان (موضوع حديثنا) فهو أول كتاب من نوعه يتناول خصائص الثقافة الإسلامية، وتاريخها ومستقبلها، - وما أظن كتابا عالج هذه القضايا مجتمعة - ومن هنا تأتي أهمية الكتاب، فبالرغم من صغر حجمه، إلا أنه قد ألم بالخطوط الرئيسية لهذه القضايا الكبرى ووضعها في إطارها المناسب، وكنا نتمنى لو توسع الدكتور عبد الكريم في هذا البحث - الشاغر المكان في المكتبة الإسلامية - ولعل الله يهيئ له الوقت المناسب فيتحفنا بدراسة مستفيضة في الطبعة الثانية إن شاء الله.
يبدأ الدكتور عبد الكريم محاضرته بمقدمة يتحدث فيها عن أزمة العالم الإسلامي الناتجة من مواجهته للحضارة الغربية، وعن واجب المفكرين في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة، "وإذا كانت المشكلة الرئيسية التي يعاني منها المسلمون تتمثل في أنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يضعوا أيديهم على أبعاد شخصيتهم وحقيقتها وأهدافها"فإن "واجب المفكر المسلم أن يحس هذه الأزمة ويحياها، فلا يصح أن تكون مساهمته في مجرد ذكرها والحديث عنها.. واهتمام المفكر في هذه الأزمة يجب أن يتوجه إلى المشاكل الأساسية في الكيان الفردي والاجتماعي مقدما الأهم على المهم, والمهم على الحقير التافه في السياسة والاقتصاد، في الاجتماع والثقافة. ولا شك في أن التعرف على الثقافة الإسلامية هو أول خطوة في طريقنا إلى تحديد أبعاد شخصية هذه الأمة، لوضع منهج للتفكير وخطة للعمل".
وبين يدي المحاضرة يقدم تعريفا لمصطلحات (الثقافة) و (الحضارة) و (المدنية) حيث يقصد (بالمدنية) الجانب المادي والمظهري من الحياة، ويقصد ب (الثقافة) ما يقابل المدينة من الناحية المعنوية في حياة الناس بما في ذلك ما يتصل بالروح والفكر والعقل والذوق والمشاعر وكل ما يتصل بتثقيف العقل والنفس. أما الحضارة بمفهومها الحديث فيعنى بها "الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة، وهي مجموع الحياة في صورها وأنماطها المادية والمعنوية".(1/42)
أما خصائص الثقافة الإسلامية فهي: ربانية المصدر - عالمية الأفق والرسالة - شاملة - متوازنة - إيجابية فاعلة -.
فهي ربانية المصدر: (لأن تصورها مستمد من الله تلقاه الإنسان كاملا بخصائصه هذه ليتكيف به ويطبق مقتضياته في حياته..) وإذا كانت الثقافة المادية لا تهتم إلا بالأسباب القريبة، فإن الثقافة الإسلامية تهتم بغايات الأشياء وأصولها البعيدة، وهي تجمع بين الغايات والوسائل وبين العلم والإيمان، وكونها تستمد كيانها من مبادئ الدين، لا يعني تخليها عن العقل والعلم فاعتماد الثقافة الإسلامية عليهما واحتفاؤها بهما أمر لا يحتاج إلى بيان، فالدين أبدا ليس بديلا عن العلم والحضارة ولا عدوا لهما، وإنما هو إطار ومحور ومنهج لهما في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم شؤون الحياة.
وهي: عالمية الأفق والرسالة، لأنها تنظر إلى الناس بمقياس واحد لا تفسده القومية أوالعنصرية، أو الجنس أو اللون، فالعقيدة هي الجنسية، والله وحده هو الغاية المثلى، والقيمة الخالدة، والهدف الأسمى الذي يمكن أن تلتقي في رحابه الإنسانية أفرادا وجماعات.. وكان من نتيجة هذه النزعة أن الثقافة الإسلامية استطاعت أن تنتظم عباقرة الأمم جميعا، فهي تستطيع أن تفاخر بالنوابغ الذين أقاموا صرحها من جميع الشعوب والأمم.
ومن خصائص الثقافة الإسلامية الشمول والتوازن: الشمول الذي ينظر فيه إلى كل جوانب هذه الأطوار جميعا، وهذا الشمول هو الذي هيأ لها صمودا كبيرا أمام التحديات الفكرية الأخرى، والخصيصة الأخيرة للثقافة الإسلامية، وهي الإيجابية والفاعلية في علاقة الإنسان بالكون وهي في صميمها قوة دافعة إلى النمو المطرد، وانطلاق إلى الحركة، وتحقيق الذات في أسلوب نظيف. إن العمل والإيجابية صورة أخلاقية في الثقافة الإسلامية.(1/43)
وبعد أن ينتهي المحاضر من حديثه عن خصائص الثقافة الإسلامية ينتقل لبيان آثار هذه الثقافة التي قدمت للفكر الإنساني كل جديد في كل جانب من جوانب نشاطه، ففي مجال المثل والقيم، دعت الثقافة الإسلامية إلى مثل جديدة تعتمد على الإيمان والحق والعدالة.. وهي تنبثق من نظرة الإسلام إلى الإنسان وتكريمه، وخلافته على الأرض، كما قدمت نظرة شاملة متوازنة إلى الكون وسننه، وإلى الإنسان وعمله ومسؤوليته.
وفي مجال العلاقات الاجتماعية، قدمت الثقافة الإسلامية فلسفة جديدة للروابط بين الفرد والأسرة والمجتمع.. فلسفة تقوم على تكافل هذه الحلقات جميعا وتوجيهها للعمل من أجل صالح الإنسانية.
وفي مفهوم الدولة وعلاقة الشعب بالحكمة وعلاقة الدول مع غيرها كان الفكر الإسلامي سابقا إلى تحديد هدف بعيد للدولة الفاضلة التي تحكم أمر الله في كل شؤونها، وتحرر الفرد من كل عبودية لغير الله.
وكان من آثار الثقافة الإسلامية أنها أعطت العرب والمسلمين عموما شخصية فكرية متميزة لم تكن لهم من قبل، حيث كانوا يفتقدون أهم ما يكون الأمة ويكمل شخصيتها شعورها بذاتها ويمنحها الثقة بنفسها ألا وهو الرسالة والعقيدة والفكر الموحد.
وكان من آثار هذه الثقافة في مجال الفكر والتقدم العلمي: أن ساهم المسلمون خلال القسم الأول من القرون الوسطي بما لم يساهم به شعب من الشعوب، وظلت اللغة العربية لغة العلوم والآداب والتقدم الفكري لمدة قرون في جميع أنحاء العالم المتمدن آنذاك، ولا شك أن لمبادئ الإسلام في الإيجابية والعمل أثرها في اصطباغ هذه المعارف بالصبغة العملية، ونستطيع أن نتصور كم تكون عليه حال العلوم والمعارف من النماء لو أن المفكرين المسلمين حافظوا على أصالة التوجيه الإسلامي ولم ينحرفوا عن النهج الصحيح إلى الاستغراق في جدل ونقاش فلسفي ومذهبي كان من نتيجته ضياع الطاقات الذهنية في غير ما جدوى.(1/44)
ثم ينتقل المحاضر إلى الحديث عن التحديات التي جابهتها الثقافة الإسلامية فيبين أن الثقافة الإسلامية تعرضت مع نهاية العصر الأموي إلى حملات من الزندقة والإلحاد والتشكيك بعقيدة التوحيد، وخاض الناس فيما أمتنع عنه الصحابة والمسلمون من قبل ونشأ علم الكلام ودخل فيه شؤون كثيرة غير ضرورية، وأصبح الجدل نفسه غاية وهدفا بعد أن كان وسيلة لبيان الحق والدفاع عنه، وكان لابد من عودة الفكر الإسلامي إلى صفائه ونقائه وتميزه وكان للائمة ابن حنبل وابن تيمية الأثر الكبير في إعادة الأمور إلى نصابها، فقد تحمل الأول عنت السلطة وجبروتها، بينما جعل الثاني الاحتجاج بالقرآن الكريم والحديث النبوي أساسا للوصول إلى نفس الهدف.
ومن التحديات التي جابهتها الثقافة الإسلامية الغزو الفكري اليوناني حيث أصبحت الفلسفة اليونانية بدعة المثقفين في العصر العباسي، وبرز عدد من الذين يمثلون هذه الفلسفة ويدعون إلى الاستعاضه بها عن الفكر الأصيل، كالفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل، وكان طبيعيا أن يقف رجال الثقافة الإسلامية الأصيلة أمام هذا الغزو الجديد لإعادة النقاء إلى الفكر الإسلامي. وكان لابن تيمية وأمثاله جهاد أفضل في الدفاع عن وجه الثقافة الإسلامية الأصيل..
وبعد هذا البيان ينتقل المحاضر إلى الحديث عن تحديات الثقافة الغربية وحضارتها، فيبين أن الغزو الغربي هو أعظم تحد عرفته الثقافة الإسلامية على وجه العموم وقد أتخذ هذا الغزو شكلين: الغزو المسلح، والغزو الفكري. وكان الخطر من الغزو الفكري كامنا أولا: في طبيعة الثقافة الغربية واختلافها في معظم مبادئها عن الثقافة الإسلامية، وأنها كانت نتيجة الصراع بين العلم ورجال الدين. وقد تبنت فصل الدين عن الدولة في الحياة الاجتماعية والسياسية وتغلغلت روح الإلحاد والتحلل عن قيود الدين في أسلوب المفكرين وفي علومها وآدابها وفلسفتها.(1/45)
ويمكن الخطر ثانيا في تبني الحضارة الغربية للمؤسسات التعليمية والثقافية التي تبث ثقافتها وتعمل في الوقت نفسه على إظهار الإسلام بما ليس هو على الحقيقة وطمس معالمه الصحيحة. وقد عمد المستشرقون في دراساتهم إلى إضعاف مثل الإسلام وقيمة العليا من جانب، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وعملوا على إحياء حضارات ما قبل الإسلام، الحضارة الفرعونية ولغتها في مصر، والحضارة الآشورية ولغتها في العراق، والبربرية في أفريقيا الشمالية، والفينيقية في سواحل فلسطين وسوريا ولبنان.
ومن الوسائل العملية التي اتبعها المستشرقون ومن تأثر بهم من المسلمين والعرب في هذا الخصوص، ومن الدعوات التي مارسوا النشاط لها وترويجها:
1- القول ببشرية القرآن الكريم، وأنه ليس أكثر من تعبير عن انطباع البيئة العربية في نفس الرسول.
2- القرآن الكريم تعبير عن الحياة التي وجد الرسول فيها، وهو لا يصلح لزمن آخر. وقد تولى كبر هذه الدعوة في بلادنا طه حسين.
3- لغة القرآن الفصحى لا تساير حاجات العصر فلا بد من العامية والحروف اللاتينية.
4- الإسلام لم يطبق إلا فترة قصيرة لذا فهو لا يوافق التطور.
5- التخلف عن تنفيذ تعاليم الإسلام أمر تميله الضرورة تحت ضغط الظروف.
6- تطوير الإسلام ليتفق مع الحضارة الغربية.
7- البحث عن مواضع الضعف وإبرازها لأجل غاية دينية أو سياسية.
8- تجريد الفكر الإسلامي من كل أصالة.
وقد استطاع المستشرقون أن يحققوا كثيرا من الأهداف التي خططوا لها، وأثاروا في العالم الإسلامي شبهات حول الإسلام ونبي الإسلام والمصادر الإسلامية، وأحدثوا في نفوس بعض المسلمين يأسا من مستقبل الإسلام، ومقتا على حاضره، وسوء ظن بماضيه، ومما ساعد المستشرقين على الوصول إلى أهدافهم:
1- وجود عدد من المسلمين الذين تبنوا آراءهم ونفذوا خططهم.
2- جمود التفكير الإسلامي.
3- الضعف السياسي وفقدان الثقة.
4- تحميل الإسلام مسؤولية التخلف.(1/46)
5- الأخذ بنظام التعليم الغربي الذي هو ظل لعقائد واضعيه ونفسيتهم وغاياتهم، مع أن الثقافة الإسلامية والمدنية الغربية يقومان على فكرتين في الحياة متناقضتين تماما ولا يمكن أن يتفقا.
وإذا كان هذا هو غزو الثقافة الغربية والذي ما يزال قائما، فما هو موقف المفكرين في البلاد الإسلامية من هذا الغزو؟ هذا ما يجيب عليه المحاضر بقوله: نستطيع أن نميز عدة اتجاهات:
1- أولها: يتخذ موقفا سلبيا من الحضارة الغربية ويرفضها شكلا وموضوعا.
2- ثانيهما: يدعو إلى التغريب وأخذها بخيرها وشرها.
3- ثالثها: يدعوا إلى التوفيق بينهما على حساب الإسلام والعمل على تطويره.
4- رابعها: يدعو إلى الاحتفاظ بالإسلام حسب القرآن والسنة والأخذ من الحضارة الغربية بما لا يتعارض مع الإسلام.
أما الاتجاه الأول فلا يستحق الوقوف عنده لأنه سوء تفسير للدين الذي يحث على استعمال العقل، والتفكير في الكون، واقتباس الصالح النافع، وإعداد القوة.
أما الاتجاه الثاني فهو موقف المستسلم للحضارة الغربية، المقلد لها، وقد مثل هذا الاتجاه مصطفى كمال في تركيا، ووجه كفاحه إلى محاربة الإسلام وإقامة المجتمع التركي على العلمانية وقطع كل صلة له بالإسلام وبالعربية. وفي الهند تحمس لاتجاه التغريب أحمد خان والمدرسة الفكرية التي أسسها والتي تدعو إلى تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيرا مطابقا لما وصلت إليه المدنية الحديثة في آخر القرن التاسع عشر المسيحي.(1/47)
أما في مصر فقد كان الاتجاه إلى التغريب قويا ومتحمسا، ويمثل هذا الاتجاه كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين حيث يؤكد فيه أن صلة المصريين بأوروبا أكثر من صلتهم بالشرق، وأن الثقافة المصرية جزء من الثقافة الغربية الأوربية، وأن فترة الحكم الإسلامي كله لم تغير من الأمر شيئا. ونهضة مصر في نظرة امتداد لمصر الفرعونية "وأنا من أجل ذلك – يقول الدكتور طه – مؤمن بأن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكارا، ولن تخترع اختراعا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة لخالدة، ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ما ضيها البعيد - الفرعوني - وحاضرها القريب" ثم يقول: "فأما الآن وقد عرفنا تاريخها، وأحسسنا أنفسنا، واستشعرتا القوة والكرامة، واستيقنا أن ليس بيننا وبين الأوربيين فرق في الجوهر، ولا في الطبع، ولا في المزاج، فإني لا أخاف على المصريين أن يفنوا في الأوربيين".
أما الاتجاه الثالث وهو اتجاه تطوير الإسلام والتوفيق بينه وبين الثقافة الغربية، فإنه يرى أن صالح الثقافة والمجتمعات الإسلامية في التطوير كيما يوافق الإسلام الأمر الواقع في الحياة العصرية.. وخطر هذا الاتجاه يأتي من وجهين: فهو إفساد للإسلام يشوش قيمة ومفاهيمة الأصلية بإدخال الزيف على الصحيح وإثبات الدخيل الغريب وتأكيده، أما الوجه الآخر فهو أن هذا التطوير سينتهي بالمسلمين إلى الفرقة التي لا اجتماع بعدها، لأن كل جماعة منهم سوف تذهب مذهبا يخالف غيرها من الجماعات ومع توالي الأيام نجد ثقافة إسلامية تركية وهندية وإيرانية وعربية.. وقد استدرج الشيخ محمد عبده لهذا الاتجاه، كما كان من دعاته فيما بعد قاسم أمين الذي تبنى العمل على تطوير وضع المرأة والعلاقات الاجتماعية عموما، وعلي عبد الرزاق وسعد زغلول اللذان تبنيا الدعوة إلى الوطنية والقومية والعناية بالتاريخ الفرعوني، والأخذ بالنظام السياسي الغربي على أساس أن الإسلام دين لا حكم.(1/48)
أما الاتجاه الأخير الذي اتجه إليه المسلمون في تحدي الثقافة الغربية لهم فهو ذلك الذي يواجه الحضارة الغربية مواجهة الواثق بنفسه المتمكن مما عنده من إمكانات وطاقات، فهو يميز بين الثقافة كمذهب ورأي وروح تتميز به الأمة عن غيرها، وبين شؤون الحضارة والعمران والمدنية، ويدعو إلى إيجاد تيار قوي يواجه الحضارة الغربية بشجاعة وإيمان.. هذا الاتجاه يأخذ الإسلام عقيدة وعبادة ونظام حياة، في الوقت الذي يأخذ فيه من الغرب: الآلات والوسائل الفنية - إلى أمد - ويعامل الحضارة الغربية كمادة خام يستفاد منها للخير أو الشر.
وقد ظهر هذا الاتجاه في عدد من البلاد الإسلامية: ففي الهند ندوة العلماء التي أعلنت عن أهدافها بعبارات محددة "إحداث فكر جديد يجمع بين محاسن القديم والجديد، بين القديم الصالح والجديد النافع، بين التصلب في الأصول والغايات والمرونة في الفروع والآلات". وفي باكستان تحدد الجماعة الإسلامية أهدافها على النحو التالي: "عبادة الله وعدم الإشراك به - إخلاص الدين لله، وتزكية النفس من شوائب النفاق، والأعمال من التناقض - إحداث إصلاح عام في أصول الحكم الحاضر، وانتزاع الإمامة الفكرية من الطواغيت والكفرة والفجرة ليأخذها رجال لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا".(1/49)
وفي السعودية فقد بدأت الحركة الإصلاحية الإسلامية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وملخص ما دعا إليه ابن عبد الوهاب العودة إلى الدين الصحيح، ونبذ البدع والخرافات وكل ما هو دخيل على الإسلام والفكر الإسلامي، والاستقاء من معين الإسلام الصافي: القرآن، والسنة وعلم السلف الصالح. ومن الحركات التي نحت هذا المنحى في الدعوة إلى الاحتفاظ بالإسلام وثقافته وشخصيته الأمة الإسلامية مستقلة متميزة الحركة السنوسية في ليبيا، وجمعية العلماء الجزائريين في الجزائر وزعيمها عبد الحميد بن باديس ثم الشيخ الإبراهيمي من بعده، التي استطاعت عن طريق مدارسها المختلفة أن تحافظ على ثقافة الشعب الجزائري الأصيلة وارتباطه بالإسلام والعروبة.
أما في إندونيسيا فإن أبرز الجماعات الداعية إلى هذا الاتجاه جماعة دار الإسلام، وفي تركية نجد الحركة النورية التي أسسها الشيخ سعيد النورسي رحمه الله.
ومن هذه الحركات أيضا جماعة الإخوان المسلمين التي تشمل البلاد العربية بلا استثناء، والتي تعد أوسع حركة إسلامية شاملة عرفها المسلمون في العصر الحديث.
ولقد اشترك الكثيرون من المفكرين المسلمين من أصحاب هذا الاتجاه في نقد الثقافة الغربية، وإعادة الثقة بالثقافة الإسلامية ومنابعها الأصلية، وقد تركت مؤلفات حسن البنا، وسيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، ومالك بن نبي، وعلي سامي النشار، والأمير شكيب أرسلان، وأبو الحسن الندوي، ومحمد البهي، والدكتور محمد محمد حسين، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد الخضر حسي، ن ومصطفى السباعي أثرا كبيرا، وأوجدت تيارا قوي الثقة بالنفس بعد أن وصل فقدان المسلمين الثقة بأنفسهم ومظاهر شخصيتهم حدا مخجلا جعل الدكتور طه حسين يعتذر عن بدء محاضرة له في اللغة والأدب بحمد الله والصلاة على نبيه قائلا: "سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني ابدأ المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه لأن ذلك يخالف عادة العصر".(1/50)
ثم ينتقل المحاضر للحديث عن مستقبل الثقافة الإسلامية ليقرر أن مستقبلها يتصل بأمور ثلاثة:
طبيعة الإسلام الذي يعطى هذه الثقافة طابعها المميز - طبيعة الثقافة ذاتها وقدرتها على البقاء والنمو - وجود الحاجة إليها أو فقدانها.
أما طبيعة الإسلام فنحن المسلمين نعتقد أن القرآن باق أبد الدهر، وإذن فالمعين دائم ثر لا ينضب، وقد أثبت الإسلام قدرته على البقاء في مختلف الظروف.
أما عن طبيعة الثقافة المنبثقة عنه، فقد علمنا أنها ثقافة شاملة متكاملة، وأقرب الثقافات إلى البقاء والصمود ما كان كذلك. أما عن الحاجة إلى هذه الثقافة فنحن نعتقد أنها متجددة على الدوام، وذلك في نطاق العرب والمسلمين والإنسانية جمعاء، فالعرب والمسلمون دون الإسلام مفرقون ضائعون فاقدون لكل مقومات الحياة، وهم بالإسلام أمة واحدة وكيان قوي واثق من نفسه شاعر بعظم الرسالة التي يحملها وأفضليتها، وقد يصبحون القوة الأولى في العالم إذا أدركوا قيمة رسالتهم. ولا تقل حاجة الإنسانية للإسلام عن حاجة العرب والمسلمين، لأن الحضارة الغربية تخلت عن المثل والقيم وأصبحت الآلة وسيلة إضرار وانقلب الإنسان إلى وحش كبير.
---
راجع كتاب دراسات إسلامية (إسلام أمريكاني) حصوننا مهدودة من داخلها، صفحة:15(1/51)
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
تأسيسها: إن إنشاء الجامعة الإسلامية بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أمنية حققها الله تعالى على يد الحكومة السعودية السنية التي شرفها الله تعالى بخدمة الحرمين الشريفين وعلى رأسها جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز حفظه الله ورعاه. وكانت أول خطوة اتخذت لإخراجها إلى حيز الوجود هي استقدام عدد من كبار العلماء المسلمين الأجلاء من أماكن مختلفة من العالم لاستشارتهم والاستنارة بآرائهم وخبراتهم في وضع النظام الأساسي والمنهج الدراسي للجامعة. وقد تم اللقاء بين أولئك العلماء وإخوانهم العلماء السعوديين تحت رئاسة سماحة مفتى الديار السعودية ورئيس الجامعة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله، ثم تم بعد ذلك اختيار موقعها في أحسن بقعة حول المدينة المنورة من حيث نقاء الهواء وطيب التربة، وهو في سلطانه قرب الصغرى في وادي العقيق. هذا وقد بدأت الدراسة في الجامعة في يوم الأحد الموافق 2/6/1381 هـ وكان عدد الطلبة في عامها الدراسي الأول 256 طالبا..(1/52)
المنح الدراسية: تقوم رئاسة الجامعة بتوزيع المنح التي تخصصها الدولة في كل عام دراسي على الأقطار الإسلامية على النحو الذي يقرره مجلس الجامعة في كل عام دراسي. ويوفر للطلبة كافة الوسائل التي بها يتمكنون من متابعة دراستهم بارتياح وطمأنينة، إذ تقوم الجامعة ببذل الأموال لستقدامهم من بلادهم على حسابها، كما تقوم بترحيل المتخرجين منهم إلى بلادهم، وتصرف لكل منهم مكافأة شهرية قدرها ثلاثمائة ريال، كما يدفع لطلبة المعهد الثانوي التابع للجامعة 250ريال شهريا، هذا بالإضافة إلى توفير المساكن الصحية المزودة بالماء والكهرباء والأثاث اللازم مجانا، وبالإضافة إلى تأمين وسائل النقل لهم من المدينة إلى مقر الجامعة صباحا ومنها إلى المدينة ظهرا وتنقلهم من بعد صلاة العصر يوميا إلى المدينة لأداء الصلوات في المسجد النبوي وتعود بهم إلى الجامعة بعد العشاء، كما تؤمن لهم العلاج الطبي مجانا داخل الجامعة بما في ذلك صرف الأدوية والوصفات الطبية، وكذلك توفر لهم الكتب الدراسية مجاناً، أي بالإضافة إلى مكافآتهم إلى غير ذلك من الخدمات التي تقدمها الجامعة الإسلامية لطلبتها بفضل الله تعالى ثم بما تجود به الحكومة السنية التي وفقها الله لافتتاحها ثم برعايتها وبذل التسهيلات التي تمكنها من أداء رسالتها.
مراحلها الدراسية: أسست الجامعة مشتملة على مرحلة عالية فيها كلية الشريعة ومرحلة ثانوية، ثم أنشئت فيها مرحلة إعدادية لإفساح المجال لطلبة البلاد الإسلامية التي لا يوجد فيها المتمكنون من الدراسة في المرحلة الإعدادية، كما أنشأت شعبة لتعليم اللغة العربية لغير العرب، يدخلها الطلبة الذين يصلون للدراسة وهم غير قادرين على متابعة الدراسة باللغة العربية. وفي عام 1386هـ أنشئت كلية أخرى باسم ((كلية الدعوة وأصول الدين)) ويتضح من الملحق رقم ((1)) عدد الطلبة في كل سنة دراسية في جميع الأعوام الستة الماضية من عام 1381هـ إلى عام 1386هـ..(1/53)
المؤسسات التابعة لإدارة الجامعة الإسلامية:
بالإضافة إلى ما ذكر فإن دار الحديث بالمدينة المنورة تتبع الجامعة الإسلامية في جميع شؤونها ويبلغ عدد الطلبة فيها في أول هذا العام 1387 هـ (270) طالبا موزعين على 19 جنسية، كما يتبع الجامعة من حيث المناهج والإشراف الفني معهد التضامن الإسلامي في مقديشوا وقد بلغ عدد الطلبة فيه 60 طلبا كما بلغ عدد المدرسين فيه (5) .
مدرسو الجامعة:
يبلغ عدد الأساتذة والمدرسين في الجامعة 57مدرسا موزعين كالآتي:
كلية الشريعة: 18
كلية الدعوة وأصول الدين: 10
المعهد الثانوي والقسم الإعدادي وشعبة تعليم اللغة العربية لغير العرب: 16
دار الحديث: 13
أما الفصول الدراسية فهي كالتالي:
كلية الشريعة: 8
كلية الدعوة وأصول الدين: 2
وفي المعهد الثانوي: 5
وفي المعهد الإعدادي وشعبة تعليم اللغة العربية: 5فصول
وفي دار الحديث:10
المتخرجون من المعهد الثانوي التابع للجامعة:
ولم يمض على افتتاح الجامعة ثلاثة أعوام حتى تخرج الفوج الأول من حملة الشهادة الثانوية في المعهد الثانوي التابع للجامعة وعددهم مائة وعشرة طلاب، ثم توالت الدفعات حتى بلغ عدد الحاصلين على الشهادة الثانوية من معهد الجامعة في الأعوام الأربعة من عام 1383هـ إلى عام 1386هـ أربعمائة وتسعة وثلاثين طالبا ينتمون إلى خمسين جنسية.
الحاصلون على الشهادة العالية من كلية الشريعة بالجامعة:(1/54)
بعد مضي أربع سنوات من الافتتاح تخرج الفوج الأول من حملة الشهادة العالية من كلية الشريعة بالجامعة وعددهم ثلاثة وأربعون جامعيا، ثم تخرج الفوج الثاني وعددهم ستة وأربعون جامعيا، ثم الفوج الثالث وعددهم تسعة وثلاثون جامعيا، فمجموع الجامعيين في الأفواج الثلاثة مائة وثمانية وعشرون جامعيا ينتمون إلى اثنتين وعشرين جنسية. يتضح من الملحق رقم 3 أسماء الجنسيات وعدد الطلبة المنتمين إلى كل جنسية في كل عام من الأعوام الثلاثة، ومما تجدر الإشارة إليه أن الموجودين في السنة النهائية في العام الدراسي 87-1388هـ مائة وأربعة وعشرون طالبا أي ما يقارب مجموع المتخرجين في الأفواج الثلاثة الماضية.
عدد الطلبة في الجامعة وعدد جنسياتهم:
في نهاية العام الدراسي 86-1387هـ بلغ عدد الطلبة في الجامعة في جميع مراحلها الدراسية سبعمائة وأربعة وستين طالبا ينتمون إلى إحدى وستين جنسية. يتبين من الملحق رقم 4 أسماء الجنسيات وعدد طلبة كل جنسية. وقد زاد عدد الجنسيات في الشهر الأول من العام الدراسي الحالي 87-1388هـ فبلغ عددها خمسا وستين جنسية بإضافة روديسيا والبحرين وغيانا في أمريكا الجنوبية واليابان.
نشاط الجامعة:
نظمت الجامعة مواسم ثقافية عامة يحاضر فيها كبار أساتذة الجامعة، وقد طبعت الجامعة كثيرا من تلك المحاضرات وقامت بتوزيعها على الزوار والحجاج وغيرهم، كما زودت كثيرا من الهيئات والمؤسسات الإسلامية في أنحاء العالم بالمحاضرات المذكورة، وبعض الرسائل القيمة والكتب النافعة التي تصدرها، وقد أوفدت رئاسة الجامعة بعثات إلى غرب أفريقيا ووسطها للإطلاع عن كثب على أحوال المسلمين ومساعدة الهيئات الإسلامية ماديا ومعنويا. وهذا بيان بالبعثات التي أوفدتها الجامعة حتى الآن:
1-في عام 1384هـ بعثة مكونة من ثلاثة أشخاص برئاسة أمين الجامعة.(1/55)
2- في عام 1385هـ بعثة مكونة من ثلاثة مشائخ برئاسة فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كبير المدرسين في الجامعة..
3- في عام 1386هـ بعثتان إحداهما إلى غرب أفريقيا، والأخرى شرقها ووسطها لاختيار الطلبة.
وقد عادت البعثات المذكورة بتقارير ومعلومات مفصلة عن أحوال المسلمين هناك، كما وزعت مبالغ من المال صرفت بأمر سماحة رئيس الجامعة الإسلامية فيها، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن كثيرا من المتخرجين من الجامعة الإسلامية قد تعاقدت معهم دار الإفتاء وبعثتهم على نفقتها للقيام بالدعوة والتدريس في أقطار متعددة من أفريقيا.
ميزانيات الجامعة:
ومنذ أن تفضلت حكومة هذه البلاد بإنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وهي تنفق عليها بسخاء في سبيل نجاحها، فترصد لها سنويا الملايين من الريالات التي اعتمدت للجامعة في ميزانية الدولة منذ تأسيسها حتى العام الحالي 87-1388هـ والتي هي المصدر الوحيد لتمويل الجامعة:
في عام 81-1382هـ:000ر000 ر3 ملايين ريال. في عام 82-383هـ: 000ر000ر4 ملايين ريال. في عام 83 – 1384 هـ: 00ر210ر4 ملايين ريال. في عام 84 – 1385هـ: 000ر936 ر4 ملايين ريال. في عام 85-1386 هـ 141ر865ر6 ملايين ريال. في عام 86- 1378هـ: 935ر113ر8 ريال. في عام 87-1388هـ: 965ر604ر8ريال.
المشاريع العمرانية:
وكما أولت الحكومة جميع مرافق الجامعة اهتماما ببذل الأموال لتسهيل أداء الجامعة لمهمتها، فقد خصت مشاريعها العمرانية بمزيد من العناية لإظهار الجامعة بالمظهر اللائق، فخصصت مبالغ عظيمة في ميزانيتها لإقامة منشآت لها على أحدث طراز معماري، وعلى سبيل المثال فقد اعتمد في ميزانية الجامعة في العام المالي الحالي 87-1388هـ لمشاريع الجامعة العمرانية ما يزيد على أربعة ملايين ريال، ويجري العمل حاليا في المشاريع المذكورة وهي تشتمل على ما يأتي:
أ – مستودعات كبيرة واسعة للجامعة.(1/56)
ب- قاعة ضخمة للمحاضرات تشتمل على مدرج يحتوي على 1070 كرسيا عدا الصالات الإضافية، وغرف المحاضرات، والمنصة الواسعة لهم، ومقصورة الشرف لكبار الزائرين.
ج- مبنى المكتبة العامة للجامعة ويشتمل على غرف خزائن الكتب، وقاعات المطالعة، وغرف الإدارة. وقدرت طاقة المكتبة بأنها تتسع لتسعمائة وسبعين ألف كتاب ومجلد.
د- مبنى رئاسة الجامعة يشتمل على مكتب الرئيس، ومكتب الأمين العام، ومكاتب لكبار موظفي الأقسام في الجامعة.
هـ مبنى كلية الشريعة وهو على أحدث طراز في فن المعمار ويشتمل على قاعات للمحاظرات، وفصول واسعة للدراسة، يبلغ مجموع اتساعها حوالي 1700طالبا. هذا بالإضافة إلى أقسام إدارة الكلية، والباحات والحدائق التي يقضي فيها الطلبة أوقاتهم في أثناء الفسح.
أما المباني التي تم إنجازها واستلمتها إدارة الجامعة في العام الماضي فبيانها كالتالي:
أ – مبنى لكلية الدعوة وأصول الدين يشتمل على اثنتي عشرة قاعة للمحاضرات عدا الإدارة ومكتبة الكلية. الخ
ب- فصول للمعهد الثانوي.
ج- ثلاث وحدات سكنية للطلبة تتكون كل واحدة من 22 غرفة إلى جانب قاعة واسعة للاستقبالات والمرافق العامة.
د- مطعم فسيح للطلاب.
هـ حظائر لسيارات الجامعة ومبان للورشة الخاصة بإصلاحها.(1/57)
ندوة الطلبة
كيف نعمل للإسلام
بقلم: جلال الدين مراد
سنة ثانية شريعة
الحياة صراع بين الحق والباطل، بين الأخيار والأشرار، منذ فجر التاريخ والأخيار هم الذين كلفهم الله وشرفهم ليقوموا بأمره ويتسلموا قيادة البشرية، ويوجهوا دولاب الحياة لما لهم دون غيرهم من حق البقاء وعمارة الأرض، ولهذا أشارت الآية الكريمة {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .
والحق لم يكن في يوم ما أكثر عددا من الباطل {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} . وإنما كان يتم تسيير دفة سفينة الحياة وفق مواصفات شرط الله توفرها في الدعاة، فإذا التزم الدعاة تلك الشروط وهبهم الله السيادة والتمكين لقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْض} .
في اليوم الذي تلتقي فيه جهود المخلصين وتتحد كلمتهم ويأخذوا بالأسباب اللازمة وفق سنن الله الكونية سينصرهم, ويومها لن تقوى قوى الباطل (الخشب المسندة) على مجابهة هذه الجذوة المباركة التي انطلقت.
والباطل مهما امتلك من مظاهر القوى المادية فلن يعدو الزبد كما وصفة الله تعالى {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض} . وما نراه الآن من تسلط الأشرار على دولاب الحياة، فبسبب غفلة الصالحين والأخيار.(1/58)
وليس بعيدا أن تستقيم الأوزان وتستقر الأوضاع، ولكن ذلك رهين الإيمان العميق، والتنظيم الدقيق، والعمل المتواصل. وذلك أن الناس لم يكونوا صالحين قبل ابتعاث محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنهم لم يكونوا فاسدين من بعده.. وإنما ابتدأ الفساد برجل واحد ثم ثان وثالث ثم استشرى الداء وظهر الفساد في البر والبحر. وليس بدعا كذلك أن يبدأ الإصلاح في زماننا هذا برجل واحد ثم ثان وثالث وآخر، ومما لا شك فيه أن اثنين لو اجتمعا على أمر (ما) يكونان به مؤمنين، أقوى من مائة آحادا متفرقين، وهذا ما نعانيه في عصرنا من تفكك أهل الحق ووحدة أهل الباطل!.
إن عالمنا هذا قد ابتلعه هذه المعسكرات شرقيها وغربيها، ولو أنها تختلف فكريا إلا أنها تتفق عمليا في حرب الإسلام، إذ جاءتنا من فوقنا ومن أسفل منا وعن أيماننا وعن شمائلنا، عن طريق المذياع وشاشة السينما والتلفزيون، وهذه الكتب والمجلات الرخيصة الداعرة.. الموجة التي غطت على المكتبات العلمية، وسرقت أرواح شبابنا واستهوت عقولهم بفنها وسحرها، وكدنا من جراء هذه الإستكانة نفقد الأمل في إنجاح عملية البعث الإسلامي المرتقب لولا بقية إيمان..
إن المذاهب المادية المعاصرة قد تسلحت بالوسائل المغرية العديدة والنظم الدقيقة، والنظام لا يقابل بالفوضى، والجمع لا يقابل بالشتات، وقد أضحى واضحا أن من يعمل للإسلام في هذا العصر منفردا كمن يسبح في غير ماء، أو كمن ينقب عن البترول (بالمعول) أو يبحث عن الجواهر (بالشبكة) .
إن الدعوة الإسلامية قد اتسمت بالدقة والنظام، وقد واكبت ذلك منذ فجر تاريخها، ولعل في مراحلها السرية والعلنية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم إشارة ولفت نظر وذكرى.. وأي ذكرى للدعاة في كل عصر ومصر. ولست مدعيا إذا قلت أن كل من رام الإصلاح عفوا لهذا المجتمع المريض، ولم يسع له سعيه اللازم فقد خالف سنة الله الكونية..(1/59)
ولقد رأيت كثيرا من المصلحين في هذا العصر يعتمدون فقط على الخطب الحماسية كعلاج لأدواء هذا المجتمع، وكثيرا ما يذهب أحدهم وتذهب كلماته أدراج الرياح، وتبقى حالة الناس كما هي.. وما زال الخطباء يخطبون منذ انهيار الدولة الإسلامية وتفكك أوصالها، فهل أفلح الخطباء في تربية جيل مثالي، أو استطاعوا إعداد كتائب إسلامية مجاهدة؟ بينما نجد دعوات باطلة عقديا وسياسيا قد حالفها الحظ، وتمت لها السلطة والتحكم في رقاب الصالحين بفضل التنظيم وقوة العتاد.
إن الدعاة هم أطباء هذه الإنسانية المعذبة، والطبيب البارع هو الذي يعرف مواطن الداء وكيفية استئصاله، وقد يضطر لتنويع الدواء، فيقدم هذا ويؤخر هذا، لما يترتب عليه من تأخر برء أو نحو ذلك. فالشيوعية والقومية والوجودية وغيرها يجب على الداعية أن يحيط بها علما حتى يكشف زيفها على ضوء الإسلام.. ومن عرف سلاح عدوه عرف مواطن ضعفه وإصابة مقاتلة. فالخطب ليست العلاج العملي لمشاكلنا المعاصرة، وإنما يجب أن يسبقها نظام ومنهج تربية ينظم الشباب والناشئة، كما تفعل اليوم الأندية الرياضية، ويعني بمتطلباتهم وحصانتهم لئلا يعيشوا في فراغ اجتماعي، وحياة متناقضة بين القول والتطبيق.
وإذا علمنا ضرورة الإيمان العميق والتنظيم الدقيق كشرط أساسي لصد هذه الأفكار الفاسدة المستوردة، فإنه يتحتم على المنظمات الإسلامية أيا كانت أن تتعاون وتتحد، وهي تصارع هذه الجاهلية على طول الجبهة الممتدة من المحيط إلى المحيط ما دام الهدف والمقصد هو إرضاء الله عز وجل.
إن الحركات الإسلامية تواجه اليوم عدوا مشتركا متعددة وسائلة وفنونه، وما لم تتحد هذه الجماعات وتتعاون فستظل متناثرة حتى يسهل التهامها الواحدة تلو الأخرى، خاصة إذا كانت من بلد واحد، ومما يذكر أنه لأن يجتمع الناس على ضعف في الرأي خير من أن يتفرقوا على صواب فيه.(1/60)
وأخلص فأقول إنه قد آن الأوان لنبذ الخلافات فيما بيننا، والاتهامات والتجريحات التي لا يستفيد منها إلا أعداء الإسلام، وأن نقف جنبا إلى جنب، وأن ندعوا جميعا لما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفا فيه، إلا خلافا يفضي إلى كفر بواح.
إن قطرات الندى قد تتلاشى لو تناثرت وتباعدت، أما لو اجتمعت وكانت ثجاجا فبها الأرض تهتز والحياة تزهو وتزهو. وإن شئتم فأقرؤوا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .(1/61)
الفتاوى
للشيخ عبد العزيز بن باز
س-1- هل تفرض علينا صلاة الجمعة في هذه الديار الأسبانية علما بأنه لا مسجد فيها، ونحن أتينا إلى تلك الديار من أجل الدراسة؟
ن. أ. ص غرناطة
الجواب: قد نص أهل العلم على أنه لا يجب عليكم ولا على أمثالكم إقامة صلاة الجمعة بل في صحتها منكم نظر، وإنما الواجب عليكم صلاة الظهر لأنكم أشبه بالمسافرين وسكان البادية، والجمعة إنما تجب على المستوطنين، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها المسافرين ولا أهل البادية، ولم يفعلها في أسفاره عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه رضي الله عنهم، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع صلى الظهر في عرفة يوم الجمعة ولم يصل الجمعة ولم يأمر الحجاج بذلك لأنهم في حكم المسافرين، ولا أعلم خلافا من علماء الإسلام في هذه المسألة بحمد الله. إلا خلافا شاذا من بعض التابعين لا ينبغي أن يعول عليه. ولكن لو وجد من يصلي الجمعة من المسلمين المستوطنين فالمشروع لكم ولأمثالكم من المقيمين في البلاد إقامة مؤقتة لطلب علم أو تجارة ونحو ذلك، الصلاة معهم لتحصيل فضل الجمعة، ولأن جمعا من أهل العلم قالوا بوجوبها على المسافر تبعا للمستوطن إذا أقام في محل تقام فيه الجمعة تمنعه من قصر الصلاة.
س-1- إذا جامع الرجل أهله ولم ينزل فهل فيه عليه غسل؟
س-2- إذا أحرم الإنسان في إحدى الصلوات الفرائض في المسجد أو غيره منفردا ثم جاء شخص آخر أو أكثر فصف معه هل يصح ذلك؟
س-3- ما حكم حلق اللحى أو تقصيرها هل مكروه أو محرم؟
الإجابة:(1/62)
ج-1- نعم متى جامع زوجته حتى مس الختان الختان وجب عليه الغسل وإن لم يخرج منه الماء، لما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بذلك ومن الوارد في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل وإن لم ينزل" متفق عليه وهذا لفظ مسلم وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب عليه الغسل" وعنها رضي الله عنها أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كنت أفعله مع هذه -يعني عائشة- ثم نغتسل "أخرجهما مسلم في صحيحة.
ج-2- الصواب صحة ذلك، فإن كان واحدا صف عن يمينه وإن كان الذي حضر أكثر من واحد صفوا خلفه وجعلوه إماما ولا حرج في ذلك في أصح أقوال أهل العلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الليل وحده فجاء ابن عباس فصف عن يساره فجعله عن يمينه وصلى به، والنبي صلى لله عليه وسلم لم ينو الإمامة حين أحرم. وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان في بعض أسفاره يصلي وحده منفردا فجاء اثنان من الصحابة فصفا عن يمينه وشماله فجعلهما خلفه وصلى بهما، وإذا جاز هذا في النافلة جاز في الفريضة لأنهما سواء في الأحكام إلا ما خصه الدليل، ولأن ذلك لو كان لا يجوز في الفريضة لنبههم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن مثل هذا إنما يجوز في النافلة لا في الفريضة. فلما لم يخبرهم بذلك دل على أن الحكم واحد والله الموفق.(1/63)
ج-3- قد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن ذلك محرم ومنكر ومن صفات المشركين والمجوس. فالواجب على كل مسلم تركه والحذر منه لما في ذلك التشبه بأعداء الله من المشركين والمجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم ولا ينبغي للمسلم أن يغتر بكثرة من فعل ذلك من المسلمين لأن الحق أحق بالاتباع ولو تركه الناس. ومما ورد في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحفوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين"وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحا" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
س-1- ما حكم الاستنجاء من الريح ونحوها من نوا قض الوضوء غير البول والغائط، وإذا كان الناقض البول فقط فهل يجب عليه غسل الدبر تبعا للقضيب؟
م.ع. ع ألمانيا(1/64)
الجواب: قد دلت الأدلة الشرعية على أن الاستنجاء إنما يكون من البول والغائط خاصة. فأما ما يخرج من الدبر من الريح وهكذا النوم ومس الذكر وأكل لحم الإبل فهذه وأشباهها من النواقض لا يجب فيها استنجاء، بل يكفي فيها الوضوء الشرعي الذي دل عليه قوله سبحانه في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الآية. هذه المسألة ليس فيها خلاف بحمد الله بين أهل العلم. قال موفق الدين محمد بن عبدا لله ابن قدامة - رحمه الله - في كتابه المغنى: "لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا يجب الاستنجاء من النوم والريح"انتهى. والحجة في ذلك الآية السابقة، وما ثبت في الأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يذكر فيها أنه استنجى من النوم أو الريح ونحوهما، وإنما ثبت استنجاءه من البول والغائط، وإذا كان الناقض البول فقط وجب غسل ما أصاب القضيب من البول، أما الدبر فلا حاجة إلى غسله إذا لم يخرج منه شيء من الغائط عند البول وهكذا الخصيتان لا يجب غسلهما إذا لم يصبهما شيء من البول، لأن المقصود الاستنجاء هو التطهير من النجاسة، فالمحل الذي لم تصبه النجاسة لا يجب غسله، لكن إذا لم تصبه النجاسة لا يجب غسله، لكن إذا كان الناقض هو المذي وهو ما يخرج عند أثر الشهوة عند انتشار القضيب بسبب نظر إلى النساء أو تفكر أو ملامسة فإن هذا المذي يوجب غسل الذكر والأنثيين. الأحاديث وردت في ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمذي غير المني. أما المني فهو أصل الإنسان وهو الذي يخرج بدفق وشهوة عند وجود أسباب ذلك، فهذا يوجب الغسل كما هو معلوم من الأدلة الشرعية.
س-1- ما حكم أكل اللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية وهل هي حلال أم حرام؟.(1/65)
الجواب: قد أجمع علماء الإسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى والمجوس، وأجمعوا على إباحة ذبيحة أهل الكتاب من اليهود والنصارى واختلفوا في ذبيحة المجوس عباد النار. فذهب الأئمة الأربعة والأكثرون إلى تحريمها إلحاقا للمجوس بعباد الأوثان وسائر صنوف الكفار من غير أهل الكتاب. وذهب بعض أهل العلم إلى حل ذبيحتهم إلحاقا لهم بأهل الكتاب وهذا قول ضعيف جداً بال باطل والصواب ما عليه جمهور أهل العلم من تحريم ذبيحة المجوس كذبيحة سائر المشركين لأنهم من جنسهم فيما عدا الجزية، وإنما شابه المجوس أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم فقط، والحجة في ذلك قوله الله سبحانه في كتابه الكريم في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُم} .
فصرح سبحانه بأن طعام أهل الكتاب حل لنا، وطعامهم ذبائحهم كما قاله ابن عباس وغيره من أهل العلم. ومفهوم الآية أن طعام غير أهل الكتاب من الكفار حرام علينا. وبذلك قال أهل العلم قاطبة إلا ما عرفت من الخلاف الشاذ الضعيف في ذبيحة المجوس.(1/66)
إذا علم هذا فاللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية إن علم أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين إذا لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي إذ الأصل حلها بالنص القرآني فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر متحقق يقتضي تحريمها، أما إن كانت اللحوم من ذبائح بقية الكفار فهي حرام على المسلمين ولا يجوز لهم أكلها بالنص والإجماع، ولا تكفي التسمية عليها عند غسلها ولا عند أكلها، أما ما قد يتعلق به من قال ذلك فهو وارد في شأن أناس من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر، فسأل بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: "يا رسول الله إن قوما حديثي عهد بالكفر يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سموا الله عليه أنتم وكلوا "رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها وبذلك يصلح أنه لا شبهة لمن استباح اللحوم التي تجلب في الأسواق من ذبح الكفار غير أهل الكتاب بالتسمية عليها، لأن حديث عائشة المذكور وارد في المسلمين لا في الكفار فزالت الشبهة لأن أمر المسلم يحمل على السداد والاستقامة ما لم يعلم منه خلاف ذلك، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أمر هؤلاء الذين سألوه بالتسمية عند الأكل من باب الحيطة وقصد إبطال وساوس الشيطان لا لأن ذلك يبيح ما كان محرما من ذبائحهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما كون المسلم في تلك الدول غير الإسلامية يشق عليه تحصيل اللحم المذبوح على الوجه الشرعي ويمل من أكل لحم الدجاج ونحوه، فهذا ونحوه لا يسوغ له أكل اللحوم المحرمة ولا يجعله في حكم المضطر بإجماع المسلمين، فينبغي التنبيه لهذا الأمر والحذر من التساهل الذي لا وجه له. هذا ما ظهر لي في هذه المسألة التي عمت بها البلوى وأسال الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يعمر قلوبهم بخشية وتعظيم حرماته والحذر مما يخالف شرعه.(1/67)
الفقه في الدين
للشيخ حماد الأنصاري
المدرس في الجامعة
عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين" الحديث أخرجه البخاري في صحيحة. وزاد أبو يعلى الموصلي عنه "ومن لم يتفقه لم يبال الله به".
عن عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله بن مسعود"قلت: "لبيك يا رسول الله ثلاث مرات". قال: "أتدري أي عرى الإيمان أوثق". قال: "قلت الله ورسوله أعلم". قال: "الولاية في الله الحب فيه والبغض فيه". ثم قال: "يا عبد الله بن مسعود"قلت: "لبيك يا رسول الله ثلاث مرات". قال: "أتدري أي الناس أفضل؟ "قال: "قلت الله ورسوله أعلم". قال: "إن أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم". ثم قال: "يا عبد الله بن مسعود"قلت: "لبيك يا رسول الله ثلاث مرات". قال: "أتدري أي أناس أعلم". قال: "قلت الله ورسوله أعلم". قال: "أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل".
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه". قالوا: "بلى"قال: "من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا علم ليس فيه تفهم، ولا قراءة ليس فيها تريث".
سئل الإمام مالك بن أنس قيل له: "لمن تجوز الفتوى؟ "فقال: "لا تجوز إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه". قيل له: "اختلاف أهل الرأي". قال: "لا، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم".(1/68)
قال أبو حيان التيمي: "العلماء ثلاثة عالم بالله وبأمر الله، وعالم بالله وليس بعالم بأمر اله. وعالم بأمر الله وليس بعالم بالله. فأما العالم بالله وبأمره فذلك الخائف لله العالم بسنته وحدوده وفرائضه. وأما العالم بالله وليس بعالم بأمر الله فذلك الخائف لله وليس بعالم بسنته ولا حدوده ولا فرائضه. وأما العالم بأمر الله وليس بعالم بالله فذالك العالم بسنته وحدوده وفرائضه وليس بخائف له".
وقال الخليل بن أحمد: "الرجال أربعة، رجل يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فعلموه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك غافل فنبهوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك مائِق فاحذروه".
وكان الحسن البصري كثيرا ما يتمثل بهذا البيت.
يسر الفتى ما كان قدم من تقى
إذا عرف الداء الذي هو قاتله
أخرجها كلها الحافظ ابن عبد البر ما عدا الأول
الدين الحق
الدين الحق هو الذي يعطيك فلسفة متكاملة للحياة، ونظاماً وافياً بحاجات المجتمع، كالمهندس الماهر يبني لك بيتا متين الدعائم، مستوفي المنافع.
مصطفى السباعي(1/69)
القدس.. والفتوحات
بقلم: محمد محمد صالح ضيائي
الفتوحات الإسلامية التي شملت أكثر الأقاليم المعروفة في العالم ولسير الفاتحين المسلمين الذين حملوا إلى أمم العالم رسالة الإسلام وتعاليم الشريعة المحمدية الغراء ميزة خاصة على الفتوحات غير الإسلامية التي سبقت الإسلام منذ أقدم العصور أو تلته في العصور المتأخرة على يدي أعداء الإسلام ومناوئيه.
فلقد كان القواد الإسلاميون يهدفون في حروبهم وفتوحاتهم إلى تحرير الأمم وإخراج الشعوب من عبادة الخلق إلى عبادة الخالق، ومن ذل الكفر إلى عز الإيمان، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. كان هذا هو شعار الفاتحين المسلمين في جميع أقطار العالم. قال ذلك ربعي بن عامر أمام كسرى في المدائن، وأروا العالم ذلك عمليا في عدلهم مع الشعوب المغلوبة على أمرهم، ورفقهم بالأسرى في الحروب والفتوحات.
ولكي يظهر الفرق بين سير الفاتحين المسلمين وغير المسلمين، والفارق بين معاملة الفاتحين المسلمين وغير المسلمين مع الشعوب، ولكي يتضح عدل الإسلام والمسلمين ندرس تاريخ بيت المقدس هذه المدينة الإسلامية التي أصبحت الآن ضائعة مهانة تحت أقدام اليهود الغاصبين. هذه المدينة العتيقة من أقدم المدن المعروفة وأكثرها أهمية لدى أهل الأديان السماوية. ولا يعرف التاريخ منذ أقدم العصور مدينة تعرضت للغارات والفتن والتخريب مثل ما تعرضت لها مدينة القدس رغم كونها غير ذات أهمية كبيرة من الناحية التجارية والاقتصادية.(1/70)
1- وأقدم فتنة سجلها التاريخ لبيت المقدس هي القتل والتخريب العام الذي قام به بنو إسرائيل عام ألف ومائة وتسعة وثمانين قبل الميلاد: فتقول التوراة: (سفر يوشع الفصل السابع 221) "إن بني إسرائيل خرجوا من أريحا يقصدون فتح مدينة (بيوس) -وهي اسم مدينة القدس آنذاك- فما مروا على مدينة من مدن فلسطين إلا وقتلوا كل من فيها من إنسان وحيوان، فعلوا ذلك في أريحا وبيوس ووو وهي أمهات المدن الفلسطينية آنذاك". ونصوص التوراة تؤكد أن بني إسرائيل كانوا يحرقون كل مدينة فتحوها بعد قتل من فيها من الأميين.
2- ثم من الفتن التي حفظها التاريخ لبيت المقدس حملة الملك الآشوري (سنحاريب) التي كانت في عام 713 قبل الميلاد - أي بعد الفتنة الأولى ب480عام- فقد استولى الملك الآشوري على القدس وقتل كل من قدر عليه من اليهود وحمل ما استطاع من الأموال وعاد إلى بلاده.
3-ثم عاد بعد ثلاث سنوات - أي في عام 710 قبل الميلاد - فأجهز على بقية سكانها وخرب المدينة المقدسة. ولكن ما إن ستتب له الأمر في القدس حتى عم جيشه الطاعون فقتل أكثر من مائة وثمانين ألفا من جيشه وكان السبب في إنهاء الحكم الآشوري عن العالم.
4-ثم هاجم القدس بعد الآشوريين حكام مصر فاحتلوها وأصبح أهلها يؤدون الخراج للفراعنة مدة غير طويلة من الزمن.
5-ولما استقل اليهود بالحكم في فلسطين بعد ذلك عاثوا في الأرض فسادا كما تقتضيه السجية اليهودية فانتقم الله منهم فسلط عليهم (بختنصر) ملك بابل فهاجم القدس البابليون بقيادة الملك المذكور واحتلوها عام 597 قبل الميلاد فقتل الكثير من سكانها ثم صالح بقية السيف منهم على خراج سنوي يحملونه إلى بابل.(1/71)
6-ولكن الإسرائيليين ثاروا ضده وخلعوا طاعته فعاد إليهم عام 586 قبل الميلاد وحاصر القدس مدة سنتين ثم فتحها وقتل كل من شاء من اليهود وأخذ معه أشراف بني إسرائيل وعلى رأسهم (حزقيا) أسرى إلى بابل، وغادر القدس بعد أن أحرق المعبد وهدم المدينة وتركها في صورة مقبرة. وبقيت القدس مهجورة حتى انقرض ملك البابليين واستولى على بابل أحد ملوك فارس الأقدمين المعروف (كورش) فعطف على اليهود وأحسن إليهم وأعادهم إلى القدس وساعدهم في تجديد بناء المدينة المقدسة.
7-ولما استعاد اليهود حريتهم عادوا إلى الفساد والظلم فسلط الله عليهم أحد خلفاء اسكندر المقدر ني فقد هاجم القدس القائد الروماني (انتيوخوس آبيفانوس) عام 168 قبل الميلاد وأحتلها وخرب المعبد وهدم حصار المدينة وقتل معظم سكانها، ومن هذا التاريخ أصبحت القدس تحت سيطرة الرومان.
8-وفترة حكم الرومان على فلسطين كانت مدينة القدس معرضة للقتل والتخريب أكثر من أية مدينة فلسطينية أخرى، ولم تخل المدينة من الثورات والفتن يوما من الأيام ففي عام 65 قبل الميلاد حاصر القائد الروماني الجبار (بومبي) مدينة القدس مدة ثلاثة أشهر ثم فتحها وقتل أكثر أهلها.
9- وكذلك أيام حكم القائد الروماني (بيلاطس) الذي حكم فلسطين من سنة 29إلى 39 بعد الميلاد تعرضت القدس للخراب والهدم عدة مرات طيلة عشر سنوات.(1/72)
10- ولم تكد القدس تنسى الفتن والغارات التي مر بعضها حتى دهمتها الفتنة التي يقول المؤرخون عنها أنها كانت منقطعة الشبيه في تاريخ القدس المليء بالأحداث والفت: فقد هاجم القدس السفاك الروماني (تيطس) عام 79 بعد الميلاد، وحاصر المدينة مدة طويلة حتى هلك الآلاف من سكانها جوعا، ثم عجز أهلها عن المقاومة فاستسلموا وفي ذلك يقول المؤرخ الشهير (يوسيفوس) الذي كان شاهد الوقعة حين اقتحام (تيطس) وجيشه مدينة القدس: "إن القتلى في ساحة المعبد وحدها بلغت عشرة آلاف نفس معظمها من النساء والصبيان والشيوخ الذين كانوا قد استعاذوا بالمعبد، وكانت الدماء تجري في الشوارع، وحسبنا أن نعلم أن عدد القتلى في هذه الحادثة قدر بنصف مليون نسمة، واستمر القتل مدة أشهر، وكانت النار مشتعلة في أكثر أحياء المدينة عدة أسابيع. وأخذ السفاك معه كثيراً من الشباب وباعهم في روما.
11- ثم جاء دور الملك الروماني (آدريانوس) فهاجم القدس واحتلها عام 135 بعد الميلاد ووضع السيف في أهلها وهدم المعبد ولم يبق من المدينة حجر على حجر. ولم يقتصر الملك الروماني على قتل اليهود بل قتل من قدر عليه من النصارى، وأمر بإخراجهم من كنائسهم وهدمها وبني معبدين في القدس أحدهما باسم الزهرة، والآخر باسم المشترى.
12- ثم هاجم القدس عام 614 بعد الميلاد جيش فارس فاحتلوها وقتلوا أكثر من 90 ألفا من سكانها المسيحيين، وبتحريك من اليهود هدموا كنيسة القيامة كما كسروا الصليب المقدس (حسب زعم النصارى) .(1/73)
هذه بعض الفتن والمصائب مرت بهذه المدينة المقدسة، ولا يخفى أن أكثر الفتن المذكورة في العصور المختلفة كانت اليهود إحدى حجري الرحى فيها وبعد مضي 1700 سنة على القدس وهي تغوص في بحار الدماء وتداس مقدساتها بأقدام الطغاة شهدت القدس جيشا دخلها ولكن اختلفت الأوضاع كما كانت القدس تعهده عند اقتحام الجيوش أبوابها، فقد قصد الجيش الإسلامي فتح الشام (ومنها القدس) في خلافة الصديق فتوجه المسلمون نحو الشام وهم يحملون رسالة الإسلام، وقد أمرهم الصديق الأكبر بالأوامر التالية: "لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تسرفوا في القتل، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا صبيا ولا عجوزا ولا امرأة، ولا تحرقوا نخلا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لله، وإذا مررتم بقوم اتخذوا صوامع وسكنوها فدعوهم وما هم عليه". ووصلت الجيوش الإسلامية إلى مدينة القدس أوائل خلافة عمر بن الخطاب ثاني الراشدين فحاصر القدس عمرو بن العاص بجيشه عدة أشهر
ورفض السكان تسليم المدينة إلى القائد وإبرام الصلح معه ورضوا بتسليم المدينة لأمير المؤمنين عمر نفسه، فاطلع عمرو أمير المؤمنين على القضية فجاء عمر على بعير يتعاقبه هو وغلامه إلى القدس، وخرج لاستقباله كبار المسيحيين وفي مقدمتهم رجال الدين المسيحي وكتب بينهم المعاهدة التالية:(1/74)
"هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أهل ايلياء، أمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم ولا يهدم ولا ينقض منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بايلياء معهم من اليهود أحد، وعلى أهل ايلياء مقابل ذلك أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن على نفسه وماله وعليه ما على أهل ايلياء من الجزية، ومن أحب من أهل ايلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم فإنهم آمنون على بيعهم وصلبانهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من سائر أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه ما على أهل ايلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى بلده".
وهكذا لأول مرة دخل قائد بجيشه القدس يرحب بهم أهلها، ولم يقتل إنسان واحد باتفاق المؤرخين وبشهادة أعداء الإسلام أنفسهم. وظل المسيحيون يتمتعون بالأمن والاستقرار أيام الحكم الإسلامي على القدس قرابة قرنين ونصف قرن.
13- حتى تحركت الضغائن الصليبية فهاجم القدس الجيوش الصليبية أكثر من مرة، وضعف المسلمون وعجزوا عن المقاومة فاحتلتها الجيوش الصليبية عام 1099ميلادية وقتل المسيحيون الذين يدعون أنهم رسل السلام والرحمة في يوم الاحتلال سبعين ألفا من المسلمين في القدس. ومكثوا فيها حاكمين ومستولين عليها مدة 90 عاما، حتى قيض الله للإسلام صلاح الدين الأيوبي فأعاد القدس إلى أهلها المسلمين وذلك في عام 1193 ميلادية واستعمل مع المسيحيين من النبل والرفق والسماحة ما جعل الأعداء يشهدون له بالأنصاف والعدل. وهدأت القدس بعد ذلك قرابة ثمانية قرون بفضل الحكام المسلمين.(1/75)
14- إلى قيام الحرب العالمية حيث احتلتها القوات البريطانية عام 1919 فوجد اليهود فرصة مناسبة وتستروا وراء بريطانيا وأخذت الأسراب اليهودية تهاجر إلى القدس من جميع أنحاء العالم حتى قامت عصابة منهم وشكلوا دولة احتضنتها الدول الصليبية الحاقدة على الإسلام، وأخذوا جزءا من القدس عام 1948ميلادية.
15- ثم استولت اليهود على مدينة القدس عام 1967 وهاهي الآن تداس مقدساتها تحت أقدام اليهود، تنتظر صلاح الدين آخر ينقذها من شذاذ الآفاق ويعيدها إلى المسلمين. والله المستعان.
الجمال أم القوة؟
إذا كان الفن يصقل المواهب وينمي الشعور بالجمال فإن الأمة المحاطة بالإعداء، في حاجة إلى ما يفتل السواعد، ويلهب الإيمان، ويقوي الأخلاق، ويفتح العقول، ويدفع عن الأمة خطر الإبادة أو الاحتلال
((هكذا علمتني الحياة))(1/76)
دروس من الوحي
للشيخ محمد شريف الزيبق
صدر أخيرا عن الدار السعودية للنشر هذا الكتاب الذي يعتبر حلقة من حلقات الأدب الإسلامي، الذي يمتاز بطريقة عرضه وأسلوبه، وهو عبارة عن محاورات إذاعية في ضوء الكتاب والسنة النبوية.
وللأستاذ المجذوب جولات موفقه في كتابة القصة، فقد صدرت له عدة قصص ناجحة مثل: بطل إلى النار، قصص من الصميم، صور من حياتنا، قصص من مجتمعنا، فارس غرناطة وقصص أخرى، ويأتي أخيرا هذا الكتاب (دروس من الوحي) ، صدى لتلك الجلوات الروحية حين كان يخلو بكتاب الله، أو الحديث النبوي بوعي وتفتح، فتنقدح في قلبه انطباعات تطل به على آفاق من السعادة والغبطة والجمال، لا سبيل إلى استيفاء وصفها، ولا سبيل إلى تناسيها..كما يقول في المقدمة.
والموضوعات التي عالجها في هذا الكتاب أو (الدروس) مختارة من القضايا الإسلامية الراهنة التي لها أثرها العميق في حياة المسلمين مثل: التوحيد الخالص - الإيمان باليوم الآخر - الرضا بالقضاء والقدر - أثر العبادات في تقويم السلوك ... وقد عمل على ربط هذه الموضوعات بواقع المسلمين في تحليل دقيق عميق.
كما ناقش كثيرا من المشكلات الخطيرة التي واجهت الأمة الإسلامية، ففند الدعوات القومية في فصلي (الشرف الباذخ) (وسوف تسألون) ، وتصدى لبحث الصراع بين الإيمان والكفر في (مكر الليل والنهار) و (حزب الله) ، ودحض الإسرائيليات المدسوسة في كتب التفسير في (قصة الغرانيق) و (لابد من الصراحة) . وفي هذا الفصل الأخير بحث قصة زينب رضي الله عنها وزواج النبي منها، إلى غير ذلك من الموضوعات الهامة.(1/77)
وقد أتخذ لهذا الكتاب أسلوب الحوار بين (الشيخ) و (التلميذ) فوفق إلى أبعد حدود التوفيق، وكتاب الله العظيم قد أشتمل في كثير من سوره على أنماط من الحوار الرائع. والطريقة الحوارية إلى ما فيها من تشويق، طريقة مفيدة في تبسيط المعاني وتقريبها إلى الأفهام، ولذلك اختارها الحكماء والمجيدون من الكتاب، ولا يحسنها إلا من أوتي طاقة فنية عظيمة كالأستاذ المجذوب، الذي له القدم الراسخة في مختلف ميادين الأدب من شعر ونثر وقصص.
وقد تناول المؤلف في فصل عنوانه: (حي على الصلاة) معارك المسلمين مع الشيوعية والصليبية، داعيا إلى استعادة روح الصلاة الخاشعة، فبها يعيدون شخصيتهم، ويحسنون التصرف بطاقاتهم.. وروح الصلاة تتمثل في المساواة والقضاء على التفاوت الذي تخلفه تعقيدات المدنية بين أصناف الناس وطبقاتهم، مما يسميه التقدميون (الصراع الطبقي) ..ويقول: "الصلاة هي الكفيلة بمحو ذلك القلق وإذا به ذلك التوتر بما تتيحة للمصلى بين ساعة وساعة من فرص التأمل الهادئ والمناجاة الخاشعة للخالق.. حيث يتلاقى المختلفون من البشر كل منهم بجانب الآخر، وقد تفتت من بينهم الحواجز، وتماست المناكب، وتلاقت الجباه على الأرض، تسبح مانح الحياة، وقد عاودها اليقين بوحدة المنبت والشعور بالحاجة إلى رحمة الله.."(1/78)
وفي الحديث عن أسرار الصلاة يعرب المؤلف عن تجربة من تجاربه الروحية، حيث يجد في الصلاة علاجا للشرايين المرهقة تحت أثقال التفكير، فبالوضوء تبرد حرارة الأعصاب، وبالصلاة تخفف من ضغط الإرهاق.. وكأنه بهذا يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال". وفي فصل آخر عنوانه: (جليس الله) يتناول بالبحث أثر البيئة في توجيه الأفراد حيث يقول: "فنحن نتأثر بالأستاذ والصديق والكتاب والجو والطعام والكساء ونوع الحياة، كل أولئك يترك في حياتنا انطباعاته العميقة، التي يتعذر علينا التحرر منها بغير الحصانة العقلية التي تحسن النقد.." وينتهي إلى المقارنة بين إنسان يألف جو المقاهي، وما فيها من لغو وعبث وفضول وثرثرة لا خير فيها سوى تبديد ساعات العمر.. وبين إنسان آخر أخذ نفسه بملازمة المساجد، فقلبه معلق بها، لا يطمئن إلا حين يعود إليها.. الأول يعيش حياته بروح (المقاهي) صلته بأهله وبالناس صورة مجسمة من صلته برفاق ذلك الجو العابث المحتال، والآخر إنسان يعامل أهله ومجتمعه بروح المسجد الذي عوده الهدوء والوقار وخفض الصوت واستحضار جلال الله من خلال كتابه أثناء مناجاته والرفق بإخوانه المصلي، واستشعار حقهم عليه وواجبة إزاءهم..ذلك أثر الاعتكاف الجزئي في حياة رواد المساجد لأداء الصلوات الخمس فكيف بآثار الاعتكاف الكلي الذي يستغرق الشهر كله أو ثلثه في مصاحبة الله: "إذا شئت أن أخاطب ربي صليت له، وإذا شئت أن يخاطبني قرأت كتابه".
وفي فصل (نماذج مشوهة) يبحث موضوع الصد عن سبيل الله من خلال آيات سورة هود تقارن بين فريقين: الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله، والمؤمنين الذين عملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم "مثل الفريقين كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، هل يستويان مثلا؟ . أفلا تذكرون؟ "وإليك بعض هذا الحوار البديع:
الشيخ: وقد رأيت ألوانا من هذا المنع في موقف قريش من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.(1/79)
التلميذ: أجل رأيت سياط التعذيب تنصب على ياسر وسمية وبلال وزنيرة وإخوتهم من المؤمنات والمؤمنين.
الشيخ: ولعلك لم تنس بعد تلك الألوان الأخرى من المنع تتجلى في دعاية أبي لهب وأبي جهل والنضر بن الحارث الذي حاول صرف الناس عن كتاب الله إلى أساطير الأمم!
التلميذ: ذلك الغوي الذي روى الله في القرآن قوله الوقح: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه}
الشيخ: هو نفسه. أتذكر موقف قريش من الأعشى الشاعر يوم قدم مكة راغبا في الإسلام أنزل الله؟
التلميذ: ذلك الذي يقول عن ناقته وهو يمدح رسول الله:
فآليت لا ارثي لها من كلالة
ولا من حفي حتى تزور محمدا
نبي يرى ما لاترون، وذكره
أغار لعمري في البلاد وانجدا..
الشيخ: ذاكرة مسعفة، فهل تذكر كيف صدته قريش عن الإسلام؟
التلميذ: لا أستطيع نسيان تلك الوسيلة الخسيسة، التي عمد إليها بعض المشركين يوم ذاك، إذ اعترضوا طريق الشاعر يحاولون تنفيره من الإسلام، بذكر ما يحرمه من الفجور والشرور.
الشيخ: ردوه عن بغيته أخيرا؟
التلميذ: قالوا له: "ولكن محمدا يحرم الخمر.."فأوجس المسكين خيفة.. وقال: "أما هذه فوالله إن في النفس منها لعلالات، وإني منصرف فأتروى عامي هذا، ثم آتيه فأسلم.."الخ
هذا الحوار الذي يعدد نماذج من الصد عن سبيل الله، كالحيل النفسية أو (الدعاية الفكرية السيكولوجية) التي تعتبر أشد الوسائل الإبليسية أثرا في القلوب الهشة والعقول الغضة، إذ سرعان ما تستهويها ببهرج القول.. إنها نماذج مشوهة، كثيرا ما نصطدم بها في حياتنا اليومية!..ومن الصد عن سبيل الله تحويل المجتمع إلى سجن كبير، يفرض على سجنائه ألا يقرأوا إلا ما يكتبه سجانهم، ولا يأكلوا إلا ما يقدمه لهم، ولا يتحركوا إلا في الاتجاه الذي يحدده لهم!..واستمع معي إلى هذا الحوار الرائع:(1/80)
التلميذ: والغريب في أمر هذا السجان وزمرته أنهم لا يكتمون ما يريدون!. فهم يعلنون في كل مناسبة أنهم يستهدفون تفكيك بنية المجتمع لإعادة بنائه على طريقتهم.
الشيخ: طريقتهم الإبليسية التي يسمونها (العلمية) مبالغة في التضليل!
التلميذ: يا للحصار الجهنمي!.
الشيخ: وهم لا يكتفون من سجنائهم بالسكوت حتى يكرهوهم على الهتاف بحياتهم، وتمجيد جهودهم في سلخهم عن مقوماتهم، والويل للذين يستنكفون عن الخضوع لهذا التخطيط الرهيب!!
التلميذ: مهما يكن هذا الويل فهو أهون من قبول الهوان والكفر.
الشيخ: يبدوا لي أنك لم تسمع حتى الآن بالمحاكمات المزيفة ولا بالتهم المزورة، والإقرارات المأخوذة تحت وقع السياط ونفخ الأحشاء ولذع الكهرباء!
التلميذ: سمعتها.. ولكني لم استطع تصديقها.
الشيخ: من حقك أن تكذبها يا بني.. لأنك لا تعرف حقيقة أصحابها.
التلميذ: وهل تبلغ القسوة بإنسان إلى هذا الحد؟
الشيخ: هؤلاء يا بني انسلخوا من إنسانيتهم، منذ كفروا بلقاء ربهم، وبذلك كانوا على أتم الاستعداد لكل كبيرة تحقق شهواتهم!
التلميذ: لا أكاد أفهم مرادك.
الشيخ: فتذكر أن إنكار البعث أهم الأسباب في فقدان الشعور بالمسؤولية، لأن الكافر بلقاء الله لا يستطيع أن يتصور أن وراء هذه الدنيا حسابا على أي تصرف!.
التلميذ: الآن فهمت معنى قوله تعالى في وصفة ذلك الفريق: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} !
الشيخ: فضم إلى فهمك الجديد أيضا ملاحظة تكرار الضمير في هذا التعبير، ثم سل نفسك عن مدلوله الخ..(1/81)
وفي قصة الغرانيق لا يتردد الكاتب في القطع بأنها أكذوبة دسها أعداء الإسلام للإساءة إلى مقام صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام. وكيف ينطق الوحي أو النبي صلى الله عليه وسلم بمدح الأصنام التي ما بعث إلا لهدمها، فيقول في اللات والعرى ومناة الثالثة الأخرى: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفا عتهن لترتجى"كما تزعم تلك الرواية المدسوسة أيضا أنه تكلم بذلك في نادي قومه، فرضوا بما تكلم به، فلما أمسى أتاه جبريل فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين قال جبريل عليه السلام: "ما جئتك بهاتين! ". فما زال مغموما حتى نزل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه..} الخ. وفي الحوار التالي يدلل المؤلف على بطلان هذه الرواية:
التلميذ: إني إنكرها كلها، إنني أجد فيها إساءة إلى مقام صاحب الرسالة.
الشيخ: وما حجتك في ذلك؟
التلميذ: معارضتها للآيات التي تؤكد عصمة الرسول من كيد الشيطان وحسبنا منها قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} .
الشيخ: بخ، بخ!. هذا يا بني إدراك الفطرة الصافية، فأضف إليه ما قرره جهابذة الحديث من قدماء العلماء ومحدثيهم أن القصة باطلة موضوعة..
التلميذ: باطلة موضوعة؟!
الشيخ: بل إن ابن خزيمة صاحب الحديث الصحيح المعروف يقول: "إنها من وضع الزنادقة!. (وبعد أن يشير المؤلف إلى أن بعض متأخري المفسرين ينقلون الروايات عن المتقدمين دون مناقشة أو تحقيق يعود فيقول) :
التلميذ: ثق يا بني أن مثل هذا السؤال قد تردد في أفواه الجميع سواء من صدق القصة ومن كذبها..ولكن الوهم إنما جاء المصدقين من براعة الحبكة في تأليف القصة وطرق روايتها!
التلميذ: زدني إيضاحا من فضلك.(1/82)
الشيخ: لقد رأى هؤلاء الفضلاء ضعف القصة من حيث المضمون ولمسوا ضعفها من حيث الرواية، ولكنهم وجدوا طرقها متعددة فلم يجرؤوا على ردها!
التلميذ: حقا إنه لموقف حرج!
الشيخ: غير أنه حرج موهم..فهي من حيث المضمون متعددة الصور إلى حد التعارض الصريح، كما رأيت ومن حيث السند ليس في طرقها ما يسمو على مستوى الإرسال والضعف أو الجهالة كما يؤكد المحققون.
ويختتم المؤلف بحثه ببيان معنى الآيات موضحا أن الأمنية كالاملية وزنا ومعنى، وهي ما يمليه القارئ أو المتكلم على سواه. فالله سبحانه يخبرنا أن الشيطان لا يكف عن محاولاته لإفساد رسالات الأنبياء فإذا ما بلغوا وحي ربهم على أتم وجه, جاء الشيطان يزين للناس تحريف المعاني الإلهية بزيادة أونقصان ولكن الله برحمته يهيئ للحق رجالا يجلونه أبدا. . ثم يبين الله سبحانه لنا الحكمة من إتاحة الفرصة لمحاولات الشيطان، إذ يجعل ذلك بمثابة امتحان يقيم به الحجة على دعاة الفساد، ويشد عزائم المؤمنين في الاعتصام بالحق.."
وكذلك يفعل في رد قصة زينب في فصل (لابد من الصراحة) مقررا أن مدخل القصة في تفسير الخازن يحمل بنفسه طابع الافتعال.. فهو يعرض المواجهة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وزينب على الطريقة المعروفة في قصص الحب!.. إنسان عادي يرى إنسانة في مظهر مغر، وفي غيبة زوجها، فيقع في هواها!.. ثم يتعرض الرسول.. صلوات الله وسلامه عليه – في زعم الرواية – إلى صراع نفسي، إذ يحاول كتمان هواه خشية كلام الناس!.. فلا يستطيع إلى ذلك سبيلا.. لأن الله قد قضى بإظهاره!(1/83)
وبعد أن يشير المؤلف إلى نقد المحققين للخبر، وحكم ابن كثير بعدم صحته، يوضح الحقيقة الناصعة وهي أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه النبي بالحرية، لما تزوج زينب كرهته، فلما استيأس منها ومن إمكان استمرار الحياة الزوجية معها أراد أن يطلقها رغم الحاح النبي عليه "أمسك عليك زوجك.." فلما طلقها فرض لله على رسوله الزواج منها ليهدم بذلك عرفا جاهليا كان يقضي باعتبار المتبني ابنا شرعيا تحرم مطلقته على متبنيه لأنها في نظرهم زوجة ابنه: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} .. والذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو علمه بما قدر الله له من زواجها، إذ كان ربه قد أوحى إليه بذلك، وهذا ما تؤكده أوثق مصادر السنة..الخ
ويصور المؤلف حكم الطواغيت، الذين يفسدون ضمائر العامة بعد إفساد معاني الكلمات، فيسمون الظلم عدلا، والباطل حقا, والكفر تقدميه، والدعوة إلى الإسلام خيانة ورجعية (راجع: مكر الليل والنهار) ويعرض الإخوة الإسلامية في المجتمع الذي أقامه الإسلام، بعد تقويض الروابط الجاهلية، التي تعتبر القرابة الدموية هي ركيزة المجتمع، منددا بالمنحرفين عن أخوة الإسلام إلى الدعوات العصبية والمذاهب المستوردة التي تفتت القوى وتمزق الأرحام.. جاهلية جديدة يدفعون إليها شعوبهم في الطريق المعاكس تماما لأخوة الإسلام..
(راجع حزب الله)(1/84)
وللتنديد بالدعوات القومية فصول عدة في الكتاب وعلى الخصوص (وسوف تسألون) و (الشرف الباذخ) ، تناول بالبحث قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ..} وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} فبين أن الله سبحانه أنزل كتابه رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، ولكنه خص العرب هنا بالخطاب تشريفا لهم باصطفائهم لتبليغه إلى العالم.. وهي الوظيفة التي حولتهم من قبائل مفككه متطاحنة مغمورة إلى أمة رائدة معلمة تحتل أبرز صفحة في تاريخ الدنيا.. وفي الآية الثانية بشرى وإنذارا.. أما البشرى ففي كون هذه الرسالة شرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم ولقومه، وأما الإنذار ففي تذكيرهم بمسؤلية الدعوة والحفاظ عليها والتزام سبيلها، وتهديدهم بالحساب على كل تقصير في شأنها..
وينتهي إلى القول: "لقد سقطت فلسطين في أيدي الصليبية من قبل فلم ينقذها سوى الإسلام، ووحد الإسلام العرب، فلم تمزق وحدتهم إلا الدعوات الدخلية التي وفدت من وراء جزيرتهم، وهذا يعني ألا مجد ولا حرية ولا وحدة للعرب إلا بالاستمساك بالإسلام.."ولولا خشية التطويل لنقلت لك الحوار الجميل بتمامه.
وإليك قطعة من (الشرف الباذخ) :
الشيخ: وقد وصفهم الله بالأميين ليذكرنا بقدرته التي كونت من خامات الجاهلية الجهلاء خير أمة أخرجت للناس!..
التلميذ: يا لها من معجزة كبيرة!
الشيخ: بل قل يا له من شرف باذخ، أن يعهد الله بأمانته العظمى إلى هذه القبائل الضالة المتناحرة فيخرجها من الظلمات إلى النور ويبوأها عرش القيادة العالمية!
التلميذ: يا له.. من شرف ياذخ! ..
الشيخ: يا بني.. إنه الشرف الذي تقرأه في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟} .
التلميذ: وأي ذكر للعرب أفخر من أن يقترن اسمهم برسالة الإسلام!(1/85)
الشيخ والآن نتذكر أن هذا الإسلام دعوة الله، لا يملكها أحد ولا تحتكرها أمة.. أخرج الله بها العرب من قوقعة العصبية إلى رحاب الإنسانية.. فهم أحق بشرفها ماداموا في خدمتها، فإذا تخلوا عنها كان كل آخذ بها أحق بذلك الشرف منهم.
التلميذ: كأني بالشيخ الفاضل يردد قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما نبتغ العزة بغيره أذلنا الله.."
الشيخ: رضي الله عن الفاروق.. إنه حين أرسل كلمته كان ينظر إلى هذه الحقيقة الضخمة بنور الله.. فاسأل ربك من هذا النور يا بني..
التلميذ: اللهم إني أسألك لي ولشيخي من هذا النور ما يعيننا على فهم وحيك..
الشيخ: اللهم آمين.. وفي ظل هذا النور ستدرك يا بني معنى {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
التلميذ: كنت على وشك أن أسألك عن هؤلاء الآخرين..
الشيخ: إنهم يا بني جميع الأفراد والأقوام الذين كتب الله لهم الهداية إلى هذا النور.. منذ الصدر الأول حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
التلميذ: وهكذا يجمع الله العرب والعجم على أخوة الإسلام، فلا يبقى لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى.. الموضوعات التي عالجها المؤلف ببراعته وفنه، فأنا أكتفي بما اقتبسته تاركا للقارئ الكريم أن يظفر بمتعته الكاملة حين يخلو إلى (دروس من الوحي) وسيشاركني الرأي بأن المؤلف كثيرا ما يخدع القارئ عن نفسه، ببراعته وحواره البديع، الذي يمسك بأنفاسه، ويغريه بمتابعة القراءة، ظنا منه أنه يقرأ قصة تمثيلية مسلية.. ولكنه لا يلبث أن يدرك أنه وقع في شبكة عالم متبحر، ومفكر عميق التفكير، وداعية إلى الله على بصيرة، وإذا هو يفيد علما، وترشف روحه من منابع الوحي في الكتاب والسنة، وما أكثر ما يجد القارئ نفسه مع المؤلف أمام بحوث علمية عميقة، ولكنها مبسطة، فينال من المتعة الفكرية والروحية أو فى نصيب.(1/86)
ولغة الكتاب من السهل الممتنع تمتاز ببلاغتها وإشراق عبارتها ووضوح فكرتها، ومن هنا كان لنا أن نقول من غير تردد: أن الكتاب يرتفع بالشادين ويلبي رغبة الخاصة من طلاب العلم المتطلعين إلى الثقافة الإسلامية الأصيلة، وهو مرجع هام ونمط رفيع من الأدب الإسلامي الحديث..(1/87)
ذكرياتي في أفريقيا
للشيخ محمد العبودي الأمين العام للجامعة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على أشرف خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، وعلى آله وصحبه ومن أتبع هداه إلى يوم الدين. وبعد:
لقد طلب مني أن يكون عنوان حديثي إليكم عن مشاهداتي في أفريقيا. إنني أقول حديثي ولا أقول محاضرتي، لأنني سوف أتحدث هنا عن مشاهداتي حديثا مرسلا، لا يصل إلى درجة المحاضرة التي تتطلب البحث العميق والتفصيل الكامل في موضوع من المواضيع.
ومع ذلك أيها الإخوان، فإن الحديث عن أفريقيا مجاله رحب، وفي الحديث عن الإسلام في أفريقيا وأحوال المسلمين هناك ما يحرك العواطف، ويثير الشجون، وإن أحوال المسلمين في أفريقيا لتتطلب لا الأحاديث الكثيرة فقط، وإنما تستدعي من كل مسلم التفكير في خطط العمل الجاد، والمساهمة بقدر ما يستطيع.
أيها الإخوة في الإسلام، إن أفريقيا قارة واسعة شاسعة، ولا يمكن إصدار حكم واحد على مجموعها أو وصفها بصفة تنطبق على كافة أجزائها. فالأحوال في أقطارها متباينة والظروف التي تحيط بأجزائها مختلفة، والمتحدث إليكم لم يشاهد أقطار أفريقيا كلها، ومن الطبيعي أنه لن يتحدث إلا عما شاهدها منها.
ولذلك لا بد من أن نحدد المقصود من أفريقيا حين ترد في حديثنا. فنقول: إننا نريد بها ما وراء الصحراء الكبرى جنوبا. إننا نقصد بإفريقيا إفريقيا الفتية التي تحررت أو تحرر أكثرها من الاستعمار، وأخذت تتطلع إلى المستقبل بعين الأمل والرجاء وهي تريد أن تعوض ما فاتها خلال نومها الطويل تحت ليل الاستعمار، ثم تريد أن تساهم بعد ذلك في البناء الحضاري الإنساني. وهي الآن وقد أخذ يتضح لها زيف المبادئ التي كان قد لقنها المستعمرون لأبنائها تبحث عن مبادئ وقيم جديدة, ولن تجد تلك المبادئ الإنسانية النبيلة التي تتفق مع الفطرة وتصلح لكل زمان ومكان إلا في الإسلام.(1/88)
لقد أتيح لي – أيها الأحبة في الله – أن ازور أفريقيا مرتين، إحداهما في عام 1384هـ والثانية في عام 1386هـ الموافق للعام الميلادي 1967 م. وقد زرت خلال الرحلتين المذكورتين الأقطار التالية: ارتيريا، الحبشة، الصومال، كينيا، يوغندا، تنجانيقا، بورندي، الكنغو، زامبيا، روديسيا، ملاوي. ولن يتسع الوقت بطبيعة الحال للحديث عن كل تلك الأقطار، فالحديث عنها وخاصة عن الإسلام والمسلمين فيها، حديث ذو شجون – كما قدمت – ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، وفي نطاق الوقت المحدد لهذا الحديث لابد من الإيجاز والاختصار، وإيراد الألفاظ العامة، والأحكام غير المفصلة إلا بالقدر اللازم لفهم الموضوع وفيما لا يتعدى الحقيقة.
أيها الإخوان في الله:
في مطلع هذا الحديث أحب أن أزف إليكم بشارة تحققت منها عن يقين وبعد تدقيق وإمعان وهي: أن الإسلام في أفريقيا بخير، وأن الإسلام في أفريقيا الآن ليس في مكان الدفاع كما يدعى أعداؤه والمتخاذلون من أبنائه، ولكنه الآن في معظم أقطار أفريقيا كنور الشمس الساطع الذي لا يقف أمامه ظلام.
إن الإسلام الآن في أفريقيا ينتشر انتشار النور الساطع الذي يلج – مع كل دقيقة من ارتفاع الشمس – زاوية جديدة، ولكن لا بد أنكم تتساءلون كيف وأين؟ وبأية وسلية كان ويكون انتشاره؟ وأجيبكم بإيجاز فأقول:
لقد وفق الله سبحانه وتعالى لنشر دينه، أبطالا مجهولين للناس، وأنصارا لا يعرف بعضهم بعضا في البلاد الأفريقية المختلفة.(1/89)
إنهم جماعة بل جماعات من إخواننا الأفريقيين نذروا أنفسهم لله ووقفوا جهودهم وجهادهم بالنفس والمال في سبيل الله، لم يجدوا العون إلا من الله وكفى به وكيلا، وقد التمسوا العون من بعض إخوانهم المسلمين في خارج أفريقيا فما وجدوا لالتماسهم صدى وذهبت أصواتهم صيحة في واد، ونفخه في رماد، وذلك في الوقت الذي تتدفق فيه المساعدات المادية والمعنوية والمعونات المتعددة على المسيحيين وأعداء الإسلام من شيوعيين وملحدين من خارج القارة تدفقا، مما يثبط عزائم أولي العزم من الرجال، ولكن: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
أيها الإخوان الأعزاء:
سوف أعرض على مسامعكم بعض النماذج، وأضرب لكم بعض الأمثلة، وبإمكانكم أن تقيسوا عليها غيرها.
أولها: شخص حي يرزق اسمه الحاج موسى كسولى. من يوغندا. هذا الرجل ولد مسيحيا ولبث كذلك حتى بلغ الثلاثين من عمره، وقد حدثنا عن نفسه فقال:
"أول ما فتح الله بصيرتي للإسلام أنني لا حظت أن المسلمين عندما يريدون تأدية الصلاة والعبادة، يقومون بتنظيف أعضائهم، وغسلها من الأدران، ثم يذهبون فيضع كل منهم أشرف عضو في جسده وهو جهة على الأرض، خضوعا وخشوعا لله؛ وقارنت بين ما يفعلونه وبين عبادة النصارى التي لا تشترط الطهارة، والتي ليس فيها سجود، فكان ذلك أول ما استرعى انتباهي، وكان أول ما فتح الله به علي وهداني بسببه إلى الإسلام".(1/90)
لقد اسلم ذلك الرجل الحاج موسى كسولى وحسن إسلامه، وكان ثريا فأنفق جزءا كبيرا من ثروته على الشؤون الإسلامية، ويكفي أن تعلموا أنه بنى وحده عدة مساجد كبيرة بالأسمنت المسلح، وليس ذلك فحسب بل أن كل مسجد يبنيه له عمارة مكونة من دكاكين وشقق للإيجار، ويوقفها عليه لكي يكون للمسجد موارد ثابتة. وكان من آخر ما فعله في هذا الصدد أن اشترى قطعة أرض في مكان يبعد (5) أميال من العاصمة (كمبالا) ، وتبلغ مساحة الأرض المذكورة خمسة افدنة فبنى مسجدا جامعا هناك، ومدرسة إعدادية لتعليم العلوم الإسلامية، وجعل فيها قسما داخليا بحيث يقيم الطلبة فيها وينامون ويأكلون ويشربون، وقد أوقف جميع الأرض على المدرسة والمسجد، ويسعى الآن مع جماعة من إخوانه المسلمين لإعادة بناء المدرسة وتوسعتها.
ومن أواخر المبرات التي قام بها الحاج موسى كسولى أنه فكر في أمر نساء المسلمين في يوغندا، والجهل المطبق بشؤون الدين الذي يرين على عقولهن، فقام على مشروع يرمي إلى تعميم التعليم الإسلامي للنساء وفتح عدة مدارس وكتاتيب بلغ عددها حتى الآن أكثر من مائتي مدرسة، وبلغت ميزانيتها السنوية مائة وعشرين ألف شلن.
ذلك بعض ما قام به هذا الرجل لله وفي الله، نسأل الله سبحانه أن يثيبه على عمله الصالح ويكثر في المسلمين أمثاله إنه سميع قريب. ويقول الحاج موسى كسولى: "إن أمنيته التي يرجو أن تتحقق هي أن يدفن في المدينة المنورة، وقال إنه رصد في البنك مبلغا من المال يكفي لنقله مع مرافقي جنازته إلى المدينة". وهذا أيها الإخوان كان رجلا مسيحيا، ولكنه الإيمان الذي إذا خالطت بشاشته القلوب فعل العجائب، إنه فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أما المثل الثاني فهو شخص آخر من يوغندا أيضا ولكن من مكان آخر فيها.(1/91)
إنه الشيخ شعيب اسحق. كان الشيخ شعيب اسحق يملك قطعة من الأرض مقدارها ثمانية وعشرون فدانا، وهي كل ما يملكه وتعتبر من أجود الأراضي في يوغندا، وتقع في كوتومو على بعد (47) ميلا من العاصمة كمبالا، وتنتج الموز الذي منه يأكلون، أو ما يسمونه الماتوكو، والماتوكو نوع من الموز يقطف أخضر ثم يطبخ ويؤكل بالمرق، وهذا الغذاء الرئيسي لسكان مناطق وسط أفريقيا، وهو لهم بمثابة الخبز لسكان الشرق الأوسط، وبمثابة الأرز لسكان الشرق الأقصى، وإلى جانب الموز تنتج الأرض المذكورة محصولا وفيرا من البن.
لقد قام الشيخ شعيب وهو حي يرزق الآن وعمره يقارب التسعين عاما أمد الله في عمره في العمل الصالح فأوقف أرضه تلك لله وبنى فيها ثلاث بنايات إحداها مسجدا جامع، والثانية مدرسة إسلامية، والثالثة أماكن للنوم؛ وقد سمى المدرسة المذكورة مدرسة الدين والتهذيب الإسلامي. ووفر لكل طالب يتعلم فيها أن يعيش في تلك المساكن ثم اشترط عليه بعد تخرجه أن يؤسس مع إخوانه في مناطق مختلفة من البلاد، وخاصة في المناطق التي يكثر فيها المسيحيون والوثنيون، مدارس إسلامية، أو بتعبير أدق فروعا لمدرسته تحمل كل منها اسم (مدرسة الدين والتهذيب الإسلامية) وقد بلغ عددها حتى الآن سبع عشرة مدرسة، وأذكر أننا عند زيارتنا للمدرسة الأم في كوتومو حضرت صلاة الظهر فصلينا معا في المسجد، وكان المطر يهطل مدرارا، فتريثنا في المسجد حتى يخف نزول المطر وقد قدم الشيخ شعيب في المسجد شرابا من عصير الفاكهة للحاضرين، فكان أن بدأ بأحد التلاميذ وكان يجلس في وسط الصف وليس بأول الصف، ولما سألتهم عن السبب أجابوا بقولهم: "أن هذا الأخ دخل في الإسلام حديثا وجاء ليتعلم في المدرسة وقد ترك أهله وذويه، فله علينا حق التقديم والتكريم". وحدثنا بعض الشخصيات أن الذين دخلوا في الإسلام على يد الشيخ شعيب المذكور وتلامذته أكثر من مائتي ألف شخص.(1/92)
المثال الثالث، من كينيا: وهو في شخص الأخ (محمد داود) ومحمد داود قد نشأ وترقى في الوظائف الدينية حتى بلغ رتبة (قسيس) فيما قيل لنا، وكان يتمتع بامتيازات مالية ومعنوية، وله سلطة على عدد من الناس، فأنار الله بصيرته للإسلام فترك جميع ما كان عليه، وهجر مسقط رأسه ومركز عمله، في المدينة كيسو على ضفة بحيرة (فكتوريا ينانزا) وأخذ يتجول في البلاد يدعو إخوانه ومواطنيه من الأفريقيين إلى الإسلام، وقد عرفنا من فضيلة الشيخ محمد قاسم المزروعي رئيس القضاة في كينيا أنه قد دخل عدد من الأفريقيين إلى الإسلام بواسطته، وقد قابلناه في إحدى جولاته في ناحية بعيدة من كينيا، فرأينا فيه رجلا أشرب قلبه حب الإسلام حتى ظهر ذلك على وجهه بشرا وإشراقا وطمأنينة.
إخواني:(1/93)
تلكم نماذج فقط، وهي جوانب مشرقة من الصورة، إلا أن هناك في الواقع الإسلامي في أفريقيا جوانب تدعو للأسف إنها نماذج وصور تمثل الوجه الثاني للصورة، تمثل تعطش المسلمين إلى من يرشدونهم ويعلمونهم، وتمثل جهل المسلمين خارج القارة بإخوانهم، إنها نماذج محزنة أذكر لكم بعضها ولا أطيل لأنني لا أريد أن أبعث الألم في نفوسكم، والحسرة في قلوبكم، إليكم مثالا شاهدته في زامبيا أنقل لكم حرفيا من مذكراتي اليومية ما يتعلق به، وهذا نصها: يوم الأحد 19- 6-84 هـ الموافق 25-10-1964م ذهبنا بالسيارة من مدينة اندولا في روديسيا الشمالية (زامبيا الآن) إلى حي أفريقي يبعد ثلاثة أميال عن المدينة المذكورة إلى الشرق منها، وذلك لزيارة الجمعية السلامية الأفريقية في اندولا، وللصلاة في المسجد الجامع الوحيد في تلك المنطقة، وقد قابلنا رئيس الجمعية وأمين سرها كما شاهدنا المسجد فوجدناه نظيفا واسعا يتسع لحوالي (ثلاثمائة مصلي) ، كما أن فيه ركنا مخصصا للنساء، ولكن المسجد بحاجة إلى فرش إذ لم يفرش منه إلا قسم قليل جدا، فرش ببطانيات من الصوف صنعتها النساء المسلمات بأيديهن، أما باقي أرضية المسجد فهي بلاط أقرع، كما أنه لا توجد للمسجد منارة ولا دورة مياه للوضوء، ومن المشاريع التي تدور في أذهان أعضاء الجمعية المذكورة ويعتبرونها حلما يسألون الله تعالى تحقيقه أن يتمكنوا من بناء غرفة للإمام وغرفة للمؤذن بجانب المسجد، أما بناء المسجد نفسه فقد تم بطريقة مؤثرة لقد تقدم نفر من المسلمين الأفريقيين، وهم فقراء كلهم من العمال، تقدموا إلى السلطات الإنجليزية بطلب الترخيص بتكوين جمعية تقوم بجمع مبالغ من المال لبناء المسجد، ثم أخذوا طيلة سبع سنوات يجمعون ما تيسر لهم بالشلن الواحد ونصف الشلن وربعه، يطوفون البلاد من أولئك العمال الفقراء على فقرهم حتى جمعوا مبلغ ستة آلاف جنيه أستراليني، وقد اشتروا بها المواد اللازمة من الحديد والأسمنت والآجر(1/94)
والحديد اللازم للسقف، أي اشتروا ما يحتاجونه إليه من مواد البناء ولكن لم يبق معهم شيء لأجور العمال.
ومع ذلك لم ييأسوا، فذهبوا إلى مهندس إنجليزي وطلبوا منه الأشراف على العمل، وعندما بدأ التنفيذ شاهد ذلك المهندس الإنجليزي منظرا مؤثرا، لقد شاهد كل من وجد فسحة من وقته منهم، يحضر من كافة الأعمار من الرجال والنساء وحتى الأطفال عندما يفرغون من المدارس والشيوخ والعجائز كل منهم يأتي للمسجد ويساهم في بنائه، ذلك يحمل لبنة وآخر ينقل التراب، وآخرون يساعدون على خلط الأسمنت حتى بعض العمال الذين يعملون الذين كانوا يخرجون محطمين من مناجم النحاس تحت الأرض التي يعملون فيها، والذين يشاهدون عند خروجهم من جوف الأرض كأنما خرجوا من القبور، كل من يستطيع العمل منهم يساهم بقدر ما أبقى جوف الأرض في جسمه من قوة في المسجد.
قالوا لقد غلب التأثر ذلك المهندس الإنجليزي عندما رأي إخلاصهم وصدقهم في بناء المسجد وتنازل لهم عن أجرته في الإشراف على البناء.
وهذا مثل آخر وسوف أنقل لكم هنا فقرة من مذكراتي اليومية أيضا في روديسية:(1/95)
يوم الثلاثاء الموافق 30 شعبان عام 1386 هـ هنالك في روديسيا يسكن الأفريقيون في أماكن منفصلة ضمن مساحات معينة، تلكم كانت الساسية المتبعة للحكومة الروديسية وقد بنت الحكومة مدينة صغيرة في ضاحية من ضواحي سالسبوري العاصمة وخصصتها للأفريقيين من عمال الشركات والموظفين من القادرين على دفع الأقساط الشهرية المستحقة، وتسمى: هراري. وهي تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة سالسبوري، وتتكون من بيوت جميلة بعضها على شكل دارات (أي فيلات) ، وبعضها على شكل بيوت صغيرة، يتكون كل منها مما يبدوا غرفة كبيرة من الخارج يقسم إلى عدة غرف من الداخل، ويحيط بكل بيت مساحة من الأرض المزروعة، ولولا أن الأرض هناك كلها خضراء لا سميتها حديقة، ويخترق المدينة أو الضاحية المذكورة شوارع واسعة مبلطة وقد عمها النور الكهربائي وأكملت لها المرافق العامة، حتى الملاعب الرياضية منتشرة فيها مما يجعلها تضاهي في المظهر الضواحي الجميلة في مدن الشرق الأوسط إن لم تفقها.
إلا أن ما يضايق الأفريقيين وهو ما يضايق حقا أنهم مجبرون على السكنى منعزلين عن غيرهم من الأوربيين والآسيويين، وحتى الأوربيين والآسيويون، كانوا في السابق ممنوعين حسب أوامر الشرطة من الذهاب إلى مناطق سكن الأفريقيين والاختلاط بهم، ولكن ذلك قد خفت وطأته الآن بسبب المشكلة السياسية التي تتخبط فيها الحكومة الروديسية الحاضرة نتيجة لإعلانها الاستقلال من جانب واحد.
فالإفريقيون في مساكنهم الجميلة تلك كأنما يعيشون في سجن كبي، ًإن ما يهمنا في هذا الموضوع ما يأتي:(1/96)
يوجد مسجد في تلك الضاحية التي يسكنها الإفريقيون دخلناه فإذا به نظيف جميل البناء، متوسط السعة، يحيط به فناء صغير ألحقت به مدرسة من غرفة واحدة كبيرة، وقد زودت بالمقاعد الدراسية وبالسبورات، وبجانبها غرفتان لسكنى المدرس، والمسجد مع ملحقاته مبني بالآجر، ومفروش بفرش بسطية، ويتسع لحوالي (250) مصليا. والواقع أن بناءه في ذلك المكان وسط حي أغلبية سكانه من الأفريقيين غير المسلمين، مناسب كل المناسبة، وربما يمكن تحويله في المستقبل إلى مركز من مراكز الدعوة الإسلامية في ذلك الحي. وقد تم بناؤه بطريقة جمع التبرعات حيث قام بعض المسلمين الغيورين بجمع المبالغ اللازمة له شيئا فشيئا، وساهمت الجمعية الإسلامية الآسيوية بنصيب كبير من نفقاته.
إلى هنا وكل شيء جميل وسار، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ لقد عرفنا أن المدرسة الملحقة به ظلت معطلة بسبب عدم وجود مدرس يحسن العربية أو يحسن حتى تدريس المبادئ الإسلامية، والأدهى من ذلك أن الصلاة في ذلك المسجد في كثير من الأوقات كانت تعطل لأنه لا يوجد في ذلك الحي كله إمام يحسن أن يؤم الناس أو يقرأ بعض السور القصار ولو كان لا يفهم معناها، إنه لشيء محزن ولكنه الواقع، وهذا المسجد مثال من أمثلة كثيرة على انعدام الذين يحسنون حتى مبادئ التعليم الإسلامي هناك.
أيها الإخوان إن الأمثلة كثيرة والوقت محدود، ولذلك سوف أعرض على أسماعكم جملا موجزة لإخواننا المسلمين في البلاد التي زرناها.
أولا: ارتيريا والحبشة
يكون المسلمين الأغلبية في تلك البلاد، ولكن ليس في أيديهم من الأمر شيء، ويواجهون ضغطا متزايدا من المبشرين المسيحين، ويشجعهم على ذلك المستشارون الاسرائليون في الحكومة الحبشية، بغية زعرعة الثقة في نفوسهم، وإضعاف روح الإسلام لدى ناشئتهم، وأعظم ميدان نجح فيه أعداء الإسلام ميدان الملاجئ والدور التي تتولى تنشئة أطفال المسلمين من الأيتام ومن لا عائل لهم حتى يشبوا على غير دين الإسلام.(1/97)
ثانيا: كينيا
يقطن الساحل الكيني أغلبية إسلامية من العرب والسواحليين والصوماليين, ويسود الحركة الإسلامية هناك بعض الركود إلا في المظاهر، حيث يوجد في ذلك الشريط الضيق من الأراضي عدد من الجمعيات الإسلامية التي هي أسماء بلا مسميات، ويدور بين البعض ما تكون منها جدال وخصومات، هي ابعد ما تكون عما ينبغي أن تكون عليه علاقات المسلمين بعضهم ببعض. أما في باقي أنحاء كينيا فإن الإسلام يتقدم وينتشر، وفي كل يوم يزيد عدد الداخلين في الإسلام ويزيد عدد المساجد والكتاتيب الإسلامية، ويذكر هنا أن حكومة الرئيس كينياتا قد أعطت المسلمين الحرية كل الحرية في الدعوة إلى دينهم وسهلت الطرق لإشادة المؤسسات الإسلامية.
ثالثا: أوغندا
في أوغندا يدخل يوميا إلى حظيرة الدين الإسلامي أكبر عدد من الناس، وبالنسبة إلى الأقطار الأفريقية الأخرى، حتى إننا نرى قرية تسمى كاباساندا عرفنا أنها منذ حوالي عشر سنوات لا يوجد فيها مسلمون، والآن دخلت الأغلبية من سكانها إلى الإسلام، وشيدت فيها مدرسة إسلامية وقام أهلها على بناء مسجد جامع كان لي شرف المساهمة بافتتاحه هناك.
ولولا الخلافات التي تمزق صفوف المسلمين هناك، وهي في الأصل خلافات سياسية، ولا يتسع المجال لذكرها، لولا ذلك لقلنا إن وضع المسلمين في أوغندا هو أفضل وضع للمسلمين في البلاد التي يكونون فيها أقلية سكانية.
رابعا: تنزانيا
توجد في بعض البلاد الإسلامية مثل زنجبار ومنطقة دار السلام، ومنطقة تانجا أغلبيات إسلامية، ولكن يسيطر الآن على الوضع في زنجبار حركات ساسية يسارية هي في طبيعتها ضد الإسلام، كما تسود في تنجانيقا فورة من القومية الضيقة إضافة على الاتجاه اليساري هناك، كل ذلك من العوامل غير المشجعة للجهود الجماعية الإسلامية، ومع ذلك فإن هناك في تنجانيقا خاصة جهودا فردية طيبة في نشر الإسلام.
خامسا: بروندي(1/98)
تقف حكومة بورندي من الأقلية الإسلامية في بلادها موقفا وديا، وحالة المسلمين المادية بالنسبة لغيرهم طيبة، ويعيش المسلمين في العاصمة بزومبورا في حي خاص بهم هو حي: (مويانزى) ، ويتكلمون اللغة السواحلية خلاف بقية السكان من غير المسلمين الذين يتكلمون البورندية، ويتقدم الإسلام من حيث الكمية هناك، وقد تحققنا أنه خلال عيد الفطر المبارك الماضي أسلم من المسيحيين من أهل البلاد أكثر من مائة وعشرة من الناس.
سادسا: الكونغو
يعتبر الكنغوا في الوقت الحاضر من أحسن الميادين لنشر الدعوة الإسلامية، وهناك مناطق من البلاد دخلها الإسلام قديما على أيدي الإفريقيين السواحليين الذين قدموا إليها من ساحل تنجانيقا منذ أكثر من مائة سنة، وذلك في إقليمي (كيفو) والإقليم الشرقي (اوريينتال) كما أن هناك إقليما نائيا بالنسبة للمسلمين هو أقليم (كاساى) دخله الإسلام لأول مرة منذ ست سنوات، وقد علمنا أن الحركة الإسلامية هناك في تقديم ظاهر ولله الحمد، إلا أن العائق عن تقدم الإسلام في الكنغو بصورة أعظم هو ضعف مستوى المسلمين فيه، وقلة المبشرين، وصعوبة الانتقال بين أجزاء البلاد لتساعها وعدم استقرار الأمن الكامل فيها.
سابعا: زامبيا ((روديسيا الشمالية سابقا))
توجد أقلية إسلامية من الإفريقين يعيشون حول (اندولا) وفي أماكن أخرى متفرقة من البلاد ولكن حالتهم المادية ومستوى معيشتهم ضعيف، والحركة الإسلامية هناك غير نشطة مع الأسف.
ثامنا: رديسيا
توجد أقلية إسلامية ولكن الجهل المطبق بأمور الإسلام يشمل جميع المسلمين الإفريقيين هناك، والحركة الإسلامية ضعيفة مع الأسف، مع أن الحكومة لاتتدخل في شؤون الدين ولا تعارض الداعين إليه.
ومعظم المسلمين هناك قد قدموا في الاصل من اقطار مجاورة مثل نياسالاند.
تاسعا: ملاوي(1/99)
يوجد في ملاوي أكبر عدد من المسلمين في اقطار شرق إفريقيا ووسطها فيما وراء الصحراء إذ تبلغ نسبة المسلمين 42% ولا يرجع دخول كل هذا العدد من السكان في الإسلام إلى الأزمنة الحديثة، بل يعود ذلك إلى زمن قديم حيث دخل الإسلام إلى إقليم سفالة، (أي شمالي موزامبيق) قبل ألف سنة ولكن حالة المسلمين في تلك البلاد من الضعف والانحطاط بحيث يحتاج علاجها إلى جهود كثيرة وإلى وقت طويل. أيها الإخوان الكرام، لقد تفضلتم فاستمعتم إلى شيء من واقع الإسلام والمسلمين في أفريقيا، وإنني أرجو أن تتفضلوا بسماع بعض المقترحات التي أراها لعلاج الحالة المذكورة.
أولا – إنشاء صندوق إسلامي عالمي لتمويل الدعوة الإسلامية في أفريقيا يساهم فيه المسلمون على مستوى الحكومات والجمعيات والأفراد، خاصة وأن هناك من علماء المسلمين من يرون أن الإنفاق على الدعوة الإسلامية من الإنفاق في سبيل الله الذي هو وجه من أوجه مصارف الزكاة.
ونحن لا نشك مطلقا في أن الوقت الحاضر هو أنسب الأوقات للقيام بحملة إسلامية واسعة للدعوة والإرشاد، ونشر محاسن الإسلام أمام الإفريقيين من غير المسلمين، ذلك لأن الدين المسيحي الذي هو المنافس الرئيسي، قد ارتبط في أذهان كثير من أبناء أفريقيا بالاستعمار الأوربي، لأنه جاء إلى أفريقيا مع الرجل الأوربي، ونظرا إلى ضعف سلطان الاستعمار الأوربي، وبالتالي ضعف المنافس، فإن الفرصة سانحة الآن لنجاح الدعوة الإسلامية أكثر من ذي قبل. وذلك كله إضافة إلى ما هو معروف ومعلوم من أن الإسلام دين الفطرة، وهو ببساطته ووضوحه ويسره الدين الوحيد الملائم لكل زمان ومكان.(1/100)
ثانيا – الإكثار من المنح الدراسية في الجامعات والكليات والمدراس الإسلامية في البلاد الإسلامية، خارج أفريقيا، وذك حتى تتاح الفرصة لأكبر عدد ممكن من أبناء المسلمين في أفريقيا للتزود من العلوم الإسلامية فيها ثم العودة إلى بلادهم مبشرين ومنذرين، وهادين ومهتدين عملا بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
ثالثا – المساعدة على إنشاء ملاجئ ودور للأيتام في البلاد الأفريقية التي يقطنها مسلمون. وذلك وقاية لأبناء المسلمين من أن يقعوا في أحضان التربية الكفرية التي تربيهم على الكفر، وتبعدهم حتى عن اسم الإسلام، خاصة وأنه لوحظ أن تلك الطريقة منتشرة انتشارا واسعا، لأنها تكاد تكون الطريقة الوحيدة العملية لإخراج بعض المسلمين من دائرة الإسلام، بعد أن لوحظ أنه ما من مسلم يدخل الإسلام في قلبه ثم ينبذ الإسلام وينضم علنا إلى صفوف المشركين.
رابعا- أن يختار من المدرسين من مختلف البلاد الإسلامية من ذوي الاستعداد للتضحية والعمل في سبيل الله ويرسلوا إلى الأقطار الإفريقية المحتاجة، مع مراعاة الظروف والملابسات السياسية المحيطة بكل بلد إفريقي، وذلك بلا شك علاج سريع.(1/101)
خامسا – العمل على كثرة طبع الكتب الإسلامية مترجمة إلى اللغات الإقليمية، واللغات العالمية السائدة في أفريقيا مثل الإنجليزية والفرنسية والسواحلية وغيرها وتوزيعها، حيث لا حظنا قلة الكتب الإسلامية بل ندرتها في بعض الأقطار. هذه بعض المقترحات، وهي ليست بصعبة إذا ما صحت العزائم، وخلصت النيات، خاصة وأن الإسلام دين الدعوة والجهاد، ودين العمل والحركة، بل إن كل مسلم سبيله في الحياة أن يدعوا إلى الله على بصيرة كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة..} . وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً..} .
أيها الإخوان: إنه لا بد لي هنا من باب إحقاق الحق، ووضع الأمور في نصابها، من أن اشيد بما قامت به هذه البلاد المقدسة وعلى رأسها حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز حفظه الله، حيث استجاب لكل الاقتراحات التي رفعتها إليه رئاسة الجامعة الإسلامية حول تخصيص المنح والمقاعد الدراسية لأبناء المسلمين في أفريقيا حتى لقد بلغ عدد الأقطار الأفريقية التي يدرس أبناؤها في الجامعة الإسلامية وحدها أكثر من عشرين قطرا، وقد كان لي شرف المساهمة في تنفيذ بعض ما أمر به جلالته من توزيع الإعانات المالية والمساعدات النقدية وغيرها على مختلف الجمعيات والهيئات والمدراس الإسلامية في أفريقيا.(1/102)
ثم إن جلالته قد أولى ما عرضه مفتى البلاد السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله من إرسال المدرسين والمرشدين إلى مختلف أنحاء أفريقيا غاية الاهتمام، فأصدر موافقته السامية على كل ذلك، وقد قامت دار الإفتاء بإرسال العديد من المدرسين من خريجي الجامعة الإسلامية وغيرهم إلى عدد من الأقطار الإفريقية في شرقي ووسط أفريقيا، وهم الآن يواصلون عملهم بجد ونشاط. كما أننا لا يمكن أن ننسى جهود رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة التي تعمل في هذا الميدان على مختلف المستويات، ولكن العبء ثقيل والميدان واسع، وناهيك بالتخطيط للعمل في قارة من القارات إذا فلا بد من تضافر الجهود، وتكاتف الهمم، نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلى كلمته، وأن يوفق المسلمين إلى الرجوع إلى دينهم، والعمل بكتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم إنه سميع قريب.
حينما وصل الشاعر محمد إقبال إلى صقلية عائدا من أوروبا قال:
"أبك أيها الرجل دما لا دمعا فهنا مدفن الحضارة الحجازية".(1/103)
شكوى
للشاعر محمد إقبال
كنا جبالا في الجبال وربما
سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا
قبل الكتائب يفتح الأمصار
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها
سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة
خضراء تنبت حولنا الأزهار
لم تخش طاغوتا يمار بنا ولو
نصب المنايا حولنا أسوارا
ورؤوسنا يارب فوق أكفنا
نرجو ثوابك مغنما وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب
فنهدمها ونهدم فوقها الكفار
لو كان غير المسلمين لحازها
كنزا وصاغ الحلي والدينارا
ومن الألى ِِِِحملوا بعزم أكفهم
باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أم من رمى نار المجوس فأطفئت
وأبان وجه الحق أبلج نيرا
ومن الذي بذل الحياة رخيصة
ورأى رضاك أعز شئ فاشترى
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم
والحرب تسقي الأرض جاما أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا
في مسمع الروح الأمين فكبرا
ما بال أغصان الصنوبر قد نأت
عنها قماريها بكل مكان
وتعرت الأشجار من حلل الربى
وطيورها فرت إلى الوديان
يارب إلا بلبلا لم ينتظر
وحي الربيع ولا صبا نيسان
ألحانه بحر جرى متلاطما
فكأنه الحاكي عن الطوفان
يا ليت قومي يسمعون شكاية
هي في ضميري صرخة الوجدان
اسمعهموا يارب ما ألهمتني
وأعد إليهم يقظة الإيمان
أنا أعجمي الدن لكن خمرتي
صنع الحجاز وكرمها الفينان
إن كان لي نغم الهنود ولحنهم
لكن هذا الصوت من عدنان(1/104)
صفحة من التاريخ
للشيخ أبي عمر المدرس في الجامعة
فرانسوا الأول أحد مشاهير ملوك فرانسة في القرن السادس عشر، يشتبك في حروب طاحنة مع الإمبراطور الكبير شارلكان (1) ملك أسبانيا وأمير ألمانيا، وسيد البلاد الواطئة، وتدور دائرة هذه الحروب على العاهل الفرنسي، وتلتف حول عنقه الأغلال، ويقاد إلى أسبانيا أسيرا صاغرا في أعقاب معركة (بافيا) سنة 1525.
ويضطر الملك الأسير، وهو في قبضة عدوه، إلى أن يوقع معاهدة تمثل إرادة الجانب الظافر يستبد بالجانب المقهور، ثم يطلق سراحه على أثرها، ويعود إلى عاصمته باريز.... وهناك في باريز، وبعد أن يعقد العزم على نقض المعاهدة، والتحلل من كل ما جاء فيها، يتلفت حوله، ويسرح طرفه في المجتمع الدولي، عل الحظ يسعده بحاكم قوي، أو ملك ذي طول، يستنقذه مما حاق به من الكوارث ... وأخيرا، وبعد لأي، لا يجد أمامه إلا سيد القسطنطينية، عاصمة الإسلام خلال خمسة قرون، السلطان سليمان الأول ... ولكن أنى له أن يستعين بسلطانا مسلما على خصمه شارلكان النصراني الزميت، على أنه هو نفسه (فرا نسو الأول) لا يقل عن شار لكان تزمتا في النصرانية بل لعله يربي عليه، ألم يعتبره البابا دون سائر ملوك أوربة النصراني الأول، والحصن المنيع ضد التوسع الإسلامي الذي أخذ يهدد أوربة من جهة الشرق تحت راية العثمانيين الأوائل؟ أيخيب ثقة حبر روما به؟ أيطرح جانبا تدينه وما يمليه عليه هذا التدين من واجبات؟ أولها ألا يستنصر أعداء دينه على إخوانه فيه.
وهنا تظهر طبيعة الإنسان الغربي التي تحمله في النهاية ودائما على الانقياد (للمنفعة) والتخلي عما سواها، لأنها ليست بالطبيعة الخيرة الصامدة التي تقوى على التزام المبادئ الرفيعة حين لا تجر إلى صاحبها (المنافع) . وأي طبيعة تقوى على ذلك مالم تكن غاية في الكبر، وغاية في الشرف والعظمة مالم تكن مؤمنة حقا؟.(1/105)
وما أن حل اليوم السادس من كانون الأول سنة 1525 حتى كان سفير فرانسة (فرانكيان) على عتبة الباب العالي يلتمس مقابلة السلطان.. وقد رحب السلطان الداهية بمقدم السفير، وأكرم مثواه، وبالغ بالحفاوة به، لأنه - وهو الخبير بالوضع الدولي في مصر - سيعرف كيف يستغله حتى الثمالة.
وينهي السفير إلى مسامع السلطان حالة مليكه، وأنه وقع في أسر شارلكان، وأنه لم يتخلص من الأسر إلا بعد أن أبرم مع خصمه معاهدة جائرة مهينة، وأنه يرجو جلالة السلطان مساعدته على هذا الخصم العنيد، وذلك بالانقضاض عليه من جهة المجر (هنغاريا) كيما يشغله عن جيوش فرانسة التي أرهقها وفل حدها ... وبعد أن تدارس السلطان الحالة مع رجاله يعد السفير في بساطة متناهية باحتلال المجر، ولم ير أن يعقد معه معاهدة بل اكتفى بتزويده في أوائل ربيع الثاني سنة 932هـ برسالة إلى مليكه يعده فيها النصر، وإلى القارئ الكريم خلاصة هذه الرسالة: "الله العلي المعطي المغني المعين:(1/106)
بعناية حضرة عزة الله جلت قدرته، وعلت كلمته..... أنا سلطان السلاطين، وبرهان الخواقين متوج الملوك، ظل الله في الأرض، سلطان البحر الأبيض، والبحر الأسود والأناضول، والروملي، وقرمان الروم، وولاية ذي القدرية وديار بكر، وكردستان، وأذربيجان والعجم، والشام، وحلب، ومصر، ومكة، والمدينة، والقدس، وجميع بلاد العرب واليمن، وممالك كثيرة أيضا أفتتحها آبائي الكرام، وأجدادي العظام، بقوتهم القاهرة، أنار الله براهينهم، وبلاد أخرى كثيرة، أفتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر، أنا السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم خان ابن السلطان بايزيد خان إلى فرنسيس ملك ولاية فرانسة، وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه مع تابعكم (فرانقيان) النشيط مع بعض الأخبار التي أوصيتموه بها شفاهيا، وأعلمنا أن عدوكم استولى على بلادكم، وأنكم الآن محبوسون وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصكم، وكل ما قلتموه عرض على أعتاب سرير سدتنا الملوكاتية، وأحاط به علمي الشريف على وجه التفصيل، فصار تمامه معلوما، فلا عجب من حبس الملوك وضيقهم، فكن منشرح الصدر ولا تكن مشغولا الخاطر، فإن آبائي الكرام وأجدادي العظام، نور الله مراقدهم، لم يكونوا خالين من الحرب لأجل فتح البلاد، ورد العدو، ونحن أيضا سالكون على طريقتهم، وفي كل وقت نفتح البلاد الصعبة، والقلاع الحصينة، وخيولنا ليلا ونهارا مسرجة، وسيوفنا مسلولة، فالحق سبحانه وتعالى ييسر الخير بإرادته ومشيئته، وأما باقي الأحوال فتفهمونها من تابعكم المذكور، فليكن معلومكم هذا".
تحريرا في أوائل شهر آخر الربيعين سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة.
دار السلطنة العلية القسطنطينية المحروسة المحمية(1/107)
لا شك أن أسلوب هذه الرسالة إن من جهة الصياغة أو المضمون لم يعد مألوفا في الأوساط الدبلوماسية المعاصرة، غير أن الذي يهمنا منها الآن شيئان: الأول أنها تعبر عن سمو المنزلة التي كانت تحتلها الدولة الإسلامية في القرن السادس عشر، والثاني أنها لم تكن مجرد تبجح وكلام فارغين، فيها أن صاحبها يعززها بفعال مجيدة لعلها أقوى في عالم الواقع من معاني هذه الرسالة في عالم الرسائل، وآية ذلك أنه ما كاد يحل اليوم الخامس عشر من نيسان سنة 1526حتى كان السلطان نفسه مع وزرائه الثلاثة على رأس جيش جرار في طريقة إلى بلاد المجر (هنغاريا) ، وكان هذا الجيش مؤلفا من مائة ألف مقاتل مدججين بأحدث الأسلحة المعروفة لذلك العصر، منها ثلاثمائة مدفع، ومزودين بثمانمائة سفينة تمخر نهر الدانوب (الطونة) لنقل الجنود والعتاد من جهة إلى أخرى عند الضرورة ...
(معركة موهاكس)(1/108)
وبعد أن يستولي الجيش على عدد من الحصون والقلاع الواقعة على نهرالدانوب ينتهي يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة الموافق (28-8-1526) إلى وادي موهاكس، وهناك يبدأ تعبئة تدل على البراعة الفائقة في الفنون العسكرية ... لقد جعل ثلاثة خطوط وكمن السلطان ومعه جميع المدافع في الخط الخلفي، ثم نشبت الحرب وحمي الوطيس، وانقض مقاتلة المجر الأشداء المعروفون بالشجاعة والبأس على جنود الخط الأول العثماني، وما هي إلا جولات قصيرة حتى تراجع العثمانيون إلى ما وراء مواقع المدفعية ... وما أن أقترب الجيش المجري من المواقع حتى قصفته المدفعية قصفا شديدا، فأذهلته عن نفسه، وملأته رعبا، وأجبرته على التقهقر، وعندها حمل عليه جند الله حملات صاعقة أتوا خلالها على أكثر فرسانه، وفي جملتهم ملكهم الذي هلك ولم يعثر لجيشه على أثر، ومن لم يقتل من هؤلاء هام على وجهه يلتمس النجاة بعار الفرار، وهكذا تحطم الجيش المجري، وضاع استقلال البلاد التي سقطت بأيدي المسلمين ... وسار سلطانهم وألوية النصر تخفق فوق رأسه حتى دخل العاصمة في ثالث ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة، وكانت تسمى (بود) وهي بودابست اليوم. واجتمع الأعيان ورجال الدين وقدموا إليه مفتاح العاصمة علامة خضوع واستسلام، ويأبى الفاتح المسلم شأن ذوي النفوس الكبيرة المؤمنة، إلا أن يكون كريما في معاملة الذين كانوا إلى أيام خلت خصومة الألداء، فيعفوا عنهم، ويؤمنهم على أموالهم ونفوسهم وذراريهم، ويتوج عليهم ملكا من بني دينهم، هو (جان زابولي) أمير ترانسلفانيا.
وبعد أن يطمئن السلطان إلى سلامة التدابير التي اتخذها، يعود إلى عاصمته استنبول يحفه النصر ويحدوه الجلال، وقد بر بوعده الذي وعده للعاهل الفرنسي، وتوج ملكا، وبسط حكم الآستانة على مملكة جديدة من ممالك أوربة الشرقية ...(1/109)
هكذا أيها القارئ، هكذا كان أجدادنا المسلمون، وإلى عهد ليس ببعيد يدوخون الممالك، ويتوجون الملوك، ويوقدون مشاعل الهداية في طريق الإنسانية التائهة ...
هذه فعالهم يوم كانوا يعتصمون بالإسلام، يوم كانت تعاليمه تفجر في نفوسهم روح الفداء، وطاقات النصر، يوم كانت تخفق فوق هاماتهم ألوية القرآن والسنة.
إننا لا نريد البكاء، فالبكاء لا يجدي، ولا نريد التأوه فهذا ما نتركه للفتيات، ولكنا نريد تمثلا حقيقيا للإسلام الحقيقي، إسلام القرآن والسنة، إسلام أبي بكر وعمر وخالد وصلاح الدين ... الإسلام الذي جعل منا خير أمة أخرجت للناس ...
أنت معي أيها القارئ في أنه لا داعي لليأس مهما أظلمت الآفاق من حولنا، إن عهدنا بالغلب والمجد ليس ببعيد، والعلاج لواقعنا المرير ما يزال بين أيدينا محفوظا {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فمتى نتحلى بالإخلاص والشجاعة الكافيين لتناوله كما أنزله الله، وفي غير مواربة أو تحريف، فإن مصارع المبادئ في تعاريج المواربة، وفي ظلمات التحريف ... في تناول هذا العلاج، وعلى النحو الذي ذكرت، كيما نجدد لأنفسنا وللبشر قاطبة حياة يسري في أوصالها نسغ القرآن والسنة، وتضئ على طريقها مصابيح الحق والعدالة والحرية؟؟
أرى برغم كثافة الظلام مشاعل تضئ في جنبات وجودنا الفكري والاجتماعي، وعما قريب، وبفضل الله ثم بفضل الطلائع الواعية المؤمنة سينجاب الظلام، ويشرق النور.
ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.
أيهما ألزم؟
هل يشفى المريض المدنف باقة من الدهر، أم حقنة من البنسلين؟. وهل يكفي الجائع لحن مطرب، أم رغيف مشبع؟. وهل يسعد الفقير أن تزين له جدرانه بالرسوم، أم أن تهيء له مايحتاجه من أثاث؟ وهل يخاف العدو إذا كنت تحسن الرقص، أم إذا كنت تحسن صناعة الموت؟(1/110)
((مصطفى السباعي))
---
(1) ولد هذا الإمبراطور سنة 1500وهو من جهة أمة حفيد فرديناند وايزابلا ملكي أسبانيا اللذين انتهي على عهدهما وجود المسلمين في الندلس، وقد قضى معظم أيامه في محاربة فرنسا والبروتستانت، كما حارب خير الدين باشا أمير البحر العثماني المعروف. وفي سنة 1556سئم الحياة السياسية فتنازل عن أسبانيا لأبنه فيليب الثاني، وعن ألمانيا وما يتبعها لأخيه فرديناند، والتحق بإحدى الأديرة وبقي فيه حتى مات سنة 1558.(1/111)
طرائف – وسوانح
غرائب الشعر:
ذكروا أن البيت الذي لا يمكن لمسه قول الشاعر:
تقشع غيم الهجر من قمر الحب
وإشراق نور الصلح من ظلمة العتب
لأن كلا من الغيم والهجر والقمر والحب والنور والصلح والظلمة والعتب أشياء لا تلمس. وذكروا أن البيت الذي يعظم وعيده ويصغر خطبه قول عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا منا ومنهم
مخاريق بأيدي لا عبينا
لأنه أنحط بسيوفهم لما شبهها بمخاريق اللاعبي.
فلسفة الأجواد:
للأجواد والكرماء فلسفة تظهر لك ما وراء سجيتهم من حكمة، ومن ذلك قول حاتم:
أماوي إن المال غاد ورائح
ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أمأوى إن يصبح صداي بقفرة
من الأرض لاماء لدي ولا خمر
ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني
وأن يدي مما بخلت به صفر
أماوي إن المال مال بذلته
فأوله سكر وآخرة ذكر
وللبخلاء أيضا فلسفتهم: فقد ذكر أبو عمرو الجاحظ قال: قال إسماعيل سمعت الكندي يقول: إنما المال لمن حفظه، وإنما الغنى لمن تمسك به، ولحفظ المال بنيت الحيطان، وغلقت الأبواب، واتخذت الصناديق، وعملت الأقفال، ونقشت الرشوم والخواتيم، وتعلم الحساب والكتاب، فلم يتخذون هذه الوقايات دون المال وأنتم آفته، وقد قال الأول أحرس أخاك إلا من نفسه، ولكن احسب أنك قد أخذته في الجو اسق وأودعته الصخور ولم يشعر به صديق ولا رسول ولا معين لك بألا تكون أشد عليه من السارق، وأعدى عليه من الغاصب، وأجعلك قد حضنته من كل يد لا تملكه، كيف لك من أن تحصنه من اليد التي تملكه وهي عليه أقدر، ودواعيها أكثر، وقد علمنا أن حفظ المال أشد من جمعه.. فالمال لمن حفظه والحسرة لمن أتلفه، وإنفاقه هو تلافه وإن حسنتموه بهذا الاسم وزينتموه بهذا اللقب.
وخير من هذا وذاك قول الحكيم الخبير عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} .
غرائب السؤال:(1/112)
طلاب العلم يعلمون معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . فالسؤال له حدوده وآدابه، ولكن صنفا من الناس لا يدرك ذلك فيقع منه من التنطع والإغراب في السؤال شيء مضحك، وللعلماء رحمهم الله أجوبة لطيفة ومواقف ظريفة فيها التخلص والتأديب والحكمة، من ذلك ما روي أن عمر وبن قيس وكان أحد العلماء الأجلاء سأله رجل عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الرجل في جبهته أو في ثوبه أو خفه فقال: "أرمها"، قال الرجل: "زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد ... "فقال: "دعها تصيح حتى ينشق حلقها"، فقال الرجل: "سبحان الله أو لها حلق؟ "قال: "فمن أين تصيح إذن؟ ".
ومن حيلة اللطيفة رحمه الله أنه جلس للدرس يوم الشك من شعبان، فتوارد عليه الناس كل يسأله عن صيام هذا اليوم حتى ضجر منهم، فأرسل إلى منزله فدعا برمانة ووضعها في حجره فكان كلما لمح إنسانا يتقدم للسؤال، أخذ حبة منها وأكلها فيرجع السائل وقد حصل على الجواب، بدون أن يتكلف مئونة الخطاب..
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكرهون كثرة السؤال والتعمق في المسائل والفرضيات، امتثالا لقول نبيهم صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، وقد ذكروا أن ابن عباس وقف عليه رجل في المسجد في حلقته وقال: "لو حدث كذا وكذا فما الحكم"، قال: "أحدث ذلك.."قال الرجل: "لا"، قال: "فدعه حتى يحدث".(1/113)
وأما كثرة السؤال في المتشابه وفي العقائد، فقد كانوا ينكرون عليه أشد الإنكار، ومن ذلك ما روى البيهقي أن مالكا رحمه الله سأله رجل عن الاستواء فأطرق وأخذته الرحضاء وقال: "الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة أخرجوه"، وروي أن رجلا في عهد عمر يدعى صبيغ بن عسل كان يجادل الناس في المتشابه فدعا به عمر وسأله أن يعيد عليه كلامه، فلما سمع منه أمر بجريد أخضر رطب فأتي بحزم منه، فقال: "سبيل محدثة"، ومازال يجلده حتى أدمي ظهره، ثم تركه حتى برئ فدعا به وجلده حتى أدمي ظهره، ثم تركه حتى برئ ثم دعا به ليجلده فقال الرجل: "إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، وإن كنت تريد مداواتي فقد والله برئت"، فنفاه إلى أرضه وأمر واليها بأن يعتزله الناس ولا يكلموه. وليت شعري: إذا أراد حاكم اليوم أن يتبع سنة الفاروق هذه كم رجلا يجلد.. وكم رجلا يطرد.. فقد أصبح أكثر من رأى نفسه يحمل قلما يتشدق على دين الله بما لا يرضى الله..
فنسأل الله العصمة من الزلل، والسداد في القول والعمل..(1/114)
طرق الدعوة إلى الله
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس في الجامعة
الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله سبحانة وتعالى هي أشرف الوظائف وأفضل الأعمال، فإنها الوظيفة الأساسية للنبيين والمرسلين، والعمل الرئيسي لسائر الهداة المصلحين، وقد نص الله تبارك وتعالى في محكم كتابه على أن أحسن الناس قولا هم الدعاة إلى الله وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الداعين إلى الله العاملين بعلمهم المعلمين لغيرهم هم أعلى الناس درجة، وأكثر الناس تأثرا وتأثيرا بالدين الحنيف، وأعظم الناس انتفاعا بالغيث الذي أغاث الله به الأرض. فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".(1/115)
كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم مثوبة الدعاة عند الله. فقد روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يده يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يعطاها فقال: "أين علي أبن أبي طالب؟ " فقيل: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه.."فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فقال علي رضي الله عنه: "يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم أدعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه. فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.." يعني من أن تتصدق بأنفس المال.
ولقد رسم القرآن الكريم خير مناهج الدعوة فيما وصف للدعاة من آياته المحكمة، وفيما قص الله تبارك وتعالى عن النبيين والمرسلين من طرق دعوتهم إلى الله تعالى التي تعتبر النموذج الأعلى للداعين إلى الله عز وجل، وقد وضع القرآن الكريم النظام الأساسي للدعوة إلى الله تعالى إذ يقول:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وإذ يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
فقد طلب الله تبارك وتعالى من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين، على حد قول الشاعر:(1/116)
فقد طلب الله تبارك وتعالى من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين، على حد قول الشاعر:
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن الحكمة في الدعوة معرفة نفسيات المدعوين ومنازلهم فدعوة الأمي غير دعوة المتعلم، والمستقيم في الجملة غير المنحرف والمعاند غير خالي الذهن، وسادة القوم غير عامتهم. وهذه القاعدة في الدعوة من أعظم أسباب نجاحها ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أول الأمر سرا ثلاث سنوات. ولذلك كذلك جرب عقلاء الدعاة حتى ولو لم يكونوا مسلمين هذه الطريقة أعني طريقة الحكمة في الدعوة فنجحوا في نشر شرهم، فلقد أثر أن بوذا كان يبعث دعاته إلى نواح متفرقة من بلاد الهند لبث دعوته، وكان لا يبعث الداعية حتى يعقد له اختباراً نفسانياً ليرى مقدار تغلغل الفكرة في نفسه وصلاحيته للقيام بمهمة التبشير بها، ومن أمثلة هذا الإختبار أنه أراد أن يبعث داعية اسمه ((بورنا)) إلى قبيلة معروفة بالشراسة اسمها ((سرونا برانتا)) فقال بوذا للداعية: "إن رجال هذه القبيلة قساة سريعوا الغضب فإذا وجهوا إليك ألفاظا بذيئة خشنة ثم غضبوا عليك وسبوك فماذا كنت فاعلا؟ "فأجاب بورنا: "أقول لاشك أنهم قوم طيبون لينو العريكة لأنهم لم يضربوا بأيديهم ولم يرجموني بالحجارة"فقال: "بوذا فإن ضربوك بأيديهم ورموك بالحجارة فماذا كنت قائلا؟ "قال بورنا أقول: "إنهم طيبون إذا لم يضربوني بالسيوف". قال بوذا: "فإن قاموا عليك بالسيوف فماذا كنت فاعلا؟ " قال: "أقول إنهم طيبون إذا خلصوا روحي من سجن هذا الجسد بلا كبيرة" فقال له بوذا: "أحسنت يابورنا إنك تستطيع أن تسكن في بلاد قبيلة سروانا برانتا فاذهب إليهم وكما تخلصت فخلصهم وكما وصلت إلى الساحل فأوصلهم معك وكما تفريت(1/117)
ففرهم". فذهب بورنا فدخل جميع أفراد هذه القبيلة في البوذية.
ومن الحكمة الدعوة كذلك إلى اغتنام الفرص الملائمة للدعوة، ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذكر الله تبارك وتعالى في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبه في السجن إذ يقول: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فهذان السجينان رأى كل واحد منهما رؤيا، وهي رؤيا غريبة تستدعي الاهتمام لذلك بحثا عن معبر لها ولم يختارا غير يوسف الصديق، وكان الذي حملهما على اختياره دون غيره هو ما رأياه عليه من حسن السلوك والإحسان في القول والعمل، وما على وجهه من آثار الصلاح يدل على ذلك كله قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وحينما رأى يوسف عليه السلام حاجاتهما الماسة لتعبير هذه الرؤيا العجيبة، ورأى كذلك من حسن ظنهما فيه أغتنم هذه الفرصة لدعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، وكان من حكمته عليه السلام أن يبدأ قبل دعوتهما إلى الله وقبل تفسير الرؤيا لهما بزيادة تعريفها بنفسه وتشويقهما إلى حديثه وبيان نعمة الله على أهل التوحيد فقال: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} ثم بين لهما أن الشرك بالله سبب لكل شر وأن توحيد الله سبب لكل خير فقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وأتبعت ملة وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ثم بعد كل(1/118)
هذه التمهيدات العظيمة جرد الدعوة إلى التوحيد فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وبعد إقامة هذه الحجة على هذه الدعوة العظيمة فسر لكل واحد من صاحبي سجنه رؤياه في عبارة موجزة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} .
ومن اغتنام الفرص في الدعوة كذلك أن يتخول الدعاة المدعوين بالموعظة الحسنة في غير إكثار ممل، فإن كثرة الكلام تنسيه وتمله، ولذلك كان رسول الله يتخول أصحابه بالموعظة الحسنة مخافة السآمة عليهم مع أن حديثه كان أعذب حديث يستمعون إليه على حد قول الشاعر:
مشافهة يملي على فأنقل
ولا حسن إلا سماع حديثكم
وعلى حد قول الشاعر:
أرى الأرض تطوي لي ويدنو بعيدها
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها(1/119)
فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأن قطع السكر تتناثر من فمه صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في حديث أم معبد في قصة الهجرة تصفه صلى الله عليه وسلم لزوجها تقول: "رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي صوته صحل أي نبرات حلوة". ومع ذاك كله فقد كان لا يكثر على أصحابه وإنما يغتنم الفرصة فيتخولهم بالموعظة الحسنة مخافة أملالهم. فقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة الاسدي الكوفي رحمة الله قال: "كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس مرة". فقال له رجل: "يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم". فقال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة الحسنة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا".
كما أشعر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قصر الخطبة يوم الجمعة من فقه الرجل فقد روى مسلم في صحيحة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه" فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، ولذلك كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الكلام جدا على حد قول النابغة الجعدي رضي الله عنه فيه صلى الله عليه وسلم:
ضمنا وليس بجسمه سقم
نذر الكلام من الحياء تخاله
ولقد كان السامع له صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يعد كلامه ومع ذلك إذا تكلم أعاد الكلمة ثلاثا ليفهم عنه صلى الله عليه وسلم.(1/120)
ومن الحكمة كذلك في الدعوة ملاحظة أقدار الناس وعدم التسرع في الكلام حتى تحين فرصة قد تكون الكلمة فيها خيرا من كثير من الكلام، ومن أمثلة ذلك ما ذكر بعض المشائخ أنه سافر إلى الهند في طلب العلم، وهناك وجد شيخا كبيرا مرهوب الجانب مسموع الكلمة ذائع الصيت يؤم مجلس درسه طلاب كثيرون وكان هذا الشيخ الهندي إذا أبتدأ درسه بدأه بسب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله والتحذير من مذهبه، فلما سمع ذلك الشيخ النجدي لم يسارع في الانكار عليه بل أخذ يدرس الطريقة التي يعرف فيها الشيخ الهندي بحقيقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دون إزعاج أو إثارة وأخيرا عرف أن الشيخ الهندي يجلس في بعض الأوقات عند بعض المكاتب وأن من عادته إذا جلس أخذ يطالع ما قرب منه من كتب، فاتصل الشيخ النجدي بصاحب المكتبة وصاحبه مدة ثم جاء بكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثم خلع غلافه وما عليه من عنوان ثم وضع الكتاب قرب مجلس الشيخ فلما جلس الشيخ الهندي أخذ كعادته يقلب الكتب ووقع على هذه الرسالة التي لاتحمل عنوانا فلما أخذ يطالعها دهش لصغر حجمها وما أحتوته من قواعد في العقائد، ثم أخذ يسأل صاحب المكتبة عن اسم هذا الكتاب فقرب منه النجدي وقال له: "هل أعجبك يا شيخ؟ "قال: "إن فيه نفس محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله وكأنه من تأليفه". فقال له الطالب: "هذا هو كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله"فقال الشيخ مندهشا: "النجدي؟ النجدي؟ "قال: "نعم"فأخذ يترحم عليه ثم صار لا يجلس مجلسا ألا أثنى فيه على الشيخ كفارة لما كان منه قبل ذلك.(1/121)
ومن الحكمة في الدعوة كذلك مراعاة بيئة كل مدعو وضرب الأمثال النافعة له من واقع بيئته ولفت نظر المدعوين إلى نعم الله عليهم وإحسانه إليهم دون قسوة أو غلظة، بل يزن الكلام وزنا ويقدره تقديرا قبل أن يتكلم به، ثم يستشعر الداعية في نفسه موقف المدعو وكأنه هو وأن مراده من دعوته إنما هو سعادته في الدنيا والآخرة.
ومن الحكمة كذلك تلوينها فالسرية حين يغلب على الظن أن تنفع السرية والجهرية والليلية حين تواتي الليلية والنهارية حين تواتي النهارية وفي ذلك كله يذكر الله تبارك وتعالى حكمة نوح عليه السلام في دعوته إذ يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} .
ومن الحكمة في الدعوة أن يبدأ بالترغيب في الدنيا والتذكير بنعم الله على المطيعين وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في قصة نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} .(1/122)
ولذلك كله رأينا مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه يقول لآل فرعون لما هددوا موسى عليه السلام بالقتل قال هذا الداعية الصالح مع كتمانه إيمانه: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم} ثم يقول زيادة في التكتم: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُم..} فقد قدم الكلام على احتمال كذبة على الكلام على احتمال صدقة زيادة في أمر كتمانه أمره، ثم كان من أروع طرق جداله أن يستدل على صدقة بسلامة سلوكه وحسن هديه ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ..}
وكأنه يقول: موسى صادق لأنه مهتد ولو كان كاذبا لم يكن مهتديا، فاستدل باهتدائه على صدقة ثم قال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
ولما رأى أن قومه مصرون على عداوة رسول الله والمحاربة لدين الله
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَات فأ َطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} .(1/123)
لما قال فرعون هذه المقالة لم يجد هذا المؤمن حيلة من إعلان إيمانه وليكن ما يكون وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} .
ثم يقول: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ. لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} .
أما القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله فهي سلوك الموعظة الحسنة، والأقوال الرقيقة، والعبارات المؤثرة، وقد اشتملت الأمثلة التي ذكرت الكثير منها.(1/124)
أما القاعدة الثالثة: فهي الجدال بالتي هي أحسن فيبتعد الداعية عن الأقوال الشنيعة والألفاظ البشعة، بل يستدل بالفعل عندما ينفع الاستدلال بالفعل وبالنقل عندما يرى الاستدلال بالنقل، ويلفت نظر المدعوين إلى آيات الله الكونية ويحرص أشد الحرص على الخصم بإقراره، وإلى ذلك كله يشير الله تبارك وتعالى إذ يقول: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
ومن أعظم قواعد الدعوة الشاملة للقواعد الثلاث المتقدمة أن يكون الداعي على بصيرة، وبصيرة الداعية تسلك به أحسن السبل وتهديه أقوم الطرق.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الدعوة إلى الله عز وجل قولا وعملا وسلوكا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث داعيا أمره بأحسن طرقها. فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا"كما روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا"(1/125)
كما روى البخاري ومسلم من طريق ابن أبي بردة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن فقال: "يسرا ولا تعسروا وبشرا ولا تنفروا وتطاوعا ولا تختلفا" وكان من أمثلة ذلك عمليا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روى مسلم في صحيحة من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: "بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه. ما شأنكم تنظرون إلى؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني.. قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأبرز من ذلك ما روى البخاري وغيره "أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله جالس فصلى ركعتين ثم قال: اللهم أرحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لقد تحجرت واسعا"ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد فأسرع إليه الناس فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:" إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ثم أمرهم أن يصبوا على محل بوله ذنوبا من ماء.. ولما فرغ من بوله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من البول والقذر أنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن.."
ومن أعظم أسباب نجاح الدعاة أن يتحلوا بالصبر ولذلك قال لقمان لأبنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .(1/126)
كما أن من أعظم أسباب نجاح الدعاة كذلك أن يكونوا عاملين بما يدعون الناس إليه، منتهين عما ينهون الناس عنه، وقد وصف الله الذي يخالف قوله فعله بأنه ممقوت وفي ذلك يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ..}
ولله در الشاعر إذ يقول:
هلا لنفسك كان ذا التعليم
يا أيها الرجل المعلم غيره
كيما يصح به وأنت سقيم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
أبدا بنفسك فانهها عن غيها
بالقول منك وينفع التعليم
فهناك يسمع ما تقول ويهتدى
عار عليك إذا فعلت عظيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
ولذلك قال العبد الصالح شعيب عليه السلام لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب} .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كحنين مغترب إلى الأوطان
أشواقنا نحو الحجاز تطلعت
تسمو بفطرتها إلى الطيران
إن الطيور وإن قصصت جناحها
عن رقة الماء ولين الحرير
يبتسم المسلم في سلمه
إذا دعا الحرب ونادى النفير
وتبصر الفولاذ في عزمه(1/127)
قبسات من نور النبوة في الدعوة والتعليم
للشيخ صالح رضا المدرس في الجامعة
أمرنا الله - جلا وعلا - أن ندعو الناس إلى سبيله القويم، وطريقه المستقيم بالحكمة، والحكمة تعني أن يحاول الإنسان - ما استطاع - ليضع الشيء في محله الملائم له، وهذه الحكمة تقتضي الداعي أو المعلم أن يعلم - قبل الدعوة - كيف يخاطب النفوس، وما هي الوسائل التي تؤثر في النفوس الإنسانية فتجعلها تقبل ما يلقى إليها باهتمام وشغف، وبذلك يكون عمله مجديا ودعوته مؤثرة، وتعليمه مثمرا.
والناظر في السنة النبوية يلمح صورا واضحة للطرق القويمة في مخاطبة النفوس، وتبين
له السبل التي سلكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتأثير في نفوس المخاطبين من الصحابة - رضوان الله عليهم - مما يدل على المعرفة التامة وتربيتها. وإني أحب أن أعرض شيئا من هذه الأمثلة الرائعة لتكون لنا نورا نستضئ به في الطريق الطويل الذي نسير به.
من ذلك ما يعرف الآن في طرق التعليم بإثارة مشكله لإيجاد حل لها، ويكون ذلك بإلقاء سؤال يطلب من المخاطبين الجواب عليه، وإلقاء السؤال يجعل المسئولين في المشكلة ذاتها، فيبحثون عن حل مناسب، وجواب ملائم لما يعرض عليهم، فهم إذن ليسوا بعيدين يتكلمون عن شيء نظري، فها هي المشكلة أمامهم، والسؤال يحتاج إلى جواب، والجواب سيكون من واقع حياتهم، ومن تجاربهم التي يعرفونها، ثم سينتظرون الحكم النهائي والجواب القاطع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فبهذه الطريقة يضمن الداعية شيئين:
1- وضع السامعين في المشكلة ذاتها.
2- لفت انتباههم، وإثارة أذهانهم لمعرفة الوجه الحق.(1/128)
وهذا مما يجعل الجواب المتلقي يتلهف عليه، ويدخل إلى النفس مباشرة، فيمكث فيها دافعا إلى العمل الجاد، ومن هذه الصورة الرائعة في السيرة النبوية الحديث الوارد في السؤال عن (المفلس) ويبدو هذا السؤال سهلا ليس في الجواب عليه شدة وعناء، ولهذا سيكون جوابهم بما يعرفون ويعاينون في واقع حياتهم "المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع". هذه هي الصورة الشائعة المعروفة عندهم، قالوها بكل هدوء وتؤده، ولكن يا ترى: أليس هناك صورة أخرى للمفلس؟ لا شك في هذا الجواب إذ لو كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يريد هذا الجواب لما سأل لأنه يعرفه قطعا، ولذا كانت هذه النفوس متعطشة لمعرفة هذا المفلس، أو هذا المعنى الجديد للإفلاس، وسيقترن هذا المعنى الجديد بالمعنى العادي المعروف، فكلما مر المعنى الدارج فستنطلق النفس إلى المعنى الجديد، وتعلو بروحها وفكرها عن كل المعاني القديمة للإفلاس، ويثبت فيها أن المفلس هو "من يأتي بصلاة وصيام وزكاة -أي يأتي بعمل صالح - ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار" وإذا علمنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يتكلم لم يكن يسرد الحديث سردا، بل لو شاء أن يعده العاد لاستطاع، عرفنا مدى تأثير هذا في نفوس السامعين، فالسامع للسؤال جالت في نفسه صورة الإفلاس الدنيوي، وربما خطر في فكره صور متعددة لأناس قد أفلسوا ولم يبق معهم درهم، ولم يملكوا متاعا، ثم سما بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا التصور إلى صورة جديدة فيقول: "المفلس من جاء بصلاة وصيام وزكاة". وهذا مما يدعوا إلى العجب فينبه العقول تنبيها قويا شديدا إذ كيف يكون من عمل عملا صالحا مفلسا؟ وأصبحت النفوس مستوفزة لتمام معرفة المفلس، وعند ذلك تأتي الصورة الكاملة وأنه قد أساء إلى المجتمع(1/129)
بأعمال آخر ... وهنا تتساءل النفوس وكيف يعد من خلط في عمله مفلسا؟ هل يا ترى أي الأعمال السيئة تبطل الأعمال الصالحة؟! فيأتي الجواب بأن الأعمال الصالحة والأعمال السيئة إنما يجري يوم القيامة بينهما القصاص، فأيهما غلب حكم به على صاحبه، وتستكمل الصورة في نفوس السامعين ويعرفون أن المفلس: (هو الذي غلبت أعماله السيئة أعماله الصالحة مما أدى إلى معاقبته بجهنم) ، فإذاً تنتهي الصورة – صورة المفلس – بالألم، ألم النار، مما يدفع السامع عن كل ما يجعله من المفلسين، وسيحاول أن يكون دائما من الغانمين الرابحين.
بهذا الأسلوب الرائع البديع وصل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه النتيجة التي يريد، وذا رأينا أعمال الصحابة توضح لنا صدق هذه النتيجة وأنهم كانوا أبعد ما يكون عن أعمال المفلس.
فياليتنا نسلك هذه السبيل ونتبعها في الدعوة إلى كل ما نبغيه.
وليس هذا هو المثل الوحيد في حياة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، وإنما هناك أمثلة كثيرة أذكر منها على سبيل التعيين لا الحصر:
- حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا".
يعيد السؤال ثلاث مرات، لتكون الإثارة أتم وأكمل، وتتنبه النفوس عن كل ما يشغلها، وتتهيأ لتلقى معرفة أكبر الكبائر فيقول: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"هاتان الكبيرتان اللتان يعرفهما كل مسلم لإشارة القرآن إليهما، وبعدئذ يغير أسلوب الكلام فيقول: "ألا وشهادة الزور"ولم يكتف بذلك فيكررها "وقول الزور"ثم يشرك في التنبيه السمع مع البصر "وكان متكئا فجلس". كل ذلك لتكون النفوس متقبلة آخذه بنهم وإقبال لما تسمع فتكون النتيجة التأثير العمل المطلوب، إذ كلما كان الكلام مؤثرا في النفس كان أكثر دفعا للتطبيق.
وكذا الحديث الوارد في حجة الوداع حين سألهم:
"أي شهر هذا؟! "(1/130)
سؤال عجيب! رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسأل عن شهر ذي الحجة؟ وما عرف الصحابة ما يقولون، أيقولون (ذو الحجة) ؟ وهو يعرف ذلك! ولذا ما كان جوابهم إلا أن قالوا: "الله ورسوله أعلم".
وانتظروا جميعا الاسم الجديد الذي سيطلق على هذا الشهر، وعبر الراوي عن ذلك بقوله: "فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير أسمه". ثم قال: "أليس ذا الحجة؟ "قلنا: "بلى".
ويكرر هذه السبيل في السؤال "أي بلد هذا؟ أي يوم هذا؟ " وهم ينتظرون بعد كل سؤال الاسم الجديد للبلد الحرام وليوم النحر، وليس هناك اسم جديد. وإنما كان ذلك ليجعلهم متهيئين ليسمعوا أحكاما عامة، أحكام المودع، أحكام تشمل حياتهم كلها، ويحرم عليهم ويحل لهم فيقول:
"فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا".
وهنا يبدو الهدف المقصود من السؤال عن الشهر والبلد واليوم، وذلك لأن حرمتها متقررة في النفوس، ثابتة عندهم لاشك فيها ولا ريب، فيعيد إلى الذاكرة حرمتها ليبني عليها حرمة الدماء والأموال والأعراض.. فستقترن هذه الثلاث بتلك، وتكون ثابتة كثبوت الأولى، متقررة كتقررها.
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطينا مفتاح القلوب، وصمام النفوس بالسؤال، فإذا فتح القلب وتحفزت النفس للسماع، أعطى الجواب، ومنح المراد، ليستقر فيندفع صاحبها إلى العمل.
فصلوات الله عليك وسلامه يا رسول الله! ماذا أقول؟ ألا أنك نبي الله بعثت للعالمين رحمة، وكنت بالمؤمنين رؤوفا رحيما.
فيا ليتنا نتأسى بك، ونهتدي بهديك في الدعوة والتعليمِِِِِِِِِِِِِِِِ
من مثل محمد؟
لم يتفرد محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يمثل الكمال الإنساني المطلق من جميع نواحيه فحسب، بل هو يمثل النجاح المعجز في تربية النماذج الإنسانية الكاملة من الأفراد، والأمة الإنسانية الكاملة من بين الشعوب، فمن مثل محمد صلوات الله وسلامه عليه؟
من مثل محمد؟
((الدكتور مصطفى السباعي))(1/131)
ماليزيا..
بقلم: محمد أحمد ملاك
كلية الشريعة
تقع ماليزيا في منطقة جنوب شرقي آسيا ما بين خطي الطول 100و 110إلى الشرق وخطي العرض 1 إلى 2/ 61 إلى الشمال، يحدها شمالا بحر الصين الجنوبي ومملكة تايلاند
وجزر الفلبين، وجنوبا الجمهورية الإندونيسية، وشرقا المحيط الباسيفيكي، وغربا مضيق ملاكا. وتبلغ مساحتها حوالي 700ر337 كيلومترا مربعا، وتنقسم ماليزيا جغرافيا إلى جزئين: ماليزيا الشرقية وهي الجزء الشمالي من جزيرة بورنيو وفيه ولايتا صباح وسرواك، وماليزيا الغربية وهي شبه جزيرة الملايو وفيها إحدى عشرة ولاية من ولايات الاتحاد الفدرالي الماليزي.
وكان اتحاد الملايو قد نال استقلاله وأصبح دولة مستقلة في 31أغسطس 1957م ثم تكونت بعد ذلك دولة ماليزيا بانضمام ثلاث ولايات أخرى كانت تحت الاستعمار البريطاني وهي سنغافورة وصباح وسرواك إلى اتحاد الملايو المستقل وذلك في 16 سبتمبر 1963م بعد استفتاء كامل شامل دقيق أجراه مندوبو الأمم المتحدة وبعد التحقق من أن رغبات أهالي تلك الولايات الثلاث كانت في صالح الانضمام إلى الملايو في اتحاد فيدرالي واحد، محققا بذلك مشروع ماليزيا غير أن سنغافورة قد خرجت من عضويتها في اتحاد ماليزيا حيث أصبحت دولة مستقلة كاملة السيادة باسم جمهورية سنغافورة في 19 أغسطس 1965م أي بعد حوالي سنتين من عضويتها في الاتحاد.
والولايات المتحدة التي تكون منها اتحاد ماليزيا الآن هي ولايات جوهرر ملاكا، نجري سمبيلان، سلاغور، فاهنج، نيران، كلنتن، نرنفانو، قدح، فرليس، ونولومينغ. وهي الولايات الإحدى عشر في شبه جزيرة الملايو ثم الولايتان في جزيرة بورنيو وهما صباح وسرواك، ويفضل بين ماليزيا الشرقية وماليزيا الغربية فاصل مائي من بحر الصين الجنوبي يبلغ حوالي 400ميلا.(1/132)
وعاصمة ماليزيا الفيدرالية هي مدينة كوالالمبور التي تقع في ولاية سلا غور في ماليزيا الغربية وفيها جميع المرافق ومجمع الإدارات الحكومية الفيدرالية. وتجمع بين تلك الولايات وأهليها خصائص ومقومات الأمة الواحدة، وهي اللغة الرسمية الواحدة التي تسود على كل اللغات واللهجات الأخرى، ثم الأرض الواحدة والتاريخ المشترك، إلى جانب المثل العليا والأهداف الواحدة المشتركة في الحياة.
وماليزيا تمثل الموقع الإستراتيجي الهام الممتاز في منطقة جنوب شرقي آسيا، ويعتبر موقعها بمثابة حلقة الاتصال بين الشرق الأقصى واستراليا والشرق الأوسط أو آسيا الغربية وأوربا. ويعتبر مضيق ملاكا الذي يفصل بين شبه جزيرة الملايو أو ماليزيا الغربية وجزيرة سومطرة الإندونيسية مضيقا إقليميا بمثابة البحر الأحمر بالنسبة للدول العربية. ثم إن الأراضي التي اتحدت في دولة ماليزيا النامية الناهضة الجديدة تشارك بعضها البعض في المميزات والخصائص الجغرافيه الطبيعية، فهي تتمتع بمناخ استوائي حار رطب وتدر الخيرات الكثيرة مقابل جهد قليل، بأرض غنية بالثروات المعدنية والزراعية، وبمساحات شاسعة تغطيها الأحراش العذراء التي لم تصلها يد الإنسان، وقد شاءت إرادة الله أن يكون وضع ماليزيا الجغرافي الممتاز يجعلها غنية بثرواتها المعدنية والزراعية التي تغطي حاجة البلاد.
(مساحات أرض ماليزيا)
تغطي أراضي ماليزيا مساحات قدرها 282/127 ميلا مربعا مؤلفة بذلك وحدة أقوى وأكثر حيوية وقابلية للتقدم والنهوض من أن لو انفردت كل واحدة من الولايات على حدة. وهذه المساحات تتألف من مساحة أراضي اتحاد الملايو وهي 599/50 ميلا مربعا ومساحة أراضي سرواك 71/47 ميلا مربعا ومساحة أراضي صباح 388/29 ميلا مربعا. ويبلغ تعداد سكانها حوالي 10ملايين نسمة تقريبا. ولننتقل الآن إلى (التكوين البشري لماليزيا) :(1/133)
يتألف سكان ماليزيا الآن من عدة عناصر وأجناس مختلفة، ولكن السكان الأصليين قد انحدروا أصلا من منبع واحد إلا وهو الجنس الملانيزي الذي يرجع إلى الفرع المغولي من الأجناس البشرية. ففي سرواك نجد أن الداياك هم الأكثرية التي يتألف منهم السكان كما نجد أيضا الملايويين والصينيين فيها، وعنصر الدوسون هو أكثرية السكان في صباح وهم الذين يعيشون في المدن والمناطق الغربية من الغابات، ويتألف سكان شبه جزيرة الملايو أو ماليزيا الغربية من ثلاثة عناصر رئيسية وهي عنصر الملايو وهم السكان الأصليون، والصينيون والهنود والباكستانيون وغيرهم من الجنسيات الأخرى.(1/134)
ويبلغ عدد سكان جزيرة الملايو (ماليزيا الغربية) حوالي 70 مليون نسمة. ويكون المهاجرون الصينيون والهنود والباكستانيون وغيرهم حوالي 45% من سكان البلاد أي أن نسبة السكان الأصليين إلى السكان من أصل المهاجرين 55% إلى 45% ويبلغ تعداد الصينيين حوالي 31% و14% هنود وباكستانيون وسيلانيون وأجناس أخرى. وقد هاجر هؤلاء الناس إلى مختلف مناطق ماليزيا بصنع الاستعمار البريطاني والبحث عن الحياة والمعيشة الأفضل. والملاويويون هم السكان الأصليون لشبه جزيرة الملايو، ويرجعون إلى العنصر الملاينزي كما قلت آنفا ويشاركون جيرانهم الأندونيسين والبورنيويين في كثير من الخصائص اللغوية والدينية لأنهم يتكلمون اللغة الملايوية ويدينون بالإسلام. وللصينيين تاريخ حافل من الهجرة إلى مناطق ماليزيا يعود إلى مئات السنين ولكن هجرتهم الرئيسية حدثت خلال الأعوام الثمانين من القرن الماضي وفي عام 1920م أيضا، وجاءت أكثريتهم من العنصر الصيني الجنوبي ويتكلمون بالكانتونية والهوكيانية والهولنيلانية وأكثرهم يدينون بالبوذية، وجاء معظم الهنود الذين قطنوا ماليزيا من المنطقة الجنوبية الهندية للعمل في صناعة المطاط المزدهرة وذلك خلال العقود الثلاث الأولى من القرن الحالي، ومعظمهم يتكلمون باللغة التاميلية ويدينون بالهندوكية. ويتكلم كل من عنصر الداياك في سرواك والدوسون والموروت في صباح لغاتهم الخاصة إلى جانب إجادتهم اللغة الملايوية وهي اللغة الرسمية الآن في ماليزيا.
(نظام الحكم في ماليزيا) :(1/135)
تنص مقدمة إعلان استقلال ماليزيا على أنها دولة ملكية دستورية شرعية، مؤسسة على الديموقراطية البرلمانية إن هذه الدولة تعمل على حماية حقوق وامتيازات أصحاب الجلالة السلاطين، وحقوق وحريات الشعب الأساسية، وأن يكون الاتحاد دائما دولة ديموقراطية مستقلة مبنية على مبدأ الحرية والعدالة، ويعمل دوما لتحسين حالة الشعب والحفاظ على السلام الحقيقي بين كافة الدول وخاصة الدول الإسلامية، وعلى سبيل المثال: أوجز الرسالة التي بعث بها السيد تنكو عبد الرحمن فترا الحاج رئيس وزراء ماليزيا إلى الأمين العام للجامعة العربية بمناسبة انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب ومؤتمر القمة العربي الأول في لقاهرة إذ جاء فيها: موقف ماليزيا من القضايا العربية
"إن الوحدة التي أظهرتها الدول العربية قد عززت اعتقادي الراسخ بأنه من الضروري أن تقف البلدان الإسلامية في العالم أجمع موقفا موحدا، وأنه إذا توفرت الأناة والنية الحسنة لدى الجميع كان في الإمكان إحراز هذا الهدف بسرعة. وكونوا على يقين من أن ماليزيا تؤيد تأييدا حازما قضية الوحدة العربية، وحقوق الدول العربية المشروعة في فلسطين، ومن أن ماليزيا لن تأتي بعمل يضر بهذه القضية، هذا بالإضافة إلى أن من سياسة ماليزيا نصرة كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق الغاية المقدسة التي تصبوا إليها شعوب العالم وهي الحصول على الحرية والاستقلال عن الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره وأنه من أهم سياسة ماليزيا الخارجية) .(1/136)
والجدير بالذكر أن من أمتيازات أصحاب الجلالة السلاطين الحفاظ على دين الإسلام وتعاليمه ومقوماته الأساسية ونشرها بين أفراد الشعب المسلم، وأنه مما نص به دستور الدولة الماليزية الإسلام هو دين دولة ماليزيا الرسمي، وعليه أنفقت الحكومة المركزية وحكومات الولايات مبالغ طائلة كل عام من إيراداتها على بناء المساجد وصيانتها/ وإنشاء المدارس الدينية الابتدائية والمتوسطة في الأرياف والكلية الإسلامية في كلانغ بولاية سلاغور بأقسامها الثلاثة الإعدادي والعالي والدبلوم، وإرسال خريجيها إلى جامعات أخرى مثل جامع الأزهر ليواصلوا دراستهم في قسم الدراسات العليا فيها. وفي عام 1382هـ 1962 قرر مجلس أصحاب الجلالة السلاطين الاعتراف بوجود الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كمؤسسة علمية دينية ويوجد الآن 32طالبا ماليزيا بها. ومن أعظم المساجد التي بنتها الحكومة (مسجد نقارا) أي المسجد الوطني. يقع في وسط عاصمة ماليزيا كوالالمبور ويعتبر أكبر مسجد في الشرق الأقصى، وقد حضر افتتاحه وفود من الدولة العربية والإسلامية وذلك في عام 1385هـ- 1965م وتجري في شهر رمضان من كل عام مسابقة بين المقرئين المحليين لتلاوة القرآن الكريم داخل بناية المسجد الوطني، وكذلك مسابقة أخرى بين الدول التي فيها المسلمون مثل اندونيسيا باكستان، وسيلان، والهند، وكوريا الجنوبية، وكامبوجا وغيرها. ويعطى المشتركون في المسابقة هدايا تذكارية وللفائزين جوائز قيمة، وقد دأبت حكومة المملكة العربية السعودية، والسودان، والجمهورية العربية المتحدة، خلال السنوات الماضية على إرسال وفد من الحكام لهذه المسابقة.
وفي مجال الدعوة أسست في ماليزيا جمعية الدعوة وتسمى (دار الأرقم) تحت إشراف الحكومة، ومهمتها دعوة سكان ماليزيا غير المسلمين إلى الإسلام، وقد أسلم خلال السنوات الماضية الكثير من أجناس مختلفة من الصينيين والهنود والأوروبيين وغيرهم.(1/137)
وقد أرسلت حكومة ماليزيا وفدا إلى الرابطة الإسلامية برئاسة داتؤ دكتور عبد الجليل حسن، وذلك تلبية لدعوة صاحب الجلالة الملك فيصل، وكان ذلك عند تأسيس رابطة العالم الإسلامي في أول مجلس عقد بمكة المكرمة، وانتخب داتؤ دكتور عبد الجليل عضوا دائما للمجلس التأسيسي للرابطة الذي يعقد في شعبان من كل عام.
وهذا كله دليل على تقدم الإسلام والمسلمين في ذلك القطر الإسلامي (ماليزيا) بجانب وجود التيارات المختلفة المناوئة للإسلام مع توفر إمكانياتها ومقوماتها إلا أن إرادة الله سبحانه وتعالى حالت بينها وبين تحقيق أهدافها الشريرة.
وهو الهادي إلى سواء السبيل.
ثواب الجهاد
لا تنتظر جزاءك من أمتك على ما قدمت لها من خدمات، فهي مهما كافأتك، فإنما تكافئك كفرد، وأنت أحسنت إليها كأمة، وانتظر الجزاء بما لا يفنى ممن لا يفنى.
((هكذا علمتني الحياة))(1/138)
مشاكل الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام
للشيخ عطية سالم المدرس في الجامعة
إن مشاكل الطلاب الجامعيين جزء من مشاكل الأمة التي أقامت تلك الجامعة، ولهذا فإن لكل مجتمع جامعي مشاكله الخاصة المنبعثة من مجتمعه المحيط به.
فمن أراد دراسة مشاكل الطلبة الجامعية لزمه دراسة مشاكل الأمة وتتبع الحياة الدراسية من مبدئها حيث أنها تمتد وتندرج من البيت إلى المدرسة ثم إلى الجامعة في عقلية الطالب وتفكيره وظروفه.
يستلزم شمول النظر لمنهاج الدراسة في الأمة كلها والتنسيق بينها حتى تصبح وحده متكاملة يكمل بعضها البعض كحلقات عمر الإنسان في نشأته من طفولته إلى شبابه إلى رجولته خلقا سويا ثم إنتاجه في الحياة.
وألزم ما يكون ذلك النظر على الجامعة نفسها حيث أنها تتلقى الطلاب من المدارس فتعمل على صبغتهم بالصبغة الجامعية المتميزة، وحيث أنها هي التي تمد المدارس برجال التربية والتعليم منها وإليها يكون أمر الطالب.
وتتبع ذلك يستلزم مجهودا في الدراسة، وإمكانيات في العمل، وفسخه من الزمن كعمل إيجابي كلي. وإلى ذلك الوقت تنبغي العناية بأهم المشاكل الحاضرة وتطلب حلها حلا سليما.
والعناية بمشاكل الطلبة عناية بالجامعة كلها، والعناية بالجامعة هي بلا شك عناية بالأمة. وكما قلنا أن على الجامعة نفسها العمل لإيجاد حلول لمشاكلها فالجامعات في الأمم كالقلب في الجسم ينبض حيوية بالدم لتغذية الجسم كله فيفيض حيوية ونشاطا وهو بدوره يستنفذ قدرا مضاعفا من التغذية ليقاوم عمله الدائم وجهاده المتواصل في سيبل حيوية هذا الجسم، وكالطبيب يسهر لمعالجة الأمة يجب عليه أن يعنى بنفسه.(1/139)
وكذلك الجامعة في عنايتها بمشاكل الأمة وتوجيه أبنائها وتهيئتهم على النحو الذي يتحملون به أعباء الحياة، والسير قدما إلى الغاية المرجوة، وإصابة الهدف المقصود، إن عليها أن تعنى بمشاكلها الذاتية وتوليها كل اهتمامها لتصبح من القوة والسلامة بحيث تمكنها من الاضطلاع بأعباء القدوة والتوجيه والرسم والتخطيط والدعوة والإرشاد وتوفير أسباب السعادة والسمو.
تحديد المشاكل
غير أن المشاكل الجامعية تختلف في نظر الجامعيين اختلاف البيئات التي تقوم بها، وقد تكون موضع اتفاق أو موضع خلاف من ذلك الآتي على سبيل المثال:
1- الاختلاط المزدوج بين الجنسين كما في بعض البلاد الإسلامية.
2- التعليم الثنائي: أ- الديني ب- المدني كلاهما على انفراد وعزله، الذي أوجده الاستعمار وبقيت آثاره من بعده.
3- التوجيه الخارجي الذي تمليه الدولة أو فكرة ما.
4- التعليم المهني الذي دعت إليه الحاجة يوما ما.
5- النفقات الدراسية كما في بعض البلدان التي لا تخصص مكافآت للطلاب.
6-إشغال الفراغ الذي يتجاذب الطالب بين المذاكرة أو اللهو والأشغال.
فبعض هذه المشاكل قد تكون موجودة في بلد غير موجودة في أخرى وقد تكون مشكلة في بلد آخر.
أما في نظر الإسلام فإنها إن وجدت مشكلة في أي بلد كانت مشكلة عنده في جميع البلدان وعلى مر الزمان حتى تعالج. أما كون تلك المسائل مشاكل في ذاتها فكالأتي:
أولا – الاختلاط المزدوج – ما من شك في أن هذا النوع من الاختلاط دخيل على الجامعات العربية انتقل إليها مع بعض النظم التعليمية الغربية. والباحثون إزاء هذا الاختلاط على قسمين:
أ – قسم يراه ضروريا للحياة الجديدة، ويعلل لذلك بأنه يكسب كلا من الطرفين الصقل للسفور والوداعة في الأخلاق واللطف في المعاملة. ولا مانع عندهم أن تدفع الأمة الثمن إزاء ذلك ما يثبت في سجل الحوادث لدى الجامعات.(1/140)
ب- بينما القسم الآخر يراه معولا يهدم البيت العربي، والخلق الإسلامي، والقيم الإنسانية، والقوى الشخصية، حيث تنهار قوة كل من الطرفين أمام سلطان الآخر.
وهاتان النظرتان جزء من الاختلاط العام سواء في الجامعة أو المجتمعات الأخرى. إلا أنها في الجامعة أخطر لطول المكث ودوام الصلة وقوة المعرفة.
وأخطر من هذا كله بالنسبة للجامعة ما يتعلق بالمنهج والدراسة، حيث ساوت بين مختلفين في أصل الخلقة والفطرة والنزعة والاستعداد العقلي والفكري والجسمي. ولنأخذ لذلك مثلا: كليتي الحربية والهندسة كيف تساير الفتاة أخاها في الكلية الحربية في الآتي:
1- التدريب العسكري المفروض يوميا بحركات عنيفة. وهبها سايرته بجهد، كيف تتخلى عن عواطفها ورقتها وشعورها كأنثى إلى شدة وقوة وغلظة فتملأ قلبها غيظا وحماسة ورغبة للقاء العدو.
إن في تكليفها ذلك إخراج لها عن فطرتها وتحميل لها فوق طاقتها:
وعلى الغانيات جر الذيول
خلق الله للحرب رجالا
2- وكذلك الحال في الهندسة: إنها إن أحسنت صنع الخرائط لذوقها ولطف إحساسها، لن تستطيع أن تشد السقالة وتصعيد إلى أعلاها لتشرف على تنفيذ رسمها، كما أنها لا تقوى على شق الصحراء وتسلق الجبال أو هبوط الوديان لوضع مخطط على الطبيعة لأي مشروع ما.
فكيف نكلفها دراسة كل ذلك عمليا بجوار الشاب الكامل الاستعداد الخلقي والفطري. وكيف تستطيع الجامعة أن توفق بين الجنسين المختلفين في دراسة منهج موحد وإعدادهما معا لمستقبل واحد.
أما علاج هذه المشكلة على ضوء الإسلام في حل المشاكل منهج جذري يتتبع أصل الداء فيستأصله وباستئصال الداء يحصل الشفاء.
ومن هنا كان علاج هذه المشكلة بالذات كالأتي:(1/141)
أولا من الناحية الخلقية وأن عدها البعض شكلية. فهو يمنع هذا الاختلاط لا في الجامعة فحسب بل في كل الاجتماعات {وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وفي وقار وحشمة بعيدا عن مظان الفتنة وفي سياج من العفة.
وإذا لزمت خلطة ضرورية فبوقاية وتحفظ: في القول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} والنظرة بالعين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} .
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِن} .
ثانيا من الناحية المنهجية إن صحت هذه التسمية: فقد خص الإسلام كل جنس بما يليق به وبتكوينه الذاتي واستعداده الخلقي وذلك من جانبين:
1- جانب تعليمي: وهو قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة} فجعلهن في بيوتهن معلمات للكتاب والحكمة.
2- وجانب عملي: وذلك من قول عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله غلبنا الرجال على الجهاد فلا نجاهد. فقال: "ألا أدلك على جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة".(1/142)
فقد تطلعت عائشة رضي الله عنها إلى عظمة الجهاد وعظيم الأجر فتاقت نفسها إليه فأرشدها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يليق بها من الحج والعمرة وهما عملان يجمعان بين المصالح الاجتماعية والعبادات البدنية والمالية لما فيها من معرفة أحوال الناس والإنفاق على المحتاجين وشهود المنافع المبنية عليها بقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم} . وبجانب ذلك أيضا السماح لبعض النسوة لمصاحبة الجيوش لا لحمل السلاح ولكن لسقى الماء وتضميد الجرحى كما في حديث أم عطية.
وكما في عمل فاطمة رضي الله عنها لتضميد جراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
وكذلك تجنب المرأة مواقف الزحام والاختلاط كما في طلب عائشة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلي بالبيت (الكعبة) كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي الرجال فأخذ بيدها إلى حجر إسماعيل وقال لها: "صلي ههنا فإنه من البيت".
وما من شك أن علاج المشكلة باستئصال جذورها خير من الإبقاء على تلك الجذور وتطلب حلول لنتائجها وفروعها.
وما قاله الفريق الداعي إلى الاختلاط من صقل الشعور واعتداد بالشخصية وتلطف في المعاملة والسلوك الخ. مع بقاء العفة وسلامة الكرامة مقاومة للقوى الطبيعية ومغالطة للفطرة الأصلية.
ولهذا كان الثمن غاليا وأكثر مما زعموا من بعض حوادث ثبتت في سجل العقوبات، لأنها قطرة من بحر بالنسبة إلى ما يسجله المجتمع نفسه مما لا يصل إلى المسئولين ولا يوضع في سجلات المراقبين ولا تحويه ملفات الطلاب.
وتصديقا لنظرية الإسلام في هذا الحل فقد وجد بعض الجامعات الغربية (جامعة كمبردج) بإنجلترا لا تسمح للبنات أن يصبحن أعضاء فيها (ص 31 الجامعي) .
كما لمس المشرفون على التعليم في بعض البلاد الإسلامية نتيجة تلك التجربة ورأوا ثمرة هذا التقليد فأنشأوا كليات للبنات في بعض الجامعات كجامعة (عين شمس) .
فقد بدأت المشكلة من الجامعة وبدأت الجامعة بالتخلص منها.(1/143)
والجامعة الإسلامية تهيب بالجامعات المدنية أن تعمل بحرية على توسيع نطاق العلاج لهذه المشكلة فيشمل خارج الجامعة كالحفلات والصالونات وحلبة السباق والبلاجات مما لا تدعو إليه عندنا حاجة أو تلجئ إليه ظرورة.
وتكون الجامعة بذاك قد حملت لواء الإصلاح في المجتمع كله. فتحقق هدفا من أهدافها الأصلية.
ولا يفهم من ذلك أن الجامعة لا ترى تعميم التعليم للجنسين فتاريخ المسلمين حافل بالمتعلمات من النساء.
أولاهن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تروي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفتي فيما تسأل فيه. وإذا جئنا إلى الأواخر نجد لأخت صلاح الدين الأيوبي إجازة على نسخة لسنن أبي داود بخطها وتوقيعها عليه. كما نجد بنت شيخ الإسلام تقي الدين السبكي من شيوخ جلال الدين السيوطي. ولكن في صيانة وعفة ونزاهة وحشمة وتعليم في ميادين صالحة لها، لا تخرجها عن نطاقها وتبعد بها عن فطرتها، فنكلفها عنتا ونجهدها عملا. ولا سيما بعد تقرير ديوان الموظفين بمصر عام 1361 إزاء عمل المرأة في مختلف الوظائف.
ثانيا: التعليم الثنائي:
ذلك التعليم الذي عزل الدين عن الدولة وأوجد منهجين متنافسين وقام بجانب أحدهما يسانده بالمال والجاه ويفتح أمامه أبواب المناصب العالية.
وقد بدأ هذا النوع بعد الحملة الفرنسية على مصر وحاجة محمد علي إلى إعداد موظفين للحكومة، وجاء بعد ذلك الاحتلال الغربي فضيق حدود التعليم واقتصر على طبقة معينة من الشعب فأنتجت تفرقة بغضيه وأوجدت هوة سحيقة بين الطبقات:
1. طائفة قليلة أتيح لها التعليم المدني.
2. أكثرية لم تستطع الدراسة.
3. طلبة العلم المدني مفتحة أمامهم أبواب العمل وتغدق عليهم الأموال.
4. طلبة العلم الديني توصد دونهم الأبواب ويحرمون المساعدات.(1/144)
5. وأخطر من هذا كله تضارب بعض المواد في البلد الواحد. فبينما طالب الجامعة الأزهرية مثلا يدرس تحريم الربا يدرس زميلة في كلية التجارة جوازه ضمن أعمال البنوك. فكان لا بد من إيجاد تفكك في الأمة، وقلق وعدم استقرار في التعليم واضطراب.
وقد ظلت تلك الطريقة سارية، وهذه السياسية ماضية، وبالتالي كانت النتيجة تزداد سوءا، والهوة بين أبناء الأمة تزداد بعدا، حتى أنه لو اجتمع أخوان أحدهما متعلم تعليما مدنيا والآخر متعلم تعليما دينيا لخلته اجتماعا بين رجلين أحدهما غربي والأخر شرقي، لبعد مابين الصبغتين اللتين أصبغ بها كل منهما، وعليه فإن أحدهما سيهدم ما يبنيه الآخر وستكون الحكومة بجانب أحدهما.
ولقد تنبه لذلك كثير من رجال الفكر ومشايخ الأزهر منذ أواسط القرن الثالث عشر هجري كالشيخ حسن العطار الذي شهد أواخر العهد التركي وثلاثين سنة حكم محمد على وتولي مشيخة الأزهر سنة 1246وتوفي سنة 1250. والشيخ مصطفى العروسي الذي تولى مشيخة الأزهر سنة 1281إلى 1287 وقد تقدم للخديوي إسماعيل في السادس عشر من ربيع الثاني 1282 بلائحة لتنظيم الأزهر ومما جاء فيها: البند الرابع والعشرون – ما نصه: "بما أن الجامع الأزهر من أشهر مدارس الدنيا وأجلها قدرا وارفعها في جميع الأقطار ذكرا، والمقرر في أذهان العالم أنه مشحون بالعلماء المحققين والفضلاء الراسخين مملوء بالأفاضل الحائزين من كل فن طرفا ومن كل علم من العلوم الشرعية والعقلية طرفا، والحال بخلاف ذلك. وإن كان....."الخ (عبد الواحد وافي)(1/145)
ثم مضت المذكرة تعدد الفنون التي ترغب إدخالها في الدراسة ولكن كلها مساع لم يتم فيها شيء إلى أن جاء جمال الدين الأفغاني وتلميذه النبيل الشيخ محمد عبده فأنشأ في عهده مجلس إدارة الأزهر بأمر من الخديوي عباس حلمي الثاني سنة 1312 وتكون المجلس من كبار علماء الأزهر من اختصاصه الأشراف على سير الدراسة في الأزهر فادخل بعض الدروس كأدب البحث والمصطلح ومتن اللغة ورسم الحروف والعروض..الخ.
ثم قسم المنهج إلى مراحل ثلاث: مرحلة أولية ومرحلة ثانوية ومرحلة عالية بقانون واستبدل به ثلاث كليات عالية بقانون 1326 وهكذا إلى سنة 1352 في عهد الشيخ محمد الأحمدي الظواهري فألغى القسم العالي واستبدل به ثلاث كليات: أ- كلية أصول الدين. ب– كلية الشريعة. ج- كلية اللغة العربية.
وكانت نهاية هذه الإجراءات قانون 1930 ميلادية الذي حدد وظائف المتخرجين مابين أعمال كتابية وتدريس ووعظ وقضاء بالمحاكم الشرعية. ثم جاء التعديل الأخير بعد الثورة. والذي يظهر من كل هذه التعديلات أنها كانت تتجه بالأزهر نحو وجهة التعليم المدني من حيث الشكل والنتيجة وإن اختلفت من حيث الموضوع وكلها باسم الإصلاح والتقريب بين المناهج المختلفة في البلد الواحد حتى لا يبقى للفوارق بين متعلمي الأمة مكان، وتيسير سبل العمل بعد التخرج لتكسر حدة الحقد ويقصر أمد التطلع.
إذن فالتعليم الثنائي من مشاكل التعليم الجامعي حيثما كان، والقائمون على التعليم يعملون على إصلاحه منذ كان، غير أنها كلها حلول مؤقتة ومجهودات فردية لم تصل إلى الغاية المنشودة.
أما حل هذه المشكلة على ضوء الإسلام:
فإنه كما سبق يكون بالعمل على استئصال سبب الإشكال واقتلاع جذور المشكلة من أول ظهورها، والحل هنا بالذات من جهتين:
الأولى: النظر في المنهج الإسلامي للتعليم.
الثانية: تكييف مناهجنا العلمية الحديثة على ضوئه.(1/146)
أما منهج الإسلام في التعليم فواضح بين. ومن المعلوم أن أهم أسس المناهج الحديثة التي ينبني عليها الميراث الثقافي للأمة، وإن كان لكل أمة ميراثها الذي تعتز به وتحافظ عليه فإن من أهم عناصره الدين واللغة العربية والعادات والتاريخ وعليها يتوقف كيان الأمة، لأنه إذا ضاع دينها فقد وجودها، وإذا اندرست لغتها إنماعت في غيرها، وإذا تركت عاداتها ضاعت صبغتها، وإذا نسي تاريخها انقطعت صلتها بماضيها فتاهت في مجاهل الزمن لا تدري أين تسير ولا تعرف نقطة الانطلاق فضلا عن حرمانها نتائج التجارب والقدوة بالأبطال والتأسي بالعظماء ممن شادوا التاريخ وسجلوه.
والمنهج الإسلامي وفي طليعته كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كالشمس في رابعة النهار وكالكنز مفتح الأبواب، يبدأ مع الصبيان في الكتاب وينتهي مع الرجال في المساجد كما هو الحال في المدينة المنورة في صدر الإسلام. وتخرج على ذلك أئمة الأمة وقادتها من علماء الصحابة والتابعين كما قال مسروق: "سامعت أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة:
إلى عمر وعلي وعبد الله (ابن مسعود) ومعاذ وآبي الدر داء وزيد بن ثابت".
وقد انتشروا في الأمصار ونشروا العلوم حيثما كانوا؛ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي موسى ومعاذ إلى اليمن. وأرسل عمر ابن مسعود إلى الكوفة. الخ. وهل كان ابن عباس حبر الأمة ومجاهد وعطاء وغيرهم إلا تلاميذ المسجد؟ وقد اتسعت حلق المسجد للموالي مع الأشراف فانتشر العلم وكثر العلماء من جميع الطبقات.
وكذالك الحال في مصر بعد سقوط بغداد، يبدأ التعليم من المكتب وينتهي بالأزهر، وقد قام الأزهر وما أقيم بجوراه من مدارس إسلامية كالمدرسة الناصرية للشافعية والقمحية للمالكية والسيوفية للحنفية وكلها بالقاهرة.
والمدرسة البيهقية بنيسابور والنظامية ببغداد، وقد قام الجميع بنقل تراث الأمة والحفاظ على كيانها إلى اليوم الحاضر.(1/147)
وكان لزاما على الجامعات الشرقية في البلاد الإسلامية أن تبقى على هذا الأساس للمنهج الدراسي وتضيف عليه ما شاءت من العلوم والفنون.
غير أن الجامعات الشرقية كانت في يوم ما تسير وفق خطة مرسومة خارج نطاقها ولم تكن تملك الخروج عنها، بل ربما حوربت عند قيامها كجامعة القاهرة عند إنشائها.
أما اليوم وقد أصبحت الجامعات ولله الحمد في أيدي أبنائها ولا نظارة لأجنبي عليها فقد تطلعت إلى إصلاح ذاتها وتطوير مناهجها إلى أن تحقق الغرض من إنشائها.
ومما يؤيد تطلع الجامعات إلى إصلاح وتطور ما أعلن في أوائل يناير من هذه السنة 1963عن المجلس الأعلى للعلوم بالقاهرة أن دعا ستة علماء بارزين في بريطانيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الغربية للحضور إلى القاهرة للمساهمة مع العلماء العرب في تنفيذ بحوث الخطة العلمية للجمهورية العربية المتحدة (مجلة دعوة الحق العدد الرابع السنة السادسة يناير 1963) فأصبح لهذه البلاد الحق في أن ترسم لنفسها خطة دراستها والعمل على تطويرها. وألزم ما يكون إنما هو الحفاظ على تراث الأمة من دين ولغة وتاريخ.
ومن هنا يتضح الجواب على السؤال الآتي: هل الأولى في الإصلاح إدخال العلوم الدينية في مناهج الجامعات المدنية أم إدخال العلوم المدنية في مناهج الجامعات الدينية بغية التقرب بينهما؟.ومهما يكن من شيء فإن لكل جهة دعاتها وأنصارها.
غير أن الواقع العملي والشعور الديني يؤيدان الرأي الأول، حيث أن حاجة الطالب المدني إلى العلوم الدينية أشد من حاجة الطالب الديني إلى العلوم المدنية.(1/148)
وما دمنا نؤمن بضرورة التخصص في العلوم فيكون الحل الوسط لهذه الحالة أن نوسع نطاق الإصلاح ونضع في عين الاعتبار المرحلتين السابقتين اللتين هما كجزء تحضيري للجامعة، فنعطي الطالب القسط الأوفى من المنهج الديني وإذا وصل إلى الجامعة جعلنا منه ما ينمي له ما تأصل عنده من قبل عملا بفحوى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
فقد جعلت الآية الكريمة السعي إلى الصلاة عند النداء واجبا يترك من أجله البيع والشراء، وأنه خير لمن يعلم، وهذا بمثابة المرحلة الأولى وجعلت قضاء الصلاة مؤذنا بالانتشار في الأرض ابتغاء من فضل الله وهذا بمثابة المرحلة الثانية، دين ودنيا، لأن الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله يشمل جميع ميادين العمل، غير أنها لم تدع هذا الشخص في انطلاقه غافلا منقطعها عن ربه بل ربطته بما لا يعوق عمله ولا يعطل إنتاجه، بل فيه عون له وفلاح {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ". حيث جعل الفترة الأولى من سني الدراسة للدين الماثل في الصلاة التي هي عماده، وجعل الفترة الثانية للشؤون الاجتماعية الماثلة في الاستقلال الذاتي والعمل الفردي المشعر بتميز حق كل فرد فيما يأتي وما يدع، فيعرف ما له فلا يتعداه وما عليه فلا يأباه وصدق الله العظيم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك} .(1/149)
مع الصحافة
إعداد: أحمد علي الإمام
الطريق إلى مجتمع عصري
تحت هذا العنوان نشرت مجلة (الوعي الإسلامي) الكويتية مقالا في عددها الرابع والثلاثين لشهر ذي القعدة 1387: للأستاذ محمد جلال كشك جاء فيه ما يلي:
كانت روما سيدة البحار بلا منازع، وكان البحر الأبيض بحيرة رومانية حقا وصدقا.. من سيطرة كاملة على الشواطئ جميعا إلى التفرد بامتلاك الأسطول الوحيد العامل في هذه المياه.. وعمر ابن الخطاب.. قاهر البحر، لم ير البحر، والبحر، ولا ركب سفينة في حياته.. بل يطلب من فصيح أن يصف له البحر، فيصفه بعبارات بليغة تفزع عمر رضي الله عنه، شفقة على رعيته.. فيقسم ألا يحمل المسلمين عليه أبدا. .. ومع ذلك طردت رومانيا من شواطئ البحر الأبيض.. وما تكاد تمضي سنوات حتى ينزلوا بروما هزيمة بحرية ساحقة في موقعة ذات الصواري التي لا تقل أهمية عن موقعة ألا رمادا. ماذا كان يملك العرب.. لاشيء سوى العقيدة.
التفوق الروحي.. .. الإحساس بأنهم يقاتلون من أجل قيم أفضل ونظرة للوجود.. للإنسان.. للحياة ... أفضل من نظرة خصمهم وأحق بأن تنتصر.. أنظر إلى قيصر يرسل جاسوساً إلى معسكر المسلمين يتجسس له ليعرف سر انتصار هؤلاء الحفاة الذين صبروا عليهم في حصار حمص وقالوا هؤلاء الحفاة إذا جاء الشتاء..تجمدت أقدامهم وانهزموا.. فما راعهم إلا أنهم أكثر ثباتا على الصقيع منهم في نعالهم الثقيلة وملابسهم الغليظة!..(1/150)
يروي الطبري نقلا عن شيوخه.. أن قيصر بعث جاسوسه فعاد إليه بصفة المسلمين قال: ".. بالليل رهبان.. وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن أحد ملوكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم، فإنه الحق فيهم". لا أريد أن أناقش الجانب التاريخي من الواقعة فربما بعث قيصر، وربما لم يبعث، ولكن القصة تعكس فهم المسلمين لسر انتصارهم.. إنه أبدا ليس التفوق التكنولوجي ... بل التفوق الروحي.. بالعقيدة.. بها انتصروا.. وتعلموا.. وصنعوا..واخترعوا ... العقيدة.. وأثروا التاريخ البشري..نقطة البدء في كل حضارة هي العقيدة.. هي القيم الموجهة للجماهي، ر هي الأفكار التي توجه سلوك قيادتها.. والذين تسمموا بالغزو الفكري، يظنون أنه مما يتنافى مع التقدم الآلي أن يتمسك المرء بدينه ناسين أن الباب المفضي إلى المخابرات الأمريكية منقوش عليه آية من الإنجيل (1) ..
وأن أول دبابة إسرائيلية دخلت سيناء كانت تحمل نصا من التوراة.. يستخلصون لنا من أحداث الخامس من يونيه.. عبرة التكنولوجيا ثم لا يتساءلون ما الذي جعل المجتمع الذي يضم أخلاط الشعوب أكثر وحدة وأكثر تماسكا وأكثر إصرارا على الباطل، وأكثر قدرة على إنجاز التكنولوجيا والتفوق الآلي.. لأن شازار وبن جوريون يرفضان ركوب سيارة في لندن يوم السبت لأنه محرم في الديانة اليهودية.
وعندما اقترح أحدهم يوم الثامن من يونية أن يلغى الاحتفال بالمولد النبوي حتى لا يتعطل المجهود الحربي..! صحيح أن اقتراحه قد رفض، ولكن مجرد الاقتراح يكشف طبيعة التفكير العصري الذي قادنا إلى ما صرنا إليه.. ونحن تركنا من يتطاول على قرأننا وأمكن أن يطبع في بلد عربي مقال فيه سب الله سبحانه وتعالى قبيل النكسة بأيام!..
اليهود الذين عبدوا عجل الذهب.. عندما أرادوا أن يبنوا دولة ويقاتلوا.. عرفوا قيمة القيم الروحية..(1/151)
فلا سبيل أمام مجتمع متخلف ينشد الانقلاب الصناعي إلا اعتناق فلسفة خاصة وعقيدة خاصة مستقلة.. فابدأوا بالعقيدة قبل أن تتحدثوا عن العصرية.. وإذا كان الجميع يعترفون اليوم بأن ما طرح بيننا من وسائل إيقاظ القوى المعنوية لم يثمر ثمرته المرجوة، فإن من حق الأمة العربية أن تطالب اليوم
وتقول التفتوا هنا.. فأين هذه الأمة..
لا يصلح أخرها إلا بما صلح به أولها.. عودوا إلى الإسلام وامنحوا الجماهير عقيدة تقاتل تحتها.. وتنتصر من أجلها وبها..
تخوف من بعث إسلامي جديد في تركيا
نشرت صحيفة الجارديان البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 27-4-1968المقال التالي عن استنبول.
بعد أربعين سنة من قبول مبدأ العلمانية في تركيا بدأ التيار الرجعي الإسلامي ينتشر من جديد ويزحف متقدما في مختلف أنحاء البلاد، وقد أخذت الدوائر التقدمية التركية تشعر بقلق كبير وعميق من هذا التيار الذي يضطرد نموه، فهم يعتبرونه خطرا يتهدد الأسس العصرية التي يقوم عليها المجتمع التركي الذي أسسه كمال أتاتورك منذ أربعين سنة.
ولكن حكومة السيدسليمان ديميريل المحافظة وحزب العدالة الحاكم ينفيان وجود مثل هذا الخطر. ووجهه الرسمية تقوم على أساس أن الحوادث المتفرقة من الهجوم على أتاتورك تنظر فيها المحاكم الرسمية، وأما فيما عدا ذلك فيجب أن لا يكون ثمة قيود على حرية العبادة.
ظلت مسألة الحرية الدينية موضع خلاف شديد في تركيا منذ انتهاء الحكم الثيوقراطي (الديني) فيها. فلم يكن للعصبية الدينية الإسلامية أية وسيلة للتعبير في عهد أتاتورك ونظام الحزب الواحد، وإنما ظهر التيار الرجعي وبرز بعد أن تم إدخال نظام الديمقراطية البرلمانية عام 1950.(1/152)
ففي ذلك الحين خفف الحزب الديمقراطي الحاكم الضغط عن العصبية الدينية، وسمح بها من أجل كسب وتأييد أصوات الجماهير في المناطق الريفية الكبيرة والمحافظة (قام انقلاب عسكري في تركيا عام 1960 وأطاح بحكم الحزب الديمقراطي الذي كان يرأسه عدنان مندريس، وأعدم مندريس بعد ذلك بسنة) واليوم يوجه اللوم إلى حزب العدالة الحاكم لاتباعه سياسة الحزب الديمقراطي، ومن الجدير بالذكر أن حزب العدالة يعتبر الوريث الطبيعي للحزب الديمقراطي.
تساهلات
والواقع أن دعاة البعث الإسلامي الجديد في تركيا يستمدون شجاعتهم - فيما يبدو- من الموقف المتساهل الذي تتخذه الحكومة الحالية. ففي كثير من المساجد بدأ الخطباء والأئمة يهاجمون إصلاحات أتاتورك، بل إن بعضهم دعا علنا إلى العودة للعمل بالشريعة الإسلامية. وحث بعضهم -وهم في فورة الغضب من الرداء القصيص (المينى جوب) - النساء على الاحتشام وتغطية أجسادهن ورؤوسهن.
كذلك فقد وقعت عدة حوادث ضد تماثيل وصور أتاتورك وهي توجد في كل مكان في البلاد. وبدأت الصحف والمجلات الرجعية تظهر فجأة - وبكثرة - في الشهور الأخيرة، بل لقد دعت بعض هذه الصحف والمجلات صراحة إلى العودة إلى نظام الحكم الديني (التيوقراطية) .
ومن جهة أخرى فإن ثمة عددا من المنظمات المغرقة في التدين قد بدأت تعمل وتنشط، وهي تقوم بتوزيع رسائل ونشرات تدعو فيها إلى تغيير الدستور القائم وإعادة نظام الخلافة، وأشياء أخرى كذلك. ومن المعروف أن هذه المنظمات تتلقى التوجيه والتشجيع من جماعة الإخوان المسلمين والمنظمات الإسلامية الموجود في البلاد العربية المجاورة.
وفي القرى تجد المعلمين المسلمين (الخوجا) ينشطون وينافسون المدارس العلمانية، والمشكلة الأساسية هي عدم وجود عدد كاف من المدارس العلمانية الرسمية في جميع القرى والمجتمعات الصغيرة ومن ثم يبقى المجال مفتوحا للمتدينين المتعصبين.
عدو(1/153)
وفي أنقرة، أضرب طلاب كلية الشريعة احتجاجا على طرد زميلة لهم أصرت على ارتداء الخمار في قاعة الدرس. وقد طالب الطلاب باستقالة عميد الكلية ووصفوه بأنه - عدو الطلاب -ولقد تداولت الصحف بحث هذه القضية مطولا وهي الآن معروضة أمام البرلمان بعد أن تقدم بعض نواب حزب العدالة بطلب بحثها، وذلك دفاعا عن الفتاة.
هذا وقد قامت بعض المنظمات التي تطلق على نفسها أسماء - الوطنية – و المحافظة - بتنظيم مظاهرات عامة بحجة التنديد بالشيوعية وبالتنشيط اليساري المتزايد في البلاد. ولقد سار المتظاهرون في أنقرة واستانبول مؤخرا وهم يحملون أعلام خضراء - تمثل اللون الإسلامي - ورددوا هتافات تدعوا إلى - إعلاء كلمة الإسلام في تركيا – ولقد كانت هذه المظاهرات تناهض العلمانية والدعوة العصرية أكثر مما تناهض الشيوعية.
ومن جهة ثانية فإن مؤتمرا كبيرا للمنظمات اليمنية المختلفة عقد في أوائل شهر ابريل في مدية بورصة، ندد بإصلاحات أتاتورك وبثورة 1960.. وقد دعا الخطباء في المؤتمر إلى (إسلامية) المدارس والفنون والأدب - بما فيها المسارح ودور السينما كذلك! -.. كذلك فقد أعلنوا معارضتهم لتجديد اللغة التركية وألحوا في المطالبة بإلغاء المجلس العلمي للغة التركية - الذي يحاول تنقية اللغة التركية من الكلمات العربية - كما دعوا إلى جعل يوم الجمعة يوم العطلة الرسمية بدلا من يوم الأحد.
عداء
وتدخل السياسة كذلك في الحملة الجديدة، فيما يسمى بالمنظمات الوطنية والمحافظة، وأئمة وخطباء المساجد كذلك لا يقتصرون في موقفهم العدائي على مناهضة اليساريين فحسب، بل هم يعادون كذلك أكبر أحزاب المعارضة وهو حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك والذي لا يعتبر يساريا بل هو من اليسار المعتدل.(1/154)
وتشتد هذه الحملة مع اقتراب الانتخابات المحلية الفرعية لمجلس الشيوخ, والمحدد لها يوم 2 يونيو.. وقد صرح عصمت اينانو زعيم حزب الشعب الجمهوري بأن هذه الحملة قد تؤدي إلى عداء حاد بين المواطنين، ولقد أصبحت حماية الأسس العلمانية التي تقوم عليها الجمهورية التركية ضرورة حتمية على جميع العناصر التقدمية في البلاد.
إن كثيرا من الأتراك مهتمون وقلقون مما يمكن أن يؤدي إليه التيار الجديد، وهم يتخوفون من أن هذا التيار قد يؤدي إلى انقسام عميق الجذور في صفوف الأمة، ويتهدد الاستقرار البرلماني في البلاد وقد علقت صحيفة (المدينة) السعودية على هذا المقال بما يلي:
الكاتب اليهودي الغيور على مصلحة تركيا يحرض على ضرب المسلمين فيها. تركيا كانت قلعة الإسلام في الماضي، وفي عودتها إلى حظيرته خطر كبير على أعدائه ...
ثمة عدد من الملاحظات تثار في الذهن لدى قراءة هذا المقال. وأولى هذه الملاحظات هي تخوف الكاتب وقلقه البالغ على ضياع العلمانية في تركيا. ذلك الحرص الذي يشبه في كلاحته حرص البخيل على جوهرة غالية ثمينة كلفته جهدا ومشقة كبيرتين حتى امتلكها. فالمقال يصور التيار الإسلامي الجديد في تركيا وكأنه غول رهيب يتجمع لينقض على الحمل الوديع الجميل الذي هو العلمانية، ويفترسه معملا فيه أنيابه تمزيقا وتقطيعا. ولا شك أن لهذا الخوف أسبابه الكثيرة.
ظلت تركيا فترة طويلة تقف عملاقا ضخما في وجه تيارات الصليبية والإلحاد التي حاولت غزو العالم الإسلامي. وكان وقوف تركيا هذه الوقفة السبب المباشر في فشل كل المخططات التي أعدت لإخضاع الشرق الأوسط لسيطرة أوروبا. ويشهد التاريخ أن الاستعمار الأوروبي لم يستطع أن يغزوا العالم الإسلامي إلا بعد ضعف تركيا. ومن ذلك كان المخطط الاستعماري المجرم سلخ تركيا عن صبغتها الإسلامية..(1/155)
وواضح من المقال خوف الكاتب وذعره من الحقيقة الهائلة من حقائق دين الإسلام وهي أنه برغم مرور أربعين عاما على تأسيس المجتمع العلماني في تركيا التي كانت قلعة الإسلام فإن شبابا ناشئين قد بدأوا يركزون على الدعوة إلى العودة إلى الله. إن هؤلاء الشباب الذين نشأوا في ظلال وتحت سيطرة العلمانية نفسها التي يخشى عليها الكاتب.. قد عرفوا خواءها وهزالها, ودعوا بدعوة الحق. وأن الكاتب وأمثاله يعرفون أن معنى عودة الإسلام إلى تركيا وسيادته فيها عقيدة ونظام حياة سيعنى أن تعود للإسلام قلعته الكبرى، ومن ثم ينطلق انطلاقه جديدة تقضي على محاولات ومخططات أعدائه. ومن هنا كانت دعوة الكاتب إلى أخذ الحذر من التيار الجديد.
والكاتب معذور - لا شك - في تخوفه، فهو يهودي عريق وعتيق، وهو يعلم أن انطلاقة إسلامية جديدة ستعني - من بين ما تعني - إعادة الحق إلى نصابه في فلسطين، واقتلاع الوجود اليهودي فيها من جذوره، وهذا تفسير علامات الهلع في مقالته.
ولكن دعوة الإسلام ستنطلق إن شاء الله، وتحطم العلمانية وأسسها، وتزيل ذلك الذل الذي جلبته على تركيا المسلمة، والذي من مظاهره أن يهوديا مثل سام كوهين هذا، يكتب مقالا يحذر فيه من الإسلام بحجة التخوف على (مكاسب) العلمانية. ألست ترى حقده الأسود، ومكتنفات نفسه الكالحة تلمح بين سطور مقاله، ودليل على ذلك تلك الشواهد التي استشهد بها. فهو ينكر على أئمة المساجد إنكارهم للبس المرآة الرداء القصيص (الميني جوب) ويتشفى من الفتاة المسلمة التي أصرت على ارتداء خمارها في قاعة الدرس. لماذا يرى كوهين أن بحث القضية في البرلمان أمرا ذا مغزى خطير؟..(1/156)
والكاتب اليهودي يحرض تحريضا واضحا يضمنه سطور كلماته بأنه لا بد من اتخاذ إجراءات سريعة وفعالة لوقف التيار الإسلامي الذي يصفه بالرجعية (تماما مثل أدعياء التقدمية في بلادنا) قبل أن يلتهم هذا التيار العلمانية المحببة إلى كوهين وأمثاله من الحاقدين. والإجراءات التي يلمح إليها كوهين هي:
1- إقصاء حزب العدالة الحاكم في تركيا عن الحكم لأنه (محافظ) (ومتساهل) ما يمكن لهذا التيار الإسلامي سبيل الانتشار والمد. وسواء كان هذا الإقصاء بانتخابات مزيفة أو بانقلاب عسكري جديد فالمهم عنده هو فرض حزب الشعب الجمهوري على حكم البلاد لأنه حزب أتاتورك، ولأنه سيقمع بشدة كل من ينتقد أتاتورك.
2- توجيه ضربة قاضية إلى المنظمات الوطنية والمحافظة التي انتقدت ما اسماه - إصلاحات -أتاتورك، حتى لا تقوم لها قائمة, ولا مانع بعد ذلك إن جاءت الشيوعية إلى تركيا، نظرا لانعدام مقاومة اليمين بعد ضرب تلك المنظمات. أو ليست ستشجع البنات على لبس الرداء القصير (الميني جوب) وستغلق كلية الشريعة فلا يضرب طلابها من أجل زميلة؟
3- حظر كافة الصحف والمجلات التي تدعو إلى التمسك بتعاليم الإسلام، نظرا لما يكتنفه وجود مثل هذه الوسائل الإعلامية من خطر، إذ تذكر الناس بماضيهم الإسلامي المجيد، فيسعون إليه بعد أن (حررتهم) منه العلمانية.
4- تنظيم ضربة ماحقة تنزل بكل الحركات الإسلامية في البلاد العربية المجاورة لتركيا، حتى لا يتسرب نشاطها لتركيا(1/157)
ولا بد لنا هنا من وقفة صغيرة لنمحص قول الكاتب اليهودي بأن الحركات التي تصطبغ بالصبغة الإسلامية تتلقى التوجيه والتشجيع من الحركات الإسلامية القائمة في البلاد العربية المجاورة. ترى كيف سبيل هذا التوجيه وما هي طبيعة ذلك التشجيع؟. إن الدولتين العربيتين الوحيدتين المجاورتين لتركيا هما سوريا والعراق، ولقد كانت العلاقات بين سوريا وتركيا طوال السنين الماضية علاقات غير طبيعية أو ودية. والحكم القائم في سوريا منذ خمس سنوات حكم يدخل في نطاق الأنظمة التي يصفها كوهين بأنها (تقدمية) وهو يعمل على سلخ سوريا من صبغتها الإسلامية، وهو لا يترك سبيلا للضرب على يد الحركة الإسلامية في سوريا إلا ويتبعه. والحركات الإسلامية هناك ليس لديها وقت يكفيها لأداء واجبها في مقاومة الزحف الإلحادي الذي يدعمه الحاكمون، وإيقافه عند حده. وأما في العراق فقد بدأت العلاقات بين تركيا والعراق مؤخرا تتجه إلى العودة إلى سابق عهدها بعد توتر طويل. وأين الحركة الإسلامية في العراق؟، وأين جماعة الإخوان المسلمين الذين يشير إليهم كوهين وإلى نشاطهم ودعمهم للمد (الرجعي) في تركيا؟.
إن كوهين إنما يحرض على ضرورة توجيه ضربة قاصمة لكل الحركات الإسلامية في بلاد العالم الإسلامي حتى لا يتردد صوت الإسلام فيزعج حسه المرهف، وحس أمثاله من اليهود الحاقدين. ففي ظهور الإسلام نهايته ونهاية إسرائيل واليهودية العالمية.
ترى هل نتنبه إلى خطر اليهود كما يتنبهون إلى أخطارنا؟ وهل نعي كلمة هذا اليهودي أم ستمر كما مر غيرها كثيرا؟.
لا حرية في الهدم
من أراد أن يحمل المعول ليهدم بيتي لا أتركه يتم عمله باسم الحرية، ولكن آخذ على يده باسم الحق، ولا أدعه يتلذذ بمناظر الخراب باسم الفن، ولكن أجرعه مرارة العقاب باسم القانون.
((هكذا علمتني الحياة))
---
(1) من كتاب الحكومة الخفية.(1/158)
معركة الإسلام على مدى التاريخ
للشهيد سيد قطب
إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائما هو الذي بصورة هذه الآيات: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} .
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين، وسنتكلم أولا عن المشركين ثم عن أهل الكتاب:
وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما ختم بهذه الرسالة، وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق، فإن أبعاد المعركة تترامى، ويتجلى الموقف على حقيقته، كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء!.
ماذا صنع المشركون مع نوح، وهود, وصالح، وإبراهيم، وشعيب، وموسى، عليهم صلوات الله وسلامة والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به كذلك؟ .. إنهم لم يرقبوا فيهم إلاٍ ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم..
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟ ثم ماذا يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرنا بالمسلمين في كل مكان؟ .. إنهم لا يرقبون فيهم إلاٍ ولا ذمة، كما يقرر النص القرآني الخالد..(1/159)
عندما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ أبي الفداء (ابن كثير) المسمى (البداية والنهاية) فيما رواه من أحداث عام 656هـ:
"ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان. ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشو ش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أيام لا يظهرون. وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسلحة حتى ترى الميازيب من الدماء في الأزقة فإنا لله وإنا له راجعون - كذلك في المساجد والجوامع والربط. ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم (1) وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار اخذوا أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.(1/160)
وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.. وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الموقعة. فقيل ثمانمائة ألف. وقيل ألف ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس - فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما.. وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر، وعفي قبره وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام.. وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة. ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم..
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبدا لله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحد بعد واحد. منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين ايبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.. وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي ابن النيار. وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن. وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد.."(1/161)
"ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما، بقيت بغداد خاوية على عروشها, ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.."
"ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا، فلا يعرف الوالد ولده، والأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى..".
هذه صورة من الواقع التاريخي، حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يرقبوا فيهم إلاٍ ولا ذمة.
فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات، اختص بها التتار في ذلك الزمان؟(1/162)
كلا! إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صورة عن هذه الصور!.. إن ما وقع من الوثنين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد.. إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند -ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فأثروا الهجرة على البقاء - قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط! أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا في الطريق.. طلعت عليهم العصابات الهندية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيدا والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق، وتركت جثثهم نهبا للطير والوحش بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة لا تقل - إن لم تزد - على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد!.. أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان، حيث تم الإنفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان، واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف.. ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية.. وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار!. لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة القطار في النفق، ولم تسمح له بالمضيء في طريقة إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء!. وصدق قول الله سبحانه: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّة} .. وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى حتى الآن..(1/163)
ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟.. لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليونا.. بمعدل مليون في السنة.. وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق.. ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان. لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين، فحفرت له حفرة في الطريق العام، وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية - التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعا لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام!! - فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته.. وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات!.
كذلك فعلت يوغوسلافيا بالمسلمين فيها. حتى أبادت منهم مليونا منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي - التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين في (مفارم) اللحوم التي تصنع لحوم (البولوبيف) ليخرجوا من الناحية الأخرى عجيبة من اللحم والعظام والدماء - ماضية إلى الآن!!.
وما يجري في يوغوسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية.. الآن.. في هذا الزمان.. ويصدق قول الله سبحانه: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} ، {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} ..
هذا ما كان من شأن الوثنين حينما ظهروا على المسلمين، فماذا كان من شأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى؟
فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم وحربهم، وقد وعى التاريخ من ذلك كله مالم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة!.(1/164)
ولسنا هنا في مجال عرض هذا التاريخ الطويل، ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ..
لقد استقبل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولا يعرفون صدقه، ودينا يعرفون أنه الحق..
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود.. شككوا في رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهم يعرفونه، واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو، وبالتهم والأكاذيب. وما فعلوه في حادث تحويل الكعبة، وما فعلوه في حادث الإفك، وما فعلوه في كل مناسبة ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم.. وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم، وسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير..
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} .. [البقرة 89- 90]
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .. (البقرة 101) .(1/165)
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .. (البقرة 142) .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟} . (آل عمران 70-71) .
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . (آل عمران 72)
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . (آل عمران 78)
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . (آل عمران 89-99) .
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَات..} . (النساء 153) .
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .. (التوبة 32) .(1/166)
كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر. كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب مما هو معروف مشهور. ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ.. كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير.. وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي - رضي الله عنه - ومعاوية.. وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير.. وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية..
فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض، وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي، وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي!.
ذلك شأن اليهود، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب فهو لا يقل إصرارا على العداوة والحرب من شأن اليهود!.
لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون.. ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة، وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته.. (المسيحية) وهو ركام من الوثنيات القديمة، والأضاليل الكنسية، متلبسا ببقايا من كلمات المسيح- عليه السلام - وتاريخه.. حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخية قديمة، وعداوات وثارات عميقة ليواجهوا هذا الدين الجديد.(1/167)
ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين، وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عامل بصري من قبل الروم، وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتلوه مما جعل رسول الله يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة زيد بن حارثة, وجعفر بن أبي طالب، وعبدا لله بن رواحه، في غزوة (مؤتة) فوجدوا تجمعا للروم تقول الروايات عنه: إنه مائة ألف من الروم ومعهم من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى، وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل. وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة.
ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم سورة التوبة. ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قبيل وفاته، ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أطراف الشام، لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين! ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال افريقية وجزر البحر الأبيض، ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية.(1/168)
إن (الحروب الصليبية) المعروفة بهذا الاسم في التاريخ لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام.. لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير.. لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد.. منذ أن نسي الرومان عداوتهم مع الفرس، وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة. ثم بعد ذلك في (مؤتة) ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة.. ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربا، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيرا من قبل.. وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم، ولا تراعي في المسلمين إلا ولا ذمة..
ومما جاء في كتاب (حضارة العرب) لجوستاف لوبون وهو فرنسي مسيحي "كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب، مما بكرة أبيهم فقتل منهم اثنا عشر ألفا وألقى الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص، حين منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا. أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد أثناء مرضهما" (1) .
كذلك كتب كاتب مسيحي آخر اسمه (يورجا) 2 يقول:(1/169)
"ابتدأ الصليبون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها. وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون، ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبين، ووفى لهم بجميع عهوده، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطؤوهم مهاد رأفتهم، حتى أن الملك العادل شقيق السلطان، أطلق ألف من الأسرى ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن".
ولا يتسع المجال هنا لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدى التاريخ - ولكن يكفى أن نقول: إن هذه الحروب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية. ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثا حيث أبيد المسلمون فيها عن جوعا وعطش، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد!. ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في أريترية وفي قلب الحبشة، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال!. ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي!.
ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه:
"لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ولكنا بعد اختبار لم نجد مبررا لمثل هذا الخوف.. لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، والخطر البلشفي. إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه! إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد!. ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا. أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها. ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي" (1)
---(1/170)
[1] ذلك أن اليهود والنصارى (من أهل الذمة) كانوا ممن كاتب التتار لغزو عاصمة الخلافة والقضاء على الإسلام والمسلمين فيها، وممن دلوا على عورات المدينة وشاركوا مشاركة فعلية في هذه الكارثة، واستقبلوا التتار الوثنيين بالترحاب، ليقظوا لهم على المسلمين الذين أعطوهم ذمتهم ووفروا لهم الأمن والحياة.
[2] نقلا عن كتاب، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام للأستاذ علي منصور.
[3] من كتاب جورج براون نقلا عن كتاب: التبشير والاستعمار في البلاد العربية للدكتور مصطفى خالدي، والدكتور عمر فروخ.(1/171)
مكتبات المدينة ومخطوطاتها
للشيخ محمود ميره
المدرس في الجامعة
كانت المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى، منها انطلقت رسالته تحمل إلى العالم أروع حضارة عرفها الإنسان أو سيعرفها، وقد كان العلم في مقدمة الأسس التي شيد عليها صرح هذه الحضارة الشامخ، وكلنا يعلم كم حض الإسلام على طلب العلم، وكم رفع من شأن العلماء، وكم أقبل المسلمون على الدرس والتحصيل حتى ملؤوا العالم الإسلامي من قرطبة إلى القاهرة، ومن دمشق إلى بغداد.. إلى بخارى وسمرقند كتبا ومكتبات، بحيث عاش العالم كله تحت سيطرة المسلمين الفكرية قرابة خمسة قرون!!
ولولا الحروب الداخلية، والخصومات المحلية، التي أوهت العالم الإسلامي، وفتتت قواه، وعاقت مسيرته العلمية الحقيقية، لبقي لواء زعامة المعرفة معقودا للمسلمين حتى يوم الناس هذا.. وحسبنا أن نعلم أن جامعات الغرب كانت إلى عهد ليس ببعيد تعتمد على المؤلفات التي جادت بها قرائح المسلمين، وأضاءت من آفاق المكتبات الإسلامية، فكتاب (القانون في الطب) لابن سينا لبث من القرن الثاني عشر حتى القرن السابع عشر الكتاب الأول الذي تعول عليه جامعات فرنسا وإيطاليا كلها في دراسة الطب، بل كانت المحاضرات تلقى حوله حتى بداية القرن التاسع عشر!! وقد أتى على باريز حين من الزمن كان كتاب (الحاوي) للرازي أحد تسعة مراجع تتألف منها مكتبة الهيئة الطبية فيها!!(1/172)
فليس من المستغرب – إذن- أن نرى المدينة المنورة، عاصمة الإسلام الأولى، تملأ المكتبات جنباتها، فالحرم المدني - مثلا - يضم مكتبتين عظيمتين هما المكتبة المحمودية، ومكتبة الحرم، وتقع إلى جانبه من الجهة الجنوبية مكتبتان أخريان هامتان هما مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، ومكتبة المدينة المنورة، وقد ضمت هذه المكتبات كثيرا من المخطوطات التي تعتبر من عيون التراث الذي خلفه لنا أجدادنا الأفذاذ.. وبودنا أن نعرف بأهم هذه المخطوطات خدمة للعلم وإنقاذا من الإهمال وربما الضياع، ومخطوطتنا التي سنتكلم عنها اليوم هي لعالم علامة، وحافظ فذ واع، هو الإمام أحمد بن الحسين البيهقي.
وصف المخطوطة
عدد أوراقها 285 ورقة قياسها 21×14سم في كل صفحة 23سطرا، في كل سطر 11كلمة خطها جيد وصفحاتها مذهبة الإطار.
لم تبين سنة كتابتها، ويظهر أنها من خطوط المتأخرين، ولا يوجد عليها سماعات ولا بلاغات ولا مقابلات من أولها إلى أخرها وهي بحالة سليمة.
مجموعة للبيهقي
عدد أوراقها: 285ورقة رقم 78مجاميع حديث.
تضم الكتب التالية:
1- مجموع كلام الإمام الشافعي رحمه الله في أحكام القرآن العظيم. عدد أوراقها 2-82
2- كتب الانتقاد على أبي عبد الله الشافعي رحمه الله. عدد الأوراق: 82- 116.
3- كتاب حياة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. عدد الأوراق 116- 132.
4- الكلام على حديث الجد يباري عدد الأوراق: 132-221.
5- إثبات عذاب القبر. عدد الأوراق: 221-225.
6- كتاب بيان خطأ من أخطأ على الشافعي رحمه الله. عدد الأوراق 225-230
7- جماع أبواب قراءة القرآن في الصلاة على الإمام والمأموم. عدد الأوراق: 230-235.
8- فصل في الخاتم من كتاب الجامع له رحمة الله تعالى. عدد الأوراق: 235-243.
9- رسالة إلى أبي محمد الجو يني رضي الله عنه. عدد الأوراق: 243-285.
التعريف بالكتاب الأول(1/173)
وصف جزء من مجموع كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في أحكام القرآن قال البيهقي في الصفحة الأولى:
"وقد صنف غير واحد من المتقدمين والمتأخرين في تفسير القرآن ومعانيه وإعرابه ومبانيه، وذكر كل واحد منهم في أحكامه ما بلغه علمه وربما يوافق قوله قولنا وربما يخالفه، ولقد رأيت من دلت الدلالة لنا على صحة قوله أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله قد أتى على بيان ما يجب علينا معرفته من أحكام القرآن، وكان ذلك مفرقا في كتبه المصنفة في الأصول والأحكام فميزته وجمعته في هذه الأجزاء على ترتيب المختصر ليكون ذلك منه على من أراده أيسر ... "
ثم قال: "فصل ذكره الشافعي في التحريض على تعلم أحكام القرآن".
ثم ثنى "فصل في معرفة العموم والخصوص".
ثم ثلث "في فرض الله عز وجل في كتابه اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم".
ثم "فصل في تثبيت خبر الواحد من الكتاب".
حيث كتب في آخر النسخة ما يلي:
"نقل من أصل نسخة مسموعة على الشيخ الإمام أبي محمد عبد الجبار محمد الجواري البيهقي بروايته عن المصنف سماعا أو بالإجازة التي لا شك فيها بقراءة أحمد بن إسماعيل القزويني، وسمع المرادي وابن فادوا ولعالي الطبري، وعورض بها والحمد لله أولا وآخرا.
وعلق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في آخر هذا الجزء بأنه الجزء الأول فقط.
كتاب بيان خطأ من اخطأ على الشافعي رحمه الله
قال البيهقي في ص 2:
"ثم حين صنفت كتاب معرفة السنن والآثار عن الشافعي تبينت فيه ما عثرت عليه من خطأ من اخطأ عليه في الأخبار، فسألني بعض إخواني من أهل العلم بالحديث إفراده بالذكر عن كتاب المعرفة لما فيه من زيادة المنفعة لمن تتبع السند أو المختصر في الوقوف عليه ولم يهتد من كتاب المعرفة إليه فأجبته ... "
حديث في العقول
حديث في السواك
حديث في فضل الوضوء وثوابه
لم يذكر في آخرة أي شيء.
عدد الأوراق: 81-114.(1/174)
الأول والثاني من الانتقاد على أبي عبدا لله بن إدريس الشافعي. رحمه الله تعالى
أما بعد فقد انتقد على الإمام الشافعي بعض المخالفين حروفا من العربية زعموا أنه خالف فيها أهل اللغة، وقد ذكرنا في كتاب المناقب في الجزء العاشر منه شهادة جماعة من أئمة أهل اللغة للشافعي رحمه الله بأنه إمام في اللغة، وأن قوله فيها حجة. فأول ما نتقد عليه قوله:115- 130
جماع أبواب وجوب قراءة القرآن في الصلاة على الإمام والمأموم والتفرقة في كل ركعة منها وبيان تعيينها بفاتحة الكتاب
أوله: الدليل على أن قراءة القرآن ركن في الصلاة وأنها واجبة في كل ركعة منها. 131-219 ص (220) كتاب:
فيه ما ورد في حياة الأنبياء صلوات الله عليهم بعد وفاتهم، وفصل في كتاب الجامع في الخاتمة، والكلام على الحديث الذي رواه أحمد بن عبد الله الجويباري بإسناده عن عبد الله ابن سلام وفيه ألف مسألة سئلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جمع الشيخ أبي بكر أحمد بن الحسي البيهقي رحمه الله.
رواية ابنه أبي علي إسماعيل بن أحمد أنبأ به عنه الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر محمد ابن عبد الله بن أحمد بن جيبة العامري البغدادي أيده الله، وأخبرنا بكتاب الأنبياء وبالفصل في كتابه إلينا من نيسابور الشيخ الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوا زن القشيري عن البيهقي.
كتاب حياة الأنبياء
220-224
فصل من كتاب الجامع في الخاتم 225-229
الكلام على حديث الجويبباري 230- 233
رسالة نفذها الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي إلى الإمام أبي محمد الجو يني مستدركا فيها عليه في أول تصنيف شرع فيه سماه المحيط استدراكا فيما يتعلق بعلم الحديث وغيره.
234- 242
وهي رسالة مهمة. قال في أخرها: "فلما وصلت إليه هذه الرسالة وقرئت عليه قال هكذا بركة العلم وترك تمام التصنيف".(1/175)
كتاب إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين على ما وردت به الشريعة بالآيات المتلوة والأخبار المروية، وأتى قبل سلف هذه الأمة مع جواز ذلك بالفعل في قدرة الله سبحانه وتعالى. 243- 285
ختم ب أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس ابن محمد حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبو عقيل عن يزيد بن عبد الله بن الشخير قال:
"بينما رجل يسير في أرض إذ انتهى إلى قبر فسمع صاحبه يقول: آه آه فقام على قبره قال:
فضحك عملك وافتضحت". تم بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.
اتفق الفراغ منه يوم الاثنين خامس عشر ربيع الأول من سنة ست وعشرين وستمائة بدمشق على أصله ما صورته رأيت في نسخة الإمام أبي مسعد السمعاني الذي نسخ هذه النسخة وهو كتاب الزهد في خمسة أجزاء منه هذه النسخة ما صورته هذه: قرأ كتاب الزهد الكبير الإمام الحافظ أبو القاسم على بن الحسين بن هبة الله الدمشقي على أبي القاسم السماعي وسمع ... زاهر والإمام الأمير أبو المعالي طفر لشاه بن محمد بن الحسين الكاشفري في رجب سنة ثلاثين وخمسمائة بنيسابور نقله ابن الوزير الدمشقي من خط الإمام الحافظ زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي حرس الله جماله وغفر له.
في جمادى الآخر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة بمرو والحمد لله وحده. نقله كما شاهده عبد الجليل بن عبد الجبار..
قوبل بأصل الحافظ أبي القاسم الذي بخطه والحمد الله وحده.
هذا وللبحث بقية ستأتي إن شاء الله نوضح كل رسالة وكتاب من الرسائل والكتب المتقدمة، ونذكر إن كان مطبوعا أو لازال في عالم الغيب مخطوطا، ونذكر النسخ الموجودة منه في المكتبات العالمية، ونشير إلى أهمية هذه المخطوطات ونعرف بالتفصيل بكل منها.(1/176)
ملحمة قرآنية
للشيخ محمد المجذوب المدرس في الجامعة
قصة موسى للقلوب ذكر
لا تنتهي، وللعقول عبر
اليتم وافاه إلى بطن أمه
واستقبل الفقر بزوغ نجمه
وصب فرعون على الأطفال
من قوم موسى حمم الِنكا
مجزرة رهيبة عصيبة
قد نال منها جلهم نصيبه
وذاك أن الكاهنين أخبروا
أن هؤلا كاسحا سيظهر
يكون في حلوله النهاية
لعرشه، وفي رداه آية
وكل ذا على يدي وليد
من آل يعقوب على التحديد
فلم يجد جسرا إلى النجاة
إلا على الأشلاء والهامات
فأترع الغاشم بالدم الثرى
وأتخم السياط من لحم الورى
من كل مولود بعمر البرعم
لم يقترف نكرا ولما يأثم
حتى رأى الجزار أن الخطرا
قد زال عن حياته وانحسرا
-2-
وذات يوم حمل الماء إلى
حدائق الطاغي وعاء مقفلا
فأقبلوا يستطلعون أمره
ليحملوا إلى الظلوم سره
ففوجئوا بطلعة كالقمر
يزوي سناها برفيف الزهر
طفة تسبي القلوب والنه
بما تسربلت به من النهى
..وهم فرعون بأن يسلبه
حق الحياة يتحدى ربه
لكن أمر الله كان الغالبا
فكف عنه لطفه المعاطبا
وهكذا احتواه قصر القاتل
فكان فيه بهجة المحافل
كل يود لو يراه راضيا
عنه ليحظى بالثناء غاليا
وهكذا صين من الإيذاء
وهو بكف شارب الدماء
في غمرة اللظى ولا يحترق
لا بدع فالله هو الموفق
أن يرد الأمر يسهل سبله
حتى ترى أعداءه يسعون له
فهم برغم أنفهم في خدمته
ليعلن الله خفي حكمته
.. وأمسك الطفل عن الأثداء
وعاف كل لبن وماء
فانطلقوا يلتمسون مرضعة
تسعد ذا الطفل ولا تشقى معه
وكانت أخته تقص أثره
عن كثب وتستبين خبره
فابتدرت ترشدهم إلى اللتي
لما تزل ترقبه في لهفة
ورد للأم فطارت جذلا
بعد فراق كاد يمحوا الأملا
- 3-
وراح موسى في ظلام الكفر
يشب كالواحة وسط القفر
ما أن تزيده خطى الليالي
إلا نفارا من أولي الضلا
.. وهاله البغي الذي رآه
يصبه الطاغي على أسراه
فبات يغلي صدره بالحنق
على أولئك العتاة النزق
لكنه لم يدر ماذا يصنع
وهو الذي ليس له من يسمع
وذات يوم بينما يسير(1/177)
بين الجموع وهو لا يحير
أتاه صوت خائف مظلوم
يلتمس العون على ظلوم
فلم يطق صبرا على ما وجدا
ووكز العادي فوافاه الردى
فبات موسى خائفا يرتقب
حصاد ما جر عليه الغضب
ولم يطل مقامه حتى مضى
مسلما زمامه إلى القضا
-4-
وبعد لأي ساقه التيار
إلى شعيب، ولنعم الجار
وقص فحوى أمره عليه
ثم أصاخ مطرقا إليه
فقال: أنت آمن في كنفي
ومن يعذ بربه لم يخف
ولبث الفتى بظل مدينا
ثمانيا كن له فوق المنى
حتى إذا وفى صداق أهله
فارقه في لهفة لأهله
وفي الظلام أدرك المخاض
أم بنية، وخلا الوفاض
ولاح عن بعد له لألاء..
فقال: دفء ذاك أو ضياء
لكنه ما أن دنا حتى سرى
في سمعه مالم يكن منتظرا
..ورقت النجوى وطاب الكلم
ونال موسى علم مالا يعلم
ومن هنا مضى نبيا مرسلا
يحمل أمر الله والآي العلى
-5-
وما سوى إيمانه من عون
واقتحم القصر على فرعون
محاولا بث الهدى في قلبه
وبلغ الطاغي وحي ربه
ولم يزده اللين إلا عسرا
لكنه لم يبد إلا كبرا
ذاك الغشوم المستبد العاتي
وظل رغم رؤية الآيات
لقهر موسى كل من به اشتهر
قد ظنها سحرا فنادى فحشر
عند ازدحام القوم في المدينة
وجعل الموعد يوم الزينة
واظطرم البغي، وجن الغي
وصفت الأحبل والعصي
فخيلوا الساق إليهم رأسا
واسترهب المشعوذون الناسا
لولا نتداء من وراء الحجب:
وكاد يعرو الخوف أعصاب النبي
إذن ترى الباطل كيف يزهق
لا تخش واقذف بالعصا ما اختلقوا
إذا أبصروا خلف عصا موسى الهدى
هنا خر الساحرون سجدا
فطاش حتى لم يطق من صبر
وكان فرعون يرى ما يجري
كادت تشل فجأة سريرة
ويالها فضيحة كبيرة
يكبح عنه يقظة الألباب
لذاك لم يلف سوى الإرهاب
مقطعي الأوصال والأعضاد
فعلق القوم على الأعواد
إلا الذي تشاهدونه هنا
يقول: ليس للعصاة عندنا
عن أمرنا.. والويل للمخالف!
ذاك المصير حظ كل صادف
-6-
وامتحنت مصر بالآفات الكبر
من شؤم فرعون ورهطه الأشر
فالدم والقمل والضفادع
بعض الذي جاءت به الفجائع
فلم يروا منجي من الدواهي(1/178)
إلا بإطلاق عباد الله
فقاد موسى تلكم الأساري
إلى عرين الأسد في الصحاري
لينفضوا عن طبعهم ما علقا
من دنس الذلة في عهد الشقا
لكن فرعون ومن قد صانعه
رأوا خلاص القوم خسرا وضعه
لذا عدا وراءهم بقوته
يريد ردهم لصون هيبته
فصاح: كلا.. لا مكان للوهن
إن معي ربي سيدفع المحن
-7-
وجاءه الوحي: أن أضرب بالعصا
في البحر يفسح للحيارى مخلصا
وشد فرعون وراء القوم
فكان للباغين شر يوم
إذ أطبق الموج عليهم أجمعا
فلم يدع لراج مطمعا
وهاهنا أقر فرعون بما
أنكر من قبل عنادا وعمى
يهتف آمنت برب موسى
والموت ماض يخطف النفوسا!
وأبهج المستضعفين أن يروا
معذبيهم يصطلون ما جنوا
.. ويقذف البحر أخيرا بدنه
لينشق المضللون تتنه
فيعلموا أن الذي قد عبدوا
لم يك إلا جيفة وتفسد!
-8-
لكن موسى لم يجز ذا الخطرا
حتى تلقى من يهود الأخطرا
فكم عليه فتنه أثاروا
وفرية ليس لها قرار
حتى لقد رموه بالفجور
وهو الذي في الطهر صنوا النور
وكان ذا على يدي قارون
ويل أمه من آفك مأفون
أثقله الله بأعباء النعم
فقابل الفضل بأصناف النقم
وراح يستعدي على الرسول
كل دني النفس والميول
حتى لقد أغرى به، وما أرعوى،
ذات سفاه من حظيات الهوى
زودها بالتهم الحقيرة
ومدها بالمنح الكبيرة
فأقبلت تقذفه بالمنكر
في قحة الوغد، وكيد الفجر
ويا لهول المأزق المضعضع
أي حجي في مثله لم يضع
لكنها النبوة العلية
موصولة بضابط البرية
سر من الله الذي لا يغلب
وليس عن عينية شيء يعزب
فثق إذا بنصره يا موسى
ألست في عصمته محروسا؟
-9-
وفي وقار الرسل الهداة
واجه موسى خطط الغواة
فقام يستنطقها مستحلفا
بمن لهم شق الخضم واصطفى
(إلا كشفت عن دفين الصدر
حتى يبين الحق دون ستر)
ولم تطق صبرا على الكتمان
أمام ذاك الوازع الرباني
فاندفعت تصرخ في غير هدى:
قارون قد أضلني وأفسدا,,
واتضحت قواعد المؤامرة
لكل ذي بصيرة وباصره
فلم يعد خيرا بقاء الظالم
يشيع روح الإثم والمظالم
فأمر الله الثرى فامتثلا(1/179)
لأمر موسى وغدا مذللا
فصاح: يا أرض خذيه وابلعي
قصوره وما حوت من متع
وغاص قارون.. وغاص الذهب
وعقد الألسن ثم الرهب
وقال كل راغب في ما ملك
الحمد لله نجونا وهلك
لو لم يمن ربنا علينا
لساق مثل خزيه إلينا!
-10-
وهكذا يرتفع اليتيم
ويسقط الظلوم والعظيم
وكم بذاك وبذا من عبر
يتحفنا لها لسان القدر
ليعلم المستيئسون الغفل
بأن نصر الله حتما مقبل
وليس فرعون وقارون إذن..
سوى مثال البغي في كل زمن
يكرر التاريخ فيه نفسه
فيومه يكاد ينسي أمسه
فانظر هنا، ثم تأمل ثما
تر الأباة يجرعون السم
حتى العذاري يقتحمن الحمما
مهتكات يجتررن العلقما
وليس من ذنب سوى الإيمان
أن لا حياة بسوي القرآن
وكل ما يدعونه عدالة
في غيره ليس سوى ضلالة
..فقل لجلادي الهداة الشرفا
والقاذفي بالإفك جند المصطفى:
الله أعلى منكم وأقدر
ومكره من كل مكر أكبر
لكنه يمهل أهل الباطل
حتى تموت حجة المجادل
وعند ذاك يبدأ الحساب
والويل حين يهجم العذاب
وقد لمستم – لو عقلتم – نذره
بالنكبات السابقات غيره
فالنمل والسيول والحرائق
والجدب والإفلاس والبوائق
حتى حقولكم، وكانت مصدرا
للرزق غاض خيرها فما يرى
فأنتم لولا هبات الغربا
ما وجدت بطونكم غير الهبا
وليتكم تنتفعون بالنوب
إذن دفعتم عن حماكم العطب
لكنكم ألفتم الظلاما
فلا ترون في الجنون داما
وهو لعمري الخلق القديم
يعيد ما قد لقي الكليم
فارتقبوا عواقب الجناة
واستيئسوا من أمل النجاة
.. ويا جنود الحق: صبرا إنها
هنيهة.. ثم يكون المنتهى.(1/180)
العدد 2
فهرس المحتويات
1- على طريق العلم: لفضيلة نائب رئيس الجامعة - الشيخ عبد العزيز بن باز
2- في إفريقية الخضراء: للشيخ محمد بن ناصر العبودي
3- رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
4- أخلاق الشباب المسلم: للدكتور محمد تقي الدين الهلالي
5- إستعلاء الإيمان: للشيخ محمد المجذوب
6- رمضان فضله وفوائده: لفضيلة نائب رئيس الجامعة
7- البرُّ لا يبلى: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
8- الإخلاص: للشيخ عبد المحسن العباد
9- إقبال - شاعر الإسلام: للشيخ أحمد حسن
10- الغزو الفكري وأثره في العالم الإسلامي: للشيخ محي الدين القضماني
11- الجامعي بين التحصيل والتبليغ: للشيخ ممدوح فخري
12- إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم: للشيخ إبراهيم السلقيني
13- الشباب.. ومستقبل الإسلام: للشيخ أبي بكر جابر الجزائري
14- الإيمان المنقِذ: للشيخ صالح رضا
15- مشكلات الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام: للشيخ عطية سالم
16- من تاريخ المذاهب الهدّامة- كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة: بقلم محمد بن مالك اليماني
17- في الإسراء والمعراج: للشيخ عبد الله خياط
18- أخطار التدخين: ترجمة الدكتور أحمد سليمان - الطبيب في مستشفى الجامعة
19- التدليس والمدلسون: للشيخ حماد الأنصاري
20- دروس من التاريخ: للشيخ أبي عمر
21- عود على بدء: للشيخ عبد العزيز بن ناصر الباز
22- مكتبات المدينة ومخطوطاتها: للشيخ محمود ميرة
23- نظام الجامعة الإسلامية
24- الفتاوى:لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز
25- ندوة الطلبة- صور من القضاء في الإسلام: بقلم صالح بن سعيد بن هلالي
26- يا مسلم: شعر: عبد العزيز القاري
27- تاريخ الأسلاف منار الحاضر والمستقبل: بقلم أبي عبد السلام زكريا المديني
28- موجز تاريخ التعليم المختلط ونتائجه: بقلم: محمد ضياء الرحمن الأعظمي العمري
29- مع الصحافة حاجز ما بين الطريقين: إعداد جلال الدين مراد
30- أخبار الجامعة
إعداد قسم التحرير
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(1/181)
العدد 2
على طريق العلم
لفضيلة نائب رئيس الجامعة
الشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده وبعد:
فمما لاشك فيه أن العلم هو الدعامة الأساسية التي ترتكز عليها مقومات الحياة البشرية.
وأولى العلوم بالاهتمام والعناية هو معرفة علم الشريعة الإسلامية إذا به تعرف الحكمة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى لأجلها وأرسلت الرسل لتحقيقها وبه عرف الله, وبه عبد كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} , وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} , وبهاتين الآيتين علمت الحكمة في خلق الجن والإنس, والحكمة في إرسال الرسل, وأية الأمة لا عقيدة لها صحيحة, ولا دين عندها صحيح فهي أمة جاهلة مهما بلغت من الرقي والتقدم في نواحي الحياة كما قال سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} . والحياة الطيبة هي الحياة أهل العلم والإيمان كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} , وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . والعلم النافع لا يمكن الحصول عليه إلا بواسطة المعلم, ولا يمكن لأي إنسان أن يكون معلما إلاّ إذا كان عالما بالمادة التي يعلمها غيره ... إذ فاقد الشيء لا يعطيه, والعلماء هم ورثة الأنبياء, ولذلك كانت مهمة المعلم من أصعب المهام ولما تتطلبه من الاتصاف بأكمل الصفات حسب الإمكان من علم نافع, وخلق كريم وعمل صالح متواصل وصبر(1/182)
ومصابرة, وتحمل للمشاق في سبيل إصلاح الطالب, وتربيته تربية إسلامية نقية, وبقدر ما تتوفر صفات الكمال في المدرس يكون نجاحه في مهمته.
وقدوة الجميع وإمامهم هو سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله الهاشمي العربي المكي ثم المدني عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم, فلقد كان أكمل الناس في كل الصفات الكريمة, وقد لاقى في توجيه الناس وتعليمهم الصعوبات الكثيرة, والمشاق العظيمة, فصبر على ذلك, وتحمل كل مشقة وصعوبة في سبيل نشر دينه, وإخراج أمته من الظلمات إلى النور, فجزاه الله عن ذلك أفضل الجزاء الحسن وأكمله, وقد تربى على يديه الكريمين جيل صالح يعتبر أفضل الأجيال التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل, ومعلوم أن ذلك ناشئ عن حسن تربيته وتوجيهه لأصحابه, وصبره على ذلك مع توفيق الله لهم وأخذه بأيديهم إلى الحق سبحانه وتعالى.
إذ علم ذلك فإن من أهم المهمات في حق المعلم في كل مكان وزمان, أن يسير على منهج المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم, وأن يجتهد في معرفة ذلك حتى يطبقه في نفسه, وفي طلابه حسب الإمكان, وما أشد حاجة الأمة في هذا العصر الذي كثر فيه دعاة الهدم وقلّ فيه دعاة البناء والإصلاح إلى المعلم الصالح الذي يتلقى علومه, وما يربي به طلابه من كتاب الله, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وينشر بينهم أخلاق السلف الصالح من الصدق, والأمانة, والإخلاص في العمل, وتعظيم الأوامر والنواهي, والمسابقة إلى كل فضيلة والحذر من كل رذيلة.(1/183)
ومما تقدم يعلم أن مهمة المعلم مع كونها من أصعب المهام فهي مع ذلك من أشرف الوظائف , وأعظمها نفعا, وأجلها قدرا, إذا وفق صاحبها للإخلاص, وحسنت نيته, وبذل جهده. كما أن له من الأجر مثل أجر من انتفع بعلمه وفي الحديث الشريف يقول عليه الصلاة والسلام: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه", ويقول عليه والصلاة والسلام: "لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم", ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله", ولا ريب أن المعلم هو المربي الروحي للطالب, فينبغي أن يكون ذا أخلاق فاضلة, وسمت حسن حتى يتأسى به تلامذته, كما ينبغي أن يكون حافظاً على المأمورات الشرعية بعيدا عن المنهيات, حافظاً لوقته, قليل المزاح, واسع البال, طلق الوجه, حسن البشر, رحب الصدر, جميل المظهر, ذا كفاية ومقدرة وسعة الاطلاع, كثير العلم بالأساليب العربية ليتمكن من تأدية واجبه على أكمل وجه. ولا شك أن من يعنى بدراسة النفس البشرية من كافة النواحي, ويبحث عن الأسباب المواصلة إلى معرفة الطريقة التي يمكن بواسطتها غرس العلوم في هذه النفس بسهولة ويسر, سوف يحصل على نتائج طيبة في كشف بعض خفاياها, وما انطوت عليه من مشاعر وأحاسيس, ومدى تقبلها للمعلومات المراد غرسها فيها.(1/184)
وسيخرج من تلك الدراسة والبحث بمعلومات هي في الحقيقة من القواعد العامة التي يقوم عليها صرح التعليم, وهذه القواعد يمكن إجمالها في أنه إذا أراد أي معلم أن يغرس معلوماته في أذهان تلامذته فلا بد له قبل كل شيء أن يكون ذا إلمام تام بالدرس الذي وكل إليه القيام به, وذا معرفة بالغة بطرق التدريس, وكيفية حسن الإلقاء, ولفت نظر طلابه بطريقة جلية واضحة إلى موضوع الأساسي للدرس, وحصره البحث في موضوع الدرس دون الخروج إلى الهوامش قد تبلبل أفكار التلاميذ, وتفوّت عليهم الفائدة, وأن يسلك في تفهيمهم للعلوم التي يلقيها عليهم طرق الإقناع مستخدما وسائل العرض, والتشبيه, والتمثيل, وأن يركز اهتمامه على الأمور الجوهرية التي هي القواعد الأساسية لكل درس من الدروس, وأن يغرس في نفوسهم كليات الأشياء ثم يتطرق إلى الجزئيات شيئا فشيئا؛ إذ المهم في كل أمر أصله, وأما الفروع فهي تبع للأصول, وأن يركز المواد ويقربها إلى أذهان التلاميذ, وأن يحبب إليهم الدرس ويرغبهم في الإصغاء إليه, ويعلمهم بفائدته وغايته, آخذا في الحسبان تفهيم كل طالب ما يلائمه, وباللغة التي يفهمها, فليس كل الطلبة على حد سواء وأن يفسح المجال للمناقشة معهم, وتحمل الأخطاء التي تأتي في مناقشاتهم لكونها ناتجة عن البحث عن الحقائق, وأن يشجعهم على كل بحث يقضي إلى وقوفهم على الحقيقة, آخذاً الحسبان عوامل البيئة والطباع والعادات والنماذج؛ لأن لتلك الأمور تأثيراً بالغاً في نفسيات التلاميذ ينعكس على أفهامهم وسيرتهم وأعمالهم, ولهذا فإن من المسلّم به أن المعلم النابه الذكي الآخذ بهذه الأمور يكون تأثيره على تلامذته أبلغ من تأثير من دونه من المعلمين, ومهمة المعلم أشبه ما تكون بمهمة الطبيب, ومن واجبه أن يعرف ميول طلابه, ومدى حظ كل منهم من الذكاء, وعلى أساس هذه المعرفة يقدر المقاييس الأساسية التي يسير على نهجها في مخاطبة عقولهم وأفهامهم, وتلك من أهم أسباب نجاح(1/185)
المعلم في مهمته.
وأهم العلوم الواجب تعليمها على الإطلاق هو العناية بإصلاح العقيدة على ضوء الكتاب والسنة, وهدى السلف الصالح, ثم العناية ببقية العلوم الشرعية, ثم العلوم الأخرى التي لاغني للبشر عنها, شريطة أن لا يكون من نتائج تلك العلوم الأعراض عن العلم الأساسي الذي خلق الخلق لأجله, وأن تسخر هذه العلوم للمصلحة العامة دون أن تقف حجرا في طريق العلم النافع, ولقد هدى الله من هدى لتعلم العلم النافع وتعليمه بتوفيق منه وفضل وحكمة بالغة, فنفع الله بهم العباد والبلاد, وفازوا بالذكر الجميل, والسمعة الحسنة, ومضاعفة الأجر, وحسن العاقبة, وحرم التوفيق آخرين بسبب تنكبهم الطريق السوي, فكانت علومهم وبالاً عليهم وعلى تلاميذهم, فضلوا في متاهات الكفر والإلحاد والزندقة, وأضلوا غيرهم فباؤوا بمثل إثمهم, وذلك من عدله سبحانه وحكمته وجزائه لمن حاد عن الحق, وتنكّب الصراط السوي, وتابع الهوى أن يبوء بالخذلان والزيغ عن الهدى كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . والآيات في هذا المعنى كثيرة, ونسأل الله أن يرزقنا وسائر المسلمين العلم النافع والعمل الصالح, وأن يلطف بنا جميعاً ويمنّ علينا بالفقه في الدين, والثبات عليه, وأن يصلح ولاة أمر المسلمين وقادتهم, إنه على كل شيء قدير, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم دين.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية.
بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(1/186)
الغزو الفكري وأثره في العالم الإسلامي
للشيخ محي الدين القضماني المدرس بالجامعة
منذ أن بزغ فجر الإسلام قام الصراع بين المسلمين والذين كفروا من أهل الكتاب, وهو حلقة من سلسلة الصراع القائم بين الحق والباطل من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وامتد الفتح الإسلامي في أطراف الأرض, وتقلصت بلاد النصرانية حتى حصرت في بعض أوربا تتربص بالمسلمين وتنتظر منهم غفلة وضعفا, حتى لمست ذلك أيام الحروب الصليبية, فقامت بحملاتها تقذف بلاد الشام وقدسها بالجيوش العاتية, فاحتلت البلاد, وأسّست دويلات, ولكن المسلمين الذين أفاقوا من غفلتهم سرعان ما رجعوا إلى ربهم, فوحدوا صفوفهم, وانطلقوا تحت راية صلاح الدين, وإذا العقيدة الإسلامية نار تحرق الصليبين, وتطارد فلولهم, وترد أوربا المنهزمة على حقدها ومكرها, فتفكر في الوسيلة المجدية في إضعاف المسلمين, والتسلط على بلادهم, ورأت أنّ ذلك لا يتم إلاّ بإضعاف العقيدة في نفوس المسلمين, وإبعادهم عن مصدر قوتهم. وهكذا بدأت تمهّد هذه المرة للاستعمار العسكري بالاستعمار الفكري؛ لأنها عرفت أن الإنسان إذا فقد العقيدة فقد القوة والمنعة.
وأخذت أوربا ترسل جيوش المبشرين إلى الشرق محاولة أن تنزع من المسلمين حبهم لدينهم, وتمسكهم بإسلامهم, وإذا كانت قد فشلت في أن تدخل المسلمين في النصرانية في أكثر البلاد الإسلامية, فإنها قنعت أن تفسد العقيدة, والأخلاق في نفوس المسلمين, فتنزع من هذه النفوس اعتزازها بأمتها وتعاليمها.(1/187)
ففي مؤتمر القدس الذي عقده المبشرون أيام الاحتلال البريطاني خطب القسّيس (زويمر) رئيس المبشرين في إخوانه المؤتمرين, فبيّن لهم أهداف التبشير الحقيقة, وقال في بعض خطبته: "إن مهمة التبشير ندبتكم الدول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية, فإن في هذا هداية لهم وتكريما, وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله, وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها, وبذلك تكونون أنتم بأعمالكم هذه طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية ... لقد قبضنا أيها الإخوان - في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا - على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية, ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير ... " إلى آخر ما قال.
فالتبشير الذي هو استعمار فكري كان إذن لخدمة الاستعمار العسكري وتمهيدا لدخول الجيوش الأجنبية, وضمان لبقائها في البلاد, وكان هذا الاستعمار العسكري الفكري يعمل ضمن مخططات مدروسة, ويستعين بشتى الوسائل الممكنة.
فقد هال المستعمرون ما رأوه عليه المسلمين من وحد روحية وعادات وآداب مشتركة, فحاولوا تحطيم هذه الوحدة, وتمزيق وشائج القربى بين المسلمين, فأثاروا النعرات القومية, وشجعوا أصحابها, وتآمروا على الخلافة الإسلامية حتى قضوا عليها, ليجعلوا بأس المسلمين بينهم ليعودوا أمماً ضعيفة, لا تملك من أمرها شيئا ... ورأوا في اعتزاز المسلمين بدينهم واحترامهم لنبيهم خطرا عليهم؛ لأنه يجعل الغربيين الكافرين الغرباء مكروهين, لا يركن المسلمون إليهم, ولا يثقون بهم, ولا يقبلون حكمهم, فحاولوا تغيير هذا ولجأوا إلى وسائل كثيرة منها:(1/188)
فتح المدارس التبشيرية الكثيرة, وتزويدها بالأساتذة الحاقدين على الإسلام, والإكثار من الإرساليات التبشيرية التي تنشر باسم الدين الدسائس على الإسلام والشبهات والمفتريات على نبي المسلمين, وإنشاء المستشفيات, ومداواة المسلمين مجانا لكسب ثقتهم, وحسن الاتصال بهم, ومنها نشر الكتب التي تدسّ على الإسلام باسم العلم والمدنية والثقافة, وتشجيع المجلات الخليعة الأدب الماجن ,والسيطرة على دور النشر لإفساد النشء الجديد وتمييعه, ومنها قبول عدد كبير من أبناء المسلمين للدراسة في جامعاتهم, وتغذيتهم بأفكارهم, ومنها تمجيد الحضارات القديمة التي كانت في جاهلية الشعوب الإسلامية لإلهائها عن نبيها وتاريخها وحضارتها.
ومنها السيطرة على مناهج التعليم في بلاد المسلمين لتوجيهه كما يريدون, وذلك بإمدادهم بالنظم والخبراء, والعمل على تعيين تلاميذهم ومريدهم في الوظائف التعليمية الحساسة.
ومنها تشجيع المذاهب والمبادئ الهدامة من شيوعية ووجودية وفوضوية وقومية, بتشجيع دعاتها لإشغال المسلمين عن دينهم وإلهائهم عن حقيقة عقيدتهم وشريعتهم.
ومنها إفساد المرأة ودعوتها إلى التبرج باسم الثقافة والحرية والتقدمية لتفسد الأسرة وتصرف الشباب عن دينهم إلى شهواتهم.
وقد كان لهذه المخططات الخبيثة أثرها في المسلمين, مما عمل في إضعافهم وتمكين المستعمرين في بلادهم.(1/189)
ولو اقتصر أثرهم على عدد من المسلمين دخلوا النصرانية وارتبطوا بالغرب وثقافته نهائيا لهان الأمر, ولكن أثر الغربيين في بلادنا كان أبلغ وأخطر, فقد راع المسلمين ما هم عليه من تخلف مادي وحضاري, وتأخر في مجال العلوم والمكتشفات, ورأوا الغرب يرفل في ثياب المدنية, وظنوا ذلك مرتبطاً بالإسلام, وما فيه من تعاليم, فأعجبوا بالغرب, وبكل ما يأتي به الغرب, وعلى رأس هؤلاء الشباب الذين درسوا في المدارس التبشيرية, وتأثروا بتوجيهها, أو مضوا إلى الغرب ينهلون من ثقافته وعاداته, ثم رجعوا إلى بلادهم وفي أعماقهم احترام الغربيين, واحتقار أمتهم وما هي عليه من عقيدة وثقافة وعادات, وحاولوا جاهدين أن ينشروا المدنية الغربية في بلادهم, وقد أسهم الاستعمار بما له من نفوذ في بعض الأقطار الإسلامية في أن يرفع من قدر هؤلاء, ويلفت إليهم الأنظار, ويوليهم المناصب الحساسة الموجهة في البلاد, وقد كثر هؤلاء, وسيطروا على سياسة التعليم, وخرّجوا أجيالاً تؤمن بما يؤمنون.
وقد تربى هؤلاء على العقيدة القومية ودعوا إلى الحرية في الأخلاق ليفلتوا من رقابة المجتمع, ودعوا إلى تحرير المرأة ولحاقها بالمرأة الغربية. ولم تقف هذه الفئة عند حد في تقليد المجتمع الأوربي وأبت إلا أن تخرج المجتمع الإسلامي من دائرة الإسلام وتقطعه عن ماضيه, وتعلن التلمذة على الغرب, والاستسلام لكل ما يأتي من عنده, حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يقدس الغربيين, ويتباكى عليهم إذا كانوا مستعمرين للبلاد وأكرهوا أن يخرجوا منها.
فهذا طه حسين مثلا يكتب مقالاً وهو في مصر عند جلاء الفرنسيين عن سورية ينعى على السوريين كفرهم بالنعمة, وطردهم أساتذتهم ومعلميهم الحضارة, وولى الدين يكن يتوجس خيفة من زوال الاحتلال البريطاني عن مصر مرتعاً للجهالة والتخلف لولا وجود البريطانيين المتحضرين فيها.(1/190)
وقد نفذت هذه المخططات إلى أعمق من ذلك, فوصلت حتى إلى المصلحين والكتّاب الإسلاميين الذين لم ينجوا من بعض آثارها.
فقد استطاع الغرب بخبثه ودسائسه أن يدفع بعض الأقلام المخلصة لتعريف بعض المفاهيم الإسلامية بنية الدفاع عن الإسلام ورد الشبهات عنه, فإذا كتب المستشرقون أن الإسلام انتشر بقوة السيف, حاولوا أن يجعلوا الجهاد في الإسلام دفاعيا, واجتهدوا في إقناع الناس بأن المسلمين لم يحملوا السلاح لنشر كلمة الله, كأنما نشر دين الله وحمل الناس على الحق عيب يستحي منه.
وإذا كتب المستشرقون الخبثاء أن الإسلام لا يقوم على العقل, جهد بعض الكتاب في أن يردوا ذلك, ويتجاوزوا الحد, فيخضعوا الشرع للعقل, ويفسروا المعاني الإسلامية تفسيرا عقليا بحتا, ونحن نعلن أنه لا تناقص بين الإسلام والعقل السليم, ولكن الإيمان بالله يوجب علينا أن نخضع العقل للنص في الأمور التي يصعب على العقل إدراكها وتفسيرها.(1/191)
كما حاول بعض المصلحين التقريب بين الإسلام والفكر الأوربي الحديث, ليجعل من الإسلام في رأيه دينا تقدميا يقبله النشء الجديد من المسلمين؛ لأنه لا يتنافى مع العقل والمدنية الحديثة. ورأوا المسلمين متخلفين في ميادين العلوم, وأرادوا لهم التقدم ومجاراة المستعمرين في قوتهم المادية, فدعوا إلى الأخذ بالثقافة الغربية الحديثة, ودعوا إلى عدم التخوف منها, فهي كلها خير, والتاريخ الحديث يخبرنا مثلا عن أحمد خان في الهند الذي رأى أن الثقافة الأوروبية هي سبب تفوق الأوروبيين, فدعا المسلمين في الهند إلى التعلم في مدارس الإنكليز وأدار الجامعة الإسلامية البريطانية في (عليكرة) , وأرسل ابنه إلى الجامعات الإنكليزية لينهل منها, ولم ينتبه إلى ما في الفكر الأوربي من انحراف وتناقص مع منهج الإسلام وحقائقه, وهدم للشخصية الإسلامية التي حرص الإسلام على استقلالها, فساهم أحمد خان بهذا في هدم هذه الشخصية الإسلامية التي كانت مصدر قلق كبير للإنكليز.(1/192)
وأنا لا أعني أن نبقى جهالا, وأن لا نستفيد مما عند الغربيين من رقي مادي وتقدم علمي, فالعلم فريضة, ولكن علينا أن نعرف ما نأخذ وما ندع, علينا أن نحسن الاختيار في اقتباسنا, ولا نتهالك على ما عند أعدائنا كما يتهالك الفراش على النار الموقدة. فنحن يمكننا أن نأخذ من الأوروبيين وغيرهم العلوم البحتة كالكيمياء والفيزياء والطب والصناعة وغيرها مما هو نتاج الفكر وحده, فهذا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". أما ما يتعلق بتصور المسلم عن الحياة والكون والإنسان, وغاية وجوده, وما يتعلق بالمبادئ والشرائع, وما يتعلق بالأخلاق والعادات والقيم والمفاهيم التي تكّون ملامح المجتمع المسلم, فهذا كله لا يجوز أن نأخذه عن الغربيين, ونتلمذ فيه عليهم؛ لأن هذا كله يكون شخصية المسلم ونظرته للحياة, ولا يجوز للمسلم أن يتلقى هذا إلاّ عن ربه, ولا يعتمد في تعلم ذلك إلا على مسلم يثق بعلمه وتقواه, أَوَلَمْ يُنبِّهُنَا الله تعالى إلى خطر الأخذ في مثل هذا عن أهل الكتاب لأنهم ضالون؟ أَوَلَمْ يسمع المسلمون لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} . إن هؤلاء الغربيين انحرفوا عن الحق حين أعرضوا عن ربهم, وكفروا بالآخرة, ولم يريدوا في تفكيرهم إلاّ الحياة الدنيا, لذلك جاءت حضارتهم منحرفة لا يجوز اتباعها, والثقة بها, والله تعالى يقول: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا, ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ, إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} .(1/193)
ولو أخذ المسلمون عن الغربيين ما عندهم من علوم مادية بحتة, واعتمدوا في دراسة العقائد والشرائع والأخلاق والعلوم النفسية والاجتماعية على ما عندهم من مصادر إسلامية لتقدمت البلاد الإسلامية في المجال المادي دون أن تقع فيما وقعت فيه من فساد العقيدة, وانحلال الأخلاق, وضعف الشخصية, مما زاد في تفكك المجتمع الإسلامي وتخلفه.
فالاستعمار الفكري الذي توغل في بلاد المسلمين وكان له أثره الكبير فيها, كان إذاً أخطر من الاستعمار العسكري؛ لأن الاستعمار العسكري مكشوف واضح لكل ذي عينين, وهو يحمل في طبيعته كراهيته, ويدفع الأمة المستعمرة بما فطر الإنسان عليه من حب للحرية والكرامة إلى أن تحاربه وتحاول التخلص منه.
لذلك لم يستطع الاستعمار العسكري أن يدوم طويلا في بلاد المسلمين لأن الإسلام بما يغرسه في نفوس المسلمين من روح الجهاد وحب الشهادة في سبيل الله, وبما يزرعه في أذهان المسلمين من أنّ المشركين نجس, وأنه يحرم على المسلم أن يخضع لحكم كافر, وأن عليه أن يجاهده ويقضي عليه ما وجد إلى ذلك سبيلا, كل هذا كان كافيا في أن لا يمكن للمستعمرين, ولا يديمهم طويلا في بلاد المسلمين.
إذا كان هذا الشأن الاستعمار العسكري, فإن الاستعمار الفكري يختلف كثيرا عنه, فهو كالشرك الخفي, أخفى من دبيب النمل, وهو أشد إيذاء وفتكا بأبناء البلاد المستعمرة؛ لأنه يجعل من أبناء البلاد أعوانا للمستعمرين دون أن يشعروا بجريمتهم, وهم بدورهم أشد جرأة على هدم شخصية الأمة وتحطيم بنيانها من المستعمرين الغرباء.(1/194)
وقد استطاع أعداء الإسلام على يد تلامذتهم الفكريين أن يحطموا وحدة العالم الإسلامي, ويهدموا بنيان أخلاقه وعقيدته, فإذا الروح القومية تجعل المسلمين دويلات يسهل على المستعمرين اقتسامها, وإذا تحررت المرأة من حيائها, وتحرر الرجل من أخلاقه, يهدم في المسلمين تماسكهم, ويميت روح الجهاد في نفوسهم, فيميلون إلى تخنث, والاستمتاع بالدنيا شهواتها, وإذا باحترام المسلمين للغربيين والشعور بالنقص أمامهم وأمام حضارتهم الزائفة يجعل من المسلمين تلاميذ متواضعين, يقفون كالمتسولين, يأخذون كل ما تجود به فضلات موائد المستعمرين من أفكار هدامة وفلسفات منحرفة وأنظمة مخالفة لطبيعة البلاد الإسلامية.
ويقف المسلمون المخلصون متألمين, بينما يبيت المستعمرون الخبثاء ناعمي البال, وقد حمل عنهم بعض المسلمين الأغبياء التهديد والتخريب وكفوهم مؤونة الحرب.
وهكذا نرى أن استعمار أفكار الأمة أخطر من استعمار بلادها, ومرافقها العامة, وأن الدول الأجنبية مهما ملكت من طاقات جبارة لا تملك أن تخطط للمسلمين وأن تقودهم وفق مصلحتها بشكل أفضل مما يقوم به العملاء المنحرفون من خدمة لهذه الدول الأجنبية والعمل في مخططاتها.
ولا يفوتني أن أنبه إلى أنني لا أرى أن حالة المسلمين قبل احتكاكهم بالغرب وتأثرهم به كانت حالة مرضية, لا فقد كانت أوضاعهم سيئة, ولكن هذا العالم الإسلامي الذي صحا على أصوات المدافع الغربيين تدك حصونه, وتقتل أبناءه, كان عليه أن يلتمس طريقه الصحيح, ويبني قوته على أساس متين, ويقتبس من الغرب ما ينفعه ويهجر ما يضر, ولكنه لم يفعل بل تخبط في مسيرته, وانحرف اتجاهه, حتى وصل إلى حالة من الضعف مزرية.
رب يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه(1/195)
ولكن الفرصة لم تفتنا فبعد أن تحررت معظم أقطار المسلمين من الاستعمار العسكري ما علينا إلاّ أن نعمل لنحرر نفوس المسلمين مما علق بها من آثار الاستعمار الفكري, وهذه المصادر الشريعة لا تزال بين أيدينا خالصة من كل تحريف, وما وصلنا إليه من فوضى فكرية كاف لأن يعيدنا إلى ديننا تائبين {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} .(1/196)
الجامعي بين التحصيل والتبليغ
للشيخ ممدوح فخري المدرس بالجامعة
يظن بعض الجامعيين خطأ أنّ فترة التحصيل معناها الانقطاع التام عن التبليغ, والتفرغ الكلي لاستيعاب الدروس وهضم المقرر, وأما التبليغ فمهمة تنتظر الجامعي يوم يتخرج ويحمل المؤهلات التي ترشحه للقيام بالمهمة الجديدة.
وفي هذه الفكرة الخاطئة خطر كبير محقق على دور الطالب في الدعوة والتبليغ وشل كبير لنشاطه, وإخماده لدفقة الحياة في عروقه وإطفاء لجذوة النور في مرحلته التي تعتبر ربيع حياته كلها, وكيف لا وهي مرحلة الشباب الدافقة بالخير والحركة, وإذا كان في هذه الفكرة صرف الطالب عن مهمته في الحياة, فالمنتظر من الطالب الواعي المدرك لمركزه في هذا الوجود, ولدوره في الحياة أن يبادر إلى طرح هذه الفكرة جانبا, والالتحاق فورا بركب المجاهدين من جميع المسلمين العاملين على فهم الدين والعمل به وتبليغه, وهذه النقاط الثلاث الأخيرة هي في الحقيقة محور حياة كل مسلم, سواء كان عاميا أو جامعيا, ولكن الذي يقدر عليه الجامعي من ذلك لا يقدر عليه من سواه.
ولتوضيح هذه الفكرة توضيحا أكثر وعرضها عرضا محددا دقيقا, لا بد من التركيز ووضع النقاط على الحروف كما يقال, ووضع برنامج بارز المعالم يمكن لكل من بيتغي الخير لنفسه وأمته والإنسانية أن يلتزمه.
لاشك في أن التحصيل واستيعاب الدروس هي المهمة الأولى في حياة الطالب التي وقف عليها الجزء الأعظم من حياته, ولأن الطالب الذي يخفق في مهمته الأولى جدير أن يخفق فيما يليها من المهمات من باب أولى, ولكن هذه المهمة ليست كل شيء في حياة الطالب, وإذا كان ذلك كذلك, فما هي الجوانب الأخرى غير الدراسية التي يجب أن يلعب فيها الطالب دوره.
هنالك حقائق أساسية في حياة كل مسلم ينبغي أن تتوفر, وخاصة في الطالب المسلم, ذلك الإنسان الواعي المتعلم المنظم في تفكيره وسلوكه:(1/197)
- وأولى هذه الحقائق المبادرة إلى التوبة إلى الله من جميع الكبائر والصغائر, وغسل القلب من كل درن لحق به, وتنقيه النفس من كل ران تراكم عليها؛ لأن القلب المظلم لا يمكنه أن ينير الطريق أمام الآخرين؛ ولأن النفس العاصية والمصرة على عصيانها لا يمكنها أن تردع الآخرين عن المعصية, ومن يرى القذى في عين أخيه فلير الخشبة في عينه, ولا يستقيم الظل والعود أعوج.
- ثانيا: إخلاص النية لله تعالى في كل عمل.
والإخلاص هو الركن الأعظم في جميع الأعمال, وهو الأساس الذي يتقبل الله به العمل, وإنّ أمثال الجبال من الأعمال لا تزن عند الله حبة خردل ما لم يكن أساسها التجرد لله.
- ثالثا: استغلال الوقت بكل جزئياته في صالح النافع من الأعمال, وعند هذا تنتهي حكمة الحكماء, والوقت هو الحياة, وقد بخس الوقت كثيراً حداً من قال: "الوقت من ذهب", وهذا منطق عباد الذهب والمادة, وأما منطق عباد الله فالوقت في نظرهم أسمى من ذلك وأهم, وهو الذي يتوصل به إلى جوار الله والنظر في وجهه الكريم, والتقلب في جنات النعيم, ومن أروع ما قيل في إظهار قيمة الوقت ما قاله الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضك".(1/198)
- رابعا: استدامة ذكر الله تبارك وتعالى في السر والعلن, والليل والنهار, ورأس ذلك تلاوة كتاب الله تعالى, فهو أفضل ذكر. ويتأكد من الذكر ما كان موقوتا بأوقات معينة كأذكار الصباح والمساء, وسائر أحوال الإنسان, والذكر به حياة القلوب والأرواح, وهو ماؤها ونماؤها, والقلب الغافل عن ذكر الله قلب مظلم ميت, واللسان الذي لا يكون رطبا بذكر الله لسان محبوس عن الخير, مطلق في اللغو الفارغ ومالا طائل تحته, ولابد في هذا المجال من تحصيل بعض كتب الأذكار التي تكلفت ببيان أذكار رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحيانه, وأفضل هذه الكتب في نظري كتاب (تحفة الذاكرين بشرح عدة الحصن الحصين) , الأصل لابن الجزري, والشرح للشوكاني - رحمهما الله - وكذلك كتاب (الأذكار) للإمام النووي, وقد قيل فيه: "بِعِ الدار واشتر الأذكار".
- خامسا: الاتصال الوثيق الدائم بالتراث الإسلامي قديمه وحديثه, يتطلب هذا تحديد عيون الكتب من كل فن من المكتبة الإسلامية الزاخرة, فلابد من الرجوع إلى الأمهات, ولابد من الرجوع إلى الثمرات الجديدة التي نتجت من تلك الأمهات, من كتب الثقافة الإسلامية التي تعتبر ترجمة للإسلام إلى لغة العصر, ومحاولة مباركة لإخضاع هذا العصر لفكرة الإسلام ونظامه, وأما تحديد الكتب من القديم والجديد فله مجال آخر غير هذا.(1/199)
- سادسا: إدراك الواقع الذي يعيشه الطالب والاحاطة قدر الإمكان بوقائع الحياة ومشاكل العصر, والعلم بالتيارات الفكرية التي تتقاسم العلم وتتنازعه, وما هي الاتجاهات الجديدة للشعوب والأمم, وما موقف الإسلام من كل ذلك, وما هو دور الطالب إزاء كل ذلك. إنّ الحركة الطلابية في العالم تلعب دورها الكبير والخطير في توجيه السياسات, وتبني الشعارات وقيادات التيارات المختلفة, وهي وإن كانت في معظمها تحت تأثيرات, وسيطرة أعوان الشر ودعاة الكفر والظلال, ولكنها على أيّ حال قوة جبارة وقادرة على فعل الكثير إذا ما تسلمتها الأيدي النظيفة المنداة بالوضوء.
والطالب المسلم له دوره القيادي في هذه الحركة لأنه صاحب عقيدة وصاحب منهج وصاحب ماض مشرق مجيد يشهد بجلال تلك العقيدة وروعه ذلك المنهج (المجلات والصحف) , ومن خلال إدراك الطالب لواقعه ومشاكل بيئته ومعضلات عصره يستطيع أن يلعب دوره في مقاومة جميع المنكرات والضلالات التي تواجهه, والتي تتلاءم مع عقيدته وفكرته ونظرته للحياة, وهو الذي يحدد الزمان والمكان والأسلوب الذي تقتضيه الحالة مع مراعاة "إن الله يعطي بالرفق مالا يعطي بغيره.. وما يكون الرفق في شيء إلاّ زانه, ولا ينزع منه شيء إلاّ شانه, ومن يحرم الرفق يحرم الخير كله".(1/200)
وبعد هذا كله تأتي المرحلة السابقة والأخيرة والتي تضع جميع المراحل السابقة حيز التنفيذ, وتخرجها من عالم النظريات والمثل إلى عالم الحس والواقع ألا وهو الالتقاء على كلمة الله والتعاون على تنفيذ أوامر الله, والاعتصام بحبل الله, وتجمع المسلمين الصالحين الصادقين أفرادا وشعوبا وحكومات على دين الله القويم وصراطه المستقيم, الأمر الذي يتوقف عليه أكثر من غيره استعادة المسلمين لكل مجد وعز فقدوه, وبدون التعاون والالتقاء لو عاد كل مسلم وليا يمشي على الماء ويطير في الهواء لما نفع المسلمين شيئا, وما أوسع مجال التعارف والالتقاء أمام طالب الجامعة الإسلامية التي تعتبر قبلة المسلمين, ومنهلهم العذب الزلال, لتحصيل العلم الخالص من كل شائبة, وهي تضم بين جدرانها أفلاذ أكباد العالم والنخبة الخيِّرة من شبابه.(1/201)
إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
للشيخ إبراهيم السلقيني المدرس في الجامعة
ما أحوج العالم اليوم في اصطراعه, واضطرابه, وبلبلته, واعوجاج خطاه, وحيرة قادته, وثورة شعوبه, إلى قبس من نور الإسلام الخالد, يبدد به الظلمة, ويبصره عواقب هذا النضال, الذي يوشك أن يعيد المأساة, ويذهب من جديد, بما ادخره من أخضر ويابس, ونفس ونفيس, ويلقي بها كلها طعمة لنيران الحقد والانتقام والطمع والهوى.
وما أحوجنا في مشكلاتنا الاجتماعية التي تنعقد يوما بعد يوم ويأخذ بعضهم برقاب بعض, ويتسع خرقها على الراقع إلى أن نسمع كلمة الإسلام فيها, لنتبين وجه الصواب في علاجها, وسلامة المبادئ التي ترد إليها الحلول القويمة, مع رعاية الظروف وما استجد في الحياة من مطالب.
فلنعالج بالقوة التي أضفاها الإسلام على الروح, فمكن لها وجعل لها الغلبة على نزوات المادة, دون أن يقل من شأن هذه المادة ما دامت تؤتى من وجهها, وتصرف في مصارفها الصحيحة, ولنعالج حالنا بوسائل الإسلام في مكافحة الآفات الاجتماعية التي تهدد كياننا, وتقوض أركان نهضتنا.
وما أحوجنا لتعرف وسائل الإسلام في دعم الأسرة, والإحاطة بقدر ما حبا به هذه الخلية الحية في جسم الأمة, وما وفر لها من أسباب الرخاء والاستقرار, وما جنبها من عوامل الشقاء والانحلال.
وما أحوجنا إلى تعرف وسائل الإسلام في طرائق المعاملات, وكيف حض على احترام العهود والعقود, وكيف نظم البر ودعا إليه, وجعله أقرب قربات إلى الله تعالى.(1/202)
وما أحوجنا أن نعرف أيدت أحدث النظريات الحديثة في التربية والطب والاجتماع, نظرة الإسلام الثاقبة في تربية الجسم والعقل والخلق, وما حرم من المتاع صونا للروح والجسد من آفة الانحلال والمرض, وما أحل منه رغبة في تصفية الذوق, وتهذيب النفس, وإذكاء الشعور الطيب, وما حرم من عبث ليجعل النفوس بمنجاة عن الإسفاف والفسوق, واللهو الفارغ, ومغريات الشهوات الدنية.
لقد تناولت تعاليم الإسلام حياة الإنسان في جميع أحواله, تناولته غنيا ففرضت في أمواله حقاً لطائفة من المجتمع {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} , فرض الإسلام على الأغنياء الزكاة وأوجب عليهم بذل المال أيضا في ميادين ومناسبات أخرى: كصدقة الفطر, وكفارة اليمين, وغيرها من الكفارات, وندب إلى الإنفاق في سائر وجوه البر في آيات أخرى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم} , مما يكفل إنعاش الفقراء وهنائهم ورفاهيتهم, ودعت إلى التلطف في إيصال الصداقات, واستحسنت في أن تكون في خفية حتى لا يجرح من شعور الفقير ولا ينال من كرامته, وفي القرآن الكريم: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} .(1/203)
لهذا التشريع غايته السامية فهو (إلى أنه؟؟) تعاون بين الغني والفقير, يسد من حاجة الفقير, ويخفف عنه المرارة والحرمان, وهو بالتالي إصلاح لحال المجتمع من الانهيار, وتناولت تعاليم الإسلام, وحياة الإنسان عاملا وصاحب عمل, وفلاحا وصاحب أرض, وموظفا ومستخدما, ورئيسا ومرؤوسا, فدعت الجميع إلى إتقان العمل والوفاء والإخلاص والأمانة, وتجنب الخيانة والغش, وعدّت الغاش والخائن شاذّاً عن الجماعة الإسلامية, كما كرّهت الشريعة أن يخلد الإنسان إلى البطالة, ودعت إلى العمل, وألحّت الدعوة, وفي الحديث: "لأن يأخذ أحدكم حبلة فيحتطب خير من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه".(1/204)
وتناولت تعاليم الإسلام حياة الإنسان جاهلا ففرضت عليه أن يتعلم من العلم ما يحتاج إليه في شؤون دينه ودنياه, وتناولته عالما, ففتحت له أبواب العلم على مصارعها ليعرف أسرار الله في خلقه, وليستنبط من هذه الأسرار المبادئ العلمية الصحيحة التي تسهل لله سبل العيش, وترفه عليه وسائل الحياة, وأغرته بالاستزادة من العلم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} , {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} , وتناولت تعاليم الإسلام حياة الإنسان في بيعه وشرائه ومطعمه وملبسه وحديثه وحركاته وسكناته, ووضعت له فيها جميعا أسمى مبادئ اللياقة والذوق, وهكذا لم يترك الإسلام شاردة ولا واردة إلاّ تعهدها ووضعها, بحيث تكفّل سعادة الإنسان وهناءه, فالصلاة مثلا حيث يقف العبد أمام رب العالمين يناجيه, فبين الفينة والفينة مجبور على أن يتذكر أن له ربا يراقبه على حركاته وسكناته, يراقبه على أعماله صغيرها وكبيرها, عظيمها وحقيرها, {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} , فكيف يكذب؟ أم كيف يخون؟ أم كيف يسرق؟ أم كيف يغش؟ أم كيف يتغافل عن الواجب الملقى على عاتقه؟ وهكذا فالصلاة وحدها جعلت من الإنسان ملكا من الملائكة {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} , ناهيك عن المساواة التي في الصلاة حيث عجزت عنها أعظم النظم الحديثة, فيسجد الغني والفقير والعظيم والكبير والحقير والصغير والجندي إلى جانب القائد, ليس هناك رأس مرتفع على رأس, بل كلها خاضعة لله وحده, ويقفون بجانب بعضهم, ليس هناك أمكنة مخصصة لأناس (من لا يخضع للخالق يخضع لأحقر مخلوقاته, ومن يخضع للخالق تتلاشى في عينيه قدرة المخلوقات) , فهذا عرض موجز لبعض التعاليم الإسلام في بعض شئون الحياة, وليس من المستطاع عرض كل ما احتوته الشريعة الإسلامية في هذه النواحي وفي غيرها, ولكن من المستطاع أن نقول إنها كلها على هذا النمط من السمو, وأنها تهدف إلى سعادة الفرد والمجتمع,(1/205)
وتوفير حياة الأمن والاستقرار للبشرية عامة, وأنها أسس صالحة لأرقى مدينة تتطلع إليها الإنسانية.
وقد يقول قائل: إذا كانت التعاليم الإسلام كافية في إصلاح البشرية وشفائها, فلماذا نرى أثرها قد تخلف عنها؟ ولهؤلاء أقول: ليس العيب عيب الشريعة, ولكن الوزر كل الوزر على الذين انحرفوا عنها, وعادوها وظنوا جهلا منهم أنها تقف بعيدا عن مقتضيات الرقي الصحيح, ومع ذلك لازالوا يتسمون بأسماء إسلامية, ويحسبون في عداد المسلمين, ومثل الشريعة الإسلامية للبشر مثل الدواء الشافي يصفه الطبيب الماهر للمريض, ولكن المريض لا يتعاطاه تهاونا منه, فلا يكون العيب إذن عيب الطبيب, ولا عيب الدواء, ولكن العيب كله عيب المريض المتهاون في تعاطي الدواء.
ويزداد الأمر وضوحا لهؤلاء أن نذكّرهم بحال الأمة الإسلامية في صدر الإسلام, وما بلغته من مجد, وما بهرت به العالم من نهوض علمي واجتماعي في زمن وجيز لا يزال مثار عجب العلماء والفلاسفة, ومحل بحثهم, وليس له من سر في حقيقة إلاّ أن أولئك المسلمين السابقين أخلصوا لدينهم, وأخذوا بأحكامه وآدابه بجد وإيمان, فقادهم إلى مواطن المجد وأنزلتهم منازل السيادة والعز {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ, يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِه, ِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .(1/206)
الشباب.. ومستقبل الإسلام
للشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس في الجامعة
إن الشباب هو الجيل الوارث, وهو في كل أمة مصدر قوتها, وعنوان مجهدها, وصمام حياتها, وعليه مدار مستقبلها, فإن كان شباب الأمة واعياً مدركاً لمسؤولياته, مضطلعا بأعباء رسالته, صالحا جسما وروحا, قويا بنية وعقيدة, كان جديرا أن يحقق لأمته كل ما تصبوا إليه من خير وسعادة, ومجد وسيادة, وإن كان الشباب جاهلا غير مدرك لمسؤولياته, ولا مستعد للنهوض بأعباء رسالته في الإصلاح والبناء والتعمير, كان أحرى بتلك الأمة التي هذا شبابها أن تضيع حياتها, وتخسر مستقبلها, وتقتل في نفسها آمالها وأحلامها في العزة والكرامة والمجد والسيادة.(1/207)
إنّ هذه حقيقة علمية لا تكاد تخطىء, وسنة كونية لا يرجى أن تتخلف, وعليه - وأمة الإسلام اليوم تتطلع إلى مستقبل تسترد فيه مجهدها وكرامتها, وتسترجع قيادتها وسيادتها, وتعيد فيها إلى العالم الإنساني ما فقد من خير هداية, وما خسر من سعادة صلاح - فإنّ عليها أن تعي هذه الحقيقة, وتتفهم هذه السنة, وتجعل سلمها الوحيد الذي تريد أن ترقى به إلى أمجادها هو شبابها, وحينئذ فلتنظر في شبابها نظرة جد وحزم لترى في أي شيء هو, وعلى أيّ مستوى من مستويات القوة والصلاح, فإن وجدته الشباب المدرك الواعي, والقوي العصامي, الذي لا يباري في طموحه, شعاره حب الكفاح, والرغبة الصادقة في الإصلاح, هدفه الخير وغايته الشرف, اطمأنت عندئذ إلى مستقبلها السعيد, وإلى غدها المشرق القريب. وإن وجدته شبابا خائر القوى, فاقد العزيمة, ضعيف الإرادة, تتقاسمه التيارات الجارفة, وتتنازعه المبادئ الفاسدة, والأفكار المنحرفة, فاقد الوعي, محروم التفكير الصالح, يعيش بلا هدف, ويحيا بلا غاية, هو إلى اليأس أقرب منه إلى الأمل, وإلى الأماني الكاذبة أدنى منه إلى الآمال الصادقة, وجب عليها أن تفكر في الجد, وبسرعة في إصلاح شبابها, الذي هو وارث حياتها, وعدة مستقبلها, وقوام قوتها, ومفتاح سعادتها, لتجعله - بإذن الله - في مستوى المسؤولية, وعلى قدر المهمة التي تعلقها عليه وتنيطها به.
وإن قيل: فما هو طريق إصلاح هذا الشباب المسلم؟ ولم لا تسهم أيها الكاتب في بيان هذا الطريق؟
فجوابي: إني مع اعترافي بالعجز عن وضع خطة ناجحة لإصلاح الشباب المسلم, أو توضيح طريق معين لذلك, فإني لا أبخل بجهد المقل, وأحرم نفسي شرف الإسهام والمشاركة في وضع خطة لابد أن توضع, وبيان طريق لابد أن يبين, إذ هو من ضروريات بقاء هذه الأمة المسلمة, ووصولها إلى غايتها وأهدافها في العزة والكرامة والجد والسيادة.(1/208)
فلذا أتقدم إلى الذين يعنيهم شأن أمة الإسلام ويهمهم الأمر بقائها وسعادتها باقتراح يتمثل في الفكرة التالية: وهي إنشاء منظمة للشباب المسلم تديرها مؤمنة من المفكرين ذوي الكفاءة والإخلاص, يكون مقرها الدائم المدينة المنورة حيث ترعاها الحكومة المسلمة, ويدعمها حامي الحرمين الشريفين.
ومن المدينة منطلق الهداية الأولى ومصدر الإلهام للإسلام, تنطلق دعوة الإصلاح للشباب المسلم, وتعاليم نافعة وتوجيهات صالحة وإرشادات هادية, وخطط للعمل والسلوك محكمة صائبة, يحملها فتيان الإيمان ورسل الإسلام السلام إلى كل بلد فيه للإسلام شباب, وللمسلمين آمال عذاب, في مستقبل طاهر زاهر, وحياة شريفة سعيدة, حيث تتلقى الرسالة أيد قوية مؤمنة, وتعيه قلوب طاهرة نقية, فتجعل لها في كل مدينة قاهرة وقرية ظاهرة دارا كدار الأرقم ابن الأرقم, حيث يجتمع المؤمنون وينطلق الهداة المصلحون.
وما هي إلاّ أزمنة محدودة إن لم تكن أيام معدودة وإذا المسلمون قد تلاقت على الإيمان والحب قلوبهم ... وتعارفت على البر والتقوى نفوسهم, أمرهم واحد على من سواهم عزة قعساء, وراية تناطح الجوزاء.
دعاة ينشرون أروقة الرحمة والعدل على كل البشر, وهداة يبذلون المعروف والخير لكل أبيض وأصفر.(1/209)
الإيمان المنقذ
للشيخ صالح رضا المدرس في الجامعة
وتتلاطم الأمواج وتعلو حتى تغطي كل شيء في هذه الدنيا, فمن لم تفرّقه أصابته برشاشها, ومن لم تجرفه مزّقت شيئا من ثيابه, وينظر المسلم إلى هذا الفساد الشائع فيحار ماذا يفعل؟! وينظر إلى السبل التي تؤديه إلى السلامة, وتوصله إلى بر الأمان ... فتتلاشى جميع هذه السبل أمام الواقع المر والحقيقة الماثلة, ولا يبقى أمامه إلاّ الصراط الذي اختاره الله لهذه البشرية, ألا وهو الإيمان.
نعم..الإيمان هو سبيل الوحيد لإنقاذ البشرية, وهداية الإنسانية في متاهات هذه الحياة وظلمات هذا الفساد ... والإيمان المقصود هنا الإيمان الكامل الذي تظهر آثاره على صاحبه, الإيمان الذي تغلغل في القلب حتى أذاق صاحبه حلاوته, الإيمان الذي كان زرعة الحب, وثمرته الإيثار والبذل والفداء, الإيمان الذي شع نوره في الروح حتى أبرزت الجوارح كل أعمالها من وحيه, فصدرت الأعمال وعليها نور الساطع, وبريقه المشرق, وغدا اللسان يحكي إيمان الفؤاد, فيغزو بكلامه الأفئدة, وتصغي إليه القلوب لتكرع من بحره الصافي الماء السلسل الشافي, الإيمان الذي تتمثله فئة من الناس ثم تحمله إلى الكون كله فتدعوهم إليه بقولها وفعلها وأخلاقها.
إنه الإيمان الذي نحتاج في تيار الدنيا الجارف, الإيمان الذي له نعمل لنعلي كلمة الحق, ولتزوي أمامه دولة الباطل, الإيمان الذي يقضي مضاجع الباطل, ويفرق له الطواغيت, ويقلق لوجوده الكفر ... فيحيك الحبائل والشباك لصيد أصحابه, فتكون تلك الشباك والحبائل مدعاة لإظهار هذا الإيمان وسببا لثبات أصحابه, وتقوية لحامليه, وأمثلة تحتذي من بعدهم.(1/210)
والدعوة التي تسير في الطريق المستقيم والخط الصحيح هي التي تقدم لنا صورا كثيرة, وأمثلة عديدة يحمل أصحابها هذا الإيمان, وينطلقون للحق دعاة لا يثنيهم عن دعوتهم باطل, ولا يوقفهم عن سيرهم مشاغب, ولا يحرفهم عن سبيلهم سياسة, ولا يردهم عن مقصدهم غرض قريب, وأمل عاجل, بل كل هذه الدنيا وما فيها في ناظريهم سراب خادع, ومتاع قليل, وظل زائل.
وللناظر في تاريخ الإنسانية أن يقص علينا روائع القصص عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتلامذتهم.., تحكي إيمانهم الثابت, ويقينهم الراسخ.
ويمثل التاريخ الإسلامي السجل الحافل لهذه الصور الرائعة التي تنم عن إيمان صادق يقف أمام الطغاة والظالمين وقفة العزة والكبرياء, وما الفتوح التي رأيناها في الشرق والغرب إلاّ صورة كبيرة لهذا الإيمان, فقد وقف المسلمون وهم أقل عددا وأفقر عتادا أمام الجيوش الجرارة التي تفوقهم في الجند والسلاح, وغلبوهم بقوة الإيمان وثبات ويقينهم.. وعزمهم الأكيد لإحقاق الحق وإبطال الباطل. وأما الأمثلة الخاصة والقصص الفردية فهي أكثر من أن تحصى وأعظم من أن توصف, وأذكر أمثلة من حياة الصحابة رضي الله عنهم.
فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - آمن في منزله مع أهله وأولاده, يأتيه الخبر بأن قريشا تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلا يلبث أن يمضي خارج منزله ليقابل قريشا كلها, وهو فريد وحيد يقدم غير هياب ولا خائف, ويقف أمام هذا الجموع المتكاثفة ليقول لهم: "أتقتلون رجلا يقول: ربي الله", ولا يكتفي بالكلام بل يحاول بكل ما آتاه الله من قوة ليدفع القوم عن النبي صلى الله عليه وسلم, وفعلا يستطيع أن ينقذ النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم, ولكن الفداء هو نفسه, فتتحول قريش إلى أبي بكر لتنزل به ما كانت تنزله بمحمد صلى الله عليه وسلم, وما تركوه إلاّ وهو على الأرض مقطوع إحدى ضفيرتيه.. والدم ينزف من وجهه حتى يغطيه فلا يدري أنفه من وجهه.(1/211)
هذه صورة من صور الإيمان الذي نفقد, والذي نريد, إنه الإيمان الذي دفع صاحبه لأن يؤثر التعب على الراحة, والضرب على الأمن, والموت على الحياة.. ويحمل أبو بكر إلى منزله وهو مغمى عليه لا يدري ما حوله, والناس لا يشكون في موته, ولكن الله عز وجل لم يكتب عليه الموت بعد فيفتح عينيه وتتحرك شفتاه.. ليسمع التاريخ بماذا يتكلم هذا الرجل هل يريد ماء؟ هل يريد راحة؟ لا, لا هذا ولا ذاك, إنه يقول: "ماذا فعل بمحمد", إنه سؤال الفؤاد المشبع بالإيمان, سؤال العالم بأن رسالة الإسلام لم تتم بعد, وتمامها موقوف على بقاء هذا النبي, فأما هو فرجل من الرجال, فخوفه إذاً كان على الإسلام, على الإيمان الذي لا يمكن أن يتم إذا استطاع المشركون أن ينالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - على صغر قامته, وضعف جسمه, وقلة عشيرته في قومه, يطلب أن يكون الذي يسمع قريشا القرآن الكريم, والإسلام حينئذ ضعيف, والمسلمون حينئذ يسامون من العذاب أشده, ويمضي وحيدا إلى الكعبة عزيزا بعزة الإسلام, وينطلق لسانه بتلاوة كتاب الله تعالى, فما يكون نصيبه إلاّ أن يقع مغشيا عليه من الضرب والإيذاء.. فليندم على فعله إذاً, وليصمم على أن لا يعود إلى مثل ذلك.. لأن الندم على الحق ليس من صفات المؤمن بل يدعوه إيمانه الثابت الراسخ ليكون مرة ثانية صوت الإسلام المدوي في الكعبة بكتاب الله وآياته ليغيظ الكفار.
صورة شاهدة على تقديم رضا الله سبحانه على كل شيء في الوجود, قصص تعتبر لنا عن سر انتشار هذا الإسلام الواسع, الذي ما عرف التاريخ أسرع منه قصصا, ومن أراد المزيد منها فليستنطق التاريخ عن أمثلة الإيمان, وخاصة قصص الفتوحات الأولى حيث غنم الجنود الكنوز, ومع ذلك لم تمتد أيديهم إلى شيء منها, وتصل بتمامها سالمة إلى خليفة المسلمين..(1/212)
إنه الإيمان وراء هذا كله..الإيمان بالله وحده الرقيب على الإنسان, الحسيب على أعماله.
فإلى الله تعالى نجأر بالدعاء لنكون من أولئك الذين طلقوا الدنيا وأرادوا الآخرة, وقدموا كل ما يملكون في سبيل الله وحده, وكانوا صورة للإيمان الكامل الذي يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله, وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار".(1/213)
مشكلات الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام
للشيخ عطية سالم القاضي في المدينة
ثالثا: التوجيه الخارجي:
وهو تدخل الحكومة أو تأثير السياسة أو أي شخصية غير تعليمية فإن ذلك يؤدي إلى تغيير اتجاه سير التعليم ويحيد بالجامعات عن الغاية المرجوة ويجعلها تسير وفق رغبات أصحابه. وهكذا الجامعات تصنع رجالا أو على الأصح تصنع أفكارا وفق إرادة من يوجهونها, وقد كشف عن هذا المبدأ قديما نابليون في خطاب له قال: "لن يكون استقرار سياسي إلاّ بتحديد أغراض التعليم تحديدا لا شك فيه, فحيث لا يعرف الناس إن كان التعليم يرمي إلى يخلق منهم جمهوريين أو ملوكيين, نصارى أو كافرين, لا توجد جامعة جديرة بهذا الاسم".
إذن فالجامعة في نظره مصنع أفكار حسب اتجاه الدولة ولا تملك حق التوجيه أو الابتكار, وفي هذا سلب القيادة عنها, اللهم إلاّ في التعليم المهني كالطب والهندسة والزراعة لأن في ذلك رفعا لمستوى البلد, وكسبا أدبيا في المجال الدولي وكسبا ماديا في الأسواق التجارية العالمية, ولعل مناهج الدراسة في الجامعات الروسية تشير إلى حقيقة هذا القول, بل إن موقف بعض الدول من منظمة اليونسكو يؤيد هذه النظرية.
ومشكلة هذا التحيد العلمي تعطي لونا خاصا من المنهج من جهات:
1- إلزام الطالب بما تريده الجهة الموجهة وتختاره وإغفال إرادة الطالب واختياره ومن هنا تسد أبواب حرية الفكر ويفوت استقلال الرغبات وبالتالي تموت الملكات, ويصبح الطالب قالبا للون خاص واتجاه معين. فإذا جاءت حكومة أخرى أو غيرت الأمة سياستها, أصبح الطالب بين أحد أمرين: إما أن يصبغ بصبغة أخرى ويصب في قالب أخر وفق السياسة الجديدة ومن ثم يكفر بالمنهج الماضي, وأما أن يظل على ما كان عليه فيصطدم بالمستقبل, ومن ثم تفقد الجامعة كيانها, ويضيع عليها مركزها, وتعجز عن إثبات وجودها بشخصية مستقلة.(1/214)
ولعل موقف بعض الجامعات من بعض القضايا كان سببا في انصراف الناس عن الثقة كل الثقة بها.
2- عزل تلك الجامعة - أي الموجهة - عن محيط الجامعات الأخرى حيث لا يمكن تبادل ثقافي معها لا في الكتب ولا في المحاضرات ولا في الأساتذة اللهم ما كان منها وفق اتجاهها. ولا يتأتى هذا الاتفاق إلاّ في النواحي الصناعية الصرفة؛ لأن الإنتاج الصناعي مهما يكن ابتداء من المواد الخام إلى قطع الاستهلاك لا يحمل فكرة ولا يعرف مبدأ وغاية ما فيه إنما هو تنمية للدخل القومي.. أما سياسة الأمة أو تاريخها أو آدابها أو أخلاقها أو دينها فلا دخل له في شيء من ذلك, ولهذا فإن الجامعات الروسية يمكنها تبادل الثقافي مع جامعات العالم في مجال الصناعة والاختراع أما المجالات الفكرية والدينية والسياسية ... الخ فلا, اللهم إلاّ في نطاق النظام الشيوعي فحسب, ومثل ذلك الجامعات الأخرى بالنسبة إلى المعسكر الروسي.. فهذه مشكلة للجامعة بأكملها لا للطلاب فحسب.
أما علاج ذلك على ضوء الإسلام فإن أول آية نزلت في الإسلام قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ, اقرأ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم, عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ, كَلاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى, أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى, إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} , فجعل القراءة والكتابة والعلم كلها باسم الله الذي خلق كل شيء, والذي خلق الإنسان بالذات من علق.
فجعل اتجاه العلم مبدأ وغاية من الله وإلى الله, أي لا سلطة لإنسان ولا لجهة ما في توجيه العلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ - إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) , وفي جعل القراءة باسم الرب إشارة إلى أهمية القراءة والتعليم في التربية المفهومة من الربوبية في قوله تعالى: {بِاسْمِ رَبِّكَ} .(1/215)
كما جعل صلة الموصول صفة الخلق المطلق, ثم خلق الإنسان بالذات إشارة إلى الإنشاء والابتكار والإبداع المفهوم من صفة الخلق المضمنة لقوله تعالى: {خَلَقَ} , وفي تكرار طلب القراءة مع {وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} إشارة إلى أن المنهج نعمة ومنة وإكرام من الرب الكريم, ثم بيين وجه ذلك الأكرم بقوله: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم} وأنشأ يفصل ذلك العلم وأهميته بقوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .. ومن هنا كان علم القلم أشرف العلوم لأنه علم الخاصة والقادة وحظ الروح والفكر ووسيلة الإصلاح والتوجيه ومهمة الأنبياء والمرسلين والهادي إلى الصراط المستقيم ومرضاة رب العالمين.
أما علم الصناعات فهو مهما كان وسيلة لا غاية انحط أو ارتفع. ولربما كان سببا للفساد والطغيان والعلو والتكبر والظلم والطغيان..وقد نوه تعالى عن ذلك في نفس الآية بقوله: {كَلاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} .
إذن فعلاج الإسلام لهذه المشكلة (التدخل الخارجي في توجيه الدراسة الجامعية) هو منعه أصالة وترك المنهج يسير حرا طليقا باسم الرب الخالق ومن سبيل كسب العلوم المجهولة التي لم تعلم من قبل وتوجيه الأمة إلى أقوم سبيل.
وإذا كانت الصحافة قد انتزعت لقب (صاحب الجلالة) لحريتها ومضيها في سبيلها من غير حيف أو تحيز, فالجامعة أحق منها بهذا اللقب أو بما هو أعظم منه فلتلقب صاحبه القيادة أو نحوه لأن الصحافة ما هي إلاّ أثر من آثار الجامعة لأنها نتاج أقلام الجامعيين ومن دونهم.
رابعا: المنهج الجامعي:(1/216)
من المعلوم أن مناهج الجامعات في كل أمة هي الأساس لتكوينها والصورة لاتجاهها وكل أمة تكيف مناهجها حسب فلسفتها في الحياة, فمناهج الجامعات في المعسكر الروسي خلافها في جامعات المعسكر الغربي.. وهي في المعسكرات الشرقية غيرها في الجميع. وهذا واقع الحياة التعليمية في الجهات المختلفة, ولا يمكن لجهة أن تتخلى عن واقع حياتها.
ولكننا إذا تطلعنا شرقا وغربا نطلب منهجا قويما بحاجات الإنسانية ويكون الإنسان الكامل كوحدة متماسكة يسير به في توازن وينهض به في اعتدال لن نجد منهجا سويا يفي بمقصودنا.
لأنها كلها قد جنحت في مناهجها إلى جانب من جوانب هذا الإنسان وهو الجانب الذي أحست به ولمسته فآمنت بوجوده, وهو الجانب المادي فراحت تعمل لخدمة هذا الجانب من هذه الناحية فرقت الصناعية تسهيلا لمعاشه وطورت الفنون تيسيرا لمسراته وأطلقت من قيود الحرية إشباعا لشهواته فأصبح يأكل ويتمتع ويلهو ويتوسع حتى أعطى هذا الجانب كل متطلباته.
بينما أغفل الجانب الآخر من الإنسان وهو الجانب الروحي الذي به حياته الحقيقة السعيدة وعليه قوامه, وبإغفال هذا الجانب اختل ميزانه وفقد اتزانه وظهر طغيانه.
لأن الإنسان إذا لم يكن له ضمير ينبهه ولا دين يردعه ووجد انطلاقة وراء شهواته وملذاته فلابد من أن يطغى على غيره ليحصل على أكبر قسط لنفسه, سيطغى فردا أو جماعة لإرضاء شهوة النفس من سلطة وسلطان:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
والنفس من طبيعتها الشح كما قال الله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} .. والشح يحمل على الحرص, والحرص يحمل على الأنانية وحب الذاتية, وهما يحملان على الاستزادة والإكثار من كل ما تصل إليه اليد ولو طغيانا وبطرا: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} .(1/217)
وهذا كله نتيجة اختلال التوازن بين متطلبات الإنسانية من ثقافة متوازنة الجانبين: "الروح والمادة".
ولقد شاهد العالم نتيجة الفلسفة المادية والانطلاق من قيود الحرية: شيوعية حمراء ورأسمالية نكراء, التقتا في تسابق ذري مهلك.
أما الإسلام فلم يفصل بين أجزاء الكائن المرتبطة ولم يغفل عوامل الفطرة فزاوج بين جسمه وروحه وعقله وملذاته, فأعطى كل جانب حقه, فساير كل منهما الآخر من غير تقصير ولا طغيان من جانب آخر, وقد تقدم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون, فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
فأوجد أمة متماسكة كالبنيان المرصوص, كان قادتها هم قادة الدنيا, وساستها ساسة العالم وعلماؤها هم علماء الدين والدنيا, خلفت حضارة أنارت العلم شرقا وغربا.
وتلك آثار حضارتهم في الطب والهندسة والعمران بل والجغرافيا والصناعة كانت أساسا لحضارة الغربيين جميعا.
فقد وصلوا في القرن الرابع الهجري في ميدان الطب إلى الكشف بالتحليل واستخدام البنج, وكانوا أول من نظم الصيدلية وتوسع فيها وظهر فيهم التخصص في الطب, وقد اكتشفوا بعض العناصر الكيماوية كالبوتاس والنشادر ونترات الفضة كما استعملوا الترشيح والتقطير والبلورة وقد عرفوا المستشفيات, فقد بنى الوليد بن عبد الملك (المارستان) وعددا من الدور للمرضى, وجعل فيها أطباء وأجرى عليها النفقات والأرزاق, وقد كان ابن الهيثم الحسن أبو علي عنوانا على رجال العلم المدني والإنشاء والابتكار في القرن الرابع الهجري, فقد درس نواحي الضوء كانعكاسه وانعطافه ... إلخ.
وعبد الله البتاني في الفلك والرياضيات.(1/218)
وأمية بن أبي الصلت حيث ابتكر فكرة استخراج المراكب في قعر البحر.. وكذلك في النواحي العسكرية الحديثة فقد كانوا أول من اخترع القنابل عن طريق معرفتهم لتركيب النار اليونانية واستخدموها سنة 1205 حين حاصروا الأمير يعقوب.
وإذا كان هناك من مبادئ يونانية أو إغريقية أو غيرها فإنهم بلا شك قد زادوا على ما وصلهم وابتكروا ما لم يصلهم كما تقدم من أوليات لهم في الاختراع.
وإذا تأملنا كتاب الله تعالى وهو الدستور السماوي الذي ملك عليهم حواسهم وجوارحهم نجده يشيد بالعلم ويشير إلى شتى العلوم.
فقد لفت الأنظار إلى الطب عن طريق خلق الإنسان في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} , مع بيان قدرة الله تعالى على الخلق والإبداع في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ, وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ, وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ, وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ, فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} , وقد لفت الأنظار إلى الصناعات في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} , كما وضع أساسا من أسس الصناعة وأصلا من أصول الدقة والإتقان في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ, أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} .(1/219)
وقد قال بعض العلماء: لقد وضعت آية من كتاب الله تعالى نظرية ثابتة لجميع المخترعات والصناعات وهي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} , فكل موجود صناعي لابد له من مقادير ومقاييس إذا لم تضبط لا يتم وجوده ولو أردنا تطبيقها لوجدناها متمشية من أدنى شيء إلى أعظم اختراع كثوب الإنسان أو ستارة النافذة- وكنظام الذرة منذ أعلن عن اكتشاف الكترونات عام 1897. واستدلوا على أن الذرة المتعادلة لابد أن تكون من جزئين أحدهما موجب والآخر سالب, ومن شحنتين كل منهما مساوية ومضادة للأخرى.
وقد أعطى القرآن الكريم للإنسان الحق في بذل الوسع واستفراغ الجهد في العمل المادي لتحصيل مصلحتة والحفاظ على دينه الذي استخلفه الله به في الأرض حيث قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} , ومعلوم أن إعداد القوة ليس في السلاح فحسب بل في كل شيء اليوم من أنواع الإنتاج من المأكل إلى المقتل, وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين حق العمل بمعارفهم الدنيوية حيث لم تتعارض مع الشريعة حيث قال: "أنتم أعرف بأمر دنياكم".
وبجانب هذا المنهج الصناعي في الإسلام تلك الكنوز من المكتبات المليئة بالكتل المشحونة من نتاج الفكر من مُثُل عليا وأخلاق مُثلى مما بهر العالم شرقا وغربا, وجعل سيرة القوم أشد تأثيرا في النفوس من دعوتهم فدخل الناس في دين الله أفوجا فسادت السكينة وعمت الطمأنينة وانتشر السلام وظهرت الفضيلة واختفت الرذيلة وقضي على الظلم والطغيان بالعدل والإحسان يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخليفة الأول في خطابه الأول: "أقواكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق له, وأضعفكم عندي قوي حتى آخذ الحق منه".
تعجز جامعات اليوم مجتمعة أن توجد مثل هذا المثال للمسلم, أو تأتي بأحسن من هذا المنهج لسعادة الأمة أو عدالة حكم.(1/220)
هذا هو المنهاج الإسلامي في جملته حفاظ على التراث العزيز عند الأمة من دين وخلق.. الخ, تزاوج بين متطلبات هذا الإنسان من مادة وروح في توازن واعتدال.
تربية النفوس على فضيلة انطلاقته في كسب العلوم النافعة لا تقف عند حد البعثات العلمية كما في رحلات العلماء وسفر أبي أيوب من المدينة إلى مصر لحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. التخصص في المادة كما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت لتعلم اللغة ليكتب ويقرأ كتبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامسا: أوقات الفراغ:
لاشك أن الزمن هو أساس رأس مال الإنسان في هذه الحياة, والطالب الجامعي وغيره يشعر بفراغ في وقته أثناء الدراسة وفي العطلة, وإذا ترك لنفسه فإنه لا يدري كيف يقضيه وبما يشغل وقته, بينما يحيط به أسباب شغل الوقت بأسباب بعيدة عن مجال الدراسة والتحصيل قريبة من جانب الانحراف والتخلف مع تهيؤ الظروف أمامه وتكامل الأسباب عنده.
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة المرء أي مفسدة
فبدافع عن غريزته وبقهر من شهواته سينطلق حيث دعاء النفس وملذاتها ومن هنا تنشأ المشكلة؛ لديه معلومات تتطلب ما ينميها, وأمامه ملهيات عظم داعيها, ولعل لهذه المشكلة صلة وثيقة بمشكلة أخرى وهي نظرة الكثيرين إلى التعليم على أنه وسيلة لشهادة تفتح أبواب العمل وتيسر سبل العيش, فينصب جهده أثناء العام الدراسي على مقررات المنهج لينجح, ثم يودع الدراسة إلى العام القابل ومن هنا لابد من شغل الوقت بما طاب له.
ولو كانت نظرته للدراسة أن العلم يطلب لذاته استكمالا لشخصية المتعلم لشغل وقته في التحصيل, كما قال أحدهم لأولاده: "تعلموا العلم فإن كنتم فقراء استغنيتم وإن كنتم أغنياء سدتم".(1/221)
ولهذا فالإسلام لا يعرف فراغا ولا يوجد عند المسلم العامل ما يسبب له هذه المشكلة كيف والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} , ويقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} , وعليه لابد أن يكون في عمل دائم إما لدنياه وإما لآخرته كما خاطب عموم الأمة بقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} .
ولكم هذا النوع من الحياة يتطلب إصلاح المجتمعات التي يعيش الطالب في جوها, وإلى ذلك الوقت ستظل مشكلة تشغل فراغ الطالب, ولا سيما مع وجود تلك الملاهي والمغريات وبالأخص أثناء العطلة الدراسية.
ولعل أنجع الوسائل لحل هذه المشكلة على ضوء الإسلام هو كالآتي:
أولا: بتكليف الطلاب الجامعيين أثناء العطلة بنشاط عملي كل على حسب اختصاص دراسته فيقوم طالب الطب مثلاً بتقديم مساعدات من إرشادات وتوجيهات طبية في بلده أو الحي الذي يقطن فيه سواء في المقاهي أو المساجد أو المنتزهات العامة ويقدم تقريراً للجامعة عن أهم الأخطاء الشعبية في النواحي الصحية وأهم طرق علاجها.
وكذلك طالب الزراعة ولو بذهابه إلى الأرياف ومخالطته للمزارعين ومثله في الهندسة.. إلخ وعلى الجامعة أن تهيّيء جوائز مغرية لمن يظهر لعمله أثر بين.
ثانياً: تمنح الجامعة طلابها بطاقات يسمح لهم بموجبها التطبيق العملي على النظريات العلمية كل في مجال دراسته، فمثلاً طالب الطب يسمح له بدخول المستشفيات للاطلاع على سير العلاج والمتزود بمعرفة الأمراض المستوطنة مثلاً وكيف تعالج, أو دخول غرف عمليات الجراحة والضماد ليكسب خبرة عملية ربما تكون أوسع من نطاق الدراسة النظامية.
وكذلك طالب الصيدلية يدخل ما يمكن من الصيدليات ويشارك بالفعل في تحضير بعض الأدوية ولاسيما ذات العناصر البسيطة كالوارند والبزمت والمراهم وإبر الكالسيوم والمحلولات الداخلية.. الخ.(1/222)
وطالب الأزهر يذهب إلى المحاكم ليرى سير الدفاع والمرافعات أو إلى البنوك ليرى أنواع المعاملات أو إلى المساجد ليسهم في الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله تعالى.
وكل ذلك سيفتح أمام الطالب مجالاً للدراسة والتحصيل كما سيمكن الجامعة من اكتشاف طاقات مجهولة واستخدام خامات صالحة كما ستكسب الأمة من وراء ذلك فوائد في كل ميدان. وقد تستطيع الحكومة أن تستفيد من مثل هذا العمل فتستعين بالطلاب الجامعيين في بعض الظروف التي كانت تضطر فيها لاستخدام العسكريين في الأمور المدنية فتكسب روحاً علمية وشعورًا وطنياً وعملاً إنسانياً وتنقل الطلاب من فراغ وكسل إلى إنتاج وعمل, {وَقُلِ اعْمَلُوا ... } .
وقد رسم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريقة في هذا كله قولاً وعملاً.
أما قولاً: فقد مر بقوم يحفرون لحدًا لميت فنظر فإذا به معوجًا فأمرهم أن يصلحوه وقال: "إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يحسنه", فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى إحسان العلم ولو لم يسهم عمليًا.
ومن حديث أبي ذر في الصحيحين أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الرقاب أفضل؟ "قال: "أنفسها", قلت: "يا رسول الله فإذا لم أفعل؟ "قال: "تعين صانعًا أو تصنع لأخرق", قلت: "فإن لم أفعل؟ "قال: "تدع شرّك عن الناس فإن ذلك صدقة منك على نفسك".
وأما عملياً فقد مرّ على رجل ذبح شاة له وهو لا يحسن سلخها فقال: "ألا أريك كيف تفعل؟ فأدخل يده صلى الله عليه وسلم بين إهابها واللحم وأدراها, وقال: هكذا فافعل".
فهذا إسهام عملي في توجيه أفراد الأمة حتى في أمور دنياها كما يرشدهم في أمر دينهم.
وقد أسهم صلى الله عليه وسلم في بناء المسجدين: مسجد قباء, ومسجد المدينة المنورة, وحفر الخندق.(1/223)
وكان السلف يدأبون في طلب العلم ولا يعرفون عطلة ويديمون من أجله الرحلة, ومن أقوالهم: "لا بارك الله في يوم لا أزداد فيه علماً، "من استوى يوماه فهو مغبون"، "الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها".
وفي قصة الخطيب التبريزي مع نسخة كتاب التهذيب ورحلته لأبي العلاء المعري وما حدث عليهما أكبر دليل على حرص السلف على الدأب في طلب العلم مطلقًا وشغل أوقات فراغهم.
سادسًا: التعليم المادي:
وليس المراد به التعليم المهني كالطب والهندسة والزراعة.. الخ, بل التعليم الذي يقصد به صاحبه الحصول عن طريقه على وظيفة يحصل بها على المادة وذلك ما يكون فيمن ينظر إلى وظائف الحكومات التي تستوعب الكثير من المتخرجين, وقل أن تبرز في خضم أعمالها ملكات الموهوبين، فيكون هذا الصنف للحصول على الشهادات فحسب, بخلاف الذين لهم عزم على العمل الحر أو العمل المهني فإن ذلك الصنف يتعلم ليحصل على معلومات تتكون بها شخصيته وبها يكون قوامه ويشق طرق حياته بسلاح الموهبة والشهرة في النجاح في العمل وفرق بين الفريقين:.
1- فالأول يكتفي بملخص عرض الاستاذ ونقاط الدرس أو المحاضرات بينما الثاني يحرص على تفاصيل الموضوع ويستزيد الأستاذ إيضاحاً.
2- والأول ينجح في الملخصات والمختصرات بالقدر الذي ينجح في الاختبار بينما الثاني يطمح إلى أمهات الكتب والمطولات إلى الهدف الذي يشبع رغبته.
3- والأول يتمسك ذهنه على معلوماته إلى أن يسلم ورقة الإجابة عن سؤال الامتحان بينما الثاني يعتبر أسئلة الامتحان درسًا جديدًا يستزيد منه علمًا.
4- الأول تنتهي صلته بالعلم عند انتهائه من الدراسة وتسلمه الشهادة بينما الثاني يبدأ أبحاثه وتجاربه إلى أن يتسلم الناس عنه أحسن النتائج ومنشأ المشكلة في هذا النوع من حيث أن الطالب أو على الأصح المتخرج الجامعي يفقد خصائص الجامعيين من حب البحث وكثرة الاطلاع وسعة الأفق فيقف حيث سار الناس.(1/224)
أما حلها على ضوء الإسلام:
فالإسلام قد جعل العلم غاية في ذاته بل جعله متعبدًا يثاب على تحصيله والاشتغال به وفي الحديث: "من سلك طريقًا يطلب فيها علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة"، "لغدوة في طلب العلم أحب إلى الله من مائة غدوة في طلب غيره من الخير", "ولا يخرج أحد في طلب العلم إلا وملك موكل به يبشره بالجنة".
ولا ينبغي الوقوف بكلمة علم عندما اشتهرت به عند الاطلاق بل يمكن حملها على كل علم يعود على الأمة بالخير إذا صاحبته نية حسنة.
كالطبيب إذا قصد بعلمه مؤاساة مريض وتخفيف آلام مصاب، والمهندس إذا قصد بعلمه إيواء مسكين أو إنشاء مدرسة لتربية أبناء الأمة فضلاً عن مسجد ونحوه, والزراعي لو قصد تنمية المحاصيل لإشباع جائع وتوفير الغذاء, بل والكاتب وأي موظف لو قصد خدمة الإنسانية والإسهام في هذا البناء العظيم, وكل بحسب نيته كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى", وعلى الجامعة أن تحبب العلم لطلابها وأن تقدمه بصورة شيقة تحملهم على الحرص عليه والاستزادة. والله ولي التوفيق, وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه, آمين.(1/225)
من تاريخ المذاهب الهدّامة:
كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة (1)
بقلم محمد بن مالك اليماني
لا يخفي تغلغل دعاة الباطنية في مختلف الأقطار الإسلامية ونشرهم مذهبهم الداعي إلى الإلحاد والإباحية وهدم وحدة المسلمين. فقد انتقل مؤسس الباطنية ميمون بن ديصان من أصبهان إلى الأهواز ثم إلى البصرة ثم إلى سلمية الشام واتخذها معقلا له, مدعيا الانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق, ومن سلمية بعث دعاته إلى الكوفة واليمن والمغرب.. وقامت دولة العبيديين (التي دعوها بالفاطمية) في المغرب ومصر واليمن حتى جاء الحاكم بأمر الله حيث ادعى الألوهية ... ومن البارزين بين الباطنية حمدان بن الأشعت (الملقب بقرمط) في سواد الكوفة وأخوه ميمون المبعوث إلى خراسان وأبو سعيد حسن بن بهرام الجنابي وابناه أبو طاهر وسعيد ... وقد استولى أبو طاهر على الحجاز وفتك بالحجيج يوم التروية واستولى على الحجر الأسود ... وإن مؤامرات الفرق الباطنية على المسلمين وتأييدهم للصليبين, ودعواهم ألوهية أئمتهم عما هو مشهور لا يحتاج إلى بيان....
وهذا كتاب نادر في هذا الباب يشرح فيه مؤلفه وهو أحد الفقهاء السنة في القرن الخامس الهجري كثيرا من الأسرار التي استطاع الاطلاع عليها بعد أن تمكن من الاندساس بين الصليحيين - وهم قراطمة اليمن - واطلع على خفاياهم. وسيرد في آخر الكتاب أن علي بن محمد الصليحي بعد استيلائه على حصن (مسار) في (حراز) فوق مدينة مناخة كتب إلى صاحب مصر (مصر المستنصر الفاطمية) سنة 453هـ.
وقد رأت مجلة الجامعة الإسلامية أن تنشر هذا الكتاب لأهميته, وها نحن نقدم الحلقة الأولى.(1/226)
قال محمد بن مالك رحمه الله "إعلموا أيها الناس المسلمون - عصمكم الله بالإسلام وجنبنا وإياكم طريق الآثام وأصلحكم وأرشدكم ووفقكم لمرضاة وسدّدكم - أني كنت أسمع ما يقال عن هذا الرجل الصليحي كما يسمعون وما يتكلم به عليه من سيّء الإذاعة وقبح الشناعة, فإذا قال القائل: "هو يفعل ويصنع"قلت: "أنت تشهد عليه غداً"فيقول: "ما شهدت ولا عاينت بل أقول كما يقول الناس"فكنت أتعجب من هذا أولا ولا أكاد أصدق ولا أكذب ما قد أجمع عليه الناس ونطقت به الألسن, فتارة أقول: هذا ما لا يفعله أحد من العرب والعجم, ولا سمع به فيما تقدم من سالف الأمم إنما هذه عدواة له من الناس للمآل الذي بلغه من غير أصل ولا أساس, وكنت كثيرا ما أسمعه يقول: "حكم الله لنا على من يظلمنا ويرمينا بما ليس فينا".
فرأيت أن أدخل في مذهبه لأتيقّن صدق ما قيل فيه من كذبه, ولأطلع على سرائره وكتبه, فلما تصفحت جميع ما فيه وعرفت معانيها رأيت أن أبرهن على ذلك ليعلم المسلمون عمدة مقالته وأكشف لهم عن كفره وضلالته نصحة لله وللمسلمين وتحذيرا ممن يحاول بغض هذا الدين, والله موهن كيد الكافرين.(1/227)
فأول ما أشهد به وأشرحه وأبينه للمسلمين وأوضحه أنّ له نوابا يسميهم الدعاة المأذونين, وآخرين يلقبهم المكلبين تشبيها لهم بكلاب الصيد لأنهم ينصبون للناس الحبائل ويكيدون لهم بالغوائل, وينقضون على كل عاقل, ويلبسون على كل جاهل, بكلمة حق يراد بها الباطل يحضونه على شرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام, كالذي ينثر الحب للطير ليقع في شركه فيقيم فيه أكثر من سنة يمضون به وينظرون صبره, ويتصفحون أمره, ويخدعونه بروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم محرفة, وأقوال مزخرفة, ويتلون عليه القرآن على خير وجهه, ويحرفون الكلم عن مواضعه, فإذا رأوا منه الانهماك والركون والقبول والإعجاب بجميع ما يعملونه والانقياد بما يأمرونه قالوا حينئذ: إكشف عن السرائر ولا ترضى لنفسك, ولا تقنع بما قد قنع به العوام من الظواهر وتدبر القرآن ورموزه واعرف مثله وممثوله واعرف الصلاة والطهارة وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرموز والإشارة دون التصريح في ذلك والعبارة فإنما جميع ما عليه الناس أمثال مضروبة لممثولات محجوبة, فاعرف الصلاة وما فيها وقف على باطنها ومعانيها لأن العمل بغير العلم لا ينتفع صاحبه به فيقول: عم أسأل؟ فيقول: قال الله تعالى: {َأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} .. فالزكاة المفروضة في كل عام مرة وكذلك الصلاة من صلاها مرة في السنة فقد أقام الصلاة بغير تكرار, وأيضا فالصلاة والزكاة لهما باطن لأن الصلاة صلاتان, والزكاة زكاتان, والصوم صومان, والحج حجان, وما خلق الله سبحانه من ظاهر إلاّ وله باطن, يدل على ذلك {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} , و {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} , ألا ترى أن البيضة لها ظاهر وباطن, فالظاهر ما تساوي به الناس وعرفه الخاص والعام, وأما الباطن فقصر علم الناس به عن العلم به فلا يعرفه إلاّ القليل, من ذلك قوله: {وَقَلِيلٌ مَا(1/228)
هُمْ} , وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} , فالأقل من الأكثر الذين لا عقول لهم.
والصلاة والزكاة سبعة أحرف دليل على محمد وعلى صلى الله عليه وسلم عليهما لأنهما سبعة أحرف فالمعنى بالصلاة والزكاة ولاية محمد وعلي, فمن تولاهما فقد أقام الصلاة وآتى الزكاة, فيوهمون على من لا يعرف لزوم الشريعة والقرآن وسنن النبي صلى الله عليه وسلم فيقع هذا من ذلك المخدوع بموقع الاتفاق والموافقة لأنه مذهب الراحة والإباحة يريحهم مما تلزمهم الشرائع من طاعة الله ويبيح لهم ما حظر عليهم من محارم الله فإذا قبل منهم ذلك المغرور هذا قالوا له: قرب قربانا يكون لك سلما ونجوى ونسأل لك مولانا يحط عنك الصلاة ويضع عنك هذا الإصر, فيدفع اثني عشر دينار فيقول ذلك الداعي: "يا مولانا! إنّ عبدك فلان قد عرف الصلاة ومعانيها فاطرح عنه الصلاة وضع عنه هذا الإصر", وهذا نجواه اثنا عشر دينار, فيقولك "اشهدوا أني قد وضعت عنه الصلاة, ويقرأ له {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} .
فعند ذلك يقبل عليه أهل هذه الدعوة يهنئونه ويقولون: "الحمد لله الذي وضع عنك {وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} , ثم يقول له ذلك الداعي الملعون بعد مدة: "قد عرفت الصلاة وهي أول درجة, وأنا أرجوا أن يبلغك الله إلى أعلى الدرجات فاسأل وابحث", فيقول: "عم أسأل؟ "فيقول له: "سل عن الخمر والميسر اللذين نهى الله تعالى عنهما أبو بكر وعمر لمخالفتهما على علي وأخذهما الخلافة من دونه, فأما ما يعمل من العنب والزبيب والحنطة وغير ذلك فليس بحرام؛ لأنه مما أنبتت الأرض ويتلوا عليه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} إلى آخر الآية.(1/229)
ويتلو عليه {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى آخر الآية, والصوم الكتمان فيتلو عليه {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} , يريد كتمان الأئمة في وقت استتارهم خوفاً من الظالمين ويتلو عليه {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} , فلو كان عني بالصيام ترك الطعام, لقال: "فلن أطعم اليوم شيئا فدل على أن الصيام الصوت".
فحينئذ يزداد ذلك المخدوع طغيانا وكفرا, وينهمك إلى قول ذلك الداعي الملعون؛ لأنه أتاه بما يوافق هواه والنفس الأمارة بالسوء.
ثم يقول له: "إدفع النجوى تكون سلما ووسيلة حتى نسأل مولانا يضع عنك الصوم"فيدفع اثني عشر دينارا فيمضي به إليه فيقول: "يا مولانا.. عبدك فلان قد عرف معنى الصوم على الحقيقة فأبح له الأكل برمضان"فيقول له: "قد وثقته وأمنته على سرائرنا؟ "فيقول له: "نعم"فيقول: "قد وضعت عنك ذلك", ثم يقيم بعد مدة فيأتيه ذلك الداعي الملعون فيقول له: "لقد عرفت ثلاث درجات فاعرف الطهارة وما هي؟ وما معنى الجنابة ما هي في التأويل؟ "فيقول: "فسر لي ذلك؟ "فيقول له: "إعلم أن معنى الطهارة طهارة القلب, وأن المؤمن طاهر بذاته, والكافر النجس لا يطهره ماء ولا غيره, وأن الجنابة هي موالاة الأضداد, أضداد الأنبياء والأئمة, فأما المني فليس بنجس منه خلق الله الأنبياء والأولياء وأهل الطاعة, وكيف يكون نجسا وهو مبدأ خلق الإنسان وعليه يكون أساس البنيان, فلو كان التطهير منه من أمر الدين لكان الغسل من الغائط والبول أوجب لأنهما نجسان, وإنما معنى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} , معناه فإن كنتم جهلة بالعلم الباطن فتعلموا واعرفوا العلم الذي هو حياة الأرواح كالماء الذي هو حياة الأبدان.(1/230)
قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} .. وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ, خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} , فلما سماه الله بهذا دل على طهارته", ويوهمون ذلك المخدوع بهذه المقالة, ثم يأمره ذلك الداعي أن فيدفع اثني عشر دينارا ويقول: "يا مولانا ... عبدك فلان قد عرف معنى الطهارة الحقيقة, وهذا قربانه إليك"فيقول: "اشهدوا أنني قد أحللت له ترك الغسل من الجناة".
ثم يقيم مدة فيقول له الداعي الملعون: "قد عرفت أربع درجات وبقي لك الدرجة الخامسة فاكشف عنها فإنها منتهي أمرك وغاية سعادتك ويتلو عليه {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} فيقول له: "ألهمني إياه ودلني عليه؟ فيتلو عليه {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} , ثم يقول له: "أتحب أن تدخل الجنة في الحياة الدنيا؟ "فيقول: "وكيف لي بذلك؟ "فيتلو عليه {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} , ويتلو عليه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} , والزينة هاهنا ما خفي على الناس من أسرار النساء, لا يطلع عليها إلا المخصصون بذلك, وذلك قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} , والزينة مستورة غير مشهورة, ثم يتلو عليه {وَحُورٌ عِينٌ, كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} , فمن لم ينل الجنة في الدنيا لم ينلها في الآخرة؛ لأن الجنة مخصوص بها ذوو الألباب وأهل العقول دون الجهال؛ لأن المستحسن من الأشياء ما خفي, ولذلك سميت الجنة جنة لأنها مستجنة, وسميت الجن جنا لاختفائهم عن الناس, والمجنة المقبرة لأنها تستر من فيها, والترس المجن(1/231)
لأنه يستتر به, فالجنة هاهنا ما استتر عن هذا الخلق المنكوس الذي لا علم لهم ولا عقول, فحينئذ يزداد هذا المخدوع انهماكا, ويقول لذلك الداعي الملعون: "تلطف في حالي وبلغني إلى ما شوقتني إليه", فيقول: "ادفع النجوى اثني عشر دينارا تكون لك قربانا وسلما"فيمضي به ويقول"يا مولانا.. عبدك فلان قد صحت سريرته وصفت حبرته وهو يريد أن تدخله الجنة, وتبلغه جد الأحكام, وتزوجه حور العين؟ "فيقول له: "وقد وثقته وأمنته؟ " فيقول: "يا مولانا قد وثقته وآمنته وخبرته فوجدته على الحق صابرا ولأنعمك شاكرا"فيقول: "علمُنا صعب مستصعب لا يحمله إلاّ نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد امتحن الله قلبه بالإيمان, فإذا صح عندك حاله فاذهب به إلى زوجتك فاجمع بينه وبينها"فيقول: "سمعا وطاعة لله ولمولانا", فيمضي به إلى بيته فيبيت مع زوجته حتى إذا أصبح الصباح قرع عليهما الباب وقال: "قوما قبل أن يعلم بنا هذا الخلق المنكوس", فيشكر ذلك المخدوع ويدعوا له, فيقول: "هذا ليس من فضلي, هذا من فضل مولانا", فإذا خرج من عنده تسامع به أهل هذه الدعوة الملعونة فلا يبقى منهم أحد إلاّ بات مع زوجته كما فعل ذلك الداعي الملعون, ثم يقول له: "لابد أن تشهد المشهد الأعظم عند مولانا فادفع قربانك"فيدفع اثني عشر دينارا ويصل به ويقول: "يا مولانا.. إن عبدك فلان يريد أن يشهد المشهد الأعظم وهذا قربانه", حتى إذا جن الليل ودارت الكؤوس وحميت الرؤوس وطابت النفوس أحضر جميع أهل هذه الدعوة الملعونة حريمهم فيدخلن عليهم من كل باب وأطفأوا السرج والشموع, وأخذ كل واحد منهم ما وقع عليه يده, ثم يأمر المقتدي زوجته أن تفعل كفعل الداعي الملعون وجميع المستبين, فيشكره ذلك المخدوع على ما فعل, فيقول له: "هذا ليس من فضلي هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين, فاشكروه ولا تكفروه, ما أطلق من وثاقكم ووضع عنكم أوزاركم وحط عنكم أثقالكم وأحل لكم بعض الذي حرّم عليكم جهّالكم {وَمَا يُلَقَّاهَا(1/232)
إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .
قال محمد بن مالك رحمه الله تعالى: "هذا ما اطلعت عليه من كفرهم وضلالتهم, والله تعالى لهم بالمرصاد, والله تعالى عليّ شهيد بجميع ما ذكرته مما اطلعت عليه من فعلهم وكفرهم وجهلهم, والله يشهد على جميع ما ذكرته, عالم به, ومن تكلم عليهم بالباطل فعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين, وأخزي الله من كذب عليهم, وأعد له جهنم وساءت مصيرا, ومن حكى عنهم بغير ما هم عليه فهو يخرج من حول الله وقوته إلى حول الشيطان وقوته, فأديت هذه النصيحة إلى المسلمين حسب ما أوجبه الله علي من حفظ هذه الشهادة ومراعاتها وأدائها إلى من لم يسمعها قال الله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} . والله أسأله أن يتوفّانا مسلمين, ولا ينزع عنا الإسلام بعد إذ آتانا الله بمنه ورحمته.(1/233)
في الإسراء والمعراج
للشيخ عبد الله خياط
الحمد لله العلي الأعلى, أحمده سبحانه, يعلم السر والنجوى, وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له, له الأسماء الحسنى والصفات العلى, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, نبي الهدى, وخير الورى, والشفيع يوم القيامة في كل من وحّد الله واهتدى. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد فيا عباد الله, خارقة عجيبة في تاريخ الإسلام, ومعجزة خالدة لرسول الهدى والسلام, حيرت عقول أعداء الإسلام, وقرت بها أعين المؤمنين, وازدادوا بها إيمانا وتصديقا للرسول خير الأنام, تلك المعجزة هي الإسراء والمعراج بأكرم الخلق على الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. قطع الحبيب هذه المسافة الشاسعة ليلا, ورأى من عظيم آيات الله الدالة على عظمة ملكوته جل جلاله, ثم عاد في نفس الليلة. إنها لعبرة الدهر يغض بها الملحدون, كما غض بها من قبل الجاحدون المعاندون, فباؤوا بالخيبة والخسران {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} !.
ولقد اختلفت أقوال العلماء رحمهم الله في تحديد الإسراء والمعراج بشهر معين, بحسب النقول الواردة في ذلك:
1- فمنهم من رجح وقوعه في شهر ربيع الأول.
2- ومنهم من قرر حدوثه في شهر ربيع الثاني.
3- وآخرون ذهبوا إلى أنه كان في رجب.
4- وفريق قال به في رمضان وشوال.(1/234)
فاتضح أنه ليس ثمة جزم على التحديد بشهر معين, وإذا لم يكن ثمة جزم بتحديد الشهر, فكيف يصح الجزم بتحديد ليلة الإسراء والمعراج؟ أو يجوز القطع بأنه حدث ليلة سبع وعشرين في شهر رجب؟ كما يجنح إلى ذلك البعض من الناس؛ بحيث يحتفون بهذه الليلة على اعتبار أنها عيد لها صبغة الأعياد المشروعة. وعلى فرض الترجيح بوقوع الإسراء والمعراج في ليلة سبع وعشرين, فليس من السداد أن تأخذ هذه الليلة شكل الأعياد المشروعة. لأنه لو سلم بصحة هذا المبدأ - مبدأ تشريع أعياد جديدة وإحياء ذكرى المناسبات العظيمة في تاريخ الإسلام - للزم أن يتخذ من ليلة القدر المفضلة عيداً, ومن يوم الهجرة - الذي غير وجه التاريخ - عيدا, ومن غزوة بدر الفاصلة بين الكفر والإيمان عيدا, ومن كل المناسبات العظيمة أعياداً يحتفى بها تضاف إلى الأعياد الإسلامية, ولكن الشرع وضع حدا لذلك؛ حيث نص على الأعياد المشروعة؛ ولم يرخص في مزاحمتها بأخرى؛ فقضى على فوض الأعياد, واستقر الوضع على عيد رمضان والأضحى, روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - ولهم يومان يلعبون فيهما – فقال: "ما هذا اليومان؟ "قالوا: "كنا نلعب فيهما في الجاهلية"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر", قال العلماء - رحمهم الله -: "ففي ذلك دليل على النهي عنهما, اعتياضا بيومي الإسلام, ووقفت القرون المفضلة عند هذا الحد, فلم تكن تعمد إلى إحياء ذكرى الحوادث الإسلامية على كثرتها, ولم تتخذ من الأيام المفضلة أعيادا تحتفل بها, والخير فيما ذهبوا إليه, والصواب فيما وقفوا عند حده, والقدوة بهم فيها سلامة الدين, وحسب المرء أن يسلم له دينه, في زمن أخوف ما يخاف الناس فيه على الدين.(1/235)
يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات, فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة, أولئك أصحاب محمد, كانوا أفضل هذه الأمة, وأبرها قلوبا, وأعمقها علما, وأقلها تكلفا, واختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم-, ولإقامة دينه, فاعرفوا لهم فضلهم, واتبعوا على أثرهم, وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم, فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
فاتقوا الله عباد الله, واحرصوا كل الحرص على الإتباع, وحذار ثم حذار من الابتداع, فإن الأول لم يترك للآخر مقالا, ولم يدع له مجالا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
نفعني وإياكم بهدي كتابه, أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(1/236)
أخطار التدخين
ترجمة الدكتور أحمد سليمان
الطبيب في المستشفى الجامعة
لا تتوقف الالتهابات الشعبية التي تحدث للمدخنين إذا لم يتوقف عن التدخين, ولكي نعرف العلاقة بين التدخين والنزلة الشعبية لابد أن يتوقف التدخين ستة أسابيع كاملة توقفا تاما, وفي الوقت نفسه التوقف عن كل علاج للسعال والبلغم حتى يعرف النجاح الذي أحرز من وقف التدخين وحده, ومن تجاربنا الكثيرة اتضح أن الشبان الصغار الذين يدخنون بكثرة تفارقهم أعراض الصدر جميعا خلال أسبوعين من توقفهم عن التدخين..
وخلال ستة أسابيع فجميع الاختبارات الفسيولوجية التي سبق أن بينت أوجه الضرر والانسداد الشعبي الناتجة عن الالتهابات الشعبية المزمنة تذهب ويرجع التنفس إلى طبيعته, وقد جرى بحث وتقرير عن حالات من النزلات الشعبية الشديدة في المدخنين قبل وبعد ستة أسابيع من انقطاعهم عن تدخين أي سيجارة فكانت النتيجة كما يلي:
رجل عمره 42 سنة يعمل في الصناعة ويدخن ثلاثين سيجارة في اليوم, ففي مدة خمسة عشر سنة من ذلك نشأت له نوبات من السعال مع بلغم, وقد زادت الحالة شدة في السنة الأخيرة, وبالفحص السريري لم يوجد سوى نقص في أصوات التنفس على كلتا الرئتين (بالسماعة) .
وبالأشعة وجد القلب صغيرا طبيعيا, والحجاب الحاجر يتحرك 9ر6 سم 3 في اليمين, و9سم 3 في الشمال, ولو أن حركة الحجاب الحاجر ضعيفة وبطيئة عن البدء بالتنفس وتزيد مع التنفس.
وقد عمل جدول عرف منه أن الطاقة الحيوية في التنفس زادت بعد ستة أسابيع من 51% إلى 82% إذا أخرج النفس بقوة بعد ثانية واحدة وكان أساس رجوع الرئتين إلى طبيعتهما الأولى إبطال التدخين فقط بدون علاج آخر معها مثل الأفدرين الذي يوسع الشعب أو المضادات الحيوية كالبنسلين أو الأمزجة الصدرية.
تدخين السجائر:
ولتدخين السجائر آثار عامة على الجهاز التنفسي أهمها:(1/237)
1- زيادة إفراز المخاط.
2- توقف النشاط الشعيري في إخراج البلغم.
3- زيادة تقلص العضلات الصغيرة المحيطة بشعب الهواء.
4- توقف نشاط البلاعيم (خلايا أكالة) الموجودة في الحويصلات الهوائية.
5- تغيرات في الغشاء المخاطي المغطي للقصبة الهوائية والشعب الهوائية.
وهذه الآثار تثقل الرئة بالإفرازات الغربية وتقلل من الحركة الشعرية للأهداب الموجودة على سطح الخلايا المبطنة للقصبة الهوائية والشعب الهوائية, والتي تعمل كمكانس للغبار والأوساخ.. وبالتالي تتعطل عملية التخلص من الأتربة والأوساخ التي تدخل الرئة وتقل كمية الهواء النقي الداخلة للرئتين, ويصعب إخراج النفس ويحدث السعال, ويتعرض الجهاز التنفسي للإصابة بالبكترية.
وكذلك فإن نسبة الوفيات في الشبان الصغار الذين يدخنون نتيجة الالتهابات الرئوية أكثر بكثير مما يحدث لمن لا يدخنون.. وعلى هذا فمعظم هذه الآثار الضارة تتعارض مباشرة مع تأثير العلاج, وكما سبق أن قلنا فالتوقف عن التدخين قد يحدث وحده آثار عجيبة في التخلص من أعراض السعال وضيق التنفس, وينتج تحسينات محسوسة في وظيفة الرئتين, كما يقلل الالتهابات الميكروبية في الجهاز التنفسي.
وبالرغم من هذه الحقائق فالعقبات لإبعاد هذا العنصر الخطر عن المدخين كثيرة كالداء, فالمرضى يحاولون المجادلة بأن الهواء نفسه ملوث بدخان المصانع والسيارات.. الخ.ولكن تدخين السجاير يكون أكثر تلويثا للرئة بملايين المرات من أشد الأجواء امتلاء بالدخان.
و160 مرة أكثر تركيزا من الجو السليم لمصنع سم السيانيد.
و50 مرة أكثر تركيزا من الجو لديأكسيد النتروجين.
و420 مرة أكثر تركيزا من الجو الملائم لأول أكسيد الكربون.
والمواد العضوية الموجودة في الدخان تترسب في الرئتين وتخزن في الخلايا الأكالة (البلاعيم = ماكروفاج) .(1/238)
ولاشك أن ضرر الدخان لا يتساوى بين جميع المرضى, فالأبحاث الحديثة عن داء النفاخ (انفيزيما) تؤكد الأثر الوراثي لنقص الأنزيم (ألفا أنتي تريسين Elphaentytrisin) مما يجعل أناسا أكثر تعرضا للأخطاء من بقية الناس لداء النفاخ.
فالايفزيما تتزايد في المدخنين الذين يرثون هذا الاستعداد في حين أن الآخرين يكونون في حمى من هذا النقص الوراثي.
عن مجلة براكتشنر عدد (1192) أكتوبر 67م(1/239)
التدليس والمدلسون
للشيخ حماد الأنصاري المدرس في الجامعة
هذا واحد وستون ومائة راو من المدلسين ما بين متفق عليه ومختلف فيه جمعتهم من مراجع مختلفة إسعافا لمن له رغبة في الحديث, وإن قل من يشتغل بهذا الفن في عصرنا هذا.
وقبل سردهم أبدأ بمعنى التدليس, ثم أثني بأقسام التدليس, ثم أثلث بطبقات المدلسين. فلأقول -بعد الاستعانة بالله فإنه خير مستعان به-:
التدليس في اللغة: هو التلبيس والتغطية وهو مشتق من الدلس -محركة- وهو الظلام.
وفي الاصطلاح: أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه بلفظ يوهم السماع (كعن, وقال, وأن) , ووجه الشبه بين المعنى اللغوي والاصطلاحي أن الظلمة تغطي ما فيها كما أن المدلس يغطي المروي عنه فكأنه لتغطيته على الواقف عليه أظلم أمره.
أقسام التدليس: ثلاثة:
1- تدليس الإسناد:
وهو أن يحدف اسم شيخه الذي سمع منه ويرتقي إلى شيخ شيخه بلفظ يوهم السماع كعن أو واحدة من أختيها, أو يسقط أداة الرواية بالكلية ويسمي الشيخ فقط فيقول: فلان. قال علي بن خشرم كنا عند ابن عيينة فقال: الزهري فسكت, فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: لا, ولا ممن سمعه من الزهري, حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري.
اختلف أهل الصناعة في أهل هذا القسم, فقال بعضهم: يرد حديثهم مطلقا سواء أثبتوا السماع أو لا, وأن التدليس نفسه جرح, والصحيح التفصيل: فإن صرح بالاتصال كقوله: سمعت, أو حدثنا, أو أخبرنا, فهو مقبول يحتج به, وإن أتى بلفظ يحتمل فحكمه حكم المرسل.
2- تدليس الشيوخ:(1/240)
وهو أن يصف شيخه الذي سمع منه بوصف لا يعرف به من اسم أو كنية أو لقب أو نسب إلى قبيلة أو بلدة أو صنعة أو نحو ذلك, قال ابن الصلاح: "وأمر هذا القسم أخف من الأول وقد جزم ابن الصباغ بأن من فعل ذلك لكون من روى عنه غير ثقة عند الناس وإنما أراد أن يغير اسمه ليقبلوا خبره يجب أن لا يقبل خبره, وإن يعتقد فيه الثقة فقد غلط في ذلك؛ لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لم يعرفه هو, وإن كان لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول, لا يجوز قبول خبره حتى يعرف من روى عنه.
3- تدليس التسوية:
وهو أن يروي حديثا عن شيخ ثقة غير مدلس, وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة, فيأتي المدلس الذي سمع من الثقة الأول غير المدلس فيسقط الضعيف الذي في السند, ويجعل الحديث عن شيخه الثقة الثاني بلفظ محتمل, فيستوي الإسناد كله ثقات, وهذا شر أقسام التدليس, قادح فيمن تعمد فعله.
قال العلائي في كتابه التحصيل في المراسيل: "ولا ريب في تضعيف من أكثر من هذا النوع, وقد وقع فيه جماعة من الأئمة الكبار ولكن يسيرا كالأعمش والثوري".
وممن نقل عنه فعل ذلك بقية بن الوليد, والوليد بن مسلم, والحسن بن ذكوان.
وقد نقل الذهبي عن أبي الحسن بن القطان في بقية أنه يدلس عن الضعفاء ويستبيح ذلك, وهذا إن صح عنه مفسد لعدالته, وعلق الذهبي على هذا بأنه صح عنه أنه يفعله, وكذلك صح عن الوليد بن مسلم وعن جماعة كبار فعله, وهذا يليه منهم ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد, وما جوزوا على ذلك الشخص الذي يسقطون ذكره بالتدليس أنه تعمد الكذب, وهذا أمثل ما يعتذر به عنهم.(1/241)
وقال السيوطي في التدريب: "وهذا النوع من التدليس يسميه القدماء تجويدا, فيقولون: "جوده فلان"أي ذكر من فيه الأجواد وحذف غيرهم", قال الشافعي: "يثبت أصل التدليس بمرة واحدة"وقال ابن الصلاح: "والحكم بأنه لا يقبل من المدلس حتى يبين, قد أجراه الشافعي فمن عرفناه دلس مرة, وممن حكى هذا القول عن الشافعي البيهقي في المدخل".
طبقات المدلسين:
المدلسون ليسوا على حد واحد بحيث تتوقف في كل ما قال فيه كل واحد منهم (عن) أو وحدة من أختيها اللتين تقدمتا معها أو بغير أداة ولم يصرح بالسماع بل هم خمس طبقات:
أولا: من لم يوصف بالتدليس إلاّّ نادرا جدا بحيث ينبغي ألا يعد في المدلسين كيحيي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة وموسى بن عقبة, ممن سيأتي ذكرهم في طبقتهم إن شاء الله.
ثانيا: من احتمل الأئمة تدليسه وخرّجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع, وذلك لواحد من أسباب ثلاثة:
أ - إ ما لإمامته.
ب - وإما لقلة تدليسه في جنب ما روى
ج - وإما لأنه لا يدلس إلاّ عن ثقة, كالزهري وسليمان الأعمش وإبراهيم النخعي وإسماعيل بن أبي خالد وسليمان التيمي وحميد الطويل والحكم بن عتيبة ويحي بن أبي كثير وابن جريح والثوري وابن عيينة وشريك القاضي وهشيم, ممن ستأتي تراجمهم في طبقتهم - إن شاء الله -, ففي الصحيحين وغيرهما لهؤلاء الحديث الكثير مما ليس فيه التصريح بالسماع وحمل بعض الأئمة ذلك على أن الشيخين اطلعا على سماع الواحد من أمثال هؤلاء لذلك الحديث الذي أخرجه بلفظ (عن) ونحوها عن شيخه, ولكن في هذا نظر؛ بل الظاهر أن ذلك لواحد من الأسباب الثلاثة التي تقدمت آنفا, وهذا هو الراجح, قال البخاري: "لا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب ابن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور في جملة مشايخ كثيرين من قال: لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليسا ... ما أقل تدليسه".(1/242)
ثالثا: من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا إلاّ بما صرحوا فيه بالسماع, وقبلهم آخرون مطلقا, كالطبقة التي قبله, لأحد أسباب التي تقدمت كالحسن وقتادة وأبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير المكي وأبي سفيان طلحة بن نافع وعبد الملك بن عمير.
رابعا: من اتفقوا على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلاّ بما صرحوا فيه بالسماع لغلبه تدليسهم وكثرته عن الضعفاء والمجاهيل ... وذلك كمحمد بن إسحاق وبقية وحجاج بن أرطاة وجابر الجعفي والوليد بن مسلم وسويد بن سعيد وأضرابهم ممن يأتي ذكره إن شاء الله.
فهؤلاء الذين يحكم على ما رووه بلفظ (عن) بحكم المرسل.
خامسا: من قد ضعف بأمر آخر غير التدليس, فرَدُّ حديثهم بالتدليس لا وجه له؛ إذ لو صرح بالتحديث لم يكن محتجا به.. كأبي خباب الكلبي وأبي سعيد البقال ونحوهما, فليعلم هذا فإنه نافع في معرفة هؤلاء.
وهذا كله في تدليس الراوي ما لم يتحمله أصلا بطريق, فأما تدليس الإجازة والمناولة والوجادة بإطلاق (أخبرنا) , فلم يعده أئمة هذا الفن في هذا الباب, كما قيل في رواية أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب, ورواية مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه, وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري, وشبه ذلك, بل هذا النوع إما محكوم له بالانقطاع أو يعد متصلا, ومن أمثلته ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي عن الحافظ أبي الحسن الدارقطني أنه كان يقول - فيما لم يسمع من البغوي-: "قرىء علي أبي القاسم البغوي حدثكم فلان"ويسوق السند إلى آخره, بخلاف ما هو سماعه فإنه يقول فيه: "قرىء علي أبي القاسم البغوي وأنا أسمع"أو "أخبرنا أبو القاسم البغوي قراءة", ونحو ذلك..فأما أن يكون للدار قطني إجازة شاملة بمرويات البغوي كلها فيكون ذلك متصلا أو لا يكون كذلك فيكون وجادة, وهو قد تحقق صحة ذلك عنه.(1/243)
هذا مع أن التدليس بعد سنة ثلاثمائة يقل جدا, قال الحاكم: "لا أعرف في المتأخرين من يذكر بالتدليس إلاّ أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي".
قال أبو عمر بن عبد البر: "التدليس في محدثي أهل الكوفة كثير".
قال يزيد بن هارون: "لم أر بالكوفة أحد إلاّ وهو يدلس إلاّ مسعرا وشريكا".
قال الحاكم: "وأهل الحجاز والحرمين ومصر وخراسان, وأصبهان وبلاد فارس وخوزستان وما وراء النهر لا نعلم أحدا من أئمتهم دلسوا", ثم قال: "وأكثر أهل الكوفة ونفر يسير من أهل البصرة, وأما أهل بغداد فلم يذكر عن أحد من أهلها التدليس إلا أبا بكر الباغندي فإنه أول من أحدث التدليس ببغداد, ومن دلس من أهلها إنما تبعه في ذلك.. هذا وإليك المدلسين مرتبين على الحروف الأبجدية.
(الهمزة)
1- إبراهيم بن محمد بن أبي يحيي الأسلمي الشافعي: من الطبقة الخامسة لأنه ضعفه الجمهور, قال يحيي بن سعيد: "سألت مالكا عنه أكان ثقة في الحديث؟ فقال: لا, ولا في دينه", وقال الإمام أحمد: "تركوا حديثه", قدري معتزلي من رجال ابن ماجة, وضعفه الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما بالتدليس, توفي سنة 184.
2- إبراهيم بن سليمان الأفطس: عن مكحول وغيره, من الطبقة الثانية, قال أبو حاتم: "لا بأس به", وأشار البخاري إلى أنه كان يدلس وهو من رجال الترمذي وابن ماجة.
3- إبراهيم بن زيد النخعي: الفقيه المشهور في التابعين من أهل الكوفة, ذكر الحاكم أنه كان وهو من الطبقة الثانية, قال أبو حاتم: "لم يلق أحدا من الصحابة إلا عائشة رضي الله عنها, ولم يسمع منها, وكان يرسل كثيرا, ولاسيما عن ابن مسعود وجدث عن أنس وغيره مرسلا, وحكى خلف بن سالم عن عدة من مشايخه أن تدليسه من أحمض شيء وكانوا يتعجبون منه, وهو من رجال الجماعة.. توفي سنة 93.(1/244)
4- أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني: الحافظ أبو نعيم صاحب التصانيف الكثيرة الشائعة, منها حلية الأولياء, ومعرفة الصحابة, وغيرها, كانت له إجازة من أدركهم ولم يلقهم فكان يروي عنهم بصيغة (أخبرنا) ولا يبين كونها إجازة, لكنه كان إذا حدث عمن سمع منه يقول (حدثنا) , ساء أكان ذلك قراءةً أو سماعاً, وهو اصطلاح له, تبعه عليه بعضهم, وفيه نوع من التدليس بالنسبة لمن لا يعرف ذلك.
5- أحمد بن محمد إبراهيم بن حازم السمرقندي: أبو يحيي الكرابيسي, محدث مشهور في الطبقة الأولى, سمع محمد بن نصر المروزي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب كتاب التوحيد المشهور في عقيدة السلف, قال الإدريسي: "أكثر عن محمد بن نصر فاتهم في ذلك", يعني أنه دلس عنه الإجازة فإن له منه إجازة صحيحة, قال الإدريسي: "رأيتها بخط محمد بن نصر".
6- أحمد بن محمد بن يحيي بن حمزة الدمشقي القاضي: أكثر عن أبيه عن جده, قال أبو حاتم الرازي:"سمعته يقول: "لم أسمع من أبي شيئا", وقال أبو عوانة الاسفراييني:"أجاز له أبوه فروى عنه بذلك", يعني ولم يبين كونها إجازة من الطبقة الأولى. لم أجد له وفاة.
7- أحمد بن عبد الجبار العطاردي الكوفي: محدث مشهور, تكلموا فيه, من الطبقة الثالثة, قال ابن عدي: "لا أعلم له خبرا منكرا, وإنما نسبوه إلى أنه لم يسمع من كثير ممن حدث عنهم".
8- إسحاق بن راشد الجزري: - بالجيم - هكذا في طبقات المدلسين للحافظ, وفي الميزان للذهبي: الجندي - بالجيم والنون والدال المهملة - من الطبقة الأولى, كان يطلق (حدثنا) في الوجادة, فإنه حدث عن الزهري, فقيل له: "أين لقيته؟ "قال مررت ببيت المقدس فوجدت كتابا", حكى ذلك الحاكم في علوم الحديث عن الإسماعيلي.(1/245)
9- إسماعيل بن أبي خالد البجلي الأحمسي أبو عبد الله الكوفي: من صغار التابعين, ومن الطبقة الثانية, وصفه بالتدليس النسائي وغيره, قال أبو نعيم: "مات 146هـ".
10- إسماعيل بن عياش أبو عتبة العنسي: - بعين مهملة ونون ساكنة - عالم أهل الشام في عصره, مختلف في توثيقه, وحديثه عن الشاميين مقبول عند الأكثر, من الثالثة, أشار ابن معين ثم ابن حبان في ثقاته إلى أنه كان يدلس, توفي سنة 181هـ.
11 - أشعت بن عبد الملك الحمراني البصري: من الطبقة الثانية, قال معاذ بن معاذ: "سمعت الأشعت يقول: "كل شيء حدثتكم عن الحسن البصري فقد سمعته منه إلاّ ثلاثة أحاديث: حديث زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أنه ركع قبل أن يصل الصف, وحديث حمزة الضبي عن الحسن أن رجلا قال لرسول الله: "متى تحرم علينا الميتة؟ ". وحديث عثمان البتي عن الحسن عن علي في الخلاص. ويعني الخلاص في هذا الحديث: الخلاص في البيع, كما في مصنف ابن أبي شيبة في كتاب البيوع تحت عنوان (الخلاص في البيع) قال ابن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن عثمان عن البتي عن الحسن أن عليا كان يحسن في الخلاص, قال ابن الأثير: "الخلاص الرجوع على البايع بالثمن إذا خرجت العين مستحقة", ويؤخذ من تصرف ابن أبي شيبة أنهم كانوا يشرطون الخلاص, وهو أنه إذا خرج البيع مستحقا رجع المشتري على البائع بالثمن مع ما يلحقه من غرم إن كان, والله أعلم.
"توفي الحمراني سنة 146هـ"قاله ابن سعد.
12- أيوب ابن أبي تميمة السختياني: - بفتح السين المهملة وكسرها - أحد الأئمة, متفق على الاحتجاج به, رأى أنسا ولم يسمع منه, فحدث عنه بعدة أحاديث بالعنعنة, أخرجها عنه الدارقطني والحاكم في كتابيهما, وهو في الطبقة الأولى, روى له الجماعة توفي سنة 131هـ.(1/246)
13- أيوب بن النجار: وهو أيوب بن يحي, والنجار لقب له, يمامي من الطبقة الأولى, صح عنه أنه قال: "لم أسمع من يحيي بن أبي كثير إلاّ حديثا واحد", وقد روى عنه أكثر من حديث.(1/247)
في إفريقية الخضراء
للشيخ محمد بن ناصر العبودي
الأمين العام للجامعة
كتاب جديد - تحت الطبع - لفضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي يتحدث فيه المؤلف عن مشاهداته وذكرياته, وعن أحوال المسلمين في إفريقية الخضراء, وكنت أودّ أن أنشر في هذا العدد فصلا من هذه المشاهدات والذكريات, ولكن آثرت تأخير ذلك إلى العدد القادم, حيث أقدّم للقراء في هذا العدد الكلمة التي صدّر بها المؤلف كتابه, وذلك لأهميتها في إعطاء القارئ صورة واضحة عن الكتاب والظروف والملابسات التي أحاطت به وجعلته يأخذ طريقه إلى النور.
المحرر
لقد أسّست الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة لكي تستقبل العدد العديد من أبناء المسلمين في شتى أنحاء العالم، فتوفر لهم الدراسة الإسلامية النقية في عاصمة الإسلام الأولى، لكي يعودوا - بعد إتمام دراستهم- إلى بلادهم دعاة للخير ومرشدين إلى الحق، هداة للنور الإسلامي المبين.
وقد درجت الجامعة الإسلامية على أن تخصص كل عام منحا دراسية توزعها على المسلمين في مختلف الأقطار تختص من يستفيدون منها من قبل أن يغادروا بلادهم حتى يعودوا إليها.
وكانت الرئاسة الجامعة الإسلامية تضع في الاعتبار الأول حاجة القطر الذي تخصص له المنحة الدراسية الإسلامية إلى تعليم الإسلامي قبل النظر في حجمه السكاني، أو مساحته القطرية، أو كثرة النسبة العددية للمسلمين فيه، وذلك من باب البداءة بالأهم قبل المهم، والأولى على غيره.(1/248)
ولكن كانت رئاسة الجامعة تجد شيئاً من الغموض عندما تحاول أن ترسم التقرير الصحيح لبعض البلدان الإسلامية أو البلدان التي يقطنها المسلمون، وذلك بسبب نقص المعلومات، لذلك طرح هذا الموضوع على البحث في مجلس الجامعة في أخريات عام 1383هـ الموافق لعام 1964م وهو العام الثالث لإنشاء الجامعة، فرأى المجلس إيفاد بعثة تحت رئاسة الأمين العام للجامعة (كاتب هذه السطور) تسافر إلى بعض الأقطار الإفريقية المحتاجة للتعليم الإسلامي، وتطّلع على أحوال المسلمين هناك. ثم تأتي بتقارير وافية عما شاهدته ... وهكذا سارع صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، نائب رئيس الجامعة الإسلامية، إلى العمل على إنجاح المشروع كعادته الجيّدة في المسارعة في فعل الخيرات..
وكان أن رفعت الرئاسة الجامعة الإسلامية الأمر إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز حفظه الله، وذلك للعرض على جلالته وطلب الموافقة فحظي بالموافقة السامية، بل إن جلالته لم يقتصر على ذلك، وإنما أمر أن تصطحب البعثة معها مبالغ من المال تدفع باسم الجامعة في المدينة المنورة إلى المؤسسات والمدارس والهيئات الإسلامية في البلاد التي تزورها البعثة على ألا يعلن عن ذلك - أي عن المبالغ المالية شيء -, وألا ينشر عنه شيء في الصحف في حينه، وأن يكون عمل البعثة مقتصرا على النشاط الإسلامي وألا تقحم نفسها في أيّ نشاط سياسي قد يؤثر على أداء مهمتها الإسلامية الخالصة..
خطة العمل:
تألفت البعثة على النحو التالي:
محمد بن ناصر العبودي، الأمين العام للجامعة، (كاتب هذه السطور) رئيساً.
فضيلة الشيخ عمر محمد فلالي، مدير دار الحديث بالمدينة، والمدرّس بالمسجد النبوي الشريف. عضوا.
أبي بكر جابر بن موسى، المدرس بالجامعة الإسلامية، والواعظ بالمسجد النبوي الشريف. عضوا.
ورسمت رئاسة الجامعة عمل البعثة كما يلي:(1/249)
1- الاتصال بزعماء المسلمين وعلمائهم في الدول التي تزورها البعثة للاطلاع على أحوال المسلمين وفهم مشاكلهم.
2- إلقاء محاضرات وكلمات دينية في الأندية والمساجد والجمعيات الإسلامية.
3- تنظيم جداول إحصائيات للسكان المسلمين في كل قطر ومواضع سكناهم منه، ونسبتهم إلى مجموع سكانه من غير المسلمين.
4- تقدير الحاجة لكل بلد إلى المساعدات التي يمكن تقديمها سواء من الجامعة الإسلامية، أو من الهيئات الأخرى من المملكة.
5- بذل المساعدات المالية للجمعيات والهيئات، والأفراد الدعاة من المسلمين، للمساعدة على بناء المساجد أو سير الدراسة في المدارس وتشجيع الدعاة على الدعوة، وذلك في حدود المبالغ المالية التي تحملها البعثة.
6- توزيع المصاحف والكتب والمطبوعات الإسلامية على من ذكر حسب تقدير البعثة، على أن تعد بذلك بيانات ترسل بواسطة إحدى السفارات السعودية العربية من البلد الذي تصرف له الكتب.
7- الإطلاع على النشاط الموجود في الدعوة إلى الإسلام بين المواطنين وغيرهم في كل بلد ومعرفة ما إذا كان هناك نشاط معاد للإسلام فيه ومدى فعاليته..
8- كتابة إيضاحات مفصّلة عن أحوال المسلمين المادية، ومركزهم الاجتماعي في كل بلد تزوره البعثة.
9- تنظيم الجداول بعناوين، ومراكز الهيئات والشخصيات الإسلامية في كل بلد تزوره البعثة ليسهل الرجوع إليها عند الحاجة.
10- تحري الجمعيات والشخصيات الإسلامية التي تستحق المساعدة أكثر من غيرها, إما لاتساع نشاطها، أو إخلاص أفرادها، أو لأنه يرجى أثرها في الدعوة أكثر من غيرها، وذلك ليكون لها الأولية من المساعدات في المستقبل إذا لم يمكن تعميم المساعدة الجميع.
11- تقدير المنح الدراسية التي يحتاجها كل بلد في الجامعة الإسلامية حسب درجة حاجته للتعليم الإسلامي.
12- المساعدة على طبع النشرات والكتيبات الإسلامية في حدود إمكانات البعثة.(1/250)
13- تقدير حاجة المدارس الإسلامية إلى وجود المدرسين السعوديين الذين يدرسون الدين الإسلامي واللغة العربية, والذين قد تتوفر الظروف في المستقبل لابتعاثهم إلى تلك البلاد.
14- تقديم اقتراحات عمن تراهم البعثة أهلاً لأن تدعوهم الجامعة الإسلامية لإلقاء محاضرات فيها، أو للتعاون معهم في مجال الثقافة الإسلامية.
15- تقديم الاقتراحات بأسماء الشخصيات الإسلامية التي تستضيفها الهيئات والمؤسسات الإسلامية السعودية التي تعنى بشئون المسلمين في الخارج لغرض تقوية الروابط الإسلامية العامة.
ثم زوّدت رئاسة الجامعة الإسلامية البعثة بأكثر من ثلاثة عشر ألف كتاب إسلامي يضاف إلى ذلك مقدار من المصاحف والأجزاء القرآنية الكريمة لتقوم بتوزيعها في تلك البلاد.
وقد شحن الجزء الأكبر منها قبل سفر البعثة من ميناء جدة إلى (مقديشو) عاصمة جمهورية الصومال لكي تقوم البعثة بالتوزيع منها بطريق السفارة السعودية هناك.
وما إن علمت رابطة العلم الإسلامي بقرب سفر البعثة حتى أرسل معالي الأمين العام الشيخ محمد سرور الصبان مبلغاً مالياً طيباًً مساهمة من الرابطة في عمل البعثة وليضاف إلى المبالغ المالية التي تحملها البعثة من الجامعة ويصرف مصرفها.
وهذا وقد غادرنا المملكة العربية السعودية عن طريق جدة الدولي إلى مطار الخرطوم في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الثاني عام 1384هـ الموافق لليوم الرابع من شهر أغسطس عام 1964م.
تلك كانت قصة بداية رحلتي الأولى إلى إفريقية، وسوف أستصحبك أيها القارئ الكريم إلى أكثر البلدان والقرى والدساكر التي مررنا بها في تلك الرحلة، عندما نقرأ معاً مذكراتي اليومية، فيما بعد - إن شاء الله -.
وقد استغرق سفرنا مدة ثلاثة أشهر وسبعة عشرة يوما، زُرنا خلالها: السودان، وإرتيريا، والحبشة، والصومال، وكينيا، وأوغندا، وبوروندي، وتنجانيقا، وروديسيا الشمالية (زامبيا) .(1/251)
الرحلة الثانية:
بعد أن قدمنا من رحلتنا الأولى رفعنا إلى رئاسة الجامعة الإسلامية تقريرنا التي وضعناها عن الرحلة، فسارع فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى دراسة ما جاء فيها، وكان أهم ما عمله فضيلته أن قدم اقترحاً لسماحة رئيس الجامعة: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بأن تكوّن لجنة لدراسة التقارير المذكورة من أعضاء عن الجامعة الإسلامية ودار الإفتاء، ووزارة الخارجية، ووزارة المعارف، ورابطة العالم الإسلامي.
وقد وافق سماحة رئيس الجامعة على الاقتراح المذكور، والتأم شمل اللجنة, وكان من أهم تعداتها اقتراح بأن ترصد الحكومة السعودية مبالغ معينة من المال، وتعتمد وظائف تقدر في البدء بخمسين وظيفة، تخصص لتعيين مدرسين ومرشدين يتعاقد معهم للعمل في أقطار إفريقيا المختلفة، ويوضع لعملهم نظام خاص, ويكون عملهم بعيداً عن التدخل في الأمور السياسية، وإنما يقتصر على العمل في حقل التدريس والإرشاد وتقديم النصح الديني المحض.
وكان أن قام سماحة مفتي الديار السعودية، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس الجامعة، برفع هذا الأمر إلى جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز - حفظه الله وزاده توفيقا وتأييدا - فوافق جلالته على ذلك..وأصدر أمره السامي إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني برصد المبالغ المطلوبة، وفتح الوظائف اللازمة على أن يتم ذلك كلّه على يدي سماحة المفتي, وأن يكون تنفيذه بوساطة دار الإفتاء, وقد عهد سماحة المفتي - حفظه الله - إلى فضيلة نائبه في الإفتاء الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بالقيام على تنفيذه وإخراجه كاملا إلى حيّز الوجود, فصدع فضيلة الشيخ إبراهيم بن محمد بالأمر، وأخذ في الإجراءات السريعة الكفيلة بعدم تأخيره.(1/252)
وكان من بين ما رآه فضيلته أن يصدر فضيلة المفتي - رئيس الجامعة- أمراً يقضي بتكليفي السفر إلى عدد من الأقطار الإفريقية المحتاجة للتعليم الإسلامي, وذلك للاتصال بالجمعيات الإسلامية، والاتفاق معها على تعيين أماكن المدرّسيين، والمرشدين هناك، ثم إكمال الإجراءات اللازمة لاستقبالهم وتيسير إقامتهم، فوافق سماحته على ذلك، وتقدّم لجلالة الملك فيصل - المعظم- بالتماس إعطائي مبالغ مالية مما أمر جلالته برصده للدعوة في إفريقيا كي أقوم بتوزيعها على الجمعيات والهيئات الإسلامية، وقد وافق جلالته على ذلك وأصدر أمره السامي إلى وزارة المالية بصرف المبالغ المطلوبة, وهي تزيد أضعافاً على المبالغ التي كنّا قد وزّعناها في رحلتنا الأولى..
وقد رأى فضيلة نائب الرئيس الجامعة، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أن أقوم بجانب أداء المهمة المذكورة بمهمة أخرى، وهي تقديم المنح الدراسية في الجامعة الإسلامية إلى المسلمين في تلك الأقطار الإفريقية, واختيار الطلبة الذين يستفيدون من المنح المذكورة، وإكمال ترحيلهم إلى المدينة المنورة..وهكذا أصبحت المهمة التي وكل إليّ أمر تنفيذها في هذه الرحلة الثانية ذات ثلاثة شعب:
أ- تعيين أماكن المدرّسيين في أقطار شرقي ووسط أفريقيا الذين تزمع دار الإفتاء إرسالهم إليها.
ب- توزيع الإعانات المالية على الهيئات والمؤسسات والشخصيات الإسلامية هناك.
ج- تقديم المنح الدراسية من الجامعة الإسلامية واختيار الطلاب للمنح المذكورة.
وهذا وقد اخترت لمرافقتي في هذه الرحلة الأستاذ عبد الله بن حمود الباحوث، رئيس المحاسبة بالجامعة الإسلامية، وذلك لخبرته في شئون المالية والحسابية التي أحتاجها في ضبط أوراق المبالغ المالية التي أحملها؛ ولأنه لا بد لي من مرافق في تلك الرحلة الطويلة، رأيت منه خير من يصلح في ذلك.(1/253)
وهكذا غادرنا المدينة المنورة يوم السبت 5 جمادى الأولى 1386هـ الموافق 21 أغسطس عام 1966م.
ترتيب الكتاب:
إنّ محتويات هذا الكتاب عبارة عن مشاهدات وانطباعات في مذكرات يومية كما قدمت، لذلك أبقيتها كما كتبتها، ولم أضف إليها أيّ شيء لما يمكن إضافته من المصادر المكتوبة التي تحدثت عن تلك البلاد، لأنها معروفة للباحثين، وليس لمن يريد الإطلاع عليها. وليس من اللائق أن يأخذ المرء ما ذكره غيره وينسبه إلى نفسه, ولم أحذف من مذكراتي إلا ما كان منها شخصيا محضاً، أو متصلا بالحديث عن بعض الشخصيات الإسلامية والمقابلات التي تمت مع المسئولين المسلمين مما لا يحسن نشره، أو لا فائدة من ذكره.
وقد رتبت يوميات الرحلة الأولى لكل بلد على حدة، ثم أتبعتها بيوميات الرحلة الثانية أو الثالثة إليه إن وجدت ثم أتبعت ذلك بالحديث عن الأوضاع الإسلامية فيه حسبما توصلت إليه بنفسي مع زملائي ذلك ليسهل الرجوع إليه لمن أراد ذلك، إلاّ أنني لم أترك اليوميات على التسلسل التاريخي لها..
لقد بلغ عدد الجهات والمؤسسات والهيئات والمدارس الإسلامية التي صرفنا لها إعانات مالية أكثر من (320) مؤسسة، كما أننا قدّمنا منحاً دراسية في الجامعة الإسلامية لجميع البلدان التي زرناها، وقد وصل أكثر الطلبة من تلك البلدان وهم الآن يواصلون دراستهم في الجامعة الإسلامية.
كما أرسلت دار الإفتاء أو لا تزال ترسل جماعات من المدرسين والمرشدين إلى الأقطار الإفريقية المختلفة، وهم الآن يؤدّون الأعمال المنوطة بهم في حقل الإرشاد والتعليم والتوجيه الإسلامي على خير وجه والحمد لله.
وبعد: فإنّ ما ورد في هذا الكتاب ليس تقريراً عمّا تمّ إنجازه في تينك الرحلتين الرسمية، ولكنه حديث الرحلة ذاتها، أو هو الحديث على هامش المهمة الرسمية وليس عن المهمة نفسها.(1/254)
وفي الختام فإن الواجب يقتضي أن أقدّم وافر الشكر وجزيل الامتنان لحضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، نائب رئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والذي كانت مساعيه السبب الأول في الإسراع بإنجاز الرحلتين المذكورتين.
كما أقدم شكري لفضيلة نائب المفتي لشئون الإفتاء الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، على ما بذله من جهود صادقة في سبيل تمام الرحلة الثانية.
أما سماحة مفتي الديار السعودية ورئيس الجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، فهو صاحب الفضل بعد الله، في كل ما تم في هذا الشأن مما اقتضاني إهداء هذا الكتاب لسماحته قياماً بواجب الشكر وعرفاناً الجميل.
ولا يمكن أن أنسى تقديم الشكر لإخواني وزملائي في الجامعة الإسلامية سواء منهم من رافقني في السفر، أو قام بعملي خلال غيابي عن الجامعة، وأخص منهم المشايخ:
الشيخ عمر محمد الفلالي، والشيخ أبا بكر جابر موسى، والأستاذ عبد الله بن حمود الباحوث, الذين كانوا من خير الرفقة لي في السفر، والذين آسوني بالاشتراك معي في تحمّل المتاعب التي صادفتني خلاله.
والله- وحده- المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويوفق المسلمين قادة وشعوبا إلى العمل بما يجمع كلمتهم، ويلم شعثهم، على هدي من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم- حتى يعود للإسلام نضارته وللمسلمين عزتهم وكرامتهم إنه سميع قريب مجيب الدعوات.(1/255)
دروس من التاريخ
للشيخ أبي عمر المدرس في الجامعة
كانت سنة عشر ومائة من أيمن السنين التي عرفتها الأندلس, فيها تولى الإمارة على هذا الفردوس الكريم, القائد التابعي العظيم عبد الرحمن الغافقي, الذي جعل نصب عينيه تدويخ فرنسة, واجتيازها إلى إيطالية فألمانية فالقسطنطينية, كيما يدخل هذه البلاد جميعا في دين تستضيء بنوره وتهتدي بهداه..
ولبث الأمير المحنّك سنتين بعد ولايته يعد العدة للغاية الكبرى التي وهبها حياته, وأول ما اهتم به من الإعداد لها هو تقوية البلاد داخليا, إذ كيف يستطيع بلد تعوزه الوحدة والتلاحم, والالتفاف حول قيادته, والاطمئنان إليها, أن ينهض بمثل المهمة الجبارة التي وقف الغافقي حياته عليها؟؟! , لقد طاف بنفسه أرجاء البلاد, وتعرف مواطن الضعف في مجتمعه فقواها, وتقرأ مكامن الفساد في كيان دولته فاستأصلها, فكم من وال حاد عن الجادة, وتنكب طريق الواجب, قد عزله واستبدال به آخر يتقى الله في إمارته, ويعتقد أنها خدمة لهذا الإسلام, وغناء في سبيل هذه الأمة المسلمة؟!
وتسامعت الأقطار الإسلامية أخبار هذا الأمير, وأدركت ما ينويه من حمل (الهداية المسلحة) إلى البقية الباقية من العالم المعروف, إذ ذاك التي كانت تحتويه ظلمات مطبقة من الجهالة والتيه والضلال, وانثال عليه هواة الموت في سبيل الله من جزيرة العرب والشام والمغرب, حتى اجتمع له أحمس جيش دفعت به الأندلس في بلاد الغال (فرنسة) عبر تاريخها الإسلامي كله.(1/256)
وما أن تم استعداد عبد الرحمن حتى كانت جحافله تتدفق من على سفوح البيرنية, وتنداح في جنوب فرنسة, كأنها السيول الجارفة, أو الأعاصير العاتية, لا تواجهها قوة إلاّ مزققتها, ولا ينهض لقتالها ناهض إلاّ سحقته, وها أن (أود) كبير حكام جنوب فرنسة يجمع كل قواه وينقض بها على المسلمين في وادي (دور دفاون) محاولا صد زحفهم, غير أن قواه التي جمعها لا تلبث أن تلاقي مصيرها المحتوم, وهو الفرار عن قتلاها الذين بلغ عددهم مبلغا جعل أحد المؤرخين يقول: "إن الله وحده يقدر على أن يحصيهم".
ويتجه (أود) وغيره من الملوك والأمراء الذين فل حدهم الغافقي نحو شارل مارتل أكبر ملوك الإفرنج في عصره ويسألونه -على رغم ما بينهم جميعا من منافسات وخلافات- العمل المشترك على وقف هذا الإعصار الذي هب على بلادهم, فاحتاجها أيما اجتياح.. ويستجيب شارل مارتل, وما كان له إلا يستجيب لنداء هؤلاء, ويستصرخ المقاتلة من كل صوب وحدب باسم حماية الدين, وصيانة الأرض, والحفاظ على الحياة المهددة.. وتجتمع له جيوش كثيفة لا عهد له بمثلها.. وفي الوقت نفسه يردد على مسامع قومه كلمات تدل على الحنكة وبعد النظر, كان كثيرا ما يقول لهم: "الرأي عندي ألا تعترضوا العرب في خرجتهم هذه, فإنهم كالسيل يحمل من يصادفه, وهم في إقبال أمرهم, ولهم نيات تغني عن كثرة العدد, وقلوب تغني عن حصانة الدروع, ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن, ويتنافسوا في الرئاسة, ويستعين بعضهم على بعض, فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر".(1/257)
وفي هذه الأثناء كان المسلمون قد أوغلوا في البلاد حتى بلغوا مدينة (تور) وهناك وافتهم الأنباء الإفرنجية, ولكن أنى لهذه الجيوش أن ترهبهم, وقد ألفوا النصر عليها, واعتادوا قهرها بالغة ما بلغت من العدة والعديد؟!! فها أنهم يهاجمون مدينة (تور) ويفتحونها برأي ومسمع من مارتل وجنوده -كما يقول أحد المؤرخين العرب- ويستولون على ما فيها, ويضيفونها إلى ما كانوا يحملون من الغنائم الكثيرة والثقيلة.
وهنا يقف القائد الكبير عبد الرحمن الغافقي ويفكر في ظروف المعركة المقبلة التي لابد ناشبة بينه وبين عدوه المتربص, فيرى بثاقب بصره, وموفور خبرته العسكرية, أن هذه الغنائم الثقال ربما أضاعت على المسلمين الذين يلهون بها, ويحرصون عليها معركة من أعظم معارك الفاصلة في التاريخ, وما كان ليغيب على ذهنه الذي تمرس بالحروب, وعرف أصولها, أن النصر في معارك الحياة الفاصلة واللهو بالغنائم لا يجتمعان البتة, وأمامه التاريخ العسكري الإسلامي كله يشهد لهذه الحقيقة التي كانت تقلقه وتزعجه, ولكن ماذا يفعل؟! أيأمر جنده بتركها وهو يرى شدة حرصهم عليها ومبلغ افتتانهم بها؟! إنه يخشى أن يأمرهم فلا يطيبوا عن تركها نفسا, وربما سبب ذلك ظهور أوضاع في الجيش ما كان الوقت يتسع لمعالجتها, وهنا يغض الغافقي في كثير من الألم والتسليم نظره عن أمرهم بتركها [1] ويبقى على ثقته بشجاعتهم.
معركة بلاط الشهداء(1/258)
وها هما الجيشان يرابط أحدهما تجاه الآخر ثمانية أيام من شهر تشرين الأول سنة 732م وقد أدرك كل منهما خطر المعركة, وقرر أن يرخص المهج في سبيل النصر على عدوه, ويبدأ المسلمون بإنشاب القتال, وتكون حرب قاسية طاحنة, وقد حاول المسلمون خرق صفوف الفرنجة ولكن دون جدوى, ويستمر القتال طول النهار حتى يحجز الظلام بين الفريقين, وفي اليوم التالي يتجدد القتال أعنف مما كان في يومه الأول, ويحمل العرب على أعدائهم حملات مستبسلة.. وهنا تلمع فكرة في رأس قادة الفرنجة مستوحاة من الكلمات التي كان يقولها لهم شارل مارتل, والتي ذكرناها آنفا, وهي مهاجمة غنائم المسلمين, ويسرحون فرقة بقيادة (أود) الذي سبق أن هزمه المسلمون حين لم تكن لديهم غنائم كثيرة يحرصون عليها.. وما إن رأى المسلمون غارة الفرنج على مخيمهم حتى طارت قلوبهم هلعا على الغنائم, وخوفا على المكاسب المادية الشخصية, وكم لهذه المكاسب من جنايات في حياتنا الخاصة والعامة في القديم والحديث!! ثم تركوا المصاف وانكفؤوا إلى المخيم ليحولوا دون استلاب الفرنجة ما فيه من المال والمتاع!! ويحاول عبد الرحمن رضي الله عنه رد المنكفئين, ولكن هيهات.. وفي هذه الأثناء يصيبه سهم من قبل الأعداء فيخر صريعا, ويسلم الروح إلى بارئها, بعد أن جاهد في سبيله حق الجهاد, ويدخل الاضطراب صفوف المسلمين وتضعف مقاومتهم أمام الفرنجة الذين لم يكن لديهم لحسن حظهم ولسوء حظنا غنائم يحرصون عليها!! ويخيم الظلام ويحول للمرة الثانية دون الاقتتال.. وتحت جنح الظلام ينسحب العرب وينحازون قاصدين معاقلهم في جبال البيرنية, وقد بلغ من سرعة انسحابهم أنهم تركوا خيامهم منصوبة, وغنائمهم التي جرت عليهم على أمتهم هذا المصير المؤسف مطروحة على الأرض.. وبعد هزيمة المنكرة يضري بهم العدو, ويشرئب إلى غزو بلادهم, ثم لا يلبث خلفاء شارل مارتل أن يجوسوا خلال الديار, ويدخلوا بعضهم في مملكاتهم, وهكذا تظهر سنة الله(1/259)
تعالى في أن النصر في هذه الدنيا- هو- لمن استعلى عليها, وهونها على نفسه, ورحم الله خالدا إذ يقول: "أطلب الموت توهب لك الحياة", الحياة بمغانمها وأطايبيها جميعا!!
ويبدو للمسلمين في تاريخهم كله لم يغلوا من قلة, وإنما غلبوا نتيجة تعلقهم لما تهوى الأنفس من مال أو جاه أو متاع.. وها أن التاريخ يطالعنا بدليل آخر على هذه الحقيقة يسوقه لنا في شكل فاجعة لا تقل هَوْلاً عن فاجعة بلاط الشهداء إن في معناها أو في أثارها.. يقول التاريخ إن الدولة العثمانية كانت حتى القرن الثامن عشر دولة ذات شأن كبير, وكانت جارتها روسيا حتى عهد بطرس الأكبر (1682-1725) دولة همجية متأخرة, لا شأن لها إزاء الدولة العثمانية, ولكن ملكها أو قيصرها بطرس الأكبر الذي يعتبر موطد أركان القيصرية الروسية ومرسي دعائمها الحقيقي, قد قفز بها قفزات هائلة, ورسم لها سياسة خارجية بارعة تهدف إلى إضعاف جاراتها القويات إذ ذاك: السويد, وبولونيا, والدولة العثمانية, والتوسع على حسابهن جميعا, وكنتيجة لهذه السياسة, وبتحريض من شارل الثاني عشر ملك السويد الذي هزمه بطرس الأكبر فالتجأ إلى مدينة (بندر) العثمانية المسلمة, نشبت حرب مصيرية بين روسية ودولة بني عثمان, وقد استطاعت الجحافل العثمانية المسلمة البالغ عددها مائتي ألف بقيادة الوزير (بلطه جي محمد باشا) أن تحاصر الجيوش الروسية وعلى رأسها القيصر بطرس الأكبر وزوجته الداهية الجميلة الفتانة الإمبراطورة كاتريه الأولى التي كانت لا تفتأ ترافقه في الحروب, ولم يبق إلاّ أن تستسلم هذه الجيوش للعثمانيين ويقاد قيصرها وزوجته الإمبراطورة كاتريه إلى الأستانة, أسيرين صاغرين, وبذلك تزول روسية البطرسية كليا من العالم السياسي لتدخل ضمن حدود الدولة العثمانية المسلمة أو على الأقل تتأخر نهضتها, وتقيم على هجماتها أجيال عديدة!.(1/260)
وفي هذه اللحظات كان التاريخ الإسلامي بل التاريخ العام يمسك قلبه بيده, ويكاد يكتم أنفاسه ليصغى إلى ما يمليه عليه الوزير القائد (بلطه جي باشا) ... أجل في هذه اللحظات تتقدم الإمبراطورة كاتريه الأولى من هذا الوزير وتلقي بين يديه بجميع ما كان لديها من حلي وجواهر, وربما ألقت بين يديه بشيء آخر مما يتيح لها أن تغلبه على قلبه وأخلاقه فيخون دولته المسلمة ويفوت عليها معركة من معارك التاريخ الفاصلة, ويصدر أمره بفك الحصار عن القيصر والإمبراطورة وجيشهما.. ومن هنا ومن هذا اليوم يبدأ ميزان القوي بين الدولتين بالتغيير لصالح روسية التي انطلقت في طريق التقدم والقوة بينما استمرت الدولة العثمانية في تأخرها وضعفها حتى لاقت الألاقي على يد روسية فيما بعد, وما تزال تركية الحالية تتوجس خيفة من أطماعها وبرامجها التوسعية ... وكذلك بدأ من قبل ميزان القوي بالتغير بين الأندلس وبلاد الفرنجة بعد معركة بلاط الشهداء التي خسرناها بسبب الحرص (الغنائم) , فجعلت الأولى تضعف وتتأخر, والثانية تقوى وتتقدم, حتى انتهت الأمور وعلى المدى الطويل بمأساة خروج العرب من الأندلس, وضياع ذلك الفردوس الإسلامي العظيم..
ويطالعنا التاريخ - وهو مصدر لا ينضب للمعرفة الاجتماعية والسياسية – بخبر آخر من المشرق من بلاد سجستان, يلتقي على حقيقة واحدة مع ما عرفناه من أخبار بلاط الشهداء, وأخبار (بلطه جي محمد باشا) في محاربة الروس, وهذه الحقيقة هي أن النصر مازال يحالف هذه الأمة ما تحررت من سلطان الدنيا بما فيها من متاع زائل, ومغنم شخصي عابر حائل, حتى إذا عبدت نفوسها للدنيا, وملكت ضمائرها لمنافعها الشخصية ذهبت ريحها, وانتزعت مهابتها من نفوس أعدائها, الذين استبدلوا بالخوف منها الجرأة عليها.(1/261)
يروي البلاذري في فتوحه أن (رتبيل) ملك سجستان الذي خضع للفاتحين الأوائل المترفعين عن الدنيا ومغانمها, وأعطاهم الجزية عن يد صاغر, وعاد فالْتَوَى على الولاة والقواد الذين فتحوا للدنيا صدورا, وتعلقوا بالمغانم والمكاسب المادية.. فمنعهم الإتاوة وقال: "ما فعل قوم كانوا يأتوننا خماص البطون, سود الوجوه من الصلاة, نعالهم الخوص؟ قالوا: أولئك انقرضوا قال: أولئك أوفى منكم عهدا, وأشد بأسا, وإن كنتم أحسن منهم وجوها".
ثم أقام على منع الإتاوة فلم يعطها من عمال بني أمية أو عمال أبي مسلم!!
وأنا لا أريد بشيء مما قلته الإعراض عن الدنيا والانصراف عن إعمارها, كيف والدنيا - عندنا نحن المسلمين - مزرعة الآخرة, وقد جاء في الأثر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا", وفوق ذلك كله قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} , وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح", وإنما أريد أن تناولنا للدنيا يجب أن يكون في حدود "مصلحة الإسلام" فهي المعيار الأول والأخير لإقبالنا على ما نقبل عليه, وإعراضنا عما نعرض عنه من أمورها, وهي المقياس الوحيد الذي يجب ألا نحيد عنه في تحديد علاقاتنا بشؤون الحياة جميعاً.
وعندي أنه لا بأس على المسلم أن يملك ما استطاع من هذه الدنيا شريطة أن يرعى تعاليم الدين ومصلحته في كسب ما يملكه, وفي ادخاره, وفي إنفاقه.. وأما خالف عن ذلك فإن دنياه تصبح مصدر ضرر يلم بالحياة الإسلامية شعر أو لم يشعر, أقر أو لم يقر..(1/262)
وإن من واجب القادة قبل سواهم أن يأخذوا أنفسهم بالتزام المقياس المذكور لأنهم القدوة لمن سواهم, ولعل حقوق القادة في متع الحياة بالخوف من سوء اقتداء الدهماء. ألم يتجاف عمر رضي الله عنه عن الكثير من حقوقه خيفة أن يتمادى الآخرون في التمتع بحقوقهم ظنا منهم أنهم يقتدون به, فيجاوزها إلى ما ليس لهم بحق, وربما كان إلى ذلك يشير بقوله: "لو رتعت لرتعوا"..
على أن القيادة في الإسلام - كما أفهمها - هي مثل صالح يحقق فيقتدى به, وجهاد متصل يكابد, وحرمان دنيوي يعاني, وهي إذا فهمت وطبقت على هذا النحو كانت خدمة للإسلام والمسلمين, إذا فهمت وطبقت على نحو معاكس كانت استخداما للإسلام والمسلمين.
لا شك أن انكباب المسلم مسؤولا كان أو غير مسؤول على تحصيل المنافع والمغانم الشخصية دون تقيد بمقاييس الإسلام قد ينيله الكثير منها, ولكن إذا حاسبناه أو حاسب هو نفسه لألفى أن تحصيل هذه المنافع والمغانم إنما كان على حساب مصالح الإسلام والمسلمين, وأية قيمة تبقى لها بعد ذلك عند الله أو في مجتمع المؤمنين, بل أية قيمة كانت لغنائم المسلمين في بلاط الشهداء, ثم للحلي والجواهر التي أحرزها) بلطه جي محمد باشا) أو لأية غنائم ومنافع مماثلة حين ينطوي اكتسابها على تناسي المصالح الإسلامية أو إهمالها أو استغلالها؟!.
إن الدروس القيمة التي يعلمنا التاريخ إياها - ولنعم المعلم التاريخ - صريحة في أن هذه المنافع والمغانم إن هي إلا معاول تهدم الكيان, وتأتي على مجد الإسلام, وتسلم وجودنا كله للضعف والهوان, وتجعلنا أشبه شيء بقصعة يتداعى إليها الأكلة, وليس ذلك من قلة ولكنه من تركنا مقاييسنا الإسلامية, واستسلام نفوسنا في معترك الأهواء وإيثار الدنيا على الدين, والعاجلة على الآجلة.(1/263)
وأنا لو سئلت عن أكبر جان على نفسه, وعلى الناس معا, لقلت بلا تردد: إنه الذي يشتري دنياه بدينه, ولو اعتبر نفسه من الرايحين أو من الدهاة العبقريين!!
فاللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا, ونسألك الهداية لأحسن الأعمال والأقوال, فإنه لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وليته لم يفعل.(1/264)
عود على بدء
للشيخ عبد العزيز بن ناصر الباز
"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء " حديث شريف قاله من أوتي جوامع الكلم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
أيها المسلم في كل مكان منذ زمن طويل, ومصداق هذا الحديث العظيم لا يزال يظهر بين الناس.
فالداعية إلى الإسلام في هذا يقاسي من الآلام والمتاعب ما الله به عليم؛ لأنه أصبح غريبا في مجتمعه الذي يعيش فيه, وذلك لغرابة ما جاء به عندهم, فما أشبه اليوم بالبارحة, فلا غرابة إذا قيل مثل هذا القول, فلقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام غرباء يوم بدأوا الدعوة بين أهل مكة, لأنه صلى الله عليه وسلم جاء بدين يخالف ما هم عليه من الوثنية والهمجية, فمن ينتسب إلى الإسلام أو يدعوا إليه في هذه الأيام بعد غريبا, ومن المؤسف حقا أن الكثير من المسلمين في أغلب بلاد الإسلام يعيش عيشة رمزية خالية من المعاني الروحية التي جاء بها الإسلام, ومن المؤسف أيضا أنك حينما تجتمع بأحد شبابنا المثقف الذي تحصل على شهادات عالية في بعض العلوم من جامعات الغرب, وتبحث معه في محاسن الإسلام وعظمته ونظامه وما انطوى عليه من كنوز ومعان هي كفيلة بحل المشاكل, تجده يحاول أن يجرك إلى تعاليم الغرب ونظمه التي طالما ارتسمت في مخيلته مدة دراسته في تلك الجامعات ولم يدر أن تلك النظم والقوانين وضعت للحيلولة دون الوصول إلى ما فيه سعادة البشرية دنيا وأخرى, فإذا كانت هذه فكرة شبابنا الذي نعتز به في كثير من مجالاتنا الحيوية, فما بالك بمن دونهم! ولا يعني هذا حرمان الشباب من الاستفادة في شتى العلوم النافعة, وفي أكثر الفنون وإنما ذلك مرهون بالحفاظ على تراثنا العظيم ودستورنا النير, وغير خاف على كل ذي لب أن الغرب قد دأب من سنين متطاولة على العمل للحيلولة بين المسلمين ودينهم الحق لعملهم أن تمسكهم به والعمل(1/265)
بمقتضاه يفتت جهودهم, ويقضي على أحقادهم المسعورة.. فمن أجل ذلك ضاعفوا الجهود, وجندوا القوى, وهيأوا الوسائل الكفيلة بنجاح مهمتهم, حتى استطاعوا بهذه الجهود المتواصلة والسهر الدائب أن يحولوا أبناء المسلمين عن تراثهم الخالد, ويشلوا من حركتهم ويخمدوا تلك الطاقات الكامنة في أذهانهم, ومن العجب أيضا أنك تجد جميع الأديان غير دين الإسلام لها مبشرون ومنافحون بها يبشرون بها وينشرونها بجد ونشاط وهذا كله بغية ظهورها وانتشارها, مع العلم أن تلك الأديان والنحل ليس لها من الخلود والبقاء بعض ما للإسلام, أما الإسلام الذي هو الجدير بالعناية الكبرى فالمبشر به والداعي إليه قليل وأقل من القليل, وهناك بعض من ينتسب إلى الإسلام في كثير من البلاد الإسلامية إنما ينتسب إليه بالتبعية, أما تمثيله في نفسه وأخلاقه وعاداته وحياته الاجتماعية ففي جانب وهو في جانب آخر.
ولقد امتحن المسلمون عدة امتحانات وأصيبوا بعدة إصابات وأقربها تلك المحنة الكبرى التي مني بها المسلمون في القدس التي لا يزال جرحها يقطر دماً, وما من مسلم في جميع بقاع العالم يغار على الإسلام ومقدساته إلاّ وقلبه منها يتأجج نارا, وقد بات من الواضح لدى كل عاقل وكل منصف أن سبب توالي المحن وتتابعها على المسلمين وعلى مقدساتهم هو تخلي أكثر المسلمين عن تعاليم دينهم, فلو أنصف أولئك من أنفسهم وأدانوها, وفتحوا صفحة جديدة وغيروا من اتجاهاتهم التي لا تتفق ودينهم السماوي, لتيسر لهم كل خير ولانتصروا على عدوهم في كل ميدان.(1/266)
مكتبات المدينة ومخطوطاتها
للشيخ محمود ميرة المدرس في الجامعة
وعدت في المقالة الأولى أن أذكر ما يتعلق بالمجموعة الأولى من مخطوطة الرسائل العظيمة للإمام البيهقي, ولكني أن أتابع الحديث حول كتاب أخر مخطوط, لم يطبع لهذا الإمام العظيم وهو كتاب (الزهد) وسأوافي القراء بما وعدت بعد استيفاء وصف الجزء الموجود في المكتبة المحمودية من كتاب (دلائل النبوة) للإمام البيهقي إن شاء الله.
المخطوطة الثانية من مخطوطات البيهقي ...
كتاب الزهد للإمام أحمد بن الحسين البيهقي ...
والكتاب رقمه 142 حديث, مكتبة عارف حكمت, وعدد أوراقه ثماني عشرة ومائة ورقة- 118 ورقة ومسطرته 22×16 في كل صفحة تسعة عشر سطرا (19) وفي كل سطر 15-16 كلمة, والكتاب خمسة أجزاء في مجلد واحد.
الجزء الأول يبدأ من1 وينتهي بالورقة 27.
الجزء الثاني يبدأ من29 وينتهي بالورقة 57.
الجزء الثالث يبدأ من60 وينتهي بالورقة 84.
الجزء الرابع يبدأ من86 وينتهي بالورقة 103.
الجزء الخامس يبدأ من105 وينتهي بالورقة 118.
والنسخة سليمة وصحيحة ومقابلة عليها سماعات وتوقيعات وبلاغات ومقابلات وهي مقروءة على عدد كبير من الحفاظ المتقنين وعليها توقيعاتهم وهي منقولة من أصل صحيح ...
والتوقيعات المثبتة آخر كل جزء كثيرة تجتزئ منها ما يلي:
1- سماع موقع باسم عبد الحسن بن حمود بن المحسن بن علي التنوحي الحلبي سنة 629.
2- سماع موقع باسم إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز بن الحسن القرشي 629.
3- سماع موقع باسم علي بن محمود بن أحمد المحمودي الصابوني 667.
4- سماع موقع باسم محمد بن أحمد بن محمد بن بن النجيب الشافعي 687.
5- سماع موقع باسم أحمد بن يعقوب بن أحمد بن يعقوب بن المقري 698.
وعلى الغلاف كتب ما يلي: الزهد الكبير(1/267)
الجزء الأول من كتاب الزهد الكبير تأليف الإمام العالم الحافظ ناصر السنة صلة الحافظ محدث خراسان أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي رحمه الله تعالى, وعفا عنه..
رواية الشيخ الإمام أبي القاسم زاهر بن طاهر بن محمد بن محمد الشحامي النيسابوري عنه رواية الإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي عنه..
أخبرنا به عنه المشايخ الأمناء أبو البركات الحسن بن محمد الحسن بن هبة الله والقاضي وأبو نصر محمد هبة الله بن محمد بن الشيرازي وفخر الدين أبو بكر محمد بن عبد الله بن عبد الوهاب وسيف الدولة أبو عبد الله محمد بن غسان بن غافل بن نجار الأنصاريان وفقهم الله ورضي والديهم سماع منهم لمحمد بن علي ابن محمود بن أحمد المحمودي الصابوني عفا الله عنه, آمين.
وتحت عنوان الكتاب سماعات متصلة بعدد من الحفاظ وختم أحد هذه السماعات بقوله:
وذلك في مجلسين آخرهما يوم الثلاثاء خامس عشر من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة ثم كتب ما يلي:
في نسخة شيخنا ابن الشيرازي بهذا الجزء ما صورته بخط أبي البقاء خالد بن يوسف النابلسي قال: قرأت جميع هذا الجزء وهو الأول من كتاب الزهد تأليف الإمام أبي بكر البيهقي رحمه الله على سيدنا القاضي الإمام العالم الأوحد الصدر الكبير شمس الدين أوحد الشام جمال الإسلام أبي نصر محمد هبة الله بن محمد بن جميل الشيرازي الشافعي أعلا الله قدره بسماعه من الحافظ أبي القاسم علي بن الحسين الشافعي رحمه الله لسنده أوله ...
وإسماعيل بن حاتم المصري وجماعة بفوات لا أعرف أسماءهم وذلك في مجلسين آخرهما يوم الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وستمائة بجامع دمشق وكتب خالد بن يوسف ابن سعد بن الحسن النابلسي عفا الله عنه ونقله من خطه على الوجه يوسف بن الحسن بن بدر بن الحسين النابلسي والحمد لله رب العالمين ...
ثم يتلوه سماع آخر ...(1/268)
وإليك الصفحة الأولى من النسخة ...
بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن بفضلك
أخبرنا المشايخ زين الأمناء أبو البركات الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الشافعي وفخر الدين أبو بكر محمد بن عبد الوهاب بن عبد الله الشافعي الأنصاري وسيف الدولة أبو عبد الله محمد بن غسان بن غافل بن نجاد الحنفي الأنصاري وفقهم الله قراءة عليهم وأنا أسمع في شهور سنة ثلاث وعشرين وستمائة بجامع دمشق قالوا أنبأنا الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي في شهور سنة خمس وستين وخمسمائة قال أنبأنا أبو القاسم زاهر بن طاهر بن محمد السحامي النيسابوري بقراءتي عليه بها قال أنبأنا الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي قراءة عليه وأنا أسمع بنيسابور..
قال: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله أجمعين.. أما بعد..
فقد ذكرت في كتاب (الجامع) في (باب الزهد) بعض ما حضرني من الأخبار والآثار في الزهد وقصر الأمل وذكرت في كتاب (دلائل النبوة) وغيره كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا ووجدت أقاويل السلف والخلف رضي الله عنهم في فضيلة الزهد وكيفيته في قصر الأمل والمبادرة بالعمل كثيرة فذكرت في هذه الأجزاء ما حضرني من ذلك مستعيناً بالله فيه وفي جميع أموري فنعم المولى ونعم النصير..
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني علي بن عبد الله الحكمي ببغداد حدثنا عبد الله بن سلمة قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ح وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ أنبأنا أحمد بن جعفر القطيعي حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا وكيع حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت جدي يقول:(1/269)
الزهد: أن لا يسكن قلبك إلى موجود من الدنيا ولا يرغب في مفقود منها ثم تلا قول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اْلأَرْض..ِ} الآية.
أخبرنا أبو عبد اله الحافظ أخبرني علي بن عبد الله الحكمي ببغداد حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا يربح بن النعمان حدثنا هيثم عن أبي الشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة, إن الله خبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح".
آخر كتاب الزهد الكبير, والحمد لله وحده وصلواته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه. اتفق الفراغ منه يوم الإثنين خامس عشر ربيع الأول من سنة ست وعشرين وستمائة بدمشق.
على أصله ما صورته.
رأيت في نسخة الإمام أبي سعد السمعاني الذي نسخ منها هذه النسخة وهو كتاب الزهد في خمسة أجزاء من هذه النسخة ما صورته هذه:
قرأ كتاب الزهد الكبير الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي علي أبي القاسم الشخامي وسمع حفدته.
وعلى آخر النسخة توقيعات وسماعات تثبت أن النسخة انتقلت إلى مصر وقرئت في القاهرة على عدد من الحفاظ.
والنسخة تامة وكتابتها واضحة وأكثر كلماتها مضبوطة ضبطاً تاماً وعلى هامش بعض الصفحات تصحيح لبعض الكلمات وذكر لاختلاف النسخ وخطها متناسق وهي بقلم واحد من بدئها حتى نهايتها.
ولعل الله يهيّئ من يخرجها إلى النور فيحوز الفضل والفضيلة في الدارين ... وسأتابع في الأعداد القادمة إن شاء الله الكلام حول مؤلف آخر لم يطبع لهذا الإمام العظيم وسأفي بما وعدت به عند الانتهاء من وصف المخطوطة الثالثة من ذكر ما طبع من المخطوطة الأولى وما لم يطبع وما هو جدير بالطبع، ونسأل الله العون والتوفيق.(1/270)
نظام الجامعة الإسلامية
مادة (1)
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مؤسسة إسلامية عالمية من حيث الغاية وعربية سعودية من حيث التبعية ذات شخصية اعتبارية مستقلة.
مادة (2)
أهداف الجامعة الإسلامية تثقيف من يلتحق بها من طلاب العلم من المسلمين من شتى الأنحاء, وتكوين فقهاء في الدين متزودين من العلوم بما يؤهلهم لحل ما يعرض للمسلمين من مشكلات في شؤون دينهم ودنياهم على هدى الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح.
مادة (3)
تضم الجامعة كلية الشريعة وكلية الدعوة وأصول الدين وغير ذلك من الكليات والمعاهد التي تنشأ أو تضم في المستقبل.
مادة (4)
تعتمد الجامعة في ماليتها لأداء مهمتها وتحقيق أهدافها على ما تخصصه لها الدولة في ميزانيتها العامة.
مادة (5)
يجوز للجامعة قبول التبرعات التي ترد إليها عن طريق الوقف والوصايا والهبات وغيرها بشرط ألا يتعارض مع الغرض الأصلي الذي أنشئت له الجامعة وعلى أن يصدر بذلك قرار من مجلس الجامعة ويوافق عليه رئيسها الأعلى.
مادة (6)
أموال الجامعة الإسلامية أموال عامة يخضع التصرف فيها للقواعد المالية المقررة للوزارات والمصالح الحكومية في المملكة.
رئاسة الجامعة ومجالسها
مادة (7)
جلالة الملك هو الرئيس الأعلى للجامعة.
مادة (8)
مفتي المملكة العربية السعودية حاليا هو رئيس الجامعة وله من الصلاحيات فيها ما للوزير في وزارته ويكون له نائب يقيم في المدينة يفوض إليه صلاحياته كلها أو بعضها.
مادة (9)(1/271)
للجامعة أمين عام يتولى أمانة مجلس الجامعة والمجلس الأعلى الاستشاري وترتبط به تحت إشراف نائب الرئيس الشؤون الإدارية والمالية وجهاز الموظفين الإداريين في الجامعة وعليه إعداد الميزانية السنوية بموافقة نائب الرئيس وعرضها على مجلس الجامعة للموافقة عليها ثم رفعها إلى الرئيس لإحالتها إلى الجهة المختصة، وعليه تسجيل محاضر جلسات مجلس الجامعة والمجلس الأعلى الاستشاري.
مادة (10)
يكون للجامعة مجلس يتألف من رئيس الجامعة رئيسا ونائبه وعمداء الكليات وعدد من كبار هيئة التدريس في الجامعة لا يتجاوز الخمسة يعينون بأمر من جلالة الملك بالإضافة إلى وكيل وزارة المعارف أو من ينيبه شريطة أن لا تقل مرتبته عن المرتبة الثانية الثابتة وعضو من وزارة المالية لا تقل درجته عن المرتبة الثانية.
مادة (11)
يختص مجلس الجامعة بالأمور الآتية:
أ - إقتراح إنشاء كليات ومعاهد جديدة.
ب - اقتراح إنشاء أقسام جديدة في الكليات والمعاهد.
ت - إعداد مشاريع الأنظمة والتعليمات الجامعية.
ث - توزيع الدروس على القائمين بالتدريس في الجامعة.
ج - منح الدرجات والشهادات العلمية.
ح - الإشراف على تنظيم النشاط العلمي والاجتماعي في الجامعة.
خ - تحديد عدد أعضاء هيئة التدريس.
د - الموافقة على مشروع الميزانية.
ذ - إبداء الرأي في مسائل التعليم ذي الصلة بالجامعة على اختلاف درجاته.
ر - تأليف اللجان الفرعية من أعضائه أو سواهم لبحث الموضوعات التي تدخل في اختصاصه.
ز - الإشراف العام على تحقيق أهداف الجامعة وتنفيذ أنظمتها وإعداد اللوائح التنفيذية تمهيداً لرفعها لمجلس الوزراء لإصدار قرار بذلك.(1/272)
س - إعداد تقرير سنوي عن سير الدراسة وتنفيذ نظام الجامعة واقتراح ما يراه مناسبا حيال ذلك ورفعه إلى المجلس الأعلى الاستشاري.
مادة (12)
يكون للجامعة الإسلامية مجلس أعلى استشاري في المدينة المنورة يختار أعضاؤه من كبار العلماء وقادة الفكر الإسلامي بأمر من جلالة الملك.
مادة (13)
يتألف المجلس الأعلى الاستشاري من:
أ - رئيس الجامعة الإسلامية ونائبه ووزير المعارف أو من ينوب عنه ومدير جامعة الرياض واثنين من هيئة التدريس في الجامعة.
ب - خمسة عشر عضواً يختارهم رئيس الجامعة بناء على ترشيح من نائبه يوافق عليه الرئيس الأعلى للجامعة ويراعى في اختيارهم تنوع الاختصاص وتمثيل مختلف البلاد الإسلامية وتكون مدة عضويتهم سنتين قابلتين للتجديد.
مادة (14)
مفتي المملكة العربية السعودية هو رئيس المجلس وله أن ينيب عنه من يشاء من الأعضاء عند غيابه.
مادة (15)
المجلس الأعلى الاستشاري هو الهيئة التوجيهية العليا للجامعة الإسلامية ويختص بتقديم المشورة لمجلس الجامعة في الأمور التالية:
أ - وضع خطط الدراسة والمناهج.
ب - مشروعات أنظمة الجامعة وتعديلها.
ت - إنشاء أقسام ومعاهد وكليات جديدة.
ث - إبداء الملاحظات في اختيار أعضاء هيئة التدريس.
ج - البحث في الوسائل التي تحقق أهداف الجامعة.
مادة (16)
ينعقد المجلس الأعلى الاستشاري بناء على دعوة من رئيسه أو بناء على طلب يقدم من ثلث أعضائه.
مادة (17)
يصح انعقاد كل من مجلس الجامعة والمجلس الأعلى الاستشاري بحضور الأكثرية المطلقة لكل منهما، وتتخذ القرارات بأغلبية أصوات الحاضرين.
مادة (18)(1/273)
تتحمل الجامعة نفقات سفر أعضاء المجلس الإستشاري المقيمين خارج المدينة المنورة وإقامتهم عن المدة التي يستلزمها انعقاد الدورة ومدة الدورة خمسة عشر يوما.
هيئة التدريس
مادة (19)
تتألف هيئة التدريس في الجامعة من:
أ - الأساتذة.
ب - الأساتذة المساعدين.
ت - المدرسين.
وتحدد اللائحة التنفيذية شروط اكتساب أي من الدرجات المذكورة.
مادة (20)
يجوز أن يقوم بالتدريس محاضرون وأساتذة زائرون بالتعاقد كما يجوز عند الاقتضاء التعيين المؤقت بوظائف الترجمة وتدريس اللغات.
مادة (21)
يعامل أعضاء هيئة التدريس والمعيدون وموظفو الجامعة وفقا للأحكام العامة المطبقة على موظفي الدولة.
التدريس بالجامعة
مادة (22)
مدة الدراسة في كليات الجامعة أربع سنوات، ومدة الدراسة فيها تسعة أشهر يحدد بدايتها ونهايتها مجلس الجامعة.
مادة (23)
يجوز أن ينشأ في الجامعة قسم للتخصص ويوضع له نظام خاص.
مادة (24)
تمنح الجامعة الإسلامية حاليا درجة الإجازة العالية في العلوم الإسلامية وتعادل درجة (الليسانس) ويكون لحملة هذه الدرجة العلمية من الحقوق ما لأمثالهم من خريجي الكليات المماثلة، على أن تتوفر في الطالب الشروط الآتية:
أ - لا يقبل في القسم العالي بالجامعة الإسلامية إلا من كان حائزا على الشهادة الثانوية (التوجيهية) أو ما يعادلها بموجب قرار من لجنة المعادلات بوزارة المعارف.
ب - لا يقبل بالقسم الثانوي بالجامعة الإسلامية إلا من كان حائزا على شهادة الكفاءة المتوسطة أو ما يعادلها بموجب قرار لجنة المعادلات بوزارة المعارف.(1/274)
ت - ولا يقبل بالقسم المتوسط إلا من كان حائزا على الشهادة الابتدائية أو ما يعادلها بموجب قرار لجنة المعادلات المختصة بوزارة المعارف.
طلاب الجامعة
مادة (25)
يقبل الطلاب من الدول والشعوب الإسلامية في الجامعة بحسب النسب التي يقرها مجلس الجامعة لكل منهم في كل عام.
مادة (26)
يتقاضى الطلاب مكافأة شهرية يقترحها مجلس الجامعة أو بناء على طلب يقدم من ثلث أعضائه. ويصدر بها قرار من مجلس الوزراء
مادة (27)
تتحمل الجامعة أجور مجيء الطلاب أول مرة إلى الجامعة وعودتهم بعد التخرج إلى بلادهم بأقرب الطرق.
مادة (28)
يلغي هذا النظام كل ما يتعارض معه من أنظمة وأوامر وتعليمات ويعمل به من تاريخ نشره.(1/275)
الفتاوى
لفضيلة نائب رئيس الجامعة
كتب الأخ المكرم الحاج محمد دكري يسأل عن حكم إقامة الجمعة في موضعين أو أكثر من المدينة أو الحارة.
والجواب: اعلم وفقك الله أن الذي عليه جمهور أهل العلم تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة إلا من حاجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم في مدينته المنورة مدة حياته صلى الله عليه وسلم سوى جمعة واحدة وهكذا في عهد خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين وهكذا في سائر الأمصار الإسلامية في صدر الإسلام وما ذلك إلا لأن الجماعة مرغب فيها من جهة الشرع المطهر لما في اجتماع المسلمين في مكان واحد حال إقامة الجمعة والعيد من التعاون على البر والتقوى وإقامة شعائر الإسلام ولما في ذلك أيضاً من الائتلاف بينهم والمودة والتعارف والتفقه في الإسلام وتأسي بعضهم ببعض في الخير ولما في ذلك أيضا من زيادة الفضل والأجر بكثرة الجمع وإغاظة أعداء الإسلام من المنافقين وغيرهم باتحاد الكلمة وعدم الفرقة والاختلاف فمن ذلك أيضا قول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} , وقول سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا, وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" أخرجه مسلم في صحيحه, ومما تقدم يتضح لكم أن الواجب هو اجتماع أهل المدينة أو القرية على جمعة واحدة كما يجتمعون على صلاة عيد واحدة حيث أمكن ذلك من دون مشقة للأدلة المتقدمة والأسباب السالفة والمصلحة الكبرى في الاجتماع. أما إن دعت الحاجة الشديدة إلى إقامة جمعتين أو أكثر في البلد أو الحارة الكبيرة فلا بأس بذلك في أصح قولي العلماء وذلك مثل أن تكون(1/276)
البلدة متباعدة الأطراف ويشق على أهلها أن يجتمعوا في مسجد واحد فلا بأس أن يقيموا الجمعة في مسجدين أو أكثر على حسب الحاجة.. وهكذا لو كانت الحارة واسعة لا يمكن اجتماع أهلها في مسجد واحد فلا بأس أن يقام فيها جمعتان كالقرية ولهذا لما بنيت بغداد وكانت واسعة الأرجاء أقيم فيها جمعتان أحدهما في الجانب الشرقي والثانية في الجانب الغربي وذلك في وسط القرن الثاني بحضرة العلماء المشهورين ولم ينكروا ذلك لدعاء الحاجة إليه.. ولما قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين خلافته أن في الكوفة ضعفة يشق عليهم الخروج إلى الصحراء لحضور صلاة العيد أمر من يقيم لهم صلاة العيد بالبلد وصلى رضي الله عنه بجمهور الناس في الصحراء فإذا جاز ذلك في العيد للحاجة فالجمعة مثله بجامع المشقة والحاجة والرفق بالمسلمين وقد نص الكثير من العلماء على جواز تعدد الجمعة عند الحاجة, قال موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة رحمه الله في كتابه المغني ص 184 جزء2 عند قول أبي القاسم الخرقي - رحمه الله -: "وإذا كان البد كبيرا يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة"ما نصه.(1/277)
وجملته أن البلد متى كان كبيرا يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبار جازت إقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعها وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود ومقتضى قوله أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين جازت إقامة الجمعة في موضعين منه لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول بن المبارك وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع إلا في مسجد واحد وكذا الخلفاء بعده ولو جاز لم يعطلوا المساجد حتى قال ابن عمر رضي الله عنهما: "لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام" ثم قال الموفق –رحمه الله-: "ولنا أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجارت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد وقد ثبت أن عليا رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الجمعتين فلغناهم عن إحداهما ولأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله وشارح الأحكام ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعا وقول ابن عمر يعني أنها لا تقام في المساجد الصغار ويترك الكبير وأما اعتبار ذلك بإقامة الحدود فلا وجه له. قال أبو داود: "سمعت أحمد –رحمه الله- يقول أي حد كان يقام بالمدينة؟ قدمها مصعب بن عمير وهم مختبئون في دار فجمع بهم وهم أربعون. فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز في أكثر من واحد وإن حصل الغنى باثنين لم تجز الثالثة وكذلك ما زاد لا نعلم في هذا مخالفا إلا أن عطاء قيل له: "أن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر"قال: "لكل قوم(1/278)
مسجد يجتمعون فيه ويجزي ذلك من التجمع في المسجد الأكبر"وما عليه الجمهور أولى إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أنهم جمعوا أكثر من جمعة واحدة وإذا لم تدع الحاجة إلى ذلك ولا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل.."انتهى كلامه رحمه الله.. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن صلاة الجمعة في جامع القلعة بدمشق هل هي جائزة مع أن في البلد خطبة أخرى أم لا؟..فأجاب: نعم يجوز أن يصلي فيها جمعة لأنها مدينة أخرى كمصر والقاهرة ولو لم تكن كمدينة أخرى فإقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة يجوز عند أكثر العلماء ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة في الجانب الشرقي وجمعة في الجانب الغربي وجوز ذلك أكثر العلماء.."انتهى كلامه رحمه الله.(1/279)
وبما ذكرنا يتضح للسائل جواز إقامة جمعتين فأكثر في بلد واحدة إذا دعت الحاجة إلى ذلك إما لضيق المسجد الواحد وعدم اتساعه لأهل البلد أو لسعة البلد وتباعد أطرافها والمشقة الشديدة عليهم في تجميعهم في مسجد واحد ومثل ذلك لو كان البلد قبلتين أو أكثر وبينهم وحشة ونزاع ويخشى من اجتماعهم قيام فتنة بينهم وقتال فيجوز لكل قبيلة أن تجتمع وحدها ما دامت الوحشة قائمة وهكذا ما يشبه ذلك من الأسباب، وهنا مسألة مهمة ينبغي التنبيه عليها وهي أن بعض الناس في العصور المتأخرة إذا كان في البلد جمعتان أو أكثر يصلون الظهر بعد الجمعة ويزعمون أن في ذلك احتياطا خوفا من عدم صحة إحدى الجمعتين.. وهذا في الحقيقة منكر ظاهر وحدث في الإسلام لا يجوز الإقرار عليه وقد أنكره من أدركه من محققي العلماء لأن الله سبحانه أوجب على المسلمين في يوم الجمعة وغيرها خمس صلوات وهؤلاء يوجبون على الناس يوم الجمعة ست صلوات وهكذا لو لم يوجبوا ذلك وإنما استحبوه أو أباحوه فكل ذلك لا يجوز لأنه من البدع المحدثة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة: "خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" أخرجه مسلم في صحيحه, وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق على صحته, وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"..
والله المسئول أن يوفق المسلمين جميعاً للفقه في دينه والتمسك بشريعته والحذر مما خالف ذلك, إنه على كل شيء قدير, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
كتب الأخ أحمد بن عبد الله بن محسن يسأل:
أولا: عن كيفية المسح على الشرّاب والكندرة وهل يصلي به صلاتان أم لا كالتيمم؟(1/280)
والجواب: يمسح على الشراب إذا كان ساترا لمحل الغسل كما يمسح على الخف, والفرق بينهما أن الخف من الجلد وأما الشراب فيكون من القطن ويكون من الصوف ويكون من غيرهما, والحكم في المسح عليهما واحد في أصح أقوال العلماء, وقد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه مسح على الجوربين والنعلين" والجوربان هما الشراب، وثبت ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم مسحوا على الجوربين وإذا مضت المدة وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر وجب الخلع على من يجد الماء حتى يتوضأ ويغسل قدميه, ثم إذا أحب لبسهما بعد ذلك ومسح مثل المدة السالفة وهكذا، أما الكندرة فهي كالنعل إذا كانت لا تستر القدم مع الكعبين فأي مسح عليهما مع الشراب صار الحكم لهما, ومتى خلع أحدهما خلع الآخر, وإن اقتصر على مسح الشراب كفاه ذلك، وجاز له خلع الكندرة متى يشاء والطهارة باقية بحالها لأن حكم المسح قد تعلق بالشراب ومما تقدم يتضح أنه يجوز أن يصلي المسلم بالمسح على الشراب صلوات كثيرة في المدة التي منحه الشارع إياها وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ابتداء من أول مسح وقع بعد الحدث الذي يعقب اللبس، أما التيمم ففيه خلاف مشهور والصحيح من أقوال العلماء أنه يرفع الحدث كالطهارة بالماء ويصلي به صلوات كثيرة كما يصلي بالماء ما لم يحدث أو يجد الماء لقول الله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .(1/281)
فبين سبحانه في هذه الآية أنه شرع لعباده التيمم عند عدم الماء ليرفع عنهم الحرج بذلك وليطهرهم به, فدل ذلك على أنه مطهر كالماء, وفي الآية المذكورة دلالة على أن الفاقد للماء يكفيه التيمم سواء كان حدثه أصغر وهو ما يوجب الوضوء أو كان أكبر وهو ما يوجب الغسل وعلى أن كيفية التيمم عنهما واحدة وهي مسح الوجه والكفين من الصعيد, ووجه الدلالة أن قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} يشير به إلى الحدث الأصغر وقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء} يشير به إلى الحدث الأكبر لأن الملامسة كناية عن الجماع في أصح قول العلماء كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من علماء التفسير وأما من فسر ذلك بمس اليد واحتج به على أن مس المرأة ينقض الوضوء فقوله ضعيف لأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها لأن المقصود هنا الإيجاز والاختصار والإشارة إلى أصح الأقوال للصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". ففي هذا الحديث العظيم الدلالة على أن التيمم يرفع الحدث ويطهر كالماء والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ثانيًا: ما ذكرت عن أصهارك فهمته وساءني كثيرا والذي أرى أن الأولى مقاطعتهم والابتعاد بزوجتك عن محل سكناهم فلعلك تسلم من شرهم ومن فقد الدين والخلق الكريم لا يرجى خيره ولا يؤمن شره, فالخير كله في البعد عنه ومقاطعته, رزقنا الله وإياكم وسائر إخواننا السلامة من أصهار السوء ومن كل ما يغضبه.
ثالثا: ما حكم مسح أثر الغائط والبول بالورق هل يكفي عن الماء؟(1/282)
الجواب: نعم يكفي المسح بالورق وغيره من الجمادات الطاهرة كالأحجار والخشب والخرق والتراب وغير ذلك ما عدا العظام والأرواث إذا أنقى المحل وكرر ذلك ثلاث مرات فأكثر ويقوم ذلك مقام الماء لأحاديث كثيرة وردت في ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذهب أحدكم من الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه" رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها, وقال الحافظ الدارقطني: "إسناده صحيح"وعن خزيمة بن ثابت الانصاري رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: "بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بعظم أو روث وقال: "إنهما لا يطهران" أخرجه الدارقطني وقال: "إسناده صحيح". وأخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بأقل من ثلاثة أحجار ونهي أن يستنجى برجيع أو عظم", والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وفيما ذكرناه منها كفاية إن شاء الله.
رابعا: إذا كان الإنسان في السفينة ونحوها وشرع في الصلاة إلى جهة القبلة حسب اجتهاده ومعرفته ثم لم ينتبه إلا وهو إلى جهة أخرى بسبب تغير اتجاهات السفينة ونحوها فما الحكم؟
الجواب: الواجب على المسلم أينما كان هو أن يستقبل القبلة وهي الكعبة في صلاته وذلك من أهم شرائطها لقوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} , وإنما يستثنى في ذلك العجز كالمصلوب إلى جهة أخرى والمريض الذي لا يجد من يوجهه إلى القبلة لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: من الآية16) .(1/283)
وكذا المسافر ينتقل إلى جهة طريقه ولو كان إلى غير القبلة لما ثبت في ذلك فمن الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة على راحلته حيث كان وجهه لكن الأفضل أن يستقبل القبلة فليس له أن يتوجه إلى غيرها سواء كان مقيما أو مسافرا لكن من كان في السفينة أو الطائرة ونحوهما فالواجب عليه أن يتقي الله ما استطاع ويجتهد في استقبال القبلة حسب الإمكان ويدور مع السفينة والطائرة كلما دارتا, وإذا أغلبه الأمر في بعض الأحيان ولم يشعر إلا وهو إلى غير القبلة لم يضره ذلك لقول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} , وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} , وقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
خامسًا: إذا تغير الماء بما يؤثر في طعمه أو لونه أو ريحه من غير النجاسات كالبوية ونحوها فما الحكم؟
والجواب: إذا تغير الماء بالنجاسة صار نجساً بالإجماع أما إذا تغير بأشياء أخرى من الطاهرات كالبوية وأثر الدباغ في القرب ونحوها وما يقع في المياه من الحشائش والأتربة ونحو ذلك فإنه لا ينجس بذلك ولا يكون مسلوب الطهورية بل هو باق على حاله طاهر مطهر ما دام اسم الماء ثابتاً له لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} , وقوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء", أما إذا خرج عن اسم الماء فصار لبنا أو مرقًا أو بوية أو ما أشبه ذلك فإنه والحالة هذه تزول عنه أحكام الماء المطلق ولا يجوز التطهر به لأنه لا يدخل في اسم الماء الوارد في النصوص المتقدمة وغيرها هكذا ذكر أهل العلم, والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله وسلم على عبد ورسوله محمد وآله وصحبه.(1/284)
ندوة الطلبة
صور من القضاء في الإسلام
بقلم صالح بن سعيد بن هلالي
إنه فصل من كتاب (مثل عليا من القضاء في الإسلام) لمؤلفه الأستاذ محمود الباجي المستشار بمحكمة الاستئناف بتونس عرض فيه فصولا رائعة وصورا حية من قضايا إسلامية من العصر الأول بأسلوب جذاب، والتزم بتقديم الحكم والواقعة في تصوير بديع رائع يتفق مع الأساليب العصرية التي يرتاح إليها قراء اليوم، وقد يكون موضوع الواقعة ونص الحكم لا يتجاوزان الأربعة أسطر من كتاب (الطرق الحكمية) أو (إعلام الموقعين) للعلامة ابن القيم الجوزية كما يشير إلى ذلك هو في مقدمة الكتاب.
قدم للكتاب قاضيان من قضاة تونس الأول هو الشيخ محمد الهادي بن القاضي رئيس الدائرة الاستحقاقية بمحكمة الاستئناف، والثاني هو الشيخ محمد الهادي المدني رئيس دائرة الأحوال الشخصية قال عنه الأول: "في هذا السفر الصغير الحجم الغزير المحكمية والمثل الرائع عينة طيبة من مشاكل القضاء الإسلامي في مختلف العصور الإسلامية الزاهية، وفي أرقى العواصم البارزة، وإننا بحاجة لأن نستلهم من أمجادنا القضائية ما يعزز مواقفنا ويحرر عقولنا وأفكارنا مما ران عليها طيلة عهد الاستعمار البغيض، فأورثها عقدة مركب النقص ومرض الزهد في النفس بأثره الخطير ونتائجه الفاجعة، وإن واجبنا اليوم أثقل وأخطر من واجبنا بالأمس.. "الخ.
وقال عنه الثاني: "أيها القارئ الكريم.. وإنها لمثل رائعة من قضاء الإسلام أعرضها عليك في ديباجة مشرفة وإحاطة مدققة، مما أعاد للذاكرة سؤدد العالم الإسلامي وعظمته أيام كان القضاء يفجر أخلد المبادئ وأشملها، وأوفى مظاهر القسطاس وأكملها، بما جعل الكثير من خصوم الإسلام يتسابقون في بعض البلاد للتقاضي لدى قضاة الإسلام ثم لا يجدون حرجا فيما يقضي به عليهم ويسلمون تسليماً".(1/285)
بعد هذه المقدمة البسيطة والتعريف بالكتاب وبمؤلفه فتعال معي أيها القارئ نرتع مع المؤلف في هذا الفصل وتحت هذا العنوان: (فراسة عمر بن الخطاب)
قتيل بالطريق العام!
حدّث الليث بن سعد بن عبد الرحمن [1]- الذي قال عنه الإمام الشافعي بأنه أفقه من الإمام مالك رضي الله عنه والذي عرض عليه المنصور أن يلي مصر فامتنع - قال: "خرج المصلون من فريضة الصبح متوجهين إلى أعمالهم ومنازلهم, فإذا على قارعة الطريق جثة شاب جميل الصورة مشرق المحيا أدعج العينين مستقيم الأطراف حسن الهندام, نظيف الثياب, مصاب بجرح قاتل مازالت الدماء تنزف منه! تولت شرطة المدينة التبليغ عن الحادثة للقاضي الأكبر الخليفة عمر بن خطاب رضي الله عنه فانتقل فوراً ليقف على الجثة بنفسه:
هوية القاتل:
اجتهد عمر في التعرف على شخصية القتيل وذهبت مساعيه أدراج الرياح, واجمع الجوار والعرفاء وأمناء الأسواق وأعوان الدرك وأهل المنازل الواقعة على حافتي الطريق المعثور فيها على الجثة واتفقت كلمتهم على أنهم لا يعرفون القتيل باسمه أو مسماه ووقع عرض الهالك في الميضاة القريبة, ودعي الواردون على المدينة حتى من الضواحي وأهل المتاجر ومروا به وأكدوا عدم التوصل لمعرفته.
عمر لم ييأس:
رغم هذا الغموض الذي يحف بالجريمة والمجرم, والذي مثاره جهل شخصية القتيل الشاب, فإن عمر رضي الله عنه لم ييأس من وضع يده على الأسرار المحيطة بالجناية وجعل يتوسل إلى الله ويدعوه أن يظفره بالقاتل, وبعد عام من الحادث وفي فجر يوم ذلك اليوم الذي اصطدم فيه الخارجون من المسجد الجامع بجثة الشاب القتيل, وفي نفس المكان الذي وجد فيه عثرت الشرطة على مولود حديث عهد بالوضع وهو قيد الحياة ويبدو عليه أنه خرج من أبويين جميلين في أول عهدهما بالإنجاب والامتزاج..(1/286)
وأسرع الحراس بحمله إلى الخليفة عمر بن الخطاب, وأعلموه بأنهم التقطوه في نفس المكان الذي وجدت فيه جثة الشاب القتيل في مثل ذلك الوقت في العام المنقضي.
رأس الخيط:
وابتهج الخليفة عمر لهذا الحادث الجديد, وصرح بأنه ظفر بدم القتيل الشاب يوشك أن يضع يده على القاتل ويكشف أسرار الحافة بالقتيل.
وحالا أمر بدفع الصبي إلى مربية تتولى إرضاعه وتنشيته وتتقاضى تكاليف الكفالة من بيت المال.
الشروع في التحقيق:
أصدر الخليفة العادل أمره للكافلة بأن تتحرى أمر من يسأل عن الصبي أو يحاول الاتصال به أو يوفد من يستعلم على حالته أو يختلس النظر إليه, وأن تخطر دار الخلافة بنتائج هذا التحدي الأكيد, الذي يعلق عليه الخليفة أهمية كبيرة ولا يتسامح إطلاقا في إهماله والتساهل في شأنه.
الوقوع في الفخ:
شبّ الصبي وظهرت نجابته وبرزت محاسنه, وتحدث الناس بجماله وقوة سحره وجاذبته, وهو الصبي الذي لا يعرف أبواه ولا يعلم مولده.. وذات يوم أقبلت جارية يلف جسمها رداء كثيف يخفي جميع ملامحها, وطرقت باب دار الكافلة وبعد أن حيتها وابتسمت للصبي وغمرته تقبيلا أعلمتها بأن سيدتها ترجوها أن تبعث الصبي لتراه وتعود به إليها في نفس الحين, ولها في مقابل ذلك ما تريد من عطاء.. وأدركت الكافلة سر الأمر الذي أصدره الخليفة, وتحققت أن بين أيديها الآن مفتاح السر الذي يبحث عنه الخليفة العادل منذ سنة. فأظهرت الموافقة على مطلب الجارية واشترطت أن تذهب بنفسها في رفقة الصبي لأنها مسؤولة عنه, وتخشى أن يحدث له مكروه, وأنها تعتقد نفرته من أي امرأة سواها.. ورضيت بالشرط وذهبت الجارية إلى دار سيدتها.
في بيت الأم:(1/287)
عرفت الكافلة أن البيت الذي دخلته الجارية هو بيت أحد شيوخ الأنصار الذين لهم مكانه في نفس الخليفة, ومركز ممتاز في محيط الخلافة ولم تكد تقع عين بنت الشيخ الأنصاري على الصبي حتى اختطفته وضمته إلى صدرها تقبله وتملا عينيها وجهه الباسم وثغره المشرق, وجعلت الكافلة تردد ببصرها في هذا المنظر العجيب, وكادت تغيب في هذا المشهد المؤثر, واستعصى عليها فهم اللغز المغلق, لأنها تعرف عفة البنت ونبل عائلتها وعلو مركزها في المجتمع المدني.
إعلام الخليفة:
انتهى المشهد الرائع بتسليم الصبي إلى الكافلة وإسراع البنت بإخفاء وجهها والالتجاء إلى حجرتها تحت تأثير عوامل نفسية قاهرة, وبادرت الكافلة بإرجاع الصبي إلى بيتها والتوجه إلى الخليفة لإعلامه بما حدث.. لم يكد يعلم الخليفة عمر بما حدث حتى اشتمل على سيفه وانتقل إلى دار الشيخ الأنصاري فوجده متكئا على بابه.
وبعد أن حياه سأله عن أمر ابنته ورد الشيخ بارتياح قائلا أن ابنته من أعرف الناس بحق الله وحق أبيها مع حسن صلاتها وصيامها والقيام بدينها.. فقال عمر: "قد أحببت أن أدخل عليها فأزيدها رغبة في الخير وأحثها عليه", وأجاب الشيخ: "الأمر لأمير المؤمنين والبيت بيته", وفتح الباب ودخل عمر ودعا كريمة الشيخ وسألها منفردا بعض الأسئلة العامة, ثم كاشفها بأنه يسألها عن أمر الشاب والمولود, وأنها إن لم تتحر في أجوبتها الصدق والحق تعرض نفسها الأكبر الأخطاء.
الاعتراف الرهيب:(1/288)
اعترفت الأنصارية المسكينة في صراحة ودون التواء بأنها أم المولود الملتقط وقاتلة الشاب المجهول الشخصية! وأخذت تشرح الوقائع التي أفضت إلى المخاض وإلى القتل قائلة "إن عجوزا كانت تدخل عليّ فأتخذها أُمّاً وكانت تقوم من أمري كما تقوم به الوالدة, وكنت لها بمنزلة البنت حتى ذلك الحين, فقالت لي مرة: "يا بنية إنه قد عرض سفر ولي ابنة في موضع أتخوف عليها فيه أن تضيع, وقد أحببت أن أضمها إليك حتى أرجع من سفري", فعدمت إلى ابن لها شاب أمرد هيئته كهيئة الجارية, وأتت به لا أشك أنه جارية.. فكان يرى مني ما ترى الجارية من الجارية حتى أغفلني يوما وأنا نائمة, فما شعرت حتى علاني وخالطني, فمددت شفرت كانت إلى جانبي فقتلته, ثم أمرت فألقي حيث رأيت, فاشتملت منه على هذا الصبي فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه".
استمع الخلفية العادل لهذه المأساة الفاجعة التي ترويها الأنصارية العفيفة الشريفة واطمأن إلى صحة الواقعة وانتهى إلى اعتماد الإقرار في جزئياته وجوهره.
حكم القاضي عمر:
أعلن عمر انتفاء المسؤولية عن الأنصارية وإهدار دم الشاب الخائن المخادع, واعتبار الجانية قد ارتكبت القتل في حالة دفاع عن شرفها وعفافها, ولم يكتف بذلك بل نوه بشجاعة القاتلة وشدتها في دفع العدوان عن نفسها ودعا لها بخير, وخرج على أبيها وبارك له في ابنته الصالحة المؤمنة وأوصاه بها خيرا.
--------------------------------------------------------------------------------(1/289)
[1] القصة أوردها العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية في السياسية الشرعية ص31 عن الليث بن سعد, والليث بن سعد أشهر من علم, قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب 2 / 138 "الليث بن سعد بن عبد الرحمان الفهمي أبو الحارث المصري: ثقة ثبت، فقيه, إمام مشهور, من السابعة، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة"اهـ, وقال فيه الإمام التبريزي صاحب مشكاة المصابيح:
"فقيه أهل مصر، يقال: إنه مولى خالد بن ثابت الفهمي، ولد في قرية أول مصر، سنة أربعين وتسعين، روى عن أبي مليكة وعطاء والزهري وغيرهم، وحدث عنه خلق كثير، منهم ابن المبارك، قدم بغداد إحدى وستين ومائة, وعرض عليه المنصور القضاء، فامتنع، قال يحي بن بكير: "ما رأيت أحد أكمل من الليث بن سعد"اهـ.
انظر (الإكمال في أسماء الرجال) للتبريزي ص 745.(1/290)
يا مسلم
شعر: عبد العزيز القارى
جرد السيف ونح القلما
واملأ الدنيا كفاحا ودما
إن برق السيف أقوى حجة
فدعونا نرتضيه حكما
ما على التاريخ لو سجلها
ثورة عشواء تذكيها الدما
قد كفرنا بسلام جائر
ضاعت الأمجاد فيه والحمى
لا سلام اليوم بل معركة
تقلب الدنيا جحيما مظلما
أجهزوا اليوم على أحلامكم
وانتضوا فيها ظباتا خذما
واحملوا الحق على ضامرة
تعشق الكر وتأبى اللجما
فجروها عزمة دامية
تهدم البغي وتبني الشيما
أنت يا مسلم أسمى منهم
حطم القيد لتبقى مسلما
لك هذي الأرض ليست لهم
إنهم أضحوا عليها: رمما
أنت يا مارد أقوى منهم
حطم الأصنام وارق القمما
أمم ضاعت وأخلاق ذوت
فابعث الأخلاق واحم الأمما(1/291)
تاريخ الأسلاف منار الحاضر والمستقبل
بقلم أبي عبد السلام زكريا المديني
كثيرا ما تردد ألسنة الأدباء وأقلام الكتاب كلمتي الحضارة والتقدم, وقلّ من يحضره معناهما ويتنبه لمحتواهما, يحسب بعض قليلي المدارك أن الحضارة هي الجري وراء كل حاضر, والتقدم هو السير مع التطور ولو على التخبط بغير هدى, والواقع أن حضارة الأمم هي سير الناس مع تاريخ أمجادها وآثار أمتها الطيبة.
نتلمس الماضي البعيد وحوله: ماء الحياة أعذب مورد, التقدم هو اقتفاء التطور بخطى مترنة وثابتة بانتقاء الطيب النافع للأمة من علوم الناس - تاريخ الماضي رسول السلف إلى الخلف ومدرسة الغافل وميدان التجارب ومحل العبر - وبالأخص تاريخ أمة الإسلام موسوعة الحسنات وصفحات المجد - قال الخليفة الرابع - كرم الله وجهه - ينصح ابنه: "أي بني, إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وتبصرت في آثارهم حتى غدوت كأحدهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره". تاريخ الأسلاف في الأمم منار الحاضر والمستقبل ما غفلت أمة عن ماضيها إلا أدبرت أيامها وقفل إقبالها.
السيرة الحسنة في الأفراد مشعل يستضىء بها المجتمع وسوء التصرف واعوجاج الخلق معول الهدم في كيان الأمة.
وليس بعامر بنيان قوم
إذا أخلاقهم صارت خراب
الأمة التي تعيش في فراغ خلقي هي كالسائمة بلا راع والمواشي المفلوتة بلا راع إما أن تفكك بها السباع أو تضيع هائمة على وجهها في الفلوات والقفار, أما الأفراد المنحرفون عن مبادئ الأمة وقيمها المعنوية فهم كالجراثيم في جسم صحيح إذا كانت مقاومة الجسم قوية تضمحل هذه الجراثيم ويتلاشى أثرها, وإن كان الجسم ضعيف المقاومة تنهكها هذه الجراثيم وتزيدها وهنا على وهن وقد نقضي على مقاومته نهائيا.(1/292)
الأفراد كاللبنة في بناء المجتمع إذا وجدت لبنات فاسدة قبيحة المنظر في عمارة شامخة حسنة المنظر وهن البناء وأضعف من بهائها وجمالها قال الشاعر:
وإنني لأرى من لا خلق له
ولا أمانة وسط القوم عريانا
من أرفع صفات المسلم الحياء والمروءة, فالشخص الوقح في مجتمع الإسلام كالدمل على الوجه الجميل, وكالبرص على الجسم الصحيح, وكالعاري في وسط أهل الحشمة والملابس الأنيقة, ومن صفات أهل الإيمان الصدق والأمانة ووفاء العهد, فالرجل الأمين يتأسى بصفة سيد المرسلين الذي وصفه الله بأنه: "رسول أمين", قال عليه والصلاة والسلام: "من عامل الناس فلم يظلمهم, وحدثهم ولم يكذبهم, ووعدهم ولم يخلفهم, فهو ممن كملت مروءته", وقال بعض البلغاء: "شرائط المروءة أن يتعفف عن الحرام, وينصف في الحكم, ولا يعين قويا على ضعيف, ولا يؤثر الدنيا على شريف, ولا يفعل ما يقبح الذكر والاسم".
إن المروءة ليس يدركها امرؤ
ورث المكارم عن أب فأضاعها
أمرته نفس بالدناءة والخنا
ونهته عن سبل العلا فأطاعها(1/293)
موجز تاريخ التعليم المختلط ونتائجه
بقلم: محمد ضياء الرحمن الأعظمي العمري
إن من ثمرات الحضارة الغربية التعليم المختلط, والمتصفح لتاريخ الأمم الماضية لا يجد ذكرا لهذا التعليم, فهذه الحضارة اليونانية التي بلغت شأوا بعيدًا في الرقي والتمدن مع هذا فإنها تفرق في نظام التعليم بين الرجال والنساء, وهذه الحضارة الرومانية التي كانت داعية إلى حرية لم يسبق إليها غيرها لا نجدها قد أباحت هذا التعليم ولم تتصور هذا الفكر الجديد, وعندنا أمثال للدراسات العليا في الحضارة الصينية قد قطعت في التعليم شوطا بعيدا منذ أقدم العصور ومع ذلك لم تتعرض للتعليم المختلط مثلما تعرضت لها الحضارة الغربية وقلدها بعض البلدان الإسلامية.
أول دولة أخذت بهذا النظام هي الولايات المتحدة الأمريكية فلفظ (co-education) (التعليم المختلط) قد استعمل أول مرة سنة 1774م, وبقي الأمر مقصورا عليها ولم تأخذ به أي دولة إلا قبل خمسين سنة حيث أخذت به الدول الأوروبية ثم انتشر بعد ذلك إذ أخذت به معظم الدول.
أسباب انتشار التعليم المختلط:
1- الثورة الصناعية:
لما قامت هذه الثورة في البلاد الأوروبية أجبرت المرأة على الخروج من بيتها لأن الحاجة أصبحت ماسة إلى أيد عاملة كثيرة لزيادة الإنتاج فنافست المرأة الرجال في معظم المجالات ولكنها ما لبثت أن وجدت نفسها قاصرة وعاجزة عن أداء وظيفتها بسبب جهلها وقلة تعليمها فاتجهت إلى التعليم والإرشاد لسد الخلل والنقص. ولما كانت الغاية من التعليم هي التأهيل للعمل في مجالات الرجال فليس هناك مانع من جلوسها في المدارس والمراكز التعليمية بجانب الرجال لسماع المحاضرات وتلقي الإرشادات في موضوع واحد من طريق واحد لأن عملهما في خارج بيتهما واحد.
2- الاقتصاد:(1/294)
لما كثر طالبوا التعليم وجدت الدولة نفسها مسؤولة أمام عد كبير من الرجال والنساء فكان من العسير عليها أن تقوم بإنشاء مدارس عديدة لكل جنس مستقلة فوجدت في التعليم المختلط بغيتها لأنه يخفف عنها العبء الثقيل ويعفيها من مصروفات باهظة فشجعها التعليم المختلط وأخذت به وساعدها على ذلك ظروف وأوضاع كانت منتشرة في ذلك العصر من أحلام الحضارة الغربية التي هيأت لهم أن يجلس الشاب والشابات على كرسي واحد جنبا إلى جنب.
ومع توفر هذه المدارس فإننا نجد أن الطبقات الراقية والغنية لم تسمح لأبنائها بالذهاب إلى هذه المدارس المختلطة بل كانوا يرسلونهم إلى المدارس الخاصة التي لم تأخذ بالتعليم المختلط كما يقول صاحب encyclopedia of social science كان أشراف الناس في البيئة لا يشجعون هذا التعليم المختلط ولا يرسلون أولادهم إلى هذه المدارس المختلطة.
يقول الكاتب الفرنسي ميئر meyer في كتابه (إرتفاع التعليم في القرن العشرين) : "إن أكثر الناس ينفرون من هذا التعليم النظام الجديد الذي لا يميز بين الرجال والنساء فيكثر الفسق والفجور" وعندنا مثال من الدولة الروسية التي أخذت بالتعليم المختلط بعد الثورة الاشتراكية 1920-1943م ولم يمض عليها ربع قرن حتى ألغته ونجد الدول الأوروبية كانت على وشك منع التعليم المختلط في سنة 1943م من كثرة الفواحش والمنكرات التي نتجت عنه.
نتائج هذا التعليم المختلط:(1/295)
لقد انتشر الفسق والفجور بسبب هذا التعليم المختلط لأنه يهيئ للجنسين اللقاء والمشاهدات وهذا اللقاء يجرهم إلى الفواحش والمنكرات, ومن المعلوم أن الأعمار التعليمية هي أهم أعمار الإنسان فيها يعين اتجاه الحياة, ويقرر الطريق إلى الخير أو الشر, والطلاب والطلبات غالبا يمشون وراء شهواتهم.. فخرج جبل جديد لا يقيم للأخلاق أدنى وزن وقد ساعدهم على ذلك في خارج الدراسة المجتمع المختل فهناك الأفلام الرديئة والكتب الماجنة والأندية المختلطة وبيوت الرقص ومشارب الخمر باسم الثقافة وغير ذلك من مراكز الرذيلة.
فيا أيها الإخوة والأخوات هنا أمثال وحقائق نسوق بعضها إليكم بأقلام كتابهم..
يقول الدكتور هوبرت هرس كوز: "إن الطالبات اللواتي يمارسن الزنا قبل التزوج بلغت نسبتهن ثمانين في المئة".
يقول ونستائن: "إن نسبة الزانيات في المدارس المختلطة أعلى من نسبتها في الفتيات الجاهلات".
وفي الإحصاء له في مدرسة (ورجنيا) بلغت نسبة الزانيات من الطالبات خمسا وسبعين إلى ثمانين في المئة.
يقول طلاب جامعة ميجيكن: "إن الفتيات العفيفات في جامعتهم لا يتجاوزون عشرين في المئة".
في جامعة سراكوز تبين أنّ هناك 400 فتاة من أصل ستة ألاف حوامل بالزنا, وفي إحصاء جرى في إحدى المدارس المختلطة تبين أن 20% فقط يردن الزواج بالطرق المعروفة, وأن 20% يمارسن الزنا ويحتفظن بالأولاد, وأن 60% يمارسن الزنا ويتناولن حبوب منع الحمل.
ومع هذه النتائج المحزنة نجد البنات في هذه الجامعات لا ينفرن من الفواحش والمنكرات بل يفتخرن بذلك كما تقول إحدى الطالبات: "إني عقدت عيد الزنا السنوي قريبا".
تقول الدكتورة ماركريت ميد: "كانت الكليات والجامعات قلعة للبنات العفيفات والآن صارت مراكز للفواحش والمنكرات وفحص الأزواج".(1/296)
أيها الإخوة والأخوات: ندعو أصحاب الفكر والعقل إلى التأمل في هذه النتائج الفاحشة في البلاد الأوروبية والأمريكية, والتي يستصرخ منها بعض دولها, ويحاول منع التعليم المختلط طلبا للخلاص منها, ولكن السيل قد بلغ الزبا فلم يجدوا لذلك سبيلا.
أجل إني أدعوا ذوي العقول والضمائر إلى التفكير في هذه الوقائع الرهيبة فعسى أن يعتبروا فيحولوا بين أمتهم وأمثالها.. والعاقل من اعتبر بمن سبقه ولم يجعل نفسه عبرة لمن بعده.(1/297)
مع الصحافة
حاجز ما بين الطريقين
إعداد جلال الدين مراد
هذا عنوان الكلمة التي افتتح بها الدكتور محمد أديب صالح رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام - السورية الصادرة في جمادى الآخرة 1388 أيلول 1968م وقد جاء فيها:
.. وهكذا جاء محمد رسول الله ليصوغ بالإسلام إنسان هذه الأرض من جديد وبإعلانه الواضح أبان فارق ما بين طريق الخير وطريق الشر وأقام حاجزاً بينهما على أمثل وجه كل ذلك حرصاً عليهم كيما تسلم لهم العاقبة ويغنموا حسن المصير في الدنيا والآخرة. وإذا كان الأمر كذلك فإن الأمانة تقتضينا.. أن نفتش في أنفسنا عن عوامل الهزيمة الداخلية التي تعتري الكثير، إن هذا الانهزام في أعماق النفس أمر خطير جدًا وأخطر منه ما يقوم به بعض الناس في محاولات لستر هذا الانهزام بصورة لا مجال لتعددها وأساليب لا تخفى على ذي لب. إن عنواناً عريضا تمليه الوقائع وهو أنه كثيرا ما تكون وعورة الطريق امتحانا لقدرة السالكين والسائرين وفي خضم الحركة التي يثير غبارها الزمن وتعلو بدخانها طبيعة المرحلة، يضيع كثير من ضعفاء النفوس ماض حملوه بالعاطفة والقليل من الفكر وبين حاضر يبدو وكأنه يتسلح بقوة لا تجارى، وطاقات يصعب الوقوف أمام تيارها السريع.
وصفة هؤلاء الناس تحمل العلة التي من أجلها كانوا ضعفاء وبسببها شعروا بالهزيمة أمام الطارئ الجديد، وما تزودوا به من قليل الفكر والثقافة، وهذا الذي نتحدث عنه ونصف من شأنه ظاهرة مرضية نراها في بعض أنحاء من جسم هذه الأمة التي استهانت بمصدر الضياء وينبوع القوة فانحدر بها خط الزمن وأصبحت تعاني في كل ميدان من الميادين ميدان الفكر وغيره من الميادين.(1/298)
لقد أسلم محمد صلى الله عليه وسلم الراية حين أسلمها ولم يدر بخلد واحد من رجاله يومذاك أن الأمر يحده الحوار النظري في قضايا مطروحة يراد لها أن تأخذ طريقها من هنا أو هناك.. ولكن الجميع كانوا يدركون أن الصياغة التي صاغهم محمد صلى الله عليه وسلم عليها، هي سلاح المواجهة لتحمل الأعباء في تقدير كامل للمسؤوليات حق قدرها وإعطاء كل شيء قيمته في ضوء مقاييس الدعوة التي عاهدوا عليها رسول الله وبايعوه من أجلها على النصرة والمنعة والبذل الكبير.
.. وإذا كان الإسلام أقوى من تحديات الزمن وأوسع من سلطان الحدود والقيود, إن السعداء حقا هم أولئك الذين ينقضون عن كواهلهم غبار الدعة وتتجافى جنوبهم عن الراحة وإيثار العافية في ظل الغرض القريب، وبذلك يشرفون بأن يكونوا على خط الريادة التي رسم معالمها النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه, وقد ضمن لهم القرآن خير عاقبة وأكرم مصير {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً, وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} .(1/299)
إنّ دولاب الزمن لا يقف والحياة لا تنتظر متخاذلا ولا تقبل عذر متخلف ووقود الحركة التي تسربل ثوبها المسلمون الأولون قلب يسعى وفكر يعمل وتضحيات تبذل بغير حساب.. ومن هنا كان لمداد العالم وزنه في بناء الكيان الحقيقي لهذه الأمة، وكان لدم الشهيد قدرة في الحفاظ على وجودها.. فالعالم حين يعطي مخلصا واعيا، فذلك برهان السلامة في العقيدة والاستقامة على الطريق.. والمجاهد حين يبذل دمه خالصا في سبيل الله فذلك برهان الوفاء وصدق ما عاهد الله عليه.. وماذا أنت قائل في أمة تبني وجودها بمداد العلماء وتحرس هذا الوجود بدم الشهيد ... مداد العالم ودم الشهيد ذاك يرسم معالم الفكر وهذا يحرس تلك العالم.. ويهب كلمة العالم الحياة.. ولئن كان لمداد العالم من الفضل والمنزلة بحيث يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء فيرجع الأول على الثاني، إن من كرامة الله لهذه الأمة ما تجده - لو رجعت البصر - إن في القافلة المؤمنة رجالاً تجتمع لهم هذه إلى تلك، فهم علماء وشهداء في وقت معاً. وتلك منزلة أجدر بها أن تنقطع دونها الأعناق وأن تهفو لعظمتها القلوب، إنها الهدية الغالية من الكريم المنان سبحانه والهدية الغالية لا تكون من ملك الملوك جل جلاله إلا لمن كانوا أحق بها وأهلها، وهو المتفضل على كل حال.
إن كلمات هؤلاء الناس تحكي وقطرات دمهم تحكي والحركة دائبة مستمرة لأنها تنسمت بالدم معنى الحياة, والعالم من هذا القبيل فكره مفتح النوافد, ذو سلطان وتأثير, إنه يغزو العقل والقلب في وقت واحد فأنت حين تقرأ لا تقرأ كلمة ميتة, هي شكل هندسي صفه الحبر على الورق ولكنك تقرأ الحركة والحياة لأن استشهاد في سبيل الله أعطى كلماته وجودها, ووهبها حياتها فهي غاز فاتح يغد السير ويقطع دونما قعقعة ولا جلبة.. ولئن فاتك من هذه الكلمات المسطرة بالمداد شيء فلن يفوتك شيء من الوجه الآخر..(1/300)
إن استشهاد العالم مرحلة فاعلة تعمل عليها في حياة الأمة وواحدة من تلك الصور التي تضيء جنباتها الطويلة, فلنذكر - وأبوابنا تدقها مطارق الغدر والخيانة والاعتداء صباح المساء - الكلمة المضخمة بالدم, ولنذكر الحياة التي تبدأ بالكلمة على القرطاس وتنتهي بلحظات يطل منها صاحبها العالم الباقي, وهو يتأرجح في الهواء هازئا بهذا العالم الفاني وما فيه من مغريات ومن ترغيب وترهيب ... إن أفاقا ربانية رحبة يستمع بها الشهيد تتضاءل دونها كل المقومات في هذا الوجود ... والعالم الشهيد على هذه الأرض برهان صدق هذه الدعوة وحجة الله على عباده ومثل رائع في قافلة الإيمان التي تني تتابع سيرها مهما تعاظمت الصعوبات وتفاقمت عقبات الطريق, ذلكم حاجز ما بين الطريقين ... إيمان راسخ وعمل دائب ووعي ينفي الخرافة وخبث الطارئ الدخيل ... ثم قدرة على الصمود وسقيا للطريق بالدم في وقت تعز فيه التضحيات ويكثر أشباه الرجال..
بناء الإنسان أفضل أم بناء العمارات
كان هذا عنوانا لافتتاحية مجلة البعث الإسلامي الهندية الصادرة في غرة رجب 1388 لأستاذ محمد الحسني وقد جاء فيها:(1/301)
من المحن والأزمات التي أبتلي بها الشرق شغفه وهيامه بالبنانات الحديثة والمعاهد العلمية الفخمة التي تشبه الفنادق والبنوك في ضخامتها وارتفاعها وأناقتها وتأثيثها, وشاع استعمال أمثال هذا الجمل: "إن هذه البناية أكبر بناية حديثة في الشرق الأوسط, وأن هذا الصالون أو هذا المدرج أو هذا المتحف الأول من نوعه في المنطقة بأسرها" ... وقد سموا هذا البناء الحجري أو البناء الظاهري بناء الوطن بناء الجيل بناء الحضارة بناء الثقافة إلى آخر هذه التعبيرات البراقة التي كثر استعمالها في الوقت الحاضر ... وقد طغى (آخر موضة) , و (آخر طراز) على جميع الحقائق, وأصبح (الأحدث) "و (الآخر) المقياس الوحيد للنهضة والرقي والبراعة والنبوغ ولو كان هذا (الأحدث) أحدث الرقصات العارية, ولو كان هذا (الآخر) آخر الموضات الكريهة والطراز القذر, وقد عممت هذه الظاهرة في أكثر البلاد الإسلامية ولو كان نصيب البلاد العربية فيها نصيب الأسد..وقوي هذا الاتجاه المعماري على حساب الأصالة في العلوم والتعمق في الدراسة والرسوخ في العقيدة والاضطلاع بالدعوة, وأصبحت البنايات تستهلك قوى الأمة وتستنفد مجهودها وطاقاتها ومكاسبها وأموالها وعقولها, لا تستطيع عنها حولا ولا تبغي بها بدلا لأنها آخر (طراز) وآخر ما قدمه الفن المعماري الحديث ... والأولى من نوعها في أسيا وذلك مبلغهم ... من العلم ... هذا في محيط البنايات..
أما في محيط الإنسان فلم نسمع في عرض العالم الإسلامي كله من يقول في نفس التعبير وفي نفس القوة والاعتزاز:هذا أكبر عالم في الشرق, وهذا أكبر طبيب في أسيا, وهذا أكبر مهندس في العالم الإسلامي, وهذا أكبر كيميائي في المنطقة بأسرها, وهذا أكبر ضابط وأعلمهم بفنون الحرب في البلاد العربية كلها..
ولم نسمع من يقول: هذا ابن تيمية هذا الزمان في العلم والبرهان, أو صلاح الدين في هذا العهد في المجد والسلطان ...(1/302)
وقد سمعنا أمثال عن الدعاوى الفارغة بعض الأحيان, وقيل لنا: إن القوة الفلانية أكبر قوة جوية ضاربة في الشرق الأوسط, وإن أسطول الدولة الفلانية أقوى أسطول في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط إلى أمثال هذا الهراء الذي يعرفه الجميع, ولكنها كانت دعاوى فارغة كاذبة ظهر بطلانها في حرب 5 حزيران وكان كما قال الشاعر وكأنه يصف الغوغائيين الاشتراكيين:
جواد تحت رجلك أم حمار؟
ستعرف حين ينكشف الغبار
إن كثرة البنايات والفنادق يا قادة العالم الإسلامي- لا تنجب الرجال ولا تنتج الكفاءة والمقدرة والنبوغ والبراعة والعلم والتقوى, إنها بالعكس تلهي الأمة عن المكرمات والبطولات, أنها تستنفد قواها وتشغل بالها وتصرفها عن غايتها وأهدافها العالية وتجعلها في قفص ذهبي تجد فيه كل ما يحتاج إليه جسدها من عيش رغيد, وتفقد كل ما يحن إليه طائر الروح من حرية للخروج وأجواء فسيحة للطيران تزكي جوهرها الأصيل وترخي لها العنان.
إن الإنسان لا يحتاج إلى بناية ولا يحتاج إلى دعاية, بل إنه يحتاج فقط إلى تصحيح الاتجاه وتنوير الوعي وتنمية الشعور والعناية بالأولى والأهم والتركيز على النواحي المهمة الحساسة, وتقوية الجانب الذي تضاءل واضمحل وضعف بدلا من تغذية الجانب الذي تسمن وتضخم وطغى وبغى على الجانب الضعيف..
إن مثلنا في ذلك كمثل رجل نزل عند ضيف اشتد به الجوع فاعتنى بغرفته كل العناية وأثثها تأثيثا جميلا وحشد له كل ما يحتاج إليه من كماليات, ولكنه لم يقدم إليه وجبة طعام أو كأسا من ماء..
لقد عنينا كثيرا بالبنايات فلنتجه الآن إلى الإنسان..
ما هو دور العلماء؟
تحت هذا العنوان نشرت صحيفة الدعوة السعودية مقالة للأستاذ زيد بن فياض يقول فيها:(1/303)
وليس قصدي تعداد مزايا العلم وفضل أهله فذلك معلوم وحديثه يطول ولكني أتساءل عن دور العلماء وأعني علماء الإسلام في سائر الأقطار وهل قاموا بواجبهم؟ وهل أتيحت لهم الفرصة لكي يؤدوا الأمانة العظيمة والمسئولية الخطيرة..؟ وإذا كان هناك تقصير واضح فمن أين جاء وما مصدره وما هو سبيل إلى تذليل العقبات المانعة من أداء هذا الواجب العظيم؟ إنني أعلم بأن مقالا واحدا لن يفي بجوانب الموضوع ومتطلباته, وأن الأمر يحتاج إلى مناقشة جادة مستنيرة مبينة على البحث العميق والدارسة الوافية؛ لأن إغفال هذه الناحية الهامة يعود بالمصائب على الأمة الإسلامية في شتى ديارها.
وإذا تأملنا حالة العالم الإسلامي اليوم لا نكاد نسمع للعلماء إلا أصواتا خافته وقد تختلف درجة الإمكانيات لدى العلماء علما وثقافة وقدرة على القول وعجزا عنه إتاحة فرصة أو حرمانا منها ... وعلى كل تقدير كان المرء لا يسعه إلا أن يشعر بأنه كان ينبغي أن يكون للعلماء دور أكبر وصوت أعلى ومكانة أسمى.
وأحسب أن من أسباب النكبات التي يعاني منها العالم الإسلامي اليوم وقبل اليوم إبعاد العلماء عن مجالاتهم وابتعادهم هم, وأن التصور الخاطئ الذي بحصر مسؤوليتهم في نواح محددة لا يجوز لهم أن يتخطوها كان من عوامل الضعف والتدهور في كيان العالم الإسلامي.
ونحن اليوم في حاجة إلى صوت جهير من قبل العلماء يصدع بالحق بلا مواربة, ويدعو إلى الله على بصيرة ويشارك في التوجيه مشاركة طليعية وفق ما يقتضيه الدين وتوجبه الشريعة السمحاء.(1/304)
وإن مما يؤسف ما يؤسف له أن يقبع العلماء أو يراد لهم ذلك في زوايا النسيان, وفي بعض البلدان العربية والإسلامية يغفل العلماء فلا يكاد لهم ذكر في الصحافة والإذاعة ... ولا ينالون من الإشادة والتقدير في وسائل الإعلام معشار ما يكال لأتفه المغنين من مديح وما تردده من إشادة بأدنى لاعب كورة ... وهذه ظاهرة محزنة إن لم نقل إنه تخطيط ماكر ... إن البلدان النصرانية مع ما انحدرت إليه من فوضى وانحطاط لم تصل إلى هذا الحضيض فما برحت تفاخر بعلماء الدين لديها وتحترم أراءهم.
نصيحة الماكرين
وتحت هذا العنوان نشرت مجلة التربية الإسلامية العراقية تعليقا للأستاذ معاذ عبد المجيد عن فرية خطيرة تحكيها أجهزة الإعلام البريطانية يقول فيه:
قالت إذاعة لندن يوم مساء 19 آب 1968 في برنامجها (الشئون العربية في الصحافة البريطانية) نقلا عن جريدة لندنية:-
"على العرب حينما يريدون التخلص من أثار النكسة أن يصلحوا أنفسهم, والإصلاح ينبغي أن يكون جذريا, والإصلاح الجذري لا يأتي إلاّ عن طريق تجريد العرب عن الإسلام, وعلمنتها كما فعل أتاتورك من قبل في تركيا, وهناك فئة وحيدة (....) تستطيع أن تفعل ذلك".
استفيقوا يا عرب.. فالمستعمرون الكافرون يدعونكم إلى النجاة والإصلاح! , ويجعلون لها سبلا تسلكونها ... أنهم يدعونكم لتنبذوا عقيدتكم وراءكم ظهريا, إنهم عرفوها قوة لو صبت على الصخرة لانبجست منها الحياة, ووجدوا فيها حيوية لو سقيت بها الفيافي لانقلبت جنات عدن وحقولا خضراء, فإنهم ليعلمون علم اليقين أنكم لو نهجتم نهجا لكان كفيلا بأن تتهاوى الأفكار الباطلة إلى واد سحيق وينقلب الأبطال المستأسدون أقزاما يبعث بها الصبيان والولدان, ومن ثم بعد ذلك لا جبن ولا وجل ولا إسرائيل.(1/305)
متى كان المستعمرون يا عرب يبتغون الإصلاح والتوفيق لهذه الأمة وهم يتباكون على مصيرها اليوم؟ بل مكر الليل ونصح الثعلب في ثياب الواعظين.. إنهم يريدون لهذه الأمة الفساد والذلة والمسكنة, والله يريد لها العزة والعظمة والفخار, {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} .
يا عرب لم لا ننصح أنفسنا ونهتدي بملتنا ونكون أصحاب عزم وبأس كما كان أجدادنا المسلمون! ..لقد أعلم أولئك الصليبيون أنه لا يمكن مواجهة هذه الأمة بعقيدتها.. وما من حرب خاضتها هذه الأمة تحت لواء عقيدتها إلاّ وكان النصر بين يديها والمجد فوق مفرقيها, وحينما تحيد هذه الأمة عن نهجها المرسوم وتخط بيمينها لنفسها مناهج العبيد فإنها ستشقى وتنحدر إلى سفوح هابطة, وتتداعي عليها الأمم كما تتداعي الأكلة على قصعتها, فلا عز ولا صعود بل ذلة وضيعة وارتكاسة. وإلى أولئك الصليبين في لندن وإلى أولئك المخدوعين من بني ملتنا نسوق هذه الحادثة:
"بعد نكسة حزيران ذهب وفد عسكري مصري للتباحث مع زعماء السوفيت حول تزويد مصر ما افتقدته من أسلحة ومعدات حربية أثناء الحرب ... والتقى الوفد بعدد من العسكريين السوفيت ومن بينهم وزير الدفاع مالينوفسكي (قبل موته) قال الوفد المصري بحرف الواحد:
"إننا لم نستطع أن نستعمل الأسلحة التي اشتريناها منكم لأنها كانت جديدة علينا وبهذا خسرنا المعركة".
فما كان جواب مالينوفسكي إلاّ أن رد عليهم:
"لقد انتصرا أجدادكم على الفرس والروم بسيوف صادئة, وقد علمتني التجارب والأحداث وأنا في هذا المنصب بأن لا شيء يساوي القوة المعنوية في الأمة" ...(1/306)
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بالجامعة
زميلي العزيز سيبويه:
لأشد ما يحزنني تباعد الزمن بيننا، فتعيش أنت في القرن الثاني وأعيش أنا في القرن الرابع عشر. كم تمنيت أن أتقدم هذه القرون الطويلة فآخذ النحو كما أخذته أنت مشافهة ومساءلة لا كما أخذته أنا حفظا للمتون، وقراءة في الشروح والحواشي، ولكنها مشيئة الله حالت بيننا وبين هذه الأماني، فعشت أنت في عصر أقبل الناس فيه على النحو وعشت أنا في عصر ولّوا عنه مدبرين.
شتان ما حالي وحالك يا أبا بشر..!! لقد أنفقت عمرك تبني النحو وترفع منه القواعد، وزملاؤك من حولك يشدّون عضدك، ويعقدون على أمرك الخناصر، فاستوى لك بناء يطاول أعنان السماء، ويسدّ وجه الأفق.
أما أنا فأنفق الوقت في إصلاح ألسنة تقول فلا تعرب، وتنطق فلا تبين، وأسمع من هنا وهناك صيحات تنادي بإلغاء هذا النحو الذي أطعمته شبابك الوريق، وأسقيته من حياتك كأسا دهاقا..
نعم ينادون بإلغاء هذا النحو ويزعمون أنه جهدٌ بلا طائل وسرى بلا صبح، ويقولون: إن العصر عصر سرعة، وأهل العلم في حاجة إلى الجهد والوقت، فلماذا نضيّعهما في معرفة المرفوع والمنصوب والمجرور؟ وبيان المعرب والمبني، والفرق بين الحال التمييز، وكم وجهاً من الإعراب يجوز في هذا التركيب؟ وكم وجهاً من الإعراب يجوز في تلك الكلمة؟ يقولون -يا أبا بشر-: لماذا لا تستريح من هذا العناء كله بتسكين أواخر الكلمات؟ حقاً إنه لخبر محزن أسوقه إليك، ولكني لم أقصد الإساءة، وأنت تعلم أنّ مصابنا في هذا سواء..
يزعم هؤلاء المنادون بتسكين أواخر الكلمات أنهم يريدون تيسير هذه اللغة لطالبيها، وكسر أشواكها لجانيها، وتقريب تعليمها إلى الأجانب..!! وتضييق الشقة بين لغة الكتابة ولغة المحادثة, ومسايرة ركب اللغات الحديثة التي لا تعرف الحركات في أواخر الكلمات..(1/307)
وهذا زَعْمٌ ظاهره سلم وبر، وباطنه قطيعةٌ بيننا وبين لغة القرآن, قطيعة بيننا وبين هذا التراث الضخم الذي جاءنا بهذه اللغة المتحركة الأواخر, والويل لنا ولهذه اللغة، إن استقام لهم هذا الدرب الذي يسلكون..
إنه لن يمضي جيل أو جيلان حتى يكون هذا القرآن عجمة في الآذان وحبسة في اللسان!! ويضيع معه هذا التراث العلمي والأدبي ضياعا ليس منه عوض.
وإلى جانب هذا الضياع لن يكون لهذه اللغة طواعية في التعبير وتلوين الجمل، وتغيير التركيب، وفق ما تتطلبه المعاني، وتقتضيه الأحوال، فهذه الحركات المتغيرة في أواخر الكلمات هي المعالم الهادية في كثير من الجمل إلى دقيق المعاني، ولطائف البلاغة.
أما الأوزان الشعرية وبحور أستاذك الخليل، فسلام عليها إلى يوم الدين, سلام على أنغامها الحلوة, وجرسها الساحر، وموسيقاها التي تهز المشاعر.
معذرة يا أبا بشر، لقد نقلت لك شيئاً من لغو هذا الناس في هذه الدنيا وأنت في دار لا لغو فيها ولا تأثيم، ولكن ماذا نفعل وقد أصابتنا المصائب من كل جانب، وبلغت بنا المدى الذي ينبغي أن يقلق له الأحياء والأموات جميعا.
كنت أودّ أن تكون رسالة - وهي أول رسالة أكتبها إليك- أن تكون رسالة مودة في الله, وصلة رحم في النحو، وقربى زمالة في التعليم، ولكن في نفسي تساؤلات شتى عن حياتك تلحّ عليّ فلا أستطيع دفعا لهذا الإلحاح، وتجمح بي فلا أستطيع كبحا لهذا الجماح.
لقد زرت دنيانا هذه أول مرة في القرية الكبيرة المسماة بالبيضاء من مقاطعة شيراز في بلاد الفارس، ولكن التاريخ لم يحفظ موعد هذه الزيارة، وقلما كان الناس في القديم يحفظون.
غير أنهم حفظوا أنّ أمّك كانت حفيةً بهذا اللقاء، وأنها كانت ترقصك طفلاً صغيراً وهي تقول: "سيبويه سيبويه، سيبويه سيبويه".(1/308)
ولعل أمك لم تجد ألفاظا ترقصك بها غير هذه الألفاظ، فهي أخفّ نطقاً على اللسان، وأعذب جرسا في الآذان, إنها أم فارسية كما كان أبوك فلا عجب أن تختار هذه الألفاظ الفارسية, لقد وجدت فيها رائحة التفاح، فأخذت ترقصك بها وتناديك.. وكل الأمهات يجدن في أولادهن رائحة طيبة، ويخترن كلمات وموسيقى عذبة يرقصن بها أولادهن، غير أن هذا اللفظ الذي اختارته أمك سجل عليك مدى التاريخ، وتغلّب على عمرو وهو اسمك الذي اختاره لك أبوك عثمان بن قنبر.
لقد أراد بك الأهل خيرا حين بعثوا بك مع الصبيان إلى مسجد القرية تتعلم الدين، ولغة الإسلام والحكام والحياة، وأغلب الظن أنه لم يدر في خلدهم ولا خلد أهل الأرض جميعا أنك على الدرب إلى ذروة العلم والمجد.
أيّ شيء بعد هذا حملك على الترحل عن قريتك الخصيبة الممرعة تاركا فيها ملاعب الصبا؟! ومدارج الطفولة، وأتراب اللهو, وأنس الأهل ولقاء ذوي القربى.
أيّ شيء لك في البصرة فتشد إليها الرحال؟ أتوسّم فيك معلم القرية مخايل النبوغ فزيّن لك الذهاب إلى البصرة؟! أكان بينك وبين زملائك الغيرة والمنافسة؟ فأنت تطلب طريق التفوق أم أنك خلقت طموحاً ولم يعد في القرية متسع لهذا الطموح؟!
كيف طابت نفس أمك بهذا الفراق وأنت لا تزال حدثا لين العود لم تبلغ سن الرشد بعد؟! أكان أبوك لايزال يعيش في دنياك؟ فوقف إلى جانبك وأرسل معك أخاك يعينك، أكانت الأسرة على حظ وافر من الثراء والمال؟ فهي ترفدك من حين إلى حين بما تشاء من مال ورزق.(1/309)
لقد مضت القرون الطويلة دون أن تنقل إلينا كيف استقامت الحياة لك في البصرة وأنت في هذه السن المبكرة؟ ها أنت ذا في مسجد البصرة تطوف الحلقات؛ حلقات الحديث وحلقات الفقه! وحلقات اللغة والنحو والأدب, لماذا اخترت حلقة الحديث من بين هذه الحلقات جميعا؟ ألأنّ حلقة الحديث كانت أغنى حلقة بالحاضرين وطلاب العلم؟ أم لأن علماء الحديث كانوا أعظم شأنا وأرفع منزلة؟ أم أنّ حبك الرسول والرواية عنه دفعاك إلى هذا الأمر؟ أم أن معلم القرية قد اختار هذا الطريق؟!
ها أنت ذا تجلس إلى المحدّث المشهور حماد بن سلمة، تُرى ما الذي أغراك بمجلسه؟ وسلكك في حلقته، أشهرة له طارت في الحديث؟ أمنصب الإفتاء الذي كان له في البصرة؟ أشخصيته القوية وهو يحدث الناس من حوله؟ أكثرة المحيطين به يستمعون إلى ما يقول؟ ومهما يكن من أمر فقد أردت شيئا، وأراد الله شيئا آخر.
ها أنذا أراك تسرع إلى حلقة حماد بن سلمة في كل يوم، حريصا على أن تأخذ المكان في الصف الأول، فذلك أدنى إلى أن تسمع إذا أصغيت, وأدنى إلى أن تجاب إذا ما سألت، ثم يجيء يوم ما أظنك نسيته طوال حياتك، ولم ينسه التاريخ رغم هذه القرون الطويلة التي تتابعت بعده, لا أدري ما الذي أخرّك هذا اليوم فجلست على مبعدة من حماد؟ فلما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد من أصحابي إلاّ وأستطيع أن آخذ عليه ليس أبو الدرداء", فصاح بك بن حماد: "لحنت يا سيبويه, ليس أبا الدرداء", ولا شك أنه رفع صوته بهذا النكير عليك! وأنه رفعه ليسمعك ويسمع من حولك، فحماد هذا هو الذي يقول: "مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار علية مخلاة ولا شعير فيها"؟!.(1/310)
وسواء أفي هذا الحديث أخطأت أم في حديث آخر، وسواء أفي هذا الاستثناء عثرت أم في لفظة أخرى، فقد سمعت من حماد بن سلمة ما ملأ عليك جوانب نفسك، وجوانب المسجد, ما أكثر الذين عثروا مثل هذا العثار!! وما أكثر الذين تلقّوا مثل هذا الاستنكار! ثم انقضى الأمر كأن لم تكن هناك أذن تسمع، أو قلب يعي, ولكنك لم تكن من هؤلاء يا سيبويه، لقد كنت ذا أنف حمي، وقلب ذكي، فكانت صيحة حماد بعيدة الصدى بالغة الإثارة، فلم تطرق من خجل، ولم تسكت عن حياء، وإنما قلت لحماد - وفي لهجتك الحزم، وفي نبرات صوتك العزم-: "لا جرم لأطلبنّ علماً لا تلحنني فيه أبدا", وما أظنه قد طاب لك المجلس بعد هذا، وما أظنه قد طال, وإنما مضيت بعد هذه القولة المشهودة لطلبك، تنشد هذا العلم الذي لا يلحنك فيه حماد، ولا أحد غير حماد.
ما كانت بك الحاجة إلى أن تطوف بحلقات العلم في مسجد البصرة، فما أنت بغريب عن المسجد، وما أنت بغريب عن حلقاته، لقد عرفت من قبله حلقة عيسى بن عمر الثقفي، وعرفت مجالس الخليل بن أحمد، واستمعت إلى يونس بن حبيب، فلم تشتبه عليك السبل بعد صيحات حماد ولم يأخذك يأخذ الضعاف من تردد وحيرة وقلق إذا دهمتهم الأحداث، وفجأتهم الخطوب.
إنه ليخيل إليّ أنك لزمت الخليل بن أحمد بعد الفجر ووجه النهار وقبل الغروب، وعجت بمجالس يونس، كلما ألمّ الخليل ملمّ، أما شيخك الأول عيسى بن عمر فقد توفاه الله قبل أن تأخذ عنه الكثير.(1/311)
حقّاً إن لقاءك بالخليل كان نعمة من عند الله مباركة, نعمة عليك وعليه وعلى اللغة، فقد نشرت للخليل علماً ما كان ينشر لولاك، وعلّمك الخليل علماً ما كنت لتصل إليه لولاه, وأفادت اللغة هذه القمة الذاهبة في السماء!! لم يبلغها كتاب في النحو على مدى العصور الطويلة التي تتابعت بعد, نعم لقد كان لقاء تعليميا موفّقا، وماذا يريد الطالب من أستاذه أكثر من أن يكون ضليعا في العلم، عميقا في الفهم، قادر على ابتكار الجديد المفيد، ذا خلق عظيم، لا يبتغي بعلمه الدنيا ولو قرعت عليه الأبواب، وهل كان أستاذك غير هذا يا سيبويه؟
وماذا يريد الأستاذ من تلميذه أكثر من أن يكون نهوم علم لا يشبع, وطلعة لا يقنع، وشابا جلدا لا يمل ولا يخور, وحفّاظا لا يضيع, وتقيا لا يغلبه الهوى, منظما لا يخلط الأمور, دقيقا يسبر الأغوار ولا يقف عند الظواهر، وهل كنت غير هذا يا سيبويه؟! أو ليس لهذا كله كان الخليل يقول كلما رآك قادماً عليه: "أهلا بزائر لا يملّ"ثم لا يقولها لأحد غيرك.
وتتعاقب الأيام والأعوام، ويأتي الخليل ما أتى على الناس من قبل، وتعود إلى البيت حزينا أسفا، فقد واراه الثرى، وسويت من فوقه الأرض ثم تسلوا مع الأيام وتكفكف قطرات من الدمع الباقية في المآقي، ولكنك تشعر بالفراغ يملأ المسجد ويملأ المنزل، وليس لدى يونس بن حبيب ما يشبع نهمك ويروي غلتك، إذن فلا بأس أن تجلس في مكان أستاذك الخليل تقول للناس ما كان يقول.
أستاذي العظيم:(1/312)
أعدت إلى المنزل ذات ليلة من صلاة العشاء في مسجد البصرة فضاقت بك الغرفة التي وسعتك سنوات طويلات؟ ثم لم تجد شهوة إلى طعام ولا رغبة في الدراسة, فأويت إلى الفراش لتجد الراحة ولكن الفراش نبا بجنبيك، وأقضت أحاديث النفس عليك المضاجع بماذا حدثتك النفس يا ترى؟! وكيف استلبت النوم من عينيك؟؟ أكانت تقول لك: ها أنت ذا قد ملأت الفراغ المسجد، فمن لهذا الفراغ في البيت، هذا الطعام وترتيب أشياء هذه الغرفة يأكلان الوقت أكلاً لماً.
وها هي ذي الكهولة قد وفدت عليك والكهولة عمرها قصير وليس بعد الخريف إلاّ الشتاء، ألام تضل بلا زوجة تخفف عنك العناء كله؟؟ وتكون سكنا إذا أقبل الليل، وعوناً على العيش إذا أقبل النهار، هذه الجذاذات لا تزال مبعثرة في زوايا الغرفة، ألام تظل ركاما لا ينفع الناس؟!
وتغدو إلى المسجد ذات صباح, وقد أشرق وجهك بالبشر، وبرقت عيناك بالفرح، وعلا شفتيك ابتسام الرضا، ويبارك الطلاب زواجك، وتعود إلى حياة حلقتك إلى ما كان عليه من قبل أو أشد.
ولكن الحياة في البيت لم تمض طويلا عل النهج الذي قدرت، فقد دبّت العداوة والبغضاء بين الجارية التي تزوجتها وبين هذه الكتب التي ملأت عليك وعليها الغرفة, هي تريدك أن تكون خالصا لها, وأنت تريد أن تكون خالصاً لهذه الكتب.
أتُراك أنصفتها يا سيبويه؟! وأحسنت عشرتها كما كنت تحسن عشرة الكتب أم تُراك ملت مع كتبك كل الميل؟! وتركتها تحترق في نار الغيرة.
أيّ داع دعاك إلى السوق لتعود إلى البيت فتجد سماءه دخاناً تضيئه ألسنة اللهب؟! لم تعد هذه الزوجة الصغيرة الحمقاء تطيق صبرا، فألقت بين هذه الكتب والجذاذت جذوة من نار، وتركتها تحور رمادا، ليتني كنت معك يا سيبويه فأنقذ الشيء الكثير من إملاءات الخليل, وليتني كنت معك فأسعفك وقد وقعت مغشيا عليك.(1/313)
سراح جميل، وعود إلى الحياة الأولى، وسهر الليل، ودأب في النهار، ويستوي هذا الكتاب الذي أنقذت فيه ما كان طي الرماد وتركته للناس بلا تسمية فغلب عليه اسم (الكتاب) .
لماذا ضاقت بك الحياة في البصرة واعتزمت الذهاب إلى بغداد؟! أمللت التدريس وحياة المدرسين؟! ألم يعد في البصرة أمثال الخليل تفيد منه؟ أضاقت بك سبل العيش وصفرت يداك من المال؟! ألم تعد البصرة تتسع لشهرتك وطموحك؟ أم كان الأمر كما قال أبو تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
لديباجتيه فاغترب تجدد
يخيّل إليّ أن طموح كان أبرز هذه الأشياء جميعا.
ها أنت ذا في بغداد، تفد على يحيي بن خالد بن برمك، وتطلب إليه أن يجمع بينك وبين الكسائي، ويحاول أن يثنيك وهو يقول: "لا تفعل فإنه شيخ مدينة السلام وقارئها، ومؤدب ولد أمير المؤمنين, وكلٌّ من في المصر له أو عليه", فتأبى ذلك.
لم يكن سهلا على الكسائي أن تنتزع منه ثقة الخليفة الرشيدة، وهيهات أن تطيب نفسه بالتخلي عن زعامة النحو في عاصمة الخلافة، ثم كيف تطوي هذه الشهرة التي طارت له في كل مكان؟ أرأيت كيف احتال لنفسه فأرسل إليك في يوم مشهود أصحابه وتلاميذه؟ يسألونك أشتاتا من الأسئلة ويكثرون، ليلقوا عليك الوهن ويجلبوا على نفسك الهم.(1/314)
ثم يأتي بعد قليل، ويلقي إليك المسألة الزنبورية ويقول: "كيف تقول: قد كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي؟! أو فإذا هو إياها", فتجيبه أنت: "هو هي ولا يجوز النصب", فيقول لك الكسائي: "لحنت, العرب ترفع ذلك وتنصبه"، ويشتد الجدال بينكما، وينقذ الموقف بعض الحاضرين محكما أعراب الحطمة الذين حضروا بباب الخليفة, وهم أعراب تركوا باديتهم منذ زمن ونزلوا ببغداد فأصاب فصاحتهم بعض الوهن، وقد كانوا يعرفون الكسائي وأين هو من الخليفة, وسواء أكانوا جميعا عليك أم كان بعضهم معك, فقد انتهى مجلس الخليفة أو مجلس يحي بن خالد على أنك المهزوم، وما أنت بالمهزوم.
ولك في القرآن الكريم أعظم حجة فقد اطّرد فيه الرفع على الابتداء والخبر في مثل هذا الأسلوب: {فَإِذَا} , {فَإِذَا} , ولكن الناس زلفى إلى من له صلة بالحكام.
لقد ضاقت بك الحياة في بغداد ولكن لماذا لم تعد إلى البصرة يا سيبويه؟ أستحييت من أهلها؟؟ أم تُراك فارقتها منذ البداية على ألا تعود؟! واكتفيت إذ بلغت بك السفينة الشاطيء أن وجهت في طلب تلميذك الأخفش وخليفتك على حلقة النحو في البصرة، لتخبره الخبر ثم تمضي لطيتك.
على أيّ شاطئ رست بك السفينة يا أبا بشر؟! وإلى أين تقاذفتك الدروب؟ لقد آن للغريب النازح أن يؤوب, ولهذا المسافر اللاغب أن ينيب, ولهذه الموجة القلقة أن تستقر على شاطيء، لم يذكر التاريخ على التحقيق أين ذهبت وعلى أي شاطئ رسوت.
ولكن الظن كل الظن أن القرية البيضاء التي احتضنت طفولتك عادت تعانق كهولتك.
لقد انتهت مهمتك في الحياة حين انتهيت من تأليف الكتاب, وكأنما تبحث عن الموت فوق ثراها الذي أطعمك وأسقاك، وبين أحضان أهلك وذويك غير أن الموت كان يقول: "صبراً صبراً قليلاً يا سيبويه..".(1/315)
ويمر عام أو عامان أو أقل من ذلك أو أكثر فيأتيك داع من دواعي الموت، وأنت لم تتجاوز الأربعين إلاّ قليلا، فيشتد عليك الذرب، وتلقي بنفسك في أحضان أخيك, وتئن بهذه الكلمات مع أنفاسك الأخيرة:
يؤمل دنيا لتبقى له
فمات المؤمّل قبل الأمل
حثيثا يروي أصول النخيل
فعاش الفسيل ومات الرجل
أيّ أمل هذا الذي مت دونه, وأيّ فسيل رويته ولم تأكل جناه؟ يكفيك أملا هذا الكتاب الذي تركته، وإذا كنت لم تأكل جناه في الدنيا، فما عند الله خير وأبقى.
قلة قليلة من أناسي هذا العالم، تركت وراءها آثاراً ظلت تحتفظ بمستواها الكفء، طيلة اثني عشر قرناً، وسيظل كتابك بإذن الله يحتفظ بهذا المستوى ما بقيت الأرض أرضاً والسماء سماء.
أوراء هذا أمل لآمل يا أبا بشر؟! نم هنيئا..(1/316)
أخبار الجامعة
إعداد قسم التحرير
وصل للمدينة المنورة فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي (الأمين العام للجامعة) قادماً من دمشق بعد فترة قضاها هناك متنقلا بين الأردن والشام ولبنان, وذلك للتعاقد مع مدرسين للعمل في الجامعة الإسلامية. وقد وصل معظمهم وباشروا عملهم بكليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين.
عاد من المغرب العربي الشقيق فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري المدرس بكلية الشريعة والدعوة بالجامعة الإسلامية, بعد أن قضى قرابة ثلاثة أشهر متنقلا بين الرباط والجزائر وتونس وطرابلس للدعوة والوعظ والإرشاد. وقد باشر عمله كمدرس بكلية الشريعة والدعوة بالجامعة هذا ومما هو جدير بالذكر أن أهالي المغرب سبق أن طلبوا من الجامعة الإسلامية انتداب أحد مدرسيها للقيام بالدعوة والإرشاد هناك, وقد كتبت الجامعة بدورها لجلالة الملك فيصل بذلك فأصدر جلالته أمره بالموافقة على سفر فضيلة الشيخ أبي بكر, وقد قام فضيلته بالإضافة إلى الدعوة بالاتصال بكبار العلماء والمشايخ هناك, وزار أيضا جامعة الزيتونة بتونس, وجامعة القرويين بفاس, وذلك توثيقا الروابط بين البلدين والجامعتين, وقد صرح فضيلته بقوله: "إن الدعوة هناك صافت استحسانا من كافة الجامعات التي استمعت إلى المواعظ الدينية والتوجيهات الإسلامية".
قامت الجامعة الإسلامية بتسليم اللجنة الشعبية لإعانة أسر ومجاهدي وشهداء فلسطين المتبقي من تبرع موظفي الجامعة.(1/317)
زار الجامعة الإسلامية صاحب زاده علي اختر, مدير عام وكالة الصحافة والأنباء الباكستانية العالمية وضيف وزارة الإعلام وقد كان يرافقه السيد محمد مسعود منيياوي مندوباً عن العلاقات العامة بوزارة الإعلام, وقد كان في استقبالهم فضيلة الأمين العام المساعد الشيخ عمر محمد وسكرتير نائب الرئيس الأستاذ عبد العزيز بن ناصر الباز وفضيلة الشيح عبد القادر شيبة الحمد وقد قدمت الجامعة للضيف بعضا من مطبوعاتها هدية منها.
تعاقدت الجامعة الإسلامية مع فضيلة الدكتور تقي الدين الهلالي للتدريس بها.. وقد وصل فضيلته وباشر عمله ابتداء من يوم السبت الموافق 6-7-1388هـ.
كما وصل أصحاب الفضيلة الدكتور محمد محمد بحيري من مصر والأساتذة محي الدين القضماني، إبراهيم السلقيني، مختار البزرة، عبد العزيز رباح، محمد أمين لطفي، وقد باشروا أعمالهم.
أقامت الجامعة الإسلامية مأدبة غداء فخمة تكريما للسيد أبو بكر سي مدير مكتب التعليم العربي بوزارة المعارف السنغالية بفندق التيسير بالمدينة. وقد حضر المأدبة السيد أحمد خادم البكي سكرتير السفارة السنغالية بجدة وفضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي وفضيلة الشيخ عمر محمد الأمين العام المساعد وبعض رؤساء الأقسام بالجامعة كما دعي إليها أيضا جميع الطلبة السنغاليين الذين يدرسون بالجامعة وبدار الحديث, وبعد تناول الغداء اجتمع فضيلة الشيخ بالضيف الكريم بصالة الفندق وقد تناول طرفان حديثهما شتى المواضيع الإسلامية والجدير بالذكر أن الضيف قد زار الجامعة الإسلامية قبل يومين وتفقد أقسامها واجتمع بالطلبة السنغاليين فيها وقد قدمت الجامعة له عددا من الكتب الدينية هدية رمزية منها ويذكر أن عدد الطلبة السنغاليين في الجامعة (18) طالبا..
سيتم قريبا تسليم المبنى الجديد لكلية الشريعة من مؤسسة بخيت للمقاولات.(1/318)
تلقت الجامعة الإسلامية من متوسطة عمر بن عبد العزيز بالمدينة رسالة تتضمن تزويدهم ببعض الكتب الدينية القيمة وقد لبت الجامعة الإسلامية رغبتهم فبعث إليهم بمجموعة طيبة من الكتب والمطبوعات التي لديها.
من زوار الجامعة الإسلامية.
زار الجامعة الإسلامية كل من:
الشيخ محمد أطهر علي شيخ الجامعة الإعدادية بباكستان الشرقية.
الحاج محمد سعيد أكوسيجي من علماء إندونيسيا.
وقد تجول الجميع في أنحاء الجامعة كما قدمت لهم الجامعة في ختام زيارتهم بعض الكتب هدية منها.
بعد أن أصدر العدد الأول من مجلة الجامعة الإسلامية تلقت المجلة عددا كبيرا من رسائل والخطابات يثني فيها مرسلوها على المجلة ويباركون هذه الخطوة الموفقة كما يطلبون الاشتراك فيها, ونحن إذ نشكر لكل من كتب إلينا نحب أن نؤكد لقرائنا أننا مازلنا في أول طريق ونرجوه سبحانه مزيدا من التوفيق, وكنا نحب أن نثبت هنا بعض هذه الرسائل, ولكن لضيق المجال نكتفي بهذه الرسالة التي وصلتنا من الأخ فؤاد توفيق والتي يقول فيها:
"لقد كان لي شرف الاطلاع على العدد الأول من (مجلة الجامعة الإسلامية) جعلها الله منار للعلم, ومركز إشعاع للنور الإسلامي فألفيتها غزيرة المادة, جميلة الإخراج, وإني إذ أرجو لها ما يرجوه كل مخلص لدينه مزيدا من التطور والانتشار, فلا يسعني إلاّ أن أتقدم بوافر الشكر إلى المؤسسين والكتاب والمشجعين لها على الاستمرار, كما أرجو أن يكون صدورها عما قريب شهريا بل أسبوعيا, فليست الصحف والمجلات بأولى منها, والله يجزي الجميع خير الجزاء".
نشكر الأخ فؤاد توفيق على هذه الرسالة الأخوية وعلى ما جاء فيها من عواطف طيبة صادقة نحو مجلة الجامعة, ولعلنا نلتقي معه على صفحات هذه المجلة بإنتاج جيد, وقد أحلنا سؤالك إلى فضيلة نائب رئيس الجامعة, وعساك ترى الرد عليه في العدد القادم إن شاء الله.
التحرير(1/319)
أخلاق الشباب المسلم
للدكتور: محمد تقي الدين الهلالي
المدرس في الجامعة
قال الله تعالى في سورة (الإسراء: 70) : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .
قال القاسمي في تفسيره: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} : "أي بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به, {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي يسّرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أي عظيما, فحقّ عليهم أن يشكروا هذه النعم بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده" اهـ.
فتفضيل الله للإنسان وتكريمه له بجعله الحاكم المتصرف، وتسخيره له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد يتصرف فيه كيف يشاء، ويسيّره في خدمته، لم يكن بقوة الجسم ولا بخواص الأعضاء، فإن كثيراً من الحيوان كالأسد والنمر والفيل والدب والفرس والبعير أقوى منه بكثير، وللحيوان مزايا في خلقه ليست للإنسان، فمنه ما أعطي مزية السرعة في الجري والسبق كالنعامة والغزال، ومنه ما أعطي من حاسة الشم أو البصر أو السمع ما يفوق الإنسان بكثير، فالمزية الكبرى والنعمة العظمى التي وهبها الله الإنسان وفضّله بها هي العقل والأدب كما قال الشاعر:
ما وهب الله لامرئ هبة
أفضل من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى فإن فُقِدا
ففقده للحياة أجمل به(1/320)
والمراد بالأدب هنا الأدب النفسي وهو الخلق الحسن، وبه تتفاوت الأمم ارتقاء وانحطاط، وقوة وضعفا, وسيادة وعبودية، فما من أمة كثر حظها من خلق الحسن إلاّ بلغت أوج الرقي وغاية السعادة، وإن كانت قليلة العدد, أو كانت أرضها ضيقة، أو قليلة الغناء والخير غير صالحة للزرع والضرع، قليلة الحواصل والثمرات، ضعيفة الغلات فإن جميع ما في الأرض من الخيرات والبركات يحمل إليها، كما قال تعالى في سورة (النحل: 112) : {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} .
المراد بالقرية هنا أهلها، وهم الأمة والشعب، وكما حكى الله عن إبراهيم الخليل في دعائه لأهل مكة في سورة (البقرة: 126) : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَات} , وفي سورة (إبراهيم: 57) : {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} .
ومن أقام في مكة شرّفها الله حتى قبل عصر الطائرات يرى فيها من فواكه الهند وأندونيسيا والشام ومصر ما لا يكاد عجبه ينقضي منه، مع أنها أرض جبلية قاحلة. ومن أقام في البلاد البريطانية يرى أكثر ما يؤكل فيها ويلبس ويقتنى ويتخذ للزينة مجلوباً إليها من أطرف الدنيا وهي جزائر في البحر ضيّقة الرقعة، شديدة البرد، لو اقتصر أهلها على ما يخرج من أرضهم لوقعوا في مسغبة.(1/321)
فإن قلت: هذه مكة دعا لأهلها خليل الله فاستجاب الله دعاءه، ويوجد فيها قوم صالحون يعبدون الله ويطيعون أمره، والحجاج ضيوف الله تعالى يقصدونها من كل فج عميق للحج والعمرة، شعثاً غبراً، يدعون ربهم رغبا ورهبا، خاشعين الله، أما بلاد البريطانية فأيّ مزية في أهلها، وهم أساتذة الاستعمار والغزو، وكم شعوباً أناخوا عليها بكلاكلهم مئات السنين، فما تخلصت من استعبادهم إلاّ بعد اللّتيا والتي, فبماذا استحقوا ذلك العيش الرغد، وتلك الثمرات؟ فأين الأدب النفسي والخلق الحسن من أخلاقهم الاستعمارية؟ فالجواب: أن العدل والمساواة في الحقوق والواجبات هما أساس العمران، وهما موجودان عندهم بلا شك.
أما استعمارهم للبلدان فللكلام عليه مقام آخر يطول شرحه.
وقال في سورة (التحريم:6) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "معناها: أدبوهم وعلّموهم. وقال عن ابن عباس في الآية: "اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بتقوى الله"، وقال قتادة: "تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها"..وهكذا قال الضحاك ومقاتل: "حق على المسلم أن يعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه".
وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك ابن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها". قال الفقهاء: "وهكذا في الصوم ليكون تمريناً له على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي، وترك المنكر، والله الموافق"اهـ.(1/322)
أقول: يمكن أن يقول القائل: إن التربية في هذا الزمان قد بلغت عند الأمم الراقية درجة عالية، وهي تقتضي عدم ضرب الصبيان، فهناك وسائل أخرى في الترغيب والترهيب والثواب والعقاب تغني عن الضرب، وتحبّب إلى الناشئ التعلم والعمل المثمر, فأقول في جوابه: هذا رأي يقال، والعمل في الأمم الراقية على خلافه، ففي البلاد الألمانية يفرض على كل التلميذات الحضور إلى الكنيسة مع معلمه يوم الأحد، ويشهد الصلاة والوعظ، فإن لم يحضر بلا عذر أدّب على ذلك بالضرب، وإن ترك الصلاة في الكنيسة ثلاثة آحاد متوالية طرد من المدرسة، أما الأيام الستة الباقية من الأسبوع فإن الكنيسة تبعث القسّيسين إلى المدارس يصلّون بالتلاميذ في داخل المدرسة، ويعلّمونهم دينهم ساعتين في كل يوم، ولا يستطيع التلميذ أن يتغيب في هاتين الساعتين إلاّ إذا كان على دين آخر غير المسيحية.
ولما كان سكان البلاد الألمانية على مذهبين مختلفين، كاثولكيين وبروتستانتيين، كان الواجب على وزارة التعليم يقضي بإعداد المدارس لكل الفرقتين في كل مدينة أو قرية يكون سكانها مختلفين في المذهب حتى يتمكن التلميذ الذي أبوه كاثوليكي أن يجد مدرسة على مذهبه, وكذلك التلميذ الذي يكون أبوه برتستانتي يتعلم في مدرسة موافقة لمذهبه، فإن وجدت مدينة أو قرية سكانها كلهم على مذهب واحد، وسكن بينهم عدد قليل من أهل المذهب الآخر، يبعثون أولادهم إلى المدينة الأخرى ليجد مدرسة على مذهبهم، هذا في المدارس الابتدائية والثانوية، أما الجامعات ففي كل جامعة كلية لاهوت مختصة بتعليم الدين، وهذه الكلية محترمة جداً يؤمّها الأساتذة في الأعياد والمناسبات للصلاة والسماع الوعظ، ويتخرّج منها كل سنة كثير من الدكاترة في علم الدين، وكلهم يجدون أعمالا في الكنائس والإرساليات، وتعليم الدين في المدارس العامة.(1/323)
وهناك مدارس دينية خالصة تديرها الكنائس، ولها مناهجها الخاصة لا تدخل تحت وزارة التربية والتعليم، وبهذه المناسبة أذكر هنا نبأ تاريخيا يخفى على أكثر الناس، وذلك أن هتلر اختلف مع الكنيسة الكاثولكية في قضيتين: إحداهما أنه أوجب على المدارس الدينية التابعة للكنيسة أن تطبق منهج وزارة التعليم، فعدّت الكنيسة الكاثولكية ذلك تدخلا في شؤون الدين، وعدواناً على الكنيسة، والثانية أنه استولى على الذهب المخزون في الكنيسة, وفرض رواتب يعطونها من وزارة المالية، ولهاتين القضيتين انظمّ الكاثولكيون إلى اليهود في عداوة هتلر، وأخذوا يكيدون له.
وهذا كله يبطل ما ينشره دجاجلة الاستعمار الروحي من زعيمهم أن الأمم الأوروبية التي بلغت أوج الرقي هجرت الدين وضربت به عرض الحائط، وكان ذلك سبب تقدمها، والأدلة على كذب هذه الدعاية أكثر من تحصى، وقد نشرت في مجلة دعوة الحق أدلة بالأرقام مأخوذة من سفارات الدول الراقية في أوروبا على تدين شعوبها، وقلة المارقين من الدين فيها، هذا مع أنّ دين النصرانية لا يتكفل بتدبير شئون الدين والدنيا كما يفعل الإسلام الحنيف، بل يقول من جملة ما يقول: "أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر". أما الإسلام فيقول: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اْلأََرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} .
ويقول في سورة (المائدة: 18) : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} , ويقول في سورة (الأعراف: 128) : {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} , ويقول في سورة (النجم: 25) : {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} , ففي نظر الإسلام كل شيء لله، وليس لقيصر شيء، بل قيصر نفسه مملوك لله.(1/324)
وقد جرب المسلمون السابقون التمسك بالإسلام فوجدوه كفيلاً بسعادة الروح والبدن، وضابطا لمصالح الدين والدنيا، فالعجب من قوم يكون عندهم هذا الدين الحنيف محفوظا خالصا، لا تشوبه شائبة، ويرون كيف سعدت به أسلافهم، ثم يتنكرون له ويجهلونه ويجهلون عليه، ويردّدون أقول أعدائه، وينشرونها بين قومهم، مع ما فيها من الكذب والتدليس والتمويه والتحريف.
وقال تعالى في سورة (طه: 132) : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت علي فعلها كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا} , قال ابن أبي حاتم بسنده إلى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ (كذا) ، وكان له ساعة من الليل يصلي فيها، فربما لم يقم فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا استيقظ أقام - يعني أهله - وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} .
وقوله: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك} , يعني: إذا أقمت الصلاة نرزقك من حيث لا تحتسب, وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} - إلى قوله-: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} , ولهذا قال: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك} وقال الثوري: "لا نسألك رزقاً, يعني لا نكلّفك الطلب".
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى هشام عن أبيه "أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفا، فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك} - إلى قوله-: {نَحْنُ نَرْزُقُك} , ثم يقول: "الصلاة الصلاة رحمكم الله".(1/325)
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة نادى أهله: "يا أهلاه صلوا صلوا"وقال ثابت: "وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة".
وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: "يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك".
وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من جعل الهموم هما واحداً همّ المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعّبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديته هلك".
وروى أيضا من حديث ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره وجعل فقرة بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب له, ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} : أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة لمن اتقى، وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت الليلة كأنّا في دار عقبة بن رافع, وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوّلت ذلك أنّ الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأنّ ديننا قد طاب". أهـ
شروح وإيضاح:
1- قوله: "كان يبيت عنده أنا ويرفأ"يظهر لي في هذه العبارة خلل إلاّ إذا أوّلناها على أن اسم كان ضمير الشأن، وجملة (يبيت) خبرها, وحتى على هذا التأويل يبقى الخلل كما هو، إذ لا يقال: "يبيت أنا"، فلعله تحريف من بعض النساخ، والصواب: "كنا نبيت عنده أنا ويرفأ"، ويرفأ اسم علم كيزيد ويشكر.(1/326)
2- قوله: "فربما لم يقم"يعني أن عمر رضي الله عنه كان له وقت من الليل يتهجّد فيه، أي يصلي النافلة بالليل، وكان خادماه زيد ابن أسلم ويرفأ يراقبان قيامه، وفي بعض الأحيان كان يتأخر عن القيام، ولعل ذلك لغلبة نوم، وكان إذا قام لصلاة النافلة بالليل يقيم أهل بيته للاشتراك معه في العبادة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله أن يأمر أهله بالصلاة ويصبر عليها، وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى.
3- فهم المفسرون من قوله تعالى: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك} أن من لم يشغله طلب الرزق عن صلاته عناية بها ومحافظة عليها رزقه الله وأغناه بفضله، وأنّ من ظنّ أنّ المحافظة على الصلاة في أوقاتها تُنقص من رزقه أو تمنعه, ملأ الله قلبه همّاً وغمّاً, ولم يأته من الرزق إلاّ ما كتب له كما سيأتي في الحديث صريحاً.
4- قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَاْ أُرِيْدُ أَنْ يُطْعِمُونَ إِنَّ اْلله هُوَ اْلرَّزَّاقُ ذُو اْلقُوَّةِ اْلمَتِينِ} (الذاريات: 56-58) , أخبر الله سبحانه أنه خلق الخلق لغرض واحد يعود عليهم بالخير والسعادة, وذلك الغرض هو عبادته وحده لا شريك له، وهو غنيٌّ عن العالمين، وهم محتاجون إليه، فمن اشتغل بالغرض الذي خلقه الله لأجله فقد أفلح وسعد ورشد واهتدى، وقد ضمن الله رزقه يأتيه من حيث لا يدري, ومن لم يثق بوعد الله، وشغله طلب الرزق عما خلق له شتت الله شمله، وأكثر همّه، ولم ينل من الرزق إلاّ ما قدّر له.(1/327)
5- قوله: "هشام عن أبيه"يعني عروة بن الزبير بن العوام, "كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا"المراد بالطرف: نفائس الأموال التي يندر مثيلها, فإذا رجع إلى أهله ودخل بيته ولم ير فيه تلك النفائس التي رآها في بيوت أهل الثراء المترفين يتلو قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} الآية.
قال ابن كثير في تفسيره: "يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "لا تنظر إلى ما فيه هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة، ليختبرهم بذلك أَيَشْكرون أم يكفرون، وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: {أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} : "يعني الأغنياء"، فقد آتاك الله خيرا مما آتاهم, وكذلك ما ادّخره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف، كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى:5) , ولهذا قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: من الآية131) " اهـ.(1/328)
أقول: في هذا الخطاب تزهيد للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته في الدنيا وزخارفها وإبعاد لهم عن الافتتان بزهرتها وزينتها، لأنّ من فتن به أهلكته وشغلته عن ذكر الله، وهذا مع العلم بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رئيس الدولة وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، والأموال كلها بيده، ولكنه كان زهداً فيها، مفضّلاً التقشف في المعيشة طوعاً واختياراً لا حاجة واضطراراً، فكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جسمه الشريف, وكان يمر الشهر والشهران لا توقد النار في بيته، وإنما يعيش هو وأهله على الماء والتمر كما في حديث عائشة في الصحيحين, فكان عروة بن الزبير إذا دخل بيته يعظ نفسه وأهله بهذه الآية وينادي فيهم: "الصلاة الصلاة"، ففي الصلاة نعيم وقرّة عين للمتقين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة", والمراد بقرة العين: "الفرح والسرور".
6-قوله: "إذا أصابه خصاصة"أي حاجة وضيق في المعيشة، أمر أهله بالصلاة امتثالا لأمر الله تعالى؛ لأن الصلاة تعين كل محتاج, وتفرّج كربه كما قال تعالى في سورة (البقرة: 153) : {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة} , وهذه سنة سائر كل الأنبياء إذا نزل بهم أمر يكرهونه يفزعون إلى الصلاة فيدفع الله عنهم بها كل مكروه, ويبدلهم بالعسر يسرا, وبالضيق سعة, وبالشدة رخاء, وهكذا ينبغي للمؤمنين الصادقين - شبابا كانوا أم كهولا أم شيوخا - أن يفعلوا إذا نزل بهم ما يكرهون أن يستعينوا بالصبر والصلاةو فالصبر يهوّن عليهم المصيبة, ويفتح لهم باب الفرج, والصلاة استغاثة واستعانة بالله تعالى.
وقد رأينا محمد علي كلاي الملاكم العالمي المشهور إذا أراد أن ينازل بطلا من أبطال الملاكمة يصلّي ويدعو الله تعالى ويستمدّ منه قوة على خصمه فينصره الله ويهزم عدوه, فهذا هو الأدب المحمدي الذي ينجح في كل زمان ومكان.(1/329)
7-حديث أبي هريرة القدسي، يقول الله تعالى: "يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك, وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك", في هذا الحديث جواب للذين يسألون عن أوقات الصلاة إذا فرض فيها شغل دنيوي كالمعلّمين وتلامذة المدارس, والموظفين في الإدارات, وفي سائر الأعمال إذا دخل وقت العصر, هل يتفرّغون لعبادة الله لمدة خمس دقائق ويؤدون فريضتهم, ويدعون شغلهم جانباً, فإن فعلوا ذلك ملأ الله صدورهم وأيديهم غنى, وأزال فقرهم الحسي والمعنوي, فالمعنوي هو فقر القلب وجزعه, وشغله بالتفكير في الرزق, أو في أيّ وسيلة التي يظن أن الرزق يأتي بسببها, وإن هم لم يستجيبوا لدعوة الله, وتمادوا في شغلهم, وأعرضوا عن صلاة العصر وحدها؛ لأنها هي التي تجيء عادة في وسط الأشغال وبها يمتحن المؤمن، فإن كان صادق العزم ثابت اليقين وقف الشغل الدنيوي من بيع وشراء وعمل في مزرعة أو مصنع، أو مدرسة أو مختبر، أو غير ذلك, وتفرّغ لعبادة الله واستجاب لدعوته، فيزيده الله قوة إلى قوته, ويملأ صدره غنى وثقة به، وذلك هو الظفر والنصر المبين، وإن كان خائر العزم، ضعيف الإرادة، كبر عليه ترك شغله وخيّل له أنّ في تركه خسارة لا تعوّض، فيستمر في شغله عاصيا ربه، خائنا دينه، خائسا بعهده، فحينئذ يمتليء صدره غمّاً وشغلاً يلازمانه أبداً.
أخرج البخاري في كتاب المواقيت من صحيحه عن أبي المليح قال: "كنّا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال: "بكروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة العصر حبط عمله".
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله".(1/330)
نفهم من الحديث الأول ومن غيره من الأحاديث الصحاح, ومن الآيات البينات أن من ترك صلاة العصر عمدا بلا عذر شرعي حتى خرج وقتها فقد بطل عمله الصالح كله، لأنه كفر فإن تاب ورجع إلى الإسلام، وعاهد الله عهداً صادقا أن لا يتعمد ترك الصلاة مفروضة أبداً، فإن الله يرد له ما حبط من عمله.
ومثل هذا قوله تعالى في سورة (الزمر: 52) : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم من حديث جابر, وإذا كان ترك الصلاة عمداً كفرا فلا إشكال في حبوط العمل.
وأما الحديث الثاني الذي تفوته الصلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله, أي خسر ماله وأهله وبقي فرداً بلا أهل ولا مال، ومثل ذلك قوله تعالى في سورة (الزمر:15) : {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} , وكل فريضة حدّد وقتها يجب على المسلم أن يترك كل شغله يشغله عن أدائها, قال تعالى في سورة (الجمعة: 9-10) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} , فحرّم الله على المسلمين أن يشتغلوا بالبيع وغيره من أمور الدنيا بعد آذان الجمعة, وأوجب عليهم أن يسعوا إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة حتى إذا سلّم الإمام من صلاة الجمعة فقد أذن الله لهم أن يخرجوا من المسجد، وينتشروا في الأرض ليشتغلوا بأعمالهم التي تكفّل لهم رزقهم.(1/331)
ومثل ذلك في قوله تعالى في سورة (المعارج: 16-35) : {إِنَّ اْلإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً, إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً, إِلاّ الْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ, وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ, لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ, وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ, وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ, وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ, إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ, فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ, أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} .
أخبرنا الله سبحانه أن الإنسان - يعني جميع الناس - خُلق هلوعا، جعل من طبعه الهلع وهو الجزع وشدة الحرص, فتفسير {هَلُوعاً} هو ما بعده: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} : المرض والفقر وسائر المصائب {جَزُوعاً} : يائسا خاضعا منقطع الرجاء {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ} : وهو الغنى والصحة والقوة والنصر وسائر النعم, {مَنُوعاً} : بخيلا لا ينفع غيره بشيء.
ثم استثنى الله تعالى من الناس المجبولين على ذلك الطبع الخبيث المصلين، وأكد وصفهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي محافظون على أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها، ووصفهم بصفات بدأها بالمحافظة على الصلاة، وختمها بالمحافظة على الصلاة, وذكر بينهما صفات:(1/332)
أولاها: أنّ في أموالهم حقاً معلوماً للفقراء والمحتاجين, سواء أكانوا من الذين يظهرون فقرهم وحاجتهم ويسألون الناس, أم كانوا من المتعففين الذين يكتمون فقرهم, ولا يسألون الناس, وهم القسم المعبر عنه بالمحروم؛ لأن أكثر الناس يحرمونهم من الصدقة.
ثانيتها: أنهم يصدّقون بيوم الدين, أي يؤمنون بيوم القيامة, وهو يوم الجزاء, ويجعلونه نصب أعينهم, فيبعثهم ذلك على مراقبة الله تعالى, فلا يفعلون إلاّ ما يرضيه.
ثالثتها: الخوف من الله تعالى فهم يخافون عذابه ولا يأمنون مكره، فإنه لا يأمنه إلاّ القوم الخاسرون.
رابعتها: أنهم يحفظون فروجهم عمّا حرم الله ويقتصرون على ما أحل الله.
خامستها: أنهم يحافظون على عهدهم إذا عاهدوا مسلما أو ذميا, أو معاهدا أو مصالحا, لا ينقضونه أبداً.
سادستها: أنهم يقومون بشهاداتهم فيؤدّونها كما علموها, ولو كانت على الوالدين والأقربين، لا يزيدون فيها ولا ينقصون، ولا يبدّلون ولا يغيّرون، ولا يكتمونها أبدا، ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبُه.
فهذه صفات المؤمنين الصادقين, لا جرم أنّ كل شعب سادت فيه هذه الصفات يكون سعيداً في دنياه وأخراه, عزيزا مؤيداً منصورا، جعلنا الله من أهلها.(1/333)
8- "رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام"ورؤيا الأنبياء حق أنه كان مع بعض أصحابه في دار عقبة بن رافع, فوضع لهم رطباً من النوع المسمى ابن طاب وهو نوع من رطب المدينة، ففسّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا بأن العاقبة الحسنة والرفعة له ولأمته في الدنيا والآخرة، وأن دين الإسلام طاب، أي زكا وبورك فيه فعلا وانتصر، وكذلك وقع، وهذا مضمون للأمة الإسلامية إلى يوم القيامة بشرطه، وهو الإيمان، والاجتماع على إعلاء كلمة الله, والجهاد في سبيل الله, والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة (المؤمن: 51) : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} .
قال القاسمي في تفسيره هذه الآية: "أي لننصرهم في الدارين؛ أما في الدنيا فبإهلاك عدوهم واستئصاله عاجلا، أو بإظفارهم بعدوهم وإظهارهم عليه، وجعل الدولة لهم والعاقبة لأتباعهم, وأما في الآخرة فبالنعيم الأبدي والحبور السرمدي, والأشهاد جمع شاهد, وهم من يشهد على تبليغ الرسل وتكذيب من كذبهم ظلما, أو جمع شهيد كأشراف وشريف"اهـ.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تبارك وتعالى: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب".(1/334)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "وفي الحديث القدسي "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب"اهـ, ومعناه أنّ الله ينتقم لأوليائه وهم المؤمنون كما ينتقم الأسد الغضبان ممن أغضبه, والله عزيز ذو انتقام.. وقال تعالى في سورة (الصافات: 171-173) : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ, إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ, وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} , وقبلها (167-169) : {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ, لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ, لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ, فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
أخبرنا سبحانه وتعالى أنّ كفار العرب كانوا يقولون قبل نزول القرآن وبعثة الرسول عليه الصلاة والسلام: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي كتاباً من الكتب التي أنزلها الله عليهم لاهتدينا به، وتطهرنا به من جهالتنا {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} المطهّرين من كل ضلال وشر وشرك، فلما جاءهم أفضل كتاب بواسطة أفضل رسول كفروا به وكذّبوه, قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هذا تهديد لهم بعذاب عظيم لم يكن لهم في الحسبان، وهو تهديد لكل أمة بلغها هذا الكتاب فأعرضت عنه، ولم تتخذه إماما وحكما، ولم تستضيء بنوره، ولو اهتدت بهداه، لابد أن يصيبها عذاب عظيم فوق ما يخطر بالبال, ونحن نشاهد هذا العذاب اليوم بأعيننا يصيب الشعوب التي أعرضت عن كتاب الله ورفضت شريعته وسنة رسوله بعدما علمت يقينا ما أدركه أسلافها من السعادة والعز والنصر المبين بإتباع هذا الكتاب الكريم, والرسول ذي الخلق العظيم.(1/335)
وبعد هذا التمهيد قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} اللام واقعة في جواب قسم، أي وتالله لقد سبقت كلمتنا لعبادنا الذين أرسلنهم إلى الأمم ليقوموا بإرشادها وهدايتها وإنقاذها من أوحالها ونكباتها، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وتلك الكلمة التي سبقت من الله تعالى هي قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} على كل من عاداهم من أقوامهم وغيرهم، {وَإِنَّ جُنْدَنَا} وهم المرسلون وأتباعهم الصادقون {لَهُمُ الْغَالِبُونَ} لكل من عاداهم ووقف في طريقهم، وعد الله لا يخلف الله وعده.
وقد رأينا هذا الوعد بعيون بصائرنا عبر التاريخ الطويل يتحقق على أيدي شعوب مختلفة في الجنس واللون والأوطان، ولكنها متفقة في الاهتداء بالقرآن، وحروب المغاربة في أوربا من طارق إلى المرينيين وحروب المسلمين في فلسطين وبلاد الشام لجميع الدول النصرانية مدة مائتي عام, وقبل ذلك حروب العرب في العراق, وخراسان, وإفريقية, وبلاد السند، وكل ذلك أدلة قاطعة, وبراهين ساطعة.
وما أصاب المسلمين من الشتات والذلة والهوان وضنك العيش في هذه الأزمنة المتأخرة حجج قائمة عليهم تسجل عليهم أنهم هم الذين أخلفوا ونقضوا عهدهم كما قال تعالى في سورة (الأنفال: 23) : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌْ} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره هذه الآية: "يخبر تعالى عن تمام عدله، وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلاّ بسبب ذنب ارتكبه كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (الرعد: من الآية:11) اهـ.(1/336)
وقال تعالى في سورة (مريم: 54-55) : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه صادق الوعد وقال ابن جريج: "لم يعد ربه عدة إلاّ أنجزها"، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلاّ قام بها ووفاها حقها".
وقال ابن جرير بسنده إلى سهل بن عقيل أن إسماعيل النبي عليه السلام وعدا رجلا مكانا أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد فقال: "ما برحت من ها هنا؟ "قال: "لا", قال: "إني نسيت"قال: "لم أكن أبرح حتى تأتيني"، فلذلك كان صادق الوعد.
وروى أبو داود وغيره عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث, فبقيت له علي بقية, فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال: فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك فقال لي: "يا فتى لقد شققت عليّ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك".
فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أنّ خلفه من الصفات الذميمة, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ, كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف:2) , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".(1/337)
ولما كانت هذه صفات المنافقين كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضا لا يعد أحدا شيئا إلاّ وفّى له به. وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال: "حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي".
ولم توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق: "من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له، فجاء جابر بن عبد الله فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال لي: "لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا"، يعني ملء كفيه, فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال, ثم أمره بعده، فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثيلها معها.
وقوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق، لأنه إنما وصف بالنبوة فقط, وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" وذكر تمام الحديث. فدل على صحة ما قلناه.
وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} هذا أيضا من الثناء الجميل، والصفة الحميدة، والخلة السديدة؛ حيث كان صابراً على طاعة ربه عز وجل، آمراً بها أهله كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} الآية, أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة.(1/338)
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته, فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها, فإن أبى نضحت في وجهه الماء". أخرجه أبو داود وابن ماجه, وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن الني صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. اهـ.
توضيحات:
1- وصف الله سبحانه إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بصفات كريمة: أولها: صدق الوعد، وثانيتها: أنه كان رسولا نبيا أنزل الله عليه وحيه، وأرسله لهداية خلقه، وثالثتها: كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وأخيراً: أنه كان عند ربه مرضياً، فلماذا قدّم صفة صدق الوعد على ذكر الرسالة والنبوة, وأمر أهله بالصلاة والزكاة؟ والجواب: لأن صدق الوعد دليل على الإخلاص، فمن لم يكن صادق الوعد لم يقبل الله منه صلاة ولا زكاة، ولنا على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
وبيان ذلك أنّ العبادات كلها من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة، وتعلم وتعليم, وجهاد للنفس، وجهاد للعدو، وغير ذلك إنما هي وسائل لتهذيب النفس، وليست في أنفسها غايات، فإذا لم يحصل بها التهذيب المطلوب فهي لغو لا قيمة لها, يزاد على ذلك أنها تدل على عدم إخلاص فاعلها، وريائه ومخادعته لله ولعباده المؤمنين.(1/339)
وقد وصف الله المنافقين بقوله في سورة (النساء: 143-143) : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً, مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} , فصلاة هؤلاء المنافقين لم تغن عنهم شيئا وهم في الدنيا مجللون بالخزي, وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار, وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ, وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون:7) أي يقصدون بعبادتهم أن يراهم الناس فيمدحوهم وقلوبهم خربة ليس فيها خير، فلذلك (يمنعون الماعون) المراد بالماعون على تفسير عبد الله بن مسعود وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما يُعِيرُهُ الناس بعضهم لبعض كالفأس والقدر والدلو والميزان والمد ونحو ذلك، قال ابن كثير رحمه الله: "والذي يمنع الماعون مع بقاء عينه أجدر وأحرى أن يمنع الزكاة، والصدقة والإحسان".
وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً يمتحن به الناس، يميّز به المؤمن من المنافق، وهو قوله فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" زاد مسلم في روايته: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم".
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبارة صريحة لا لبس فيها ولا غموض أن من اجتمعت فيه الخصال الثلاث، وصارت له خلقا وديدنا لا يتحرج منها، هو كافر خالص الكفر من شرار الكفار، وهم المنافقون، وأن هذه الخصال لا تكاد أن تجتمع في مؤمن البتة، فإن قال: أنا مسلم، فقد أمرنا أن لا نصدقه، وإن صلى وصام فلا صلاة له ولا صيام.(1/340)
وقد أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العلامات لنستدل بها على المؤمن الصادق، ونعرف بفقدها أعداء الإسلام المتقمصين ثوبه لمآرب يبتغونها، ودسائس يروجونها، وليس معنى أن نطردهم من المساجد، ولا من المجتمعات الإسلامية، ولا نحكم عليهم بالردة، ونعاملهم معاملة غير المسلمين في الأحكام الشرعية، بل نعتبرهم مسلمين ظاهرا، ونحترز منهم، ولا نأمنهم على مصالح الإسلام.
2- قوله: "وهو ولد عرب الحجاز كلهم"من المعلوم أن العرب فريقان: العرب العاربة، وهم أبناء يعرب بن قحطان، وهم سكان جنوب الجزيرة العربية, ولهم تاريخ حافل، وآثار قديمة باقية, وقد كانت لهم دول عظيمة عريقة في القدم، كدولة حمير ودولة سبأ ودولة معين.(1/341)
وأما الشماليون فيسمون العرب المستعربة؛ لأن أباهم إسماعيل لم يكن عربيا في الأصل، وإنما تعلم العربية لأنه نشأ بين العرب في مكة وتزوج منهم، وبارك الله في ذريته كما جاء في سفر التكوين من العهد القديم في الباب السادس عشر أن ساراى امرأة أبرام لم تلد له, وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراى لأبرام: "إن الرب قد أمسكني عن الولادة، أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين، فسمع أبرام لقول ساراى, فأخذت ساراى امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان، وأعطتها أبرام رجلها زوجة له، فدخل على هاجر فحبلت ولما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينها, فقالت ساراي لأبرام: "ظلمي عليك، أنا دفعت جاريتي إلى حضنك فلما رأت أنها حبلت صغرت في عينها, يحكم الله بيني وبينك"، فقال أبرام لساراي: "هذه جاريتك في يديك افعلي بها ما يحسن في عينك"، فأذلتها ساراي فهربت من وجهها, فوجدها ملك الرب على عين الماء في البرية، على العين التي في طريق شور، وقال: "يا هاجر جارية ساري، من أين أتيت وإلى أين تذهبين؟ "قالت: "أنا هاربة من وجه مولاتي ساري"، فقال لها ملك الرب: "ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يديها"، وقال لها ملك الرب: "تكثيرا أكثر من نسلك فلا يعد من الكثرة". وقال لها ملك الرب: "ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وأنه يكون إنسان وحشياً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه وأمام جميع أخواته يسكن". اهـ.
وهذه بشارة جاءت في العهد القديم بأن الله يكثر أولاد إسماعيل, وقول المترجمين للتوراة: "إنه يكون إنسانا وحشياً يده على كل واحد ويد كل واحد عليه"من أفسد الترجمات التي ارتكبها أولئك المترجمون تعصباً وتحريفاً للكتاب، ولم يتفطنوا إلى التناقض الذي بين الصفتين، فالإنسان الوحشي لا يتصل بالناس ولا يألفهم ولا يألفونه، ويحبهم ويحبونه.(1/342)
ولا يستغرب التحريف من المترجمين فقد أخبر العالم اللغوي الأديب المحقق إبراهيم اليازجي أنهم دعوه إلى لندن ليعينهم على ترجمة التوراة، فكان يختلف معهم كثيراً فكلما ذكر لهم عبارة فصيحة تؤدي المعنى يرفضونها، ويقولون: "إنها تشبه عبارات القرآن", وهم يريدون أن يبتعدوا عن عبارات القرآن كل الابتعاد, وقد نظرت في الكلمة التي ترجموها وهي (بري آدم) في معجم (روبين أفنيوم كوسمن) فوجدت لها المعاني التالية أنقلها بأمانة من الإنكليزية إلى العربية: 1- الحمار الوحشي, 2- الحيوان الوحشي, 3- ساكن الصحراء, 4- خشن الطبع, 5- وحشي, 6- همجي, 7- إنسان وحشي سيء الخلق.
فأيّ هذه الألفاظ يصلح لترجمة ذلك اللفظ الوارد في مقام البشارة والمدح والثناء على مولود، علم الله أنه يكون رسولا نبياً، أباً لأمة عظيمة، ولأفضل خلق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لاشك أن اللفظ الوحيد الذي تصح به الترجمة هو الثالث، وهو أنه ساكن الصحراء وهو المطابق للواقع، فإن إسماعيل كان يسكن بمكة - شرفها الله - ويعيش في الصحراء على لحم الصيد، وفي الحديث: "ارموا بني إسرائيل، فإنّ أباكم كان رامياً ", وفي صحيح البخاري أنّ إبراهيم توجّه لزيارة ابنه إسماعيل في مكة فلم يجده، فسأل زوجته عنه فأخبرته أنه ذهب للصيد، ثم ذهب لزيارته مرة ثانية وثالثة فلم يجده، إنه كان غائباً يصطاد للمعيشة لا للتنزه، وفي كل مرة كان يوصي زوجته بشيء تقوله له إذا رجع.
وقد تبيّن أنّ أولئك المترجمين أخطأوا خطأ فاحشا في ترجمة ذلك اللفظ، وأغلب الظن أن يكونوا متعمدين، فقبّح الله التعصب, فإنه ما دخل شيئا إلاّ أفسده، والمراد بعرب الحجاز: ربيعة ومضر.(1/343)
3- انتظر إسماعيل الرجل الذي وعده في المكان الذي وعده أن يجتمع به يوماً وليلة, وانتظر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي تبايع معه في الجاهلية قبل أن يكون نبياًًً في المكان الذي وعده ثلاثة أيام، فما المراد بهذا الانتظار؟ هل هو حرص على قضاء تلك الدريهمات؟ لا والله, ولكنه تلقين درس في الأخلاق، يعتبر به كل موفق، ويلتزمه كل إنسان ذو شرف ومروءة يحترم نفسه. والعادة الجارية في الشعوب الراقية التي تقدّس الأخلاق أنّ المتواعدين إذا مرت خمس دقائق إلى ربع ساعة ولم يجيء أحدهما فقد برئت ذمة المنتظر، وبقيت ذمة صاحبه معلقة، فإن كان له عذر قاهر برئت ذمته هو أيضا، وألا توجه اللوم إليه، وكان هو الخاسر الذي يجب عليه أن يعتذر لصاحبه ويخجل كل الخجل.
وكل أمة شاع فيها الوفاء بالوعد وتنافس أبناؤها في التخلق بهذا الخلق الجميل الذي هو أحد أركان الأخلاق سعدت وقويت، وانتصرت على أعدائها، وبلغت من ذلك فوق ما أملت، كما أن كل أمة شاع فيها أخلاق الوعد ونقض العهد، وما إلى ذلك من الكذب والخيانة والغدر والظلم والخداع, فإنها لن تفلح أبدا ولن تكتب الحياة لها الحقيقة ما دامت متخلقة بتلك الأخلاق المرذولة, سواء استوطنت الصحراء أم استوطنت أغنى الأراضي وأجملها, فإنها تعيش في شقاء دائم, وظلام مدلهم.
وهذه الحقيقة لا تتغير أبداً بتغير المكان أو الزمان أو القوم, ومساويء الأخلاق سبب شقاء الشعوب الأعظم. ومن ينتسب إلى إسماعيل بالنبوة وإلى محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان والإتباع يجب عليه أن يعتبر هذا الدرس أكثر من غيره ليكون وارثاً لهما إرثاً حقيقياً يرفعه ويعلي درجته, فإن لم يفعل فإن انتسابه إليهما لا يزيده إلا خزياً وعاراً.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا(1/344)
4- قوله: "وقد أثنى على أبي العاص": هو أبو العاص بن الربيع العبشمي القرشي، اشتهر بكنيته كان من أعيان مكة، زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب، فولدت له أمامة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها على كتفه، وصلى بالناس في المسجد وهو حاملها، فإذا ركع وضعها, وإذا سجد وضعها, وإذا وقف حملها.
ولما كانت غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة خرج أبو العاص مع المشركين فأسر، فبعثت زينب بقلادة لتفديه بها، وكانت أمها خديجة رضي الله عنها قد وهبتها لها حين تزوجت، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك القلادة رقّ لابنته، وقال للمسلمين: "إن رأيتم أن تردّوا لها قلادتها وتطلقوا أسيرها"، فأطلق سراح أبي العاص، فشرط عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث له ابنته زينب فوفّى بوعده وبعثها.
وفي السنة السابعة للهجرة سافر أبو العاص ومعه قافلة لأهل مكة متوجهاً إلى الشام فأسره المسلمين مرة ثانية، فلما سمعت بذلك زينب قالت: "يا رسول الله، أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدا؟ ", قال: "نعم", قالت: "فاشهد أني أجرت أبا العاص, فأطلقوا سراحه, فتوجه إلى مكة ورد الأمانات إلى أهلها ثم قام فقال: "يا أهل مكة، أوفّيت ذمتي؟ ", قالوا: "اللهم نعم", فقال: "فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ثم قدم المدينة مهاجرا فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الأول، وقيل: بعقد جديد, والأول أرجح. وماتت زينب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم, أما أبو العاص فتوفي في السنة الثانية عشر للهجرة في خلافة أبي بكر الصديق.
5- وينبغي لنا أن نتأمل تأملا طويلا في وفاء الخليفة أبي بكر الصديق بوعد النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل جابر بن عبد الله على أحسن وجه، وزاده مثلي ذلك, فمبلغ مجموع ما أعطاه ألفاً وخمسمائة درهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتننا يا جرير المحافل(1/345)
بمثل هذه الأخلاق بلغ المسلمون الأولون من المجد والسؤدد غايتهما حتى وصلوا إلى بلادنا وفتحوها, وهي أقصى المعمور وجهة الغرب حسبما كان معروفاً في ذلك الزمان, وبهذه الأخلاق نفسها يمكن أن ينهض المسلمون المتأخرون من كبوتهم, وينفضوا غبار الذل عنهم, ويستأنفوا الحياة من جديد، وإلا فلا بعث لهم من مرقدهم بإعراضهم عن أخلاق سلفهم الصالح, واستبدالها بمحاولة التشبه بالأجانب, ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
6- قوله: "وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" ويشهد لذلك ما جاء في سفر التكوين من العهد القديم في الآية 18 وما بعدها من الباب السابع عشر: "وقال إبراهيم لله: "ليت إسماعيل يعيش أمامك", فقال الله: "أما إسماعيل فقد سمعت لك فيه, ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا, اثني عشر رئيسا يلد, وأجعله أمة كبيرة"اهـ.
7- حديثا أبي سعيد وأبي هريرة في إيقاظ الرجل زوجته وصلاتهما ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات, والذاكرون الله كثيرا أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما كما في سورة (الأحزاب:35) وهذا الأجر العظيم كفيل بسعادة الدنيا والآخرة, وقال تعالى في سورة (البقرة: 152) : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} , فإذا كان رجال الأمة ونساؤها متخلقين بهذا الخلق فبشّرهم بالعظمة والقوة والمد والرفعة, وإذا كانوا عنه معرضين فبشّرهم بعذاب أليم.(1/346)
وتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لكل رجل قام من الليل لذكر الله بالصلاة, وأيقظ زوجته لتشاركه في هذه الغنيمة, فإن امتنعت رشّ على وجهها ماء يطير النوم من عينيها وينشطها للقيام, وبمثل ذلك دعا للمرأة الصالحة التي تقوم من الليل لذكر الله ومناجاة ربها في صلاتها, فتوقظ بعلها ليشاركها في الخير, فإن أبى رشّت على وجهه ماء يوقظه من سِنته, وينشطه للقيام. فهذه صفة الأمة السعيدة القوية المنصورة المؤيدة, وخلافها صفة الأمة الخائرة الضعيفة المتخاذلة الشقية.
فنسأل الله أن يوفّقنا لإحياء ما اندثر من مجدنا, واسترداد ما فقدناه من تراثنا حتى نكون خير خلف لخير سلف. وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.(1/347)
استعلاء الإيمان
للشيخ محمد المجذوب
المدرس في الجامعة
يقولون: مع أيّ الفريقين تضلَعُ:
فلم يَبْقَ للإحجام والصبر موضعُ
هنا (عَنْتَرُ) يزجي بقايا فُلُولِهِ
وثمّ (فُلانٌ) خلفه نتجمع
وأنتم دعاة الحقِّ أولى بِنَصْرِه
فقُلتُ: أَمَا وَاللهِ مَا في قُلُوبِنَا
لِغيرِ جَلالِ اللهِ والحقِّ مَوقِعُ
وكُلُ خِلافٍ بَيننَا فَلأنَّنَا
وَعَيْنَاهُ في ضَوءِ الكِتَابِ وَلم تَعُوا
إذا ما دَعَونَاكُمُ إليه جَمَحْتُمُوا
وبَالَغْتُمُوا فيما يَسُوءُ ويَشْنَعُ
وقُلنا: هَلمُّوا نُعْلِ في الأرضِ شَرْعَهُ
فَقُلتُم: فُلانٌ لا سِواهُ المُشرِّعُ
وقد فاتَكُمْ أَنْ ليس للخلق مَالكٌ
سوى الله يقضي فيهمُ ويشرَعُ
وكلُّ احتكامٍ في الحياة لغَيره
هو الشِّركُ لا بل دونه الشِّركُ أَجْمعُ
وداعَبَكُمْ وهْمُ انتصارٍ فأوشكتْ
تَطيرُ بكم رِيحٌ من الطَّيْشِ زَعْزَعُ
ولمَّا يَزَلْ في كلِّ سمْعٍ صُراخُكُمْ
بِسَفْكِ دِماءِ الأَبرياءِ يُلَعْلِعُ
وحتى بُيوتُ اللهِ لم ترافُوا بها
فكادت بما تلقاهُ منكم تَصَدَّعُ
كَسوتُم حناياها رُسُوماً كأنها
هياكِلُ للاوثانِ لا للهِ تُرفعُ
ولم تَتحاشَوا عن مَنَابرِها فَكَمْ
لكُم مِنْ غَوِي فَوْقَهَا يتهوَّعُ
قد اتخذ الشَّيطانُ مِنْهُ مطيَّةً
فراحَ بها يهوي يخِبُ ويوضعُ
فكم خطبةٍ فيها الخُطوبُ تجمَّعتْ
ودَرْسٍ كَنزعِ الضِّرْسِ أوَْ هُوَ أَوْجَعُ
وفتوى جَهولٍ لو أُريدَ لمثلها
أُولُو الجَهلِ بل أَهلُ الخنََا لترفَّعُوا
ولا مِنْ غَيُورٍ يصفَعُ الكُفْرَ بالهُدَى
ويلوي بأَنْفِ العَابِثِينَ فيجدعُ!
فَواَلَهْفَ قَلبي للمساجدِ تَشْتَكِي(1/348)
ولا تجدُ القَلْبَ الذي يَتَوجَّعُ
وكانت إذا الجبَّارُ مرَّ بسَاحِهَا
أَكَبَّ لجبَّارُ السَّمواتِ يخشَعُ
فأَضْحَتْ وللتَّصفيقِ في جَنَبَاتِهَا
دَويٌّ تكادُ الأرضُ منهُ تَزعزع
.. على أنّ عَدْلِ اللهِ سُرعانَ ما جرَى
بلاءً يطمُّ الظالمين ويقمع
رَماكُمْ بِقومٍ خِلْتموهُمُ لكُمْ دُمَىً
مَتَى تجْهرُوا بالأمْرِ يَعْنوا ويخنَعوا
فلمّا استبانَ الفَجرُ بُعْثِرتِ الرُّؤى
وزُلزِلتِ الدُنْيا وطَالَ التفجُّعُ
فكنتُم كزَحْفِ النَّارِ أَحْدَقَ بالحِمَى
فوافاهُ غيثٌ لم يَكُنْ يُتوقَعُ
وما ذاك إلا بَعضُ ما قدْ اردتُمو
به الناسَ، والآتي اشَدُ وأفظع
وقد يُمهلُ اللهُ البُغاةُ فإن رمَى
أذلَّ وَأَصْمى.. والقَضَا ليس يُدفَعُ
.. وكان لكم بالأمس صَولاتُ ضَيْغَم
على كل مسكينٍ من الظِّلِّ يَهلَعُ
فما بالكم مُذْ دمَّر اللهُ كَيدَكًم
كأنكُمُ في أَجْمَةِ الليثِ أَضْبُعُ
ولا غرو.. إنَّ الفَأرَ يَرْتَعُ خَالياً
فإن لاح ذَيْلُ الهَّرِّ فَالجُحرُ أَنفَعُ
وتَلُوحُنَنَا إن لم نَهَبَّ لِنَصْرِكُمُ
جُنونُ لَعْمِر اللهِ بَلْ هُوَ افْجَعُ
أنُسلِمُ للبَاغِي الغَشُومِ رِقَابنَا
على غَيرِ شَيْءٍ غَير أَنْ تَتَمَتَعُوا
ولو قد فَعْلَنَا ما ظَفِرنَا بعطفِكُمُ
إذا لم تَرونَا للطَّواغيتِ نَرْكَعُ!
وهيهاتَ تُحْنَى أَرْؤُسٌ قَدْ سَمَا بها
إلى اللهِ في جَوفِ الظَّلامِ التَّضَرُّعُ
تَغنَّوا بما شِئتُم إِلَهاً، وسَبِّحُوا
بآلائِهِ حتى تَبحُّوا وتُصْرَعُوا
وقُولوا الذي يَهْذِي بِهِ كُلُّ نَاعقٍ
علينَا, وَغالوا في آذاناً وشَنَّعُوا
فقد تُصبحُ الدنيا لإبليسَ شَيِعة
ونحن لغير الحقِّ لا نتشيَّعُ(1/349)
أَنعدِلُ بالله العَظيمِ وَشَرعِهِ
أَضاليلُ يَجلوها الخِدَاعُ فَتَلمَعُ
فَأيْنَ إِذنْ عَهدٌ قَطْعنَا لِربِّنَا
بأننَّا لَهُ دون البرية تُبَّعُ
بلى نحنُ جُندُ اللهِ بِعْنَاهُ وَاشتَرَى
فلا هُوَ يُعْفِينَا ولا نحن نَرجِعُ(1/350)
رمضان فضله وفوائده
لفضيلة نائب رئيس الجامعة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه.
أما بعد فيا أيّها المسلمون إنه قد أظلّكم شهر عظيم مبارك ألا وهو شهر رمضان شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن, شهر العتق والغفران, شهر الصدقات والإحسان, شهر تفتح فيه أبواب الجنات وتضاعف فيه الحسنات وتُقال فيه العثرات, شهر تجاب فيه الدعوات وترفع فيه الدرجات وتغفر فيه السيئات, شهر يجود الله فيه على عباده بأنواع الكرامات, يجزل فيه لأوليائه العطيات, شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام. فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه, وأخبر عليه الصلاة والسلام أنّ "من صامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه", شهر فيه ليلة خير من ألف شهر مَنْ حُرِمَ خيرها فقد حُرِم.
فاستقبلوه رحمكم الله بالفرح والسرور والعزيمة الصادقة على صيامه وقيامه والمسابقة فيه إلى الخيرات والمبادرة فيه إلى التوبة النصوح من سائر الذنوب والسيئات والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم.(1/351)
وفي الصيام فوائد كثيرة وحكم عظيمة, منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها عن الأخلاق السيئة كالأشر والبطر والبخل, وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرّب لديه. ومن فوائد الصوم أنه يعرّف العبد نفسه وحاجته وضعفه وفقره إلى ربه سبحانه وتعالى, ويذكره بعظيم نعم الله عليه, ويذكره أيضا بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} , فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه سبحانه فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى, والتقوى: هي طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه عن إخلاص لله عز وجل ومحبة ورغبة ورهبة, وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه, فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى, ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شؤون الدين والدنيا, وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم وِجاء للصائم ووسيلة لطهارته وعفافه, وما ذاك إلا لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم والصوم يضيّق تلك المجاري, ويذكر بالله وعظمته فيضعف سلطان الشيطان, ويقوى سلطان الإيمان, وتكثر بسببه الطاعات من المؤمن وتقل به المعاصي.
وفي الصوم فوائد كثيرة غير ما تقدم تظهر للمتأمل من ذوي البصيرة, ومنها أنه يطهّر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة, وقد اعترف بذلك كثير من الأطباء, وعالجوا به كثيرا من الأمراض.(1/352)
وقد ورد في فضله وفريضته آيات وأحاديث كثيرة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} إلى أن قال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس؛ شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, والصوم رمضان, وحج البيت", وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني على النار؟ قال: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسّره الله عليه, تعبد الله ولا تشرك به شيئا, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا", ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة, والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار, وصلاة الرجل في جوف الليل"ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .. ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ "قلت: "بلى يا رسول الله"فقال "رأس(1/353)
الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله "ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: "بلى يا رسول الله"قال: "كف عليك هذا", وأشار إلى لسانه.. فقلتك "يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ "فقال صلى الله عليه وسلم: "ثكلتك أمك يا معاذ, وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم".
أيها المسلمون: إن الصوم عمل صالح عظيم وثوابه جزيل ولا سيما صوم رمضان؛ فإنه الصوم الذي فرضه الله على عباده وجعله من أسباب الفوز لديه, وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف, يقول الله عز وجل: "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به, إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي", للصائم فرحتان: فرحة عند فطره, وفرحة عند لقاء ربه, ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك", وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة, وغلّقت أبواب النار, وسلسلت الشياطين ", وأخرج الترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن, وفتحت أبواب الجنة, وأغلقت أبواب النار, فلم يفتح منها باب, وينادي مناد: "يا باغي الخير أقبل, ويا باغي الشر أقصر, ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة", وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويقول لهم: "جاء شهر رمضان بالبركات فمرحباً به من زائر وآت", وأخرج ابن خزيمة عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس إنه قد أظلّكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر, جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً, من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه, ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدى(1/354)
سبعين فريضة فيما سواه, وهو شهر الصبر, والصبر ثوابه الجنة, وشهر المواساة, وشهر يزاد فيه رزق المؤمن" إلى أن قال: "فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم, وخصلتين لا غناء بكم عنهما؛ فأما خصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة ألا إله إلا الله والاستغفار, وأما خصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار"..
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدّم من ذنبه, ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدم من ذنبه, ومن قام ليلة القدر غفر الله ما تقدم من ذنبه", وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في الغالب لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة, يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن, ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن, ثم يصلي ثلاثا, وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الليالي يصلي ثلاثة عشرة ركعة, وفي بعضها أقل من ذلك. وليس في قيام رمضان حد محدود لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قيام الليل قال: "مثنى مثنى, فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر ما قد صلى".(1/355)
ولم يحدّد صلى الله عليه وسلم للناس في قيام الليل ركعات معدودة بل أطلق لهم ذلك, فمن أحب إحدى عشرة ركعة أو ثلاثة عشرة ركعة أو ثلاثا وعشرين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل فلا حرج عليه, ولكن الأفضل هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وداوم عليه في أغلب الليالي, وهو إحدى عشرة ركعة مع الطمأنينة في القيام والقعود والركوع والسجود, وترتيل التلاوة وعدم العجلة؛ لأن روح الصلاة هو الإقبال عليها بالقلب والخشوع فيها, وأداؤها كما شرع الله بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة وحضور قلبٍ كما قال الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ, الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} , وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرّة عيني في الصلاة", وقال للذي أساء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً, ثم ارفع حتى تعتدل قائما, ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا , ثم ارفع حتى تطمئن جالسا, ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا, ثم افعل ذلك في صلاتك كلها", وكثير من الناس يصلي قيام رمضان صلاة لا يعقلها, ولا يطمئن فيها, بل ينقرها نقرا, وذلك لا يجوز بل هو منكر لا تصح معه الصلاة, فالواجب الحذر من ذلك, وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته", قالوا: "يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ "قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها", وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي نقر صلاته أن يعيدها.(1/356)
فيا معشر المسلمين عظّموا الصلاة وأدوها كما شرع الله واغتنموا هذا الشهر العظيم وعظموه رحمكم الله بأنواع العبادة والقربات, وسارعوا فيه إلى الطاعات, فهو شهر عظيم جعله الله ميدانا لعبادة, يتسابقون فيه بالطاعات ويتنافسون في أنواع الخيرات, فأكثروا فيه رحمكم الله من الصلاة والصدقات وقراءة القرآن الكريم والإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام, والتعاون على البر والتقوى, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والدعوة إلى الخير, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان, فاقتدوا به صلى الله عليه وسلم في مضاعفة الجود والإحسان في شهر رمضان, وأعينوا إخوانكم الفقراء على الصيام والقيام, واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلاّم, واحفظوا صيامكم عما حرّمه الله عليكم من الأوزار والآثام, فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه", وقال عليه الصلاة والسلام: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق فإن امرأ سابه أحد فليقل: إني امرؤ صائم", وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس الصيام من الطعام والشراب وإنما الصيام من اللغو والرفث", وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر", وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم, ودع أذى الجار, وليكن عليك وقار وسكينة, ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء", فينبغي للصائم الإكثار من تلاوة القرآن بتدبر وتعقل, والإكثار من الصلوات والصدقات والاستغفار وسائر أنواع القربات في الليل والنهار, اغتناما للزمان ورغبة في مضاعفة الحسنات, ومرضاة فاطر الأرض والسموات, واحذروا - رحمكم الله - كل ما ينقص الصوم, ويُضْعِفُ الأجر, ويغضب(1/357)
الرب عز وجل, من سائر المعاصي كالتهاون بالصلاة والبخل بالزكاة وأكل أموال اليتامى وأنواع الظلم وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم والغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور والدعاوي الباطلة والأيمان الكاذبة وحلق اللحى وتقصيرها وإطالة الشوارب والتكبر وإسبال الثياب واستماع الأغاني وآلات الملاهي وتبرج النساء وعدم تسترهن من الرجال والتشبه بنساء الكفرة في لباس الثياب القصيرة وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله, وهذه المعاصي التي ذكرنا محرمة في كل زمان ومكان, ولكنها في رمضان أشد تحريماً وأعظم إثماً لفضل الزمان وحرمته, ومن أقبح هذه المعاصي وأخطرها على المسلمين ما ابتلي به الكثير من الناس من التثاقل عن الصلوات والتهاون بأدائها في الجماعة في المساجد, ولا شك أن هذا من أقبح خصال أهل النفاق ومن أسباب الزيغ والهلاك قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر", وقال له صلى الله عليه وسلم رجل أعمى: "يا رسول الله إني بعيد الدار عن المسجد وليس لي قائد يلائمني فهل لي أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تسمع؟ "قال: "نعم" قال: "أجب", وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - وهو من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأيتنا وما يتخلّف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق أو مريض", وقال رضي الله عنه: "لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم", والتهاون بالصلاة في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية, وذلك كفر بالله سبحانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".(1/358)
ومن أخطر المعاصي اليوم أيضا ما بلي به الكثير من الناس من استماع الأغاني وآلات الطرب وإعلان ذلك في الأسواق وغيرها ولا ريب أن هذا من أعظم الأسباب في مرض القلوب وصدّها عن ذكر الله وعن الصلاة, وعن استماع القرآن الكريم والانتفاع به. ومن أعظم الأسباب أيضاً في عقوبة صاحبه بمرض النفاق والضلال عن الهدى كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} . وقد فسّر أهل العلم لهو الحديث بأنه الغناء وآلات اللهو, وكل كلام يصد عن الحق, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليكوننّ من أمتي أقوام يستحلون الحرَ والحريرَ والخمرَ والمعازفَ", والحِرَ: هو الفرج الحرام, والحرير معروف, والخمر هو كل مسكر, والمعازف هي آلات الملاهي كالعود والكمان وسائر آلات الطرب, والمعنى أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلّون الزنا ولباس الحرير وشراب المسكرات واستعمال آلات الملاهي, وقد وقع ذلك كما أخبر به صلى الله عليه وسلم وهذا من علامات نبوته ودلائل رسالته عليه الصلاة والسلام, وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع".
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنه ورسوله واستقيموا على طاعته في رمضان وتواصوا بذلك وتعاونوا عليه لتفوزوا بالكرامة والسعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة. والله المسؤول أن يعصمنا والمسلمين من أسباب غضبه, وأن يتقبل منا جميعا صيامنا وقيامنا, وأن يصلح ولاة أمر المسلمين, وأن ينصر بهم دينه, ويخذل بهم أعداءه, وأن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه, والحكم والتحاكم إليه في كل شيء. إنه على كل شيء قدير, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(1/359)
البرُّ لا يبلى
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس في الجامعة
روى عبد الرازق في جامعه عن أبي قلابة رحمه الله بسند حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البر لا يبلى, والذنب لا ينسى, والديان لا يموت, اعمل ما شئت, كما تدين تدان".
وقد ذكر الله تعالى أصول البر وخصاله العظمى والعنوان الحقيقي لأهل البر في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . فأعظم خصال البر: الإيمان بالله؛ وهو اطمئنان القلب وسكونه ويقينه بالله فاطر السموات والأراضي, عالم الغيب والشهادة, القائم على كل نفس بما كسبت, المستحق وحده لا شريك له لأقصى غاية الحب مع أقصى غاية الذل, وهو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه, وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم, {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .(1/360)
ومن أصول البر وأعظم خصاله أن يؤمن الإنسان باليوم الآخر والبعث بعد الموت ليجزي المحسن على إحسانه والمسيء بإساءته, وعقيدة البعث تسارع إلى الإيمان بها النفوس الكاملة والعقول المستنيرة, فإنه لو لم يكن هناك بعث ولا نشور لكان خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا, وحينئذٍ يستوي من يفسد في الأرض ومن يصلح فيها, ومن يحسن إلى الإنسانية ومن يسيء إليها. وكما قال تعالى: {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار, أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} , وهذا لا يكون أبداً ولابد من البعث ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى, ومن أصول البر التصديق بملائكة الله وهم خلق الله تعالى جعلهم الله رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع, شأنهم الطاعة, ومسكنهم السموات, لا يعصون الله طرفة عين ويفعلون ما يؤمرون, ومنهم معقّبات للإنسان من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله, وفيهم الكرام الكاتبون, ومنهم خزنة النار, ومنهم الذين يدخلون على المؤمنين في الجنة من كل باب, {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .
ومن أصول البر أن يؤمن الإنسان بأن الله عز وجل أنزل كتبا من السماء لتكون نبراسا لأهل الأرض ودستورا لهم يقتدون بها إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم ومنها التوراة والإنجيل والقرآن العظيم.(1/361)
ومن أصول البر الإيمان بأنبياء الله ورسله الذين هم أكمل بني الإنسان, وأعرف خلق الله بالله, وأدلهم على الله, وأهداهم طريقا, وأحسنهم سلوكا, أرسلهم الله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل, وقد فضّل الله بعضهم على بعض, وأعظمهم أولو العزم الخمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام, وأعظم أولي العزم الخليلان محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام, وأعظم الخليلين محمد صلى الله عليه وسلم.(1/362)
ومن أصول البر بذل المال المحبوب للمحتاجين إليه وذوي القربى واليتامى والمساكين وابن سبيل والسائلين, وبذله كذلك في تحرير الرقيق, وقد وصف الله عز وجل بذل المال في هذه الوجوه بأنه اقتحام العقبة، إذ يقول: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ, وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ, فَكُّ رَقَبَةٍ, أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ, يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ, أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} . ومن أصول البر وأعظم خصال الخير الصلاة فإنها عمود الدين وهي تذهب السيئات وتكفّر الخطيات, وهي كنهر بباب الإنسان يغتسل فيه كل يوم خمس مرات, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر", ومن أعظم أبواب الخير إخراج الزكاة للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن سبيل, على أن مال الإنسان الحقيقي هو الذي يبذله في وجوه البر, وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن آدم تقول مالي وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت", {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ, يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .
ومن أعظم أصول الخير وخصال البر الوفاء بالعهد, وقد أنذر الله عز وجل الذين ينقضون العهد بأنهم لهم اللعنة ولهم سوء الدار, وقد جعلت الشريعة الإسلامية خلف الوعد من أمارات النفاق فقد قال رسول صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان".(1/363)
ومن أصول البر الصبر, وهو حبس النفس عن الجزع عند حلول البلوى, وقد أمر الله عز جل رسوله صلى الله عليه وسلم ببشارة الصابرين فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ, الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ, أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
وهذه هي أصول البر العظيمة التي ما تَقرّب العبد إلى الله تعالى بأحب إليه منها, وفيها من التكافل الاجتماعي ما يجعل المجتمع المستمسك بها أسعد المجتمعات.
وهناك أعمال إنسانية أخرى وصفتها الشريعة الإسلامية بأنها من البر وإن كانت دون ما ذكرناه, فإنها وعدت من يقوم به بجميل المثوبة، وعظيم الأجر.
فمن ذلك إماطة الأذى عن الطريق فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخّرهُ فشكر الله له فغفر له", وفي رواية أخرى لمسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد رأيت رجلا في الجنة في شجرة قطعها من طريق المسلمين", وفي لفظ أخر له قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال: "والله لأُنحيَنّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فدخل الجنة", وروى أبو داود رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "نزع رجل -لم يعمل خيرا قط- غصن شوك عن الطريق قال: "أما كان في شجرة فقطعها وأما كان موضوعا فأماطه عن الطريق فشكر الله ذلك فأدخله الجنة".
وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها, فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يماط عن الطريق, ووجدت في مساوىء أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن".(1/364)
ومن أعمال البر معونة ذي الحاجة الملهوف وقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن صلى الله عليه وسلم قال: "على كل مسلم صدقة, قيل أرأيت إن لم يجد؟ قال: "يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق", قال: "أرأيت إن لم يستطيع؟ "قال: "يأمر بالمعروف أو الخير", قيل: "أرأيت إن لم يفعل؟ "قال: "يمسك عن الشر فإنها صدقة".
وكذلك روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل سلامي من الناس صدقة - أي على كل مفصل مفاصل الإنسان صدقة - كل يوم تطلع فيه الشمس, قال: تعدل بين الاثنين صدقة, وتعين الرجل في دابته صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة, وتميط الأذى عن الطريق صدقة".
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا لأدنى خصال البر, وتعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عملها بالجنة, فقد روى البخاري عن كبشة السلولي رحمه الله أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز, ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة".
هذا وقد وصف الله تعالى عاقبة الأبرار الحسنى فقال جل من قائل: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ, عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ, تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ, يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُه, ُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .(1/365)
الإخلاص
للشيخ عبد المحسن العباد
المدرس في الجامعة
هو في اللغة: تخليص الشيء وتجريده من غيره, فالشيء يسمى خالصا إذا صفا عن شوبه وخلص عنه, ويسمى الفعل المصفى المخلص من الشوائب إخلاصا, وفي الأول قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} , فاللبن الخالص ما سلم وصفا من الدم والفرث ومن كل ما يشوبه ويكدر صفاءه, ومن الثاني قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَهُ} .
وفي الاصطلاح: تصفية ما يراد به ثواب الله وتجريده من كل شائبة تكدر صفاءه وخلوصه له سبحانه.(1/366)
منزلته: الإخلاص هو أساس النجاح والظفر بالمطلوب في الدنيا والآخرة, فهو للعمل بمنزلة الأساس للبنيان, وبمنزلة الروح للجسد, فكما أنه لا يستقر البناء ولا يتمكّن من الانتفاع منه إلا بتقوية أساسه وتعاهده من أن يعتريه خلل فكذلك العمل بدون الإخلاص, وكما أن حياة البدن بالروح فحياة العمل وتحصيل ثمراته بمصاحبته وملازمته للإخلاص, وقد أوضح ذلك الله في كتابه العزيز فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ, وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} , ولما كانت أعمال الكفار التي عملوها عارية من توحيد الله وإخلاص العمل له سبحانه جعل وجودها كعدمها فقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} . والإخلاص أحد الركنين العظيمين اللذين انبنى عليهما دين الإسلام, وهما إخلاص العمل لله وحده وتجريد المتابعة للرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} , قال: "أخلصه وأصوبه", قيل: "يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل, وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل, حتى يكون خالصا صوابا, فالخالص: ما كان لله, والصواب: ما كان على السنة". وقال شارح الطحاوية: "توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما؛ توحيد المرسل سبحانه وتوحيد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم, فيوحده صلى الله عليه وسلم بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان, كما يوحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل".(1/367)
محله: ومحل الإخلاص القلب, فهو حصنه الذي يقطن فيه, فمتى كان صالحا عامرا بسكناه وحده تبع ذلك صلاح الجوارح, ومتى كان خرابا سكن فيه الرياء وملاحظة الناس وكسب ودهم وتحصيل ثنائهم والطمع فيما عندهم, ويتبع ذلك سعي الجوارح لتحصيل هذه الأغراض الدنية, وليس أدل على ذلك وأوضح بيانا من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, إلا وهي القلب", وقد أوضح صلى الله عليه وسلم هذا المعنى وبيَّن تبعية الجوارح لما يقوم بالقلب بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرىء ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
والإخلاص مطلوب في الصلاة والزكاة والصيام والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفي كل ما شرعه الله من قول أو فعل, فيقوم الإنسان بتأدية ما شرع له, والباعث له عليه امتثال أمر الله خوفاً من عقابه, وطمعاً فيما لديه من الأجر والثواب.(1/368)
والإخلاص مطلوب أيضا فيما يلتزمه الإنسان من الأعمال فهو مطلوب من العامل, ومن المستشار والمؤتمن والموظف, ومن المعلم والمتعلم, وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على طلب العلم والإخلاص فيه من النتائج الحميدة, وما يترتب على فقده من العواقب الوخيمة بقوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه, وروى عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها, فقال: "ما عملت فيها؟ "قال: "قاتلت فيك حتى استشهدت", قال: "كذبت؛ ولكنك قاتلت ليقال: جريء, فقد قيل", ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار, ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها فقال: "ما علمت؟ "قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك"قال: "كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت ليقال: قارىء, فقد قيل, ثم أمر به فسحب وجهه حتى ألقي على النار" الحديث.
ويروى أن معاوية رضي الله عنه لما بغله هذا الحديث بكى حتى أغمي عليه, فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله؛ قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} , ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تعلّموا العلم لثلاث؛ لتماروا به السفهاء, ولتجادلوا به الفقهاء, أو لتصرفوا وجهة الناس إليكم, وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله فإنه يبقى ويذهب ما سواه".
الحث عليه وبيان فضله:(1/369)
ولما كان الإخلاص بهذه المنزلة التي تقدم وصفها جاء الشرع المطهر في الحث عليه والترغيب فيه وبيان فضله في آيات كثيرة وأحاديث عديدة, نذكر بعضها على سبيل التمثيل فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} , وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} , وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّه} الآية.. وقوله: شقُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَه} (الأنعام: الآية 162- 163) , وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} (الكهف: من الآية110) , وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (الزمر:14) .
ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لأصحابه في غزوة تبوك: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم سيرا, ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم حسبكم المرض" وفي رواية: "إلاّ شركوكم في الأجر" متفق عليه واللفظ مسلم, ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاّ أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" متفق عليه.(1/370)
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" رواه مسلم, ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" جوابا لمن سأله عن رجل يقاتل شجاعة ويقاتل الحمية ويقاتل رياء أيّ ذلك في سبيل الله, وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يكتسبه الإنسان في الدنيا بسبب الإخلاص إلى جانب ما أعده الله له في الآخرة من مثوبة بما ذكره صلى الله عليه وسلم من قصة الثلاثة الذين آووا إلى غار للمبيت فيه فانحدرت صخرة وسدّت عليهم باب الغار ففرج الله عنهم ذلك بسبب إخلاصهم الأعمال الصالحة له سبحانه وتعالى.
ما يضاد الإخلاص وبم تحصل السلامة منه:
وكما أن الإخلاص تصفية الشيء مما يشوبه فإذا لم تحصل تصفيته انتفى الإخلاص.
إذا قام الإنسان بعمل محمود والباعث له عليه ابتغاء وجه الله سمّي عمله إخلاصاً فإذا فقد ذلك الباعث على العمل أو وجد ولكنه مشوب بباعثٍ آخر كالرياء انتفت التسمية, فإخلاص العمل لله وحده ينافيه, ويقابله أن يحلّ في القلب قصد المخلوقين التماساً لحمدهم وثنائهم وطمعاً فيما عندهم, ولما كان ذلك ينافي الإخلاص جاءت الشريعة الإسلامية بذم الرياء ومقت المرائين فقد قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ, الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ, وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} . وأخبر أن الرياء من صفات المنافقين فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} , وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه".
ومن ابتلاه الله بهذا الداء العضال فعليه أن يسعى في تحصيل الأدوية النافعة التي تستأصله وتقضي عليه, ومن أبرزها شيئان:(1/371)
أحدهما: أن يزهد فيما ينتظر من الناس من الثناء والعطاء.
والثاني: أن يحمل نفسه على إخفاء الأعمال.
وقد أوضح الأول منهما ابن القيم في الفوائد ص 148 فقال: " لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلاّ كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت, فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين الناس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيها زهد عشاق الدنيا والآخرة, فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهل عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلاّ وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره, ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه, وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهل عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين, ويضر ذمه ويشين إلاّ الله وحده, كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ مدحي زين وذمّي شين"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الله عز وجل", فازهد في مدح من لا يزينك مدحه ولا يشينك ذمه, وارغب في مدح مَنْ كل الزين في مدحه وكل شين في ذمه, ولن تقدر على ذلك إلاّ بالصبر واليقين, فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب, قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} , وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} " انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.(1/372)
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى إخفاء العبادة ابتعاداً عن الرياء بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله, "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
فالحاصل أن العمل مذموم إذا كان الباعث عليه التماس حمد الناس وثنائهم, والطمع فيما عندهم, أما إذا عمل الإنسان العمل خالصا لله ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بسبب ذلك العمل فارتاح لذلك واستبشر به لم يضره, ولم ينقص من أجره, بدليل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يعمل العمل محبة لله فيحمد الناس عليه قال:" تلك عاجل بشرى المؤمن" رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه.(1/373)
إقبال شاعر الإسلام
للشيخ أحمد حسن المدرس بالجامعة
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ, أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ, وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ, إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
وبعد فهذا شاعر من الذين آمنوا, يفعل ما يقول, ولا يهيم في كل واد, وإنما هو شاعر ثائر, وفيلسوف حكيم, ومصلح كبير, وقد أحببت أن يكون هذا النابغة موضوعا لمقالي؛ لأنه شاعر الحب والطموح والإيمان. وأشهد أني كلما قرأت شعره جاش خاطري, وثارت عواطفي, وشعرت بدبيب من المعاني والأحاسيس في نفسي.
واخترت الحديث عن هذا العظيم لأنه ولد في بلاد بعيدة عن مهد الإسلام، وانحدر من سلالة برهمية قريبة العهد بالهداية الإسلامية, وكانت بلاده خاضعة لحكم الإنكليز, وكانت السيادة فيها للثقافة الغربية, فدرس شاعرنا العلوم العصرية والآداب الغربية إلى أقصى حدودها, وفي أعظم مركزها, ثم اشتد إيمانه بالرسالة المحمدية, وإعجابه بشخصية محمد صلى الله عليه وسلم, وثقته بالأمة الإسلامية ومواهبها ومستقبلها, واشتدت حماسته للإسلام, كما اشتد إنكاره لأسس الفلسفة الغربية والحضارة الأوروبية, وفي ذلك يقول: "لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي, ويعشي بصري, وذلك لأني اكتحلت بإثمد المدينة" ويقول: "مكثت في أتون التعليم الغربي ,وخرجت كما خرج إبراهيم من نار النمرود", ويقول: "لم يزل ولا يزال فراعنة العصر يرصدونني, ويكمنون لي, ولكنني لا أخافهم فأنا أحمل اليد البيضاء, لا تعجبوا إذا اقتنصت النجوم, وانقادت لي الصعاب, فأنا من أتباع ذلك السيد العظيم, الذي تشرفت بوطأته الحصباء فصارت أعلى قدرا من النجوم, وجرى في أثر الغبار فصار أعبق من العبير".(1/374)
ولقد استخدم إقبال عبقريته الشعرية ومواهبه الأدبية في نشر عقيدته ودعوته, وكان خير مثال للشاعر المؤمن والعالم الداعي والفيلسوف الحصيف, وقد أحدث إقبال هزة في الأفكار والآداب في قطر من أعظم الأقطار الإسلامية وأوسعها, وتجاوز تأثيره إلى أقطار بعيدة, وسمع له صدى في أنحاء العالم.
والسبب الثالث الذي دفعني للحديث عنه وقوفه مع أمتنا وقضاياها المواقف التي تتفق مع العقيدة التي آمن بها, والرسالة التي قضى حياته في سبيلها.
ففي قصيدته (هدية إلى الرسول) يتخيل أنه حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: "ماذا حملت لنا من هدية؟ ", فاعتذر الشاعر عن هدية الدنيا وقال: إ"نها لا تليق بمقامكم الكريم, ولكن جئتك بهدية, إنها زجاجة يتجلى فيها شرف أمتك, إن فيها دم شهداء طرابلس", وحينما طلبت فرنسا من إقبال أن يزور مستعمراتها في شمال إفريقية رفض دعوتها, وأبى أيضا أن يزور جامع باريز وأساتذته, وقال: "إن هذا ثمن بخس لتدمير دمشق وإحراقها".
ولما مرّ بصقلية في طريق عودته إلى بلاده من رحلته التي قام بها لأوروبا قال: "إبك أيها الرجل دماً لا دمعاً؛ فهنا مدفن الحضارة الحجازية".
ولا ينسى الشاعر أن يدحض مزاعم اليهود, ويردّ دعواهم على أعقابهم حينما يدّعون ملكية فلسطين؛ لأنهم سكنوها في قديم الزمان, فيقول ساخرا: "أما كان للعرب أن يطالبوا بأسبانيا, تلك التي ملكوا زمامها في غابر الأيام, وملأوا ربوعها علماً ونوراً".
وحينما زار الشاعر إسبانيا قال لمدير أحد الفنادق الكبرى في قرطبة: "أين أحفاد العرب في هذه البلاد؟ "فقال له المدير: "إنني منهم", ثم جمع له وجوهاً من خيارهم, فقال إقبال:
بأعينهن المراض الحسن
إلى اليوم تلك ظباء الحمى
على صيد أسد الشرى كل آن
وألحاظها لم تزل قادرات
وهذا النسيم عبير يمان
وتلك المحاسن طبع الحجاز
وإن زال سكان تلك الجنان(1/375)
فحي الجنان وسكانها
ولم ينس الشاعر أن يزور مسجد قرطبة ويقرأ الآيات القرآنية المسطورة بالمداد الذهبي على جدارنه, وكان ذلك أثر كبير في نفسه, وأنه ليقول في ذلك: "لقد أحسست بالعطر والنسيم والجمال, وفهمت لماذا اختار العرب بلاد الأندلس, فهي المكان الذي لا يأسن فيه الماء, ولا يتغير مع هوائه الطعام, وعرفت لماذا اختار العرب, هذا الوطن الذي انبعثت منه مدنيات العالم الحديث, ولما قام فرانكو بالحرب الأسبانية الأهلية كان جنوده الفاتحون من مراكش, فقال بعض الناس لإقبال: "ها هم العرب مرة أخرى قاموا يفتحون الأندلس بعد خمسمائة عام, فقال إقبال: "هل قرأت قصيدتي عن قرطبة وأخذ يتلو منها:
جنة الحسن الذي يجلو النظر
أيها النهر الذي شاطئه
حلم الماضي الذي عنك استتر
فوق شطيك سرى في مقلتي
في حجاب خلف مجهول القدر
غير أن القوم في سكرتهم
قد تجلى لي ضحاها في السحر
وأرى في حلم ليلي يقظة
لو كشفت عن كنز الفكر
يزعج القوم ندائي للعلا
وإقبال هو الذي ينادي العرب من خلف السهوب ومن وراء البحار فيقول:
من سواكم حل أغلال الورى
أمة الصحراء يا شعب الخلود
صاح لا كسرى هنا لا قيصرا
أي داع قبلكم في ذا الوجود
أطلع القرآن صبحا للرشاد
من سواكم في حديث أو قديم
ليس غير الله ربا للعباد
هاتفا في مسمع الكون العظيم
وسل الحمراء واشهد حسن تاج
لا تقل أين ابتكار المسلمين
نحوها طوعا يؤدون الخراج
دولة سار ملوك العالمين
مظهر العزة والملك الحصين
دولة تقرأ في آياتها
دونها حارت قلوب العارفين
وكنوز الحق في طياتها
لنبي الله قدسي الجناب
أرسل الشكر إلى غير انتهاء
أوقد النور بكف من ترا
أشعل الإيمان نارا بالعراء
عزمة فل بها سيف الغير
وحباه الله من عليائه
سار فيها راكب خيل القدر(1/376)
راكب الناقة في صحرائه
وصفوفا تحت ظل المسجد
كبروا الله في ظل الحروب
وارتقوا فيها مكان الفرقد
وثبة دانت لهم فيها الشعوب
وأرى بنيانكم منقسما
كل شعب قام يبني نهضة
لهف نفسي كيف صرتم أمما
في قديم الدهر كنتم أمة
فهو أولى الناس طرا بالفناء
كل من أهمل ذاتيته
كل من قلد عيش الغرباء
لن يرى في الدهر شخصيته
طالما كنتم جمالا للعصر
فكروا في عصركم واستبقوا
مرة أخرى بها روح عمر
واملأوا الصحراء عزما وابعثوا
لهذه الأسباب مجتمعة رغبت في إقبال والحديث عنه, ولا بد لي من الإشارة أولا وقبل كل شيء إلى أن ما كتب عن إقبال في العربية وما ترجم له من شعر لا يتناسب مع عظمة شخصيته وسلاسة شعره وكثرته, فأنا إذن لن أحدثكم على مميزات شعره ودقيق فلسفته؛ لأن ما ترجم له لا يكفي ذلك, ولكني سأقبس لكم من سيرته قبسات لتعيشوا معه لحظات.
حياته:
ولد شاعرنا العظيم في بلدة (سيالكوت) في إقليم البنجاب من الهند عام ثلاثة وسبعين وثمانمائة وألف, وفتح عينه على أنهار الجارية التي تنحدر عبر التلال الجميلة, حاملة في خريرها وتدافع أمواجها قصة الأزل, وسنة الأبد, ودرج إقبال على تلك السهول والسفوح بين الخمائل وتحت الظلال يستمتع بجمال بلاده وسحر طبيعتها.
وينتمي شاعرنا إلى سلالة وثنية برهمية, كانت تعيش في كشمير, غير أن الإسلام غزا قلوب هؤلاء البراهمة, فكان منهم والد الشاعر.(1/377)
والد إقبال: كان والد إقبال تقيا زاهدا, يهتز فؤاده رهبة وإشفاقا, وتدمع عيناه خوفا ووجلا, كلما ذكرت كلمة النار, وكلما قرأ أو سمع عن هول يوم الحساب, ولنترك الحديث عن والد إقبال لإقبال نفسه يقول إقبال: "وقع على بابنا سائل وقوع القضاء, ورفع صوته كأنه نعيب غراب, وأخذ يهز الباب, ولما آلمني تصايحه وإلحافه خرجت إليه فأهويت على رأسه فبعثرت ما بيده مما جمعه طوال يومه, فلما رأى والدي تلك الحادثة اصفرّ وجهه الأحمر وانحدرت الدموع نهرا على خديه, وقال: "تذكّر يا بنيّ جلال المحشر يوم تجتمع أمة خير البشر, وأرجع البصر كرّةً إلى لحيتي البيضاء, ونحول جسمي المرتعش بين الخوف والرجاء, كن يا بني من البراعم في غصن محمد, وكن زهرة يحييها نسيم ربيع المصطفى".
إنّ الجرعات الدينية النقية لهي الدواء الناجع للبشرية الحائرة, وإنّ في الكؤوس الروحية الخالصة لنشوة سامية تنفي عن الإنسان ظلمات الشك, وتحجب عن عينيه أصنام اليأس والاستسلام, ولطالما ارتشف إقبال من تلك الكؤوس, فشفت من نفسه جراحا, وأبانت له عن طريق سليم واضح, وكشفت له عن أشياء ما كان ليكشف عنها, وينعم بجمالها لولا تلك الجرعات الدينية النافعة, وما أجمل قوله:
وصراخ أيماني وصوت منايا
اليوم أسمعك احتدام مشاعري
سأرى الخلية ما رأت عينايا
المستحيل بدا لعيني ممكنا
كمودة الإنسان للإنسان
لم ألق في هذا الوجود سعادة
أحتج إلى تلك التي في ألحان
لما سكرت بخمرها القدسي لم
ثقافته وعلومه:(1/378)
ذهب إقبال منذ نعومة أظفاره إلى مكتب تحفيظ القرآن في (سيالكوت) , وما يكاد أن يتحرك النهار وينحسر ظلّ الليل رويداً رويداً, وتثب الشمس من الأفق الشرقي, حتى يكون إقبال جالساً يستقبل الفجر, وأنداء الصباح تتمسّح بوجهه البريء الصغير, فيهب في نشاطه المعهود, ويصلي من خلف أبيه الشيخ الزاهد, ثم يتلو القرآن, وقد حرص أبوه المربي الفاضل على أن لا تكون قراءة إقبال كلمات تلقى, وآيات تتلى, وإنما قال له: "يا بني إقرأ القرآن وكأنه أنزل عليك", وفي ذلك يقول إقبال: "ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهّم القرآن وأُقبل عليه فكان من أنواره ما اقتبست ومن بحره ما نظمت" ... ثم انتقل إقبال إلى مدرسة (سيالكوت) وما أن أتم دراسته الثانوية حتى التحق بكليتها, حيث تلقى أصول اللغة الفارسية والعربية على أستاذه السيّد (مير حسن) .. ولقد امتاز طوال هذه الفترة بذكائه الحاد وبديهته السريعة, وحوزه لقصب السبق بين أقران ولداته, ونتج عن ذلك أن نال الجوائز السنية ونال فرصة الدراسة بالمجان, وفتحت بعد ذلك كلية الحكومة في (لاهور) ذارعيها لاستقبال الشاب الذكي, ففاق على أقرانه, ونال ميداليتين ذهبيتين, ومساعدة الحكومة الشهرية له جزاء اجتهاده.
وفي كلية الحكومة بـ (لاهور) التقى إقبال بأستاذه الفيلسوف المستشرق (توماس أرنولد) الذي رحّب بميل تلميذه إلى الفلسفة, فكان له خير مرشد ومعين, وسرعان ما توثقت بينهما أواصر الصداقة, واستحكمت روابط الألفة, ثم نال إقبال شهادة في الفلسفة وعيّن أستاذا للفلسفة والسياسة المدنية بالكلية الشرقية في (لاهور) , ثم أستاذا للفلسفة واللغة الإنكليزية في كلية الحكومة هناك, وكان ذلك هو الدليل المادي على تقديرهم لغزارة علمه, ورجاحة عقله, وعظيم عبقريته.(1/379)
وفي عام خمسة وتسعمائة وألف ولّى إقبال وجهه شطر بلاد الغرب, حيث وصل إلى لندن, والتحق بجامعة (كامبردج) وأخذ شهادة عالية في الفلسفة وعلم الاقتصاد, ومكث في عاصمة الدولة البريطانية ثلاث سنين يلقي محاضرات في موضوعات إسلامية, أكسبته الثقة والشهرة, وتولى في خلال تلك المدة تدريس آداب اللغة العربية في جامعة لندن مدة غياب أستاذه (أرنولد) , ثم سافر إلى ألمانيا وأخذ من جامعة (ميونخ) الدكتوراه في الفلسفة, ثم رجع إلى لندن وأخذ شهادة في المحاماة, ورجع إلى الهند عام ثمانية وتسعمائة وألف سالما غانما, ومن دواعي العجب أنّ كل هذا النجاح حصل لهذا النابغة هو لم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره.
ولقد توسّع إقبال في قراءته عن (نتشة) و (هيجل) و (شوبنهاور) وغيرهم وقارن بينهم وبين فلسفة الشرق أمثال ابن سيناء وابن رشد وإليكم رأيه في نتشه:
يقول إقبال عن نتشه: "خفق قلبه لضعف عناصر الإنسان, وخلق فكره الحكيم صورة أحكم وأمتن, فأثار بين الفرنج هياجا بعد هياج, مجنون ولج مصانع الزجاج, إذا بغيت نغمة ففر منه, فليس في نايه إلاّ قصف الرعد, قد دفع مبضعه في قلب الغرب, واحمرّت يده من دم الصليب, هذا الذي بنى معبداً للصنم على قواعد الحرم, قد آمن قلبه وكفر دماغه".
ولقد تعمّق إقبال في دراسته للفكر الهندي والإيراني, ونال قسطاً وافراً من منابع التراث الروماني واليوناني, ونهل قدراً وافياً من الثقافة الإنكليزية والألمانية والفرنسية والأمريكية, هذا فضلا عن الميراث الفكري الإسلامي والعربي الذي صرف فيه إقبال معظم مجهوداته.
أما اللغات التي أجادها إقبال فهي الأوردية, والفارسية, والإنكليزية, وكان عظيم الإتقان للألمانية والفرنسية, ولكنه كان يعرف العربية والسنسكريتية.
كتبه ودواوينه:
لقد ترك الشاعر باللغة الفارسية الدواوين الآتية:(1/380)
أسرار خودي: يعني أسرار معرفة الذات, ورموز بيخودي: أي أسرار فناء الذات, وبيام المشرق: أي رسالة الشرق, في جواب كتاب (جوته) (تحية الغرب) , كما ترك زبور عجم, وجاويد نامه, وماذا ينبغي أن تعمل الشعوب الشرقية, ومسافر, وأرمغان حجاز: أي هدية الحجاز, وترك باللغة الأوردية بال جبريل: أي جناح جبريل, وضرب كليم: يعني: ضرب موسى, وغير هذه الكتب محاضرات ألقاها في مدينة (المدارس) طبعت باسم (تجديد التفكير الديني في الإسلام) , محاضرات ألقاها في جامعة (كامبردج) , وقد اعتنى بهذه المحاضرات المستشرقون وعلماء الفلسفة والدين اعتناء عظيماً وعلّقوا عليها أهمية كبيرة.
ومن وراء جبال (الهيملايا) ومن خلف التلال والهضاب سارع أحد علماء روسيا, متكلفا المشاق والأهوال, راكبا الأخطار والأوعار, حتى التقى بإقبال, ونقل عنه مبادئه وأصول فلسفته, التي أودعها ديوانه (أسرار خودي) .
أما في ألمانيا فقد قام الأستاذ (دايشور وسو) , والدكتور (فيشر) الأستاذ بجامعة (ليبرنغ) , وصاحب مجلة (إسلاميكا) , والشاعر الألماني الفيلسوف (هانسي) , قام هؤلاء جميعاً وترجموا لإقبال, وكتبوا عن شعره وفلسفته, وقارنوا بينه وبين (جوته) الشاعر الألماني العظيم و (نيتشه) , بل قامت هناك في ألمانيا جماعة اسمها جماعة إقبال, تشرف على ترجمة آثاره, ونشر مبادئه في ربوع البلاد, وفي أروقة الجامعات.
وهكذا فعل (اسكاريا) في ايطاليا, و (ميكنري) في أمريكا, و (نيكلسون) والمستشرق (براون) في إنكلترا, والدكتور عبد الوهاب عزام في مصر إذ كان له الفضل الأكبر في التعريف بـ (إقبال) في أرجاء العالم العربي.
ومرض إقبال في آخر حياته, وظل أياما طويلة رهين الفراش, ولم يزل لسانه يفيض بالشعر, وقد قال قبل وفاته بعشر دقائق:
"ليت شعري! هل تعود النغمة التي أرسلتها في الفضاء, وهل تعود النفخة الحجازية, قد أظلني موتي, وحضرتني الوفاة, فليت شعري هل حكيم يخلفني؟ ".(1/381)
وقال وهو يجود بنفسه: "أنا لا أخشى الموت, أنا مسلم, ومن شأن المسلم أن يستقبل الموت مبتسما", ولفَظَ نفَسَهُ الأخير على حجر خادمه القديم, على حين غفلة من العواد والأصدقاء, وغربت هذه الشمس التي ملأت القلوب حرارة ونورا, قبل أن تطلع شمس الواحد والعشرين من نيسان عام ثمانية وثلاثين وتسعمائة وألف.(1/382)
العدد 3
فهرس المحتويات
1- الإسلام والصراع الطبقي: للدكتور محمود بابللي
2- في إفريقية الخضراء: للشيخ محمد ناصر العبودي الأمين العام للجامعة
3- آخر أيام غرناطة: للشيخ محمد المجذوب
4- أفضل الأعمال: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
5- التخطيط لمباني ومنشآت الجامعة الإسلامية - طريقته وأهدافه ومستقبله: المهندس محمد وهبي الحريري
6- الثقافة التي نحتاج إليها: للدكتور محمد تقي الدين الهلالي
7- رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
8- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفظيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
9- عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر: للشيخ عبد المحسن العباد
10- التضامن الإسلامي: لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز
11- مقومات النصر في حروب الإسلام: للشيخ أحمد مختار بزرة
12-منهج البحث العلمي في الإسلام: للشيخ إبراهيم السلقيني
13- نظرات في دعوة المبشرين: للشيخ ممدوح فخري
14- هذه إسلاميتنا. . ..: للشيخ ابي بكر جابر الجزائري
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(1/385)
العدد 3
الإسلام والصراع الطبقي
للدكتور محمود بابللي
تقوم بعض المذاهب الاجتماعية المعاصرة على فكرة الطبقية وتمايز بعض الطبقات على بعضها الآخر كما كانت عليه هذه الفكرة في العهود القديمة زمن اليونان والرومان, حيث كانت تسيطر هنالك طبقة السادة فقط, ولا قيمة للعبيد فيها. إذ أنهم مِلك يباع ويشترى ويتم التصرف فيهم استغلالا واستثمارا وتعذيبا على أبشع ما يمكن أن يتصور من الفوارق الصارخة بين هاتين الطبقتين.
حتى إن كلمة (ديمقراطية) لا تعني في مفهومها الحديث ما كانت تعنيه عند أهلها ومنشئي كلمتها, أي عند الأمة اليونانية, إذ أنها كانت تعني طبقة الشعب الحاكم, أي طبقة السادة, ولا وجود للطبقة المستغلة (العبيد) في مفهوم كلمة الديمقراطية القديم.
لذلك فإن كلمة (حكم الشعب للشعب) تعني آنئذ حكم طبقة السادة.
وكذلك الحال عند الرومانيين وما كانت عليه الطبقية لدى الفئة الحاكمة منهم, ومن يلوذ بها من أمراء وفرسان وغيرهم, ولا قيمة تذكر لفئات الفلاحين والطبقات المتوسطة والفقيرة وطبقة العبيد والأسرى.
وقد ظهرت فكرة الطبقية في زمننا الحاضر في مفهوم مغاير, وهو الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة-من عمال وفلاحين-وبين طبقة الأغنياء أو متوسطي الحال, أو بين (الرأسمالية والاشتراكية) ومن بعدها الشيوعية, لأن الشيوعية هي الغاية للاشتراكية كما يعبر عن ذلك أصحابها.
وهذه الفكرة الطبقية أظهرت للوجود نوعان من الحكم المتسلط الغاشم باسم طبقة من الشعب ليس لها من هذا الحكم إلا الاسم ضد الطبقات الأخرى.
وتقوم هذه الفكرة على إثارة الصراع الدامي المستمر بين الطبقات وإيجاد الأسباب الدائمة لإثارته لإشغال الفئة المخدوعة به عن حقيقة أوضاعها(1/386)
وكذلك تقوم هذه الفكرة على خلق جو من الاضطرابات والفوضى في كل بلد يمكن أن تعمل فيها هذه الأفكار لتتوهم الشعوب المخدوعة من أن الفردوس المنشود لا يتحقق إلا إذا قام هذا الصراع الدموي وانمحت الطبقات الغنية (الأرستقراطية والرأسمالية)
ولما كانت هذه الفكرة تستند إلى مذهب اجتماعي لا يؤمن بدين أو عقيدة لذلك فإنها تهدف إلى تهديم كل معتقد لا يكون مبنيا على الأسباب المادية وتعتبر أن الدين مخدر (أفيون) للشعوب, وتستغل تأخر بعض الشعوب المتدينة لتثبت لها من واقع تأخرها أن سبب هذا التأخر مردّه إلى هذا الدين الذي تعتنقه.
وأكثر ما يعتمد عليه أصحاب هذه الفكرة لترويجها هو واقع الشعوب وتأخر الكثير منها وسيطرة القوي منها على الضعيف, وأن هذه السيطرة ناشئة عن الفكرة الاستغلالية المتولدة عن الرأسمالية وأن التقدم العلمي لا يجتمع أو يأتلف مع الأفكار الدينية التي تشل من قدرة هذا التقدم عن أن يأخذ سبيله دون عائق.
ويعللون لمزاعمهم هذه بواقع الأمم الأوربية في العصور الوسطى عندما كانت الكنيسة مسيطرة, وما انقلبت إليه أحوال هذه الأمم بعد ما انعتقت من أسار هذه السيطرة الكهنونية حتى إنهم يسمون هذا المنطلق بداية عصر النهضة.(1/387)
وقد انخدع بعض المثقفين ثقافة غربية من المسلمين وأخذوا بهذه الحضارة المادية وهذا التقدم الكبير وظنوا-وهما منهم-أن الدين الإسلامي عائق للأمة الإسلامية عن الانطلاقة في هذا الميدان وأنه يحرّم النظر والبحث في مثل هذه المسائل, وأن علم الدين يقتصر على الأمور التعبدية وبعض المعاملات المالية التي كانت معروفة في العصور الغابرة, وأن القرآن قد أدى مهمته في العصر الذي أنزل فيه وأنه لا يمكن أن يُتخذ دستورا-كمفهوم الدساتير الحديثة في هذا العصر-لأنه كتاب يتعلق بالأمور التعبدية ولم يقصد منه أن يكون كل شيء في حياة الناس وإن صح أن الإسلام فيه من المفاهيم الأخلاقية ما نجعله دعوة أخلاقية سامية, فإن هذه المفاهيم لا تكفي وحدها ليبنى عليها نهضة علمية كهذه النهضة المعاصرة, وشتان بين ما وصل إليه الغربيون والشرقيون من مستويات عالية جدا في شتى العلوم وبين ما عليه الأمة الإسلامية مع اختلاف الأجناس فيها. مما يؤكد أن الوحدة الجامعة التي تشد بهؤلاء إلى الوراء هي الدين والدين وحده.
هذه هي حجة بعض المثقفين الغربيين (من المسلمين) وحجة المخدوعين بهم وبالمظاهر المادية المتعددة الجوانب في الحضارة المعاصرة.
ولو محّصنا هذه الحجة تمحيصا دقيقا لوجدنا أنها حجة واهية لا تستند إلى أساس, وسنورد بعض النقاط الرئيسية التي يمكن أن تشير إلى ضعف هذه الحجة وعدم إمكانية اتخاذها مستندا لتبرير هجر التعاليم الإسلامية وعدم الأخذ بها.
وأول هذه النقاط, وأعتقد أنها أهم النقاط الأخرى وهى:
1- جهل هؤلاء المثقفين بعقيدتهم الإسلامية وبما تتضمنه هذه العقيدة من أسس قويمة.
وقد قيل في الأمثال العربية: "من جهل شيئا عاداه". وهؤلاء معذورون من هذه الناحية لأنهم يجهلون حقيقة الإسلام.(1/388)
ولو سألت أحدا منهم أن يذكر لك ما يفقهه من الإسلام؟ لقال لك: إنني ولدت من أبوين مسلمين ووجدتهما يعتنقان الإسلام دينا فنشأت أقلدهما في هذا المعتقد وأقوم بما يقومان به من عبادات. أو أقلدهما فيما يقومان به دون أن أفقه الفائدة من هذه العبادات لأنني لم أجد لها مردودا أو أثر إيجابيا في نفسي كما لم أجد ذلك فيهما ولا في محيطي الذي أعيش فيه ولا في واقع المسلمين كلهم.
وإن هذه هي الحقيقة بالنظرة التي تنطبق على واقع الأكثرية من المسلمين. إذ هم الغالبية العظمى, فكيف تريد من هذه الكثرة أن تعطي انعكاسا صحيحا عن الإسلام ما دامت تعيش على هامشه ولا تعرف منه إلا صورا مشوهة من مظاهره فتزعم أنها أمة مسلمة وتحسب نفسها في عداد المسلمين, وليس بينها وبين الإسلام إلا صلة الاسم الوراثي.
والنقطة الثانية هي:
2- الأسباب التاريخية في تخلف المسلمين الحالي:(1/389)
تحفل كتب التاريخ بذكر الانقسامات التي حصلت في البلاد الإسلامية نتيجة لعوامل متعددة أهمها الترف وثانيها: انشغال أولي الأمر بأنفسهم للحفاظ على مكاسبهم الشخصية الكيد لبعضهم بعضا, وثالثها: انصراف العلماء عن أداء واجبهم من الجهر بالحق والوقوف إلى جانبه_باستثناء أفراد أفذاذ لا يخلوا زمان منهم-ورابعها: استغلال أعداء الدين وعلى رأسهم الشعوبيون لهذه التفرقة والعمل على توسعتها والحصول على مكاسب بسببها. وخامسها: انصراف الخاصة والعامة من المسلمين عن متابعة الجهد العلمي والتفوق قيه إلى مراقبة هذا الصراع المتجدد والمتعدد بين زعماء الأمة الإسلامية وانغماس أكثرهم فيه. وسادسها: حصول النكبات الطبيعية والهجمات البربرية التي قوضت أركان المعارف والعلوم مرات عدة. ومن ثم ما يعقب هذه الهزات من ركود طويل نسبيا إلى أن خالطت الأمم الغربية الأمة الإسلامية إبان الحروب الصليبية وأخذت عنها الكثير من حضارتها زيادة عما كانت اقتبسته منها عن طريق الأندلس أو البحر الأبيض المتوسط الذي كان يدعى آنئذ (بحر العرب) . واستمر هذا التقارب مدة طويلة من الزمن ينتج عنه التقارب مدة طويلة من الزمن ينتج عنه تدهور أوضاع الأمة الإسلامية وازدهار أحوال الأمم الغربية ولم تغير الخلافة العثمانية على ما كانت عليه في بداية منطلقها من قوة وصلابة من واقع هذه الأمة شيئا فبقيت على حالها بعيدة عن الأخذ بأسباب العلم, لأن لغة العلم التي كانت العربية قبيل التغلب العثماني على الدويلات والإمارات الإسلامية العديدة أهملت وأصبحت اللغة التركية هي اللغة الرسمية للأمة الإسلامية مما أثر على النتاج العلمي فأصبح في غالبيته يقوم على شرح المتون وشرح وتلخيص هذه الشروح.. إلى آخر ما وصل إلى أيدينا من مخلفات هذه العصور المتأخرة.(1/390)
ولما أن تمكن الغرب من تقطيع أوصال الخلافة العثمانية عمل على أن يقتلعها من جذورها فكان له ذلك وعاونه على تحقيق هذه الغاية بعض أبناء هذه الأمة لأسباب متعددة. وأعقبت هذه النتيجة توسع سيطرة المستعمر الغربي على البلاد الإسلامية وخضوع أغلب هذه البلاد الإسلامية لهذه السيطرة بأشكال متعددة وظروف مختلفة, إلى أن تولد عن هذه السيطرة (الأجنبية) تيقظ بعض رجالات المسلمين فعملوا على تنبيه أمتهم من غفلتها وتحذيرها من الاستمرار في هذه الغفلة, وظهرت بعض الإشاعات الخفيفة في جنبات هذه الظلمة الواسعة التي عمّت البلاد الإسلامية فترة طويلة من الزمن وتلاحقت هذه الأنوار-رغم شدة الظلام المخيم على كثير من بلاد العالم الإسلامي-, ولكن النور لا يخفى أثره مهما اشتدت الظلمة.
وهكذا تكشّفت حقيقة الواقع المؤلم لبعض القلوب التي تفتحت بنور الإيمان وأخذت تعمل بإخلاص وجد في إيقاظ العالم الإسلامي وردّه بتؤدة وصبر وعزيمة إلى معتقده.
ولابد لهذه الجهود المخلصة أن تؤتي ثمارها, لأن النهضات لا تتحقق والعثرات لا تقال إلا بإخلاص العاملين من كل صنف وفي كل زمان.
وأرى أن بوادر الخير ظاهرة في الأمة الإسلامية رغم تلاحق الشدائد عليها, لأن من سنن الله سبحانه أن لا يضيع الشدائد لا تخرج عن كونها ابتلاءات تتمخض عن إنابة إلى الحق بإذن الله.
وثالث هذه النقاط:
3- أن العقلية الغالبة-حتى الآن-على علماء العالم الإسلامي ورجالاته هي صفة الفردية, وعدم الاطمئنان للآخرين أو الثقة بهم وبهذا لا يتحقق التعاون المنشود بين رجالات العالم الإسلامي على جميع المستويات.
وداء الفردية داء فتاك في جسم الأمة, لأن العبقرية, مهما تكن فذة فإنها لا تبدع إن لم يكن إلى جانبها ما يشحذ من مضائها.(1/391)
والحذر أو اليقظة شيء مطلوب ولكن شدّة الشك وعدم الاطمئنان أو الثقة بالآخرين يبعد الشقة بين الإخوة ويبقي ثغرات مفتوحة لكي يتسلل منها المخربون والمفسدون
وإن تبادل الزيارات- على جميع المستويات-بين رجالات الأمة الإسلامية وتولي وسائل الإعلام في بلاد العالم الإسلامي مهمة التقريب بين الشعوب الإسلامية يزيد في التقارب ويقضي على كثير من الخلافات التي صنعها الجهل والاستعمار وأعداء الإسلام.
واعتقد أن هذه النقاط الثلاث التي عرضتها آنفا يمكن أن تكون نقاطا رئيسية للأسباب التي نتج عنها التخلف الذي ورثه هذا الجيل المسلم عن آبائه وأجداده من العصور المتأخرة.
وإن إحساسه بهذا الواقع وشعوره بالتخلف عن الحضارة المادية ستدفع به لأن يغير من أوضاعه الشاذة ويعود إلى سلوك الجادة المستقيمة التي يدعوه إليها الإسلام.
وتبقى النقطة الأخيرة التي أود عرضها وهي في الحقيقة رد على تساؤلات الكثير من المسلمين أصحاب الثقافة الغربية الذين لاحظّ لهم من الإسلام إلا صلة النسب, وهي:
4- هل الإسلام تسبب في هذا التخلف؟
إن التخلف العلمي الذي يشمل غالبية البلاد الإسلامية أمر لا نكران فيه فهل تسبب الإسلام بهذا التخلف؟ أو هل كان الإسلام سببا له؟
إن جوابي على هذا التساؤل هو دعوة (هؤلاء الجهال بدينهم) إلى أن يطلعوا على تعاليم هذا الدين من أبنائه أصحاب الاختصاص لا من (المستشرقين) أعداء الدين الإسلامي, وأن يخصصوا لذلك بعضا من وقتهم, وأن يدققوا في هذه التعاليم ومن ثم ّلا يترددون بإعطاء رأيهم فيما سيتوصلون إليه.
وإني على يقين أن غالبيتهم ستأخذها الدهشة والألم معا:(1/392)
الدهشة من اكتشاف أن الدين ليس دينا كهنوتيا كمفهوم الدين لدى الغربيين, وإنما هو نظام دقيق جامع لشؤون الحياة, دنيا وأخرى, لا يرتضي لأتباعه التخلف والجمود والضعف والجهل, وإنما يدعوهم للأخذ بأسباب الحياة بكل ما لهذه الكلمة من معنى.
وسيأخذهم الألم لهذه الغربة التي اكتشفوها في أنفسهم عن الإسلام الذي ينتسبون إليه, وعن هذه القوى المهدورة من جهودهم وأوقاتهم التي ضاعت في غير تثبيت مفاهيم الإسلام في أنفسهم وعن هذا المثل السيئ الذي يعطونه عن المثقف الذي يجهل حقيقة ما يتصل به اتصال نسب وتاريخ وحضارة.
وسيتبين لهم أن الإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا متميزين عن غيرهم في كل شيء تميزا لجهة الفضيلة والصلاح, ويريدهم أن يكونوا متفوقين في كل شيء تفوق ارتقاء وسمو في معاني الإنسانية ومفاهيمها.
ويحرص على أن يكون أتباعه روادا للحق ودعاة للخير وأمثلة حية لذلك.
وإن دعوة الإسلام إلى العلم دعوة مفتوحة لا حدود لها [1] إلا فيما لا خير فيه, وإننا لن نجد في غير الإسلام تقديرا للعلم وإشادة بالعلماء كما نجده فيه. وان أبرز ما في هذا الدين الإسلامي أنه لا يحجز العقل والمواهب الأخرى التي يتمتع بها الإنسان عن إن تؤدي وظيفتها على أحسن وجه وأتمه.
وسوف يتحقق لهؤلاء (المخدوعين) بالثقافة الغربية أن الإسلام لا يحول دون الأخذ بالصالح من هذه الثقافة وأن الإسلام لا يدعو أتباعه إلاّ لكل ما هو مفيد ونافع ومثمر.
وسيتبين لهم أن تخلف المسلمين ناشئ عن عدم تفهمهم لتعاليم دينهم وعن عدم أخذهم بالأسباب التي تجعل منهم خير أمة أخرجت للناس.
وأن الحضارة المادية المعاصرة بحاجة إلى الرجل المسلم الذي يرتفع به عن الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم لتؤدي خير ما فيها لبني الإنسان وتحول بينهم وبين شرورها, لأن الوازع الديني والعامل الأخلاقي وفق التعاليم الإسلامية غير متوفر برجالات هذه الحضارة.(1/393)
والكتاب القيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"للداعية الإسلامي الكبير أبي الحسن الندوي فيه الكثير من النقاط التي يجب أن يعيها الشاب المسلم المثقف على مدى هذه الخسارة التي حاقت بأسره من جراء هذا التخلف.
وإنني أرجوا من هؤلاء ومن كل مسلم أن يرجع إلى تعاليم دينه, وإلى النبع الأساسي الذي بنيت عليه التعاليم الإسلامية, وهو الكتاب والسنة خاصة, وأن يتحققوا بأنفسهم من صلاحية هذا الدين الإسلامي لأن يكون دين الإنسانية قاطبة. ولا أريدهم أن يتأثروا بما أقول دون تثبت من صحة ذلك لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تلتقي عنده هذه الإنسانية, فهو وحده الذي أعلن تكريمه لعنصرها وتفضيله على سائر المخلوقات, ولأنه الدين الوحيد الذي يجمع أبناء الإنسانية على صعيد واحد لا فرق بينهم بسبب العرق أو اللون أو النسب وإنما التفاصيل بينهم بالتقوى وبعمل الخير, ولأن هذا الدين أعلن المساواة بين الناس فلا طبقية ولا تصارع وإنما هو وحدة ومساواة.
وإن الإنسانية لا يهنأ لها عيش إن لم تسد هذه المبادئ وتتغلب على نوازع الشر ومواطن السوء.
وإن الصراع الطبقي الذي يسود في بعض العقائد المنحرفة على اختلاف أنواعه, بما في ذلك التفرقة العنصرية في عصر المدنية والتفوق العلمي, لا وجود له في الإسلام ولا يقبل به إطلاقا.
لهذا كله فإن الإنسانية بحاجة إلى مسلمين إسلام الحنيفية السمحة ليعودوا بها إلى الجادة التي انحرفت عنها فضلّت وتاهت في ظلمات الشرك والوثنية وعبادة المادة ودعوات الإلحاد والعلمانية.
وصدق الله العظيم:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام 153) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(1/394)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر المقالين المنشورين في جريدة المدينة العدد (1343و1361) بعنوان: الإسلام والتسابق العلمي المعاصر، ودعوة الإسلام إلى العلم(1/395)
التضامن الإسلامي
لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فلا ريب أن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بهذه العبادة وبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب لبيان هذا الحق وتفصيله والدعوة إليه كما قال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} ومعنى قضى في هذه الآية أمر ووصّى وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاًَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} .
وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ففي هذه الآيات الكريمات الأمر بعبادته سبحانه والتصريح بأنه خلق الثقلين لهذه العبادة وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة اليها0(1/396)
وحقيقة هذه العبادة هي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص لله في جميع الأعمال والامتثال لأوامره والحذر من نواهيه والتعاون في ذلك كله وتوجيه القلوب إليه سبحانه في كل ما يهمها وسؤاله عزوجل جميع الحاجات عن ذل وخضوع وإيمان وإخلاص وصدق وتوكل عليه سبحانه ورغبة ورهبة مع القيام بالأسباب التي شرعها لعباده وأمرهم بها وأباح لهم مباشرتها0
وبهذا كله يستقيم أمر الدنيا والدين وتنتظم مصالح العباد في أمر المعاش والمعاد ولا صلاح للعباد ولا راحة لقلوبهم ولا طمأنينة لضمائرهم إلا بالإقبال على الله عز وجل والعبادة له وحده والتعظيم لحرماته والخضوع لأوامره والكف عن مناهيه والتواصي بينهم بذلك والتعاون عليه والوقوف عند الحدود التي حد لعباده كما قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ومن المعلوم أنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم ولا تنتظم مصالحهم ولا تجتمع كلمتهم ولا يهابهم عدوهم إلا بالتضامن الإسلامي الذي حقيقته التعاون على البر والتقوى والتكافل والتناصر والتعاطف والتناصح والتواصي بالحق والصبر عليه0ولا شك أن هذا من أهم الواجبات الإسلامية والفرائض اللازمة وقد نصت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية 0على أن التضامن الإسلامي بين المسلمين أفرادا وجماعات حكومات وشعوبا من أهم المهمات ومن الواجبات التي لابد منها لصلاح الجميع وإقامة دينهم وحل مشاكلهم وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم ضد عدوهم المشترك0(1/397)
والنصوص الواردة في هذا الباب من الآيات والأحاديث كثيرة جدا، وهي وإن لم ترد بلفظ التضامن فقد وردت بمعناه وما يدل عليه عند أهل العلم والأشياء بحقائقها ومعانيها لا بألفاظها المجردة فالتضامن معناه التعاون والتكاتف والتكافل والتناصر والتناصح والتواصي وما أدى هذا المعنى من الألفاظ ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وإرشاد الناس إلى أسباب السعادة والنجاة وما فيه صلاح أمر الدنيا والآخرة ويدخل في ذلك أيضا تعليم الجاهل وإغاثة الملهوف ونصر المظلوم ورد الظالم عن ظلمه وإقامة الحدود وحفظ الأمن والأخذ على أيدي المفسدين والمخرّبين وحماية الطرق بين المسلمين داخلا وخارجا وتوفير المواصلات البرية والبحرية والجوية والاتصالات السلكية واللاسلكية بينهم لتحقيق المصالح المشتركة الدينية وتسهيل التعاون بين المسلمين في كل ما يحفظ الحق ويقيم العدل وينشر الأمن والسلام في كل مكان ويدخل في التضامن أيضا الإصلاح بين المسلمين وحل النزاع المسلح بينهم وقتال الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله عملا بقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1/398)
ففي هذه الآيات الكريمات أمر الله المسلمين جميعا بتقواه سبحانه والقيام بالإصلاح بينهم عموما وبالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين منهم خصوصا وقتال الطائفة الباغية حتى ترجع عن بغيها وأن يكون الصلح على أسس سليمة قائمة على العدل والإنصاف لا على الميل والجور، وفيها التصريح بأن المؤمنين جميعا إخوة وإن اختلفت ألوانهم ولغاتهم وتناءت ديارهم فالإسلام يجمعهم ويوحّد بينهم ويوجب عليهم العدل فيما بينهم والتصافي والكف من عدوان بعضهم على بعض ويوجب على إخوانهم الإصلاح بينهم إذا تنازعوا 0ثم ختم الله هذه الآية بالأمر بالتقوى وعلّق الرحمة على ذلك فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فدلّ ذلك على أن تقوى الله في كل الأمور هي سبب الرحمة والعصمة والنجاة وصلاح الأحوال الظاهرة والباطنة ويدخل في التضامن أيضا تبادل التمثيل السياسي أو ما يقوم مقامه بين الحكومات الإسلامية لقصد التعاون على الخير وحلّ المشاكل التي قد تعرض بينهم بالطرق الشرعية واختيار الرجال الأكفاء في عملهم ودينهم وأمانتهم لهذه المهمة العظيمة، ويدخل في التضامن أيضا توجيه وسائل الإعلام إلى ما فيه مصلحة الجميع وسعادة الجميع في أمر الدين والدنيا وتطهيرها مما يضاد ذلك، ومما ورد في هذا الأصل الأصيل وهو التضامن الإسلامي والتعاون على البر والتقوى قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أمر الله سبحانه في هذه الآية الكريمة عباده المؤمنين بأن يتقوه حق تقاته ويستمروا على ذلك ويستقيموا عليه حتى يأتيهم الموت وهم على ذلك، وما ذاك إلا لما في تقوى الله عز وجل من صلاح الظاهر والباطن وجمع الكلمة وتوحيد الصف وإعداد العبد لأن يكون صالحا مصلحا وهاديا مهديا باذلا النفع لإخوانه كافا للأذى عنهم معينا لهم على خير ولهذا أمر الله المؤمنين بعد ذلك بالاعتصام بحبله فقال:(1/399)
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وحبل الله سبحانه هو دينه الذي أنزل به كتابه الكريم وبعث به رسوله الأمين محمدا صلى الله عليه وسلم والاعتصام به هو التمسك به والعمل بما فيه والدعوة الى ذلك والاجتماع عليه حتى يكون هدف المسلمين جميعا ومحورهم الذي عليه المدار ومركز قوتهم هو اعتصامهم بحبله وتحاكمهم إليه وحل مشاكلهم على نوره وهداه وبذلك تجتمع كلمتهم ويتحد هدفهم ويكونون ملجأ لكل مسلم في أطراف الدنيا وغوثا لكل ملهوف وقلعة منيعة وحصنا حصينا ضد أعدائهم وبهذا الاجتماع وهذا الاتحاد وهذا التضامن تعظم هيبتهم في قلوب أعدائهم ويستحقون النصر والتأييد من الله عز وجل ويحفظهم سبحانه من مكائد العدو ومهما كانت كثرتهم كما وقع ذلك (بالفعل) لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان في صدر هذه الأمة ففتحوا البلاد وسادوا العباد وحكموا بالحق وحقق الله لهم وعده الذي لا يخلف كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .(1/400)
وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ففي هذه الآيات الكريمات حثّ المسلمين وتشجيعهم على التمسك بدينهم والقيام بنصره وذلك هو نصر الله فإنه سبحانه وتعالى في غاية الغنى عن عباده وإنما المراد بنصره هو نصر دينه وشريعته وأوليائه والله ناصر من نصره وخاذل من خذله وهو القوي العزيز وفي هذه الآيات أيضا البشارة العظيمة بأن الله عز وجل ينصر من نصره ويستخلفه في الأرض ويمكن له ويحفظه من مكائد الأعداء فالواجب على المسلمين جميعا أينما كانوا هو الاعتصام بدين الله والتمسك به والتضامن فيما بينهم والتعاون على البر والتقوى ومناصحة من ولاه الله أمرهم والحذر من أسباب الشقاق والخلاف والرجوع في حلّ المشاكل إلى كتاب ربهم وسنّة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتواصي في ذلك كله بالحق والصبر عليه مع الحذر من طاعة النفس والشيطان وبذلك يفلحون وينجحون ويسلمون من كيد أعدائهم ويكتب الله لهم العز والنصر والتمكين في الأرض والعاقبة الحميدة ويؤلف بين قلوبهم وينزع منها الغل والشحناء وينجيهم من عذابه يوم القيامة0(1/401)
وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تُنَاصحوا من ولاه الله أمركم" أخرجه مسلم في صحيحه ومما ورد في التضامن الإسلامي قوله جل وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وهذه الآية الكريمة من أصرح الآيات في وجوب التضامن الإسلامي الذي حقيقته ومعناه التعاون على البر والتقوى كما سلف بيان ذلك وفيها تحذير المسلمين من التعاون على الإثم والعدوان لما في ذلك من الفساد الكبير والعواقب الوخيمة والتعرض لغضب الله سبحانه وتسليط الأعداء وتفريق الكلمة واختلاف الصفوف وحصول التنازع المفضي إلى الفشل والخذلان0 نسأل الله للمسلمين العافية من ذلك وفي قوله سبحانه في ختام الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تحذير للمسمين من مخالفة أمره وارتكاب نهيه فينزل بهم عقابه الذي لا طاقة لهم به، ومن الآيات الواردة في التضامن أيضا قوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهذه الصفات العظيمة هي جماع الخير وعنوان السعادة وسبب صلاح أمر الدنيا والآخرة ولهذا علّق سبحانه وتعالى رحمتهم على هذه الصفات الجليلة فقال: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فتبين بذلك أن الرحمة والنصر على العدو وسلامة العاقبة كل ذلك مرتب على القيام بحق الله وحق عباده ولا يتم ذلك إلا بالتناصح والتعاون والتضامن والصدق في طلب الآخرة والرغبة فيما عند الله والإنصاف من النفس وتحري سبيل العدل وفي هذا(1/402)
المعنى يقول عز زجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ويقول عز وجل في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وفي هاتين الآيتين أمر المؤمنين أن يقوموا لله بالقسط وأن يشهدوا له بذلك في حق العدو والصديق والقريب والبعيد تحذيرهم من أن يحملهم الهوى حتى يحكموه فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضى ويسلموا تسليما0 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ومما ورد من الأحاديث الشريفة في التضامن الإسلامي الذي هو التعاون على البر والتقوى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"قيل لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أخرجه مسلم في صحيحه وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"وشبك أصابعه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما00 فهذه الأحاديث وما جاء في(1/403)
معناها تدل دلالة ظاهرة على وجوب التضامن بين المسلمين والتراحم والتعاطف والتعاون على كل خير0 وفي تشبيههم بالبناء الواحد والجسد الواحد ما يدل على أنهم بتضامنهم وتعاونهم وتراحمهم تجتمع كلمتهم وينتظم صفهم ويسلَمون من شر عدوهم ومما يبشّر بخير ومستقبل أفضل أن جلالة الملك فيصل وفقه الله قد تبنى الدعوة لهذا الأمر الجليل وهو تضامن المسلمين وتعاونهم على كل ما فيه إقامة دينهم وحفظ كيانهم وحصول مصالحهم المشتركة وحل مشاكلهم وقد بذل جلالته في هذا السبيل جهودا مشكورة وقام باتصالات موفقة بعدد من الملوك والزعماء لشرح هذه الفكرة العظيمة والغرس النبيل وقد تكللت (بحمد الله) هذه الاتصالات بنجاح كبير وحصل لها في الأوساط الإسلامية آثار حسنة وانتشرت هذه الدعوة بين المسلمين وتناقلتها أجهزة الإعلام في كل مكان0ولا ريب أن جلالته يشكر شكرا جزيلا على ما بذله في هذا السبيل من الجهود المباركة التي أدرك كل منصف آثارها الصالحة ونتائجها الطيبة. نسأل الله أن يجزل مثوبته وأن يمنحه القوة والنشاط في مواصلة جهوده الطيبة في هذا السبيل الخير وان يكلل بالنجاح إنه خير مسؤول0(1/404)
ومن المعلوم أن الدعوة إلى هذا الأمر أعني التضامن الإسلامي وبذل ما يمكن من الجهود في تحقيقه من أهم الأمور ومن الواجبات المشتركة المتأكدة على جلالة الملك فيصل وعلى غيره من ملوك المسلمين وزعمائهم وعلمائهم وأعيانهم ولكن خادم الحرمين الشريفين أولى الناس بالقيام بهذا الأمر وتحمل أعبائه وتكريس الجهود الممكنة في تحقيقه لكونه في الحقيقة هو قائد المسلمين ورائدهم في هذا العصر وموضع آمالهم الكبيرة (بعد الله عز وجل) ولديه من كرم الله وجوده من الإمكانات ما يعينه على ذلك والمسلمون في كل مكان يرجون من جلالته مضاعفة الجهود في هذا السبيل والصبر على ذلك حتى يحقق الله للمسلمين على يديه ما يرجون من عزة وكرامة وجمع كلمة واتحاد صف وحفظ كيان وانتشار للحق وإقامة للعدل ونشر للأمن والسلام في أرجاء المعمورة ويرجو المسلمون أيضا من سائر ملوكهم وزعمائهم وعلمائهم وأعيانهم أن يضموا أصواتهم إلى صوت جلالة الملك فيصل وجهودهم إلى جهوده وأن يشاركوه في تحمل عبء هذه الرسالة العظيمة والمسؤولية الكبرى التي في تحقيقها سعادة الجميع وعزتهم في الدنيا والآخرة وان يبذلوا جميعا ما يستطيعون من الوسائل في نشر هذه الدعوة ومساندة الداعين إليها وشرح محاسنها ومصالحها لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم حتى يتحقق للجميع إنشاء الله ما وراء هذه الدعوة المباركة من خير وأمن وسلام للجميع عملا بقول الله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأمام الجميع في هذه الدعوة العظيمة وقدوتهم في هذا السبيل القيم هو نبيهم وسيدهم وقائدهم الأعظم نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أول(1/405)
من دعا هذه الأمة إلى توحيد ربها والاعتصام بحبله وجمع كلمتها على الحق والوقوف صفا واحدا في وجه عدوها المشترك، وفي تحقيق مصالحها وقضاياها العادلة عملا بقوله تعالى مخاطبا له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .
وقد سار على نهجه القويم صحابته الكرام وأتباعهم بإحسان رضي الله عنهم وأرضاهم فنجحوا في ذلك غاية النجاح وحقق الله لهم ما وعدهم به من عزة وكرامة ونصر كما سبق التنبيه على ذلك والإشارة اليه في أول هذه الكلمة، ولا ريب أن الله عز وجل إنما حقق لهم ما تقدمت الإشارة إليه بإيمانهم الصادق وجهادهم العظيم وأعمالهم الصالحة وصبرهم ومصابرتهم وصدقهم في القول والعمل وتضامنهم وتكاتفهم في ذلك لا بأنسابهم ولا بأموالهم0(1/406)
كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" أخرجهما مسلم في صحيحه فمن سار على سبيلهم ونهج نهجهم أعطاه الله كما أعطاهم وأيّده كما أيدهم فهو القائل عز وجل في كتابه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وهو القائل سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وهو القائل عز وجل: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} والله عز وجل المسؤول أن يجمع كلمة المسلمين على الهدى وأن يفقههم في دينه وأن يصلح ولاة أمرهم ويهديهم جميعا صراطه المستقيم وأن يمنحهم الصدق في التضامن بينهم والتناصح والتعاون على الخير وأن يعيذهم من التفرق والاختلاف ومضلات الفتن وأن يحفظهم من مكائد الأعداء إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين0
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(1/407)
مقومات النصر في حروب الإسلام
للشيخ أحمد مختار بزرة المدرس في الجامعة
الحمد لله رب العالمين، ولي المؤمنين، وناصر المخلصين، وعدا عليه حقا في القرآن العظيم، الذي فتح أبواب الجنة للمجاهدين: الشهداء والمنتصرين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وخير المجاهدين الذي أمده ربّه بالملائكة مردفين، وأنزل عليه النصر المبين، وجعله للمؤمنين شفيعا يوم الدين.
لا يماري أحد في أن الانتصارات العظيمة التي حققها الإسلام في فجر بزوغه وانتشاره يكمن سرها في قدرة المسلمين أنفسهم على تمثل هذا الدين عقيدة وإقامته عبادة وعملا، وفي اندفاعهم وامتثالهم لإنفاذ الأوامر الإلهية في أدق صورة يستطيع مؤمن أدائها.
ولا يماري أحد أن سرّ ذلك يكمن في طاقة الجهاد العظمى التي فجّرها هذا الدين في نفوس أتباعه على مثال لا يعرف تاريخ البشر له شبيها.
والحق أن قصة الإسلام الأولى هي مراحل الجهاد الشاق العنيف المتواصل الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غزا شعاعه نفوس الداخلين في دين الله أفواجا حتى هجمت بهم صدور الخيل على سور الصين ولجج بحر الظلمات.
إن المسلم ليتغنى بأنشودة عذبة ساحرة، أنشودة الأمجاد الخالدة التي ابتناها المؤمنون السابقون.
وإننا لنستبقي نحن المسلمين ذكرى هذه الانتصارات حية في غدّونا ورواحنا نرنو إليها بمزيد من الحنو ونتوجه إليها بكثير من الشوق والحنين وإنها لتزداد توهجا في ضمائرنا في هذه الأيام الحالكات إذ الهزائم تنزل بنا، ونحن من العجز حسرى، ومن الفم سكارى، وفي براثن العذاب أسارى، لا يكون منا إلا التوجع والشكوى، فنطبق الأجفان على واقع أليم، ونشط بالذكرى إلى ملاحم الإسلام وانتصارات الأجداد الفاتحين صرفا لأنفسنا عن اليأس وتزودا بالرجاء وتمسكا بما فيه عزا.(1/408)
ولكننا لانفعل بأنفسنا خيرا إن أََمتنا شعورنا بالواقع بما نورد عليه من جميل الذكريات الخالدات، وهربنا من شقوتنا وتعاستنا إلى حمى سعادة غابرة ليس من حقنا أن ننعم بها لأنا لسنا محققيها: هل نحن حققنا تلك السعادة؟ هل نحن رفعنا أعمدة المجد الشامخ؟؟ كلا.. إننا قطعنا حلقة الاتصال بيننا وبين أصحابها، لكننا لسنا بأحفاد أولئك الذين ينتشي التاريخ بالحديث عن بطولاتهم ومآثرهم ومكرماتهم الإنسانية؟.
كيف يكون الخير إذن في تذكارها؟ وكيف ننتفع بها في وصل ما انقطع من أيام الإسلام المجيدة؟
إن الانتفاع بها لعظيم، وإن فيها الوقدة الذاكية القادرة على أن تضرم في قلوب الملايين من المسلمين حميّة الجهاد وحب الاستشهاد، وأن تهز القلوب والأعصاب منهم هزا، وأن تنفض الكرى والسبات عنهم نفضا، وأن تخرجهم من التبلد والخمول إخراجا.
ولكن كيف تستطيع أيام الإسلام أن تفعل في أنفسنا هذه المعجزة المنتظرة؟
إنّ ذكرى بدر وحنين واليرموك والقادسية وحطين تغمر نفوسنا غمرا ولكن لا يحسن بنا أن نرضى منها بالأطياف بل لا بد أن تفعم قلوبنا بمبادئها وأهدافها وأن نعي خططها لنصنع أنفسنا في معملها صنعا مجددا، وإننا نحياها حق الحياة إذا استنتجنا منها الدرس العملي التطبيقي في تحقيق النصر الأكبر، وليس من شك أنّ هذه الحروب هي التي صاغت المسلمين كما شاء الله لهم أن يكونوا ورفعت لهم أمجادهم، وهي وحدها قادرة على أن تصنعنا بمشيئة الله وقد جعل الله لنا منها قدوة، وجعل لنا في أصحابها أسوة. وإننا مضطرون إن كنا جادين في طلب النصر إلى العودة إليها للتحري والتقصي عما فيها من الأعمال والخطى التي رجعت بالنصر المبين.
إن الله تعالى علّم المسلمين الأولين كيف يصنعون النصر بأيديهم، وما أحوجنا أن نتعلم كما تعلموا.(1/409)
إننا مدعوون شئنا أم أبينا إلى خوض معركة فاصلة مع أعدائنا يكتب لنا فيها البقاء أو الفناء، وهذه المعركة هي أشد ما تعرّض له المسلمون من محن في تاريخهم لأنها لا تستهدف من الغلبة الاستيلاء على الحكم فحسب وإنما تستهدف ذات وجودنا روحا وقلبا ووطنا فإما أن نبقى وإما أن نذهب إلى الفناء.
أقول: إننا مدعوون راضين أو كارهين إلى المعركة الفاصلة، فإن لم نتقدم إليها بتخطيطنا وتصميمنا استقدَمنا إليها أعداؤنا استقداما، فهم جادون في تنفيذ ما حلموا به قرونا وأزمانا وما أيسر انتصارهم علينا إن جرونا إليها جرا لا يكون أمرنا أصعب من أمر الأنعام التي تساق إلى المسلخ مقهورة وما أمنعنا وأشدنا إن كنا نحن البادئين المفاجئين قد عقدنا العزم وأعددنا العدة، وأمسكنا بزمام الأمر وأخذنا مطالع السبل وأحطنا بالعدو ثم أدرنا عليه الدائرة.
وقد جعل الله للنصر أسبابا وللظفر سبلا هدى إليها المؤمنين المخلصين فكانوا بها الغالبين والفاتحين، ولو أخذنا في إحصائها لوجدنا من أهمها:
أ- بناء الحياة الإسلامية على قاعدة الجهاد:
علينا أن نبادر إلى إقرار حقيقة لا تُدفع هي: أن الانتصارات العظمى في تاريخ الأمة الإسلامية قد قامت على قاعدة راسخة تجعل من الجهاد في سبيل الله الأساس في كيان الجماعة الإسلامية ومنطلقهم إلى العالم والحياة، إن الوجود الراكد لا يقبله ديننا، بل هو في جوهره إخراج الناس من الركود إلى الحركة، أو من الحركة المشتتة المخربة إلى الحركة المنظمة البناءة التي تهب السعادة وتنشر البشر والخير، وهي القاعدة التي أقام الله عليها الوجود الإنساني كله، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [1](1/410)
ولقد أكمل الله الدين للمسلمين وأتم عليهم نعمته، ومن ذينك الكمال والتمام أن يجعل منهم القوة الدافعة في الأرض لتجتث جذور الكفر ولإفساد.
إن إكرام الله للمسلمين لن يجعل منهم جنده المنتصرين المنصورين.
تلك هي الحقيقة يزيدها سطوعا ما أعلمناه الله من استغنائه عن خلقه، واستقلاله بالنصرة دونهم لمن شاء من عباده، وأنه ما حمّلهم أمانة الجهاد والانتصار لله إلا إنقاذاً لهم وتكريما، فعرّف المؤمنين ما كان من نصره للرسل وحده وللنبي محمداً صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [2] فأين كانوا وكيف كانوا يوم أنزل جنوده وحمى نبيه.!
وفي محكم الكتاب آيات مفصلات لكثير من المواقف الحرجة التي تنزل فيها نصر الله على رسله وعباده الصالحين في ساعة اليأس، فقد نصر الله يوسف عليه السلام بعد أن ألقاه إخوته في غيابة الجب في بيداء منقطعة ثم مكّن له في الأرض، وأنقذ موسى وقومه من فرعون الطاغية ولم يقاتلوا ولم يناوشوا فضرب لهم في البحر طريقا يبسا وأغرق فرعون وجنوده بعد أن كاد الهلع يأتي على قلوب بني إسرائيل، كذلك منّ على أصحاب الكهف لما خافوا أن يغلبوا على أمرهم وأن يفتنوا عن دينهم فلجئوا إلى الله لا يرون ربا غيره ولا يطيبون عن إيمانهم نفسا، فنادوا متضرعين مستنجدين. {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [3] فآواهم إلى الكهف وضرب عليهم النوم قرونا وحماهم بمعجزة عليا هو وحده عليها قادر.
تلك هي معجزات الله لو شاء الله أن يستغني عنا في نصرة الدين لفعل، ولكن كان التكليف بها منة منه علينا وإفضالا وإكراما؟ إنها ثقة الله في عباده المؤمنين الطائعين.(1/411)
وحسبنا أن نعلم أن الأمة المسلمة تدين بوجودها وبقائها لما أيدها الله به من انتصارات وفتوحات باهرات.
فإن الجماعات التي تعجز في الدفاع عن كيانها تنتهي كما انتهى كثير من شعوب الأرض-إلى الزوال.
وقد كان المسلمون في فجر الدعوة والهجرة قلة مستضعفين لم تسلم لهم القبائل والبلاد المحيطة بهم باعتراف رسمي، وكانوا هدفا للعدوان يخشون أن ينصب عليهم من جهات الأرض، فاستل الله من قلوبهم الخوف إذ قادهم بأمره وتقديره إلى بدر ليجربوا بلائهم لأول مرة وليستمرئوا طعم الظفر حتى يمعنوا في طلبه، وليمن عليهم بنصر علوي يرفعهم لذروة الفخار والاعتزاز فلا يرضون بعدها بخسف أو ذل، وليشعروا بأنهم قادرون على حمل أعدائهم على أن يخلوا بينهم وبين أنفسهم يعبدون الله أحرار ويدعون إلى سبيله أحرارا.
أيها الإخوة.
إننا مدينون بدين صعب الوفاء لهؤلاء البدريين-رضوان الله عليهم-الذين صنع الله على أيديهم النصر الأول قاعدة مجاهدة الأعداء بالسيف.
وقد أمر الله المؤمنين أن يذكروا معتبرين ذلك اليوم العظيم الذي وطّد كيانهم وأخرجهم من الخوف إلى الأمن ومن التردد إلى الحزم ومن التوقف إلى العمل، ومن الدفاع إلى الهجوم، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [4]
ولاشك أن الله سبحانه إذ فُرض القتال على المسلمين طريقا إلى النصر اختار لهم منهجا سويا سليما يحفظهم من آفات الحضارة، ومن أمراض النفس ودواعي الخزي والذل والموت إذ ركّب الله في النفس البشرية قوتين متعارضتين وميلين متناقضين:(1/412)
الميل إلى الدعة والسكون والتبلّد، والميل إلى النشاط والفعالية والتوثب ومستقبل الإنسان بينهما فإن بسط الأول عليه سلطانه كان أدنى إلى الحيوان المتمتع المستهلك، وإن غلب عليه الثاني كان الإنسان الفعال المنتج ويتجاذب الإنسان هذان الميلان فإن انتصرت إيجابيته على سلبيته كان هذا النصر الداخلي مقدمه للنصر الخارجي فإن لم ينتصر الإنسان على نفسه فلا رجاء في أي انتصار خارجها.
ومن ثم أمرنا الله أن نقهر في ذواتنا رغبات القعود، وبيّن لنا أنه قد خلقنا لأمانة كبرى لا ينهض بها إلا أولو العزم من المجاهدين، وأن إهمال هذه الأمانة حطّّ للإنسان من قدر ذاته وهوان يجره بتقاعسه على نفسه، وحذرنا من الإخلاد إلى الأرض فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل} [5] فقد جعل الله جلت حكمته من القتال معهدا يتخرّج فيه المجاهدون في السبيل الله، ومن الحروب مصنعا ينتج أبطالا متفوقين يستصغرون الدنيا ويستعذبون الموت، فتنصهر بهذه الممارسة العملية والمعاناة الجادة للصعوبات والتضحيات القوى الفعالة البنّاءة في النفس وتنهزم الشهوات والاستسلام للدعة والترف ومغريات الأرض.
إنّ الجهاد في حقيقته تربية لنفوس صحية سليمة واقعية، إذ يضعها دائما في ظروف مشحونة بالأخطار لتتغلب عليها وتنجو منها، فتتعود فيها الصبر والاحتمال وتصبح الأخطار مهنتها المتقنة ومجالها المفضل الذي تحقق فيه ذاتها وتكشف عن إمكانياتها وإذا وصلت النفوس إلى هذا المستوى من الشدة وردود الفعل الناجحة اقتربت من نصر الله.(1/413)
وهذا هو الانتصار الداخلي في النفس الذي لا يكون النصر المسلح إلا به، وإن أية تجربة عسكرية لا ترتكز إليه مقضي عليها بالإخفاق، وكان الله عليما حكيما إذ أخرج المؤمنين في السنة الثانية من الهجرة من المدينة حيث الظل والشجر والأمن إلى بدر وكان فريق منهم ألفوا هذه الحياة المطمئنة فأرادوا عيشا يسيرا من غير جهد، وأراده الله لهم مجبولا بالعرق، غاليا كالمهج وصور لنا نفوسهم فقال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [6]
لقد قضت سنة الله أن يحق الحق بسيوف عباده الذين انتدبهم لنصرة الحق، وهم لا يقدرون على النصر حتى يؤثروا الجهاد على ارتباطات الحياة كلها، ولا يجدوا في الموت ضيرا ومن ثم أوجب الله تعويد النفوس حب ما تكره من القتال، وكره ما تحب من ملازمة الأرض وإيثار السلامة.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون} . [7](1/414)
ذلك أن طلبها للسلامة يزيّن لها الاستسلام فتمرض مرضا عصي، وتفسد حياتها فسادا ذريعا، فلا يبرؤها إلا أن تحب ما كرهته من الانتقاض على القعود ولا يتم لها هذا إلا بمعارضة نفسية داخلية تصرع فيها حوافز الكفاح والنضال المثبطات والمعوقات الذاتية، حتى يصبح الكفاح قاعدة الحياة وغايتها ولا يتحقق ذلك إلا بالمعاناة المريرة وإقحام النفس في المسالك الوعرة والشعاب الشاقة التي يتعثر فيها الصاعدون فتتمزق بالأحجار الناتئة أقدامهم وأيديهم وهم يتشبثون بأطراف الصخور ليصلوا إلى الأعالي، فمنهم من يستشهد ومنهم من يبلغ القمة ويركز فيها الراية. إن هذا لهو البلاء الحسن الذي ذكره الله تعالى فقال: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [8]
أجل إنه البلاء الذي يصنع نفوس الأبطال ويخرج خير الأمم والشعوب وبذاك يعيش المؤمنون تجربة الإيمان حية دفاقة قد دفعوا في ثمنها من دمائهم، فتغلو لديهم وتعلو، وتصبح الجزء الذي لا يتجزأ من وجودهم، بل تسمو عليه فلا يجدون الموت من أجلها كثيرا أو صعبا، فصار الدين بذلك أنفس النفائس لدى المؤمنين.
وإذا غدا القتال طريق الأمجاد ونشيد الفخار تسابق إليه المتسابقون وكثير طلابه، وخجل من تركه من خشي على نفسه السقوط في الاعتبارين الإلهي والاجتماعي وكل خطير من الأمور تهابه النفوس ابتداء ثم تألفه اعتيادا، وتحرص عليه لما يعطيها من خير، كذلك كان شأن المسلمين قبل بدر منهم من يؤثر الغنيمة الباردة، فلما وشفوا من رضاب النصر الأمل مجت أفواههم غيره، ودبت الغيرة في النفوس فصار الذين لم ينالوا شرف البدرية يتمنون لقاء العدو ليفوزوا بالأجر والفخر كما فاز بهما إخوانهم في بدر.
ما أسعد الأمة وأمنعها إذا كانت البطولة والجهاد مثلها الأعلى وما أشقاها وأهونها إذا رضيت باللين والترف والتخنث حظا وقسما.(1/415)
وهكذا نجد أن الجهاد باعتباره قاعدة الحياة يبعث في نفوس أتباعه القدرة على الانتصار الذاتي أولا ثم ينهض بهم إلى قهر خصومهم وتثبيت مركزهم وتأثيل ملكهم، ثم يحبب إليهم الاستزادة من الانتصارات والارتقاء في سلم السؤدد والمكرمات.
على أننا بوصفنا الجهاد بأنه قاعدة الوجود الإسلامي الدنيوي نعطيه نصف الحقيقة والحقيقة التامة أن الجهاد ركيزة حياة المؤمن في الدنيا والآخرة معا: إنه جواز سفره إلى الجنة قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [9] إن الانتصارات الحربية تصبح تافهة الشأن إذا قيست بالهدف العلوي الذي يسعى إليه المسلمون المجاهدون.. أقدامهم ثابتة في أرض المعركة وآمالهم في السماء يتحينون النصر أو الشهادة طمعا بالجنة. وهؤلاء المؤمنون الذين يحملون بين جنوبهم قلوبا يعمرها الإيمان بالله والشوق إلى جنانه هم الذين أمروا بالقتال، قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [10]
وهكذا يطيف الجهاد بالمؤمنين من جوانب حياتهم كلها: في حاضرهم ومستقبلهم، فهو السد المنيع لهم من الخذلان في الدنيا، والجنة من عذاب لله في الآخرة.(1/416)
وليس أدل على كونه أساسا وسياجا من أن الله هددنا بالذل المقيم والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة إن نحن قعدنا عنه ورمينا بهذا الواجب عرض الحائط فقد أعلمنا الله عز وجل أنه ما خلقنا إلا لنجاهد في سبيله فإن لم يجدنا أهلا لأمانة الجهاد وأعباء القتال قضى علينا بالفناء وكرم غيرنا بنصرة دينه فقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [11]
أجل إننا لا نضر الله شيئا إذ له جنود السماوات والأرض وما نضر إلا أنفسنا بحرمانها شرف الجهاد فوق الاعتبارات والارتباطات المادية والعاطفية كلها في الحياة حتى لا يحول بيننا وبينه حائل، ولا ينفعنا بتركه اعتذار فهو فوق العواطف الأبوية والبنوية والأخوية والزوجية والقبلية والوطنية وفوق الرغبات المادية، فإن قدمنا شيئا منها عليه تخوفنا على أنفسنا من الله سخطا عظيما وقد أوعد الله به في معرض الدعوة إلى قتال المشركين: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [12]
نسألك اللهم إلا تحقق فينا وعيدك وأن تعيننا على أنفسنا وأن ترفع عنا ما أصابنا من الخزي والعجز، وأن تجعل منا جندك المخلصين.
2- إنشاء جيش مسلم فريد في خصائصه:(1/417)
لقد بينا أن القتال هو الفقار والصلب في حياة المسلمين، لا يستطيعون له تركا، أو تساهلا به وإنهم لفي صراع دائم لأعداء الدين إذا أرادوا أن يكونوا دائما موضع مرضاة ربهم، والخلفاء في الأرض الذين لا ينقطعون عن الكيد لهم، وعن تبييتهم بالمؤامرات، والغارة عليهم ما أصابوا منهم نهزة، فقد أبى هؤلاء الدخول في ديننا وهم يحولون بيننا وبين الدعوة إلى كلمة الله فلا معدي لنا عن منازلتهم، وإحباط خططهم، وتشتيت قوتهم حتى يسلم لدولة الإسلام الأمن والاستقلال والسيادة لذلك كان نشوء جيش إسلامي نشوءا تلقائيا طبيعيا أمر تفرضه الضرورة وطبيعة الدين الإسلامي.
وهذا الجيش ذو خصائص نادرة مختصة به ثابتة فيه، لا يكون جيشا إسلاميا إلا بها، ولم يتمتع بها أحد من شعوب الأرض قديما أو حديثا إلا جيوش بعض الأنبياء والصالحين: كجنود طالوت وذي القرنين، وهؤلاء قد انقطع الزمان بهم، أما الجيش الإسلامي فهو ممكن الوجود في أي حقبة يستجمع أفراده هذه الصفات الخاصة عاملين بالتوجيه الإلهي..
إنه جيش الله المتجدد ما حافظ المؤمنون على الإيمان الحق، فإذا خلت صفوفهم من هؤلاء الجنود النادرين تراجعوا رجوعا ظاهرا.
فما أبرز خصائص الجيش الإسلامي؟
1- القتال من أجل هدف علوي:
فإذا كانت الأمم ترسل بجيوشها إلى الجبهات حلا لأزماتها: كالتزايد في السكان أو التضخم في الإنتاج، أو لتأمين مواد أولية وأسواق لمصانعها أو للسيطرة على بقاع من الأرض وبسط النفوذ على شعوب تسخرهم فيما يلائم مصالحها وحاجاتها فإن المسلمين لم يقاتلوا لواحدة من هذه أو أشباهها، ولا ينبغي لهم أن يقاتلوا لمثل هذه الأغراض، بل نحق الحق إذا قلنا إن الله بعثهم يقاتلون ذات الإغراض، ويقدمون للإنسانية مثلا جديدا من أمثال التحرك الإنساني: تحركا يثير الخير، ويئد الشر.(1/418)
إن الجندي المسلم يبرز للنزال وهو خالي الذهن من أي غرض ذاتي أو حاجة دنيوية ليس له من هم إلا أن يعلم الله مكانه ويرى بلاءه، ويفوز بمرضاته منتصرا أو شهيدا. لقد حل ارتباطات نفسه من الأرض ووصلها بربه الذي به آمن وعليه اتكل، وأحبه حبا يسرع به إلى رضاه ولو اصطلحت عليه الأخطار وترصد له الردى. ولا نبالغ إذا ادعينا أن المؤمن المحارب يكاد يشعر أن وسط الأخطار والمحن والزلازل والتضحيات وسطه الحقيقي فإنه ينفذ منه إلى الجنة ومازلنا نذكر كيف ألقى عمير بن الحمام، أخو بني سلمة ثمرات كانت بيده يأكلهن قائلا: "بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل" [13] كان عمير رضي الله عنه يعالج بقتاله باب الجنة حتى فتح له.
لقد قضى الجندي المسلم على شبح الخوف من الموت، فلم يبق له حساب في سير المعركة، يقينا منه أن الاستشهاد فيها خير من ثمرات البقاء التي يقاتل لها الكفرة، قال-تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [14]
وهل يخاف الذاهب إلى ربه! إنه لن يضيع أبدا وما كان الله ليضيعه وقد لبى نداءه وحمل رايته وضرب في سبيله، لا يرى الموت إلا منه من الله عليه! إذ قال –تعالى-لكل مؤمن {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُم} [15](1/419)
وكيف يشعر بالضياع وهو عارف مستقبله يراه في يقين رأي العين؟ ألم يحدثه الله عن هذا المستقبل العظيم؟ ألم يخبره بما أعد له من نعيم في دار البقاء ومن التكريم في أعلى درجات الجنة؟ إن الشهادة عنده هي الفوز: هي بدأ الحياة الحقيقية: حياة الخلود إنه سمع قول الله {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [16]
سمع قول الله فوعاه وعي المؤمن المصدق فكان الخوف من الموت شيئا منسيا.
وليس من حقنا أن نبرئ المسلم من حرصه على المنفعة الذاتية، بل هو يطلبها لنفسه طلبا حريصا وما كان ليبذل مهجته سدى، وما يعطيها إلا بحقها، وإنه يتقاضى الثمن من الله عز وجل: إذ عقد معه بيعا رابحا: فهو يبيع لله نفسه بجنة عرضها السماوات والأرض قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [17](1/420)
هؤلاء المحاربون الذين يبلغون هذا المدى من العمق الإيماني يقبلون طواعية على هذه الصفقة الرابحة، وعلى أيديهم يجعل الله النصر إن شاء ولا يصل الجندي المسلم هذا المستوى الرفيع حتى يحقق لذاته صفات وخلالا تجعل كيانه إيمانيا عمليا كله، تبتدئ في سلوكه من جزيئات سلوكه المغموسة بالإيمان غمسا، وأول مسلك له أن يتوب إلى الله من ذنوبه فإن فن طلب التوبة اعترافا بالتقصير واستعدادا للبذل والتضحية ثم يقبل على عبادة الواحد الأحد عبادة يتجلى فيها الإخلاص قولا وعملا، حامدا ربه على نعمة الإيمان وما خص به من الإكرام في تكليفه بالواجبات، وعلى ما منحه من حرية الجهاد وقد كانت الطواغيت تخنق قلبه وتكبل يديه ثم لا يفتر عن التسبيح والتهليل ولا يسهو عن الصلاة ولا يخطو خطوة إلا ليأمر بمعروف وينهى عن منكر، فلا تفارقه التقوى ولا يتجاوز حدود الله. وهذه الصفات أو الشروط في المجاهد ليست من اقتراح إنسان وإنما نص الله على وجوب توفرها في جنده المحاربين فذكرها مفصلة بعد الآية السابقة التي حدث فيها عن اشتراء أنفس المؤمنين بالجنة فقال عز وجل: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [18]
وقد ربح بيع المؤمنين الذين لم يكونوا شيئا مذكورا ثم صاروا أمة تقاتل معهم الملائكة وتستغفر لهم وتشد أزرهم ثم يمكن الله لهم في الأرض إن هذا لهو الفضل المبين.
2- القدرة على احتمال الزلزلة في القتال:(1/421)
ومن خصائص هذا الجيش أن أفراده المبشرين بالنصر لا يجنون ثمرته حتى يستفرغوا جهدهم في القتال، ويثبتوا ثباتا يقطع عزم الأعداء، لأن هذه القدرة من الاحتمال هي البرهان العملي على ما وقر في القلب من حل التضحية قال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [19] ثم يخرجون من هذه التجارب أصلب من الصخور الراسية لا تجتاحهم عاصفة من رهبة ولا سيل من غزو، وقد وضع الله المسلمين الأولين في ميادين الاختبار ورماهم بالعدو الكثير العنيد الحقود فظفروا بمرضاة الله وكانوا أحق بها وأهلها وذكر الله ما لقوا من عدوهم في غزوة الأحزاب فقال: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [20]
وقد جعل الله لهذه المعاناة للزلزلة سنة خالدة في الأولين والآخرين يأخذ سبيلها من أراد أن يرتفع إلى مقام الأبطال وأن تفتح له أبواب الجنة فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [21](1/422)
أجل إن نصر الله قريب.. قريب في هذه اللحظة التي يشعر فيها المؤمن المقاتل أن لم يبق بينه وبين الجنة إلا ضربة بسيف أو طعنة برمح أو قذف بقنبلة أو انقضاض بطائرة في هذه اللحظة بالذات تأخذ الغيوم تتقشع وتتسرب أشعة الشمس من خلال الشقوق بين السحب الدكناء ويتبدى النصر للمجاهدين قليلا قليلا وهم يعانون المآسي ويحتملون الآلام ويبذلون التضحيات إنهم لا يستروحون عبير النصر حتى يشرفوا على لحظات اليأس، وإذ ذاك يتدفق الأمل في النفوس حيا ثجاجا عجاجا ويتنزل النصر من عند الله فيتمسكون به ويضنون به، وإذا تعودت النفوس العزة كبر عليها الذل فتخجل من النكوص على العقبين ومن الارتداد إلى الهزيمة.
أجل إن نصر الله قريب ولكنه ليس قريبا إذا استجدى المسلمون إيقاف القتال وعدوهم عليهم ظاهر ولم يكن طعم من ردود الفعل إلا الدموع والتظلم والشكوى.
3- المصابرة والمرابطة والثبات:
ومن ثم صدرت الأوامر من الله إلى الجيش الإسلامي بالمصابرة والمرابطة والثبات، فإنها أعمدة النصر المنتظر إن رفعت على تقوى الله والتزام حدوده فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [22]
والسر في ذلك أن الصبر من الحرب كالروح من الجسد، وأن الفريق الأجلد والأصبر هو الفائز بالنتائج الرابحة في المعركة ولذلك أمرنا الله أن نصابر الكافرين في القتال حتى نغلبهم في الصبر وقد أرشدنا سبحانه إلى القوة التي يستمد منها الصبر وتعين عليه ألا وهي تقوى الله، فإن الفار يبوء بغضبه ومن يخشه يمتثل أمره ويثبت قدميه في مستنفع الموت لا يرتدون خائبين وبالصبر أحبط المسلمون يوم الخندق خطة الأحزاب وكان من دواعي فخرهم إن صبروا ويشهد بذلك شعر قاله كعب بن مالك رضوان الله عليه يوم الخندق:
ولو شهدت رأتنا صابرينا
وسائلة تسائل ما لقينا(1/423)
صبرنا لا نرى لله عدل
وبين أن للصبر غاية منبعها التقوى:
نكون عباد صدق مخلصينا
لننصر أحمد والله حتى
وأحزاب أتوا متحزبينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا
وأن الله مولى المؤمنينا [23]
بأن الله ليس له شريك
والمرابطة من المصابرة ولكنها الصبر المستديم غير المبتوت الجامع للحذر والتيقظ والرصد الدائم لتحركات العدو. ولا يحفظ بلاد الإسلام إلا المرابطون في الثغور والحدود يصدون عنها الطامعين ومنها ينطلقون فاتحين فهم في حالة دائمة من الاستعداد والتنبيه والتوثب وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دور هؤلاء المرابطين فبشرهم بالثواب الطيب فقال من حديث له: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن يشفع لم يشفع" [24]
ولو أنعمنا النظر في كثير من حروب الإسلام الهامة لوجدنا أن الثبات العظيم الذي لبسته فئة مختارة من المجاهدين كان له الأثر البليغ في تلك المعارك وفي مستقبل المسلمين.(1/424)
ففي معركة أحد جهد المشركون للوصول إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والحقوا به أذى حتى ظنوا أنه قد قتل ولكن نفرا من الصحابة استماتوا في حياطته والدفاع عنه، فجالدوا جلادا عنيفا، وكان منهم أبو دجانة (ترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل) [25] ومنهم سعد ابن أبي وقاص وكان يرشقهم بالنبل رشقا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول يناوله السهام وهو يقول: "ارم، فداك أبي وأمي" [26] وأظهر بعضهم من نادر البطولات، في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقايته من المشركين ما رفعهم إلى منزلة الشهداء وهم أحياء فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طلحة بن عبيد الله-وكان له في أحد المنجد المعوان-: "من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" [27]
ويوم حنين ولى المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خيل للمرتابين هزيمتهم، وما إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس رضي الله عنه أن ينادى: (يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب الشجرة [28] حتى تيقظت في النفوس الذكريات، وتأججت العواطف الخالدة فأجابوا: "لبيك لبيك" [29] وأسرعوا إليه، وما أن تجمع منهم مائة حتى حمى الوطيس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتوا للعدو، وأخذوا في زحزحته وتقطيعه، (فما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) [30] فحقق الله نصره بسيوف هذه المائة من الصابرين وبقلوبهم المؤمنة.
4- القوة المعنوية العظمى.(1/425)
وقد جعل الله الثبات والصبر في متناول المسلمين، لما نفحهم به من روح معنوية غالبة على إمكانيات العدو النفسية كلها: إذ أمرهم ألا يسمحوا للوهن أن يجد إلى نفوسهم مدخلا، وبين لهم أن المؤمن الذي يريد أن يسلم له الإيمان نقيا من الشوائب بريئا من المفسدات، هو الذي يضل الخوف عن قلبه شلا، قال-تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [31] فلا يحق للمؤمن في تعاليم الله أن يدخل عليه الإحساس بالضعف والفتور، فإن فتر فقد مركز المتفوق والعلو.(1/426)
ذلك أن الوهن النفسي أول الهزيمة ولا يسببه إلا استعظام الموت والجراحات ولا يبعده إلا تناسيها وتهوين أمر المصائب وهي من طبائع الحروب، ولا حرب من غير خسائر تنزل بالفريقين معا: قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [32] وقد أولى الله هذا العامل النفسي اهتماما كبيرا لأثره الفعال في تقرير مصير المجاهدين، فكان القرآن حريصا على أن يسمو بروحهم المعنوية في المعركة، وقبل أن يدخلها، وبعد أن يخرجوا منها، يتتبع حركات نفوسهم، ولا يسمح لهم بتنازل-وإن قل-في شعور الاستعلاء على العدو، وينهاهم عن السعي إلى السلم فرارا من الزحف قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [33] والسبب في ذلك جلي الجلاء الساطع فإننا إن نخرج من المعركة ضعاف النفوس تكن خسارتنا مضاعفة في الجانب المعنوي والجانب المادي معا أما إذا خرجنا بنفوس مستعيلة فلم نخسر ماديا إلا مثل ما أصبنا به أعداءنا فنحن وهم في القروح سواء ونفضلهم بالإيمان وعظم النفس فتبقى لنا الغلبة عليهم.(1/427)
ولذلك أقر النبي عليه الصلاة والسلام ما فعله بعض المؤمنين في القتال مما فيه دلالة على رفعة معنوياتهم، وهو عند الله ورسوله مبغض في غير هذا الموطن: ففي يوم أحد أخذ أبو دجانة السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه، وهو أن يقاتل به حتى ينحني. فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه وكان إذا اعلم بها علم الناس أنه سيقاتل، وجعل يتبختر بين الصفين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن" [34] وكانت القوة المعنوية التي كان المسلمون عليها قبل القتال سر انتصارهم في كثير من المعارك التي لم يحرزوا فيها نصرا فكانت السر يوم بدر إذ خرج المسلمون قلة، وكثرتهم قريش بالرجال والخيل، ولم يكن للمسلمين قبلها بلاء مشهود، وكان يظلهم خوف أن يتخطفوا عن قلة.
وعلم الله ما في نفوسهم وهم يستغيثون فوضع في أيديهم مفتاح النصر ألا وهو التفوق النفسي في المعركة إذ أخبرهم أنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وأن الملائكة لتقاتل معهم فكانت البشرى التي حلقت بهم إلى القمة من الثقة فانقضوا على المشركين كالشهاب فشردوهم كل مشرد، قال تعالى يذكرهم هذه المنة الكبرى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [35]
فكيف لا يصبرون بعدها؟ ومن تحدثه نفسه بفرار وهو يعلم أن الملائكة تضرب وترمي معه إن هذه البشرى هي التي جعلت الجندي المسلم يوم بدر غلابا لعشرة من المشركين بما نفخت فيه من الحمية والحماسة.(1/428)
فإن قال قائل منا: "وأنى لنا ببشرى كهاتيك حتى تهدأ نفوسنا وتطمئن للنصر اطمئنان البدريين وأمثالهم؟ فإنه يجد الجواب في كتاب الله_تعالى الذي يهبنا البشرى ذاتها ذلك إن ربنا الكريم الرؤوف الرحيم وعدنا النصر القاطع إن اجتمعت لنا مقومات النصر التي أمرنا بحيازتها. أو ليس هو القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [36] إنه وعده الحق، ولا مبدل لكلمات الله.
وفى القرآن وصف مفصل للعملية الإلهية التي رفعت معنويات المسلمين في بدر وكان الهدف منها إزالة المخاوف والهواجس ووساوس الشيطان وإحلال السكينة محل هذا كله فعمد إلى الخواطر المضطربة والعواطف المصطرعة والأعصاب الثائرة فمحا ما بها بالنوم فذهب القلق وأنزلت السكينة. فناموا فى ليلة لا ينام فيها الخائف أبدا. وصحوا طيبين قريرين ليجدوا السماء قد جادت بالماء فمالت لهم الوديان ولبدت لهم الرمل بينهم وبين العدو. فاغتسلوا وتوضؤوا وشربوا، فطهروا نفسا وجسدا، وتيقنوا فضل الله، وصدقوا وعده، فأقبلوا على القتال لا يرون إلا النصر.
فثبتوا، وكان الثبات النتيجة الأخيرة لمرحلة الإعداد النفسي، وخرجوا يومئذ أبطالا، ولكن من صنع الله لا من صنع أنفسهم. قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَام} [37] وبالنوم أيضا هدأ الله خواطر المؤمنين وثبت فيهم اليقين عقب معركة أحد، وأخرجهم من ظلل الغم فقال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [38] فكان ذلك وسيلة من وسائل الله للربط على قلوب المسلمين وحشد طاقتهم النفسية في مواطن البأس والغم.(1/429)
ومن هذه العملية النفسية أن الله سبحانه وتعالى أزال من نفوس المؤمنين استعظام خطر الكافرين، بل هو شأنهم، وضاءل في أعينهم خطرهم حتى جرأهم وشجعهم في مهاجمتهم، ولو استعظموا أمرهم لتراجعوا عنهم لأنه وهو الرب يعلم حقيقة النفس البشرية وما هو لها قوة، وما هو لها تثبيط. قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [39]
إن الهدف الأولي ظاهر وهو نصر المؤمنين على المشركين فجعل السبب إلى ذلك استقلال المسلمين لهم من به، ويذهب عنكم رجز الشيطان جانب واستهانة المشركين بالمؤمنين من جانب ولا شك أن المسلمين لم يجدوا جمع الكفرة كثيرا لما رفع الله من معنوياتهم فهانت عليهم الكثرة فكانت كالقلة، وأن الكافرين استهانوا بالمؤمنين لأنهم قدروهم تقديرا عدديا ولم يفطنوا لما كانت عليه النفوس من الشدة والصلابة والتأجج، فوجدوا عند الصدام ما لم يحتسبوا.
فالجيش الإسلامي لا ينبغي له أن يستعظم عدوه أو أن يهوله خطره حتى لا يداخله شيء من الوهن. ولكن يجب علينا أن ندرك الفرق واضحا بين الاستقلال للعدو وبين الاستهانة به فمع الاستقلال والاستصغار له الاستعداد الأوفى والتحفز الأعلى والتآلف الأقوى والإقدام الأمضى. ومع الاستهانة به التراخي والخطأ في التقدير والإهمال والتشتت والجبن. فلا يحق لنا أن نستقل عدونا حتى نعرفه حق المعرفة.(1/430)
هذا وإن ما يعرفه العدو عن معنويات المسلمين يؤثر تأثيرا بعيدا في كفه عنهم أو تجرئه عليهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد العناية أن يعرف عنه المشركون مواصلة الكفاح بهمم شماء وما زال بالمسلمين يملؤهم بقوة النفس خوفا من انحسارها فيهم. ولقد عادوا من أحد وفيهم الجراح البليغة والأحزان الدكناء وندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملاحقة قريش حتى لا يظنوا بالمسلمين خورا فاجلبه المؤمنون والجروح عليها الضماد والركائب في كلل. فلما رأى أبو سفيان منهم الجد والعزم تهيب الكرة عليهم فانتصروا عليه بعلو-معنوياتهم وردوه بصبرهم في هذا الموقف العظيم وأمثاله بلغ المسلمون الذروة في القوة النفسية فلم يلقوا بعدها إلا النصر وقد أثنى الله عز وجل عليهم في محكم كتابه فقال: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [40]
5- التآلف والتآزر:(1/431)
ومن ثم جعل الله سبحانه للقوة المعنوية موارد عديدة يورد المؤمنين منها ما شاء، على أنه من عليهم بمورد دائم فياض لا يغيض ولا ينضب ماؤه يذكي فيهم الحمية والشجاعة ما نهلوا منه إلا وهو منهل التآلف والتعاضد والمؤمن إن رأى نفسه عضوا في جماعة كبيرة متساندة متآخية متحدة الكلمة والرأي استشعر ثقة كبرى، وإن علم أنه يقاتل في جيش يتسابق أفراده إلى الشهادة امتلك حينئذ الثبات والإقدام امتلاكا والحق أن هذه الوحدة في الفكر والشعور هي أظهر ما يميز الجيش الإسلامي، بل هي شعاره ورايته ولم يمن الله عليه بالنصر إلا بها إنها كلمة السر في انتصارات المسلمين وفي عزهم وظهورهم وقد ذكر الله نبيه نعمته تلك في الحديث عن بدر فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ} [41]
ومن نافلة القول أن نذكر أن سبب التأليف هو وحدة العقيدة والتزامهم بها، وأن حظهم من قوة التآلف يقاس بمقدار ما هم عليه من الارتباط بها والاندماج فيها. وما زال الله يجمع بين المؤمنين بالإيمان حتى صنع منهم مثلا لا يدانى في وحدة الصف والكلمة وهل نجد في التاريخ كله مشهدا أقوى اتحادا من مشهد المؤمنين يوم بيعة الرضوان في الحديبية إذ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر أو الموت.(1/432)
وكانوا في ثياب الإحرام فلم يبالوا إن كانت أكفانهم. في هذا الموقف العظيم لم تكن قوة المشركين مهما عتت قادرة على الصمود في وجه الجيش الإسلامي المتحد، قال تعالى في تلك المناسبة: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [42] ولكن كلمة الله الجليلة أرادت لهم غير القتال ولقد اطلع الله على المؤمنين وهم يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم حقيقة صدقهم فعجل لهم الثواب من غير عناء قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [43] وكان راضيا عنهم لأنهم ارتفعوا إلى أفق من الإيمان والتسليم لله ما يرتفع إليه المؤمنون إلا نصرهم إن شاء قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [44] وليس عندي من التصرف في القول ما أقوى معه على وصف ما كان عليه الجيش الإسلامي الأول من وحدة في الفكر والعمل وما يجب أن يكون عليه جيش الإسلام في كل عصر ومصر ولكن الله وصفهم بنفسه إذ قال في المبايعين بيعة الرضوان في الآية الأخيرة من سورة الفتح:(1/433)
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [45]
هؤلاء هم عناصر الجيش الإسلامي صهرهم الإيمان والإخلاص للفرد الصمد فتراحموا فيما بينهم وإذا لقوا الكفار أذاقوهم بأسا مرا. ولقد تكاملوا بالإيمان شيئا فشيئا وصنع الله بعضهم من بعض فلا ينفذ إلى صفوهم وهن أو تفريق كما يتكامل النبات خلية حتى يصير زرعا ناميا معطاء فإذا الجذور والساق والأوراق والأنسجة واللحاء والقشرة يعين بعضها في استقلال تام عن الأجسام القريبة.
إن هذا لهو المثل الحق لجيش الإسلام. فمتى يخرج المسلمون جيشا مثله؟
3- تشكيل قيادة إسلامية:(1/434)
وسارت بهذا الجيش الفريد في دروب النصر قيادة إسلامية فريدة يعزى إليها الفضل في إنجاح الخطط وكسب المعارك، ويشهد الاستقراء التاريخي أن الحاكم الأعلى للمسلمين هو القائد الأعلى لقواتهم المسلحة وهو رئيس هيئة أركان حرب الجيش لا يبتعد عن الدراية الدقيقة بمواقف الجند المسلمين، ودرجة استعدادهم وفعاليتهم، وبالمهام المناطة بهم ويظهر من بعض أحاديث الرسول ومن سيرته أنه يستحسن للقائد الأعلى الاشتراك الفعلي في الحروب كلها، أو أكثرها، فكان عليه الصلاة والسلام القائد في الغزوات الشهيرة وكان يتمنى لو استطاع أن يكون على رأس السرايا كلها فقال في حديث له: "لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه، ويشق على أن يتخلفوا عني" [46]
كما يشهد التاريخ أن الذين عهدت إليهم المسؤوليات في الفتوحات الكبرى كانوا أدهى الناس في شؤون الحرب وأشدهم مراسا لقتال. ولهؤلاء القادة العسكريين صفات لا تكاد تختلف ولا بد من توفرها فيهم ويمكننا التعرف عليها بيسر إذا تقرينا أخبار قادتنا أمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاصم بن ثابت ابن أبي الأفلج وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحه وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص والمثنى ابن حارثة وقتيبة بن مسلم الباهلي وأفذاذ غيرهم، ولا شك أنهم اختيروا للمركز القيادي لما جعل الله فيهم من الخصال الشماء، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد تولى الله اختياره فكان مثلا في القيادة لا يجارى ولا يدانى، وأما القواد الآخرون فاختارهم الحكام اختبارا وبلاء..
ومن سير هؤلاء نستخلص مميزات القيادة فنجد أهمها:
أ- الشجاعة الخارقة:
فلم يكن للعدو هيبة ولا للموت رهبة في نفوسهم يجذبهم إلى الإقدام جاذب لا يدفع ويدعمهم عزم لا يقطع.(1/435)
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إلى مصادر الفزع يسبق الناس إليها على صهوة جواده وحده وأثبتهم في قتال إذا ولى الناس [47] وربما نازل قائد سرية مسلحة لا تتجاوز ستة نفر جمعا كثيرا حتى يقتل [48] وضرب زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحه مثلا في الثبات حتى الموت يرفعون الراية غير مبالين بالسيوف تأخذ من أوصالهم. [49]
وإذا كانت الشجاعة أسعدتهم بالشهادة فقد كللت غيرهم بالظفر وكلاهما عند الله فوز وهذه الخليقة لا بد منها في المقاتل قائدا كان أو مقودا إلا أنها في القائد ذات اعتبار خاص فإن تقدمه صفوف المقاتلة يرفع من معنويات الجندي إقتداء به ويستخرج أقصى الجندي إقتداء به ويستخرج أقصى ما عندهم من الثبات والهجوم.
ب- الأمانة: ذلك أنه ما تحقق نصر في تاريخ الإسلام إلا بقيادة مخلصة نابعة من أعماق المسلمين الذين التفوا حولها فأخذوا من حكمتها وإخلاصها وأعطوها من صدقهم ونصيحتهم ولقد يبدوا هذا القول من المسلمات الأولى ولكن يصبح النص عليه لازما إذا خلى المسلمون القيادة لفئة ليست منهم يترقبون من قبلها نصرا فتقتحم عليهم الهزائم من كل باب، فهم يفقدون فيها الأمانة والغيرة على أوطانهم ومصالحهم والرفق بهم الشفقة عليهم من المكاره والذل ولا يجدون إلا غلظة وإباحة للحمى وقسوة وامتهانا ولعلنا نستطيع أن نفهم معنى الفضل الإلهي حق الفهم في خطاب الله المؤمنين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [50](1/436)
ج- قوة الشخصية: وهي أبرز صفات القائد وقد بين الله معالمها الكبرى في شخصية طالوت إذ اختاره الله ملكا على بني إسرائيل فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [51] واستبعد الله الإسرائيليين الجماعين المناعين وكانوا أرادوا الملك لأنفسهم فقالوا معترضين: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [52] . وما استبعدهم الله إلا لأن الأثرة تتعارض تعارضا تاما مع التضحية والإيثار.
وضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا في التخفف من أعباء المال فكان يرفع نفقة عياله لسنة ويرد الباقي في موازنة الدفاع. [53] حتى لا تتأثر النفس بشيء من حب الدنيا فتجنح إلى الطيب اللين من العيش فتثاقل إلى الأرض لأن التقشف كان يحفظ نفوسهم من فتور الدعة ويبقى لها شدتها وتنبهها وفعاليتها ومن ثم لم يدخل الاعتبار المادي في اختبار الرسول والخلفاء الراشدين القواد والأمراء وكان عمر رضي الله عنه يعزل العمال الجانحين إلى لين العيش ويستبقي المخشوشنين والحق أن من يتولى القيادة لا يؤثر على الأتباع بغنى وسيع أو مال منتشر ولكن بما يكنون له من تقدير واحترام ومحبة هي الاعتراف بمزاياه وبقوة شخصيته.
د- الطاعة: ولا بد من أن تحظى هذه القيادة برضى المسلمين عنها وطاعتهم لها وتنفيذ أوامرها بدقة فهي الرأس المفكر وهم الجوارح المنفذة فإن التجاوب بينها وبين عناصر الجيش كفيل بالنظام والنجاح وقد أمرنا بالطاعة ما لم تكن معصية فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة [54] وأعظم الطاعات مردودا ما انبعث من المحبة والثقة بالقائد،(1/437)
فيعتصب الجيش بقيادته اعتصابا ويندمج فيها وتندمج فيه فتتناسق العمليات والخطا وتقل الأخطاء ويعطي الجيش طاقاته كلها في خطة منسقة محققة للنصر، ولو قرأنا أخبار الفتوحات الإسلامية وما حققته من باهر الانتصارات فلن نخطئ أبدا إذا حكمنا بأن جانبا كبيرا من النصر يعزى إلى التواثق والتجاوب بين القيادة والجندي، وفي تاريخنا مواقف خالدة لهذه الطاعة الراضية المرضية فقد بحث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها في من أقبل معه إلى بدر في أول مشهد عظيم فوجدها فيهم وارتضاها كان يقول: "أشيروا علي أيها الناس" [55] يستوثق من أصحابه، وكل يجيبه بالطاعة والرضا، وفي مقالة المقداد بن عمرو ما يفحص عن هذه الطاعة التي لا تعرف حدا للإذعان والاستجابة. قال المقداد:"يا رسول الله أمض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوا الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجا لدنا معك من دونه حتى تبلغه".
وقد علمت المؤمنين الأحداث أن طاعة قيادتهم تقتضي التنفيذ الفعلي الدقيق للأوامر كلها، ولا يحق لأي وحدة من وحدات الجيش أن تتصرف تصرفا خاصا بها، وقد دفعوا يوم أحد الثمن غاليا إذ خالف الرماة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا عن الجبل طمعا في الغنيمة لما أيقنوا هزيمة القوم فالتفت عليهم خيل المشركين وكلفتهم هذه المخالفة سبعين شهيدا وكانت درسا قاسيا علمت المسلمين بعدها الالتزام الشامل للأوامر الصادرة من رسول صلى الله عليه وسلام فكان أحدهم يوم الخندق إذا أراد الذهاب لبعض حاجته استأذن الرسول عليه الصلاة والسلام فيأذن له.(1/438)
ويدخل في باب الطاعة أن يردوا القيادة النظر في الأنباء التي تأتيهم عن أحوال العدو وأن يتورعوا عن نشر الشائعات التي تتعلق بأمن الدولة خوف البلبلة والتشويش قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [56]
هـ الخبرة والدراية والإخلاص:(1/439)
ويختار لمراكز القيادة العسكرية أفذاذ الرجل الذين شهد لهم بالموهبة وعرفوا بالعبقرية في فنون القتال. وهؤلاء يجب أن يبقوا في منأى عن سياسة الدولة منصرفين لدارسة إمكانيات الدفاع والهجوم متتبعين لوسائل الحرب وفنونها. وعليهم أن يتلقوا من القائد الأعلى للمسلمين وهو خليفتهم الأوامر فينفذها على وجهها، ولنا في خالد بن الوليد رضي الله عنه أسوة حسنة إذ أسلم القيادة لأبي عبيدة بن الجراح أمراً من الخليفة عمر عقب انتصار المسلمين في اليرموك وأن الانصراف عن المسائل العامة هو الذي يمكن العسكريين من التعمق في التخصص واستغلال ملكاتهم أحسن استغلال. وإننا لنذكر والأسى العميق يقطع أنياط قلوبنا ما فعلته العصبية القبلية أو المشاركات لسياسية في عديد من قادتنا الكبار منهم قتيبة بن مسلم الباهلي فاتح المشرق وموسى بن نصير فاتح المغرب وطارق بن زياد فاتح أسبانيا. والله وحده يعلم ما كان يمكن أن يكون عليه مستقبل تلك البلاد في المشرق والمغرب لو قدر لهؤلاء القواد أن يبقوا على رأس جيوشهم يتابعون رسالة الفتح ويوطدون الملك في الأقاليم الجديدة قبل أن تتسرب إليها الخلافات وتدب فيها عوامل الضعف حتى انتهى بعضها إلى الانهيار واضطر المسلمون للجلاء عنها بعد قرون من فتحها وعمرانها ويجدر التنبيه على أن التفكير السياسي لكثير من قواد الدولة الإسلامية كان من أكبر عوامل التجزئة فيها، إذ طمع بعضهم بالملك فجعل لنفسه الأمر في البلاد التي ولي عليها ولم يبق له بالخلافة إلا اتصال اسمي فتعددت القيادات في الدولة الإسلامية ولم تكن على وفاق فقاتلت في جهات متعددة وهي متفرقة حين لم يكن بعضها يقاتل بعضا ولا أدل على ذلك من أن سيف الدولة الحمداني في القرن الرابع الهجري حمل وحده عبء الجهاد وغزو الدولة البيزنطية حتى استنفذ قواه ولم يبق له بقية من صمود، وأن الصليبيين لما دخلوا بيت المقدس ذبحوا خمسين ألفا من أبنائه المسلمين والمسلمون من(1/440)
حولهم أعجز من الأوتاد عن نصرتهم ولم يسترد صلاح الدين الأيوبي القدس إلا وهو على رأس قيادة إسلامية موحدة ولن يستردها غدا إلا مثلها.
لقد ذكرنا بعض ما يجب أن تمتاز به القيادة الإسلامية، ونوهنا بدورها الكبير في تحقيق النصر ولكن مهما بلغ شأن الأفراد فيها من علو القدر وقوة الشخصية وتجمع الثقة بهم يجب ألا يؤثر فقدهم على مجرى الحروب وموقف الجندي مهما بلغ حبهم وإعظامهم لأن القائد كغيره من الناس يلقى الأجل المحتوم فهو ذاهب ورسالة الإسلام باقية. ولقد نبه الله تعالى المسلمين إلى هذه الحقيقة عندما ظن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل فكاد بعضهم يستيأس قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [57]
4- تطهير صفوف الجيش ومراكز انطلاق المسمين من المنافقين والعملاء:(1/441)
ولا يخلو المجتمع الإسلامي من أعداء فيه ينتسبون إلى الإسلام وهم يبطنون الكفر ويتربصون بالمسلمين الدوائر. وهؤلاء تكشفهم الأحداث التي تحيق بالمسلمين فيسفرون عن وجوههم كالحة كلما زحفت إلينا الأخطار وأحاط بنا الأعداء، فيمسون الأعوان لهم واليد الحذاء بالتآمر معهم، ولكن لا ينكر المسلمون منهم شيئا في الأمن والسلم فهم يشعرونهم أن أهدافهم أهداف المسلمين وأمانيهم أماني المسلمين فيطمئنون إليهم في غير موضع اطمئنان إليهم، ويتركون موضع المخافة من غير حراسة فإذا أدلهم الخطب أجهضوا قوة المسلمين إجهاضا. وكان تنبيه القرآن إليهم ملحا وتحذيره منهم كثيرا شديدا. ومما قاله تعالى في صفتهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [58] .
ومن أظهر خصائصهم الجبن لما تجن صدورهم من البغضاء للمؤمنين والغدر بهم والخيانة لهم. فهم أكبر مصدر من مصادر الخذلان في الجيش، ولقد رأيناهم يرجعون قبل البدء بالقتال أو المسير إليه في كثير من حروب الرسول صلى الله عليه وسلم فرجعوا عنه في بدر وأحد والأحزاب وتبوك وغيرها يريدون تشكيك المؤمنين وضعضعة معنوياتهم.(1/442)
ولقد عاتب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عندما إذن لهم في الخروج معه إلى تبوك فلم يتجاوزوا ثنيات الوداع من المدينة فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [59] فأعلمنا إن استبعادهم من صفوف الجند واجب لما له من ضرر بالغ في نفوس المقاتلة بتثبيط الهمم فهم يخيلون للمجاهدين عبث الخروج ومضيعة الاحتشاد والسير بقولهم لهم كما حكى الله عنهم {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ} . فإن كانت الحرب واستجاب لله المؤمنون فكرم منهم من شاء بالشهادة حركوا الأسى في نفوس ذوي الشهداء: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [60] وهم يتربصون بالمؤمنين هزيمة ماحقة ليكشفوا عن السرائر: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً..} [61] ومن هنا يتوجب على المسلمين أن يطهروا صفوفهم منهم عملا بالأمر الإلهي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [62]
ويتفرغ من هذا وجوب التخلص من الذين يتوقع منهم خطر دائم من خيانة أو غدر أو تأليب على المسلمين، وذلك إما بإجلائهم عن مركز انطلاق المسلمين أو بقتلهم كما كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني النضير وبني قريظة، الذين وضعت غزوة الأحزاب تصفية نهائية لهم وكانت هذه التصفية ركيزة النصر في الحروب التي تلتها.(1/443)
وقد أثبتت الأحداث أن الكفار واليهود بخاصة لا عهد لهم، ولن يألوا غدرا وتآمرا، ولن يفسحوا في حرية الانطلاق لتبليغ أمر الله ونشر رسالته في الأرض، وأنهم إن وادعوا المسلمين باليد لم يوادعوهم باللسان، وإن أظهر لهم المسلمون مودة أبطنوا لهم كراهية وحقدا وإن أشركوهم في بعض مصالحهم أفسدوها عليهم ولقد لقي رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه غدرا بليغا وأسى كبيرا من المشركين كغدرهم بالمسلمين في غزوة الرجيع وبئر معونة إذ لا عهد لهم ولا ذمة، ولذلك نزل الأمر الإلهي بتنظيف الجزيرة العربية من المشركين والكفرة المتآمرين ليأمنوا من ورائهم إذا انطلقوا إلى فتح العالم.
وهكذا نجد أن في مقومات النصر الأساسية
أ-إبعاد المعوقين عن صفوف الجيش.
ب- تطهير مراكز تجمع المسلمين وانطلاقهم من الأعداء الحقيقيين.
5- التسلح والتعبئة العامة:
تمتاز حروب المسلمين بأنها حققت منجزات كثيرة بأعداد قليلة، أعانهم على ذلك عامل خطير، ألا وهو إرهاب العدو وإرعابه. قال عليه الصلاة والسلام من حديث له "ونصرت بالرعب" [63] وأشار تعالى إلى هذا العامل الحاسم في هزيمة المشركين فقال: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [64] وقال في بني قريظة وكانوا معتصمين بالحصون المنيعة، فأسلموها واستسلموا: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [65] ذلك أن الرعب يقضى على العدو بالهزيمة النفسية، وهي الهزيمة الحقيقية وظل هذا السلاح مقدمة الجيوش الإسلامية ما ضربت في الأرض فاتحة، ترتعد فرائص العدو إذا أحسوا لها اقترابا.(1/444)
وثمة أسباب للرعب، منها متابعة الغزو في بلاد العدو حتى لا يعرف منا إلا البأس الشديد والنكال الوفاق، فيتهيب إقدامنا ويهزمه الخوف قبل أن يلقى المقاتلة، وفي هذا قصد في الخسائر وكسب في المغانم وتحدثنا كتب السيرة عن الغزوات العديدة المتلاحقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون بين الغزوة والغزوة إلا الأشهر القليلة، وإذا كانت طبيعة الدعوة اقتضت تتابع الغزو زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المسلمين صبروا على هذه السنة بضعة قرون ولما أغمدوا السيوف وانقطع والغزو جاءهم العدو من كل مكان إذ لم يبق لهم صيت مرعب.
ومنها التسلح الأتم والاستعداد العسكري الأوفى، وقد نصت على ذلك الآية في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [66]
فإن العدة مصدر لا يستهان به من مصادر الرهبة، وقد أمر المسلمون باستكمالها، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجعل ما زاد عن نفقة أهله في السلاح، وحين أفاء الله عليه من أموال بني قريظة بعث بسبايا منهم وبأموال إلى نجد ليشتري بها خيل للمسلمين ذلك أن المسلمين لا ينبغي لهم أن يسمحوا لعدوهم أن يفوقهم في درجة الاستعداد العسكري، وعليهم أن يسابقوه إلى التسلح لتبقى رهبتهم في قلبه وعليهم أن يجدوا في ابتكار الوسائل والمخترعات التي تقرب النصر، وتوفر على المسلمين العناء والخسارة كان الخندق الذي احتفره الرسول والمؤمنون في غزوة الأحزاب حول المدينة تخطيطا عسكريا فوجئ به العرب-وكان سلمان الفارسي قد أشار بحفره-حتى زعم بعض المشركين أن هذا الخندق هو الذي ردهم على أعقابهم:
لدمرنا عليهم اجمعينا [67]
لولا خندق كانوا لديه(1/445)
كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام أول من رمى بالمنجنيق في الإسلام في حصار الطائف. وكان لدى الجيش الإسلامي زمن الأمويين والعباسيين مبتكرات ووفرة في السلاح لا يضاهى بمثلها.
ومن هنا كان من مقومات النصر الأولى أن يزداد المسلمون في التسلح حتى يتفوقوا على أعدائهم إرهابا له وتمكينا لأنفسهم، وأن من واجبهم أن يصنعوا هم ذلك السلاح ما استطاعوا لصنعه سبيلا كما يدل احتفار الخندق وتركيب المنجنيق فهذا أوعى للتوثق والاطمئنان، وعلى المسلمين وحدهم تقع المسئولية أمام الله إذا سبقوا إلى استحداث سلاح فتاك يهدد وجودهم بالفناء فلم يستحدثوا مثله أو أمضى منه ذلك أن قوام كل نصر بسبب مادي وسبب معنوي فإذا استوى المسلمون والكفرة في العدة والسلاح غلب المؤمنون بإذن الله لتفوقهم المعنوي الظاهر، ولأنه وعد الله ولا يخلف الله وعده.
ومنها التعبئة العامة وهي كما كانت عند المسلمين الأولين إجابة داعي الله إلى الجهاد من كل قادر على حمل السلاح، وحشد القوى المالية والنفسية واستخراج ما في الوسع. وكانت النساء ينهضن بعبء الدفاع المدني، جاء في الحديث: [68] عن الربيع بنت معوذ قالت: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة"
فإذا استتم المؤمنون الاستعداد واستوفوا شروطه وعزموا على القتال توكلوا عندها على الله حق توكله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [69]
6- ذكر الله واستغفاره في القتال:(1/446)
ومن أسس النصر في حروب الإسلام: استغفار الله في المعركة والإكثار من ذكره، يقينا أن النصر من عنده وحده، فتخلص له النفوس وتتجه إليه متوكلة صابرة، وقد أمر الله بالذكر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [70] وعلم المؤمنين الدعاء عند لقاء العدو: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [71]
وينبني على هذا أن تدابير المؤمنين في الحذر والاستعداد والتخطيط لا غناء فيها إلا باليقين المطلق أن لا نصر إلا بالله، ولا تنفع من غيره كثرة ولا عدة وكانت موقعة حنين درسا بليغا للمسلمين إذ قال قائل منهم: "لن نغلب اليوم من قلة" [72] ، فطارت الكثرة شعاعا عند الصدمة الأولى فانهزمت وجاء الله بالظفر على يد القلة المؤمنة التي لبت نداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وصبرت. قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [73] .
لذلك كانت مسألة النصر في حياة المسلمين غاية في الحساسية [74] ، وإن مثلهم مثل جهاز دقيق الصنع عجيب التركيب رهف الآلية لا يصيب الخلل جزءا ضئيلا من أجزائه إلا اضطرب سيره.
طبيعة الحروب الإسلامية:(1/447)
قال تعالى في المؤمنين المنصورين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [75] ويلزم في كونهم خير أمة أن انتصاراتهم خير الانتصارات، وأن حروبهم خير الحروب، فما طبيعة تلك الحروب؟ فإن معرفة طبيعتها من الأهمية بمكان إذ مقومات النصر في هذه الطبيعة نفسها: إنها:
أ- حرب إيمانية:
حمل المسلمون أمانتها لينشروا دين الله في الأرض، ولم تثرها دواعي الطمع، ولم تبلغ ما بلغت من الروعة والقوة بالجشع وهي حروب فذة في تاريخ البشر وقد عين الله هدفها الإيماني وهدف الحرب الكافرة في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [76]
ولهذا لا يكون للكفار غرض سوى زحزحة المؤمنين عن دينهم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [77] وتخصيص الحرب الإسلامية بهذا الهدف دلالة على أن فكر الإنسان وقلبه أفضل ما فيه، ولذلك وكان القضاء على العقيدة أو تحويل الناس عنها أعظم جرما من إراقة الدم وإزهاق النفس: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [78] فأمر الله بالقتال حتى يسلم الدين وتوأد الفتنة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [79]
ومن البين أن القتال لدفع الفتنة ليس مادي الغاية، وإنما هو دفاع عن الإنسان المفكر الذي تختنق الطواغيت قلبه وتكرهه على معتقداتها وفلسفاتها بالبطش والنكال.
إن أعظم ما في حروب الإسلام أنها قامت لحماية قلب الإنسان وعقله، وهما أساس سموه وازدهاره الحضاري.(1/448)
ولنا على ذلك أدلة كثيرة منها: منع شن الحرب لغاية مادية، ومنع الانتهازيين، أرباب المكاسب الشخصية، من الاشتراك فيها: إذ كان مفهوم الغزو عند الجاهليين الحيازة والغنم، فألغى الإسلام هذا المفهوم البائد وأحل مفهوما جديدا: هو القتال لإعلاء كلمة الله: وفي القرآن الكريم تصوير للنفسية العربية وهي تعاني النقلة من القتال المادي إلى القتال من أجل الله، قال تعالى في سورة الفتح: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [80] وكشف لهم عن حقيقة الحرب الجديدة لا مغنم فيها إلا الأجر ولا غاية إلا نشر الدين ليصيروا حملة رسالة بعد أن كانوا مطية ضلالة قال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [81]
ومن الأدلة على ذلك أنه قبل علانية الذين يعلنون إسلامهم على تخوف من الأسر أو القتل ونهى عن قتلهم أو أسرهم: فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [82] .(1/449)
ومنها ما نظم من أمر الغنيمة والفيء النظام المعروف في الإسلام، بعد إن كانت الغنيمة في الجاهلية للغانم وحده أو بشركة سيد القبيلة.
ب- حرب إنسانية:
ولذلك يمكننا أن نصف الحروب الإسلامية بحق أنها حرب إنسانية إذ جعل الله رسالة المؤمن أن يكافح الأذى والسوء وأن يقضي على الطغيان في الأرض وفد قضت سنة الله أن الشر لا يدفعه إلا الخير، وأن الظلم لا يرفعه إلا الحق.
وهذه الصفة ظاهرة في حروب الإسلام فلم تكن إلا دفاع في المضطهدين عربا كانوا أو عجما، وليس في حروب المسلمين غير هذا المعنى مهما جهد المؤرخون في وضع النظريات لمنشأ الحروب وغاياتها، إنها حرب إنسانية بأوسع ما في هذه العبارة من معنى سواء كانت دفاعا عن النفس أو عن الآخرين.
فإذا كانت دفاعا عن النفس فللرد على ظلم غاشم ومن صفات المؤمنين الأصلية في كتاب الله الأنفة من قبول البغي {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [83] ويفرض الله عليهم إن يكونوا حماة المضطهدين والذائدين عن حقوقهم، إذ قال تعالى في استنهاضهم: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [84]
وقد جعلت لها صفتها الإنسانية آثارا بعيدة المدى باقية على الزمان إذ أعانت على انتشار الإسلام، فأقبل الناس عليه إقبال الغرقى على سفينة النجاة، ولم يلق المقاومة والكيد إلا في الموتورين الحاقدين على الدين والإنسانية كلها. أما الحروب المنبعثة من الجشع أو شهوة القهر والسلطان فإن آثارها تزول بزوال أصحابها.(1/450)
وطبيعتها الإنسانية لا تمنع أن تكون حربا هجومية، إنها هجومية في أقوى مضمون لهذه الكلمة، لا نداجي ولا نجامل ولا نخجل من هذا المحتوى ولا يحملنا حاضر المسلمين التعيس على إلقاء ظلال كاذبة زائفة على حروبنا، فهي هجوم على الكفر والإلحاد والطغيان ودفاع عن الروح والعقيدة والإنسان إن هذه الصفة باقية لها ما بقى للإلحاد تطاول في وجه الإيمان.
وهذه الصفة الإيمانية الإنسانية تفرض أن يكون لها شعار واحد ثابت على الدهور، هو: "لا اله إلا الله، محمد رسول الله"وإنها لتفقد جوهرها وتفرغ من مضمونها إن اتخذت ستارا غيره ولا تسمى حربا إسلامية أي حرب اتخذت شعارا يعارض الحقيقة التي ينبثق منها هذا الشعار، وإن كان وقود هذه الحرب جنودا من أبناء المسلمين.
د- حرب عادلة:
وتتجلى عدالتها في مواقف المسلمين السمحاء، باعتراف من أعدائهم، ومردها إلى التزامهم تعاليم الله التي شرعها لهم في معاملة المغلوبين والمعتدين. ويكفي أن نشير إلى العدالة المطلوبة في الحال التي تدعو إلى الرد على العدوان: إذ جعل الله للرد مقدار هو جزاء المثل، وقيده بالتقوى. قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [85] فأوجب الله على المسلم أن يحكم التقوى في سلوكه في المواقف كلها، وفي اللحظة التي لا يخشى في البطش حسيبا من الناس، ولكنه يخشى الله-عز وجل-فيمسك فإذا هو المحارب التقي العادل.
ويعطي الرد العادل أطيب النتائج للفريقين معا، فهو يكف عن المسلمين بأس الذين كفروا، ويفتح لهؤلاء باب الدخول في الإسلام وقد وجدوا جنده مثلا في العدل والرفق.(1/451)
وهكذا يدخل المسلمون الحرب بقانون ويديرونها بقانون ويمسكون عنها بقانون، وفي كل المواقف تبقى إنسانيتهم التي أعطاهموها الدين ظاهرة فليس غريبا بعد هذا أن يقول كاتب غربي: "لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب" [86]
استبقاء النصر:
لقد حاز المسلمون هذه المقومات فحرروا أنفسهم والعالم من عبادة الطاغوت ثم دبت فيهم عوامل الضعف على مدى القرون، ففقدوا كثيرا منها، وقد يستعيدونها مرة أخرى - إن شاء الله لهم استعادتها- ويحملون راية الجهاد لإنقاذ البشرية من ويلات أمرا أفدح مما كانت تعانيه قبل ظهور الإسلام، فإذا قدر لهم الله ذلك كان عليهم أن يحتفظوا بالنصر وبأسبابه وليس من بحثنا أن نتحرى عن تلك الأسباب ولكن نعتقد أن الله قد جمعها في الآية الكريمة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [87] .
وصية..
كان عمر بن الخطاب إذا بعث أمراء الجيوش أوصاهم بتقوى الله ثم قال لهم:
"بسم الله، وعلى عون الله، وامضوا بتأييد الله بالنصر وبلزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين.. لا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما، ولا امرأة ولا وليدا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وفي شن الغارات، ونزهوا الجهاد عن غرض الدنيا. وذلك هو الفوز العظيم".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البقرة الآية: 251.
[2] الأنفال الآية:26.
[3] الكهف آية 10.
[4] الأنفال الآية:26
[5] التوبة: الآية:38
[6] الأنفال: الآيات:5-8
[7] البقرة: الآية:216(1/452)
[8] الأنفال: الآية:17
[9] آل عمران: الآية:142
[10] النساء: الآية:74
[11] التوبة: الآية 39
[12] التوبة: الآية:23
[13] السيرة النبوية لابن هشام: ق1ص627. تحقيق السقا
[14] آل عمران: الآية157-158
[15] محمد: الآيات4-5
[16] آل عمران: 169-171.
[17] التوبة: الآية111
[18] التوبة: الآية112
[19] آل عمران: الآية154
[20] الأحزاب: الآية11
[21] البقرة: الآية:214
[22] آل عمران: الآية2..
[23] السيرة النبوية لابن هشام: ق2 ص255. تحقيق السقا.
[24] صحيح البخاري: باب الجهاد: ح4ص28
[25] السيرة النبوية لابن هشام: ق2ص82
[26] السيرة النبوية لابن هشام: ق2ص80
[27] السيرة النبوية لابن هشام: ق2ص8.
[28] السيرة لابن هشام ق2ص
[29] السيرة لابن هشام ق2ص
[30] السيرة لابن هشام ق2ص
[31] آل عمران: الآية:139
[32] آل عمران: الآيتان:14.-141
[33] محمد: الآية:7
[34] السيرة لابن هشام: ق2ص66
[35] الأنفال: الآيتان:9-1.
[36] محمد: الآية7
[37] الأنفال: الآيتان:43-44
[38] الأنفال: الآية:11
[39] آل عمران: الآية:155
[40] آل عمران: الآية123
[41] الأنفال: الآيتان:62-63
[42] الفتح: الآية22
[43] الفتح: الآية18
[44] الفتح: الآية10
[45] الفتح: الآية39
[46] الصحيح البخاري ج 4ص42
[47] انظر صحيح البخاري ج 4باب الجهاد
[48] أنظر السيرة: غزوة الرجيع. ق، ص169
[49] انظر السيرة: غزوة مؤتة. ق2ص373
[50] التوبة: الآية:139
[51] البقرة: الآية247
[52] البقرة: الآية247
[53] صحيح البخاري ج4:باب الجهاد
[54] انظر صحيح البخاري ج 4باب الجهاد
[55] السيرة لابن هشام: ق2ص615
[56] النساء: الآية83
[57] آل عمران: الآية144(1/453)
[58] المنافقون: الآية2
[59] التوبة: الآية:43
[60] آل عمران: الآية:168
[61] الأحزاب: الآية:14
[62] آل عمران: الآية:118
[63] صحيح البخاري ج4باب الجهاد
[64] الأنفال: الآية12
[65] الحشر: الأية2
[66] الأنفال: الأية6
[67] السيرة لابن هشام: ق 2ص255
[68] صحيح البخاري ج4 باب الجهاد
[69] آل عمران: الآية159
[70] الأنفال: الآية45
[71] آل عمران: الآية147
[72] السيرة: ق2ص444
[73] التوبة:25 الآية
[74] راجع في هذا الباب وصية عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص.
[75] آل عمران: الآية110.
[76] النساء: الآية:76
[77] البقرة: الآية:217
[78] البقرة: الآية:217
[79] البقرة: الآية:193
[80] الفتح: الآية:15
[81] الفتح: الآية:16
[82] النساء: الآية:94
[83] الشورى: الآية:42
[84] النساء: الآية:75
[85] البقرة: الآية:194
[86] هو غستاف لوبون.
[87] الحج: الآية:41(1/454)
منهج البحث العلمي في الإسلام
للشيخ إبراهيم السلقيني المدرس في الجامعة
بزغ فجر الإسلام فوجد الناس قد انصرفوا عن العلم فانصرف العلم عنهم, وخاصة العرب منهم, فتخلف الناس نتيجة لذلك, وتأخروا في كل ميدان، لذلك كان ابرز ما جاء به الدين الإسلامي ودعا اليه تعلم العلم وتعليمه..
فقد رفع الإسلام من قدر العلم كثيرا، كان ذلك منه في عصور سادتها الجهالة وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة تحث على العلم وتبين فضله, وترفع من شأن ذويه, وحسبك تقديرا للعلم أن أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [1] . ولقد ذكر اسم العلم معرفة ونكرة في عشرات الآيات من القرآن الكريم تناهز المائة وهو يطبق على علوم الدين والدنيا, لا تقف عند حد, ولا تنتهي عند نوع خاص من المعرفة، فمن العلم المطلق قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [2] أي لاتتبع ما ليس لك به علم يثبت عندك بالرؤية البصرية, وبالروايات السمعية أو البراهين القطعية, فإن الله تعالى يسألك عما أعطاك من آلات هذا العلم ولقد جعل الله تبارك وتعالى العلم مقياس التفاضل بين الناس وبه ترتفع أقدارهم فقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [3](1/455)
ذلك لأن الشخصية الإنسانية لا يقومها ولا يرقيها شيء غير العلم, لذلك حكم الله سبحانه أن أهله يمتازون عمن سواهم, ثم ترى القرآن الكريم في آية أخرى يصرح بأن العلماء لهم درجات عند ربهم وميزات يخصهم بها, قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [4] كما أنه سبحانه أاعتد بشهادة أهل العلم في وحدانية فقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [5] ومن ناحية أخرى نزل القرآن الكريم يسجل على الذين لا يعلمون حكما لا يرضاه ذو إدراك لنفسه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [6] كذلك يقول تعالى رادا على المستبدين: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [7] وذلك حتى يخففوا من كبريائهم ويعدوا أنفسهم لتلقي نقد الناقدين, ويطلب القرآن من المؤمن أن يكون دائما في استزادة من العلم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [8] ويبين القرآن الكريم أن الإنسان مهما ضرب في ساحات العلم فإنه لا يزال في البداية: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [9] ولم يكن العبد الصالح الذي ذكر في سورة الكهف متبوعا وسيدنا موسى تابعا إلا أنه حظي بهبة العلم من الله الواسع العليم قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [10] .(1/456)
وقد بين الله سبحانه سبب اختيار طالوت ملكا على بني إسرائيل رادا على من اعترض: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [11] .
فأولاد يهوذا أغنياء وطالوت من الفقراء فأرادوا أن ينازعوه الملك فرد عليهم الله سبحانه إن الملك ينال وترقى سدته بالعلم رمز القوة المعنوية، والجسم رمز القوة المادية.(1/457)
ولقد بين صلى الله عليه وسلم أن التنافس لا يكون إلا بالعلم ففيه ليتنافس المتنافسون، والتسابق لا يكون إلا على تحصيل المعرفة فعليه ليتسابق المتسابقون، لأن الخير كل الخير في العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين" [12] وأن العلم المقرون بالعمل والعبادة يرفع الله صاحبه منزلة لا تعلوها منزلة هي منزلة الرسالة والنبوة من ناحية الفضل لا من ناحية الوحي والتشريع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل منكم" [13] . كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الأنبياء عليهم السلام تركتهم أسمى من المال وورثهم أفضل الوارثين, العلم تركتهم, والعلماء ورثتهم ومن ورث العلم الصحيح الذي يرشد إلى الخير ويهدي من ناله سواء السبيل فقد فاز وكان من المفلحين عن أبي الدرداء أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العلماء ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما, إنما ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظ وافر" [14] كما يعتبر الإسلام التعليم إجباريا، قال عليه السلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" [15] فطلب العلم فريضة لا تقتصر على مراحل الطفولة والمراهقة بل من المهد إلى اللحد والعلوم في نظر الإسلام نوعان:
أ- علوم هي فرض عين:
كتعلم أمور العقيدة والعبادة على القدر الذي تصح فيه وتعلم حسن المعاملة, وحدود المنكرات, وتعلم العلوم المسلكية لكل فرد كتعلم شؤون التجارة وأحكامها للتاجر, والزراعة للزراع.. [16] الخ.
ب- علوم فرض كفاية:
بقية العلوم الأخرى, كالطب والهندسة والكيمياء والكهرباء والذرة والعلوم الصناعية والحربية وهذا يدل على ضرورة التخصص فإذا لم يتخصص أحد من المسلمين أثموا جميعا, مما يقود إلى توفير المختصين في كل المجالات الحيوية.(1/458)
وإذا كان طلب العلم فريضة فتارك العلم تارك لفريضة فرضها الله ومن البديهي أن تارك الفريضة له عقوبته عند الله سبحانه, أما العقوبة الدنيوية لتارك التعليم فقد ذكرها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما سمع بقبيلتين متجاورتين إحداهما عالمة والأخرى جاهلة لا تقوم الأولى بواجبها من تعليم العلم, ولا تقوم الثانية بواجبها من تعلم العلم إذ صعد المنبر وخطب الناس وقال: "ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم, ولا يفقهونهم, وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون, والله ليعلمن قوم جيرانهم, وليتعلمن قوم من جيرانهم أو لأعاجلنهم العقوبة" [17] فقوله صلى الله عليه وسلم أو لأعاجلنهم العقوبة يشير إلى العقوبة الدنيوية, أما ما هي هذه العقوبة؟ ما نوعها؟ وما مقدارها؟ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبينها فهي خاضعة إذاً لمبدأ التعزير يقدرها الحاكم يما يصلح أحوال الناس.
وإننا لنلحظ أن الإسلام أول نظام في العالم يفرض العلم فرضا ويعاقب من لا يتعلم, إن هذا النظام لم يصل إليه أبناء القرن العشرين مع ما يدعون من مدينة ومن شعارات براقة زائفة.
كما أن التعليم في الإسلام مجاني فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم المعلمين إلى القبائل يبذلون العلم مجانا وكذلك سار على هذا الهدي علماء الإسلام الأجلاء وأئمة المسلمين فهذا الإمام مالك رضي الله عنه يجلس في المسجد ليعلم الناس دون أن يتقاضى على ذلك أي أجر وهذا سعيد بن المسيب وأبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم ... وغيرهم لم يعهد عن أحد منهم أنه أخذ أجرا, وإن افتى العلماء بجواز أخذ الأجرة مقابل التفرغ للقيام بأعباء التعليم.(1/459)
ولم يكتف الإسلام بكل ذلك بل بنى أصوله على العلم الصحيح والتفكير السليم فالعقيدة تقوم النظر لا على التقليد أو الهوى فالطريق الموصل إلى الإيمان بالله عز وجل هو التأمل في ملكوت السموات والأرض والاعتبار بما في كتاب الكون من آيات ناطقة بقدرته تعالى وعظمته: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرض لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [18] كما يأمر الإسلام بالحذر من الظنون والأوهام ويعلل ذلك بأنهما من الأسباب التي أدت إلى تضليل الناس وإفساد نفوسهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [19] ويقول سبحانه: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [20] . والقرآن يأمر بالاعتماد على العلم اليقيني لا على الأهواء والأوهام وينعى على أقوام غامروا بعقولهم في متاهات من الظنون والأهواء التي من شأنها أن تغطي الحقائق بدلا من أن تكشف عنها: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [21] وقال سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [22] .
والإسلام دين الحجة والبرهان فهو يأمر بألا يقبل الإنسان شيئا على أنه حق إلا اذا أقام عليه البرهان: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [23](1/460)
ولا يجوز الإيمان بشيء إلا ببرهان فإذا سئل المؤمنون عن معتقداتهم لم يتلعثموا في الجواب كما هو شأن المقلدين الذين لا ينظرون فيما يلقى اليهم نظر تمحيص: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون} [24] ويقول تعالى مطالبا المشركين بالبرهان مطالبة تعجيز {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [25]
كما أن الإسلام عدو التقليد الأعمى فهو يشدد النكير على أناس كانوا يتمسكون بالرأي لا لأنهم عقلوه ولكن لأن آباءهم فعلوه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [26] والقرآن ينفر الشعوب من التقليد الأعمى للقادة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [27]
والقرآن لا يكتفي بالنهي عن التقليد للآباء والانقياد الأعمى للقادة والزعماء بل دعى للأخذ بالأحسن {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [28]
وهكذا أضفى الإسلام الصفة الدينية على البحث عن الحقيقة العلمية سواء أكانت من نوع الخبر أو من نوع الإنشاء وبديهي أن القيام بهذه المهمة يتوقف على وضع منهج للبحث ومعلوم أنه بقدر ما يكون المنهج صافيا سليما تكون الغاية صحيحة سليمة.(1/461)
لذلك لا غرابة إذا رأينا أن الإسلام يرفع من شأن العقل ويأمر باستخدامه في قضايا الحياة الصغرى منها والكبرى وجعل الذين يحكمون [29] . عقولهم ويستنفدون طاقات تفكيرهم في كشف حقائق الحياة واكتناه أسرارها وحدهم أهلا لأن يوجه إليهم الخطاب وأما أولئك الذين أوقفوا حركة العقل وأوصدوا في وجهه باب المعرفة فليس لهم من شرف الإنسانية حظ ولا من كرامة البشر نصيب وإذا استعرضنا ما جاء في القرآن الكريم وحده في معرض الثناء على العقل أو في سياق الحث على إعماله والنهي عن إهماله وجدنا أنه قد ذكر في القرآن الكريم وحده ما يقرب من سبعين مرة, فالشرع لم يتبين إلا بالعقل والعقل لن يهتدي إلا بالشرع والحقائق العلمية إما أن تكون فكرية محضة وإما أن تكون مستندة إلى الحواس.
أولا: الفكرية المحضة
كثير من الحقائق لا يتوقف إثباتها على الحواس بل يكفي في إثباتها الفكر وحده دون حاجة إلى تأييدها بمشاهدة أو تجربة, ومن هذه الحقائق ما يسمى (بالبدهيات) وهي القضايا التي إذا عرضت على العقل السليم كان مجرد عرضها كافيا في إثباتها والتسليم بمقتضياتها فهي في غنى عن أن يبرهن عليها مثل الواحد نصف الاثنين, والضد ان لا يجتمعان والأثر لا بد له من مؤثر وما شابه ذلك.
وهذه الحقائق البديهية هي الأساس في إثبات القضايا العقلية المحضة ولولا هذه الحقائق البديهية الفطرية المودعة في كل نفس لما استطاع الإنسان الوصول إلى حقيقة عقلية, إذ لا بد للإنسان في طريق وصوله إلى حقيقة عقلية من أن يستند إلى هذه البديهيات وأن يجعلها العماد الذي يرتكز عليه في حياته العقلية.(1/462)
ثانيا- الفكرية المستندة إلى الحواس أو التجربة: هناك نوع من القضايا العلمية اليقينية ما يكون الفكر فيها وسيلة فقط وهو مفتقر في إثباتها إلى أن يستند إلى الحس أو التجربة, مثل المعادن تتمدد بالحرارة, والماء مركب من الأوكسجين والهيدروجين, والحديد جسم صلب والحرير ناعم, وما شابه ذلك وهذه الحقائق وإن كانت لها مكانة معتبرة في الاستدلال لكنها لا تبلغ من حيث التقويم منزلة القسم الأول في الاستدلال ذلك لأن الإدراك الحسي قد يعتريه الخطأ كمن هو مصاب بمرض عمى الألوان فقد يحكم على اللون الأحمر بأنه أصفر أو بالعكس ومن أسباب الخطأ الضلال ويكون بسبب التفسير الخاطئ الناجم عن الحالة النفسية للشخص فالخائف ينظر إلى ظل شجرة فيحسبها شخصا يتربص به, أو يرى ثوبا معلقا فيتوهمه شبحا ينقض عليه, والتجربة إنما تبرهن عن نفسها في الماضي والحاضر فقط أما في المستقبل فلا تستطيع أن تثبت نفسها فيه, لأن التجربة مبنية على أن شيئا ما قد تكرر على شكل معين, ومن تكراره فقط نشأت علميته, والتكرار إنما كان في الماضي ويمكن التأكد منه في الحال أما في المستقبل حال كونه مستقبلا فلا يمكن التكرار فيه لأنه لم يأت, وإذا جاء وأمكن التكرار فيه أصبح ماضيا, ومن الممكن أن تنحل القضايا التجريبية في يوم من الأيام بتجارب أخرى جديدة, ولكن ليس في الإمكان أن ينحل دليل عقلي منطقي. قال ستيوارت ميل الفيلسوف الإنكليزي وهو من أكبر علماء المذهب التجريبي: إنه وإن كانت بعض التجارب غير منحلة وغير منتقضة فليست كل تجربة ممكنة الإنحلال والانتقاض. على أن ذلك لا يكون طاعنا في الدليل المستند إلى الحسن والتجربة بل ليتبين عند التقويم ما للقضايا الأخرى, ثم إننا من جهة أخرى نجد أن العقل وحده هو الذي يفسر التجربة والمحسوس ويستخرج منهما المعنى الذهني, وهما ليسا بشيء بدون العقل فالإحساس بدونه أمي والتجربة بدونه خرساء.(1/463)
واستخراج المعنى وتحقيقه إنما يكون بفضل العقل وحده, فالحقائق الحسية متوفقة توقفا تاما على الحقائق العقلية ومن الخطأ الفادح أن نجعل القيمة الكبرى في الاستدلال للحقائق الحسية والتجريبية وأن نهمل القضايا الذهنية العقلية بعد كل ذلك نستطيع أن نتبين الأسس التي يقوم عليها المنهج الصحيح.
لقد رسم القرآن الكريم منهجا لاكتساب الحقائق العلمية وهذا المنهج لا يمكن الاستغناء عنه لكل باحث عن الحقيقة العلمية ويمكن تلخيص هذا المنهج بما يلي:
أولا- أن أية قضية من القضايا لا يمكن إثباتها بمجرد دعواها بل لا بد أن تكون مستندة إلى دليل يدعمها وبمقدار صحة الدليل وقطعيته تكتسب القضية الصحة والثبوت وهذا ما صرح به القرآن الكريم في مواضع مختلفة منها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [30]
ولكل قضية من القضايا ولكل نوع من الدعاوى نوع من الأدلة العلمية يناسبها, فالدعاوى المتعلقة بطبائع الأشياء المادية يستدل عليها بالبراهين التجريبية المحسوسة والدعاوى المتعلقة بالمجردات لا يقبل معها إلا براهينها المسلمة والدعاوى المتعلقة بحقوق الأفراد والجماعات لا يقبل فيها إلا الشهادات المثبتة لها وهكذا لا تصبح القضية حقيقة علمية إلا بوجود الدليل المناسب لها.(1/464)
ثانيا- أن الواجب على الباحث أن يفرق أثناء عملية الاستدلال بين الدليل اليقيني وبين الدليل الظني ومادون الظني, وبين النظرية في العلوم والحقيقة العلمية فالدليل اليقيني وحده الذي يصح الاعتماد عليه في الأصول من العقائد [31] والأحكام وهذا ما جاء به القرآن الكريم في كثير من الآيات منها: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [32] . أما العقائد عامة والأحكام العملية فيكفي الاستدلال لها بالأدلة الظنية كأخبار الآحاد والقياس.
ثالثا- لابد للباحث من طرح التقليد الأعمى وهو أكبر خطر على الوصول إلى الحقائق واكتشافها بل هو المعول الهدام لصرح العلم الصحيح ولقد كان بين الإسلام وبين التقاليد العمياء صراع عنيف دام فترة من الزمن حتى استطاع أن يقتلع جذوره من نفوس الجاهلين ويفتح عقولهم لتستضيء بنور الحق ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [33]
رابعا- عدم التناقض بين الحقائق إذ لو جاز التناقض بين الحقائق لانهار صرح العلم, وهذا ما جاء موضحا في الآية الكريمة {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [34] إذ التناقض أشد من التفاوت فإذا انتفى التفاوت كان التناقض منفيا من باب أولى.(1/465)
خامسا- الاعتماد على الحواس فلقد عرفنا أن من القضايا ما يمكن إثباته بطريق الذهن وحده, وأن قسما آخر منها يفتقر في إثباته إلى الاعتماد على الحواس ومن هذا القسم العلوم المادية ولولا اعتمادها على الحواس ومن وراء الحواس العقل لما اتسعت هذه العلوم, ولما تمكن الإنسان من كشف شيء جديد والقرآن يطلب من أولي النهى أن يعملوا حواسهم وعقولهم في مظاهر الحياة وألا يهملوها وسيسألون يوم القيامة عن هذا الإهمال, قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [35] .ومما تقدم تعلم أنه لابد للباحث من أن يأخذ بهذه القواعد التي رسمها القرآن الكريم, وجعلها منهاجا للوصول إلى الحقائق بل لابد من إلتزامها حتى يكون في حرز عن الخطأ ومجافاة الصواب, وسواء أكانت هذه الحقائق دينية أم دنيوية, ومن هنا حكم علماء الإسلام على أن الإيمان المعتبر هو الإيمان القائم على الدليل والبرهان وأن إيمان المقلد غير صحيح إذا كان عنده قدرة على التفكير والاستدلال والنظر فيقبل إيمانه عن طريق التقليد لعجزه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
طريقة الوصول إلى الأحكام الشرعية
وهكذا فإن الإيمان إذا لم يكن قائما على البرهان العقلي لا يكون صحيحا [36] مادام صاحبه قادرا على التفكير والنظر.(1/466)
ومتى استقر الإيمان بالله, والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الاستدلال كان المؤمن ملزما بأخذ الحلول التي جاءت في الإسلام للمشاكل, والأحكام للحوادث, إذ أن هذه فروع عن الأصل وهو الإيمان والفرع يبنى على الأصل, والجزئيات تبع الكليات, ومعلوم أن مصدر الأحكام الإسلامية القرآن الكريم, والحديث الشريف, ولا بد من الرجوع لهذين المصدرين لأخذ الأحكام منهما من منهج واضح يسهل على الباحث طريق الوصول إلى حكم الله في المسائل التي يتعرض لها ويتجافى به عن الخطأ ويتباعد به عن الخبط والضلال ولذلك وضع علماء المسلمين منهجا دقيقا لاستنباط واضح المعالم بين الخطأ فما على المسلم إلا أن يدرس هذا المنهج دراسة واعية, ثم يطبق خطواته فإذا به يصل إلى مقصودة دون خطأ أو التواء أوغموض.
خطوتا المنهج: وهذا المنهج بعد تطبيق الركائز الخمس التي أشار إليها القرآن الكريم ونوهت عنها يتألف من خطوتين, فلا بد للباحث أن يمر في مرحلتين هما: مرحلة إثبات النص أولا, ثم مرحلة فهم النص ثانيا.
المرحلة الاولى:
مرحلة إثبات النص:-النصوص التي يعتمد عليها الإسلام هي كما مر كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم فأما كتاب الله فإن نصوصه ثابتة وقد نقله إلينا بالتواتر علماء المسلمين وتناقلته الأجيال على كيفية لا يمكن أن يتطرق إليها أدنى شك إذ حفظه الله من الأيدي العابثة خلال القرون فلا حاجة إلى المرحلة الأولى مرحلة إثبات النص, وأما السنة فثبوتها يتوقف على أمرين هما: صحة المتن, وصحة السند.
والمتن هو نص الحديث فإذا أردنا أن نحكم على متن الحديث أنه صحيح فلا بد أن يكون خاليا من الأمور التالية: ركاكة اللفظ والمعنى, مخالفته للمنطق السليم, مخالفته لما ثبت في التاريخ الصحيح, والحكم في ذلك لأهل الإختصاص.
أما صحة السند:(1/467)
السند كما نعلم هو رفع الحديث إلى رجاله الذين يرويه بعضهم عن الآخر إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم ولكي نحكم على حديث أنه صحيح لابد أن ننظر في كل فرد من أفراده فإذا كان كل راو فيه عدلا ضابطا لما حفظ ثم كان سند الحديث متصلا لا انقطاع فيه سالما من الشذوذ والعلة القادحة حكمنا على هذا السند بالصحة والقبول، وإن خلا من شيء من ذلك حكمنا عليه بالضعف.
ولقد وضع العلماء المسلمون علما مستقلا دقيقا يتعرف بوساطته إلى الحديث الصحيح من غير الصحيح ويسمى هذا العلم بمصطلح الحديث.
وتفرع عنه فن آخر هو علم الجرح والتعديل وتفرع من علم الجرح والتعديل علم تراجم الرجال, حيث تلتقي هذه العلوم على وضع ميزان بغاية الدقة, وهكذا احتوت المكتبة الإسلامية التي في كل بلد منها أثر وفي كل مكتبة من مكتبات العالم منها خبر احتوت على مؤلفات كبرى تستعرض معجم الرجال الذين وردت أسماؤهم في أي سند من الأسانيد وتستطيع أن تقف على ترجمة من تشاء منهم جرحا أو تعديلا وأن تعرف الزمن الذي عاش فيه لتعلم من ذلك معاصريه.
هذا عرض سريع فيما يتعلق بتحقيق النقل والخبر ولكن على من يرغب الاستزادة أن يعكف على الفنون التي نوهت عنها ليجد الجهد الغريب وليجد الكثير من علماء الحديث من يقطع مئات الأميال في زمن لا توجد فيه الطائرة ولا السيارة متعرضا للمشاق والمهالك لا لشيء إلا ليلقى عالما يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ليعلمه ويحفظه فحسب ولكن يريد أن يتلقاه منه أيضا ويستأذنه بروايته عنه لكي تزداد طرق هذا الحديث عنده أنه يسهل علينا جدا أن نقرأ إسنادا من هذه الأسانيد في كتاب من كتب الصحاح دون أن نتكلف أي جهد أو مشقة, ولكن المهم أن نتبين صورة ذلك الجهد العجيب الذي بذل وتلك التضحيات التي قدمت في سبيل هذين السطرين فقط من الإسناد الذي لا نلتفت له اليوم بل قد يضيق البعض منا من قراءته.(1/468)
أما المرحلة الثانية: في المنهج فهي النص وهي تأتي بعد مرحلة إثبات النص فبعد أن يتأكد الباحث من ثبوت النص وصحته يعود إلى النص فيبذل أقصى ما عنده من جهد لفهمه واستنباط الحكم منه, وفهم النص يتوقف على أمور منها:
أ- معرفة اللغة العربية مفردتها وتراكيبها ومعرفة النحو والبيان فمن لا يكون ضليعا باللغة العربية في ميادينها المختلفة ليس أهلا لأن يستنبط الأحكام ومن لا يتطابق فهمه مع أصول اللغة العربية فإنما يكون فهمه وسوسة من وساوس الشيطان.
ب- معرفة أسباب النزول وأسباب الورود فإن معرفة سبب النزول وسبب الورود تلقي ضوءا على النص, وتكشف للباحث السبيل إلى المعنى الحقيقي.
ج- معرفة ما تقدم من النصوص وما تأخر فإن من المعلوم أن التشريع الإسلامي جاء متدرجا كما في تحريم الخمر مثلا فقد يأتي نص من النصوص فينسخ حكم نص سابق, ولذلك يتعين على فاهم النص معرفة السابق من اللاحق من النصوص.
د- معرفة طرائق الاستنباط ولقد وضع العلماء المسلمون علما مستقلا دقيقا يعين على طرائق فهم النص ويعرف هذا العلم (بعلم أصول الفقه) وهو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية وهكذا وضع علماء المسلمين قواعد محصوها تمحيصا وبنوها على أصول أجمعوا عليها إجماعا ومناهج التزموها في اجتهادهم ومعايير دقيقة عميقة كانت متحكمة في أذهانهم وأبحاثهم حتى إذا ما رجعنا إلى فقه كل واحد منهم تيقنا أنهم لم يكتبوا إرضاء لنزعة شخصية, أو انبعاثا عن هوى متبع، أو تحقيقاً لمطلب دنيوي، أو مجاراة لتسلط عابث, ويتخذ من فقههم ومنهجهم فيه نموذجا يهتدي به.(1/469)
ولقد كان علم أصول الفقه كسابقة علم مصطلح الحديث من العلوم المستحدثة فلقد كان العلماء في الصدر الأول في غينة عنه لأنهم كانوا على تمام العلم باللغة العربية يعرفون معاني ألفاظها وما تقضي به أساليبها وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقربهم منه ومعرفتهم بالأسباب التي من أجلها كانت الشرائع أكسبتهم معرفة بسر التشريع ذلك إضافة إلى ما امتازوا به من صفاء الخاطر وقوة الذكاء وحدة الذهن فلم يكونوا بحاجة إلى شيء وراء ذلك في استنباط الأحكام من مصادرها, فلما جاءت بعدهم أمم اختلطت بغيرها وانقلبت العلوم كلها صناعة احتاج العلماء إلى وضع قواعد هذا العلم لاستفادة الأحكام من الأدلة وليتقيد الفقيه بها في استنباطه حتى لا يخرج عن الجادة دعما للحق وحدا للأهواء.
وهكذا لم يعرف التاريخ حتى الآن أمة من الأمم جعلت لبحثها العلمي منهجا واضحا صحيحا لا يأتيه الضلال من بين يديه ولا من خلفه غير الأمة المسلمة.
ومن هذه الخلاصة السريعة جدا عن المنهج العلمي للبحث عند المسلمين أخذتها من واقع أبحاثهم تبين لنا مدى ما يعتمد عليه العلماء في أبحاثهم من المنهجية والموضوعية المجردة فالعلماء المسلمون يبحثون أول ما يبحثون عن ثبوت النص كما رأينا فإن ثبت عندهم صحة النص بتلك الطريقة الدقيقة الواضحة فلا بد بعد ذلك من فهمه فهما دقيقا ضمن شروط قاسية ودقيقة.
وليس لكل من هب ودب, ولا لأنصاف المتعلمين وأرباعهم وأصفارهم وأدعيائهم, ولا لمن لم تتوفر العدالة فيهم من ملاحدة هدامين, أو فسقة متحللين, ولا من استعمرت الثقافات الأجنبية عقولهم, ولا من يتقربون للزعماء والرؤساء بالتحليل, أو يتملقون العامة بالتحريم أن يتصدر للفتيا والاستنباط وإذا كان الطب والهندسة مباحا للجميع مثلا ولكن لا يجوز لدجال أن يتعرض لعلاج المرضى ولا لمن لم يدرس الهندسة أن بيني سدا أو يصمم حصنا فإن الفهم والاستنباط مباح بهذا المعنى.(1/470)
وهكذا أعطى المنهج المسلمين حقائق علمية ثابتة لا نظريات متبدلة لذا وجدنا أن سلوك هذا المنهج السليم يضمن للمسلمين الوصول إلى الحقائق العلمية والشرعية وبالتالي يضمن لهم وحدة فكرية ويقضي على أسبابه عدم سلوك هذا المنهج العلمي الصحيح.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة العلق الآية (1-5)
[2] سورة الاسراء الآية (36)
[3] سورة زمر الآية (9)
[4] المجادلة الآية (11)
[5] سورة آل عمران الآية (18)
[6] السورة الروم الآية (59)
[7] سورة يوسف الآية (76)
[8] سورة طه الآية (114)
[9] سورة الاسراء الاية (85)
[10] سورة الكهف الآية (66)
[11] سورة البقرة الآية (247)
[12] رواه البخارىج1ص26.
[13] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
[14] رواه ابوا داود والترمذي.
[15] رواه البيهقي عن أنس والطبراني.
[16] وظابط هذا أنه يلزم على المسلم أن يتعلم ما لا يسعه جهله في أمور دينه.
[17] رواه الطبراني
[18] سورة البقرة (164)
[19] سورة الأنعام آية (116)
[20] سورة يونس آية (36)
[21] سورة الروم آية (29)
[22] سورة الأنعام آية (119)
[23] سورة البقرة آية (111)
[24] سورة المؤمنون:آية (117)
[25] سورة النمل: آية (64)
[26] سورة المائدة آية (104)
[27] سورة البقرة آية (0 17)
[28] الزمر آية (18)
[29] والمقصود الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء يها القرآن واتفق العقل والشرع وتلازم الرأى والسمع (الجزء الاولص49الفتاوى)
[30] من سورة البقرة آية (111)
[31] كالإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره فإنها جميعا في الواقع ثابتة بأدلة قطعية0
[32] سورة يونس: آية (36)(1/471)
[33] سورة البقرة: آية (170)
[34] سورة الملك: آية (3)
[35] سورة الأعراف: آية (178)
[36] المراد بالبرهان العقلي الفطري الذي جاء به القرآن الكريم واتفق العقل والشرع وتلازم الرأي والسمع كما ذكر.(1/472)
نظرات في دعوة المبشرين
للشيخ ممدوح فخري المدرس في الجامعة الإسلامية
تميز عنصر النهضة في أوربا بالنسبة للمسيحية بظاهرتين متناقضتين، ظاهرة الانكماش في الداخل وظاهرة الانطلاق في الخارج وذلك حينما انجلى الصراع المرير بين الدين والعلم أو بتعبير أدق بين رجال الدين وتيار التطور العلمي الهائل الذي بدأ في أوربا، انجلى ذلك الصراع بهزيمة مروعة لرجال الدين ووضع بذلك حد لذلك الطغيان الذي مارسه أولئك الرجال باسم الدين عبر القرون وكانوا سدا منيعا أمام كل حركة فكرية حرة تحاول إخراج الناس من حكم هذا الكابوس الرهيب الذي يفرض سلطانه باسم الله، ويعتبر كل خروج عليه خروجاً على الله، ويبطش البطشة الكبرى مستهدفا الرؤوس المفكرة والعقول الكبيرة ورواد العلم والمعرفة الذين يهددونه في وجوده وكيانه.
ولكن سنن الله الكونية لا تغالب والظلم لا يدوم ولا يستطيع أحد أن يحول بين العقل وبين استخدام حقه الطبيعي في التفكير والانطلاق، ولا يستطيع الطغيان أن يكون حاجزا أبديا أمام العلم والمعرفة والحرية لذلك سرعان ما انهارت السدود ((المقدسة)) أمام زحف التيار العلمي والتقدم الفكري وأزيحت الكنيسة ورجالها كعقبة رئيسية في طريق التطور وفقدوا بذلك كل سلطان لهم في المجتمع فأقصوا عن مراكز الحكم وطردوا من المدارس وانتزعت منهم أداة التوجيه والتربية وانزوت المسيحية في الكنائس والأديرة وسجنت هناك ولم يعد يسمح لها بأن تدس بأنفها باسم رجالها في شؤون الناس.
أمام هذا الانهزام بحث رجال الدين المسيحي عن ميدان آخر يمارسون فيه نشاطهم ويعرضون فيه بضاعتهم وقد نبذتهم أرضهم ورفضهم أهلهم وأبناؤهم.(1/473)
وكان المجال الطبيعي لهم هو البلاد المختلفة دينيا وحضاريا وكان العالم الإسلامي في مقدمة هذه البلاد المختلفة لذلك كان الهدف الرئيسي للمبشرين الذين انطلقوا في الأرض يبشرون لا بالديانة المسيحية ولكن بالاستعمار الجديد الذي كانوا يمثلون طلائعه في كل بلد، وكانت مراكزهم ومدارسهم القواعد الفكرية التي مهدت للاستعمار وروجت للغزو الفكري والحضاري وأوجدت القابلية للاحتلال وقدمت المبررات والمسوغات لهذا الغزو باسم العلم والمدنية وعلى أنه الطريق الوحيد للتقدم والرقي واللحاق بركب الحضارة، وقد خدمت حركة التبشير هذه جهتين مختلفتين: الجهة الأولى: هم المبشرون الذين وجدوا مصدرا جديد للارتزاق بعد أن سدت في وجوههم أبواب الرزق في بلادهم، والجهة الثانية هي الدول الاستعمارية ((اللادينية)) التي تولت طرد هؤلاء من بلادهم ثم أمدتهم بعد ذلك بالمال الوفير لا إيمانا منها بدعوتهم ولكن لأن المبشرين كانوا ولم يزالوا طلائع الغزو الاستعماري والممهدين له بغزو فكري مسبق. وعلى هذا الأساس كان هذا التلاقي الغريب بين الأضداد في حركة التبشير.
ولقد حمل المبشرون أوزارهم وجاءوا يدعون إليها في بلاد المسلمين، جاؤوا ببضاعتهم المزجاة وتجارتهم البائرة التي لم تجد لها سوقا رائجة بين أبناء جلدتهم جاؤوا إلى بلاد المسلمين آملين أن يجدوا سوقا نافقة لبضاعة أعرض عنها أهلها وذووها جاؤوا ليجدوا أمة غنية في الأخلاق غنية في التراث العلمي العريق، ذات ماض مجيد وحضارة مشرقة تتلألأ في بطون التاريخ، ووجدوا مع ذلك كله تخلفا مريعا في ميدان العلم والأخذ بأسباب الحياة الجديدة ومسايرة ركب الحضارة، مع جهل فاضح بالدين الذي ينتمون إليه وبالتراث الذي ينسب إليهم.(1/474)
أضف إلى ذلك فقرا مدقعا يعم أمة تتحكم في مصادر الثروة في العالم تقريب. ومن هذه النوافذ الكبرى والفجوات الواسعة في حياة المسلمين تسرب المبشرون إلى بلادهم ثم إلى قلوبهم وأفكارهم وكان ذلك الانقلاب الهائل في حياة المسلمين على أيدي المثقفين من أبنائهم الذين ربوا في محاضن التبشير وغذوا بألبانهم الفاسدة المصبوغة بصبغة العلم والمعرفة، ذلك الانقلاب الذي يتجسد في جماهير المثقفين المرتدين من أبناء المسلمين المتنكرين لدينهم ولتاريخهم ولتراثهم الفكري والعلمي والقابلين أن يتنازلوا عن مكانتهم في التاريخ ومركزهم في العالم وأن يسيروا في ذنب القافلة يقلدون غيرهم ويحكون أقوالهم وأعمالهم بعد أن كانوا ممسكين بقيادة الإنسانية يوجهونها وجهة الخير بإذن الله.
ولكن المبشرين لم يحملوا إلى بلاد المسلمين شيئا يفتقرون إليه ولا يجدونه عندهم فما هو المعنى الجديد الذي جاء به المبشرون ولم يجدوا لدى المسلمين ما هو أفضل منه؟
ما هو المثل الأعلى الذي آتو به ولم يجدوا عند المسلمين أكرم منه وأمثل؟ ما هي القيم الدينية والخلقية التي أتوا بها ووجدوا المسلمين أفقر وأحوج إليها منهم، أجل لقد أتوا بالوسائل العلمية الجديدة وأتوا بمبتكرات حديثة في الميدان المادي الخالص، وببعض أنواع العلوم العصرية التي كانوا يستخدمونها في الحقيقة كستار وحجاب يستر غرضهم الأساسي وهدفهم الحقيقي وهو التمكين لأنفسهم ولأفكارهم في بلاد المسلمين وذلك بمحاربة الإسلام في نفوس أبنائه بأساليبهم الملتوية الماكرة.(1/475)
وهنا لابد من الإشارة إلى بعض الحقائق البارزة في دعوة المبشرين وإلقاء الأضواء العابرة على ما فيها من عيوب بادية تصدم العقل السليم والفطرة النظيفة للمسلمين عقيدتهم وشريعتهم ومنهجهم الكامل في الحياة ونظرتهم المتكاملة في الكون والحياة والإنسان وكل ذلك منبثق من كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام فما هي عقيدة المبشرين وما هي شريعتهم وما هو منهجهم الكامل وما هو كتابهم وما هو تاريخهم؟
وأما عقيدتهم: ففيها الطامات الكبرى وأولى هذه الطامات عقيدة التثليث: تلك العقيدة المستعصية على العقول، وذلك اللغز المعقد الذي عجز عن حله أساطين المسيحية عبر القرون لأن كون الواحد ثلاثة والثلاثة واحد وكون كل واحد من الثلاثة هو عين الآخرين شيء تأباه مسلمات العقول وشيء يصطدم مع البديهيات بل هو مما يستحيل فهمه على الإنسان ولهذا تشبعت آراء النصارى في تفسيره فجمهورهم يقولون هذه عقيدة وردت هكذا في الكتاب المقدس، فينبغي قبولها كما هي لأنها ثبتت بالنص، وبعضهم يقول: هذه الأقانيم الثلاثة هي كالصفات للموجود الواحد ومن هؤلاء الفيلسوف الألماني الشهير كانت حيث يقول: (أن الأب والابن وروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت وهي القدرة والمحبة والحكمة أو على ثلاثة فواعل عليا وهي الخلق والحفظ والضبط) .(1/476)
وكل كلام في الحقيقة في هذا الثالوث عبث وذلك لأن العقول لم تعط القدرة على فهم المستحيلات، هذه هي العقيدة التي يريد المبشرون من المسلمين أن يقبلوها ويتخلوا في سبيلها عن عقيدتهم الواضحة التي تغزو القلوب والأرواح ببساطتها وملاءمتها للفطر السليمة والعقول المستقيمة، إله واحد متصف بكل كمال منزه عن كل نقص {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، أرسل الرسل وأنزل الكتب وكلف الناس بتعاليم وتكاليف هي في مقدورهم وجعل لهم يوما لا ريب فيه يحاسب فيه كل إنسان على ما قدم بالعدل والقسطاس المستقيم. هذه هي العقيدة التي تجتذب إليها القلوب اجتذابا والتي يريد المبشرون أن يتخلى عنها المسلمون ليؤمنوا بدلا منها بعقيدة لا تجد لها مكانا أصلا لا في العقل ولا في القلب مع العلم بأن عقيدة الثالوث عقيدة وثنية معروفة في التاريخ عند المصريين والهنود وغيرهم ومن عقائدهم أيضا: الصلب والفداء: ومعنى هذه العقيدة باختصار شديد أن الناس جميعا يولدون عصاة آثمين وذلك لأنهم يرثون معصية أبيهم آدم وقد جاء المسيح وهو الإله وابن الإله ليصلب ويفتدي خطايا اتباعه الذين يولدون وهم موصومون بها. والإسلام يحل هذه المشكلة ببساطة متناهية: فيقول القرآن الكريم: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وعند هذا انتهت هذه القصة التي جعلها النصارى معضلة مبنية على أساس التعارض بين عدل الله ورحمته وبين عدل الله الذي يصر على معاقبة آدم العاصي ورحمته التي تصر على مغفرة ذنبه، ثم لا يكون المخرج من هذا النزاع إلا بالفداء وصلب المسيح الإله وابن الإله، وكأن التوبة لم تخطر لهم على بال. وعلى هذا فالإنسان في ظل الإسلام يولد نظيفا بريئا وعلى الفطرة ولا يتحمل آثام غيره التي لم يتسبب فيها وهو يتحمل تبعة التكليف ويحاسب على ما كلف به فقط. ومن عقائدهم: عصمة الكنيسة وعلى رأسها البابا في فهم الكتاب(1/477)
المقدس وفيما يجتمع عليه الرأي وهذا في الحقيقة إلزام بالخطأ من إنسان يشهد العقل والحس بعدم عصمته، وجعل الكنيسة مصدرا دائما من مصادر التشريع، وهذا لا يعدو عبادة الرأي والعقل والهوى، وفرق بين عصمة الكنيسة وإجماع المجتهدين من أئمة الإسلام وذلك لأن إجماع المجتهدين لا يكون إلا على دليل ومستند من كتاب أو سنة ومن عقائدهم: توسط رجال الدين بين الله وعباده وأنهم يمنحون البركة والمغفرة بإذنه ويقسمون رحمة الله بين خلقه فيمنعونها عمن يشاءون ويعطونها لمن يشاؤون0
وقد استغل رجال الدين هذه المكانة أشنع استغلال وأصبحوا يتصرفون بجنة الله وهم في الأرض وكأنهم يمارسون سلطة الله، وحادثة بيع صكوك الغفران في أوروبا كلها أمر شائع في التاريخ، حيث طبع أحد الباباوات بطاقات يبيع بموجبها مساحات من الجنة وذلك لقاء مبلغ من المال. وكراسي الاعتراف تشهد كل حين اعترافات المذنبين أمام رجال الدين بجميع الذنوب التي اقترفوها وذلك ليغفرها هؤلاء أو ليتوسطوا لمغفرتها-وقد حرر الإسلام الإنسان من هذه الوساطة وفتح أمامه أبواب السماء وأطلقه من هذه الوصاية وقد أونس منه الرشد وربطه مباشرة بربه يتصل به متى شاء وأين شاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
أضف إلى ما سبق تقييد أماكن العبادة في الكنائس فقط مع ما في هذا من الحجر على عباد الله وتضييق الأرض الواسعة، مع عبادة مريم عليها السلام عند بعضهم وعبادة القديسين الذين لا يعلم عددهم إلا الله، وعبادة هؤلاء غالبا ما تكون بالتوسل بهم والاستعانة وتعظيم صورهم التي قلما تخلوا منها كنيسة0 ونحن نعلم أن الفرق المسيحية ليست مجمعة على جميع ما ذكرنا، ولكن الفرقة التي لا توافق على شيء مما ذكرناه، فإنها تقترف شيئا آخر هو أعظم بكثير مما استنكرته.(1/478)
هذه لمحات عن عقائد المبشرين ولم نقصد الاستقصاء وفيما ذكر عبرة لمعتبر. وأما شريعة هؤلاء، فلا وجود لها في الحقيقة والواقع، وذلك لأن الإنجيل خال عن كل تشريع وهو مجموعة مواعظ وإرشادات أخلاقية وهو العهد الجديد وأما العهد القديم وهو التوراة ففيها شريعة ورغم أنها شريعة محدودة وشريعة شعب خاص وتفرق بين اليهودي وغيره في المعاملة ومع ذلك فإن المنسوبين إلى المسيح عليه السلام كتلاميذ فقد نسخوا شيئا كثيرا منها وفي بعض الروايات نسخوا جميعها وذلك لما منحوه لأنفسهم من حق التشريع وهو نقلهم عن المسيح عليه السلام أنه قال لهم قبل وفاته بزعمهم: (ما حللتموه في الأرض محلول في السماء وما ربطتموه في الأرض مربوط في السماء) .
وقد استعملوا هذا الحق في نسخ ما شاءوا من شريعة التوراة رغم إقرار المسيح لها: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ومن قول المسيح المروي في الإنجيل ما جئت لأنقض الناموس (وهو التوراة) ولكن لأتمم.
ونظرا لهذا الافتقار إلى الشريعة التي تنظم سائر أحوال الأمة كانت الأمم المسيحية عالة على غيرها وأحيانا على غير المؤمنين في التشريع وما قيمة دعوة لا تملك تشريعا ينظم أحوال المؤمنين بها. وأما الشريعة الإسلامية فهي تحمل شهادات دولية من مجامع قانونية عالمية على أصالتها وشمولها لجميع أحوال الإنسان وقابليتها للتطبيق في كل زمان ومكان وهذه كتب التراث الإسلامي تشهد بكل ذلك، ومع هذا فالمبشرون يريدون من المسلمين العدول عن هذا الصراط المستقيم الذي تولى الله سبحانه رسمه وإقامة معالمه وأناط سعادة الإنسان به، إلى لا شيء فاعجبوا أيها الناس.(1/479)
إن المتأمل في كتب المبشرين وأسفارهم المقدسة يخرج بنتيجة حتمية واحدة وهي إن هذه الدعوة لا تملك لا عقيدة ولا شريعة وخلاصة ما تدعو إليه بعض مكارم الأخلاق كالزهد والحلم والتواضع ولين الجانب والإقبال على العبادة والتنسك وهذا لاشك جانب من الدعوة ولكن لا بد مع هذا من عقيدة تقنع العقل وتشبع القلب ومن شريعة تنظيم سلوك الإنسان وترشده في متاهات الحياة ونظرة متكاملة تعطي الإنسان تفسيرا عن هذا الكون وكل هذه الأمور تفتقر إليها دعوة المبشرين.
بل نقول أكثر من هذا وما نحن بمبالغين وهو أن هذه الدعوة تفتقر إلى الأصول والمنابع الأولى التي تستمد منها أفكارها وآراءها ومبادئها وذلك لأن ما تعتمد عليه من كتب مقدسة ومن سيرة صاحبها الأول وهو المسيح عليه السلام لا يصلح أن يكون أساسا لدعوة متكاملة لا من حيث النقل والثبوت ولا من حيث المضمون والمحتوى.
وأما من حيث النقل والثبوت فمن المتفق عليه عند المؤرخين والمنصفين من الناس أن أية أمة من أمم الأرض لا تستطيع أن تروي عن نبيها خبراً واحداً من كتاب أو سنة يرقى إلى مرتبة أخبار الآحاد عند المسلمين وأن بين هذه الكتب ومن أنزلت إليهم مفاوز من الانقطاع والمجاهيل التي لا يدري عنها أحد شيئا وكذلك الأقوال المروية عنهم لا يعرف لها سند أصلا وإنما وجدت هكذا وولدت كما هي وقبلت كما وجدت وكما ولدت.(1/480)
وأما العهد القديم الذي هو التوراة فقد ضاعت بإجماع المؤرخين من اليهود والنصارى وذلك حينما غزا البابليون بيت المقدس وأحرقوا هيكل اليهود وأن التوراة الماثلة بين أيديهم فهي التوراة التي أعاد كتابتها عزيز بخارقة تمت على يديه فاليهود والنصارى عالة على عزيز هذا في أصل دينهم وهذا كما ترون شيء لا يستسيغه العلم ولا يقره وذلك أن يعيد رجل كتابة كتاب مفقود بواسطة حلم أو تجلي ملك أو بقذف نور في قلبه، أو بشر به من ماء مبارك أو أكلة من شجرة مباركة، ولابد من إثبات الكيفية التي تمت بها إعادة كتابة التوراة بشكل يرتضيه العلم ولا سبيل إلى ذلك، وتوراة اليهود تخالف توراة النصارى، وتوراة السامرة من اليهود تخالف التوراتيين السابقين. والأناجيل تبلغ الأربعة المعترف بها فهي من جملة أناجيل تبلغ العشرات كتبت جميعها بعد رفع المسيح عليه السلام.
ولم تعتمد رسميا إلا في القرن الرابع المسيحي وذلك أن اليهود قاتلهم الله حينما حرضوا الرومان على قتل المسيح ووشوا به إليهم وسعوا للقضاء عليه وعلى دعوته شدد الرومان الحملة على المسيح واتباعه فرفع المسيح عليه السلام وشرد اتباعه في الأرض وتخفوا بدينهم وفي هذه الأثناء دخل بولس اليهودي في المسيحية لإفسادها، وزعم أن المسيح تجلى له وأنه يتلقى الإنجيل من المسيح مباشرة وأنه لا يجوز أخذ الإنجيل من غيره أي من غير بولس فكتب إنجيله ودس فيه ما دس من تعاليم الوثنية الباطلة وروج لهذا الإنجيل وجمع حوله أناسا يقولون بقوله فانتشرت آراؤه في الناس ووضعت في المقابل أناجيل أخرى ووقع التعارض فيما بينها وثار النزاع حول المسيح وحقيقة شخصيته وعم الجدل فعقد مجمع نيقية عام (325) لوضع حد لهذه المنازعات في عهد الملك قسطنطين الذي كان قد تنصر بتأثير أمه وعرض في هذا المجمع سبعون إنجيلا وبعد أخذ ورد وقع إختيار الملك ومن معه على الأناجيل الأربعة.(1/481)
ورفض غيرها واعتبرت غير قانونية، وألزم الناس رسميا بهذه الأناجيل على ما فيها وهذه الأناجيل متعارضة فيما بينها وكل واحد منها يخالف الآخر ولا نكون مبالغين أبدا إن قلنا إن كل صفحة منها يوجد فيها ما يخالف غيرها من سائر الأناجيل، وهي مختلفة في الحادثة الواحدة والشخص الواحد والقصة الواحدة، وهي في الحقيقة عبارة عن تواريخ ومذكرات كتبها أناس وضعت أسماؤهم عليها أو نسبت إليهم وهي خليط من كلام المسيح وكلام الإنجيل وسير ووقائع جرت مع المسيح عليه السلام وهي مليئة بالخرافات والكفريات والضلال ويتخلل ذلك شيء من الزهديات التي تعتبر كل شيء في الإنجيل والنزاع قائم في كل ما يتعلق بهذه الأناجيل فهي غير مسلمة شكلا وموضوعا ولا نعرف تماما اللغة التي كتبت بها هذه الأناجيل ولا تاريخ كتابتها ولا الأشخاص الذين كتبوها.(1/482)
ولو كانت هذه الكتب مسلمة الثبوت من حيث السند لكان كافيا لفقدان الثقة بها الترجمات التي تعرضت لها إذ أنه من الثابت أن الترجمة تقتل النص وتفقده جوهره، والترجمة الحقيقية المطابقة للأصل لا يمكن أن توجد أصلا. ومع ما في هذه الأناجيل من الأباطيل والتحريفات فإن الله سبحانه حفظ فيها ما يقيم به الحجة عليهم من التبشير بمحمد عليه الصلاة والسلام ففي إنجيل يوحنا: (7:لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم انطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم0) (12: وإن لي كلاما كثيرا أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن 13وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي) . فهذا الكلام لا يمكن حمله: إلا على محمد عليه الصلاة والسلام مع وجود إنجيل برنابا الذي يوافق القرآن في كثير مما قاله عن المسيحية ويقيم الحجة على النصارى ويخالف الأناجيل الأخرى المعتبرة في أسسها وعقائدها الكبرى، وهذا الإنجيل أكتشف في الغرب ولم يعرف في الشرق بل قالوا إنه وجد في مكتبة أحد البابوات وكان سببا في إسلام القيم على تلك المكتبة.(1/483)
هذه هي كتب المبشرين التي يريدون من المسلمين أن يتخلوا عن قرآنهم لأجلها يريدون أن نتخلى عن قرآننا الذي تعرف كل سورة منه بل كل آية متى نزلت وأين نزلت ولماذا نزلت وتعرف اللغة التي نزلت بها ودون منذ اللحظة التي نزل فيها واستظهره الناس لفورهم وتلوه في صلواتهم ليل نهار وتعلمه طلاب العلم في المساجد والمدارس وتدارسته الصبية في الكتاتيب والنساء في البيوت وانطلق به المجاهدون في أرجاء الأرض والذي لم يتعرض لترجمة أصلا فهو يحتفظ وسيبقى بحفظ الله محتفظا بطابعه الذي نزل فيه، مع خلوه من التناقض والتضارب واحتوائه لمنهج متكامل في العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق وإعطائه تفسيرا سليما سديدا عن الكون والحياة والإنسان مع ثبوته بجدارة واعتزاز أمام النظر العلمي المتجرد في كل ما ذكر، مع شهادة الواقع والتاريخ على تلك الجدارة {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}
فهذا هو القرآن وهذه هي الأناجيل فيا حسرة على عباد يعطلون عقولهم ويكابرون الواقع ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.(1/484)
وأما الرسول الذي يزعم المبشرون اتباعه فهو المسيح عليه السلام، وهو نبي كريم وهو عبد الله ورسوله وقد أدى رسالة ربه ومهد لظهور أخيه محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن المعروف من حياة المسيح عليه السلام وهديه في شؤونه الخاصة والعامة لا يكفي بشكل من الأشكال لجعل تلك السيرة قدوة ومنهاجا لإنسان يؤمن بالمسيح ويريد أن يتبعه ورغم قصر المدة التي قضاها المسيح عليه السلام في التبليغ ورغم رفع الله له إلى السماء في سن مبكرة فإن شطرا كبيرا من تلك المدة القصيرة مجهول غير محفوظ، فبعض المواعظ والرقائق مع بعض التعديلات في التوراة لا يكفي لأمة تحتاج في كل ناحية من نواحي حياتها لمرشد يهديها سبيل الرشاد، وهل هذا المرشد إلا هذا النبي. وإذا لم تحفظ الأيام حياة النبي وسيرته بشكل مفصل وواف ومقبول، ومنقول نقلا صحيحا فكيف نتبعه. وأمام هذا تستطيع أن نقول بدون تردد في النبي العظيم محمد عليه الصلاة والسلام: أن أمته لم تفقد منه فعلا إلا جسده الشريف وأما أقواله وأعماله وشؤون حياته كلها في مجالاته الخاصة والعامة بل حتى شؤونه الشخصية البحت من أكله وشربه ونومه واستيقاظه وضحكه وتبسمه وملابسه وأوانيه ودوابه وأسماء هذه الدواب وجلوسه ومشيه واتكائه والتفاته وشكله ولونه وطوله وعرضه ولون شعره وبشره وغير ذلك من جميع شمائله وخصائصه وشئون حياته وكل ما يتصل به من قريب أو بعيد كل ذلك قد دون وأحصي ودرس وسجل في كتب السير والشمائل والتاريخ بشكل لا مزيد عليه ونقل كل ذلك إلينا بطريق علمية تبهر علماء التاريخ من الأوروبيين، مع حفظ أسماء النقلة وأحوالهم وكتبهم. ومن أراد أن يتتبع حياة الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل ولادته إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ويعيش معه حياته المباركة بكل تفاصيلها الجليلة والدقيقة من شئون البيت ومداعبة الأطفال وملاطفة النساء إلى خصف النعل وغير ذلك من كل ما يخطر ببالك من شأنه ما عليه إلا أن يقرأ كتب السيرة(1/485)
والشمائل وحسبه من ذلك على سبيل المثال، كتاب زاد المعاد لابن القيم رحمه الله وكتاب الشفا للقاضي عياض رحمه الله وكتاب السيرة النبوية لابن هشام وإمتاع الأسماع للمقريزي وعيون الأثر لابن سيد الناس، مع كتب التاريخ التي لا سبيل إلى حصرها، وهذه الكتب زيادة على المعروف المشهور من كتب السنة المتداولة كالصحاح والسنن والمساند في هذه الحياة الكريمة والسيرة العطرة يجد المسلم كل ما يحتاج إليه في حياته الخاصة والعامة. وليقل بعد هذا كل عاقل هل من تكريم العقل والعدل والعلم والإنصاف أن يعدل الإنسان عن هذه السرة الكاملة والمحفوظة والمضبوطة والمنقولة نقلا صحيحا لاشك فيه إلى سيرة مجهولة ناقصة المحفوظ منها لا يفي بحاجة الإنسان في أية ناحية يستفتيها ومع جهالتها ونقصها لم تنقل نقلا صحيحا وكما أن القرآن الكريم هو الكتب السماوي الوحيد الذي حفظه الله وصانه ووضع فيه أسس السعادة والصلاح لكل زمان ومكان ويمثل بين دفتيه حكم الله خالصا وقادرا على تنظيم حياة الإنسان في كل مجالاتها، فكذلك سيرة الرسول عليه الصلاة، هي السيرة المحفوظة المتاكملة الوحيدة والقادرة على مد الإنسان بكل ما يحتاج إليه في دقائق حياته كلها. وبعد هذا كله فما الذي قدمته النصرانية للإنسان عبر التاريخ، أي حل قدمته للإنسان في مشاكله العقائدية والأخلاقية والتشريعية، وما هي القيم التي قدمتها وما هي المثل التي صدرتها، وما هي الأمجاد التي حققتها وما هي الحضارة التي نشأت في ظلها ورعايتها؟(1/486)
إن الذي يحفظه التاريخ للمسيحية من كل ذلك باختصار شديد هو ما يلي جماعة من رجال الدين في كل عصر تستطيل على الناس بسلطانها الديني وتتطاول على كراسي الحكم بغير حق وتدعي لنفسها أنها ظل الله في الأرض فتتحكم في رقاب البشر باسم الله والله من كل ذلك الظلم بريء، وتخدر الناس بالرضا بالواقع لأنه حكم الله. وتعتبر كل خروج على آرائها خروجا على الله، وتقمع جميع الحركات التحررية والعلمية، وتخنق الثورات والنهضات بهذه الحجة وتجعل حصيلة كل ذلك وسيلة لشهوات حفنة قليلة من رجال الدين برئاسة البابا، وقد كان لموقف رجال الدين من النهضة العلمية في أوربا ضرره البالغ على الديانات كلها في العالم وعلى الإسلام بوجه أخص، وذلك حينما وقفت العقول المتحجرة سدا منيعا أمام التيار العلمي المتدفق وحرمت على الناس استخدام حقهم الطبيعي في التفكير والإبداع وبررت ذلك التحجير والتحريم باسم الدين.
كفر العلماء بذلك الدين المتحجر الذي يقاوم وجودهم ويهددهم في حياتهم وفي مبتكراتهم العلمية ويكرههم على البقاء في ظلمة الجهل والتخلف، وكنتيجة طبيعية لهذا الموقف نشأت الحركة العلمية في ظل الإلحاد ثم غزت العالم كله وهي تحمل هذا الطابع وتنفر بالتالي من كل دين ومن كل ما يمت إلى الله بصلة وقد نسيت أن تميز في حركة اندفاعها وشرودها عن الكنيسة وعن دينها ورجالها أن تميز بين دين ودين وحكمت على الديانات كلها بالإعدام واعتبرتها منافية للعقل والعلم وأخرجتها بذلك من ميدان الحقائق العلمية المسلمة إلى عالم الخرافات والأحلام والشعوذة ففقدت الديانات بذلك قدسيتها وتأثيرها على الناس وأصبح الدين كالمجرم الذي أدين ووضع في قفص الاتهام وعلى أثر انزواء الدين من المجتمعات طغت فيها مردة الأبالسة من الملاحدة وخرج الأمر كله بذلك من يد أهل الخير والصلاح.(1/487)
هذا ما جنته الكنيسة على الإنسانية في الماضي والحاضر وهذا ما قدمته لها، وأما قيم الإسلام ومثله العليا ورسالته التي أنقذ بها العالم والحضارة الإنسانية الشاملة التي شيد صورها والحركات العلمية التي أنبتها نباتا حسنا في ظل رعايته عبر التاريخ شيء يغنينا اشتهاره عن الإطالة فيه، ولا تزال آثاره ماثلة على مرأى من الأوروبيين في بلادهم وفي التراث العلمي العريق الذي خلفه المسلمون في مكتبتهم الزاخرة العامرة. والسؤال الذي يهجم على الإنسان الآن بعد ما تقدم هو ما يلي: إذا كانت للمسلمين هذه الحصانة في العقيدة والشريعة والكتاب والرسول وهذه الأمجاد التاريخية فكيف يتسرب إلى صفوفهم المبشرون وهم من وصفت في العقيدة والشريعة والرسول والكتاب والتاريخ؟ والجواب عن هذا السؤال هو أن المبشرين لم يأتوا إلى المسلمين بشيء أفضل مما عندهم فيما ذكر ولكنهم وجدوا في المسلمين ثغرتين كبيرتين تسربوا منهما إلى بيوت المسلمين وقلوبهم. هاتان الثغرتين هما تخلف المسلمين الاقتصادي وتخلفهم العلمي، وأما التخلف الاقتصادي فأمر ينتظم العالم الإسلامي كله والفقر المدقع عامل مشترك بين أبناء الأمة الإسلامية التي تتربع على منابع الثروات العالمية، والتخلف الاقتصادي في الحقيقة نتيجة طبيعية للتخلف العلمي الذي يعاني منه المسلمون في كل ميدان من ميادين الحياة.(1/488)
إن المسلمين بحاجة إلى الكثير من فقه المادة إن صح هذا التعبير ليعرفوا كيف يستغلون هذه الثروات الطبيعية الهائلة التي يجثمون فوقها والتي يسرقها أعداؤهم على مرأى منهم مسمع. والإنعاش الاقتصادي ليس في الحقيقة إلا جزءا من إنعاش عام يشمل جميع جوانب الحياة في الأمة، فما لم يعرف المسلمون كيف يحسنون الاستفادة من الكنوز التي يملكون مفاتيحها سيبقون في حاجة دائمة لعدوهم الذي يجود عليهم بمالهم مقابل الخروج عن دينهم والتنكر لتراثهم. وقد قيل قديما: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك، وهذا يبين السبب الذي يبيع به بعض ضعاف الإيمان من المسلمين دينهم برغيف يبقي لهم حياتهم، والسبب هو جهلهم بدينهم وبأساليب الحياة الحديثة وبمبتكرات الحركة العلمية التي وضع أسلافهم أصولها باعتراف أعدائهم.
وأما جهلهم بدينهم فقد سمع للمبشرين بأن يدسوا على الإسلام ما شاءوا من مفتريات وأباطيل وبأن يشوهوا جمال الإسلام في نفوس أهله ويزعزعوا مكانه ذلك الدين في قلوب أبنائه مما يضعف روح المقاومة عندهم ويوجد لديهم قابلية الانهزام والتبعية والذوبان مما يمهد الطريق أمام المبشرين لسلخهم عن دينهم.
وأما عدم الأخذ بأسباب الحياة العلمية الحديثة فقد جعل المسلمين يعجبون بما لدى أعدائهم من تقدم علمي هائل يتصاغر أمامه الإنسان الجاهل، ويفتن بما يرى ويكبر في نفسه وفي عينه من تحققت تلك المعجزات على يديه ومن جلبها إلى بلاده وبالتالي وكنتيجة طبيعية يزدري ما عنده وهنا يصل المبشورن إلى الغاية المنشودة حيث تسقط عزة المسلم الجاهل أمام بريق الحضارة الخداع فيزداد تضاؤلا في نفسه وتعظيما لغيره حريصا كل الحرص على تقليد من شاد هذه الحضارة ورفع منارتها مستعدا لبذل ما لديه من دين وخلق في سبيل التشبه بهم.(1/489)
هاتان هما الثغرتان الكبيرتان في واقع المسلمين نفذ منهما المبشرون وأسيادهم المستعمرون إلى نفوس المسلمين وبلدانهم واستطاعوا أن يوقعوا في شباكهم فريقين من الناس: فريق جائع محتاج ساوموه على حياته واشتروه، وفريق جاهل غرروا به وضللوه وأما أن يكسبوا لدينهم مسلما واحدا عن إيمان وقناعة فلا سبيل إليه أبدا، لأن دينا لا يفهمه الداعون إليه أجدر أن لا يفهمه المدعون وهذان الفريقان من ضحايا المبشرين لا يؤبه لهما في الحقيقة إزاء ما استطاع هؤلاء أن يحققوه في مجال آخر بقي على ولائه الأسمى للإسلام ولكن جوهره قد تدنس بكل أباطيل المبشرين وخبائثهم، هذا المجال هو مجال المثقفين المسلمين. إن كان المبشرون قد استطاعوا أن يشتروا بعض المعوزين ويظللوا بعض الجاهلين فإنهم استطاعوا أن يشككوا الجمهور الأعظم من المثقفين ويزعزعوا إيمانهم ويهزوا يقينهم ويخدروا شعورهم الديني بحيث يكون الباقي منهم على دينه، مشلولا مخدرا قلق نهبا للصراع النفسي العنيف بين عقيدته والشبهات التي ألقيت حول هذه العقيدة وكثيرا ما انتهى هذا الأمر بهذا الصنف من المثقفين إلى الارتداد العملي عن الإسلام وإن لم يصحب ذلك تصريح بإعلان الارتداد. وما هذه الموجة العارمة من الارتداد والتي تجتاح المثقفين المسلمين إلا حصاد طبيعي لما زرعه المبشرون من بذور التشكيك في قلوبهم ومجال التشكيك والتظليل هو أهم ما يستهدفه المبشرون ويقنعون بذلك أمام صلابة العقيدة الإسلامية وقوتها. وقد خطط المبشرون وأولياء أمورهم من المستعمرين لمن وقع في حبائلهم من المثقفين ووضعوا مقدرات الأمة الإسلامية في أيديهم وجعلوا الكثيرين منهم في مراكز الحكم والتوجيه وذلك إما ليستمروا في أداء مهمتهم التخريبية وظل هذا النوع من المسؤولين الذين ربوهم على أعينهم ونشؤوهم في حضانتهم ورعايتهم وإما لكي ينوب هذا النوع من المسئولين في القيام بمهمة المبشرين في بلاد المسلمين من حرب لدينهم وصرف لهم(1/490)
عن تراثهم وتاريخهم وحمل لهم على الانسلاخ عن قيمهم في القلب والقالب.
وقد استطاع هذا النوع الجديد من المبشرين المحليين أن يخرجوا بشكل أعظم من المبشرين الأباعد، وذلك مستترين بالفلالة الرقيقة من الأسماء الإسلامية التي تنم عما تحتها من المخازي والفضائح.
إن المسلمين يجابهون بقوى لا طاقة لهم بها وهم على وضعهم الحالي، فهناك المبشرون المفسدون في المجال الفكري، ومن خلفهم المستعمرون المفسدون في جميع المجالات ومعهم عملاؤهم في الداخل من أبناء المسلمين المخدوعين بهم، ووراء كل ذلك اليهودية العالمية بأساليبها الماكرة التي توجه السياسة العالمية، ومع هذا الجيش الهائل من الأعداء فإن عزيمة الشباب المؤمن (ذخيرة هذه الأمة) لا تلين ولا تضعف وهي تثق بنصر الله وتأييده ولن يزيدها تكالب الأعداء وتألبهم على دينه وأمته إلا مضاعفة النشاط والجهاد والتصميم على النصر حتى النهاية.
وبعد فهذه معلومات أولية وأساسية في هذا الموضوع وكل فقرة منه تصلح أن تكون مقالة مستقلة والفكرة ككل لا يتسع لها كتاب ولكن إن هي إلا محاولة عاجلة وعابرة مع علمي بأن المسيحية أضعف عدو يمكن أن يجابه الإسلام، وأن التيارات الملحدة التي تكتسح الشباب في العالم الإسلامي هي الخطر الحقيقي والأكيد على الإسلام ولكن نظرا لأن دعوات التبشير وإرسالياته تمد تلك التيارات الملحدة بهذا الشباب المرتد بما تتسبب به من تشكيك في الإسلام وصرف عنه وحرب له فتكون بذلك بمثابة المورد بالخامات لتلك التيارات أقتضى التنويه على أصل الخطر مع عدم الغفلة عن الفرع.(1/491)
هذه إسلاميتنا. .
للشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس في الجامعة
وهذه مبادئها:
1-الإيمان الصادق
2-العمل الصلح
3-التضامن الحق
وهذا هدفها:
رضوان الله تعالى، ومرافقة الصالحين، في الملكوت الأعلى في الجنة دار السلام.
قال الله تعالى:
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
وبعد: فهذا أصل إسلاميتنا. ومن هنا استوحينا مبادئها، واستقينا هدفها، وغايتها.
من هنا من كتاب الله تعالى، لا من الرأسمالية الغربية، ولا من الشيوعية الماركسية، وإنما من كتاب الله عز وجل، كتاب محمد نبي الرحمة ورسول الهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وفي الأسطر التالية عرض سريع لمبادئها، وهدفها، وغايتها، لمن أراد أن يعرف ذلك منها:
1- الإيمان الصادق:
من مبادئ إسلاميتنا: الإيمان الصادق، فلا مكان بيننا لشيوعي ملحد، ولا لاشتراكي منافق، ولا لماسوني زنديق، إذ إننا وإياهم على طرفي نقيض.
نحن نؤمن بالله تعالى الخلق ربا وإلها فنعبده ونطيعه راجين رحمته، خائفين من عذابه، وهم يكفرون به، ولا يعترفون بربوبيته كيلا يعبدوه ويطيعوه، فهم غير راجين ولا خائفين.
نحن نؤمن بلقاء الله تعالى، وصدق وعده ووعيده فنكيف حياتنا كلها بحسب ذلك وهم يكذبون بلقاء الله تعالى، ويجحدونه ليعيشوا إباحيين مستهترين لا يتقيدون بخلق فاضل، ولا بمروءة شريفة أو دين.
نحن نؤمن برسل الله تعالى، ورسالاتهم إلى البشر، ونؤمن أن سعادة الإنسانية في اتباع أولئك الرسل، والعمل بتلك الرسالات، فلذا نحن نجل الرسل ونعظمهم، ونقدس تلك الرسالات، ونقدرها، ولا يرون رسالانهم إلا مادة تخدير للإنسان، وإيقاف لنشاطه العقلي، ونمائه الفكري!!(1/492)
نحن نؤمن بقانون الأخلاق، والقيم الروحية، ونزن الأفراد بأخلاقهم، وقيمهم الروحية، وكمالاتهم النفسية، ونرى الحياة بدون خلق ودين لا قيمة لها، ولا معنى لوجودها وهم لا يعترفون بذلك، ولا يرون الأخلاق الفاضلة من حياء وعفة إلا عجزا وضعفا، ولا الخوف من الله تعالى، ومراقبته، والشوق إلى الملكوت الأعلى، ومرافقة الصالحين إليه، ومجاورتهم فيه إلا ضربا من المرض النفسي، والجنون العقلي.
نحن نؤمن بحتمية القضاء والقدر، وأن التخطيط الكامل للحياة بأسرها قد سبقها بأزمان، ووضع لها قبل أن تكون الأكوان، وأن شيئا ما وكائنا ما كان لا يمكن أن يكون على غير وفق ما رسم أزلا، وخطط قديما في كتاب المقادير، وأننا لذلك لا نتبرم من الحياة مهما كانت قاسية، ولا نجزع منها أو نسخط، كما لا نيأس أو نقنط، أو ننزع عند العجز إلى الانتقام والبطش.
فحياتنا دائما تتسم بالرضا والطمأنينة والعدل والرحمة، وهم لا يؤمنون بذلك ولا يرونه أمرا كائنا في نظام الحياة، فهم لذلك يكثر في حياتهم القلق والاضطراب ويعم جوانب كثيرة منه اليأس والقنوط، وتتسم في غالبها بسمة الشدة والقسوة وتطبع بطابع الظلم العنف، ولا سيما عند الشعور بالعجز أمام تصاريف القدر، ومجاري القضاء، فينزعون إلى البطش والانتقام، وإلى التنكيل بالأبرياء والتعذيب كما يشهد بذلك تاريخ حياتهم، وتنطق به أعمالهم في أي مكان حلوا به أو واد نزلوا فيه وعياذا بالله تعالى منهم.
وإلى اللقاء مع مبدأ العمل الصالح في العدد القادم إن شاء الله تعالى(1/493)
في إفريقية الخضراء
للشيخ محمد ناصر العبودي الأمين العام للجامعة
السفر إلى روديسيه..
خرجنا إلى مطار بالانتيو في ملاوي ويسمونه مطار تشاليجا لأنه يقع في منطقة تسمى بهذا الاسم وذلك في تمام الساعة التاسعة صباحا.
وقد وقفنا في الردهة الخارجية للمطار مدة لا تقل عن نصف ساعة بدون أن يؤذن لنا بالدخول إلى ضابط الجوازات لإنهاء الإجراءات الخاصة بجوازاتنا ولم يكن في المكان مقاعد كما لم يكن هناك من يرشدنا فرأيت ضابطا يتجول فسألته عن مكان الجوازات وأين ينبغي لنا أن نذهب الآن فأجاب أنه ضابط الجوازات ذلك. ثم أخذ يحدثني فسألني هل أنتم سعوديون؟ فقلت نعم من أين عرفت؟ قال لقد رأيتكم عند قدومكم إلى ملاوي منذ ستة أيام ثم سألني ما هي لغتكم؟ مع أنه يعرف أننا عرب سعوديون فقلت: العربية وليست لغتنا وحدنا بل هي لغة جميع الأقطار العربية في الشرق الأوسط وشمالي إفريقية. وأخذت أعدِّد له الأقطار التي تتكلم العربية، فقال لي وماذا عن إسرائيل وهل هي من الأقطار العربية؟.
ومع ذلك فلكي لا أغمط هذا الضابط الذكي حقه أنه عندما حان الوقت ودخل إلى مكتبه كان لطيفا معنا وأنهى إجراءات سفرنا وجميع المسافرين بسهولة ويسر.
إلى سالسبوري..
قامت بنا الطائرة من بلانتيو إلى سالسبورى في تمام الساعة العاشرة إلا ربعا بعد أن أعلنت المضيفة أن مدة السفر ستكون ساعة وعشر دقائق والطائرة من طراز (دي، سي، سكس) ذات المحركات الأربعة تابعة لشركة خطوط ملاوي الجوية. ولكن الذي يظهر الأوروبيين هم الذين يقومون على إدارتها لأن جميع هيئة الطائرة من الأوروبيين.
سارت الطائرة رخوا في سماء أرض ذات وهاد وجبال خضر تتخللها مسايل الماء التي تجري وتنعكس عليها أشعة الشمس عندما نحاذيها، ثم ارتفعت الطائرة فلم نعد نستبين من معالم الأرض شيئا خاصة وأن هناك بعض السحب المرتفعة والمنخفضة.(1/494)
وقبل هبوط الطائرة بثلث ساعة اتضحت لنا الأرض وإذا بها لا تكاد تختلف مناظرها عن منظر الأرض في زامبية حيث كثافة الخضرة أقل بكثير من كثافة الخضرة في البلدان الإستوائية. وقبل هبوط الطائرة بدت مدينة سالسبورى وضواحيها جميلة منسقة بل غاية في الجمال
في مطار سالسبوري..
هبطت بنا الطائرة ولسنا على ثقة من دخول روديسية لأنه ليس معنا تأشيرات دخول إليها، وقد كان جميع الموظفين الذين استقبلوا الطائرة من الأوروبيين. والمطار نظيف جدا وفخم يكاد يقارن بمطار نيروبي حقا. وكان جميع الموظفين فيه من الأوروبيين، وقد عجبت جدا لسهولة الإجراءات وسرعتها، فالطابور الذي يتقدمنا من المسافرين وهو يتكون من ستة أشخاص لم تستغرق إجراءاتهم أكثر من ثلاث دقائق، أي أن كل شخص لم يقف أمام ضابط الجوازات أكثر من نصف دقيقة، وهذا شيء لا يصدق ولكن هذا هو الواقع. وعندما جاء دورنا، ونحن كما قلت ندخل البلاد بدون أن نحصل على إذن مسبق بالدخول، سألنا ضابط الجوازات بلطف هل معكم فيزا إلى روديسية؟ فلما أجبناه بالنفي أسرع إلى أوراقه وكتب لنا تأشيرة دخول في أقل من دقيقتين، وطلب منا رسم التأشيرة وقدره جنيه لكل واحد، ولما أجبناه بأنه لا توجد لدينا عملة روديسية وإنما هي عملة ملاوي قال إنها تكفى، مع أنها أقل قليلا في الصرف من عملة روديسية..(1/495)
وعلى رغم أن جوازاتنا غريبة في هذه البلاد فلم يبد استغرابه لنا وإنما نظر إلى أحد الجوازين وقال: هل الآخر مثله؟ فقلنا: نعم. فاكتفى بنظر الأول ثم قال هل معكم تذكرة عودة إلى بلادكم قلت نعم. ولم يطلب إبرازها أو النظر فيها. ونظرنا إلى أننا قد أنهينا بعد جميع المسافرين فقد وقف قريبا منا رجل أوروبي كهل عرفنا فيما بعد أنه ضابط في جمرك المطار وأرشدنا إلى مكان حقائبنا، وكنت أحمل معي في يدي حقيبة يدوية، وحقيبتي الكبيرة الثقيلة فقد أسرع ليحمل بنفسه حقيبتي إلى مكان التفتيش وذلك مع كونه أسن مني وعندما مانعت في ذلك حمل حقيبتي اليدوية وحملت أنا حقيبتي الكبيرة ولا أدري أين الحمالون. وعندما وصلنا إلى مكان التفتيش سألني أوروبي شاب عن النقود التي نحملها فأخرجناها لنعدها فقال إنه لاداعى لعدها اكتبوا ما شئتم، ثم فسحوا لنا الطريق للخروج من المطار بدون أن يفتشوا شيئا من حقائبنا لا الكبيرة ولا الصغيرة حتى إيصالات الحقائب لم يطلبوا منا أن نعطيهم إياها.
مدينة سالسبورى..
ركبنا حافلة إلى البلد والمسافة بينهما (12) كم والأجرة شلنان ونصف أي ريال ونصف تقريبا. إنه شيء زهيد نظرا لفخامة الحافلة وبعد المسافة.
نزلنا في (فندق إليزابيث) وهو فندق أوروبي ولم أر فيه أحدا من غيرهم ولا أدري هل ذلك من باب المصادفة أم أنهم لا يسمحون بذلك.
يديره إيطاليون على رأسهم عجوز هي التي وجدناها في الإدارة وفي المكتب عجوز أخرى أوربية كأنها كاتبة، وأجرة الغرفة الواحدة فيه ذات السرير الواحد جنيه إسترليني وسبعة شلنات أي ما يساوي سبعة عشر ريالا تقريبا، ومستواه مستوى فنادق الدرجة الأولى في البلاد العربية فهو غاية في النظافة وفيه مطعم فخم ورياشه من أغلى الرياش والمياه في الغرفة حارة وباردة. وعلى كل حال فهو أرخص فندق نزلناه بالنسبة لمستواه في أي بلد آخر.(1/496)
ذهبنا نبحث عن جامع سالسبوري وعن السيد علي آدم رئيس الجمعية الإسلامية هناك، فبدت لنا مدينة سالسبوري حديثة كبيرة تفوق مدينة نيروبي في كل شيء تقريبا، شوارعها واسعة، وحدائقها كثيرة، وحركة السيارات فيها عظيمة، وعماراتها ضخمة ولكن دون الحد الذي يخرجها عن الجمال، أما متجرها فهي غاصة بالسلع المختلفة. وأما نظافتها فتكاد تبلغ حد الإسراف، شيء لم أراه في أية مدينة أخرى في إفريقية، والواقع أنه يمكن القول - بحق - إنها مدينة أوروبية في إفريقية، لأنه ليس للإفريقيين فيها أي نصيب إلا أن يكونوا من زبائن المحلات التجارية.
أما سكانها الأوروبيون فيظهر عليهم الثراء والنعمة، وأما الإفريقيون فإنهم في لباسهم ومظهرهم الصحي فوق مستوى كثير من الإفريقيين في البلاد الإفريقية التي مررنا بها.
إلا أنهم مع ذلك تبدو عليهم المسكنة وعدم الشعور بأنهم في مستوى الآخرين من غير الإفريقيين، ولاشك أن ذلك ناشئ عن السياسة العنصرية التي كانت ولا تزال سائدة في تلك البلاد وإن يكن أقل تطرفا من السياسة المتبعة في جنوب إفريقية.
وعندما رأيت مدينة سالسبوري بهذه المثابة من الثراء والحركة التجارية العظيمة لم أستطع أن أصدق بأن روديسية تعاني حصارا اقتصاديا، حتى السيارات تسمع لها جلبة عظيمة لكثرتها وتنوعها فأين الحصار الاقتصادي الذي يشمل القيود العظيمة على إرسال النفط وغيره إليها. لاشك أن ذلك الحصار ليس فعلا والسبب في ذلك هو جمهورية جنوب أفريقية (الباب الخلفي) لروديسية أو (باك دور) كما يقول الأوروبيون، فجميع احتياجات روديسية تأتي عن طريق ذلك الباب الخلفي لأن حكومة جنوب إفريقية أكثر عراقة في سياسة التمييز العنصري ولذلك فإنه لا يعقل أن تطبق العقوبات الإقتصادية المفروضة على روديسية كما أن روديسية تجد متنفسا في مستعمرة موزنبيق المجاورة فعن طريقها تصدّر كثيرا من بضائعها وتستورد بعضها.(1/497)
ومدينة سالسبوري عبارة عن مدينة رئيسية وضواح فالمدينة الرئيسية للأوروبيين فقط ولا يجوز لأي إفريقي أن يسكن فيها أو يفتح فيها محلا تجاريا، وأما ضواحيها فهي منفصلة عنها فإنها مساكن مخصصة للإفريقيين ولا يجوز لغيرهم أن يسكن فيها. أما الأسيويون وهم هنا الهنود فقط فإنهم قلة وهم يسكنون في الوسط بين الأوروبيين والإفريقيين، وليس عليهم من التمييز العنصري ما على الإفريقيين.
وقد رأينا بعض مظاهر الزينة في سالسبوري لا تزال باقية بعد احتفالهم بالعيد الأول لاغتصابهم الاستقلال. ويتمثل أكثرها في أشكال هندسية متعددة من الأضواء الكهربائية وأقواس النصر في الشوارع.
مع رئيس الجمعية الإسلامية..
قابلنا السيد علي آدم رئيس الجمعية الإسلامية الآسيوية وهو هندي الأصل واقتصادي كبير يملك رأس مال عظيم وهو ذكي سريع الفهم وطيب القلب، وقد رأينا متجره واسعا كبيرا يعمل لديه أكثر من اثني عشر موظفا، وقد حدثنا بأن له مصنعا كبيرا لغزل القطن ونسجه وتفصيل القماش.
وقد حدثنا عن تجارته فقال إن قضية اغتصاب الاستقلال قد أثرت على الصناعة في روديسية بعض الشيء بالنسبة لما كانت عليه الحال قبل ذلك لأن كثيرا من البلاد الإفريقية تقاطع روديسية اقتصاديا في الوقت الحاضر، ولولا وجود جنوب إفريقية بجانب روديسية لما استطاعت أن تعيش طويلا.
في جامع سالسبوري..(1/498)
قصدنا جامع سالسبوري وهو في موقع متوسط من المدينة في الحد الفاصل تقريبا بين مساكن الأوربيين والآسيويين وأدينا فيه صلاة المغرب فوجدناه لا يختلف عن بقية مساجد المسلمين في الروديسيتين ونياسالاند كما قدمت وصفها، وهو عبارة عن بناء متوسط السعة مقدمته مسجد ومؤخرته ردهة في جانب منها المنافع الضرورية وفي الجانب الثاني عدة غرف خصصت لسكنى إمام المسجد، وفيه غرفة كبيرة كانت فيها المدرسة الإسلامية قبل انتقالها إلى مكان واسع كما قالوا إلا أن المسجد صغير نوعا وردهاته ضيقة ليس فيها حديقة وقد امتلأ المسجد بالمصلين قبل آذان المغرب وقد أذن المؤذن جملة لم أسمعها إلا في هذه المنطقة أي منطقة الروديسيتي (ونياسالاند) وهي (اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة دائمة أي ليوم الدين ثم يقيم الصلاة بعدها مباشرة، فيدخل الإمام بعد ذلك مباشرة دون أن يلتفت إلى المأمومين أو يأمرهم بتسوية الصفوف ولم يجهر أحد بالتأمين لأن القوم حنفية ولم يكن في المسجد من الإفريقيين أحد، لأن مساكن الإفريقيين في مكان بعيد عن البلد وبعد الصلاة وأداء الراتبة مباشرة سلمنا على الإمام وعلى جماعة القوم وقد سرني أنني لم أسمع بعد الصلاة شيئا مما كنت أسمعه في شرق افريقية من الدعاء الجماعي والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) بصوت يظن كثير من العامة منهم أنها جزء متمم للصلاة لا تصح بدونها وقد لبثنا فترة طويلة نتحدث مع الإمام، واسمه الشيخ عبد الله صديق الصوفي، ومعه شيخ آخر اسمه الشيخ موسى.. هو نائب الإمام ومدرس أيضا مثله في المدرسة الإسلامية هناك وهم الهنود. ولقد لقينا من القوم استقبالا طيبا ومشاعر نبيلة..(1/499)
ثم ذهبنا من المسجد إلى بيت السيد علي آدم وكان قد دعانا لتناول العشاء في بيته فوجدنا قصرا فخما في ربوة علية تطل على سالسبوري من إحدى الضواحي القريبة، وبه جناح خاص مجهز بكل ما يلزم. وقد دعانا إلى أن نمكث فيه ونكون ضيوفه مدة إقامتنا في سالسبوري فشكرناه على ذلك واعتذرنا له بأننا قد ارتبطنا مع الفندق بوعد في أن نقيم عنده، وبعد العشاء أوصلنا بسيارته إلى الفندق أو على الأصح بإحدى سياراته فلديه أكثر من خمس سيارات للركوب فقط ويقول إن تعدد السيارات لديه ينفعه لأن البنزين مقنن في روديسية لكل سيارة قدر معلوم وهو جالون إلا ربع يوميا وقيمة الجالون ستة شلنات ونصف أي أن قيمة الصفيحة 26شلنا أي ما يساوي ستة عشر ريالا سعوديا تقريبا. ويقول السيد علي أنه يستطيع أن يوفر من البنزين لسد حاجاته كلها منه بسبب تعدد السيارات لديه وله ثلاثة أولاد يشتغلون معه ويدرس اثنان منهم في جامعة روديسية بسالسبوري وقد أكملا مدة من الدراسة في لندن في وقت سابق وذكرا لي أنهما تعرفا على عدد من طلبة العرب هناك ومنهم طلبة سعوديون وذكر أحدهما أنه كان عضوا في جمعية الطلبة العرب على الرغم من أنه ليس عربيا بالجنسية وإنما ذلك لمحبته العرب وقال أنه أيضا في الشكل يشبه العرب.
هل نحن سعوديون حقا؟..
مديرة الفندق الذي نسكن فيه عجوز إيطالية ما إن رأت كتابتنا على سجل الفندق بأننا من المملكة العربية السعودية حتى بانت عليها الدهشة وقالت: لم أكن أتصور أن سكان الجزيرة العربية بيض الألوان فأخبرنها بأننا في الجزيرة العربية ديننا الإسلام ولا نلقي إلى اللون بالا وإنما نزن المرء بأعماله وبقدر ما يحسن، وما يقدمه من عمل صالح وعلى ما في هذه الإجابة من عدم المجاملة لها فإنني قد ركزت عليها ولم أر أن تفوت هذه المسألة بغير أن أبين لها موقف الإسلام من الألوان..(1/500)
وهكذا نجد الأوروبيين في هذا الجزء من إفريقية شديدة الحساسية بالنسبة إلى اللون ولا غرابة فإن السياسة الرسمية للأوروبيين في روديسية وفي جمهورية جنوب إفريقية هي سياسة التمييز العنصري.
يوم الثلاثاء الموافق 3-8-1386هـ. 13-12-1966م
مثل آخر على تأثير لون المرء عند الأوروبيين في هذه البلاد فقد ذهبت إلى بنك باركليز لأصرف إحدى الشيكات السياحية وكانت الموظفة فتاة أوروبية أخذت مني الشيك فنظرت إليه ثم ذهبت به إلى مكان داخل البنك ثم عادت بسرعة وقالت: ضع توقيعك الثاني عليه، ثم ختمت عليه وذهبت بنفسها إلى أمين الصندوق حيث أحضرت قيمة الشيك وأعطتني إياها ولم تسألني عن جوازي ولم تنظر إلى توقيعي فيه حتى النقود لم تقل لي عدها، ودهشت فهذه أول مرة يصرف لي فيها شيك سياحي بدون النظر إلى الجواز منذ خرجت من المملكة حتى وصلت سالسبوري.
وقد كانت عادة أكثر الموظفين من الإفريقيين والآسيويين في البنوك التي مررت عليها أن يطلبوا إبراز جوازي قبل صرف الشيك ثم يتحققوا من توقيعي الأول عليه، وفي أكثر الأحيان لا يكتفي الموظف أكبر منه وربما إلى من له خبرة في التوقيع في البنك، ثم إذا رأى جوازي عربيا سعوديا أخذ يستفصل عن بعض الأشياء. ثم إذا أجرى تحقيق المبلغ وانتهى كل شيء أحالني على أمين الصندوق وأمين الصندوق يأمرني بعد النقود والتأكد منها لئلا يقال عنه بعد ذلك أنه ربما سلمها وهى ناقصة أما هذه الفتاة الأوروبية فلم تفعل شيئا من ذلك، وعندما سألت السيد على آدم وعنده ثلاثة من المسلمين الهنود عن السبب في هذا ضحكوا وقالوا لقد عاملوك كمعاملة الأوروبيين وأنك لو كنت أفريقيا لحققوا معك ونظروا إلى جوازك ولكنهم وثقوا بك على عادتهم بالثقة في الأوروبيين، وبمناسبة الحديث عن البنك المذكور أقول لاحظت أن جميع الموظفين فيه من الأوروبيين وليس فيه إفريقي واحد.
معهد سالسبوري الإسلامي..(2/1)
ويقع في مكان جميل تظلله الأشجار الباسقة، وتمتد غرفة على شكل ضلعي مربع وتحيط به حديقة جميلة مليئة بالزهر أما الحشائش وملاعب الأطفال فهي أحسن شيء يمكن توفيره وغرفة واسعة منظمة ومقاعد الطلبة جميلة والطلبة فيه تبدو عليهم النظافة والصحة والنشاط وكلهم من الآسيويين وليس فهيم من الإفريقيين أحد.
والسبب في ذلك إن مناطق سكنى الإفريقيين بعيدة عن هذه المنطقة ولو أراد أحد منهم السكنى قريبا منه لما استطاع بسبب سياسة التمييز العنصري المطبقة هنا.
استقبلنا عند وصلنا المعهد المدير والمدرسون وكلهم من الهنود ماعدا واحد فهو إفريقي يسكن في روديسية وأصله من فورت جونستون في ملاوي وقد طافوا بنا فصول المعهد وغرفة وردهاته وهو بحق أحسن معهد خرجنا من المملكة من حيث البناء والتنظيم وقد خصصوا فصلا منفردا لكبار البنات تدرس فيه امرأة هي زوج المدير وبناية المدرسة ملك للدولة وقد استأجرنها الجمعية الإسلامية التي يرأسها السيد على آدم بمبلغ (45) جنيها إسترلينيا في الشهر وهو مبلغ اقل مما تستحقه إيجار لها بكثير ولكن الحكومة كما يقولون تسامحت معهم لكون المكان مدرسة دينية.(2/2)
ويأخذ المدير راتبا شهريا من الجمعية الإسلامية قدره (53) جنيها فقط لكل مدرس ويأخذ المدرس الإفريقي (12) جنيها فقط لأنه لا يحمل شهادات. وقد سمعنا تلاوة القرآن من إحدى الفتيات الصغيرات حيث تلت تلاوة مجودة متقنة تعجز عنها أكثر الفتيات العربيات بلا شك مع أنها لم تتم السنة العاشرة من عمرها وتلا طالب هندي في التاسعة بعض قصار السور فأعجبنا وأطربنا وهم مع ذلك لا يستطيعون الكلام بالعربية ولا يفهمون معاني القرآن الكريم، حتى المدير والمدرسون رغم حصولهم على شهادات عالية من مدارس الهند الإسلامية لا يستطيعون التكلم بالعربية وان كانوا يفهمون الكتب العربية وذلك شأن جميع المسلمين الهنود في الروديسيتين.ونياسالاند فهم وأولادهم يقرؤون القرآن الكريم ولكنهم لا يفهمون له معنى.
وقد رأيت على السبورة عبارات باللغة الأردية في فن التوحيد جميلة كل الجمال حين ترجمها لنا المدرس إلى الإنكليزية حتى نستطيع فهمها لأن الإنكليزية هنا في روديسية هي اللغة السائدة ويتفاهم بها الهنود حتى فيما بينهم كما يتفاهم بها سائر القوم هنا.
في قنصلية جنوب إفريقيا
قصدنا مع إخواننا من الهنود المسلمين المقيمين في سالسبوري قنصلية جنوب إفريقية وتشغل طابقا في إحدى العمارات الكبيرة. وقد لقينا على المكتب امرأة أوروبية بدت متجهمة الوجه مقطبة الجبين ولما أخبرناها بقصدنا أجابت بطريقة جافة إلى مكتب آخر في الداخل فوجدنا فيه امرأة أوروبية أخرى في سن الكهولة فاستقبلتنا استقبالا سيئا ولما أخبرناها بقصدنا قادتنا بطريقة بعيدة عن الذوق إلى غرفة الانتظار وقالت: انتظروا هنا وسوف تدعون لمقابلة الموظف المسئول إذا جاء دوركم.(2/3)
وبعد مدة قصيرة حضرت فتاة فأشارت إلينا بالدخول إلى غرفة مجاورة فلما دخلناها وجدنا فيها رجلا أبيض عرفنا فيما بعد أنه نائب القنصل فاستقبلنا ببرود وبتكبر وترفع ظاهر ولما أخبرناه بقصدنا وأننا عرب سعوديون واطلع على جوازاتنا تغيرت لهجة حديثة وبدأ يظهر اللين في القول، والمجاملة في العبارة.
وقد بحثنا معه طلبنا للحصول على أذن الدخول إلى جمهورية جنوب إفريقية فأجابنا بأنه يود ذلك ولكنه ليست لدية صلاحية منحنا تلك التأشيرات وقال: إنني مع معرفتي بأن القنصل نفسه لا يستطيع فإنني سوف أتكلم معه ثم تكلم مع القنصل بالإنكليزية وشرح له موضوعنا وقال: إنهم من رجال العلم ومعهم مبلغ كاف من المال يريدون أن يروا البلاد ثم أخذ يتكلم معه باللغة الهولندية وهي اللغة الثانية في جنوب إفريقية ثم بعد ذلك قال لنا: إنني آسف إذ أخبركم انه لا يستطيع أن يمنح سمات الدخول لكم إلا جهة واحدة هي حكومة بروتيريا في جنوبي أفريقية تلكم هي قوانين بلادنا، وسوف نشفع طلباتكم بتوصية إعطائكم السمات المطلوبة وأكاد أؤكد إنها ستعطى لكم، فقلنا له إن الأيام المخصصة لرحلتنا في أواخرها ويصعب علينا الانتظار حتى ورود الجواب الذي قال إنه سيستغرق أسبوعين على الأقل، فقال: إنني سوف أرسله مستعجلا، ومع ذلك أستطيع في حدود صلاحيات أن أعطيكم سمة مرور في مطارات جنوب إفريقية.(2/4)
ثم أخذ يسألنا عن أحوال بلادنا وعن طرق معيشتنا وعن علاقتنا بالدول الأخرى وقد لبثنا عنده أكثر من ساعتين وكان يستبقينا كلما أردنا الذهاب ويفيض في البحث في مثل هذه المواضيع، ولما رأينا رغبته في ذلك قلت له: انه حكومتنا تمنح سمات الدخول كل سنة لأكثر من ألف شخص من رعايا حكومة جنوب إفريقية من المسلمين ولذلك فنحن نتوقع أن تكون معاملتكم لنا بالمثل، فضحك وقال: أولئك الناس جماعتكم أو يوربيبل إنك تقصد المسلمين الذين يذهبون إلى بلادكم للحج، فأولئك أصلهم من الشرق، أما بالنسبة لي أنا أعتقد أن الأمر يختلف، أليس كذلك؟ فقلت له: إنني شخصيا ليست لدي الخبرة في أمور الجوازات والإقامة، ولكن الذي أعرفه أن حجاجا كثيرين من رعايا بلادكم يصلون للملكة كل عام..
هذا وقد خرجنا من عنده فودعنا إلى خارج باب مكتبه، وهو يعتذر عن عدم تمكنه من منحنا سمات الدخول ويعد بالتوصية بذلك لدى حكومته.
هذا وقد خرجنا من عنده ونحن عازمون على إلغاء زيارة جمهورية جنوب افريقية من برنامجنا لذلك السبب لأنه لا يمكننا أن نقيم في روديسية حتى ترد الإجابة، لضيق وقتنا، ولأننا سياسة تلك الحكومة العنصرية الهوجاء تقوم على عدم تسهيل دخول رعايا البلاد التي تقوم عنها أنها ملونة..
مسجد هراري:
هناك في روديسية يسكن الإفريقيون في أماكن منفصلة ضمن مساحات معينة تلك كانت السياسة الرسمية للحكومة الروديسية في السابق..(2/5)
وقد بنت الحكومة مدينة صغيرة في ضاحية سالسبوري للإفريقيين من أهل الوظائف والقادرين على دفع الأقساط الشهرية المستحقة وتسمى (هراري) وهى تقع في الجنوب الشرقي من المدينة سالسبوري الروديسية وهي تتكون من بيوت جميلة تعضها على شكل (فلات) ، وبعضها على شكل وحدات سكنية أي على شكل غرفة كبيرة من الخارج تنقسم إلى عدة غرف في الداخل ويحيط بكل بيت مساحة مزروعة من الأرض، ولولا أن الأرض كلها خضراء لأسميتها حديقة.. وفيها الشوارع المسفلتة، والكهرباء الكاملة والحدائق والملاعب
إلا أن ما يضايق الإفريقيين-وهو شيء يضيق حقا-إنهم مجبرون حتى الآن على السكنى منعزلين عن غيرهم من الأوروبيين والآسيويين، وقد كان هؤلاء الأوروبيون والآسيويون-ممنوعين من الدخول إلى مناطق سكن الإفريقيين ويتعرض من يجرؤ منهم على دخول منطقة سكن الإفريقيين إلى التحقيق معه من قبل الشرطة ولكن ذلك قد خف الآن بسبب المشكلة التي تتخبط فيها الحكومة الروديسية غير الشرعية نتيجة لإعلانها الاستقلال من جانب واحد. ولما سألت عن حجة الحكومة أو الشرطة في هذا الأمر قالوا إنهم يقولون إن ذلك لحماية الأوروبيين والآسيويين مما قد يصيبهم من الإفريقيين لأنهم قد يتعرضون لمشاكل بزعمهم لتخريب سيارتهم. وهذه حجة ساقطة كما هو ظاهر. وكنا دخلنا المسجد في تلك الحارة فإذا به نظيف جميل متوسط السعة يحيط به فناء صغير ألحقت به مدرسة (كتاب) من غرفة واحدة كبيرة وغرفتين لسكنى المدرس وهو مبني بالطوب الأحمر ومسقف بشكل جميل ومفروش بفرش بسيط والواقع أن بنايته هنا للمسلمين في حي أغلبه من الإفريقيين غير المسلمين كان مناسبا بل كان توفيقا من الله سبحانه وتعالى تم بناؤه بطريقة جمع التبرعات وساهمت الجمعية الإسلامية التي يرأسها السيد علي آدم بنصيب كبير من نفقاته. وهذا المسجد يبعد عن قلب مدينة سالسبورى3 أميال فقط وأمامه يسمى حبيب ماتشنقجى وهو من أصل صومالي..(2/6)
مسجد هايقل:
ومن هنا ذهبنا إلى ضاحية أخرى بل إلى بلدة أخرى وإن كان يشملها اسم (سالسبوري) وتسمى (هايقل) وهي منطقة من مناطق سكنى الإفريقيين وهي كبيرة، أكبر من هارورى وبيوتها ليست على طراز واحد لأنها بيوت خاصة بنيت بنقود الإفريقيين-لذلك اختلفت أحجام البيوت من حيث المساحة..
وهي ضاحية جميلة جدا تخترقها شوارع مسفلتة على أحسن طراز للذهاب والإياب وتملأ الزهور حدائق البيوت-كلها وكذلك بيوتا في حي هراري مبنية إما بالآجر أي باللبن الأحمر، وإما بالاسمنت المسلح فلا تجد فيها كوخا أو عشا أو ما يماثل ذلك أو يقرب منه مما تجده في المدن الإفريقية الأخرى.
مع ذلك فلا أرى الإفريقيين يشعرون بالسعادة لأنهم يعيشون هنا وحدهم بدون أن يسمح لأحد بان يختلط معهم في السكنى فكأنهم يعيشون في سجن كبير ولأنهم أينما يتوجهون في روديسية يجابهون بالاحتقار وعدم الاحترام.
زرنا المسجد هناك وهو ثالث مسجد رأيناه في منطقة سالسبوري وهو صغير فقير في فراشه وأثاثه ويحتاج إلى بعض التكميلات، وقد وعدناهم غدا بتقديم مبلغ من سماحة مفتى الديار السعودية، لتكميل بنائه، وإمامه يدعى (علي محمد) وأصله من ملاوي.
ويقع حي هايقل إلى الجنوب من سالسبوري وهو يعتبر ضاحية لها متصلا بها ويبعد عن قلب المدينة خمسة أميال..
حتى في القبور:(2/7)
في طريق العودة من هراري رأينا المقبرة فإذا بها قد قسمت أجزاء قسم منها للأوروبيين وقسم للهنود وقسم للإفريقيين ولا يمكن أن يدفن أحدهم مع الآخرين حتى المسلمون الهنود لهم مقبرتهم المنفصلة عن المسلمين الإفريقيين بسبب اللون والأوربيون المسيحيون لهم قبورهم المنفصلة عن قبور الإفريقيين المسيحيين، ويقول أحد المسلمين هنا أنه ذهب إلى الحكومة منذ شهرين وقال لهم إن الإسلام لا يعرف التفرقة العنصرية وأنه لا داعي لبقاء قبور المسلمين منفصلة بل إنه يريد أن تكون مقابر المسلمين من جميع الأجناس واحدة، قال ولا يزال يسعى في هذا الأمر، وهو يدعى الشيخ كمال إبراهيم هندي الأصل ويقيم منذ مدة طويلة في هذه البلاد ويحمل الجنسية الروديسية وهذه إحدى مهازل التفرقة العنصرية وليست هذه هي الشاهد الوحيد بل إن أحد إخواننا الروديسيين المسلمين من أصل صومالي حدثني أنه عرضت في البيع عمارة في الحي الأوروبي مكونة من حوانيت في أسفلها ومسكن في أعلاها قال: فزدت في ثمنها إلى أن اتصل بي الدلال وقال لي: بالهاتف إنني آسف إذ أخبرك أنني لا أستطيع قبول زيادتك في العمارة ولماّ سألته عن السبب قال لأننا وجدنا في وصية صاحب البيت لا تباع لأسود قال: فسألت مادام وأنه قد مات فما الذي يهمه من البياض والسواد؟ فأجاب لئلا يضايق جيرانه البيض إذا باعها على أسود إنها مهزلة المهازل بلا شك!
سد ماكلاوين:(2/8)
حملنا السيد علي آدم بعد ظهر اليوم بسيارته في نزهة فيما حول مدينة سالسبوري فذهبنا حوالي 26كيلو مترا جنوبا حيث سد ماكلاوين الذي أقامه الإنكليز ليحجز خلفه المياه الضرورية لتغذية مدينة سالسبوري وهو سد كبير وقد أقيم على واد بين جبلين وجهز إلى ذلك بجميع ما يجعله صالحا لقضاء الأجازات الأسبوعية فهناك الأشجار الوارفة الظلال وهناك ظهر السد وجوانبه حيث تقوم البلدية على الدوام، بتنظيفه وتعهّده كما أن كثيرا من الناس يقضون أجازتهم في صيد السمك من البحيرة التي تكونت وهي بحيرة واسعة لا يدرك البصر بها حدا وتخرج منها أنابيب كبيرة إلى محطة التصفية قرب مدينة سالسبورى والباقي يخرج من السد على شكل نهر صغير.(2/9)
والواقع أن المرء لا يستطيع أن يصف روعة المنظر هنا فالماء الجاري والظلال الكثيفة والجو الذي كان غائما والنسيم العليل وعظمة الفن في بناء هذا السد كل ذلك شيء معجب مطرب وزاد المنظر روعة أن قبلت أسراب هائلة من الطيور البيضاء التي نسميها عندنا في المملكة الغرانيق والتي نصطادها عندما تمر علينا في هجرتها إلى أوربا مرتين كل عام في الذهاب والأخرى في الإياب، وقد تحققت مما ذكره العلماء من أنها تعيش في منطقة جنوب إفريقية ابتداء من روديسية حتى نهاية الجنوب وقد أقبلت تلك الطيور في أسراب متعاقبة كل سرب حوالي ثلاثمائة طائر ولعلها ذاهبة إلى أوكارها للنوم لأن الوقت الآن قبل الغروب، وطريق السد من سالسبورى عجيب فهو جزء من خط مسفلت يدعى خط-القاهرة-كيب تاون أو (كايروردد) كما يسمونه وقد كان جزءا من مشروع إنكليزي سابق لربط القاهرة في شمالي إفريقية بمدينة كيب تاون في أقصى جنوبها بخط مسفلت واحد عندما كانت إنكلترا تملك من القاهرة الإفريقية من شاطئها الجنوبي إلى شاطئها الشمالي وقد انتهى أكثر من (3000) كيلو متر من الخط المذكور وانتفعت به أعظم الانتفاع كل من جنوبي إفريقية وروديسية وزامبية والخط يخترق منطقة ذات مناظر خلابة من سهول خضراء ذات تربة حمراء إلى تلال كثيفة الأشجار مما جعل المنظر ساحرا حقا وقد أخبرني السيد آدم أنه يملك منطقة واسعة من تلك الأرض وأنه قد أجّر بعضها للإيطاليين لزراعتها وبعضها قد أعد للإيجار إلا أن الوضع الراهن في روديسية قد أعاق تقدم الزراعة وجعل بعض الناس لا يقدمون على توظيف أموالهم هنا خوفا مما يأتي به المستقبل.
وقال: إن أكثر بلاد روديسية بشبه هذه المناظر فالأرض غنية بإمكاناتها الزراعية وغنية بمعدنها أيضا ولها مستقبل إقتصادي عظيم لأنها واسعة وعدد سكانها لا يزيد على أربعة ملايين.(2/10)
وبعد أن أنهى السيد علي طوافه بنا في ريف سالسبورى الذي يشبه إلى حد ما المنطقة التي كانت للأوروبيين في كينية لولا أنها في كينية جبلية وهنا ليس فيها جبال مرتفعة طاف بنا أيضا خلال مدينة سالسبورى بسيارته فظهرت كما وصفها الأوروبي قطعة من أوربة وضواحيها فيلات غانية في الحدائق.
يوم الأربعاء الموافق: 1/9/1386هـ. 13/12/1966م
هذه أول مرة يدخل فيها علي شهر رمضان الكريم وأنافي بلاد غير إسلامية وليس ذلك فحسب بل هي بلاد بعيدة كل البعد عن بلادنا السعودية ولو كان ما بينهما يقطع على ظهور الإبل لما أمكننا أن نصل إلى بلادنا قبل أن يدركنا رمضان آخر فيما نقدر.
وقد صمت اليوم بعد أن أثبت رؤية الهلال المسلمون هنا وطريقتهم في ذلك أن يتحروا من يشهد من عدول المسلمين بدخوله فإن لم يروه أكملوا عدة شعبان30. يوما وقد أكملوا فعلا شهر شعبان وصاموا اليوم وقد صمت بدون أن أتناول أي طعام وذلك لأنه في هذه البلاد غير الإسلامية لا يوجد مطعم مفتوح في وقت السحر أما صاحبي الأستاذ عبد الله الباحوث فقد ذهب إلى أحد إخواننا المسلمين من الهنود الذي كان قد دعانا إلى بيته لتناول طعام السحور، ولكني تأخرت لأن طعام الهندي ببهاراته الكثيرة لا يستطيع بطني تحمله، ومع أن لنا رخصة في الإفطار لأننا مسافرون فقد صمت اليوم وقلت إن شق الصوم علي ولم استطع إنهاء أعمالي فإنه يمكنني ألا أصوم غدا وإلا استمريت في الصوم.
في قنصلية البرتغال:(2/11)
ذهبنا إلى قنصلية البرتغال في مدينة سالبسورى وتقع في إحدى الشقق في عمارة كبيرة تدعى العمارة الإنكليزية الأمريكية وهي تسكن في الطابق الحادي عشر من العمارة المكونة من (12) طابقا وقد دخلنا في أحد المصاعد الفخمة الذي يتسع لحوالي خمسة عشر شخصا وقد فرشت أرضيته وجدرانه بالسجاد، وتعزف الموسيقى الهادئة فيه بصفة مستمرة وطيلة الوقت للصاعدين فيه إلى أعلى العمارة والنازلين مع أن المسافة في المصعد لا تستغرق وقتا يذكر، وقد رأينا في مكتب القنصلية موظفا إفريقيا وفتاة برتغالية وكلاهما ليس على جانب كبير من المجاملة الذي نعهدها من الأوربيين، ورأيت الناس يزدحمون على طلب تأشيرات الدخول وذلك لكي يتمكنوا من قضاء عطلة عيد الميلاد (الكريسماس) في موزمبيق وكلهم يملئون الاستمارات الخاصة بذلك ثم يعرض طلبهم في داخل المكتب وهكذا فعلنا وانتظرنا طويلا ثم انتظرنا ثم سألنا الفتاة عن النتيجة فقالت أن الجوازين قد أرسلناهما إلى القنصل العام وأخيرا قالت أنهم سوف يبرقون إلى حكومة موزمبيق يسألونها رأيها في منح التأشيرة أسوة بغيرنا من الناس غير الأوروبيين وأنه من المنتظر أن يأتي الجواب يوم الجمعة بعد غد.
هذا ولم أخرج في هذا النهار بعد الظهر حيث أصبحت في غاية التعب بسبب الصيام لأن هذا أول يوم من أيام الصيام ولأنه لم أتناول طعاما في السحور.
الإفطار:(2/12)
وبعد العصر ذهبت إلى المسجد الجامع في سالسبورى حيث تلوت ما تيسر من القرآن الكريم وقد أعجبني منظر الناس هنا ومنهم طائفة كبيرة موجودة في المسجد منذ ذلك الوقت يلبثون المدة الطويلة في قراءة القرآن لا يفترون مع أنهم لا يفهمون معناه وقبل الآذان بحوالي خمس دقائق أصغي إلى نائب إمام المسجد واسمه الشيخ موسى وقال بالإنكليزية: نستطيع أن نتناول (البركفاست) الآن يريد طعام الإفطار فذهبت معه إلى القاعة الملحقة بالمسجد وقد غصت بالمفطرين الذين أحضر كل واحد منهم ما تيسر من طعام ثم قاموا بتوزيعه على الخوانات وتحلقوا عليها وهو يتألف من الحلوى (والسمبوسك) وقليل جدا من التمر وبعض الفواكه كالمانجو والبرتقال والموز كل ذلك بمقادير مقدرة بحيث اكتفى الناس وبقي شيء بعد ذلك لا يعتبر ضياعه إسرافا وقد أفطر الناس قبل الآذان ثم شرع المؤذن في الآذان يمده مدا ويطيله ليمكن الناس من الإفطار ولكنه لم يكد ينته حتى نهضوا جميعا لأداء الصلاة وقد دعانا بعضهم بعد العشاء إلى تناول الطعام في بيوتهم فشكرناهم واعتذرنا وذهبنا بعد التراويح إلى مطعم فاخر في سالسبورى فأكلنا فيه ما لذ وطاب من الأرز والسمك والخضراوات المتنوعة ونقدناه بعد إن انتهينا (24) شلنا أي (15) ريالا سعوديا للاثنين..
صلاة التراويح في سالسبورى:(2/13)
بعد أن أذن المؤذن لصلاة العشاء مباشرة أقام الصلاة، وبعد الصلاة صلى كل فرد الراتبة ركعتين وقد غص المسجد بالحضور ما بين كبار وصغار وكلهم خاشع متأوه حتى أنني لم ألاحظ أن أحدا قد خرج بعد الصلاة المفروضة بل استمروا جميعا على البقاء في المسجد وهكذا ابتدأت التراويح وصلاها الإمام صلاة أصدق ما توصف به أنها صلاة عصر السرعة فقد كان يوجزها بل يكاد يختصرها ويقرأ في كل ركعة سورة من الفيل حتى نهاية القرآن، ثم أوتر بثلاث ركعات متصلة تشبه صلاة المغرب إلا أنه جهر بالقراءة في الثالثة وقبل الركوع سكت وسكت معه الناس هنيهة ظننتهم فيها يقنتون سرا لأنهم أحناف، وهكذا انتهت تراويحهم بسرعة.
ومع ذلك فقد كان المأمومون بعد كل تسليمتين يجهرون ببعض الدعاء الذي يستغرق حوالي دقيقة واحدة ويتكون من سؤال المغفرة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد خرجنا بعد إكمال التراويح ونحن معجبون غاية الإعجاب بالتفاف القوم على إفطارهم في المسجد وبتربيتهم أولادهم تربية إسلامية حتى على إكمال صلاة التراويح.
يوم الخميس الموافق: 3/9/1386هـ. 14/12/1966م
في ووترفول:(2/14)
هناك ضاحية تبعد أربعة أميال إلى الغرب من سالسبورى تدعى ووترفول فيها جمعية إسلامية صغيرة حيث يسكن في هذه الضاحية من أراد من الآسيويين والإفريقيين عكس ما عليه الحال في أماكن الإفريقيين الأخرى حيث لا يسمح لغير إفريقي أن يسكن مع الإفريقيين وقد شاهدنا المدرسة الإسلامية الصغيرة التي تدرس مبادئ الدين الإسلامي واللغة العربية هناك وقد قامت الجمعية الإسلامية على افتتاحها وجلبت لها مدرسا من كيب تاون في جنوبي إفريقية وهو شيخ من أصل صومالي يدعى (أحمد علمي) تزوج أبوه هناك وخلفه مع عدد من إخوانه ويقول إن والده يعرف العربية أما هو فيعرف بعض الكلمات التي لا يستطيع نطقها نطقا صحيحا ولكنه كان قد تخرج من مدرسة إسلامية في كيب تاون ويقوم في هذه المدرسة بتدريس القرآن الكريم ومباديء من حروف اللغة العربية وبعض مبادئ الصلاة والصيام الخ.
والحي الذي تقع فيه المدرسة يسكن أغلبيته إفريقيون حي نظيف حقا بيوته تحيط بها الحدائق وشوارعه تحف بها الأشجار الباسقة وطرقه مسفلتة.
العرب في روديسية:(2/15)
استرعى نظري فتى يدرس في تلك المدرسة فسألنا عنه فإذا به من أصل عربي كان أبوه قد جاء من اليمن منذ مدة طويلة وتزوج بامرأة إفريقية فسألت بهذه المناسبة وبعدها عن العرب في روديسية فعرفنا أنه كان قد قدم منذ عهد طويل عدد من العرب من جنوب الجزيرة من اليمن وعدن لكي يساعدوا على مد السكة الحديدية حيث أن العمال الإفريقيين لم يكونوا يحسنون هذا العمل في ذلك الوقت وقد لبث عدد منهم في هذه البلاد وبقي أولادهم ومعظمهم من زوجات إفريقيات ولم يبق من أولادهم من يتكلم العربية وإنما يوجد بعض أبناء كانوا قد خرجوا إلى الصومال ثم عادوا إلى روديسية وهذا خلاف ما عليه الأمر في زامبية حيث لا يوجد فيها عرب أو من يتكلم العربية، مع أن روديسية أبعد من زامبية إلى الجنوب، كما أن في جنوب إفريقية يوجد مسلمون كثير يبلغ عددهم أضعاف أضعاف عدد المسلمين في روديسية مع أن جنوب إفريقية إلى الجنوب من روديسية وذلك لأن معظم المسلمين الذين في جنوبي آسيا الشرقي من القارة الهندية ومن بلاد الملايو لا من الجزيرة العربية.
الكلمة العربية الوحيدة:
مررت اليوم في قلب مدينة سالسبورى بمحل تجارى فخم كتب عليه بالإنكليزية هنا تباع السجاجيد (سجاجيد) جمع سجادة وهي الكلمة العربية الوحيدة التي رأيتها مكتوبة على حانوت في روديسية وهو محل أوروبي لبيع السجاجيد كتب عليه بالإنكليزية هنا تباع السجاجيد الإيرانية وتحتها كلمة سجاجيد بالعربية وهذه الكلمة عربية وحيدة هنا لا يوجد غيرها في تلك البلاد.
ولاشك أن ذلك المحل كتب كلمة (سجاجيد) إمعانا منه في إظهار سجاجيده الإيرانية بمظهر الأصلي حتى كتابة اسمها بالحروف العربية التي يكتب بها الإيرانيون.
الشرق الأوسط في روديسية:(2/16)
وقد تصفحت اليوم جريدة (روديسية هيرلد) وهي جريدة كبيرة تقع في (16) صفحة من الحجم الكبير وبحثت فيها عن أي خبر عن أي بلد من البلدان العربية فلم أجدها ذكرت منها شيئا. ولكن استمعت بعد المغرب إلى الإذاعة الروديسية وهي باللغة الإنكليزية طبعا فإذا بها تذكر بعض الأخبار عن سورية ولبنان والعراق وإذا بالمذيع ينطق أسماء البلدان والأشخاص نطقا إنكليزيا سليما بدون تحريف.
مصنع النسيج:
أخذنا السيد علي آدم إلى المنطقة الصناعية أو الحي الصناعي في سالسبورى، وهو حي واسع جميل تفصل بين بناياته الحدائق والشوارع الواسعة وقال إن بعض تلك المصانع ملك للمسلمين ثم أرانا مصنعه الخاص يعتز المرء بأنه تحت إدارة رجل مسلم الذي نافس الأوروبيين وتغلب عليهم بل إن لديه ستة من الموظفين الأوروبيين ما بين رجل وامرأة وأحدهم أوروبي من جنوب إفريقية وممن يسمون (الأفريكانو) الأوروبيين الذين قدموا إلى جنوب إفريقية في وقت مبكر وتناسلوا هناك حتى اكتسبت بشرتهم شيئا من السمرة جعلهم يشبهون سكان الشرق الأوسط.
والمصنع المذكور يدخله القطن قبل غزله فيتم فيه غزله ونسيجه ثم كيه وطيه وإعداده للتصدير، ثم ينقل بعضه إلى مصنع له داخل البلد حيث يتم تفصيله وخياطته. والعمال فيه معظمهم من الإفريقيين ولكن المحاسب هندي.(2/17)
وبعد أن أنهينا الطواف في ذلك المصنع الفخم أخذنا بسيارته إلى منطقة تقع شمالي سالسبورى تسمى (كليفلاند) وتعتبر ضاحية من ضواحي سالسبورى تمتد حتى تتصل بالريف، وهي مخصصة لسكنى الأوروبيين وبيوتها عبارة عن فيلات وسط الحدائق الغناء، وكان المطر يهطل مدرارا، والمنطقة كغيرها خضراء جميلة ذات تربة حمراء. وقد وصلنا سدا يبعد عن سالسبورى (12) ميلا أي حوالي عشرين كيلو مترا أقيم على واد صغير ليحجز بعض الماء فيه وفيه رأينا بعض الأوروبيين يمارسون هواية صيد السمك التي قال عنها صاحبنا بالإنكليزية أنها تحتاج إلى..ثم قال بالعربية (صبر) ثم عدنا مع الغروب إلى مدينة سالسبورى.
يوم الجمعة الموافق 4رمضان 1386هـ-16-12-1966م.
ذهبنا إلى قنصلية البرتغال فاستقبلتنا الفتاة الأوروبية وقالت لنا بدون مجاملة إنه لا يمكن لكم دخول موزمبيق لأن ذلك يحتاج إلى إذن من حكومة البلاد ويقول القنصل لا يؤمل أن توافق الحكومة ولذلك لا فائدة من إرسال جوازاتكم إلى هناك..
ذهبنا إلى متحف سالسبورى ضحى اليوم فألفيناه صغيرا نسبيا، أكمل ما فيه القسم التاريخي الخاص بوسط إفريقية وبخاصة روديسية الجنوبية وساحل موزمبيق، وهو موضح بالرسوم وأكثر ما استرعى انتباهي ثناء عاطر على العرب بأنهم أول من وصل إلى هذه البلاد في العصور القديمة وأول من وضعوا لها الخرائط ووصفوها في كتبهم وفيه مخلفات بعض السلاطين العرب في الساحل من سيوف ورماح وأدوات صنع لا قهوة. ثم فيه رسوم تبين عناصر الناس في تلك البلاد مثل الهنثوث والبوشمن والبانتو، وفيه قسم رسموا فيه أدمغة الإنسان والحيوانات ووضعوا فيه مخ الإنسان الأبيض في مقدمة القائمة وأبرزوا له صفات ليست في مخ غيره جريا على عادتهم في التمييز العنصري..
ذكريات عجوز إنكليزية..(2/18)
كاتبة الفندق الذي نسكن فيه عجوز إنكليزية أقدر أن عمرها في حدود (60) سنة أخذت تتحدث اليوم معنا عن الحالة الحاضرة في إفريقية وما كانت عليه منذ أربعين سنة عندما جاءت إلى إفريقية أول مرة قالت: لقد جئت في ذلك الوقت ولم أحتج أن أبرز جوازي فضلا عن أن يطلب مني تأشيرات دخول من شمال القارة الإفريقية إلى جنوبها.
أما الآن فقد اختلف الأمر كثيرا فقد بعثت منذ أسبوعين كتابا إلى حكومة زامبية أطلب منها أن تمنحني إذنا بالدخول لأتمكن من قضاء إجازة عيد الميلاد ورأس السنة مع ابني الذي يقيم فيها وحتى الآن لم يصلني الرد بالإيجاب ولا أدري هل يصلني بعد ذلك. فقلت لها: وما رأيك في الحالة التي عليها افريقية الآن وهل هي أحسن منها عندما دخلت إليها أول مرة، فتنهدت ثم قالت: هل السعادة في السلام؟ أم في الكراهية والبغضاء؟؟.. ولما سألتها توضيح ما تعنيه، قالت: إنها في ذلك الوقت كانت تعتبر قارة سعيدة فلا كراهية ولا بغضاء ولا انقسامات بين دولها حتى الإفريقيون سعداء بحالتهم التي كانوا عليها، أما الآن فأين المكان الذي يسوده السلام والطمأنينة في إفريقية؟ أفي البلاد التي يسيطر عليها البيض ويسومون السود سوء العذاب، وهم –أي البيض –في فزع دائم من أن يأتي يوم يسيطر فيه عليهم الإفريقيون فيكيلون لهم الصاع صاعين، أم في الكنغو وكينية والصومال والحبشة وزنجبار وغيرها وغيرها؟.
ثم قالت بل السلام الآن عزيز في أكثر البلاد فتلك الولايات المتحدة أغنى دول العالم تعانى اضطرابا عنصريا واهتياجا عاطفيا، ثم أضافت قائلة: حتى بلادكم مهد الحضارات القديمة ومطلع الرسالات السماوية ليس فيها سلام فاليهود والعرب يتقاتلون وفئات الشعب في كثير من بلدانه تتصارع وانقلابات تتلوها انقلابات، ثم قالت أرى أن الدعاء الذي يقال في عيد الميلاد (وعلى الأرض السلام) لم يستجب.
يوم السبت 4-9-1386هـ. 17-2-1966م(2/19)
أكملنا في الصباح عملنا في سالسبورى عاصمة روديسية وذلك فيما يتعلق بالطلبة الروديسيين الذين سيسافرون إلى الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة، كما أتممنا توزيع الإعانات المالية على الجمعيات والهيئات الاسلامية في روديسية. كما اتفقنا مع الجمعية الإسلامية على إرسال مدرسين لهم على نفقة دار الإفتاء في المملكة العربية السعودية ولم يبق إلا السعي في مغادرة روديسية ولكن المشكلة في أن روديسية تقاطعها جاراتها الإفريقيات ولا تصلها طائرات إلا من جنوب أفريقية وملاوي والأخيرة ليس فيها طائرات تسافر إلى الكنغو مقصدنا بعد روديسية. إذ لم يبق إلا السفر عن طريق جوهانسبرغ في جنوبي افريقية ولكننا ليس معنا سمة دخول تخولنا التجول في جنوب افريقية وإنما حصلنا على مرور في المطار لبضع ساعات لذلك لابد من أن تتولى إحدى شركات الطيران الإبراق بحجز أماكن لنا في إحدى الطائرة الأخرى لا تطير إلا يوم الخميس القادم وليس باستطاعتنا أن نظل عدة أيام في روديسية بسبب ضيق الوقت(2/20)
آخر أيام غرناطة
من الأدب التمثيلي
للشيخ محمد المجذوب المدرس في الجامعة
إلى الذين أضاعوا فلسطين ...
وإلى الذين استشهدوا ذودا عن فلسطين..
وإلى الذين يجاهدون لاستعادة فلسطين..
المكان: قاعة العرش في قصر الحمراء من غرناطة..
الزمان: المحرم من عام 897هـ (نوفمبر1491 م)
سعيد وحماد فراشان يرتبان الأرائك، ويصلحان وضع القاعة استعدادا لاجتماع المجلس الأعلى..
سعيد: ممسكا عن العمل يتأمل القاعة ويرسل زفرة حرى: وا أسفاه.. إنها المرة الأخيرة التي تظلّنا فيها أيها السقف الذهبي..
حماد: سعيد إنك لتفزعني بهذه الكلمات..
سعيد: لم يعد هناك مجال للتضليل.. إن غرناطة على وشك السقوط.
(أصوات الأبواق والطبول ترتفع من بعيد) .
حماد: ولكن الحامية لا تزال قوية.. ألا تسمع.
سعيد: ليهنك أملك.. إنه الشعاع الأخير في ظلمات اليأس.. أما أنا.. فلا أحس في هذه الأبواق إلا نذير الفناء.. لقد استحالت في مسمعي ألعابا ينفخها الأطفال..
حماد: أوه!.. إنك مخلوق طُبعت على التشاؤم ...
سعيد: ولم لا؟!. وكل ما حولنا ينعق بالشؤم.. حتى ملكك..!
حماد: وأنت أيضا!.. ألا يكفى أبا عبد الله أن يسمع هذا السباب أينما ذهب من غرناطة!..هذا عقوق يا..
سعيد: كفى..كفى.. من حق الناس أن يتلقوه بأكثر من هذا.. وما أشد عقوقهم لربهم في صبرهم على هذا الأبله!.
حماد: ويحك.. أنسيت بلاءه المجيد؟.ألم يدفع هؤلاء المغيرين عن غرناطة قبل شهر!؟.
سعيد: (يرسل ضحكة جافة) وأي فضل له في ذلك!..إنها حماسة ابن أبي الغزان الذي جره مكرها إلى المعركة..
حماد: هب ما تقوله صحيحا فما ذنبه؟.. وقد تسلم البلاد وهي في دور الاحتضار.. كما قال لك خالد أمس..(2/21)
سعيد: لأنه أجهز على بقية أملهم في الحياة.. ويلك.. أنسيت أيام أثار العامة على أبيه إرضاء للقشتاليين؟.ألم يحاربه بسيوفكم حتى قضى عليه غما وكمدا؟..
حماد: ولكن ...
سعيد: دع لكن.. أنسيت أيام كان يقطع بكم طريق عمه (الزغل) وهو بقية المجاهدين، ليصرفه عن نجدة المسلمين في المواطن المهددة.. حتى اضطره للتسليم إلى فرديناند!..
حماد: أشهد انك اقدر منى على الحجاج.. ومع ذلك لا أزال واثقا برجولة أبى عبد الله، وإني لأترقب له وثبة جديدة ترد فرديناند إلى أقصى الحدود ...
سعيد: أف!. ذلك هو مرض العرب.. انهم أبدا ينتظرون ولادة المعجزات على أيدي حكامهم!..
(وقع أقدام من الخارج)
حماد: (هامسا) ،امسك لسانك، واحتفظ برأسك.. إن للجدران آذانا ...
سعيد: هيهات.. لم يعد هناك ما يخيف ...
(يدخل الحاجب كئيبا)
سعيد: ما وراءك يا أبا محمد؟..
الحاجب أسوأ الأخبار إن العدو على أهبة النفاذ إلى قلب غرناطة، وقد بدأ يحشو أسوارها بألغام البارود (يرتفع دوى انفجار) .. هوذا احدها (سعيد وحماد يطلان من النافذة)
حماد: انظر سحب الغبار.. يا للهول!..
سعيد: إن العدو كالبحر الزاخر.. اللهم رحمتك!..
(حركة أقدام من الخارج)
الحاجب: الملك.. الملك ومعه قاضي غرناطة وحاكمها، وبعض الشيوخ..
(يدخل الملك ومعه قاضي غرناطة وشيخان، ثم حاكم المدينة، يحتلون أمكنتهم في جمود واضطراب)
الملك: -بعد لحظة صمت- لقد دعوتكم للنظر في تبدلات الموقف (يجيل نظره في أرجاء القاعة ويرسل تنهدة عميقة) وما أدري إذا كانت (الحمراء) ستجمعنا مرة أخرى!..
لقد جاءني رسول الطاغية يحمل شروطه، وما أحب أن أقطع أمرا لا ترضونه. ليتفضل القاضي بالكلام..
القاضي: يجب أولا أن نعرف قوة الحامية، فما ينبغي التفكير في التسليم مادام هناك سبيل للمقاومة.(2/22)
أحد الشيخين: ولعل إخواننا في افريقية لا ينسوننا من مددهم، وهم يعلمون أننا ندافع عن آخر أثر لوجود الإسلام في هذه الأرض.
الملك: تكلم يا أبا القاسم.. فأنت الحاكم العسكري..
أبو القاسم: أما المدد فقد انقطع كل أمل فيه.. إن افريقية مشغولة بحروبها العشائرية. وأسطول الطاغية يسد ثغور الأندلس، وجبال (البشرات) قد ألقت سلاحها بعد أن فني معظم رجالها ولم يبق لكم إلا ما تحت أقدامكم.
الجميع: حسبنا الله..
القاضي: والمؤن ...
أبو القاسم: يكفي أن تعلموا أن الأطفال يهلكون جوعا في أحضان أمهاتهم، وأن الحامية تقاتل على الطوى منذ أمس..
الجميع: الله اكبر.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
(يدخل الحاجب)
الملك: نعم.. نعم.. (للحاكم) يحسن أن تعتذر إليه وتصحبه إلى هنا يا أبا القاسم.
(يخرج الحاكم والحاجب)
الملك: (متهدج الصوت مجيلا عينيه في القاعة) أسفا على ماضيك أيها القصر.. لقد كان رسل الفرنجة ينتظرون أياما حتى يؤذن لهم بتقبيل الأرض وتقديم الهدايا ...
القاضي: كان ذلك في عهد الإيمان والبطولة ...
الملك: شاءت حكمة الله أن ينتهي كل هذا المجد على يدي المشئومتين؟!
الشيخ: ذلك قضاء الله ...
الملك: يا لَهَوَانِي على الله!..
(وقع أقدام من الخارج.. وصوت سلاح..)
الحاجب: الحاكم العسكري ومعه رسول الطاغية ...
(يدخل الرسول بسلاحه، ومعه الحاكم أبو القاسم)
الرسول: السلام عليكم -يتقدم لمصافحتهم بادئا بالملك-
الجميع: -وقوفا- وعليكم السلام.
الملك: (يأخذ بيد الرسول إلى مقعد على يمينه) عذرا أيها السيد لتأخير مواجهتك، فقد أحببت أن تقف بنفسك على جواب المجلس الأعلى.
(الحضور يتهامسون في شأن الرسول)
(الملك يتابع كلامه للرسول) : لقد بعثت فينا فصاحتك نشوة.. فلعلنا تلقاء أخ عربي!.(2/23)
الرسول: (مبتسما) لم يخطئ حدسكم. إن والدي عربي وقد اختارني سيدي لهذه الوفادة أملا في أن أوفق لإقناعكم بالكف عن المقاومة اليائسة، رحمة ببقية الدماء ...
الملك: نعم الاختيار. وإنها لفرصة كريمة أن نشركك في أمرنا كأخ لا ينسى حقوق الرحم.
الرسول: يؤسفني أن أقول أنني لا أستطيع خدمتكم بشيء سوى أن أنصح لكم بالتسليم. كان عليكم أن تفكروا في هذا المصير يوم تعهدتم لمولاي بتسليم غرناطة إذا فرغ من القضاء على عمكم ...
الجميع: -في دهشة- يا الله.. نعوذ بالله!..
الرسول: أما وقد انتهى أمر عمكم فعليكم أن تفوا لمولاي، وأن تعملوا للإفادة من عطفه ...
الملك-مطرقا- أعترف بأنني أنا الذي سعيت إلى نهايتي بعقوقي وجهالتي، ولكن ... أرجو أن أجد في قلب فرديناند متسعا للأبرياء من الشيوخ والأطفال والنساء.
الرسول: ما أحسب سيدي ضنينا بهذه الرحمة.
الملك: ليكن أمر الله. فاذكر لنا مطالبكم إذا شئت.
الرسول: (يخرج من ثيابه أوراقا) مطالبنا أن يقسم الملك وكبار القادة يمين الطاعة لملكي قشتالة وأراغون، على أن يغدو مسلمو غرناطة رعايا لهما، محتفظين بأملاكهم وأسلحتهم، أحرارا في دينهم ومحاكمهم، وضمانا لذلك تقدمون أربعمائة من أعيان غرناطة وشبابها رهائن لتنفيذ هذه الشروط.. تلك مطالبنا ولا سبيل إلى تعديلها وهاهي ذي صورة الاتفاق لا ينقصها سوى توقيعكم.
(ويقدم الوثيقة إلى الملك)
الملك: شروط كريمة.
القاضي: إذا شفعها التنفيذ.
الرسول: مهما يكن من شيء، فليس للمغلوب أن يناقش الغالب في وفوده. إن عليه أن يحسن به الظن، ويسلم إليه القياد.
الملك: رأيكم يا سادة غرناطة.
القاضي: لا خيرة في الشر. وعسى الله أن يلهم الغالبين فيفوا لنا ببعض ما أسلفنا إليهم من البر.
الرسول: إذن فلتتفضلوا بالتوقيع فإن في التأخير مهالك لأحد لها.(2/24)
الملك: ليكن أمر الله (لحماد) القلم والدواة يا أبا شهيد. (يخرج حماد) .
القاضي: يحسن بنا انتظار القادة فإن لرأيهم شأنا لا يحسن إغفاله.
الملك: حقا ... وقد أرسلت في طلبهم (هامسا) غير أنني أخشى محالفتهم. (حركة من الخارج. يدخل الحاجب فيضع الدواة والقلم على المنضدة..)
الحاجب: موسى ابن أبي الغزان، ونعيم بن رضوان، ومحمد بن زائدة.
الملك: ليتفضلوا.. (للشيوخ) لعلكم تقنعونهم. أني أخاف أن تقطع ثورة الشباب آخر خيط من الأمل.
سعيد: (هامسا) قبح الأمل!
(يدخل موسى ورفيقاه شاكي السلاح يغمرهم غبار المعركة)
موسى: السلام عليكم
الجميع: (وقوفا) وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
(في هذه الأثناء تسقك الورقة من يد الملك) .
الملك: تفضلوا أيها القادة.
(يجلسون وموسى إلى يسار الملك) .
موسى: (عبسا يجيل عينيه في الحضور، وينقل نظره بين الورقة والرسول) لعله رسول الطاغية يحمل إلينا التهديد والوعيد!.
الرسول: مهلا يا فارس غرناطة.. لقد شغفت والله بأنبائك حتى وددت لقائك. وارجوا أن أكون إليكم رسول خير..
موسى: (يلتقط الورقة من الأرض) أشكرك أيها السيد.. وبودي لو تكون رسالتك كما رجوت.. ما هذه الأوراق؟..
(يطالع الورقة والحضور يلاحظونه في وجوم) ما هذا؟.. (لملك) ألهذا دعوتنا، والقتال على أشده؟!!
(يخاطب القائدين) : انظر يا ابن زائدة، اقرأ يا ابن رضوان (يدفع إليهما بالورقة) أيرضيكما هذا؟.. (للرسول) : أهذا كل ما عندك؟!..
الرسول: إنما تقاس الأمور بمناسباتها أيها الفارس. ولو فكّّّّرت في واقعكم لوجدت الخير كله في هذا.
موسى: لا نزال في خير مادامت لنا حريتنا..
ابن رضوان: شروط لا تحتمل..
ابن زائدة: السيف أرحم من الهوان (معيدا الورقة إلى موسى) .
موسى: لا.. لن يكون ذلك أبدا (يمزق الورقة ويطرحها أرضا) .(2/25)
الرسول: (مغضبا) إن لهذا ثمنا.. قد تعجز عن أدائه غرناطة كلها..
موسى: إنها قطعة ورق لا أكثر.. أما غرناطة فهي الشيء الوحيد الذي لا يعدله ثمن ...
الرسول: ومع ذلك فقد تنتهي إلى شر من هذا التمزق ... إن..
موسى: حسبك. إنك تسرف في الإهانة.. وكان عليك أن تذكر أن أبهاء الحمراء لم تألف من رسل الفرنجة سوى الانحناء.. ولولا حقوق الرسل لكان الشأن غير هذا..
الرسول: ذلك عهد مضى..
وموسى: بوسعك أن تدعو سيديك ليتسلماه!
الرسول: (للملك) إذن أرجع بأسوأ النتائج..
الملك: (مضطربا) هلا أيها السيد.. لا يزال لنا أمل في حكمة موسى..
الرسول: (متهيئا للخروج) يسرني أن تصيروا إلى اتفاق، وإني مستعد لتناسي الإهانة رحمة بالسكان. سأنتظر ردّكم في بهو السفراء ...
الملك: حسنا تفعلون..
(يخرج الرسول ومعه الحاكم العسكري)
القاضي: (لموسى) أي بني.. يا موسى.. إنّ حكمة الشيوخ جديرة برضاك في هذا الموقف الحرج.
موسى: إن حكمة الشيوخ محل إجلالي.. ولكن الخضوع للعبودية لن يكون حكمة يا سيدي القاضي.. (يرتفع صوت المؤذن من مسجد القصر) .
الجميع: (يرددون مع المؤذن) : الله اكبر.. الله أكبر ...
الملك: لا اعتراض على مشيئتك يا ألله ...
موسى: (في حماسة) الله أكبر.. أكبر من فرديناند، ومن كل طاغية. إن هذا النداء جدير بأن يوقظ في قلوبنا روح الاستبسال والعزة..
القائدان: إن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ...
القاضي: اذكر يا موسى قول الله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... }
موسى: ولم لا تذكرون قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... } إن الله لا يرضى للمؤمن أن يؤثر الدينة، وفي يده سيفه.
الملك: ولكن فرديناند يعدنا بالإبقاء على ديننا ويهب لنا المساواة برعيته..(2/26)
موسى: يا للغفلة! ومتى كان هذا العلج من الأوفياء!.إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
ابن رضوان: ولكن قومنا أبدا يلدغون.
ابن زائدة: ثم لا يستيقظون ...
موسى: ألم يعاهد صاحب (مالقة) من قبل، حتى أسلم إليه قذفه في الجب.. ثم ساق السكان أرقاء إلى أشبيلية، حيث سلخوا من دينهم، وسلبوا أبناءهم، وذللت أعناقهم للسياط والمحارق؟!.. شدة ما تكذبون أبصاركم وتصدقون آذانكم.. يا معشر الغرناطيين.. حسبكم ما فرطتم من قبل.. إن دماء آباءكم وأشلاء شهدائكم تستصرخكم لإيثار الكرامة، فلا تصغوا لوسوسة الباطل، ولا تسموا الجبن حكمة.
الشيخ لقد استخرنا الله، ولن ندعو الناس إلى الموت، وهناك أمل في الحياة.
القاضي لو سمعت يا موسى أنين الأطفال، وقد حطمهم الجوع على أحضان أمهاتهم أعدلت موقفك.
موسى: (يتهدج صوته من الألم) واكبدا لأحفاد الفاتحين يتجرأ عليهم الجوع، ويفتحون أعينهم على أشد أيام الدنيا!..
الشيخ: ذلك حصاد الماضي من أيام ملوك الطوائف..
الشيخ الآخر: بئس الغواة!..أفسدهم الترف غرتهم بهارج الدنيا..
ابن زائدة: واستنفدوا قواهم في النزاع الداخلي على المجد الكاذب، حتى أسلمونا لهذه الكوارث.
القاضي: ليتهم يبعثون اليوم ليروا ثمار ضلالهم ...
الملك: حسبهم عذاب الله..
ابن رضوان: ولعنة الأجيال ...
الشيخ: ولكن هذا كله لن يجدي أطفال غرناطة شيئا.
موسى: وا لهفا على أطفال غرناطة!..من حقكم أن تحاولوا إنقاذهم، ولو بحبال الوهم، أما أنا فخير لي أن أحصي بين الذين سقطوا دفاعا عنهم ...
ابن زائدة: ذلك والله أحرى بالنفوس العزيزة..
ابن رضوان: واسعد للقلوب المؤمنة..
موسى: وأليق بشهامتكما. فلنستقبل الموت معا كما استقبلنا الحياة.
ابن زائدة: إني تلميذك البار، ومعاذ الله أن أفارقك.
ابن رضوان: لا قوة تحرمني نعمة الشهادة في صحبتك يا قائدي..(2/27)
سعيد: -يتقدم من أقصى القاعة- وأنا أيضا أحسن صناعة الموت، فاقبلني في رحلتك أيها البطل..
الملك: حتى أنت يا سعيد.. تتركني في اللحظة الأخيرة!.
موسى: إنها انتفاضة الإيمان تسمو بالنفوس الكريمة إلى ذروة التضحية.
سعيد: لم يبق في الحياة ما يستحق البقاء..
(يدخل الحاجب)
الحاجب: إن فارسا قادما من السور يلتمس مقابلة القائد موسى.
موسى: من الفارس؟.
الحاجب: لم يذكر اسمه، وهو غارق في الحديد لم أر غير عينيه.
موسى: (يلمح الفارس خارج القاعة) أقبل أيها الفارس.
الفارس: سيدي القائد. إن العدو المتكاثر يكاد يغلب جنودك على الباب الجنوبي.
موسى: إننا قادمون. وسنفتح هذا الباب.
الفارس: ماذا؟.. أتفتحون الباب للعدو؟!
موسى: أجل سنفتحه لنسده بأجسامنا.
القائدان وسعيد: أجل لنسده بأجسامنا.
الفارس: الله أكبر.-يتقدم من موسى، وقد لان صوته وظهرت في نبراته رقة الأنوثة- ألا يسرّك يا سيدي القائد أن نتجرع معا كأس الشهادة؟! موسى: -مندهشا يتلمس الفارس في حنان- فاطمة!..هذا أنت؟ تعالي.. تعالي.. أشد ما يسعدني أن نلتقي في ساعتنا الأخيرة!. أجل ليكونن ما تريدين، وسيحتفل بزواجنا ملائكة السماء بعد أن عقدنا رباط الزوجية في جنان غرناطة الحبيبة.
الجميع: الله أكبر!..
الملك: هنيئا لكم هذا المصير الكريم. إن مثلكم لا يصلح لغير الحياة الكريمة، أو الموت الكريم.. أما أنا.. ويلاه!..يشرق بدموعه، ويهوي على مقعده.
موسى: -في لهجة تختلط فيها الشفقة بالاحتقار- حق لمثلك أن يبكي أيها الملك التعس..ولكن!..
ابن رضوان: (هامسا) ولكن.. هيهات للدمع أن يغسل الآثام..
موسى: هلموا يا رفاقي نلق على العدو درسنا الأخير. أما الشيوخ ...
فاطمة: فليفتشوا عن الترياق في أنياب الأفعى ...
موسى: وإن لم يظفر أحدنا بقبر يضم أشلاء.. فلن يعدم سماء تغطيه.(2/28)
الجميع: (فاطمة ورفاقها الثلاثة شاهرين سيوفهم) الله أكبر يا رياح الجنة هي.. (ويخرجون وراء موسى مرددين) :
الله أكبر ... الله أكبر ...(2/29)
أفضل الأعمال
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس في الجامعة
روى الشيخان واللفظ لمسلم من طريق أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله". قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا"قال قلت: فإن لم أفعل؟ قال: "تعين صانعا أو تصنع لأخرق". قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعف عن بعض العمل؟ قال: "تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك".
لقد قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أجاب به الصحابي الجليل أبا ذر رضي الله عيه قرر أسس التوجيهات التي تصل بالمجتمع الإنساني إلى أسمى درجات الكمال وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الآخذ بهذه التوجيهات النبوية الكريمة قائم بأفضل الأعمال. وأولى هذه المبادئ الإسلامية التي تضمنها هذا التوجيه النبوي الكريم هو الإيمان بالله ولاشك أن الإيمان بالله هو أول قاعدة من قواعد العدل، وهو الباب الرئيسي الذي لا بد من ولوجه لمن أراد السلوك إلى الله تبارك وتعالى، وهو كذلك الأساس المتين الذي تقوم عليه الوحدة الإنسانية بين الإنسان وأخيه الإنسان، ففي بوتقة الإيمان بالله تنصهر جميع الفروق اللونية والجنسية والوطنية والأخوية وتموت في ظله جميع الحزازات العنصرية وبها ولا شك تقوم الدعامة الحقيقية لحقوق الإنسان.(2/30)
أما التوجيه الثاني من هذه التوجيهات الرشيدة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تفرض على من أنعم الله عليه بهذه النعمة العظيمة نعمة الإيمان بالله تفرض عليه أن يدعو الناس إلى مشاركته في هذه النعمة وأن يبذل كل جهد وأن يستفرغ كل وسع في دعوة الناس إليها وحملهم عليها وأن يسلك في ذلك كل طريق معتدل يوصل إلى هذه الغاية ويشيع في الأمم هذا الخير حتى يسعدوا بالله وحتى يسلموا من عذاب الله، وحتى يهتدوا إلى طريق مستقيم أما التوجيه الثالث من التوجيهات النبوية الكريمة التي تضمنها هذا الحديث الجليل فهو لفت النظر الإنسان في كافة أنحاء الأرض إلى أن الإسلام يقرر أن من أقرب ما يقرب العبد من ربه تحرير العبيد وفك الرقاب وبذل النفيس المال في سبيل هذا تحرير وقد أكترث الشريعة الإسلامية من الحض على منح الحريات وفك الرقاب وساقت في ذلك نصوصا كثيرة. بل جعلت أن المسلم لا يقتحم العقبة الحقيقية التي تحول بين العبد وبين مرضاة الله إذا كان من أهل القدرة على تحرير الرقاب إلا إذا منح هذه الحرية لهذه الرقاب وأعان اليتامى والضعفاء ولو بلقمة عيش تشد أصلابهم أودهم وفي ذلك يقول الرب تبارك وتعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}(2/31)
بل جعل الرب تبارك وتعالى تحرير العبيد أحد المصارف الثمانية التي تنفق فيها أموال المسلمين الزكوية مع كثرتها وفي ذلك يقول الرب تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} بل وعد الله تبارك وتعالى من يعتق رقبة بأن يعتق منه بكل عضو أعتق عضوا منه من النار لذلك روى البخاري من حديث سعيد ابن مرجانة صاحب علي بن الحسن رضي الله عنهما قال سعيد: قال لي أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار" قال سعيد بن مرجانة رحمه الله فانطلقت به أي بهذا الحديث إلى علي بن الحسين فعمد علي رضى الله إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله ابن جعفر عشرة آلاف درهم او ألف دينار فأعتقه وقد أقامت الشريعة الإسلامية أسبابا شتى تهدف إلى تحرير الأرقاء وإعتاق العبيد0 فقد جعل الإسلام من أنواع الكفارات تحرير الرقاب ففي كفارة اليمين يقول تبارك وتعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وفي كفارة القتل يقول: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ثم يقول: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ثم يقول: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وفي كفارة الظهار يقول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا(2/32)
ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} . بل كان رسول الله صلى عليه وسلم يأمر أصحابه بالعتاقة عند حدوث بعض البلايا أو وقوع بعض المخوفات فلقد روى البخاري رحمة الله من طريق أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس.."وفي لفظ لها رضي الله عنها: "كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة"، وكلما كانت الرقبة ذات نفع متعد كأن يكون المملوك مجيدا لبعض أنواع الصناعات أو الفنون فإن الشريعة الإسلامية تجعل عتقه أفضل أنواع العتق.
ولذلك أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه حينما سأله أي الرقاب أفضل فقال صلى الله عليه وسلم: "أغلاها ثمنا" وفي لفظ البخاري: "أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" وهذا من المقررات في الشريعة الإسلامية فإن أحسن ما يتصدق به ما كان محبوبا طيبا ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ويقول: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}(2/33)
أما التوجيه الرابع من هذه التوجيهات النبوية الكريمة المرشدة لأفضل الأعمال وأحسن الخصال فهو التعاون العملي ولا سيما ممن لا يستطيع أن يمد يد المساعدة بالتعاون المالي وقد قسم الرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من التعاون إلى قسمين وجعل الأول منهما إعانة الصانعين وفي هذا الإرشاد النبوي إشارة واضحة إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع الإسلامي وإنه مجتمع المثالي في الحقل التعاوني وفي قوله صلى الله عليه وسلم تعين صانعا ما يدل على أن الشريعة الإسلامية تستحب إشاعة الصناعة وبذل المعونة لذوي الصناعات في الأفراد أو الشركات فرب صانع لا يجد المواد الأولية التي لابد منها في صناعته ورب صانع لا يجد اليد العاملة التي تحقق غايته0
فقد حض الرسول الله صلى الله عليه وسلم من يريد أعلى الدراجات ومن يبتغي أفضل الأعمال أن يسارع بمد يد المساعدة وعلى قدر جهده وطاقته لمعاونة الصناع وتقوية الصناعات كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن من أعظم ما يقرب العبد من ربه كذلك مساعدة الأخرق الضائع الذي لا يستطيع الصناعة إما بتدريبه على الصناعة أو بالصناعة له وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أو تصنع لاخرق"(2/34)
وفي هذا كذلك تكثير لليد الصانعة وبهذا تستغني الأمة الإسلامية في صناعاتها وتستقل استقلالا ذاتيا في هذا السبيل ولما قال أبو ذر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن ضعفت عن ذلك؟ "أي ماذا أفعل إن عجزت عن إعانة الصانع أو الصناعة لبضائع فأجيب من مشكاة النبوة بقوله: "تكف شرك عن الناس" أي فهذا صدقتك. ولذلك روى البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "على كل مسلم صدقة"قالوا: فإن لم يجد قال: "فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق" قالوا: فإن لم يستطع قال: "فيعين ذا الحاجة الملهوف" قالوا: فإن لم يفعل قال: "فليأمر بالخير" قالوا: فإن لم يفعل قال: "فليمسك عن الشر فإنه له صدقة".(2/35)
التخطيط لمباني ومنشآت الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة طريقته وأهدافه ومستقبله
للمهندس محمد وهبي الحريري
في عام 1385هجرية، أعلنت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن رغبتها في إنشاء مبان جديدة تنحصر وظائفها في الأمور التالية:
- مباني للإدارة العامة والإدارات المالية وإدارة شؤون الطلاب.
- فصول وإدارة كليتي الشريعة وأصول الدين.
- مكتبة وقاعة للمحاضرات.
وكنت من بين من تقدموا لوضع الدراسات المطلوبة لهذه المباني.
ولم تمض سوى مدة قصيرة حتى أصبحت مسؤولا عن وضع هذه الدراسات، وأخذت اتصل بالمسؤولين في الجامعة كي اطلع على وجهات النظر بالنسبة لبرنامج هذه المباني ووظائفها وملحقاتها، وبالنسبة للمراحل التنفيذية التي ستتم بموجبها وكنت ولا أزال ألمس عند المسؤولين في الجامعة الإسلامية إيمانا صادقا بالرسالة الإسلامية التي كرسوا أنفسهم وجهودهم لها، كما كنت ولا أزال أجد لديهم تفهما كاملا لكل الأمور والقضايا الفنية والمعمارية.
وبعد مدة تم وضع الدراسات المطلوبة-ورصدت لها المبالغ والمخصصات اللازمة لإقامتها، ثم رست عمليات التنفيذ على (مؤسسة بخيت) في المدينة المنورة التي سبق لها تنفيذ بعض المباني في الجامعة.
وحتى ذلك التاريخ كان الموقع المخصص لهذه المباني منحصرا بين السور الشرقي، وبين المباني القائمة في مسافة لا يزيد طولها على مائة متر تقريبا، وهي مسافة ضيقة جدا. ثم قامت وزارة الداخلية مشكورة بمنح الجامعة الإسلامية مساحات جديدة من الجهة الغربية لهذا الموقع تمتد حتى الطريق الإسفلتي الجديد الواصل بين آبار علي والمطار.(2/36)
وعلى هذا الأساس، أصبحت الدراسات الموضوعة للموقع المذكور غير صالحة للموقع الجديد الواسع، وفي هذه الأثناء تقدمت مصلحة الأشغال العامة بشخص سعادة وكيلها الشيخ عبد العزيز أبو بطين وكلفتني رسميا بالدراسات وبالأعمال المترتبة على الموقع الجديد كما تقدمت الجامعة ببرنامج مفصل للمباني والمنشآت الواجب إحداثها في السنين العشر القادمة.
المخطط الجديد للمباني:
وتم وضع مخطط عام يشتمل على المباني والمنشآت التالية:
1- مباني الإدارة والمكتبة والمحاضرات والمسجد والكليات والمعاهد.
2- مباني مهاجع النوم وهى مخصصة لأربعة آلاف طالب، وبالقرب منها يوجد مطعم يضم أربع قاعات تتسع لألفي طالب مرة واحدة.
3- ملاعب مختلفة: كرة قدم وكرة مضرب ومسبح وملاعب أخرى مغطاة ومكشوفة.
4-مستشفى يتسع لمائة سرير، ومباني سكنية لبعض الموظفين والأطباء.
وقد روعي في هذا التخطيط أن يكون الطريق الرئيسي بين الأقسام المذكورة مارا من الشرق إلى الغرب ويبلغ عرضة 32مترا مع الأرصفة، وطوقه 1400مترا تقريبا. وبوشر في تنفيذ المرحلة من هذا المخطط، بإشراف مصلحة الأشغال العامة.
الإقليم والجو ودرجات الحرارة:
إن جو المدينة المنورة بصورة عامة هو جاف، والشمس ساطعة في كل فصول السنة، وإذا كانت درجات الحرارة مرتفعة في الصيف فتبلغ أحيانا 48درجة مئوية في بعض أيام شهري تموز وآب، إلا أنها تنخفض في شهور كانون أول وكانون الثاني وشباط فتبلغ حتى5-6درجات مئوية، وإن هذا الانخفاض في درجات الحرارة يقع بعد هطول الأمطار، وهبوب الرياح الباردة، ولكنه لا يستمر إلا أياما معدودة ثم لا تلبث الغيوم أن تنحسر من السماء وتنقشع عن سماء زرقاء أو خضراء صافية.(2/37)
أما أيام السنة بصورة عامة فجوها لطيف، والريح تهب باستمرار فتلطف الحرارة، والشمس إذا كانت شديدة لكن الظل لطيف ومقبول جدا، وهنا تظهر عوامل وإمكانيات كثيرة تتعلق بالأماكن المغطاة والمظللة.
موصفات المباني وتوجيهها:
كما يظهر للعيان ضرورة توفر أماكن كثيرة يتمكن الطلاب من الانتقال في ظلالها طيلة أيام الدراسة، أما المدة المخصصة للدراسة فإنها تبتدئ بصورة عامة في مطلع الخريف، وتنتهي مع بداية الصيف.
واستنادا لهذه المبادئ يمكن تحديد أشكال المعالم اللازمة لتوجيه مباني الإدارة، ومباني الفصول الدراسية.
وربط هذه المباني بمظلات واسعة تتسع مساحاتها لعدد الطلاب المستفيدين منها.
وجعلت نوافذ مباني الإدارة منفتحة نحو الشمال والجنوب، كما جعلت نوافذ مباني الفصول الدراسية متجهة نحو الشرق والغرب وغطيت بأجزاء معمارية تسمى (عاكسات الشمس) تحول دون مرور الشمس إلى داخل الفصول، ولكنها تسمح للهواء الغربي والشرقي أن يمر من بينها.
مواصفات مواد البناء:
إن المتجول في المدينة المنورة بين مبانيها القديمة والحديثة، وبين سهولها وتلالها، وهي تلال كثيرة تحيط بها من كل الجهات، تقع عيناه من خلال نور الشمس الصافي الذي لا تعلق بهوائه ذرات من الرطوبة أو الغبار، على نوعين اثنين من الحجارة والصخور:
النوع الأول: وهي صخور بركانية سوداء اللون، يصعب قطعها والبناء بها.
النوع الثاني: وهي صخور بركانية حمراء اللون من الممكن الاستفادة منها في البناء والعمارة والتزيين.
وقد سبق للإنسان القديم أن قام بقطع وتهذيب الحجارة السوداء ولا زالت آثارها باقية حتى الآن في مختلف المباني، وبصورة خاصة في المباني من العهد العثماني.
كما تضمنت أعمال توسيع الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة الاستفادة من الحجارة السوداء والحمراء في الأقسام السفلية من الجدران الخارجية.(2/38)
وعلى كل حال فإن إقامة المباني بالحجارة الحمراء هي ممكنة وشيقة، إذ تنسجم ألوانها مع ألوان التلال والرمال التي تحيط بالمدينة المنورة.
وتم تخصيص أقسام كبيرة من بعض الجدران لبنائها بالحجارة الحمراء، كما تم تخصيص أقسام أخرى من الجدران لتشييدها بالطوب الخرساني بعد طلائها وتغطيتها بطبقة من (التلييس) والالوان الكاشفة الزاهية0
المباني ومواصفاتها:
وإذا كانت هذه المناسبة لا تتسع إلى وصف المباني بصورة كاملة وإلى ذكر أقسامها وأجزائها، فإنه من المفيد أن نأتي على بعض أوصافها ووظائفها:
فإذا كان المدخل الرئيسي الشرقي يقع في الجهة اليمنى من المصور، فإن مباني الإدارات نراها واقعة على الجهة الجنوبية من هذا المدخل، كما نجد مبنى قاعتي المكتبة والمحاضرات على الجهة الشمالية منه، ويمتد مقابل مبنى قاعتي المكتبة والمحاضرات فسحة كبيرة جدا مستطيلة الشكل يقع ضلعها الشرقي بشكل متواز مع نهاية هذه الفسحة أي في الجهة المقابلة تماما لمبنى قاعتي المكتبة والمحاضرات مسجد كبير يتسع لألفي شخص.
وإلى الجهة الغربية من مبنى قاعتي المكتبة والمحاضرات سيقام كل من مبنى القسم الإعدادي، والقسم الثانوي، ويقابل هذه المباني إلى الجهة الجنوبية كل من المباني المخصصة للوظائف التالية: المطبعة والمجلة، وقسم التخصص، وقسم الدعوة والبحوثات الإسلامية، ومباني كليتي الشريعة وأصول الدين التي تم إنشاؤها في الوقت الحاضر، وسيجري الاستفادة منها في مطلع العام الدراسي القادم، وهناك متسع كبير لإقامة المباني الأخرى في المستقبل.(2/39)
أما مباني المهاجع المخصصة للطلاب فإنها تمتد في الجهة الشمالية وتتألف من ثمانية أبنية ضخمة يتسع كل منها لخمسمائة طالب، وسوف ينشأ في منتصفها مطعم كبير تتسع قاعاته الأربعة لألفي طالب، وسوف تكون المطابخ والبرادات والملحقات في منتصف مبنى المطعم، وتبلغ قدرة هذه المطابخ حدا تستطيع فيه أن تقدم ألفي وجبة طعام في الساعة الواحدة.
وإلى الجهة الجنوبية من مباني المهاجع تمتد الأماكن المخصصة للملاعب المختلفة، ويليها مشفى يتسع لمائة سرير، وإلى جانبه المباني السكنية وهي على نوعين اثنين:
الأول: وهي مباني سكنية انفرادية.
الثاني: وهي مباني سكنية مزدوجة.
وكلها مخصص للأساتذة والأطباء وكبار الموظفين.
وزيادة في الإيضاح فإنه حققت الأرقام التالية:
الرقم1: وهي مباني الإدارات.
الرقم2: وهي مباني قاعتي المكتبة والمحضرات.
الرقم3: وهي مبنى كليتي الشريعة وأصول الدين.
ويجري في الوقت الحاضر استكمال تنفيذ هذه المباني وسوف تكون جاهزة للاستلام في نهاية شهر صفر من عام 1389هـ. وقد بلغت تكاليف هذه المباني حوالي أربعة ملايين وخمسمائة ألف ريال.
وتم وضع الدراسات المعمارية الكاملة لأحد مباني المهاجع، وسوف يشرع في تنفيذه في مطلع السنة المالية الجديدة إن شاء الله، وتقدر المبالغ المخصصة لإنجازه حوالي ستة ملايين ريال.
وهناك خطة موضوعة سيتم بموجبها تنفيذ سائر المباني بشكل منتظم ودقيقة خلال مدة معينة ومحدودة.
نوع التصميم وطابعه:
لقد روعي في تصميم المباني بصورة عامة أن يكون توجيهها صحيا ومفيدا، وأن تكون المواد المستعملة في إقامتها قادرة على العزل الجداري بالمقدار المطلوب واللازم، وغطيت بعض الفتحات بعاكسات الشمس بحيث يدخل من بينها ضوء الشمس دون أشعتها.(2/40)
أما المظلات فقد أقيم كثير منها بين المباني، بحيث يتمكن الموظفون والمراجعون والطلاب من السير تحتها والاستفادة من ظلها.
وأقيمت بين المباني بصورة عامة فساحات كي تغرس الأشجار فيها وكي يتمكن ظل هذه الأشجار من تعديل جو الغرف والمكاتب والفصول، وسوف يراعى في انتقاء الأشجار القدرة على النمو والثبات في جو المدينة المنورة.
وقد طبع التصميم بطابع الهندسة المعمارية الحديثة تماما، تلك العمارة المعاصرة الناطقة بكل ما هو بسيط ومفيد وحديث.
ولما كانت الأرض الطبيعية مستقيمة في كل أطراف هذا الموقع، رغم وجود انحدار بسيط من الجهة الغربية إلى الجهة الشرقية، فإن المباني والمظلات والفسحات جعلت في مرتفعات مختلفة كي تعيش وتحيا في أجواء ومرتفعات من شأنها أن تظهر للعين بأشكال كثيرة تعلو وتهبط وتتداخل وتتباعد تتخللها الخضرة ولون الحجر الوردي، أما ألوان الواجهات فإنها صبغت بالألوان الزاهية الكاشفة كي تعكس أشعة الشمس عنها.
خاتمة:
وإذا كان طلاب الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ينتسبون إلى بلاد وأقطار كثيرة إسلامية وغير إسلامية فإن التعليم الذي يتلقونه فيها واحد للجميع.
وإن تصميم المباني بصورة عامة قد روعي فيه البساطة والجدة، والانفتاح إلى الأرض والسماء، وإلى كل ما هو كائن بينهما، وأمام الطالب الذي يتلقى العلم والمعرفة في هذه الأماكن أن يستشعر الجمال، والنظافة والنظام، وأن يحمد الله سبحانه وتعالى الذي منحنا الهداية لعبادته والإيمان بوجوده، والذي أمرنا أن نخلص له في العبادة والإيمان والعمل، وأن نهيأ أنفسنا إلى لقاء وجهه الكريم بقلوب تطفح بالإيمان، والخير والعمل الصالح، والله ولي التوفيق والهداية وإليه المصير.(2/41)
الثقافة التي نحتاج إليها
الدكتور محمد تقي الدين الهلالي المدرس في الجامعة
هذا موضوع مهم جدا وواسع يحتاج بيانه بالتفصيل إلى تأليف كتاب مستقل، ولكن نجمل الكلام فيه إجمالا حسبما يسمح به المقام فنقول: إن كل شعب يبغى أن يعيش سعيدا يحتاج إلى أمور..
أولها: القوة الروحية وهي تتوقف على الدين الصحيح الذي يملأ قلوب أبناء الشعب إيمانا وحماسة ويؤلف بينهم ويكون العروة الوثقى التي لا تنفصم، ومن أراد أن يرى بعينيه شاهدا على ذلك فلينظر إلى العرب قبل الإسلام وبعده. وأما حالهم قبل الإسلام فكل من له أدنى إلمام بالتاريخ يعرفها حق المعرفة. ومن لم يكن له إلمام بالتاريخ ففي القرآن الذي هو كتاب متواتر لا يشك في تواتره أحد لا موافق ولا مخالف، فيرى فيه أن العرب كانوا يقتلون أولادهم بسبب الفقر ويئدون بناتهم لأسباب خسيسة وكانوا لا يورثون الإناث ولا الصبيان لأنهم كانوا يحصرون امتلاك الأموال في من يحمل السلاح ويقاتل لأن العاجز عن ذلك كالنساء والصبيان لا يستطيع أن يدافع عن المال ويصد عنه غارات المغرين المتوالية إذ كان يجب على كل من يملك شيئا أن يقاتل عنه ضرورة أنه لم يكن لهم قانون ولا دولة ولا نظام ولا وازع ديني يكفّهم عن سلب الأموال والأرواح بل كانوا يرثون النساء زيادة على عدم توريثهم كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} سورة النساء.(2/42)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قال البخاري بسنده إلى ابن عباس قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية.. هكذا ذكره البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم من حديث أبي إسحاق الشيبانى. ومن هنا نعلم فضل الإسلام على العرب أولا ثم على جميع المسلمين ثم على جميع العالمين كيف رفع قدر النساء بعد أن كن متاعا يورث كسائر الأموال ولم يكن أحد يفكر لا من العرب ولا من غيرهم في تسويتهن بالرجال في حرية التصرف بأنفسهن وفي أموالهن حتى جاء الإسلام فرفع عنهن هذه العبودية وأعطاهن حقا مساويا للرجال في الميراث فيما فرض الله لهن وفي أنهن إذا كن بالغات سن الرشد لا يتزوجن إلا برضاهن ولا يستطيع أحد أن يكرههن على التزوج بمن لا يرغبن فيه، ودونك الدليل: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن"قالوا: "يا رسول الله وكيف إذنها؟ "قال: "أن تسكت".(2/43)
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها" رواه مسلم. وفي لفظ أي من رواية ابن عباس "ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر.." رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان. اهـ. وإنما اكتفى الشارع الحكيم من البكر بالصمت لغلبة الحياء عليها. قال العلماء فإن وقع شك في رضاها أمرت بالتكلم ويجب أن تخبر قبل ذلك بأنه لا مكره لها وأنها إن امتنعت لا يستطيع أحد أن يزوجها كما سيأتي صريحا في الحديث. قال صاحب سبل السلام: "والإذن من البكر دائر بين القول والسكوت إنما اكتفى منها بالسكوت لأنها قد تستحي من التصريح. وقد ورد في رواية أن عائشة قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: "رضاها صماتها". أخرجه الشيخان، ولكن قال ابن المنذر: "يستحب أن يعلم أن سكوتها رضي، قال ابن شعبان يقال ثلاثا إن رضيت فاسكتي وإن كرهت فانطقي"اهـ.
حديث آخر عن ابن عباس أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وأعل بالإرسال، وأجيب عنه بأنه رواه أيوب بن سويد عن الثوري عن أيوب موصولا، وكذلك رواه معمر ابن سليمان الرقى عن يزيد بن حبان عن أيوب موصولا، وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله فالحكم لمن وصله، قال المصنف: "الطعن في الحديث لا معنى له لأن له طرقا يقوي بعضها بعضا"اهـ.(2/44)
وقال صاحب سبل السلام عقب هذا الحديث: "وقد تقدم حديث أبي هريرة المتفق عليه وفيه "ولا تنكح البكر حتى تستأذن". وهذا الحديث أفاد ما أفاده فدل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح وغيره من الأولياء بالأولى وإلى عدم جواز إجبار الأب. ذهبت الحنفية والأوزاعى والثوري وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر وهو إحدى الروايتين لأحمد لما ذكر ولحديث مسلم: "البكر يستأذنها أبوها" وإن قال البيهقي زيادة الأب في الحديث غير محفوظة فقد رده المصنف بأنها زيادة عدل يعني فيعمل بها"اهـ..
قال كاتب هذا المقال ومراده بالمصنف الحافظ ابن حجر العسقلاني.
وذهب أحمد والشافعي وإسحاق إلى أن للأب إجبار ابنته البكر البالغة على النكاح عملا بمفهوم "الثيب أحق بنفسها" كما تقدم فإنه دل أن البكر بخلافها وأن الولي أحق بها ويرد بأنه مفهوم لا يقاوم المنطوق وبأنه لو أخذ بعمومه لزم في حق غير الأب من الأولياء وأن لا يخص الأب بجواز الإجبار، وقال البيهقي في تقوية كلام الشافعي: "إن حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كفء"، قال المصنف: "جواب البيهقي هو المعتمد لأنها واقعة عين فلا يثبت الحكم بها تعميما"، قلت كلام هذين الإمامين محاماة عن كلام الشافعي ومذهبهم وإلا فتأويل البيهقى لا دليل عليه فلو كان كما قال لذكرته المرأة بل قالت إنه زوجها وهى كارهة فالعلة كراهتها فعليها علق التخيير لأنها المذكورة فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: إذا كانت كارهة فأنت بالخيار.(2/45)
وقول المصنف: "إنها واقعة عين" كلام غير صحيح بل حكم عام لعموم علته فأينما وجدت الكراهة ثبت الحكم وقد أخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن فتاة دخلت عليها فقالت: "إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته وأنا كارهة"قالت: "اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم"فلما جاء وسول الله فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت: "يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي. ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء". ولفظ النسائي "علم للبكر والثيب"وقد قالت هذا عنده صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي للتزويج للكراهة لأن السياق في ذلك اهـ.
قال صاحب هذا المقال: إن كان الأب مجبرا فما فائدة استئذان البكر وما فائدة صمتها أو تصريحها بالآباء إذ لابد للاستئذان من نتيجة وهي إما صمت يدل على الرضا فتزوج أو تصريح بالآباء يدل على الامتناع والكراهية فلا تزوج وإلا كان الاستئذان عبثا وأوامر العقلاء تصان عن العبث فكيف بأمر سيد العلماء والحكماء صلوات الله وسلامه عليه ولا عجب من الشارح كيف لم يتنبه إلى هذا المعنى ومن سوء الحظ أنه ليس عندي في الوقت الحاضر من شروح كتب الحديث غيره..
قولها: "ليرفع بي خسيسته"قال في اللسان: "يقال رفعت من خسيسته إذا فعلت به فعلا يكون فيه رفعته".
قال الأزهري: "يقال رفع الله خسيسة فلان إذا رفع حاله بعد انحطاطها"إهـ(2/46)
قال كاتب هذا المقال: ولا يخفى أن المصاهرة ترفع حال المتزوج وتلحقه بمنزلة من تزوج ابنته فإذا كان الشاب يتيما فقيرا، وإن كان البلوغ يضع لليتم حدا لكن عواقبه تستمر معه وكان عمه غنيا نابها من إشراف القوم فزوجه ابنته رفع ذلك قدره وأعلا منزلته بين الناس. وكأني بغراب من عبيد الاستعمار ينعب يقول: كيف تدعون أن الإسلام أعطى النساء حقوقهن في الميراث كاملة غير منقوصة مع أنه لم يجعل للمرأة إلا نصف ميراث الرجل، فأقول في جوابه أن الإسلام حين جعل للمرأة نصف ميراث الرجل قد وفاها حقها ولم ينقصها شيئا لأنه أوجب على أخيها أن ينفق عليها إن كانت محتاجة ولم تكن متزوجة ولأن الإسلام أوجب على أخيها صداقا يقدمه لزوجته زيادة على نفقتها ونفقة أولاده وإخوته الصغار ووالديه إذا كانا محتاجين أما أخته فإن تزوجت أخذت صداقها تتصرف فيه كيف تشاء وتأخذ ميراثها من والديها ونفقتها على زوجها وكذلك نفقة أولادها وإن كانت غنية، فلو أن الإسلام سوّى بين الأخ وأخته مع ما أوجبه على الأخ من النفقات التي لا يجب منها شيء على الأخت لكان قد حمّله ما لا يطيق فإذا كانت الأخت نفقتها على أبيها أو أخيها أو زوجها ومع ذلك تأخذ نصف ما يأخذه أخوها على سبيل الاحتياط تحفظه لتقلبات الزمان فقد رفق بها الإسلام غاية الرفق وأكرمها غاية الإكرام.(2/47)
ولو أن هذا الغراب كان منصفا لوجّه اللوم لسادته المستعمرين الذين ليس لهم نظام سماوي في الميراث فهم يوزعونه على حسب الهوى ويضيعون أولادهم وبناتهم. ومتى بلغت الفتاة عندهم ست عشرة سنة وكانت من الطبقة الفقيرة أو المتوسطة يقول لها الوالدان باللسان الفصيح ارحلي عنا واشتغلي لتكسبي رزقك فحسبنا أن نكتسب معيشتنا ومعيشة من يبقى من الصغار، وهنا أذكر قصة سمعتها من إذاعة لندن وهي أن فتى مصريا كان يتعلم في بريطانية وكان له صديق في سنه من البريطانيين وكان بينهما ألفة ومحبة يدرسان جميعا ويتنزهان جميعا فجاء البريطاني يوما إلى الفتى المصري يودّعه فقال الفتى المصري إلى أين فقال أنا مسافر إلى حيث أجد رزقي قال وكيف ذلك؟ قال: البارحة أعطاني والدي بضعة دنانير وقالا لي يا ولدنا اذهب في أرض الله واكتسب رزقك فقد بلغت ست عشرة سنة وانتهى واجبنا معك، فأخذ الفتى المصري يبكى بكاء شديدا وقال كيف يكون هذا؟ كيف يسمح والداك بفراقك من أجل لقمة الخبز؟ أقم معي هنا وأنا أقتسم معك ما يبعثه لي والدي فتبسّم الفتى الإنكليزي وشكر صديقه المصري على طيب نفسه وقال له: يا صديقي هذا قانون عام في بلادنا يجري علي وعلى غيري وودّعه وانصرف وتركه في بكائه.
فهؤلاء الغربان الذين يقدسون المستعمرين ويتلقون كل ما جاء منهم بالقبول والإجلال لا يفكرون أبدا في فظاعة طرد الأبوين ابنتهما في الوقت الذي تكون فيه أحوج ما كانت إلى الحماية والرعاية في سن السادسة عشرة ويعرضانها للفجور كمن يخرج درة من صدفها ويلقيها في مزبلة بل هذه أقبح ولكن عبيد الاستعمار مضروبون بسوط هيبته قد فقدوا العقول التي وهبهم الله ليميزوا بها الحسن من القبيح فهم يرون كلما يفعله أئمتهم وإن كان في غاية القبح حسنا وكل ما يخالفهم وإن كان في غاية الحسن قبيحا كما قال الشاعر:
كما أن عين السخط تبدي المساويا
وعين الرضا عن كل عيب كليلة(2/48)
هذا شأن عبيد الاستعمار الغربي، وكذلك عبيد الاستعمار الشيوعي فإنهم مثلهم أو أضل سبيلا فإنهم يقدسون الزعيم ويخترعون له من المزايا والفضائل حتى تضيق العبارات عما يريدون أن يصفوه به فإذا ملّه رفقاؤه وأرادوا أن يتخلصوا منه ليستبدلوه بغيره وقلبوا له ظهر المجن وأنزلوه من العرش وملأوا الدنيا بذمه وانتقاده انقلب مادحوه والمعجبون به، وسلقوه بألسنة حداد وقد لا يكون بين إغراقهم في مدحه ومبالغتهم في ذمه إلا عشية أوضحاها كما وقع لرؤساء اليهود حين أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه فإنه قال: "يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إذا علموا بإسلامي بهتوني وعابوني فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي"فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا"، فخرج عبد الله بن سلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد خبأه في بعض بيوته فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله"فقالوا: "أرذلنا وابن أرذلنا وأجهلنا وابن أجهلنا" والقصة مذكورة في صحيح البخاري.
وكنت قبل بضع سنين في برلين فرآني شاب شيوعي أتيمم على تراب فلما صليت قال لي: "ما فائدة التمسح على التراب؟ الوضوء معقول لأن فيه نظافة، وأما التمسح على التراب فهو أمر شكلي ما فيه فائدة"فقلت له: "أنت أخبرتني أن ستالين ألف كتابا في علم التربية وأنه كتاب مقرر في المدارس لتعليم علم التربية، ومن المعلوم أن ستالين لم يكن قط معلما ولا مدير مدرسة فضلا عن أن يكون من المختصين بعلم التربية فكيف صار تأليفه في علم التربية مقدما على غيره وهو رجل عسكري قضى عمره كله في الحروب وليس له إلمام بالتربية لا علما ولا تعليما فتأليفه في علم التربية أمر شكلي أما التيمم بالتراب فمعناه التواضع لله تعالى والخضوع له وطلب العون منه والشفاء من المرض الذي حال بين المتيمم وبين الوضوء وهذا معنى الصلاة أيضا".(2/49)
فانظر إلى ما فشا في الناس من نتن
هذا الزمان زمان الجهل والفتن
حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
يقضى على المرء في أيام محنته
والنتن الدخان الذي يشربه الناس.
والحاصل أن المقلدين للشرق والغرب خسروا أنفسهم وفقدوا عقولهم وصاروا كالأنعام بل هم أضل سبيلا فهم كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ومع كل هذا التقديس تنكروا لإلههم بعد موته وكان الذي أنكره وأظهر عيوبه وجرائمه هو نائبه وشريكه في الحكم عشرات السنين (خروتشوف) ثم حلّ محله وتربى على منصة السيادة وورثه وظن أنها تدوم له فلم يلبث أن ذاق مرارة العزل وهو حي وأصبح في خبر كان وكل ما جاء مقدس جديد اشتعلوا به ونسوا الذي قبله ولم يبالوا بالتناقض فصار مدح هؤلاء وذمهم سواء لأن الذي يمدحونه اليوم يذمونه غدا والذي يثبتونه اليوم ينفونه غدا وبالعكس وما أحسن ما حكاه الإمام أبو محمد بن حزم، قال: "كان عندنا بالأندلس فقيه من أهل الفتوى وكان لا يفتي حتى يتقدمه غيره فيكتب تحته قوله: موافق لما قاله الفقيه أعلاه. فاتفق أن الفقهاء اختلفوا في مسألة فبعضهم أفتى فيها بالجواز وبعضهم أفتى بالتحريم فلما جاءوا بالصحيفة كتب أسفلها قولي موافق لما قاله الفقهاء أعلاه فقيل له إنهم تناقضوا فقال وأنا أيضا أتناقض كما تناقضوا".(2/50)
وكانوا يعضلون النساء ويمنعوهن من الزواج لأغراض خسيسة فنهاهم الله عن ذلك في مواضع من كتابه وإنما ذكرنا بعض أخلاقهم قبل الإسلام ليعلم من لا يعلم فضل الإسلام الصحيح عليهم وعلى كل من دان به من غيرهم، وأما حالهم بعد الإسلام فهي أوضح وأظهر من شمس يوم الصحو، فما الذي غيّر حالهم من التشتت إلى الاجتماع، ومن التخاذل إلى التعاون، ومن الجهل إلى الحلم، ومن الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعة إلى الرفعة إلى السيادة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الفوضى إلى النظام, ومن تلك البقعة القاحلة الجرداء إلى الأراضي المخصبة والجنات المثمرة، والأنهار المطردة والأزهار الجملية، ومن البيوت الحقيرة إلى القصور الشامخة في آسية وأوروبة وافريقية؟ وكيف صارت الدول العظام التي كانت قبل إسلامهم هي الصالحة للبقاء لا تصلح إلا للفناء.
الجواب أن علماء التاريخ وعلماء العمران وعلماء تطور الأمم اتفقوا على أمر وهوان العرب بعد الإسلام صاروا أقوياء أغنياء سعداء متمدنين ذوي دولة ونظام، ثم اختلفوا، فالعقلاء المؤمنون بالله قالوا إن السبب المباشر في ارتفاعهم من حضيض الهمجية إلى سماء المدنية الفضلى هو الدين. وأما الذين لا يؤمنون بالله وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون فقد اعتقدوا أن القرآن ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم نفخا فيهم روح الحياة وهذه الروح جعلتهم يتعلمون المدنية والعلوم من الأمم المغلوبة التي اندثرت مدنيتها وقد نسي هؤلاء أو تناسوا القاعدة العظيمة وهي: "إن فاقد الشيء لا يعطيه".(2/51)
لأن تلك الأمم وهي الفرس والبيزنطيون والروم لو كانت مدينتهم صالحة للبقاء والنمو والحياة ما تغلب عليهم قوم متوحشون جهال - بزعمكم - خارجون من الصحراء ليس لهم علم ولا أخلاق، ولا معرفة بالعمران ولا بالنظام وعلوم المغلوبين وأخلاقهم لو بقيت فيها حياة وصلاح ما غلبوا ولنفعت أهلها فكيف لا تنفع أهلها وهم أعلم الناس بها وتنفع أعداءهم؟ وهذا هو الحال عينه.
فهل سمعت بطبيب يصيبه مرض يعرف دواءه فيستعمل ذلك الدواء فلا ينفعه فيموت من علته ويموت كل قومه ثم يأتي أعداؤهم فيقرؤون كتاب ذلك الطبيب ويأخذون منه الدواء فيستعملونه فيصحون عليه وهكذا يقال في الصيدلي يركب دواء فلا ينفع ذلك الدواء أحدا، ثم يأتي عدوه فيقرأ كتابه ويتعلم منه تركيب الأدوية فيدرك ما لم يدركه الصيدلي الذي اخترع الدواء وجربه مرارا وهكذا يقال في الفلاح والصانع نعم لو قيل أن المسلمين انتصروا على أهل الأرض بالأخلاق القرآنية ثم خدمتهم جنود السماوات والأرض كما وعدهم الله بذلك فتعلموا من الصناعات والحضارات ما زادهم قوة ونظاما لكان ذلك قريبا. أما أن الغالب يأخذ القوة من المغلوب، والحي يكتسب الحياة من الميت، والقوي يقتبس القوة من الضعيف فذلك مالا يكون أبدا.(2/52)
ومثال آخر في البلدان التي يغلب على أهلها الجهل بالكتاب والسنة ويكون للدجالين فيها سلطان عظيم فترى أحدهم يبيع قصور الجنة بأثمان بخسة ويهب الأولاد للمصابين بالعقم من الرجال والنساء ويعطي الغنى وطول العمر والنجاح في الامتحان والترقي في مناصب الدولة وقدوم الغائب بسلامة وشفاء الأمراض.. كل ذلك بدريهمات قليلة فيصدقه الأغبياء، ومرة جاء أحد الدجاجلة وقال: من يشترى قصرا في الجنة بمائة ريال فقام رجل من العقلاء وقال هذا ألف ريال أعطني به بيتا في هذه القرية وحين تسلمه لي أسلم لك ألف ريال، وأنا أعلم أنك لا تقدر على ذلك وإذا كنت عاجزا أن تملك بيتا ولو حقيرا في هذه القرية فكيف تملك قصرا في الجنة يا قليل الحياء؟. فسقط في يده وضحك عليه الناس.
ومرة جاء دجال آخر وقال لرجل أبسط ثوبك فأخذ يأخذ بيديه كلتيهما حفنة من الهواء ويضع في ثوبه ويقول هذا الرزق ثم يأخذ حفنة أخرى ثم يقول هؤلاء الأولاد الصالحون ثم يأخذ حفنة أخرى ويقول هذا العمر الطويل ثم يأخذ حفنة أخرى ويقول هذا الحج إلى النبي المصطفى (والجهال في المغرب يظنون أن الحج في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم) ثم يأخذ حفنة أخرى ويقول هذا العز والجاه ثم يأخذ حفنة أخرى ويقول هذه قصور الجنة وهكذا لم يترك شيئا من الخير إلا وضعه في ثوبه بالكلام المجرد ثم قال أعطني شيئا فجمع الرجل يده وغرف غرفة وأعطاه إياها فقال خذ هذا مما أعطيتني..
وهذا القرآن وهذه الدعوة المحمدية ليسا من الأشياء التي كانت فبانت كما يتوهمه الجاهلون وليسا من الفصائل الحيوانية والنباتية التي انقرضت وحلّت محلّها فصائل أخرى ولن تعود إلى الوجود أبدا كما يريد أن يوهمنا الاستعمار بل هما قوة باقية خالدة لا تزول ولا تحول، ولك أن تطلب الدليل البارز الشاهد وعلى أن أدلي به فأقول: كيف نشأت الدولة العثمانية؟ ومن أين استمدت قوتها.. من (هولاكو وتيمورلنك وجنكيز خان) ؟.(2/53)
لا والله فإن هؤلاء كانوا غزاة متوحشين والتاريخ أصدق شاهد، وإنما استمدت قوتها ووجودها وصارت إمبراطورية عظيمة استولت على آسيا وقسم كبير من أوروبة وإفريقية من الإسلام، ودونك شاهدا غير بعيد ولا منقرض بل هو قائم حاضر وهو المملكة السعودية.
كيف نشأت هذه المملكة في قلب الإمبراطورية العثمانية، وناهيك بما كان للإمبراطورية العثمانية، من الحول والطول وقد تصدت بجميع قواها الحرية والدعائية لتحطيم الحركة الدينية الإصلاحية التطهيرية التي أشرق نورها من قلب جزيرة العرب بجوار الحرمين الشريفين اللذين هما شريان الخلافة العثمانية.
لأن أجل ألقاب السلطان العثماني (خادم الحرمين) وزوال هذا اللقب ينذر بزوال الخلافة ثم بزوال الإمبراطورية وهو نتيجة محتومة لزوال الخلافة ولذلك جمع السلطان العثماني كل قواه وعبأ جيشه العظيم تحت قيادة محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا وزحفوا على الإمارة مدح النبي صلى الله عليه وسلم السعودية بعد ما شنوا عليها حملات أقلام مضللة فعبأت الدولة العثمانية أسطولا بحريا وجيوشا برية بأحدث ما في ذلك العصر من الأسلحة من المدافع والبنادق المجهزة بالحراب والسيوف واستمرت الحرب بين الدولة العثمانية بجيوشها المختلفة الألوان واللغات وانضم إليهم لصوص الجزيرة وخرابها بقيادة محمد على باشا ثم ابنه إبراهيم وابنه طوسون من سنة 1226هـ إلى سنة 1233هـ ففتحوا الحجاز ثم نجدا بلدا فبلدا، وقرية فقرية، بل حيا فحيا.(2/54)
وهذا من خوارق العادات أن إمارة تقاوم دولة عالمية زهاء إحدى عشرة سنة دون أن تتلقى مددا من أي جهة من الجهات وقد شهد المؤرخ المصنف عبد الرحمن الجبرتي المصري أن جيش إبراهيم باشا لم يكونوا يصلون ولا يذكرون الله وكانوا يشربون الخمر حدثه بذلك شاهد عيان وأن جيش الأمير عبد الله بن سعود كانوا محافظين على الصلاة، وفي أوقات الشدة كانوا يصلون صلاة الخوف وهؤلاء الغزاة العثمانيون وإن كانوا قد دوّخوا بلاد الحجاز ونجد وفتكوا بأهلها وخربوا مدينة الدرعية وأخذوا أميرها عبد الله بن سعود مع أصحابه إلى بلادهم وقتلوه شر قتلة فإن الله سبحانه وتعالى جعل العاقبة للمتقين وهو القائل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} سورة النمل.
ونقلوا رؤساء آل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إلى مصر الذين لم يقتلوا في المعركة وظنوا أنهم قد قضوا على الحركة الإصلاحية الدينية، والنهضة العربية التحريرية فخاب ظنهم، وكيف كانت عاقبة آل سعود؟ وآل الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ الجواب أن الله بارك فيهم حتى كأنهم لم يرزءوا شيئا ومن قتل منهم فاز بالشهادة وهي إحدى الحسنيين وكيف كانت عاقبة محمد علي باشا وسادته آل عثمان؟ لم يبق منهم ديار ولا نافخ نار وعد الله لا يخلف الله وعده، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} سورة القصص.(2/55)
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} سورة الرعد.
أما الحركة السعودية الدينية والسياسية فصارت أقوى مما كانت عليه، ولم تزل في تقدم واتساع حتى صارت أعظم مملكة في جزيرة العرب وما يليها إلى حدود الشام والعراق.
ولاتزال بحمد الله تزداد نموا وازدهارا وقوة ولاسيما في هذا الزمان الذي منّ الله عليها فيه بملك همام حنكته التجارب وعرف كيف يسير بالمملكة في طريق الرقي وكيف يسير سفينتها بحكمة وبعد نظر وحزم إلى شاطئ السلامة في هذا الخضم المتلاطم الأمواج ألا وهو صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز زاده الله توفيقا وتسديدا وقوة ونصرا على أعداء الإسلام ووفق جميع ملوك المسلمين ورؤسائهم إلى اتباع رضوانه.
وهناك شاهد ثالث من نوع آخر على أن الإسلام قوة عظيمة معنوية ومادية لمن تمسك به بإخلاص. وهو أن جميع دول أوروبا بملوكها وجيوشها غزت البلاد المقدسة (فلسطين) وأوقدت فيها نار حرب بينها وبين المجاهدين دامت مائتي سنة وختمت بهزيمة تامة لدول أوروبا، ومن قابل ذلك بحال فلسطين في هذا الزمن لا يجد مندوحة من الاعتراف بأن الإسلام الصحيح قوة لا تقهر، وأن كل شعب سعد أسلافه وارتفعوا بالإسلام لن يسعد ولن يرتفع إلا بما ارتفع به أسلافه.
ومن ظن خلاف هذا فهو مخدوع يخبط خبط عشواء في ليلة حالكة ظلماء ومضمون له الخيبة والخسران.(2/56)
وإنما قيدت الدين بكونه صحيحا في أول المقال احترازا من الدين المبدل الذي لا يقوم على القرآن بل كما فهمته العرب في القرن الأول وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة، وأما الدين المبدل في العقائد والأخلاق والأحكام فلن يأتي بتلك الثمرة أبدا، بل قد يبلغ به التبديل والتغيير إلى أن يصير شرا وضرا محضا ويأتي بعكس المطلوب. وبذلك يفسر نجاح الاستعمار وإخفاق الحركات الدينية التي تصدت لمقاومته. وإنما الدين الإسلامي دواء وصفه طبيب نطاسي بارع في معرفة العلل النفسية للأمم والشعوب فمن خالف وصفة الطبيب أو الاستعمال فمن تلك المخالفة أُتي، لا من الدواء فهو صالح كما قدّمنا شواهده لك في كل زمن ومكان، إلى أن ينتهي أجل هذا الكون الذي نعيش فيه.(2/57)
ولنا من أهل هذا العصر شهود عدول نذكر بعض أسمائهم للقردة من أبناء المسلمين الذين لا يكفيهم القرآن ولا الحديث ولا شواهد التاريخ، لأنهم بزعمه أن هذا العصر تبدّلت فيه المقاييس وانقلبت فيه الأمور لأنه عصر الذرة وغزو الفضاء الخارجي فهم لا يقتنعون إلا بشهادات الأوروبيين فمنهم (الشيخ عبد الله ويليام الإنكليزي) ألف كتابا سماه: (الإسلام) باللغة الإنكليزية وأثبت فيه بالبراهين القاطعة أن الإسلام هو الدين الصالح لسعادة البشر من الوجهة الروحية ومن الوجهة المادية، في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ومنهم اللورد هدلي هداه الله إلى الإسلام وهو من الحاصلين على لقب لورد أي من النبلاء في الدولة البريطانية وحج بيت الله سنة (1341هـ) وأعطاه الشريف حسين عربة تجرّها الخيل ذهبت به من مكة إلى عرفات ورأيته فيها محرما حاسر الرأس أصهب الشعر. وله دفاع مجيد عن دين الإسلام وإسلامه وحده كاف لزجر أعداء الإسلام والطاعنين فيه من الداخل والخارج، ومنهم (خالد شلدريك) صحفي إنكليزي نشر مقالات في فضل الإسلام، ومنهم الأستاذ محمد مارماد ديوك بكثل رئيس المحاكم في حيدر آباد دكن ومفسر القرآن الكريم بالإنكليزية، بيني وبينه معرفة ومكاتبات، ومنهم الأستاذ الجليل البروفسور (كرينكو) أستاذ الأدب العربي في جامعة كمبردج وهو ألماني الأصل، وكان أستاذا للغة العربية في جامعة عليكرة بالهند أسلم منذ زمان طويل وسمى نفسه عبد الكريم الكرنكوى، وكانت له غيرة عظيمة على الإسلام والمسلمين ولم تنقطع الكتابة بيني وبينه حتى توفي رحمه الله، ومنهم العالم الفرنسي (خير الدين دنيى) الذي ألف كتاب الرحلة إلى بيت الله وكتبا أخرى باللغة الفرنسية وقد ترجم بعضها إلى العربية، فهؤلاء كلهم أوروبيون أسلموا ونصروا الإسلام. وممن نصروا الإسلام ولم يبلغلنا إسلامهم الكاتب العالمي المشهور (برناردشو) والبريطانيون يمجدونه غاية التمجيد ولا ينقصه(2/58)
عندهم إلا الدين فإنهم يصفونه بالإلحاد وبأنه كان يعادي دينهم النصراني، ولم يكن ملحدا، ولكن العقائد الكنسية تجد في عقله مكانا أما الإسلام فإنه مدحه وأثنى عليه ومن جملة ما قاله فيه: "إن الأوروبيين النصارى لن يزالوا في تنازع وتطاحن ولا يجدون لأمراضهم الاجتماعية دواء إلا في الإسلام". ومنهم الفيلسوف الإنكليزي (كارليل) في كتابه الذي سماه (الأبطال) وذكر منهم النبي محمدا صلى الله عليه وسلم وعظّمه غاية التعظيم وبين فضل تعاليمه. ومنهم الفيلسوف الروسي (تولستوي) فإنه وأفاض في الثناء عليه. انظر تراجم هؤلاء في دائرة المعارف.
وبعد هذا التمهيد والبحث المفيد نخرج بالنتيجة التالية وهي: إن الركن الأول من ثقافة العرب الذين نحن جزء منهم وثقافة المسلمين الذين يؤلفون الأمة التي ننتمي إليها هو تعليم الدين تعليما علميا عقديا أخلاقيا جديا من روضة الأطفال إلى آخرسنة في الجامعة.
وكل ثقافة تخل بهذا الركن الأساسي أو تقرره تقريرا لفظيا فارغا من معناه ومن العقيدة والعمل والخلق والمعلمين الأكفاء فنتيجتها صفر على اليسار.
ومن زعم أن الدول الأوروبية السعيدة القوية التي مضت على سعادتها وقوتها وتعاونها وثباتها ونجاحها في جهادها في حربها وسلمها مئات السنين قد هجرت الدين وكان ذلك سبب نجاحها فهو لا يخلو من أن يكون جاهلا مقلدا إمعة قد استهواه الاستعمار الروحي وأفسد فطرته وتفكيره أو عالما بالحقيقة لكنه منافق مخادع يظهر خلاف ما يعتقد جبنا وخوفا من فوات رغبة شخصية أو طمعا في رغبة جديدة تصل إليها نفسه الأمارة. على أن دينهم ليس فيه من الحياة والقوة والمطابقة للعقل والكفالة بسعادة الروح والبدن مثل ما في ديننا.
لغة القرآن(2/59)
وإذا تقرر أن الركن الأساسي من أركان الثقافة التي نحتاج إليها هو معرفة الدين الصحيح والعمل به والتقيد بأحكامه والدعوة إليه فمفتاح هذه الثقافة هي لغة القرآن والسنة، فبدونها لا يمكن أن نعرف هذا الكنز العظيم الذي فرض مقدس على جميع الشعوب العربية والإسلامية وعلى قدر أدائه والتقدم فيه يكون تقدمها.
ومن سوء الحظ أن هذه اللغة الكريمة قلّ ناصرها وكثر خاذلها ولم تزل في إدبار منذ مئات السنين ثم جاءها الاستعمار اللغوي فكان ضغثا على إبالة فاختلط الحابل بالنابل فبعد ضياع الإعراب والصرف تسرب الوهن إلى قواعدها وتغيرت مفرداتها وأسلوبها وذهب جمالها وبلاغتها وكثر الخطأ فيها حتى عسر على المصلحين عدّه فكيف بتلافيه وإصلاحه وصارت غربة علمائها كغربة علماء الإسلام، كل من قبض منهم لم يوجد له خلف فنحن اليوم نعيش على المعاجم التي ألفت في القرن الثامن الهجري وما قبله سواء أكانت معاجم لغة أو معاجم أدباء أو النحو والصرف وغيرها من علوم الأدب، أما الكلمات التي حدثت في القرون المتأخرة وهي كثيرة والكتاب والخطباء في حاجة إليها لأن معانيها لازمة للناس في معايشهم وتفكيرهم وحديثهم فقد بقيت مهملة فاضطر الناس إلى التعبير بالكلمات الأعجمية، وأما ضعف الأسلوب فسببه إعراض المسلمين عن تراثهم واشتغالهم بلغات الأعاجم، ومن العجب أن نرى أمة تعد بمائة مليون ليس لها دائرة معارف تجمع شمل علومها وآدابها إلا تأليفين لرجلين هما محمد فريد وجدي وبطرس البستاني وهذا الثاني لم يتم ولو أن المتكلمين باللغة العربية قاموا بواجبها لبلغت دائرة معارفهم على أقل تقدير مائة مجلد لأن دائرة المعارف الإسبانية ستون مجلدا والفرق بين اللغتين في كثير من العلوم والآداب كما بين السماء والأرض فعسى الله أن يوفق المسلمين إلى إحياء تراث أسلافهم وغسل هذا العار عنهم بإحياء الثقافة الإسلامية حتى يقال ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة، وآخر(2/60)
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(2/61)
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ/ عبد الرؤوف اللبدي المدرس في الجامعة
سلامٌ عليكَ رسولَ الإلهِ
سلامٌ يَضُوعُ كفَوحِ الزَّهَرْ
تَمُرُّ القُرون وتأتي القرونُ
وذِكْرُك عَبْرَ القُرون عَطِرْ
وقِفتُ بقَبرك ذَات صباحٍ
وقَدْ صَحبْتني طيوفُ الذِّكَرْ
ذكرتُ السيوفَ على أرضِ بدرٍ
تُجالِدُ أهْلَ الضلالِ النُّكُرْ
وفي يَومِ أحْدٍ ذَكرتُ الجراحِ
تسيلُ كفاحًا لأمر قُدِر
ويَومَ حُنَيْنٍ ذكرتُ الثباتَ
وقدْ فَرَّ كلُّ شجاعٍ ذَكَرْ
ذكرتُ جيوشكَ وابن الوليد
وسَعْدًا وعَمْرًا وأسْدًا أخَرْ
جيوشٌ تسيرُ إلى مَغْربٍ
وأخْرى إلى ما وراءَ النَّهَرْ
وهذي تشُقُّ فجاجَ الصَّحاري
وتلك تشُقُّ عُباب البَحَرْ
وحِطِّينَ يومَ التقى المسْلمون
وفي صَدرهم لَهَبٌ مُسْتَعِرْ
بجيشِ غُزاةٍ أتى مِنْ بَعيدٍ
يَرُومُ المُقامَ وطولَ المقرْ
وكم في حياتِكَ من ذكرياتٍ
تُضيءُ تُضيءُ ولا تَنْكدِرْ
وقفت ُ بقبركَ ذاتَ مساءٍ
وقد غَشِيتني همومٌ كُبَرْ
أسائِلُ في لَهْفَةٍ لا تَغيضُ
ودمعٍ عصيٍّ مَضى يَنْحدِرْ
فما بالُ أحفادِ تلك القُرونِ
تُوَلِّي أمامَ العدوِّ الدُّبُرْ
وما كان ذلكَ عن قلَّةٍ
جرادٌ بساح الوغى منتشِرْ
وأسلحةٌ قد تدكُّ الجبالَ
وأخرى السماءُ بها مُنْفطِرْ
وإِني لأعجبُ كيف استمعتُ
إلى كلماتٍ بأُذْني تَصِر:
وما كان جَدْوَى أولاءِِ الجنودِ
وما كان جَدْوَى السلاحِ الخَطِرْ
إذا لم يكنْ في القلوبِ الشُّعاعُ
يُضيءُ الطريقَ لمنْ يَنتصِر
دعوتَ إلى خطةٍ في الحياة(2/62)
تكونُ سبيلَ الهُدى والظفَر
فكانتْ حياةً لمن قد أجاب
وكان الضياعُ لمن قد نَكِرْ
أَضَعْنا الذي قد دعوتَ إليهِ
ورُمنا النجاةَ لَدَى من كَفَرْ
فيا للخِداعِ ويا للصِّراعِ
ويا لدماءٍ تسيلُ هَدَرْ
تعالَيْ تعالَيْ رياحَ الشتاءِ
تعالَيْ فُرادَى تعالَيْ زُمَرْ
تولَّى الخريف وفوقَ الغصون
وريقاتُ صُفرٌ ولمَّا تطِر
لعلَّ ربيعًا يعودُ جديدًا
فيَشفي الصدورَ ويجلُو البَصَرْ(2/63)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المدرس في الجامعة
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين وأشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الحمد لله الذي ختم الرسل بهذا النبي الكريم عليه من الله الصلاة والتسليم, كما ختم الكتب السماوية بهذا القرآن العظيم, وهدى الناس بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم, فأخباره كلها صدق, وأحكامه كلها عدل, وبعضه يشهد بصدق بعض ولا ينافيه, لأن آياته فصلت من لدن حكيم خبير. {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
أما بعد فإن مقيد هذه الحروف, عفا الله عنه, أراد أن يبين في هذه الرسالة ما تيسر من أوجه الجمع بين الآيات التي يتوهم فيها التعارض في القرآن العظيم, مرتبا لها بحسب ترتيب السور, يذكر الجمع بين الآيتين غالبا في محل الأولى منهما وربما يذكر الجمع عند محل الأخيرة وربما يكتفي بذكر الجمع عند الأولى وربما يحيل عليه عند محل الأخيرة ولاسيما اذا كانت السورة ليس فيها مما يتوهم تعارضه إلا تلك الآية فإنه لا يترك ذكرها والإحالة على الجمع المتقدم, وسميته:
(دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)
فنقول وبالله نستعين وهو حسبنا ونعم الوكيل راجين من الله الكريم أن يجعل نيتنا صالحة وعملنا كله خالصا لوجهه الكريم, إنه قريب مجيب رحيم.
سورة البقرة(2/64)
قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} أشار الله تعالى إلى القرآن في هذه الآية إشارة البعيد وقد أشار له في آيات أخر إشارة القريب كقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وكقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الآية وكقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} , وكقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} , إلى غير ذلك من الآيات, وللجمع بين هذه الآيات أوجه: -الأول-ما حرره بعض علماء البلاغة من أن وجه الإشارة إليه بإشارة الحاضر القريب أن هذا القرآن قريب حاضر في لأسماع والألسنة والقلوب, ووجه الإشارة إليه بإشارة البعيد هو بعد مكانته ومنزلته عن مشابهة كلام الخلق وعما يزعمه الكفار من أنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين.
الوجه الثاني: هو ما اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره من أن ذلك إشارة إلى ما تضمنه قوله: {الم} وأنه إشارة إليه إشارة البعيد لأن الكلام المشار إليه منقض ومعناه في الحقيقة القرب لقرب انقضائه وضرب له مثلا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرة: والله إن ذلك لكما قلت, ومرة يقول: والله إن هذا لكما قلت, فإشارة البعيد نظرا إلى أن الكلام مضى وانقضى وإشارة القريب نظرا إلى قرب انقضائه.
الوجه الثالث: أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد فتكون الآية على أسلوب من أساليب اللغة العربية ونظيره قول خفاف ابن ندبة السلمي لما قتل مالك بن حرملة الفزارى:
فعمدا على عيني تيممت مالكا
فإن تك خيلى قد أصيب صميمها
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أقول له والرمح يأطر متنه(2/65)
يعني أنا هذا وهذا القول الأخير حكاه البخارى عن معمر بن المثنى أبي عبيدة قاله ابن كثير. وعلى كل حال فعامة المفسرين على أن ذلك الكتاب بمعنى هذا الكتاب. قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} هذه نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبنيت على الفتح. والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص في العموم كما تقرر في علم الأصول, و {لا} هذه التي هي نص في العموم هي المعروفة عند النحويين بـ (لا) التي لنفى الجنس, أما (لا) العاملة عمل ليس فهي ظاهرة في العموم لا نص فيه, وعليه فالآية نص في نفي كل فرد من أفراد الريب عن هذا القرآن العظيم, وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجود الريب فيه لبعض من الناس كالكفار الشاكين كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} , وكقوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} , وكقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} . ووجه الجمع في ذلك أن القرآن بالغ من وضوح الأدلة وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه, وريب الكفار فيه إنما هو لعمى بصائرهم, كما بينه بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه من قِبل عَماه ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها:
فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة
وأجاب بعض العلماء بأن قوله لا ريب فيه خبر أريد به الإنشاء أي لا ترتابوا فيه وعليه فلا إشكال.(2/66)
قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} . خصص في هدى هذا الكتاب بالمتقين, وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن هداه عام لجميع الناس, وهي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} الآية. ووجه الجمع بينهما أن الهدى يستعمل في القرآن استعمالين أحدهما عام والثاني خاص. أما الهدى العام فمعناه إبانة طريق الحق وإيضاح المحجة سواء سلكها المبين له أم لا ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي بينا لهم طريق الحق على لسان نبينا صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع أنهم لم يسلكوها بدليل قوله عز وجل: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} , ومنه أيضا قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} , أي بينا له طريق الخير والشر بدليل قوله: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} . وأما الهدى الخاص فهو تفضل الله بالتوفيق على العبد ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} الآية. وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} , فإذا علمت ذلك فاعلم أن الهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص وهو التفضل بالتوفيق عليهم والهدى العام للناس هو الهدى العام, وهو إبانة الطريق وإيضاح المحجة, وبهذا يرتفع الإشكال أيضا بين قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} مع قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} , لأن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو الهدى الخاص لأن التوفيق بيد الله وحده ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا, والهدى المثبت له هو الهدى العام الذي هو إبانة الطريق وقد بينها صلى الله عليه وسلم حتى تركها محجة بيضاء ليلها كنهارها, والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ(2/67)
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} . هذه الآية تدل بظاهرها على عدم إيمان الكفار, وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الكفار يؤمن بالله ورسوله كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف} الآية. وكقوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} وكقوله: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} , ووجه الجمع ظاهر وهو أن الآية من العام المخصوص لأنه في خصوص الأشقياء الذين سبقت لهم في علم الله الشقاوة المشار إليهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} . ويدل لهذا التخصيص قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية وأجاب البعض بأن المعنى لا يؤمنون مادام الطبع على قلوبهم وأسماعهم والغشاوة على أبصارهم فإن أزال الله عنهم ذلك بفضله آمنوا.
قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم مجبورون لأن من ختم على قلبه وجعلت الغشاوة على بصره سلبت منه القدرة على الإيمان. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن كفرهم واقع بمشيئتهم وإرادتهم كقوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} , وكقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} , وكقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية, وكقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم} الآية, وكقوله: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُم} الآية.(2/68)
والجواب: أن الختم والطبع والغشاوة المجعولة على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم, كل ذلك عقاب من الله لهم على مبادرتهم للكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم, فعاقبهم الله بعدم التوفيق جزاء وفاقا. كما بينه تعالى بقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وبقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} الآية وقوله: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} , إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} الآية. أفرد في هذه الآية الضمير في قوله استوقد وفي قوله ما حوله وجمع الضمير في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} , مع أن مرجع كل هذه الضمائر شيء واحد وهو لفظة الذي من قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي} , والجواب عن هذا أن لفظة الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها, وقد تقرر في علم الأصول أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم, فإذا حققت ذلك فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة الذي وجمعه باعتبار معناها, ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء أن الذي تأتي بمعنى الذين ومن أمثلة ذلك في القرآن هذه الآية الكريمة, فقوله كمثل الذي استوقد أي كمثل الذين استوقدوا بدليل قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} الآية. وقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} أي كالذين ينفقون بدليل قوله: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى(2/69)
شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} بناء على الصحيح من أن الذي فيها موصولة لا مصدرية ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز:
في قائم منهم ولا في من قعد
يا رب عبس لا تبارك في أحد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
وقول الشاعر وهو أشهب بن رميلة وأنشده سيبويه لإطلاق الذي وإرادة الذين:
هم القوم كل القوم يا أم خالد
وأن الذي حانت بفلج دماؤهم
وزعم ابن الأنبارى أن لفظة الذي في بيت أشهب جمع الذ بالسكون وأن الذي في الآية مفرد أريد به الجمع وكلام سيبويه يرد عليه وقول هديل بن الفرخ العجلى:
غوايتهم غيي ورشدهم رشدي
وبت أساقى القوم إخوتي الذي
وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه ولا يخفى ضعفه.
قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} الآية هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يبصرون, وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} وكقوله: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم} الآية, أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم, وقوله: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَاد} إلى غير ذلك من الآيات, ووجه الجمع ظاهر, وهو أنهم بكم عن النطق بالحق وإن رأوا غيره, وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} الآية, لأن مالا يغني شيئا فهو كالمعدوم والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له ومنه قول قعنب بن أم صاحب:
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وقول الشاعر:
وأسمع خلق الله حين أريد
أصم عن الأمر الذي لا أريده
عن الجود والفخر يوم الفخار
فأصممت عمرا وأعميته
وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم.(2/70)
قال هبيرة بن أبي وهب المخزومى:
لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
وإن كلام المرء في غير كنهه
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الآية. هذه الآية تدل على إن هذه النار كانت معروفة عندهم, بدليل أل العهدية, وقد قال تعالى في سورة التحريم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} , فتنكير النار هنا يدل على أنها لم تكن معروفة عندهم بهذه الصفات. ووجه الجمع أنهم لم يكونوا يعلمون أن من صفاتها كون الناس والحجارة وقودا لها فنزلت آية التحريم فعرفوا منها ذلك من صفات النار, ثم لما كانت معروفة عندهم نزلت آية البقرة, فعرفت فيها النار بأل العهدية لأنها معهودة عندهم في آية التحريم, ذكر هذا الجمع البيضاوى والخطيب في تفسيريهما وزعما أن آية التحريم نزلت بمكة وظاهر القرآن يدل على هذا الجمع لأن تعريف النار هنا بأل العهدية يدل على عهد سابق والموصول وصلته دليل على العهد وعدم قصد الجنس ولا ينافي ذلك أن سورة التحريم مدنية وأن الظاهرنزولها بعد البقرة, كما روي عن ابن عباس لجواز كون الآية مكية في سورة مدنية كالعكس.(2/71)
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية. هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء بدليل لفظة ثم التي هي للترتيب والانفصال وكذلك آية حم السجدة تدل أيضا على خلق الأرض قبل خلق السماء لأنه قال فيها: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الآية. مع آية النازعات تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء لأنه قال فيها: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} . قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} واعلم أولا أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء, ويدل لهذا أنه قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ولم يقل خلقها, ثم فسر دحوه إياها بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} الآية. وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يَرِد عليه إشكال من آية البقرة هذه وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بما فيها بعد خلق السماء وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية. وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرآن العظيم, وإيضاحه أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين كل منهما تدل عليه آية من(2/72)
القرآن:
الأول-إن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود والعرب تسمي التقدير خلقا ومنه قول زهير:
ض القوم يخلق ثم لا يفرى
ولانت تفري ما خلقت وبعـ
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير أنه تعالى نصّ على ذلك في سورة فصلت حيث قال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} ثم قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الآية.
الوجه الثاني: أنه لما خلق الأرض غير مدحوه وهي أصل لكل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع وإن لم يكن موجودا بالفعل. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَة} الآية. فقوله خلقناكم ثم صورناكم أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم هو أصلكم. وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله والأرض بعد ذلك دحاها, أي مع ذلك فلفظة بعد بمعنى مع ونظيره قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} وعليه فلا إشكال في الآية, ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة وبها قرأ مجاهد: الأرض مع ذلك دحاها, وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض وهو خلاف التحقيق منها: أن (ثم) بمعنى الواو. منها: أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية.
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} الآية. أفرد هنا تعالى لفظ {السَّمَاءِ} ورد عليه الضمير بصيغة الجمع في قوله {فَسَوَّاهُنَّ} وللجمع بين ضمير الجمع ومفسره المفرد وجهان:
الأول: إن المراد بالسماء جنسها الصادق بسبع سموات وعليه فأل جنسية.(2/73)
الثاني: أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي في وقوع إطلاق المفرد وإرادة الجمع مع تعريف المفرد وتنكيره وإضافته, وهو كثير في القرآن العظيم وفي كلام العرب. فمن أمثلته في القرآن واللفظ معرف قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أي بالكتاب كلها بدليل قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِه} , وقوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} وقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} يعني الأدبار, كما هو ظاهر, وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} يعني الغرفات بدليل قوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} وقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} أي الملائكة بدليل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} الآية, يعني الأطفال الذين لم يظهروا, وقوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} الآية يعني الأعداء.(2/74)
ومن أمثلته واللفظ منكر قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} يعني وأنهار بدليل قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية, وقوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} يعني أئمة, وقوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} يعني سامرين, وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} يعني أطفالا, وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي بينهم, وقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} أي رفقاء, وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} , أي جنبين أو أجنابا وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أي ظاهرون لدلالة السياق فيها كلها على الجمع. واستدل سيبويه لهذا بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} أي أنفسا.
ومن أمثلته واللفظ مضاف قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي} الآية, يعني أضيافي, وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية أي أوامره وأنشد سيبويه لإطلاق المفرد وإرادة الجمع قول الشاعر, وهو علقمة بن عبدة التميمى:
فبيض وأما جلدها فصليب
بها جيف الحسرى فأما عظامها
يعني وأما جلودها فصليبة. وأنشد له أيضا قول الآخر:
فإن زمانكم زمن خميص
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
يعنى في بعض بطونكم.
ومن شواهده قول عقيل بن علفة المرى:
وكنت لهم كشر بني الأخينا
وكان بنو فزاره شر عم
يعنى شر أعمام. وقول العباس بن مرداس السلمي:
وقد سلمت من الإحن الصدور
فقلنا أسلموا أنا أخوكم
يعني أنا إخوانكم. وقول الآخر:
إن العواذل ليس لي بأمير
يا عاذلاتي لا تردن ملامة
يعني لسن لي بأمراء.
وهذا في النعت بالمصدر مطرد كقول زهير:
هم بيننا هم رضى وهم عدل
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم(2/75)
ولأجل مراعاة هذا لم يجمع في القرآن السمع والطرف والضيف لأن أصلها مصادر كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وقوله: {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} وقوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} وقوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي}
قوله تعالى: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} يتوهم معارضته مع قوله: {حَيْثُ شِئْتُمَا} .
والجواب: أن قوله: {اسْكُنْ} أمر بالسكنى لا بالسكون الذي هو ضد الحركة فالأمر باتخاذ الجنة مسكنا لا ينافي التحرك فيها وأكلهما من حيث شاءا.
قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} الآية.
جاء في هذه الآية بصيغة خطاب الجمع في إفراد والجمع في شئ واحد: أن معنى ولا تكونوا أول كافر أي أول فريق كافر, فاللفظ مفرد والمعنى جمع فيجوز مراعاة كل منهما, وقد جمع اللغتين قول الشاعر:
وإذا هم جاعوا فشر جياع
فإذا هم طعموا فألأم طاعم
وقيل هو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع كقول ابن علفة:
وكان بنو فزاره شر عم ... كما تقدم قريبا(2/76)
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الظن يكفي في أمور المعاد, وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} وكقوله: {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} . ووجه الجمع أن الظن بمعنى اليقين, والعرب تطلق الظن بمعنى اليقين ومعنى الشك. وإتيان الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن وفي كلام العرب. أمثلته في القرآن هذه الآية وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَة} الآية. وقوله تعالى: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} أي أيقنوا وقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} أي أيقنت.
ونظيره من كلام العرب قول عميرة بن طارق:
واجعل مني الظن عيبا مرجما
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم
أي اجعل مني اليقين غيبا.
وقول دريد بن الصمة:
سراتهم في الفارسي المسرد
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
فقوله ظنوا أي أيقنوا.(2/77)
قوله تعالى لبني إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} لا يعارض قوله تعالى في تفضيل هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية. لأن المراد بالعالمين عالموا زمانهم بدليل الآيات والأحاديث المصرحة بأن هذه الأمة أفضل منهم كحديث معاوية بن حيدة القشيرى في المساند والسنن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله "ألا ترى أن الله جعل المقتصد منهم هو أعلاهم منزلة حيث قال: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} , وجعل في هذه الأمة درجة أعلى من درجة المقتصد وهي درجة السابق بالخيرات حيث قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} الآية.
قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُم} الآية.
ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أن استحياء النساء من جملة العذاب الذي كان يسومهم فرعون. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن الإناث هبة من هبات الله لمن أعطاهن له وهي قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} فبقاء بعض الأولاد على هذا خير من موتهم كلهم كما قال الهذلى:
خراش وبعض الشر أهون من بعض
حمدت إلهى بعد عروة إذ نجا
والجواب عن هذا أن الإناث وإن كن هبة من الله لمن أعطاهن له فبقاؤهن تحت يد العدو يفعل بهن ما يشاء من الفاحشة والعار ويستخدمهن في الأعمال الشاقة نوع من العذاب, وموتهن راحة من هذا العذاب وقد كان العرب يتمنون موت الإناث خوفا من مثل هذا. قال بعض شعراء العرب في ابنة له تسمى مودة:
مودة تهوى عمر شيخ يسره
لها الموت قبل الليل لوانها تدرى
يخاف عليها جفوة الناس بعده(2/78)
ولا ختن يرجى أود من القبر
وقال الآخر:
والموت أكرم نزال على الحرم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
وقال عقيل بن علفة المري لما خطبت عنه ابنته الجرباء:
إني وان سيق الى المهر
عبد والفان وذود عشر
أحب اصهاري إلى القبر
وقال بعض الأدباء:
سروران مالهما ثالث
حياة البنين وموت البنات
وفي القرآن إشارة إلى أن الإنسان يسوءه إهانة ذريته الضعاف بعد موته في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} .
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} , هذه الآية الكريمة تدل على أن الله أكرم بني إسرائيل بنوعين من أنواع الطعام وهما المن والسلوى, وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنهم لم يكن عندهم الإطعام واحد, وهى قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} , وللجمع بينهما أوجه:
الأول-إن المن وهو الترنجبين على قول الأكثرين من جنس الشراب والطعام الواحد هو السلوى, وهو على قول الأكثر ين السماني أو طائر يشبهه.
الوجه الثاني-إن المجعول على المائدة الواحدة تسميه العرب طعاما واحد وإن اختلفت أنواعه. ومنه قولهم: أكلنا طعام فلان, وإن كان أنواعا مختلفة. والذي يظهر أن هذا الوجه أصح من الأول لأن تفسير المن بخصوص الترنجبين يرده الحديث المتفق عليه: "الكمأة من المن.." الحديث.
الثالث-أنهم سموه طعاما واحدا لأنه لا يتغير ولا يتبدل كل يوم, فهو مأكل واحد وهو ظاهر.
قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} .(2/79)
هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل, ونظيرها قوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} الآية.
وقوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} . وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} , وكقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} , وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وبيّن تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضا كما في هذه الآية الأخيرة وكما في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية.
والذي يظهر في الجواب عن هذا أن الرسل قسمان: قسم أمروا بالقتال في سبيل الله, وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس, فالذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة, والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين, وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة, ولايرد على هذا الجمع قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} الآية. أما على قراءة {قُتِلَ} بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله: {رِبِّيُّونَ} لا ضمير نبي وتطرق الاحتمال يرد الاستدلال, وأما على القول بأن غلبة الرسل ونصرهم بالحجة والبرهان فلا إشكال في الآية والله أعلم.(2/80)
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} الآية. الاستفهام في هذه الآية إنكاري أظلم ممن منع مساجد الله. وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف هذا كقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} الآية. وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ..} الآية, إلى غير ذلك من الآيات.
وللجمع بين هذه الآيات أوجه: منها-تخصيص كل موضع بمعنى صلته: أي مساجد الله-ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا, وإذا تخصصت بصلاتها زال الإشكال.
ومنها-أن التخصيص بالنسبة إلى السبق, أي لما لم يسبقهم أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طرقهم وهذا يؤول معناه إلى ما قبله, لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية مثلا.
ومنها-وادعى أبوحيان أنه الصواب, هو ماحاصله أن نفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة, فلم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر لأنهم يتساوون في الأظلمية فيصير المعنى: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ومن افترى على الله كذبا ومن كذب بآيات لله, ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ولا يدل على أن أحدهم أظلم من الآخر كما إذا قلت لا أحد أفقه من فلان وفلان مثلا. ذكر هذين الوجهين صاحب الاتقان.(2/81)
وما ذكره بعض المتأخرين من أن الاستفهام في قوله: ومن أظلم المقصود منه التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ولا نفيها عن غيره كما ذكره عنه صاحب الاتقان يظهر ضعفه لأنه خلاف ظاهر القرآن. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية. أفرد في هذه الآية المشرق والمغرب وثناهما في سورة الرحمن في قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} وجمعهما في سورة سأل سائل في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب} , وجمع المشارق في سورة الصافات في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} .
والجواب أن قوله هنا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} المراد به جنس المشرق والمغرب فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون, وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك كما روي عن ابن عباس وغيره.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية ما نصه:
"وإنما معنى ذلك ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم فتأويله إذا كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي تعده وكذلك غروبها", انتهى منه بلفظه. وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} يعني كشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما كما عليه الجمهور.
وقيل: مشرق الشمس والقمر ومغربهما, وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب} أي مشارق الشمس ومغاربها كما تقدم. وقيل مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} عبر في هذه الآية بـ {ما} الموصولة الدالة على غير العقلاء, ثم عبر في قوله: {قَانِتُونَ} بصيغة الجمع المذكر الخاص بالعقلاء.(2/82)
ووجه الجمع: أن ما في السماوات والأرض من الخلق منه العاقل وغير العاقل, فغلب في الاسم الموصول غير العاقل, وغلب في صيغة الجمع العاقل, والنكتة في ذلك أنه قال: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وجميع الخلائق بالنسبة لملك الله إياهم سواء عاقلهم وغيره, فالعاقل في ضعفه وعجزه بالنسبة إلى ملك الله كغير العاقل. ولما ذكر القنوت وهو الطاعة وكان أظهر في العقلاء من غيرهم عبر بما يدل على العقلاء تغليبا لهم.
قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . هذه الآية تدل بظاهرها على أن البيان خاص بالموقنين.
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن البيان عام لجميع الناس كقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وكقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} . ووجه الجمع أن البيان عام لجميع الخلق, إلا أنه لما كان الانتفاع به خاصا بالمتقين خص في هذه الآية بهم لأن ما لانفع فيه كالعدم.
ونظيرها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْر} الآية, مع أنه منذر للأسود والأحمر, وإنما خص الإنذار بمن يخشى ومن يتبع الذكر لأنه المنتفع به.
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} الآية. قوله تعالى في هذه الآية إلا لنعلم يوهم أنه لم يكن عالما بمن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه مع أنه تعالى عالم بكل شئ قبل وقوعه, فهو يعلم ما سيعمله الخلق كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} , وقوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .(2/83)
والجواب عن هذا أن معنى قوله تعالى إلا لنعلم علما يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي كونه عالما به قبل وقوعه, وقد أشار تعالى إلى أنه لا يستفيد بالاختبار علما جديدا لأنه عالم بما سيكون حيث قال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
فقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعد قوله: {َلِيَبْتَلِيَ} دليل على أنه لا يفيده الاختبار علما لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك بل هو تعالى عالم بكل ما سيعمله خلقة وعالم بكل شيء قبل وقوعه كما لا خلاف فيه بين المسلمين, لا يعزب عنه مثقال ذرة الآية.
قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} الآية هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات, وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} .(2/84)
والجواب عن هذا أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية فتورث أموالهم وتنكح نساءهم بإجماع المسلمين, وهذه الموتة التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم: "بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها"وقال: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات". واستدل على ذلك بالقرآن ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا, أما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} , وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم: "تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك", وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام وأن الله وَكَّل ملائكته يبلغونه سلام أمته فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى فوق أرواح الشهداء فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ولا يعلمها الخلق كما قال في جنس ذلك {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} ولو كانت كالحياة التي يعرفها آهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات ولما جاز دفنه ولا نصب خليفة غيره ولا قتل عثمان ولا اختلف أصحابه ولا جرى على عائشة ما جرى ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده كالعول وميراث الجد والاخوة ونحو ذلك.(2/85)
وإذا صرح القرآن بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى بل أحياء, وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} , وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا, ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات مع أنه يدرك الرؤيا ويعقل المعاني والله تعالى أعلم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح ما نصه: "ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طرى مطرا وقد سأله الصحابة: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب, وقد صح عنه "إن الله وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام", وصح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال: "هكذا نبعث" هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء, وقد صح عنه أنه رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة, فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من يسلم عليه وهي في الرفيق الأعلى ولا تنافي بين الأمرين, فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان". انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم بلفظه, وهو يدل على أن الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدنيا. قال تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} والعلم عند الله.(2/86)
قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} . هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الكفار لا عقول لهم أصلا لأن قوله شيئا نكرة في سياق النفي فهي تدل على العموم وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الكفار لهم عقول يعقلون بها في الدنيا كقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} . والجواب أنهم يعقلون أمور الدنيا دون أمور الآخرة كما بينه تعالى بقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} .
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على جميع أنواع الدم حرام, ومثلها قوله تعالى في سورة النحل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية, وقوله في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية. وقد ذكر في آية أخرى ما يدل على أن الدم لا يحرم إلا إذا كان مسفوحا وهي قوله تعالى في سورة الأنعام: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} الآية.(2/87)
والجواب أن هذه المسألة من مسائل تعارض المطلق والمقيد والجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد حمل المطلق على المقيد لا سيما مع اتحاد الحكم والسبب, كما هنا وسواء عندهم تأخر المطلق عن المقيد في سورة الأنعام وهى نزلت قبل النحل مع أنهما مكيتان آيات معروفة, والدليل على أن الأنعام قبل النحل قوله تعالى في النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} الآية, والمراد به ما قص عليه في الأنعام بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية وأما كون الأنعام نزلت قبل البقرة والمائدة فواضح لأن الأنعام مكية بالإجماع والمائدة من آخر ما نزل من القرآن ولم ينسخ منها شيء لتأخرها, وعلى هذا فالدم إذا كان غير مسفوح كالحمرة التي تظهر في القدر من أثر تقطيع اللحم فهو ليس بحرام لحمل المطلق على المقيد وعلى هذا كثير من العلماء, وما ذكرنا من عدم النسخ في المائدة قال به جماعة وهو على القول بأن قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} الآية.
وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} غير منسوخين صحيح وعلى القول بنسخهما لا يصح على الإطلاق, والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية.(2/88)
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الله لا يكلم الكفار يوم القيامة لأن قوله تعالى ولا يكلمهم فعل في سياق النفي, وقد تقرر في علم الأصول أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم وسواء كان الفعل متعديا أو لازما على التحقيق خلافا للغزالي القائل بعمومه في المتعدي دون اللازم خلاف الإمام أبي حنيفة رحمه الله في ذلك في حال لا في حقيقة لأنه يقول إن الفعل في سياق النفي ليس صيغة للعوم ولكنه يدل عليه بالالتزام أي لأنه يدل على نفي الحقيقة ونفيها يلزمه نفي جميع أفراده وإيضاح عموم الفعل في سياق النفي أن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين وعن مصدر وزمن ونسبة عند بعض البلاغيين, فالمصدر داخل في معناه إجماعا فالنفي الداخل على الفعل ينفي المصدر الكامن في الفعل فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي ومن العجيب أن أبا حنيفة رحمه الله يوافق الجمهور على أن الفعل في سياق النفي أن أكد بمصدر نحو لا شربت تربا مثلا أفاد العموم مع أنه لا يوافق على إفادة النكرة في سياق النفي للعموم. وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله يكلم الكفار يوم القيامة كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} الآية.
والجواب عن هذا بأمرين:
الأول-وهو الحق: أن الكلام الذي نفى الله أنه يكلمهم به هو الكلام الذي فيه خير, وأما التوبيخ والتقريع والإهانة فكلام الله لهم به من جنس عذابه لهم ولم يقصد بالنفي في قوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ} .
الثاني: أنه لا يكلمهم أصلا وإنما تكلمهم الملائكة بإذنه وأمره.(2/89)
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} هذه الآية تدل بظاهرها على أن القصاص أمر حتم لابد منه بدليل قوله تعالى كتب عليكم لأن معناه فرض وحتم عليكم مع أنه تعالى ذكر أيضا أن القصاص ليس بمتعين لأن ولي الدم بالخيار في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية. والجواب ظاهر وهو أن فرض القصاص إلزامه فيما إذا لم يعف أولياء الدم أو بعضهم, كما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} الآية.
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} . الآية.(2/90)
هذه الآية تعارض آيات المواريث بضميمة بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأن المقصود منها إبطال الوصية للوارثين منهم وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" والجواب ظاهر وهو أن آية الوصية هذه منسوخة بآيات المواريث والحديث المذكور بيان للناسخ وذهب بعض العلماء إلى أنها محكمة لا منسوخة وانتصر لهذا القول ابن حزم غاية الانتصار وعلى القول بأنها محكمة فهي من العام المخصوص فالوالدان والأقربون الذين يرثون والحديث وأما الوالدان اللذان لا ميراث لهما كالرقيقين, والأقارب الذين لا يرثون فتجب لهم الوصية على هذا القول ولكن مذهب الجمهور خلافة وحكى العبادي في الآيات البينات الإجماع على أنها منسوخة مع أن جماعة من العلماء قالوا بعدم النسخ قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن النسخ واقع فيها يقينا في البعض لأن الوصية للوالدين الوارثين والأقارب الوارثين رفع حكمها بعد تقرره إجماعا وذلك نسخ في البعض لا تخصيص قصر العام على بعض أفراده لدليل, أما رفع حكم معين بعد تقرره فهو نسخ لا تخصيص كما هو ظاهر, وقد تقرر في علم الأصول إن التخصيص بعد العمل بالعام نسخ وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
نسخ والغير مخصصا جلى
وإن أتى ما خص بعد العمل
والله تعالى أعلم..(2/91)
عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر
للشيخ عبد المحسن العباد المدرس في الجامعة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نحمد الله على نعمه ونسأله المزيد من فضله وكرمه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعملنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وقال مخاطبا له: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله إلى الناس كافة بين يدي الساعة بشير ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أتم الله به الدين خبرا وأمرا، فأحكامه عدل وأخباره صدق، لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. .
أخبر أمته عن الأمم الماضية بأخبار لا بد في الإيمان من التصديق بها وإنها وقعت وفق خبره صلى الله عليه وسلم وبذلك كانوا شهداء على الناس كما أخبر عن أمور مستقبلة لا بد من التصديق بها واعتقاد أنها ستقع على وفق ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وما من شيء يقرب إلى الله إلا وقد دل الأمة عليه ورغبها فيه، وما من شر إلا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى آله وأصحابه الذين شرفهم الله بصحبته وإكرام أبصارهم في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته وأتم عليهم النعمة بأن جعلهم حملة سنته وعلى من حذا حذوهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.(2/92)
أما بعد: فلما كان من بين الأمور المستقبلة التي تجرى في آخر الزمان عند نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء خروج رجل من أهل بيت النبوة من ولد الحسن بي علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوافق اسمه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه ويقال له المهدي يتولى أمرة المسلمين ويصلي عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم خلفه وذلك لدلالة الأحاديث الكثيرة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تلقتها الأمة بالقبول واعتقدت موجبها إلا من شذ رأيت أن يكون الكلام حول هذا الأمر موضوع محاضرتي وذلك لأمرين:
الأول:- أن الأحاديث الواردة في المهدي لم ترد في الصحيحين على وجه التفصيل بل جاءت مجملة، وقد وردت في غيرهما مفسرة لما فيهما فقد يظن ظان أن ذلك يقلل من شأنها وذلك خطأ واضح فالصحيح بل والحسن في غير الصحيحين مقبول معتمد عند أهل الحديث.(2/93)
الثاني:- أن بعض الكتاب في هذا العصر أقدم على الطعن في الأحاديث الواردة في المهدي بغير علم بل بجهل أو بالتقليد لأحد لم يكن من أهل العناية بالحديث وقد اطلعت على تعليق لعبد الرحمن محمد عثمان على كتاب تحفة الأحوذي الذي طبع أخيرا في مصر قال في الجزء السادس في باب ما جاء في الخلفاء، قال في تعليقه: "يرى الكثيرون من العلماء أن كل ما ورد من أحاديث عن المهدي إنما هي موضع شك وأنها لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إنها من وضع الشيعة"، انتهى. وقال معلقا بشأن المهدي في باب ما جاء في تقارب الزمن وقصر الأمل في الجزء المذكور: "ويرى الكثيرون من العلماء الثقاة الأثبات أن ما ورد من أحاديث خاصة بالمهدي ليست إلا من وضع الباطنية والشيعة وأضرابهم وأنها لا تصح نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم"، انتهى بل لقد تجرأ بعضهم إلى ما هو أكثر من ذلك فنجد محي الدين عبد الحميد يقول في تعليقه على الحاوي للفتاوى للسيوطي، يقول في آخر جزء في العرف الوردي في أخبار المهدي ص 166من الجزء الثاني: "يرى بعض الباحثين أن كل ما ورد عن المهدي وعن الدجال من الإسرائيليات"، انتهى. وأخطر من ذلك وأطم تعليق أبو عيبة رئيس بعثة الأزهر في لبنان في العام الماضي على كتاب النهاية لابن كثير بما معناه أن ما جاء من الأحاديث في شأن المهدي ونزول عيسى بن مريم والدجال إنما هو رمز لانتصار الحق على الباطل.
لهذين الأمرين ولكون الواجب على كل مسلم ناصح لنفسه أن لا يتردد في تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به رأيت أن يكون الكلام حول هذا الأمر موضوع محاضرتي كما قلت وقد جعلت عنوانها عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر. .
ولكي تكون أيها المستمع على علم مقدما بعناصر المحاضرة أسوقها لك فيما يلي:
الأول:- ذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/94)
الثاني:- ذكر أسماء الأئمة الذين خرجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي في كتبهم.
الثالث:- ذكر الذين أفردوا مسألة المهدي بالتأليف من العلماء.
الرابع:- ذكر الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي وحكاية كلامهم في ذلك.
الخامس:- ذكر بعض ما ورد في الصحيحين من الأحاديث التي لها تعلق بشأن المهدي.
السادس:- ذكر بعض الأحاديث في شأن المهدي الواردة في غير الصحيحين مع الكلام عن أسانيد بعضها.
السابع:- ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي واعتقدوا موجبها وحكاية كلامهم في ذلك.
الثامن:- ذكر من وقفت عليه ممن حكى عنه إنكار أحاديث المهدي أو التردد فيها مع مناقشة كلامه باختصار.
التاسع:- ذكر بعض ما يظن تعارضه مع الأحاديث الواردة في المهدي والجواب عن ذلك.
العاشر:- كلمة ختامية.
اسماء الصحابة الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث المهدي:
جملة ما وقفت عليه من أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون هم:-
1- عثمان بن عفان رضي الله عنه.
2- علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
3- طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
4- عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
5- الحسين بن علي رضي الله عنه.
6- أم سلمة رضي الله عنها.
7- أم حبيبة رضي الله عنها.
8- عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
9- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
10- عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
11- عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
12- أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
13- جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
14- أبو هريرة رضي الله عنه.
15- أنس بن مالك رضي الله عنه.
16- عمار بن ياسر رضي الله عنه.
17- عوف بن مالك رضي الله عنه.
18- ثوبان مولى رسول الله رضي الله عنه.
19- قرة بن إياس رضي الله عنه.(2/95)
20- علي الهلالي رضي الله عنه.
21- حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
22- عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه.
23- عوف بن مالك رضي الله عنه.
24- عمران بن حصين رضي الله عنه.
25- أبو الطفيل رضي الله عنه.
26- جابر الصدفي رضي الله عنه.
اسماء الأئمة الذين خرجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي في كتبهم:
وأحاديث المهدي خرجها جماعة كثيرون من الأئمة في الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد وغيرها قد بلغ عدد الذين وقفت على كتبهم أو اطلعت على ذكر تخريجهم لها ثمانية وثلاثين هم:
1- أبو داود في سننه.
2- الترمذي في جامعه.
3- ابن ماجه في سننه.
4- النسائي ذكره السفاريني في لوامع الأنوار البهية والمناوي في فيض القدير وما رأيته في الصغرى ولعله في الكبرى.
5- أحمد في مسنده.
6- ابن حبان في صحيحه.
7- الحاكم في المستدرك.
8- أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف.
9- نعيم بن حماد في كتاب الفتن.
10- الحافظ أبو نعيم في كتاب المهدي وفي الحلية.
11- الطبراني في الكبير والأوسط والصغير.
12- الدارقطني في الأفراد.
13- البارودي في معرفة الصحابة.
14- أبو يعلى الموصلي في مسنده.
15- البزار في مسنده.
16-الحارث بن أبي أسامة في مسنده.
17- الخطيب في تلخيص المتشابه وفي المتفق والمفترق.
18- ابن عساكر في تاريخه.
19- ابن منده في تاريخ أصبهان.
20- أبو الحسن الحربي في الأول من الحربيات.
21- تمام الرازي في فوائده.
22- ابن جرير في تهذيب الآثار.
23- أبو بكر بن المقري في معجمه.
24- أبو عمرو الداني في سننه.
25- أبو غنم الكوفي في كتاب الفتن.
26- الديلمي في مسند الفردوس.
27- أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار.
28-أبو الحسين بن المناوي في كتاب الملاحم.(2/96)
29- البيهقي في دلائل النبوة.
30- أبو عمرو المقري في سننه.
31- ابن الجوزي في تاريخه.
32- يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده.
33-الروياني في مسنده.
34- ابن سعد في الطبقات.
35- ابن خزيمة.
36- الحسن بن سفيان.
37- عمر بن شبه.
38- أبو عوانة.
وهؤلاء الأربعة ذكر السيوطي في العرف الوردي كونهم ممن خرج أحاديث المهدي دون عزو التخريج إلى كتاب معين.
ذكر لبعض الذين ألفوا كتبا في شأن المهدي:
وكما اعتنى علماء هذه الأمة بجميع الأحاديث الواردة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم تأليفا وشرحا كان للأحاديث المتعلقة بأمر المهدي قسطها الكبير من هذه العناية فمنهم من أدرجها ضمن المؤلفات العامة كما في السنن والمسانيد وغيرها ومنهم من أفردها بالتأليف. . كل ذلك حصل منهم-رحمهم الله وجزاهم خيرا- حماية لهذا الدين وقياما بما يجب من النصح للمسلمين فمن الذين أفردوها بالتأليف:
1- أبو بكر ابن خيثمة زهير بن حرب قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه ولقد توغل أبو بكر ابن أبي خيثمة على ما نقل السهيلي عنه في جمعة للأحاديث الواردة في المهدي:
2- ومنهم الحافظ أبو نعيم ذكره السيوطي في الجامع الصغير وذكره في العرف الوردي بل قد لخص السيوطي الأحاديث التي جمعها أبو نعيم في المهدي وجعلها ضمن كتابه العرف الوردي وزاد عليها فيه أحاديث وآثارا كثيره جدا.
3- ومن الذين أفردوا أحاديث المهدي بالتأليف السيوطي فقد جمع فيه جزاء سماه العرف الوردي في أخبار المهدي وهو مطبوع ضمن كتابه الحاوى للفتاوى في الجزء الثاني منه قال في أوله "الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى هذا جزء جمعت فيه الأحاديث والآثار الواردة في المهدي لخصت فيه الأربعين التي جمعها الحافظ أبو نعيم وزدت عليه ما فاته ورمزت عليه صورة"ك".(2/97)
والأحاديث والآثار التي أوردها السيوطي في شأن المهدي تزيد على المائتين تلك الأحاديث والآثار فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع وإذا أورد الحديث الواحد أضافه إلى كل من الذين خرجوه فيقول مثلا في الحديث الواحد أخرج أبو داوود وابن ماجة والطبراني والحاكم عن أم سلمة سمعت رسول الله سلى الله عليه وسلم يقول: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة".
4- ومنهم الحافظ عماد الدين ابن كثير قال رحمه الله في كتابه الفتن والملاحم "وقد أفردت في ذكر المهدي جزءا على حدة ولله الحمد والمنة".
5- ومنهم الفقيه بن حجر المكي وقد سمى مؤلفه "القول المختصر في علامات المهدي المنتظر"ذكر ذلك البرزنجي في الإشاعة ونقل منه وكذلك السفاريني في لوامع الأنوار البهية وغيرهما.
6- ومنهم علي المتقي الهندي صاحب كنز العمال فقد ألف في شأن المهدي رسالة ذكرها البرزنجي في الإشاعة وذكر ذلك قبله أيضا ملا علي قاري الحنفي في المرقاة شرح المشكاة، وذكره شارح راموز الحديث.
7- ومن الذين ألفوا في شأن المهدي ملا علي قاري وسمى مؤلفه "المشرب الوردي في مذهب المهدي"ذكره في الإشاعة ونقل جملة كبيرة منه.
8- ومنهم مرعي بن يوسف الحنبلي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين بعد الألف، وسمى مؤلفه "فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر"ذكره السفاريني في لوامع الأنوار البهية وذكره صديق حسن في الإذاعة وغيرها.
9- ومن الذين ألفوا في شأن المهدي بالإضافة إلى مسألتي نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وخروج المسيح الدجال القاضي محمد بن علي الشوكاني وسمى مؤلفه "التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح"ذكر ذلك صديق حسن في الإذاعة ونقل جملة منه والشوكاني ممن ألف بشأنه، وحكى تواتر الأحاديث الواردة فيه.
10- ومنهم الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب سبل السلام المتوفى سنة 1182هـ قال صديق حسن في الإذاعة:(2/98)
وقد جمع السيد العلامة بدر الملة المنير محمد بن اسماعيل الأمير اليماني الأحاديث القاضية بخروج المهدي وأنه من آل محمد صلى الله عليه وسلم وأنه يظهر في آخر الزمان ثم قال: "ولم يأت تعيين زمنه إلا أنه يخرج قبل خروج الدجال"انتهى.
ذكر بعض الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي ونقل كلامهم في ذلك
1- من الذين حكوا على أحاديث المهدي بأنها متواترة الحافظ أبو الحسن محمد ابن الحسين الآبري السجزي صاحب كتاب مناقب الشافعي المتوفى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من الهجرة قال رحمه الله في محمد بن خالد الجندي راوي حديث "لا مهدي إلا عيسى ابن مريم"محمد بن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأن عيسى عليه السلام يخرج فيساعده على قتل الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه"نقل ذلك عنه ابن القيم في كتابه المنار المنيف وسكت عليه ونقل عنه أيضا الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة محمد بن خالد الجندي وسكت عليه ونقل عنه ذلك وسكت عليه أيضا في فتح الباري في باب نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ونقل ذلك عنه أيضا السيوطي في آخر جزء العرف الوردي في أخبار المهدي وسكت عليه ونقل ذلك عنه مرعي بن يوسف في كتابه "فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر"كما ذكر ذلك صديق حسن في كتابه "الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة"0(2/99)
2- ومنهم محمد البر زنجي المتوفى سنة ثلاث بعد المائة والألف في كتابه الإشاعة لأشراط الساعة قال: "الباب الثلث في الأشراط العظام والأمارات القريبة التي تعقبها الساعة وهي أيضا كثيرة فمنها المهدي وهو أولها واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر-إلى أن قال: ثم الذي في الروايات الكثيرة الصحيحة الشهيرة أنه من ولد فاطمة-إلى أن قال: تنبيه قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة بلغت حد التواتر المعنوي فلا معنى لإنكارها وقال في ختام كتابه المذكور- بعد الإشارة إلى بعض أمور تجري في آخر الزمان-:وغاية ماثبت بالأخبار الصحيحة الكثيرة الشهيرة التي بلغت التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي منها بل أولها خروج المهدي وأنه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما".
3- ومن الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي الشيخ محمد السفاريني المتوفى سنة ثمان وثمانين بعد المائة والألف، في كتابه "لوامع الأنوار البهية"قال: "وقد كثرت بخروجه-يعني المهدي-الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم -ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث في خروج المهدي وأسماء بعض الصحابة الذين رووها- ثم قال: وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعه العلم القطعي فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة".(2/100)
4- ومنهم القاضي محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة خمسين بعد المائتين والألف وهو صاحب التفسير المشهور ومؤلف نيل الأوطار قال في كتابه "التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح""والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثا فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف المتواتر على ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة جدا لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك"، انتهى. وقال في مسألة نزول المسيح صلى الله عليه وسلم: "فتقرر أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة والأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام متواترة"0
5- ومنهم الشيخ صديق حسن القنوجي المتوفى سنة سبع بعد الثلاثمائة والألف قال في كتابه الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة "والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حد التواتر المعنوي وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد-إلى إن قال-لاشك أن المهدي يخرج آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام لما تواتر من الأخبار في الباب واتفق عليه جمهور الأمة خلفا عن سلف إلا من لا يعتد بخلافه-إلى أن قال-فلا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود المنتظر المدلول عليه بالأدلة بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حد التواتر".(2/101)
6- وممن حكى تواتر أحاديث المهدي من المتأخرين الشيخ محمد بن جعفر الكتاني المتوفى سنة خمس وأربعين بعد الثلاثمائة والألف قال في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر""وقد ذكروا أن نزول سيدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ثم قال: والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة وكذا الواردة في الدجال وفي نزول سيدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام".
7- ذكر بعض ما ورد في الصحيحين من الأحاديث مما له تعلق بشأن المهدي.
1- روى البخاري في صحيحه في باب نزول عيسى بن مريم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم".
2- وروى مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثل حديثه عن البخاري، ورواه أيضا عن أبي هريرة بلفظ: "كيف أنتم إذا نزل بن مريم فيكم فأمكم" ورواه أيضا عن أبي هريرة بلفظ: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم فأمكم منكم"وفيه تفسير ابن أبي ذئب راوي الحديث لقوله "وأمكم منكم" بقوله فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
3- وروى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الامة".
فهذه الأحاديث التي وردت في الصحيحين تدل على أمرين:(2/102)
أحدهما أنه عند نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء يكون المتولي لأمرة المسلمين رجل منهم، والثاني أن حضور أميرهم للصلاة وصلاته بالمسلمين وطلبه من عيسى عليه الصلاة والسلام عند نزوله أن يتقدم ليصلي لهم يدل على صلاح في هذا الأمير وهدى، وهي وإن لم يكن فيها التصريح بلفظ المهدي إلا أنها تدل على صفات رجل صالح يؤم المسلمين في ذلك الوقت وقد جاءت الأحاديث في السنن والمسانيد وغيرها مفسرة لهذه الأحاديث التي في الصحيحين ودالة على أن ذلك الرجل الصالح يسمى محمد ابن عبد الله من ولد الحسن بن علي ويقال له المهدي والسنة يفسر بعضها بعضا ومن الأحاديث الدالة على ذلك الحديث الذي رواه الحارث ابن أبي أسامة الذي في مسنده بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا فيقول: لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة" وهذا الحديث قال فيه ابن القيم في المنار المنيف إسناده جيد. انتهى. وهو دال على أن ذلك الأمير المذكور في صحيح مسلم الذي طلب من عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أن يتقدم للصلاة يقال له المهدي، وقد أورد الشيخ صديق حسن في كتابه الإذاعة جملة كبيرة من أحاديث المهدي جعل آخرها حديث جابر المذكور عند مسلم ثم قال عقبه: "وليس فيه ذكر المهدي ولكن لا محمل له ولأمثاله من الأحاديث إلا المهدي المنتظر كما دلت على ذلك الأخبار المتقدمة والآثار الكثيرة، ولما كان المقام لا يتسع لإيراد الكثير من الأحاديث الواردة في غير الصحيحين في شأن المهدي والكلام عليها رأيت الاقتصار هنا على إيراد بعضها مع الكلام على بعض أسانيدها:
ذكر بعض الأحاديث في المهدي الواردة في غير الصحيحين(2/103)
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبشركم بالمهدي يبعث على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض يقسم المال صحاحا"قال له رجل ما صحاحا قال "بالسوية ويملأ الله قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم غناء ويسعهم عدله" إلى آخر الحديث قال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه أحمد بأسانيد أبو يعلى باختصار كثير ورجالهما ثقات.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ذكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم المهدي فقال: "إن قصر فسبع وإلا فثمان وإلا فتسع وليملأن الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلما" قال الهيثمي رواه البزار ورجاله ثقات وفي بعضهم بعض الضعف.
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فثمان وإلا فتسع تنعم أمتي فيها نعمة لم ينعموا مثلها يرسل السماء عليهم مدرارا ولا تدخر الأرض شيئا من النبات والمال كدوس يقوم الرجل فيقول يا مهدي أعطني فيقول خذ" قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
4- عقد أبو داود في سننه كتابا قال في أوله: أول كتاب المهدي وقال في آخره آخر كتاب المهدي جعل تحته بابا واحدا أورد فيه ثلاثة عشر حديثا وصدر هذا الكتاب بحديث جابر ابن سمرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم إثنا عشر خليفة" الحديث قال السيوطي في آخر جزء العرف الوردي في أخبار المهدي إن في ذلك إشارة إلى ما قاله العلماء أن المهدي أحد الاثنى عشر وقد ذكر ذلك أيضا ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} في سورة المائدة كما يجيء ذكر كلامه، ويرى جماعة من العلماء ومنهم شارح الطحاوية أن الاثنى عشر هم الخلفاء الراشدون وثمانية انتهى.(2/104)
5- ما رواه أبو داود في سننه من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي زرعة عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا". وهذا الحديث سكت عليه أبو داود والمنذري وكذا ابن القيم في التهذيب السنن وقد أشار إلى صحته في المنار المنيف وصححه ابن تيميه في منهاج السنة النبوية وقد أورده في مصابيح السنة في فصل الحسان وقال عنه الألباني في تخريج أحاديث المشكاة "وإسناده حسن"، انتهى.
والحديث مداره على عاصم بن أبي النجود وقد لخص في عون المعبود شرح مسند سنن أبي داود الأقوال التي قيلت فيه فقال: "وعاصم هذا هو ابن أبي النجود واسم أبي النجود بهدلة أحد القراء السبعة"قال: "أحمد بن حنبل كان رجلا صالحا وأنا اختار قراءته"وقال أحمد وأبو زرعة أيضا: "ثقة"وقال أبو حاتم: "محله عندي محل الصدق صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ"وقال أبو جعفر العقيلي: "لم يكن فيه إلا سوء الحفظ"وقال الدارقطني: "في حفظه شيء"وأخرج له البخاري في صحيحه مقرونا وأخرج له مسلم قال الذهبي: "ثبت في القراءة وهو في الحديث دون التثبت صدوق يهم وهو حسن الحديث"والحاصل أن عاصم بن بهدلة ثقة على رأي أحمد وأبي زرعة وحسن الحديث صالح الاحتجاج على رأي غيرهما ولم يكن فيه إلا سوء الحفظ فرد الحديث بعاصم ليس من دأب المنصفين على أن الحديث قد جاء من غير طريق عاصم أيضا فارتفعت عن عاصم مظنة الوهم والله أعلم. انتهى.(2/105)
والحديث ذكره ابن خلدون في مقدمة تاريخه وقدح فيه من جهة عاصم ابن أبي النجود ملاحظا ما قيل فيه من سوء الحفظ وقال إن الجرح مقدم على التعديل وقد أنكر عليه ذلك، قال الشيخ أحمد شاكر في تخريج أحاديث المسند: "إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين إن الجرح مقدم على التعديل ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئا مما قال وقال أيضا إن عاصم ابن أبي النجود من أئمة القراء المعروفين ثقة في الحديث أخطأ في بعض حديثه ولم يغلب خطؤه على روايته حتى ترد"قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: "أخبرنا عبك الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي قال سألت أبي عن عاصم ابن بهدلة فقال ثقة رجل صالح خير ثقة والأعمش أحفظ منه وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن عاصم بن بهدلة فقال هو صالح هو أكثر حديثا من أبي قيس الأودي وأشهر منه وأحب إلي من أبي قيس وقال سئل إلي عن عاصم بن أبي النجود وعبد الملك بن عمير فقال قدم عاصما على عبد الملك عاصم أقل اختلافاً عندي من عبد الملك، وقال سألت أبا زرعة عن عاصم بن بهدلة فقال ثقة قال فذكرته لأبي فقال ليس محله هذا أن يقال ثقة وقد تكلم فيه ابن علية فقال كأن كل من كان اسمه عاصما سيء الحفظ"قال الشيخ أحمد شاكر: "وهذا أكثر ما قيل فيه من الجرح، أفمثل هذا يطرح حديثه ويجعل سبيلا لإنكار شيء ثبت بالسنة الصحيحة من طرق متعددة من حديث كثير من الصحابة حتى لا يكاد يشك في صحته أحد كما ورد في روايته من عدل وصدق لهجة ولارتفاع احتمال الخطأ فمن كان في حفظ شيء بما ثبت عن غيره ممن هو مثله في العدل والصدق وقد يكون أحفظ منه ما هكذا تعلل الأحاديث"انتهى.(2/106)
6- وقال أبو داود في سننه حدثنا سهل بن تمام بن بديع حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ويملك سبع سنين"، قال ابن القيم في المنار المنيف رواه أبو داود بإسناد جيد وأورده في مصابيح السنة في فصل الحسان وقال الألباني في تخريج أحاديث المشكاة وإسناده حسن ورمز لصحته السيوطي في الجامع الصغير.
7- وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي اسماء الرحبي عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلا لم يقتله قوم-ثم ذكر شيئا لا أحفظه- فقال فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثلج فإنه خليفة الله المهدي"، قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجه: في الزوائد: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين"، انتهى. وقد أورد هذا الحديث بسنده الحافظ ابن كثير في كتاب الفتن والملاحم وقال: "وهذا إسناد قوي صحيح، ثم أورد حديثا عن الترمذي فيه ذكر الرايات السود أيضا ثم قال وهذه الرايات ليست هي الرايات التي أقبل بها أبو مسلم الخرساني فاستلب بها دولة بني أمية في سنة اثنتين وثلاثين ومائة بل رايات سود أخر تأتي بصحبة المهدي وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني رضي الله عنه"انتهى.(2/107)
8- قال أبو داود في سننه: حدثنا حمد بن إبراهيم حدثنا عبد الله جعفر الرقي حديثا أبو المليح الحسن بن عمر عن زياد بن بيان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة. ." وأخرجه ابن ماجه عن سعيد ابن المسيب قال كنا عند أم سلمة فتذاكرنا المهدي فقالت سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: "المهدي من ولد فاطمة" وقد أورد هذا الحديث السيوطي في الجامع الصغير ورمز لصحته وأورده في مصابيح السنن في فصل الحسان وقال الألباني في تخريج أحاديث المشكاة وإسناده جيد.
9-قال ابن القيم في المنار المنيف وقال الحارث بن أبي أسامة في مسنده: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم حدثنا إبراهيم بن عقيل عن أبيه عن وهب بن منبه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا فيقول لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة" قال ابن القيم وهذا إسناد جيد، انتهى.
وبالرجوع إلى ما قاله أهل هذا الفن في سند الحديث وجدت أن السند متصل من أوله إلى آخره لا نقطاع فيه أما ما قيل عن كل راو من رواته:(2/108)
فإسماعيل بن عبد الكريم قال عنه الحافظ في التقريب: "إسماعيل بن عبد الكريم ابن معقل بن منبه صدوق من التسعة"وذكر في تهذيب التهذيب أنه روى عن ابن عمه إبراهيم بن عقيل وعن غير إبراهيم بن عقيل هذا هو الذي روى عنه إسماعيل هذا الحديث في المهدي وذكر أنه روى عن إسماعيل المذكور جماعة منهم أحمد بن حنبل والحارث ابن أبي أسامة وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب أيضا قال النسائي: "ليس به بأس"وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن معين: "ثقة رجل صدق"وقال الحافظ ابن حجر: "وأما قول ابن القطان الفاسي لا يعرف فمردود عليه" وقال مسلمة بن قاسم: "جائز الحديث ولم يزد في خلاصة تهذيب الكمال عن قول ابن معين فيه ثقة صدوق وقال قال ابن سعد توفي سنة عشر ومائتين"انتهى. وهو من رجال أبي داود في سننه وابن ماجه في التفسير كما رمز لذلك الحافظ في تقريب التهذيب.
والثاني من رجال سند الحديث إبراهيم بن عقيل بن معقل الصنعاني ابن عم إسماعيل المتقدم ذكره قال الحافظ في التقريب: "صدوق من الثامنة"ورمز لكونه من رجال أبي داود وقال في تهذيب التهذيب: "روى عن أبيه وعنه أحمد بن حنبل وابن عمه إسماعيل بن عبد الكريم وغيرهم قال ابن معين لم يكن به بأس وقال المعجلي ثقة وقال الحافظ قلت وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه وكذا ابن حبان والحاكم وذكر ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين قال إبراهيم ثقة وأبوه ثقة وقال ابن أبيه وهب بن منبه"انتهى.(2/109)
الثالث من رجال سند الحديث عقيل بن معقل قال الحافظ في التقريب: "هو ابن أخي وهب بن منبه وقال صدوق من السابعة"ورمز لكونه من رجال أبي داود ذكر في تهذيب التهذيب أنه روى عن عميه همام ووهب وعنه ابنه إبراهيم وأناس آخرون سماهم وذكر أنه وثقة أحمد بن حنبل وابن معين وقال وذكره ابن حبان في الثقات وعلق له البخاري عن جابر في تفسير سورة النساء أثرا في الكهان وقد جاء موصولا من رواية عقيل هذا عن وهب وعنه ابنه إبراهيم وعبد الرزاق قال أحمد ثقة قرأ التوراة والإنجيل"انتهى.
الرابع من رجال سند الحديث وهب بن منبه بن كامل اليماني قال في التقريب: "ثقة من الثالثة"ورمز لكونه من رجال الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في التفسير.
وقال في تهذيب التهذيب روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وابن عمرو ابن شعيب وأبي خلفية البصري وأخيه همام ابن منبه وغيرهم وذكر أنه روى عنه ابناه عبد الله وعبد الرحمن وأبناء أخيه عبد الصمد وعقيل بن معقل بن منبه وقال قال: "عبد الله ابن أحمد بن حنبل عن أبيه كان من أبناء فارس"وقال العجلي: "تابعي ثقة وكان على قضاء صنعاء"وقال أبو زرعة والنسائي: "ثقة"وذكره ابن حبان في الثقات، انتهى. وقال أحمد ابن حنبل "وكان يهتم بشيء من القدر ثم رجع عنه"وقال الحافظ في تهذيب التهذيب ايضا روى له البخارى حديثا واحدا من روايته عن أخيه عن أبي هريرة "ليس أحد أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب ولا أكتب"وقال قلت: "وقال عمرو بن علي الفلاس كان ضعيفا"انتهى. أقول وذكر شارح الطحاوية عن وهب ابن منبه أنه قال: "نظرت في القدر فتحيرت ثم نظرت فيه فتحيرت ووجدت أن أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به"(2/110)
أما الحارث ابن أبي أسامة صاحب المسند فقد ترجم له الذهبي في الميزان وقال فيه: "وكان حافظا عارفا بالحديث عالي الإسناد بالمرة تكلم فيه بلا حجة"، قال الدارقطني: "قد اختلف فيه وهو عندي صدوق"وقال ابن حزم: "ضعيف ولينه بعض البغاددة لكونه يأخذ على الرواية"انتهى. وترجم له الذهبي أيضا في تذكرة الحفاظ وسمى جماعة روى عنهم وجماعة رووا عنه ثم قال: "وثقة إبراهيم الحربي مع علمه بأنه يأخذ الدراهم وأبو حاتم وابن حبان وقال الدارقطني صدوق وأما أخذ الدراهم على الرواية فقد كان فقيرا كثير البنات وقال أبو الفتح الأزدي وأبي حزم ضعيف"انتهى.
"وقال ابن العماد في شذرات الذهب وفيها أي في سنة 282هـ توفي الحافظ أبو محمد الأحرث أبي أسامة التهمي البغدادي صاحب المسند يوم عرفة وله 96سنة سمع عن ابن عاصم وعبد الرحمن بن عطاء وطبقتهما قال الدارقطني صدوق وقيل فيه لين كان لفقره يأخذ على الحديث أجرا"
هؤلاء سند الحديث من أوله إلى جابر رضي الله عنه وهو متصل ولفظ حديث جابر هذا قريب من لفظ حديثه عند مسلم في صحيحه حيث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعال صلى لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة"، فهذا الحديث الذي أورده ابن القيم من مسند الحارث ابن أبي أسامة بالسند الذي قال عنه إنه جيد وقد سمعتم حاصل ما ذكر عن رجاله أقول هذا الحديث فيه وصف الأمير المذكور بأنه المهدي فيكون هذا الحديث وغيره من الأحاديث الكثيرة الدالة على خروج المهدي آخر الزمان مفسرة للمراد بهذا الحديث الذي أورده مسلم وللأحاديث الأخرى التي في معناه عند البخاري ومسلم كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
7- ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي واعتقدوا موجبها وحكاية كلامهم في ذلك.(2/111)
قال الحافظ أبو جعفر العقيلى المتوفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة "إن في المهدي أحاديث جياد"قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة على بن نفيل بن زارع النهدي قلت "ذكره العقيلي في كتابه وقال لا يتابع على حديثة في المهدي ولا يعرف إلا به قال وفي المهدي أحاديث جياد من غير هذا الوجه"انتهى.
ويرى الإمام ابن حبان البستي المتوفى سنة354 أن الأحاديث الواردة في المهدي مخصصة لحديث لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه قال الحافظ بن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن وهو حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم""قال واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما" انتهى.
وقال الخطابي 388هـ رحمه الله في الكلام على حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان وتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة الخ. ." قال "ويكون ذلك في زمن المهدي أو عيسى عليهما الصلاة والسلام أو كليهما"ذكر ذلك ملا علي قاري في المرقاة شرح المشكاة وقال"والأخير هو الأظهر لظهور هذا الأمر في خروج الدجال وهو في زمنهما"وذكر ذلك المبارك فوري صاحب تحفة الاحوذى في الكلام على شرح هذا الحديث.
وقال الإمام البيهقي المتوفى سنة 458هـ بعد كلامه على تضعيف حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" قال والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح البتة إسنادا نقل ذلك عنه الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة محمد بن خالد الجندي راوي حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" ونقله عنه أيضا ابن القيم في المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف.(2/112)
وقد عقد القاضي عياض المتوفى 544 هـ في كتابه الشفاء بابا لمعجزاته صلى الله عليه وسلم يشتمل على ثلاثين فصلا قال في القسم الأول من كتابه المذكور: "الباب الرابع فيما أظهره الله على يديه صلى الله عليه وسلم من المعجزات وشرفه به من الخصائص والكرامات قال في أوائل الكلام في هذا الباب: أمنيتنا أن نثبت في هذا الباب أمهات معجزاته ومشاهير آياته لتدل على عظيم قدره عند ربه وأتينا منها بالمحقق والصحيح الإسناد أكثره مما بلغ القطع أو كاد وأضفنا إليه بعض ما وقع في كتب مشاهير الأئمة ثم قال في الفصل الثالث والعشرين فصل ومن ذلك ما اطلع عليه من الغيوب ومايكون. . قال في أوله: والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره ولا ينزف غمره، أورد في هذا الفصل جملة كبيرة من الأمور المستقبلة التي أخبر بها الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وذكر من بينها خروج المهدي".
وقال الإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي صاحب التفسير المشهور المتوفى سنة 671هـ في كتابه التذكرة في أمور الآخرة بعد ذكر حديث "ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم" "قال إسناده ضعيف والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث فالحكم بها دونه وقال يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم "ولا مهدي إلا عيسى بن مريم" أي لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى قال وعلى هذا تجتمع الأحاديث ويرتفع التعارض، نقل ذلك عنه السيوطي في آخر جزء العرف الوردي في أخبار المهدي"وقال شيخ الإسلام ابن تيميه 728 هـ في كتابه منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية"ج4-211".(2/113)
"فصل وأما الحديث الذي رواه-أي الرافضي الذي ألف كتابه للرد عليه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم- "يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا"وذلك هو المهدي، في الجواب أن الأحاديث التي يحتج بها على الخروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا" ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة وفيه المهدي من عترتي من ولد فاطمة ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه "يملك الأرض سبع سنين" ورواه عن علي رضي الله عنه أنه نظر إلى الحسن وقال إن أبني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض قسطا وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا مهدي إلا عيسى ابن مريم" وهذا الحديث ضعيف وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه، ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد بن خالد الجندي وهو ممن لا يحتج به وليس في مسند الشافعي وقد قيل إن الشافعي لم يسمعه من الجندي وإن يونس لم يسمعه من الشافعي، الثاني أن الاثنى عشرية الذين ادعوا إن هذا مهديهم اسمه محمد بن الحسن والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله ولهذا حذفت طائفة لفظ الأب حتى لا يناقض ما كتبت وطائفة حرفته وقالت جده الحسين وكنيته أبو عبد الله فمعناه محمد ابن أبي عبد الله وجعلت الكنية اسما وممن سلك هذا ابن طلحة(2/114)
في كتابه الذي سماه غاية السول في مناقب الرسول ومن له أدنى نظر يعرف أن هذا تحريف صميم وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يفهم أحد من قوله يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي إلا أن اسم أبيه عبد الله وهل يدل هذا اللفظ على أن جده كنيته أبو عبد الله ثم أي تمييز يحصل له بهذا فكم من ولد الحسين من اسمه محمد وكل هؤلاء يقال في أجدادهم محمد بن أبي عبد الله كما قيل في هذا وكيف يعدل من يريد البيان إلى من اسمه محمد بن الحسين فيقول اسمه محمد بن عبد الله ويعني بذلك أن جده أبو عبد الله وهذا كان تعريفه بأنه محمد بن الحسن أو ابن أبي الحسن لأن جده على كنيته أبو الحسن أحسن من هذا وأبين لمن يريد الهدى والبيان وأيضا فإن المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين كما تقدم لفظ حديث علي رضي الله عنه".
وقد عقد ابن القيم رحمه الله في آخر كتابه المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف فصلا في الكلام على أحاديث المهدي وخروجه والجمع بينها وبين حديث لا مهدي إلا عيسى ابن مريم، قال فيه:(2/115)
"فأما حديث لا مهدي إلا عيسى ابن مريم فرواه ابن ماجه في سننه عن يوسف ابن عبد الأعلى عن الشافعي عن محمد بن خالد الجندي عن إبان بن صاح عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما تفرد به محمد بن خالد قال أبو الحسين محمد بن الحسين الآبري في كتاب مناقب الشافعي: محمد بن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه، وقال البيهقي تفرد به محمد بن خالد هذا وقد قال الحاكم أبو عبد الله هو مجهول وقد اختلف عليه في إسناده فروي عنه عن إبان ابن أبي عياش عن الحسن مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فرجع الحديث إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول-عن إبان بن أبي عياش-وهو متروك-عن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم-وهو منقطع-والأحاديث على خروج المهدي أصح إسنادا، قال ابن القيم قلت كحديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجل مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال-يعني الترمذي-وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة وقال حسن صحيح انتهى ثم قال ابن القيم وفي الباب عن حذيفة ابن اليمان وأبي أمامة الباهلي وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص وثوبان وأنس بن مالك وجابر وابن عباس وغيرهم ثم أورد عدة أحاديث رواها بنص أهل السنن والمسانيد وغيرها منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف أورده للاستئناس به.(2/116)
ثم قال: وهذه الأحاديث أربعة أقسام صحاح وحسان وغرائب وموضوعة وقد اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال أحدها أنه المسيح ابن مريم-وهو المهدي على الحقيقة-واحتج أصحاب هذا تحديث محمد بن خالد الجندي المتقدم وقد بينا حاله وأنه لا يصح ولو صح لم يكن به حجة لأن عيسى أعظم مهدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الساعة وقد دلت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على نزوله على المنارة البيضاء شرقي دمشق وحكمه بكتاب الله وقتله اليهود والنصارى ووضعه الجزية وإهلاك أهل الملل في زمانه فيصح أن يقال لا مهدي في الحقيقة سواه وإن كان غيره مهديا كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا ما وفى وجه صاحبه كما يصح أن يقال إنما المهدي عيسى بن مريم يعني المهدي بالكامل المعصوم.
القول الثاني: أنه المهدي الذي ولي من بني العباس وقد انتهى زمانه ثم ذكر حديثين منهما ذكر مجيء الرايات السود من قبل المشرق من جهة خراسان وأشار إلى ضعفهما ثم قال مشيرا إلى أولها وثانيها وهذا والذي قبله لو صح لم يكن فيه دليل على المهدي الذي تولى من بني العباس هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان بل هو مهدي من جملة المهديين وعمر بن عبد العزيز كان مهديا بل هو أولى باسم المهدي منه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وقد ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أن عمر بن عبد العزيز منهم ولا ريب أنه كان راشدا مهديا ولكن ليس بالمهدي الذي يخرج في آخر الزمان فالمهدي في جانب الخير والرشد كالدجال في جانب الشر والضلال وكما أن بين يدي الدجال الأكبر صاحب الخوارق دجالون كذابون فكذلك بين يدي المهدي الأكبر مهديون راشدون.(2/117)
القول الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من ولد الحسن ابن علي يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورا وظلما فيملأها قسطا وعدلا وأكثر الأحاديث على هذا تدل وفي كونه من ولد الحسن سر لطيف وهو أن الحسن رضي الله عنه ترك الخلافة لله فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة الحق المتضمن للعدل الذي يملأ الأرض وهذه سنة الله في عباده أنه من ترك شيئا لأجله أعطاه الله وأعطى ذريته أفضل منه وهذا بخلاف الحسين رضي الله عنه فإنه حرص عليها وقاتل عليها فلم يظفر بها والله أعلم ثم أورد بعض الأحاديث في خروج المهدي ثم قال وأما الرافضة الإمامية فلهم قول رابع وهو أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن الحاضر في الأمصار الغائب عن الأبصار الذي يورث العصا ويختم الغضا دخل سرداب سامرا طفلا صغيرا من أكثر من خمسمائة سنة-بالنسبة لزمان ابن القيم المتوفى عام752هـ-فلم تره بعد ذلك عين ولم يحس فيه بخبر ولا أمر وهم ينتظرونه كل يوم يقفون بالخيل على باب السرداب ويصيحون به أن يخرج إليهم أخرج يا مولانا، ثم يرجعون بالخيبة والحرمان فهذا دأبهم ودأبه ولقد أحسن من قال:
ما آن للسرداب أن يلد الذي
كلمتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء فإنكم
كلمتم العنقاء والغيلانا
ولقد أصبح هؤلاء عارا على بني آدم وضحكة ليسخر منهم كل عاقل"انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.(2/118)
وقال ابن القيم أيضا في كتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: "ومن تلاعبه-يعني الشيطان بهم-يعني اليهود-أنهم ينتظرون قائما من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الظلالة الدجال فهم أكثر اتباعه وإلا فمسيح الهدى عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يقتلهم ولا يبقي منهم أحدا ثم قال والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء، لكسر الصليب وقتل الخنزير وقتل أعدائه من اليهود وعباده من النصارى وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة يملا الأرض عدلا كما ملئت جورا" انتهى.
وقال أبو الحسن السمهودي المتوفى سنة 911هـ "ويتحصل مما ثبت في الأخبار عنه-أي المهدي- أنه من ولد فاطمة وفي أبي داود أنه من ولد الحسن والسر فيه ترك الحسن الخلافة لله شفقة على الأمة فجعل القائم بالخلافة-الحق-عند شدة الحاجة وامتلاء الأرض ظلما-من ولده، وهذه سنة الله في عباده أنه يعطي لمن ترك شيئا من أجله أفضل مما ترك أو ذريته وقد بالغ الحسن في ترك الخلافة ونهى أخاه عنها وتذكر ذلك ليلة مقتله فترحم على أخيه وما روي من كونه من ولد الحسين فواه جدا"انتهى. بواسطة نقل المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير للسيوطي.
وقال ابن حجر المكي المتوفى سنة 974هـ في كتابه القول المختصر في علامات المهدي المنتظر، "الذي يتعين اعتقاده ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجود المهدي المنتظر الذي يخرج الدجال وعيسى في زمانه ويصلي عيسى خلفه وأنه المراد حيث أطلق المهدي"انتهى. بواسطة نقل البرزنجي في الإشاعة لأشراط الساعة.(2/119)
وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير رحمه الله في كتاب الفتن والملاحم "فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان وهو أحد الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين وليس هو بالمنتظر الذي تزعم الرافضة وترتجي ظهوره من سرداب سامراء فإن ذلك مالا حقيقة له ولا عين ولا أثر ويزعمون أنه محمد بن الحسن العسكري وأنه دخل السرداب وعمره خمس سنين، وأما ما سنذكره فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يكون في آخر الدهر وأظن ظهوره يكون قبل نزول عيسى بن مريم كما دلت على ذلك الأحاديث ثم ساق عدة أحاديث من السنن وغيرها منها بعض أحاديث الرايات السود وحديث علي رضي الله عنه في ابنه الحسن وأنه يخرج من صلبه رجل يسمى باسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ففي هذا السياق إشارة إلى ملك بني العباس كما تقدم التنبيه على ذكر ذلك عند ابتداء ذكر ولايتهم في سنة اثنين وثلاثين ومائة وفيه دلالة على أنه يكونها لمهدي بعد دولة بني العباس وأنه يكون من أهل البيت من ذرية فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد الحسن لا الحسين كما تقدم النص على ذلك في الحديث المروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإنه أعلم ثم قال وقال ابن ماجه حدثنا محمد بن يحي وأحمد بن يوسف قالا حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلا لم يقتله أحدا ثم ذكر شيئا لا أحفظه فقال فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثلج فإنه خليفة الله المهدي" تفرد به ابن ماجه وهذا إسناد قوي صحيح والمراد به بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة يقتتل عنده ليأخذوه ثلاثة من أولاد الخلفاء حتى يكون آخر الزمان فيخرج المهدي ويكون ظهوره من بلاد المشرق لا من سرداب(2/120)
سامراء كما يزعمه جهلة الرافضة من أنه موجود فيه الآن وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان فإن هذا نوع من الهذيان وقسط كبير من الخذلان شديد من الشيطان إذ لا دليل على ذلك ولا برهان لامن كتاب ولا سنة ولا معقول صحيح ولا استحسان، وقال الترمذي حدثنا قتيبة حدثنا رشيد بن سعد عن يونس عن ابن شهاب الزهري عن قتيبة بن ذؤيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من خراسان رايات سود فلا يردها شيء حتى تنصب بايليا"هذا الحديث غريب وهذه الرايات ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني فاستلب بها دولة بني أمية في سنة اثنين وثلاثين ومائة بل رايات سود أخر تأتي صحبة المهدي وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني رضي الله عنه يصلحه الله في ليلة واحدة أي يتوب عليه ويوفقه ويلهمه ويرشده بعد أن لم يكن كذلك ويؤيده بناس من أهل الشرق ينصرونه ويقيمون سلطانه وتكون راياتهم سودا أيضا وهو زين عليه الوقار لأن راية الرسول صلى الله عليه وسلم سوداء يقال لها العقاب وقد ركزها خالد بن الوليد رضي الله عنه على الثنية التي شرقي دمشق حتى أقبل من العراق فعرفت بها الثنية فهي إلى الآن يقال لها ثنية العقاب.(2/121)
وقد كانت عقابا على الكفار من نصارى الروم ولمن كان معهم وبعدهم إلى يوم الدين ولله الحمد، وكذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح إلى مكة وعلى رأسه المغفر وكان أسود وجاء في الحديث أنه كان متعمما بعمامة سوداء فوق البياض صلوات الله وسلامه عليه، والمقصود أن المهدي الممدوح الموعود بوجوده في آخر الزمان يكون أصل ظهوره وخروجه من ناحية المشرق ويبايع له عند البيت كما دل على ذلك بعض الأحاديث وقد أفردت في ذكر المهدي جزءا على حدة ولله الحمد والمنة، وقال ابن ماجه أيضا حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا محمد بن مروان العقيلي حدثنا عمارة ابن أبي حفصة عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع والا فتسع تنعم فيه أمتي نعمة لم يسمعوا مثلها تؤتي الأرض أكلها ولا تدخر منه شيئا والمال يومئذ كدوس يقوم الرجل فيقول يا مهدي أعطني فيقول خذ".
وقال الترمذي حدثنا محمد جعفر حدثنا شعبة سمعت زيد العمي سمعت الصديق الناجي يحدث عن أبي سعيد الخدري قال خشينا أن يكون بعد نبينا حدث فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن في أمتي المهدي يخرج فيعيش خمسا أو سبعا أو تسعا-زيد الشاك-قال قلنا وما ذاك قال سنين قال يجيء إليه الرجل فيقول يا مهدي أعطني قال فيجيء له في ثوبه ما استطاع أن يحمله"هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو الصديق الناجي اسمه بكر بن عمرو ويقال بكر بن قيس وهذا دليل على أن أكثر مدته تسع وأقلها خمس أو سبع ولعله هو الخليفة الذي يحثي المال حثيا والله أعلم.(2/122)
وفي زمانه تكون الثمار كثيرة والزروع غزيرة والمال وافر والسلطان قاهر والدين قائم والعدو راغم والخير في أيامه دائم ثم أورد حديثين أحدهما عن الإمام محمد الثاني عن ابن ماجه ثم قال فأما الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه حيث قال رحمه الله تعالى حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا محمد ابن إدريس الشافعي حدثني محمد بن خالد الجندي عن إبان بن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الدنيا إلا إدبارا ولا الناس إلا شحا ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ولا المهدي إلا عيسى بن مريم" فإنه حديث مشهور عن ابن خالد الجندي الصنعاني المؤذن شيخ الشافعي وروى عنه غير واحد أيضا وليس هو بمجهول كما زعمه الحاكم بل قد روي عن ابن معين أنه وثقه ولكن من الرواة من حدث به عنه عن إبان بن أبي عياش عن الحسن البصري مرسلا وذكر ذلك شيخنا في التهذيب عن بعضهم أنه رأى الشافعي في المنام وهو يقول كذب علي يونس بن عبد الأعلى ليس هذا من حديثي قلت: يونس بن عبد الأعلى الصدفي من الثقات لا يطعن فيه بمجرد منام، وهذا الحديث فيما يظهر بادي الرأي مخالف للأحاديث التي أوردناها في إثبات مهدي غير عيسى بن مريم أما قبل نزوله كما هو الأظهر والله أعلم، وأما بعده وعند التأمل لا ينافيها بل يكون المراد من ذلك أن المهدي حق المهدي هو عيسى بن مريم ولا ينفي ذلك أن يكون غيره مهديا أيضا والله أعلم"انتهى ما نقلته من كتاب الفتن والملاحم لابن كثير رحمه الله.(2/123)
وقال في تفسيره عند تفسير قوله تعالى في سورة المائدة: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} بعد ذكره الكلام عن هؤلاء النقباء قال: "وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة كان منهم اثنا عشر نقيبا ثلاثة من الأوس وهم أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر ويقال بدله أبو الهيثم ابن التيهان رضي الله عنه وتسعة من الخزرج وهم أمامة أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك بن العجلان والبراء بن معرور وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن حرام والمنذر بن عمر بن حنيش رضي الله عنهم وقد ذكرهم كعب ابن مالك في شعر له كما أورد ابن اسحاق رحمه الله والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.(2/124)
قال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة قال عبد الله ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال: نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل" هذا حديث غريب من هذا الوجه وأصل الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي فسألت أبي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلهم من قريش" وهذا وهذا لفظ مسلم ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحا يقيم الحق ويعدل فيهم ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره فذكر أنه يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامر فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية بل هو من هوس العقول السخفية وتوهم الخيالات الضعيفة وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم وفي التوراة البشارة باسماعيل عليه الصلاة والسلام وأن يقيم من صلبه اثني عشر عظيما وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة وببعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا(2/125)
اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر فيتشيع كثير منهم جهلا وسفها لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى.
وقال الشيخ ملا علي قاري الحسيني المتوفى سنة 1014في شرحه للفقه الأكبر. . للإمام أبي حنيفة عند قول أبي حنيفة رحمه الله، وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام قال: "وفي نسخة قدم طلوع الشمس على البقية وعلى كل تقرير فالواو لمطلق الجمع وإلا فترتيب القضية أن المهدي عليه السلام يظهر أولا في أرض الحرمين ثم يأتي بيت المقدس فيأتي الدجال ويحصره في ذلك الحال فينزل عيسى عليه الصلاة والسلام من المنارة الشرقية في دمشق الشام ويجيء إلى قتال الدجال فيقتله بضربة في الحال فإنه يذوب كالملح عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء فيجتمع عيسى عليه الصلاة والسلام بالمهدي رضي الله عنه وقد أقيمت الصلاة فيشير المهدي لعيسى بالتقدم فيمتنع معللا بأن هذه الصلاة أتيحت لك فأنت أولى بأن تكون الإمام في هذا المقام ويقتدي به ليظهر متابعة لنبينا صلى الله عليه وسلم-إلى أن قال وفي شرح العقائد الأصح أن عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل وإمامته أولى"انتهى قال علي قاري: "ولا ينافي ما قدمناه كما لا يخفى ثم ذكر الأمور الأخرى مرتبة وهي خروج يأجوج ومأجوج وموت المؤمنين وطلوع الشمس من مغربها ورفع القرآن".(2/126)
وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي صاحب فيض القدير شرح الجامع الصغير المتوفى سنة 1032هـ قال في كتابه المذكور "وأخبار المهدي كثيرة شهيرة أفردها غير واحد في التأليف-إلى أن قال-تنبيه: أخبار المهدي لا يعارضها خبر"لا مهدي إلا عيسى ابن مريم"لأن المراد به كما قال القرطبي لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى بن مريم وقال المناوي عند حديث: "لن تهلك أمة أنا في أولها وعيسى بن مريم في آخرها والمهدي في وسطها" أراد بالوسط ما قبل الآخر لأن نزوله عليه السلام لقتل الدجال يكون في زمن المهدي ويصلي عيسى خلفه كما جاءت به الأخبار، وجزم به جمع من الأخيار وذكر عند حديث "منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه" أنه بعد نزوله يجيء فيجد الإمام المهدي يريد الصلاة فيتأخر ليتقدم فيقدمه عيسى عليه الصلاة والسلام ويصلي خلفه قال فأعظم به فضلا وشرفا لهذه الأمة ثم قال ولا ينافي ما ذكر في هذا الحديث ما اقتضاه بعض الآثار من أن عيسى هو الإمام بالمهدي وجزم به السعد التفتازاني وعلله بأفضليته لإمكان الجمع بأن عيسى يقتدي بالمهدي أولا ليظهر أنه نزل تابعا لنبينا حاكما بشرعه ثم بعد ذلك يقتدي المهدي به على أصل القاعدة من اقتداء المفضول بالفاضل"انتهى وقال الشيخ محمد السفاريني في كتابه: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية الذي شرح فيه نظمه في العقيدة المسمى "الدرة المعنية في عقد الفرقة المرضية":
وما أتى بالنص من أشراط
فكله حق بلا شطاط
منها الإمام الخاتم النصيح
محمد المهدي والمسيح(2/127)
منها أي من أشراط الساعة التي وردت بها الأخبار وتواترت في مضمونها الآثار أي من العلامات العظمى وهي أولها أن يظهر الإمام المقتدى بأقواله وأفعاله الخاتم للأئمة فلا إمام بعده كما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الخاتم للنبوة والرسالة فلا نبي ولا رسول بعده، الفصيح اللسان لأنه من صحيح العرب أهل الفصاحة والبلاغة.-ثم قال- وقوله محمد المهدي، هذا اسمه وأشهر أوصافه فأما اسمه فمحمد جاء ذلك في عدة أخبار وفي بعضها أن اسمه واسم أبيه عبد الله فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي" رواه أبو نعيم من حديث أبي هريرة ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم يبق من النهار إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا" وروى نحوه الترمذي وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفي رواية من حديث ابن مسعود أيضا "لا تذهب الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما" أخرجه الطبراني في معجمه الصغير وأخرجه الترمذي ولفظه: "حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي" وقال حديث حسن صحيح، وكذلك أخرجه أبو داود في سننه وروى ابن مسعود أيضا رضي الله عنه رفعه اسم المهدي محمد، وفي مرفوع حذيفة محمد بن عبد الله ويكنى أبا عبد الله ومن أسمائه أحمد بن عبد الله كما في بعض الروايات-إلى أن قال: وأما تسميته ووصفه في عدة أخبار-إلى أن قال- وأما كنيته فأبو عبد الله وأما نسبة فإنه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن الروايات الكثيرة والأخبار الغزيرة ناطقة أنه ولد فاطمة البتول ابنة النبي الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنها وعن أولادها الطاهرين وجاء في بعض الأحاديث أنه من ولد العباس والأول أصح قال ابن حجر في كتابه القول المختصر: "وأما(2/128)
ماروي "أن المهدي من ولد العباس عمي" فقال الدارقطني حديث غريب تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم قال ولا ينافيه خبر الرافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا "ألا أبشرك يا عم إن من ذريتك الأصفياء ومن عترتك الخلفاء ومنك المهدي في آخر الزمان به ينشر الله الهدى ويطفي نيران الضلالة إن الله فتح بنا هذا الأمر وبذريتك يختم" -ثم أورد ابن حجر عدة أخبار في هذا المعنى-ثم قال "فهذه الأخبار كلها لا تنافي أن المهدي من ذرية رسول الله سلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة الزهراء لأن الأحاديث التي فيها أن المهدي من ولدها أكثر وأصح بل قال بعض حفاظ الأمة وأعيان الأئمة أن كون المهدي من ذريته صلى الله عليه وسلم مما تواتر عنه ذلك فلا يسوغ العدول ولا الإلتفات إلى غيره وقال ابن حجر يمكن الجمع بأن يكون من ذريته صلى الله عليه وسلم وللعباس فيه ولادة من جهة أن في أمهاتها عباسية".(2/129)
والحاصل أن للحسن في المهدي الولادة العظمى لأن أحاديث كونه من ذريته أكثر وللحسين فيه ولادة أيضا وللعباس فيه ولادة أيضا ولا مانع من اجتماع ولادات وتعددات في شخص واحد من جهات مختلفة وبالله التوفيق. ثم ذكر الشيخ السفاريني رحمه الله أن خمس فوائد تكلم على كل واحدة منها الأولى في حليته وصفته والثانية في سيرته والثالثة في علامات ظهوره والرابعة في الإشارة إلى بعض الفتن الواقعة قبل خروجه والخامسة في مولده وبيعته ومدة ملكه ومتعلقات ذلك ثم قال بعد الإنتهاء من الكلام على الفوائد الخمس: "تنبيه قد كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل لا مهدي إلا عيسى والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه سلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث في خروج المهدي واسماء بعض الصحابة الذين رووها ثم قال وقد روي عما ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم روايات متعددة وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعة العلم القطعي فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة".
وقال الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي المتوفى سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف في كتابه صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان قال: "وبعد انقراض قرن الصحابة أتى أمته ما يوعدون من الحوادث والبدع وكلما أحدثت بدعة رفع مثلها من السنة ولكن في قرن التابعين واتباع التابعين لم تظهر البدع ظهورا فاشيا وأما بعد قرن اتباع التابعين فقد تغيرت الأحوال تغيرا فاحشا وغلبت البدع وصارت السنة غريبة واتخذ الناس البدعة سنة والسنة بدعة ولا تزال السنة في المستقبل غريبة إلا ما استثني من زمان المهدي رضي الله عنه وعيسى عليه السلام إلى أن تقوم الساعة على شرار الناس"انتهى.(2/130)
وقال الشيخ شمس الحق العظيم أبادي المتوفى سنة1329 في حاشيته المسماة عون المعبود على سنن أبي داود قال:
"وخرج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة منهم أبو داود والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث ابن جزء، رضي الله عنهم وإسناد أحاديث هؤلاء بين صحيح وحسن وضعيف وقد بالغ الإمام المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها ولم يصب بل أخطأ"انتهى. وقال الشيخ محمد أنور شاه الكشميري 1352هـ في كتابه عقيدة الإسلام "فائدة""أخرج مسلم في نزول عيسى عليه السلام عن جابر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق الظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة" قال الكشميري المراد به أنه لا يؤم في تلك الصلاة حتى لا يتوهم أن الأمة المحمدية سلبت الولاية فبعد تقرير ذلك في أول مرة يكون الإمام هو عيسى عليه الصلاة والسلام لكونه أفضل من المهدي فالجواب الأصلي لأمير المسلمين هو قوله: "لا فإنها لك أقيمت" كما عند ابن ماجه وغيره عن أبي أمامة وبعد إن كانت أقيمت له لو تقدم عيسى صلى الله عليه وسلم أوهم عزل الأمير بخلاف ما بعد ذلك وهذا كإشارة نبينا صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه بعد ما كان شرع في الصلاة أن لا يتأخر يعني أؤم في هذه الصلاة لأنها لك أقيمت ثم ذكر قوله "تكرمة الله هذه الأمة" لفائدة زائدة وهي أن الأمة على ولايتها وعيسى عليه السلام أيضا حينئذ منهم لا التعليل لعدم إمامته حتى يتوهم استمرار عدمها"انتهى.(2/131)
وقال الشيخ عبد الرحمن المباركفوري 1353في تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي في باب ما جاء في المهدي:
قلت الأحاديث الواردة في خروج المهدي كثيرة جدا ولكن أكثرها ضعاف ولا شك في أن حديث عبد الله بن مسعود الذي في هذا الباب لا ينحط عن درجة الحسن وله شواهد كثيرة من بين حسان وضعاف فحديث عبد الله بن مسعود هذا مع شواهده وتوابعه صالح الاحتجاج بلا مريه فالقول بخروج المهدي وظهوره هو الحق والصواب والله أعلم.
هذه بعض الكلمات التي وفقت عليها لبعض أهل السنة والأثر في شأن المهدي والاحتجاج بالأحاديث الواردة فيه، وأعني بأهل السنة والأثر أهل الحديث ومن سار على منوالهم ممن جعل مستنده في الاعتقاد كتاب الله وما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم دون الاعتراض على ذلك بخيال يسميه صاحبه معقولا، وليس كل الذين نقلت كلامهم فيما تقدم بهذه المثابة بل منهم من هو على المعتقد الذي رجع عنه أبو الحسن الأشعري رحمه الله وبعض هؤلاء ممن له عناية بالآثار وتمييز صحيحها من ضعيفها وذلك أن الحق يقبل من كل من جاء به وليعلم أن الأحاديث في المهدي قد تلقتها الأمة من أهل السنة والأشاعرة بالقبول إلا من شذ.
8- ذكر من وقفت عليه ممن حكي عنه إنكار أحاديث المهدي أو التردد في شأنه مع مناقشة كلامه باختصار. فإن قال قائل: قد أكثرت من النقل عن أهل العلم في إثبات خروج المهدي في آخر الزمان فلماذا؟ وهل وقفت على ذكر إنكار أحد لخروج المهدي أو التردد في شأنه على الاقل؟.(2/132)
والجواب عن السؤال الأول هو: أنني أوردت بعض ما وقفت عليه من كلام أهل العلم بشأن خروج المهدي في آخر الزمان لتزداد أيها المستمع ثباتا ويقينا بأن اعتقاد خروجه آخر الزمان هو الجادة المسلوكة ولتعلم أنه الحق الذي لا يسوغ العدول عنه والإلتفات إلى غيره وعمدة أهل العلم في ذلك الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك إذ لا مجال للرأي في مثل هذا الأمر بل سبيله الوحيد هو الوحي لأنه من الأمور الغيبية.
أما الجواب عن السؤال الثاني فهو أني لم أقف على تسمية أحد في الماضين أنكر أحاديث المهدي أو تردد فيها سوى رجلين اثنين أما أحدهما فهو أبو محمد بن الوليد البغدادي الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة وقد مضى حكاية كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة وقد مضى حكاية كلام شيخ الإسلام عنه وأنه قد اعتمد على حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" وقال ابن تيميه "وليس مما يعتمد عليه لضعفه"انتهى وسبق في أثناء كلام الذين نقلت عنهم أنه لو صح هذا الحديث فالجمع بينه وبين أحاديث المهدي ممكن، ولم أقف على ترجمة لأبي محمد المذكور.
وأما الثاني فهو عبد الرحمن بن خلدون المغربي المؤرخ المشهور وهو الذي اشتهر بين الناس عنه تضعيف لأحاديث المهدي وقد رجعت إلى كلامه في مقدمة تاريخه فظهر لي منه التردد لا الجزم بالإنكار، وعلى كل حال فإنكارها أو التردد في التصديق بما دلت عليه شذوذ عن الحق ونكوب عن الجادة المطروقة وقد تعقبه الشيخ صديق حسن في كتابه الإذاعة حيث قال: "لاشك أن المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام لما تواتر من الأخبار في الباب واتفق عليه جمهور الأمة خلفا عن سلف إلا من لا يعتد بخلافه-وقال: لا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود والمنتظر المدلول عليه بالأدلة بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حد التواتر"انتهى.(2/133)
ولي ملاحظات على كلام ابن خلدون أرى أن أشير إليها هنا:
الأولى: أنه لو حصل التردد في أمر المهدي من رجل له خبرة بالحديث لاعتبر ذلك زللا منه فكيف إذا كان من الإخباريين الذين هم ليسوا من أهل الاختصاص وقد أحسن الشيخ أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المسند حيث قال: "أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم واقتحم قحما لم يكن من رجالها وقال إنه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمة للمهدي تهافتا عجيبا وغلط أغلاطا واضحة وقال إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين. "الجرح مقدم على التعديل"ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئا مما قال"
الثانية: صدر ابن خلدون الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي بقوله:"اعلم أن في المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره أن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتل ويأتم بالمهدي في صلاته ويحتجون في الشأن بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك وربما عارضوها ببعض الأخبار".
أقول هذه الشهادة التي شهدها ابن خلدون هي أن اعتقاد خروج المهدي هو المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، إلا يسعه في ذلك ما وسع الناس على ممر الأعصار كما ذكر ابن خلدون نفسه، وهل ذلك الشذوذ بعد معرفة أن الكافة على خلافه وهل هؤلاء الكافة اتفقوا على الخطأ والأمر ليس اجتهاديا وإنما هو غيبي لا يسوغ لأحد إثباته إلا بدليل من كتاب الله أو سنه نبيه صلى الله عليه وسلم والدليل معهم وهم أهل الاختصاص.(2/134)
الثالثة: أنه قال قبل إيراد الأحاديث: "ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وقال في نهايتها: فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان وقال في موضع آخر بعد ذلك وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا". وأقول إنه قد خانه الشيء الكثير كما يتضح ذلك بالرجوع إلى ما أثبته السيوطي في العرف الوردي في أخبار المهدي عن الأئمة، بل إن مما فاته الحديث الذي ذكره ابن القيم في المنار المنيف عن الحارث ابن أبي أسامة وقال إسناده جيد وتقدم ذكره بسنده وحاصل ما قيل في رجاله.
الرابعة: وقال "إن جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي فذكرهم وذكر الصحابة الذين أسندوها إليهم ثم قال ربما يعرض لأسانيدها المنكرون كما نذكره إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل فإذا وجدنا طعنا ببعض رجال الأسانيد بغفلة أو سوء حفظ أو ضعف أوسوء رأي تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها ولا تقولن مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين، فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفعا وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك فقد نجد مجالا للكلام في أسانيدها بما تقل عن أئمة الحديث في ذلك"انتهى.(2/135)
أقول: إن ابن خلدون أورد بعض الأحاديث وقدح فيها برجال في أسانيدها من رجال الصحيحين أو أحدهما وذلك تناقض يخالف المبدأ الذي رسمه لنفسه وهو قوله: "ولا تقولن مثل ذلك ربما يتطرق لرجال الصحيحين"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صحة ما ذكره عنه الشيخ أحمد شاكر حيث قال: "أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس به علم واقتحم قحما لم يكن من رجالها"، ومما أورده من الأحاديث وقدح فيه برجال هم من رجال الصحيحين أو أحدهما قوله: وخرج الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه من رواية أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال كنا عند علي رضي الله عنه فسأله رجل عن المهدي فقال له: "هيهات ثم عقد بيده سبقا فقال ذلك يخرج في آخر الزمان إذا قال الرجل الله الله قتل إلى آخر"الحديث قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، انتهى ثم قال ابن خلدون "وإنما هو على شرط مسلم فقط فإن فيه عمار الدهني ويونس بن أبي اسحاق لم يخرج لهما البخاري وفيه عمرو بن محمد العنقري ولم يخرج له البخاري احتجاجا بل استشهادا مع ما ينضم إلى ذلك من تشيع عمار الدهني وهو وإن وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي وغيرهم فقد قال علي ابن المديني عن سفيان إن بشر ابن مروان قطع عرقوبية قلت في أي شيء قال في التشيع"انتهى وهؤلاء الثلاثة الذين قدح في الحديث من أجلهم من رجال مسلم، وذلك مناقض للخطة التي رسمها أولا كما هو واضح.(2/136)
الخامسة: أن ابن خلدون نفسه قد اعترف بسلامة بعض أحاديث المهدي من النقد حيث قال بعد إيراد الأحاديث في المهدي: "فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل والأقل منه"انتهى وأقول إن القليل الذي يسلم من النقد يكفي للإحتجاج به ويكون الكثير الذي لم يسلم عاضدا له ومقويا على أنه قد سلم الشيء الكثير كما تقدم ذلك في حكاية كلام القاضي محمد بن علي الشوكاني الذي حكى تواترها وقال إن فيها خمسين حديثا فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، ثم إنه في آخر البحث ذكر ما يفيد تردده في أمر المهدي وذلك يفيد عدم ثبات رأيه لكونه تكلم فيه بما ليس بإختصاصه.
هذه بعض الملاحظات على كلام ابن خلدون في شأن المهدي سأستوفي الكلام فيها مع ملاحظات أخرى عليه في الرسالة التي أنا بصدد تأليفها في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.
وقد اطلعت على رسالة لأبي الأعلى المودودي اسمها "البيانات"تكلم فيها عن ظهور المهدي لاحظت فيها أمور لا يتسع الوقت لاستيفائها جميعها ولكني أشير إلى ثلاثة منها.
الأول في قوله: "والأحاديث في هذه المسألة على نوعين أحاديث فيها الصراحة بكلمة المهدي وأحاديث إنما أخبر فيها بخليفة يولد في آخر الزمان ويعلي كلمة الإسلام وليس سند أي رواية من هذين النوعين من القوة حيث يثبت أمام مقياس الإمام البخاري لنقد الروايات فهو لم يذكر منها أي رواية في صحيحه وكذلك ما ذكر منها الإمام المسلم إلا رواية واحدة في صحيحه ولكن ما جائت فيها أيضا الصراحة بكلمة المهدي"انتهى، أقول: إن أحاديث المهدي وإن لم ترد في الصحيحين بالتفصيل الذي جاء في غيرهما فعدم ورودها فيهما لا يقدح فيها لما كانت قد ثبتت في غيرهما ومعلوم أن غير الصحيح من السنن والمسانيد والأجزاء فيها الصحاح والحسان والضعاف وعلماء الحديث قد قبلوها واحتجوا بها واعتقدوا موجبها.(2/137)
وكتب الأصول والفروع مملوءة من الأحاديث الصحيحة في غير الصحيحين يوردونها للاستدلال بها وبهذه المناسبة أرى أن أذكر بعض الأحاديث التي وردت في السنن والمسانيد وغيرهما والتي يستدل بها في كتب العقائد وذلك على سبيل التمثيل:
1- الحديث المشتمل عل العشرة المبشرين في الجنة رضي الله عنهم فإنه في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره وليس في الصحيحين ومع ذلك اعتقدت الأمة موجبه وقل أن يوجد مؤلف في العقائد ولو كان مختصرا إلا وهو متضمن التنصيص على ذكرهم والشهادة لهم بالجنة بناء على الأحاديث الواردة فى ذلك فى غير الصحيحين كما أن هناك أناسا آخرين من الصحابة شهد لهم بالجنة لكن اختص هؤلاء بلفظ العشرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في حديث فقال: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير بن العوام في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة وأبو عبيده بن الجراح في الجنة"وقد وردت الشهادة لبعضهم في الجنة في الصحيحين لكن الجمع بينهم جميعهم إنما جاء في غير الصحيحين رضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا في زمرتهم وثبتنا على السنة حتى نلحق بهم.(2/138)
2- الحديث الدال على أن نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة لم يرد في الصحيحين وقد اعتقد الناس موجبه واستدلوا به وأورده شارح الطحاوية وغيره وقد أورده ابن كثير في تفسيره لقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} فقال: "وقد روينا في مسند الإمام أحمد بن حنبل حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" ونسأل الله الذي جمعهم في سند هذا الحديث أن يجمع أرواحهم فيما يقتضيه متنه وإيانا بمنه وكرمه، وهذا إنما هو بالنسبة لغير الشهداء أما الشهداء فقد جاء في صحيح مسلم وغيره أن أرواحهم في أجواف طير خضر".
3- حديث البراء ين عازب رضي الله عنه الطويل في نعيم القبر الذي وصف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجري عند الموت حتى البعث وهو في مسند الإمام أحمد وغيره ولبعضه شواهد في الصحيح وقد أورده شارح الطحاوية وقال عقب إيراده وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث وكذا الحديث الذي فيه تسمية الملكين السائلين في القبر بالمنكر والنكير لم يرد في الصحيحين وقد اعقد بموجبه أهل السنة وأورده شارح الطحاوية مستدلا به.(2/139)
4- الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره الدال على وزن الأعمال وهو حديث البطاقة والسجلات لم يرد في الصحيحين واعتقد أهل السنة موجبة وأورده شارح الطحاوية للاستدلال به على أن ميزان الأعمال له كفتان وعلى وزن صحائف الأعمال، ولا يتسع المقام لإيراد الكثير من الأمثلة في ذلك فأكتفي بهذا القدر.
والحاصل أن الأحاديث إذا كانت صحيحة يجب العمل بموجبها سواء كانت في الصحيحين أو في غيرهما ومن ذلك أحاديث المهدي.
الثاني: من الأمور التي لاحظتها في كلمة أبي الأعلى المودودي عن المهدي في كتابه البيانات في قوله "ولا يمكن بتأويل مستبعد أن في الإسلام يأتي تأويل مستبعد أن في الإسلام منصبا دينيا يعرف بالمهدوية يجب على كل مسلم أن يؤمن به ويترتب على عدم الإيمان به طائفة من النتائج الاعتقادية والاجتماعية في الدنيا والآخرة". أقول بل الذي لاشك فيه أنه يستنبط من الأحاديث الصحيحة في شأن المهدي حصول الإخبار من الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم بوجود إمام للمسلمين عند نزول عيسى بن مريم يوافق اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبي الرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بيته ويقال له المهدي والواجب على كل مسلم أن يصدق أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم التي يخبر بها عن أمور مغيبة مطلقا بما في ذلك أخبار المستقبل كإخباره عن المهدي وعن الدجال وما إلى ذلك من الأخبار.
الثالث: في قوله "ومما يناسب ذكره بهذا الصدد أنه ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السنة للعقائد".
أقول من عقائد أهل السنة التصديق بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار ومن ذلك إخباره بشأن المهدي، وكتب العقائد عند أهل السنة قد أوضحت ذلك فقد قال الشيخ محمد السفاريني المتوفى سنة 1188هـ في نظمه لعقيدة السلف المسمى "الدرة المعنية في عقد الفرقة المرضية".(2/140)
وما أتى بالنص من أشراط
فكله حق بلا شطا
منها الإمام الخاتم الفصيح
محمد المهدي والمسيح
ثم إنه أوضح ذلك في شرحه المسمى بلوامع الأنوار البهية فقال "تنبيه: قد كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل لا مهدي إلا عيسى بن مريم والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى وأنه يخرج قبل نزول عيسى بن مريم عليه السلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم"ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث في خروج المهدي وأسماء بعض الصحابة الذين رووها ثم قال "وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعة العلم القطعي فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة"انتهى.
وكما أنه مدون في كتب العقائد عند أهل السنة والجماعة فهو أيضا مدون في كتب العقائد التي تمسك أربابها بمذهب أبي الحسن الأشعري قبل رجوعه إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد تقدم نص كلام الشيخ ملا علي قاري الحنفي الذي هو على مذهب الأشاعرة والذي نقلته من شرحه على الفقه الأكبر وفيه ترتيبه لأشراط الساعة القريبة من قيامها وجعله خروج المهدي أولها وأن عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي خلفه وفيه قوله: وفي شرح العقائد: "الأصح أن عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل وإمامته أولى" انتهى.(2/141)
وكذا تقدم في كلام الشيخ عبد الرؤوف المناوي قوله بعد ذكر ائتمام عيسى بالمهدي: "ولا ينافي ما ذكر في هذا الحديث ما اقتضاه بعض الآثار من أن عيسى هو الإمام بالمهدي وجزم به السعد التفتازاني بأفضليته وعلله لإمكان الجمع بأن عيسى يقتدي بالمهدي أولا ليظهر أنه نزل تابعا لنبينا حاكما بشرعه ثم بعد ذلك يقتدي المهدي به على أصل القاعدة من اقتداء المفضول بالفاضل"انتهى.
ذكر بعض ما قد يظن تعارضه مع الأحاديث الواردة في المهدي مع الجواب عن ذلك:
1- تقدم في أثناء كلام الأئمة الذين حكيت كلامهم أن حديث لا مهدي إلا عيسى بن مريم لا يتعارض مع الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي لضعفه ولإ مكان الجمع بينها لو صح بأن يكون معناه لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم وذلك ينفي أن يكون غيره مهديا غير معصوم كالمهدي الذي دلت عليه الأحاديث.
2- إن ما دلت عليه أحاديث المهدي من قيام المهدي بنصرة الدين وامتلاء الأرض في زمانه من العدل لا ينافيه وجود الدجال وأتباعه في زمانه ومعاداتهم للمسلمين وكذا الأدلة الدالة على بقاء الأشرار مع الأخيار حتى تخرج الريح اللينة التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ولا يبقى بعد ذلك الأشرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة، لأن المراد مما جاء في أحاديث المهدي كثرة الخير وقوة أهل الإسلام وحصول الغلبة لهم وقهرهم لغيرهم وهذا لا ينفي وجود أشرار مغمورين في زمانه كما أننا نعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين رضي الله عنهم قد ملئوا الأرض عدلا ومع ذلك في الأرض في زمانهم من أعدائهم الكثير قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين.(2/142)
3- إن ما دلت عليه أحاديث المهدي من امتلاء الأرض ظلما وجورا قبل خروجه لا يدل على خلو الأرض من أهل الخير قبل زمانه فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في أحاديث صحيحة بأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله ومنها الحديث الذي رواه مسلم عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعال صلى لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الامة"، وهذه الأحاديث وأحاديث المهدي تدل على أن الحق مستمر لا ينقطع لكنه في بعض الأزمان يكون لأهله الغلبة ويحصل له الانتشار كما في زمن الرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وكما في زمن المهدي وعيسى بن مريم وفي بعض الأزمان يتضاءل هذا الانتشار ويضعف أهله أما أن الحق يتلاشى ويضمحل فهذا ما لم يكن فيما مضى منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكون في المستقبل حتى خروج الريح التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما أخبر بذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلوات وسلامه عليه فما من زمن في الماضي إلا وقد هيأ الله لهذا الدين من يقوم به وفي هذا الزمن الذي تكالب اعداء الإسلام عليه وغزوه بأعدائه لم تخل الأرض من إقامة شعائر الدين الإسلامي ومن ذلك ما امتن به على حكومة البلاد المقدسة من التوفيق لتحكيم الشريعة وتعميم المحاكم الشرعية في مدن المملكة وقراها يتحاكم الناس فيها إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه لا نظير له في سائر أنحاء الأرض فيما نعلم فيرجم الزاني المحصن ويجلد البكر ويحد شارب الخمر وتقطع يد السارق ويقتل القاتل وغير ذلك وما حصل في هذه البلاد من الأمن والإستقرار ورغد العيش إنما هو من الثواب المعجل على القيام بالدين زادها الله من كل خير وحماها من كل شرور وفق المسلمين جميعا في سائر انحاء الأرض لما فيه عزهم وسعادتهم في(2/143)
دنياهم وأخراهم.
كلمة ختامية:
إن أحاديث المهدي الكثيرة التي ألف فيها مؤلفون وحكى تواترها جماعة واعتقد موجبها أهل السنة والجماعة وغيرهم من الأشاعرة تدل على حقيقة ثابتة بلا شك هي حصول مقتضاها في آخر الزمان ولا صلة البتة لهذه الحقيقة الثابتة عند أهل السنة بالعقيدة الشيعية فإن ما يعتقده الشيعة من خروج مهدي منتظر يسمى محمد بن الحسن العسكري من نسل الحسين رضي الله عنه لا حقيقة له ولا أصل وعقيدتهم بالنسبة لمهديهم في الحقيقة عقيدة موهومة كما أن إمامة الأئمة الماضين عندهم في الحقيقة إمامة موهومة لا حقيقة لها ولا وجود إلا إمامة علي بن أبي طالب وابنه الحسن رضي الله عنهما وهما بريئان منهم ومن اعتقادهم بلا شك أما أهل السنة فمعتقدهم في الماضي حقيقة موجودة وسادات الأئمة عندهم هم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وقد تولوا الإمامة حقا وكانوا أحق بها وأهلها ومعتقدهم في المستقبل عند نزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم حقيقة ثابتة بلا شك أيضا فلا عبرة بقول من قفا ما ليس له به علم وقال إن الأحاديث في المهدي لا تصح نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها من وضع الشيعة كما تقدمت الإشارة إلى هذا في أول المحاضرة.
وإذا فإن أحاديث المهدي على كثرتها وتعدد طرقها وإثباتها في دواوين أهل السنة يصعب كثيرا القول بأنه لا حقيقة لمقتضاها إلا على جاهل أو مكابر أو من لم يمعن النظر في طرقها وأسانيدها ولم يقف على كلام أهل العلم المعتد بهم فيها، والتصديق بها داخل في الإيمان بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من الإيمان به صلى الله عليه سلم تصديقه فيم أخبر به وداخل في الإيمان بالغيب الذي امتدح الله المؤمنين به بقوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وداخل في الإيمان بالقدر فإن سبيل علم الخلق بما قدره الله أمران:(2/144)
أحدهما وقوع الشيء فكل ما كان ووقع علمنا أن الله قد شاءه لأنه لا يكون ولا يقع إلا ما شاءه الله وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: الإخبار بالشيء الماضي الذي وقع وبالشيء المستقبل قبل وقوعه من الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فكل ما ثبت إخباره به من الأخبار في الماضي علمنا بأنه كان على وفق خبره صلى الله عليه وسلم وكل ما ثبت إخباره عن مما يقع في المستقبل نعلم بأن الله قد شاءه وأنه لابد وأن يقع على وفق خبره صلى الله عليه وسلم كإخباره صلى الله عليه والسلام بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان وإخباره بخروج المهدي وبخروج الدجال وغير ذلك من الأخبار فإنكار أحاديث المهدي أو التردد في شأنه أمر خطير نسأل الله السلامة والعافية والثبات على الحق حتى الممات، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.؟
وبعد انتهاء المحاضر من إلقاء هذه المحاضرة قام فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فعلق على المحاضرة بالكلمة التالية نقلت من شريط التسجيل وعرضت على فضيلته بعد نقلها فأذن بنشرها.(2/145)
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فإنا نشكر محاضرنا الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد على هذه المحاضرة القيمة الواسعة فلقد أجاد فيها وأفاد واستوفى المقام حقا فيما يتعلق بالمهدي المنتظر مهدي الحق، ولا مزيد على ما بسطه من الكلام فقد بسط واعتنى وذكر الأحاديث، وذكر كلام أهل العلم في هذا الباب وقد وفق للصواب وهدي إلى الحق، فجزاه الله عن محاضرته خيرا وجزاه عن جهوده خيرا وضاعف له المثوبة وأعانه على التكميل والإتمام لرسالته في هذا الموضوع، وسوف نقوم-إن شاء الله- بطبعها بعد انتهائه منها لعظم فائدتها ومسيس الحاجة إليها والخلاصة التي أعلقها على هذه المحاضرة القيمة أن أقول:
إن الحق والصواب هو ما أبداه فضيلته في هذه المحاضرة كما بينه أهل العلم فأمر المهدي أمر معلوم والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم: تواترها، كما حكاه الأستاذ في هذه المحاضرة وهي متواترة تواترا معنويا لكثرة طرقها، واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق وهو "محمد بن عبد الله العلو الحسني من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه"وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان يخرج فيقيم العدل والحق ويمنع الظلم والجور، وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلا وهداية وتوفيقا وإرشادا للناس.
وقد اطلعت على كثير من أحاديثه فرأيتها كما قال الشوكاني وغيره وكما قال ابن القيم وغيره: فيها الصحيح وفيها الحسن، وفيها الضعيف المنجبر، وفيها أخبار موضوعة، ويكفينا من ذلك ما استقام سنده سواء كان صحيحا لذاته أو لغيره وسواء كان حسنا لذاته أو لغيره، وهكذا الأحاديث الضعيفة إذا انجبرت وشد بعضها بعضا فإنها حجة عند أهل العلم.(2/146)
فإن المقبول عندهم أربعة أقسام: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره، هذا ماعدا المتوتر، أما المتواتر فكله مقبول سواء كان تواتره لفظيا أو معنويا فأحاديث المهدي من هذا الباب متواترة معنويا، فتقبل بتواترها من جهة اختلاف ألفاظها ومعانيها وكثرة طرقها وتعدد مخارجها، ونص أهل العلم الموثوق بهم على ثبوتها وتواترها وقد رأينا أهل العلم اثبتوا أشياء كثيرة بأقل من ذلك، والحق أن جمهور أهل العلم بل هو الاتفاق على ثبوت أمر المهدي وأنه حق وأنه سيخرج في آخر الزمان أما من شذ عن أهل العلم في هذا البال فلا يلتفت إلى كلامه في ذلك وأما ما قاله الحافظ إسماعيل بن كثير رحمه الله عليه في كتابه التفسير في سورة المائدة عند ذكر النقباء، وأن المهدي: يمكن أن يكون أحد الأئمة الاثنى عشر فهذا: محل نظر، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "لا يزال أمر هذه الأمة قائما ما ولى عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" فقوله: "لا يزال أمر هذه الأمة قائما"، يدل على أن الدين في زمانهم قائم، والأمر نافذ، والحق ظاهر ومعلوم أن هذا إنما كان قبل انقراض دولة بني أمية، وقد جرى في آخرها اختلاف تفرق بسببه الناس، وجعل نكبة على المسلمين وانقسم أمر المسلمين إلى خلافتين: خلافة في الأندلس وخلافة في العراق، وجرى من الخطوب والشرور ما هو معلوم، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: "لا يزال أمر هذه الأمة قائما" ثم جرى بعد ذلك أمور عظيمة حتى اختل نظام الخلافة وصار على كل جهة من جهات المسلمين أمير وحاكم وصارت دويلات كثيرة وفي زماننا هذا أعظم وأكثر.
والمهدي حتى الآن لم يخرج فكيف يصح أن يقال إن الأمر قائم إلى خروج المهدي هذا لا يمكن أن يقوله من تأمل ونظر.(2/147)
والأقرب في هذا كما قاله جماعة من أهل العلم: أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث "لا يزال أمر هذه الأمة قائما ما ولي عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" أن مراده من ذلك: الخلفاء الأربعة ومعاوية رضي الله عنه وابنه يزيد، ثم عبد الملك ابن مروان وأولاده الأربعة وعمر بن عبد العزيز هؤلاء اثنا عشر خليفة والمقصود أن الأئمة الاثني عشر في الأقرب والأصوب ينتهي عددهم بهشام بن عبد الملك، فإن الدين في زمانهم قائم والإسلام منتشر والحق ظاهر والجهاد قائم وما وقع بعد موت يزيد من الاختلاف والانشقاق في الخلافة وتولي مروان في الشام وابن الزبير في الحجاز لم يضر المسلمين في ظهور دينهم فدينهم ظاهر وأمرهم قائم وعدوهم مقهور مع وجود هذا الخلاف الذي جرى ثم زال بحمد الله بتمام البيعة لعبد الملك واجتماع الناس بعد ما جرى من الخطوب على يد الحجاج وغيره وبهذا يتبين أن هذا الأمر الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم قد وقع ومضى وانتهى، وأمر المهدي يكون في آخر الزمان وليس له تعلق بحديث جابر بن سمرة، أما كون المهدي يكون عند نزول عيسى فقد قال ابن كثير في الفتن والملاحم: أظنه يكون عند نزول المسيح، والحديث الذي رواه الحارث بن أبي أسامة يرشد إلى هذا ويدل على هذا لأنه قال أميرهم المهدي فهو يرشد إلى أنه يكون عند نزول عيسى ابن مريم كما يرشد إليه بعض روايات مسلم وبعض الروايات الأخرى لكن ليست بالصريحة فهذا هو الأقوم والأظهر ولكنه ليس بالأمر القطعي، أما كونه سيخرج أو يوجد في آخر الزمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أمر معلوم والأحاديث ظاهرة في ذلك والحق كما قاله الأئمة والعلماء في ذلك أنه لابد من خروجه وظهوره.(2/148)
وأما أمر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وأمر المسيح الدجال فأمرهما أظهر وأظهر فالأمر فيها قطعي وقد أجمع على ذلك علماء الأمة وبينوا للناس أن المسيح نازل في آخر الزمان كما أن الدجال خارج في آخر الزمان وقد تواترت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلها صحيحة متواترة بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان وحكمه بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال مسيح الضلالة.
هذا حق وهكذا خروج الدجال حق أما من أنكر ذلك وزعم أن نزول المسيح ابن مريم ووجود المهدي إشارة إلى ظهور الخير، وأن وجود الدجال ويأجوج ومأجوج ما أشبه ذلك إشارة إلى ظهور الشر فهذه أقوال فاسدة بل باطلة في الحقيقة لا ينبغي أن تذكر فأهلها قد حادوا عن الصواب وقالوا أمرا منكرا، وأمرا خطيرا لا وجه له في الشرع ولا وجه له في الأثر ولا في النظر والواجب تلقي ما قاله الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والإيمان به والتسليم، فمتى صح الخبر عن رسول الله فلا يجوز لأحد أن يعارضه برأيه واجتهاده بل يجب التسليم كما قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر عن الدجال وعن المهدي وعن عيسى المسيح بن مريم ووجب تلقي ما قاله بالقبول والإيمان بذلك والحذر من تحكيم الرأي والتقليد الأعمي الذي يضر صاحبه ولا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما فيه رضاه وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات على الحق حتى نلقى ربنا سبحانه وتعالى وأعود أيضا فأشكر فضيلة الأستاذ على محاضرته القيمة الواسعة وأسأل الله له المعونة على الإتمام والإكمال حتى تطبع وتنشر فينتفع بها الناس وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(2/149)
1- الإحسان - حقيقته - فضلة - طرقه: للشيخ عبد المحسن العباد
2- الإدارة العامة في الإسلام: لإبراهيم مبارك الأعظمي
3- الإسلام دين الفطرة.. صالح لكل زمان ومكان: للشيخ محمد مريسي محمد
4- الإسلام والحياة: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
5- الأعداء الثلاثة: للشيخ حسنين محمد مخلوف
6- الأمر بالمعروف بالمعروف والنهي عن المنكر: نائب رئيس الجامعة الإسلامية - عبد العزيز بن عبد الله بن باز
7- مع الصحافة - الصحفي الذي أنشأ حزبا شيوعيا ثم تحول إلى الفكر الإسلامي
نقلا عن جريدة الميثاق
8- الفتاوى: نائب رئيس الجامعة الإسلامية - عبد العزيز بن عبد الله بن باز
9- القدوة المتمثلة: للشيخ صالح رضا
10- المدلّسون (الحلقة الثانية) : للشيخ حماد الأنصاري
11الإمام عبد العزيز (قصيدة) : للشيخ محمد بهجت الأثري
12- بماذا نسمي الحاكم العبيدي؟ : رمضان أبو العز
13- حقيقة الجهاد وأطواره: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
14- دروس من معركة أحد: بقلم الأستاذ محمد المجذوب
15- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
16- رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
17- صوت التضامن: بقلم الأستاذ محمد المجذوب
18- عوامل نجاح الأمم.. في الدنيا والآخرة: للشيخ عبد الله خالد قادري
19- عودة قائد: لسعادة الدكتور محمد ناصر
20- متى: عبد العزيز القارئ
21- من أخبار الجامعة
22- ندوة الطلبة - لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية: بقلم:صالح بن سعيد بن هلابي
23- نظرات تحليلية في القصة القرآنية: عرض وتحليل بقلم: الشيخ محمود فكري
24- هذه إسلاميتنا: بقلم الشيخ: أبو بكر جابرالجزائري
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(2/152)
العدد 4
فهرس المحتويات
1- الإحسان - حقيقته - فضلة - طرقه: للشيخ عبد المحسن العباد
2- الإدارة العامة في الإسلام: لإبراهيم مبارك الأعظمي
3- الإسلام دين الفطرة.. صالح لكل زمان ومكان: للشيخ محمد مريسي محمد
4- الإسلام والحياة: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
5- الأعداء الثلاثة: للشيخ حسنين محمد مخلوف
6- الأمر بالمعروف بالمعروف والنهي عن المنكر: نائب رئيس الجامعة الإسلامية - عبد العزيز بن عبد الله بن باز
7- مع الصحافة - الصحفي الذي أنشأ حزبا شيوعيا ثم تحول إلى الفكر الإسلامي
نقلا عن جريدة الميثاق
8- الفتاوى: نائب رئيس الجامعة الإسلامية - عبد العزيز بن عبد الله بن باز
9- القدوة المتمثلة: للشيخ صالح رضا
10- المدلّسون (الحلقة الثانية) : للشيخ حماد الأنصاري
11الإمام عبد العزيز (قصيدة) : للشيخ محمد بهجت الأثري
12- بماذا نسمي الحاكم العبيدي؟ : رمضان أبو العز
13- حقيقة الجهاد وأطواره: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
14- دروس من معركة أحد: بقلم الأستاذ محمد المجذوب
15- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
16- رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
17- صوت التضامن: بقلم الأستاذ محمد المجذوب
18- عوامل نجاح الأمم.. في الدنيا والآخرة: للشيخ عبد الله خالد قادري
19- عودة قائد: لسعادة الدكتور محمد ناصر
20- متى: عبد العزيز القارئ
21- من أخبار الجامعة
22- ندوة الطلبة - لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية: بقلم:صالح بن سعيد بن هلابي
23- نظرات تحليلية في القصة القرآنية: عرض وتحليل بقلم: الشيخ محمود فكري
24- هذه إسلاميتنا: بقلم الشيخ: أبو بكر جابرالجزائري
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(2/153)
الإحسان
حقيقته - فضله - طرقه
للشيخ عبد المحسن العباد المدرس بالجامعة
الإحسان في اللغة: ضد الإساءة, وهو مصدر أحسن إذا أتى بما هو حسن, وفي الاصطلاح: الإتيان بالمطلوب شرعا على وجه حسن.
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل عليه السلام المشهور حين سأله عن الإسلام والإيمان فأجابه عن كل منهما, وكان جوابه عند ما سأله عن الإحسان أن قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك", فقد بيّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه مسلم معنى الإحسان: وهو أن يفعل الإنسان ما تعبده الله به كأنه واقف بين يدي الله, وذلك يستلزم تمام الخشية والإنابة إليه سبحانه, ويستلزم الإتيان بالعبادة على وفق الخطة التي رسمها رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ضمّن صلى الله عليه وسلم جوابه عن الإحسان بيان السبب الحافز على الإحسان لمن لم يبلغ هذه الدرجة العالية, والمنزلة الرفيعة, ألا وهو: تذكير فاعل العبادة بأن الله مطلع عليه, لا يخفى عليه شيء من أفعاله, وسيجازيه على ذلك, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر, ولا شك أن العاقل إذا تذكر أن الله رقيب عليه أحسن عمله, رغبة فيما عند الله من الثواب للمحسنين, وخوفا من العقاب الذي أعده للمسيئين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
فضل الإحسان:(2/154)
ولمزيد عناية الإسلام بالإحسان وعظيم منزلته نوه سبحانه بفضله, وأخبر في كتابه العزيز أنه يحب المحسنين, وأنه معهم, وكفى بذلك فضلا وشرفا, فقال سبحانه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} , وقال: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} , وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
جزاء المحسنين:(2/155)
ومن رحمة الله وفضله أن جعل الجزاء من جنس العمل, ومن ذلك أنه جعل ثواب الإحسان إحسانا كما قال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} , فمن أحسن عمله أحسن الله جزاءه, وقد أوضح الله سبحانه في كتابه العزيز جزاء المحسنين, وأنه أعظم جزاء وأكمله, فقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} , وهذه الآية فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه بأن الحسنى: الجنة, والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل, ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك العمل الذي هو الإحسان من المناسبة؛ فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرون جزاءهم على ذلك العمل النظر إليه عيانا في الآخرة, وعلى العكس من ذلك الكفار الذين طبعوا على قلوبهم فلم تكن محلا لخشيته ومراقبته في الدنيا, فعاقبهم الله على ذلك بأن حجبهم عن رؤيته في الآخرة كما قال تعالى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} , وكما أنّ جزاء الذين أحسنوا الحسنى؛ فإن عاقبة الذين أساءوا السوأى كما قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} . ومما ذكره الله في جزاء المحسنين قوله: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} , وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} الآية, وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ, جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية, وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} , وقوله: {وَالسَّابِقُونَ(2/156)
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية, وقوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} , وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} , إلى غير ذلك من الآيات.
طرق الإحسان:
والإحسان مطلوب في العبادات والمعاملات فأي عبادة افترضها الله على العبد فإن عليه أن يأتي بها على الوجه الذي رضيه سبحانه من إخلاصها له وموافقتها لشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم, وكما أن الإنسان يحب لنفسه أن يعامله غيره معاملة حسنة, فإن عليه أن يحسن إلى غيره, ويعامله بمثل ما يحب أن يعامل به هو, ذلك بسلوك طرق الإحسان التي نتعرض لبعضها فيما يلي على سبيل الاختصار:
1- الإحسان بالنفع البدني:
وذلك بأن يجود ببذل ما يستطيعه من القوة البدنية في تحصيل المصالح ودفع المفاسد, فيمنع الظالم من الظلم, ويميط الأذى عن الطريق مثلا, وهذه الطريق هي التي عناها صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث المتفق عليه: "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس, تصلح بين اثنين صدقة, وتعين الرجل في دابته, فتحمله عليها صدقة, أو ترفع عليها متاعه صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة, وتميط الأذى عن الطريق صدقة".
2- الإحسان بالمال:
ومن وسّع الله عليه الرزق, وآتاه المال؛ فإنّ عليه أن يشكر الله على ذلك بصرفه في الطرق التي شرعها, فيقضي الحاجة, ويواسي المنكوب, ويفك الأسير, ويقري الضيف, ويطعم الجائع تحقيقا لقوله سبحانه: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .
3- الإحسان بالجاه:(2/157)
وإذا لم يتمكّن المؤمن من قضاء حاجة أخيه وإيصال النفع إليه, فعليه أن يكون عوناً له في سبيل تحصيلها, وذلك بالسعي معه لدى من يستطيع ذلك, إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, وامتثالا لأمره, فقد شفع صلى الله عليه وسلم لمغيث لدى زوجته بريرة رضي الله عنها, وأمر أصحابه بالشفاعة فقال: "اشفعوا تأجروا" متفق عليه.
4- الإحسان بالعلم:
وهذه الطريق مع التي تليها أعظم الطرق وأتمها نفعا؛ لأن هذا الإحسان يؤدي إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة, وبه يعبد الله على بصيرة, فمن يسر الله له أسباب تحصيل العلم وظفر بشيء منه كانت مسئوليته عظيمة, ولزمه القيام بما يجب للعلم من تعليم الجاهل وإرشاد الحيران, وإفتاء السائل, وغير ذلك من المنافع التي تتعدى إلى الغير.
5- الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(2/158)
ولم تكن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس إلا بسلوكها تلك الطريق, كما أنّ بني إسرائيل لم يلعن من لعن منهم على لسان أنبيائهم إلا لتخليهم عن ذلك الواجب من عدم اكتراثهم بارتكاب المنكرات, قال الله تعالى في حق هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} , وقال في حق بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} , ثم بيّن سبب اللعن بقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ, كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} ولا يحصل المطلوب ويتم النفع إلا إذا كان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مؤتمرا بما يأمر به, ومنتهيا عما ينهى عنه, وإلا كان أمره ونهيه وبالاً عليه لقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} , والإحسان إلى الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لا بد أن يكون عن علم؛ لأن الجاهل قد يأمر بما هو منكر, وقد ينهى عما هو معروف, ولا بد أن يجمع إلى العلم الحكمة, ويصبر على ما أصابه, ومن الأدلة على هذه الأمور الثلاثة قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} , وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} , وقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} . وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم إنكار المنكر على ثلاث مراتب إن لم تحصل المرتبتان الأوليتان فلا أقل من الثالثة التي هي أضعف الإيمان, كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليُغيِّرهُ بيده, فإن لم يستطع(2/159)
فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان".(2/160)
المدلّسون
للشيخ حماد الأنصاري المدرس بالجامعة
الحلقة الثانية:
الباء
(ع) بشير بن زاذان: روى عن رشدين بن سعد وغيره, وروى عنه قاسم بن عبد الله السراج, ضعفه الدارقطني وغيره, ووصفه بن الجوزي بالتدليس عن الضعفاء, من الطبقة الخامسة, لم أجد له وفاة.
(ب) بشير بن المهاجر الغنوي: من رجال مسلم, كوفي يروي عن الحسن وطبقته, وثقه بن معين وغيره, وقال بن حبان في ثقاته: "روى عن أنس", ولم يره دلس عنه, من الطبقة الثانية من طبقة المدلسين.
(ع، ب،س) بقية بن الوليد الحمصي: المحدث المشهور والمكثر, له في مسلم حديث واحد, وكان كثير التدليس عن الضعفاء والمجهولين, وتعافى تدليس التسوية. وقال أبو مسهر: كُن من بقية على تقية؛ فإن أحاديثه غير نقية", توفي سنة 197هـ من الرابعة.
(ب) بكير بن سليمان الكوفي: وهو تليد بن سليمان الآتي في التاء بعده, قال فيه أحمد بن صالح العجلي:"كان يدلس", من الخامسة.
التاء
(ب، ع) تليد بن سليمان بالمثناة فوق اللام على وزن عظيم, وهو تليد بن سليمان المحاربي الكوفي: رافضي مشهور بالضعف, وهو الذي قبله, قال الحافظ: "وهم فيه العلائي وتبعه العراقي والبرهان الحلبي فذكروه ترجمتين ونسبوه للعجلي, إحداهما هكذا والأخرى بكير بالوحدة وهذا خلط وتصحيف فاحش؛ فإن بكير بن سليمان غير موجود في الكتب, بل هو تليد بفتح ثم كسر ثم تحتانية ساكنة: رافضي خبيث, قال صالح جزره: كانوا يسمونه بليدا بالموحدة مات سنة 90هـ من الطبقة الخامسة".
الثاء(2/161)
(ب) ثور بن يزيد الكلاعي: أبو خالد الحمصي أحد الحفاظ الأثبات العلماء, عن خالد بن معدان وغيره, وعنه الثوري, ثقة ثبت, قال بن المبارك: "سألت سفيان عن الأخذ عن الثور؟ فقال: خذوا عنه واتقوا قرنيه", قال أبو داود في سننه في باب مسح الخفين: "بلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء - يعني بن حيوة –", وقد تقدم كلام الشافعي في مثل هذا, توفي سنة 153 هـ من الطبقة الأولى.
الجيم
(ب) جابر بن يزيد الجعفي: أحد كبار علماء الشيعة, عن الشعبي وغيره, قال أبو نعيم: "قال الثوري: "كل ما قال فيه جابر: سمعت أو حدثنا فاشدد يديك به, وما كان سوى ذلك فتوقه", وقال النسائي: "متروك", له في سنن أبي داود فرد حديث..من الطبقة الخامسة توفي سنة 128هـ.
(ع) جبير بن نفير الحضرمي: أبو عبد الرحمن الشامي, مخضرم أسلم في زمن أبو بكر الصديق, عن عبادة وعيينة, وثقه أبو حاتم, وقال ابن عبد الهادي الإمام شمس الدين الحنبلي في طبقات الحفاظ: "لم يخرج له البخاري؛ لأنه ربما دلس عن قدماء الصحابة", من الطبقة الثانية توفي سنة 752 هـ وقيل سنة 85هـ.
(ع) جرير بن حازم الأزدي: وصفه بالتدليس يحي الحماني في حديثه عن أبي حازم عن سهل بن سعد في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم, من الطبقة الأولى مات سنة 170 هـ بعد أن اختلط، ولكنه لم يحدث في حال اختلاطه.
الحاء
(ع ب) حبيب بن أبي ثابت: من ثقات التابعين, يروي عن ابن عمر وابن عباس, تكلم فيه بن عون, وغاية ما قال فيه: "كان أعور", وهذا وصف لا جرح, مشهور بكثرة التدليس, وصفه ابن خزيمة والدارقطني وغيرهما. ونقل أبو بكر بن عياش عن الأعمش عنه أنه كان يقول: "لو أن رجل حدثني عنك ما باليت أن أرويه عنك"يعني وأسقطته من الوسط, من الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين, توفي سنة 119هـ, وقيل غير ذلك.(2/162)
(ع ب) حجاج بن أرطاة الكوفي المشهور: أخرج له مسلم مقرونا بغيره, وصفه النسائي وابن معين بالتدليس عن الضعفاء, وممن أطلق عليه التدليس ابن المبارك ويحي القطان وأحمد, قال أبو حاتم: "إذا قال: حدثنا فهو صالح لا يرتاب في حفظه وصدقه وليس بالقوي", من الرابعة توفي سنة 147هـ.
(ع) الحسن بن علي بن محمد: أبو علي بن المذهب بضم الميم وكسر الهاء التميمي البغدادي الواعظ رواية المسند عن القطيعي, قال الخطيب: روى عن القطيعي حديث لم يسمعه منه, وقال الذهبي: "لعله استجاز روايته بالإجازة والوجادة".
قال الخطيب: "وحدثني عن أبي عمرو بن مهدي بحديث فقلت:لم يكن هذا عند بن المهدي فضرب عليه". قال الخطيب: وكان سماعه صحيحا في المسند إلا في أجزاء منه ألحق اسمه فيها", وتعقبه ابن نقطة بأنه لم يحدث بمسندي فضالة بن عبيد وعوف بن مالك, وبقطعة من مسند جابر, فلو كان يلحق اسمه لألحقه في الجميع, ولعل ما ذكر الخطيب أنه ألحقه كان يعرف أنه سمعه أو رواه بالإجازة. من الطبقة الثانية توفي سنة 444 هـ.
(ع ب) الحسن بن أبي الحسن البصري: الإمام المشهور, من سادات التابعين, رأى عثمان وسمع خطبته, ورأى عليا ولم يثبت سماعه منه, كان مكثر من الحديث, ويرسل كثيرا عن كل أحد, وصفه بتدليس الإسناد النسائي وغيره, قال بن معين وغيره: "لم يسمع الحسن من سمرة غير حديث العقيقة"وقال البخاري: "قد سمع منه أحاديث كثيرة", وصح سماعه من سمرة فيما ذكره أبو عيسى الترمذي عن الإمام البخاري. من الثانية 110هـ.
(ع ب) الحسن بن ذكوان: مختلف في الاحتجاج به, وله في صحيح البخاري حديث واحد له شواهد, ذكره محمد بن نصر المروزي في حديث عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن حمزة عن علي "نهى عن ثمن الميتة"الحديث, ولهذا قال بن معين في كل ما رواه الحسن بن ذكوان عن حبيب بن أبي ثابت أن بينه وبين حبيب رجل ليس بثقة. من الطبقة الثالثة لم أجد له وفاة.(2/163)
(ع) الحسن بن عمارة الكوفي الفقيه المشهور أبو محمد: ضعفه الجمهور, وقال ابن حبان: "كان بليته التدليس", ورماه ابن المديني بالوضع. من الخامسة سنة 153 هـ.
(ع ب) الحسن بن مسعود بن الحسن أبو علي بن الوزير الدمشقي, محدث مكثر, مذكور بالحفظ, قال بن عساكر: "كان يدلس عن شيوخه ما لم يسمعه منهم". من الثانية مات سنة 543 هـ.
(ع) حسان بن يزيد الجعفي: ضعفه الجمهور, ووصفه الثوري والعجلي وابن سعد بالتدليس. من الخامسة, لم أجد له وفاة.
(ب) الحسين بن عطاء بن يسار: من أهل المدينة, يروي عن زيد بن أسلم, روى عنه عبد الحميد بن جعفر, "يخطئ ويدلس", قاله ابن حبان في ثقاته. من الخامسة.
(ع ب) الحسين بن واقد المروزي: أحد الثقات من أتباع التابعين, وصفه الدارقطني وأبو يعلى الخليلي بالتدليس, من الأولى, توفي سنة 159هـ.
(ع ب) حفص بن غياث الكوفي القاضي: أحد الثقات من أتباع التابعين, وصفه أحمد بن حنبل والدارقطني بالتدليس. من الطبقة الأولى, توفي سنة 194هـ على الأصح.
(ع ب) الحكيم بن عتبة - بمثناة ثم موحدة مصغّر-: تابعي صغير من فقهاء الكوفة مشهور, وصفه النسائي بالتدليس, وحكاه عن السلمي عن الدارقطني. من الثانية, "مات سنة 115هـ"قاله أبو نعيم.
(ع ب) حميد الطويل صاحب أنس: مشهور, كثير التدليس عنه, حتى قيل: "إن معظم حديثه عنه بواسطة ثابت وقتادة", وصفه بالتدليس النسائي وغيره, وقد وقع تصريحه عن أنس بالسماع وبالتحديث في أحاديث كثيرة في البخاري وغيره. من الثالثة توفي سنة 142هـ.(2/164)
(ع ب) حميد بن الربيع بن مالك بن سحيم: أبو الحسن اللخمي الخزاز, في ترجمته في ميزانه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة "أنه يدلس", وهو من طبقة عثمان, قال محمد بن عثمان قال أبي: "إني لأعلم الناس بحميد بن الربيع", كان ثقة ولكنه يدلس, وقال الخليلي: "طعنوا عليه في أحاديث تعرف بالقدماء فرواها عن هشيم", قال الحافظ: "وهذا هو التدليس". من الطبقة الرابعة, لم أجد له وفاة.
(ع) حماد بن أسامة أبو أسامة الكوفي: من الحفاظ, من أتباع التابعين, مشهور بكنيته, متفق على الاحتجاج به, وصفه بالتدليس القبطي قال:"كان كثير التدليس ثم رجع عنه", وقال بن سعد: "كان كثير الحديث, ويدلس ويبين تدليسه"وقد قال أحمد: "كان صحيح الكتاب ضابط لحديثه", وقال أيضا: "كان ثبتا ما كان أثبته لا يكاد يخطئ". من الثانية, توفي سنة 201هـ.
(ع) حماد بن أبي سليمان: الكوفي, الفقيه المشهور, ذكر الشافعي أن شعبة بحديث عن حماد عن إبراهيم, قال: فقلت لحماد: سمعته من إبراهيم قال: لا،أخبرني به المغيرة بن مقسم عنه. من الثانية, توفي سنة 120هـ.
الخاء
(ع ب) خارجة بن مصعب الخراساني: ضعفه الجمهور, قال ابن معين: "كان يدلس عن الكذابين", وفي الجرح والتعديل: "أنه يدلس عن غياث". من الخامسة, توفي سنة 168هـ.
(ع) خالد بن معدان الشامي الثقة المشهور, قال الذهبي: "كان يرسل ويدلس", من الثانية, مات سنة 103هـ.
(ع) خالد بن مهران الحذاء وليس بالحذاء ولكنه كان يجلس عند الحذائين..أحد الأثبات المشهورين, روى عن عراك بن مالك حديثا سمعه من خالد بن أبي الصلت عته في استقبال القبلة في البول, قال بن سعد: "ثقة لم يكن بالحذاء بل كان يجلس إليهم". من الأولى, توفي سنة 142هـ.
الدال والذال: فارغتان وكذلك الراء
الزاي(2/165)
(ع) زيد بن أسلم العمري مولاهم, روى عن ابن عمر رضي الله عنه في رد السلام بالإشارة, قال عبيد: "قلت لإنسان سله: "أسمعه من ابن عمر؟ ", فسأله فقال: "أما أني فكلمني وكلمته"أخرجه البيهقي. وفي هذا الجواب إشعار بأنه لم يسمع هذا بخصوصه منه مع أنه مكثر عنه فيكون قد دلسه. من الأولى, مات سنة 136هـ.
- يتبع -(2/166)
الإمام عبد العزيز
للشيخ محمد بهجت الأثري
هذه قصيدة رائعة كان قد نظمها فضيلة الشيخ محمد بهجت الأثري عند وفاة الملك عبد العزيز رحمه الله. وفضيلته من كبار علماء العراق وأدبائها, وهو عضو في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة, وعضو في المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
وبأي لفظ تنطق الشعراء؟
أنّى تفي برثائك البلغاء؟
وخرست لما فاهت الأنباء
كبُر النعي عليّ حتى رابني
ضاقت بوصف فعالها الفصحاء؟
منعاك، أم منْعى البطولات التي
هي في مناحة رزئك البلغاء!
إنّ الملاحم والعظائم والتقى
وتفجري بالسحر يا (بطحاء)
يا (نجد) هاتي الرائعات من الرؤى
وتناقلت أنباءه الخضراء
وصفا لنا ما دار فوق ثراكما
حييت بحسن بلائها الصحراء
من واقعات منهضات (يعربا)
طلق الأعنة طامح أبّاء
أجرى سوابقها إلى غاياتها
في الناس ألقاب ولا أسماء
(عبد العزيز) .. ولن تزيد جلاله
ومضائه , والهادم البنّاء
العبقري الفذ في عزماته
ما هولته بسحرها النبغاء
هذا الذي لقفت نهاه بسحرها
فزهت (تهامة) واشمخرّ (حراء)
فسل (الجزيرة) كيف هزّ رمامها
وحياتها ببياضها سوداء
أفنى شبيبته لرد شبابها
نسخت سواد العيش فهي ذُكاء
حتى أفاء على بنيها أنعما
والعود يزهر , والظلام يضاء
فإذا الحياة تجيش في جنباتها
(عاد) وردت (تغلب) الغلباء
عادت إلى الأمم الطليقة حرة
ما للحياة مع الخمول وراء(2/167)
صحب الفلاح الناهضين إلى العلى
نسَقاً، وكل درة عصماء
يا ابن العظام المالكين تتابعوا
المحسنين إذا البغاة أساؤوا
الحاملين إذا الغواة تمردوا
مات الرجاء, وأخلف الرؤساء
الناهضين (بيعرب) من بعد أن
والدين آفة روحه الأهواء
المنقذين الدين من بدع الهوى
وأذاقهم ثكل الحمى الغرماء
لما أدال القاسطون زمانهم
صغرت لدى عظماته العظماء
كنت العِصاميَ العظامي الذي
نفس على الدنيا بها إرباء
بعثت حفاظك للجدود وللحمى
وتلفتت لفعاله الأحياء
إن الذي هز الزمان بطولة
زمر بَمدرجة الهوى لعباء
يفع لبانته العلى, ولداتُه
زمر بمدرج
ومناه ملك دونه الجوزاء
لذاتهم عبث الصبا وفنونه
ذل أناخ بآله وشقاء
قد ذاق ثكل زواله وأمضّه
صدته من أحلامها الغلواء
لا النفي كفكف من سطاه ولا الصبا
مما يكابد من جوى ويساء
حرّان..حاربه الفراش مؤرّق
بكريمتيه، وساءه الإنضاء
كالصقر فوق المربأ العالي..رنا
تدني البعيد الهمّةُ القعساء
أين (الرياض) من (الكويت) ؟ وإنما
تطويه في لهواتها الصحراء!
لله سار في الدياجر سارب
عن عزمه حد له ومضاء
كالسيف سال من القِراب وما انثنى
حتى دهته الطعنة النجلاء
عجلاّ إلى (عجلان) .. لم يشعر به
والحر يثأر, والدماء بواء
بيديك يا (عبد العزيز) أذيقها
بك أمة, وتسامت الأملاء
يا طعنة طاحت بفرد, قد علت
وعلت لمجدك راية شماء
حتى جرى الفتح المبين إلى المدى
يمن النقيبة همة ودهاء(2/168)
والفتح بشرّ بالفتوح, وأيدت
ومعيد سيرة ما بنى الآباء
يا باعث التاريخ من أجداثه
منها بما تتماثل السيماء
ذهبت عصور المعجزات, فجئتنا
تتألق الدنيا به وسناء
لك من بناء الدولة الكبرى سنا
ئط ملكها, والفضل والإسناء
الدين أُسُّ بنائها, والعقل حا
منها, وما يتعجب البسلاء
خمسون قد حفلت بما أعيا الورى
عجباً, وتزهى (يعرب العرباء)
تتخايل الأبناء من سيمائها
يحكي سناها عهدك الوضّاء
ذكرت عهود الراشدين, وإنما
أسطورة هرفت بها القدماء
لكأنّ ما يروي لنا من أمنه
فيه, وصاحبت الذئاب الشاء
فلقد تمتعت العيون من الكرى
وعلاه من قسمتها لألاء
ومشت عليه من الحياة بشاشة
شعّ الرواء به وشفّ الماء
كاللؤلؤ اللماح..كيف نظرته
ند, وأين لمثله النظراء؟
يا راحلاً.. خلت العصورُ, وما له
فإذا هم أرض وأنت سماء
أعطاك ربك فوق ما أعطى الورى
أعطى، وما قسم العباد سواء
أعطى, وزادك بسطة في كل ما
ذهبٌ كأن فيوضه الدأماء
وحباك ملكا سال في جنابته
لم يزهه ملك ولا نعماء
وكأنك (الفاروق) في أطماره
تذهب على الدنيا بك الخيلاء
متواضع لله, لم تبطر, ولم
وعشِقتَ ما يتعشق الصلحاء
عشق الملوك الأبهات وعفتها
وتضاءلت في عينها الأشياء
وإذا صفت نفس العظيم تكرّمت
ما طاله من قلبك الحكماء
وسموت بالرأي الأصيل إلى مدى
عقل يفيدك كسبه العلماء
إن الأصالة في العقول أجل من
يُحكى, وموهوب له الآراء
شتان بين مقلد يروي الذي(2/169)
حملته فوق مهادها الغبراء
أكبرت في بريدك أكرم ماجد
لهواك بين جوانحي إحفاء
وحببت فيك العبقرية, فاغتذى
ما إن لها أبد الأبيد شفاء
أبقى مماتك في حشاي جراحة
والدين والأخلاق والحنفاء
فإذا بكيت فالعلى تبكي معي
بكم عن الملك العظيم عزاء
أبني السعود الأكرمين بني العلى
حقاً على ميراثه الأمناء
فيكم مشابهة, وأنتم بعده
زاكٍ, وتحت بنودكم وضاء
شرف (العروبة) في ظلال سيوفكم(2/170)
بماذا نسمي الحاكم العبيدي؟
رمضان أبو العز
في ذكرى أعظم ليلة أهلت على الوجود, ليلة القدر العظمى في ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي, فتحت المذياع لأرى ما شأن المسلمين, وكيف يواجهون الأحداث, وبوجه أخص بعد النكبة النكباء التي ألمت بهم, فسمعت احتفالا أقيم في مسجد من أكبر مساجد الشرق الأوسط فماذا سمعت؟
وفد على المسجد الآلاف تتلوها الآلاف يهيأ إليك من احتكاك أقدامهم وانتشار همسات أصواتهم أن العدد قارب المليون, ولا بد أنّ الأضواء كانت لألأة أخاذة, وبعد قليل حضر جوهر الحفلة ولوائها, وهو مقرئ شهير فاستهل التلاوة بقوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} , برزانة وتؤدة, فلم يكن هناك إنصات ولا استماع, ثم عدَّل المقرئ طريقته, وابتدأ التنغيم والتقطيع على مقاطع الغناء, فعلت أصوات الاستحسان الصاخبة من كل جانب (الله، الله يا سي الشيخ) ثم إذا صوت عال يصيح: (صلي على النبي) مادّاً في الياء, علامة على الطرب, فاستجاب المقرئ, فكان يعيد الآيات التي نالت الاستحسان أربع مرات أو تزيد, علمت أن القوم إنما جاءوا ليستمعوا إلى حفلة طرب وغناء, والذي أكد هذا المعنى أنّ المقرئ حين وصل إلى قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا} وقف المقرئ على {يَا وَيْلَنَا} , فإذا الآلاف المؤلفة تصرخ دفعة واحدة الله، الله أعد! .. وهكذا فعلوا بعد آيات العذاب..(2/171)
أغلقت المذياع, وقلت لنفسي: يا حسرة على المسلمين, إن هذه الآيات التي تفتت الأكباد وتدر الدمع منهمرا لم يبق لها من أثر لديهم إلا التطريب والتنغيم, تأملت قليلا فعلمت أن الذي سنّ هذه الحفلات في العالم الإسلامي ابتداء إنما هم الذين سموا أنفسهم (بالفاطميين) , وما هم إلا العبيديون, وينسبون إلى خليفتهم الأول (عبيد الله بن ميمون القداح) .
ومن أعجب الظواهر التي برزت في عصرنا الحاضر محاولة التهوين من الجرائم الكبرى, وإن شئت فقل: محاولة العطف على الجريمة, فمن ذلك المطالبة المستمرة بإلغاء عقوبة القتل, حتى عن القتلة الذين أزهقوا عشرات الأنفس البريئة, ووصلت الدناءة عندهم إلى عدم اعتبار اللواط جريمة, والعياذ بالله.
وإن دلت هذه الظاهرة على شيء إنما تدل على سريان الانحراف, وفشو المرض في القلوب, وقديما قيل: "النقص يهوى النقص".
فمن هذا القبيل ما صدر عن الدولة العبيدية بوجه عام, وعن خليفتها السادس الحاكم بأمر الله, وبوجه أخص من هدم وتمرد على الله, لقد أصدر هذا الحاكم أوامره بتحويل الليل إلى نهار, والنهار إلى ليل, فأمر بقفل الحوانيت نهارا وفتحها ليلا, ومما روي في هذا الصدد أنه مر على صانع يعمل في حانوته نهارا, فلما سأله عن سبب مخالفته الأمر أجاب الصانع: "أنا لست في نوبة عمل الرسمية, وإنما كثرت أشغالي, فأنا في نوبة السهر, والسهر لا يكون إلا نهارا".
كما حرَّم على الناس أكل الزيت والعسل والملوخية, ومن ذلك أتت تسميتها (ملوكية) , ثم قلبت الكاف خاء.
وقد ذهب كتّاب التاريخ في أمر الحاكم مذاهب شتى؛ فقال بعضهم: "إنّ ما صدر عنه مجرد شذوذ", وقال الزميل علي أحمد باكثير: "إنها مجرد عقدة نفسية لا أكثر ولا أقل", وهذه الأحكام ما صدرت في الحقيقة إلا عن جهل مطبق بواقع الرجل, وواقع أسرته.(2/172)
وبالرغم من أن فريقا آخر نسبه إلى العته والجنون, إلا أن هذا الفريق ما زال بعيدا عن فهم السر الذي قامت عليه تصرفات الحاكم, وتصرفات أسرته.
وفريق ثالث من المؤرخين وقف موقف المدافع عنه, وإذا عرفت أنّ على رأس هذا الفريق الدكتور (فلييب حتى) النصراني حيث يقول عن الحاكم العبيدي: "لقد اتهموه مدونو الأخبار من خصومه بغرابة الأطوار"، إذا عرفت هذا بطل عجبك؛ فأمثال (فلييب حتى) يفرحون بكل عامل فيه هدم للإسلام, ولكن العجب أن يتابع (فلييب حتى) مؤرخ حديث لامع, وهو الدكتور أحمد شلبي حيث يقول - مدافعا عن الحاكم -: "وقد كتب تاريخ الحاكم إثر وفاته, وقد عادت السلطة إلى من اضطهدهم الحاكم, أولئك الذين كان يهمهم أن يبرزوه معتوها أو مجنونا ليصرفوا الناس عن البحث عن قتلته, أو الكشف عما في القضية من أسرار", ولكن الدكتور شلبي إنما تابع في مقالته هذه الدكتور (حتى) جهلا منه بسوء مقصد الدكتور (حتى) , ولذلك قال الدكتور شلبي - في ختام كلمته –: "وقد فطن الدكتور (فلييب حتى) لموقف التاريخ من الحاكم".
ولكي نفهم هذا الحاكم العبيدي فهما أعمق يجب أن نرجع بعض الخطوات إلى الوراء.
تنسب الدولة العبيدية إلى مؤسسها (عبيد الله بن ميمون القداح) الذي ادعى الانتساب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق من البيت الحسيني, ولقد استطاع عبيد الله أن يؤسس الدولة العبيدية في مكان ما من تونس, سماها (المهدية) في سنة 297هـ, وخلفه القائم ثم المنصور فالمعز - الذي انتقل إلى مصر 362هـ بعد أن أسس له قائده جوهر للصقلي القاهرة المعزية سنة 969م, ولذلك يحاولون إقامة العيد الألفي لتأسيس القاهرة - ثم العزيز ثم الحاكم هذا.(2/173)
وفرقة الإسماعيلية هم من أعنف الفرق الهدامة في الإسلام, بل وفي العالم بأسره, فهم الذين حرفوا الدين, ونقضوا قواعده, ولما عجزوا عن تحريف القرآن لجأوا إلى تحريف المعنى, فيوسوس لهم الشيطان بفكرة غاية في الخبث واللؤم, تلك أنّ لكل نص ظاهرا وباطنا, فسرح خيالهم اللئيم في أوحال هذا الباطن, حتى ركزوا فيه كل الوثنيات, والخزعبلات, والإلحاديات, ما خطر منها بالبال, وما لم يخطر حتى نقضوا كل العبادات, والفرائض, مثال ذلك:
الحلال: هو الواجب إظهاره من عقائدهم..
الحرام: هو الواجب ستره وكتمانه.
وعلى هذا الأساس يحرّمون الحلال, ويحلون الحرام. والصلاة عندهم هي صلة الداعي, وموالاة الإمام. وأما الزكاة فليست إلا إيصال الحكمة إلى مستحق, وبناءا على هذا يبطلون الصلاة والزكاة, بل وجميع الفرائض, فالصيام عندهم ليس سوى الإمساك عن إفشاء سر الإمام, وأما الحج فليس إلا القصد إلى صحبة الأئمة والسادة.
والظلم عندهم وضع الإمام في غير آل محمد صلى الله عليه وسلم, والجبت عندهم هو أبو بكر الصديق, والطاغوت هو عمر رضي الله عنهما, وبرّأهما من وصفهم اللعين.
ودليلهم في إسقاط العبادات قوله تعالى في سورة الحجر: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} , واليقين عندهم: هو المعرفة التامة بعلم التأويل والباطن, وعندهم تسقط العبادة ويسقط التكليف قبحهم الله.
ثم تطرقوا إلى ذي الجلال سبحانه فقالوا: إنّ الله - سبحانه وتعالى عما يصفون - إنما هو تأويل الكلمة, أما النبوة عندهم فليست سوى تنصيب المرشد, والدليل والباب, وهي وظائف احتكروها هم بزعمهم.
أما القيامة فليست عندهم سوى قيام الشرائع بظهور صاحب الزمان..الخ.
من ذلك يتضح مدى إيغالهم في التخطيط للهدم عن طريق هذا الباطن الخبيث ...(2/174)
والنظرة العميقة لتاريخ العبيديين تدلنا بوضوح على أنّ نِحلَتَهُم إنما قامت على الهدم والإلحاد, ثم تأليه ملوكهم, من أول عبيد الله إلى آخرهم, غاية ماهنالك أنّ أوائلهم قد اضطروا إلى إخفاء غرضهم السيئ حقبة من الزمن, فأخرّوا إعلان الألوهية إلى أجل حتى لا ينكشف مستورهم, تماما كما يفعل الشيوعيون والإشتراكيون من تقسيم دعوتهم على مراحل ثلاث أو أكثر, حسب الظروف والمُلابَسات.
وبالرغم من هذا التستر ومن إحكامهم كتمان الأمر كانت نواياهم تبدو سافرة, الفينة بعد الفينة, ففي عهد القاسم بن عبيد الله المهدي ثاني خلفائهم أصدر هذا القاسم سنة (326) تعليمات بسب الصحابة عامة, والشيخين العظيمين خاصة, فقامت ضده ثورة عارمة قادها أبو زيد مخلد بن كيراد الملقب بـ (صاحب الحمار) , وقد ظلّت مستعرة عشر سنوات, وهلك القاسم وهي قائمة, وقد أخفى ابنه المنصور خبر وفاته حتى لا يتقاعس ضده, ولم يتمكن المنصور من إخمادها إلا بعد عناء كبير.
فعلَّمتهم هذه الثورة أنّ الأوان لم يئن لنشر ترّهاتهم حتى إذا جاء المعزّ وأنشأ القاهرة أوعز إلى شاعره ابن هانئ الأندلسي بالتنويه بتأليههم.
فمن أبياته المشهورة في هذا الصدد:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فافعل أنت الواحد القهار
وقد ظن بعض السذّج أنها مجرّد غلو من ابن هانئ, ولكن إذا علمت أنه دأب على هذا الدرب تيقّنت أنه طريق مرسوم, اسمع إليه حين يصف المعزّ بصفات ذي الجلال سبحانه:
ندعوه منتقما عزيزا قادرا
غفار مويقة الذنوب صفوحا
وفي قصيدة أخرى يقول في المعز:
فيا رازقا من كفه نشأ الحيا
وإلا فمن أسرارها نبع البحر
وعنده من هذا القبيل شواهد كثيرة جدا.
وقد ثبّت المعزّ أركان دولته بعد اتخاذ القاهرة عاصمة له, وجاء ابنه العزيز فضمّ إليها الشام والحجاز.(2/175)
ثم جاء الحاكم بأمر الله ابن العزيز فوجد دولته ثابتة الأركان, عزيزة المنال, فما عليه من بأس لو كشف المستور, وأبرز المخبوء, فهو لم يحرم العمل نهارا والسكون ليلا إلا على اعتبار أنه مدير الكون, فمن حقه أن يجعل الليل نهارا والنهار ليلا, وعلى هذا الأساس حرّم ما حرّم من الطعام والملبس, فهو وحده الذي يحلّ ما يشاء ويحرم ما يشاء, قبّحه الله.
وليس أدلّ على هذا من أنه أمر الناس بالسجود له, ولنستمع الآن إلى أئمة المؤرخين من السلف الذين فطنوا إلى الفاطمية وحقيقة أمر الحاكم:
1- قال فيه الحافظ ابن كثير في الجزء الثاني عشر من البداية والنهاية: "كان جباراً عنيدا وشيطانا مريدا, أخزاه الله", وقال: "كان يروم أن يدّعي الألوهية كما ادّعاها فرعون, فأمر أهل مصر إذ قاموا عند ذكره خرُّوا له سجّداً, حتى إنه ليسجد بسجوده من في الأسواق", ثم ذكر أن العامة بمصر كانوا يكرهونه, ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه.
2- ثم انظر إلى ابن الجوزي وما قال فيه: "ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنَّ له أن يدَّعي الربوبية, فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد.. يا أحد.. يا محيي.. يا مميت قبحهم الله جميعا".
3- أما الإمام السيوطي فقد أسقطهم, وأهمل ذكرهم في كتابه (تاريخ الخلفاء) , وفي ذلك يقول في مقدمة الكتاب: "ولم أورد أحداً من خلفاء العبيدين؛ لأنّ إمامتهم غير صحيحة لأمور؛ منها:
أ - أنهم غير قرشيين, وإنما سمَّتهم بالفاطميين جهلة العوام, وإلاّ فجدهم مجوسي, فقد كان جدُّهم يسمى سعيداً, وكان أبوه يهودياً حدّاداً تشابه.
ب - ومنها أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام ومنهم من أمر بالسجود له" إلى أن قال: "ومثل هؤلاء لا تصح لهم إمامة".(2/176)
4- وقال فيهم القاضي الباقلاني: "وكان المهدي عبيد الله باطنيا خبيثا حريصاً على إزالة ملة الإسلام, أعدم العلماء والفقهاء ليتمكّن من إغواء الخلق, وجاء أولاده على أسلوبه, أباحوا الخمر, والفروج, وأشاعوا الرفض".
5- وقال الذهبي: "وكان القائم بن المهدي شرّاً من أبيه, زنديقا ملعوناً, وكان العبيديون على ملة الإسلام شرّاً من التتر".
وبعد, فواجبنا أن نسمّيَ الأسماء بمسمياتها, فلا نسمي السم ترياقا, ولا البرص بياضا, ولا الهدم اشتراكية. ولحكمة بالغة نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نسمي العنب كرماً؛ لأنّ تلك التسمية الجميلة قد تنسحب إلى أم الخبائث (الخمر) , المستخرجة من العنب, فنزينها ونحببها للناس.
ولنقل في مثل الحاكم العبيدي وأسرته ما قاله الأئمة الأعلام, كابن كثير, والذهبي, والسيوطي, والباقلاني, ولا نقتصر على مجرّد الشذوذ, أو العقيدة النفسية, أو الشطط, بل الصراحة في مثل هذه الأقوال حتم لازم.
رمضان أبو العز
سؤال
سأل رجل الأعمش فقال له: إني أخرج من المسجد فتعلق الحصاة منه في ثوبي فكيف أفعل؟ فقال الأعمش: "ألقها في الطريق"فقال: "ولكنّهم زعموا أنها تصيح حتى تردّ إلى المسجد"فقال: "دعها تصيح حتى ينشق حلقها", قال الرجل: أولها حلق؟ فقال: "وكيف تصيح إذن".(2/177)
حقيقة الجهاد وأطواره
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بالجامعة
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعهد بنصرة أوليائه وفي ذلك يقول:} وإنّ جندنا لهم الغالبون {, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله القائل: "إن الجنة تحت ضلال السيوف", صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وصحبه الموصوفين في محكم الكتاب بأنهم} أشداءُ على الكفار رُحماءُ بينهم {, سلكنا الله وإياكم في حزبهم, وهدانا لسلوك دربهم وسبيلهم أما بعد:(2/178)
فإن فريضة من فرائض الإسلام لم تتعرض لما تعرض له الجهاد من طعن أعداء الإسلام فيه، والتشويش عليه، وجعل ذلك سبيلاً للوصول إلى غمز الدين كله، حتى صاروا يوهمون الجاهلين بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأنه لو كان حقاً من عند الله لاعتمد على الحجة والبرهان، لا على السيف والسنان، ولم يقف أعداء الإسلام عند ذلك فحسب، بل استطاعوا أن يوجدوا من أبناء المسلمين من يحمل راية الحرب على الجهاد, إما بإبطاله أصلاً, كما فعل الملحد الضال غلام أحمد القادياني والقاديانيون، فقد بذل هذا المارق كل جهده في محاربة فريضة الجهاد في الإسلام، فبعد أن أعلن عام (1902م) أنه نبي مرسل, وأصدر رسالة سماها (تحفة الندوة) قال فيها: "فكلما ذكرت مراراً أن هذا الكلام الذي أتلوه هو كلام الله بطريق القطع واليقين كالقرآن والتوراة، وأنا نبي ظلي وبروزي من أنبياء الله، وتجب على كل مسلم إطاعتي في الأمور الدينية, ويجب على كل مسلم أن يؤمن بأني المسيح الموعود, وكل من بلغته دعوتي فلم يحكمني, ولم يؤمن بأني المسيح الموعود, ولم يؤمن بأن الوحي الذي ينزل عليّ من الله, مسئولٌ ومحاسبٌ في السماء -وإن كان مسلماً-؛ لأنه قد رفض الأمر الذي وجب عليه"، ثم يقول: "وقد شهد لي القرآن وشهد لي الرسول وقد عين الأنبياء زمان بعثتي.."، ثم ادعى أنه نسخ الجهاد الذي شرع الإسلام, وأن الواجب على كل مسلم أن يسالم الإنجليز، وألف لذلك كتاباً سماه (ترياق القلوب) يقول في (ص: 15) منه: "لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها, وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولى الأمر الإنجليز من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة, وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك، والمسيح السفاح, والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة(2/179)
الجهاد, وتفسد قلوب الحمقى".
ويقول في رسالة قدمها إلى نائب حاكم المقاطعة: "لقد ظللت منذ حداثة سني وقد ناهزت اليوم الستين أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية, والنصح لها, والعطف عليها, وألغي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهالهم, والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة". وقد بذلت الحكومة الإنجليزية كل مستطاع لإنجاح هذه الدعوة, وأغدقت على دعاتها الأموال الطائلة والمناصب الرفيعة.
ولم يقف أعداء الإسلام في محاربة دعوة الجهاد إلى هذا الحد، بل صاروا يساعدون على نشر أفكار أخرى, منها أن الجهاد في الإسلام ليس من أجل الإسلام، وإنما هو لمجرد الدفاع عن النفس فقط، وقد لقيت هذه الفكرة نجاحاً في أوساط المثقفين من المسلمين بالثقافة الأجنبية حتى رسخت في قلوب عامة المفكرين تقريباً في هذا العصر الحاضر، فصاروا دعاة لها، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الدفاع أمر طبيعي لا ديني، فالحيوانات بل حتى الجمادات والنباتات قد خلقت في الكثير منها خاصية الدفاع ضد أعدائها كما هو معروف في علم النبات، وعلم الحيوان، وسنحاول هنا الإشارة إلى طبيعة الجهاد عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين يحملون الراية ضد الجهاد في الإسلام, ويشيعون ويذيعون أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف, ناسين أو متناسين أو جاهلين ما عندهم في التوراة والإنجيل، وناسين أو متناسين أو جاهلين كذلك أن جنوب شرق آسيا يعيش فيه الآن أكثر من مائة وخمسين مليون من المسلمين, منهم حوالي مائة مليون في أندونيسيالم يذهب إليهم جندي واحد من جيش المسلمين، بل دخلوا في دين الله أفواجاً من تلقاء أنفسهم لما ظهر لهم أنه الدين القيم، كما سنحاول كذلك الإشارة إلى أطوار الجهاد في الإسلام، إن شاء الله.
تعريف الجهاد:
الجهاد في لغة العرب معناه المشقة، يقال: جهدت أي بلغت المشقة.(2/180)
أما تعريفه شرعاً فهو بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق قال الحافظ في الفتح: "فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها, وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات, وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب, وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب، وأعلى أنواع الجهاد هو الجهاد بالنفس على حد قول الشاعر:
يجود بالنفس أن ظن البخيل به
والجود بالنفس أسمى غاية الجود
تاريخه:
والجهاد مشروع في الأصل في جميع الديانات السماوية، يشير إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .(2/181)
وكذلك قوله عز وجل في شأن موسى صلى الله عليه وسلم:} يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ, قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ, قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ, قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ, قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .(2/182)
وكقوله عز وجل:} فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {.
طبيعة الجهاد في الأديان السابقة:
وكان الجهاد في الأديان السابقة يتسم بالعنف على العدو، فيوجب تحريق بلده وإبادته وقتل النساء والأطفال والشيوخ المسنين، ولا يبيح الأسرى إلا لأمد قصير، وإليكم نصوصاً من التوراة والإنجيل أو بتعبير آخر: من العهد القديم والعهد الجديد.
ففي سفر يشوع (الإصحاح السادس) بعد أن ذكر قصة محاصرة يشوع وبني إسرائيل لأريحا, وتواعدهم أن يهجموا على المدينة عند الهتاف وضرب الأبواق، جاء فيه: "20 فهتف الشعب وضربوا الأبواق, وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافاً عظيماً فسقط السور في مكانه, وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه, وأخذوا المدينة. 21 وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف".(2/183)
ثم يقول السفر:"24 وأحرقوا المدينة بالنار مع كل مابها: إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب يسوع".
وفي الإصحاح الثامن من يشوع في قصة حربهم لمملكة عاي بعد أريحا يقول:"1 فقال الرب ليشوع: لا تخف ولا ترتعب خذ معك جميع رجال الحرب وقم أصعد إلى عاي, انظر قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه 2 فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها".
ثم يقول في الفقرة 8 "ويكون عند أخذكم المدينة تضرمون المدينة بالنار، كقول الرب تفعلون, انظروا قد أوصيتكم". ثم يقول: "21 ولما رأى يشوع وجميع إسرائيل أن الكمين قد أخذ المدينة وأن دخان المدينة قد صعد انثنوا وضربوا رجال عاي 22 وهؤلاء خرجوا من المدينة للقائهم فكانوا في وسط اسرائيل, هؤلاء من هنا وأولئك من هناك, وضربوهم حتى لم يبق منهم شارد ولا منفلت. 23واما ملك عاي فأمسكوه حيا وتقدموا به إلى يشوع 24 وكان لما انتهى إسرائيل من قتل جميع سكان عاي في الحقل في البرية حيث لحتوهم وسقطوا جميعا بحد السيف حتى فنوا أن جميع إسرائيل رجع إلى عاي وضربوها بحد السيف 25 فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثنى عشر ألفاً جميع أهل عاي". ثم يقول "28 وأحرق يشوع عاي وجعلها تلاًّ أبديا خرابا إلى هذا اليوم. 29وملك عاي علقه على الخشبة إلى وقت المساء, وعند غروب الشمس أمر يشوع فأنزلوا جثته عن الخشبة وطرحوها عند مدخل باب المدينة وأقاموا عليها رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم". هذه بعض نصوص العهد القديم.(2/184)
أما العهد الجديد فبالرغم من أن النصارى يزعمون أنهم دعاة سلام وانهم في سلامهم مستمسكون بالإنجيل الذي يقول: "من ضربك على خدك الأيمن أًدِرْ له خدك الأيسر", فبالرغم من هذه الدعوة التي لا يعرفون تطبيقها عندما يحتلون بعض البلاد أقول: وبالرغم من ذلك فقد جاء في إنجيل متى في الإصحاح العاشر منه:" 34 لا تظنوا أني جئت ألقي سلاما على الأرض, ما جئت لألقي سلاما بل سيفا. 35 فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه, والإبنة ضد أمها, والكنة ضد حماتها. 36 واعداء الإنسان أهل بيته. 37 من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني, ومن أحب إبنا أو إبنة أكثر مني فلا يستحقني".
وبهذه النصوص يتبين أن غيرنا من المنتسبين للأديان السماوية كانوا في باب السيف أغلظ منا سلوكا, وأشد مناشدة, وليس مثلهم- وهذه نصوصهم- أقول: ليس مثلهم هو الذي يليق به أن يتهم دين الإسلام, فإن عليهم ينطبق قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت", مع أن ما ذكرنا من نصوص كتبهم قد يؤيده القرآن في مثل قوله تعالى مشيرا إلى الأديان السماوية السابقة: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} .
أما الذين لا ينتسبون إلى دين سماوي كالشيوعيين وأشباههم فإنهم لا يتورعون عن قتال أوليائهم وأهل مذهبهم, فضلا عن أعدائهم إذا اشتموا منهم ريحا إنفصالية عنهم, كما فعل الروس وحلفاء (وارسو) في تشيكوسلوفاكيا.
الجهاد في الإسلام:(2/185)
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله أربعون سنة وستة أشهر وثمانية أيام كما قيل, فمكث بمكة يدعو إلى الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة, ويلقى من عنت قريش وأذاهم له ولأصحابه الشيء الكثير, وهم صابرون محتسبون, كلما اشتد بهم الاذى ونزل بهم الكرب من أعدائهم صبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستمعوا أو تلوا نحو قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فيهون عليهم ما يلقون في جنب الله, وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوافي الموسم كل عام, ويتبع الحجاج في منازلهم, وياتي عكاظ وغيرها من أسواق العرب يدعوا إلى الله عز وجل, حتى وفق الله جماعة من الخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود يثرب أن نبيا يبعث في هذا الزمان فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد, فلما رأى هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس إلى الله, وتأملوا أحواله, قال بعضهم لبعض: "تعلمون والله ياقوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه", فاجتمعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا وكانوا ستة, ثم رجعوا إلى المدينة ودعوا فيها إلى الإسلام فانتشر الإسلام فيها بين الاوس والخزرج, ثم حج من العام الذي يليه اثنا عشر رجلا, منهماثنان من الاوس, والباقي من الخزرج, فاجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه بيعة العقبة الأولى, ثم جاءه في العام الذي يليه أكثر من سبعين شخصا من المدينة, فاجتمعوا به عند العقبة كذلك, وبايعوه على ان يمنعوه مما يمنعون نسائهم وأبنائهم وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. ولما علم أهل مكة باجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم باهل المدينة خافوا أن ينتقل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعزموا على قتله, واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره على ما حكى الله تبارك وتعالى في ذلك حبث يقول: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ(2/186)
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . أمره الله تبارك وتعالى بالهجرة إلى المدينة, ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة, وأيده الله بنصره, وألّف بين قلوبهم بعد العداوة ومنعته أنصار الله من الأسود والأحمر رَمَتْهُم العرب واليهود عن قوس واحدة, وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة. والله يامر رسوله والمؤمنين بالكف والصبر والعفو حتى قويت شوكة المؤمنين وأصبحوا كما قال قيس صرمة رضي الله عنه:
ثوى في قريش بضع عشر حجة
يذكر لو يلقى حبيب مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما آتانا واستقر به النوى
وأصبح مسروراً بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم
بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا
وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره
وأن كتاب الله أصبح هاديا
وكما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
قومي هم الذين آووا نبيهم
وصدقوه وأهل الأرض كفار
إلا خصائص أقوام هموا تبع
في الصالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسم الله قولهموا
لما أتاهم كريم الأصل مختار
أهلا وسهلا ففي أمن وفي سعة
نعم النبي ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها
من كان جارهموا, دار هي الدار
وقاسموه بها الاموال إذ قدموا
مهاجرين وقسم الجاحد النار
أطوار الجهاد ومراحله:(2/187)
حرّم الله على المسلمين القتال طيلة العهد المكي, ونزل النهي عنه في أكثر من سبعين آية في كتاب الله عز وجل بمكة, وكانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال" حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقويت شوكة المسلمين, واشتد جناحهم أذن الله لهم في القتال ولم يفرضه لهم فرضا إذ يقول عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ, الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} , قال بن عباس رضي الله عنه ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة ومقاتل بن حيان: "هذه أول آية نزلت في الجهاد", وقد علّل الله تبارك وتعالى هذا الإذن بأنهم ظُلِموا فلم يكن لهم ذنب يقاتلون عليه فيما بينهم وبين الناس إلا أنهم يعبدون الله عز وجل, وهذا هو الطور الثاني من أطوار الجهاد إذ كان الطور الأول هو تحريمه, وكان هذا الطور الثاني هو الإذن فيه دون الإلزام به.
الطور الثالث من أطوار الجهاد:(2/188)
وكان الطور الثالث من أطوار الجهاد هو إيجابه لقتال مَن قاتل المسلمين دون من كفّ عنهم بقوله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ونحوها من الآيات, وأمّا قوله تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} , فإنّ جماعة من أهل العلم جعلوها من أدلة هذا الطور من أطوار الجهاد, وهو أن يكون فرضاً لدفاع فقط فلا يقاتل إلا من قاتل فعلا واعتدى على المسلمين ولكن بعض أهل العلم يرى أنها ليست كذلك بل يفسر قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} يعني قاتلوا من من شأنه قتالكم كالرجال الأقوياء المقاتلين أما النساء والصبيان والشيوخ المسنون ونحوهم فإنهم لا يقاتلونهم لأنهم ليسوا من أهل القتال ورغب الإسلام في هذا الطور في الجهاد حتى جعله ذروة سنان الإسلام. وفي هذا الطور ارتفعت راية الإسلام عالية في جزيرة العرب, وألقى الله الرعب في قلوب الكفار, ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر, وتحقق قول القائل:
دعا المصطفى بمكة دهراً لم يجب
وقد لان منه جانب وخطاب
فلمّا دعا والسيف صلت بكفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
وساق الله تعالى ناسا إلى الجنة بالسلاسل, ونفع الله كثيرا من الخلق رغم أنوفهم على حد قوله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فإنّ العقلاء ينفع فيهم البيان, وأما الجاهلون فدواؤهم السيف والسنان على حد قول الشاعر:
فما هو إلا الوحي أوحد مرهف
تزيل ظباه أخدعى كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل
وهذا دواء الداء من كل جاهل
الطور الرابع من أطوار الجهاد:(2/189)
ثم فرض الله الجهاد لقتال المشركين كافة مع البدء بالأقربين دارا وفي ذلك يقول: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} , وقال عز وجل: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} , وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} . وقال عزّ من قائل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} , وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله, فإن قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها", وقال صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة", وأنذر الله تبارك وتعالى من ترك الجهاد بأنه يلقي نفسه إلى التهلكة حيث قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} , فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: "حمل رجلٌ من المهاجرين(2/190)
بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه, ومعنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال ناس: "ألقى بيده إلى التهلكة", فقال أبو أيوب: "نحن أعلم بهذه الآية, إنّما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشهدنا معه المشاهد, ونصرناه فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبباً فقلنا: قد أكرمنا بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام, وكثر أهله, وكنّا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد, وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} , فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال, وترك الجهاد".(2/191)
وكانت فريضة الله في الجهاد ألاّ يفر مؤمن من عشرة كفار حيث بقول الله عزّوجل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} , ثم خفّف الله عن المسلمين, وفرض عليهم ألاَّ يفرَّ مؤمن من كافِرَيْنِ, وفي ذلك يقول: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . على أنَّ الإسلام جعل الفرار يوم الزحف من الموبقات فقد روى البجاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات؟ قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولِّي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وقد استثنى الله عزّوجل أهل الكتاب؛ فمنع قتالهم إن أدّوا الجزية عن يد وهم صاغرون, كما أمر رسور الله صلى الله عليه وسلم بقبول الجزية من مجوس هجر مع بقائهم على دينهم كذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتال النساء والصبيان, حتى قال مالك والأوزاعي - رحمهما الله -: "لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بهم". غير أن أكثر أهل العلم يقولون:"إن قاتل واحد من هؤلاء أو تترس به الكفار جاز قتله". وأكثر أهل العلم يفسّرون قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يفسرون قوله: {لا إِكْرَاهَ(2/192)
فِي الدِّينِ} : يعني اليهود والتصارى إن أدَّوْا الجزية, وقالوا: إنّ سبب نزولها أن جماعة من الأنصار كان لهم أبناء من يهوديات فأرادوا إكراههم على الدخول في دين الإسلام فأنزل الله هذه الآية. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وقد ذهب طائفة من أهل العلم أن هذه الآية محمولة على أهل الكتاب", ثم قال: "وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال, وعلى هذا فالآية إما محكمة محمولة على أهل الكتاب أو هي عامة لكنها منسوخة بآية السيف".(2/193)
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أنّ السيف من دين النبيين جميعا حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} , كما أشار إلى أن تهيئة المسلمين للقتال وإعدادهم للجهاد من أعظم ما يمكّن لهم في الأرض حيث يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} . وقد أجمل الله تبارك وتعالى ثمرة الجهاد في قوله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ؛ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ, وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
جماعة ربانية
"إنّ من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى, قالوا: "يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال يتعاطَوْنها, فوالله إنّ وجوههم لنور, وإنّهم لعلى نور, لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس". أبوداود.(2/194)
دروس من معركة أحد
بقلم الأستاذ محمد المجذوب
المدرس في الجامعة الإسلامية
كاد غبار المعركة يحجب شمس الضحى، فهي ترسل أشعتها مصبوغة بلون هذا التراب المتطاير من حوافر الخيول وأخفاف الإبل وأقدام المتحاربين من المشاة، ولو أتيح لك أن تطل من أعلى أحد على ذلك الميدان الرهيب لرأيت ما يملؤك رعباً، ثلاثة آلاف من شباب قريش لا تكاد الدنيا كلها تتسع لغرورهم واعتدادهم واندفاعهم، يحدوهم عطش الثأر لكرامة قد حطمتها في بدر سيوف الفئة المؤمنة من المستضعفين الذين يقودهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أقسموا بهبل وباللات والعزى ليغسلُنّ عار الهزيمة بدماء هؤلاء المسلمين الذين غرهم دينهم، ثم لا يعودون إلى مكة إلا بعد أن يردوا اعتبارها، فيعرف كل قاص ودان من عرب الجزيرة أن جبروت مكة ما زال في عنفوانه، إذا هو نطامن بعض لحظات حتى يخدع به الطامعون، فما يلبث أن يرجع أشد ما يكون قوة وكبرياء.
ثلاثة آلاف فارس لا تكاد تجد فيهم راجلاً، إلا هؤلاء النسوة الفرشيات، تقودهم هند زوج أبي سفيان خلال صفوف المقاتلين من الوثنيين يشددن من أعصابهم، ويوقدن حميتهم، ليشفوا صدورهن الموتورة بما ثكلت من أبناء وأخوة وآباء في معركة بدر، فكأنّ أناشيدهم ألغام تتفجر في الصدور، فتحيلها براكين من اللظى لا تخمد حتى تلتهم كل شيء!.
وهناك على الجانب المقابل من سفح أحد ترتفع راية الرسول، وقد انتشر حولها المئات السبع من جنوده، في نظام لم تسيء إليه تحركات المعركة، على الرغم من النشاط العجيب الذي يغتلي في جبهة المسلمين.(2/195)
وكان ظاهراً مدى التفاوت العددي بين الكثرة الكافرة والقلة المؤمنة، ولكن الظاهر أيضاً فرق ما بين الدوافع العاملة هنا وهناك، فما كان المسلمون ليقاتلوا بالسيوف التي في أيديهم وحدها، وإنما كانوا يقاتلون بقوة العقيدة التي في صدورهم، فهم - على قلة عددهم - أشبه بالذرة لا يكاد يحس لها وجود، ولكنها تنطوي من الطاقة على ما يسير الجبال، وينسف المدن، ويصنع المعجزات!.
ولقد خرج الرسول من المدينة بألف محارب، حتى إذا كان في الطريق إلى أحد بصر بكتيبة من اليهود قد أقبلت للانضمام إلى جيشه نصرة لحليفها ابن أبيّ رأس المنافقين في المدينة، ولكن الرسول لم يرض نصرتها وقال: "لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك ما لم يسلموا "..، وعادت كتيبة اليهود، ثم انسحب خلفها منافقوا المدينة بقيادة شيخهم ابن أبيّ هذا، محتجاً بالغضب لكرامة حلفائه!.. وما كان انسحابه في الواقع إلا إضعافاً لعزيمة المسلمين، وإيهاناً لقوتهم..، وهكذا تقلص عدد المحاربين مع الرسول إلى سبعمائة مقاتل..، وكان ذلك باعث تخوف على مصير المسلمين، أن يلقوا بقوتهم القليلة هذه تلك الكثرة الكاثرة من صناديد الوثنية وجباريها!،.. ولكن المؤمنين مع رسول الله ما كانوا ليرتابوا في حكمة قائدهم المعصوم، فهم موقنون أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان ليرفض نصرة اليهود, ويخسر مساعدة المنافقين معهم، إلا إيثاراً لتطهير صفوفهم من عناصر الهزيمة والخيانة..، إنه خائض بالمؤمنين معركة الإسلام ضد الوثنية، وما وراء الوثنية من الظلم والطغيان، والعدوان، وما في الوثنية من حقد على الإنسانية وكفر بالحرية، وتأليب لقوى الشر، فهي إذن حرب الفكرة والعقيدة، فما ينبغي أن يكون في جنودها من لا يفنى وجوده اختياراً في هذه الفكرة وتلك العقيدة..(2/196)
وهاهي ذي حكمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتجلى أبرز من الشمس منذ مطلع المعركة، إنّ هؤلاء المئات السبع ليقتحمون صفوف الآلاف الثلاثة بمثل عصف الإعصار المندفع يمر بالقصب فيقتلعه ويحطمه..، وكما تتماسك أجزاء الإعصار فتكون قوة الهباءة منه هي قوة الإعصار كله..، هكذا الفرد المؤمن من هذه القلة يضرب الضربة فيحس أنه يضربها بسبعمائة سيف، وسبعمائة ذراع، وسبعمائة قلب..، وبهذا وذاك تستحيل الكثرة قلة تافهة، وتتحول القلة كثرة لا نهاية لقوتها..
..وسرعان ما سقط لواء المشركين فوق أشلاء عشرة من حماته بني عبد الدار..، فإذا جنود الكفر ينكشفون عن مواقعهم تحت ضغط الدفقة المؤمنة، وقد ملؤوا الساحة بجثث العشرات من زهرة شبابهم..، ولم يفتهم أن ينظروا - وهم في غمرة الهزيمة - إلى إلهِهِم الموقر يهوي على أم رأسه، وهو الذي حملوه من مكة على أضخم بعير، ليكون لهم عوناً ومسعفاً فإذا هم يغادرونه أحوج ما يكون إلى المعين المسعف..!
وضع الرسول-صلى الله عليه وسلم- بنفسه خطة المعركة، وأول ما فعله أن وزّع خمسين من مهرة الرماة وراء جيشه في أعلى الشعب من أحد، وألَحّ عليهم بملازمة أماكنهم قائلاً: "احموا ظهورنا.. إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا.. وإن رأيتمونا نغنم فلا تشاركوننا.."(2/197)
ثم رتب جيشه في صف منتظم، وتخيّر للمقدمة أفراداً من الذين يوزنون بالمئات، وأمر ألاّ يباشر قتال إلا بإذنه، ولما نشب العراك انطلق المسلمون يعملون في نظام عجيب من توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكأنهم حجر الرحى تدور حول قطبها، فهي تميل يمنة ويسرة، ولكنها لا تنفض عن دائرة القطب، ولعل مرد التماسك في هذا النظام ثقة الجيش جميعاً بحكمة القائد ووجوب الطاعة له، فليس هناك جندي واحد إلا وفي صدره يقين مطلق بأن مصير المعركة يتوقف على مدى انسجام الجنود في إرادة الرسول - صلى الله عليه وسلم- نفسه، ومن هنا كانت قلوبهم متعلقة بإشارته، يديرها في الاتجاه الذي توحي به الحكمة..
وهكذا سارت المعركة في اتجاهها الطبيعي..، وفي غمرة الاندحار الهائل شعر قادة الوثنية بعجز آلهتهم عن الصمود في وجه هذا الدم الجديد الذي دفعه الإسلام في شرايين جنوده..، وأدركوا أنهم أمام القوة التي لا تقهر، ولا تثبت لها حمية الجاهلية، مهما تبلغ هذه الحمية من الاستخفاف بالموت..، إنها القوة التي مزّقت صلات العصبيات والمنافع الأرضية لتقيم على أنقاضها وشائج أخرى من قرابة العقيدة..، وبذلك أزالت سلطان الأسر وحواجز الأنساب، لتجعل من الأفراد المتنابذين المتباعدين أسرة واحدة في أخوة جديدة دونها كل روابط الأرض..
أجل لقد كان مستحيلاً لقوة من البشر أن تتماسك في وجه هذا السيل الجارف من القوى التي يحارب بها محمد -صلى الله عليه وسلم-..، اللهم إلا أن تنقلب هذه القوى على نفسها فيحطم بعضها بعضاً..، وهيهات..، ما دام زمام هذه النفوس الجديدة في يد هذا القائد الجديد..
ولكن لا..، لقد حدث ما لم يكن في الحسبان، وهاهي ذي قوة محمد -صلى الله عليه وسلم- يتسرب إليها الخلل فجأة، كما يداهم محرك القلعة الطائرة، فإذا هي تهوي عن عرشها السماوي إلى القرار السحيق!..(2/198)
إن النفوس التي كانت إلى ساعة خلت تقاتل بأمر ربها، لإعلاء كلمته والدفاع عن رسالته، قد جذبت الدنيا أعنتها، فإذا هي تنصرف عن مطاردة العدو لتشغل بجمع الغنائم، فهيأت له بذلك فرصة الاستجمام، ثم أناحت له مجال العمل لتجميع فلوله..
ورأى خالد بن الوليد، وهو قائد ميمنة المشركين، ما عرض لجنود محمد -صلى الله عليه وسلم- من التشاغل، وكان يرصد الأمر عن كثب، يترقب ظهور مناسبة تمكنه من نجدة قومه، فإذا هو يدور من رواء الشعب ليفاجئ رماة المسلمين، وقد اختلفوا فيما بينهم، واندفع أكثرهم إلى معسكر قريش يشركون إخوانهم في الغنائم، فلم يبق منهم في مركز الدفاع إلا دون العشرة من المؤمنين، أبوا أن يفارقوا المكان الذي أمرهم رسول الله بالتزامه مهما تكن النتائج!..
ويشد خالد على بقية الرماة فيجليهم.. وينصب من هناك على مؤخرة المسلمين فيبغتهم بما لم يحتسبوا، ويبلغ صياح كتيبة خالد مسامع قريش المهزومة، فإذا هي تريد لتعمل في المسلمين تقتيلاً وتجريحاً!.
وحدث ما لا بد من حدوثه في مثل هذا الخلل المباغت، وإذا المسلمون تزلزل بهم الأرض وتضطرب السبل فلا يدرون أين يذهبون!..
إنهم الساعة يقاتلون بدافع من حب الحياة وحدها، فلا يدرون من يقاتلون وكيف يقاتلون.. فيقتل بعضهم بعضاً وهم لا يعلمون..(2/199)
وجاءت الطامة الكبرى إذ علت صيحة في الناس تقول: "إن محمداً قد قتل.."، فتنهار أعصاب المسلمين وتمضي أعداد منهم تتخبط لا تدري أين تذهب بها مطاياها أو أقدامها.. وتتدافع قريش إلى ناحية الرسول - صلى الله عليه وسلم- يريد كل مشرك أن يكون له نصيب في قتله أو التمثيل بجثته!..، ويصيح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفلول المسلمين, وهو صامد في قلب الميدان كجبل أحد نفسه: "إليّ عباد الله.. إليّ عباد الله", وكان بحسب المؤمنين أن يصل صوت محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أسماعهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، كما يعود النور إلى المصباح بمجرد اتصال التيار.. وإذا ثلاثون من أبطالهم يعجلون لتلبية النداء, ثم يتحلقون حوله ليترسوا عليه بأجسامهم، فيذيقون قريشاً من لهيب الدفاع ما لم تجد مثله قط حتى في دفعة الهجوم الذي حطم صفوفها قبل النكسة..
كان عجب الصحابة بالغاً عندما رأوا (قزمان) في الصباح يشق جموع المسلمين حتى ينتهي إلى المركز الأول من مقدمتهم, بينما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يسوي الصفوف استعداداً للمعركة، وما كان أحد يعرف الدافع الذي بعث (قزمان) على الالتحاق بالمؤمنين، بعد أن أبى الخروج معهم منذ غادروا المدينة، وهم فضلاً عن ذلك يعلمون أن (قزمان) هذا لم يكن إلا واحداً من منافقي المدينة الذين جمعهم بغض الرسول والإسلام, فاستجابوا لكبير مجرميهم عبد الله بن أبي يتآمرون على المسلمين، ويؤلفون في داخل المدينة القوة المخرّبة التي يستند إليها كل محارب لله ولرسوله!..
على أنهم لم يستبعدوا أن يكون (قزمان) قد انشرح صدره للإسلام في هذه اللحظات الحاسمة، كما حدث لمخيريق اليهودي وغيره، ممن كانوا لساعات خلت في صفوف الكائدين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين، فإذا هم الآن في طليعة العاملين لنصرة الإسلام والمسلمين!..(2/200)
وزاد عجب المؤمنين ما رأوا من بلاء (قزمان) وأثره في تحطيم قوة الوثنية، فلم يتمالكوا أن ينقلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – خبره, معجبين بهذه البطولة الرائعة، إنه أول من رمى بنفسه من صفوف المسلمين في غمرة المعركة، وهاهو ذا يرسل النبل كأنها الرماح، ثم هاهو يثخن في صفوف العدو فيقتل عدة من كبار أبطالهم، بينهم آخر حامل لراية الوثنية من بني عبد الداري، الذين تتابعوا في حمايتها واحداً بعد الآخر، حتى لم يبق منهم أحداً، فأقبل غلامهم (صؤاب) يرفعها فيقطع (قزمان) يمينه، فيضمها بيساره فيقطع يساره، فيضمها إلى صدره ببقية ذراعيه حتى سقط هو والراية..
فكانت الدائرة على الأعداء..
بيد أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لا يزيده خبر قزمان إلا توكيداً لما سبق أن وصفه به من قبل: "إنه من أهل النار"..
وما كان للمؤمنين أن يراجعوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فيما يقول، فهو أعلم بربه منهم، وأعلم بحقيقة قزمان من قزمان نفسه، ولكن هذا ما كان أيضاً ليمنعهم أن يتساءلوا في قرارة نفوسهم عن ذلك السر الذي يجعل قزمان من أهل النار.. وهو الذي يقدم كل هذا العون في سبيل الإسلام.
حقاً إنه لأمر مدهش ومحير!.
وصمد قزمان آخر النهار كما صمد أوله.. صمد يقاتل بعد الهزيمة، كما صمد في مقاتلة العدو قبلها، وما أن رآه مسلم في صموده هذا إلا أخذته الدهشة أن يكون مثل هذا البطل الجبار من أهل النار!..(2/201)
وشاء الله أن يصاب قزمان، وأن تكون الإصابة بالغة.. فإذا هو يهوي في ميدان المعركة وقد أثبتته الجراح.. ويمر نفر من المسلمين ممن شهد بلاءه طوال النهار، فيقف عليه يهنئه بالشهادة ويبشره بالجنة.. ولكن قزمان لم يشأ أن يخدع القوم بأمر نفسه، فإذا هو يتمتم في إصرار عجيب: "والله ما قاتلت على دين.. وما قاتلت إلا حفاظاً على المدينة أن تقتحم قريش حرمها وتطأ سعفها.. ما قاتلت إلى على أحساب قومي.. لولا ذلك ما قاتلت..".
وينهض قزمان متهادياً يغالب الموت، ثم يأخذ سيفه فيجعل ذبابه في صدره، ثم يتكئ عليه حتى يخرج من ظهره..
وما هي إلا لحظات حتى يشيع خبر قزمان بين الصفوة المدافعين عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فلا يشغلهم هول موقفهم عن استجلاء العبرة في مصير هذا الضال الذي خسر الدنيا ولم يربح الآخرة.. إنهم ليجدون في نهايته البشعة حافزاً جديداً يرفع حرارة إيمانهم إلى الدرجات العلى، ثم يدفع بهم إلى قمة التضحية، فلا يرون أعذب من الاستشهاد فداء لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-..
لقد كان يومهم هذا يوم أحد امتحاناً صارماً حافلاً بالدروس الربانية.. ففي هذا اليوم تعلموا أن معارك الإيمان لا تكسب إلا بالنظام والطاعة المطلقة لله ولرسوله، وأن على المؤمنين أن يسموا بأرواحهم فلا يشغلهم طلب الغنيمة عن رضوان الله.. فإذا انحرف ببعضهم هوى الدنيا عن هدف الإيمان كان ذلك عدواناً على سلامة المجموع، وتحطيماً لنظام الوحدة بين المؤمنين, كالشرارة الصغيرة تضرم الحريق الشامل المروع، ومن هنا تأتي السماء بتأديبها الرهيب.. تعم به البريء والخاطئ لا تستثني أحداً؛ لأنها تعتبر الجميع وحدة كاملة، كل جزء مسئول عن كل جزء..(2/202)
وهاهو ذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-ينال منه المشركون، فيكسر أنفه ورباعيته، وتشج جبهته، وتكلم شفته، وتخل حلقتان من المغفر في وجنته، ثم يسقط في حفرة أعدها العدو للمسلمين.. كل ذلك يصيب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بذنب المسلمين الذين خالفوا عن أمره، فكان لا بد من تلقينهم الدرس الذي يتكافأ مع خطيئتهم.
أما أهم دروس أحد هذه فهو ما تعلموه من مصير (قزمان) ، ذلك المصير الذي أكد لهم من جديد أن أبواب الجنة لن تفتح إلا للمجاهدين في سبيل الله، العاملين لإعلاء كلمته، المتفانين في طاعة رسوله.. فلا الشجاعة، ولا الدفاع عن الحمى والنسب بنافع عند الله شيئاً، إذا لم يؤيد ذلك كله بالرغبة الخالصة في مرضاته..
حقاً لقد كان (قزمان) بطلاً رائعاً، ولكنها بطولة ضائعة لم تعرف المثل الأعلى.. الذي يقود إلى الجنة، لقد كان بطلاً من أهل النار.
هذا الدين
إن هذا الدين ليس بظرية يتعلمها الناس في كتاب للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة، وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى، كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه، إنّ هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان، وهو منهج حركي واقعي يواجهه واقع الناس بوسائل مكافئة، يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان، ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله.
سيد قطب(2/203)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن القادر على صوم رمضان مخير بين الصوم والإطعام, وقد جاء في آية أخرى ما يدل على تعيُّن وجوب الصوم وهي قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية.
والجواب عن هذا بأمرين:
أحدهما: وهو الحق, أن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} منسوخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
الثاني: أنّ معنى يطيقونه: لا يطيقونه, بتقدير (لا) النافية, وعليه فتكون الآية محكمة, ويكون وجوب الإطعام على العاجز على الصوم كالهرم والزمن, واستدل لهذا القول بقراءة بعض الصحابة يطوقونه (بفتح الياء وتشديد الطاء والواو المفتوحتين) بمعنى: يتكلفونه مع عجزهم عنه, وعلى هذا القول فيجب على الهرم ونحوه الفدية, وهو اختيار البخاري مستدلا بفعل أنس بن مالك رضي الله عنه.
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} الآية, هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم, وقد جاءت آيات أخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقا؛ قاتلوا أم لا, كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} , قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} , وقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} .
والجواب عن هذه بأمور:(2/204)
الأول: - وهو من أحسنها وأقربها - أنّ المراد بقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} تهييج المسلمين, وتحريضهم على قتال الكفار, فكأنه يقول لهم: هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم, ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} , وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
الوجه الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} , وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدا, وإيضاح ذلك أنّ من حكمة الله البالغة في التشريع أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجيا لتخف صعوبته بالتدريج, فالخمر مثلا لما كان تركها شاقا على النفوس التي اعتادتها ذكر أولا بعض معائبها بقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} , ثم بعد ذلك حرمها في وقت دون وقت كما دل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية, ثم لما استأنست النفوس بتحريمها في الجملة حرّمها تحريما باتاً بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} , وكذلك الصوم لما كان شاقا على النفوس شرعه أولا على سبيل التخيير بينه وبين الإطعام, ثم رغب في الصوم مع التخيير بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} , ثم لما استأنست به النفوس أوجبه إيجابا حتما بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , وكذلك القتال على هذا القول لما كان شاقا على النفوس أذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية, ثم أوجب عليهم قتال من قاتلهم بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} , ثم لما استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابا عاما بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ(2/205)
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} الآية.
الوجه الثالث: وهو اختيار بن جرير, ويظهر لي أنه الصواب: أن الآية محكمة, وأن معناها: قاتلوا الذين يقاتلونكم أي من شأنهم أن يقاتلوكم, أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء, والذراري, والشيوخ الفانية, والرهبان, وأصحاب الصوامع, ومن ألقى إليكم السلم, فلا تعتدوا بقتالهم؛ لأنهم لا يقاتلونكم, ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتال الصبي, وأصحاب الصوامع, والمرأة, والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه, أما صاحب الرأي فيقتل كدريد بن الصمة, وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن العزيز رضي الله عنه وابن عباس والحسن البصري.(2/206)
قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية, هذه الآية تدل على طلب الانتقام, وقد أذن الله في الانتقام في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ, إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} الآية, وكقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} , وكقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} الآية, وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} , وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} , وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام كقوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} , وقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} , وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} , وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} , وكقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} . والجواب عن هذا بأمرين:
أحدهما: أن الله بيّن مشروعية الانتقام ثم أرشد إلى أفضلية العفو, ويدل لهذا قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} , وقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} , أذن في الانتقام بقوله: {إِلا مَنْ ظُلِمَ} , ثم أرشد إلى العفو بقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}(2/207)
الوجه الثاني: أنّ الانتقام له موضع يحسن فيه, والعفو له موضع كذلك, وإيضاحه أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة الله, ألا ترى أنّ من غصبت منه جاريته مثلا إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعف وخور, تنتهك به حرمات الله, فالانتقام في مثل هذه الحالة واجب, وعليه يحمل الأمر {فَاعْتَدُوا} الآية, أي كما بدأ الكفار بالقتال فقتالهم واجب, بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه من المسلمين بكلام قبيح, ونحو ذلك فعفوه أحسن وأفضل, وقد قال أبو الطيب المتنبي:
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هذه الآية الكريمة تدل على أن الرّدة لا تحبط العمل إلا بقيد الموت على الكفر بدليل قوله {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} , وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الردة تحبط العمل مطلقا ولو رجع إلى الإسلام؛ فكل ما عمل قبل الردة أحبطته الردة كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الآية, وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية, وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
والجواب عن هذا أن هذه من مسائل التعارض المطلق والمقيد, فيحمل المطلق على المقيد, فتقيد آيات المطلقة بالموت على الكفر, وهذا مقتضى الأصول, وعليه الإمام الشافعي ومن وافقه, وخالف مالك في هذه المسألة, وقدم آيات الإطلاق, وقول الشافعي في هذه المسألة أجرى على الأصول, والعلم عند الله تعالى.(2/208)
قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} الآية, هذه الآية تدل بظاهرها على تحريم نكاح كل كافرة, ويدل لذلك أيضا قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} , وقد جاءت آية أخرى تدل على جواز نكاح بعض الكافرات؛ وهنّ الحرائر الكتابيات, وهي قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .
والجواب أن هذه الآية الكريمة تخصص قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} أي ما لم يكن كتابيات بدليل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} , وحكى ابن جرير الإجماع على هذا, وأما ما روي عن عمر من إنكاره على طلحة تزويج يهودية, وعلى حذيفة تزويج نصرانية؛ فإنه إنما كره نكاح الكتابيات لئلا يزهد الناس في المسلمات, أو لغير ذلك من المعاني, قاله ابن جرير.(2/209)
قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الآية, هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أنّ كل مطلّقة تعتدّ بالأقراء, وقد جاء في آيات أخر أن بعض المطلقات يعتد بغير الأقراء؛ كالعجائز والصغائر المنصوص عليها بقوله: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} إلى قوله: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} , وكالحوامل المنصوص عليها بقوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} على أنّه جاء في آية أخرى أنّ بعض المطلّقات لا عدة عليهنّ أصلا, وهنّ المطلقات قبل الدخول, وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الآية, والجواب عن هذا ظاهر وهو: أنّ آية (المطلقات) عامة, وهذه الآيات المذكورة أخصّ منها, فهي مخصصة لها, فهي إذاً من العام المخصوص.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} , هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} والجواب ظاهر وهو أن الأولى ناسخة لهذه, وإن كانت قبلها في المصحف؛ لأنها متأخرة عنها في النزول, وليس في القرآن آية هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لآية بعدها إلاّ في موضعين؛ أحدهما: هذا الموضع, الثاني: آية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} هي الأولى في المصحف, وهي ناسخة لقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية؛ لأنها تقدمت في المصحف فهي متأخرة في النزول, وهذا على القول بالنسخ، ويأتي إن شاء الله تحرير المقام في سورة الأحزاب.(2/210)
قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين, ونظيرها قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} , قوله تعالى: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} , وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف كقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} , وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي الشرك, ويدل لهذا التفسير الحديث الصحيح: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله"الحديث, والجواب عن هذا بأمرين:(2/211)
الأول - وهو الأصح -: أنّ هذه الآية في خصوص أهل الكتاب, والمعنى أنهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدين مطلقا, وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, والدليل على خصوصها بهم ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده, فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: "لا ندع أبناءنا", فأنزل الله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} , المقلاة التي لا يعيش لها ولد, وفي المثل: "أحر من دمع المقلاة", وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال "نزلت {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: (الحصين) , كان له ابنان نصرانيان, وكان هو مسلما, فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ألا استكرههما فإنهما أبيا إلا النصرانية؟ ", فأنزل الله الآية", وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية؟ فقال: نزلت في الأنصار, قال: خاصة؟ قال: خاصة", واخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: أكره عليه هذا الحي من العرب؛ لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه فلم يقبل منهم غير الإسلام, ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقرّوا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى سبيلهم"وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلاَّ لا إله إلا الله أو السيف, ثم أمر فيمن سواهم أن يقبلوا منهم الجزية فقال: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} , وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا في قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} , قال: "وذلك لما دخل الناس في الإسلام, وأعطى أهل الكتاب(2/212)
الجزية", فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية, ومن في حكمهم, ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لان التخصيص فيها عرف بنقل عن علماء التفسير لا بمطلق خصوص السبب, ومما يدل للخصوص أنه ثبت في الصحيح: "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل".
الأمر الثاني: أنها منسوخة بآيات القتال كقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية, ومعلوم أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة, وسورة براءة من آخر ما نزل بها, والقول بالنسخ مروي عن ابن مسعود, وزيد بن أسلم, وعلى كل حال فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها {لا إِكْرَاهَ} الآية, والمتأخر أولى من المتقدم, والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية, هذه الآية تدل بظاهرها على أنّ الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الإنسان مع أنه لا قدرة له على دفعها, وقد جاءت آيات أخر تدل على أنّ الإنسان لا يكلّف إلا بما يطيق كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} , وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} , والجواب أنّ آية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} منسوخة بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} .
سورة آل عمران(2/213)
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية, هذه الآية الكريمة تدل على أن من القرآن محكما ومنه متشابها, وقد جاءت آية أخرى تدل على أنّ كله محكم, وأية تدل على أنّ كله متشابه, أمّا التي تدل على إحكامه كله قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} , وأما التي تدل على أنّ كله متشابه قوله تعالى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} , ووجه الجمع بين الآيات أنّ معنى كونه كله محكما أنه في غاية الإحكام أي الإتقان في ناحية ألفاظه ومعانيه وإعجازه أخباره صدق, وأحكامه عدل, لا تعتريه وصمة ولا عيب في الألفاظ, ولا في المعاني, ومعنى كونه متشابها أن آياته يشبه بعضها بعضا في الحسن والصدق والإعجاز والسلامة من جميع العيوب ومعنى كونه بعضه محكما وبعضه متشابها أن المحكم منه الواضح المعنى لكل الناس كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} , {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} , والمتشابه: هو ما خفي علمه على غير الراسخين في العلم بناء على أن الواو في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} عاطفة, أو هو ما استأثر الله بعلمه كمعاني الحروف المقطعة في أوائل السور بناء على أن الواو في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} استئنافية لا عاطفة.(2/214)
قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية, هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء إذا لم يكن من دون المؤمنين لا بأس به بدليل قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} , وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقا كقوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} , وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ..} الآية, والجواب عن هذا: أن قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له, وقد تقرر في علم الأصول أن دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة له موانع تمنع اعتباره, منها كون تخصيص المنطوق بالذكر لأجل موافقته للواقع كما في هذه الآية؛ لأنها نزلت في قوم والَوْا اليهود دون المؤمنين, فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها, بل موالاة الكفار حرام مطلقا, والعلم عند الله.
وقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} هذه الآية تدل على أنّ زكريا - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – ليس له شك في قدرة الله على أن يرزقه الولد على ما كان منه من كبر السن, وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ..} الآية. والجواب عن هذا بأمور:(2/215)
الأول: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة والسدي من أنّ زكريّا نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب: أنّ الله يبشرك بيحي, قال له الشيطان: ليس هذا نداء الملائكة, وإنما هو نداء الشيطان فداخل زكريا الشك في أنّ النداء من الشيطان, فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} , ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} الآية.
الثاني: أنّ استفهامه استفهام استعلام واستخبار؛ لأنه لا يدري هل الله يأتيه بالولد من زوجه العجوز أو يأمره أن يتزوج شابة أو يردهما شابين؟ .
الثالث: أنه استفهام استعظام وتعجب من كمال قدرة الله تعالى, والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الآية, هذه الآية يوهم ظاهرها أن بعض المخلوقين ربما خلق بعضهم, ونظيرها قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} الآية, وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله خالق كل شيء كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} , وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} إلى غير ذلك من الآيات. والجواب ظاهر وهو معنى خلق عيسى كهيئة الطير من الطين: هو أخذه شيئا من الطين وجعله على هيئة أي صورة الطير, وليس المراد الخلق الحقيقي؛ لأن الله متفرد به - جل وعلا -. وقوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} معناه: تكذبون, فلا منافاة بين الآيات كما هو ظاهر.(2/216)
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} الآية, هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام, وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} , وقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين, وأبو مالك والحسن وقتادة وابن زيد وأبو هريرة, ودلّت على صدقه الأحاديث المتواترة, واختاره ابن جرير, وجزم ابن كثير أنه الحق من أن قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:(2/217)
الأول: أنّ قوله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} لا يدل على تعيين الوقت, ولا يدل على كونه قد مضى, وهو مُتَوَفّيه قطعاً يوماً ما, ولكن لا دليل على أنّ ذلك اليوم قد مضى, وأما عطفه {وَرَافِعُكَ إِلَيّ} على قوله: {مُتَوَفِّيكَ} فلا دليل عليه لإطباق جمهور اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع, وإنما تقتضي مطلق التشريك, وقد ادّعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك, وعزاه الأكثر للمحققين, وهو الحق, خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه, وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال: لم أجده في كتابه. وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي, حكاه عنه صاحب (الضياء اللامع) وقوله صلى الله عليه وسلم: "أبدأ بما بدأ الله به"يعني الصفا, لا دليل عليه على اقتضائها الترتيب, وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية, فكذلك لا تقتضي المنع منهما فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية بدليل الحديث المتقدم. وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان: (هجوت محمد وأجبت عنه) على رواية الواو, وقد يراد بها المعية كقوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} , وقوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} , ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل.(2/218)
الوجه الثاني: أنّ معنى {مُتَوَفِّيكَ} أي منيمك ورافعك إليّ أي في تلك النومة, وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} , وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} , وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين, واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا.."الحديث.
الوجه الثالث: أنّ {مُتَوَفِّيكَ} اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ومنه قولهم: "توفّى فلان دينه" إذا قبضه إليه.. فيكون معنى {مُتَوَفِّيكَ} على هذا قابضك منهم إلي حيا, وهذا القول هو اختيار بن جرير. وأما الجمع بأنه توفّاه ساعات أو أياما ثم أحياه فالظاهر أنه من الإسرائليات, وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها.
قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية.(2/219)
هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لم يكن مشركاً يوما؛ لأن نفي الكون الماضي في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ..} الآية, وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي.. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي ... فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ..} الآية, ومن ظنّ ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قول الله تعالى عن الكفار: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} , والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي: أي هذا ربي على زعمكم الباطل, والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليما جدليا ليفحم بذلك خصمه, فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر: الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون ربا, لقالوا له: كذبت, بل الكوكب ربّ, ومما يدل لكونه مناظرا لا ناظر قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ..} استدل به بن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} لا دليل فيه على التحقيق؛ لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعا وإظهارا لإلتجائهم إلى الله كقول إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} , وقوله هو وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} الآية.(2/220)
الوجه الثاني: أنّ الكلام على حذف همزة الاستفهام أي: أهذا ربي؟ وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دلّ المقام عليها جائز, وهو قياسي عند الأخفش مع (أم) ودونها, ذُكِر الجواب أم لا, فمن أمثلته دون (أم) ودون ذكر الجواب قول الكميت:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني وذو شيب يلعب
يعني أو ذو الشيب يلعب؟ , وقول أبي خراش الهذلي واسمه بن خويلد
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
بعني أهم هم كما هو الصحيح, وجزم به الألوسي في تفسيره, وذكره ابن جرير عن جماعة, ويدل له قوله: "وأنكرت الوجوه", ومن أمثلته دون (أم) مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا
عدد النجم والحصى والتراب
يعني: أتحبُّها على القول الصحيح, وهو مع (أم) كثير جداً, ومن أمثلته قول الأسود بن يعفر التميمي وأنشده سيبويه لذلك:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
شعيث بن سهم أو شعيث بن منقر
يعني أشعيث بن سهم؟ وقول بن أبي ربيعة المخزومي:
بدا لي منها معصم يوم جمرت
وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب
بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني أبسبع؟ وقول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني أكذبتك عينك؟ كما نصّ سيبويه على جواز ذلك في بيت الأخطل, هذا وإن خالف الخليل زاعما أنّ (كذبتك) صيغة خبرية, وأنّ (أم) بمعنى (بل) ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى بالرجوع عند البلاغيين، وقول الخنساء:
قذى بعينيك أم بالعين عوار
أم خلت إذا أقفرت من أهلها الدار
تعني أقذى بعينيك؟ وقول أحيحة بن الجلاح الأنصاري:
وما تدري وإن ذمرت سقبا
لغيرك أم يكون لك الفصيل
يعني ألغيرك؟ وقول أمرئ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر(2/221)
وماذا عليك بأن تنتظر
يعني أتروح؟
وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علو مقام إبراهيم عن ظن ربوبية غير الله, وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك, والآية على هذا القول تشبه قراءة بن محيصن: (سواء عليهم أنذرتهم) , ونظيرها على هذا القول قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} , وقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} على أحد القولين, وقوله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} على أحد القولين.
وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما كالقول بإضمار القول أي يقول الكفار: هذا ربي, فإنه راجع إلى الوجه الأول, وما ذكره عن ابن إسحاق واختاره ابن جرير الطبري ونقله عن ابن عباس من أنّ إبراهيم كان ناظراً يظنُّ ربوبية الكوكب فهو ظاهر الضعف؛ لأن نصوص القرآن ترده كقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} , وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} , وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} , وقد بيّن المحقق ابن كثير في تفسيره رد ما ذكره بن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها, والأحاديث الدالة على مقتضاها كقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة"الحديث.(2/222)
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم المزدادين كفرا لا يقبل الله توبتهم إذا تابوا؛ لأنه عبّر بـ (لن) الدالة على نفي الفعل في المستقبل, مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن الله يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت, وقبل طلوع الشمس من مغربها, كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} , وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} , وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} , فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب, وصرّح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حقٌّ..} إلى قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} فالاستثناء في قوله: {إلا الذين تابوا} راجع إلى المرتدين بعد الإيمان المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا, ويدل له قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} الآية؛ لأنّ مفهومه أنه إذا تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقا.
والجواب من أربعة أوجه:
الأول: وهو اختيار ابن جرير ونقله عن رفيع بن العالية أن المعنى: إنّ الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ثم ازداوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم لن تقبل توبتهم من الذنوب التي أصابوها في كفرهم, ويدل على هذا الوجه قوله تعالى: {وأولئك هم الضالون} ؛ لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهم على ارتكاب الضلال وعدم قبولها حينئذ ظاهر.(2/223)
الثاني: وهو أقربها عندي أن قوله تعالى: {لن تقبل توبتهم} يعني إذا تابوا عند حضور الموت, ويدل لهذا الوجه أمران:
الأول: أنّه تعالى بيّن في مواضع أخرى أنّ الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت في ذلك الوقت كقوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال: إني تبت الآن, ولا الذين يموتون وهم كفار} , فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء, وقوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} الآية, وقوله في فرعون: {الآن وقد عصَيْتَ قبلُ وكنت من المفسدين} . فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيّد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد كما تقرر في الأصول.
الثاني: أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله: {ثم ازدادوا كفرا} فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها, ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني - الذي هو التقيد بحضور الموت - عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي.
الثالث: أن المعنى {لن تقبل توبتهم} أي إيمانهم الأول لبطلانه بالردة بعد, وهذا القول خرجه ابن جرير عن ابن جريج, ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن.(2/224)
الرابع: أن المراد بقوله: {لن تقبل توبتهم} أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم, ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {إنّ الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكُنِ اللهُ ليغفر لهم ولا ليهدِيَهُم سبيلا} , فإنّ قوله تعالى: {ولا ليهديهم سبيلا} يدل على {إنّ الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم} , وكقوله: {إن الذين حقّت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} الآية, ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} أي لا شفاعة لهم أصلا حتى تنفعهم, وقوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به} الآية؛ لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلا حتى يقوم عليه برهان أو لا يوم عليه.
قال مقيده - عفا الله عنه -: مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النظار بقولهم: "السالبة لا تقتضي وجود الموضوع"وإيضاحه أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين؛ لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحمول, وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين: االأولى: أن يكون الموضوع موجودا إلا أن المحمول منتف عنه, كقولك: "ليس الإنسان بحجر"فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه.
والثانية: أن يكون الموضوع من أصله معدوما؛ لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الوجودي - لأن العدم لا يتصف بالوجود كقولك لا نظير لله يستحق العبادة - فإن الموضوع الذي هو نظير لله مستحيل من أصله, وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورة. وهذا النوع من أساليب اللغة العربية, ومن شواهده قول امرؤ القيس:
على لا حب لا يهتدي بمناره
إذا سافه العود النباطي جرجرا
لأن المعنى: على لا حب لا منار له أصلا حتى يهتدى به, وقول الآخر:
لا تفزع الأرنب أهوالها
ولا ترى الضب بها ينجحر(2/225)
لأنه يصف فلاة بأنها ليس فيها أرانب ولا ضباب حتى تفزع أهوالها أو ينجحر فيها الضب أي يدخل الجحر أو يتخذه. وقد أوضحت مسألة (أن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع) في أرجوزتي في المنطق, في مبحث (انحراف السور) , وأوضحت فيها أيضا في مبحث (التحصيل والعدول) أن من الموجبات ما لا يقتضي وجود الموضوع نحو: (بحر من زئبق) ممكن والمستحيل معدوم؛ فإنها موجبتان, وموضوع كل منهما معدوم. وحررنا هناك التفصيل فيما يقتضي وجود الموضوع وما لا يقتضيه.
وهذا الذي قررنا من أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولو بعد تكرر الردة ثلاث مرات أو أكثر, لا منافاة بينه وبين ما قاله جماعة من العلماء من الأربعة وغيرهم, وهو مروي عن علي وبن عباس رضي الله عنهما من أن المرتد إذا تكرر منه ذلك يقتل ولا تقبل توبته, واستدل بعضهم على ذلك بهذه الآية؛ لأن هذا الخلاف في تحقيق المناط لا في نفس المناط, والمتناظران قد يختلفان في تحقيق المناط مع اتفاقهما على أصل المناط, وإيضاحه أن المناط مكان النوط وهو التعليق, ومنه قول حسان رضي الله عنه:
وأنت زتيم نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد(2/226)
والمراد به: مكان تعليق الحكم وهو العلة, فالمناط والعلة مترادفان إصطلاحا, إلا أنه غلب التعبير بلفظ المناط في المسلك الخامس من مسالك العلة الذي هو المناسبة والإخالة؛ فإنه يسمى تخريج المناط, وكذلك في المسك التاسع الذي هو تنقيح المناط, فتخريج المناط: هو استخراج العلة بمسلك المناسبة والاخالة, وتنقيح المناط: هو تصفية العلة وتهذيبها حتى لا يخرج شيء غير صالح لها, ولا يدخل شيء غير صالح لها كما هو معلوم في محله, وأما تحقيق المناط - وهو الغرض هنا – فهو: أن يكون مناط الحكم متفق عليه بين الخصمين, إلا أن أحدهما يقول: هو موجود في هذا الفرع, والثاني: يقول: لا, ومثاله: الاختلاف في قطع النباش؛ فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يوافق الجمهور على أن السرقة مناط القطع, ولكنه يقول: لم يتحقق المناط في النباش؛ لأنه غير سارق, بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز.
فإذا حققت ذلك, فاعلم أن مراد القائلين: لا تقبل توبته أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته, وأنه ليس تائبا في الباطن توبة نصوح, فهم موافقون على أن التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا, ولكن يقولون: أفعال هذا الخبيث دلّت على عدم تحقيق المناط فيه, ومن هنا اختلفت العلماء في توبة الزنديق المستتر بالكفر, فمن قائل: لا تقبل توبته, ومن قائل: تقبل, ومن مفرق بين إتيانه تائبا قبل الإطلاع عليه وبين الإطلاع على نفاقه قبل التوبة, كما هو معروف في فروع المذاهب الأربعة؛ لأن الذين يقولون: يقتل ولا تقبل توبته يرون أن نفاقه الباطن دليل على أن توبته تقية لا حقيقة, واستدلوا بقوله تعالى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا} , فقالوا: الإصلاح شرط والزنديق لا يُطَّلَعُ على إصلاحه؛ لأن الفساد أتى مما أسرَّهُ, فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه.(2/227)
والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى كقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه: "هلاّ شققت على قلبه", وقوله للذي ساره في قتل رجل قال: "أليس يصلي؟ "قال: "بلى", قال: "أولئك الذين نهيت عن قتلهم", وقوله - لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة -: "إني لم أؤمر أن أنقِّبَ عن قلوب الناس", وهذه الأحاديث في الصحيح, ويدل لذلك أيضا: إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر, وقد نصّ تعالى على أن الأَيْمان الكاذبة جُنّةٌ للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله: {اتخذوا أيمانهم جنة} , وقوله: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتُعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم فإنهم رجس} , وقوله: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم} الآية, إلى غير ذلك من الآيات.(2/228)
وما استدل به بعضهم من قتل ابن مسعود لابن النواحة صاحب مسيلمة, فيجاب عنه: بأنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم - حين جاءه رسولا لمسيلمة -: "لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك", فقتله ابن مسعود تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم, فقد روي أنه قتله لذلك, فإن قيل: إن هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها؛ لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر, فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد, والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص؛ لأن وجود الأعم لا يلزم وجود الأخص, فالجواب: أن القرآن دل على توبة من تكرر منه الكفر إذا أخلص في الإنابة إلى الله، ووجه الدلالة على ذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} , ثم بيّن أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى: {بشِّر المنافقين بأنّ لهم عذابا أليما} الآية, ودلالة الاقتران وإن ضعفها بعض الأصوليين فقد صححتها جماعة من المحققين, ولا سيما إذا اعتضدت بدلالة القرينة عليها كما هنا؛ لأن قوله تعالى: {لم يكنِ الله ليغفرَ لهم ولا ليهديَهم سبيلا, بشّر المنافقين بأن لهم عذابا أليما} فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية, بل كونها في خصوصهم قال به جماعة من العلماء.(2/229)
فإذا حققت ذلك فاعلم أن الله تعالى نصّ على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب الله عليه بقوله: {إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا, إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما, ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم, وكان الله شاكراً عليما} , وقد كان مخشي بن حمير رضي الله عنه من المنافقين الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} فتاب إلى الله بإخلاص، فتاب الله عليه، وأنزل الله فيه: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} الآية، فتحصّل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة يعنون الأحكام الدنيوية ولا يخالفون في أنه أخلص التوبة إلى الله قبلها منه؛ لان اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} الآية هذه الآية تدل على التشديد البالغ في تقوى الله تعالى, وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} , والجواب بأمرين:
الأول: أن آية {فاتقوا الله ما استطعتم} ناسخة لقوله: {اتقوا الله حق تقاته} , وذهب إلى هذا القول سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم, قاله بن كثير.
الثاني: أنها مبيِّنةٌ للمقصود بها. والعلم عند الله تعالى.(2/230)
قوله تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم كانوا أهل فترة, والله تعالى يقول: {وماكنا معذّّبين إلا أن نبعث رسولا} , ويقول: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} الآية, وقد بين الله هذه الحجة بقوله في سورة طه: {ولو أنا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} , والآيات بمثل هذا كثيرة.
والذي يظهر في الجواب: - والله تعالى أعلم - أنه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عذر لأحد, فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت, كما بينه تعالى بقوله: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} الآية.
وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين تلزمهم بها الحجة, فهو جواب باطل؛ لأن نصوص القرآن مصرِّحة بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى: {لتنذر قوما ما أُنذر أباؤهم} , وقوله: {أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك} الآية, وقوله: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك} , وقوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} الآية, وقوله تعالى: {وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير} .(2/231)
قوله تعالى: {ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلة} وصف الله المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر, وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة, وهي قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} , ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد. والجواب ظاهر وهو أنّ معنى وصفهم بالذلة هو قلة عَددهم وعُددهم يوم بدر, وقوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} نزل في غزوة المريسيع, وهي غزوة بني المصطلق, وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين, وكثر عَددهم, مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر وهو أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العَدد والعُدد, والعزة باعتبار نصر الله وتأييده, كما يشير إلى هذا قوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيبات} , وقوله: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} , فإنّ زمن الحال هو زمن عاملها, فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة, فظهر أنّ وصف الذلة باعتبار, ووصف العزة والنصر باعتبار آخر, فانفكت الجهة, والعلم عند الله.
قوله تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيَكم أن يُمدَّكُم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة} الآية , هذه الآية تدل على أنّ المدد يوم بدر من الملائكة من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف, وقد ذكر تعالى في سورة الأنفال أنّ هذا المدد ألف بقوله: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة} الآية.
والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أنه وعدهم بألف ثم صارت ثلاثة آلاف ثم صارت خمسة كما في هذه الآية.(2/232)
الثاني: أن آية الأنفال لم تقتصر على الألف, بل أشارت إلى الزيادة المذكورة في آل عمران, ولا سيما في قراءة نافع: {بألف من الملائكة مردَفين} بفتح الدال على صيغة اسم المفعول, لأن معنى (مردفين) : متبوعين بغيرهم, وهذا هو الحق, وأما على قول من قال: "إن المدد المذكور في آل عمران في يوم أحد, والمذكور في الأنفال في يوم بدر"فلا إشكال على قوله, إلا أن غزوة أحد لم يأت فيها مدد الملائكة. والجواب: أن إتيان المدد فيها على القول به مشروط بالصبر والتقوى في قوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم} الآية, ولمّا لم يصبروا ولم يتقوا لم يأت المدد, وهذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم, قاله بن كثير.
قوله تعالى: {فأثابكم غمّاً بغمّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم} الآية قوله تعالى: {فأثابكم غمّاً بغمّ} أي غمّا على غمّ, أي حزنا على حزن, أو أثابكم غما بسبب غمكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيان أمره, والمناسب لهذا الغم بحسب ما يسبق إلى الذهن أن يقول: لكي تحزنوا, أما قوله: {لكيلا تحزنوا} فهو مشكل؛ لأن الغم سبب للحزن لا لعدمه.
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول: أنّ قوله: {لكيلا تحزنوا} متعلق بقوله تعالى: {ولقد عفا عنكم} فالمعنى: أنّ الله تعالى عفا عنكم لتكون حلاوة عفوه تزيل عنكم ما نالكم من غم القتل, والجرح.,وفوت الغنيمة, والظفر, والجزع من إشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتله المشركون.
الوجه الثاني: أن معنى الآية: أنه تعالى غمّكم هذا الغم لكي تتمرنوا على نوائب الدهر, فلا يحصل لكم الحزن في المستقبل؛ لأن من اعتاد الحوادث لا تؤثّر عليه.
الوجه الثالث: أنّ (لا) صلة, وسيأتي الكلام على زيادتها بشواهده العربية إن شاء الله تعالى في الجمع بين قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} , وقوله: {وهذا البلد الأمين} .(2/233)
من الأدب النبوي
سئل العباس رضي الله عنه: أنت أكبر أم رسول الله؟
فقال: رسول الله أكبر مني وولدت قبله.(2/234)
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤوف اللبدي المدرس بالجامعة
أخي الكريم المسجد الحرام:
لست أدري كيف أكتب إليك بعد بلاء حزيران، إن الأسى ليتغشاني من كل جانب، وتفيض به من حولي جبال وأودية، يتحدث الناس أنني لا أزال قائماً على وجه الأرض، آخذاً بأسباب الحياة، فيالله من هؤلاء الناس، ويالله من هذا الحديث! مئذنتي تكاد تخنقها العبرات وهي ترسل كلمات الأذان جشاء تختلج، وجنباتي الفسيحة في سبات عميق قلما تستيقظ منه على ذكر الله، ومنبري يكاد ينقض بخطيبه وهو يستمع إليه يقول، ويقول ثم لا يصدع بالحق، أما محرابي فقابع حزين يتساءل في لهفة وألم: أين القرآن الفجر المشهود!؟.
منذ آماد بعيدة وأنا أشكو إليك فقري في المصلين، وهوان الدين على الناس، وزهدهم في حضور الجماعة، بيد أني كنت أجد شيئاً من عزاء في أوقات مسماة من كل عام، كنت أحس الحياة وأذوق طعم العبادة في شهر رمضان، فالناس يأتون إليّ بقلوب خاشعة ونفوس ضارعة، وجنباتي تفيض بالمصلين كلما نادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الصلاة، والواعظون منبثون في أرجاء الفسيحة، يشرحون آيات الله، ويحدّثون بحديث رسول الله، فتنيت إلى الله أنفس كانت ضائعة, وتبسط أيدي كانت مغلولة، وتتواصل أرحام مزقها الحسد، وتتآخى نفوس أفسد ما بينها الهوى، وتبتلّ حلوق كانت ظامئة، وتمتلئ بطون كانت تبيت على الطوى، وتريش أجنحة كانت عاجزة عن الطيران.
ثم يمضي ذلك الشهر المضيء فينساني من كان ذاكراً، وينأى بجانبه من كان حاضراً، ويلم بأرجائي صمت الموتى، وسنة النائمين كان لرمضان وحده إلها يعبد، ولبقية الأشهر آلهة لا تستحق العبادة، لا أدري كيف يفعل هذا كثير من الناس وهم يعلمون أنّ إِلَهَ رمضان هو إله كل شيء، وأن عبادة الله حق في كل زمان ومكان.(2/235)
ثم تأتي أيام الحج، على فترة من الخمول والسكينة، وتأتي معها إليّ الحياة، وتستيقظ أرجائي مرة ثانية، وتميس أعمدتي إعجاباً ومخيلة، واسمح لي أيها الأخ الكريم أن أقول: إنّ سروري بهؤلاء الحجيج لا يقل عن سرورك وأنت تستقبلهم من فجاج قاصية ودانية، وأن أحناء صدري لتفيض بالحنو على هؤلاء الناس كما تفيض حناياك.
ولكن…ولكن…وماذا بعد لكن…!؟.
أشياء تتلجلج في الصدر، ويتمتم بها اللسان، وأستشعر الخوف أن يفضي بها القلم، أخشى ما أخشاه أن ترمي بك الظنون مراميها البعيدة، وأن يوسوس إليك الشيطان أني ألمز حجيجك وأتهمهم بالتقصير في أداء المناسك، وما أنا من هذا ولا ذاك في شيء قل أو كثر.
ما أكثر ما أسمعهم يتحدثون في أروقتي وتحت سمائي الدنيا والقاصية، يتحدثون عما لاقوه من شدة الزحام في الطواف، وشق الطريق إلى الحجر الأسود، والعراك المرير في جمرة العقبة، وكثرة الضحايا في المنحر، ما أكثر ما أسمعهم يتحدثون هذه الأحاديث فتمور الدموع في عيني وأنا أقول: يا بديع السموات والأرض! متى أسمع إلى جانب هذه الأحاديث عن أحاديث أخرى عن شدة الزحام في طريق المعركة، وعن كثرة ضحايا الأعداء وهم يولون الأدبار ثم لا ينصرون.
أخي الكريم:
كثير من الذين يحجون إليك على جهل بالكثير من أمور الدين، والمكايد التي تحيق بالمسلمين، لم لا يكون هناك توعية إسلامية بكل لغة تدخل على الحاج في خيمته إذا كان في خيمة، وتماشيه في الشارع إذا ما مشى في الشارع، وتصطاده في المسجد إذا ما أقبل على حضور الجماعة، فيعود الحجاج إلى أقوامهم مصابيح هداية، ومعالم طريق، ويعلِّمونهم ما لا يعلمون، ويصلحون بنياناً تصدعت جدرانه والقواعد.(2/236)
إنه ليحزنني أن يحج إليك كثير من الناس فيعودوا كما جاءوا، نعم إنهم يعودون بثياب قشيبة للابسين، وتمور لذيذة للآكلين، وهدايا نفيسة لذوي المودة والقربى، وأحاديث عذبة شائقة عما تتمتع به من صحة بنيان، وطلاقة وجه، وأثواب سابغة من الرخام، وأروقة واسعة لساعات الزحام، ومعاملة طيبة للطائفين والساعين والركع السجود، لم لا يحملون إلى جانب هذا أفكاراً هادية، تبصر المستقبلين ما لا يبصرون، وتكشف لهم ما كانوا يجهلون، فتعمر قلوب، وتضيء صدور، ويلتئم شمل، وتتعارف شعوب تمزقت قدداً.
أخي الكريم:
ذاك زفير أزفره، ولواعج هم أنفثها، بعد أن لبست ثياب الذل والخوف، وخذلني القريب والبعيد، وأضرّ بي الأسار والقيد، ونزل بي من البلاء ما تعلم وما لا تعلم، وتوالت عليّ المصائب كقطع الليل المظلم، إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فالله خير ناصراً وخير أملاً.
كنت فيما مضى أجد الفرحة في أيام الجمع، إذ يؤمّني الناس من قريب وبعيد، وتسيل بالوافدين إليّ دروب وشوارع، أما اليوم فأواه! أواه لو تنفع المكروب أواه!! لقد أصبحت في أيام السبت ملعب الغيد، ومرتع الصبا والجمال، كأنما ضاقت الأرض بما رحبت على شبان اليهود وشاباتهم، فلم تتسع لهم إلا ساحتي، يتناجون فيها بالإثم، ويتساقون فيها كؤوس الهوى، ويبثون الفتنة والفسوق هنا وهناك، فيا حسرة عليّ! ويا حسرة على ما فرّط المسلمون في جنب الله!!.(2/237)
لم يعد هناك معنى لوجودي فوق هذه الأرض، لقد أسستُ على التقوى، وليُذكر في اسم الله، فبيعت التقوى بالفسوق والعصيان، واشتريت الضلالة بالهدى، ولم أعد أسمع إلا ألحان شهوة، ورطانات عجمة، لم أعد أرى إلا سياحاً وسائحات، يستمتعون بالنظر إليّ، ويعجبون بتطاول الحقب عليّ، ويقلبون البصر في آياتي وزخارفي، ويأخذون الصور على أبوابي، وأمام صخرتي، ثم يخرجون بجر الحقائب بالذكريات الجميلة، دون أن تريق عيونهم قطرة من الدمع، أو تنفث صدورهم آهة من الأسى.
لا يستطيع أحد من الناس أن يتصور آلامي وأنا أرى جنود العدو يمشون ذهاباً وجيئة في كبرياء، وأسمع قهقهات الفتيان والفتيات عبثاً واستهزاء، وأحس أطرافي تنقطع عضواً فعضواً، فأصيح - من ألم ونفاد صبر -: ويحكم يا مسلمون! أين أنتم؟! وأين توليتم؟! وأين ذهبت ريحكم؟! لو كانت فيكم قلة المال لأمهلت، ولكن ضاع من صدوركم الإيمان، فهل إلى رجوع من سبيل؟.
في الفينة بعد الفينة، ومن يوم إلى يوم، أسمع دوي قنابل وأزير رصاص، فأهب من نومي مسروراً وأنا أقول: لعلها نذر الحرب وطلائع المعركة، وبشرى اليوم الموعود، ثم يمضي من الوقت ما يطول أو يقصر، وإذا بالحياة اليومية تعودسيرتها الأولى، والناس يغدون ويروحون في أمن وطمأنينة، كأن لم يكن هناك صرعى ودماء غصّت بها بقعة من الأرض، وكأنّ القوم لم تمر بهم ساعة ذعر مجنونه سلبتهم عقولهم وولت، ثم يؤوب إليّ ما كان قد غاب: فتيات تسير الفتنة على آثارهم، وفتيان يلبسون ثياب المجون والعبث، وطوائف شتى من هؤلاء الزائرين والزائرات، فأؤثر إغماض العيون على القذى، وأسلّم نفسي إلى ذهول عميق لا أفيق منه إلا على هزة جديدة.(2/238)
تمر بي الليالي نابغية، لا يكاد يغمض لي فيها جفن، ولا يطمئن بجنبي مضجع، أدعوا النوم فلا يجيب، وأنشد السلوى فلا أجد إليها سبيلاً، فأقلّب بصري في السماء لعلي أجد في آفاقها العزاء، فأجد القمر قمراً منيراً يتهادى في مهرجان الليل وعرائس الزينة، ويرسل ابتساماته الفضية على الأرض، فتملأ السهل والجبل والوادي، فتهيج بي الذكريات، ذكريات ليال كنت فيها كوكباً وهاجاً مثل هذا الكوكب، وكانت في سمائي نجوم مثل هذه النجوم، ليالي احتفالات حاشدة، ومؤتمرات وافدة، ليال كانت فيها القصائد تجلجل، وكانت فيها الخطب تصلصل، ليال كان فيها وعيد يزفر زفير جهنم، وكانت فيها حماسة تشتعل اشتعال الحريق المستطير، وما أنسى لا أنسى تصفيق جماهير يدوي دوي الطائرات المقاتلة.
أيتها السماء! لقد كانت لي زينة مثل هذه الزينة، وكانت لي احتفالات مثل هذه الاحتفالات، ولكن زينتي، واحتفالاتي كانت ميناً وزوراً، وأما أنت فما أنت فيه من عند الله.
لست أبالي أن يتهدم بنياني الراسي، وأن تتناثر أحجاري المرصوصة، وأن أصبح كومة من تراب، إذا كان ذلك سبيلاً إلى صون حرمتي من الدنس، وحفظ كرامتي من الهوان، ماذا أفادتني هذه الزخارف التي أنفقت في سبيلها الأموال والسنون؟! وأي طائل نلنه من ترميمات جاد بأمواله المسلمون؟!.
أيظنني الناس دمية يتلهى بها فعليّ أن أكون جميل المنظر؟! أيراني الناس مزاراً سياحياً فيجدر بي أن أكون جذاب الرؤية؟! خابت الظنون!! وفالت الآراء! أنا إيمان يملأ القلوب قبل أن أكون بناءً يملأ الأعين، وعمارة في الصدور قبل أن أكون عمارة على الأرض، فإذا حرصت على حياة, وخفت سوء مصير فما ذلك حرصاً على حجارة قائمة، وإنما هو الخوف على الإسلام أن يلحق به الذل، وعلى الكرامة أن تدس في الرغام.(2/239)
مما يحزنني أيها الأخ الكريم أن ليس لدي ذكريات حديثة أتعزى بها في هذا الفراغ الذي طال عليه الأمد، تمنيت أن يكون على جدراني وأعمدتي بقع من الدماء، أن يكون منبري قد أشرف على معركة، أن يكون بعض جوانبي قد تهدم بالقنابل، ليت شيئاً من ذلك قد كان، إذن لوجدت غذاء أطعمه في نهاري الطويل وليلي الأطول، ولكنزت بطولات أتأسى بها في هذه السنوات العجاف، ولكن واحسرتاه! لست أجد شيئاً من ذلك، فلا عجب أن أقطع العمر هذه الأيام أحرق الأرم، ويأكل بعضي بعضاً، وتغشاني من حين إلى حين لحظات يأس وظلمات خيبة، فأوثر الموت على الحياة، وأكاد أنادي سقفي أن يخر، وجدراني أن تنقض، وأعمدتي أن تتهاوى، ولكن رحمة الله قريب، تدركني فتجلو الغشاوة عن عيني، وتفتح أمامي غداً ملوءاً برجال صدقوا العزم والعهد، وأخلصوا النية والقصد، ليسوا خطباء منابر ولا فراش حفلات، فيثوب إلى عازب رأيي وأقول للنفس تأساء وتعزية: عسى الله أن يأتي بالفرج القريب.
أخوك الحزين المسجد الأقصى.
سياسة
إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه, ووليت المجرَّب الحازم في أمره, وقلدت الخراج الموفر لأمانته, وقسمت لكل من نفسي قسماً، أعطيه حظاً من لطيف عنايتي ونظري، وصرفت السيف إلى النطف المسيء، والثواب إلى المحسن البريء فخاف المريب صولة العقاب وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
الحجاج بن يوسف الثقفي.(2/240)
صوت التضامن
بقلم الأستاذ محمد المجذوب المدرس بالجامعة
يا تراث العزّ من خيرِ الجدودِ
وبقايا النور في هذا الوجود
قد أتيناك لتجديد العهود
وتسابقنا لتحطيم القيود
في دمنا من عبير (القادسية)
وشذى (بدر) و (حطّين) بقيّه
قد دعتنا فتخطينا المنيّة
جحفلا للحق خفاق البنود
شبّ هذا الدهر في ظل علانا
واستنار الكون قِدْماً بضيان
ولقد عُدنا ومازالت مُنانا
أن نردّ الخلق للنهج الرشيد
مثلا للحب كنا والتعاون
ثم صرنا للتجافي والتطاحن
فاستجيببي أمتي صوت التضامن
عاليا يطلقه الشعب السعودي
من رحاب الوحي في الببيت العتيق
وسنا طيبة والماضي العريق
قد طلعنا كتباشير الشروق
نتحدى بالهدى ليل الجحود
ضاقت الأرض بلغو المفسدينا
وانحرافات الهداة الجاهلينا
فانبرينا نحمل الحق المبينا
خالصا من منبع الذكر المجيد
دعوة الله رفعناها لواء
من نداها نملأ الدنيا عطاء
وسنقضي في هواها شهداء
أو تعم الأرض بالفجر الجديد(2/241)
عوامل نجاح الأمم.. في الدنيا والآخرة
للشيخ عبد الله خالد قادري المدرس بمعهد الجامعة
أيها الأخ المسلم الكريم يجب أن تعلم أن نجاح أي أمة من الأمم في الدنيا والآخرة يرتكز على دعائم, باجتماعها تصل الأمة إلى ذروة من النجاح, وبانعدامها ووجود أضدادها تصل إلى التحضيض من الفشل والخسران والتخلف, وبقدر ما يوجد منها أو ينقص تكون نسبة النجاح والخسران.
ولقد اتضح لي من بعد قراءة ما كتبه بعض علماء الإسلام الأجلاء الذين فهموه على حقيقته, وبعد التأمل - قدر الاستطاعة - في أحوال الأمم رقيا وانحطاطا أنّ أركان النجاح ثلاثة:
الأول: العلم, أي الخبرة بما يحتاج إليه الجماعات والأفراد في شؤون الحياتين؛ الدنيا والآخرة.
الثاني: القوة أي قدرة الأفراد والجماعات على القيام بما يسند إليهم من أمور دينهم ودنياهم.
الثالث: الأمانة وهي أداء كل حق إلى مستحقه دون مماطلة ولا نقص سواء كان الحق لله أم لخلقه.
أهمية العلم:
لا أظنّ أحداً من الناس مطلقا يستطيع أن يجحد أهمية العلم في الجملة, وأقول في الجملة؛ لأن كل طائفة ترى أهمية أنواع من العلوم دون غيرها, كيف يجحد أحد أهمية العلم والنفوس مفطورة على الإطلاع, ومعرفة الجديد؟ وقد أشاد الإسلام بالعلم في نصوص الكتاب والسنة, بل كل الأديان السماوية السابقة أبدت اهتمامها بالعلم والعلماء.
وهذا آدم أبو البشر يخبرنا الله تعالى أنه علمه الأسماء كلها, وأنّ فضله ظهر للملائكة في علمه بما جهلوا.
وهذه أول سورة يكون محمد صلى الله عليه وسلم نبيا بنزولها, يذكر الله فيها امتنانه على خلقه بالعلم حيث يقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .(2/242)
فامتن الله تعالى على الإنسان بنعمة تعليمه, بعد امتنانه عليه بنعمة خلقه, كما أشار تعالى في سورة الرحمن إلى أهمية تعليم الإنسان علم الدين, حيث قدمه على نعمة الخلق فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ} .
ونفى الله تعالى عن طريق الاستفهام الإنكاري أن يستوي العالم والجاهل فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
وخص الله تعالى العلماء بخشيته فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} .
وجعل بعض صغار مخلوقاته يتمدح أمام بعض أنبيائه بما حصل عليه من العلم الجغرافي والسياسي والديني, ألا وهو الهدهد الذي توعّده سليمان بالعذاب وبالذبح, عندما غاب ولم يجده بين الطير المسخرة لها, إلا أن يأتيه بحجة مقنعة بسبب غيابه قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ, لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} إلى قوله: {لاَ يَهْتِدُونَ} .
بل فرّق بين نوع واحد من أنواع الحيوان بسبب العلم وعدمه, فجعل للمعلّم حكما نفاه عما عداه؛ فأجاز سبحانه أكل صيد الكلب المدرب على الاصطياد وحرّم أكل صيد الكلب الذي لم يدرب فقال: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} .(2/243)
والتنويه بشأن العلم والعلماء في الكتاب والسنة لا يحصره المتتبع, والسبب في ذلك أن المتصف بالعلم يأتي بعمله متقنا لا خلل فيه؛ لأنه يدخل في العمل وهو يعرف السبيل التي يجب سلوكها للوصول إلى المطلوب, والطرق التي يجب اجتنابها ليأمن الخطأ المحظور.
وإليك أيها القارئ الكريم مثالا محسوسا لأهمية العلم, وفائدته, وخطورة الجهل, ومضرته, يدلك هذا المثال على غيره من الأمثلة محسوسة كانت أو معقولة:
دخل شخصان ماءاً يظنان أنه قريب القعر ليغتسلا فيه فوجداه عميقا لا يجوزه إلا من يجيد السباحة, وكان أحدهما سبَّاحاً, والآخر لا يعرف عن السباحة شيئا, فلما غمرهما الماء أخذ المتعلم يسبح حتى نجا من الغرق, وأخذ الآخر يصعد ويهبط, حتى لفظ أنفاسه وهو ينظر إلى شاطئ الماء فما الفرق بين الرجلين؟
إنه العلم نجا به الأول, وهلك بعدمه الثاني.
أهمية القوة:
وأهمية القوة واضحة؛ لأنّ القوي يقدر على فعل مراده بدون عجز ولا تقصير, بخلاف الضعيف العاجز, ولهذا كانت درجة القوي هي السابقة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف, وفي كل خير} .
وإذا كان المسؤول عن أمر ما قادراً على تنفيد مراده, ولاينفذه وهو يعلم أن في تنفيده ذلك مصلحة خالصة, أو راجحة في نفس الأمر, فقد أنزل نفسه - مختارا - منزلا غير لائق بها, وذلك من العيب الذي لا يرضاه العقلاء لأنفسهم قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام
وتأمّل كيف يتمنى أحد أنبياء الله أن يكون قادرا الانتصار لدعوته حيث يقول: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .
أهمية الأمانة:(2/244)
للأمانة أهميتها العظمى؛ لأن فاقدها لا يؤتمن على أي حق من الحقوق سواء كان من حقوق الله أو من حقوق عباده, وما من حق يمكن تأديته إلى مستحقه كما ينبغي إلا بالأمانة.
فتوحيد الله في عبادته وربوبيته وأسمائه وصفاته أمانة من قام به كما يريد الله منه فقد أدى الأمانة, ومن أخلّ به بأن أشرك بالله في ألوهيته أو ربوبيته أو ألحد في أسمائه وصفاته بأي نوع من أنواع الإلحاد فقد خان الأمانة.
وأوامر الله كلها أمانة, من قام بها كما طلب الله منه فقد أدى الأمانة, ومن أخل بها أو ببعضها وهو قادر على عدم الإخلال فقد خان الأمانة, وما نهى الله عنه من المحرمات أمانة, من ترك ذلك فقد أدى الأمانة, ومن ارتكب شيئا من ذلك فقد خان الأمانة.
والقضاء بين الناس بالعدل أمانة, من حكم بالعدل على القريب والبعيد فقد أدى الأمانة, ومن جار في حكمه لأي سبب من الأسباب فقد خان الأمانة.
والإمارة أمانة من قام بحقوقها دون ميل وحيف فقد أدى الأمانة, ومن داهن في إمارته فقد خان الأمانة.
والقيادة العسكرية الحربية أمانة, من أعطاها حقها دون غش لجنده وإمامه وأهل بلده على ما يرضي الله فقد أدى الأمانة, ومن غشّ فيها فقد خان الأمانة.
وبالجملة فالأمانة هي التكاليف المطلوبة شرعا من العبد سلبا أو إيجابا, فيدخل في ذلك كل مسئول في أي مسئولية, ومن ذلك الإذاعة والصحافة والإدارات على اختلاف أنواعها.
من أجل ذلك كان لهذه الصفة حظها العظيم في نصوص الوحيين وغيرهما من الكتب السابقة وإليك بعضا من ذلك:(2/245)
1 – يوسف عليه السلام عندما علم أنه ذو مكانة وائتمان عند ملك مصر ورأى أن المسئولين عن أموال الدولة لا يحسنون تصريفها, انتدب نفسه للإشراف عليها, وطلب من الملك أن يسند إليه السلطة المالية؛ معللا ذلك الطلب بأنه متصف بالصفات المطلوبة لتلك الوظيفة وهي: الأمانة والحفظ والخبرة, كما قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ, قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .
2- وابنة الرجل الصالح - شيخ مدين الذي يقال إنه شعيب - تطلب من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام لرعاية أغنامه؛ معللة ذلك الطلب بصفتين عظيمتين: الأولى القوة، والثانية: الأمانة كما قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} .
3- ونوح عليه السلام يمدح نفسه بالأمانة لقومه في سياق إخبارهم بأنه رسول من ربه, كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ, إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ, إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
4- وهود عليه السلام كذلك يقول عنه الله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
5- وصالح عليه السلام يقول الله عنه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
6- ولوط عليه السلام يقول الله عنه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .(2/246)
7- وشعيب عليه السلام يقول الله عنه: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
وقد أمر الله عباده عن طريق الإخبار المؤكد بأداء كل الأمانات إلى مستحقيها كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} .
وذكر تعالى أن الأجرام العظيمة السماوية والأرضية التي لا يعد الإنسان إلا ذرة من ذراتها تبرَّأْنَ من حمل الأمانة؛ لما أودعه الله فيها من معرفة ثقل الأمانة, وعدم القدرة على القيام بها كما ينبغي, وأن الإنسان وحده هو الذي أعلن تحمله المسؤولية وعبأها الثقيل كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .
وقسم الله أهل الكتاب قسمين: قسم ممدوح بسبب أداء ما أؤتمن عليه ولو كان ثمينا مغريا, وقسم مذموم بسبب خيانته ما أؤتمن عليه ولوكان قليلا, كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} .
وهذه أمثلة قرآنية تصور أهمية الأمانة في جميع الأديان السماوية, وأما السنة النبوية فهي مفعمة بالحث على أدائها, والنهي عن الخيانة, وذم الخائن, ومدح الأمين, فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم تضييع الأمانة من علامات الساعة, وما أكثر الخونة في هذا العصر كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ضيِّعت الأمانة فانتظر الساعة"، قيل: يا رسول الله وما إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة.(2/247)
وقال صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر في شأن الإمارة -: "إنها أمانة, وإنها يوم القيامة خزي وندامة, إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها", وجعل صلى الله عليه وسلم من أبرز صفات المنافقين الخيانة, التي هي ضد الأمانة, قال صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا, ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان, وإذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر" متفق عليه.
ومن الأحاديث الجامعة لكل تلك الصفات: العلم, والقوة, والأمانة, وغيرها من الصفات الحميدة قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف, وفي كل خير, احرص على ما ينفعك, واستعن بالله, ولا تعجزن, وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا, ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإنّ لو تفتح عمل الشيطان", فديننا دين الحرص, وبذل الجهد في تحصيل النافع للجماعات والأفراد في الدنيا والآخرة, لا كما يزعمه أعداؤه - الصرحاء والمنافقون – من أنه دين خمول وتأخر, وتاريخ العصور الإسلامية - المتمسك أهلها بالإسلام - شاهد بذلك, وإذا كان المنتسبون الآن إلى الإسلام متأخرين في مجال الدنيا والحياة والآخرة بسبب ضعف إيمانهم, فالذنب ذنبهم, وما للإسلام من ذنب, وما على أعداء الإسلام إلا أن يدرسوا الإسلام في مصدريه: كتاب الله وفي سنة رسوله الصحيحة, عقيدة وحكماً, وسياسة داخلية, وخارجية, واقتصادا, وسلما, وحربا, متجردين عن التعصب الذي أعماهم عن الحق ليعرفوا الإسلام من حيث هو إسلام عمل به أهله أم تركوه, ليعرفوا أنه كما قال الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
واجب المسلمين نحو هذه الصفات:(2/248)
أخي المسلم الغيور لقد عرفت مما مضى أهمية هذه الصفات الثلاث - القوة والأمانة والعلم والأمانة - والعلم بالشيء لا يفيد إلا إذا طبق عمليا, فالواجب على كل مسؤول أن يختار الوظائف والأعمال التي له التصرف فيها من يعلم أنه اكثر اتصافا من غيره بهذه الصفات, كل واحد يعطي ما يناسبه من الوظائف في الإمارة والقضاء والإدارة والقيادة والتعليم والصحافة والإذاعة والكتابة والخدمة والحراسة وغيرها من الوظائف الكبيرة والصغيرة.
وإنني لأدعوك أن تقف معي قليلا متأملا موقف تلك المرأة الصالحة من رعاية غنمها حيث تشترط لتلك الرعاية هاتين الصفتين العظيمتين: القوة والأمانة {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} , لقد أدركت أن رعاية الغنم يجب أن تتوفر في صاحبها القوة ليستطيع بها القيام بواجب الأغنام, والأمانة ليؤدي عمله على خير ما يرام, وليحفظ مال مستأجره, ولا يفرط فيه. إنها لحكيمة تدعوا إلى الحكمة التي هي وضع الأمور في مواضعها, وإسناد الأمور إلى مستحقيها, وإذا كان هذا الاهتمام بالنسبة لرعاية الأغنام فما بالك برعاية البشر, أليست أهم بكثير من رعاية الأغنام؟.(2/249)
ومن أجل ذلك جاء النص النبوي الشامل, محمّلا كل فرد مسئوليته, ولم يدع مجالا لإمام أو وزير أو زوجة أو ابن أو خادم بأن يخون في مسئوليته, حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته, والعبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته, ألا كلكم راع, وكلكم مسئول عن رعيته" متفق عليه، فالناس كلهم أمام هذا النص النبوي - الذي هو من جوامع الكلم - كلهم رعا ة, وكلهم مرعيون, وكلهم محمل مسئولية رعيته, فليتق الله كل مسئول فيما ولاه الله, وليعمل قدر استطاعته لصالح رعيته؛ لئلا يموت وهو غاش لهم فيستحق وعيد الله, الذي أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "ما من راع يسترعيه الله رعية, يموت يوم يموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة" رواه مسلم.
كيف ينجو الراعي؟:
تتلخص سبيل سلامة الراعي في أمرين:
الأول: أن يؤدي كل حق إلى مستحقه, وينصر كل مظلوم على ظالمه - ولو كان هو الظالم - في الأمور التي يباشرها بنفسه.
الثاني: أن يختار لكل وظيفة من يستحقها من رعينه, دون مجاملة لأحد قريبا كان أو بعيدا, بل ينظر إلى أحسن رجل يتوسم فيه القيام بالواجب في تلك الوظيفة, ويسندها إليه, فإن حصل تقصير ممن ولاه بعد ذلك فلا إثم عليه, بل هو مأجور؛ لأنه بذل جهده في الاختيار, سواء كبرت الولاية أم صغرت، وكل موظف في تلك الولاية يجب عليه ما وجب على الوالي العام, فمن قام بذلك فقد سلك سبيل النجاة, وبقدر توفيقه في الاختيار يكون نجاح عمله وثمرته في الدنيا والآخرة, ومن عكس فحابى القريب لقرابته, والصاحب لصحبته, وهو غير كفء أو كفاءته ناقصة, وترك من هو خير منه فقد سلك طرق الهلاك, وبقدر اختياره السيئ يكون فشل عمله, فالأول فائز في الدارين, والثاني خسر فيهما.(2/250)
مواقف المسئولين من تطبيق هذه الصفات عمليا ونتائجها:
أخي المسلم إنك إذا ألقيت نظرة على موقف المسئول الأول عن هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدته رسم منهجا واضحا كاملا لأمته في تطبيق هذه الصفات, باختيار الأكثر إنصافا بها للوظيفة المراد إسنادها, في السلم والحرب, والسفر والحضر, والإمارة, والقضاء, والصلاة, والجباية, وغيرها, وكتب السير والجهاد شاهدة بذلك في متناول يد كل قارئ, وفي إمكانك الرجوع إليها في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة.
وتبعه على ذلك خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم, كل واحد منهم على قدر استطاعته, وبما أداه إليه اجتهاده, وكانت الأمور في عصرهم على خير ما يرام, وكان المسلمون سادة الدنيا وحكامها وقتا غير قليل بعدهم بسبب نهجهم الذي سلكوه, وإن كانت هناك بعض فوارق بين الخليفتين الأوليين أبي بكر وعمر رضي الله عنه, وعهد الخليفتين بعدهما, يعرف ذلك من اطلع على تاريخهم جميعا رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم جاء بعد الخلفاء من مال عن جادتهم بعض الميل, فأسندت بعض الأمور إلى غير أهلها, وترك من هو أهل لذلك تبعا للأهواء والأغراض, وتتابعت عل ذلك الأجيال, كل جيل يفوق من قبله في الفساد وسوء الاختيار, إلا من رحم الله, وهم قليل, فكانت النتائج وخيمة, والأحوال مضطربة, والفشل حليفا لأغلب الأمم الإسلامية يكثر ويقل في كل أمة بقدر كثرة الغش وقلته, وأصبح المسلمون أتباعا بعد أن كانوا متبوعين, أذلاء بعد أن كانوا أعزاء, فقراء بعد أن كانوا أغنياء؛ والسبب في ذلك كله إسناد الأمور إلى غير أهلها.
نصيحة:(2/251)
أيها المسلمون إني أدعوكم جميعا إلى مراقبة الله الذي يعلم ما تسرون وما تعلنون, بأن تسندوا كل وظيفة كبرت أم صغرت إلى من يستحقها, ولو كنتم غير راضين عنه لأغراض شخصية, ولا تولوا من لا يستحق الولاية ولو كان أقرب قريب, فإن الله تعالى يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} , ويقول: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} , فقرابة القريب وصداقة الصديق الذين تحابونه لقرابته أو صداقته لا تنفعكم شيئا, بل قد تكون سببا لفشلكم في الدنيا, وعذابكم في الآخرة, والآجال النافع الباقي خير من العاجل الضار الفاني. وليعلم كل مسئول ولى من لا يستحق الولاية وهو يعرف أن غيره أحق منه أنه خائن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده, وأنّ حبه لشهوات نفسه تغلب على حبه لله ولرسوله, فإن اختيار الأصلح اللاحق من محبوبات الله ورسوله, واختيار الأسوأ مما يبغضه الله ورسوله, وتارك الأول قد ترك ما يحب الله, ومختار الثاني قد اختار ما يبغض الله, وهذا يدل على خبث النية, وسوء القصد, نسأل العافية.
وليكن الختام بهذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
كل شعب قام يبني نهضة
وأرى بنيانكم منقسما
في قديم الدهر كنتم أمة
لهف نفسي كيف صرتم أمما
كل من أنكر ذاتيته
فهو أولى الناس طرا بالفناء
لن يرى في الدهر قوميته
كل من قلد عيش الغرباء
إقبال(2/252)
عودة قائد
لسعادة الدكتور محمد ناصر
قد يعود قائد رافع الرأس.. مكللا بالنجاح والنصر.. حاملا نتائج جهاده المتواصل..
وقد يعود قائد من المعركة رافع الرأس.. ولكن قيدا حديديا قد زين يديه.. لينزج في مجاهل السجون ومعسكرات التعذيب.. ومع ذلك.. فإن قصة جهاده ستكون قدوة مقتادة, وتربة خصبة في أرض الجهاد.. للمجاهدين القادمين بعده..
وقد يعود قائد.. ولكن لا يعود إلا اسمه.. أما جسده فقد تركه في أرض الجهاد.. وفي الوقت ذاته فإن روحه حية خالدة.. توقظ روح الأمة جيلا بعد جيل.. وتلهم القادة الناشئين في ميدان الجهاد بعده.
وقد يعود قائد رافع اليدين حاسر الرأس.. متذللا مستسلما لعدو يعادي الله ورسوله ...
فقد عاد جسمه.. ولا بد يوما أن يلاقي ربه ...
فروحه قد أماتت روح جهاد الأمة آمادا بعيدة ...
ولربما يبدل الله بها أمة غيرها ... أمة خير من سابقتها..
وأين من قائد سفينته معاكسا لاتجاه الرياح والأمواج, ولكنه أبى أن يتنحنح ويتزعزع ويعود من حيث أتى ...
فإنه هو القائد بمعنى الكلمة.
ولم يعد القائد..
كتبها وهو في غابة على رأس حركة ثورية ضد الشيوعية والدكتاتورية أغسطس سنة 1961م.
ترجمة محمد تجاني جوهري(2/253)
الإدارة العامة في الإسلام
إبراهيم مبارك الأعظمي بكالوريوس في الإدارة العامة جامعة بغداد
المدخل:
قبل البدء في الدخول في صلب الموضوع أودّ أن أُبيِّن شيئا مبسطّاً عن الأوضاع الإدارية السائدة وحالة المسلمين بالنسبة إلى الإسلام العظيم الصحيح الكامل أولاًّ والإدارة العامة ثانيا.
فممّا لاشك فيه أنّ المسلمين اليوم وفي جميع أقطار العالم بصورة عامة قد جهلوا الإسلام العظيم, وانحرفوا عن طريقه الواضح الجلي؛ طريق الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ وسبب ذلك الحرب العدوانية التقليدية النشيطة على الإسلام الحق وأهله من قبل الأعداء بمختلف منظماتهم العلنية والسرية الفردية والجماعية مع جميع مغرياتهم ومكانتهم التعبوية المتنوعة التخطيط [1] التي تكيد للإسلام والمسلمين بعد أن غفل أهله عنه, ومالوا إلى غيره من المبادئ والنظم, مما سبب إلى ضعفهم وتأخرهم واستهانة عدوهم بهم.
وقد أعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم تداعى عليكم كما تدعى الأكلة إلى قصعتها",فقال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟ "قال: "بل أنتم يومئذ كثير, ولكنّكم غثاء كغثاء السيل, ولينزعنّ الله من صدور عدوِّكم المهابة منكم, وليقذفنّ في قلوبكم الوهن",قال قائل: "يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" [2] .(2/254)
ومما يتصل بهذا أيضا قول الله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ.. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} التوبة: 8-10, فصفة الاعتداء أصيلة قديمة فيهم قدم التاريخ البشرى, تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه, وتنتهي بالوقوف في وجهه, وتربصهم بالمؤمنين, وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة, إذا هم ظهروا عليهم, وأمنوا بأسهم وقوتهم. وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم ولا متحرجين, ولا متذممين من منكر يأتونه معهم..وهم آمنون.. إنّ المسلمين يواجهون أعداء متربصين بهم, ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك.. ووراء هذا التقرير تاريخ طويل.. [3](2/255)
وحقيقة المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى, وما الحروب الصليبية سابقا والحروب في فلسطين حاليا ببعيدة عنا. وفي الأرض اليوم أنظمة ومناهج وأوضاع من صنع العبيد, لا يأمن فيها من خالفها من البشر على نفسه, ولا على ماله, ولا على عرضه, ولا على حرمة واحد من حرمات الإنسان, ثم يقف ناس يرون هذا في واقع البشر وهم يتمتعون ويجمجمون لدفع الاتهام الكاذب عن منهج الله بتشويه هذا المنهج وإحالته إلى محاولة هازلة قوامها الكلام في وجه السيف والمدفع في هذا الزمان, وفي كل زمان وعلى رأس كل وضع من هذه الأوضاع تقوم الأجهزة الإدارية لتؤدي دورها وفعلها المهم بكل نشاط, لذلك فإن وضع المسلمين اليوم وحالتهم مما هم عليه من التخلف والتأخر ونزع المهابة من صدور الأعداء وغير ذلك من وسائل الضعف بالرغم من وجود الثروات الطبيعية والخيرات النافعة النامية في بلادهم كل ذلك سببه يعود إلى فساد الأنظمة التي بدلوها بالإسلام العظيم الصالح وقيمه, إذ هي التي خسرتهم, وحالت دون تقدمهم وازدهارهم, بل وإن شئت فقل إن هذه الأنظمة المستوردة الفاسدة هي التي وقفت بهم هذه الوقفة الجامدة المتحجرة, وقيدتهم بقيود استمداد الإيحاءات ممن اشتروها, وهم بطبيعة الحال أعداء, والعدو لا يرحم عدوه, بالإضافة إلى نقص في العقلية والتفكير؛ لأنهم بشر وهيهات وهيهات أن يرو التقدم والازدهار مالم يأخذوا بنظام الإسلام الأوحد. وهذه المشاكل العالمية الكبرى لأكبر دليل شاهد على ما نقول بالنسبة للعالم بصورة عامة, والبلاد الإسلامية خاصة, إذ ليس الإسلام العظيم أراد بهم هذا, بل إن المسلمين أنفسهم ضعفوا وتخلفوا وتقلصوا عندما تركوا مصدر عزهم ونصرهم الأساسي المتين الجبار وهو الإسلام العظيم قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا(2/256)