أن تحول دون النفاذ من نطاق إحدى الفكرتين إلى نطاق الأخرى، ذلك أن ما نسميه (الروح) - مثلا - لا يمكن أن نتصوره إلا حالا في جسم، وما نسميه الإرادة لا نعرفه إلا متمثلا في أفعال - وهكذا؛ فإن الثنائية لا تؤدي عند فيلسوفنا إلا إلى أحد أمرين: فإما القول بعدم الإدراك، وإما نفي المعرفة أو اللا إرادية.
وإذا كانت المشكلة على هذا الوضع غير قابلة للحل فلا يشك كروتشه في أن وضعها ذلك الوضع خطأ ينبغي تصحيحه؛ وتصحيحه هو في القول بوحدة الإلهام والتعبير. فالإلهام لا يمكن أن نعرفه إلا إذا ظهر في صورة تعبيرية، فهو والتعبير إذن شيء واحد، ولا إلهام إذن من غير تعبير. وهنا يسخر كروتشه ممن يدعي أن لديه أفكارا لا يستطيع أن يعبر عنها، أو أن في ذهنه لوحة لا يستطيع أن يرسمها، وينكر على هذا وذاك وجود ما يزعمانه من إلهام.
يبني كروتشه مبدأ وحدة الإلهام والتعبير على نفي الثنائية.
وليست المسافة بين نفي الثنائية وبين القول بوحدة الوجود بالمسافة الكبيرة عند كروتشه، فهو يرى أن فلسفة الجمال تساهم بمبدأ وحدة الإلهام والتعبير في بناء المبدأ الأكبر مبدأ وحدة الوجود. وعنده أن إبداع قصيدة من الشعر ينطوي على اللغز الأعظم الذي ينطوي عليه إبداع هذا الكون الكبير.
وبعد، فهذه لمحات من آراء بنديتو كروتشه في فلسفة الجمال، لا نزعم لها أنها أحاطت بهذا الجانب من فلسفته كما ينبغي أن تكون الإحاطة، ولكن إذا تيسر لهذه اللمحات أن تلفت القارئ العربي إلى هذا المفكر العظيم الذي لم ينل في بلادنا قسطه العادل من ذيوع الصيت فذلك حسبها وكفى.
الإسكندرية
جمال مرسي بدر(1016/24)
8 - الميسر والآزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
(تتمة)
ضروب من القرعة المعاصرة
1 - وكانت القرعة إلى عهد قريب تطلق على اختيار الرجال للجندية، وكانت إدارة التجنيد لجيشنا المصري تسمى (إدارة القرعة)، ولا تزال هذه التسمية غالبة لم تمح التسمية القديمة، وبسؤالي لبعض كبار رجال الجيش أجاب بأن ذلك لا يعدو أن يكون مجازا في التسمية، وأنه لم تكن ثمة قرعة بالمعنى الحقيقي، وإنما هي اختيار بحت وترشيح للصلاحية كان فيما مضى مبينا على قواعد ساذجة، ثم أضحى اليوم مقيدا بشروط دقيقة لا بد من توافرها في أفراد الجيش النظامي.
2 - ومن وسائل القرعة أن تقطع أوراق متساوية القدر والنوع واللون، ثم يعطى كل واحد من المتقارعين واحدة منها فيكتب فيها اسمه، ثم تطوى كلها على غرار واحد، فإما أن تجعل مربعة، وإما أن تلف لفا أسطوانيا، بحيث لا يبدو من إحداها ما يدل على صاحبها، ثم تلقى في وعاء، وقد يكون ذلك الوعاء قلنسوة أحد المتقارعين، ثم تجلجل كما تجلجل القداح، ثم تخرج إحداها؛ فمن خرجت باسمه فهو الفائز.
3 - ومن وسائل القرعة في بدء الألعاب الرياضية أن يختار كل واحد من الفريقين أحد وجهي الدرهم: الصورة أو الكتابة، ثم يلقي الحكم هذا الدرهم فأي الوجهين ظهر حكم لصاحبه أن يكون هو البادئ باللعب.
هذه هي أشهر ضروب القرعة المعاصرة في مصر اليوم، ولا ريب أن هناك ضروبا أخرى منها يزاولها أقوام آخرون في شتى بلاد الله، كل يجري على مذهبه وطريقته في ذلك.
الاستخارة
ومما يلحق بالاستقسام لطلب الغيب، أو للتفاؤل واستشارة قوى الغيب للإقدام والإحجام ما أطلق عليه المتأخرون لفظ (الاستخارة).(1016/25)
ولفظ (الاستخارة) عربي أصيل. قال ابن الأثير في النهاية: (والاستخارة: طلب الخيرة في الشيء، وهو استفعال منه، يقال: استخر الله يخر لك). وفي الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في كل شيء). وفيه أيضاً دعاء الاستخارة، وهو (اللهم خر لي)، أي اختر لي خير الأمرين، واجعل لي الخيرة فيه.
ولا ريب أن معنى الاستخارة أن يستلهم المستخير الله ليهديه إلى خير النجدين، ويأخذ بيده إلى أقوم الطريقين. وليس في هذه الاستخارة لجوء إلى غير الله، وليس فيها توسل بغيره لمعرفة الخير. ولم يؤثر عن السلف الصالح استخارة بغير معنى دعاء الله عز وجل أن يوفق للخير.
ولكن هذه التسمية أطلقت فيما بعد على ضروب من الاستشارة أشهرها:
1 - استخارة المصحف، بأن يفتح المستخير المصحف ليرى فيه ما يدله على الإقدام أو الإحجام، أو ليستبشر به أو يبتئس بقراءة أول ما يظهر له منه عند الفتح.
ويسجل التاريخ خبرا معزواً إلى الوليد بن عبد الملك - وكان فيما يذكر المؤرخون صاحب فسق وفجور - فيزعمون أنه أخذ المصحف يوما وفتحه، فأول ما طلع له (واستفتحوا وجاب كل جبار عنيد). فقال: أتوعدني؟! ثم علقه ولا زال يضربه بالنشاب حتى خرقه ومزقه، وهو ينشد:
أتوعد كل جبار عنيد ... فها آنذاك جبار عنيد
إذا لاقيت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقني الوليد
ومعا شك بعض المؤرخين في هذه الرواية فإنها لا تدل بيقين أنه فتح المصحف ليستخير به أو يستقسم، فليس في نصها ما يقطع بذلك أو يرجحه.
ومما يجدر ذكره أن (الاستفتاح) في الآية الكريمة لا يمد بسبب إلى (فتح المصحف) بل المراد بالاستفتاح في الآية هو طلب النصرة. وفي الحديث: (أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين)، أي يستنصر بهم. أو المراد به طلب القضاء، كما في قوله تعالى: (فافتح بيني وبينهم فتحا)، أي احكم حكما.
2 - ومن ضروب الاستخارة استعمال (المسبحة)، بأن يجري المستخير يده على حبات المسبحة ثم يقف بأصابع إحدى يديه عند واحدة منها، ثم يحرك أصابع اليد الأخرى من(1016/26)
حيث وقف إلى رأس المسبحة ويقرأ على حباتها بالتوالي (الله. محمد. علي. أبو بكر. أبو جهل) فحيث انتهى العد إلى رأس المسبحة كان ما تشير به الاستخارة، فخير الحظوظ أن ينتهي العد إلى الكلمة الأولى ثم التي تليها إلى (أبي بكر)، ولكنها إذا وقفت عند أبي جهل كان في ذلك الشر المستطير والأخذ الوبيل.
هذا هو الميسر وأشباهه، وتلك هي الأزلام وأشباهها، بسطت القول فيهما وأردت بذلك فيما أردت أن أذكر تأصيل (الميسر) وأنه داء صاحب البشرية منذ عهد طويل، وأن أقول إن الوقت قد حان للقضاء عليه في هذه العهود الجديدة التي تحاول أن تهزم الشر والفساد، وأن تنصر الأخلاق الفاضلة والمثل العليا.
وأما بعد فإن القول ليس بحاجة إلى أن يعاد، وأن يقال إن الميسر هو السر الغالب فيما كنا نرى من تهافت بعض أصحاب السلطان فيما مضى على اغتصاب الأموال واحتجان الحقوق، والتسلل إلى اقتناص الأبيض والأصفر من ثنايا الرشوة ومكامن الاستغلال الدنيء. فلنقض عليه ولنعلم أننا نبني بذلك صرحاً عالياً سامقاً من صروح الاستقامة، ونهدم بذلك جبارا ماردا من جبابرة الفساد والطغيان.
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا).
منهج لبحث
المقال الأول:
مقدمة - لفظ الميسر ومدلوله - لفظ القمار ومعناه - لفظ الأزلام ومعناه - زمان الميسر.
المقال الثاني:
الجزور - الجزار - عدد الأيسار - قداح الميسر - عدد القداح وأسماؤها - قداح الحظ - القداح التي لا حظ لها.
المقال الثالث:
الخريطة - الحرضة - الرقيب - مجلس الميسر - الغنم والغرم - قضايا الميسر - ما في الميسر من الضرر والنفع.
المقال الرابع:(1016/27)
هل بقي الميسر في الإسلام - الاستقسام بالأزلام - الأزلام في الشعر العربي.
المقال الخامس:
لماذا استقسم العرب يالأزلام - أزلام الاستقسام.
المقال السادس:
العامل الديني - تقديس الأزلام - الأزلام في التاريخ الديني القديم - التمرد على الأزلام.
المقال السابع:
الأزلام المدنية - علة تحريم الاستقسام بالأزلام - القرعة - القرعة في الكتب الدينية القديمة.
المقال الثامن:
ضروب من القرعة المعاصرة - الاستخارة
مراجع البحث
الأصنام، لابن الكلبي، طبع دار الكتب - الأغاني، لأبي الفرج، طبع الساسي - إنجيل لوقا ومتى ومرقس - بلوغ العرب للآلوسي، الطبعة الثانية - تاريخ الطبري، طبع الحسينية - تفسير أبي حيان - تفسير الفخر الرازي - الحيوان للجاحظ، بتحقيقنا - خزانة الأدب، للبغدادي، طبع بولاق، ديوان الخطيئة، طبع التقدم - ديوان طرفة. طبع قازان - ديوان النابغة. من مجموع خمسة دواوين - سفر يشوع - سفر بونان - السنن الكبرى للبيهيقي. حيدر أباد 1344 - السيرة. لابن هشام. طبع جوتنجن - صبح الأعشى. للقلقشندي. دار الكتب - صحيح الأخبار. لمحمد بن بليهد. الطبعة الأولى - صحيح البخاري - الطرق الحكمية. لابن القيم. طبع المؤيد 1317 - فتح الباري. لابن حجر. طبع بولاق - الكشاف للزمخشري. طبع البهية - لسان العرب. لابن منظور - محاضرات الراغب الأصفهاني. طبع الشرقية - المحبر. لابن حبيب. تحقيق الدكتورة إيلزه - المخصص. لابن سيده. طبع بولاق - مسند أحمد. بتحقيق أحمد شاكر - معجم البلدان. طبع الخانجي - المفضليات. طبع دار المعارف - مقاييس اللغة. بتحقيقنا - الميسر والقداح. لابن قتيبة. طبع السلفية - النجوم الزاهرة. لابن تغري بردي. دار الكتب - النهاية لابن الأثير. طبع العثمانية.
عبد السلام محمد هارون(1016/28)
رد على مقال
العدالة الاجتماعية في الإسلام
للأستاذ محمد رجب البيومي
كنت اقرأ في مجلة الثقافة الغراء فصولا مختلفة في قواعد النقد الأدبي ومذاهبه للأستاذ عز الدين إسماعيل، فألمح أضواء التوفيق فيما أطالع، وأتصور أن الكاتب سيخطو بالنقد الأدبي خطوة موفقة حين ينتقل من القواعد المذهبية إلى التطبيق، ولكني شعرت بمرارة لاذعة حين قرأت ما كتبه بالعدد الأخير من مجلة الثقافة خاصا بنقد كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، فقد، قضى على كل أمل كنت أرجوه منه.
وكتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام كتاب مرموق في المكتبة العربية وقد ظهر منذ سنوات، كما تعددت طبعاته المرة بعد المرة، فمن يحاول أن ينقده اليوم فلا بد أن يقدم للقارئ مآخذ هامة ظهرت لديه بعد القراءة الطويلة، والتمحيص الدقيق، وكنت أنتظر ذلك من الناقد الفاضل ولكن الريح قد أتت بما لا يشتهي الملاح.
بدأ الأستاذ نقده الثائر بقواه (ويجدر بي قبل أن أطيف بالقارئ في أرجاء هذا الكتاب أن أنبهه إلى خدعة كبارة، وهالة باطلة نسجها الإمحال في وقت من الأوقات عن شخصية المؤلف، فأخذ مكانه بين الرعيل الثاني من المفكرين في مصر الحديثة، وإن أظهر ما تتسم به مؤلفات الأستاذ سيد قطب هو الضحالة والصحافية، وصياغة أفكار الآخرين من جديد).
فالناقد الفاضل يعلن صراحة أن كتاب العدالة قد شق طريقه إلى الرواج لظهوره في وقت ممحل جديب، توقف فيه التيار الأدبي عن سيره المتواصل، وهذا قول باطل، إذ أن السنوات الأخيرة قد قذفت إلى المطبعة عشرات الكتب الإسلامية والأدبية لعشرات من أفاضل المؤلفين، ولم ينفرد كتاب العدالة بالظهور، ليقال إنه لقي ما لا يستأهله من الرواج والذيوع، كما يحدد الناقد الفاضل مكانة الأستاذ قطب فيضعه في الرعيل الثاني من المفكرين في مصر الحديثة، وقد كان الأستاذ قطب من الرعيل الثاني فعلا قبل أن يبدأ سيله الزاخر في السنوات الأخيرة بكتاب العدالة وما تبعه من المؤلفات، أما الآن فلا ينكر عليه منصف مكانه المنفوس في الرعيل الأول من الكتاب. وليس هذا بكثير على كاتب مجاهد دفع عن زملائه معرة الجبن والخمول، فمهد للثورة الأخيرة بقلمه، واندفع سنوات متلاحقة(1016/30)
يحارب الفساد في الصحف الحرة النزيهة كالدعوة واللواء والرسالة والاشتراكية وروز اليوسف، حتى ليجوز أن نشبه موقفه من النهضة الأخيرة بموقف فولتير من الثورة الفرنسية. ولكن الأستاذ عز الدين يقسم الأدباء إلى درجات متفاوتة ثم يعز من يشاء ويذل من يشاء دون عدالة وإنصاف.
وهذه السرعة الحميدة الخصيبة في الإنتاج كانت سيئة شنيعة لدى الناقد الغيور، فجعلته يحكم على إنتاج قطب بالضحالة والصحافية، ثم يزيد فيزعم أنه يسرق أفكار الآخرين. وإذا أعوزه الدليل على ذلك، تعدى كتاب العدالة الذي أرهق نفسه في نقده، واندفع يقول:
وإن شئت فارجع إلى كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) وهنا تستطيع أن تدرك تماما أن الكاتب أعاد أفكار أبركرمي وتشارلتن، ولا نسون التي سبق أن ترجمت إلى العربية فإذا بحثت عن جديد يختص به المؤلف أعياك البحث دون جدوى.
والكتابان اللذان خدعنا بهما للمؤلف، وخيل إلينا أن فيهما من الأصالة ما ينفي عنه تلك الصفة، وهما التصوير الفني للقرآن، ومشاهد القيامة في القرآن، هذان الكتابان، بكل أسف ليس فيهما من أصالة الفكرة شيء؛ فقد تلقف الأستاذ سيد قطب أصل الفكرة من الأستاذ العقاد وراح يضخمها حتى ظفر من هذه الضخامة بقدر يملأ كتابا)!!
ونحن ننقل هذا الكلام لنسجل على الناقد غفلته، فكتاب النقد الأدبي لا يعيبه إطلاقا_على فرض التسليم بما ذكره الناقد - أن يفيض بآراء أبركرمي وتشارلتن ولانسون، إذ أن الناقد المعاصر لا بد أن يحيط بالثقافة الغربية في موضوعه، وإذا ظهر في النقد الأدبي كتاب يخلو من الإشارة إليها في صفحاته فقد سقطت قيمته الأدبية دون نزاع، والناقد الجريء يتعمد أن يغفل في كلامه حقيقة هامة، فالأستاذ قطب لم ينقل آراء هؤلاء النقاد إلا ليطبق عليها الآثار العربية من شعر ونثر، وقد فاض كتابه الجليل بالموازنة والتحليل، وهنا تتجلى ميزة قطب الأصيلة فهو باحث تطبيقي يزن الأثر الفني بميزانه الدقيق، وليس كمن يحشد لنا القواعد المذهبية في النقد الغربي من كل مكان، فإذا أراد تطبيقها على الأدب العربي اضطرب مقياسه، واختلج ميزانه، وغمره التلجلج والبهر والارتباك!!
وقد ادعى الأستاذ عز الدين أن كتابي التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة مأخوذان من الأستاذ العقاد، ولماذا؟ وأين الدليل؟ لأن العقاد قد كتب مقالة تشير إلى فكرتهما(1016/31)
الأصيلة! فتلقف قطب الفكرة! وملأ بها كتابين كبيرين! وهذا يذكرني بما يقوله بعض الناس في معرض الفكاهة والتندر، من أن أوربا لم تخترع الطائرة، وليس لها أي فضل في اكتشافها على الإطلاق، إذ أن الجوهري وعباس بن فرناس قد هما بالطيران في يوم من الأيام، ثم أخذ الغرب الفكرة وادعاها لنفسه دون أن يقوم بمجهود!! وهكذا أخذ قطب مقالة الأستاذ العقاد فأفرغ فكرتها الموجزة في كتابين كبيرين، فيا للسطو الشنيع والجريمة النكراء!!
ثم ماذا؟ لقد لجأ الكاتب بعد هذه المقدمة إلى نقد كتاب العدالة، فأدهشني أن يعمد إلى التشويه دون أن يحترم عقول القراء؛ فهو حين يدلل على ضحالة قطب يزعم أنه استشهد بقوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ليبين أن الإسلام لا يعادي العلم كغيره من الأديان. وهذا غير صحيح؛ إذ أن قطبا يعرض بعض الخصائص الحية في الدين الإسلامي، فيذكر أنه لا يعادي العلم، ولا يكره العلماء، وأنه لا يعتمد على الخوارق والمعجزات، ولا يقوم على الغيبيات في صميمه بل يقوم على المشاهد والتأمل والنظر في الكون. ثم يذكر النصوص الدالة على ذلك من القرآن، ويعقب عليها بقوله: وذلك طبيعي في دين يربط التقوى بالعلم، ويجعل العلم سبيلا إلى معرفة الله وخشيته (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فليت شعري كيف يكون الاستشهاد بالآية بعد ذلك دليلا على أن الإسلام لا يعادي العلماء؟ وأين تكون الضحالة إذن؟ أهي عند الكاتب المظلوم، أم لدى الناقد الممتاز؟
والمثال الثاني الذي استشهد به الناقد في مضمار الضحالة أعجب وأغرب من سابقه! فهو يزعم أن المؤلف يعالج المسائل الكبرى في تاريخ الإسلام ببساطة عجيبة، (حتى ليردها إلى محض الصدفة، ولا يكلف نفسه التغلغل في العوامل الاجتماعية والتيارات النفسية التي تعمل بقوة في مد الإسلام وجزره)، يقول الناقد ذلك، وتنتظر منه أن يدلك على مأخذ هام عرض له فلا تجد غير ما يضحك ويدهش؟ فقد استنفد الأستاذ قطب عشرات الصفحات في إيضاح حقيقة الإسلام في عصر الرسول وخلفائه الراشدين؛ وأسهب في دراسة دعائمه الراسخة في الحرية والعدالة والمساواة، ثم عرض إلى الحكم الأموي فأوضح ما دار على مسرحه من مآس دامية لا ترجع إلى طبيعة الإسلام بل هيأت لها المصادفة التعسة! أجل لقد فعل الأستاذ قطب ذلك وتدرج مع قارئه في التاريخ تدرجا منطقيا، ولكن كلمة المصادفة(1016/32)
هذه لا تعجب الناقد، فيغفل جميع ما تقدمها من تمهيد، وما أعقبها من استنتاج ليخرج بدعوى عريضة جوفاء لن تجد من يطمئن إليها في كثير أو قليل!
والمؤلم المدهش أن الأستاذ عز الدين لا يفهم هدف الكتاب المنقود ورسالته فهو يحتم على مؤلفه أن يسهب في شرح البيعة لعلي وأن يفيد من التحليل الرائع الذي كتبه العقاد في عبقرية الإمام، وأنني ستجدني مضطرا أن أنبه الناقد إلى أن كتاب العدالة ليس كتاب تاريخ تراجع فيه مسائل البيعة والخلافة؛ فتذكر فيه مزايا علي كرم الله وجهه ومثالب معاوية الخلقية، ولكنه يحتاج إلى التاريخ بالقدر الذي يسعف بالحجة وينهض بالذليل، فكيف يفرض الناقد على المؤلف أن يندفع إلى استطراد متكلف لا يعنيه.
ويخيل إلى أن الناقد الألمعي لا يعرف شيئا عن الروح الإسلامية التي تغمر العالم الإسلامي الآن، فقد نسى المسلمون قوميتهم الضيقة وجعلوا الإسلام وطنهم الأول، وقامت جمعيات الإخوان المسلمين في شتى عواصم الممالك الإسلامية بمجهودها الناجح في هذا المضمار. والناقد الطلعة يجهل ذلك قطعا، فيتساءل عن الشخصية المصرية في القرنين الأول والثاني من الهجرة وعن الشخصية المصرية الحديثة، وعن الشخصية الهندية أيضاً (كذا)! كأن باكستان لم تشرق شمسها على الآفاق، ثم يتذرع بالمنطق التاريخي الموهوم فيسأل عن سر الحملة التي توهمنا بأننا تنكبنا الإسلام في حياتنا وروحنا نقتبس من هؤلاء وهؤلاء! أي والله، إنها توهمنا فقط أننا تنكبنا الإسلام؟! وإذا كان الناقد لا يعتقد مع الواهمين بأننا تنكبنا الإسلام عدة قرون، فلماذا يتحدث الآن عنه؟
وقد أخذ الأستاذ عز الدين يتحدث عن الصحافية التي تتمثل في جميع مؤلفات قطب، وعن مصادره الثانوية التي لا تصل إلى المراجع الأولى بحال، وأنت تسأل عن المصادر الثانوية هذه، فتجدها تتمثل في الكتب الحديثة مهما بلغت في الدقة والتمحيص! كأن كل مؤلف حديث لا يجوز أن يرجع إليه ألبتة!! وهذا رأي نسمعه لأول مرة، ونكتفي بتسجيله دون التعقيب عليه. فإذا سألت الناقد عن مظاهر الصحافية كما يفهمها وجدتها تتمثل فيما سماه بالأساليب الخطابية، والعبارات الطنانة!! مما لا يصبح في كتاب يستهدف إلى البحث العلمي السليم. وأحب أن ألفت الناقد إلى أن كتاب العدالة - فوق منزلته العلمية - ذو رسالة عملية، فقد ألفه كاتبه ليحدث انقلابا شعوريا عاصفا. وليطر بالنفوس الذليلة إلى آفاق(1016/33)
العزة والكرامة في أوج الإسلام، وكتاب كهذا يجب أن يخاطب الوجدان والشعور، ويتغلغل إلى الخواطر والمسارب، وكان في طوق مؤلفه أن ينحو به المنحى العلمي الهادئ، ولكنه مصلح ثائر يحطم السدود، ويقتحم الحواجز. وكتب الثورة جميعها سماوية وبشرية، غربية وشرقية تخاطب العقل والشعور معا، ولا يعيبها أن تتلمس لها النقائص تلمسا، فيقال إن المؤلف يثبت الفكرة قبل أن يبحثها، إذ أن تقديم الفكرة لا يحول دون مناقشتها، ودفع ما يقف أمامها من الشبه المضادة، وإلا فستكون قليلة الجدوى فاقدة التأثير.
وقد عمد الناقد المغرض إلى المغالطة والتضليل فيما لا سبيل إلى دحضه فهو يقول (ولعل من صور اضطراب البحث في يد الكاتب أن تجده يقف بك أمام المشكلة في جوهرها ثم إذا به يحيلك على ما سيأتي حتى إذا مضيت قليلا فقد نسيت المشكلة ونسيت ما كان مفروضا قد يأتي لأنك تدخل في شيء آخر جديد).
يقف المؤلف في ص 19 ليضع هذه المشكلة الجوهرية؟ هل ما يزال في الإسلام عناصر صالحة للتطبيق في العصر الحديث؟ ثم يقول (هذا سؤال في الصميم) ولذلك لن يكون من المستطاع الإجابة الوافية عنه في هذا الموضوع فسنجيب عنه تفصيلا وتطبيقا فيما بعد (حتى إذا بلغت ص (216) وجدت إجابة باهتة)
والحق الذي لا يمتري فيه إنسان أن صحيفة 216 ليست وحدها هي الإجابة المطلوبة، بل إن الكتاب بجميع صفحاته إجابة مقنعة تدور حول هذا السؤال؛ بل من أجله قد كتب المؤلف كتابه من ألفه إلى يائه. ولن أعمد إلى تلخيص مواضيع الكتاب فيطول بي الحديث في غير طائل، ولكني أحيل الناقد إلى الفهرس فقط! وأعلن أسفي لناقد فاضل يعمد إلى هدم كتاب واضح دون أن يفهم مراميه! ولم يستطع الأستاذ عز الدين أن يخفي عن القراء ما تفيض به نفسه من التحامل المغرض والثورة على صاحب الكتاب، فهو يقرر فقدان الأصالة لدى المؤلف في كتابه لشيء واحد؛ هذا الشيء هو أن المؤلف قد نقل عشر صفحات عن أربعة مؤلفات وقد أثبتها متفرقة في مواضع شتى من كتابه، وأسند كل نص إلى قائله ومكانه؟ فيكون استشهاده بهذه النصوص المنقولة المسندة، دليلا قويا على فقدان الأصالة! مع أن صفحات الكتاب تستشرف إلى الثلاثمائة، وكان في طوق كاتبه أن يرجع إلى المصادر القديمة دون أن يشير إلى من نقل عنهم من المحدثين، ودون أن يؤاخذ جزاؤه(1016/34)
أن يتهم بفقدان الأصالة، وقلة الابتكار.
لقد أسرف الأستاذ عز الدين إسماعيل في تجنيه دون مبرر يدعوه إلى ذلك، وقد دفعني الإخلاص للحق وحده أن أعقب على حديثه راجيا أن يتعود الإنصاف في آرائه المقبلة.
محمد رجب البيومي(1016/35)
الأدب الأردى والثقافة الباكستانية
للأستاذ مسعود الندوي
اطلعت على كلمة للدكتور عمر حليق عن الاتجاهات الحديثة في الثقافة الأردية، الصادرة في العدد 1004 من الرسالة الزاهرة، فاستوقفتني منها أمور أحببت أن ألفت إليها نظر الكاتب وأصحح بذلك ما وقع في كلمته من الأخطاء. والذي يظهر من المقال أن حضرة الدكتور لا يعرف اللغة الأردية، ولم يطلع على روائع الأدب الأردي مباشرة؛ وله بعض العذر في ذلك. أما الذين تكرموا بتزويده بالمعلومات الخاطئة، فليس لهم عذر؛ اللهم إلا أن يكونوا من طلاب الأدب، وإنما اضطروا إلى القيام بهذا الواجب بصفتهم الرسمية. ومهما يكن الأمر، فإن الواجب يحدوني أن أشفع تلك المقالة بكلمة موجزة من عندي، عسى أن يتقبلها الدكتور الفاضل بقبول حسن.
إن أول ما استوقفني من كلمة الدكتور، هو الفرق بين الأدب الأردي قبل الاستقلال وبعده، والدعوى بابتعاده عن تقليد الغرب، والعدول عن إتباع تيارات الثقافة الغربية بعد الحصول على باكستان. ولكن من دواعي الأسف أن الأمر ليس كذلك؛ بل الحق أن الأدب الأردي الحديث أخذ في الانحطاط بعد الاستقلال، وشرع الكتاب الجدد في تقليد الأدب الغربي وإتباع معالمه من غير أن يبتكروا شيئا. وأكبر شاهد على ذلك ذيوع المجلات الخليعة الداعرة في السنين الخمس الفارطة وكثرة انتشارها وقلة المجلات الراقية المحتشمة. والمجلات الأدبية أيضاً يستولي على معظمها الشيوعيون الذين يسمون أنفسهم (تقدميين) والذين جل همهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. وقد رفع أمر بعض أئمة الكفر والضلال منهم - أمثال سعادت حسين منسوط والكاتبة عصمت بغتالئ - في المحكمة وعوقبوا بغرامات زهيدة ما زادتهم إلا شرا وتماديا في الغي. وهناك قسم ثالث - وهم لا يكادون يتجاوزون عدد الأنامل - يريدون أن يخدموا الأدب للأدب وحده، ولا ينحازون إلى دعاة الفحشاء والخلاعة. وعلى رأسهم الأستاذ بشير أحمد صاحب مجلة (همايون) الشهرية، الذي كان وزيرا مفوضا لباكستان في تركية منذ عهد قريب.
ولا يحسبن القارئ أن دعاة الإسلام والمستمسكين بالفضيلة والأخلاق ساكتون أمام هذه الدعوات الخليعة التي تروجها المجلات الداعرة وتساعد عليها محطات الإذاعة بأغانيها(1016/36)
المستهترة المبتذلة؛ لا يحسبن أحد كذلك، فإن المستمسكين بالفضيلة المعتزين بالآداب الإسلامية واقفون لهم بالمرصاد، مقاومون لهم بالحجة، مقارعون النبع بالنبع. فقد ظهرت في السنين الخمس الماضية طبقة من الأدباء الإسلاميين والشعراء الداعين إلى رصانة الأخلاق والمحافظة على الآداب الإسلامية والشرقية، ينشرون أفكارهم ونتاج قرائحهم في مجلات وصحف لهم خاصة، ولها انتشار في البلاد لا بأس به، ربما يفوق مجلات الشيوعيين من انتشار ورواج. والذين على رأس هذه الحركة هم الشاعر المبدع ماهر القادري، الذي يعد أكبر شاعر في باكستان بلا نزاع؛ والأديب نعيم الصديقي الذي ملك مشاعر الشباب بمحاضراته ومقالاته وقصائده الرنانة السائرة وغيرهما. والشاعر ماهر، على ذلك، يعد حجة في اللغة الأردية، وهو يحرر مجلة (فاران) الشهرية التي تصدر في العاصمة. أما الأديب نعيم الصديقي فهو أيضاً يشرف على تحرير مجلة شهرية راقية (جراغ راه - سراج الطريق)، تصدر في العاصمة نفسها. - هذا وجملة القول أن النزاع شديد عندنا اليوم بين الأدب الشيوعي والأدب الإسلامي، ولكل منهما مجلات وصحف وندوات وحفلات وأشياع.
هذه واحدة. والثانية أن الدكتور ذكر اللغة البنجابية المحلية وما لها من تأثير في (تطعيم) الأدب الأردي. والحال أن (البنجابية) لهجة محلية، لم يكن لها من صبغة أدبية تذكر. وأهل (بنجاب) هم الذين يحملون اليوم لواء الأدب الأردي ويدافعون عن حوزته؛ حينما تنكرت للغة الأردية الأرض - الهند - التي نبتت فيها وازدهرت واتت من كل زوج بهيج، ولا يكاد يقبل عليها ويتلقاها بالقبول سكان (بنغال) الذين يعتزون بلغتهم البنغالية المحلية المنحصرة في حدود مقاطعة بنغال؛ بل يريدون أن تكون لغة رسمية كالأردية. وغير خاف على اللبيب الفطن ما في هذا الاقتراح من بذر الشقاق والتفرق.
نعم، في سكان مقاطعة الحدود الشمالية الغربية عصبية شديدة للغتهم المحلية (بشتو)؛ ولكنها لغة محلية في طورها البدائي. ولولا تعصب أفغانستان لها واتخاذها منها لغة قومية بدل الفارسية لما كان لها شأن يذكر. ونحن واثقون من أن أولى الرأي والفكر من إخواننا سكان الحدود لا يزالون باذلين الجهد المستطاع في تعميم اللغة الأردية ونشرها في مدنهم وقراهم، حتى تعم اللغة الأردية سائر مدنهم وقراهم ويرفرف عليها لواؤها.(1016/37)
وقد ذكر الدكتور حليق الكاتب (السيد محمد إكرام) بجانب (أساتذة النقد وجهابذة الحل والعقد) كالأستاذ المحقق السيد سليمان الندوي والدكتور عبد الحق - الذي يلقب بـ (بابا أردو) - والحال أن محمد إكرام لم يكن من شأنه أن يبدأ ويعاد في ذكره في مثل هذا المقام. وجل مزيته التي يتمتع بها أنه يتبوأ منصبا عاليا في الحكومة المركزية، وله مصنفات يمكن أن تعد في الطبقة الثانية من المصنفات الأردية. أقول يمكن أن تعد، فإني قد قرأتها وأعرف قيمتها عن خبرة وعلم. ومعظم النقاد لا يقيمون لمؤلفاته وزنا. أما إنشاؤه بالأردية فمما لا شك فيه أنه ركيك بارد، لا يجعله حتى في عداد الطبقة الثالثة من كتاب الأردية. ثم خلط الكاتب (الاتجاهات في الأدب البنغالي) بالاتجاهات في الأدب الأردي. فالأدب البنغالي، متشبع في جملته بالروح الوثني، كما كان للهنادك الوثنيين من سلطة أدبية ونفوذ ثقافي منذ قرن كامل. نعم! قد كان للشاعر الثائر القاضي نذر الإسلام - الذي سماه الدكتور نصر الإسلام - يد عظيمة في تحرير الأدب البنغالي من أثار الصبغة الوثنية وتطعيمه بالأدب الفارسي والأردي، وكذلك للأستاذ الكبير محمد أكرم خان، يد باللغة وجهود مشكورة في إطلاق سراح الأدب البنغالي من رق الأدب الوثني الهندكي. وله تلاميذ وأتباع ينتهجون نهجه ويسلكون طريقه في الأدب البنغالي.
أما الشاعر عبد الحسين الذي ورد ذكره في مقال الدكتور الفاضل، فلم نسمع به أصلا، اللهم إلا أن يكون من شعراء اللغة البنغالية الذين لم تلمع أسماؤهم في هذه الناحية من القطر.
هذه كلمة موجزة أردت أن أشفع بها مقالة الدكتور عمر حليق قياما بالواجب وتعاونا على تبيين الحق والصواب. وللدكتور الفاضل تقديري وتحياتي.
مسعود الندوي(1016/38)
رسالة الشعر
ضموا الكتائب وارفعوا الأعلاما
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
ضموا الكتائب، وارفعوا الأعلاما ... وامضوا إلى مجد الحياة كراما
اليوم فاض النور من قلب الدجى ... فجرا تلألأ زاهيا بساما
كان البشير بأن مصر تحررت ... من قيدها، وتوثبت إقداما
لما دعا الداعي (نجيب) بلاده ... لي الدعاء، وأيقظ النواما
ومضى يقود الجيش في طلب العلا ... قدما، فكان مظفرا مقداما
هدم الضلال قوائما ودعائما ... بئس الظلال قوائما ودعائما
وأتى إلى الظلم الركين، فهزه ... هزا فصار على يديه حطاما
الله أكبر؟ قد شهدت حقيقة ... غراء كنت أظنها أوهاما:
رأس الطغاة المفسدين وعونهم ... كانت نهاية أمره استسلاما!
الملك لله الذي يهب العلا ... لمن استحق العز والإكراما
ومن ابتغى ذل الشعوب وظلمها ... فقد استحق الذل حيث أقاما
يا مصر: هذا يوم سعدك، فاسعدي ... في ظله، واستقبلي الأياما
يا مصر: هذا يوم مجدك، فاصعدي ... في المجد، واتخذي ذراه مقاما
يا مصر: هذا يوم نصرك، فافرحي ... بالنصر يقبل نعمة وسلاما
واستقبلي العهد الجديد بهمة ... لا تعرف التعويق والإحجاما
فلقد مضى العهد البغيض بظلمه ... وظلامه، وإلى الجحيم ترامى
وغدا تكون حياتنا أنشودة ... أنغامها. . . أنعم بها أنغاما!
وغدا يكون الخير ملء سهولنا ... ويفيض حتى يغمر الآكاما
وغدا سيشبع من يبيت على الطوى ... وسيكتسي من يلبس الإعداما
ويصح من كان الشقاء لجسمه ... سقما، وكان لنفسه أسقاما
ويعز بالعهد الجديد معاشر ... هانوا، فكانوا في الورى أيتاما
وينام مقرور الجفون معذب ... ظل السهاد حليفه أعواما(1016/39)
وغدا ينال الشعب كل حقوقه ... فيعيش متسع الرجاء هماما
في ظل دستور البلاد وعونها ... في الرأي، إن جرت الأمور جساما
إيه بجيب! وأنت ملء قلوبنا ... حبا، وملء نفوسنا إعظاما
هذى تحية شاعر متحرر ... لم يمتدح في شعره الأصناما
أكرمت شعري أن يكون مطية ... للضالمين، وإن غدوا حكاما
وجعلت نفسي فوق أهواء الآلي ... ملئوا البلاد مظالما وظلاما
حكموا بغير الشرع في البلد الذي ... جعل الشرع دينه الإسلاما!
هل كان هذا الحكم إلا موئلا ... للمجرمين؟ ألم يكن إجراما؟
كم شاعر شهد الحقائق جهرة ... ثم التوي عن وجهها وتعامى!
حسبي إذا ما رمت شعرا صادقا ... أن أبتغي من مثلك الإلهاما
أنا إن مدحتك لا أزيدك رفعة ... إني بمدحك في الورى أتسامى
وإذا وصفتك جل وصفك عن مدى ... قلمي، فوصفك يعجز الأقلاما
يكفيك صنعك رفعة ونباهة ... كالشمس يكفي ضوءها إعلاما
متواضع. تجد التواضع حلية ... جم الحياء ترى الحياء وساما
متحصن بالله تحسن آيه ... فهما، وتتقن دينه أحكاما
أخلاقك النور المصفى رقة ... لكن عزائمك اللهيب ضراما
وإذا نطقت ففي لسانك عفة ... لا تعرف الإيذاء والإيلاما
وإذا أتيت الأمر كنت وراءه ... عزما، وكنت أمامه إقداما
وأراك في ليل الحوادث كوكبا ... وأراك في غمراتها ضرغاما
ولقد تكون الغصن أخضر يانعا ... ولقد تكون الصارم الصمصاما
يا قائد الجيش المظفر كن له ... في كل أمر قدوة وإماما
هو عز مصر ومجدها وملاذها ... في الروع، إن رام العدو مراما
فأعد له أيامه، وانهض به ... حتى تخر له الحصون ركاما
واسلم لمصر، وإنها أم العلا ... والمجد. . . مذ كان الزمان غلاما
إبراهيم محمد نجا(1016/40)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
مؤتمر للأدب
يزور القاهرة هذا الأسبوع الكاتب السوري الأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة (الحديث) التي تصدر في حلب.
كما حضر من بين أعضاء الوفد المرافق للزعيم السوري الكبير العقيد (أديب الشيشكلي) الكاتب المعروف الأستاذ (قدري قلعجي).
وقد كان من الأماني الغالية ألا تحول المشاغل المختلفة لضيفي مصر دون التقائهما بأدباء مصر. فإن في مثل هذا اللقاء كسبا كبير للأدب العربي.
وإني لأتساءل لماذا لا يكون للأدباء (لجنة أدبية) شعبية على غرار اللجنة السياسية في الجامعة العربية.
ولماذا لا يعقد مؤتمر أدبي عام من أدباء الشرق، مرة كل عام في القاهرة أو بغداد أو دمشق يستمر أسبوع أو أسبوعين ويضم أدباء العرب في هذه البلاد، ليتفاهموا على كثير من المسائل والمشاكل التي تهم الأدباء، بخاصة في هذا الوقت الذي تعقدت فيه الحياة الأدبية واحتاجت إلى دراسة وبحث.
فالأدب يقاسي في هذه الأيام الكثير من المتاعب والعقبات في سبيل أداء رسالته، بعد أن شغل الناس عنه بالصحافة وما تقدمه الصحافة من زاد قليل قد يكون في بعض الأحيان رخيصا وقد يكون تافها.
ولا شك أن مشكلة التقاء الصحافة بالأدب في هذا العصر من أعقد المشاكل التي يجب أن يواجهها الأدباء.
وفي مصر مجلة الرسالة والثقافة والكتاب، وفي سوريا مجلة الحديث وفي لبنان مجلة الأديب وفي الأردن مجلة القلم الجديد، وكل هذه مجلات تقوم على الأدب الخالص وترفع مستواها عن الأساليب الصحفية والألوان السريعة أو الرخيصة، وهي ولا شك تقاسي من جراء ذلك الكثير من المتاعب، ولا تستطيع أن تنهض وحدها بالعبء على الوجه الذي يرضي الأدب ويرضي القائمين عليها.(1016/42)
ولا شك أن الدولة مسئولة عن الأدب كمسئوليتها عن التعليم والثقافة أو كجزء من التعليم والثقافة، ولذلك فإن لهذه المجلات الأدبية وهؤلاء الأدباء الحق في حياة كريمة، ولن يتاح لهم ذلك إلا إذا قامت الدولة برعاية الأدب، وإنشاء رابطة جديدة بين الكاتب والناشر من ناحية، وبين الأديب وفنه من ناحية أخرى. . تكون بعيدة عن كل عوامل الاستغلال. فالأديب يجب أن يخلص للأدب ويتجرد له، ولذلك فهو يحب أن يطمئن على معيشته وحياته أولا. فإذا توافر له هذا استطاع أن ينتج وأن يصل إلى حد بعيد في الإجادة وبذلك يكسب الأدب كثيرا.
والأديب مضطر إذا هو التجأ إلى الصحافة أو إلى التدريس أو إلى الوظيفة ليعيش منها، ثم يخلص بعض وقته للأدب. . .
نحن لا نطالب برعاية الدولة على الأساليب المعروفة بأن تشرف الدولة على الأدب أو تفرض سلطانها عليه أو تجعله مصلحة من مصالحها أو مرفقا من مرافقها. . وإنما نحب أن تبذل له المال حتى ينمو وحتى يقوى.
إن البلاد العربية الآن تواجه نهضة قوية في الاجتماع والاقتصاد والسياسة. . وبقى أن تواجه مثل هذه النهضة في ميدان الفكر والأدب والفن الرفيع.
. . إن الذين يعملون في ميدان السينما أو المسرح أو غيرهما من ألوان التسلية يعيشون في مستوى مادي رفيع، على عكس الذين يعملون في ميدان الأدب والفكر.
ويكفي أن تبقى هذه الكلمة القاسية (إن الأدب ليس موردا للرزق في مصر ولا يمكن الاعتماد عليه وحده) لتصور الحكمة البائدة (أدركته حرفة الأدب). . .
وبينما الصحافة تقفز قفزات واسعة، ويصل أصحابها والقائمون عليها والمشتغلون بها إلى كل مكان مرموق. . يظل الأدباء في المؤخرة. ويعيشون على فتات موائد الصحافة أو موائد المسرح والسينما.
أسوق هذا بمناسبة زيارة الأديبين السوريين إلى مصر، وأطالب الأدباء بعقد دورة سنوية لمؤتمر أدبي وفكري عام لبحث هذه المسائل ودراستها أشبه بمؤتمر البندقية.
مجلة مجمع فؤاد الأول للغة العربية
ومن الأمثلة القاسية على ضعف الروح الأدبية (مجلة) مجمع فؤاد الأول للغة العربية فقد(1016/43)
حصلت على العدد الأخير من هذه المجلة، وهو الصادر في 1951 فوجدته يحوي الموضوعات والخطب والكلمات التي ألقيت في المجمع عن سنة 1946 ومعنى هذا أن دراسات وموضوعات متعددة عن أكثر من خمس سنوات لا تزال بعيدة عن النور، ولن يستفيد منها أحد إلا بعد سنوات وسنوات إذا ظلت الحال على هذا المنوال. وقد علمت أن السبب الذي يعوق هذه المجلة عن الصدور هو عجز مطبعة بولاق عن طبعها وطبع أعمال المجمع على الجملة لانشغالها بطبع الكتب المدرسية والأوراق الرسمية ومحاضر البرلمان. فعسى أن تعمل وزارة المعارف على أن يكون للمجمع اللغوي مطبعة خاصة تطبع معاجمه ومحاضره ومجلته.
الموسوعة العربية
من أنباء هذا الأسبوع أن اللجنة الثقافية للجامعة العربية المكونة من الأساتذة شفيق غربال وأحمد أمين وبديع شريف وخير الدين الزركلي قد اجتمعت وقررت وضع موسوعة عربية تتضمن أسماء العلماء العرب في الآداب والعلوم والاجتماع والرياضة.
ونحن في الواقع في أشد الحاجة إلى (الموسوعات) في هذا العهد الذي يسرت فيه الدول الغربية وسائل التثقيف والمراجعة، فأعدت أنواعا مختلفة من الموسوعات، بحيث لا يحتاج الباحث أو الكاتب أو القارئ إلى طويل وقت ليتمكن من الكشف عن لفظ أو بلد أو معرفة علم من الأعلام.
وقصة الموسوعة العربية في مصر قديمة جدا، وقد كان أول من أعدها في العصر الجديد الأستاذ فريد وجدي وقد مضى على ذلك ربع قرن. . . أصبحت (دائرة معارف القرن العشرين) بعدها غير صالحة لعصرنا الذي تتغير المعلومات والآراء والأبحاث العلمية والأدبية فيه وتتحول من عام إلى عام!
. . أما دائرة المعارف الإسلامية فقد حال ضعف الموارد المادية دون إتمامها مع الأسف الشديد.
وتمكن الأستاذ (أحمد عطية الله) بجهده الفردي أن يخرج دائرة المعارف الحديثة لتكون في متناول القارئ السريع، أو الباحث المتعجل. وقد علمت أنه يعد موسوعة أخرى من نفس النوع تمكن لمن يريد الإلمام بموضوع ما أن يحصل على رغبته على نطاق واسع.(1016/44)
وإذا كان من الواجب أن تشجع الدولة هذه الجهود الفردية وتوليها عنايتها، فإن الجيل الجديد يطلب مراجع أوفى وأكثر عناية وتنوع.
وقد حدثني الأستاذ عطية الله أنه يعد موسوعة تاريخية عن عظماء مصر من (مينا) إلى اليوم، وأنه قد اشتغل بإعدادها منذ أكثر من عشرين عاما ولم يتمها بعد.
وإلى جوار هذا نحن في حاجة إلى موسوعات أخرى من أعلام العالم. . وفي حاجة إلى موسوعات عن البلاد والمدن والمواقع الحربية والانقلابات والثورات والأحداث.
وإننا وإن كنا نشك في أن الجهود الرسمية تستطيع أن تحقق ما نرجو، فإننا نرجو أن يتاح لجهود اللجنة الثقافية بالجامعة العربية النجاح المأمول.
بين الأدب والسينما
كان الدكتور محمد حسين هيكل من بين الكتاب المجددين في خلال النهضة الأدبية الأولى التي أنشأتها مجلة السياسة 1923 بالاشتراك مع طه حسين والمازني وغيرهما.
ولا ينكر المؤرخ أنه وضع أول قصة مطولة في الأدب العربي الحديث وهي قصة (زينب) التي عدها المستشرقون محاولة طيبة وبداية موفقة لهذا الفن الجديد في مصر.
ثم تعددت الألوان القصصية واتسع نطاقها وكتب المازني (إبراهيم الكاتب) و (إبراهيم الثاني) وترجم الزيات (رفائيل) (وآلام فرتر).
ثم ظهر اللون الإسلامي في (على هامش السيرة) لطه حسين والحوار في (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم.
وبين الفترة التي كتبت فيها زينب 1917 و1952 مراحل تطورت فيها القصة من لون إلى لون. ونشأت القصة المسرحية والسينمائية وغيرها.
وتطور الدكتور هيكل نفسه فأنتقل من النقد الأدبي إلى (التاريخ) فكتب حياة محمد والصديق والفاروق وفي منزل الوحي وغيرها. . ثم انتقل مرة أخرى إلى الحياة السياسية الخالصة.
وظل الأمر كذلك حتى فوجئ الناس بقصة (زينب) نعرض على الستار الفضي هذه الأيام. وظن الكثيرون وكنت منهم، أن الدكتور هيكل قد تناول قصته عندما طلبت للسينما فأعدها إعدادا جديدا، وواءم بينها وبين تطور الأدب والفن والقصة والزمن، وجعلها قريبة إلى(1016/45)
متناول الناس، وكان هذا ولا شك معقولا، فإن الدكتور هيكل يجب أن يضن بمكانته الأدبية على أن تكون موضع النقد الشديد حين يقدم قصة، كتبت سنة 1917 للسينما سنة 1952. وهي خالية من الحبكة ومن العقدة ومن كل فنون القصة الحديثة.
ونحن نعلم أن قصة زينب كتبت للقراءة، لا للتمثيل ولا للسينما، ولذلك فقد كان إقحامها على هذا الوجه، ودون أن يحاول الدكتور أن يجعلها في مستوى الفن الذي يعيش فيه الناس الآن. . كان موضع الهمس في الدوائر الأدبية المختلفة.
ولم يكن يضير الدكتور هيكل شيئا أن يكون الأديب والناقد والمؤرخ. . وألا يكون الكاتب السينمائي على الإطلاق!
تحرير خبر
تلقيت نصح الأديب محمود بخيت بكل تقدير وأرجو أن أكون عند حسن ظنه فأدخل الكثير من التجديد على باب الأدب والفن ابتداء من أول يناير في نهضة الرسالة الجديدة بإذن الله.
أما بالنسبة لما ذكره الأديب، فإنني قد تناولت أسبوع (الرسول) بصفة عامة سواء ما كان منه في ندوة الشبان المسلمين أو الصحف أو الإذاعة، ولم أقصر اشتراك مخيمر وشعلان والعمادين على الندوة وحدها، فقد اشتركا في الذكرى سواء بنشر قصائدهم في الصحف أو إلقائها في الإذاعة.
وكذلك فيما يتعلق بالقصائد التي لقيت الاستحسان فقد كنت أقصد أن قصائد مخيمر والمنشاوي والتهامي في مجموع ما أذيع وألقى في المناسبة على وجه العموم.
أنور الجندي(1016/46)
البريد الأدبي
الأدب المصري القديم
اطلعت في البريد الأدبي بعدد الرسالة الأخير على مسألة ضياع الأدب المصري القديم التي أثارها الأستاذ الفاضل محمد إبراهيم الجيوشي متسائلا عن ذلك الضياع مع بقاء آداب أمم قديمة أخرى - كالإغريق والرومان - خالدة على الدهر.
ولئن لم أكن من (المختصين) الذين عناهم حضرة الكاتب بسؤاله فإن هذا السؤال قد أثار في ذهني فكرة اعتنقها عن اقتناع من زمن بعيد نتيجة التدبر في أمر الدعوة الفرعونية التي نادى بها البعض. . ولعل في هذه الفكرة تفسيرا لتلك الظاهرة الجديرة بالالتفات.
ذلك أن شعب مصر في حاضره وفي ماضيه غير المغرق في البعد قد أصبح مبتوت الصلة بالقدماء المصريين، إذ لم ينتقل إليه من حضارتهم شيء لا في دين ولا في لغة ولا في ثقافة بحيث يصح تشبيهه - مع الفارق - بساكن جديد حل بيتا هجره ساكنه القديم!
فشعب مصر العربي - سواء منه ما قدمها في الهجرات العربية المتعددة، وما صهرته البوتقة العربية فأصبح عربيا - لا تربطه بالقدماء المصريين رابطة حضارية ذات بال.
وهذا بخلاف الحال عند الإغريق والرومان، إذ أن الحضارة الغربية الحديثة ليست إلا امتدادا لحضارة الإغريق والرومان التي هي الأصل الأهم للحضارة الحديثة.
لهذا لم يكن عجيبا أن يحيا هوميروس وأن يحيا فرجيل عبر الزمنة. . لأن الشعوب التي ظل الأدب اليوناني والأدب الروماني حيين بينها هي وارثة حضارة اليونان والرومان. . فهذان الأدبان هما ثمرتان لحضارة تلقتها تلك الشعوب وعاشت فيها وبها - مع التطور والتقدم الذين لا بد منهما لأنهما على سنة الكون.
ولهذا السبب عينه لم يكن من العجيب أن يضيع الأدب المصري القديم لأن الأدب صورة منعكسة عن الحضارة، وما دامت حضارة الفراعنة لم تجد لها امتدادا عند الشعوب اللاحقة لها فلا عجب أن يضيع أدبهم ولا يبقى منه على الزمن شيء إلا في متاحف ودور الآثار.
هذا ما عن لي إبداؤه في هذا الموضوع وعسى أن يكون فيه بعض التفسير لما تسائل عنه حضرة الكاتب الفاضل.
جمال مرسي بدر(1016/47)
مع دولة الألقاب
لقد ضحك الناس كثيرا حين علموا أن أحد الباشوات السابقين قد نهر رجال الجيش الذين ذهبوا لاعتقاله في منزله بشارع الهرم قائلا لهم: إنني باشا ولا يمكن القبض علي، وأنا لا أعترف بقانون إلغاء الألقاب ولا بكلامكم الفارغ. . . ضحك الناس يومها كثيرا. ولو علموا أن مجلس القاهرة البلدي (الموقر) سيظل مصرا على عدم اعترافه بقانون إلغاء الألقاب لتأنوا في ضحكهم على الباشا السابق العنيد، والتمسوا له عذرا، ورحموا عناده بعض الرحمة.
لا بد أن مجلس القاهرة البلدي قد سمع بأن هناك حركة مباركة قام بها الجيش المصري الباسل، فطوحت بالطاغية فاروق، وقوضت عرشه الدكتاتوري؛ وأدالت دولته الباغية؛ وأنها قد محت آثاره البائدة وفي مقدمتها الألقاب البغيضة التي كان فاروق يستغلها أسوأ استغلال في سبيل أهوائه ورغباته ومطامعه - لا بد أن المجلس البلدي الموقر قد سمع بهذا كله. إذن فلماذا يصر على أن يظل معترفا بدولة الألقاب، في اللافتات التي كتبت عليها أسماء الشوارع والميادين، فنحن لا زلنا نقرأ: ميدان سلمان باشا، وميدان مصطفى كامل باشا، وميدان سعد زغلول باشا، كما لا زلنا نقرأ: شارع نوبار باشا، وشارع مريت باشا، وشارع محمد بك فريد، نقرأ هذا وذاك فنضحك ملء أفواهنا من هذا المجلس الذي يضع رأسه في الرمل مصرا على أن تظل دولة الألقاب في دنيا الأموات بعد أن تلاشت في دنيا الأحياء. .!
وإذا تركنا مجلس القاهرة البلدي حتى يخرج من رأسه الرمل، لا يمكن أن نهمل بعض ذوي الألقاب الذي عز عليه أن تتلاشى دولته، فراح يحتفظ بلافتة منزله القديمة ذات اللقب المنحل، ويحتفظ ببطاقاته القديمة أيضا، مستعملا إياها بحكمة وحذر حتى يمتد أجلها ويطال في حياتها، وكأنما حياته رهن بهذا اللقب الذي يعز عليه مفارقته. إن هذا البعض من ذوي الألقاب أشبه بمن رأى حلما لذيذا ثم استيقظ فجأة، فعز عليه أن يحرم هذه اللذة، فراح يتصنع النوم من جديد لعله يعود إلى حلمه، فهو جدير بأن نطلب له الرحمة. .
نفيسة الشيخ(1016/48)
لسنا وحدنا. . .
يعيب علينا الغربيون استعمالنا كلمة (معليهش) وأحب أن أقول إننا لسنا الأمة الوحيدة التي تستعمل هذه الكلمة. . فالفرنسيون مثلا يكثرون من عبارة مشابهة لها، هي:
كما أن الإنجليز يستعينون بعبارة أخرى لا يخرج معناها عن معنا كلمة (معليهش) هي:
ومن عجب أن الغربيين يسموننا بأننا قوم (معليشيون). . ونسوا - أو تناسوا - أن أحاديثهم لا تخلو من عبارات ولا يخرج معناها عن معنى (معليهش) التي اختصرت عن عبارة (ما عليه شئ)!. .
وكل ما نسجله على أنفسنا أننا نسرف في هذه الكلمة إسرافا يبلغ أحيانا حد الاستهتار. . ولست حين أدفع عن استعمالها أقرها. .
إنما أردت أن أرد عن قومي نقيصة هم منها براء!. . .
عيسى متولي
1 - خادم وخادمة
الخادمة: كلمة صحيحة لغة واستعمالا من قديم الزمان، وقد انتشرت في هذه الأيام استعمال (خادم) بمعنى (الخادمة) وهذا الاستعمال وإن كان صحيحا إلا أن فيه تضليل وتشويشا بدون مبرر وإيهاما بأن (الخادمة) خطأ أو لغة ضعيفة وليس كذلك لأنها الصفة الطبيعية الخاصة بالإناث، واللغة موضوعة للتفاهم وليس من الحكمة أن نلجأ إلى استعمال الوصف المشترك (خادم) اعتمادا على فهم المراد من المقام وسياق الكلام، فيجب تخصيص (الخادم) بالخادم و (الخادمة) بالخادمة، والسلام على من اتبع الهدى.
2 - بدلة وبذلة
جاء في شرح القاموس: وقول العامة البدلة بالفتح وإهمال الدال للثياب الجدد خطأ من وجوه ثلاثة، والصواب بكسر الباء وإعجام الذال (بذلة) وأنه اسم للثياب الخلق (البالية أو المستعملة) فتأمل ذلك اهـ.
وأنا لا أوافقه فإن (البذلة) بفتح الباء وتسكين الدال المهملة لغة عربية صحيحة فإنها في الأصلمصدر على وزن (فعلة) ثم استعملت اسما للمبدول ونظيرها البعثة بمعنى المبعوث(1016/49)
أو المبعوثة وإليك الأدلة:
جاء في (معيار اللغة) بدلت الثوب بغيره كنصر أخذته مكانه الخ. . وجاء في (المصباح المنير) وبدلت الثوب بغيره من باب قتل الخ. فنحن ننظر إلى (البدلة) من ناحية التبديل والتغيير سواء كانت جديدة أو مستعملة لا من ناحية الابتذال والامتهان.
وأما (البذلة) بالذال المعجمة فإنها موضوعة للثياب البالية التي تبتذل وتمتهن في الخدمة والعمل ويجب أن تظل هكذا للتفرقة بينهما. . أنا أوافقه على أن وضعها للثياب الجدد خطأ ولكن لا أوافقه على أنها بكسر الباء فقط فقد جاء في (معيار اللغة) البذلة كعصمة وفتح الباء لغة، وجاء في (المصباح المنير) البذلة مثال سدرة (بكسر السين) ما يمتهن من الثياب في الخدمة والفتح (فتح الباء) لغة قال أبن القوطية بذلت الثوب بذلة لم أصنه أهـ وجمعهما بدال وبذال مثل (عنب) ونظيرهما بدرة وبدر وسدرة وسدر.
علي حسن هلالي
(الرسالة) أقر مجمع فؤاد الأول كلمة (بدلة) من التبديل بمعنى حلة.
تصحيح أسم شاعر
طالعت في العدد1010 من الرسالة الغراء تلك الكلمة الرائعة للأستاذ أحمد الفخري عن ديوان (مع الفجر) للشاعر الحب والبطولة سليمان أحمد العيسى وليس (سليمان العبسي) كما جاء في كلمت الأستاذ الفخري.
حلب
محمد ضلا غزيل
لجنة التحكيم في مسابقة إذاعة باكستان
نظمت الإذاعة العربية براديو باكستان مسابقة شعرية بين مستمعيها في البلاد العربية يمنح الفائزون فيها مكافأة مالية. وقد تألفت لجنة للتحكيم من ثلاثة من كبار رجال الأدب والشعراء المصريين هم الأساتذة عباس محمود العقاد وعبد الرحمن صدقي والدكتور إبراهيم ناجي.(1016/50)
القصص
شجرة عيد الميلاد
للقصصي الروسي فيدور دستويفسكي
منذ أيام شاهت عرسا. . . ولكن لا، فلن أتكلم عن العرس بل عن شجرة عيد الميلاد. . . لقد كانت حفلات العرس جميلة وأحببتها حبا شديدا ولكن حادثة شجرة عيد الميلاد أجمل. . . ولا أعرف لماذا أتذكر شجرة عيد الميلاد كلما رأيت عرسا. . . ولكن هذا هو الذي حدث:
منذ خمسة أعوام كاملة دعاني إلى حفلة راقصة أقيمت للأطفال خصيصا رجل من أغنياء التجار له قرابته، وله معارفه، وله أيضاً دسائسه. وقد ظهر لي أن تلك الحفلة لم تكن إلا ذريعة لكي يجتمع الآباء والأمهات ويتحدثون فيما يهمهم بتلك النزاهة المعتادة.
وكنت دخيلا في هذه الحفلة لأنه لم يكن لي بأحد شأن خاص. لذلك كان في استطاعتي أن اقضي هذه الحفلة بينهم وأنا بمعزل عن كل واحد منهم. وكان بين الجلوس واحد يشابهني في ذلك، فكان لهذا السبب أول من استرعى انتباهي، ولم يكن مظهره دالا على أنه ابن أسرة كبير أو أنه نبيل المولد. وهو طويل القامة نحيل جدا، تبدو عليه علائم المبالغة في الجد والوقار. وهو شديد الأناقة في ملبسه، ويظهر أنه لم يكن يميل إلى هذه الاجتماعات العائلية.
ولم أكد أدنو منه في الركن الذي هو جالس به حتى تزايلت ابتسامة كانت مرتسمة على وجهه. وعلا وجهه العبوس. ولم يكن يعرف أحدا ممن بالحفلة غير صاحب المنزل، وقد أبدى كل علامة على السأم والملالة وإن كان قد بقي إلى نهاية الحفلة وبه من الشجاعة ما بأي إنسان يقاوم نفسه حتى يحملها على ما تكره. وقد علمت فيما بعد أنه من أهل الأقاليم، وأنه كان يحمل خطاب توصية إلى مضيفنا، فدعاه هذا من باب المجاملة إلى حضور الحفلة. ولكن أحدا لم يدعه إلى لعبة الورق ولم يقدم إليه لفافة تبغ ولم يبدأ معه حديثا. ولعلهم كانوا ذوي فراسة فعرفوا الطائر في مسبحه بالجو من لون ريشه. لذلك قضى الليل في فتل شاربيه. وكان شارباه جميلين، ولكنهما كانا كبيرين حتى ليخال من يراه أن الله خلقهما أولا ثم خلق هذا الرجل تابعا لكي يفتلهما.(1016/52)
وكان من المدعوين رجل آخر استرعى انتباهي، ولكنه من نوع غير هذا النوع، فإن مجرد النظر إليه يدل على أنه صاحب شخصية وكانوا يدعونه جوليان ماستا كوفتش.
وكانت النظرة الأولى إليه تدل على أنه موضع الحفاوة والتكريم، وأن مركز صاحب المنزل منه كمركز صاحب الشاربين الطويلين من صاحب المنزل. فقد كاد لا ينقطع سيل الفكاهات والطرائف التي يتحدث بها إليه صاحب المنزل وزوجه. وهما كثيرا الالتفات إليه، يدنوان منه ويحومان حوله ويستجمعان الضيوف لتقديمهم إليه. ولكنهما لا يقودانه ليقدماه إلى أي إنسان. وقد رأيت الدموع تترقرق في عيني صاحب المنزل وفي عيني زوجه لما قال جوليان ماستا كوفتش إنه قلما قضى ليلة سارة كهذه الليلة. وقد أخذت بعد انتهاء الحفلة أشعر بالسأم من هذا الضيف فانصرفت إلى الأطفال أتسلى في ملاحظاتهم، وكان خمسة منهم يستحقون النظر والملاحظة، فهم شهادة بعناية أمهاتهم بهم. ثم تركت الغرفة بعد ذلك إلى الغرفة المجاورة ولم يكن فيها أحد، فجلست في طرفها المجاور للمكان الزجاجي المعد لحفظ الأزهار في غير فصولها.
وكنت لا أزال من مكاني هذا أراقب الأطفال، والحق أن رؤيتهم تسحر.
لقد كانوا يأبون محاكاة من أهم أكبر منهم على الرغم من الجهود التي كانت تبذلها أمهاتكم ومربياتهم، ولم تمض ساعة حتى نجنح هؤلاء الأطفال في تجريد شجرة عيد الميلاد من أوراقها وأعوادها وفي كسر أكثر من نصف اللعب المعلقة فيها قبل أن يقتسموها بينهم.
وكان أحد هؤلاء الأطفال فتان الحسن أسود العينين مجعد الشعر، وقد أصر في عناد على تصويب بندقيته نحوي. وقد استرعى نظري كثيرا؛ ولكن أخته استرعت نظري أكثر مما استرعاه. وهي في عامها الحادي عشر، ولا يقل جمالها عن جمال كيوبيد، وتبدو علائم الهدوء والتفكير. وعلى عينيها الواسعتين وسم الأحلام، وقد أغضبها الأطفال لأمر ما فتركتهم وانسحبت إلى الغرفة التي كن جالسا فيها فجلست في ركن منها وفي يدها الدمية تلاعبها.
وكان كل من الضيوف يحدث جاره بأن أباها من أغنى التجار وبأنه منذ الآن قد أعد لها صداقا قدرها 300 ألف روبل.
ولما التفت إلى الجماعة الذين سمعتهم يتحدثون بهذا وقع نظري على جوليان ماستا كوفتش(1016/53)
فوجدته واقفا ينصت إليهم ويداه مشتبكتان خلف ظهره، ورأسه مائل إلى الجانبين، وكنت طول هذا الوقت أعجب من الذكاء الذي أبداه صاحب المنزل في توزيع الهبات على الأطفال، فالطفلة التي أعد لها أبوها مهرا كبيرا تهدي أحسن لعبة، وسائر اللعب تقسم وفق مراكز الآباء في الحياة الاجتماعية.
وكان أخر طفل دعي لتقدم إليه هدية يبلغ من العمر عشرة أعوام، وهو هزيل أحمر الشعر ضعيف البنية. وكانت هديته كتاب قصص ليس فيه صور ولا رسوم. وهو ابن المربية، وهي أرملة مسكينة. وشكل الطفل دال على الحزن، وعليه كساء رث، فتناول كتابه وانساب في بطئ بين الأطفال حاملي اللعب.
وقد كان يود أن يبذل أي شيء ليلعب معهم ولكن كيف وليست له لعبة؟
إنني من الذين يحبون أن يراقبوا الأطفال ليروا كيف تناضل أرواحهم روح الجماعة.
وقد لاحظت أن لعب الأطفال كانت سحرا وفتنة في نظر الطفل الأحمر الشعر. وشرع الأطفال يلعبون فأصر على أن يلاعبهم وعلى أن يناضل لو منعوه؛ فابتسم وسار نحو واحد منهم فأقامه من مكانه وجلس بدله لأن الأطفال كانوا قد جلسوا في دائرة ولم يتركوا له مكانا.
ولكن ذلك الطفل حمل عليه فلطمه لطمة قوية، فلم يلبث أحمر الشعر أن رفع صوته بالبكاء، وجاءت أمه فنهته عن اللعب معهم فأنسحب نحو الغرفة التي كنت جالسا بها مع الفتاة التي تقدم ذكرها. وتركته الفتاة يجلس بجانبها واشتركا في إلباس الدمية ثوبها.
ومضى نحو نصف ساعة، وكاد النعاس يدركني وأنا جالس أنصت حينا إلى حديث الطفل أحمر الشعر ويشرد ذهني حينا. وعلى حين فجأة دخل جوليان ماستا كوفتش وكان قد انسحب من غرفة الجلوس التي أنا فيها عندما اشتد ضجيج الأطفال. ولم يغب عني وأنا جالس أراقبه من الركن الذي أتى فيه أنه كان في الفترة الأخيرة من الوقت يتحادث مع والدة الطفلة الجالسة معي في الغرفة.
وظل واقفا بعد الحديث يفكر وكأنه يعد على أصابعه - ثلاثمائة - أحد عشر - إثنا عشر عاما - خمسة أعوام - سعر أربعة في المائة - خمسة أضعاف، ستون وأربعمائة.
ويظهر أن هذا الخبيث يعجبه الحساب على سعر أربعة في المائة، ثم أعاده على حساب(1016/54)
ثمانية، ثم على حساب عشرة.
وخرج من الغرفة فأطال النظر إلى الطفلة. وقد تخطاني نظره فلم يرني؛ ويظهر أن الحساب هو الذي أغفله عني، ثم مسح يديه وأخذ يتنقل من مكان إلى مكان وهو لا يزال يزداد اضطرابا.
وأخيرا تمكن من ضبط عواطفه وألقي نظره على عروس المستقبل وهم أن يتجه نحوها، ثم وقف بمثل حالة المخطئ الذي يؤنبه ضميره وانتصب على أطراف أنامله أمام الفتاة وانحنى يقبلها وهو يبتسم وقد كان إقباله نحوها على غير انتظار حتى أنها صرخت عند تقبيله إياها صرخة فزع.
قال لها بصوت خافت وهو يقرص خدها: (ما الذي تفعلين هنا يا بنية؟ فأجابته: (نحن نلعب) فقال بلهجة المستنكر: (مع من؟ مع هذا؟) وأشار إلى ابن المربية ثم قال له: (يجب أن تذهب إلى الغرفة الأخرى).
وظل الطفل صامتا وهو ينظر محملقا في وجه الرجل، فدار جوليان ماستا كوفتش بنظره في الغرفة ثم أكب على الفتاة وقال: (ماذا معك يا عزيزتي؟ دمية!) فأجابته: (نعم يا سيدي) وقد قطبت حاجبيها وهي تجيب. قال: (دمية؟ من أي شيء تصنع الدمى؟!).
فأحنت رأسها وقالت: (لا أعرف يا سيدي)
قال: (تصنع من الخرق) ثم نظر إلى الطفل وقال: (أذهب أنت إلى الغرفة الأخرى التي فيها الأطفال)
وكانت نظرته إلى الطفل في هذه المرة نظرة قاسية؛ فقطب الطفلان وتشبث كل منهما بالآخر وأبيا أن يفترقا، فقال جوليان وهو يخفض صوته: (وهل تعرفين لماذا أعطوك هذه الدمية؟) فقالت: لا.
قال: (لأنك كنت طيبة - طيبة جدا طول الأسبوع) قال ذلك ثم عراه اضطراب شديد ونظر حوله بصوت خافت يكاد لا يسمع وبلهجة شديدة الدلالة إلى فقدان الصبر: (إذا جئت إلى منزلكم لزيارة أبيك فهل تحيينني يا عزيزتي؟)
وحاول أن يقبلها على أثر هذا السؤال، ولكن الطفل الأحمر الشعر أمسك بيدها كمن يريد أن يحميها وبكى بأعلى صوته كالمستجير فأثارت حركته هذه غضب الرجل وصاح:(1016/55)
(اذهب! اذهب إلى الغرفة الأخرى حيث يلعب رفاقك) فقالت الطفلة: (لست أريد أن يذهب؛ فاذهب أنت ودعه هنا)
وكادت الطفلة تبكي. وسمع وقع أقدام من ناحية الباب فأنزعج جوليان، وكان الطفل الأحمر الشعر أشد منه انزعاجا فترك يد الطفلة وتسلل إلى غرفة المائدة. وكي لا يسترعي جوليان نظر أحد ممن بغرفة الجلوس تسلل هو أيضاً إلى غرفة المائدة، وكان وجهه قد صار من الاحمرار في مثل لون الحناء، حتى أن نظرة واحدة منه إلى وجهه في المرآة تكفي لإزعاجه. وكان سبب الاضطراب كله أن حسابه أضله فأوهمه أن الطفل عقبة في سبيل الثروة التي تنتظره. نعم إنه الآن لا يزال في العاشرة فهو قليل الخطر ولكنه سيصبح خطرا بعد خمسة أعوام أو نحو ذلك. وتتبعتهما بنظري فوجدت نظرات جوليان صارت كأنها نظرات ثعبان، وأصبح صوته مسمما. وأخذ يتوعد الطفل. وكان الطفل يتراجع أمام هذا الوعيد حتى لم يعد مكان يتسع لتراجعه، وكان جوليان يصيح به:
أخرج من هنا! ما الذي تصنعه هنا؟ تسرق الفاكهة! أليس كذلك؟ اذهب من هنا يا دميم إلى أمثالك!)
وأدرك اليأس هذا الطفل المسكين فأنكمش ودخل تحت المنضدة فحار مطارده ثم أخرج منديله وفتله فجعله كالسوط وضرب به الطفل ليخرجه من مكمنه.
ولا بد هنا من الملاحظة أن جوليان كان قوي البنية ضخم الخدين تبدو عليه علائم التغذية الجيدة. وكانت أطراف أصابعه كأنها لضخامتها حبات البندق وقد أحالته كراهيته (أو لعلها غبرته) نحو الطفل إلى الجنون المحض.
ضحكت من أعماق قلبي فالتفت جوليان ولعله ذكر في هذه اللحظة احترامه نفسه وكبر أهميته. وفي الوقت نفسه ظهر صاحب المنزل عند الباب وخرج الطفل من تحت المنضدة فأخذ يمسح ذراعيه وركبتيهوأسرع جوليان فجمع منديله الذي كان مفتولا كالسوط وجعله تحت أنفه
ونظر صاحب المنزل إلى ثلاثتنا نظرة المرتاب، ولكنه وهو رجل يعرف الكثير من شؤون الدنيا قد انتهز هذه الفرصة لينال من ضيفه الكثير الأهمية أكثر ما يستطيع أن يناله منه فقال: (هذا هو الطفل الذي حدثتك عنه وأنا أعتمد على فضلك فيما يتعلق به) وأشار إلى(1016/56)
الطفل الأحمر الشعر.
ولم يكن جوليان قد استرجع إلى الآن سيطرته على نفسه فقال وهو شارد الذهن: (أهذا هو؟)
قال صاحب المنزل: (هو ابن المربية، وهي فقيرة مسكينة وقد كان زوجها موظفا شريفا، فإن كان في وسعك. . .) فصاح جوليان مقاطعا: (مستحيل مستحيل! أرجو أن تعذرني يا فيليب ألكسيفنش فلا توجد محال خالية، وفي قوائم المرشحين نحو عشرة أحق منه. . . إنني آسف)
فقال صاحب المنزل: (مسكين! مسكين!)
قال جوليان (إنه شقي شرير. اخرج من هنا أيها الوغد الصغير. لماذا بقيت حتى الآن؟ اخرج إلى سائر الأطفال)
ونظر إلي نظرة جانبية وهو عاجز عن السيطرة على نفسه وأنا أيضاً عاجز عن السيطرة على نفسي، فضحكت في وجهه ساخرا منه، فالتفت إلي المضيف وسأله بصوت يكفي لبلوغ مسمعي عمن عسى أن أكون. وتهامس الرجلان وخرجا من الغرفة غير مباليين بي.
واهتز جسمي من شدة الضحك وخرجت أيضاً إلى الغرفة الأخرى. وهناك رأيت الرجل العظيم محاطا بالآباء والأمهات وهو يتكلم باهتمام مع سيدة قدمت إليه في تلك اللحظة. وكانت تلك السيدة ممسكة بيد الطفلة، وكلام جوليان كله إطراء للطفلة وثناء عليها، فهو يتنقل من مدح جمالها إلى مدح مواهبها إلى مدح تربيتها والأم تصغي إليه ولا تكاد تمنع دموع السرور أن تفيض، والأب يبدي علامة لشكره ابتسامة عذبة.
وكان السرور شاملا فاشترك فيه كل إنسان حتى الأطفال، ووقفوا اللعب حتى لا يشوشوا على المتحدثين. وسمعت أم الطفلة وهي تتخير المنتقى من اللفظ في مخاطبة ذلك الرجل داعية إياه أن يتنازل فيشرف منزلها بالزيارة، وسمعته يقبل الدعوة في تحمس لا يحاول أن يخفيه ثم تجمع المدعوون من أرجاء الغرفة مقلبين نظرهم بين والدة الفتاة وبين جوليان.
وسألت جارى بصوت عال سمعه الجميع: (هل هو متزوج).
فنظر إلي جوليان نظرة مسمومة وقال لي جارى: (كلا) ولكن سؤالي وإن أجاب عنه سلبا قد أثار اهتمام الجميع.(1016/57)
ومنذ عهد غير بعيد مررت بكنيسة فرأيت عند بابها جمعا كبيرا قد احتشد ليحضر حفلة عرس - وكان اليوم مكفهرا وقد بدأ المطر يتساقط. واخترقت الصفوف فدخلت فرأيت العريس بدينا مترهلا تبدو عليه علائم التغذية الدسمة. ورأيت رجلا قصيرا يروح ويغدو من طرف الكنيسة إلى الطرف الآخر وهو لا يكف عن إصدار الأوامر.
وأخيرا سمعت أن العروس مقبلة فاندفعت في وسط الزحام، ورأيت جمالا عجيبا قد اكتسى بعلائم الحزن العميق.
كانت العروس شاحبة مضطربة حتى لقد خلت عينيها حمراوان من أثر البكاء. وتحت مظهري الجمال والحزن طهارة الطفولة التي كانت كأنها تضرع وتتوسل طالبة الرحمة.
وكانوا يقولون أن عمرها ستة عشر عاما. ونظرت إلى العريس محققا مدققا فعرفت أنه جوليان ماستا كوفتش الذي لم أكن قد رأيته في الأعوام الخمسة الماضية. ثم نظرت إلى العروس ورحماك يا رب ولطفك!
رأيتها فوليت فرارا من باب الكنيسة على عجل وسمعت الناس يتحدثون عن غنى العروس وعن بائنتها البالغة 500 ألف روبل.
قلت في نفسي: (لقد صدق حساب هذا اللعين). وأسرعت في مشيتي فرارا.
ع. ا(1016/58)
العدد 1017 - بتاريخ: 29 - 12 - 1952(/)
ذكرى الأبطال
للأستاذ أنور المعداوي
(فإن مت فأعلن إلى كل مصري أني شاب متزوج ولي ثلاثة أطفال ولي أمي وأخواتي. . . ومع هذا فقد ضحيت بنفسي ليعيشوا أحرارا في بلدهم؛ فالحرية لا تمنح ولكنها تؤخذ بأعز التضحيات وإلى اللقاء إن مت أو عدت!)
هذه كلمات تلقتها مصر يوما عن بطلها الشهيد، وكنت واحدا من الذين عاشوا في ظلالها السخية، وشعروا شعورا عميقا بأنها لم تكن خاتمة رسالة وإنما كانت بداية تاريخ. . أقسم لقد بدأت مصر تاريخها الحقيقي في تلك اللحظة التي سجل فيها أحمد عصمت كلماته الخالدة، وخر بعدها صريعا ليكتبها مرة أخرى بدمه!
إن طلاب الحرية لا يغمسون ريشتهم إلى في دماء القلب، لأنهم لا يكتبون عادة إلا بالمداد الأحمر. . ولقد آثر أحمد عصمت أن يكتب بهذا المداد! آثر أن يكتب به لأنه لم يكن يسطر رسالة لأخيه وإنما كان يسطر رسالة لأمته. . وهكذا نكتب وثائق التحرير ونسطر رسائل الكفاح!
كلمات قليلة ولكنها كثيرة، كثيرة جدا في حساب الشعور. . وكلمات بسيطة ولكنها عميقة؛ عميقة جدا في حساب الفن! إن البلغاء من أمثال أحمد عصمت لا يميلون أبدا إلى الثرثرة. . سطر واحد أو سطران أو ثلاثة، تؤلف في مجموعها كتابا ضخما يهدى إلى جيل من بعده أجيال؛ أجيال ستقف حتما عند كل صفحة من صفحاته لتستنشق عطر الكرمة وتستروح أنسام الإباء!
لم يكن أحمد عصمت بحكم عمله أديبا ولا فنانا، ولكنه كان ضابطا (طيارا) بشركة مصر للطيران. . ومع ذلك فقد أحال الحياة إلى فن، وأحال الموت إلى فن، وقدم لعشاق الفنون أروع الأمثال! لقد كان (محلقا) في حياته، وكان (محلقا) في مماته، وكان (محلقا) في كلماته. . والفن في كل صورة من صوره ما هو إلا (تحليق) في شتى الآفاق والأجواء.
لقد خرج البطل من بيته ذات صباح؛ خرج ونصب عينيه هدف، وملء قلبه أمل، وفي قرارة نفسه عزم وإصرار. . لم ينس إن هناك أما هو بالنسبة إليها الملاذ الوحيد بعد الله، وأن هناك زوجة ألقت بآمال العمر كلها بين يديه، وأن هناك أطفالا لا يعرفون عن الحياة(1017/1)
إلا أنها هنا بين أحضانه، هناك هؤلاء حقا ولكنهم يعيشون غير أحرار. . أنه يريد أن يقدم للأم ما هو أبقى من الابن، وإلى الزوجة ما هو أغلى من الزوج، وإلى الأبناء ما هو أخلد من الآباء. أنه يريد أن يقدم إليهم الحرية، وهذا هو المعنى الكبير الذي دارت حوله السطور الأخيرة في رسالته؛ تلك الرسالة التي سجلت نقطة البدء في تاريخ أمة!
إن التاريخ سيروي يوما هذه القصة؛ سيقول للناس إن أحمد عصمت كان عائدا بسيارته بعد أن أدى رسالته؛ بعد أن ذهب إلى المجاهدين على ضفاف القتال ليدفع إلى أيديهم بسلاح وذخيرة، وعند نقطة التفتيش في قرية (أبو حماد) اعترض طريقه عدد من الجنود الإنجليز ليفتشوه! وتلفت البطل ليرى من حوله جمعا من المصريين قد رفعوا الأيدي فوق الرءوس، في موقف يوحي بالضيم ويشعر بالهوان. . وثارت عزة البطل واحتج إباؤه، وقدم إلى الضابط الإنجليزي وجنوده ما يكشف لهم عن حقيقة شخصيته، شخصية الضابط المصري الذي يستنكر التهجم على كرامة المصريين! وانطلقت من فم الإنجليزي السفيه بضع عبارات وقحة، خلاصتها أن المصريين أناس لا كرامة لهم: وفي ومضة البرق كان مسدس أحمد عصمت يلقى على صدر الضابط الإنجليزي أبلغ الدروس ويسكت منه اللسان القذر، ويخمد الصوت الأثيم! وانهال الرصاص الغادر من كل صوب على البطل المصري الباسل، ولكنه قبل أن يودع الحياة؛ كان قد أكد لخصومه أن كرامة مصر فوق الحياة!!
أحمد عصمت ومن قبله هؤلاء الأبطال: عادل غانم، وعباس الأعسر، وأحمد المنيسي، وعمر شاهين؛ طلاب الجامعة الذين عاشوا أطياف نجد وأرواح فداء. . لقد كان مقامهم في الدنيا أشبه بمقام الورد: عمرهم من عمره، ونظارتهم من نظارته، وإن كان عطر ذكراهم أبقى على الزمن من عطر شذاه! لقد ضحوا راضين بأيام الشباب؛ بما فيها من أمل، بما فيها من مثل، بما فيها من أهل وأحباب. . أعذروهم فقد كانوا عشاق حرية في هواها كم عرفوا معنى الوجد، وكم ذاقوا طعم السهد، وكم جادوا بالدمع فلما أعرضت. . جادوا بالحياة!!
لقد كانوا في الجامعة طلابا ولكنهم كانوا على ضفاف القنال أساتذة. . أساتذة كفاح لم يفتحوا الكتب قبل أن يلقوا دروسهم على الناس، وإنما فتحوا القلوب وحدها ليحيلوا الخفقات فيها إلى محاضرات وما كان أروع فهمهم للكرامة، وما كان أعمق إدراكهم للحرية. . لقد قالوا(1017/2)
لمصر كلمتهم وهم يسيرون إلى الأمام محددين لها معالم الطريق: أنه مرهق ما لم يستعن عليه بالصبر، أنه طويل ما لم تختصر إليه رحلة العمر، أنه مظلم ما لم تضيء جوانبه شعلة الإيمان! قالوها ومضوا في طريقهم إلى لقاء الله. . وقبل أن يلحق بهم أحمد عصمت كان قد أضاف إلى الدروس دروسا، وإلى الكلمات كلمات: (فإن مت فأعلن إلى كل مصري أني شاب متزوج ولي ثلاث أطفال ولي أمي وأخواتي، ومع هذا فقد ضحيت بنفسي ليعيشوا هم أحرارا في بلدهم، فالحرية لا تمنح ولكنها تؤخذ بأعز التضحيات). . إن أحمد عصمت يوجه الخطاب هنا إلى كل من له أم يشفق عليها من الثكل، وكل من له ابن يخشى عليه من اليتم، وكل من له شريكة حياة يجزع من أن يتركها وحيدة في الحياة؛ وهذا هو دستور الكرام وإن شئت فقل أنها شريعة الأحرار!!
هناك، على ضفاف القنال، في تلك البقعة المجاهدة، سالت على رمال الصحراء دماء الأبطال. . ماتوا، ولكنهم أثبتوا للدنيا أننا أحياء! توقفوا، ولكنهم أقنعوا العالم بأننا نسير! سكتوا، ولكنهم أسمعوا الزمن صوت الأباة!
إن التاريخ يجب أن ينحني لهم في خشوع؛ يجب أن يفرد لهم من صفحاته أبرز مكان؛ يجب أن يقدمهم إلى عصوره المقبلة على أنهم كانوا صورة ضمها أجمل إطار!!
أنور المعداوي(1017/3)
الإسلام في موكب الإصلاح:
هذه المخازي. . .!
للأستاذ محمد عبد الله السمان
قال محدثي: (إنكم يا معشر الكتاب الإسلاميين تتصايحون في واد، وتنفخون في رماد، وتجهدون أنفسكم، وترهقون أقلامكم في غير فائدة، فأنتم تريدون الإصلاح بأداة ينقصها الإصلاح، وترغبون في السبق براحلة عرجاء. . . تصرون على أن يتزعم الإسلام كل نهضة، ويتقدم كل وثبة، والإسلام لم يزل خليطا من الشوائب التي تسيء إليه، ومزيجا من الفضائح التي تحط من قدره. .!
(ما هذه الطرق الصوفية البلهاء التي لا زالت تغزو مصر: كفورها وقراها ومدنها، حتى العاصمتين لا تتنازل عنهما: وتأبى أن ترحمهما. إنها دولة داخل الدولة، عدتها الجهل المطبق، وسلاحها الغباء الفاضح، ووسيلتها الدجل والشعوذة، ورعاياها السذج المغفلون، وولاة أمورها المرتزقة المتلاعبون. أليس من العار أن تقوم هذه الدولة المزعومة باسم الإسلام لتنشر بين المسلمين الجهل، وتحوطه بسياج من الدجل، وتذود عنه بقوة من الحمق؟ أليس من العار أن تسيطر هذه الدولة المزعومة في مصر على الألوف المؤلفة من المسلمين الجهلة، لتهب لهم إسلاما ممسوخا، ودينا زائفا، ولتجعل منهم آلات لا نفهم الإسلام إلا ركعات وسجدات يؤدونها، وشهرا يصومونه، وأورادا يداومون على تلاوتها، ولا يفهمون الدين إلا انقيادا أعمى للسادة المربين، والأخيار العارفين، ممن نصبتهم هذه الدولة المزعومة هداة مربين وهم أضل من الضلال، وأجهل من الجهل، وأضفت عليهم ألوانا من الألقاب ليكونوا في نظر قطعان الماشية ذاتا مصونة يجب أن تقدس، وملتمس بركة يجب أن يتقده إليه!؟
أليس من العار أن تضم هذه الدولة المزعومة بين جناحيها جيشا جرارا من البطالة باسم الإسلام، لا يحترف إلا اصطناع اللحية، وإتقان العمامة، وتحريك السبحة، ولا يمتهن إلا التسول في الموالد، والتسكع حول الأضرحة، والمزاحمة على حثالة النذور، وفتات الصدقات. ولا يرجو من الحياة إلا مسجدا يضمه سحابة النهار، وإفريزا يؤويه جنح الليل، وجلبابا مرقعا يتوارى فيه، ويستعين به على مفاجآت الجو وتقلباته؟(1017/4)
أليس من العار أن تظل هذه الدولة المزعومة تشغل حيزا كبيرا من الفراغ، وتسيطر على قدر وافر من الرأي العام لتشله وتعطله، وتحوله عن مهام الأمور التي تتعلق بكرامة وطنه وبلاده، وتزرع في نفوسه عقيدة التخاذل والاستسلام والتواكل، فتفهمه أن استعمار الوطن الإسلامي قضاء محتوم من الله، والاعتراض عليه كفر، والتبرم به إلحاد، والنفور منه زندقة؛ وتقنعه بأن جور الحكومات إرادة مقدسة من الله، ومناهضته لؤم، ومكافحته تمرد، وناوشته تنطع وحمق؟
. . ثم ما هذه الأضرحة التي أضحت كعبة يحج إليها الجهلة من أطراف القطر، يطوفون حولها، ويتمسحون بنحاسها وقماشها، ويتوسلون بها في شفاء مرضاهم، وقضاء حوائجهم، ودفع الضرر عنهم، وسوق الرزق إليهم، وتنزح إليها من كل فج جحافل النساء من البله، لتتزوج العانس، وتزف البكر، وتلد العقيم، وتحل عقدة البائس، وتفرج كربة المنكوبة، وترد لوعة المهوفة؟
لقد أصبحت هذه الأضرحة مسرحا للجهل بأجلى معانيه، ومصنعا للخرافات التي لا مثيل لها إلا في عالم الأساطير، ومعهدا لتكييف أساليب الدجل حتى يخدع العقول، وتكييف أساليب الشعوذة حتى تضلل العقائد؛ فهذا الضريح ساكنه من الأربعة المتصرفين في مصاير الناس، المسيطرين على ركب الحياة؛ وذاك الضريح ساكنته هي صاحبة الشورى، إليها ترجع الأمور كلها، ومنها تصدر الأوامر جميعها؛ وضريح العارف بالله هذا متخصص في شفاء الأمراض المستعصية، والأدواء المزمنة، وترابه دواء للأعين الرمد، وعلاج للأجساد البرص؛ وضريح ولي الله ذاك، متخصص في جلب الأرزاق ودفع الأضرار، وتحصين الأطفال من الأوجاع والأسقام، والأرق والسهاد. .!
ثم ما هذه الموالد الصاخبة التي يتبع بعضها بعضا، ويعلن عنها في الجرائد ويدعى لها في الأسواق، وتتفضل وزارة الشؤون بالتصريح لها، وتتكرم وزارة الداخلية بالمحافظة على الأمن والنظام خلال أيامها، ويحرص قسم الوعظ والإرشاد على استغلالها، ليعظ أقواما حصنوا بالجهل ويرشد جهالا حقنوا بمصل الخرافات، ويصحح عقائد حمقى، اللجوء إلى الأضرحة أقدس عندهم من التوجه إلى الله، والتسكع حولها أخف لديهم من السعي في الأرض؟(1017/5)
ما هذه الموالد الصاخبة التي يظل الواحد منها بضعة عشر يوما من مشرق الشمس إلى مطلع الفجر، لا تسمع غير دق الطبول، ونهيق المزامير، وصياح الدراويش، وغوغاء المهرجين، ولا ترى غير أكداس مكدسة من الأفاكين المحتالين، وحلقات للحواة المشعوذين، وعصابات من أرباب الجراثيم المختبئين داخل جلابيب من الرقاع المزركشة، والمتوارين وراء العمائم الضخام، واللحى المتدلية، والسبح المشقشقة، والأعين المكتحلة، والحواجب المزججة، والعبارات المسجوعة التي ينخدع بها سمع الجاهل، وتنجذب إليها أذن الأبله، والألفاظ الغامضة التي تثير تطفل الفارغين، وتبلبل أفكار الأغبياء الساذجين، ولا تسمع غير صخب يقلق الأسماع، ويعكر الهدوء، وصيحات الذاكرين الذين يحترفون ذكر الله بهز الأبدان، ورقصات الأكتاف، وانتفاضات الرؤوس، لا يشغلهم عنه الصلوات المكتوبة، ولا الأقوات المطلوبة، ولا تكاليف الحياة التي لا يهرب منها سوى الضائع المهمل، والكسول المتواكل. .؟
لم هذه المخازي كلها اليوم؟ فإذا كانت من قبل ضرورة يقتضي بقاءها رغبة الاستعمار حتى يضمن غفلة الشعب، ورغبة الملك الطريد حتى يظل في أمن من يقظته، ورغبة الحكومات الجائرة حتى ترغمه على الذلة، وتفرض عليه الضعة والمسكنة، فأي معنى لبقاء هذه المخازي إلى اليوم لتكون وصمات عار في جبين الإسلام، وصفحات خزي في تاريخ الشعب المسلم، ونحن في عهد جديد يتعقب الاستعمار حتى يرحل إلى غير رجعة، ويضيق عليه حتى يتقلص ظله فيؤثر الانتحار على الحياة والجلاء على الاحتلال، وفي ظلال وثبة مباركة تتطلب في الشعب يقظة تسندها، وتؤيدها من الرأي العام صحوة تؤازرها وتباركها، ومن أين للشعب هذه اليقظة، وللرأي العام هذه الصحوة، وأحد جوانب الشعب معطل لا خير فيه، وأحد أركان الرأي العام خائر لا فائدة منه؟ من أين لهما هذه الكلمة وتلك، وهذه المخازي مازالت صامدة صمود الجبال أمام عواصف العهد الجديد، وموجات الوثبة المباركة؟ ومن أين للإسلام أن يقود النهضات، وأن يسيطر على مواكب الإصلاح، إذا كانت هذه المخازي لا زالت دولتها تقوم داخل الدولة باسم الإسلام، على رغم من استغاثته منها، والتبرؤ من فضائحها، وعلى رغم من صيحات المصلين من علماء الدين المعقولين، والمثقفين من الأغيار المسلمين. . .!(1017/6)
فهلا كان الأجدر بكم أن تخلصوا الإسلام مما علق به من شوائب وتنظفوه مما ألصق به من أضاليل، حتى إذا تقدمتهم للإصلاح كانت أداتكم نظيفة سليمة، وإذا رغبتم في السبق كانت راحلتكم قوية صحيحة؟ - أما إذا أصررتم على أن تتقدموا للإصلاح بأداة ينقصها الإصلاح، وللسبق براحلة عرجاء، فثقوا بأنكم ستظلون إلى الأبد تتصايحون في واد، وتنفخون في رماد. . .!!)
لقد ظللت خلال الحديث منكس الرأس غاض الطرف، وعبارات محدثي تصل إلى قلبي شعاعات من الغيرة الممتزجة بالحسرة والألم، ولم أشأ أن أقاطعه أو أجادله، فلئن كنت أملك اللسان الذي أقاطع به حديثه، فلم أكن أملك الحجة التي أجادل بها نقده، وأعارض بها رأيه، ولذلك أثرت الصمت والهدوء والإصغاء، واكتفيت في النهاية بأن رفعت طرفي إلى محدثي. . . أن نعم!
محمد عبد الله السمان(1017/7)
الإسلام ونظام الحكم عندنا
للأستاذ منصور جاب الله
إن صح الحديث النبوي (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا) ولم يكن من وضع غلاة الشيعة، فإن معناه أن الإسلام في أصوله الأولى لا يعترض بالنظام الملكي الوراثي.
ولم تكن الخلافة الراشدة في أزهى عصورها نظاما جمهوريا، ذلك لأن النظام الجمهوري من بدء نشأته محدود بميقات معلوم، وما كانت الخلافة الإسلامية كذلك، وإنما كانت نظاما قائما على البيعة الشاملة في سائر الأمصار. وقيل إن الخليفة لم يكن يملك النزول عن البيعة، حتى أن عثمان بن عفان أبى أن يدع أمر المسلمين يوم أحدق الثوار بداره ومنعوه الماء، لأنه عد بيعة الأمة تكليفا من الله تعالى.
فالخلافة إذن لم تكن ملكا وراثيا ولا كانت نظاما جمهوريا، وإنما نذكرها اليوم لأننا نحب أن نستنير بهديها ونجري على سننها، ولا يقذفن في الأذهان أننا نرمي إلى إعادة الخلافة بمعناها لشامل الواسع، فما إلى ذلك من سبيل.
وإنما نريد أن نتحدث في صحيفة الأدب الرفيع، وفي وجازة خاطفة عن نظام الحكم الصالح، فنحن الآن في غضون ثورة مباركة ونهضة تستهدف خير الشعب ومصلحة المجموع. والجمهور من المصريين على اطراح نظام الحكم الملكي بعد ما تبين فساده وسوء استغلال العاملين فيه لموارد الشعب واستنزاف دمائه لقضاء النزوات والبوائق واللبانات.
هذه إذا غضضنا الطرف عن كراهية الشعب للأسرة المالكة القائمة، إذ أصلها غير مصري، ومؤسسها الأول جاهل أمي، والكثرة الكثيرة من أعضائها وأفرادها لا يشرفون الوطن الذي ينتسبون إليه، بل إن مباذلهم ومتارفهم لهى معاول الهدم التي كادت تأتي على بنيان الكرامة الوطنية والعزة القومية فتجعله حصيدا كأن لم يغن بالأمس.
فالشعب المصري الذي فقد الثقة بالنظام الملكي على الإطلاق والذي فقد الاحترام للأسرة الحاكمة في مصر، لا يمكن أن يفرض عليه نظام ملكي وراثي إلا إذا سلك سبيل الإرغام. ونحن في عصر ثورة بل في زمن نهضة وليس للإرغام علينا من سبيل.(1017/8)
والكرام الكاتبون الذين يقترحون النظام الجمهوري على إطلاقه، إنما يتجاهلون عوامل كثيرة ما كان يصح إغفالها بالنسبة لمحيطنا الاجتماعي والسياسي؛ فمصر التي يعزها أبناؤها ويتمنون نجاحها وفلاحها، حرام عليهم أن يعرضوها لمحنة انتخابات رياسة الجمهورية كل أربع سنين أو سبع على هذا النحو المتبع أو المبتدع في البلدان ذات النظام الجمهوري العريق. ذلك لأننا ما برحنا نشفق من آثار الانتخابات النيابية التي كانت تنعقد بين الحين والحين، والتي كانت تفعل الأفاعيل في تمزيق الأواصر وقطع الروابط وتعطيل الأعمال وبذل الأموال.
صحيح أن قوانين الانتخاب التي سوف يتمخض عنها عهد الثورة لا بد أن تجنبنا كثيرا من الخطأ الذي وقع فيما مضى، فلا يكون ثمة غش ولا رشوة ولا تزييف، بيد أن العوامل النفسية لا يتسنى القضاء عليها بسن التشريع أو فرض القانون، فالنفس البشرية. لا تتغير، والمنافسات هي المنافسات، والمعارك هي المعارك. وكم من أسر كبيرة قطعت العداوة أرحامها وأضاعت الخصومة ثرواتها، وهيهات أن يقضي القانون على ما ركب في الطبائع الإنسانية من ألوان الانفعالات!
إذن ماذا يكون نظام الحكم عندنا بعد هذا الانقلاب المبارك؟
إن الذي يتبادر إلى الذهان أن النظام الجمهوري المألوف في أوربا هو أقرب النظم إلى الوضع الذي اصطلحوا على تسميته بالنظام الديمقراطي الصحيح، ولكن النظام الجمهوري بالنسبة لبلد مثل مصر يعد طفرة قد لا تكون محمودة العقبى، ذلك لأن بلادنا حكمت منذ عهد محمد علي حكما دكتاتوريا طاغيا امتاز في بعض الأحيان بمظهر دستوري خلاب، وربما يكون من الأوفق أن نتخذ وضعا بين الملكية والجمهورية، ولنطلق على هذا الوضع نظام (رياسة الدولة) على أن يكون اختيار رئيس الدولة بالانتخاب المباشر، أو بالبيعة على حد التعبير الإسلامي القديم، وتكون رياسة الدولة مدة الحياة أو إلى أن يسيء (الرئيس) استخدام سلطته، وعندئذ يعزله البرلمان أو يقيله الشعب، وفي كل حال لا يكون له سلطان الحكم المباشر، وإنما يتولى ولا يحكم ليكون مظهرا من مظاهر هيبة الدولة ومجادتها، شأنه في ذلك شأن الملك في إنجلترا أو رئيس الجمهورية في فرنسا.
ومعنى هذا أننا لا نريد نظام رياسة الدولة على النحو المتبع في إسبانيا أو في روسيا أو(1017/9)
في يوغسلافيا، فنحن لا نبغيها دكتاتورية فاشية أو دكتاتورية شيوعية، بل نريد نظاما مستقرا ثابتا يجنبنا الهزات الانتخابية المترادفة ويحفظ كيان الدولة وهيبتها.
وبعد فهذا رأي شخصي بحت أطالع به قراء (الرسالة) وعلى الكاتب وحده تقع تبعته. وإنا لنجد له مشابه في صدر الدولة الإسلامية، كما نجد له نظائر في بعض الدول الأوربية الحديثة. وإنا لنعلم أن المسئولين ما برحوا يبحثون نظام الحكم المصري في المستقبل القريب والبعيد، ولا ريب في أنهم سوف يجعلون الآراء المتضاربة جميعا في موضع الاهتمام والنظر.
والله ولي التوفيق
منصور جاب الله(1017/10)
من سير الخالدين
حياة المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
(قد شببت عن الطوق جدا. ولكني مازلت أمت إلى طفولتي
بسبب قوي، وما انفكت أخراي معقودة بأولاها)
(المازني)
- 5 -
الكهولة الطفلة
كانت سنوات الشباب في حياة المازني فترة تجربة نفسية امتحن بها. ولقد طالت به هذه التجربة وخلفت نتائجها في كيانه وسريرته، وكان لها أثرها البعيد فيما عدل إليه من أسلوب الحياة ونهج التفكير.
بدأت هذه التجربة النفسية مع مطلع الحرب الكبرى، حين أصيب المازني بعرج في إحدى ساقيه؛ (وما كنت سكران ولا وقعت من سطح ولا زلت بي قدم، ولا شيء غير هذا مما يكسر العظام. ولكنما كانت زوجتي مريضة فأجريت لها عملية جراحية. وفي صباح اليوم التالي وقفت إلى سريرها وفي يمناي الدواء ممزوجا في كوب من الزجاج، وحاولت أن أرفعها بيسراي، وكان السرير عاليا وأنا قصير القامة فشببت فسمعت شيئا يطق فظننت الكوب قد انكسر، وتلفت أنظر فإذا هو في كفي سليم، فحاولت أن أدور على قدمي لأرى فإذا بساقي اليمنى تخذلني ولا تحملني فعلمت أن الصوت منها، ثم تبينت بعد ذلك أن حق الحرقفة هو الذي انكسر، وعولجت ثلاثة شهور، ولكن العلاج كان فيه بعض الخطأ فانحرفت عظمة الساق عن استقامتها فقصرت عن أختها فكان هذا العرج)
عند ذاك تغيرت الدنيا في عينيه، وأدركته الشيخوخة في عنفوان شبابه، وغمرته - كما يقول - مرارة كان يخيل إليه أنه يحسها على لسانه، وتملكنه السوداء والتشاؤم، وأصيب من جراء ذلك بالنيراستينيا. ولقد كانت هذه الحادثة أقسى ما يمكن أن يمتحن به معدن شاب(1017/11)
مستوفز نزعات الإحساس، متعدد آفاق النفس؛ يستقبل الحياة بذخيرة من أحلام المجد والسعادة فتستقبله بطعنة نجلاء من طعنات المحنة والبلاء. فلا جرم ينطوي المازني على نفسه يعاقر الألم ويستمرئ الحرمان، صادفا عن الدنيا والناس ومناعم الحياة. ولقد ظل سنوات يجاهد العقدة النفسية التي طرأت عليه من هذا العرج ويعالجها بالتهوين والتخفيف، ولكن الحادثة كانت لا تفتأ تعاوده بذكراها الأليمة أو ذكراها المتجددة وهي بضعة منه لا تفارقه، فلا يفيد معها التهوين والتخفيف.
ثم كان مدى تلك التجربة، أو تلك المحنة، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، حين عن له أن يترك التعليم ويلقي بنفسه إلى معترك الصحافة.
أغلق المدرسة التي كان يديرها، قبل أن تتصل أسبابه بالعمل الدائم في الصحف، وجاءت حوادث الثورة الوطنية وما قام في أعقابها من الاضطراب وعدم الاستقرار فتركته فترة بغير عمل. وكانت النيراستينيا كأحد ما تكون. وأحس أنه خليق أن يفقد أعصابه وتلح عليه وطأة المرض إذ لم يركن إلى الراحة والاستجمام ومجانبة التفكير، فسافر إلى الإسكندرية، وفي مأموله أن يوفق بعد ذلك إلى عمل هناك.
ويقول المازني (لم أكد أستقر في الإسكندرية حتى شعرت بحمى عصبية، ثم اتفق أن وجدت مع صديق لي رواية روسية مترجمة إلى الإنجليزية فسألته عنها فأثنى عليها، ولم أكن قد سمعت قبل ذلك باسم المؤلف فاشتقت أن أقرأها واستعرتها منه. وكانت وصية الأطباء لي ألا أكد خاطري أو أتعب رأسي بالقراءة أو الكتابة.
(قرأت هذه الرواية فلم أكد أفرغ منها حتى رأيتني قد انقلبت مخلوقا آخر: أعدتني روح بطلها بقوتها وبجرأتها على الحياة، وبالبساطة في مواجهة ما يقع له فيها، وباستقامة النظرة وسداد الاتجاه، فشفيت واستغنيت عن الأطباء والعقاقير، وما لبث أن كررت إلى ميدان العمل وبي من النشاط والثقة ما يكفي فيلقى بأسره).
تلك هي قصة سانين لمؤلفها الروسي ميخائيل أرتزيباشيف. وقد نقلها المازني إلى العربية ونشرها باسم (ابن الطبيعة) (1922) أداء لما لها من دين عليه.
ومن قراءات المازني في الأدب الروسي في ذلك الحين إلى جانب سانين، قصة إيفان تورجنيف المشهورة (الآباء وهي من أندر القصص في بابها وأصدقها تصوير للطبيعة(1017/12)
الروسية في بعض جوانبها، وقد أصبح اسم بطلها بازاروف علما على المذهب الفكري والسياسي الذي ابتدعه تورجنيف ودعاه باسم النهلزم بمعنى الفوضوية أو العدمية.
ويذكر الأستاذ العقاد ما كان لقصة سانين من الإيحاء والتأثير في نفس المازني فيقول (لست أنسى هزة وجدانه بأفاعيل سانين مع إنكاره لتلك الحيوانية اللجوج التي مثله بها مؤلف القصة. . وأنه كان يردد بعض (لوازم) سانين في كلامه بعد قراءتها. ويقول العقاد (إن القصة الروسية من أقوى المؤثرات في نزعته التي جنح إليها بقوته كلها فيما نسميه بفلسفة الحياة).
والحق أن المازني كان أقرب ما يكون إلى خصائص أبطال القصة الروسية، من طراز سانين وبازاروف، الذين يواجهون الحياة بالاستخفاف وقلة المبالاة، ويعيشون بالقدرية ويعولون على مفاجآت الغيب وحساب المجهول، ويجمعون بين نقائض الطبائع الإنسانية، فلا يزالون أبدا مترددين بين الروحانية والجسدية، وبين الزهادة والطموح، وبين الكلبية المتهانفة والغرارة الساذجة. وقد عصمت المازني بيئته المحافظة ونشأته الدينية من أن يتأثر بالناحية الدنيا في تلك الخصائص الروسية، ووسعه أن يأخذ عنها أشبه تلك الخصائص به وأقربها إلى طبعه ومنحاه، وهي نزعة الاستخفاف وقلة المبالاة. فكانت هذه النزعة بعد سلاحه في مواجهة ما تأزمت به نفسه من أحداث تلك التجربة، وبقيت إلى آخر أيامه سلاحه في مواجهة الحياة، وبه غلبها ولم تغلبه.
وكأن ما امتحنته به تلك التجربة - من الإصابة بالعرج، ثم هجر التعليم والتعطل الذي أعقبه - كان من توفيقات المقادير التي تغم الحكمة فيها على الإنسان قبل أن تتبدى صفحتها من مستقرها في عالم المجهول.
كان المازني قد أوفى على الثلاثين، وشب عن الطوق جدا فيما يحس، وارتفع، كما يقول، (عن كل حداثة ارتفاعا أجلسني على ربوة الحياة حيث تنازع السحب الضياء)، ووقف يستقبل الكهولة التي طرق بابها قبل أن تطرق بابه، والتي تزود لها بزادين من عمل النشأة؛ فليس أقرب إلى الكهولة وألصق بها ممن يحرم في سنه وميعته قراه من الطفولة والشباب، ومن يدركه بلاء التجارب وهو غر لا يفيد منها غير الجهد والعناء.
وقد عرف القارئ كيف ودع المازني طفولته قسرا وقطعها وثبا، وكيف أكره نفسه على(1017/13)
كبح عواطفها الساذجة وكبت نزعاتها البريئة في غير رفق أو رحمة. ولا شك أنه ظل منطويا على هذا الشعور بالحرمان من أسعد فترات الحياة وأنضر عهودها حتى جر عليه هذا الانطواء أن أضاع شبابه في بيداء السلبية ومهمة التشاؤم ومقارفة العزلة والتوحد وتلقي الحياة باحتفال الموسوس الممرور.
ثم كانت تلك التجربة النفسية وما طبعته عليه من مواجهة الحياة بالاستخفاف وقلة المبالاة، وكانت معها المعجزة الكبرى في حياة المازني الذي كان يشرف على الكهولة يوم ذاك.
أشرف على الكهولة ليجد نفسه من جديد أمام طفولته التي زايلته، تعاوده بأخص خصائصها في طابعها القديم، وإن تكن قد عادت ناضجة واعية أشد تمرسا بالحياة وأكثر فهما وتجربة.
وليس بالعسير تفسير هذا الارتداد أو هذه الرجعة إلى الطفولة، ولا يحوجنا الأمر فيما نرى إلى استشارة علم النفس التحليلي أو تطبيق مناهجه ومقاييسه فيما كتب علماؤه المحدثون، فهي ظاهرة طبيعية وليست حدثا خارقا أو شذوذا غير مألوف.
. . . طفل أكرهته الحياة على أن يكبت في نفسه كل إحساس بالطفولة - على فرط إحساسه بها - وأن يطرح عنه كل ما يمت إليها من دوافع ونزعات، فاستقرت طفولته في أعماقه مكبوتة أو مكرهة على الكبت، تترقب المناسبة التي تطفر فيها من قرارها وتلبس إهابها السليب.
وقد سنحت هذه المناسبة المرتقبة في حياة المازني بتصحيح النظرة إلى الحياة والنقلة من المبالاة والاحتفال إلى الاستخفاف وقلة الاكتراث، فعاودت طفولته ظهورها وعادت سيرتها، ولا بست بنية الكهل المجرب فيه روح الطفل الغرير.
صورتان جد مختلفتين: أولاهما صورة شاب يعارض الحياة معارضة الإذلال، ويثور عليها لأنه يباليها ويحفلها غاية المبالاة والاحتفال، ويتراءى في إهاب أقرب إلى الشيخوخة المنطوية لولا ما يتسم به من ثورة السخط والزراية على الحياة والأحياء.
والثانية سورة كهل يصدر في مطالبه ورغائبه وفي جده وهزله عن منازع هي منازع الطفولة في صميمها، بل تزيده السن فرط غرارة واندفاع وحماس. . كهل يركب الحياة بالسخرية والاستخفاف، ويسالمها غير مضطر أو مغلوب! أو هو يقلع عن معارضتها لأنه قد ملأ يديه منها، وكأنه يقول لها بلسان الحال إنني لا أحفلك ولا أباليك منذ الآن، فسيان أن(1017/14)
نلتقي على حرب أو سلام، وعلى ود أو خصام، فعلى هذا وذلك نحن ملتقيان!
وقد قابل المازني بين هاتين الصورتين لذينك العهدين من حياته، ولم يخف عن نفسه، ولا عن الناس، موقع هواه وموضع ميله منهما. ونحن نؤثر أن ننقل هنا معالم الصورتين كما خرجتا عنه، مع تفسيره الذي ارتاح إليه في تعليل رأيه؛ فهو يقول:
(الكهولة والشباب عهدان مختلفان في كل شيء، ولك أن تقول إنهما يجعلان من الإنسان الواحد إنسانيين متميزين، لا يشبه أحدهما صاحبه، لا في المخبر ولا في المظهر. فأنا في كهولتي إنسان جديد من كل وجه، لا يشبه ذلك الإنسان القديم الذي كان أيام الشباب، فقد ذهب ذلك الإنسان إلى غير رجعة، وذهب معه كل ما كان له من خصائص وصفات وسمات ومعارف ونزعات وآمال وألام ومخاوف ومطامع وشهوات إلى آخر ذلك، وحل محله هذا الكهل الذي يدلف إلى الشيخوخة).
(ولك أن تقول أيضاً إن الشباب والكهولة معنيان في النفس. فإن منا من يخطئ معنا الشباب في عهده المألوف ثم يجده في غير أوانه. وهذا ما وقع لي، فما عرفت معنا الشباب، ولا ركبت به ما يركب الناس به، لأني امتحنت في صدر حياتي وغضونة سني بما تركني أحس كأن الدهر كله عمري. ودارت الأيام وكبرت، وازددت بالدنيا وبالناس معرفة وبنفسي أيضا، فإذا كل شيء يتغير، التشاؤم انقلب تفاؤلا واستبشارا، والضغن أصبح عطفا ورقة قلب وحبا للحياة والناس، وكنت أضنني لن يطول عمري وأحمد الله على هذا وأسأله في سري أن يعجل بالراحة الكبرى وإن كنا لن ندري بأنا فزنا بها، فإذا بي واثق أني سأكون من المعمرين جدا، وإذا بي قد صرت أحرص الناس على حياتي، بل إذا بي أشعر شعورا قويا أني رددت شابا وإن كان رأسي قد شاب ولم يبق فيه سواد، وأذهلني هذا الشعور المستغرق عن سني التي لا تكف عن الارتفاع)
وإذا كان لنا أن نعقب على هذه المقابلة الصادقة بشيء، فهو إن ذينك العهدين، في حياة المازني وأدبه، قريب من قريب، وإن عهد الشباب والثورة ومعارضة الحياة كعهد الكهولة الطفلة المجرب؛ قوة إحساس وفيض عاطفة وشعور.
فلم يكن المازني الشاب ليعارض الحياة أو يتنكر لها إلا وهو متعلق الرجاء بها قوي الرغبة فيها. وما كان سخطه وثورته إلا دالة يدل بها الشباب على الحياة فلا تتجاوز التبسط في(1017/15)
المغاضبة أو العتاب إلى الحنق والتنديد والمجافاة.
بلى. وذلك الشاب الذي كان قلبه ينبض أبدا بأشواق العاطفة وصورة الإحساس، والذي لم تهدأ فيه حيوية الشباب قط، لقد كان أقرب إلى الحياة وأتعرف بها وأوفر نصيبا منها من كثيرين لا يدينون بسخطه ولا يحسون مثل قلقه وثورته.
منذ ذلك العهد - عهد إيحاء سانين - لم يحي المازني في غير عالم الطفولة الخالدة. ولقد تقلبت به الحياة وتقلبت عليه التجارب فما كانت لتمر به إلا كما تمرق الأعاصير من بين قلل الأطواد الشامخة ثم تنكفئ عنه، كما تنكفئ الموجة العتية عن الصخر الركين.
في عالم الطفولة الخالدة عاش المازني أعوامه الثلاثين التي تقضت بين بدء عهده بالكهولة ووفاته، فكانت خلاصة العمر وصفوته ولبابه، وكأنما كان إيذان ذلك العهد بمثابة ميلاد جديد بأديبنا العظيم، وإن سبق مجيئه إلى الدنيا قبل ذلك بأعوام طوال.
محمد محمود حمدان(1017/16)
التربية الروحية في مدارسنا
للأستاذ محمد علي جمعة الشايب
إنها لمأساة حقا أن نجد كثيرا من الضمائر والذمم في حاجة ماسة إلى تطهير لا فرق في ذلك بين هيئة أو جماعة، أو عظيم أو حقير. هذا إلى كثير من النفوس والضمائر التي أبصرت أشعة التطهير فاختفت داخل قواقعها واتخذت منها كنا وسترا. ولعل يد العدالة ستمتد إليها فتخرجها صاغرة ذليلة من داخل تلك القواقع؛ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. . . إنها لمشكلة تدعو للأسف حقا وتدعو للعلاج السريع، حتى يعافى مجتمعنا من هذا الوباء الخلقي الخبيث. وإن إعدام بذور الشوك خير من تقليم أغصانه بعد أن ينبت. ومن الواجب قبل أن نصف الدواء أن نضع أيدينا على أسباب الداء، أو على الأقل على أهم أسبابه.
إننا لو نظرنا إلى موظفي الدولة ورجالها لوجدناهم ثمرة من ثمرات المدرسة، فإذا أحسسنا أن هذه الثمرة مرة المذاق، فلا بد أن التربية التي نبتت فيها هذه الثمرة تربة غير صالحة، وهذا هو الواقع فعلا في مدارسنا، فإنت لو نظرت إلى المدرسة في ذلك العهد الذي نتنسم فيه شيئا من الحرية لم تجد في أساليب تربيتها ما يعين على تنشئة جيل صالح، فما بالك بها منذ عشرات السنين أي في العهد الذي ربت فيه أولئك الذين قادوا السفينة بنا إلى الهاوية، وقد كان عهدا حبس عنه الاستعمار كل نسمة من نسمات الحرية والصلاح في أية ناحية من نواحي الحياة. . . وليس لنا بالمدرسة القديمة شأن، فقد مضت وأفسدت ما أفسدت، وهذه يد التطهير تحاول أن تصلح ما أفسدته المدرسة من قديم الأزمان. ولكن لنا الشأن كله بالمدرسة الحديثة - مدرسة اليوم - ويجب أن نمد إليها يدنا اليوم بالإصلاح قبل أن تمتد يد التطهير في المستقبل إلى ما تأتي به من ثمرات. . .
إن التربية في مدارسنا اليوم لا يعنيها غير الهدف العلمي، فهي تحرص على أن تضع في يمين التلميذ ورقة بمثابة الجواز الذي يسمح له بأن يأكل عيشه في شيء من السهولة واليسر ويضمن حياة راضية أحيانا، أما التهذيب الروحي وتقويم الاعوجاج والالتواء وتعديل الغرائز والنزعات الفطرية وإعلاؤها بحيث تجعل صاحبها يستقيم مع المجتمع ولا يكون نشازا فيه، ويصبح عضوا فعالا في أمته، فهذا ما لا يدخل في حساب التربية(1017/17)
المدرسية عندنا. . . إن التربية عندنا مادية بحتة لا أثر فيها للروح، مع أن المجتمع المدرسي الصاخب فرصة نادرة أمام المربين الروحيين لو أرادوا، فالتربية الروحية تعتمد في الغالب على مجتمع لكي تتمكن من نشر مبادئها ويمكن الوصول إلى أهدافها بسهولة. . . وقد يعتقد البعض أن دراسة الدين في مدارسنا تربية روحية، ولكن يؤسفني أن أقول إن هذا وهم واهم؛ فمدرسو الدين والتلاميذ يعرفون ما تنطوي عليه الحقيقة من ألم مرير، وقد يكفي أن تعلم أن غالبية المدرسين يجرون أرجلهم جرا حينما يذهبون إلى حصة الدين، وأن التلاميذ يودون لو أن المدرس انطلق بهم إلى ما يهمهم ويعنيهم من أحاديث الحياة العامة ووفر عليهم مؤونة الشرح والتدريس، بل لقد شكا كثير من المدرسين من أن التلاميذ يجمعون له كثيرا من الأسئلة في شتى النواحي المختلفة ليتحفوه بها في حصة الدين، وشكا آخرون من أن التلاميذ يتسللون لواذا (ويزوغون) في حصة الدين. أما الفريق الذي لم يشك فيعلم الله مبلغ ما يقاسيه من ألم وعناد في سبيل الاحتفاظ بالنظام وضبط الفصل والترهيب مرة والترغيب أخرى حتى ينتهي ذلك الدرس. . . وليس مرد ذلك لشيء في الدين نفسه - معاذ الله - ولا لشيء في التلميذ ذاته كما يتوهم بعض المدرسين، وما أظن أن المدرس يعتقد أنه هو مرد ذلك لأنه لا يحس هذه الظاهرة إلا في درس الدين فحسب، وإنما السبب راجع إلى الطريقة التي يدرس بها الدين وإلى المنزلة التي وضع فيها في المنهج الدراسي، فالدين دراسة نظرية بحتة لمجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ودراسة لبعض الشخصيات الإسلامية الفذة، وفي الغالب لا تجد ارتباطا بين هذه المواضيع وحاجات التلميذ النفسية أو المشاكل التي تهمه، وهذا هو السر في انصراف التلميذ عن الدرس إلى الأسئلة التي يضيق بها إخواننا المدرسون، ولو ربطت مواضيع الدين بمشاكلنا القائمة بيننا الآن والمذهب الاجتماعية التي هي موضع اهتمام الرأي العام لكان درس الدين حيا قويا، ولوجد استجابة حارة من التلاميذ، ولكان ذلك تثبيتا للتلاميذ وعصمة لهم من الزيغ.
ولو تناولت دراسة الدين أمراضنا الخلقية وآفاتنا الاجتماعية المتفشية، ولو أتينا بالشخصيات الظاهرة عندنا وربطنا بينها وبين الشخصيات الإسلامية العظيمة ودرسنا هذه الشخصيات دراسة مقارنة، أقول لو فعلنا ذلك لكان ذلك أهدى طريقا وأقوم سبيلا.(1017/18)
على أن وضع الدين في المنهج المدرسي ذلك الوضع غير اللائق كفيل بأن يصرف عنه الاهتمام والعناية، فجعل الدين مادة ليس فيها امتحان يجعلها عبثا على أكتاف التلاميذ يعوقهم عن النهوض بواجباتهم المدرسية التي ينتظرهم فيها نجاح أو رسوب. ولقد كان من الممكن الاستغناء عن الامتحان في الدين لو قومت طريقته وعدلت بحيث نضمن منها فائدة منها للتلاميذ، أما والحالة هذه فلا بد من الامتحان وإن كان لا يكفي لإفادة التلاميذ الفائدة المرجوة من دروس الدين، ولكنها فائدة على أي حال، ولعل الوزارة قد تنبهت إلى ذلك في هذا العام.
بقي أنني لست أومن بالدراسة النظرية، وإنما الذي أومن به الإيمان كله أن تكون الدراسة عملية ولا تأتي الناحية النظرية إلا كالشاهد أو الدليل، وما دامت المدرسة تخرج للمجتمع، فلماذا لا تكون المدرسة صورة من المجتمع؟ لماذا لا تكون المدرسة نموذجا من المجتمع في جميع نواحيه خيره وشره؟ نستطيع أن نهيئ في المدرسة الجو الذي تنزلق فيه الضمائر والذمم وتستشري فيه الغرائز، ونخلق من ذلك فرصة للتهذيب والتقويم وتعديل هذه الغرائز حتى تخرج المدرسة ذمما نظيفة وضمائر بيضاء ناصعة وغرائز مصقولة مهذبة، فمثلا التغذية في المدرسة نستطيع أن نجعلها بمثابة (وزارة التموين) في المجتمع الخارجي فنمكن التلاميذ من تصريف أمور التغذية في مدارسهم، ثم ننظر ماذا يفعلون، وإنني واثق من أننا سنجد فرصة ذهبية للتربية الروحية العملية الحقة، وسنجد فرصة ذهبية كذلك للكشف عن كثير من الذمم المعتلة والضمائر المريضة، وسنتمكن من علاجها علاجا حاسما حتى تخرج على المجتمع نقية كالثلج. .
كذلك نستطيع أن نكون من التلاميذ مجلسا للقضاء والفصل للنزاع الذي ينشأ بين تلاميذ المدرسة، ويكون له حق فرض العقوبات اللازمة، والغرامات المالية المناسبة وبالإشراف الدقيق نستطيع أن نلاحظ كثير من النزاعات الفطرية الملتوية بين أعضاء هذا المجلس وسنتمكن من تقويمها. . كذلك يمكننا أن نكون من تلاميذ المدرسة هيئة بوليسية للإشراف على المدرسة وتقصي أخلاق زملائهم والإرشاد عن عيوبهم لإصلاحها وتهذيبها؛ إلى غير ذلك من الجمعيات والهيئات التي تتيح فرصا للتربية الروحية وتخلق مناسبات حية لدروس الدين. على أن بالمدرسة الآن جمعيات قائمة مثل جمعيات البر والإحسان وجمعيات(1017/19)
الرياضة وجمعيات الدعوة والإرشاد ينبغي استغلالها لهذا الغرض.
وبعد فمتى كانت التربية الروحية نظرية بحتة؟ ألم يغلب الله جانب العمل في العبادات وهي التربية الروحية فجعل الصلاة إلى جانب أنها ذكر ودعاء؛ قياما وركوعا وسجودا؟!
وكذلك الجانب العملي أوضح ما يكون في الحج والزكاة والصوم، ولعلنا نلمس الجانب العملي في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار والمهاجرين حين آخى بينهم فكان الأنصاري يقسم ماله وداره بل وأزواجه بينه وبين أخيه المهاجر! هذا هو المنهج السليم الذي يجب أن تنتهجه التربية الروحية. . . أما أن تكون كاملا يتلى فهذا ما أشك في تسميته التربية.
محمد علي جمعة الشايب(1017/20)
خاطرة
نداء المال. . .
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
ما للحياة قد مالت بآمالي؟! وأين مالي؟
لقد كنت معتزا به حتى سميت (صاحب عزة)!
وكنت سعيدا في جمعه؛ فغدوت (صاحب سعادة)!
ترى: أنادتني شقوة المحرومين لأبلو شقاءهم؟
أم دعتني بلوة المكروبين لأذوق بلاءهم؟
حسبي يا زمان!
طالما طال عناقي، وتطاول حمقي؛ حتى نزل العنق بين كتفي وكاد يمحى من كياني، واسترخى الحمق في بلاهة ردتني إلى الحقيقة، فعرفت ميزاني واتزاني!
كنت أزن المقادير على قدرك، وأصطنع الجاه في ظلك، أدعى الأصل العريق بأصالتك!
كانت الغفلة تركب رأسي؛ فأتغابى عن الحق، وأصور الحياة متعات لاهية تملأ لهوات الأطماع!
ما حسبت أن السيادة فطرة الله فتغالبت وتعاليت، حتى أرخصني غلوي، وهبط بي علوي، وتبصرت حاتي فوجدتني صفرا بلا آحاد، بعيد أن كنت واحدا بياهي بأصفار على يمينه!
يا مالي!. . .
أناديك وقد طويت كشحك عني، كأنك ترد إلي (ضريبة) غروري. وما جدواي من ندائك بعد أن كبا بي جدي، وأخلفت الأيام عهدي؟
يا مالي!. . .
ليست فيك آمالي؛ فقد علمت أن الآمال في خزانة القلب ممثلة في الرضا، والقناعة، والأمن، والسلامة!
يا مالي!. . .
كان الشيطان يغرني، ويغرر بي، حتى تركني في مزجر الحسرة؛ فرميت مرمى المهانة!
يا مالي!. . .(1017/21)
ماذا دهاني حتى أعاني ما أعاني؟
كنت أضع في مجتمعي حدودا حتى حددت حياتي، وكنت أتخذ (بطانة) تبارك ركابي، فتركت وحدي أقاصي عذابي! أين ظلال الشخوص التي كانت تظل بشمي وغروري؟ وأين مغريات الطغيان لترى بأسائي ومصيري؟
يا مالي!. . .
كانت أخيلتي مجنحة، تحلق بي إلى عالم وهمي؛ فحسبت الحياة كلها عرضا يباع بك، وكنت في سبيلك أعرض عرضي، لأحصل على مباغي نفسي الطموح، وصرت معلقا بخيوط أوهامي حتى سخرت مني الحياة!
كنت أناجيك (يا مالي) مناجاة التخليد، فلم يقع في تقديري أن قدري في يد القدر، حتى أعجزتني المعجزة التي أخرست لساني وألجمت جناني!
يا مالي!. . .
أمسترد علي مجدي؟ أم أن طول التحسر لا يجدي؟
كنت أحسب الزمن يداعبني بملهاة ضاحكة، لكن تبين لي أن الأضحوكة قد تكون حكمة!
ما ظننت يوما - يا مالي - أن المحروم المنكد العيش، سيعتز بحياته، ويكون صاحب (عزة) أصيلة عن عزتي الدخيلة!
ما حسبت أن مشقوق القدمين الكادح سيشق طريقه في الحياة على عمل جليل، ونظام متسق، ووحدة متآلفة!
يا مالي!. . .
لقد غيبتني الأعجوبة في غيبوبة العجب، وإني لمسائل نفسي كيف استحالت أوضاع حياتي في طرفة العين إلى ما أرى من شجن محترق، وألم لاذع، وحسرة موجعة؟!
يا مالي! كنت مسحورا بك، في إخذة الحب، حتى أخذت على غرة فلم يبق في قلبي سوى نداء الأسى!
يا مالي!. . لست مالي. .!
إليك الحرمان فأمتعه، ودونك الشقاء فأسعده! لم يبق لي غير خفض الجناح، بعد أن جنحت زمانا في آفاق بعيدة عن الإنسانية الفاضلة!(1017/22)
لقد كنت لي حلما؛ فاذهب إلى من يرون فيك الحقيقة. . حقيقة المساواة في شريعة المعدلة!
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر(1017/23)
الجغرافية والسيادة العالية
للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي
لا يستطيع الإنسان فهم الحوادث التاريخية وتفسيرها على أصولها الحقيقية إلا إذا عرفنا العوامل الجغرافية التي لعبة دورها في هذه الحوادث، فالتاريخ والجغرافية علمان لا ينفصلان وإن كان لكل منهما شخصيته الواضحة، وما أشبه الحوادث التاريخية برواية تمثيلية قد بدأت منذ الخليقة وتعددت فصولها على مر الأيام. وكلما أقبلت الأعوام زاد عدد الممثلين وأشخاص البطولة فيها كل على قدر أهميته. وما أشبه هذا المسرح الذي نمثل عليه هذه الرواية بحوادثها ومغامراتها بالعالم الذي نعيش فيه. وإذا كنا لا نستطيع متابعة حوادث الرواية التمثيلية إلا إذا ألممنا بمسرحها؛ فكذلك لا نستطيع فهم الحوادث التاريخية وتفسيرها على حقيقتها إلا إذا درسنا مسرحها وفهمنا هذه العوامل الجغرافية التي تحكمت في هذه الحوادث وسيرتها في هذا الاتجاه. لهذا كانت للعوامل الجغرافية الأهمية الأولى لدارسي الحوادث التاريخية ولكل من يحاول فهم التاريخ على حقيقته.
نظرة سريعة إلى الكرة الأرضية بنصفيها الشمالي والجنوبي نرى اليابس يسود النصف الشمالي إذ تشغله معظم القارات في الوقت الذي تسود فيه المحيطات النصف الجنوبي؛ ولهذا كان النصف الشمالي أكثر سكانا وبتالي أكثر نشاطا وإنتاجا، ولهذا كان أيضاً مهدا للحضارات الأولى التي خرجت للعالم ومنه خرجت طلائع المغامرين الذين اكتشفوا النصف الجنوبي ومهدوا لفتحه واستعماره، وهكذا ساد النصف الشمالي النصف الجنوبي، وهكذا تحكم اليابس في الماء بفضل كثرة السكان وما يرتبط بهذه الميزة من نتائج لها تأثيرها الخاص.
ونحن أيضاً إذا نظرنا إلى خريطة العالم بنصفيها الغربي والشرقي وجدنا النصف الشرقي معظمه يابس تسوده أكبر مساحة من القارات في الوقت الذي تسود فيه المياه معظم النصف الغربي. وهنا أيضاً نجد النصف الشرقي قد مثل في النصف الغربي ما سبق أن رأيناه في النصف الشمالي والنصف الجنوبي للكرة الأرضية؛ فالأسباب واحدة والنتائج متشابهة.
وإذا نظرنا إلى العالم من زاوية أخرى وجدنا المناخ يبلغ أقصى برودته في الأنحاء الشمالية والجهات الجنوبية؛ أو بعبارة أخرى حول القطبين. لذا كانت هذه المناطق لا(1017/24)
تساعد على قيام الحياة وبالتالي العمل على تقدمها، فسكانها قليلو العدد في كفاح مستمر لأن الطبيعة قاسية عليهم وتأبى أن تجود بما يوفر لهم الحياة. هم لا يفكرون إلا في الحصول على القوت الضروري الذي يمنع عنهم ألم الجوع والملبس الضروري الذي يقيهم البرد! والمسكن اللازم لحياتهم، فاتخذوا من شحوم بعض الحيوانات غذاء لهم ومن فرائها ملبسا. ليس لديهم الوقت الكافي للتفكير والانتقال بالإنسانية إلى حالة أكثر رقيا وتقدما، وهذا ما نلاحظه في جماعات الإسكيمو في شمال أمريكا وجماعات اللابس في شمال أوربا. وإذا نظرنا إلى العالم من هذه الزاوية وجدنا المناخ عند خط الاستواء حارا لا يطاق ولا سيما في السهول الداخلية من القارات. وبقدر ما كانت الطبيعة قاسية في أقصى الشمال كانت سخية في هذه المنظمة الاستوائية، فالغابات الكثيفة بأشجارها وحاصلاتها المتعددة متوفرة. وبقدر ما بثت الطبيعة من نشاط في سكان الشمال؛ بثت الخمول والكسل في سكان خط الاستواء لسخاء الطبيعة، فهم ليسوا في حاجة للجد والنشاط للحصول على طعامهم وملبسهم ومسكنهم، غذ وفرت لهم الطبيعة كل ذلك بالقدر الذي لا يتصوره الإنسان بالقدر الذي يدفعهم إلى الإفساد وعدم شغل الذهن بالتفكير في المستقبل وحاجاته. لذا عاشوا في كسل وخمود عام كما عاش سكان الشمال في جهد ونشاط مستمر دون أي راحة أو استجمام. ولهذا لا تنتظر أن يكون لسكان الجهات القطبية والاستوائية أي نوع من السيادة التاريخية؛ فكل منهما مشغول بحالته الخاصة وكل منهما له ما يلهيه عن الانتباه لما يدور حوله من نزاع بين الأمم من أجل السيادة العالمية.
إذن فالموطن الأول للسيادة العالمية هو الجهات المعروفة بمناخها المعتدل الواقعة في النصف الشمالي الشرقي من الكرة الأرضية. ففي هذه الجهات نشأت الشعوب القديمة ذات الحضارة والسيادة ومنها انتقلت إلى بقية العالم؛ إذ لها من اعتدال مناخها ما يدفعها إلى العمل للحصول على لوازم الحياة دون إجهاد أو إرهاق فوجدت لديها من الفراغ الضروري ما دفعها إلى التفكير وشغل الذهن بما سار بالإنسانية إلى الأمام، ولها من موقعها الجغرافي ما ساعد على اتصال سكانها في وقت لم تصل فيه المواصلات إلى ما هي عليه الآن، وبذلك تم السير بالحضارة الإنسانية من حسن إلى أحسن. في هذه الجهات نشأت الحضارة المصرية والبابلية والآشورية والفينيقية والفارسية والهندية والصينية والإغريقية والرومانية(1017/25)
والعربية.
وحتى هذه الحضارات التي سبق ذكرها لم تكن كلها من نوع واحد، بل اختلفت فيما بينها من حيث الأصول والمميزات والنتائج، ولا يصعب علينا فهم هذا الاختلاف إذا عرفنا العوامل الجغرافية التي لعبت دورها في كل منها. فهذه مصر لولا النيل لكانت صحراء ولما كان لأهلها ذكر في التاريخ. ولولا موقعها الجغرافي الفريد بإشرافها على العالم القديم وتحكمها في طرق مواصلاته بسواحلها الشرقية والشمالية ما استفادت من غيرها ولا أفادت. وبقدر اتصالها بالعالم الخارجي كانت الصحراء الشرقية والصحراء الغربية وجنادل النيل في الجنوب والبحر في الشمال خير واق لأهلها من الغزو والفتح في الوقت الذي انصرفوا فيه إلى تكوين حضاراتهم فنمت في أمن؛ حتى إذا ما شبت تعدت هذه الحدود إلى جيرانها وكونت أول إمبراطورية عرفها التاريخ أيام تحتمس ورمسيس.
وهناك في أقصى الشرق من القارة الآسيوية نشأت الحضارة الصينية القديمة بعد أن اتخذت حوض يانج تسى مهدا لها، وكانت لها في هذه الهضبة الغربية خير حماية من خطر غزو القبائل إذا قلت الأمطار في وسط آسيا؛ وكانت لها أيضاً في مياه المحيط الهادي بأتساعه ما يحميها من خطر الغزو البحري. ولم تكن اليابان قد ظهرت كقوة بحرية تهدد الصين في حياتها إلا في العصر الحديث، لذا عاش الصينيون في أمن من الغزو الأجنبي ووجدوا في خصوبة أرضهم وكثرة إنتاجها ما دفعهم إلى التأمل والتفكير والإنتاج فكانوا خير منتجين، وكانت فلسفتهم وحكمهم صورة ناطقة بحياتهم الهادئة الوديعة، حتى إذا شعروا بالخطر يتهددهم من الشمال الغربي وجدوا في أحجار الهضبة المجاورة لهم خير معين لبناء سد لوقايتهم فأخرجوا لنا سورهم العظيم الذي اعتبر من عجائب التاريخ.
وفيما بين مصر والصين قامت حضارة أخرى. . فهناك في الهند حيث سهول نهر الكنج ونهر السد بخصوبتها حيث جبال الهمالايا المعروفة بارتفاعها وصعوبة مسالكها وجد الأهالي فيها خير مساعد على حمايتهم من الغزو وبرودة الرياح الشمالية؛ كما وجدوا في مياه المحيط الهندي التي تحيط بشبه جزيرتهم مثل هذه الحماية؛ فعاشوا في أمن وسلام مع شيء من الجد والنشاط، فأخرجوا لنا فلسفة خاصة كانت حلقة هامة في طريق الأديان السماوية. ولكن كان لا بد أن تستهدف الهند للغزو والفتح كما استهدف غيرها، وكانت لا بد(1017/26)
لهذا الصندوق المقفل أن يفتح ويعرض ما فيه على العالم فيختار الأحسن! ويشاء القدر أن تعجز هذه الجبال التي حمت الهند من الشمال أمام حيل الإنسان وتفكيره فتدخل جنوب الإسكندر من ممراتها الشمالية الغربية كما دخلتها جنود الإسلام فيما بعد. وقدر للمسلمين أن يضعوا أساس إمبراطورية عظيمة كانت لها فيها السيادة على الهند، ولكن هذه السيادة التي دخلت من ممرات الشمال الغربي ضعفت أمام الاستعمار الأوربي الذي أخذ يطرق أبواب الهند الساحلية فتمت الغلبة أخيرا بعد نزاع بين القوى البرية والقوى البحرية ودخل الاستعمار الإنجليزي الهند بعد أن مهدت لذلك شركة الهند التجارية.
سيادة مصر والصين والهند وبابل وأشور كلها من نوع يمكن أن نطلق عليه (السيادة النهرية) لأن وجود الأنهار في هذه البلاد كان العامل الأكبر في نهضة أهلها وإن كان لكل منها طابع خاص حسب ما امتازت به من عوامل جغرافية أخرى. ولكننا هذه المرة أمام شعب آخر هو شعب الفينيقيين الذي شق لنفسه السيادة عن طريق البحر. فالبحر الأبيض المتوسط بموقعه يتوسط العالم القديم، وهو بحر داخله يكاد يكون مغلقا لذا كانت مياهه هادئة معظم فصول السنة لا نرى فيها ما نراه في المحيطات وبعض البحار الأخرى من اضطراب وأمواج عالية. وهو صالح للملاحة طول السنة لا تتجمد مياهه كبقية بعض البحار الأخرى. يمتاز بكثرة بحاره الداخلية المتفرعة منه وبكثرة أشباه الجزر والجزر التي يندر أن يختفي اليابس عن نظر المسافرين فتتولد في نفوس عابريه روح المغامرة والمخاطرة لشعورهم بالأمن فيه، ولذا كان خير مدرسة لتخريج خير الشعوب البحرية وكان في مقدمة هذه الشعوب الشعب الفينيقي. وكان للفينيقيين من بيئتهم الجغرافية ما جعلهم أساتذة للبحرية، فبلادهم ذات سهل ساحلي ضيق تشرف عليه جبال عالية تفصلهم عما وراءهم من بلاد داخلية، ولذلك أعطوها ظهورهم واتجهوا بأنظارهم إلى البحر حيث الأفق الذي لا يحد وحيث تجد غريزة حب الاستطلاع مجالا لها فاندفعوا إلى البحر، وكان لهم من مميزاته التي سبق ذكرها ما جعلهم يتفوقون بعد أن أتقنوا فن الملاحة فطافوا بسواحل البحر الأبيض المتوسط وأنشئوا المحطات التجارية فيه وتاجروا بين أقطاره المختلفة. غير أنهم كانوا في كل ذلك يتخذون من المياه الساحلية طريقا لهم ولم يعملوا على توفير الوقت باختصار المسافات شأن كل شيء في بدايته، حتى إذا تخرج على أيديهم اليونان فاقوا(1017/27)
أساتذتهم في هذا المضمار وانتقلت إليهم السيادة البحرية لأنهم وجدوا فيها حياتهم فأتقنوها! ذلك أن بلاد اليونان شبه جزيرة جبلية تقل فيها السهول وتكثر بها الجبال والخلجان البحرية والجزر بشكل واضح، فاتخذوا من هذه الجزر والبيئة البحرية معاهد لتخريج ملاحين مهرة بعد أن تلقوا مبادئ هذا الفن على أساتذتهم الفينيقيين، وساعدهم هذا الفن على التغلب على ما في بلادهم من فقر فاتخذوا من صيد السمك مهنة لكسب عيشهم كما اتخذ فريق منهم السفن وسيلة لنقلهم إلى البلاد الأخرى التي هاجروا إليها لضمان حياتهم فنشروا معهم فنهم وطابعهم الخاص في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط؛ كما لجأ بعضهم إلى احتراف الجندية فكانوا جنودا مرتزقة يحاربون في صف من يضمن لهم الحياة. أما غالبيتهم فقد اتخذوا القرصنة حرفة فسادوا البحر وتحكموا بمسالكه. وهكذا عاش اليونان في البحر وعن طريقه تملكوا زمام القوة. وكان لا بد لهذه القوة البحرية أن تصطدم بالقوة البرية التي كانت هي الغالبة حتى ذلك الوقت، وكانت معركة سلاميس البحرية هي فصل الختام في النزاع الذي قام بين الفرس واليونان، وكان لا بد للفرس من الهزيمة لأنهم أساءوا اختيار ميدان الحرب وأعطوا الفرصة لليونان لإظهار سيادتهم البحرية.
ظلت القوة البحرية صاحبت السيادة وظل اليونانيون أصحابها إلى أن ظهر في هذا الميدان من نافسهم وانتزعها منهم. والحق أن الفينيقيين كما كانوا أساتذة للإغريق كان الإغريق أساتذة لغيرهم، فهم الذين وضعوا نواة نهضة روما التي سرعان ما ظهرت للوجود كقوة لها مكانتها الخاصة لما يحيط بها من ظروف جغرافية ساعدتها على توحيد إيطاليا بزعامتها، فتطلعت للخارج وكبر على نفسه أن تكون سجينة في البحر الأبيض وهي التي تتوسطه وتتحكم في حوضه ولها من سواحلها الطويلة ما يجعلها عرضة للخطر، وكان لا بد لها من أن تتغلب على ما عاداها من دول أخرى منافسة حتى تضمن حياتها، وسرعان ما تم لها الأمر وهزمت قرطاجية واستعمرتها، كما تغلبت فيما بعد على دول البطالة وملكت مصر. وهكذا أصبحت روما سيدة البحر الأبيض وحق لأهلها أن يقولوا إلا أن روما في هذه المرة استطاعت الجمع بين القوتين البرية والبحرية وكان لها في سرعة انتقال جيوشها ما جعلها تتغلب على أي خطر تستهدف له؛ ولم تأت هذه السرعة إلا عن طريق مد الطرق والاهتمام. بها وما زالت باقية هذه الطرق المعروفة بالاسترادا موجودة في كثير من البلاد(1017/28)
التي قدر لها أن تكون ضمن الإمبراطورية الرومانية كما هي الحال في الأجزاء الجنوبية الشرقية من إنجلترا. ولم ينبغ الإيطاليون في فن مد الطرق صدفة بل كان لهم في طبيعة بلادهم الجغرافية ما جعلهم سادة هذا الفن، وما زالت الشركات الإيطالية تحتل المكانة الأولى في رصف الطرق في بلاد العالم حتى يومنا هذا. وبالنظر إلى شبه الجزيرة الإيطالية نجد روما تتوسط ساحلها الغربي وفي وسطها سلسلة من الجبال العالية تمتد من الشمال إلى الجنوب وتحف بها من على الجانبين سهول طويلة؛ وقد وجد أهل روما في هذه السهول وفي أحجار هذه الجبال ما ساعدهم على مد الطرق لربط أجزاء شبه الجزيرة ببعضها، وهكذا جعلت الظروف الجغرافية إيطاليا المدرسة الأولى لفن مد الطرق ورصفها.
ولنترك الإمبراطورية الرومانية وقد أخذت عوامل الضعف تتنازعها وهي في مجموعها عوامل جغرافية يطول علينا شرحها. ولنتجه إلى الركن الجنوبي الشرقي من البحر الأبيض المتوسط حيث نرى موطنا لسيادة من نوع آخر هي السيادة الروحية! ففي هذه البقعة ظهرت الديانات السماوية جميعها من موسوية ومسيحية ومحمدية، ولم تكن هذه البقعة صدفة موطنا لهذه الديانات ولم يمنحها الله سبحانه وتعالى هذه الميزة عبثا، بل كان ذلك لتوسط موقعها الجغرافي الذي ساعد رسل هذه العقائد وأتباعها على نشر رسالتهم خصوصا ولم تكن سهولة المواصلات في ذلك الوقت قد وصلت إلى ما هي عليه الآن فالإنسان إذا أراد إضاءة حجرة وتوزيع نور مصباحه على أركانها بالتساوي ما عليه إلا أن يختار مكانا وسطا لوضع مصباحه فيها وهكذا فعل الله في أرضه فكانت شبه الجزيرة بأطرافها موطنا لهذه العقائد السماوية.
زحف الإسلام من المدينة تسنده قوته البرية فاستطاع العرب التغلب على أعدائهم لأنهم أحسنوا اختيار ميدان القتال فكانت الغلبة لهم! حتى إذا وصلوا إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط وجدوا عدوهم قد فاقهم بسيادته البحرية فكان لا بد لهم من الاستعانة بالقوة البحرية لقهر أعدائهم. وقد ساعدتهم البيئة الجغرافية الجديدة على تحقيق هذه الأمنية فاتخذوا من موانئ الشام وغيرها قواعد لأسطولهم الجديد حتى إذا كانت واقعة (ذات السواري) البحرية في عهد ثالث الخلفاء الراشدين كانت الغلبة لهم وكانت هذه الواقعة خاتمة السيادة البحرية للروم كما كانت موقعة (سلاميس) السابقة الذكر بداية السيادة البحرية لأسلافهم اليونان.(1017/29)
وسرعان ما تفوق العرب في الميدان البحري واندفعوا في هذا الطريق حتى تسمي البحر الأبيض المتوسط باسمهم؛ ولم يقتصر نشاطهم على هذا البحر بل اتجهوا بسفنهم إلى البحار الدفيئة الجنوبية فكانت لهم فيها السيادة كذلك! وما وصول الإسلام وانتشاره في جزر الهند الشرقية إلا بقية من نشاط تجارهم الذين سادوا تلك البحار.
هكذا لعب البحر الأبيض المتوسط دوره في نهضة الشعوب وهكذا كان مدرسة لتخريج المغامرين الذين اندفعوا يستطلعون ما وراء أفقه، فكان كشف طريق رأس الرجاء الصالح وكان كشف الأمريكيتين وكان تحول آخر في تاريخ الإنسانية بهذه الكشوف وكانت السيادة المحيطية يعد أن كانت السيادة للبحار. ذلك أن البحر الأبيض المتوسط أصبح لا يتمتع بما كان يتمتع به من مركز ممتاز بتوسطه بين العالم إذا انتقلت هذه الميزة إلى المحيط الأطلسي فأصبح له الدور الأول في تاريخ الإنسانية، وسرعان ما تبع ذلك انتقال السيادة من دول البحر الأبيض المتوسط إلى دول غربي أوربا التي كان لها بفضل موقعها ما دفعها إلى العالم الجديد واستغلاله، وتشاء الجغرافية أن يصحب هذا التحول في السيادة تحول آخر في دعائمها! إذ كانت سيادة دول البحر الأبيض سيادة تعتمد على الإنتاج الزراعي قبل كل شيء! وإن وجدت بعض الصناعات فهي لا تتعدى استخراج الزيت وعصر العنب. أما الصناعة بالمعنى الذي نفهمه اليوم فكان ظهورها بظهور دول غربي أوربا وانتقال السيادة إليها. ذلك أن وفرة الفحم والحديد إلى جانب ما تتمتع به موقع جغرافي بعد كشف العالم الجديد جعلها الميدان الأول للإنتاج الصناعي فكان لها الصدارة بين دول العالم، وكان لا بد لهذه الدول أن تحصل على المواد الخام الزراعية اللازمة لصناعاتها وأن تجد الأسواق لتصريف ما تنتجه، فتسابقت إلى الاستعمار مما أدى إلى التنافس بينها وقيام الحروب، وما تاريخ دول غربي أوربا في العصر الحديث إلا سلسلة من هذه الحوادث المتتالية. وكان لا بد أن تكون الغلبة للدولة التي تعتني بقوتها البحرية وتزيد من سرعة سفنها، فظهرت عابرات المحيطات لقطع المسافات الطويلة بعد أن كانت البحرية لا تعرف إلا السفن الصغيرة والمراكب الشراعية، وكانت بريطانيا في مقدمة هذه الدول وكان لها في موقعها الجغرافي ما جعلها تختط لنفسها سياسة معينة! فهي متطرفة الموقع بالنسبة للقارة الأوربية لذلك لم تشترك في المشاكل الخارجية إلا بالقدر الذي مس مصالحها، ولما كانت هذه(1017/30)
المصالح قد أخذت تتزايد بمرور الزمن وتتشابك كثر تدخلها في السياسة العالمية.
ولقد كان الموقع الجغرافي للجزر البريطانية المحور الأساسي لسياسة الإمبراطورية البريطانية الذي يمكن تلخيصه في ضرورة المحافظة على التفوق البحري وعدم السماح لأية قوة أخرى بالتفوق عليها في هذه الناحية! وهي كذلك بموقعها الجغرافي مدينة بانتشار النظام الديمقراطي بين سكانها، فهي بعزلتها البحرية ليست في حاجة إلى قوات عسكرية دائمة لحمايتها، لذلك كانت السلطات الحاكمة تخشى القيام بأي تصرف استبدادي حتى لا تقوم الثورات في وجهها فتعجز عن قمعها وتعرض حكمها للزوال. ولهذا كانت السلطات الحاكمة تتمشى مع رغبات الشعب وقد وصلت بهذه الطريقة إلى ما وصلت إليه من حياة ديمقراطية، ولهذا أيضاً احتفظت بريطانيا بسياسة التطوع في سلك الجندية ولم تحاول إتباع النظام الإجباري للجندية إلا في الحرب العالمية الأولى حين أجبرتها الضرورة على ذلك وبعد أن ألحت عليها فرنسا، حتى إذا انتهت الحرب عادت إلى نظامها القديم ولكنها عادت مرة أخرى إلى فرض الجندية الإجبارية في الحرب العالمية الأخيرة حتى تجابه ما كانت تتطلبه الاستعدادات الحربية.
وكان لا بد أيضاً وقد أصبح المحيط الأطلسي ميدانا للنشاط العالمي أن تسعى الدول وتتنافس فيما بينها لكسب الوقت حتى تروج صناعاتها وتتقدم تجارتها، فأدخلت التحسينات على وسائل المواصلات البحرية وأوجدت أنواعا أخرى وكان على رأس ما اهتدت إليه فن الطيران واختراع الطائرات، فبدأت القيادة الجوية تلعب دورها في التاريخ بعد أن بلغت السيادة البحرية أوج عظمتها في دول غربي أوربا، وكان العالم الجديد ممثلا في الولايات المتحدة الأمريكية خير ميدان لهذه السيادة الجوية التي أثبتت وجودها في الحرب العالمية الثانية كعامل فعال في إحراز النصر. وبفضل ما أنتجته الولايات المتحدة الأمريكية من سلاح جوي واختراع للقنبلة الذرية استطاع الحلفاء إحراز النصر وأن يتنفس الصعداء بعد أن كاد الإجهاد يلحق بجنودهم لطول الكفاح وصمود العدو العنيد المستميت.
هكذا كانت العوامل الجغرافية من توزيع لليابس والماء والحرارة والبرودة ووجود للأنهار والبحار والمحيطات والغلاف الجوي المعز الأول للسيادة العالمية والحوادث التاريخية وفي دراسة أثر هذه العوامل في الإنسان دراسة للتاريخ البشري على حقيقته، ولهذا يحسن بنا(1017/31)
أن نقسم العصور التاريخية، على أساس العوامل الجغرافية التي كان لبعضها الأثر الواضح دون سواه فنقول مثلا: عصر اليابس وعصر الأنهار وعصر البحار وعصر المحيطات وعصر الهواء. . كما يقول المؤرخون: عصر ما قبل التاريخ والعصور التاريخية والعصور القديمة والعصور الوسطى والعصر الحديث والزمن المعاصر.
مصطفى بعيو الطرابلسي(1017/32)
رسالة الشعر
من وحي الشتاء
أين المفر؟!
مهداة إلى اللاجئين
للأستاذ هارون هاشم رشيد
هتف الموت وهو ناب وظفر ... لامفر،. . من قبضتي لا مفر
وعوت تصرخ الرياح وهبت ... عصفات جموحة لا تقر
والرعود الرعناء ملء فم الكو ... ن دوى على الفضاء وزأر
فإذا الرحمة استحالت بلاء ... وإذا الكون واجم؛. مكفر
وإذا الماء جامح يغمر الأر ... ض ويطغى جموحه المستمر
رب أم حنت على طفلها البك ... ر وضمته وهي خوف وذعر
ألصقته بصدرها خشية الموت ... وهل يدفع المنية صدر؟!
وعجوز هوى الجدار عليها ... فإذا نيتها المهدم قبر. .!
ويتيم. . . قضى أبوه شهيدا ... فهو من بعده دموع وفقر!
هدمت فوقها العواصف بيتا ... هو في واقع الحقيقة حجر
وفتاة مكلومة القلب تبكي ... فقد خدر وما حواه الخدر
وصغار مشردين بلا أهل ... تراموا على الطريق ومروا
وكثيرين قد أفاقوا حيارى ... ما لهم ملجأ ولا مستقر
هتفوا بالسماء أن تحبس الغيث وهيهات أن يغيض بحر
ليت شعري أين الذين رموهم ... في جحيم من العذاب وفروا؟!
أين من صوروا بيتوا من الطين ... وقالوا: هنا يطيب المقر!؟
هم مقيمون في الديار نشاوى ... ونداما هموا حسان وخمر
ومئات من الجنيهات قالوا: ... هي أجر لما أتوه وشكر
وهم المجرمون قد جلبوا الشر ... وقالوا: بأن ذلك خير(1017/33)
نسل (جونبول) هؤلاء فمنهم ... غمر الظلم شرقنا والنكر
إنهم يضربون في ظلمة الليل ... وقد مزق الدياجير فجر
الشعوب استفاقت اليوم يهدى ... خطوها للعلا وللحق ثأر
فأسود في أرض مصر تنادى ... إنها (مصر) درة الشرق مصر
سوف تلقى بالظالمين إلى البحر ويسمو بها إلى المجد نصر
أيها المسلمون قد جمح الباغي ... ففي سمعه عن الحق وقر
أنقذوا، أنقذوا البقية منا ... فهنا الموت جاثم مستقر
غزة
هارون هاشم رشيد(1017/34)
سطور من دم
للأستاذ زهير مرزا
أي جرح يضوع عطرا وندا ... فالثرى مشرق الأديم مندى
والوجود المفجوع هلل تكبيرا ونادى الأمجاد وفدا فوفدا
والأهازيج عمت الأفق إلا ... شهقات. . لم تقو أخذا وردا
شرقت بالدم الذكي تلوي ... أفعوانا على الثرى يتبدى
خضب الأرض يكتب اليوم فيها ... أسطرا لن تبيد طمسا وفقدا
كل ما لم يخط بالدم تمحو ... هـ الليالي مهما تطاول عهدا
سائلوا السفح عن فتى يعربي ... كان ملء الزمان قلبا وقدا
يمم الأمس ساحة المجد شبلا ... وطوى بلقعا وحزنا ونجدا
في حناياه حفنة من شعور ... لم تطق أن ترى السود عبدا
فاستعدت من (الشهادة) إيما ... نا. . ومن حقها المهدد أبدا
فزعت للجهاد سكرى كما يفزع لله مؤمن ثاب رشدا
ورأت فيه مدفنا هو أجدى ... من حياة جبينها يتندى
والذي أشرب الشهامة طفلا ... ليس يرضى بأن يعفر خدا. .
أزفت ساعة النضال. . وماج الجحفل البحر بالبطولات يجدي
وتوالى على النفوس صراع ... أكبر الدهر ما رأى ويتبدى
مثلما عزت النفوس تراها ... تدفع الموت بالمناكب صدا
وتداريه، حيلة، وهي منه ... قاب قوسين. . والخديعة أجدى
وارتمى الشبل في الغمار وقد جر ... د سيفا يضيء وجها وزندا
وانثنى. . بين ناظريه بقايا ... بقع من دماء عز تصدى
وتراءى مبعثر الجهد جباراً يكاد القرضاب يضرب فردا
فإذا أن يمنة من تردي ... ما لها يسرة فشتت حشدا
ضاع منه صوابه حين دوت ... زأرة الليث خر إذ ما تردى
وتلوي يجمع اليوم أحشا ... ء لميضى أشد ما كان حقدا(1017/35)
غير أن اليد التي خلدته ... لم تخنه، لكن تداعت، فأودى
حسبوه ما زال ينضح عزما ... من بقايا لما تزل تتحدى
أكبروا أن يخر فاقتحموا المو ... ت يفدونه وما كان يفدى
غير أن الأذى يجر أذاة ... والبطولات للبطولات أهدى
كفنوه بثوبه ودماء ... ثم عادوا بحفنة منه تندى
وطووا جرحه على النصر والمجد. . وأعظم به على الدهر مجدا
ورأوا في مصيره (نقطة البد ... ء) فصاغوا من (الشهادة) مبدأ
والذي شيع العقيدة والإيمان شيعه، فالحفيرة أجدى
وانظر الناس تلق في كل جيل ... ملحدا صاغ من دياجيه لحدا
قل لمن بات في الحياة وحيدا ... إن هذى الحياة تنبض رفدا
نقل الطرف في مفاتنها الغر ... وئد حقدها ولا تبق نأدا
واشتر المجد بالدماء فإن أغلى فزده فقد أنالك خلدا
كل ما لم يخط بالدم تمحو ... هـ الليالي مهما تطاول عهدا
دمشق
زهير ميرزا(1017/36)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
التقيت في ندوة (الشورى) بالسيد عبد القادر المغربي وكيل المجمع العلمي في دمشق وعضو مجمع فؤاد الأول لغة العربية، فقد جاء مصر لحضور دورة المجمع اللغوي، الذي انعقد يوم الاثنين الماضي، وقد لقيت (المغربي) فتيا كأنما هو في الشباب وليس في سن التاسعة والثمانين. . .
كانت ضحكاته وطريقته في الحديث، ونظرته، تنم عن نفس ما تزال شابة فتية، فإذا ذكرنا أنه حضر إلى مصر لأول مرة عام 1905 ليعمل مع الشيخ محمد عبده، ثم اشتغل بالصحافة، وبدأ عمله في (المؤيد) في نفس العام بمقال عنوانه (مصر ومراكش والقاضي شمهورش). . . عجبنا للحيوية التي أفاضها الله على الرجل العلامة. . الذي يحضر إلى مصر بالطائرة. . .
وكالعهد بالذين يزورون ندوة (الشورى)، وكلهم مشردون ومجاهدون ورجال كافحوا الظلم، لقينا السيد عبد القادر المغربي، الذي هاجم الاستبداد في فجر النهضة، ووقف مع شكيب أرسلان وعبد العزيز جاويش يهاجم الملك حسين في جريدة الشق. . في اتجاه نحو انفصال الترك عن العرب.
وقد حدثني السيد المغربي بأنه اضطر بعد هجرته إلى مصر هربا من الظلم والاستبداد، ثم بعد عودته على أثر إعلان الدستور العثماني وخلع عبد الحميد، إلى أن يتحول من الإصلاح الديني إلى الإصلاح اللغوي.
وفي هذا الصدد سمعت السيد بشير الإبراهيمي الزعيم الجزائري يتحدث إليه فيقول أنه كان يلتهم كل ما يكتبه في اللغة، وأنه ترك في الدراسات اللغوية أثرا ضخما، ووصل إلى قمة التقدير حينما قال له: إن السطر من هذه الكتابات يساوي مجلدا. . .
والسيد عبد القادر المغربي هو حفيد البطل المجاهد (درغوس) الذي استشهد في الحرب العثمانية في موقعة (مالطة) ودفن في ليبيا، ويطلق على ضريحه هناك (طرغود رئيس) وقد هاجرت أسرته إلى الشام منذ 250 سنة.
وقد كتب السيد عبد القادر المغربي في مجلة البينات الجزء الأول سنة 1907 فصلا مطولا(1017/37)
عن برنامج الإصلاح الإسلامي، ما يزال حتى اليوم مرجعا للدعاة والعاملين في هذا الحقل.
وقد شهد السيد المغربي خلال حياته الطويلة المباركة، التي نسأل الله أن يمد فيها، حلقات النهضة العربية والإسلامية منذ فجرها على يد جمال الدين الأفغاني حتى الآن، فهو بذلك من أقدر من يؤرخها ويصور زواياها المختلفة، وقد طلبت إليه ذلك غير أنني لقيته معرضا عن هذا الاتجاه.
وقد اكتفى بتلك الرسالة القصيرة التي كتبها عن (جمال الدين الأفغاني). . ونحن باسم المقدرين لأدبه وفكره نعاود الرجاء في أن يكتب تاريخ هذه النهضة بقلمه الرصين، ولا يظن على التاريخ بتسجيل مشاهدات معاصر فقد تفيد كثيرا في كتابة التاريخ. .
اتجاه الريح
أعجبني تصوير الأستاذ (وديع الفلسطيني) للمفكر في هذه الأيام حيث يقول في جريدة الإنذار: (الأديب في مصر محكوم عليه بالفاقة المبرحة حتى يهجر الأدب، والصحفي الشريف في مصر حتم عليه أن يشرب المر حتى يهجر الصحافة.
والمفكر في مصر يبقى دائما هدفا للريبة والشك حتى يتخلى عن تفكيره. والكاتب في مصر يبعث أثاث داره قبل أن يطبع كتابا من كتبه، والشاعر في مصر بائس حتى يترك الشعر، والثقافة في مصر محنة لأن الناس عنها معرضون، فتجارة الكتب إلى بوار، والأدب السمين ليس له طلاب، والناس لا تقرأ إلا قصص الجان، ومغامرات الفرسان، وفضائح الملك السابق، وتخريف المزيفين والهازلين).
وتلك كلمات صادقة، لأنها صادرة من قلب مأزوم. إن الأستاذ وديع صحفي وأديب مثقف، وقد عمل طويلا. . وكان كبير الأمل في أنه يستطيع أن يخدم بلاده عن هذا الطريق، غير أنه أحس بأن عليه أن يتخذ طريقا آخر. ويبدو أنه مع الأسف الموجع قد ودع الصحافة والدب بعد أن شعر بأنهما لا يكرمان المجاهد العامل إلى العمل في الميدان الاقتصادي. . .
تحول في الاتجاه العام
الأستاذ إبراهيم المصري كتب موفق، وهو أستاذنا منذ كان يكتب في الصحيفة الأدبية في البلاغ عام 1930، وأذكر أنه أرسل إلي ذات مرة وكنت في الريف يطلب إلي أن أرسل(1017/38)
باسمه كلما أراد نشره في البلاغ.
وفي مقاله الأسبوعي في أخبار اليوم هذا الأسبوع عبارات قوية، تصور مدى التحول الذي وصلنا إليه أخيرا بعد أن اجتزنا فترة الانتقال الطويلة المريرة.
وخلاصة ما يقول الأستاذ إبراهيم المصري:
أولا: أن التعصب الثقافي قد استفحل في نفوسنا إلى حد أن أصبح تحقيق التفاهم بين عناصرنا المثقفة أمرا عسيرا شاقا.
ثانيا: تضاربت الميول والأهواء بين من تلقوا العلم في إنجلترا أو فرنسا أو أمريكا.
ثالثا: علينا أن نجعل ثقافتنا عالمية، فنقدس الفكر نفسه، لا الفكر الممثل في ثقافة معينة، وأن نقدس الفكر الحر لا الفكر المقيد بوجهات نظر خاصة.
رابعا: الأخذ بثقافة معينة ضرب من العبودية الفكرية سرعان ما تنتهي إلى عبودية سياسية واقتصادية.
خامسا: علينا أن ننهل من شتى ثقافات العالم، وعلينا أن ندرك أن ثقافة الهند والصين لا تقل عن ثقافة الفرنسيين والإنجليز.
وهذا الذي يصوره الأستاذ إبراهيم المصري هو لا شك (نقطة التحول) في ثقافتنا الحديثة في الشرق، فقد انتهى الزمن الذي كنا نؤمن فيه بالثقافة الغربية، أو الحضارة الغربية على أنها شيء مقدس. ولقد دب الشك في قلوب القوامين على هذه الحضارة أنفسهم، فلم يعد بد من أن نتحرر ونتحرز، ونستخلص ونوازن، وألا نتعصب لها، وأن نأخذ منها ما يزيد كياننا الشرقي قوة ويدفعنا إلى الأمام، ونحن متحررين، لا مقيدون.
الأدب السوري في طريق النهضة
تحدث الأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة الحديث الحلبية في الإذاعة المصرية عن الحركة الفكرية في سوريا فقال: إن ما نشر حتى الآن من الإنتاج السوري قليل بالنسبة لما في خزانات الكتب. وأضاف بأن المجمع العربي، والمعهد الفرنسي للدراسات قد قاما بطبع عشرات الكتب الأدبية والتاريخية وبعض دواوين الشعر والمؤلفات المترجمة في شتى الميادين من الأدب والتاريخ، وأشار إلى أنه إذا كان الجانب الأدبي أغلب على الأدب كمرجع ذلك إلى (أننا لا نزال في بدء حركتنا الفكرية ولأنه ألصق بالنفس من سائر فروع(1017/39)
العلم).
وعندما تناول أثر النزعات الأدبية الغربية في الاتجاهات الحديثة في الأدب العربي السوري قال (لا نكران أن سوريا بعد أن ظلت في غيبوبة تحت حكم العثمانيين قد استيقظت على ماضيها وهو ماض ملئ بالأمجاد، وهي حريصة على ذلك التراث الضخم، وراغبة أن تظل وثيقة الاتصال به وأن تستلهمه في كثير من منازعها).
ثم أضاف قوله (وإن ذلك لم يمنعها من أن تلتفت إلى الغرب وأن تأخذ عنه وأن تسير مسرعة الخطى في ركابه).
وقال الأستاذ الكيالي (إن سوريا مأخوذة بحضارة القرن العشرين، الحضارة التي ابتدعتها أوربا وصقلتها أمريكا، وهي تعيش في ظل ما ابتدعته، تقرأ أدب الغرب وعلمه وفلسفته، وتقتبس منه، وتتهذب بشتى مذاهبه، ولكن الحضارة الغربية التي كانت تنزل منزلة القداسة من نفس السوري قد تزلزل إيمانه بها أو كاد، وأخذ يفك بقيمتها الروحية بعد ما شاهده من هدر الكثير من المبادئ والمثل العليا.
وأضاف قوله (أن الأدباء السوريين يجارون مفكري الغرب في مناهجهم، ويقبسون من عملمهم، وفنهم، ولكنهم يحذرون كل الحذر من أن ينصهروا في البوتقه الغربية، وهم إذ يعالجون القضايا، يعالجونها بروح إيجابية حذرة مشدودة إلى الماضي الذي أبدع الحضارة العربية.
(وهم من تطلعهم إلى المستقبل لا يقطعون صلتهم بالماضي، بل لهم من الماضي هذا الحافز القوي، ممثلا في صور أولئك المغامرين الذين فتحوا الدنيا القديمة).
وأشار الأستاذ الكيالي إلى ظاهرة واضحة في الحركة الفكرية في سوريا وهي أنه لم تبدأ بعد المرحلة التي يستطيع فيها الأدب السوري أن يعطى كما يأخذ، وأن إنتاج سوريا الأدبي لم يصدر بعد إلى الخارج ولم يترجم إلى لغة أجنبية؛ ذلك لأنه - في رأي الأستاذ الكيالي - لا يزال ضعيفا.
وختم حديثه بقوله. . . (إن الأدب السوري اليوم ينفض عن نفسه غبار السنين ويسير سيرا وئيدا، ولا عليه أن يتعجل الزمن، ولكن المهم أن يتسم بطابع الخلود. . . ولن يطول الزمن قبل أن يعطي أعظم الثمرات).(1017/40)
هذه خطوة سريعة لمحاضرة الأستاذ الكيالي، ونحن نرى أن الأستاذ كان متواضعا غاية التواضع، فالأدب السوري بعيد الجذور في تربت الأدب العربي الحديث، هذا الأدب الذي بدأ في المهجر على يد جبران والريحاني ونعيمه وغيرهم. . . ثم مد جناحيه على سوريا ولبنان في صور أولئك الكتاب النابهين الذين نقرأ لهم أمثال كرم ملحم وألبير أديب وسامي الكيالي ومروان عبود. وغيرهم وغيرهم.
أمين الرافعي
يصادف موعد صدور الرسالة اليوم (29 ديسمبر) ذكرى (أمين الرافعي) فحق على الرسالة أن تحيي هذا الكاتب العظيم الذي توفى في هذا اليوم سنة 1927 وترك من ورائه ذكرا يعبق بالعطر المقدس، ويرسم صورة للبطولة المثالية في ميدان الأدب والفكر والصحافة والسياسة.
ولسنا الآن بصدد الحديث عن شمائل هذا الرجل العظيم، الذي عاش مؤمنا بفكرته، مجاهدا لها، في وقت كانت سحب الظلام تغمر كل مكان. . ولكننا نرجو في هذه المناسبة أن يتفضل شقيقه الأستاذ عبد الرحمن الرافعي فيتيح لنا الفرصة للقيام بواجب الذكرى نحو الكاتب الكبير، فهو وحده صاحب المفتاح الأول في تخليد ذكرى شقيقه.
رسالة الكاتبة مليحة
وصلتني في اللحظات الأخيرة، رسالة مطولة من الكاتبة العراقية النابغة (مليحة). . . تتحدث فيها عن الأدب النسوي وتعارض رأي الكاتبة المصرية (ليلى مسلم). . . وأرجو أن أفصل القول في الموضوعات التي عرضت لها كاتبة الرافدين في العدد القادم. . .
أنور الجندي(1017/41)
البريد الأدبي
باكستان لا غير
قرأت في عدد الرسالة (1015) كلمة قيمة للأديب الباكستاني محمد كاظم سباق. يذكر فيها أن الأدباء والكاتبين ليسوا على رأي واحد في جواز تحلية كلمة (باكستان) بالألف واللام فيقال (الباكستان) أو امتناع هذه التحلية فيقال باكستان لا غير، وذكر أن قواعد النحو العربي تمنع صرف هذا الاسم للعلمية والعجمية، وبناءا على هذا لا يجوز عربية أن يرفع بأل. ثم طلب في ختام كلمته إلى أحد أساطين النحو في بلاد العروبة أن يفصل في هذه المسألة بحكم قاطع يرفع هذا الخلاف، حتى تكون باكستان محل وفاق لفظا، كما هي في حقيقتها محل اتفاق وائتلاف. هذا ويسرني أن أجيب الأديب الباكستاني عما طلب. فقد راجعت كتب النحو المعول عليها قديما وحديثا مثل شرح الرضى على كافية ابن الحاجب، وشرح ابن يعيش على مفصل الزمخشري، وشرح السريافي على كتاب سيبويه وغيرها من كتب القواعد، فلم أجد أحد من علماء العربية أجاز إدخال (أل) على مثل هذا العلم من الكلمات التي نطق بها العرب على لفظها الأعجمي. والمراد بالأعجمي ما خالف لغة العرب لا خصوص اللفظ الفارسي. سواء في هذا أعلام النواحي وأعلام البلاد أو غيرها. من ذلك أذربيجان وخرا سان وسجستان وجرجان وأصبهان وتركستان. فهذه كلمات وأمثالها يمتنع تعريفها بالألف واللام لأنها معارف بالعلمية ولا يجتمع في الكلمة معرفان. إذا تقرر هذا علمنا أن باكستان بدون أل هو الصواب ليس غير.
عبد الحميد عنتر
النهلست ليست الفوضى
جاء في مقال الدكتور عمر حليق المنشور في العدد 1014 من (الرسالة) الغراء ما يلي:
(. . . ومن هنا يفسر علماء النفس الاجتماعي تقبل العقلية الروسية للمبدأ الفوضوي (النهلستي). . .)
أما أي الكلمتين أصح، الفوضي أم الفوضوي، فنترك البت في ذلك للعلامة اللغوي الأستاذ أحمد حسن الزيات. ولكني وددت أن الفت نظر الدكتور إلى أن الفوضوي غير النهلستي.(1017/42)
وما دمنا نبحث بحثا علميا فينبغي ألا نخلط بين كلمتين، تكون كل منها مذهبا سياسيا لوحده، كان له أنصاره ومشايعوه، وأعداؤه ومناهضوه.
فكلمة الفوضوي مأخوذة من المذهب المسمى في اللغة وقد عرفه قاموس لاروس بما ترجمته:
(نظام سياسي واجتماعي ينمو فيه الفرد بحرية متحررا من كل وصاية أو حكومية؛ أو هي حالة شعب لا رئيس له، وحيث السلطة الحكومية مغلولة أو معطلة أو هو اضطراب وفوضى.)
وجاء في هذا القاموس تعريفا لكلمة النهلستية ما ترجمته:
(إن الكلمة مأخوذة من اللاتينية التي تعني التلاشي والعدم وإلغاء كل شيء. وإنكار كل اعتقاد. . .)
وكذلك ورد في قصة الكاتب الروسي تورنجنيف (الآباء والبنون) التي نقلتها إلى العربية الأستاذ ذا النون أيوب، شبه هذا التعريف، أنقله كما ورد في النسخة الفرنسية ممزوجا بالحوار:
' ' , ,
'
وعرف كلمة أنها رأي أو نظرية الفوضويين فما رأي البحاثة الدكتور عمر حليق؟
أكرم فاضل
(الرسالة) الاسم المقصور الرباعي الساكن الثاني كفوضي ينسب إليه بحذف الألف أو بقلبها واو.
طه حسين بين الأدب والسياسة:
قرأنا تحت عنوان (طه حسين بين الأدب والسياسة) بالعدد الرقيم 1015 من الرسالة ما كتبه الأديب عبد اللطيف فايد معقبا على ما كتبه كاتب من الكتاب في صحيفة المصري مفتريا على الحقائق عن علم وعمد، ثم تعليقكم كذلك وقد دافعتم عن الحق وأنصفتم مستحق(1017/43)
الإنصاف.
وأرجو أن تسمحوا لي بأن أعلق على ما كتبه هذا الكاتب فأقول: إن هذا الكلام لم يكتب عن إيمان ولا اقتناع؛ ولا هو كتب كذلك عن جهل، بل كتبه عن علم وعمد بأنه يخالف الواقع وحقيقة الحال مخالفة صارخة، بل إن هذا الكلام قد كتب عن هوى آثم. فالذي يتصدى للكتابة في الصحف عن العلوم والفنون وعن الأدب والأدباء لا يمكن أن يجهل حقيقة طه حسين ولا أن يكون مقتنعا بمثل هذا الذي تضمنه المقال. وليس ذلك في مصر فحسب بل في الشرق كله. ولا تحسبنا مبالغين إذ نقول أنه ما من أديب أو ناقد اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يجهل حقيقة طه حسين ويمكن أن ينساق إلى ما انساق إليه الكاتب فيصف الأستاذ العميد بمثل ما وصفه الكاتب. ورأيي أن المقال كان جديرا بأن يهدر جملة ولا يعلق عليه ولا يشار إلى كاتبه برغم أنكم صححتم الأوضاع واعترفتم لصاحب الفضل بفضله وسجلتم صفحة فخار مجيد لعميد الأدب، فاعتقادنا الكاتب بمقاله أراد شيئا غير ما تضمنته عباراته من كلمات ومعان، أراد به أن يثير معركة أدبية يكون هو بطلها! ولا عليه أن يكون ذلك على حساب رجل ظاهر الفضل كريم عف القلم عف اللسان. وثمة نفوس تستهويها الغاية ولا تعبأ بالوسيلة.
ألم يبلغ علم الكاتب أن طه حسين كان الكاتب المضطهد في عصر الملكية وأنه كان يسافر إلى الخارج فيحال بينه وبين العودة إلى الوطن وتشترط في سبيل عودته الشروط.
ألم يبلغه أن طه حسين كان يكتب في كبرى صحف مصر فتتدخل السراي - أو يتدخل أذنابها - ليحال بينهم وبين هذه الكتابة، وأن اللجان المختصة كان يقع اختيارها على كتبه لتقرأ أو تدرس في المدارس أو تكون محل تقدير فيتدخل كذلك ليحال دون هذا الاختيار أو يحال دون تنفيذ القرار؟
كان على الكاتب أن يتقي الله في الناس. فطه حسين مثل يحتذي في الإصرار على الحق والثبات على المبدأ والاعتزاز بالكرامة.
ولعل من اليسير أن يعلم الناس - فما بالنا بالأدباء والنقاد والكتاب - أن انضمام الدكتور إلى الوزارة الوفدية كان لها نصرا بل كان لها فخرا. وقد سعت إليه كل السعي وهو قد قبلها تحت تأثير فكرة واحدة هي تنفيذ السياسة التي يعتنقها في التعليم؛ وبرغم حرصه على(1017/44)
تحقق فكرته ومنهاجه فإنه لم يسع إلى الوزارة أبدا. وقد كان بين أفراد قلائل لم يفسدهم الحكم ولا غير من طبعهم المنصب. وأخيرا لقد كان واحد اثنين أثنى على عملهما يوم أقيلت الوزارة الأستاذ الكبير الزيات: والزيات كما يعلم الناس يزن ألفاظه بميزان غاية في الدق وغاية في الحساسية وشهادته شهادة حق وعدل.
وبعد فهذا هو طه حسين كما هو وكما يعلمه الناس. . فليبحث كاتب المقال عن شيء آخر يلفت به نظر الناس إليه.
بالإسكندرية
محمود وصيف
الوجبة قديماً وحديثاً
الوجبة عند العرب: الأكلة ونحوها كل يوم وليلة. يقولون: أكل وجبة إذا أكل مرة واحدة في كل أربع وعشرين ساعة ولا يقولون أكل وجبتين أو ثلاث وجبات في اليوم. وأما الآن فتستعمل الوجبة في كل أكلة في أي وقت من أوقات الفطور أو الغداء أو العشاء فيقولون تناول وجبتين أو ثلاث وجبات في اليوم وتناول وجبة الفطور أو الغداء أو العشاء: وهذا الاستعمال صحيح وإن خالف الوضع العربي لأن العبرة بعلة التسمية؛ ألا ترى أن العرب سموا الأكلة الواحدة في كل أربع وعشرين ساعة وجبة لأنها قد وجبت أي حقت وثبتت ولزمت وحلت وجاء ميعادها وهم حددوه بيوم وليلة. ونحن سمينا الأكلة الواحدة كل ست ساعات مثلا وجبة لما سبق فالعلة واحدة وهي الوجوب أي حلول الميعاد، والخلاف محصور في التحديد والتعين وهذا لا يؤثر في صحة الاستعمال. ألا ترى أن (الحاجب) قديما هو بواب الملك أو الخليفة وكان موظفا كبيرا له شأنه، وهو الآن عبارة عن بواب لموظف كبير، وهو معدود من الخدم والسعاة! وعلة التسمية متوفرة وهي الحجابة والحراسة وإن تفاوتت اصطلاحا ولا معارضة في الاصطلاح الحديث خصوصا إذا كان لا ينافي الاصطلاح القديم.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي(1017/45)
القصص
هدية رأس السنة
للقصصي الفرنسي جي دي مو باساق
بقلم الأديب سعد رضوان
تناول جاك دي ريندال عشاءه ثم صرف خادمته وجلس يحرر بعض الرسائل فقد كانت عادته دائما في نهاية السنة المنصرفة أن يجلس وحيدا يكتب رسائل وهو يحلم متخيلا كل ما حدث له في السنة الماضية، فإذا ما تذكر صديقا خط له بضعة أسطر مهنئا إياه بالعام الجديد، ولهذا جلس الآن إلى مكتبه ثم فتح درجا وأخرج منه صورة لامرأة حدق فيها قليلا ثم قبلها ووضعها بجوار الورقة وشرع يكتب:
(عزيزتي أيرين:
لا شك أنك تسلمت كتاب التهنئة الذي أرسلته إليك ولكني قد حبست نفسي في هذا المساء لأخبرك. . .)
وتوقفت الريشة عن الكتابة وقام جاك ليسير جيئة وذهابا.
لقد حلت به في العشرة أشهر الماضية مصيبة - ليست كمصائب الآخرين من المخاطرين أو الممثلين أو المتشردين - ولكنها امرأة أحبها واستولى عليها.
وجاك ليس صغيرا برغم أنه يبدو شابا، كما أنه ينظر إلى الحياة نظرة جدية مطلقة، لهذا أخذ يزن غرامه، كما كان يزن كل عام صداقاته القديمة والجديدة والأعمال التي مرت به وكذا الرجال الذين دخلوا حياته.
لقد خبت جذوة غرامه الأولى، ودقق مع نفسه كما يدقق التاجر عندما يضع حساباته فأخذ يسألها: ما هي ميوله نحوها وحاول أن يخمن ما ستكون عليه في المستقبل فوجد في نفسه أثرا عظيما وعميقا هو مزيج من الرغبة والشكر ومن آلاف من العواطف الأخرى التي تأتي عند انتهاء الربيع.
وأفاق على دق جرس الباب فتردد في أن يفتح، ثم قرر أن المرء في عيد رأس السنة يجب عليه أن يدخل الطارق أيا كانت شخصيته، لهذا أخذ شمعة واخترق الصالة ثم شد الترباس(1017/47)
وأدار المفتاح. . . فرأى حبيبته واقفة أمامه مستندة بيدها على الحائط وهي صفراء كالميتة فسألها:
(ماذا حدث؟)
فأجابت: هل أنت وحدك؟
فقال: نعم!!
فقالت: ولا؟
فقال: ولا خدم نعم!!
فقالت: ألست خارجا؟
فقال: لا!
فدخلت الشقة كالمعتادة على الدخول فيها ثم اتجهت إلى قاعة الاستقبال حيث ألقت بنفسها على إحدى الأرائك، وغطت وجهها بيديها وانفجرت في البكاء، فركع بجانبها وحاول أن يرفع يديها من على وجهها ليرى عينيها وهو يقول، (أيرين، أيرين ما الذي حدث؟ أتوسل إليك أن تخبريني عما جرى؟).
فأجابت وهي تتشنج، (لا أستطيع أن أظل هكذا)
ولم يفهم فسأل، (كيف؟)
- نعم، لا أستطيع أن أعيش هكذا. . في المنزل. . إنك لا تعلم. . إنني لم أخبرك. . إن هذا فضيع. . لا أستطيع أن استمر. .
لقد قاسيت كثيرا. . لقد ضربني الآن. . .
- من؟ زوجك؟
- نعم زوجي
- آه. . .
ودهش كثيرا فلم يكن يظن أن زوجها وحش، فهو رجل مجتمع، ومن أحسن العائلات، وهو رجل أندية ومن المترددين على سباق الخيل وعلى المسرح، وهو معروف وله قدره في كل مكان لأخلاقه الحسنة وبديهته الحاضرة وذكائه ولتقبله النقد بصدر رحب هذا إلى جانب عنايته بزوجته واهتمامه برغباتها وبصحتها وملابسها وبكل ما يتعلق بها، وهو يمنحها(1017/48)
الحرية التي تطلبها ويرحب برايندال باعتباره صديقا لزوجته ككل الأزواج المؤدبين. . إن رايندال لم يكن يظن أن العاطفة تخل هذا المنزل لذا دهش كثيرا لهذا الحديث غير متوقع وسأل (كيف حدث هذا؟ أخبريني. . .)
وقصت أيرين عليه قصة طويلة. . قصة حياتها من يوم أن تزوجت. . وقصة الخلاف الذي بدأ بسيطا ثم اتسع هوته مع الأيام فكثر شجارهما إلى أن انفصلا وإن لم يظهرا شيئا لأحد، ثم تحول زوجها إلى وحشا مجنونا وهو الآن يغار عليها منه، واليوم قد ضربها لأجل ذلك بعد شجار عنيف. . .
وختمت قصتها مؤكدة، (إنني لن أعود، ويمكنك أن تفعل بي ما تريد)
وكان جاك قد جلس أمامها وقد تلاصقت ركبتاهما فأمسك يديها بيديه وقال: (يا عزيزتي، يا صديقتي العزيزة، إنك تقدمين على غلطة كبيرة. . إذا أردت أن تتركي زوجك فاجعليه هو المخطئ حتى يكون مركزك كامرأة لا غبار عليه في المستقبل)
فحدقت أيرين فيه بعيون قلقة وهي تسأله: (وبماذا تنصحني أن أفعل؟)
- اذهبي إلى منزلك حتى تحصلي على الانفصال أو الطلاق من زجك
أليس في نصيحتك هذه شيء من الجبن؟
- كلا، فهذا هو الطريق الطبيعي لأن لك اسما ومركزا وأصدقاء وأقارب يجب أن تحافظي عليهم.
فقامت وقالت بحدة: (حسنا، لقد انتهى كل شيء. انتهى. . انتهى)
ثم وضعت يديها على كتف عشيقها ونظرت في عيني وهي تسأله: (هل تحبني؟)
فأجاب: طبعا
فقالت له: أهذا صحيح
فقال: طبعا
فقالت إذن أبقيني عندك
فصرخ: (كيف أبقيك! في بيتي! هنا! لا بد أنك جننت! ستضيعين إلى الأبد. . لقد جننت. .)
فقالت ببطيء وخشونة كمن يزن كلماته: (اسمع يا جاك، لقد منعني من رؤيتك ثانية، كما لم(1017/49)
أعد أستطع أن أستمر في لعبة المقابلات السرية، فإما أن تبقيني وإما أن تفقدني)
فقال: في هذه الحالة يا حبيبتي تطلقي وسأتزوجك
فقال: نعم ستتزوجني بعد سنتين على الأقل، إن حبك لصبور
فقال لها: اسمعي، فكري مرة أخرى. إنك إذا عشت هنا فسيأخذك غدا لأنك زوجته والقانون معه
فقالت: إنني لم أسألك أن تبقيني هنا يا جاك، إني أريدك أن تأخذني بعيدا في أي مكان، لقد ظننت أنك أحببتني حبا كافيا لتفعل ذلك، ولكنني أخطأت. . . الوداع
واستدارت وأسرعت إلى الباب فأمسكها وهي على وشك الخروج وقال:
- اسمعي يا أيرين. . .
فجاهدت ألا تسمعي شيئا آخر، وتمتمت وعيناها مليئة بالدموع وقالت: (اتركني. . اتركني. ولكنه أجلسها بالقوة، ثم ركع إلى جوارها وحاول بالنصح تارة وبالنقاش أخرى أن ينبهها إلى خطئها وإلى خطورة خطتها مستعملا كل طريقة ممكنة ليحملها على أن تترك هذا (الجنون) متوسلا إياها أن تستمع لنصيحته لكنها بقيت بكماء باردة
فلما انتهى قالت، (هل أنت على استعداد لتركي اذهب الآن؟. . لا تمسكني فأنا لا أستطيع أن أقوم.)
فقال: اسمعي يا أيرين
فقالت: أتسمح فتتركني
فقال: أيرين هل صممت على هذا؟
فقالت: اتركني اذهب
فقال: حسنا أبقي. . . أنت تعلمين أنك هنا في منزلك، وغدا سنذهب بعيدا
فأصرت على أن يتركها تقوم وقالت في نغمة خافتة، (كلا لقد تأخرت، فأنا لا أريد تضحية.)
فقال: إبقي، لقد فعلت كل ما هو واجب علي أن أفعل، وقلت كل ما وجب علي قوله، فليس علي أية مسئولية حيالك بعد ذلك وضميري الآن مستريح، وما عليك إلا أن تخبرينني برغبتك فأطيع(1017/50)
فجلست ثانية ونظرت إليه وسألته بهدوء، (حسنا، اشرح لنفسك. . .)
فقال: ماذا؟ ماذا تريد أن اشرح لك؟
فقالت: كل شيء، كل ما فكرت فيه حتى غيرت رأيك هكذا وعلي أن أقرر بعد ذلك
فقال: إنني لم أفكر بتاتا. . . إنما كان من واجبي أن أعرفك أن ما انتويت جنون. . فلما لم تحيدي عن رأيك رأيت أن أشاركك جنونك.
فقالت: أنه ليس من طبعي أن يغير الإنسان رأيه هكذا سريعا
فقال: اسمعي يا عزيزتي، يا صديقتي العزيزة، إنها ليست مسألة تضحية. . ففي اليوم الذي عرفت فيه أنني أحبك قلت لنفسي - كما لا شك أن كل محب يجب أن يقول هذا لنفسه في نفس الظروف - إن الرجل الذي يحب امرأة ويحاول أن يجعلها له عليه واجبات لا لنفسه فقط بل للمرأة التي يحبها، وأنا أعني بلا شك المرأة التي هي مثلك وليست المرأة السهلة. . . إن للزوج فائدة اجتماعية وقانونية كبيرة ولكنه في نظري ليس له إلا فائدة روحية. . روحية بسيطة حينما ينظر المرء إلى الإحساس الذي أخذت هذه العلاقة مكانها على مقتضاه. . . لهذا فإن المرأة المربوطة بهذا الحبل لا تحب زوجها ولا يمكنها أن تحبه ستقابل شخصا تحبه وتهبه نفسها، فإذا أحتل رجل أعزب مكانة العشيق فهذه العلاقة تتطلب تبعات كثيرة أعظم من قولة نعم أمام القس، فإذا كان الاثنان شريفين فسوف يكون ربطهما أقوى وأمتن من ذلك الذي يعقد في الكنيسة. . . إن المرأة تضحي كل شيء، وهي تعرف هذا، فهي تعطي قلبها وجسمها وروحها وشرفها وحياتها لأنها تعرض نفسها للخطر من قتل زوجها لها ومن نبذ المجتمع إياها وما إلى ذلك مما يجعلها جديرة بالاحترام في عين حبيبها الذي يجب عليه أن يعد العدة لمواجهة كل شيء يحدث. . . وليس لدي شيء آخر أضيفه غير ما قلت، لقد تكلمت أول الأمر كعاقل من واجبه تنبيهك ولكني الآن رجل فقط. . رجل يحبك وينتظر أمرك. .)
وبحركة مغرية أقفلت له فمه بشفتيها ثم همست:
- يا حبيبي، لم يكن هذا صحيحا، فإن شيئا من ذلك لم يحدث وزوجي لم يشك في شيء لكنني أردت أن أعرف ماذا تفعل. . لقد أردت أن آخذ هدية رأس السنة. . . هدية أخرى غير العقد الذي أرسلته إلي. . وهي حبك، ولقد أعطيتني إياه، فشكرا. . . وشكرا. . . أوه(1017/51)
يا ربي! ما أسعدني!
سعد رضوان(1017/52)
العدد 1018 - بتاريخ: 05 - 01 - 1953(/)
من عهد إلى عهد
بهذا العدد تدخل الرسالة في سنتها الحادية والعشرين فتدخل هي ومصر في عهد بادئ كله رجاء، بعد أن خرجت هي ومصر من عهد بائد كله شكوى.
كانت مصر في العام الماضي قد دب في حسها الوعي من طول ما وخزتها الأقلام وأرمضتها الآلام وقرعتها القوارع؛ فأدركت أن فوق عرشها ملكاً خليعاً جعل نصفه البهيمي للزنى والميسر والدعارة، ونصفه الآدمي للربا والنهب والتجارة؛ وأن على حكمها عصابة من مصاصي الدماء غايتهم السلطان والغنى، ووسيلتهم الطغيان والفساد؛ وإن على أرضها عدواً ثقيلاً جثم على صدرها جثوم المقطم لا يخف ولا يتحلحل، يحتل مأواه بالقوة، ويأخذ قراه بالسيف، ويبسط ولايته على المضيف بالقهر، ويفرض حمايته على القنال بالقحة؛ فثأر ثائر الشباب الجامعيين على الملك وبطانته فلطخوهم جهراً بالعار؛ وهاج هائج الأحرار المطهرين على الحكام فوصموهم صراحة بالخزي؛ وجاشت صدور الأخوان المسلمين على الإنجليز فآذنوهم فعلاً بالحرب!
وكانت خيانة الأوغاد للجيش الباسل في الحرب الفلسطينية قد فعلت فعلها في نفوس قواده، فتقصصوا أثرها حتى وجدوا أقدامها القذرة تنسل من قصر عابدين، وتطوف سراً على أهلها في دواوين الوزارة وأواوين الإمارة ومواخير الفسق؛ ثم تمضي مقنعة بالجاه، محروسة بالنفوذ، محاطة بالتلصص، حتى تدخل على القوات المحاربة الغالبة بالهدنة الغادرة والأسلحة الفاسدة والأوامر الخادعة؛ فغلت صدور الضباط الشباب من الحمية والحفيظة، فأخذوا ذلك الملك الماجن من قفاه الغليظ وألقوه في البحر؛ وقبضوا على حاشيته الفاجرة وطرحوهم في السجن، ولببوا الساسة المريبين وحجزوهم في المعتقل، وركلوا الموظفين المجرمين ورموهم في الشارع!
ثم فتحوا أبواب الصلاح والإصلاح على عهد جديد مشرق النور خالص الطهر صادق العزيمة، يرجون فيه ونرجو أن يقروا حياة مصر على الوضع الصحيح، وأن يقيموا سياستها على النهج الواضح، وأن يرفعوا بنيها إلى مقام الإنسان الحر المريد، فيملكوا باسمه وينزلوا على حكمه، ويعيدوا أرض آبائه إليه، ويردوا غلة أرضه عليه، ويشعر بأن له قولاً يُسمع ورأياً يُطاع وحُكماً ينفذ.
والرسالة تدخل في هذا العهد المبارك مع الداخلين، بعد أن مهدت له عشرين سنة مع(1018/1)
الماهدين، تدخل وهي راضية مغتبطة، رضا من عمل فأثمر، واغتباط من أمل فتحقق أمله. لقد كان في ذلك العهد الفاسد تقف مع الهداة على الجادة تنظر وينظرون بالأعين العبرى إلى القافلة المصرية وقد خدعها السبيل، وأضلها الدليل؛ فضلت ضلال القطيع لا راعي له، وشردت شرود الهائم لا إدراك به، فينادون ولا سميع، ويأمرون ولا مطيع، وينذرون ولا مستبصر!
وكان الوقت الذي أضيع في الشرود، والجهد الذي أنفق في الهداية، خليقين أن يلحقا القافلة بالركب العام، ويدنيا الأمة من الغاية الجامعة.
ولكن الضال لا يهتدي حتى يعلم، والجاهل لا يعلم حتى يعي. ولولا غفلة الساسة ما كان وعي الأمة. ولولا عبث فاروق ما كان جد الجيش.
ولم يكن فسوق الخليع شراً كله؛ فان الله الذي يخرج الحي من الميت، ويبني الكون من الفساد، ويخلق الترياق من السم، قد جعل من سقوطه رفعة للشرق أدانيه وأقاصيه
كانت سقطته عن العرش رجة في جميع الأرض؛ فتحت الأعين، وجرأت القلوب، وزلزلت الأوضاع، فبرقت في سورية بروق الأمل، وانقشعت في السودان غيوم الحذر، ورعدت في تونس ومراكش رعود الثورة
كان الأدب في العهد البائد صوراً متنافرة من القلق والملق والنفاق والتقية والجبن؛ لأن الأديب لم يجد رعاية من الملك لأنه جاهل، ولا عناية من الشعب لأنه غافل؛ فاضطر إلى أن يهاوى أصحاب الحكم ليسلم، ويصانع رجال السياسة ليغنم، ويتملق دهماء الناس ليعيش وكان الملك على جهله بالأدب وبعده عن الدين، تنظم في مدحه القصائد الغر، وتحرر في فضله الفتاوى البكر، وتركب وزارة الأوقاف ونقابة الأشراف المركب الوعر لتجدا لسليل الترك والفرنسيين نسبة مباشرة إلى الرسول العربي القرشي محمد بن عبد الله! ولم يكن كل ذلك سبيل الزلفى إليه ولا التفوق لديه، وإنما كان السبيل إليهما مهارة في الصيد، أو براعة في القمار، أو كفاية في كسب المال، أو لباقة في جلب المراء. والناس على دين ملوكهم. والأدب يكون كما يكون الناس.
أما الأدب في العهد البادئ فالمرجو أن يكون مستقلاً كدولته، حراً كلمته، صريحاً كسياسته، نقياً كطبيعته، متسقاً كمجتمعه. والمظنون أن سيكون لجهاد (الإخوان) أثر بالغ في هذا(1018/2)
العهد. وانتصار الإخوان انتصار للقرآن، وعودة السلطان إلى القرآن عودة لسلطان اللغة والبيان؛ فإنهما لسان الله بالوحي، ومعجزة الرسول بالتحدي، وأسلوب الرسالة في الدعوة. وسيزدهران بازدهاره، وينتشران بانتشاره، ويخلدان بخلوده.
أحمد حسن الزيات(1018/3)
كلمات خمس
لحضرة صَاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت
طالعتنا النهضة الجديدة بخمس كلمات، لو أمعنا النظر فيها وعرفنا دلالتها ومغزاها، ثم رجعنا إلى تاريخ المجتمعات البشرية، وتتبعنا العوامل التي هيأت لها القوة في أطوار قوتها، والعوامل الأخرى التي أنزلت بها الضعف في أطوار ضعفها - لوجدنا هذه الكلمات تعبيراً صادقاً عن عوامل الضعف التي يجب أن تكافح، وأن تقضي عن محيط الحياة الجماعية للإنسان، ولوجدناها في الوقت نفسه تعبيراً صادقاً كذلك عن العوامل التي يجب أن تتخذ أساساً لبناء المجتمع عليها. تلكم الكلمات هي: التحرير، والتطهير، والاتحاد، والنظام، والعمل.
كلمات خمس، نطقت بها طبيعة إنسانية بريئة، صيغت على الإيمان بالله واستشعار عظمته، وتفرده بالملك والسلطان، فلم يمسها دنس الطغيان، ولا خبث الرجس ولا عصبية التفرق، ولا عبث الفوضى، ولا ترف العجز والكسل. وكان منها العلاج القوي من جراثيم المرض الذي يقعد بالمجتمعات عن مواصلة السير في سبيل الحياة النافعة، وكان منها مزيج القوى التي تدفع بالمجتمعات إلى بلوغ أقصى درج الكمال الممكن للإنسان في هذه الحياة.
وهي بعد هذا وذاك تصور بمعناها ووحيها المبادئ الإلهية التي جاء بها الإسلام ليعتمد الإنسان عليها في الوصول إلى الأهداف السامية النبيلة، ويحقق بها حكمة استخلافه في الأرض. فالإسلام يدعو إلى تحرير العقل من أسر الوهم والتقليد، ويدفع بالإنسان إلى النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ، ليتعرف أسرار الله في خلقه، ونواميسه في كونه، ويتخذ منها وسائل العمران والتقدير. وهو المعبر عن خصائص ما خلق الله، يقرر أن للإنسان إرادة مستقلة هي أساس مسئوليته، ومرجع محاسبته، وبها تتحقق إنسانيته، وبها يكون جزاؤه، ويعلن أن على الإنسان أن يحتفظ بتلك الإرادة احتفاظه بإنسانيته، وأن على الجماعة البشرية أن تمكنه من الاحتفاظ بها والرجوع إليها، وبذلك لا يقبل الإسلام من الإنسان وقد كرمه الله هكذا بالعقل والإرادة أن يطفئ مصباح الكون على عقله، ولا أن يسلم عقله لعقل غيره، ولا أن يذيب أرادته في إرادة غيره، ولا أن يجعل نفسه ظلا لغيره: يسكن إذا سكن، ويتحرك إذا تحرك، وينحرف إذا انحرف ويستقيم إذا(1018/4)
استقام، ويؤمن إذا آمن، ويكفر إذا كفر، وأخيرا يحيا إذا حي، ويموت إذا مات.
وفي سبيل هذا كله فتح الله للإنسان كتاب كونه، وأرشده إلى أبواب ثمانية في أية واحدة من كتاب وحيه، ثم ذيلها بما يوجه أرباب العقول إلى ولوجها واستثمار ما يصلون إليه منها في قوة الإيمان، وتقدم الحياة. واقرأ في ذلك قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحابالمسخر بين السماء والأرض، لآيات لقوم يعقلون). ثم قرأ قوله تعالى في تحرير العقل ونعيه الشديد على من أهمل عقله، وحرم نفسه نعمة النظر والتفكير (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ؟) وقوله (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) وقوله (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون. قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون، فانتقمنا منهم فأنظر كيف كان عاقبة المكذبين).
ثم أُنظر قوله تعالى في تحرير الإرادة واحترامها (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا). وقوله حكاية عن موقف الأتباع من المتبوعين بعد أن أسلموا إليهم إرادتهم وحريتهم، وعاينوا مسئوليتهم وحسابهم على ذلك (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم ضعفا من العذاب، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون). (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار).
بتحرير الإسلام عقل الإنسان وإرادته هكذا، كافح أن يستعبد الإنسان فمنع أن يسترقه بالبيع والشراء، وقصر ذلك على أن يكون جزاء لمن حارب دعوة الله ووقف في سبيلها، وقاتل المؤمنين بها، لا شئ سوى أنهم آمنوا بها، ومع ذلك فقد حبب في فك رقابهم وكفر به كثيراً من الأخطاء الدينية، وجعل فك الرقبة، العقبة التي إذا ما اقتحمها الإنسان كان من أصحاب الميمنة (فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيماً(1018/5)
ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة).
ومنع أن يسخر الإنسان بالعمل والخدمة، وأن يتخذه آلة في سبيل شهوته وهواه، وجعل قيام الناس بالقسط، وتمكين كل ذي حق من حقه - فردا كان أم جماعة - الهدف الذي جاءت به الرسل، ونزلت لأجله الكتب (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
وإذا كملت للإنسان حريته في عقله وإرادته، واستقام له أن يفكر وأن يريد، وارتفعت عنه يد الضغط والتسخير، وجب عليه أن يخطو الخطوة الثانية، فيطهر نفسه من الأخلاق الرديئة التي تنزل بإنسانيته عن المستوى الذي كرمها الله به، والتي تفسد عليه وجوه الانتفاع بحريته؛ فلا يحقد، ولا ينافق، ولا يجبن، ولا يبخل، ولا يشي، ولا يكذب، ولا يخون، ولا يرجف.
وعنصر التطهير الخلقي كان من أوائل ما وضع في مهمة الرسالة المحمدية (قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، وربك فاصبر).
وقد بينت الرسالة عليه جميع أحكامها حتى حرمت الغش، والاستغلال، والتغرير في المبادلات المالية.
وإذا كملت للإنسان حريته، وطهرت نفسه كما أمر الله، صار لبنة صالحة لبناء مجتمع فاضل، منه ومن أمثاله الذين كملت حريتهم وطهرت نفوسهم، وبتساند تلك اللبنات الصالحة، وتعانقها، تصير الجماعة قوة واحدة، لها شعارها، ولها هدفها، يؤثر الفرد فيها حاجتها عن حاجته، وترى هي أن حاجة الفرد من حاجتها، وذلكم هو الاتحاد المجمع للقوى، المحقق للتعاون، وقد طلبه الإسلام في الجماعات كلها، صغيرة كانت أم كبيرة: طلبه من أبناء الأُسرة الواحدة (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وطلبه من أبناء الدين الواحد (إنما المؤمنون إخوة. والمؤمنات والمؤمنون بعضهم أولياء بعض). وطلبه من أبناء الوطن الواحد (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش، قليلاً ما تشكرون). امتن على الجماعات الإنسانية بأن مكن كل جماعة منها في أرضها وإقليمها، وبأن وهبهم فيها موارد العيش والرزق والحياة، وأوحى إليهم بالمحافظة عليها، واستثمارها، والانتفاع(1018/6)
بها، شكراً على تلك النعمة: فمن الكفر بها أن تتخاذل الجماعة عن الدفاع عنها؛ واستخراج كنوزها.
ثم طلب الاتحاد بعد ذلك من أبناء الإنسانية جميعاً، وفي سبيله ناداهم بوصف الإنسانية العام، وأعلنهم بوحدة الأصل الذي يجمعهم في رحم عامة واحدة (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منها رجالاً كثيراً ونساء) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
هكذا طلب الإسلام (الاتحاد) وجعل لكل جماعة من هذه الجماعات حقوقاً خاصة تساهم فيها أفرادها، وتتعاون عليها، دون أن تطغي حقوق على حقوق، وهذا هو دين الله ونظامه الذي أمر الناس أن يتمسكوا به، ويستظلوا بظله، وحذرهم أن يتفرقوا فيه (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ) وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
وبهذا قضي الإسلام فيها بين الناس على نوازع العصبية: الجنسية، والإقليمية، والحزبية، والأُسرية. وجعل من بني الإنسان وحدة عامة شاملة، تعمل لغاية واحدة، هي: عمارة الكون على نحو يملؤه بالأمن والاستقرار، ويكون مظهراً لرحمة الله بعباده.
وإذا اتحدت القلوب هكذا، وتبادلت الشعور بالحاجة، لزم لاستثمار هذا الاتحاد في الوصول إلى الأهداف، تنظيم القوى، وسيلة توجيه كل قوة إلى العمل فيما تحسن وتجيد؛ فقوى العلم للعلم، وقوى التجارة للتجارة، وقوى الزراعة للزراعة، وقوى الصناعة للصناعة، وبذلك تسند الشؤون إلى أربابها، ولا يطغي ذو شأن على ذي شأن، فتضطرب القوى وتصطدم الرغبات، وتصاب الجماعة بالكساد وشلل الإنتاج. وذلكم هو (النظام) الذي بنى الله عليه كونه، وجعل لكل عنصر من عناصره في أرضه وسمائه عمله الخاص، وإنتاجه الخاص، ثم لفت إليه نظر الإنسان ليتخذ منه المثال الذي يحتذ به في حياته. وأُنظر نظام الله في كونه:
للشمس الضياء، وللقمر النور وسحاب المطر، ثم للوحي ملك، وللجبال ملك، وللنفخ في الصور ملك، وللأرض الزرع والسكن، وللماء في الأنهار والبحار الري والسقي، وللإنسان في الأرض السعي والعمل، وللجماد والحيوان التسخير. (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار(1018/7)
فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون).
(سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى). وما التقدير وما القدر في هذا وأمثاله إلا نظام الله الذي سوى عليه العالم وجعله يسير بمقتضاه.
هذا نظام ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?(1018/8)
أما بعد
فهذه هي مبادئ النهضة لمن يريد أن يفهم النهضة؛ وهي مبادئ الإسلام لمن يريد أن يدين بالإسلام، فابنوا حياتكم عليها، واتخذوا (الإيمان بالله وشرعه) جنتها، يحفظها الله لكم ويرعاها، ويمكن لكم في الأرض، ويجعلكم أئمة ويجعلكم الوارثين (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
محمود شلتوت(1018/9)
صوت من نجيب فهل من مجيب
لصاحب الفضيلة الأُستاذ محمد البشير الإبراهيمي
شيخ علماء الجزائر
حضرت قبل أسابيع حفلة تكريم للقائد الشعبي العظيم محمد نجيب، أقامتها جمعية من الجمعيات العاملة للإسلام، وسمعت خطباً عادية في المعنى الذي أُقيمت له الحفلة، وسمعت قطعة من الشعر، أشهد إنه شعر حي صادق في تصوراته وتصويراته، وأنه مس مكامن الإحساس مني حينما مس فلسطين، وكأنما غمز من قلبي جرحاً مندملاً على عظم، ثم سمعت في الأخير كلمة القائد البطل، وكان أقلها عن مصر وحركة الجيش وأسبابها وأهدافها، وأكثرها عن فلسطين وحربها وحالةأهلها المتشردين
وأقول: القائد ولا أقول: الرئيس؛ لأنني كنت أسمع كلام قائد لا كلام رئيس، وكنت أسمع كلامه فافهمه بمعنيين: معنى هو الذي تفيده الألفاظ والتراكيب، وينتقل بالسامع من خبر إلى خبر ومن وصف إلى وصف، ومعنى أخر مساوق له ممتد معه، وهو أن هذا الكلام نفسه قائد. . فيه من القيادة أمرها ونهيها وحزمها وصدقها وواقعها وتوجيهها ومضاؤها وجرأتها وجميع خصائصها، فافهم من ذلك كله إن القيادة هي صفته الذاتية، خلقت معه مستسرة في روحه ودمه، ولونتها فطرته السليمة، وكونتها تربيته الشعبية، كما أن الأقدام هو صفة الأسد الذاتية التي خلقت معه؛ فلما أدت قيادته العسكرية رسالتها وبلغت مداها انقلبت قيادة شعبية سماها العرف رياسة، وما هي - في الحقيقة - إلا امتداد لقيادته العسكرية، والقائد القوي الخصائص، في الأُمة الكثيرة النقائص لا يزال يخرج من حرب إلى حرب ويدخل من قتام في قتام.
سمعت كلمات القائد متئدة رزينة، فلما لمست فلسطين ظهرت شجية حزينة، فنطق بالصدق، ولا أصدق من شهادة عيان، محمد نجيب إذا تكلم عن حرب فلسطين، وصور نكبة فلسطين، كان الرواية الثقة والضابط العدل. وقد حلل تلك السبة الخالدة، وعللها باثنتين: قبول الهدنة وفقد السلاح. ثم برأ الشرف العسكري العربي كله من وصمة التخاذل، ولم يعرج على التخاذل السياسي بين ملوك العرب وساستهم، ولكن عده لقبول الهدنة أحد سببي النكبة، وأبلغ من التصريح، في الاتهام والتجريح، فان الراضين بالهدنة هم رؤساء(1018/10)
الحكومات العربية من ملوك وساسة لا قادة الجيوش.
كانت كلمات القائد البطل عن فلسطين تمس نفسي - وهو يلقيها - مسة الكهرباء فتحرق ولا تضيء، لأنني - يشهد الله - كنت وما زلت من أشد الناس اهتماماً بالحادثة، ثم من أشدهم التياعا بالكارثة؛ فإذا فاتني - لشقوتي - أن أشارك في وقائعها بجسمي، فلم يفتني أن أشارك فيها بقلمي فكتبتمقالات نارية المعنى قاسية الألفاظ تكاد ترسل شواظاً من نار ونحاسا على المتسببين في تلك الهزيمة المنكرة، بغير أسبابها المعقولة عند الناس، ولكن بسبب لا يستسيغه عقل عاقل وهو قبول الهدنة. . . لذلك كانت كلمات القائد تفيض من نفسه الجريحة وكأنما تفور من نفسي. حتى إذا سكت عن ساسة العرب أحسست بانفعال كنت أتمنى أن أسكنه بشهادة حق من القائد الصادق عليهم تؤيد عقيدتي فيهم؛ فإن شهادة الحق تؤيد الحق حتى لكأنه حقان.
وتكلم القائد البطل عن أولئك البائسين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: وطننا فلسطين، والذين نسميهم مشردين ونحن شردناهم بما كسبت أيدينا، ووصف وصف المعايشين ما يلقون من شقاء وما يتجرعونه من غصص؛ وبدأ صوته يرتفع ويتهدج وعيناه تغرورقان بالدموع فتشهد بأنه يغالب أسى كميناً وهما دفينا. وكانت الجمل العبقرية التي تساوي الدم الذي سال من جسمه على ثرى فلسطين هي قوله: (كيف نلتذ بالطعام، وننعم باللباس والدفء، وإن إخواننا ليتضورون من الجوع، ويفترشون الغبراء؟ لماذا لا نصوم يوماً من الأسبوع عن اللحم. أو أسبوعاً من الشهر عن هنة من هذه الكماليات. ثم نرصد ثمنها لإطعام إخواننا الفلسطينيين وكسوتهم؟ إن الإمساك عن اللحم يوماً من الأسبوع أو عن الكماليات أسبوعاً من الشهر لا تميتنا وكنها تحيي إخواننا). ثم رمى السامعين بالآبدة التي ظننت أن الجباه تندي لها عرقاً، إن لم تنخلع القلوب منها فرقاً، وهي قوله (إن من العار أن نطلب لهم الحياة ممن أماتهم، ونسألهم القوت من الدول العاتية التي حكمت عليهم بالموت جوعاً، وحكمت علينا بالانحناء ذلاً ومهانة).
حقائق جلاها القائد على مئات من السامعين، وما منهم إلا من له نباهة وذكر ومقام. جلاهافي جمل حاكية، تحتها معان باكية؛ وشرحها الوافي ينتزع مما يتصوره المتصورون. ويصوره المصورون من حال أولئك البائسين. وينتزع من تخاذل العرب ملوكاً وحكومات(1018/11)
وسادة وكبراء وشعوباً حتى ضاعت فلسطين وجاع أهلها، وتنتزع من حالة المسلمين المغفلين الذين ما زالوا - وهم ذوو عدد -
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وما زالوا يطلبون الصدقة ممن سلبهم، وما زالوا يفزعون كلما لطمهم اليهود إلى الاحتجاج. وما زالوا يطرقون أبواب هذا الهيكل الخرب الذي يسمى جمعية الأمم المتحدة.
أنا لا أتحدث عن قلوب السامعين ومواقع الكلام القائد منها. ولا أملك لها أن تكون خلية أو شجية؛ وإنما أتحدث عن قلبي. فوالذي خلق القلوب مضغاً سوداء وبث فيها شعلاً من النور، لكأنما كانت تلك الكلمات على قلبي نبالاً تنثال على هدف، ونصالاً تتوالى على جريح. يا للعجب العاجب! فيؤمن المسلم بأن المسجد الأقصى هو قبلته الأولى وأنه ثالث المساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?(1018/12)
(1018/13)
(1018/14)
(1018/15)
(1018/16)
كأنما ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ماذا ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? نهلك. وحكم سننه فينا فحكمت بأن نملك ولا نملك. فعودوا يعد، وغيروا يغير، وحققوا الشرط يحقق الجزاء.
محمد البشير الإبراهيمي(1018/17)
فيم أكتب!
للأستاذ محمود محمد شاكر
إلى أخي الأستاذ الزيات
السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد، فقد دعوتني فاستجبت لك، رضى بك وعنك. بيد أني أحببتك ساخطاً على نفسي، والجمرة الموقدة أبرد مساً من سخطة امرئ على نفسه. كنت عزمت أن أدع هذا القلم قاراً حيث هو، في سنة لا تنقطع، يعلوه صدأ لا ينجلي. وظللت أياماً أسأل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟
بقي ما كتبته لك آنفاً معلقاً يوماً كاملاً، حتى خلتني مخلفاً لك موعدي. والساعة ذكرت أمراً: ذكرت أني ختمت مقالاتي المتتابعة في الرسالة، منذ خمس سنوات تقريباً، بسؤال آخر: (لمن أكتب؟). وقلت يومئذ إني لم أحاولقط أن أعرف لمن أكتب؟ ولم أكتب؟ ولكني أحس من سر قلبي أني أكتب، ولا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو. أهو حي فيسمعني، أم جنين لم يولد سوف يقدر له أن يقرأني؟ ووصفت يومئذ شراذم الساسة الذين لوثوا تاريخ الحياة الإسلامية والعربية، في حيث كان الإسلام وكانت العرب. ووصفت رجال العلم المتعبدين لساداتهم من أهل الحضارة الفاسدة التي تعيش بالمكر والحقد والفجور. ووصفت أصحاب السلطان في الشرق، وهم حثالة التاريخ الإنساني، ووصفت أهل الدين، ألا من رحم ربك، الذين يأكلون بدينهم ناراً حامية. وزعمت أني لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المطبقة المحيطة بنا، فيدفعهم حب الحياة وحب الخير، إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم.
ثم ذكرت هذا الرجل الذي طواه الغيب إلى ميقاته، فأنا أكتب له حتى يخرج من غمار هذا الخلق، وينفرد من هذه (السائمة)، ليقود الشعوب بحقها لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي تنبض به ضمائر قلوبها. رجل خلطت طينته التي منها خلق، بالحرية. فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبداً لأحد من خلق الله. يسير بين الناس، فتسرى نفسه في نفوسهم، وتموج الحياة يومئذ بأمواجها، ثم لا يقف دونها شئ مهما بلغ من قوته وجبروته. وزعمت أن الشرق العربي والإسلامي، ينتظر صابراً(1018/18)
كعادته هذا الرجل، وأننا قد أشرفنا على أمره قد كتب الله علينا فيه: أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل، لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد أرضعنا الدهر بلبانها منذ الأزل البعيد.
ثم ختمت كلامي بهذه الفقرة: فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة، يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة، التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فترمنها شريك).
كتبت هذا يومئذ، والناس في ظلمة ليل بهيم. ومنذ ذلك اليوم والأحداث في الشرق العربي والإسلامي آخذ بعضها برقاب بعض. وحركت الأحداث المتتابعة نواعس الآمال، فهبت تمسح من عيونها النوم المتقادم. ثم حملقت في أكداس الظلام المركوم، فأوهمتها اليقظة أن الظلام من حولها يومض من بعيد ببصيص من نور. فتنادت الصيحات بانقشاع الظلم: وا فرحتاه! وصرخت أنا في محبسي: وا حسرتاه! أعمى رأى الظلام نهارا!
كانت الدنيا يومئذ ظلاماً، ونعرفها نحن ظلاما. والمعرفة دائماً تفضي إلى خير. ثم أصبحت الدنيا أشد ظلاما. ونتوهمها نحن نورا ينبثق. والتوهم عماده الكذب. ولا فلاح لشيء إلا بالصدق وحده.
لقد طرأت على هذا العالم العربي والإسلامي طوارئ، فإذا لم يصدق نفسه فلا نجاة له. واحتوشته الأمم المفترسة بأساليبها الظاهرة والخفية. فإذا لم يصدق النظر فلا خلاص له. لست قانطاً ولا مقنطاً. كما يتوهم من يحب أن يتوهم. ولكني أرى بلاء نازلاً بنا. ونحننخوضه كأنه رحمة مهداة. وبئس ما نفعل؟ وبئس مطية الأعمال الكذب.
من حيث أتلفت أرى وجوها تكذب، ووجوها مكذوباً عليها. وأسمع أصواتاً تخدع، وآذاناً مخدوعة بما تسمع. وأقرأ كلاماً غمس في النفاق وفي التغرير غمساً. وألمح في عيون المساكين ممن قرءوه غفلة تتلألأ بفرحة ولكنها فرحة لا تتم عليها إلا بالعمى المطبق عن الحق والصواب. إن هذا كله إعداد للمجزرة الكبرى. حيث تذبح الآلاف المؤلفة منا بمدى حداد استخرج حديدها من معدن القلوب المضطغنة بالعصبية، المنهومة بالمنفعة. وأمهاها ماء الحقد الصليبي الوثني؛ وأرهفت بلذة الفتك الذي لا تطفأ ناره.(1018/19)
إن الذي نعيش فيه اليوم حياة قد مهد لها جبابرة الدهاة؛ لا أقول منذ عام أو عامين، بل منذ أكثر من مائتي عام. حطم كل شئ قليلاً قليلاً حتى خر البناء كله. ثم انبعثت من تحت الأنقاض حياة خبيثة تلبس إهاب البشر. غذيت بالسم الذعاف حتى صارت لحماً وسما. لا لحماً ودماً؛ ولا يعنيك أو يعنيني أن ننظر: أهي تعرف نفسهاوتدرك أنها مسخت أفاعي في مسلاخ إنسان، أم تراها لا تعرف ولا تدرك؟ بل يعنينا - ويعنيها هي أيضا - أن نصدق المعرفة أنها حيات تنفث سمها في حياة الناس؛ في حياة الغافلين النائمين. فمن استعصى عليها فتكت به؛ ومن أطماع لسمها مسخ كمثلها حية تسعى. فإذا قدر لهذه الحيات أن تبلغ الغاية التي مسخت لها؛ فلن يتم ذلك حتى تكون الأرض العربية والإسلامية كلها خراباً من البشر الأحرار؛ خراباً تعمره العمار من أفاع وحيات وأصلال.
من مخافة هذا اليوم كنت أكتب قديماً ما استطاع هذا القلم أن يكتب، ثم وجدتني فجأة في موج متلاطم من الضلالات، تتقاذفه ضلالات العلم المكذوب، وضلالات الرأي المدلس، وضلالات السياسة الخداعة. وإذا الأرض من حولي تعج بترتيل مظلم مخبول؛ وإذا السماء من فوق تهتف بتسبيح كالح مزور؛ وإذا صوتي يضيع في سمعي؛ فهو إذن في أسماع الناس أضيع؛ وتردد في صدري شعر الحكمى؛ فاستمعت له وسكت:
مت بداء الصمت خير ... لك عن داء الكلام
إنما السالم من ... ألجم فاه بلجام
فلما دعوتني فأجبت، انقلبت أسائل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟ إن بيني وبين الأسماع والأبصار والقلوب، حجاباً صاخباً من غماغم الدجاجلة، وهماهم الأفاكين، وثغاء أهل الغش، وضغاء أخدان النفاق. . . ويذهب قولي باطلاً ويضيع صوتي مختنقاً، ولم أجن عندئذ عن حياتي إلا شقاء يقول فيه القائل: (إن الشقي بكل حبل يخنق)، حتى حبل الحق والصدق!. وإنك لتعلم: أن لو أني عرفت للكتابة ثمرة، لما توقفت ساعة، ولما أبطأت دون ما وجب على
بأي لسان أستطيع أن أفتق للناس أسماعها غير الأسماع التي طمها الكذب المسموع؟ وبأي قلم أستطيع أن أسلخ عن العيون غشاوة صفيقة لبسها الكذب المكتوب؟ وبأي صوت أستطيع أن أنفذ إلى قلوب ضرب عليها نطاقمن الكذب المسموع والمكتوب؟ وبأي لسان، و(1018/20)
بأي قلم، وبأي صوت؟ ولكنه، على ذلك كله واجب، وإن كان جهد لا ثمرة له! وهو كذلك، وإذن فليس لي أن أسأل نفسي: فيم أكتب؟ ولم هذا العناء والنصب؟ وعلام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟
وإذن فقد كتب على أن أنصب وجهي لهذا الشقاء الصبيخود، لا أبالي أن أحترق، ولا أحفل أن أعود سالماً، ولا آبه لما يصيبني، ما دام حقاً علي أداؤه.
إنها أيام بلاء ومحنة: من عدونا حيث بلغ منا كل مبلغ، من أنفسنا، حيث صار كل امرئ منا عدو نفسه وعقله، عدو تاريخه وماضيه، عدو مستقبله من حيث يدري ولا يدري. وإنها أيام ضلال وفتنة، تدع الحليم الركين حيران، بلا حلم ولا ركانة، تدع البصير المهتدي، أعمى بلا بصر ولا هداية. تدع الصادق الحازم، غفلاً بلا صدق ولا حزامة. ولكنها على ذلك كله، كتبت على الحليم الركين، وعلى البصير المهتدي، وعلى الصادق الحازم - أن يعيش في شقائها بلا ملل، وأن يكون فيها كما قال شاعر الخوارج، عمران بن حطان، في أهل الدنيا:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ... على إنهم فيها عراة وجوع
فمنذ حملت إليك هذا القلم، استجابة لدعوة لم أجد ردها من الأدب ولا من الوفاء في شئ، عرفت أني سوف أكتب كما كتبت قديما، لأتعجل انبعاث رجل من غمار أربعمائة مليون من العرب والمسلمين، تسمع يومئذ لحكمته الأجنة في بطون أمهاتها، وتهتدي بهديه، الذراري في أصلاب الآباء والأمهات.
ولكنك بعد، قد أنزلتني بحيث يقول القائل:
حيث طابت شرائع الموت، والمو ... ت مراراً يكون عذب الحياض
فأنا إن شاء الله بحيث أحببت لي أن أنزل، والسلام.
محمود محمد شاكر(1018/21)
هذه الثورة. . من صنعها
للأستاذ محمد سعيد العريان
ليس الأدب بمعزل عن السياسة، وما ينبغي أن يكون عنها بمعزل؛ فإن الأدب بمعناه الرفيع، هو الذي يوجه الإنسانية المعاصرةإلى مثلها العليا، ويسددها إلى أهدافها البعيدة، ويرسم لها الطريق إلى الحياة الفاضلة التي يجب أن تكون. والسياسة بمدلولها العام هي معنى قريب من ذلك؛ لأنها - فبما يزعم أهلها - هي التي توجه الناس أو توجه حياة الناس الوجهة التي تتحقق بها مثلهم العليا ويبلغون أهدافهم البعيدة، وتمهد لهم الطريق إلى الحياة الفضلى؛ فليس الأدب والسياسة إذن في الاصطلاح الحديث إلا كلمتين تقعان على معنى واحد أو معنيين متقاربين في الوسيلة متحدين في الغاية. وقد مضى العصر الذي كان يقال فيه لبعض المشتغلين بالأدب، أو لبعض المشتغلين بالسياسة: هذا من الأدب وهذا ليس منه. فقد كان ذلك في زمن لم يكن الأدب فيه إلا فناً من فنون القول لا من فنون التوجيه. أما اليوم فان الأدب هو الذي يوجه الساسة قبل أن يوجه الجماهير؛ لأنه يصنع للساسة برامجهم التي يقودون باسمها الجماهير. . .
تلك حقيقة مؤكدةلا سبيل إلى نقضها، وفي السياسة العربية المعاصرة آلف دليل عليها؛ فقد تغني أدباؤهم بالحرية قبل أن يهب في البلاد العربية كلها زعيم واحد للدفاع عن الحرية، فلما صار غناهم بالحرية وجداناً يتجاوب في ضمائر الجماهير، أوجد ذلك الوجدان زعماء الدعوة إلى الحرية.
وقد تغني أدباؤهم بالوحدة العربية قبل أن يجرؤ زعيم عربي واحد أو يخطر على باله أن يدعو لوحدة عربية؛ فلما جرت أغنيتهم بالوحدة مجرى الدم في نفس كل عربي بين ساحل الأطلسي وجبال الكرد، نشأ الزعيم، أو نشأ الزعماء الذين يدعون إلى وحدة عربية.
وكانت الدعوة إلى المساواة وإلى رعاية حق الفقراء في ثروات الأغنياء، هتافاً أدبياً ينظمه الشعراء ويتحدث عنه الأدباء ويقصه أهل القصة، قبل أن يكون مذهباً سياسياً يتمثل في قوانين ولوائح وبرامج أجزاب سياسية.
وما تزال على ألسنة الأدباء وعلى أطراف أقلامهم، دعوات إنسانية أخرى، لم تتبلور بعد معانيها أو تتخذ مدلولاتها لتخرج من نطاق الشعر والقصة والمقال المكتوبة والأغنية(1018/22)
الهازجة، إلى أن تكون برنامجاً من برامج الإصلاح لحزب سياسي جديد او حزب قديم متجدد، ولكنها ستبلغ هذه الغاية يوماً، فتضيف الأحزاب السياسية إلى برامجها مواد جديدة لم تزل اليوم فصلاً من كتاب أو رواية من قصة أو مقطعا من أغنية.
آمنت بهذه الدعوة منذ كنت، ويؤمن بها معي المئات أو الآلاف من كل ذي رأي وذي بيان؛ وما أرى أحداً غير هؤلاء المئات أو هؤلاء الآلاف حقيقاً بأن يسمى أدبياً، لأن الأدب إن لم يكن توجيهاً فهو ليس إلا ببغاوية خرساء، لها صوت وليس لها صدى. . .
والآن إذ تقررت هذه الحقيقة فإني أدعو إلى الكلمة التي جعلتها عنواناً لهذا المقال، فأسأل عن هذه الثورة التي نعيش في أحداثها المتتابعة منذ 23 يولية الماضي. . . من الذي صنعها؟. . .
قبل مولد الصبح من يوم الأربعاء الثالث بعد العشرين من شهر يوليو، كان بضعة نفر من خيار المصريين على صهواتهم، أو على دباباتهم، يريدون أن يقتحموا حصناً منيعاً من حصون التاريخ. فلم يكد يشرق صباح ذلك اليوم حتى كان كل منهم على باب من أبواب ذلك الحصن يقرعه قرعاً متصلا، فلم تلبث مغاليقه أن تحطمت، فإذا هم وقوف في ساحة الحصن ترفرف على رءوسهم الراية التي لم ترفرف على رأس مصري منذ انهارت مقاومة طومان باي في وجه الغزاة العثمانيين منذ أربعة قرون ونصف قرن؛ وبدأ الزمن من يومئذ يكتب صفحة جديدة في تاريخ مصر، وما زال من يومئذ يكتب كل يوم فصلاً جديداً. . .
كان من صباح الأربعاء الثالث بعد العشرين من يولية الماضي، فهل يكون يوم الأربعاء ذاك، وهو أول تاريخ تلك الثورة، أو مولد تاريخها؟. . .
هذا هو السؤال في صورة أخرى. . .
ولكن المصريين في ذلك اليوم لم يكونوا بمعزل عن تلك الحركة التي كانت هي أول الثورة في عرف المؤرخ الواقعي؛ فقد كان في نفس كل مصري من الملايين العشرين ثورة تضطرم، فما كاد يرتفع هتاف أولئك النفر من خيارهم حتى رجعت صداه تلك الملايين، فإذا هي ثورة شعب كامل لم يتخلف عن موكبها فرد منه. فهل كان أولئك الملايين العشرون شركاء في التدبير وفي رسم الخطة وفي السعي على ذلك الطريق المظلم قبل مشرق(1018/23)
الصبح بساعات إلى أبواب ذلك الحصن المغلق؟ وهل كانوا على علم بصير بالمنهج وبالقيادة وبالنتائج قبل أن ينكشف شئ من ذلك للعيان؟
هذا افتراض تأباه طبائع الأشياء؛ فلم يكن لأولئك الملايين العشرين شأن في التدبير، ولا مشاركة في رسم الخطة، ولا صحبة على ذلك الطريق المظلم، ولا علم بصير أو علم مستنبط بالنهج والقيادة والنتيجة؛ ولكنهم مع ذلك كانوا مؤمنين بأنهم هم الثائرون، الساعون إلى حصن الظلم والظلام لتحطيمه ودك بنيانه. وكان الهتاف والفرح فرحهم؛ لأن الفوز كان منسوباً إليهم جميعاً لا إلى بضعة نفر منهم؛ فهل يكون ذلك إلا دليلاً على أن هذه الثورة التي بدت طلائعها للعيان في ذلك الصباح، ولم يكن ذلك الصباح أول ميلادها، لأنها كانت مولوداً نامياً من قبل ذلك التاريخ بأمد بعيد!. . .
وإذن فمتى كان ميلادها الحقيقي؟. . .
هذا هو السؤال في صورة ثالثة. . .
إنها ثورة، وهي ثورة عارمة انبثقت من إحساس الملايين، وهي بعيدة الميلاد الحقيقي عن اليوم الثالث بعد العشرين من شهر يولية؛ كالبذرة الحية في الأرض الخصبة تغطيها طبقات من التراب، ويتعاورهاالحر والبرد، ويتعاقب عليها الجفاف والمطر، وتتقلب عليها رياح الشمال ورياح الجنوب؛ ولكنها لا تنبت إلا حين يحين موعد نباتها؛ فليس أول تاريخها هو اليوم الذي نجمت فيه على سطح التربة، لأنها ذات تاريخ قديم تحت التراب؛ وإنما أول تاريخها يوم حفر لها غارسها في الأرض ثم قال لها انتظري حتى يحين موعد نباتك؛ فمن الذي أودع بذرة تلك الثورة هذه الأرض الخصبة وقال لها انتظري يوماً مثل يوم 23 يولية؟
هذا هو السؤال في صورة رابعة، وهو هو السؤال الذي جعلته عنواناً لهذا المقال!. . .
إنما أودع تلك البذرة هذه الأرض، أحرار الفكر وأصحاب البيان وذوو الأقلام والألسنة، منذ كان في مصر خطيب وقاص وشاعر وكاتب وذو بيان. . .
أولئك الأدباء الأحرار الموجهون، هم صانعو تلك الثورة؛ لأنهم هم، ولا أحد غيرهم، الذين أودعوا الأرض تلك البذرة التي استكنت إلى موعدها؛ فلما حان موسم النبات انطلق أولئك النفر الأخيار على صهواتهم، أو على دباباتهم، ليقتحموا ذلك الحصن المنيع من حصون(1018/24)
التاريخ؛ فاقتحموه. وكان انطلاقهم كهبوب نسيمات الربيع على الأرض الخصبة، أذاناً بحلول موسم الإنبات؛ فانفرق التراب عن النواة، وانفلقت النواة عن الشجرة، ثم كانت الزهرة والثمرة، واستكملت الثورة مظاهرها. . .
ادرسوا أدب ما بين الحربين، واقرءوا كل حرف وكل كلمة وكل نغمة مما كتب الكاتبون أو نظم الناظمون أو قص القصاص أو غنى المغنون خلال تلك الفترة، تعرفوا على وجه اليقين من الذي صنع هذه الثورة. . .
بلى إنها ثورة سياسية بعيدة المدى، ولكنها قبل أن تبدو طلائعها بسنين، كانت ثورة مفكرين أحرار!
مفكرونأحرار، أودعوا بذرتها هذه الأرض الخصبة ثم تواروا فما يكاد يذكرهم أحد؛ أو لعلهم يذكرون، ولكن بغير ما يجب لهم من التوقير وعرفان الجميل؛ لأنهم تحت مجهر الثورة أقزام بجانب العماليق الضخام من أعلام السياسة. . ولكل عصر موازين!
محمد سعيد العريان(1018/25)
مبادئ العالم الحر!
للأستاذ سيد قطب
(العالم الحر) اسم يطلقه الاستعماريون في إنجلترا وفي فرنسا وفي أمريكا على تلك الكتلة الاستعمارية التي تكافح ضد الزمن، وتقاتل ضد الإنسانية، وتقاوم ضد الحرية. ثم تطلق على نفسها في النهاية اسم (العالم الحر)!
و (العالم الحر) مشغول في هذه الأيام بتمزيق إهاب (الحرية) في تونس ومراكش وفي كينيا وفي فيتنام. . وفي كتم أنفاس (الأحرار) في كل مكان لأن رسالة العالم الحر هي أن يكون حراً في قتل الحرية حسبما يشاء!
و (العالم الحر) يرتكب من الجرائم ما يقشعر له ضمير البشرية. وذلك رغبة في نقل مبادئ الحضارة الغربية إلى القارة المظلمة. وإذا كانت هذه القارة لا تريد أن تتحضر على يد البعثات التبشيرية فلتتحضر إذن بالسيف والمدفع والطيارة والدبابة؛ وهي أقدر ولاشك على نقل مبادئ الحضارة إلى الشعوب المختلفة!
و (العالم الحر) يشرد الشعوب من ديارها - على نحو ما فعل في فلسطين - وذلك رغبة منه في أيجاد (لاجئين) يتولى رعايتهم، والعطف عليهم، وإقامة الخيام لهم في العراء. فمبادئ العالم الحر تقتضي العطف على المشردين، الذين لا وطن لهمفي هذه الأرض المعذبة!
و (العالم الحر) يتساند ويتكاتف في هذه المهام الضخام. أليس الدولار هو الذي يشد من أزر فرنسا في تونس ومراكش وفيتنام، ويشد من أزر إنجلترا في كينيا ومصر وفي كل مكان؛ ويشتري الصحف والأقلام والجماعات والجمعيات والرجال والنساء في هذه الأيام؟!
وأنا لا أعيب على (العالم الحر) أن يمزق إهاب الحرية ويمثل بجثث الضحايا من الأحرار، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ في القرى الآمنة، ويرتكب الجرائم الوحشية التي يرتكبها بلا تحرج. . فإن هدفه السامي من وراء ذلك كله واضح - كما قلت - وهو نقل بادئ الحضارة الغربية بطريقة عملية إلى الشعوب المتأخرة، التي لا يجوز أن تظل متأخرة!
إنني لا أعيب على هذا (العالم الحر) حريته هذه. حرية وحوش الغابة في أنت صنع في(1018/26)
الغابة ما يؤهلها له الظفر والناب. فمبادئ الحضارة الغربية هي هذه كما كانت وكما هي كائنة، وما ستكون حتى يأذن الله لها بالفناء
كلا! إنما أنا أتلفت إلى شعوبنا وحكوماتنا ومفكرينا وكتابنا وشعرائنا وجماعاتنا وجمعياتنا. . ألفت إليهم لأرى هل سكتت الأبواق التي تهتف بحمد الحضارة الغربية؟ هل خرست الألسن التي تتحدث عن الصداقة الأمريكية والصداقة الإنجليزية والصداقة الفرنسية؟ هل انزوت الجماعات والجمعيات التي تحمل ألوية الصداقة مع (العالم الحر) وتشيد بجهوده في الخدمات الاجتماعية والتعليم الأساسي واليونسكو والنقطة الرابعة وسائر الوسائل الاستعمارية الحديثة التي تنجز في صخرة المقاومة الشعبية؟
أتلفت لأرى هذه الأبواق لا تزال مفتوحة، ولأرى هذه الألسنة ما تزال طليقة، ولأرى هذه الجمعيات والجماعات ما تزال تتبجح وتعلن عن نفسها بلا حساب، وتنفق الأموال الضخمة في هذا الإعلان، والدولار من خلفها يمكن لها من العمل ويمكن لها من الإعلان!
إن (العالم الحر) لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة؛ ولكنه يحاربنا بالألسنة والأقلام ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي، وفي هيئة اليونسكو، وفي النقطة الرابعة؛ ويحار بنا بتلك الجمعيات والجماعات التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة فيبلادنا. . . وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام، وتشتري الهيئات والجماعات.
وواجبنا نحن أن نكافح، واجبنا أن نكافح الوسائل الاستعمارية الحديثة، ونكافح الهيئات والجماعات والمؤسسات التي تيسر العمل لهذه الوسائل: مهما كانت أسمائها بريئة إن الاستعمار الروحي والفكري هو الاستعمار الخطير حقاً. فاستعمار الحديد والنار يثير المقاومة بطبيعته، ويؤرث الأحقاد القومية التي تقتلع الاستعمار من أساسه. أما الاستعمار الروحي والفكري فهو استعمار ناعم لين، مخدر، ينوم الشعوب ويستل أحقادها المقدسة التي يجب أن تتأجج، وتستحيل ناراً وشواظاً يحرق ويدمر الاستعمار عملاءه في يوم من الأيام.
لقد قام بيننا في وقت من الأوقات رجل يسمى (أمين عثمان) يحمل لواء الصداقة الإنجليزية في فجور وتبجج، ويؤسس جمعية نادي العلمين. كما قامت في ظله (جماعة إخوان الحرية). ولقد هرعت الشخصيات الكبيرة يومها إلى أمين عثمان وجمعيته. الشخصيات(1018/27)
المستوزرة التي تشمرائحة الحكم من عشرات الأميال. . . ولكن حاسة الشعب السليمة ظلت تنفر من الرجل وجماعته على الرغم من انضمام (الشخصيات الكبيرة) لأن الشعب يعرف قيمة هذه الشخصيات ودوافعها!
واليوم يقوم رجل آخر بدور أمين عثمان. يقوم به في محيط آخر وتحت عنوان آخر. وتهرع الشخصيات الكبيرة ذاتها إلى الانضمام إليه. . . وما من شك في أن الأمة بحاستها السليمة ستظل في معزل عن هذه المحاولة الجديدة. . ولكن الاطمئنان إلى حاسة الأمة لا يجوز أن يقعد بالشباب الواعي عن التنبيه إلى هذا الخطر الجديد، وإلى التحذير من وسائله الناعمة وعنوانه البريء.
إن الحرب المقدسة مع الاستعمار اليوم تقتضي تخليص ضمائر الشعوب أولاً من الاستعمار الروحي والفكري، وتحطيم الأجهزة التي تقوم بعملية التخدير، والخدر من كل لسان ومن كل قلم، ومن كل جمعية أو جماعة تهادن معسكراً من معسكرات الاستعمار، التي ترتبط جميعها بمصلحة واحدة، ومبادئ واحدة. مبادئ العالم الحر ومصالح العالم الحر!
في الغرب يقوم (العالم الحر) وفي الشرق تقوم (الديمقراطية الشعبية) ونصيب هذه الديمقراطية من اسمها كنصيب العالم الحر من اسمه بسواء!
فالديمقراطية الشعبية هي الديمقراطيات التي تحكم حكماً ديكتاتورياً مباشراً، تحرسه الجاسوسية الرهيبة؛ ولا تسمح لفرد من الشعب فضلا على الشعب كله أن يفكر بحرية، لا أن يفكر في الحريةذاتها بحال!
وإذا كان العالم الحر أجهزته وأقلامه وألسنته، فان للديمقراطية الشعبية أجهزتها وأقلامها وألسنتها. . وكلها تعمل في محيطنا العربي والإسلامي. . . وكلها تستحق منا المكافحة كما نكافح الاستعمار. . . إلا أن الاستعمار يجثم على صدورنا اليوم ويخنق أنفاسنا بعنف. والواجب يقتضينا أن نوجه المقاومة الإيجابية للاستعمار، والمقاومة الفكرية للديمقراطيات الشعبية!
والراية التي تجمعنا لنكافح. . . هي وحدها راية الإسلام.
إن بعضنا يؤثرون أن يتجمعوا تحت الراية العربية. . . وأنا لا أُعارض في أن يكون هذا تجمعاً وقتياً يهدف إلى تجمع أكبر منه، فليسهناك تعارض جدي بين القومية العربية(1018/28)
والوطنية الإسلامية إذا نحن فهمنا القومية العربية على أنها خطوة في الطريق. إن أرض العرب كلها جزء من أرض الإسلام، فإذا نحن حررنا الأرض العربية فإننا نكون قد حررنا بضعة من جسم الوطن الإسلامي، نستعين بها على تحرير سائر الجسد الواحد الكبير.
والمهم أن نتجمع اليوم ونتساند كما يتساند العالم الحر ضدنا. فكل بلد صغير لا يستطيع وحده أن يكافح عالما. والسياسة القصيرة النظر التي تريد أن تحصرنا في حدودنا الجغرافية المصطنعة هي سياسة حمقاء؛ فالعالم يسير نحو التكتل في الشرق والغرب سواء. ومن واجبنا أن نتكتل على الأقل تمشياً مع منطق العصر؛ إن لم يكن تمشياً مع منطق الإسلام.
والمجموعة الآسيوية الإفريقية تحاول أن تكون كتلة محايدة. ولا ضير من السير معها، وإن كنت أنا شخصياً لا أرى أن هنالك مقومات حقيقية ودائمة لقيامها. فهنالك تيارات مختلفة تتجاذبها. والمصالح التي ترتبط بينها اليوم مصالح مؤقتة. أما الكتلة التي يمكن أن تقوم على أسس حقيقية وعميقة ودائمة فهي الكتلة الإسلامية، وهي آتية لا ريب فيها على الرغم من جهود (العالم الحر) وجهود (الديمقراطيات الشعبية) فلنعجل بقيامها فهي سندنا الحقيقي الوحيد.
سيد قطب(1018/29)
المعاني الحية في رسالة محمد
للأستاذ محمد عبد الله السمان
كلما حلت ذكرى ميلاد محمد - صلوات الله وسلامه عليه - حرص كثير من الوعاظ وخطباء المحافل أن يحوطوا شخصيته بهالة من الخوارق إبان مولدها، مستغلين عواطف الجهلة من السذج والبسطاء، لاصطناع الألفاظ المنمقة، والعبارات المسجوعة، التي تستثير مشاعرهم، وتستنطق ألسنتهم بتأوهات الإعجاب والاستحسان.
وتمر الذكرى الطيبة، بعد أن تلقى آلاف الخطب في المساجد والسرادقات. فلا يخرج المسلمون منها إلا بالتوافه التي لا ترفع من قدر صاحبها (ص) وإذا سألتهم ماذا حفظتم من ذكرى رسولكم (ص) أجابوك عن ظهر قلب: إن ليلة مولده اهتز إيوان كسرى، وخمدت نيران فارس، وانشقت الأرض عن نور سد ما بين الخافقين، وفتحت أبواب الجنة، وأُغلقت أبواب جهنم، وازينت السماء، وابتهجت الملائكة. . . وإن أمه بنت وهب لم تجد مشقة في وضعه وسمعت هتافات الملائكة تبشر بمقدم الوليد الجديد، وأن مرضعته حليمة قد در لبنها يوم أن تسلمته، وأن الغمامة كانت تظلله حيثما سار، وأن الأحجار قد كلمته، والحصى قد سبح بين يديه، والجذع حن له. . وما إلى هذه من الأقاصيص التي تليق بالأبطال الخرافيين - لا بشخصية محمد (ص) الإنسانية الذي هيأ للإنسانية أطيب حياة، والمصلح الذي وضع أسس الإصلاح في الأرض، والعظيم الذي قدم للدنيا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
أني لأعجب. . . كيف نجهل - نحن المسلمين أتباع محمد - شخصيته هذا الجهل الفاضح، فبينما يرى المنصفون من المستشرقين في شخصه - رجلاً مصلحاً من عظام المصلحين، يكفيه فخرا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق؛ وفتح لها طريق الرقي والمدنية؛ وهو عمل لا يقوم به إلا رجل أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام. . بينما يرى الأجانب في محمد المصلح العظيم نأتي نحن اتباعه إلا أن نضفي على سيرته من الخوارق والتوافه التي تبين مدى جهلنا بشخصيته.
وإذا تركت جانباً هذا الصنف المشغوف بإلصاق الخوارق بسيرة محمد، وجدت صنفاً آخر من المسلمين مشغوفاً بأن يجعله فوق مستوى البشر، وإنه رسول ليس ككل الرسل،(1018/30)
لأنهأفضلهم على الإطلاق، ولإنه إمامهم، ورسالاتهم مستمدة من رسالته، ولأن الله ناداهمبأسمائهم وناداه بصفاته، وما إلى هذه من الترهات الرخيصة. ولوفقه هذا الصنف الغبي شخصية محمد كما يجب أن تفقه، لأدرك أن محمد نفسه لم يقر تفضيله على غيره من إخوانه الرسل لأن في هذا لوناً من التعصب الذي لا يرتضيه لأتباعه؛ فقد ورد البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: (بينما رسول الله (ص) جالس جاء يهودي، فقال: يا أبا القاسم! ضرب وجهي رجل من أصحابك. فقل: من؟ قال: رجل من الأنصار. قال: ادعوه، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف، والذي اصطفى موسى على البشر! قلت: أي خبيث! على محمد (ص)؟ فأخذتني غضبة ضربت وجهه. فقال النبي (ص) لا تخيروا بين الأنبياء، فان الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بالصعقة الأولى؟).
وهناك صنف ثالث منضو في سلك الطرق الصوفية البلهاء، يعتبر أن المسلم لا يكون مسلماً إلا إذا اعتقد أن نور الكون مستمد من نور محمد، وأنالسماء والأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال، كل هذه لم تخلق إلا من أجله. . . وهذا الصنف أتفه من أن نقيم لعقليته وزناً.
إن محمدا صاحب رسالة إنسانية، فإذا أردنا أن نحتفي ونحتفل بذكراه، فالواجب أن نستشف المعاني الحية التي تضمنتها رسالته، والتي تنهض بأمتنا وهي في مسيس الحاجة إلى النهوض , فما المعاني الحية التي تضمنتها رسالة محمد - صلوات الله وسلامه عليه -؟
إن رسالته تضمنت معاني ثلاثة حية: تحرير العقول، وتحرير النفوس، وتهيئة حياة طيبة لهذه النفوس.
فقد كانت العقول قبل رسالته غريقة في خضم من الضلال والغي، وأي دليل على ضلالها وغيها أوضح من عكوفها على عبادة حجارة صماء، لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وما أن جاءت رسالة محمد حتى أخذت على عاتقها تحرير هذه العقول، وانتشالها من هوة الضلال والغي، إلى أفق النور والهداية، وراحت بالمنطق السليم تناقش عقيدتها حتى تثبت فسادها:(1018/31)
(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين - ألهم أرجل يمشون بها، أم لهم أيد يبطشون بها، أم لهم أعين يبصرون بها، أم لهم آذان يسمعون بها؟ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون - إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين - والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم، ولا أنفسهم ينصرون - وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) الأعراف.
(يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له. وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب - ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز) الحج.
(واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا.) الفرقان.
بهذا المنطق السليم استطاعت رسالة محمد، أن تحرر العقول، وتوجهها إلى عبادة الواحد القهار، الخالق الرزاق، والضار النافع، الذي بيده ملكوت كل شئ، والغالب على أمره الذي لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء.
ورسالة محمد حررت النفوسبعد أن وضعت حداً لاستعباد الإنسان للإنسان، فقد كانت الحياة قبلبعثة محمد (ص) مزيجاً من الهمجية والفوضى، وأبرز ما فيهما العصبية القبلية، فالقبائل الكبرى تتعاظم بآبائها وتفخر بأجدادها، وتتشدق بأنسابها وأحسابها، وأما الضعفاء والهزل، فهم كمية مهملة ضائعة، لا وزن لها ولا قدر، ولا يعبأ بكيانها ولا يكترث لوجودها، يسخرون كما ت سخر الأنعام، ويعيشون عيش الرقيق المسلوبي الإرادة، وما أن جاءت رسالة محمد حتى أعلنت أن الناس جميعاً قد خلقوا من نفس واحد، ومنتسبون جميعاً إلى ذكر وأنثى، لتقرر مبدأ المساواة بينهم، حتى يظلوا بعد اليوم سواسية كأسنان المشط؛ وراح القرآن يقوم بمهمة تقرير هذا المبدأ الخطير الدقيق:
(يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. . .) النساء.
(ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون.) الروم.(1018/32)
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكركم عند الله أتقاكم. .) الحجرات.
والرسول (ص) لم يدع فرصة تمر دون أن يكافح عنجهية الجاهلية الأولى، ويحطم شوكة الغرور الذي كان يملأ أنوف المتعاظمين بآبائهم، المتشدقين بأنسابهم وأحسابهم، فقد صباح ذات يوم في قريش قائلاً: (يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم الجاهلية وتكثرها بآبائهم، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. . . . والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة. .) وقال: (ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحماً في جهنم! أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدوف بأنفها القذر.)، وغضب حين سمع أبا ذر يعير خادمه بأمه السوداء، وقال: (يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر، ثم اعلم أنك لست بأفضل من أحمر فيها ولا أسود إلا أن تفضله بعمل.)
بهذه القوة الكامنة في رسالة محمد (ص) أمكن تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وإزالة التفاوت المصطنع الذي كان يشرف على اصطناعه المرضى بالغرور والكبرياء من ذوي الأحساب والأنساب والأموال، وكما أمكن صبغ الجميع بصبغة المساواة الخالصة، فتيسر وضع أسس الاستقرار فوق الأرض.
ورسالة محمد (ص) هيأت للنفوس حياة طيبة. ولما كان العالم الدعامة التي يرتكز عليها بناء النهضات في الأمم، فقد احتضنت رسالة محمد العلم، ودعت إليه، وحثت عليه، أو كرمت قدره، وأعلنت منزلته، والقرآن الكريم تنطق آياته بتقدير العلم وإعزاز شأنه:
(. . . قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولو الألباب) الزمر.
(. . يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات. .) المجادلة.
(يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة، فقد أوتي خيرا كثيرا. .) البقرة.
بل إن القرآن دفع الناس إلى المغامرة في سبيل تحصيل العلم، وإلى مواصلة التحصيل منه إلى أن يشاء الله، لأن العلم بحرلا ساحل له، ولأنه أفق بعيد لا نهاية له، وهذا الدفع من شأنه أن يجعل الإنسان يقف نفسه على البحث عن كنوز العلم وذخائره:
(ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي , وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.) الإسراء.
(. . . وقل رب زدني علما.) طه.(1018/33)
والرسول (ص) يشير إلى هذا المعنى فيقول:
(لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.)
وهناك شبهة صاغتها عقول أولئك الذين أصيبوا بعمى في بصائرهم، وغل في صدورهم، يقولون: إن الإسلام يكرم العلم الخاص بالدين فحسب، ويتجاهلون أن الإسلام إنما يكرم العلم أياً كان نوعه، ما دام يعتبر وسيلة لتفقه المسلمين في دنياهم، وإلا فأي داع إلى أن يشير القرآن إلى علوم الفلك والتقويم، والزراعة والتجارة، وعلم الأحياء وعلم النبات؟ وأي داع إلى أن يحضنا على التفكر في خلق السموات والأرض والشمس والقمر وما إليها؟ وكيف نكون خير أمة أخرجت للناس، إذا لم يكن العلم رائدنا في حياتنا، وهدفنا في دنيانا. . ولكن من أنى لنا أن نقنع هؤلاء الذين لا يؤمنون ولو آتيناهم بكل آية. .؟
وبعد - فإن رسالة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لأسمى من أن تكون قصصاً للتسلية، وهي تتضمن أمثالتلك المعاني الحية الثلاثة، التي تغافل المسلمون عنها، وهي جديرة بأن تبرز في حياتهم حتى ينقلوا إلى الأفق اللائق بهم. والعجيب أن هذه المعاني الثلاثة، قد تضمنتها أول آية نزلت من كتاب الله تعالى، إذ وجهت الناس إلى الخالق الجدير بالعبادة لتحرير العقول، وأشارت إلى أنهم مخلوقون جميعاًمن عنصر واحد لتقرر مبدأ المساواة فتحرر النفوس، كما أشارت إلى العلم تقديراً له، لينقلوا إلى حياة طيبة بواسطته:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.)
محمد عبد الله السمان(1018/34)
تحية الرسالة
في مستهل عامها الجديد
للأستاذ محمود الخفيف
مهداة إلى الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي نزيل القاهرة الآن
نافسي الشمس ضياء ومكانا ... وإملائي سمع بني الدنيا بيانا
اسكبي نورك رأياً وحجى ... وشعاعات من الفن حسانا
أبلغي من طارف العز المدى ... وابعثي من تالد المجد زمانا
في ضحى العيد تلقي زهرا ... من بني الشرق وحبا وحنانا
وأماني وضيئات لهم ... أصلها الشرق. . حماهم وحمانا
يا عروس الشرق كم أيقظته ... ولكم رددت في المهد الأذانا
كم تغنيت بآمال له ... طفلة هش لها المجد افتتانا
وفتاة مثل (جان دارك) اعتلت ... صهوة المجد ولم تعرف هوانا
يلتقي الشرق على صيحتها ... وهي لا تثني عن المجد عنانا
راية الله إذا ريع الحمى ... حضنتها ليس تألوها احتضانا
يا عروساً كم سقانا لحنها ... من حمياه زمانا وشجانا
أنشدينا اليوم أحزاناً لنا ... وأديريها كؤوساً ودنانا
أنذرينا. . طالما بشرتنا ... فعسانا نرهف السمع عسانا
ذكرينا إننا ننسى ضحى ... كل خطب في دجى الليل دهانا
وننام الليل لا يفزعنا ... ما عرانا في ضحانا وعنانا
أيقظينا!. . ذكرينا نذرا ... حولنا طافت. . لهيبا ودخانا
رجت الشرق بطاحا وربى ... لم تدع للأمن والسلم مكانا
أنشدينا نكبة القدس وما ... راع بغداد وما أشقى عمانا
واذكري مصر وما زلزلها ... وصفي نغيا يروع القيرمانا
واسألي حلق هل زليلها ... ما عراها وصفا العيش ولانا؟(1018/35)
طافت الكأس بطهران فما ... خطبها؟ من ذا سقاها وسقانا؟
من لمراكش في محنتها ... كم بغى الباغي عليها واستهانا
اسمعينا اليوم ما يكربنا ... من بنات الدهر بكرا وعوانا
أنذرينا! لم يعد يطربنا ... مجد أيام تولت. . . كيف كانا
عمرك الله ألم يأن لنا ... أن نوقي الجيل هذا الهذيانا؟
أي فخر للذي ديس الحمى ... فتلهى عنه ذلا واستكانا!؟
ليت شعري أي مجد يدعى ... قاعد ذل به المجد وهانا؟!
وفخور يقبل الضيم ولا ... يلتوي يوما على الضيم اضطعانا!
حول ماضيه وآباء له ... دائر ليس يمل الدورانا
ينثر الشوك له أعداءه ... فيرى الشوك حني أو أقحوانا
ويدسون له السم فتغريه كؤوس كم كسوها لمعانا
ويلوك الكون مزهوا به ... كلما أشبع في العيش امتهانا!
يا عروسا كم شجانا لحنها ... خبرينا كيف جرعنا الهوانا؟
الرزايا جمعتنا فصفى ... أي رزء يفصم اليوم عرانا
أمة التوحيد من فرقها ... حسبها بعض رزاياها امتحانا
ينفث السم دخيل بيننا ... ليس يألونا أذى أو روغانا
آفة الشرق لعمري أن نرى ... حولنا في كل ركن أفعوانا
كم سعى بالختل وغد بيننا ... واستطاب العيش فينا واستلانا
أو لم يأن لنا يا ويلنا ... أن نذود اليوم عنا من رمانا؟
سرطان الغرب كم بوبقنا ... آن أن ندرأ عنا السرطانا
يا عروس الشرق غني وحدة ... ما لها في هذه الدنيا سوانا
هي بأس إن ظلمنا فإذا ... كانت السلم وجدناها ضمانا
وحد الإسلام آفاقاً لنا ... وبنانا أمة حين بنانا
ديننا القوة والروح معا ... حضن المصحف من هز السنانا
يا بني الشرق أفيقوا. . ديننا ... عن معاني الذل والضعف نهانا(1018/36)
فأعدوا ما استطعتم من قوى ... مشت القوة والحق اقترانا
آمنوا. . ما الحق إلا قوة ... ترهب البغي وتخزي الشنآنا
لا تقولوا الروح في قارعة ... بلظاها الأرض جاشت جيشانا
اجعلوا المهر حديدا ودما ... للمعالي ونضارا وجمانا
الخفيف(1018/37)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
جان بول سارتر والشيوعية:
بالأمس كان جان بول سارتر زعيم الوجوديين في فرنسا خصماً للشيوعية؛ خصماً لا أحسبني غالياً إذا قلت إن الشيوعيين لم يلقوا لوطأته مثيلاً على طول ما تعرضوا له من حملات الخصوم. ذلك لأن سارتر كاتب أحدث من الدوي في العصر الذي نعيش به ما لم يحدثه كاتب آخر، حتى ليمكنك أن تقول إنه أكثر الكتاب المعاصرين شهرة وأوسعهم نفوذاً وأبعدهم تأثيراً في نفوس الجماهير! من هنا لم تستطع الشيوعية أن تتجاهل خطورته ولا أن تتغاضى عن خصومته فمضت تحاربه وتحارب أثاره بكل سلاح. . حاولت أن تغض من قدره كفيلسوف له في الفلسفة مذهب، وحاولت أن تقلل من أهميته كأديب له في الأدب طريقة، وحاولت أن تسخر من جهوده كإنسان له في المجتمع رسالة! قالت عن فلسفته في (الوجود والعدم) إنها فلسفة العدم ولا شئ سواه، وقالت عن أدبه إنه أدب الانحلال وإنه خطر على الحضارة، وقالت عن رسالته الاجتماعية إنها رسالة الأثرة والأنانية لأنها تحصر اهتمامها في الفرد دون أن تلتفت إلى المجموع؛ وخلاصة هذا كله إن سارتر كاتب يخون شرف الثقافة! قالت هذا وحاولت ذاك والهدف البعيد واضح ومقصود، وهو أن تثير في النفوس عاصفة من الشك وفي الأذهان زوبعة من القلق حول كل ما يدلي به زعيم الوجوديين من أراء وأفكار، حتى إذا ما نجحت في هذا الذي تهدف إليه فقد انهارت ثقة الناس في صدق ما يوجهه إلى الشيوعية من هجوم!!
ترى هل نجحت الشيوعية فيما قصدت إليه من وراء حملاتها على الوجودية وحققت هدفها المنشود؟ كلا! والسبب إنها تلجأ إلى المغالطة وتسرف في الادعاء حين تحاول النيل من زعيم الوجوديين على النحو الذي صورناه. . إن سارتر حين يدافع عن حرية الفرد في التفكير والتعبير واختيار لون الحياة الذي يريد، لا يدافع عن حرية فرد بعينه حتى يجوز للشيوعيين أن يتهموا أدبه بأنه أدب الذاتية والفردية. إنه يدافع عن حرية كل فرد ومعنى هذا إنه يدافع عن حرية المجموع؛ وفي ضوء هذه الحقيقة تتضح لك المغالطة التي تهدف إلى غرض معلوم! إن رأى سارتر الذي يؤمن به ولا يتحول عنه هو إن حق الفرد في ظل(1018/38)
النظام الشيوعي مهدر وأن حريته ملغاة؛ حقه في أن يعيش على الوجه الذي يحب وحريته في أن يفكر ويعبر بالأسلوب الذي يشاء، لان الشيوعية قد رسمت خطوط اتجاه فكرية معينة ثم فرضتها فرضاً على الحياة العقلية والاجتماعية. . إلغاء لحرية مقررة وإهدار لحق مشروع، وهذا هو مبدأ الخلاف أو الجوهر الخصومة بينه وبين الشيوعيين!
لقد أخرج سارتر للناس يوماً نظرية في الأدب هي نظرية (الالتزام) وخلاصتها إن الأدب يجب أن يكون صورة صادقة للجو الذي يحيط به، أن يكون مرآة صافية للمجتمع الذي ينتسب إليه؛ أن يكون لساناً معبراً للجيل الذي يعيش فيه. . . وهذه هي التبعة التي يجب أن يتحملها الأدب وهو عنها مسؤول. على الأديب أن يتصل بما حوله اتصالاً كاملاً حتى لا يكون بمعزل عما يعانيه مجتمعه من مشكلات، سواء أكانت مشكلات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. عليه أن يشارك بقلمه في رسم صورة أمينة لتلك المشكلات وعليه أن يشارك برأيه في كل ما تحتاج إليه من حلول، وهذا هو التزام الأدب وهذه هي رسالة الأديب! إن سارتر ينكر أدب الأبراج العاجية أو هذا الأدب الذي لا يعبر عن أحزان الناس وأفراح الناس، وحاجة كل فرد إلى أن يعيش حر الرأي وحر العقيدة وحر الحياة. . ترى هل تستطيع أن تهضم بعد هذا كله قول الشيوعيين بأن رسالة سارتر هي رسالة الأثرة والأنانية، لأنها تحصر اهتمامها في الفرد دون أن نلتفت إلى المجموع، وأنه تبعاً لذلك كاتب منحرف ضال يخون شرف الثقافة؟! يوم أن طلع سارتر على القراء بنظرية الالتزام في الأدب هتف الشيوعيين: إذا كانت هذه هي أهداف سارتر وهي نفس أهدافنا فلماذا لا ينضم إلى الحزب الشيوعي فيريح ويستريح؟! قالوها ونسوا أن زعيم الوجوديين قد طالب في نظريته الالتزامية بحرية الفرد كاتباً وبحريته قارئاً وهو يحدد رسالة الكتاب والقراء. . إن الكاتب في رأي سارتر يجب أن يكون حراً فيما يكتب، وأن القارئ يجب أن يكون حراً فيما يقرأ، وبهذا وحده يتاح للأدب أن يكون ملتزماً حين يعبر عن مشكلات المجتمع وحين يبحث لهذه المشكلات عن علاج. وما دامت الشيوعية في رأيه لا تتيح للكاتب والقارئ مثل هذه الحرية فما أبعد الشقة بينها وبينه وما أعمق هوة الخلاف، بل ما أعجب هذا المنطق الذي يخاطبه به الشيوعيين!!
في سبيل حرية الفرد خاصم سارتر الشيوعية بالأمس فاتهمته بأن هذه الخصومة لم تكن(1018/39)
ثمرة العقيدة ولا وليدة الإيمان، وإنما كانت إرضاء خالصاً وامتثالاً صادقاً لاتجاهات السياسة الأمريكية؛ هذه السياسة التي تساعد كل استعمار على استعباد الأحرار. . تهمة عجيبة قد تجوز على الذين لا يفرقون في القضايا المنطقية بين كذب النتائج وصدقالمقدمات: سارتر ليس شيوعياً، والشيوعية الروسية ضد الرأسمالية الأمريكية، وإذن فسارتر أمريكي العواطف بلا جدال! هذه القضية المنطقية تصح وتستساغ إذا صحت هذه القضية الأخرى واستساغتها الأذهان: أنت لست غنياً، والغنى كما لابد أنتعرف ضد الفقر، وإذن فأنت فقير بلا مراء! ونترك هذا الاتهام (المنطقي) لنقول ونحن نعني ما نقول: إن سارتر الذي هاجم الشيوعية من أجل حرية الفرد قد هاجم من أجل هذه الحرية نفسها (عدالة) الأمريكيين. . عدالة الأمريكيين في معاملة الزنوج وتعريضهم لكل مظهر من مظاهر الهوان!!
خيانة لشرف الثقافة. . ومن الخيانة لشرف الثقافة أيضاً أن يتحول سارتر عن موقفه بالأمس ليكون نصيراً للحزب الشيوعي الفرنسي في هذه الأيام! تحول عن موقفه لأنه لا يريد أن يتحول عن مبادئه؛ مبادئه التي فرضت عليه أن يدافع عن حرية الفرد ولو كانت حرية الخصوم. . لقد وقف زعيم الوجوديين إلى جانب الشيوعيين في فرنسا حين تعرضوا لألوان متعددة من التعسف وضروب مختلفة من الاضطهاد، تمثلت في اعتقال زعمائهم تارة وتفتيش دورهم تارة أخرى ومصادرة آرائهم تارة ثالثة! ومع هذا كله يغالط أنصار الشيوعية محاولين أن يوهموا الناس بأن سارتر اليوم قد أفاق؛ قد استيقظ من سبات عميق؛ قد أمن بعد كفر واهتدى بعد ضلال؛ قد حافظ على شرف الثقافة بعد أن خانها بالأمس خيانة منقطعة النظير. . قالوها حين دافع في فرنسا عن حرية كل فرد في الأُسرة الشيوعية وحين دافع في فينا عن حرية كل فرد في الأُسرة الإنسانية، هناك حيث وقف في مؤتمر الشعوب ليزلزل بكلماته أفكار دعاة الحرب الأمريكيين!!
إن جان بول سارتر لم يخن شرف الثقافة، وإنما الذي خان هذا الشرف هم هؤلاء الذين يشوهون الحقائق، ويضللون القراء!!
فرانسوا مورياك وجائزة نوبل:
في مثل هذا اليوم من العام الماضي وفي مجلة (الكتاب)، كتبنا مقالاً عن (الأثر الفني بين(1018/40)
الفهم والتذوق) وردت فيه هذه الكلمات:
(هل قرأت قصة لفرانسوا مورياك؟ إنها قصة لا تطالعك بتلك الطاقة القصصية الضخمة التي تطالعك بها آثار كاتب مثل دستويفسكي أو بلزاك، ولا بذلك التصميم الفني الدقيق الذي يشير إلى قدرة الملكة القاصة على السير بخط الاتجاه التفكيري في طريق مرسوم، ولا بذلك (الفهم) الواسع الذي يحيط بصور الحياة ليفرغها بعد ذلك في إطار. . ليس فيها شئ من هذا كله، ولكن فيها الفنان الذي يعيش في موضوع قصته؛ يعيش فيه بكل جوارحه وكل عواطفه وكل همسة روح تخفق بين حناياه. إنه القصاص الذي (يتذوق) الحياة في لحظاتها النفسية النادرة، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق!
هناك لحظة من تلك اللحظات النادرة التي أشرت إليها في قصة مورياك؛ وقبل أن أقف بك عند تلك اللحظة ألخص لك موضوع القصة بصراعها النفسي في كلمات، لأن موضوعها هو موضوع العلاقة (الخالدة) بين كل أم وكل زوجة ابن، تحتدم في أعماقهما المعركة حول الرجل الذي تربطه بالأولى روابط البنوة وتصله بالثانية صلات الزوجية؛ هذا الرجل الذي يقف بين (العدوتين) موقف الحائر المتردد الذي تتعرض حياته في كل وقت لهبوب العواصف والأعاصير، وتنقضي حين تنقضي وهي نهب مشاع للمتاعب والآلام. . الابن هنا وهو فرنان كازيناف، رجل ضعيف العزم مسلوب الإرادة يعطف على زوجته ولكنه لا يستطيع أن يجهر بهذا العطف، خوفاً من الأم التي بقيت له بعد وفاة أبيه وطبعته منذ صباه الباكر بطابع الخضوع والرهبة؛ فهو لا يستطيع أن يجادل ولا يعترض ولا أن يقف في وجهها عندما تتعقد الأمور! والأم كازيناف، امرأة تحب ابنها برغم قسوتها عليه، وما كانت قسوتها تلك إلا نتيجة لهذا الحب الذي تريد به الأمومة أن تملك وأن تحكم وأن تستأثر، وألا يشاركها في هذه العاطفة المتأججة نحو ابنها إنسان! والزوجة هي ماتيلد كازيناف، فتاة لقيت من ظلم الحماة وإهمال الزوج وقسوة الحياة ما ينوء به الطوق ويرفض معه الصبر وتخور منه العزائم. . ومع ذلك فقد صبرت، واحتملت، ولفيت متاعب العيش بالرضا القانع والصبر الجميل!
وتمضي القصة في طريقها لتصور لك أدوار الصراع؛ الصراع الذي انتهى بموت الزوجة بعد عملية وضع قوضت من الجسد المنهار آخر حصن من حصون المقاومة أو آخر معقل(1018/41)
من معاقل الكفاح؛ الكفاح ضد قسوة البشر ووطأة الحياة! ولقد ماتت وحيدة؛ لا همسة عطف من الابن، ولا نظرة رثاء من الأم، ولا موعد لقاء مع رحمة القدر. . وحين انتهى كل شئ، وسكنت كل حركة، ودفنت في تراب الموت كل خصومة، استطاع فرنان كازيناف أن يصعد إلى حجرة الشهيدة، وأن يحس لذع الندم، وأن يوجه إلى أُمه كلمة عتاب!!
ويا لها من لحظة تلك التي يصور فيها مورياك موقف الزوج النادم أمام الجثة المسجاة. . إنها اللحظة النادرة من لحظات (التذوق) العميق لمشهد من مشاهد الحياة منعكساً على صفحة النفس والشعور. لقد وقف فرنان أمام جثة الشهيد وكأنه يقف أمام قديس يعترف له بما جنت يداه، بما اقترف من إثم، بما حمل من ذنوب. . رباه! من أغمض عينيه كل تلك الأعوام فلم ير هذا الجمال؟ ومن أغلق قلبه كل تلك السنين فلم ينعم بهذا الصفاء؟ وهذا الطهر، وهذا الصبر، وهذا الإيمان؛ هذه القيم الإنسانية من حال بينه وبينها حتى لكأنه يبصرها لأول مرة، ويستشعرها لأول مرة، وينكشف له منها في لحظة عابرة ما غاب عنه فيما مر من أيام دنياه؟! آه لو يستطيع أن يفعل شيئاً لهذا الجسد؛ الجسد الذي احترق في موقد العذاب، وتألم، وحمل من الشقاء فوق ما يحمل طوق الأحياء؟ شيئاً ولو كان صغيراً ضئيلاً لا قيمة له، يشعره بأنه قدم إليه في رحاب العدم ما عجز عن أن يقدمه في رحاب الحياة؟! إنه يريد الآن أن يعبر للجسد المسجى عن عطفه؛ عطفه الذي لم يستطع أن يعبر عنه في يوم من الأيام! ولقد قدر له أن يعبر عن هذا العطف حين خطر (لذبابة هائمة أن تستقر على الوجه النبيل). . لقد انتفض كالمصعوق ليرد العدوان الآثم عن تلك البقعة (الآمنة)! البقعة التي يجب ألا (تقلقها) بعد الآن هجمات المعتدين!!
هذا هو الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلاً في قصة فنية. . إن مورياك في هذه القصة كما قلنا لك، لا يطالعك بذلك (الفهم) الواسع الذي يحيط بصور الحياة ليفرغها بعد ذلك في إطار، ولكنه يطالعك بذلك (التذوق) للحياة في لحظاتها النفسية التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق! تلك اللقطة النادرة في جملة عابرة؛ اللقطة المتمثلة في تصوير الندم والشعور به، وفي الإيحاء بالذنب والتكفير عنه؛ وتلك الزاوية الفريدة التي أختارها ليركز فيها ذلك الإيحاء بكلمات قليلة موجزة قوامها (الذبابة التي استقرت على الوجه النبيل). . كل هذه القيم التعبيرية التي ارتفعت بالمشهد النفسي إلى آفاق متسامية من الفن،(1018/42)
تستطيع أن تختصرها في معنى واحد هو المحور الكبير الذي ندور حوله منذ البداية، ونعني به (التذوق الشعوري) الكامل في الأثر الفني حين يتحول إلى تجربة داخلية كاملة في النفس الإنسانية!) هذا هو ما قلناه عن مورياك في عام 1951، وها نحن نعيده اليوم لأن الكاتب الفرنسي قد ظفر بجائزة نوبل للأدب عن عام 1952، ولأن الأكاديمية الملكية السويدية قد خصته بهذه الجائزة (لما يمتاز به أدبه من تحليل عميق للنفس، ولما يتسم به فنه القصصي من قدرة على التعبير عن الحياة الإنسانية). إنك حين ترجع إلى هذا الميزان الذي أقمناه لفن مورياك ونحن نتحدث عن الأثر الفني بين الفهم والتذوق، ثم تعود إلى هذا الميزان الآخر الذي أقامته له الأكاديمية الملكية السويدية وهي في معرض التقدير والتبرير، لا تكاد تجد فارقاً بين الميزانين إلا في الألفاظ المعبرة تبعاً لاختلاف الصور وتنوع الأساليب!
ومع ذلك فإن هناك ضجة في فرنسا حول هذه الجائزة الضخمة التي ظفر بها مورياك؛ ضجة يثيرها خصوم الكاتب الفرنسي من الأدباء والنقاد: يقول الوجوديون إنه كاتب (ذاتي) ولم يكن في يوم من الأيام من الكتاب (الملتزمين)! ويقول الشيوعيون إنه كاتب (رجعي) ولم يكن في يوم من الأيام من الكتاب (التقدميين)!
ويقول فريق ثالث غير هؤلاء وأولئك إنه كاتب (متأمل) وليس بالكاتب (المفكر)! ولهذه الأسباب مجتمعة ومتفرقة يتهم مورياك ويعترض عليه ويثار من حوله الغبار، أما أنهكاتب ذاتي فهذا حق لا مراء فيه وإنه ليعترف بهذه الذاتية، وأما أنه رجعي فحق آخر لا يحتمل الجدل وإن لم يشأ هو أن يعترف به لأنه خصم للشيوعية، وحين نصل إلى المرحلة الثالثة من مراحل الاتهام لا نجد فيها شيئاً من التجني والمغالاة. ولكن هذا كله لا يبرر هذه الضجة التي يقصد منها أن الرجل ليس أهلاً لهذا التقدير. . لقد كان أندريه جيد يلتقي معه في كثير من هذه الخصائص التي يسلكونها في عداد المآخذ والعيوب: كان من أدباء الخواطر والتأملات ولم يكن من أصحاب المذاهب والأفكار، وكان من الكتاب الذاتيين الذين يدورون بأدبهم حول المشكلات الفردية ثم لا يطيقون الوقوف عند مشكلات المجتمع العام، ومع هذا فلم يلق جيد شيئاً من الاعتراض يوم أن ظفر بمثل هذه الجائزة الضخمة التي ظفر بها مورياك!(1018/43)
لقد عالج مورياك فيما عالج من فنون الأدب نظم الشعر وكتابة القصة وانضم آخر الأمر إلى زمرة النقاد، ولكن ملكته الناقدة لم تكن في قوة ملكته الشاعرة أو ملكته القاصة حين توزن المواهب والملكات. . . ولعل القراء يذكرون تلك القصة الطريفة التي قصصناها عليهم يوماً في (الرسالة)، حين عمد أديبان فرنسيان ناشئان إلى طبع ديوان من نظمهما ثم نسباه إلى الشاعر الفرنسي رامبو، حتى يضمن كلاهما للديوان شيئاً من الرواج والانتشار! لقد جازت الخدعة يومئذ على (الناقد) مورياك فكتب صفحة كاملة في (الفيجارو) يتحدث فيها عن إعجابه البالغ بفن الشاعر الفرنسي العظيم، على الرغم مما أثاره الكاتب السيريالي أندريه بريتون حول هذا الديوان من شكوك. . ولقد انتهت المعركة بين مورياك وبريتون حين تطوع الأدبيان الناشئان برفع النقاب عن وجه الحقيقة، وحسبهما أن الديوان قد نفدت طبعته أكثر من مرة، وأنهما قد أصبحا في منزلة أرتير رامبو وذلك بشهادة الكاتب الكبير!
أنور المعداوي(1018/44)
مِن هنا وهناك
تدهور الفن القصصي في الأدب الأنجلوسكسوني:
هناك شبه إجماع بين النقاد على أن فن (القصة) في الأدب الإنجليزي قد تدهور في السنوات الأخيرة لا في الكمية بل في الكيفية.
وتدل الإحصاءات التي نشرتها إحدى المجلات الأدبية الأمريكية أن معدل ما يباع من القصة الإنجليزية الرائجة في طول أمريكا وعرضها لا يتجاوز 10 آلاف نسخة مع أن السوق الأدبية في البلاد الناطقين باللغة الإنجليزية يتجاوز 250 مليون نسمة.
وتصدر المطابع الأمريكية ما لا يقل عن 40 أو50 قصة في كل شهر بينماالمطابع البريطانية حوالي نصف هذا العدد.
أما العوامل التي أدت إلى هذا التدهور في القيمة الفنية للأدب الإنجليزي القصصي فعديدة. ويختلف النقاد في التعليل الصائب لهذه العوامل؛ إلا أن الكل متفق على أن وسائل الكاتب القصصي في الأدب الأنجلوسكسوني أصبحت عاجزة عن تحليل المشاكل الروحية والعقد النفسية التي ازدادت تشعباً في عالمنا الحاضر مما ألم به من التطورات الفكرية والسياسية والاجتماعية فجعلت الحياة اليومية فيه معقدة وعرة المسالك يحتاج الكاتب لسبر غورها إلى قوة فنية خارقة لا تراعي الاتجاه التقليدي الذي كان كتاب القصة في القرنين الماضيين مغرمين باتباعه في تحليل الأشخاص والحوادث.
ويعتقد هؤلاء النقاد بأن الأدب القصصي قد قصر عن اللحاق بالفن التصويري الذي يعتمد على الريشة والألوان؛ فمدارس الرسم الحديث قد أدركت ازدياد التعقد في مشاكل النفس والحياة المعاصرة فسعت إلى تصويرها في إطار الرمزية المجردة كما بذلك رسوم (بيكاسو) وغيره من أئمة الفن الغربي المعاصر.
وتقصير الأدب القصصي الإنجليزي تقصير في الثقافة الأنجلوسكسونية المعاصرة عن الإبداع الفني في تصوير الحوادث والأشخاص والانفعالات وشتى ألوان الإحساس الفني المطلوب في أداء الفن القصصي - هذا التقصير يعود إلى رغبة الكاتب في أن يوفر للقارئ تسلية أدبية لا متعة فنية تهدف إلى الصميم فتفرض على القارئ أن يشارك الكاتب في إحساسه الفني ومتعته العقلية.(1018/45)
ويشتكي النقاد كذلك من أن الأدب القصصي يجب أن يكون وسيلة إلى التسلية في أوقات الفراغ، فالواجب الفني فيه يفترض على الكاتب والقارئ معا المساهمة الجدية في تفهم مشاكل النفس والساعة كما تعكسها الانفعالات الصادقة للكاتب الفنان.
تجارب علمية جديدة لزراعة الأراضي الرملية
يعكف عدد من المهندسين الزراعيين في أربع مناطق مختلفة من مناطق العالم على التجارب العلمية لتنمية الزراعة في الأراضي الرملية الصحراوية. وقد نشرت مؤخرا معلومات عن النتائج التي وصل إليها هؤلاء المهندسون في تجاربهم هذه:
فمن ولاية (أريزونا) في الولايات المتحدة الأمريكية أعلن رئيس محطة التجارب التابعة لوزارة الزراعة الأمريكية بأن الأراضي الرملية والصحراوية التي تؤلف جزاءاً كبيراً من تلك الولاية ستصبح بفضل وسائل العلم الحديث قادرة على إنبات الحبوب والغلات وبعض ألوان العشب الصالح للكلأ والمرعى.
ومن محطة التجارب الزراعية في ولاية (خاستان) الروسية في آسيا الوسطى نشرت السلطات الروسية معلومات تدل على أن الأرض الرملية في تلك المنطقة الصحراوية أثبتت بأن عقمها الزراعي لن يستطيع بعد الآن أن يقف أمام سلطان العلم الحديث؛ فقد نبتت الحبوب والغلال في أراض رمليةبتكاليف معقولة تساعد الزارع على استغلالها بصورة تجارية.
ومن أستراليا جاءت أنباء مشابهة. واهتمام أستراليا بالأراضي الرملية والصحراوية يعود إلى تكرر أزمات الجفاف الذي يصيب مناطق الرعي فيهلك الأنعام والأغنام. وفي مقر الأمم المتحدة في نيويورك تفرغ عدد منالخبراء لدراسة أفضل الوسائل لإخصاب الأراضي البور والمناطق الجرداء في الصحاري والقفار. ونشرت تقريراً مسهباً عن هذا الموضوع تلبية لرغبة أبدتها بعض الدول الآسيوية والإفريقية - منها مصر والمملكة السعودية والباكستان والهند - التي يتوفر لها مساحات شاسعة من الأراضي الجديبة، إذا استطاع العلم الحديث التغلب على عقمها أعان شعوب هذه المناطق وحكوماتها على زيادة الإنتاج الزراعي ورفع مستوى المعيشة بين السكان.
والأساليب التي يتبعها الخبراء لتنمية الزراعة في الأراضي الرملية والمناطق المقفرة تستند(1018/46)
إلى وسائل فنية تحفظ الرطوبة التي يجلبها الشتاء إلى تربة تلك المناطق؛ وذلك بزراعة حوالي 20 صنفاً من أصناف النبات التي يعيش في مناطق خط الاستواء والمناطق الحارة، منها نبات الصرغم وبعض أنواع الذرة الاستوائية ونبات الصمغ. وهذه الأنواع من النبات تضمن استمرار الرطوبة إلى مدة من الزمن كافية لزرع الحبوب وأنواع العشب الصالحة للرعي التي تستطيع أن تعيش على هذه الرطوبة الكامنة
وقد عادت هذه التجارب بنتائج طيبة. فقد نجحت زراعة القمح والشعير في مناطق رملية لا يصيبها المطر ولا تصل إليها مياه الري. وتنشط الآن حكومات الدول المذكورة لتقيم هذه الأساليب في مساحات شاسعة من أراضيها الصحراوية القاحلة.
الفن والحياة كما يراهما الألمان
(أيكون الفن تصويراً لشيء يعرفه الناس أم يكون اكتشافاً لحقائق جوهرية عن الحياة لا يعرف الناس عنها شيئا وإنما يكشف القناع عنها الفنان المبدع؟)
هذا التساؤل هو موضوع لكتاب أخرجته للمطابع الألمانية مؤخراً وتلقفته الأوساط الأوربية الأخرى بالترجمة والتعليق. ومؤلفة الكتاب سيدة هي (جولي براون - فوجلستين) وقد وضعت له عنوان يعبر عن مضمونه (الفن: مرآة الحضارة الغربية)
وتتخذ المؤلفة الفن الغربي سجلاً للتطور العقلي والحضري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع في أوربا وأمريكا. وتحاول المؤلفة كذلك أن تثبت بأن التفسير التاريخي لبعض الحوادث في الحياة الغربية يعجز عن إظهار الحقيقة وراء هذه الحوادث؛ بينما يكون في مقدرة التفسير الفني لهذه الحوادث أن يلقي الضوء الصادق فيظهر هذه الحقيقة
وتسرد المؤلفة في لغة الفنان معادلات جبرية بين فن النحت الإغريقي وبين ظمأ قدماء الإغريق إلى معرفة الحقيقة المجردة في النظام الكوني ثم بين هندسة الفن المعماري في إمبراطورية روما وبين تعشق الرومان إلى توسعفي السيطرة والبذخ. وتلمس المؤلفة التفسير الحقيقي للتطور النفساني والعقلي للرجل الغربي في القرنين الماضيين وما ألم به من مسؤوليات جسام في علاقته مع التطور الحضري الذي اكتسح العالم الغربي. وتلتمس المؤلفة الحقيقة في هذا التطور في المذاهب الفنية الأوربية. فالتطرف الذي ألم ببعض هذه(1018/47)
المدارس في التعبير أو في المظاهر الشكلية للرسم والنحت والموسيقى دليل على القلق الذي ألم بالحياة والنفس في العصور الحديثة؛ ورغبة الناس في تلمس نوع من الاستقرار النفسي. فتشعب المذاهب الفنية تعبير عن هذا القلق وبيان عن الرغبة في تحقيق الاستقرار بالثورة على التقاليد الفنية.
تحديد التراث الأوربي في دراسة أعلامه
تساءل المستر (ويليام باريت) صاحب مجلة (بارتيسان ويفيد) لسان الطليعة في الأدب الأمريكي قائلا: ما هو الإنتاج الذي سيعرف به الأدب الغربي الحديث؟ واتخذ المستر باريت أربعة من عظماء الأدب الأوربي المعاصر علماً على هذا الإنتاج هم: (بودلير) و (بول فاليري) الفرنسيان و (رينر ماريا ربلكه) الشاعر التشيكوسلوفاكي و (بنديتو كروتشي) المفكر الإيطالي الذي توفي في الشهر الماضي ويعتقد هذا الكتاب الأمريكي بأن من الصعب تحديد الإنتاج الخالد في الأدب الغربي الحديث؛ ولكن في استطاعة مؤرخي الأدب الغربي أن يتخذوا هؤلاء الأعلام الأربعة موضوعاً لهذا التحديد.
أما (بودلير) فالرأي بين النقاد السكسونيين وفي طليعتهم الشاعر العظيم (ت س. اليوت) أن بودلير في قرارته شاعر مسيحي برغم ما يشتم في كتاباته من إلحاد. وجدير بالذكر أن (جول بول سارتز) الفرنسي يخالف النقاد السكسونيين في (مسيحية) بودلير ويؤكد ذلك في دراسات نشرها مؤخرا عن مواطنه بودلير. وسارتر في دراسته الأخيرة يجرد بودلير من معظم المزايا الأدبية والروحية التي وفرت له مكانته المرموقة في الأدب الغربي الحديث.
ويصف النقاد السكسونيون (بول فاليري) بأنه شاعر يلعب في شعره بالمعادلات الرياضية ولذلك يتصف نظمه بالبرود والجفاف.
ولعل وصف فاليري بالجفاف الأدبي يعود إلى الثقافة العميقة التي توفرت لهذا الأديب الفرنسي الفحل، فطغت على إحساسه الشعري وقيدت بعض الأحاسيس الشاعرية الرقيقة التي لا بد أن تنزوي في استحياء أمام الإدراك الثقافي العميق.
أما عبقريةالشاعر التشكوسلوفاكي (رينر ماريا ربلكه) فلم تحظ بالدراسة والنقد العميق. فإذا جاز لنا أن نأخذ النقد الأدبي على أنه صنعة تهدف إلى إبراز العيوب أكثر مما تهدف إلى الإشادة بالإبداع الفني، فان النقاد حين يعالجون شعر (ربلكه) يميلون إلى اتهامه بالقصور(1018/48)
في إبراز النواحي الدراماتيكية في الشخصية الإنسانية. وثمة أمر يتعصب النقاد في الغرب له عندما يدرسون شعر هذا العبقري الأوربي وهو سلبية (ربلكه) إزاء المسيحية ودعائمها الروحية والثقافية. ومع ذلك فقد حاول مؤخراً ناقد ألماني معروف وهو (هانس إيجون هولنوسن) بأن يثبت في دراسة عميقة للشاعر (ربلكه) أن قصائده قد ساهمت في تمجيد الإحساس الديني أكثر من أي نتاج شعري آخر.
ويحظى عميد الفكر الإيطالي المعاصر المرحوم (بنديتو كروتشي) بإجلاء الأوساط الفكرية وتقديرها العميق. فكروتشي علم على طلاقة الفكر والأدب والفن وانطلاقه من القيود التي يقيده بها السلطان والمجتمع. فهذا الشيخ الجليل، الذي تحدد موسيليني في أوج جبروته ورفض التعاون مع من ورثوا السياسة والحكم بعد موت موسيليني، عنوان على صلابة ومتانة الخلق حين تعتقد بما اعتقدت به عقلياً وروحياً، ولا بأس من أن تجهر بما تعتقد وتدافع عما تؤمن به حتى لو استدعى ذلك نقمة الواقفين للفكر الحر بالمرصاد.(1018/49)
في عالم الكتب: نقد وتعريف
موكب الأشباح
ترجمة الدكتور عبد الحميد عنبر والأستاذ فتحي عبد الوهاب
هذا الكتاب الجديد يندرج تحت عنوانه طائفة من القصص المطولة والأقاصيص القصار، منقولة نقلاً أميناً عن جهابذة الفن القصصي في الغرب من أمثال موباسان وسمرست موم وبييرميل وغيرهم ممن لمعت أسمائهم في عالم القصة الزخار.
والكتاب مصبوب في قالب من الأخيلة والرموز على نمط تلك الأقاصيص التي برع فيها الكاتب السويدي هانز أندرسن.
وأحد المترجمين الفاضلين، وهو الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب معروف لقراء (الرسالة) بتلك البحوث العلمية القيمة التي يطالعهم بها بين الفنية والفنية. وهو الذي تولى عن زميله تقديم الكتاب. وأعترفبأني أعجبت بهذه المقدمة أو بالجانب الأكبر منها؛ لأنها تكشف عن كثير من جوانب الضعف الإنساني، فنحن (نحلق في أجواء الخيال فنبني قصوراً من المخاوف، ونخلق أنواعاً من مسوخ فرانكنشتاين ومصاصي الدم أمثال دراكيولا، وغير ذلك من غريب ما يخلقه الفكر).
بيد أني وقفت طويلا عند قول الأستاذ عبد الوهاب (إذا بحث باحث عن تاريخ قصص ما وراء الطبيعة يجد إن من أهم أسباب نشأته الخرافات والمعتقدات والرغبة في معرفة ما وراء الموت ثم الخوف والرهبة من الظلام) إلى آخر ما قاله في هذا الباب من تفصيل يتناول المدارس المختلفة لقصص ما وراء الطبيعة.
أقول إني وقفت طويلاً عند قول الكاتب هذا، ثم أعدت تلاوة المقدمة خشية أن يكون فاتني منها شئ، غير إني تأكدت إنه لم يفتني منها شئ، وإنما فات الكاتب الفاضل، فإن قصص ما وراء الطبيعة كانت بداءة ونشأة للأدب الرمزي، ذلك أن الأدباء الأقدمين اصطنعوا الكناية ليعبروا برموزهم عن مقاصدهم السياسية التي لو افصحوا عنها لقطعت رءوسهم وبذلت أرواحهم، وقد سبق إلى ذلك ابن المقفع فأنشأ (كليلة ودمنة) وأورد أراءه السياسية كلها حكاية على ألسنة الحيوان والوحش والطير، ثم قفاه أبو العلاء المعري فحلق في (رسالة الغفران) إلى السماوات السبع ودخل الجنة وانحدر إلى الجحيم، وكذلك فعل مؤلف(1018/50)
كتاب (ألف ليلة وليلة) وإن كتاب (الكوميديا الإلهية) الذي وضعه دانتي الإيطالي في العصر الوسيط لمثل بارز على أن المؤلف أراد أن يرمز إلى آرائه الخفية في الإصلاح الديني وفي النهضة الأوربية التي كانت تتمخض في عهده.
إذن فليس الخوف من المجهول وحده هو الدافع إلى سرد قصص ما وراء الطبيعة والتخويف بالغول والعنقاء والهورلا التي ينقل المترجمان الفاضلان قصتها، ذلك لو أننا جارينا كاتبنا الفاضل على هذا الرأي لسلبنا هذا النوع من القصص ركناً من أهم أركانه، فهو من أهم دعائم الأدب الرمزي الذي يميل إلى التضمين الخفي والكناية البعيدة.
والكتاب الأحرار في عصور الطغيان يفزعون إلى هذا النوع من الأدب فيستنطقون الحيوان ويناجون الأشباح، وهم في ذلك كله إنما يومئون إيماءات ذات مغزى ويبدون آراء لها قيمة فيما يجري من الأحداث.
وبعد فإن الكاتبين الفاضلين ليستحقان الثناء على ما بذلا منجهد وعلى ما قدما من صنيع.
منصور جاب الله
ماتزيني
تأليف الأستاذ علي أدهم
ماتزيني علم من أعلام الجهاد الوطني، ومثل من أمثلة الصبر على المكاره في سبيل الغاية المنشودة. وحسبنا أنه قضى أكثر من خمسين عاماً يقاسي آلام النفي والتشرد مكافحا ضد استعمار النمسا لبلاده إيطاليا، وعاملاً على تحقيق استقلالها ووحدتها. وقد عاش حتى رأى وطنه يستقل ويتحد فكان في مقدمة بانيه. ولماتزيني من جهة أخرى اشتغال بالأدب ورأي في النقد، ولو تفرغ لهذا لكان من أعلام الأدباء.
وقد صور لنا الأستاذ علي أدهم شخصية متزيني تصويراً دقيقاً قام على التمحيص والاستيعاب، فأنت تقرأ في كتابه هذا عن متزيني الزعيم الوطني المجاهد ومتزينيالأديب النقادة.
وقد أحسن الأستاذ أدهم صنعا بتقديم هذه الشخصية الفذة لأبناء العربية في وقت هم فيه أحوج ما يكونون إلى المثل في الكفاح والصبر على المكاره.(1018/51)
المسيح عيسى بن مريم
للأستاذ عبد الحميد جودة السحار
هذا كتاب جمع بين الدراسة والقصة في طريقته. يتبع فيه الأستاذ عبد الحميد السحار حياة المسيح مرحلة مرحلة؛ يصف لك بخياله الموفق بيئة المسيح عليه السلام وكيف نشأ؛ ثم يتتبعه رسولاً لبني إسرائيل ويصف أسلوبه في تبليغ رسالته وصلة حواريه به، وخلاصة هذه الرسالة، ثم يريك كيف كانت خاتمته، كل ذلك في أسلوب مشرق رصين، وقصص ممتع. وقد جعل المؤلف ما جاء عن المسيح في القرآن محور دراسته، فهو يبدأ أكثر الفصول في كتابه بآية من كتاب الله مناسبة لما يدور حوله ذلك الفصل، ويرد أكثر ما عرف من حياة المسيح إلى ما تتضمنه هذه الآيات البينات في كياسة ودقة نظر، مما يجعل كتابه هذا جامعاً بين المتعة والثقافة ومستوجباً الثناء الحق.
شمس الخريف - بعد الغروب
للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله
هاتان قصتان للأستاذ عبد الحليم عبد الله؛ وقد أصبح للأستاذ عبد الحليم مكان مرموق في مجال القصة المصرية الناشئة، يبشر فيما نأمل بمستقبل مجيد. ومن حق قصتيه هاتين أن نعرضهما في مجال النقد، بعد هذا التعريف الذي نبدأ به.
تدور القصة الأولى حول مسألة هي: ماذا تأخذ منا الحياة وماذا تعطي؟ وهي قصة شاب سرقته أمه وهو صغير من بيت أبيه بعد أن تزوجت برجل آخر في الإسكندرية. وهاجر الشاب إلى القاهرة تاركاً صبية له كانت فتاة ريفية خادما هي كل من يحنو عليه من الناس ولقى في القاهرة ألواناً من العذاب والحرمان، ومازال يخرج من شقاء ليدخل في غيره، وقد انقطعت الصلة بينه وبين أمه، وبينه وبين حبيبته زمناً. وماتت أمه وتزوجت حبيبته، وتزوج هو من سيدة قبلها على خطيئة لها فعاشت معه مكفرة عن خطيئتها ثم ماتت بداء الصدر، وقد أنجبت له ولداً، عاش أبوه حتى رآه طبيبا للأمراض الصدرية، وسعد الأب بابنه وأبتسم له الدهر بعد عبوس طويل.
أما القصة الثانية فهي قصة الفقير الوهوب يشق طريقه في الحياة. وأبن فلاح يتخرج في(1018/52)
كلية الزراعة فيجد أرض أبيه وقد انتزعها أحد المصارف، فيعمل ناظراً لأحد الضياع ويحب أبنه صاحب الضيعة وتحبه، ويريد أن يتزوجها لكن أباه يرفض ذلك رفضاً قاطعاً، ويوصي عند موته بأن تكون أبنته لأبن عمها، وتعرض هذه الفتاة عن حبيبها تنفيذاً لوصية أبيها ومخافة من الشائعات وسوء الظن بها إذا هي تزوجته بعد موت أبيها.
ويطرد أبن عمهاذلك الشاب من الأرض، فما يزال يكدح في سبيل رزقه حتى ينتهي به الأمر إلى أن يصبح رئيس تحرير إحدى المجلات.
ويكتب قصته يصف فيها مأساة قلبه، ويضفي على حبيبته ألواناً من الغدر وعدم الوفاء، فتذهب للقائه وتذكر له حقيقة أمرها
يتذكر كل منهما ماضيه، ولا يأسف الرجل على شئ من هذا الماضي، وإنما الذي يكدر عليه حياته حاضره الخالي من الولد؛ وقد استبان له أخيراً أن السعادة الحقيقية إنما هي في الولد
والأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله يكتب في أسلوب عربي صحيحخال من التكلف، وأسلوبه جدير بالنقد الذي لا يتسع له هذا المجال. ولعلنا نعود إلى قصتيه هاتين في فرصة قريبة بما يستحقان من نقد وتقدير
الخفيف(1018/53)
مسرح وسينما
صندوق الدنيا
تأليف الأستاذ توفيق الحكيم
إخراج: الأستاذ سعيد أبو بكر
تمثيل: فرقة المسرح المصري الحديث
للأستاذ علي متولي صلاح
لا أدري من الذي أطلق على هذه التمثيليات القصيرة اسم (صندوق الدنيا)؟ أهو المؤلف؟ أم المخرج؟ وسواء أكان هذا أم ذاك فإن الشيء الذي لا شك فيه هو أنه إنما أريد بهذه التسمية جلب المتفرجين، فإن كلمة (صندوق الدنيا) كلمة شعبية لها استدعاء خاص في نفوس سواد الناس الذين كان هذا الصندوق الخشبي يبهرهم ويستهويهم عندما يطوف بهم في القرى والمدن وهم أطفال يدرجون.
ولو أنهم سموه (صندوق العجائب) لكانت التسمية أدنى إلى الصدق؛ فإن الذي طلع به علينا هذا الصندوق إنما هو من الخوارق العجائب حقاً:
وهل نشاهد في حياتنا الدنيا كثيراً من أمثال (صالح بك زهدي) الذي يحتقر المال ويزدريه وهو ومن يعولهم أحوج ما يكونون إليه؟ أو هل نرى كثيراً من أمثال (سهام) تلك الفتاة التي ملأت نفسها شهوة القتل وتأجج بها فؤادها وملكتها (رغبة جامحة وقوة قاهرة تدفعها إلى أن تقتل شخصاً) كما تقول؟ أو هل نرى كثيراً من أمثال (عبد الغني بك) البخيل الذي أربي على البخلاء العالميين الأفذاذ من أمثال (الكندي) و (ليلى الناعطية) بخيلي الجاحظ، و (هارباجون) بخيل موليير، و (شيلوك) بخيل شكسبير، و (أوجين جرانديه) بخيل هونورية دي بلزاك؟ إن هذه الشخصيات فلتات في الحياة الدنيا، ولكن الرغبة في ازدحام المسرح بالناس هي التي أدخلتهم (صندوق الدنيا) ولا أدري لماذا يتشبث الأستاذ توفيق الحكيم بأن يصف هذه التمثيليات المتفرقة باسم (مسرحية) ويأتي جاهداً إلا أن تكون مسرحية واحدة رغم ما بينها جميعاً من (كمال الانقطاع) كما يقول رجال البلاغة؟ مع أن(1018/54)
المسرحية القصيرة أكثر مشقة على المؤلف، وأشد تضييقاً عليه بحكم قصرها وقلة أشخاصها ومناظرها عن المسرحية الطويلة، وتوشك المسرحية القصيرة أن يكون لها القدح المعلى في العصر الحديث؟ أغلب الظن أن المؤلف لم يجد بداً من هذه التسمية وهو يقدم هذه الفصول إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، أو أنه استشعر الحرج إن هو سماها باسم جديد لم يألفه الناس فجنح إلى السلامة وتكلم باللغة المألوفة عند الناس - وهو يضمر غير ذلك - ثم أخذ يبحث عن الأسباب هنا وهناك! وأخذ يؤكد للناس أن الحكمة في جمع هذه الصور المتعددة في صعيد واحد أن ذلك (ما يساعد على إظهارصور المجتمع في أضاعه العديدة المختلفة) وذلك قول مردود؛ فليس المهم في المسرح أن تكثر المعروضات وتزدحم الموضوعات فهذا ميدانه الملحمة لا المسرحية، وقد يتناول المؤلف المسرحي غريزة واحدة أو معنى واحد فيقيم عليه مسرحية ضخمة، تنبثق منه العبرة، ويفيض على جوانبها الفن والجمال، كما فعل شكسبير مثلاً حيث تناول غريزة (الغيرة) فأقام عليها مسرحية عطيل، غريزة (الجشع) فأقام عليها مسرحية مكبث، وغريزة (الانتقام) فأقام عليها مسرحية هملت، وغريزة (الحماقة) فأقام عليها مسرحية الملك لير، والمسرح (لقطة) واحدة من الحياة تعيشها ساعتين أو ثلاثاً متحداً مع ما تراه، مندمجاً فيه بقلبك وعطفتك، وليس المسرح (معرضاً) كبيراً أو (موكباً) ضخماً يمر بك وأنت منفصل عنه تراه بنظرك ولا يستطيع قلبك وعاطفتك أن يتابعاه!
ولقد كتب الأستاذ توفيق الحكيم هذه المسرحيات بلغة أقرر أنها المسرح حقا، كتبها باللغة العربية السمحة السهلة المشرقة التي لا تعلو على إفهام السواد الأعظم من الناس، والتي لا تزيد على ما يتكلمونه إلا خطوة ضئيلة هي أقصر خطوة - فيما نعرف - بين العامة والعربية، وذلك أمر ليس - كما يتصوره البعض - سهلاً ميسوراً؛ فإن تقريب العربية إلى العامية مع المحافظة على سلامتها ونقائها وإمكان أن يفهمها الناس جميعا، أمر فوق أنه لا غنى عنه في لغة المسرح، فهو عسير غاية العسر، وقد استطاعه - إلى حدكبير - صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم كما استطاعه صديقنا الأستاذ علي أحمد باكثير.
هذا أمر أشهد به ويسرني أن أشهد به، وأرجو أن يعلم المؤلفون المسرحيون أن الجزالة والفخامة وضخامة الألفاظ وغرابتها ليست من المسرح في شئ. . وإن كنت ما أزال أرجو(1018/55)
المزيد من الأستاذ توفيق الحكيم؛ وآخذ عليه بعض كلمات كان الأولى أن يتجنبها، كقوله (مقدم الصداق) ولو قال (المهر) لكانت أيسر، وكقوله (إنني أثيرة عندك) ولو قال (إنني مفضلة عندك أو إنني عزيزة عليك) لكان أقرب، وكقوله (وهكذا دواليك) وهذه عسيرة جدا على المسرح ولو قال (وهكذا تدور أو هكذا تمضي الأيام) لكان أخف كثيراً. على أنني أرجو كذلك أن يجمع الأستاذ إلى سهولة اللغة سلامتها من فساد قد يكون أضفاه عليها العرف، فهو يقول مثلا (إن رزقه محدود لا يكاد يكفي لفتح هذا البيت) وكلمة (فتح بيت) هذه قد أعطاها العرف معنى غير كريم فكان أولى أن يتجنبها المؤلف. . ولقد أسلم المؤلف هذه المسرحيات بلغتها السمحة السهلة التي يقرؤها الناس في كتابه (مسرح المجتمع) إلى ممثلين أبوا - كما حدثنا الأستاذ المؤلف - إلا أن ينزلوا بها إلى العامية اعتقاداً منهم أنها عسيرة على إفهام الناس وأنهم لن يستطيعوا متابعتها، وقد تنتهي ذلك بالإعراض عنها، ولكنهم في ذلك جد مخطئين.
أما المسرحية الأولى (دنيا المبادئ) فتقوم على رجل لا تستهويه المادة وهو أشد الناس حاجة إليها، رجل يؤثر الفضيلة والأخلاق على أعراض الحياة؛ ويؤمن إيماناً بالمثل العليا ولو جلبت له الفقر ولذويه الحاجة والحرمان ويذكرني هذا الرجل الذي قدمه لنا توفيق الحكيم في مسرحيته هذه وأعنى به (صالح بك زهدي) برجلين قدمهما لنا من قبل الكاتبان الشهيران: مولييرو هنريك إبسن، فقد قدم لنا الثاني (دكتور ستوكمان) وهذان الرجلان وصاحبهما الجديد (صالح بك زهدي) يقفون من الحياة موقفاً واحداً، ويتخذون صفات واحدة، وإذا عرفت أحدهم فقد استغنيت عن صاحبيه!
وليس في هذه المسرحية بناء مسرحي على الإطلاق وإنما هي حوار طويل جداً بين رجلين أستغرق في كتاب الأستاذ المؤلف اثنتي عشرة صفحة كاملة لا حركة خلالها، ولعل الأستاذ المؤلف قد استشعر الملل الذي استشعره النظارة، فأراد أن يكسر حدته بأية حركة، فأدخل الخادم بصينية القهوة بعد تسع صفحات كاملة! على أن المخرج مسئول عن ذلك أيضاً، فالمخرج ينبغي أن يكون أكثر إحساساً بعواطف الجمهور من المؤلف، والمخرج ليس آلة صماء في يد المؤلف، ولكنه متمم له يستدرك ما يفوته، ويكمل ما ينقصه. ولم يكن بطل هذه التمثيلية وأعني به (حمدي غيث) يمثل وإنما كان يخطب! وتلك النزعة إلى(1018/56)
الخطابة تلازمه كثيراً، ويبدو أنه يجد فيها نوعاً من التميز والتفرد والبروز على إخوانه، وأنا أرجو أن يحد من هذه النزعة المسيطرة عليه، وأن يلبس لكل حال لبوسها قبل أن يستحيل إلى يوسف وهبي آخر! وإن لم يستطع فليعتزل التمثيل إلى سواه. . .
وأما المسرحية الثانية (دنيا الوفاء) فتقوم على أزمة نفسية خطيرة ملأت قلب فتاة شابة هي (سهام). . . أزمة الرغبة الجامحة في القتل، رغبة (ليس باعثها الانتقام بل لا باعث لها على الإطلاق. إنها شهوة القتل لذاتها مجردة عن أي باعث) إن هذه الفتاة كما صورها المؤلف (فتاة تصوم وتصلي ويتمزق قلبها رحمة بالطفل البائس أبن الكناس فتصنع له بيدها ثوباً يكسو عريه، فتاة حسناء وديعة مثقفة، لا تطيق سماع مواء قطة جائعة. ولكنها مضطرة برغبة جامحة إلى أن تقتل شخصاً، وما تكاد تنفرد بخادم في المطبخ وفي يدها سكين حتى تلمع عيناها ببريق غريب وتهم بطعنه) هذه هي فتاة توفيق الحكيم. . فتاة يرثى لها ويشفق الإنسان عليها، فلما تسلمها منه الممثلون أحالوها فتاة مضحكة ترفه عن النظارة وتسرهم بما تأتي من حركات بهلوانية متكررة طويلة!
على أني أسأل الأستاذ المؤلف لماذا سكنت ثائرة الفتاة في النهاية مع أن القتل لم يتم؟ هل يكفي لتسكين هذه الثورة الجامحة أنها (اعتقدت أنها قتلت) كما يقول الأستاذ مع أنها تبينت الأشخاص الثلاثة الذين صوبت إليهم مسدسها فوجدتهم في سلام؟ وتبينت كذلك أن مسدسها كان محشوا بالبارود الذي لا يقتل؟ لو أن المؤلف جعل الفتاة تولي الأدبار عقب إطلاقها مسدسها مباشرة ودون أن تتبين شيئاً مما حدث لكان أدنى إلى المعقول وأقرب إلى منطق الأشياء، لأن الفتاة كانت تعتقد حقاً أنها قتلت
وآخذ على الأستاذ المؤلف أنه يفسر موقف الفتاة فيقول (آه. . لقد قتلوا فيك روح الحياة، فحل فيك حب الموت) وذلك بعد تمهيد مفتعل ليؤدي إلى هذا الكلام. وهذا التفسير اللفظي ليس من المسرح في شئ، فالمسرح تفسره الأفعال لا الأقوال كما يعلم الأستاذ، وإنما يحتاج إلى الكلام إذا لم تستطع (الأفعال) وحدها أن تقوم بالتفسير والإفهام!
وأما المسرحية الثالثة (دنيا الأعمال) فهي أدنى هذه المسرحيات إلى واقع الدنيا، وتقوم على صورة من الاتصالات غير الشريفة بين الشركات وبين رجال الحكومة الذين يسترون أعمال هذه الشركات في دور الحكومة نظير سهرات لطيفة، ورشاوى و (إكراميات)(1018/57)
طريفة، وهي مسرحية تقوم على مشاهد مألوفة كثيراً لدى رواد المسارح، والحوار فيها حسن، والدور الذي قامت به (سناء جميل) وهو دور المغنية المبتذلة كان شاقاً وقد أحسنت القيام به إلى حد كبير، غير أنها لم تخف تبذلها بعد حضور زوجة الرئيس وتقديمها إليها على أنها زوجة مدير الشركة رغم هذا! وأعجب من هذا وذاك ألا تكون بهذه الشركة الكبيرة حجرة للاستقبال فتدخل زوجة الرئيس إلى حجرات صغار الموظفين والمفروض أنها مشغولة بهم لولا المصادفة!
أما المسرحية الرابعة (دنيا المال) فتقوم على شيخ بخيل يذكرني بصفة خاصة بهارباحون بخيل (موليير). . ولا أدري كيف ينسى هذا البخيل العتيد أن يجعل للتلفون قفلاً ويتركه لخادمه مفتوحاً في حين أنه أوثق الرتاج على البن والسكر! ولا أدري كيف يبقي خادمه (بسطويسي) عنده عشرين عاماً متوهماً بأن له في (الوقفية) نصيباً وهو أدرى الناس بسيده وبكاذب وعوده؟ ولا أدري لماذا يأنى (عدلي كاسب) بحركات جسيمة كثيرة جدا لا مدلول لها في تصوير هذا البخيل؟ ولا أدري لماذا لم يظهر (عبد الرحيم الزرقاني) و (كمال يس) في صورة الكهلين الجليلي المنظر كما أرادهما المؤلف؟ ولماذا يكره الناس الكهولة حتى في التمثيل؟
وبعد: فهذه كلمة عرضنا فيها المسرحيات الأربع التي ألفها الكاتب الكبير الأستاذ توفيق الحكيم، ونجمل الرأي فيها بأنها خفيفة الظل جيدة الحوار حسنة اللغة، وأنهكان من سوء حظها أن وقعت في يد ناشئ لا يكتفي بأن يكون ممثلا ولا يرضى إلا بأن يكون مخرجاً أيضاً رغم عدم توفر الوسائل لديه، ووقعت في يد ممثلين كانوا أضعف من المسرحيات كثيراً.
علي متولي صلاح(1018/58)
أخبار أدبية وعلمية
معهد الدراسات العربية العليا
اتفق رأي جامعة الدول العربية بعد بحث عميق شامل على أن تنشئ بالقاهرة معهداً للدراسات العربية العليا تديره وتنفق عليه، وسيكون طلابه من خريجي الجامعات ومدة الدراسة فيه سنتان. أما الغاية من الدراسة فيه فهي التخصص في كل ما يتصل بالبلاد العربي من قوانين وآداب وتاريخ وجغرافيا، وما يندرج تحت هذه الأصول من فروع وجزيئات تمس العروبة من قريب أو بعيد في الحاضر والمستقبل. وستوزع هذه المواد الأربع على أقسام أربعة يكون بكل قسم منها رئيس يشرف عليه ويحاضر فيه. وقد اتفق على أن يعين فيه سبعة أساتذة دائمون يختار من بينهم مديره. أما الأساتذة الآخرون فيكونون محاضرين ينتدبون كل عام من البلاد العربية أو من غيرها على حسب التخصص والكفاية والحاجة. وسيكون للمعهد مكتبة عظيمة تجمع المطبوع في شتى المواد وقد أرصد لها في ميزانية السنة الأولى أربعة آلاف جنيه.
وسيبحث مجلس الجامعة في شهر مارس المقبل ميزانية المعهد وينظر في اختيار أساتذته الدائمين ليكون معداً للعمل في شهر سبتمبر المقبل. وقد علمنا من بين السبعة المرشحين للكراسي الدائمة الأساتذة عبد الرزاق السنهوري، وساطع الحصري، وشفيق غربال، وعبد الحميد العبادي.
جهاز جديد لتغذية المرضى
تمكن الأطباء في الفرقة الطبية من الأسطول الأمريكي من استنباط جهاز جديد لتغذية المرضى في حالة الغيبوبة والإصابات التي لا يستطيع معها المرضى ابتلاع الطعام. والجهاز الجديد بسيط التركيب يتألف من أنبوبة دقيقة تتصل بالمعدة عن طريق الفم وتوصل الطعام إلى معدة المريض بواسطة مضخة تراعي في نقلها الغذاء إلى المعدة حساسية الأنسجة والجهاز التكويني المعد لمعدة الإنسان بحيث لا يتأثر هذا الجهاز المعدي بالطعام المفروض عليه فرضاً فلا يتقيأ ولا يعبأ بالشعور الواعي للمريض.
العلم ومتاعب الشيخوخة(1018/59)
العمر طال أو قصر في يد الله. ومع إيمان عدد من كبار العلماء في جامعة أكسفورد بهذه القدرية الإلهية فان ذلك لم يمنعهم من تركيز جهد خاص في السنوات الأخيرة لمعالجة متاعب الشيخوخة في نواحيها الصحية والنفسية.
وقد وجد هؤلاء العلماء أن نسبة الشيخوخة في سكان الأرض قد ارتفعت في الآونة الأخيرة ما جعل أكثرهم عالة على المجتمع وعلى الدولة التي تأخذ بمبدأ الضمان الاجتماعي للعاجزين والمعمرين.
وقد نشر هؤلاء العلماء مؤخراً تقريرهم عن الدراسة التي قاموا بها وأوحوا إلى الذين تقدمت بهم السن أن يراعوا الإرشادات التالية إذا رغبوا في أن تمر شيخوختهمبسلام.
1 - الحرص دائماً على الاعتماد على النفس وتفادي الاستعانة بالآخرين ما استطاع الشيخ إلى ذلك سبيلا. فشعور الشيخ بأنه عالة على الآخرينيخلق له أزمات نفسية سيئة ويجعل احتمال الآخرين له مشوباً بطابع التأفف والملل.
2 - من الخير للذين تقدمت بهم السن أن يحاولوا دائماً القيام بعمل عقلي وجسمي ليثبت لنفسه وللآخرين رغبته في أن يكون غير مشلول النشاط في المجتمع الذي يعيش فيه. ويجب أن يراعي الشيوخ أن طاقتهم على العمل العقلي والجسمي محدودة بالقياس إلى طاقة الذين هم دونهم في العمر والقوة الجسدية. ولذلك فإن نشاط الشيوخ يجب أن يراعي هذه الحقيقة فيتجنب منافسة الآخرين لئلا يجلب على نفسه لوناً من النقد والتحدي الذي ينفر الناس منه أما الإرشادات الصحية التي نصح علماء الأعصاب بها الشيوخ فهي:
- تفادي الإرهاق العصبي.
- الإكثار من تناول الفيتامينات من مختلف الأنواع.
- التريض الخفيف الذي لا يرهق الجسم، والتعرض للهواء الطلق وأشعة الشمس الدافئة.
اكتشاف جديد في عالم الآثار
كان الرأي السائد بين علماء الآثار أن الأهرام التي بناها قدماء المكسيك (المايان) في أمريكا الوسطى لم تكن تحتضن قبوراً أو هياكل دينية أو ما شاكل ذلك من طقوس الدفن التي تعرف بها أهرام مصر وآثارها الفرعونية وقد حدث منذ بضعة أسابيع أن توصل(1018/60)
عالم مكسيكي إلى كشف دهليز سري متفرع عن أحد الأهرام في أنقاض مدينة (بالانك) في جمهورية المكسيك يؤدي إلى معبد دفنت فيه ست جثث لستة من الصبايا والفتيان الذين يعتقد أنهم من كهنة المعابد في عهد (المايان) الذي كانت حضارته تعم تلك الجزر من أمريكا الوسطى قبل اكتشاف كولومبوس لها. وسرعان ما أثار هذا الاكتشاف الأثري اهتمام علماء التاريخ القديم فتدفقت البعثات الأثرية على المكسيك لتحاول أن تكشف ما ضمنته أهرام المكسيك القديمة من تراث يلقى ضوءاً جديداً على حضارة ذلك العهد البائد.
كاتب إيطالي بارز يؤلف بلغتين في وقت واحد
ينفرد المؤلف الإيطالي (كارلو كاتشولي) بين كتاب الجيل بأنه ينشر كتبه في لغتين: الإيطالية والفرنسية في آن واحد، فيبدأ بالإنشاء على الآلة الكاتبة الإيطالية مباشرة، ثم يتوقف بعد ساعات من العمل يترجم ما كتبه إلى الفرنسية بالقلم الحبر.
وكاتشولي نابه يحسن اللغة العربية ويتتبع إنتاجها الفكري. وقد ظهر له حتى الآن عدة كتب ناجحة منها كتاب (السماء والأرض) الذي ترجم إلى عدد من اللغات الحية. وهو يحمل دكتوراه في (إدارة المستعمرات) من جامعة نابولي. وقد خدم في السلك السياسي الإيطالي في مستعمرات إيطاليا الإفريقية السابقة.
المكتبات العامة وكتب الدعاية
رفض مؤتمر الاتحاد الأمريكي للمكتبات العامة الذي أنعقد مؤخراً قبول اقتراح عرضه عليه نفر من رواد كبريات المكتبات الشعبية لفصل الكتب التي تحمل في ثناياها دعاية شيوعية عن بقية أجزاء المكتبة، والإبقاء على تصنيفها في المواضيع التي تعالجها كما هو الحال في بقية أنواع الإنتاج الفكري الذي تصنفه المكتبات.
واستند المؤتمر في رفضه لهذا الاقتراح إلى أن المكتبات تحتوي الغث والسمين فلا حاجة لفرض رقابة قاسية على القارئ الذي من حقه أن يكتشف لنفسه صلاح الكتاب وشره.
عالم روسي يدعي الخلق الصناعي
تزعم أكاديمية العلوم الطبيعية في موسكو أن أحد العلماء الروس قد استطاع القيام بتجربة علمية جديدة تعد من أخطر التجارب في تاريخ العلوم الطبيعية.(1018/61)
واسم العالم ب. بوشيان، وقد تفرغ في السنوات الأخيرة على
التجارب في علم الحيوان. وقد نشر في إحدى المجلات العلمية
الهامة مؤخراً بحثاً ادعى فيه أنه قد توصل إلى أن يستخرج
من موات المادة الجرثومية تنبض بالحياة، وأنه استطاع كذلك
أن يحول هذه الجرثومة إلى مكروب. أما حجم الجرثومة التي
أدعى هذا العالم الروسي أنه قد خلقها من المادة الميتة فتبلغ
112 مليون من المليمتر - وهو حجم لا يرى إلا بأدق
المجاهر.
ولم يستطيع العلماء خارج الاتحاد السوفيتي أن يتأكدوا من صدق هذه التجربة الخطيرة التي تعد تحدياً للعزة الإلهية. ومن هؤلاء العلماء من يتهم الروس بترويج هذا النبأ ليهدموا ما تبقى من العقيدة الدينية في المجتمع الشيوعي.
البترول في إفريقيا
أصدرت الجمعية الأمريكية لعلم الأرض تقريراً عن المعادن والمواد الأولية في القارة الإفريقية جاء فيه أن بطن الأرض الإفريقية يحتوي من مواد البترول ما يفوق أهم المناطق البترولية المعروفة حتى الآن. ولدى وزارة المستعمرات البريطانية تقارير هامة عن المعادن والمواد الخام الهامة التي كشف عنها العلماء الإنجليز في أماكن عديدة من القارة الإفريقية، ولكن هذه التقارير لا تزال طي الكتمان إلا عن الشركات والمؤسسات الاقتصادية التي يتعاون معها الاستعمار على استغلال خيرات البلاد التي لا تحكم نفسها بنفسها.
سيارة جديدة للذين فقدوا أيديهم
أتم أحد مصانع السيارات الأمريكية صنع سيارة من نوع جديد قصد به تسهيل القيادة للذين فقدوا أيديهم في الحرب أو حوادث الاصطدام. وجهاز القيادة والتوجيه الذي ألحق بهذه(1018/62)
السيارة الجديدة مركب بشكل أوتوماتيكي لا يتطلب من السائق العاجز إلا أن يضبط زراً معينا فيضمن له كل ما تقوم به اليد السليمة من حركات لضبط السيارة المتحركة. وقد أنجزت هذه التجربة بطلب من جمعية مشوهي الحرب الأمريكية التي تسعى لتوفير سبل الراحة لأعضائها.
مارسل بروست
تتولى جمعية (أصدقاء مارسل بروست) الأديب الفرنسي العظيم نشر مؤلفاته وستصدر الترجمة الإنجليزية في الولايات المتحدة عند الناشرين سيمون وشوستر. وستصدر الترجمة الإيطالية عند الناشر الإيطالي إيناودي بميلانو.
ولا تزال السيدة جيرار مانتي بروست ابنة أخي الأديب بروست توالي نشر بعض مؤلفاته التي لم تنشر.
وستتجمع كل المقالات والأبحاث التي كتبت عن الأديب بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على وفاته في مجلد واحد يصدر بعد شهرين. وقد توفي مارسل بروست في 18نوفمبر سنة 1922.
نفوش سامية ترجع إلى 600 عام قبل الميلاد
عكف أعضاء (أكاديمية) النقوش والذخائر الأدبية على دراسة اثني عشر ألف نقش عثر عليها في جنوب الجزيرة العربية ويعود تاريخ بعضها إلى عهود ملوك سبأ في القرن السادس قبل الميلاد.
وقد أهدى هذه النقوش إلى الأكاديمية الأستاذ كانون رشمانز أستاذ اللغات السامية بجامعة (لوفان) وكان قد توغل منذ عهد قريب في جنوب الجزيرة العربية مع الحاج عبد الله فلبي، وقطعا نحو 1750 ميلا يصحبهما بلجيكيان؛ ولكنهما قطعا ضعف هذه المسافة في مناطق لم تطأها أقدام الأوربيين إلا القليل. وقد أعدت الرحلة تحت رعاية الملك عبد العزيز آل سعود.
وقد نوه الأستاذ كانون في العرض الذي ألقاه في باريس عن رحلته بالهدوء الشامل الذي يغمر تلك الربوع والعون الذي لقياه من رجال الحكومة السعودية وموظفيها.(1018/63)
هل تصدق أن فتاة تعيش على الهواء؟
صرح القاضي أ. س. ب إيار بالمحكمة العليا في مدارس في بيان وزعه على الصحفيين بأن (دانا لكشمي مركارا) الفتاة الهندية التي تعيش في جنوب الهند وتبلغ من العمر 17 عاما وأذيع أنها تعيش بلا طعام أو شراب منذ شهر مايو الماضي تعتبر تحديا لجميع النظريات العلمية.
وقال إيار الذي قابل الفتاة وتحدث إليها إنها تعيش على الهواء! وأضاف قائلاً إنها منذ طفولتها لم تكن تشعر بالجوع أو العطش لفترات طويلة، ولكنها منذ شهر مايو الماضي امتنعت عن الطعام كلية. وعندما أجبروها على الأكل في المستشفى نقص وزنها، وقد وجدها الأطباء طبيعية تماماً في كل شئ آخر.(1018/64)
طرائف وقصص
أقصوصة مصرية
زعيم الطلبة
للأستاذالسيد حسن قرون
كان يجلس في الفصل ساكناً ساكتاً، لا يسأل ولا يُسأل، ولا يشترك في نقاش جل أو هان، فإذا نزل إلى فناء المدرسة انزوي في مكان قصي، ونشر صحيفته، وأخذ يقرأ قراءة المنهوم، حتى إذا عاد إلى فصله مرة أخرى جر نفسه في تباطؤ وانكسار. وكان من يراه يظنه من المتفوقين الذين حبسوا أنفسهم على الدرس واستيعاب العلوم، وكان نجاحه على وتيرة واحدة لا ينقضها ولا يخالفها، فقلما نجح من الدور الأول. وكان إذا أراد أداء امتحان الدور الثاني أوحى إلى أبيه في القرية أنه في حاجة إلى السفر إلى المدينة. وأبوه - والحق يقال - لا يعرف من أمره شيئا، ولا يسأل عن نتيجته. وكان سلوكه يطمئن والده، فالثقة فيه متوافرة، والاعتماد على عقله الحصين ماثل، فليس ثمة داع إلى الريبة والظن. وماذا يرجو والده منه؟ هو ناجح، وينتقل من فرقة إلى أُخرى، وها هو ذا في السنة الثالثة الثانوي، لم يرى أحد منه رسوباً ولا تقصيراً.
لكنه على حين غفلةأصبح زعيم الطلبة. أما كيف سار إلى هذا المركز فهذا ما يحتاج إلى حديث. لقد جاءه الوحي بالزعامة، والمدرس يشرح الدرس، وما من شك في إنه لم يسمع كلمة، ولم يرى أحد ممن حوله فقد كان في شغل شاغل، طوح به بعيد عن المدرسة والدراسة، فلما دق الجرس، وطار الطلبة إلى الفناء تخلف عنهم قليلاً، ولما تأكد من خلو الفصول من طلابها صاح بأعلى صوته: ليسقط الاستعمار! ليسقط (صمويل هور)! ونظر الطلبة إليه وسمعوه يردد الهتاف مرة ومرة، فهرعوا إليه يرددون نداءه ثم خطب خطبته المشهورة - كما يقال في الزمن القديم - ودعاهم إلى الثورة، وترك العلم، وقفز إلى خارج المدرسة، وهتافه لا ينقطع ولا يفتر، اندفع وراءه جمهور الطلاب، وسارت المظاهرة تجوب شوارع أسيوط، وتعرج من حين إلى حين على مدرسة في طريقها، فتخرج طلابها. وهكذا تضخمت المظاهرة، وشق هتافها عنان السماء - كما تقول الصحف - وكان الناس(1018/65)
يرون طالبا محمولا على الأعناق يكاد يخرج من جلده، وهو يصيح بسقوط الاستعمار. . وانتهى بزعامة جديدة تضاف إلى الزعامات القديمة. ومن هذا اليوم اشتهر الأستاذ (بهلول) وهذا اسمه، وعرفته المدينة ثائراً لا يهدأ، وخطيبا لا يسكت، وزعيما سياسيا لا يعجز عن حل المعضلات. وأنت تعلم تماما أن الزعماء يشقون طريقهم إلى المجد بالعرق والدموع، ولا يصلون إلى الصفوف الأولى إلا بعد أن يصبح النهار بسواد شعرهم، ولكنه - أي زعيم الطلبة - خرج هكذا فكان زعيماً زعيماً! مطبوعا قاد الطلاب في صباه، وحير البوليس بأساليبه وألاعيبه، ويقال: إن الزعيمينبغي أن يكون قوى الجسم، ضخم الجثة، ريان العود، حاد النظر، جهوري الصوت، حتى يسحر الجماهير. وأنا أعترف لك ولا أحلف بأن زعيم الطلبة حرم تلك الميزات، فقد كان نحيلا، ولو توكأ عليه طالب بالسنة الأولى الابتدائية لانهدم، وقميئا تقتحمه عيون الأطفال بلا مبالاة، وله عينان بارزتان في استحياء، وفم انفرج من كثرة الثرثرة والنداء، وله صوت لا يصلح للغناء، ومع هذا كله كان نشيطا سليطا يروع حفظه الأمن، لا يكل ولا يمل، فهوشعلة متقدة، تراه في ناد وبعد قليل في مقهى. واتسعت دائرة شهرته، فلا يقام حفل إلا كان من خطبائه، ولا يجتمع للتشاور جماعة إلا كان بينهم، وإذا تحدث إليك افاض في الحديث؛ فهو ملم بأخبار الكرة الأرضية دولة دولة وزعيماً زعيماً، ولا باس أن يحدثك عن الجان ويأجوج ومأجوج؛ لأنه يحب الثقافة العامة ولا يقف عند أمر من الأمور، وكان يقول: إن لكل شئ موضعاً.
وتوالت الأحداث - ولا أحداث هناك - وإذا بالأستاذ بهلول يصر على الثورة والتظاهر، وإذا بالبوليس يقف منه موقفا شاذاً، ولكنه لا يتراجع، ينتهي الأمر بالقبض عليه.
والقبض على زعيم الطلبة معناه الثورة، والثورة الجامحة الطامحة! وأضرب احتجاجا على إهانة زعيمهم، وسرعان ما أفرج عنه، واستقبلوه هاتفين وحملوه على الأعناق. ونظر إلى نفسه فداخله الغرور، أو قل إنها الثقة والطموح، وفكر في زعامته فوجد مدينته لا تصلح لها، وأنه في حاجة إلى أفق رحيب ومجال واسع، فلا يليق بعدما بلغ ما بلغ أن يستقر على حاله تلك فلينتقل إذن إلى العاصمة، في شوق إلى أمثاله.
ونظر إخوانه ذات يوم فلم يجدوا زعيمهم، وانتظروا أخباره، ولكنها بعدت حين يطول أو يقصر وصلت عه الأنباء عاطرة بذكره، تشيد بأعماله الكبار فقد دخل القاهرة دخول(1018/66)
الظافرين، فجاب أنحاءها، ولما يسترح، وهاجم نوادي الأحزاب ولما ينفض غبار السفر، ولم يلتفت إلى ما حوت من جمال وحضارة، ولم يفكر في متحف أو ملهى، فالأمر أجل من ذلك خطراً، ولم يضيع الفرصة وهي سانحة، ولم يؤخر عمل اليوم إلى غد، وحياة الزعماء تعد بالدقائق والثواني. ولما كان في فطرته الثورة، فقد انضم إلى حزب المعارضة. وابتدأ العمل، وأتخذ الفنادق مأوى، والمقاهي مورداً، ولم يستطع في بادئ الأمر أن يزاحم الأحزاب، فالأحزاب مليئة بالشباب الثائر الفائر، والبلغاء الأنبياء، وما عليه أن يكون هتافا، وهو واثق من نفسه على كل حال، وقد عرفه الناس جريئا يتوجه إلى رئيس الحزب، فيهنئه بسحر البيان وقوة المنطق، ورئيس الحزب في غنى عن إطرائه وثنائه، ولكن الزعامة لا تقيد - كما كان يقول الأستاذ حافظ عوض في ذلك الزمان.
ولم يمض على الأستاذ بهلول شهران حتى صادفته عقبات - ككل الزعماء - فقد أصبح خالي الوفاضلا يملك من المالشيئا، فقد انقطع بر والده به، ووالده غير ملوم فيما فعل، فهو مستعد للإنفاق على ابنه ما طلب العلم، أما أن يهرب من المدرسة فما له بين يديه لا يرسله إليه. وفكر في شأن والده فرآه على ضلال مبين. لا يقدر الأمور قدرها، ولا يحسب للوطن حسابا. إنه ذو أثرة يقدم منفعته على منفعة الوطن. وما فائدة العلم في بلد محتل! ومن أين علم أن ابنه يعيش حتى ثمرة تعليمه، لقد وهب للوطن نفسه ويود أن يسقي شجرة الحرية بدمائه، ومع ذلك فهو على جاب كبير من المعرفة، فهو يستطيع أن يكتب ويخطب ويجادل، ولا يعيا ببرهان. ماذا ينقصه؟ ولو كان والده على علم بما يجول بخاطره، أو يفكر في مستقبل وطنه ما وقف ذلك الموقف الشائن! ولأغدق عليه النعم، فما هجر العلم ليلهو ويلعب، وما لنفسه بغي الخير إن الوطن قد ناداه فلبى النداء، ودعاه فأجاب الدعاء. والوطن أكبر من الوالدين، وأسبق منهما وجوداً، وأجدر بالبر والطاعة.
ثم قام من مكانه. ومضى في طريقه لا يلوي على شئ، ولا يحفل بشيء، تمر عليه الدور والقصور ولا يعبأ بها، وتجري حوله السيارات ذاهبة آيبة، ولا تحرك منه ساكناً. إن شؤون الوطن قد ملأت شعاب قلبه، وحاطها بشغافه، ولم تعد هناك متسع لغيرها وفجأة وجد نفسه أمام قصر عابدين لمرآه، وتيقظ تيقظا شديداً، وسمرت عيناه في شرفته، وأراد أن يتكلم، فجذبه الخوف جذبة أماتت الكلمات بين شفتيه، وبدا له أن يطوف حوله، فأدى(1018/67)
الطواف مغيظ محنقاً، ثم تابع السير حتى ألقى بنفسه في مقهى متواضع دخله لأول مرة؛ واتخذ له مكانا بعيدا عن الناس فقد عاوده الحنين إلى الوحدة؛ وحدثته نفسه أن ينقد رواد المقهى؛ فوجد الصحف المسائية أمامه على المنضدة بجوار الصينية وأخذ يقرأ حتى منتصف الليل؛ وصاح صاحب المقهى يأمر بإغلاق الأبواب. فلما أحس تلك الصيحة نهض متثاقلا يجر رجليه جراً.
ماذا يفعل؟ إ ن ما معه من النقد لا يقوم بأمره. أيذهب إلى صديق ليقضي عنده بقية الليل؟ ولم لا يوافق على هذه الفكرة. أيسير في الشوارع إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا؟ وهنا هز رأسه علامة الرضا؛ وسار يقطع الطرقات؛ ويحادث العسس؛ ويرمق السيارات وراكبيها؛ واحتجت مبادئه السامية؛ فلعن القدر وحياته الفاشلة. ثم سكنت المدينة وهو يدب في أحيائها وحيداً شريداً.
واستقبل الصباح خائراً كئيباً، لا تكاد تحمله قدماه، وعلى غير وعي ألفى نفسه في مقهاه، وشرب شايا ممزوجا باللبن، وقرأ صحف الصباح بالمجان. فلما متع النهار شد جسمه إلى السير، والسير المجهول، ومضى في طريقه تتناوشه الأفكار السود من كل جانب. ومرت فكرة عن حزبه مر المجانب، ففرح باحتجابها، فقد يئس منه كل اليأس. وفجأة سمع هتافاُ حارا، فاندفع نحوه بما يملك من قوة فوجد ضالته المنشودة، وجد مظاهرة كبرى، فاندمج فيها كأنه محركها، وما هي إلا هنيهة حتى كان على الأعناق يهتف وينادي بسقوط الحكومة، ولم يقف البوليس مكتوف اليدين، بل فرق المظاهرة وقبض على زعماء الحركة وفي مقدمتهم زعيم الطلبة. وفرح جدا حين اقتحم باب السجن كأنه مجرم تعود حياة السجون، وبات ليله يغط في نوم عميق، ولم ير الشمس حين أشرقت بنور ربها، ولكنه أحس بها من داخل قلبه، وشعر بارتياح عظيم، وقدم إليه طعام غير طعام السجن فرضي عن نفسه وعن حزبه، ومرت عليه خواطر بيضاء، وأحلام حلوة. ولم يخرج من السجن إلا يوم سقوط الحكومة. وخرج ليكون من المجاهدين.
لقد كان سجنه نقطة تحول في حياته، فقد أصبح يجد المال ميسراً، وأصبح خطيبا يشار إليه بالبنان، يتحدث عن الاعتقال، والصبر على الاعتقال، وحاجة الوطن إلى فدائيين. وأقبلت الانتخابات فخاض غمارها داعياً وهاتفاً، وامتطى الطيارة مع أحد المرشحين، وأطل من(1018/68)
عل على المدائن والقرى، والرداء الأخضر الذي يتشح به النيل، وذاق النعيم، وصار كالفراش يتنقل على موائد العمد والأعيان، وأخذ يواصل العمل ليلا ونهاراً. حتى إذا انتهت أيام الانتخابات - وليتها لم تنته - عاد إلى القاهرة ليتخذ دار الحزب مثابة وأمناً.
هل دامت الحياة السعيدة لزعيم الطلبة؟ إن الدهر حول قلب، وخلائق الدنيا خلائق مومس - كما يقول الشريف الرضي - فقد انقطع عنه ما كان يتقاضاه، وران على الحزب سكون رهيب، ولم يهش لاستقبال أبطاله، وفكر قليلاً في ركود الحزب، ولكنه نوى الرحيل.
أتضيق القاهرة على زعيم الطلبة؟ غداً يذهب إلى المدارس والكليات عله يجد ما يتمنى، ونفذ ما أرتاه. فلم يجد سميعاً ولا مطيعاً، وحمد الله أن نجا بجلده من مخالب البوليس. وما له لا يكون صحفياً، وقد كتب مقالاً في الأهرام بإمضاء مستعار، فيذهب إلىدور الصحف، ومن قبله أناس حرروها وما بأيديهم شهادات عالية، وطاف يبغي عملا فسدت في وجهه السبل، فلجأ إلى حياة التشرد فأخذ يبيت عند هذا ليلة، وعند ذاك ليلة، حتى اجتواه من كان له محباً، ومله من كان به معجباً، ونبا به المقام، واعترته الهموم والأسقام، ووسط أناساً ليصلوا بينه وبين والده فلم يوفق، وطفق يتوسل إلى أحد النواب ليجد له وظيفة، والنائب المحترم يراوغه أو يتهرب منه، حتى عد نفسه شقياً لا مكان له في هذه الدنيا الواسعة.
وذات يوم سأل عنه ذلك النائب ليزف إليه البشرى بالوظيفة المبتغاة، فأخبر بمرضه فطوى البشرى، وتركه لدائه وبلواه. لقد أصيب بالسل ونزل المستشفى للعلاج، وهيهات هيهات أن ينجو منه، ومن أين له بجسم يقاوم ذلك الداء. . . وأخيراً عجز الطب والأطباء.
وذات يوم حضر والده ليرى ابنه محمولاً على الأعناق، ولكن في هذه المرة إلى بطن الأرض، فقد آن له أن يستريح من ظهرها.
السيد حسن قرون
السجن ودعابة الشاعر
(أنا لست محتالاً. أنا شاعر أحب أن أداعب المجتمع. وهل دعابة الشاعر جرم؟)
هكذا وقف (فاومستينو فالانتين) أمام المحكمة في إحدى مدن الأندلس منذ أيام يناشد القضاة بأن يغفروا له دعابة شعرية من نوع غريب.(1018/69)
فقد أبى شيطان الشعر لهذا المواطن الأندلسي الشاب إلا أن ينشر في الناس سلسلة من القصائد الرقيقة يحي بها فتاة فقيرة من اللقطاء تخيلها الشاعر وريثة مال وفير تركه لها والدها الحقيقي وهو ماركيز إسباني من طبقة الأشراف. وبلغ من جمال هذه القصائد أنها رسخت في عقول الناس على أنها قصة حقيقية. وساعد على ذلك أن الشاعر استعمل أسماء لأشخاص حقيقيين فآمنت بها الفتاة وآمن بها أحد البنوك الإسبانية فوضع تحت تصرف الفتاة مبلغاً وفيراً من المال يساعدها على أن تهيئ نفسها لتلقي الإرث العظيم ريثما تفرغ الإجراءات الحكومية التي تصاحب عادة نظام الوراثة في إسبانيا.
وعاشت هذه الفتاة اللقيطة خمسة عشر يوماً عيشة المترفين من النبلاء وأصحاب الألقاب الرفيعة بعد أن أثبت صاحبنا الشاعر في قصائده نبل محتدها ونسبها الرفيع.
ثم تبين للبنك أن نسب الفتاة وإرثها المنتظر لا وجود له إلا في مخيلة الشاعر. فقاضى البنك الشاعر أمام المحاكم المدنية بدعوى الاحتيال والتزوير، وقال المدعي العام إن خيال الشاعر يجب أن يتطرف بحيث يستغل ظروفا تعسة لفتاة فقيرة ويشهر بها على أنها لقيطة، ثم يدخل السعادة المزيفة إلى قلبها في دعابة شعرية (شيطانية) متقنة بحيث أقنعت أشد القلوب قساوة: قلوب الصيارفة وأصحاب البنوك - فأضاعت عليهم مبلغاً من المال قدموه للفتاة (الوارثة) فأنفقته في ثورة ترف وبذخ طارئ
وطلبت المحكمة قبل إصدار القرار من الفتاة أن تدلي بشهادتها فقالت: أجل لقد كذب هذا الشاعر، ولكن أليس من الممكن أن تكون قصته عن أصلي وفصلي وإرثي حقيقية؟ وبعد فلم يصيبني من دعابته الشعرية أذى فإني شاكرة له أن أتاح لي تذوق حياة الأشراف المترفين خمسة عشر يوماً هي أيام لم يقو خيالي على أن يتصورها قبل أن آل إلى هذا الإرث الشعري الجميل
ويبدو أن القضاة في هذه المدينة الأندلسية لم يكونوا على قسط كاف من الإحساس الشعري، يدركون به قوة شيطان الشعر، فحكموا على الشاعر بالسجن بضعة أشهر وبالغرامة المالية أيضاً.(1018/70)
العدد 1019 - بتاريخ: 12 - 01 - 1953(/)
العربية والإسلامية
للأستاذ علي الطنطاوي
سيقول القراء من المصريين: ما العربية وما الإسلامية، وهما شئ واحد؟ ومن قال بالعربية قال بالإسلام؛ لأن العربية لم تكن شيئا مذكورا لولا الإسلام. ومن قال بالإسلام قال بالعربية؛ لأن الإسلام دين، نبيه عربي، وقرأنه عربي، وقبلته في بلاد العرب. والنداء إلى التوجه إليها بلسان العرب؟!
لا يدرى القراء من المصريين أن هذا حديث المجالس في الشام والأندية والمدارس، لا يمر يوم دون مناظرة فيه بين الشباب المسلمين الذين يحسبون أن من الإسلام محاربة الفكرة العربية وترك قيادها لغيرهم، والشباب القوميين الذي يظنون أنهم يستطيعون تجريد العربية من الإسلام والدعوة إليها على أنها قومية من القوميات.
وكذلك كانت الحال لما كنا ندرس في مدارس العراق حين اشتدت الدعوة القومية في عهد سامي شوكت في وكالة وزارة المعارف. واستجاب لها المدرسون خوفاً وطمعاً. ومنهم من استجاب لها عن إيمان بها، ولم يبق ثابتا على إسلاميته إلا ثلاثة: عبد المنعم خلاف، ومطهر العظمة، وعلي الطنطاوي، نقلوا جميعا إلى شمال العراق، إلى مناطق الأكراد. فاستقال الأول وعاد إلى مصر؛ وعاد الثالث إلى الشام بعد شهور؛ وثبت الثاني إلى نهاية حركة رشيد عالي الكيلاني.
غير أن الفرق بيننا وبين العراق، أن الدعوة القومية هي الغالبة على شبابه. والقوميون الملحدون قلة في الشام. أتباع حزب ألفه على عهد الفرنسيين أحد شباب النصارى ووجد له أتباعاً من الشبان الحائرين الذين يحبون أن يتبعوا (موضة) العصر بالانتساب إلى حزب من الأحزاب. واكثر أهل الشام يقولون بالإسلام وبالعربية. والكلمتان على لساني أنا وكتاباتي من أكثر من ربع قرن، كالمترادفتين؛ أقول الإسلام وأريد العربية، وأكتب العربية وأقصد الإسلام
لذلك أجهدت ذهني، وكددت فكري، حتى استطعت إدراك جوهر الخلاف بين الفريقين. وما ذاك عن جهل مني بحجج الطرفين وأقوالهما، فلقد حفظتها من كثرة ما سمعتها؛ بل لغموض صورة الدعوة العربية حتى في أذهان أصحابها. وإنهم حين يكتبون فيها، أو يجادلون عنها،(1019/1)
يأتون بشيء هو إلى الفلسفة الغامضة، والخطابيات الفارغة، أدنى منه إلى التعريف العلمي الواضح؛ ولأن مورد أفكارهم، ومنبع أقوالهم في القومية، ترجمة ما كتب في القومية في ألسن الغرب، ولاسيما الألماني والإيطالي.
وجوهر الخلاف إنما كان على بناء الدولة. هل تكون إسلامية، ويكون الإسلام هو الرابطة بين أفرادها فيدخل فيه المسلمون جميعاً ويكونون أمة واحدة. أم تكون عربية، وتكون الرابطة رابطة الجنس، فكل عربي هو منا ولو لم يكن مسلما، وكل أعجمي ليس منا ولو كان مسلما؟
أي أن ثمرة الخلاف كما يقول الفقهاء، في العربي غير المسلم، والمسلم غير العربي، أيهما الذي يجب أن نتولاه نحن العرب المسلمين؟
وأنا سأحاول أن أثبت في هذا الفصل، أنه ليس بين الإسلام والعربية تناف ولا تباين، وأن المسلمين أمة واحدة وإنها أشد تماسكاً، وأدنى إلى الوحدة من مجموع العرب، وأن هذا الخلاف ليس له ثمرة، لأن إخواننا العرب غير المسلمين، عاشوا معنا، وسيعيشون معنا، ما ضقنا بهم ولا ضاقوا بنا، وما ظلمناهم ولا شكوا من ظلمنا، وأن الشباب المسلمين هم أحق الناس بحمل لواء العربية المسلمة، والدفاع عنها، والعمل على تمجيدها وفيما يلي تفصيل هذا الأجمال:
من الوجهة النظرية
إن في (نظرية الدولة) آراء كثيرة يدرسها طلاب كليات الحقوق. وأشهرها وأصحها، والذي عليه المعول فيها هو رأى رينان. ونحن نطبقه على هذا البحث، لا لأننا نجد لزاما علينا أن نتبع الغربيين حتما في مذاهبهم، ونفكر برؤوسهم، بل مجاراة لمن يقول بذلك من الشباب وقلبا لدليلهم عليهم، وإلا فنحن نعلم أن لدينا من رأى الإسلام في إقامة الدولة ما هو أصح من رأى رينان صحة، وأكثرها نفعا لنا، وتحقيقا لمصلحتنا، وإن كان رأي رينان هذا لا يبعد كثيراً، ولعله أخذه من رأي الإسلام الذي كان على إلمام بأحكامه.
الدولة عند رينان لا تبنى على الأرض وحدها، فرب دولة معترف بها تكون أرضها محتلة فيها أعداؤها. ولقد شاهدنا في الحرب الأخيرة دولا كثيرة بلا أرض، وكان في مصر طائفة منها، كل دولة في جناح من فندق شبرد. ونشاهد الآن دولة عموم فلسطين. ولا تبنى على(1019/2)
اللسان فإن أمامنا دولاً فيها أكثر من لسان كسويسرة، ودولاً لها لسان واحد كإنكلترا وأمريكا، ولا على الدين (من حيث هو صلة بين العبد وربه) فقد تتعدد الأديان في الدولة، وتتعدد الدول في الدين، بل على ما سماه (الإرادة المشتركة) فكل كتلة جمع بين أفرادها تاريخ واحد وأمل واحد، وكانت موجات تاريخها ومطامحها في مستقبلها، متشابهة في نفوس أفرادها، كانت هذه الكتلة أمة وحق لها أن تنشئ دولة. وشرح هذا المتن الموجز معروف مشهور.
فلنبحث عن هذه الإرادة المشتركة في الكتلة العربية وفي الكتلة الإسلامية؟ هل للعرب إرادة مشتركة؟ هل تتحد موجات الماضي ومطامح المستقبل في نفوس العرب جميعاً؟ إذا قرأت أنا وعربي حبل لبنان الماروني تاريخ الغزوات الصليبية. . فهل يكون أثر هذا التاريخ في نفسي مثل أثره في نفسه؟ هل يطمح مثلي إلى الوحدة، ويشاركني في المثل الأعلى أتمثل المستقبل عليه؟
من الوجهة الواقعية
بل تعالوا ننظر إلى الواقع، هل استطاعت جامعة الدول العربية بعد هذه السنين الطويلة والمحاولات الكثيرة، أن تجد لها هذه (الإرادة المشتركة)؟ ألم تبد هذه الإرادة في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في كراتشي بصورة أوضح وأظهر على رغم أنه مؤتمر وليس جامعة دول، وأنه جديد مرتجل تعد له العدة ولم يبذل في سبيله جهد؟
من وجهة المصلحة
وقد مضى عهد القوميات وأصبح تاريخنا يدرس في المدارس، وأنقسم العالم اليوم إلى قسمين كبيرين مختلفين: قسم في شرق الأرض وقسم في غربها. وما اختلفا في الحقيقة على عقيدة ولا مبدأ! ما اختلفا إلا علينا نحن الأمم الضعيفة. وما استعدا إلا للحرب في سبيلنا أيهما يفوز غنيمة باردة أو سخنة بنا. فهل من المصلحة أن نبقى متفرقين منقسمين أو أن نتحد ونتقارب ونقيم من أنفسنا قسما ثالثاً محايداً، لا يقاتل على غنيمة ولا يدع أحدا يجعل منه غنيمة؟
وإذا ثبت أن المصلحة في الاتحاد (وذلك ثابت قطعا) فهل نؤلف كتلة من سبعين مليونا(1019/3)
مشكوكا في اتحاد أبنائها في الذكريات والآمال والإرادة العامة؟ أم كتلة من أربعمائة مليون؟
هذا ومن المفهوم المعلوم من الدين ومن العقل ومن الماضي بالضرورة أننا لا نتخلىعن هؤلاء العرب غير المسلمين ولا نعدهم غرباء عنا، بل هم إخواننا ما أحبوا أخوتنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وهذي نصوص ديننا وهذي وقائع تاريخنا، شاهدة على دعوانا. فلا مجال لإثارة العصبيات، والإفساد بين الإخوان، من هذه الناحية، فلا يطمع في ذلك المفرقون المفسدون.
وبعد فما هي حدود الاتصال بين العربية والإسلامية؟
من الوجهة المبدئية
أما الإسلامية فمعروفة واضحة، وللمسلم تعريف شامل وحد منطقي، فما هو حد العربي الذي يشمل الأفراد ويخرج الأضداد؟
أني لم أجد لدعاة العربية إلى اليوم هذا التعريف الجامع المانع للعربي. من هو العربي؟ أما من عرفنا من قومي العراق، فإن العربي عندهم هو عربي النسب، أي أنهم على مذهب أصحاب العنصرية ومقتضى ذلك أن يكون بشار مثلا شاعرا فارسياً، وأبن الرومي شاعرا يونانياً، بل إننا لو ذهبنا هذا المذهب لكان ملك الإنكليز غير إنكليزي، ولكان من الواجب الحجر عليه خلال الحرب الماضية لأنه من رعايا الألمان؟
ومن منا اليوم يستطيع أن يرتفع بنسبه إلى ربيعة أو إلى مضر، أو إلى أي فرع من فروع الشجرة العربية، إلا أن يكون نسباً ملفقاً كأكثر أنساب الأشراف الذين منحوا الشهادة بان منهم الملك الصالح. . فاروق!
وأما من عرفنا من قومي الشام فإن لهم أقوالاً أشهرها أن العربي هم من يتكلم العربية لغة أصلية له، ويعيش في بلاد العرب، ويشارك العرب آمالهم وآلامهم.
وهذا التعريف كالنحاس المطلي بالذهب، إن مسته برفق كان ذهبا له وميضه ولمعانه، ولكنك إن وضعته على المحك خرج نحاساً! لأن من غير العرب الذين عاشوا في بلاد العرب، كالأرمن في الشام والأروام في مصر من ينشئ أولاده على الكلام بالعربية كأهل البلاد من العرب، ثم إنه يعيش بينهم! أما المشاركة في الآمال والآلام فشئ خفي لا يعلمه إلا الله، ولا تظهره إلا التجربة، ولا يصح أن يكون مقياساً منطقياً. وإذا أردنا أن نحصي(1019/4)
سكان بلدة ما من العرب، فكيف نقيم الامتحان العام لمعرفة آمالهم وآلامهم وما يشاركون فيه وما يخالفون؟
ثم إن من العرب من يتكلم في بيته تظرفاً أو تقليداً بالفرنسية، ويقيم في غير بلاد العرب، وليس في نفسه أمل لأمته، ولا ألم عليها. لا يهتم إلا بخاصة أمره، وجوالب لذته وراحته. فهل نعد هذا من غير العرب؟ وماذا يكون: فرنسياً أو إنكليزياً أو ماذا؟
فأنت ترى أن الدعوة العربية تنهار بذلك من الأساس، إذ كيف نقيم البناء ولم نعد مادة البناء؟
أما الإسلام فعقيدة يعبر عنها قول معين، وعبادة وخلق، فمن نطق بالكلمة المعبرة عن العقيدة، وأدى فروض هذه العبادة، وتخلق بهذا الأخلاق، فهو واحد من المسلمين، مهما كان لونه وجنسه ولسانه.
من الوجهة الإسلامية
والإسلام لم يكتف بإسقاط الجنسية من حسابه، بل لقد حاربها، ومنع كل دعوة عصبية جنسية أو قبلية، وسماها دعوة الجاهلية. وجاء منذ أربعة عشر قرنا بما انتهى إليه العالم اليوم، حين أسقط حواجز القوميات وأقام كلا من كتلتيه على عقيدة ومبدأ ولو ظاهراً، فقسم الإسلام الناس إلى قسمين: الذين آمنوا، والذين كفروا. ووجه الخطاب إليهم، بهذا العنوان؛ فكان من الذين آمنوا - وهم أفراد الدولة الإسلامية - رجل رومي هو صهيب، ورجل حبشي هو بلال، ورجل فارسي هو سلمان، ثلاثة رموز للدولة الكبرى يومئذ. وكان من الذين كفروا العربي القرشي الهاشمي عم محمد وأخو أبيه وأبن جده أبو لهب. وكان لهؤلاء الثلاثة منزلة رفيعة في الدولة الإسلامية، فكان بلال وزير الدعاية يعلن مبادئ الإسلام (بالأذان) خمس مرات في كل يوم. وكان سلمان معدوداً على لسان النبي من أهل بيت النبوة. ونزل في شتم أبي لهب قرآن فنحن نقرأ في صلاتنا ذم أبي لهب.
ولكن الإسلام لم يطمس الوقائع التي تجعل للعروبة مكاناً ظاهراً في دولته، فالنبي عربي، والعرب قومه ومنهم أصحابه الأولون الذين نشروا الدين، وأبلغوه أهل المشرق والمغرب. والقرآن كتاب عربي، والحج إلى بلد عربي، فكل مسلم مضطر بذلك إلى حب العرب وتقديرهم وتعلم لسانهم، وزيارة أرضهم.(1019/5)
ولولا الإسلام ما انتشرت لغة العرب، ولا أقبل الناس عليها، حتى أن مسلمي الصين اليوم وهو خمسون مليونا كلهم يتكلم العربية. وعرب الإسلام آلاف المدن، فهل يستطيع شباب الدعوة العربية اليوم أن يعربوا قرية واحدة تركية أو كردية باسم العربية؟
ولم نقلت إلى شمال العراق: إلى كركوك، كان الطلاب كارهين لدرس العربية ومدرسه، لما كان يسوؤهم به من الدعوة إلى القومية العربية وهم أكراد وأتراك. فلما دخلت أحسست هذه لكراهية في نفوسهم، فخطبتهم خطبة قلت لهم فيها إن العرب كانوا أضل أمة فهداهم الله بهذا الدين الذين نتشرف جميعاً بالانتساب إليه، والذي منع دعوة الجاهلية وحرم العصبية. . . إلى أن قلت لهم: فتعلموا العربية لا من أجل هؤلاء القوميين من العرب، بل من أجل محمد الذي تحبونه، والقرآن الذي تقرونه، والله الذي تعبدونه.
ففاضت العيون بالدمع، وخشعت القلوب، وأمحت الكراهية من الوجوه، وصار درس العربية أحب الدروس إليهم.
وذهبت مرة إلى السليمانية سنة 1938 وهي قصبة الأكراد. واشهد أن من الأكراد صالحين وعلماء وذوي رجولة وشهامة، فمررت في آخر السهرة على مسجد فيه عين ماء لنشرب منها، وكانت ليلة صيف، وكان معي شباب يجادلونني في العربية والإسلامية، فوجدنا على بساط في أرض الجامع شابين كرديين من طلبة العلم الديني منبطحين على وجهيهما وأمام عيونهما مصباح وكتاب في أصول الفقه، فيه عبارة معقدة، فما يحاولان فهمها وتفسيرها، ويستعينان بإعرابها ورده ضمائرهما إلى مكانها. . .
فقلت: ألا ترون؟ إن هذين يشتغلان بلغتكم العربية أكثر من اشتغالكم أنتم بها، لأنها عندهما دين! فهل تستطيعون أن تجعلوا فتى كردياً غير متدين يقبل باسم قوميتكم هذه على العربية؟ فسكتوا
ولقد كان المسلمون أمة واحدة، فقامت فيهم هذه الفتنة، فتنة القومية! قال الترك: أتراك. فقال العرب: عرب. فقال الأكراد: أكراد. فانقسمت الأمة الواحدة وتفرق الجمع، وضعفنا وقوى العدو بضعفنا.
من الوجهة التاريخية
ثم إني أحب أن اسأل من هم هؤلاء العرب الذين تفخرون بهم، وتعتزون بأمجادهم. هل هم(1019/6)
عرب الجاهلية والعهود التي كانت قبلها، والتي لم يدركها نور التاريخ، ولم يصل إليها علم المؤرخين إلا قليلاً؟ أم عرب دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة، وهاتيك المدن والمدارس والمكتبات والمؤلفات، وذلك العلم والأدب؟
أما الجاهلية، فإنا لا نعرف شاعراً واحدا فيها ذكر العرب أمة، وأفتخر بالعروبة جنساً. إنما كان فخر كل شاعر بقبيلته، ببكر أو بتغلب أو بعبس أو بكندة وهذه هي المعلقات، وهذه أشعار الجاهلية، فهل فيها فخر بالعرب؟
إن الذي جعل العرب كتلة واحدة من الكتل التي اندمجت في الوحدة الإسلامية، هو الإسلام.
وكل ما كان للعرب بعد من مجد وعظم وعلم وسلطان وحضارة وفخار إنما صنعه الإسلام، فكيف يتفق في منطق هؤلاء القوميين أن نفخر بالفعل وننكر الفاعل، وأن نمجد أثر الإسلام ولا نقر بالإسلام.
يقول بعض المتحمسين من شباب القوميين إن في العرب قوة كامنة انتفضت مرة فكانت الإسلام. وستكون لها انتفاضة جديدة تخرج بمظهر آخر، ولكن لا هم ولا نحن ولا أنتم تعرفون ما هو المظهر الآخر!
وهو يعظمون محمداً ويكبرونه، ولكنهم لفرط الحماسة (وحماسة الشباب أحيانا تقوى على حساب العقل) يسيئون إلى محمد الذي يعظمونه ويصمونه بأكبر ما يوصم به رجل وهم لا يشعرون. يصمونه بالكذب: هو يقول لهم أنه رسول من الله، وإن هذا القرآن ليس من عند نفسه، وهم يقولون لا بل إنه هو الذي ألف من عبقريته ونبوغه هذا القرآن.
أفرأيت إلى أين تصل حماسة الشباب (وكدت أقول حماقة الشباب) بأصحابها؟
ويأتون بكلام له رنة ودوي كدوي الطبل، وإن كان فارغاً من المعنى فراغ الطبل من الشحم واللحم. يقولون (وهذا شعار حزبهم): أمة واحدة ذات رسالة خالدة
وما زالوا يهتفون بذلك ويرددونه حتى اقتنعوا بأنه من كلام النبوة الأولى. مع أنه لا معنى له. لأن العرب كما بينا من قبل، ليسوا بحالهم الحاضرة أمة واحدة، بل المسلمون هم الأمة الواحدة. ولأن هذه الرسالة إن لم تكن الإسلام كانت مجرد كلام.
من الوجهة التطبيقية
والقومية (كل قومية في الدنيا) إنما تقوم على دعائم ثلاثة: اللغة، والعادات، والتاريخ.(1019/7)
أما اللغة فإنها بعلومها وفنونها، كالفلك الذي يدور على قطب واحد، وقطبها القرآن، وما أنشئت هذه العلوم كلها إلا خدمة له، النحو لمنع اللحن فيه، واللغة لتحقيق عربيته، والبلاغة لإثبات إعجازه، والتفسير لشرح معانيه إلى غير ذلك مما هو معروف
ودعاة الإسلامية كانوا ولا يزالون، وسيكونون أبداً هم أئمة اللغة وفرسان بلاغتها، وأرباب البيان فيها. وما عهدنا للآخرين كاتباً بينا ولا رواية ولا عالماً معترفاً بإمامته وتقدمه في علوم اللغة
وأما العادات العربية، على أنه ينبغي الإبقاء أبدا على حسنها، والتخلص من سيئها، فما رأينا في دعاة العربية من يتمسك بها! ولقد رأينا أكثرهم يعيش عيش الإفرنج، ويأخذ أوضاعهم في طعامهم وشرابهم ولباسهم بل ربما تزوج من نسائهم وكلم أهله (طبعاً) بلسانهم
وأما التاريخ فواحد. تاريخ العرب هو تاريخ الإسلام لو حذفنا منه الإسلام وما نشأ عنه لم يبق للعرب شئ، فالعرب ولد مجدهم وتاريخهم يوم مولد محمد.
الخلاصة أن العربية والإسلامية كدائرتين: صغيرة وكبيرة، إحداهما وسط الأخرى إلا هلالاً دقيقاً. هو موضع الاختلاف بينهما. أي أن بينهما بإصلاح أهل المنطق عموماً وخصوصاً. عاما إلا من وجه واحد، هو مسألة المليونين من العرب غير المسلمين. والثلاثمائة مليون من المسلمين غير العرب، أيهما أحق بأن نتولاه.
وكل ما يقول به دعاة العربية (فيما عدا إنكار الوحي وقطع الأخوة في الإسلام يقول به دعاة الإسلامية) بل نحن أحق به وأولى، نحن أعلم بالعربية وبتاريخها وأمجادها، ونحن نعمل أكثر منهم على تمجيدها بالإسلام وإعلاء شأنها. ونحن أصدق منهم إن قلنا عن أمة محمد (أمة واحد ذات رسالة خالدة). والعجيب أن يظن أحد أننا تخلينا عن القيام بالدعوة إلى العربية، لا. . ما تخلينا عنها ولكن ندعو إليها تحت راية القرآن التي عز بها العرب وشرفوا وصار لهم في التاريخ ذكر، وفي الدنيا مقام
إننا نحب العرب لأنهم قوم محمد، واللسان العربي لأنه لسان القرآن، وموطن العروبة لأن فيه مشاعر الحج والقبلة التي يتوجه إليها المسلمون من أقطار الأرض، ويدعون إلى الصلاة إليها بلسان العرب الذين نزل بلسانهم القرآن: حي على الصلاة. حي على الفلاح. ولكنا ندعو إلى عصبية، ولا نعدل بأخوة الإسلام أخوة.(1019/8)
ونحن ندعو إلى الوحدة العربية، لكن على أن تكون طريقاً إلى الوحدة الإسلامية، ولا ننكر إخواننا في الوطن واللسان من النصارى، لكنا نسألهم ألا يطلبوا منا وهم مليونان أن نقطع لأجلهم روابط أخوتنا بثلاثمائة مليون مسلم غير عربي، ويحبوننا ونحبهم. ويشاركوننا عقائدنا وعبادتنا
وفيهم بعد دولتان من أكبر دول الأرض: باكستان وأندنوسيا، ولا تدخر إحداهما في نصرنا وسعا، ولا تبخل علينا بدم ولا مال!
وهل قطعوا هم حبالهم من حبال الباب في إيطاليا وغير البابا في إيطاليا؟
دمشق
علي الطنطاوي(1019/9)
ترجموا القرآن:
محمد عند أهل الغرب
للأستاذ كمال دسوقي
كان الغربيون قبل ترجمة القرآن يتحاملون على محمد والإسلام؛ ولا غرابة في هذا التحامل على الرجل ومذهبه. فمن جهل شيئاً عاداه
ففي غمرة البغيض كتب العالم المشهود له بسعة الأفق والتمرس بالعلوم والرياضيات والآداب - (بسكال) - فيما خلف لنا من خواطره وبتناقض يفضح هذا التعصب والخلو من الروح العلمي - يقول: إن محمداً لم يكن أحد يظاهره؛ ومن ثم وجب أن تكون حجته من القوة بحيث تستند إلى محض قوتها
ولا يلبث أن يذهب - على أثر ذلك - إلى التمييز بين القدرة على الغموض والإبهام، والقدرة على الإثبات بسخف القول، آخذاً ما لم يفهم من القرآن على المحمل الأول، ناظراً إلى ما وصل إلى علمه القليل منه على المحمل الثاني - متمنياً لهذا الأخير لو أنه كان من النوع الأول حتى لا يكون في هزؤ الثاني وسخريته - فيما يرى! فما دام القرآن قد قال إن متي رجل طيب، فمحمد نبي زائف، لأنه يقول عن الأشرار إنهم أخيار، ولا ينظر إليهم من حيث ما قالوا وما آمنوا بالمسيح!
إن كل رجل يستطيع أن يفعل ما فعل محمد؛ لأنه - في نظر باسكال - لم يأت بمعجزة، ولم يوح إليه؛ ولا أتى ببعض ما جاء به المسيح. محمد قام على التقتيل - تقتيل أعدائه؛ أما المسيح فبقتل أصحابه محمد بالأمية وتحريم القراءة؛ أما المسيح فبالتعليم والقراءة. ولئن كان محمد قد سلك طريق النجاح كانسان، معنى ذلك فليس أن المسيح كان يستطيع أن يكون أكثر نجاحاً لو سار على الدرب فحسب؛ بل إن المسيحية كان يجب إن تهلك لو لم تكون مؤيدة بعون سماوي!
وإذا كان هذا بعض ما يذهب إليه رجال العلم الأحرار من الشطط في النظر إلى محمد والإسلام - فيحكمون على القران بأنه معان صبيانية في الرب سماوي وهم لن يفهموا الأسلوب. وقد يفهمون المعاني لأنها في معظمها واردة في كتبهم. . نقول: إذا كان هذا بعض ما يذهبون إليه وهم علماء مهمتهم الدرس والتمحيص والوحيدة والبرء من الغرض(1019/10)
- فلا غرابة في أن يذهب الشاعر الإيطالي دانتي إلى تصوير الرسول صلوات الله عليه هذا التصوير النابي لأنه - فيما يرى الشاعر - قد أرتكب جريمة الإتيان بدين زائف، وادعى أنه يطلع على الناس بتنزيل سماوي جاء بما لم تأت به المسيحية
على أنه منذ ظهرت ترجمتنا القرآن لأول مرة في القرن الثامن عشر - قرن التنوير في العلم والدين: ترجمة صال التي ظهرت سنة 1734 وترجمة سافارى (1782) بدأ الاعتدال يظهر على أقلام الكتاب بدء بأولئك المترجمين أنفسهم - وهم أقدر من يستطيع أن يفهم الإسلام في ذلك الحين بحكم توفرهم على ترجمة كتابه المنزل. فإن ثاني هذين الرجلين يرى أن محمداً أحد هؤلاء الرجال الخارقين للعادة الذين يظهرون بين الحين والحين على وجه الأرض يغيرون معتقدات أهلها ويجرونهم في عجلة انتصارهم. إن سافاري يرى في محمد مثلاً أعلى لما تنتجه العبقرية الإنسانية حين عالمياً جديداً ذا عقيدة سهلة مطابقة للعقل، ومبدأ غاية في البساطة واليسر: الإيمان بإله واحد يثيب المحسن ويعاقب المسيء
ونحا نحو سافاري في تقدير القرآن ونبيه الذي أنزل عليه كتاب أحرار لم يروا غضاضة في تمجيد دين لا يتعارض مع دينهم - منهم تيربان الذي يقول (في تاريخ حياة محمد - باريس1773 - ) - وأن لم يخل من التحامل اللاذع عليه أحيانا - إنه رجل خارق للعادة. حبته الطبيعة بكل مزية يتزود بها الرجل الكامل، وبعبقرية يتمتع بها المحظوظون من الناس (الموعودون بالأرض)، ثم يقول: إن إخلاصه لرسالته لا نزاع فيه. وأنه قد أخلص الدين لله قبل أن يحمل أصحابه على الاعتقاد به.
وغالى بعض الغربيين في الانتصار لمحمد حتى ظن به الغرض وعدم البرء من الغاية؛ وقيل فعلا انه يرمي إلى إعلاء الإسلام على المسيحية؛ ومنه هؤلاء القليل من المنصفين دي بولانفلينيه (في كتابه: حياة محمد) الذي يصور فيه النبي العربي بصورة المشرع المستنير العاقل الذي جاء بدين حكيم يحل محل عقائد اليهودية والمسيحية، وكانت تلك قد أصبحت - فيما يقول بحق - لكثرة خلافاتها مشكوكاً فيها.
ولقد كانت هذه نظرة إلى محمد هي السائدة عموماً بين فلاسفة القرن الثامن عشر الذين لم يعودوا يقبلون التطرف في النظر إلى المصلحين من الرجال تطرف السابقين؛ كما لم يقبلوا(1019/11)
تزييف أي دين من الأديان خوفاً منه على المسيحية. لهذا كان من العجيب أن يأتي فولتير. . . في هذا العصر ذاته الذي أتسم بطابع التسامح الديني - فيهاجم هؤلاء الكتاب المنصفين خصوصا صال ودي بولانفلييه قائلاً لها (في مقدمة مأساته عن: محمد سنة 1742): لو إن محمداً قد ولد أميراً، أو لو أنه ولى السلطة باختيار، أمته إذن لوضع قوانين سليمة ولاستطاع أن يحمي بلاده من الأعداء، ولاستحق حينئذ التقدير.
تساعدها الظروف، وأنه - وقد ولد وثنياً! - فقد نشأ لا يعبد إلا إلهاً واحداً لأنه خلال أسفاره قد لاحظ انقسام المسيحيين وتفرقهم شيعاً نتبادل اللعنات. . . كما رأى اليهود حثالة تتشبث في عناد بقوانينها؛ فأراد محمد أن ينشئ ديناً
ويذهب فولتير في تهافت ظاهر إلى حد تجريح منصفي محمد فيقول أن الأصل التركي والإيمان بالخرافات قد أطفأ فيهما كل نور عقلي. لماذا؟ لأنه ما من أحد يستطيع أن يتولى الدفاع عن جمال يحدث ثورة، ويزعم أنه يتصل بجبريل وهو الذي يقتل الرجال ويسبى النساء ليدخلهن في دينه!
ويقول النقاد تخفيفا من ضلال فولتير: لا شك أن فولتير لم يرد أن يقول إن النقائض التي وصف بها بطل روايته موجودة كلها في محمد، وإنما كان للخيال عليه سلطان كبير وهو نفسه يعترف بذلك ويقول تمجيداً لمحمد: إن الرجل الذي يستطيع أن يحارب قومه قادر على كل شئ
ويقولون كذلك إنه قد عاود الكتابة في هذا الموضوع قصد التخفيف من سابق غلوائه وتعصبه، فأعترف بعظمة محمد ومواهبه.
على أن خطر فولتير يتمثل فيمن جاءوا بعده متأثرين به في تناول الموضوع، ولكن عادوا إلى الاستماع لصوت العقل في تساؤلهم: إن مائة وثمانين مليونا من البشر يدينون بهذا الدين مخلصين ويتأثرون محمدا في حياتهم، يحركهم كالنجوم في الأفلاك. وليس من المعقول أن يظن أن هؤلاء كلهم يعيشون ويموتون مجدوعين.
هذا قول نفسه الذي يعجب في بمحمد في استجابته لقانونه الذاتي وإخلاصه لمبدئه وثقته بنفسه وحقيقة وجوده وأصالة شخصيته وما وجه من أنظارنا إلى اللامتناهي واللامحدود؛ والذي يصرح بأن محمدا - نبيناً أو شاعراً - رجل غير عادي.(1019/12)
ما هذا التناقض أذن في تفكير هؤلاء الرجال؟ أنه كما يقول المؤرخون عصر الشك في المعتقدات عند الغربيين. وإذا نظرنا إلى هؤلاء الكتاب وجدنا بعضهم يصدر عن تعصب لدينه المسيحي، وبعضهم يذهب به التعصب للدين إلى حد أن يهاجم ما عداه. وهؤلاء خير من آخرين ملحدين لا يؤمنون بالأديان جميعاً، ولكنهم إذا لا يستطيعون أن يهاجموا دين بلادهم الرسمي ويستعدوا سلطاتهم الدينية فهم يتطاولون على الإسلام ولو لم يعرفوه. والجميع مما نمر بآرائهم عابرين لا يستوقفنا إلا نزاهة البعض واعتداله في تقدير الأمور.
والألمان خصوصاً خير من يتعرض للدراسات الإسلامية بروح علمي لا يشوبه تعصب أو تطرف. وآخر من قرأت له من هؤلاء في ترجمة فرنسية ظهرت أخيراً لكتابه (محمد: حياته ونظريته) الذي نشره جان جود فروى دي مومبين بإشراف معهد الدراسات الإسلامية بجامعة باريس العلامة تور أندريه الأستاذ بجامعة أوبسال الذي حمل المثقفين (في كتابه ظهور الإسلام) على الاعتراف بأن دراسة الإسلامًً تفتح آفاقا جديدة لتطور العقل البشري - كما يقول المؤرخون.
وليس في كتابه (حياة محمد ونظريته) أجمل من تعليله السيكولوجي لتحامل الغربيين على التاريخ الإسلامي. فهو يرجع هذا التحامل لا إلى مجرد الجهل ولا إلى الفكرة السائدة بينهم عن زيف النبي محمد، ولا إلى عداوة الغربيين وكراهيتهم للترك فحسب، بل هو فيما يرى أعمق من ذلك:
إن أقل ما يفهم المرء نفسه - كما يقول - بين والديه. والمسيحي يرى في الإسلام أشياء كثيرة تذكره بدينه هو ولكن في صورة شوهاء. فهو يرى مواد في الدين وآراء في العقيدة مشابهة تماماً لأفكار دينه، ولكنها تأخذ طريقاً آخر إلى غير دينه. وهذه المواد والآراء هي عنده من الألفة بحيث لا يريد أن يرى فيها جديداً أو يعترف لها بأية أصالة. وهو في غمرة عدم الاكتراث لما يظن أنه يعرفه وليس جديداً عليه يمر دون أن يدرك حق الإدراك ما يختفي عليه حينئذ - لعدم حيدته - وهو هذا الاتجاه الروحي الذي جعل الإسلام يحتل مكانة اليوم بين الأديان لمجرد حقه في الحياة والبقاء.
ولا أختم بأحسن مما أختتم به المؤلف الألماني مقدمة كتابه قائلاً للغربيين: إنه قد سهل علينا أن نسبغ أفكاراً دينية غاية في الغرابة والجدة علينا كعقائد الهنود والصينيين. فلكي(1019/13)
نفهم النبي العربي وكتابه يلزمنا أفق أوسع ونظرة أدق واستقلال عقلي وروحي أكبر وأتم.
كما أقول للمسلمين في جرأة: ترجموا القرآن إلى كل لغة - وترجموه كل جيل مرة - ولو ظهرت له ألف ترجمة، فلم ينصف الغربيون الإسلام إلا إثر كل ترجمة ظهرت للقرآن، على ما في هذه الترجمات من جمود وخلط وإساءة.
كمال دسوقي(1019/14)
في النظم الإسلامية
من تنظيمات الإحسان
للأستاذ لبيب السعيد
لا تزال الخدمة الاجتماعية فقيرة إلى دراسة إسلامية متخصصة تشارك في نهج قواعد هذا الفن وتقرير أساليبه، وترفد تاريخه بأغنى الروافد وأعذبها.
وهذه الدراسة التي ننشدها والتي نرى أنها تقوم على التنقيب الصابر والجمع البصير، ثم التحقيق الواعي والدرس الدقيق، حرية أن يجرد لها المسئولون في معاهد الخدمة الاجتماعية عندنا وفي جامعاتنا كتيبة من الباحثين لهم بصر بالإسلام وقدرة علمية على سير تاريخه وفقهه وأدبه وسير أعلامه. ولقد بلونا أغلب أساتذة الخدمة الاجتماعية في مصر يعجزون عن التحرر من الاتجاهات الغربية في تفكيرهم بل في تعبيرهم، فحري بالكتيبة المرجوة أن يكون لأفرادها من الاستعداد والاجتهاد والإخلاص الأمين للمعرفة ما يكفيهم هذا العجز.
ولعل من أمثلة الإهمال الغليظ الذي يشهده المتصلون بدراسات الخدمة الاجتماعية في مصر أن هذه الدراسات حين تتناول تنظيم الإحسان تسكت عن خطة الإسلام في هذا الشأن سكوت الجاهل، أو تذكر - وقلما تذكر - وسلا من ميحط، بينما تفيض أيما إفاضة في النظم الأوربية. والأمريكية: فهي تتحدث مثلا عن إرشادات سنة 1529 في همبرج التي صدرت للمشرفين المحليين ليتعرفوا أحوال الفقراء ويتيحوا العمل لمستحقيه ويقرضوا المعوزين قرضا حسنا ويساعدوا المريض؛ أو عن أوامر شارل الخامس سنة 1541 بجمع الإعانات في الأراضي المنخفضة وتوزيعها على الفقراء وتعليم اليتامى وتشغيلهم ومساعدة الكسالى والمشردين، أو تسترسل في الحديث عن قوانين الفقر الإنكليزية التي صدرت في القرن السادس عشر؛ أو تردد الكلام عن نظام المزارع الريفية الأمريكية التي تضم الفقراء وضعاف العقول والسكيرين. . . إلى آخر هذه النظم.
والحق أن المسلمين سبقوا إلى تنظيم الإحسان على نحو لا تكاد النظم الغربية تستشرف إلى سمو مكانته. فالصدقات - وهي في الإسلام المصدر الأول للإحسان، والركن الثالث من الأركان التي بنى عليها الدين - تكرر في الصحاح أن النبي أوفد من رجاله من(1019/15)
يجمعونها. والأخبار على إن الخلفاء بعده عينوا الموظفين لجمعها، وأنه في مختلف العصور كان لجبايتها عمال متخصصون يدخل فيهم الساعي والكاتب والقاسم والحاشر الذي يجمع الأموال وحافظ المال والعريف. . ولقد أقترح (أبو يوسف) على (هارون الرشيد) تعيين موظف خاص للصدقات في جميع البلدان. يقول أبو يوسف للرشيد: (ومره ليوجه فيها أقواماً يرتضيهم ويسأل عن مذاهبهم وطرائقهم وأماناتهم يجمعون إليه صدقات البلدان).
أما توزيع الإحسان، فكان مخصصا له أيضا موظفون ودواوين، وهذا دليل على أنه كان إجراء له ترتيب مقدور له صفة النظام والدوام.
جاء في تضاعيف أحد الأخبار إن (المنصور) ولى عامله بالبصرة الإجراء على القواعد من النساء اللواتي لا أزواج لهن وعلى العميان والأيتام. ويذكر (الطبري) عن الخليفة (المهدي) أنه أمر في سنة 163 أن يجري على المجذمين وغيرهم. كما يذكر (المقدسي) عن نفس الخليفة أنه أجرى على العميان والمجذومين والضعفى.
وكذلك يذكر (الجهشياري) عن (الرشيد) أنه أمر بإجراء القمح على أهل الحرمين وغيرهم ممن ذكرهم تفصيلا ويروى (أبن مسكوبه) في كتابه (تجارب الأمم وتعاقب الأمم) في ذكر ما دبره (علي بن عيسى) في وزارته سنة 315 وما جرى في أيامه أنه قلد رجالاً سماهم دواوين متعددة منهم (أبو أحمد عبد الوهاب بن الحسن) الذي تولى (ديوان البر والصدقات). (وطاهر أبن الحسين) في المنهج الشهير الذي رسمه لولده (عبد الله) حين استعمله (المأمون) على (الرقة)، يدعو ولده إلى (تعاهد أهل البيوتات ممن دخلت عليهم الحاجة فيحتمل مؤنهم ويصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا)، ويقول له: (وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين (يريد المأمون) في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة). ويروى (أبن خلكان) أن (أبن الفرات) كان يعطي الفقهاء والعلماء والفقراء وأهل البيوتات أكثرهم مائة دينار في الشهر واقلهم خمسة دراهم وما بين ذلك.
والإسلام - قبل النظم الحديثة - يكره أن يغري الإحسان غير المحتاجين بالتكفف والاعتماد على عطف المحسنين وبصرفهم عن طلب الرزق، فهو يحب للناس أن يستغنوا(1019/16)
بالعمل عن لحاجة الملجئة للسؤال. يقول النبي (ص) (اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة). وهو ينهى عن المسألة الملحفة: (لا تلحفوا في السؤال، فو الله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته).
بل هو يخوف من المضي في السؤال: (لا تزال المسالة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم).
والإسلام، مع بليغ رفقة بالمحاويج يحرم سؤال التكثر ويشدد النكير والمؤاخذة على محترفيه، فالرسول (ص) يقول: من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر) وإنه ليتحدث عن آخذ الصدفة بغير حق فيقول إنه (كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة).
ومن مصاديق هذه النظرة الإسلامية أن الرسول نفسه يترفع بأسرته وأقربائه عن التدلي إلى مستوى قابلي الصدقات، فهو يحرم عليهم الصدقة ولا يجعلهم في صف ذوى الفاقة؛ يقول (إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس). وقد أخذ سبطه الحسن بن علي من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي: كخ كخ، ليطرحها ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟ بل إنه ليحرم الصدقة على موالي آله، ولو كان الأخذ على جهة العمالة. والمسلمون يتأثرون النبي ويقتدون به، فيرون التعالي عن الصدقة واجبا محتوما على المستغنى: شرب عمر بن الخطاب لبناً فأعجبه، فسأل الذي سقاه: من أين هذا اللبن؟ فاخبره أنه ورد على ماء قد سماه (فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون فجعلوا لي من ألبانها، فجعلته في سقائي، فهو هذا) فأدخل عمر في يده فاستقاءه.
والإسلام في إبائه أن تتسرب الصدقات لغير المستحق يعين مصاريفها، بحيث يفيد منها الفرد والجماعة والدولة والدين. (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤتفكة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وأبن السبيل). ويقول النبي في شأن تعيين هذه المصارف: (إن الله تعالى لم يرض في قسمة الأموال بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه).
ويحبب الإسلام في العمل المنتج مهما يكن شأنه ضئيلاً، ليس فحسب ليعول المرء نفسه في(1019/17)
ظل الكرامة والاستقلال ولا يكون كلا على الدخل القومي ولا يدخل على المسؤول ضيقا في ماله، ولكن أيضاً ليسهم في التقدم الاجتماعي للأمة ويحرز شرف التصدق (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه).
ومن جميل ما أشارت إليه السنة أن الأنبياء مع علو درجتهم كانت لهم حرف يكسبون منها الحلال الخالي عن المنة، فآدم أحترف الزراعة، ونوح التجارة، وداود الحدادة، وموسى الكتابة كان يكتب التوراة بيده، وكل منهم قد رعى الغنم.
ويجعل الرسول عدم السؤال أمراً يطلب إلى المسلمين مبايعته عليه: حدث عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعته، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً والصلوات الخمس وتطيعوا - وأسر كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحد يناوله إياه.
والإسلام حريص عل كل الناس ألا يتعطلوا، ولذلك يتيح لمن لا مال لهم التعاقد مع أرباب الأموال الذي يعجزون عن تثميرها على تولي التثمير بشرائط خاصة تحقق نفع الطرفين كليهما. فالفقه الإسلامي يبسط أحكام المضاربة، وهي شركة في الربح يكون المال فيها من جانب والعمل من جانب آخر، والمزارعة وهي شركة في إنتاج الأرض من بين صاحب الأرض والعامل، والمساقات وهي شركة في الثمر بين صاحب الشجر والعامل. كما يضع الفقه الإسلامي أحكام الإجارة وهي عقد تمليك المنافع أو هي بيع المنافع.
وتنشيطا للحياة الاقتصادية، لا يحب الإسلام حبس المال عن الاستغلال، ولذلك أعطى القاضي حق إقراض مال الوقف والغائب واللقطة، بل إن مال اليتيم - وحرص الإسلام عليه هو ما هو - يستطيع القاضي أو الوصي إقراضه بشرط، وكذلك مال المسجد للمتولي إقراضه.
وتخديم المتعطلين الغرباء من التقاليد الإسلامية. يروى (أبن بطوطة) في رحلته أن كل من كان ينقطع بجهة من جهات دمشق (لابد أن يتأتى له وجه من المعاش من إمامة مسجد أو(1019/18)
قراءة بمدرسة. .) إلى أن يقول: (ومن كان من أهل المهنة والخدمة فله أسباب أخر: من حراسة بستان أو أمانة طاحون أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح). . . الخ.
والتصدق على الجناة مقبول في الإسلام ما صلحت نية المتصدق وما أريد بالصدقة رد الضال وإقامته على الطريق. والنبي في هذا الشأن يروي قصة محسن وقعت صدقته عند زانية وعند غني. فقبلت صدقته (أما الزانية فلعلها تستعف به من زناها، ولعل السارق أن يستعف به عن سرقته؛ ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما آتاه الله عز وجل).
وفي تنظيم الإحسان، يسبق النبي غير مأموم بأسوة أو متبع لسابقه، إلى تقرير (بحث الحالة) الذي هو من أنفع ما تقرره الخدمة الاجتماعية الحديثة: عن (قبيصة بن مخارق الهلالي) قال: تحملت حمالة (الحمالة هي المال الذي يستدينه الإنسان وينفقه في إصلاح ذات البين كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسأل فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً.
فالنبي يرى ألا يأخذ سائل بدعوى الفاقة شيئاً حتى يتحرى أمره، فيشهد بإعساره لا فرد واحد قد يكون له هوى في المنع أو الإعطاء بل ثلاثة، وليس ثلاثة كيفما أتفق فيكون منهم من لا نظر له أو من لا فهم له، وإنما ثلاثة يكونون جميعاً من ذوي اليقظة والعقل، حتى تكون شهادتهم حيث يريد التحري من القبول والتقدير، ولا يكون هؤلاء ممن لم تربطهم بالسائل علاقة تقفهم على حقيقة ماله - والمال مما يخفى عادة ولا يعلمه إلا ألصق الناس بالمرء - وإنما يكونون من أهل الخبرة بحال باطنه وظاهره حتى لا يشهدوا بما لم يحيطوا بعلمه. والإحسان بعد كل تلك الحيطة ليس شيئاً غير ممنوع ولا مقطوع، وإنما هو بالقدر الذي يتيح قواما من عيش، فإن تجاوزه فهو حرام لا يحل كسبه ولا أكله.
والإسلام في تعريف المسكين الذي تحق له الصدقة ثاقب النظر دقيق التقدير واسع الرحمة.(1019/19)
يقول النبي (ص): (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحي أو لا يسأل الناس إلحافا).
وفي رواية مسلم: (ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والثمرة والثمرتان) قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال (الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً).
أما بعد. فهذه إلمامة يضيق المقام عن الغوص فيها إلى الأعماق. وما نبغي من استهداء الإسلام إلا توجيهاته الراشدة لفن الخدمة الاجتماعية مجرد الإشادة بأمجاده والتحليق في الآفاق بتراثه. ولكننا نبغي أيضاً بعض البر بالعلم وبعض الإخلاص لذلك الفن ذاته.
لبيب السعيد(1019/20)
الدعوة الوهابية وأهدافها
أسرار الحرب بين أسرة محمد وعلي وآل سعود
للأستاذ محمد كامل حته
آن أن يكتب التاريخ من جديد. . .
هكذا قلت لصديقي ونحن نسمر في فندق مصر بمكة، ونستعرض تاريخ تلك الحروب الدامية التي نشبت بين مصر والحجاز في عهد محمد علي الكبير.
وأتصل بنا الحديث فتناول تاريخ الدعوة الوهابية، التي تعتبر إحدى انتفاضات ثلاث كان لها شأن كبير في تاريخ الحركات الدينية والسياسية في العالم العربي: الوهابية في جزيرة العرب، والسنوسية في شمال إفريقية، والمهدية في السودان. .
فما هي البواعث الحقيقية لتلك الحروب التي شنها محمد علي وأولاده على الحجاز؟
وما هي حقيقة الدعوة الوهابية وأهدافها الدينية والسياسية؟
أما هذه الدعوة، فهي - كما قلت - إحدى الانتفاضات الدينية التي أنفعل بها العالم العربي، والتي كانت منبعثة من صميم الإحساس بما وصلت إليه كل المسلمين من الجهل بحقيقة الإسلام، وتدهور العقيدة وتحلل مقوماتها في النفوس، مما تخلف بهم عن مكانهم الطبيعي في الصدارة، وجعلهم خولاً للأجنبي، يطأ أعناقهم ويستولي على بلادهم، ويسلبهم ما بقي من مقومات حياتهم وميراث تاريخهم. .
وفي قرية (عيينة) من قرى نجد ولد محمد عبد الوهاب صاحب هذه الدعوة، في مطلع القرن الثامن عشر. وقضى صدر شبابه مرتحلاً إلى الأحساء والحجاز والبصرة وبلاد فارس: وتتلمذ على ما كتبه أبن تيمية وأتباعه، وخاصة أبن القيم وأبن كثير، وهم من الأئمة السلفيين الذين كان لهم في تاريخ التوحيد الإسلامي جهود ضخمة، ردت إليه اعتباره وجددت شريعته السمحة البيضاء.
إذن فقد أجتمع للرجل في اتصاله بحياة المسلمين في كثير من الأقطار، وفي فقهه لأسرار الشريعة الإسلامية؛ ما ملأ قلبه غيرة على حال المسلمين، وحسرة على ما وصلوا إليه من جهالة وضعف وانحلال. وحفزه ذلك إلى الجهاد في سبيل تجديد إيمان هذه الأمة، وتسديد عزائمها إلى مواطن العزة والشرف.(1019/21)
وكانت الجزيرة العربية لذلك العهد ممزقة الأوصال، متعددة الولايات والولاة؛ لا تهدأ بينهم نار الحرب، ولا تخبوا الإحن والثارات. وكذلك كان الشأن بين البدو والحضر، وبين القبائل بعضها وبعض، بل وبين أبناء البيت الواحد ممن يتنافسون على المناصب والمغانم. حتى أن أحد أشراف مكة لم يتورع عن قتل أخيه ثم طبخ لحمة وقدمه إلى بقية أخوته في وليمة ساهرة!
وكانت الخرافات والعقائد الضالة قد استحوذت على العقول، حتى لأوشكوا أن يرتكسوا في جاهلية عمياء، وهي شر من الجاهلية الأولى؛ لأن أهلها يزعمون مع ذلك انهم مسلمون. .
وبدأت دعوة محمد بن عبد الوهاب بالعمل على إصلاح العقيدة الدينية. وهل إلى ذلك من سبيل غير الرجوع إلى منابعها الصافية: الكتاب والسنة!
ومن خصائص العرب في جميع العصور، أن طبيعتهم السمحة القوية، وبيئتهم البادية المتصلة بالكون، المتفاعلة فيه، هي أقرب الطبائع البشرية إلى روح الإسلام وطبيعته. وليست كذلك طبيعة الأمم التي أغرقتها الحضارة، واستغرقتها العقائد المادية، وأنهكها الترف العقلي، وخدرتها أوهام التصوف وتهاويل الفنون. .
ولذلك استطاع الإسلام أن يحقق بأولئك العرب، بعد أن زالت عن طبيعتهم السمحة القوية أدران الجاهلية، وتطهر جوهرها النقي مما شابه من عقائد وأفكار - استطاع أن يحقق بهم أروع وأسرع معجزة في فتح الأمصار ونشر كلمة الله.
فلما اتصلت حياتهم بتلك الأمصار، وتذوقوا ما فيها من ألوان الحياة الحضارية، وبهرتهم دنياهم الجديدة بما فيها من زينة وزخرف ومتاع، تأثروا بذلك كله، فضعفت قواهم المبدعة الغلابة، ولم يستطيعوا أن يتابعوا جهادهم بعد الفتح في تطوير عقائد تلك الأمصار، وانبعاث صور جديدة للحياة في شتى مناحيها العقلية والاجتماعية، يتصل إلهامها بروح الإسلام وطبيعته، فكان أن ذرت العقائد الموروثة التي حاربها الإسلام بقرونها من جديد، في صور موشاة بألوان تخيل للرائي أنها صورة إسلامية، وإن كانت في مادتها ووحيها بعيدة كل البعد أو بعضه عن مادة الإسلام ووحيه. .
وأنظر معي الآن - ولا تجزع - إلى ذلك الميراث الضخم الذي خلفته العصور الإسلامية منذ أنحسر عنها مد العروبة المسلمة أو غاض، وانطلقت غرائزها تبني للإسلام حضارته(1019/22)
العمرانية والعقلية، في مصر وفارس والهند وتركيا وغيرها من الأمصار، فتنشئ العمارة، وتمارس العلم والفلسفة، وتصوغ فنون الحياة. . أترى معي حقيقة - إذا تجردنا من أوهام ذلك التاريخ الذي نعيش فيه، وتحررنا مما رسب في أعماقنا من معايير وموازيين - أن هذه الحضارة الإسلامية في ماضيها وحاضرها، وذلك الميراث الضخم الذي تزهو به وتلك الحياة التي أبدعت هذه الحضارة وذلك الميراث، والتي نحياها الآن على نمط قريب مما كان يحياها أولئك الآباء والأجداد؛ أتراها معي حقيقة، حضارة إسلامية بكل ما في هذه الكلمة من معنى؛ أم أنها حضارات متعددة تمتد جذورها إلى أعماق الأمم التي صنعتها، في مصر، وفارس، والهند، وتركيا، وغيرها من الأمصار؟
قد تتهمني بالمغالاة والتجني على مقومات الحضارة الإسلامية. وقد تقول: إن هذا التعدد في ألوان الحضارة الإسلامية لا يتصل إلا بمظاهرها، وبالقدر الذي تختلف به طبيعة كل أمة ومؤثراتها الخاصة، وإنها في جوهرها ومجموعها تنبع من معين واحد هو معين الإسلام. . .
وفي هذا الاعتراض نوع من المغالطة؛ فإن هذه الألوان المتعددة في معالم الحضارة الإسلامية، لا يقتصر تعددها واختلافها على المظهر فحسب، ولا يرجع ذلك التعدد والاختلاف إلى تأثير البيئة واختلاف الطبيعة - وأذن لهان الأمر؛ ولكنه أعمق من ذلك جذور أو أبعد أساً؛ ذلك لأن هذا الاختلاف في المظاهر لا يقاس إلى ما بين العقائد والأفكار والمشاعر التي تكمن وراءها من تباعد واختلاف. . وبالقدر الذي يباعد بين هذه العقائد والأفكار والمشاعر الموروثة، وبين الإسلام في حقيقته الأولى وتمثله للكون والحياة.
وفي هذا الاعتراض كذلك شبهة لا يمكن إزالتها إلا بالاحتكام إلى الإسلام ذاته؛ لا عن توهم أنه دين تأبى طبيعته التطور، وينكر حق العقل في بحث أسرار الكون وإخضاع نواميس الطبيعة، ولكن عن إدراك طبيعة الإسلام باعتباره دينا يقوم على (التوحيد) في كل شئ: التوحيد الذي يسمو بالإنسان عن توحيد عبودية إلا لله، ويجعل المسلم قواما على الحياة والكون، يسيطر عليهما ويسخرهما لتحقيق الرسالة التي جاء بها الإسلام لخير الفرد والمجتمع؛ لا أن يكون عبداً للكون والحياة، تستخدم مواهبه في الفنون حتى يكاد يعبد ما خلق، وتستغرق عقله بالفلسفة حتى تصرفه عن العمل. . .(1019/23)
على أني أراني قد أبعدت كثيراً فيما أعالج من أمر الدعوة الوهابية وبواعثها وأهدافها، فلندع هذا الحديث الذي لا توفيه هذه الإلمامة حقه من الحجة والبيان. ولنعد إلى حديثنا عن صاحب الدعوة محمد بن عبد الوهاب:
أراد هذا الإمام أن ينهض بدعوته. وهل لها إلا تلك (الخامات) العربية التي تنطوي على عناصر الحرية، والاتصال المباشر بالكون، والاستواء على أقطار الحياة يبرئها مما أصابها من غشاوة الجهالة، ويردها إلى فطرتها السمحة، ويغذيها بوحي الكتاب والسنة؛ ثم ينطلق بها خفيفة مؤمنة صابرة، تحمل أعباء الدعوة، فتنشر الهدى المحمدي، وتقر الأمن المضطرب، وتحمي البيت الذي يتخطف الناس فيه، ثم تمضي برسالتها إلى أبعد الآفاق. .
تلك كانت دعوة محمد بن عبد الوهاب. وهذه وسيلته. . ولقد نجح هذا الداعية في المرحلة الأولى - مرحلة الانتصار على أهواء الجاهلية، وأدواء الجهالة، واستنفار (الإخوان) للدعوة إلى سبيل الله - نجاحاً كاد أن يتجاوز حده فيقع بهم في السرف، أو قد كان.
وكانت دعوة محمد بن عبد الوهاب تسير جنباً إلى جنب مع مراحل الدولة السعودية، فلما دانت الجزيرة العربية لآل سعود في مطلع القرن التاسع عشر، كانت هذه الدعوة تزلزل قلوب كثير من السلاطين والولاة في البلاد الإسلامية، ويرون فيها خطراً جائحا يخشى أن تمتد آثاره فتقضي على الأوضاع الظالمة والعقائد الفاسدة التي تقوم عليها كثير من العروش والتيجان. . .
أحس بهذا الخطر سلطان تركيا، وكان يعيش في تلك الأسطورة التي توهمه، أو يوهم هو بها الناس، بأنه ظل الله في أرضه!
وأحس به محمد علي في مصر. . .
وكان إحساس سلطان تركيا بخطر الدعوة الوهابية مزدوجاً، لأنه كان يحس في الوقت نفسه بخطر محمد علي في مصر. فأراد أن يضرب الضربة يصيب بها الاثنين معاً، فطلب إلى محمد على أن يغزو الحجاز؛ وأن يقضي على أولئك المتمردين العصاة!
ووجدها محمد علي فرصة يضرب بها ضربته، باسم خليفة المسلمين، ظل الله في أرضه. .
ثم كانت الغزوات والحروب التي ذهب وقودها مئات الألوف من أبناء مصر، وعشرات(1019/24)
الألوف من أبناء الجزيرة العربية. والتي خلقت في نفوس الشعبين تلك الموجدة التي تذكو نارها تارة وتخمد أخرى. . .
وكتب التاريخ الزائف قصص البطولة والنصر لجيوش الخليفة وولاته في مصر، على الدعوة الثائرة المتمردة في جزيرة العرب. هذه الجيوش المغلوبة على أمرها، والمسخرة لأطماع الولاة وأهوائهم. والتي حبست عشرات السنين عن أن تودي واجهتا الحق حين كان أشراف مكة يرشون السلاطين والولاة: ثم يعيثون في الأرض المقدسة فساداً، فيقتلون ويسلبون، ويغرون سفهاء البدو فيهدرون دماء الحجاج، وينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم، ولا يرسلون من هذه الجيوش إلا كتيبة لحراسة (المحمل) وهي تحدو ركبه بالطبول والمزامير.
ويبدو أن لتلك الحروب أثراً كبيراً في توقف الدعوة الوهابية عند خطوتها الأولى، وهي المناداة بالشريعة الإسلامية لتكون أساس الحكم، والرجوع إلى الكتاب والسنة في كل أمر، واستنفار أهل البادية ذوي الحمية والبأس للاضطلاع بأعباء هذه الدعوة. أما ما وراء ذلك من خطوات تتصل بتدعيم هذه الدعوة بالعلم، وتخرج أفواج الدعاة الذين لا يقتصرون على سورة الحماس الديني، دون البصر بشريعة الإسلام في الحياة؛ وتعبئة قوى الأمة للتحرر الديني والسياسي - فذلك ما قصرت عنه الأسباب، وما انتهى بالدعوة إلى أضيق الحدود.
ولقد كان من أثر ذلك أن الملك عبد العزيز ذاته، حين أراد أن يخرج قليلاً من نطاق تلك الحياة الجامدة الراكدة، وأن يدفع بلاده خطوات يسيرة في سبيل الحياة؛ أنقلب عليه أشد أعضائه وأنصاره من (الإخوان) أعداء ألداء، ووقعت بينه وبينهم فتنة دامية، انتهت بغلبته عليهم، ووقوع زعيمهم فيصل الدويش أسيراً في يده، وعندئذ تنفس الملك عبد العزيز الصعداء وقال: من اليوم سنحيا حياة جديدة!
محمد كامل حته(1019/25)
صديقي الشاعر
للأستاذ حبيب الزحلاوي
طالما سمعتك يا صديقي تقول: إن الشعر أسمى أنواع الأدب وأعلاها، وإن الشعراء يسمون بالإدراك الإنساني إلى مراقي وعرفة الحياة، وإنهم مصابيح النفوس، ومنارات الأفئدة، ومشاعل الأذهان، ولهب الأرواح؛ وإن الحياة بغير الشعر وبدون الشعراء ليست إلا صحراء تصفر فيها أبالسة المادة وترقص شياطين الشهوات على عاصف رمالها.
وكنت تقول: إن الشعراء جلبوا من دموع الأسى والأحزان، ومن بسمات الفرح والغبطة، وإنكم كونتم من أنفاس الثكالى ومن مرح الفتيات المرحات. وان قلوبكم بقدر ما هي لينة يذيبها الوجد، هي صلدة صارمة، إن تأثرت من النظرة الحنون، أو من الحدث الاجتماعي، أو من أي أمر يمس الحرية، أو مسألة تدنو من الإنسانية، تغرد أو تزمجر. إن غردت سحرت الإنس وأسكرت الجن، وإن زمجرت طوحت بالتيجان والعروش، وأودت بالطغاة والجبابرة إلى الدرك الأدنى من أودية الجحيم.
وقلت يا صديقي إن الشاعر يسبق جيله، يحسن بما تختلج به الأفئدة، وتدرك بلمحة خاطفة من لمحات ذهنك اللامع ما يجول في الصدور، فتصور ببراعة العبقري أحاسيس النفوس في شتى انفعالاتها، وترسم بنظمك الموسيقى الموزون مشاعر أمتك في مختلف أحوالها.
إن ادعاءك هذا هو الحق المبين؛ ولكن هل علمت يا صديقي الشاعر، أعزك الله وأبقاك، ماذا حدث في مصر وما طرأ عليها من طوارئ وإحداث منذ هل عام 1952 حتى أدركه المحاق؟ هل نقل لك الرواة خبر فئة من العسكريين قامت بعمل من الأعمال؟ هل دريت أن فاروقا الذي طالما سخرت من القمر بدرا إذا شبه بسناه، ومن الزهر عطراً نظراً إذا قورن بشذاه، فاروق ذلك الذي قلت فيه (إن أخلاقه الشخصية قدوة للمصريين) وإنه مثال الأخلاق العالية والنفوس الرضية! إنه أصبح أحدوثة يتندر العالم بأفاعيلها! وسطوراً في سجل التاريخ، وإنه لن يرى مصر أبداً ولن تضم رفاته أرض مصرية قط!
لست أدري يا صديقي الشاعر إذا كنت أحسست طغياناً وقع، أو شعرت بالحرية مست، أو بالحقوق ديست، أو بالأعراض استبيحت، أو بالأرواح أزهقت، لا بأيدي زبانية فاروق بل بيد فاروق وبأمره! أكبر ظني إنك لا تدري شيئاً من ذلك.(1019/26)
أنت يا صديقي الشاعر في واد، والأمة التي أنت منها في وداد آخر. فإذا خفيت عليك فعال اللواء محمد نجيب، وهان عليك إنكار أعوانه الضباط ذواتهم في سبيل الوطن، وشغلت عن التفاف عشرين مليونا من المصريين حوله وقد أنزلوه في حبات قلوبهم، وذهلت عن مائة مخلوق كسالى وألف قعيد سفهاء من مالكي آلاف الفدادين انتزعت منهم لتوزع على فالحي الأرض وزارعيها، ولم تلتفت إلى شعب كانت سمعته تتمرغ في الأوحال فأنقلب فصار العالم يتطلع إليه يرمقه بعين الإكبار والإعجاب، إذا كان هذا بعض ما وقع بين سمعك وبصرك وأنت ذاهل أو غافل، أيصح لك بعد اليوم أن تدعي الشعر وتتكلم في الشعور؟
لقد انصرمت منذ طرد الطاغية ودك عرشه. لقد انقضت هاتيك الشهور في العمل الجدي المجدي، فقد زالت من عالم الوجود وأحزاب وأذناب، وانمحت من سجلات التقاليد ألقاب وأرباب، وطهرت الأداة الحكومية وانعدم الفساد والرشوة والوساطات والمحسوبيات، وشرعت محاكم الأمة تطهر مصر من الخونة والغادرين، وقع كل هذا بين سمعك وبصرك يا صديقي الشاعر، ألم يكن بعض ما وقع كافياً لتحريك رواسب نفسك الشاعرة؟
ألم تسقك قدماك إلى طريق عابدين؟ ألم تر المهانة والذل والانكسار تجلل القصر بوشاح أسود؟ ألم تنصت إلى صراخ حجارة القصر، إلى قاعاته وجدرانها، إلى كل ركن وناحية، إلى كل سرداب ودهليز ومخبأ، تجأر في طلب التطهير بالنار المحرقة مما دنسها من مخاز من إسماعيل الفاجر إلى فاروق الداعر؟
من الشعراء يا صديقي الشاعر من يعيش بنصف وجدان وثلث حس، وربع شعور، وجزء من بصر وسمع، وبعض جزء من الوعي والإدراك. هل أنت من هذا النوع من الشعراء، أو مجرد حتى من الكليات والجزئيات، أو أنك مستجم في قوقعة تنتظر وسوسة شيطان؟
عهدنا لكل شاعر شيطاناً يوحي إليه الشعر، ألم يجل في خاطرك يا صديقي الشاعر أن تستلهم الرحمن الرحيم مرة نظم القوافي، أو أنهما تركاك كما مهملا ونبذاك قصيا لا تصلح إلا لتعيش بنصفك البشري الأسفل؟
أقلب الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية أيضا فلا تتعثر قدماي بشاعر أو نصف شاعر أو شويعر واحد حي يعيش بين الأحياء في هذا العصر!
ليس في شعراء مصر اليوم من يعيش مع (نجيب محمد) ولا أقول محمد نجيب، لأن الشعر(1019/27)
قد مات بعد شوقي وحافظ.
هل أقول إن دولة الشعر دالت كما دال عرش فاروق، أو أدنى إذا تلمست وفتشت وفي يدي مصباح ديوجين أجد (محمود عماد) آخر بين الشعراء الأحياء؟
حبيب الزحلاوي(1019/28)
بلزاك
للكاتب الكبير ستيفان زفايج
للأستاذ علي كامل
(يعتبر ستيفان زفايج من اعظم كتاب التراجم المعاصرين كما أنه في مقدمة كتاب القصة. وكتابه عن القصصي الفرنسي الخالد أونوريه دو بلزاك من أحسن ما كتب عن الأديب الكبير. ولقد كان كتاب (البرازيل أرض المستقبل) هو آخر كتاب أصدره زفايج في حياته. وقد وضعه بعد رحيله إلى البرازيل عام 1940 هرباً من الطغيان النازي. أما كتابه عن بلزاك فقد مات زفايج منتحراًن كما هو معروف، قبل أن يتمكن من نشره وكان قد أعد محتوياته. فلم تكد تضع الحرب أوزارها حتى سعى ناشره إلى الحصول على أصوله وتوصل إليها ونظم أبوابها بعد جهد مضن ثم أصدر الكتاب منذ عهد قريب وكان بذلك آخر كتاب ظهر لزفايج في عالم الأدب)
كانت والدة بلزاك تصغر أباه باثنين وثلاثين عاماً، ولم يكن زواجها منه عن حب، بل كان نتيجة إرغام من جانب أسرتها التي رأت في مركز برنار فرانسوا بلزاك ما يشجع على قبول هذا الزواج. كانت عصبية المزاج حادة الطبع تسئ معاملة أبنها أونوريه. ولم ينس أونوريه، حتى بعد أن شب عن الطوق وأصبح رجلاً وكاتباً تطبق شهرته الآفاق، إساءات والدته إليه. فقد كتب في أحد خطاباته إلى آخر عشيقاته وزوجته فيما بعد مدام دوهانسكا يقول: (آه لو عرفت أي نوع من النساء والدتي. إنها الرعب والهول مجتمعين. إنها الآن في سبيل القضاء على شقيقتي بعد أن قضت على جدتي. إنها تكرهني، تكرهني حتى قبل مولدي. إن والدتي هي سبب كل ما حل بي من مآسي الحياة)
ولقد كانت هذه الحياة العائلية الشاذة سبباً في أن يكرر بلزاك في كثير من المناسبات بأنه (قاسى افظع طفولة رآها إنسان على الأرض). ولاشك إن هذه الطفولة المعذبة قد اشتركت في توجيه مستقبل حياته فيما بعد.
لم يكن بلزاك في حياته المدرسية مجداً. وكان كثيراً ما يشرد بفكره أثناء الدرس، مبدياً عدم الاهتمام بما يلقيه أساتذته من الدروس. وقد نسب هو ذلك فيما بعد إلى أن امتلاء ذهنه بالأفكار جعله يرى فيما يلقي عليه أقل من المستوى المطلوب الذي يتطلبه ذكاؤه وطموحه(1019/29)
واطلاعه، وذلك الاطلاع الذي أنكب عليه كوسيلة لعزاء في البداية، قبل أن يكون وسيلة للتثقيف.
وظل بلزاك طول حياته الدراسية محروماً من العطف العائلي حتى بلغ العشرين وحصل على إجازة الحقوق، ولكنه بدلا من أن يسير في الطريق الذي أهلته له دراسته وكما تبغي أسرته، استيقظت فيه فجأة الرغبة في مزاولة حرفة الأدب، واستطاع أن يقنع أسرته بعد كفاح مستميت أن تمده بمبلغ من المال للذهاب إلى باريس ليجرب حظه مدة معينه لا تزيد على سنتين إذا فشل بعدها عاد إلى موطن الأسرة ليزاول الحياة التي أهلتها له دراسته القانونية.
ورحل بلزاك إلى باريس؛ وأقام في رقم 9 شارع ليدبجويير في غرفة في سطح المنزل، غرفة صغيرة تعابها النفس، اختارتها له والدته بنفسها خصيصا لتبغض إليه الحياة التي يطمع فيها. بيد أن بلزاك أحتمل حياته الجديدة بعزم وعناد. فكان ينظف الغرفة بنفسه ويذهب لشراء الطعام الرخيص كل يوم حتى يوفر ما تكلفه إياه المطاعم. حتى الماء كان يذهب لإحضاره من نافورة سان ميشيل كي لا يتكلف ثمن شرائه. ولم يكن كل ذلك ليثبط من عزيمته، وكان يتعزى عن شقائه بالتطلع من نافذة غرفته الصغيرة إلى أضواء باريس، متأملا سحرها، حالماً بذلك المجد الأدبي الذي يصبو إليه ليكون أسمه علماً بين كتاب تلك المدينة التي أضاءت سماءها أسماء أعاظم رجال الأدب والفكر في مختلف العصور.
فإذا ما أراد بلزاك أن يخرج من سجن غرفته ذهب إلى الأحياء الشعبية يتأمل ساكنيها ويدرس نواحي الحياة بين أرجائها. وكان لا يجد غضاضة أو غرابة أثناء تجواله إذ كانت ملابسه كما يقول، لا تلفت إليه الأنظار لأنها لا تفترق في بساطتها عن ملابس العمال والبسطاء من ساكني تلك الأحياء، فوق أن مشاعره كانت تتجاوب مع مشاعرهم، فيرثى لضروب تعاستهم، متضامنا وإياهم في سخطهم على رؤسائهم الذين يستبدون بهم ويرهقونهم في مقابل لقمة العيش. ولقد كانت هذه الفترة من حياة بلزاك حاسمة في تحديد تفكيره وإدراكه لنفسية الطبقات الكادحة وما يختزن فيها من مواهب إذا اكتشفت وأحسن توجيهها أخرجت للنور الكتاب والمخترعين والفنانين وسائر القادة في مختلف ضروب الفكر الإنساني.(1019/30)
وانقضى شهران دون أن يعرف بلزاك ماذا يكتب وقد تكدست في ذهنه المشاريع المختلفة. وأخيراً أستقر رأيه على كتابة مأساة شعرية بعنوان (كرموبل) فبدأ توافي على كتابتها وكان يريد أن ينتهي منها سريعاً قبل أن تجئ إليه والدته لتحاسبه على ما أعطته من نقود وعلى ما إذا كان قد استطاع أن يوفي بوعده في أن يصبح أدبيا؟! وأنهمك بلزاك في الكتابة وحيداً في غرفته، لا يغادرها مرة كل بضعة أيام حتى انتهى منها. وحمل بلزاك مأساته إلى أسرته وأتفق الجميع على عرضها على صديق للأسرة ملم بأصول الأدب والنقد. وبعد أن قرأها أبدى رأيه بعدم صلاحيتها. ولم يحاول بلزاك أن يناقش أو أن يحرج كبرياءه بعرضها إلى أشخاص آخرين أو على أحد المسارح فألقى بها في زاوية مكتبه ولم يخرجها من مكانها حتى مماته!
على أن هذه المسرحية؛ رغم فشلها، قد أنالته شيئا من الثقة من جانب والدته في أن يكون يوماً من الأيام أديباً يلمع اسمه بين رجال الأدب في فرنسا.
لم ييأس بلزاك من عدم نجاحه في عمله الأدبي الأول. وكان إيمانه بنفسه كافياً لأن يدفعه ليواصل صراعه. لكن المشكلة الكبرى التي أمامه الآن هي إن المال الذي منحته إياه أسرته يوشك أن ينفذ، ولذا يجب أن يجد طريقة للحصول عليه حتى يستطيع أن يبقى في باريس ويواصل هذا الصراع. وأخيراً أتفق مع أحد أصدقائه ويدعى أوجست لو بواتفان على أن يتعاونا معاً على كتابة قصص يوقعانها باسم مستعار.
وأنتقل بلزاك من غرفته إلى المنزل الذي كانت تسكنه شقيقته لور بعد أن هجرته بعد زواجها وجعله مقرا له يكتب فيه القصص المتوالية بمعاونة صديقه أوجست. ولاشك إن هذه الفترة من حياة بلزاك لا تشرف تاريخه الأدبي. فقد كان يسعى إلى كتابة أي نوع من الكتابة سواء كان قصصاً أو غيرها مادام يدر ربحاً مادياً. وكان يلجأ إلى اقتباس الموضوعات من أي مصدر يصادفه. ولقد كان عذره الوحيد أمام ضميره في ذلك الوقت هو السعي لأن يكسب حياته بأي سبيل حتى يستقل عن الحاجة إلى معونة أسرته، ويستطيع البقاء في باريس تمهيداً لمجده الأدبي الذي لم يتنازل عن العزم على الوصول إليه. ولقد أدى هذا التهافت من بلزاك على كسب حياته بأية طريقة إلى أن لا يتروى في كتابته فكان يؤجر قلمه لكتابة كل ما يطلب منه في مقابل أجر معلوم. ولم يغتفر له مؤرخو(1019/31)
حياته فيما بعد هذه الزلة التي أستمر عليها بضعة أعوام رغم سعيه إلى تبريرها بمنطقه البليغ وقدرته الفذة في الإقناع.
على أن أعجوبة بلزاك الكبرى أنه رغم هذا الإسفاف الأدبي خلال تلك السنوات قد استطاع أن يتطهر منه فيما بعد، وأن يكون في أدبه عالي الضمير، يتأنق في فنه ويعيد تصحيح ما كتب بعد إرساله إلى المطبعة عدة مرات حتى ضج منه الناشرون إلى درجة أن قاضاه بعضهم من اجل ما يتحملون من نفقات نتيجة تصحيحاته وتغييراته التي لا تنتهي.
وبلغ بلزاك الثالثة والعشرين وهو في أوج كفاحه المضني بمعاونة صديقه أوجست في سبيل التحرر من إعالة أسرته والبقاء في باريس. وإلى هذه السن لم يكن يعرف عن العلاقات النسائية شيئاً. فقد كان شديد الخجل، مهمل الهندام، لا يجذب إليه نظر الجنس الآخر لبدانته وبعده عن كل جاذبية وانطوائه على نفسه. ولطالما شعر بالألم عندما كان يرى شبانا في عمره يعتبرهم اقل منه ذكاء وشأنا في صحبة فتيات جميلات لا يستطيع هو أن يصل إلى معرفتهن.
وفي ذات يوم هيأت له الظروف رؤية مدام دوبيرني صديقة عائلته وكانت في عمر والدته إذ كانت في الخامسة والأربعين بينما هو في الثالثة والعشرين. فوقع في غرامها وظل يمطرها بخطاباته الملتهمة. ورغم صدها له في البداية فقد انتهى الأمر بها إلى الاستسلام والسماح له بلقائها ذات ليلة في منزلها فتحقق له حلم في التمتع (بتلك الليلة الصاخبة الممتلئة باللذة، تلك الليلة لا يستطيع التمتع بها إلا مرة واحدة ذلك الطفل الذي بلغ مرحلة الرجولة والتي يسعد بها عندما يصادفها لأول مرة في حياته).
ولقد دامت صداقة بلزاك لمدام دوبيرني قرابة عشر سنين. وحتى بعد هجره لها وإنشائه علاقات أخرى مع غيرها فقد بقي وفياً لذكرى صداقتها، يراسلها بين وقت وآخر ويسترشد بآرائها. فقد كان يرى على يديها وحدها تفتحت أمامه أبواب السعادة النفسية وعرف الحب الأول مرة في حياته وفي وقت بلغ به اليأس مبلغاً جعله يفكر في إن الموت هو السبيل الوحيد للخلاص من عذابه.
ولقد كان التفاوت الكبير بين عمريهما مما سهل التغلب على سذاجته العاطفية ومشكلة خجله المرضي. ألم يكن يتمثل مدام دوبيرني أمام ناظريه حين قال كلمته الخالدة: (ليس إلا الحب(1019/32)
الأخير للمرأة الذي يستطيع أن يرضي الحب الأول للرجل)؟! ولقد رسم هذا الحب الأول لبلزاك طريق ميوله الغرامية طول حياته ونوع المرأة التي تستطيع في نظره أن تملأ فراغ قلبه وتروي ظمأ حواسه الملتهبة المتدفقة؛ فالحبيبة النموذجية في نظر بلزاك هي تلك المرأة التي تخطت الثلاثين والتي تكون منه بمثابة الأم لطفلها المدلل، تغمره بعطفها وتحنو عليه وقت الشدة، وتمده بالمعونة المالية وقت الحاجة. هي تلك المرأة الواعية التي ترتفع بتجاربها عن الأنانية التي تريد أن تجعل من الرجل وسيلة لا غير لتحقيق أطماعها وإطفاء لهيب نزواتها. هي تلك المرأة التي أوشكت بحكم سنها أن تفقد الأمل في صداقة جديدة والتي تشعر بالسعادة الحقة إذ أتيحت لها تلك الفرصة النادرة التي تشعرها بأنه لا يزال هناك من الرجال من يعجب بها وترغب في صداقتها. وما بطلتا قصتي (المرأة المهجورة) و (المرأة ذات الثلاثين ربيعاً) إلا صورتان عن بطلات حياته الغرامية اللواتي خلدهن في قصصه العديدة ومنحهن حق التمتع بالحياة رغم العرف السائد في ذلك الوقت من الخصوص الذي يحرم عليهن بعد هذه السن التمتع بهذا الحق.
ولقد كانت هذه الصور الخالدة للمرأة التي تخطت الثلاثين في قصص بلزاك سبباً في أن يخلق حوله طبقة من المعجبات لم يتمتع بها غيره من كتاب القصة في القرن التاسع عشر. وفي جو هذه الصور الحية كان بلزاك يبشر بفلسفته الجديدة على لسان أبطاله كقوله (إن المرأة ذات الأربعين تعطيك كل شئ. أما ذات العشرين فلا شئ إطلاقاً). ولقد طبق بلزاك طوال حياته الغرامية هذه العقيدة فكان (شديد الكره للفتيات) لأنهن يأخذن كثيراً ويعطين قليلاً. كما أنه لم يلجأ إطلاقاً في علاقاته إلى بائعات الحب أو إلى ذلك النوع من الغانيات اللعوبات المغرورات. وما كانت صداقته بعد مدام دوبيرني كصداقته لدوقة إبرانتيز ومدام ريكامييه ومدام رولما كارو ودوقة كاسترى ثم أخيراً مدام دوهانسكا إلا تطبيقا لتلك العقيدة التي كونها لنفسه على ضوء حبه لمدام دوبيرني وهو أن تكون المرأة له أماً وشقيقة وصديقة وعشيقة في وقت واحد، يلوذ بها أيام المحن والكوارث فتغمره بتشجيعها وسلواها وتهرع إليه في ليالي الشقاء كما كانت تفعل مداد دوبيرني التي كانت (تأتي إليه كل يوم كما يأتي النوم الكريم يسكن وقر الآلام).
بقي بلزاك حتى الثلاثين من عمره يكافح بعناد دون أن يخرج عملاً أدبياً ذا قيمة إلى أن(1019/33)
أصدر أول قصة طويلة له (التعويذة) فكانت فتحاً جديداً في الفن القصصي من حيث قوة التحليل ودقة الوصف وكان نجاحها بداية فجر مشرق. فمنذ ذلك الوقت رسم بلزاك لنفسه هدفاً رئيسياً لموضوعات قصصه وهي أن تكون دراسة للمجتمع بكافة نواحيه يختلط فيها كل من الغنى والفقر، السعادة والشقاء، الطبقة العليا والطبقة السفلى، قوة المال وضعفه، وبالاختصار كل ما يعج به المجتمع من متناقضات. ذلك أن بلزاك كان يعتبر أن هذه المتناقضات أشبه ما تكون بالعناصر الكيمائية التي يتوقف كل منها على الآخر. فثراء طائفة من الناس سببه فقر الآخرين. والفقر المميت لا ينتج إلا لأن البعض قد أستحوذ على معظم الثروات. . وسعادة البعض كثيراً ما تكون على حساب تعاسة الآخرين وهكذا. ولقد كانت حياة بلزاك الخاصة في باريس وما عركه بنفسه بين مختلف طبقاتها هو المصباح الذي أرشده إلى حقائق المجتمع الإنساني في عصره. وما قصصه (الأوهام الضائعة) و (لويس لامبير) و (سيزار بيروتو) و (الأب جوريو) و (أوجيني جرانديه) وغيرها إلا ثمرة دراساته الشخصية وحياته العاصفة التي جعلت منه الأديب المؤرخ لعصره والمصور الصادق والطبيب البارع للمجتمع الباريسي الصاخب والمجتمع الإنساني بوجه عام.
ولقد استطاع بلزاك خلال هذا الكفاح العنيف في سبيل تأدية رسالته وفي سبيل (أن يحقق بعلمه ما حققه نابليون بحسامه) كما قال - أن يكتب في مدة عشرين عاما - عدا المسرحيات والمقالات والقصص القصيرة - أربعاً وستين قصة طويلة وأن يخلق في هذه القصص إلفي شخصية إنسانية، كل منها نموذج قائم بذاته للطبيعة البشرية بفضائلها ورذائلها، محققاً بذلك حلمه في أن يرسم صور المجتمع الإنساني بكافة ألوانه وطبقاته في قالب قصصي في سلسلة أطلق عليها فيما بعد ذلك العنوان الخالد على الدهر (المهزلة الإنسانية).
ولقد أرتفع بلزاك بإنتاجه الأدبي إلى أن يكون كما كان يتمنى (على رأس الحياة الأدبية في أوربا) وأن يكون (خليفة بيرون ووالتر سكوت وهوفمان). والواقع أن بلزاك قد فاق الأدباء الذين كان يتخذهم في شبابه مثلاً أعلى له؛ فقصته (لويس لامبير) التي تعتبر أعمق وأقوى ما كتب بمثابة فتح جديد في الفكر الأوربي عندما كشفت العلاقة الخفية بين العبقرية والجنون قبل أن يكشفها علماء النفس في أوائل القرن العشرين بعشرات السنين. ولقد كان(1019/34)
بلزاك يريد أن ينافس بقصته (لويس لامبير) قصة (فاوست) للكاتب الألماني جوت! ورغم أنه وصل إلى ما يبغي إلا أننا ندهش حين نعلم إن بلزاك كتب قصته في ستة أسابيع لم يفرغ جوت من كتابه (فاوست) إلا بعد ستين عاما من بدئه فيها.
وإذا كان بلزاك لم يحقق كل حلمه ولم يتم برنامجه إلى آخره فقد حقق معظمه وكتب أربعة أخماس (المهزلة الإنسانية) قبل أن يعاجله الموت في الثانية والخمسين. بيد أن بلزاك قد دفع الثمن غالياً من صحته التي أنهكها السهر الطويل المضني. ولعل العجب يتولى كل من يعرف طريقته في العمل التي تفوق طاقة البشر! إذ كان يقضي في كثير من الأحيان أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لا يغادر أثناءها شقته الصغيرة في شارع كاسيني. وكان يبدأ الكتابة عند منتصف الليل حتى إذا ما طلع الصباح تناول إفطاره ثم شرع في تصحيح النماذج التي ترسلها إليه المطبعة فيغير وينمق وكثيراً ما يعيد كتابة صفحات بأكملها. فإذا ما حل المساء لجأ إلى سرير نومه حتى منتصف الليل ليستيقظ ويواصل الكتابة. ولقد ذكر طبيبه وصديقه الدكتور ناكار أن سبب موته يرجع إلى أن قلبه كان متعباً بسبب الإرهاق في العمل والمبالغة في شرب القهوة ليستعين بها على مقاومة النوم. ولقد أحصى أحد المقربين إليه عدد فناجين القهوة التي احتساها في حياته فبلغ خمسين ألف فنجان!!
ولقد كان موت بلزاك مأساة أخرى تختتم بها مآسي طفولته المعذبة وكفاحه الفكري العنيد. كان منذ سنوات قد وقع في غرام مدام دوهانسكا. وكانت سيدة روسية غنية متعجرفة تتعالى عليه وتعتز بأصلها الأرستقراطي وتجعل من صداقتها له ملهاة لغرورها. وكان بلزاك لسوء حظه ضعيفا مع النساء، شديد الإحساس بالنقص تجاه كل سيدة رفيعة المقلم: وبسبب هذا الإحساس تضخمت في ذهنه فكرة الزواج من مدام دوهانسكا لما سيناله بزواجها من شرف ومال فيحقق بذلك حلمه القديم في الحصول على (امرأة وثروة) تستقر بها حياته المضطربة ليتفرغ بعد ذلك في هدوء لإتمام رسالته الأدبية الضخمة.
وكان زوج مدام دوهانسكا عندما تعرف بلزاك لا يزال على قيد الحياة. فظل بلزاك صبوراً على علاقته بها سنوات حتى مات زوجها وحانت بذلك فرصة الزواج. إلا أن مدام دوهانسكا كانت تسوف في وعدها، مختلقة الأعذار دون أن تقطع علاقتها بالكاتب الكبير الذي كانت رفعة مكانته الأدبية في أوروبا بأسرها تضفي على من تصادمه رجلاً مثله هالة(1019/35)
من الرفعة والمكانة.
وكانت صحة بلزاك قد أخذت في الانهيار وأجمع الأطباء على أن حالة القلب لديه لا تسمح له بحياة طويلة. عندئذ. وعندئذ فقط دوهانسكا على أن تحقق للرجل الذي صبر السنين الطوال وعفر وجهه في الثرى تحت قدميها لينال يدها الأمنية الكبرى التي يجيش بها صدره. فما الذي ستفقده بهذا الزواج وقد أجمع الأطباء أنه لم يبق له في الحياة إلا شهور معدودة!
وسافر بلزاك إلى روسيا رغم اعتلاله ليعقد أخيراً زواجه في مارس عام 1580 في هدوء وصمت تحقيقاً لرغبة مدام دوهانسكا التي كانت تعتقد أن في هذا لزواج انتقاصاً من مقامها. ولهذا كتب العقد بغير احتفال ولم يشعر به أحد ولم يدع إليه إنسان وتمت مراسيمه في الساعة الرابعة صباحا قبل أن يستيقظ النيام من نومهم!
وفي مايو بدأ الزوجان رحيلهما إلى باريس ليقيما في ذلك البيت الذي ظل بلزاك منذ وقت طويل يعده في شارع فورتونيه بكافة ألوان الترف والنعيم في انتظار ذلك اليوم الموعود. وكانت الرحلة شاقة على صحة بلزاك حتى خيف ألا يستطيع أن يتمها سالماً، ذلك أنه لم يكد يصل إلى درسدن حتى انهارت قواه وتضاءلت قوة أبصاره ولكنه قاوم إرادته. فكل ما يأمله الآن هو أن يصل مع مدام دوهانسكا إلى منزل فورتونيه ليعيش فيه بين ذراعيها ولو بضعة أيام.
وقبل أن يصل بلزاك إلى باريس كان قد أرسل بكل تعليماته إلى والدته التي كانت تقوم بكل الترتيبات في منزله الجديد. فطلب منها ألا تكون بالمنزل عند وصوله إليه لأنه يعلم إن مدام دوهانسكا لا تريد رؤيتها. كما طلب أن يكون فرانسوا خادمه الخاص في انتظاره أمام المنزل بعد أن يضئ جميع أنواره. وعندما وصل الزوجان أمام المنزل الموعود لم يجد بلزاك فراسوا في انتظاره فظل يطرق الباب دون مجيب. وانتظرت مدام دوهانسكا في العربة حتى أستدعى أحد المختصين لفتح الباب عنوة. وعندما دخل العروسان وجدا فرانسوا في إحدى الغرف وقد أصابه الجنون فجأة فنقل في نفس الليلة إلى إحدى المصحات.
كان حلم بلزاك أن يعيش في هذا المنزل خمسة وعشرين عاما يكتب أثناءها خمسين كتاباً(1019/36)
يتم قائمة مؤلفاته التي تكون (المهزلة الإنسانية) والتي يبلغ مجموعها مائة وأربعة وأربعين مؤلفاً. وكان قد أعد لذلك غرفة مكتب فاخرة إلى جانب غيرها من الغرف الحافلة بأفخم أنواع الأثاث؛ فإلى أي مدى تحقق هذا الحلم؟ لم يخط بلزاك حرفاً في غرفة المكتب الفاخرة. ولشد ما يبدو أن بلزاك كان يحس بما يخبئه له المستقبل الغادر فجعل من نفسه ومن أحلامه الفاشلة الشخصية الرئيسية لقصته (الأوهام الضائعة).
نعم! فلقد أراد القدر أن يأتي بلزاك إلى هذا المنزل، موطن خياله الذي صبر من أجله طويلاً، لتنهار صحته نهائياً بمجرد وصوله. فمنذ اليوم الأول لم يعد يقوى على القراءة أو الكتابة، ولم يلبث أن لزم فراشه لا يستطيع منه حراكاً. وعندما أقبل ملاك الموت في ليلة 17 أغسطس 1850 لم يكن بجواره إلا والدته فقد كانت زوجته مدام دوهانسكا قد غادرت المنزل قبل ذلك بعدة أسابيع.
ودفن بلزاك في مقبرة بيير لا شيز. تلك المقبرة التي كان يحبها والتي طالما تأمل بطله راستنياك من أعلاها إلى باريس التي تحدى جبروتها وسطوتها. ورسم جمالها وتعاستها، وخلد عبقريتها على صفحة الفكر البشري ليتغنى بها الأبناء جيلاً بعد جيل.
علي كامل(1019/37)
وفاء طائر
للأستاذ أحمد زكي أبو شادي
كان شقيق الكاتب الشهير و. هـ. هدسن , يمتلك مزرعة منفردة في الأرجنتين. وكان ينفق كل عام أربعة أشهر في السهل بكوخ وحيد وكان يرى في شهر أغسطس أفواجاً عظيمة من إوز النجود طائرة نحو جزر الماجلانيك في الجنوب. وفي أحد الأيام بينما كان راكبا رأى زوجاً من الإوز يمشيان كأنما تخلفا عن فوج رحل، وكانت الأنثى ذات ريش بني والذكر أبيض الريش. وكان الذكر يرفرف أمامها، طائراً بين حين وآخر نحو مائة ياردة ثم يعود إليها ويسايرها. كانت الأنثى كسيرة الجناح، فأبى الذكر أن يتخلى عنها، ولو أن خاتمتها المحتومة لا ريب فيها، إذ لابد من أن تنقض عليها الطيور الجارحة، ولا مفر في النهاية من طيران رفيقها بمفرده إلى الجنوب.
الأدب الأديب من عاش للفن ومن صاحب الحياة وفيا
من تملى كل الذي وهبته ... وتغذى به قريراً سريا
ما تحاشاه مرة كيفما كان، ولو فاض لوعة بالمآسي
ينعم الفن بالمآسي وحيناً ... يجزع الفن من حبور الناس!
وهو عند الحالين يسعده الصدق بمرأى الوجود أو تفسيره
مثلما يزدهي بتعبيره الحر وإ ... ن مض في مدى تعبيره
هكذا كان حال حر أديب. . . ... سكن الكوخ في البراري وحيدا
حين أوفى الخريف أو كاد ... والوز أتى راحلاً ليمضي بعيدا
هارباً من تهجم البرد كالح ... ق إذا شاء قتله الباغونا
طامعاً من تهجم دفئاً وحبا ... آبيا أن يخان أو أن يخونا
وبيوم رأى من الوز زوجا ... قد تخلى عن فوجه وتبقى
سائراً كالذي تقيد بالماضي ... وقد خاف تركه حين يرقى!
تلك أنثى بريشها الأسمر الف ... خم تمشت كسيرة للجناح
حينما خلها ترقرق ف ... ي النور بياضا كأنه من أقاح
كان يمشي مرفرفا قبلها حي ... نا وحينا يعود رهن خطاها(1019/38)
آبيا أن يفوتها وهو يدري ... بشعور مؤصل عقباها
إذا من الحتم موتها حين ته ... وى فوقها تلكم الجوارح يوما
حين تلقى ظلم النهاية في الع ... يش وإن لم يعد للعيش ظلما
ومن الحتم أن يعود وحيدا ... لاحقاً بالقطيع نحو الجنوب
مفنيا عمره حزينا كقربان، ... كموت الضياء عند المغيب!
هكذا شاهد الأديب المآسي ... صامتات ومفصحات أمامه
فطوى قلبه عليها شجونا ... ورأى في شجونها أيامه
نيويورك
أحمد زكي أبو شادي
-(1019/39)
شعر مختار
خريف. . .
إلى من كنت أراها كل صباح. . مستندة إلى شجرة حاملة
حقيبتها المدرسية في انتظار العربة
للأستاذ محمد محمود عماد
ربيعك أين يا شجرة؟ ... أراك. . ولا أرى أثره
أرى عشا. . ولا طيرا ... أرى غصنا. . ولا زهره
وأين فتاتك العذرا ... ء أين اليوم منتظره
فتاتك. . هل ذكرت لها ... بظلك وقفة خفره
وقد مستك نضرتها ... فكنت بقربها نضره
فتاتك. . هل ذكرت لها ... بجنبك ميلة حذره
فكانت فيه وهو بلا ... ثمار. . خير ما ثمره
وقد ألقت حقيبتها ... إلى خصر ثنى وتره
وما في الكتب. . نعلمه ... وما في القلب. . من خبره؟
خريف فيك. . أم حزن ... على أيامها العطرة
ويا من كنت أرقبها ... مصبحة. . ومبتدره
صباحك كنت ألقاه ... كما يلقى امرؤ يسره
صباح كان يستجلي ... صباح الخير. . من نظره
وقبل طلوعه سحر ... يطالع من يرى سحره
ترى لو عاد للدنيا ... ربيع. . عدت للشجرة؟
محمد محمود عماد(1019/40)
أحلام العصافير الأخضر
للشاعر عبد المنعم عواد يوسف
نشوان يحلم بالدفء ... الكامن في قلب الغابة
فهناك العيش وبهجته ... وهناك يقابل أحبابه
والشمس تبعثر أنوارا
والورد تنفس أعطاراً
والعشب تبسم أزهارا ... من أجل العصفور الأخضر
وهناك الزنبقة الوسنى ... حسناء الطلعة عذراء
سيروح ويلثم وجنتها ... مسرورا والكون غناء
والصبح تثاءب وسنانا
نشوان ينفث ريحانا
والطير يوزع ألحاناً ... يمنا بالعصفور الأخضر
أشواق العاشق أزهار ... والحب يرفرف منسابا
والطل مدامع رهبان ... قد تخذوا الدوحة محرابا
والوجد صلاة ودعاء
وتوسل صب وبكاء
والصبح الحالم أصداء ... لصلاة العصفور الأخضر
همهمة الغابة أدعية ... وغناء الطير تراتيل
والدوحة معبد أرواح ... ونثار النور قناديل
والراهب في إغفاءته
تصغي الأزهار لأنته
فيهز الروح بصيحته ... لدعاء العصفور الأخضر
عبد المنعم عواد يوسف(1019/41)
من هنا وهناك
الاتجاهات الحديثة في الأدب الإنكليزي
أستعرض (ف. س. بريتشت) الناقد الأدبي لمجلة (نيوستيتمان اند نيشن) الإنجليزية الاتجاهات الحديثة في الأدب الإنجليزي فأبى أن يعترف بأن هناك اتجاها أو اتجاهات معينة تشوب الإنتاج الأدبي في الجزر البريطانية. والواقع أن المستر بريتشت حذر من دراسة الأدب على أساس (الاتجاهات). وقال إن الروائع الأدبية في معظم العصور الأدبية لم تكن جزءا من اتجاه أدبي معين وإنما كانت وليدة الإبداع الفني الخالي من أي اعتبار آخر
وذكر المستر بريتشت على سبيل المثال ثلاث قصص من أروج القصص في بريطانيا اليوم تعالج موضوعات مختلفة لا يمكن أن ترتبط باتجاه معين في حاضر الأدب الإنجليزي. ومن هذه القصص من تأليف القصصية المعروفة (حوبس كيري)، وهي قصة تعالج الحياة الخاصة والعامة لأحد رجال السياسة البريطانية في عصر الملك إدوارد. ومنها قصة من تأليف (بازيل دافيدسون) بعنوان ومحورها الجاسوسية في منطقة النفوذ السوفيتي.
إلا أن المستر بريتشت يقول بأن في السوق الأدبية رواجاً للقصص التاريخية - وهذا لا يعني أن هناك أنجاها معينا بين الأدباء الإنكليز لمعالجة التاريخ في قالب قصصي. ويشهد المستر بريتشت لقصتين من هذا النوع بالتفوق الأدبي والإبداع الفني. هما من تأليف (هوب مونتر) للكاتب المعروف (هـ. ف. م بريسكوت) وهي صورة فنية ممتعة للحياة البريطانية في عصر الملك هنري الثاني.
والاتجاه الوحيد الذي يعترف به المستر بريتشت يتصل باللغة - وعلى الأخص لغة الترجمة - فقد شاع في الأوساط الأدبية الإنكليزية في الآونة الأخيرة اتجاه واضح لإعادة ترجمة الروائع الأدبية الكلاسيكية في لغة مبسطة يصفها المستر بريتشت بأنها أقرب إلى الابتذال اللغوي منها إلى البساطة وسهولة التعبير. ويضرب مثلاً على ذلك بالترجمة الجديدة (لفاوست) التي أفقدت هذا السفر النفيس كثيراً من جلاله الأدبي وروعته الفنية. وكذلك الترجمة الجديدة لأنياده فرجيل التي لم تضمن للنص الأصيل جلالته الفنية.(1019/42)
وهذا الميل إلى تبسيط الروائع الكلاسيكية بلغة المكالمة الحديثة لم تقتصر على المترجمات من روائع الأدب الأجنبي وإنما شملت الأدب الكلاسيكي الإنجليزينفسه. فهناك نشاط أدبي لإعادة كتابة (قصص كنتربري)، وهناك رغبة لدى بعض الكتاب ودور النشر للاعتداء حتى على حرمة الأدب الشكسبيري. وإذا علمنا أن المستر بريتيت يكتب لمجلة يسارية عرفت بآرائها المتطرفة في السياسة والأدب أدركنا مبلغ استيائه من هذا الاتجاه لتبسيط لغة الروائع الكلاسيكية على حساب قيمتها الفنية.
حاضر الأدب الهندي
نشرت جريدة النيويورك تايمس في ملحقها الأدبي استعراضاً سريعاً لاتجاهات الأدب في الهند بقلم أحد الهنود. جاء في هذا البحث أن من غير الصواب تصنيف الأدب لهندي على أنه (وحدة أدبية) تنطوي على ما تنطوي عليه الوحدات الأدبية في الثقافات الحية من اتجاهات وتيارات. وذلك لأن الإنتاج الأدبي في الهند يصدر في عدد كبير من اللغات المحلية المتفرعة من السنسكريتية.
ويؤكد واضع البحث أن حاضر الأدب في الهند لا يشير إلى ازدهار؛ فالازدهار صفة لازمت عصور الأدب الهندي التي سبقت عصرنا الحاضر، فلم يقو كتاب الجيل الجديد في الهند على منافسة نتاج رابندرنات طاغور ومسرحياته، وقصص (سارات شاترجي) وغيرهما من أئمة الأدب في الجيل المنصرم.
ويعلل الكاتب هذا القصور بأن الجيل الذي يمثله طاغور كان يرزح تحت أعباء عاطفية شديدة - أعباء الصراع لتحقيق الحرية السياسية - مما فرض عليه انفعالات قوية للتعبير عن صورة الحياة ومشاكل النفس والمجتمع فيما عبر عنه ذلك الجيل من شعر وقصص ومسرحيات.
ومع هذا التبرير لا يجد هذا الكاتب عذراً للجيل الجديد في تقصيره عن الإبداع الفني. خصوصاً وأن لديه مورداً غزيراً من تراث جيل طاغور والأجيال التي سبقت ومن ذخائر الثقافة والأدب الإنجليزي الذي يحتل الآن مكان الصدارة كمورد للغذاء الفكري في الهند.
ويشير الكاتب إلى أبرز كتاب الجيل المعاصر، الذين يحملون تراث الأجيال السابقة ويبشرون بها هو الأديب الهندي الكبير (سنوميترا براساد بأنت)، وهو يكتب بالهندية(1019/43)
ويتعمد تصوير ألوان من حياة الطبقة الكادحة.
وهناك القصصي البنغالي (جوبال هالدار) الذي لقيت قصصه الطويلة وأقاصيصه القصيرة رواجا كبيرا. ويقول واضع البحث إن الإبداع الفني لدى هذا القصصي البنغالي محدود، وإنتاجه يدور في إطار فني جماله وروعته لا تتعدى صوراً قليلة العدد، يميل الكاتب إلى تكريرها في معظم إنتاجه الفني.
وبمثل هذا العرض يصف واضع البحث إنتاج القصصي الهندي المعروف (ياشبال) الذي (يجد لقمة الخبز في كل مشكلة وحالة من حالات النفس ومجتمعها).
ويقول الكاتب إن هيمنة التفكير السياسي على الأدباء والمثقفين في الهند جعلهم مغرمين بالأدب السياسي أكثر من أي لون من ألوان الإنتاج الفكري. ولذلك فإن حاضر الأدب الهندي يطفح بالدعوات المقتبسة من أنظمة الفكر المعاصرة التي تتطاحن الآن في المعترك الدولي.
وفي مجال الشعر يسيطر (مايثلي ساران جوبتا) على زعامة القريض. فهو لا يكتب إلا شعراً. والغريب أنه قادر على الارتزاق من كتابة الشعر الفني المحض ويعيش في إحدى قرى الهند. ويتصف شعر (جوبتا) بالمحافظة وتمجيد العقيدة الهندوكية في ألوانها الدينية والسياسية.
ولشعره رنة موسيقية وعمق، وفيه صورة صادقة لاحساسات المجتمع الهندي التقليدي الذي لم تفسده كثرة الاتصال والتشبه بالثقافة الإنجليزية وغيرها من الثقافات التي تجد في الهند مجالا للرسوخ. ولهذا الشاعر رأي في قرض الشعر. فهو يعتقد أن الشاعر يخاطب الروح وأن الفيلسوف يخاطب العقل. وبما أنه شاعر وليس بفيلسوف فإنه يتفادى أن يصوغ قصائده في قالب فلسفي كما يميل إلى ذلك عدد كبير من الذين يتعاطون نظم القريض في الهند.
ويمتاز الناشئون من كتاب القصة في الهند بأنهم يقتدون في مستهل حياتهم الفنية بالاتجاهات التي يمر بها كتاب القصة في إنكلترا على وجه الخصوص، وفي أوربا وأمريكا على وجه العموم. فهم يبدءون بمعالجة مشاكل (القلب) والعشق والغرام وألوان الحب من وصال وهجران، وأكثرهم يستمر في هذا النوع من الأدب العاطفي، ولكن(1019/44)
البعض الآخر يميل في سنوات النضوج العقلي إلى الاستفسار عن صلة المرء بالمجتمع الأكبر وأهمية الدور الذي تلعبه الشؤون الروحية في هذه الصلة.
ويروج في الهند أدب المقال والنقد، ويقبل عليه القراء بشغف.
وللأدب الهندي وجه جديد هو ما كثر في الآونة الأخيرة إنتاجه من أدب إنجليزي من أدباء هنود، وان هذا الإنتاج سوق في الهند وفي خارج الهند.
الشعوبية الثقافية وموقف الاتحاد السوفيتي منها
هل تسمح الوحدة السياسية التي تجمع بين مختلف الولايات الأوربية والآسيوية التي تؤلف الاتحاد السوفيتي بنمو الثقافات المحلية لهذه الولايات؟ أم إن الوحدة السياسية تحمل في ثناياها الانصهار الشامل لهذه الثقافات المحلية في بوتقة الثقافة السوفيتية الماركسية وما تنطوي عليه من أسس مرسومة للأدب والفن وشتى ألوان النشاط الفكري؟
هذا سؤال عالجه بعض الكتاب الذين يتتبعون تطور الأدب الروسي في ظل الحكم السوفيتي. واتخذوا حاضر الأدب والفن في أوكرانيا (أكبر ولايات الاتحاد السوفيتي الأوربية مساحة وأهمية) نموذجاً لأبحاثهم.
وقد أستعرض أحد الكتاب الأوكرانيين المقيمين في المنفى حاضر الأدب والفن في أوكرانيا في مقالة ظهرت مؤخرا في إحدى المجلات الأدبية الأمريكية فقال: انزعجت الحكومة الروسية للاتجاهات (القومية) الانفعالية التي أخذت تبدو في إنتاج أوكرانيا الأدبي والفني إثر الرواج الهائل الذي صادفته قصيدة قومية عنيفة نظمها أعظم شعراء أوكرانيا المعاصرين بعنوان (أحب أوكراني) وبلغ من أهمية هذه القصيدة أن كانت موضوع افتتاحية في جريدة (برافد) أعظم صحف موسكو اليومية نفوذا وانتشاراً. والقصيدة وإن كانت مقصورة على تمجيد التراث الأوكراني والتغني بمآثره أثارت انتقاد موسكو لأنها لم تصغ في قالب الأدب السوفيتي ولم تتطرق إلى مدح النهضة الثقافية التي تقول موسكو بأن الماركسية السوفيتية قد نشرتها في سائر أنحاء الاتحاد السوفيتي بما فيه أوكرانيا.
وقد ذكرت جريدة برافدا في افتتاحيتها عن الشعوبية في الأدب والفن الأوكراني إن الملامة في هذه الشعوبية تقع على عاتق الإدارة المركزية للحزب الشيوعي الأوكراني. وقالت (برافدا) إن الاتجاهات البرجوازية التي بدت في بعض أوساط الفن والأدب في أوكرانيا(1019/45)
وأخذت تمدح الثقافة الأوكرانية الوطنية متجاهلة الأسس الجوهرية للفكر السوفيتي - هذه الاتجاهات ليست إلا الجهل بأهداف النهضة السوفيتية ومراميها في تنمية الثقافات الروسية الإقليمية في الولايات الأوربية والآسيوية التي تصهر الاتحاد السوفيتي في بوتقة الفكر الماركسي الشامل. وأشارت برافدا إلى أن تسامح موسكو إزاء نمو الثقافات المحلية هذه الولايات السوفيتية لا يعني التغاضي عن صهر هذه الثقافات في بوتقة الفكر السوفيتي الشامل.
وانتقدت برافدا كذلك فقان الكفاية العلمية والأدبية بين زعماء الحزب الشيوعي الأوكراني وما يتبعه من معاهد علمية ومؤسسات أدبية وفنية، وأشارت برافدا على سبيل المثال إلى عضوية (أكاديمية العلوم الأوكرانية) وقالت بأن 70 في المائة من أعضائها مفتقرون إلى الثقافة العالية التي توفر لهم المقدرة الفكرية لاستيعاب المبادئ الماركسية في أبواب العلم والأدب والفن.
ومن جراء هذه الحملة التي شنها جريدة برافدا (لسان حال الكرملين في موسكو) أن أدخلت تعديلات على عضوية اللجان الثقافية التي يوجهها الحزب الشيوعي في أوكرانيا، ويسيطر بواسطتها على الحياة الأدبية والفنية في ذلك الجزء الهام من الاتحاد السوفيتي. وقد منعت السلطات في أوكرانيا بإيحاء من موسكو تمثيل أوبر (بودهان خاما لنتسكي) لما تضمنته من تمجيد للقومية الأوكرانية. وكانت هذه الأوبرا قد لقيت رواجاً منقطع النظير عندما عرضت لفترة قصيرة في العاصمة الأوكرانية.
وقد حاول الأستاذ لينوند ماكينوف نائب ستالين في أوكرانيا أن يبرر هذه الرقابة السوفيتية على الإنتاج الأدبي والفني في أوكرانيا فأصدر بياناً مسهباً أستعرض فيه المنافع الثقافية التي حققتها الإدارة المركزية للحكومة السوفيتية في أوكرانيا. فقال إن أوكرانيا قبل قيام العهد السوفيتي كانت مفتقرة إلى أبسط وسائل التعليم والإنتاج الأدبي والفني. أما اليوم فإن أوكرانيا تعيش في خيرات ثقافية لا مثيل لها. ففي البلد أكثر من 158 جامعة ومعهد للدراسات العالية. وفيها 75 مسرحاً ودار للأوبرا. ولها 26 فرقة موسيقية و28 ألف منتدى أدبي وثقافي. ويصدر في أوكرانيا 1200 جريدة يومية و64 مجلة أسبوعية وشهرية.
هذا لون من الصراع الفكري في روسيا السوفيتية لعل في التعرف عليه نوعا من المتعة(1019/46)
والفائدة.(1019/47)
محاضرات ومناظرات
حياتنا الاجتماعية في ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته
ألقى الأستاذ محمد حسن العشماوي وزير المعارف الأسبق بقاعة (يورت) بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة الأسبق محاضرة في هذا الموضوع استغرقت ساعة ونصف ساعة يمكن أن نلخصها فيما يأتي: -
دعتني الجامعة الأمريكية لأحدثكم عن المشكلات الاجتماعية التي تتغلغل في حياتنا، فأبادر قبل أن أسترسل في الحديث إلى أن أعلن أنني لست في هذا الميدان إلا هاوياً ولست فيه من المتخصصين. ولقد كنت وقفت من فوق هذا المنبر منذ عامين أبشر الناس بقرب انبلاج فجر جديد يشرق علينا بأوضاع اجتماعية سليمة، وكان الناس يعجبون لهذا التفاؤل مني لأن الظلام الحالك كان يشتملهم ويحيط بهم من كل جانب، فكنت أجيبهم بأن هذه الحلوكة الشديدة، وهذا الظلام الشامل هما مصدر تفاؤلي، فإن الفجر الصادق يجئ عادة على أثر هذه الحلوكة الشديدة!
وإذا رجعتم إلى الوراء قليلاً، إلى ما قبل هذا الانقلاب المبارك رأيتم عجباً! ورأيتم صورة شائهة ممسوخة للمجتمع في مصر!
كانت هناك أمة وكان هناك دستور وحكومة وبرلمان ومؤسسات صحية وثقافية واجتماعية وما إلى ذلك. . كان هذا في ظاهر الأمور، ولكن الباحث المتغلغل لا يجد وراء هذه الظواهر شيئاً، بل يجد الفساد والجهل والفقر والمرض والظلم الاجتماعي الشديد.
يجد نسبة المرضى إلى الأصحاء في أريافنا هي 96 % ويجد
نصيب كل ريفي خمسة أمراض! ويجد العناية تبذل لمواشي
هؤلاء الفلاحين أكثر مما تبذل لهؤلاء الفلاحين أنفسهم، لأنها
تجلب لأصحاب الثروة ما لا يجلب الفلاحون!. . ويجد 80 %
من أبناء الشعب لا يقرءون ولا يكتبون، ويعيشون في أمية
تامة، ليست أمية قراءة وكتابة فقط، ولكنها أمية ثقافية(1019/48)
وزراعية وصحية وخلقية ودينية، تسودهم الخرافات وتطمس
عقولهم طمساً. ويجد الأرض المزروعة هي 132 من مساحة
البلاد، والشعب يزيد ويتكاثر وهي لا تزيد، حتى أصبح
نصيب كل مصري ربع فدان فقط!. . ويجد الدولة وقد حالت
دون تصنيع الريف ليظل مزرعة لكبار الملاك الذين يمتصون
دماء المواطنين من الفلاحين ليسكبوها ذهباً وخمراً على سيقان
الغانيات في أوربا.
تلك بعض مظاهر حياتنا الاجتماعية إلى الأمس القريب، ولولا يقيننا بأن محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين لدعونا الله أن يرسل فينا - من جديد - رسولا!! ولكننا اليوم ومنذ هذا الانقلاب المبارك بدأنا في العلاج، وعلينا أن نحقق للعلاج وسائل نجاحه، وأن نساعد على استئصال شافة المرض، فما هي الدعائم التي يجب أن يقام عليها مجتمعنا الحديث بعد هذه الوثبة الجريئة الحميدة؟
1 - يجب أن نجعل هدفنا دائما سواد الأمة، فنضمن لكل فقير غذاء، ولكل عار كساء، ولكل مريض دواء، فلا تظل نسبة وفيات الأطفال 50 % كما هي اليوم، ولا يعيرنا الأجانب بقولتهم الشهيرة (إن النساء في مصر يلدن للقبر!).
2 - يجب أن نيسر المرحلة الأولى من التعليم لجميع المصريين على السواء، وألا تقتصر مدارسنا - كما هي اليوم - على ربع الذين هم في سن التعليم ويظل ثلاثة أرباعهم هائمين في الطرقات!
3 - يجب أن يفرض على الشباب أن يؤدوا للدولة خدمة عامة من أي نوع قبل أن يلوا أية وظيفة، وأن تحرم عليهم الوظيفة قبل أن يؤدوا هذه الخدمة كما يفعل الكثير من الدول.
4 - يجب أن تفرض التربية الدينية الروحية فرضا من البيت إلى الجامعة، فإن مرد كل ما نراه من فساد الضمائر والنفاق والخوف والذل إلى ضعف الثقة بالله وموت العاطفة(1019/49)
الدينية القوية في النفوس.
5 - يجب أن نعنى بالطفولة عناية كبيرة ممتازة، وأن نعمل بكل الوسائل على تعليم الأمهات مبادئ التربية والتمريض وشيئا من الثقافة العامة.
6 - يجب أن ننبه الناس إلى أن يلغوا الألقاب والفوارق في قلوبهم ونفوسهم بعد أن ألغتها الدولة في الرسميات والبروتوكول، وأن نلقنهم إن الناس أمام القانون سواء وانه لا فضل لواحد منهم على أخيه إلا بالعمل الصالح لخدمة الوطن.
تعليمنا العام على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته
وألقى الأستاذ إسماعيل القباني وزير المعارف بنفس يوم الجمعة السابق محاضرة في هذا الموضوع وهي إحدى حلقات هذه السلسلة التي نظمتها الجامعة الأمريكية، استغرقت ساعة ونصف ساعة كذلك، ويمكن أن نلخصها فيما يأتي: -
تحدث الأستاذ المحاضر في أهداف العهد الحاضر، وبين أن جماع هذه الأهداف هو الديمقراطية، وتساءل عن معنى الديمقراطية، وذكر أنها تنصرف أول ما تنصرف إلى المساواة وإلى الحرية، وأستطرد فقال: -
ولكن ما هي الحرية وقد أسيء فهمها كثيراً؟ هل معناها إن الناس جميعاً يكونون رؤساء لا مرؤوسين؟ أو يصيرون قادة لا مقودين؟ إننا لو أخذنا بهذا المعنى لكانت الفوضى الشاملة: لأن كل عمل لابد لنجاحه من القيادة الرشيدة والرياسة الحكيمة التي توفق بين حريات الجميع لتخرج بأعظم نتيجة. والفارق بين النظام الاستبدادي والنظام الديمقراطي أن الجماعة الديمقراطية تعمل لتحقيق أغراض مشتركة بين أفرادها جميعاً وتعمل عن اقتناع بما تعمل، لا عن خوف ولا عن ضعف، ولكن عن إيمان بالهدف الذي تسعى لتحقيقه.
فإذا فهمنا إن أساس وجود الديمقراطية هو وجود أغراض مشتركة تسعى الجماعة لتحقيقها، كان لابد من وجود ميول ودوافع مشتركة بين الأمة جميعها، ولابد أن تتفاعل هذه الميول بين أفراد الأمة، وأن تأخذ وتعطي بعضها من بعض. . . فكيف نستطيع إيجاد هذه الميول والدوافع المشتركة التي تتحقق بها الحياة الديمقراطية الصحيحة؟ لن نستطيع ذلك إلا بأن نتيح قدراً مشتركاً من التعليم لكل أفراد الأمة حتى تصير الأمة وحدة مشتركة، قدراً يمكنهم من فهم بلادهم، وفهم القيم والنظم التي تعيش في ظلها بلادهم، وفهم الأغراض التي تعمل(1019/50)
على تحقيقها. . فما هو القدر المشترك الذي يجب أن نوفره لكافة الأفراد؟ عندي أنه لابد أولاً مراعاة طاقة الدولة وإمكانياتها، وأظنكم تعلمون أن مدارس الرحلة الأولى عندنا تضم مليونا وربع مليون من الأطفال، وأن ثلاث ملايين لا تتسع لهم هذه المدارس، وأن عندنا في التعليم الثانوي مائة وخمسين ألف طالب، وفي الجامعات أربعين ألف طالب. وننفق على هؤلاء 27 مليون جنيه كل عام!
فإذا أردنا أن نعلم ثلاثة الملايين من الأطفال الذين لم تتسع لهم المدارس بعد فسنحتاج إلى ثمانين أو تسعين مليونا من الجنيهات، فكيف إذا أردنا أن نرفع سن المرحلة الأولى حتى نهاية التعلم الثانوي؟ وكيف إذا أنشأنا الجامعات تباعاً في مختلف عواصم البلاد؟
يجب أن ننظر طويلاً في طاقتنا وإمكانياتنا، وألا نسرع بإنشاء المدارس الفجة المبتسرة الناقصة الاستعداد، يجب ألا تكون سياستنا التعليمية من ساعة لساعة أو من يوم ليوم؛ وإنما يجب أن ننظر إلى المستقبل البعيد، وما عدا ذلك فهو خيال ليس المقصود بالتظاهر به إلا خداع الأمة! وأجاهر بأننا لو استطعنا أن نحقق هذا القدر من التعليم لجميع المصريين في عشر سنوات لكان نجاحاً كبيراً.
ويجب ألا يصرفنا هدف عن هدف، فتقتصر جهودنا على تعميم المرحلة الأولى ولا يصرفنا عنها التعليم الثانوي مثلا، فإن الطاقة لا تحمل الأمرين معا، ويجب أن يكون التدرج في نشر التعليم تدرجاً هرمياً قاعدته المرحلة الأولى وقمته مرحلة الجامعات، كما في إنجلترا مثلا حيث تجدون في المرحلة الأولى 6. 5 مليون، وفي مرحلة التعليم الثانوي نصف مليون أو اكثر قليلاً، وفي الجامعات خمسين ألفاً فقط! وأحب أن أشير إلى أمرين خطيرين: أولهما أن المدرسة الثانوية ليست وظيفتها أن تعد للجامعة فقط؛ ولكنها تعد رجالا مكونين تكوينا اجتماعيا وروحيا وعلميا يجعلهم عنصراً صالحا للحياة. وثانيهما إن التعليم الجامعي يجب أن يراعى فيه الكيف دون الكم، والبلاد التي تقدم الكم على الكيف في التعليم الجامعي إنما هي بلاد تنتحر! فلن يكون التعليم جامعياً حقا إلا بالتفاعل بين الأستاذ والطالب، ولن يكون هذا التفاعل إلا إذا كان عدد الطلاب بالقدر الذي يتمكن معه الأساتذة من هذا التفاعل، وإلا إذا كان الأساتذة أنفسهم معدين أحسن إعداد.
ثقافتنا النسوية في العهد الجديد(1019/51)
وفي يوم الاثنين الأسبق ألقت الدكتورة درية شفيق محاضرة في هذا الموضوع بدار نقابة الصحافة، وقد استغرقت ساعة كاملة، وأستغرق المعقبون عليها ساعتين! وحمى وطيس الجدال بين الطرفين حماساً بالغاً. ونلخص المحاضرة فيما يأتي: -
إننا اليوم في مفترق الطرق، في ثورة جاءت لتحقيق العدالة التامة بين المواطنين، وفي هذا العهد الأغر تريد المرأة أن تأخذ مكانتها الملحوظة، وتنال حقوقها الطبيعية في المجتمع. . .
وأرجو أن تسمحوا لي أن أرجع بكم قليلاً إلى عهود الإسلام الأولى لتروا ما كانت عليه المرأة من شأن جليل الخطر، فأنتم تعلمون إن (نسيبة) أم عمارة وقفت في غزوة (أُحد) تقاتل دون النبي صلى الله عليه وسلم غير حافلة بالسهام المسددة إليها والتي جرحتها أثنى عشر جرحا وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما التفت يميناً أو شمالا يوم أحد إلا ورايتها تقاتل دوني). وأنتم تعلمون أن ذات النطاقين (أسماء) عرضت نفسها للهلاك في سبيل منجاة النبي وصاحبه من المشركين، وأن السيدة (عائشة) كانت الزوجة المثقفة التي تروي الكثير من الأحاديث، والتي نزل فيها الكثير من الآيات. .
كان هذا بعض شأن المرأة والدعوة الإسلامية في مهدها، وكان هذا من عوامل نجاح هذه الدعوة. وليس ذلك بدعا في الإسلام؛ فكل دعوة لا تنجح إلا إذا آزرتها المرأة المثقفة التي تعرف واجباتها وحقوقها. . وأعود بكم إلى المرأة المصرية اليوم وإنكم لأدرى الناس بما هي عليه من جهل مطبق بلغ 90 % من نساء مصر، وإنكم لتعلمون خطر هذا على كيان الأمة، فالأم هي التي تقرر مصير الأمة إذ تلقن الطفل في سنواته الأولى وقبل دخوله المدرسة المبادئ التي ترسخ في ذهنه، وهذه السنوات الأولى - كما يقرر علماء النفس - هي التي تحدد عقل الإنسان طوال حياته! وإنكم لتشاهدون كيف تعالج الأمهات في مصر أبناءهن بالرقى والتمائم! وإنكم لتشاهدون الأمهات اللائى يأبين أن يمس الماء أجسام أبنائهن العام كله خوف البرد والزكام! وإنكم لترون النسبة الهائلة في وفيات الأطفال التي هي معرة لمصر بين الأمم!. . إن مرد ذلك كله إلى جهل الأمهات، والنبي الكريم يقول (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)!
إن المرأة المصرية اليوم تطالب برفع كابوس الجهالة عنها، تطالب بأن تكون كالرجل في(1019/52)
ذلك سواء بسواء، فتخفف من أعبائه، وتكون عاملا من عوامل ارتفاع المعيشة في البلاد، وتطالب - كما يطالب العالم كله - بإبطال دور (لحريم) وتحريرها منها. . .
إن المرأة قد كسبت ميادين جديدة منذ قاسم أمين، ولن تجلو عن هذه الميادين، بل لن تهدأ حتى تضيف إليها ميادين جديدة. ألم تروا إلى أفلاطون وهو يطالب بأن يكون نصف جيش الدولة من النساء؟ ألم تروا إلى النبي الكريم وهو يعتز برعاية أمه ويقول (إنما أنا أبن امرأة كانت تأكل القديد)؟
علي متولي صلاح(1019/53)
أراء وأنباء
فيجايا لاكشمي باندت نهرو
للأستاذة زينب الحكيم
وردت القاهرة في الأسبوع الماضي السيدة الهندية العظيمة فيجايا لاكشيمى باندت نهرو التي رأست وفد بلادها في دورة هيئة الأمم الأخيرة، وقد مثلت بلادها بنجاح منقطع النظير، وكانت سفيرة للهند لدى الولايات المتحدة مدة طويلة، وكانت قبل ذلك وزيرة للصحة، والآن تعمل في سلك السياسة الخارجية بمقدرة وفهم:
ولهذه السيدة مبدأ حساس، فهي داعية للسلام العالمي، مشجعة على بث روح الإنسانية، وتعنى برؤية الناس كطبيعة حية، أكثر من عنايتها بالمتاحف والآثار، شجاعة في الحق، قادرة على تمحيص الأمور.
تعلمت تعلماً منظماً، وأكسبتها بيئتها ونشأتها وكثرة تنقلاتها ثقافة واسعة، وهي ذات أناة وصبر، فكم شهدتها تصغي لشتى الأسئلة من الصحافيين وغيرهم، وتجاوب بدقة على ما تريد الإجابة عنه؛ فهي ممثلة سياسية بارعة، ومرشدة اجتماعية ممتازة. يشع سمو روحها على وجهها الحسن، وتدل جميع حركاتها وتصرفاتها على الدوحة العظيمة التي تفرعت منها.
هبطت أرض مصر فهب كثير من أهلها يستقبلونها بما يليق بها من حفاوة وتكريم، وأجهدت نفسها بزيارة عدد وفير من مؤسساتنا الاجتماعية، كمدينة تحسين الصحة، وجمعية الهلال الأحمر، ومدرسة الاتحاد النسائي، كما اجتمع لفيف كبير من نساء القاهرة ورجالها في حفل شاي أقيم على شرف تكريمها بنادي الزعيمة الراحلة هدى شعراوي؛ وألقت فيه كلمة أبانت فيها عن بعض العلاقات الدولية والمجهودات العظيمة التي بذلتها في الدفاع عن قضايا بلادها وبلاد الشرق عامة، كما زارت جامعة القاهرة وألقت خطاباً سياسياً شاملاً. وزارت نقابة الصحفيين زيارة ود وشكر، وكان يزين الحفل وجود الرئيس اللواء محمد نجيب، وكان لكلماته أجمل وقع في نفوس الجميع. وأهابت بالمصريات ليزرن الهند لشهدن مجهودات نسائه العملية، وليكن رسل سلام يقوين روح التعارف والتحاب بين البلدين.
وتفضلت فصرحت بأن المرأة الهندية لم تصادف أي عناء بالنسبة لنيلها الحقوق السياسية،(1019/54)
ذلك لأنها أثبتت جدارتها عمليا، لاستمتاعها بتلك الحقوق. ولهذا فقد حصلت عليها برضا تام من الرجال.
وأكدت أنها وبنات جنسها مشاركات للمرأة المصرية رقيق عواطفهما، معضدات لمطلبها العادل، ومشفقات كل الإشفاق من روح بعض المتطرفين بالنسبة لقضيتها. وإننا إذ نودع السيدة نهرو العظيمة نتمنى لها عودا حميدا لبلادها ونحملها أحسن تحياتنا لمواطنيها ومواطناتها جميعا.
رسالة المرأة في العهد الجديد
المرأة هي الدعامة الأولى التي يتوقف عليها تقدم الأمة أو تأخرها، وصلاح الشعب أو فساده، وبفضل رعايتها الصحيحة للأسرة يستقيم حال الرجل أو ينحرف، وتصلح تربية النسل أو تفسد، ومن ثم يبين تأثيرها الحق في الشعب وفي البيئة المحيطة به، والأمم التي تنبهت إلى خطورة مركز المرأة في الدولة، جعلت في رأس برامجها الإنشائية الإصلاحية مسألة العناية بتربية المرأة وتثقيفها حتى تأمن العثار، تلك المخلوقة العجيبة التي لا يقف في سبيل إرادتها شئ (إن هي أرادت) أن تنفذ أمراً ما.
ومن أجل هذا. . كانت المرأة المستنيرة من أول وأهم عوامل الإصلاح والتقدم في البلاد، ومصر يحمد الله قد قطع نساؤها شوطا بعيدا سليما في ميداني التعليم والاجتماع، وبذلت جهدا غير منكور في ميدان السياسة.
ومن واجب العهد الجديد أن يعتمد على المرأة المستنيرة في الحدود السالفة الذكر في سبيل نشر رسالته، ومن واجبه أن ينقب عنها، ويسعى إليها، حتى يستطيع أن يكل إليها ترشيد أكبر عدد ممكن من بنات جنسها وأسرهن في مقاصد وغايات العهد الجديد. ولاسيما وأن المرأة أسرع قابلية لفهم النهضة والجيل الجديد، وأسرع إلى تنفيذ الخطط الإصلاحية الراهنة، لأنها أقل من الرجل اندماجا وتأثرا بظروف العهد البائد وأكثر ما أشتمل عليه. وهي تعمل غير مغرضة، فليست تطمع في المناصب الحكومية، ولا تنظر إلى المراكز الرفيعة، ولا تشغلها الدرجات والترقيات بالصورة التي ينشغل بها الرجال. ولم تتأثر المرأة بطغيان الإقطاع كالرجال بحيث تقف موقف المعارضة والنضال، ولهذا فهي اكثر استيعابا واستجابة لمبادئ العهد الجديد، وأقوى تأثرا به، وأشد رضاء عن نتائجه.(1019/55)
فعلى المرأة أن تتقدم بدون إبطاء بعرض مساعداتها في الفن أو التخصص الذي تحسنه، ولا تنتظر التنقيب عنها، فليس في مقدور القيادة أن تشم على ظهر يدها كما يقول المثل السائر.
وأن تبدأ حملة عملية على الكماليات؛ فتتنازل عن كثير منها كالسيارات الفخمة والفراء النادرة، والأحذية المبالغ في أثمانها وعددها، والثياب اللافتة غير العملية.
وبمعنى آخر يجب على المرأة أن تتقشف، ولا أود أن تسترجل، وإنما تعتدل كثيرا في مطالبها من كماليات الترف، حتى تدفع التهمة الخطيرة التي طالما اتهمت بها. . . وهي أنها أسيرة الموضات وعبدة المساحيق ووسائل التزين. وعليها منذ اليوم أن تشهد العالم أجمع على أنها بدأت عهد الجد والحزم والعزم فتستهلك منتجات بلادها أولاً، من منسوجات ومأكولات ومعادن، ومنتجات صناعية، وأن لا تأنف من استعمالها مهما كانت درجة بساطتها وعدم جودتها - حتى نتقدم بها إلى أحسن الدرجات من الجودة والارتقاء.
وأن تهجم هجوماً عنيفاً على الجهل والفقر والمرض فيكون من واجب كل امرأة متعلمة سواء في المعاهد أو في المنازل، أن تعلم عدداً من الأميات في أقصر وقت.
وأن تبذل من اقتصادياتها (لا أقل من نصاب الزكاة) لأوجه البر المنظم، لتساعد على تحسين حال المعدمين لا بإقامة مطاعم الشعب التي عملنا على هدمها لما لمسناه من أنها تريق ماء وجوههم، وحرصنا على تنبيه أولي الأمر في حينه إلى خطورة رد الفعل السيئ الذي تسببه أشباه هذه المشروعات المسكنة فقط والتي ليس من شانها أن تنشئ أجيالا نشيطة مستكملة الرجولة، وإنما تربي جيلاً جبانا متواكلا تحلو له الراحة ويستهويه الكسل. لذلك كان لزاماً أن توضع التبرعات والإعانات كرءوس أموال لإنشاء مصانع وعمارات وأعمال حرة تجارية أو زراعية وما إليها، حتى ينتفع المعوزون ويشعروا بأنهم يأكلون بعرق جبينهم، وأنهم لا يستجدون، فالاستجداء مسقط للكرامة وللإنسانية. وعلى كل سيدة قادرة على الإرشاد الصحي أن تبذل كل ما في طاقتها لتأخذ بيد المريض، وتساعده على أتباع طرق العلاج، والنظافة، وتشجعه على اللجوء إلى المستشفيات والوحدات العلاجية.
وان يقمن من أنفسهن رقيباً أميناً على رعاية كل هذه الأوجه الإصلاحية لتأخذ بيد قادة العهد الجديد - عهد الإصلاح والإحسان في تعاون واتحاد مع إخواننا الرجال.(1019/56)
زينب الحكيم(1019/57)
أخبار أدبية وعلمية
أسبقية الروس إلى اكتشاف سر تركيب المعادن
ادعت أكاديمية العلوم الروسية في أوائل شهر أغسطس على لسان أحد أعضائها السابقين (ر. س. ياكوبى) بأن الروس هم أول من اكتشف سر صناعة المعادن من السوائل بتسليط تيار كهربائي عليها، وهو اكتشاف أدى إلى ميلاد فرع جديد في العلوم الطبيعية يطلق عليه اسم (جالفونو تكنولوجي).
وقد قام ياكوبى بتجاربه في أواسط القرن المنصرم وتسربت أنباء هذه التجارب إلى العالم الخارجي فالتقطها عالم بريطاني وأحتفظ لنفسه بحق اكتشافها زورا وبهتانا.
وقالت أكاديمية العلوم إن آثار (ياكوبى) في طلاء كنيسة القديس إسحاق بطرسبرغ بالذهب السائل المتولد عن تيارات كهربائية مسلطة عليه هو شاهد علمي على أسبقية هذا العالم في اكتشاف سر هذا النوع الجديد في العلوم الطبيعية.
الفشل يصاحب الباحثين عن سفينة نوح
أعلنت البعثة العلمية الفرنسية التي تقوم بالبحث عن آثار سفينة نوح في جبل أراراط من الشمال الشرقي من تركيا عن فشلها بعد جهد أستمر بضعة أشهر. فقد عجز رجال البعثة وهم من علماء التنقيب عن الآثار عن الصعود إلى قمة (اتريداك) في أعالي جبل أراراط وهي قمة يبلغ ارتفاعها 17 ألف قدم مغطاة بالثلوج الكثيفة. وتدعي مصادر علم الآثار وبعض المصادر التاريخية إن هذه القمة هي التي ألقت عليها سفينة نوح مرساها في فترة الطوفان الذي أشار إليه القرآن الكريم.
وقد سبق لبعثة أمريكية أن فشلت في مثل هذه المحاولة التي قامت بها في صيف عام 1949.
تخليد ذكرى الشاعر الروسي بوشكين
احتفلت روسيا في هذا الشهر بذكرى انقضاء مائة وثلاث وخمسين سنة على ميلاد الشاعر الكبير الكسندر بوشكين فأزاحت الحكومة السوفيتية الستار عن لوحات تذكارية، وتماثيل من النحاس والمرمر أقيمت في عدد من الأماكن التي أقام الشاعر فيها وعمل إبان حياته(1019/58)
الذاخرة بالإنتاج الرفيع.
والمعروف عن بوشكين أنه مغرماً بمدينة موسكو إغراماً لا حد له. فقد ولد في هذه المدينة وأنفق صباه وشيد بيته فيها وظل يعود إليها بين آونة وأخرى ليستوحي من حياتها اليومية صوراً فنية لقصائده الشهيرة.
وقد وضعت إحدى هذه اللوحات التذكارية في بيت متواضع لا تأخذه العين في وسط مدينة موسكو يطلق عليه أسم (بيت الشعراء). فقد كان هذا البيت مسكناً لناقد أدبي معروف اسمه (. أ. فايازمسكى) آخاه بوشكين وتوطدت بين الشاعر والناقد صداقة ندر أن تسود بين الشعراء والنقاد.
وكان بوشكين يتردد بكثرة على هذه الدار في أعوام 1826 - 1832. وفي هذه الدار تعارف بوشكين والشاعر البولندي الشهير (ادام ميكيفيتش) الذي تأثر بعبقريته وتأثر هو بعبقرية الشاعر الروسي.
وأقيمت لوحات وتماثيل تذكارية أخرى في عدد من الفنادق والمطاعم وأماكن النزهة التي كان يفضلها بوشكين خلال إقامته في موسكو وإبان زيارته العديدة لها في سنواته الأخيرة.
رداءة الموسم المسرحي الروسي هذا العام
يبدو إن موسم المسرح الروسي هذه السنة كان رديئاً إلى درجة لم تستطع الحكومة السوفيتية أن تختار مسرحية من مسرحيات الموسم لتمنحها جائزة ستالين الأدبية التي تعطى كل سنة للمبرزين في شتى ألوان النشاط الثقافي والعلمي.
وقد أصدرت لجنة الكتاب التابعين للحزب الشيوعي الروسي الذي يسيطر على الحكم الآن في الاتحاد السوفيتي بيانا انتقدت فيه رداءة الإنتاج المسرحي هذا العام؛ ووصفت المسرحيات الجديدة التي صدرت هذا العام بأنها (من النمط التقليدي وبأنها خالية من الواقعية) التي أصبحت في رواسب السوفيتية ميزاناً للإبداع الفني والأدبي.
ونشرت جريدة برافدا في صفحتها الأدبية نقدا مماثلا لنقد لجنة الكتاب المتفرعة عن الحزب الشيوعي. وحللت (برافدا) القيمة الأدبية لمسرحية (الصيف الجميل) أكثر مسرحيات الموسم في موسكو رواجا، فلم تجد الجريدة فيها ما يستحق أن يحظى بالشرف الذي توفره جوائز ستالين الأدبية.(1019/59)
وقد انتقدت الجريدة كذلك الكسل الذي اعترى كتاب المسرحيات في الآونة الأخيرة وناشدتهم بأن يسعوا في جد وحماس لرفع مستوى الإنتاج المسرحي الروسي ليتفق مع مكانة الفروع الأخرى للنشاط العلمي والأدبي في حاضر الثقافة السوفيتية.
طبعة جديدة للموسوعة الروسية
أتم البرفسور بوريس فيدنسكي المحرر الرئيسي لدائرة المعارف الروسية إعداد الطبعة الجديدة لهذه الموسوعة الهامة التي تزهو بها الأوساط الأدبية والعلمية في الاتحاد السوفيتي.
وقد أنجز حتى الآن المجلد الثامن من الطبعة الجديدة إنجازاً تاماً وظهر في الأسواق. وفي هذا المجلد وحده 1250 مقالة وبحث عن مختلف الموضوعات التي تتضمنها عادة الموسوعات التي من هذا القبيل.
ويمتاز هذا المجلد الثامن بأنه يحوي بحوثاً جديدة في الفنون العلمية ذات الصلة بالشؤون العسكرية.
الأدب في خدمة الشيوعية في الصين
أنفذت الحكومة الشيوعية في الصين حملة جديدة لتنسيق الأدب والفن الصيني لخدمة المبادئ الماركسية التي أتخذها حكام الصين نبراساً لهم.
وقد أطلقت على هذه الحملة أسم (حركة تعديل الآداب والفنون) ويرأسها الكاتب الصيني المعروف (كورمورجو) مؤلف كتاب (صبي ريكشاو) وهو من روائع الأدب الشيوعي في الصين الجديدة.
وتهدف هذه الحركة إلى تطعيم أرباب القلم والفنانين الصينيين بدقائق الماركسية لينقلوها إلى الشعب في مختلف المعاول التي يوفرها الأدب والفن.
ترجمة نصوص الهرم
ظهر بحث هام جديد من دراسات أهرام الجيزة، بصدور مؤلف كتبه العلامة صموئيل أ. ب مرسر، وهو يقع في أربعة مجلدات واسماه (ترجمة نصوص الهرم) والتعليق عليها.
وهذا المؤلف هو أول ترجمة إنجليزية كاملة للنصوص الدينية التي اكتشفت في عام 1880 وهو أيضا الترجمة الكاملة الوحيدة وشرحها في أية لغة من اللغات.(1019/60)
والترجمة صحيحة وعصرية وشرح النصوص مبني على مراجع معتمدة، وهو شرح شامل يعين على فهمها، ويعد هذا المؤلف لأول مرة المرجع الذي يجد فيه المشتغلون بالدراسات الدينية مجموعة كاملة من الوثائق المصرية القديمة التي يستطيعون الاعتماد عليها في أبحاثهم.
والمجلد الرابع من الكتاب يتناول ثمانيا وعشرين رحلة قام بها الأستاذ مرسر وستة من علماء الآثار المصريين ومجموعة نفسية من العبارات والكلمات التي يحتاج فهمها إلى تفسير وفهارس ذات قيمة علمية وتاريخية.
سويسرا تحتفل بأديبها الأكبر
يحتفل الشعب السويسري هذا العام بعيد الميلاد الخامس والثمانين لعميد الأدب السويسري المعاصر والقصصي المعروف: أرنست زاهن فقد ولد هاذ الأديب الكبير في مدينة (ماجن) السويسرية عام 1867. وأشتغل بالأدب فأنتج أكثر من 60 مؤلفا كان أكثرها رواجا قصصه البديعة التي درت عليه مكافآت مادية وأدبية فنال عددا من أهم الجوائز الأدبية السويسرية والأوربية ومنحته بعض الجامعات شهاداتها الفخرية اعترافاً بمساهمته في إعداد نشأة الأدب السويسري المعاصر.
وقد أعدت الحكومة السويسرية والمحافل الشعبية في مختلف أنحاء البلاد برامج منوعة للتنويه بالمجهود الأدبي الذي خلده هذا الشيخ الأديب.
القومية (اللغوية) في النمسا
أصدرت المطبعة الحكومية الرسمية في فينا معجماً جديداً يسجل مفردات اللغة (النمساوية) ويحاول أن يجعل منها لغة خاصة مستقلة عن اللغة الألمانية.
وهذه القومية (اللغوية) التي تعمل على نشرها الحكومة النمساوية هي وليدة التعددات السياسية التي ألمت بأوربا الوسطى في عالم ما بعد الحرب بعد أن نال النمسا وبقية دول أوربا الوسطى ما نالها من ذيول الحرب النازية مشاكل سياسية واقتصادية عويصة.
والمعروف إن لغة النمسا هي الألمانية ولكن هناك لهجات محلية نمساوية (كما هو الحال في جميع المناطق الجغرافية التي تتكلم لغة من اللغات العالمية) أحب أولو الأمر في النمسا(1019/61)
أن يعززها ويجعلوها نواة للغة (نمساوية) مستقلة عن اللغة الألمانية.
ويبلغ عدد كلمات المعجم النمساوي الجديد 20 ألف كلمة وقد عم انتشاره في الأوساط العلمية والشعبية.(1019/62)
طرائف وقصص
ليلة عيد الميلاد
للكاتب الفرنسي أندريه موروا
بقلم الأستاذ حسن نديم
كتب إلى الجنرال براميل يدعوني إلى قضاء عطلة عيد الميلاد في قريته وأردف يقول: إنني لم أدع هذا العام سوى اللورد تيلوك شقيق زوجتي والسيدة قرينته، ولا أحسب السامر سيكون بهيجا بالقدر الذي تنشده فأسألك المعذرة.
وعلى كل حال إذا كنت لا تبرم بحياة العزلة ولا تخشى شتاء إنجلترا فتفضل بالمجيء وسيسعدنا لقاؤك والترحيب بك والتحدث معاً عن الأيام الخوالي وطيبها.
كنت أعلم إن هؤلاء الأصدقاء قد رزئوا في غضون العام الماضي بفقد أبنه لهم في الربيع الثامن عشر ماتت على إثر سقطتها من صهوة جواد أثناء الصيد فرثيت لحالهم وتأثرت لمصابهم. ولما كنت تواقاً إلى رؤيتهم لأواسيهم وأسرى عنهم فقد قبلت الدعوة.
شعرت بادئ الأمر بالهيبة من الورد تيلوك وزوجته؛ غير أنني سرعان ما أنست إلى صحبتهما عندما عرفتهما، كان في مقدور مضيفي الجنرال براميل أن يظل صامتا مدة ثلاث ساعات لا يفوه خلالها بكلمة واحدة وهو جالس يدخن غليونه على مقربة من نار المدفأة وكذلك كانت حال زوجته تجلس في صمت وهدوء فتعمل أو تطرز. أما اللورد تيلوك فهو ثرثار لطيف، عمل سفيرا لبلاده في عدة أقطار ويدل حديثه على أنه شاهد حقيقة تلك الأقطار على غير ما أثر عن أنداده من السفراء، وكانت زوجته على دمامة خلقها تفيض ظرفا وخفة وإن ارتدت من الثياب أرخصها مما لا يتفق ومكانتها في المجتمع.
لقد خلف الدمع والأسى آثاره واضحة على وجه السيدة برامبل غير أنها لم تحدثني عن فجيعتها ومصابها، اللهم إلا في أول مساء عندما صعدت برفقتها إلى جناح النوم فقد توقفت لحظة أمام الحجرة السابقة لغرفتي وقالت لي: كانت هذه غرفتها. . . ثم استدارت ومضت في سبيلها.(1019/63)
قضينا سهرة عيد الميلاد في قاعة المكتبة على مقربة من مدفأة تندلع منها السنة اللهب. لم يكن يضئ تلك القاعة سوى عدد من الشموع، فكان المرء يلمح في ضوء القمر خلال زجاج نافذة منظر الحديقة وقد أبيض أديمها وغطتها الثلوج. كان الجنرال برامبل يدخن غليونه وزوجه تعمل بإبرها عندما بدأ اللورد تيلوك يتحدث عن ليلة عيد الميلاد.
قال اللورد: منذ خمسين عاما كان كثير من فلاحي مقاطعتي يعتقدون أن الحيوانات ينطلق لسانها في ليلة الميلاد فتنطق كالبشر سواء بسواء. وأذكر أنني سمعت مرصعتي تقص حكايات عن حارس مزرعة كان يأبى أن يصدق هذه الخرافة. اختبأ هذا الحارس داخل حظيرة الخيول في تلك الليلة ليتحقق من صحة الأسطورة، حتى إذا ما دقت الأجراس مؤذنة بانتصاف الليل رأى الحارس أحد الجياد يميل برأسه على رفيقه ويقول له: سنساق إلى مهمة شاقة بعد ثمانية أيام فيجيبه الآخر: نعم ولا تنس أن الحارس ثقيل الوزن فيعقب الجواد الأول: حقاً إنه ثقيل الوزن والطريق إلى المقابر وعر. ومات حارس المزرعة بعد ثمانية أيام! قال الجنرال برامبل: إن هذا لعمري هراء. وهل كانت مرضعتك تعرف حقاً هذا الرجل؟
فأجاب اللورد تيلوك: إنها تعرفه حق المعرفة يا سيدي وحسبك أن تعلم أنه أخوها.
لبث محدثنا صامتا زمنا وأخذت أتأمل ألسنة اللهب المندلعة وهي تزمزم في الأتون كما تدوي الأعلام في مهب العاصفة. لم يبدل الجنرال حراكاً أما زوجه فكانت تطرز خطوطا بارزة ذات ألوان زاهية على قطعة من القماش. ثم استأنف اللورد حديثه قائلا:
وفي السويد كثيرا ما رأيت الفلاحين في قرية (داليكارلي) يعدون العشاء للأرواح في ليلة عيد الميلاد، إذ يعتقدون هنالك أن الموتى يعودون في تلك الليلة إلى الدور التي كانت مسرحا لحياتهم. ولهذا يشعل أهل القرية مساء قبل أن يفترقوا نارا كبيرة من لهب الشموع اللدنة ويضعون على المائدة غطاء ناصع البياض وينظفون المقاعد ثم يخلون المكان للأطياف حتى إذا ما تنفس صبح اليوم التالي وجد القوم أن شيئا من الوحل قد تناثر على الأرض وأن الآنية والأكواب قد تحركت من أماكنها وأن الجو يعبق برائحة غريبة.
فقال الجنرال بصوت خفيض: وذلك أيضاً لغو وهراء أيقنت عند ذاك أن محدثنا يفتقر إلى الكياسة والفطنة وتأملت السيدة برامبل فإذا هي ساكنة وادعة؛ بيد أني رأيت أن أغير(1019/64)
موضوع الحديث فقلت: أما أنا فأرى في ليلة عيد الميلاد نفس ما رآه واعتقده شكسبير. . أتذكرون ما قاله في هذا الصدد؟
(ليلة لا تجرؤ الأرواح فيها أن تعصف في الفضاء. الجن مكتوف اليدين، والساحرة لا ينفع لها سحر، والليل ساج لا يغشاه أنين ولا شكوى)
فقال الليدي تيلوك في لهجة ملؤها الجد والإصرار: أما نحن فنعتقد إن شكسبير قد خانه الصواب فيما ذهب إليه. هل لك يا عزيزي إدوار أن تقص علينا ذلك الحادث الذي وقع لك في قصر تيلوك؟
فهتفت قائلا: يسعدني جدا أن أستمع إلى هذه المغامرة حسنا - قال اللورد تيلوك - منذ خمسة أعوام كاملات أي في ليلة عيد الميلاد سنة 1920 أحسست بصداع خفيف. ولما كان الجو جميلا يغشى برودته جفاف فقد رغبت في المسير قليلا في الهواء الطلق. كان الليل قد أنتصف أو كاد عندما غادرت منزلي ومشيت بضع خطوات حتى إذا ما جاوزت سور المتنزه سلكت الدرب الصغير الذي يحف به من على الجانبين سياج من الحسك الطويل، وكان يضيئه في تلك الليلة بدر مكتمل وسماء وشتها النجوم. كنت قد قطعت في سيري مسافة تبلغ نصف ميل عندما لمحت على بعد فوق الصقيع الأبيض آثاراً قاتمة عبر الدرب. اقتربت من هذه الآثار فرأيت لفرط دهشتي إنها خيط دماء. طفقت أبحث عن مصدر هذا السيل الرفيع فوجدت أن السياج الحسكي ينحرف في هذا الموضع فينشئ مع الدرب زاوية. . وأن جسداً مستلقيا دون حراك قد قبع في ركن الزاوية
اقتربت من المكان وحدقت النظر فيه فإذا بي أمام جثة فعدت أدراجي راكضا إلى الدار وناديت خدمي. أرسلت بعضهم لإخطار السلطات وأمرت الآخرين أن يحملوا مشاعلهم ويتبعوني. سلكنا نفس الدرب الذي أتيت منه ومشينا مدة طويلة بل خيل إلى إنها طويلة جدا. ولكننا لم نر شيئاً وانبريت أبحث عن الأثر الدامي دون جدوى. وأخيراً وبعد ما قطعنا ميلين على الأقل قلت لمن حولي: هذا لعمري مستحيل، فلم أبتعد بهذا القدر ولا بد أننا تخطينا المكان فلنعد.
ذرعنا الدرب مرة ثانية وقلت لمن معي إنه ليس من العسير عليهم أن يهتدوا إلى المكان. فهو في البقعة التي ينحرف فيها السياج وينشئ مع الدرب زاوية. غير أن أحداً من الخدم(1019/65)
لم يتذكر أنه رأى الموضع الذي وصفته. وسرنا حذاء السياج من جديد وانطلقنا إلى أبعد ما استطعنا أن ننطلق فوجدنا السياج مستقيما لا انحراف فيه.
وأمسك اللورد تيلوك عن الكلام لحظة. كانت الثلوج تتساقط في الخراج وئيداً، وكنا لا نسمع في جوف هذا السكون الموحش سوى خشخشة الخيوط الحريرية في قطعة القماش وزفرة النيران المستعرة في المدفأة.
سألت محدثي: ربما كنت إذ ذاك واقعاً تحت تأثير نوبة من الهلوسة؟!
استدار الجنرال برامبل نحوي وحدق في طويلاً وإن ظل ساكناً لا ينبس ببنت شفة، وقال اللورد تيلوك وكأنما يرد على استفساري: لقد لبثت بالفعل طويلاً وأنا أعتقد ما تقول، فقد استجوبت العسس والمارة والجيران ولم أتوصل إلى شيء، فلم ترتكب أية جريمة في تلك الليلة في طريق قصري ولم يحدث في هذه النقطة ما يكدر الصفو. وبعد انقضاء أربعة أعوام على هذا الحادث، وكنت قد سلمت بأن لوثة من الهلوسة قد أتلفت حواسي في تلك الليلة فتهيأت لي هذه الجريمة، جاءني خطاب من صديق لي يمتهن التنقيب عن الآثار ويعني بدراستها، لقد سررت بهذا الخطاب أيما سرور واليكم كما جاء فيه:
عزيزي اللورد تيلوك
بينما كنت أجري أبحاثي هذا لصباح في المتحف البريطاني تكشفت لي حقيقة هامة تتصل بقصة غريبة كنت قد رويتها لي في آخر عطلة أسبوعية سعدت بقضائها في ضيعتك. كنت أتصفح بعض الصحف المحلية القديمة التي كانت مصدر في مقاطعتك لاستيفاء بعض الأبحاث فقرأت الخبر التالي:
(في يوم 24 ديسمبر 1820 وعلى بعد ستمائة ياردة من قصر آل تيلوك أغتال بعض قطاع الطرق السير جون لاسي من وجهاء الكاثوليك بينما كان يسير بمفرده لحضور قداس نصف الليل. كان هؤلاء الأشقياء يتربصون بالمارة مختبئين خلف السياج الذي ينحرف في عدة مواضع فيحدث مع الدرب زوايا، وهنالك أيضا أخفوا الجثة بعد ما جردوا صاحبها مما كان يحمل من نقود. وعلى أثر هذا الحادث أمر سيد المقاطعة بإزالة هذه الزوايا، ومن هذا التاريخ أصبح السياج الذي يحاذي الدرب مستقيما لا التواء فيه)
قالت الليدي تيلوك: آه لو كنتم معي ورأيتم آيات الفوز والابتهاج مرتسمة على وجه إدوار(1019/66)
وهو يتلو علي هذا الخطاب.
فأجاب الجنرال برامبل في جد ووقار: هذا جد مفهوم وأمنت زوجة بصدق على عبارته
حدقت فيهم جميعا في دهش وقلت:
- لماذا؟ أتعتقدون أن الميت قد بعث في مكان الحادث لمناسبة الذكرى المئوية لمصرعه؟
فأجابني اللورد في قلق وضجر: وهل تعتقد يا صاح بغير ذلك؟
نظر إلي الجنرال برامبل وزوجه نظرة كلها استنكار ولوم، فسكت على مضض، وأيقنت إن قصتي الجواد الناطق وغذاء الأطياف لا بد قد وجدتا من هذه العقول الساذجة تصديقا واقتناعاً، فنهضت واستأذنت في الذهاب إلى المخدع.
كانت بغرفتي مدفأة موقدة تضطرم فيها نار وقودها خشب الصنوبر أشبعت جو المخدع بدخان شفاف بينما اكتست النوافذ من الخارج بطبقة من الثلج الرخو كمندوف القطن. أطفأت شموع الغرفة، فصارت ألسنة اللهب المترقص في المدفأة تشيع وحدها الحرارة في ضباب دافئ وضيء، وشعرت بقيظ لم أستطع معه النعاس، وأخذت تجول بخاطري قصص غريبة. وبعد هنيهة، سمعت في الغرفة المجاورة دقات ساعة صداحة تعلن انتصاف الليل.
كنت متعباً مضطرب الأعصاب بعض الشيء. . غير أني شعرت في الوقت ذاته بارتياح إلى ما أصابني من أرق. . وأحسست كأنما حلت بغرفتي روح وادعة تنفث فيها جوا من العذوبة والصفاء. سمعت الصداحة تدق جميع ساعات الليل إلى أن بانت تباشير الفجر فنمت.
نزلت في الصباح لتناول الإفطار متأخراً بعض الوقت فسألتني السيدة برامبل - وهي واقفة أمام المائدة الزاخرة بألوان الطعام في قاعة المآدب - كيف قضيت ليلتي -
إن شئت الصراحة يا سيدتي أخبرك باني نمت من الليل غير أقله، أن السهاد لم يضرني في شئ فقد كان لي من رنين ساعتكم الصداحة خير رفيق أنيس.
فأنتفض الجنرال بغتة وقال: ماذا؟ أتقول إنك سمعت دقات الساعة؟
ثم صاح بحدة في زوجته: هل فهمت يا إديت؟
أجبت الجنرال بالإيجاب وأنا دهش من هذه اللهجة العنيفة التي نطق بها عبارته الأخيرة(1019/67)
وكانت أطول عبارة سمعتها تخرج من فيه. وعندئذ حدقت في السيدة برامبل وقالت في تأثر عميق وعيناها مغرورقتان بالدمع: يجدر بي يا سيدي أن أوضح لك جلية الأمر. هناك في الحجرة المجاورة لمخدعك ساعة صداحة أهديت إلى ابنتي وهي طفلة فكانت تحبها كثيراً وتملؤها بنفسها كل ليلة. ومنذ قضت عزيزتنا لم يمسها أحد، وألينا على أنفسنا ألا يمسها أحد، وكنا نظن إن نغم الساعة قد سكن إلى الأبد غير إن ليلة الأمس كانت - كما ترى يا سيدي العزيز - ليلة عيد الميلاد.
حسن نديم(1019/68)
العدد 1020 - بتاريخ: 19 - 01 - 1953(/)
الأدب الشعبي
للأستاذ محمود تيمور
جرى الاصطلاح بإطلاق صفة (الشعبي) على الوضيع والرخيص أو ما دون المستوى الرفيع.
نقول: فكرة شعبية، أي أنها مشوبة بمطاوعة الأهواء والنزوات، لا سلامة فيها ولا سداد.
ونقول: نكتة شعبية: نريد أنها لا تخلو من تبذل وإسفاف.
ونقول: طعام شعبي، نعني أنه ساذج في مظهره، غير متقن ولا مستساغ.
ونقول: ثوب شعبي، للدلالة على أنه من نسيج غير فاخر، ولذلك يرخص ثمنه، ولا يعز على المقلين شراؤه.
ونقول: مسرح شعبي، فيفهم عنا السامع أنه مسرح لجمهور العامة، لا يتذوقون فيه شيئاً من الأدب السري والفن الرفيع.
فكل ما هو منسوب إلى الشعب محمول عليه مجانبة السمو والأصالة والجودة، مفروض فيه الابتذال والتفاهة والهون.
فهل صحيح ذلك في ميدان الأدب على وجه خاص؟.
هل (الشعبية) في الأدب أن يتصف بالابتذال والضعة، وأن تجانبه خصائص الأدب الرفيع في التفكير والتصوير والتعبير؟.
أما الأمر الواقع فبين ظهرانينا نتاج أدبي يشيع الآن في بعض طبقات الشعب بقدر كثير أو قليل، ومعظم هذا النتاج ضئيل الحظ من رفعة الفن وسموه، سقيم الأداء، لا يخلو من تبذل وإسفاف، ولكن تسميته بالأدب الشعبي ظلم عظيم، فإن صفة هذا الأدب تلحق بأصحابه لا بالشعب، ثم بالدين تقف بهم ملكاتهم وقرائحهم ومواهبهم في مستوى محدود، فتتقاصر عن أفق الفن الرفيع، فإن دل أدبهم على شيء فإنما يدل على مستوياتهم ومزاجهم لا على مستوى الشعب ومزاجه.
حقاً إن هذا اللون من النتاج الأدبي يلاقي من أفئدة السواد هوى، ويصادف من الجمهور مزيد إقبال. ولكن هذه الظاهرة ليست فيها حجة على الشعب، فالنفوس بطبيعتها يستهويها ما يرضي بعض الغرائز القريبة الاستجابة وما يلائم النزوات التي تتعاور الإنسان في(1020/1)
أطوار حياته، فإذا قدم لها شيء من ذلك في مختلف شؤون الحياة أقبلت عليه، وانساقت معه، إلا أن يعصمها من ذلك حسن التنشئة والترويض. ولا ريب أن الرياضة الأدبية والعمل على السمو بالأذواق والتوجيه التهذيبي العام، خليق أن يجعل من الشعب عنصراً صالحاً يستعصم على الابتذال في الأدب، فيعرف ما يقدم إليه مما ينطوي على شذوذ وانحراف أو تهافت وإسفاف.
والقول الذي يجب أن يكون مردوداً على صاحبه، هو القول بأن الشعب لا يستطيع استساغة لون من الأدب، إلا هذا اللون التامة الوضيع، فالطعام الجيد الصنع الكريم العنصر: من يألفه؟ ومن لا يألفه؟.
لقد آن لنا أن نصحح الوضع في معنى الأدب الشعبي، فما ذلك الأدب الشعبي في الحق إلا الأدب الفني الرفيع الذي يستلهمه الفنان من روح الشعب ومن مختلف بيئاته، فيعبر به عن مشاعر هذه الأمواج المتدافعة من الناس في ملتطم الحياة، وإن هذا الأدب الشعبي ليمثل الجانب الأكبر من الأدب الحي الخالد في كل أمة من الأمم، وفي كل عصر من عصور البشر.
تلك هي روائع الأدب العالمي الباقية على الزمن، ليست أصولها إلا أساطير الشعب وأقاصيصه، فالإلياذة والإنيادة والمهابهاراتا والشاهنامة وألف ليلة وليلة، إنما هي كتب شعبية تعبر عن نفسية الشعب في مجموعة، وتسجيل أصداء صوته، وتصور ما ظهر وما بطن من نزعاته ونزواته. وما خلدت هذه الأعمال إلا بإزاريها وبين الناس وشائج موصولة على الوشائج الإنسانية الخالدة.
وما نجح (شكسبير) و (جونه) و (دانتي) و (موليير) و (ناجور) و (تشيوف) وإضرابهم من أفذاذ الأدب في الأمم إلا بأنهم يخاطبون الشعب كله، ويجلون ما يعتلج في قلبه، في أداء صادق واستلهام أمين، فهم فنانون عظماء بأنهم استطاعوا أن يتملكوا ناصية الجمهور الزاخر، وأن يندسوا إلى أعماق نفسه، فيكون بينهم وبينه تجاوب عميق.
وإليك (القرآن) العظيم مثلا رفيعاً للعمل الفني، ففيه تصوير رائع لهذه البشرية في متباين عواطفها ومختلف منازعها، فيه نجد كل نفس مناها، وقد هبطت آياته على الشعب بلغة الشعب، وعمت رسالته الناس كافة، فكان له وقع السحر، وظل على الدهر رمزاً خالداً(1020/2)
للأدب الحي، لا يفتأ يثير في نفوس الناس على تباين مراتبهم ألوان المشاعر والأحاسيس.
ما تعريف الأدب؟
إن هو إلا تعبير فني بالكتابة والقول، مثله كمثل التصوير والغناء والموسيقى والرقص، فالتصوير تعبير فني بالرسم والتلوين، والغناء تعبير فني بالتنغيم والتطريب، والموسيقى تعبير فني بالجرس والرنين، والرقص تعبير فني بالحركة والإيقاع.
تلك هي الفنون التي يعد في جملتها الأدب، فالأدب فن والأديب فنان، والفن للروح لا للعقل، وللنفس لا للذهن. ومن ثم كان الأدب لونا من الألوان التي تخاطب العاطفة والشعور والوجدان، والناس أجمعون قادرون على أن يفهموا هذا الخطاب، فهم سواء فيما انطوت عليه جنوبهم من وجدان وشعور وعاطفة، وإنما يتمايزون في العقول والأذهان، ويتفاضلون بالمنطق واستظهار الحقائق، وليس شيء من ذلك يتعلق به الأدب أو يتخذه له هدفاً.
القارئ الذي لا تسمو عقليته، ولا تكتمل ثقافته، يتعاصي عليه أن يأخذ في شيء من العلك الذي يقوم على استقراء واستنتاج، مما يخاطب العقل، ويتطلب جودة الذهن، وسعة النظر، ولكنه لا يتعذر عليه أن يتأثر بالأدب الفني الرفيع، مادام فن الأدب تعبيرا عن الحياة في صورة تتصل بالنفس وتساير العاطفة وتخاطب الوجدان.
ليس الأديب بمكتشف حقيقة من الحقائق، أو مبتدع حكمة من الحكم، أو مزاول تجربة من التجارب، فالحقائق والتجارب والحكم متعالمة متعارفة، لا يزيدها الأديب شيئاً، ولا يضيف غليها جديداً، وإنما هو يستخلص شذورها من بين الأخلاط والشوائب، ويلم شملها من فرقة وشتلت، ويحسن انتزاعها والتقاطها من مضطرب الحياة في صورة فنية جملية، كما يلتقط الجهاز الكهربي ذبذبات صوتية معينة في أفق عريض يعج بأمواج متلاطمة من الأصوات.
لا ضرورة ثمة إلى أن يكون الشعب مثقفاً لكي يفقه الأدب الفني ويستسيغه ويتأثر به، فحسب الشعب أن يكون سري العاطفة، قوي البصيرة، ذكي القلب، نقي الذوق، وأذن يسعه أن يتقبل الأدب الفني بقبول حسن، ويحله منه المحل الكريم.
رب فلاح أمي في بطن الريف يعقب على الأحداث بجملة فإذا هي مثل سائر، ويخوض في الحديث بكلمة فإذا هي من جوامع الكلم، ويهزه الطرب أو يروعه الفزع فيرسل الأنشودة فإذا هي فن، ويغنيها فإذا هي لحن. . . ولا شيء من ذلك يبعث على عجب. فما(1020/3)
الأغنية أو الأنشودة أو الحكمة أو المثل إلا تعبير عن الحياة من فيض العاطفة ووهج الروح وهذه الروح والعاطفة كلتاهما هبة الله للشر لا يفتقران إلى معاناة العلم، ومكابدة الدرس، ولا يتوقفان على اكتساب الأقيسة المنطقية التي تحقق بها ظواهر العيش وطبائع الأشياء، وتتألف منها صنوف المعارف والعلوم.
الأدب لا يقول لك: أعلم هذا وأعرفه، ولكن يقول: تأثر بهذا واستشعره. وعبثا تطلب من الأدب إن ابتغت عنده أن نريدك علما ومعرفة؛ وإنما أنت راغب إليه في أن يشيع في أقطار نفسك الروعة والاهتياج، ويملك عليك عاطفتك بالاستهواء، فيهرب بك من حاضرك وينسيك ما أنت فيه، ويمضي بك محلقاً في آفاق من الأخيلة والتصورات، فأنت عنده طالب سلوه وتعزية، أو مقتبس فرحه وابتهاج، أو ملتمس لوعة وبكاء، وساعة أنت تطلب منه أن تفكر أو أن تحلم. . . وفي ألوان الأدب ما ينيلك هذه المطالب جميعاً.
غاية الأدب إذن أن يروع، ونعني بالروعة إثارة المشاعر ونفض الاحساسات. ولا يكون هذا إلا إن كان العمل الأدبي فنياً، أي جميلاً، أي رائعاً. . . والأدب الفني إنما يجمل وتكتمل فيه الروعة حسن بتوافر له عنصر اللذة والإمتاع، أو التسلية والترفيه، فبهذا العنصر تحمل القارئ على أن يقرأ، وتحبب إليه أن يتابع. فالاستجابة بين الكاتب والقارئ شرط التواصل بينهما، ولن يستجيب القارئ لكاتب إذا فقد عنده ما يسعده ويمتصه ويؤنسه، والمقصود من الإيناس والإمتاع أن يبعث الكاتب عند القارئ نشطة الفكر وأن يلمس مشاعره، وأن يثير فيه الإعجاب بالجمال.
وإنك لا تبلغ مبلغ الاستجابة من نفس القارئ إذا جلوت له الواقع الذي يحيط به أحداثاً كما هي في مجمع الناس، فالواقعية البحت لا تخرج بالقارئ عن مشهوده المبذول ومسموعه المملول، وكذلك لا تبلغ من نفسه ذلك المبلغ المنشود إذا نأيت به عن مألوفة في دنياه، وباعدت بينه وبين آفاق أفكاره وأحيلته، وإنما وأنت مصيب غرضك متى بعثت في الواقع الميت، وصبغت الأحداث الجامدة صبغة الحيال، فبذلك يسمو العمل الأدبي إلى المستوى الفني، فإذا هو فتنة تثير وجال يروع.
ربما عن لسائل أن يقول:
أني للجماهير أن تستجيب للأدب الفني الرفيع، وهي محدودة الوعي والإدراك، متخالفة(1020/4)
الأذواق؟.
والجواب غير بعيد، فالصورة الأدبية الفنية يأنس فيها كل ذوق ما يلائمه ويحد فيها كل امرئ ناحية يتأثر بها ويستجيب لها، حسبما تعنيه ملكاته ومداركه.
الفنان العبقري يرفع مصباحه الدري، مرسلا منه نوراً أبيض وهاجاً صافي الإشراق. وإن هذا النور الأبيض لينطوي على مختلف الألوان حينما يتحلل بالمنشور. والنفس البشرية منشور بلوري يتحلل به ذلك النور الوهاج، فكل امرئ يشهد ما يرتاح إليه، أو ما تستطيع عينه أن تراه. وفي أدب الفنان العظيم نور كامل تكمل فيه الأطياف جمعاء.
وإنما يتفاوت الفنانون درجات بما يعوز أدبهم من ألوان هذه الأطياف، فمنهم من يعوزه الكثير، ومنهم من يعوزه القليل، ولذلك نرى تأثير الفنان مقصوراً على طائفة مخصوصة من الناس إذا كان أدبه مقصوراً على بعض الأطياف التي تلائم تلك الطائفة وحدها. فأما الفنان الذي نفحته (عبقر) فإن أدبه تتكامل فيه أطياف النور على اختلاف الألوان، فيه لكل طائفة أرب، وعنده لكل ذوق متاع.
وليس بكاف أن تبعث النور وهاجا متكاملاً لكي تطمئن إلى إمكان الاستنارة به، فلا بد من رعاية الطريقة التي يتجلى بها النور للعيون. لا بد من رعاية الزجاجة التي تنظم انبعاث الشعاع، أعني بها اللغة والأسلوب. وهنا تنجم عندنا مشكلة العامية والفصحى، فالعامية لغة التخاطب في الجمهور، والفصحى لغة التدوين للأدب الفني، ولا تتحقق الاستجابة بين كاتب وقارئ إلا إن فهم القارئ ما دون الكاتب، والواسطة بينهما لغة وأسلوب؛ وذلك هو الحجاب بين الأدب الفني والجمهور العام. وعلاج هذه المشكلة في ناحيتين: الأولى تطويع اللغة حتى تكون صالحة لمخاطبة الشعب كله. والأخرى تعميم التعليم حتى تلتقي الأداتان: أداة الإسماع وأداتاة لاستماع، أو كما يقول المهندسون: أداة الإرسال وأداة الالتقاط.
حين يصدقي الأديب الفنان في استلهامه يخرج عملا فنيا. وهو في هذا العمل الفني يجلو صورة الشعب. ولا غرو أن الشعب يستهويه أن يرى نفسه في المرآة، كما يلذ لكل امرئ أن يشهد شخصه في رسم أو صورة. وأنت إذا صنعت تمثالاً فنياً جميلاً لفلاح في حقل أو عمدة في قرية، وجدت من يروقه التمثال ومن يعجب به بين الفلاحين والعمد. وفي المتحف الزراعي المصري قاعة ملئت بالتماثيل الملونة التي تصف مشاهد الفلاحة(1020/5)
ومجالس الريف، وإن الزوار والمتفرجين من المصريين ليقفون عندها طويلاً بما يرونه من أبطالها، ولعلهم هم أنفسهم أولئك الأبطال الماثلون.
فالأديب الفني في مستطاعه أن يقدم عملاً فنياً معبراً عن روح الشعب، مستجيباً لما يجري في وليجة نفسه، ولزم على الأديب إذا هدف إلى شيء من ذلك أن يكون من الشعب على مقربة. بل لا بد أن يحيا بين جوانحه، ويتدسس في صميمه. ويستجيب لذلك كله في صدق وإخلاص وإيمان. فهو من الشعب يأخذ، وإياه يناجي. وما الشعب إلا نموذج من النفس البشرية بما حوت من نوازع وخصائص وأطوار.
حقا أن العمل الأدبي الفني لابد أن تتجلى فيه فكرة أو رأي أو هدف، ولكن هذه الفكرة في العمل الفني يجب أن تكون وثيقة الصلة بالنفس الإنسانية على وجه عام؛ فهي تفهم بالبصيرة لا بالعقل، وما دامت الفكرة نابعة من قرارة النفس، منتزعة من صميم الحياة، ملتقطة من جو البيئة، فهي فكرة قديمة قدم الغرائز والعواطف والنزاعات. وليس للأديب الفنان فيها إلا فخر إثارتها، وفضل يعثها في ثوب جديد، والتذكير بها على نحو طويف. ونحن حين نعجب بفكرة أدبية جميلة فإننا لا نعجب بها إلا لأن الكاتب يزفها إلينا في إطار فني، ويصورها لنا في معرض جذاب، وقديماً انتبه الشاعر العربي لذلك في قوله:
إنما تنحع المقالة في المرء ... إذا صادفت هوى في الفؤاد
إذا مس الأديب من النفوس وترا أرنت النفوس له واستجابت. وإذا أصابت المعاني شغاف القلوب خفقت القلوب لها واهتزت. وهذا (الراديو) ينقل لنا صورة صوتية لمجلس غنائي أنشدت فيه (أم كلثوم) قصيدة (لشوقي) وأهل المجلس من شتى الطبقات، فهم نموذج شعبي صادق التمثيل للشعب، وإنهم ليستمعون إلى الغناء فيبدو إعجابهم بقدر، وما تكاد الشادية تبلغ في إنشادها قول الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
حتى تسمع (الراديو) قد أرعد بتصفيق هذا الحشد الزاخر إرعاداً بصم الآذان ويشق العنان. وما كان ذلك إلا لأن هذا المعنى بخصوصه قد أصاب من الشعب شغاف قلبه، ومس وترا حساسا في نفسه. فهذا الشعب قد عانى في دهره الأطول استلاب حريته، واغتصاب حقوقه، فهو مظلوم مهضوم، تمني العدل والإنصاف حتى سئم التمني، وطالب به حتى مل(1020/6)
المطالبة، وإنه لواجد في هذا البيت الشوقي الحكيم مناجاة له في محنته، وتأبيدا له في عزمته، وحضا له على أن يبلغ ما يريد بقوة المصاولة والغلاب، لا بمنطق المناقشة والحجاج.
لا يقولن الكاتب إن الجمهور لا يفهم عني، وإنه أدنى مدارك مني، فالكاتب إن استوعب في أدبه إحساس جمهوره، وعبر عما يعتمل في بيئاته، فالجمهور فاهم عنه، مدرك منه. وعلة الجفوة بين الكاتب والجمهور أن يكون الكاتب قد اقتنص شعوراً ليس بالشعور القوي في طوايا النفوس، أو ليس بالشعور العام الذي ينتظم جماعات الناس، وإذن لا يحس الجمهور ما أحس الكاتب، ومن ثم لا نكون بينهما أستجابة، فلا تنبت بينهما ألفة.
ما أكثر ألوان الموضوعات التي تعرض للكاتب الأديب، يجري بها قلمه ويبعث إليها أضواء فنه. إن من هذه الموضوعات ما هو خاص أو أخص، تتمثل فيه نزعات كثيرة من الناس أو قلة. فهو عند هؤلاء الكثيرين أو القليلين أثير وهم إليه في الاختيار يجنحون، ولكن ثمة موضوعات شاملة، فيها نلتقي أشتات المطامع والميول، ولها من مختلف مشكلات الحياة وطرائق العيش نصيب، فهي متصلة أوثق الاتصال بتلك التيارات العميقة العامة التي تجري في أوصال البشرية كلها، لا تقتصر على جيل من الناس ولا تختص بعصر من عصور التاريخ فهذه الموضوعات الشاملة إذا زاولها الأديب الفنان امتد أثرها في كل جانب، وانبسط ظلها على كل ناحية، واستوى في استشعارها بدوي وحضري، وربما استجاب لها السويدي قريباً من القطب حين يستجيب لها الزنجي في خط الاستواء. فهي إلى العالمية أقرب، وإلى الخلود أدنى.
كلما عالج الأديب ناحية ينفسح نطاقها في مجتمع الناس كان صوته أندى، وأثره أشمل وأعمق. وذلك هو أدب الحب يستأثر بالخطوة العزيزة في القصة وفي الشعر وفي غير ذلك من ألوان الأدب، وهل كانت للحب تلك الخطوة إلا بأنه عاطفة إنسانية تلائم كل نفس، وتطاوع كل هوى، وأنه بضعة أصلية في الطبع البشري ينجم عنه كثير من العواطف والتأثيرات، فهو دعوة مستجابة ونداء مسموع، وهو عند الجمهور العام مكفول له القبول.
والتعويل كل التعويل على منهج المعالجة لأمثال هذا الموضوع الإنسًاني العام، فقد يتناول موضوع الحب أديبان أحدهما غير فنان والآخر فنان أصيل. فأما غير الفنان فإنه يطرق(1020/7)
الموضوع في تصنع فيقلب الحقائق ويزور الواقعات ويجتلب زائف المؤثرات، ويفوته التهدي إلى بطائن القلب البشري حين تعتمل فيه عاطفة الحب فإذا هو يخرج لنا صورة شوها. لأنها صورة مكذوب بها على الحياة والأحياء. فأما الأديب الفنان فإنه يطرق الموضوع عينه، ولكن على بصيرة وهدى، وفي أمانة وإخلاص، فيخرج عمله صادق الوحي خالد الأثر.
البقية في العدد القادم
محمود تيمور(1020/8)
في فضل محمد (ص)
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
قرأت بشيء من التعجب مقال الكاتب الإسلامي محمد عبد الله السمان في (المعاني الحية في رسالة محمد) فإذا هو في صميمه مقال في شخصية الرسول (ص) وفي عظمته، وإذا تحمسه لبعض النواحي العظمى للرسالة يحمله على إنكار بعض نواحي أدلة تلك الرسالة التي هي أيضاً بعض مظاهر عظمة الرسول، في غلو في التعبير جافى فيه مالا أشك أنه يعلمه من أدب الإسلام في الدعوة، ثم هو بعد ذلك لا يصيب حقيقة عظمة الرسول.
إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه متعدد نواحي العظمة، والإسلام الذي هو رسالة الرسول متعدد نواحي الدعوة تعدد نواحي الفطرة التي هو دينها. وليس الناس سواء في تقدير تلك النواحي، فمنهم الخواص الذين يكبرون ما أكبر الأستاذ، ومنهم العوام الذين يقصرون عن ذلك ولا يكبرون ما دعا إلى إكباره من تحرير الإسلام العقول والنفوس إلا عن طريق إيمانهم بتلك النواحي التي لم يأبه هو بها والتي نعي على خطباء المساجد والسرادقات الإشادة بها في احتفالات ذكرى ميلاد الرسول، وأكثر شهودها هم العوام الذين أمر الرسول صلوات الله عليه أن يخاطبوا على قدر عقولهم وإلا كان مخاطبوهم فتنة عليهم.
ولو غير الأستاذ السمان نعى المسلمين ما يثنون على الرسول صلى الله عليه وسلم بما أجرى الله على يديه من الخوارق لقلنا غير مؤمن مجاهد يؤمن بالقرآن وبما أثبت للأنبياء من معجزات أكرمهم الله وأيدهم بها لم تكن لتثبت لهم في عصرنا هذا إلا بالقرآن. والقرآن نفسه أثبت لمحمد صلوات الله عليه من المعجزات - إذا أغفلنا شرط التحدي فيها - ما شاء الله. أثبت له الإسراء في سورة الأسراء، والمعراج في سورة النجم، وانشقاق القمر في سورة القمر، إذا أخذنا الآيات على ظاهرها كما ينبغي ولم نلجأ إلى التأويل تهرباً من إثبات إلا الأقل الذي لا بد منه من المعجزات؛ فالتأويل لا يجوز إلا بقرينة حاملة، والقرينة غير موجودة، والحديث الشريف الصحيح يفسر تلك الآيات ويصف من تفصيلها ما أجمل القرآن. فهل تلك المعجزات يا ترى ليست من مظاهر عظمة الرسول؟ بلى! فإن الله الذي لا يقدر على إجرائها غيره أجراها تأييداً له أو تكريماً. وفي كل تعظيم.(1020/9)
والحديث الصحيح أثبت للرسول صلوات الله عليه خوارق كثيرة كمعجزات الأنبياء والرسل من قبله. منها حنين الجذع الذي كان صلى الله عليه وسلم يخطب عنده قبيل اتخاذ المنبر، ومنها تكثير طعام جابر حتى أشبع جيش الخندق، وتكثير اللبن حتى أروى أهل الصفة من قدح استقله أبو هريرة لنفسه وللرسول، وتكثير الماء في الإناء حتى استقى منه جيش تبوك. ومنها رد عين أبي قتادة في غزوة أحد أو بدر، وإبراء عين علي رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله أجمعين في غزوة خيبر. وما من هذه إلا قد شهده الجم الغفير من الناس. فليت شعري لماذا نؤاخذ الوعاظ إذا ذكروا الناس بما أكرم الله به نبيهم من تلك المعجزات في ذكرى مولده الشريف؟ أو لماذا ينعى على الناس استشعارهم السرور والفخر بينهم الذي أكرمه الله تلك الكرامة وأنوله تلك المنزلة! لو أن أمثال الأستاذ السمان انتهزوا اهتزاز الناس ذلك وذكروهم بوجوب العمل بما أهملوه ونسوه من رسالة الرسول لكان خيرا للناس وأعظم أجرا له ولأمثله. أما النعي على من يذكر الناس بناحية من نواحي عظمة الرسول يرى هو غيرها أكبر منها، أو النعي عليهم إذا خرجوا من تلك الذكرى يعددون ما ذكروا به وازدادوا به إيماناً من تلك المعجزات، ففيه من الغلو والإسراف وتحجير الواسع ما فيه.
وأعجب من هذا وأوغل في الإسراف نعيه على (صنف) من المسلمين يفضلون محمداً على الرسل، ويجعلونه إمامهم ويجعلون رسالته فوق رسالاتهم والمسلمون كلهم ذلك الصنف الذي زعم الأستاذ ومنهم الأستاذ السمان نفسه بما كتب في مقاله من الناحية التي يعظمها ويكبرها. وإلا فأي الرسل أصلح الله به ما أصلح بمحمد صلوات الله وسلامه عليه؟ وأي الرسالات بلغت مبلغ الإسلام وحققت ما حقق الله، من تحرير العقول والنفوس في الماضي ولا يزال يدعو إلى تحريرها من كل سلطان غير سلطان الله سبحانه خالق الكون وفاطر الناس؟ وإذا كان الأستاذ يستشهد على من ظنهم خصومه من المسلمين بأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس أفلا يكون الرسول الذي أخرج الله على يديه تلك الأمة خير الرسل؟.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم جمع الله له ما فرق في الرسل. آتاه من المعجزات مثل الذي آتاهم، وخصه صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم معجزة خالدة لا تضارعها معجزة، وبدين شهد الله له بما لم يشهد به لدين قبله. شهد له بالكمال حين أنزل عليه في الوقف في(1020/10)
حجة الوداع (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). وشهد له صلى الله عليه وسلم بما لم يشهد به سبحانه لنبي قبله من عموم الرسالة وعموم الرحمة به في قوله تعالى من سورة سبأ (ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقوله تعالى من سورة الأنبياء (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وأمثال الآيتين في القرآن الكريم كثير.
والرسالة نفسها ليست مما لمحمد فضل فيه فإنه لم يأت بشيء منها. والآيات التي استشهد بها الأستاذ من قول الله لا من قول محمد كما يعلم الأستاذ طبعاً. فلو لم يشغله الحماس عن التدقيق لما خفي عليه أن مبادئ الإسلام نفسه ليس لمحمد فضل فيها إذ لم تكن من عنده، وإذا كان هو مأمورا بالإيمان بها كغيره، وإذ عاش في قومه أربعين سنة قبل الرسالة لم يؤثر عنه أنه دعاهم فيها حتى إلى التوحيد، وإن أثر أنه لم يسجد لصنم وأنه كان قبل الرسالة من الموحدين. فالثناء الذي أثنى به بعض المستشرقين عليه أنه كان من عظماء المصلحين ثناء مدخول كان لا ينبغي أن ينخدع به الأستاذ لأن مبعثه اعتقادهم أن القرآن من تأليفه وأن الإسلام من وضعه. وكل ثناء عليه صلى الله عليه وسلم بغير النبوة والرسالة هو في الواقع دون مقامه الكريم ولو كان ذلك الثناء، أنه بطل الأبطال وأعظم المصلحين.
إن حقيقة عظمته صلى الله عليه وسلم ليست في الرسالة نفسها ولكن في أنه أدى الرسالة على وجهها. فالرسالة من عند الله ليس لمحمد ولا لغيره منها شيء ولا له في مبادئها فضل، وإنما الفضل كله أنه أداها كما ينبغي أن تؤدي، وتحمل في أدائها كل ما تحمل، ونهض بأعبائها نهوضا لم يكن لينهضه إلا من بلغ غاية كمال البشرية. وهذا هو ما يقصده الذين يقول الأستاذ انهم يرفعون محمداً فوق مستوى البشرية. وما مستوى البشر الذي يعرفه الأستاذ أو يمكن أن يعرفه في تاريخ البشرية إذا قيس بالمستوى الذي بلغه سيد البشر وخاتم الرسل محمد بن عبد الله؟.
إن أعجب العجب أن يقوم فرد بأعباء دين أعجز البشرية أن تحمله وتقوم بأعبائه إلا مجتمعة! والترقي داخل حدود الإسلام ليس له نهاية، لأن حدود الفطرة نفسها، إذ هو دين الفطرة بل نفس الفطرة التي فطر لله عليها الناس، بشهادته سبحانه في سورة الروم. وكل(1020/11)
ما يمكن البشر أن يبلغه من الرقي في الفطرة قد حققه الله للبشرية في محمد بن عبد الله رسول الإسلام الذي لا ينطق عن الهوى، والذي صار كل عمل له سنة، وكل قول له حجة لله على عباده، لا عملا أو قولا لم يقره الله عليه في حوادث معدودة نطق بها القرآن وأحاطت بها سنة الرسول فكأنما أعد الله محمداً من بين البشر في تاريخ البشرية المتطور للقيام بأعباء دين الله الكامل؛ تلك الأعباء التي تفرق القيام بها في الناس، في الصالحين وأولى العزم من المسلمين حتى صار المتأسي به صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد وصدق في صفة من صفاته مثلاً يضرب في مكارم الأخلاق إلى اليوم كما ضرب المثل في أبي بكر وعمر وعلي ومن إليهم من الصحاب وممن تبعهم بإحسان. فالكمال البشري قد جمعه الله لمحمد الفرد كي يستطيع أن يقوم بدين الله دين الفطرة والبشرية الكاملة. أفلا يكون صلى الله عليه وسلم لذلك أكمل البشر على الإطلاق.
هذه نتيجة منطقية ليس عنها محيص، وليس فيها انتقاض لأحد من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالله سبحانه قد فضل بعض رسله على بعض كما أخبرنا سبحانه في آية تلك الرسل؛ والحديث الذي ساقه الأستاذ السمان يشهد بذلك التفاضل. والأفضلية في صفة غير الأفضلية في مجموع الصفات. والنهي في الحديث الكريم عن التخيير بين الأنبياء موجه في الأصل إلى ذلك اليهودي لأنه هو الذي خير كما يتبين الأستاذ إذا رجع إلى الحديث. وجاء النهي عاما لحكمة غير نهي المسلم عن التعصب لأن المسلم في الحديث لم يزد على أن أنكر أن يكون موسى أفضل من محمد. وما يوهمه الحديث خلاف ذلك ليس على إطلاقه ولكنه محدود بما ذكر في الحديث. والثناء على موسى صلوات الله عليه بصفة تميز بها هو مثل في التواضع ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ليكون تشريعاً في مثل حادثته وهو يؤيد ما ذهبنا ونذهب إليه مع جمهور المسلمين من أنه صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للبشرية حققه الله للناس تاريخاً واقعاً. والمثل الأعلى يقترب منه المجتهدون في بلوغه اقترابا بطرد ما طرد اجتهادهم من غير أن يبلغوه مهما اجتهدوا.
وصلوات الله وسلامه على الرسول الكامل الذي حقق الله به وفيه الفطرة الإنسانية الكاملة محمد بن عبد الله.(1020/12)
محمد أحمد الغمراوي(1020/13)
أبصر طريقك
للأستاذ محمود محمد شاكر
منذ ظهر دين الله في الرض، وتدافعت أمواجه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وضرب تياره أسوار العالم المحيط به، وطهر بلاداً كثيرة وغسلها مما فيها من الشرك والكفر والإهلال لغير الله سبحانه، أخذت تتجمع في أطرافه عداوة لا تنام، وبقيت هذه العداوة تنازل جنود الله عاماً بعد عام في ثغور حشدا واحدا، بدأت به الغزوات المتلاحقة التي عرفت في التاريخ باسم الحرب الصليبية. وظلت هذه الحروب مشبوهة قرونا طويلة، وأدانها السلاح والجيوش والمواقع.
ثم انتهت حرب السلاح والجيوس، إذ وضع العالم الإسلامي سلاحه، بل أًصح من ذلك، أن العالم الإسلامي يومئذ لم يكن معه سلاح يضعه أو يرفعه. وإذا كان فيه سلاح، فهو سلاح لا يغني عنه في لقاء هذه الأسلحة الجديدة، التي جاءت مع الغزاة. ومن يومئذ انتقلت الحرب الصليبية من ميادين القتال، إلى ميدان آخر: هو الحياة نفسها!
كانت خطة الحرب الصليبية الجديدة، هو دك الحياة الإسلامية كلها: تدك بناء هذه الحياة، وتدك علمها، وتدك آدابها، وتدك أخلاقها، وتدك تاريخها، وتدك لغتها، وتدك ماضيها. وفي خلال ذلك ينشأ بناء جديد لهذه الحياة، بعلم غير العلم الأول، وأدب غير الأدب، وأخلاق غير الأخلاق، وتاريخ غير التاريخ، ولغة غير اللغة، وماض غير الماضي. ويأتي يوم فإذا الهزيمة واقعة كما وقعت في الميادين. ويصبح العالم الإسلامي وليس معه من الحياة التي كان بها عالما صحيحاً، إلا بقايا لا تغني عنه، كما أصبح يوماً في ميدان الحرب، ومعه بقايا أسلحة لا تغني عنه شيئاً
جاءت الغزوات الصليبية الجديدة متلاحقة سريعة نفاذة تنشر طلائعها الأولى في كل مكان، مزودة بالفهم والإدراك والمعرفة، بطبيعة هذا الميدان الجديد، فتلقى قوماً قد سلبوا الفهم والإدراك والمعرفة لطبيعة هذا الميدان. ولكنهم كانوا بفطرتهم يعلمون أن هذه الطلائع عدو لهم، فقاومهم من قاومهم بما تستثره الفطرة من بغض العدو والشك فيه، وإن جاء في ثوب المسالم والناصج. وتهاوى آخرون، فوقعوا في حوزة العدو، إذ غرتهم مسالمته وخدعهم نصحه، وظلت هذه الحروب دائرة بيننا وبينهم أكثر من مئة وخمسين عاماً، في سكون(1020/14)
وصمت، ولجاجة وحرص، وقوة وحذر، ومعرفة وبصر، حتى بلغ العدو منا مبلغا لم يكن في أول الأمر يظن أنه يبلغه. فقد تهاوى البناء كله فجأة. وأصبحت الحياة الإسلامية أطلالا يناديها الفناء فتجيب بلا مقاومة ولا عناد
ذهب كل شيء يكون للحياة البشرية قواماً وعماداً: ذهب العلم والأدب والأخلاق واللغة والتاريخ، وجاءه الغزاة بما يحل مكانه من علم وأدب وأخلاق ولغة وتاريخ. ذهب الذي كان ينبع نبعه من كتاب الله، ومن حياة الأمة المسلمة، وسنة رسوله، وجاء الذي ينبع نبعه من الحياة الوثنية القديمة، ومن المسيحية المحدثة. ذهب الذي كان يتحدر إلينا، وجاء الذي يتحدر غلينا كما يتحدر السيل الجارف لا يبقي ولا يذر. ذهب شيء وجاء شيء، فتغير نظرنا وفكرنا، وتغير إدراكنا ومعرفتنا، وتغير شعورنا وإحساسنا، وتغير لساننا وبياننا. فعدنا ننظر في الكتاب الذي هو كتابنا، وأخبار النبي الذي هو نبينا، وآثار الماضين الذين هم آباؤنا. فأنكرنا ما وجدنا في ذلك كله، فطرحه منا من طرحه وراء ظهره ولم يبال به، وتهيب منا من تهيب فوقف لا يدري ماذا يفعل، وبقيت طائفة لا تطرح ولا تتهيب، فطلبت مخرجاً من هذا الشيء الذي تنكره إنكاراً خفيفاً، وهو في هذه الصورة التي جاء عليها من التراث الماضي. فرأت المخرج في تجديد التراث الماضي تجديداً مقارباً، يطابق الحياة الجديدة من وجوه، وينكر الحياة القديمة من وجوه أخرى.
ومن يومئذ انقسم العالم العربي والإسلامي إلى طائفتين: طائفة منكرة لا تعبأ شيئاً بالحياة الماضية كلها، وطائفة لم يبلغ بها الإنكار أن لا تعبأ، فالتمست تجديد الحياة الماضية على أسس جديدة. وإذا هذه الأسس التي تريد أن تؤسس عليها، هي في جوهرها مستمدة كلها من الحياة التي أنشأها الغازي الصليبي بين ظهرانينا.
هذه صورة مصغرة للحياة في العالم الإسلامي الحاضر. لا يدركها المرء حتى يعلم أن العالم الإسلامي مقبل على خطر أبشع من خطر الغزو الصليبي الأول بالسلاح، مقبل على هزيمة منكرة تكون عاقبتها تبديل الإسلام تبديلاً كاملاً حتى لا يبقى له من ظل لحق إلا ما بقي من ظل المسيحية الحقة في العالم المسيحي الحاضر.
ودعاة هذا التبديل، علموا أو لم يعلموا، قد تعاووا في كل مكان باسم الدفاع عن الإسلام، وباسم إحياء الإسلام، وباسم تجديد الإسلام. وهم يعملون جاهدين على أن ينشروا دينهم(1020/15)
الجديد - كما ينبغي أن يسمى - بجميع الوسائل التي يظنون أنها تقضي بهم إلى الدفاع عن الإسلام أو إحيائه أو تجديده. وهم على مر الزمن، سوف يتركون آثار عميقة في حياة العالم الإسلامي الحاضر، وسيتبعهم تابعون يقتفون آثارهم، مبعدين عن النهج الأول الذي بني عليه هذا الإسلام الذي يدافعون عنه أو يحيونه أو يجددونه! بل إن هؤلاء أنفسهم قد كانوا خلفاء لجيل سبق من قبلهم، أعمته الحياة التي بهرت عينيه وزلزلت عقائده، فطلب كما يطلبون، الدفاع عن الإسلام وإحياءه وتجديده، على أسس لم يستمد أصلها من الحق الذي في دينه، بل من أصل بعيد هو الحياة التي يحياها العالم الصليبي الذي غلب وقهر وظهر مجده في هذه الأرض.
إن هذا الوباء الذي يجتاح العقل الإسلامي والحياة الإسلامية، قد نفذ إلى كل ركن في هذا العالم، وسارت حمياه سورة مستبدة بكثير من رؤوس الدعاة. وانطلقت الألسنة مسرعة تريد أن تبنني بناء عقلياً جديداً لهذا الإسلام الذي تهدم بناؤه القديم، فما تجيد لسانا إلا وهو يرسل طوفانا من الكلام بلا حذر ولا توقف، وكل لسان يرى في الذي يرسله مادة صحيحة لبناء هذا العالم المتهدم. وأصبح كل داعية إماما يقتدي به. والمقتدون به لا يعلمون شيئاً إلا أن هذا السيل المرسل عليهم، ليس إلا أصلا صحيحاً من أصول هذا السيل المرسل عليهم، ليس إلا أصلا صحيحاً من أصول هذا الإسلام الذي يدعوهم إليه. وكل داعية يظن نفسه ينبوعاً يروي الظامئين، يسألونه فيجيب، فيطوفون به طواف الوثني بالصنم. مادة علمهم أن يستمدوا منه ما يجود عليهم به. ولا يجد أحدهم متسعاً أن يلتمس علمه إلا من فيض لسان هذا الإمام الداعي. والإمام مشغول بالتماس المعاني التي يفيضها عليهم، وهم لا يسألونه من أين يأتي بها. وكل داعية مشغول بإعداد المادة لمن يتبعه، لا يحذر ولا يخاف ولا يتحرى. وكل داعية مشغول عن الداعية الآخر، لا ينظر في أمره ولا يتعقبه ولا يقول له من أين جئت بهذا. بل لعله يغفل عن أفسد الفساد في قوله وفعله، واقبح القبح الذي يبثه في أتباعه، لأنه يقول لنفسه إننا مشغولون جميعاً برم هذا البناء الذي تهدم، بل ببناء شيء هو خير من الذي تهدم. وكل داعية منهم هو في الحقيقة منكر للحياة الأولى للإسلام، ولكنه يريد أن يقاوم الفناء بأن يستخرج من نواحي هذه الحياة ما يقنع هو به، ويقنع بعض الناس به: أن في ماضي الإسلام ما يمكن أن يكون مماثلاً للحياة الحاضرة، أو تصحيحاً لبعض(1020/16)
أخطاء الحياة الحاضرة. بيد أنه لا يصل إلى ذلك إلا بنظره هو، وتفكيره هو، بصورة يرتضها هو، ولا يبالي أن يكون استدلاله في غير موضعه، ولا أن يكون فكرة قد فسر الأشياء على غير ما ينبغي أن تكون عليه، أو على غير ما كانت عليه.
فأعمال هؤلاء الدعاة، ليست في الحقيقة إلا ضرباً من هذيان هذا الوباء المقرون بالحمى، ليس له أصل إلا فورت الدم في المحموم. فإذا استمر أمر الإسلام على هذا الذي نراه، فقد انتهى كل شيء. وإذا قدر لهذا العالم الإسلامي أن تعتزل طائفة منه هذا الخبل الخابل، لتعيد النظر في الأصول الصحيحة لدينها، والتي لقي بها هذا الدين عالم الشرك والكفر فدكه ومزقه، وأقام فيه بناء قاوم الفناء ثلاثة عشر قرناً، فيومئذ تبدأ المرحلة الأولى لجهاد طويل شاق، يتحدى طواغيت الكفر بإيمان صحيح، لا تشوبه شائبة من هوى أصحاب الأهواء، بل هو طاعة لله ورسوله، لا يغني غيرها شيء يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وأعود فأقول: من ظن هذا تشاؤما وتثبيطا فليظن ما شاء له الظن! وليس يغني عن الأعمى شيئاً أن تقول له أنت مبصر بعينين لماحتين، ولا عن المغروس في حومة الهلاك أن تقنعه بأنه خالد ليس للموت عليه سلطان.
محمود محمد شاكر(1020/17)
من تاريخ الحروب الصليبية
صلاح الدين يفاوض الإنجليز
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
استعاد صلاح الدين بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، بعد أن ظل في أيدي الصليبيين زهاء تسعين عاماً، وقد أثارت عودتها إلى حظيرة الإسلام ثائرة إفرنج أوربا، وبذل رجال الدين كل جهد، ليوقظوا غضب الجماهير، وليشركوا ملوك أوربا وأمراءها في حرب صليبية جديدة، وأرسل صاحب صور صورة المقدس في ورقة، وصور فيها صورة كنيسة القيامة التي يحجون إليها ويعظمون شأنها، (وفيه قبة قبر المسيح، وصور على القبر فرسا، عليه مسلم قد وطئ قبر المسيح، وبال الفرس على القبر، وأبدى هذه الصورة وراء البحر في الأسواق والمجامع، والقسوس يحملونها ورءوسهم مكشوفة، وعليهم المسوح، وينادون بالويل والثبور. . .) وقد كللت جهودهم بالنجاح، فأقبل على القتال جند كثي، على رأسه أعظم ملوك أوربا، وهم إمبراطور ألمانيا فردريك بارباروس، وملك فرنسا فليب أوغسطوس، وملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد.
أقبل الصليبيون على فلسطين من كل مكان بالبر والبحر والتأم شملهم في صور، التي أوى إليها الصليبيون من جميع أنحاء سوريا وفلسطين، وقر رأيهم على مهاجمة عكا، لحصانة موقعها، لأن الطريق غليها شاطئ البحر، حيث تحميهم سفنهم، وكان البحر أعظم مساعد لهم، يحمل إليهم المواد الحربية والمؤن والرجال، وقد وصلوا أمام عكا في 15 رجب سنة 585هـ، ووضعوا عليها الحصار.
عندما سمع صلاح الدين بحركة الفرنج جمع أمراءه للاستشارة، كان رأيه أن يهاجمهم في الطريق قبل أن يصلوا إلى عكا، ولكن أمراءه أقنعوه بأن الخير في أن تدور المعركة أمام عكا. وعندما ذهب صلاح الدين إلى عكا وجد الفرنج قد أحاطوا بها، ومنعوا كل اتصال بها، فعسكر صلاح الدين في مواجهتهم. ويقول المؤرخون: لو أن صلاح الدين عمل تبعا لرأيه الخاص، وهاجم الصليبين قبل أن يحاصروا المدينة لأنقذها، ولكن تلك إرادة الله.
صمدت عكا أمام الفرنج زهاء عامين، نال أهلها فيهما الضر، وأنهك الضعف فيهما رجالها، وبلغ منهم العجز إلى غاية لم يجدوا بعدها بدا من التسليم، وكانت قوى صلاح الدين يومئذ(1020/18)
أمير إنطاكية، وآخر مقيم في الرها مواجه لطرابلس للدفاع عن الحدود، وثالث يراقب صور، ورابع في دمياط والإسكندرية، ليحتاط ضد الصليبيين القادمين من البحر، ولذلك كان جيش السلطان أقل عددا من الصليبيين، وبرغم طول الحصار لم ير صلاح الدين أن يسلم البد للعدو، وعمل أهل عكا ما استطاعوا للاحتفاظ بمدينتهم، ولكنهم أمام كثرة العدو اضطروا إلى أن يصالحوه على أن يسلموا إليه البلد وجميع ما فيه، ويقدموا إليه ضريبة مالية كبيرة، ويخرجوا بأنفسهم سالمين هم وذراريهم ونساؤهم. ولما علم صلاح الدين بذلك أكره إنكاراً عظيماً، وعزم على أن يحول بين أهل عكا وبين التسليم، ولكن ما راعه إلا أعلام الفرنج تنصب على أسوار المدينة يوم الجمعة 17 جمادى الآخرة سنة 587هـ، ولم يف ملك الإنجليز بما وعد به أسرى المسلمين، بل أحضرهم مكبلين بالحبال، وحمل عليهم هو وجنده حملة الرجل الواحد، فقتلوهم ضرباً وطعناً بالسيف، ولم يطق ملك فرنسا المقام مع ريتشارد، فعاد إلى بلاده، وبقي ريتشارد يعمل وحده.
لما فرغ الفرنج من إصلاح أمر عكا ساروا مع شاطئ البحر إلى حيفا، وخرج المسلمون بازائهم يضايقونهم، حتى وصلوا إلى يافا فملكوها، وكانوا على أن يملكوا عسقلان والقدس، فجمع صلاح الدين أمراءه، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريب عسقلان، وقالوا له: قد رأيت ما كان بالأمس، وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان، ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلوننا، لننزاح عنها وينزلون عليها، فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا ويعظم الأمر علينا، لأن العدو قد قوى بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها، ونحن قد ضعفنا بما خرج عن أيدينا، ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها، فوافق صلاح الدين على تخريبها مرغما؛ وتركها صلاح الدين إلى القدس، وأمر بعمارة سورة وتجديد مارث منه، وأما الفرنج فرحلوا إلى الرملة وأخذوا يجددون عسقلان، وأجمعوا أمرهم على المسير إلى بيت المقدس.
بدأ حديث الصلح يومئذ بين ملك الإنجليز وصلاح الدين، وكان العدو هو الذي بدأ بطلب الحديث في هذا لصلح، إذ أراد أن يتحدث إلى الملك العادل، وكان أول ما دار من حديث بين الفريقين أن قال الفرنج: (إنا قد طال بيننا القتال، وقد قتل من الجانبين الرجال البطال، وإنا نحن جئنا في نصرة إفرنج الساحل، فاصطلحوا أنتم وهم، وكل منا يرجع إلى مكانه)،(1020/19)
ولما علم ملك الإنجليز بمقدم الملك العادل، واجتمع به وأبدى له الرغبة في الصلح، فقال له الملك العادل: أنتم تطلبون الصلح ولا تذكرون مطلوبكم فيه، حتى أتوسط بينكم وبين السلطان. وهنا بدأ ريتشارد بذكر أعلى شروطه للصلح، مظهراً صرامة وقوة إذ قال: (القاعدة أن تعود البلاد كلها غلينا تنصرفوا إلى بلادكم)، ولم تكن هذه القاعدة بطبيعة الحال مما يقبله الملك العادل، فأخشن له في الجواب، وجرت بينهما منافرة، انصرفا بعدها على غير اتفاق. ثم دارت بين الفريقين بعض المعارك، عاد بعدها ملك الإنجليز يعجم عود الملك العادل في أمر الصلح عله يلين، على غير جدوى.
طلب ريتشارد إلى الملك العادل مرة أخرى أن يرسل رسولاً من لدنه ليتفاوض معه في أمر الصلح، فأرسل إليه رسولا يثق به، ظل يفاوض الملك حينا طويلا، ومع ذلك لم يتزحزح الملك إلا قليلاً عن موقفه، فقد عاد الرسول وأخبر العادل بما دار بينه وبين ريتشارد الذي قال للرسول: لا أرجع عن كلام أتحدث به مع أخي وصديقي - يعني العادل - فكتب العادل رقعة أنفذها إلى السلطان تتضمن شروط الصلح التي عرضها ملك الإنجليز وفيها: (إن المسلمين والإفرنج قد هلكوا، وخربت البلاد، وخرجت من يد الفريقين بالكلية، وقد تلفت الأموال والأرواح من الطائفتين، وقد أخذ هذا الأمر حقه، وليس هناك حديث سوى القدس والصليب والبلاد، والقدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم يبق منا إلا واحد. وأما البلاد فيعاد غلينا ما هو قاطع الأرد، وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له، وهو عندنا عظيم، فيمن به السلطان علينا ونصطلح، ونستريح من هذا التعب).
ولما وصلت الرسالة إلى السلطان استدعي أرباب المشورة في دولته، وشاورهم في الأمر، وانتهى التشاور إلى موقف حازم، إذ أرسل السلطان في جواب الرسالة يقول لملك الإنجليز: (القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم، فإنه مسرى نبينا، ومجتمع الملائكة، فلا تتصور أن ننزل عنه، ولا تقدر على التفريط بذلك بين المسلمين. وأما البلاد فهي أيضاً لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان طارئا عليها، لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الوقت، وما يقدركم الله على عمارة حجر منها مادام الحرب قائما، وما في أيدينا منها نأكل بحمد الله مغلة وننتفع به؛ وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة. ولا يجوز لنا أن نفرط فيها إلا لمصلحة راجعة للإسلام هي أوفى منها).(1020/20)
وفشل مشروع آخر للصلح عرضه ملك الإنجليز على العادل، إذ أراد أن يتزوج العادل بأخته، على أن يعطيها أخوها بلاد الساحل التي بيده من عكا إلى يافا وعسقلان وتكون ملكة الساحل، على أن يكون مستقر ملكها بالقدس، ويكون العادل ملك الساحل، وأن يسلم غليه صليب الصلبوت، وتكون القرى والحصون لطائفتين من فرسان الإفرنج هما الداوية والاسبتار، وأن يطلق أسرى الفرنج والمسلمين. وإذا أستقر الصلح على هذه القاعدة رحل ملك الإنجليز على بلاده. وقد قبل صلاح الدين هذا المشروع، إذ به تكون بلاد الشام كلها تحت سيطرة صلاح الدين وأخيه. ويقال إن سبب الفشل يعود إلى أن أخت الملك لم تقبل أن تتزوج من العادل لأنه مسلم، وظن ريتشارد أن العادل يقبل أن يتنصر يتمم هذا الزواج، ولهذا أبقى باب المفاوضات مفتوحاً.
وبرغم أن العادل لم يتنصر، ولم يتم الزواج، توثقت صلة المودة بين الملكين، وحدث في اجتماع تم بينهما أن سأل ريتشارد الملك العادل أن يلتمس من السلطان صلاح الدين الاجتماع به، فلما وصلت هذه الرسالة شاور السلطان الجماعة في الجواب عنها، وبدا له رأي ناجح موفق ذلك أنه قال: (الملوك إذا اجتمعوا يقبح منهم المخاصمة بعد ذلك، فإذا انقطع أمر حسن الاجتماع، والاجتماع لا يكون إلا لمفاوضة في مهم، وأنا لا أفهم بلسانك، وأنت لا تفهم بلساني، ولا بد من ترجمان بيننا نثق أنا وأنت به، فليكن ذلك الترجمان رسولاً حتى يستقر أمر وتستتب قاعدة، وعند ذلك يكون الاجتماع الذي يعقبه الوداد والمحبة). قال الرسول: ولما سمع ملك الإنجليز هذا الجواب استعظمه، وعلم أنه ليس من الهين أن يظفر بما يريد من السلطان. وكان صلاح الدين لا يرى الصلح مع الفرنج، ويؤمن بأن المصلحة في دوام الجهاد حتى يخرجوا من الساحل، ويعتقد أن الفرنج لا تؤمن غائلتهم، ويرى أن هذا واجبة في الحياة وتحدثه نفسه بأنه لو حدث به حادث الموت لا تكاد تجتمع هذه الجيوش التي تحت قيادته.
مضت الرسل بين الفريقين نتحدث في الصلح لتقرير قواعده، مع قيام الحرب بينهما، ولم يستطيع الطرفان أن يصلا إلى حل حاسم برغم كثرة الرسل، وكثرة ما عرض من مشروعات. وقر رأي العدو على مهاجمة القدس والاستيلاء عليها، ومضى بعد المدة لذلك، فأحضر السلطان الأمراء عنده، وقر رأيهم على الاجتماع عند الصخرة والتحالف على(1020/21)
الموت. غير أن الفرنج وقد أشرفوا على القدس حدث بينهم خلاف، دفعهم إلى أن يعودوا ناكصين على أعقابهم، وفرح المسلمون بهذه العودة.
وتجدد حديث الصلح كرة ثانية، وأرسل ملك الإنجليز رسولاً يقول: قد هلكنا نحن وأنتم، والأصلح حقن الدماء، ولا ينبغي أن تعتقد أن ذلك لضعف مني، بل للمصلحة، ولا تفتر بتأخري عن منزلي، فالكبش يتأخر لينطح).
وأرسل رسالة أخرى فيها رفق وخضوع ونزول عن كثير مما كان يطمع فيه، ويقول له في هذه الرسالة: (إني راغب في مودتك وصداقتك، وأنه لا يريد أن يكون فرعون بملك الأرض، ولا يظن ذلك فيه، ولا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم، ولا يجوز لي أن أهلك الإفرنج كلهم، وهذا ابن أختي الكندهري قد ملكته هذه الديار، وسلمته إليك، ليكون هو وعسكره تحت حكمك ولو استدعيتهم إلى الشنق سمعوا وأطاعوا. ويقول: إن جماعة من الرهبان المنقطعين قد طلبوا منك كنائس فما بخلت عليهم بها، وأنا أطلب منك كنيسة، وتلك الأمور التي كانت تضيق صدرك مما كان يجري في المراسلة مع الملك العادل تركتها وأعرضت عنها، ولو أعطيتني خربة قبلتها). فلما سمع السلطان هذه الرسالة جمع أرباب مشورته فأجمعوا على المحاسنة وعقد الصلح لما كان قد أخذ المسلمين من الضجر والتعب. فكتب صلاح الدين إليه: (إذا دخلت معنا هذا الدخول فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. إن ابن أختك يكون عندي كبعض أولادي، وسيبلغك ما أفعل معه. . . وعسقلان وما وراءها يكون خرابا لا لنا ولا لكم. . .) وقد كاد الصلح يتم لولا إصرار ملك الإنجليز على أن تبقى عسقلان وبعض البلاد عامرة بيده، فقد أرسل إلى صلاح الدين رسالة يقول له فيها: (إن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة عامرة، وأي قدر لها في ملكه وعظمتك، وما من سبب لإصرار عليها، إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها، وقد ترك القدس بالكلية، فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس، إلا في القيامة وحدها، فأنت تترك له هذه البلاد، ويكون الصلح عاما، فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون وإلى إنطاكية، ولكم ما في أيديكم، وينتظم الحال، وإن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنونه من الرواح، ولا يمكنه مخالفتهم). وانقطعت مفاوضات الصلح عندما أعلن الملك أنه لا يمكن أن يخرب من عسقلان حجرا واحداً.(1020/22)
استعد صلاح الدين للحرب، ومضى بجيشه إلى يافا وافتتحها وكانت قلعتها على وشك أن تسقط في يده لولا أن أنجدها جيش الفرنج، وقد أعجب ملك الإنجليز بالسرعة التي استولى بها صلاح الدين على يافا، وقال: ما ظننت أنه يأخذ يافا في شهرين، فكيف أخذها في يومين. وأرسل رسولاً إلى السلطان يقول له: (بالله عليك أجب سؤالي في الصلح، فهذا الأمر لابد له من آخر، وقد هلكت بلادي وراء البحر، وما في دوام هذا مصلحة لنا ولا لكم) فأجابه السلطان: (إنك كنت طلبت الصلح أولاً على قاعدة، وكان الحديث في يافا وعسقلان، والآن قد خرجت يافا، فيكون لك من صور إلى قيسارية)؛ فجاء رسول الملك يقول: (إن قاعدة الإفرنج أنه إذا أعطى واحد لواحد بلدا صار تبعه وغلامه، وأنا أطلب منك هذين البلدين: يافا وعسقلان، وتكون عساكرهما في خدمتك دائماً، وإذا احتجت إلى، وصلت إليك في أسرع وقت، وخدمتك كما تعلم خدمتي)، فأجابه صلاح الدين: (حيث دخلت هذا المدخل، فأنا أجيبك بأن نجعل هذين البلدين قسمين: أحدهما لك، وهو يافا وما وراءها، والثاني لي، وهو عسقلان وما وراءها)؛ فأرسل إليه الملك يشكره على إعطائه يافا، ويجدد السؤال في عسقلان، ويقول: (إنه إن وقع الصلح في هذه الأيام سار إلى بلاده، ولا يحتاج أن يشتي هاهنا)، فأجابه السلطان في الحال إجابة المؤمن الواثق بقوله: (أما النزول عن عسقلان فلا سبيل إليه وأما تشتيه هاهنا، فلا بد منها، لأنه قد استولى على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، كما تؤخذ أيضاً إذا أقام، إن شاء الله تعالى. وإذا سهل عليه أن يشتي ها هنا، ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين وهو شاب في عنفوان شبابه، ووقت اقتناص لذاته، أفلا يسهل على أن أشتي وأصيف، وأنا في وسط بلادي، وعندي أولادي وأهلي، ويأتي إلى ما أريد، وأنا رجل شيخ، قد كرهت لذات الدنيا، وشبعت منها، ورفضتها عني، والعسكر الذي يكون عندي في الشتاء غير العسكر الذي يكون عندي في الصيف، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى يعطي الله النصر لمن يشاء).
ومضى السلطان يطلب فرصة يحارب فيها العدو، ولكن الملل كان قد دب إلى عسكر الفريقين، وكانت قد جدت أمور تستدعي عودة ملك الإنجليز إلى بلاده، فأرسل رسولاً إلى الملك العادل، وقال له: قل لأخي الملك العادل يبصر كيف يتوصل إلى السلطان في معنى(1020/23)
الصلح، ويستوهب لي منه عسقلان، وأمضي أنا، ويبقى هو في هذه الشرذمة اليسيرة يأخذ البلاد منهم، فليس لي غرض إلا إقامة جاهي بين الإفرنج، وإن لم ينزل السلطان عن عسقلان، فيأخذ لي منه عوضا عن خسارتي على عمارة سورها.
فلما سمع السلطان ذلك سيرهم إلى الملك العادل، وأسر إلى ثقة عنده أن يمضي إلى الملك العال، ويقول له: أن نزلوا عن عسقلان فصالحهم، فأن العسكر قد ضجروا من ملازمة القتال، والنفقات قد قلت.
وانتهت المفاوضات بين العادل والملك بالنزول عن عسقلان وعن طلب العوض عنها، وتم توقيع المعاهدة على أن يسود السلام ثلاث سنين من تاريخها وهو الأربعاء الثاني والعشرون من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ونادى المنادي في الأسواق: ألا إن الصلح قد انتظم في سائر بلادهم، فمن شاء من بلادهم أن يدخل إلى بلادنا فليفعل، ومن شاء من بلادنا أن يدخل إلى بلادهم فليفعل. قال ابن شداد وكان حاضرا ذلك اليوم: (وكان يوماً مشهوداً، غشى الناس من الطائفتين فيه من الفرح والسرور مالا يعلمه إلا الله تعالى).
أما موقف صلاح الدين من الصلح فقد أوضحه ابن
شداد بقوله: (إن الصلح لم يكن من إيثاره، فإنه قال
لي في بعض محاوراته في الصلح: أخاف أن
أصالح، وما أدري أي شيء يكون مني، فيقوى هذا
العدو، وقد بقيت لهم هذه البلاد، فيخرجوا لاسترداد
بقية بلادهم، ونرى كل واحد من هؤلاء الجماعة قد
قعد في رأس قلعته، يعني حصنه، وقال: لا أنزل
فيهلك المسلمون. هذا كلامه، وكان كما قال. لكه(1020/24)
رأى المصلحة في الصلح، لسآمة العسكر، وتظاهرهم
بالمخالفة، وكانت مصلحته في علم الله تعالى، فإنه
اتفقت وفاته بعيد الصلح، ولو كان اتقفق ذلك في أثناء
الوقعات لكان الإسلام على خطر، فما كان الصلح إلا
توفيقا وسعادة له).
أمضى صلاح الدين معاهدة الصلح مرغماً، لما شاهده في الجند من ملل، دل عليه إحجامهم عن منازلة العدو في مواقف عدة، وكان يأمل أن يجدد قواه في هذه المدة من السلم ليستخلص ما بقي في يد الفرنج، وبرغم طول الجهاد ومشقات القتال هذه المدة الطويلة في حرب الفرنج، وقف صلاح الدين للفرنج وقفات عنيفة حطمت آمالهم، فلم يظفروا بغير امتلاك عكا، واضطروا إلى النزول على ما شرطه السلطان، وفي ذلك يقول ابن الساعاتي بمدح صلاح الدين:
سل عنه قلب الأنكتير، فإن في ... خفقانه ما شئت من أنبائه
لولاك أم البيت غير مدافع ... وأسال سيل نداه في بطحائه
وبكت جفون القدس ثانية دما ... لترنم الناقوس في أفنائه
وكان إعجاب مؤرخي المسلمين عظيماً بصبر الإنجليز، وسياستهم في اللين حينا والشدة حينا آخر، ولكن غلب سياستهم إيمان صلاح الدين وقوة ثباته ورباطه جنانه.
أحمد أحمد بدوي(1020/25)
ذكرى الدكتور مشرفة
أول عميد مصري لكلية علوم فؤاد
للدكتور عطية مصطفى مشرفة
دار الفلك دورته وتعاقبت الأيام والليالي فنسخ منها الزمن سنة
أخرى؛ ففي مثل هذا اليوم (161) منذ ثلاث سنوات استرد الله
وديعته العالية عندما اقتحم الموت باب عالم مصر الفذ وهو
يرتشف قدحاً من الشاي ويستعد لمواصلة أبحاثه التي لم
تحتجب نورها إلا بموته.
لم يتعب الموت في أن يفك عن روحه قيد الجسد لأن الجسد كان ممزقاً من طول ما أنهكه صاحبه من نضال مر سببه ضمير حي ونشاط جم وذهن موهوب فصعدت روحه إلى ربها في سلام يشبه وميض البرق.
وعند هذا الباب الذي دخله الموت وخرج في ثوان معدودات يقف التاريخ طويلا ليسجل آثاره ومناقبه ومكانته العلمية المرموقة.
كان الفقيد الكريم أول رئيس لاتحاد الجامعة فبث في برلمانه الصغير المثل العليا فتخرج فيه أعضاء عديدون كان منهم الوزراء الصالحون وأعضاء البرلمان المنتجون في برلمان الأمة.
وقد لمست جهده في أولئك الرجال الذين كونهم ووجهم وبث فيهم من روحه.
وكان رحمه الله يرى أن الدراسة الجامعية يجب أن تعتمد على مجهود الطالب في البحث والكلام. وما الأستاذ إلا مرشد وموجه وموضح، لذلك كان الاطلاع هو الطريق الصحيح لميادين العلوم وآفاق البحث والكشف في رأيه؛ فربى في طلبه ملكات حب العلم والتعميق فيه وحب البحث العلمي، وبذلك أخرج للبلاد فيلقا من العلماء الباحثين الذين يطلبون الحقائق العلمية لذاتها. وكثيرا ما سمعته يقول (خير للكلية أن تخرج عالما كاملاً من أن تخرج كثيرين أنصاف العلماء) وكانت خسارته على البلاد في تلك النهضة العلمية التي(1020/26)
غرس شجرتها في كلية العلوم فتغلغلت جذورها وامتدت أعوادها وانتشرت ظلالها فنهضت حتى وصلت إلى مكانها المرموق في الأوساط العلمية بما أفاض عليها من عبقريته وسعة إطلاعه وخصب ثقافته والتي لم يرض - طيب الله ثراه - أن يكون لأحد عليها من سلطان سوى التقاليد الجامعية الحرة مما زاد فيها مشعل العلم تألقاً وتوهجاً وجعل هذه التقاليد النبراس المضيء والشعلة الوهاجة؛ وبذلك أنشأ جيلا من غرس يديه لا يمكن أن يثبط أحد من همته وعزيمته أو يثنيه عن حماسته وبغيته لأنه قد أتخذ قدوة له.
واستطعت أن أرى مجهوده في الحركة العلمية التي بناها على أكتافه وتعهد مراحل تطورها مرحلة بعد مرحلة ورفع اسمها فيها وراء البحار بما بث فيها من روح البحث الصحيح وبذلك أنشأ مدرسة في البحث العلمي العميق يرجع إليها الفضل في شق الطريق لإيجاد طبقة فريدة من العلماء ورجال الفكر الممتازين لأنه بناها على أساس من الدأب والجد والاستقامة وشيدها بوسائله المنتجة المثمرة فسارت على السنن القويمة ونهجت المنتهج الكريم فوسائلها مقصورة على صحة الحجة وسلامة البرهان ووضوح الدليل وبذلك أحدثت هزات عنيفة في المجتمع العلمي من الحيوية والنشاط وأصبحت كالنور الذي يشق حجب الظلمات.
ومن كلماته المأثورة التي تعتبر دستوراً للتقاليد الجامعية قوله - رحمه الله - (إني لا أطلب من القادة والحكام في مصر سوى ترك الجامعة تؤدي رسالتها السامية بعيدة عن الميول السياسية وترك الطلبة لإتمام دراستهم في هدوء واستقرار).
وقوله (إن أفضل الزعماء والكبراء عندي هو من يؤدي للجامعة مساعدة ويشد أزر العلم ويعادون العلماء على أداء رسالاتهم في هدوء ويحفظ لهم كرامتهم واستقلالهم) وتلك مبادئ سامية نورها في عهدنا الجديد.
وترن الآن في أدنى بعض ما أورده بعض أعلام الفكر والرأي في جنبات قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة في حفلة تأبينه فأستعيد منها قول أستاذي الجليل الدكتور طه حسين أطال الله بقاءه (فارقنا مشرفة فلم نمتحن فيما كان قلوبنا تضمر من ود وحب، ولم نمتحن فيما كان نستمتع به من زمالة وإخاء فحسب، ولكن مصر كلها امتحنت في الآفاق، وشر المحن هو هذه المحن التي لا سبيل إلى تعويضها ولا إلى العزاء عنها، فأمثال مشرفة من النابغين(1020/27)
النابهين الذين يرفعون ذكر أوطانهم والذين يضيفون إلى الكنوز الإنسانية في العلم والمعرفة، أمثلة قليلون إذا خسرهم الوطن فلا بد من صبر وانتظار متصل قبل أن نظفر بمن يخلفهم، وإذا فقدهم العلم فلا بد له كذلك من انتظار حتى يجد ما سيتم ما بدأه).
ولا تزال كلمة أعضاء مجلس كليته ترن في أذني عن الفقيد العظيم اعترافاً بجميله على كلية العلوم حيث يقولون (كلية العلوم التي بذل الفقيد من أجلها الكثير لإعلاء شأنها وتدعيم أركانها لن ننسى فضله عليها، وستبقى مبادئه وتعاليمه التي رسمها لها نبراساً تهتدي به، وسيظل اسمه خالداً رمزاً على النبوغ والتضحية، ومثلاً رفيعاً للقيام بالواجب وتحمل المسئولية والتفاني في خدمة العلم والعلماء).
ويكفي للدلالة على مكانة الفقيد الرفيعة بين مصاف العلماء في الدنيا أنه كان أحد الباحثين القلائل في الذرة، وممن العلماء القلائل الذين يفهمون النظرية النسبية حتى أن السير أوين رتشاردسون البحاثة الكبير في العلوم الرياضية قال عقب موت الفقيد (إنه كان من أعظم علماء الطبيعة الرياضيين البارزين في العالم وإن وفاته في هذه السن المبكرة جاءت خسارة لا تقدر للعلم لا في مصر وحدها بل في جميع أنحاء العالم أيضا).
فإن غاب نجمه عن الناظرين فهو لا يزال من وراء الأفق سيبث أشعته في قلوب من آمنوا برسالته، وهو وإن همه قلبه فإن ذكراه العاطرة لا تزال تملأ الوجود.
فلتذهب سيرته العاطرة في التاريخ قدوة مثلى يفخر بها المصريون جيلا بعد جيل لأن اسمه سوف يبقى خالداً ما بقي في مصر جيل يؤمن بالبحث العلمي وفائدته.
وفي ذمة الله هذا الطراز النادر الكريم من الرجولة والوفاء والعلم.
دكتور عطية مصطفى مشرفة(1020/28)
الرسالة وإصلاح الأزهر
للأستاذ محمد رجب البيومي
كتبت بالعدد الممتاز الماضي كلمة موجزة عن اثر الرسالة - مدى سنواتها العشرين - في العالم العربي أدبيا واجتماعيا ودينيا، وكان من الحتم الأكيد حينذاك أن أوضح ما قالت به من جهود في إصلاح الأزهر، فهو معقل الإسلام، ومنارة الأدب، وموئل العروبة، غير أني أردت أن أفرد لذلك مقالا خاصا، إذ أن الحديث عن الموضوع المتشعب يحتاج إلى بعض التفصيل.
والحق أن الرسالة وقد أنشأها صاحبها لإيقاظ الوعي الأدبي، وبعث الروح الإسلامي، وإحياء المجد العربي، كانت ترى الأزهر حقلا خصيبا لتنمية ما ترمي إليه من غايات، فهو أفسح ميدان لتربية الشباب المسلم، المعتز بأرومته العريقة، وتقاليده الكريمة، ودينه الأصيل، وهو عدو الاحتلال الجاثم على ربوع الشرق الإسلامي، يناوئه بسلاح الدين، ويهدمه بمعاول الأدب، ويغزوه بمنطق الثقافة، ويزعجه بإدكاء الحمية والغيرة والإباء في النفوس، فلا بد لمصلحين أن يساهموا في بنائه الراسخ، ليستكمل أداة التعليم، ويساير حاجة العصر، وإذ ذاك ينهض بالشرق - كما يقول الأستاذ الزيات - نهضة أصيلة حرة تنشأ من قراء، وتقوم على مزاياه، وتتغلغل في أصوله!.
وهناك صلة قوية ثابتة بين الرسالة والأزهر، فالرسالة وهي في جوهرها صحيفة الأدب العربي الأصيل، ترى (أن الدين الإسلامي ينفرد عن سائر الأديان باعتماد دعوته على الأدب، وقيام معجزته على البلاغة، والدين الإسلامي والأدب العربي متلازمان تلازم المعنى واللفظ والفكر والأداء، ولا يتسنى لرجل الهداية والإصلاح أن يبلغ دعوة محمد، إلا إذا تمكن منهما تمكن الجاحظ ومحمد عبدة وغيرهما من أئمة الأدب والدين) وإذا كان الأزهر قائد الدعوة إلى الإسلام فهو يلتقي بالرسالة في حلقة البأس وميدان الجهاد.
وأنت تتصفح أعداد الرسالة في سنواتها العشرين فلا تكاد تجد سنة تمر دون أن تثار على صفحاتها معركة الأزهر والإصلاح. ولو أن باحثا عكف على دراسة هذه البحوث الخاصة بالأزهر، لأمكنه أن يقدم - على ضوئها البصيرة - لولاة الأمر في مصر، دستوراً دقيقاً للإصلاح الأزهري المأمول، قد اشتركت في تقنينه عقول ممتازة، وأقلام حرة جريئة.(1020/29)
والرسالة بعد أحفل الصحف الأدبية في الشرق آثار أدباء الأزهر وشعرائه، ولا يخلو عدد من أعدادها التي تربو على الألف رغم تنوع مشاربها، واختلاف مناحيها، من أقلام أزهرية تعالج شؤون الأدب والدين والتاريخ، مما يشهد بأثرها الواضح في تنشيط العقل الأزهري وتوجيهه.
وإذا كانت آراء الكتاب قد اختلفت قربا وبعدا في توجيه الإصلاح الأزهري على صفحات الرسالة، فأن صاحبها الكبير قد وضع للمشكلة الأزهرية حلولا مختلفة، أخذت تتبلور وتتضح، حتى اجتمعت أخيرا في حل حاسم جهر به ودعا إليه، وكان لحوله المختلفة - في سنواتها المتفرقة - صداها القوى المجلجل، فقد تناولها الكتاب بالنقد والتعليق، ودفعت كثيرا من الأقلام إلى المعارضة والتأييد، وسنعرض اليوم موجزاً دقيقاً لهذه الحلول، ليلم بها القارئ في أضيق نطاق، وله أن يرجع إلى أعداد الرسالة السابقة إن أراد الإسهاب والتفصيل.
لقد بدأ الأستاذ الزيات فجدد رسالة الأزهر، ووجهها إلى ثلاثة مناح:
(1) تنقية الإسلام من العقائد الواغلة، والمذاهب الباطلة، والعادات الدخيلة، وسبل ذلك ما يأتي:
(أ) تفسير القرآن على هدى الرواية الصحيحة، وفي ضوء العلم الصحيح، تفسيراً يجمع ما صح من أقوال السلف وما صلح من أقوال الخلف.
(ب) تأليف كتاب يجمع ما لا ريب فيه من أحاديث الرسول، ويستعان على شرحه وتبويبه بعلوم التاريخ والفلسفة والاجتماع.
(ج) تصنيف كتاب شامل للمذاهب الفقهية الصحيحة، فيوضح متنه مواد كالقانون، ثم يشرح شرحاً يستوعب الأصول والفروع (على أن تكون هذه الكتب الثلاثة مادة الدراسة، ومصدر الفتوى، ومرجع القضاء).
(2) إعداد الوعاظ والدعاة في الشرق الإسلامي من أهل اللسن والخلق والعلم وسبيل ذلك ما يأتي:
(أ) إمدادهم بالثقافة الحديثة واللغات الحية فوق التكوين الأزهري.
(ب) إيفادهم إلى الأمم الإسلامية البعيدة عن مواطن العروبة وهبط الوحي.(1020/30)
(ج) العناية اليقظة بالبعثات الإسلامية في الأزهر، فأصحابها أقدر على إرشاد قومهم باللغة والقدوة والنفوذ.
(3) جعل اللغة العربية لغة المسلمين كافة، فيكون لكل مسلم في الأرض لغتان، لغة لوطنه الأصغر، ولغة لوطنه الأكبر. وسبيل ذلك:
(أ) أن تحمل مشيخة الأزهر أقطاب الرأي في البلاد الإسلامية بالمفاوضة والائتمار على أن يجعلوا تعلم اللغة العربية إجباريا في مراحل التعليم المختلفة (ب) أن تتكفل بإرسال المعلمين من المتخصصين بالأزهر ليضطلعوا بهذه الرسالة.
هذه هي رسالة الأزهر كما حددها الأستاذ الزيات، وقد كان المظنون أن هذه الجامعة العريقة ستسعى إلى تحقيقها، لتتم لها الهيمنة الروحية على العالم الإسلامي، وخاصة أن الأستاذ المراغي كان يتقلد مشيخة الأزهر، وفي وسعه أن يرتفع به إلى الأوج، لو خلصت النية، وصحت العزيمة، فقد عقد الشباب الأزهري على جهوده المرتقبة، آمالا واسعة عريضة، واندفاع الشباب والشيوخ - إلا قليلاً - يؤيد حركة البعث في الصحف والمجلات، وقد رأى الأستاذ الزيات أن الفرصة مواتية لحركة الإصلاح ففسح لها في صحيفته مكاناً طيباً، واندفاع مرة أخرى يحلل ويعلل، ويمهد أسباب الوثوب والتقدم والاستقرار، وقد لخص علاجه في أمرين اثنين ينهضان بالأزهر الحديث، وينقذانه مما يتكاءده من التقاليد البالية، والجمود الميت، هذان الأمران هما: إعداد المعلم وتأليف الكتاب.
والمعلم كما يقول صاحب الرسالة لا بد أن يكون متمكنا في علوم الدين وصاحب ملكة في الفقه، وأن يكون متبحراً في فنون العربية، وصاحب قريحة في الأدب، وأن يأخذ بعد هذا وهذا من ثقافة الغرب بأوفر نصيب. أما الكتاب فلا يتيسر إلا بعد إعداد المعلم، لأنه هو وحده الذي يدري كيف يؤلفه ويدرسه (ومتى توفر للأزهر المعلم والكتاب في ظل هذه الإدارة البصيرة، صح لك أن تقول إن مصر ظفرت بجامعتها الصحيحة التي تدخل المدينة الغربية في الإسلام، وتجلو الحضارة الشرقية للغرب، وتصفى الدين من شوائب البدع والشبه والركاكة والعجمة).
ثم مضت الأيام خلف الأيام!! والأزهر على حالته الراهنة لا يأخذ بإصلاح ولا ينهض إلى رسالة. ومن الإنصاف للتاريخ أن نقول إن الأستاذ المراغي قد نحى بالأزهر في هذه(1020/31)
الآونة ناحية عصفت بآماله، وبددت شمله، فقد اندفع به التيار الحزبي البغيض لينصر فريقا على فريق! ولم يلتفت إلى إصلاحه وتوجيهه، بعد أن عقدت عليه الآمال، وامتدت غليه الأعناق،! وأصبح الشباب الأزهري المتوثب إلى الرقي والنهضة حائراً لا يجد من يأخذ بناصره، ويتولى زمام أمره، سوى أفراد من رجاله لا يملكون غير الخطب والمقالات، بل إنه وجد من يفت في عضده ويثبط همته، (من شيوخ غاية أمرهم أن يتزبوا بالورع ويتفقهوا في العلوم، بتشقيق الجمل، وتوليد الألفاظ، وتعديد الفروض) وما زال الفساد السياسي من جهة، والعصبية المعهدية بين الأزهر والجامعة من جهة أخرى ينهشان في هذا المعهد التليد، ويفرقان أبناء الثقافة الواحدة شيعاً وأحزابا، حتى تأكد المفكرون أن الأزهر لا يستطيع أن يصلح نفسه بنفسه، وأنه محتاج إلى خلق جديد، وسيطرة خارجية، ترفعه عن النزوات الشخصية، والإسفاف الحزبي، وتعود به إلى حظيرة الدرس والفضيلة والتثقيف، لذلك قام الأستاذ الزيات بدعوة جريئة إلى إصلاح الأزهر، فتقدم على صفحات الرسالة باقتراح حاسم يتضمن ما يلي:
1 - أن يلغي التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية، ليلقي بمقاليده إلى وزارة المعارف فتقسمه على الوجه الذي تراه، وذلك بدء الوحدة الثقافية.
2 - أن تتحول المعاهد الثانوية الدينية إلى مدارس ثانوية لحاملي الشهادات الابتدائية العامة، وتعلم فيها الرياضيات والعلوم وفق منهج الوزارة، وفي أول السنة الثالثة يتجه طلابها اتجاهين مختلفين: إما إلى الدين وعلومه، أو إلى اللغة وفنونها، فإذا انقضت السنوات الخمس تقدم طلاب الشعبتين إلى امتحان الشهادة الثانوية مع سائر إخوانهم في جميع المدارس، يمتحنون معهم فيما يتفقون فيه، وينفردون انفراد شعب التوجيه فيما اختصوا به.
3 - أن يقتصر في التعليم الجامعي بالأزهر على كليتين اثنتين: كلية الدين وتشمل كليتي الشريعة والأصول، وكلية اللغة وتشمل كلية اللغة العربية ودار العلوم.
وقد أثار هذا الاقتراح جدلاً كبيراً بين الأقلام ما بين مؤيد ومعارض، وقد هاجمه من كبار رجال الأزهر المغفور له الأستاذ الغمراوي بمجلة الرسالة مهاجمة خطابية عاطفية، كما عارضه الأستاذ محمد عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر الآن بمجلة رسالة الإسلام معارضة(1020/32)
تقوم على الرفض والإنكار، دون أن تحلل البواعث الشافية، والأسباب المقنعة. وأدلى غيرهما كالأستاذ العقاد والشيخ المدني بآراء تتفق وتختلف، وتلين وتشتد. وتتلخص اعتراضات المعارضين في شبه يسيرة أوجد لها الأستاذ الزيات ما يلزم من الحلول والتفنيد.
فهناك من يقول إن المواد المدنية على نهجها المعروف بمدارس الوزارة ستغطي على المواد الدينية. وهناك ثان يقول إن تحفيظ القرآن الكريم لا يمكن أن يتم على وجهه الأكمل، إذا كان القسم الابتدائي عاما للجميع. وهناك ثالث يقول إن هذا الاقتراح سيحرم الطالب ست سنوات كان يقضيها في دراسة اللغة والدين. ورائع يرى أن الاعتماد على الشهادة الابتدائية العامة، في تغذية الأقسام الثانوية الأزهرية، يعرضها للهزال والجذب، لانصراف التلاميذ عنها إلى المدارس الأخرى!!.
هذه هي الاعتراضات الموجهة إلى الاقتراح. وقد أجاب عنها الأستاذ الزيات إجابة شافية بالرسالة، فبين أولا أنه لا خوف من طغيان المواد المدنية على غيرها ما دام الوقت متسعاً، والأستاذ كفؤا، والكتاب مهذبا. وبين ثانياً أن القرآن الكريم يمكن أن يحفظ بسهولة إذا فرضته إدارة الأزهر على كل طالب في كل سنة من سني الدراسة في المدارس الأزهرية الثانوية. وأوضح ثالثاً أن المعاهد الدينية التي ستصير مدارس ثانوية ستظل تابعة للأزهر، خاضعة لإدارته، فله أن يفرض عليها ما شاء من الدراسات الدينية. كما بين أخيرا أن الاقتراح يقصر وظائف تدريس اللغة العربية والدين والأدب في جميع مدارس الأمة على الأزهر، فكل من يرغب في ممارسة أمر من هذه الأمور يجب أن يدخل الأقسام الثانوية الأزهرية، ليحقق رغبته؛ ولن يتعرض بعد ذلك للهزال والجدب.
وإذا كان صاحب الرسالة قد تقدم باقتراحه منذ سبع سنوات قبل أن تعم المجانية التعليم الثانوي بالمدارس، فإننا نرى أن الواقع الملموس بعد تعميم المجانية يدعو معارضي الاقتراح إلى النظر فيه من جديد نظرة عملية، إذ أن الأزهر بمجانية التعليم قد تعرض إلى زلزلة عنيفة صرفت عنه كثيراً من الطلاب، وأصبح يتسامح في شروط الانتساب تسامحاً جعله لا يدقق في حفظ القرآن جميعه، بله السن والقواعد الأولية للمعلومات. ولئن وجد في العامين الماضيين من توجه إليه ممن استعدوا لدخوله منذ طفولتهم الباكرة، فإنه لن يجد بعد(1020/33)
ذلك من يسارع إليه، إلا إذا منح ميزات كثيرة تبرز تفضيله على المدارس في نظر أولياء الأمور، وهيهات أن يكون ذاك، وهو بوضعه الراهن بعيد كل البعد عن الثقافة الحديثة، واللغات الحية، التي تفتح أبواب المستقبل ونوافذ الأمل للشباب.
على أن كثيرا من أساتذة الأزهر ورجاله يشاركون الزيات رأيه بكل قوة وتعضيد. وأذكر أن الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى قد كتب مقالا حارا بالأهرام (صيف سنة 1950) يقترح فيه ما سبق أن اقترحته الرسالة بشأن الأزهر، ففتح مجالا كبيرا للمناقشة وتلقت جريدة الأهرام سيلا من التأييد والمعارضة يوحي بالاهتمام والتقدير، بل إن الدكتور محمد يوسف موسى قد أعلن رأيه هذا في مجلة الأزهر وهي الصحيفة الرسمية للأزهريين، فلم يثر اعتراض الشيوخ آنذاك، أما خارج الأزهر فأكثر رجال التربية يضجون من الثنائية الحمقاء، التي تبدد وحدة الثقافة بين أبناء الأمة الواحدة. وقد دعا وزير المعارف الأستاذ إسماعيل محمود القباني في كتابه الذي أصدره أخيرا عن سياسة التعليم إلى توحيد الثقافة، وتحويل المعاهد الأزهرية إلى مدارس ابتدائية وثانوية، لتتم الوحدة الثقافية في وادي النيل، وأنا أرى أن السبيل ميسر إلى ذلك كل التيسير، إذ أن مدرسي اللغة العربية والدين - وهم أكثرية - في مدارس الوزارة من الأزهريين، كما أن مدرسي المواد المدنية في المعاهد الدينية من رجال التعليم بالوزارة، فلم يبق إلا أن تتحد البرامج وتتفق المناهج. وإذا كانت عناية المدارس الآن باللغة العربية والدين الإسلامي واهنة ضعيفة، فلنشد أزرها شداً قوياً متواصلاً، ليكون جميع التلاميذ مثقفين في دينهم ولغتهم دون تمييز بين فريق وفريق.
وأخيراً. . . هل من سميع؟!.
محمد رجب البيومي(1020/34)
شعر مختار
الإبريق
ألا أيها الإبريق مالك والصلف ... فما أنت بلور ولا أنت من صدف
وما أنت إلا كالأباريق كلها ... تراب مهبن قد ترقى إلى خزف
أرى لك أنفا شامخا غير أنه ... تلفح أثواب الغبار وما أنف
ومسته أيدي الأدنياء فما شكا ... ومصته أفواه الطغام فما وجف
وفيك اعتزاز ليس للديك مثله ... ولست بذي ريش تضاعف كالزغف
ولا لك صوت مثله يصدح الدحي ... وتهتف فيه الذكريات إذا هتف
وأنصت استوحيه شيئا يقوله ... كما يسكت الزوار في معرض التحف
وبعد ثوان خلت أني سمعته ... يثر مثل الشيخ أدركه الخرف
فقال (سقيت الناس) قلت له: أجل ... سقيتهم ماء السحاب الذي وكف
ودمع السواقي والعيون الذي جرى ... وماء الينابيع الذي قد صفا وشف
فقال: ليذكر فضلى الماء وليشد ... بمدحي، ألم أحمله؟ قلت: لك الشرف
فقال: ألم أحفظه؟ قلت - ظلمته ... فلولاه لم تنقل ولولاك ما وقف!
أيليا أبو ماضي
غزال!
دنوت فقلنا رؤى الحالمين ... فلما بعدت اتهمنا النظر
وحامت عليك بأضوائها ... مصابيح مثل عيون الزهر
تتبعن خطوط عبر الطريق ... كما يتحرى الدليل الأثر
مشى الحسن حولك في موكب ... يرف عليه لواء الظفر
تمثل صدرك سلطانه ... كجبار واد تحدى الخطر
بنهدين يستقبلان السماء ... كأنهما يرضعان القمر
تساميت عن لغة الكاتبين ... وروعة كل قصيد خطر
وجئنا إليك بملك الهوى ... وعرش القلوب وحكم القدر(1020/35)
بأفئدة، مثلما عربدت ... يد الريح في ورقات الشجر
وأنت بأفقك ساجي اللحاظ ... تطل على سبحات الفكر
علي محمود طه
هي. . والفراشة
حطت على غصن الشجيرة حين حطت من عل
ورقبتها. . . فوجدت مشبهة لمن لم تقبل. .
شقراء. . قبلها الصباح على جناح مرسل
مشغولة بكيانها. . عن عاشق متطفل
مزهوة. . في ثوبها الفل التقي. . بقر نفل
ورشيقة. . إن تستقر هنا. . وإن تتنقل
لهفى عليها وهي نافرة. . ولم تتمهل
لهفي عليها. . بل عليك تلهفي. . ولتسألي. .
ولتسألي عيني التي عن (ساعتي) لم تغفل
علقت بعقربها. . تضيق بسيره المتمهل
ترنو. . وترنو. . ثم تكشف أنه لم ينقل!
ولتسألي الترب الذي أبليته بتنقلي. .
ولتسألي نظراتهم. . لما وقفت بمعزل
يلقونها في حدة وكأنهم من عذلي!
أ (فراشتي). . عودي إلى. . فوقفتي لم تكمل
عندي رحيق البرعم الحاني. . وهمس السنبل
عندي رفيف النسمة النشوى. . وشدو الجدول
عندي من الفجر الندي مشاعر. . لم تجهل!
عندي الربيع. . وما الربيع سوى صباي. . فأقبلي. .
محمد محمود عماد(1020/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
بودلير في رأي سارتر
في العدد الأسبق من الرسالة باب (من هنا ومن هناك) كلمة عن (تحديد التراث الأوربي في دراسة أعلامه) للكاتب الأمريكي ويليام باريت. . قال الكاتب الأمريكي في سياق هذه الكلمة وهو يشير إلى الشاعر الفرنسي شارل بودلير: (أما بودلير فالرأي بين النقاد السكسونيين وفي طليعتهم الشاعر العظيم ت. س إليوت أن بودلير في قرارته شاعر مسيحي برغم ما يشتم في كتاباته من إلحاد. وجدير بالذكر أن جان بول سارتر الفرنسي يخالف النقاد السكسونيين في (مسيحية) بودلير. وسارتر في دراسته الأخيرة يجرد بودلير من معظم المزايا الأدبية والروحية التي وفرت له مكانته المرموقة في الأدب الغربي الحديث!).
هذه الفقرة التي نقلتها الرسالة عن الكاتب الأمريكي وهو في معرض الحديث عن رأي سارتر في بودلير، كانت مسرفة في الإيجاز بحيث لا يخرج منها القارئ بتلك المقدمات التي بنى عليها الكاتب الفرنسي رأيه في مواطنه الشاعر. . لماذا خالف سارتر النقاد ي (مسيحية) بودلير ولماذا جرده من معظم المزايا الأدبية والروحية؟ هذا هو السؤال الذي يحتاج الجواب عنه شيء من الإفاضة أو شيء من افسهاب! أما نحن فقد تناولنا هذا الموضوع يوما بالتحليل والعرض وكان ذلك منذ سنوات ثلاث، حيث قمنا إلى القراء تلخيصاً أمنياً لتلك الدراسة النفسية المحلقة التي تضمنها كتاب سارتر عن بودلير. . ولا مناص من أن نعود اليوم إلى بعض ما قلناه بالأمس، لأن هناك فريقا من القراء لم يطع على هذا الكتاب أو هذه الدراسة، ولأن هناك فريقاً آخر قد فاته أن ينظر فيما قدمناه من عرض لها وتحليل. . وكلا الفريقين يستطيع في ضوء هذه العودة التي تطوي بها الأعوام أن يفتح باب المعرفة من جديد؛ معرفة رأي الكاتب الفرنسي في مواطنه الشاعر وهو الرأي الذي يخالف به كل ما ذهب إليه النقاد!.
من هو بودلير في رأي سارتر؟ أنه الرجل الذي كان يفتش عن الآلام في كل مكان، ويسعى إليها سعيا متواصلاً يثور عليها آخر الأمر تلك الثورة السلبية العاجزة التي لا تدفع(1020/38)
شراً ولا تدرأ خطيئة. . كان مثالياً بينه وبين نفسه، ولكنها المثالية القاصرة على عالم الذهن وحده لا تكاد تتعداه. وهو في (وجوده الذهني) إنسان مترفع عن كل ما يخدش الكرامة ويشين الخلق ويهبط بالسمعة إلى حمأة الموبقات، وهو في (وجوده الواقعي) إنسان غارق في لجج الإثم ضال في متاهات الغي متخبط في ظلام الوزر والمعصية! يدعو إلى الشيء ولا ينفذه، ويرسم الطريق ولا يسير فيه، ويضع لحياته خط سير هو أول المنحرفين عنه والخارجين عليه. . يحب الوحدة ويتوهم أن في ظلالها راحة نفسه ونعيم دنياه، ولكي يظفر بها فلا بأس من أن ينفر منه الناس وأن يبغضهم فيه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يرمي شخصه بأقبح التهم وينعت خلقه بأشنع النعوت، ولا ضير من أن يشيع عن نفسه أنه قتل أباه وانحدر من الشذوذ الجنسي إلى أدنأ بؤرة وأحط مهاويه. . كل هذا ليحقق لنفسه تلك الوحدة المنشودة التي يخلو فيها إلى هواجسه بعيداً عن الناس!.
ومع ذلك فما أكثر ما يضيق بهذه الوحدة ويفزع من أشباحها الرهيبة ويفر من ظلالها الخانقة! وهو، ذلك المخلوق الذي يسمو (بأفكاره) إلى مدارج العلاقة الجنسية النظيفة، تراه يهبط (بأفعاله) إلى أقذار ما يمكن أن تلحقه تلك العلاقة بإنسان. . تراه يتصل بإحدى العاهرات ذلك الاتصال الشائن الذي يخرج منه أخبث الأمراض وأفدح العلل ثم لا يحاول أن يقصد إلى طبيب ليلتمس لجسمه المنهك، أي وسيلة من وسائل البرء والشفاء! وهو، ذلك الرجل العاجز عن تصريف أموره، المشلول الإرادة في معركة الحياة، يسعى عن طيب خاطر إلى من يشرف عليه ويرعاه؛ حتى إذا وجد (مجلس العائلة) أو مجلس الوصاية ليشرف على هذا الرجل الذي يفر من المسئوليات الضخام وغير الضخام، تراه يثور على هؤلاء (الجلادين) الذين يذيقونه الذل ويسومونه سوء العذاب! هو، ذلك الفنان الذي كان يتطلع إلى أن يظفر بمكانه بين الأعلام من أعضاء الأكاديمية الفرنسية، تراه يعبر كل درب يمكن أن يباعد بينه وبين المكان المرموق. وأعجب العجب أنه كان ينشد من كل قلبه مثل هذا الإخفاق! وهو، ذلك الشاعر الذي يخرج للناس يوما ديوانا من الشعر يطلق عليه (أزهار الشر) ليقف بسببه في ساحة القضاء. ترى أكان يهدف من وراء هذا الشعر إلى مؤازرة الذين ينادون بمذهب (الفن للفن) أم كان يهدف إلى شيء آخر تتردد أصداؤه بين جنبيه وترسب في قرار سحيق؟ أغلب الظن أنه كان يحب أن يكون منبوذا من(1020/39)
الناس تلاحقه اللعنة في كل عمل من أعماله الأدبية والإنسانية. . وإلا لما تعمد أن يطالع الناس بهذا الشعر الذي عرضه للإدانة من جانب القضاء الفرنسي؛ وهي إدانة مادية ومعنوية!.
هو إذن في رأي سارتر رجل عاجز مضيع يحرك يديه في شتى الاتجاهات ليثير من حوله الزوابع والأعاصير، حتى إذا هبت عليه من ناحية وعصفت بكيانه وزلزلت وجوده وقف حيالها مكتوف اليدين. . رجل عاش ولكن لم يستطع أن يفسر لنا تلك الحياة التي عاشها ولا أن يكيف لنا هذا الوجود الذي خلق فيه! رجل كون مزاجه بنفسه واختار مصيره يرضاه، ثم خانته القدرة على أن يخرج من أخطائه وآثامه بمذهب يحدد ذاتيته في زحمة الوجود أو يبرر مكانه في غمار الحياة! هذه الشخصية العجيبة الغريبة المتقلبة تحتاج إلى مفتاح يعالج أبوابها المغلقة على فنون من الطلاسم والأسرار وليس هناك من كاتب غير سارتر يقدم إلينا هذا المفتاح.
بودلير الذي كان يفتش عن الآلام كان يريد أن يتعذب والدليل على ذلك يمكن أن يستخلص من أخباره وآثاره؛ أخباره الخاصة وآثاره الفنية، ولا عجب في ذلك من رجل كان يقول عن نفسه ويردد ما يقول: (أنا الجرح وأنا السكين)!. . كان يسعى إلى صهر روحه في بوتقة الألم والعذاب، وكان يحلو له أن يتأوه كلما أحس في نفسه حاجة إلى الثورة. كان يبغي أن (يضطهد) نفسه ليكون اضطهاده لنفسه عقاباً لها؛ عقابا على عجزه وضياعه وما اقترف في حقها من أخطاء وآثام! أكان ذلك من جانبه لونا من العقاب الذاتي الناتج عن تغلغل النزعة الدينية المسيحية بين جوانحه كما ذهب إلى ذلك معظم النقاد؟ إن سارتر ينبذ هذا التفسير المتهافت الذي لا يستطيع أن يقف على قدميه؛ لأن هناك أدباء أشربت نفوسهم تلك النزعة الدينية منذ المولد وخلال النشأة والتربية ثم ساروا ردحا من الزمن في نفس الطريق الشاذ الذي سار فيه، ومع ذلك فما أبعد الشقة بينهم وبين بودلير في لقاء الحياة بمثل ما لقيها به من عقبات للنفس واضطهاد للذات!.
إن المشكلة إذن ليست مشكلة تلك النزعة الدينية من قريب ولا بعيد، ولكنها المشكلة التي تتعلق بمركب النقص ومركب التعويض. . رجل كان يشعر في أعماقه أنه لا وجود له أو أن وجوده كان أشبه بالعدم؛ ومن هنا راح يلتمس شتى السبل ليقنع نفسه أو ليخدعها بأنه(1020/40)
موجود. وهذه الخطوط المتنافرة التي كانت تحدد اتجاهات مصيره في الحياة تعود آخر الأمر لتلتقي في نقطة ارتكاز (وجودية) عمادها الكبرياء. . كبرياء الذات المهزومة!.
ما أشبه جوانب الشخصية البودليرية بعدد من (الغرف النفسية) التي تفتحا كلها بمفتاح واحد: غرفة للألم، وتسلمك هذه إلى غرفة أخرى للعذاب، وتسلمك هذه إلى غرفة ثالثة للعقاب، وتسلمك هذه إلى غرفة رابعة للسخط والثورة، وتسلمك هذه إلى غرفة خامسة للكهرباء. . نعني أنه رجل يريد أن (يجد) نفسه لأنه تائه مضطرب، وهذا هو الطريق الذي سلكه ليصل إلى ما يريد: بحث عن ألوان الشذوذ حتى اكتظت بها حياته، وحين تحقق له ما يبتغيه بدأ يتعذب، ثم طاب له أن يتخذ من هذه المرحلة معبرا إلى العقاب الذاتي الذي يتيح له أن يتبرم ويثور، وفي هذا تحقيق لكبريائه، وجوهر تلك الكبرياء الموهوم آهة حانقة على المجتمع ساقطة على الوجود. . لتشعره بينه وبين نفسه بأنه موجود!.
هذه هي خلاصة رأي سارتر في شارل بودلير؛ خلاصة تلك الدراسة النفسية التي ترفع السجف المدلاة على نوافذ هذه الشخصية المغلقة، ليندفع الضوء إلى شتى الجوانب والأركان. . وارجع بعد ذلك إلى كلمة الكاتب الأمريكي التي تفوح منها رائحة الاتهام؛ اتهام سارتر بأنه قد تجنى على مواطنه الشاعر. ارجع إليها لتدرك الفارق البعيد بين نظرتين في الحكم على بودلير: نظرة عابرة عند إليوت تؤثر الوقوف على السطح دون أن تتغلغل إلى الأعماق، ونظرة متأنية عند سارتر تميل بطبيعتها إلى رفع الحجب لتنفذ إلى ما وراء المجهول!.
حول الكاتب الفرنسي بلزاك
في العدد الماضي من الرسالة مقال عن القصاص الفرنسي بلزاك، وهو تلخيص بقلم الأستاذ علي كامل لكتاب ألفه الكاتب النمسوي ستيفان زفايج. . أنه تلخيص موفق على الرغم من أننا نود أن نضيف إليه أشياء وأن نعترض فيه على أشياء! أننا نعترض مثلاً على قول الأستاذ بأن (بلزاك كان يتأنق في فنه ويعيد تصحيح ما كتب بعد إرساله إلى المطبعة عدة مرات، حتى ضج منه الناشرون إلى درجة أن قاضاه بعضهم من أجل ما يتحملون من نفقات، نتيجة تصحيحاته وتغييراته التي لا تنتهي). . صحيح أن بلزاك كان(1020/41)
كثير التصحيح والتغيير لما يكتب، كما بعث إليه الناشرون با (لبروفات) بقصد الاطلاع والمراجعة ولكن هذا لا يفسر بأن بلزاك كان يميل إلى التأنق شأن كتاب الصنعة البيانية. . لقد كان أبعد الناس عن التنميق والتزويق لسببين: أولهما أنه كان كتباً مكثرا إلى حد لم يعرفه تاريخ الأدب الفرنسي في يوم من الأيام، ومثل هذا اللون من الإكثار لا يتيح لصاحبه أن يحتشد للتعبير أو يتأنق في الصياغة. أما السبب الآخر فهو أن بلزاك كان رائد (الواقعية) الأول في عصره وهو العصر الذهبي للرومانسية، ومن طبيعة الكتاب الواقعيين أنهم يضيقون بتلك الأساليب الرقيقة الحالمة التي لا تناسب غير أجواء الخيال. . كان بلزاك يمثل الأسلوب الواقعي في الكتابة مبتعدا عن تلك (الحدلفة) اللفظية التي كان يزهي بها كاتب مثل تيوفيل جوتييه، ذلك الرومانسي الحالم الذي كان يضم بلزاك إلى قائمة الكتاب الصحفيين! لم تكن كثرة التصحيح والتغيير إذن عند الكاتب الفرنسي نتيجة الميل إلى التأنق وإنما كانت نتيجة السرعة التي يفرضها الإكثار. . كان يكتب ويكتب ويكتب وهو غارق في أفكاره تائه بين أوراقه، لا يكاد يشعر بأي شيء حوله غير إبريق القهوة الذي كان بالنسبة إليه قبسا من أقباس الوحي والإلهام! وحين ينتهي من الكتابة ويلقي نظرة إلى أكداس الورق التي سطرها منذ حين فلا يجدها بجواره، يدرك بمألوف عادته أن عامل المطبعة قد حضر وجمع الورق وانصرف خلال تلك الغيموبة العبقرية. . وحين تعاد إليه (البروفات) لا يجد بدا من أن يتناولها بالتعديل والتبديل لأن السرعة الفائقة تكون قد أخرجت هذه العبارة عن خط اتجاهها الفكري، أو انحرفت بتلك عن طريقها النفسي الذي يريد لها أن نسير فيه، عند رسم نموذج من نماذج البشرية أو نقل مشهد واقعي من مشاهد الحياة!.
هذا شيء وهناك شيء آخر، وهو قول الأستاذ في موضع آخر من تلخيصه لكتاب زفايج: (وما كانت صداقته بعد مدام دي بيرني كصداقته لدوقة ابرانتيز ومدام ريكامييه ومدام رولما كارو ودوقة كاستري ثم أخيراً مدام دي هانكا إلا تطبيقا لتلك العقيدة التي كونها على ضوء حبه لمدام دي تيرني، وهو أن تكون المرأة له أما وشقيقة وصديقة وعشيقة في وقت واحد). . إن الذي نعلمه ونؤكده أن علاقة مدام ريكامييه ببلزاكلم تكن علاقة حب وإنما كانت علاقة إعجاب، وأن مدام ريكامييه لم تعرف الحب الجسدي ولا العلاقة الجنسية في(1020/42)
يوم من الأيام! وحسبها أنها قد عاشت عذراء وماتت عذراء! صحيح أنها قد أحبت في أواخر حياتها الكاتب الفرنسي شارتوبريان، ولكنه الحب الروحي البريء الذي يقتصر على أن يربط بين قلبين بروابط الود والصداقة. . ولكم حاول نابليون أن يظفر بها زوجة فما استطاع، وكل هذا يؤكده تاريخ حياتها الذي سجلناه في كتابنا (نماذج فنية)! إن كل ما كانت تحمله مدام ريكاميية لبلراك هو الشعور بالإعجاب، ولقد كانت بداية هذا الشعور يوم أن قدم إليها قصته الرائعة (المرأة ذات الثلاثين). . كان بلراك يومئذ يصعد أول درجة في سلم المجد الأدبي فاستطاع أن يصعد الدرجة الثانية، حين قدمته مدام ريكامييه هو رقصته إلى صاحب (عبقرية المسيحية) تقديما يحفل بالتقدير ويزخر بالثناء، ولم يخب ظنها فيه وهي تقول عنه لشاتوبريان إنه عبقري وموهوب!.
وبقي شيء ثالث وهو قول الأستاذ بأن قصة (لويس لامبير) هي أقوى وأعمق ما كتب بلراك. . إن الذي نعلمه ونؤكده أيضاً على ضوء قراءتنا المتواضعة وعلى ضوء تقدير النقاد، أن قصة (الأب حوريو) هي التي يمكن أن توضع في المكان الأول ثم تليها بعد ذلك قصة (أوجيني جراندية)، وإن كان دستويفسكي قد خص هذه القصة الأخيرة بالحب والإعجاب وقام بترجمتها إلى اللغة الروسية وتتلمذ عليها في بدء حياته الفنية. . وبمناسبة الحديث عن هذه القصة نود أن نقول للأستاذ علي متولي صلاح إن (أوجيني جرانديه) لم تكن (بخيل) بلزاك كما ورد في مقالة بالعدد الأسبق من الرسالة! إن (أوجيني جرانديه) لم تكن رجلاً وإنما كانت امرأة، ولم تكن بخيلة وإنما كانت فتاة على شيء غير قليل من كرم النفس وسخاء اليد، وكم لقيت في سبيل ذلك من أبيها (البخيل) ألوانا من الظلم والقهر والاضطهاد. . إن البخيل في قصة بلزاك هو مسيو جرانديه، أما أوجيني جرانديه فهي ابنه البخيل كما تشير إلى ذلك قصة الكاتب الفرنسي!.
أنور المعداوي(1020/43)
مسرح وسينما
غروب الأندلس
تأليف: الأستاذ عزيز أباظة
إخراج: الأستاذ فتوح نشاطي
تمثيل: الفرقة المصرية
للأستاذ علي متولي صلاح
كان خيراً كبيراً لو عرضت هذه المسرحية على الناس قبل حركة الانقلاب لا بعدها، إنها كانت تكون عندئذ (سابقة) لأوانها وليست (بعد) أوانها كما هي اليوم، فهي تصور الفساد الذي استشرى في دولة العرب بالأندلس والانحلال الذي دب في أوصالها مما يسبه إلى حد كبير الحال التي كانت بمصر قبل الانقلاب. ولو أنها عرضت قبل هذا الانقلاب لكانت إرهاصات له أو عاملاً من عوامله، ولكان لعرضها شأن غير الذي لها اليوم، ولكن القطار فاتها!.
كنا نود جاهدين أن نسمع - والملك في أوج طغيانه وجبروته - من يقول:
الملك يلهو والحوادث حوله ... متظاهرات والخطوب سراع
والقصر تفهق بالخنا قاعاته ... ويبيت يروي إثمها ويذاع
والحكم فوضى. . لبه وقوامه ... ذمم تسام - رخيصة - فتباع
وكنا نود جاهدين أن نسمع أن الملك المطلق العنان يقول لأمير الجيش عن الجيش:
هو جيش ألست مولاه؟؟ فيجيبه أمير الجيش في كبرياء بقوله:
كلا. . . ليس مولاه من سقاه السماما
واجبتبي الناشقين منه الأذلين ونحي أبطاله الأعلاما
وكأنما الشاعر كان يطل على نافذة الغيب فيعلم ما قيل تماماً بعد أيام معدودات!. . ولا أدري سبب ذلك الإهمال والشاعر يؤكد أن الرواية كلها كتبت قبل يوم 23 يوليو الماضي!.
أما أن تعرض هذه المسرحية التي تصور (الغروب) بعد أن يبدأ عندنا (الشروق) - وأعني(1020/44)
به طبعاً حركة الانقلاب - فقد جعل المسرحية ظلا للحركة الكبرى التي يعيش الناس فيها، أو صدى للصوت القوي الذي يملأ أسماعهم، ومن وجد البحر استقل السواقيا!.
على أن المسرحية لم تخل - على الأقل - من تعديل كبير أصابها بعد حركة الانقلاب أريد به (تمصير) بعض الحوادث، والإشارة إلى ما يزحم قلوب الناس من عواطف؛ فالأستاذ المؤلف مثلاً كان قد ألف مسرحيته (شجرة الدر) عام 1951م وقال فيها موجهاً الكلام إلى (أقطاي) أمير الجيش بصريح العبارة:
. . . ولكن السياسة مهنة ... إن راضها جيش هوى وتحطما
(أقطاي) دع ما لست تحسنه لمن ... عرك الأمور وساسها فتعلما
فإذا به اليوم في مسرحية (غروب الأندلس) يجعل (أزبك) أمير جيش مصر يقول عنها - فيما سمعناه من الممثلين - بصريح العبارة:
إذا أهل السياسة ظللوها ... فإن الجيش يهديها السبيلا!!
وليته لم يفعل فإن الفن يجب أن يحتضن الحقيقة المبذولة بين أيدي الناس ويسمو بها ويكون أبعد منها شأواً. لا أن تحتضنه الحقيقة بين جناحيها وتجعل منه - كما قلت - ظلا أو صدى لهما.
وأنا أقرر - قبل أن يتشقق الحديث - أن الأستاذ عزيز أباظه شاعر من أكبر شعرائنا، وأن الأمل المرجو منه كبير، ولكنني لا أتحدث عنه شاعراً وإنما أتحدث عنه مؤلفاً مسرحياً، وليس الشعر - كما يعلم القراء - غاية في المسرح وإنما في المسرح وإنما هو وسيلة، والوسيلة التي لا تصل بصاحبها إلى الغاية، أو التي تكون حائلا بينه وبين الوصول إلى هذه الغاية، أو التي تستنفذ كل جهده فينبت عن الوصول إلى الغاية، وسيلة يجب تحطيمها. والمسرح اليوم يقوم - في العالم كله - على نظرية (الحائط الرابع) فما هذه النظرية وما أصلها؟ أصل هذه النظرية افتراض أن المشاهد عند ما ابتاع تذكرة الدخول إلى المسرح أخذ على مؤلف المسرحية عهداً بأن يعرض عليه جوانب من الحياة كما هي لا كما يتخيلها الفنانون!. . . إن الشاهد الحديث رجل فيه فضول كثير، إنه يريد أن يستطلع أحوال الناس وأخبارهم، فهو ينظر إلى خشبة المسرح نظرة إلى غرفة حقيقية في منزل حقيقي بها ناس حقيقيون يناقشون مسائلهم الحقيقية، وليسوا ممثلين مهرة يزيفون(1020/45)
له الحياة ويجعلون الخيال حقيقة، فيجب إذن أن يزول ما بينه وبينهم من حائط يحجبهم عنه، ذلك الحائط الذي يحول دون رؤية ما يقع في بيوت الناس، والذي نسميه نحن الستار! فإذا ارتفع فقد ظهرت الحياة حقاً وصدقاً! ظهرت مناظر حقيقية وإضاءة حقيقية وموضوع حقيقي أو في حكم الحقيقي، ولغة حقيقية مما تجري بين الناس فعلا في حياتهم العادية المألوفة.
هذا هو المسرح منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، منذ (هنريك إسن). (برناردشو) ومن جاء بعدهما. فأين (غروب الأندلس) من هذا؟.
لقد صاغها الشاعر عزيز أباظة الشعر الجزل الرصين ولم يكن يستطيع إلا أن يصوغها بالشعر؛ فالشعر فيه أصل وطبيعة غلالة ولكن لمن صاغها بهذا الشعر الجزل الرصين؟ من من المشاهدين يقدر على فهم مثل قول الشاعر عن الإسلام مثلاُ:
تكاد عراء في الجزيرة تنضوي ... وتنقد أشطان له وطنوب!
ومن من المشاهدين يقدر على فهم قول الشاعر في خطاب موسى إلى الملك مثلاً:
إذا ند عنك اليوم بارح كيدهم ... فإنك مغروس غدا فمتبر
وإن مطاياهم لتكرم وسقا ... فإن أبلغتهم جدلوها وعقروا
أو مثل أقواله (ولأنت من قوم إذا انأطر القنا) أو (هل كان إلا صدى ضعف خذئت له) أو (لآثروا الموت قصصاً) أو سوى ذلك وهو كثير وكثير.
ولأول مرة نرى مسرحية تذيل صفحاتها بشرح لمعاني الكلمات الصعبة مما برئت منه حتى مسرحيات شوقي! وإذا كان القراء وهم يقرءون في مهل وأناة، وهم إلى ذلك الصفوة المختارة من المشاهدين، فكيف بالمشاهدين الذين يستمعون الأقوال وهي تمر بهم سريعة خاطفة، ثم هم أخلاط من الناس لا يشترط فيهم إلا أن يدفعوا ثمن تذكرة الدخول؟. . إن للشعر مكانة العالي في الغنائيات والملاحم وما إليها؛ أما المسرح الذي يراد به تصوير الحياة والأحياء، والذي هو مدرسة للناس جميعاً، فليس لمثل هذا الشعر العالي فيه مكان. وإن كان لا بد من الشعر في المسرح - وهو مالا أراه - فليكن شعراً مخففاً ممزوجاً بالماء، شعراً سهلاً ميسوراً يفهمه الناس جميعاً؛ لأن الناس جميعاً يشاهدون المسرح أو يجب أن يشاهدوه، ليكن من بحر (الرجز) دون سواه وهو البحر الذي يقابل تفعيلات(1020/46)
(الأيامب) عند الأوربيين يوم كان لا يزال مسرحهم يقول شعراً! أما اليوم فقد خفت صوت الشعر في مسرحهم خفوتاً كبيراً ولم يبق فيهم إلا مثل (ت. س. إليوت) وهو رجل متشائم حزين ضيق بالحياة يحن إلى يوم الخلاص منها يقول فيما يقول (نحن أشكال بلا قوالب، نحن ظلال بلا ألوان؛ نحن قوى مشلولة، نحن إشارات بلا حركة).
وأريد أن أدفع وهما قد يتبادر إلى بعض الناس من أن شهود جمهور الناس لمثل هذه المسرحية دليل على وعيهم وارتفاع مستواهم، فهذا قول مردود؛ لأن مثل هذه المسرحية - بما احتشدت به من العطات والخطب والحكم الغوالي - إنما تخاطب في الناس غرائزهم الأولى وعواطفهم المجردة، عواطفهم الدينية والوطنية والخلقية وما إلى ذلك، إنهم لا يتعمقون فهمها واستكناه بواطنها ولكنهم يفهمونا فهما عاما كله ضباب وظلام، إنهم يرقصون من جرس ألفاظها كما يرقص الزنوج تماماً على دقات الطبول، وليس هذا من وظيفة المسرح في شيء!.
والمسرحية تدور حول الأيام الأخيرة لدولة العرب في الأندلس، وليس فيها موضوع متصل يسري فيها وينفخ الحياة في جوانبها، ولكنها صور متلاحقة متتابعة - وإن كانت قليلة إلى جانب ما يكتنفها من كلام كثير - تتعاقب وتترى كما تقلب تماماً صفحات من كتاب في التاريخ. . الأميرة (بثينة) تغري الأمير (يحيى) بإطلاق السجناء من ذويها، فيطلق الأمير هؤلاء السجناء، ثم يجتمع هؤلاء الطلقاء ويجنحون إلى (بني سراج) فينضمون إليهم، ويتكالفون على الملك، ثم يعتزل الملك ملكه؛ ثم يتولى ابنه؛ ثم ثم ثم الخ؛ وتنسدل الستارة في نهاية كل فصل ببيت من طراز الخطب المنبرية التي تصفق لها الجماهير طويلا، فينتهي الفصل الأول - مثلاً - بقول الشاعر:
من لم يدعم بالأسنة ملكه ... والحزم. . . بات مفزعا لم يسلم!
وينتهي الثالث بقوله:
واضيعة الإسلام إن لم تقهروا ... أهواكم. . . واضعية الإسلام
وهكذا تمضي المسرحية وكأنها ديوان شعر، فلا نرى موضوعاً ينبض بالحياة، ولا نرى شخصيات قد رسمها لنا المؤلف رسماً تبدو ملامحه وقسماته في وضوح وامتياز. . . لقد عالج شكسبير المسرحية التاريخية ولكنه استطاع في مسرحية (هنري الرابع) مثلا إلى(1020/47)
جانب الموضوع القوى أن يخلق لنا شخصية (فولستاف) الحية الممتازة التي تجمع بين الجد والفكاهة جمعاً بلغ الذروة في كل منهما، واستطاع في مسرحية (يوليوس قيصر) أن يخلق لنا شخصية (بروتس) الخالدة التي ما تفتأ تشير في النفوس عاطفة الانتقام. . ولكن شخصيات عزيز أباظة شخصيات باهتة لا تعرف لها ملامح ولا قسمات ولم يلق الأستاذ عليها من الأضواء ما يجلوها للناس، بل لم يلق باله إليها إطلاقاً وإنما كان كل باله إلى الشعر دون سواه، على أن شاعرنا الكبير يقع في أمور كنت أود ألا يقع فيها، فهو يقول (أخ الملك الغوي) والصواب أن يقول (أخو الملك الغوي) ويقول (ركبنا الهوى والأثام الشنيعا) يريج افثم، وليس الأثام هو الإثم وإنما جزاء ذلك الإثم والله يقول (ومن يفعل ذلك يلق أثاماً) وغير ذلك مما لا يجوز من شاعر كبير كالأستاذ عزيز أباظة. . ولو أن الأستاذ عني بحادثة الغرام الحقيقي بين بثينة ومحمد بن سراج والغرام الوهمي بينها وبين الأمير (يحيى) لجعل منه مسرحية، ولو اختزل شيئاً من حوادث التاريخ واستبدل به صورة حية أو صورتين تنبضان بالحياة لخلق لنا مسرحية، ولكنه لم يفعل! وأشهد لقد أنفق الممثلون مجهوداً جباراً شديداً. ولقد كنت أشفق على (أمينة رزق) وهي تبذل من ذات قلبها ومن ذات نفسها لتنفخ الحياة في دورها واستطاعت ذلك إلى حد كبير رغم العقبات اللفظية التي كانت تنوء بحملها، وأشهد لقد استطاع (فؤاد شفيق) واستطاع (حسين رياض) أن يلونا كلامهما ويملأه بالحياة والمعاني، وقد كان دور ثانيهما مما لا ينبض به إلا أولو العزم. أما (فردوس حسن) فقد كانت جامدة كالتمثال وتأبي إلا أن تكون أميرة في كل الأوقات! ونسيت أنها كانت تقوم بدور العاشقة المخادعة لمخاتلة!.
وبعد: فهذه كلمة عابرة في مسرحية (غروب الأندلس) وليس الذي سقنا فيها بمانع أن نموه بما ينفق الأستاذ عزيز أباظة من جهد حميد للشعر والأدب، ولكننا نريده للمسرح أيضاً. إن الشعر أفضل ما فيه، فهل يجمع إليه الفن المسرحي الذي هو اليوم جماع الفنون جميعاً؟ وعند ذلك تسقط حجتنا ولا نستطيع أن نقول له يومئذ ما نستطيع أن نقوله له اليوم من أن إلهة الشعر قامت عن ميامنه ولكن ربة المسرح لم تقم عن مياسره؟.
علي متولي صلاح(1020/48)
أراء وأنباء
إلحاقاً بكلمتي المنشورة بالعدد 1016 عن الأدب المصري القديم والتي أشرت فيها إلى انقطاع الصلات الثقافية والحضارية بين شعب مصر اليوم وبين القدماء المصريين أسوق هذه الملاحظات الموجزة حول ما خاض فيه بعض الكتاب في بعض الصحف اليومية من حديث عن الألقاب (الفرعونية) بمناسبة ما ثار حول إلغاء الألقاب من كلام:
ادعى بعض الكتاب الأفاضل أن لقب (سي) للرجل ولقب (ست) للمرأة هما من بقايا اللغة المصرية القديمة على ألسنة المصريين اليوم وأن هذين اللقبين كانا مستعملين ذلك الاستعمال عينه وبهذين اللفظين عينهما في مصر الفرعونية.
وعندي أن في نسبة هذين اللفظين إلى اللغة المصرية القديمة كثيراً من النظر؛ فالمعروف أن لفظ (سي) هو تحريف لكلمة (سيدي) العربية الصحيحة. وكذلك لفظ (ست) فهو تحريف لكلمة (سيدتي) على ما جرى عليه لسان العامة من اختصار الألفاظ بحذف بعض حروفها.
ومما يدحض دعوى الفرعونية عن هذين اللقبين ذيوعهما في جميع الأقطار العربية اليوم وبصفة خاصة في الغرب: ولا أظن أن هناك من يزعم أنه كانت للفراعنة بالمغرب صلة من شأنها أن تحفظ على ألسنة أهله ألفاظاً فرعونية حتى اليوم؛ إنما هي ألفاظ عربية صحيحة وإن نالها التحريف الذي يصاحب اللهجات العامية دائماً.
هذا وإن لفظي (سي) و (ست) قد وردا في نصوص عربية قديمة يحضرني منها الآن البيت الذي رواه أبو العلاء في رسالة الغفران على لسان ابن القارح يخاطب إحدى جواري السيدة فاطمة الزهراء مستعيناً بها على عبور الصراط:
ست إن أعياك أمري ... فاحمليني زقفونه
(وزقفونه أن يحمل الشخص شخصاً آخر وبطن المحمول إلى ظهر الحامل ويداه على كتفيه).
والواقع أن ورود هذين اللقبين في كلام عربي قديم، مضافاً إليه انتشارهما في كافة الأقطار العربية لا في مصر خاصة لهو مما ينفي عنهما شبهة الفرعونية التي لم يقم عليها - على أية حال - دليل مقنع.
جمال مرسي بدر(1020/49)
الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها
أي ومن سعى في إثارتها وعمل على إذكاء نارها وحمل لواء الخلاف بعد ما انطوى أعواما طويلة. وهو يريد من وراء ذلك نفعاً شخصياً أو مادياً أو أن يظهر على مسرح الحياة بعد ما نخرج من أكرم دار على حساب هذه الحزازات القديمة.
إن الأزهر ودار العلوم - منذ وجدت دار العلوم - صنوان يعملان لغاية واحدة ويهدفان إلى هدف واحد وإن تفرقت بهما السبل قليلاً. فهذه تسير بجوار ذاك.
كان يكفي لإقناع إخواننا الأزهريين رد الدكتور حامد عبد القادر وهو رجل خبير منصف لا يتكلم إلا الحق. ولا أخال إلا أن إخواننا الأزهريين قد اقتنعوا بوجهة نظره وكان يكفي في النقاش أن يوجه الأمر إلى ذوي الرأي فيردوه إلى نصابه. وأظن أنه ليس هناك داع لأن تثير كل هذه الإشكالات. وما الذي يضيرك أن يطالب محقون بحقهم وأن يسعى إخوان لك في اللحاق بك والسير معك على قدم المساواة؟.
ومرة أخرى أقول: إن بيننا وبين الأزهر وشائج لا نريد قطعها، وبيننا وبين إخواننا الأزهريين مودة لا نريد إفسادها، وبيننا وبينهم صلات يستحيل أن ننساها أو نجحدها. ومرة ثالثة أقول لك إن الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.
عمر عبد الرحيم الزيات
أحلام العصفور الأخضر
من خمس سنين أو تزيد طالعت بمجلة (الكتاب) عدد أكتوبر 1947م الخاص بذكرى شاعري النيل والعروبة (شوقي وحافظ) طالعت مقالا لأحد كتاب هذا العدد يتعقب في الكاتب أمير الشعراء على عثراته الموسيقية. ومن جملة مآخذه عليه مأخذ في قصيدة (النيل) ص167 حـ4. عند قوله:
جار ويرى ليس بجار ... لأناة فيه ووقار
لقد تنكب شوقي جادة الوزن العروضي في التفعيلة الثالثة وفي التفعيلة السابعة من البيت والناقد على بصيرة في نقده.
واليوم تطالعني الرسالة العدد (1019) قصيدة للأستاذ (عواد) بعنوان (أحلام العصفور(1020/50)
الأخضر) والقصيدة من (بحر المتدارك) ذلك البحر الذي أنشأ منه أمير الشعراء قصيدته الآنفة الذكر.
ولقد أبى شيطان الأستاذ (عواد) إلا أن يعثر تلك العثرات التي منى بها أمير الشعراء وزيادة. وتفصيلا لما أجمل نبدأ قصيدته أو موشحه مقطعاً مقطعاً.
لندع المقطع الأول فيوشك أن يخلو من الهنوات ولكن على حساب ضرورات يبيح الوزن العروضي ومراعاته اقترافها.
أما المقطع الثاني فقد عثر فيه قلمه عثرتين: الأولى في التفعيلة السابعة من البيت الثاني وهو:
سيروح ويلثم وجنتها ... مسروراً والكون غناء
والعثرة الثانية في كملة (نشوان) فالإعراب يقتضي نصبها والعروض تحتم تنوينها والرسم الإملائي لا يدل عليهما وفي المقطع الثالث عثرات ثلاث.
الأولى في التفعيلة الخامسة من البيت الثاني عند قول (قد تخذوا. . .).
والثانية في التفعيلة الثالثة من قوله (والوجد صلاة ودعاء).
والثالثة في التفعيلة الثالثة من قوله (وتوسل صب وبكاء).
أما المقطع الرابع فعثرة واحدة في أول تفعيلة من البيت الأول منه. وهي في كلمة (همهمة. . .) قد دار عليها ما دار على أخواتها من قبل.
ومع صادق تقديري للأستاذ الشاعر فرجائي أن يقع منه نقدي أجمل موقع والسلام.
محمد محمد أحمد الناجي
ديك الجن
كتب الأستاذ محمد رجب بيومي بمجلة الثقافة الغراء العدد (700) بحثاً جميلاً عن الشاعر العباسي المعروف (ديك الجن) وقد شعرت بعد قراءتي للمقال أن هناك سؤالا هاما لم يتفضل الأستاذ رجب بالإجابة عنه، وهو لماذا سمي الشاعر بديك الجن؟ وما علاقته بالديك، تلك التي لم تقف لها على أثر في قصة الشاعر؟ ولعل الأستاذ البيومي وهو معروف باطلاعه الواسع على الأدب العربي حديثاً وقديماً يتفضل بالإجابة الشافية على(1020/51)
صفحات الرسالة التي تشرق علينا دائماً بأبحاثه الطلية المفيدة.
محمود راشد الحنفي
الأستاذ سيد قطب
اضطر الأستاذ سيد قطب إلى الاعتكاف طوال الأسبوعين الماضيين بسبب وعكة مرضية شديدة والامتناع عن كتابة مقالاته في الرسالة وغيرها من صحف العالم الإسلامي وقد تماثل الآن للشفاء ولكنه لا يزال في دور النقاهة وفي حاجة إلى فترة راحة طويلة.(1020/52)
أخبار أدبية وعلمية
مصر تلعب دوراً هاما في ترقية القارة السوداء
من أخبار لندن أن غريقا من العلماء المشهورين في الأبحاث والدراسات العلمية الحديثة عقدوا سلسلة من الاجتماعات أصدروا بعدها تقريراً قالوا فيه إن المدينة مهددة بخطر جسيم ولا سيما إذا خرجت الدول الكبرى من حالة ضبط النفس التي تسير عليها الآن لصون السلام العالمي. ولكنهم أجمعوا على ما يلي:
(1) أن إفريقية هي التي سترث المدينة الحديثة وإليها يتنقل مركز الحضارة كما كانت الحالة في عهد الفراعنة الأوائل، وكان محتملا أن يشاطرها جنوب آسيا ذلك لولا الثورات التي قد تنشب فيها بسبب كثرة السكان وقلة الموارد وإصرار الدول الاستعمارية على الاحتفاظ بسيطرتها على عناصر تختلف عنها في اللغة والدين والجنس.
(2) أن مراكز الصناعات الكبرى ستتحول بعد أي حرب مقبلة إلى الأماكن القريبة من موارد المواد الأولية وما زالت إفريقية قارة بكرا لم تستغل مواردها بعد ولهذا ستنقل إليها مراكز الصناعات الكبر في العالم.
ونشرت جريدة نيوزكرونيكل مقالا لأحد هؤلاء العلماء هو السير فيليب منشل السياسي العالم الرحالة الكبير عن دراساته في إفريقية ومجاهلها البعيد عن العمران، وكان عنوان مقاله (أفريقية في سنة 2003) أي بعد خمسين عاماً قال فيه:
(1) في هذه القارة أنهار عظيمة، ولها سواحل طويلة غنية بالمواد الأولية تشرف على المحيطين الأطلنطي والهندي. ومن العجيب أن يظل أكثر سكان هذه القارة أميين إلى الآن وأن يهمل أمرهم إلى هذا الحد.
(2) في هذه القارة ثلاث طبقات، إحداها ما زالت تعيش وكأنها في عام 1953 قبل الميلاد، والثانية تعيش وكأنها في أول القرن الأول من الميلاد، والثالثة وهي القلة تعيش في العصر الحاضر.
(3) تتداعى اللهجات الإفريقية بسرعة أمام اللغات الأوربية، الإنجليزية والفرنسية والبلجيكية والبرتغالية وسبب ذلك أنه ليست للهجات الإفريقية معاجم ولا كتب نحو ولا حروف هجائية وهي تختلف اختلافاً كبيراً في كل دولة أو مستعمرة واحدة، بل قد تكون في(1020/53)
الغابة الواحدة عدة لهجات متباينة.
(4) لاشك في أن إفريقي ستزيد من إنتاجها ومطاراتها وسكك حديدها وموانئها وطرقها العامة الواسعة في خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فلا يبزغ فجر القرن الحادي والعشرين حتى تصبح إفريقية أهم وأعظم قارة في العالم، ولاسيما إذا أدت الحرب القادمة إلى إحداث تخريب كبير في أمريكا وأوربا وآسيا.
(5) إذا لم تحدث حرب يدمر العالم الغربي بها نفسه فانه سيظهر رغم ذلك إلى تقصير المواصلات بين المنجم والمصنع ويستغل بمصانعه الجديدة الكبيرة في إفريقية ما تحويه هذه القارة من ذهب ونحاس وأورانيوم واسبستوس (مادة مقاومة للحرائق) والكروم والحديد والفحم والخسب والشاي والسكر واللحوم، وإلى جانب هذا ستنشأ أسواق كبيرة ومراكز تجارية هامة، ثم تكثر الجامعات والمعاهد العلمية والهندسية والصناعية الضرورية لهذه الصناعات.
(6) ستسترد الدولة المتقدمة في إفريقية، ولا سيما مصر نفوذها الدولي الواسع وتسيطر على القارة كلها بآدابها وعلومها وفنونها، إلى جانب انتشار الثقافة باللغات الأوربية التي تدرس بها العلوم في المدارس الحالية في شرق إفريقية وغربها وجنوبها.
الإذاعة اللاسلكية والإحياء الديني في باكستان
قررت حكومة باكستان استخدام الإذاعة اللاسلكية الحكومية في مختلف المناطق والولايات التي تؤلف هذه الدولة الإسلامية الكبيرة لتعزيز الإحياء الديني وربط المجموعات الإسلامية التي تقطن شرقي باكستان وغربيها في روابط روحية وثقافية متينة، ونبراسها الإسلام وتعاليمه الخالدة.
وقد عقد مؤخراً مديرو محطات الراديو الباكستانية مؤتمرهم السادس في (كراشي) وكان أمامهم جدول زاخر بالأعمال.
وقرر المؤتمر إعادة النظر في البرامج الدينية بغية تقويتها وتنويعها واستنباط الوسائل الفنية لتقوية الوعي الديني في هذا البلد المسلم وجعله أشد صلة بالحياة اليومية والسلوك العام.
وقرر المؤتمر كذلك خطوطاً جديدة لمشروع واسع يرمي عن طريق الإذاعات اللاسلكية(1020/54)
إلى التقريب بين مختلف اللهجات واللغات المحلية المتكلم بها في مختلف مناطق باكستان.
صناعة الكتب المحلية
أحصت مجلة (الناشر) الأسبوعية التي تصدر في أمريكا إنتاج الكتب للنصف الأول من العام المنصرم في الولايات المتحدة الأمريكية فوجدت أنه بلغ 6112 كتابا بالقياس إلى 5691 كتابا للمدة نفسها من العام الذي سبقه.
وقد نالت القصة النصيب الأكبر من هذا الإنتاج إذ بلغ عدد المنشور منها 1111 قصة.
وجاءت كتب الأطفال في المرتبة الثانية فبلغ عددها 5. 1. وتلا هذين النوعين من الإنتاج المواضع التالية: أدب التراجم، التاريخ، علم الاجتماع والشؤون الاقتصادية. وقالت المجلة معلقة على هذه الإحصاءات: إن تجارة الكتب كانت رابحة في العام المنصرم ولكن مستوى الإنتاج العلمي والفني كان ضعيفا بالقياس إلى إنتاج الأعوام السابقة.
مؤتمر التعليم الحر والإلزامي في بومباي
قامت اليونسكو برعاية مؤتمر إقليمي خاص بالتعليم الحر والإلزامي في منطقة جنوب آسيا والمحيط الهادي، انعقد بمدينة بومباي من 12 إلى 23 ديسمبر الماضي، واشترك فيه حوالي أربعين خبيرا يمثلون أفغانستان واستراليا وبورما وكمبوديا والهند وإندونيسيا ولاووس وزيلامدا الجديدة وباكستان والفيلبيين وتايلاند والفياتنام، كما ضم ممثلاً عن دولة (النيل) وإن لم تكن عضوا في هيئة اليونسكو، وممثلين عن فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الدول المشرفة على بلاد غير مستقلة.
وقد اعتبر هذا المؤتمر خطوة جديدة من اليونسكو نحو تعزيز التعليم الحر الإلزامي وتحقيقه في النطاق الإقليمي، وفق ظروف البلاد وأوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية واللغوية. وقعت هذه المهمة على عاتق المندوبين، فاستعرضوا أحوال بلادهم أمام المؤتمر، كما انقسموا إلى ثلاث لجان عنيت الأولى بالمشاكل الإدارية والمالية والتشريعية التي تتعلق بالعليم الإلزامي. واهتمت اللجنة الثانية بمشكلة تدريب المدرسين ونظامهم الإداري، أما اللجنة الثالثة فتولت مناقشة برامج التعليم الابتدائي وتكييفها حسب ظروف كل بلد واحتياجاته الخاصة بكتب الدراسة وأجهزة التعليم.(1020/55)
تعميم الثقافة الفرنسية كوسيلة من وسائل الدعاية
تقدر الحكومة الفرنسية أشد التقدير المكانة الهامة التي تحتلها الثقافة الفرنسية في سائر أنحاء العالم، وتحاول الحكومة الفرنسية أن تغذي دعاياتها السياسية والاقتصادية عن طريق الدعاية الثقافية.
ومن أمثلة ذلك ما تقوم به المؤسسة الثقافية الفرنسية المعروفة باسم (جمعية الثقافة الفرنسية) ومركزها الرئيسي في باريس. وتصدر هذه المؤسسة سجلا شهرياً يحتوي على استعراض موجز لجميع الكتب والمجلات التي تصدر باللغة الفرنسية لا في فرنسا وحدها وإنما في سائر أنحاء العالم.
وهذه النشرة مبوبة بحيث تخصص لفروع الثقافة أبوابا خاصة. فباب يعالج الآداب، وثان للترجمة وثالث للعلوم ورابع للشعر، وخامس للدراسات الاقتصادية، وسادس للاجتماعات. وهناك كذلك باب خاص يستعرض أنواع المقالات التي تصدر في مختلف المجلات الأسبوعية والشهرية والفصلية.
وتطمع هذه النشرة في عدد من اللغات الحية وتوزع على مختلف الشعوب بواسطة السفارات والبعثات الدبلوماسية في الخارج.
مجلة للتربية الأساسية تصدرها اليونسكو باللغة العربية
أصدرت منظمة اليونسكو العدد العربي الأول من مجلة (التربية الأساسية) التي مازالت تنشرها منذ أكثر من عامين باللغات الفرنسية والإنجليزية والأسبانية، وتعالج في مقالاتها أهم مشاكل التربية الأساسية، ووسائل النهوض بمستوى الأميين والشعوب المختلفة عقليا واقتصاديا واجتماعيا حتى يصبحوا عروقا نابضة في المجتمع الإنساني.
ويقع هذا العدد الخاص في 115 صفحة، تبدأ بمقدمة وافية بقلم الدكتور متي عقراوي مدير دائرة تبادل المعلومات في التربية باليونسكو، وتنتهي بقائمة بالمراجع الهامة، وتضم في صلبها طائفة من المقالات والبحوث التي تناول فيها الخبراء العالميون وتجاربهم وآراءهم في التربية الأساسية ومكافحة الأمية، ونذكر من هؤلاء: الدكتور أحمد حسين.
واليونسكو إذ تنشر هذه المجلة باللغة العربية، إنما تخطو بها خطوة جديدة نحو إفادة(1020/56)
المختصين بالتربية الأساسية من الشعوب الناطقة بهذه اللغة، وأمل المنظمة أن يقبل عليها أبناء العربية، حتى يشجعوا على نشرها بصورة دائمة.
العثور على الحلقة المفقودة في نظرية التطور
أعلن جون تلبوت روبنسون، من أمناء متحف الترنسفال، أنه عثر على بقايا خمسة من الهياكل تمثل نوعاً بدائياً جدا من الإنسان في أولى مراحل تطوره، وقد أسمى هذا النوع إنسان (تال انثرويس).
وقد اكتشف روبنسون هذه البقايا في شفارتكرانز، في الترنسفال، تقريبا في نفس المكان الذي كشف فيه الدكتور روبرت بروم، أستاذ انتروبولوجيا في جنوب أفريقيا في عام 1951 إنسان جنوب أفريقيا البدائي.
ويقول روبنسون إن إنسان (تال انثروبس) أقدم نوع من الإنسان عثر عليه حتى يومنا هذا. وهو يمثل نوعا خليطا من إنسان جنوب أفريقيا البدائي وإنسان جاوه القديم المعروف باسم (يثك انثروبس اركتاس) وإنسان الصين القديم (صين انثروبس).
ويقول روبنسون: إن إنسان (ثال انثروبس) كان يعيش في فترة سابقة للزمن الذي كان يعيش فيه إنسان جاوه بما يتراوح بين ربع مليون أو نصف مليون سنة. والمعروف أن تقدير العلماء للزمن الذي عاش فيه إنسان جاوه يتراوح بين نصف مليون أو مليون سنة مضت.
ويترتب على هذا الكشف العلمي الخطير أن ينتهي التمسك بالنظرية القائلة بأن الوطن الأول للإنسان كان في آسيا، وإن كان من المحتمل أن الإنسان في أفريقيا وآسيا تطور في خطوط متوازية.
وأضاف قائلاً: إن هذا الكشف يسده الثغرة المعروفة باسم (الحلقة المفقودة) في سلسلة التطور الإنساني على ظهر الأرض. ويتوقع أن ينتهي البحث، بعد هذا الكشف الخطير، إلى اكتشاف الحلقة المفقودة كلها.
وبهذا الكشف يقطع الطريق على كل النظريات المعارضة لنظرية التطور. وقد اتضح أن هذا الإنسان كان بدائياً جداً لدرجة أنه لم يكن يصنع أو يستخدم أية آلة حجرية لأنه لم توجد معه مثل هذه الأدلة الحضارية.(1020/57)
والمعروف أن روبنسون كل يعمل مساعد للدكتور بروم في حفائره، ثم تولى مكانه بعد وفاته.
وقد طار الدكتور كنيث أو كلي، مدير المتحف الطبيعي في لندن، إلى جنوب أفريقيا ليساعد في فحص الهياكل الخمسة.(1020/58)
من هنا ومن هناك
سفينة نوح بين العلم والسياسة
وصلت إلى تركيا مؤخرا بعثة من علماء الآثار الفرنسيين لمتابعة البحث عن (سفينة نوح) في منحدرات جبال (أراراط) في موقع يسمى (إكري داك) تغطيه الثلوج. ويبلغ ارتفاع هذا الجبل حوالي 1700 قدما. ويقع في القسم الشرقي من شمال تركيا.
وستقوم البعثة الفرنسية بجمع النماذج من العناصر التي تؤلف طبيعة الأرض هناك والمميزات (الطيوبوغرافية) الأخرى التي يتخذها علماء الآثار عادة معاول لتتميم المعلومات التي توفرها لهم كتب التاريخ القديم وحوادثه المدونة.
ويقع جبل أراراط صميم المنطقة التي وصفتها التوراة بأنها المكان الذي دفنت فيه زوجة نوع (عليه الصلاة والسلام) والبقعة التي زرع فيها سيدنا نوح أول كرم للعنب عندما انتهى به وبسفينته المطاف إلى ذلك الجزء من العالم كما تذكر التوراة ومفسروها.
ويضم متحف اسطنبول نماذج من صخور جبل أراراط حلل عناصرها بعض علماء طبقات الأرض وقالوا بأنها تؤيد النظرية القائلة بأن هذا الجبل كان في فترة من الأزمنة القديمة مغموراً بالماء إلا من قمته العليا التي أسعفت نوحاً (عليه الصلاة والسلام) في أن يرسي سفينته على منحدرها عندما دهم الطوفان العالم كما تشير إلى ذلك كتب التاريخ القديم والمصادر الدينية. ويدعي هؤلاء العلماء بأن نوحاً قد التجأ بسفينته ونماذجه البشرية والحيوانية إلى أعلى قمة الجبل ليبدأ من جديد في تنمية الأجيال للبهائم ولبني آدم.
وقد سبق أن قامت بعثات أجنبية أخرى للبحث عن سفينة نوح في منطقة جبل أراراط منها بعثة أمريكية أنفقت في عام 1949 وقتا وجهدا ومالا كثيرا دون أن تعثر على ما ترغب إثباته من حقائق تاريخية.
ويؤكد علماء الآثار استنادا إلى المصادر اليهودية والمسيحية بأن السفينة كانت في حجم هائل طولها ميل واحد وعرضها 750 قدما وعلوها 450 قدماً.
وجدير بالذكر أن تردد البعثات الأجنبية على جبال أراراط وتخومها القريبة من الحدود الروسية الجنوبية كان مثار احتجاج السلطات الروسية الشيوعية التي ادعت بأن الغرض من تكرار هذه الزيارات هو التقاط الإشعاعات الذرية التي تنبعث من محطات التجارب(1020/59)
الذرية الروسية لتقدير مدى استعداد روسيا الذري. ويدعي الروس أن هذه البعثات الأجنبية ليست مكونة ممن علماء الآثار والتاريخ القديم فحسب، بل أنها تضم بعض خبراء الذرة العسكريين الذين يستعملون أجهزة خاصة تركب على أعالي جبال أراراط القريبة من الحدود الروسية فنلتقط أولا فأولا إشعاعات التجارب الذرية التي تنبعث من محطات التجارب ومصانع الإنتاج الذري الروسي المنشأ بعضها فيما وراء جبال الأورال الروسية في منطقة لا تبعد كثيراً عن الحدود التركية.
وقد نفت المصادر التركية والبعثات الأثرية هذا التفسير الروسي.
البعث الإسلامي في تركيا
كتب الأستاذ برنارد لويس أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة لندن ومؤلف كتاب (العرب في التاريخ) مقالا تحليلياً في مجلة (الشؤون الدولية) عن البعث الإسلامي في تركيا. وكان الأستاذ قد أنفق مؤخراً بضعة أشهر في تركيا يدرس عن كثب.
يقول الأستاذ لويس إن نجاح القومية (الطورانية) في تركيا إبان عهد أتاتورك لم يستطع أن تقضي على العناصر القوية في تركيا التي كانت ولا تزال متعلقة بفكرة القومية الإسلامية. ومما ساعد هذه العناصر الإسلامية على الاحتفاظ بقوتها الكامنة تأثرها بالأفكار التقدمية التي نشرها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبدة والسيد أمير علي وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي الحديث في الهند والشرق العربي.
وقد وجدت هذه العناصر الإسلامية التركية نفسها مقيدة في دعوتها إلى الوحدة الإسلامية في أوائل عهد أتاتورك بسبب انكماش الإمبراطورية العثمانية واقتصار سيادة الأتراك على الحدود الجغرافية الطبيعية لتركيا.
ويعتقد البرفسور لويس أن أتاتورك وجماعته في حملتهم على الإسلام وفصلهم بين الدين والدولة - هذه الحملة لم تكن في مثل النجاح الذي يطيب للحكومة التركية أن تنشره في الرأي العالمي. ففي عنفوان السيطرة الأتاتوركية كانت الدولة التركية تتسع سياسة (إسلامية) في المناصب الإدارية وفي الجيش (وكانت الحكومة التركية رغم صبغتها المدنية تتعمد أن تختار كبار المسؤولين في المراكز الوزارية والعسكرية من الأتراك المسلمين. وقد ازداد هذا الاتجاه في أواخر أيام أتاتورك عندما أقصيت عن المناصب الإدارية الهامة(1020/60)
عناصر تركية غير إسلامية.
وكانت حكومة أتاتورك تعامل الأقلية المسيحية من الروم الأرثوذكس المستوطنة في الأناضول معاملة تختلف عن الأقلية العربية والكردية التي كانت تشارك الأتراك الطوررانيين في العقيدة الإسلامية وتشاركها مشاركة تامة في الحقوق والواجبات المدنية.
ولما توفي أتاتورك وزالت هيبته القاسية على الحياة الإسلامية في تركيا نشطت العناصر الإسلامية هناك نشاطا ملحوظا. ففي سنة 1940 اضطرت الحكومة التركية برئاسة عصمت أنونو أن تعيد إلى الجيش التركي نوعا من الحياة الدينية فسمحت لرجال الدين بأن ينضموا إلى الجيش في شكل أئمة ووعاظ على نحو ما كان متبعاً في أبان العهد العثماني.
وفي نفس الوقت شرعت وزارة المعارف التركية في ترجمة (دائرة المعارف الإسلامية) وزيادة موادها. وخصصت الوزارة لذلك مبلغا عظيما من المال كافأت به الكتاب والعلماء الأتراك الذين ساهموا في الترجمة والبحوث والدراسات الإسلامية التي أضيفت إلى الطبعة التركية من دائرة المعارف الإسلامية).
ولكن العناصر الإسلامية من حفظة الدين لم ترض عن عمل وزارة المعارف التركية وانتقدت مشروع ترجمة (دائرة المعارف) على أساس أن واضعي هذه الموسوعة هم من خصوم الإسلام الأجانب الذين لا يقصدون خدمة الإسلام وإنما يهدفون إلى تفسيره تفسيراً يتلاءم مع أهدافهم كمبشرين ومستشرقين أجانب يخدمون الاستعمار الأوربي في الشرق الإسلامي. ولم تكتف هذه العناصر الإسلامية بالنقد فحسب بل نشطت بزعامة الزعيم الديني (أشرف أديب) لوضع موسوعة إسلامية أسموها (الإنسكلوبيديا التركية الإسلامية).
وصاحب هذا النشاط للعناصر الإسلامية التركية اتجاه جديد في الحكومة التركية التي جاءت في أعقاب أتاتورك - اتجاه أزال كثيرا من معالم الديكتاتورية التي اتصف بها عهد أتاتورك. ومن ثم توفر للعناصر الإسلامية في تركيا فرصة ذهبية لمضاعفة حماسها في بعث الحياة افسلامية من جديد في البلاد التركية.
وفي سنة 1946 نجحت هذه العناصر في حمل البرلمان التركي على مناقشة مشروع التعليم الديني الإلزامي في المدارس الحكومية. وبعد مناقشة وجدل في البرلمان والصحافة والمحافل العامة والخاصة توصلت الحكومة التركية في سنة 1949 إلى سن مشروع يوفر(1020/61)
لجميع المدارس حصتين في الأسبوع للتعليم الديني في أصول الإسلام وفقهه وتعاليمه. وترك الخيار لآباء الطلبة في حمل أبنائهم على المشاركة في هذه الحصص الدينية. ولكن الأكثرية الساحقة من الآباء تحمسوا لتربية أبنائهم تربية إسلامية. وعلى أثر ذلك شرعت وزارة المعارف التركية في تأليف الكتب الدينية لطلبة المدارس. وجدير بالذكر أن هذه الكتب وضعت في قالب جديد يختلف اختلافا بينا عن كتب التدريس الدينية المستعملة في مدارس الشعوب الإسلامية الأخرى.
ثم خطت الحكومة التركية في سنة 1950 خطوة جديدة فجعلت التعليم الديني في المدارس الحكومية والأهلية إلزامياً لا يتقيد بمشيئة الطلبة وآبائهم.
وكان من الطبيعي أن تخلق هذه المشروعات أزمة في المعلمين الدينيين؛ ولذلك أسرعت وزارة المعارف التركية بإنشاء معاهد خاصة لتخريج المعلمين الدينيين. وألحقت بالجامعات التركية أقساما خاصة بالتعليم الديني ولم تبخل بالمال على إنشاء المكاتب ونشر المطبوعات والكتب الدينية للعامة والخاصة. ثم سمحت باستعمال اللغة العربية في الأذان وأخذت تذيع القرآن الكريم من محطات الإذاعة أسوة ببقية الشعوب الإسلامية الأخرى.
وجدير بالذكر أن العناصر الإسلامية التقليدية في تركيا أخذت تساهم في الحياة السياسية مساهمة عملية. فناصرت هذه العناصر الحزب الوطني على الحزب الديمقراطي (حزب الحكومة). وذلك لأن الحزب المعارض كان يعد في برامجه الانتخابية بمشروعات واسعة للبعث الديني في البلاد التركية.
ويعتقد الأستاذ لويس أن موجة البعث الإسلامي في تركيا لم تؤثر في اتجاهات الشعب التركي نحو حلفاء الغرب ولم تؤثر بعد في سياسة تركيا الخارجية. فبينما تقف الصحافة في جانب العرب في قضية فلسطين تقف الحكومة التركية في جانب إسرائيل. وسبب ذلك أن زعماء الحركة الدينية في تركيا جماعة تنتمي إلى العهد القديم المحافظ الذي لا يرضى عن الشيوعية السوفيتية ومطامعها في البحر الأسود والقطاعات التركية المجاورة لروسيا.
ولما كانت الحكومة التركية تبني سياستها نحو الغرب ونحو إسرائيل على أساس الخوف من التوسع الروسي، فان العناصر الإسلامية في تركية لم تعد تستطيع أن نثبت وجودها بتغيير سياسة تركيا نحو إسرائيل كما فعلت العناصر الإسلامية في إيران بزعامة آية الله(1020/62)
كاشاني.
ولكن برغم هذه التيارات السياسية التي تحد من نشاط العناصر الإسلامية في تركيا، وبغم عشرات السنوات من السيطرة الأتاتوركية والحد من نشاط الإسلام في الحياة التركية فان الأستاذ لويس يعتقد بأن جذور الإسلام في تركيا أثبتت بأنها راسخة متمكنة لم تزعزعها الرياح والزوابع.
ولا يستغرب الأستاذ لويس أن يتطور هذا الاتجاه الإسلامي في تركيا إلى وسيلة توافق بين مبادئ الدولة الحديثة وبين تعاليم الإسلام على نحو التجربة الهامة التي تجري الآن في باكستان.(1020/63)
طرائف وقصص
عروس البحر
للشاعر الهندي رابندرانات طاغور
كان شاباً فتياً، في مرآة قرة العين، وابتهاج القلب، وغبطة النفوس. . .
وكان غرة قومه، ووجه عشيرته، يثنون له أعطافهم ويمهدون له أكنافهم، ويؤثرونه بالحب والإيناس.
وكان من حوله يستفزون نفسه الثائرة بأحاديث الزواج وما فيها للقلب من متعة، وما في الطبع إلها من طمأنينة وارتياح.
قال واحد من رسل الملوك إليه: (أما أميرة بهليك. . فما أجملها! إنها لكالباقة من أزاهير الربى في الربيع!).
ولكن الأمير الشاب أشاح بوجهه - وكأن لم يلق الحديث منه بشيء - وما أجاب.
وقال آخر: (وتلك هي أميرة كندهار. . زهرة أنيقة، وضاءا بهية، كمثل وضاءا العنقود النضيد!).
ولكن الأمير الشاب ينساب في الغابة لا يخرج منها إلا بعد حين. . .
وقال وصيف من سراي الملك - أبيه -: (. . جميلة أميرة كامبهوج جمال قوس قزح عند انبثاق أضواء الفجر وأنواره. . . وعيناها. . . وعيناها ناعستان حالمتان، تلتمعان التماع قطر الندى الوضاء!).
ولكن الأمير الشاب يستغرق في كتابه تصفحا فلا يرفع عنه عينيه ولا يفيق!.
واختلى الملك الوالد بنجى ابنه وعشيره يسأله عما انحرف بابنه عن الزواج وبغضه إليه!.
فقال سمير الأمير: (أيها الملك الجليل، لقد زهد الأمير في الزواج ما سمع عن عرائس الأمواه، ولقد أقسم في سره لتكونن زوجة من عرائس البحر، بنات الماء. .).
وأراد الملك أن يعلم من أمر هذه العرائس شيئاً، فاستدعى إليه أهل العلم وأرباب الحكمة. . ولكن أهل العلم لم يروا في كتبهم عن العرائس المزعومات شيئاً! إنما هاتيك العرائس: عرائس الخيال الموهومات. وكذلك قال رواد البحر من الهنود التجار!.
فدعا الملك الشيخ إليه سمير ابنه يسأله عمن قص على ابنه هذا الخيال الموهوم، فأجاب:(1020/64)
إنه رجل يضرب في الأفاق مجنون. . . وقد سمع منه الأمير ما سمع في الغابة حين كان يصطاد!.
فأرسل الملك أعوانه في البحث عن هذا المتشرد المجنون ليحضروه إليه. . . حتى وجدوه فجاءوا به إلى قصر الملك الفخم العظيم! فسأله الملك عن مملكة عروس الماء أين تكون؟.
قال المجنون: إنها فيما بلى حدود الشمال من مملكتك أيها الملك العظيم. . . وعند سفح جبل (شيتراهي) حيث تنبع بحيرة (كامياكا). . .
فقال الملك: وهل يبصر المرء عرائس الماء هناك؟.
فأجاب الجائل المخبول: نعم! في إمكان المرء رؤيتهن. . ولكنه لا يكاد يعرفهن لما يحطن به أنفسهن من غبهام وغموض. . . غير أني أعرف العرائس الفاتنات بأصوات مزاميرهن الرائعة. . أو بقبس من شعاع لهن وهاج!.
فغضب الملك من هذا الهذيان وقال: (إنه لمجنون! قد أصابه مس من حياة التشرد والتجوال فاطردوه).
غير أن الأمير كان قد أصغى إلى ذلك الهذيان الجميل. . . وقد علق بقلبه منه ما سمع، فليس إلى طرده من سبيل. . .
وجاء الربيع يكاد سنا حسنة يستلب العقول. . . وانبثقت أزاهيره في الغابة تملأها حسناً وعطراً! فركب الأمير جواده وخرج. . . فيسأله الأهل: إلى أين أيها الفتى النبيل؟ إلى أين أيها الأمير الجميل؟ ولكن الأمير ساكت لا يجيب.
السيل يتدفق منحدراً من أعلى الجبل ثم ينصب في البحرية فيفيض. . . وهناك، هناك قرب الجبل في المعبد المهجور كان الأمير يقيم!.
ومر شهر، والأمير في معبده يرتقب، وفي الشهر هذا اشتدت خضرة الزرع، واكتست بوشاح من الزبرجد الزاهي الجميل!.
وإن هذا الشهر الجديد يكاد ينصرم. . والأمير في مكانه لا يريم!.
وفي ليلة من ليالي هذا الشهر أصغى الأمير الشاب إلى صوت مزمار خافت يطرق أذنيه كالصدى النائي البعيد. . .
وفي اتجاه السيل المنحدر إلى البحرية الجميلة كان اتجاه الأمير. . . حيث كان مصدر(1020/65)
الصوت الشعري الرخيم؟.
وهناك، كانت تجلس بين أزهار (اللوتس) حورية من بنات البحر عرائس الماء المنشودات.
إن شعاعاً عبقاً ينبثق من زهرة من زهور (السيرش) في مفرقها الجميل.
فترجل الأمير عن جواده، ودنا إلى الحورية في استحياء وطلب منها تلك الزهرة الجملية العبقة. . . فرفعت رأسها ترنو إليه ثم سحبت زهرتها من شعرها وقدمتها قائلة: (إنها لك).
ثم سألها الأمير: وأي ملكة أنت؟.
فبدت على وجهها علامات الدهش والإنكار ثم قهقهت في ضحكات متزنات كالأنغام. . كان لها رنين في قلب الأمير الشاب. . لقد ظن الناس تلك الضحكات مزامير لشدة ما يخطئون. .
ثم ركب الأمير جواده، وأردفها خلفه ومضى يحث السير!.
وهما على ظهر الحصان همس الأمير في أذنها أن اخلعي عنك النقاب. . واذكري اسمك الكامل.
فأجابت: إن اسمي كاكاري. . . وأما القناع فما كان قد انكش كما أراد!.
وهنا قال الأمير: وجهك. . . أرنيه. . . إنني في حاجة إلى استجلائه أيتها الملكة الحسناء.
ولكنها قهقهت في ضحكات كالأولى كان لها في قلبه الملتاع وقع ورنين.
ثم وصلا إلى المعبد القديم المهجور. . . فعلن الخبر وذاع؛ وسمع الملك الشيخ بزواج ابنه الأمير فأرسل إليه الجند والخيل والفيلة والعربات، في معبده المهجور.
واليوم يا (كاكاري) ستذهبين إلى القصر.
ولكنها لم تجبه، ولكن في عينيها كان الجواب. لقد كانتا دامعتين، طافحتين بالدموع، تستعبران! لقد هاجتها الذكرى. . . وأثارت ما في نفسها من شجون.
ثم قالت: (أنا لا أستطيع الذهاب. . أيها الأمير المحبوب!).
ولكن ضوضاء القادمين وجلبتهم غلبت صوتها الخافض الصئيل، وسارت إلى قصر الملك الفخيم.
فرأتها الملكة فقالت: وأي أميرة هذه تكون؟(1020/66)
ورأتها إبنتها فقالت: يا للعار!!.
ورأتها من وصائف القصر واحدة، فقالت:
انظرن إلى رداء الأميرة الخلق. . . لا بأس عليها فإنها ممن لا يحتجبن إلى الثياب إذ أنها من عراس الماء!.
ولكن الأمير أسكتهن في حنق وغيظ شديد:
(إن الأميرة قد جاءت متخفية في هذه الأطمار. . .).
ولكن أصوات الهزء إن خفتت فلم تنقطع، أو انقطعت فإلى حين، وكان الأمير إذا سمع ذلك يهج ويغضب لأنهم لا يشاركونه شعوره نحو هذه الأميرة إبنة الماء؟!.
ومضت أيام: والأمير على ما وصفنا، وأهلوه على ما ذكرنا وزوجه على حالها لم تتغير، ولم تلق عنها نقابها البغيض المكروه. . .
ولكن الأمير يؤمل وينتظر، وهو الآن يكتفي بالأمل والانتظار. . .
وإنه لجالس مع (عروس البحر) يسامرها إذ سألها عن مدى لبس هذا القناع البغيض؟ فقالت: (سيكون لذاك أيها الأمي مدى معلوم: ولكن تريث الآن).
فأجابها: إذن سيكون ذلك في قمر الشهر المقبل أيتها الأميرة الحسناء!!.
إن قمراء البدر قد اكتملت وضوحاً وقوة، فهي الآن تملأ البيد، وتغسل الحقول. . . وتسيل على الأرض فتغطي كل ما فيها. . . حتى تلك الغرفة، وذلك السرير!!.
ولكن أين كاكاري. . . اين الأميرة إبنة (البحر لحسناء)؟!.
. . . لقد غابت، إذ رفعت عنها القناع!!.
ف. س(1020/67)
العدد 1021 - بتاريخ: 26 - 01 - 1953(/)
مهرجان الحرية
تحتشد مصر اليوم في عاصمتها القاهرة لتحتفل بذكرى يوم الحرية بعد نصف عام! ويوم الحرية أو يوم 23 يوليو سنة 1952 هو يوم مصر الأوحد في تاريخها العريق في العبودية، العميق في الأوتقراطية، منذ أن رفع (مينا) إلى العرش، إلى أن خلع (فاروق) من الملك.
كان الشعب المصري طيلة هذه القرون الاثنين والأربعين التي مرت على وجوده في هذه الأرض، أشبه بقطيع من السوائم، لا إرادة له في نفسه، ولا قيادة له من جنسه؛ وإنما كان يتولى قيادة رعاة طغاة، سموا أنفسهم آلهة أو ملوكا أو ولاة. سخروه ليظلموه، واستغلوه ليحرموه. ولم تعصيه هداية الدين من عبث خليفة كالحاكم، ولا مدينة العلم من فجور ملك كفاروق؛ حتى اجتمع على إذلاله واستغلاله في عهده الأخير، ما لم يجتمع عليه في دهره الطويل، من سلطان العواهر من نساء البلاط، وطغيان الفجار من رجال الحكم، وبغي المترفين والمسرفين من الأمراء والإقطاعيين رواد وعباد المنكر. فعصفت النخوة في رؤوس الأحرار من قادة الجيش، فهبوا هبوب العاصفة الخيرة المدركة: صواعقها الماحقة للقصور الطافحة بالرذيلة، وللكرسي الغائصة في الوحل؛ ورياحها العاتية للجذور التي نخرها السوس، وللفروع التي أصمها الهوى، وللبصائر التي أعماها المال؛ ويروقها الوامضة للقلوب التي أظلمت من الياس، وللنفوس التي زاغت عن الطريق؛ وأمطارها المحيية للثرى الذي جف فلا ينبت، وللشجر الذي ذوي فلا يثمر.
وهكذا عاشت مصر في خيرة هذه العاصفة المعمرة المصلحة ستة أشهر اندفعت فيها إلى الأمام اندفاع القوة المضغوطة المكظومة: تنفجر انفجار البارود فتمحق، وتنطق انطلاق السهم فتلحق!.
فإذا احتشدت مصر كلها بطبقاتها وطوائفها لهذا المهرجان فإنما تحتشد لتحتفل بتحررها من رق أغرق في القدم حتى طمس في نفوسها معاني الحرية والعزة والاستقلال والكرامة!.
وشتان بين هذا المهرجان ومهرجانين أقيما من قبل: مهرجان يوم تزوج المخلوع بإرادة شعبه، ومهرجان يوم تزوج بإرادة قلبه. كان هذان المهرجانان من صنع السيادة والقوة، أنفقت فيهما مئات الألوف من أموال الأمة لتغرق القصور الملكية في القصف وللذة، وتمتلئ الخزائن الملكية بالذهاب والماس! وافترضت الحكومة (الملكية) هذه القرصنة(1021/1)
لتنحني أمام الطاغوت انحناءه العبودية حتى يمس أنفها الأرض، فحشدت الشعب في شوارع العاصمة ليهتف وهو جائع، ويرقص وهو عريان؛ وتركته يهيم في الطرق والميادين هيام القطط الجياع والكلاب الضالة؛ لا يجد في نفسه فرحة المعرسين ولا متعة المدعوين ولا بهجة العرس!.
أما هذا المهرجان فمن صنع الطبيعة والأمة. إقامة الخارجون من ظلام الظلم، والناجحون من إسار الرق، كما تقيم الطبيعة مهرجان الربيع لخروجها من ظلام الشتاء ونجاتها من همود الأرض. فكما يورق الشجر ويزهر، وينضر الزهر ويفوح، وتمرح الطير وتهزج، ترى الشعب من ذات نفسه يبتهج ويفوح، ولإطراب نفسه يغني ويرقص، ولإطراء نفسه ينشد ويهتف!.
ذلك لأنه بات ذات ليلة ثم أصبح فإذا هو صاحب العرش وصاحب الجيش وصاحب الحكم وصاحب الثروة! نام وهو لاشيء، ثم استيقظ وهو كل شيء! لقد استطاع في هذه اللحظة القصيرة من عمره الأطول أن يضع هذا النير الثقيل عن كاهله الواهن بعد أن مكن له الرق المزمن بين اللحم والعظم والعصب!.
كان قد ألف نير العبودية كما يألف الثور الذلول نير المحراث فلم يفكر في الانعتاق منه؛ إلا مرة واحدة حاول أن يفلت فيها من قيده فعجز. كان هذا النير فرعا غليظا من هذه الشجرة الملعونة درعه الإنجليز بالحديد والذهب، فشق على عرابي الثائر الأول أن يحطمه. ثم عظم وضخم بفضل الأفظاظ الغلاظ من أولى الأمر في عهد الخليع الرقيق، حتى رزحت الكواهل وخرت الأعناق، وحسب الناس حتى المتفائلون أن الليل سرمد، وأن الرق خلود، فقروا على الضيم واستكانوا للهون. وكادت مصر كلها تسقط بسقوط فاروق ومن على دين فاروق لولا أن نبه الله للخطر رهطا اصطفاهم من رجال القيادة، فنفخوا في الصور فنهض الجيش وانبعثت الموتى. وقاد الشعب محمد نجيب وأصحابه في معركة التحرير والتطهير، فحرروا الأمة من النير الباهظ، وطهروا الوطن من الفساد الشامل؛ وعمدوا إلى أوكار الأفاعي وأجحار الذئاب فقوضوها على الأذى والجريمة. ثم فتحوا أبواب الرزق المحتكر أو المغتصب فتدفق على أهله المحرومين منه المكدودين فيه. ثم لخصوا دين الله في ثلاثة أمروا هبا، وهي العدل والإحسان والمؤاخاة؛ وثلاثة نهوا عنها،(1021/2)
وهي الفحشاء والمنكر والبغي؛ وثلاثة عملوا لها، وهي الاتحاد والنظام والعمل؛ ثم جعلوها كلها مبادئ (لهيئة التحرير) التي أعلنوا ميلادها اليوم في مهرجان الحرية و (ميدان التحرير)!.
فمن حق الشعب إذن أن يقيم هذا المهرجان العظيم مزهوا بجهاده، فخروا بقواده، معبرا بهتافه المرتفع، وتصفيقه المدوي، وحماسه المتقد، وسروره الدافق، عن اطمئنانه الواثق إلى حاضره المستقر، وعن أمله الفسيح في مستقبله المشرق.
أحمد حسن الزيات(1021/3)
الأدب الشعبي
للأستاذ محمود تيمور
بقية ما نشر في العدد الماضي
إني على يقين بأن العمل الفني إذا توافر له جوهر الأدب من إثارة العاطفة، ومنادمه الوجدان، ومن تناول العناصر الحية في المجتمع البشري، ومن تصور النزعات النفسية النابعة من موارد إنسانية أصيلة، فإن هذا العمل الفني صالح لأن يكون شعبياً يستمرئه الناس على اختلاف مراتبهم من المعارف والمدارك؛ وأنهم ليستجيبون له، ويتأثرون به، ويجدون له في أنفسهم بلاغا ليس وراءه بلاغ.
أعرف فيما أعرف سيدة تقرأ العربية، ولكنها غير متضلعة منها، فأما الشعر العربي فإنها لا عهد لها به، ولعلها تتجنبه ثقة منها بأنها لا تملك له فهما. وأظهر ما تتميز به هذه السيدة أن العاطفة تحيا ولها تعمل، ويوما عرضت على إحدى المجلات مشيرة فيها إلى أبيات من الشعر يناجي بها الشاعر طفله، وما عتعت أن أخذت تقرأ على هذه الأبيات، جياشة الحماس مستعذبة ما تقرأ، مسهبة في شرح ما تجد من جميل المعاني، تدلني بذلك على أنها فهمت مرامي الشاعر وأغراضه، وأن غمت عليها مدلولات الألفاظ على الوجه الدقيق. فهذه السيدة قد تأثرت عاطفتها بتلك الأبيات، طوعا لما تضم بين جوانحها من مشاعر الأمومة المتوقدة، فالشاعر قد عالج لها موضوعا ينزل من نفسها في المكان الأول، وعبر لها عما تشعر به الأم نحو طفلها تعبيراً فنياً جميلاً، فيه النغمة الموسيقية التي هي أقرب إلى هدهدة الطفل في مهده الحبيب، ومن ثم استجابت الأم لهذا اللون منالشعر، لا بما تفهمه وتعقله في هذا الفن من الأدب، ولكن بما استشعرته لذلك الموضوع الذي عالجه الشاعر الفنان، وكان حسبها في هذه الاستجابة جملة ألفاظ فهمتها من أبياته، فكانت هذه الألفاظ جسراً يصل بين شعورها وشعوره.
وأذكر أني كنت في عهد الصبا أحرص على شهود المحافل التي يلقي فيها شاعر النيل (حافظ إبراهيم) قصائده الشعبية في الشؤون الاجتماعية والسياسية العامة. وكان كعهده يؤثر أناقة اللفظ وجزالة العبارة حتى ليفتقر النشء المتأدبون في فهم كلماته إلى معجم، وأنا يومئذ قليل الزاد من الفصحى، ولكني على الرغم من ذلك ما أكاد استمع إلى (حافظ) ينشد،(1021/4)
حتى أحس معانيه تنساب إلى نفسي انسيابا، وإذا أنا أدامجه وأسايره بعاطفتي وشعوري؛ ذلك لأن الموضوعات التي يعالجها كانت تشغل بالنا، ولم يكن جمهور (حافظ) من المثقفين خاصة، وإنما كان خليطا من طبقات الشعب، يفهمون عنه، ويتأثرون به، ويصفقون له في صدق وإيمان. ولست أنسى حفلا شعبياً شهدته في (حديقة الأزبكية) لذلك العهد، فأنشد فيه (حافظ) إحدى روائعه، وكان بين جمهور السامعين كثير من ذوي الجلابيب، وهم يطربون للشعر، ويهتاجون بالإنشاد، ويتصايحون في تهلل وإعجاب.
وإليك ما عرفت من شأن (طاغور) وجمهور، فقد كانت حلقته التي ينشد فيها أشعاره تحفل بالحشد الوافر من جمهور الشعب غير المثقف، وبينهم الحفاة العراة المهازيل، وكان أولئك يصغون إلى (طاغور) مرتلاً شعره، وكأنهم في معبد يشتركون في صلاة، وأعينهم تفيض من الدمع تأثراً واستجابة، وكذلك استطاع هذا الجمهور الساذج أن يستشعر الجمال والروعة في قصائد بالغة من السمو الفني والفلسفي أرفع الدرجات، وإنما تسنى للجمهور أن يساير أدب (طاغور) بثلاث: الأولى أن الشاعر يتناول من الموضوعات ما يشغل بال الناس، وما يحسونه في صميم قلوبهم أوفر إحساس، فهم حين يصغون إلى الشاعر فإنما يصغون إلى زفرات نفوسهم وأصداء عواطفهم صادقة الوحي والإلهام. والثانية أن قصائد (طاغور) أقرب في أسلوبها وجرسها إلى النغمة الموسيقية منها إلى ألفاظ تتألف من حروف. والثالثة أن (طاغور) كان يلتقي شعره فيحسبه السامع مغنيا يترنم. وثمة ناحية رابعة ليس من الخير إغفالها، تلك هي أن فلسفة (طاغور) التي ينطوي عليها شعره أدنى إلى التصوف والتعبد منها إلى فلسفة المذاهب والاراء، والإنسان صوفي بالفطرة، متعبد بالطبع، ولم تكن هذه المعاني التي يجلوها (طاغور) في فلسفته الصوفية إلا معاني إنسانية كامنة في النفس البشرية، فلا هي بجديدة على الإنسان ولا هي بمستغلقة عليه، بل هي في سريرته مستخفية تلتمس من يثيرها من الأعماق.
لسائل أن يقول: أفي المستطاع أن يتذوق جمهورنا العربي من فن (طاغور) ما يتذوقه جمهوره؟.
لا سداد في الإجابة عن هذا السؤال بنفس أو إيجاب، فإن كثيراً من الألوان الأدبية، وبخاصة الشعر، لا يكاد يسوغ إذا نقل إلى لغة غير لغته لأنه يفقد بالترجمة خصائص وقعه(1021/5)
الموسيقى وكيانه الفني، ولا تبقى منه إلا ظلال وأشباح أو هياكل معروفة من عظام. ولو كان في المقدور أن يترحم أدب (طاغور) رنانا بموسيقيته الفنية، رفافا بصوفيته الإنسانية، لكان حريا أن يتأثر به الجمهور الكبير حيث يكون.
وهذا (شكسبير) الشاعر العبقري الذي نقرأ له اليوم في إمعان وروية، محاولين استشفاف الغامض من معانيه، والدقيق من تأملاته وتحليلاته النفسية. لقد كانت مسرحياته تمثل على أعين الناظرة من عامة الشعب، كانوا أمشاجاً من الناس يتباينون في مراتب الثقافة والذوق، ولكنهم استساغوا من فن (شكسبير) ما يساير عواطفهم وما يلائم مزاجهم، واستمرءوا ما كان يمازحهم به من مفارقات الحياة وأضاحيك المجتمع، في سخرية لاذعة، ونقد طريف؛ وما كان يهزهم به من صور المآسي والفواجع، في لوعة مريرة، وتحس أليم. فالشعب في ذلك كله مستجيب له أعمق استجابة، فتارة هو واجد حزين، وطورا هو مستمتع طروب.
على الأديب الفنان الذي يرى أدبه محجوبا عن الجمهور، فيسئ الظن بهم، ويسرع إلى وهمه أن الناس لا يستطيعون التلقي عنه، عليه أن يسأل نفسه: أموصول هو حقا بالشعب يعبر عن خوالجه، ويصور منازعه؟ فإن كان كذلك حقا فليسأل نفسه ثانية: هل ابتغي الوسيلة التي يتسنى بها للجمهور الإقبال على أدبه؟ وإن في الجواب عن هذا السؤال جانباً خطيراً من سر العلاقة بين الفنان الكاتب والجمهور القارئ.
وليس بعازب عنا عقم الوسائل التي تتأدى بها الكتب الأدبية إلى أيدي الشعب، فإن هذه الكتب لا تكاد تصل إلى الناس إلا بجهد، فالكاتب والقارئ كلاهما يلقي من ذلك إعناناً ورهقاً. وفي مقدورك أن تعزو العزلة التي يعانيها الأدب الفني إلى أن الجمهور يجهل وجدوده، وأنه لا يجد تنبيهاً إليه، وربما وجد سبيله غير ميسور؛ فللجمهور عذر مبسوط فيما نلاحظ من ضعف إقباله على الأعمال الفنية التي ينهض بها الأدباء.
وفي هذا المقام يطيب لي أن أشير إلى أن إحدى الفرق التمثيلية ضاقت بما تجد من تراخي الجمهور عما تقدمه من مسرحيات فنية أصيلة، وكانت تعلل ذلك بادئاً بأن الجمهور لا يسمو إلى هذا المستوى الرفيع. وأخيرا خطر للقائمين على تلك الفرقة أن يلتمسوا بعض السبل إلى اجتذاب الناس، فخفضوا أسعار الدخول حتى قاربوا بها أسعار الدخول في الدور السينمائية، وبسطوا لطلاب المعاهد وأساتذتها شيئا من الامتياز في الخفض، فازدحم(1021/6)
المسرح برواده، واحتفظت الفرقة بمستواها، ولقيت من الإقبال والاستحسان ما لم يكن يدور في الحسبان.
ومما لاحظناه منذ عهد قريب أن بعض دور النشر أخذت تقدم طبعات جديدة من المؤلفات الأدبية الرفيعة، ميسورة الأثمان، تعرض مع باعة الصحف على أنظار الناس، فراجت هذه الكتب، وبيع منها الألوف والجمهور هو الجمهور، لم يزدد علما ولا ثقافة بين عشية وضحوة، وإنما الفضل كل الفضل لهذه الوسيلة الجديدة في نشر الكتب وعرضها على جمهرة القارئين. وليس أدل على نصوع هذه الحقيقة من أن بعض تلك الكتب كان مطبوعا على الطريقة القديمة من قبل، ولم يكن المطبوع منه يزيد على ألفين أو ثلاثة، وما تزال منه بقية في المكتبات لم تبع بعد، فأما هو في طبعته المحدثة، بهذه الطريقة الميسورة، فإن المطبوع منه بربى على عشرين ألفا ولا يكاد يظهر حتى تنفد نسخه في أيام معدودات.
ومن طريف ما حدثني به أستاذ فرنسي صديق، أنه يسكن شقة في مبنى كبير في باريس، وعلى باب المبنى يقوم بواب مشغوف بالقراءة، فبين يديه دائماً كتاب يطالع فيه، وقد عنى الصديق بأن يتعرف ما يقروه ذلك البواب المتأديب، فإذا هو الأدب المسف الرخيص، فخطر له أن يزاول معه تجربة لا يدري أتخفق أن تفلح، فدفع إليه كتابا من الكتب، وترك له أن يقرأ إذا راقه أن يفعل، فأخبره البواب بأنه قرأه في ليلة واحدة، وأنه أعجب به. ولم يكن الكتاب مغامرة من مغامرات (أرسين لوبين) وإنما كان كتاب (أناكارنين) لتولستوي. ومنذ اليوم أخذت المكتبة القصصية الرفيعة التي يقتنيها الأستاذ الفرنسي تستعار كتابا كتابا لهذا البواب، فيعب ما شاء أن يعب، وكذلك أثمرت التجربة وأصبح البواب القارئ من عشاق الأدب الرفيع.
هذه خواطر في معنى الأدب الشعبي، أردت بها توجيه الأنظار إلى تصحيح مدلوله، والكشف عن حقيقته، فلقد طالما أسيء فهمه، وشدما عدل به عن وجهه. ولقد آن لنا أن نرد إليه وبينه، كما نظلم الشعب إذا نقصنا من متعة الأدب حظه. وهل للأدب موضوع إلا الشعب؟ وهل للشعب مرآة إلا الأدب؟.
محمود تيمور(1021/7)
شعراء الوطنية
للأستاذ عبد الرحمن الرافعي
أصبح للناحية الوطنية في الشعر العربي الحديث نصيب كبير في مصر جدير بالتدوين والتقدير. فالشعراء الذين استلهموا وحي الوطنية في قصائدهم، واهتزت لها مشاعرهم، واستجابوا إلى نداء الوطن في دنيا الشعر والفن والخيال؛ وكانوا مرآة صادقة لعصرهم، ومصدر إلهام وتوجيه لمواطنيهم، وترجمانا لهم في آمالهم وآلامهم، وأحاسيسهم وأهدافهم؛ هؤلاء خليقون بالتحدث عن شخصياتهم ودراسة أشعارهم الوطنية. كل منهم بمقدار ما أنتج وأثمر وأجاد وأبدع.
فمن أين نبدأ هذه الدراسة؟
يبدو لي أن الروح الوطنية قد بدأت تغذي الشعر المصري، وتبعث فيه من حياتها وبهائها، وتضفي عليه من جمالها وجلالها، منذ أوائل القرن التاسع عشر. فإلى هذا العهد نبدأ بالحديث عن (شعراء الوطنية).
رفاعة رافع الطهطاوي
1801 - 1873
هو أول رائد لنهضة العلم والأدب في النصف الأول من القرن التاسع عشر. كان شاعراً رقيقاً بالقياس إلى عصره. أشربت نفسه الوطنية منذ نعومة أظفاره. تلقاها من إيمانه الصادق (وحب الوطن من الأيمان) ومن فطرته السلمية، وخلوص نيته. ولما جاء عهد البعثات العلمية إلى الخارج كان من حسن التوفيق أن اختاره محمد على ضمن أعضاء البعثة الأولى التي سافرت إلى فرنسا سنة 1826. فجمع إلى ثقافة الأزهرية ثقافة أوربا وعلومها وآدابها. فاقتبس منها الشيء الكثير، وازدهرت روحه الأدبية على ضوء الحضارة الغربية.
وقد استثار رحيله عن مصر عاطفته الوطنية العميقة المتأصلة في نفسه الحساسة. فجادت قريحته وهو في باريس بقصيدة عبر فيها عن الحنين إلى الوطن وأهله، والإشادة بمفاخرة. قال في مطلعها:(1021/8)
ناح الحمام على غصون البان ... فأباح شيمة مغرم ولهان
وانتقل إلى التغني بمصر وذكر محاسنها وقال:
هذا لعمري إن فيها سادة ... قد زينوا بالحسن والإحسان
يا أيها الخافي عليك فخارها ... فإليك أن الشاهد الحسنان
ولئن حلفت بأن مصر لجنة ... وقطوفها للفائزين دوان
والنيل كوثرها الشهي شرابه ... لأبر كل البر في إيماني
وله قصائد ومنظومات وطنية قالها في مناسبات مختلفة.
فنظر إلى القصيدة الآتية تجدها تعبر عما يجيش في نفسه من أكرم لعواطف وأنبلها. وقد قدمها هو بقوله (وقلت أيضا وطنية). فالروح الوطنية تتمشى حتى في تقديمه لقصائده قال:
يا صاح حب الوطن ... حلية كل فطن
محبة الأوطان ... من شعب الإيمان
في أفخر الأديان ... آية كل مؤمن
مساقط الرؤوس ... تلذ للنفوس
تذهب كل بوس ... عنا وكل حزن
ومصر أبهى مولد ... لنا وأزهى محتد
ومربع ومعهد ... للروح أو للدين
شدت بها العزائم ... نيطت بها التمائم
لطبعنا تلائم ... في السر أو في العلن
مصر لها أياد ... عليا على البلاد
وفخرها ينادي ... ما المجد إلا عنه احتبس
فخر قديم مؤثر ... عن سادة وينشر
زهور مجدد تنثر ... منها المعقول تجتني
دار نعيم زاهية ... ومعدن الرفاهية
آمرة وناهية ... قدما لكل المدن
قوة مصر القاهرة ... على سواها ظاهرة(1021/9)
وبالعمار زاهرة ... خصت بذكر حسن
أبناؤها رجال ... لم يثنهم محال
وجندهم صنديد ... وقلبه حديد
وخصمه طريد ... بل مدرج في كفن
وقال يدعو إلى افتداء الوطن بالنفس والمال
وعزيز الموطن نخدمه ... برضا في النفس نحكمه
مال المصري كذا دمه ... مبذول في شرف الوطن
تفديه العين بناظرها ... والنفس بخير ذخائرها
تهدي في نيل نظائرها ... بشرا العليا أعلى ثمن
وقال يصف الجيش المصري ويشيد بمفاخره.
ننظم جندنا نظما ... عجيبا يعجز ألفهما
بأسد ترعب الخصما ... فمن يقوي يناظلنا؟
رجال مالها عدد ... كما نظامها العدد
حلاها الدرع والزرد ... سنان الرمح عاملنا
وهل لخيولنا شبه ... كرائم ما بها شبه
إليها الكل منتبه ... وهل تخفى أصائلنا
لنا في الجيش فرسان ... لهم عند اللقا شان
وفي الهيجاء عنوان ... تهيم به صواهلنا
فها الميدان و (الشقرا) ... سقت أذن العدا وقرا
كأنا نرسل الصقرا ... فمن يبغي يراسلنا
مدافعنا القضا فيها ... وحكم الحتف في فيها
وأهونها وجافيها ... تجود به معاملنا
لنا في المدن تحصين ... وتنظيم وتحسين
وتأييد وتمكين ... منيعات معاقلنا
وهذه الأبيات لمن خير ما قيل في وصف الجيش المصري. ولا شك أن رفاعة قد استلهم(1021/10)
شعره من مفاخر الجيش في عهده. فهو يصور العصر الذي عاش فيه تصويرا صحيحاً لا مبالغة فيه ولا إغراق. وإن قصيدته لتشبه أن تكون لوحة فنية يخيل لمن ينظر غليها انه يلمح فيها كتائب الجيش المصري تسير إلى ميادين الحرب تحف بها أعلام النصر والظفر. تخوض غمار القتال بقلوب ملؤها الشجاعة والإقدام، وتجابه الأخطار قوية الإيمان، ثابتة الجنان، مجهزة بالسلاح والمدافع (تجود به معاملنا). ولو لم يشهد رقاعة مفاخر الجيش المصري في ذلك العصر لما جادت قريحته بهذا الشعر. وهكذا يتأثر الشاعر والأديب بالعصر الذي يعيش فيه، والبيئة التي تحيط به، ويصور الحياة على عهده. فكأنما هو قطعة من عصره، أو مرآة تنطبع فيها مشهد الحياة السياسية والاجتماعية، ومظاهر الحالة الفكرية والأخلاقية.
وإنك لتلمح أيضاً عظمة الجيش المصري من قول رفاعة في قصيدة أخرى يخاطب فيها الجنود.
يا أيها الجنود ... والقادة الأسود
إن أمكم حسود ... يعود هامي المدمع
فكم لكم حروب ... بنصركم تؤوب
لم تثنكم خطوب ... ولا اقتحام معمع
وكم شهدتم من وغى ... وكم هزمتم من بغى
فمن تعدى وطغى ... على حماكم يصرع
وتتحلى روحه الوطنية المتطلعة إلى الحرية في تعريبه نشيد الحرية (المارسلييز) فإن النفس لا تميل إلا إلى ما هو محبب إليها. فهذا النشيد قد استثار ولا شك إعجاب رفاعة رافع، حتى مالت نفسه إلى تعريبه، وإظهار ما احتواه من العواطف الوطنية الفدائية في حلة عربية قشيبة.
وإذا تأملت في شعر رفاعة رافع الذي نقلنا طرف منه وجدت فيه تقدما نسبيا إذا قارنته بأسلوب شعراء المدرسة القديمة التي سبقته كالشبراوي والعطار والخشاب وغيرهم. ويعد شعره دور الانتقال إلى دولة الشعر الحديثة التي حمل لواءها البارودي وإسماعيل صبري وشوقي وحافظ.(1021/11)
حقا إننا إذا وضعناه إلى جانب شعر شوقي مثلا لجاء في المرتبة الثالثة أو الرابعة؛ ولكن يجب ألا ننسى أن رفاعة رافع نشأ في عصر كانت اللغة العربية وآدابها في دور تأخرها واضمحلالها. فله على نهضة الشعر والأدب فضل لا ينكر.
عبد الرحمن الرافعي(1021/12)
أزمة الثقافة!
للأستاذ محمد سعيد العريان
في مصر أزمة ثقافية شديدة، يحسها في هذه الأيام كل قارئ وكل ذي فكر وبيان. . .
إن الكتاب الجيد لا يكاد يطبع منه الآن أكثر من بضعة آلاف نسخة، في بلد يقولون ن عدد القارئين الكاتبين فيد يزيد على خمسة ملايين، وإن عدد طلاب العلم في معاهده يبلغ نحو مليونين؛ بل إن هذه الآلاف القليلة التي تطبع من الكتاب الجيد لا تكاد تنفذ في أقل من عامين، وأكثر من نصف الذين يقبلون عليها ليشتروها لا يشترونها ليقرءوها، بل لأنهم تعودوا أن يشتروا كل كتاب جيد، أو كل كتاب للمؤلف الذي يفضلونه.
فهل يبلغ عدد قراء الكتاب الجيد في سنته الأولى على هذا الأساس أكثر من بضع مئات؟ فلمن يكتب الكاتبون ويتحدث أصحاب الفكر والبيان إذا كان قراؤهم لا يزيدون على بضع مئات في شعب يزيد تعداده على عشرين مليونا ويصفه من يصف من أهل السياسة بأنه شعب ناهض؟.
الحق أنها أزمة ثقافية شديدة، تدل على مبلغ القطيعة بين هذا الشعب ومفكريه، المتفانين في الحديث عن نهضة هذا الشعب. وأني لأعلم علم اليقين أن حديثي هذا لن يرضي بعض السياسيين ولا بعض الأدباء، بل لعله خليق أن يغضب كل السياسيين وكثيرا من الأدباء؛ ولكني لا أبالي بمن يغضب ولا من يرضي من هؤلاء وأولئك؛ إذ كنت لا أقول إلا الحقيقة التي اعتقدتها ويعتقدها في مصر كل ذي فكر وبيان. . .
إننا نعيش في بلد أمي، أمية مطلة تشمل 999 من كل ألف، على رغم الإحصائيات التي تذيعها وزارة معارفنا في كل عام. . .
إن على رأس وزارة المعارف اليوم في مصر وزيرا له مذهباً في التعليم يقوم على أساس (الكيف) قبل (الكم). وما أحلى هذا العنوان لو كان له مدلول يعبر عن شيء من الواقع؛ ولكن ذلك الواقع يعبر تعبيرا أصدق عن الأمية الحقيقية المطبقة علينا كماً وكيفاً وموضوعاً؛ فليس في مصر اليوم خمسة ملايين قارئ كما يقول في بعض الأحاديث، ولا خمسة آلاف، بل قد يكون من الإسراف في حسن الظن أن نزعم أنهم قد يبلغون خمسمائة. . . وقد أوضحت برهان ذلك في بعض ما سبق!.(1021/13)
إن القارئ الكاتب الذي يصح أن يوصف بأنه قد خرج من نطاق الأمية، ليس هو (المتعلم) الذي اكتسب بالتعليم قدرة على أن يقرأ وأن يكتب، ولكنه القارئ الحقيقي الذي تعود أن يقرأ منذ اكتسب بالتعليم القدرة على أن يقرأ. إنه القارئ بالفعل لا بالقوة. فأين من متعلمينا أولئك القراء الحقيقيون؟ وكم يبلغ عددهم؟ على هذا الأساس ينبغي أن يقوم الإحصاء إن كنا نريد برهانا صحيحاً على أننا نعيش في شعب ناهض، وهو برهان لم نزل نلتمسه فلا نكاد نصل إليه، ولا نأمل أن نصل إليه في وقت قريب، لا بالكم ولا بالكيف، ما دمنا لا نلتمس السبيل إليه من بابه. . .
هذا، وقد كان عدد المتعلمين في مصر منذ ربع قرن لا يتجاوز المليون، ولكني أزعم - وتحت يدي من البراهين ما يؤيدني - أن مصر في ذلك التاريخ كانت أبعد عن الأمية مما هي اليوم؛ فقد كان في مصر من القراء الحقيقيين أكثر ممن فيها الآن وقد بلغ عدد (المتعلمين) خمسة ملايين. . . لقد كان فيها قراء من كل الطبقات يتابعون إنتاج طه حسين، والعقاد، وهيكل، والمازني، والرافعي، وشوقي، وحافظ، ومطران، وغير هؤلاء من ذوي الفكر والبيان، ويتتبعون ما تخرجه المطبعة العربية من كتب الأدب والفن للمحدثين والقدماء؛ ثم يتناولون كل ما قرءوا من ذلك بالنقد أو بالحديث في المجالس الخاصة أو في المجالس العامة أو في الصحف والمجلات. وقد يغلون في ذلك غلوا يقسم القراء إلى معسكرات متقابلة ينتصر كل منها لرأي أو لصاحب رأي، انتصاراً رفيقاً يبدو في أنواع هادئة من الجدل، أو انتصاراً عنيفاً يبدو في بعض المعارك التي كانت تنشب بين تلك المعسكرات فلا تكتفي بالجدل الهادئ دون تناول الموضوع المختلف عليه من حيث صلته بالدين أو بالسياسة أو بالأمور الشخصية. . .
كذلك كان الحال وعدد (المتعلمين) في مصر لا يزيد على المليون؛ فكم قارئا من الملايين الخمسة (المتعلمين) اليوم يتابع إنتاج أهل الأدب والفكر كتاباً كتاباً وموضوعاً موضوعاً ورأياً راياً على اختلاف جو القول والعمل، ليعرف أين يمضي بنا أهل الأدب هؤلاء، أو كيف تتطور بهم الحياة على اختلاف الأجواء التي يقولون فيها ويعلمون ويعيشون؟ وكم قارئا منهم يتتبع ما تخرجه المطبعة العربية من كتب القدماء والمحدثين فيتناوله بالنقد أو بالحديث؟.(1021/14)
وكان في مصر قبل ربع قرن أدباء منقطعون لفنونهم، منهم صاحب وظيفة لا يوصف بها وإنما يوصف من يوصف منهم بالأدب وحده، وقد يكون لبعضهم أو لكلهم مرتزق آخر يعيش من فيضه، ولكنه شأن من شئونه الخاصة لا يتراءى له ظل واضح على ما ينتج من فنونه ولا يدخل في حكم النقاد حين يتناولون ما ينتج من تلك الفنون؛ فكان ذلك نوع من الإيمان بالأدب يرتفع به عن مستوى نراه قد انحدر إليه الآن ويوشك أن يلوث بعض الأدباء ببعض وحل الطريق!.
هي إذن أزمة شديدة تتصل بالمنتجين وبالمستهلكين جميعاً، ويوشك أثرها أن يمتد إلى حياتنا العامة ويتغلغل ويؤدي إلى نتائج بعيدة المدى. . .
ولا أريد أن أسترسل في وصف ما ينتظر أن يكون لو مضت بنا هذه الأزمة إلى غايتها؛ ولكني أريد أن أتتبع أسباب هذه الأزمة من حيث نشأت.
وأول ما أعرف من هذه الأسباب أن المدرسة المصرية اليوم لا ترى من واجبها أن تعلم تلاميذها القراءة، مكتفية بتعليمهم (فك الخط) وفرق ما بين فك الخط والقراءة بعيد جداً، كالفرق بين الأمية والثقافة، أو كالفرق بين درس في السباحة في حجرة الدراسة أو في فناء المدرسة، ودرس آخر يتعلمه بالسبح في البحر الهائج ولو لم يكن معه معلم ولا رائد. وأنا لست أعرف ولا أظن أحدا غيري يعرف سابحا اكتفي في تعلم السباحة بقراءة كتاب ثم ألقي بنفسه إلى البحر يتحدى أمواجه!.
لقد زعموا في الفكاهة أن ثرياً من أثرياء الحرب قصد إلى طبيب ليصنع له نظارة للقراءة، فضبط الطبيب مقاييسه وألقى أضواءه واختبر الجفن والحدقة والقاع والعصب، ثم دفع إلى الرجل النظارة التي طلبها وهو لا يشك أنه سيقرأ بها؛ فوضعها الرجل على عينيه ثم تناول صحيفة من الصحف وهم أن يفك خطوطها ولكنه لم يستطع أن يقرأ حرفاً، فرد النظارة إلى الطبيب مغضباً لأنها لم (تعلمه) القراءة ولم تنقله من أميته العريقة إلى مستوى القارئين الكاتبين.
ما أشبه ذلك الثرى الأمي الذي زعم أن (نظارة القراءة) يمكن أن تنتشه من وهدة الأمية، بالمدرسة التي تكتفي من تعليم القراءة والكتابة بتعويد تلاميذها أن يرسموا الحروف الهجائية وأن تتحرك ألسنتهم بأصواتها معريين، ثم تزعم أنها علمت كذا وكذا ألفا فأصبحوا(1021/15)
من القارئين الكاتبين.
إن هؤلاء الآلاف الذين غادروا المدرسة (متممين واجباتهم) ليسوا خيراً من الآلاف الآخرين الذين تخلفوا عن موكب العلم فلم يدخلوا مدرسة ولم يتلقوا العلم على معلم؛ لأن هؤلاء وأولئك أميون بالمعنى العام، لا يمحو وصمة الأمية عن بعضهم أنهم (يستطيعون) أن يقرءوا، ما داموا لا يقرءون بالفعل؛ ولا يستخدمون (نظارة القراءة) التي منحتهم إياها المدرسة في النظر إلى كل صفحة مكتوبة تقع تحت أعينهم!.
إن القراءة في المدرسة المصرية ليست إلا (أصواتاً) تتمرن عليها حناجر التلاميذ وأشداقهم وألسنتهم في دروس المطالعة، ثم لا شيء بعد ذلك. والتلميذ الذي يبلغ درجة النجاح في الدروس القراءة هو التلميذ الذي يحسن أن (ينطق)، وأن يرتفع صوته في موضع وينخفض في موضع، وأن يضع حركات الإعراب في مواضعها من أواخر الكلمات أو من أواسطها؛ وقد يغلو بعض المعلمين بعد ذلك فيسأل تلميذه تفسير عبارة، أو تلخيص جملة أو نقد كلمة، أو ذكر نظير؛ ولكنه لا يمكن أن يذهب في الجرأة إلى أبعد من ذلك فيدفع إليه كتابا يقرؤه وحده ليناقشه في موضوعه بعد ذلك. ولو أن معلما من المعلمين ذهب في الجرأة إلى هذا الحد، لأحيل إلى إحدى لجان التأديب، أو لجان التطهير، متهماً بترويج كتاب غير مقرر للقراءة!.
هذه القاعدة التي تأخذ بها وزارة المعارف المصرية معلميها في المدارس ويأخذ بها المعلمون تلاميذهم، قد أحذ بها التلاميذ أنفسهم، فلم تتهيأ لهم الفرصة ليعرفوا أن (القراءة) شيء غير تلك الأصوات المنغمة التي تتفق مع قواعد النحو، فلم يحاولوا أن يقرءوا، وكان ذلك أول أزمة الثقافة!.
وثمة سبب آخر وثيق الصلة بهذا السبب الأول، هو أن المدرسة المصرية - أيضاً - تكاد تغرس في نفوس تلاميذها أن العلم هو ما يتعلمون فيها، وهو كل ما يحتاجون إليه ليكونوا مثقفين، فليس وراء ما تعطيهم من ذلك العلم غاية لمستزيد؛ فالتاريخ كله في كتب التاريخ المقررة، والأدب كله في كتاب النصوص، والشعر خير الشعر هو ما قرءوه في تراجم الشعراء. وقل مثل ذلك في كل فنون لمعرفة، حتى ليكادون يحصرون علم الكون كله في كتب الصوت والضوء والكهربا التي يؤدون فيها امتحانهم آخر العام!.(1021/16)
وأذكر - على خجل شديد - أن معلما من معلمي المدارس المصرية، لقبني ذات يوم وأنا أقرأ كتاباً حديثاً في الجغرافيا، فأنكر مني ما رأى، وأبدى دهشته لأنني وقد أتممت تعليمي - فيما يزعم - منذ بضع وعشرين سنة، لم أزل بحاجة إلى قراءة كتاب جديد في الجغرافيا.
ومما أعان على إنشاء هذه العقيدة في نفوس بعض المتعلمين من شبابنا، فكرة (الكتاب المقرر) التي لم تزل المدرسة المصرية تأخذ بها؛ فللطبيعة كتاب مقرر، وللكيمياء كتاب مقرر، فليس يسوغ للمعلم ولا يتأنى للتلميذ أن يستعين في مادة من مواد العلم بغير الكتاب المقرر لها، إلا على حذر ورقبة، خشية الاتهام بالخروج على الطاعة أو الاتهام بقصد الاستغلال؛ فنشأ من ذلك الاعتقاد أو شبه الاعتقاد بأن العلم كله في تلك الكتب، وليس في غيرها من الكتب إلا فصول من العلم ليس فيها كبير غناء!.
وهناك سبب ثالث يتصل أوثق اتصال بالسببين السابقين، هو اعتقاد أو شبه اعتقاد في نفوس المعلمين بأن مهمة المدرسة هي التعليم، أي إعطاء العلم؛ وهذا خطأ كبير، يجب أن يزول من نفوس المعلمين ليزول بعد ذلك من نفوس تلاميذهم؛ فإن زمن المدرسة محدود، ضيق أشد الضيق: ساعات في اليوم، وأيام في الأسبوع، وأشهر في السنة، وسنون قليلة من عمر الشباب؛ والعلم شيء كبير، واسع كل السعة، ليس له حدود ولا قيود، وهو لم يزل يزيد كل يوم ويتجدد، فينسخ الجديد القديم، ويصير علم الأمس جهلاً وغفلاً وسذاجة؛ فكيف تتسع المدرسة في نطاقها المحدود ووقتها الضيق لاستيعاب ذلك العلم الواسع المتجدد؟.
ولو أن معلمي المدرسة وتلاميذها قد آمنوا كما نؤمن بأن مهمة المدرسة ليست هي إعطاء العلم بل تمهيد الطريق إليه، لحملهم الإيمان بهذه الحقيقة على الاستمرار في طلب العلم بالقراءة المتصلة بعد الخروج من المدرسة، وعلى متابعة الجديد في الأدب والعلم والفن بالاطلاع الدائب. . .
فالمدرسة المصرية إذن هي السبب الأول لهذه الأزمة الشديدة التي تحس آثارها في أنفسنا وفيما حولنا، ولكنها ليست هي كل السبب؛ فهناك أسباب أخرى مساعدة كان لها أثر كبير في إحداث هذه الأزمة، ولعلنا نعرض لها في حديث تال. . .
محمد سعيد العريان(1021/17)
الفن المهدد!
للأستاذ محمد عبد الله السمان
منذ بضعة عشر أسبوعاً، وفلم (كوفاديس) يعرض بسينما (مترو) بالقاهرة، بعد أن تقدمته الدعاية الواسعة العريضة. . . الدعاية التي لم يسبق لها مثيل من قبل لأي فلم من الأفلام السينمائية، فقد حجرت إحدى الجرائد المصرية ذات يوم لهذا الفلم أربع صفحات، خصصتها للدعاية له، ولها عذرها، فالجرائد والصحف في مصر - إن لم تكن جميعها - فمعظمها لا ينظر إلا من الزاوية المادية التي يعيش لها من أجلها. . .
وانجذابا إلى هذه الدعاية الواسعة العريضة (لكوفاديس) تكبدت مشقة الوقوف أمام سينما (مترو) ساعة كاملة للحصول على تذكرة الدخول، وأردفتها بثلاث ساعات أخرى مع فلم (كوفاديس) الذائع الصيت. . . ولم أكد انتهى من مشاهدته حتى آمنت بأن نفوذ أمريكا، بلغ حدا لا يطاق في الشرق الأوسط والأقصى والأدنى، بالدرجة التي تجيز لها أن تلعب بمقومات الشعوب، وفي مقدمتها عقائدها.
شاهدت فلم كوفاديس انجذابا إلى دعايته العريضة الواسعة، فإذا هو دعاية سافرة من أوله إلى آخره على الطريقة الأمريكية، ومن شأن هذه الدعاية السافرة أن تشوش على العقول، ويبلبل الأفكار. والنظارة من المسلمين يخرجون من السينما بعد مشاهدة (كوفاديس) وقد سحرهم الذوقي الفني، والإخراج القوي، والحوار المبدع، دون أن يثيروا - حتى فيما بينهم وبين دخائل نفوسهم - عبارة واحدة من عبارات هذه الدعاية.
أما الرأي العام الإسلامي في مصر فلا يكترث كثيرا لهذه الأفلام التبشيرية الأمريكية، إذ أنها صيحات في واد، ونفخ في رماد، وستظل أسابيع أو شهوراً أو أعواماً، وإن شاءت قروناً، فلن تنال من عقيدة المسلمين شيئاً.
إن التبشير الأمريكي وباسم العلم والمروءة والإنسانية، لم يكتف باستغلال الطبقات التي تلجأ إلى معاهدة ومدارسه وجامعاته ومصحاته، ولكنه أصر على أن يشتري ضمائر صنف من المثقفين المسلمين الذين حقنوا بالتربية الغربية ردحا من الزمن، ليأخذوا على عاتقهم - في مقالاتهم ومحاضراتهم وندواتهم - تشكيك المسلمين في المعاني الإسلامية الحية، والتنديد بالمقدسات الدينية، ورمى الإسلام بالتزمت والجمود والرجعية، وما إلى ذلك من(1021/19)
الألفاظ المصطلح بينهم عليها.
ومع هذا كله فالرأي العام الإسلامي لا يتحرك ولا يتكلم، معتمداً على قوة العقيدة الإسلامية، ولكن صمته سوف ينفد حين يدرك أن المعاني الإسلامية مضيق عليها، وأن الإسلام الصحيح مراقب مراقبة دقيقة، لا يصل معها حتى إلى المسلمين أنفسهم. . وأن الفن الرفيع محرم عليه أن يتناول المعاني الإسلامية قلت أم كثرت!.
هذا ما حدث في فلم (ليلة القدر) للأستاذ حسن صدقي الممثل المعروف. ولعل الرأي العام الإسلامي لا يدري من أمره إلى اليوم شيئاً، أو لعله يدري ولكنه لا يقوى إلا على همسات بشأنه لا تتجاوز الشفاه، وآهات لا تتجاوز الحناجر، والأستاذ حين صدقي صاحب رسالة فنية، لا يتخذ من الفن مهنة ينتزع بها القروش من الشعب المرهق المكدود، ولا يجعل من الفن مسلاة لعشاق الفوضى والمجون والتهريج، بل إنه ينتهج نهجاً عالياً، يهدف من ورائه إلى رفعة الوطن وسمو المجتمع. وهو فوق هذا متدين محافظ، ويؤدي رسالته بقلبه وروحه، كالمصلح الذي يبغي الإصلاح عن عقيدة راسخة وإيمان عميق، ولا عيب فيه إلا مشاركة الشعب آلامه فيما ينتج من فن، ومشاركة المسلمين عواطفهم فيما يخرج للناس من أفلام، شاذا في هذه وتلك عن الكثيرين من الفنانين المرتزقة الذين لا هدف لهم في حياتهم الفنية سوى التهريج الرخيص وكفى. . .
قدر لي أن أشهد عرض فلم (ليلة القدر) قبل أن يزح به في زوايا الظلام، فوجدت الأستاذ حسين صدقي ينحو فيه ناحية إسلامية لم تطرق قبله في عالم الفن. لقد أحس في قرارة نفسه أن هناك سحابا يحجب أعين المسلمين عن الإسلام المصفى، وأن هناك أباطيل ألصقت بالإسلام زرواً وبهتانا، يعتقدها الأجانب من غير المسلمين عقيدة راسخة في أعماق قلوبهم، فراح يعالج هذه وتلك في فيلم أسماه (ليلة القدر) فجاء خيرا من ألف فيلم. .
لقد صودر هذا الفلم، كما صودر أخ له (يسقط الاستعمار) في العهد البائد المنقرض. ولم تكد تبزغ شمس هذا العهد الجديد، حتى قدر لهما أن يريا النور، ولكن طائفة من الناس تقدمت إلى المسؤولين تشكو فلم (ليلة القدر). والعجيب أن الفلم ليس فيه تبشير، ولو كان لما كان هناك ضير، مادام هذا التبشير لا يمس حرية العقائد في غبر المسلمين. وما جاء في الفلم يعتبر تحليلاً لبعض المعاني الإسلامية، وعلاجا للمشكلات الاجتماعية على ضوء(1021/20)
الإسلام، ومكافحة لبعض الجهالات التي لازالت عالقة بأذهان الكثير من المسلمين!.
وأعجب من هذا أن ذوي الأقلام الضخمة الذين استولوا على الصحف الكبرى بوضع اليد، هؤلاء الذين يدعون أن أمل الوطن معقود بأسنة أقلامهم، وأن بناء النهضة الجديدة لن يشاد إلا على نغمات من صرير أقلامهم، لم يكتبوا حرفاً واحداً عن مأساة فيلم ليلة القدر.
محمد عبد الله السمان(1021/21)
محمود سامي البارودي
للأستاذ محمود أبو رية
لا نكاد نجد في تاريخنا الحديث عظيماً أصابه من الظلم وناله من العفوق مثل محمود سامي البارودي رحمه الله. فعلى أنه سياسي كبير، وجندي عظيم، وإنه فوق ذلك شيخ شعراء هذا العصر بلا منازع، فان أمته قد ألفت به في زوايا النسيان وتركته على درجة الإهمال، حتى لا تجد أحداً يعني به، أو يهتم بأمره، أو يعمل على نشر آثاره، لا من رجال السياسة، ولا من رجال الأدب. اللهم إلا فذلكات صغيرة لا تجزئ ولا تبين!.
ولقد كنا نظن أن مرد ذلك كله إلى طغيان الاحتلال الذي جثم على صدر البلاد سبعين سنة كاملة لأنه كان من كبار زعماء الثورة العربية الذين كان الناس يخشون ذكرهم ويخافون أن يدرسوا تاريخهم أو يشيدوا بعظمتهم؛ وإنه عندما يندك صرح هذا الطغيان وتنكس أعلامه يأنى لنا أن نرفع عنه تراب الإهمال، ونضعه في مكانه (السامي) بين عظماء الرجال. ولكن وا أسفا! فإنا مازلنا مفرطين في جنبه، جاحدين لفضله.
وإنا بكلمتنا هذه التي نرسلها اليوم لا نريد أن نكشف فيها عن جوانب هذا الرجل السياسة أو الحربية لأن هذا مما يجب على غيرنا أن يؤديه له. وكذلك لا تحاول أن ندرس نواحيه الأدبية فأنها تحتاج إلى كتاب يرأسه، وهذه الدراسة ولا ريب دين كبير في عنق كل من يتصدى لدرس حياة الأدب العربي في عصرنا الحديث. وإنما همنا مما نكتب أن نأتي بذور من تاريخه الأدبي نستطرد منه إلى ما نحن بسبيله من المطالبة يطبع كل ما ترك لنا من آثار أدبية جليلة يقضي الواجب أن نحرص عليها، ونعمل على نشرها، ليتنفع الأدب وأهله بها. ونحن إذا بلغنا هذه الغاية نكون قد أحسنا إليه غاية الإحسان، وحفظنا ذكره عطراً على وجه الزمان. وما حياة العظيم إلا حياة آثاره وما ينتفع الناس من علمه وأعماله، وما عدا ذلك فهو لغو باطل، وعبث ليس وراءه طائل (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
لقد نشأ هذا الرجل في الأدب نشأة عجيبة لا تكاد تتفق لغيره من الأدباء والشعراء إلا في الفلتة والندرة!.
ذلك أنه - على ما ذكر صديقه الشيخ حسين المرصفي أستاذ الأدب العربي بدار العلوم(1021/22)
(كان) في كتاب الجامع (الوسيلة الأدبية) (لم يقرأ كتاباً في فن من فنون العربية - غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله فكان يستمع بعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين أو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة فصار يقرأ ولا يكاد بلحن. وسمعته مرة يسكن ياء المنقوص والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك، فقال: هو كذا في قول فلان، وأنشد شعراً لبعض العرب. فقلت تلك ضرورة، وقال علماء العربية إنها غير شاذة. ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقداً شريفاً من خسيسها، واقفا على صوابها وخطئها مدركاً ما كان ينبغي وفق مقام الكلام ومالا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر اللائق بالأمراء، ولشعر الأمراء كابي فراس والشريف الرضي والطغراثي تميز عن شعر الشعراء (هذا هو الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه، والذهن المتناهي ذكاؤه، محمود سامي باشا البارودي).
هذه هي طريقة الباردوي في دراسته للأدب العربي، وكذلك كانت سبيله في دراسة الأدبين التركي والفارسي، فهو لم يختلف فيهما جميعا إلى معاهد العلم، ولم يجلس إلى الأساتذة والمؤدين في أماكن الدرس، ولا كان يتكئ في حياته على ما يتكئ عليه المغرورون في بلادنا من الشهادات والإجازات العلمية.
ولم يكن أمره كذلك إلا لأنه قد أوتي (من صفاء الفطرة ونقاء الذهن وكمال الاستعداد) ما لم يؤت غيره في عصره. وبهذه العبقرية الفذة استطاع أن يسمو بشاعريته إلى مرتقى استوى فيه على عرش الشعر العربي في العصر الحديث، وأصبح - بلا مراء - نابغة العصر، وإمام الشعر في مصر وغير مصر، وإليه يرجع الفضل في بعث دولة الشعر بعد أن ظلت قرابة ألف عام في جدثها، وعلى طريقة سار كبار شعرائنا أمثال صبري وشوقي وحافظ. ولقد بلغ من نبوغه في الشعر أن زاحم بمنكبه من سبقوه من فحول الشعراء، جاهليين ومخضرمين ومولدين، فعارضهم في كل باب بقصائد عصما، أربى عليهم في أكثرها.
وكان ظهور هذا الشاعر الخنذبذ في عصر لم يكن يهئ لظهور شاعر عظيم مثله، وخرج(1021/23)
من بيئة لا تنبت مثل زرعه، ونشأ بين فئة من الشعراء أمثال الليثي والنجاري والنديم والإبياري، أولئك الذين كان جل همهم، واصفي ما يعصر من قرائحهم أن يأتوا ببيت فيه نكتة بديعية!.
ولا تتعدى أغراضهم المدح والاستجداء، بشعر ليس فيه جديد وليس فيه رواء.
وقضى البارودي ما قضى من حياته بين وطنه ومنفاه الذي لبث فيه أكثر من سبعة عشر عاماً إلى أن انتقل إلى جوار ربه في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904 كما حققناه بمجلة الرسالة الغراء لا كما ذكره الدكتور هيكل في تقديمه لديوان الباردوي من أنه مات في الأيام الأخيرة من ديسمبر سنة 1904!.
وقد خلف لنا ثروة خالدة في الأدب بعضها من شعره وبعضها مما اختار في الشعر والنثر وغادرها إلى رحمة ربه، مخطوطة لم يطبع منها شيء في حياته.
وفي سنة 1901 ظفر أهل الأدب (بمختارات البارودي) في أربعة أجزاء كبيرة من الغرار الكامل تشمل ما اختاره من شعر ثلاثين فحلاً من الشعراء المولدين، ثم ظلوا يرتقبون ظهور ديوانه، ومختاراته في النثر التي سماها (فيد الأوابد) وطال ارتقابهم حتى خرج إليهم في أواخر سنة 1916 جزآن من ديوانه لم يكادوا يطلعون عليها حتى ضاقت صدورهم بما حملا من شرح ممل ثقيل حشد فيه شارحة الشيخ محمود المنصوري أحد علماء الأزهر من اصطلاحات أهل المنطق وقواعد علم الكلام والأصول ما نفرهم منه وزهدهم فيه. وقد عد بعضهم هذا الشرح من المحن التي ألحت على البارودي طوال حياته من فقد أبيه في طفولته وموت زوجه وأولاده ومن نفيه عن أوطانه ثم فقد بصره في آخر حياته. ولم يكن نفور الأدباء إلا لأن الشعر لا يحتمل منطقا ولا فلسفة. وكان مما ثمنوه يومئذ أن لو خرج هذا الديوان عاريا من كل شرح حتى لا يغشى نوره مثل هذا السحاب الثقال - وظلت هذه الأمنية تعتلج في صدورهم حوالي ربع قرن إلى أن حملت إليهم جريدة الأهرام بشرى خفقت لها قلوبهم إذ روت أن ديوان البارودي قد فرغ من تصحيحه ودفع به إلى مطبعة دار الكتب لتتولى طبعة على نفقة وزارة المعارف وأنه سيخرج في ثلاثة أجزاء.
وفي سنة 1940 ظهر الجزء الأول من طبعته الجديدة بشرح لا بأس به وتلاه الجزء الثاني في سنة 1942 يحمل من قصائد الديوان إلى حرف (الكاف) ويدعونا الإنصاف إلى(1021/24)
أن نذكر أن الفضل في ظهور هذين الجزأين إنما يرجع إلى النقراشي رحمه الله وكان وزيراً للمعارف يومئذ ثم انتظرنا ظهور الجزء الثالث ثمانية أعوام كاملة. ولما لم يظهر فيها استصرخنا وزارة المعارف على صفحات جريدة الأهرام لكي تعمل على إخراج الجزء الباقي من هذا الديوان تم تردفه بكتاب (قيد الأوابد) وكان أملنا كبيراً في تحقيق رغبتنا التي هي رغبة الأدب والأدباء إذ كان يتولى وزارة المعارف حينئذ الدكتور طه حسين عميد الأدب، وخير من يعمل على نشر تراث لغة العرب؛ ولكن يؤسفنا أن نقول إن صرختنا هذه قد ذهبت أدراج الرياح وبقي الديوان إلى اليوم ناقصاً لا يعرف الناس عنه ولا عن كتاب (قيد الأوابد) شيئا.
ومن أجل ذلك رأيت أن أنتهز فرصة الذكرى الثامنة والأربعين لوفاة شاعرنا الكبير - وانقضاء عشرة أعوام كاملة على ظهور الجزء الثاني كانت كافية لأن يعاد طبع الديوان كله فيها طبعة ثانية - فأرسل صيحة أخرى على صفحات مجلة الرسالة الغراء ونرجو أن تبلغ مسامع وزارة المعارف فتصغى إليها وتحقق ما فيها، ولا تذهب هباء كما ذهبت التي سبقتها. ونأمل كذلك من حضرة مدير دار الكتب وهو أديب كبير أن يستمع إليها ويعني بها حتى يرى أهل الأدب بين أيديهم في القريب العاجل ديوان البارودي كاملاً، وكتاب (قيد الأوايد) بالطبع مائلا.
المنصورة
محمود أبو رية(1021/25)
ذكرى إحراق القاهرة
في مثل هذا اليوم أرعدت المدافع في القنال ودمرت في لقاهرة
في مثل هذا اليوم أشعلت الخيانة نارها في قلب مصر الثائرة
في مثل هذا اليوم أحرق منزلي وغدوت بين حرائق متناثرة
في مثل هذا اليوم كانت ثورة الشعب الأبي على الذئاب الغادرة
أنا لست أنسي ليلة مجنونة ... هو جاء ترقص في اللهيب الأحمر
وأنا أحملق في الفضاء محطماً ... حيران أرنو في أسي وتحر
والأفق عربيد اللظى ونجومه ... سكرت بأنفاس الدخان الأغبر
والجو مختنق الرؤى ونسيمه ... يسرى بخطو واجف متعثر
والنار تحكي للسماء ملاحماً ... لبطولة الشعب الذي لم يقهر
والريح تصرخ في الظلام كأنما ... ضاقت بلؤم الغاشم المتجبر
نيرون مصر أحالها وأشعلها ... ليرقص في اللظى المتسعر
نيرون أوقف ثورة دموية ... هبت أعاصيراً على المستعمر
سعد دعبس(1021/26)
حياة المازني
المازني والصحافة
(لست صحفياً بالمعنى الصحيح، وإنما أنا رجل كاتب) المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
صلة المازني بالصحافة صلة قديمة ترجع إلى ما قبل اشتغاله بها. فقد كان منذ سنة 1907 يكتب في الصحف التي تخصص جزءاً من صفحاتها للموضوعات الأدبية كالجريدة والمؤيد والدستور. وهذه الأخيرة هي الصحيفة التي كان يصدرها في ذلك الحين الأستاذ محمد فريد وجدي ويشترك في تحريرها الأستاذ العقاد. وعلى صفحات الدستور وعن طريقه تعارف المازني والعقاد فتلازما من بعد واقترن اسماهما وتوطدت بينهما صداقة سوف يعتز بها التاريخ الأدبي ما ذكرت صداقات الأدباء.
وفي سنة 1911 أصدر الأستاذ الشيخ عبد الرحمن البرقوقي مجلة (البيان) فتعهدها نخبة من الأدباء الناشئين في ذلك الجيل أمثال السباعي والمازني والعقاد وشكري. ونشر بها المازني فصولاً في الأدب والنقد ضمنها بعد ذلك أول كتاب صدر له وهو كتاب (الشعر، غاياته ووسائطه) (1915)، كما بدأ فيها ترجمة كتاب التربية الطبيعية أو إميل للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. وتوقفت البيان عن الصدور فتحولت تلك المدرسة الأدبية إلى صحيفة (السفور) التي كان يصدرها الأستاذ عبد الحميد حمدي على عهد الحرب الكبرى.
أما بدء اشتغال المازني بالصحافة بعد اعتزاله التدريس فقد كان حين دعاه الأستاذ عبد القادر حمرة، عقب الثورة، لمعاونته في تحرير صحيفة (الأهالي) وكانت تصدر بالإسكندرية، وكان المازني مريضاً متلف العصاب من اثر التجربة النفسية التي امتحن بها في ذلك الصدر من حياته والتي أشرنا إليها في الفصل السابق، فاشترط أن تكون مشاركته إلى حين.
وفي تلك المرحلة الباكرة من مراحل الحياة السياسية في مصر، كانت الصحف أكثر اهتماماً وعناية بالآراء والأفكار منها بالحوادث والأخبار، فكان طابعها الأغلب وأكبر اعتمادها على المقالة. وكان ذلك أقرب إلى طبيعة الكاتب في المازني، فلا جرم استطاع أن(1021/27)
يلي حاجتها ويساير اتجاهها، متمشياً مع طبيعته محتفظاً بخصائصه، غير متكلف ما يعدل به عن مذهب الحرية والاختيار.
وكان المازني ممن شاركوا في هذا المجال وبرزوا فيه. ولفت ذلك نظر الأستاذ أمين الرافعي إليه، فدعاه إلى مشاركته في تحرير صحيفة (الأخبار) وهي إذ ذاك من كبربات الصحف الوطنية وأعلاها صوتاً، فعمل بها المازني سنوات، وفيها توطدت شهرته الصحفية، حتى ليمكن أن تعد تلك الفترة بداية التاريخ الصحفي في حياة المازني الكاتب الأديب. وفي الأخبار كان المازني ينشر إلى جانب مقالاته السياسية اليومية فصولاً أسبوعية في الأدب والنقد، ومنها الفصول التي جمعها بعد ذلك في كتابيه حصاد الهشيم وقبض الريح. وظلت هذه عادته في أغلب الصحف التي عمل بها.
وعمل المازني بعد ذلك في صحف شتى لا يعنينا هنا أن نحصيها في جملتها. واضطلع فترة رياسة التحرير في صحيفة (السياسة) تعرض أثناءها لما يتعرض له رؤساء التحرير المسئولون، فقد قدم إلى المحاكمة واستدعى للتحقيق معه غير مرة. في فترة تعطيل السياسة على عهد الوزارة الصدقية الأولى أصدر المازني بالاشتراك مع الأستاذين الدكتور محمد حسن هيكل ومحمد عبد الله عنان كتاب (السياسية المصرية وانقلاب الدستوري) في نقد سياسة ذلك العهد.
وقد حفلت حياة المازني الصحيفة في شتى مراحلها بالتجارب والأحداث، وكانت بعض هذه التجارب خليقة أن تعدل به عن وجهته وتحمله على الفرار بنفسه من الصحافة، ولكنه ظل صامداً إلى النهاية كما تعود أن يصمد في كل ميدان، وتغلب على متاعب المهنة كما تغلب على متاعب الحياة. ويروي المازني أنه كاد يتعرض يوماً للنفي بسبب مقال. وخلاصة الحادث أنه في بعض الأعوام كتب سلسلة مقالات عنيفة في الأخبار، يهاجم فيها الوزارة القائمة آنذاك. وكان من المعارضين لها. وحدث أن وقعت جريمة وحشية اعتبر الكتاب المعارضون مسئولين أدبيا عنها. وعلم بذلك الأستاذ أمين الرافعي فدعا إليه المازني وأخبره أن الوزارة قرت نفيه، وأن الأوفق أن يسافر إلى سويسرا حيث يراسل الأخبار من هناك. ويقول المازني: (أعددت حقائبي وأخبرت أمي وطمأنتها، وبت مؤرقاً طول الليل أنتظر أمر النفي وتنفيذه، وإذا بالوزارة تستقبل في فحمة الليل. . فنجونا ولما نكد!).(1021/28)
ومن طرائف المازني في الصحافة أنه اتفق يوماً مع صديق له من كبار رجال وزارة المعارف على أن يبعث إليه بمقالات في نقد أعمال هذه الوزارة، وكان المازني يعارض الحكم القائم، فكان هذا الصديق يرسل المقال إلى المازني فيحمله إلى بيته وينسخه بيده ويحرق الأصل اتقاء لعواقب التفتيش. ويقول المازني وهو يروي هذه الحادثة (قامت القيامة في وزارة المعارف، وانطلق بعض رجالها يسألون ويستخبرون ليهتدوا إلى كاتب هذه المقالات المزعجة، واستدرج بعضهم بعض العمال البسطاء، فعلموا أن المقالات بخطى، فلم يستغرب أحد أن أكون أنا الكاتب. وكنت في ذلك الحين أسكن حي الإمام الشافعي، ولي فيه أقارب وأصهار كثيرون، ومن بينهم شيخ الإمامين السبق المرحوم السيد أحمد محسن، فاتفف ذات ليلة أن كنت عائداً إلى بيتي، فإذا كل من يلقاني في طريقي يقول إن الشيخ يسأل عنك فذهب إلى بيته فلم أجده. وفي الصباح جاءني الخادم يقول إن الشيخ ينتظرني لأنزل معه في مركبته، فعرجت عليه وركبنا معا. وسألته عن الخبر، وكنا في رمضان، فقال: يا شيخ، حرام عليك! الرجل زارني أمس بعد الإفطار بربع ساعة، فهو إما غير صائم، أو هو لم يهنأ بطعام، وكل هذا من تحت رأسك! فاستزدته من البيان فقال: إن الوزير يعرف أنك كاتب هذه المقالات التي أقضت مضجعه، وهو مستعد أن يستصدر قرارا في الحال من مجلس الوزراء بإعادتك إلى الخدمة، وفي مثل الدرجة التي فيها أحسن زملائك حالا، وأن يحسب لك في معاشك المدة التي قضيتها خارج الحكومة. فضحكت وقلت: هبني كاتب هذه المقالات، فهل تكون الرشوة على هذه الصورة علناً، وعلى مرأى ومسمع من الخلق جميعاً؟ فقال لا تكن مغفلاً! ما خير هذه الصحافة؟ إن أسرتك كبيرة ونفقاتك كثيرة ولا اطمئنان على الرزق في الصحافة، فعد إلى عملك واستقر واحمد ربنا على الفرصة التي أتيحت لك. فقلت له: يا سيدي الشيخ، إن لكل ذمة ثمنها، ولا أحسبني فوق الرشوة إذا بلغت حد الإغراء، ولكنه ما من ذمة خربة تقبل الرشوة علنا ونهارا وجهارا على هذا النحو. ماذا يقول الناس؟ في المساء يقرءون الأخبار فإذا فيها مقال في نقد الوزارة، ثم يصبحون فإذا أنا موظف كبير في وزارة المعارف!).
ثم كان المازني في سنواته الأخيرة يعمل في أكثر من صحيفة، ويكتب إلى جانب ذلك للصحف التي تقترح عليه موضوعات الكتابة ولا تقيده بالناحية السياسية وحدها. وقد عد(1021/29)
البعض من مآخذه أنه جمع بين صحف تتعارض في السياسة والمبدأ. أما هو فما كانت رسالة الصحافة لتختلف عنده بين صحيفة وأخرى، وما كانت تعنيه الحزبية على الإطلاق. وقد ظل طيلة اشتغاله بالصحافة مستقلا برأيه، بل كان المازني ربما كتب معارضا لرأي الحزب الذي يعمل في صحيفته. فهو يؤيد ما يعتقده صوابا ويعارض ما يراه مخالفا للصواب. وكان حكمه على الأعمال لا على الأشخاص. فلم يمنعه تقدير لزعم كسعد زغلول من معارضة سياسته، ولم تحل معارضته العنيفة لسياسة صدقي دون الاعتراف بكفايته وعبقريته. وفي حياة المازني الصحفية، وهي طويلة، لم تجتذبه المساجلات والمعارك التي كثيراً مأثور بين الصحف، وقلما عنى بالخوض فيها. ولا مراء في أن المازني كان، في بعض العهود، معارضا شديد المعارضة، ولكنه لم يكن يخرج في معارضته عن حد النقد النزيه والإرشاد والتوجيه.
وعلى الرغم من الصلة القوية بين الصحافة والسياسة، كانت الكتابة الصحفية وحدها حد المازني من المعترك السياسي، فقد نأى بنفسه عنه، وكان مستعداً حتى لترك الصحافة لو أنها كلفته النزول إليه.
ولقد فوتح في أمر ترشيحه للنيابة فرفض الفكرة ولم يأسف على رفضها، بل لقد رفض أن يتقدم لانتخابات الرياسة في نقابة الصحفيين برغم إلحاح زملائه عليه. وقد اختير في بعض السنين وكيلا لها وما أحسبه رضي بهذا الاختيار إلا لأنه قدر أنه مستطيع أن يخدم به الصحافة، ولأن المنصب في ذاته لا خطر له في غير دائرته المحدودة وهي دائرة النقابة.
وقد طال اشتغال المازني بالصحافة ولم يكن صحفيا مع ذلك، أو هو كان صحفياً في حدود خاصة ونطاق لا يتعداه. فقد كانت وظيفته الأصلية وهوى نفسه الكتابة لا الصحافة. وهو يقدم لنا في أحد فصوله كتابه الساخر الممتع (صندوق الدنيا) صورة وصفية لصحفي، يقول في ختامها على لسان رئيس التحرير: (يا صاحبي إنك كاتب لبق يسعك مالا يسع فرقة بآسرها من الكتاب حين تجلس إلى مكتبك، ولكنك حين تلقي الناس لا تعود صالحا لشيء أو قادر على شيء. فاذهب إلى مكتبك ولا تزايله فما نستطيع أن نخلقك خلقا جديداً!) وأكبر الظن أن المازني كان يصدر في بعض جوانب هذه الصورة عن شعوره الشخصي، وأنه(1021/30)
كان يصور نفسه هو.
ونورد هنا حادثة لعلها فريدة في حياة المازني الصحفي نرويها لدلالتها على ما ذكرناه، ولما فيها من فكاهة وطرافة في آن.
ذلك أنه عقب عودة سعد من منفاه، وفي صباح اليوم التالي لوصوله إلى القاهرة، كان المازني واقفا في محطة الترام في الإمام الشافعي حيث كان يسكن، فمر به شيخ اللحادين وهم الذين يتولون حفر المقابر وحراستها والقيام عليها، فرآه وأفضى إليه بأن سعداً آت لزيارة مقابر الشهداء. فبعث المازني من جاءه بقلم وورق، ووقف ينتظر، وبعد قليل أقبل سعد في سيارته ومعه بعض صحبه في سيارة أخرى فأشار إليها المازني فحملته معهم. وزار سعد مقابر الشهداء وألقى كلمة وجيزة دونها المازني، ثم قصد إلى قبر شهيد قبطي وألقى كلمة أخرى دونها المازني أيضا. ولفت بعض الحاضرين نظر سعد إلى المازني فحياه.
ورجع المازني إلى الأخبار، واعتذر للأستاذ أمين الرافعي من تأخره، فضحك، وقال إن سعدا أخبره بالتلفون أن المازني أبرع صحفي في العالم، لأنه عرف أن سعدا سيزور مقابر الشهداء، مع أن الذين رافقوه ما كانوا يعرفون هذا!. . قال الأستاذ أمين الرافعي (وطبعا وافقته ولم أكشف له عن سر هذه البراعة!) أي أنه لم يقل له إن المازني يسكن بين المقابر!.
وبعد، فقد غبرت على المازني في الصحافة سنوات طويلات المدد، كانت كلها سنوات كفاح وجلاد بعياً به جبابرة الرجال. وأدركه منها بلاء لا يقاس إلى جانبه بلاء التدريس. وعجمت عوده فألفته لاهشاً ولا رخواً، وامتحنت معدنه فإذا هو معدن القوة الكامنة في قرار المحيط أو الثورة القابعة في كون الصحراء. ولم تكن طريق المازني في الصحافة سهلة معبدة، وكان بطبيعته المتمهلة الدؤوب لا يحسن الركض ولا يدين به، فهو لم يصل إلى مكانته إلا خطوة خطوة وفي هينة وأناة وإلا بعد طول التوقل والإصعاد. وكانت تزداد مع الأيام أعباؤه ومتاعبه فلا يزداد إلا فرط جلد واحتمال، أو فرط سخرية واستخفاف. وقضى المازني الفترة الأخيرة من حياته على رغم الشيخوخة الزاحفة لا يترفق بنفسه ولا يرحم كبرته فكان أكثر الكتاب الصحفيين إنتاجا. واستكتبته الصحف على اختلاف ألوانها(1021/31)
ونزعاتها فلبى رغباتها وإن لم ينزل إلى مستواها، بل كان يلقاها في منتصف الطريق، ويحاول التوفيق بين طبيعته الفنية وبين الاتجاه الغالب على الصحافة وهو اتجاه القراءة السريعة الخفيفة. ولقد قال في هذا إن جانب الصحفي طغى على جانب الأديب فيه. ولا مراء في أن السرعة كان لها أثرها، أو جناينها على بعض إنتاجه الأخير. على أنه أصح من ذلك أن يقال إنها جناية الصحافة في عمومها على الأدب في عموم. ولم يكن المازني ضحيتها وحده، فقد شملت الجيل بأسره، وأدركت طوائف القراء كما أدركت طائفة الكتاب.
محمد محمود حمدان(1021/32)
كوليرج
للكاتب الناقد أي. تي. كيلركوج
بقلم الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
من العسير علينا أن نكتب حياة كوليرج، أو بمعنى آخر أن هذا العسر سيزداد ويشتد باطراد كلما حاولنا التغلغل في ماهية هذه الحياة، وذلك بسبب نكسات الإرادة التي أصيب بها وعللها المختلفة ومعايبها المتعددة، وهذه الحقائق التي يتطلب منا البحث النزيه ذكرها وتسجيلها هي التي ستضفي ظلالا داكنة على ذلك الوجود الحي الجميل الذي شهد بعظمته جميع معاصريه؛ ومع ذلك يقتضينا الحق والإنصاف أن نركن إليها حتى نكون قد أدينا واجبنا حق الأداء. زد على ذلك أن هذه السيرة صعبة الإدراك، لأن كثيراً ممن سيطالع دقائقها سينكر سماحه كوليرج ولطفه، وسيقتصر على مآسي حياته الظاهرية ناسيا بذلك أحسن ما فيه، أعني كوليرج الحقيقي، كوليرج المحب الإنساني السمح، الذي سعى جاهدا لمعالجة أدوائه بشغف وحب، والذي كان في شد الشوق لكي يفتح عيون الناس على الجمال الأسنى في براءة وإيمان عميقين، وفي خفر ونزاهة بارزتين. مع أنه تلقى حكم الدينونة القاسية ببرودة (كشخص تافه في وسط البهاء والإشعاع اللذين كانا ينبثقان من ذهنه الوقاد في جلال وسمو).
فقصته لا تثير المزاج ولا تغيظ الطبع وحسب، بل إنها تراوغ الفهم نفسه، فتجعل حتى القارئ الهادئ الرصين في حيرة من أمره، كما حدث لأوديسوس بعد محاولته الثالثة لمعانقته والدته في (الظلال). لأن العناية الربانية كما يقول دي كونزي (وضعت أمامه احتياطا دائمياً من المشاق في طريق حياته) ولو تتبعنا أثر الرجل والتقينا بزرافات من أصدقائه وسألنا أي رجل منهم لكان جوابه: (كوليرج؟ ذلك الصديق المدهش؟ لقد كان هنا قبل مدة وقد ساعدناه في سفره قليلاً. لقد أخذ المرحوم جيمس كامبل على نفسه أن يكتب حياة كوليرج بحماسة وصدق، وقد أدى هذا الواجب خير أداء وبنجاح تام (وعلى القارئ أن يرجع إلى كتابه (حياة كوليرج) ليرى البرهان بعينه) ولم يكتف كامبل بذلك بل أنه أكرم ذكرى الشاعر (في هذا الجانب الوثني من الكون). ومع ذلك، فلو أنا اقتضينا أثر قصته الملخصة خطو خطوة لرأينا ازدياد الشكوك الحائمة في ذهن الكاتب مما اضطره أن يعلن(1021/33)
في النهاية قوله: (إنني إن كنت لم أقدم - فيما اعتقد حقا - إلى ما يؤول - على العموم - إلى ما يرفع من قدر كوليرج في عيون الناس فإنني أعترف بجريرتي بشعور الدهشة وخيبة الأمل) ويستطرد المؤلف المذكور قائلاً: (إنني على يقين بأن هذا الهيكل المقدس، على ما فيه من أنقاض ممتزجة بالرخام أبهى مما يمكن أن نشيده نحن من هذه الأحجار المتناثرة هنا وهناك في الحقول والطرقات). لقد كان كوليرج تبريرا أمينا صادقا لوجوده. فالرجال والنساء الذين لم يشاركوه في قصوره ومعايبه لم يتوددوا إليه ولم يتقربوا منه فقط، بل أنهم أحبوه وأكرموه واتبعوه مسرورين. فقوة الجاذبية هذه هي التي يمكن اعتبارها شاملة عامة - على اختلاف الطبائع والمشارب التي كانت تؤثر فيها وتسحرها - هي وحدها الدليل القاطع والبرهان الناصع على القابليات الفريدة التي كان يمتاز بها. لنا أن نقرأ ونعيد قراءة حياته ولكننا لا يمكن - مع كل هذا - أن نعرفه كما عرفه آل (لامب) أو آل (وردذ ورث) أو (بول) أو (هوكمان فرير) أو (جلمان) أو (غرين) لأن البغض أعمى كالحب سواء بسواء. ولكن الصداقة لها عيون مفتحة وشهادتها كفيلة بإقناعنا إن نحن استعملناها بحكمة لتصحيح انطباعاتنا وآرائنا).
ولد صموئيل تايلور كوليرج في الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 1772 في مقاطعة (أوتري في ديفون شاير) وكان أصغر تسعة أبناء من زواج ثان. وكان والده المحترم جون كوليرج رجلا شفيقا وعالما متتبعا منقبا شارد الذهن معروفا بعدم واقعيته. وقد نشر عدة كتب بعد أن جمع اشتراكات من قرائه مقدما، كما حاول إصلاح قواعد اللغة اللاتينية. وقد توفي في سنة 1781 وبعد انقضاء عدة أشهر تمكن صموئيل الصغير من الحصول على القبول في كلمة (كرايست). وقد صور شارلس لامب هذه المدرسة وكوليرج تلك الأيام تصويراً خالداً. وقد كان كوليرج أكبر من زميله تشالي بسنتين، ومع ذلك فقد بزه في مضمار الدراسة وسبقه في سلم التقدم وحصل على درجة أعلى منه بعدة أشهر. ففي مقالة تشارلس الآنفة الذكر والموسومة بـ (كلية كرايست قبل خمس وثلاثين سنة) نجد تلك الأساليب البارعة والنكت اللطيفة التي تحب غلينا تشارلس، نجدها باعترافه الصريح تخلف مقالته (ذكريات كلية كرايست) وتشير من طرف خفي إلى ذلك الشاب الذي فقد حنان والديه وأهله. فيقول: (كانت صبيا فقيرا لا صديق له. فأهلي ومن يجب عليه أن(1021/34)
يعتني بي بعيدون عني. أما معارفهم في المدينة الكبيرة والذين اعتمد عليهم أهلي وأحسنوا فيهم الظن، ولكن هؤلاء المعارف خيبوا ظن أهلي، لأنهم تخلوا عني بعد أن تنازلوا واستقبلوني في أول زيارة لهم لاستثقالهم لزيارتي في العطل ظنا منهم أن زيارتي هذه ستتكرر كثيراً. وهكذا بعد لأي شعرت بالوحدة القاتلة تلفني بأذيالها بين أترابي الكثيرين يا للظلم! كيف يمكن أن يحول حائل بين طفل فقير وبين بيته الذي ترعرع فيه؟ وما أشد الحنان الذي كان يساورني تجاه ذلك البيت وتلك الحيرة في تلك السنوات العجاف! وكيف أن بلدتي الأصيلة تعاودني في أحلامي بكنيستها وأشجارها ووجوهها! وكيف أني كنت أستيقظ باكيا وفي قلبي ألم ممض وشوق جامع لرؤية (كالن) الجميلة في (ولتشاير).
وطبيعي أن يكون الصبي هو كوليرج بالذات و (فالن) الجميلة هي (أوتري) في ديفون ولكن بصورة مقنعة، ومن الواضح الحلي أن كوليرج شعر بهذه الوحدة: لأن طبيعة مرهفة الإحساس كطبيعة لا يمكن إلا أن تشعر بها بكل حرارة وبكل قسوة وقد ذكر ذلك بجزع مروع في قصيدته (البرد في منتصف الليل) كما أنه وعد ابنه بحياة أسعد. ومن الحق أن نقول إنه لم يشعر بذلك طوال حياته. لأن رسائله الأولى تتضمن بع التلميحات والإشارات إلى الأمور العرضية والتافهة، ثم نرى لهجة هذه الرسائل تتغير تبعاً لنموه الروحي والفكري فتتحول إلى ذكر أشياء أخرى. وقد قال في سياق إحدى رسائله: (أرجو المعذرة إن ذكرتكم بأن عطلتنا ستبدأ في الأسبوع المقبل، وإنني سأخرج للنزهة لعدة أيام، فاطلب أن ترسلوا لي سروالا جديداً، لأن ذلك سيكون شيئاً لائقا بمظهري وخصوصا لأنني مضطر إلى الظهور أمام النساء). وأصبح في الوقت الملائم إغريقياً، فوقع في أحبولة الحب ونظم شعرا صبيانيا في هذا المعنى. ولو أن الغرام وما تبعه من نظم الشعر، لم يكن ذا شأن بذكر في عنفوان شبابه، إلا أنه قدر لكل هذا أن يكون له أعظم التأثير في الفترة التي تلت هذه الحقبة الجامحة من حياته. أما الفتاة التي علق بها والتي أوحت بكل هذا فكانت تدعى الآنسة (ماري ايفانز) وهي ابنة أرمل وأخت أحد أتراب كوليرج الذي كان يعتز بصداقته كثيراً.
يقول كوليرج متذكراً تلك الأيام (أواه! ما أجمل ساعات الفردوس بين السادسة عشر والتاسعة عشر من سني العمر، حيث كان (ألن) (تلميذ مدرسة) وأنا نحرس إيفانز في(1021/35)
طريقها إلى البيت في أمسيات السبت، وقد كانت في تلك الأيام تشتغل في معمل للقبعات النسوية. . . وكنا معتادين أن نحمل إلى هناك في صبيحة كل يوم من أيام الصيف باقات الأزهار الناضرة. ولكن الوحي لم يأت كله من ماري، بل أن ابنه ممرضة المدرسة شاركتها في ذلك، وقد وجه شاعرنا قصدته (جنيفياف) إليها. ويقول كامبل في ذلك ما يلي: (كانت العادة المتبعة في ذلك الوقت تجيز للطلبة المتقدمين أن يرتبطوا بأولئك البنات الصغيرات ارتباطاً غرامياً). أما ماري فقد أعانت (وليم لسل باولز) على إيقاظ القابلية الشعرية لديه، كما يشرح لنا ذام الفصل الأول من كتاب (البيوغرافية الأدبية)، وقد وجد النقاد على اختلافهم موضعاً للدهشة والاستغراب في كل هذا، إلا أننا لا نجب أن ننظر إلى ذلك بشيء من هذا القبيل.
ولنبدأ الآن بباولز، فإن أغانيه على علاتها ليست رديئة، وأكثر من ذلك، فهي تشير ولو بصورة شاحبة إلى الفجر الذي انبثق في حياة الشعر الإنجليزي. ولا شك أنه لو حدث أن وقع في يدي كوليرج شيء من شعر (بليك) أو (كاولي) أو (برنز)، وهو على عتبة السنة السابعة عشرة من عمره، لتبدلت قصة حياته ولكان تحوله أجمل إيقاعا وأحسن نتيجة. ولكن حدث في سنة 1790 أو حوالي ذلك أن ظهرت إلى الوجود الحركة الشعرية الجديدة، وقد سرت عدوى هذه الحركة سرياناً هائلا جازفاً، وكان إقبال الشباب عليها شديداً جداً، ولم يكن ينظر الشباب إلى مصدر ذلك قطعاً، بل إنه التمس فيها عوناً له حيرته التي كان يتخبط فيها، ولو أن كوليرج استمد فكرته من مصدر قوي آخر لتغيرت نتائج تفكيره ولأصبحت حياته أكثر تهوراً وأشد عنفاً وغلياناً. أما وقد وقع الأمر كما كان، فان (الأغاني) البريئة ومجتمع عائلة إيفانز تعاونتا على إبعاده من الميتافيزيقا واللاهوت اللذين أمداه بغذائه الروحي في وقت مبكر من حياته، وكان هذا الأبعاد رقيقاً لطيفاً (بحيث لم يشعر به). وقد اعترف كوليرج بفضل باولز لأنه كما يقول (أدى له فضلاً لا يوازيه إلا فضل الكتاب المقدس)، ومع ذلك فان محاولاته في نظم الشعر كما اعترف بذلك نفسه في استكانة واستحياء لم تخرج من طوق ما تعارف عليه الأقدمون من أوزان ومقاييس وبحور. وفي كانون الثاني (يناير) سنة 1791 وافقت لجنة الوكلاء بكلية (كرايست) على السماح له بالالتحاق بجامعة كوليرج، وكانت بداية عمله هناك ودراسته جيد جداً بحيث أنه نال وساماً(1021/36)
ذهبياً في سنة 1792 لقصيدته الرائعة في ذم تجارة الرقيق، وكاد أن ينال زمالة (كرافن) لولا تعسف بور سون (أحد المحكمين) ضده. وفي تشرين الثاني سنة 1793 ترك كوليرج كيمبردج إما خوفاً من تراكم ديونه أو من أثر نوبة عصبية شديدة أصابته بسبب رفض ماري إيفانز لالتماساته. ومع ذلك يشك الآن في أهمية هذين السببين في تقرير مصيره. وعلى كل حال فقد اتجه كوليرج إلى لندن لينخرط في الثاني من كانون الأول في سلك الجيش) فيصبح أحد جنود الفرقة الخامسة عشرة للفرسان والمعروفة بفرقة (دراكون) الملكية تحت اسم مستعار هو (سايلاس تومكن كومربيك) وربما كان قصير القامة بديناً، أبعد ما يكون عن الرشاقة: وفي نيسان 1794 تمكن أقاربه من الحصول على ترخيص بتسريحه من الجيش بعد مشقة شديدة، وبعد ذلك أعيد قبوله في كلية (كرايست) مرة أخرى.
البقية في العدد القادم
يوسف عبد المسيح ثروت(1021/37)
خاطرة
نداء (الرسالة)
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
يا رسالة الشرق!
أشرقت في أفق المعرفة منذ عشرين عاما؛ فبهرت الأبصار ولم يأخذك البهر، وحددت المثل العليا، فسمت الخلائق ثم تسامت عن ممالأة الخلق!.
انطوى تحت لوائك الأعلام، فحملوا المشاعل ليشعلوا النفوس الخالية، ويحفزوا الهمم الكامية، ويرسموا الخطط القويمة، ويصوروا صور الإنسانية الفاضلة!.
والتزمت خطة الإباء المتزن، والشمم المعتز، والتحفظ المتئد، والتطلع السامق، والترفع العف!.
يا رسالة الفكر!.
أرخت حياة الأدب في صفحاتك، وسجلت نتاج الأفكار تسجيل التخليد، ووصلت ما بين الشرق المتحفظ والغرب المنطلق، فتلاقت في ميدانك ألوان ثقافات العصر في الفكر الجديدة، والأسلوب المبتكر، والأداء السليم، والنقد المستقيم، واللمعة الوضاءة!.
يا رسالة الوجدان!.
أرسلت حداء القلوب في تناغيم العاطفة، وعاطفت بين المشاعر الإنسانية، فتفتح الوجدان عن كمه، ليلقط قطرات الصبابة بعد أن انبعثت متعصرة من شئون الشجون!.
كان شعرك صورة حية لشعورك في صفاء الديباجة، ونقاء الألفاظ، ومتانة الرصف، وصدق الوصف، وجمال المأخذ!.
يا رسالة الروح!.
وجهت النفوس إلى الخالق في إيحاء الخشوع، وتواضع الدماثة، وخلوص النية، ولطف السجية، وجلال الإشارة، وبلاغة العبارة، حتى حلقت الأرواح معك، وجاوبت أصداء هتفاتك، فعرفت بعد أن اغترفت، وهامت بعد أن ألهمت!.
يا رسالة الضمير!.
عاتبت الغفلة، وحاسبت الغفوة حتى تيقظ الوسن، وتلفت اللاهي؛ ثم صورت ما يجب أن(1021/38)
تكون عليه النفس الفاضلة فتنصت إلى الصوت الخفي حين يناديها، لتزن الأمور وفق ندائه وتترك المباغي الذاهبة لتحيا في ظلال النزاهة!.
يا رسالة الإنسانية!
لا أريد أن أمرق إليك بالملق، أو استنديك بالحمد؛ فأنت في غنية عن ملقى وحمدي، ولكني أريد أن تعايشي الناس في نطاق حياتهم، لأنك صورة جليلة للإنسانية السامية!.
صوري النقائص، وهاتي الصورة (العارية) لتكشفي عن سوءة الرذيلة!.
يا رسالة المثالية!
أنت حصيفة مجربة، تزنين الأمور في ميزان الخبرة، لكنك تبعدين عن المبذلة، وتتحاشين التدلي، وتؤثرين السلامة، والحياة غافلة في ملهاة الشهوة؛ فصوري التلهي بالتشهي، وقاربي بين التدلي والتسلي!.
إنك مجدة في جديد؛ فهلا سخرت من الهزل في سخريتك؟! الزمن للأضاحيك، وأنت ذات بسمة حكيمة؛ فاجعلي من البسمة حكمة، وروضي تلك الطباع النافرة على التأدب بأدبك!.
يا رسالة الخاصة!
أنت في عهدك الجديد السعيد تنزعين إلى منزع التحرر؛ وتنطلقين مع الحياة في تحفيظ اعتزازك، وتصون مكانك، وتوقر مهابتك؛ فالقلوب هتافة معك، والأرواح متصلة بل!.
يا رسالة الرسالات!
إليك نفوسنا نزاعة إلى رحابك، وخواطرنا متسامية في تساميك؛ فأشرقي أشرقي؛ لتبعثي النور مع البعث الجديد!.
أحمد عبد اللطيف بدر(1021/39)
من هنا ومن هناك
مشروع هندسي لتحسين المواصلات النهرية في روسيا
أتمت الحكومة الروسية أكبر مشروع هندسي في تاريخ المواصلات النهرية وهو ربط نهري الفولجا والرون بقنال مائي طوله 62 ميلا يجاوره ثلاثة خزانات رئيسية ذات حجم هائل. وبربط أكبر أنهار الاتحاد السوفييتي بعضها ببعض استطاعت روسيا السوفيتية أن تنشئ في دخيلتها بحراً جديداً تعج فيه السفن وسائر أنواع المواصلات المائية الحديثة. وقد اعترفت الأوساط الهندسية خارج الاتحاد السوفييتي بأن هذا المشروع هو من أدق المشروعات الهندسية وأعظمها في تاريخ المواصلات المائية.
وقد أنفقت السلطات الروسية على هذا المشروع وقتا وجهداً ومالا كثيرا، ولكن الفائدة العملية التي ستتولد عن هذا المشروع تفوق بكثير ما أنفقت عليه من مال وجهد.
وقد نصبت إدارة هذا المشروع ستة محركات كهربائية هائلة في كل محطة من محطات المضخات الثلاث التي أنشئت على مجرى القنال الذي ربط النهرين، وفي كل مضخة عدد من آلات القوة الدافعة تسير بتيار قوته 4400 كيلو واط يربط مياه النهرين عبر القنال الجديد في أنبوبة فولاذية قطرها عشرة أقدام تتدفق مياهها إلى مجرى القنال لتحفظ عمقه المائي على نحو ما تقتضيه حمولة السفن التجارية التي أخذت تستعمل القنال لتنقل البضائع والركاب من المناطق الأهلة بالسكان في حوض نهر الأوبي إلى المناطق البعيدة التي تجاور نهر الرون.
وقد احتفلت السلطات السوفيتية بافتتاح القنال الجديد احتفالا كبيرا رددته ألينه الرأي العام ونشرات الدعاية والأنباء التي تبصها السفارات والبعثات السياسية الروسية في العالم الخارجي.
وفاة جون ديوي
توفي في أول يونيه الماضي (الدكتور جون ديوي) أحد أعلام الفكر الأمريكي المعاصر وعميد الفلسفة والتربية (البرجماتزمية) التي تتميز بها الثقافة الأمريكية عن غيرها من ثقافات الغرب.
وقد بلغ الدكتور ديوي من العمر 92 عاما وأنتج ما يزيد على 300 مؤلف من مختلف(1021/40)
الأحجام وفي مختلف الموضوعات المتعلقة بالفلسفة والتربية والتوجيه السياسي وعلم النفس والاجتماع.
ولعل أبرز ما ساهم به الدكتور ديوي في حاضر الثقافة الأمريكية هو نظريته في التربية العملية التي أصبحت الآن من مميزات أسلوب التربية والتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد جاهد هذا المربي الأمريكي الكبير في الدعوة إلى نظريته التربوية شارحا للناس بأن العلم المجرد لا ينفع صاحبه إلا إذا رافقه إدراك عملي لوسائل تطبيقه على الحياة اليومية. ولذلك دافع ديوي عن النظرة (البرجماتزمية) للحياة وقال بوجوب تسخير الثقافة المجردة لخدمة الفنون التطبيقية التي تنفع الناس في حياتهم العملية. وقد واجهت هذه النظرية انتقادا لاذعا من قطب أمريكي آخر له مكانته الهامة في بيت المربين الأمريكان هو الدكتور روبرت هاتشينز رئيس جامعة شيكاغو. ووصف الدكتور هاتشنز نظرية ديوي بأنها (رجعية تتعارض مع الثقافة السليمة) وقال هاتشنز كذلك بأننا يجب أن نبتذل العلم والثقافة الرفيعة لكي نساعد على جعل المدرسة مصنعا لإخراج التلاميذ. فللثقافة الرفيعة أهميتها في حياة الشعوب حتى ولو كانت مقصورة على فئة مختارة من الناس اختارت التخصص في العلم المجرد. فإذا عجزنا عن جعل كل طالب في كل مدرسة يتذوق العلم المجرد والمتعة الثقافية العالية فلا أقل من أن نوفر هذه الفرص لأولئك النفر من الطلبة الذين يؤهلهم استعدادهم الخاص لتذوقها. فمثل هذا النفر المسؤول عن مستقبل الحضارة والثقافة في كل شعب من الشعوب.
(ت. س. اليوت) وشعره في سن الشباب
نشر الأستاذ (كارلوس بيكر) أستاذ الأدب الحديث في جامعة برنستون الشهرية بحثا طريفا عن أمير الشعر الإنكليزي المعاصر (ت. س. اليوت) بمناسبة انقضاء 30 عاما على ظهور ملحمته الخالدة (الأرض الخراب).
ويقول الأستاذ ببكر أن شعر اليوت في سن الشباب يتميز بالنقد الاجتماعي اللاذع الذي مهد له السبيل لبناء مدرسته العتيدة في الشعر العالمي المعاصر. فللمستر اليوت مدرسة فكرية هامة لا يفتصر نفوذها على حاضر الشعر الإنجلوسكسوني بل يتعداه إلى أوساط أدبية(1021/41)
أخرى.
وقد ولد اليوت في أمريكا عام 1888، ثم نزح إلى بريطانيا واختارها وطناً له.
وقد اشتهر هذا الشاعر المجود بإنتاجه الأدبي في قصائد من الشعر الطليق واصفا حياة المجتمع التقليدي المحافظ في بوسطن - وهي أشد المدن الأمريكية شبهاً بالمجتمع البريطاني. وقد وزن الشاعر حياة المحافظين من المترفين بميزان الفكر الحر فجاءت قصائده سجلاً لما يعتري هذا المجتمع المترف من جفاف روحي وقلق عاطفي لم تستطع أن تدافع شره أسباب الطمأنينة الاقتصادية وما وفره لهم مركزهم الاجتماعي من رخاء وبحبوحة في العيش.
ثم التفت الشاعر إلى حياة الطبقة التي لم تستطع أن تضمن بحبوحة العيش والطمأنينة الاقتصادية من العمال والمجتمعات الفقيرة التي تعيش على هامش الحياة في المدن الصناعية الكبرى. ووجد اليوت أن هذه الفئة من الناس تعاني أزمات روحية وألواناً من القلق العاطفي ولكنها أزمات أخف حدة بفضل البساطة التي تسود تفكيرهم في شؤون الحياة ومشاكلها. وبين هاتين الفئتين وجد المستر اليوت فئة ثالثة موزعة الأهواء مشوهة الفكر لا ترضى عن حياة الترف وما يصاحبها من ثقافة وتفكير روحي، وترفض جهالة الطبقة العاملة وما يعتريها من جمود عقلي لا يرضي عنه العقل النبيه.
وقد وصف هذا الشاعر نماذج هذه الفئات الثلاث في الحياة اليومية في ديوان له سماه (بروفروك) أصدره في عام 1917 وفي مجموعة من القصائد نشرها عام 1920.
وقد لفت المستر اليوت النظر في تلك المرحلة من فتوته الشعرية إلى بلاغة وصفه للطبقات العاملة في قصائد وجدت جمال التعبير وقوته في وصف زكائب الأقذار والغرف المظلمة القائمة والأثاث المكسر الوسخ. وانفرد اليوت في صياغة هذه المناظر في شاعرية أثبتت أن الشاعر الحق يجد الجمال في المنظر البهيج وفي المناظر والمشاهد التي هي أبعد ما تكون عن البهجة.
وكان شعر اليوت في فترة شبابه مطبوعاً بطابع السخرية والنقد الاجتماعي اللاذع ثم مر الشاعر في فترة نضوج عقي سيطرت على تفكيره سيطرة تامة فجعلته يبحث في تراث الماضي عن علاج لأزمات الساعة ومشكلات الفئات الثلاثة التي يتكون منها المجتمع، ولم(1021/42)
يقتصر اليوت على الشعر في نشر آرائه في هذه الفترة بل عمد إلى النثر. وله عدة كتب تحتوي مقالات نثرية هي من أثمن ما في الأدب الإنجليزي الحديث من نتاج. واعتنق اليوت الكاثوليكية بعد أن كفر بالبروتستانتية التي نشأ عليها لاعتقاده بأن البروتستانتية دين لا يكترث بذخيرة الماضي الروحية ولا يعتني بها عناية الكنيسة الكاثوليكية.
وفي عام 1950 نشر المستر اليوت مسرحية جديدة بعنوان (حفلة كوكتيل) عاوده فيها حنينه إلى النقد والسخرية.
ولا يزال المستر اليوت رعيما لمدرسة الشعر الحديث في العالم الانجلوسكسوني. وهو يقيم في بريطانيا اليوم ويتولى إدارة إحدى كبريات دور النشر البريطانية.
الحياة الأدبية في أمريكا اللاتينية
عالم واسع الأرجاء يطفح بالحياة والثورة الفكرية الجامحة - هذا العالم اللاتيني المؤلف من حوالي 22 دولة ودويلة في أمريكا الجنوبية. ومع ذلك يندر أن نعثر في صحف الأدب والفن على استعراضات للحياة الأدبية والفنية في أمريكا اللاتينية - وكل ما يعلمه الناس عن أبناء الأرجنتين والبرازيل والشيلي وفنزويلا وبيرو وكولومبيا وسواها من الأمم اللاتينية في أمريكا الجنوبية لا يتجاوز الأخبار الصاخبة التي تصاحب الانقلابات العسكرية والسياسية التي أصبحت علما على هذه الدول.
والواقع أن الضجة السياسية في أمريكا اللاتينية تخفى ثورة فكرية جامحة فيها كثير من العناصر التي تصاحب الحياة الفكرية في البلاد الآسيوية.
وقد استعرض أحد الكتاب في الملحق الأدبي لجريدة النيويورك تايمس مؤخراً الحياة الأدبية في هذه الدول اللاتينية فوجد أن من أهم العناصر التي تؤثر في الإنتاج الفني لأرباب القلم في أمريكا اللاتينية عنصرين: الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية وهما كما نرى عنصران لهما شبيه في حاضر الأدب الغربي والآسيوي إجمالا.
وفن القصص في أمريكا الجنوبية فن ضعيف، إلا من قلة ضئيلة يتزعمها القصصي الفينزويلي (رامون دياز سانشيز). وقد أصدر هذا الكاتب قصة هي غاية في الإبداع تعالج حياة العمال الوطنيين في مناطق آبار البترول الفينزويلية التي تحتكرها الشركات الأمريكية. والقصة سجل للتطور النفساني العميق الذي يمر به العامل حين ينتقل من حياة(1021/43)
بدائية تقريبا في الجبال والمراعي إلى ضجيج المؤسسات الصناعية العصرية على نحو ما نشهده في شرقي الجزيرة العربية هذه الأيام. ولهذا الكاتب قصة أخرى تعالج الصراع العنصري بين الزنوج والسكان البيض (في العنصر الإسباني) في المزارع الإقطاعية المنتشرة في أمريكا اللاتينية.
ويبدو أن القارئ في أمريكا اللاتينية يشارك القارئ الغربي في إقباله على كتاب القصة القصيرة. فالأقاصيص رائجة هناك كتابة وقراءة.
وقد انفردت جمهورية الشيلي من بين شقيقاتها الدول اللاتينية الأخرى بأنها قد أبرزت أعظم شاعر في المنطقة كلها. وهو السنيور (جايربيل ميستوال) الذي منح مؤخراً جائزة نوبل للآداب.(1021/44)
مُحَاضَرَاتٌ وَمُنَاظرَاتٌ
شكل الدولة في الدستور الجديد
تناظر في هذا الموضوع أربعة من أقطاب الفكر يوم الثلاثاء الأسبق بالجامعة الشعبية، واحتشد لسماعهم بضعة آلاف من الناس كانوا يشتركون في المناظرة بقلوبهم وعواطفهم، إذ الموضوع موضوعهم، ثم هو موضوع الساعة! وقد انعقد إجماعهم - أو كاد - على الموافقة على الرأي القائل بأن تكون الدولة جمهورية، ولهذا فقد كان صاحب الرأي الذي يرى أن تكون الدولة ملكية ضعيفا حرجا، فالجمهورية يعارضه في كل قول، ويثور عليه في كل رأي، وهو لا يتزحزح عن موقفه حتى انتهى كلامه وهو يصيح في الحاضرين (لكم دينكم ولي دين).
وكان الوقت المقسوم لكل من الأربعة المتناظرين نصف ساعة، فالتزموه ولم يعده واحد منهم، وعقب عليهم الدكتور منصور فهمي - ولم يكن له وقت مقسوم - فاستغرق في تعقيبه ساعة وشارك الكثيرون في مناقشة الموضوع، واشتد بالجمهور الحماس، وانهالت الأسئلة من كل صوب على المتناظرين، ولم تنته المناظرة إلا بعد أربع ساعات وكان المحدود لها ساعة ونصف ساعة فقط! وكان سيرها على الوجه الآتي:
نهض الأستاذ محمد على علوية فقال:
لأول مرة نستطيع أن نجتمع لنناقش مثل هذا الموضوع الخطير الذي لم نكن نستطيع أن نمسه - ولو من بعيد - في العهود الماضية، ودلكم هو شعار عهدنا الحاضر، الدولة دولة الجميع، والوطن وطن الجميع، ليس لواحد فيه أكثر مما لأخيه، فلكل أن يبدي رأيه في نظامه ودستوره وقوانينه التي سيؤخذ بها جميع المواطنين على السواء.
ولو ذكرتم التاريخ القديم للإنسانية لوجدتم أن نظم الحكم فيها كانت نظماً أوتوقراطية مسرفة، حيث كان يحكم الشعب فرد واحد لا رأي إلا رأيه ولا هو إلا هواه والشعب قطيع لا يملك من أمر نفسه شيئاً!.
واستمرت الشعوب على هذه الحال أزمانا طويلة، ثم بدأ الوعي يتسرب إليها رويدا رويدا، وأخذت تنفض عن عيونها غبار هذا السبات الطويل، واشتد بها الوعي والإدراك، فطالبت بأن يكون إليها حكم نفسها، وأن تكون - دون سواها - مصدر كل السلطات.(1021/45)
وصوت الشعوب قوي غلاب، لا تثبت أمامه قوة فرد وإن يكن من الجبابرة المردة، فتحقق لها ما طلبت، وصارت الأمم في كل بقاع الأرض - إلا النادر القليل - مصدرا لكل أنواع السلطات في أرضها، وصاحبة الكلمة العليا في تصريف أمور بلادها، ونشأت هذه الكلمة السحرية، وسرت في العالم، وأعني بها كلمة (الديمقراطية) ونتج عنها نظام (الملكية الديمقراطية) ونظام (الجمهورية الديمقراطية) وكلا النظامين. . . كما يبدو من اسمهما. . . مقرون بصفة الديمقراطية ومقيد بها، لتضمن الشعوب بذلك أن تظل صاحبة السلطان.
ولو رجعنا - في مصر - إلى المائة سنة التي مضت فماذا نحن واجدون؟.
نجد أن الحكم كان عندنا إما أوتوقراطياً سافراً أو أوتوقراطياً يسنده شيء اسمه الدستور! نجد أن (عرابي) يطلب إلى (توفيق) - في تواضع - العدل ويطلب إليه البرلمان، فيجيبه هذا الحاكم لمطلق بقولته المشهورة: (كيف تجرءون على هذا وأنتم عبيد إحساناتنا؟). ونجد أن الجيش يطلب إلى (إسماعيل) ألا يستأثر الجنود الأجانب بالمناصب الكبيرة في جيش البلاد وأن يشترك معهم الجنود المصريون فيها، فيأبى عليهم إسماعيل ذلك؛ بل وينزل بهؤلاء المطالبين العقاب الأليم. ونجد هذه الوحشية التي كانوا يسمونها (الالتزامات) ومعناها أن تباع القرى برمتها إلى (ملتزم) نظير مبلغ معين، ثم إذا بهذا (الملتزم) يلهب ظهور أهل القرية بالكرباج ليجمعوا له المال الذي يدفع منه نصيب الحاكم في هذا (الالتزام). هذه نماذج مما نجده في حكم الفرد منذ مائة سنة، أما عهد فاروق فأراني في غير حاجة إلى بسط القول فيه وهو مازال مائلا لأعينكم، ومن عجب أنه كانت تسنده طول مدة حكمه برلمانات لا أدري أهي حقاً برلمانات أم شركات؟.
أريد أن يستقر في أذهاننا جميعا أن صلاحنا لا يكون بصلاح فرد وإنما يكون بصلاح المجموع، وأن يستقر في أذهاننا أننا كنا دائما في خلال هذه السنوات المائة شركاء في المسؤولية، وأن هذه السنين كانت وبالا مستمرا وفسادا دائما لهذه الأمة. إن الدين الإسلامي يا حضرات السادة - لا يعرف الملكية، ويكفي دليلاً على ذلك أن محمدا سيد الخلق لم يعين أحداً بعده، وأن خلافة أبي بكر بعده إنما كانت بالبيعة وهي انتخاب، وكذلك كانت خلافة عمر وعثمان إلى أن صار ملكا عضويا فضاعت هيبة المسلمين. . . إن الدين الإسلامي يقرر أن الأمر شورى بين الناس ولذلك لا أستطيع أن أنصح إلا بالجمهورية.(1021/46)
ثم أعقبه الدكتور وحيد رأفت فقال:
أعلم - قبل أن أتكلم - أن موقفي بينكم حرج شديد الحروجة! لأني سأنفرد برأي لا يقرني عليه أحد من زملائي، وما أحسب أحدا منكم سيقرني كذلك! فكلمة (الملكة) مقرونة في أذهانكم باسم (فاروق) وبئس القرين! ولكن أجور أن تعلموا أننا لا نضع دستورا لليوم فقط ولكننا نضعه للأجيال القادمة أيضا: وليس كل الملوك فاروقا، وفي الملوك - كما في الناس جميعاً - الصالح والطالح، وقد بقي النظام الملكي حتى اليوم في بلاد عريقة كإنجلترا وسويسرا والنرويج، برغم أن الإنجليز شنقوا من ملوكهم واحدا وطردوا آخر! وليس النظام الجمهوري - كما يتصور البعض - ضمانا قاطعا من الظلم والطغيان، فقد أدى في أمريكا مثلا للدكتاتورية دائماً! إن حول رئيس الجمهورية الأمريكية وزراء ولكن لا رأي لهم ولا وزن لكلامهم ورأيه هو الأعلى دائماً. وإن إلى جانب رئيس جمهورية فرنسا رئيس وزارة هو بمثابة دكتاتور فعلي للبلاد، وإن الجمهورية في فرنسا هي سبب الاضطرابات والقلاقل والهزات المالية التي تنتابها دائماً. إنني لا أشبر بغير النظام الملكي على ألا يكون فاسداً مفسداً كالذي رأيناه، فكيف نضمن ذلك؟ إنكم مسئولون إلى حد كبير عن هذا الفساد الذي استشرى في بلادكم، وكيفما تكونوا يول عليكم، وقد أعطيتم الملكية درسا قاسيا لن تنساه قرنا - على الأقل - من الزمان، ولن تكون الملكية طاغية في مصر بعد اليوم.
وأعقبه الدكتور مصطفى الحفناوي فقال:
من حق الشعوب - يا سادة - أن تختار لون الحكم لنفسها بنفسها مستندة في ذلك على حقها في الحرية والاستقلال وهو حق لا يسقط بالتقادم ولا يجوز أن يباشر بالإنابة، فما النظام الذي يختاره الشعب؟ سواء عندنا أن يسمى رئيس الدولة ملكا أو رئيس جمهورية، ولكن يجب أن يكون الحكم ترجمة لشعور الأمة وضمانا لتوزيع العدل بين آحادها.
ونحن لا نستطيع أن نستند في اختيار لون الحكم على سوابق الدول الأرى، فالدساتير كالنبات ينمو هنا ويذيل هناك، وإذا أردنا الإبقاء على الملكية فمن يكون الملك؟ أنبقى على هذه السلالة العلوية وإن الصالح لا يخرج من صلب الفاسد أبداً؟ أنقدم التاج لهذه الأسرة ونكرر تجربة ذقنا منها الأمرين مائة وخمسين عاماً؟ إن الأمر يجب أن ينتهي إلى الأمة فتنتخب هي رئيسها وتعزله إذا رأت منه اعوجاجا، فيكون أمرها إليها لا إليه. ولذلك فلا(1021/47)
أوصي بغير الجمهورية.
ونهض على أثره الأستاذ إحسان عبد القدوس فتكلم في بساطة وسهولة قائلا:
تحكم مصر من عهد الفراعنة حكما ملكيا، فتأكد معنى هذا الحكم في النفوس، واصبح من الصعب إيجاد الخيال السياسي للتحرر من هذا المعنى. ومنذ عهد الفراعنة لم تحكم مصر بمصري ومع ذلك فإن البعض يريد أن يفوت علينا هذه الفرصة الذهبية ويعيد إقامة ملوك يبدءون صالحين ثم ينتهون فاسدين! وحجة هذا البعض أن الملكية نظام استقرار؟ فأي استقرار هذا؟ إنه الجمود والتحجر والوقوف عند مصلحة الملك. إنه استقرار للعرش وللملك لا للشعب ولا لأبناء العشب. . إن النظام الملكي هو سبب خلق نظام الطغيان فالملك يريد أن يكون إلى جانبه طبقة مثله يؤيد بها عرشه وينفذ بها رغباته ولن توجد هذه الطبقة إلا على أشلاء الطبقات الفقيرة البائسة. . . إنهم يسألون من يكون رئيساً للجمهورية؟ كأن مصر قد عقمت عن أن يكون بها رجل يحل محل الطفل أحمد فؤاد! قد عملت استفتاء في موضوع مناظرتنا الليلة ولا أذيع سراً إذا قلت إن الإجماع يكاد يكون منعقدا على تحبيذ الجمهورية فأنا لا أشير إلا بها.
جامعة الأمم العربية على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته
في السادسة من مساء الجمعة السابق اجتمع بقاعة يورت عدد من الناس لسماع محاضرة الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية الأسبق في هذا الموضوع، وقد استغرق إلقاؤها ساعتين إلا قليلا كان المحاضر أثناءها يفيض بالحديث المدعم بالأرقام والإحصاءات والتواريخ. كأنه يقرأ من كتاب مفتوح من أن إلقاءه كان محض ارتجل! ويمكن أن نلخص هذه المحاضرة القيمة فيما يأتي:
لعل التعبير بجامعة (الأمم) العربية أولى من التعبير بجامعة (الدول)، وأنتم تذكرون عصبة (الأمم) قديما وهيئة (الأمم) المتحدة حديثا، وكلها هيئات قامت للدفاع عن الأمم وتنظيم العلاقات بين الشعوب. أما جامعة (الدول) العربية فهي الهيئة التي أنشئت في الشرق الأوسط من الدول السبع (مصر وسوريا ولبنان واليمن والعراق والأردن والمملكة العربية السعودية) للدفاع عن البلاد العربية جمعاء المشتركة منها في الجامعة وغير المشتركة. وتم عقد ميثاقها - كما تعلمون - في الإسكندرية سنة 1945 بين تلك الأمم التي تربط بينها(1021/48)
علاقة الجوار واللغة والدين والعادات والتقاليد وما إلى ذلك من علاقات تضرب في بطرن التاريخ إلى آماد سحيقة بعيدة. وقد وهم البعض أن هذه الجامعة إنما أريد بها أن تكون أداة ذلولا في يد الإنجليز ينفذون بها مآربهم، ولكنها أثبتت أن هؤلاء جد واهمين! فقد عملت جاهدة على استكمال السيادة لمن تنقصها السيادة من البلاد العربية، وحققت جاهدة كثيرا من الأغراض المشتركة بين البلاد العربية كالثقافة والسياسة والاجتماع والمواصلات والقوانين وسواها، وذلك ليس من مآرب الإنجليز في شيء! ولكننا لسنا اليوم بصدد سرد أعمالها وجهودها في الماضي فلذلك مقام آخر، وإنما نحن اليوم بصدد الحديث عنها الآن في ظل هذا العهد الجديد. . . كان الملك السابق يتدخل تدخلا ساقراً في أعمال الجامعة لمآرب يبغي تحقيقها لنفسه، كان يبغي - كما كان أبوه يبغي من قبل - أن يكون خليفة المسلمين! فكان يجمع الملوك ويوفد الوفود ويلقي بالتصريحات المملوءة بالحماس في بعض القضايا العربية كما فعل مثلا في قضية سوريا ولبنان! ولكنه لم يكن ينظر في ذلك جمعية إلا إلى شخصه. فلما عز عليه تحقيق مطالبه انقلب عدوا للجامعة وساءت العلاقات بينه وبين الكثير من الأسر الحاكمة في البلاد العربية، وحقت صوت الحماس منه وكان قويا! وبزوال فاروق زال هذا العصر الشخصي الذي كان يتدخل في أعمال الجامعة، وصارت اجتماعاتها اجتماعات شعوب لا اجتماعات ملوك وأمراء كالتي كان يجمعها فاروق، وأسبغ العهد الحاضر ظلا وارفا من رعايته على الجامعة. وليس من عجب في ذلك، فإن العهد الحاضر تربطه بالجامعة أسباب وأسباب، (فلسطين) هي أول حجر في هذا العهد كما تعلمون وقائد الحركة قد حارب هناك وجرح، وقضية (لأسلحة الفاسدة) هي - كما تعلمون أيضا - من السباب المباشرة لهذه الحركة. . . لهذا كان طبيعيا أن نرى العهد الحاضر يحتضن الجامعة، ويحتضن قضايا الأمم العربية عامة فيهب هبة الليث الهصور لموقف ألمانيا من إسرائيل، ويأسو جراح المكلومين الشاردين في غزة، فيسوق إليهم الغوث والعون في (قطار الرحمة)!.
علي متولي صلاح(1021/49)
أَخْبَار أدَبِية وَعِلْمِية
مفردات ابن البيطار
أذاع الدكتور سارنللي أستاذ صحة المناطق الحارة في المعهد الشرقي نابولي وهو في الثانية والستين من عمره وحجة في تاريخ الطب في الشرق الأوسط أنه اكتشف في طرابلس مخطوطا عربيا قديما يؤيد القول بأن ابن البيطار الطبيب العربي الكبير الذي اشتهر في القرن الثالث عشر بعلم العقاقير والأعشاب لم يكن واضع (كتاب الأدوية المفردة) بل كان شارحا له ومعقبا عليه.
وصرح الدكتور سارنللي بأنه كان على الدوام متفقا في الرأي مع الأستاذ ماكس مايرهوف أحد أساتذة جامعة القاهرة الذي كان يعتقد أن كتاب ابن البيطار ليس إلا نسخة مقرونة بملاحظات للكتاب الذي وضعه في القرن الثاني عشر الفيلسوف العربي الأندلسي أبو جعفر أحمد أبن محمد ابن السيد الغافقي الذي ضاعت نسخته الأصلية.
استغلال أشعة الشمس في توليد الحرارة وإدارة الآلات!
سيلقي المسيو فيلكس ترومب مدير المركز الوطني للأبحاث العلمية ومنشئ (الفرن الشمسي) الوحيد الذي يعمل في فرنسا، محاضرة يوم 22 يناير عن الحالة الحاضرة لاستغلال طاقة الشمس، وما يحتمل أن يحقق في هذا المضمار في المستقبل.
وجدير بالذكر أن هذه الطاقة الجديدة تستغل الآن، بواسطة تركيز حرارة الشمس، في تسخين الماء وتعديل حرارة المنازل، ويمكن استغلالها في توليد القوة المحركة.
غير أن المسيو ترومب يوجه جهوده وأبحاثه إلى توليد حرارة مرتفعة جداً من الشمس، ويقوم بهذه الأبحاث، مع عشرين باحثا من أعوانه، في قلعة (مونلوي) بجبال (البرنس) على ارتفاع 1600 متر، وفي هذه المنطقة يقوم منذ عام 1949، أول فرن لجمع أشعة الشمس وتركيزها، وذلك لاستخدامها قريبا في النواحي الصناعية. . ويتكون فرن (مولوي) هذا من جهاز لتوجيه أشعة الشمس ومرآة من مركز لجمع الأشعة. وتبلغ حرارة هذه الأشعة، عندما يعكسها المركز من 3000 إلى 3500 درجة مئوية. فإذا وضع 50 كيلو جراماً من الحديد في هذا المركز انصهرت في أقل من ساعة.
ويعمل هذا الفرن ما بين 200 و 250 يوما في العام، ولكن إذا أنشئ مثله في أفريقيا فانه(1021/50)
يستطيع أن يعمل 300 يوم في السنة.
انفجار علي بعد مائة مليون سنة ضوئية!
من أنباء بالومار بكاليفورنيا أنه حدث في طبقات الجو العليا وعلى بعد مائة مليون سنة ضوئية من الأرض انفجار يعادل انفجار القنبلة الهيدروجينية.
ويقول الفلكيون في معهد العلوم بكاليفورنيا أن الانفجار وقع حين اصطدام جسمان غازيان، وقد أيدت المراصد في إنجلترا واستراليا وقوع هذا الانفجار. .
ويقول العلماء إن الانفجار أطلق قوة مقدارها أربعمائة ترليون كاترليون كيلوات (أي أربعة أمامها اثنان وثلاثون صفرا) وهو ما يفوق قوة جميع محطات الراديو في العالم مجتمعة.
جائزة جونكور
فازت بجائزة جونكور الأدبية الفرنسية الكاتبة البلجيكية (بياتريكس بيك وهي وإن كانت بلجيكية من أبيها الذي كان ميالا للأدب ويصدر مجلة أدبية في بروكسل إلا أنها ونشأت وتعلمت في فرنسا.
ولدت بباتركس في الثلاثين من يوليو عام 1914 فهي الآن في الثامنة والثلاثين من عمرها. وبعد عامين من مولدها أي عام 1916 مات والدها. وعندما أتمت دراستها الثانوية التحقت بكلية الحقوق في جرونوبل حيث تعرفت إلى زميل روسي لها في الدراسة فتزوجت به وهجرت دراستها أثر زواجها عام 1936. وعند إعلان الحرب العالمية ذهب زوجها ليحارب في صفوف الجيش الفرنسي ولم يلبث أن توفي عام 1940. وقيل إنه انتحر في ميدان القتال. ولقد كانت هذه الصدمة وما تلاها من المتاعب التي عانتها بياتريكس لتكسب عيشها وتعول ابنتها أثر كبير في توجيه تفكيرها وطبع أدبها باللون الخاص الذي امتاز به.
فقصتها الأولى (بارني التي ظهرت عام 1948 وقصتها الثانية (موت شاذ التي ظهرت عام 1950 ثم قصتها الأخيرة (القس ليون موران التي أصدرتها عام 1952 وفازت من أجلها بالجائزة الكبرى. هذه القصص الثلاث ما هي إلا صورة من حياتها الخاصة التي عرضت فيها أفكارها بصراحة تامة وأسلوب صارم غير عابئة بذلك التنميق أو المواربة(1021/51)
التي يلجأ إليها الفن القصصي حتى عندما يكون رسما للحياة الخاصة للمؤلف.
وأكبر الظن أن المحن التي عانتها بياتركس بيك بعد موت زوجها والأعمال المهنية التي اضطرت للقيام بها لتكسب عيشها هي السبب الأول في تلك الصراحة العنيفة التي نلمسها في أدبها. فلقد عملت بياتربكس عاملة في مصنع وخادمة وكاتبة على الآلة الكاتبة في مكتب للتأمين ثم طاهية. وكانت أثناء كل ذلك تحس أنها أسمى من الأعمال التي تؤديها فلم تستسلم لضربات القدر. كانت تحس بأن في داخلها أفكار كثيرة في حاجة إلى أن تدون وأنها بهذه الأفكار كثيرة في حاجة إلى أن تدون وأنها بهذه الأفكار تستطيع أن تكون كاتبة ممتازة.
وفي عام 1947 حانت أول فرصة إذ كانت تعيش هي وابنتها في إنجلترا عند بعض أقربائها الذين قبلوا إيواءها في مقابل أن تعمل طاهية للمنزل. وهناك كانت تختلس بضع دقائق كل يوم لتكتب قصتها الأولى (بارني) حيث قصت ذكريات شبابها الأول ودراستها في كلية الحقوق بجرونوبل وموت أمها ثم مقابلتها للطالب الروسي نوم تسايرو الذي تزوجته فيما بعد. وفي هذه القصة لم تترك بياتريكس شيئا لم تقله مما اعتبرته الأسرة التي تعمل عندها جرأة لا تليق فطردتها من خدمتها.
وأخذت الكاتبة الناشئة ابنتها ورحلت إلى باريس حيث لا مورد لها. وفي غمار الفقر خطرت لها فكرة إرسال نسخة من قصتها إلى الكاتب الكبير أندريه جيد فلم يكد يقرأها حتى أرسل بطلب رؤيتها بعد أن لمس في كتابتها الذكاء والثقافة وحدة الذهن. فلما لقيها امتدح استعدادها وغمرها بتشجيعه ثم وجه لها نصيحته بقوله (حذار من العاطفية الحادة).
واستقرت حياة بياتريكس المادية إلى حد ما بعد أن اختارها جيد سكرتيرة له. وعندئذ بدأت قصتها الثانية (موت شاذ) وما هو إلا موت زوجها. ولم تكد تفرغ منها حتى بدأت قصتها الثالثة (القس ليون موران).
ومات جيد وعادت بياتريكس إلى الاضطراب المادي؛ ولكنها كانت قد آمنت بأن كسب حياتها لن يكون إلا عن طريق الأدب فانكبت على العمل حتى انتهت من قصتها التي فازت بأكبر الجوائز الأدبية في فرنسا ووضعت مؤلفتها في الصف الأول بين كتاب الأدب المعاصر.(1021/52)
ليونار دوفبنشي بقلمه
وضع الكاتب الفرنسي أندريه شسيتل كتاباً عن الفنان الإيطالي الخالد ليونار دوفينتشي واعتمد في تأليفه على ما كتبه الفنان نفسه من خواطر ومؤلفات مستخرجا منها أفكاره ونظرياته واكتشافاته التي بثها في مؤلفاته العديدة المتفرقة في مختلف المكتبات والمعاهد العالية الشهيرة ومنها مذكراته ورسائله إلى الملوك والحكام في عصره.
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام يعالج كل منها موضوعا قائما بذاته ومصحوبا بتعليقات وافية من المؤلف. والقسم الأول وعنوانه (ملاحظات وخطابات) يشرح حياة ليونارد، فيتيش خطوة خطوة ويكشف مطامحه العلمية كما نقرأ فيه عدداً من الرسائل التي كتبها لبعض الأمراء يعرض عليهم فيها خدماته وما يمكن أن يقوم به من مشروعات. والقسم الثاني يبين ما قام به دوفينشي من مجهود كرسام ومقدار مصارعته لقوة الطبيعة وما كانت تحتويه عبقريته النادرة من موارد لا تنضب. كما يبين كفاحه في سبيل الكشف العلمي وكيف أوصله ظمأه إلى المعرفة أن يكون عالمي الفكر مترفعا عن القومية المتعصبة العمياء. وفي هذا القسم أيضا نرى نقد الفنان للعلم الزائف وتسفيهه له كما ترى نظريته الفريدة عن الكذب. أما القسم الثالث فقد خصص للأقاصيص والألغاز والأساطير التي رواها الفنان على ألسنة الحيوانان والتي يعبر فيها عن تحديه للطبيعة وتفكيره العلمي الواقعي البحث.
الجريدة الموسوعية
بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على إنشاء (الموسوعة) الفرنسية الكبرى. ذلك العمل الفكري الضخم الذي قام به ديدرو ودالامبير والذي كان له أعمق الأثر في تطور الفكر في أوربا الغربية أصدر الكاتبان الفرنسيان جوستاف شارلييه ورولان موتييه كتابا يبينان فيه أن هناك عملا فكريا آخر أتم الرسالة التي حققتها الموسوعة ولم يذكر فضله الذي يستحقه إلى جانب فضل الموسوعة. وهذا العمل هو (الجريدة الموسوعية) التي ظهرت من عام 1756 إلى عام 1793 تحت رياسة بيير روسو. فقد أقام روسو في لييح ثم انتقل منها إلى يوييون حيث أصدر جريدته التي كانت تظهر كل خمسة عشر يوما واستمرت على الظهور(1021/53)
مدى ثلاثين عاما. ولقد اشترك في تحرير هذه الجريدة فولتير إلى جانب عدد من رجال الفكر الأحرار في ذلك العهد. وكان روسو يحلم بإصدارها في أن يجعل منها جريدة أوربا الأولى من حيث الرسالة التي تحملها في قيادة الفكر الحر وحمل علم التطور في عصرها. والواقع أن (الجريدة الموسوعية) ملتقى الأفكار التقدمية في كل من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا. وقد استخرج المؤلفان من بين الثلاثمائة مجلد التي كونتها الجريدة في مدى الثلاثين عاما من ظهورها كثيرا من المستندات ليثبتا أهمية الجريدة والدور الخطير الذي قامت به في عصرها وهي مستندات تنير نواحي من الحياة الفكرية في القرن الثامن عشر لم يكشف عنها إلى الآن.
العيد المئوي لمكتبة لاروس
احتفلت مكتبة لاروس في الشهر الماضي بالعيد المئوي على تأسيسها وقد حضر الاحتفال جمع حاشد من رجال الفكر والأدب الفرنسي فجابوا أنحاء الدار الواسعة ومطابعها الضخمة. ومما يذكر أن مكتبة لاروس تصدر كل يوم إلى أنحاء فرنسا وسائر بلاد العالم ما يقرب من خمسين طنا من الكتب. أما معجمها الشهير فقد طبع منه إلى الآن ستة ملايين نسخة.
ولقد أعد لهذه المناسبة متحف (جريفاز) تمثالا من الشمع لبيير لاروس مؤسس المكتبة؛ وقد أزيح عنه الستار بحضور أحفاده الذين يواصلون تأدية الرسالة التي قام بها جدهم منذ مائة عام.(1021/54)
آرَاءٌ وَأنْبَاءْ
حول بلزاك
نشر الأستاذ أنور المعداوي في عدد الرسالة الأخير تعليقا على مقال عن بلزاك. ومع تقديري لملاحظاته واهتمامه أحب أن أسوق نقطتين هامتين.
(1) لم أقل إن بلزاك كان متأنقا في (الصنعة البيانية) بل كان (متأنقا في فنه) فهو لم يكن يعيد تصحيح (الألفاظ) وتنميقها بل تصحيح (الأفكار والآراء). والواقع أن بلزاك لم يكن (أديباً) فحسب، بل كان (مفكراً) أيضاً. كان في طليعة الكتاب التقدميين في عهده. ولعل هذا هو السبب في أن الكتاب التقدميين في عصرنا هذا يعتبرونه في طليعة الأدباء الذين كان أدبهم أحد المعاول التي دكت صرح الفساد وكشفت عيوب المجتمع ومتناقضاته، كما كان الحال مع فيكتور هوجو وزولا وغيرهما. أليس هو القائل في كتابه (الفلاحون) منذ أكثر من مائة عام (إن الاشتراكية هي المنطق الحي للديمقراطية).
(2) ربما اتفقت مع الأستاذ المعداوي في أن قصة (الأب جوريو) هي أحسن قصص بلزاك. ولكنها أحسنها من الناحية (القصصية) أو (الأدبية). والذي قلته هو أن كتاب (لوي لامبير) هو (أقوى وأعمق) كتبه. وعندي أننا عندما نحكم على الأديب الآن يجب أن نهتم أولا بما يصوغه في أدبه من (أفكار) قبل أن نهتم بروعة الأسلوب أو جمال الوصف أو غير ذلك وإن كان لهذا أيضاً أهميته. ولقد سبق بلزاك بقصته (لوي لامبير) بما يزيد على نصف قرن غيره ممن عالجوا مشاكل النفس البشرية وما أطلق عليه (العقل الباطن) وعلاقته بالجنون والعبقرية. ولا يمكن أن نغمط حق الكاتب دوستوفسكي في هذا الميدان فقد كان أدبه باعتراف العالم فرويد نفسه نبراسا لكثير من الاكتشافات التي تمت عن أسرار النفس البشرية وخفاياها.
علي كامل
ديك الجن
سألني الأديب الفاضل محمود راشد الحنفي بالعدد الأخير من مجلة الرسالة الغراء عن سبب تسمية الشاعر محمد بن عبد السلام بن رغبان الحمصي بديك الجن، فقد كان لزاماً(1021/55)
على في رأيه أن أخصها بالحديث.
ولعل الأديب الحنفي يتصور لهذه التسمية قصة شائقة، فهو يشتاق إلى رؤية فصولها الرائعة، ولو كان الأمر كذلك ما فاتني أن ألم بها في حديثي بالثقافة عن الشاعر الملتاع! وكل ما نعرفه عن هذه التسمية العجيبة ما نقله شيخنا الأستاذ أحمد يوسف نجاتي فيتعليقاته النفسية (بالجزء التاسع من نفح الطيب ص19) من أن الشاعر كان ذا عينين خضراوين كعيون بعض الديكة الرائعة، فسمي بالديك لذلك.
وهناك سبب ثان لهذه التسمية، فقد ذكر الأستاذ نجاتي أن أحد أصدقاء الشاعر قد صنع له وليمة كبيرة، وذبح فيها ديكا رائعا قد اشتهر بجمال صوته، وحسن منظره فنظم ديك الجن، أبياتا رائعة في رثائه، واشتهر بها حتى سمي بديك الجن، ومن هذه الأبيات.
دعانا أبو عمرو عمير بن جعفر ... على لحم ديك دعوة بعد موعد
فقدم ديكا عد دهراً مدملجا ... مؤانس أبيات مؤذن مسجد
وقال لقد سبحت دهرا مهللا ... وأسهرت بالتأذين أعين هجد
أيذبح بين المسلمين مؤذن ... مقيم على دين النبي محمد
فقلت له ياديك إنك صادق ... وإنك فيما قلت غير مفند
ولا ذنب للأضياف إن نالك الردى ... فإن المنايا للديوك بمرصد
هذا كل ما قيل. . . أما إضافة الديك إلى الجن، فقد كانت مبالغة صريحة في جودة الديك وروعته، إذ أن أرباب البلاغة إذا رأوا حسنا - كما يقول أبو العلاء - عدوه من صنعة الجن. وقد بلغ الديك من الحسن مبلغا عظيما، يتخطى الأنس إلى الجن، ونسب (للعبقريين).
ولعل القارئ قد أدرك سذاجة هذه التسمية، وكم للشعراء من تسميات عجيبة ألصقت بهم إلصاقا لمناسبة تافهة، كدران العود، والحيص بيص وفلان وفلان.
أبو تيج
محمد رجب البيومي
تحية كريمة(1021/56)
زار السودان في الأيام الأخيرة الشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف في حكومة العهد الجديد عهد الإصلاح والتقدم. . . عهد الرخاء والمساواة بين الطبقات. وكان لتلك الزيارة التاريخية أثران عظيمان: أثر سياسي بارز خدم أغراضه خدمة وطنية صالحة، وأثر اجتماعي أنساني أدى رسالة إنسانية سامية إلى أبناء الجنوب أبناء الوطن الواحد الشقيق ما كان ليؤديها أسلوب آخر.
لقد كان العهد الدابر يثقل أنفسنا بأوضاره وأفكاره القذرة؛ وكانت رواسبه العميقة الجذور عالقة ببعض الأذهان حتى جاء وزير الشعبي البارع يضع يده فوق الأمراض المزمنة فيقتل جرثومة الداء العضال. . . كنت كغيري من عشرات الألوف الذين أتيح لهم الاستماع إلى المحاضرتين القيمتين اللتين ألقاهما الوزير العالم الحر على ذلك الحشد الكبير من الناس. كانت الأولى بدار الثقافة بالخرطوم وموضوعها الدين والمجتمع؛ والثانية بنادي أم درمان الثقافي وموضوعها الإسلام دين ودولة. وكنت كلما استمعت إلى الوزير الضليع يتردد من أعماقي همس يتحول على شفتي إلى قول الشاعر:
إذا استوزت فاستورز علينا ... فتى كالفضل أو كابن العميد
كانت الأعناق تتطاول والخواطر تتيقظ والنفوس تتلهف إلى ذلك الفيض الإلهي الغامر فتتلقاه واعية له مستوعبة لأهدافه وغاياته، مستلهمة ما ينبعث من قلبه المؤمن وكان كل إنسان حريصا على أل تفوته إشارة شاردة أو معنى عابر؛ فأمثال الباقوري هم أساتذة الحضارة ورسل الحياة في هذا الزمن الحائر القلق، ولعل رغبة الكثيرين من سكان السودان - وأرجو أن أكون معبر عنها - أن يقوم هذا النفر الكريم من أمثال الدكتور طه حسين، والداعية الكبير سيد قطب، والخطيب المفوه سعيد رمضان، برحلات ثقافية إلى السودان. فهل تبلغ تلك الرغبة إلى هؤلاء وأندادهم على صفحات الرسالة؟ وهل تستجيب الحكومة القائمة فتسهل لهم الطريق لشركوا إخوانهم السودانيين في أمن العهد الجديد وإشرافه؟.
الخرطوم
بخيت الفضل(1021/57)
حول معهد الدراسات العربية العليا
قرأت بمجلة الرسالة الغراء - نبأ فتح معهد للدراسات العربية العليا يدرس فيه كل ما يتصل بالدول العربية من آداب وتاريخ وقوانين وجغرافيا - وهذا لا شك عمل عظيم يزيد وحدتنا توحداً واتثاقاً ومعرفة للكثير من شئوننا التي نجهلها.
وكل ما أرجوه من أولي الأمر أن يباح لنا نحن خريجي الجامعات، ولا نحرم منه كما نحرم من الماجستير والدكتوراه المصريتين في الوقت الذي تبيح لنا ذلك فرنسا وإنجلترا وأمريكا حتى روسيا الحمراء. . . وأننا في هذا العهد الجديد لنأمل تحقيق كل ما نصبو إليه. . . بعد أن انقشع عن الوطن عهد الظلم والإجحاف.
كيلاني حسن سند(1021/58)
لغويات
اختشي
فتشت مادة (خ ش ي) في جميع المعاجم فلم أجد (اختشي يختشي اختشاء فهو مختش أو مختشي ومختشية) مع أنه قد ورد عن العرب وأخذه المصريون عنهم أو عن جاليتهم واستعملوه في كلامهم وفي أمثالهم قالوا (اللي اختشوا ماتوا) و (واللي يختشي من بنت عمه مايجيش منها عيال) و (يخاف مايختشيش) وإليك بعض الشواهد من ستى العصور:
قال عنية العبسي:
ولا تحتشوا مما يقدر في غد ... فما جاءنا من عالم الغيب مخبر
وهي من قصيدة مطلعها:
إذا كان أمر الله أمرا يقدر ... فكيف يفر المرء منه ويحذر
وقال الصلدن العبدي:
فكن كابن ليل على أسود ... إذا ما سواد بليل حشى
فكل سواد وإن هته ... من ليل يخشى كما تحتشي
وجاء في حياة الحيوان في الكلام على (لأسد). . . وضربوا المثل بالحرف من الأسد قال مجنون ليلى:
يقولون لي يوما وقد جئت حيهم ... وفي باطني يشب لهيبها
أما يختشي من أسدنا فاجيبتهم ... هوى كل نفس أين حل جبيبها
وجاء في حياة الحيوان في الكلام على (خلافة المستعين بالله) من قصيدة غرامية قالها على لسان الخليفة المستعين يحاور بنت عمه، ونسيها غيه إلى وضاح اليمن الشاعر الأمور الماجن:
قالت فان الله من فوقنا ... يعلم ما نبديه من شوقنا
نمضي إلى الحق غدا كلنا ... ونختشي النقمة من ربنا
قلت وربي ساتر غافر
وجاء في ديوان ابن خفاجة الأندلسي ص72
يا أهل أندلس لله دركم ... ماء وظل وأنهار وأشجار(1021/59)
ما جنة الخلد إلا في دياركم ... ولو تخيرت هذا كنت أختار
لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سقراً ... فليس تدخل بعد الجنة النار
وقد جاءت هذه الأبيات في ترجمته ص7 ويروي مكانه (لا تختشوا) ولا تحسبوا من حسب بمعنى ظن وهما متقاربان خطأ كما أنهما صحيحان معنى.
وجاء في الضوء اللامع ج4 ص189 في ترجمة عبد الرحيم: وكان مما كتبه من نظمه ليكتب على قبره:
تقول نفسي أتخشى ... من هول ذنب عظيم
لا تختشي من عقاب ... فأنت عبد الرحيم
وجاء في السيرة الحلبية ج3 ص9 قال العارف بالله سيدي علي وفا:
لا تختشي فقرا وعندك بيت من ... كل المنى لك من أياديه منن
على أر الباحث إذا دقق النظر في مادة (خ ش ي) أمكنه أن يستنبط (احتشي) منها لأن هذا الفعل مطاوع (حساه تخشيه) بمعنى حوفه كما أنه شقيق (تخشاه) بمعنى خافه، وقد ورد فيها، ونظيره غذاه تعديه فاتذي وتغذى؟ فوجد واحد منها يقتضي ويستلزم وجود الآخر حتما.
توفر
أنكر أحد الباحثين استعمال (توفر) بمعنى وفر وكثر وتم وكمل واجتمع وكان وافرا مع أنه صحيح مثل (توافر) فقد نص عليه اللغويون وغيرهم. على أنه لا يحتج إلى نص ودليل لأنه مطاوع وفره توفيرا بمعنى كثرة وأتمه وأكمله وجعله وافرا، فقولهم (توفرت فيه الشروط) صحيح، وأيضا (توفر على العمل) إذا صرف همته إليه، وبذل فيه مجهوده.
قتيل وقتيلة
القتيلة بمعنى المقتولة كلمة عربية صميمة تقول هذه قتيلة وشاهدت قتيلة، وامرأة فتاة قتيلة، ويسوغ أن تقول:
امرأة أو فتاة قتيل لوجود الموصوف المؤنث (امرأة أو فتاة) ولكن ليس من الحكمة والدقة في العبير في مخاطبة الجمهور أن نلجأ إلى الوصف المشترك (قتيل) فنستعمله في المذكر(1021/60)
تارة وفي المؤنث تارة أخرى معتمدين في فهم المراد على المقام وروح الكلام لأن العدول عن استعمال المشهور بين الجمهور (قتيلة) إلى استعمال المهجور (قتيل) بمعنى مقتولة يوحي إلى القارئ أن (قتيلة) خطأ أو لغة ضعيفة وليس كذلك لأنها هي الصفة الأصلية المختصة بالإناث، وعلى هذا يقاس نظائرهما مثل جريح وجريحة.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي(1021/61)
فِي عَالِم الكُتُبْ: نَقْدٌ وَتَعرِيفٌ
عبقرية المسيح
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
للأستاذ نقولا حداد
من يطالع هذا الكتاب للأستاذ العقاد يظن أن مؤلفه إكليربكي لاهوتي فيلسوف في اللاهوت المسيحي النظري.
بحث في أساس اللاهوت المسيحي بحثا شاملاً جامعاً لتاريخ النصرانية وما اكتنفها من النبوءات وما سبقها من الحوادث كما وردت أخبارها في الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) وفي نعض الكتب التاريخية وما توالى على اليهودية من عقائد وطوائف وديانات وما صاحبها من معتقدات أمم أخرى واصطدمت بها أو لامستها.
وأنا (أنا خصوصاً) لا أدري لماذا يجب أن يسبق المسيح أو محمدا نبوءات تنبه الناس إلى مجيئهما وتؤيد رسالة كل منهما ألا يكفي أن يظهر عيسى ومحمدا في الوجود الإنساني وأن يسلكا السلوك الذي علمناه، وأن تعلن تعاليمهما وتؤيد بأعمالهما حتى نقول هذا مسيح الله وهذا نبي الله؟ أما تكفي حياتهما وتعاليمهما شهادة لهما؟.
ولكن هكذا ألف الناس منذ القديم أن تكون حوادث العالم الدينية متعاقبة يرشح بعضها بعضا حتى لا يكون فيها لبس لا غش ولا تعمل ولا دعاو باطلة.
في كتاب عبقرية المسيح فصول عن الحالة الدينية في العالم والحالة في عصر الميلاد المسيحي. وفي تاريخ الميلاد من الحقائق التاريخية مالا نراه في الكتاب المقدس لا التوراة ولا الإنجيل. وهناك كثير من الأخبار ما لم يذكر الأستاذ مصادرها أو إسنادها وكنا نود أن لا يغفل هذا الواجب لكي يتأكد القارئ أن المؤلف حقق ودقق بعد أن درس وتعمق. فيكون ذلك أكفل لتقدير قيمة عمله وتنويرا للقارئ المحقق للمراجعة واستزادة من التحقيق والتوسع في المعرفة.
ثم استرسل الأستاذ في تفكيره اللاهوتي في فصول: (الصور الوصفية) و (الدعوة) و (اختيار القبلة) و (تجارب الدعوة) و (الشريعة) بحيث تعطي الكتاب القيمة التي تستحق أن(1021/62)
تنسب للعقاد وتكون في طبيعة دراساته.
ثم توغل في شريعة الحب حتى أراك أن الناموس أو شريعة الناموس تعتبر ناقصة إذا لم تكن شريعة الحب التي هي محور سلوك المسيح وتعاليمه؛ وهي بيت للقصيدة في حياته كلها (بهذه الشريعة شريعة الحب (والمحبة) نقض المسيح كل حرف من حروف شريعة الأشكال والظواهر).
وفي الفصول الأخرى ترى أن العقاد لم يعبأ بالعجائب ولا بأخبار المسيح في مدة وجوده بين العالم ثلاث سنين، بل اقتصر على زبدة تعاليم المسيح التي صار بها يسوع بن مريم مسيحا.
وقد أحسن الأستاذ صنعا في إغفال تلك العجائب التي يظن بعض الناس أنها كانت الوسيلة الوحيدة لانتشار الدين المسيحي. وهذا الظن هو الضلالة التي يكرهها المسيح. ولما طلبوامنه آية من السماء قال: إذا كان إبراهيم ويعقوب وغيرهما من الآباء لم يقنعوكم فلا تقنعكم الآيات.
والحقيقة أن المسيح لم يأت إلى الأرض لكي يقيم عازر من القبر، ولا لكي يحول الماء إلى خمر، ولا لكي يمشي على الماء، ولا لكي يفتح عيون العميان، ولا لكي يقيم المقعدين، ولا ولا؛ وإنما جاء لكي يقول ثلاث كلمات: أحبوا أعداءكم. باركوا لأعنيكم. أحسنوا إلى من أساء إليكم. من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر إلى آخره. وبهذه الكلمات يسير الآن وراءه ألف مليون نسمة على الأرض وأن كان معظم هؤلاء أو جلهم لا يفعلون ما قاله المسيح ولا يفهمون ما يعنيه؛ فهم ضعيفو الإيمان ومنهم من لا إيمان لهم وإنما هم يفخرون بانتمائهم إلى صاحب هذه الشريعة شريعة الحب والتسامح وأكثرهم لا يؤمنون بغير الدولار والدينار.
وأما قول بعض الناس إن المسيح يطلب من الطبيعة البشرية مالا تستطيعه؛ لأنك لا تجد واحداً في الألف يحول لك الخد اليسر إذا لطمته على الخد الأيمن، ولا من يحب عدوه، ولا من بارك لأعنيه، فإن من الحق أن هذا القول صعب على الطبيعة البشرية ولكنه ليس مستحيلا عليها، والمسيح نفسه عمل بهذه النظرية التي ظنوا أنها مستحيلة.
فقد كان يقول وهم يبصقون عليه ويطعنونه بحربة: (يا رب اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما(1021/63)
يفعلون) ولم يثقل هذا على طبعه. وإذا كان كل واحد يفكر أن المسامحة تكسر الشر فيعد حين لا مود نرى أحداً ضرب على خد، القول: (لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع باتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
فرضية المسيح بالتساهل والتسامح ليست فوق الطبع البشري بل هي تحت البشري وفي وسع كل إنسان أن يطبقها إذا أراد. وإذا كان الناس يتربون على هذه الوصية ويتعودونها يستسهلونها.
أعود فأقول إن المسيح لم يأت إلى الأرض لكي يعمل العجائب والخوارق وإنما جاء لكي يعلم الناس التساهل والتسامح والمغفرة، على نية أن العالم إذا سار كله على هذه السنة صار كله أمة واحدة وشعباً واحداً أو أسرة واحدة تتعاطف ويحب بعضها وتنتفي الشرور من بين أفرادها.
المسيح لم يأت لليهود وحدهم بل أتى لكل العالم بهذا المبدأ. وأظنه أول فيلسوف ظهر على الأرض بهذا التعليم. وكان قصده أن العالم كله يعتنقه بدليل أنه جمع تلاميذه وقال لهم: اذهبوا إلى جميع الأمم وتلمذوهم وعلموهم أن يحفظا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى أن ينتهي الدهر. وهو يعني أن رسالته هذه يجب أن تعمم كل الكون لعلها أن تكون الوسيلة الناجعة لانتشار السلام على الأرض.
فالمسيح لم يأت لأجل سلام اليهود وسلاستهم فقط بل أتى لأجل سلام كل العالم. وكان قصده أن يكون كل العالم أخوة. هذا ما عناه المسيح حين قال: احبوا أعداءكم، بدليل أنه لما اجتمع بتلاميذه قال لهم أذهبوا إلى جميع الأمم (لا إلى اليهود فقط) وتلمذوهم الخ. . على أمل أن تتطبع الأمم كلها بطبيعة السلام والمحبة والمسامحة فيسود السلام جميع الأمم.
هذه كانت رسالة المسيح على الأرض. ولكن اليهود في كل تاريخهم كانوا يقاسون من غزوات البابليين والآشوريين والفرس والرومان. وغيرهم فكانوا يتوقعون أن يظهر من بينهم ملك يقودهم للدفاع عن بلادهم ويخلصهم من هؤلاء الأعداء فكانوا يحتاجون إلى منقذ مثل موسى أو يسوع، فلما وجدوا أن يسوع هذا الذي شرع يعلمهم التعاليم المفيدة لهم اجتماعيا قالوا: لا. لا. ليس هذا هو الملك الذي ننتظره. ليس هذا هو القائد المنقذ هذا رجل أفاك. وصار الكهنة وجميع رجال الدين يرون أن تعاليمه هذه تحط من نفوذهم وتكسر(1021/64)
شوكة غطرستهم وتزعزع سلطتهم فجعلوا يطلبون رأسه. وما أسهل أن يوغروا صدر بيلاطوس الوالي الروماني عليه بحجة أنه يدعي أنه ملك اليهود وهم يعترفون بملك أجنبي غير قيصر.
ولما مثل المسيح لدى بيلاطوس سأله هذا: هل أنت ملك اليهود؟ فأجابه: (أنت قلت؛ ولكن مملكتي ليست من هذا العالم) وهو يعني أنها ليست أجساداً بل هي أرواح تفهم وتعمل في أجساد الحق والعدل والصدق والتقوى.
ولطالما كان اليهود يحاولون أن يأخذوا عليه مأخذ ضد الشريعة لكي يشكوه للوالي فجاءوا غليه بزانية وقالوا (هذه ارتكبت جريمة الزنى، وفي شريعة موسى ترجم بالحجارة فماذا تقول أنت؟).
فما لبث أن قال بكل جرأة: (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر).
وماذا كانت النتيجة: كانت أنهم جعلوا يخرجون من المجتمع واحدا بعد الآخر ولم يوجد بينهم من يجرؤ أن يعترض على حكم المسيح لا لأنه أثر عليهم بتصرفه تأثيرا عجيبا، بل لأنهم وجدوا أنهم ضعفاء جدا لدى مبينه وحجته فخافوا أن يبطشوا بع بل جعلت ضمائرهم تبكهم بفعل كلمته فصاروا يخرجون واحداً واحداً.
ثم التفت إلى الوانية وسألها: أين الذين شكوك؟ أما دانك أحد؟ قالت: لا. قال ولا أنا أدينك. أذهبي ولا تخطئ بعد. من ذلك الحين تابت مريم المجدلية الزانية وصارت قديسة.
كان لمنظره في مثل هذه المواقف سطوة أو صولة أو هيبة ليست لزعيم ولا لقائد ولا لحاكم. ففي ذات يوم جاء إلى الهيكل ورأى أدناس الناس فيه: صيارفة وتجارة حمام وتجار حيوانات إلى آخره، فجعل يقلب موائد الصيارفة وأقفاص الحمام وهو يقول: تباً لكم أيها الشرار! جعلتم بيت الله مغارة لصوص. فلم يجسر أحد أن يصده أو أن يقاومه أو أن يشاجره بل جعلوا يخرجون من الهيكل قانعين بالسلامة.
لم يشر الأستاذ العقاد إلى كيفية انتهاء حياة المسيح، ولكنه اقتنع مثلي أن سلوك المسيح الذي أشرنا إليه هو بيت القصيدة في حياته. وقد جاء وعلم وعمل ومضى ولا يزال إلى اليوم مثلاً للأمم وسيبقى هكذا عدة قرون.
وفي ضني أن الإسلام إنما هو استمرار للمسيحية؛ ولذلك كانت حياة محمد وتعاليمه موافقة(1021/65)
كل الموافقة لحياة المسيح وتعاليمه المحبة والتواضع والمسامحة والدعوة إلى السلام. حبذا أن يفهم الناس أن سلامتهم ونجاحهم وسلامهم يتوقف على قدر ما يطيعون من تعاليم هذين المصلحين.
نقولا الحداد(1021/66)
طَرَائِفَ وَقِصَصْ
الزوجة الجديدة
عن الإنجليزية
كان على المنضدة المصنوعة على الطراز الياباني موقد يغلي فوقه وعاء من الشاي وبجانبه فنجان وزجاجة من الروم.
وكانت الكونتس تراقب صنعه وهي تنظر إلى وجهها في المرآة وترتب شعرها حين دخل الكونت (دي سالور) فرمى بقفازيه وألقى قبعته. وابتسمت الكونتس ابتسامة سرور عندما التفتت إليه وأصابعها الصغيرة البيضاء ترفع عن جبينها الناصع خصلة من الشعر الذهبي. ونظر إليها مترددا في القول كأن خاطرا هاما يشغل ذهنه ثم قال: (هل وجدت الالتفات الكافي في هذه الليلة؟) فقالت الكونتس (أرجو ذلك).
ثم تناول مقعدا وجلس أمامها وامسك بقطعة من الكعك وقال: (لقد كان ذلك التصرف محزناً).
فقاطعته قائلة: (وما الذي كنت تريد؟ هل كان يحسن أن يضحك الناس منا؟).
قال: (كلا يا عزيزتي؛ ولكنني أعني أنه لم يكن يليق أن يأخذ المسيو دي برويل بذراعك ويذهب. ولو كان من حقي أن أمنعه إذ ذاك لمعته).
فقالت: (كن طويل البال. إن آراءك اليوم ليست كآرائك من عام. وهذا كل ما في الموضوع. ولما رأيتك تتخذ خليلة ورأيت الحب بينكما ظاهراً اعتقدت أنه لا يسوءك أن يلتفت إلي إنسان. وقد شكوت إليك ذلك الحين كما تشكو إلى الآن. ولكنني كنت أكثر حكمة منك، فقلت: إن علاقتك بمدام دي سيفري تسبب لك ألماً. وقلت لك إنك تعرض نفسك للاستهزاء. فماذا كان جوابك؟ لقد قلت لي في صراحة إنك حر، وإن الزواج في نظر الطبقات الراقية إنما هو مظهر اجتماعي وليس عقداً أدبياً. ألم يكن هذا جوابك؟ وأفهمتني أن خليلتك أفضل مني وأرق أنوثة لقد كان هذا هو تعبيرك (أرق أنوثة) واتفقت منذ ذلك العهد معي على أن نعيش في منزل واحد على أن يكون كل منا منفصلاً عن الآخر تمام الانفصال، ولم تكن بيننا رابطة إذ ذاك سوى ابننا الذي يتربى بيننا، وقت لي في جلاء إنك لا تعني إلا بالمظاهر. إن لي أن أتخذ خليلاً على شرط أن يبقى الأمر مكتوماً. ثم كلمتني(1021/67)
عن مهارة النساء في التستر الخ. وأنني لأفهم مركزك تمام الفهم، فقد كنت في ذلك الوقت مدلها بحبك لمدام دي سيفري وكنت ترى عقد زواجنا الشرعي يحيل بنك وبينها، وكنت ترى أيضاً أنه لا مبرر لما تنفقه علي من المال بسبب هذا العقد، ولهذين السببين كرهتني وعشنا منفصلين. وكنا نستقبل الناس معا ولكن لكل منا مأواه في المنزل. على أنك منذ شهر أو شهرين أخذت تمثل دور الغيرة فما معنى ذلك؟.
قال الزوج: (إنني يا عزيزتي لا أمثل دور الغيرة، ولكني أخشى عليك تعريض نفسك للخطر فأنت صغيرة وأنت مخاطرة. وأنني أخاطبك كصديق وأرى في القول الذي تقولينه كثيراً من المبالغة).
فقالت: (كلا، لا مبالغة في قولي، فأنت قد رخصت لي بأن أفعل مثل فعلك).
قال: (أرجو. . .) فقاطعته قائلة: دعني أتكلم. لقد رخصت لي بذلك ولكني لم أفعل، فليس لي خليل وكلني منتظرة. إنني أبحث ولكني لا أجده. إنني أريد ظريفاً. أريد أظرف منك. إنني بالقول الذي قلته الآن أمدحك مديحاً لم تفطن غليه).
قال الزوج: (يا عزيزتي إن كل ما تقولينه الآن مزاح لا محل له هنا) فقال: (إنني لست أمزح فإنك سمحت لنفسك بأن تكون من ذوي القرون).
قال الكونت متغيظاً مهتاجاً: (كيف أستعملها؟ أنت قد ضحكت ملء شدقيك لما قالت مدام دي سفري عن زوجها أنه من ذوي القرون).
قال: (ولكن اللفظ الذي يقبل من دي سيفري لا يكون مقبولا منك) فقالت: (كلا، لقد سرك هذا الوصف وأضحك عندما قيل عن دي سيفري، وهو الآن يسوءك عندما يقال عنك. وليس يهمني هذا اللفظ بعينه وإنما أريد أن أعرف هل أنت الآن على استعداد؟).
قال: (على استعداد لأي شي؟) فقالت: (ألست على استعداد لتكون ممن يقال فيهم هذا الوصف؟ إن الذي يضحك عندما يوصف أحد أمامه بهذا الوصف لا يعود إلى الضحك عندما يسمع هذه الكلمة بعد أن يصير هو نفسه متصفاً بها).
قال الكونت: (تعالي يا عزيزتي نتكلم بعقل ونبهي المسيو برويل إلى أن ما فعه الليلة غير لائق) فقالت: (إذن فأنت غيران).
قال: (كلا ولكن لا أحب أن أكون في مركز مخز كالذي كنت فيه بالأمس) فقال: (وهل(1021/68)
شعرت بأنك تحبني في وقت من الأوقات؟).
قال: (إن الإنسان قد يحب من هي أقل بكثير منك في الجمال) فقالت: (إذن فهذا شعورك نحوي لكنني لا أشعر نحوك بشيء من الحب).
فوقف الكونت ثم دار حتى صار خلف زوجته وقبل قفاها فالتفتت إليه وأبعدته عنها ونظرت إليه نظرة غضب وقالت: (ليس بيننا شيء من ذلك، إننا منفصلان).
قال: (تعالي يا عزيزتي. لا تغضبي فقد فتنت بل مدة طويلة ولك عينان. . .) فقاطعته قائلة: عينان (تفتنان المسيو دي برويل).
قال: (أنت قاسية جداً وليس في الدنيا أجمل منك) فقالت: (دعني فأنت صائم).
قال: لست أفهم ماذا تعنين. فقالت: أعني أن الصائم يجوع، وأن الجائع يريد أن يأكل من أي شيء سواء وافقه في وقت آخر أو لم يوافقه. وقد أهملتني مدة طويلة ثم تريد أن تتذوقني الآن.
قال: لماذا يا عزيزتي تخاطبني بهذه اللهجة؟.
فقالت: لأني أعلم أنه بعد انقطاع صلتك بمدام سيفري اتخذت على التوالي أربع خليلات من بينهن خياطة وممثلة ولست أعلل مسلكك اليوم إلا بأنك صائم).
قال: (لا بل سأكون صريحا. إنني عدت إلى حبك وأحببتك إلى أقصى حد) فقالت: (لقد أخطأت فقد انتهى كل شيء بيننا. ولست أنكر أنني زوجة، ولكنني زوجة لها الحرية الكاملة في أن تفعل كل شيء. ولقد كنت الليلة مدعوة إلى موعد فإذا شئت فضلتك على صاحب الدعوة بنفس الثمن).
قال الزوج: (لست أفهم) فقالت: (سأفهمك؛ فقل لي ألست جميلة مثل صاحبتيك الخياطة والممثلة؟).
قال (: (أجمل منهما ألف مرة) فقالت: (أخبرني بالحق كم أنفقت عليهما في ثلاثة أشهر؟).
قال: (لست أفهم) فقالت: (بكم اشتريت لها حليا ومجوهرات؟ وكم أنفقت في المطاعم والمسارح؟).
قال: (لست أستطيع أن أجيبك، ولكني أنفقت كثيراً) فقالت: (ألم يكن متوسط ما أنفقته على إحداهما في الشهر خمسة آلاف فرنك؟).(1021/69)
قال: (نعم وهذا تقدير معتدل) فقالت: (إذن فيا صديقي العزيز أنا أقبل بهذا الثمن أن تتخذني خليلة مدة شهر يبتدئ من الليلة).
قال الزوج: (لا بد أن تكوني مجنونة يا مرغريت) فقالت: (إذا كان هذا جوابك فأرجو أن تتركني وتنصرف).
ثم وقفت الكونتيس ومشت نحو غرفة النوم فسكبت في السرير زجاجة من العطر والتفتت فرأت الكونت واقفاً بالباب وهو يقول: (ما أجمل هذه الرائحة!).
قالت: (هذه رائحة السرير العادية ولم يتغير شيء في المنزل) فقال: (أصحيح هذا؟ أنها لرائحة زكية).
قالت: (ربما! ولكن أرجو أن تترك الغرفة لأني أريد أن أنام).
قال: (يا مرغريت!) فأجابته: (أترك الغرفة! ثم لم تعره التفاتاً بل نزعت ثوبها فبدا ذراعان ملفوفان كأنهما مصنوعان من العاج. ودنا منها الكونت فقالت: (أبتعد وإلا أبعدتك).
فزاد دنواً منها، ولكنها أظهرت الغضب، وتناولت زجاجة من زجاجات العطر ورمته بها فأخطأته ولكن العطر انسكب فوق ثيابه فصاح: (هذا سوء أدب) فقالت: دونك الشرط. . . خمسة آلاف فرنك). . .
قال: (أيدفع الزوج لزوجته الشرعية أجراً؟).
فقالت: (إذا كان هذا حماقة فإن أشد الحماقات أن يدفع للخياطات والممثلات وله زوجة شرعية).
ثم جلست الكونتس على المقعد ونزعت جواربها وأخذ ينظر إلى جمال رجليها ويقول: (إنها لفكرة مضحكة تلك التي تبديها).
قالت: (أية فكرة؟) فقال: (دفع خمسة آلاف فرنك).
قالت: (ليس في الدنيا شيء طبيعي أكثر من هذا إن أحدنا غريب عن الآخر كما أردت أنت، وليس في وسعك أن تتزوج مني لأننا متزوجان، وليس لك أن تعطيني أقل مما تعطيه للأخريات).
ثم قامت وقالت: (أرجو أن تخرج وإلا استدعيت الخادم لإخراجك).
فوقف الكونت واجماً مقدار لحظة ثم ألقى إليها بكيس نقود وقال: (خذي هذا ففيه ستة آلاف(1021/70)
فرنك).
فضحكت وهي تتناول الكيس وقالت: (خمسة آلاف فرنك كل شهر. تذكر يا كونت وإلا فلتعد إلى خليلاتك. وربما. . . ربما إذا أعجبتك الحال طلبت الزيادة.
ع. ق(1021/71)
العدد 1022 - بتاريخ: 02 - 02 - 1953(/)
عدالة الأرض
ودم الشهيد حسن البنا
للأستاذ سيد قطب
قضية هذا الدم الزكي لا تزال بين يدي القضاء، فلا تعليق لدي عليها في موضوعها ووقائعها؛ ولكنها تثير في النفس أشجاناً، وتكشف في الوقت المناسب عن حقائق، وتوجه النظر إلى حقيقة عدالة الأرض، وترفع البصر إلى عدالة السماء، وتميز بين ما يصنعه البشر من القانون، وما يصنعه الله من الشريعة. . (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
إن ممثل الاتهام يقول:
(وبما أن الواقعة - كما أظهرها التحقيق - تتلخص في أن الأمير الاي محمود عبد المجيد بيت النية على قتل المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين (المرحوم الشيخ حسن البنا) وإن لم يصل التحقيق إلى تحديد إن كان في ذلك متفقاً عليه مع ولاة الأمور في الدولة - وقتئذ - أو أنه كان يعمل لهذا حتى يحظى بتقدير ولاة الأمور أولئك، لثقته في أنهم أهدروا دم المجني عليه، فبات تنفيذ قتله أمنية يتوقون إلها ويروجون لتحقيقها.
(وتنفيذا لما بيت الأمير الاي محمود عبد المجيد النية عليه، استقدم إليه الأشخاص الذين يعرف فيهم الاستعداد الإجرامي لتنفيذ هذه الجريمة، والذين وقع اختياره عليهم لتدبيرها وتنفيذها، وهم الصاغ حسين كامل، واليوزباشي عبده أرمانيوس، والأمباشي أحمد حسين جاد، ووكيل الباشجاويش محمد إسماعيل، والأمباشي حسين محمدين رضوان، والباشجاويش محمد محفوظ محمد، ومصطفى محمد أبو الليل ويوسف أبو غريب. . . الخ)
وينتهي ممثل الاتهام إلى المطالبة برؤوس هؤلاء الذين حددتهم عريضة الاتهام: ويقف مكتوف اليدين أمام (ولاة الأمور أولئك الذين أهدروا دم المجني عليه) لأن قانون الأرض الذي بين يديه، لا يساعده ولا يساعد العدالة على الأخذ بتلابيبهم على الأقل بتهمة (إهدار دم المجني عليه) وهم المكلفون حماية هذا الدم البريء.
والقضية بين يدي القضاء فيما يختص بالمتهمين، فلا تعليق لي على موضوع الدعوى ولا حوادثها. . ولكن لنفرض أن المحكمة قد أجابت ممثل الاتهام إلى كل طلباته، وسلمت إليه(1022/1)
رؤوس هؤلاء المتهمين. . فماذا تساوي تلك الرؤوس بالقياس إلى رأس حسن البنا؟ وماذا تساوي تلك الدماء بالقياس إلى ذلك الدم الزكي الذي أريق؟
ألا ما أعجز عدالة الأرض حينئذ، وما أقصر يدها عن العدل في أضيق معانيه!
إن أكبر الرؤوس في ذلك العهد الآثم، رؤوس (ولاة الأمور أولئك) كما يعبر عنهم ممثل الاتهام في احتقار. . إن أكبر الرؤوس يوم ذلك مجتمعة لا تصلح أن تكون موطئا لقدم ذلك الشهيد الكريم. ولا تحقق ذلك القصاص العادل من ذلك العهد الفاجر وممثليه أجمعين. . فكيف ببضعة رؤوس صغيرة أكبرها رأس ذلك الأمير الاي الصغير؟
هنا تبدو عدالة الأرض قاصرة. ويبدو تشريع الأرض هزيلاً. ويبدو مشرعو الأرض أقزاماً. .
وهنا تبدو المسافة هائلة بين تشريع الله للبشرية وتشريع الإنسان.
ما جزاء ولي الأمر الذي يهدر دم الأبرياء الطاهر؟
ماذا تقول عدالة الأرض في ذلك الاتهام الذي يذكره ممثل الاتهام على سبيل الجزم والتأكيد؟
لعل الحصانة الكاذبة (لولاة الأمور أولئك) هي التي قيدت يد ممثل الاتهام، فلم يستطع إليهم سبيلا!
فأي زيف زيف تلك الدساتير التي تسبغ الحماية على المجرمين وترفعهم فوق العدالة وفوق القانون؟ وأي عجز في عدالة الأرض وأي قصور؟
إن عدالة الأرض هذه لتمنع محكمة النقض في مواطن كثيرة أن تحكم ببطلان الحكم الجائز إذا لم تجد سبيلاً لقبول الطعن فيه شكلاً، فإذا كانت الإجراءات الشكلية كلها صحيحة ومستوفاة وقفت محكمة النقض عاجزة عن أن تنفذ إلى الموضوع. ممنوعة من إحقاق الحق الذي تراه، مكتوفة عن رفع الظلم الذي تعتقده!
وحتى حين تجد منفذاً في الشكل فإنها تقف مكتوفة اليدين إذا لم تجد في التطبيق القانوني الموضوعي خطأ. . مهما يكن الحلم مع ذلك جائرا.
ولقد وقف المرحوم عبد العزيز فهمي هذا الموقف في قضية البداري. لا يجد سبيلاً إلى دفع الظلم وتحقيق العدل إلا صرخة يبعثها من أعماق ضميره، صرخة في وجه قانون الأرض(1022/2)
الذي يقف جامداً مكبلاً بالإجراءات!
وتخطئ المحكمة ذاتها ثم يتبين لها الخطأ بعد أن تصدر حكمها، فلا تملك حينئذ أن ترجع إلى الصواب. .
لقد خرج الأمر من يدها بمجرد إصدار الحكم!
ها ها! ها ها لعدالة الأرض التي ترى الحق واضحاً ولكنها لا تملك الرجوع إليه، لأن الأمر خرج من يدها محافظة على الإجراءات!
أما عدالة السماء فتقول: إن الرجوع إلى الحق فضيلة. ولا تمنع القاضي الذي يصدر الحكم، ثم يتبين له خطؤه أن ينقض حكمه بنفسه، وأن يرتد إلى الحق، لأن الحق أولى بالإتباع.
وبالطبع لا تقف أمام محكمة أخرى أن ترد الحق إلى نصابه بمجرد أن يتبين الحق، غير مقيدة بهذه الشكليات التي يؤثرها قانون الأرض على العدالة، ويصون اعتبارها ولو بإهدار دماء الأبرياء.
فأين عدالة الأرض من عدالة السماء؟!
إننا حين نطلب للإسلام أن يحكم، وحين نطلب لشريعته أن تكون مصدر التشريع. . إنما نطالب بشريعة أرقى، وبإجراءات أدق، وبعدالة أكمل
والجاهلون يقولون: أتريدوننا على أن نرتد إلى الوراء أربعة عشر قرناً؟!
يا للغرور! يا للجهالة! إن قانونكم هو القاصر العاجز، وإن تشريعكم هو المتأخر الجامد. .
إن شريعتنا التي ندعوكم إليها لا تغل يد القاضي عن العودة إلى الحق، في أي وقت وفي أي دور من أدوار المحاكمة. . حتى بعد الحكم، له أن يعود إلى الحق الذي يراه.
إن شريعتنا لا تقف جامدة مشلولة أمام الظلم الواقع والعدل الضائع، لأنها تريد المحافظة على كرامة الإجراءات دون كرامة العدل والحق والقضاء.
إن شريعتنا لا تقف عاجزة أمام ملك ولا رئيس جمهورية ولا رئيس وزارة ولا وزير ولا كبير. . فحيثما كانت جريمة فشريعتنا حاضرة لردع المجرم كائنا منصبه ما كان.
إن شريعتنا لا تسمي القاتل ولا المحرض على القتل صاحب جلالة، ولا تصون ذاته المقدسة، ولا تضعه فوق القانون.(1022/3)
إن شريعتنا لا تدع ولاة الأمور يهدرون دم الأبرياء، ثم يروحون ناجين لا تمتد إليهم يد القانون الشلاء العزلاء.
لهذا نحن ندعو إلى تحكيم شريعة الإسلام؛ لأنها شريعة أكثر تقدما، وأوسع أفقاً، وأكثر مرونة. . ولأن قانونكم الأرضي قاصر جامد متخلف لا يلبي داعي الزمن؛ ولا يقتص لدماء الأبرياء!
تساوقت هذه الخواطر في نفسي وأنا أطالع صحيفة الاتهام. وأنا أبصر بيد العدالة الأرضية قصيرة عاجزة شلاء. وأتطلع إلى عدالة السماء فأراها شاهقة ساحقة متفوقة شماء.
وقلت: ألا يفتح الله على هذه البشرية فتخرج من مضيق الأرض إلى فسحة السماء؟ ألا يكشف الله عن بصيرة هؤلاء الناس فيبصروا النور الذي يتخبطون دونه في دياجير الظلام؟
إن أشد ما يثير الضحك المر. . رجال القانون عندنا، أولئك الذين يحسبون شرائعهم عصرية تقدمية، ويعدون شريعة الله قديمة ورجعية!
إنهم لا يكلفون أنفسهم النظر في شرائعهم وشريعة الله. ليعلموا أن عقلية التشريع التي بين أيديهم جامدة قاصرة حين تقاس إلى الشريعة السمحة الحرة الدقيقة العادلة.
إنهم جهلاء ويحسبون أنفسهم من العلماء! إنهم جامدون ويحسبون أنفسهم متحررين (وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض. قالوا: إنما نحن مصلحون! ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
غفر الله لهم وهداهم إلى الحق. والحق منهم على قيد ذراع.
سيد قطب(1022/4)
باطل مشرق
للأستاذ محمود محمد شاكر
لم أكد أفرغ لنفسي، وأنفض عن فكري مثاقل الهم الفادح الذي أتحمله إذا كتبت في شأن هذه الأمم المسلمة - حتى دخلت علي في خلوتي أيام وليال، تعلمني أن الباطل المشرق، صنو الباطل المظلم البهيم. بل إن الباطل المشرق أضرى وأفتك بالبشر من صنوه وأخيه المظلم. للباطل المظلم ردة، كردة الوجه القبيح، يزوي لها الناظر ما بين عينيه، ويرد بصره معرضا عما يرى فيه من قبح. أما الباطل المشرق المضيء، فله فتنة تنادي، كفتنة وجه الحسناء الخبيثة المنبت، تأخذ بعين الناظر، فيقبل عليها ملقياً بنفسه في مهالك هذا الجمال الآسر، وإذا المنبت الخبيث ذرة مستهلكة في هذا التيار المترقرق من فتن الحسن والهوى.
وهذه الرقعة المتراحبة من حدود الصين إلى المغرب الأقصى - والتي تسكنها أمم ورثت اسم الإسلام، فنسبت إليه؛ وصفت به - تعيش اليوم في بريق متلألئ من هذا الباطل المشرق. فمنذ أكثر من مائتي سنة، ضربها الغازي المستعمر الصليبي ضربة رابية، حتى خرت عاجزة، ثم ظل يضربها حتى همدت أو كادت. وفي خلال ذلك كان الغازي يستحييها بحياة غريبة عنها حتى يأتي يوم تتبدل فيه من حياة كانت إلى حياة سوف تكون. وكذلك يقضي قضاءا ساحقا على أسباب الحياة الأولى، الحياة التي كانت تعرف بالحياة الإسلامية.
ثم جاء اليوم الذي ظن فيه هذا العالم أنه ارتد إلى الحياة مرة أخرى. ونعم، أنه ارتد إلى حياة مرة أحرى، ولكن أي حياة! ما على الآلاف المؤلفة التي تدب في أرجاء هذا العالم من مثل هذا السؤال؟
إن حب البقاء في الحي الفرد، أقوى من العقل، أقوى من حب المعرفة، أقوى من حب المال. فإذا ظفر بالبقاء على أمه الأرض، فقلما يبالي بشيء غير هذا البقاء. ولكن الحياة الإنسانية مجتمعة لا تستقيم بحب البقاء وحده. فالاجتماع الذي يضم هؤلاء الأحياء المتشبثين بالبقاء، يحدث لهم ضروبا جديدة من الأماني والآمال والمطامح، تغلب هذا الحب الخفي للبقاء المجرد في الفرد، وتنشئ فيهم حباً لبقاء آخر: هو بقاء حياة الجماعة، من حياة أنشأها الإلف والتعود، وحياة تنشئها الأماني في حياة أتم وأكمل وأمجد. والنزاع بين حياة(1022/5)
الإلف والتعود، وحياة الأماني في الكمال والمجد، نزاع عنيف، وهو على عنفه أمر غامض في نفوس عامة أفراد المجتمع، لأنه يقوم على أماني مبهمة دائماً في أول أمرها. ولا تستبين هذه الأماني إلا في فئة قليلة، تملك من القدرة على النظر، وعلى التأمل، وعلى البيان عن نظرها وتأملها، قسطاً يتيح لها أن تحاول التعبير عن هذه الأماني، تعبيراً يخرجها من حيز الأمر المبهم إلى حيز الأمر البين.
فمن هذا المدخل يدخل على الجماهير أحد رجلين: إما رجل عاقل صادق يحسن النظر والتأمل والبيان، وإما رجل ذكي قادر يموه عليهم بالنظر والتأمل والبيان. أحدهما عارف يصدق الناس ولا يبالي، والآخر دجال يلعب بالناس ولا يبالي. أحدهما لا يأخذهم إلا بالوسائل التي تقوم على الصدق والعدل والحق، والآخر يأخذهم بكل وسيلة لا يعبأ بصدق ولا عدل ولا حق. أحدهما يعلم الناس معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، كما ينبغي لكل تعلم، من جهد ومشقة وحذر وبصر. والآخر يعلمهم معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، بما يستثيره فيهم، وما يستغله من نزوعهم وتلهفهم، لا يأبه لشيء إلا لما يستخفهم إلى اتباعه وطاعته وتمجيده.
فالحرية مثلاً شوق تهوى إليه نفوس المستعبدين. كلمة مبهمة تعيش في سر نفوسهم كالقبس المكتوف، لو كشف غطاؤه لأضاء. فالرجل الصادق يعلم النفوس معنى الحرية، ويكسبها من وسائل تعلمها ما لابد لها منه من صدق وعزيمة وجد ومشقة وبصر، حتى تتهاوى الجدران التي تحول بينها وبين الانطلاق، وتنفض الأغلال الثقيلة الغليظة التي تعوق الحي عن إدراك حريته. أما الدجال، فهو لا يزال يصرخ فيهم باسم الحرية، ثم لا يمنح الناس من وسائلها إلا كل وسيلة لا تغني شيئاً في كفاح الجدران والأغلال، بل ربما زادت الجدران صفاقة وقوة، والأغلال ثقلاً وغلظا وفداحة. فهذا هو الباطل المشرق، لأنه يأتي الناس من حيث تهوى أفئدتهم معنى مبهما غامضا كريما، فيموه هذا المعنى بما شاء من تمويه، ليسير الناس ورائه كما هم عمياً صماً، لا ليعلم الناس حقاً يطلبونه ويحرصون عليه ويزدادون معه على الأيام بصراً وإدراكا.
وهذا العالم الإسلامي الذي يموج اليوم موجه، ينبح في نواحيه هذا الباطل المشرق. ينبح في السياسة، وفي العلم، وفي الأدب، وفي الفن، وفي الأخلاق، وفي جماع ذلك كله: في(1022/6)
الدين. هو عالم مستغل، يستخفه الدعاة والدجاجلة، يهتبلون غفلته في هذه الحياة التي ظن أنه ارتد إليها بعد همود، ويختلسون نفضة هذا الشوق المضطرم إلى أمان مبهمة غامضة. ويتولى قيادته في كل شأنه ألسنة لا تبالي، تستفزه إلى المغامرة في سبيل الحياة الماجدة الطيبة التي تجيش فيه. تستفزه بالنداء الصارخ باسم هذه العاني المبهمة في ضميره، وتعطيه وسائل وأساليب ويظنها معينة له على إدراك ما يشتاق إليه، وهي في الحقيقة مفضية به إلى التمرغ في حمأة الجهالة والعبودية والغرور الكاذب، إلى أن يقضي الله في الناس بأمره وقضائه.
وأخطر هذه الألسنة التي تستفز هذا العالم، هي الألسنة التي اتخذت كلمة الإسلام لغواً على عذباتها - لا لأنها أعظم شأناً وأعز سلطاناً من الألسنة الأخرى، ألسنة المموهين باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفن، واسم الأخلاق، بل لأنها تعمد إلى كتاب أنزله الله بلاغاً للناس، وحكمة أوحيت إلى رسوله لتكون نبراساً للمهتدين، فتحيلهما إلى معان من أهواء النفوس التي لا نعرف الحق إلا في إطار من ضلالاتها وأوهامها. ثم يتبعهم التابعون الجاهلون اتباعاً، هو سمع وطاعة، ولكن لغير الله ورسوله، بل للزور المدلس على كتاب الله وسنة رسوله. وإذا هؤلاء المتبعون يعدون هذه الضلالة ديناً، ويظنون هذا الدين الجديد إحياء للإسلام. وإذا هم يأخذون دينهم من حيث نهوا أن يأخذوا. يأخذونه عن مبتدع في الدين برأيه، محيل لنصوصه بفساد نشأته، مبدل لكلماته بهوى في نفسه، محرف للكلم عن مواضعه بما يشتهي وما يحب، مختلس لعواطف الناس بما فيه من حب اتباعهم له، خادع لعقولهم برفعة الإسلام ومجد الإسلام، وهو لا يبغي الرفعة والمجد إلا لنفسه.
ولقد أنبأنا معاذ بن جبل رضي الله عنه بصفة ما نحن فيه إذ قال يوماً لأصحابه: (إن من ورائكم من فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره. فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة. وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم. وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال له يزيد بن عميرة أحد أصحابه: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال معاذ: بلى! اجتنب من كلام(1022/7)
الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع. وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا).
وقد فتح القرآن، فأخذته الألسنة كلها من مؤمن ومنافق، ومن صغير وكبير، وكل يقول برأيه ولا يختشي ولا يرهب ولا يتقي. وظهر في كل أرض من يقول لنفسه: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ثم يعود من نحسه وشؤمه، يجمع كل خسيسة من البدع التي تميل إليها نفوس الجاهلين الغافلين، وتهوى إليها أفئدة الذاهلين المفتونين بالحب لكل جديد مبتدع. وهو في كل ذلك يعلم أن المبتدع في كل شيء له لذة الجدة، ويعلم أن الناس يشتاقون إلى أمر مبهم في نفوسهم، هو استعادة مجد دينهم، ونشر كلمته في الأرض، فلا يبالي أن يشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فيؤتيهم ما يطابق ما يراه من أشواقهم، ويزين لهم أن بلاغ ما يشتاقون إليه قريب، إذا هم اتبعوه إلى الغاية. وأن شرط بلاغه أن يعطوه السمع والطاعة له ولمن يصطفيهم من شيعته ودعاته. فإذا تم أن تجتمع عليه طائفة من الناس، وظهر بهم أمره، وظنوا أنهم بلغوا بعض ما مناهم لسانه ولسان شيعته ودعاته، قالوا إن الإسلام هو هذا الذي ندعو إليه، وإن طريق الحق طريقنا وحده. وإن الإسلام في غير الإطار الجديد الذي وضعناه فيه ليس من الحق في شيء، وإن هذا الفهم الجديد للإسلام هو خلاص المسلمين من هذه الذلة التي ضربها عليهم الغازي الصليبي. ثم تنشق ردغة هذا الخيال، عن صنوف مختلفة من الفساد المهلك، تجعل تاريخ الماضي كله ضرباً من الحياة الفاسدة، لا ينبغي لأحد من الناس أن يتلفت إليه إلا تلفت المزدري المستنكف. وعندئذ يصبح الدين في أذهان الجماهير المتبعة، رسالة جديدة لها رسولها وحواريوها ودعاتها وشهداؤها. وإلى بيان هذه الرسالة تعود الجماهير، لا إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسوله، نعم، بل إلى تفسير هذا الكتاب وهذه السنة كما يراها لهم طواغيتهم من كهوف التبديل والتحريف والتأويل بالهوى والضلالة. وعندئذ يتم تبديل معنى الإسلام في الناس، ويتم للدجال أن يبتدع بهواه إلى طب في أهوائهم كتاباً غير كتاب الله. ولولا أن الله قد ضمن لنا حفظ نص كتابه، وحفظ نص البيان عنه في سنة رسوله لفعل هذا وأشياعه ما فعل أسلافهم ممن بدلوا كتب الله وحرفوها، ومحوا منها وأثبتوا، ونقصوا فيها وزادوا.
لولا هذا الذي نخافه، بل كان مما نخافه، لما عددت هؤلاء أشد خطراً من الألسنة التي تموه(1022/8)
على الجماهير الجاهلة الغافلة باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفن، واسم الأخلاق، فطريقهما في الحقيقة واحد، ومنشؤهما واحد، ونتائجهما واحدة، في التغرير بالناس، والعبث بعقولهم، والإفساد بفطرتهم، واللعب بعواطفهم، وإيهامهم بأن نجاتهم من عبودية الغزاة أمر قريب لا يكلفهم إلا أن يسمعوا لمن يقول لهم: كونوا أحرارا، فإذا هم سادة أحرار كما ولدتهم أمهاتهم!
اللهم إني أبرأ إليك مما نحن فيه. اللهم إني أخوف الناس مما خوفهم منه عبدك ورسولك إذ يقول: (أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان). اللهم إني أقول كما قال صاحب رسولك معاذ بن جبل: (الله حكم قسط، هلك المرتابون!)
محمود محمد شاكر(1022/9)
شعراء الوطنية
عبد الله نديم
للأستاذ المؤرخ عبد الرحمن الرافعي
تحدثنا في مقالنا السابق عن رائد أول للشعر الوطني، وهو رفاعة رافع الطهطاوي. وقد توفي سنة 1873. وظل الشعر في مصر خلواً من المعاني الوطنية، إلى أن تجددت في شعر عبد الله نديم. وهو ما نتحدث عنه في هذا المقال هو خطيب الثورة العرابية، وهو أيضاً شاعرها، انطبعت في خطبه وقصائده روح الوطنية المتدفقة. وروح الثورة.
ولد سنة 1845بالإسكندرية، وبدت عليه منذ صباه مخايل الذكاء اللامع، وظهرت مواهبه في الترسل في الكتابة والشعر والزجل والقدرة الخطابية، مع خفة في الروح، وميل إلى الفكاهة. وجرأة وإقدام، واستخفاف بأحداث الزمن.
ولما ظهرت الثورة العرابية أوائل سنة 1881 انضم إليها بطبعه؛ إذ كانت نفسه تتأجج وطنية، وتتطلع إلى الحرية والمجد. وتجلت مواهبه الخطابية، فصار خطيب الثورة العرابية.
ومما يذكر عنه في صدد الحديث عن شعره الوطني أنه لما سافر الألاي السوداني الذي كان يقوده الأمير الاي عبد العال حلمي أحد زعماء الثورة من القاهرة إلى دمياط في أوائل أكتوبر سنة1881، كان سفره يوما مشهوداً. فاحتشدت الجموع في محطة العاصمة لتحية الألاي حين سفره، وكان من بين المودعين عرابي والبارودي وعبد الله نديم، فوقف النديم وسط هذا الجمع الحاشد وألقى خطبة حماسية فياضة بدأها بقوله مخاطباً رجال الجيش:
(حماة البلاد وفرسانها!
(من قرأ التواريخ وعلم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات
إلى أن قال: وهذا وطنكم العزيز أصبح يناديكم ويناجيكم ويقول:
إليكم يرد الأمر وهو عظيم ... فأنى بكم طول الزمان رحيم
إذا لم تكونوا للخطوب وللردى ... فمن أين يأتي للديار نعيم؟
وإن الفتى إن لم ينازل زمانه ... تأخر عنه صاحب وحميم(1022/10)
فردوا عنان الخيل نحو مخيم ... تقلبه بين البيوت نسيم
وشدوا له الأطراف من كل وجهة ... فمشدود أطراف الجهات قويم
إذا لم سيفاً فكن أرض وطأة ... فليس لمغلول اليدين حريم
وختم خطبته بقوله: وأحسن ما يؤرخ به اسم الجهادية عند النوازل أن يقال (مات شهيد الأوطان!) فنادى الجميع (رضينا بالموت لحفظ الأوطان!)
ولما شبت الحرب العرابية لازم النديم عرابي في كفر الدوار ثم في التل الكبير، وكانت مجلته (الطائف) تصدر في معسكر الجيش المصري.
وبعد أن وقعت الهزيمة ظل مخلصاً للثورة في محنتها. فبرهن على وفاء نادر ووطنية أصيلة عميقة. وكان ممن أمرت الحكومة باعتقالهم، وعجزت عن التعرف إلى مقره والقبض عليه، وظل مختفياً عن عيونها وجواسيسها نحو تسعة أعوام. وأعيا الحكومة أمره وجعلت ألف جنيه لمن يرشد عنه ولكنها لم تهتد إليه.
وقد وصف ما لقيه من الشدائد أثناء اختفائه في قصيدة تفيض إيماناً وفخراً وشجاعة. وهي من غرر قصائده. قال:
أتحسبنا إذا قلنا بلينا ... بلينا أو يروم القلب لينا
نعم للمجد تقتحم الدواهي ... فيحسب خامل أنا دهينا
تناوشنا فتقهرنا خطوب ... ترى ليث العرين لها قرينا
سواء حربها والسلم إنا ... أناس قبل هدنتها هدينا
إلى أن قال:
إذا ما الدهر صافانا مرضنا ... فإن عنا إلى خطب شفينا
لنا جلد على جلد يقينا ... فإن زاد البلى زدنا يقينا
ألفنا كل مكروه تفدى ... له فرسانه بالراجلينا
فأعيا الخطب ما يلقاه منا ... ولكنا صحاح ما عيبنا
سلينا يا خطوب فقد عرفنا ... بأنا الصلب صلنا أو صلينا
وقري فوق عاتقنا وقولي: ... نزلت اليوم أعلى طور سينا
علينا للعلا دين وضعنا ... عليه الروح لا الدنيا رهينا(1022/11)
فهل يمسي رهين في سرور ... وهل تلقى بلا كدر مدينا
إذا ما المجد نادانا أجبنا ... فيظهر حين ينظرنا حنينا
يغنينا فيلهينا التغني ... عن الباكي وينسينا الحزينا
ولسنا الساخطين إذا رزئنا ... نعم يلقى القضا قلباً رزينا
فإنا في عداد الناس قوم ... بما يرضى لنا الإله رضينا
إذا طاش الزمان بنا حلمنا ... ولكنا نهينا أن نهينا
إلى أن قال:
سلوا عنا (منابرنا) فإنا ... تركنا في منصتها فطينا
لحكمتنا تقول إذا هذرتم ... ألا هبي بصفحك فاصبحينا
سرى فينا من الآباء سر ... يسوق البر نحو المعوزينا
فإن عشنا منحنا سائلينا ... وإن متنا نفحنا الزائرينا
وقال يصف إحاطة الجند بالمنزل الذي كان فيه يريدون اعتقاله فنجاه الله من شرهم:
أأنسى يوم مصر والبلايا ... تطاردني ولا ألقى معينا
فكنت الغوث في يوم كريه ... أخاف الشهم والحبر السمينا
مدحنا فيه في إشراق شمس ... فلما جاء مغربه هجينا!
وهل أنسى هجوم الجند عمراً ... بلا علم وقد كنا فجينا
أحاطوا بي وسدوا كل باب ... وصرنا بين أيدي الباحثينا
وكان السطح مملوءاً بجند ... وخلف البيت كم وضعوا كمينا
فأدركت الوحيد وكان صيداً ... قريباً من فخاخ الطالبينا
وأرشدت النديم إلى مكان ... رآه بعد حيرته مكينا
وأعمى الله عنا كل عين ... وكنا للعساكر ناظرينا
وصرنا فوق سطح فيه علو ... يحطم هاويا منه متينا
فلم أرهب وثوبي من طمار ... ولم أنظر شمالاً أو يمينا
ويوم الغيظ كنت لنا مجيراً ... بسطوته من البلوى حمينا
فقد كنا بلا ستر يرانا ... أمام العين كل القاصدينا(1022/12)
وكم سرنا بلا خوف جهاراً ... ركبنا الخيل أو جئنا السفينا
وإني الآن في خطب عظيم ... أرى في طيه داء دفينا
أتانا مخبر عن قوم سوء ... أرادوا وصفنا للحاكمينا
وخاف الضر أحبابي جميعاً ... وقالوا بالوشاية قد رمينا
فعجل بالرحيل بلا توان ... ولا تخبر صديقا أو خدينا
فأدرك يا أبي نجلا دهاه ... من الأهوال ما يوهي البدينا
فما خفت المنون ولا الأعادي ... نعم خفت انشراح الشامتينا
فسرت الليل يصحبني ثبات ... لخل نحو منزله دعينا
ورافقني خليل كان قبلاً ... يوافي حين كنا ظاهرينا
وأدركنا القطار بغير خوف ... وكنا بالثياب منكرينا
وألقى الله ستر الحفظ فضلاً ... فلم ترنا عيون المبلسينا
وكان الخل منتظراً قدومي ... بخيل أوصلتنا سالمينا
ونجى الله بعد اليأس عبداً ... يرى الرحمن خير المنقذينا
وإنك لترى هذا الشعر أقوى في الروح والأسلوب من شعره في أبان الثورة. وهكذا يبدو أن الهزيمة لم تنل منه. بل زادته قوة وحيوية وصلابة وبلاغة. وأن الشدائد قد صقلت مواهبه كما تصقل المعادن وتجلى جواهرها على لهب النار. فاحتفظ النديم في سني المحنة بما حباه الله من إيمان صادق. وعزم ثابت. وصمود على الأيام. وكذلك الشدائد والمحن. يختلف أثرها في نفوس الناس. فبينما تبعث اليأس والجزع في النفوس الضعيفة. نراها على العكس تزيد النفوس الكبيرة ثباتاً وصبراً وشجاعة وإيماناً. ومن هنا جاء شعر النديم بعد هزيمة الثورة أقوى منه في أوج انتصارها.
وفي الحق أن النديم هو الزعيم الوحيد بين الزعماء العرابيين الذي استمر في جهاده ضد الإنكليز وفي نضاله عن مصر في عهد الاحتلال. وتلك لعمري ميزة كبرى جديرة بأن تحيط اسمه بهالة من المجد والخلود. وقد اهتدت الحكومة إلى مكانه سنة1891 وقررت نفيه إلى خارج القطر. وفي أوائل عهد الخديوي عباس الثاني عفى عنه ورخص له بالعودة إلى مصر. فعاد إليها وأنشأ مجلة (الأستاذ) سنة1892، فتجلت فيها روحه الوطنية التي لم(1022/13)
تضعفها الهزيمة ولم تنل منها الشدائد، مما أحفظ عليه الإنجليز وصنائعهم. فتدخل اللورد كرومر وأمر بإبعاده عن مصر ثانية. فاضطر إلى تعطيل صحيفته سنة1893. وودع قراءه وداعاً مؤثراً في آخر عدد منها (في 13يونية سنة1893) قال: (ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال ومصادمة النوائب. والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدراً في أعين الواقفين عند الظواهر. وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلاً:
أودعكم والله يعلم أنني ... أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلى كان الرحيل وإنما ... دواع تبدت فالسلام عليكم!
وانتهى به المطاف في منفاه إلى الآستانة حيث توفي سنة1896. وشيعت جنازته في احتفال مهيب مشى فيه كثير من العلماء والكبراء يتقدمهم السيد جمال الدين الأفغاني. ودفن هناك
بالأمس كان غريباً في ديارهم=واليوم صار غريب اللحن والكفن
عبد الرحمن الرافعي(1022/14)
الآنسة (عطار)!
للأستاذ علي الطنطاوي
أخذت بنتي عنان الشهادة الابتدائية هذه السنة. ونالت درجة تدخلها الثانويات الرسمية التي يزدحم الناس عليها، ويتسابقون إليها؛ لأنها (في الغالب) أحسن تعليما، وأمتن نظاما؛ ولأنها بعد المجان والمدارس الأهلية بالأجر (الفاحش أحيانا)، ولكني آثرت مع ذلك كله أن أدخلها (المعهد العربي الإسلامي) للبنات، لأنه يجمع بين اتباع مناهج الوزارة، والتأدب (ما أمكن) بآداب الإسلام؛ ولأنه لا يعلم فيه إلا أوانس وسيدات، فليس فيه معلمون مع المعلمات؛ ولأن المشرفين عليه رجال منا، يعرفون من الأمر ما نعرف، وينكرون ما ننكر، ولا يأبون سماع النصح منا أو من غيرنا، واتباع سبيل الرشاد وترك طريقهم إليه إن دللناهم عليه نحن أو دلهم عليه سوانا. وكذلك يكون المسلم: يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت، ويسمع كلمة الحق أيا كان قائلها.
وترددت البنت خشية انتقاص صواحبها، وكلام أترابها. والنساء - مهما كانت أعمار النساء - لا يعشن من الدنيا في حقيقتها، وإنما يعشن في آراء الناس وألسنتهم. والشقاء عند أكثرهن مع التظاهر بالسعادة حتى يظنها الناس فيهن، أحب إليهن من أن يكن سعيدات وهن في ظن الناس شقيات. هذي طبيعة النساء!
ودخلت المدرسة مكرهة، فما مرت أيام حتى صار الإكراه رضا، والكره حبا. واشتد تعلقها بالمدرسة؛ لأن فيها الآنسة عطار والآنسة شطى والآنسة درا، وصارت تجيئنا كل ليلة فتقول لي ولأمها:
- بابا! الآنسة عطار قالت لنا إن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة. الآنسة عطار يا ماما، حكت لنا قصة الثلاثة الذين انسد عليهم الغار.
الآنسة عطار كلمتني اليوم، الآنسة عطار ضحكت لي. إن حيتها الآنسة عطار طارت من الفرح كأنما حيتها الملائكة. وإن بسمت لها فكأنما بسم لها الدهر؛ وإن قالت لها كلمة نقشت كلمتها على صفحة قلبها فلا تنساها، وكانت دستورا لها فلا تحيد عنها. قالت لها الآنسة عطار: أقرئي كل يوم صفحة من القرآن، فلم تعد تترك قراءة صفحة من القرآن كل يوم. وجاء دمشق (سرك) تسابق إليه الناس، وتعلقت به البنت، وحاولت صرفها عنه فلم(1022/15)
تنصرف. فلما قالت لها الآنسة عطار: إن هذا السرك شيء قبيح، صار هذا السرك أكره شيء لها.
عجبت من هذه (الآنسة عطار) ما تكون؟ ومن أين لها هذا النفاذ إلى قلوب البنات؟ وماذا فيها حتى تكون الإشارة الواحدة منها أبلغ من مائة نصيحة مني، والبسمة من فمها أرضى للبنت من الهدية القيمة من يدي! وسألت البنت عنها:
- قالت: هي مدرسة السنة الثالثة، يحبها البنات كلهن، ألا تعرفها يا بابا؟
- قلت: من أين أعرفها؟
- قالت: إنها تلميذتك. هكذا قالت لي. تلميذتك، نسيتها؟!
وعرفت أخيرا من هي هذه (الآنسة عطار). لقد كانت تلميذتي حقاً وذكرت من أمرها (على قلة ما أذكر من أمور تلاميذي وتلميذاتي) ما يكون إن نشرته إماماً لكل طالبة، وقدوة لكل تلميذة، ومثالا للطالبة الجادة الشريفة المسلمة، فلذلك أنشره.
ذكرت كيف اضطرتني إلى الانتباه إليها، قبل أن أعرف اسمها وألزمتني (وأنا مدرسها) بتوقيرها قبل أن أخبر علمها؛ لأني رأيتها لا تشارك التلميذات في لهو في الفصل، أو عبث في الفسحة؛ ولم يكن يحاولن إشراكها معهن. وكن يتكلمن بينهن بلسان الألفة والتبسط والجراءة، فإذا وجهت إحداهن القول إليها اصطنعت الجد وتكلفت الوقار، وخاطبتها لا مخاطبة الترب للترب، بل التلميذة للمدرسة، والبنت للأم. وما كانت أكبرهن سناً، ولكن كانت أكثرهن أدباً، وأكبرهن عقلاً. وإذا ألقيت في الفصل نكتة ضحك لها البنات، كانت ضحكتها ابتسامة، تومض بلطف ويختفي بسرعة. وإذا عرضت كلمة فيها إشارة إلى ما لا يحسن، أو جاء بيت فيه تعليق بما لا يليق، علا خديها الاحمرار خجلاً وأطرقت حياء.
وكانت الطالبات يدخلن الفصل مكشوفات الرؤوس، يحسبن أن المدرس ليس رجلاً أجنبياً، وليس عليهن الاستتار منه، ولا عليه غض البصر عنهن، ومنهن من تلقي على رأسها شيئاً لا يستر شعراً ولا نحراً - أما هي فكانت تظهر وجهها وحده على الصورة التي صوره الله عليها، لا التي صورتها منتجات (ماكس فاكتور في هوليود). . . تلف حوله خماراً أسود على زي ابتكرته هي لنفسها، وسيقلدها فيه غيرها فتكون سنة حسنة لها أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة - لفاً محكماً أنيقاً، لا تنكره الشيخة المتدينة، ولا تستقبحه الفتاة(1022/16)
المتمدنة. لا يبدي الشعر ولا النحر، ولا يثقل على راس حاملته ولا عيون الناظرين.
وذكرت كيف أخرجتها أول مرة لتقرأ شيئاً، فسمعت إلقاء أجزم أني ما سمعت قط من فتاة أوضح منه ولا أفصح، وقلما سمعت من رجل مثله، إلقاء خطيبة واثقة من نفسها، متمكنة من أدبها، ضابطة لمخارجها؛ فاهمة لمعانيها مؤدية لها. فلو أن أمرؤ لا يعرف العربية يسمعها لفهم من لفظها المعنى من تفخيم اللفظ في موضع التفخيم. وترقيقه في حل الترقيق، وإيفاء اللهجات في السؤال والجواب والدهشة والإعجاب. فكأنك لا تسمع كلاماً، وإنما تبصر من هذا الإلقاء المعبر (فلماً) ناطقاً ملوناً؛ على ضبط للألفاظ، وحفاظ على القواعد، وتمكن من اللغة والنحو.
وكانت مسلمة علماً وعملاً واعتقاداً، وذلك جماع الإسلام.
ونالت شهادة البكالوريا ودخلت الجامعة، والجامعة فيها هذا المنكر العجيب:
الاختلاط بين الشبان والشابات في غرفة الدرس، وفي باحة الكلية، وفي حديقة الجامعة، وفي المكتبة، وفي النادي، وفي الرحلات والحفلات (وهما شر تلك المنكرات). والطريق إلى الجامعة طويل، والدروس في الليل والنهار، والجامعة في طرف البلد بين البساتين والأنهار، والدين ضعيف، والزمان فاسد، والغرائز مكبوتة، وإبليس مستعد متيقظ. ولا يأمن مع هذا كله الفساد على بنته إلا مغامر لا يبالي ما فقد من عرضه، أو مجنون من شأنه إلا يبالي بشيء!
فكانت سيرتها من الجامعة عجباً من العجب. وكانت تجربة وقى الناس الله شرها. كما قال عمر بن الخطاب: وما كل تجربة يوقى صاحبها الشر - لم تختلط بأحد، لا بطالب ولا بطالبة ولا بأستاذ.
أما الطلاب، فلأن الدين والشرف والعرف تمنع كلها اختلاطها بهم، ولو للسؤال عن موعد الدرس، أو معادلة الكيمياء، إذ يجر السؤال عن موعد الدرس إلى السؤال عن موعد الغرام، والمعادلة تدعو إلى المقابلة، وما تقابل البارود والنار، إلا كان الانفجار!
وأما البنات، فلأن في خلطة بعضهن ما هو شر من خلطة الشباب، إذ يفسدن من لا يطمع في فسادها أفسق شاب؛ ولأن منهم رسل الشيطان، ووسائط الاتصال بالرجال.
وأما الأساتذة فلأنهم (هم أيضاً) رجال، ولأن الشرع لما أمر بستر العورة، وغض النظرة،(1022/17)
قد شمل بذلك كل رجل وكل امرأة، فلم يستثن من النساء تلميذة، ولا من الرجال أستاذاً؛ ولأن المدرس المؤدب المهذب الذي يدرس الخلق والدين، لا يبقى أبداً كما يكون في الفصل؛ ولأن حالات مختلفات، وغرائز وشهوات، فإن تكلم في الفصل بلسان عقله فقد يتكلم خارج الفصل بـ. . . غير لسان العقل!
والصخرة الراسية إن أزحتها شعرة بعد شعرة حتى فقدت رسوخها، رأيتها تتدحرج فتهوي فلا تستقر إلا في قرارة الوادي. وكذلك البنت لا تسقط فجأة، ولكنها تلين ثم تتزحزح ثم تضعف فتهوى (هي أيضاً) إلى الحضيض. فرب بكر عذراء شريفة، تستطيع أن تفخر بأشرف أب، وأن تظفر بأفضل زوج، وأن تكون سيدة مجمعها، ووجيهة قومها، تغدو غدوة، أو تزور زورة، فتمزح مزحة، وتضعف لحظة، فإذا هي قد غدت ساقطة، وصارت بغياً، لا يقبل المجتمع توبتها، ولا يغسل حوبتها. أما الذي أغواها، فسرعان ما ينسى الناس فعلته، ويقبلون توبته، ويغسلون حوبته، فيذهب هو بغنم اللذة، ويبقى عليها غرم العقاب، تحمله وحدها، عاراً لاسمها، وولداً في بطنها، فتكون قد شرت شقاء العمر بلذة دقائق خمس أو عشر!
فلما استقرت قدمها في الجامعة، وعرفت (صامتة) من حولها، اصطفت طائفة من البنات، من كل عفيفة شريفة، صينة دينة، فنفخت فيهن روحاً من روحها، وصبت فيهن عزماً من عزمها، وجعلت منهن جبهة للصيانة والديانة، والشرف والعفاف، يأس منها الفساق، كما يئس من دخول الجنة إبليس. والشاب مهما كان جريئا في فسقه لا يقدم على البنت إن رأى منها الجد والصد، ورآها تمشي رافعة الرأس، ثابتة القدم. وإن أقدم عليها فأغلظت رده، أو لطمت خده، ولعنت أباه وجده، فإن زاد فخلعت نعلها من رجلها ونزلت به على رأسه - لما عاد.
أما سيرتها في بيتها، فسيرة البنت البارة، والطالبة الجادة، والمسلمة التي تعرف حق نفسها وحق أهلها وحق ربها، تترك لله كل ما لا يرضي الله، لا رغبة عنه في الظاهر مع رغبة فيه في الباطن، بل عن إيمان ويقين، وتصديق لقول الرسول: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
تركت القصص الفاجرة، والأفلام الداعرة، وكل ما تتسابق إليه من اللهو الفتيات، وما تطمع(1022/18)
فيه من التوافه البنات، فعوضها الله عن ذلك علماً وفهماً، ومنزلة تتمناها كل بنت فلا تصل إليها إلا القليلات؛ وراحة في نفسها، واطمئناناً في قلبها لا ينالهما بالمال بنات ملوك المال.
هذه هي الآنسة عطار التي تعلمت من سيرتها أنه لا يصلح البنت إلا الصالحات من البنات، فإذا أردنا الإصلاح حقاً فلنعد له مثل (الآنسة عطار) التي أنشر هذا الطرف من سيرتها، لتتخذها طالبات الجامعات قدوة لهن ومثالا، ولتزداد هي صلاحاً بذلك وكمالاً.
علي الطنطاوي(1022/19)
الجناس التام في القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ذكر صاحب الإتقان وتابعه صاحب الوسيلة الأدبية أن ليس في القرآن الكريم من الجناس التام إلا مثالان: قوله تعالى من سورة الروم (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا إلا ساعة) ومن سورة النور (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار. يقلب الله الليل والنهار. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)
وقولهم هذا إن صدق فليس بذي خطر، فليس يهم أن يكون في القرآن جناس تام أو لا يكون، فما الجناس التام إلا نوع ضئيل من الجناس، وما الجناس إلا نوع واحد من المحاسن البديعية، وما هذه إلا باب من الأبواب التي تتحقق بها موسيقى التعبير في فصيح الكلام، وهي الموسيقى التي بلغت كمالها وتمامها في القرآن. لكن القضية من حيث هي جديرة بالتمحيص لاتصالها بالقرآن الكريم من ناحية، ولبعد فيها من ناحية أخرى فمن البعيدأن لا يحوي القرآن على سعته إلا مثالين اثنين من الجناس التام.
إن المحاسن اللفظية وجدت في فصيح كلام العرب وفي القرآن العزيز قبل أن تسمى بأسمائها في علم البيان أو البديع. فالعلم يستقري الموجود ويصنفه ويضع لأصنافه الأسماء. وما أظن العلمين أحاطا بكل الموجود من أصناف تلك المحاسن. وموضع اللطف في الجناس التام إذا لم يفسده التكلف أنه يلفت الذهن إلى معنيين مختلفين بلفظ واحد يذكر بمعنى ويتكرر بمعنى. فهو من حيث المعنى كلمتان مختلفتان، ومن حيث المنطق كلمة واحدة. ومن الواضح أن السليم العفو منه لا يكون في الغالب إلا في المشترك من الألفاظ.
وليس لما اشترطه بعضهم في الجناس التام من ألا يكون أحد المعنيين مجازياً محل ولا حكمة ما دام موضع الحسن هو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى؛ فاللفتة الذهنية هي سواء أكان المعنيان حقيقيين كلاهما، أم كان أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً.
ولعل هذا الشرط الذي اشترطوه هو الذي ضيق عليهم الواسع من أمثلة الجناس في القرآن. وحتى مع هذا الشرط فإن في القرآن الكريم من الجناس التام أمثلة فوق الذي ذكروا لا يدرى كيف خفي عليهم مكانها وهم من هم في الدقة والتنقيب وتمام العناية بالقرآن.
وهم يقسمون الجناس التام قسمين، فما كان بين لفظين من نوع واحد كأن يكونا اسمين أو(1022/20)
فعلين سموه متماثلاً، وإلا فهو مستوفي. ولكل أمثلة في القرآن الكريم.
فمن أظهر أمثلة المستوفي مثلان: الأول في قوله تعالى لأسرى بدر من سورة الأنفال: (إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم) فإن خيراً الأولى اسم، وخيراً الثانية أفعل تفضيل. أما المثل الثاني ففي قوله تعالى من سورة المؤمنون بعد أن نفى أن يكون معه سبحانه إله غيره: (إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) فإن الجناس بين الفعل علا والحرف على تام ظاهر لا ينقص منه دخول لام التوكيد على الفعل قياساً على دخول فاء العطف وأداة التعريف على أحد ركني الجناسين دون الآخر في بعض الأمثلة المشهورة في علم البديع.
أما المتماثل منه فأمثلته في القرآن الكريم متعددة، نذكر الآن منها عدداً ليرى القارئ البصير فيها رأيه. وما نظنه يخالفنا فيها كلها إن خالفنا في بعضها. فمن ذلك قوله تعالى في سورة الأنفال (وما رميت إذ رميت إنما الله رمى) فإن رميت الأولى المنفية لا يمكن أن تكون بمعنى رميت الثانية المثبتة، وإلا كان ذلك من التناقض المستحيل على القرآن. فلابد أن تكون الأولى بمعنى أصبت وتكون الثانية على ظاهرها بمعنى رميت، إشارة إلى قذف النبي صلى الله عليه وسلم الحصى أو التراب في وجوه المشركين في غزوة بدر وما كان من انهزامهم عقب ذلك. فالرمي بمعنى القذف هو من النبي، والرمي بمعنى إصابة أعين المشركين حتى انهزموا هو من الله سبحانه. فاللفظ واحد والمعنى جد مختلف.
وفي الحق أن هذا المثال يفتح باباً واسعاً للجناس التام في القرآن هو باب الآيات التي ينسب فيها نفس الفعل أو الشيء إلى الخالق سبحانه وإلى المخلوق في وقت واحد، إذ من الواضح أن المعنى لا يمكن أن يكون واحداً في الحالين وإن اتحد اللفظ؛ كما في قوله تعالى حكاية لقول سيدنا عيسى يوم القيامة تبرؤا من أن يكون دعا الناس إلى عبادة نفسه وعبادة أمه من سورة المائدة (إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فإن (نفس) هنا في تكرارها ذات معنى يختلف في الموضعين اختلافاً كلياً حسب نسبتها إلى عيسى أو نسبتها إلى الله سبحانه. وإن جاز أن يكون اختلاف الضمير المتصل مخرجاً لهذا المثل عن تمام الجناس في منطق اللفظين.
وإذا عدنا إلى الأمثلة المألوفة وجدنا مثالا آخر في أول سورة الرحمن في قوله تعالى:(1022/21)
(والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)
وعجيب أن يكون مثل الزمخشري وقد فهم لفظ الميزان بمعنى واحد في المواطن الثلاثة وإن توسع فيه فجعله يشمل كل معيار في الكيل والوزن وغيرهما. ولكن القاموس يذكر من معاني الميزان العدل. وغلى هذا ذهب عدد من المفسرين في الموطن الأول ففسروا (ووضع الميزان) بمعنى (وشرع العدل) كما في روح المعاني للألوسي والتفسير المحيط لأبي حيان. وهذا يجعل الآيات الكريمة من الأمثلة الفريدة لتمام الجناس حتى لو اتخذ معنى الميزان في الموطنين الآخرين: لكن الأقرب الأصوب أن يختلف معناه في الآيات الثلاث، فيكون في الآية الأولى بمعنى الشرع الذي توزن به الأعمال والأحكام في الجماعات، ويشهد لهذا آية سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) إذ من الواضح أن الميزان هنا لا يمكن أن يكون الآلة المعروفة بدليل (أنزلنا)، ودليل العطف على الكتاب، ودليل الإطلاق في قيام الناس بالقسط. هذا في الآية الأولى. أما في آية الرحمن الثانية فيكون الميزان على هذا مصدراً ميمياً بمعنى الوزن أي التقدير والحكم. وفي القاموس من بين معاني الميزان أنه المقدار، ومن بين معاني المقدار أنه القدر بمعنى القضاء والحكم. ويكون بمعنى الآية الكريمة على هذا (ألا تطغوا في القضاء والحكم) أما الميزان في الآية الثالثة فبالمعنى المعروف. والنهي عن إخسار الميزان نهي عن الطغيان فيه؛ لأن التعامل بالميزان عملية ذات طرفين إذا جونب القسط فيها كان ذلك طغيانا أو إخساراً حسب الطرف المنظور إليه.
هذا هو الوجه في فهم تلك الآيات الكريمة وتفسيرها تفسيراً يتفق مع الإحكام الذي وصف الله به آيات كتابه العزيز في أول سورة هود.
وهناك باب واسع من أبواب الجناس التام في القرآن لم ينتبه إليه، ألا وهو الجناس بين الحروف والأسماء المبنية فإن الحرف أو الاسم المبني قد يتعدد معناه في العربية، فإذا ورد في آية بأكثر من معنى كان ذلك من تمام الجناس. إلا أنه لقصر هذا النوع من الكلمات وقلة حروفه يشترط لنحقق الحسن البديعي شروط. بشرط مثلا الانفصال فلا تكون اللام في الآية الكريمة من سورة الحجر: (قال لم أكن لأسجد لبشر) مثلا للجناس التام. ويشترط فيه(1022/22)
التقارب فلا تكون ما الشرطية وما النافية في الآية الكريمة (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، وما للظالمين من أنصار) مثلا ظاهراً، لطول الفاصل بينهما. فإذا ما تحرينا هذين الشرطين وجدنا من هذا النوع أمثلة غير قليلة. فمما يتعلق بما من ذلك قوله تعالى:
(قلتم ما ندري ما الساعة): سورة الجاثية
(ما قلت لهم إلا ما أمرتني به): سورة المائدة
(إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله): سورة هود
فإذا ضممنا إلى الشطر الأول من هذا المثل ما سبقه في نفس الآية وجدنا مثلاً لطيفاً لورود (ما) ثلاث مرات بثلاث معان مختلفة: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)
ومن الأمثلة التي تم الجناس فيها بورود (من) بمعنيين مختلفين قوله تعالى من سورة البقرة: (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) فالأولى موصولة والثانية شرطية. وقد راعينا في هذه الأمثلة الشرطين اللذين اشترطنا وتجنبنا ما لم يتوفر فيه شرط الانفصال ولو في الظاهر كما في قوله تعالى من سورة البقرة: (فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) ففيه اتصلت ما المصدرية بالكاف. وكما في قوله تعالى من سورة الكهف (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أو قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) فقد اتصلت من الاستفهامية بالفاء في الآية الأولى، وأدغمت من في من الموصولة في الآيتين فكانتا كالكلمة الواحدة في النطق وفي الرسم. وإلا فهذا النوع في القرآن الكريم كثير.
على أننا إذا جعلنا اختلاف المعنى للكلمة المكررة هو العمدة والفصل في الجناس التام انفتح لنا منه في باب آخر هو باب الكلمة يختلف معناها لا باختلاف نوعها كما في الأمثلة السابقة ولكن باختلاف مرجعها والمراد منها وإن ظلت الكلمة هي هي في حقيقتها. خذ مثلا إليك قوله تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) في موضعها من سورة الرحمن. إذ المعنى في الإحسانين ليس بواحد، فإن الإحسان الأول هو من العبد في العمل، والإحسان الثاني هو من الله في الجزاء. فالأول بمعنى الإتقان والإخلاص لله في العمل، والثاني(1022/23)
بمعنى الإكرام وإجزال الثواب للعبد. فهو في صميمه مثل فريد من أمثلة الجناس التام إذا أخذنا في هذا بمقوماته وروح الحسن فيه.
ومثل هذا قوله تعالى من سورة براءة: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو إذن، قل أذن خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) فإن (أذن) الأولى غير (أذن) الثانية في الدلالة وفي المعنى الذي تفيد أنه في موضعهما من الآية. الأولى للذم أراده المنافقون والثانية للمدح أراده الحق سبحانه وأظهره بإضافتها إلى خير. كذلك يؤمن الأولى غير يؤمن الثانية في المعنى وإن جاء الفرق من اختلاف حرف الجر بعدهما، فإن الإيمان بالله غير الإيمان للمؤمنين. فهذا إذا أخذنا بالجوهر لا بالعرض مثل من أروع أمثلة الجناس التام.
هذه صنوف من الأمثلة جئ بها على سبيل التوضيح لا على سبيل الحصر، وسيختلف الحكم فيها وعليها باختلاف المعايير، ولكن سيسلم منها على أي حال لجميع النظار على اختلاف المعيار مثل جديدة تنقض تلك القضية التي جرى عليها علماء العربية ومن بينهم صاحب الوسيلة الأدبية وصاحب الإتقان، من ندرة الجناس التام في القرآن.
محمد أحمد الغمراوي(1022/24)
السليقة بين الفصحى والعامية
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
السليقية نسبة إلى السليقة: وهي السجية والطبيعة والطبع. واكثر ما تستعمل السليقة في الطبيعة الكلامية فإذا قالوا فلان يتكلم بالسليقة أرادوا أنه يتكلم أو يقرا بطبعه لاعن تعلم.
وتستعمل السليقة أحيانا في غير الكلام فيقال (الكرم سليقته والسخاء خليقته). أما إذا قالوا فلان سليقي بياء النسبة فلا يراد منه حين إذ إلا معنى نسبته إلى السليقة الكلامية وحدها، ويقال كلام سليقي. ويزداد معنى إرادة الكلام في لفظ (السليقة) إذا ألحقت بها ياء المصدرية. حتى إذا قالوا السليقية سجية فلان لم يعد يفهم منها إلا الطبع اللغوي الذي نشا عليه فلان في بيئته: قال الأزهري فإذا قرا البدوي بطبعه ولغته ولم يتبع سنة قراء الأمصار قيل هو يقرا بالسليقية أي بطبيعته وليس بتعليم. وفي حديث أبي الأسود الدؤلي أنه وضع علم النحو حين اضطرب كلام العرب وغلبت السليقية: قال صاحب اللسان في تفسير هذه السليقية إنها اللغة التي يسترسل فيها المتكلم على سليقته أي سجيته وطبيعته من غير تعمد إعراب ولا تجنب لحن.
ومن هنا نستنتج أن السليقية ما دامت لغة البيئة أي اللغة التي يسترسل فيها كل متكلم بطبعه - كانت السليقية ضربين (سليقية فصاحة) (وسليقية بذلة) وهي السليقية العامة. وإنما اخترت كلمة (البذلة) مشايعة للزمخشري فإنه استعملها في عبارة له كما سيأتي.
فسليقية الفصاحة أو السليقية الفصحى هي اللغة التي غلبت على لسان المتكلم باللغة البدوية: كالأعراب الذين ملكت الفصاحة ألسنتهم فلم يتطرق إليها الفساد: فهم لا يتكلمون بها إلا معربة واضحة المقاطع ومن دون أن يتكفلون الأعراب أو تجنب اللحن. واشهر شاهد على هذا الضرب من السليقية أعني السليقية الفصحى قول شاعر البادية
(ولست بنحوي يلوك لسانه ... ولكن سليقي أقول فأعرب)
والضرب الثاني من السليقية ما سميته (سليقية البذلة) وهي سليقية العربي العامي في لهجة التي غلبت على أهل مصر بعد انتشار الإسلام وقد مرت الإشارة إليها في حديث أبي الأسود مذ قالوا أنه وضع علم النحو (حين اضطرب الكلام. وغلبت السيلقية)(1022/25)
فالعربي العامي كالعربي البدوي: غلبت على كل منهما لهجته أو لغته بحكم تأثير بيئته ونشأته: الأعرابي ترك نفسه على سجيتها فاسترسل في لغته الفصحى لا يلوي على شيء غير متكلف إعرابا ولا متجنب لحنا، والعربي العامي السليقي البذلة يترك نفسه هو أيضاً على سجيتها فيتكلم بلغة أمه ولهجة بيئته لا يتكلف إعرابا ولا يتجنب لحنا: البدوي يعرب بحكم السليقية. والعامي يلحن بحكم السليقية. فليس الشاعر أو الراجز البدوي سليقي بقول فيعرب وحده بل إن الزجال الشعبي سليقي أيضاً يقول فيلحن ولا يعرب بحكم السليقية. كلاهما سليقيان.
بقى أن نورد شاهدا على السليقية الثانية (سليقية البذلة) أي على أن العربي العامي إذا استرسل في لغته الملحونة صح أن يوصف بالسليقية وان يقال أنه سليقي.
عثرت على شاهد لطيف المغزى رقيق الحواشي أورده الزمخشري في كتابه (الفائق) تعليقا على مادة ظرف قال: ومن حديث معاوية رضى الله عنه أنه قال لجلسائه يوما: كيف ابن زياد فيكم: قال: ظريف على أنه يلحن. قال: أو ليس ذلك اظرف له اهـ.
قال الزمخشري: وإنما استظرف معاوية ابن زياد لأن السليقية وتجنب الأعراب مما يستملح في البذلة من الكلام قال: ومنه البيت المشهور:
(منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وأحلى الحديث ما كان لحنا)
فالزمخشري استعمل السليقية بمعنى استرسال الظريف في البذلة من الكلام. وليست البذلة من الكلام الواردة في عبارته إلا التبذل وعدم التصاون في تحري الفصيح المعرب. ومن هنا صح لنا استعمال سليقية البذلة في مقابل سليقية الفصاحة.
فإذا كان علماء اللغة قد خصوا البذلة والابتذال والمباذل في رث الثياب أو في لبس الممتهين منها فإن شيخنا الزمخشري قد استعمله في رث الكلام وعاميه والمبتذل منه.
على أنهم يقولون في فصيح اللغة (كلام مبتذل ومثل مبتذل) إذا كان كثير الاستعمال ملهوج الذكر. ولكن قولهم هذا لا يستدل منه على جواز وصف اللغة الملحونة بالابتذال. فالكلام المبتذل والمثل المبتذل إنما جاءهما وصف الابتذال من ناحية اللهج بهما وكثرة الاستعمال لهما حتى لو قالهما الحضري البليغ أو البدوي الفصيح سميا مبتذلين بمعنى إنهما متداولان لا أنهما عاميان ملحونان وفرق بينهما.(1022/26)
فالبذلة في الكلام بمعنى العامية الملحونة إنما استفدناها مباشرة من عبارة الزمخشري. وفوق ذلك كله فإن اللحن في البذلة السليقية إن أنكره بعضهم واستبشعه فإن الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما استحسنوه وأفتوا بجوازه بل نصح بعضهم بأن يستعمل الكلام الملحون في مخاطبة المرء لغيره وفي تحديثه جلسائه لا في ما عدا ذلك فقال (لا تستعملوا الإعراب في كلامكم إذا خاطبتم. ولا تحلو منه كتبكم إذا كتبتم) كأنه يقول أوصيكم أن تعربوا كتاباتكم وتلحنوا في محاوراتكم.
ولعل هذه الوصية في مراعاة الإعراب في الكتابة وتركه في المحاورة إنما استندت إلى ما وقع للفراء مع هارون الرشيد: ذلك أنه دخل عليه يوماً وتكلم بكلام لحن فيه مع جلالة قدره وعلو رتبته في النحو. فقال جعفر يا أمير المؤمنين إن الفراء قد لحن. فقال الرشيد أتلحن يا يحيى؟ (ويحيى اسم الفراء) فقال يا أمير المؤمنين إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن: فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع (أي في محاورة الناس) لحنت. فاستحسن الرشيد كلامه.
واعتذر صاحب صبح الأعشى للحانين في الكلام مؤيداً الوصية المذكورة فقال إن اللحن قد فشا في الناس. والألسنة قد تغيرت حتى صار التكلم بالإعراب عيباً. والنطق في الكلام الفصيح عيا. والذي يقتضيه حال الزمان الجري على منهاج الناس بأن يحافظ على الإعراب في القرآن والحديث والشعر والكلام المسجوع وما يدون من الكلام ويكتب من المراسلات ونحوها. ويقتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم يتداولونه بينهم ويتحاورون به في مخاطباتهم. وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام مذ فسدت الألسنة وتغيرت اللغة. انتهى كلام القلقشندي وهذه المسألة أي مسألة استباحة اللحن والإخلال بالإعراب في لغة المحاورة موضع نزاع كبير بين فضلاء العصر ولا سيما أساتذة المدارس والمشتغلين بتعليم النشء.
وينبغي أن يزاد على المواطن التي عددها القلقشندي وحظر اللحن فيها من مثل المدونات والمراسلات - يزاد كلام المدرسين والمعلمين في قاعات الدروس حيث يبسطون محاضراتهم تحت أسماع الطلاب. فلا يجوز بحال اللحن فيها، ولا الإخلال في الإعراب في ألفاظها ومبانيها: فإن الناشئين في ليونة ألسنتهم وحساسية أدمغتهم قابلون للانطباعات(1022/27)
والتأثيرات، فإذا سمعوا الكلام الملحون المرة بعد المرة يوشك أن تفسد ملكاتهم وتستعجم لهجتم.
ويتصل ببحث استظراف السليقية في الكلام الملحون بحث آخر فيه طرافة وله علاقة ببحث اللهجات وهو: هل يجوز للكاتب أو المحدث أن ينقل الكلام الملحون بنصه من دون تغيير؟ والجواب عن هذا يعلم مما مر بالضرورة. أليسوا قد أجازوا التكلم بالملحون فلأن يبيحوا نقله أو روايته بالطريق الأولى. على أن أساطين الأدب العربي صرحوا بالترخص فيه بل بترك الكلام الملحون على اعوجاجه وقبيح أغلاطه.
قال الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) ومتى سمعت حفظك الله نادرة من كلام الأعراب (وقد عنى بهم أرباب السليقية الفصحى) فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها. فإنك إن غيرتها بأن لحنت في إعرابها أو أخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير وإن سمعت نادرة من نوادر العوام (وقد عنى بهم أصحاب السليقية العامية) أو ملحة من ملحهم فإياك أن تستعمل لها الإعراب أو تتخير لها لفظاً حسناً فإنك إن فعلت أفسدت الإمتاع بها وأخرجتها من صورتها التي وضعت لها وأذهبت استطابة السامعين إياها. فالجاحظ يرى أن رواية الأقوال الملحونة والنوادر الملتوية اللهجة يستطيبها الجلساء ويلذون بسمعها وخاصة إذا كان اللحن (من الجواري الظراف والكواعب النواهد والشواب الملاح) فإن ذلك يستملح في كلامهن ما لم تكن الواحدة منهن صاحبة تكلف فإن المتكلمة للكلام الملحون تسمج ويتجافى عنها ويكثر هذا اللحن المستملح في الأعجميات من النساء كالروميات والأرمنيات.
أعجب ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر
والسوءة السواء في ذكر القمر
وما قولكم في أبي اسحق بن سيار النظام فإنه كان يلحن في كلامه ويروي عنه صديقه الجاحظ كلامه الملحون ويعتذر عنه بل يسوغ له عمله: فقد روى في كتابه الحيوان (جزء 1ص136) أنه خرج مع النظام ليلة في بعض طرقات الأبلة فألح على النظام كلب من شكل كلاب الرعاة فثبت له ولم يجزع وأقبل على الجاحظ يحدثه عن نفسه ويعدد خصاله إلى أن قال ما نصه: إن كنت سبع فاذهب مع السباع. إلى آخر حديثه؛ فعلق الجاحظ على(1022/28)
هذا بقوله: لا تنكر (أيها القارئ) على حكايتي عن النظام بقول ملحون مذ قلت (إن كنت سبع) ولم (أقل إن كنت سبعاً).
ثم علل ذلك بقوله إن الإعراب يفسد نوادر المولدين كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب لأن سامع النوادر إنما أعجبته تلك الصورة وذلك المخرج وتلك اللغة، فإذا أدخلت على هذا الأمر الذي إنما أضحك سخفه وعجمته حروف الأعراب والتخفيف والتثقيل وحولته إلى صورة ألفاظ الأعراب الفصحاء وأهل المروءة والنجابة - إذا فعلت ذلك انقلب المعنى مع انقلاب نظمه وتبدلت صورته.
ثم قال الجاحظ في مكان آخر: ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء فالسخيف للسخيف والخفيف للخفيف: فإن كان موضع الحديث على أنه مضحك ومله وداخل في باب المزاح والتفكيه فاستعملت فيه الإعراب انقلب عن جهته وإن كان في لفظه سخف فأبدلت السخافة بالجزالة صار الحديث الذي وضع على أن يسر النفوس يكربها ويأخذ بأكظامها.
ثم قفى الجاحظ على رأيه هذا بهذه العبارة الجريئة فقال: (وبعض الناس إذا انتهى إلى ذكر كذا وكذا وعدد الجاحظ ألفاظاً يستحي من ذكرها) ارتدع وأظهر التعزز واستعمل باب التورع. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم والنبل والوقار إلا بقدر هذا الشكل من التصنع. ولم يكشف قط صاحب رياء ونفاق إلا عن لؤم مستعمل ونذالة متمكنة انتهى.
أقول قد غلا الجاحظ في تهوين أمر كلمات الرفث والبذاء على الناس؛ وأرى أن استدرك عليه بما استدركه ابن قتيبة على نفسه وقد حام على ما قاله الجاحظ فقال: ولم أترسل لك بإرسال اللسان بالرفث على أن تجعله هجيراك على كل حال، وديدنك في كل مقال. بل الترخص مني فيه عند حكاية تحكيها أو رواية ترويها تنقصها الكناية ويذهب بحلاوتها التعريض وأحببت لك أن تجري في القليل من هذا على عادة السلف الصالح في إرسال النفس على السجية والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع ولا تستشعر أن القوم (يعني السلف الذين ترخصوا بذكر الرفث) قارفوا وتنزهت، وثلموا أديانهم وثورعت اهـ.
ثم انتقل ابن قتيبة في كتابه (عيون الأخبار) من رواية كلمات الرفث والترخيص بها بقدر(1022/29)
معلوم إلى رواية الكلام الملحون من نوادر وملح، وهو موضوعنا الذي كنا فيه مع الجاحظ فقال: وكذلك اللحن في الإعراب إن مر بك في حديث من النوادر التي نرويها لك: لأن الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه وشاطر النادرة حلاوتها قال: وسأمثل لك مثالاً: قيل لمزيد (وهو رجل صاحب نوادر) وقد أكل طعاماً كظه (أي ثقل على معدته) قي. فقال ما أقي؟ أقي! نقي! ولحم جدي: مرتي طالق، لو وجدت هذا قياً لأكلته. ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتها ولأستبشعها سامعها.
والمؤلفون في نقد الشعر كابن قدامة لم يغب عنهم حسن ما قاله الجاحظ وابن قتيبة: فهم على شدة تنطعهم في نقد الأقوال وتمييز زيوفها أجادوا رواية الملحون، وحكاية السخيف من النوادر: قال ابن قدامة في كتابه نقد الشعر (وللفظ السخيف موضع آخر لا يجوز فيه غيره وهو حكاية النوادر والمضاحك وألفاظ السخفاء والسفهاء فإنه متى حكاها الإنسان بغير ما قالوا خرجت عن معنى ما أريد بها وبردت عند مستمعها اهـ.
هذه هي كلمتي في السليقية بنوعيها: السليقية في القول الفصيح، والسليقية في البذلة من الكلام. والسليقية الثانية هي سليقيتنا نحن أبناء هذا العصر فقد ملكت علينا ألسنتنا كما ملكت لسان الفراء في عصر الرشيد حتى أصبحنا غير قادرين على التفلت من أوهاقها إلا بتكلف وتلكؤ شديدين. وذلك يكون منا إذا رأينا أنفسنا مضطرين إلى إفهام غيرنا ممن لا يفهم لهجتنا ولا ما يحكى بها: كما إذا حاورنا أبناء المغرب الأقصى أو حاورونا، فإن لهجاتنا المختلفة تحول بيننا وبين الاستمتاع بحديثهم فنضطر إذ ذاك إلى ترك سليقية البذلة واللجوء في التفاهم إلى السليقية الفصحى وهي لغة القرآن وما أبركها لغة.
وأكثر ما تتحقق هذه الضرورة أي ضرورة الالتجاء إلى لغة القرآن حينما نجتمع بإخواننا المسلمين الأعاجم الذين أصابوا ولو قليلاً من الثقافة القرآنية أو الثقافة العربية: فإنه لا ينفس الكرب عنا وعنهم ويجعلنا ننعم بالحديث معهم إلا لغة القرآن. ويظهر أن وسائل النشر والإذاعة والآلات والمواصلات وفرت دواعي الاجتماع والتلاقي بيننا وبينهم في البعثات والمؤتمرات.
كل ذلك يمهد الطريق أمام استعمال اللغة الفصحى بيننا فتقوى فينا ملكة التكلم بها من حيث تضعف في نفوسنا إلى حد محدود سليقية البذلة العامية.(1022/30)
وإنما قلت إلى حد محدود: لأنه ما دام هناك اختلاف وتباين في عقول أبناء الأمة الواحدة وقابلياتهم ومعارفهم وتفاوت في ملكاتهم وتربيتهم وثقافاتهم فلابد أن تبقى فيهم لهجة عامية عائشة بجانب اللغة الفصحى.
على أن اللغة الفصحى مع الأسف مهما انتشرت وقام لها سوق فيما بيننا سوف تبقى عاطلة من حليتها، مجردة من حركات إعرابها كما هي حالة لغة أهل (عكاء) في اليمن على ما حكاه الشيخ عبد الرحمن الكواكبي للشيخ أحمد الإسكندري. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
عبد القادر المغربي(1022/31)
2 - كوليرج
للكاتب الناقد. أي. تي. كيلر كوج
بقلم الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
وفي حزيران (يونيو) من سنة 1794 زار كوليرج صديقه أرلن في أكسفورد وتعرف هنالك بالشاعر (روبرت ساوذي). وقد كان روبرت هذا شاباً نارياً متحمساً فيه ميل شديد ونزعة قوية لاحتضان المبادئ العنيفة ومن هذه المبادئ نشأت فكرة (البانتيسو كراسية) بتأييد من أصدقاء ساوذي ومساعدة من كوليرج. ويلخص كامبل هذه الفكرة فيما يلي: (اتفق اثنا عشر رجلاً من المثقفين ثقافة جيدة وممن لهم أفكار حرة مع من يماثلهم من السيدات على الإبحار في نيسان من هذا العام واضعين نصب أعينهم منطقة بديعة من مناطق أمريكا، وكان المظنون من عمل كل هؤلاء الأشخاص لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً كان للقيام بأود (المستعمرة). أما المنتج فهو ملك مشاع، وكان المقرر أن تكون هنالك مكتبة عامرة، وأوقات فراغ ملائمة، لتخصيصها للدراسة والمناقشة وتربية الأطفال وفق خطة دقيقة معينة. كما أن واجب النساء كان يقتضي منهن التفرغ للاعتناء بالأطفال الرضع، والقيام بأشغال لائقة أخرى. على أن ذلك يجب ألا ينسيهن تثقيف أذهانهن وإنماء مواهبهن المتنوعة بالتتبع والدراسة والتفهم والممارسة في كل شأن من شئون الحياة العامة والخاصة). أما الأمور الأخرى التي لم تقرر في حينها فكان أهمها رباط الزوجية وهل في الإمكان فصمه برغبة أحد الطرفين أو برغبة كليهما وكان من حق كل شخص أن يتمتع بكل حقوقه الدينية والسياسية إذا لم يكن في ذلك اجتراء على الحقوق والقوانين المتفق عليها سابقاً) وقد حسبوا أن أي شخص يدفع (125) جنيهاً وله ما لهم من الآراء الحق في تنفيذ هذا المشروع). وبينما كانت (البانتيسو كراسية) في دور المخاض المؤلم، طافت فكرة طارئة في ذهن كوليرج فتركها هكذا وسار مشياً على قدميه في مقاطعة ويلز.
وفي اليوم الثالث عشر من (يوليو) وصل إلى (ريكسهام) وهنالك عثر على ماري إيفانز بينما كان يتمشى بالقرب من نافذة أحد الفنادق فلمحها وهي تهبط السلم إلى الشارع مع إحدى أخواتها. وقد علق على هذه المقابلة غير المتوقعة بقوله: (هجم على المرض فجأة وكاد الإغماء أن يوقع بي شر هزيمة، ولكنني تمالكت روعي وتمكنت من التراجع(1022/32)
بسرعة). ويظهر أن الأختين قد شاهدتاه (لأنهما سارتا أربع أو خمس مرات بجانب النافذة المطلة على الشارع كأن القلق كان يحز في قلبيهما). ولكن اللقاء لم يتحقق، وهو لو تحقق لأدى إلى المصالحة على أكبر احتمال.
فر كوليرج إلى (برستول) ولحق بصديقه ساوذي هناك مع عدد من البانتوكراسيين ومنهم كانت عائلة تدعى عائلة (فركر). وقد تزوج ساوذي (أديت فركر) بينما تزوج كوليرج (سارة فركر) كما يقع ذلك بصورة فجائية بنتيجة الصدمات التي تصيب العاطفة الهائجة (فتجعلها ترتمي في أحضان أية امرأة يضعها القدر في طريقها). يقول كامبل (إن الزواج لم يعقد في السماء وإنما قرر على الأرض وعلى يد ساوذي. إن السماء وحدها وليس أحباء كوليرج، هي التي تعرف ما كان يحدث لو أنه اقترن بدوروثي ورد زورث) ليس من حقنا أن نرجم بالغيب في مثل هذه الأشياء، وإن نحن حاولنا ذلك فلن نصيب إلا أنفسنا. أما إن التقاءه بها كان مؤخراً فهذا حق لا يماري فيه أحد، وكذلك كان الحال مع وليم ورد زورث أخيها. وبعد أن مكثت عائلة كوليرج أمداً قصيراً في (كيلفندن) وبرستول تخللتها سفرة قام بها كوليرج وزوجه لجمع الاشتراكات لمشروع جريدة باسم (المراقب) ارتحلت هذه العائلة مع وليدها إلى (نيذر ستاوي) في (سومرثت) لتكون بجوار توماس يوول، الصديق الوفي والخل المخلص. وإلى هنا قدم وردزورث مع أخته الجميلة في تموز عام1797، وقد لحق بهما بعدئذ تشارلي لامب وصل الجميع في ضيافة كوليرج (وقد خلدت هذه الزيارة في قصيدة (تحت ظلال شجرة الليمون) وبعد ذلك رجع تشارلي إلى لندن بعد مكوثه معهم لمدة قصيرة جداً، بينما أقام وردزورث وأخته في (الفوكسدن) على مقربة ثلاثة أميال من دار كوليرج، وذلك بسبب الرابطة السحرية التي ربطتهما بعنف وقوة بكل ما له علاقة بكوليرج. وأخيراً حدثت المعجزة. قد يكون من الحق أن نقول إن كوليرج لم يبلغ مبلغ الإعجاز فجأة، لأنه سبق له أن طبع مجلداً من الشعر طبعة ثانية بعد أن نفذت الطبعة الأولى؛ ولكن هذا المجلد لم ينبئ بما سيقع. أما وردزورث فكان يستوحي آلهة الشعر - إن جاز لنا أن نطلق كلمة (الوحي) على ناظم قصيدة (المجاورين) - ولكن العجب سيأخذ منا مأخذاً شديداً، لأننا سنجد هذا الناظم بالذات ينظم بعد حول فقط قصيدته العصماء (كنيسة تنيترن) فما كان غير محتمل وقع، وما كان أملا تحقق. وقد غدا الأخ والأخت والصديق(1022/33)
روحاً واحداً، كما شهد بذلك كوليرج نفسه. وفي وسط روح المحبة والأخوة وتحت تأثير دوروثي بصورة خاصة، التي كانت وحدها صامتة هادئة، وقانعة بالتشجيع والنقد والإعجاب والإرشاد، أقول: في وسط هذا الجو السحري الرائع وجد كوليرج وورد زورث نفسيهما شاعرين مفردين بنغمات جديدة في فجر جديد. وفي الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر من اليوم الثالث عشر من تشرين الثاني شرع الأصدقاء الثلاثة يسيرون مشياً إلى (وجيت) في طريقهم إلى الريف في (اكسومر) وذلك لأداء ما بذمتهم من نفقات بواسطة بيع قصيدة، عزم الاثنان على نظمها في الطريق!. وقبل انقضاء ثمانية أميال من سفرتهم هذه، فشلت خطة النظم المشترك، وأخذ كوليرج على عاتقه نظم القصيدة بمفرده، واستمر العمل في ذلك حتى شهر آذار التالي. تقول دوروثي معلقة على ذلك: (إنه في الثالث والعشرين من ذلك الشهر تناول كوليرج طعامه معنا، وكان في جعبته قصيدته (النوتي القديم) كاملة تامة.
وكان الليل بديعاً والقمر بازغاً، وكنا نشعر كأن النجوم والكواكب متحلية بزينتها احتفالاً منها بمولد الكوكب الجديد). ومن الحق أن نقول إن قصيدة (النوتي القديم) تضطرنا إلى التأمل والتفكير في أحقية ما كان يدعو إليه رجال العصور الوسيطة من أن هناك انسجاماً بين الشعر والسحر، وأن (فرجيل) كان ساحراً. وكما قلنا قبل الآن يمكننا أن نفهم بمجهود يسير أن أغاني باولز - على ما هي عليه من شحوب ووهن وذبول - كانت تعني في عام 1790غير ما تعنيه الآن. ولكن يمكن أن نتجاهل ظروف ولادتها ووقت بزوغها وما يتعلق بها من نظريات، كما يمكن أن نتجاهل ورد زورث ومقدماته وما كان بينه وبين كوليرج من مشادات ومنازعات. إلا أننا مع ذلك وحتى بعد مرور مائة سنة، مجبرون على الاعتراف بأن قصيدة (النوتي القديم) هي تجربة الفن الكبرى، والكوكب الذي اصطاده كوليرج وجلبه بيديه إلى (الفوكسدن) وأراه لدوروثي ووليم ورد زورث. لأنه ليس في مجال الشعر الإنجليزي بأجمعه - وحتى لدى شكسبير - ما يجاري في عبقرية لغتنا الغنائية تلك النغمات العلوية التي أنشدها كوليرج في هذه القصيدة. . فموسيقاها جذابة سهلة، جميلة في تصويرها وخيالها وإيقاعها، وكلماتها تجري مجرى السلسبيل العذب في رقتها وخفتها ولطافتها. وقد تضم القصيدة بعض الكلمات الضخمة الثقيلة إلا أنها تقوم(1022/34)
بدورها وتمضي بيسر وجمال وبراعة؛ فشكسبير - على علو كعبه وسمو منزلته - لم يتمكن من الإتيان بما أتى به كوليرج في هذه القصيدة اللهم إلا بعض النتف المتناثرة هنا وهناك. . . إن في هذه القصيدة لحن الملائكة وصوتهم العذب المرتل، وكأنهم في إنشادهم هذا جوقة سماوية تغني ما يحلو لها من الأنغام الدينية أمام بوابة الفردوس في غبش الفجر.
وعلى الرغم من أن النقاد يعترفون بسحر هذه القصيدة وقوة تأثيرها وجمالها الفني، إلا أنهم مع ذلك يسفهون هذا الاعتراف، وذلك لأنهم يصرون على التساؤل عن السبب الذي منع كوليرج من عدم اتباعها بقصائد مماثلة أو أن يكتب شيئاً يضارعها.
وأخيراً لوى كوليرج رقبة إرادته النحيلة بتأثير الأفيون واشتد كابوس العادة عليه، فأصبح - كما قال هازلت - رجلاً يقدر على كل شيء إلا ما يمثل واجبا من الواجبات! وقد تمكن مرة أو مرتين في (كرستابل) و (قبلاي خان) أن يكتشف أجواء مقدسة، ولكن إرادته لم تقو على الاستمرار في التحليق في مثل هذه الأجواء، فإنتهت قصته كشاعر في محاولات متكررة غير مجدية لإتمام (كرستابل). وكل هذا حق صراح، أو على الأقل يمكن أن يكون مقنعاً لي شخص يحاول أن يستعرض مسألة شذوذ كوليرج.
البقية في العدد القادم
يوسف عبد المسيح ثروت(1022/35)
العروبة رابطة وهدف
للأستاذ عيسى الناعوري
في العدد (1019) من هذه المجلة الغراء كتب الأستاذ علي الطنطاوي افتتاحية بعنوان (العربية والإسلامية) حمل فيها على فكرة العروبة وصلاحيتها لعالمنا العربي. ولسنا نشك أن الشيخ كان مخلصا في دعوته، وأنه كان يدافع عن عقيدة يعتقدها ويتعصب لها. ونحن نعذره لذلك، ونرجو أن يلتمس هو أيضاً لنا العذر إذا جئنا نخالفه فيما يراه، ونسوق الأدلة التي تدفع ما أورده من حجج كان يعتقد أنها تستقيم بين يديه، وهي في الواقع أبعد ما تكون عن الاستقامة. وما دام الإخلاص للمبدأ وللحقيقة هو رائد الشيخ ورائدنا فمن السهل أن نتفاهم ونصل إلى نتيجة يكون بها صلاح عالمنا العربي وبلادنا العربية.
لقد وقف الأستاذ في مقاله بين عاملين: أن ينظر إلى المليونين من العرب غير المسلمين الذين يعيشون في البلاد العربية ويشاركون المسلمين في قوميتهم، أو إلى الملايين الثلاثمائة من المسلمين غير العرب الذين يشاركونهم في عقيدتهم الإسلامية، والذين يظهر لنا أن ضخامة الرقم الأخير قد هالت الشيخ، فرأى أن المركز العرب - أو مركز الكتلة التي فيها العرب - يقوى بهذا العدد الهائل أكثر مما يقوى بالمليونين وحدهم. ولهذا بنى دعوته على هدم فكرة الوحدة العربية، وإقامة الوحدة الشرقية على أساس العاطفة الدينية وحدها.
ثم كان من الأمور التي اعتقد الشيخ أنه قد أصاب بها المرمى وهو يحاول هدم الرأي القائل بوجود (إرادة مشتركة) بين أفراد الأمة العربية، أنه تسائل قائلا: (إذا قرأت أنا وعربي جبل لبنان الماروني في تاريخ الغزوات الصليبية، فهل يكون أثر هذا التاريخ مثل أثره في نفسه؟) بهاتين الملاحظتين تتلخص أقوى حجج الشيخ وفي مقاله الطويل ذي الصفحات الست، ولسنا نجد في بقية المقال ما يستوجب الاسترسال إلى الاقتباس أو النقاش. فليسمح لنا بأن نقف عند هذا الحد لنجيب أولا عن سؤاله، ثم نبين له ما حاول أن يتناساه من وقائع التاريخ البعيدة والقريبة معا في نظرته الأولى.
أنا لست مارونياً من جبل لبنان، ولكنني مسيحي كموارنة لبنان وعربي في حقيقتي وشعوري. وأستطيع أن أجيب عن سؤال الشيخ صادقاً مخلصاً أنني لست أقل منه نقمة وسخطاً على الحروب الصليبية - بداية الاستعمار الغربي للشرق - وعلى الذين شبوها(1022/36)
تحت ستار من الدين. ولست أقل منه سخطاً على الدين نفسه - كل دين - إن كان من مبادئه أن يحل القتل والدمار في سبيل السلطان والمنافع الدنيوية. ولست أيضاً أقل منه سخطاً ونقمة على الغربيين المستعمرين ومظالمهم المجرمة في بلادي. ولا ينس الشيخ أنني اشترك مع هؤلاء المستعمرين اليوم، ومع أجدادهم الصليبيين بالأمس، بالعقيدة الدينية، ولكنني أحتقرهم وأنقم عليهم بدافع من شعوري العربي القومي الذي أذلوه ولا زالوا يمعنون في إذلاله.
وهذا الذي أقوله هو كل ما يقوله مسيحي عربي واع. وأظن الشيخ يوافقني في أن قياس الحكم في مثل هذه الأمور هو الإنسان المثقف الواعي وليس السواد الأعمى. ولهذا أرجو أن يكون هذا الجواب كافياً لإزالة ما بنفس الشيخ من هذه الناحية.
أما أن الثلاثمائة مليون من المسلمين غير العرب أحق أن يؤلفوا مع العرب وحدة كبرى، فإنني أخالف الشيخ فيه كل المخالفة. ولست أظن الشيخ قد نسى (الشعوبية) - وهي لعنة أقدم وأدهى من الصليبية - وما جرته على الأمة العربية من خراب وذل، مما لا يزال يرويه التاريخ بكثير من الخجل والمرارة. والشيخ لا يجهل أن الشعوبيين هم من الجماعات غير العربية التي أفسح لها الإسلام من رحابه كرماً، ووسع لها في كنفه تسامحاً، ولكن إسلامها لم يمنعها من النقمة على العروبة - والعروبة منشأ الإسلام ومنبته الأول - فكانت هي أول العوامل على تقويض سلطان العروبة والإسلام.
ولست أرى في موقف الشعوبيين ذلك ما يستحق المؤاخذة على الإطلاق، فقد كانوا برغم وحدة العقيدة الدينية يشعرون بأن العرب أمة فاتحة، احتلت بلادهم، وجبيت إليها أموالهم، وتسلطت على ممالكهم تسلط الفاتحين، وعاملتهم في عهد الأمويين معاملة الخدم والموالي، فكانوا لذلك ينظرون إلى هذه الأمة الفاتحة - أو المستعمرة بلغة اليوم - بشعورهم القومي العدائي الحذر، تماماً كما ننظر اليوم إلى المستعمرين الغربيين بشعور الكراهية والعداء القومي.
والذي حدث في الماضي لدينا منه نماذج في حاضرنا المشهود - وهو فيما نرى شيء طبيعي جداً في مفهوم القوميات. - فهذه تركيا. . . جارتنا المسلمة - ترى أي رابطة يمكن أن تقوم بينها وبين سوريا - بلد الشيخ الطنطاوي العربية المسلمة؟ - ألم تقطع من قلب(1022/37)
سوريا جزءاً عزيزاً غالياً هو لواء الإسكندرونة الذي لا يزال كل سوري يحلم باستعادته؟ وتركيا بهذا قد كسبت لنفسها نصراً قومياً على حساب خسارة العرب القومية.
ألم تنكر تركيا لشعورها الديني نفسه ولشعور العالم الإسلامي كله، في عهد قريب جداً، وتحارب اللغة العربية رغبة في تنمية شعورها القومي، وصيانة سيادتها القومية الكاملة؟ ثم ألم تتنكر تركيا المسلمة نفسها في عهدها الحاضر لكل ما أجمعت عليه جاراتها العربيات المسلمات من محاربة إسرائيل - عدوة العرب وحدهم، لا المسلمين كلهم - ومقاطعتها ومحاصرتها وعدم الاعتراف بها؟ وهل يذكر الشيخ لتركيا موقفاً جدياً واحداً في تأييد أماني البلاد العربية معاضدة قضية من قضاياها؟
ويشهد الله أنني لا ألوم تركيا في شيء من هذا، فهي تعرف مصالحها السياسية والقومية، وتعمل ما يناسبها بوحي من هذه المصالح وحدها، ولكنني أسوق هذه الأمثلة والحجج لأثبت للشيخ أن الدين وحده ليس بالرابطة التي تصلح لبناء وحدة الأمة، فلعله يؤمن معي بأن (الإدارة المشتركة) موجودة بين أبناء العروبة أتم وجود، بينما هي بين الشعوب الإسلامية، كما هي بين الشعوب المسيحية والوثنية واللادينية أيضا، إذا أمكن وجودها إلى حين، فلا يمكن وجودها إلى الأبد، ولا إلى وقت طويل، لأنها روابط مصلحية وقتية لا شعور طبيعي.
لست أنكر أن المسلم العربي يشترك مع المسلم غير العربي في الشعور الديني، كما يشترك المسيحي العربي مع الإنكليزي أو الفرنسي أو الأمريكي مثلا بهذا الشعور الديني، ولكن هنالك حقيقة كبرى لا يجوز أن نتجاهلها وهي أن المصالح القومية لن تتقيد في يوم من الأيام بالشعور الديني وحده، فالمسيحي العربي ينظر للمستعمرين الغربيين. . . وهم من دينه. . . نظرته إلى أعداء بغيضين، يتمنا أن تتيح له الأيام فرصة الثأر منهم لكرامته القومية المهانة. وقد اثبت بالفعل في كل مناسبة شدة عدائه لهم، وفلسطين اقرب شاهد على هذا.
إنني مع الأستاذ الطنطاوي في أن الأمة العربية لم يوحدها ولم يكتب لها تاريخ سوى الإسلام، وأنا أعتز مع الأستاذ كل الاعتزاز للإسلام وبهذا المجد الذي كتبه الإسلام للأمة العربية. فالإسلام مصدر فخر واعتزاز قومي لكل عربي ولكن (العروبة) التي خرج منها(1022/38)
الإسلام لن تكن قط مصدر فخر واعتزاز لكل مسلم غير عربي. وإذا كانت بعض الشعوب الإسلامية تشارك البلاد العربية في شعورها وأمانيها في بعض المناسبات، فليس معنى هذا أنها ترغب مخلصة بربط حياتها ومصالحها السياسية والاقتصادية معها برباط واحد وإلى أمد طويل، ولكن مصالحها الحالية وكلها شعوب يعيث فيها النفوذ الأجنبي المجرم، تدفعها إلى أن تقوي مركزها بأي وسيلة ممكنة، وبالتعاطف بينها وبين أي كتلة من الشعوب الأخرى، القريبة منها والبعيدة التي تشترك معها لأجل الحرية، تماما كما فعلت فرنسا وبريطانيا في الحربين العالميتين الأخيرتين وإلى الآن، على الرغم مما يتذكره كل بريطاني وكل فرنسي في تاريخ الأمتين من حروب وعداوات طويلة الأمد.
أفلا يؤمن معي الأستاذ الطنطاوي إذن بأن الأقرب إلى العقل والمنطق السليم هو أن تقوم (الأمة العربية) على وحدة الشعور، والتاريخ، واللغة، والتقاليد، قبل أن تقوم على رابطة الدين وحدها.
وهذا لا يمنع من أن ترتبط الأمة الواحدة ذات الإرادة المشتركة الواحدة، والتاريخ الواحد، واللغة الواحدة، والتقاليد الواحدة، برباطات التكتل الدولي والصداقة مع سائر الشعوب التي تجمعها بها دوافعه الكفاح للتحرر من سلطان المستعمرين - سواء أشاركتها في الدين أم خالفتها فيه - لأن هذا يدخل في باب (المصلحة الوطنية) لا الشعور القومي المشترك، وهو يقوي من مركزها في كفاحها ضد الظلم.
بعد هذا أود أن يعلم الشيخ إنني لست أدافع عن عقيدة حزب معين فلست من المنتمين إلى الحزب الذي يقول حضرته بلهجة الاحتقار أنه (قد ألفه في عهد الفرنسيين أحد شباب النصارى) - وهو يقصد حزب البعث العربي ومؤسسه ميشيل عفلق - ولكنني واحد من الذين يتعصبون للعروبة عن عقيدة واقتناع ويؤمنون بأنها الوسيلة الوحيدة لوحدة الأمة العربية، ولإقامة تاريخ جديد على أسس من المنعة والرفعة والكرامة، لهذه الأمة العربية التي أشترك أنا والشيخ في الانتساب إليها والاعتزاز بها، برغم اختلافنا في الدين، هذا الاختلاف الذي جاءنا بحكم الولادة والأسرة، وليس للشيخ ولا لي أي فضيلة أو يد في اختياره.
عيسى الناعوري(1022/39)
شعر مختار
. . . وبقيت وحدي
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
كان الضياء السمح يمرح بين أغصان النخيل
وأنا أسير مرنح الأشواق من خمر الأصيل
متلفعاً بالنور آونة، وبالظل الظليل. . .
وكما أتى، ذهب الأصيل، كأنه نغم جميل
فتسلق النور الذرى مترقباً وقت الرحيل
حتى إذا وفد المغيب طواه في صمت جليل
فمضيت لا أدري لأية غاية، ولأي قصد!
فلقد مضى عني الأصيل بنوره. . وبقيت وحدي
وأتى المساء، وهللت روحي لأسرار المساء
ومضت تهيم، وملؤها ظمأ إلى نبع الخفاء
مسحورة بالصمت يرسل لحنه ناي الفضاء
مسحورة بالغيب يدعوها ويمعن في الدعاء
حتى إذا انتفضت وكاد السر يدركه الرجاء
ذهب المساء كأنما ارتفعت به أيدي السماء
فمضيت لا أدري لأية غاية، ولأي قصد!
فلقد مضى عني المساء بسره. . وبقيت وحدي
ولكم بدا ما أرتجيه، وكم توارى بالحجاب
ولكم أتى ما أشتهيه، وآب مبكي الإياب
حتى الذين نسيت عند لقائهم ذكرى عذابي
صحبي، ولم أعرف أعز من الحياة سوى الصحاب
ذهبوا كما ذهبت أماني النفس في فجر الشباب
وبقيت أحيا بعدهم مثل المحير في الضباب(1022/41)
أمضي لا أدري لأية غاية، ولأي قصد؟
فلقد مضى عني الصحاب كما أتوا وبقيت وحدي!
حتى التي غنى بها قلبي، فغناها الوجود
ومنحتها ما تشتهي من الحياة، وما تريد
نسيت غرامي، حين طاف بقلبها حب جديد
يا هذه: كيف استباح الحب أفاق طريد؟
وعلام أجني الشوك في حبي، ومن غرس الورود؟
وعلام أذهب في الحياة كأنني نغم شريد؟
أمضي ولا أدري لأية غاية، ولأي قصد؟
فلقد مضى عني الحبيب بحبه. . . وبقيت وحدي
وأرى الشباب، ربيع أيامي، يقارب أن يضيع
فتموت في قلبي الحياة، وقد خبا وهج الربيع
وأحس عمري زهرة جفت على أيدي الصقيع
فأظل مطوي الضلوع على أسى يفري الضلوع
أتذكر العهد الذي ولى وليس له رجوع
وأعيش. . وفي روحي كآبات، وفي قلبي دموع
أمضي ولا أدري لأية غاية، ولأي قصد؟
فلقد مضى عني الشباب بدفئه. . وبقيت وحدي!
يا ويح قلبي، حين يقبل في غد شبح الفناء
وأنا المعذب في الحياة، أظل أرغب في البقاء!
لكن إذا نزل القضاء، فلا مفر من القضاء
هذا أنا. . . نعش يسير مشيعاً بالأصدقاء
هذا أنا. . . جدث تمر عليه أقدام العراء
هذا أنا. . . جسد يعود إلى الثرى، من حيث جاء
هذا مصيري! بل مصير الناس من قبلي ومن بعدي!(1022/42)
فعلام أجزع إن تخطفني الردى، وبقيت وحدي؟
إبراهيم محمد نجا
إليهم. . .
(إلى أخوتي المهاجرين زفراتي وأناتي)
للأستاذ هارون هاشم رشيد
ومهاجرين معفرين على دروب التيه هاموا
يمشون والأقدار كابية فما فيها ابتسام
أقواتهم ماذا؟ وكيف؟ فليس عندهمو طعام
هم هؤلاء بقية الشعب الذي عرف الأنام
ذاك الذي بالأمس أشعلها فشب لها ضرام
شعواء دامية يردد رجعها الجيش اللهام
قال السلام وكيف يبلغها على يده السلام
والذئب يفتك بالقطيع إذا تولاه الظلام
هذي الخيام، ألا ترى ضاقت بمن فيها الخيام
لا. لا يروعك السقام فلن يحطمها السقام
لا. لن يضير عقيدة من أجلها صلوا وصاموا
غرة
هارون هاشم رشيد(1022/43)
من هنا وهناك
رأي كاتب أمريكي في أدب الولايات المتحدة
قال الكاتب الأمريكي (بن لوسيان بورمان) ما ملخصه: رصدت الأدب في الولايات المتحدة منذ 1920فوجدته ينمو ولكن إلى ضعف، ويتقدم ولكن إلى هاوية. فالسخف والسطحية والفجاجة والدعاية والمسخ حلت محل الفن والعمق والجمال والجودة. ومن النادر الأندر أن تجد قطعة فنية ترضي ذوقك وعقلك. فإن القصصي الحق يجب أن يجمع بين المخبر البارع والشاعر المصور، ولكنا لا نجد في الكثير الأغلب إلا نثراً سخيف الأسلوب ومخبراً ضعيف الملاحظة. والقصة الجيدة يجب أن تكون سمفونية؛ ولكنا لا نسمع اليوم إلا لحن (البوجي يوجي). والقارئ العابر إذا لم يجد الخيال الذي يعكس حياته، والقصص الذي يصور شعوره، انصرف إلى قصص البوليس أو إلى تراجم الأشخاص. ولعل هذا عرضاً من أعراض الشك الذي نعيش فيه من جراء هذه الحروب الثلاث التي تركت الناس بغير أمل ولا يقين. فمستوانا مبهم، وعقائدنا جامدة، وبلادنا (يريد أمريكا) سيطرت عليها البدع والهوايات. وأدبنا تقليعة من أقبح (التقاليع) لأنه لا يقوم على أساس فني متين. فهو يتجه اتجاهاً جنونياً إلى المسائل الجنسية والشؤون الحزبية، ويحرص على إنتاج الأسفار الكبيرة؛ وهذه الأسفار الكبيرة هي التي بلغت بالانحطاط الأدبي إلى مداه. واللوم كله واقع على الذين يكتبون لا على الذين ينشرون. والكتاب في أمريكا طوائف متنوعة كل طائفة تحمل نصيباً من المسئولية. فطائفة تتبع الكاتبة المسرحية المرحومة جرترود ستين بأمانة وإخلاص. وطائفة من صعاليك المجتمع الأدبي يظنون أن الدفاع عن قضية من القضايا يكفي لإنتاج عمل أدبي عظيم. ومع ذلك فإن الفن هو الفن، والدعاية هي الدعاية، ولا يستطيع أدب الصعاليك أن يكون أدباً بالمعنى الصحيح. وهناك طائفة ثالثة وهم الواقعيون الذين يلقون من أيديهم ريشة الفنان لقبضوا آلة التصوير، ناسين أن الشرط الأول لكل فن هو الانتخاب. وأنا كفنان أحتج على مبدأ: القبح للقبح.
إن د. هـ. لورنس كان عبقريا، وإن من قصصه ما بلغ حد الكمال. ولكن الذين يعالجون اليوم المسائل الجنسية كما عالج نسبة عملهم إلى عمله كنسبة مؤلف قصة بوليسية إلى أناطول فرانس مؤلف جريمة سلفستر بونار. وهناك الذين أدخلوا التحليل النفسي في القصة(1022/44)
فزادوا الطين بلة والأمر ارتباكاً، وشر من هؤلاء جميعاً أولئك الكلبيون من أعضاء جماعة النقاد بنيويورك الذين أقاموا أنفسهم بالادعاء والسفسطة أوصياء على الأدب فأشادوا بما لا ينبغي ونوهوا بمن لا يستحق. ولم يعلموا أن ملكة النقد آلة دقيقة حساسة إذا ضعفت بسوء الاستعمال فلا تغير ولا تجدد. ولعل أساس هذه البلية التي أصابت الذوق في الولايات المتحدة هو الثورة التي تمت بالتدريج في هذا الصدد؛ فإننا أحللنا محل الموضوعية الإنجليزية والفرنسية ذلك التأمل الباطني الغزير على الذهن الألماني والروسي.
فالأدب الأمريكي تكون تحت تأثير مؤلفين كديكنز وتكري وجالسورتي من الإنجليز، وميرميه ودوديه وموباسان من الفرنسيين؛ وهؤلاء الكتاب كانوا يرون الصفات الجوهرية في القصة هي الشمائل والجو والحبكة. وفي آخر الحرب العالمية الأولى استولت خيبة الأمل على الكتاب الأمريكيين فظهرت فيهم نماذج صغيرة من ترجنيف وتشيكوف. فالروح المرحية حين تنشأ عن الفهم العميق واللمس الرقيق الدفيق أصبحت في أمريكا محرمة كاللعنة. والخالقون الموضوعيون الذين جعلوا دستورهم الفن للفن لم يبق لهم وجود هنا. وهؤلاء الكتاب الكلبيون لم يعد في معاجمهم لفظ واحد للجمال ولا للفن. فنحن في حاجة إلى آلهة جدد، وغلى دين أبي جديد؛ لأن الدين الأدبي الحاضر دين الحقارة والفجاجة والضحول يحمل في طواياه الجراثيم التي ستدمره. إن الأديب بغير جمال لا يلبث أن يذوي ويموت.
آراء المعاصرين في فكتور هوجو
وجهت صحيفة الفنون الباريسية إلى بعض كبار الأدباء الفرنسيين أسئلة عن مدى تأثير هوجو في الكتاب المعاصرين. وقد دلت الأجوبة التي نشرتها هذه الصحيفة على زهو أصحابها وادعائهم. فبعضهم أصدر حكمه بلهجة تنم عن استخفافه بكبير شعراء فرنسا. والبعض الآخر لم يخرج في أجوبته عن حد النكتة. بيد أن اندريه بيرتون زعيم مذهب السريالي أجاب بصورة جدية فقال: إن أهم حركة وجدانية في الشعر تستمد قوتها من شعر هوجو، كما إن الحركات الإصلاحية التي قام بها (كانت) لا تزال القاعدة التي يسير عليها كبار الكتاب والشعراء. وفي رأيه أن كثير من شعر هوجو يعبر عن أهداف المذهب السريالي أصدق تعبير. ثم أردف قائلاً: (سئل مرة اندريه جيد من هو أعظم شاعر فرنسي؟(1022/45)
فأجاب: فكتور هوجو)
وكان جواب (بليه سندر) أن فكتور هوجو أقدر رائد عرفه الأدب.
لقد كان في أوائل هذا القرن بقية من أتباع الأدب الرمزي لا يتقبلون الشعر الإبتداعي ولا يطيقونه، منهم ريمي جورمون واندريه سواريه. فقد كانا يمقتان قوة هوجو البيانية، كما كان بجوي ورومان رولان يتزعمان طائفة من محبيها. وكان أناطول فرانس يبتسم كلما ذكرت أمامه منتجات هوجو المسرحية، ولكنه كان من أكبر ممجديه. وقال جان كوكتو في جوابه: إن هوجو مجنون بصورات فكتور هوجو. وعلى الرغم مما في هذا الجواب فإنه قال إن استحسان الأعمال الكبيرة أو استهجانها أمر من أسهل الأمور. ثم استطرد يقول: نحن ننظر إلى الأعمال الثانوية بكثير من التدقيق للوقوف على ما فيها من جيد أو رديء. أما أصحاب الأعمال العظيمة كشكسبير ودانتي وجوته وهوجو وأشباههم فإما أن نحبهم فنحول سيئاتهم حسنات، وأما أن نكرههم فنجعل حسناتهم سيئات.
ومن الطبيعي أن يوجد بين شبان اليوم من لم يقرأ هوجو، ولا يشعر بحاجة إلى هذه القراءة، لأنه يجد بين كتاب عصره من هو أقرب إليه وأقدر على وصف بيئته وحوادث حياته. أما أن يقول أديب مثل جول رومان، في جوابه عن السؤال الذي طرح عليه، إن هوجو كان كثير الإنشاد، وإنه لم يقرأه إلا في حداثته، فهذه حذلقة لا تطاق.
مع جول رومان
سأله محرر إحدى الصحف الأدبية الفرنسية هذه الأسئلة فأجابه هذه الأجوبة:
س: أي شيء يسبب لك الشقاء؟ ج: الحرب.
س: أين تحب الإقامة؟ ج: في منزلي.
س: ما هي السعادة التي تنشدها في حياتك؟
ج: أن أشتغل بسلام.
س: ما هي الهفوات التي تستحق عفوك؟
ج: فضول إحدى الصحفيات.
س: من هم أحب أبطال الروايات إليك؟
ج: أولئك الذين استطاعوا أن يؤثروا في.(1022/46)
س: ومن بطلات الحياة الواقعية؟
ج: تلك التي تقف حياتها على تربية بنيها.
س: من أحب رجال التاريخ لديك؟
ج: كلهم من أبغض الناس إلي.
س: ومن أحب بطلات الروايات إليك؟
ج: ثلاث أو أربع من نساء شكسبير.
س: ومن أحب الرسامين إليك؟
ج: نحو عشرين ولكن حسب اليوم والساعة.
س: ومن أحب الموسيقيين إليك؟
ج: جان سباسطيان بج.
س: ما هي الخلة التي تفضلها في الرجل؟
ج: سمو الخلق.
س: وفي المرأة؟ ج: الخلة نفسها.
س: وما أحب الفضائل إليك؟ ج: الإخلاص.
س: وأحب الأعمال؟ ج: الاختراع.
س: ماذا تود أن تكون! ج: هذا سؤال غريب.
س: ما هي أبرز مزاياك؟
ج: أرجو أن تسأل عنها خصومي.
س: ماذا يرضيك من أصدقائك؟ ج: الأمانة.
س: ما أظهر عيوبك؟
ج: أرجو أن تسأل عنها أصدقائي.
س: أي عمل تفضله على غيره؟
ج: ذاك الذي يثير حماستي ويسرني.
س: أي الألوان أحب إليك؟
ج: كلها مجتمعة، أو كل على حدة.(1022/47)
س: وأحب الأزاهير؟
ج: كلها، أو كل منها في فصله الخاص.
س: ومن أحب الكتاب إليك؟
ج: أولئك الذين ساعدوني على فهم العالم.
س: ومن أحب الشعراء إليك؟
ج: أولئك الذين لم أطلع على تاريخ حياتهم.
س: وأحب الأسماء إليك؟
ج: نصف أسماء التقويم العام.
س: وما أبغض الأشياء عندك؟ ج: البلاهة.
س: وما أهم الأعمال الحربية في نظرك؟ ج: فردان.
س: ماذا تريد أن تملك من مواهب الطبيعة؟
ج: تلك التي لا أملكها ولا أعلم ما هي.
س: كيف تشتهي أن تموت؟ ج: فجأة.
س: ما هي حالتك الروحية الحاضرة؟
ج: لا تسعها المجلدات.
توزيع السكان في الشرق الأوسط
ننشر فيما يلي جدولا بتوزيع السكان في الشرق الأوسط نقلا عن تقرير الأمم المتحدة عن الاقتصاد العالمي:
محمية عدن - المساحة 272 ألف كيلو متر مربع. السكان 650 ألفا. كثافة السكان 2 بالكيلومتر المربع.
أفغانستان - المساحة 650 ألف. السكان 12 مليونا. الكثافة 18.
المملكة العربية السعودية - المساحة 1546 ألف ك. السكان ستة ملايين. الكثافة 4.
قبرص - المساحة 9. السكان 476 ألفا. الكثافة 53.
مصر - المساحة 1000 ك. السكان 20 مليونا و45 ألفا. الكثافة 20.
العراق - المساحة 435. السكان أربعة ملايين و 800 ألفا. الكثافة 11.(1022/48)
إيران - المساحة 1630. السكان 18 مليونا و387 ألفا. الكثافة 11.
الأردن - المساحة 90. السكان 400 ألف. الكثافة 4 بدون اللاجئين.
قطر - المساحة 22، السكان 20 ألفا. الكثافة 1.
الكويت - المساحة 22، السكان 20 ألفا. الكثافة 8.
لبنان - المساحة 10، السكان مليون و238 ألفا. الكثافة 132 بدون اللاجئين.
عمان ومسقط - المساحة 212، والسكان 830 ألفا، الكثافة4.
عمان (تحت نظام المعاهدة) - المساحة 15، السكان 80 ألفا، الكثافة 5.
فلسطين العربية - المساحة 5، السكان 530 ألفا. الكثافة 106 بدون اللاجئين.
السودان المصري - المساحة مليونان و506، السكان سبعة ملايين و588 ألفا، الكثافة 3.
سورية - المساحة 187، السكان ثلاثة ملايين و435 ألفا، الكثافة 18 بدون اللاجئين.
تركيا - المساحة 767. السكان 19 مليونا و623 ألفا، الكثافة 26.
اليمن - المساحة 195، السكان أربعة ملايين و500 ألف، الكثافة 23.(1022/49)
مسرح وسينما
مسرحية (أم رتيبة)
تأليف: الأستاذ يوسف السباعي إخراج: فتوح بشاطي تمثيل:
الفرقة المصرية
للأستاذ علي متولي صلاح
الإنسان - منذ كان - يتقلب بين الفرح والترح، وتعتوره السراء والضراء، وللجد عنده - كما يقول الشاعر - أوقات وللهزل مثلها، وحياة موزعة بين هذين الأمرين، ولن يستقيم لإنسان - مهما كانت الظروف التي تشتمله وتحيط به - واحد منهما دون الآخر.
ولما كان المسرح - كما هو معلوم - صورة من الحياة وتعبيراً عنها وتفسيراً لها، تعطيه الحياة فيأخذ، وتمده بالصورة فيعبر، كان - هو الآخر - متقلبا بين الفرح والترح، والسراء والضراء. . . ومنذ الأزمان السحيقة كان إلى جانب (التراجيديات) الفاجعة (كوميديات) هازلة ضاحكة، وقد عرفها اليونان الأقدمون وكان لها فيهم شعراء أعلام ما زال المؤلفون ينهلون منهم حتى اليوم، مثل (أرستوفان)، (فيلامون)، (ميناندر).
وقد عرفت الكوميديات الهزلية في مصر منذ أمد ليس بالقصير، وكان لها مسارح خاصة، وممثلون يقومون بأدائها ولا يشاركون في أداء غيرها، وكتاب يكتبون لها ويكادون يقتصرون عليها.
وليس شيء أكثر ذهابا في الضلالة عندي من الرأي الذي ينادي بأن تقصر العناية على الجوانب الجادة في حياة الناس دون الجوانب الهازلة الضاحكة. إن ذلك خطر يجب أن يتنبه إليه المسئولون، فالسم أكثر ما يكون خفاء عندما يندس في العسل، والنفوس يستهويها النكتة وتأخذها الكلمة الضاحكة فتتسرب خلالها الحكمة والموعظة في لطف ويسر وخفاء لا يكون في الكلمات الجادة الصارمة! والمسرحية التي جعلناها موضوع حديثنا اليوم من المسرحيات الكوميدية التي تعرض على الناس هذه الأيام، وأعني بها المسرحية المسماة (أم رتيبة).
وهي تقوم على قصة أخوين: رجل وامرأة، أما الرجل فقد كان يشتغل مدرساً للخط العربي(1022/50)
ثم أحيل على المعاش، فاشتغل بتحضير (الأرواح) وانهمك فيه وجمع حوله بطانة من محبيه ومريديه يعقدون بين الفينة والفينة (جلسة) لتحضير الأرواح والتذاكر في أحوال الدنيا والآخرة، ولتبادل الآراء في فلسفة الحياة وما بعد الحياة. واسم هذا الرجل (عبد الصبور) وقد قطع حياته عازبا، وكان يرى أن الزواج هو سبب الشقاء والبلاء وسبب خراب البلاد والعباد!
وأما المرأة فهي (أم رتيبة) التي كان أخوها هذا عائقا دائما لها دون الزواج، فقد خطبها الكثيرون فأباهم أخوها ورفضهم جميعا لما كان يراه في أمر الزواج، فقطعت حياتها هي الأخرى عزبة حتى بلغت الخامسة والأربعين وهي بين الحسرة والأسف واللهفة على الزوج الحبيب، والولد النجيب!
وكان لها جار اسمه (سيد أفندي) يشتغل خبيرا فنيا في معمل (طرشي)! جاء يخطبها من أخيها (عبد الصبور) الذي ما كاد يعلم صناعته حتى طرده شر طرد لما كان بينه وبين (الطرشي) - كما يقول - من عداء قديم مستحكم! ثم مات أخوها فإنكشفت الغمة وزال العائق الثقيل وتزوجت (أم رتيبة) من (سيد أفندي) على يد (مأذون) صديق من مريدي أخيها (عبد الصبور) ومحبيه.
وقد كتبها المؤلف (الأستاذ يوسف السباعي) باللغة العامية؛ لأنه يرى أنه (من الجنون أن يحاول إنطاق أبطالها باللغة العربية) وللمؤلف في ذلك بواعث وأعذار! أما البواعث فهي أنه متغلغل في فهم الروح الشعبية واللغة العامية تغلغلا قل أن توفر لغيره، فهو يجد يسرا وسهولة في الأداء باللغة العامية قد لا يجدهما في الأداء باللغة العربية! وأما الأعذار فإن أبطال الرواية - أو أغلبهم على الأصح - من عامة الشعب الذين لا تجري اللغة العربية على لسانهم في شئ، فكان من كمال (الواقعية) - في نظر المؤلف - أن يكون كلامهم باللغة العامية! وجو الرواية - كذلك - جو شعبي خالص، لا يبدو فيه الكلام العربي إلا كما تبدو الرقعة في الثياب! هذه بواعث وأعذار المؤلف - على ما يبدو لي - في استعمال اللغة العامية، ولكني نظرت فوجدته يخاطب الخادم (زينهم) المسرف في الشعبية بقول أبي نؤاس (وداوني بالتي كانت هي الداء)، ويخاطب الخادمة (سنية) بقول أبي العلاء (هذا جناه أبي علي) فكيف تسنى لهما أن يفهما ذلك وهما أقل أشخاص الرواية علما وإدراكا؟ ووجدته(1022/51)
يجري في الرواية عددا من الألفاظ العربية الفصيحة مثل قوله (المصل الواقي)، (حاجة تبدد الإيمان)، (الدنيا سفر والآخرة غاية) وغيرها، فكيف أمكن أن تفهم هذه العبارات في الجو الشعبي الذي انحدر من (حوش آدم)؟ أنا لا أشير باستعمال اللغة الفصيحة العالية الجزلة على المسرح، ولكني أريد الحلقة المفقودة عندنا، أريد اللغة العربية اليسيرة السهلة التي لا يفصلها عن العامية إلا حاجز رقيق لطيف، واعتقادي أن الأستاذ يوسف السباعي - وقد بلغ في فهم اللغة العامية والروح الشعبي مبلغا بعيدا - يستطيع بشيء من الجهد والدأب والمشقة أن يجئ لنا بهذه الحلقة المفقودة.
والأستاذ يذكر لنا أن هذه المسرحية أول محاولة له في كتابة المسرحية، فإن كان الأمر كذلك، فإن الأمل المرقوب منه كثير. . . إن الموهبة مكتملة في المؤلف دون شك، وإنما تنقصه في معالجة (المسرح) أمور أرجو أن يتوفر على استكمالها، وأنا أهمس إليه ببعض ما في مسرحيتنا هذه من تلك الأمور، فإني أرى فيه بوارق وضاءة من أمل كبير.
أراه يوزع الحوادث والكلام على الفصول توزيعا غير عادل! وأنا أعلم أن الحوادث قد تقتضي المؤلف شيئاً من ذلك، ولكنني أعلم كذلك أن المؤلف القادر هو الذي يحكم هذه (الحوادث) ويطوعها لقلمه وتصرفه! فالفصل الأول كبير مزدحم، والفصل الأخير صغير متخاذل، والفصل الثاني بين بين!
وأراه يعني - أكثر ما يعني - بإيراد النكتة تلو النكتة، والأصل في المسرحية أنها (موضوع) والنكتة فيها ثانوية لا يجوز لها أن تغطي على الموضوع الأصلي الذي هو (مركز الاستشارة) كما يقول فقهاء المسرح.
وأراه يكثر من الحكايات الجانبية التي تقع في المسرحية كما تقع (الجملة المعترضة) في الكلام! والإكثار من هذه الحكايات - فوق أن فيه تعطيلا لحركة المسرحية - فهو يصرف المؤلف عن الاهتمام بالموضوع الأصلي الذي يجب أن يكون له المحل الأول دائماً، وقد أورد المؤلف من ذلك حكايات طويلة كحكايات (المعزتين) وحكاية (البنت هانم) صديقة الشيخ جاد وسواهما.
وأراه (يرشح) لبعض الحوادث بكلام سافر يدل عليها قبل وقوعها! مثل (إرهاص) أم رتيبة بقدوم الضيف فيقدم الضيف بعد إرهاصها ومثل إرهاص (سيد أفندي) بأنه سيموت وتوكيده(1022/52)
لذلك وتوديعه لأهله وصعوده إلى السرير للموت فيموت فعلا! وغير ذلك. والمسرح (أفعال) لا (أقوال) فالحوادث وحدها هي التي ترهص وترشح إن جاز أن يكون في المسرح إرهاص أو ترشيح. .
وأراه - وذلك أمر ذو أهمية كبيرة للمؤلف - يجري على لسان شخصياته كلاما لا مواربة فيه يمس مقدسات الناس وعقائدهم الدينية، كلاما سافرا جدا قد يشك بعض الناس فيما يعتقدون به ويخضعون له. ولست أريد أن أردد هنا ولكنه مضطرب في كثير من صفحات الرواية وخصوصاً في الصفحات (135، 164، 169، 202، 203، 204) والمسرح للناس جميعا وفيهم الساذج والضعيف الإيمان والحائر بين العقائد، فإن كانت إشارة لا معدى عنها إلى هذه الأمور فلتكن خفيفة خاطفة لا صريحة سافرة متكررة كما رأينا.
وأراه يسرف في بحث المشكلات الاجتماعية والدينية بحثاً جدلياً نظرياً كأنه محاضرات! فيبحث - فيما يبحث - مثلا الاشتراكية ونظام الطبقات ومعاهدات (عدم الاعتداء) والإيمان الأعمى والموت وما بعد الموت وسواها، وذلك تحميل لهذه المسرحية الكوميدية ما لا تحتمل! واعتقادي أن مرد ذلك القلق عند مؤلفنا الفاضل إلى (رباعيات الخيام) التي ترجمها والده الأديب الكبير المرحوم الأستاذ محمد السباعي وعاش مؤلفنا في جوها منذ كان طفلا فامتلأت بها نفسه وأخذ يرددها منثورة في مسرحيته!
وأراه ينطق الخدم وغيرهم بكلام قد يجرح حياء بعض من يرودون المسرح (كقوله تناكحوا تناسلوا)، وقوله (تبقى قيمة العيشة إيه لما الواحدة ما تعملش الحاجة اللي انخلقت علشانها؟) وقوله (أمد إيدي تحت القميص بس ما تبقيش تقولي شيل إيدك)! ومثل وصف صدر المرأة وبطنها قبل الزواج وبعده!
وأريد أن أسأل المؤلف: كيف ينتقل الحديث فجأة من حديث (الملوخية والكسبرة) إلى حديث زواج أم رتيبة ولا اتصال بينهما؟ وكيف يدخل الخدم ويخرجون هكذا دون داع ودون استئذان؟ وكيف يجرءون هكذا على العراك بالكلام وبالأيدي، وكيف يتغزلون بالغزل المكشوف أمام سادتهم؟ اللهم إلا إذا كان دخولهم لدفع ملل من حديث طويل أو لإحداث حركة في موقف خامد! وكيف تستفهم (أم رتيبة) هل مات (سيد أفندي) عندما شرب ماء اللفت وهو طفل مع أنه يسكن جوار منزلها وتراه كل يوم وتسمع عنه كل يوم وتأمل(1022/53)
الزواج به؟ وكيف يسأل (عبد الصبور) - في أول الرواية - عن صديقه (علوان أفندي) الذي لم يحضر مع مريديه ومحبيه سؤالا نفهم منه أنه يعجب لعدم حضوره معهم ويستنكر ذلك مما يدل على أنه مواظب على حضور هذه الجلسات التي يعقدونها لتحضير (الأرواح) ثم تمضي الرواية كلها دون أن نرى (علوان أفندي) هذا؟
وأريد - قبل أن يمضي بي الحديث إلى غايته - أن أنوه بالمجهود الكبير الذي بذله الأستاذ فتوح نشاطي في إخراج هذه المسرحية، فقد التمس لكل دور الشخص الذي لا يتصور الخيال أن أحدا غيره يناسبه! أنه قد تعمق فهم شخصيات المؤلف وأخرجها لنا كما يريد المؤلف تماماً حتى صارت شخصيات نموذجية في موضوعها ومعناها وصورتها أيضاً! وإن الحيل المسرحية التي اعتمد عليها في تحضير (أرواح) الموتى، وفي تحريك المنضدة والكوب والكراسي حيل بارعة لا يظهر فيها افتعال أو صنعة! ولقد نهض الممثلون بأدوارهم في براعة أشهد أنها في الذروة من البراعة والمشقة والجهد، ولا أدري كيف أشيد بأحدهم وأترك الآخرين فكلهم ناجح وكلهم مشهور، بيد أني آخذ على (وداد حمدي) التي كانت تقوم بدور الخادمة أنها لم تكن خادمة حقاً! وأقرر أن هذا عيب شائع في ممثلينا، فهم يرضخون لحكم (الصنعة) عندما يكلفون تمثيل أدوار الخدم، ولكنهم يضمرون الكراهية لهذا الدور بينهم وبين أنفسهم! فتراهم لا يعملون تماماً ما يعمل الخدم، وإن عملوا فإنهم يحاولون أن تبدر منهم لفتة عظيمة، أو كلمة فخمة، أو مشية وقورة، تشير إلى أنهم ليسوا من الخدم في شئ!! وذلك نقص أرجو أن يتلافوه!
وبعد: فأرجو أن يعلم المؤلف أننا نرقب منه خيرا كثيرا للمسرح، وأننا نرى فيه مواهب متدفقة أصيلة، وأن اللغو الذي أثير حول هذه المسرحية إنما هو من عبث الذين لا يعرفون عن المسرح سوى خشبته وأنواره! والذين يحسبون المسرح مجرد شعوذة بيانية، أو خطب منبرية! أرجو أن يتوجه الأستاذ يوسف السباعي إلى التأليف المسرحي بكلياته، وأن يحاول اصطناع اللغة العربية السهلة التي أشرت بها، وأن يدرس فنون المسرح دراسة جد وصرامة لا دراسة هواية فحسب، وأنا زعيم له - بعد ذلك - بأنه سيكون من كبار مؤلفي المسرحيات الكوميدية، وسيكون النقد - عندئذ - أسعد ما يكون وهو يقدم للجمهور هذا المؤلف الكبير.(1022/54)
علي متولي صلاح(1022/55)
آراء وأنباء
جوائز فؤاد وفاروق
علمنا أن الرأي قد استقر على أن تبقى جوائز فؤاد وفاروق للأدب والعلوم والتاريخ والقانون على النظام الذي وضع لهما في المرسومين اللذين أنشئتا بهما. ولن يقع تغيير يمسهما إلا في اسميهما وموعديهما. فأما الاسم فسيكون (جوائز الدولة)؛ وأما موعداهما فسيكونان في غير ذكرى وفاة فؤاد وذكرى جلوس فاروق، وسيعلنان فيما بعد.
المؤتمر العلمي العربي الأول
وافق مجلس جامعة الدول العربية على قرار اللجنة الثقافية بعقد مؤتمر عربي، في مدينة الإسكندرية، في أوائل شهر سبتمبر سنة 1953، يشتمل على ثلاث شعب وهي:
شعبة البحوث العلمية المبتكرة، وشعبة المشكلات العلمية العامة، وشعبة المحاضرات الثقافية العامة.
وقد تكونت بالقاهرة لجنة للإعداد لهذا المؤتمر، بناء على القرار من المكتب الدائم للجنة الثقافية. ورأت هذه اللجنة أن تشمل البحوث التي تقرأ في الشعبة الأولى من شعب المؤتمر فروع العلم الآتية: علوم الرياضة والطبيعة والأحياء والكيمياء والجيولوجيا، وتقترح اللجنة أن يقتصر البحث في الشعبة الثانية من شعب المؤتمر على المشكلات الآتية: المصطلحات العلمية، التأليف والترجمة والنشر، إعداد مدرسي العلوم، العلم والاقتصاد القومي.
أما الشعبة الثالثة فتخصص محاضراتها بدراسة تاريخ العلوم عند العرب. وسيدعى للاشتراك في هذا المؤتمر وفود الدول العربية، ومندوبو الهيئات العلمية، والعلماء من العرب، وذلك لقراءة البحوث المبتكرة، والتشاور في وسائل تذليل العقبات وحل المشكلات التي تعترض تقدم العلوم والبحث العلمي في البلاد العربية.
الصحفيون في أوبرج الفيوم
دعا الأستاذ عبد العزيز طلعت حرب عضو مجلس الإدارة المنتدب ببنك مصر، لفيفاً من أعضاء نقابة الصحفيين لتمضية نهار كامل بأوبرج الفيوم، وهو فندق عظيم مقام على ساحل بحيرة قارون، وهي بقعة من أجمل مشاتينا المصرية، ومن الأمكنة التي يستطيع(1022/56)
الزائر أن يمضي فيها وقتاً هادئاً لطيفاً صيفاً وشتاء، وهو بمثابة مصحة للأعصاب المتعبة، والأذهان المضطربة، والنفوس الثائرة. ذلك أن المناظر الريفية الخلابة تشرح الصدر، وتمتع البصر إذ يمتد طويلاً في فضاء البحيرة المتلون، فمن مناظر جميلة على صفحة الماء الزرقاء المترقرقة في اليوم الصحو، إلى مناظر تشبه الغروب والوقت ضحى أو ظهراً إذا كانت السماء ملبدة بالغيوم، فتظهر القوارب والشرع كأنما تسير إلى جوف الغيب الذي لا يدرك، أو تنتشر على أمواج الماء في اليوم المشمس فتنافس الشروق في بعث الأمل في النفوس البائسة، وتشرح الصدور المثقلة بالمتاعب، وتخفف عن الكواهل عبء المسئوليات.
وهيأ لنا الأستاذ الداعي رحلة جميلة إلى تفتيش مصائد الأسماك، وقدم الأوبرج طعام الغداء لضيوفه الكثيرين إلى جانب نزاله العديدين الذين كانوا يبدو على محياهم البشر والرضاء. وعدنا في سيارات الفندق التي ذهبنا بها في راحة وبشر، بعد أن استودعنا الأستاذ عبد العزيز طلعت وطلبنا إليه أن يكثر من أمثال هذه المشاتي وتوجيه أكبر عناية للمصايف على الشواطئ المصرية الجميلة، التي تضارع أحسن شواطئ العالم إن لم تمتز عليها بأشياء كثيرة. وحبذا لو اهتم أصحاب رؤوس الأموال منا لأن يتعاونوا على إنشاء المشاتي والمصايف على أحدث النظم في مختلف المواضع الصالحة لذلك بمصر، حتى نمكن للمواطنين الإفادة من الاستمتاع بأجواء بلادهم، والتي يمكن أن تكون مهبطاً للسائحين من جميع أنحاء العالم، ولتكون من أربح موارد البلاد الاقتصادية.
يوم الفلسفة
أقام أساتذة الفلسفة والتربية بوزارة المعارف حفل تكريم للأستاذ المربي مظهر سعيد عميد الفلسفة وعلم النفس بالمعارف بنادي دار سينما ريفولي. وقد شهد الحفل جمع عظيم من رجالات وزارة المعارف والجامعات، والصحافة، وشرف الحفل نائب الرئيس القائد اللواء محمد نجيب. وبعد أن قال رجال الفلسفة والتربية كلمتهم في تكريم يوم التحرير وعميد الفلسفة والتربية، وبعد أن قال الدكتور منصور فهمي كلمته المستفيضة، قام رجال الجيش الصاغ الديب، فتكلم عن الفلسفة وعن العلماء ومهمتهم في إنجاح سياسة الدولة في عهدها الجديد السعيد، بمقدرة العالم المثبت، وتجربة السياسي المحنك، ثم عرج على المبادئ التي(1022/57)
يجب أن يضعها أساتذة الفلسفة والتربية أمام أعينهم، والطرق الفعالة المجدية التي ينفذون بها إلى نفوس طلابهم، حتى نتمكن من بناء دولة متينة العمد، ثابتة الأسس، سامية الغرض. ودهش الناس أن يجمع الضابط بين العلوم الحربية والعلوم الفلسفية والتربوية والاجتماعية، ولكن لعل عجبهم يخف إذا علموا أن نفراً عظيماً من ضباط الجيش الذي تولى تحرير البلاد. . على أعظم جانب من العلم والثقافة. وأنه لمن حسن الحظ لمصر أن يتولى أمره هذه النخبة الممتازة من أبناءه.
وكان مسك ختام هذا الحفل كلمة الشكر التي ألقاها الدكتور مظهر سعيد المحتفى به، متدفقاً كعادته بدرر الكلام وسامي المعاني.
يوم التحرير
امتاز الأسبوع الماضي بما حدث فيه من أمور مهمة، فقد احتفل الشعب والجيش بيوم التحرير، ولقد أتت الوفود ممثلة للشعب من مختلف أنحاء البلاد، وعرض من وحدات الجيش جانباً من أنواع نشاطه، وحذا حذوه معاهد العلم على اختلافها، وممثلو الجاليات الأجنبية في صفوف الكشافة والجوالة؛ كما زان العرض صفوف نظامية ممتازة من فتيات الكشافة، ومرت المواكب التي ترى نشاط الأمة المتنوع. لقد كان يوماً عظيماً خالداً، نعم لقد كان مهرجان يوم 13 يوليو1952 يوم التحرير الذي لا يمكن أن ينسى مهرجاناً فخماً؛ ذلك بأن يوم التحرير سطره التاريخ في صفحات الأزل بحروف من نور، وصار يوم البعث، يوم الحياة.
وكان أهم ما امتاز به يوم التحرير. . الخطبة العظيمة التي ألقاها الرئيس القائد اللواء محمد نجيب؛ فقد عبر بها عن آلام الشعب وآماله، ألقاها بلسان الحق والقوة والإخلاص، فنفذت إلى كل قلب، واستقرت في كل نفس، واعتمدت دستوراً لن يحيد عنه إنسان واحد في الوادي، أو يشذ عنه، بعد أن فرغ من خطبته الجامعة تلا القسم وردده من وراءه الملايين بصدق وعزم، ونقاء طوية، وعاهد الناس أنفسهم على الثبات على هذا المبدأ، كما أشهدوا الله على أنفسهم، ورجوا الله أن يكون لهم خير نصير، ومن ينصره الله فلا غالب له.(1022/58)
في عالم الكتب: نقد وتعريف
الزنابق الحمر لطاغور
ترجمة الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
من دلائل النهضة الحديثة في مصر، وفي الشرق العربي، أن يتحرك الأدباء إلى نقل نفائس الكتب عن لغاتها التي صدرت بها. ولم يكن الأمر كذلك منذ عهد قريب، بل كان يسعى الناقل إلى الإنجليزية أو الفرنسية يطلع فيها، وينقل عنها المؤلفات الفارسية أو الهندية أو الصينية. ونحن نعلم أن الترجمة مهما تكن أمينة فلن تقوى على نقل الآثار الأدبية بدقة تامة، ونعني بالآثار الأدبية الشعر والتمثيليات. وعلة ذلك أمور كثيرة، أهمها خصائص كل لغة مما يجري فيها من تعابير، وليس لها مثيل في اللغات الأخرى. وهذا هو السبب في اختلاف التراجم الفرنسية عن الإنجليزية للأصول اليونانية مثلاً. بل لقد تختلف الترجمة في اللغة الواحدة تبغاً لاختلاف ذوق المترجمين ومقدار فهمهم للأصول، ولذلك تتعدد التراجم للنص الواحد.
مما لاشك فيه إذن أن الناقل يبعد عن الأصل بعض الشيء، فإذا جاء ناقل وترجم الأصل عن لغة أخرى فقد ابتعد خطوة أخرى عن الأصل. ولذلك كانت الترجمة عن الأصل رأساً أفضل من الترجمة عن الترجمة.
ويسرنا أن نقرأ تمثيلية الزنابق الحمر للشاعر الهندي رابندرانت طاغور معربة رأساً عن الأصل البنغالي، بقلم الأديب أحمد عبد الغفور عطار الذي يقول في كلمته يقدم المسرحية: (وقد حاولت جهد المحاولة أن أنقل جو طاغور وروحه وفنه وبساطته، وأقترب في أسلوبي العربي من أسلوبه في البنغالية، فإن كنت قد وفقت فالحمد لله، وإلا فعذري إن كنت أميناً في النقل والترجمة، وبذلت غاية الوسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
والمترجم من مكة المكرمة، ولكنه درس في مصر؛ ولذلك لا يحس في أسلوبه أو عبارته أي غرابة عن اللغة المصرية. وهو يعرف اللغة البنغالية. وحدثني أنه استغرق في ترجمة هذه المسرحية ثلاث سنوات مع إنها صغيرة الحجم، وهذا شأن الفنان الذي يستغرق في فنه(1022/59)
ويتأنى في عمله والمسرحية تعبر عن روح الهند وفنها الأصيل الذي يختلف عن غيره من الفنون في الدول الأخرى.
وهي رمزية لا تمثل الواقع، ولكنها تصور مع ذلك الحياة الإنسانية أبلغ تصوير. فلا يوجد إقليم اسمه (ياكشا) ولا يعبر عن الملك بصوت دون أن يرى.
يصور طاغور في هذه المسرحية المجتمع البشري، ويصور العلاقة بين الملك والشعب، وبين الرجل والمرأة، وبين العمال والرؤساء، ويصور منزلة هذه الأشياء التي يتعامل بها الناس ويتداولونها، كالذهب والخمر والشعر والغناء والزهور.
فالملك رمز الظلم، والمرأة رمز السحر، والعامل رمز الدأب، والذهب رمز القوة، والخمرة رمز النشوة، والزئبق الأحمر رمز الحب والخوف.
تبدأ المسرحية بغلام عامل يحفر الأرض يخاطب (نالديني) المرأة الجميلة الفاتنة رمز السحر.
كيشور: أليس لديك أزهار كافية يا نالديني؟ لقد أحضرت لك بعضها، وأكثرت من بعض الألوان.
نالديني - كيشور، انطلق، تحرك، عد إلى عملك، أسرع، أرجو أن تعود وإلا تأخرت.
كيشور - يجب أن أختلس جزءاً من وقتي الذي أنفقه في الحفر بحثاً عن الذهب، لأحفر من أجلك حتى أحضر لك الأزهار.
نالديني: ولكنهم سيعاقبونك إذا علموا بما صنعت.
كيشور: قلت: يجب أن تحصلي على زنابق حمر، تالله ما أعظم ندرتها في هذا المكان!
بهذا المطلع البديع يستهل طابور مسرحيته. فهذه الزهور نادرة، ولا يعرف سر مكانها إلا هذا الولد العامل. وهي نادرة ندرة الذهب الذي يحفر المئات منهم الأرض للحصول عليه. ليقدموه إلى الملك، وإلى أصحاب السلطان. وليس لهؤلاء العمال الحفارين أسماء إلا فيما بينهم وبين أنفسهم. أما في نظر رؤسائهم، فلا يعرفونهم إلا بأرقام. إنهم (نمر) لا أكثر. فهذا الحفار يشقى في الأرض باحثاً عن الذهب، ولكنه غير راض عن عمله، بل ساخط عليه، على حين يقبل باحثاً عن الزنابق حتى يستطيع تقديمها هدية إلى نالديني. فترضى بذلك نفسه.(1022/60)
أما الملك وأعوانه، فإنهم يدفعون الناس بحثاً عن الذهب، لأنه الوسيلة لاستعبادهم، مع أن الذهب شيء (ميت) لا جمال فيه. وانظر إلى الحوار بين نالديني وبين الأستاذ الفيلسوف.
نالديني: يحيرني أن أرى مدينة بأسرها تدفع رأسها في التراب دفعاً، وتنقب بكلتا يديها في الظلام. أنتم تحفرون النفق في العالم السفلي ليل نهار، وترجعون بثروة ميتة أودعت الأرض منذ أجيال فصانتها.
الأستاذ - نحن نبتهل إلى شيطان هذه الثروة الميتة، وإذا استطعنا استعباده رقد العالم تحت أقدامنا دون عناء.
نالديني - ألهذا تخبئون مليككم خلف حائط من الستار المعتم؟ أخوفاً أن يكشف الناس أنه سلطان؟
الأستاذ - كما أن لشبح ثرائنا الميت بأساً شديداً مخيفاً فإن لشبح الملكية الغارق في الضباب بأساً أشد وأقوى. إنها بقواها غير البشرية ترعب الناس.
نالديني - كل ما تقوله كلام نسجته الصنعة وزوقه الخيال.
الأستاذ - إنه صنعة زوقها الخيال. ولئن كان العاري أسرع فهماً وتصديقاً، فإن الملابس المصنوعة هي التي تستر ما في أجسادنا من عيوب، وتخفي ما نود كتمانه، وهي بعد تحددنا. لشد ما يمتعني أن أناقشك الفلسفة!
نالديني - هذا غريب منك أنت الذي اتخذت وكرك في الليل والنهار بين كتلة من الصفحات الصفر الشاحبة مثل حفاريك الذين ضلوا في جوف الأرض. إنك تضيع وقتي سدى.
هذه عبارات سهلة ولكنها تعبر عن فلسفة في غاية العمق. إنها قصة الإنسانية التي ذهبت في الحضارة شوطاً بعيداً، فأصبحت تصنع كثيراً من الصناعات لا تقوى على المعيشة بدونها، بل أصبحت تمجدها وتعبدها. الحق إن الإنسان المتحضر عبد لآلاف الأشياء التي يستعملها، والتي يقتنيها بالمال، كالمسكن وما فيه من أدوات، وهذه الملابس المعقدة، وسائر المقتنيات الكثيرة التي تزحم بها أنفسنا في هذه الحياة. ومن أجل هذه المقتنيات، والسبق في الحصول عليها، أخذ الناس يستعبد بعضهم بعضاً بالعسف والإرهاب، واستعمال السيف والسوط، حتى نزل الرعب في القلوب، وسرى الخوف في أوصال العباد. ولو تأملوا لرأوا(1022/61)
أن حكامهم لا حول لهم ولا قوة، وأنهم بشر كسائر البشر.
ويحدثنا طاغور عن فلسفة الحب. إنها في نظره جاذبية طبيعية بين الرجل والمرأة، لا يمكن أن يعرف سرها، أو يعلل أمرها. لا يمكن إرجاع الحب إلى سبب معين، فالصلة بين الرجل والمرأة، واتصال أحدهما بصاحبه، يرجع إلى الحظ. وإذا كانت نالديني قد اختارت الزنابق الحمر دون غيرها من الألوان، ودن غيرها من الزهور كالياسمين والسوسن، فذلك لأن حبيبها (رانجان) يدعوها (الزنبقة الحمراء) وهي كذلك تحس أن لون حبه أحمر كهذا الأحمر الذي يطوق جيدها.
وللألوان فلسفة. ولكل شيء معنى ودلالة.
وتختلف الدلالات باختلاف نظرة الناس. فهذه نالديني تفهم من الزنبقة الحمراء معنى الحب. ولكن (جوكيل) وهو أحد الحفارين يفهم منها معنى آخر، فهو حين يرى جيدها وقد تدلى منها الزنبق الأحمر يقول لها (إنك تظهرين لي كشعلة من اللهب القاني يمجها الشيطان).
حقاً ما أعجب طاغور! أنه يسطر مسرحيته بالألوان كما الرسام. أنه يريد أن يحلي جيد الملك بإكليل من الزهر الأبيض، والبياض رمز الموت، والجمرة رمز الحياة. وإذا كان الملك يجمع الذهب، ويستمتع بلونه وتوهجه، فإن لونه ميت كالذهب نفسه، أما لون الزنبق فحي لأن الزهر حي.
يفتن الذهب الناس لأنه رمز القوة، ولكنها قوة وهمية، لا يمكن أن يشتري بها الإنسان الحب، وهو سبيل السعادة. وفي ذلك يقول صوت الملك معترفاً لنالديني
(كل ما أملك أثقال ميتة، وحطام أصم. لا الوفرة في الذهب بمستطيعة أن تخلق جريئاً، ولا الزيادة في القوة بقادرة أن تهب الشباب. . أنا أستطيع أن أحرس بالقوة التي أملكها، ولكن. . . آه، لو كنت أملك شباب (رانجان) لحررتك، ثم تشبثت بك، وأخذتك بين أحضاني بعنف. إن وقتي ينفق في عقد الحبال المبرمة، ولكن وا أسفاه! كل شيء يمكن أن يحفظ بإيثاقه إلا السرور والمرح فإنها لا يوثقان).
وإذا كان الملك شقيا بذهبه وقوته، ولا يجد فيهما عزاء أو تسلية ولا ترويحاً عن للنفس، فإن الشعب يلتمس الراحة من الكدح والدأب في العمل بالنشوة التي يجدها في الخمر. وكل(1022/62)
ما يؤدي إلى النشوة فهو خمر. ففي الطبيعة خمر، والشراب المعروف خمر يبعث أيضاً على النشوة.
سئل (بيشو) وهو فيلسوف من أتباع نالديني عن السبب الذي يدفع الناس إلى الشراب فأجاب: (وسعت رحمة الله كل شيء، وستتسع رحمته لمن يشربون قليلاً فيعفو عنهم. لقد خلقت أذرعنا - نحن الرجال - لنبذل أقصى ما وضع في عضلاتنا من خمر القوة؛ أما أذرعكن - أيها النساء - فقد خلقت لتقديم نبيذ العناق. إن كان في هذا العالم جوع يدفعنا إلى العمل والكدح فإن فيه أيضاً اخضرار الغابة ووهج الشمس المشرقة، وكلاهما يجعلنا ثملين إذا ما نادتنا أيام العطلة).
قالت محدثته: (أتسمي كل هذه الأشياء خمراً؟)
فأجاب بيشو: نعم خمر الحياة ينبوع من اللذة والنشوة لا ينضب ولا يفسد. اسمعي شكاني: جئت إلى هذا المكان مدفوعاً إلى العمل والسطو ليلاً على العالم السفلي. إن نصيبي الذي أستحقه من الخمر الطبيعية تلقاء عبوديتي للطبيعة قد حرمت منه، ولهذا أجد إنساني الباطن يشتهي الخمر الصناعية ليتخفف من تعب النهار).
وأحسب أننا وقد ارتفعنا إلى هذه الآفاق العليا من فلسفة الحياة، لا يعنينا كيف سارت المسرحية وكيف كانت خاتمة الملك، لأن الحياة دوامة عظيمة تبتلع فيها كل شيء، وتنقلب فيها الأشياء، فتعلو تارة، وتهبط تارة أخرى، وتفقد قيمتها، ويبتلعها هذا الغول الهائل الذي يسمى الزمان.
أحمد فؤاد الأهواني(1022/63)
طرائف وقصص
شيء كالربيع
(إلى الباحثين عن حقيقة الفن وعشاق الجمال)
للأستاذ محمد أمين (البندقي)
كان (المطعم الروماني) في ذلك اليوم غريب الزحام، وما ذاك إلا لأن أوليفيا الحسناء كانت منذ أيام قد راحت تتردد إلى زبائنها الكثيرين ووعدتهم بأشهى طبق من طيور الصيد، تقدمه إليهم بغير زيادة على ثمن الوجبة المعهود، إذا ما عاد زوجها من رحلة الصيد في السبت، وكان ذلك اليوم هو يوم السبت. وإذن فقد كان علي أن أرضى ويرضى معي زميلي زوراي بتلك المائدة المهجورة عند باب لا يكاد يقفل حتى يفتح من جديد. وكان علنا أن نروض النفس على الصبر. فالخادم الكهل جيانينو بعد أن جاء بالنبيذ قد شغله الزحام مرة أخرى، فما عاد يستجيب لندائنا عليه بأكثر من (نعم يا سيدي. حاضر.).
على أن الانتظار في الحق لم يكن يضنينا. فقد كان صاحبي يتسلى بأن يرسم على ظهر قائمة الطعام صورة بارعة لذلك المتسول الشيخ الذي جلس على مقربة منا وهو يعزف أنغام الفرح الصاخب على (الفيزارمونيكا). وأما أنا فقد كنت أقلب النظر إلى ذلك العالم الصغير الغريب فأكاد أنسى كل شيء.
كان هناك فيردينيو المثال وقد رأيته يطلب اللتر الكامل من جيد النبيذ، فقلت لنفسي أنه لا ريب قد أخذ عربونا على تمثال للعذراء علم الله على قبر أي تعيس من التعساء يوضع.
وكان هناك توبي الرسام، وكنت أراه يقنع في ذلك اليوم أيضاً بشرب الماء القراح وفي وجهه الصلابة والعزم، وأفكر في الصعاب التي يصادفها كل عبقري يأتي بالجديد.
وكان سوزي هناك أيضاً؛ وجدته ضاحك الوجه لم تمنعه سنوه الخمسون من أن يضع في عروة سترته تلك الوردة الحمراء الملتهبة، فلم أشك في أن علاقته مع تلميذته الصغيرة في الأكاديمية لم تزل على ما يرام.
وأظل أتنقل بالنظر من مائدة إلى مائدة، حتى ينتهي صاحبي وهو يهزني من ذراعي هزاً:
- فيرا الرسامة! أتعرفها؟(1022/64)
فأقول وما زلت شارد الذهن:
- كلا. ولكن يخيل إلي أن هذا الاسم قد سمعته من قبل.
- هي من أبرع الرسامات اللاتي عشن في روما.
وكان هذا الإعجاب الذي يبديه صاحبي - وهو الذي يبخل دائماً بالمديح - جديراً بأن يثير انتباهي. ولكن شيئاً غريباً في تلك المرأة هو الذي جعل نظري يتعلق بها وهي تبحث هنا وهناك عن مائدة خالية.
كانت ترفع رأسها كأنها ملكة. ولكن وجهها كان هادئاً صاخباً حتى كأنها شاعرة. ولكن شعرها الغزير الذهبي يترسل ليلاً على كتفيها فيوحي إلى النفس معاني الهدوء واللطف والبساطة.
وقد وقفت آخر الأمر عند عمود مغطى بخشب الجوز القديم فاطمأنت وحدها إلى مائدة. ولم يتأخر عنها جيانينو بربع اللتر المعهود. وأما صاحبي فقد عاد يقول وهو يراني أطيل إليها النظر.
- ألا تجدها غريبة؟ إنها لأعظم امرأة عرفتها وإن لها لقصة.
ولم يجعلني ألح عليه في الرجاء كيما يقص علي ما كان يعلمه، فقد كان يحس من نفسه كل الرغبة. وقال:
(كانت فيرا تعمل كنموذج للفنانين قبل أن تتوفر بنفسها على الرسم. وكان ينبغي لك أن تراها في ذلك الحين، أعني قبل عشر سنين، فقد كانت رائعة الحسن. وكان جسمها الذي رأيته في أمسيات كثيرة، عارياً يشتعل تحت النور القوي في نادينا القديم في شارع مارجوتا، شيء يفتن العين والقلب. ولعل لا تلقى في كبار الفنانين في روما من لم يوحي إليه هذا الجسم بعمل يعتز به فوق اعتزازه بأي شيء آخر. حتى ليقال إن الأستاذ (ف) باع رسوماً رسمها لزوجته وبناته وهن عاريات أتم العري قد أبى أن يفرط في رسم لها ود الكثيرون شرائه بأغلى ثمن. وهو يقول أنه يريد أن يأخذه معه إلى القبر، لأنه كل ما ظفر به من دنياه.
(ولم يكن الأستاذ (ف) في ذلك الحين هو صاحب ذلك الرسم الكبير الذي يرتفع حتى يبلغ ثمانية أمتار ويزيد، بل كان واحداً منا نحن الذين كنا نتردد على النادي كل مساء لكيما(1022/65)
نرسم النموذج الحي لقاء صولديات قليلة، لعلك تعلم كيف كنا نقتطعها من حاجات العيش اقتطاعاً.
(وأقول أنه لولا ذلك لما استطاع الأستاذ (ف) أن يظفر بذلك الرسم الذي يعزه فوق إعزازه لأي شيء آخر؛ فقد كانت تيرا تأبى أن تعرض فتنتها على شيوخ الفن في المراسم الكبيرة الجافية، وتؤثرنا وحدنا بنعمة الإلهام من جسمها العجيب. فقد كنا شبعتها التي تلتف حولها في خضوع وعبادة.
(نعم كنا أتباعاً لجمالها. وكانت تصطفي من جمعنا من تشاء. على أنك لم تكن تعلم ما الذي يدنيك منها وما الذي يقصيك عنها. فقد كنت أن تقرر أن بعض الحسن أولى أن يستميلها، وأن بعض الشباب أحق أن ينال رضاها؛ ولكنها كانت تعرض عن هذا وذاك، وتقبل وأنت حائر والكل حيارى على القبح الذي كان يخطر لك أنه أشد ما ينفر، والشيخوخة التي لم تحسب لها أي حساب.
(غير أنها كانت تعود فتستبدل الحسن بالقبح والشباب بالشيخوخة، فلا أحد يتولاه اليأس من أن يفوز بمتعة ليلة. وهي كانت ليلة مفردة فلا يطمع أحد في أكثر منها. والويل لمن علل النفس بالآمال وطمع في دوام الحب. أنه كان يضيع قلبه ويتلف روحه.
(وظلت فيرا على هذا النحو نموذجاً لحقيقة الجمال وصورة لإحدى ربات الأقدمين غريبات الأطوار، حتى بدا لها في أمسية من الأماسي أن تجول بين أشتات اللوحات بعد جلستها الأولى لترى كيف رسمها الرسامون ووقفت عند لوحة فوقفت تضحك.
لم يكن هناك رسم ولا شيء يشبه الرسم في تلك اللوحة وإنما كان هناك على الأصح تراب الفحم امتزج به العرق الكثير، فنشأت منه بقع سود كبار، وإذا كان تحتها شيء فهو خيال امرأة لا يظهر للعين إلا على جهد.
فقالت فيرا، إذن فالرسم سهل يسير. فما يعجزني أن أرسم شيئاً كهذا.
ونظرت إلى صاحب اللوحة، وهو فتى غض الإهاب من طلاب الأكاديمية فإذا هو يستند إلى الحائط وهو يبتسم وكأنه يدافع عن نفسه بذلك الابتسام، فقلت لنفسي أنه مسكين، وإن أمره لم يكن عن جهل بالفن. وكنت على يقين؛ فقد جرى لي نفس ما جرى لذلك الفتى يوم أن رأيت جسم فيرا العاري لأول مرة. ولكن العرق الذي تصبب مني كان أقل. ولعل هذا(1022/66)
لأن حظي من فورة الشباب كان أيضاً أقل. إلا أنني تمنيت أن لو قد أصابني كل ما أصابه أو أكثر. فقد وقع عليه الاختيار في تلك الليلة؛ ثم كان هو المختار أيضاً في الليلة التي بعدها، وفي الليلة الثالثة، وفي ليال أخرى متعاقبة. ثم بدأ نادينا يقل رواده لأن فيرا لم تعد تظهر. والشاب أيضاً لم يعد يظهر. ثم علمنا أن الاثنين طارا إلى عش على سطح دار صغيرة قي (مونت ماريو).
وكف صاحبي عن حديثه لحظة، فصب لي ولنفسه جرعة أخرى من نبيذنا القليل الذي كاد ينفد. وبحث في كل جيوبه عن شيء يعطيه لذلك العازف المسكين. ثم وصل الحديث فقال:
لم تعد فيرا تعمل كنموذج. وكان يقال أنها أحبت عيشة البيت الساكنة المطردة، أكثر مما أحبت عيشة الملاذ الطليقة المنوعة، لأنها أحبت رجلها. ولم تحبه فحسب بل كانت تعبده عبادة صادقة، وكان يخيل إليك بأنها كانت ترد إليه بهذه العبادة كل العبادات التي أسلفناها لها.
كانت تقاسمه حياته الصعبة؛ بل كانت تأخذ لنفسها وحدها من حياته الوجه الصعب. وتبذل قصارى الجهد كيما تتيح له الهدوء واليسر والدعة.
كانت تطحن الألوان، وتعد له التيل، وتصلح له الإطارات إلى جانب ما تقوم به من شؤون الدار.
وكانت تقطع شارع (ميداليا دوزو) الطويل في كل صباح على قدميها في ذهابها إلى السوق وعودتها، لتقتصد (الصولديات) القليلة، ولا تنفقها على الترام. والشراء من السوق وحده كان كلفة صعبة. فقد كان عليها أن تمر بالباعة كلهم فتستعرض ما لديهم في دقة وعناية، قبل أن تقدم على شيء. وكانت تلتفت حولها في كل لحظة، وتأخذ حذرها، حتى لا تراها جارة من جاراتها الكثيرات. فقد كان يعز عليها أن يعلم الناس أن فيراري الأستاذ الجميل الفتى يعاني شظف العيش، حتى لتشتري امرأته أرجل الدجاج وأوراق الخص (المفرطة) والبيض المكسور.
(ولكن شيزارينا الرسامة، صديقتها وخليصتها، قد اطلعت على سرها وجاءت تقص علنا النبأ في المقهى اليوناني فأحسسنا مرارة الأسف. إلا إن فيرا نفسها لم تكن تأسف. وكنت إذا قابلتها في بعض الطريق صدفة وما كنت تلقاها إلا صدفة، حيتك وعلى ثغرها ابتسامة(1022/67)
حلوة، يتجلى فيها الرضا. فإن أطلت النظر إلى وجهها الذي بدأت تتغير قسامته بعض الشيء من أثر السنين في حياتها الجاهدة، أو تأملت في ثوبها البسيط الذي حاولت بذوقها العالي أن تجعل له رواء، أو تطلعت إلى شعرها الذهبي الذي لم تحسن ترجيله لعجلتها في الصباح ردتك في لطف كما ردتني مرة بقولها وهي تضحك: سيدي الأستاذ! لا تنظر إلي هكذا! إني امرأة صالحة، وإني لا أسمح. .
(وكان إيمانها بفتاها كإيمان الشهداء لا حد له. فإذا قال لها قائل لماذا يتمسك فيراري بذلك المذهب الغريب في الرسم والناس لا يفهمونه ولا يرون فيه جمالاً أجابته قائلة: إن فيراري نابغة يجهل الناس قدره، ولا ضير عليه أن يلقى الصعاب، فكل نابغة قد تعب قبل أن يدرك غايته.
(وقد لقيتها بعد معرض عرض فيه فيراري بعض رسومه فحمل عليه النقاد حملة قاسية. وسألتها ماذا قال فيراري حين سمع ذلك النقد فقالت، وهي ثائرة النفس:
ماذا يعلم النقاد من حقيقة الفن؟ إن الفن لا يعرفه إلا من عاش فيه. وقلت أني لا أحسبهم قد بعدوا عن الحق. فقالت وهي تبدي المزاح وتخفي الجد: سيدي الأستاذ أليس من الجائز أن تكون غيوراً؟)
إن اللواتي يشبهن فيرا ندرة بين النساء، أو ما علمت أن زوجتي حين ساءت حالي زمناً قصيراً لم يزد على شهر سعت إلي مرة بكل ما في المرأة من اللين كيما تقول إنها عثرت لي على عمل آخر أهون علي من الرسم وأكثر ربحاً وهو وظيفة بواب؟
(لقد كانت فيرا في الحق كنزاً عظيماً. إلا أن ذلك الفتى الغرير لم يقدرها قدرها. فقد أخذ بعد فترة من الزمن يميل عنها ويكثر السهر خارج الدار متعللاً لذلك بشتى العلل. وكانت فيرا تظن كل شيء إلا أن يكون الفتى قد مل عشرتها. ولكنها علمت مرة بطريق الصدفة أن للفتى خطيبة من بنات (تراستفري) الغاويات أبوها صاحب مطعم وأن الفتى يقضي مع الصبية في المطعم وعلى شاطئ التيبر شطراً من المساء وشطراً من الليل.
لم يكن في إصبع فيرا (دبلة) كالتي تلبسها كل حليلة لأنها لم تكن حليلته. ولكنها كانت في واقع الأمر زوجاً كأفضل الأزواج. وإذن فقد كان لها أن تثور أو تبدي الغضب أو تصب على صاحبها اللوم، ولكنها لم تلجأ إلى شيء من كل هذا.(1022/68)
وعاد الفتى ذات ليلة، فوجد عشاءه ساخناً مهيئاً كما اعتاد أن يلقاه في كل يوم، ووجد معه رقعة صغيرة، تقول فيها أنها لن تعود.
وما فعله الفتى بعد ذلك تستطيع أن تدركه بالبداهة تزوج بطبيعة الحال من ابنة صاحب المطعم. ولكن الرجل الغليظ لم يكن يؤمن بشيء غير الحقائق البينة، فما زال بالرسام المسكين حتى أقنعه بالعدول عن الرسم وجعله يرضى بوظيفة صغيرة يأتيه منها مرتب ثابت، فاطمأن بذلك على مستقبل ابنته، أما فيرا. . .
ونظر كلانا إلى فيرا فإذا بها تنادي على جيانينو بإشارة هينة، وتدفع إليه ثمن النبيذ وحده، لأنها كانت مثلنا لم تذق طعاماً ثم تنهض.
ومرت بصاحبي فحيته بابتسامة عذبة، وخرجت وهي خفيفة كالنسمة.
وقال صاحبي:
إني لأعلم أين وجهتها. ستذهب في كعادتها في مثل هذه الساعة إلى مقهى صغير أمام قصر الدمغة فتجلس هناك قرب النافذة، لتختلس نظرة إلى فيراري عندما يخرج. وبعد ذلك تمضي إلى بيتها كدأبها كل في يوم لترسم لوحة أخرى من لوحات الزهر.
رسمها ما أعجبه! يجب عليك أن تراه، فما أكثر ما فيه من الشعور وما أكثر ما فيه من السحر! أنه شيء كالربيع.
المنصورة
محمد أمين البندقي(1022/69)
لغويات
القدوم
في القدوم لغتان: (الأولى) ضم الدال من غير تشديد مثل (رسول) وهي التي يستعملها أهل القاهرة والوجه البحري وجمعها (قدم) يضم القاف والدال مثل (رسل) و (قدائم) مثل عجائز.
(الثانية) تشديد الدال مثل (نبوت) وجمعها (قداديم) مثل (نبابيت) وهي لغة أهل الصعيد.
بقي شيء آخر وهو أن اللغويين حكموا على القدوم بأنها مؤنثة واستشهدوا بقول الشاعر:
قلت أعيراني القدوم لأنني ... أخط (بها) قبر الأبيض ماجد
وعززوا هذا بأنها (آلة - أداة) والمعنى له تأثير في الحكم على الشيء تذكيراً وتأنيثاً واكن المصريون يذكرون القدوم فيقول: هو - هذا - كبير - صغير - انكسر - ضاع - وأرى أنه صحيح وقد يكون وراثياً عند العرب أو جاليتهم التي نزلت بمصر. وله نظائر في التذكير والتأنيث مثل السكين. ولو طبقنا نظرية الأداة والآلة لحكمنا على كثير من الآلات والأدوات الموجودة من علامة التأنيث بأنها مؤنثة مثل المنشار والساطور. . . ولا يخفى ما في هذا من الخطأ والفوضى.
كنكة
الكنكة: هي أداة معروفة مصنوعة من الصفيح ونحوه لعمل (القهوة) ونحوها وهي محرفة عن (التنكة) وبعض أهل الصعيد يقولون (تنكة) بالتاء من غير تحريف وإليك النصوص التي تثبت صحة ما ذهبت إليه:
جاء في (محيط المحيط) التنك: صفائح من الحديد تطلى بالقصدير اهـ
وجاء في (المنجد) التنك صفائح من حديد رقيقة تطلى بالقصدير وصانعه تنكجي اهـ
وجاء في (البستان) التنك معدن أبيض لين واحدته تنكة اهـ
وجاء في تفسير (الألفاظ الدخيلة): تنك تركي (تنكة) وهو حديد ممزوج بالقصدير يدق صفائح، وتنكجي: صانعه اهـ
وهذه التسمية مجازية من قبيل إطلاق اسم الأصل (التنك - التنكة) بمعنى الصفيح على فرعه المنوع منه أعني الأداة المعروفة.(1022/70)
وأما تنكجي فهي نسبة إلى (التنك أو التنكة) على الطريقة التركية مثل قصبجي
علي حسن الهلالي(1022/71)
العدد 1023 - بتاريخ: 09 - 02 - 1953(/)
حسن البنا
بمناسبة ذكراه
كان الإمام المرشد حسن البنا طيب الله ذكره وذكراه يسلك الطريق الذي تسلكه (الرسالة) منذ عشرين سنة فكان لابد مما لا بد منه أن يلتقيا على جادته أو عند غايته.
وكان لقاؤهما الأول في مكتبي قبل أن يظهر أمر الرجل وتبلغ دعوته (الإخوان)، فوجدت فيه ما لم أجد في قبيله أو أهل جيله من إيمان بالله راسخ رسوخ الحق لا يزعزعه غرور العلم أو شرود الفكر، وفقه في الدين صاف صفاء المزن لا يكدره ظلال العقل ولا فساد النقل، وقوة في البيان مشرقة إشراق الوحي لا تحبسها عقدة اللسان ولا ظلمة الحس؛ إلى حديث يتصل بالقلوب، ومحاضرة تمتزج بالأرواح، وجاذبية تدعوك إلى أن تحب، وشخصية تحملك على أن تذعن. فقلت في نفسي بعد أن ودعني وشيعته:
عجيب! هذا الشاب نشأ كما ينشأ كل طفل في ريف مصر، وتعلم كما يتعلم كل طالب في دار العلوم، وعمل كما يعمل كل مدرس في وزارة المعارف؛ فعمن ورث هذا الإيمان، وممن اقتبس هذا البيان، ومن أين اكتسب هذا الخلق؟
أن الشذوذ عن قواعد البيئة الجاهلة، والنشوز على أنظمة المجتمع الفاسد، والسمو على أخلاق العصر الوضيع، لمن خصائص الرسول أو المصلح؛ فإن الله الذي يعلم حيث يجعل رسالته يريد أن يصنع النبي أو المصلح على عينه، ليظهره في وقته المعلوم ليجدد ما رث من حبله، ويوضح ما أشتبه من سبيله.
والفطرة التي فطر عليها حسن البنا، والحقبة التي ظهر فيها حسن البنا، تشهد بأنه المصلح الذي اصطنعه الله، لهذا الفساد الذي صنعه الناس.
ولم يكن إصلاحه رضوان الله عليه من نوع ما جاء به ابن تيمية وابن عبد الوهاب ومحمد عبده؛ فإن هؤلاء قصروا إصلاحهم على ما أفسدته البدع والأباطيل من جوهر العقيدة؛ أما هو فقد نهج في إصلاحه منهج الرسول نفسه: دعا إلى إصلاح الدين والدنيا، وتهذيب الفرد والمجتمع، وتنظيم السياسة والحكم؛ فكان أول مصلح ديني فهم الإسلام على حقيقته، وأمضى لإصلاحه على وجهه.
لم يفهم الإسلام الذي طهر الأرض وحرر الخلق وقرر الحق على إنه عبادات تؤدى،(1023/1)
وأذكار تقام، وأوراد تتلى؛ وإنما فهمه كما فهمه محمد وعمر وخالد: نوراً للبصر والبصيرة، ودستوراً للقضاء والإدارة، وجهاداً للنفس والعدو.
وإذا كانت سنة الله أن يبعث الرسول أو يظهر المصلح مزوداً بالطب الناجع لوباء معين فشا، وفساد مبين عم، فإن الحال الأليمة التي تكابدها الأمة الإسلامية اليوم من ضعف في وطنها أطمع الاستعمار، وجهل أطفأ في قلبها العقيدة، وزيغ مال بوجهها عن السبيل، تقتضي أن تكون رسالة المصلح في هذا الزمن جارية على النهج الذي نهجه المرشد الأول للأخوان المسلمين!
ولقد كان هذا النهج الذي قبسه البنا من القرآن وعززه بالعلم، وأقامه على الإيمان وقرنه بالعمل، ونشره بالبيان وأيده بالمعاملة، كان من الجد والصدق والعزيمة بحيث زلزل أقدام المستعمر، وأقض مضاجع الطاغية، وخيب آمال المستغل؛ فتناصرت قوى الشر إلى الدعوة العظمى وهي تتجدد في مصر، كما تناصرت عليها وهي تولد في الحجاز.
وقضى الله أن يبتلى الأخوان فاغتيل الإمام وحوربت الدعوة واضطهدت الشيعة. ولكن الله عصمهم فلم ينقلب طريد على عقبه، ولم يفتن شهيد عن دينه!
ذلك لأن حسن البنا فكرة لا صورة، ومبدأ لا شخص. والفكرة الصالحة تنمو نماء النبت، والمبدأ الحق يبقى بقاء الحق. وما كان محمد صلوات الله عليه إلا باذر بذرة تعهدها من بعده صحابته، فخرج نباتها بإذن الله وزكا، ثم نما وسما، ثم أزهر وأثمر. وسيبقى ثمرها أبد الأبيد، على الرغم من سموم الريح وجدب التربة وعبث الآفة، شهي الجنا داني القطوف لمن سبقت لهم من ربهم الحسنى!
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون) فرحين بغرسهم الذي فاحت أزاهيره، مغتبطين أن يروا من وراء الحجب الشفيفة دعوتهم تنتشر، وأمتهم تنتصر، وخطتهم تؤدى!
وأن القتيل الذي تتعطر المحافل بذكراه اليوم، ليبتسم ابتسامة الرضا وهو في مقامه الأعلى مع الشهداء والصديقين، إذ يرى دمه المطلول يحيي العقيدة، وجهده المبذول يوقظ الأمة!
أحمد حسن الزيات(1023/2)
رجال من دمشق:
1 - الشيخ كمال الخطيب
للأستاذ علي الطنطاوي
رجل كان فذاً بين الرجال، لا ترى مثله العصور الطوال، وإذا كان الرجل المهذب كالنسخة المطبوعة من الكتاب، كان الشيخ كمال نسخة مخطوطة مفردة، وقد يكون في المخطوطة خرم أو نقص - أو يكون على صفحاتها أثر من دهن أو بلل، ولكن مع ذلك أثمن من المطبوعة، وإن كان ورقها نظيفاً، وطبعها متقناً، لأن هذه واحدة في الدنيا، ولأن من تلك آلاف الألوف.
كان الشيخ كمال بقية عصر مضى - ولكنه أبى أن يمضي معه، فعاش في القرن الحاضر، كما كان في القرن الماضي، فكان تحفة في (متحف)، ولكنها تمشي، وصفحة من (تاريخ)، ولكنها تتكلم. وكان بطلاً في جسم عجوز، وغنياً في ثياب سائل. وكان فكرة استحالت رجلاً، ومثلاً أعلى سوى إنساناً. ولكل منا مثل أعلى، يتمثله إذا انفرد بنفسه، - أما مثل الشيخ الأعلى فهو أعماله التي يعملها. ولكل منا أفكار يفكر فيها إذا خلا بعقله، أما أفكار الشيخ فهي كلماته التي يقولها. وكل منا يعرف حقائق الناس ومثالبهم وعيوبهم، ولكنه يكتمها عنهم؛ أما الشيخ فكان يقول لكل إنسان ما يعرفه عنه - لا يستثني من ذلك أحداً من الناس أبداً. وليس الذي بالشيخ ما يسمونه الصراحة أو الوقاحة بل هو شيء لا أعرف له اسماً لأني لم أجده عند شخص آخر: يقول لكل رأيه فيه بأوضح عبارة وأقصرها وأشدها، ثم يمشي لا يريد جلب منفعة أو درء مضرة، ثم يحبهم مع ذلك الناس كلهم، ويحترمونه، ويخافونه: رجال الشعب ورجال الحكومة، والعلماء والجهلاء، والأغنياء والفقراء، لا يسلم من لسانه أحد، ولكن لا يكرهه أحد. ولم يكن يبالي حبهم ولا كرههم، ولا يحفل بإكبارهم ولا احتقارهم، لنه يعيش في نفسه من عالم، غاية مطلبه من الدنيا قماش يستر عورته، ولم أقل جبة ولا رداء، لأنني لم أكن أدري ما كان يلبس على التحقيق: أجبة غيرها طول البلى حتى صارت من قصرها وثنيها كالرداء، أم رداء أبلته الأيام فصار كالجبة؛ وشيء يملأ جوفه، سواء أكان هذا الشيء خبزاً يابساً أم كان أرزاً ولحماً؛ ومكان يضع عليه جنبه: سريراً أو فراشاً أو قطعة ممهدة من الأرض الفضاء، فإن وجد ذلك لم يطلب شيئاً(1023/3)
بعده - لا يرجو جاهاً ولا مالاً، ولا يخاف سجناً ولا رهقاً.
أخوه الأصغر زكي بك زعيم كبير من زعماء الشام، ولي الوزارة مراراً، ورياستها (بالوكالة) مرة، وهو محام معروف، وأخوه الآخر كان طبيباً كبيراً، وأهله ذوو ميسرة وغنى، ولكنه لا يرزأ أحداً شيئاً، ولا يجرؤ واحد منهم - على دعوته إلى طعام أو منام.
ولقد حدثني الأستاذ زكي بك أنه إلا لأنه كان كبير اخوته، مات أبوه وخلف له هذين الصغيرين، فباع ماله كله وأنفق عليهما، حتى استكملا الدرس في استنبول، وكانت باريس تلك الأيام، ثم أبى أن يأخذ منهما قرشاً واحداً. وإذا عرضا عليه هدية، أو دعواه دعوة، غضب أشد الغضب، فتركا ما يريدان لما يريد، فعاش أغنى الناس - لا لأنه كان أكثرهم مالاً، بل لأنه كان أقلهم حاجة - ولا فرق بين أن تكون لك كنوز قارون - وأموال فاروق، فتنال كل ما تطلب، أو أن تكون مطالبك هينة يسيرة، فلا تحتاج إلى مال كثير لتنالها، ومن هنا قال من قال، إن السعادة هي القناعة.
قنع من الحياة بأيسر ما تحفظ على صاحبها الحياة، رغيف يسد جوعته، وقماش يستر عورته. وكان إذا طلب الناس المصايف. . واتخذوا لها الدور، وأعدوا لها العدة، حمل عباءته وعيبته، ومشى. . . مشياً إلى (نسيمه) درة الوادي، وجوهرة العقد في جيد بردى، فوضع العباءة والسفرة في المغارة، فوق (العين الخضراء) ثم نزل فدار بالقهوات - وجالس الجماعات، فوعظ ونصح وأمر ونهى، لا يرزأ أحداً طعاماً ولا شراباً ولا مالاً، ولا يدخل جوفه من عند أحد شيئاً، ثم عاد إلى المغارة فأكل فيها ما استطاع أن يعده لنفسه، رغيفاً ولحماً، أو خبزاً وزيتوناً، أو شاياً وكسرات يابسة من خبز الأمس، وحمد الله ونام. لا يخشى السرقة على مال، ولا الخسارة في تجارة، ولا تحقق الشر من عدو، ولا خيبة الأمل في صديق.
وهذا هو عمله في دمشق: ينزل قبل أذان الفجر إلى جامع بني أمية، فيصلي ويقرأ أجزاء من القرآن ثم يبقى في الجامع - يمر على الحلقات، فإن وجد ما يعجبه شجع المدرس بكلمة، وإن أحس غموضاً وضح، أو إيجازاً شرح - أو مللاً من السامعين نفس عنهم بنكتة. ويعرف هذا المدرسون له، فلا يأبونه منه، وإن أبى بعضهم سلقهم بلسان حديد، فحط من كبرياء، وألان من إباءه - حتى كان شيخنا الشيخ صالح التونسي، (مدرس الحرم(1023/4)
النبوي الآن) يسميه (مفتش الجامع)!
ويحضر المحاظرات العامة فيسلك في الجامعة والمجمع، مسلكه في الجامع. حضرته مرة في المجمع العلمي العربي. من نحو ثلاثين سنة، وقد جاء محاضر لبناني فتكلم في الحضارة الجديدة، وأنه ينبغي في رأيه أن نأخذ كل ما فيها، وذم لباسنا ومدح لباس القوم. ولما انتهى وأقبل الناس (أعني المتزلفين المنافقين) يهنئونه، صاح الشيخ في آخر القاعة، بصوته الذي كان يغلب عشرات مكبرات الصوت، ولهجته المعرقة في العامية: (ولك! الحمار حمار ولو لبس بدلة وبنطلون. والإنسان إنسان ولو حط جلال. . .) فانصرف الناس بكلمة الشيخ، وتركوا المحاضرة في مكانها.
ويدور في الأسواق - يراقب الناس ويدرس أحوالهم وهو يعرف أكثر أهل دمشق، وآبائهم وأجدادهم - وتمر به المرأة المحجبة فيعرفها من أي أسرة هي. أمضى سبعين سنة وهو في هذه المراقبة، فإن رأى حقيراً رفعته الأيام بلا سبب فتكبر - رماه بكلمة كالقنبلة فعرفه قدره وجرأ الناس عليه. وإن رأى دجالاً انخدع به الناس فحسبوه عالماً، حط منه فصرفهم عنه. وإن أبصر جاسوساً أو ممالئاً للفرنسيين - صرخ: (الله يلعن الجواسيس والمنافقين). وإن نظر إلى أم ولدها وسخ - قال لها: (ولك! هاي الماي غسلي وجهه. النظافة من الإيمان). وإن رأى بائعاً يغش مشترياً، أو مشترياً يضايق البائع، أو شاباً يتحرش بالنساء، أو امرأة تتصدى للشباب، أو رأى معتدياً على آخر في جسده أو ماله، أقام القيامة عليه، فكأن البلد كلها مدرسة، والناس تلاميذها، وهو المعلم فيها!
وهو قاموس حي فيه تاريخ دمشق، وأنباء أحداثها، وأخبار رجالها ونسائها؛ حوادث رآها ووعاها، وناس عاشرهم وخبرهم. وله آراء في السياسة صائبات، وأنظار ثاقبات. وله كلام مغطى تعوده أيام الاستبداد الأولى، أيام السلطان عبد الحميد، حين كان الجواسيس يخالطون الناس في أسواقهم ومجامعهم، ومدارسهم وطرقهم، وحين كان للجدران آذان، وكان يأخذ الناس في أوساط الليل من بيوتهم - بلا محاكمة ولا تحقيق، إلى حيث لا يدري أحد - وكان الناس يستمعون له، ولا يجرءون على معارضته.
وكان يتوسط في الخصومات، ويعرض لحل المشكلات، ويقضي بين الناس بلا حكمة ولا مرسوم جمهوري، فيسمع من الخصمين، ويوازن بين حجج الفريقين، ثم يقضي. فكم ألف(1023/5)
بين زوجين، وأصلح بين شريكين. وكان يأخذ من الأغنياء، سطوة واقتداراً، أو حباً وإكباراً، فيعطي الفقراء المستورين، فيسعف الله وجوهاً لولاه أذهب مائها حر السؤال.
وكان قديماً خطيب الجامع الأموي، ولم أدرك أنا ذلك فضايق الحكومة بكشف عيوبها، وضايق العلماء الرسميين بذكر سجايا العلماء العاملين؛ فتألب عليه علماء السوء - فأغروا حكام السوء حتى عزلوه - فأتخذ من كل مكان منبراً يخطب عليه. ولبث على ذلك حتى توفاه الله، من نحو سنة.
هذا هو الشيخ كمال، نسخة مخطوطة نادرة من مخطوطات الرجال. رجل فرغ من مطالب نفسه، وعاش للناس، فكان مثله الأعلى هو عمله، وأفكاره هي قوله، وكانت دمشق مدرسة وكان فيها الأستاذ.
رحمة الله عليه.
علي طنطاوي(1023/6)
العصر المملوكي الثالث!
للأستاذ محمد سعيد العريان
إن الأمة هي التي تصنع تاريخها، ولكن التاريخ يعود من بعد فيصنع صنعة جديدة. . .
نظرت في تاريخ مصر منذ أن أسلمته الأسرة الأيوبية إلى شجرة الدر، ثم منذ أسلمته شجرة الدر إلى زوجها المملوك أيبك التركماني، ثم منذ تسلسل في المماليك من قطز، إلى بيبرس، إلى قلاوون. . . ثم من قيتباي، إلى الغوري، إلى طومانباي الشهيد، ثم منذ استخلصته أمراء المماليك من أيدي (الباشوات) العثمانيين، سادة القلعة، ليتداولوه من علي بك الكبير، إلى أبي الذهب، إلى مراد وإبراهيم والألفي، إلى محمد علي الألباني، إلى إبراهيم وإسماعيل وفؤاد وفاروق، إلى 23 يوليو الماضي. . فإذا هو كله عصر واحد، بدأ بشجرة الدر وانتهى بفاروق. .
عصر واحد له خصائص مشتركة تقوم على الغدر والأثرة، والانفراد بالسلطة، والتباهي بلا عمل، والاستعلاء بلا سبب، والسعي الدائب إلى غير هدف؛ ثم النساء والأطياب، والقصور، والمتاع الحرام. . .
وإزاء هذه الصفحات المسودة بتاريخ الملوك، صفحات أخرى تصف شعباً يختفي طبيعة المقاومة وراء مظهر الاستسلام، كل وسائله في المعارضة أن يصنع النكتة ويضحك لها حتى يكاد يندلق بطنه، وأن يتحدث همساً عن الغدر المأمول كما قرأه له شيوخه في (الجفر)، أو في الرمل، أو في صفحات النجوم؛ ثم الانتظار إلى أن يبرز (الزعيم) الذي يقوده، فما كاد يبرز ويتردد اسمه في الأسماع، حتى يصير هتافاً على كل شفة، وصدى لكل صفقة يد، وقصة في كل سامر، وبخوراً في كل معبد، وأكاد أقول ووثناً لكل عابد. . . ثم ينتهي ذلك الزعيم إلى أجل أو إلى غير أجل، فينتهي اسمه على الشفاه أو ينطوي، فلا تسمعه إلا في ثنايا نكتة يضحك لها قائلها وسامعها جميعاً. . . وتخفى طبيعة المقاومة وراء مظهر الاستسلام العابث. . .
هذه هي الخصائص المشتركة لهذا العصر المملوكي الذي بدأ في مصر منذ سبعة قرون، وانتهى منذ بضعة أشهر، وما أراه سيعود بعد. .
ولكن المؤرخين المحترفين وأساتذة التاريخ في المدارس يوشكون أن ينكروا علي هذا(1023/7)
الرأي الذي أرى؛ فقد كانوا يزعمون، ومازالوا يزعمون إلى اليوم في كتبهم وفي محاضراتهم العامة والخاصة وفيما يلقنون تلاميذهم من دروس التاريخ، أن العصر المملوكي قد انتهى في مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر، حين تولى محمد علي وخلفاءه من بعده عرش مصر. وهو زعم يبعد كثيراً أو قليلاً عن الحقيقة التي أومن بها وارجوا أن يؤمن بها المثقفون جميعاً؛ فإن عصر محمد علي وما بعده إلى 23 يوليه الماضي، لم يكن لا امتداداً لعصر المماليك الذي بدأته شجرة الدر بتولية زوجها أيبك التركماني الجانكشير عرش البلاد، ليتسلل من بعده في المماليك طبقة بعد طبقة إلى محمد علي (وطبقته)!
وقد كان محمد علي نفسه يؤمن بهذه الحقيقة، فهو لم يفد إلى مصر سيداً ليحكم، ولكنه وفد إليها كما وفد من قبله ومن بعده (مماليك) لا يحصيهم العد، فوثبوا بالغدر أو بالحيلة أو بكفالة المقادير إلى السلطة ولبسوا التاج. . .
ولا يقولن أحد إن محمد علي لم (رقيقاً) في يد النخاس قبل أن يلي العرش حتى نصفه بالمملوكية؛ فإن سلاطين المماليك من عهد أيبك إلى عهد طومانباي، لم يكونوا كلهم أرقاء مشترين بالمال، بل كان منهم (أحرار) لم يدخلوا تحت الرق قط، وفدوا إلى مصر لأن لهم صلة ببعض أصحاب السلطة فيها، فجاءوا مدعوين أو واصلين أو معينين لبعض السلطة هؤلاء على أمرهم، فطابت لهم الإقامة واستقر بهم الكمان وتهيأت لهم أسباب الحكم حتى وصلوا إلى العرش، وكانوا مع ذلك في عرف المؤرخين (مماليك) وإن لم تدم آذانهم يوماً في يد النخاس.
وإذن فإن كلمة (مملوك) لم يكن يتحقق معناها اللغوي كاملاً في اصطلاح مؤرخي عصر المماليك؛ لأنهم كانوا يعتبرون خصائص الكم وخصائص الحاكمين العامة لا الصفة الفردية التي تتصل بالمعنى اللغوي لكلمة مملوك.
وإذن فقد كان محمد علي مملوكاً، أو مملوكياً، وإن لم يعرف من ماضيه أنه كان رقيقاًمشترى بالمال؛ لأن الاصطلاح التاريخي لا يأبى عموم هذه الصفة حتى تشمله.
ومع ذلك فمن ذا يعرف من ماضي محمد علي ما يثبت به أنه كان في يوم من الأيام رقيقاً ينادي عليه الدلال في سوق العبيد؟ إن كل ما نعرفه عن ماضيه أنه كان يعمل في (قوله) أجيراً لدى بعض تجارها؛ ثم لا نعرف له على وجه اليقين منشأ ولا أبوة ولا أسرة ينتسب(1023/8)
إليها؛ فإن لم يكن مملوكاً فكأن قد كان!
ولم يصطنع محمد علي وسيلة غير وسائل المماليك ليبلغ العرش، ثم لتوسيع رقعة ملكه؛ ولعل في كل ذلك صورة مكررة لعلي بك الكبير؛ فقد بدأ بالاحتيال، ثم بالغدر، ثم بالزحف على أملاك الدولة العثمانية؛ فلولا مؤامرة أخيه مراد، وخيانة أخيه محمد أبي الذهب، لبدأ (عصر محمد علي) قبل موعده بنصف قرن، ولكن باسم آخر، هو (عصر علي بك الكبير).
وقد يقال إن محمد علي ألباني من قولة، والمماليك شركس من (جورجيا)؛ فهو يخافهم في العنصر والجنس. وهذا وهم باطل؛ فلم يكن المماليك جميعاً من الشركس إذ كان منهم القوقازي، والصقلبي، والبلغاري، والرومي، والمقدوني، إلى أجناس شتى لا تبعد كثيراً عن الجنس الذي ينتمي إليه محمد علي؛ وإنما كانت نسبتهم إلى الشركس للغلبة لا للاطراد. . .
وقد يقال إن محمد علي كان رأس أسرة حاكمة يتسلسل فيها الملك بالوراثة، وليس هذا دستور المماليك. وهذا أيضاً وهم باطل، فإن محمد علي أولاً لم يكن رأس أسرة، لأن إبراهيم الذي ولي العرش من بعده لم يكن من ولده، ولكنه كان ربيبه، ابن زوجته، تربى في حضانته فأضفى عليه صفات الولد، ثم عاد الملك بعد إبراهيم إلى أولاد محمد علي، ثم رجع ثانياً إلى أولاد إبراهيم، فتسلسل فيهم من إسماعيل إلى توفيق، إلى عباس الثاني، إلى حسين، إلى فؤاد إلى فاروق؛ ولم تكن نسبة هؤلاء إلى محمد علي إلا من حيث أنه كان في مقام الأب من أبيهم إبراهيم فلم يكن محمد علي إذن رأس أسرة بالمعنى الحقيقي بحيث يمكن أن يقال إنه خرج في وراثة العرش عن دستور المماليك. . .
على أن وراثة العرش مع ذلك كانت دستور من المماليك في ظروف شتى؛ حتى ليصح أن نحصي من سلاطينهم أسرات تسلسل العرش فيها من والد إلى ولد إلى حفيد؛ فهناك أسرة بيبرس، وقلاوون، وبرقوق، في السلاطين المتقدمين، وأسرة قايتباي والغوري في المتأخرين. . .
وقد قلت في بعض ما سبق؛ إن محمد علي نفسه كان يؤمن بالحقيقة التاريخية التي تجعل حكمه في عرف المؤرخ المتجرد امتداداً للعصر المملوكي في صورة جديدة؛ ودليلي على ذلك هو حرص محمد علي على إبادة (النظراء) في مذبحة القلعة الغادرة؛ ثم حرصه(1023/9)
وحرص المحترفين من مؤرخي عصره على إسناد كل نقيصة إلى المماليك ووسم عهدهم بالفوضى والتهتك والهتك والسفك، ليوقع في وهم هذا الشعب المغلوب على أمره أنه من طراز آخر وجنس آخر غير جنس المماليك وطرازهم، مع استمراره برغم ذلك في جلب مماليك من جنس آخر، ليتخذ منهم بطانة له وحاشية ويضع في أيديهم مقاليد الأمور في البلد الذي أدانه لحكمه. . .
وكان من خصائص الحكم المملوكي أن يحتفظ (المماليك) بجنسهم نقياً فلا يتخذوا من بنات الشعب أزواجاً ولا يزوجوه من بناتهم، إلا أن تكرههم على الخروج عن هذه القاعدة مكرهات لا قبل لهم بدفعها. وكذلك كان محمد علي وخلفاءه من بعده؛ فلم يحاول هو، ولم يحاول أحد من خلفاءه، أن يخلط نسبه بالشعب بالزواج من مصرية أصيلة النسب إلا محاولات في السنين الأخيرة للتقرب من الشعب بعد أن نضج وعيه، ولكنها كانت محاولات خادعة للإيهام بالصورة الظاهرة دون أن تغير شيئاً من حقيقة الأمر؛ فإن فلانة وفلانة وفلانة من زوجاتهم، لسن مصريات خالصات النسب؛ آباءهن وأمهاتهن من سلائل مماليك محمد علي؛ ومن أجل هذا دون غيره كان اختيارهن زوجات، وإن زعم من زعم من محترفي المؤرخين غير ذلك!
فقد ثبت إذن أن عصر محمد علي لم يكن شيئاً جديداً كل الجدة في التاريخ، ولا هو مرحلة فاصلة بين عهدين، ولكنه امتداد لعصر مضى في صورة جديدة. . .
هو جزء من عصر المماليك تميز بخصائص ليست من عصر المماليك ولكنها نشأت عنها وتولدت منها واتسمت بسماتها العامة. . .
وقد انتهت هذه المرحلة من العصر المملوكي في 23 يوليه الماضي، وبدأ الشعب يملي على التاريخ صفحة جديدة؛ فقد وجب إذن أن نضع الأسماء على مسمياتها ونسمي هذه المرحلة باسمها؛ ولن يكون اسمها أبداً كما أراد بعض محترفي التاريخ (عصر محمد علي)؛ فإن محمد علي لم يكن إلا واحداً من المماليك الذين بدءوا منذ عهد أيبك الجانكشير، ولم يكن خلفاءه إلا امتداداً لأسمه. . .
وقد اصطلح المؤرخون على تقسيم العصر المملوكي قبل محمد علي إلى قسمين: عصر سلاطين المماليك، ويبدأ من شجرة الدر إلى طومانباي المستشهد بأيدي الغزاة العثمانيين، ثم(1023/10)
عصر المماليك الأمراء، ويبدأ من خاير بن ملباي الذي أقامه العثمانيين والياً على مصر بعد أن فقدت استقلالها، إلى أن خرج آخر (باشا) عثماني من القلعة بكفاح الشعب في أول القرن التاسع عشر، وإذن فليكن اسم العصر الذي يلي ذلك إلى 23 يوليه الماضي، هو العصر المملوكي الثالث. . .
محمد سعيد العريان(1023/11)
مائدة المسيح ومجاعة الشيطان
للأستاذ منصور جاب الله
في ساعة العسرة، وبين تخون الظروف وطغيان الأحداث، يلتمع في آفاق الدنيا شهاب ثاقب إذ تلف العالمين ذكرى ميلاد عيسى بن مريم، يوم أهل المسيح على الأرض فأشرقت بنور ربها وحفتها الملائكة الأبرار.
وسرت البشرى بمولد المسيح من أرض الميعاد إلى سائر الأمصار، فشملت الفرحة الخلائق كلها. وانبثقت رسالة المسيح من أرض السلام تدعو للسلام.
حتى إذا عصفت بسلامة الدنيا أمة من النوب والهزاهز والإحن، بقيت أفئدة من الناس تهوى إلى بيت لحم، منبت المسيح ومهاده، فهناك القداسة، وهناك الطهارة، وهناك الوئام.
وفي عشية عيد الميلاد يستضيف المسيح الطاهر على مائدته القدسية أولئك الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، فهاموا في البرية جياعاً طاوين (عارين من حلل كاسين من درن) كما قال المتنبي قبل ألف عام، تتلقفهم البلدان وتترامى بهم الفيافي وتتقاذفهم السبل، يستضيف المسيح هؤلاء اللاجئين الأحرار، ومعهم أرواح الشهداء الأطهار، فأقرب ما يكون المرء إلى ذكر الكرم وقرى الضيفان حين يكون جائعاً عارياً، شريداً في الفيافي والبراري، يعضه الفقر وتمزقه الأوصاب.
(إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) فلم يطلبوها جحودا ولا كنوداً، وإنما أرادوها سكناً لقلوبهم واطمئناناً لعقائدهم.
وإذ جأر المسيح عليه السلام بالدعاء (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك) نزلت سفرة حمراء بين غمامتين والناس قيام ينظرون حتى استوت بين أيديهم بكى المسيح وهو يقول (اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها مثلة ولا عقوبة) ثم رفع عنها الغطاء فإذا سمكة مشوية، لا حسك فيها ولا قشر عليها ولا فلوس، تسيل دسماً ودهناً، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل، ومن حولها صنوف من البقل والخضر جميعاً، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى(1023/12)
الرابع جبن، وعلى الخامس قديد.
وإذا بصر الناس بهذه المعجزة القدسية فوق ما رأوا من المعجزات الكبار، تعاظمهم الأمر وأخذ منهم البهر مأخذه. وقال واحد من حواريي السيد المسيح: يا روح الله. لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى. فقال: يا سمكة احيي بإذن الله! فاضطربت، ثم قال لها: عودي كما كنت فعادت مشوية.
ثم طارت المائدة إلى السماء والناس ينظرون في ظلها، وقيل كانت تأتيهم أربعين يوماً غبا، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء، والصغار والكبار يأكلون. حتى إذا فاء الفيء ارتفعت، ولم يأكل منها فقير إلا غنى مدة عمره، ولا مريض إلا بريء ولم يمرض أبداً.
أما بعد، فذلك حديث المائدة المقدسة، كما رواه المحدثون الثقات، أشبعت الناس من جوع، وأسبغت الطمأنينة على نفوسهم، وأسبلت السكينة على قلوبهم.
لقد نزلت المائدة المقدسة على أهل فلسطين، فأشاعت بينهم الأمن والسكينة، بعد إذ طعموا منها وشبعوا. فما بال أولئك الذين أجاعوهم ونكلوا بهم وشردوهم في آفاق الأرض، ونشروا بينهم المجاعة والمسغبة؟
إن حديث هؤلاء الجياع الطاوين ليحز في كل قلب، ويغمز على كل كبد، ويستدر من الأعين الدمع الهتون.
إنها مجاعة الشيطان التي استبدلها بمائدة المسيح، وكذلك نشر على ضفة الأردن الجوع والعري.
فيم يساعد أولئك الذين يقولون إنهم ورثة المسيحية الأولى، هؤلاء الغزاة الأفاقين الذين دنسوا مهد المسيح وداسوا الحرمات وانتهكوا الشعائر والأقداس؟ ألأنهم راحوا من بعد يحاكونهم بهذا المنكر الذي ارتكبوه على ضفتي القناة! ثم لأنهم جاروهم بارتكاب الموبقات وقتل الرجال والنساء والولدان؟
إلا إن المسيح الطاهر ليبرأ في أقداسه العليا من أولئك الذين يحملون اسمه ثم يعاضدون سلالة أعدائه على غزو الأرض التي فيها درج وإليها بعث. وإن من هؤلاء العرب المعذبين في أرض بها مهد المسيح، وإن هؤلاء المصريين المعذبين في أرض هاجر إليها المسيح، إذا خاب أملهم في العدل الإنساني على الأرض لتتلع أعناقهم إلى السماء، يرقبون(1023/13)
عدل السماء، كما تنزلت المائدة من السماء.
إلا فليقل أولئك الطغاة الذين كلما خبت جذوة الحرب أعادوها جذعة وزادوها ضراماً، ألا فليقولوا ما جريرة هؤلاء البكاة في ليلة عيدهم والخطب جسام والنفس هالعة والعهد القريب؟ لقد ذاقوا أفاويق مترعة من برد السلام حين حدثوهم عنه أياماً، ثم كووهم بحر حرب تذيب المهج والجلود. وإنهم حين تموج بالعبرات عيونهم، وحين تصدأ من الهموم قلوبهم، وحين تثخن بالجراح جسومهم، إنما يستشرفون لانبلاج صبح جديد ليس فيه عول ولا نحيب.
منصور جاب الله(1023/14)
حياة المازني
المرأة في حياة المازني
ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي
المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
عاش المازني ما عاش - وقد شارف الشيخوخة - لا ينبض قلبه بغير الشباب. وكانت سنه التي لا تكف عن الارتفاع - كما يقول - تغريه من فرط ما يستشعر امتدادها أن يحسب حوادث حياته بأرباع القرون لا بحساب عدد من السنين، ولكنه إذا ذكر شجون قلبه ومنازل هواه كان كأنما يطوي الأعوام الطوال في لحظات، ويختزل العمر كله في مثل كرة الطرف، وتحس أنه ينقل إليك على الصفحات أو في الكلمات، نبضات قلب فتى يتفتح على حبه الأول في براءة وطهارة ونقاء. .
لهو أطفنا ببكر لذته ... وما فضضنا خواتم العذر
عرف المازني الحب وهو بعد فتى ناشئ، وكانت (هي) جارة له صغيرة في مثل سنه، كالنرجسة فيما يراها. وكان بدأ ما بينهما أنه لقيها يوماً عائدة إلى بيتها، فإذا صارت في (الحارة) إذا هي زحلوقة لا تثبت فيها القدم من كثرة الماء المرشوش، فأسندت يدها على الحائط وناولته يدها الأخرى. ويقول المزني: (لما صارت يدها في يدي شعرت بشيء من الزهو ممزوجاً بالغبطة، وخفت على يدها اللينة البضة أن تؤذيها قبضتي - التي خيل إلي أنها قوية - فجعلت أصابعي حول رسغها حيث العظام فيما بدا لي أقوى على الاحتمال. وكانت مضطرة أن تعتمد علي بجسمها وتلك أول مرة دنت مني أو دنوت منها إلى هذا الحد، وكان شعرها محلولاً ومرسلاً على كتفيها على صدرها فجعلت أدني أنفي منه وأشمه، ولم يكن معطراً كنت أجد له ريحاً طيبة، فلحظت ذلك مني وسألتني وقد جذبت يدها قليلاً: ما هذا الذي تفعله؟
قلت: إني أشمك.
قالت: تشمني!(1023/15)
قلت: إن لشعرك رائحة طيبة، فهل من بأس أن أشمه؟
قالت: كلا لا تفعل.
قلت: قد فعلت وانتهى الأمر.
(ومر عام وكنا قد انتقلنا إلى بيت آخر، فمررت بدارها يوماً بعد الغروب، وكان الباب موارباً فرأيتها تسقي أصص الزهر في فناء البيت. فوقفت أتأملها لحظة وهي تقبل الورد والأزاهير بعد سقيها ورشها، ثم دخلت في رفق وهمست باسمها فلم تسمع، فأعدت الهمس فانتبهت كالمذعورة وقالت: إبراهيم؟ وكررت ذلك. فاقتربت منها وقلت: نعم! هل أفزعتك؟ ووقفت: شفتاها مفترقتان ووجهها تصبغه الحمرة من أثر المفاجأة. ولم اكن أعرف ماذا ساقني إليها سوى أني اشتقت أن أراها وأن اقف معها لحظة أحادثها، وقالت: لقد كان يجب أن أفزع فما سمعتك تدخل، ولكن الغريب انك خطرت ببالي وأنا أسقي هذه الأصص، فكدت أصيح لا أدري لماذا، وقلتك أصحيح هذا؟ إنه يسرني. قالت ضاحكة: لم أكن أفكر فيك تفكيراً يسرك، لقد كنت ساخطة عليك. فضحكت مثلها وقلت: ماذا جنى هذا الشقي يا ترى؟ قالت: لست ساخطة لأنك فعلت شيئاً، لقد كنت عندكم أنا ووالدتي وأختي وقضينا النهار كله هناك تقريباً، وأنت لا أثر لك في البيت ولا يدري أحد أين ذهبت، وفي وسعك أن تتصور مللي بين السيدات العجائز. قلت: إني أفضل أن ألقاك هنا، ويسرني أن أجدك وحدك. قالت: وهل كنت واثقاً أنك ستلقاني هنا؟ قلت: كلا. قالت: إذن لم جئت الآن؟ قلت: لا أعلم. اشتقت أن أراك لا أدري لماذا، فجئت. ومر بخديها طيف من الحمرة ما جاء حتى ذهب، ففتحت عليها عيني وأتأرتها النظر فتراجعت خطوة وهي تقول: ينبغي أن ادخل. فوقفت أرمقها وهي تدور لتمضي عني، ثم كأنما انشق عني سور فاندفعت إليها ووقفت إلى جانبها وجعلت أدير لساني في حلقي بلا كلام وقلبي يخفق، وتناولت يدها وذهبت بها إلى الباب حيث ظللنا برهة صامتين، ثم صاحت: يدي! يدي ستحطمها. فانتبهت وأطلقت يدها وأسفت. فقالت بصوت عذب: دعني أدخل بالله.
وبعد شهور عدت من المدرسة فإذا هي ووالدتها في بيتنا، ففرحت، وكانت يدي ترتجف وعيني إلى الأرض. وذهبت إلى غرفتي فأدركتني في الصالة وقالت: خذ. وناولتني عوداً من ثمر الحناء، فأخذته في صمت وأدنيته من أنفي، ووقفت أشمه وأشمه وقد غاض معين(1023/16)
الكلام وانقطع عني مدده. فلما رأت صمتي وارتباكي قالت: سنذهب إلى الريف. فأنطقتني هذه المباغتة وقلت: ستذهبين؟ وكم تظلين هناك؟ قالت: عاماً، أتستكثر ذلك؟ قلت: بالطبع. ماذا تنوين أن تصنعي هناك هذا العام؟ قالت: كيف يعنيك أن تعرف؟ وضحكت، فجلت ضحكتها في صدري ونفت مخاوفي، ونظرت إليها معجباً وأحسست بالدم يتدفقفي عروقي، وبأنفاسي تسرع. وحمل إلي النسيم ألوان طيب شعرها، فمددت يدي إلى كفها وكانت شفتاها مفترقتين وعيناها في عيني، وصدرها يكاد يلمسني، فألفيت نفسي أنحني عليها ألمس شفتيها بفمي، فصا وجهها كالجمرة، ولكنها لم تتحرك ولا تكلمت، ودار رأسي كالمخمور فتقهقرت خطوة، وهي واقفة كالتمثال وما أظنها كانت تتنفس أو تفكر، فما رأيت صدرها يتحرك أو أجفانها تختلج، كلا، لا شيء إلا هذا الجمر في خديها ينبئ أنها حية. وأفاقت ثم أصعدت زفرة كأنما كنت لطمتها ولم أقبلها. ثم هتفت بي، فأسرعت وأخذت يديها في كفي ثم رفعتهما وقبلتهما وقلت لها: أغاضبة أنت؟ قولي إنك لست غاضبة. فأجابتني بهزة خفيفة من رأسها. فقلت: لست غاضبة، أعلم ذلك وإلا فما قبلتك، تكلمي. فقالت همساً: دعني أذهب، إني خائفة. فقلت: إنك جميلة، جميلة. وانهلت على يديها مرة أخرى ألثمهما ظهراً وبطناً. ثم سحبت يديها ببطء ووضعتهما على صدرها، وقالت وهي تتلعثم وترتجف: قل لي ما هذا؟ قلت، ووضعت يدي على يديها فوق صدرها: هذا؟ ألا تعلمين أنه الحب؟ فتنهدت وأرخت يديها وتركتهما تهويان وقالت: سأذكرك دائماً قلت: كلا هذا لا يكفي. ولم تكد شفتاها تفترقان، وهمست كأنما تتنفس: سأحبك دائماً).
وكان هذا بيننا آخر لقاء!
وبلغ المازني مبالغ الشباب، وصار طالباً بالمدرسة الخديوية، وكان يؤم سمته كل صباح من البيت إلى المدرسة عن طريق درب (الجماميز). فلمح ذات يوم فتاة في مثل سنه يتبعها خادم نوبي يحمل لها حقيبتها وكتبها، وكانت تأتزر، أي تتخذ (حبرة) وتضع على وجهها برقاً أبيض ينسدل من أرنبة الأنف ويحجب ما تحته - الفم والخدين والعنق. ووقعت الفتاة من نفسه وشغلته محاسنها وعرف المازني أنها تلميذة في المدرسة السنية، وأنها تقطن نفس الحي في الناحية الأخرى منه. فصار يترصد خروجها وأوبتها ليشبع عينه من التملي بها، ويهدهد ما علق قلبه من الهيام والصبابة، وما كان حظه ليزيد عن النظر المجرد، (ولم أكن(1023/17)
أكلم حبيبتي هذه، ولا كانت تكلمني، ولكن على الأيام صارت العين تقع في العين). . . ولعل الفتاة قد أحست بغريزتها معنى نظراته هذه، وألهمتها طبيعة الأنوثة ما كان يشده إليها ويجذبه نحوها فقد كانت حلوة ممشوقة، يزيدها فتنة وحسناً رداؤها الجميل الذي يوحي بالنعمة والرفاهية، ويلقي عليها سواد الحبرة اللماع وبياض النقاب ظلاً من السحر يغري بارتياده. وكانت كلما التقيا تلقي إليه بنظرة، ينقلب بعدها قرير العين مثلوج الخاطر. وظلا هكذا يتعارفان بالنظر دون الحديث مدة عامين. ثم شاء القدر أن يفترقا دون أن يعرف أحدهما اسم صاحبه أو شيئاً عنه.
ووسع قلبه الشاب أن يجدد علائقه وأن يجيب نداء الحب لأنه عنده نداء الحياة. بل إذا كان أثقل عليه الشعور بالحرمان أوحى إلى نفسه الحب، وقد يفعل الإيحاء فعله ويحدث أثره، ويتهيأ له الشوق الطبيعي والرغبة الصادقة إلى من يجاوبه هذا الإحساس. فلم يخل قط من حب يستجد علاقته ويهيئ أسبابه، أو كما قال (ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي!).
وفي وصف تلك الفترة يقول الأستاذ العقاد من قصيدة له إلى المازني:
أنت في مصر دائم التمهيد ... بين حب عفا وحب جديد
بين ماض لم يذبل الحسن منه ... وطريف كاليانع الأملود
أنت كالطير ربما شالت الطي ... ر عن الأيك وهو جم الورود
ثم تزوج المازني وهو في سن العشرين، وكان - كما يقول لا أعرف عن المرأة إلا أنها أنثى ولا عن الزواج إلا أنه وسيله مشروعة لتعارف الجنسين. فلم تكد تبدأ حياته الزوجية حتى صارت - بعد شهور - إلى شر ما يمكن أن يصيب زوجين من النفرة وقلة الاحتمال وعدم الاستعداد للتفاهم والعجز عن إصلاح الفساد. وكاد الأمر ينتهي إلى الفرقة النهائية. وقضى في جحيم هذا الخلاف ثلاث سنوات لم ينجه من عواقبه إلا درس طبيعة المرأة وغريزتها، وعاش مع زوجته ضعف هذا الزمن (كأسعد ما يكون زوجان في هذه الدنيا التي لا تخلو من المنغصات) ثم ماتت هذه الزوجة فحزن عليها حزناً بالغاً دل على ما كان يكنه لها من حب. ونستطيع أن نضع حبه هذا لزوجته إلى جوار ذلك الحب الذي عرف ألواناً منه من قبل، لأنه في الحالين يصدر عن وتر واحد في نفسه وإن اختلفت أصداءه(1023/18)
بين حين وحين. فليست زوجة وحسب من تكون عند زوجها عنواناً على الجنس كله وإشارة إلى عالم الأنوثة بأسره، ومن تجمع له إحساسه المتعدد بالحياة في إحساس فرد تكون هي محوره ومداره.
يتبع
محمد محمود حمدان(1023/19)
التضامن الاجتماعي بين ابن خلدون ودوجي
للأستاذ جمال مرسي بدر
لا مبالغة في القول بأن الاجتماع من أقدم الظواهر التي صاحبت العمران البشري، ولا غرو فإن الأمرين متلازمان بل أن التعبيرين من المترادفات. ولعل الأصح أن يقال إنه لا عمران بغير اجتماع وأن الحضارة نفسها إن هي إلا ثمرة اجتماع الإنسان إلى الإنسان.
ومن أقوال الحكماء قديماً: (الإنسان مدني بالطبع) وهي حكمة بالغة تصل إلى أعماق النفوس البشرية وتكشف عن طبيعة الإنسان الاجتماعية وتثبت أنه لا بد له من الاجتماع إلى أفراد جنسه وأنه لا يستغني عن ذلك الاجتماع ولا تستقيم حياته بدونه.
هذا وإن بين نشوء الاجتماع البشري وبين قيام الدول بالشكل الذي نعهده منذ أن سجل قيامها التاريخ مراحل طويلة يعنى ببحثها علماء السياسة وفقهاء القانون العام ويذهبون في أمرها مذاهب شتى ويفسرون - بالتالي - قيام الدولة تفسيرات متفاوتة شأنهم في كل موضوع ينفسح فيه مجال النظر ويطلق فيه العنان للرأي.
ولئن كان فلاسفة الإغريق قد تكلموا في السياسة فإن مسالة قيام الدولة لم تظهر بشكل جلي إلا في كتابات كتاب القرنين السابع عشر والثامن عشر الذين يمكن تبويب آرائهم في اتجاهين متميزين يختلف بينهما تفسير قيام الدولة وتحديد وظيفتها، ويتفق بين الآراء المندرجة تحت كل منها الأساس النظري وإن تفاوتت التفاصيل.
فالاتجاه الأول - ويمثله هوبز ولوك - يذهب إلى أن الاجتماع البشري قديم، أي أن الإنسان ما وجد إلا في جماعة، وأن تلك الجماعة في حالتها الطبيعية كان يسودها النزاع المستمر بين أفرادها حول الأغراض والمطامع الفردية التي لم يكن الإنسان يهتم بسواها، غير أن استمرار حالة النزاع الدائم هذه أدى إلى تنبيه أفراد الجماعة، فدفعهم حب البقاء إلى وجوب الاتحاد وأشعرهم بضرورة وجود السلطان فتفاهموا على الخروج من الحالة الطبيعية والخضوع لرئيس منهم وبذلك قامت الدولة.
أما الاتجاه الثاني - ورافع لوائه جان جاك روسو - فيذهب إلى أن الاجتماع حادث أي أن الإنسان كان في الأصل مبتوت الصلة بغيره من أفراد جنسه، وانه كان يحيا في تلك الحالة الطبيعية الأولى سعيداً موفوراً متمتعاً بحريته الكاملة حتى إذا كثر عدد الناس وتشابكت(1023/20)
مصالحهم وظهرت نوازع الشر فيهم رأى الإنسان أن ينضم إلى غيره وان يتنازل للجماعة عن جانب من حريته الأصيلة مقابل تمتعه بحماية الجماعة، وبذلك نشأت الدولة مستندة إلى إرادة المجموع أي إرادة الأمة التي فيها وحدها يتمثل السلطان.
ومهما يكن من شأن النجاح الذي لاقاه مذهب روسو في القرن الثامن عشر ومن تأثيره البالغ في الثورة الفرنسية وما تبعها من أحداث، فإن العلم الحديث لا يقر بهذا المذهب ويرى في (الهمجي النبيل) الذي خلقه روسو خيالاً لا دليل عليه بل لا حقيقة له. فالاجتماع البشري قديم قدم البشرية ذاتها؛ وقيام الدولة أمر من الصعب تتبعه وإثبات كيفية حصوله؛ وإنما الدولة نتيجة لتطور اجتماعي طويل، وهي بهذا الوصف حدث اجتماعي أو واقعة اجتماعية لا محل للبحث عن أساس قانوني لها، ولا داعي لتصور عقد اجتماعي تقوم عليه وتستند إليه.
وللعلامة ليون دوجي - كبير فقهاء القانون المعاصرين - نظرة طريفة في تكييف الدولة وتبرير قيامها تتفق والواقع الملموس. وتعتبر الكلمة الأخيرة في هذا الباب. فعنده أن الإنسان عاش في الماضي كما يعيش الآن، وكما لابد أن يعيش في المستقبل في حياة اجتماعية؛ فالفرد كان دائماً عضواً في جماعة إنسانية، غير أنه في نفس الوقت يشعر بكيانه الشخصي المستقل عن الجماعة وبميوله الخاصة وحاجاته التي يريد أن يقضيها، ولكنه يعلم أنه لا يستطيع تحقيق شيء من ذلك إلا إذا عاش في حياة مشتركة مع غيره.
إذن فالإنسان كان دائماً عضواً في جماعة كما كان دائماً يشعر بفرديته، إلا أنه كان ولا يزال يرتبط بالجماعة برباط وثيق مرجعه إلى ما أطلق عليه دوجي تعبير (التضامن الاجتماعي)
وهذا التضامن كان موجوداً في جميع مراحل تطور المجتمعات البشرية، فقد كان واضحاً في نطاق الأسرة ثم في ما بين أعضاء القبيلة، ثم بين المواطنين في المدينة الواحدة، وأخيراً بين أفراد الشعب في الدولة التي هي الشكل الحديث للجماعات المتحضرة.
وعند صاحب هذا المذهب أن أهم عوامل التضامن الاجتماعي عاملان: -
الأول أن للأفراد حاجات مشتركة لا يمكن تحقيقها إلا في الحياة المشتركة، وهذا ما يسمى بالتضامن بالتشابه والعامل الثاني - تفاوت قدرة الأفراد واختلاف كفاياتهم مما يستتبع(1023/21)
بالضرورة تبادل الخدمات بينهم. وهذا ما يسمى بالتضامن بتقسيم العمل العاملان اللذان يتمثل فيهما التضامن الاجتماعي يؤديان إلى ترابط الجماعة واستمرار وجودها. وما الدولة سوى الصورة الواقعية التي يتجلى فيها التضامن الاجتماعي، ووظيفة الدولة إنما هي المحافظة على ذلك التضامن وتسهيل اتساعه وتطوره ومنع العوامل التي تصيبه بالضعف والوهن، وذلك عن طريق سن (قواعد للسلوك) وهي المعروفة باسم القوانين، والقوانين لا تكون مشروعة إلا إذا هدفت إلى حماية التضامن الاجتماعي وإلى كفالة عوامل نموه واطراده، فذلك التضامن هو أساس قيام الدولة وهو تبرير مالها على الأفراد من سلطان.
هذا التضامن الاجتماعي عند (دوجي) الفرنسي المعاصر فماذا عن ابن خلدون العربي القديم؟
مهلاً سيدي القارئ ولترجع معي إلى (مقدمته) الخالدة لتجد في الصفحة الخامسة والأربعين وما بعدها عرضاً بديعاً لنظرية التضامن الاجتماعي التي طلع بها العالم (دوجي) في القرن العشرين للميلاد فاعتبرت فتحاً في علم السياسة وابتكاراً في فقه القانون العام.
يقول ابن خلدون: (. . . الإنسان مدني بالطبع إذ لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران. وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه اقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب انه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه الأعمال من الزراعة والحصاد والدراس. . . ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو بعضه قدرة الواحد، فلابد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت لهو ولهم فيحصل بالتعاون على قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف)!
ونراه بعد ذلك يستطرد في شرحه فيقول: (وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع(1023/22)
عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطبائع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان. . . وجعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر واليد، فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع. فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة، فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضاً باستعمال الآلات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه، ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء. . . ولا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسه. . . ويعاجله الهلاك مدى حياته ويبطل نوع البشر. وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقاءه وحفظ نوعه)!
في هذه العبارات الواضحة يعرض ابن خلدون كل ما في نظرية التضامن الاجتماعي الحديثة وإن لم يرد على قلمه لفظ (التضامن) فقد استعاض عنه بلفظ (التعاون) وقديماً قيل لا مشاحة في الاصطلاح.
لقد أشار ابن خلدون إلى قدم الاجتماع البشري وإلى أنه في الإنسان قديم أزلي، واستطرد من ذلك إلى تقرير وجود التضامن الاجتماعي وإلى شرح طبيعة ذلك الضامن بنوعيه اللذين تتكلم عنهما النظرية الحديثة وهما التضامن بالتشابه، والتضامن بتقسيم العمل.
ضرب ابن خلدون مثلاً للتضامن بالتشابه بليغاً في إيضاح المعنى المقصود إذ ذكر الدفاع وما يتطلبه من تعاون أبناء الجنس البشري، فهنا تجدنا أمام حاجة مشتركة بين جميع أفراد المجتمع هي الحاجة إلى الدفاع عن النفس إبقاء عليها وحفظاً لها، وهي حاجة لا يتيسر تحقيقها على وجهها إلا في الحياة المشتركة لما ذكره ابن خلدون من عجز الفرد الواحد من الناس أمام العدو المشترك فكان لا بد من اجتماع العدد الكبير من أفراد الجنس البشري حتى يمكن سد هذه الحاجة المشتركة بينهم، وهذا بعينه هو التضامن الاجتماعي بالتشابه الذي تكلم عنه (دوجي).
أما النوع الثاني من التضامن الاجتماعي وهو الناشئ من تقسيم العمل فقد ضرب له ابن خلدون مثلاً لا يقل وضوحاً في معناه ولا قوة في دلالته عن المثل الأول، فقد ذكر قوت يوم(1023/23)
من الحنطة وما يقتضيه الحصول عليه من تعاون الزارع والطاحن والعاجن والخابز فضلاً عن تعاون من ينتجون لهؤلاء آلات صناعاتهم، فهنا نرى كفايات متفاوتة تستتبع تبادلاً للخدمات وتعاوناً بين أصحاب مختلف الحرف كل في اختصاصه، وهذا بعينه هو التضامن بتقسيم العمل الذي تبرزه النظرية الحديثة.
وأما عن قيام الدولة فيقول ابن خلدون: (إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم؛ وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية لدفع العدوان لأنها موجودة لجميعهم فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يضل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك.
وهكذا نرى أن ابن خلدون - وبينه وبين دوجي نحو ستمائة عام من الزمان - قد سبق إلى النظرية التي اعتبرت للفقيه الفرنسي نصراً وفتحاً وعرضها عرضاً واضحاً بيناً لا فرق بينه وبين الشكل الحديث للنظرية إلا في العبارات والمصطلحات.
وليس هذا إلا قطرة من بحر ابن خلدون الذي ينزح منه كل مطلع على آثاره الخالدة على الدهر، وخاصة مقدمته التي تعتبر بحق كنزاً حافلاً بجواهر الآراء في علوم السياسة والاجتماع. فلا مبالغة إذن فيما تصفها به دائرة المعارف الإسلامية إذ تقول أنها (ستظل دائماً أعظم مؤلفات ذلك العصر وأهمها من جهة العمق في التفكير والوضوح في عرض المعلومات والإصابة في الحكم، ويظهر أنه لم يفقها كتاب ما لأي مؤلف إسلامي.).
جمال مرسي بدر(1023/24)
قصة الفتنة
بين الأزهر ودار العلوم!
للأستاذ الطاهر أحمد مكي
أنا متهم بإثارة الفتنة بين الأزهر ودار العلوم!. . .
اتهمني بها أصدقاء ردوا علي في صحيفة (الأخبار الجديدة)، وزميل اختار لرده (الرسالة) واتهمني بها أناس كثيرون، يربطني بهم إخاء ثقافي، أو صداقة علمية، أو زمالة وطيدة، ولم يحاول واحد منهم جميعاً، أن يتعرف الدوافع، أو يتقصى ما وراء الأمر من أسباب.
كانت كلمتي في (الأخبار الجديدة) ذات شقين، أولهما دفع ما أثاره بعض الزملاء، من أن هناك تعصباً يقع عليهم، وحيفاً يصيبهم، وأحمد الله كثيراً، على أن بينهم من نفى ذلك كله، وقال كلمة الحق، وهو أن مرجع التفضيل لدى مفتشي اللغة العربية، جهد الإنسان ذاته وإخلاصه وتفانيه، وسكت الباقون فلم يثبتوا شيئاً، وإن عز عليهم أن يعترفوا بالحق لذويه!
وقصة هذه الشكاوي تمثل في واقعها مأساة أليمة. . . مأساة الأخلاق حين تنحدر، والوفاء حين ينضب، وكلمة الحق حين تغيض من الشفاه؛ ذلك أن اللغة العربية كانت تجد في أشخاص القائمين عليها، اضطهاداً مزرياً من وزارة المعارف، وكان هؤلاء الرجال يدفعون هذا الاضطهاد بكل ما أوتوا من قوة، اضطهاد يسنده استعمار غاشم، يريد أن يحطم معنويات الشعب بتحطيم لغته، ويمكن له دعاة مرتزقة، يريدون للاستعمار أن يبقى ليعيشوا، وتظاهره أرستقراطية كاذبة، ترى في العربية تأخراً يخدش زهوها ويؤذي شعور بنيها، ومن ثم كان موظفو وزارة المعارف يتفاوتون تبعاً لاختلاف ثقافاتهم، فعزل ذوو الثقافة العربية منهم، عن كل ما يؤدي إلى إدارة وسلطان، أو يشعر بتقدير أو عرفان، وفيهم من يحملون من الشهادات التربوية أعلاها، ومن الثقافة العربية أعمقها، ومن اللغات الأجنبية أحياها، على حين ارتقى غيرهم درجات وزارة المعارف صعدا، فتفاوت النظراء وتباين المثلاء، ولولا بقية من إيمان لأصاب اللغة، تدريساً وطريقة وإنتاجاً، شر كبير. فليس أقتل لحيوية العامل من الإهمال، وليس أقضي على نشاط الذكي من الجحود، ولا أجهز على إخلاص المنتج من نكران الجميل!
كان هؤلاء الرجال يقاومون ذلك كله في عناد وصلابة فبلغوا مما يؤملون شيئاً، وبقي دون(1023/25)
حقوقهم كاملة طريق طويل، مملوء بالأشواك والمتاعب، ويتطلب الكثير من التكاتف والتساند والتضحيات؛ فوزارة المعارف ذات الوكلاء الأربعة، والمستشار الفني والسكرتير العام، لم تخجل من نفسها يوماً، فتتخير من أصحاب الثقافة العربية ولو واحداً، ليمثلهم في مناصب الوزارة العليا، رغم أن ثقافتهم غاية وغيرها وسيلة، وأن عددهم يربو على نصف الموظفين، وفيهم قدامى قاربوا الستين، ونبغاء يحملون أرقى الشهادات، إن لم تزد على ما يحمل وكلاؤها فلا تقل عنهم بحال!
حتى إذا رفعت مصر رأسها بعد ركوع طويل، ظن أصحاب الحق الهضيم في وزاره المعارف، أن المظالم سترد إلى أهلها، وإذ هم يلوحون بحقوقهم في حياء الأبي ومظهر المتواضع، حتى لا يثيروا ضجيجاً ويحدثوا فرقة، إذا بالخناجر تغمد في ظهورهم بلا أسباب ولا مقدمات، وممن؟. . . من أشقائهم الأزهريين، من شباب العربية الذين يمهدون لهم المستقبل ويعبدون لهم الطريق!
أجل!. . . آلاف الشكاوى ترسل إلى شتى الجهات تستبيح أعراضهم، وتطعنهم في أعمالهم، وتنهش ذممهم، وترميهم بكل نقيصة ومذمة، ولا هدف لها إلا النيل من هؤلاء الأبرياء، وكان سواد هذه الشكاوي كذباً وتضليلاً وافتراء، وهدفها (إذا لم تستطع هدم الحائط القوي، فلا بأس من تلطيخه بالأوحال)!. . . وكانت حملة غير شريفة ولا طبيعية، وكان التوافق في الشكوى بين من يقيمون في أسوان ومن يستوطنون الإسكندرية ومن ينزلون القاهرة، يوحي بأن يداً أثيمة تريد أن تصطاد في الماء العكر، وأن تكيد لحماة اللغة العربية، ليخلو لهم الطريق!
وأشهد أن فجيعة هؤلاء المفتشين كانت بالغة، كان أشبه بأب فقد وحيده، بعد أن تقدمت به السن وأدبر عنه الشباب. لقد زرعوا ليحصد غيرهم، وغرسوا ليجني سواهم، وهم الساعة يتحسسون كلمة شكر على ما حملوا من رسالة، وأدوا من أمانة، فلا يجدون. لقد كانوا من أنصار العدل المطلق دواماً، وكان ذلك يدفعهم إلى الدقة في التقدير، والقسوة على المهمل، لأنهم أصحاب رسالة أولاً، ولأنهم يطالبون بحقوق لهم ولأندادهم مغصوبة ثانياً، وليس أقوى لك، ولا أسند لظهرك، حين تطالب بحقك من أداء واجبك كاملاً!
ثم تطور الأمر إلى حملة تشهير أخرى، فجاوز نطاق الشكاوى المعلومة والمجهولة إلى(1023/26)
الصحف، يستدرون عطف كتابها، ويستثيرونهم على أناس، نعدهم نحن لنا أساتذة وموجهين، على رغم ما قد ينشب بيننا وبينهم من خلاف أحياناً. وأخذت الحالة لبوساً جديداً، فكانت حملة قاسية عنيفة، من كاتب كبير في صحيفة ذائعة على خريجي دار العلوم، فكتبت سطوراً أدفع بها ما تجد طائفتي من شر، بإظهار الحقيقة كاملة، وبيان ما تحمل هذه الدعوى في طياتها من غرض خبيث، وما تهدف إليه من إشاعة روح الفرقة والبغضاء!
وأما الشق الثاني فكان تقريراً لواقع الأزهر في العشرة أعوام الأخيرة، ولقد عشت فيه، وقضيت برحابه زمناً، فوجت واقعه عفناً، وأفسق بعقلي إذا ارتضيته ودافعت عنه، أو سكت عليه، أو واطأت أحداً على بقاءه. وما أشبه الذين يرتضونه من أبنائه، بالقروي الذي لم يطعم إلا الجميز، فهو يظنه أحلى ما في الوجود من فاكهة. ولم أعتب عليهم أبداً، فقد كنت أنا مثلهم يوماً!. . . وكنا لجهلنا المطبق بما تزدحم به الحياة حولنا، نظن أن علم الأزهر هو كل ما عرفت الإنسانية من ثقافات، وأن هذا الكلام الذي يدرسه طلاب المدارس على اختلافها هذر سخيف لا جدوى منه ولا فائدة فيه. وكنا نضرب أياماً طوالاً، نهتف فيها من أغوار حناجرنا (افتحوا لنا الكلية الحربية. . افتحوا لنا كليات البوليس والآداب) إلى آخر ما كنا نسمع من أسماء الكليات!
كان ذلك من زمن، وظننت أن الأزهر - وقد فارقته - وقد أصابه مس الحضارة فتغير في نظمه، وتطورت عقليته، كما تغيرت في مصر أشياء كثيرة، حتى إذا سمعتهم يهتفون أمام اللواء محمد نجيب حين زارهم، (افتحوا لنا الكلية الحربية) عرفت أن الحال كما هو، وأن أشقاءنا الأزهريين، يعيشون في واد تقطعت به أسباب الحياة!
ولا أزال أذكر من هذا الواقع حتى الساعة، كيف قدمنا للأزهر للمرة الأولى، صغار السن طرايا العقل، فاستقبلنا بالسخف الذي يستقبل به طلابه حتى الآن، أي المذاهب تختارون؟. . . مذهب أبي حنيفة، أم مالك أم الشافعي أم ابن حنبل؟ ولم نكن نعرف عن واحد من هؤلاء شيئاً، فمن كان والده على شيء من الدهاء، اختار له مذهب أبي حنيفة ليصبح قاضياً شرعياً، أما الباقون فيتابعون السير هكذا عميا، حتى إذا استقر بنا المقام بدأنا نتعصب لتلك المذاهب، ونتقاتل عليها، كل يزعم لإمامه العلم والفضل، وكان المالكية(1023/27)
يباهون بأن إمامهم، مكتوب على فخذه الأيمن أو الأيسر - لست أدري - بقلم القدرة، (مالك حجة الله في أرضه) إلى آخر ما تحكي الكتب من خرافات وأباطيل!
وكان هذا التعصب الأعمى وضيق الأفق، ينمو معنا شيئاً فشيئاً، وهو مفتاح لمعرفة كنه كثير من المشكلات الأزهرية، فهم في المعهد الواحد يتعصبون للمذهب، وفي الكليات المجتمعة يتعصبون للأقاليم، وفي الوظائف يتعصبون للأشخاص، وفي المعارف يتعصبون على دار العلوم، متابعة لطرائقهم هناك ليس إلا!
وقد فتح هذا التعصب للمذاهب والأشخاص والأحزاب أبواباً لمساومات كان ضحيتها العلم والثقافة دائماً، فانحط مستوى الطلاب انحطاطاً بشعاً، انحطاطاً دفع أستاذاً كبيراً للفلسفة في دار العلوم، ندب لتصحيح المنطق بالشهادة العالية لكلية اللغة العربية، أن يرفض ذلك، سمواً بمنصبه من أن يتخذ ستاراً، وباسمه من أن يستغل لستر ما شهد من فضائح. لقد وجد أن ما درس لطلاب الشهادة العالية في عام كامل، ست عشرة صحيفة من كتاب (النطق التوجيهي) المقرر على طلبة التوجيهية وفي حدود الصفحات التافهة وضع الامتحان!
وكان سباق الأزهر إلى الوراء داعياً إلى الأسى والرثاء، يضرب الطلاب عاماً كاملاً، لا يحضرون فيه غير أسابيع معدودة، ثم تكون نتائج امتحانات النقل90 % أو تزيد. . . كانت عملية (تفريغ) من نوع فريد، ينقل الذين في السنة الأولى إلى الثانية، والذين في الثانية إلى الثالثة، وهكذا، ويمنح الذين يتخرجون فيه شهادات تحسب له وتعد عليه، وكاد الغش الجماعي، إن صح هذا التعبير، معروفاً وذائعاً ومرضياً عنه!
وقد حاول الخيرون من أصحاب الضمائر الحية أن يوقفوا هذه الموجة المدمرة، فكان نصيبهم أن أبعدوا أو اضطهدوا. وأذكر أن الأستاذ الكبير الشيخ محمد شلتوت وقف من عامين، وكان رئيساً لامتحان الشهادة العالية، يعلن بأعلى صوته (إن الأزهر يتصدق بشهاداته على الفقراء!. . .) فأبعدوه عنها واختاروا سواه، على ما هو عليه من علم وفضل وخلق.
وشيئاً فشيئاً حطم الفساد في الأزهر كل معاني الفضيلة والاستقامة، فكان الطلاب يقيمون في بلادهم طوال العام، يعملون في التدريس أو شيئاً آخر، ولا يحضرون القاهرة إلا ليؤدوا الامتحان. ومع ذلك كله كانوا يكتبون حاضرين يومياً، ويخول لهم ذلك حق الاستيلاء على(1023/28)
المكافئة والجراية وبدل الغذاء وبدل الكتب، وهي مبالغ تخول لصاحبها حياة نظيفة، لو كان مخلصاً للعلم راغباً فيه مقبلاً عليه. وآسف جداً أن أقرر، أن ذلك فتح سوقاً نافقة للرشوة، وللاتجار بالضمائر والتلاعب في السجلات!
وكان هذا الانصراف عن الدرس، أخطر ما قضى على كيان الأزهر الثقافي قضاء تاماً، فليست الثقافة كتاباً يحفظ، وإلا كانت مصر في غنى عن الجامعات والمعاهد العليا، ولكنها تفاعل بين مستويات متباينة، يكون الفرد فيها قدوة لغيره في ناحية، ومقتدياً في نواح أخرى كثيرة، وباحثاً عن مثله الأعلى في هذا المحيط. وقد يجده فيه، وقد يجد في الطريق أو في محاضرة، أو في مكتبة أو صحيفة، أو في ناد أو في زمالة، وهي مواد لا توجد في محيط القرية المصرية بحال!
ماذا تنكرون مما أقول؟
إن المثقفين من شباب الأزهر يعرفون ما أعرف وزيادة. والفارق بيننا، أنهم يعالجون الأمر في مقالات ملساء، وأصوات خافتة، وهمسات ناعمة، أما أنا، فأرى أن الفساد أقوى من أن يزعجه النصح الضاحك، وأعتى من أن يوقفه الإرشاد الحي، وأخطر من أن نسكت عليه أو نساومه!
لقد خرجنا من الأزهر بعاهات مستديمة. . . عاهات أصبنا بها في عقولنا وفي ثقافتنا، وفي أذواقنا وفي شبابنا، ولن نرضى لأخوتنا أن يصابوا بها، أو أن يذهبوا ضحايا لها، ولن نيأس من الدعوة إلى الإصلاح أبداً، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
هذا هو الحق، لا تضطربوا!. . .
هذا هو الواقع، لا تنزعجوا!. . .
الجبناء وحدهم هم الذين يسكتون على ما يعرفون من جرائم وآثام!
الطاهر أحمد مكي(1023/29)
3 - كوليرج
للكاتب الناقد. أي. تي. كيلركوج
بقلم الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
تتمة
قبل أن نلوم ضعف كوليرج الإنساني، دعنا نسأل أنفسنا عما ' ذا كان من الممكن لأي إنسان أن ينظم قصائد متعاقبة من طراز النوتي القديم، ولكن إن فرضنا الإعجاز - وهو ما كان موهوباً به - فإنه (أي الإعجاز) ليست له القدرة الكافية بإلزام الرجل على إنهاك نفسه. أو بكلمة أخرى دعنا نبحث ونتساءل عما إذا كان انقطاع الفيض القدسي مرده ضعفه أم سببه هو استنزاف تلك القوة الخفية؟ وهو ما نعتقده ونؤمن به. والجواب القاطع عن مثل هذا السؤال موجود في قصيدته (كرستابل) كما أن قصيدته (قوبلاي خان) تشد أزر مثل هذا الرأي وتعززه بدليل آخر بلا أدنى شك ولا أقل ريب. يحدثنا كوليرج نفسه بذلك فيذهب إلى القول بأنه شرع بنظم (كرستابل) في سنة 1797، أي إما أن يقول ذلك قبل أو في غضون نظمه (للنوتي القديم). وقد امتازت هذه الفترة بخلوها من تعاطي الأفيون. ومع هذا فكل من يحاول أن يقلب الصفحات الأولى من (كرستابل) سيرى بعينه أنه من المستحيل إتمامها بأية حالة كانت. ولا شك أن كوليرج أعتقد جازماً بأن في قدرته إكمالها، ولكنه في نضاله لتحقيق ذلك كان يجالد أعداء أقوى من الأفيون وذلك لأنه كان يقارع المقادير التي تتحكم في مصائر الأشياء كيف تشاء، فتنتهي على الصورة التي تريدها وبالكيفية التي ترضاها.
أما نغمات (كرستابل) التي أجاد وضعها الشاعر، فهي تعاني في آذاننا نوعا من التداعي والارتباط بجلجلة (سكوت) كما هي الحال وبصورة أسوأ مع بايرون الذي استعارها بدوره من سكوت. ولا تزال هذه الفظاظة على شدتها في أيامها هذه، لدرجة أن إيقاعها الموسيقي أسف إسفافاً كبيراً. . . والخلاصة أن هناك كثيراً ممن يرى في (كرستابل) زيفاً لا معنى له متناثراً هنا وهناك، ومع ذلك فإن أصالتها وجمالها في بعض الأبيات مما يدهش ويبعث على الغبطة والسرور. أما (قوبلاي خان) - فحتى إذا فرضنا أن ذلك الشخص من(1023/30)
(بورلوك) لم يبترها - فكيف لنا أن نتصور بان في الإمكان إتمامها أو حتى الاستمرار بها قليلاً. ولكنها مع كل ذلك، أعظم قطعة ساحرة تخلب الألباب وتسلب الأذهان في الشعر الإنجليزي على الإطلاق. وبعد مضي ثلاثة أسابيع من تلك الليلة الزاهرة التي أتم فيها أغنيته الخالدة (أعني النوتي القديم) سار ورفاقه يوماً ما منشدا إياها وكان في معيته آنئذ ورد زورث وقال كوليرج عنه في سياق إحدى رسائله إلى أصدقاءه (أنه (أي ورد زورث) يتقدم تقدماً متواصلاً في مجال الشعر وأنه يشعر بأن البلاد تزداد حسناً وجمالاً في كل يوم) وقد أصبح لبهاء هذا الصيف (في كوانتوك) مكانه اللائق به في سجل تأريخنا الأدبي. لقد انتهى موسم حصاد كوليرج، وبدأ موسم وردزورث الذي بدا زاهراً باهراً فيه الآمال العراض والأماني العذاب. وبعد ذلك حدث أن أرتحل الأخ والأخت من (الفوكسدن) في منتصف الصيف، وفي أيلول لقيهم كوليرج في لندن فأبحروا جميعاً في سفرة رائعة إلى هامبورغ في ألمانيا. ومن الملاحظ في هذا الخصوص أن (الأغاني) التي نظمها وردزورث طبعت من قبل عدة أيام من إهداء كوليرج (للنوتي القديم) و (البلبل) و (حكاية المرضعة) و (الزنزانة). وقد أطلق كل من الصديقين قذيفته وذهبا فرحين كل إلى جهة معينة. أما قذيفة وردزورث فكانت بمثابة صاعقة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولو أن بريطانيا قابلتها ببرودتها المعهودة ولكن السيدة كوليرج علقت على ذلك بقولها (لا يحب الأغاني أحد قط!). ولم تمض عدة أيام على وصول الأصدقاء إلى هامبورغ حتى انفرط عقدهم، فارتحل كوليرج إلى (راتززبورغ) وفي نيته تعلم اللغة الألمانية ومن هناك عاد إلى (نيذر ستاوي) في تموز عام 1799. وفي نهاية السنة لقي عائلة ورد زورث وطاف معهم منطقة البحيرات وبعد ذلك استقر آل ورد زورث في (دوف كوتيج) في (كرايمر) وفي تموز من السنة التالية انتقل كوليرج إلى جوارهم في (كريتا هول، كينزوك) على مقربة اثني عشر ميلاً منهم. وكان وردزورث في إبان نشاطه ووفرة قوته في هذه الأثناء، ومع هذا فإن التعارف الجديد لم يكن لكوليرج ربيعاً جديداً. فساوذي لن تعاد مرة أخرى. وهنا لسوء الحظ أو لحسنه يمكن أن تنتهي القصة لسوء الحظ لأن فترة نظم الشعر انقضى أجلها وذهب ريحها، وفي ذلك يقول كوليرج بالذات (إنه نبذ الشعر ملتمساً النجاة في الميتافيزيقا) زد على ذلك أنه أسلم نفسه نهائياً إلى عبودية الأفيون؛ ولحسن الحظ أن نهاية هذه الفترة(1023/31)
تحول بيننا وبين اقتفاء أثره في سفرته إلى برستول ومالطة، وما تخلل ذلك من منازعات ومصالحات وعهود واختلاطات وعودة إلى الأفيون وشفائه منه جزئياً ثم ارتكاسه وانتكاسه ويأسه ثم غروب شمس حياته النبيلة الطيبة في دار (جلمان) في (هاي جيت).
وعلى كل حال دعنا نلاحظ شيئين قبل الاقتناع بما يدلي به بعض الذين يكتبون بسخرية عن كوليرج وضعفه. فأولاً أنه كافح وجالد وقارع في أعمق مهاوي اليأس فخرج منتصراً في نهاية الأمر. لقد نال النصر بد أن قدم في سبيل ذلك ثمناً باهظاً جداً. ولقد أصاب هذا النضال الشاق الدامي مئات من الكفايات الممتازة التي يتمتع بها، ولكن الرجل بالرغم من هذه الجروح والكلوم التي استنزفت دماء حياته، وخرج وبيده المرتعشة كأس النصر وعلى رأسه الدامي إكليل الغار. أضف إلى ذلك أن علينا إن نلحظ أثناء مطالعتنا للمنازعات والخصومات وما تبع ذلك من سوء التفاهم المزمن بينه وبين أصدقائه بأن الوقت كلما محا سبباً من أسباب هذه الأمور التافهة ظهرت طيبة كوليرج الطبيعية جلية واضحة سافرة عارية. وكيف أن كوليرج - بمرور الأيام - يخرج بريئاً من كل التهم التي ألصقت به جزافاً بدافع الضغينة والحسد. لقد عرف كوليرج ضعفه واعترف به، ولكنه، على الأقل تعلم من ذلك الرقة والشفقة حيال ضعف أصدقائه. . . ولكن هذا المزاج الرقيق جعله مبهماً وغامضاً لدى جماعة ساوذي وهازلت، كما جعله غريباً عند ورد زورث ذي الشخصية المركزية.
وهكذا فبهاء فكره هو الذي عزله عن أصدقائه. . . فالعدل والإنصاف يوجبان علينا تصور كوليرج عندما كان قوة مؤثرة في محبيه والملتفين حوله في أيام عزه، وليس كوليرج أيام (هاي جيت) المتأخرة، ذلك العملاق الذي انهار صرح مجده وانهدمت أركان قوته والذي مسخ صورته كارليل مما ألصق به عيباً لا يمحى؛ وحتى كوليرج سنه 1816، الذي طالب لامب أن يصنعه (برئيس الملائكة الذي أصابه البلى) في رسالة صداقية إلى وردزورث. فليس هذا الذي يحببنا بكوليرج، بل الذي يجذبنا إليه ويجعلنا نتعلق به هو تلك الشخصية السامية التي غدت ذكرى عاطرة وفكرة باقية في ذهن لامب وعلى شفتيه في تلك الأيام القليلة التي ظل متعلقاً بها بإهاب الحياة بعده. وقد قال بصدد ذلك: (لقد مات كوليرج، ولكن روحه العظيمة الحبيبة لا تزال تكثر من الترداد علي. لم أر مثيلاً له ولا يحتمل أن يرى(1023/32)
العالم ذلك مرة أخرى. ويظهر أنني أحب البيت الذي قضى فيه نحبه بانفعال أشد من الوقت الذي كان يسكن فيه، فما كان مسكناً له أصبح لدي معبداً). . . ومع ذلك فإن الناس سيضلون يتخيلون ويخمنون في ما كان يمكن أن يتركه كوليرج من كنوز لو أنه لم يشرب الأفيون أو لو أنه تمكن من نبذ الميتافيزيقا أو لو أنه اقترن بدوروثي ورد زورث، أو لو أنه أخذ بنصح أصدقائه الذين أرادوا إنقاذه. وقد كتب بهذا الخصوص الدكتور جارنيت قائلاً: عاش كوليرج حتى عام 1834، ولو أن كل سنة منحياته أنتجت ما أنتجه محصول سنة 1793 لأصبح إنتاجه أعظم كمية ونوعية من إنتاج معاصريه جميعاً. أمامنا بعد كل هذا، هذا السؤال الملح: أيهما كان مديناً لصاحبه كوليرج أم ورد زورث في غضون مكثهما في (كوانتوك)؟ وهذا السؤال - كما يعتقد السر ثوماس براون - سؤال محير. ولم نثر هذا السؤال إلى لاعتقادنا بأنه لم يوضع له جواب مقنع لحد الآن. ومن المعتاد أن يجادل بعضهم في هذا ذاهبين إلى أن كوليرج استلم أكثر مما أعطى لأنه كان أكثر تأثيراً في صاحبه، ولكننا نعارض هذا الرأي لأننا نعتقد بأنه أعطى أكثر مما استلم لأن مجرد وجوده، بما امتاز به من قوة إيحائية، جعلت هيمنة شخصيته واضحة الأثر في خدينه. وما لنا (للتدليل على ذلك) إلا أن نلاحظ بعض الحوادث في هذا الباب. فقد نظم كوليرج قصيدته (مظلة شجرة الليمون) في سنة 1898، و (البرد في منتصف الليل) في شباط 1778، أما قصيدته الجليلة (البلبل) فهي تعود إلى صيف 1778، والذي نراه في هذه القصائد أنها أعظم مما أنتجه ورد زورث ولو أنها تدعى الآن (وردزورثية)، ومع ذلك فإن ورد زورث لم يبلغ ذروة شاعريته في سنة 1798اللهم إلا باستثناء قصيدته (الشوك). فبينما كان كوليرج ينظم قصائده الرائعة كان ورد زورث يكتب (سيمون لي) و (جودي بليك) التافهتين. وهكذا لم يتمكن ورد زورث من نظم ما له قيمة إلا بعد أن كان كوليرج قد أدى مهمته خير الأداء، وبذا يكون كوليرج هو الذي علم ورد زورث الألحان العذاب فحسنها هذا الأخير بدوره. أما ألحان قصيدة (النوتي القديم) فكانت فريدة في بابها عجيبة في صياغتها، بحيث لم يأت شاعر بمثلها لا من قبل ولا من بعد، حتى شكسبير لم يكد يبلغ أوجها على قيثارة (إيريل).
العراق، بعقوبة:(1023/33)
يوسف عبد المسيح ثروت(1023/34)
الشجرة الرائدة
للأستاذ أحمد زكي أبو شادي
سيطر الصقيع على الغابة، وأخذت الرياح الباردة تضرب الأغصان بعضها ببعض. كانت الأيام باردة نهاراً وقارسة ليل. ولكن إحساساً بإقبال الربيع نشأ في الغابة؛ وإذ نشأ هذا الإحساس واجهه شعور آخر مضاد، وهو الخوف من أن يؤدي التبدل إلى عاقبة أوخم. فقالت كل شجرة لنفسها: (لن أجرؤ على أن أكون الرائدة في الاعتراف بالربيع حتى لا تصاب براعيمي بأذى). وراحت سنديانة عتيقة تحذر جارة لها من عقبى التسرع. فأجابتها جارتها قائلة: (أيتها السنديانة التي كثيراً ما ضربتا الرياح! ألا يبهجك مهرجان الحياة التي يأتي بها الربيع؟) فساد السكون أياماً، ثم جاء الصبح الذي تمكنت فيه أشعة الشمس من مداعبة شجر الحور، فتفتقت إحداها، ثم تبعتها بقية الغابة!
سيطر البرد والصقيع على الغابة ... واشتد عصف قاسي الرياح
لم يبال البرد الغشوم بكنز ... مستسر في هذه الأرواح
أو لعل البرد والصقيع كانا ... يحرسان الحياة بالترهيب
فالبراعيم ملؤها خطرات ... حالمات في مهدهن العجيب
وتمشى في الغابة الحب والشو ... ق لداني الربيع وهو بعيد
أترى كانت البراعيم سكرى ... أم توارت وكلهن شهود؟
أيحس النبات إحساس صوفي ... وإحساس شاعر مسجون
هامساً بالصلاة تنشق في الجو ... حناناً ورعشة للغصون؟
ثم ساد الأشجار خوف غريب ... من جديد يكون شر البديل
ربما كان مرهق اليوم نعمى ... حين تلقى الغد المخيف الوبيل
ومضت وهي في التياع تناجي ... نفسها، لا تود مرأى الربيع
لا تود اعترافها بقدوم ... موشك قد يخونها للصقيع
فبراعيمها حياة لآتيها، ... وإيذائها هوان وموت
هي أولادها، كأن قصيداً ... قد حواها فهن بيت وبيت!
ومضت سنديانة ضربتها ... قاسيات الرياح عمراً طويل(1023/35)
في حذار تقول للجارة العقبى ... إذا جازفت وجود هزيل
فأجابت: ألا تسرين من مو ... كب هذي الحياة حول الربيع؟
وإيه يا جارتي! لقد خانك الر ... أي، فإن الربيع رب وديع!
إنه واهب الحيات وإن لم ... يبق في ركبه سوى أيام
إنه الخالد المجدد فينا ... حلو أعمارنا بعام وعام!
فأفاض السكون حساً عجيباً ... بعد صمت كالسحر ران عليها
ثم وافى صبح تجلت به الش ... مس بإشعاعها حناناً لديها
داعبت في شعاعها شجر الحور ... فذر الصبا الزمرد عنها
واستفاقت في إثرها شجرات ... فتزيت بكل ما رف منها!
ذلك سر الغابة احتضنته ... وهو سر النهوض في كل حي
ثورة للتحرر المتناهي واح - تقار للعجز في كل شيء
من يبالي الرياح والبرد لم يسلم ومن هم لم يخنه نهوضه
من يهاب الأخطار حامت حواليه وما زل من حماه ركوضه
كم شعوب خوف الممات من الممات تعاني، ومالها من رائد
هي تهب للجهل والسقم والفقر، وصيد محلل للصائد
فلنحي الأشجار في الغابة الحرة، ولنحي ذكرها في العضات
ولنمجد روح الريادة فيها ... تلك روح كفيلة بالحياة
كم رموز ملء الوجود تناجينا وتوحي لنا دروس الخلاص
ليس حتماً على الأنام ممات، إنما الموت صورة من قصاص
ولتكرم من يرفض الموت والذل، ومن جاء بالبشارة فينا
والذي أخرج الضياء من الظلمة حتى أعز شعباً مهينا!
نيويورك:
أحمد زكي أبو شادي(1023/36)
من هنا ومن هناك
الشاعر الأمريكي همنجوي
يعد إرنست همنجوي في طليعة الكتاب الأمريكيين المعاصرين بل أحد كبار أدباء العالم الأحياء. وقد صدر له مؤخراً كتاب صغير بعنوان (الرجل المسن والبحر) لا يتجاوز 27 ألف كلمة، كتبه وهو في مصيفه في كوبا. وقد أثار هذا الكتاب فضول النقاد وجمهور القراء قبل صدوره؛ وهذا لأن مجلة (لايف) الأمريكية التي يزيد ما يباع منها على خمسة ملايين نسخة نشرت الكتاب بأكمله فيعدد من أعدادها قبل أن تذيعه دار النشر بأحد عشر يوماً.
وللمرة الأولى ينشر كتاب بأكمله في عدد واحد من مجلة ما. وقد علق المؤلف الذي تقاضى من الجلة المذكورة أكثر من ثلاثين أف دولار على ذلك بقوله: لقد استفزتني فكرة نشر الجلة للكتاب بحيث يكون في متناول مئات الآلاف من القراء مقابل عشرين سنتاً. وقد سرني هذا العمل أكثر مما لو كنت ربحت جائزة (نوبل).
وقد مهدت المجلة للكتاب بكلمة مناسبة وأرسلت قبل نشره بعدة أسابيع مسودة كاملة لمئات النقاد والصحفيين. أما موضوع الكتاب فهو أن صياداً مسناً من كوبا بعد أن قضى 84 يوماً متجولاً بزورقه في البحر دون أن يصطاد شيئاً أمسكت صنارته في اليوم الخامس والثمانين سمكة ضخمة. ولما كان وحيداً لم يستطع جذب صنارته بصيدها الثقيل ولا شد حبلها إلى الزورق فاضطر إلى أن يظل في جذب ودفع مع السمكة أياماً وليالي يمضه الجوع والتعب والألم ويحز الحبل يده. وأخيراً تمكن من إمساك السمكة وربطها إلى زورقه، ولكنه عاد يكافح في طريقه كلاب البحر ويحاول ردهم عن السمكة. غير أنه لم يبلغ الشاطئ إلا بعد أن كانت كلاب البحر قد نهشت السمكة ولم تبق منها سوى هيكلها العظمي.
هذه هي القصة ببساطتها وروعتها وهي تعد في نظر القسم الأكبر من النقاد أبدع ما كتب همنجوي حتى الآن. أما فقد قال عنها إنها زبدة ما تعلمه في حياته.
من شروط القصة
انصرفت أفكار الكتاب أخيراً إلى البحث في حدود القصة وشروطها وأهدافها. ومثل هذا(1023/37)
قام به كتاب القرن الماضي أمثال ستندال وهوجو وبلزاك وجورج صند وفلوبير. وقد كان لكل هؤلاء من الكتاب رأيه الخاص في الأدب القصصي الذي انصرفوا إليه.
كان فكتور هوجو يحمل بشدة على القصص النقلية والوصفية والإنشائية داعياً الكتاب إلى هجر هذا النوع من الأدب القصصي والاعتياض عنه بالأدب التصويري الذي يعبر عن المثل المفيد والقدوة الحسنة والفكرة الناضجة بحيث تكون القصة صورة أمينة للحياة.
وكان ستيندال يؤثر القصة التي ترتكز على حوادث بسيطة حقيقية مكتوبة بلغة سهلة وأسلوب طبيعي يكون مفهوماً من كل طبقات القراء. ولم يكن أبغض إليه من تلك الوثبات البيانية والبلاغة الإنشائية لاعتقاده أنها تصرف الفكر عن إدراك ما في القصة من الحوادث والمرامي والفكر.
وكانت جورج صند تعتبر القصة واسطة لإيقاظ العاطفة التي توحي الموضوع، ولكن بشرط أن يستقيم الموضوع في إطار من الشعور الواقعي العميق.
أما فلوبر فقد كان رأيه مخالفاً لرأي جورج صند، كان يريد أن تكون القصة سجلاً لحوادث وأفكار ومشاهد واقعية بحتة.
وكان بلزاك، وهو أقدر من عالج الأدب القصصي، يصرح قائلاً أن الحقيقة الأدبية هي غير الحقيقة الطبيعية وهي تقضي على القصصي أن يغير ويبدل في أشخاص روايته بحيث يتحولون إلى أشخاص رمزيين، وأن يقلل ما استطاع من تمسكه بالأشخاص الطبيعيين. ومن قوله أن للقصة غاية تهذيبية تجبره على تصوير الشر ولكن بشرط أن يرفق هذا التصوير بفكرة أدبية بالغة.
هذه هي آراء بعض كتاب القرن الماضي في القصة. أما كتاب هذا القرن أمثال بروست وجوليني وغيرهما فقد انصرفوا من مدة غير بعيدة إلى معالجة هذا الموضوع ولكنهم لم ينتهوا حتى اليوم إلى نقطة حاسمة.
رأي جديد في جان دارك
أصدر الكاتب المؤرخ جان جريمود مؤلفاً حديثاً بعنوان (هل أحرقوا جان دارك؟) أنكر فيه قداسة جان دارك معبودة الشعب الفرنسي وأولى بطلاته. وقد أحدث صدور هذا الكتاب ضجة في دوائر الأدب وبين أحبار الكنيسة الكاثوليكية الذين راحوا يناقشون مؤلفه(1023/38)
ويسفهون أقواله. يقول جان جريمود في كتابه أن الإنجليز لم يحرقوا عذراء أورليان في عام 1431 بل عفوا عنها وأطلقوا سراحها. وهو يستند في قوله هذا إلى ما يأتي: أولاً - أن جان دارك التي يقال عنها إنها ابنة لأبوين فقيرين هي في الحقيقة ابنة لدوق أورليان شقيق كارلوس السابع واليزابيث دي بافيرا وقد تبنتها أسرة أرك. ثانياً - أن الإنجليز لم يحرقوا جان دارك بل أحرقوا بدلها ساحرة محكومة بالإعدام. ثالثاً - أن جان دارك عادت إلى لورانا وتزوجت من شريف خامل الذكر يدعى روبرت دى ارمواز.
ومن الذين ردوا على جريمود الراهب اليسوعي دونكير الذي جعل حياته لدرس تاريخ جان دارك فقال إن كتاب جريمود مملوء بالأغلاط فضلاً عن خلوه من أية أدلة تاريخية. وفي رأي الكاتب لوسيان فابر، الذي ربح جائزة جونكور الأدبية، أن مطالعة كتاب جريمود مسلاة ولكن براهينه واهية لا تقع. ولكن جريمود يؤكد على أن البرهان على أصل جان دارك هو في شعارها الذي يحمل الزنبقتين وأكليل شعار العائلة المالكة، وأن الفرق الوحيد في الخط الذي يخترق الشعار للدلالة على أصلها. ومن قوله أيضاً أن جان دارك قابلت كارلوس السابع في قصر شينون وكشفت له عن أصلها، وأن الإنجليز الذين أسروها وحاكموها كانوا يعرفون جيداً من هي أسيرتهم، وأن جان دارك اختفت بصورة غامضة خلال خمس سنوات قضتها في إنكلترا، وأن المرأة التي أحرقت كانت ساحرة حكم عليها بالإعدام، وأنهم خلافاً لما جرت به العادة لم يسمحوا للجمهور بالاقتراب من المحرقة، وأنهم ستروا وجه الضحية بنقاب كثيف حتى لا تعرف. ومن الأدلة التي أوردها جريمود على صحة قوله أن جان دارك عادت إلى لورانا لتقترن بالشريف روبرت دي ارمواز في أرلون من أعمال لوشمبورغ، وإن وثيقة الزواج التي وقعها رئيس كهنة سانت تيبود في متز بتاريخ اليوم السابع من شهر نوفمبر عام 1436 تقول: (نحن روبرت دي ارمواز وجان عذراء فرنسا الخ) تثبت أقواله. ومما قاله أيضاً أنه سيخصص كل أيام حياته لاكتشاف وثائق جديدة من شأنها إماطة اللثام عن هذه القضية.
مذنب عام 1954
يقترب الآن من الشمس المذنب المدعو (بون - بروكس) وهو من المذنبات الساطعة المعدودة في الدرجة الخامسة من الإشراق. وستمكن رؤيته بالعين المجردة في طور اقترابه(1023/39)
الأخير ويكون موعد تدانيه الأقصى من الشمس في السابع والعشرين من شهر مارس سنة 1954.
وظهر هذا المذنب للمرة الأخيرة منذ زهاء السبعين عاماً في صيف 1883 - 1884 وكان يعد حينذاك في الدرجة الرابعة من الإشراق وظل بادياً للعيان مدى ثلاثة أشهر.
أما كاشف هذا المذنب فهو الفلكي الفرنسي جان لويس بون. وقد كشف في حياته من هذه الأجرام السماوية أكبر عدد تمكن من كشفه عالم واحد حتى اليوم، ويكفي أن نعلم أنه أعلن وجود 27 نجماً منها.
ولما عاد المذنب المذكور إلى الظهور عام 1883 كشف مركزه العالم و. ر. بروكس وهو كاشف عدة مذنبات أيضاً ولذلك نرى هذا المذنب يحمل اسم ذينك العالمين معاً.
دواء ذري جديد لأمراض القلب
في برقية من شيكاغو أن عدداً من أطباء أحد مستشفيات لوس أنجليس كشفوا دواء جديداً لأمراض القلب سموه (المقبل الذري). ويؤخذ من المعلومات التي أدلى بها هؤلاء الأطباء إلى زملائهم أعضاء الجمعية الطبية الأمريكية أن الدواء الجديد محلول من اليود محضر في فرن ذري يحول بهذه العملية إلى أشعة فعالة. ومن معلمات هؤلاء الأطباء أيضاً أن لليود في مثل هذه الحال مفعولاً في غدد العنق يؤدي إلى ارتخاء عام في أعضاء الجسم الرئيسية وهذا الارتخاء يقلل من ضغط الدورة الدموية فيرتاح القلب ولاسيمافي مرض الذبحة الصدرية.
كشف أمريكا والعرب
يؤكد الدكتور جفريس من أساتذة علم تاريخ الإنسان الطبيعي في جامعة فتزسرند، أن كولومبس لم يكشف أمريكا بل العرب هم الذين كشفوها بثلاثمائة أو أربعمائة سنة وأنهم دخلوها عن طريق أفريقيا الغربية حوالي عام 1100 ومن أدلة الدكتور جفريس على صحة هذا الرأي أن كولومبس عندما وصل إلى أمريكا وجد فيها مستعمرات صغيرة من الزنوج هم من سلالة العبيد الذين كانوا قد فروا من سادتهم العرب، كما أن وجود الجماجم في كهوف جزيرة باهماس يدعم هذا الرأي. ومن أدلته أيضاً أن كولومبس وجد في جزيرة(1023/40)
كاربباس زراعة القنب التي جيء بها من أفريقية، بينما الذرة والمنديوكا التي هي من مزروعات أميركا الخاصة كانت تزرع في العالم القديم قبل ولادة كولومبس. وهذا يدل على أن الذين نقلوا زراعة القنب إلى أمريكا نقلوا هذه المزروعات إلى بلادهم بما فيها الذرة التي كانت تدعى (الحنطة التركية).
كشف نقود عربية قديمة
من أخبار استوكهولم عاصمة أسوج أنهم عثروا في جزيرة غوتلندا الواقعة في بحر البلطيق على ألف ومائة قطعة من النقود العربية القديمة يعود تاريخها إلى القرن العاشر للتاريخ المسيحي. وجميع هذه النقود من الفضة، والكتابة في أربعمائة منها واضحة لم يؤثر فيها مرور الزمن. ولاعتقاد السائد هو أن تلك النقود العربية وصلت عن طريق روسيا إلى تلك الجزيرة الشمالية التي كانت في ذلك العصر مركزاً ممتازاً للتجارة والثقافة والمعاملات العالمية كافة في عهد قبائل الفنكس التي اشتهرت في ذلك الحين.(1023/41)
محاضرات ومناظرات
حياتنا الأدبية والفنية على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته
أحتشد بقاعة (يورت) بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة السابق آلاف من الناس لسماع هذه المحاضرة التي ألقاها الدكتور طه حسين، حتى ضاقت بهم القاعة على رحبها، وامتاز هذا الجمع الكبير بأنه كان يضم أكبر عدد يمكن أن يضمه جمع مثله من الصفوة المختارة من رجال الأدب والسياسة والتعليم، واستغرق الدكتور طه حسين في إلقائها ساعة كاملة وانتهى منها والناس تكاد أكفهم تدمى من التصفيق الملتهب، ويمكننا أن نلخص للقراء هذه المحاضرة فيما يأتي: -
أيها السادة:
أعترف لكم أنني تعرضت لكثير من الحيرة قبل أن أقدم على إلقاء هذه المحاضرة؛ فموضوعها غامض من جهة وشائك من جهة أخرى. غامض لأن العهد الجديد - وإن كان شيئاً نحسه ونعرفه ونلمسه - فإن فلسفته لم تكتب بعد ولم تؤلف فيه الأسفار ولم تصنف له الكتب، وأنا - كغيري من الرجال الجامعيين - رجل ينبغي عليه أن يقرأ وأن يرجع إلى الكتب وأن يحيط بالموضوع قبل أن يهم بالحديث أو الكتابة.
وهو شائك لأنه قد ينتهي إلى مواطن لا يؤمن فيها الزلل؛ فأحاديث العهد الجديد - كأحاديث العهد القديم - إذا اتصلت بالسياسة فربما جرت إلى الزلل أو إلى ما هو أكثر من الزلل!
ولكنني اعتمدت على الله - الذي أعتمد عليه دائماً في كل أمر - وجئت للتحدث إليكم وأمري وأمركم إلى الله!
وأول ما ينبغي أن نلاحظه هو حال الأدب قبل العهد الجديد، كيف كان؟ ومم كان يشكو؟ وبماذا كان الأدباء يضيقون؟ والملاحظة اليسيرة تدلنا على أن أول مظهر من مظاهر الأدب قبل أن تشب نار الثورة إنما هو (الخوف) الذي كان يملك على الأدباء أمرهم ويضطرهم إلى كثير من الجهد والحيلة والمناورة والمداورة ليقولوا - ما يريدون أن يقولوه - دون أن يتعرضوا لبطش السلطان وتضييق الرقابة، سواء أكانت هذه الرقابة سافرة عند قيام الأحكام العرفية أو مستخفية كتلك التي كانت تفرضها (النيابة) حين تكون الأحكام العرفية نائمة!
ولا أدري هل كنتم تحسون ذلك الخوف أم لا؟ وإن كان أغلب الظن أنكم كنتم تحسونه(1023/42)
وتلحظونه من بين ثنايا ما تقرءون، أما أنا فإني أتحدث إليكم عن علم ويقين؛ ذلك أني كنت أحد الأدباء الذين امتحنوا في العهد القديم، فقد تحدثت خلاله وكتبت أكثر مما تحدثت وكتبت خلال العهد الجديد، وأؤكد لكم أنني لم أكن أفرغ يوماً أو ليلة لكتاب أو حديث دون أن أتشعر غضب السلطان علي وبطشه بي إذا كان الغد! والأدباء - والحمد لله - بارعون مكرة مهرة في اصطناع الحيلة للتخلص من بطش السلطان، بل للعبث بعقل السلطان! فهم يلتمسون من طرق الرمز ومن التواء التعبير ومن فنون المناورات والمداورات فيما يكتبون وفيما يقولون ما يورط المراقبين في ألوان من الارتباك لا حد لها!. ولقد كنت في أوربا يوما مع الكاتب الكبير (أندريه جيد) فجاءتنا صحيفة تعلن أن إسماعيل صدقي - في محاربته للشيوعية - قد استطرد فسن قوانين لعقاب الذين يدعون للعدل الاجتماعي ويطلبون الحرية للناس، فضقنا بذلك أشد الضيق، وكتمت في نفسي غيظاً بالغاً، وأضمرت عزماً على مقاومة هذه القوانين، فلما عدت إلى مصر - والرقابة في أوج طغيانها - لم أجد أيسر أو أبسط في مقاومة تلك القوانين من أن الجأ إلى آيات من القرآن الكريم تدعو إلى العدل بين الناس، وتنادي بحقهم الطبيعي في الحرية والكرامة، فأجعلها موضوعاً لكلماتي، فإن استطاع إسماعيل صدقي عن يصادر القرآن الكريم فقد ورط نفسه ووقع في حرج شديد، وإن لم يسطع قرء المقال وسمعت الدعوة إلى العدل الاجتماعي والحرية!
ولم أكن منفرداً بهذا المكر والاحتيال بل كان الأدباء جميعهم كذلك، وكان بينهم وبين (النيابة) حرب متصلة، وكانوا يقهرون (النيابة) في أكثر الأحيان بما يحذقون من مكر واحتيال!
وهذا أمر - وإن نجا الأدباء من عقابيله - فقد كان يفسد على الأدباء تفكيرهم ويجعلهم منغصين دائماً، فليس من الطبيعي ألا تفكر وألا تكتب إلا وأنت تعلم أن ورائك رقيباً يحاسبك ويؤاخذك ويستطيع أن يجرك إلى ما لا تحمد عقباه!
تلك كانت الظاهرة الأولى من ظواهر الأدب قبل العهد الجديد، وأما الظاهرة الأخرى فهي ظاهرة (الرغبة). وأنتم تعلمون أن في الناس ضعافاً لا يقدرون على المقاومة، وإن قدروا يوماً فلن يستطيعوا المضي في المقاومة والثبات على متاعبها ومصاعبها، وأن فيهم الكثيرين ممن يستهويهم الإغراء وتستذلهم المنفعة. وحياة الأدباء - كما تعلمون - معرضة(1023/43)
لكثير من الضيق والعنت والإقلال، فما أيسر أن يضعف البعض منهم أمام مظاهر الإغراء وملحاته فيضعوا أدبهم موضع التجارة والمساومة، والأدب الذي ينتهي إلى تلك الخسة والمهانة شر ليس وراءه شر، وفساد للذوق وللخلق وللنفس، وليته فساد يقف عند حد منشئه ولكنه يتجاوزه إلى قرائه وقد يكونون آلافاً من الناس القليل منهم من يفطن للفساد أو لا يضعف أمامه.
ولقد حدثني الأستاذ مصطفى عبد الرزاق رحمه الله أن كاتباً من الكتاب كان له راتب معلوم كل شهر من المصروفات السرية، فإذا جرى عليه هذا الراتب في ميقاته المضروب سكت عن كل معارضة، وصمت عن كل قول يغضب له الإنجليز أو الوزراء الذين يصانعون الإنجليز. أما إذا تأخر هذا الراتب عن ميعاده المضروب عارض وثار وكتب - وكان سعد في المنفى - يطالب بعودة (سعد) من منفاه، فتنتبه إليه السلطة وترسل إليه راتبه فينسى سعداً إلى أن يدور الشهر فيعود فيذكر سعداً.
وهكذا دواليك!. . . هاتان هما الظاهرتان الملحوظتان - في وضوح كثير - على أدبنا قبل العهد الجديد، وإذا كنت قد فهمت أحاديث قائد الثورة وخطبه وبياناته - وما أشك في أني فهمتها لأنه لا يحسن المداورة ولا يعرف المصانعة ولا يخشى رقيباً! - فأظن أن أول مظهر لفلسفته إنما هو تحرير المصريين جميعاً من الطغيان وهو إذا حرر المصريين من الطغيان فقد حرر أدب المصريين من الخوف ومن الرغبة ومن كل أعقاب الطغيان، وقد بدأ في ذلك موفقاً من غير شك.
فالذين يظنون أن الثورة لم تهد - بعد - إلى الأدب شيئاً مخطئون، فقد أهدت الثورة إلى الأدب أن أتاحت له أن يظهر جلياً صريحاً سافراً لا يلتوي ولا يداور ولا يحتال ولا يخشى عنتاً أو بطشا.
لقد كان أدبنا تصويراً للبؤس والحرمان والشقاء والظلم الذي كانت الأمة ترسف في أغلاله، كان مرآة للظلام الحالك الذي كانت تحيا فيه الأمة، والمرآة في الظلام لا تكاد تعكس شيئاً فكنا نفر من هذا الظلام إلى غير مصر، كنا نبعد في الزمان ونبعد في المكان فنتكلم في التاريخ القديم وفي الأمم القديمة والمعاصرة لنسلي أنفسنا وقراءنا عما نحن فيه من البأساء والضراء.(1023/44)
ولكننا اليوم وبعد اليوم سنقبل على حياتنا راغبين في تصويرها مطمئنين إليها واجدين فيها ألواناً من الأدب وفنونا من القول لم نعرفها من قبل. . ولكن هذا ليس كل ما ننتظره من الثورة، فالأدب والفن أزهار لا يمكن أن توجد أو تزدهر في بلد كثرته جاهلة وقلته متعلمة تعليماً ليس خيراً من الجهل إلا قليلاً! وما هو الأدب في حقيقة الأمر؟ وما هو الفن؟ الأدب والفن هما تفكير وتعبير وكتابة أو قول، ثم آذن تسمع أو عيون تقرأن وقلوب تعي، وشعور يحس ويتأثر، وأذواق تذوق فتشعر بالمتعة والجمال. . . هذا هو الأدب وهذا هو الفن، فإذا وجدت القلة التي تفكر وتعبر وتكتب وتتحدث وتذيع ثم لم توجد الكثرة التي تسمع لها أو تتذوق منها، فإن تلك القلة تكون أشبه شيء بالزهرات التي تظهر فجأة في الصحراء أعقاب الغيث ثم لا تلبث أن تمسها الشمس وتلح عليها فيصيبها الذبول والضمور والزوال. . . فلا تريحوا أنفسكم ولا تريحوا حكامكم ولا تريحوا ثورتكم حتى يصبح التعليم ماء وهواء وحتى يصل إلى الناس في قراهم ومدنهم دون أن يجدوا مشقة أو يلقوا عناء. ولا تصدقوا أن انتشار التعليم - بجميع مراحله - شراً إلا على الذين يؤثرون أنفسهم بالخير دون الناس، أولئك الذين يريدون أن يسودوا ليتخذوا الناس عبيداً!
الإصلاح أقوى دعاية
في قاعة المحاضرات بدار جمعية الشبان المسلمين اجتمع - يوم السبت الأسبق - عدد كبير من صفوة رجال العلم والفكر لسماع هذه المحاضرة التي ألقاها الأستاذ محمد فؤاد جلال وزير الإرشاد القومي، والتي اقتطع الأستاذ لإلقائها ساعة ونصف من اجتماع مجلس الوزراء الذي كان منعقداً في نفس الوقت. وكانت نبرات الأستاذ المحاضر ونغماته - ونغمة الصوت كما يقولون نصف اللغة - تدل على ما في نفس الرجل من رغبة مكينة في الإصلاح الشامل السريع، وعقب عليه - كشأنه دائماً - الدكتور منصور فهمي فكان تعقيباً فيضاً من الثناء أسبغه على المحاضر، والمحاضر ينطوي على نفسه حياء وخجلاً! ونلخص المحاضرة بما يأتي: -
عندما نتكلم عن (الإصلاح) فإنما نتكلم عن شيء فكر فيه الجميع وعالجه الجميع واتفق عليه الناس جميعاً. فكلنا يعتقد بضرورة (الإصلاح)، الفلاح والعامل والموظف والسياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرهم، ولكل من هؤلاء أسلوبه الخاص وهدفه الذي يسعى إليه.(1023/45)
وتلك الأساليب والأهداف هي - دون سواها - ما يختلف الناس عليه حين يتكلمون في الإصلاح.
والإصلاح هو أن ترى في يومك خيراً مما رأيت في أمسك، وأن تجد في غدك أحسن مما وجدت في يومك، أي أن تتجه إلى الأمام دائماً دون وقوف أو رجوع إلى الوراء.
ولكن: كيف نقوم بهذا الإصلاح؟ وكيف نحققه في حياتنا الواقعية؟ إن الإصلاح يجب - ابتداء - أن تكون له في أذهاننا صورة واضحة كاملة حتى يمكن أن نتجه إلى شيء له كيان قائم ومعالم معروفة، وتلك أولى الخطوات في كل إصلاح بل في كل عمل، فإن الأفكار إذا لم تتضح جلياً قبل تنفيذها بحيث تعرف لنا دقائقها وتفصيلاتها فهيهات أن نستطيع تحقيقها. والإصلاح ينصب على حياة الناس من كافة جوانبها وزواياها، ولن ينهض إنسان إذا قام منه جانب ومال جانب، فإن الجانب المائل يشد إليه الجانب الذي سمق وارتفع فإذا بهما منحدران معاً إلى منحدرهما القديم؟
والإصلاح لا يقف عند حد، فما دامت الحياة فهناك إصلاح منشود، والإنسان طموح دائماً ولن يقف طموحه إلا بوقوف نبضات قلبه! والمصلحون هم نحن أنفسنا دون سوانا، ولن يصل أحد إلى دخائل نفس الإنسان سوى نفسه، والفرد هو الوحدة المتكررة التي يتكون منها المجتمع، فيجب أن يتجه الإصلاح أول ما يتجه إلى عقله وذهنه وسلوكه وبهذا نخلق الوعي بين المواطنين فيصبح طريق الإصلاح ممهداً ويقل ما ننفق في الإصلاح من جهد وننتفع بما ننفق أكبر انتفاع.
علي متولي صلاح(1023/46)
أخبار أدبية وعلمية
مؤتمر إسلامي في القاهرة
كانت الرسالة أول من دعا إلى عقد مؤتمر إسلامي بينت الدواعي إليه ورسمت الخطة له وأوضحت الغرض منه في مقال افتتاحي بعنوان (لابد للإسلام من مؤتمر).
وقد فكر الأزهر اليوم في الدعوة لهذا المؤتمر فقابل وكيله هو والمرشد العام للإخوان الرئيس القائد محمد نجيب وعرضا عليه فكرة عقد مؤتمر إسلامي للشعوب الإسلامية بالقاهرة وأوضحا الأهداف التي ستتناولها أعمال المؤتمر.
وقد تلقت مشيخة الأزهر من رئاسة مجلس الوزراء أن الحكومة لا تمانع في عقد هذا المؤتمر وأنها ترحب به وأنها ستقدم كل التسهيلات للمشتركين في هذا المؤتمر الشعبي الإسلامي.
وقد استقر الرأي على أن يوجه الدعوة إلى زعماء المسلمين والهيئات الدينية في البلاد لحضور المؤتمر فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر.
وقد ألفت لجنة لتنظيم أعمال المؤتمر تضم ممثلين من مختلف الهيئات الإسلامية في مصر.
والمؤتمر سيبحث بصفة عامة أحوال المسلمين في جميع البلاد وتقوية أواصر المودة بينهم والعمل على ضم صفوفهم.
وكان معروفاً من قبل أن المؤتمر سيبدأ جلساته في شهر مارس المقبل، ولكن لضيق الوقت رئي عدم تحديد موعد جلسات المؤتمر الآن حتى تتم الوسائل الخاصة به وعندئذ يكون من السهل تحديد موعد اجتماعه.
كتاب الروضة الغناء في أصول الغناء
عثر الأستاذ عثمان الكعاك حافظ المكتبة العمومية بتونس على كتاب نفيس نادر من آثار الأندلس القيمة هو كتاب (الروضة الغناء في أصول الغناء) وهو كتاب في علم الموسيقى وأصولها ينتهي فيه المؤلف بعد تحليل كل صوت من الأصوات وذكر فروعها بإيراد الأزجال والموشحات الملحنة في ذلك الصوت والتي كان يتغنى بها في عصور الأندلس الزاهرة.
خريطة القمر(1023/47)
نشرت جريدة فلكية أول خريطة شاملة تنشر في العالم للقمر، ويقول العالم الذي علق على هذه الخريطة أنه لابد أن يكون في القمر سهل فسيح الأرجاء يغطي جزءاً كبيراً من المنطقة التي يمكن أن تسمى بالشمالية من هذا الكوكب السيار، أما الجنوب ففيه أودية عميقة وجبال عالية تؤلف قممها الشكل الذي يبدو عليه سطح القمر وكأنه وجه إنسان، وقد استغرق العمل في إعداد هذه الخريطة 14 سنة، وقد صنع الأصل على شكل كروي قطره خمسة أمتار.
والمعروف أن أكثر هذه الخرائط يعتمد على الصور التي تلتقط للقمر في أوقات شتى بواسطة المناظير المقربة (التلسكوب).
جامعة عائمة يقترحها أغا خان
كتبت الصحيفة الباكستانية (كريتيك) أن أغا خان سيطالب في المستقبل القريب بتمويل (جامعة إسلامية عائمة) تنشأ على ظهر باخرة تجوب موانئ الشرق الأوسط حتى يستطيع الطلاب على علمي الاقتصاد والصناعة دراسة مشاكل الأمم الإسلامية المختلفة.
وقد قدم هذه الفكرة من خلال الأستاذ جلال حسين. وقد عرضت مؤسسة فورد أن تدفع لهذه الجامعة مثل ما يدفع أغا خان. . .
سكان العالم يتضاعفون بعد 70 سنة
تقول آخر إحصائيات الأمم المتحدة أن سكان العالم سيتضاعفون خلال سبعين سنة إذا بقيت نسبة ازدياد السكان الحالية محافظة على مستواها، وبذلك سيصبح سكان العالم بعد هذه المدة 5 مليارات و200 مليون تقريباً لأن عدد سكان العالم في الوقت الحاضر يقدر بحوالي مليارين و700 مليون.
تمثال مصري عمره 4000 سنة
حصل المتحف الملكي في اسكتلندا على تمثال نصفي مصري قديم منحوت من حجر ذي لون قرمزي يرجع تاريخه إلى أربعة آلاف عام، وقد يكون منحوتاً من الجرانيت الوردي المعروف، وقد وصف بأنه مثال بديع لفن النحت في عهد المملكة الفرعونية الوسطى.
ويغلب الظن أن هذه الآثار من مخلفات الموظفين البريطانيين السابقين في مصر.(1023/48)
خبراء المطر الصناعي يقومون بتجارب في صحراء مصر
يؤخذ من نبأ ورد من نيقوسيا أن خبراء المعونة الأمريكية سيجرون تجارب لإنزال المطر الصناعي في صحراء مصر الغربية لإنشاء مناطق لزراعة الفاكهة واستنبات المراعي. وسيعمل الخبراء على تكوين سحب متجمعة فوق المناطق الساحلية تتجه نحو الصحراء ثم تنزل عليها المطر.
نقل الروائع العربية إلى اللغات الأوربية
تتابع اليونسكو إصدار سلسلة الروائع الإنسانية المترجمة، وكانت قد أنشأت بالاتفاق مع الحكومة اللبنانية لجنة دولية في بيروت تتولى اختيار هذه الروائع وتشرف على ترجمتها من العربية وإليها رغبة في ربط حضارات الشرق والغرب. وقد وقع اختيار هذه اللجنة على - كتاب - الإشارات والتنبيهات لابن سينا، وكتاب - البخلاء - للجاحظ - فتولت نقلهما إلى اللغة الفرنسية على أن يترجما فيما بعد إلى الإنكليزية والإسبانية، وأصدرت أخيراً حلقة ثالثة هي كتاب - أيها الولد - للغزالي.
الوصول إلى القمر في صاروخ
صرح أربعة من كبار الفلكيين في مجلة (نيوز آند وورلد ريبورت) الأمريكية بأنه قد يكون في الإمكان الوصول إلى القمر في صاروخ بنفقات هائلة. . ولكن الرجال الذين يكونون في داخل الصاروخ قد لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة حتى تنتهي الرحلة. ولا حظوا أن الإنسان يحتاج للخروج من نطاق الطبقات الجوية المحيطة بالأرض إلى سرعة تبلغ سبعة أميال في الثانية. وأن الرحلة تستغرق إلى القمر قرابة عشر ساعات، وإلى المريخ سبعين يوماً. وإن الرحالة يحتاج في الفضاء الكوني إلى رداء خاصللتجول في أنحاء القمر، ومع ذلك فقد يتجمد حتى الموت أو تصدمه ذرة كونية سريعة قد تقتله لكنه لن يسمع صوتاً فوق القمر وقد لا يجد زرعاً.
المسلمون في بريطانيا
جاء في الإحصاءات الرسمية إن المسلمين أصبحوا أكبر جالية أجنبية في بريطانيا، ويقدر عدد المسلمين الباكستانيين وحدهم بنحو خمسين ألفاً. والمسلمون منتشرون في لندن ومعظم(1023/49)
المدن الكبيرة والموانئ ولكن أكثر الأماكن ازدحاماً بهم برمنجهام وكوفتتري التي هدمتها القنابل الألمانية خلال الحرب الأخيرة، ويليها في ذلك كارديف وجنوب ويلز. ثم مانشستر وليفربول وجلاسكو.
ويؤلف المسلمون في برمنجهام وكوفتتري مجتمعاً صناعياً هاماً وكثيرون منهم قاموا برحلات كثيرة في العالم قبل أن يستقروا في هذه المنطقة، والبالغون فيهم نحو سبعة آلاف، وأما المسلمون في كارديف فهم من بلاد شتى على الرغم من تآلفهم واتحادهم، فهم من الأردن وفلسطين ومصر وسوريا والمملكة السعودية والعراق وعدن والصومال والحبشة وشمال أفريقية وزنجبار.
ولمصر 737 طالباً في إنجلترا ويليها في ذلك إيران بسبعمائة طالب، أما الباكستان فلها 980 طالباً.
وللمسلمين في إنجلترا أربعة مساجد أعظمها مسجد (شاه جيهان) في ووكنج بمقاطعة صري، أما المساجد الثلاثة الأخرى فهي في كرديف (في ويلز) وايست أند بلندن، وسجد الأحمدية في بوتني بلندن أيضاً، وسوف ينشأ مسجد خامس كبير في حدائق المركز الإسلامي بريجنت بارك بلندن، وهذا غير 12 مصلى في بيوت إسلامية أخرى، أما المسجد الجديد فإن نفقاته لا تقل عن150 ألف جنيه تبرعت الحكومة بأرضه وتبرع نظام حيدر آباد بخمسين ألف جنيه له وجمعت له اكتتابات بلغت 150 ألفاً.
مؤتمر للشعر
سيعقد في مدينة بروكسل مؤتمر هو الأول من نوعه للشعر والشعراء؛ وقد دعي إلى الاشتراك فيه فحول الشعراء في العالم وذلك لمعالجة مشكلات فن الشعر وانحطاط قيمته الجوهرية عقب الحرب.
وسيقام المؤتمر برعاية رئيس وزراء بلجيكا وتحت إشراف هيئة اليونسكو ونادي القلم الدولي والمجمع العلمي في بروكسل. وسيمثل أدباء العروبة في هذا المؤتمر الشاعر رياض معلوف.
الإسلام في أفريقيا(1023/50)
نشرت صحيفة (فيدس) التي تذيع أنباء الفاتيكان الرسمية أن عدد الذين اعتنقوا الدين الإسلامي في أواسط أفريقيا وشرقها وغربها ضعف الذين اعتنقوا المذهب الكاثوليكي.
وقد أصبحت مجموعات من القرى في بعض أنحاء شرق أفريقيا البريطاني إسلامية بعد أن كانت وثنية منذ عشر سنين.
ويقال إن عدد المسلمين 80 مليوناً والكاثوليك 15 مليوناً من مجموع سكان أفريقيا وهم 200 مليوناً و174 ألف نسمة.
وتقول (فيدس) إن الأسباب التي أدت إلى انتشار الدين الإسلامي هي سهولته ويسره وميزته في ذلك كله على تعاليم الوثنية ومطالبها وشعور معتنقيه بأنه أحد أبناء دين من أعظم أديان العالم واقتناعه أنه ارتقى من الناحية الاجتماعية عما كان قبل اعتناقه.
وتتوقع (فيدس) أن يزداد انتشار الإسلام في إفريقيا بسرة أشد مما هي عليه في الوقت الحاضر.
طلاب الشرق في الجامعات البريطانية
يؤخذ من إحصاء نشره المجلس البريطاني في لندن أن عدد الأشخاص الذين يتلقون العلم بالجامعات البريطانية على نفقة المجلس بلغ في السنة الدراسية الحالية 161 طالباً قدموا من ستة وخمسين دولة. وهؤلاء الطلاب من ذوي المؤهلات الجامعية ممن حصلوا على درجات عالية في الدراسات التي تنظمها فروع المجلس المختلفة خارج بريطانيا. ومن بين هؤلاء طلاب من مصر والأردن وإيران.
مبيد للمكروبات جديد
أضيفت حلقة جديدة لسلسلة العقاقير المبيدة للمكروبات باكتشاف البوليميسيين (ب) وهو على رأي طائفة من الأطباء الأمريكيين جدير بالقضاء على مجموعة من الأمراض المعدية التي تتحدى منذ طويل جهود علم الطب.
والفرق بين البوليميسين (ب) والتراميسين أن التراميسين فعال الأثر في عدد كبير من الأمراض بينما العقار الجديد قليل الشهية للجراثيم، ولكنه يختص بمجموعة معينة من الجراثيم خصوصاً ما هو معروف منها باسم يوجد طبيعياً في أمعاء الإنسان ولكنه لا(1023/51)
يستشري إلا إذا ضعفت مقاومة الشخص أو انعدمت كما أثبت الدكتور إرنست زانتز فائدته في علاج (الزحار) الديسنطاريا الباسيلية المزمنة وبعض أمراض الأطفال.(1023/52)
في عالم الكتب: نقد وتعريف
ضرب الكليم
ديوان شعر لشاعر الشرق والإسلام الدكتور محمد إقبال رحمه
الله
تعريب الدكتور عبد الوهاب عزام
للأستاذ مسعود الندوي
بين يدي الآن، ديوان (ضرب الكليم) الذي قام بتعريبه الأديب الألمعي والشاعر المفلق، صديقنا الأجل الدكتور عبد الوهاب عزام، أتصفح أوراقه وأسرح النظر في مرعاه؛ والذاكرة تستعيد بيت (إقبال) الذي شكا فيه عدم انتشار شعره بين الناطقين بالضاد:
لو أن من به عجم آتش كني أفروخت ... عرب زنغمة شوقم بنوزبي خبراست
(لقد أذكى شعري الجذوة الخامدة في بلاد العجم؛ لكن العرب لا تزال تجهل ما أبثه من تباريح الشوق والوجد) قال ذلك (إقبال) قبل نيف وعشرين سنة، حينما كانت مصر والأقطار العربية مفتتنة بأدب (تاغور) وشعره، ولا تكاد تلتفت إلى شعر (إقبال) وحكمته الخالدة المستفيضة من معين الكتاب والسنة، لما استولى عليها يومئذ من نزعات الوطنية المتطرفة. ولو عاش شاعرنا إلى هذا اليوم، لشاهد بعينيه أنه قد تبدلت الأرض غير الأرض، وقد هب القوم يستعيدون مجدهم العربي ويحلمون باسترداد عزهم الإسلامي الخالد، وذلك بفضل دعوة (الأخوان المسلمين) ورجالها العاملين المخلصين الذين حطموا قيود الفرعونية وفكوا أغلال الإقليمية والعنصرية وقاموا في الأمة ينادون باسم الإسلام، يحيون له ويموتون في سبيله. وهذا ما كان يدعوا إليه (محمد إقبال) الشاعر الحكيم بشعره الرصين البليغ الممتلئ حكمة وإيماناً. فما أحسن هذه الفرصة وما أوفق هذه الظروف الملائمة لترجمة (شعر إقبال) وعرضه على قراء العربية.
ومن أجل هذا وذاك كان سرورنا عظيماً إذ تصدى صديقنا النابغة الدكتور عبد الوهاب عزام لهذا العمل الجليل؛ ولعمري هو خير من كان يمكن أن يقوم بهذا الواجب الخطير في(1023/53)
باكستان والبلاد العربية كلها، إذ لا يتأتى لكاتب أو شاعر باكستاني أن يفزع إلى شعر إقبال البليغ في قالب من العربية فصيح تبقى عليه مسحة من بلاغة (إقبال) وروائه: وقد جرب ذلك كاتب هذه السطور غير مرة فلم يكتب له النجاح. وكذلك لا يوجد في أدباء العرب وشعرائهم - فيما أعرف - من يعرف اللغات التركية والفارسية والإنكليزية حق المعرفة، وله اطلاع لا بأس به على الأدب الأردي، مثل الدكتور عبد الوهاب عزام. فإنه أحاط بمؤهلات الموضوع من جميع أطرافها. أقول في أدباء العرب وشعرائهم، وذلك بعد تتبع الأدب العربي الحديث منذ خمس وعشرين سنة. وجملة القول أن الدكتور عبد الوهاب هو خير من كان يمكن أن يعنى بتعريب شعر لإقبال ودواوينه بالفارسية والأردية. ومن حسن حظنا وحسن حظ الأدب والعلم أن انتدب لتمثيل أرض الكنانة في بلاد (باكستان) فلم تحظ بلادنا في الست سنين الماضية من استقلالها بسفير أو ممثل سياسي وافق طبيعة الباكستانيين وأذواقهم مثل الدكتور عزام، غير الأستاذ الأديب عمر بهاء الأميري وزير سوريا المفوض سابقاً، فإنه أيضاً استأنس به أهل هذه البلاد كما يستأنس أخ بأخيه، وذلك لحميته الدينية ونشاطه المحمود في حقول الأدب والاجتماع.
وبعد، فقد جلست الآن أمام منضدتي لكتابة كلمة أعرف بها ترجمة (ضرب الكليم) العربية إلى القراء وأنوه بالنجاح الباهر الذي أحرزه العرب في هذا المجهود الأدبي المشكور، لكن الحديث ذو شجون والقلم قد اشتطت به الأفكار، فمعذرة إلى القراء.
هذا الديوان يحتوي على 130 صفحة من القطع المتوسط (علاوة على المقدمة وكلمة التعريف). وفي أولها مقدمة (ومدخل) للمعرب بين فيه منهاجه في التعريب وعرف بفلسفة (إقبال) والقطب الذي تدور عليه رحى كلامه، حتى يسهل للقارئ، التفطن إلى دقائق تعاليمه وحكمه. وأيضاً شكر المعرب في المقدمة الذين ساعدوه على فهم شعر (إقبال) من أصدقائه في (كراتشي) عاصمة باكستان. ثم تتلوها كلمة لكاتب من كتاب باكستان ليشرح بها فلسفة (إقبال) وتعاليمه. والكلمة في الأصل مكتوبة بالأردية، عني بتعريبها أو بتعريب (الجزء الأكبر منها) صديقنا الدكتور السيد محمد يوسف الهندي، نزيل القاهرة - ولكني لم أجد مسوغاً لتحلية جيد هذه الحسناء بهذه القلادة الشوهاء - وكان من الميسور أن يجد المعرب في العاصمة رجالاً لهم معرفة دقيقة بفلسفة (إقبال) ويقدرون إن يشرحوها أحسن(1023/54)
شرح بالعربية نفسها.
وهذا الديوان لباب تعاليم (إقبال) وحكمته، جادت به قريحته، وهو في المرحلة الأخيرة من مراحل حياته، وقد نضجت أفكاره وبلغت حكمته وفلسفته قمة العلو والكمال، إلى أن جعل ينشرها درراً منظومة وغير منظومة. فقد سمى هذا الشعر المبثوث في هذا الديوان (ضرب الكليم) أو إعلان الحرب على العصر الحاضر. ومن أجل ذلك، يعد هذا الديوان خير شيء لمن أراد الاطلاع على فكرة (إقبال) ونظريته في الحياة ومشاكلها ومسائلها المتنوعة المتشعبة.
أما هل نجح المعرب في إبراز محاسن شعر إقبال في حلة قشيبة من لغة الضاد، حتى يتأثر بها قراء العربية والناطقون بها، فهذا سؤال يصعب الجواب عليه بسهولة. فإن الترجمة - مهما أوتي المترجم من قوة الأداء وملكة البيان - قد تذهب في أكثر الأحيان برواء الأصل وبهائه في الشعر. والذي يقدر على أن يبقى على طلاوة الأصل وما له من تأثير بعد الترجمة، فلا شك أنه ممن بلغ قمة الإعجاز وارتفع فوق المستوى البشري المعتاد في الأداء وقوة البيان. هذا في الشعر. أما في النثر، فله شأن آخر، وفيه متسع للقول. وإذا نظرنا من هذه الوجهة إلى ديوان (ضرب الكليم) المعرب، رأينا أن المعرب قد نجح في مسعاه وأدى إلى قراء العربية معاني شعر (إقبال) السامية بدقة وبأمانة وبأسلوب عربي نقي، قلما نظفر بمثله عند جمهرة الكتاب. وذلك أقصى ما يقدر عليه كاتب وشاعر مهما كان من قدرته البيانية ولكته الأدبية. والمعرب الفاضل يستحق أجمل الثناء وأسنى كلمات الشكر من جميع المولعين بإقبال والمفتتنين بشعره.
والكتاب مطبوع طبعاً أنيقاً على ورق جيد، عنيت بنشره جماعة الأزهر للنشر والتأليف، إلا أننا ما رأينا وجهاً لإدخال أداة التعريف على (باكستان) في (سفير مصر لدى الباكستان) فإنه خطأ شائع، ينبغي تجنبه. والدكتور عزام قد استعمل الكلمة (باكستان) مجردة عن لام التعريف في المقدمة مراراً فلعل هذه الزيادة ممن تولى الطبع والنشر. وعلى كل، فلجماعة الأزهر للنشر والتأليف، شكري وتقديري وتحياتي.
مسعود الندوي
شاعر الشعب(1023/55)
تأليف الدكتور سامي الدهان
للسيدة وداد سكاكيني
تقتدي بعض دور النشر في مصر والبلاد العربية بما تصنع أمثالها في الغرب فإن ناشري الكتب يدأبون على إصدار سلاسل شهرية أو أسبوعية تشتمل على كل شائق وطريف يتعلق بالفكر والثقافة، فلما ظهرت سلسلة (اقرأ) ذكرت من فوري سلسلة (لو) الفرنسية، وقد استبشرنا الخير بظهور سلسلتنا العربية وفرحنا بالحلقات الذهبية التي ضمتها إذ شعت نوراً وجمالاً، ثم لم نلبث أن رأينا فيها حلقات من معادن لا يجوز أن تسلك مع الذهب في نظام واحد، فما كان في الدهر عقد ذهبي يجمع حلقات من نحاس أو قصدير.
فمن هذه الحلقات كتاب (شاعر الشعب) لمؤلفه الدكتور سامي الدهان؛ تناولته وأنا أحسبه دراسة أدبية مبسطة أو بحثاً مقرباً، وإذا به موضوع لا يرقى إلى الموضوعات المدرسية المنظمة، وقد سماه المؤلف شاعر الشعب ليستهوي الجمهور ببراعة العنوان دون أن يدل على المقصود، فمن هو شاعر الشعب؟ وأي شعب أراد المؤلف في ظاهر الكتاب؟
أما باطنه فهو يعنى بالكلام عن شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي ملأ صيته الشرق، وليس بحاجة إلى دراسة خفيفة أو بحث مرتجل، فرجل الشارع بمصر والبلاد العربية سمع بحافظ إبراهيم، فما بالك بالمتعلمين والمثقفين؟ وإنما يعوز حافظ إبراهيم اليوم أن يتصدى لدراسته من يستطيع تحليل شعره وعصره وبحث حياته ووطنيته من شتى نواحيها متعمقاً فيها، مستغرقاً أطرافها وخوافيها.
ويبدو أن المؤلف الفاضل آثر الراحة ورضى الجمهور والناشر فقد بات أكثر أدبنا بضاعة مزجاة خاضعة لقانون العرض والطلب في عالم الاقتصاد، فلملم الدكتور الدهان أصول كتابه وفصوله من ديوان حافظ إبراهيم الذي نشرته وزارة المعارف المصرية سنة 1937 وشارك في جمع شعره وشرحه وتنسيقه الأساتذة الثقات أحمد أمين وإبراهيم الأبياري والمرحوم زين.
وقد كتب المقدمة الشاملة العالم البحاثة أحمد أمين فكان من أغرب ما صنع المؤلف أن أهمل ذكر هذا المصدر الفياض الذي استقى منه آمناً مطمئناً غير حاسب أي حساب(1023/56)
للمطلعين المتتبعين، وكان يهون الأمر لو أن هذا المصدر لغابرين مغمورين، لكنه لمعاصرين مشهورين، وكانت أمانة العلم تقتضيه ألا يغفل ذكر كاتب المقدمة الذي كفاه عناء البحث والتنقيب.
وفي هذا المؤلف الصغير ناقض الدكتور الدهان نفسه كثيراً، فمرة يقول في أمر إيجاباً ثم يقول في هذا الأمر سلباً ونفياً، فمن أمثال هذا قوله إن حافظاً لم يتلق ثقافة عميقة واسعة ولا دراسة منظمة ثم يشيد في مكان آخر بوعي حافظ ومعرفته منساقاً مع المعجبين بثقافته، فيقول (ولا يخطئ الدارس حين يرى في مجلس الإمام، مدرسة عالية أو جامعة ثقافية يتخرج فيها الطالب كما يتخرج في الجامعة سواء بسواء. ولا حرج إذا وجدنا في صلة حافظ بهذه الدروس والمجالس صلة الطالب بالجامعة فقد أخذ بها حافظ وعب من منابعها فكان في دار الإمام يتلقى اللغة والحكمة ويقرأ الشرح في المنار ويتمرس بالشعر والوطنية).
ثم يسرد المؤلف أقوال صحب حافظ من أمثال البشري وبركات ومطران والعقاد وطه حسين حتى يملأ صفحات كتابه من هذه الأقوال دون تحليل لها أو تعليل لما جاء فيها. والأصل في الاستشهاد بالدراسات الأدبية أن يستنبط منه الباحث الحكم والدليل، ولكن الدكتور الدهان روى الأقوال ونقلها ليزيد في عدد الصفحات.
ومن التناقض في الحقائق التي سردها المؤلف قوله إن حافظاً أجاد شعره في شبابه ونظم أحسن قصيدة وهو في الرابعة والعشرين؛ ثم ذكر بعد صفحتين (هذا بعض شعره وقد جاوز الخامسة والعشرين طبعه بطابع القدماء وليس فيه إلا تهويل وتزويق، ولا براعة تشع منه ولا اختراع).
ومرة يجد المؤلف مجال القول ذا سعة في الكلام على حافظ من ناحية معينة ومرة لا يتجاوز الصفحتين حيث ينبغي التفصيل والتعليل، وذلك حسب نطاق الاقتباس واختصار الأصل، والظاهر أن المؤلف الفاضل كان في كلتا الحالين من حكمه وكلامه خاضعاً لسياق نفسي واختيار متخطف عابر.
وإن أدب قال فلان وروى عن فلان من غير دليل أو تحليل قد فات أوانه إذ كان من بضاعة المرحلة الفائتة في أدبنا المعاصر.(1023/57)
وكنا ننتظر من الأستاذ الفاضل الدكتور سامي الدهان أن يتحفنا ببحث شائق عن حافظ في سورية ولبنان، فقصيدته الرائعة التي قال فيها:
حيا ربوع الحيا أرباع لبنان ... وطالع اليمن بالشام حياني
حافلة بصور المودة والعروبة ومباهج الطبيعة والجمال، وهي جديرة بالدرس والمقارنة، وفيها قال حافظ:
وقد وقفت على الستين أسألها ... أسوفت أم أعدت حر أكفاني
وقد اتفق أن كانت نهاية الشاعر بعد هذه الوقفة بشهور. على أن هذه الوقفة الشاعرة الملهمة كان جديراً بالمؤلف أن يستغلها لو مر بها، فإنها تصلح لانبثاق مسارح العاطفة من شاعر خالد اتفق له أن تنبأ بموته وصدقت نبوءته. لقد سبق المتنبي حافظاً إلى مثل هذه النبوءة المحققة حين فارق فارس فقال قبيل فراقها:
وأنى شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاة أو هلاكا
ومن عجب أن يقول المؤلف: (إن حافظاً لم يحس بالطبيعة ولم يحدثها أو تحدثه، وكأنها لم تنقش في ذهنه إلا كما ينقش الأزميل في الماء أو القلم في الصحراء) وقد فاتته القصائد الوصفية التي نشرت في ديوانه الأخير من ص205 إلى ص239 وفيها مقطوعات وأبيات في وصف الطبيعة بين السماء والأرض، وما يزال في خاطري من عهد الدراسة قصيدة حافظ في وصف الشمس، وهل الشمس إلا أم الطبيعة ومحور الكون؟ وقد وصف شاعر النيل الزلازل والبراكين، وصور البحر وخفوق الرياح أروع تصوير، ولم يترك جنان الربيع ولا منازل الجزيرة في وطنه الجميل.
ولا ينبغي أن يغيب عن كفتي ميزاننا الأدبي الحديث أن حافظاً وشوقياً والبارودي وصبري قبلهما لم يعنوا بوحدة الموضوع كما نطالب بها اليوم شعرائنا، ولروح الشعر العربي طبيعة تختلف عن طبائع الشعر الغربي إذ أن شعرنا لا يخلوا من التنوع واختلاف الصور فيه على الرغم من كل تجديد.
وثمة كلمة نابية جاءت ص3 ذكرها المؤلف وهو يتحدث عن حافظ وشعره فقال (ظل يهذي حتى قال الشعر) وما كان حافظ مهذاراً في شعره ولا هاذياً، وإن النكتة التي شاعت في أحاديثه الخاصة لم تكن لتذهب من وقاره وقدره. ولعل المؤلف أراد أن يقول: حاول(1023/58)
حافظ الشعر أو غرزم فيه حتى تمرس به.
وبعد فإن كتاب (شاعر الشعب) مثل الدراسات الخفيفة العابرة وما كانت منتظرة وهي على هذه الصورة من مؤلف ولا ناشر، على أن لمؤلف هذا الأثر الأخير آثاراً قيمة تشهد له بالبراعة والاقتدار.
وداد سكاكيني(1023/59)
آراء وأنباء
وا إسلاماه!
هكذا سيصبح القارئ بعدما يفرغ من قراءة مقالي الأستاذ محمود شاكر: أبصر طريقك وباطل مشرق. فالأستاذ الكريم ينظر إلى العالم الإسلامي بعد الغزوين الأوربيين: العسكري والفكري، فيراه قد انقسم إلى طائفتين. فطائفة نسيت ماضيها وتنكرت له. ورأت الرجوع إليه مخالفة لروح العصر؛ وطائفة أهمها ماضيها وعز عليها أن تتنكر له فانبرت تقدمه للناس في ثوب جديد. لا تألو في ذلك صبراً ولا جهاداً.
والأستاذ الكبير يخاف على الإسلام أشد الخوف من هذه الطائفة (التي اتخذت كلمة الإسلام لغواً على مذباتها) ومما زاد الطين بلة والجرح ألماً هو نشاط هؤلاء الناس، وانصراف كل داعية منهم إلى ناحية مدعياً ترميمها وتجديدها على أسس هي (في جوهرها من الحياة التي أنشأها الغازي الصليبي بيننا). لذلك وبسبب هؤلاء فالعالم الإسلامي (مقبل على هزيمة منكرة عاقبتها تبديل الإسلام تبديلاً كاملاً) هزيمة منكرة؟ عاقبتها تبديل الإسلام تبديلاً كاملاً؟ وا غوثاه! أين هؤلاء المجددون؟ دلنا عليهم يا أستاذنا؛ فأنت وحدك أدركت الخطر. وعرفت السر الخطير. دلنا عليهم وإلا فأنت تقاتل في غير عدو. وليس المجال مجالي وحسبي أن أنبه من هو أقدر مني ليطمئن الأستاذ على الإسلام وأنه لا خوف عليه من هؤلاء المجددين. فالإسلام صالح لكل زمان ومكان.
الصافية
عبد الفتاح محمد الجزار
هل في مصر أزمة ثقافية؟
دأب كبار المفكرين المصريين على ترديد دعوى لا برهان عليها وهي (أن الأدب في محنة) (والثقافة المصرية في أزمة) وأن الشعر قد مات بموت شوقي وحافظ، إلى آخر هذه الدعاوى العريضة التي تشغل أعمدة الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية - ويعلم الله أنه لا ضعف ولا نكوص، وأن مصر اليوم غير مصر الأمس، غيرها في كل شيء. . في عدد القراء، وتنوع الأدب، والمستوى الثقافي العام. . ويذكرني هذا بتعقيب الأستاذ (أبو حديد)(1023/60)
على ندوة من ندوات الشعر في جمعية الشبان المسيحية إذ قال: (وفيما شاهدت أكبر برهان أكبر برهان أرد به على دعوى الذين يزعمون أن الأدب في محنة - فالشعر كان جدولاً واحدا لا يتغير قي عهد شوقي، وقد تعددت ألوانه ومذاهبه) هذا ما قاله (أبو حديد) لأنه استطاع أن يبرح البرج العاجي الذي يقبع فيه كبار الأدباء في هذه الأيام وشاهد بعينيه ندوات الشباب التي لم يكن لها نظير في عهد شوقي وحافظ. . .
ويقول الأستاذ (سعيد العريان) إن الكتاب الجيد لم يعد يطبع منه إلا بضعة آلاف نسخة لا تنفذ في أقل من عامين - فهذا كلام حق ويجب أن يكون - فالقراء اليوم - وهم كثير - قد عرفوا معنى التعاون؛ فالكتاب الواحد يقرؤه العشرات من طلاب المعرفة بواسطة التبادل الثقافي فيما بينهم وأصبحوا يقصدون دور الكتب المختلفة - خاصة وقد أصبح في كل مدرسة مكتبة، وفي كل شارع من شوارع القاهرة وفي كل مدينة من مدن القطر مكتبة أو أكثر تتوفر فيها أسباب الراحة لطلاب المعرفة. .
وإذا أردت دليلاً على كثرة القراءة وارتفاع المستوى الثقافي في مصر فاهبط يوماً إلى حديقة الأزبكية حيث تجد الآلاف من عشاق الثقافات المختلفة يهومون حولها ويحدقون بعيون ظمأى إلى أكداس الكتب البالية المرصوصة على سور الحديقة، ولا يضنون في سبيل الحصول عليها بالقروش اليسيرة التي تفضل عن (قوتهم). أما أن يطبع لهم كتاب جيد ويفتن صاحبه في انتقاء الورق واختيار الغلاف وتحليته بالصور الجميلة ثم يطلب منهم الثمن الباهظ، فهذا ما لا يستطيعه إلا القليل. وإن أردت التأكد من ذلك فاسأل دور النشر التي تطبع الطبعات الرخيصة في هذه الأيام كدار الهلال، ودار كتب للجميع. . وغيرها، عما تبيعه من هذه الكتب فسوف تسمع ما يسرك وما يجعلك تعود فتقول: حقاً إن عدد القراء قد زاد زيادة عظيمة.
ولقد زاد عدد القراء أضعاف ما كان عليه والمتعلمون لا يزيدون عن المليون. ولقد أصبحت الأفكار والآراء التي كانت وقفاً على عدد قليل فيما مضى من كبار المثقفين - في متناول جمع طبقات الشعب يلغطون بها في أحادثهم اليومية، وقد يتندرون بالمسف منها، وإن الأدب الذي كان يهلل له جمهرة القراء فيما مضى، لم يعد يرضي أذواقهم كثيراً في هذه الأيام. وإنهم ليتطلعون إلى الأدب الحي الذي تصوره الأقلام المصرية الأصيلة أصدق(1023/61)
التصوير ولم يعد هذا الجيل يهاتر حول بيت من الشعر، أو أن كلمة (مرجان) قد أخطأ فيها الشاعر عشر أخطاء أو خمساً. وحينما يرتفع المستوى الاقتصادي في مصر ويستطيع صاحب القصة أو الديوان طبع قصته أو ديوانه، ويستطيع القارئ شراء نسخته - فسوف يموت أدب وينتعش أدب. وسوف ترتعد فرائص الذين يعيشون خلف الأسوار - حين يدهمهم هذا السيل الذي ترعف به أقلام الشباب.
كيلاني حسن سند(1023/62)
طرائف وقصص
انتحار
للكاتب الفرنسي جورج مورفير
سان رومانو! كم هو بلد جميل رائع! فيه يدرك الإنسان المعنى الذي تنطوي عليه كلمات فلوبير: هنالك بقاع في العالم يود المرء لجمالها وروعتها لو يضمها إلى صدره ضمة الوجد والحنين. . . بيد أن سان رومانو وا أسفاه تشبه أيضاً ثمرة لذة فواحة لا يجسر امرؤ على تذوقها مخافة الموت الذي يقطر من عصيرها.
ولسوء الحظ لا تستطيع مناظرها الساحرة الخلابة أن تدخل السرور والبهجة على قلب الناس؛ ففي جنبات المدينة تقابلك الوجوه الذاهلة والملامح اليائسة والعيون الحيرى الآسفة. . . وفي كل مكان منها تطالعك كلمات السخط والتبرم: ألا ليتني وضعت على رقم 7!. . . آه! هذا الأحمر الملعون، لقد كسب عشر مرات متوالية، وبالرغم من ذلك وضعت على الأسود.
ولم يكن في البلد كله من يلقي أدنى التفاته إلى المناظر الساحرة الأخاذة التي تنبت فيه. كانت الأرض عندهم (روليت) ضخمة، والسماء صفحة كتب عليها أرقام 30 و40 و50.
وقد كنت أنا أيضا ضحية هذا البلد الخطير؛ إذ خسرت مبلغا لم يكن جد كبير، غير أنه كان كل ما أملك. وأفقت من نومي ذات صباح كيلا أجد معي سوى اثني عشر فرنكاً مع أني مدين لصاحب المنزل الذي أقيم فيه بخمسة عشر فرنكاً؛ لذلك اختبرت مسدسي فألفيته يزخر بست رصاصات قواتل كانت في ظني كافية لتمزيق رأس فارغ كرأسي. وفتحت نافذتي، كان (صباحي الأخير) رائعاً جميلاً فالسماء زرقاء صافية والأمواج خضراء هادئة والنسيم يسبق بشذى زهر البرتقال والبنفسج.
وغادرت منزلي إلى الشاطئ لأملأ صدري المنفعل بهذا النسيم الفواح. . . بيد أنني كررت عائداً بعد أن سرت قليلاً، إذ أحسست جوعاً شديداً، وفي أثناء عودتي ابتعت صحيفة سان رومانو المحلية، وهي صحيفة مثيرة، مجللة بالسواد كأنها رسالة حزينة.
ورحت أقلب صفحاتها إبان الطعام فاسترعى نظري عنوان (إنتحارات الأسبوع) فجال بخاطري دون أدنى انفعال: هنا سيعلن خبر موتي بعد أيام قلائل) بل وددت لو أشكر سلفاً(1023/63)
محرر هذا الباب الذي سيعلن نعيي في هذه الصحيفة.
وعلقت عيناي بخبر انفرد بعلامة الصليب في صدره فقرأت فيه (وجدت بالأمس جثة جوسو جاكوبسن - أمريكي الجنس - معلقة في إحدى النخيل الذي ينمو على الشرفة - وقد وجد في جيبه مبلغ ثلاثة آلاف فرنك - طبعاً).
جوسو جاكوبسن؟ إني أعرفه. بل لقد خسرنا كل نقودنا جنباً إلى جنب. والأمس القريب حينما خسر آخر فلس معه رأيته يتنهد في عنف وحسرة، ثم أمسك بيدي وهزها بحرارة ونظر إلي في حزن ثم ابتسم وقال بصوت خفيض (لقد دمرت. . . دمرت تماماً. . . وداعاً يا صديقي). . . ومن ثم ذهب فشنق نفسه.
إذن، كيف أمكن أن يعثروا في جيبه على ثلاثة آلاف فرنك. . . وماذا تعني بحق الشيطان هذه الكلمة (طبعا).
ولاح لي قبس كشف لي الأمر وأبان الطريق. . يالي من غبي! كيف لم أفطن إلى ذلك من قبل. . . لقد دس - ولا ريب - أصحاب الكازينو هذا المال في جيبه لتضليل الناس وحملهم على الاعتقاد أن انتحاره لا يرجع البتة إلى خسارته بل إلى أسباب شخصية ودوافع نفسية.
وعلى ضوء هذا الاكتشاف الفجائي رحت أفكر! كم يا ترى يدسون في جيبي إذا حزمت أمري وانتحرت على مقربة من الكازينو؟ لقد خسرت بقدر ما خسر جاكوبسن. . . وسربت إلى رأسي فكرة بأسرع مما كان مقدراً أن تسرب الرصاصة.
ثم واصلت تناول الطعام بقلب ثابت أو يكاد يكون ثابتاً؛ وذهبت بعدئذ إلى صاحب الفندق وأكدت له أني سأدفع له حسابه هذا المساء ثم أضفت:
- هذا إذا بقيت حياً. . .
- إنا نثق فيك كل الثقة يا سيدي.
- إذن فأقرضني مائة فرنك حتى المساء. . . إني أنتظر وصول مال من باريس.
- بكل سرور يا سيدي.
وقضيت سحابة النهار على الشاطئ حيث وضعت - بروية وإمعان - خطة السير بانتحار يعود علي بربح وفير.(1023/64)
وفي مساء هذا اليوم بعينه ذهبت إلى الكازينو مرتدياً أجمل أثوابي وقد أبنت للملأ أني جئت أجازف بآخر ما بقي لي. . . وأني سأموت هماً وغماً إن لم أربح.
وطارت المائة فرنك. . . فبدأ علي الانزعاج في بادئ الأمر. . . ثم انقلبت أتأمل غاضباً حنقاً. . . وأخيراً بدوت كالذاهل المأخوذ.
ورثى لحالي شاب قامت بيني وبينه معرفة، وسألني ما الخبر فأنبأته بنبرات حزينة يائسة أني أفلست، فأخذ يواسيني ويخفف عني ثم قال:
- لا تيئس فما زلت تملك نفقات السفر إلى وطنك، إن الكازينو - في هذه الحال - يتطوع. . . فقاطعته بيأس قائلاً:
- إن السفر الذي أزمعه لا يحتاج إلى (تذكرة) فنظر إلي مشدوهاً وقال:
- لا أحسبك جاداً في هذا القول. . . آمل ألا تكون قد جننت.
فظللت صامتاً، ثم أدرت له ظهري ورحت أجيل بصري ذاهلاً في أرجاء المكان بضع دقائق. . . وقد لمحت أصحاب (الكازينو) يراقبونني من طرف خفي، وانفرط عقد اللاعبين في الساعة الحادية عشرة، فقفوت أثر الخارجين بوجه يحمل علائم الذهول واليأس والتفكير.
وكانت الليلة رائعة جميلة والقمر بدراً يلقي بأشعته الفضية الناعمة على الأرض الشجراء والبحر الأزرق الساكن. وبلغ سمعي أصوات كمان حنون ينوح نوح عاشقة يائسة وجعلت وجهتي - وقد أجمعت أمري - حرشاً قريباً من الكازينو، بقعة هادئة تعد بحق أصلح مكان لتمثيل الدور الذي أزمعته؛ وكان ثمة تمثال من الرخام لغانية من غواني البحر بدا كأنه يبتسم وأنا أوشك أن أقوم بدوري.
ودوت فجأة طلقتان ناريتان، وسقطت على أحد المقاعد في وضع مهمل وانتظرت. واقتربت مني أصوات وسقطت على عيني المسبلتين ظلال المقبلين.
- يا إلهي!. إنه هو. . .
- يا للمسكين! لقد قضى على نفسه برصاصتين معاً وسمعت بعد ذلك أحد أصحاب الكازينو يقول:
- هلم. . . أسرع قبل أن يرانا أحد. تباً له من شيطان! أما وجد غير هذا المكان!(1023/65)
ثم انحنى فوقي فشعرت كأنما اندس شيء في جيبي، هنالك ارتعدت قليلاً. . . وتأوهت مرتين، ثم فتحت عيني ببطء شديد، ونهضت من مضجعي بعناية وحرص ناظراً في تسائل وعجب إلى الجمع الحاشد ولي. وفي عدم اكتراث أخذت قبعتي والمسدس الذي كان ما يزال يلفظ الدخان من فوهته وانتصبت واقفاً.
وكان المحتشدون ينظرون إلي كأنني حيوان غريب الخلقة وقد امتزجت نظراتهم بالعجب والاستفهام. . . وقلت في غضب:
- عجباً لكم يا قوم! ألا يستطيع المرء قتل نفسه بعيداً عن فضول الناس؟ لم نسمع بمثل هذا والله.
واقترب مني أحد أصحاب الكازينو ينتفض من شدة الغضب وقال في تلعثم واضطراب:
- سيدي الفاضل. . . أرجو. . . هل. . . إذا. . . ماذا تقصد بهذه المهزلة؟ سأقودك إلى البوليس لتعكيرك الأمن.
- لتعكيري الأمن؟ قول ظريف سيغدو ولا مراء حديث الموسم.
قلت ذلك ثم أوليت المجمع ظهري واتخذت سبيلي ضاحكاً من هؤلاء الناس الذين اجتمعوا بدافع الفضول وحب الاستطلاع.
وعدت إلى الفندق فسددت ديوني من الآلاف الثلاثة التي أخذتها مقابل قيامي بدور الانتحار. وقد بذلت إدارة الكازينو أقصى الجهود لاستعادة المال؛ ولكني لم أكن قط قد فكرت في إعادته، إذ اعتبرت أن هذا المال من حقي، وأيقنت فضلاً عن ذلك أن ثلاثة آلاف فرنك لا تبدو ثمناً كبيراً لانتحاري.
وقد عمدت إلى إغاظتهم ببقائي في سان رومانو بضعة أيام أخر أعيش عيشة الترف والبذخ ثم رحلت بعدها إلى باريس. . . وقد سمعت أن المبلغ الذي دس في جيبي قد رد إلى الكازينو أضعافاً مضاعفة.
محمد عبد الفتاح محمد(1023/66)
لغويات
قطط
أنكر أحد الباحثين استعمال الجمع (قطط) مع أنه صحيح لأنه جمع قطة أنثى القط بكسر القاف فيهما. وهذا الجمع قياسي فهو بديهي لا يحتاج إلى نص. وللقطة والقطط نظائر لا تحصى كثيرة.
وقد جاء في المعاجم اللغوية: الهرة وجمعها هرر مثل قربة، وقرب والهرة والقطة متحدتان وزناً ومعنى. وجاء في المعاجم: القردة أنثى القرد وجمعها قرد بكسر القاف وفتح الراء، ومن نظائرها بدعة وبدع وحكمة وحكم وسلعة وسلع.
فقولهم ذكاء القطط، ومخالب القطط. . . صحيح، ولنا الحق في أن نقول: قط من القطط (على التلفيق) مثل قولهم خليفة من الخلفاء لأن الخليفة جمعه خلائف، وأما خلفاء فجمع خليف مثل شريف وشرفاء.
الدستور في اللغة
الدستور: لفظ فارسي معرب (دستور) بفتح الدال وبدون ال وهو مركب من (دست) أي يد أو قاعدة ومن (ور) أي صاحب فمعناه صاحب اليد ويراد به القوة والسلطة أو صاحب القاعدة لاشتماله على القواعد والقوانين الأساسية التي يعمل بمقتضاها وهو كما ترى بفتح الدال في اللغة الفارسية ولما عرب ضموا الدال ليلتحق بأوزان العرب وقد زعم الحريري أن فتح الدال خطأ بناء على أنه لا يوجد وزن (فعلول) بفتح الفاء وهذا ليس بصحيح، وله نظائر كثيرة وردت بضم الأول وفتحه مثل: سندوق وصندوق وعصفور. . .
جربوع
جاء في (المصباح المنير - مادة ريع) اليربوع: دويبة (تصغير دابة أي حيوان) نحو الفأرة لكن ذنبه وأذناه أطول منها ورجلاه أطول من يديه عكس الزرافة والجمع يرابيع والعامة تقول (جربوع) بالجيم.
وقيل إن اليربوع نوع من الفيران. ويظهر أن شكله يلفت النظر. ومنه ندرك السر في قولهم فلان جربوع وهي جربوعة وهم جرابيع، وقد اشتقوا منه أفعالاً وأوصافاً فقالوا:(1023/67)
جربوع ومجربع، إذا صار مثل الجربوع في شكله وهيئته، والجرابيع اسم بلد بمديرية المنيا.
ثقات لا ثقاة
من الأخطاء الشائعة قولهم (ثقاة) بالتاء المربوطة في جمع (ثقة) لأنه جمع مؤنث سالم وهو يكتب بالتاء المفتوحة لا غير ونظيرهما صفة وصفات وصلة وصلات وعدة وعدات وهبة وهبات، والثقة في الأصل مصدر وثق به ومن شأن المصدر أن يوصف به المفرد والمذكر وفروعهما بدون تغيير، فيقال: هو أو هي أو هما أو هم أو هن ثقة، وقد يجمع باعتبار إفراده وأنواعه فيقال هم أو هن. . . ثقات، ولعل حضرات القراء يراعون هذا ونحن في عهد التحرير والتطهير.
قشطة وقشدة
القشطة لغة عربية صميمة من قشطه ويقشطه قشطاً مثل كشطه فهي بمعنى المقشوطة مثل القطعة بمعنى المقطوعة لأنها تقشط، وأما القشدة فهي من قشده يقشده قشداً بمعنى قشطه وكشطه أيضاً. ولا يخفى أن القشطة خفيفة لطيفة ومألوفة فلماذا نلجأ إلى الغريب نؤويه، وإلى الميت نحييه، ونشكك الجمهور في لغته الصحيحة.
ومن الغريب أن اللغويين ذكروا لغة أخرى وهي (القشذة) بالذال المعجمة وهي كما ترى أثقل من زميلتها.
علي حسن هلالي(1023/68)
العدد 1024 - بتاريخ: 16 - 02 - 1953(/)
الفن بخير
للأستاذ محمود تيمور
المسرح يقاسي اليوم محنة عسراء، محنة يدرك وطأت أهل الفن، ويخشون منها أسوأ العقبى. ولست أعني مسرحنا المصري وحده، فالمحنة عامة يصلي نارها المسرح كله في العالم المتحضر أجمع.
لا يغرنك ما عسى أن تراه من إقبال الناس على دور التمثيل، وما تشهد من شغفهم بها في مختلف الأمم. فإن الحقيقة الواقعة التي يعرفها الواقفون على بواطن الأمور أن المسرح لا يستطيع الثبات في الميدان الفني، معولاً على نفسه، مكتفياً بقوته؛ فهو في غالب شأنه ينشد العون، ويلتمس من العوامل المصنوعة ما يكفل له البقاء والاستمرار.
لقد أتى على المسرح حين من الدهر لم يكن فيه مفتقراً إلى مؤازرة وناصر، وإنما كان في ازدهاره وتألقه موفور القوة، شديد الأسر، مشاراً إليه بالبنان. فأما اليوم فإنه يفقد ما سلف له من تألق وازدهار، بل إنه ليبلغ منه الاضمحلال كل مبلغ، حتى أن بعض النقاد ليبادرون إلى نعيه، والترحم عليه، وما زال فيه رمق، وما برحت تتردد فيه أنفاس!
ولو صدق هذا التطير بمستقبل المسرح، لكان ذلك رزءاً يثير الأسى ويستتبع الحسرة، فللمسرح من العشاق والمشايعين خلق كثير، وإنهم ليعدون رحيله عن عالم الفن زوالاً لمظهر أنيس جذاب، صحب الإنسانية ردحاً من الدهر وكان له أطيب الأثر في صقل الأذهان وتبصيرها، وفي رياضة النفوس والترفيه عنها.
فماذا دهى المسرح حتى تفشاه هذا الاضمحلال؟
وما تلك الأسباب التي تسوغ التشاؤم بمستقبله، وتوقع القضاء عليه؟
ربما تباينت الأسباب واختلفت، بيد أنها تتجمع كلها في كلمة واحدة، هي: (السينما).
حقاً لقد استطاعت (السينما) خلال ثلث قرن أن تزعزع قواعد المسرح، وأن تنال من سلطانه. . . وهي التي تديل دولته إن كان مقدراً عليه أن يصير إلى زوال.
نشأت هذه (السينما) تعمل في ميدان المسرح نفسه منتهجة أغراضه متخذة أدواته، ولم تكن نشأتها ضرباً من العبث، أو لوناً من التطفل، وإنما كانت وليدة عوامل طبيعية قضى بها حكم الحياة ونظام العمران.(1024/1)
لقد أخذ العالم منذ القرن الماضي يصطنع الآلة في شتى أسباب العيش، فكانت (السينما) نتيجة من نتائج هذا التطور الآلي، وكانت لوناً من ألوان التطبيق العملي له، فهي إذن مظهر طبيعي يلائم العصر، ويساير التجدد.
من سرف القول أن تعد (السينما) خصماً للمسرح فالفن السينمائي في جوهره هو ابن المسرح وربيبه، تخلق من لحمه ودمه، وأغتذى بلبانه، فهما معاً يتقاسمان عناصر الفن من رواية ومنظر وممثلين.
فإذا أردت الدقة والتعمق تجلت لك (السينما) على أنها امتداد للمسرح، أو تطور له، وفقاً لحقيقة التجديد وطوعاً لروح العصر، فهي مسرح آلي مستحدث، يستكمل ما عجز عنه المسرح القديم، ويخلفه في أداء رسالة الفن للجيل الجديد.
لا غلو في القول بأن (السينما) قد حلت محل المسرح وقد تناولت منه المشعل، لتمضي به أسطع توهجاً، وأبعد مدى، بيد أن هذا لا يمنع أن يبقى للمسرح نوع من الحياة في إطار ضيق، وإن فقد ما كان له من سيادة وقيادة.
لكأن المسرح قصر عظيم على الطراز القديم، تكاملت له الفخامة والأبهة. ولكنه لم يعد يواتي العصر الحاضر بحاجاته ومطالبه.
أو لكأنه (جنتلمان) هرم يتباهى بمجده، ويعتز بأرستقراطيته، ولكنه قاعد متخلف يدب فيه البلى، ينافسه ما للشباب من فورة ووثبة ونشاط.
أو لكأنه مؤسسة نبيلة الغرض، رفيعة الهدف، ولكنها لا تملك أن تعيش بما لها من جهد، فهي أحوج ما تكون إلى ضروب الصدقات وألوان المعونات، لكي تؤتي ثمارها طيبات.
أو لكأن هذا المسرح إمبراطورية عظيمة، فقدت عناصر المرونة للتطور الحديث، فلم تعد موائمة لروح الشعوب التي تحكمها، فليس لها إلا أن تغدو دويلة صغيرة تساير ركب الدول، متنحية عن مكان الزعامة الذي كانت تملأه فيما حلا من العهود!
وفي معتقدي أن المحاولات التي يبذلها للمسرح أنصاره ومحبوه، جديرة أن تشد من عضده، ولكن هذه المحاولات - مهما تبلغ من قوتها - لا تحتفظ للمسرح بما كان له من مركز الزعامة، ولا تستطيع أن تزحزح (السينما) عن مكانها الذي سمت إليه، لتؤدي فيه رسالة الفن على أوسع نطاق.(1024/2)
ليس من الخير أن ننظر إلى المسرح و (السينما) باعتبارهما عدوين، فلنجعلهما يمضيان معاً جنباً إلى جنب، يبذل المسرح (للسينما) ما يبذل الأب لابنه من عطف وحدب، وتعرف (السينما) للمسرح حق الأبوة من بر وولاء.
لقد تكاثر حديث النقاد في شأن المسرح و (السينما) على تباين واختلاف. . . فهذه يقيم من حديثه حفلاً تكريمياً (للسينما) يؤيد به ما أوتيت من زهو، وما بلغت من فوز. وذلك يجعل حديثه مناحة للمسرح، يسح فيها الدمع الهتون على الفن الشهيد!
ولسنا في هذا المقام نريد تكريماً (للسينما) أو تأبيناً للمسرح، وإنما نبغي أستكناه ذلك التطور الفني الذي مهد (للسينما) أن تتسنم تلك المكانة، فساق المسرح إلى ذلك المصير.
في الغرب والشرق جميعاً جمهرة من المفكرين ينعون على (السينما) أنها ليست من الفن في شيء، بل إنها تقضي على الروح الفنية التي أذكاها المسرح وبثها في جوانب المجتمع البشري، ولهذه الجمهرة من المفكرين معارضون كثيرون ينتقصون من قدر المسرح، وينادون بأنه ليس إلا طوراً من أطوار الفن عتيقاً، لم يعد للتقدم العصري كفئاً، فعلينا أن نقوم على تكفينه، وأن نشيعه إلى مقره الأخير، نهيل عليه تراب النسيان!
وأولئك الذين يضيقون (السينما) يأخذون عليها أنها (آلية) فهي تعتمد على الآلة كل الاعتماد. وليس ضيقهم (بالسينما) إلا نوعاً من ضيقهم (بالآلية) في كل مظهر من مظاهرها في العصر الحديث، إذ يحسبون أن هذه الآلة لا تمتد إلى لون من ألوان الفنون إلا أفقدته عنصره الأصيل، وجوهره الرفيع!
فهل صدق الساخطون على الآلة في حسبانهم أنها تقضي على الفن، أو على الأقل تمسخه وتشوه جماله؟ وهل الآلة كما يقولون رمز تدمير للحضارة، وانهيار للعالم على وجه عام؟
شد ما يغلون في هذا الحكم! وشد ما يستسلمون لأوهام الفروض والتخمينات حين يستشعرون الذعر من الآلة، ويقدرون لها أوخم الآثار!
لنكن متفائلين بالعصر الآلي وما ينجم عنه، وليكن هذا التفاؤل على أساس أن العالم متجهاً أبداً وجهة الخير، لأن القوة التي إليها مرد الأمر كله في هذا الكون قوة خيرة في صميمها، وبذرة الخير الكامنة في الطينة البشرية هي التي تدفع به دائماً إلى التجدد والتطور، فهذا العالم ماض إلى الخير قدماً، وإن تعثرت خطاه بأشواك الشر حيناً بعد حين.(1024/3)
وبرهان هذا ساطع كل السطوع في تاريخ البشرية والحضارة منذ الأحقاب الخالية، منذ كان الكون سديماً إلى أن انبسط أديم الأرض، ودب على ظهرها الإنسان، وقامت هذه المدنيات العظيمة على أنقاض الكهوف والغابات.
وما برح التطور موصول الخطأ، نحس به فيما ندرك من نواميس الطبيعة، وقوانين الحياة، وفيما نتخذ من وسائل الحضارة وأنظمة الاجتماع.
وهذا التطور ينتقل به المجتمع البشري من حسن إلى أحسن، إلا أنه يقتضي مزاولة التجربة بعد التجربة. وهيهات أن يستقر للحياة طور من أطوارها إلا بعد أن يثبت كفايته في ذلك الميزان العظيم: ميزان بقاء الأصلح. . . فالأحياء لا يبقى منها إلا ما يصلح أن يكون عوناً على تطور الإنسانية والمضي بها إلى الأمام. والأنظمة على اختلاف أهدافها ومناحيها لا يستقر منها إلا ما هو كفء لتوفير الحياة المثلى.
وما أقسى هذه التجارب التي يزاولها الإنسان!
وما أكثر ما يكون فيها من تعسف وعنت!
ولكن ذلك كله لا مفر منه لكي تظفر البشرية بالانتقال من طور إلى طور يمضي بها خطوة في سبيل الخير العام.
والآلة ليست إلا وليدة ضرورة طبيعية أحس بها الإنسان. وهي نتيجة حتمية للتطور البشري الذي لم يكن منه بد. وإننا لنجد الآلة وقد أتت بالمعجزات في مجال التحضر، وبها تأثرت مذاهب الاقتصاد ونظم الاجتماع حتى أصبحت هناك قيم للحياة جديدة، تلائم ذلك التطور الذي أدت إليه الآلة في عصرها الجديد.
وفي مقدورك أن توازن بين الإنسان القديم، إذ كانت الآلة لم تخترع، أو على الأصح حين كانت الآلة في مظهرها العاجز المحدود، وبين الإنسان الحديث، إذ بلغت الآلة هذا المبلغ العظيم من القوة والجبروت، فإنك إذا أجريت هذه الموازنة نحلى لك البون شاسعاً بين الماضي والحاضر في مجال الرقي الثقافي والاجتماعي، المادي والمعنوي. وإذن يستعين لك فصل الآلة فيما شمل الإنسانية من رخاء وانتعاش، وفيما فاض عليها من بركة وخير.
وهذه الآلة من صنع الإنسان، توصل بها إلى أن يختصر المسافات، وأن يختزل الأزمنة، وأن يسخر بها ما في الأرض والسماء من قوى وعناصر. وهي في يده، يحركها إرادته،(1024/4)
ويسيطر عليها بحكمته. فإن وقف منها موقف الحزم والتبصر استطاع أن يفيد منها ما شاء. فأما إن أساء استعمالها، وأفلت منه زمامها، فإنها تدمر مدنياته وتدمره معها. ولكن الأمل وثيق ألا يفقد الإنسان رشده، وأن يظل ضابطاً للآلة في يده، حتى تكون طوع خيره. . . بها يتم نفع العالم، وعليها تقوم عمارة الكون.
وإن صحبة الإنسان للآلة فيما يمارس من أسباب عيشه ومرافق حياته، ستخلق منه إنساناً جديداً يتخذ له في نظامه الاجتماعي طرازاً جديداً، فإذا هو يتطور في نزعاته النفسية، وفي مطالبه العقلية، وفي ذوقه الفني، وفق التطور الحديث الذي تسبغه الآلة على المجتمع البشري.
ما من شيء كانت تصنعه الأيدي إلا وقد امتدت إليه الآلة تصنعه؛ والناس إزاء هذا يتغافلون أن (شغل اليد) هو العمل الفني، وأما صنع الآلة فهو عمل غير فني. وحجتهم في ذلك أن اليد تعمل بوحي الإنسان، وتستمد حركتها من رأسه وعاطفته، فالإنسان ينفض نفسه في كل وحدة من وحدات عمله الفني، وأما الآلة فتستمد قوتها من محركات صماء.
وللناس في تعزيز هذا الرأي ضروب من التمثيل. فهم يضربون المثل بالحلة المفصلة على قد إنسان بعينه، فيرونها ألق بصاحبها، وأدق صنعاً وأوفر فنية، من الحلل المجهزة على أقيسه عامة. . . وكذلك الصورة الزيتية، يرونها أروع من الصورة (الفوتوغرافية) أو الصورة المطبعية الملونة، فهذه آلية وتلك يدوية. . . وكذلك الصوت لا يسحر السامع إذا سمعه من الحاكي أو المذياع، قدر ما يسحره إذا سمعه من فم المغني نفسه.
وأنت قد تجد في زخرف هذه الحجة التي يسوقها الناس مظهر الحق، ولكنك إذا أنفذت بصرك إلى الأعماق تكشفت لك حقائق لا تبغي عنها حولاً. فإن هذه الآلة التي نزري بها وجدت منذ وجد الإنسان، منذ خرج من إطار الحيوانية الغافلة إلى مستوى البشرية المفكرة. وقليل من التدبر يقنعنا بأن الآلة هي العنصر الأساسي في بناء المدنيات منذ فجرها الأول. . . ولعل ما نسميه (شغل اليد) لا وجود له بالمعنى الحقيقي في تاريخ الإنسان. فالمغزل والمنسج والإبرة في أطوارها الأولى ليست إلا آلات بدائية. والمرقم للرسام والأزميل للمثال كلاهما آلة، ولماذا تذهب بعيداً واليد نفسها ليست إلا آلة توسل بها الإنسان للقيام بعمل فني؟(1024/5)
فهذه الوسائل والوسائط، أو بتعبير آخر: هذه الآلات البدائية، ظلت تقوم بالأعمال الفنية، يسيطر عليها الرأس، وتوحي إليها العاطفة. . . ثم تطورت مع الإنسان آلاته، تساير حاجاته، وتواتيه بمطالبه، حتى انتهى بها الأمر إلى هذا المظهر الآلي العجيب المعقد الذي بدأنا نخشاه. . . أرأيت إذن أن تلك الآلة الحديثة ليست إلا امتداداً وتطوراً للآلة القديمة التي عاصرت الإنسان منذ درج الإنسان؟
دونك (الكتاب) مثلاً. . . ذلك الذي نحوطه بالتقديس، ونعده ذخراً وموئلاً للعلوم والفنون والآداب، ونرى فيه مرآة العقل الإنساني، والفكر البشري، ومن ثم نخشى عليه أن تنال منه (الآلية) الحديثة التي تكمن في (الراديو) و (السينما) وما إليهما، ونطلق صرخة الرعب والفزع، طالبين حماية الكتاب من هذه الويلات. . . بل إن فينا من يقول بأن ثقافة المستقبل سيتطرق إليها الوهن إذا ضعف شأن (الكتاب) وأنتسخ ظله، وأنه ليس من شيء يقوم مقامه ويعوضنا عنه، وينهض بالعبء الذي نهض به.
والحق في ذلك أن (الكتاب) ما هو إلا سجل يضم نتاج القرائح، ويحوي عصارات الأذهان، وما هو إلا مظهر للتعبير عن الاحساسات والمشاعر. . . وقد كان هذا (الكتاب) يوم كان لوحاً محفوظاً في الذاكرة يتلقاه الأحلاف من الأسلاف، وكان كذلك أحجاراً وجلوداً ولحاء شجر، ثم كان بعد ذلك مخطوطاً على الأوراق لا تزيد نسخه على العشرات. فلما جاء عصر الطباعة اتخذ (الكتاب) هذا الشكل الحديث، وأتيح له ذلك التعميم، فهو مدين للآلة بما بلغ من جاه عريض، وصيت بعيد.
وما دام (الكتاب) في حقيقة أمره وسيلة تعبير، فلا ضير على المدنية الحديثة إذا اصطنعت لها وسيلة أكثر ملاءمة للتطور، وأبعد مدى في تحقيق الغرض. ولن تكون الوسيلة المستحدثة إلا امتداداً (للكتاب) في مظهر آخر هو أقرب إلى روح العصر، وأدعى إلى نشر الثقافة بين الناس، وإذن فالآلة تخدم غرض (الكتاب)، وإن كانت في الظاهر تخمل (الكتاب). فهدف الآلة دائماً هو التيسير، هو أن تتيح للجمهور الأكبر ما هو متاح للخواص من استمتاع وانتفاع، وكذلك تعمل الآلة على أن توفر من الجهد، وتقتصد في الوقت، ليستفاد بذلك في ميدان الابتكار والتجديد والتجويد.
وإليك الغناء مثلاً آخر، فالمغني لا يملك إلا أن يسمع طائفة من الناس في زمن مخصوص،(1024/6)
وبذلك يقتصر الاستمتاع به على القليل، ولكن الآلة تنهض بدورها في إشاعة هذا الصوت المحبب، وفي تقريب مناله من الأسماع في كل زمان وفي كل مكان.
وكذلك الشأن في التمثيل، فالرواية التي تشهدها جمهرة لا تتجاوز بضع مئات، بأجور مرتفعة لا تتيسر للكثير، تستطيع (السينما) أن تبذلها للألوف بثمن بخس، في قدرة على التنقل، وفي حرية من الوقت، وتمكن من التكرار، وأمان من وطأة التكاليف.
على أن الذين يسلمون بأن (السينما) تيسير للفن، وتعميم له، يتساءلون: أليس التيسير يسيء إلى الفن؟
أو ليس تعميمه يدعو إلى تبسيطه، والنزول به عن مستواه الرفيع؟
والجواب عن هذا التساؤل يصدق على (السينما) كما يصدق على المذياع والكتاب. ولقد كان الكتاب وما يزال درجات، فيه الرفيع الخاص، وفيه المنخفض العام. . . وما شأن (السينما) والإذاعة إلا كذلك، يجب أن يكون فيهما لكل طالب حاجته، ولكل مستوى ما يناسبه.
والواقع أن تيسير الفن لا يحط من الفن، بل أن هذا التيسير سبيل إلى أن يتذوق الشعب ما يقدم له من الأعمال الفنية، فتتأثر بها نفسه، ويرتفع مستواه، ويصبح للفن عوناً على النهوض والازدهار. . .
والذين يأخذون على (السينما) أنها آلية، ويؤثرون عليها المسرح لأنه غير آلي، ينسون أن المسرح نفسه يتخذ من الآلات ما يعينه على بلوغ أغراضه. . . فأنت إذا دخلت مسرحاً من المسارح الراقية ألفيت نفسك في مصنع كبير تحتشد فيه عدد وآلات، يستكمل بها المسرح عناصر التمثيل، ويتلافى ما فيه من نقص وعجز، ويساير بها ما بلغ الفن من تقدم وتطور، وقد يبعثك هذا الذي تراه على القول بأن هذه (السينما) لم تكن إلا عوناً من الآلة على تحقيق أحلام فنية لم يستطع المسرح تحقيقها في نطاقه الضيق، ووسائله المحدودة.
ولتجدن كثيراً من المتعصبين للمسرح يقولون:
حسبك من ميزة له على (السينما) أن عماده وجوهره هو الممثل الحي، هو ذلك الذي تراه بشراً سوياً حياً لك، تملأ منه عينيك، وترعيه سمعك، فأما (السينما) فما هي إلا أخيلة وأطياف، والفرق واضح بين حقيقة ماثلة، وخيال موهوم!(1024/7)
والهاتفون (بالسينما) لا يعدمون رداً على المتعصبين للمسرح بهذه الحجة، فهم يقولون بأن فنية التمثيل لا تزيد فيها واقعية المسرح، ولا تنقص منها خيالية (السينما). . إذ المعول كله على الإجادة والإتقان، حتى يتيسر بذلك اندماج المتفرج في العمل الفني المعروض، فإذا هو يستجيب لما يسمعه وما يراه.
واعتبر ذلك بالغناء، فإن الأغنية الرائعة هي التي لا تكاد تهز أوتار سمعك حتى تهتز أوتار قلبك، فإذا أنت تفنى فيها، وتحلق معها، وذلك هو جوهر الإمتاع بالسماع، فأما الأغنية التافهة فهي التي لا تتجاوز الآذان هي التي تضل الطريق إلى مشاعرك، فلا استجابة بينك وبينها ولا اندماج.
وكذلك الشأن في التمثيل، فهو يقوم في جودته وإتقانه على أن ينسلخ المتفرج مما حوله، ويمضي في مساق القصة المعروضة، يعايش أجواءها، ويعاشر أشخاصها، ويشاركهم ما يزاولون من تجربة إنسانية صادقة غير مكذوب بها على الحياة.
وربما تلقف أنصار (السينما) هذا القول بالتعويل على فنية التمثيل، فاتخذوا منه حجة للفن السينمائي. قائلين: إن المسرح فن ناقص، إذ يشعرك في كثير من ظواهره بأنك أمام أخشاب ملونة، وأوراق مقواة، ومناظر ملفقة سرعان ما تصدمك، فتعيد إليك وعيك، وتحول بينك وبين الاندماج فيما تحاول تمثيله من واقع الحياة. وأن مناظر البحار والأنهار، وتمثيل الغرق والحريق، وتصوير البواخر والقطارات والطائرات، لتخفق الإخفاق كله على منصة المسرح، بل أنها لتبعث على الهزؤ والسخرية. . . ومن ثم لجأ المسرح الحديث إلى الرمز يستعين به على التأثير ويعالج به أن يوحي إلى الأذهان بالجو المنشود في القصة المبسوطة. ولكن (السينما) بمنجاة من ذلك النقص، فالوسائل فيها أقوى على تصوير الواقع، وتمثيل الحقيقة، إذ أنها تنقل المشاهد والواقف، بحيث لا يشك ناظر إليها في أنها قطعة من الحياة لا زيف فيها ولا نشوز ولا استكراه، وبذلك يبلغ الفن السينمائي ذروته في ضمان التأثير، وفي تنويم الوعي، وفي تيسير الاندماج بين النظارة والتمثيل.
ومما يثيره أنصار المسرح في مجال الموازنة بينه وبين (السينما) أن الممثل المسرحي يشعر بشخصيته كاملة يعبر عنها يوماً بعد يوم في طلاقة وتجدد. فإنه في الرواية الواحدة يستطيع أن يتشكل ويتطور في أدائه لدوره، كلما مضى في تمثيله مرة بعد مرة. وفي هذا(1024/8)
التشكل والتطور تتوهج شخصية الفنان وتتألق.
على إن أنصار (السينما) يرون ذلك حجة على المسرح لا حجة له، إذ أن العبرة في أداء العمل الفني بإجادته وبلوغ أعلى درجاته. والممثل الذي لا يتقيد في أداء دوره كلما أعاد تمثيله هو الممثل الذي يعلو مرة ويهبط أخرى، والمتفرجون في هذا هم المظلومون، إذ تتفاوت حظوظهم في مشاهدة الرواية الواحدة للمثل الواحد. فمنهم من يرى الممثل في الذروة، ومنهم من يراه في الحضيض. فأما في (السينما) فالمتفرجون جميعاً يرون الممثل دائماً في درجة إتقانه القصوى، تلك الدرجة التي سجلتها له (الكاميرا) وهو في أحسن حالاته. ومثل هذا يقال في الغناء، فإن المغني يظل يمارس تجاربه حتى يستوفي، ثم يسجل صوته وهو في أوج اكتماله وازدهاره.
وفي مناسبة هذا الحديث عن الغناء يقول المعترضون على (السينما) إنها لا تنقل إليك صوت المغني على طبيعته وإنما تنقل إليك صوتاً آخر يقرب أو يبعد عن ذلك الصوت الطبيعي، فإذا سمعت المغني عينه، وسمعت صوته مسجلاً من بعد، أدركت الفرق واضحاً كل الوضوح، وربما كان ذلك الصوت المسجل خيراً من الصوت على طبيعته، ولكنه على أية حال تزييف وتبديل.
والذين ينتصرون (للسينما) يجيبون عن هذا بأن الأمر لا يعدو إحدى اثنتين، فإما أن يكون العيب عيب الآلات التي لم تبلغ حد الكمال حتى اليوم في نقل الأصوات ولا ريب أنها بالغته بفضل ما يجري فيها من تحسين وإتقان حتى تؤدي كل صوت على حقيقته. وإما أن هذا التغيير الذي نلحظه في نقل الأصوات تغيير مقصود، يراد به معالجة ما عسى أن يكون في صوت المغني من قصور. فالآلة السينمائية تهدف إلى أن تقدم الأصوات قوية صافية مصقولة، فهي تحتفظ بجوهر الصوت، ولكنها تعالج ضعفه، حتى تصل به إلى الغاية الفنية الموجودة.
وإذا كان الفن الرفيع هو الفن الصادق في نقل الحياة فلا ينال من رفعة الفن أن يعمل على تجميل ما ينقله من ظواهر الحياة، ووفقاً لهذا نبتت فكرة المناظر السينمائية الملونة، فذلك تجميل للمناظر الطبيعية يكفل الخلابة وحسن التأثير.
ومما يعاب على (السينما) ما يسمى (الفوتوجنيك) أي القابلية للتصوير السينمائي، فلقد(1024/9)
يظفر وجه بإعجاب (الكاميرا) فتسجله رائعاً يسحر الأعين. . . ولقد تغضب (الكاميرا) على وجه، فلا تبدو فيه وسامة ولا فتون. ومن أعجب العجب أن تسيطر على هذا هذا المنح والحرمان آلة صماء!
والعيب في ذلك أنه يحد من المواهب الفنية التي تتوافر لوجوه لا توهب منحة (الفوتوجنيك) وإن كانت هذه الوجوه في حقيقتها وافية الملاحة والجمال؛ موفورة الحظ من حسن التقويم.
والرد على هذا عند من ينتصر (للسينما) أن العصر الحاضر يركن إلى المخترعات الدقيقة الحساسة يستجلى بها الدقائق. . . وفي مجالات العلوم والفنون والآداب تتخذ آلات خاصة للكشف عن الحقائق المستورة التي لا تنالها الأعين ولا تدركها الإفهام. وقد بات واضحاً أن هذه الحواس الخمس المعرفة لم تعد كافية في استجلاءه الأشياء، والحكم على جوهرها الأصيل، وما الجمال إلا حقيقة من حقائق الحياة الكبرى، فلا ضير علينا إن استعنا بالآلات البصيرة الكاشفة لاكتناه أسرار الجمال. ولعل هذه (الكاميرا) أنفذ بصراً بما يكمن من المفاتن، وما يدق من القسمات، فهي تكشف لنا عنها، وتقرب منالها من العيون.
ومهما يكن من قول يساق لنصرة (السينما) أو للدفاع عن المسرح، فلا أثر لذلك كله في حكم الزمن وطابع العصر. فما أشبه أحكام الأزمنة وطوابع العصور بأقدار تجرى، لا يملك ردها أحد!
ومما لا مرية فيه أن (السينما) ماضية في طريقها، تحمل راية عصر الآلة الذي نعيش فيه، ولا منجاة لنا منه بشقشقة الألسن ومنطق العقول.
فإذا شاء عشاق المسرح، الأوفياء لعهده، أن يخدموه وأن يطيلوا من عمره، وأن يفسحوا له الميدان الفني يؤدى فيه رسالته، فلا سبيل لهم إلا أن ينأوا بالمسرح قدر ما يستطيعون عن المجال الحيوي (للسينما)، حتى لا ينافسها في نطاق عملها الذي تؤديه في قوة وجبروت. وكلما عملنا على أن نجعل لكل فن مجالاً خاصاً به، وأمضينا كل فن في طريقه؛ كان لنا أن نأمن مغبة التنازع والاضطراب.
وقد نشأت (السينما) في عهدها الأول صامتة، فتركت للمسرح روعة الحوار، وأنس الحديث، واختصت بسرعة الحركة والإشارة، والوفاء بالمشاهد وبالمناظر، فكان (للسينما)(1024/10)
فن خاص بها، وللمسرح فن خاص به. . . فأما الآن وقد نطقت (السينما) وغلبت المسرح على أمره فيما كان من خاصة شأنه فقد وجب أن ننحو بالمسرح نحواً جديداً يجنبه عنف ذلك الفن الآلي القادر فنخص المسرح بموضوعات تخلو من عناصر الموضوعات السينمائية التي تعتمد على سرعة الحركة، وكثرة الأشخاص، ووفرة المواقف والمناظر، وفخامة الملابس والأشياء المعروضة. . . ولتكن مناظر المسرح ومواقفه وملابسه أقرب شيء إلى الرمز حتى لا ينافس (السينما) في مجال هي صاحبة الغلبة فيه على أية حال.
وعلينا أخيراً أن نؤمن بأن المسرح ليس إلا مظهراً للفن، وأن الفن جوهر يتطور مظهره ويتغير؛ فهو بالأمس مسرح، وهو اليوم (سينما) وقد يكون في الغد القريب أو البعيد شيئاً غير (السينما) وغير المسرح جميعاً. . . فلنكفكف من غلوائنا في تقدير المظاهر، ما دام الفن في جوهره بخير.
محمود تيمور(1024/11)
شعراء الوطنية
3 - البارودي
(1840 - 1904)
للأستاذ عبد الرحمن الرافعي
محمود سامي البارودي هو إمام الشعراء المحدثين قاطبة، وباكورة الأعلام في دولة الشعر الحديث، وأول من نهض به وجارى في نظمه فحول الشعراء المتقدمين؛ فبعث النهضة الشعرية من مرقدها بعد طول الخمود.
كانت نشأته علمية حربية. تخرج من المدرسة الحربية وبدت عليه سليقته الشعرية وهو بعد في عهد التلمذة وانتظم بعد تخرجه في سلك المناصب المدنية ثم العسكرية وخاض غمار الحروب في ثورة كريد سنة 1866. وفي الحرب بين تركيا والروسيا سنة 1877، فصقلت المعارك مواهبه الشعرية.
وكان من زعماء الثورة العرابية. وتولى رآسة وزارة الثورة سنة 1882. ثم كانت الهزيمة. ونفي مع زملائه إلى جزيرة سيلان (سر نديب) وظل في منفاه نيفاً وسبعة عشر عاماً. وأسبغ عليه المنفى سمات التضحية والبطولة.
الحنين إلى الوطن
كانت حياة الزعماء في منفاهم حياة ألم وحزن. إذ انقطعت صلتهم بالناس. وطال اغترابهم عن أرض الوطن، وبعدت الشقة بينهم وبين أهليهم ومواطنيهم. ولم يكترث لهم أحد. ولم يعطف عليهم أحد (والناس مع الغالب!) وجادت قريحة البارودي بشعر مؤثر في الحنين إلى الوطن. والحزن على فراقه، مما يعد آية في البلاغة. وبلغت سليقته الشعرية في منفاه ذروة العظمة والجلال.
قال يصف الرحيل عن أرض الوطن:
محا البين ما أبقت عيون المها مني ... فشبت ولم أقض اللبانة من سني
عناء ويأس واشتياق وغربة ... إلا شد ما ألقاه في الدهر من غبن
إلى أن قال:(1024/12)
ولما وقفنا للوداع وأسبلت ... مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبت بصبري أن يعود فبزني ... وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن
وما هي إلا خطوة ثم أقلعت ... بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن
فكم مهجة من زفرة الشوق في لظى ... وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن
وما كنت جربت النوى قبل هذه ... فلما دهتني كدت أقضي من الحزن
ولكنني راجعت حلمي وردني ... إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن
ولولا بنيات وشيب عواطل ... لما قرعت نفسي على فائت سني
الصبر على الشدائد
وتجلت في منفاه صفاته العالية من الشمم وعلو النفس واحتمل آلام النفي بشجاعة وإباء. وصبر وإيمان. وله في ذلك شعر يفيض بهذه المعاني السامية.
قال وهو في سر نديب (سيلان):
لم اقترف زلة تقضي علي بما ... أصبحت فيه فماذا الويل والحرب
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنب أدان به ظلماً واغترب؟
فلا يظن بي الحساد مندمة ... فأنني صابر في الله محتسب
أثريت مجداً فلم أعبأ بما سلبت ... أيدي الحوادث مني فهو مكتسب
لا يخفض البؤس نفساً وهي عالية ... ولا يشيد بذكر الخامل النشب
وقال مشيراً إلى مصادرة أملاكه:
يا ناصر الحق على الباطل ... خذ لي بحقي من يدي ما طلى
أخرجني عما حوته يدي ... من كسبي الحر بلا ناطل
من غير ما ذنب وى سمنطق ... ذي رونق كالصارم القاطل
فإن أكن جردت من ثروتي ... ففضل ربي حلية العاطل
وقال من قصيدة أخرى في مقاومة الظلم والصمود أمام المحن والخطوب:
إذا المرء لم يدفع يد الجور أن سطت ... عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده
ومن ذل خوف الموت كانت حياته ... أضر عليه من حمام يؤده
وأقتل داء رؤية العين ظالماً ... يسيء ويتلى في المحافل حمده(1024/13)
علام يعيش المرء في الدهر خاملاً ... أيفرح في الدنيا بيوم بعده؟
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش ... بها بطلاً يحمي الحقيقة شده
ومن قوله في الحنين إلى الوطن والصبر على الشدائد:
فيا دموع القطر سيلي دماً ... ويا بنات الأيك توحي معي
وأنت يا نسمة (وادي) الغضا ... مري برياك على مربعي
وأنت يا عصفورة المنحني ... بالله غني طرباً واسجعي
وأنت يا عين إذا لم تفي ... بذمة الدمع فلا تهجمي
أبيت أرعى النجم في سدفة ... ضل يها الصبح فلم يطلع
فهل إلى الأشواق من غاية ... أم هل إلى الأوطان من مرجع
لا تأس يا قلب على ما مضى ... لابد للمحنة من مقطع
يتمنى أن يرى مصر
وقال في منفاه يتمنى أن يرى مصر:
يا حبذا جرعة من ماء محنية ... وضجعة فوق برد الرمل بالقاع
ونسمة كشميم الخلد قد حملت ... ريا الأزاهر من ميث وأجراع
يا هل أراني بذاك الحي مجتمعاً ... بأهل ودي من قومي وأشياعي؟
وقال في هذا المعنى:
أبيت حزيناً في (سر نديب) ساهراً ... طوال الليالي والخليون هجد
إذا خطرت من نحو (حلوان) نسمة ... نزت بين قلبي شعلة تتوقد
شباب وأخوان رزئت ودادهم ... وكل امرئ في الدهر يشقى ويسعد
وقال أيضاً في منفاه:
ردوا علي الصبا من عصري الخالي ... وهل يعود سواد اللمة البالي؟
ماض من العيش ما لاحت مخايله ... في صفحة الفكر إلا هاج بلبالي
أدهى المصائب غدر قبله ثقة ... وأقبح الظلم صد بعد إقبال
لا عيب في سوى حرية ملكت ... اعنتي عن قبول الذل بالمال
قلبي سليم ونفسي حرة ويدي ... مأمونة ولساني غير ختال(1024/14)
بلوت دهري فما أحمدت سيرته ... في سابق من لياليه ولا تالي
حلبت شطريه من يسر ومعسرة ... وذقت طعميه من خصب وإمحال
لم يبق لي أرب في الدهر أطلبه ... ألا صحابة حر صادق الخال
وأين أدرك ما أبغيه من وطر ... والصدق في الدهر أعيا كل محتال
لا في (سر نديب) لي إلف أجاذبه ... فضل الحديث ولا خل فيرعى لي
أبيت منفرداً في رأس شاهقة ... مثل القطامي فوق المربأ العالي
إذا تلفت لم أبصر سوى صور ... في الذهن يرسمها نقاش آمالي
علام أجزع والأيام تشهد لي ... بصدق ما كان من وسمي وأغفالي
راجعت فهرس آثاري فما لمحت ... بصيرتي فيه ما يزري بأعمالي
فكيف ينكر قومي فضل بادرتي ... وقد سرت حكمي فيهم وأمثالي
أنا ابن قولي وحسبي في الفخار به ... وإن غدوت كريم العم والخال
ولي من الشعر آيات مفصلة ... تلوح في وجنة الأيام كالخال
ينسى لها الفاقد المحزون لوعته ... ويهتدي بسناها كل قوال
فانظر لقولي تجد نفسي مصورة ... في صفحتيه فقولي خط تمثالي
ولا تغرنك في الدنيا مشاكلة ... بين الأنام فليس النبع كالضال
إن أبن آدم لولا عقله شبح ... مركب من عظام ذات أوصال
ومن قصيدة له يتشوق إلى مصر:
خليلي هذا الشوق لا شك قاتلي ... فميلاً إلى (المقياس) إن خفتما فقدي
ففي ذلك (الوادي) الذي أنبت الهوى ... شفائي من سقمي وبرئي من وجدي
وقال في هذا المعنى:
طال شوقي إلى الديار ولكن ... أين من (مصر) من أقام (بكندي)
حبذا (النيل) حين يجري فيبدي ... رونق السيف واهتزاز الفرند
تتثنى الغصون في حافتيه ... كالعذارى يسحبن وشى الفرند
قلدتها يد الغمام عقوداً ... هي أبهى من كل عقد وبند
كيف لا تهتف الحمام عليه ... وهي تسقي به سلافة قند(1024/15)
كلما صورته نفسي لعيني ... قدح الشوق في الفؤاد بزند
وإلى العدد القادم حيث أتم الحديث عن البارودي وشعره الوطني.
عبد الرحمن الرافعي(1024/16)
في سنن الله في الاجتماع
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
الإسلام دين الفطرة. بذلك شهد الله سبحانه إذ يقول في سورة الروم (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم) فأحكام الإسلام إن هي إلا تطبيق محكم من الله للسنن التي فطر الله عليها الناس في الاجتماع.
والناس في اجتماعياتهم لم يهتدوا بعد إلى قوانين الفطرة وإنما يحدسون ويظنون. فنجاحهم في الكشف عن سنن الفطرة في المادة لا يعادله إلا فشلهم في الكشف عن سنن الفطرة في الروح، روح الفرد وروح الجماعة. وهم أنجح في تفهم روح الفرد في علم النفس منهم في تفهم روح الجماعة في علوم الاجتماع. وآية ذلك الاختلاف السائد في هذه العلوم في حين أن لا اختلاف هناك في العلوم الطبيعية، علوم المادة والطاقة، لا في قوانينها ولا في وقائعها وإن كان هناك طبعاً اختلاف في الفروض والنظريات المتعلقة بما لا يزال منها قيد البحث والنظر والتمحيص. فعلوم الاجتماع في كثرة اختلافها وقلة اتفاقها تشبه العلوم الطبيعية في جزئها المجهول وما تعلق به من فروض، أي أنها لا تزال في دور التكوين، دور الحدس والتخمين.
ودور الحدس والتخمين دور ضروري يمر به كل علم في بحث ظواهره قبل أن يصل فيها إلى يقين. لكن علوم الاجتماع يعوزها ما ليس يعوز العلوم الطبيعية من معيار يفصل به بين الحق والباطل، ونميز به بين الخطأ والصواب. فالعلوم الطبيعية تحتكم إلى التجربة العلمية في الفصل بين الفروض المختلفة التي يؤتى بها لتفسير الظاهرة الواحدة، أي تحتكم في الواقع إلى الفطرة نفسها التي تجيب دائماً نفس الجواب عن نفس السؤال كلما أحسن العلم الطبيعي توجيهه. وهذا إن هو إلا مظهر لاطراد الفطرة في سننها، ونتيجة لازمة لذلك الاطراد. لكن العلوم الاجتماعية لا تملك ما يملك العلم الطبيعي من التجربة العلمية التي يتحكم العالم في إجرائها بالصورة التي يرى أنها أدنى أن تؤدي إلى الكشف عن الحق في موضوعها. صحيح أن علماء الاجتماع يستعينون أيضاً بنوع من المشاهدة، ولولا ذلك ما كانت هناك علوم اجتماعية قط. لكن شتان بين المشاهدتين: بين مشاهدة يكيفها ويضبط ظروفها المشاهد كما في العلم الطبيعي، وبين مشاهدة لا يكاد يكون هناك سبيل إلى التحكم(1024/17)
فيها أو ضبط ظروفها وتكيفها كما في العلم الاجتماعي. وهذا الفرق الأساسي هو سبب نهوض العلوم الطبيعية، وقعود العلوم الاجتماعية عن أن تبلغ من الدقة والإصابة المبلغ الذي يليق.
هذه النتيجة ليست راجعة إلى فضل فريق من العلماء على فريق، وإنما ترجع إلى طبيعة الموضوع في كل علم. فموضوع العلم الطبيعي هو المادة والطاقة والحياة في غير الإنسان. وما نفقد أو نخسر من ذلك أثناء التجارب لا يكاد يهم لأنه ممكن تعويضه. كلما تلفت أثناء التجربة الفاشلة كمية من المادة مثلاً أعدنا التجربة بكمية جديدة في ظروف جديدة حتى نهتدي إلى ما نريد. لكن مادة العلم الاجتماعي هي الإنسان متفرقاً أفراداً أو مجتمعاً بطوناً وشعوباً. ومن المحظور أن تعرض الفرد أو الجماعة إلى تجربة تؤدي إلى التلف أو حتى إلى ضرر ملحوظ، بل نفس احتمال الضرر في التجربة يكفي لمنعها وتحريمها قانوناً. فليس أمام العالم الاجتماعي إلا أن يشاهد ما يجري في حياة الجماعات من غير أن يكون له سلطان على تكييف ظروف الحياة تكييفاً يصل من خلاله إلى ما يريد من اختبار فرض أو اختيار الأرجح من رأيين والأصح من نظريتين. وهذا معناه أن سيطول الأمد على العلم الاجتماعي أو الفلسفة عموماً قبل أن يصل أو تصل إلى إثبات سنة من سنن الفطرة في الاجتماع كما قد وصل العلم الطبيعي إلى إثبات الكثير من سنن الفطرة فيما هو موضوعه من مادة الكون عدا الإنسان من حيث هو إنسان.
وعجز العلم الاجتماعي عن الوصول إلى الحق، مهما تكن أسباب ذلك العجز، لن يعفي أحداً من عواقب الخطأ أو التخبط في الحياة الاجتماعية نتيجة لجهل سنن الله التي طبع عليها الفطرة في الاجتماع. فليس ميدان الروح والحياة الإنسانية بأقل خضوعاً لنواميس الفطرة من ميدان المادة والطاقة، وليست نواميس الفطرة في ناحيتها الإنسانية الاجتماعية بأقل دقة وصرامة من نواميس الفطرة في ناحيتها المادية وإن خفي ذلك على الأكثر الأغلب من الناس. فالفطرة في حقيقتها كل شامل متصل وإن جزأه الإنسان ميادين وعلوماً متباينة لعجزه عن دراسة الفطرة دفعة واحدة. إن الإنسان مضطر إلى التحليل أولاً ليتوصل بعد إلى التركيب؛ مضطر إلى دراسة الجزء قبل أن يستطيع إدراك الكل في أمر من الأمور. فإذا قدر للإنسان في علومه المختلفة أن يحيط بالفطرة أجزاء منفصلة فسوف(1024/18)
يستطيع إذا اهتدى إلى فلسفة غير فلسفته الحاضرة أن يبصر الطريق إلى ضم بعض تلك الأجزاء، على تباينها، إلى بعض ضماً يجعل منها كلاً متصلاً تتجلى فيه الفطرة وحدة موحدة يجلوها علم عام جامع لشتات العلوم كلها هو علم الفطرة. عندئذ يرى الإنسان أن سنن الله في الكون واحدة في اطرادها وتناسقها، وفي دقتها وصرامتها، لا سبيل إلى تغييرها ولا إلا لإفلات من عواقب مخالفتها سواء في ذلك ناحية المادة والطاقة منها وناحية النفس والروح في الأفراد والجماعات.
ومهما عذر الناس في جهل أن الفطرة وحدة واحدة في طبيعياتها واجتماعياتها فالمسلمون من بينهم لا عذر لهم؛ لأن كتاب الله فاطر الفطرة قائم بينهم يخبرهم من ذلك بما جهلته الفلسفة ولم يدركه العلم، في آيات هي في أيدي المسلمين وا أسفاه كالمصابيح في أيدي العميان، من نحو قوله تعالى من سورة تبارك (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ومن سورة فاطر (فهل ينظرون إلا سنة الأولين! فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً).
والعجيب أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن لم تنزل في سنن الله في المادة وإنما نزلت في سنن الله في الاجتماع لتنذر الناس عواقب كفرهم إن كفروا بالدين الذي هو دين الفطرة، وليبين لهم أن لله في هذه الناحية سنناً لا تتخلف جرت في الأولين بالإهلاك حين عصوا واتبعوا أهواءهم، وهي جارية لا شك في الآخرين إن هم عصوا أيضاً وخرجوا عن سننه سبحانه التي فطر عليها الناس، سواء أكان خروجهم ومخالفتهم عن جهل أم عن عناد.
ولقد بين الله سبحانه هذه الحقيقة في كتابه الكريم بشتى صور البيان. فتارة يجمل كما في نحو قوله تعالى من سورة الحج (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير. فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها). وتارة يفصل ثم يدل على موضع الحجة والعبرة في التفصيل كما تجد في سورة القمر مثلاً إذ قص سبحانه ما جر التكذيب بسننه ورسله على قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون، حتى إذا بين سبحانه من ذلك ما شاء تفصيله التفت إلى كفار قريش مخاطباً بقوله (أكفاركم خير من(1024/19)
أولئكم؟) فدل بذلك على أن سنته في الكافرين المكذبين بكتبه ورسله سنة عامة لا استثناء لها ولا منجى منها إلا بالإيمان والعمل بالدين الذي تتمثل فيه قوانين الدين في الفطرة، وتتضمن أحكامه التطبيق المحكم لسننه سبحانه في الاجتماع؛ تلك السنن التي علم الله أن السبيل إليها وإلى تطبيقها غير ميسور للناس على الزمن ولا مضمون خلافاً لسننه سبحانه في المادة والطاقة وما إليهما فأمرهم أن يطلبوا هذه بأنفسهم ومن عليهم بتلك مطبقة محكمة في أحكام الإسلام.
ونحن اليوم نرى صدق عموم تلك السنن رأي العين فيما حاق بمخالفيها في الغرب وفي الشرق؛ فالغرب قد نال من العلم الطبيعي عن طريق البحث التجريبي ما نال حتى ظن أنه قد ملك الأرض يفعل فيها ما يريد غير مراقب في الناس إلاً ولا ذمة، ولا مراع في اجتماعياته شرعاً لله ولا سنة. فإذا بنفس علوم المادة تنقلب عليه نقمة، وإذا بأمواله تتحول بتلك العلوم مناجل وقنابل تحصد أهله، وتمزق شمله، وتترك دياره العامرة بلاقع ومدنه الزاخرة حطاماً (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد) وسيان أن يهلك العاصون لله وسننه بحجارة من سجيل يمطرونها على أيدي الملائكة، أو بقنابل زرية وغير ذرية يمطرونها على أيدي أمثالهم من الناس مصداقاً لقوله تعالى (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون).
ومن عجب أن الغرب لاقى ببغيه ومعصيته حربين هائلتين أنسته أولاهما حروب التاريخ، وأنسته أخراهما أهوال الأولى، وكان في كل منهما يبكي ويستبكي، ويدعو ويتضرع، ويعد ويمني؛ حتى إذا خرج من الأولى نسي ما عاهد عليه الله ونقض ما عاهد الناس فأذاقه الله بالثانية لباس الجوع والخوف فلم يعتبر ولم يرتدع ورجع إلى بغيه الذي ألف كما تشهد أعماله في مصر وفلسطين، وفي المغرب الأقصى وإيران وفي كينيا وكوريا وما إليهما. فلم يبق إذن إلا الثالثة تأتيه فلا تبقى منه ولا تذر. وأنى له أن يتجنبها وهو ينحدر إلى هاويتها بالاستعداد لها - زعم - كالمنزلق من جبل لا يستطيع إلا أن يزداد انزلاقاً حتى يهلك. فكان الغرب في ماضيه وحاضره مثلاً آخر مرعباً مؤسفاً للمكذب المغتر الظالم لنفسه ولغيره؛ فهو يوشك أن تحق عليه كلمة الله فيلقى ما لاقاه قوم قال الله فيهم (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين. فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين).(1024/20)
وأعجب من أمر الغرب أمر هذا الشرق الإسلامي الذي لا يزال يتخذ الغرب في اجتماعياته إماماً، كأن فشلها وخطلها لم يثبت بما أشاعت في الغرب من فرقة وبغض، وما جرت عليه من ويل وحرب. أو كأن هذا الشرق ليس بيده نور الله يهديه ودين الله يعتصم به. فلئن لم يتدبر قوله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) وقوله سبحانه (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) فيسمع لأول كل منهما ويطيع، ليوشكن أن يحق عليه سائرهما؛ فإن رأس سنن الله أن يطاع، وأن من لا يطيع يهلك. وسنن الله لا تتخلف كما يشهد به العلم في المادة، وكما يشهد به القرآن في الاجتماع.
محمد أحمد الغمراوي(1024/21)
الشهيد الأعزل. .!
للأستاذ محمد عبد الله السمان
(سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر
فأمره ونهاه. . فقتله)
حديث شريف.
إن الأسبوع الثاني من شهر فبراير من كل عام، ليحمل في طياته ذكرى هي من أجل الذكريات لدى الشبيبة المسلمة، والقلوب المؤمنة - لا في مصر وحدها - بل في كل بقعة أشرقت بنور الإسلام، وفي كل رقعة سلطت عليها شعاعات التوحيد.
أما الذكرى، فهي ذكرى الشهيد الأعزل (حسن البنا)، والحديث عن (حسن البنا) يعتبر جديداً في موضوعه، مهما طال، ومهما تكرر، إذ ليست شخصيته بالشخصية العادية التي يكفيها من الحديث أقله، فقد كان (حسن البنا) ملء السمع والبصر، دوى صوته في الشرق، فاهتزت جوانبه مؤذنة ببعث جديد، ومعلنة ميلاد فجر مشرق، ومنذرة بالرحيل استعماراً بغيضاً أصر على الخلود بين أرجاء الشرق، ليتخذ منه مطية ذلولا، وبقرة حلوبا، وضيعة ضائعة لا صاحب لها، ولا حارس عليها، ولا مسئول عنها، ودوى صوته في المسلمين فأيقظهم من سباتهم، وأزاح عنهم كابوس الدعة، وهيأهم ليليقوا بالإسلام في عزته ورقيه وعظمته.
ظل (حسن البنا) زهاء عشرين عاما يدعو إلى الله وحده، ويصيح من أعماق قلبه: الله غايتنا. . وتردد وراءه الألوف المؤلفة من الشباب المصوغ في بواتق من الإيمان بالله والثقة به، وظل زهاء عشرين عاما، يدعو إلى الإسلام المصفى. . الإسلام الذي يشيد بالعزة والمنعة والقوة، وينفر من الذلة والضعف والمسكنة. . الإسلام المرن السمح، الذي لا ثقل فيه ولا تعقيد، ولا جمود ولا تزمت، الإسلام الخالص من شوائب الجهلة من الحمقى، والأنذال من المرتزقة. .
وظل (حسن البنا) زهاء عشرين عاما، يكافح الاستعمار في مصر والشام وجزيرة العرب، والمغرب وجنوبي أفريقيا وجزائر الهند الشرقية وغيرها، فلم يخمد له صوت، ولم تفتر له(1024/22)
همة، ولم يهن له عزم، ولم تتزعزع له عقيدة، ويكافح الحكم الإقطاعي القائم على استغلال الحكم، كمورد للثروة، ومصنع للجاه، ومرتع قذر للرشوة والمحسوبية، ويكافح ضعف الشعوب المغلوبة على أمرها، حتى تعرف قدر نفسها، وتؤمن بحقها على الحكومات الإقطاعية المسلطة عليها، لتذيقها ألواناً من العنت والتعسف والإرهاق!
وظل (حسن البنا) زهاء عشرين عاما، يكافح من أجل الشباب حتى انتشله من حضيض التدهور والتفكك والانحلال، وخلصه من مواخير العربدة والاستهتار والمجون، وغذاه بالمثل العليا والمعاني الحية، وصبه في بواتق من الشرف والإباء والطموح، وأعده إعدادا كاملا للكفاح من أجل الإسلام القابع في زوايا الإهمال، وأوطانه الرازحة تحت أعباء الاستعمار والاحتلال، وتجلت قيمة هذا الشاب فوق تربة فلسطين الذبيحة، وأرض القنال يوم معركة القنال. . .
كانت كلمة (حسن البنا) شبحا هو مصدر قلق للديمقراطية الفاجرة في إنجلترا وفرنسا وبلاد العم سام، ومصدر قلق للشيوعية المضللة في الصين الشيوعية وروسيا الحمراء، كما كانت مصدر فزع للعروش الاستبدادية، ولذا كانت المؤامرة على دعوة الشهيد الأعزل ثلاثية، الديمقراطية بالإيعاز والإيحاء، والشيوعية بالدس والوقيعة، والدكتاتورية الممثلة في العروش الطاغية بتنفيذ المؤامرة، مستعينة بالحكومات الهزيلة التي لم تكن تملك من أمرها شيئا، ولم نكن نستطيع أن نكون في حكمها أكثر من أداة مسخرة حمقاء!
ولقد قامت مصر بدور البطل في المؤامرة على الدعوة الإسلامية ولم يكفها أنها بدأت بالضربة الأولى، بل إنها أخذت على عاتقها أن تريح الاستعمار الممثل في الديمقراطية الفاجرة، والفوضى الممثلة في الشيوعية المضللة، والديكتاتورية الممثلة في العروش المستبدة - أخذت على عاتقها أن تريح هؤلاء جميعا من (حسن البنا) ولتقدم بعدئذ رأسه قربانا للصبي العربيد (فاروق) في عيد ميلاده، ولتضيع دماء (حسن البنا) الشهيد الأعزل هدرا، في غوغاء الاحتفالات، وضوضاء المهرجانات، وزحمة السرادقات التي كانت تملأ شوارع القاهرة، حفاوة بعيد ميلاد الجالس على العرش، الصبي المدلل، والمعتوه المقدس، والملك الخليع الذي ورث عرش مصر عن رع وأمون!
وبينما كانت المارة تسمع أزيز دماء الشهيد وهي تنزف في شارع الملكة، كانت الشياطين(1024/23)
تصغي لجوانب القصر (الخرب) تتماوج لهواً وفجوراً وعبثاً، لتقدم فروض الولاء والتهنئة للصبي المخلوع. .!
لقد قتل (الشهيد الأعزل) غيلة وغدرا، وظن الصبي الفاجر أن ملكه أقوى وأعز وأمنع من أن تتسرب إليه الشبهات، ولم يكن يدري أن البقية من الشبيبة المؤمنة خارج القضبان، كانت تعد منشورات بعد ساعات من استشهاد الشهيد الأعزل، جاء فيها (لقد قتل حسن البنا، وعرف القاتل، ولكن يدا خبيثة تحميه، ويد الله أقوى منها، ستصل إليه وترديه والله أكبر ولله الحمد)، وظن القتلة السفاكون أنهم سيظلون في حصن منيع، وفي أمن من قبضة القضاء، وأيقنا نحن بأن عين الله لم تنم، وعدالة السماء لم تغفل، والقصاص آت لا ريب فيه. .
ومرت سنون أربع، فإذا الملك المخلوع يحتفل بعيد ميلاده في منفاه على موائد الميسر والخمر، وبين أحضان العابثات والساقطات، وإذا مصر تحتفل بعيد التحرير من سلطان فاجر أبى إلا أن يتربع على عرش من العربدة والفسق والفجور، وحوله شرذمة من الأفاقين، وإذا بالسفاكين المجرمين في قبضة العدالة، وفي انتظار القصاص العادل، الذي ادخرته السماء لمصر حتى تطمئن أرضها، وإذا بالدعوة الإسلامية بخير تؤدي رسالتها، وتقطع منهاجها الذي رسمته لنفسها، وإذا بالقلوب المسلمة في مصر والشرق، لا تكاد تذمر مأساة الملك مخلوع، حتى تذكر دماء الشهيد الأعزل (حسن البنا) الذي خر صريع البغي في سبيل الحق، فلم تنصفه الأرض، وأنصفته السماء. .!
إن استشهاد (حسن البنا) سيظل خالدا إلى أن تقع السماء على الأرض، ورمزا للفكرة الإسلامية التي أخذت على عاتقها أن تحرر الإسلام من الشوائب، وأن تحرر وطنه من جراثيم الاحتلال والاستعمار، ولئن كان من الممكن للتاريخ أن يجور ويظلم، ويتصنع التهاون والإهمال، فلن يقوى بحال من الأحوال أن يجور أو يظلم ذكرى الشهيد الأعزل، أو يتصنع الإهمال والتهاون فيها، لأن ذكر حسن البنا قد سجلت لنفسها الخلود، ونقشت في القلوب، وامتزجت بالعقائد. .!
محمد عبد الله السمان(1024/24)
حياة المازني
المرأة في حياة المازني
ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي
المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
رثى المازني زوجته فكأنما كان يرثي نفسه أو بضعة منه، لا مجرد زوجة، ويناجيها في تفجع مرير (وا أسفي عليك، لا بل على، لم يبق إلا طيف يعتاد ذاكرتي. لا أثر على الرمال الخائنة التي كنا نمشي فوقها ونرقد عليها ونملأ أكفنا منها، وندع ذراتها تتساقط خيوطاً من بين فروج أصابعنا. ولقد نسيتك النجوم التي كنت تحبينها وتشيرين إليها ببنانك وتعدينها، ولم تستوحش خلو مكانك إلى جانبي تحت عيونها المتلامحة، بل هي لم تذكرك حتى يقال نسيتك. والقمر، الذي كنت تأنسين بطلعته وتخالسينه النظر من بين خصل شعرك الدجوجي المرخى على وجهك تحت ضوئه الفضي اللين، لا يزال يبتسم كالعهد به ابتسامة السخر والسهوم كأنه لم يفتقدك. كلا ما من شيء فيما أرى يحس افتقادك، كأنك لم تحبي وجه هذه الطبيعة الخامدة الحس الميتة المشاعر، التي تروعنا ولا تحفلنا، وتنبينا ولا تذكرنا. . وماذا أنا الآن؟ حي من الأحياء لا يدري الناس أني مت منذ سنين، وأني قبر متحرك كشمشون ملتون، أو جثة لم تجد من يدفنها، أو صورة باهتة لما كنته في حياتي. ولقد كنت كما يتوهمني الناس الآن، حياً تتدفق الدماء الحارة في عروقي، فلما تأملت مصائر الخلق ركدت الدماء قليلاً وابتردت، ومات مني شيء. ثم قضى ولدانا فأحسست دبيب الغناء، وضحى ظلك فتساقطت أزهار الحياة بين يدي وذوت نوارات آمالي تحت عيني، وإذا كفي ملأي بميت الزهر مما قطفت قدماً).
وكان يتخذ بيته في ذلك الحين على تخوم العالمين أو على حدود الأبد، ويستريح إلى قضاء لياليه في الصحراء حيث يلفه الظلام في شملته، ويرقد على الرمال كما كان يفعل مع زوجته، ويجعل عينه قيد السماء، يراعي النجوم ويناجيها، وتذهله خواطره السود عن نفسه وما حوله.(1024/25)
وإنه لغارق في لجج هذه الخواطر ذات ليلة - والجو ساج شاحب بدره - (إذا بفتاة ورد تعدو إلي وتناديني باسمي، فأفقت ورددت إلى الدنيا ولكن كما يفيق المغشي عليه؛ يتلفت في كل ناحية ويسأل أين هو؟ ويعجب لنفسه ولمن حوله وبذهنه بعض الكلال، وعلى عينيه كالغشاوة. ثم اعتدلت فوق الرمل ونبهت حواسي ومداركي بجهد، وقلت: من عسى تكونين يا فتاتي؟ قالت: لقد ذهبت أملأ جرتي من بيتكم هذا كعادتي كل ليلة بعد أن تنقطع الرجل، ألم ترني قبل الليلة؟ قلت: نعم ولكني لم أذكرها. فمضت في كلامها وهي تلهث وتلقي علي الأسئلة ولا تنتظر جوابها: إني كل ليلة أتسلل إلى البيت وجرتي تحت ملاءتي وأدفع الباب برفق. لماذا لا توصد بابك؟ ألا تخشى سارقاً؟ ولكن لو كنت توصده لتعذر علي أحياناً الدخول، ولكنت أخجل أن أزعجكم كل ليلة من أجل جرة ماء! وبعد أن أدخل وأضع جرتي في الحوض أتركها تمتلئ على مهل وأرود الحديقة، ولكني والله لم أقطف منها شيئاً، وإن كنت أحب ثمر الحناء. وقد انتهرتني ليلة وأنا أتمشى تحسبني أريد أن أسرق، فخفت وبكيت في الطريق وقلت كيف يسيء الظن بي. نعم، كيف أسأت الظن بي؟ فقلت: لم أكن أعرفك يا فتاتي فلا تغضبي، وخذي ما شئت من الحديقة فما بها ما يستحق أن يضن به المرء. فانحنت إلي وأنا قاعد على الرمل ووضعت راحتيها على ركبتيها وأكبت بوجهها على وجهي وحدقت في عيني وقالت بلهجة العاتب المحاسب: كيف لم تكن تعرفني؟ ألست أحييك كلما دخلت ورأيتك جالساً في ذلك الركن المظلم تحت الكرمة؟ فتناولت وجهها بين كفي وجذبته إلي في رفق وقبلتها، إذ لم يكن ثمة بد من ذلك، وقلت: لا تغضبي يا فتاتي، وإذا كنت تريدين ثمر الحناء فاجنيه كله، أو العنب فعناقيده لك، ولكن خبريني من ذلك على مكاني؟ ونهضت، فعادت إلى التحدث وقالت: من دلني؟ يا له من سؤال! كأن الدنيا كلها لا تعرف، ولقد وجدت بابك الليلة موصداً فعلمت أنك خرجت إلى هنا فجئت أبحث عنك لتفتحه لي، فإني أستحيي أن أقرعه قلت: أحسنت، فتعالي إلى هذه الصخرة. قالت: لماذا؟ قلت: لتعدي لي النجوم؟ قالت: أو هذا ممكن؟ إنها كثيرة جداً جداً! قلت: نعم، ولكنك كلما عددت نجماً وأسرت إليه بإصبعك اختفى واستسر حتى لا يبقى في السماء ولا الأرض إلا عيناك! قالت: أصحيح هذا؟ وجعلت تثب وتصفق حتى لخلتها إحدى بنات الليل. ومضينا إلى الصخرة وجلست وأجلستها على ركبتي وطوقتها بذراعي،(1024/26)
وانطلقت هي تعد النجوم وأنا ألثم فاهاً كلما عدت واحداً، وهي فرحة بلثماتي، تردها مضاعفة حارة، وتهز رأسها وتنفض شعرها ثم تلقي بنفسها على ذراعي كرة أخرى وتستأنف العد ووجهها إلى السماء وشعرها المرسل متدل إلى الأرض. . .)
وأياً ما كان أمر هذه العلاقة العابرة وحظها من الواقع أو الخيال فثمة علاقة أخرى مما عرض للمازني في تلك الفترة من حياته، بعد وفاة زوجته، لا شك في أنها حقيقة مؤكدة وواقع صرف. وذلك حيث يذكر في مقدمة روايته (إبراهيم الكاتب) أنه عرف سيدة نمسوية تزاول الصحافة والتعليم في آن معاً؛ وتوثقت بينهما الصداقة فقد طال مقامها في مصر. وكانت - كما يصفها - حسناء في مقتبل العمر، عالمة واسعة الاطلاع في الآداب والفلسفة على الخصوص. ويقول المازني إنها أطلعته على صفحة من حياتها حافلة بالكروب والمتاعب. ولعلها وجدت فيما حدثها به من قصة حياته - وكانت لا تزال تعاوده صبابة من الحزن على فجيعته بفقد زوجته - ما جعلها تعطف عليه وتأنس به وزاد ذلك بينهما حتى آض، على الأيام، صغوا وتعاطفا وودا. . . (حتى لقد هممت بأن أتخذها زوجة، ثم عدلت عن ذلك وصرفت نفسي عنه، وصارحتها بالسبب، وإن كنت لا خطبتها، ولا كان بيننا ما يخطر ببالها أني قد أعرض عليها الزواج.
كلا! لم يحي المازني قط بمعزل عن المرأة، فقد كانت أكبر علائق الحياة عنده، وعليها درس فلسفة الغريزة والجنس، ومن معرفته وفهمه لطبيعتها كانت شخوص قصصه من النساء نماذج طبيعية للمرأة تصدر جميعاً عن فطرة سليمة وعاطفة مستقيمة. على أنه لم يكن يرتفع بالمرأة فوق مكانها من الجنس أو ينأى بها عن وظيفتها إزاء الرجل والنوع كله، فهي عنده الأنثى التي هيأتها الطبيعة لتكون أداة حفظ النوع وصيانته.
وقد ماتت عنه زوجته الأولى فما لبث أن تزوج بعد سنوات لأنه لم يستطع كما يقول أن يشيح بوجهه عن أهم جانب من جوانب الحياة. وما كان ليعترف بالعزوبة أو يؤمن بجدواها في حياة الأديب. ويقول إن أكبر مزية للزوجة هي أنها (سكن) وأنها تفيض على نفس الرجل وتفرغ على قلبه سكينة هي في رأيه السعادة التي يحق للإنسان أن يطمع فيها ولا بعجز عن الفوز بها. والزوجة عنده سبيل معرفة المرأة فليس يعرف المرأة من لا يعرف الزوجة ولو عرف ألف امرأة غيرها).(1024/27)
والحب، أو هذه العاطفة التي تكون بين الرجل والمرأة، أو بين الذكورة والأنوثة على الإطلاق، هو عند المازني مظهر الغريزة النوعية في الإنسان أو هو الوسيلة التي تتخذها الحياة لبقاء مظهرها الإنساني، والأداة التي تستخدمها لحفظ النوع. وهو بهذه المثابة، ليس إلا ضرباً من الجوع، كالجوع إلى الطعام، وإنما يشتهي المرء بغريزته النسل فيطلب المرأة، وتشتهي المرأة فتطلب الرجل. وليس الرجل أو المرأة بعد، كما يقول المازني، بالغاية المنشودة من هذا الشعور الدافع الذي نسميه الحب، وإنما الغاية هي استخدام هذا الشعور لاتصال الرجل بالمرأة اتصالاً يؤدي إلى التناسل أي حفظ النوع.
وعند المازني أن الحب أشد استغراقاً للمرأة، لأن مدار حياتها على حفظ النوع. ولهذا كانت الغريزة الجنسية فيها أقوى منها في الرجل.
ولا يؤمن المازني بما يسمى الحب العذري أو الأفلاطوني ويقول إنه (مظهر شذوذ أو ضعف في الطبيعة الإنسانية) وآية ذلك عنده ما ينتهي إليه في أكثر الحالات من الخبل أو الجنون. . (وإذا كان الحب لا يدفع إلى طلب الجنس الآخر فلابد أن تكون هناك علة أو آفة كالعلة التي تصرف الجائع عن الطعام).
وليس الحب عنده بعد ذلك تضحية أو إيثاراً أو شيئاً من هذا القبيل، بل هو أنانية صارخة من كلا الجانبين على السواء (فكل محب همه الاستيلاء على محبوبه والاستئثار به دون خلق الله جميعاً).
على أن أهم ما ذهب إليه المازني في فلسفة الحب هو رأيه المعروف القائل بالتعدد، وأن القلب الإنساني يتسع لأكثر من حب واحد في وقت واحد، أو في أوقات متقاربة، وإن اختلف كل حب في القوة والنوع والوجهة، وهو بعد حب صحيح يعلق القلب ويحرك الحس ويغير في النظرة إلى الحياة. ويؤكد المازني أن الإنسان لا يعرف التوحيد في الحب، (فلا الرجل يعرفه ولا المرأة تعرفه، والحقيقة أنه أكذوبة ضخمة وخرافة يلهج بها اللسان ولا يصدقها القلب.) وقد كانت زوايتاه الطويلتان إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني تطبيقاً لهذا الرأي وتمثيلاً له في هذه الحدود.
والكلام عن المرأة في حياة المازني لا يتم بغير الإشارة إلى شخصية كان لها أثرها البارز في حياته وأدبه.(1024/28)
تلك هي أمه. وقد مر في بعض هذه الفصول وصف وجيز لها. وهنا نقول إنها كانت لابنها أكثر من أم؛ فقد كانت له في طفولته أمه وأباه، وكانت له في رجولته أخته وصديقه. وكان، وهو أب وزوج، يعود حيالها طفلاً لا رأي له دونها، ويكل إليها كافة شأنه تصرفه له وتعينه عليه. ومن الحوادث التي تدل على شخصيتها القوية وأثرها الموحي، أنه جاءها يوماً، عقب استقالته من وزارة المعارف وكان ذلك في بدء الحرب الكبرى، فألقى بين يديها بقراطيس فيها (مرتبه) نقوداً فضية، وقال لها: هذا آخر ما أقبض من مال الحكومة. قالت: يعني؟ فأخبرها أنه استقال، فلم تزد على أن قالت: على بركة الله.
ومن حنانها عليه وحبها له أنها كانت تقاسمه الدواء إذا مرض، وتجرع منه أمامه قبل أن تقدمه إليه، فينكر ذلك منها ويقول لها يا أمي كفي عن هذا. فلا يكون جوابها إلا أنه قلب الأم.
وقد كان المازني ينطوي لها على الحب والاحترام والوفاء وأهدى إليها في حياتها كتابه (رحلة الحجاز) وكان لا يفتأ يذكر فضلها عليه، ويسرد حوادثها معه، ويتحرى فيما يعمل مرضاتها وهناءتها. ويقول: لو وسعني أن أجعل حياتها نعيماً خالداً وسروراً دائماً وجذلاً لا تنضب ينابيعه ولا تجف موارده لما قصرت ولا كنت صانعاً إلا بعض ما يجب لها). فلما ماتت ظل يستوحيها في كل ما يقوم بخلده أو ما يمضي عزمه عليه، كأنها حاضرة معه لم تفارقه وكان ربما عن له الشيء فلا يلبث أن يستدبره وينصرف عنه، لما يقوم في نفسه من أن أمه لم تكن لترضاه له أو تشير عليه به لو كانت بقيد الحياة.
محمد محمود حمدان(1024/29)
صور من الحجاز
الموقف الأكبر. . .
للأستاذ محمد كامل حته
أدى الكاتب فريضة الحج هذا العام، وقد نشرنا له في عدد مضى من الرسالة فصلاً عن (الدعوة الوهابية وأهدافها الدينية والسياسية) وفيما يلي يحدثنا عن الموقف الأكبر في عرفات. . .
قال صديقي:
- هنيئاً لك حجك في هذا اليوم؛ إنه يعدل سبعين حجة!
قلت: وما ذاك؟
قال: لقد كانت حجة الوداع في يوم الجمعة، وهو يومنا هذا؛ ولهذا قيل إن الحج إذا وقع في يوم جمعة، تضاعف أجره سبعين مرة. . .
قلت: إن الذي يضاعف أجر الحج ليس وقوعه في هذا اليوم أو ذاك، وإنما في وقوعه من القلوب بمنزلة الإيمان الواعي البصير، الذي تنعكس أنواره فتسري في المشاعر كالكهرباء، ثم تترجمها المشاعر إلى أعمال مبرورة، وكلم طيب يرتفع بصاحبه إلى السماء!
ولاحت لنا عرفات، ذلك السهل المنبسط الفسيح؛ وقد أقيمت فيه الخيام على مد البصر، وفي أقصاه جبل (إلال) أو جبل الرحمة كما يقولون، وقد بدا كأنه جبل من البشر لا من الصخور. . .
إن آلاف الحجاج يغطون جوانبه حتى القمة، وإنك لتشهدهم هكذا حتى في وقت الظهيرة تحت وهج الشمس المحرقة، وفي أتون الحر اللافح الشديد!
وا رحمتاه لأولئك المسرفين في العبادة، تنطلق بهم أشواقهم إلى بعيد، حتى لتكاد تبلغ بهم المهالك، وهم هائمون ذاهلون. . .
وليس ذلك من الإسلام في شيء أيها الأخوة المسرفون.
أيها المسرفون على أنفسهم، وعلى دينهم السمح اليسير؛ هذا الدين الذي لن يشاده أحد إلا غلبه، مهما أوتي من قوة وطاقة، ومهما أسرف على نفسه من جهد وعناء.
خذوا ذلك عن سيد العابدين، وأوغلوا في الدين برفق كما يقول.(1024/30)
ثم ما هذا الوقوف على جبل (إلال) وما مكانه من مناسك الحج كما شرعها محمد بأفعاله وأقواله؟
إن الحج عرفة، ذلك السهل المنبسط الفسيح. وكل مكان فيه موقف لأداء هذه الفريضة، وقد وقف الرسول عند جبل (إلال) ولم يصعد جانبه أو يتسم قمته كما يفعل هؤلاء الغلاة المسرفون؛ وأقر مئة ألف من أصحابه على الوقوف حيث هم من ذلك السهل المنبسط الفسيح، يتوجهون إلى الكعبة بالتهليل والتسبيح والدعاء.
وا رحمتاه لأولئك المسرفين على أنفسهم وعلى دينهم!
إن منهم من يقدم إلى الحج في أخريات أيامه، محطماً هزيلاً متهالكاً من شيخوخة وإعياء؛ وليست لديه إلا أمنية واحدة، هي أن يموت في هذه الأرض الطاهرة البيضاء. . .
وهو في سبيل تحقيق هذه الأمنية التي تملك عليه كل مشاعره؛ يحاول جاهداً أن يستعجل هذه النهاية، ويختصر في الوصول إليها أسباب الحياة!
إنه يجد في أشعة الشمس المحرقة خيوطاً ترقى عليها روحه إلى السماء، فهو يتعرض لها ويتشبث بأسبابها ليبلغ من أمنيته ما يريد. . .
وهو يقسو على شيخوخته وضعفه، بل إنه ليمد هذه الشيخوخة وذلك الضعف بما يدفعهما به دفعاً إلى مصيره الرهيب الحبيب!
إنه الانتحار. . . الانتحار على أخبث صورة وأبعدها فتنة وضلالة؛ لأنه انتحار بلبس ثوب الشهادة في سبيل الله؛ والله ورسوله من ذلك براء.
وجدير بي وأنا أتحدث عن أولئك المسرفين على أنفسهم وعلى دينهم، من أمثال أولئك الشيوخ الفانين، وغيرهم ممن لا تتوافر فيهم شرائط (الاستطاعة) كهذا الذي يقدم على الحج وهو ضعيف معتل، لا يقوى على متاعب الحج ومشاقه؛ أو ذاك الذي يبيع كل ما يملك من حطام الدنيا ليظفر بأداء هذه الفريضة، لا يعنيه بعد ذلك أن يعود إلى بلده معدماً يستجدي الناس ما يعول به نفسه وأهله.
جدير بي في هذا المقام أن أضرب مثلاً بما فرضته دولة إسلامية ناهضة هي إندونيسيا؛ إذ اشترطت على من يريد أداء فريضة الحج شروطاً منها: ألا تزيد سنه على خمسين عاماً، وأن يجتاز فحصاً طبياً تثبت به سلامته من العلل والأمراض، وتدخل في ذلك المرأة أيام(1024/31)
حملها؛ وأن يكون لديه من المال - عدا نفقات السفر والإقامة - ما لا يقل عن سبعين جنيهاً. وإذا ثبت أنه باع عقاراً لا يملك سواه لينفق منه على رحلة الحج، منع من السفر ورد إليه عقاره.
ولم يكن من نتائج هذه السياسة أن انصرف الإندونيسيون عن الحج؛ فإنهم ليفدون على البيت الحرام أفواجاً مؤلفة؛ وإنما كان من نتائجها أنها جنبت العجزة منهم كثيراً من المهالك والمآثم، وبعثت إلى موسم الحج بالنماذج القادرة الصالحة لأداء هذه الفريضة.
. . . واجتمع في عرفات ثلاثمائة ألف أو يزيدون. وفي هذا الموقف تتجلى روعة الحج وحكمته؛ هذا المؤتمر الإسلامي العظيم الذي يهرع إليه المسلمون من جميع أقطار الأرض ليشهدوا منافع لهم.
ولكن أي منافع تلك التي شهدناها في هذا الموقف الجامع، وأي ثمرات جنيناها من ذلك المؤتمر الخطير الذي لا تتهيأ أسبابه المادية والروحية إلا يوم عرفه؟
. . . وأخذتني سنة من النوم وأنا جالس في المخيم الذي أعده فندق مصر لنزلائه، أتفيأ الظل وأقرأ في كتاب. وإذا بي أشهد جبل (إلال) قد أقيمت عليه مظلة كبيرة تخفق فوقها عشرات الأعلام، وقد جلس تحتها نفر من الناس في لباس الإحرام، على منصة ذات أسوار. وإذا رجل منهم يقف أمام جهاز للإذاعة فيهتف:
- الله أكبر، ولله الحمد.
ثم ينطلق في حديث تردده أجهزة للإذاعة أقيمت بين الخيام. . .
إنه يتحدث عن هذا الموقف العظيم، ويرجو أن يكون شهوده جديرين بأن يباهي الله بهم ملائكته في السماء!
ثم هو يتلو على الناس ما اتخذه مؤتمر الحجيج في الموسم السابق من قرارات، وما قامت به الدول الإسلامية لتنفيذ هذه القرارات من جهود. وهو يستعرض بعد ذلك قضايا العالم الإسلامي، وعلاقاته بغيره من الدول، في إحاطة وإيجاز. ويتنحى عن مكانه بعد أن يقدم للحديث أولئك النفر الذين يجلسون حوله واحداً بعد الآخر. . .
فهذا آية الله الكاشاني يتحدث عن تأميم الزيت في الحقول الإسلامية؛ وعن مشروع الكتلة الثالثة، التي تحفظ على العالم الإسلامي والعربي كيانه، ويعتدل بها ميزان الأمن والسلام(1024/32)
الذي تتأرجح كفتاه بين الشرق والغرب.
وهذا محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء في الجزائر، يرسم الخطوط العملية لتحرير المغرب العربي من نير الاستعمار.
وهذا سردار عبد الرب نشتر وزير الزراعة في باكستان يتحدث عن تجارب بلاده في سياسة الاكتفاء الذاتي، ويعرض مشروعاً للتعاون الاقتصادي بين البلاد الإسلامية.
وهذا بشير السعداوي زعيم طرابلس، يكشف عن المؤامرات الاستعمارية التي أحالت استقلال ليبيا بعد جهادها الدامي أربعين عاماً، إلى أسطورة سياسية. . .
وهذا الدكتور محمد حتا نائب رئيس الجمهورية الإندونيسية، يروي قصص البطولة النادرة، التي صرعت الاستعمار الهولندي وإسناده فيما وراء البحار. . .
وهذا عبد الله الفاضل المهدي، يعدد جرائم الاستعمار البريطاني في السودان، وخاصة فيما وراء الستار الحديدي في الجنوب.
وهذا الأمير سيف الإسلام عبد الله، يتحدث عن الكنوز المعدنية المخبوءة في حقول اليمن وجبالها، ويدعو أهل الفن وأرباب المال في البلاد العربية والإسلامية، لكشف هذه الكنوز واستغلالها؛ وبذلك تزداد موارد الثروة الاقتصادية في العالم الإسلامي، وتتخلص اليمن مما هي فيه من فقر وجهل ومرض وتخلف عن ركب الحياة.
وهذا أمين الحسيني يؤبن الفردوس المفقود، ويردد أنات شعب فقد الوطن، وفقد معه حقه في الحياة، وأنكر الأولياء من أبناء عرقه وملته؛ قبل أن ينكره الأباعد والأعداء.
وهذا حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة، يتحدث عما ابتدعه المسلمون في دينهم من طقوس، وما أحدثوا من ضلالات؛ الأمر الذي أوشك أن يعود بالإسلام غريباً كما بدأ، وأوشك أن يجعل المؤمنين به، القائمين على شريعته غرباء في هذه الحياة!
وهذا نجيب الراوي سفير العراق في مصر، يعرض مشروعاً أعدته بلاده لتعمير ملايين الأفدنة الغامرة على ضفاف دجلة والفرات، ويرى أن نجاح هذا المشروع في العراق؛ وقيام مثله في مصر؛ كفيل بأن يمحو عنهما وصمة استيراد (الحبوب) من البلاد الأجنبية، ويفتح مجالاً واسعاً لترقية مستوى المعيشة، بازدياد الإنتاج الزراعي، وإنعاش الحياة الاقتصادية في البلاد.(1024/33)
وهذا حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية، يتحدث عن التقريب بين المذاهب، وعن الاجتهاد في الشريعة، حتى توائم تطور العصر وتواجه مشكلات المجتمع. وحتى يصبح التشريع الإسلامي مادة حية في المجتمع الإسلامي، وليس أثراً جامداً في الكتب الصفراء. . .
وهذا الأمير فيصل يتحدث عن مشروع خمس السنوات الذي وضعته الحكومة السعودية للنهوض بمرافق الدولة ومستوى الشعب، ورصدت له مائة مليون من الجنيهات.
ثم عاد التحدث الأول إلى (الميكرفون) يقول:
- والآن، أيها الأخوة، نختتم هذه الجلسة الأولى للمؤتمر. وموعدنا معكم أيام التشريق في (منى) حيث تجتمع اللجان الفنية لدراسة ما لديها من مشروعات، وما تقدمونه إليها من مقترحات، ثم تعرض تقاريرها على المجلس الأعلى للهيئات النيابية، فيحولها إلى مواثيق تأخذ طريقها إلى التنفيذ.
- الله أكبر، ولله الحمد!
وأفقت من غفوتي على ضجة في المخيم، وتلفت فإذا الخدم يحملون أكواب الشراب المثلج، والناس يتصايحون ليطفئوا ظمأهم الشديد.
ثم هدأت الضجة، ولم يزل أثر هذا الحلم الجميل يداعب أجفاني، ويراودني على الإغفاء من جديد!
وساءلت نفسي: أين نحن في موقفنا هذا من تلك الصورة التي طافت بي في المنام؟ وأين هي تلك المنافع التي جئنا لنشهدها في هذا الموقف الجامع العظيم؟
إن جبل (إلال) ما يزال ماثلاً أمامي تغطي جوانبه وقمته آلاف الحجاج، تصهرهم أشعة الشمس المحرقة، ويرمضهم حرها الشديد؛ ولا تطوف بخواطرهم إلا معان غامضة ساذجة، ليس بينها وبين تلك المعاني المشرقة الرشيدة التي طافت بخواطر أولئك النفر الذين تخيلتهم في منامي، إلا ما بين الحقائق والأحلام.
وإن هؤلاء النفر الذين يمثلون الصفوة المفكرة المجاهدة من رجالات الأمة الإسلامية، والذين تخيلتهم في موقفهم ذاك على جبل (إلال) يتحدثون ويلهمون؛ فتهتز لحديثهم جنبات الوادي، وتتجاوب مع كلماتهم قلوب الملايين من مسلمي الأرض، وتنخلع أفئدة زبانية(1024/34)
الاستعمار وقراصنة الشعوب. . . ها هم أولاء بذواتهم يؤدون فريضة الحج، ويقفون في عرفه. ولكن وقوفهم هذا أبعد ما يكون عن وقوفهم ذاك؛ بعد الأرض عن السماء.
إنهم هنا لا يؤدون تلك الأمانة العظمى، فيتحدثون إلى مئات الألوف، ومن ورائهم مئات الملايين؛ ومن ورائهم دول العالم ترهف السمع والقلب - حديث التوجيه والإلهام والبعث والبناء؛ ولكنهم يقفون كغيرهم من عامة الناس، ممن لا يحملون أمانة، ولا يضطلعون بمسؤولية. وإذا تحدث أحدهم لا يتجاوز حديثه بضعة أفراد، ولا يتخطى أبواب الخيمة وآذان سامعيه!
أين هي إذن تلك المنافع التي جئنا لنشهدها في هذا الموقف الجامع العظيم؟
إن منفعة واحدة هي التي أزعم أنني أفدتها. ويزعم الكثيرون.
هي الشعور بهذا النقص الخطير في تمثل حكمة الحج وتلك المسؤولية الكبرى في إهدار هذه الفرصة التي لا تتاح للمسلمين إلا مرة كل عام.
محمد كامل حتة(1024/35)
شعر مختار
رباعيات
للدكتور عبد الوهاب عزام
ينبع الشعر والشواغل شتى ... كانبجاس الزلال بين الرمال
أبصر الماء صافياً لست أدري ... كم فياف سرى بها وجبال
قد عبدنا حدائق الحسن في الأرض ... ترينا الثمار كل شهي
وكبرنا عن أن نسف إليها ... فمضينا كطائر وحشي
قلت لليل كم بصدرك سر ... أنبئني ما أروع الأسرار؟
قال: ما ضاء في ظلامي سر ... كدموع المنيب في الأسحار
قد تهاوى إلى الحضيض أناس ... وخذوا حين حوسبوا بالظواهر
ليت شعري فما يكون أناس ... ما يكونون يوم تبلى السرائر؟
قالت النفس لا تسل لست أدري ... في خضم الحياة بالمقصود
غير أني أرى شراعاً وريحاً ... ومناراً يلوح لي من بعيد
لا يبالي الأخيار في هذه الأر ... ض بباغ ومفتر وحسود
لو يبالون لم يشقوا طريقاً ... بين هذى الآفات نحو الخلود
كم سمعنا وكم رأينا عجيباً: ... في أناس طبيعة الحرباء
فهم يبدلون لوناً فلوناً ... في غداة وضحوة ومساء
لا ترج الثواب عند عباد ... خاب من يرتجي ثواب العباد
كم يجازون بالإساءة إحسا ... نا وبالكفر ما لقوا من أيادي
لا يعادي الإنسان كلباً عقوراً ... أو يخاف الملام إن فر منه
كم عقور من الأناسي فأحذر ... هـ ولا تخز إن تباعدت عنه
علماء الزمان في درجات ... لا من العلم بل من الأموال
إنما هذه الوظائف أثم ... ن بها قومت قدور الرجال
عبد الوهاب عزام(1024/36)
لقد (أنجبت) أرض الكنانة منقذاً
للشاعر الفلسطيني الأستاذ مصباح العامودي
معاذ العلا أن تقبل الخسف مورداً ... وتغدو مسوداً بعد أن كنت سيدا
وحاشاك أن تحيا على الناس عالة ... وتهجر ميدان الكفاح وتقعدا
وأنت الذي أحنى له الدهر هامه ... وسطر للأمجاد سفراً مخلدا
بنى فوق هام الشهاب أهرام مجده ... ومن مهج الأبطال صرحاً مشيدا
أغرت على الأهوال سهما مسدداً ... وصلت على الأحداث سيفاً مجردا
فأوشك ثغر الصبح يفتر باسماً ... وكاد طريق النصر يبدو معبدا
ولكن (شيوخ) العرب (لله درهم) ... أبوا لك إلا أن تكون مشردا
عجبت لكم فيم التفاخر بينكم ... فهل ظل غير (البيت) أن يتهودا
ويا ليت هذا البيت أضحى مهدماً ... وصينت لنا الأغراض بيتاً ومسجدا
تشاء بيوت الله إما تهدمت ... وما انهار من أعراضنا لن يشيدا
محرر وادي النيل إعجاب شاعر ... يرى فيك للإسلام عزاً وسؤددا
فلسطين لن تنساك براً بأهلها ... حيفا ولن تنساك عوناً ومنجدا
وأن دماً أهرقته فوق تربها ... سيبقى على الأيام هدياً ومرشدا
لنا فيك آمال كبار أجلها ... قبولك جيش اللاجئين مجندا
نشارك في تحرير مصر وحسبنا ... نرد جميلاً أو نموت فنحمدا
فنحن وهبنا المجد ما في أكفنا ... ونحن مهرناه نفوساً وأكبدا
إذا دعت العلياء يوماً فإننا ... لأول شعب مستجيب إلى الندا
بلادي لك البشرى ولي فرحة اللقا ... ظلامك قد ولى وصبحك قد بدا
فقد (أنجبت) أرض الكنانة منقذاً ... وقد بعثت كف السماء (محمدا)
غضبة ريح الشمال
للأستاذ محمود عماد(1024/37)
لبثت الدهر يا ريح الشمال ... رخاء سجسجاً في الانتقال
يناشدك العليل شفاء داء ... ويسألك الحزين صفاء بال
فكيف غدوت عاصفة تذري ... ديار القوم تذرية الرمال؟
كأنك مارد شرس غضوب ... يروع بالمزيف وبالصيال
تركت البر بحراً ذا سفين ... ولج البحر براً ذا جبال
فأغرق طائر إذ طار خوت ... إلى شجر بأقصى الشط عال
وأفلتت الشباك الصيد إلا ... أوابد من نساء أو رجال
ولاقى الغرب ما لاقاه منه ... أخوه الشرق من سوء الفعال
فمن للريح بالتأديب أوحى ... وعلمها التفوق في النزال؟
وأشهدها بمصر وإندنسيا ... وفي مراكش هول النكال؟
لئن جاز الشمات لنا شمتنا ... وقلنا عشت يا ريح الشمال!
ويا ريح الجنوب ترسميها ... غلواً في الدمار وفي الوبال
ولكنا لآدم انتسبنا ... إذا انتسبوا إلى وحش الدغال
وأن يعوزهمو خلق جميل ... ففي أخلاقنا سمة الجمال
فيا ريح ارحمي الظلام مما ... به نكبوا الأواخر والأوالي(1024/38)
مسرح وسينما
مسرحية (ست البنات)
تأليف: الأستاذ أمين يوسف غراب. إخراج: الأستاذ حمدي
غيث. تمثيل: فرقة المسرح المصري الحديث.
للأستاذ علي متولي صلاح
بدأ التنافس يشتد بين المؤلفين وبين الفرق المسرحية عندنا على تقديم المسرحيات الهزلية (الكوميدية) حتى أوشكت أن تستغرق المسرح المصري كله. ومرد ذلك - من غير شك - إلى أن هذه المسرحيات قريبة من أهواء الجماهير، محببة إلى نفوسهم، وإلى أنها تجلب من (الإيراد) ما لا تجلبه سواها من المسرحيات!
ولست أدري ما الذي يهدف إليه الكثيرون من مؤلفي هذه المسرحيات؟ اللهم إن كان كل ما يهدفون إليه هو إضحاك الجماهير - دون نظر إلى أي اعتبار آخر - فليس عليهم من بأس إذا هم تركوا المسرحية واكتفوا (بالنكتة) الشعبية، أو (القافية) البلدية، أو هز البطون وتلعيب الحواجب وإخراج اللسان وما إلى ذلك، فإن في هذا غناء لهم أي غناء، ومتسعاً لهم أي متسع!
أما إذا كانوا يهدفون إلى الإضحاك عن طريق (المسرحية) فإن لزاماً عليهم أن يراعوا قواعد هذه المسرحية، وأن يدرسوا أصولها، وأن يجعلوها غرضهم الأول بحيث يكون الضحك منبعثاً عنها، متشععاً من داخلها، لا منصباً عليها انصباباً من الخارج في افتعال وإقحام؛ ليستمر ضحك الجمهور، وترتفع قهقهته، فيضمن المؤلف والفرقة ازدحام الناس ووفرة الإيراد!
وليست المسرحية التي نعالجها اليوم نموذجاً أعلى لهذا اللون من المسرحيات التي يقصد منها إلى الإضحاك وحده وإن أخذت بالكثير من أسبابها - ولكن هذه الظاهرة واضحة في مسرحياتنا الهزلية، حنح إليها المؤلفون جنوحاً كبيراً حتى جعلوا مقدار نجاحهم يساوي تماماً مقدار ما تؤدي إليه مسرحياتهم من إضحاك، دون نظر إلى مقومات المسرحية أو إلى الغرض التهذيبي أو العقلي منها!(1024/39)
ومسرحيتنا اليوم (ست البنات) تقوم على قصة شاب يشتغل محامياً تزوج حديثاً، ولكنه ظل سادراً في غيه وضلاله، منصرفاً عن بيته وعن مكتبه إلى عشيقاته الكثيرات اللائى اتخذ لهن مسكناً خاصاً أنيقاً يقضي فيه معهن السهرات الممتعة والليلات الملاح! ولكن زوجته - وقد ضاقت بذلك كثيراً - اتخذت صورة خادمة المنزل واتفقت مع وكيل مكتبه - بعد أن بذلت له الوعود المعسولة! - على أن يوافيها بأنبائه جميعاً، ويطلعها على حركاته وسكناته، ويفضي إليها بأسراره ومواعيده مع عشيقاته. واتخذت - من ناحية أخرى - صفة مندوبة جمعية وهمية تسمى (جمعية الهلال الأخضر). وجعل وكيل المكتب - وقد سحره جمالها وجمحت به رغبته في تحقيق وعودها! - يفضي إليها كل يوم بتلك الأنباء والمواعيد. وأخذت هي - بصفتها مندوبة جمعية الهلال الأخضر - تتصل بأباء عشيقاته. وتعمل جاهدة على أن تفسد عليه كل خطة. وأن تأخذ عليه كل سبيل.
ثم انتهت إلى أن عرفت مكان مسكنه الخاص ومأوى عشيقاته. ففجأته فيه ذات ليلة. ولكنها لم تجده به. وإنما وجدت صديقاً له كان قد استبقاه وطلب إليه القيام بخدمة كبرى! فقد اجتمع له في مساء تلك الليلة موعدان مع عشيقتين يريد إحداهما ويأبى الأخرى. ولن يستطيع أن يجمع بينهما في صعيد واحد! فطلب إلى صديقه هذا أن ينتظر بالمنزل حتى تحضر هذه (الأخرى) فيحاول أن يتخذ معها موقفاً مريباً يفجؤهما فيه هذا الزوج فيثور عليها ويطردها من المنزل فيصفو له الجو مع عشيقته التي يهواها!
ولكن الزوجة هي التي حضرت - قبل العشيقة المرتقبة - فحسبها الصديق تلك العشيقة ورغب في القيام بالمهمة التي طلبها إليه صديقه. ورغبت هي أيضاً - بينها وبين نفسها - في ذلك لإشعال نار الغيرة في صدر زوجها. فالتقت الرغبتان. وجاء الزوج فرأى هذا الموقف المريب. فتاب وأناب. وأقسم لها بالله العظيم أن يهجر هذا المنزل. وأن يثوب إلى زوجته وإلى عمله مدى الحياة.
ذلك هو الخط الرئيسي لمسرحية (ست البنات)؛ ولست أفهم سبباً لإطلاق هذه التسمية على مسرحيتنا هذه إلا أن هذه الكلمة من صميم كلام الشعب. وليس مما يصح في الأذهان أن يسمي المؤلف إحدى بطلات مسرحيته باسم (ست البنات) مثلاً، قاصداً إلى ذلك متعمداً إليه. ثم يجعل من هذا الاسم المفتعل اسماً للمسرحية كلها دون أن توجد أدنى علاقة بين(1024/40)
هذا الاسم وبين موضوع المسرحية. فإن هذا خداع للناس وتضليل لهم يجب أن ينأى عنه كرام المؤلفين. وقد أشرت إلى ذلك عند حديثي عن (صندوق الدنيا). .
والعجيب في أمر (ست البنات) هذه - وهي زوجة المحامي - أنها ظهرت لنا في الرواية - أول ما ظهرت - طيبة القلب ساذجة سليمة الفؤاد صابرة مؤمنة تقول بأن (الست تعيش مرة واحدة وتتجوز مرة واحدة) - وإن كان ذلك يؤذي شعور بعض السيدات ويخالف ما شرع الله! - وتقول بأن (الدموع في بيت الزوج أحسن من الضحك في بيت الأب). . . ثم إذ بنا نراها بعد قليل جداً من الزمن. وقد انقلبت امرأة لعوباً خبيثة ماكرة تمثل دور الخادمة في حذق وإتقان. وتلعب بعقل وكيل مكتب زوجها - وهو رجل كهل كثير التجارب - وتغريه بالأماني المعسولة، وتستدرجه فيفضي لها بكل ما تريده، وتمثل - في نفس الوقت - دور مندوبة جمعية الهلال الأخضر - وهي جمعية وهمية كما قدمت - وتستمر في هذا التمثيل طويلاً دون تعثر أو اضطراب حتى تحقق ما تريد! فمن أين جاءها كل هذا المكر والدهاء على حين فجأة؟. . . وعلى العكس منها تماماً كان زوجها، فهو - كما بدا من أول الرواية حتى قبيل نهايتها - رجل عابث مستهتر، زير نساء، واسع الحيلة، كثير التجارب في أمور النساء خاصة، ثم هو محام فوق ذلك كله، وهو قد أستشعر التجسس عليه وأحسه ولمسه حتى قال (كل الناس بيتجسسوا علي حتى التليفون!). . . رجل هذا شأنه كيف لا يدرك أن موقف زوجته مع صديقه - في منزله الخاص - تمثيل منها وصناعة؟ كيف لا يدرك ذلك وهو يعرف أخلاق صديقه، ويعرف أن زوجته لم تلتق به ولم تعرفه إلا منذ لحظة؟ ويعرف أن الأمر يقع في منزله الخاص الذي لم تدخله زوجته إلا هذه المرة، والذي لا تأمن فيه أن يحضر زوجها في أي وقت لأنها تجهل نظام المنزل ومواعيد حضوره فيه - وهذا في نظر الزوج طبعاً - كيف يجتمع له كل ذلك ثم ينخدع في هذا الموقف ويؤمن بأنه حقيقة خالصة؟
ثم لماذا تاب وأناب؟ ألأنه قد انكشف أمره؟ إن ذلك لا يكون سبباً فهو يعلم أن أمره مكشوف من زمن بعيد، وأن الناس يتجسسون عليه، وأن التليفون يتجسس عليه أيضاً كما قدمنا! أم لأنه انخدع فظن السوء بصديقه وبزوجته، وذلك أمر لا يعني من كان على شاكلته، ثم هو قد علم بعد لحظة يسيرة بأنه كان تمثيلاً من الزوجة وكان خطأ من الصديق(1024/41)
كما صرح له بذلك! إن الممثل الذي كان يقوم بدور الزوج - وهو الأستاذ صلاح سرحان - قد أختلج واضطرب عندما أراد أن يقوم بهذه التوبة والإنابة فأكبرناه وحمدنا له هذا الاختلاج والاضطراب! إنه إحساس منه بحرج الموقف، وشدة المفارقة، والنقلة المفاجئة من الضلال البعيد إلى الهدى والاستقامة!
وكم كان خيراً لو أن المؤلف نأى عن الكلام الذي يمس الناحية الجنسية كقول الخادمة مثلاً عن وكيل المكتب الذي طلب أن يكون متقدم أتعابه قبلة (إذا كان المنيل بيعمل كده على المقدم!) وكقول المؤلف - متهكماً عن نظام علاقة الزوج بعشيقاته إن (جلساته تنعقد في البارات، والحكم على السلم، والتنفيذ هنا في الشقة!) وغيرها فإن هذا - وإن أضحك البعض كما يقصد إليه المؤلف - فإنه يؤذي شعور البعض الآخر والمسرح للناس جميعاً.
وكم كان خيراً لو أنه نأى عن الكلام الذي فيه تعريض ببعض الناس أو زراية ببعض الطوائف مثل قوله للخادمة (أنت خدامة ولا مدرسة إنشاء!) ومثل قوله (إنها متخرجة من حي زينهم) ومثل زرايته المستهجنة بالشعراء وإظهاره لأحدهم وهو يخور كالثور قائلاً (عا - عا) ويدق صدره بيده كالمجنون، ويقبض قبضات من الهواء يضحك لها الناس فيرضى المؤلف ويمتلئ سروراً بضحكهم! وأرجو ألا تجمع الرغبة في الإضحاك ببعض المؤلفين إلى هذا الحد. وكم كان خيراً لو قال - نوعاً ما - من الاعتماد الكثير على التليفون الذي استمر معه طول الرواية والذي يذكرنا بالمغني الضعيف الذي يجعل أكبر اعتماده على (التخت)!
ولا أدري كيف يشهد الزوج الريبة بين زوجه وصديقه ويؤمن بهما إيماناً تاماً، ثم يدور الحوار بينهم طويلاً، وصديقه ينحيه ويبعده عنها - باعتبار أنها صديقته التي صارت خليلة لصديقه هذا - ويستمر هذا الحوار ربع ساعة دون أن يعلن أنها زوجته؟ كيف يحتمل الزوج هذا كله؟ وما الذي عقل لسانه عن إعلان أنها زوجته؟ بل ما الذي أقعده عن قتله أو قتلها وهو ما يفعله الكثيرون في مثل هذا الموقف؟
أما المخرج والممثلون فأشهد أنهم - في جملتهم - قد أمدوا هذه المسرحية بحياة ليست منها في شيء، فإنهم قد بذلوا جهداً مشكوراً وحملوا مشقة كبيرة، وأخص بالذكر منهم (أحمد الجزيري)، (نور الدمرداش) ولكني أسأل الأستاذ المخرج: كيف - وقد جعل المؤلف فصل(1024/42)
الرواية الأول يمثل نهاراً كاملاً - لم يعمل فاصلاً يوضح به مرور هذا الزمن الطويل، ولم يغير الإضاءة كما تتغير في واقع الحياة؟ وكيف يجعل الخادمة تقابل الضيف الكبير وهي تحمل (المقشة) بل تضعها أمامه على المنضدة وهو أمر غير مألوف في الحياة؟ وكيف يظلم مكتب المحامي إظلاماً دامساً ويدعه فارغاً من كل صوت ومن كل إنسان فترة من الزمن؟ وكيف يملأ القسمين اللذين انقسم إليهما المسرح - في الفصل الثاني - بالحركات الكثيرة هنا وهناك فتشغل إحداهما عن الأخرى وتكون سبباً في إضعافها وإماتتها؟
وأسأل الأستاذ (عدلي كاسب) لماذا يتشبث بمحاكاة (بشارة واكيم) في هيئته وحركاته وكلماته فيذكر الناس (بشارة) وينسون (عدلي)؟ وكيف يمد يده - مغازلاً - لمندوبة جمعية الهلال الأخضر في بيتها بمجرد لقائه بها في منزلها بدون أي مقدمات تشجعه على ذلك؟ وكيف يطلق العنان لأنفه فيسترسل في (التشخير) مرات عديدة اللهم إلا إذا كان ذلك لأنه رأى الجمهور يستريح لهذا الشخير ويضحك منه؟ ولماذا يطلق الرصاص على الوكيل - الذي حسبه المحامي - بافتعال واضح وهو يقفز ويضحك ويجري؟ ويطلقه في الهواء دون هدف؟
وأسأل (صلاح سرحان)، (سميحة أيوب) لماذا يطلبان التليفون بإدارة أربعة أرقام لا خمسة كما يجب - وقد تكرر هذا منهما - وهما يعلمان أن التمثيل يجب أن يمثل الحقيقة بحذافيرها وأنه إذا دخله الزيف فقد انهار من أساسه؟
وأسأل (أحمد الجزيري) لماذا يخلع الحذاء ويهم بأن يضرب به المحامي وصديق المحامي ثم لا يفعل - دون أن يرده أحد عن هذا الفعل - وهو عمل غير مستحب؟ ولماذا - وهو يحاول إفهام السيدة أن اسمه دردير أفندي بالدال - يشير بيديه - ممثلاً صورة حرف الدال - إشارة تمثل أحد الأعضاء الجنسية في الإنسان، ليضحك الناس، وهو يعلم أن هذا الشيء لا يجوز؟ وكيف يسمح المخرج بهذه الفعلة؟
وأسأل (سميحة أيوب) كيف تجري وراء زوجها وهو يفض الخطاب كأنها تستطلع ما فيه مع أنها قرأت صورته كاملة أمامنا - نحن جمهور المشاهدين - منذ لحظة يسيرة مع أنها وقفت خلفه بحيث نراها نحن ولا يراها هو؟
أرجو أن يتنبه الممثلون إلى أن هذه الدقائق في أعمالهم ليست دقائق في أعين الجمهور(1024/43)
الذي يرقب كل حركاتهم في يقظة شديدة وانتباه كبير.
علي متولي صلاح(1024/44)
أخبار أدبية وعلمية
المحلة الغامضة
يصدر نفر من كتاب الطليعة الأوربيين في روما العاصمة الإيطالية مجلة جديدة من نوع غريب تحمل اسم (الحوانيت الغامضة يشترك في تحريرها بعض الناشئين من الكتاب الإيطاليين والفرنسيين والإنجليز باللغات الثلاث. وتدعي هذه المجلة أنها لسان حال الأدب العالمي الجديد. وقد اتبع محررو هذه المجلة أسلوباً مستحدثاً في الكتابة والتعبير. فهم لا يتقيدون بقواعد الصرف والنحو وأبواب القريض التقليدية. فالنقط والفواصل وما إليها من الإشارات التعبيرية والكتابية والتحريرية مفقودة من نص المقالات أو مدونة في أماكن لا يصح أن تستعمل فيها.
وعدد صفحات المجلة 479 وتصدر في غير انتظام، وبعض مقالاتها وأشعارها رؤوس أقلام لأعمال أدبية فخمة. يطمح كتابها أن يتوسعوا فيها حين يطيب لهم مثل هذا التوسع! والغموض يكتنف مجلة (الحوانيت الغامضة) حتى ولو حاول القارئ استيعابها في ضوء أشد المصابيح إشراقا.
ترجمة جديدة لأشعار بودلير
صدرت في هذا الشهر ترجمة إنجليزية جديدة لديوان (زهور الشر) للشاعر الفرنسي المعروف بودلير. وقد أثارت هذه الترجمة جدلاً حول صعوبة ترجمة المنظوم من الأدب الأجنبي والصعوبة التي واجهها المترجم في نقل الروح الشعرية واللفظية التي يتميز بها الشعر بين أدب وآخر من الآداب العالمية.
وقال نفر من النقاد إن أسلوب ترجمة الأشعار الكلاسيكية لأشعار بودلير يجب أن يتفاوت ما استطاع الابتذال في التعبير، وأن يتعمد صياغة الترجمة في الأسلوب اللغوي القديم الذي من شأنه أن يحيط الترجمة بهالة الجلال الأدبي الذي يتناسب مع عظمة التراث الأدبي للمترجم له.
وقال نفر آخر من النقاد إن القارئ المعاصر يجب أن يزود بترجمة خالية من التعبيرات القديمة وإن جاء ذلك على حساب الأمانة الأدبية في النقل.
ويبدو أن الاتجاه الثاني هو السائد في حاضر الأدب الإنجلو سكسوني. وليس أدل على هذا(1024/45)
من المجهود الأخير الذي قامت به الكنيسة البروتستانتية في إعادة ترجمة التوراة في لغة عصرية تخلصت من بعض التعابير البائدة التي كان الكثيرون من عشاق (الكتاب المقدس) يعتقدون أنها خير ما في هذا الكتاب من مزية أدبية.
كتاب جديد لجابرييل مارسل
يعتقد جابرييل مارسل الفيلسوف الفرنسي المعاصر وأحد اتباع المدرسة الوجودية بأن أخطر ما يهدد الحضارة الغربية اليوم هو (رجل الشارع) ورجل الشارع كما يعرفه جابريل مارسل علم على الاتجاه الأدبي والفكري والفني الذي يحاول أن يبسط الفن والأدب والثقافة بشتى ألوانها بحيث يسهل هضمها على رجل الشارع الذي لا تتوفر لها مؤهلات ثقافية وملكات أدبية وفكرية تعينه على استيعاب الأدب والفن كما يطمع في معالجتهما المبدعون من الكتاب والفنانين.
وجابرييل مارسل يدعو إلى توطيد دعائم الحضارة المسيحية كما يفسرها أتباع المدرسة الوجودية. وهو أميل إلى تقليد الفيلسوف كيير جيكار منه إلى الانطواء تحت علم بول سارتر. وكلاهما من أئمة المدرسة الوجودية.
وجابرييل مارسل في دعوته إلى إحياء الأسس الروحية للحضارة المسيحية لا يصر على التقيد بألوان التعصب الديني الذي يحلو للكنيسة الكاثوليكية التشبث به. ومارسل في انتقاده للكنيسة الكاثوليكية ينتقد الصوفية الغامضة التي يطيب للأدباء الكاثوليك تمجيدها وبث الدعوة إليها في إنتاجهم الفكري المعاصر. ويعتقد مارسل بأن هذا اللون من الصوفية هروب من المسؤولية الأدبية؛ فكما أنك لا تطلب من (رجل الشارع) أن يتذوق الأدب والشعر لذلك لا يليق بك أن تطلب من المثقفين الدخول في عوالم الصوفية وأجوائها الغامضة.
وجابرييل مارسل لا يؤمن بالشيوعية ويعتقد بأنها في دعوتها لتبسيط الأدب والفن والثقافة لتكون في متناول (رجل الشارع) تبتذل الفكر وتهين الأدب والفن والثقافة الرفيعة، وتقيد من حرية الفنان والمبدع وتنكر الأسس الروحية للحضارة الإنسانية.
ومارسل لا يؤمن بأن العالم الإنجلو سكسوني خير من يحفظ تراث الحضارة المسيحية. فذلك العالم مادي في جملته إلحادي في روحه. ولكن مارسل مع ذلك لا يجد بأساً من أن(1024/46)
تتحد فرنسا مع العالم الإنجلوسكسوني لأن (مادية) الأمريكان والإنجليز أقل تطرفاً من مادية السوفييت، ولأن القيود المفروضة على الحياة الروحية والإنتاج الأدبي والفني والثقافي في أمريكا وإنجلترا ضئيلة بالقياس إلى تلك التي يفرضها الاتحاد السوفييتي على حفظة التراث الثقافي.
وقد ترجم كتاب مرسل الجديد إلى الإنجليزية بعنوان:
, , 1953.
مكافحة الاضطهاد الفكري على المسرح الأمريكي
من بين المسرحيات القوية التي افتتحت بها برود واي (حي المسارح في نيويورك) موسمها الشتوي الجديد مسرحية (التنكيل) وهي من وضع الروائي الأمريكي الشهير أرثر ميللر مؤلف المسرحية الخالدة (موت البائع) التي استمر تمثيلها ثلاث سنوات متتابعات على أحد المسارح الكبرى في برود واي، والتي تعالج فقدان الطمأنينة الروحية في عالم تكتنفه المادة من كل الجهات.
والمسرحية الجديدة تتخذ حقبة من التاريخ الأمريكي مجالاً لانتقاد موجة الاضطهاد الفكري الذي يواجهها الفنان الأمريكي حين يتطرق إلى معالجة موضوعات فكرية أو سياسية يشوبها طابع متطرف لا يتمشى مع سياسة الحكومة الأمريكية في مواجهة الشيوعية السوفييتية.
وتدور وقائع المسرحية في مدينة (سالم) الأمريكية التي شهدت في أواخر القرن السابع عشر موجة من الاضطهاد الفكري تولى إثارتها نفر من رجال الكنيسة ضد بعض المتحررين من قيود الفكر المسيحي العتيق، والذين أصبحوا فيما بعد من دعائم الفكر المسيحي البروتستانتي المعاصر في العالم الجديد.
وقد تعمد المؤلف في صلب الحوار أن يقسوا أشد القسوة على بعض محترفي السياسة الأمريكان الذين أعمتهم مصالحهم السياسية عن تقدير الرغبة الطبيعية في الانطلاق من القيود الثقيلة التي تهيمن على الفنان المبدع وعلى المثقفين إجمالاً.
والواقع أن عدداً كبيراً من المسرحيات الأمريكية لهذا الموسم الشتوي هزلية أو جسدية تحمل في ثناياها طابع الثورة على هذا النفر من الساسة الأمريكان الذين أخذوا في الآونة(1024/47)
الأخيرة يكيلون التهم لكل من يعالج موضوعاً لا يتقيد بأصول الفكر السياسي والاجتماعي الذي يتبعه رجال الحكم الأمريكان.
معجم روسي - إنجليزي جديد
خصصت المؤسسة القومية للعلوم الطبيعية في نيويورك مبلغ 40 ألف دولار لوضع معجم روسي - إنجليزي جديد يعنى بشرح المصطلحات العلمية الروسية ليعين طلاب العلم ودوائر الاستخبارات العسكرية الأمريكية على متابعة التقدم الصناعي والعسكري في الاتحاد السوفييتي بعد أن تشعبت المصطلحات العلمية في اللغة الروسية في ظل الحكم السوفييتي مما جعل من الصعب إدراك مفاهيمها من المعاجم الروسية - الإنجليزية القديمة.
ويشترك في وضع هذا المعجم الجديد أكثر من 200 مترجم ويعاونهم عدد من خبراء وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الأمريكيتين ونفر من علماء الروس الذين هجروا الاتحاد السوفييتي في الآونة الأخيرة. وقد تولت دائرة العلوم السلافية في جامعة كولومبيا في نيويورك الإشراف على وضع هذا المعجم.
رواج تجارة اللوحات الفنية المزورة
يواجه تجار اللوحات الفنية الأثرية موجة من التزوير المتقن لعدد من كبار الفنانين الخالدين بدأت في فرنسا بعد أو وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها وبلغت من الإتقان حداً أذهل كبار الخبراء في فن الرسم، وقد بلغ عدد اللوحات المزورة أكثر من 600، ابتاع أكثرها السواح الأمريكان الذين يؤمون باريس بحثاً عن اللوحات الفنية في مونمارتر والضفة اليسرى من نهر السين.
وهذا النوع من التزوير الفني يقتصر على أئمة الفن القدامى الذين ضاع أكثر إنتاجهم.
وقد تخصص أحد تجار الرسوم الفنية في باريس مؤخراً في فحص هذه اللوحات المزورة وأصبح مرجعاً وثيقاً يؤمه الناس من كل مكان. والرجل (وأسمه أندريه شولر) في الرابعة والسبعين من عمره وقد جنى ثروة طيبة من هذا التخصص.
سلسلة أفلام ملونة عن جحا
شرعت إحدى الشركات السينمائية التركية في إصدار سلسلة من الأفلام السينمائية الملونة(1024/48)
عن (جحا) الشخصية الفكاهية المعروفة في الأدب الشعبي. وستتعمد هذه الأفلام إبراز النوادر المليحة التي حيكت حول هذه الشخصية الفكاهية المحبوبة، وبعض هذه النوادر من صنع الرواة والبعض الآخر من صنع جحا نفسه. وقد اقتبست الشركة التي تولت هذا الإنتاج أسلوبها في بناء هذه السلسلة السينمائية عن هوليود وعن كتاب القصص الفكاهية المتسلسلة التي يحسن الأمريكان صنعها. وهذه القصص تدور حول شخصية شعبية معينة وتستمر في استعراض نوادره وما صاحبها من ظرف وعبث في حقبة بعض حقبة وقد تطول هذه السلسلة إلى أعوام في أعمدة الصحف أو في الأفلام السينمائية القصيرة التي يرجع تاريخ بعضها إلى أكثر من عشرة أعوام ولا تزال تصدر بانتظام.
وسيسجل الفلم التركي الأول عن (جحا) وحياته كمدرس في إحدى قرى الريف التركي وصاحب هذه الحقبة من تاريخ هذه الشخصية الفكاهية من ألوان النوادر والملح.(1024/49)
في عالم الكتب: نقد وتعريف
بعد الغروب
تأليف الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله
للدكتور عبد القادر القط
هذه قصة للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله نشرت قبل هذا العام ثم أعاد نشرها نادي القصة منذ شهرين. وهي تصور أزمة عاطفية في حياة شاب تخرج في كلية الزراعة فمضى يبحث عن عمل. وانتهى به المطاف إلى أن يشتغل ناظر زراعة في مزرعة يملكها أديب كبير. وكان المالك وابنته أميرة يزوران القرية لماماً فيمضيان بها أياماً أو أسابيع يعودان بعدها إلى القاهرة. وكذلك أحب الفتى أميرة حباً صامتاً لم يرد أن يفصح عنه لأنه كان يرى نفسه أفقر من أن يتطلع إلى من كانت في مثل ثرائها. ولكن خادمته زينب - وكانت بدورها تحبه حباً يائساً - تقرب بين الحبيبين حتى يتصارحا. ويعرف عبد العزيز - وهذا هو اسما الفتى - أن والد أميرة يريد أن يزوجها لابن عمها سامي فيستبد به الحزن ولكنه يحاول أن يعرف شعور أميرة نحو هذا الخطيب ويتكفل له بذلك صديقه صالح الذي يقيم في القاهرة فيراقبها ويتتبعها وينتهي إلى أنها لا تحمل لابن عمها شيئاً من الحب. وتعد أميرة بأن تحدث أباها في الأمر، ولكنها تتريث وتتردد حتى تجد أباها فجأة على فراش الموت يبارك بنظراته المعبرة زواجها من أبن عمها. وهكذا تجد أميرة نفسها مضطرة إلى اصطناع الانصراف عن عبد العزيز لأنه فقير. ويفترق الحبيبان.
والقصة كما ترى قصة (رومانسية) تصور سلسلة من التضحيات المفتعلة البعيدة عن واقع الحياة. فالأب يضحي بمستقبل ابنته في سبيل الوفاء لأولاد أخيه، والبنت بحبها في سبيل الوفاء لذكرى أبيها وتحقيقاً لرغبته وهو على فراش الموت؛ وزينب تضحي بحبها لتسعد سيدتها فتجعل من نفسها رسولاً بين العاشقين؛ وصالح يبذل تضحية من نوع آخر فيكلف نفسه أن يراقب بيت أميرة في إحدى الضواحي عدة أيام ليتابعها ويعلم مبلغ علاقتها بابن عمها، حتى القصة القصيرة التي كتبها سيد العزبة ترمز إلى هذه المثالية المفرطة، فبطلها العامل الفقير يضحي بحبه لتتزوج فتاته ثريا تنتفع أسرتها الفقيرة بثروته. وقد تحسن(1024/50)
المثالية في القصة إذا كانت ثورة على قيم زائفة وأوضاع خاطئة وصراعاً بين عواطف سامية وأخرى وضيعة، أما إن كانت استسلاماً مطلقاً لمشاعر بينة الانحراف فهي عيب لا شك فيه. فإغراق الأب في الوفاء لأولاد أخيه على حساب ابنته عاطفة زائفة، وتبرع زينب للتوفيق بين سيدتها وسيدها الذي تحبه هي نفسها شيء غريب، وما صنعه صالح في سبيل صديقه أمر يتنافى مع الكرامة والجد. وقل ذلك في سائر التضحيات التي تحفل بها هذه القصة. وأبطال القصة بهذه المثالية الزائفة يتنكرون لأنانيتهم ويذعنون لقضاء قيم باطلة تتحكم في مصايرهم دون أن يكون هناك على الأقل صراع عنيف قد ينتهي بالفشل أو النجاح، ولكنه في كلتا الحالين يؤكد إنسانية الشخصية وبطلان هذه القيم سواء خرجت من الصراع منتصرة أو مخذولة.
واختفاء الصراع القوي نتيجة لهذه الفضائل المفتعلة يفرض على المؤلف أن يختلق مبرراً لكل عمل يجانب - في رأيه - المثل الأعلى للسلوك الفاضل؛ فأميرة تحب عبد العزيز وتنصرف عن ابن عمها لا لأنها أحست ميلاً فطرياً نحوه، ولا لأنها إنسانة يمكن أن تتحول مشاعرها إذا ما لقيت رجلها المنشود، لا. . . فإن ذلك لا يتسق مع العالم الفاضل الذي يرسمه المؤلف إذن فليكن ابن عمها شاباً (ألذ الأوقات التي يقضيها في أربع وعشرين ساعة وقت يمضيه عند الحلاق أو في الحمام أو واقفاً أمام واجهة أحد المحال ليرى أكثر الألوان انسجاماً على ذوي الوجوه البيض. . . يجيد التحدث عن الأفلام ويحفظ أسماء الممثلات خاصة حتى لقد نظمت إحدى المجلات الأسبوعية مسابقة عويضة الموضوع فكان الفائز فيها. وكانت هذه المسابقة هي أن رسمت المجلة عشرة أزواج من عيون الممثلات بين غربيات ومصريات وكتبت في أعلى الصفحة (أتستطيع أن تعرفهن من عيونهن) وكان الأستاذ سامي هو الذي عرفهن جميعاً بما له من عبقرية. . . يمضغ الكلمة مرة أو مرتين قبل أن يتفضل بها عليك فيخرجها من فمه ثم يرسلها من بين شفتين تأخذ سفلاهما وضعاً وتأخذ علياهما وضعاً آخر عند مخرج الكلمة. يحرك عنقه بتقدير لأنه يخاف على بنيقة قميصه المنشاة أن تنكسر، وعلى عقدة رباط العنق أن تتحول الخ) وهكذا يجد المؤلف عذراً لبطلته إذا ما انصرفت عن ابن عمها المخنث إلى الفتى الجاد المستقيم دون أن يمس ذلك ما ينبغي لها من عفة العواطف ومثالية الأحاسيس، وهذا بعينه ما فعله(1024/51)
السباعي في قصته (إني راحلة) حين وصف زوج بطلته بأقذع من هذا ليبرر فرارها منه إلى حبيبها. وإذا جاز للوالد في قصة السباعي أن يزوج ابنته لهذا المخنث سعياً وراء الجاه والمال فكيف جاز للوالد في قصتنا هذه أن يرتكب هذا الإثم وهو الأديب الكبير والقصاص الخبير بدخائل النفوس ولم يكن له من وراء ذلك مغنم؟ وكيف استباح أن يقول لابنته (إن سامي شاب لا أرى فيه ما يمنع أن يكون زوجاً لك) وفيه تلك الخصال الذميمة التي وصمه بها المؤلف! إن أية فتاة في موقف أميرة يمكن أن تحب أي فتى يعترض سبيلها ما دام فيه شيء من رجولة تناقض ما في سامي من تخنث. وعندئذ يكون حبها فراراً من خطيب خلا من كل ما يجتذب المرأة لا استجابة لشعور طبيعي بأن في ذلك الرجل مقومات الرجولة المتمثلة في نفسها. وتلك عاطفة لا يمكن أن ترضي المحبوب ولا تتأصل في نفس المحب. لذلك خلت القصة من الصراع الجدي الذي يخلق من المواقف والمشكلات ما يعقد الأحداث ويرتفع بالأزمات النفسية إلى مستوى يتجاوب معه القارئ وينفعل به. فالقصة تمضي هادئة رتيبة، انتظار من عبد العزيز لمقدم أميرة وأبيها إلى القرية، ومناوشات عاطفية غامضة مكبوتة، ثم رحيل مفاجئ إلى القاهرة، ثم انتظار جديد من عبد العزيز، ثم عودة من أميرة. والبطلان في كل ذلك لا يكادان يبذلان أية محاولة جدية للتغلب على ما في طريقهما من صعاب. ومن العجب أن تتخاذل أميرة وتستسلم لمصيرها المحتوم في مثل هذا الفتور وقد صورها المؤلف ذات شخصية قوية يهابها عمال المزرعة أكثر مما يهابون أباها.
هذا عن شخصيات القصة وطابعها العام. أما بناؤها الفني وتسلسل حوادثها ففيها أيضا كثير من التكلف. وترتيب الوقائع كما يشتهي المؤلف لا كما يقتضي منطق الواقع وطبائع الأشياء. وأضرب لذلك مثلين: الأول حين يكتب عبد العزيز إلى صديقه صالح في القاهرة يطلب إليه أن يراقب أميرة ليعرف مدى علاقتها بابن عمها سامي. ودعك مما في هذا الطلب من غرابة ومما في استجابة الصديق له من تبذل، وأنظر كيف تسنى لصالح أن يعرف أن أميرة تحب صديقه عبد العزيز. لقد انتظر أمام بيتها عدة أيام دون طائل ثم أسعفه الحظ فرآها خارجة مع أختها الصغيرة. وتسأل الصغيرة عن سر نزولهم إلى القاهرة بلا سيارة فتجيبها: أتعتقدين أنه من الضروري أن يركب كل الناس سيارة خاصة. .(1024/52)
سنركب القطار والترام. ونفهم من هذا الحوار أن هذه كانت أول مرة تخرج الفتاتان فيها بلا سيارة، لا لشيء إلا ليتيح المؤلف لصالح أن يتبعهما. ثم تدخل الفتاة مسكناً في الطبقة الأولى من إحدى العمارات عرف صالح أن ساكنه يحترف قراءة الكف. وهكذا يقتضي تلفيق الحوادث مرة أخرى أن تختار الفتاة هذا اليوم من بين الأيام جميعاً لتستشير العراف في أزمتها العاطفية وأن يكون مسكنه في الطابق الأول حتى لا يتكلف المطارد من أمره عسراً. .! ثم تدخل السينما فيوفق الحظ (صالح) فيجلس بالقرب منها ثم تكون المفاجأة الأخيرة حين تصور القصة على الشاشة مأساة عبد العزيز وأميرة، ويلتفت صالح فإذا هي تكفكف دمعها بمنديلها الأبيض فهي إذن تحب صديقه عبد العزيز!
أما المثال الثاني فحين يستشير عبد العزيز صديقه صالح (قاموس الحب) ماذا يفعل حتى تصرح أميرة بحبها له فيشير عليه بأن يثير غيرتها، ودعك من سذاجة هذه النصيحة وانظر كيف رتب المؤلف الحوادث بعد ذلك. تقدم أميرة إلى العزبة في إحدى زياراتها المتقطعة، ولأول مرة نرى بصحبتها صديقة (مرحة طائشة ذات ضحكة ناعمة، وصنوعة الزينة الخ. . .) ويفهم القارئ بلا عناء أن المؤلف قد ساق هذه الفتاة إلى القرية وصنعها بهذه الصورة ليطبق عليها عبد العزيز الدرس الذي تلقاه من صديقه. وهكذا كان. . . وفي لمحات خاطفة اشتبك الاثنان في غزل صريح مكشوف دون مقدمات لينتهي المؤلف من غايته سريعا فيثير غيرة أميرة. وقد كان المؤلف يستطيع ألا يقدم لهذه التجربة بتلك النصيحة من صالح وكان يستطيع أن يصور الزائرة طيبة متزنة وكان طبيعياً حينئذ أن يحتفي بها عبد العزيز إكراماً لها كزائرة وأن تضيق صاحبته بهذه الحفاوة فيفطن إلى هذه الحقيقة النفسية البسيطة ويمضي في استغلالها، ويكون الموقف عندئذ من واقع الحياة. لا من (القاموس).
وبمناسبة الحديث عن القاموس نحب أن نقول كلمة قصيرة عن لغة القصة وأسلوبها؛ فالمؤلف حريص أشد الحرص على الأسلوب العربي الرصين الذي لا يتلون كثيرا باختلاف المواقف والأشخاص. وهو يفضل الحوار العربي على العامي ولو كان الأخير أقدر على تصوير الشخصية أو الموقف. وقد يكون في هذا مجال لاختلاف وجهات النظر ولكني لا أستطيع أن أقره على استعمال (المحط) مثلاً بدل (المحطة) تلك الكلمة الحية(1024/53)
المألوفة. وإذا كانت لغتنا الأدبية غير قادرة على التطور الذي ينبعث من استعمال اللغة في الحديث فلا أقل من أن نتيح لها التطور على أقلام كتابها. وفي القياس متدوحة عن هذا التزمت فكلمة المحطة لها نظائر في اللغة كالمنزلة والمنزل بمعنى مكان النزول وسلطان الثقافة العربية القديمة واضح كل الوضوح في صور المؤلف وتشبيهاته، فهو يقول مثلاً إنه قبل عنق صاحبته (فكأنما قبل عاجاً دافئاً)! ترى لو قبل المؤلف قطعة دافئة من سن الفيل أكان يستعذب هذه القبلة! إن التشبيه أداة فعالة في يد الروائي تغنيه في كثير من الأحيان عن الوصف المطول والتحليل المبسوط وخير له إذا لم يوفق إلى تشبيه معبر طريف ألا يلجأ إلى الصور التقليدية التي لا معنى لها، خاصةً أن تشبيه العرب الجلد العاج كان يقصد به دائماً اللون لا الملمس.
بقيت كلمة قصيرة أخرى عن نهاية القصة فإن بها شيئاً من الغموض. فالبطل يقص علينا أنه نشر قصة حبه فلما قرأتها أميرة جاءت تفسر موقفها وتعتذر عن زواجها من ابن عمها. والقصة التي بين أيدينا هي قصة حبه كذلك فهل هي طبعة ثانية من القصة الأولى أضيفت إليها الخاتمة!
عبد القادر القط(1024/54)
آراء وأنبياء
بين الأزهر ودار العلوم
أولى بالذي يريد الإصلاح أن يجادل بالتي هي أحسن وأن يبرز العيب في صورة النصيحة. . وبذلك يستطيع النفاذ إلى غرضه.
أنا لا أجرد الأزهر من العيب عامة، ولا أجرد الأستاذ الطاهر مكي من النية الحسنة عامة، ولكن العيب غير ما ذكر، والنية الحسنة تعثرت في سوء التعبير وكان حرياً به أن يذكر الحقائق مجردة عن التهويل والمبالغة، وألا يستند في اتهامه إلى الكلمات التي يرددها طلاب الأيام الأولى من السنة الأولى الابتدائية، يدعي كل أن الحكمة والفلاح في مذهب الإمام الذي يدرس الفقه على طريقته.
والحضور والغياب وعملية التفريغ ليست بالوجه الذي ذكره الأستاذ وإن كان القليل منها وباء قد أصيب به جسد التعليم في مصر عامة لا في الأزهر فحسب. وليس بخاف علينا جميعاً تفنن بعض الطلاب في طرق الغش وأساليبه، وإقبال نفر من المدرسين على بيع أسئلة الامتحانات لمن غمرت جيوبهم الأموال، أو كانوا على قسط من المحسوبية أو القرابة. . والتخلص من هذا الوباء يحتاج إلى علاج جماعي يرتكز على تلقين مبادئ الأخلاق والاعتماد على النفس للتلاميذ والطلاب على اختلاف أشكالهم، وتباين مدارسهم ومعاهدهم. والمكافأة والجراية وبدل الغداء وبدل الكتب، قد أخطأ الأستاذ في عهدها. وأغلب الظن أن المسألة قد عالت في يده - من ثلاثة إلى أربعة - من غير موجب، أو لموجب يعلمه هو. فالجراية وبدل الغداء شيء واحد فقط، ثم كيف تكفل هذه الدراهم القليلة حياة نظيفة؟! فبدل الكتب لا يفي بشراء اليسير منها، وبدل الغداء لا يطعم وجبتين والمكافأة ثلاثمائة قرش للطالب في كلية اللغة العربية ومائتان للطالب في كليتي الشريعة وأصول الدين، والطالب في القسمين الابتدائي والثانوي لا يتقاضى مكافأة ما. . . اللهم إلا إن كان للحياة النظيفة مقياس خاص عند الأستاذ الطاهر.
هذه هي الحقائق التي نشرت مزيفة نقدمها للأستاذ؛ فإن كان يريد الإصلاح حقاً - والأزهر في حاجة إلى إصلاح شأنه شأن جميع مرافق الدولة - فليسلك في نقده مسلكاً حسناً، ولينهج في علاجه نهجاً مستقيماً، وليرم بفأس الهدم بعيداً فما أمس حاجتنا في هذا الوقت إلى(1024/55)
الترميم والتعمير، والتشييد والبناء.
عبد اللطيف فايد
سي وست
نشرت مجلة الرسالة الغراء في عددها 1020 الصادر في 19 يناير سنة 1953 ما كتبه الأستاذ جمال مرسي بدر إلحاقاً لما كتبه في العدد 1016 من تلك المجلة. فرأيت أن أقول:
1 - كان نشر في العدد 766 من مجلة الرسالة الصادر في 8 مارس سنة 1948 شيء حول كلمة ست نقلاً عن رسالة الغفران.
2 - وأيضاً ورد في الصفحة 76 من (معجم عطية في العامي والدخيل) تأليف الشيخ رشيد عطية؛ المطبوع عام 1944 في دار الطباعة والنشر العربية: سان باولو: برازيل. ما أعيد نقله هنا (ست: يعنون بها سيدة. قال الفيروز بادي: وستي للمرأة أي يا ست جهاتي وهو لحن. الصواب سيدتي. وفي الشفاء: وقولهم ستي بمعنى سيدتي خطأ وهي عامية مبتذلة، ذكره أبن الأعرابي وتأوله أبن الأنباري فقال يريدون يا ست جهاتي وتبعه الفيروز بادي وهو تكلف وتمحل وإليه أشار البهاء زهير:
بروحي من أسميها بستي ... فتنظرني النحاة بعين مقت
يرون بأنني قد قلت لحناً ... وكيف وأنني لزهير وقتي
ولكن غادة ملكت جهاتي ... فلا لحن إذا ما قلت ستي
3 - ومن مراجعة الصفحة 122 من كتاب شفاء الغليل في ما في كلام العرب من الدخيل تأليف شيخ الإسلام وخاتمة العلماء الأعلام شهاب الدين أحمد الخفاجي قاضي العساكر بمصر. المطبوع بالمطبعة الوهبية سنة 1282 كما ورد في الصفحة 413 ج3 مجلد 23 من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق - نجد أن المؤلف المذكور قال: (سيدة: وقولهم ستي بمعنى سيدتي خطأ وهي عامية مبتذلة ذكره ابن الأعرابي وتأوله ابن الأنباري فقال يريدون يا ست جهاتي وتبعه الناموس فقال وستي للمرأة أي يا ست جهاتي كناية عن تملكها له ولا يخفى أنه تكلف وتمحل وإليه أشار إليها زهير وذكر الأبيات.
4 - وقبل أن أقفل كلمتي هذه أقول: لا أدري كيف قال الشيخ رشيد عطية - على سعة(1024/56)
إطلاعه - الفيروز بادي وكان يجب أن يقول الفيروز أباذي كما ذكر في كتاب (ضبط الأعلام) وهذا ما كنت ذكرته للأستاذ عباس خضر في عدد الرسالة 812 وجاوبني عليه في العدد 813 منها فأنظرهما والعدد الذي بعدهما أيضاً.
أكتفي بما ذكرت حول كلمة ست. وسلامي واحترامي إلى السيد جمال مرسي بدر أولاً وأخرا.
أحمد الظاهر
إلى الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
قرأت في العدد (1022) من الرسالة الغراء مقالة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني عن ترجمة الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار لكتاب (الزنابق الحمر) لطاغور.
وقد استوقفني فيه قوله: (والمترجم من مكة المكرمة، ولكنه درس في مصر، ولذلك لا يحس في أسلوبه أو عبارته أي غرابة عن اللغة المصرية. وهو يعرف اللغة البنغالية. . الخ)
والذي كنت أعرفه عن مصر - إلى وقت قريب - أن لغتها العربية، وأنها أكبر معقل لهذه اللغة التي هي أيضاً لغة الحجاز والعراق وكل قطر عربي، وإن هذه اللغة على الاختلاف البسيط في لهجاتها العامية - شأن كل لغة - إذا كتبت صحيحة، كانت واحدة أينما كتبت، ومن أي بلد عربي كان كاتبها.
فهل يتفضل الدكتور فيفيدنا شيئاً عن هذه (اللغة) الجديدة التي درسها المترجم الحجازي الفاضل فأتقنها، حتى خلص أسلوبه وعبارته من (شوائب) لغته الأصلية. . وهي العربية، فيما أظن. . . وهل له أن يدلنا - مشكوراً - أين يمكن تعلم هذه اللغة وهل هناك كتب خاصة لتعليمها؟
نجدة فتحي صفوة
مصر تساهم في تشييد مدرسة إسلامية في كرديف
أعلنت الحالية الإسلامية في كرديف التي تشرف على جامع (نور الإسلام) في تلك المدينة أنها قد انتهت من وضع الخطط الخاصة ببناء مدرسة جديدة لتعليم الأطفال المسلمين اللغة(1024/57)
العربية قراءةً وكتابةً مع دراسة شاملة للقرآن الكريم.
وجدير بالذكر أن كرديف تضم أكب جالية إسلامية في بريطانيا إذ يبلغ تعداد أعضائها خمسة آلاف مسلم منهم العربي والصومالي والأفريقي والهندي والباكستاني.
وقد نظم مسجد (نور الإسلام) تحت إشراف إمامه الشيخ أحمد حسن القلمي، دراسات مسائية لأطفال الجالية يحضرها حوالي 250 طفلاً. ومعظم هؤلاء الأطفال تقريباً يتكلمون العربية بطلاقة تامة كما درسوا سنن الرسول صلوات الله عليه. ومع أن جميع هؤلاء الأطفال يتلقون العلم في المدارس الإنجليزية إلا أن الجالية فكرت في تشييد هذه المدرسة للمحافظة على الثقافة الشرقية وما تمتاز به من طابع خاص.
وستشيد المدرسة الجديدة بجوار مسجد (نور الإسلام) وهي تتكون من طابقين وتضم خمسة فصول تتسع لعدد يتراوح بين 120 و150 طفلاً. وسوف تستغرق عملية البناء أربعة عشر شهراً، كما سيكون المبنى على الطراز العربي، أما تكاليف البناء فتبلغ 35 ألفاً من الجنيهات الاسترلينية ستجمع تبرعات من المسلمين في مختلف أنحاء المعمورة. ويشرف على هذه التبرعات الشيخ عبد الله الحكيمي الذي يقوم بجولة الآن في الشرق الأوسط لهذا الغرض. ويؤخذ من الأنباء التي بعث بها الشيخ الحكيمي من القاهرة أن الرئيس اللواء محمد نجيب وكبار المسئولين في الأزهر قد وعدوا بتقديم المساعدات لتشييد مدرسة كرديف، كما وعدت مصر أيضاً بإيفاد ثلاثة من المدرسين للعمل في هذه المدرسة.
حول العروض في قصيدة
طالعت بمجلة (الكتاب) الشهرية عدد فبراير، رسالة بعث بها من القطيف الأستاذ محمد سعيد المسلم فحواها أنه قرأ الملحمة الشعرية التي نشرتها مجلة الكتاب ويلاحظ ما يأتي:
أن مطلع القصيدة مختل، فصدره من بحر بينما عجزه من بحر آخر ووزنه هكذا.
فدع الشماخ ينبئك عن قو ... واسها البائر في حيث أتاها
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن ... فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
(من بحر المديد التام) ... (من بحر الرمل التام)
ثم يقف عند هذه الأبيات الثلاثة حائراً لا يدري إلى أي بحر يردها. كيف قال الشيخ؟ كلا! إنها بعضي! والمال؟ بل المال فداها!(1024/58)
إنها الفاقة والبؤس نعم! هذا غنى! كلا. . وشاها.
بل كفاني فاقة. . لا كيف أنساها؟ وإني! وهواها
وأنا أوافق الأستاذ على ملاحظته في البيت الأول فصدره من بحر وعجزه من بحر ولكني أقول له إن التفعيلة الأولى من الصدر (فعلاتن) لا فاعلاتن فهي مبدوءة بمتحركين لا بمتحرك فساكن.
أما الأبيات الثلاثة الأخيرة فأستطيع أن أجيب عن حيرته في البيت الأول بأنه من بحر الرمل.
كيف قال الشيخ كلا إنها بع ... ضي والمال بل المال فداها
فدخل الخبن (وهو حذف الحرف الثاني الساكن) في كل تفعيلة من تفعيلات العجز. والوزن مختل بالنسبة للبيتين الأخيرين إذ يلزم لكل منهما تفعيلة كاملة حتى يصير مثل سابقه.
وتحياتي للأخ (المسلم) وساكن القطيف.
محمود بخيت الربيعي
جعجعة ولا طحن
دأب الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي أن يدفع إلى مجلة (الكتاب) بقصائد لأمير الشعراء فاتها حظها من الذبوع واحتلال مكانها بديوانه إلى جوار أخواتها.
وقد دفع إلى تحرير مجلة (الكتاب) عدد أكتوبر 1952م بقصيدة (الله) ص974. ولقد وفق في نشرها وأصاب وألذ الشراب ما صادف غليلاً.
واستوقفني وأنا أطالع عدد ديسمبر 1952م من المجلة: استوقفني هذا العنوان (شوقية أخرى) وذيل بكلمة ما أراها إلا من أسرة تحرير المجلة جاء فيها (. . . وهاهو ذا اليوم يتحف القراء بشوقية جديدة لم ترد في الديوان بل نشرت في جريدة اللواء بتأريخ 14 أبريل 1904م. . .)
وأخذت أقرأ القصيدة الجديدة فإذا هي قصيدة (ضجيج الحجيج) المنشورة في ديوان شوقي جزء أول ص252!
ورجائي أن نتعود التحري، وأن نحد من غلواء الثقة. وسوء الظن عصمة.(1024/59)
محمد محمد أحمد التاجي
إلغاء جائزة تيسير الكتابة العربية
قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية إلغاء الجائزة، التي كان قد أعدها منذ سنوات، لتيسير الكتابة العربية، ومقدارها ألف جنيه. وكان قد تقد لها كثيرون بمقترحاتهم.
دواء للسل يفيد في الجزام
تلقى المكتب الإقليمي التابع للهيئة الصحية العالمية من ريو دي جانيرو وسان باولو، حيث عقد مؤتمر خبراء الهيئة للجذام - أنباء تفيد أن الأبحاث التي تناولوها قد تدعو إلى أمل كبير في إمكان مكافحة هذا المرض وعلاجه.
وكان من أهم الآراء التي ظهرت في المؤتمر أن استئصال الجذام لا يتمشى مع نبذ المصابين به وأن المجذوم أقل نشراً للعدوى من المصاب بالسل، وأن العقاقير الحديثة التي يتناولها المرضى عن طريق الفم يظهر لها مفعول ناجع.
وان الـ (ب. س) الذي يتقى به السل الآن له نفس الخواص الوقائية للجذام، كما أن المرأة المصابة تستطيع أن تلد أطفالاً أصحاء.
ويقول الدكتور إيف بيرود ممثل الهيئة الصحية العالمية في المؤتمر إن آمالاً جديدة تبدو لإمكان سيطرة الطب على هذا المرض.(1024/60)
طرائف وقصص
قارئ الأفكار
للأستاذ كمال رستم
ما أسعد هؤلاء الذين يستطيعون قراءة الأفكار! إنهم يحيطون بنظرة واحدة بكل ما يدور في رؤوس الناس فيدركون ما يكنونه لهم من حب أو بغض. ولا تجدي في خداعهم هذه الوجوه التي تكتسي بمظاهر انفعالات كاذبة، ولا هذه الكلمات التي لا تنطوي حقيقتها إلا على الحقد والشر! فيدركون بنظرة واحدة تنفذ إلى أعماق النفس، وتسبر أغوار القلب إن كان من يخاطبونهم صادقين أو كاذبين! مخلصين أو مخادعين! أشراراً أو أخياراً! ويعيشون بفضل هذا العلم سعداء مجدودين!
تواردت هذه الخواطر على ذهنه وهو جالس إلى المائدة أمام صديقه الجندي الهندي، وكان قد التقى به لأول مرة في إحدى القهوات العامة وعلم منه أنه أحد أفراد الوحدات الهندية التي جاءت إلى مصر فيمن جاء من جنود الحلفاء للدفاع عن الإمبراطورية! واتصلت بينهما صداقة متينة فقد كان الجندي (نهرو) مثالاً لدماثة الخلق ولين الطباع. وكان إلى ذلك ملماً إلماماً واسعاً بعلم قراءة الأفكار!
بهر أحمد هذا العلم الذي يمزق أستار المجهول ويرده في نظرة واحدة واقعاً ملموساً. . ولقد قرأ نهرو أفكاره وتحقق له أن ما قاله كان صحيحاً كله!
ود أن يبلغ مبلغ نهرو من القدرة على قراءة أفكار الناس. . واستغرق في تأمل عميق حلو وقد شبه له أنه وهب هذه القدرة. . وبدا له أنه ليس على أديم الأرض من هو أسعد منه!
لقد صارت له نظرة نهرو الفاحصة النافذة. . ولن يعود في مستطاع عملائه الكثيرين أن يخدعوه، وسيعرف من منهم الذي يبيت له النيات الطيبة ومن الذي يبيت له النيات الخبيثة. . فيعامل الأول ويجفو الثاني. . وسيحرر نظره في وجوه أصدقائه الكثيرين فيعرف المخلص من المنافق. . والطيب من الخبيث ويستخلص لنفسه منهم هؤلاء الذين اجتازوا بنجاح امتحانه الصامت الرهيب الذي لا يعلمون عنه شيئاً لأنه لن يطلع أحداً على أنه أوتي هذه الموهبة الفذة!
أما هؤلاء الذين يريد أن يفيد منهم، فإنه سيمرر في وجوههم نظره الثاقب فيعرف المرتشي(1024/61)
الذي لا يؤدي عملاً إلا بالرشوة، ومحب الملق الذي لا يقدم صنيعاً إلا إذ تملقه الناس وخدعوه. . ويعرف الذي ينتوي خدمته من الذي يعطيه وعداً لا يزمع إنجازه. . كل شيء سيحيط به وفي نظرة واحدة فلا يعود ثمة ما يخفى عليه من أفكار الناس ولا من أخلاقهم. . فيراهم كما يرون أنفسهم. . وكأنه كامن فيهم!
طافت بذهنه هذه الخواطر فانتشى لها وطرب. . ونازعته نفسه إلى أن يكاشف صديقه نهرو برغبته في أن يتعلم منه علم قراءة الأفكار. . وتردد طويلاً قبل أن يتهادى إلى أذنيه صوت صديقه نهرو يقول:
- لقد قرأت يا صديقي ما يدور بذهنك. . وليس أحب إلى نفسي من تحقيق أمنيتك!
وشاعت الفرحة في قلبه وهو ينصت إلى قول صديقه الطيب وقال والدنيا لا تكاد تسعه من فرط سروره وسعادته.
- إني عاجز عن شكرك يا صديقي نهرو. . ولست أدري بماذا أكافئك على هذا الصنيع الذي لن أنساه لك مدى حياتي!
شرع نهور يدرس لصديقه أحمد علم قراءة الأفكار وبذل في سبيل ذلك من الجهد والوقت ما جعل لسانه يلهج بشكره والثناء عليه. . ولم يدخر أحمد من ناحيته وسعاً في استيعاب دروس أستاذه واستذكارها والرجوع إلى (المراجع) التي وضعها تحت يده، فقد كانت تشتعل في نفسه الرغبة في إجادة هذا العلم الذي أحبه وعشقه والذي سيعود عليه بالنفع والخير ويسلكه في عداد السعداء المجدودين!
وكان لا يني عن القراءة في الليل وفي النهار. . في المنزل وفي الطريق وفي القهوة التي كان يختلف عليها هو وصديقه نهرو. . وكانت تستغرقه السعادة وهو يطالع هذا العلم الحبيب، وراح يرقب في صبر أرعن ذلك اليوم الذي يفرغ فيه من دراسته ويخرج إلى الناس إنساناً جديداً موهوباً بعلم ما لا يعلمون!
ولم يسفر لأحد عن سره. . حتى أفراد أسرته لم يكن بينهم فرد واحد يدري سر وحدته المطرقة وانكبابه على تلك الكتب التي كان يحرص على ألا تمتد إليها يد أو تقع عليها عين! إنه كان زوجاً مخلصاً وأباً باراً لابن وابنة، وكانوا سعداء به كما كان سعيداً بهم. . ولكنهم في هذه الشهور الأخيرة وقد لمسوا منه انصرافاً عنهم وعزوفاً عن ملا بستهم.(1024/62)
زايلتهم السعادة وتقبضهم الحزن وأمضهم الألم. . ولكن أحداً منهم لم تبد منه معارضة أو جأر بشكوى فقد كان العهد بهم أن يرضوا عن كل تصرف منه دون جدل أو نقاش!
عكف على دروسه يستذكرها، وقبل أن يضع مواهبه تحت اختبار أستاذه نهرو قام برحلة استغرقت أشهراً استعاد في غضونها ما حصله، وامتحن فيها تجاربه. . ولما اطمأن إلى النتيجة التي حصل عليها، واقتنع بأنه بلغ مبلغ الرضا من أستاذه عاد إليه تواً ووضع مواهبه تحت الاختبار العسير الذي أجراه له. . ويا للسعادة الكبرى التي استغرقته حين قال له أستاذه نهرو:
- تستطيع الآن يا صديقي أن تطمئن إلى أنك وصلت. . فإليك تمنياتي! وشد على يده فقال له:
- إن الفضل فيما أحرزته من نجاح إنما يرجع إلى صدق عزيمتك وعظيم إخلاصك. . .
أجابه نهرو قائلاً:
- لا تقل ذلك يا رجل!
. . ودرج في الطريق وهو عظيم الثقة بنفسه، قوي الإيمان بالمستقبل السعيد الهانئ الذي ينتظره، واستطاع في نظرة واحدة إلى الوجوه التي صافحته. . وجوه الرجال والنساء أن يحيط بما كان يدور في رؤوسهم من الأفكار وكانت تسكن هذه الرؤوس الأفكار الطيبة والأفكار الخبيثة والآمال القريبة والآمال البعيدة الطائشة. . أدرك من السعيد المجدود ومن التعس المنكود. . والمؤمن والملحد. . ومن المخلص والمخادع. . وبهرته النتيجة التي حصل عليها، والنجاح الذي أحرزه فشاعت الفرحة في أعطافه وأيقن أنه ملك ناحية السعادة وحقق غارب أمانيه!
وتقدم من أحد باعة الفاكهة ليبتاع منه بطيخة، واستملى البائع الماكر من وجهه نظرة عابرة وحدث نفسه قائلاً:
- إنه رجل ثري. . هذا ما يبدو لي من ثيابه ومن مظهره النبيل. . وأغلب ظني أنه رجل طيب القلب ساذج وإذا لم تخذلني فراستي فإنني لن أجد أدنى صعوبة في أن أتقاضى ثمنها منه مضاعفاً. . سأطلب منه عشرين قرشاً!
وضحك أحمد في نفسه، فقد قرأ أفكار الرجل ووعى ما طاف بذهنه وقال في هدوء.(1024/63)
- أتبيعها بعشرة قروش؟
وأجابه الرجل وهو يصطنع الاستخذاء والضعف:
- أقسم لك يا سيدي أنني أخسر إن بعتها بأقل من عشرين قرشاً. . من أين يأكل رجل فقير مثلي رب أسرة كبيرة إذا لم يربح ربحاً حلالاً من رجل كريم مثلك. . أقسم لك أن هذا هو الثمن الذي أبيعها به لكل إنسان. . فأنا لا أفرق أبداً بين زبائني!
وكان يعلم أنه يغرر به فقال له:
لا تجهد نفسك فلن أدفع أكثر من عشرة قروش ومضى في سبيله، وما كاد يخطو بضع خطوات حتى تناهى إليه صوت البائع يقول:
- تعال يا سيدي. . هات العشرة قروش. . عوضي على الله: علم الله أنني أخسر فيها!
ولج به السرور عندما ذكر أنه اعتاد أن يبتاع نظائر لها بأضعاف هذا الثمن، لأن الباعة كانوا وقتذاك يخدعونه ولكنه ابتداء من اليوم لن يستطيع أحد خداعه أبداً!
ونقد البائع الثمن وحمل (البطيخة) على ذراعه ومضى!
وبلغ البيت، واستقبلته زوجه بابتسامة آسرة رفت على شفتيها وقالت له في صوت يسيل رقة وعذوبة:
- يا زوجي الحبيب!
وتطلع إلى وجهها. . . وفي نظرة واحدة بلغ ما لم يبلغه في سنوات طوال. . . وكانت تتواكب في ذهنها هذه الخواطر.
لم عاد هكذا سريعاً؟ لشد ما أبغضه! لو يدري هذا الرجل أنني لم أشعر يوماً واحداً ولا لحظة واحدة بأنني أحبه. . لو يدري أنني أخدعه وأخونه!
هاله ما قرأ من أفكارها. . وكانت الصدمة أن تذهب برشاده، وتطيح بلبه بعد أن تحقق له أنه كان مخدوعاً فيها. . وكان قد حول بصره عنها فعاد وصعده في وجهها الذي بدت عليه البراءة والسذاجة. . وشعر بالامتعاض والتقزز حينما مر بذهنه خاطر خيانتها. . وعجب لامرأته كيف تحمل وجهاً صافياً ونفساً كدرة كالماء الآسن. . وزخرت بالألم نفسه، ونهش الحزن صدره، وأنسرقت قواه فتهالك على المقعد في تراخي بدن مجهد. . وأحس بيد ناعمة تعبث بشعره وطرق سمعه صوت ابنته الحبيبة تقول له:(1024/64)
- فيم تفكر يا أبي. . ألا تخلع ملابسك وتمضي معي إلى المائدة؟
ورفع إليها بصره، وعلقت عيناه بوجهها الجميل. . وفي لحظة واحدة. . أحاط بكل ما كان يدور بذهنها. . وكانت تحدث نفسها قائلة:
- إن أبي يقف حجر عثرة في سبيل سعادتي. . فهو لن يرضى مطلقاً عن زواجي ممن أحب لأنه يريد لي زوجاً ثرياً. . إنني لا أحب أبي. . والفرار مع من أحب هو السبيل الوحيد لتحقيق سعادتي!
أذهله ما قرأ من تفكير ابنته. . وهاله ألا يكون نصيبه من جملة مشاعرها سوى شعور الكراهة والبغض، وأن ينحط تفكيرها إلى حد أن تزمع الفرار مع شاب غريب. . غير عابئة بالألم والعار اللذين يخلفهما فرارها لأبيها! وعجب لأنه عاش ردحاً من الزمان بين زوجة تخدعه، وابنة لا تتردد في أن تثلم شرفه وتمرغه في العار وقالت له ابنته.
- لم تنظر إلي هكذا يا أبي؟
أجابها!
- لا شيء يا ابنتي، لا شيء.
. . وخلع ملابسه ومضى معها إلى المائدة. . فرأى هناك ابنه. . ابنه الذي وقف على مستقبله سعادته وآماله. . واستملى من وجهه نظرة عابرة ألمت بأفكاره كلها. . وكان يقول لنفسه:
- إن أبي قوي البنية شديد الأسر. . وقد يدركني الموت ويتخطاه. . فكيف السبيل إلى الخلاص منه لأرثه. . سأدس له السم في كوب الشاي الذي ألف أن يحتسيه عصراً. . وسوف لا يدور بذهن أحد أنني الذي فعلت ذلك. وإنما سينصرف الذهن إلى أن تناول الشاي في الخارج. .
وتحدر بصره عن وجه ابنه. . ابنه المجرم الذي يريد أن يغتاله. وأحس بالألم الممضي يعتلج في صدره وشق عليه الأمر فنهض دون أن يقرب الطعام وارتدى ملابسه وانطلق إلى الطريق!
وفي الطريق قابله بعض الأصدقاء وقرأ في وجوههم ما يضمرون له. . فرأى أنهم خبثاء كذابون مخادعون. . رأى أنهم يريدون أن يغشوه. . أن يسرقوه. . أن يدنسوه. .(1024/65)
وقرأ كذلك أفكار الناس الذين كانوا يعبرون الطريق فرأى أن غايتهم إلحاق الضرر بالوادعين من الأصدقاء. . بالضعفاء من الناس. . وجد أنهم كلهم مراءون. . مخا تلون لا تنطوي نفوسهم على ما تبديه وجوههم من رداعة ونبل!
وجفل من الناس، وأوى إلى أفكاره يعايشها. . بدا له الآن أنه خسر الحياة منذ تعلم قراءة أفكار الناس. . ولقد كان يحدس أنه سيغدو سعيداً إن هو بلغ ذلك يوماً. . ولكن ها قد تحقق له الآن.
- وقد تم له ما أراد - إنه شقي تعس! يريد به أعز الناس لديه وأقربهم إليه الشر والأذى!
وقال لنفسه:
- لقد كنت سعيداً وقتما كنت جاهلاً بنيات الناس. . وكان الخير في أن أبقى كذلك!
ولكن لم يكن في مستطاعه الآن أن يعود كما كان. . فيتحرر من علم اكتسبه. . وأيقن أنه سيعيش مدى حياته شقياً تعساً ما دامت فيه هذه الموهبة المشئومة وما دام كل الذين يحيطون به ويعيشون معه لا تنطوي نفوسهم إلا على أحط الغرائز وأبشعها. .
وفي اليوم التالي وجدوه مشنوقاً في غرفته بعد أن ترك لهم رسالة أثبت فيها موهبته المشئومة وأنه اطلع على خداع الزوجة. . وعقوق الابنة وشروع الابن في قتله. .
وكانت وصايته لهم أن يجردوا أنفسهم من نوازع الشر ما استطاعوا. . .
كمال رستم(1024/66)
لغويات
عنبر
ترى وتسمع وتقرأ وتكتب: عنبر البضائع، وعنبر المرضى أو المستشفى، وعنبر السجن أو المساجين وعنبر العمال أو الورشة وعنبر التلاميذ أو المدرسة وتعرف المراد، ولكن إذا رجعت إلى المعاجم اللغوية القديمة والحديثة لا تجد فيها (العنبر) بالمعاني الحديثة المألوفة اللهم إلا ما جاء في (محيط المحيط) ونص عبارته العنبر. . . ومخزن الغلة مولدة (ج) عنابر اهـ.
وأنا أقول إن العنبر محرف عن (عنبار) وهذا أصله (أنبار) والآنبار له معان منها:
(1) المخزن والحاصل والكلار والبيت. . وما أشبه ذلك من المستودعات.
(2) الأهراء والأكداس والأكوام. . وما أشبه ذلك من الودائع والمحفوظات. ويؤخذ من بعض النصوص أن المخزن ونحوه هو المعنى الأصلي، ويؤخذ من بعضها العكس كما أن الهري له معنيان كما ترى وإليك الأدلة:
(1) جاء في (الألفاظ الفارسية ص150: الأنيار: فارسي محض أي الهري وأصل معناه الممتلئ ومنه. . . أنبار أو عنبار بالتركية والكردية الخ.
(2) وجاء في (كنز لغات) أنبار: مخزن. حاصل. هري. كلار.
وجاء فيه: أنبارجي وكيل المخزن. مخزنجي. كلارجي.
(3) وجاء في المعاجم الأنبار: بيت التاجر ينضد فيه المتاع.
(4) وجاء في مادة (هري) الهري بضم الهاء وتسكين الراء بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان والجمع إهراء قال الأزهري ولا أدري أعربي هو أم دخيل وجمعه اهراء مثل قفل وأقفال اهـ.
(5) وجاء في شرح القاموس: الهري بالضم وكسر الراء وتشديد الياء؟. . . قلت والعامة تكسر الهاء والراء ومنها الاهراء التي بمصر في بنسويه (بني سويف) من الصعيد الأدنى تجمع فيها الحبوب مير، الحرمين الشريفين في زماننا اهـ. وضبطه للهري أولاً وأخيراً خطأ كما سبق والعامة تكسر الهاء فقط مثل جسم وأجسام.
(6) وجاء في معجم البلدان في الكلام على مدينة الأنبار. . . وقيل إنما سمي الأنبار لأن(1024/67)
بخت نصر لما حارب العرب الذين لا خلاق لهم حيس الإسراء فيه وقال أبو القاسم سميت بالأنبار لأنه كان يجمع بها أنابير الحنطة (القمح) والشعير والقت (البرسيم) والتبن وكانت الكاسرة ترزق (تمون) أصحابها منها وكان يقال لها الاهراء فلما دخلها العرب عربتها فقالت الأنبار، وقال الأزهري الأنبار اهراء الطعام واحدها نبر، ويجمع على أنابير جمع الجمع، وسمي الهري نبراً لأن الطعام (الحبوب) إذا صب فيه إنتبر أي ارتفع الخ اهـ.
(7) وجاء في المعاجم اللغوية الانبار اهراء الطعام (القمح ونحوه) وأكداسه، واحدها نبر بكسر الباء وفتحها.
(8) ويقال فيه عمبر بالميم كما هو مقرر في المعاجم اللغوية بالنسبة لمعاني العنبر الأخرى.
المبنى المجمع
أسم أطلقوه على البناء الحكومي في ميدان الحرية لأنه يجمع شمل المصالح الحكومية المتناثرة. ولا يخفى أن هذه التسمية غريبة وشاذة فبعضهم يقول (المجمع) بفتح الميمين، وبعضهم يضم الميم الأولى ويشدد الميم الثانية مكسورة أو مفتوحة، وأرى تسميته (ديوان المصالح) أو ما أشبه ذلك من الأسماء الطريفة المألوفة.
علي حسن هلالي(1024/68)
العدد 1025 - بتاريخ: 23 - 02 - 1953(/)
الرسالة تحتجب!
في الوقت الذي كانت (الرسالة) تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها، وأولياء الثقافة والصحافة في وادي النيل، وزعماء الأدب والعلم في أقطار الشرق، بانقضاء عشرين سنة من عمرها المبارك المثمر؛ وفي الوقت الذي أشرق فيه على مصر صباح الخير بثورة الجيش المظفر، بعد ليل طال في الظلام، وافتر ثغر الأمل، وشعر كل مصري في ظلال العهد الجديد أن وجوده إلى سمو، وعمله إلى نمو، وأمره إلى استقرار؛ نعم في هذا الوقت الذي نشأ فيه لتوجيه الإرشاد وزارة، ولتنمية الإنتاج مجلس، ولتعميم الإصلاح خطة، تسقط (الرسالة) في ميدان الجهاد الثقافي صريعة بعد أن انكسر في يدها آخر سلاح، ونفد من مزودها آخر كسرة؛ فكأنها جندي قاتل اليهود في فلسطين على عهد فاروق، أو فدائي جاهد الإنجليز بالقناة في حكومة فاروق! ولكن فاروقاً دال ملكه وزال حكمه، فبأي سبب من أسباب الفساد يؤتي المجاهد من جهة أمنه لا من جهة خوفه، ويقتل بيد شيعته لا بيد عدوه؟
تموت الرسالة اليوم في ضجة من أناشيد النصر في مصر، وأهازيج الحرية في السودان، فلا يفطن إلى نزعها هاتف، ولا يصغي إلى أنينها منشد! ومن قبل ذلك بشهر ماتت أختها (الثقافة) وكان الناس يومئذ في لهو قاصف من مهرجان التحرير، فلم تبكها عين قارئ، ولم يرثها قلم كاتب! كأن عشرين سنة للرسالة، وست عشرة سنة للثقافة قضتاها في خدمة الأدب واعلم والفن والإسلام والعروبة لم تهيئ لهما مكاناً في الوجود، ولم تنشئ لهما أثراً في الخواطر! وكأن هاتين المجلتين اللتين أنشأنا في أدب العصر مدرستين نشّئ فيها جيل، وابتدأت بهما نهضة، واجتمعت عليهما وحدة، لم تكونا إلا ورقاً مما ينشر في الطريق للإعلان، يجيء به الموزع وتذهب به الريح!
وما أحب أن أحمل تبعة ما أصاب الرسالة والثقافة على زهادة الناشئين في الأدب الجد، ولا على فشل المعلمين في تعليم القراءة؛ فإنا اخترنا هذا النوع من الصحافة ونحن نعلم ما يعترضه من عوائق، وما يكتننفه من مكاره، أقلها هذه الأمية المدرسية التي تقنع من الثقافة (بفك الحظ) وقشور العلم، فلا تهيئ المصاب بها إلا للقراءة السهلة الضحلة، ليرى نكتة تملأ فمه بالضحك، أو صورة تدغدغ جسده بالشهوة!
اخترنا هذا النوع من الصحافة المجاهدة المستشهدة، ووقفنا بالرسالة على الأعراف بين آخر النقص وأول الكمال، تأخذ بيد الأدنى ليصعد، ونثبت قدم الأعلى ليستمسك؛ ثم تدفع(1025/1)
المرتفع صعداً في السماء ليكون باستعداده أقرب إلى الحق المطلق والخير المحض والجمال الكامل.
وبحسبنا أن يصحبنا في هذا الطريق من تهبهم فطرهم السليمة لبلوغ الغاية منه، وهم بحكم الندرة في الكمال والكرم قلة. ومن السهل القريب أن تصلح القلة لتصلح الكثرة، وأن ترفع الخاصة لترفع العامة. وليس وراء القلة مال يبتغى ولا جاه يرتجى، وإنما سبيل المال والجاه لمن أرادهما، العامة يستميلها بالتهريج، والسياسة يستغلها بالدجل، والحكومة يستدرها بالملق، والعدة إلى ذلك يسيرة المنال: حنجرة صلبة تخطب، ويراعة مداهنة تكتب، ونية فاسدة تملي! ولو أرادت (الرسالة) زهرة الحياة الدنيا لعرضت ضميرها للبيع وقلمها للإيجار. ويومئذ تتحول أكداس الورق في مطبعتها العجيبة من أوراق طبع إلى أوراق نقد!
ولكن الله الذي يحبب في سبيله إلى المجاهد الاستشهاد وليس في مزوده إلا حفنة من سويق أو قبضة من تمر، حبب إلى (الرسالة) الجهاد في الميدان المجدب الموحش ولا عدة لها إلا الصدق والصبر والزهد، لتظفر بنصر المجاهد إذا فاز، أو بأجر الشهيد إذا قتل!
إنما التبعة في خذلان الرسالة والثقافة على الحكومة بوجه أعم، وعلى وزارة المعارف بوجه أخص.
كانت الحكومات الحزبية لا رحمها الله تخاف ولا تختشي، كانت تبذل العون في صور المختلفة للمجلات التي تعارض لتسكت، وللمجلات التي تؤيد لتقول، أما الصحف التي لا نملك لها نفعاً ولا ضراً في سبيل الحكم والغنم، فكانت لا تلتفت إليها إلا كما تلتفت إلى الشعب المسكين: تأمره ليطيع، أو تسخره ليعمل، وما كانت طاعته أو عمله في رأيها إلا واجباً مفروضاً لا شكر عليه ولا أجر له!
ومن عدلها الذي أخجل عدل عمر أنها أرسلت إلى الرسالة مأمور الضرائب الذي ترسله إلى الجرائد العظمى، والمجلات السياسية الكبرى؛ فلما رأى إيرادها ثلاثة أرقام وربحها رقماً أو صفراً، أخذه الدهش، وملكه العجب، وقال بلهجة المستنكر: كيف يكون إيراد المصور وأخبار اليوم وروز اليوسف كذا متعددة، ويكون إيراد الرسالة كذا واحدة؟! لا بد أن يكون السجل ناقصاً والدفاتر مزورة! ورفض المأمور الذكي الدقيق الوثائق وعمد إلى(1025/2)
التقدير الجزاف، فصال وجال، وتخيل ثم خال، وفرض فيما فرض أن في كل عدد من أعداد المجلة خمسين إعلاناً على التقدير الأقل، أجرتها في الأسبوع كذا، وفي السنة كذا؟ فلما نبهته عيناه اللتان في رأسه إلى أن كل عدد لا يزيد ما فيه على إعلانين في الواقع، أمرهما ألا تدخلا فيما لا يعنيهما! ومضى بسلامة الله يكره القواعد الأربع على أن (تعمل له حساباً) كما فكر وقدر، حتى بلغت جملة ما على الرسالة لمصلحة الضرائب: (24855) جنيهاً في سبع سنوات! فكم كان الربح إذن! وهالت أرقام هذا التقدير (لجنة التقدير) فخفضتها إلى (12607) بالتقدير الجزاف أيضاً، ثم حجزت على المطبعة والدار، وأمرتنا بتنفيذ هذا القرار! ولما لجأنا إلى القضاء عوقه محاموها سنتين عن الفصل، وما زالوا يعوقونه بالتأجيل العابث، والمصلحة لا تكترث ولا تهتم ما دامت تطالب وتهدد، والممول يسارع ويسدد!
ثم كانت الحكومة تبعث إلى الرسالة ببعض الفتات من إعلانات الوزارات في حدود الفائض من الصحف المؤيدة، فلما نقصت الموارد وضاقت الميزانية قصوا الأطراف الزوائد من (المصروفات) فكان منها على زعمهم نصيب المجلات الأدبية!
أما التبعة التي على وزارة المعارف خاصة فهي أثقل من أن يحملها ضمير مسئول، كانت هذه الوزارة ولا تزال تعين المدارس الحرة، وتمون المكتبات العامة، وتعول الفرق التمثيلية، وتدير الجامعة الشعبية، وتعنى بألوان الثقافة على الجملة، ولكنها - وا عجباً - لم تدرك إلى اليوم أن المجلة الأدبية الجدية مدرسة متنقلة، وتفعل ما لا تستطيع أن تفعله الوزارة نفسها من إحياء اللغة، وإنهاض الأدب، وتبسيط العلم، وتعميم الثقافة، وتوجيه الرأي، وتأليف القلوب، وتوحيد العرب، والسفارة بين مصر وأقطار العروبة، والتمكين لزعامتها الفكرية في بلاد الشرق فلو أنها أدركت ذلك لأعانت المجلات الأدبية على أداء رسالتها ببعض ما تعين به معاهد التعليم ومسارح لتمثيل ومراكز الثقافة؛ ولكنها - وا أسفا - لم تدرك منذ العام الماضي إلا أن اشتراكها في خمسمائة نسخة لمدارسها مكتباتها من الرسالة والثقافة، هو الذي أثقل كفة المصروفات في ميزانية التعليم فألغته لتعتدل الكفتان! وبهذه القشة المباركة قصمت ظهر البعير!
كانت الرسالة منذ فحش غلاء الورق، وقدحت نفقات الطبع، تكفي نفسها أو تخسر قليلاً،(1025/3)
وكنا نواجه هذه الحال بالتعفف والتقشف والصبر فتنساغ مرارتها أو تخف، فلما شاءت الضرائب ألا تعقل، وأرادت الحكومة ألا تعلن، وقررت المعارف ألا تشترك، أخذت الخسارة تنمو وتطرد حتى بلغت في العام المنصرم ألفاً ومائة وعشرين جنيهاً، فرأينا في مطلع هذا العام أن تقوى الرسالة لتصمد، وأن نعيد (الرواية) لتساعد، فإذا بالخسارة تتسع، وبالطاقة تضيق، وبالأزمة تشتد، وبالأمل يضعف؛ فلم نجد بداً من الإذعان لمشيئة القدر!
لقد قلنا يوم بلغت الرسالة عددها الألف أو عامها العشرين: (إنا نطمع في فضل الله أن تزيد الرسالة قوة في عهد مصر الجديد، وما تسأل الرسالة العون إلا من الله، فقد عودها جل شأنه ألا تفزع إلا إليه فيما يحزب من أمر وفيما ينوب من مكروه، ولعل السر في بقائها إلى اليوم على ضعف وسيلتها وقلة حيلتها، أنها عفت عن المال الحرام فلا تجد لها اسماً في (المصروفات السرية)، ولا فعلاً في المهاترات الحزبية، ولا حرفاً من الإعلانات اليهودية.
وإذا لم يكن للفضيلة رواج في عهد غرق فيه (القصر) في الفحش والمنكر والبغي والاغتصاب والاستبداد والقتل، وارتطمت فيه (الحكومة) في الاختلاس والغش والخيانة والرشوة والمحاباة والختل، فإنا لنرجوا أن يكون لها من السيادة والفوز نصيب، في عهد يتولى الأمر فيه بإذن الله محمد نجيب).
ولكن القضاء غالب، والرجاء في الله أولى، ولكل أجل كتاب، ولكل سافرة حجاب، ولكل بداية نهاية!
أحمد حسن الزيات(1025/4)
الحكم في الإسلام
جمهورية مدى الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
يا أهل مصر، هذا هو الطريق فماذا التردد بين الإقدام والإحجام؟ لماذا تقدمون رجلاً نحو (الجمهورية) وتؤخرون أخرى؟
إن هذه (الملكية الوراثية) بدعة في الإسلام ابتدعها سيدنا معاوية، غفرها الله له، فخالف بها عن طبيعة العرب التي طبعهم الله عليها، وشريعة الإسلام التي شرعها الله لهم، وأحالها كسروية قيصرية، وقد كانت بكرية عمرية، وجعلها ملكية بغي واستبداد، وقد كانت خلافة عدل ورشاد.
بدعة جرت ذيلها على تاريخنا، فمحت كثيراً من فضائله، وخلفت فيه رزايا وبلايا، صيرته مثل تواريخ الأمم، وقد كان تاريخنا ما ولدت أم التاريخ قبله، ولن تلد بعده تاريخنا يساويه أو يدانيه. كان تاريخ خير وبر وعدل وإحسان، تاريخ قوم هم لباب البشر، وهم خلاصة الناس، وهم هداة الدنيا، وهم ملائكة الأرض.
أفسدت تاريخنا على صلاح الزمان، وأضاعت دنيانا على قوة الدين، وأذكت في النفوس غرائز البغي وطبائع الشر على قرب العهد بالإسلام، فكيف بنا اليوم والزمان فاسد، والدين ضعيف، والعهد بعيد، والقلوب قاسية، والمنكرات فاشية؟
ما لنا نجرب المجرب ومن جرب المجرب حلت به الندامة؟ وتعود فنمد أيدينا إلى الجحر الذي لدغنا منه ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ونرجع إلى الهاوية فنتردى فيها بعد أن أنقذنا الله منها، ولما نكد!
أنتبع الإسلام، ثم نأتي بما ينكره الإسلام؟
إن الحكم في الإسلام جمهورية انتخابية تدوم مدى الحياة، ما لم يبدل الرئيس أو يتبدل، فنستبدل به.
وإن دعائم الحكم في الإسلام هي الانتخاب الصحيح، والديمقراطية الصادقة، والرقابة الدائمة.
ولا عبرة بقول من أخذ من الفقهاء بظواهر الأمور، بلا نفاد إلى بواطنها، وأمسك بطرف(1025/5)
المسألة وترك أطرافها، فقال بأن الخليفة تثبت خلافته بانتخاب النفر من أهل الحل والعقد - أخذاً من انتخاب أهل السقيفة أبا بكر، أو بالعهد استناداً على عهد أبي بكر لعمر، فإن أبا بكر ما صار خليفة إلا بالبيعة العامة، ولو خالف عليه أهل قطر من الأقطار لما كان لهم (على الحقيقة) بخليفة - إلا أن يكونوا خارجين على إرادة لأكثر فيعاملوا معاملة الخارجين، وإن عمر لم يستخلف بعهد أبي بكر بل بالبيعة؛ وخلاصة ما جاء في بيعته من النصوص - هو ما جمع في كتابي (أبو بكر الصديق) الذي طبع في دمشق من نحو ثماني عشرة سنة.
وفيه أنه لما ثقل أبو بكر واستبان له من نفسه جمع الناس إليه، فقال:
- إنه قد نزل بي ما ترون وما أظنني إلا ميتاً، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني، كان أجدر ألا تختلفوا بعدي.
فقاموا في ذلك، فلم يستقم لهم أمر، فرجعوا إليه، فقالوا:
- رأينا يا خليفة رسول الله رأيك.
- قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده ثم أنه دعا بعد ذلك عبد الرحمن بن عوف - فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب.
- قال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني.
- قال: وإن!
- قال: هو والله أفضل من رأيك فيه.
ثم دعا عثمان، فقال له مثل ذلك، فقال:
- علمي به أن سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله.
ثم شاور سعيد بن زيد وأسيد بن الحضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار - فقال أسيد:
- اللهم، اعلم الخيرة بعدك، ويرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
عند ذلك كتب العهد المعروف وخرج به عثمان على الناس مختوماً، وأشرف أبو بكر من كوته على المسجد (وقد كان هو البرلمان الإسلامي)، فقال:(1025/6)
- يا أيها الناس إني قد عهدت عهداً، أفترضونه؟
- فقال الناس، رضينا وقام علي فقال:
- لا نرضى إلا أن يكون عمر!
- قال: أنه عمر!
فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به ثم بايعوا. . . (إلى آخر ما جمعت في الكتاب، من أخبار هذا الباب.) والستة الذين سماهم عمر، لم يكونوا إلا لجنة استشارية، عملها تنظيم المرشحين، والعمل على فوز مرشح واحد بالتزكية وهذا ما فعله عبد الرحمن، وما ثبتت خلافة عثمان إلا بالبيعة.
فالبيعة هي الدعامة الكبرى في الحكم الإسلامي، ولم يستطيع الخلفاء المستبدون، في أكثر العصور ظلماً، وأشدها ظلاماً، أن يهدموا هذه الدعامة، فكانت البيعة هي الأساس، وإن تحولت، كما تحولت حقائق الإسلام عند أكثر المنتسبين إليه - من جسد وروح، ومظهر وجوهر، إلى أجساد ومظاهر فقط.
أما الديمقراطية الصادقة، فهي الدعامة الثانية؛ فالخليفة ليس أفضل الأمة ولكنه أكثرها عملاً، وليس المالك لرقابها ولكنه أجيرها، ولا يمتاز دونها بمطعم ولا ملبس ولا مسكن، هكذا كان الخلفاء الأولون، قبل أن تصير الخلافة ملكاً، وهذي خطبهم و (تصريحاتهم)، وهذي سيرهم وأعمالهم، شاهدة على أكثر مما نقول:
والدعامة الثالثة الرقابة، كل فرد من الأمة شرطي يراقب الحاكم، يطيعونه ما أطاع الله، ويقومون بأمره ما أقام الدين، إن أحسن أعانوه، وإن نسي ذكروه، وإن أعوج قوموه، وكان عمر يتمنى أن ينصب الناس أميراً إن استقام أطاعوه، وإن جنف قتلوه.
قال له أحد الصحابة (نسيت اسمه):
- أفلا قلت: عزلوه؟
- قال: لا، القتل أنكى لمن بعده!
ونحن لا نبالي إن اجتمعت لنا هذه الخلال في رجل: البيعة والديمقراطية والاستقامة، أن يسمى رئيساً أو ملكاً أو إماماً أو أمير المؤمنين. هي اصطلاحات لا تقدم ولا تؤخر، لكن منها ما يخفف على الأذن سماعه، وعلى القلب احتماله، كاسم الرئيس، ومنها ما يشعر(1025/7)
الظلم والاستبداد والعبودية والمذلة، كاسم الملك.
أما وراثة الحكم، فلا تجتمع مع الإسلام في دستور، أيرث الولد ملك رقابنا، نحن الشعب كله، كما يرث الابن بقرات أبيه وعنزاته؟ أعوذ بالله! وهل بعد هذا مهانة أو ذل؟
إنه لا شيء أثقل على نفوس الناس، ولا أفسد لنفس صاحبة من ولاية العهد. أتخضع رقابنا، وتنحني جباهنا لطفل يحدث في لباسه؟ لماذا بالله؟
ألأنه خرج من فم أمه أو من أذنها، وسائر الناس يخرجون من حيث يخرج سائر الناس؟ أخلق الناس من ماء وطين، وخلق هو من الحليب والشكولاتة؟
أله دماغان في رأسه - وأربعة عيون في وجهه - ويطير بجناحين، لا يمشي كالناس برجلين؟
لقد ألف الناس الخضوع للرجل القوي الأمين، أما الخضوع لطفل، أمثاله يؤمرون فيطيعون، ويؤدبون فيضربون، أو لامرأة، فشيء لم نألفه، وما نألفه أبداً.
يقولون إن الملك رمز، كملك الإنكليز يملك ولا يحكم
والجواب، أنه ليس في الإسلام رئيس يملك ولا يحكم، بل الرئيس في الإسلام يحكم (بحكم الله) ولكن لا يملك؛ لأن الناس في نظر الإسلام أحرار لا يملكهم أحد.
الرئيس عندنا هو الذي يجتهد في وضع الشرائع مستنبطة من أصولها، وهو الذي يقضي القضاء، وهو الذي يدير الإدارة، وهو الذي يقود الجيش، وله أن يوكل عنه من تتحقق أمانته ومقدرته، أي أن أقرب الأنظمة اليوم إلى نظام الإسلام، جمهورية كجمهورية أمريكا، على أن تكون مدى الحياة.
وفي مقابلة هذا السلطان، لا يمتنع الحاكم على انتقاد ولا يترفع عن نصح، ولا يكون له في القضاء ما ليس للناس، وليس في الإسلام تهمة القدح بالذات الشاهانية، ولا محاكم خاصة للملك وأهله، بل ليس لأهل الملك ميزة أبداً، ولا يأخذون من مال الدولة، أو ينالون من خيرها فضلاً عن آخر فرد من الأمة.
وليس للحكم طبقة ولا قبيلة، وما ورد من أن الخلافة في قريش، هو أولاً حديثاً معارض بحديث عمر: لو كان حذيفة حيا لوليته، وحذيفة كان مولى؛ وحديث: لو ولى عليكم عبد حبشي. . . وهو ثانياً حديث مبتور له تتمة، والقاعدة عندهم، أن الزيادة من العدل مقبولة،(1025/8)
وتتمته: ما أقاموا الدين.
وطبيعة الإسلام تنافي هذا الحديث إلا يكون المراد منه غير عموم لفظه، فالقيم في الإسلام معنوية، ولا عبرة بالأنساب أبداً، والشريف هو الشريف بعمله لا بنسب إلى الرسول، وهو على الغالب نسب ملفق مكذوب كأكثر أنساب (الأشراف. . .) اليوم، والنبي يقول لبنته فاطمة سيدة النساء: يا فاطمة بنت محمد، لا أغنى عنك من الله شيئاً.
وهذا الحديث إن صح، يدل على أن القرشية تكون من أسباب الترجيح، إن استوى مرشحان للخلافة في خلال الخير كلها وكان أحدهما من قريش.
وإلا فأين قريش اليوم؟ وأين غير قريش من قبائل العرب؟ لقد تغيرت الدنيا، وتبدل الزمان، وشريعة الرسول لكل زمان ومكان، ولو أن الرسول قال هذا الحديث حقاً، وبعث اليوم من رووه عنه لما فهموا منه ما يفهمه اليوم من يفكر بعقول فقهاء الظاهرية، وهم أضيق الفقهاء فكراً، وأقربهم نظراً، وأبعدهم عن درك مقاصد الشريعة إلا ابن حزم، وما كان ظاهرياً مثلهم وإن تفقه بكتبهم.
فإذا نحن لم نقبل أن تكون الخلافة قاصرة على قريش وهم سرة الأرض، وأسرة النبي، وسدنة البيت الحرام، أفنقبل أن يكون الملك مقصوراً على قريش الأناؤوط، وأسرة فاروق، وأهل قولة؟
حسبكم من فضائل هذه الأسرة، أنها سرقت الأرض، وانتهكت العرض، وأضاعت الدين، وأفسدت الخلق، وأذلت الرقاب!
حسبكم إسماعيل وتوفيق وفاروق، لا تجلبوا لأنفسكم فاروقاً جديداً، كلهم فواريق!
يا أهل مصر، هذا هو الطريق، فاسلكوه. يا أهل مصر لا تترددوا، ليس بينكم وبين الغاية إلا خطوة واحدة!
علي الطنطاوي(1025/9)
شعراء الوطنية
البارودي
للأستاذ عبد الرحمن الرافعي
تتمة
في مقالنا السابق تحدثنا عن (محمود سامي البارودي) وعن شعره في منفاه، واليوم نتم الحديث عن شعره الوطني.
يشيد بعظمة الأهرام
قال يصف (الأهرام) ويشيد بعظمتها:
سل (الجيزة) الفيحاء عن (هرمي) مصر ... لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري
بناءان ردا صولة الدهر عنهما ... ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر
أقاما على رغم الخطوب ليشهدا ... لبانيهما بين البرية بالفخر
فكم أمم في الدهر بادت وأعصر ... خلت وهما أعجوبة العين والفكر
تلوح لآثار العقول عليهما ... أساطير لا تنفك تتلى إلى الحشر
رموز لو استطلعت مكنون سرها ... لأبصرت مجموع الخلائق في سطر
فما من بناء كان أو هو كائن ... يدانيهما عند التأمل والخبر
وختمها بقوله:
فيا نسمات الفجر أدى تحيتي ... إلى البرج المطل على النهر
ويا لمعات البرق إن جزت بالحمى ... فصوبي عليها بالنثار من القطر
عليها سلام من فؤاد متيم ... بها لا بربات القلائد والشذر
ولا برحت في الدهر وهي خوالد ... خلود الدراري والأوابد من شعري
شعر القتال
ومن قصيدة له في وصف إحدى المعارك التي خاضها منها مبلغ شجاعته وصبره على أهوال القتال:
ولما تداعى القوم واشتبك القنا ... ودارت كما تهوى على قطبها الحرب(1025/10)
وزين للناس الفرار من الردى ... وماجت صدور الخيل والتهب الضرب
ودارت بنا الأرض الفضاء كأننا ... سقينا بكأس لا يفيق لها شرب
صبرت لها حتى تجلت سماؤها ... وإني صبور إن ألم بي الخطب
الفساد في عهد إسماعيل
وقال من قصيدة سوء الحكم وظلم الحكام في عهد إسماعيل، وينصح قومه بالمطالبة بحقوقهم والمبادرة بإصلاح شؤونهم قبل أن تسوء العقبى، وهي من شعره السياسي الوطني الرائع:
قامت به من رجال السوء طائفة ... أدهى على النفس من بؤس على ثكل
من كل وغد يكاد الدست يدفعه ... بغضاً ويلفظه الديوان من ملل
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل
إلى أن قال:
فبادروا الأمر قبل الغوث وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل
وطالبوا بحقوق أصبحت غرضاً ... لكل منتزع عنهما ومختتل
حتى تعود سماء الأمن ضاحية ... ويرفل العدل في ضاف من الحلل
الجيش والدستور
وقال في أوائل عهد الخديوي توفيق يدعو إلى الشورى وتقوية الجيش:
أمران ما اجتمعا لقائد أمة ... إلا جنى بهما ثمار السؤدد
(جمع) يكون الأمر فيما بينهم ... (شورى) وجند للعدو بمرصد
يندد بالدسائس
وقال من قصيدة يشكو فيها من الدسائس التي كانت تحاك حوله:
نقموا على حميتي فتألبوا ... حزباً علي وأجمعوا ما أجمعوا
وسعوا بفريتهم فلما صادفوا ... سمعاً يميل إلى الملام توسعوا
لا عيب في سوى حمية ماجد ... والسيف يغلبه المضاء فيقطع
العودة إلى الوطن(1025/11)
وقد عاد إلى الوطن سنة 1900 بعد أن فقد نور عينيه في منفاه، فاستقبل مصر بقصيدته التي مطلعها:
أبابل مرأى العين أم هذه مصر ... فإني أرى فيها عيوناً هي السحر
فإن يك موسى أبطل السحر مرة ... فذلك عصر المعجزات وذا عصر
إلى أن قال:
وإني امرؤ تأبى لي الضيم صولة ... مواقعها في كل معترك حمر
أبى على الحدثان لا يستفزني ... عظيم ولا يأوي إلى سباحتي ذعر
عبرة الحوادث
ومن قصيدة له قالها بعد عودته من المنفى تفيض توجعاً لحالة البلاد بعد أن جثم الاحتلال على صدرها. وقد تذكر عندما مر بقصر الجزيرة أيام إسماعيل حين كان في أوج سلطانه. وما انتهى إليه أمره من خلع وخسران وتذكر أخطاءه التي كان لها أثرها في التمهيد للاحتلال. فلم يترجم على عهده. ونظم هذه القصيدة معتبراً ومذكراً وهي من آيات الشعر في العظة والاعتبار. قال:
هل بالحمى عن سرير الملك من ينزع ... هيهات قد ذهب المتبوع والتبع!
هذي (الجزيرة) فانظر هل ترى أحداً ... ينأى به الخوف أو يدنو به الطمع
أضحت خلاء وكانت قبل منزلة ... للملك منها لوفد العز مرتبع
فلا مجيب يرد القول عن نبأ ... ولا سميع إذا ناديت يستمع
كانت منازل أملاك إذا صدعوا ... بالأمر كادت قلوب الناس تنصدع
عاثوا بها حقبة حتى إذا نهضت ... طير الحوادث من أوكارها وقعوا
لو أنهم علموا مقدار ما فغرت ... يد الحوادث ما شادوا ولا رفعوا
دارت عليهم رحى الأيام فإنشعبوا ... أيدي سبا وتخلت عنهم الشيع
كانت لهم عصب يستدفعون بها ... كيد العدو فما ضروا ولا نفعوا
أين المعاقل بل أين الجحافل بل ... أين المناصل والخطية الشرع؟
لا شيء يدفع كيد الدهر إن عصفت ... أحداثه أو بقي من شر ما يقع(1025/12)
زالوا فما بكت الدنيا لفرقتهم ... ولا تعطلت الأعياد والجمع
والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر ... وإنما صفوه بين الورى لمع
لو كان للمرء فكر في عواقبه ... ما شاب أخلاقه حرص ولا طمع
وكيف يدرك ما في الغيب من حدث ... من لم يزل بغرور العيش ينخدع
دهر يغر وآمال تسر وأع ... مار تمر وأيام لها خدع
يسعى الفتى لأمور قد تضربه ... وليس يعلم ما يأتي وما يدع
يا أيها السادر المزور من صلف ... مهلاً فإنك بالأيام منخدع
دع ما يريب وخذ فيما خلقت له ... لعل قلبك بالإيمان ينتفع
إن الحياة لثوب سوف تخلعه ... وكل ثوب إذا ما رث ينخلع
وظل البارودي بعد عودته من المنفى في عزلة عن الناس، لا يجتمع إلا بالصفوة المختارة من الأدباء والشعراء والحافظين لعهده، إلى أن أدركته الوفاة سنة 1904، فخلف مجداً لا يبلى على الزمان.
عبد الرحمن الرافعي(1025/13)
غرارة ملقاة
للأستاذ محمود محمد شاكر
إليك عني، أيتها النفس، فإنا وأنت كما قال عبيد ابن الأبرص:
إذا أنت حملت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شر مسند
وقد أبيت على أن أكتب ما كنت أريد، لأنك أردت أن تكوني لي غير عهدي بك منذ ساعات قلائل، فدعيني أحدث عنك بما أسررت من مضمر أو مكنون.
ما كدت أجلس إلى مكتبي حتى تبعثرت خواطري، وتهاربت مني أفكاري، وانتشرت على عزيمتي، وتفرقت عني إرادتي، وتطايرت في الآفاق سواكن نفسي، وغادرتني همتي، وكأني غرارة ملقاة على مدب الحياة.
وربما هجس في نفسي الهاجس، فما أكاد أقول: هذا هو! حتى أجدني على جناح أمر آخر، وإذا بينهما مسيرة ما بين مشرق الشمس ومغربها. فأين المفر! وكيف القرار! لا أين ولا كيف! بل ألتمس مذهباً لا غاية له، لعلي واجد فيه بعض ما أسري به حيرتي: أن أقيد ما يعن لي - أم ينبغي أن أقول: أن أقيد ما أعن أنا له - على عجل، وبلا ترتيب، وكما يتفق.
ولكن ما نفع هذا لك أنت أيها القارئ؟ هل يعنيك شيئاً أن تطلع على حيرة نفس في ساعة من حياتها؛ أم هل يجدي عليك أن تطلع؟ بل مالي ولك! أتراني أكتب لأنفعك؟ ما أسخف هذا! وماذا عندي مما تنتفع به؟ كيف أستطيع أن أدعي أني أنفع بالذي أكتب آلافاً من القراء مثلك؟ وأنى لي علم هذا السحر: أن أجمع في أسطر معدودات حاجة كل نفس؟ أو ليس من السخف، ومن الغرور أيضاً، أن يزعم امرؤ أنه يملك القدرة على نفع أحد، فضلاً عن آلاف؟ وما أملك إلا أن أصارحك بأني ما كتبت قط إلا لنفسي وحدها، ثم لا ألبث أن أعرض عليك ما أكتب - لا لأعلمك أو أنفعك، بل لتعرف كيف يفكر إنسان مثلك! وكيف يخطئ وكيف يصيب! وكيف يصدق وكيف يخون؟ فإذا كان ذلك كذلك فلا بأس عليك إذن، إذا تصفحتني في ساعة من شتاتي وحيرتي، كما تتصفحني في ساعة هدأتي وسكينتي.
كيف! هل يمكن هذا؟ هل يمكن أن يصبح الإنسان غزارة ملقاة على مدب الحياة، ثم هي إنسان يحس بالحياة وأحيائها يمرون عليه غادين أو رائحين. هذا واطئ يطؤه، وهذا مقتحم(1025/14)
يقتحمه، وهذا ذاهل عنه وفي عينيه نظرة المتأمل، وهذا متلفت إليه يرمقه كالمتعجب! وكلهم لا يبالي. وهو أيضاً لا يبالي أن يكون ما كان: غرارة ملقاة على مدب الحياة والأحياء.
ومادامت الغرارة الملقاة تحس بالحياة وأحيائها يمرون عليها غادين أو رائحين، أفليس هذا حسبها من الحياة وأحيائها؟ وما الحياة؟ هل الحياة إلا إحساس محض؟ إحساس بالألم، وإحساس باللذة. إحساس بالرضى، وإحساس بالسخط. إحساس بالجمال، وإحساس بالقبح. إحساس بالنور، وإحساس بالظلام. إحساس بالشبع، وإحساس بالجوع. إحساس بالحلو، وإحساس بالمر. إحساس بالشذا الطيب، وإحساس باللخن الكريه. إحساس مجرد مرهف نافذ لا يعوق نفاذه شيء. إحساس حر كشعاع الشمس.
أو هؤلاء الغادون والرائحون أعرق في حس الحياة من الغرارة الملقاة على مدبها؟ وما الحركة التي تسير بهم غادين أو رائحين؟ أهي تزيد الإحساس وتضاعفه، أم هي تنقص منه وتتحيفه؟ أو ليست الحركة شاغلاً يشغل عن تجريد الإحساس وإمحاض للمحسوس؟ وأيهما أنفذ: غرارة ملقاة يستغرق حسها نابض الحركات حتى تظل حية هامدة، أم غاد ورائح، تتخون الحركة من حسه حتى يكل مرهفه ويفل مضاؤه؟
بل كيف يستغرق الحس الحركة؟ يا عجباً كل العجب! أنه أمر لا يكاد يدركه إلا من مارسه في سريرة نفسه. لذة لا توصف، ولكنها تعقب أحياناً ألماً لا يستقر. لذة تتملى بها وحدك، وإذا هي تنسرب بك إلى جنة مونقة تدلت عليك بأثمارها. أما الألم، فهو الذي يلذعك إذا روعك عن استغراق حسك طارق لم تكن تتوقعه.
أجدني أحياناً في أمر والناس معي، ثم يستغرقني عنهم حس أنفرد به، وإذا أنا معهم ولست معهم. ثم ينبري سائل فيسألني عن شيء غير الذي أنا فيه، فإنتبه كالمذعور، ويختلط علي ما أنا فيه بما سئلت عنه. وعندئذ أرى كل شيء يفر مني كأني ما عرفته من قبل، ويأخذني ما قدم وما حدث، ويخرجني التنبه فسراً من استغراق الحس إلى حركة لم تتهيأ لها، وتتضارب على لساني كلمات لم أردها، وأقول ذاهلاً، ما لو تأنيت قليلاً حتى أستقر لما قلته. أنه قول منزعج عن حقيقته، لو اطمأن لاستقام على وجهه. فمن لي بمن يحس به، حتى يتفق حسي وحسه، ثم يقظتي ويقظته!(1025/15)
أمن الممكن حقاً أن تجعل إنساناً يحس بما تحس به؟ باطل محض. الحس عمل متصل لا ينقطع، بعضه يأتي في أعقاب بعض. أجل، ليس من الممكن أن تفرغ نفس إنسان من ماضي إحساسها، وتفرغ نفسك من سالف إحساسها، كي تبتدئا معاً، وتسيرا معاً إلى النهاية. هذا مستحيل. وإذا استحال، فيستحيل معه أيضاً أن تجعل إنسانا يحس بما تحس به. نعم قد يستقيم في بعض الكلام أن تقول لأخيك: (إني أحس بما تحس به) ولكنك تعني عندئذ أنك توجهت بإحساسك إلى شيء كان إحساسه قد توجه إليه. أما لو ظننت أن إحساسك به مثل إحساسه، فهذا باطل. وألفاظ اللغة تضلل من لا يتوقى مجاهلها
كل امرئ منا عالم وحده، لأنه يحس إحساساً واحداً لا يشركه فيه أحد من بني جلدته. وكل امرئ منا هو في أصل طبيعته يعيش في خلوة تامة - في غرفة مغلقة الأبواب. وإذا فسدت عليه هذه الخلوة، فسد إحساسه بالحياة وأحيائها. وإذن، فمن الإثم والعدوان، أن تحتال على أحد، متوهماً أنك قادر على أن تجعل إحساسه بالأشياء كإحساسك. إنك آثم لا محالة. إنك تفسده وتفسد عليه حياته. إنك تعنف به حتى يخرج من خلوة الفطرة من حرية الحس. نعم، بل أنت تتلذذ باستلحاقه في إحساسك، تتلذذ بخضوع سر حريته لسطوتك، تتلذذ بشعاً باستعباده!
باطل الأباطيل أن يحس جماعة من البشر بإحساس واحد. أنه خلط قبيح. أنه إذلال كل فرد لطاغوت مكذوب يقال له الجماعة. كل امرئ منا له حس منفرد، يجرد للإحساس لشيء واحد، هو ما انطوت عليه هذه الحياة الدنيا، كما فطرها فاطر السموات والأرض ومن فيهن. والذي يجمع البشر في هذه الحياة، هو هذه القضية المركبة: حس ينفرد به كل امرئ منهم، يتجرد للإحساس بعالم واحد يتعايشون فيه. العالم الواحد هو الذي يربطهم، لا تطابق إحساسهم تطابقاً تاماً أو غير تام
والإنسان ليس مدنياً بالطبع، كما يزعمون، بل هو مدني بالضرورة. والضرورة هي هذا العالم الواحد الذي نعيش فيه، والذي لا فكاك منه إلا بحسام المنية. هذا العالم الذي يأسرنا، هو وحده الذي يربط بيننا، وهو وحده الذي يؤلف بين هذه الأحياء المحسة به، وكل حي منها منفرد بإحساسه، مستقل به وحده
لا يتطابق حسان بإحساس واحد أبداً، بل يتطابق حسان على الإحساس بشيء واحد ولا(1025/16)
مفر. وهما قضيتان مختلفتان في أصلهما، مختلفان في نتيجتهما
أنبل جهدك أن توقظ إنساناً حتى يحس، وسبيلك أن تفطن إلى شيء واحد: هو أنك أحسست بهذا الشيء أو ذاك. فإذا فطن له وتهيأ أن يحس به، فذلك حسبك وناهيك. غايات الغايات: أن توقظ حسه لكي يحس. والذي لا ريب فيه، أنه سيحس بغير الذي أحسست. هذا غاية جهد أعلم العلماء وأبلغ الأنبياء، وهو الأمانة التي كتب عليه أن يؤديها بما آتاه الله من علم وبيان. فإذا جاوز هذا إلى أن يحتال عليك ويختلك ويماسحك، ثم يتلصص إلى خلوتك ليضع فيك إحساسه، لكي تبلغا (اتحاد الإحساس) فاعلم أنه لم يزد على أن أفسدك وشوهك. فأحذره. أنه يستعبدك! أنه يميت إحساسك! أنه يتركك تقلد الحس وأنت لا تحس، كالببغاء تقلد الكلام وهي لا تتكلم!
هذا إثم يرتكبه كثير من الجماعات ومن أصحاب المذاهب. يزعمون إصلاح الناس، وحقيقة فعلهم تخريب الناس، وإماتة الإحساس الحي، واستعباد الحس الحر المنفرد في كل نفس. أنه تدمير الفطرة في سبيل الجماعة، أو في سبيل المذهب، أو في سبيل الدولة! حذار من فتك هؤلاء الفتاك، وإن جاءوك في ثياب النساك.
صورة الإنسان واحدة، مذ كان الناس على الأرض. الآلاف بعد الآلاف منذ أقدم الدهر. بنية واحدة بها يعرف الجنس أنه (إنسان)، ولكنهم متباينون، فلا يتشابه إنسانان أبداً. وكذلك الحس أصل واحد في كل إنسان، ولكن يتباين الحس، فلا يتشابه حسان أبداً، ولا يتطابق إحساسان البتة.
لا حيلة لأحد حتى يستطيع أن يدمج إنساناً في إنسان ولو رام ذلك أحد لدمرهما جميعاً. أما الحس، فبالختل يتطابق، وبالخداع يندمج. ختل هو القسر، وخداع هو الاعتساف. ولا يتم ذلك إلا بتشويه الحس وتدميره. والذي هون على الناس أمر هذا التشويه والتدمير، هو أن من الممكن أن يعيش المرء حياته بحس مدمر خرب، وإن كان مستحيلاً أن يعيش بصورة مدمرة خربة.
ومن هوانه على الناس، أن يفعله غير متحرج أكثر الآباء والأمهات، وأكثر المعاهد والمدارس، وأكثر الجماعات والمذاهب والدول. يدمرون حس الإنسان بالختل والخديعة، حين يزعمون إصلاح الناس بتطابق إحساسهم واندماجه. يدمرون الحس لأنه باطن، ولأنه(1025/17)
لا قوام له يحول بينهم وبينه، كما يحول قوام صورة الإنسان الظاهرة بينهم وبين ما فعلوه في شقيقها وقرينها.
الحياة إحساس محض، والحس حر مطلق، فأيما مذهب أو جماعة أو دولة، حاولت أن تدمج بالختل حساً في حس، وأن تطابق بالخديعة إحساساً في إحساس، فلا غاية لها إلا استعباد أحرار الحياة، وتدمير سر النشأة وتخريب بنيان الله بأحسن الأسلحة: بالكذب والمكر والتغرير والختل والخديعة والعبث. إنهم يريدون أن يجعلوا المذهب أو الجماعة أو الدولة، طاغوتاً يعبده المضللون داعين متضرعين (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
أليس هذا بحسبك بعد الذي أفضت فيه. وقد عرضت لك جانباً من خواطر نفس حائرة تتصفحها، فتفكر وتدبر، وأحذر ما يقول القائل.
فبينما الأمر تزجيه أصاغره ... إذ شمرت فحمة شهباء تستعر
تعي على من يداويها مكايدها ... عمياء، ليس لها شمس ولا قمر
محمود محمد شاكر(1025/18)
ثلاثة حوادث من التاريخ الإسلامي ساعدت على نمو
العربية وانتشارها
للأستاذ عبد الحميد العبادي
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
نظرت في حوادث التاريخ الإسلامي فوجدت أن ثلاثة منها كانت ذات تأثير عميق بعيد المدى في نمو اللغة العربية وانتشارها العظيم. أول هذه الحوادث تعريب الدواوين على عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65هـ 86هـ). الثاني أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز (99 - 101هـ) بتدوين الحديث النبوي. الثالث أمر الخليفة المأمون العباسي (198 - 218هـ) بنقل كتب الفلسفة من اليونانية إلى العربية. وسأتكلم على هذه الأحداث واحداً واحداً، مبيناً الباعث عليه، وكيف تم، وأثره في نمو اللغة العربية وانتشارها. ثم أختم كلامي بالمقارنة بين ما حصل منذ أكثر من ألف سنة وما هو حاصل بالفعل بالإضافة إلى نهضة العربية في عصرنا الحاضر.
إن نظام الديوان نظام مستحدث في الدولة الإسلامية ظهر في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما توالت الفتوح وتدفقت الأموال من الأقطار المفتوحة، فاقتضت الحال اتخاذ نظام لتقييد أسماء المقاتلة وقبائلهم ومبالغ أعطياتهم، فاستشار عمر ذوي الرأي على عادته في كل أمر حازب وحدث مهم، فأشاروا عليه بوضع الديوان.
و (الديوان) كما جاء في دائرة المعارف الإسلامية لفظ إيراني الأصل له صلة بكلمة (دبير) ومعناها (الكاتب). وقد أطلق في أيام الفتوح العربية على السجلات التي كانت تشتمل على حساب أموال الدولة، ثم أصبح يضاف في العصر العباسي إلى كل فرع من فروع الإدارة العباسية، فقالوا ديوان الزمام وديوان التوقيع وهكذا.
ولقد كون عمر لجنة لتدوين أسماء الجند وبيان أنسابهم وأعطياتهم على نظام اتفق عليه وفصله الماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) فكان من ذلك الديوان المعروف بديوان الجيش. وهو أول ديوان وضع في الدولة الإسلامية وكان يحرر بالعربية من أول أمره. ثم تلاه ديوان آخر هو ديوان المال والجباية، وكان مقر دواوين الأموال في عواصم الأقطار(1025/19)
المفتوحة. وكانت تسجل فيها أسماء القرى ومساحاتها ومقادير ارتفاعها وتوزيع ذلك على هيئة جزية أو خراج. وكان هذا الديوان يكتب في كل قطر بلغة أهله أو لغة الدولة التي كانت لها السيادة عليه قبل الفتح الإسلامي فكان ديوان العراق وفارس يكتب بالفارسية، وديوان الشام بالرومية، وديوان مصر بالرومية والقبطية. وكان يتولى شئون هذه الدواوين عمال من أهل الإقليم، فكان عمال ديوان العراق من موالي الفرس، وعمال ديوان الشام من الروم، وعمال ديوان مصر من الروم والقبط.
وقد ظلت دواوين المال والجباية تكتب في الأقطار المفتوحة باللغات الأجنبية المذكورة يتولاها عمال من موالي الفرس والروم والقبط حتى كان زمن عبد الملك بن مروان. وكانت العربية قد انتشرت بين الأعاجم وحذفها قوم منهم إلى جانب لغاتهم الأصلية. ثم أن الدولة الأموية قد أصبحت راجحة النفوذ في الميزان الدولي؛ هذا إلى عصبيتها الشديدة لكل ما هو عربي، فلم يكن من الطبيعي أن تظل دواوينها تكتب بغير العربية. واتجهت سياسة عبد الملك إلى تعريب إدارة الدولة، وبدأ بالعملة فضربها عربية بعد أن كانت رومية وفارسية. قال البلاذري بإسناده أن عبد الملك أول من ضرب الذهب بعهد عام الجماعة أي سنة 74. وضرب الحجاج الدراهم آخر سنة 75 ثم أمر بضربها في جميع النواحي سنة 76هـ.) ثم اتجهت عزيمة عبد الملك وعامله الحجاج إلى تعريب الدواوين.
يروي البلاذري نقلاً عن المدائني عن أشياخه في بيان السبب الذي من أجله نقل ديوان العراق فيقول (قالوا لم يزل ديوان خراج السواد وسائر العراق بالفارسية، فلما ولى الحجاج العراق استكتب زادان فروخ ابن بيري، وكان معه صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم يخط بين يديه بالفارسية والعربية. . . فوصل زادان فروخ صالحاً بالحجاج وخف على قلبه، فقال له ذات يوم إنك سببي إلى الأمير وأراه قد استخفني، ولا آمن أن يقدمني عليك وأن تسقط. فقال لا تظن ذلك! هو أحوج إلي منه إليك؛ لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري. فقال والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحولته. قال فحول منه شطراً حتى أرى، ففعل، فقال له تمارض! فتمارض، فبعث إليه الحجاج طبيبه، فلم ير به علة. وبلغ زادان فروخ ذلك فأمره أن يظهر. ثم إن زادان فروخ قتل في أيام عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث الكندي. . . فاستكتب الحجاج صالحاً مكانه فأعلمه الذي كان جرى بينه(1025/20)
وبين زادان فروخ في نقل الديوان، فعزم الحجاج على أن يجعل الديوان بالعربية وقلد ذلك صالحاً. فقال له مراد نشاه بن زادان فروخ: كيف تصنع بدهويه وشيشويه؟ قال اكتب عشر ونصف عشر! قال فكيف تصنع بويد؟ قال: اكتبه (وأيضاً) والويد النيف والزيادة تزاد. فقال: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية! وبذلت له الفرس مائة ألف درهم على أن يظهر العجز عن نقل الديوان ويمسك عن ذلك، فأبى ونقله. فكان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد يقول لله در صالح! ما أعظم منته على الكتاب!). ويقال إن الحجاج أجل صالحاً أجلاً حتى قلب الديوان).
هذا عن نقل ديوان العراق وفارس. أما ديوان الشام فيروي البلاذري أيضاً سبب نقله فيقول (قالوا ولم يزل ديوان الشام بالرومية حتى ولى عبد الملك بن مروان. فلما كانت سنة 81هـ أمر بنقله، وذلك أن رجلاً من كتاب الروم احتاج أن يكتب شيئاً فلم يجد ماء فبال في الدواة، فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه، وأمر سليمان بن سعد بنقل الديوان، فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة، ففعل ذلك وولاه الأردن. فلم تنقض السنة حتى فرغ من نقله وأتى به عبد الملك، فدعا بسرجون كاتبه، فعرض ذلك عليه، فغمه، وخرج من عنده كئيباً، فلقيه قوم من كتاب الروم، فقال: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة! فقد قطعها الله عنكم! قال وكانت وظيفة الأردن التي قطعها له معونة مائة ألف وثمانين ألف دينار).
أما ديوان مصر فيقول الكندي في كتاب (القضاة والولاة) في أمر نقله (وبويع الوليد بن عبد الملك. . . فأقر أخاه عبد الله على صلاة مصر وخراجها وأمره بالدواوين فنسخت بالعربية، وكانت قبل ذلك تكتب بالقبطية، وصرف عبد الله بن أشناس عن الديوان وجعل عليه ابن يربوع الغزاري من أهل حمص)
ومهما يكن ما ترويه المصادر القديمة من أسباب مباشرة لتعريب الدواوين فالذي لا شك فيه أن عبد الملك وابنه الوليد وعاملهما الحجاج كانوا شديدي العصبية لكل ما هو عربي، وأن الدولة قد اتجهت إلى تعريب إدارتها كما قدمنا، استكمالاً لمظاهرة سيداتها وتوفير لكرامتها.
ولقد ترتب على هذا الحادث التاريخي الهام عدة أمور خطيرة: -
فالعربية الفصحى أفادت ألفاظاً جديدة كثيرة كما يؤخذ من ترجمة دهوية وشيشوية وويد، فهي مثال لما حصل، بالفعل على نطاق واسع. وظهرت في العربية ألفاظ كثيرة إما معربة(1025/21)
أو منقولة عن أصولها الأعجمية المستعملة في الحساب والمساحة والزراعة والتجارة والصناعة مما لم يكن للعرب عهد به من قبل.
ثم إن الأعاجم مسلمين أو غير مسلمين أقبلوا على تعلم العربية، بعامل المصلحة الذاتية، وذلك للانتظام في أعمال الكتابة والخراج وما يتصل بهما، ولسهولة التقاضي في المنازعات التي كان ينظر فيها قضاة من العرب بطبيعة الحال. وبذلك لم يكد ينصرم القرن الأول الهجري حتى كانت العربية قد عمت أهل فارس والعراق والشام ومصر وغلبت الفارسية والرومية والقبطية على أمرها فأخذت هذه تتضاءل وتضمحل حتى صارت إلى الزوال أو ما يقرب من الزوال.
وبانتشار العربية بين الأعاجم واضمحلال اللغات الأجنبية ثم ذهابها ظهرت في الأقطار المفتوحة لهجات عربية شعبية تبين لنا المصرية منها خاصة مجموعات البردي التي كشفت في مصر والتي تصاحب تاريخ مصر الإسلامي من أول الفتح العربي إلى القرن السادس.
تشتمل هذه الوثائق النفيسة على رسائل صادرة عن ولاة مصر مثل قرة بن شريك وغيره وبعض المثقفين من العرب ومكتوبة بلغة صحيحة فصيحة، كما تشتمل على عدد عظيم من وثائق المبايعات والمداينات، وعقود الزواج والتمليك والشئون اليومية؛ وهذه مكتوبة بلغة شعبية مباينة للفصحى وفيها كثير من خصائص العامية المصرية الحاضرة، من ذلك إبدال الضاد من الظاء في (إحفض) بدلاً من (إحفظ) وإسقاط الهمزة رسماً ونطقاً وإسقاطاً يكاد يكون مطرداً فيقال (ويضاً) بدلاً من (وأيضاً) و (وحد عشر) بدلاً من (أحد عشر) وعدم المبالاة بالإعراب فيقال (اثنين) حيث يجب أن يقال (اثنان) وهلم جرا. وقد نشر جانباً من هذه البرديات المحفوظة بدار الكتب المصرية الأستاذ المستشرق أودلف جروهمان النمسوي في ثلاثة أسفار كبار طبعتها دار الكتب قبل الحرب الأخيرة كما وضع جنابه حديثاً كتاباً قيماً في هذا الموضوع أسماه (من عالم البرديات العربية) وقد نشرته جمعية الدراسات التاريخية المصرية.
وأهم النتائج التي ترتبت على تعريب الدواوين من حيث مستقبل الثقافة الإسلامية أن أصبحت اللغة العربية الأداة الوحيدة للتخاطب لتتبادل الآراء والأفكار في العالم الإسلامي(1025/22)
الذي كان يمتد إذ ذاك من حدود الهند والصين إلى سواحل المحيط الأطلسي.
هذا، عن تعريب الدواوين وما ترتب عليه من الآثار. أما تدوين الحديث النبوي فالمعروف أنهم كانوا طوال القرن الأول يكرهون كتابة الحديث حتى لا يكون إلى جانب القرآن الكريم كتاب آخر يشغل المسلمين عن تلاوته وتدبر معانيه؛ بيد أن هذا التحرج لم يمنع نفراً من الصحابة والتابعين أن يكتبوا مجموعات من الأحاديث لأنفسهم خاصة لا بقصد النشر والتداول. فلما ظهرت أحاديث لا يعرفها أعلام الصحابة والتابعين قوى الاتجاه إلى تدوين الأحاديث الصحاح يروي الخطيب البغدادي في كتاب (تقييد العلم) أن ابن شهاب الزهري قال لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق تنكرها ولا تعرفها ما كتبت حديثاً، ولا أذنت في كتابته. فلما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز أمر ابن شهاب الزهري بجمع السنة وكتابتها. وعن إبراهيم بن سعد قال (أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً). ثم استفاض تأليف الكتب في الحديث بعد ذلك حتى كانت الكتب السنة المشهورة.
والذي نخصه بالملاحظة من هذه المظاهرة العظيمة أن الأحاديث سواء كانت مروية باللفظ أو بالمعنى، هي في طبقة عالية من البلاغة فأفادت اللغة من تدوينها نموذجاً للعبارة البليغة مكن للفصحى بعد المنزلة التي بلغتها بالقرآن الكريم أي تمكين. وإن حرص المسلمين في كل عصورهم على هذين المصدرين الأقدسين وبالغ عنايتهم بهما أقام الفصحى على أساس راسخ لا يتطرق إليه وهن ما دام في الأرض مسلمون وإسلام.
ثم إن الأحاديث المروية عن الرسول العربي تعتبر المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ومن ثم وضعت كتب في الحديث مرتبة على أبواب الفقه كموطأ الإمام مالك وصحيح البخاري فكان منها مادة عظيمة غذت لغة الفقه الإسلامي وعلوم الحديث وانبعثت فيها تغييرات ومصطلحات يعرفها من يطلع على الكتب المؤلفة في هذين العلمين الجليلين.
ثم انتقل، إلى الحادث الثالث وهو أمر المأمون بنقل كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية، فأقول لما فتح العرب بلاد الشام والعراق مصر وجدوا في أمهات مدنها مدارس للسريان والفرس والقبط تدرس بها العلوم القديمة وخاصة علوم اليونان وكانت هذه العلوم قد نقلت إلى السريانية في الشام والعراق رغبة من النساطرة واليعاقبة في درسها بلغتهم مبالغة منهم(1025/23)
في مقاطعة اللغة اليونانية، لغة الكنيسة البيزنطية التي انفصلوا عنها من الناحية الدينية. وكان أكثر ما يدرس في هذه المدارس الفلسفة اليونانية وخاصة المنطق وما وراء الطبيعة ثم الطب والنجوم والكيمياء. وقد نقلوا كذلك كتباً عدة في الرياضيات وغيرها عن الفارسية والهندية والقبطية والنبطية
واستمرت هذه الحال في العصر الأموي وأخذ المسلمون يتصلون شيئاً فشيئاً بهذا الجو العلمي الذي كان يسود الشرق الأدنى يفضل مدارس الإسكندرية وأنطاكية وقيصرية ونصيبين والرها وجند يسابور حتى رووا أن الأمير خالد بن يزيد بن معاوية درس الكيمياء على راهب إسكندري اسمه ماريانوس وأنه ألف في الكيمياء ثلاث رسائل. فلما كان زمن العباسيين الأوائل ازداد إقبال المسلمين على دراسة هذه العلوم، وكان للخليفة المنصور ولع خاص بالطب والنجوم فترجمت له كتب في هذين العلمين عن السريانية. وكان للبرامكة أثر كذلك في تشجيع النقل عن السريانية والفارسية، فلما جاء المأمون وكان ميالاً بطبعه إلى البحث الفلسفي وآراء المعتزلة كالقول بخلق القرآن وغيره من مسائلهم، فقد سلك مسلكاً جديداً بالمرة، إذ أنشأ في بغداد (بيت الحكمة) للدرس والبحث. والظاهر أنه حذا بيت الحكمة هذا على مثال مدارس السريان التي أشرت إليها، ثم أنه أحب أن تنقل كتب الفلسفة الإغريقية عن اليونانية رأساً دون وساطة لغة أخرى كالسريانية وغيرها.
ويروي ابن النديم في (الفهرست) السبب الذي بعث المأمون على ذلك وهو أن المأمون رأى في منامه أرسطوطاليس وسأله بعض الأسئلة، فلما نهض من نومه طلب ترجمة كتبه، فكتب إلى ملك الروم يسأله الأذن في إنفاذ ما يختار من الكتب القديمة المدخرة ببلد الروم، فأجابه إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق، وسلم (صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل. ثم أنه جعل يحرض الناس على قراءة تلك الكتب؛ ويرغبهم في تعلمها كما يذكر ابن العبري في كتابه مختصر تاريخ الدول
واقتدى بالمأمون كثير من رجال الدولة وجماعة من أهل الوجاهة والثروة في بغداد، فتقاطر إليها المترجمون من أنحاء جزيرة العراق والشام وفارس وفيهم النساطرة واليعاقبة والصائبة والمجوس والروم والبراهمة يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية(1025/24)
والهندية والنبطية واللاتينية وغيرها. وأقبل الناس على الاطلاع والبحث أيما إقبال. وقد ظلت الحال على ذلك حتى أنه لم يكد ينتهي القرن الرابع حتى كان قد تم نقل أهم كتب القدماء إلى العربية.
ولقد كان أثر هذا النقل الواسع المدى عظيماً بالإضافة إلى اللغة العربية فقد نقل المترجمون مئات الألفاظ الفلسفية والطبية والكيميائية والرياضية وغيرها إلى اللغة العربية، مترجمين بعضها إلى ما يقابله في العربية وناقلين بعضها بلفظه مما جعل من علماء اللغة على أن يخصوه بتأليف خاصة مثل كتاب (المعرب والدخيل) للجواليقي. ومهما يكن من شيء فقد كسبت اللغة العربية مادة غزيرة وفيرة مكنت النحاة والمتكلمين والفلاسفة الإسلاميين من خوض مسائل علومهم المختلفة بلغة مواتية وألفاظ دالة على المعاني التي يريدون التعبير عنها.
وبعد فإنا إذا اعتبرنا ما أداه تعريب الدواوين إلى اللغة العربية في مجال المصطلحات الإدارية المالية، وما أنتجه تدوين الحديث في مجال السنة والفقه، وما أثمره نقل كتب الفلسفة والطب والرياضة والكيمياء في ميدان العلوم العقلية والطبيعية فإنا نجد أن اللغة العربية قد أصبحت في القرن الرابع بحراً خضماً مما اقتضى وضع معاجم تجمع مادتها وتشرح معاني مفرداتها. وهذا كله بفضل ما في هذه اللغة نفسها من قوة وحيوية عجيبة، ثم بفضل السياسة التي انتهجتها الدولة بأزائها على النحو الذي بيناه.
وأخيراً أختم كلمتي فأقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، فبعد مضي أكثر من ألف سنة عادت اللغة العربية إلى شبه الحال التي كانت عليها في أزهى عصور الإسلام. لقد عربت دواويننا بعد أن كانت بلغات أجنبية بين تركية وفرنسية وإنجليزية، ثم هاهي ذي حركة نقل قوية عن اللغات الأوربية في مختلف العلوم والفنون والآداب يقوم مجمعنا الموقر على توفير المصطلحات العربية اللازمة لإنجاحها. وكما كانت العربية أداة التفاهم وتبادل الرأي والفكر في الدولة الإسلامية القديمة، فإنها بسبيل أن تصبح كذلك في عالم شرقي حديث يمتد من أقاصي إندونيسيا إلى مراكش. وهو لعمري أوسع وأشمل من العالم الإسلامي القديم. ولكن هذا معناه تزايد العبء الملقى على أبناء العروبة وحماة لغة الضاد، وأخص منهم بالذكر رجال مجمعنا الموقر، أن الآمال المعقودة عليهم في جعل العربية تنهض في(1025/25)
المستقبل القريب نهضتها في الماضي البعيد لآمال قوية لا يعرف اليأس إليها سبيلاً. فإذا ما تحققت هذه الآمال وهي متحققة بإذن الله فسيكون للعربية شأن أي شأن في نشر الثقافة العليا في القارتين الآسيوية والأفريقية والله ولي التوفيق.
عبد الحميد العبادي(1025/26)
من وحي الثورة وأهدافها
الفرد وقيمته في المجتمع المصري
للأستاذ محمود الشرقاوي
أمران هما اللذان حركا فكري لأن أتناول بالكتابة هذا الموضوع. وكلا الأمرين من وحي الثورة المباركة، كما أعتقد أن الغاية التي يحققها هذان الأمران وأمثالهما، هي من أهداف ثورتنا، أو يجب أن تكون من أهدافها.
أول الأمرين ما سمعته أذناي، عرضاً، وأنا أسير إلى جوار رجلين من عامة الشعب. فقد سمعت أحدهما يقول لصاحبه: الآن لا كبير ولا صغير، ولا سيد ولا عبد، فيجب أن تطلب حقك، وتشكو ظلمك، وأنت مطمئن شجاع. وقد أحسست في نفسي شعوراً بالعزة، والرضى إذ أجد هذا الإحساس الذي هو وليد الثورة بلا شك، في قلوب المهضومين من أبناء الوطن.
ولكني وددت لو أستطيع أن أقول لهذين المتحدثين وأمثالهما من الناس، أنه لا يوجد الآن سيد ولا عبد حقاً، ولكن يوجد ويجب أن يوجد دائماً، كبير وصغير، فهذه هي الحياة. وهكذا خلق الله الناس. ولكنه أمرهم أيضاً أن يرعى كل حق أخيه. فحق الصغير على الكبير البر والمودة والمواساة. وحق الكبير على الصغير، العرفان، والمحبة.
أما ثاني الأمرين، فهو ذلك الخطاب الذي قرأته، عرضاً أيضاً، والذي ترسله الهيئة المشرفة على توزيع معونة الشتاء.
فقد جاءت إلى امرأة فقيرة، معدمة، عمياء. تمد يدها تحمل ورقة. وعلى وجهها الأسود البائس شيء من أمل وشيء من سرور. وقرأت ما احتوته هذه الورقة من سطور فإذا هي قليلة الكلمات، ولكنها تحمل من الدلالات، والمعاني ما ليس بالقليل. وما بلل عيني بالدمع، بعد أن تلوثه.
كان كتاباً جاءها من المشرفين على توزيع هذه المعونة يطلب إليها أن تذهب إليهم في مقرهم. وليس في هذا كله شيء جديد، ولا أمر يستحق أن يكتب فيه. ولكن صيغة الكتاب هي التي تحمل من المعاني والدلالات، كما قلت، شيئاً كثيراً. فهي تدعوها، وأندادها من الفقراء، الذين لم يكن يدعوهم أحد، (بالمواطن). وهي، أي لجنة الإشراف على التوزيع، (تتشرف) بدعوتها فقط، وفي ذلك من الرقة، وحسن اللياقة، والأدب في الخطاب، ومراعاة(1025/27)
الشعور الإنساني ما فيه، وما ليس يخفى. ثم يوقع الخطاب، بعد هذه الصيغة المهذبة الرفيعة باسم اللواء أركان حرب محمد نجيب.
فهؤلاء القوم الذين طحنهم البؤس، والحرمان واليأس، والذين لم يكن يذكرهم أحد إلا بالسخط، ولا يخاطبهم أحد إلا بالزراية، يوجه إليهم مثل هذا الخطاب الذي يفيض أدباً، ورقة، وحناناً، ورعاية من رئيس الحكومة، وقائد الجيش الذي أحدث أعظم انقلاب في تاريخ مصر كله!
ذلك شيء جديد لم يروه من قبل، ولم يكن يخطر بأحلامهم. ثم هم بعد هذه الدعوة المهذبة يذهبون فيجدون من بر إخوانهم ما يكسوهم من عري، ويغنيهم عن سؤال، ويجدون أن ما أخذوه ليس صدقة ولا منة، بل هو حق الفقير عند القادر.
وهذا شعور جديد عند الحاكم لم يألفه وطننا مغزاه أن كل (مواطن) أخ كريم له من العزة والكرامة والحقوق ما لكل أخ قبل أخيه مهما يكن هذا المواطن فقيراً بائساً محروماً.
وهل قامت هذه الثورة البارة الخيرة إلا ليسعد بها الفقير، والبائس، والمحروم؟
ولست أعتقد أن هذا الأسلوب المهذب في خطاب الفقراء كان أدباً في الخطاب فحسب، بل أحب أن أعتقد أنه يبطن وراء هذا الأدب غاية أخرى هي إشعار الفرد بقيمته الذاتية وكرامته الإنسانية التي هي حق كل مواطن، والتي هي الركن الأول لكرامة الوطن والجماعة، فلن تكون جماعة كريمة عزيزة إلا وأساسها فرد كريم عزيز، ولن يكون وطن كريم عزيز إلا وأساسها فرد كريم عزيز، ولن يكون وطن كريم عزيز إلا وأساسه ولبناته أفراد كرام على نفوسهم أعزاء عند مواطنيهم.
والقيمة الذاتية للفرد هي أيضاً، أساس الحكم الديمقراطي المستقيم النظيف المنتج؛ فعلى قدر الإحساس الذاتي بالكرامة يكون الحرص على الحقوق الخاصة للفرد، والحقوق العامة للجماعة.
ولن تجد إنساناً يشعر بقيمته الذاتية وكرامته ثم يرضى بحكم فاسد أو جائر يظلمه أو تحكم به جماعته، أو يخضع له وطنه، والذي يعرف لنفسه قدرها يحرص عادة على أن يعرف أقدار الآخرين فلا يظلمهم، ولا يرضى بما يقع عليهم من ظلم غيره.
ولن تجد إنساناً يشعر بقيمته الذاتية وكرامته ثم يرضى بأن يكون عاطلاً أو ضعيف(1025/28)
الإنتاج، ولا أن يعيش في الحياة على مستوى مادي أو ثقافي يأباه لنفسه الرجل الكريم.
فالقيمة الفردية لكل إنسان، هي الأساس الأول لكل إصلاح، وخير، ونهضة متينة البنيان، والأساس الأول لبناء الوطن الحر القوي الكريم.
وقد قرأت في الأيام الأولى لهذه الثورة أن القائد الرئيس محمد نجيب لاحظ وهو يسلم على أحد الأفراد أنه ينحني، ويخفض رأسه، فهز يده وهو يقول: ارفع رأسك، وانظر في عيني فقد مضى زمن الخضوع.
وهذه هي الروح التي لا بد للثورة أن تنميها، وتزكيها في مجتمعنا المصري، والتي أعتقد أن كثيراً من قوانين الثورة كقانون إلغاء الرتب والألقاب، وقانون الإصلاح الزراعي، وكانت تهدف إليها، في ضمن ما تهدف.
كما أعتقد أن هيئة التحرير، التي تشمل فروعها بلادنا كلها الآن، ستجعل من أهم أهدافها تعزيز هذه الروح وإشعار الفرد بقيمته مع رعاية حق الآخرين.
وحبذا لو احتذت مصالح الحكومة في خطاب الأفراد حذو هذا الكتاب الذي أرسلته الهيئة المشرفة على معونة الشتاء إلى الفقراء، وخرجت عن أسلوب خطابها الذي يوحي بالاستعلاء، والتفرد.
وحبذا لو اهتدى موظفوها بهدي هذه الروح في معاملة أصحاب الحاجات من روادها.
محمود الشرقاوي(1025/29)
الإسلام والفن والحياة
للأستاذ منصور جاب الله
ما زال القلم ينازعني في التعقيب على نبأ طالعته في الصحف قبل أشهر، وما برحت أطامن نفاره وأرده عن جماحه حتى غلبني على أمري فكان هذا المقال!
وقصارى هذا النبأ أن (جمل المحمل) نفق، وليس في هذا شيء، فما كان نفوق حيوان ليسترعي الأذهان، ولكن بعض الصحف أبرز هذا الخبر في إطار مبالغة في الاهتمام به ولفت النظر إليه، إذن فليس الأمر أمر حيوان نفق وصار جيفة من الجيف، فلا بد أن للخبر وجهاً آخر يعادل هذا الوجوم المرتسم على كثير من الوجوه التي طالعها الخبر.
إن الذين قرءوا نبأ نفوق جمل المحمل، عرفوا من قبل أن (طلعة المحمل) قد ألغيت منذ هذا العام، وأن أهل القاهرة سوف يحرمون هذه (البدعة) التي جرت بها التقاليد منذ عهد (أم خليل المعتصمية) المشهورة في التاريخ باسم شجرة الدر، ومن ثم كان الحزن وكان الوجوم، وكان التساؤل: أي خير فات الأمة من بقاء المحمل؟ ومتى نهى الدين عن المحمل؟ وهل من الخير أن نقحم الدين في كل شأن من الشئون؟
وقبل عام وبعض عام كانت المعركة محتومة بيننا وبين الطغاة المحتلين على ضفاف القناة، وكنا نعبئ قوانا ونستنهض الهمم والعزائم، وإذا بشيخ جليل القدر كبير المكانة، يطلع علينا بمقال ضاف في إحدى الصحف بأن تقبيل زمام جمل المحمل حرام، وأن الدورات السبع لجمل المحمل لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وقرأنا هذا الكلام ونحن في قتام المعركة وقبل أن ينجلي عن الملحمة غبارها، نهد للشيخ الوقور من يقول له إن تقبيل زمام الجمل لا يعني إلا تمجيد المعنى الذي يعنيه سفر المحمل إلى البقاع القدسية وأن التقليد القائم على دورات المحمل السبع لا يعني إلا التمثل بالأشواط السبعة حول الكعبة المشرفة أو بالأشواط السبعة بين الصفا والمروة.
وكنت أحب أن أرد على الشيخ، وكانت النفس في سورة جامحة، ذلك أن إثارة ذلك الموضوع في هاتيك الأيام لم يكن يقصد به وجه الله، وإنما كان يراد به صرف الأذهان عن مجاهدة الأعداء.
واليوم أرجو أن أستميح القارئ عذراً إذا تحدثت في هذا الموضوع، فلقد كثر الحديث في(1025/30)
هذه الأيام حول ولاية علماء الدين في الإسلام وتعرض الأزهر الشريف لمحنة سوف يخرج مها إن شاء الله منصوراً مبجلاً من أهله ومن غير أهله.
ولقد قدمنا الحديث بجمل المحمل، ولا نريد أن نتزيد أو نحمل الألفاظ أكثر من معانيها؛ وإنا نقولها صريحة إن (المحمل) ليس من الدين، ولم يكن ثمة (محمل) في عهد رسول الله ولا في عهود الخلفاء الراشدين ولا ملوك الأمويين ولا العباسيين، وإنما ابتدع المحمل في نهاية الدولة الأيوبية، ليكون هو دجالا لشجرة الدر، ثم جرى به العرف والتقليد من ذلك العصر، فكانت قافلة تعبر القاهرة المعزية إلى السويس ثم تجتاز صحراء سيناء، والركب البقاع المقدسة التي ضمت بيت الله الحرام وقبر الرسول الأعظم عليه صلوات الله وقابر الصحابة والتابعين عليهم رضوان من الله أكبر.
فأي جلال هذا الجلال، وأي جمال هذا الجمال!
أبعد قرابة ألف عام يطلع علينا من يزعم أن المحمل (بدعة) في حين أن البدعة على ما فهمها الفقهاء (كل شيء ليس له أصل في الدين) وليس المحمل بمندرج تحت هذه البدعة، وإنما هو مظاهرة دينية فيها فن وفيها جمال، ولقد بصرت بعيني مواكب المحمل ورأيت الألوف من المشاهدين تموج عيونهم بالدمع، وهم يودعون ركب المحمل ويقبلون الكسوة وهي في طريقها إلى الكعبة أو إلى قبر الرسول، لقد رأيت الناس يذرفون الدمع الهتون شوقاً إلى البقاع المقدسة ويعاهدون الله أن يزوروها إذا مد لهم في الأجل، فإذا لم يكن للمحمل إلا هذه الفائدة، لكفاه فخراً، وهل بعد التشويق لزيارة البيت الحرام زيادة لمستزيد؟
وإني لأذكر الساعة أن ركب المحمل منع من السفر من مصر إلى الحجاز أحد عشر عاماً، ثم أذن له بالسفر عام 1937 وتواكب الناس لرؤيته من كل فج حتى عمرت القاهرة واكتظت جنباتها، وقيل إن عدد المشاهدين بلغ ألف ألف، وأذاع المسئولون عن النظام يومئذ أنه رغم هذا الجمع الهائل لم تحدث سرقة واحدة ولا حادث مخل بالآداب، أبعد هذا يقال إن المحمل (بدعة) لأنه لم يكن في عهد النبي ولا في عهد الخلفاء الراشدين!
لقد كان المحمل ضرباً من (الفن) قضينا عليه بأيدينا ليعلم غير أهل الآلام - بغير حق - أن الإسلام عدو للفن والتقاليد الصالحة، ولأننا صرنا إلى الحال من الفوضى الدينية لا يرضى عنها عدو ولا نصير، ولسنا نعرف والله ماذا يضير الإسلام في قواعده الخمس(1025/31)
التي لا يأتيها الباطل إذا بقيت التقاليد التي لا تمس الجوهر والتي فيها الجمال الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى (ولكم فيها جمال).
إن رجال الأديان الأخرى فهموا الدين على حقيقته الطبيعية، فجعلوا منه فناً وتزاويق وموسيقى تغري الناس باعتناقه ونحن في القرن العشرين نريد أن نجعل من الإسلام ديناً تجريدياً لا يفهمه إلا الفلاسفة، وهيهات أن يكون الناس كلهم فلاسفة.
فإذا رخم المؤذن صوته بالآذان وحلاه، قلنا هذه بدعة، وينبغي أن يكون الآذان خالياً من الطلاوة والحلاوة وأن يؤديه صاحبه بجلافة وكأنما يفجر قنبلة أو يلقى حجراً، وكأنما غاب عنا أن لحلاوة الصوت مدخلاً للآذان ومعبراً إلى الإيمان، ولقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري يرتل القرآن بصوت حنان فأعجبه الصوت الندي وأثنى على صاحبه بقوله (كأنما أوتيت مزماراً من مزامير داود) وهش أبو موسى لهذا الثناء وقال (والله يا رسول الله لو كنت أعلم أنك تستمع إلي لحبرته لك تحبيراً) أي لزاد في حلاوة الصوت وجمال الترتيل.
فهذا خاتم المرسلين قد قدر الفن وشجع أهل الفن وجئنا من بعده ندعو إلى غير ما يدعو، وصرنا نرمي كل ذي رأي بالابتداع أو الوثنية.
ولقد انصرف كثير من الوعاظ عندنا إلى التنفير من كل فن وغاب عنهم أن الإسلام مجد الفنون ودعا إلى الأخذ بها، وإنما نهى عن الشرك بالله، ودعا إلى إقامة دعائم الدين، وليس من الذين أن يقصر كثير م الشيوخ حديثهم حول الوسيلة والشفاعة، والقول بأن الصلاة على النبي بعد الآذان بدعة وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة بدعة.
وهنا أقف قليلاً لأرى في صيغة الصلاة على النبي بعد الأذان ضرباً جميلاً من فن النغم، وليس في المر بدعة وإنما هو شيء طبيعي، وليس لدي الساعة مرجع تاريخي يسعفني لأذكر الميقات الحقيقي لدخول هذه الصيغة المحببة على الآذان، وإن كنت أستبعد أنها وقعت في العهد الأيوبي كما ذكر بعض المؤرخين، وإنما أرجح أنها جاءت لعهد عمر بن عبد العزيز الذي استبعد سباب أهل البيت بعد الآذان.
كذلك أبعدنا الإسلام عن كل فن حين قلنا بهدم القبور والانصراف عن زيارة مقابر الأولياء، وزعمنا أن كل أولئك (بدعة) بل هو ضرب من الوثنية، في حين أننا نقرأ في السيرة(1025/32)
النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن وحيده إبراهيم سوى عليه بيده الشريفة ورش الماء وأعلم عليه بعلامة وقال (إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي).
ولما طاف عمر بن الخطاب بالكعبة في أول خلافته استلم الحجر الأسود وقال (اللهم إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) وورد في بعض المراجع أن ابن عباس شوهد يوماً - وهو في طريقه إلى الحج - راكباً ناقة يدور بها حول شجرة، ولما قيل له في ذلك أجاب بأنه رأى مرة ناقة الرسول عليه السلام تطوف بهذه الشجرة فأراد أن يتبرك بآثار ناقة الرسول.
وفي القرآن الكريم ما يدل على التبرك بآثار الصالحين في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً) (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا)
ونمضي في القول بأنه فضلاً عن التبرك بآثار الصالحين فإن في إقامة هذه المقابر ضرباً من الفن، لأن الأضرحة تشيد على أنماط خاصة وزخرفة خاصة تأخذ العين وتستهوي القلب وتدفع النفس إلى التذكرة، والاستشهاد بالحديث الشريف (لا يشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) لا ينفي على الإطلاق زيارة مساجد الأولياء؛ فكما أن المرء يشد رحاله لزيارة صديق أو قريب لا عليه أن يسافر ليصلي الجمعة في مسجد الإمام الحسين أو في مسجد السيد البدوي مثلاً.
ويجرنا هذا الحديث عن الإيمان التجريدي مرة أخرى ذلك الإيمان الذي لا يعرفه حق المعرفة إلا خاصة الخاصة ممن اصطفى الله، ولسنا نطالب عامة الناس بمثل هذا النوع السامي من الإيمان، فالناس يخاطبون على قدر عقولهم، وقد سأل النبي مرة جارية أعجمية (أين الله؟) فأشارت إلى السماء فعدها الرسول الكريم مسلمة.
ولقد كان الخليفة المأمون رجلاً فيلسوفاً يؤمن بالله إيماناً مجرداً، بيد أنه رزي في أخريات أيامه بصحبة القاضي أحمد بن أبي دؤاد فزين له أن يجعل رعاياه كلهم على شاكلته أي من المعتزلة، فأوقعهم في المنازلة الكبرى التي سودت تاريخه ولطختة، ونعني بها محنة خلق القرآن، ومات المأمون، وبلغت المحنة أقصى حدتها في عهد الخليفة المعتصم وكان رجلاً فظاً لا يعرف من الدين إلا أوليائه، ووقع بين براثنه الإمام العظيم أحمد ابن حنبل، وأبى(1025/33)
أن يقول بخلق القرآن، فلطمه على وجهه وأمر به فجلد حتى غشي عليه.
ولما جاء بعده الخليفة الواثق خفت حدة المحنة، حتى إذا تولى (المتوكل على الله) أمر برفع المحنة وقال بالرجوع إلى الكتاب والسنة؛ ولذا ذهب في الناس قولهم (الخلفاء ثلاثة: أبو بكر في حروب الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة).
ولم يكن الخليفة المتوكل في علم سلفه المأمون ولا في فقهه، بيد أنه أدرك من خلائق البشر ما لم يدركه المأمون؛ ذلك أن الدين سجية وفطرة وليس حكرة لأحد من العالمين، وليس لمسلم وصاية على مسلم ما دامت قواعد الإسلام الخمس الأصيلة مرعية الجانب، وليس لإنسان أن يقحم نفسه في دقائق الأمور وتفصيلاتها، ولقد ذهب العهد الذي يرمي فيه المسلم بالإلحاد أو الزيغ لأنه خالف فعل إمام من الأئمة أو تزيد أو ابتدع.
وما دمنا نتحدث عن صلة الإسلام بالفن والحياة، فلا علينا أن نعرج على رجل عظيم الشأن من علماء الدين ما زالت تعاليمه تحدث الفتنة وتجعل المسلمين يخبون فيها ويضيعون، ونعني به شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فأكبر الظن أن الرجل كان يبغي خير الأمة، وإن شذ في بعض الأمر حتى بدعه طائفة من علماء عصره من سبعة عشر وجهاً، وحتى اتهمه التقي السبكي بالزيغ من ثلاثة وجوه، نقول أنه كان رجلاً عظيماً لاشك في ذلك، قال ما اعتقد، ولا احسبني غالياً في القول إذا زعمت اليوم أن عظامه تضطرب في قبرها لما أحدثت تعاليمه التي تأولها المتأولون من الفتنة والفرقة؛ إذ قام من بعده الشوكاني وابن القيم الجوزية ولم يكن لهما علمه ولا فضله، فلجأ في الأمر وكفرا جماعة المسلمين، ثم تبع هذين محمد بن عبد الوهاب الذي بالغ في تكفير المسلمين ورفع حد السيف لمحاربة المسلمين بدعوى أنهم (كفار) وأسرف في هدم الأضرحة والقباب في نجد، ثم عدا أتباعه على الأرض المقدسة فهدموا أضرحة الصحابة الأمجاد وأزالوا القباب ذات الأثر الفني الرائع وكادوا يأتون على مسجد الرسول الأكبر لولا صرخة ارتفعت من ضمير العالم الإسلامي.
نستطيع أن نقول إن هؤلاء الناس فهموا الدين فهماً مجرداً لا فن فيه، فهو عندهم مجرد ركوع وسجود، وزكاة وحج وصوم ومعاملات، وأن المسلم عندهم ينبغي له أن يكون أداة صماء تنفذ التعاليم المكتوبة دون تصرف ولا مرونة، ودون مجاراة لروح العصر، ودون أخذ لما يقتضيه علم الاجتماع وطبائع البشر، فإذا لم يفعل المسلم هذا فهو ملحد وأي ملحد!(1025/34)
ومن هنا اتهموا أتباع الطرق الصوفية بالكفر في حين أن الطرق الصوفية كان لها فضل كبير على المسلمين في الحروب الصليبية وفي حروب المغول وفي وقعة عين جالوت بالذات، فإن العز بن عبد السلام الذي نفر المصريين للقتال لم يكن إلا شيخ طريقة. على أن هؤلاء معذورون فيما يرون؛ فعندهم أن أتباع الطرق الصوفية إن هم إلا حواة يروضون الثعابين ويأكلون الحديد ويلعبون بالنار، وغاب عنهم أن سوء استعمال الشيء ليس دليلاً على فساده، وإنما الفساد أن يرمي المؤمن البريء بالكفر، وأن يكون راميه على غير حجة أو بينة.
ونخلص من هذا الحديث إلى أن الإسلام ليس ديناً ودولة فحسب، كما يحلو لطائفة من جلة المؤمنين أن يقولوا، وإنما هو دين ودنيا، وعلم وفن، بل هو مرادف للحياة في ذاتها، الحياة في هذه الدار، وفي تلك الدار، وإن المتزمتين المتنطعين الذين يفهمون الإسلام على أنه تعاليم كتبها فقهاء طوتهم الأجيال، هؤلاء لم يعد لهم مكان في دنيا الإسلام، ولا في دولة الإسلام، ولا في دين الإسلام.
منصور جاب الله(1025/35)
العلل النحوية
للأستاذ علي العماري
بالرغم من الصيحات المتتابعة من العلماء القدامى والمحدثين بأن العلل النحوية لا غناء فيها ولا جدوى منها؛ وبالرغم من الشكوى الأليمة المرة من المتعلمين والمعلمين على السواء من تعقيد النحو العربي وصعوبته وكثرة الفضول فيه؛ بالرغم من ذلك كله فلا يزال بعض العلماء ينادي بأن النحو العربي خلق مبرأ من كل عيب وأن العلل النحوية بالذات - في هذه الكتب هي الذهب الأبريز. ولا يزال المشرفون على التعليم في المعاهد العلمية التي تدرس تلك الكتب القديمة بكل ما فيها. وواجب الطلاب والمعلمين أن يصبروا وأن يطيلوا الصبر على تجرع هذه الأدوية المريرة فإنها الشفاء الوحيد من داء الجهل. ويعلم الله أنها تزيد الداء شدة وبأساً، فكم في هذا النحو من فضول. هذه الأمثلة التافهة التي تحدثنا عنها في حديثنا الماضي وهذه الخلافات فيما لا يتصل بسلامة النطق كاختلافهم في إعراب الأسماء الخمسة هل هو من مكانين أو من مكان واحد، وكاختلافهم في إعراب المثنى وجمع المذكر السالم: هل الألف والواو والياء إعراب أو حروف إعراب أو دالة على الإعراب أو انقلابهما هو الإعراب؟ وهكذا من مثل هذه الخلافات التي لا يقصد منها أكثر من إطالة الجدل والتمرين على صناعة الأدلة؛ وهذه الخلافات ستكون موضوع حديثنا المقبل - إن شاء الله - وهذه العلل النحوية التي نحن بصدد الحديث عنها الآن، ما قيمتها؟ ما جدواها على العلم؟ ما مدى صحتها في نظر العقل والمنطق؟ هذه أسئلة يجيب عليها بعض علمائنا السابقين، يجيبون عليها في صراحة وصرامة بأنها تكثير في مواد الكتب ولا غير؛ ولكن بعض المؤلفين من علمائنا يؤمنون بأنها الزبدة والخلاصة ومدرسة النحو المتعيشون من تدريسه يقسمون بالطلاق والعتاق وكل محرجة من الأيمان أنها الركن في دراسة النحو، وأن الطالب إذا لم يحسنها فهو ليس بطالب! وكم لقينا من أساتذتنا في الامتحانات الشفوية من مشقة وإعنات في سبيل هذه العلل وتخريجها وتطبيقها، وكم لقي منا تلامذتنا فنحن نتفلسف أمامهم لنظهر قدرتنا وضعفهم: ونحن إذا عجزنا عن سؤال خالص سليم أغربنا عليهم بالسؤال عن العلة والقياس والدليل، وبذلك نرضى عن أنفسنا حين نرى تخبطهم أمامنا وضربهم في كل مذهب من القول والرأي.(1025/36)
هذا بعض علمائنا يعلق على بعض الفقرات من كتاب من الكتب القديمة التي تحدثت عن هذا الموضوع فيقول: اشتهرت هذه الكلمة عن أدلة النحو وعلله وهذه كلمة من لم يمارس العلم الجليل ممارسة الباحث المنقب ولم يؤت سعة صدر تسهل عليه احتمال المكاره وركوب الصعاب فإن آتاه الله نفاذ بصر وقوة عارضه وسعة اطلاع وكان مع ذلك عالماً باستعمالات العرب خبيراً بما يكثر في كلامها وما يقل وما يأتي على جهة الندرة والشذوذ؛ إذا اجتمعت هذه الأمور لامرئ أدرك تماماً أن هذه الأدلة التي يذكرها النحاة أدلة مستقيمة على أحسن وجوه البحث).
ومع احترامي لهذا الأستاذ الجليل أكره جد الكره أن يرمي كل إنسان يتكلم بما يخالف آراء بعض العلماء السابقين أن يرمي بالجهل وبعدم نفاذ البصر وسعة الاطلاع وأن يرمي بعدم الصبر. وسأسوق طرفاً مما قاله العلماء في هذا الشأن ليعرف من لم يعرف أن هؤلاء الذين تكلموا في العلل النحوية لم يقولوا عن جهل باستعمالات العرب ولا عن ضيق في آفاق عقولهم.
يقول الأمير أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد ابن سنان الخفاجي في كتابه سر الفصاحة:
(فأما طريقة التعليل فإن النظر إذا سلط على ما يعلل النحويون به لم يثبت معه إلا الفذ الفرد، بل ولا يثبت شيء البتة؛ ولذلك كان المصيب منهم المحصل من يقول هكذا قالت العرب من غير زيادة، فربما اعتذر المعتذر لهم بأن عللهم إنما ذكروها وأوردوها لتصير صناعة ورياضة ويتدرب بها المتعلم ويقوي بتأملها المبتدئ؛ فأما أن يكون ذلك جارياً على قانون التعليل الصحيح والقياس المستقيم فذلك بعيد لا يكاد يذهب إليه محصل).
ويقول ضياء الدين بن الأثير صاحب كتاب (المثل السائر) ما نصه (فإن قيل لو أخذت أقسام النحو بالتقليد من وضعها لما أقيمت الأدلة عليها وعلم بقضية النظر أن الفاعل يكون مرفوعاً والمفعول منصوباً؟
فالجواب عن ذلك أنا نقول: هذه الأدلة واهية لا تثبت على محك الجدل. فإن هؤلاء الذين تصدوا لأقامتها سمعوا عن واضع اللغة رفع الفاعل ونصب المفعول من غير دليل أبداه لهم فاستخرجوا لذلك أدلة وعللاً. وإلا فمن أين علم هؤلاء أن الحكمة التي دعت الواضع إلى(1025/37)
رفع الفاعل ونصب المفعول هي التي ذكروها؟)
وكلام ابن الأثير يذكرنا بما كان يقول لنا أشياخنا حين نجادلهم في مدى صحة هذه العلل فيقولون: إن علل النحو كالوردة تشم. . ولا غير، كما تذكرنا بقول ذاك الشاعر الظريف في وصف صاحبته
ترنو بطرف ساحر فاتر ... كأنه حجة نحوي
وقد فصل قاضي القضاة ابن مضاء القرطبي في كتابه (الرد على النحاة) فجهل من العلل مقبولاً ومردوداً قال: ومما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث وذلك مثل سؤال السائل عن (زيد) من قولنا قام زيد لم رفع؟ فيقال لأنه فاعل وكل فاعل مرفوع، فيقول ولم رفع الفاعل. .؟ فالصواب أن يقال له: كذا نطقت به العرب ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر. ولو أجبت السائل عن سؤاله بأن تقول له: للفرق بين الفاعل والمفعول به فلم يقنعه ذلك وقال فلم لم تعكس القضية بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ قلنا له: لأن الفاعل قليل لأنه لا يكون للفعل إلا فاعل واحد والمفعولات كثيرة فأعطى الأثقل الذي هو الرفع للفاعل وأعطى الأخف الذي هو النصب للمفعول. لأن الفاعل واحد والمفعولات كثيرة ليقل في كلامهم ما يستثقلون. ويكثر في كلامهم ما يستخفون؛ فلا يزيدنا ذلك علماً بأن الفاعل مرفوع. ولو جهلنا ذلك لم يضرنا جهله إذ قد صح عندنا رفع الفاعل الذي هو مطلوبنا باستقراء المتواتر الذي يوقع العلم)
ثم يمضي ابن مضاء فيقسم العلل إلى ثلاثة أقسام. قسم مقطوع به. وقسم فيه إقناع. وقسم مقطوع بفساده. ويمثل لكل قسم من هذه الأقسام ثم ينهي القول بوجوب إلغاء أكثر العلل النحوية لأنها لا تفيدنا شيئاً في صحة النطق.
حتى الإمام عبد القاهر الجرجاني وهو من علماء النحو المشاهير وكاد يقال له (عبد القاهر النحوي) وله آراء تنقل عنه في كتب النحو وقد ألف في النحو كتاب (المغني) على شرح الإيضاح في ثلاثين مجلداً.
عبد القاهر هذا مع دفاعه الحاز في أول كتابه (دلائل الإعجاز) عن النحو لم يستطع أن يأتي بما يقنع في الإبقاء على العلل النحوية. ويظهر أن الحملة على النحو لعهد عبد القاهر كانت قوية وكانت منتشرة ولذلك نجده يبالغ في الدفاع حتى يجعل التصغير من شأن النحو(1025/38)
والتهاون به أشبه بأن يكون صداً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه؛ ومع ذلك لا يستطيع أن يقول عمن يزهدون في معرفة العلل إنهم أساءوا الاختيار. ومنعوا أنفسهم ما فيه الحظ لهم ومنعوها الاطلاع على مدارج الحكمة وعلى العلوم الجمة؛ ولكنه يسامحهم ويعذرهم. ولعل من الحسن أن ننقل كلامه في هذا الموضع حتى يكون القراء على بصر من نظرة القدامى المنصفين إلى هذا النحو حتى أصحاب النحو أنفسهم. قال الشيخ وهو يتحدث عمن زعموا الاشتغال بالنحو وحطوا من شأنه (فإن قالوا إنا لم نأب صحة هذا العلم، ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى، وإنما أنكرنا أشياء كثرتموه بها؛ وفضول قول تكلفتموها، ومسائل عويصة تجشمتم الفكر فيها، ثم لم تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين وتعايوا بها الحاضرين، قيل لهم: خبرونا عما زعمتم أنه فضول قول وعويص لا يعدو بطائل، ما هو؟ فإن بدءوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة ولضرب من تمكين المقاييس في النفوس كقولهم كيف تبني من كذا كذا؟ وكقولهم ما وزن كذا؟ وتتبعهم في ذلك الألفاظ الوحشية كقولهم: ما وزن عزويت؛ وما وزن أرونان. وكقولهم في باب ما لا ينصرف: لو سميت رجلاً بكذا كيف يكون الحكم؟ وأشباه ذلك. وقالوا أتشكون أن ذلك لا يجدي إلا كد الفكر وإضاعة الوقت؟
قلنا لهم: أما هذا الجنس فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تعنوا به، وليس يهمنا أمره فقولوا فيه ما شئتم وضعوه حيث أردتم. فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة وعلى وجه الحكمة في الأوضاع وتقرير المقاييس التي اطردت عليها وذكر العلل التي اقتضت أن تجرى على ما أجريت عليه، كالقول في المعتل وفيما يلحق الحروف الثلاثة التي هي الواو والياء والألف من التغيير بالإبدال والحذف والإسكان، أو ككلامنا مثلاً على التثنية وجمع السلامة. لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد؟ ولم تبع النصب فيهما الجر، وفي النون أنه عوض عن الحركة والتنوين في حال وعن الحركة وحدها في حال؟ والكلام على ما ينصرف وما لا ينصرف ولم كان منع الصرف وبيان العلة فيه والقول على الأسباب التسعة وأنها كلها ثوان لأصول، وأنه إذا حصل منها اثنان في اسم أو تكرر سبب صار بذلك ثانياً من جهتين؛ وإذا صار كذلك أشبه الفعل لأن الفعل ثان للاسم والاسم المقدم والأول وكل ما جرى هذا المجرى قلنا: إنا نسكت عنكم في هذا(1025/39)
الضرب أيضاً ونسامحكم فيه على علم منا بأنكم قد أسأتم الاختيار ومنعتم أنفسكم ما فيه الحظ لكم ومنعتموها الاطلاع على مدارج الحكمة وعلى العلوم الجمة)
ونستطيع من كلام الشيخ عبد القاهر هذا أن نأخذ دليلاً واضحاً قوياً من عالم نحوي عظيم بأن هذين المبحثين مبحث التمارين العملية ومبحث العلل، لا ضرورة لهما لمن يريد أن يعرف القواعد النحوية التي تمكنه أن يأمن الخطأ إذا خاض في التفسير وتعاطى التأويل وإن كنا نزيد على ما قاله الشيخ مباحث أخرى كالاختلافات الكثيرة التي لا تتصل بصحة النطق، التي لا جدوى منها مطلقاً. . .
ولو أننا جردنا النحو من كل هذا الفضول لاستطعنا أن نحصل ما بقي من القواعد الأصلية في زمن وجيز. ولكن المؤسف حقاً أن يقضي الطالب - في الأزهر مثلاً - ثلاثة عشر عاماً يدرس النحو ثم يخرج إلى المدارس أو إلى المعاهد ليعلمه ثم هو بعد كل ذلك لم يحصل منه على طائل ولم يستطع أن يقيم لسانه من الخطأ!
ولقد قال صاحب كتاب (الإرشاد والتعليم) عن السبب في هذه الحال (أن كتب النحو التي يؤخذ منها في عامة البلاد هي من أحط الكتب قدراً وأكثرها حشواً وأقلها فائدة وأن الاشتغال بها قاطع عن علم العربية لا مفض إليه).
وإني أدعو - هنا - كما دعا عدد غير قليل من قبلي إلى طرح هذه الكتب التي ألفت في العصور المتأخرة وإلى تنقية النحو من كل ما سبقت الإشارة إليه. ويجب ألا يثنينا عن ذلك غضبة جماعة ألفوا هذه الكتب ودرسوا النحو على تلك الطرق الملتوية فإنهم لا يقولون إلا كما قال الأخفش للجاحظ، قال الجاحظ (قلت لأبي الحسن الأخفش. أنت أعلم الناس بالنحو فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما لك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلت حاجاتهم إلي فيها. . . وإنما قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى التكسب ذهبت).
وما ننكر أن في هؤلاء الذين يعكفون على النحو من خلصت نياتهم وسمت أغراضهم، ولكنهم يمارون ويضنون بما ألقوا؛ فلنكن أكثر إخلاصاً وأشد طلباً لما عند الله. ولنرح المعلمين والمتعلمين من هذا الجدل العقيم الذي لا فائدة منه إلا ضياع الوقت وتصديع(1025/40)
الرؤوس.
على العماري(1025/41)
شعر مختار
بلا أمل!
يا. . . أنت
لقد عجب الناس من صمتي الذي طال، وظنوا بي الظنون!
وما صمت، ولكنني كتمت. . .
واليوم أبوح! الشاعر الحائر!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
تغنى بها قلبي، وغنت رسائلي ... وإن كنت أهواها على غير طائل!
عرفت هواها حين صرت مقيداً ... بأخرى، لها شأن كشأن العقائل
ولو علقتها النفس، وهي طليقة ... لما قام فيما بيننا أي حائل
كذلك حظي. . . حرقة وتشوق ... إلى كل ممنوع على كل سائل!
ولو كان قلبي لا يضل مع المنى ... لطابت حياتي، واطمأنت بلابلي
ولكنه يمضي إلى غير غاية ... وراء الأماني سادراً غير حافل
كأني به في لجة البحر زورقاً ... يسير ولا يدري إلى أي ساحل
تعلقت يا قلبي بحب مضيع ... كما علقت طير الربا بالحبائل
نصيبك منه الوجد والسهد والجوى ... ولهفة زهر ثاكل النبع ذابل
وحظك منه غيرة مستبدة ... لها في دمي غلي كغلي المراجل
كأن سهاماً أطلقتها يد الأسى ... فمرت فقرت كلها في مقاتلي
نصيبك منه أن ترى الحسن زاهياً ... وترحل عنه، والأسى غير راحل
وأن ترد الينبوع كالطير ظامناً ... وترجع مقهور المنى غير ناهل
ولست على ما كان منك بلائم ... ولست على ما كان منها بعاذل
فإن الهوى معنى سني مقدس ... تسامى، فلا تلقى له من مماثل
وإن الهوى سر خفي محير ... فلا يدعى علماً به غير جاهل
وإن الهوى ما ضمه قلب عاشق ... وليس الهوى ما ضمه قول قائل(1025/42)
صحبت الهوى طفلاً صغيراً ويافعاً ... وما زال بي حتى استقر بداخلي
فأحسسته نبعاً جرى فوق ما حل ... بعمري، فواها إذ غدا غير ما حل!
وأحسسته نوراً يعانق مهجتي ... وينساب في قلبي انسياب الجداول
وأحسسته شعراً يغنيه خافقي ... فترويه عنه شاديات الخمائل
وأحسسته سحراً تسرب في دمي ... كما غاب في الصهباء ماء المناهل
وأحسسته عطراً يبوح لعالمي ... بأسرار ما ضمت رقاق الغلائل
وأحسسته خمراً ترنح مهجتي ... كما رنح الأزهار قر الشمائل
وأحسسته طيراً يرفرف شادياً ... بآفاق أيامي كشدو البلابل
وإني لأهوى الحب لو إنه ... يعذب قلبي بالشقاء المواصل
عرفت به معنى الحياة وروحها ... وأدركت سر الكائنات الأوائل
وردت به في كل حين مجاهلاً ... فأحدثت لي علماً بتلك المجاهل
وعشت به عمراً قصيراً، وإن يكن ... بأسراره فوق المدى المتطاول
فيا حبها زدني التياعاً وحرقة ... وهب لي لهيباً في الحشا غير زائل
فإن لهيب الحب يذكي مشاعري ... فينساب منها مثل ضوء المشاعل
ويا من رماني الدهر فيها بنأيها ... وضن على قلبي بسحر التواصل
ومن جن قلبي في هواها صبابة ... وإن كان عقلي لم يزل شبه عاقل!
هبيني أضعت العمر فيك، ألم أفد ... من الشعر مجداً عمره غير آفل؟
وإن كان قلبي أصبح اليوم يائساً ... فما كان يوماً في هواك بآمل!
ولست بناس إذ بعثت رسالة ... إلي بأمر من وصالك عاجل
فجن خيالي باللقاء وسحره ... وصور لي أني سأحظى بنائل
وأنك قد وافيتني في خميلة ... عليها نسيج من ضياء الأصائل
فأمسكت كفي بين كفيك ساعة ... فأسكر روحينا عناق الأنامل
وأنشدت شعري فيك، وهو مدامع ... من القلب، أصفى من دموعي السوائل
وغنيتني شعر الهوى، فكأنني ... ذهلت عن الدنيا، ولست بذاهل
وأنا أقمنا وحدنا طول عمرنا ... فأصبحت لي وحدي برغم الحوائل(1025/43)
ولكن حظي كان حظي! فأخطأت ... خطاك مقامي بين تلك المنازل
وعشنا على الأوهام، تجمع شملنا ... رسائل حب. . يا لها من رسائل!
وما في يدينا غير أوهام موعد=وأحلام لقيا كالورود الذوابل
فلا تحسبن أني سأنساك لحظة ... فإنك شغلي دون كل الشواغل
سأحيا على حبيك ما دمت باقياً ... وإن كنت أدري أن حبك قاتلي
إبراهيم محمد نجا(1025/44)
أخبار أدبية وعلمية
(فضيحة) أدبية جديدة في فرنسا يسببها اليهود
هذا مثل جديد على نفوذ اليهودية العالمية في حلقات الأدب العالمي فوق نفوذهم في عالم المال والسياسة الدولية.
فقد حدث مؤخراً أن نال كاتب روماني يقيم في باريس جائزة أدبية رفيعة لكتاب نفيس بعنوان (الساعة الخامسة والعشرون). وقد كانت الأوساط الأدبية المديح لهذا الكتاب الذي قام الفيلسوف الفرنسي جابرييل مارسيل بتقديمه إلى حلقات الأدب الفرنسي.
ولكن حدث بعد ذلك أن اكتشفت إحدى الجمعيات اليهودية الفرنسية أن قد سبق لهاذ الكاتب الروماني رابح الجائزة أن وضع كتاباً منذ بضع سنوات يثني فيه على النازية ويوجه بعض النقد لليهودية العالمية ونشاطها الأناني الواسع النطاق.
وسرعان ما سحبت دور النشر والكتب المؤلف الجديد من نوافذها (ومعظم دور النشر والكتب في فرنسا وغيرها من العالم الغربي يملكها اليهود) وأعلن المسيو جبرييل مارسل براءته من المقدمة التي وضعها لكتاب (الساعة الخامسة والعشرون) وأظهر سخطه على مؤلفه.
كتاب جديد عن (جورج صاند) الشاعرة الفرنسية
أعلنت مدام أندريه موروا أرملة الكاتب الفرنسي الذي توفي مؤخراً أنها في سبيل الفراغ من كتاب عن (جورج صاند) الشاعرة الفرنسية الخالدة الذي كان زوجها قد أنجز الجزء الأكبر منه قبل الوفاة وقامت هي بإتمامه.
رأي طريف في تطور الإنسان
يدعى الأستاذ جوليان هكسلي أحد أقطاب علم الحيوان والرئيس الأسبق لمؤسسة (اليونسكو) في كتاب صدر في بريطانيا هذا الشهر أن حلقة التسلسل الذي ابتدأت بتطور الإنسان من (نطفة فعلقه) قد انتهت في الصورة التي يخلق الإنسان في العصر الحاضر على شاكلتها، وأن لا سبيل إلى أي تطور بيولوجي جديد في تكوين بني آدم بعد (الكمال) الجسماني الذي وصلوا إليه في التكوين الجسماني والعقلي الذي هم عليه الآن. وأن على(1025/45)
الإنسان في عالمنا الحاضر أن يسعى ما استطاع لكي يحتفظ بهذا التكوين وأن يتفادى كل ما من شأنه أن يخلق فيه تشويهاً يؤثر في النسل والأجيال القادمة.
والأستاذ هكسلي ينتمي إلى بيت خاصم النظرة الدينية للخلق وكان جده الأكبر أول من ناصر شارل دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء مما أثار عليه حفيظة الكنيسة المسيحية والذين يؤمنون بوجهة نظر الأديان السماوية في أصل الإنسان وتطوره.
ولا تزال بعض كتب هكسلي محرمة على المسيحيين الكاثوليك.
التوسع في تدريس العلوم الاجتماعية
في نشرة (اليونسكو) نبأ عن ازدياد الرغبة في نشر العلوم الاجتماعية في المدارس الثانوية والمعاهد العليا في معظم أنحاء العالم. وتقول النشرة بأن الحكومات الأسيوية قد غمرت اليونسكو بالطلبات راغبة معونتها في تأسيس كراسي جامعية لتدريس العلوم الاجتماعية على أحدث الأساليب.
حملة جديدة لترويج متعة القراءة النافعة
اشترك 67 قطباً من أقطاب الأدب والفن والثقافة بمختلف أنواعها من أوربا والعالم الجديد في شن حملة دعاية واسعة لترويج قراءة الكتب على نطاق واسع بعد أن انتشرت ألوان من المتع الرخيصة التي همها التسلية لا تربية الذوق ولا توسيع المدارك - كالسينما والصحف السيارة وأبواب الأدب الرخيص والقصص المبتذلة التي تسود معظم الإنتاج الصحفي وبعض المجلات الواسعة الانتشار.
وقد قام كل من هؤلاء الأقطاب بوضع بحث دقيق بليغ عن اختباره في تذوق المتعة الصافية التي توفرها الكتب الجدية والأدب الرفيع والفن الخالص كما تنقله مجلات الاختصاص في شتى اللغات.
وقد تعهدت دور النشر في أمريكا وأوربا الغربية بترويج هذا الكتاب الجديد على نطاق شعبي واسع بتخفيف ثمنه وتوزيعه على طلبة المدارس العليا وعلى الجامعات وعلى المؤسسات الثقافية والاجتماعية والرياضية.
قصة الذرة(1025/46)
تغرم دور النشر في أمريكا بتبسيط العلوم الطبيعية لغير أهل الاختصاص بصياغة البحوث العلمية في قالب أدبي يسهل هضم محدثاته العلمية الجافة. ومن هذا القبيل كتاب جديد عن (قصة الذرة) راج في الأسواق الأمريكية مؤخراً، وهو يستعرض تاريخ الذرة ويرجع إلى عصر اليونان ليثبت أن غرام علماء الطبيعة باكتشاف سر تركيب الذرة كان سابقاً لمجهود الألمان (ومن بعدهم الأمريكان والروس) في صنع القنابل الذرية والأسلحة الفتاكة المتفرعة عنها.
الذكر - الأنثى
يبدو أن بلاد الدانمارك تمتاز بخاصة غريبة مزعجة، وهي كثرة الشبان الذين تحولوا إلى شابات فيها. وقد تكررت هذه الظاهرة الغريبة في الدانمارك في الآونة الأخيرة. ومن الأنباء الطريفة أن أحد هؤلاء الذين اختبروا حياة الذكر والأنثى (كرتسين جور كينسون) الجندي السابق في الجيش، الذي تحول إلى فتاة رشيقة منذ بضعة أسابيع سيقوم بوضع ترجمة لحياته يشرح فيها بصراحة اختباراته الغريبة. وقد ابتاعت إحدى دور النشر في أمريكا حق نشر هذا الكتاب مقابل 20 ألف دولار نقداً.
عربي في أمريكا ينشئ مجلة أدبية إنجليزية
قام السيد منصور أبو رجبله (أحد المهاجرين السوريين في أمريكا) بإصدار مجلة دورية جديدة تقتصر في بحوثها على إنتاج الأدباء المغمورين ولا تستكتب أحداً من الكتاب المعروفين. واسم المجلة الجديدة (اكتشاف).
وقد لقي العدد الأول منها رواجاً كبيراً.
طريقة مبتكرة لبيع الدواوين الشعرية
دواوين الشعر في جميع اللغات محدودة البيع بالقياس إلى المؤلفات الأدبية والثقافية الأخرى.
وقد اكتشفت دور النشر التي تتولى طبع أشعار (كارل ساندربرغ) الشاعر الأمريكي المعروف طريقة جديدة لبيع دواوينه إذ كلفته بأن يجلس وراء مائدة في مقهى شعبي ويوقع إمضاءه على كل نسخة تباع. وانتشر الخبر في الناحية واستطاع الشاعر أن يبيع أكثر من(1025/47)
600 نسخة وهي فوق ما بيع من الكتاب في سنة بأكملها.
الطفولة في أدب التراجم
يدور في أوساط الأدب الأنجلو سكسوني هذه الأيام نقاش حول أدب التراجم. فقد اشتد في السنوات الأخيرة غرام الأدباء في بكتابة سيرهم؛ وقال النقاد إن أبلغ ما في هذه السير هي الحقبة الأولى من عمر الأديب - طفولته! وفتوته وشبابه. أما خريف الحياة فلا يوحي بأي متع عقلية أو أدبية. وخالف بعض النقاد والأدباء هذا الرأي، وقالوا إن حقبة الطفولة والفتوة تكون عادة زاخرة بألوان المتع الحسية التي تنافس المتع العقلية منافسة جدية.
ويقول المستر فإن دورتن أحد كبار كتاب المسرح (وهو هولندي الأصل إنجليزي الثقافة) إن الأديب حين يجلس ليستعرض نموه الفكري في ثنايا الأعوام لا يجد لذة أعمق من تلك التي يستوحيها من ذكريات الطفولة وحقبة الشباب والفتوة، وعلى ذلك فإن تسجيله لهذه الذكريات هو في الواقع إبداع أدبي يصور فيه الأديب تلك الذكريات على نحو ما يصور القصصي أبطال رواياته وحوادثهم.
ويستشهد كاتب آخر بالشغف الذي يملكنا جميعاً حين نجلس إلى الشيوخ من عائلتنا يقصون علينا حوادث طفولتنا فيكشفون لنا عن عالم يلهب فينا الخيال ويبعث في أنفسنا الرضى أو السخط وحسن ما تغيره الانفعالات التي تكتنف الأديب حين ينظم أو ينثر.
مجلة جديدة في الموسوعة الروسية
صدر هذا الأسبوع مجلد آخر من الموسوعة الروسية الجديدة التي يعدها العهد السوفييتي لتكون مرجعاً للثقافة الروسية شأن الموسوعات (القومية) الأخرى.
وفي هذا المجلد الجديد بحث طويل (عن اليهود) ويؤكد كاتب البحث بأن (اليهودية) ليست أكثر من مذهب ديني لا يستند إلى عنصر أو إقليم معين وليس لها طابع (القومية) التي تدعي الحركة الصهيونية بأن اليهود علم عليها.
وتهاجم الموسوعة الروسية الصهيونية مهاجمة شديدة وتقتبس آراء لينين وستالين عن الصهيونية، ويرجع تاريخ هذه الآراء إلى ثلاثين عاماً. وتقول الموسوعة بأن إسرائيل (وهي رمز القومية الصهيونية) ليست إلا نقطة ارتكاز للاستعمار الأمريكي بعد أن كانت(1025/48)
من قبل مركزاً للاستعمار البريطاني.
وتستعرض الموسوعة المجهود الذي قامت به الحكومة الروسية لإنشاء ولاية سوفييتية خاصة باليهود الروس في (بيروبايجان) يكون شأنها شأن معظم الولايات (القومية) الأخرى التي تكون الاتحاد السوفييتي (كارمينيا) (وجورجيا) و (وأكرانيا) والولايات السوفيتية الآسيوية التي يقطن بعضها أكثريات إسلامية.
وسبب فشل هذا المجهود الروسي يعود إلى تعلق اليهود بحياة المدن التي توفر لهم فرصاً ذهبية لجمع المال بسرعة وخصوصاً في العواصم والثغور التي يشتد فيها النشاط التجاري.
وتدعى الموسوعة الروسية بأن النظام الشيوعي السوفييتي قد وفر لليهود ولجميع الأقليات الطائفية الأخرى في روسيا فرصاً للاندماج في بوتقة الاتحاد السوفييتي ولذلك فإن ميل بعض العناصر اليهودية الروسية إلى الصهيونية وإسرائيل أمر تكافحه الحكومة الروسية الآن.(1025/49)
آراء وأنباء
مدرسة الرسالة في السنغال
أجد من الأمانة أن أنقل إلى صاحب الرسالة وإلى قرائها هذه القصة، فهي تسجل فضلاً من أفضال (الرسالة) التي أدتها وما تزال تؤديها إلى العربية (لغة القرآن). أما في هذه المرة فقد امتد الفضل بعيداً عن مركز الدائرة إلى 9500 كيلومتراً عندما دخلت الرسالة مدينة (داكار) حاضرة السنغال.
كنا نستمر يوم السبت الماضي في ندوة (الكيلاني) وقد أم الندوة لفيف من أهل العلم والفضل منهم عطوفة السيد أحمد حلمي زعيم فلسطين، والسيد مفتي الجزايرلي، والإمام البشير الإبراهيمي، والأستاذ الفضيل الورتلاني.
وبينا نحن جلوس إذ قدم إلينا صاحب الندوة رجلاً أسود اللون، يلبس العقال العربي عرفنا من بعد أنه حجازي الأصل، وأنه هاجر منذ اثني عشر عاماً إلى السنغال: هو السيد محمود عمر الذي يشغل الآن منصب مدير المعارف الأهلية بالسنغال. ومعه طالبان سنغاليان. وأخذ يروي الأستاذ كامل الكيلاني قصة عجيبة، هي أن الشاعر الأستاذ محمود غنيم كان قد التقى في الندوة بهذه الجالية السنغالية، فما إن عرف أحد الشبان اسمه حتى أستأذن في أن يقول شيئاً، فلما أذن له فاجأ الحضور بقصيدة طويلة من شعر غنيم. .
. . وتوقف الأستاذ الكيلاني ليتم القصة السيد عمر فقال: منذ اثني عشر عاماً عندما فكرت في أن أسافر إلى السنغال لأعلم اللغة العربية لأهلها، لم يكن في استطاعتي الحصول على شيء مطلقاً من المؤلفات أو الكتب نظراً لبعد المسافة وطول الشقة. . وعدم وفرة هذا النوع من الكتب في الحجاز، ولذلك صح عزمي على أن أحمل معي كل ما كان عندي من أعداد مجلتي الرسالة والإسلام، وقد بلغت خمسة آلاف عدد لأني حرصت أن أحصل على أكثر من نسخة للعدد الواحد ما أمكن ذلك. وكان هناك في السنغال 300 طالب يلتفون على كل عدد من الرسالة لينقلوا منه شعره ونثره ليحفظوه عن ظهر قلب. وقد استطعنا بهذه الطريقة وحدها، وعلى يدي مجلة الرسالة أن نعلم اللغة العربية لثلاثة آلاف وخمسمائة من الطلاب العجم. .
وهنا وقف هذا الشاب الأعجمي العربي. . . كما أسماه الأستاذ الإمام السيد البشير(1025/50)
الإبراهيمي. . . وأخذ يتلو هذه القصيدة العامرة التي كان الأستاذ محمود غنيم قد أنشأها في عدد من أعداد الهجرة الممتازة التي كانت تصدرها (الرسالة) في مستهل العام الهجري من كل سنة، والتي نرجو ألا تحرمنا منها.
وكنا نستمع إلى الشاب الأعجمي العربي وهو يتلو هذا الشعر في لكنة خفيفة، وقد بدت تلك المعاني أكثر جلالاً، فكانت تهز النفس هزاً، وتبعث ذلك الإحساس القهار حينما نرى شاباً حدثاً من السنغال على بعد الشقة يحفظ هذا الشعر ويتلوه ويترنم به. .
ولقد علق السيد البشير الإبراهيمي على ذلك بقوله: إنني قرأت هذه القصيدة عندما نشرت لأول مرة، وقرأتها مرة أخرى هذا الأسبوع في ديوان الشاعر. . ولكني لم أهتز لها كما استمعت إليها الليلة من هذا الشاب العربي الأعجمي.
ومما يذكر في هذا المجال أن هؤلاء الشباب كانوا قد أفادوا في بدء تعلمهم اللغة العربية من قصص الأطفال التي كتبها الأستاذ كامل الكيلاني، ولذلك كانوا غاية في السرور عندما صادفتهم بالقاهرة واجهة دار مكتبة الأطفال ودار الرسالة، فقد صفقوا طويلاً عند كل واحدة، وهتفوا وهم يعجبون فيما بينهم كيف تحقق حلمهم البعيد وعاشوا لحظة في هذه الأماكن التي تلقوا عنها في أواسط أفريقيا لغة الضاد.
ولذلك رأيت أن أسجل هذه القصة وأن أبعث بها إلى صاحب الرسالة تحية مجددة لفضل الرسالة على شباب العروبة، هذا الفضل الذي يمتد إلى كل مكان.
أنور الجندي
إلى أخي الأستاذ سيد قطب
قلت في كلمتك القيمة (وكل كلامك قيم) في العدد 1022 من الرسالة، أن عدالة السماء لا تمنع القاضي الذي (يصدر الحكم ثم تبين له خطؤه أن ينقض حكمه بنفسه) والذي أعرفه أن القاضي في الإسلام ليس له أن ينقض حكماً أبرمه، لأن مضرة اضطراب الأحكام، وتعرضها أبداً للنقض بعد الإبرام، أكبر في نظر الشرع والعقل من مضرة الخطأ في حكم واحد، والقاعدة أنه إن لم يكن بد من أحد الضررين يرتكب أخفهما وإلا لم تبق للقضاء قيمة، ولا للأحكام ثبات، وعمر لما تبدل اجتهاده، لم ينقض ما كان أبرمه، بل حكم بغير ما(1025/51)
كان حكمه، وقال: (تلك كما قضينا وهذه كما نقضي) والمسألة مشهورة وأقوال فقهائنا كثيرة معروفة.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
علي الطنطاوي
حول كلمة قدوم
قرأت ما كتبه الأستاذ علي حسن هلالي في العدد الأخير 1022 من مجلة الرسالة عن - القدوم - تحت عنوان (لغويات) فرأيت أن أقول كلمة في هذا الموضوع.
ومن الرجوع إلى مؤلف (الرأي الحاسم، في الكلام الصحيح الذي خلت منه المعاجم) للشيخ أمين ظاهر نجده قال: ويجمع قديم على قدم كعتيق على عتق وكذلك قدوم (بمعنى مقدام) على قدم قال حسان:
ليوث إذا غضبوا في الحرو ... ب لا ينكلون ولكن قدم
وفي المعاجم أن القدم مفرد صفة للشجاع، فلو صحت هذه لكانت كجنب وهي في الأصل جمع جنيب. وزعم الصباح أن قدماً جمع قدوم بمعنى آلة النجارة. على أن شعر حسان يأتي بقدم جمعاً لقدوم بمعنى مقدام. والقياس يقبله مثل صبر جمع صبور. ومجيء جمع قدوم اسم آلة وجمع قدوم صيغة مبالغة على وزن واحد يتنافى مع حكمة؛ اللغة فالخال بمعنى الشامة والخال بمعنى أخي الأم يتفقان في اللفظ المفرد ويختلفان في صيغ الجمع. وهذا بحث لم يرد في معجم ولا في كتاب صرفي. فعلى من يظن في نفسه اقتداراً على وضع معجم أن يتجرد له ويثبت بالدليل العلمي بصيغة جمع قدوم بمعنى مقدام وصيغة جمع قدوم بمعنى آلة النجار في قول الشاعر:
فقلت أعيراني القدوم لعلني ... أخط به قبراً لأبيض ماجد
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر أقول: إن المؤلف المذكور كان ذكر في أول كتابه المذكور - وإن شئت فسمها رسالته - بأنه يتعهد بالجوائز الآتية لمن يحل القضايا اللغوية الآتية:
1 - ذهب واحدة أي جنيه: لمن يجيء بالفرق بين جمع قدوم بمعنى مقدام وقدوم بمعنى آلة النجار.(1025/52)
2 - عشر ذهبات: لمن جاء بمفردات الجموع التي أوردها الجاسوس على القاموس في صفحاته من 207 - 210.
3 - خمس ذهبات: لمن يجيء بأجوبة القضايا السبع الواردة في الصفحتين 52و53 من تلك الرسالة. وقد اشترط على من يجيب:
أ - أن يأتي بالقواعد التي يبني عليها حكمه.
ب - أن يؤكد كلامه بالتنظير الصحيح.
ج - ولا يتعهد بشيء لمن يعجز عن الوفاء بهذين الشرطين أو من يبني على قاعدة لا تصح. ولئلا أكلف القارئ مؤونة الرجوع إليها أنقلها هنا إليه بالحرف الواحد وهي:
1 - كيف جاء ارعوى من رعا؟
2 - جاء في شعر حسان:
فتشهد أنك عبد المليك ... أرسلت نوراً بدين قيم
ولم يرد قيم في المعاجم فكيف يجب ضبطه ومن أين جيء به؟
3 - روى الجاحظ عن ابن الأعرابي في كتابه البيان والتبيين ما يأتي:
ليس يستوجب شكراً رجل ... نلت خيراً منه من بعد سنه
كنت كالهادي من الطير رأى ... طمعاً أدخله في سجنه
فكيف يضبط سجنه ومن أين وردت هذه الصيغة؟
4 - قال مسلم بن الوليد
ومجهل كاطراد السيف محتجز ... عن الأدلاء مسجور الصياخيد
كأن أعلامه والآل يركبها ... بدن توافى بها نذر إلى عيد
فكيف يضبط نذر وما الدليل على صحة الضبط؟
5 - جاء في ديوان جرير للبعيث قوله
وجئنا بأسلاب الملوك وأحرزت ... مناصلنا مجد الأربة والأكل
فكيف يصح ضبط الحرفين الأخيرين من العجز وكيف يؤتى بالدليل على صحة اللفظ؟
6 - في القاموس علية القوم وعليهم - بكسر فسكون - أي جلتهم فما هذان الحرفان؟
7 - كم جمعاً لنار وكم جمعاً لنور. وهل كل منهما أصل مستقل أو أحدهما فرع عن(1025/53)
الآخر؟
وبعد هذه السياحة الطويلة أقول - وأرجو ألا أذيع سراً -
أنني كنت ليلة 14121947 أصغي إلى سلسلة أحاديث الأستاذ
السيد عادل جبر - عضو مجلس الأعيان العالي الأردني الآن
- التي كان يذيعها من محطة القدس وعنوانها - خواطر في
اللغة والأدب - وقد ذكر بأن قدوم مؤنثة جمعها قدم واستشهد
على ذلك بقول الشاعر:
نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حماد
نفخت مشافره الشمول فإنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد
وبعد ذلك كتبت له كتاباً ذكرت له به ما ذكره الشيخ أمين في
كتابه المذكور فتفضل علي بجوابه المؤرخ في 27121947
الذي قال فيه إن الشيخ أمين وقع في خطأ في بيت الشعر الذي
استشهد به وزاد أن الرواية الصحيحة هي:
فقلت أعيراني القدوم لعلني ... أخط بها قبراً لأبيض ماجد
وذكر بأنه رآها في كتاب - المخصص - لابن سيده وأن جمع - قدوم بمعنى مقدام - قدم - كصبور وصبر وأن هذا لا خلاف فيه. وأما قدوم - آلة النجار - فإنها تجمع على قدم و - قدائم - كما ورد في أمهات كتب اللغة - دون أن يذكر شيئاً منها - وأضاف إلى ذلك أنه لا غضاضة في أن تأتي صيغة الجمع واحدة لكلمتين مختلفتين في المعنى لأن جموع التكسير سماعية كلها. وأن السلف الصالح يقول بأن سياق الكلام كفيل بالدلالة على المعنى المراد، وأن مما جاء على صيغة - قدائم - جمعاً للآلة عجوز وعجائز. وأنه يحضره من الأمثلة على اتفاق صيغ الجمع مع اختلاف صيغ المفرد قول - صاحب فقه اللغة - الإمام(1025/54)
الثعالبي
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فانف البلابل يا حتساء بلابل
فإن البلابل الأولى جمع بلبل وهو الطائر الغريد المعروف، والثانية جمع بلبال أي الهم والبرحاء في الصدر، والثالثة جمع بلبلة وهي قناة الإبريق التي يصب منها الماء والشراب. وأن العيون للماء والنواظر. والوجوه جمع وجه الإنسان وجمع ذوي الوجاهة وهلم جرا.
شرق الأردن
أحمد الظاهر(1025/55)
محاضرات ومناظرات
أداة الحكم على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته
كانت هذه المحاضرة ختام السلسلة الأولى من المحاضرات العامة التي نظمها قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية في موضع (العهد الجديد - فلسفته واتجاهاته في بناء المجتمع المصري) وقد ألقاها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، وهو في هذا الموضوع حجة، فكانت الأرقام والإحصائيات تنطلق من فمه وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح! ونلخص المحاضرة بما يأتي:
يمكننا أن نحدد اتجاهات العهد الجديد في كلمتين: إصلاح ونهوض، إصلاح في الريف وفي المدينة وفي مرافق الحياة وفي أداة الحكم، ونهوض بمصر يسمو بها إلى مكان الصدارة بين الأمم. ولستم في حاجة إلى أن أذكركم بهذا الرمز الثلاثي الذي جعله العهد الحاضر شعاراً له وهو (الاتحاد والنظام والعمل). . اتحاد يقضي على الفرقة القضاء الأخير، ونظام يمحو الفوضى محواً أبدياً، وعمل منتج مثمر خصب يأخذ بيد مصر إلى المكان الذي ترمقه وتبتغيه.
فما هي الصورة التي ينبغي أن تكون عليها الأداة الحكومية لتتلاءم مع هذا العهد الجديد؟
الأداة الحكومية جهاز يجب أن يجاري الزمن، وإذا لم يؤد الجهاز وظيفته ولم ينهض بالغرض الذي خلق من أجله وجب تعديله وتحويره. وفي كل البلاد يعملون على تعديل الأداة الحكومية وتنقيح نظمها وقوانينها حتى تتفق مع سير الزمن وتطورات الحياة، وقد رأيناهم في الولايات المتحدة مثلاً قد شكلوا لجنة سنة 1912م، ثم شكلوا لجنة أخرى سنة 1943م، وقضت اللجنة الأخيرة التي كان يرأسها رئيس الجمهورية نفسه عامين كاملين في اجتماعات متواصلة وانتهت بتعديلات جوهرية بعيدة الأثر في إصلاح الأداة الحكومية عندهم.
وللأداة الحكومية - كما تعلمون - وظيفتان: إشراف وتوجيه، عمل وتنفيذ. وإن ما نراه اليوم من أنظمة حكومية يرجع إلى سنة 1883م إذ حاول اللورد (دوفرين) أن يضع مبادئ النظام الحكومي فعنى بالجزئيات والشكليات وأغفل الجوهر! ثم حصل أن شكلت عندنا لجان بعد لجان، ولكنها - جميعاً - كان كل وكدها أن تعالج شئون الموظفين من علاوات(1025/56)
إلى ترقيات إلى غير ذلك! وليست المشكلة مشكلة الموظفين فقط، ولكنها مشكلة الأنظمة واللوائح والأساليب العتيقة الركيكة المتعفنة التي يعمل الجهاز الحكومي في ظلها، والبطء الذي يشبه الموت في سير الأعمال الحكومية. ولعلكم تذكرون حكاية الأستاذ نجيب الريحاني عن الورقة التي انتقلت من امبابة إلى الجيزة في ثلاث سنوات!
. . إن جهازنا الحكومي غير منتج، وإذا أنتج فإن إنتاجه كثير التكاليف، فعلينا أن نختزل الكثير والكثير جداً من خطوات الأعمال الحكومية التي لا طائل وراءها سوى الأبهة للرؤساء والصولة لأصحاب النفوذ!
هل أدت السينما المصرية رسالتها نحو المجتمع؟
كان هذا الموضوع محل مناظرة حامية بدار نقابة السينمائيين المصريين مساء الأحد الماضي، رأسها الأستاذ الرقيب أنور حبيب، وحضرها الأستاذ محمد فؤاد جلال وزير الإرشاد القومي الذي افتتح المناظرة بكلمة اعترف فيها أن السينما إحدى السلطات الكبرى في الدولة؛ لأنها توجه عقول الناس والعقول هي التي تحكم، ولأنها يغشاها الناس جميعهم على اختلاف أعمارهم وثقافتهم، وهذه الجماعات هي أساس الديمقراطيات الحديثة التي تعتمد عليها الحكومات وتلتمس ثقتها وتأييدها.
وقد تكلم مؤيداً للرأي الأستاذان رشيد النحال ويوسف وهبي، وتكلم مخالفاً له الأستاذان أحمد بدر خان وعبد المنعم شميس. وكان الوقت المقسوم لكل منهم ربع ساعة ولكنهم بعد أن انتهوا من كلامهم عادوا فتكلموا مرة أخرى، واشترك بعض الحاضرين في المناظرة، وحمى وطيس الجدل، وانقسم المستمعون قسمين متناجزين بالتصفيق والهتاف والعبارة!
وقد جرت المناظرة على الوجه الآتي - في إيجاز -:
تكلم الأستاذ رشيد النحال فذكر أن الدفاع عن قضية السينما إنما هو الدفاع عن رواد السينما القدامى الذين انحسرت عنهم كل معاونة وحرموا كل تشجيع. ولا تنتظروا أن أقول إن السينما قد بلغت عندنا مثل الذي بلغته في أوربا وأمريكا، ففي إنجلترا - مثلاً - يغشى دور السينما ثلاثون مليوناً من الناس، وفي أمريكا يغشاها مائة مليون. أما في مصر فما زال الناس يرونها وسيلة للتسلية وتزجية للفراغ! وما زالت الدولة تأبى أن تمد لها يد المساعدة الجدية النافعة. لذلك وقف جهد رجال السينما عند حد لم يستطيعوا أن يتجاوزوه ولم يكن(1025/57)
في وسعهم - وهم بشر كسائر الناس - أن يصلوا إلى أبعد منه. وقد أعطت السينما في مصر للدولة وللناس أكثر مما أخذت، ونهضت وجاهدت واحتملت الكثير من مصاعب الجهاد ولم تلق من الجزاء إلا صيحات الهدامين الذين كل همهم الهدم والهدم دون سواه. وقد يأخذ البعض على السينما أنها كثيراً ما تجنح إلى أن يكون أبطالها من التافهين الذين يروقون في أعين الجماهير الساذجة، فأقولها كلمة صريحة لا لبس فيها ولا التواء: - إن الرقابة هي المسئولة عن ذلك وهي التي كانت تطلب أن يكون أبطال الأفلام من هذا النوع التافه الرخيص دون سواه.
وتكلم بعده الأستاذ أحمد بدر خان قائلاً: أعترف لكم - قبل كل كلام - أن السينما لم تؤد واجبها نحو المجتمع. ولكن على من تقع مسئولية ذلك؟ إنها تقع على الجمهور الذي لا يهوى إلا الأفلام التهريجية، وعلى الحكومة التي لم تبذل لها العون الكافي، وعلى الرقابة التي تغمض العين على كل ما في الأفلام من مباذل وسيئات. ولا أدري لمصلحة من هذا الإغضاء؟ وعلى الصحافة التي تسرف في المدح وتسكت عن النقد الحق والتوجيه الصحيح. . . ولا أفهم لماذا لم يصدر قانون حماية الملكية الأدبية حتى الآن فيمنع هذا النقل والسطو والتشويه؟ ولماذا لا تحدد النسبة التي يتقاضاها الممثلون من الأرباح؟ إن للسينمائيين مطالب عديدة لم تحقق لهم الدولة شيئاً منها. إنهم يطلبون - فيما يطلبون - أن يلغى هذا القانون الذي يجعل منها نقابة عمالية لا فنية كنقابة الصحفيين، ويطلبون أن يكون من أقسام وزارة الإرشاد قسم خاص للسينما يقوم على تذليل الصعوبات التي تعترضهم، ويطلبون أن تشتري الحكومة بعض نسخ من الأفلام الممتازة فتعرضها في المدارس والمعسكرات والمستشفيات، ويطلبون تسهيل استيراد الأفلام الخام التي هي للسينما بمثابة الوقود للسيارة! ويطلبون خفض الضرائب التي ترهقهم. فإذا تحقق لهم ذلك استطاعوا أن يؤدي رسالتهم نحو المجتمع وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها!
ثم وقف الأستاذ يوسف وهبي وبدأ كلامه صائحاً هائجاً، فرمى الصحافة بأنها سبب البلاء ومصدر الشقاء، واتهمها بأنها صحافة مأجورة لا تمدح إلا بأجر ولا تذم إلا بأجر، وأنها مليئة بالعناوين (السوداء) والمقارنات (العمياء) - كما يقول الأستاذ المهذب - وأنك لا تكاد تجد فيها إلا صورة لفنان أجنبي بالمجان، أو صورة لفنان مصري دفع ثمنها مقدماً!. . .(1025/58)
واستمر الأستاذ الفاضل يكيل التهم للصحافة المصرية بدون حساب، وبطريقته التمثيلية وصوته الذي يصك الآذان، وحركاته البهلوانية التي يضحك بها على أذقان الدهماء من الناس، فكان ذلك منه عدواناً بالغاً على الصحافة الكريمة التي تبذل له ولأمثاله العون والنقد والتوجيه السديد.
ولكنه تخاذل وضعف وانبهرت أنفاسه وخفت صوته عندما انبرى له الأستاذ عبد المنعم شميس ففند أقواله، وفضح تهريجه، وصاح في وجهه بأن رجال الصحافة الذين يرميهم بهذه التهم الباطلة كانوا - من أجل دفاعهم عن الحق - يزج بهم في غياهب السجون ويلقون أشد العقاب بينما الأستاذ يوسف وهبي يرفل في الحرير ويركب أفخر السيارات! وأن هؤلاء الكتاب الأحرار كانوا الأداة الفعالة في إيقاظ الشعب وتنبيهه إلى حقوقه بينما كان بعض رجال السينما أداة تخدير وتنويم للشعب وتلهية له عما يكبله من أغلال وذلك بما يقدمون له من رقص وتهريج. . وإن الباحث المدقق ليجد أن هذا التهريج قد أخذ - في العهد الجديد - يتلاشى من السينما رويداً رويدا لأن العهد الجديد لا يهدف إلى تخدير الشعب وتلهيته عن حقوقه، وإنما يهدف إلى إيقاظه وتعريفه بهذه الحقوق. . ولقد أفلتت من الأستاذ يوسف وهبي كلمة تدل وحدها على مقدار فهمه لوظيفة السينما! أنه سماها (صناعة السينما) والصناعة - كما تعلمون - تهدف إلى الربح الكثير والكسب الوفير! وليس من أهدافها ترقية الإحساس والشعور والذوق، وتعريف الناس بالمثل العليا، ومعالجة المشكلات الاجتماعية والفساد المتغلغل في الحياة، وما إلى ذلك من أغراض.
إن السينما المصرية لا طابع لها حتى الآن، ولكنها بضاعة مجلوبة من الخارج وكل عملنا فيها أن نلبسها زياً مصرياً ونقول للناس إنها بضاعة وطنية! وإن قصاراها - حتى الآن - هو الرقص الفاجر والغناء الداعر، إنهما يحشدان في الأفلام حشداً وبدون مناسبة ليهرع إليهما الجمهور فترتفع حصيلة الفلم وتنحدر أخلاق الناس!
ثم وقف الأستاذ أنور أحمد - عن جمهور المستمعين - فعلق على المناظرة قائلاً: - ن كلمات المؤيدين - وهما الأستاذان رشيد النحال ويوسف وهبي - كانت طوافاً وتحويماً حول الموضوع ولم تكن من جوهر وهي المكافحة الأولى لكل فساد وانحلال في مصر. . . وإنه من الخير ألا نخدع أنفسنا وأن نرضى غاية الرضا عن أنفسنا فذلك ضلال بعيد،(1025/59)
ولو أننا خدعنا أنفسنا وقلنا إن السينما المصرية قد أدت رسالتها لجمدنا ووقفنا عند الحد الذي نحن فيه اليوم وتلك نهاية لا أرضاها لكم.
إن السينما في مصر لم تؤد رسالتها، فابحثوا عن السبب في ذلك. ابحثوا عن الصعوبات التي اعترضت السينما والعقبات التي وقفت في طريق تقدمها، والعوامل التي قصدت بها عن أن تؤدي هذه الرسائل. . . ابحثوا عن ذلك ولا يشغلكم الجدل الفارغ في هل أدت السينما رسالتها نحو المجتمع أو لم تؤد عن تقصي هذه الأسباب وتلمس أنواع العلاج، وبذلك تكون خلاصة مناظرتكم اليوم هي أن السينما لم تؤد رسالتها ولكنها كافحت لتذليل الصعوبات التي تعترضها ويجب أن تتظافر الجهود على تذليل تلك الصعوبات.
وطلب الأستاذ أنور حبيب رئيس المناظرة أن تؤخذ أصوات الحضور - بالوقوف - على أي الرأيين هو الأصوب؟ فوقفت أغلبية تؤيد الرأي القائل بأن السينما المصرية لم تؤد رسالتها نحو المجتمع!.
علي متولي صلاح(1025/60)
طرائف وقصص
فصل سالافان
للكاتب الفرنسي المعاصر جورج دوهاميل
للأستاذ لبيب السعيد
لست أنقم من (السيد سورو) أي شيء، ولئن كنت غير راض البتة عن فقدي مركزي، وهو ما علمت مركز طيب، فإنه لم تعلق بنفسي موجدة على (السيد سورو). أما أنه لمحق. وما أدري ماذا كنت أفعل لو كنت مكانه. على أني لسوء حظي أفهم كثيراً من الأشياء.
ويقتضني الواجب أن أقول إن (السيد سورو) أبى أن يفهم، وكان ينبغي أن أبسط له إيضاحاً، ولكني - على حسب تفكيري الممعن - أحسنت صنعاً إذ لم أشرح له شيئاً، هذا إلى أن (السيد سورو) لم يتح لي وقتاً أسترد فيه حواسي، وأصلح فيه موقفي، لقد بدا جاداً، وبعبارة أخرى: لقد بدا فظاً، بل متوحشاً، ولا علينا من هذا، فما وقع في نفسي أن أحقد عليه.
فأما عن (السيد يعقوب) فأمره غير الأمر، فلقد كان يسعه أن يقدم شيئاً أفيد منه، ذلك أني أقمت معه خمس سنين كان يراني طوالها وأنا أعمل مصبحاً وممسياً، وكان يعلم أني لست رجلاً غير عادي، نعم، فلقد بلاني، ولو أن هذا - بعد التفكير - يعني أنه لم يحط بي خبراً أبداً، ومهما يكن من شيء فقد كان يملك أن يقول كلمة. . . كلمة واحدة، ولكنه لم يقلها، ولا والله ما ألومه؛ فإن له زوجة وأولاداً، وإن له سمعة لا يمكنه التهاون فيها، على أن الحق كل الحق أني لو أذعت ما أعلمه عن السيد يعقوب، لفلت شيئاً. . . ولكن، لينم هادئ البال فلن أقول شيئاً.
إنه خذلني، فلم ينصرني ولم ينقذني، ومع هذا فصدري ليس به غل له هو الآخر، ولقد أحاطت بي مجموعة ملابسات جد ناصبة، ولكن لنذهب الآن إلى أنى وحدي أزر كل الوزر، فالدنيا هي ما قد علمت وما أبرئ نفسي، بل أقر أني ارتكبت خطيئة، وبيان هذا بعد حين.
لقد تقضى على هذه المغامرة زمن متطاول، وما كنت لأتكلم عنها لو لم توقظ في ذكريات(1025/61)
ممضة، ولقد وقعت لي منذ ذلك الحين وقائع تنسيني بعض التفاصيل، ولا بد لي أن أسترعي نظرك إلى أني في مدى خمس سنين لم ألق (السيد سورو) غير ثلاث مرات، وهذا قليل. والسبب أن مؤسسة (سوك دسورو) عظيمة الشأن، وليس في إمكان سادتها أن يتصلوا بمستخدميها الألفين الذين يشتغلون لديهم، أما في صدد اختصاص عملي فلم تكن له صلة بالإدارة.
وذات صباح، أخذ التليفون يصيح، ولست أدري أتثيرك النواقيس والأجراس الكهربية والأجهزة الأخرى التي من هذا النوع الجهنمي، فأما أنا فقد وطنت نفسي لها، وإن كان حسبي لإشقاء حياتي أن يوجد جرس كهربي حيث أكون، ولهذا السبب ولا شيء غير هذا السبب أجدني في بعض اللحظات أهنئ نفسي على أن تركت العمل في المكاتب، إن صوت الجرس ليس كالأصوات، وإنما هو مثقاب يخترق الجسم فجأة، ويودي بالأفكار، ويقف كل شيء حتى دقات القلب، وذلك ما لا قبل لإنسان أن يألفه.
هذا جرس التليفون يدق، فكل من في المكتب يرعبه سمعه ولو لم يظهر عليه الاهتمام، ويكف الصياح، وينتظر الجميع، ولست أشد من غيري عصبية، ولكن هذا الانتظار هو الآخر عذاب، فكل يرتقب ليعرف أوراء الصيحة صيحة أخرى، فإذا كانت واحدة فالمطلوب هو (السيد يعقوب)، وإن كانتا اثنتين فهما على (بفلج) السويسري، فأما أنا فكانت تناديني ثلاث صيحات، ومنذ تركت المكتب وهذه الثلاث تنادي (أودن) الذي كان على عهدي يجيب على أربع.
و (أودن) هو الآخر ليس عصبياً، وهو منذ الصيحة الأولى يأخذ في أكل أنامله من غير أن يبدو عليها شيء وقد انتهى به الأمر إلى أن أصيب ب (دوحس) في ظفره.
وفي ذلك اليوم، بعث الجرس رنة واحدة ليس غير، رنة واحدة طويلة مستقيمة مثيرة بقوة تأكيدها.
وبرز (السيد يعقوب) من وراء حاجزه النصيفي، برز من هذا المخبأ الذي يلزمه كما يلزم حصان السباق صندوقه وأمسك (يعقوب) بسماعة التليفون، وكما هي عادته استند إلى الجدار ملصقاً به رأسه الذي خلف شعره بتوالي الأيام بقعة دهنية على الحائط.
ويبدأ الحديث، وأنصت إلى بعضه، وهو دائماً يثير العجب، فثمة رجل طيب يتحدث إلى(1025/62)
اللاوجود، ويبتسم له، ويلقي إليه بالملق، رجل ينظر فجأة وبإمعان إلى الطلاء البني على الحائط كأنما يبصر شيئاً عجباً.
ومع هذا ففي ذلك اليوم لم يبتسم (السيد يعقوب) في حديثه، ولم يتملق محدثه. ومنذ الكلمات الأولى كانت تتخايل عليه أمارات القلق، وقد دبت الحمرة إلى وجهه، وما لبث أن رمى ببصره إلى أسفل، متطلعاً إلى المدفأة التي كانت قابعة في ركنها كأنها كلب غاضب.
أما أنا فكنت أبري قلماً، وما بي حاجة إلى أن أقول لك، إني كنت اكسر رصاصة القلم ما بين ثانية وأخرى، وكان يتناهى إلى صوت (السيد يعقوب) وهو يتمتم: (ولكن يا سيدي. . . ولكن يا سيدي) وكنت أقول في نفسي: (لئن لم ينته من تكرار قوله: (ولكن يا سيدي. . .) لألطمنه لطمة يدوي صوتها (بان. .) ولأدفعن برأسه إلى الجدار).
غير أني كثيراً ما أحدث نفسي بأشياء من هذا الطراز ولكني في الحق رجل رزين الحصاة، ولست أستجيب أبداً لشيء مما أحدث به النفس، وإنك لتعلم علم اليقين أني ما كنت لألطمه.
وقد كنت لا أزال أكسر رصاص قلمي، وأوسخ أطراف أصابعي، وكان (السيد يعقوب) يذكرني بهؤلاء الروحانيين الذين يدعون الاتصال بالأشباح، مستدلين بهذا الاتصال على أن للأشباح نوعاً من الوجود، وأثناء الصمت الغالب كان ينبعث أزيز متهدج كأنما يتهادى من نهاية العالم، وكنت أتبين في هذا الأزيز رويداً رويداً جلبة صوت متقطع.
وترك السيد يعقوب الجهاز بغتة، وظل يتحسس حلقة التليفون أكثر من عشر مرات حتى تمكن من وضع السماعة، وكنت بلغت من الغضب غايته، ولكن ذلك ظل خافياً قطعاً وانتهيت إلى صنع طرف جيد لقلمي، ومسحت أصابعي في أسفل بنطلوني حيث لا تظهر علامات الرصاص.
انقلب (السيد يعقوب) إلى صندوقه، وفتح بعض الأضابير، وأمسك ببعض الأوراق، ثم صاح فجأة: - سالافان. . . تعالي لحظة
كنت متوقعاً ذلك، فنهضت مطيعاً، ووجدت السيد يعقوب ينزع شعرات من أنفه، وهذا عنده دليل قوي على القلق، وقال لي:
- دونك هذه الكراسة، فاحملها بنفسك إلى (السيد سورو)، ستلقاه في مكتبة بالإدارة، فأبلغه(1025/63)
أني متوعك.
وأمسك عن الكلام، ثم صرف بصره تلقاء النافذة، وغمز بعينه لأنه انتزع شعرة طويلة من أنفه، ووضع الشعرة على ورقة النشاف، وأضاف وهو يحس رغبة شديدة في العطاس، وهي رغبة جعلت عينيه تمتلآن بالدمع:
- امض يا سلافان؛ أسرع.
ولبلوغ مكتب (السيد سورو)، ولا بد من اجتياز عدة أجنحة من المبنى، وفي الصيف عندما تكون النوافذ مفتحة، وعندما تتثاءب الأبواب متأرجحة أمام النسيم، يلحظ الإنسان أقساماً مختلفة، بعضها فوق بعض، والرجال فيها يعملون.
وفي الردهة المؤدية إلى مكتب (السيد سورو) يقف أحد السعاة في بزته الرسمية وجوربه الأبيض، وقد سألني عن مهمتي، وأدخلني حجرة فسيحة وهو يخافت بقوله: (إنك منتظر).
عرفت توا مكتب (السيد سورو) الذي لم أكن رأيته إلا مرة واحدة، ذلك أن رؤيتي للسيد سورو في المرتين السالفتين كانت في قسمنا.
وقد رأيت أستاراً من القماش الأزرق، ولوحات بلون النبيذ، وطالعني في أحد أركان الغرفة رسم قطاعي للآلة الدارسة (سوك دسورو) والأوسمة التي ظفرت بها في المعارض.
أما هو فقد كان هناك، ولعلك تعرفه، وتعرف أنه لا يزال يحتفظ بجانب من حميا شابه، وأنه فارع القامة، حليق شعر الوجه، وله شارب كأنه الفرجون، وذقن حادة التدبب، وشعر كله تقريباً بلون الرماد، وتحت جبهته منظار دائم الارتعاش لأنه لا يضم غير قطعة صغيرة من الجلد.
ونظر إلى (السيد سورو) طولاً وعرضاً، وقال لي في اختصار.
- أمن قسم التحرير أنت؟ وماذا يفعل السيد يعقوب؟
- إنه متعب.
- آه! هات!
وظللت واقفاً في مواجهة المكتب الكبير الإمبراطوري الطراز، وكنت لا أعرف أيهما أحرى بي أن أضم قدمي وأقف معتدلاً أو أن أتخذ وضع الجندي في حركة الراحة.
ويجب أن أعترف لك أني قطعت العمر في مؤسسة (سوك وسورد) متوحداً منفرداً، وكنت(1025/64)
لا أميل إلى المناسبات التي تنأى بي عن عملي ومألوفي، وكان اختصاصي هو تصحيح النصوص لا المثول بين واحد من أمراء الصناعة.
ولذلك كنت في هذه الساعة ألعن (السيد يعقوب) وطففت أدير له في ذهني بعض العبارات التي كنت أتفنن في صوغها والتي لم أنبس بها حتى النهاية، وقد كنت أحمل هم جسماني الذي لم أكن أعرف ماذا أفعل به، فكنت أحس بعض عضلاتي تتقلص في وضع يضايق باقي العضلات، وكنت أشعر شعوراً غريباً بأن شكلي يؤلف أضحوكة ضخمة، ليس بوجهي فحسب، ولكن أيضاً بصدري، ثم بأعضائي، ثم أخيراً بجسدي كله.
ومن توفيق الجد أن (السيد سورو) لم يلحظني، وكان يقلب في الكراسة التي قدتها إليه، وكان يبدو أنه يعاني غضباً ثقيلاً استطاع أن يكظمه.
وفجأة وضع سبابته على الصفحة، وقال من غير أن يرفع أنفه:
- خط رديء لا يكاد يقرأ، ما هذه الكلمة؟
فتقدمت آلياً أربع خطوات إلى الأمام، وانحنيت، وقرأت في غير حبسة وبصوت جهير، (خير أكثر مما يلزم).
وقد وضعتني حركتي هذه إلى جوار السيد سورو، وفي متناول الذراع اليسرى لمقعده.
هنالك فحسب، لاحظت أذنه اليسرى، وإنيلأصدقك حين أقرر لك أن الأمر لم يعد أن يكون عادياً؛ فهذه الأذن كانت أذن رجل من النوع الدموي قليلاً، أذناً كبيرة بها شعرات، وتخللها بقع بلون النبيذ. ولست أعرف على الحقيقة ماذا حملني على التطلع في اهتمام بالغ إلى هذا الركن من إهاب سورو. ولقد تضخم اهتمامي هذا حتى صار بعد هنيهة أمراً شاقاً. كان هذا الجزء أقرب شيء مني، ولكنه بدا لي أبعد شيء عني وأغرب شيء لي، وأعملت فكري قائلاً في نفسي: ذاك جلد آدمي، وإن من الناس من يعتبرونه شيئاً طبيعياً جداً، وإن منهم من يعتبر لمسه أمراً مألوفاً.
وتتابعت على خاطري صور شتى، ووجدتني عفو الساعة أحرك ذراعي اليمنى قليلاً تتقدمه سبابتي، وأدركت حالاً أن بي نزعة إلى وضع إصبعي على أذن (السيد سورو).
وفي تلك اللحظة زمجر الرجل الضخم، وغير رأسه من وضعه، فعراني لذلك غضب، وعرتني في الوقت نفسه راحة؛ بيد أنه عاد إلى القراءة، فشعرت بذراعي تعاود التحرك(1025/65)
في رفق.
كنت بادئ الرأي خجلان أنكر على يدي ما تشتهيه من لمس أذن السيد سورو، ولكني شعرت تدريجياً أن عقلي يطيب لهذه الحركة ويقرها، ولأسباب كثيرة كانت تبدو لي غامضة مبهمة، كان لزاماً على أن، ألمس أذن (السيد سورو) لأثبت لنفسي أن هذه الأذن ليست شيئاً ممنوعاً أو منعدم الوجود أو خيالياً، ولأنفي أنها ليست لحم آدمي مثل أذني أنا نفسي.
وبغتة، مددت ذراعي بطولها، ووضعت سبابتي بمنتهى اللطف والرقة. . . وضعتها حيث أحببت، فوق لولبة الأذن بقليل، على هذا الجزء من الجلد الأحمر بلون الآجر.
سيدي! لقد سيم (دميان) العذاب لأنه صوب مديته إلى الملك لويس الخامس عشر، وإن تعذيب رجل لظلم مخز، على أن (دميان) نال الملك ببعض الأذى والمساءة، فأما أنا فأقولها لك أكيدة إني لم أضر (السيد سورو) شيئاً، ولم تختلج همامة نفسي بأن أتعمده بأي شر، وقد تقول لي إنهم لم يعذبوني، والصدق ما تقول إلى حد ما.
لم أكد ألمس أذن (السيد سورو) بطرف سبابتي بكل رفق حتى كان هو وكرسيه يثبان إلى الخلف، ولا بد أني كنت وقتها شاحب اللون قليلاً، فأما هو فقد استحال لونه إلى الزرقة كما يقع لمرضى فقر الدم حينما يشحب لونهم ثم أقبل من فوره على درجه فأخرج منه مسدساً.
تسمرت ووجمت، فقد شعرت أني جئت شيئاً نكراً وكنت كليلاً لا يضيء لي عقل ولا يستقيم لي رأي.
ووضع (السيد سورو) المسدس على النضد بيد ترتعش في قوة جعلته يحدث صوتاً كصوت اصطكاك الأسنان، وصرخ (السيد سورو). . . صرخ. . .
لست أعرف على وجهه الدقة ماذا جرى، فقد تلقاني عشرة من فراشي المكتب، وجروني إلى غرفة مجاورة، وهناك نزعوا عني ثيابي، وفتشوني، ثم ما لبثت أن استعدت ثيابي، وجاءني رجل بقبعتي، وأنهى إلى أنهم يرغبون في كتمان المر على أن أخرج من المؤسسة فوراً وأوصلوني إلى الباب.
وفي الغداة، حمل إلى (أودن) ما كنت أستعمله في مكتبي من أداة وأشياء خاصة.
تلك هي القصة الحزينة التي أكره أن أقصها لأني لا أستطيعذلك دون أن يساورني ضيق(1025/66)
هو فوق التعبير.
لبيب سعيد(1025/67)