ولما علم الجنرال (كليبر) بما لاقته الكتيبة من مقاومة ومشقة، أراد أن يقضي على حركة المقاومة - ويقوم بعمل حاسميستعيد به هيبة الجيش الفرنسي، ويسترجع مكانته في نفوس الشعب، فأمر بالقبض على (السيد محمد كريم) وبعث به إلى أبي قير، تمهيداً لتوصيله إلى القاهرة، حيث يقابل نابليون، ويدفع عن نفسه التهم الموجهة إليه، وفي نفس الوقت، أرسل الجنرال كليبر كتاباً إلى نابليون يعرض فيه أمر السيد محمد كريم، ويطلب منه ألا يأمر بعودته إلى الإسكندرية حتى لا تعظم مكانته ويستفحل أمره - ويزداد نفوذه في نفوس الأهالي
وقد مكث (السيد محمد) في أبي قير أياماً. . طلب بعدها من الأميرال (بردي) قائد الأسطول أن يأمر بتوصيله إلى القاهرة. فأرسله الأميرال بدوره إلى رشيد. . ليبعث به الجنرال مينو إلى القاهرة. . .
ومما هو جدير بالذكر. . أن (السيد محمد كريم) على الرغم من أن دائرة حكمه لم تكن تتعدى الإسكندرية. . إلا أن شهرته قد انتشرت في جميع أجزاء مصر. . وأصبح المصريون - على اختلاف طبقاتهم - ينظرون إليه على اعتباره محور المقاومة للنظام الجديد. . وعلى اعتباره زعيمهم المعبر عن أمانيهم. . والمفصح عن آمالهم. . .
يقول الأستاذ عبد الرحمن الرافعي:
(وصل السيد محمد كريم. . إلى رشيد. . مطلق السراح، وكانت منزلته من نفوس المصريين قد عظمت بسبب اعتقاله. . وانتشرت محبته في كل مكان. . فلم يكد يعلم أهالي رشيد بمقدمه حتى سارعوا إلى ملاقاته بالحفاوة والتكريم. . ما اضطر الجنرال مينو إلى القبض عليه. . والإسراع بإرساله إلى مصر. . .)
وما كان السيد محمد كريم يصل إلى مصر. . حتى أصدر نابليون أوامره إلى الجنرال (ديبوي) حاكم القاهرة: بالتحقيق معه. . كما طلب منه أن يحاول إثبات التهمة عليه بمختلف الوسائل
ولم تكن هناك حاجة إلى التحقيق، فسرعان ما انتهى بثبوت التهمة عليه. . وإعلان خيانته للجمهورية الفرنسية
(وأصدر نابليون أمراً بإعدامه رميا بالرصاص. . ومصادرة جميع أملاكه وأمواله. . وسمح(1004/28)
له أن يفتدي نفسه بدفع ثلاثين ألف ريال في أربع وعشرين ساعة)
فرفض السيد محمد أن يدفع له هذا المبلغ. . لم يكن ذلك منه عجزاً. . أو حرصاً على المال. . وإنما كان إيماناً بالله. . . وإيماناً بأن الموت مصير كل إنسان. . ونهاة كل مخلوق
فليكن موته إذن على أيدي أعدائه. . وأعداء بلاده. . حتى يكون ذلك وقوداً جديداً للثورة. . . وباعثاً للمصريين على مواصلة الكفاح والنضال لتحرير بلادهم من أيدي أعداء الدين والوطن
ولقد نصحه أحد تراجمة الحملة بأن يدفع الغرامة. . وقال له:
(إنك رجل غني. . فماذا يضيرك أن تفتدي نفسك بهذا المبلغ. .
فأجابه السيد محمد كريم:
(إذا كان مقدراً عليّ أن أموت، فلا يعصمني من الموت أن أدفع هذا المبلغ. . وإذا كان مقدراً لي الحياة. . فعلام أدفعه؟؟)
وظل على رأيه. . إلى أن نفذ فيه حكم الإعدام. . وبذلك أصبح (السيد محمد كريم) بجانب زعامته للشعب، أول شهيد من شهداء الحرية، في عهد الحملة الفرنسية
هذه خلاصة موجزة، لسيرة ذلك البطل المصري، الذي استطاع أن ينفخ من روحه القوية، في نفوس مواطنيه، معنى الحياة الحرة الكريمة، والذي استطاع أن يثبت بكفاحه وجهاده أن مصر لم تكن تفتح أبوابها لكل طارق، وأن شعب مصر، لم يكن يتنازل عن حريته. . أو يفرط في كرامته. . لأي فاتح، مهما بلغت قوته، أو زادت سطوته. .
كما اثبت سجل النهضة المصرية، ملئ بآيات الشجاعة والمجد، حافل بصور الكفاح والتضحية. . . زاخر بضروب البسالة والإقدام. . .
عبد الباسط محمد حسن(1004/29)
أقلام الثورة
عمر عودة الخطيب
مهداه إلى صاحب العلم الثائر الأستاذ سيد قطب
ضاقت الكنانة ذرعاً برعايا الشيطان، الذين تربعوا على عروش الظلم والطغيان، وعاثوا في الأرض الفساد، وأذلوا رقاب الناس، واحتكروا أقوات الشعب، وكمموا الأفواه الثائرة، وحطموا الأقلام الطاهرة، فأرسلتها صرخة مدوية قوية زلزلت الأرض تحت أقدام الحاكمين، وقوضت دولة الفساد، وأفزعت هذه الحفنة من العبيد الجلادين، فطرد ملك مستبد، لينعم الناس بالحرية، وألغي البوليس السياسي ليتحرر الشعب من الخوف، وستوزع الأرض على هذه المواكب التعسة الكادحة لتشبع البطون الخاوية وتكتسي الأجسام العارية، وكانت - والحق - ثورة تليق بمجد مصر وشعب مصر
وإذا كان لا بد للثورة من عقول حازمة، وقلوب مؤمنة، وعزائم قوية، لتطهر الحكم من الفساد، وتنقذ الشعب من الشقاء، وتحرر البلاد من الأعداء، فهي أشد ما تكون حاجة إلى أقلام ثائرة، مدادها الإخلاص، ورائدها الحق، لتطهر النفوس من الضعف والخنوع، وتحرر العقول من الغفلة الركود، وتأخذ بيد هذا الشعب إلى ذروة عالية هو بها جدير
تريد الثورة أن يكون القلم جندياً شريفاً، يوقظ الأفكار الهاجعة، ويحرر القلوب الخانعة، ويخط رسالة المجد، ويكتب سطور القوة، ويلهب بكلماته حماس الشعب لكل إصلاح، ويقر بصيحاته الآذان الصم، ويفتح القلوب الغلف، ويبعث بصرخات الضمير الميت، ويبني بمداده حصن الحرية المكين، وصرح الخلق المتين
تريد الثورة أن تسكت هذه الأقلام الفاجرة، التي تغذت من الفساد حتى ترهلت، ورضعت من الإثم حتى ارتوت ومجدت الطغاة والمفسدين، وحاربت الهداة والمصلحين، وانغمست في التحلل والضلال، وماتت عندها الكرامة والرجولة؛ وفقدت معاني الشرف، وخانت أمانة الله والوطن. . . نعم تريد الثورة أن تسكت (أقلام الترفيه الماجن)، التي تتملق الغريزة الجنسية وتتلف أعصاب الشباب بسم الإباحة. . . هذه الأقلام التي كانت تجول في معارك الرقص مع حبائل الشيطان، والشعب يخوض معارك النار مع الأعداء؛ وكانت تنفق على غانيات باريس وفي نوادي لندن ونيويورك ألوف الجنيهات، والشعب يجود من ما لأبطال(1004/30)
التحرير في فلسطين والقنال بثمن اللقيمات. . . ثم تعود هذه الأقلام الرفيعة إلى مصر من رحلاتها الفاجرة، لتقص على هذا الشعب المسكين جمال الباريسيات وعناد الألمانيات وطيش الأمريكيات، وتقول له - بوقاحة سافرة - هات ثمن هذه الزاد الفكري القيم، الذي أتعبنا به أنفسنا، وأرهقنا بسببه أعصابنا وتكلفنا في سبيل جلبه، إليك وعثاء الطريق، وتكبد نفقات السفر!!. . ويصدق الشعب المسكين هذه الأكذوبة ويعطيهم بغير حساب، ويقبل على ما يكتبون، فلا يجد به سوى دعوات الفجور بأسلوب تفوح منه ورائح الإثم
تريد الثورة أن تسكت الأقلام المأجورة التي اشتراها الدولار وغذاها الاستعمار، وأمدها فلم المخابرات لتسبح بحمد الدخلاء وتروج لسياسة الأغراب، وتنشر على الناس أساطير الديمقراطية وأكاذيب الأهداف الغربية. . . هذه الأقلام التي ولدت في مصر وشربت من نيلها الصافي وعاشت من خيرها العميم. . استهواها السين وبرح بها هوى التايمز، فأنكرت قوميتها وجحدت شرقيتها، وكفرت بالأمة وسخرت من الشعب، وألقت في النيل بأحجار المقت والكفران. . فهي تتحدث - بإكبار - عن الإنجليز في بلادهم، وتنسى الحديث عن الإنجليز في مصر والشرق، وهي تعشق فرنسا بلد النور والحرية والإشعاع، وتعمى عما تعمله فرنسا من وحشية واستبداد في بلاد المغربي العربي. ثم تبلغ بها الوقاحة منتهاها حين تزعم أنها تدافع عن حق الشعوب المضطهدة، بمثل هذه الأساليب الرخوة المتهافتة، التي لا تصدر عن ضمير حر وقلب متأثر. . . والعجيب في هذه الأقلام أنها إذا ما رأت طلائع الثورة، ولمحت أشعة الفجر، وعرفت أنها ستفضح وينكشف عورها، خرجت من الظلام، وطامنت من كبريائها؛ ونزلت من أبراجها، وأدلت بدلوها، وبرزت أمام الناس أقلاما حرة نظيفة، بسطور من النفاق تزخرفها، تضحك بها على الشعب الذي خذلته في أيام المحنة، وسخرت منه حين كان يطال بالحربة والاستقلال
تريد الثورة أن تختفي من السوق بضاعة الأدب الأسود، أدب الميوعة والمجون، والنفاق والتهريج، ليحل مكانه أدب قوي رصين يستمد أصوله من الماضي التليد والحاضر المجيد، ويبني بحكمة وقوة حضارة مصر والشرق، ويؤيد بحرارة وإيمان آمال العروبة والإسلام. . . وأصحاب الأقلام يعرفون قبل غيرهم أن الشرق العربي والعالم الإسلامي يعاني أزمة خانقة، يثيرها أعداؤنا في كتلتي الشرق والغرب؛ ويرون فينا لقمة سائغة تبتلعها أفواه(1004/31)
المدافع، وهم لذلك يعدون لنا - ولنا وحدنا - وسائل التدمير والخراب، وأسلحة الحديد والنار. . ثم يضحكون لنا، ويزينون للمخدوعين منا مبادئهم، ويظهرون بأثواب الحملان الوديعة، التي تريد بنا الخير وتتمنى لنا السعادة والطمأنينة. . فمن واجب الأقلام هنا أن تنزل إلى الميدان، لتحذر الشعوب الغافلة من مكائد الاستعمار وأذنابه، وتنقذ المخدوعين من أنياب الذئب وأظفاره
ثم إن أصحاب الأقلام يعرفون قبل غيرهم أنه يجثم على صدورنا كابوس ثقيل من الفقر والجهل والمرض. . . كابوس صنعه هؤلاء المترفون الذين يعيشون في قصورهم الكبيرة، وينفقون الملايين الكثيرة، ويأكلون فلا يشبعون، ويشربون فلا يرتوون، ويرون بأعينهم الكافرة صوراً شاحبة حزينة لأناس معروقة العظام، بادية السقام، تهيم في الأزقة المظلمة الحقيرة، لتربض عند أكوام من (القمامة) تبحث فيها عن الفتاة الذي ركله السادة المبطلون يرون هذا من خلف أسوارهم المنيعة فلا يرحمون، ويسمعون الأنات الشاكية تنبعث من صدور الجائعين فلا يشفقون، إن أصحاب الأقلام يعرفون كل هذا فعليهم أن يدركوا بأقلامهم الثائرة أسوار الجلادين، ويبعثوا بأضوائهم الباهرة إلى أكواخ البائسين، لتحقق العدالة الاجتماعية، وتعم الأخوة الإنسانية، ويعيش الناس في أمن وسعادة ووئام
هذا ما تريده الثورة العاقلة التي خلعت ملكاً ظالماً، وأنقذت شعباً مظلوماً، وطهرت حكما فاسداً، وأيقظت شعوراً راكداً، وبدأت تبني للأمة مجتمعاً فاضلاً، وتهيئ لها مستقبلاً رغداً، وهي تهيب بالأقلام أن تسير مع القافلة نحو القوة والعزة والمجد. فهل تستجيب
عمر عودة الخطيب(1004/32)
رسالة الشعر
أحبابي الموتى
للأستاذ أنور العطار
فيا عهدهم لازلت نضرا على البلى ... ترف رفيف النور في أضلع الزهر
أحن إليكم كلما ذر شارق ... وأبكيكم ما عشت في السر والجهر
أحباي يا سؤلي ويا غاية المنى ... طويتم ضلوع القلب في على الجمر
وبت أناجيكم اهفوا إليكم ... واصبوا إلى لقياكم آخر الدهر
كأني لحن الحب قيثارة الهوى ... أنوح على الأحباب بالدمع الحمر
أصوغهم شعرا يفيض مواجعا ... وأنظمهم عقدا يتيه على الدر
وأودعهم قلباً تقطع حسرة ... عليهم، وعيناً دمعها أبداً يجري
فيا عهدهم لازالت نضراً على البلى ... ترف رفيف النور في أضلع الزهر
ويا طيفهم زدني اشتياقا ولوعة ... يزدك الهوى ما شئت من دامع الشعر
فيا أيها الغادون لا البين صدهم ... ولا حجبت أنوارهم ظلمة القبر
جفوني مأواهم، ضلوعي قبورهم ... فيا قلبور خطها الحب في صدري
سلوا الجفن هل طافت به سنة الكرى ... سلوا الليل هل دارت به مقلة الفجر
إلى الله أشكو ما أقاسي من النور ... وما يتنزى في الخواطر من ذكر
بروحي أنتم من محبين ودعوا ... فودعت أفراحي وفارقني صبري
ولم تؤوني الأرض الفضاء كأنني ... سجين أقضي العمر في النفي والأسر
بعيد عن السلوان، صفر من الآلي ... أشاع هواهم لذة الشعر في ثغري
فهل علم الأحباب أن خيالهم ... سميري في حلو الحياة وفي المر
إذا نسي الإنسان في اليسر صحبه ... فلا خير في التذكار في ساعة العسر
أأيامنا لا زلت معسولة الجني ... كروض شذي رف في حلل خضر
أناجيك بالقلب اللهيف من الجوى ... وأرعاك بالود البريء من الغر
وأسقيك دمع العين سقيا كريمة ... إذا ضن جفن السحب بالساكب القر
سلام على تلك العهود فإنها ... أمدت خريف العمر بالورق النضر(1004/33)
وزانت أناشيدي ووشت مدامعي ... فمن لؤلؤ نظم إلى لؤلؤ
وما شئت من ظل رخي ومن شذا ... وما شئت من طير يغني ومن
أماني في زهو الحياة وفجرها ... مرصعة الأوفياء يا الممتع المغر
أراك بعيم قد تنكر دهرها ... وما ألفت إلا الوفاء على النكر
وأصبوا إلى ذكراك والذكر راحة ... لمن عاش في الهم المبرح والخسر
وأشتاق آلافا سقاني ودادهم ... كؤوس الهوى حتى انتشيت من السكر
وحتى كأن الدهر طوع أناملي ... ينولني قصدي ويبلغني أمر
إذا زرتني يا طيفهم في حمى الكرى ... فقد زارني سعدي وعاودني بشر
وأشرقت الدنيا بعيني وازدهت ... ليالي بالأنوار والأنجم الزر
وهون ما ألقاه من لاعج الضنى ... وخفف ما أشكوه من ثائر الفكر
مررت على الدار التي غالها البلى ... وقوضها حتى استحالت إلى قر
فنازعني قلب يذوب صبابة ... إليها، ودمع لا ينهنه بالزحر
أطوف بها والروح يعصرها الشجا ... ويعمرها بالبشر حيناً وبالذر
هنا الأهل والأحباب والقصد والمنى ... هنا الملتقى بعد القطيعة والهجر
هنا تجثم الذكرى هنا ترقد الرؤى ... هنا الموت يبدو في غلائله الصر
هنا يقرأ الإنسان سفر حياته ... ويا هول ما يلقاه في ذيلك السر
صحائف إن قلبتها ازدتت حسرة ... على ما بها من غائل الغدر والشر
هنا العبرة الكبرى التي دق شأنها ... وأعوزها سبر فأعيت على السر
هنا يخشع القلب الشجي مرددا ... كتاب الردى المحتوم سطراً إلى سطر
بنفسي أرواح رقاق حبيبة ... مضخمة الأعطاف مسكية النشر
تأرج بالذكرى وتعبق بالهوى ... كأن بها عطراً أبر على العصر
أعيش بها خذلان يسعجني الرضا ... ويقنعني منها الخيال إذا يسر
سلام على الأحباب إن طيوفهم ... لتملأ هذا الفكر بالنائل الغر
ولولاهم لم أجن ريحانة الهوى ... ولولاهم ما شمت بارقة العبر
ولا صغت أنغاما لطافا شجية ... أرق من النجوى وأصفى من الخمر(1004/34)
يرى المفرد الحيران فيها أليفة ... وينسى بها دار الخديعة والمكر
عفاء على الدنيا فما هي لذة ... إذا كانت في شطر وقلبك في شطر
ويا بؤس محيانا ويا طول غمنا ... ويا شد ما نلقاه في الدهر من قسر
ويا شوقنا للصحب في غمرة الردى ... وفي هدأة المثوى وفي رقدة العفر
نمر خيالات يوشجها الأسى ... وننزع أثواب الحياة ولا ندري
ونطرح أياما ثقالا رهيبة ... براء من الألوان خلواً من السحر
أنور العطار(1004/35)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
الأدب في البصير
لفت نظري أخي الكاتب الأديب الأستاذ صديق شيبوب إلى احتفال الدوائر الأدبية الفرنسية هذه الأيام بذكرى مرور خمسين سنة على وفاة إميل زولا ومائة سنة على وفاة بول بورجيه
والأستاذ صديق شيبوب من ابرز كتاب الأدب المعاصر في الثغر الإسكندري؛ وقد شارك بجهود ضخمة في جماعة نشر الثقافة، وهو الآن محرر الصحيفة الأدبية الأسبوعية من جريدة البصير التي تظهر يوم الجمعة، والتي أنتظرها بشوق بالغ لأقرأ تلك الفصول الأدبية القوية التي يكتبها شيبوب فيسكب فيها عصارة مجهود ضخم، يبذله طول الأسبوع، فهي تحوي تلخيصاً وافياً لكتاب من الكتب الأوربية الجديدة وتعليق المترجم عليه
وجميل أن تظل صحيفة (البصير) التي تملأ أعمدتها بحديث المال والاقتصاد، محتفظة بذلك التقليد الجميل، تقليد الصفحة الأدبية الأسبوعية بعد أن هجرته الصحف اليومية أو حولته إلى صورة ليست من الأدب في شيء لإرضاء رغبات القراء، وغرائز الجماهير
وقد كانت بدعة الصحيفة الأدبية الأسبوعية قد انتشرت في الصحافة المصرية إلى ما قبل 1939 عندما بدأت الحرب العالمية، واضطرت الصحف إلى أن تلغي صفحات الترف منها واقتصرت على الأنباء الهامة
وكانت الصفحات الأدبية في البلاغ والسياسة والأهرام والمصري، تتناول الكثير من مشاكل الأدب وشؤون الفكر. . على نحو لا بأس به. وكانت تقوم المحاورات والمساجلات الأدبية بين كتاب الصحف اليومية وكتاب المجلات الأدبية، كالمسجلات التي قامت بين العقاد في الجهاد وطه حسين في الرسالة. . وغيرها
فأما انتهت الحرب العالمية وعادت الصحافة إلى التوسعة على قرائها بمزيد من الصفحات، كان الذوق الصحفي قد طور، وأخذ يمضي في طريق يمكن القول بأنه مضاد للأهداف الأدبية والفكرية العليا، فقد عنيت الصحافة بالأدب الخفيف أو أدب (الساندويتش) وحرصت على أن تقدم للقارئ القصة المثيرة، والصورة العارية، والفكاهة التافهة، باسم الطرائف(1004/36)
ورمت الصحف اليومية من هذا إلى تقليد المجلات الأسبوعية التي تعيش على إرضاء أهواء القراء، وبذلك انحسرت الموجة الأدبية تماما من الصحف اليومية وتوارت خلف بعض المجلات الأدبية الأسبوعية التي ما زالت تحتفظ بطابع الأدب الرفيع
الشاعرات
من الملاحظات الدقيقة الجديرة بالبحث والعلاج، ندرة الشاعرات بين فتياتنا ونسائنا المثقفات. ويقيني أن الأمر لا يقف عند الشاعرات فحسب، ولكن ينسحب على اللواتي يشغلن أنفسهن بالعمل الأدبي بوجه عام
فأنت لا تستطيع أن تحصي أكثر من شاعرتين أو ثلاث، لا يرتفع شعرهن إلى قاعدة الإجادة أو التفوق
وهناك أسماء كاتبات وشاعرات كانت تلمع قديماً، ثم اختفت وتوارت. . من أمثال ذلك الكاتبة (ملك محمود السراج) أين هي الآن، لماذا اختفت وراء السحب، لماذا اكتفت بحياتها المنزلية المحدودة؟ إن زميلاتها، أمينة السعيد، وبنت الشاطئ، وجميلة العلايلي، وغيرهن. . ما زلن يكتبن. . فلماذا تختفي هي!
وإذا كانت لا تحب الاتصال بالمجلات الأدبية فلماذا لا نرى لها بين آن وآخر كتاباً جديدا؟ إنها زوجة كاتب كبير واسع الأفق طالما أثار على صفحات المجلات فنوناً من الآراء الجديدة، قبل أن يشتغل بالسياسة، هو الدكتور محمد مندور، وما نعتقد أن الكاتب الكبير يحتجز هذه العبقرية أو يحول بينها وبين الضوء
أدب الانقلاب
لاشك أن الأدب في الشرق سيدخل في البوتقة ليظهر من جديد، فإن الانقلابات العسكرية التي وقعت في سوريا ومصر ولبنان خلال هذه الشهور السبعة، ستكون بعيدة الأثر في كيان الأمة العربية
وقد كانت هذه الأمة التي تمتد على ساحل البحر الأبيض من الشام إلى مصر كانت تعيش في مرحلة عصيبة عنيفة، قاست فيها الظلم والظلام والإرهاق. . خلال الفترة الأخيرة التي سبقت استجابة الجيش لرغبات الشعب في إقصاء الطغاة وإخراجهم وإقامة حكومات جديدة(1004/37)
تنبع من روح الشعب وآماله
وقد كانت الأمة العربية في لبيان وسوريا ومصر. . تعيش في ذلك الشقاء، وهي تحس بإرهاصات غروب دولة. .، وانتهاء جيل، و. . شروق فجر جديد
ولاشك أن ذلك الالتقاء النفسي الواضح بين الشام ومصر الذي يلقي أضواء متشابهة على التاريخ الماضي في مختلف العهود؛ يبشر بألوان أدبية جديدة ستظهر في الأفق في وقت قريب
الترجمة والشعر المنثور
ظاهرتان جديدتان، أو متجددتان في الأدب العربي والمعاصر، تبدوان مرة أخرى بعد أن اختفتا طويلاً. . هما العود إلى الترجمة وظهور الشعر المنثور مرة أخرى
بدأت النهضة الأدبية في أول أمرها بعد ثورة 1919 بالترجمة عن الآثار الأوربية، وقد كان في مقدمة روادها الزيات وطه حسين والسباعي وخليل مطران والمازني
ثم بدأ أدب الإنشاء والنقد والبناء، وساهم فيه هؤلاء الرواد بدور ضخم. . غير أن ظاهرة العودة إلى الترجمة بدت مرة أخرى في أفق الحياة الفكرية واتصلت في الأغلب بالآثار العلمية والتاريخية
وفي مقدمة الكتب المترجمة الجديدة: الوحدة الإيطالية (لبولتن كيم) الذي ترجمه الفريق طه الهاشمي، وهيلين كيلر للأستاذ مرسي قنديل، وتطور الزراعة للأستاذ نظيف وزير زراعة سوريا
أما الظاهر الثانية فهي (بدعة) الشعر المنثور. . .
لقد عادت مرة أخرى بعد أن اختفت وقتاً طويلاً. . وكدنا أن ننسى هذا اللون. . ويجيء هذا التيار هذه المرة من الشام ومن لبنان بالذات! فقد صدر في الأسبوع الماضي ديوانان منه (أمواج) للشاعرة هند سلامة و (لمن) للأستاذ ألبير أديب
ولاشك أن كتابين من لون واحد في وقت واحد يدعو إلى التسجيل والبحث
وعقيدتي أن هذا اللون هو من أدب الترف يمكن أن يظهر في الأمة بعد أن تستكمل أدوات قوتها وعوامل نضوجها. .، أما الآن ونحن في مرحلة (الثورة). .، وفي مواجهة الأحداث، أحداث التجديد والتغيير، والتحرير والتطهير؛ فما أحوجنا إلى الأدب الجاد الصارم(1004/38)
إن الشاعرة (هند سلامة) - زكم كنت أحب أن أعرف عنوانها لأكتب لها - تثير في نفس القارئ شعوراً، وهو مزيج من القلق و. . .، وما كان أغناها عن إثارة هذا الشعور، فنحن نطمع في المرأة الجديدة التي تستطيع أن تنقي جو حياتنا الفكرية والاجتماعية من الوساوس وأسباب القلق!!
وهذه قطعة تخيرناها من كتاب الشاعرة (هند) وراعينا فيها أهداف الرسالة بعنوان (لولاك)
أيها القلم. .
ها أنا ذي أودع قلبك. .
وأهمس في أذنك
أسرار أحلامي الأخيرة. . .
في طباعي شذوذ
إني أنشدك كلما ضاق صدري بالهجوم
وأثقلت قلبي الرزايا والمحن
ففي وشوشاتك للكلمة والحرف
ما يخفف عن القلب أثقاله
وفي دبيبك على القرطاس. .
ما يفك عن الصدر أغلاله. .
ويحملني بعيدة
بعيدة على أجنحة الأثير
لولاك يا قلم
ما اتسعت بي الأرجاء
ولما كنت خفيفة طليقة كالنسيم
رغم نفسي المثقلة
المقيدة بأسباب الحقيقة والوجود
لولاك
ما كان لي تعزية ساعات معدودة(1004/39)
ولكنت سلكت مسالك الناس
وكشفت لهم عن آلامي
ولكنني لم أجد قلبا كقلبك
يتسع لسبر أغواري
وكشف حنايا نفسي
أبثك لأعلن لك أسراري
وأطرح عليك أثقالي
وبعد فإنا موقن بأن الشاعرة (هند) لو كتبت هذه القطعة على أنها لوحة نثرية لجاءت غاية في الروعة، ولكانت أقوى ألف مرة، من هذا التمزيق والتقسيم والتقطيع لأوصال الكلمات والجمل حتى يمكن أن يطلق عليها اسم الشعر المنثور. . وما أثقله من اسم
أنور الجندي(1004/40)
الكتب
بلادنا فلسطين
(229 صفحة من القطع المتوسط طبع القاهرة 1948)
التاريخ القديم للشرق الأدنى
(266 صفحة من القطع المتوسط طبع بيت المقدس 1951)
تأليف الأستاذ مصطفى مراد الدباغ
للأستاذ علي محمد سرطاوي
الأستاذ، مصطفى مراد الدباغ، مؤلف هذين الكتابين، المفتش في معارف حكومة فلسطين سابقاً، والوكيل المساعد لوزارة المعارف الأردنية اليوم، وأحد أفراد أسرة الدباغ اليافية، التي اشتهر أفرادها بالفضل والعلم والأدب، ومنهم الشاعر المبدع المرحوم إبراهيم الدباغ في مصر، علم من أعلام المؤرخين المعاصرين، وقطب من أقطاب التربية والتعليم جمع إلى العلم الغزير، المثالية الإسلامية في أروع صورها
حصل على ثقافة عميقة الجذور في كلية المعلمين في بيروت زمن الحكم العثماني، بحكم ذكائه الذي جعله الأول على جميع الطلاب في جميع سنوات الدراسة، والتحق بالجيش، فصقلت خشونة الجندية الرجولة الفذة الكامنة فيه، وطبعته بطابع الصرامة والجد، في كل ما يتصل بنفسه وعمله من شؤون؛ والجندية كالنار، لا يخرج منها غير المعدن الصافي، والذهب الإبريز وحين كانت الجحافل التركية تتراجع أمام جيوش الثورة العربية، التي كان يقودها المغفور له فيصل بن الحسين، في الحرب العالمية الأولى. وفي وهاد الأردن، وأطراف الغوطة ومرتفعات الأرز، انتقاماً من وحشية الاتحاديين، متمثلة في فظاعة السفاح، الطاغية، جمال، الذي راح يطارد، في جنون السلطان المطلق، أحرار العرب، ويسوق إلى أعواد المشانق، الصفوة الممتازة من رواد الحرية في الأمة العربية، في عالية، وقد التفت حوله بطانة مجرمة من رجال السوء، والخونة المارقين في أردية الكهنوت الإسلامي، كانت تعمل في الوقت نفسه لحساب الحلفاء، وراحت تلك الفئة التي تجري في(1004/41)
شرايينها معاني الرق، تحرف كلام الله عن مواضعه إرضاء لطغيانه، وتفتيه في خيانة أولئك الأحرار، محللة له سفك دمائهم باسم الدين؛ لم يكد ذلك ليتم حتى كان حاييم وايزمن، المحاضر في جامعة منشستر يقهقه ملء رئتيه، في عاصفة هوجاء من المرح الأرعن، ويشرب من أصحابه الغادرين، نخب النصر الذي أحرزه على المغفور له الملك حسين بن علي، بوعد بلفور
لم يكن وعد بلفور في حقيقته غير بداية الهجوم على الشرق في حرب صليبية مقنعة، لم يكن للضمير الإنساني فيها أي نصيب، وتضاءلت فظائع القدامى من الفاتحين أمام وحشيتها، وضراوتها، وهمجيتها، لكم حولت - يشهد الله - تلك الحفنة الباسلة، التي كان نصيبها أن تكون في خط النار الأول في معركة الهجوم الوحشي على الشرق الأدنى، من أبناء فلسطين - أن ترسم أمام الأعين التي يغظ أصحابها في سبات الغفلة العميق، صورة الدوحة الهائلة تنبت من البذرة الصغيرة، وأن تجسم الخطر الذي سيهدد أمن الشرق جميعه من وراء عبارات وعد بلفور المتواضعة، ولكن كل تلك الجهود ذهبت عبثاً، ولم يكن أمامها غير الثبات إلى النهاية متحملة الخسائر في كل شيء، مدى ثلث قرن من الصراع الرهيب بين قوى غير متكافئة، وهي منفردة في معركة الشرف لم تتزحزح، ولم تفرط، حتى غلبت على أمرها، وشردت عن أوطانها، في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن استبيحت المحارم، وانتهكت الأعراض، ودنست المساجد، في عار لم تسجل صحف التاريخ مثله على أمة من الأمم، وسيظل الذين ظاهروا عليه، موضع اللعنة من الله ومن الأجيال المقبلة في تاريخ الأمة العربية والتاريخ الإنساني إلى يوم يبعثون
عاد (أبو عمر) إلى أرض الوطن الذي بارك الله ثراه بإسراء سيد المرسلين إلى المسجد الأقصى فيه، فرأى أن العمل الخليق بالجندي الباسل هو التعليم، بحكم ما فيه من شرف بالغ، وتضحيات جسيمة، وعمل مجيد للأمة يمد جذور حياتها إلى ثرى المستقبل
التحق بإدارة المعارف، مديراً لثانوية الخليل، ثم أستاذاً محاضراً في كلية المعلمين بالقدس، تلك الكلية التي طافت بها نفحات قدسية قومية ساحرة من عبقرية شاعر الأمة العربية معروف الرصافي رضوان الله ورحمته عليه، يوم أن كان أستاذاً محاضرا فيها ثم الحق بإدارة التفتيش وبقي فيها حتى اليوم الخامس عشر من أيار 1948 وهو اليوم الذي انتهى(1004/42)
فيه الانتداب البريطاني على فلسطين
كانت المشكلة التي تواجه الوطن القومي، والتي كان يخيل للقائمين على تأسيسه أنها مستعصية الحل، هي الحصول على الأراضي الكافية لإقامة القلاع الحربية في مظاهر متواضعة من الأكواخ البسيطة، غير أن القدر الساخر ما لبث أن جعل المشكلة بصورة عجيبة، عن طريق انتقال صفقات هائلة من أخصب الأراضي، قامت عليها من أزمان موغلة في القدم، قرى، ومزارع، وفلاحون، إلى الأيدي الصهيونية، كانت تملكها الأسر الكبيرة من غير أهل فلسطين، تقيم في الأقطار العربية المجاورة؛ ذلك إلى جانب الوسائل الجهنمية التي ابتدعها رئيس النيابات العامة نرومان بنتويش، بما كان يصدره من أنظمة تعسفية وقوانين غريبة لوضع البلاد في أسوأ الأوضاع التي من شأنها أن تجعل في إقامة صرح الوطن اليهودي
وكان لا مفر لبناة الوطن القومي اليهودي من رسم مناهج التدريس في المدارس العربية الحكومية رسماً بارعاً، تعين النتائج فيه على بناء ذلك الوطن، بخلق طبقة مستغربة من العبيد لا تعرف مكانها من الكرامة، ولا تاريخها المجيد في تواريخ الأمم والشعوب، تعيش ليومها، ضيقة الآفاق، تعبد الغرب بدل من الخالق، يملأ الغرور نفوسها، ويوهن ما في ضمائرها من خلق وشرف ورجولة، طول الجري وراء أجساد العاهرات من بنات إسرائيل؛ ولكن الله رد كيدهم إلى نحورهم، فلم تفلح مناهجهم الآثمة في إخراج واحد من أبناء فلسطين، على النمط الذي أرادوا
وكانت محاولة الإصلاح في جو موبوء مسموم من هذا النوع، ضرباً في حديد بارد، ونفخا في رماد، ولكن الأستاذ الدباغ، رأى في تلك المناهج، على الرغم مما فيها من فساد، شيء لا بأس به من الخير؛ إذ ليس هنالك خير مطلق، أو شر مطلق في الوجود، وراح كالغواص البارع، يبحث في ظلامها الدامس عن الدر والجوهر، فوجد من ذلك ما حاول به إصلاح سوء النية في وضعها، وراح يركز نشاطه في بيئة الفلاحين، وفي مدارس الريف باعتبار الفلاح الحارس الأمين على أرض الوطن التي امتزج ثراها بدماء النافحين من خير أمة أخرجت للناس، وكان يهيب بضمائر المعلمين، ويبيح لهم التحلل من القيود المنهجية في الحد الذي يبصره الضمير القومي من حذف أو زيادة أو تغيير، وأن تركز(1004/43)
المسائل الحسابية على شراء الأرض، وأن لا يجري بيعها على لسان أبدا
وظهر في هذه الفترة كتابه (في القرية)، ويدعو فيه إلى تركيز القوى للنهوض بالفلاحين، وتوفير ما يكفي من الخدمات الصحية والتعليمية لرفع مستواهم، وتوفير عدالة اجتماعية في الحدود الممكنة
وأدرك السير (آرثر واكهوب) المندوب السامي على فلسطين آنذاك، والذي يتظاهر بصداقة الفلاحين، ويكثر من زيارتهم، والحفاوة بهم، على الرغم من دخول أكبر عدد من المهاجرين أيام حكمه، وكأنما كان يمثل دور الصياد الذي يبكي هو يذبح العصافير في القصة المشهورة؛ أدرك ذلك الداهية الأريب والجندي المدرب، وكان رجلا، قدر المؤلف الرجل، وقد صدق وطنيته - وكان للسير واكهوب ضمير إنساني حساس، يختلف عن ضميره الرسمي - فبعث إليه بكتاب يطفح بالشكر، وينوه بمجهوده نحو إصلاح القرية، ويطلب إليه المزيد من العناية، ويبارك عمله المجيد
من أبرز ما يمتاز به (أبو عمر)، الأستاذ الدباغ، إحساس عجيب يسبق الزمن، وما يجري وراءه من أحداث، أو قد تتمخض عنه تلك الأحداث من مفاجئات ونتائج. ومن مظاهر ذلك الإحساس انكبابه على تأليف موسوعة تاريخية في هذه الفترة أطلق عليها اسم (بلادنا فلسطين). وكأنما ألقى إليه من وراء الغيب، أو أدرك بحاسة سادسة عجيبة، أن أحداثاً جساماً في طريقها إلى تلك البلاد، تأكل الأخضر واليابس، وتمحو من سجل الوجود مدنا وقرى بأسرها، وتشرد أهلها
وقد كانت طريقته في تأليف تلك الموسوعة السير من المعلوم إلى المجهول. كان يسائل المعمرين عما يعرفون من تاريخ قراهم أو مدنهم، وأنسابهم، وكل ما يتصل بماضيهم من شؤون وشجون، حتى إذا ما دون أقوالهم، انقلب إلى مكتبة غنية بالمصادر أنفق جهداً ومالاً في سبيلها، يراجع وينقب، حتى يصل إلى بعض الحقائق فيما لديه من أقوال. قد يرفضها كلها، وقد يحذف بعضها، وقد يزيد عليها، وقد يدفعه البحث والتدقيق، عن حقيقة من الحقائق، إلى السفر من مدينة إلى أخرى، أو إلى قطر مجاور، حتى إذا فرغ من الأساس التاريخي لبحثه عن تلك القرية أو المدينة، أنصرف إلى البحث الحاضر، وهو أمر ميسور تبرع لمعاونته عليه عدد كبير من المعلمين والموظفين في مختلف الإدارات الحكومية،(1004/44)
فكانوا يجمعون الإحصاءات المفصلة من التقارير الرسمية، أو يحصون بأنفسهم، وبمساعدة أهل القرى، ما لا يدخل في تلك التقارير؛ فتجمع لديه من كل ذلك معلومات دقيقة عن عدد السكان، ومقدار الذكور والإناث، وعدد المتعلمين، ونوع التعليم ومستواه، وعدد المدراس والطلاب والمعلمين، وأنواع المحاصيل، وعدد أشجار الفاكهة، والمساحات التي تزرع بأنواع المزروعات، وعدد الحيوانات، والبيوت، والمساجد، إلى آخر ما هنالك من التفاصيل التي لم يسبق أن استعملها مؤرخ سابق على هذا النوع الدقيق من الأسلوب العلمي المضني الذي ينوء به الفرد ولا يقوى عليه
وتقع هذه الموسوعة في عدة مجلدات ضخمة، تولت مكتبة الطاهر إخوان عام 1947 طبع الجزء الأول - القيم الأول، منه في مطابع دار التوزيع والطباعة والنشر في القاهرة - وتشاء الصدف العجيبة أن يخرج هذا الجزء في شهر أيار من تلك السنة، وهو الشهر الذي انتهى في منتصفه بعد عام واحد (1948) الانتداب البريطاني على فلسطين
يقول الأستاذ الدباغ في المقدمة: (هذه البلاد عربية منذ آلاف السنين، وأول من عرف من سكانها الموجات العربية الأولى التي نزلتها، وقد قدستها الأديان العظيمة التي تدعو لخير البشرية. . .
اجتهدت في إخراج هذا الكتاب في أجزاء عدة، وجعلت بحثه يشمل تاريخ كل مدنية وبليدة، وتاريخ ما تمكنت من الوصول إليه عن القرى، والمزارع، والأنهر، مع وصف الحالة الحاضرة في كل منها
وقد رأيت أن البحث لا يستوفي ما لم يشتمل على المهم من التاريخ العام للقطر الفلسطيني، فقسمت هذا البحث على الأجزاء جميعها، بحيث لا يفرغ القارئ منها إلا ويكون لديه سفر تاريخي لهذه البلاد منذ أقدم الأزمنة إلى قبيل الوقت الحاضر. . .
يبحث الجزء الأول من هذا الكتاب عن تاريخ القطر الفلسطيني، منذ فجز التاريخ إلى انقسام المملكة اليهودية، وعن تاريخ مدن وقرى وقبائل بلاد نابلس
وسيتناول الجزء الثاني البحث عن غزة والسبع، وقراهما وقبائلهما، كما أن البحث في الجزء الثالث سيدور عن يافا والرملة واللد وجوارهما
وأرجو المولى أن يوفقني لإتمام البحث عن المناطق الأخرى من فلسطين(1004/45)
ثم تجهمت أحداث الزمن، وتوالت النكبات بسرعة فأوقف طبع الأقسام التالية من الجزء الأول؛ وليت الأمر وقف عند هذا الحد! بل تعداه إلى خسارة فادحة بفقدان الأجزاء التي لم تطبع من الكتاب، حين كان الأستاذ الدباغ ضمن آخر جماعات أرغمت على مغادرة يافا في باخرة رأى ربانها إلقاء عدد من الحقائب من حمولتها إلى مياه البحر، وكانت الحقائب التي تحمل ذلك الكنز الثمين من بينها. وكأن القدر أراد أن لا يبقى كتاب يتحدث عن بلاد ذهبت وذهب أهلها
لقد أورد الأستاذ مقتبسات من الأحاديث النبوية في الفصل الأول جاء فيها
1 - عن معاذ قال: قال رسول الله (ص): (يا معاذ. . إن الله عز وجل سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة)
2 - عن وائلة بن الأسفع: قال رسول الله (ص) (يجند الناس أجناداً؛ فجنداً بالشام، وجند باليمن، وجندا بالعراق، وجندا بالمشرق، وجندا بالمغرب، فقلت يا رسول الله، أني رجل حديث السن، فإن أدركت ذلك الزمان فأيها تأمرني يا رسول الله؟ فقال: عليك بالشام فإنها صفوة الله في أرضه، يسوق إليها صفوته من خلقه)
3 - روى المشرف بسنده عن كعب قال: (أحب البلاد إلى الله الشام، وأحب الشام إلى الله تعالى القدس، وأحب القدس إلى الله تعالى جبل نابلس، ليأتين على الناس زمان يتماسحونه بالحبال بينهم) صدق رسول الله فقد جاء ذلك الزمان
(ومن المصادفات العجيبة أن صلاح الدين الأيوبي، تسلم القدس من الفرنج يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب سنة 583 هجرية أي في ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم، وهذا اتفاق عجيب، فقد يسر الله بأن تعود الدس إلى أصحابها في مثل زمان الإسراء بالني الكريم (ص) ترى من هو القائد العربي العظيم الذي أعدته قدرة الله لشرف إعادة القدس من الصهيونيين؟
أما كتاب الأستاذ الثاني (التاريخ القديم للشرق الأدنى) فهو تلك القصة الخالدة من الصراع الدائم في تاريخ الحضارة، يتابع المؤلف أحداثها في وصف تاريخ ولفتات رائعة تدل على فهم لما وراء حوادث التاريخ، من عصر إلى عصر، عبر الزمن الغابر البعيد، والإنسان(1004/46)
هو الإنسان لا يتغير ولا يتبدل. لد كان الشرق الأدنى ولا يزال، مقابر القاتحين، في جميع عصور التاريخ، والجسر الذي عبرت فوقه موجات الحضارة، وموجات الفتح؛ ولم يعرف الزمان تاريخا معقداً مثقلاً بالحوادث الجسام كتاريخ هذا الجزء المتعب من العالم، يتصارع الأمم على وفرة خيراته وطيب مناخه، وموقعه الطبيعي الاستراتيجي وهو يربط أجزاء القارات الثلاث العظيمة
يقول الأستاذ في مقدمة كتابه: (هذا كتاب وضعته لطلاب المدارس الثانوية، وللطلاب الذين يستعدون لامتحان الاجتياز إلى التعليم العالي، إلا أن القراء عامة، في وسعهم أن يستفيدوا منه، إذ يطلعون فيه على صفحة من تاريخ الشرق العربي في العصور القديمة، وقد تبسطت في الكلام عن تاريخ بلاد الشام وعلى الأخص تاريخ القسم الجنوبي منها، وهو القسم الذي يعرف الآن باسم (المملكة الأردنية الهاشمية)، وكان يسمى قبلاً (فلسطين وشرق الأردن) وهذا البحث، على ما أعلم، لم يتعرض له أحد من المؤرخين على هذا الوجه)
وبعد، فلقد أطلت الحديث لقراء الرسالة الغراء، عن هذا الجندي، الذي طالما أبى عليه تواضعه إلا أن يظل مجهولاً، وأنا شديد الإيمان بأننا أحوج ما نكون إلى رجال من هذا الطراز يكونون مثلنا الأعلى في الحياة الجديدة الكريمة المقبلة التي تليق بكرامة الإنسان وهو يخطو على الصراط المستقيم الذي أقامته يد السماء، ليكون طريقه على ثرى الأرض، وهو يعبر إلى الطرف الآخر، المتواري في ضباب الغيب، في ركب الحياة
علي محمد سرطاوي(1004/47)
البريد الأدبي
هل كان الزهاوي فيلسوفاً؟
نشرت الرسالة بالعدد (1003) هذا المقال الموجز، وقد لاحظت أن المطبعة قد أسقطت سطراً بتمامه، فاضطرب المعنى، تبعا لذلك، وإني أعيد القول من جديد، ليزول الاشتباه:
(ومن البديهي أن الفلسفة لم تكن مرة واحدة علماً دقيقاً متين القواعد والأصول، ولكنها مرت بدور الطفولة والصبا - كما قول الأستاذ مهدي علام - في أساطير القصاص وشعر الشعراء وأقوال الحكماء)
فلعل القراء يلتفتون إلى هذا التصحيح السريع
محمد رجب البيومي
تحت منظار النقد
ألقى الأستاذ محمود جبر في الحفل الذي أقامته جماعة الشبان المسلمين بمناسبة الهجرة النبوية الشريفة قصيدة ميمية جاء فيها تنديداً بمن نسبوا الملك السابق فاروق إلى الحسين:
يا منبع الطهر قد نسبوا إليك فتى ... من غير حق فحارت فيه إفهام
والبيت من البحر البسيط وهو مكسور في الشطر الأول لأن السين في (نسوا) كان يجب أن تكون ساكنة لا متحركة
وكم ضحكت كثيراً حينما سمعت التصفيق الشديد لهذا البيت!
شبرا النملة
عبد اللطيف محمود الصعيدي
المسابقات الأدبية بمجمع فؤاد الأول للغة العربية
إلحاقاً بما سبق أن أعلنه المجمع عن جوائزه لتشجيع الإنتاج
الأدبي سنة 19521953 وبعد صدور قانون ميزانية سنة
19521953 يعلن المجمع أن الجوائز التي سبق الإعلان(1004/48)
عنها خفضت قيمة كل واحدة منها من مائتي جنيه إلى خمسة
وعشرين ومائة جنيه
أسبوع رعاية مشوهي الحرب ومساعدة أبناء الشهداء
المشروع
أولاً - خلق وعي قومي يقدس التضحيات التي بذلها مشوهو الحرب والشهداء وتخليد فدائيتهم، ووضعهم في المقام اللائق بهم
ثانياً - بذل كل المساعدات المادية والأدبية
(أ) عمل تخفيض دائم من المتاجر والبيوت المالية والشركات والأطباء والصيدليات وغيرها لمشوهي الحرب وعائلات الشهداء
(ب) منحهم إعانات مالية لتسوية حالاتهم المضطربة
ومقومات المشروع
أولاً - جمع التبرعات
(أ) بصناديق تعد بمعرفة مصلحة الخدمات الاجتماعية في جميع أنحاء البلاد مختومة بخاتم الوزارة، وتفتح بمعرفة لجنة مشتركة من الوزارة والجمعية
(ب) فتح باب الاكتتاب والتبرعات لمشروعات الجمعية من الأثرياء والكبراء. على أن يتطوع حضرات أعضاء الجمعية يساعدهم لفيف من الطالبات والطلبة وذوي المروءة المتطوعين لمؤازرة هذه الرسالة النبيلة
ثانياً - توزيع مليون طابع باسم (أسبوع مشوهي الحرب) من فئة القرش صاغ ويكون وتوزيعها كالآتي:
بمعرفة المتطوعين من أعضاء الجمعية واصدقائهم
دور السينما والمسارح
مكاتب البريد والتلغراف
محطات السكك الحديد
المحلات التجارية والشركات والبنوك وغيرها(1004/49)
ثالثاً - تخصيص يوم السبت أول نوفمبر 1952 ليكون (يوم السينما) على أن ترصد إيرادات الحفلة المسائية من التاسعة مساء لمشروع رعاية مشوهي الحرب ومساعدة أبناء الشهداء
رابعاً - إقامة حفلات موسيقية وغنائية يساهم في إحيائها مشاهير المطربين والموسيقيين يخصص ربعها لمشوهي الحرب
خامساً - فتح باب قبول الهبات العينية من الملابس والأقمشة والأحذية وخلافها من الحاجيات، وما يفيض عن حاجة ذوي البر والمروءة، على أن ترسل إلى مقر الجمعية ويسلم عنها إيصالات توطئة لتوزيعها على المشوهين وعائلات الشهداء
وسائل تنفيذ المشروع
أولاً - الرسوم الرمزية
إقامة مسابقة بين رسامي الكاريكاتير وغيرهم لتصميم رسم رمزي يهدف إلى الفكر السامية التي تطويها رسالة الجمعية ويدعو إلى مؤازرة مشروعاتها النبيلة ويكون وسيلة صالحة للدعاية عن أعمالها
ويمنح الفائز الأول والخمسة الآخرين (الأوائل) جوائز ثمينة
ويطبع الرسم الرمزي الفائز ويوزع بكميات كبيرة في أنحاء القطر
ثانياً - إخراج أفلام سينمائية قصيرة
تدعو إلى معاضدة الجمعية وتشيد ببطولة مشوهي الحرب والشهداء، وتدعو إلى تخليد ذكراهم وتسير وسائل الحياة السعدية لهم، على أن تعرض في جميع دور السينما لمشايعة أغراض الجمعية وتحقيق أهدافها السامية
ثالثاً - الإذاعة اللاسلكية
إذاعة أحاديث دورية عن الجمعية ورسالتها، وبطولة مشوهي الحرب والشهداء، وما ينبغي عمله لهم ولذويهم من مساعدات ومعاونات
أحمد توفيق
منقذ فلسطين(1004/50)
كتب الأستاذ محمد رجب البيومي عن مسرحية منقذ فلسطين، التي أخرجها الأستاذ عبد الرحمن البنا، وقد أعجبني ما كتبه، والواقع أنني حضرت القصة عندما أخرجت على مسرح الأوبرا ليلة 16 أغسطس سنة 1948، وهي نفس الليلة التي دخل فيها جيش مصر الباسل فلسطين، فأعجبت بها وهزتني من الأعماق. .
وكنت قد حضرت للأستاذ البنا مسرحيات أخرى من هذا النوع الإسلامي، الذي يحرص على إبعاد عنصر المرأة عنه ومع ذلك فقد كانت هذه الروايات لا تفقد قوتها ولا جلالها وقد سمعت من الأستاذ عبد الرحمن أن الأستاذ زكي طليمات قد أبدى إعجاباً لا حد له بهذه المسرحيات الإسلامية، وقال إن هذا اللون ناجح ولا شك، وأن قوة المعاني والصور والمواقف فيه، لا تكشف النقص الذي يمكن أن يأتي من إبعاد عنصر المرأة عنه
(أنور)
غيظ
إن البلاد إذا شاع الفساد بها ... وأصبح اللؤم فيها خلة الناس
وأسفر البغي يقضي في سياسته ... مصعر الخد مخفورا بحراس
لم يبق للحر إلا الغيظ يكظمه ... بين الضلوع وإن ضاقت بأنفاس
محمود عبد السيد حمزة(1004/51)
القصص
صديق جديد عن مجلة (تروستوري)
تطلعت من السيارة التي كنت أعمل فيها إلى أعلى، فوجدت - ماني بيترز - وعلى شفتيه ابتسامة بريئة، غير أن عينيه الزرقاوين - في هذه المرة - كانتا تشعان ببريق غريب
خالط عقله مس منذ أن كان في العاشرة من عمره، حينما حدث أن أصابه أحد رفقائه - دون قصد بحجر. ومما يحز في نفسي أن أقول إنني كنت أكرهه بكل ما في هذه الكلمة من معان، وإن كنت أدعه يعبث بأدوات السيارة التي وضعتها في (جراج) بمدينة (جيرسي الجديدة) وذلك لمعرفتي أن جنونه من نوع غير خطير، وأنه محتاج إلى كل ما يمكن أن يتسلى به، ولكنه أهاجني اليوم أكثر من أي يوم سبق، فقد قضيت عشر دقائق في البحث عن أداة احتجت إليها لعمل مستعجل
تذكرت أن (ماني) أمعن في العبث أمس - كما يفعل غالباً - فكان السبب في هذا التأخير، فأخذت ألعن الظروف التي خلقت لي مثل هذا المأزق الحرج، وأخيراً وجدتها
يستطيع الحدادون أن يقسموا على أن شيئاً لا يزعجهم مثل اختلاف مواضع الآلات التي يضعونها في أماكنها
لم أقل لـ (ماني) شيئاً، إذ أعرف أن نتيجة ذلك ستكون سيئة، وأنه لا يمكنه أن يفهم حقيقة الموقف؛ وإن فهم فلا يمكنه أن يتذكر ذلك غلا لمدة خمس دقائق. أقنعت نفسي بالتغافل عن أعماله، وأن أستمر على عملي، ولكن نيران الحقد ولهيب الكراهية، جعلاً مني مرجلاً ثائراً
نظرت إلى يدي القويتين، وأحببت أن أداعب بها رأس من تسول له نفسه العبث بأشياء تخصني، أما أن يكون هذا الشخص (ماني) فإنني لا أستطيع حتى رفعهما
مضيت في عملي وأنا جد متعجب من سكان القرية. ترى ما الذي جعل (ماني) محبوباً منهم، وأنا احمل له من البغض والكراهية ما ينوء تحتهما كاهلي! وطبعا لم يكن الذنب ذنبه، أحبه الناس أم لم يحبوه، وشعوري بالكراهية لم ناجم عن عدم الإكبار للرجال الضعفاء وغير المرغوب فيهم، كرهي لكل عضو لا يقوم بعمله تمام القيام
تحملت منه ما لم يتحمله أهل القرية الأنانيون الذين قدت قلوبهم من الصخر، لا يعرفون قوياً ولا يرحمون ضعيفاً، وحبي له لم يكن إلا شفقة عليه ورثاء له(1004/52)
انتهيت من عملي، لو أنتبه للشخص المشرئب بعنقه ليرى ما أعمل، مما سبب اصطدامي به، وبعدها ألفيتني محملقاً فيه. أما هذا الشخص فكان (ماني)
تملكني الغضب الشديد، فصحت به: بالله ماذا جاء بك إلى هنا؟
ودفعته دفعة قوية لأزيحه عن طريقي
فتترنح إلى الخلف بمجرد اختلال توازنه، وغارت عيناه الزرقاوان في محجريهما متعجبتين سائلتين، ولم أكن رأيتهما على هذه الحالة من قبل
ثم اصطدم ببعض آلات مبعثرة هنا وهناك، وسقط سقطة أفقدته الرشد
زاغت عيناي واشتد بي الخوف، وأحسست بفيض من العواطف يدفعني إلى مساعدته على القيام. وفجاءة، رأيتني ماداً إليه يدي أساعده على النهوض
شعرت وأنا أنحني إلى الأسفل أن يدي قد بلتا، ونظرت إلى الأسفل فرأيت قطرات حمراً على الأرض على بعد ست وثلاثين عقدة مني
حينئذ عرفت أن رأسه قد أصيب ببعض أدوات سببت شج رأسه، فظننت أنه مات، ولكنني شاهدت صدره يعلو ويهبط فعرفت أنه لم يفارق الحياة. لم أعر ذلك اهتماماً بادئ ذي بدء، وطمأنت نفسي بأنه لن يلبث أن يستفيق. وبرغم ما كنت أتظاهر به من الهدوء، وكنت معتقداً أن إصابته خطيرة. سرت تحو التليفون وطلبت الطبيب قائلاً: أصيب ماني بيترز - بحادث خطير فأرجو أن تأتي بسرعة. وعلقت (السماعة) ورجعت إلى - ماني - أسائل نفسي ماذا يمكنني عمله حتى يصل الطبيب. استطعت أن اقف النزيف، ولكنني لم أعرف ما يجب أن أعمله أيضاً. وهكذا جلست إلى جانبه منتظراً مجيء الطبيب، محاولاً جهدي آلا أفكر فيها سبب هذه الحادثة
جاء الطبيب في وقت مناسب ومعه خمسة رجال من أهالي القرية ممن أعرفهم. لقد كانوا في بيت الطبيب ساعة أن أخبرته بما حدث. ولما سمعوا ما قاله الطبيب عن (ماني) أتوا معه ليعرفوا حقيقة ما حدث
وكما قلت قبلاً إن أهل القرية جميعهم يحبون (ماني) ما عداي فتأثروا لما أصابه
لم ينبس أحدنا ببنت شفة، حتى فرغ الطبيب من الفحص، فرفع إلينا وجهاً ممتقعاً، فكان ذلك جواباً كافياً وفر عليّ السؤال(1004/53)
تكلم بهدوء قائلاً: إن أصابته خطرة جدا، فليخبر أحدكم مستشفى (آردين) ليرسلوا نقالة لحمله. ثم الفت وسألني عن كيفية وقوع الحادثة فأخبرته بما حدث، فأومأ برأسه فاهماً
غير أنني لاحظت الخمسة الآخرين ينظرون إلى مستغربين، ورأيت واحداً أو اثنين - لا أتذكر - ينظر إلى متشككاً
عشر دقائق مؤلمات مرت قبل أن تصل النقالة. ولم تمض دقيقة أخرى حتى كان الطبيب وماني في الطريق إلى مستشفى (آردين)
شعرت بحمى خفيفة، وذهبت إلى حيث أستطيع أن أتنفس، لأن هواء (الجراج) يكاد يخنقني. وقبل أن أصل إلى حيث أردت، سمعت قائلاً يقول: فيلد، دقيقة من فضلك، لا يمكنني أن أدعك تذهب الآن
فالتفت قائل: ولم ذلك يا جاك؟ ألم تصدق ما أخبرت الطبيب به؟
وظهر في هذه اللحظة الأربعة الآخرون
- لا، لا، إن أحد لم يصدق ذلك لما نعرف من مبلغ حقدك على (ماني)
تملكني غضب مفاجئ. إنهم يظنون أنني فعلت ما فعلت عن عمد وإصرار
ظننتني قادراً إلى إقناعهم بادئ الأمر بأن ما حدث لم يكن إلا مصادفة سيئة، أما الآن فإن ذلك لا يزيد مركزي إلا حرجاً
أنثنيت إلى جاك قائلاً: تظنني حاولت قتل ماني؟ أليس كذلك؟! حسن، ظن ما شئت، فلست أبالي. والآن تفضل بالخروج وإلا أصابك ما لا يرضيك
فكان جوابه أن رفع يده وضربني بقوة، إلا أنني تحاشيت ضربته بحركة خفيفة من رأسي، فاستدار حول نفسه وسقط على الأرض يتدحرج
فلما رأى الأربعة الآخرون ما حل بصاحبهم هجموا علي دفعة واحدة كالذئاب الكاسرة يريدون تمزيقي. وسمعت (لودين) يقول: آه. . . هل تقدر أن تفعل بنا ما فعلت بماني. إيه؟ حسن إنك لا تقدر. إننا لا نتصارع من أجل جائزة كما تفعل، ولكننا سنلقي عليك درساً لن تنساه مدى الحياة
دافعت عن نفسي دفاع المستميت، ولكن ما حيلتي آزا خمسة رجال أشداء؟ نعم أسقطت اثنين منهم ولكن الباقين تمكنوا مني وضربوني ضرباً مبرحاً. وأخيراً وجدتني ممداً على(1004/54)
الأرض مشرفاً على الإغماء
أذكر أنني سمعت (لودين) يتكلم بالتليفون طالباً نقالة أخرى، وبعدها لم أكد أفقه شيئاً مما يدور حولي، إذ أن الإغماء غلبني
فلما أفقت رأيتني على سرير أبيض من أسرة المرضى، ثم رأيت ممرضة منحنية فوقي وكان إلى جانبها طبيب فعرفت أنني في المستشفى. سأل الطبيب الممرضة عن حالي فأجابته أنني أحسن من ذي قبل. ثم التفت إلى مستفهماً: ما الذي حدث؟!
فأجبته بصوت ضعيف: تشاجرت. ثم سألت: هل كسر شيء؟!
فقال الطبيب مغمغماً: تشاجرت؟ وتابع فرحاً: آه، لا، يحدث شيء مما تعني، إنما كل ما هنالك رضوض لن تلبث أن تزول آلامها فيمكنك أن تخرج بعد يومين. ثم انصرف
أردت أن سأل عن (ماني) ولكن حالتي كانت من الضعف بحيث لم أستطيع معها أن أتكلم. سرى بي التفكير إلى الرجال الذي أشبعوني ضرباً. ومن الغريب أنني لم اشعر نحوهم بذرة من الحقد، وكأن ما حدث لم يكن إلا خيالات وأوهاماً
غير أنني سعيد، سعيد لأن عظامي لم يصبها عطب، وإلا لكانت الدنيا لدي أضيق من سم الخياط. وأدركت أخيراً أن عملي كان جنونيا. ترى من يصدقني إذا قلت إنني دفعت (ماني) دفعة لم ابلغ من جرائها قتله؟
وفجأة وثب إلى ذهني خاطر أذهلني، واصطكت أسناني رعباً، وهو ما سيكون شأن الشرط معي إن. . . إن هو مات؟!
انقبض صدري لهذا الخاطر المروع، وكدت أصيح بكل ما في حنجرتي من قوة. والفضل في إنقاذي من هذا الموقف للممرضة التي دخلت في تلك اللحظة فأزمعت سؤالها عن ماني، قلت:
- إن لي زميلاً هنا اسمه (ماني بيترز) كيف حاله؟ فأجابتني بصوت هادئ
- إنه في حالة سيئة، وإنه الآن في غرفة الجراحة لإجراء عملية جراحية خطيرة
فسألتها بلهفة:
- هل تدعينني أذهب لأرى ما يعملون؟
ففغرت فاها متعجبة، ولكنها لم تلبث أن استعادت ثباتها وتعهدت بأنها ستفعل، وتركتني(1004/55)
وانصرفت
قضيت مدة أتقلب على فراش الألم خائفاً مذعوراً مما سيحدث لي ولماني. لم أكن أشتكي في ذلك اليوم من شيء، غير أنني كنت منزعجاً مما سيحدث لي
وفي ذلك المساء أقبلت الممرضة قائلة:
- إن الأمل في نجاح العلمية كبير جدا، ولو أنهم لم يحبروا أحداً، وإننا سنعرف عنها في الصباح كثيراً
كنت أريدها أن تقول أنه سيعود كما كان دون أنت يكون في قولها هذا ذرة من الشك. لذا بقيت في حيرة من أمري، مما أثر في حالتي وأخر شفائي
وفي صباح اليوم التالي رأيت الممرضة مبكرة عليّ غير عادتها، فأحسست أن دقات قلبي توقفت، وأن الدم قد جمد في شراييني. وتمثل أمامي بعين الخيال ماني ممدداً على السرير جثة هامدة. ياله من منظر مخيف تقشعر منه الأبدان! وسألتها: ما هذه الضوضاء؟ هل هو ماني! هل. . . هل مات؟
- لا، ولكنه يسير من شيء إلى أسوأ، وقد سأل عنك، فهل في استطاعتك أن تذهب إليه؟
لم أحبها عن سؤالها، بل أسرعت في إلقاء الأغطية عني، وحاولت القيام فلم تسعفني أعضائي المنحطة، فجلست على مضض
حاولت أن أسترد قوتي، غير أن رأسي كاد ينفجر فأسرعت الممرضة نحوي، ومددتني على السرير بهدوء، ثم قالت بقلق ظاهر: سآتي بنقالة لحملك، فأخبرتها أنني قادر على المشي على قدمي، إذا هي ساعدتني. ففعلت، ووصلنا إلى غرفة (ماني)
انحنيت فوقه، وسألته عن حاله، فأجابني، وفي عينيه تلك النظرة البريئة الطاهرة: إن رأسي يكاد ينفجر، ولكنني أحببت أن أراك حيت علمت أنك أصبت أنت أيضاً، ورغبت أن أراك سليماً معافى
شعرت بالدموع تجري على خدي حارة غزيرة. يمكن أن يكون معتوهاً، ولكنني لم أر قلباً بريئاً طاهراً مثل قلبه
عرفت أن لم يتذكر ما فعلته به، ولا كيف كنت أعامله دائماً
وشعرت لأول مرة في حياتي منذ أن كنت طفلاً، بشوق إلى الصلاة، فأخذت أصلي،(1004/56)
وأصلي بحرارة. صليت وابتهلت إلى الله، من أجل - ماني - ليشفى، ولأستطيع أن أدعه في (الجراج). وكأن دعائي أجيب، إذ أن - ماني - ترك المستشفى بعد شهر منذ دخوله وقد عاد كما كان لم يتغير
إنه الآن يقضي جميع أوقاته إلى جانبي في الجراج، وإنه لم يعد يحدث لي المتاعب. إنني أرغب أن يكون دائماً هناك، لأنه يزيل وحشتي في وحدتي، وقد جعلني أشعر بالشفقة والحنان لكل من يكون مفتقراً إليهما.
ع ب(1004/57)
العدد 1005 - بتاريخ: 06 - 10 - 1952(/)
نحن الشعب نريد
للأستاذ سيد قطب
نحن الشعب ندرك اليوم أن فجراً جديداً قد طلع، وأن عهداً جديداً يظلل هذا الوادي؛ وندرك أن وثبة الجيش المباركة هي التي أطلعت ذلك الفجر، وبدأت هذا العهد، وأن هذه الوثبة المباركة ليست لحساب فرد أو هيئة أو حزب، وإنما هي لحسابنا نحن الشعب!
نحن الشعب ندرك أن الذين قاموا بالثورة حملوا رؤوسهم على أكفهم، وساروا في ظلام دامس، في طريقهم الشوك، وفي قلوبهم الشعلة، وفي وجوههم الخطر. بينما كان كبراء هذا البلد في مصافيهم الناعمة بأوربا، يحف بهم النعيم، وتراودهم أخيلة الحكم، وتداعبهم أحلام الماضي!
ونحن الشعب نريد أن نعمل مع الذين واجهوا الخطر في الظلام الدامس؛ وأن تتخلى عن الذين استمتعوا بالنعيم ونحن هنا في قبضة البؤس والظلم. . ذلك أننا نعرف أن الأبطال الذين كافحوا كانوا معنا، والكبراء الذين استمتعوا كانوا علينا!
نحن الشعب ندرك أن الإقطاع قطر من عرقنا كؤوسا شهية للسكارى، وجمد من دمائنا يواقيت في نحور الغواني، وجعل من رفات آبائنا وأجدادنا سماداً للأرض الطيبة كي تزيد غلاتها لحسابه. . ونعرف أن محترفي الحكم وتجار السياسة قد انضموا إلى جلادينا الإقطاعيين، وأصبحوا منهم ذوي ملكيات واسعة، ولم ينضموا إلينا نحن الكادحين في الأرض. . حتى قامت وثبة الجيش الأخيرة. . هنا فقط قال حماة الوادي للجلادين: مكانكم! وهنا فقط ردت الأرض إلى ملاكها الحقيقيين
ونحن الشعب نريد أن ننبذ محترفي الحكم وتجار السياسة الذين وقفوا في صفوف الإقطاع ولم يقفوا في صفوفنا. وأن نحمي ظهور حماة الوادي من دسائس الإقطاعيين وحلفائهم من محترفي الحكم وتجار السياسة!
نحن الشعب ندرك أن الرأسمالية قد فتلت لنا حبال المشانق في صورة قوانين ولوائح. وسلطات علينا البوليس السياسي يطاردنا في المعامل والمصانع. وحرمت علينا تكوين النقابات وتكوين الاتحادات النقابية إلا بإذنها ورضاها، وإلا بجواسيسها وأذنابها. . ونعرف أن مستغلي النفوذ من الوزراء والمستوزرين قد باعوا أنفسهم لهذه الرأسمالية، مقابل(1005/1)
صفقات رابحة، وعضويات في مجالس الشركات، وأذون استيراد وتصدير. . وأن الوثبة الجديدة وحدها هي التي مزقت البوليس السياسي، وقلمت أظافر الرأسمالية. وأطلقت للنقابات العمالية حرياتها، ومهدت لقيام اتحاد النقابات على أسس سليمة، واعترفت بشرعية هذا الاتحاد
ونحن الشعب نريد أن نتخلص نهائياً من المستغلين الذين باعوا أنفسهم للرأسمالية. وأن نتكتل وراء الوثبة الجديدة التي خلصتنا من براثنها المخيفة
نحن الشعب ندرك أن وزراء العهود الماضية كانوا ينتظرون إشارة صغيرة من مولاهم ليدوسوا الحريات، ويعطلوا الصحف، ويحطموا الأقلام، وأن البرلمانات كانت وراءهم توافق لهم على القوانين، وتعترف لهم بشرعية الطغيان، وتقفل باب المناقشة عندما يجبهها الحق. . ونعرف أن الثورة المقدسة هي التي قالت لمولاهم: تنازل قبل الساعة عشرة وارحل قبل الساعة السادسة. وهي التي أملت على التاريخ صفحة جديدة من العزة والكرامة، وطوت صفحة قديمة من الذل والصغار، وتركت حتى خصومها الكائدين لها، يثرثرون في صحافتهم، ويملئون الدنيا ضجيجاً وعجيجاً. لأنها تؤمن بالحرية حتى لأعدائها
ونحن الشعب نريد أن نطوي صفحة هذا الماضي بملكه ووزرائه ومستوزريه، وزعمائه ومتزعميه. نريد أن نطوي هذه الصفحة المخزية، لنفتح الصفحة الجديدة التي أملتها الوثبة المقدسة على التاريخ. لأننا شعب لم كرامة ويجب عليه أن يحمي هذه الكرامة
نحن الشعب ندرك أن تجار السياسة استغلوا حماستنا الوطنية، وتطلعنا إلى الحرية والاستقلال، وحرصنا على أن نكون أمة لائقة بماضيها التاريخي، ليتجروا بها كلها في الأسواق الدولية والأسواق الداخلية. وأنهم لذلك أثروا على حسابنا ثراء فاحشاً، ولو أنهم استغلوا تجاراً في أية سلعة ما اثروا مثل هذا الثراء الفاحش. وأنهم على استعداد أن يستغلوا حماستنا الوطنية من جديد، ليزيدوا بها ثراء على ثراء، وترفا على ترف، وقصوراً على قصور. . ونعرف أن الوثبة الجديدة وحدها هي الوثبة النظيفة. لأن رجالها لا يزالون يعيشون عيشة الشظف: يسهرون والناس نيام، ويعيشون على أخشن الطعام. ولا يعرفون مصايف مصر فضلاً إلى مضايفَ العالم ومغانيه
ونحن الشعب نريد أن نقول للممثلين على مسرح الوطنية: أسدلوا الستار فقد سئمنا(1005/2)
الرواية! أسدلوا الستار واذهبوا فإن فجر جديداً قد طلع. وإن عهداً جديداً يظل هذا الوادي
سيد قطب(1005/3)
محمد رسول الله
للأستاذ علي الطنطاوي
كتب كتاب في الرسالة عن الرسول صلى الله عليه وهل كان يعلم الغيب أم أن الغيب شيء قد اختص الله نفسه بعلمه. فكتبت كلمة صغيرة لتنشر في البريد الأدبي، ثم رأيت أن الأمر أكبر من ذلك وأنه لا يكفي فيها تحقيق هذه الجزئية؛ بل لا بد من تصحيح عقيدة كثير من المسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم
إن القرآن بين بياناً صريحاً لا لبس فيه ولا غموض، ولا مجال لتأويل ولا تبديل، بأنه صلى الله عليه وسلم بشر يوحي إليه، فهو في ولادته وفي منشئه وفي صحته وفي سقمه، وفي حياته وفي موته، بشر كسائر البشر، وإن كان الله دق اختصه باسني الصفات (البشرية) في الخلق والطبع والسلوك والمواهب، وأنه فوق ذلك يحوي إليه كما كان يوحي إلى الأنبياء من قبله، ولا يوحي أبداً لأحد من بعده، لا لإمام من أئمة آل البيت، ولا لمتنبئ ولا لمدع العيسوية في قاديان. هذه هي العقيدة الصحيحة، فهل المسلمون كلهم عليها؟
إن كثيرين من المسلمين، ولا سيما من يدعي التصوف منهم يرفعون النبي صلى الله عليه وسلم فوق البشر، ويصفونه بصفات الألوهية، والأدلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، وأنا أمثل على ذلك بقصائد تتلى صباح مساء، ويتبرك الناس بها، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله بتلاوتها وإنشادها، وفيها الكفر الصريح. الذي يعد كفر المشركين من قريش إن قيس به إيمانا، فكفار قريش كانوا إن ركبوا الفلك، ودهمتهم الشدائد دعوا الله، كما أخبر بذلك القرآن، والبوصيري صاحب قصيدة (البردة) التي يتلوها المسلمون خاشعين كأنهم يتلون القرآن، يقول للنبي صلى الله عليه:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
ومن المعلوم أن أقوى طرق القصر عند علماء البلاغة هو النفي والإثبات، ولذلك كانت كلمة التوحيد، لا إله إلا الله: نفي الألوهية عن الجميع وإثباتها لله وحده
وهذه القصيدة الأخرى، التي كان مشايخنا. . يتبركون بها، ويتأدبون عند تلاوتها. قصيدة (ما أرسل الرحمن أو يرسل)، يقول صاحبها مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم
عجل بإذهاب الذي أشتكى ... فإن توقفت فمن أسأل؟(1005/4)
وأصرح من ذلك قول الشيخ عبد المجيد الخاني، مؤلف الحدائق الوردية:
رسول الله لي بصر كليل ... وأنت بكل أحوالي بصير
رسول الله مالي من نصير ... سواك الدهر يا نعم النصير
لعمرك يا أجل الرسل إني ... لما أنزلت من خير فقير
فإن أدركتني بخفي لطف ... فدهري لا يضر ولا يضير
هل يشك أحد ممن يفهم الكلام العربي، بأن هذا الرجل يؤله محمداً، ويعبده، ويخاطبه بما جاء في القرآن خطابا لله عز وجل (رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير)؟
والأحاديث الصحيحة، قد بينت أنه صلى الله عليه وسلم ولد وربي كما يولد ويربى لذاته من أبناء قريش إلا أن الله عصمه من عبادة الأصنام، ومن الكذب والغش وسائر شرور اللسان والقلب، وجعله على خلق عظيم لم يجعل عليه بشراً غيره في كل عصور البشرية، وتأتي مع ذلك هذه الموالد التي يتولها الناس، وأشهرها مولد العروس عند العامة، ومولد البرزنجي عند الخاصة، وكلاهما محشو بالكذب، فتجعل الوحوش تباشر بولادته، بأفصح الألسن القرشية. . . وأنه حضر أمه ليلة مولده آسية ومريم في نسوة من الحظيرة القدسية. . . وأن جده وأمه وأمه كانا يعرفان بأنه خاتم الأنبياء، مع أنه هو صلى الله عليه، لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان، وأنه لما جاءه الوحي ذهب يقول زملوني، دثروني، حتى أخبره ورقة أن هذا هو الناموس الذي كان ينزل على عيسى
وبعض المسلمين لا يعتقد أن الرسول ميت، ويراه حياً في قبره مثل حياتنا، حتى أنه كان في حينا (في المهاجرين - في دمشق) خطيب كان يقول في خطبته مسجعاً: (قال صلى الله عليه وسلم وهو في قبره حي: لا بخيل من ذكرت عنده لم يصل علي، وناقشه بعض طلبة المدارس. فأكد لهم أنه حي في قبره، وأن فلاناً (ومشايخ الطرق)، وقف عند القبر، وقال من قصيده:
(فامدد يمنيك كي تحظى بها شفتي)
قال: فخرجت اليد الشريفة من جدار القبر حتى قبلها
وأمثال هذه الأكاذيب التي لا يقرها عقل ولا نقل، ولا يقبلها شرع ولا طبع
والله يقول للرسول: (إنك ميت) ونحن ننكر موته، فيم إذن نقرأ السيرة. ونقول أنه ولد سنة(1005/5)
كذا. ومات سنة كذا؟ وفيم نصب الخلفاء من بعده؟ ولماذا لم يرجعوا إليه يوم اختلفوا في السقيفة وكاد ينصدع أمر الإسلام، وهو مسجى لم يدفن بعد؟
إنه حي عند الله حياة برزخية روحية الله أعلم بها - أما بالنسبة إلينا فهو ميت - قد مات ودفن كما يموت سائر الناس ويدفنون، وإن كان قد ورد أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن الله يوكل ملكا يسمعه السلام عليه، أو يرده عنه. وهذه كلمة وإن صح طريقها إخبار آحاد، لا تثبت بها عقيدة - ولا يبنى عليها علم، كما هو معروف من علم الأصول
والغريب في المعجزات أنك إن رجعت إلى كتب الصحاح وغلى السير الأولى كسيرة ابن إسحاق، لم تجد إلا شيئاً منها قليلاً، فإن ذهبت إلى الكتب المتأخرة كالسيرة الحلبية مثلاً وجدتها فياضة بذكر العشرات من المعجزات التي لم يكن لها ذكر في الكتب الأولى. ونحن لا ننكر المعجزات، ولكنا نجد في القرآن ما يرد على طالبي الآيات من المشركين، بأن القرآن هو الآية الكافية التي لا تحتاج إلى شيء معها
ومن المسلمين من يجعل المنامات والرؤى أصلاً من أصول الشرع ويبني عليها أحكاماً وأوهاماً أتخذها سبيلاً إلى احتلال المنافع، ودرء المفاسد، ويستندون إلى حديث (من رآني فقد رآني حقاً) مع أن العلماء قد نصوا على أن الشرط في ذلك أن يراه على الصورة التي وصف بها في كتب الحديث وفي الشمائل. ولا يبنى على الرؤيا مع ذلك حكم شرعي
هذا وأنا لا أذكر درجة هذا الحديث - وليس تحت يدي وأنا أكتب هذا الفصل شيء من الكتب أرجع إليه وليس عندي وقت للمراجعة
وبعضهم يخالف ما عليه الإسلام من جهة تقديس أسرته، وتفضيلهم بمجرد النسب، مع أن الفضل في الإسلام للتقوى والمزايا الشخصية. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لابنته فاطمة: (يا فاطمة بن محمد، لا أغنى عنك من الله شيئا) ويحتجون بآية (إلا المودة في القربى) جاهلين معناها ومساقها
وآخرون من المسلمين يظنون أنهم يمدحون الرسول ويعظمونه، وبوصفه بأنه جميل الوجه، ومدح عينيه وجماله، وذكر العشق والوصال، وينشدون في ذلك الأناشيد في الإذاعات - أيام المواسم - ويسموها أناشيد دينية، وما هي إلا تقليد للترتيبات الكنسية النصرانية زقلة أدب مع الرسول، ولا أصل لها في الإسلام ولا يرضى بها الشرع ولا(1005/6)
الذوق ولا الأخلاق. ويجب شرعا منع إذاعتها
هذا وقد نجحت طائفة من شباب المسلمين. . تنكر الوحي وترى النبي صلى الله عليه وسلم عبقريا فقط، وبعضهم ينسب العبقرية للشعب العربي، ويرى بأن الرسول أثر لها - وكل هذا اتباع للمستشرقين واللمحدين، ولبعض النصارى من أجراء الأجانب الذي أفسدوا الإسلام في بلاد الشام باسم القومية العربية، والانتصار لها والدفاع عنها. . وسنفصل الكلام في العربية والإسلامية في مقال آخر إن شاء الله
وبعد فإن من أوجب الواجبات على العلماء والخطباء وأرباب الأقلام الإسلامية، أن يردوا أتباع محمد إلى العقيدة الصحيحة في سيدنا محمد صلى الله عليه، الذي كان بشراً يوحي إليه، ولم يكن إلهاً يعبد - ولا جميلاً يعشق، ولا نابغة عبقرياً فقط
علي الطنطاوي(1005/7)
صوت الهجرة
للسيدة وداد سكاكيني
ما كانت الهجرة إلا مركب الأسنة الذي يضر إليه أحرار الفكر والرأي، أو اللهيف المتشوق إلى آفاق جديدة للرزق والمعرفة، فإن الوطن عزيز لدى أهليه وساكنيه، إذ يعيش المرء فيه كما تعيش الشجر في مابتها، فمنذا الذي فارق بلده وذويه ولم يؤلمه البعاد والنزوح طوعاً أو كرها؟
لو عرفنا شعور الطير الذي يسمونه السنونو وقد كتب عليه في الحياة أن يترك عشه إلى أفق بعيد، يفرد فيه جناحيه، لأدركنا عمق اتلأسى والحنين، في مغادرة المنزل المألوف والأرض المعهودة
أبداً نرى الذين جلوا عن بلادهم ومعاهدهم متلهفين عليها، لا هجين بذكرها وآثارها. ولكم علق نظري بأسماء يونانية أو إيطالية كأثينا والأكروبول وفينيسيا وسواها، سميت بها بعض المتاجر والملاهي بمصر، فقلت يا الله! أقام الروم طويلا بضفاف النيل، وظلوا متعلقين بالوطن الأول. وفعل مثلهم أكثر المهاجرين من العرب إلى الديار الأمريكية والأفريقية، فإنشأوا بيوتاً وأسواقاً على طراز ما عرفوا في بلادهم وحافظوا على لهجاتهم وتقاليدهم، وقديماً بقيت الأندلس على عربيتها شرقية أصيلة
هذه خواطر طرفت بخيالي وفكري وأنا أتصور هجرة الرسول محمد بن عبد الله، وجعلتني أتساءل: ترى كيف كان شعور الرسول في تلك الليلة الخطيرة، فإن السيرة لم تقل لنا كب شيء، وما التحاور الذي كان بين محمد عليه السلام وبين صاحبه المحزون وهما يسريان في أناة وحذر، والبيداء تطويهما نحو المدينة؟ لقد بقي كثير من ذلك التحاور في ضمير الزمن، ولم يستطع الفن ولا الأدب أن يكشف عنه حرمة وتهيبا
إن في معنى الهجرة بتلك الليلة المرصودة ما يتعايا دون تصويره القلم واللسان لأنه يحتوي فيما يحتوي فراق الأهل البلد، لا لا كتساب الرزق والصيت أو لا لتماس السلوى في تبدل الوجوه والآفاق، بل من أجل هدف أسمى وأغلى، وفي سبيل إنسانية مثلى، تجعل كل بلد يذكر فيه اسم الله ورسوله وطناً لمحمد، فإن هذا الدين الحنيف لم يولد ليبقى بين الجبلين الاخشبين أو لتهفو إليه الأفئدة من صوب أبي قبيس فحسب، وإنما أراد الله أن يعم العالم(1005/8)
بالهدى والرحمة، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور
فمن أجل هذه الرسالة الخالدة فارق محمد بلده مضطراً مقهوراً، حتى عاد إليه مؤيدا منصورا، وفيه أعد المشعل الكبير الذي أمسك به أبو بكر ثم سلمه من بهد إلى عمر
لقد أقبل محمد بصاحبه الصديق على يثرب في لهفة وحسبان وإشفاق على من تركهم ف مكة حيارى يحذرون كيد المتربصين وعنت الأعداء، فتلقاه غطاريف الأوس والخزرج بالنصر والإيمان وراحوا يفدونه بالأرواح مخلصين، ويستجيبون لدعوته مؤيدين
وكان من شأن أكثر الفاتحين أن يدمروا البلاد التي يأخذونها، ولكن محمداً لم يهدم إلا الأصنام التي لكزها فانحدرت منكسة محطمة من أعلى الكعبة، ولم يكن عجباً في الدهر أن تحارب المدنية مكة، فقد حاربت إسبارطة أثينا، وكلتاهما من موطن واحد، وأشهدتنا الأيام القريبة حرب الجنوبيين في أمريكا للشماليين، على أن حرب الرسول عليه السلام ما كانت إلا لتحقيق الرسالة الإلهية التي أداها إنقاذاً للإنسانية التي ضلت سبيلها، وتاهت في جاهليتها متنكبة عن الخير والهدى، ولم يكن جهاده طمعاً في مآرب الدنيا والسيطرة على أهلها، بل في سبيل كلمة أراد أن تحق في الدنيا وأن تكون هي العليا، فإذا مرت هذه الذكرى بعد ترادف العصور بقيت خافقة بالحياة كأنها قد جرت البارحة، وإلا فما قيمة التاريخ، وما تعب الزمان في حفظ الأحداث ورواية الخطوب
إن كل تاريخ لا يروي لنا الذكرى ويبعثها حية خافقة في النفوس لهو في نظري تابوت ترقد فيه مومياء، ولهذا لا ينبغي أن نمر بذكره الهجرة مرور الحفاوة والتكريم كمن يفرح بعيد جميل قد مر بحياته أو بفرد من أفراد أهله، وإنما ينبغي أن نحس في ذكرى الهجرة بمثل ما أحس المؤمنون والأنصار حين أقبل عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعه صاحبه يتخففان من كيد المتمردين والحادقين، ويستأنسان بمن شد الأزر وفتح الصدر للرسالة التي جمعتهم على محبة وإيمان وعزم لم تزعزعه المحن والفتن، ولا هدته الصدمات والملمات
فما أروع المعاني التي احتوتها هجرة الرسول؛ وما أحرانا بأن نبعثها في حياتنا الراهنة فتحققها ونستلم منها القوة والاعتبار. بل ما أجدرنا بالتعاون على قهر العدو الذي يكيد لنا، وأي كيد أدهى وأمر من متشردين أهل فلسطين الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وضيما،(1005/9)
مستجيرين من دخيل غاصب أصبح بعون الطغاة الغاشمين صاحب الدار؟ فهل يتاح لهؤلاء المهاجرين المقهورين رجعة إلى ديارهم وبلادهم؟
من هنا ينبغي أن نفكر في ذكرى الهجرة بما صنع البغي بالنازحين واللاجئين، وأن نذكر أن عودتهم ونصرتهم تحققها كلمة الرسول وتعاليمه إن اتبعناها وما كانت لترضى بقبول الظلم والهوان، فإن رسالته وضحت كل شأن وقالت بأن لا نقيم على ضيم وخذلان، ولا نستخذى لغاصب لئيم، ففي هذه الذكرى يجب على كل بيت ومجتمع، ألا يقر له قرار إلا بالعمل على انتزاع شوكة الطغيان والعدوان من دنيانا التي ألمت بها أشتات الخطوب والمحن؛ حتى إذا مرت الذكرى بعثت الهمم وسددت الرأي والخطى، وفتحت أعين الرجال والنساء على عهد جديد في هذا الشرق الذي يستعيد اليوم مجده ويتحر من أغلال الظلم والفساد
القاهرة
وداد سكاكيني(1005/10)
مشاكل الجامعة
ترقيات المدرسين بالجامعة
للأستاذ محمد رجب البيومي
ينظر المهيمنون على شؤون التعليم نظرة إشفاق على المستوى الجامعي الذي أخذ ينحدر شيئاً فشيئاً - في مختلف كليات الجامعات - حتى أوشك أن يهبط إلى الحضيض، وتتضح هذه الحقيقة المؤلمة حين تجلس مع طالب في السنة الأولى بإحدى كليات الجامعة، وطالب آخر قد أتم سنواته الجامعية، فلن تجد فرقاً واضحاً بين التفكير العلمي لدى الطالبين، فكلاهما يشترك مع طلبة المدارس الثانوية في تلقين الدروس، وكتابة المذكرات وحشو الذهن بالمواد المتزاحمة، دون أن تتسع لديه البصيرة النافذة، والتمييز الدقيق، ودون أن تفيده الجامعة ما ينبغي أن يتمتع به من التفكير السليم، والاستنتاج العلمي المرتكز على قواعد من البحث والتعليل، ودون أن تخلع عليه الجامعة روح الابتكار والشمول المستوعب لدقائق الموضوع، مما يدفع بك إلى التساؤل عن سر هذه النكبات المتلاحقة التي أخذت ترصع الجامعيين، وتسد أمامهم الطريق
ونحن نلقي التبعة دائماً على السياسة الحزبية التي صرفت الطلاب عن واجبهم العلمي، وقذفت بهم إلى الجج من الفوضى والاستهتار، وهذا حق لا مريه فيه، ولكن الحق أيضاً أن نذكر نصيب الأساتذة في هذه التبعة الفادحة، فلا نجبن عن إعلان دروهم الرئيسي في تمثيل هذه المسرحية الحزينة، دون أن نقيم أي اعتبار لغير الصدق الذي لا يعدم النصير!
لقد كانت جامعة فؤاد الأول منذ أعوام حافلة بذخيرة ثمينة من الأساتذة الذين يتبوءون مناصبهم العلمية عن جدارة واستحقاق، وكانت مع ذلك تستقدم من أساتذة أوربا أعلام يدوي صيتهم العلمي في أنحاء العالم، فيقومون بتوجيه الطلاب أكمل توجيه، وينمو على أيديهم غرس زاهر يؤتي الثمر ويمد الظلال، ثم أنشئت جامعتا فاروق وإبراهيم - وسينشأ غيرها من الجامعات - فأخذ ولاة الأمور يبحثون عن أساتذة يملئون الفراغ بجدارة مشرفة، فلا يجدون غير أساتذة الجامعة الأولى فتخطفتهم الجامعات تخطفاً غير عادل، دون أن يكملوا النقص الشاسع المديد، واضطر المهيمنون على الجامعات أن ينشروا الإعلانات في الصحف باحثين عن مدرسين أو مساعدين يقضون حاجات المعامل والفصول والمدرجات،(1005/11)
وكأنهم يبحثون عن مبنى (للبيع) أو شقة للإيجار، وهم معذورون في ذلك مهما ثلمت كرامة التدريس الجامعي، فالمضطر يركب الصعب في أتعس الأحوال! وحين لم يجدوا من تتوفر فيهم الكفايات المنشودة ملئوا الأماكن بالمعيدين وإضرابهم من ذوي الحداثة في السن والتوجيه، وهؤلاء كانوا منذ شهور يتلقون الدروس، فأصبحوا بمعجزة خارقة مدرسين يقومون بالشرح والتفهيم، ولن ننكر ما قد يكون لدى القليل من النضوج والاستعداد، ولكن الكثرة الغالبة في حاجة ملحة إلى التمرين بالمدارس الثانوية من جهة، وغلى البعثات العلمية من جهة أخرى، ليجدوا في عقولهم ما يقدمونه إلى الطلاب في مختلف المواد، بل إن الكثير من هؤلاء المعيدين يتملقون زملاءهم الطلاب - ستر للضعف العلمي بما يعود بالخيبة والإخفاق، وهذه جناية التقليد الضرير الذي يأخذ بالقشور دون اللباب! وليت الجامعات واصلت الاستعانة بأساتذة أوربا في الكليات العلمية - على وجه الخصوص - فهي فقيرة إلى الأكفاء من الأساتذة، بل وإن التسرع العاجل قد حال دون الانتفاع بذوي الكفاية والمواهب، دون أن نعرف سبباً منطقياً ينأي عن العواطف والنزوات، مع أن جامعات الغرب - فوق تقدمها الملموس - تستقدم من أساتذة الشرق من ترى في انتدابهم النفع والسداد، فلم لا نقلدهم مخلصين في ملء هذا الفراغ؟ أكبر الظن أننا نثق إلى حد مضحك في كفاءة المعيدين، قانعين بالإعلانات المتكررة في الصحف والمجلات
وأنت تنظر إلى مناصب الدولة عندنا فتجدها متخمة بأساتذة الجامعة السابقين من ذوي القدرات الممتازة، فتتساءل عن هذا الفرار السريع من ميدان التربية والتدريس، مع ما نعلمه من حرص الأساتذة في جامعات أوربا على التدريس بالجامعات رغم المغريات اللامعة، وقد يكون المغنم المادي جزيلا خارج الجامعة، أو يكون للمنصب الجديد بريق يؤذن بالنفوذ والأبهة والجاه، قد يكون هذا وذاك، ولكن يجب أن نذكر أن ازدحام الجامعة بمن لا يصلحون للتدريس قد زين الفرار لأساتذتهم من ميدانهم الأصيل، كيلا يجتمع الطيب والخبيث في منزلة واحدة أمام الأنظار
وإذا كان لابد من الترقية لهؤلاء المعيدين، ونظرائهم من المدرسين والمساعدين، فعلى أي منوال تكون الترقية القريبة من العدالة والإنصاف؟ لقد تطاحنت الآراء حول هذا الموضوع طاحنا وصل صداه إلى الصحف والأندية، وجاوز الحرم الجامعي بأميال، ففريق يؤمن بأن(1005/12)
الأبحاث العلمية هي الميزان الدقيق للكفاءة الممتازة والترقية العادلة، وفريق يخالف ذلك مخالفة شديدة، ويجهر بأن الأبحاث العلمية لا تصلح ميزاناً عادلاً للترقية في درجات التدريس، ولهذا الفريق المتحمس أدلته التي لا تخرج عن نقاط ثلاث
أن التدريس ملكة مغايرة للبحث، إذ قد يكون من لا يجيد البحث والتأليف مدرساً لامعاً من أحسن طراز
أن الأبحاث العلمية ستكون طوفانا حافلا بالمكرر التافه من الآراء، إذ لا يتسنى لكل مدرس أن يبتكر الطريف النافع، فيلجأ إلى القول الزائفة، والتلفيق السخيف
أننا بتقديس الأبحاث نجحد الاكتشافات العلمية، التي تستنفد الوقت الطويل للوصول إلى مخترع حديث، أو علاج جديد، وبذلك لن يتقدم العلم خطوة واحدة، بل ربما رجع إلى الوراء
وقد تبدو هذه النقاط الثلاث مقبولة عند النظرة الأولى، ولكنا بعد التأمل الفاحص نجدها زائفة لا تستند إلى منطق صحيح، وربما كان الهروب من التبعة الفكرية والاستقرار العلمي باعثاً على اختلافها وتصيد الأسانيد الموهومة لتدعيمها، والجري وراء الأقدمية المطلقة، جرياً يبعث على الدهشة والاستغراب؛ فالنقطة الأولى التي تباعد ما بين البحث والتدريس صادقة بالنظر إلى تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية فقط، فهو لا يحتاجون إلى العلم الزاخر والمادة الغزيرة، بل يتطلبون المدرس الملم بالطرق الخاصة للتدريس، وإن كان قاصر المادة محدود الاطلاع، لتمكن من تبسيط المعلومات وتيسيرها من طريق مختصر، أما المدرس الجامعي فيجد أمامه طلاباً في مرحلة الشباب، وقد كمل نموها العقلي والجسمي والعاطفي، وألموا بطائفة من المواد تساعدهم على استيعاب النواحي الأبحاث الجامعية، وتهيئتهم للبحث المتسع الأفق، المتشعب النواحي، القائم على أسس وطيدة من حرية التفكير وسلامة المنطق، فهم في حاجة إلى مدرس عالم مارس البحث العلمي ليشبع الرغبات النهمة، ويفتح النوافذ الموصدة، وبقدر مكانة الأستاذ العلمية يكون نجاحه وتوفيقه في التدريس الجامعي مع علو أقدارهم في البحث والتأليف، فهم من القلة بحيث لا ينبغي أن نتخذ منهم قاعدة عامة تندرج على الجميع. وأرى بهذه المناسبة أن تحتم الجامعة على كل من يتأهب للتدريس بها ممن يجدون من أبنائها المتخرجين، أن يدرسوا مبادئ التربية(1005/13)
والطرق الخاصة، وعلم النفس دراسة مستوعبة، لتنعدم الهواة الجاثمة بين البحث والتدريس لدى القلة الضئيلة من الجامعيين، وإني لأعجب كيف يكون المدرس في التعليم الثانوي والابتدائي متخرجاً من معهد التربية العالي للمعلمين، ولا يكون المدرس الجامعي مشاركاً به في الدراسة بهذا المعهد الممتاز، إذ أنه يواجه من مشاكل الشباب ومتاعبه وانحرافاته مثل ما يواجه المدرس الابتدائي من مشاكل الطفولة، والمدرس الثانوي من مشاكل المراهقة، وجميع هذه المشاكل تدرس بتوسع في معاهد التربية العالية، ولن تغني عنها الدكتوراه أو الماجستير في شيء، فلم لا نلتفت إلى هذا النقص الخطير؟
وتأتي النقطة الثانية فنعلن أن الخوف من التكرار والتفاهة في الأبحاث العلمية لا يجد مبرراً يستند إليه، فهذه البحوث تقدم إلى هيئة عالية محترمة، تعرف الجيد من الرديء، وتميز بيم من يسلك النهج المنطقي في العرض والاستقراء والاستنباط، ويعمد إلى المشكلات الغامضة فيزيل إخفائها ويكشف إبهامها، ويأتي بجديد يصحح فكرة خاطئة، أو يغير وضعاً فاسداً؛ أجل! هذه الهيئة المحترمة العالية تميز بين هذا الباحث الضليع، وبين من يخبط في بحوثه السقيمة خبط عشواء، فيجمع إلى التفاهة والتكرار فساد المنطق، وضعف التفكير ومتى كانت الموازنة عادلة صادقة، فلا خوف على الدرجات الجامعية أن ينالها غير الأكفاء الناهضين، ولن يغضب إنسان ما من كثرة الأبحاث وتنوع المؤلفات، لأن الزبد يذهب جفاء، بل ربما كان البحث المضطرب التافه سلما إلى البحث المعتدل الأصيل، ولا يزال السائر في الظلام يتخبط في المجاهل والدروب حتى يشرق عليه الصباح الباهر فيهتدي إلى الطريق
أما ما يدعونه من جحود الكشف العلمي الجديد، وعدم الالتفات إليه لدى الترقية من درجة إلى درجة، فهذا لا ينبغي أن يقنع به أحد، إذ أن الكشف العلمي - ومع توشقنا إليه - من الندرة والقلة بحيث لا يصلح أن يكون قاعدة جامعية عامة تطبق على الأساتذة والمدرسين لدى الترقيات، فإذا وفق الله عبقراً جامعياً، وخرج على الناس بكشف يزيد من سطور الحضارة، ويضع لبنة في صرح العلم، فالجامعة إذ ذلك تقدره حق قدره، وتجعله استثناء ممتازاً للقاعدة التي تسير عليها دون أن يعترض عليها إنسان، بل إن مكافأته الطيبة لن تقتصر على الجامعة وحدها، بل تنتقل إلى الأوساط العلمية التي تشيد بالكفاح الذهني(1005/14)
وتحني رأسها للدأب والنبوغ
إن البحوث العلمية ميزان عادل للترقية في الجامعة، وهي التي تدفع المدرسين إلى العمل المثمر، وتقطع عليهم طريق التثاوب والخمول، وإذا وجد مدرس يتمتع بالبراعة في التدريس دون أن يجيد البحث العلمي، فمن الإنصاف لنفسه أن يظل مدرسا لا يرقى إلى الأستاذية بحال، إذ أن الأستاذ الجامعي في موضع جليل الخطر، عظيم المهابة، فيجب أن يمارس البحث الدائب، والعمل الناطق، وبغير هذه البحوث المتواصلة لن ترقى جامعة، أو يتقدم شعب يعتمد على التربية الصحيحة ليشق طريقه في ميدان الحياة
محمد رحب البيومي(1005/15)
إلى الأستاذ نبيل النجار المحامي
حول مقال إلغاء الدين الرسمي
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
ليس في استطاعة أمة من الأمم أن تعيش في حاضرها منعزلة عن ماضيها. وليس في طبيعة الإنسانية أن تحيه دولة دون أن تتصل بغيرها (وإلا قدر لأبناء هذه الدولة أن يظلوا بعيدين عن ركب الحياة) متخلفين عن قافلة الإنسانية
والأمم الناهضة هي التي يستطيع أبناؤها أن يتأثروا بالاتجاهات الحديثة التي يمر بها العالم دون أن ينسوا ماضيهم (ويتجاوبوا مع التيارات الجديدة دون أن يسيروا على منهاج مبتكر منقول يخالف تراثهم الروحي والاجتماعي)
ولقد أخذت التيارات الغربية تغزو ميادين الحياة في الشرق، ولهذا لزمنا أن نصمد لها. . ونفيد منها بمقدار محدود. . حتى لا تتغير معالم الحياة في بلادنا. . ولا يجرفنا التيار إلى سبيل لا نعرف نهايته
ففي الغرب نرى تحاملاً متأصلاً في النفوس ضد الدين الإسلامي وعلة هذا التحامل جهل القوم بتعاليم دين لا يعتنقونه. . فليس غريبا إذن أن ينكروا على الدين كثيراً من حقائقه الثابتة، ويحاولوا أن يشوهوا الكثير من مبادئه وأهدافه
ولكن الغريب حقا أن يردد بعض المسلمين ما يقوله الغربيون، عن جهل وتعصل، دون أن ينظروا إلى هذه الآراء نظرة فاحصة مدققة، وقبل أن يزنوا الأمور بميزان دقيق، فيه شيء من الحكمة والعدل. . فبالأمس القريب: كتب الأستاذ محمد عبد الله عدنان مقالاً بمجلة الثقافة طالب فيه بتنحية الدين عن الحكم والحياة. . وقال إن مصر إذا كانت دولة إسلامية فليس معنى هذا أنها دولة دينية
وقد رد عليه الزميل الفاضل (محمد رجب البيومي) رداً كافياً لم يستطع معه الأستاذ عنان أن يعقب عليه بشيء
واليوم قرأت مقالاً جريئاً. . تمادى فيه قاتله إلى حد أن طالب
بإلغاء الإسلام كدين رسمي للدولة، وقد جاء هذا المقال(1005/16)
المنشور بجريدة الشباب الصادر بتاريخ 2781952 ما يلي:
(إن مصر هي الدولة الوحيدة فيما نعلم التي لها دين. . فالمفروض أن الدين لله يعتنقه الأفراد. . والمفروض أن الدولة تجمع عديداً من الأفراد ذوي العديد من الأديان. . فتخصص دين واحد، وربط الدولة به هو الأمر العجيب. . والواقع أن أسطورة الدين الرسمي للدولة هي بقية من عهود الطغيان والإقطاع. وهو فوق هذا سبة في جبين مصر. . فقد اندثر هذا النص من كل دول العالم إثر الثورة الفرنسية، لأنه نص مخجل ومعيب، ولن نتوقع لمصر ارتقاء ما دام باقيا ذلك النص بما يستتبعه من تهريج واضطهاد، ومن تفتيت لوحدة الأمة، فيجب فوراً على العهد الجديد الجريء أن يلغيه بجرة قلم، فإن التخلص من سوءات الماضي لا يحتاج إلى ذرة من التأني والتفكير)
وإن التأمل في هذا القول، يرى أنه ليس صادراً عن قلب يعمره الإيمان، أو نفس تشع فيها أضواء الفضيلة، وأنوار الهداية واليقين، كما أنه من ناصية أخرى لا يقوم على أساس ولا يستند إلى دليل
يقول الأستاذ النجار:
(إن مصر هي الدولة الوحيدة التي لها دين، والمفروض أن الدين لله) وليس الأمر كما يرى الأستاذ الفاضل، فمعظم البلاد الشرقية تنص دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة الرسمي، فإن كانت دول الغرب لا تأخذ بهذا النظام ولا تنص عليه، فذلك لخلاف في جوهر الدين نفسه، فقد تركت المسيحية (ما لقيصر لقيصر. . وما لله لله) وانصرفت إلى التهذيب الروحي، والتطهر الوجداني، بينما تركت للقوانين الوضعية تنظيم المجتمع وتسيير الحياة. .
نشأت المسيحية في مجتمع منظم متكامل تسود فيه قوانين الرومان التي تعبر من أعظم القوانين التي ظهرت في العالم حتى عصرنا هذا، فلم تكن هناك حاجة لأن تتجه إلى وضع أساس الحكم، وتشييد بناء الدولة، وإنما كان عليها أن تهذب البناء وتصقله وتعدله دون أن تغيره. . أما الإسلام فقد نشأ في مجتمع غير متكامل، ضاعت فيه القيم الأخلاقية والروحية، وتلاشت منه مبادئ العدالة والحرية والمساواة، فكان عليه أن ينظم المجتمع، ويعيد بناء(1005/17)
الدولة من جديد
قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)
بهذا نرى أن الإسلام يخالف المسيحية من ناحية الحكم، فإن كان للمسيحيين أن يعزلوا الدين عن الحياة، فليس لنا أن نقلدهم في ذلك، ونهمل كل تراثنا الروحي، وجميع مقوماتها الفكرية والاجتماعية
يرى الأستاذ النجار بعد ذلك أن ربط الدولة بدين واحد أمر عجيب لأن في الدولة عديدا من الأفراد ذوي العديد من الديانات
وأحب أن أرد على الأستاذ في ذلك بأن الدولة وإن كان بها العديد من الأفراد، إلا أن الغالية العظمى منهم يدينون بالإسلام، فإذا نص الدستور على أن الإسلام دين الدولة الرسمي، فذلك يعتبر تمشياً مع عقيدة الغالبية العظمى، وهو في الوقت ذاته يمنح جميع أفراده الحرية الشخصية وحرية العقيدة، ولا يجبر أحداً على أن يتخلى عن دينه، أو يترك عقيدته. .
وقد نزل القرآن الكريم داعياً للحب، مبشراً بالتسامح، منفراً من إكراه الناس على اعتناق الإسلام بقوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وليس لأحد من رجال دينه على أحد سلطاناً (لكم دينكم ولي دين)
يرى الأستاذ النجار بعد ذلك أن الدين أسطورة من عهود الطغيان) والواقع التاريخي لجميع الأديان السماوية يناقض ذلك، فلقد قامت المسيحية - مثلاً - لتقاوم طغيان الأباطرة الرومان، ولذلك لاقى داعتها الكثير من ضروب القسوة والاضطهاد على أيدي نيرون، ودقلديانوس وتراجان وغيرهم
فقد أمر نيرون بإحراق روما ليستمتع بمرآها، ولبثت النار تضطرم في المدينة وتأتي على من فيها ستة أيام كاملة، ثم ألقى تبعة إحراقها على عاتق المسيحيين، فأشعلت فيهم النيران بعد أن طليت أجسامهم بالقار، وأقيمت حفلة ألعاب في بستان هذا الطاغية، وكان هؤلاء الضحايا هم المصابيح التي تضيء البستان!
وأراد الإمبراطور دقلديانوس أن يؤلهه المسيحيون في مصر فأبوا الإذعان لإرادته، والخضوع لمشيئته، فتولاهم بالسجن والإحراق، وأمعن في تعذيبهم والتنكيل بهم حتى سمي(1005/18)
عصره (بعصر الشهداء) وكذلك قام الإسلام ليحقق العدالة الاجتماعية ويحارب طغيان القوى، ويحد من سطوته وبطشه، ويقضي على نزعة الجاهلية التي تمجد الظلم والتي وصفها الشاعر بقوله:
لنا الدنيا ومن أمسى عليها ... ونبطش حين نبطش قاردينا
بغاة ظالمين وما ظلمنا ... ولكنا سنبدأ ظالمينا
قد يقول قائل: إن هذه الأديان قد استغلت في بعض عصور التاريخ، لتسخير الجماهير، واستغلال أفراد الشعب، ولكن العيب في ذلك لا يقع إلى الدين، وإنما على القائمين بأمور الدين
فلقد دعت الأديان إلى المحافظة على الكرامة الإنسانية. ودعت إلى مقاومة الظلم. . والوقوف في وجه المعتدين، ولو أدى ذلك إلى الهجرة، قال تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. .)
ولقد تمادى الأستاذ بعد ذلك في تهجمه على الدين، فنسب إليه التهريج والتأخر والاضطهاد، والإسلام برئ من هذه الصفات، منزه عن هذه العيوب، فالإيمان بدين لا يستلزم التعصب والاضطهاد إلا عند من صدئت قلوبهم، وأظلمت عقولهم وأكلت الأحقاد صدورهم، والإسلام. . كما ذكرت سابقاً. . يدعو إلى التسامح والمساواة. . وينهى عن التعصب والتزمت. . .
وبعد: فإن الدين الذي ينهض بالمجتمع العربي، ونقله من الضعف إلى القوة. . ومن الظلمات إلى النور. . لا يزال هو الدين لم يتغير منه شيء. . وإنما تغير معتنقوه، والقائمون على أمر
ونصيحتي للأستاذ النجار. . ألا يتحدث في شؤون الدين. وهو على ما يبدو من كتابته. . جاهل بأبسط قواعد الدين. وعليه أن يتعمق في فهم تعاليم الإسلام الخالدة، ومبادئه المثالية السامية. . قبل أن يصدر عليه أحكاما خاطئة. . منافية لأبسط قواعد العلم والمنطق
عبد الباسط محمد حسن(1005/19)
شلر
دراسة تحليلية
(للكاتب الإنجليزي الكبير توماس كارليل)
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
لا شك أن دارسي الأدب الألماني أو الأدب بصورة عامة سيقابلون بكل ترحيب الكشف عن العلاقات الخصوصية بين أديبين عظيمين في هذا الحقل بذَّ أقرانهما في عصرهما وكانت لهما اليد الطولي في إعلاء شأن الأدب، لأن كل ما كتبه جوته أوشلر في أي موضوع كان له أهميته الخاصة. والذي سنقدمه في هذا الشأن هو الرسائل الخصوصية التي تبودلت بين الأديبين العظيمين. هذه الرسائل التي لها علاقة وثقي بهذه الفترة الهامة من التاريخ الروحي ليس للفرقاء المعنيين بالأمور وحسب بل وببلادهما كذلك. هذه البلاد التي كانت تعج بالبحوث الصغيرة منها والكبيرة، وعلى الرغم من أن الذين عالجوا هذه البحوث كانوا أناساً أحط موهبة وأقل قدراً من الأديبين الكبيرين، إلا أن هذه المعالجات كانت ذات أهمية غير يسيرة. (لأنها كشف النقاب عن الحوادث التي اعتورت البلاد في تلك الفترة)
لقد سمعنا وعرفنا كثيراً عن هذين الأديبين الفذين، وعن صداقتهما وتعاونهما في أعمال نبيلة عديدة، وكانت ثمرة ذلك لكل إنسان. ونستطيع في معرض بحثنا هذا - على الظروف الخافية التكوينية لكل هذا ونتتبع أثر النتيجة (المثالية) ونشرح علاقتها بجذورها الأصلية، وكيف كانا يعيشان ويعملان سوية في هذا المحيط التافه من العالم وكيف كان يكتب (فاوست) و (وليم تيل) على الورق المتهري كما تكتب ورايات منيرفا أو أغنيات رجل ينتسب إلى خاصة الناس! إن المختصين في الأدبيات لهم ولعهم المعروف في البحث والتنقيب والتمحيص. . ولكن دعنا نبتعد قليلاً عن الاختصاص أو أي موضوع شكلي آخر. . فليس لهذه الأشياء أي تأثير في حي الاستطلاع الذي يجمعنا كلا شاملا في صعيد واحد كبشر. والدليل على أن عطفنا فيما بيننا غير محدود هو هذا البحر الهائل من توافه الشائعات التي تجعلنا نشعر بالرابطة الشائعات إلا ترجمة غير كاملة). ولا ريب أن الجنس(1005/20)
البشري يستوعب ويلفظ يومياً هذه الشائعات بصورة استمرارية، وإذا كان حب الاستطلاع مسيطراً علينا هذه السيطرة التامة فيما يخص الشائعات العادية، فكم بالأحرى تكون لأحاديث حوته وشلر أهميتها الكبرى التي تغارينا النزاهة نفسها على الإنصات إليهما فيما لو كنا عائشين في عصرهما، ولكن من سوء الطالع أن تمر هذه الأحاديث لتوها في الساعة التي شهدتها. ولنعد الآن إلى الرسائل والردود المتبادلة بينمها، فإنها على ما هي عليه من حيوية وصراحة ومحبة، لم تتركا غير الرموز والخلاصات المقتضبة. . فالحركة الدراماتيكية التي كانت تمثل على مسرح الحياة لا تخلف شيئاً غير النتائج التاريخية الباهتة وهي كل ما يتبقى لدينا. . ومن الحق القول أن كل رسالة خصوصية تبين نوعا مت شخصية الكاتب، ولكن التصوير عاجز كل العجز عن تشخيص الطبيعة الروحية. فالهرم يمكن قياسه ورسمه من قبل مهندس بارع بحيث يصبح واضحاً للعيان، وكذلك يمكن رسم جبل (مونت بلانك) بألوانه وأشكاله وفي متاحفنا صور طبق الأصل لكل ذلك. أما تشخيص الرجال العظام وتصوير هذا الطراز من الرجال، وهكذا. . فالصور التي في حوزتنا تظهر من خلال سجف التاريخ باهتة ضعيفة غير واضحة المعالم، وهي بعيدة كل البعد عن سحرها الذي امتازت به، وقوتنا كلها عاجزة عن تجسيدهم كما هم رجالاً أحياء ينبضون بالقوة والحيوية الدافقة وكل الذي نتمكن أن نفعله الآن لا يتعدى تصوير أشخاص أشبه شيء بأشباح أوسيان في ظلال الغبش، فسقراطنا ولو ثرنا - بعد كل هذا الذي قيل عنهما - ليسا في الحقيقة سوى شخصين غير مرئيين، فليس حكيم أثبنا ولا راخب ايسلبين شخصين بالمعنى المعروف وإنما هما لقب ليس إلا. ومع ذلك فهؤلاء الرجال، وليس الألب أو (الكوليسيوم) هم من عجائب الدنيا وهؤلاء أنفسهم هم الذين نسعى جاهدين لطبع أفكارهم في ذاكرتنا. إن الرجال العظام هم أعمدة النار التي تقود حجيج الإنسانية، والتي تنتصب كبشائر سماوية وشواهد على ما حدث وأدلة ناطقة على ما سيحدث من شؤون تقرر مصير العالم بأجمعه، وهم في الوقت نفسه الإمكانيات المتجمدة الظاهرية للطبيعة الإنسانية المغلقة بالألغاز والأحاجي، وهم بهذا الاعتبار يمثلون العظمة غير المنظورة وغير المدركة عقلا حتى من قبل أنفسهم كبشر. على الرغم من أنهم يحبونها أشد الحب ويحترمونها أكبر الاحترام، ولكنهم يضطرون، تحت الظروف القاهرة، على أن يظلوا غير مدركين لهذه(1005/21)
العظمة في هذه الحياة. كم من الأسباب الوجيهة وكم من المغريات البريئة تجتذب حي استطلاعنا إلى مثل هؤلاء الأشخاص الأفذاذ. سنحاول التعرف عليهم ورؤيتهم عيانا كما نرى أنفسنا، فكل ملاحظة وكل إشارة تخصهم تهمنا بالغ الأهمية. . . والنفوس العظيمة التي مضت لحال سبيلهم لم يبق منها صور مجردة، أما مميزاتها الخارجية، لا. . بل وحتى الداخلية - في بعض الأحوال - والتي كانت تتصف بها فقد ذهبت إلى العالم الثاني هي الأخرى، ولم يبق إلا أن نعتمد على التاريخ في تصوير بعد الذكريات البسيطة التي لها أقل علاقة بها ومع ذلك فهذا التاريخ - على ما فيه من نواقص وعيوب - هو الكنانة التي احتفظت ببعض الذكريات والتي لو لاها لأضحت في خبر مكان. إن الرسائل المتبادلة بين شلر وجوته تمتاز بميزة ثمينة للغاية وهذه الميزة هي الحقيقة بالذات، وهي تتجلى في كل الظروف والأحوال، سواء كان ذلك من جهة أصالة الحقيقة الواقعة أو الرأي الخاص بهذه الحقيقة، أما الإخلاص فبين بكل وضوح في مثل هذه الأسلوب، واللطف الطبيعي لا يمكن أن يعرقل حق حرية الكلام أو الفكرة في مثل هذه الأحوال، ولم تكن الغايات إلا غايات شريفة. وكان الإخلاص المتبادل بين الطرفين من الوضوح لدرجة أنه كان يتعذر على أي ستار مهما بلغ سمكه على إخفائه، وعلى هذا فكلا الصورتين الذاتيتين تشبه الحقيقة الأصلية وتماثلها أحسن المماثلة. وقد يرغب بعض القراء أن يرى مزيجا مما يمكن أن ندعوه بالشؤون المنزلية مختلطاً بالآمال والمخاوف والمشاعر التي كانت تساور الشاعرين العظيمين، لما للأول من علاقة متينة بالحياة الإنسانية الاعتيادية، ولكن بالرغم من بحثنا المرهق الطويل لم نعثر على شيء من ذلك، مع علمنا الأكيد أن هذا النقص نادراً ما يحدث في المراسلات الحديثة، وعلى هذا فإنه يتبق لدينا في هذا الخضم الواسع في الخير والشر والحالة المعاشية والعاطفية كالفقر والغنى والفرح والحزن، قلنا لم يتبق لدينا إلا النزر اليسير وإلا ما شح وقل، ولعل رغبة القراء الذين يعيشون في بلاد هذين الشاعرين في ذلك أقل لأنهم؛ على اتصال بالحياة اليومية التي واكبت حياة الشاعرين، مع اختلاف في الزمن وبعض العادات التي تغيرت تبعاً للتطور بخلاف الأجانب الذين يرغبون رغبة ملحة في استطلاع شؤون البلد الذي ترعرع فيه الكاتب والشاعر والأديب، وهذا جلي وواضح، وعلى أي حال يجب ألا ننسى أن شلر وجته أديبان، وأن حياتهما الاجتماعية ما هي إلا(1005/22)
هيكل الوجود الفاني، وليس لهذا الهيكل علاقة بالوجود الروحي إلا كما تكون علاقة الخضوع والتبعية، وهذا بحد ذاته لا يحتاج إلى ذكر مستفيض. زد على ذلك أن الناس المثقفين - نظراً لمزاجهم الطبيعي - ينفرون من الخضوع للعواطف الهائجة، ولا يظهرون ما يعالج في نفوسهم حتى إلى أقرب المقربين إليهم. وهذا ما يخفف من حرارة المراسلات ولكنه في الوقت نفسه يزيد من سعادتهم الخاصة، لأن من يحمل قلبه في ردته لا يأمن عليه من نقر الغربان كما يقول المثل السائر، وعلى الرغم من أننا لا نبحث اعترافات رو سو حقها في الإفصاح عن مكونات قلب الكاتب؛ إلا أننا لا نجد شيئاً من هذه لاعترافات الجريئة في هذه المراسلات موضوع البحث
وفي الوقت ذاته هناك بعض الآثار ذات الطابع المنزلي منتشرة هنا وهناك نتقبلها ونحن مسرورين ولا نؤاخذها بشيء غير ندرتها، ولكن هذه المراسلات تحتفظ بصورة ذات أهمية قصوى، إذا اعتبرناها حق اعتبارها، وهي التي تشغل بالنا أكثر من تلك القسمات المنزلية. فهي تظهر لنا عقليتين مبدعتين شاعريتين، تنميان ثقافتهما بصورة منظورة، وتتقدمان من درجة إلى أخرى في القوة والجلاء والاستعلاء، وهما لا يسيران في طريق واحدة بل في اتجاه واحد. ومن هذا التقدم يمكن لكل شخص - مهما بلغت درجة ثقافته - أن يستفيد فائدة نفسية كبرى من هذه الدروس الغنية بمحتواها الأدبي. والقيمة الكامنة في هذه الدروس تزداد كلما تقدمت المراسلات، مع اختلاف في التطور، وتظهر على الخصوص على سيماء شلر، الذي يختلف عن صاحبه بصغر سنه وتأثره به، وهذه السنوات الإحدى عشرة تعبر أهم فترة من حياة شلر الروحية. وفي الحقيقة إن هذه الفترة يمكن اعتبارها التأريخ التقدمي منذ عثوره على الطريق المستقيم الذي نهجه في مستقبل أيامه
ولا يعنينا الآن التطرق إلى صفات عذع الوسائل ولا إلى محاسنها سواء كان منها العرضية أو الجوهرية، على ما هي عليه من قيمة كبيرة. أما العلاقة المتقابلة الشريفة الصريحة التي تظهر بين المراسلين وأسلوبهما وأهمية كل ذلك وما يتصف به هذا العمل من وجهة النظر الفلسفية والبيوغرافية، فنأمل أن نوفيها حقها جميعا في مناسبة مقبلة. ومع ذلك فبعض التأملات المجردة والاستنتاجات الأخرى ستبرز من تلقاء نفسها، وستظهر في بحثنا هذا،(1005/23)
على الرغم من أن القراء الإنجليز لا يهتمون بالرسائل قدر اهتمامهم بشخصية الكاتبين الشاعرين. فالرأي العام له بعض الإلمام بجوته، ولكن غبته في التعرف على شلر أكبر؛ لأن معرفته به قليلة جداً، وعلى هذا فإن رغبتنا الآنية تتلخص في تقريب شلر على نفوس القراء. كان يجب أن نذكر شيئاً عن شلر في مجلتنا، ليس لأهميته في الآداب الألمانية وحسب؛ بل في الآداب الأوربية كذلك، وهذه خطيئة نأمل أن نكفر عنها الآن وفي بحثنا هذا. أثبت الرجل عبقريته الشعرية والفلسفية بسلوكه وبسلسلة كتاباته التي أبانت ذلك للجميع، يتجلى ذلك في إعجاب أمته به في أثناء حياته وشهرته التي طبقت الخافقين خلال الخمسة والعشرين سنة التي أعقبت وفاته، هذه الشهرة التي استمرت في النمو والتوسع وتثبيت نفسها، وهذا ما لم ينله إلا ذو حظ عظيم. وليس بخاف أن عدم ذكرنا له ليس مرده إلى عدم إعجابنا به، بل لأن هناك كثيراً من الآداب الأجنبية تحتاج إلى الشرح والتفسير بخلاف شلر الذي يفسر نفسه بنفسه. تمتاز عظمة شلر ببساطتها، وأسلوبه في عرض هذه العظمة مفهوم من قبل كل شخص. ومن بين الكتاب الألمان الذين يمكن اعتبارهم من درجته، باستثناء كلوبستوك، يعتبر شلر أبعد ما يكون عن الوطنية بمعناها الضيق، اللهم إلا إذا اعتبرنا كلمة ألماني بما تعنيه من صدق وإخلاص ونبل وشهامة. أما أسلوبه في التفكير والنقاش فهو أوربي ما في ذلك ريب. وعليه فليس غريباً أن نلاحظ أن أي كاتب ألماني آخر لم يقابل بمثل هذا القبول الحسن لدى الأجانب، ولم يحظ بمثل ما حظى به بصورة دائمة. فجعله الفرنسيون قبلة أنظارهم ومطمح مقاصدهم، يتبين ذلك من ترجمتهم لمؤلفاته وشرحهم لها وتمثيلهم لرواياته على المسرح، واحترام أكثر النقاد له احتراما بالغاً. وهكذا أصبح شلر لدى الرومانيين الأستاذ الأكبر والمثل الأعلى والسفير الوسيط بين المدرستين القديمة والحديثة، وغدت مؤلفاته جسراً ذهبياً يصل حدائق فرسايل بأرض العجائب. وكذلك الحال معنا، نحن الذين لا نعير أهمية للرومانسية ولا للكلاسيكية، وخصوصاً بعد أن ذهبت ريح المشادة التي أثارها (باولز) بخصوص الشاعر بوب، على أن ذلك لا يمنعنا مطلقاً من أن نشعر بالاحترام العميق له؛ واحترامنا هذا لا يقتصر علينا وحدنا؛ بل يتعدانا إلى كل شخص له اقل ميل شعري. فقراء الألمانية، وهؤلاء يزدادون باطراد مستمر يعتبروت شلر باكورة الدراسات، وحتى ثقلاء الفهم منهم مجبرون على الاستمتاع بجمال كتاباته. أما(1005/24)
الأشخاص الذين لا يعرفون الألمانية فعندنا لهم تراجم كثيرة ومتعددة، ولو أن هذه التراجم تفقد كثيراً من رونق الأصل، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون سدا حائلا بينهم وبين التمتع بأشعة نور الشمس الأصلية. وهذه التراجم ستوقظ الحب في القلوب الحساسة والنفوس المرهفة مما سيدفعها حتماً على الإدراك المباشر. . .
وأهم جزء من واجبنا الآن هو الدفاع عن شلر وتوكيد قيمته ووضعه في المكانة اللائقة به. إن التعريف بكتاباته مستمر بسرعة وبالطريقة الصائبة التي يمكن إحرازها بالدراسة القريبة للقلب وبالمحبة التي تعمر قلوب الذين أوتوا الفهم النزيه وروح التطلع التي لا تني تبحث وتفكر وتعمل على الحصول على أعلى درجات الكمال. أضف إلى ذلك أن مؤلفات شلر لا تحتاج إلى أقل الشروح، فهي تشرح نفسها بنفسها كما ذكرنا سابقاً. فقيمة مثل هذا النوع من العظمة وشاعرية من هذا الطراز تظهران سافرتين مكشوفتين، فكتاباته لا يمكن أن يصل إلى مستواها أحد لما تمتاز به من صراحة قل أمثالها وعزت على منال الكثيرين
وما من شك أن واجب النقد يقتضينا أن نوفي حق مثل هذا الشاعر الذي فسر مداهمات المجهول. وكل شاعر يجد نفسه مولوداً في محيط تافه، وعليه أن يجادل ويناضل للتخلص من قيود صغار العالم الواقعي إلى حرية العالم المثالي اللامحدود. . وتأريخ مثل هذا النضال يعتبر في الوقت ذاته تأريخ حياته نفسها، ومن هذا يمكننا أن نستمد عبراً ذات أهمية كبرى. ولم يجز سعيه الشاق هذا - على سموه - أي جزاء اللهم إلا إذا اعتبرنا الجزاء ذاتيا. ولكن قانون وجوده بحد ذاته، اضطره إلى قبول مثل هذه العمل الشاق والاستمرار في أدائه وتحمل أعبائه، وإلا كان البديل لذلك التعاسة بعينها، وقد تخلق التعاسة نفسها مواهب وكفايات، وكثيراً ما كان الأمر كذلك في معظم الأشخاص الذين ابتلوا بهذه التعاسة. . .
أما اضطراب شبابه فهو (اضطراب العبقرية) التي كانت تظهر أحياناً وكأنها سجية جامحة. . وكأنها تكهن بالرسالة الخفية القوية التي أرادته لها السماء، لكي يطهر نفسه من أدران الحياة ويستعد لما أريد له من واجب مقدس وأمر عظيم، هذا الأمر الذي يندر من ينفذه أو حتى يلتفت إليه، أما ما يخص المتحذلقين ومن لف لفهم فأمر عبث لا طائل تحته. . وأما أصوات ضجيجهم وعجيجهم فتذهب مع الساعة التي يقضون فيها. . وطبيعي ألا(1005/25)
يعنى الكمال الروحي لعامة الناس شيئاً إلا كما تعني الهمسة العابرة الغارقة في ضجيج العالم
والحال كذلك حتى مع (بايرون) و (برنز) اللذين أوتيا أذناً حساسة لالتقاط الرسالة السماوية (هؤلاء الذين ينطقهم الوحي السماوي) فيصعب عليهم التخلص من الارتباط بالجسد والدم، وبدلا من العيش والكتابة عن القوم الذين يحيون بين ظهر انهم يكتبون عن الخلود الذي يبقي على الزمن والذي يظل ملازماً لهم، وبدلاً من أن يعيشوا مرضيا عنهم (يعيشون في الكل في الخير وفي الحق) ولا شك أن هذه النفعية وهذا التأرجح بين الفكرتين والتوسط الفاشل المؤلم بين الحق والباطل هو الخطيئة المقلقة والشقاء الرئيس للإنسانية في كل أدوار حياتها. وتعمدت النصفية هذه في هذا الوقت تعميداً جديداً واتخذت اسماً غير اسمها وهو الاعتدال وأصبحت هذه فضيلة وطريقاً وسطاً. إن حالة كثير من المنصفين الذين وهبوا طبيعة شريفة وفاضلة لتدعو إلى الأسف المؤلم
والآن دعنا نفتش عن سفينتنا ذات الحمولة الغنية بن هذه السفن التي تحطمت في خضم الحياة ونسأل ربابنتها عن أحوال سفرتهم. وما من شك أن شلر يمثل في نظرنا هذه السفينة الناجية، وأنا نتساءل: كيف تمكن هذا الرجل من النجاة؟ ومن أية جهة حاول اختراق سر الطبيعة الروحية؟ ومن أية منطقة تمكن من التحليق في مساء الشعر؟ وتحت أي الظروف الخارجية وبأي القابليات الداخلية؟ وبأي الوسائل وأية نتيجة؟ بديهي أنه ليس في مكنتنا ولا مكنة الظروف المحيطة بالقراء في هذا الخصوص الإجابة الشاملة القطعية على مثل هذه الأسئلة. ومع ذلك فيجب أن نشرع بالبداية الناقصة حتى نتمكن من الحصول على النتيجة الكاملة. ونظرة شاملة على سلوك هذا الإنسان كما كان يظهر وكما كان يحيا، سواء كان ذلك في مجال العمل أو في الشعر، كافية لقبوله لدى من يعرف الشيء القليل عن شلر، وذلك يعتبر فتحاً في طريق المعرفة الحقة، أما الذين هم على اتصال به فينفعهم ذلك كشاهد على أحقية ما فكروا ويفكرون به، لدينا بيانات عديدة منتشرة هنا وهناك للتعرف على حياة شلر الشخصية، وهذا ما يجعلنا نغضي عن ذكر قصة حياته التي تعتبر معروفة الآن. والذي لا يزال حب الاستطلاع متمكناً منهم يمكنهم أن يشبعوا مثل هذه الرغبة بالاطلاع على كتاب (حياة شلر) المطبوع بالإنجليزية أو (حياة شلر) في مقدمة الطبعة الفرنسية(1005/26)
لرواياته الدراماتيكية أو في مقدمة الطبعة الإنجليزية لمؤلفات (حرب الثلاثين سنة). وفي دراستنا هذه نرجو أن نوفق في شرح الناحتين العملية والتأملية من حياته، أما الوقائع التي تدخلت في تاريخه العرضي فستظهر في معرض هذه الدراسة
للكلام بقية
يوسف عبد المسيح ثروت(1005/27)
خاطرة
أين السلف الصالح؟
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
قد تباده المرء أمور فيها من العجب ما يبعد المبادهة، والعلم نور الله في الصدور وهو لا يهدي لعاص، ولا يهتدي به ضال، ولا يسير في هديه مضل!
وللعلم (كرامة) يجب أن ترتفع عن الشهوات، وتخاصم الأهواء والنزعات، لكنه أرخص في مرتخص المنافع واتضع باتضاع الخصاصة النفسية، فأصبحت لا تجد إلا أنقاضاً على هيئة شخوص لهم أناقة المظهر، وشناعة المخبر، وفيهم بروق النفاق، ومروق الرياء، وبقلوبهم شح الوفاء، وكرم القدر، يلبسون لكل حال لبوسها، ويسيرون في كل ركب، وقد أزالوا عن نفوسهم توقر المحافظة، وتوقي المؤاخذة، واندفعوا مع تيار الحياة، يحتالون عليها وتنافسون في أسلابها، حتى سلبوا المهابة، وأضاعوا معاني القناعة!
أين السلف الصالح؟ وأين مجد العلم؟ وأين قوة الروح لدى العلماء؟ لقد كانت بطونهم جوعي وأرواحهم شبعى! وكانت حلوقهم ظمئ وعقيدتهم ريا! تسابقوا في الفضل، ولم يتنافسوا على الفضالة! وانطلقوا مع الملائكة ولم يلحقوا في ركاب الشراهة
كانت يدهم رخصة ولم تكن رخيصة، وكانت رغباتهم معتزة ولم تكن ملتذة!
رحم الله عهدا تنوسيت فيه آمال ومطامح، واتصلت فيه وشائج العلم في أروع صوره! أين ذهب هذا العهد ولم يتغير الزمان؟
لقد كان لي جد يدرس في معهد ديني، ويدرس العلم في مسجد، ثم يتقاضى ستين قرشاً وهو عالم ممتاز؛ ثم وثب راتبه إلى عشرة جنيهات في مدى ثلاثين سنة!
إن الشيخ أحمد بدر العالم الدمياطي الذي قابل الإمام محمد عبده في أخريات حياته، وأطلعه على كتاب في (المنطق) جعله حسبة للراغبين، وأخفى عليه أمر راتبه حتى علم؛ فجازاه هو راض قانع!
إني لأبصره بعد خمس وثلاثين سنة - وأنا ابن سبع سنين - يجتمع في حلقته جمع يأخذ عنه، ويقبس منه؛ وأكاد أتبين معنى ما يقول لأن علمه مشرق الروح، وأنس القلب، وراحة النفس؛ فأين ذهب هذا كله اليوم؟(1005/28)
لست مقصدا بهذه الإشارة المباهاة، وإنما هادف إلى المقايسة وهل ينفع القياس؟ لقد انصرف هم العلم إلى التعالم، واتجهت همة العالم للمغانم؛ وذهب نور الهالة الذي كان يلمع في الوجوه المؤمنة الآمنة؛ فتغضي منها الأبصار!
في الأمس القريب كانت الدعوات تتري فتهتز أعواد المنابر بالدعاء للملك الصالح المخلص في طاعة ربه؛ ثم بدا دليل الفساد وانطوى العهد؛ فسكتت الألسنة بعد أن أسكتتها المباغتة وألجمتها المفاجأة، فما الذي حال بينها وبين التلميح وهي التي تقود العامة
إن النفاق داء وبيل، ولكنه في قلوب العلماء آفة!
نريد أن يكون العلم ذا قرار في القلوب، تحصنه الهيبة، وترفعه الكرامة ويحفظه الوقار!
نريد ترك التشدق بالألفاظ، والتفصح في العبارة، والتكلف في القدرة. نريد علما نابغاً من الإيمان، فيه لغة الوجدان الطاهر والروح الصافي!
إن زياد ابن أبيه كان على ما كان عليه وقد قال: أيها الناس لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا؛ فإن الشاعر يقول:
إعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري
فهل يريد العلماء أن يكونوا على مذهب زياد في أداء الرسالة!
اللهم إن العلم في الصدور لكن العمل به فيه قهر للنفس وزجر للهوى وقتل للشهوة، ومغاضبة الشيطان، واقتداء بالسلف الصالح، فمتى يفيق من امتلأت رءوسهم وقلوبهم هواء؟
أحمد عبد اللطيف بدر(1005/29)
ملك وشعب. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
ذكرتني حوادث مصر الأخيرة يوم ثار قائدها الجبار وحواريوه المخلصون بوجه الطاغية فأزاحوه عن عرشه وأطاحوا به بعيداً عن البلاد التي نكب أهلها في أرزاقهم وحرياتهم، وأخرجوه ذليلا مهانا بعد ما استردوا الحرية التي فقدوها طيلة سنوات الظلم والرشوة والفساد، وبعدما شبع ذلك الملك الخليع من أكل اللحوم البشرية وروى نهمه بشرب الدماء، وبعدمات فجر ما شاء له الفجور وفسق ما شاء له هواه أن يفسق، وقامر بأموال الشعب الذي ائتمنه فخان، ووعده فماطل وأخلف، بقصيدة قالها شاعر يكاد أن يكون منسياً؛ منبها الملوك الذين يهزؤون بمصالح الرعايا فتكون خاتمة حياتهم الفاجعة كخاتمة (فاروق) الذي صح فيه قول الشاعر البغدادي:
لأعطيت ملكا فلم تحسن سياسته ... كذاك من لا يسوس الملك يخلعه
أو قول غيره
ابك مثل النساء ملكا مضاعا ... لم تحافظ عليه مثل الرجال
وهذا الشاعر هو المرحوم داود بك عمون وقد نشره في مجلة (الزهور) التي كان يصدرها في مصر المرحومان أنطون الجميل وأمين تقي الدين، سنة 1914 (هو شاعر مقل ولكن قليلة رفعه إلى منزلة قصر عنها الكثيرون من المكثرين. ويمتاز نظمه بمتانة السبك وفخامته وسمو المعنى وجدته، ويدل دلالة واضحة على توقد ذهن وشدة عارضة وعزة نفس، أما نفسه فجاهلي عصري معاً)
ولما كانت الحالة الآن تستوجب الاطلاع على ما كان يعتلج في قلوب الشعراء آنذاك من شر مستطير ينال الشعوب من جراء ظلم الملوك لها - والشعراء أنصاف أنبياء - أحببت أن أعرض على قراء (الرسالة) الزاهرة تلك الجريدة العصماء التي ما كانت إلا صرخة في وجه الظلم ولكمة في صدر الملوك الطغاة الذين بلغوا منزلة من الضعة تشمئز منها جتى الذئاب في ذلك الزمن، فكيف بالشعوب الآن وقد أزاحت عن ناظرها براقع الغفلة والجهل وفتحت قلوبها إلى الخير والحق والجمال
اللهم اهد ملوك الشرق وساسة الشرق إلى ما فيه صلاح الشعوب ورقيها لتتواكب الحرية(1005/30)
ولتأخذ حقها من الحياة، ولا أن تسد آذانهم عن سماع صراخ المتوجعين وشكوى البائسين الجائعين. . وها هي ذي رائعة عمون اللبناني المولد. . قال:
عذيري من خلق باسل ... أحد وأمضي من الذل
صليب على القسر لا يلتوي ... إذا غمرته يد الناقل
إذا شاقني الأمر صعب المنال ... مضيت ولو أنه قانل
ولو حال من دون حال ... مشت إخمصاي على الحائل
حديد قوى النفس ذوهمة ... تضايق في جسد ناحل
وأورثنها فتى أمثل ... وأورثها لفتى ما
بلوت الزمان، وأهل الزمان ... فخذ رأى مختبر عال
رأيت (الملوك) إذا أطلقوا ... أضر من الجارف الغال
نفوس الرعايا، وأعراضها ... ، وأرزاقها، أكلة الآكل
وعودهمو برقها خلب ... وأقسامهم ضحكة الهازل
ولو عقلوا قيدوا نفسهم ... ومن لك بالمطلق العال
فتلك القيود، ضمان العروش ... توطدها في المدى القابل
حقوق (الملوك) بتقديسها ... دعاوى على الحق للبال
همو الأجراء وإن توجوا ... عليهم لنا عمل العال
وما ميز الله أشخاصهم ... بشيء ولكن رضى الخال
بني الشرق هبوا فقد طالما ... زحفتم إلى الدرك السافل
إلامَ تنامون عن حقكم ... وتعبث فيكم يد العامل
ويظلمكم رجل واحد ... وأنتم عداد الدبي النازل
فدونكم العلم فهو المح ... رر، والرق لازمة الجاهل
وخلوا الديانات طي القلوب ... وكونوا عن الخلف في شاغل
ألم تنظروها غدت آلة ... لتفريق جمعكمو الحافل
ولا ترهبوا الموت فالموت لا ... يؤخره وجل الواجل
تلك هي الصاعقة التي انشقت عنها سماء فكر الشاعر فكانت والحق يقال نذيراً لتكون(1005/31)
شاهدا على أن الظلم الذي نحسه الآن كان يشعر به قبلنا أحرار الفكر والعقيدة. . هلا يتعظ السادرون في غييهم من ملوك الشرق!
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(1005/32)
رسالة الشعر
وحي البردة
للأستاذ ميشيا الله ويردي
أنوار هادي الورى في دارة العلم ... رفت على ذكر جيران بذي سلم
وأرسلت نغم التوحيد عن ملك ... كالروح منطلق، كالزهر مبتسم
فمزج روحك بالروح التي ازدهرت ... يغنيك عن مزج دمع سأجم بدم
وشمك العطر فواحاً بروضتها ... أأألذ من عشق ريم القاع والاكم
ومن يهم بعظيم يتحد معه ... بالرأي والفكر قبل الوسم والأرام
والحب صنوان حب الروح خيرهما ... فلا تكن للهوى الفاني بملتزم
يا ليت أحلام عمري لم تضع بددا ... بحب قصر من الأوهام منهدم
وليتني لم أهم إلا بمن عرفوا ... برقة القلب لا بالظلم والعقم
فكم حبيب إذا خالفت فكرته ... جازاك بالصد قبل البحث في التهم
ومن يساق حبيباً صد خمرته ... وسحر ألحانه يندم وينفطم
فاربأ بنفسك أن تنهار من ألم ... واربأ بحسنك أن يكمد من سأم
وأجعل هواك رسول الله تلق به ... يوم الحساب سفيعاً فائق الكرم
هذا رسول الهدى فارشف على ظمأ ... من ورده العذب عطفاً شاق كل ظمي
كأنما قلبه ينبوع مرحمة ... مستبشر بالرؤى جذلان بالنسم
يا أيها المصطفى الميمون طالعه ... قد أطلع الله منك النور للظلم
وحدت ربك لم تشرك به أحداً ... ولست تسجد بالإغراء للصنم
وكيف تشرك بالرحمن آلهة ... لا يستطيعون رد الروح للرمم
عاديت أهلك في تحطيم بدعتهم ... من ينصر الله بالأصنام يصطدم
كأن ربك لم يخلق لدولته ... سواك من مرسل بالحق معتصم
أدى الرسالة حتى ضج من سأم ... أجناد إبليس واشتد الأسى بهم
وأفلست بعد إقبال جهنمهم ... ولم تجد حطبا في الأشهر الحرم
كأن أحمد بالأصفاد كبلهم ... فارتد جيشهم المقهور بالسدم(1005/33)
شرع على أقوم الأركان أسسه ... للعالمين مبي طاهر الشيم
غذي عقول الورى حتى أتاح لهم ... عيش النعيم ونقاهم من الآثم
وعلم العرب حتى ساد نسلهم ... هام الممالك وارتاحت لعدلهم
كأنما الشرع جزء من نفوسهم ... فإن هم وعدوا استغنوا عن القسم
قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة ... فإن هم قسموا أرضوك بالقسم
وخلدوا ملكهم ريان مؤتلقاً ... وكل ما شادت الأطماع لم يدم
إن الممالك إن شيدت على جشع ... تفرس، ولا خير في الحيتان للبلم
وقد يمل الفتى بالشيب من أرب ... ولا يمل عبيد المال من بشم
أتون نار زفور جد محتدم ... والمال يهوى بخلق جد مزدحم
لو أدرك المرء أن المال تاركه ... لمل صحبة خوان الوداد عمى
ولو درى العاشق الموتور كيف سلا ... أحبابه لم بيت يوماً بقربهم
كفاك هما فأهواء الدني غصص ... نودى بصفوك مثل السم في الدسم
والزهد راحة فكر من متاعبه ... فإن دعانا وأهملناه ينتقم
همنا بفان فأغرانا وأذهلنا ... وأي قلب بحب الأرض لم يهم؟
يا أزهد الناس في الدنيا وفي يده ... خزائن الملك والأنصار كالخدم
عجبت كيف تعاني الجوع مرتضيا ... حظ الفقير ولم تلتذ بالتخم
ولم تبال بتجيان مرصعة ... ولم تكن للآلي خلوا بمرتسم
تقول ربي أجرهم من عميتهم ... وتصرف النفس نحو المورد الشبم
فاستضحك القوم هراء واستبدلهم ... وهم فصيرهم لحماً على وضم
كأن أفكارهم من طول ما شقيت ... ألقت بأرواحهم في وهدا الحطم
والنار حرقة نفس من ندامتها ... يا بؤس من لم يحد عن شر مغتنم
فاسلم بنفسهم أن الروح يعوزها ... رضا الذي علم الإنسان بالقلم
فلا طعام من البأساء ينقذنا ... ولا لباس يقينا شدة الضرم
وهل تفيدك أبراج مشيدة ... والموت في القصر مثل الموت في الخيم
والمرء يفنى إذا لم يبق مأثرة ... تحيا إذا باتت الأجساد في الرجم(1005/34)
والعمر إن طال يوم لا رجوع له ... فهيئ الزاد قبل الشيب والهرم
أسلمت لله أمري فهو يكلؤني ... كالزهر في الحقل والأطيار في العلم
ألست يا أيها الإنسان أفضلها ... وبارئ الكون قد حلاك بالحكم
فإن يغب عنك أن العيش مرحمة ... فكيف تدرك أن الفوز بالألم؟
وكيف تسمو بروح بالثرى علقت ... وكيف تعلو على الأسياد في الأجم؟
أقول للمصطفى أعظم بما ابتدعت ... آيات برك من خير من نعم
لو يتبع الخلق ما خلدت من سنن ... لم يفتك الجهل والأعوز بالأمم
ولم ير الناس أحكاماً وفلسفة ... في الاجتماع ستلقاهم إلى العدم
مذاهب أحدثت في الأرض بلبلة ... وأورثتنا بلايا الحرب والإزم
أين الزكاة وأين العشر يحمله ... أهل الغنى للآلي ماتوا من السقم
هل كنت تبصر ما أودي بعالمنا ... من قبل أن فاض بالويلات والنقم
أم هل تنبأت عما تم في زمن ... سادت به فكرة الإلحاد والنهم
نبوة حارب الجار منكرها ... وروع الناس بالتعذيب والحمم
فيا نبي الهدى حييت من علم ... بالطهر متسم بالعدل مدعم
أحببت دينك لما قلت أكرمكم ... أتقاكم، وتركت الحكم للحكم
وقلت إني هدى للعالمين ولم ... تلجأ إلى العنف بل أقنعت بالكلم
في دينك السمح لا جنس ولا وطن ... فكل فرد أخ يشدو على عم:
الله أكبر والأكوان فآتيه ... ومن يلذ بجلال الله لا يضم
سبحان من بيديه الملك أجمعه ... ويرجعون إليه يوم بعثهم
يا عبقري الورى الأمي هل سمعت ... من قبلك العرب وحياً جد منسجم
آياتك الغر إعجاز تنزه عن ... ند، وليس دعي الحب كالدم
كأنما الناس آلات مبعثرة ... أخرجت منها جميل اللحن والنغم
من علم الجاهلي الغر مكرمة ... وأد البنات أم البالي من الظلم
محمد رد من ضلوا وعلمهم ... حق النساء اللواتي كان كالرمم
يا فخر أمتنا في الأرض قاطبة ... وسيد المصلحين العرب والعجم(1005/35)
عززت كل فتاة حين صحت بنا ... ما أولد العز غير السادة الحشم
فأنت أول من نادى بمأثرة ... يظنها الغرب من آلاء بعضهم
خاطبت كل ذكي حسب قدرته ... ولم تكن بغبي القوم بالبرم
وكنت أرأف بالمسكين من دول ... رأت بأمثاله سرباً من الغم
إن كان ينجع طب الناس في جسد ... فأنت تفعل بالأرواح كالحسم
ترعى اليتيم وترعى كل أرملة ... رعى الأب المشفق الباكي من اليم
فارع النفوس التي ذلت ويتمها ... فقد الكريمين: حب الخير والشم
وهب لنا مبدأ حيا وتضحية ... بها أفردت بين الناس من قدم
ليت الإخاء الذي في يثرب انتشرت ... راياته ظل فينا غير منفصم
إن القلوب إذا ألفتها ائتلفت ... والود حبل فإن تصرمه بنصرم
ماذا يطهر قومي من تنابزهم ... والصد يعلق بالأرواح كالرشم
أجفوه ورعاة غرهم طمع ... كأنهم عن نداء الحق في صمم
أسمعتنا فنسينا واستقل بنا ... هوى، فأمسى عزيز القوم كالخصم
فانفخ بنا نخوة تجمع أواصرها ... وابعث بنا همة يا باعث الهم
أبناء بابل أفنتهم مآتمها ... وآل فرعون ما شادوا سوى الهرم
وتدمر ومغانيها غدت خرباً ... والذكر بالخير غير الذكر بالآرام
يا ليت من شيدوها للفناء رأوا ... عقبى المباني فأغنتهم عن الندم
زالوا وزالت مع الآثار عزتهم ... فإن تجادل سل التاريخ واحتكم
والمصطفة خالد في الناس ما بزغت ... أم النجوم وممدوح بكل فم
يا أيها العرب المأثور مجدهم ... ما فاز بالمجد شعب شبه مختم
أيصبح الخير شرا من تخاذلنا ... ونغتدي نهبة الغربان والرخم
إن الكرامة تأبى أن نذل ولم ... نهضم حقوق الورى كالهائج الضرم
فاستجمعوا أمركم فالله وحدكم ... والمكر فرقكم في حومة الجسم
وشرع أحمد بالقرآن هذبتم ... وجد في أمركن بالحب والسنم
يا أيها المسلمون الفخر فخركم ... ونحن إخوانكم بالنطق والعم(1005/36)
فأيدوا بالفعال الغر دينكم ... فقيمة الحب عندي أعظم القيم
والدين إلا هوى في نفس عاشقة ... ومن يبح بالهوى يوم النوى يم
سيان يا قوم من يقضي بلا أمل ... ومن ينال المنى في عالم العدم
صوفية أدركتها المفس فانصرفت ... عن الدنايا ومن يهو العلي يصم
فاستهد بالروح في الأفلاك أهوكما ... تهوى الملائكة وجه الله واستقم
وقل لمن أدمت الأهواء مهجته ... أما اكتفيت من الدنيا بحبهم؟
رمت فؤادي بسهم الحسن فاتنة ... فاعجب لصب جريح ثابت القدم
ندت أناشيده نيران لوعته ... ففجرت عن عليل بالجمال رمى
إن لم يخلد فؤادي الحب فالتمسي ... يا نفس كهفا ببطن الأرض واعتصمي
عل المنية تنساني كما نسيت ... عرائس البحر صيد النسر في القمم
يا نفحة من جنان الخلد سارية ... كالورد يلثم في الأسحار من أمم
إني محب ومحبوب ولو زعموا ... أن المحبة بالأنساب والرحم
فالناس من آدم بالمصطفى اجتمعوا ... وشرعة الحب أم الناس فأتمم
يا أجمل الخلق سيماء وأظرفهم ... طبعاً وأوفاهم بالعهد والذمم
عشقت منك صفات جل مبدعها ... كالغيد تفتن لب الشاعر الفهم
يرنو فيمنحنه وحياً يخلده ... ورب حب مثير جاء بالعظم
ورب نجم منير يستضئ لكم ... (فأنتم الشمس لم تدرك ولم ترم)
وحسن شعري لكم من شمسكم قبس ... والنبع ما سال لولا صيب الدم
فإن أجدت بهذا الطل مدحكم ... فكل معنى بكم كالهاطل العرم
حياك ربي بآيات مفصلة ... والناس أعجز عن إدراك ربهم
لكنها صورة بالشعر أرسمها ... لأستجير بها إن بت كالحلم
يا هادي الفكر أهداه الإله إلى ... عباده منة من فضله العمم
إن يمدحوك بأبيات منقمة ... فأنت تفرق قلبي عن قلوبهم
تبارك الله لو شاءت مراحمه ... لشع نورك بين الناس كلهم
إن لم تكن بوكيل فاشفعن لنا ... بحق ترديدنا التوحيد في الحرم(1005/37)
صلى الإله على محياك في مهج ... تحيا بها كحياة النور في الدم
صلى الإله على مثواك ما صدحت ... ورقاء أو هينمت عطرية النسم
صلى الإله على ذكراك ممتدحاً ... حتى تؤم صلاة البعث بالأمم
ميشيل الله ويردي(1005/38)
طيف الهجرة
للدكتور زكي المحاسني
سكنوا الديار وبغتة برحوا ... والنور يسطع حيثما نزحوا
ذهبوا مع الريح الغداة وما ... عادوا فليت بوصلهم سمحوا
أترى على يطحائهم بطلا ... متلثما وكأنه شبح
ماجت عليه البيد في نفر ... جابوا الرمال وبالسرى سبحوا
غنوا فرد القفر لحنهمو ... فحداؤهم بالبيد منطرح
قف بي على آثارهم فهمو ... شغلوا الفؤاد وبالهوى جرحوا
شاق الأولى قبلنا طلل ... وقفوا عليه ودمعهم سفحوا
بأبي المهاجر وهو ذو فرح ... يسري؛ وكل مهاجرة ترح
من فارق الطغيان حق له ... أن يستخف فؤاده المرح
ورعاه نجم منذ مولده ... هو نجمه ذاك الذي لمحوا
آكام يثرب ضاحكته دجى ... فلأهلها بطلوعه فرح
تركوا الغبوق لبشر طلعته ... وبوجهه دون الطلى اصطبحوا
أمهاجراً والبغي يتبعه ... وصاحبه الأبرار ما رزحوا
من كان للفتح المبين سما ... لم يثنه الأعداء أن فدحوا
يا صاحب الصديق وارفة ... ذكراك، منها القلب منشرح
عادت، وهب العرب من رمم ... ولعودة الأمجاد فد طمحوا
كان الطغاة بأرضهم فجلوا ... متعسفين وفي الهدى جمحوا
لا تدعهم يوما إلى خجل ... فيما بغوا، لا يخجل الوقح
ويحا صلاح الدين هل رجعت ... حرب الفرنج وهل بها لفحوا
خدعوا الشعوب بسلمهم ولكم ... غالوا السلام وباسمه ذبحوا
إنا جنحنا للوفاء وهم ... لريائهم ومطالهم جنحوا
نصراً رسول الله إن لنا ... قوما لكل جليلة كدحوا
صبروا على مر الخطوب وفي ... يوم الوغى أرواحهم منحوا(1005/39)
مرت بي الذكرى كطيف هوى ... والذكريات مرورها ملح
فطرقت باب الوالهين وبي ... شجن يناديهم فهل فتحوا
أسمعتم بأحبتي هتفوا ... ويذكرهم في حيهم صدحوا
روحي تطيف بأفقهم ولها ... عبر الفضا والغيب منسرح
نار تسعرني وتبردها ... أنفاسهم هلا بها نفحوا
إن عزني الكتمان بعد همو ... فأخو الهدى المشبوب مفتضح
أنبت في الشكوى فحق لهم ... هجري فليت على النوى صفحوا
زكي المحاسني(1005/40)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
مصر في مؤتمر الفن العالمي:
تردد أسم مصر هذا الأسبوع في جميع أنحاء العالم، وتناقلته وكالات الأنباء في كل مكان على أثر الكلمة التي ألقاها الدكتور طه حسين في المؤتمر الدولي للفنانين الذي عقد في قصر الدوج بمدينة البندقية وأشرفت هيئة اليونسكو على تنظيمه وكان المؤتمر قد بدأ جلساته يوم 22 سبتمبر سنة 1952
وكانت (الرسالة) في أحد أعدادها السابقة قد نشرت بعض الأفكار التي صمنها عميد الأدب خطابه الذي أعده لإلقائه في هذا المؤتمر
وهذه خلاصة ما جاء في كلمة الدكتور طه حسين
إذا كانت الأسلحة والنيران والدماء قد غيرت (وجه الأرض) فكم غيرت هذه الأشياء من (نفوس) الناس التي تعرضت بسبب ذلك كله إلى هزات عنيفة
القرن العشرون هو عصر الشك الفلسفي أو التشكك فيما وراء الطبيعة
سجل الدكتور ظاهرة قلة الإقبال على الأدب ومطالعة الكتب
أشار إلى جهود الكتاب لتبسيط آرائهم وجعلها في مستوى إدراك أغلبية القراء وأثر ذلك في الآراء الأصلية ذاتها
المعركة بين الكاتب والناشر، يريد الكاتب من الناشر أن ييسر له من الوسائل المادية ما يكفل له العيش الكريم
من العسير الكتابة بكل أمانة وحرية دون مراعاة أي اعتبار مادي له علاقة بالاحتياجات اليومية
يدل التاريخ على أن الأدباء والفنانين في كل بلد، وفي كل عصر، لم يعتمدوا قط على أدبهم وفنهم في اكتساب قوتهم، بل كانت دوماً لهم مهن أخرى
إن ما يصل الكاتب من مكانة في المجتمع الذي يعيش فيه يفرض عليه واجبات معينة إزاء المجتمع، ويكون لذلك أثر أخلاقي في تصرفاته وكتاباته يمس ما له من حقوق وما عليه من واجبات(1005/41)
والواقع أن هذه النقاط التي تناولها الدكتور طه حسين في بحثه والتي تصور حالة الأدب في العالم الآن، إنما هي مستمدة من صميم الحياة الأدبية في مصر، بل تكاد تكون صورة واضحة لما يعانيه الأدب في مصر
ومعنى هذا أننا نقاسي نفس التجربة الأليمة التي يعانيها الأدب والأدباء في العالم كله، وأن الظواهر التي ننقدها في محيط الأدب المصري، ليست وقفا عليه وحده وإنما هي (ظواهر) طبيعية عامة
ويرجع كثير من النقاد والباحثين هذا إلى أثر الحرب العالمية الثانية، فقد انتعش الأدب بعد الحرب العالمية الأولى وأخذ طوراً من القوة والحيوية والجد، واستطاع الأدباء ف خلال تلك الفترة إنتاج طائفة من الأعمال الأدبية والفنية الخالدة
فلما جاءت الحرب العالمية الثانية واستمرت ست سنوات كاملة، كان من الضروري أن تكون هذه المرحلة الحرجة بعيدة الأثر في اتجاه التفكير العالمي، فقد ذاق الناس في جميع أنحاء العالم - في لا البلاد المحاربة وحدها - ذلك اللون الخانق القاتل من الحياة المضطربة المزعزعة، مما أدى إلى تحول خفي في النفسيات كان من أثره الإقبال على لون جديد من القراءة ليس دائما هو اللون الجاد، وليس أبدا هو الأدب الرفيع
ومن هنا نشأت هذه (الأزمة) التي تكتنف الحياة الأدبية والفكرية في الشرق والغرب، والتي تلخص في عجز الأدب الرفيع عن أن يكون مورداً خالصاً، وأن تظهر تلك الحيرة في محاولة الكتاب تبسيط آرائهم حتى تكون في مستوى أغلبية القراء، وكذلك قلة الإقبال على الأدب
مجلس عالمي للفنون والآداب
وقد القي الدكتور جيم توريس بودبت المدير العام لهيئة اليونسكو كلمة تضمنت النقاط الآتية:
أن وظيفة الفنان لا تقوم أساساً إلا على الاختيار ومن ثم وجب أن نوفر لها الحرية، ولا يكون لهذه الحرية من معنى إلا إذا اقترنت بواجبات عميقة
عبودية الفنان تكون على نوعين: الأول أن يكون الفنان ملزماً بالأخذ بتوجيهات خارجية عن فنه يمكن تغافلها وإلا نزل به العقاب. والنوع الأخر هو أن يتصور الفنان - وهو(1005/42)
يساير أهواءه الخاصة - أنه يتمتع بقسط أوفر من الحية فيكفر بقواعد فنه بأكمله ولا يكون مصيره إلا فشلاً فنيا
ليس عمل الفنان على الإطلاق عملاً تجريدياً، فالفنان ينتمي إلى بيئة بعينها، وتقليد بعينه، وعصر بعينه، وبلد بعينه، وكل هذا يجعل العمل الفني على صلة وثيقة بالتطور الفكري والنظم السياسية والاجتماعية
وقد طالب مدير اليونسكو بضرورة إنشاء مجلس عالمي للفنون والأدب يناط به توفير المساعدة والتعاون بين الفنانين المبدعين من الدول جميعا وله الآن أكثر من نواة، مثل نادي القلم والمعهد الدولي للمسرح والمجلس العالمي للموسيقى، وجمعيات المهندسين، ولا ينقص هذه العناصر إلا جمعية للفنون البصرية واليدوية
أرستقراطية الثقافة
تقوم دار الكتب المصرية بطبع عدد كبير من المؤلفات الأدبية القديمة، التي تعد من أمهات الأدب العربي
كما تقوم الإدارة الثقافة بالجامعة العربية بتصوير ألوف المخطوطات العربية النادرة في العالم
وكانت بعض البعثات قد قصدت في العام الماضي إلى سانت كاترين في شبه جزيرة سينا لتصوير المخطوطات الأدبية والفكرية هناك
إن هذه الهيئات لا تعترف إلا بعدد من كبار الكتاب وكبار الباشوات السابقين فتهدي إليهم هذه المؤلفات لتوضع كحلية بين مجموعات الكتب المجلدة الموجودة في مكاتبهم وينتهي الأمر عند هذا الحد
ولارتفاع ثمن هذه المؤلفات، وعدم وجود طبعات شعبية منها لا يتيسر مطلقاً لشباب الأدباء - وهم على كثرتهم فقراء لا يملكون قوت يومهم - أن يحصلوا على هذه المؤلفات أو يقرءوها!
وهذا ولا شك لون من أرستقراطية الثقافة، نرجو أن نتخلص منه في العهد الجديد، وأن نعمل على تيسير هذه الثقافة وهذه الألوان الأدبية حتى نجعل في ميسور كل مثقف الحصول عليها(1005/43)
من 8 إلى 14 أكتوبر
في خلال هذا الأسبوع تتجدد ذكرى ثلاثة من عباقرة رجال الفن والأدب في الشرق والغرب هم:
عبد الله نديم
المتوفى في 11 أكتوبر 1896
أناتول فرانس
المتوفى في 13 أكتوبر 1924
أحمد شوقي
المتوفى في 14 أكتوبر 1932
ولا شك أن أناتول فرانس سيحظى بالكثير من التقدير من الصحافة الفرنسية ومن المجلات الأدبية
ستتناوله هذه الصحف من جميع نواحيه، شخصيته، أدبه، حياته، مبادله، غرامياته. .
أما عبد الله نديم وأحمد شوقي فسيمر ذكرهما مرور الطيف، لأنهما من الشرق، الشرق الذي ما زال جاحداً لبناته ورجاله ومجهديه
لقد كافح عبد الله نديم الظلم يوم كان كفاح الظلم أقسى ألوان الحياة، واشترك في الثورة العرابية، وهرب، واختفى وطال به الاختفاء، وظل ينتقل تحت جنح الظلام ويغير مظهره، حتى لا يقبض عليه
واستطاع أخيراً أن يذهب إلى الآستانة وهناك وقع في القفص الذهبي الذي كان الخليفة عبد الحميد قد أعده للرجال الأحرار الذين كان يستدعيهم إليه ثم لا يطلقهم مرة أخرى
إن حياة عبد الله نديم هي صورة من الكفاح المرير في سبيل مصر في الوقت الذي كان لا يستطيع أي صوت أن يرتفع بكلمة الحق
. . ولا شك أن من حق عبد الله نديم علينا أن نكرمه ونحترمه، ليس لهذه الوطنية وهذا الكفاح وحده، ولكنه لأنه ابتدع في الصحافة المصرية لوناً جديداً. . ذلك اللون القائم على السخرية والتبكيت، وهو الذي حور أخيراً في صور الكتابات النقدية السياسية التي تقوم عليها معظم المجلات الأسبوعية!(1005/44)
أما شوقي فالحديث عنه طويل. . بقدر ما أدان العربية والشعر من دين وصفه أستاذنا الكبير الزيات عندما قال إن شوقي كان تعويضاً عادلاً للعربية منذ قضى المتنبي. . ولكننا ونحن الآن نسمع قصائده تغنى، وشعره يتردد على كل لسان، ونذكر فضله في ابتداع المسرحية الشعرية في الأدب الحديث. . . ندهش حين نرى أن عملاً ما - يدل على التقدير - لم تقم به أي هيئة أو طائفة. . أين مثلاً كرسي شوقي في كلية الآداب، أو اين مكانه في دار الكتب، أو تمثاله في ميدان يطلق عليه اسمه!! أو الكتاب الضخم الذي وضع عن فنه وشعره
أما (أناتول فرانس) فلسنا في حاجة إلى الحديث عنه فإن المؤلفات والآثار الأدبية التي تناولته في جده وهزله وفنه. . أكثر من أن تحصى
أنور الجندي(1005/45)
الكتب
مواكب الناس
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
للأستاذ منصور جاب الله
الأستاذ نقولا يوسف كاتب مصور من الصفوة المختارة ومن الرعيل الأول الذي اقتحموا مجمعان القصة المصرية فمهدوا طريقها وسلكوا حزونها وألفوا ضروبها وطامنوا أشتاتها، وأنا لنجد هذا القاص الممتاز يضرب في هاتك المهامه البيد منذ حقبة تزيد على ثلاثين عاماً لا يربع على شيء ولا يتعثر ولا يتلبث
ونقرأ في صدر كتابه الجديد جريدة بمؤلفاته التي أصدرها منذ عام 1922، فنرى فيه المكافح المثابر الذي لا يبغي جزاء ولا شكوراً، فهو لا يلجأ إلى الناشرين أو الوراقين لطبع كتبه، وإنما ينشرها لحسابه الخاص ويوزعها هدايا على الصدقان والصحب وما بقي منها بعد ذلك لا يكاد يأتي بجزء ضئيل من تكاليف الإنتاج
ولكن عزاء الأستاذ نقولا يوسف أنه يؤلف حباً في التأليف وتنفيساً عن رغبة مكبوتة في ذات نفسه، ومن ثم فإنه لا يضر أن سبقه في منادح الشهرة والمجد القصصي تلاميذ له وحواريون درسوا عليه أواسط العلم أو أعاليه، فهو بهذا مغتبط أن تهيأ لها النفر من الشباب المتوثب طريق شقه لهم فساروا فيه
ولا على المؤلف الفاضل هذه النفقات الطائلة التي يخرج عنه لطبع مؤلفاته، فإنما هي ضريبة المجد والخلق الفاضل الذي طالما غرسه في نابتة هذا الجيل
وبعد هذه التوطئة التي لم يكن منها بد، يطالعنا الأستاذ نقولا يوسف بمؤلفه الجديد (مواكب الناس) وإذ نتصفحه ونمضي في قراءته إلى خاتمة المطاف يبدو لنا أن هذا الرجل ذا القلب الكبير يطوي بين جوانحه مأساة، فقد ضربه القدر في ابنته التي كانت ملء نفسه وريحانة عينيه فأظلمت الدنيا في وجهه وأخذ الرعد من كل مكان فإذا به يعمد إلى مسلاته الواحدة، وينشي (الصورة) تلو (الصورة) ثم يلزمها جميعاً في قرن، حتى إذا أقبل الصيف بهجره لم يرق له أن يستمتع بإجازته الطويلة كما استمتع سائر أنداده من المدرسين! وإنما(1005/46)
عكف على تنفيذ هذه (الصور) وإزجائها إلى المطبعة فهو غاد ورائح بين آلة الطباعة وباعة الروق وتصحيح التجارب وهكذا، وما صرف صيفه الأطول على ذلك النمو إلا ليصرف عن نفسه أحزانها وأشجانها
ولقد كررنا كلمة (الصور) التي احتواها (مواكب الناس) عن عمد، ذلك لأن هذا المؤلف الأخير مختلف تمام الاختلاف عن مؤلفه السابق (دنيا الناس) الذي قدمناه لقراء (الرسالة) قبل عامين فذلك كان أقاصيص فيها (حبكة) القصة ولها (عقدتها) تنساح بين أرجائها (المؤامرات) ويرين عليها عنصر (المفاجئات) بيد أن الكتاب الذي بين أيدينا قد صدق فيه مؤلفه إذا أطلق عليه عنوانه، فهو (مواكب) للناس تتلاحق، وتتسابق، ثم تسير على وتيرة واحدة حتى تفترق بها الطرق وتفرق عن سبيله، وهو في هذا يقول: لما فرغت من هذه (الصور) التي تحتويها هذه المجموعة، استرضتها جملة فاتضح لي أن أصحابها شخصيات حقيقة، عاشت وعرضت لي في الحياة فعرفتها، ولهذا لم يكن لي كبير فضل في ابتكارها، وإنما الفضل لمن خلقها على هذا النحو، تارة على بساطة وبراءة وأخرى على شيء من الغرابة والتعقيد، فكان عملي - والحالة هذه - مقصوراً على نقلها من دنيا الواقع إلى دنيا الفن دون أن أبدي إعجاباً هنا أو زراية هناك
انتهى كلام المؤلف في كتابه الجديد في حين أنه يحاول الاحتراس في كتابه السابق بقوله (كل ما ورد في هذا الكتاب من أسماء الأماكن والأشخاص خيالي ولا يصف شخصية معينة بالذات؛ فنرجو المعذرة إذا وقع تشابه غير مقصود بين الأسماء أو الصفات أو الحوادث)
فالكاتب الفاضل إذن قد حدد النهج في كتابيه وفصل بينهما بحجاز، ومن هنا نتقبل (مواكب الناس) على أنه طائفة من الصور الأخلاقية الاجتماعية أعمل المؤلف ذوقه وفنه في اقتناصها وتجليتها على القارئين، فبدت كواسطة العقد تختال للناظرين
وإن قارئاً من القراء ما يستطيع إذ يستطلع (مواكب الناس) أن ستريب في أن صورة أو أكثر من صورها شكت بصره أو ضربت أذنه في زمن من الزمان أو مكان من المكان، ولكن ليس لكل إنسان تلك الطبيعة النقية المتساوقة التي جعلت الفن القصصي طيعاً ليناً بين أنامل السيد نقولا يوسف، فهو يصور الواقع بريشة الفنان الذي يرى ويسمع ويتذوق ثم ينقل إلى القرطاس صوراً لا يكاد يتلوها القارئ حتى يرى فيها نفسه لا تريم ولا تتحلحل!(1005/47)
والطريف في المؤلف أنه نقل صوره نقلاً (مصرياً) إن صح التعبير، فعلى أنه يتقن أكثر من لغة أوربية، لم يشأ في كل هذه الصور - حتى التي وقعت له في أوربا - لم يشأ أن يصورها تصويرا أوربيا، وإنما صورها كما يفهمها (أولاد البلد)! وقد بلغ من هذا القمة في التصوير والنقل الأمين
وليس لدينا في الحق نقد على هذه الصور إلا أننا بصرنا في بعض الأحيان بالكاتب يتحامل قليلاً على بعض أبطاله، ولعل ذلك ناجم من أنه رجل مثالي رغم أنه خب في القصص الواقعي ووضع، وأنه لم ينس مثاليته وإن تضاربت مع الفن الذي سلكه من زمان!
وأنا لنرى الكاتب بعد ذلك يحلق - في بعض الصور - بأسلوب عال، ثم يهبط بعد ذلك - في صور أخرى - غلى أسلوب عادي، ولعل مرد هذا أن الكاتب الفاضل عصبي المزاج لا يلقي أهمية كبيرة للأسلوب القصصي كما أومأ في مقدمة كتابه الفريد
منصور جاب الله(1005/48)
النيل في ضوء القرآن
تأليف الأستاذ أحمد الشرباصي
للأستاذ سعد الدين موسى كله
وهذا كتاب جديد فريد يحتل مكانته اللائقة به في صفوف المكتبة العربية الخالدة! أجل هو جديد في نوعه - فريد في بحثه وعرضه! ولم لا وقد تعرض في صفحاته الرائعة الممتعة إلى قضية النيل ودراسة هذا النهر (المبارك الروحات، الميمون الغدوات) كما قال (عمرو) على ضوء القرآن الحكيم بعد أن قدم له بمقدمات تمهيدية، من جهة اللغة العربية والتاريخ، كما لم يفته أن ذكر لنا (النيل) عند الشعراء وفي مخيلتهم، وكيف أجادت تصويره قرائحهم فافتنوا في ذلك افتنانا عجيباً؟! وليس غرضي من هذه الكلمة العجلى التدقيق والتحقيق أو التفصيل والتحليل (فلذلك موعد آخر) إنما هو العرض السريع والسير الحثيث مع المؤلف أرجو أن أوفق فيه إلى جذب أنظار قراء الأدب ومحبي الحكمة وعاشقي الثقافة لمطالعته لنفاسته وللإفادة منه خاصة، وهو نفحة عاطرة من نفحات (القلم الشرباصي) الرشيق الرقيق الذي ما فتئ كل يوم يطلع علينا بلآلئه ويواقيته العذارى الأبكار، وغرره ووروده الزواهر المشرقات كفلق الصبح أو وضح النهار!
والكاتب اللبق، والأديب الحق في رأيي - هو من يغوص في أعماق الحقيقة فيبتكر لنا من أخيلته الشاعرة وذهنه الولود أفكاراً وآثاراً، واقتباساً وأنوارا، ناقضا بقدرته وعبقريته تلك النظرية القديمة البالية. (لا جديد تحت الشمس)! وكذلك فعل الشرباصي هنا فبدأ ببيان اشتقاق كلمة النيل في اللغة ومصدر النيل في زوايا التاريخ، منتقلاً بنا إلى ندوة شعرية جميلة، ناقلاً لنا مختارات مجيدة فذة - تدل على ذوقه البليغ - واختيار المرء قطعة من عقله! ويطوي الحديث سريعا ليخلص إلى السنة والكتاب، مستعرضا بعض الأحاديث والآيات في براعة ولباقة وتعقيب ودقة، ويبدع الشرباصي أيما إبداع حينما يتحدث عن مصر وفرعون في القرآن ثم عن بعض الرسل في مصر كيوسف وموسى عليهما السلام، مطعماً حديثه بآثار وروايات عن الصحابة والأئمة والمؤرخون في تمجيد (النيل) (ومصر) التي هي هبة (النيل) كما جاء عن (هيردوت) المؤرخ اليوناني القديم. . وهذا فصل من فصول الكتاب تحت عنوان - خيرات الوادي - يستعرض فيه غلات مصر وزهورها(1005/49)
وحبوبها ونتاج أرضها المباركة الخصيبة بفضل هذا الشريان الطاهر المقدس الذي يجري في أوصالها وأعراقها منذ فجر التاريخ، وفصل آخر يعقده المؤلف عن ميزات النيل وواديه وهو مليء بالنوادر الفردة والآثار التاريخية والنصوص الأدبية والروائع الممتعة مما أنتجته عقول الأدباء والكتاب والرواة - وددت لو نقلته لك بأكمله - ولكن من الخير لك أن تنفرد به وحدك فتتذوقه بنفسك وتتملاه بذوقك (ومن ذاق عرف!)
وبعد فهذه صفحات أخرى تسير بك في إبداع وإمتاع، وفيها إهابه ببني مصر أن يهبوا، فقد طال بهم الرقاد! - إن النيل يفي لنا في كل عام، لا ستخلف عن الجريان مرة! - أفلا نكون معه أوفياء! و (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان!) قد يسمك النيل فيضه قليلاً أو رويداً، ولعله يراد بذلك أن تتنبهوا وتعتبروا، وتقدروا النعمة حق قدرها؛ وقد يزداد فيضه ليحذركم وينذركم، ويخوفكم من انقلاب النعمة نقمة! فأين الاعتبار يا أولي الأبصار؟!
أي ما أبلغ هذا الكلام وأجمله! أما واجبنا نحو النيل فيجليه لنا يراع الكاتب الموفق جلاء واضحاً في بنود عدة بلغت (الثانية عشرة)! وأخيراً. . نجد أمامنا (ملحقات): النسل في القرآن، أساس الوحدة هو الإسلام (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وهي ثلاث خطب منبرية عصرية، جمعت فأوعت من الحديث الواعي الحصيف، والاطلاع الوفير، والأدب المستنير الغزير!
ألا حيا الله أستاذنا الشرباصي، ووفقه دائما لخدمة الإسلام والقومية والعروبة، وجزاه عن دينه ووطنه وأمته ولغته خيراً!
سعد الدين موسى كله(1005/50)
البريد الأدبي
الطلاق الثلاث بلفظ واحد
يقول الأستاذ محمد أبو زهرة في (لواء الإسلام 4 - 6): لا يقع الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث ثلاثاً ولكن يقع طلقة واحدة. . لذلك قرر كثير من العلماء. . أنه يقع واحدة. وقد روي ذلك عن بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله ابن مسعود والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف
وقال الأستاذ محمد زاهد الكوثري (ألا شقاق 23 - 53) أسند ابن حزم (في المحلى) إلى على أنه قال لمن طلق ألفاً: ثلاث تحرمها عليك، ومثله في سنن البهيقي. راجع المجموع الفقهي للإمام وزيد بن علي، وأسند ابن حزم كذلك إلى عبد الله بن مسعود أنه قال بمثل ذلك، كما في مصنف عبد الرازق وسنن البيقي وغيرهما
وأما الزبير فابنه عبد الله من أعلم الناس به، وهو لما سئل عن طلاق البكر ثلاثا في للسائل: مالنا فيه قول فاذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فسلهما ثم ائتنا؛ فأجابا بأن الواحدة تبينها والثلاث تحرمها، كما في موطأ مالك. فلو كان عنده عن أبيه أن الثلاث واحدة في المد خول بها لما تأخر عن ذكر ما عنده، لأن غير المد خول بها أولى بذلك الحكم.
وأنى يصح عن عبد الرحمن بن عوف خلاف ما فعله هو في طلاق امرأته الكلبية (المحلى 10 - 220) وكان طلاقه إياها ثلاثاً: حتى أن من يرى أنه لا إثم في الجمع بين ثلاث يستدل بفعل ابن عوف هذا، كما في فتح القدير لابن الهمام
ومن الدليل على وقوع الثلاث بلفظ واحد في عهد النبوة حديث الملاعنة الذي في (صحيح البخاري) حيث قال عويمر العجلاني في مجلس الملاعنة: كذبت عليها إن أمسكتها يا رسول الله؛ فطلقها ثلاثا. ولم يرد في رواية ما أنه صلوات الله عليه أنكر عليه ذلك. . قال ابن حزم: لولا وقوع الثلاث مجموعة لأنكر ذلك عليه
وفهم البخاري كذلك من هذا الحديث ما فهمته الأمة جمعاء من الوقوع حيث ساقه في صحيحه في (باب من أجاز طلاق الثلاث)
أمين سراج(1005/51)
أكاذيب كلوب باشا
نشرت مجلة (العصبة) البرازيلية في عددها الثاني من سنة 1952 مقالا للصحفي الفرنسي (رينيه برانليك) الذي أوفدته مجلة (فرانس ألستراسيون) بعد مقابلته لكوب باشا قائد الجيش العربي في المملكة الأردنية الهاشمية لفت نظري التصريح الكاذب التالي:
قال كلوب باشا ردا على سؤال وجهه إليه الصحفي الباريسي: (وللفرقة العربية - يقصد الجيش العربي - في الشرقيين الأدنى والأوسط مقام خطير، حتى أن الاعتقاد الذي كان سائداً هو أنها كانت احتلت (تل أبيب) لو لم تتوقف الحرب بين العرب واليهود، ولكن الكثيرين لم يترددوا في القول أن للإنجليز يداً في ذلك رغبة منهم بإرضاء الولايات المتحدة في سياستها مع إسرائيل
إن الذين زعموا ذلك يجهلون حقيقة الموقف ويجهلون حالة الفرقة العربية في ذلك الحين، فقد كانوا يعدونها جيشاً حديثاً ذا قوة عظيمة، والحقيقة أن الفرقة العربية كانت كذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن كثيراً من جنودها انسحبوا منها بعد توقف القتال، فلما بدأنا الحرب الفلسطينية لم يكن لنا من المحاربين غير ستة آلاف رجل بينما كانت الصحف تجود علينا كرهاً بثلاثين ألف مقاتل، ولم يكن الوقت مناسباً للتذكيب. . والذي كان يفت من عضدنا هو عدم تمكننا من سد ما كان يحدث في فرقتنا من فراغ، وكان ينقصنا المال، ولم تكن لدينا قوى احتياطية، أما ذخائرنا فلم تكن تكفي لأكثر من (15) يوما أو (20) يوما فيما لو جابهنا فيما حربا حقيقة متواصلة. أضف إلى ذلك أن القوى اليهودية انصبت في شهر الحرب الأول على مدينة القدس حيث كنا نناضل. . وكان ذلك من حسن الطالع! ولما كان المصريون والعراقيون والسوريون لم يشتركوا بعد في القتال. . كان علينا أن نتحمل وحدنا هول الصدمة. . والحقيقة أن أعداءنا اليهود لم يكونوا مدربين على القتال لتعذر ذلك عليهم بسبب وجودهم تحت الانتداب البريطاني في فلسطين، ولكن عددهم كان يفوقنا بثمانية أضعاف. . . ولأنه لم يكن لديهم غير القليل من المدافع فقد كانوا مسلحين مقابل ذلك بكميات عظيمة من الأسلحة الخفيفة
ويتضح من هذا التصريح الذي أدلى به كلوب باشا وهو يلف ويدور في الإجابة أنه يريد(1005/52)
أن يغطي الحقيقة المعروفة من أن سبب نكبة فلسطين هي وجود كلوب باشا على رأس الجيش العربي، إذ لولاه ولولا مصالح بريطانيا في سبيل إرضاء أمريكا واليهود على حساب العرب لتمكن الجيش العربي وجيش الإنقاذ من طرد اليهود وإرغامهم على ترك البلاد لأهلها خاصة بعد جلاء البريطانيين منها، أما تمسكه بقلة الجيش العربي وذخائر الحربية فهذا محض اختلاق، ولو رجعنا إلى الواقع لعلمنا أن جيوش الدولة العربية التي أرسلت لتحرير الديار المقدسة كانت قادرة على التطهير لو لم يهددها كلوب باشا بمهاجمتها من الخلف إذا ما تقدمت خطوة واحدة لاسترداد الأراضي التي احتلتها الجيوش الإسرائيلية، فإذا كان كلوب باشا يريد بمثل هذه الأكاذيب المفضوحة أن يطمس الحقائق التاريخية فيلعلم العرب أن أمثال كلوب باسا ما كانوا ولن يكونوا في يوم من الأيام في خدمة القضية العربية ما دام هو من عبيد أسياده الإنجليز وما دام هو والمستر فليبي يريدان تكملة المهمة التي قام بها لورنس ولم يتمها، فإذن كيف جاز له أن يخدع الرأي العام الأوربي بمثل هذه التصاريح المشوشة؟ هذا ما أتركه إلى كتاب العرب الأحرار للتعليق عليه. وسلام على فلسطين التي أضاعها الساسة الموالون لكلوب باشا الذي كان نفسه السبب في إقصاء الملك طلال عن عرش أبيه والذي كان لا يأتمر إلا بأمره
2 - في قصيدة الفيتوري
قرأت قصيدة السيد محمد مفتاح الفيتوري المنشورة في العدد (1001) من مجلة (الرسالة) الزاهرة بعنوان (العائدون من الحرب) فاستوقفني فيها البيت التالي:
نجرجر خلفنا التاريخ أشلاء وأكفانا
والجرجرة كما في لسان العرب ما يلي:
الجرجرة الصوت، والجرجرة تردد هدير الفحل وهو صوت يردده البعير في حنجرته قال الأغلب العجلي يصف فحلا:
وهو إذا جرجر بعد الهب ... جرجر في حنجرة كالحب
وهاجه كالمرجل المنكب
وجرجر ضج وصاح، وفحل جراجر كثير الجرجرة، وهو بعير جرجار كما تقول ثرثر الرحيل فهو ثرثار. . وفي الحديث (الذي يشرب في الإناء الفضة والذهب إنما يجرجر في(1005/53)
بطنه نار جهنم) أي يحدر فيه، والجرجرة صوت البعير عند الضجر
ولا أظن الأستاذ الفيتوري يقصد الجرجرة بمعناها المعروف ولكنه يقصد الجذب أو السحب وكان عليه أن يقول (نجرجر خلفنا التاريخ) أليس كذلك؟
وأوقفني البيت التالي من القصيدة نفسها
لقد عدنا. أجل عدنا. . ... ولكن عودة المقضور
وقد فتشت القواميس فلم أجد معنى لكلمة (المقضور) فما معناها يا أستاذ!
عبد القادر رشيد الناصري
إلى الأستاذ علي الطنطاوي
أنت - يا سيدي قاض أجمع محبوه ومبغضوه على أنه عادل فهما، ورزقه إيماناً ما أشد اعتزازه به وحرصه على النهوض بتبعته، واختصه ببيان ساحر كتب أو خطب لم يختص بمثله إلا قليلاً. . . ومع ذلك فهو لا يؤدي حق ما أنعم الله عليه، أو أصبح الآن لا يؤديه فقد طالما طالعنا في الماضي من أدبه المفيد والرائع والباقي. . .
وأنا أعرف لماذا سكت أو (أسكت) فلم يعد يخطب أمر لماذا كف عن الكتابة فلا أعرف، هل علم الناس حتى استغنوا عن العلم؟ واهتدوا حتى استغنوا عن الإرشاد؟! وآمنوا حتى استغنوا عمن يقف في أنفسهم ومجتمعهم في وجه الإلحاد؟! الخ)
كلا، ثم كلا فالناس ما يزالون في جهلهم بحاجة إلى العلم، وفي ضلالهم بحاجة إلى الهدى، وفي شكلهم بحاجة إلى القين، وفي إسفافهم بحاجة إلى أجنحة الأدب الرفيع، ولكن أديبنا الكبير لا يلبي حاجتهم ولا يؤدي واجبه نحوهم ولا نحو قضية العلم والإيمان والأدب على العموم
نعم أنه يكتب هذا المقال الذي نقرؤه له كلما أوشكنا أن نقطع الأمل من وقوعنا عليه ولكنه ليس يكفي، ولا يسداجة، ولا يؤدي واجبا، هذا كله على قدرة فيه نادرة، وغيرة عنده لا يتطرق إليها الشك
فهل تلك - يا سيدي القاضي - أن تنظر في هذه القضية المرفوعة إليك ضد الأديب الكبير (الذي أظن أنك عرفته أوثق المعرفة) وإله أن تحكم عليه الحكم العادل الذي يرده إلى ميدان(1005/54)
الجهاد ولا يحوجني إلى أن أستأنف القضية عند شيخ الأدباء (الزيات)
دمشق
محب الدين(1005/55)
القصص
القلب المحطم
للكاتب الإنجليزي واشمحطون ارفنج
اعتاد الذين تقدمت بهم السنون وتخطت بهم حدود الشباب فلم يعودوا يتأثرون بما يأثر به الشباب لم يعودوا يتأثرون بما يتأثر به الشبان من عواطف، والذين درجوا على الخلاعة وشبوا في جوها الزاهي حيث لا مقام لشعور أو قرار لعاطفة، أن يهزءوا بأخبار الحب جملة ظانين أنها لا تعود أن تكون صورا وأقاصيص من نسج خيال القصصيين والشعراء، إلا أن خبرتي بدخيلة النفس الإنسانية تحملني على ألا أرى رأيهم، فقد هدتني التجارب إلى أن المرء قد يبدو فاتراً بارداً لشواغل الدنيا وهمومها، وقد يطالع الناس هاشا باشا مراعاة لمراسم المجتمع وآدابه، إلا أن وراء خذات الظاهر الهادئ نيراناً كامنة ترقد في أعماق أبرد الصدور، وهي نيران إذا أثارها مثير احتدمت احتداما لا يعرف مداه، وقد تسوء عقباه. الحق أني مؤمن قوي الإيمان بذلك السطان الأعمى، ذاهب مع تعاليمه إلى أقصى حدودها. إني مؤمن بالقلوب المحطمة إيماني بأن خيبة المحب في رجائه قد تعجل بفنائه، ولكني لا أرى الحب مرضاً كثير الفتك ببني جنسي، في حين أني أؤمن الإيمان كله بأنه المرض الذي يصيب كثيراً من النساء اللطيفات فيزعجهن ويذهب بهن وما زلن في مقتبل العمر وشرخ الشباب
إذ أن الرجل له مصالح وأطماع، وطبيعته تدفعه إلى ولوج ميدان الحياة، والكفاح في معمعانها الصاخب، والحب عنده ألهية في مقتبل حياته، أو أنشودة ينشدها في أوقات فراغه، وذلك لأنه في شغل عنه بما يطمح إليه من شهرة، وما يسعى وراءه من ثروة، وما يروم تحقيقة من فكرة، فهو لا يفتأ مشوقاً إلى بلوغ ما يصبو غليه من سؤدد بين أنداده من الرجال؛ أما المرأة فكل حياتها نهب العواطف، وما سيرتها إلا التاريخ لنوازع القلب؛ فالقلب دنياها إلى تطمع فيها إلى فرض سلطانها وإقرار مكانها، وفيه تنقب عما تتمناه بكل روحها مع سفين العواطف، فإن غرقت سفينتها فقد خاب الرجاء فيها؛ إذ معنى ذلك إفلاس قلبها ودوال دولتها
قد تسبب خيبة الحب للرجل آلاما ممضة، وقد تجرح بعض مارق من أوتار قلبه، وتعصف(1005/56)
ببعض معالم هناءته، إلا أنه مخلوق عامل يستطيع أن يبدد أفكاره ويصرفها بالاندماج في دائرة الأعمال المنوعة، كما أن في وسعه أن ينغمس في الملاهي والمسرات، أو يبدل مقر سكناه إذا رأى أن المسرح الذي مثلت عله فصول مأساته محاط بملابسات لا قبل له بتحمل ما تسببه له من غصص وآلام، فيرحل إلى حيث يشاء متخذ أجنحة الصباح طائراً إلى أقاصي البلاد حيث يخلد إلى الراحة والسكينة
أما حياة المرأة فهي بالنسبة إلى حياة الرجل حياة استقرار وعزلة وتأمل، وهي أكثر اصطحابا لأفكارها وعواطفها؛ فإذا ما استحالت هذه إلى رسل ودواع للألم والحزن فإلى أين النجاء، وأين تلقي العزاء؟ إن حظها من الحياة أن تحب وأن تنال، فإذا ما ساء حظها وخاب فألها في حبها فمثل قلبها في ذلك مثل القلعة تقع في أيدي الأعداء فتنهب وتسلب وتترك خواء
كم من عين متألقة خبا ضياؤها! كم من خد أسيل غداً شاحباً! كم من وجه جميل ذوى وطواه الردى دون أن يدري امرؤ السبب الذي أودى بتلك النضارة! فمن طبيعة المرأة أن تخفي عن العالم آلام عواطفها المجروحة كما تضم الحمامة جناحيها إلى جانبيها تخفي بهما السهم الذي يوغل في مقاتلها. وحب المرآة الحساسة هادئ خجول؛ ومهما أصابت في حبها من توفيق فقلما تهمس به لذات نفسها؛ أما إذا خاب رجاؤها في الحب أودعته طيات صدرها وتركته هناك في هم واصب بين طلول أمسها الذاهب، فقد أخفقت آمال قلبها، وانتهت بهجة الحياة الكبرى عندها، فهي عندئذ تعاف الألعاب البهجة التي تعيش الفؤاد وتسرع النبضات وتدفع تيارات الحياة والصحة في العروق، وهي في حالها تلك تقلقها الأحلام السود وتفرغها في نومها، ويمتص الأسى دماءها حتى ليمسي جسمها من الوهن والهزال ينقص ويتهدم تحت أضعف مؤثر خارجي. فإذا ما سألت عنها بعد قليل وجدت الأصدقاء يبكون على قلبها وقد عاجلتها المنية في وفرة صباها، فتعجب ما شاء لك العجب كيف هبطت إلى عالم الظلام والديدان تلك التي كانت تشع منها إلى عهد قريب ضياء الصحة والجمال! فيقال لك أصابها برد أو مرض شائع فتوفاها، وما يدري أد منهم ذلك المرض الفكري الذي سبق فاستنزف قواها وتركها فريسة لأدنى المؤثرات
مثلها مثل الدوحة الفنانة تزهر الغابة بها وتزدان، تقف رشيقة القد مياسة الأغصان وريفه(1005/57)
الأفنان بينا ينهش الدود لبها فيسرع إليها الذبول حين يرجى إشراق نضرتها وازدياد توريقها؛ وعلى غرة نراها وقد مالت بأغصانها إلى الأرض وأخذت تتساقط أوراقها ورقة ورقة إلى أن تضمحل وتموت فتهوي في سكون الغاب. فإذا ما تأملنا هذه الأرواح الجميلة أخفقنا في تعليل ميتتها، محاولين عبثاً أن نذكر تلك العاصفة التي عساها أن تكون قد أطاحتها، أو تلك الصاعقة التي لعلها تكون قد صعقتها
لقد لاحظت بعض النساء وهن منحدرات بخطى سريعة نحو الذبول وقد أهملن شأنهن فاختفين من الوجود على مهل كأنهن تبخرن في الهواء. ولقد ظننت مراراً أني أصبت الحقيقة حين عزوت وفاتهن إلى آلام السل المهلكة تارة، وإلى البرد تارة، وإلى الهزل مرة وإلى الأحزان مرة، ولكني وجدت في النهاية السبب الحق وهو يأس الحب وضيعة الأمل
كل يذكر ولا ريب قصة ذلك البطل الأيرلندي الشاب (ا. .) فهي قصة كان وقعها أليما بحيث لا يمكن أن تنسى سريعا؛ فقد حوكم إبان الاضطرابات الأيرلندية متهماً بالخيانة ونفذ فيه حكم الإعدام بالشنق، وكان لخاتمة حياته الفاجعة صدى عميق في قلوب الجمهور، إذ كان شابا في معية الصبي وزهرة الشباب، متوقد الذهن، كريم النفس، شجاع القلب، كمل فيه كل ما يجب في الفتى من كريم السجايا وحميد الصفات، كما كان سلوكه أثناء المحاكمة سامياً تجلت فيه بسالته وإقدامه؛ وكان لغضبته النبيلة في دفع تهمة الخيانة عن نفسه، ولدفاعه الرائع عن اسمه، ولندائه الحار للأجيال المقبلة وهو في موقف الاتهام وساعة اليأس. . صدى مدو في أعماق كل صدر كريم، حتى أن أعداءه أنفسهم نددوا بتلك السياسة النكراء التي قضت عليه بالقتل
ولكن قلباً واحداً بين هذه القلوب فاقت حسرته ولوعته كل وصف، ذلك هو قلب تلك الفتاة الجميلة ابنة أحد مشاهير المحامين الأيرلنديين التي كان قد نال حبها أيام سعده وتوفيقه، وكانت هي قد أحبته لأول ما أحبت بتلك الحماسة التي تحب بها المرأة حبها الأول في مقتبل أيامها. لقد كانت تحبه أيام محنته، أيام تألبت عليه أقاويل الناس وأحكامهم، أيام عصفت العواصف بماله، وتهدد العار والدمار اسمه، وأحاط به السوء من كل جانب. ولقد كان يزيد حبها له معاناته لتلك الآلام، فكيف بها اليوم وكيف ألمها وهي التي كانت تهيم بطيفه وتشغف بخياله. وقد حرك المصاب نفوس عداته، سل عن ذلك من سدت أبواب(1005/58)
القبر بغتة في وجهه، وفرقت بينه وبين من لم يعدل به وبحبه أحداً، وقد جثا على حافة القبر كالمطرود في دنيا باردة موحشة ذهب عنها ما هو محبوب وكل ما هو جميل
يا لهوله من قبر! كم هو مهين! وقد خلت الذاكرة مما عساه أن يخفف غصة الفراق. ولم تستطع تلك الملابسات الوديعة وإن خالطها الغم، أن تذيب ذلك الحزن في تلك الدموع المباركة التي تنزل كالظل من السماء برداً وسلاماً على القلب في ساعة الفراق الممضية
ترملت، وزاد في وحشة حياتها أن تلك الصلة قد أثارت غضب والدها وسخطه فنفاها من بيته. ولو أن صديقاتها روعت نفوسهن ومنعهن الخوف أن يهبنها عطفهن، لما أعوزها العزاء؛ فالأيرلنديون قوم حساسو النفوس كريمو الشعور. ولقد مدت إليها بيوتات كريمة يد المعونة وأحطنها برقيق الرعاية وقدمنها للمجتمعات، وحاولن الترفيه عنها بشتى الملاهي والمسرات ليزول عنها حزنها ولتبعد عن فكرها ذكرى مأساتها، إلا أن ذلك كان عبثاً في عبث، فإن من النكبات ما يتلف النفس ويذويها وينفذ إلى منبت السعادة فيسحقه سحقاً فلا يعود إلى إنبات. أما هي فلم تأب التردد على منتديات السرور، ولكنها كانت فيها منفردة بنفسها موكولة إلى أساها، فكانت تسير في وجوم يغيب فيه الشعور بالدنيا التي تموج حولها، وكانت تحمل في نفسها على الدوام هما دفيناً يسخر بمداعبات الصديقات، ولا تحفل بسحر الغناء ولا بجمال الرقص
لقد رآها من روى لي قصتها في (كرنفال) وقد أخبرني أنه لم ير منظراً للبؤس أكثر إيلاما للنفس من رؤيتها في هذا الحقل الحافل تمشي كالخيال الضارع وحيدة كئيبة؛ بينما كل ما حولها زاه بهيج، وقال لي أنه رآها تلبس حلل المرح في حين تسير ساهمة الوجه ممتقعة اللون يغمرها الأسى كأنما تحول عشا أن تخدع قلبها لحظة تنسيه فيها حزنه المقيم. وعد أن طافت بالحجرات الفاخرة وجالت بيم ذلك الحشد الصاحب شاردة اللب جلست على درج منصة الموسيقى؛ وبعد أن نظرت إلى الفضاء برهة وهي شاخصة الطرف يبدو عليها عدم الشعور بجمال المناظر من حولها، أخذت تغني، شأن القلب العليل في تقلب أطواره، فكان شدوها باكيا، لقد كان صوتها رخيما إلا أنه في هذه المرة كان مؤثرا بسيطا، فتنفست عن نفس بائسة، والتف حولها الجميع وساد السكون، فأذابت النفوس وأدمعت العيون
لقد أثارت قصتها شغف الناس؛ إذ أن قصة سيدة على ذلك الإخلاص وهذا التفاني لا بد أن(1005/59)
تثير إعجاب الناس في بلد عرف أهلوه بالحماسة والوفاء، فأحبها وأغرم بها ضابط باسل خطبها وهو يحدث نفسه بأن من كانت تظهر هذا الإخلاص للميت، تظهر ولا شك مثل هذا الإخلاص للحي، إلا أنها خيبت أمله في ذلك إذ لم يكن في وسعها أن تصرف فكرها عن ذكرى حبيبها الأول! على أنه أصر على طلبه قائلاً: أنه يكفيه منها التقدير بديلاً عن الحب. وساعده عليها اقتناعها بجدارته وعوزها واعتمادها على الغير إذ كانت تعيش على ما تجود به الصديقات، فنجح في النهاية في الحصول على يدها مع تأكيد رهيب بأن قلبها ما زال ملكاً لغيره ولا سبيل إلى صده عن هواه
سافر بها إلى صقلية لعل تبديل المناظر يمحو ذكرياتها القديمة، ولقد كانت رقيقة القلب مثال الزوجة الصالحة؛ فحاولت أن تسعد بزواجها، إلا أن هذا الهم الساكن وذلك الحزن الكامن لم ينجح فيهما علاج
فذبلت رويداً رويداً، وأخذ منها الهزال مأخذه، فسارت وشيكاً إلى انحلال لا أمل في البرء منه وهوت أخيراً إلى قبرها ضحية القلب المحطم
وقد نظم فيها مور الشاعر الأيرلندي الشهير أبياته الآتية:
بعيدة عن الأرض التي بها مثوى بطلها الحبوب،
يلتف حولها المحبون وهم يصعدون الزفرات،
إلا أنها تشيح عنهم بوجهها وتأخذ في النحيب،
فقد علق قلبها بالثرى الذي ضم الحبيب،
تنشد أغني الفطرة عن مواطنيها السذج الأعزاء،
مؤثرة ما كان يحبه من بين تلك الأنغام.
آه ليس يدرس أولئك المعجبون بألحانها
كم يتمزق قلبها وهي تشدو بأنغامها!
عاش لحبه ومات في سبيل بلاده،
وكان هذان كل ما يعنيه من دنياه؛
وسوف لا تجف عاجلاً دموع بلاده عليه.
ولا أمل لمن أحبه أن يعيش طويلاً من بعده(1005/60)
ابنوا قبرها حيث تستقر أشعة الشمس،
حين تؤذن بغيابها بدنو غدٍ موموق،
حتى تضيء عليها في ضجعتها كبسمة من المغرب
من جزيرة الأحزان التي أحبتها وعلقت بها
ح. ك(1005/61)
العدد 1006 - بتاريخ: 13 - 10 - 1952(/)
الثورة فيها ريح النبوة
كل نبوَّة كانت ثورة. ومن أخص ما ميز ثورات النبوات أنها كانت للسلام العام والصلاح المطلق. فلا تجد نبينا دعا إلى عرض الدنيا، ولا رسولا سعى إلى سلطان الحكم. إنما كان الأنبياء والمرسلون جند الله، يعملون بوحيه، ويهتدون بهديه. عقيدتهم الحق، ودعوتهم الصدق، وعدَّتهم الصبر، ووجهتم الخير، وطريقتهم التضحية. فلما ختم الله رسالاتهم برسالة محمد كتب على نفسه الرحمة أن يرسل إلى الناس في كل حقبة مصلحا يؤدبه بأدب الأنبياء، ويجريه على منهاج الرسل، ليجدد ما درس من نهده، ويبيّن ما طمس من طريقه. وشأنه سبحانه في إعداد المصلحين كشأنه تعالى في إعداد النبيين، يصنعهم على عينه، ويطبعهم على دينه، حتى إذا ضعف سلطان العقل، واختل ميزان العدل، وعميت على الناي وجود الرشْد، أظهر هذا المصلح من بين رجال السيف في أكثر الحالات، لأنهم بحكم تنشئتهم أصحاب فداء ومضاء، وألاّ ف نظام وعمل، وأحلاف شرف مجد. يطلبون الحياة بالموت، ويرحضون الرجس بالدم، ويقرنون الرأي بالعزيمة. ولم تجتمع هذه الصفات لأحد قبل اللواء محمد نجيب وصحبه. وسر ذلك أنهم نشئوا في طبقة الفلاحين الكادحين فعرفوا كيف يكون الحرمان، وعملوا تحت إمرة المستكبرين المستهترين فعلموا كيف يكون الطغيان، وأضاءت قلوبهم النقية إشراقة من نور الله، فرأوا من تحت الظلام الكثيف المخيف عرش مصر يرتطم في الذر، وجيش مصر يضطرب في الفساد، وشعب مصر يتمرغ في الذل، فشبوا شبوب النار الهادئة تقتل المكروب ولا تحرق المريض، وهبُّوا هبوب الريح اللينة تدفع الشراع ولا تغرق المركب. ثم عالجوا أمر هذه الأمة بعلاج الرسول الكريم، فحطموا الأوثان كما حطم، وكرموا الإنسان كما كم، وأزالوا الفروق بين الناس كما أزال، وأدالوا الفقير من الغني كما أدال، وقيدوا الحق بالواجب كما قيد، وأيدوا الحجة بالسيف كما أيد. ثم أذاقوا الناس لأول مرة في تاريخ مصر نعمة الحرية والكرامة والمساواة، ثم ظلوا كما كانوا قانعين متواضعين، يظهرون في المجامع من غير أبهة، ويمشون في الشوارع من غير حرس، ويختلطون بالسواد من غير حرج. ثم لا يمدون أعينهم إلى نعيم، ولا يبسطون أيديهم إلى ثراء. فهل يجوز بعد أولئك كله أن يعيدونا إلى ثرثرة الأحزاب وسمسرة النواب ومهزلة الزعامة؟
لا يا سيد محمد نجيب! إن الله جعل في يديك أمانة هذه الأمة فلا تلق(1006/1)
بها إلى من خانوها من قبل! إنك تريد (الاتحاد) وهم يريدون الفرقة.
وإنك تريد (النظام) وهم يريدون الفوضى. وإنك تريد (العمل) وهم
يريدون الكلام! فهل يستوي الوفي والغادر، أم هل يستوي البر
والفاجر؟
احمد حسن الزيات
الإسلام في موكب الإصلاح
الطلاق وتعدد الزوجات
للأستاذ محمد عبد الله السمان
انقرض العهد البائد إلى غير رجعة. وقد كان عقبة كأداء في سبيل أية حركة إصلاحية كان ينشدها أو يلوح بها المخلصون لهذا البلد، واصبح السبيل اليوم ممهدا لكل وثبة إصلاحية. بعد أو وهب الله لأمور هذا البلد ولاة تمتزج أحاسيسهم بأحاسيس الشعب. وعواطفهم بعواطفه؛ وترحب عقولهم بنزعات الإصلاح وبرامج المصلحين، وتستجيب قلوبهم لكل حركة إصلاحية من شأنها أن تنهض بالمجتمع وتسعده.
والذي لا شك فيه أن الإسلام الصحيح الذي رضيه الله لعباده دينا يرحب بالإصلاح ويبارك موكبه، لأنه دعوة إصلاحية شاملة تهدف إلى إقامة مجتمع نظيف مستقر على أسس متينة صالحة، وتسعى جادة إلى إسعاد البشرية قاطبة في هذا الوجود، ولسنا في حاجة إلى دليل بعد أن أوضح كتاب الله الهدف من الرسالة المحمدية حين قال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) - وإن كان ثمة فريق من المسلمين مريض بالتزمت في غير فقه، وبالجهل في حمق وسفه، يأبى إلا أن يجعل من الإسلام عقبة في سبيل الإصلاح، فليس من الإنصاف أن يعتبر هذا الفريق حجة على الإسلام - وجهله المطبق مدعاة لتجريح إسلام، والنيل منه، والصد عن سلوك مناهجه والاستخفاف بها!
يدفعني إلى هذا التمهيد مشكلة الطلاق وتعدد الزوجات التي تظهر اليوم من جديد على(1006/2)
المسرح، وقد نادى المصلحون من قبل بعلاجها، وكان المسئولون السابقون يصمون آذانهم عن هذا النداء متذرعين بالجبن، خشية أن يثير الإصلاح جيوش التزمت من رجال الدين وأدعياء الدفاع عن الإسلام - أما الآن فلا نظن أن حكومة الثورة تخشى في سبيل الإصلاح ثورة تلك الجيوش الراكدة، وقد أخذت المشكلة طريقها إلى الجد لعلاجها، وهنك في وزارة الشؤون الاجتماعية دراسات بشأنها، نرجو أن تظهر في القريب العاجل ثمراتها، مما يحقق لمجتمعنا الإصلاح الذي ينشده كل وطني يبغي الخير لوطنه.
والمشغولون بهذه المشكلة طوائف ثلاث: طائفة مغالية تنادي بتقييد الطلاق تقييدا صريحا حاسما، والقضاء على تشريع التعدد قضاء مبرما، وهذه الطائفة مسرفة إسرافا يجعلنا لا نسلم مطلقة بمشروعها، ولا نطمئن إلى تفكيرها، إلا إذا رضينا المهانة لشريعتنا وحاشا أن نرضاها لها، فما جاءت به هذه الشريعة الغراء من تشريعات لابد أن يكون في جميعه مصلحة البشر، وإلا كان البعض حشوا لا جدوى من وجوده. . وطائفة ثانية تشاطر الأولى الغلو والإسراف، فهي تأبى إلا أن يظل الطلاق وتعدد الزوجات مباحين مطلقين، حتى ولو أساء الجهلة استغلالهما، فأصبح ضررهما أكثر من نفعهما، وأرسينا بناء المجتمع على قواعد مضطربة متراقصة، ونحن أيضاً لا نقر هذه الطائفة على تزمتها لأنها بتفكيرها تحكم على الإسلام الجمود، ويسيء إلى شريعته التي لم تكن إلا لصالح البشر. . أما الطائفة الثالثة فمعتدلة متزنة، ناضرة الفكر، تعمل على أن تحقق للإصلاح حسن ظنه بالإسلام، وتثبت للعالم أن الإسلام يقر الإصلاح لأنه هدفه، ويتطور معه لأنه دين حنيف، يسر لا عسر، ومرن سهل لا جمود فيه ولا تعقيد، وهذه ترى إزاء فوضى أشياع الطلاق والتعدد - ألا يقدم جاهل على الطلاق إذا لم يكن هناك باعث عليه، ولا على تعدد الزوجات إلا إذا كانت هناك حاجة ماسة إليه، وبذلك يمكن وضع حد لاستخفاف المستخفين بشرعة الله عز وجل.
إن الإسلام يعتبر كلا من الطلاق وتعدد الزوجات رخصة فحسب، يأخذ بها ويأتيها المضطر، كالرخصة للجائع بتناول المحرمات متى لم يجد سواها. وقد جاء في سورة البقرة: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم) كما جاء في آية أخرى من سورة المائدة:(1006/3)
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة. . . . فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم.) فإذا اضطر الإنسان إلى أن يفارق زوجه فارقها بالمعروف، وإذا كانت هناك حاجة ماسة تضطره إلى أن يعدد في الزواج عدد محققا العدالة بين أزواجه، والشرع لم يبح له الرخصة إلا ليخلصه من الحرج في حياته، ويضمن له العيش الهادئ المستقر.
والإسلام لم يجعل من الطلاق معولا لهدم كيان الأسرة، ولا سلاحا لتمزيق أواصر الزوجية، وهو الذي وضع للأسرة من التشريع ما يصون بناءها، وللزوجة ما يقوي رابطتها. وأنت إذا تدبرت بعض آيات القرآن الكريم وجدتها تقدس الرابطة الزوجية بوجه خاص، حين تشير إلى أن هناك امتزاجا بين الزوجين أزليا قديما منذ آدم وحواء. . وهذا الامتزاج سيحل بكل زوجين ليعتز كل منهما بالرابطة المقدسة التي ربطت بينهما، ويعمل على صونها من العبث الذي يطوح بها: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها. .) - (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها. . .) - (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.)
إذن فما كان الإسلام، وهذا شأنه - ليجعل من الطلاق معولا لهدم الأسرة، ولا سلاحا يشهره الجاهل والأحمق على رابطة الزوجية المقدسة كلما دفعه جهله وحمقه، ولكنه جعله أبغض الحلال إلى الله في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق) ونهى عنه إلا من ريبة تحوم حول الزوجة في قوله عليه السلام: (لا تطلقوا النساء من ريبة، فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات.) والإسلام ليحرص على بناء الزوجية وضع كثيرا من العراقيل في سبيل الطلاق الذي يفرق بين الزوجين، فقد جعل الطلاق مرتين ليوجد فرصة للصلح، ودعا إلى تأليف حكمين من أهله وأهلها حين يدب الخلاف ليعملا على الصلح بينهما
وكما أن الإسلام رخص بالطلاق لضرورة تقتضيها مصلحة أحد الزوجين، أو كليهما، كذلك رخص للزوج بتعدد الأزواج لحاجة تقتضيها مصلحته هو، أو مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه، فإذا انتفت الحاجة في الحالين لم يكن ثمة لزوم للرخصة، وإذا أسيء استغلال(1006/4)
الرخصة فأثمرت الضر والضرار، كان هذا أدعى إلى أزالتها وألغاتها.
وحين يرى المصلحون اليوم وجوب إصدار تشريع يقضي بتحريم الطلاق إلا لضرورة تقتضيها المصلحة. لا يكونون بما يرون متجنين على الشريعة الإسلامية، وهم لا يرغبون إلا في أن تتدخل المحكمة أو ما إليها في مسألة الطلاق، حتى تقتضي على عبث العابثين وطيش الطائشين، والقرآن نفسه دعا إلى تأليف حكم من أهل الزوج وحكم من أهل زوجة إذا دب شقاق بينهما، ليتدخلا في الأمر حتى يصلحا بينهما (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) وذلك ليحول الحكمان بينهما وبين الضرار الذي قد يلحقهما، ومن حقهما أن يقرر الصلح إذا رأيا الخير فيه، أو الفراق لمنع الضرر والضرار. وقد كان رسول الله (ص) حكما في قضية حبيبة بنت سهل وزوجها ثابت بن قيس وفرق بينهما، كما كان حكما في قضية زينب بنت جحش زوجها زيد، وحثهما على التوافق حتى قضى الله أمرا كان مفعولا، وبعث عثمان بن عفان أبن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وزوجته فاطمة بنت عتبة، وقال لهما: (عليكما إن رأيتما أن تفرقا بينهما فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. . .)
وحين يرى المصلحون أيضاً وجوب إصدار تشريع يقضي بتقييد الرجل بزوجة واحدة، إلا إذا كانت هناك حاجة ماسة، لا يكونون بما يرون متجنبين على الإسلام، لأن الإسلام قصد بهذه الرخصة مصلحة الفرد أو المجتمع، فإذا لم تتحقق المصلحة لم يكن هناك داع إلى إتيان هذه الرخصة، ولا يعتبر هؤلاء المصلحون بما يرون داعين إلى هدم شرائع الله عز وجل، فقد نهى رسول الله (ص) أن تقطع الأيدي في الغزو، خشية أن يترتب على إقامة الحد ما هو أبغض إلى الله من تعطيله، ولم يكن رسول الله (ص) هادما لشريعة الله بالطبع، وقد أوقف عمر حد السرقة في عام المجاعة، وحذف سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات وهو ثابت لهم في كتاب الله، ولم يكن عمر في هذين الإجراءين هادما لشرع الله، وهو يبغي إزالة الضرر والضرار أو تحقيق المصلحة العامة، بل إن عمر لما رأى الناس يسرفون إسرافا بغيضا في النطق بالطلاق الثلاث في لفظة واحد، مطمئنين إلى أنه لن يقع إلا طلاقا واحدا، كما كان على عهد الرسول وأبي بكر - أمضاه ثلاث طلقات حتى يرتدع الناس ويتحرجوا، ولم يكن هادما لشرع الله وهو يبغي الحد من الإسراف في الطلاق، وقال في(1006/5)
هذا: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟) ثم أمضاه
إن الجهلة قد استغلوا رخصتي الطلاق والتعدد أسوأ استغلال حتى شوهوا شريعة الله، فوجب أن تحرما عليهم كما يحرم على السفهاء استغلال أموالهم، وأسهموا بأكبر قسط في اضطراب المجتمع بوثيقة من الإسلام زوروها بجهلهم وسفههم وحمقهم، فوجب أن تنتزع من أيديهم - إن طوعا وإن كرها - حتى يعود للمجتمع استقراره من جديد، فلم يكن الطلاق في الإسلام وسيلة من وسائل الهدم - ولكنه إجراء محظور يلجأ إليه المضطر ولا يمنح الجاهل والسفيه، وقد قال أبن عابدين من فقهاء الحنفية: (وأما الطلاق فالأصل فيه الحظر - أي الحرمة - والإباحة لحاجة إلى الخلاص، فإذا كان بلا سبب أصلا لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقا وسفاهة رأي، ومجرد كفران للنعمة) ولم يكن المقصود من إباحة التعدد أن يكون ذريعة إلى الإخلال بالمجتمع، ولا فرصة للجاهل والسفيه يلهوان ويعبثان، إنما المقصود منه أن يحقق مصلحة الفرد أو المجتمع، فإذا انقلبت الأوضاع بإساءة استغلال الإباحة، كان لزاما على ولاة الأمور أن يصونوا رخصة التعدد حتى يصونوا شريعة الله عز وجل. وللإمام محمد عبده كلام في هذا الصدد، فبعد أن عدد المآسي الناتجة من فوضى التعدد، قال:
(أما الأمر على ما نرى ونسمع فلا سبيل إلى تربية أمة مع فشو تعدد الزوجات فيها، فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصا الحنفية منهم الذي يبدهم الأمر وعلى مذهبهم الحكم، فهم لا ينظرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم، وأن من أصوله منع الضرر والضرار، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيها قبله، فلا شك في وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحالة الحاضرة: يعني على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. .) اهـ من تفسير المنار جـ3
وبعد - فإن الإسلام الصحيح ليساير الإصلاح حيثما حل، وفي استطاعة علمائه ذوي الأفكار الناضرة أن يجعلوا الإسلام يتزعم الإصلاح ويقود موكبه، ونحن اليوم في الطريق إلى تكوين مجتمع نظيف سليم مستقر ينعم بحياته وتعتز بها، ويفخر به الإسلام لأنه ثمرة من ثمرات تربيته وتنشئته وتوجيهه!
محمد عبد الله السمان(1006/6)
الداء والدواء
للدكتور فضلو حيدر
محاضرة ألقاها في منتدى البردوني
مهما اختلفت مشاربنا السياسية واعتقاداتنا الدينية ومعارفنا العلمية فأهداف الإنسان واحدة تنحصر كلها بحفظ الذات وضمانة الحياة والتمتع بمقام اجتماعي مرموق.
ويحول دون الوصول إلى هذه الأهداف عقبات جمة أقواها وأضرها الجهل. فجهل المرأة مثلا يعني جهل النشء وانحطاط التربية والثقافة في الأمة. ويصح أن تكون ثقافة المرأة قياسا للمدنيات نظراً لما للأم من التأثير في نشوء الأمم.
ومن الأمثلة التي توضح جهل الجماعات معدل العمر في الشعوب. لقد كان معدل عمر الأوربي في القرون الوسطى تسع عشرة سنة تقريبا. أما اليوم فقد ناهز السبعين من السنين. أما في الشرق الأدنى فلا يزال معدل عمر الإنسان نحو الثلاثين. وكلنا نعلم بأن هذا الاختلاف المخيف في الأعمار بين الغرب والشرق، أي بين السبعين والثلاثين، لا ينطبق تماما على قول الشاعر العربي:
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
بل بعود إلى الوعي الصحي في الأمة وإلى المعارف الطبية. فليقدر كل منا الخسارة الهائلة التي يضرب بها الشرق بموت أطفاله وشبابه قبل الأوان.
وبما أن وقت المحاضرة محدود فسأحصر حديثي الليلة في المعارف الصحية
فماذا يجب أن يعلم كل منا عن العيلة؟
العيلة أساس المدنيات. وغايتها القصوى ضمانة النسل وحقوق الأولاد الاجتماعية وتربيتهم تربية صحيحة صحيا وسلوكيا ومعرفيا.
ولذلك يجب أن بفحص الطالب قبل زواجه ضماناً لحياته وسلامة للنسل. ومع أن روابط العيلة مقدسة في الأديان وتضمنها نظامات اجتماعية في الأمم المتمدنة، فإن العيلة لن تثبت واقعيا على أسس متينة إن لم ترتكز على صفات نفسانية مغروسة غرساً صالحا بالتربية الراقية والواعية. وذلك يشير إلى تربية الأنانية والجنسية. أي يجب أن نحول الأنانية والجنسية من نوازعها الفطرية إلى الحب والاحترام بين الجنسين. فتوجه الأنانية من (ليتك(1006/8)
تموتين قبلما أعطس أنا) إلى عاطفة التعاون والمشاركة وإنكار الذات ضنا بسلامة العيلة وسعادتها وتقديسها لغايتها القصوى. فكسف يمكن أن تثبت العيلة في المجتمع إذا كان هم كل من الشريكين محصوراً في فرض سلطته وإبراز رأيه. وكم من الشبان يجهلون غاية الزواج وماهية الأب والأم في العيلة والمجتمع. وكم ينتج عن هذا الجهل من التعاسة والإجرام في المجتمع.
ومن أقدس واجبات الوالدين تنبيه أبنائهم وتدريبهم على الأساليب الصحيحة النافعة في الحياة، ورعايتهم إلى أن تصبح تلك الأساليب عادات ثابتة يسير النشء بموجبها بديهيا كالغرائز لمنفعته الصحية والاجتماعية والعملية. فاتقاء الأمراض مثلا يصبح بالتربية عادة تعمل يوميا بدون تفكير أو تفسير. . كغسل اليدين قبل الطعام وبعده، وتنظيف الفم بعد الأكل وقبل النوم، والاستحمام يوميا، وقس على ذلك كل العادات والتقاليد من اجتماعية ودينية، والأعمال والحرف اليومية كسياقه السيارة وآداب المائدة والرق والموسيقى والمحافظة على النظام والمواعيد واحترام حقوق الغير - كلها تكمل متى أصبحت عادة.
ومن واجبات الوالدين الاهتمام بحواس الأولاد كالسمح والبصر لأنها مداخل المعرفة، وأي نقص فيها يؤدي إلى تأخر الولد في نموه العقلي والسلوكي في البيت والمدرسة والمجتمع. وكذلك يجب أن يعالج أي تشوش كان في النطق والحركة وهي سبيل النجاح في البيئة كي لا يصبح الولد أضحوكة بين رفاقه.
وعلى الوالدين أن ينتبهوا إلى سلوك البنين في اللعب والدرس والعمل؛ إذ كم من المرات يكون فشل الولد وبكاؤه وكسله وحزنه ناتجا عن ضعف صحته أو نقص غذائه أو فقر دمه أو تشوش في حواسه.
واعوجاج السلوك يستوجب علاج النفس بسبل علمية، لا بالانتهار والقصاص والضرب، لأن هذه العلاجات تؤدي إلى زيادة إدماء الوجدان واعوجاج السلوك في الكبر.
وضروري أن يفحص الولد طببا في فترات متعددة وطبعا كلما دعت حالته الصحية، كي لا يداوي ألم البطن بشربة وهو من التهاب الزائدة، ولا القيء بلزقة وهو من مرض السحايا الدماغية (مننجيت).
ويفحص الطفل في الحول الأول مرة كل شهر يدون فيها وزنه ونموه الجسدي والعقلي(1006/9)
والعاطفي.
فالتربية أي السلوك الحسن والقبيح هي حظنا في الحياة من لطفاء أو ثقلاء، وناجحين أو حابطين. وفي الصغر يمكننا أن نربي مثلا ورح التعاون بتعويد الأولاد أن يلعبوا ويعملوا جماعات أو العكس بالعكس، أو أن نربي الخوف بزيادة الإرهاب والتعذيب، أو أن نربي الخمول والقناعة في التفكير والتفسير بانتهار الولد كلما سأل مستعلما، وبإعطائه تفسيرا سخيفاً يغلق في ذهنه باب الحشرية، والتطاول بدلا من إنعاش روح اشك والبحث والتحري بحسن التفسير والتشويق والمكافأة والتشجيع والمساعدة. وقس على ذلك تربية طابع الحسد والغيرة والنقمة، أو خلق عمل الواجب واحترام حقوق الجماعة وكلها أمور فعالة في مستقبل النشء ونجاحه أو إخفاقه.
والخلاصة أن صفاتنا من حسنة أو قبيحة ومعارفنا من عالية أو سافلة لم تولد معنا. وما يتبجح به المتمدن من ثقافة راقية على الهمجي والأمي لم يولد معه؛ بل اكتسبه في البيت والمدرسة والمجتمع.
وسأنتقل الآن بكم من الصغار إلى الكبار. فماذا يجب أن يعلم كل منكم عن إطالة العمر.
(1) الأمراض السارية
لا مفر من الموت. ولكن من الممكنات أن يعيش الإنسان مدة قرن متمتعا بصحة جسدية وعقلية ونفسانية لا بأس بها بقد كانت الأمراض السارية كالطاعون والجدري والكوليرا والسل في الماضي القريب من أكثر مسببات الوفيات. أما اليوم فقد تغلب عليها الطب تقريباً في كل العالم. فبعضها قد زال والبعض الآخر قد ضعف فتكه. كذلك قد زالت تقريباً أمراض الأطفال التي كانت تحصد الأرواح في السنين الأولى من العمر بفضل انتشار المعارف الصحية بين الشعب، وتقدم العلوم الطبية في الغذاء والدواء والوقاية.
والوقاية خير من العلاج. فالوقاية العمومية من واجبات الحكومات ومنها الحجر الصحي وتجفيف المستنقعات وتصفية مياه الشرب وتقنية المراحيض وتعقيم أو حرق فضلات المدينة فالوقاية العمومية أراحت الإنسان المتمدن من البرغش والذباب والهواء وغيرها من ناقلات المكروبات؛ وبفضلها تلاشت في العالم الملاريا والحمى الصفراء والكولرا والتيفوئيد.(1006/10)
ومن سبل الوقاية في بعض الأمراض القتالة التطعيم؛ فهو يولد في الجسم مناعة تامة في الجدري والكلَب، وجزئية ومؤقتة في الخناق (ديفتريا) والتيفؤيد والشهقة وغير مقررة في السل
ومن طرق الوقاية العابرة حقن المصول في الخناق والكزاز، ونقل دم الإنسان الصحيح أو مصل دمه أو غلوبيولينه إلى الأولاد المعرضين في حميات الأطفال القتالة كالشاهوق الخبيث والحميرة السوداء.
ومن سبل الوقاية المؤقتة الابتعاد عن المرضى. ولرب سائل يقول: هل الأفضل إبعاد الأولاد عن إخوانهم المرضى في (مواسم) الحميات أو تركهم على الطبيعة؟ أقول: إن الأفضل تركهم إلا إذا كان الوافد شديد الوطأة. وعدا ذلك لا خوف على حياتهم. فلا فائدة من الإبعاد لأن تلك الأمراض ستعودهم كباراً حيث تكون أشد خطراً كالحميرة الألمانية مثلا؛ فإنه مرض بسيط للغاية في الصغار ولكنه في الحبالي يسبب أحيانا تغيرات عصبية في الجنين تظهر فيه بعدئذ عاهات عقلية. وكذلك مرض أبو كعيب فإنه سهل في الأولاد وكلنه يسبب في البالغين أحيانا العقم والاختلاطات الدماغية والكلوية.
ولا يزال السل من الأمراض القتالة بالرغم من (الستربتومسين) و (الباز) ومركبات (الايزونكتنيكو) كا (ليميفون) و (النيدرازيل) والجراحة. والوقاية منه تكون بحسن التغذية والحياة الصحية والتطعيم. ومن الضروري اكتشافه باكرا لمنع العدوى وسهولة الشفاء. ولذلك كان من الواجب فحص التلاميذ والعمال با (لتيوبركولين) والأشعة والفحص الطبي العادي مرة كل سنة على الأقل في الأحوال الصحية.
(2) السرطان
وماذا أخبركم عن السرطان؟ فقد زاد عدد ضحاياه في هذا العصر. ومع أننا نجهل سببه فإننا نعلم شيئا عن بعض العوامل التي تهيئ حدوثه أو تحبذه كالتحريش المزمن (مثلا بين اللسان والأضراس النخرة) والالتهابات المزمنة، والقروح القديمة والبثور الطويلة العهد. ويزعم بعض الأطباء أن اختلالا ما في إفرازات الغدد التناسلية يوقظ بعض الخلايا العادية أو الامبريولوجية فيسرطنها.
والوقاية منه تكون بمنع الأسباب المحبذة حدوثه، كمعالجة الأسنان النخرة، والالتهابات(1006/11)
المزمنة والثآليل المعرضة لفرك والاحتكاك، وباتباع نظام صحي بأن يزور الإنسان طبيبه مرتين سنويا بعد الخمسين من العمر في حالته الصحية.
والسرطان قابل الشفاء إذ اكتشف باكرا؛ أي عندما يكون محصوراً أي قبلما ينتشر بالأنسجة المجاورة أو البعيدة. والسرطان الخارجي - الجلدي مثلا - يشفى بمعدل 90 بالمائة لسهولة اكتشافه. وكلما بعد وقت تشخصيه نقص، لسوء الحظ، الأمل بشفائه.
وأهم علاجاته إلى اليوم الجراحة والأشعة والمعادن المشعة ونزع الغدد التناسلية (الخصى الجراحي) وحقن الخلاصات التناسلية من جنس مخالف لجنس المريض. وعلماء السرطان تبحثه ليل نهار، وأملنا كبير بأنهم سينتصرون قريباً على هذه الآفة القتالة.
(3) الشيخوخة
وهنالك مصائب غير الأمراض المعدية والسرطان تقرب الأجل؛ تحدث من تغيرات عضوية في القلب والشرايين والكبد والكلى ندعوها أمراض الشيخوخة.
ومع أن طول العمر وراثي فإنه يتراوح فزيولوجيا حول المائة من السنين. ولكن لا يصل الإنسان عادة إلى هذا الحد لأسباب طارئة من متاعب الحياة فتتبخر السنون قبل أوانها. فكيف نتمكن من إبعاد حلول الشيخوخة.
للكلام بقية
فضلو حيدر(1006/12)
من سير الخالدين
نابليون. . وجنوده. . وقواده. .!
للأستاذ عبد القادر حميدة
شرع الكتاب في هذه الأيام أقلامهم. . بعد أن غمسوها في مراجع التاريخ. . ينقلون عن صفحاته وسطوره سيرا ملوثة لملوك غابرين. . فيعددون مساوئ هذا. . ويرددون هفوات ذاك. . وعلى الجملة فهم يقدمون إلى القراء حياة تضج بالشهوة. . وتزخر بالفسق. . وتحفل بالفجور. .!! حياة لا تهدف إلا للمتعة. . ولا تنشد إلا البعث. . وفي اعتقادي أن مثل هذه النقائض المنتقاة من كتب التاريخ. . التي تعرض اليوم على الأعين. . وتلقي على الآذان. . لا تحط إطلاقا من قيمة الملك السابق. . ولا تصيب منه مرمى. . لأنه سيشعر - على الأقل - بأنه لن يقترف هذا الجرم وحده. . بل سبقه ملوك سالفون. . لم يبلغوا ما بلغه من الترف والأبهة. . وتلك لعمري مؤهلات العربدة. .!! كان الأحرى بالكتاب. . أن يتخذوا من صفحات الجرائد لوحات يسيطرون عليها أمثلة من. . الشرف. . والعفة. . والكرامة. . والنزاهة. . وكراهية. . الذات. . والحنو على الشعب.!! لأناس دستورهم هذا، ولدينا كتب التاريخ حافلة، وبهذا يدرك الملك السابق كما يطمئن جمهرة الناس إلى أنه طرق باب النزاوت وحده، وسلك دروب الشيطان بمفرده، وانساق أمام تيار جارف من النشوة الزائلة، لا تحوطه إلا حاشية لم تكن تريد إلا تحقيق أطماعهم الشخصية. . ولو على حساب تلويث صفحة تاريخية.!
وحين يدرك فاروق أنه وحده نشز عن طبيعة الخلق - بعد أن يدرك القراء أيضا - سيتضاعف شعوره بالألم - إن كان لديه بقية من ضمير - ويحس بالوخز أشد إيلاما، وأحد نصلا! وإني إذ أقدم اليوم إلى قراء الرسالة جانيا من حياة نابليون إنما آمل أن ينهج إخواننا الأدباء هذا النهج، ويسيروا على ذلك الدرب:
. . . كان نابليون شديد الانتباه إلى أصاغر جنوده لاعتقاده أن الجندي الصغير قد يكون ذا قلب كبير، وأن حسن المعاملة مدعاة لزيادة الإخلاص، قال دوق فيسالس (إن تلك الشوارب القديمة (يعني رجال الحرس) لم يكونوا يجسرون على مخاطبة أصغر ملازم في الجيش بمثل ما كانوا يخاطبون ذلك القائد الأكبر الذي كانت هيبته تملأ نفس الجيش كله)، وقال(1006/13)
دون باسانو: (إني رأيت الإمبراطور مائة مرة ينتقل ليلا من معسكر إلى آخر، ويقف هنا وهناك لدى النيران ويسأل عما يغلي في القدر ثم يقهقه من الأجوبة المضحكة التي كان يسمعها من الجنود)، وقال القومندان كلود بزجيه في تاريخه (يا الله، ما أعرف نابليون بالجندي الفرنسي، وما أقدره في مخاطبته والضرب على أشد الأوتار تأثرا في قلبه أعني وتر الشرف) ولقد وصف نابليون نفسه الجندي الفرنسي في صفحة جميلة قال فيها: (إن الجندي الفرنسي رجل مفكر قاسي الحكم فيما يتعلق بشجاعة ضباطه ومواهب رؤسائه، وهو يجادل رفيقه في شأن الخطط والأساليب الحربية، ويستطيع القيام بأي عمل من الأعمال إذا كان لرؤسائه حرمة في نفسه وإذا كان هو يستحسن مجرى الأحوال الحربية، أما إذا كان الأمر على العكس فلا يمكن الاعتماد على الفوز. وابن فرنسا هو الجندي الوحيد بين جنود أوروبا الذي يستطيع القتال ويقوم بجليل الأعمال وهو ضامر البطن مطوي الأحشاء على الطوى، ومهما طال زمن المعركة فهو ينسى الأكل في سبيل الفوز، حتى إذا انتهى القتال صارت مطالبه أكثر من مطالب غيره. والجندي الصغير من الفرنسيين أشد اهتماما بإحراز النصر من ضابط بروسي، وهو يدعي أن الفضل الكبر في كل نصر يرجع إلى فيلقه، وجملة القول أن جنود الأمم الأخرى تصبر يوم الوغى بحكم الواجب، والجندي الفرنسي يحارب إجابة لصوت الشرف. . فإذا أصابه فشل شعر بأن نفسه ذليلة. . وإذا فشلت الجنود الأخرى عادت غير مكترثة).
وربما كان رأس الأمور التي حملت نابليون على تسمية الوسام الذي أحدثه (بوسام جوقة الشرف) ما كان يعرفه من رسوخ ذاك الشعور في نفس الفرنسي، وإذا رجعت إلى الأوامر العسكرية وخطب التحريض التي كان يلقيها عليهم أبصرته يحاول فيها كلها أو جلها أن يظهر للجندي ما يحرزه من الشرف والفخر هو وآله إذا عاد وإكليل النصر يزين جبينه، ولقد كان الأعداء أنفسهم يعرفون أن قوة الجندي الفرنسي إنما هي بعواطفه ومشاعره، لا بقوة ساعديه وعرض كتفيه، قال أحد القواد البروسيين بعد معركة يانا: (لو كان علينا أن نقاتل الفرنسيين بسواعدنا فقط لأدركنا النصر في وقت قريب، لأن الجندي الفرنسي صغير ضئيل يستطيع أملاني واحد أن يتغلب على أربعة مثله، ولكن هؤلاء الجنود الصغار ينقلبون إلى طبقة فوق طبقة البشر تحت النيران ويندفعون بنخوة لا نستطيع إيضاحها ولا(1006/14)
نرى لها مثيلا في جنودنا) ولا شك في أن هذا الإقرار من ضابط بروسي كان من أجمل الشهادات التي تسطر للجنود الفرنسيين.
وكان نابليون لا يكتفي بإظهار الاحترام والميل إليهم من أجل تلك الفضيلة، بل كان يحبهم حبا صادقا، قال بعض المؤرخين: إن جنوده كانوا أولادا له بالمعنى الصحيح؛ يشرف على أمورهم ويسهر عليهم كما يسهر الأب على بنيه ويحضر توزيع المأكل عليهم ويتناول الحساء معهم.! وكان نابليون يضع اللين في محله والقسوة في موضعها، فيعفو عن الجندي المذنب إذا رأى وجها لعذره أو ما يخفف ذنبه، ولا يتسامح إذا وجد التسامح مضرا بالمصلحة الحيوية، وإليك أقصوصة تدلك على شيء من خلقه:
حدث أيام المعارك بروسيا أن الجنود الفرنسيين ضربت مضاربها لتستريح بعد السهر المضني ثلاث ليال متتالية، ولما جاءت العتمة خرج نابليون يتفقد أحوال الحراس في أطراف المعسكر جريا على عادته في كثير من الأحيان ولا سيما في الأوقات العصيبة، فاتفق أنه رأى حراسا برج به الوصب وتسلط عليه الكرى بعد السهر الطويل فهوى إلى الأرض، ونام، تاركا بندقيته إلى جانبه، فأراد نابليون أن يوقظه ولكنه أبصر في تلك الدقيقة طوافة من الضباط قادمة نحوه فأخذ بندقية الحارس النائم ووقف مكانه حتى لا يدع الضباط يبصرون به ويعاقبونه، ولما طلب الطوافة سر الليل أجابها نابليون فسارت في طريقها لإتمام التفتيش، وفي تلك الأثناء استيقظ الحارس النائم فوجد بندقيته بيد رجل غيره فأسرع نحوه فإذا هو قائده ومولاه، ولكن نابليون سرى عنه قائلا: لا تخف، ثم سأله: كم مضى عليك من الزمن بلا نوم؟، فقال: ثلاثة أيام، ومع ذلك كنت لأنام لولا ما أصابني من الجروح! ثم أبصر نابليون أن الجندي كان مصابا بجرحين فأعجب به، ومنحه وساما، ثم قال وهو يبتعد عن ذاك البطل: (لا ريب أني أستطيع فتح العالم بهؤلاء الرجال. .) وكان نابليون يعرف وجه الضعف في رجاله، فيأخذهم به ويضرب على الوتر الحساس من أوتار قلوبهم، فمن شأنه المعروف أنه كان مع شدته في المحافظة على النظام العسكري يسمح لرجال الحرس القدماء الذين حضروا المعارك وأبلوا البلاء الحسن بأن يخاطبوه بصيغة المفرد بعكس ما يقضي به أدب الحديث في اللغة الفرنسية، ولاسيما إذا كان المخاطب كبيرا والمخاطب صغيرا، فإن استعمال صيغة الجمع في الكلام واجب لا يصح(1006/15)
إغفاله، على أن نابليون كان يعلم أن عادة أولئك الأبطال التي تدل على انتفاء الكلفة صارت إليهم من روح الجمهورية، وأنها تنطوي على همة واحترام يسهل في سبيلها بذل المهج الغالية.
وكان نابليون قبيل عرض الجنود يدعو الكولونيل ويسأله عن أسماء الذين امتازوا في المعارك الماضية ويطلب بعض أخبار عن أهله، ثم يمر وقت العرض بأولئك الجنود الممتازين فيذكر لكل منهم اسم المعركة التي امتاز فيها والمكافأة التي أخذها ويسأله عن أمه العجوز إن كانت حية. . أو عن غيرها من آله الأقربين. . فيطير الجندي منهم فرحا وطربا حين يرى قائده الأعظم يتذكر خدمته ويعنى بأمره، ثم يصبح نابليون حديث النهار وسمر الليل بين الجنود كلهم. . فيأخذ كل منهم يحكي حكاية عن ذاكرته العجيبة ومعظم تلك الحكايات من بنات المخيلات!
وكان من أكبر العوامل في تفاني الجنود أن كل واحد منهم بات يحسب نابليون منصفا للشجعان وذوي الكفاءة الحربية، وكان كبار القواد أقوى البراهين الحية لديهم على صحة ذلك الاعتقاد، فإنهم خرجوا من الجيش وبعضهم استوى على العروش مثل المارشال مورات الذي عين ملكا لنابلي، وبرنادوت الذي استوى على سدة أسوج، ومعظم الجنود كانوا يرون الرقي إلى أحد العروش رتبة عالية من الرتب التي كان نابليون يمنحها لرجاله فيقولون مثلا، (فلان صار ملكا. . كما يقولون. . فلان رقي إلى رتبة كولونيل) مع مراعاة النسبة بين الرتبتين.! وهناك أمر آخر كان نابليون يعني به عناية خاصة وهو تعزيز ما يسمونه (روح الفيلق) في الجيش، ومعناه بعبارة أخرى أن يفرغ القائد جهده في زيادة التنافس بين فيالق جيشه. . فتتسابق في مضمار الشجاعة والبأس، ولقد نجح نابليون نجاحا باهرا في هذا السبيل حتى صار كل فيلق من فيالقه بل كل آلاي من آلاياته يعد نفسه في مقدمة الجيش. . ومما يذكر عن سمو الأساليب التي كان يتبعها نابليون لبلوغ المقصد أنه كان إذا رأى النصب والجوع ينهكان تلك الجنود الفولاذية كما كانوا يلقبونها، نزل هو وسار مع الجنود، فأخذ كل واحد من هؤلاء يقول (الإمبراطور. . الإمبراطور) وتغيرت مشية الفيلق كله كأنما تيار كهربي سرى إليه من أوله إلى آخره.! هكذا كان نابليون وهكذا كانت جنوده. وكل فريق منهم خليق بالآخر. .(1006/16)
كان نابليون ينظر إلى الجيش كما ينظر الصانع العالم إلى آلة عظيمة يقتضي تركيبها تدقيقا شديدا وفكرا سديدا، ولذلك كان يفكر في كل ما قل وجل من أموره حتى انتقاء الخيل وشراء المؤونة اللازمة لها كما تدلنا رسائله المدهشة، وليس بنا حاجة إلى القول أن اختيار قواده كان له الشأن الأكبر لأنهم القطع الرئيسية التي تتركب منها تلك الآلة العظيمة.! ولم يكن في وسع نابليون منذ مائة وثمان وستين سنة أن يختار قواده من الضباط الذين قضوا سنوات عديدة في درس القواعد العسكرية لأن التعليم العسكري لم يكن شيئاً مذكورا في ذاك الوقت، والفضل في كثير من القواعد الحربية الباقية حتى اليوم يرجع إلى نابليون نفسه، وما كانت عظمة هذا البطل الذي لم تحط مثله أصلاب البشر قائمة ببسالته وانتصاراته فقط. . بل كانت تقوم بها وبنظاماته ومبتكراته وعبقريته العجيبة الشاملة، وعليه فإن نابليون لم يكن له مندوحة - وتلك حالة التعليم العسكري في زمانه - من أخذ أولئك القواد الذين خلد التاريخ ذكرهم من صميم جيشه، أي أفراد الشعب الذين قاتلوا في سبيل الدفاع عن حريتهم وحرية وطنهم وصدوا دول أوروبا في سبيل التي هبت لإذلالهم. وكان نابليون قوي الفراسة صادق النظر في الرجال. . فاستطاع أن يقدر قدر كل واحد من الذين خدموا تحت إمرته ونوع الخدمة التي كان يمكنه أن يتفوق فيها. مثلا أنه رأى (مورات) فأدرك أنه خير رجل يقود كوكبات الفرسان ويقدم لها المثل الأعلى بنخوته وحميته وشجاعته، وقرأ على جبين (ناى) أنه الرجل الذي يطير إلى الحمام في صدر المشاة، وما أخطأ ظنه في أن (ناى) كان يسحر رجاله بالقدوة الحسنة وهو الذي أخذ بندقية في معركة (واترلو) وصاح (تعالوا انظروا كيف يموت مارشال من مارشالية فرنسا. .) وهو الذي قال فيه نابليون: (ما هذا رجل إن هو إلا أسد من الأسود. .) وليس مجال كاف لنذكر ما أبداه كل قائد من القواد العظام فحسبنا أن نذكر مع (مورات) و (ناى). . (بسيير) و (سول) و (لان) و (سوشيه) و (برتييه) و (دافو) و (جوفيون سان سير) و (أو جيرو) و (جونو) و (ماكدونالد) و (مسيينا) و (لازال) و (كولنكور). . فهؤلاء وعدة من الأبطال كانوا أسودا لا تقهر، ولكن نابليون كان يخضعهم بنظرة وهو في ذروة مجده الحربي!
وذكر نابليون خطة سلوكه مع قواده: (كنت أحر الرأس البارد. . وأبرد الرأس الحار) أو بعبارة أخرى أنه كان يكسر من حدة الحديد ويثير حماسة البليد مراعاة لمقتضى الحال،(1006/17)
وهي خطة بسيطة في ذاتها ولكن تنفيذها مع قواد نابليون كان يقتضي عقلا كعقل نابليون.
وكان من مزايا الرجل أن يزن حسنات كل قائد؛ فإذا رجحت سيئاته حاول أن يصلحه بحذق ومهارة فمن الحوادث المعدودة من هذا الطراز أنه شرع يوما في تعنيف ضابط في رتبة كولونيل لأن جنوده أضروا بمصالح إحدى الدساكر. . فشق على الضابط أن يسمع الكلام المر من قائده وأراد أن ينفصل. . فقال نابليون همسا: (أنا صدقتك فاسكت) وفي اليوم التالي دعا نابليون الكولونيل وقال له: (كن مستريح الفكر فقد كنت أعنف في شخصك بعض الجنرالية الذين كانوا بجانبك. . لو وجهت إليهم التعنيف مباشرة لأوقفتهم في موقف يستحقون في التحقير أو ما هو أبلغ منه. .) وإذا اتفق أنه جرح في حديثه قائد كبيراً. . حاول بعد الحديث أن يضمد جرحه. . فمن ذلك أنه انتقد انتقادا شديدا الجنرال (مارمون) على بعض الأعمال الحربية في معركة (واجرام) فسخط (مارمون) من هذا الكلام وعاد إلى منزله كسير القلب. . شديد الكرب. . فما وصل حتى جاءه رسول إمبراطوري يحمل إليه البشرى. . بترقيته إلى رتبة. . مارشال!
ولما أخذ العدو بلدة مونترو سنة 1814 رأى نابليون أن تأخر المارشال فيكتور كان السبب في ضياعها وأصدر إليه إذنا في ترك الجيش. . ومعلوم من هذا الإذن أنه لم يكن له من معنى إلا سخط الإمبراطور عليه. فجاء المارشال فيكتور وعيناه مغروقتان بالدموع فقابله نابليون وهو يتميز من الغيظ وعيره بالخطأ الذي ارتكبه واستحق من أجله الإبعاد عن الجيش. . فلم يتمالك المارشال أن رفع عقيرته وأكد إخلاصه وذكر خدماته في إيطاليا فسكن غضب نابليون لذكر تلك الخدمات ثم صافحه قائلا: (لا بأس من أن تبقى في الجيش يا فكتور ولكني لا أستطيع أن أعيد إليك فيلقك بعد أن عقدة لواءه (لجيرار) وإنما يمكنني أن أولئك قيادة فرقتين من الحرس فاذهب واستلم قيادتهما ولا تذكر بعد اليوم شيئا مما جرى. .)
ولو شئنا أن نذكر ما لدينا من هذا الطراز لاستغرق مجالا واسعا وتجاوز بنا الغاية المقصودة في هذا المقال. . فحسبنا أن نقول - ومذكرات (مارمون) الذي خان نابليون في أواخر عهده - خير شاهد. . أن نابليون كان في معظم الأوقات يجرح باليمين ويضمد باليسار. . ومما قاله الخصوم في تفسير هذا السلوك الحميد (أن مصلحته الخاصة. . وقلة(1006/18)
الرجال الأكفاء حملتا نابليون على مداراة رجاله) وهو تفسير لا يذهب بفضل نابليون. . ولا يحد من قدر سلوكه. . بل هو يدل على حسن سياسته وأصالة رأيه، وليس بمنكر على الرجل أن يفعل الخير ويحسن الصنع لأنه يتفق مع مصلحته. . أو لأن مصلحته كانت تدفعه إليه. . فإنما الأمور بنتائجها. . وكل من يذم هذا المنهج يكون مثله مثل من يطعن على رجل ينقذ آخر من الغرق لأنه أراد الحصول على وسام الإنقاذ أو مكافأة أخرى. .!!
وإذا طالعنا المذكرات الخاصة وجدنا فيها ما يدل على شدة حبه لقواده. قال (كونستان) بعد النصر الباهر الذي أحرزه نابليون في مارنجو: (إنه مع النصر الفاصل الذي أوتيه القنصل الأكبر (أي نابليون) كنت أرى الحزن يملأ نفسه وأسمعه يردد (إن فرنسا فقدت بفقد (دسكيس) فتى من خيرة أبنائها. . وفقدت أنا صديقا من أبر الأصدقاء)
ولما استوى نابليون على العرش الإمبراطوري لم يتغير شيء من عواطفه نحو قواده، بل لبث يسمح للمارشال (لان) بأن يخاطبه بصيغة المفرد. . ولما بلغ نابليون خبر إصابته بجرح قاتل تولاه حزن عظيم وأخذ يزوره صباحا ومساء. . واتفق أنه وصل في عيادته الأخيرة بعد أن لفظ المارشال روحه الطيبة. . فتقدم نابليون وقبله وبكى ثم أخذ يهمهم (يا لخسارة فرنسا. . يا لخسارتي) ولما حاول (برتييه) أن يبعده عن رؤية ذلك المنظر الأليم قاومه نابليون نحوا من ساعة.
وفي اليوم التالي كتب نابليون إلى أرملته يقول: (أيتها النسيبة مات المارشال على أثر الجروح التي أصابته في ساحة الشرف فخلف لي من الحزن ما يضارع حزنك. . ولا غرو. . فإني فقدت بفقده أفضل قائد للجيش وخير رفيق وصديق لزمني منذ ست عشر سنة. . إن أسرته وأولاده لم كل حق في طلب حمايتي ورعايتي) ثم كتب إلى الإمبراطورة (إذا أمكنك أن تساعدي في تعزية أرملة المارشال فافعلي) ولما أصيب (ديروك) بقنبلة عند (درسد) ذهب إليه الإمبراطور نابليون وضمه إلى قلبه مرارا ثم عاد خائر القوى لفرد الأسى. . هو يقول: (يا للهول. . أيها العزيز ديروك ما أعظم خسارتي فيك) وكانت دموعه تسيل على خديه وتسقط على ملابسه
ثم أمر الإمبراطور بشراء أرض وبإقامة تمثال لذلك القائد العظيم وبكتابة العبارة الآتية تحت التمثال (هنا يرقد الجنرال ديروك دون فريول وأحد مارشالية نابليون العظام أصابته(1006/19)
قنبلة فمات ميتة مجيدة بين ذراعي الإمبراطور). . ولم يكتف نابليون بإكرام هذا الفقيد بل صرف عناية كبيرة على عائلة ديروك ومنح أرملته وابنته دوقية فريول (وكان ريعها وقتذاك لا يقل عن مائتي ألف فرنك).
على أن هذا الشعور الجميل الذي كان يبديه نابليون في مثل تلك الظروف لم يكن يحول دون استقلال فكره وإرادته، فقد كان عند الضرورة شديدا قاسيا. . وثبت أنه كان في إيطاليا ومصر حين كان جنرالا كبير المطامع. . أشد وأقسى في معاملة القواد والجنود مما كان عليه بعد استوائه على السدة الإمبراطورية واستلامه مقاليد الحكم المطلق واتساع شهرته وسطوته في العالمين. . قال خصوم نابليون أنفسهم في مذكراتهم: (إن هذا الجنرال الصغير كان يخيف قوادا مثل) (أوجيرو) (وماسينا) وغيرهما سنة 1796 ولما جاءه الجنرال (ديبنوا) سنة 1797 بقصد التملق والتزلف قال له نابليون: (عرفتك لما كنت قائدا في لومبارديا وعرفت أنك قليل النزاهة. . عاشقا للمال. . على أنب كنت أجهل أنك جبان) فاخرج من الجيش ولا تظهر أمامي مرة أخرى. . وكتب نابليون إلى (برتييه) يقول: (اكتب إلى الجنرال (جاردان) أن شكاوي عديدة انتهتا إلى من إحراجه لأهل البلاد وأن الواجب عليه أن يسلك سلوكا يتفق مع كرامة الجيش فلا يسمعني بعد اليوم شكوى واحدة من تصرفه) وكتب إلى الأميرال (تروجيه): يحق لي أن أنتظر محاسن الأفعال بدلا من المواعيد والأقوال).
وكان نابليون لا يحابي الوزراء. . ولا الكبراء. . حتى في سنة 1814 أي بعد أن مال نجمه إلى الأفول. . وهذا يدلنا على صحة ما قاله أحد المؤرخين وهو: أن نابليون لم يكن ذئبا ولا خروفا. . بقي أن نعرف أن نابليون. . نشأ من أعماق الشعب. .
عبد القادر حميدة(1006/20)
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليك
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
- 2 -
كانت حياة شلر حياة أدبية بكل معنى الكلمة، حياة شخص عاش قصد التأمل، وكان مرشده في هذا المسعى لا يتعدى المثل الأعلى، وقد وجد في مثل هذه الحياة سعادته التي كان يرنو إليها. وقد امتازت هذه الحياة بالبساطة الفريدة كما اتصف بالابتعاد عن امتهان ما يتعيش به، وقد نما مقته للعمل الآلي ولم يبال بنتائجه جنباً لجنب مع نموه الروحي سنة بعد أخرى. لم يحتل شلر منصباً معينا اللهم إلا منصب الأستاذية في الجامعة، ولم يرغب في التقدم المادي ولم يكن لديه مال يذكر، ولم يظهر - طيلة حياته - عدم رضائه عن هذه الأوضاع.
وبالرغم من الآلام الجثمانية والأمراض المستمرة التي احتاطت به أن انشراحه لم يكن يفارقه وكانت الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته هي أحسن سني حياته، لأنها كانت أنقاها وأصفاها وأكثرها إنتاجا، فحياته كانت تشبه حياة الرهبان مع اختلاف بسيط في طراز المعيشة والمحيط، وإذا نحن عرضنا الإيمان الكاثوليكي بمثل الفن الأعلى، والقوانين الكنيسية بالقوانين الأدبية والجمالية فسيؤدي ذلك إلى اعتبار حياته أقرب ما تكون بحياة الدير، ومع أنه لم يرتبط بعهود الرهبنة الثلاثة إلا أنه ارتبط بعهود أخرى أرفع شأنا وأعلى قدرا وأثقل وطأة، وقد تحمل عناء شديدا في تنفيذها والتقيد بها والالتزام بملتزماتها.
وقد كانت هذه العهود - على شدة ثقلها - شغله الشاغل ومبعث سعادته الدائمة، فبلاد من أن يحصر نفسه في رواق الكنيسة الصخري، نراه يحصر نفسه في أروقة العقل، فاصلا بذلك نفسه من الأمور السطحية ومغرقا نفسه فيما يمكن أن ندعوه بالأمور الأهلية، فكلامه وأعماله وتأملاته وتنزهاته وكل ماله علاقة بحياته اليومية تتجه نحو تلك الوجهة. . . فكما أن مرحلة اتخاذ الرجل الديني للعهود المقدسة هي أهم مرحلة في حياته. . كذلك الحال مع شلر فيما يخض عهوده الأدبية، وبهذا لعمل يمكنه أن يتخلص من مشاغل العالم المحيرة(1006/21)
ويكرس كل جهوده في مستقبل أيامه للحكمة والتأمل. والفترة التي تقع بين هاتين المرحلتين تمتاز بميزات مختلفة. فالأولى هي دنيوية ذات انهماك في صروف العالم. . والثانية روحية ذات اتجاه هادئ عميق الغور قصي المعاني، وقد امتاز الاتجاه الثاني بنموه الروحي وازدهاره الفكري وبالثمرات السلمية التي قدمها إلى العالم، وسنوجه هنا نظرنا بصورة رئيسية إلى المرحلة الأولى.
يمكن اعتبار شلر سعيدا بالنسبة للظروف التي أحاطت بأعوامه الأولى وخصوصاً فيما يتصل بوالديه. لم يكن والداه غنيين أو مستقلين في شؤونهما المعاشية، إلا أنهما مع ذلك لم يكونا فقيرين فقرا مدقعا، فالمحبة الحارة والأخلاق الصريحة التي تبلغ مبلغ التدين، يضاف إلى ذلك قابلية ذهنية منفتحة خاصة للمعرفة، مع ثقافة عقلية جيدة تجعل في الإمكان إصلاح أي خلل قد يقع بينهما.
وقد كان في سلوكه ما يبشر بمستقبل عظيم، طبيعة هادئة قابلة لكل الإرشادات، يزينها عقل وقلب وومضات من الحيوية والنشاط تظهر بين الحين والآخر، وليس أدل على ذلك من حكاية الصاعقة التي نأمل أن تكون واقعية: (حدث أن عاصفة صاعقية اجتاحت المنطقة التي يسكن فيها وكانت من الشدة والقوة بحيث أثارت الخوف والرعب في جميع الناس، وكان الكل داخل بيوتهم، وقد افتقد أبو فرتز أبنه، وقد كان في دور الطفولة، فخرج الأب لا يلوي على شيء باحثا مفتشا عن ابنه، وفجأة عثر عليه قابعا بكل هدوء وسط هذه العاصفة الهوجاء في رأس شجرة وهو ينظر بدهشة واستغراب لاحتراب الطبيعة، فما كان من والده إلا أن عنفه أشد التعنيف. ولكن الولد بدلا من إصغائه إلى هذا التعنيف أجاب (إن البرق جميل جدا ولكنه يريد أن يرى من أين أقبل هذا البرق). . .)
درس شلر الكتب الكلاسيكية باعتناء زائد ولكن بدون رغبة، إلا أنه درس الكتاب المقدس بلذة بالغة في البيت، وقد شغف حبا بالأنبياء العبرانيين وبجلال كتاباتهم الرمزية، وقد كان لطبيعته الورعة - مضافا إليها تقوى والديه - تأثير في دفعه إلى الكهنوت، ولكن الكنيسة التي أراد التعلق بها كانت الكنيسة الشاملة الحقيقية وليست الكنيسة الرومية المزيفة. وفي سن التاسعة شاهد بدهشة مفرحة ولأول مرة (عجائب مسرح لودفيكزبرغ) وقد كان لهذه المشاهدة تأثير عميق في ذاكرته. وبذا يكون قد ألقى أول نظرة على العالم الذي قدر له -(1006/22)
عرضا أو بعامل الطبيعة نفسها - أن يظهر فيه عبقريته ويحرز أنبل انتصاراته بارزا بذلك أقرانه ومعاصريه جميعا.
وبعد نهاية عهد صباه بدأت فترة قاسية مريرة، اختلفت فيها تربيته وتطورت قابلياته تطورا خاصا، وذلك بتحمله للاضطهاد ومعاناته العزلة وبتحطيم أجل أيام حياته وتشويهها تشويها شنيعا. ومع ذلك فإنه استفاد في هذه الحالة فوائد جمة، فقد حولت سيمياء عبقريته المعادن التافهة إلى ذهب إبريز، واستخلصت من التألم قوة ومن الخطأ حكمة وضاءة من كل شيء أحسنه وأرقاه.
أسس دوق ورتمبرك مدرسة عالية حرة لبعض فروع التعليم المهني في (سولتيرد) في مركز إقامته في الريف، ثم حولها إلى (سنتغارد) بعد أن أدخل عليها بعض التحسينات، وقد سماها مدرسة كارلز. وقد رأى الدوق أن يعطي الأفضلية في الدخول إلى هذه المدرسة لأبناء الضباط، ولما كان لدى الدوق فكرة حسنة عن شلر وأبيه طلب من الأول اهتبال هذه الفرصة السانحة.
وقد صاف هذا العرض حيرة لأول وهلة من قبل الشاب والوالدين على السواء؛ لأن الأخيرين كانا راغبين في إدخال الشاب إلى حظيرة الكنيسة، ولما اطلع الدوق على رغبتهما الخاصة طلب منهما التأني قبل إعطاء القرار النهائي، وأخيرا قبل هذا الطلب بعد إحجام ونتيجة للخوف. وهكذا سجل شلر نفسه في هذه المدرسة سنة 1773 وبذا انتقل من الحرية والآمال العريضة إلى اليونانية والعزلة والقانون.
وقد أثبتت الوقائع أحقية مخاوفه، فالسنوات الست التي قضاها في هذه المؤسسة تعتبر أشد السنين مضايقة لنفسه وإزعاجا لمواهبه، ويظهر أن نظام التربة في ستنغارد لم يعن مبدئيا بتربية الطبيعة البشرية وإصلاح أخطائها، بل عمل على استئصال هذه الطبيعة ووضع شيء أحسن منها في محلها. وقد كان نظام التعليم سائرا والحياة وفق خطة عسكرية شكلية جافة، كل شيء كان يجري حسب الخطة المرسومة ولم يكن ليعطي أي مجال لحرية الإدارة، ولا لإمكانية لاختلاف الطبائع والمشارب والعادات. وقد يكون لبعض الطلبة إمكانيات ممتازة، إلا أن هذه الإمكانيات كانت مجردة على السير وفق الخطة الأساسية والانصهار في البودقة ذاتها بدون تفريق أو تمييز، لأن الأوامر كانت تصدر من سلطة(1006/23)
عليا، وهي واجبة التنفيذ على أية حال. وقد عين لكل طالب منهاج دارسته مقدما، ولم يكن ليسمح بالقراءة الخارجية مطلقا، وإذا حدث أن قرأ أحدهم كتابا خارجيا فلم يكن ذلك إلا خلسة. أما معيشتهم فكانت تدار بالأسلوب ذاته الذي تدار به حياتهم الروحية، وقد كانت هذه الحياة لا تحتوي على شيء يمكن أن يقارب المتعة أو حتى ممارسة الحرية. وقد أبعد الطلاب عن المحادثة أو حتى رؤية أي شخص ماعدا أساتذتهم. ولهم يجسر أحدهم على تخطي نطاق العبودية المضروب حولهم، ونزهتهم، فسها كانت مقيدة بالكلمة الآمرة.
يمكننا أن ندرك بسهولة كم كان مفجعاً كل هذا بالنسبة للطلبة، وكم كانت الفجيعة هائلة بالنسبة لشلر، لما امتاز به من طبيعة حساسة وشعور مرهف. فتراه وقد طغى عليه التبرم ولكن حياءه منعه من أن يظهر ذلك قولا أو فعلا. وقد أوقع سجنه هذا به ألماً عميقا ولكنه كان يأنف من الشكاة. وقد حفظت بعض رسائله في هذه الفترة، وفيها نجد النضال غير المثمر لذهن متحمس مشغول وهو يحاول ستر الركوب تحت غطاء الصبر الخائف وهو يظهر ألمه على أشده. لقد انكب على قواميسه وكتب النحو وواجباته العقيمة برصانة مصطنعة، ولكن روحه كانت كروح الأسير تحن إلى العالم الحر البهيج، وتستعيد ذكريات حنان الوالدين والآمال والمتع المثيرة للسنين الخالية. إن الشباب هو فضل الحياة الزاهي، وهو كذلك ليس بما يناله أو يتخلص منه بل بما يأمله ويرجوه. وقد يظن بعضهم أن لآلام شلر أمثلة كثير فيقول: (أو ليس في قصة كل طالب من طلاب أيتون مثال حي لمثل هذه الآلام أو ليس كل هؤلاء قاسى الفرقة الجارحة والمصائب الفادحة والاضطهادات المبرحة والعزلة القاتلة؟ ولكن الصعوبات التي أضنت شلر كانت أعمق من كل هذا. . . إن أسوأ اضطهاد عاناه هو الاضطهاد الأدبي، كل هذه الأصفاد تقيد الرغائب فقط، بل إنها تعدت إلى تقييد الإرادة الحرة العاقلة، فزيادة على آلامه الخارجية أبعد ذهنه عن الهدف الذي شعر بأنه الهدف الحق وحول إلى هدف آخر مزيف ليس فيه من معاني الحياة شيء يذكر. ولم يجد في الحقوق ولا في الطب الذي اضطر على الاستعاضة به عن الحقوق ولا في أي عمل رتيب مهما علا قدره وارتفعت منزلته ما يرضي روحه وما يشعره بالسعادة والهناء، ولكن الذي كان يسعى إليه هو فعالية عاليا لم يجد لها اسماً حينذاك والتي تخليها يوما ما في الانضواء تحت لواء الكنيسة وأخيراً وجدها وكانت هي الشعر بالذات. ولم تكن هذه الرغبة(1006/24)
رغبة صبيانية طارئة، بل كانت شوقاً ملحا عميق الجذور أخذ عليه مجامع فليه وتمثل في هدفه الذي كرس حياته للوصول إليه. مع ذلك فإن أساتذته اعتبروا ذلك منه رغبة صبيانية ليس إلا. . . فعالجوها كما يعالجون أمثالها، ولم يتمكن شاعرنا من الانتصار إلا بعد معركة ضارية ونضال عنيف انتهى بفوزه، ولم يحدث ذلك إلا بعد أن أصيب بأول لسعة فشتتت ذهنه وكادت تبعثر مستقبله لأنه فقد العون في تعاسته وشقائه، فتألم وجاهد في سبيل قضية خاسرة، وقد قال شلر نفسه فيما بعد بخصوص ذلك: (لقد جمعت الطبيعة - بسوء تقديرها - بين ميولي الشعر وبين مكان ولادتي. فكل رغبة في الشعر كانت تصطدم بقيود المدرسة التي تعلمت فيها وتناقض خطة مؤسسها. فبحماستي لمدة ثماني سنوات ناضلت ضد النظام العسكري، ولكن هيامي بالشعر كان أحد حده الحب الأول. والشيء الذي أراد النظام أن يطغيه زاده تأججاً وضراما، وقد وجدت قلبي في عالم الأفكار ملجأ للتخلص من الأوضاع التي عذبتني كثيراً، بعد أن عزلت من عالم الحقائق بالأصفاد والأغلال).
وما من شك أن حكمة شلر الخاصة علمته التوكيد على الحياة قبل توكيده على الحياة الشعرية، وقد عبر عن ذلك بقوله: (يجب أن أترك مناخ يندس واستبدله بالأرض الخضراء ذات المناخ المتجمد في النصوص العلمية المخيفة) وحالما يقضي الله أمراً كان مفعولا يصبح عمل شاعرنا الرتيب منتهياً وأمله محققاً، فوقت الفراغ الذي سيحصل عليه نتيجة لذلك سيكرس للشعر أو أي شيء آخر، وفي الحقيقة (أن بقاءه مقيداً بغزوات معلميه القساة كان أمراً غير محتمل ومهينا له، فلا عجب أن فكر شلر يائساً في وضعه، ولكن ما العمل؟ وهذا مما اضطره على أن يضع خططاً عديدة للنجاة، وقد كان يتوسل أحيانا بالهروب خلسة ليلق نظرة على العالم الحر الحي، هذا العالم الذي كان محظوراً عليه التقرب منه، وأحياناً أخرى كان يضع بعض الخطط لنبذ المكان الذي كرهه هذه الكراهية مؤملا أن ينقذه القدر). ولكن كان صغيراً، عديم التجارب، لا مساعد له ولا معين، فليس هنالك إلا تحمل ما هو واقع بصبر وأناة. يقول كاتب سيرته (إن أي روح تحيا تحت مثل هذه الظروف المنهكة والغضب المستعر، مكتوب عليها الغرق حتما في النهاية والتخلص من المطامع الدنيا والانهماك المعيب والخضوع لربقة النير والتعثر في هذا الوجود متكسر، تعباً، ومتبرما وملقياً نظرة تائقة إلى أحلام شبابه التي ليس له القوة على تحقيقها. ولكن شلر لم(1006/25)
بكن من هذا الطراز الاعتيادي من الناس ليفعل مثل ما يفعلون. وتحت ستار المظهر الخارجي البارد الذي ليس فيه جاذبية مفتعلة، ولطفه الذي شوه نتيجة العوائق والعزلة والفاقة المؤلمة التي قاساها في حياته، أقول، تحت مثل هذا المظهر تختبئ نار متأججة ليس للعوائق قابلية على إخمادها. والظروف القاسية التي أحاطت بمستقبله عرقلت نمو ذهنه نموا طبيعيا وقلصت قابلياته ووجهتها وجهة خاطئة. على أن هذه العقبات جمعت قواه وجعلته يعتمد على نفسه. أما أفكاره التي لم يكن لها مرشد يهديها سواء السبيل فقد انحدرت إلى أعماق نفسه وفتحت مغاليق مصيره، وقل مثل هذا عن مشاعره وعواطفه التي تجمعت في أغوار ذاته حتى أصبحت كحمم البركان يحترق وينصهر ويتجمع يعنف وبقوة هائلتين استعداداً للانفجار المروع الذي لا يرد ولا يصد وذلك واقع حتما في ساعة معينة.
(يمكن اعتبار شلر لحد الآن صبيا متبرماً ضجراً وغير نافع ولكن الوقت أزف لكي يصبح هذا الصبي رجلا يمزق القيود شر ممزق بقوة امتد تأثيرها في طول أوربا وعرضها، ولم يعد للقيود المدرسية أي تأثير في تشويه قابليته وإضعاف قوة شخصيته الجبارة. إن نشر (اللصوص) يعتبر فتحاً جديدا ليس في تاريخ شلر بل في الآداب العالمية، وليس من شك أن الفضل في ذلك يعود إلى نظام مدرسة ستنغارد المشوه، ولولا هذا النظام لما رأينا هذه المأساة. بدأ شلر هذه المأساة المختلفة بصورة جلية واضحة.
ولم تمض مدة قصيرة على نشر هذا الكتاب حتى ظهرت تراجم له في جميع لغات أوربا تقريبا، وقرئ من قبل الكثيرين بمزيج من المقت والإعجاب، وذلك بالنسبة للحساسية والانطباع الوجداني لكل من درس الكتاب. لقد هبط المؤلف الصغير كشهاب على العالم مما جعله مبهوتا لا قبل له بالنقد الهادي الرصين.
وفي ضجيج النقاش الحاد الذي شمل العالم في خصوص هذا الموضوع مدح المؤلف بأكثر من قابليته الطبيعية، كما أنه ذم ذما فادحا، إلا أن الحكم العام كان في صالحه، وطبيعي أن يتعدى كل من الطرفين حدود الاعتدال ويتجاوز جادة الحق.
ولكن مأساة اللصوص أحدثت عواقب لمؤلفها من نوع أشد حساسية من هذا الحكم، لقد دعونا ظهور هذا الكتاب نقطة البدء لنجاة شلر من جور المدرسة والضغط العسكري ولكن فعلها في هذا الخصوص لم يكن مباشراً. . لقد أنهى شلر المودة الأصلية في سنة 1787(1006/26)
ولكن خوف الأذى اضطره أن يحفظها سرا دفيناً حتى إكمال دراسته الطبية، هذه الدراسات التي تابعها باجتهاد كاف حتى حصل على درجة الشرف سنة 1780 وأصبح جراحا في فرقة (أوجى) إحدى فرق جيش (فرتمبرغ). وهذا التقدم ساعده إلى إكمال مشروعه في طبع (اللصوص) على حسابه الخاص بعد أن حار في إيجاد من يقوم بذلك من ناشري الكتب وأصحاب المكتبات.
للكلام صلة
يوسف عبد المسيح ثروت(1006/27)
3 - في بلاد الأحرار
للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد
للأستاذ أحمد مصطفى الخطيب
الحرية وردة
عاد إلى الأستاذ بعد يومين وسألني أحدهم فقال:
- هل قرأت الدستور؟ أحفظته استظهارا؟
- قرأته وحفظته. . غير أنني أرجو منكم شرح بعض مواده لتعسر علهما عليّ. . هل لكم أن توضحوا لي قبل كل شيء الحكمة العامة لهذا الدستور؟ لماذا وضع؟ ولأية غاية أحدث؟
- بكل سرور. . يجب أن تعلم أن الحرية مسألة ثقافة وتهذيب ليس إلا
- لم أفهم أيها الأستاذ، ألا تتفضلون بشرح أوفى؟
- حسناً. . هل سبق لك أن اشتغلت في أعمال الحدائق؟
- نعم!
- إذن سهل الإيضاح. . لابد من أنك قد لاحظت في خلال تعهدك الحديقة أن شجرة، أو وردة، أو زهرة، أيا كانت لا يمكن أن تنبت وتنمو وتترعرع إلا إذا توفرت لها الشروط التي تتطلبها طبيعة الشجر أو الورد أو الزهر. . وعليك أن تعلم الآن أن الحرية كالوردة أو الزهرة. . سواء بسواء. . فنموها وازدهارها يستلزمان توفر شروط تلائم طبيعتها وخصائصها الذاتية. .
- وما هذه الشروط؟
- هل استظهرت نشيد البلاد؟
- نعم!
- لقد جاء في ذلك النشيد. . (أن الحرية جوهر الشعور، وأن الشعور هو الإنسان) فلذا يجب الاعتناء الكافي بالإنسان عند (تطعيم) هذا الجوهر لكيما يؤتي ثماره المبتغاة. .
أما البيئات التي سرت عليها الأحقاب الطويلة وهي ترسف في قيود الذل والاستعباد، وضاعت عنها معالم الكيان الحر فليس تطعيمها بإكسير الحرية من الأمور السهلة(1006/28)
الميسورة، يتراءى لأول وهلة. . وذلك أن الاستبداد لا يتخذ لنفسه موطناً من الإنسان إلا الروح والقلب فحسب. . فهناك يبذر بذوره ويتأصل، وهنالك يؤسس عرشه ويضع على رأسه تاجه المروع.
وقد يخيل إليكم في بعض الأوقات أن الاستبداد قد تهدم صرحه، وتقوضت دعائم بنيانه، وقضى على آثاره ومعالمه ويساعدكم على اصطناع هذا الظن زوال ظواهره وعلاماته، يرى الحقيقة، لو تأملتم مليا، أنه ما يزال حيا في كل جانب، مضطرب هواه في كل فرد.
وعلى سبيل المثال أقول: إنكم تجدون أناسا يطالبون بالحرية بأعلى أصواتهم ويتحمسون لها غاية الحماسة، ولكنهم في الوقت نفسه لا يحترمون حرية الجار مثلا. . فعند أول اصطدامهم بهذه الحرية تجدهم يرغون ويزبدون، ويودون لو أتيح لهم سحق الشخص الذي أمامهم سحقا تاما، والقضاء عليه بأي وسيلة.
وذلك لأن عرش الطغيان لهم يهدم، وروح الاستبداد لم تقتل ولم تنبذ بعد من الأرواح والقلوب.
وهذا هو السبب أيضاً في أن الحرية في مثل هذه الأحوال قد تنقلب إلى فوضى ماحقة، لا تبقي ولا تذر، ذلك أن الاستبداد المتجمع سابقا في الفرد الواحد، يأخذ في هذه المرة طريقه إلى الظهور عند كل فرد على حدة، بعلائمه البارزة المستديمة، فيتعاظم أثره في النفوس على التدريج، ويشرع البعض في استمراء التحكم والعبث بحقوق البعض الآخر باسم الحرية ذاتها. . غبر أنه قبل أن يمكن استمرار هذا الحال طويلا تظهر الحاجة ثانية إلى كتمان أنفاس الكل، وإلى قبوع كل واحد في جلد باسم الحرية ذاتها من جديد. .
وهكذا تضطر البيئات التي لم تستأصل بعد جذور الاستبداد المعنوية من دواخلها، ولم تقض على لآثارها في نفوس ظهرانيها إلى التقلب على الدوام بين عهدين من الفوضى وفقدان الحرية، الأمر الذي يعد بلادة مجهولة العواقب لهذا المجتمع بطبيعة الحال.
لهذا فإن دستور بلاد الأحرار قد وضع لإرشاد مجتمع كهذا إلى الطرق المثلى التي يصون بها نفسه عن الوقوع في مهاوي مردية كهذه، حيث فيها القضاء الأخير على البقية الباقية من حياته وكيانه أمر محتوم أكيد.
أما ما يهدف إليه هذا الدستور فهو القضاء على روح الاستبداد في النفوس، وهدم عرشه(1006/29)
وتاجه في القلوب، وإقامة عرش وتاج الحرية عوضا منهما.
- لقد فهمت أيها الأستاذ. واطلعت على قيمة الدستور الحقيقية، فهل تسمحون بأن ننتقل إلى نصوص المواد ذاتها الآن.
تنص فاتحة مواد الدستور على تهجين الكذب وتحريمه. . فهل يعني ذلك أن لهذه الجريمة أهمية خاصة بها؟
- نعم!
- لماذا؟ وهل يستطيع إنسان أن لا يكذب إطلاقاً؟
- الرجل الحر لا يكذب أبداً. والكذب شعار الضعاف الأذلاء الجبناء. . . في حين أن تتطلب أن يمون الإنسان قوياً، شجاعا، ذا عزيمة ماضية. . ثم إن الكذب وسيلة لإخفاء الحقيقة وسترها، وحيث تختفي الحقيقة، تكون السيادة للباطل وحده. . ولا خير في موضع يسوده الباطل ويحكمه. . إن المجتمع الذي يعرف قدر نفسه لن يسمح بذلك بحال من الأحوال، وهذا هو السبب في أن بلاد الأحرار تهتم اهتماماً خاصا بهذه الجريمة.
- لقد فهمت أيها الأستاذ! واستنارت في نظري الآن جوانب كثيرة من الماضي الغابر. . ولكن كيف يمكن القضاء على شائبة الكذب في أرجاء مجتمع كبير؟
- هذه مسألة تربية وتهذيب ليس إلا. . تبدأ في الأسرة والمدرسة وتنتهي في المجتمع. . ذلك أن الأسرة والمدرسة هما وحدهما اللتان تضعان الأساس الروحي الأول للأطفال. . وأن الطفل ليس إلا مخلوقا يقوم بتأثر أمه وأبيه ومعلميه ومحاكاتهم فحسب. . ثم لا تنس أيضاً أن الطفل الذي ينشئه أب وأم ومعلم كاذبون لا يسعه إلا أن يكون كاذباً. . لهذا وجب على كل من الأب والأم والمعلم أن يبذلوا أقصى ما عندهم من جهد للحيلولة بين الطفل والكذب على الدوام وليس ثمة وسيلة أبعد أثراً واضمن لتحقيق النتائج المرجوة من اجتناب هؤلاء أنفسهم الكذب قبل كل شيء.
أجل! على هؤلاء أن لا يسمحوا للأطفال بأن يلجئوا إلى الكذب أبداً، كما عليهم أن لا يقروا أي نوع من أنواعه مهما بدا في مظهره تافهاً بريئاً.
وموجز القول يجب أن يكون الطفل عند مغادرته الأسرة والمدرسة وانتقال إلى المجتمع مقتنعاً في أعماق نفسه اقتناعا تاماً بأن الكذب إن هو إلا داء قذر مرذول يجب تحاشيه(1006/30)
والابتعاد عنه بأي ثمن.
أما المجتمع ذاته فهو أيضاً، لو أعد من جانبه الوسائل اللازمة لتأييد هذه الجهود الأولية، وعبئت قواته النشيطة لدعمها بغير تراخ (كان تطرد الكذابين مثلا من حظيرته كما هي الحال في بلاد الأحرار) لاختفى الكذب بلا مراء من أوساطه، ولذهب أثر بدداً من نفوس ظهرانيه إلى غير رجعة.
ولكن المجتمع الذي ينتهج عير هذه الخطة، فيعتبر البراعة في الكذب عبقرية ونبوغا، وينظر إلى النجاح الذي عماده التدليس نظره الإعجاب والإكبار، ويحترم الرجال الذين تحقق لديه كذبهم ونفاقهم، أجب! إن مجتمعاً كهذا ليضطر اضطراراً إلى الإذعان لكل ما يورثه إياه داء الكذب من الذل والهوان، ويجلبه له من الكوارث والنكبات.
ففي مجتمع كهذا لا يثق إنسان ولا يعول البعض على الآخر كما لا يبغي أي مجال للمشاركة في أي عمل يقوم على أساس سليم، أو تنفيذ أية خطة بطريقة اشتراكية ناجحة. . وهكذا ينعدم الأمل في ضمان أي نوع من الرقي والازدهار، فيتردى المجتمع شيئا فشيئا، ويأخذ طريقه إلى الهاوية والاضمحلال.
- آه أيها الأستاذ! إنني كنت أيضاً أشاهد هذه الحالات منذ مدة بعيدة. . ولكني لهم افهم عللها ودواعيها إلا في هذه اللحظة. . والآن هل لكم أن تتفضلوا بشرح حكمة المادة الثالثة؟
- حبا وكرامة!
- تقضي هذه المادة بفرض عقوبة قاسية كالرجم بالأحجار على مرتكبي جريمة الرياء والتملق. . وفي الحق أنني لم أفهم الباعث على استعمال مثل هذه القسوة الشديدة وهذا العنف الزائد، ألا يسوغ امتداح ذوي المراكز العالية، والقابضين على صولجان الحكم، والإشادة بمآثرهم؟
أليس لكل هذه القصائد الرنانة التي تملأ رحاب الأدب أي قيمة؟
ثم هناك مسألة أخرى، وهي أن جميع منابع السعادة، ومصادر النعيم موضوعة تحت تصرف، ذوي القوة والسلطان! بل وكثيراً ما يتوقف المصير وميزان الحظ على نظرة واحدة يرسلها أحد هؤلاء عفوا ومن دون قصد.
ألا يجوز في مثل هذه الحالة أن يتملقهم المرء ويأتي بما ترتاح إليه عنجهيتهم وعجرفتهم؟(1006/31)
- يلوح لي أن نظم هذه البلاد تبدو غريبة لمن كانوا على شاكلتك ممن ألفوا الخنوع، وترعرع في أحضان الاستبداد ولكن قل لي بربك هل وطنت النفس حقيقة على أن تكون حرا طليقا؟
- نعم!
- إذن عليك أن تقوم بتغيير ما بنفسك تمام التغيير. . لأن كل ما ذكرته الآن إنما يعود عهده إلى الزمن الذي كنت تقاسي فيه مرارة العبودية، وتعاني أوصاب الأسر. . وما دمت قد حطمت سلاسلك وقيودك وعزمت على أن تكون حرا كريما فلا مفر من أن تعلم أن المداهنة إنما هي عمل العبيد والأسرى، كما هي دليل أيضاً على ضعة الروح وهو أن النفس، وإن الرجل المتملق يكون دائما فاقداً لشرفه وكرامته.
إن رجلا كهذا يفسد حتى أخلاق من يتحدث إليه وتملقه ويتمرغ في تراب حذائه إذ يوقظ في نفسه شهوات سيئة كالغرور والعجرفة وعدم تحمل الحق والحقيقة.
ومن الأمراض والوبيلة التي ابتليت بها الجماعات الشرقية، حتى لتكاد تجهز الآن على البقية الباقية من حياتها، داء المداهنة والتملق بصفة خاصة. . وليس ثمة ما يداني هذا الداء في نتائجه المروعة وإمعانه في التهديم.
فهو ينفذ من الإنسان في خلايا الدماغ وشغاف القلب وتسرب كسموم الثعابين القاتلة بعينها فيوهن الجسم ويبليه ويشله شللا تاما.
إن الشعراء الشرقيين الذين دبجوا القصائد الطوال في المديح والثناء كانوا - بغير علم ولا هدى - من أكبر الجانين على أمتهم ووطنهم. . وبنسبة روعة القصيدة كان الدمار المعنوي مروعا مخيفاً فضلا عن التخريب الذي أحدثه المقلدون والناسجون على منوال الأوائل.
ووجه الغرابة في الأمر أن هناك كثيرا من المجتمعات التي تنشد الحرية وتتوق إلى تحقيقها لنفسها تفرض أمثال هذه القصائد نماذج أدبية على مدارسها ومعاهدها.
ليت شعري. . أيقدر هؤلاء عظم الجرم الذي يجنونه، وضخامة الجناية التي يقترفونها؟ أم ترى أنهم لا يعرفون مدى التأثير الذي يحدثه الشعر والموسيقى في القلوب الغضة والأدمغة الناشئة؟
ولكن مهما يكن من شيء فإن عمل الأمة الطامحة إلى الحرية لا يقل شأناً في هذا(1006/32)
الخصوص عن عمل الفلاح الذي يبذر في حقله البذور ثم يذر فوقه الكبريت.
لقد حرم القانون الإنكليزي منذ القرن الخامس عشر مدح الملك، كما حرم ذمه أيضاً.
وهكذا تكون خطة الأمة الراغبة في الحرية.
للكلام بقية
أحمد مصطفى الخطيب(1006/33)
رسالة الشعر
الوجود السجين
للأستاذ محمد فوزي العنتيل
في ضباب الأحزان. . واللهب القائم ينشق بين قصف الرعد. .
وبكاء الحنين. . بالأدمع الخرساء. . في وحدتي، سجنت وجودي:
نغماً تائهاً. . يحن إلى الحب. . إلى عالم قصي. . بعيد. .!
وبروحي من العواصف ليل. . ... أبدي الظلام. . جهم النشيد
ولهيب الأشواق يجتاح صمتي ... بجنين. . معذب. . عربيد. .
والفراغ المخيف يأكل أيامي. . وينداح في ضباب شرودي
للهيب المجنون. . بين ضلوعي ... والدموع الحمراء تحرق خدي
وسجون الظلام. . حولي بحار ... عصفت في هديرها المستبد
وشراعي الرهيف. . في لجة الشك غريق في موجها الممتد
ولحوني مخضبات. . وقلبي ... نعم ظامئ، يعذب سهدي
وصباحي يطل من أفقه الدامي. . غريبا في ليله المربد
وأنا طائر شقي الأغاريد. . حزين الرؤى. . أرفرف وحدي
كلما قلت: قد كسرت قيودي ... أبدلتني الأيام قيدا. . بقيد. .
أنت يا من أشرقت في ظلماتي ... وزرعت الأنوار في حقل أمسي
وبعطر الصباح نضرت روحي ... وتفجرت في مباهج عرسي
ثم ألهبت بالجمال شعوري ... وتجليت في ارتعاشات نفسي
وسكبت الحنين في مزهري الحالم، فاهتز في خفوت. . وهمس:
قد دعاني روح السماء. . فأطلقت، جناحي. . وعانق النور هجسي
فلماذا تركتني. . لليالي. .؟ ... ولماذا تحطم اليوم كاسي.؟. .!
فحرام على الذي يهب الحب. . أن يحرق القلوب بنوره. .
والذي يسكب العبير لتشقى ... شفة لزهر من لهيب عطوره. .
هذه الوردة الحيية أغفت ... في حنين الربيع بين طيوره(1006/34)
وجراح الهوى. . على وجنتيها ... تتلظى بشوقها. . من سعيره
وابنة النور بين عرس الروابي ... ترد النهر في ارتعاش خريره
هي روح تطير في شاطئ الرو ... ض، وتطفو على غمام عبيره
ثم تهوي بين الزهور. . وتفنى ... في ارتعاش الصباح بين هديره
أترى موكب الحياة. . اجتواها ... فطواها الفناء بين سطوره. .؟
يا لها شقوة. . تعذب نفسي ... في غموض الظلام. . في ديجوره
لهفة للحياة. . تغمر روحي. . ... بأسى خافقي. . بنار شعوره. .
الضباب الكثيف أغرق أمسي ... وغدى تائه. . بليل مصيره.!
محمد فوزي العنتيل(1006/35)
الملوثون!
للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري
وكان مصر تاريخ. . وكانت ... لهذا الشعب أمجاد عظيمه
فمن رد الملاحم وهي يرح ... تولول حول مقبرة قديمه
ووطأ تاج فرعون فداست ... على أقداسه جيف رميمه؟
ومن زرع الخيانة في زبانا ... وذوب في شواطئنا سمومه
وغطى فجرنا بالسحب حتى ... نسينا في غياهبنا رسومه؟
وقالوا: الاحتلال، فقلت كفوا ... فتلك جناية الأيدي الأثيمه
تحرر غيركم بالموت حينا ... فما لكم قنعتم بالهزيمة
ولو طهرت داؤكم لعاشت ... بلادكم مسودة كريمه
وقالوا: الحاكم الجبار فينا ... فقلت وفي دمي حمم أليمه
ألم تصنعه أيدكم؟ ألما ... تكونوا مضغة الشاة السقيمة
كفاكم أنكم كنتم دخانا ... يظلل وجه من صنع الجريمه
فخلوا قائد التاريخ يمشي ... بموكبه لغايته الحكيمه!
ولا تقفوا أمام السيل كيلا ... تمزقكم عواصفه الرجيمه
لقد طلع الصباح على حديد ... فواروا هذه الجثث القديمه
محمد مفتاح الفيتوري(1006/36)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
عودة العميد
عاد الدكتور طه حسين إلى القاهرة، بعد أن أمضى فترة الصيف في أوربا كعادته من كل عام، ومثل مصر في مؤتمر الفنانين بالبندقية، هذا المؤتمر الذي عقد في 26 من الشهر الماضي.
وكان هذا المؤتمر من أهم الأسباب التي عوقت عودة الدكتور الذي كان حريصا على أن يعود إلى مصر بعد حركة البعث الجديدة مباشرة.
وقد زرنا عميد الأدب وقضينا معه بعض الوقت، واستمعنا خلا لذلك إلى أحاديث متعددة الجوانب حدث بها الكثير من زواره وأصدقائه وتلاميذه، ونحن نوجزها فيما يلي، ونرجو ألا يخل إيجازها بالمعاني العليا التي اشتملت عليها، والتي نثرها العميد على مريديه.
قال: منذ ترامت إلينا أنباء حركة الجيش ونحن في شوق إلى مصر، وما رأيتني مرة من المرات وأنا عائد من أوربا أكثر فرحا بالعودة إلى وطني مني هذه المرة. .
وقال: لقد زرت الأستاذ أحمد لكفي السيد - أمس - بعد عودتي من أوربا، فوجدت هذا الرجل الذي ارتفعت به السن فرحا ومتحمسا للثورة الجديدة، حماسة ولا تدانيها حماسة الشباب؛ فلما هنأته بالحركة الجديدة وقلت له إنها من ثمار غرس طويل شاركت فيه أنت وتلاميذك بقدر ليس بالقليل، قال لطفي السيد: أي فخر ذلك الذي أحرزته مصر في نظر العالم كله؛ أن يقف ضابط مصري هو محمد نجيب ويقول لابن محمد علي: عليك قبل الساعة الثانية عشرة أن تتنازل عن الهرش، وعليك قبل الساعة السادسة أن تغادر البلاد. . أي مجد هذا في أن يتحقق لمصر هذا الأمل الكبير، ويصل فيها الوعي إلى هذه الدرجة من القوة!
وتحدث عميد الأدب إلى كثير من الأساتذة والمعلمين والمدرسين في مختلف أنواع التعلم الجامعي والثانوي والابتدائي. . من زواره وضيوفه، فقال لهم: إن هذه الثورة من أهم ما نعتز به ونفخر. . ولابد أن تبلغ الثورة أهدافها، وعليكم أن تكونوا أداة عون أكيد لتحقيق هذه الأهداف، وأن تكونوا في مختلف دور العلم رسل السلام والخير ودعاة الإيمان الصادق(1006/37)
بالنهضة الجديدة. وعليكم كذلك أن تضحوا في سبيل هذه الغاية، تضحوا بكل شيء، وألا تجهدوا العاملين في الوقت الحاضر بمطالب أو طلبات، وأن يكون رائدنا التجرد الكامل للعمل الوطني، دون أن نلتفت إلى رغباتنا الخاصة، فهذه يجب أن تؤجل أو تنسى خلال هذه الفترة الحاسمة من تاريخ الوطن.
وقال الدكتور العميد: إن الثورة في مصر، منذ ترامت أنباؤها إليه، قد شغلته عن كل شيء، ولذلك فهو لم ينته من كتابه الجديد عن الإمام علي، ولد كان يطمع في أن يعود بن كاملا.
وجرى الحديث حول مقالات الدكتور التي كان يكتبها في العهد الماضي، بذلك الأسلوب الذي يغلب عليه الإيماء والرمز، والتي كان يفهمها كل من يقرأها، ويعرف ماذا يرد أن يقول كاتبها، مقالات الهلال، و (رسالة يكتبها الجاحظ)، و (جنة الشوك). . وغيرها مما كانت تحمل بذور الانتقاض ومعاول الهدم لذلك الطاغوت. . والعهد البغيض.
الأعداء الثلاثة. . مفخرة الجيل
ما أريد أن أجامل الأستاذ الزيات أو أنملقه حين أكتب هذه الكلمة في (الرسالة). . حقا! كان خليقا بي أن أكتبها في أي مكان آخر، ولكن هذا باب في عودنا قراءنا أن نسجل لهم فيه أهم أنباء الأدب. . وليس شك أن من أهمها هذا الأسبوع تلك الاستقالة التي بعث بها صاحب الرسالة إلى شيخ الأزهر من رئاسة تحرير مجلة الأزهر!
ولقد كنا نتنبأ بهذه الاستقالة قبل أن تقع، فقد قبل الأستاذ الزيات هذه المهمة على غير رغبة منه. كان يعلم مشقة هذا العمل، مشقة تجديد مجلة درجت على طريقة معينة فترة من الوقت. . ثم ليخرجها من حيزها (الأزهري) المحدود، كتابة وطباعة وإخراجا. . لكي تستطيع أن تقف في صف المجلات العالمية التي تشرف اسم (الأزهر) في كل بلد يقرأ أهلها العربية.
وعلى الرغم منه، قبل الزيات، وعمل. . . وتحمل الكثير من المشاق والمتاعب التي لا تتناسب مع صحته أو سنه. . ولكنه ضحى بكل شيء في سبيل العمل الباقي، وظل الناس فترة من الوقت يتساءلون: ماذا سيعمل الزيات في مجلة الأزهر وكيف سيخرجها؟
وهمس الأزهريون، لعله سيكتب مقالا شهريا ويمضي!
ثم ظهرت مجلة الأزهر، فكانت آية الفن والعلم والإخراج والبحث. . .(1006/38)
وكان العدد الثاني أقوى من الأول، وقد بدا فيه الجهد كبيرا وواضحاً.
وظهر العدد الثالث فكان تحفة أدبية وفنية رائعة، جمع فيها أبرز كتاب الدنيا والدين، على موضوع هو أعظم موضوعات الإسلام جميعا ذلك هو (الفتح). . الفتح في الحرب والعقيدة والتشريع واللغة والنحو والفلسفة والعلم والعمارة والموسيقى.
وكأنما كان الأستاذ الزيات يوحي إليه بظهر الغيب، إذ يروي في هذا العدد الأخير من مجلة الأزهر قصة المجلة، وتحس في أسلوبه المرارة، والشعور بأنه يريد أن يتنحى، قال في تعقيبه على مقال:
(توليت إدارة هذه المجلة وليس فيها محرر ولا مترجم ولا موظف يعين على التحرير والترجمة، فلم أجد بدا من الاستعانة بالكتاب الذين حملوا أمانة العلم وفهموا ثقافة الإسلام. وكان من أول هؤلاء وأولاهم كتاب الأزهر، ولكن معرفتي بأكثرهم قليلة، وهم يتكرموا بالتعارف ولم يتقدموا بالمعونة، فلجأت إلى من أعرفه من الأزهريين والجامعيين والمجمعيين
وخرج عدد (رمضان) على النحو الذي عرفت، ولم يتغير الحال في عدد شوال فصدر على الوضع الذي رأيت.
وفي عدد المحرم - الذي بين يديك - اختلف الأمر بعض الاختلاف. لم أجد ثلاثة أشهر مسوغا لانتظار التعارف أو التعاون، ففزعت إلى لجنة من صفوة الأصدقاء في الأزهر، ومعي خطة لهذا العدد الخاص مبيته المعاني، معينة الأغراض، وسألتهم أن يختاروا لهذه الموضوعات كتابها من رجال الأزهر، فاختاروا طائفة من أعيانهم كتبت إلى كل منهم رسالة بموضوعه وموعده. ثم انتظرت ونظرت فإذا الأساتذة جميعا لا يكتبون ولا يعتذرون ما عدا الأستاذ محمد عرفة، وكان الوقت قد ضاق عن استكتاب غيرهم ممن يكتبون أو يعتذرون، فنزلنا مضطرين على حكم الواقع. . .
ورأيي قبل هذا أن الأزهر فكرة، فكل من أخذ بها وعبر عنها ودعا إليها فهو أزهري، وإن لم يخرجه الأزهر. أما رأيي بعد هذا فهو أن العبء باهظ، والجو خانق، والعدة ضعيفة، والمعاونة قليلة، والسن متقدمة، والصحة متأخرة، وما أطعت فضيلة الشيخ الأكبر الإمام عبد المجيد سليم في تولي هذه المجلة إلا لأرسم الخطة وأضع النموذج. وفي اعتقادي أن(1006/39)
في الأعداد الثلاثة التي صدرت على علاتها ما يكفي)
وقد صدق الزيات، فقد رسم الخطة ووضع النموذج لمجلة عالمية، تصدرها أكبر جامعة عالمية عي الأزهر، وهذه الخطة من وجهة نظر المثقفين من خارج الأزهر - وهم الغالبية التي يكتب لها الأزهر ويواجهها ويدعوها إلى ثقافته - غاية في القوة.
ونحن نعتقد أن هذه (الأعداد الثلاثة) هي خير ما أخرجت هذه المجلة في تاريخها كله، وأن مجلة الأزهر يجب أن تكون مثلا عاليا للثقافة، حتى تستطيع أن تجري مع تيار النهضة العالمية المتدفق.
ولست أنسى أن أذكر أن من أجود ما أعجبني في مجلة الأزهر - في الأعداد الثلاثة الأخيرة - تلك الخلاصات المركزة من العلم والأدب المبثوثة في الفصول الأخيرة، فهي وحدها جهد جدير بالإعجاب والتقدير.
وإن بكن الله قد شاء أن يدع الزيات مجلة الأزهر، فقد كتب الله له أن يسجل أضخم صفحة في تاريخها.
أنور الجندي(1006/40)
الكتب
عصر سلاطين المماليك المجلدان: الثالث والرابع
تأليف الأستاذ محمود رزق سليم
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية
للأستاذ محمد رجب البيومي
يعتقد صديقي وأستاذي الجليل محمود رزق سليم أن العصر المملوكي لم يأخذ حقه من البحث العلمي الدقيق، فهو حافل بالمؤلفات العلمية في شتى المواضيع الثقافية، ذاخر بأعلام اللغة والفقه والأدب والتاريخ الذين حفظوا التراث الإسلامي بعد سقوط بغداد في يد التتار، ملئ بالأحداث السياسية والتاريخية التي كتبت مستقبل مصر والإسلام، وحولت اتجاه الشرق العربي إلى مأمن يعصم من الكوارث والخطوب، ومع ما لهذا العصر من الأهمية الخطيرة فأكثر من كتبوا عنه من المؤرخين والباحثين يقابلونه بوجه عابس، ويواجهونه بنقد حاد.
وقد كرس الأستاذ المؤلف جهوده للدفاع عن هذا العصر وتسجيل مفاخره العلمية السياسية، وتعداد ما أنتج للأدب والعلم من ثروات غالية يعتز بها تراثنا النفسي، ولم يقصر المؤلف جهوده في هذه الناحية على ميدان واحد، بل شعبت به الميادين، وانفسحت أمامه الطرق، ووجد لديه من الموهبة والكفاءة والمثابرة وما حفزه إلى ارتياد الطرق المتشعبة، والصيال في الميادين المختلفة، مهما أرهقه السير والتجوال، وأضناه لتجمع والوثوب.
فهو في كلية اللغة يوجه تلاميذه إلى كنوز هذا العصر، ويعرض أمامهم أساطينه وأعلامه محللا ناقدا، ومؤرخا مستوعبا، ويفسح مجال المقارنة بينه وبين العصر العباسي والأندلسي دون أن يتعصب لناحية أو يتشيع إلى فريق.
وهو في مجلة الرسالة الغراء يطالع قراءها الأفاضل بطرائف منتخبة عن العصر المملوكي، فيلجو صفحات رائعة عن سماته البارزة في النقد والحرب والفكاهة، ويبحث عن خصائصه التورية والجناس والزجل والتشطير، ويدرس جوانب هامة حيوات أعلامه البارزين.(1006/41)
وهو في جامعة فؤاد يقدم رسالة علمية عن النثر الفني في العصر المملوكي، فتجلو عناصره ومقوماته، يزن آثاره بميزان النقد الحديث، ويعقد صلة واضحة بين الطريف والتليد.
وهو في ميدان القصص، يخط عدة أقاصيص تاريخية ينتزع أبطالها وحوادثها من هذا العصر الملئ، ويسوقها للقراء أسلوب طلي، وحوار جميل، وقد وقف - على بعضها - قراء الرسالة، فطالعوا ما كتبه الأستاذ عن قانصوه الغوري السلطان الشهيد.
ثم هو أخيرا في ميدان التأليف العلمي يكتب ثمانية مجلدات ضخمة تكون موسوعة شاملة لأهم ما حفظه التاريخ هم هذا العصر العجيب، وإذا كان المؤلف قد رجع في مصادره إلى مئات المخطوطات العتيقة، يكشف عنها في خزائنها المكنونة، وينبش في أضابيرها البالية باحثا منقبا، ليؤيد رأيه بالدليل الملموس والحدة المعترف بها، حتى سود آلاف الصفحات، وأرهق جسده وعقله وعينيه. . . أقول إذا كان المؤلف قد فعل ذلك فإنه جد بالإعجاب والتقدير، ولن يقدر مجهوده حق قدره غير من كتب أن يقوم بدوره الشاق في الرصد والتسجيل.
ويذكر قراء الرسالة أني كتبت بالعدد (788) كلمة عن المجلدين الأول والثاني من هذه الموسوعة الضخمة، وهاأنذا أكتب كلمتي الثانية عن المجلدين الثالث والرابع بمناسبة ظهورهما الآن، فقد آثرت أن أتابع هذه الحلقة المباركة، لأعلم ما لم أكن أعلمه عن مصر العزيزة، وتاريخها النفسي، ولن ألخص للقراء مواضيع الكتاب ومحتوياته في هذا العرض السريع، فذلك متيسر من يمر بالفهرس مرورا خاطفا، ولكني أتجه إلى نقطة هامة سبق أن أشرت إليها في مقالي السالف، وبقيت تتطلب المزيد من الإيضاح والتعليق.
لقد عزم المؤلف أن يجعل من المجلدات الثمانية موسوعة حافلة بالهين والجليل من أنباء العصر الملوكي، فسود مئات الصفحات في تسجيل وحوادث وأنباء لا يحتاج إليها القارئ في شيء فهو يكتب قوائم حافلة بأخبار الفيضان وأرقام الصعود والهبوط، ويتحدث عمن زار مصر من الأضياف ويسرد فهارس متتالية للكتب المختلفة في الفقه والتفسير واللغة والتاريخ والأدب والمنطق مما أخرجه علماء العصر المملوكي في ميدان التأليف، ولم يسمع بأكثره لتلاشيه في رحاب السنين، كما يتتبع كل خليفة أو مملوك أو وزير أو عالم أو قاض(1006/42)
ورد ذكره في الموسوعات الحافلة كالضوء اللامع أو النجوم الزاهرة أو حسن المحاضرة أو السلوك أو الشذرات أو التذكرة أو بدائع الزهور أو الدرر الكامنة فيخصه بترجمة موجزة مما كان سببا في إرهاق الأستاذ بلا مبرر، وقد خالفت المؤلف في هذا الرصد العجيب فقلت في مقالي السالف بمجلة الرسالة - العدد 788 ما نصه:
(على أني أخالف الأستاذ في ناحية هامة تشيع في مؤلفه، فقد حرص كل الحرص، على أن يترجم لكل من ولي السلطنة أو ناب عنها، وكذلك من تحدث عنهم فيما بعد من القضاة والخلفاء، وفي هؤلاء جميعا من لا يستحق أن يكتب عنه سطر واحد، حيث كان فردا عاجيا لم يخلف أثر هاما أو تحدث في عهده من المفاجآت ما يدعو إلى الحديث عن زمن ولادته أو مدة حياته أو آونة وفاته، وإنما ولي وعزل، وكأنه لم يولد، يكيف نتعب أنفسنا في تراجم أصنام آدمية، قذف بها الزمن في قرار سحيق).
أقول، لقد سبق أن قلت ذلك على صفحات الرسالة، واعتقدت أن المؤلف الفاضل قد اقتنع برأي المتواضع، ولكن ظهور المجلدين الثالث والرابع، قد اثبت نقيض ذلك، حيث حشد الأستاذ فيهما تراجم عديدة لنكرات مهملة نقب عنها المؤلف في شتى الموسوعات! وحسبك أن المجلد الرابع قد ضاع 90 % منه، في هذه التراجم العجيبة، حيث شغلت (247) صفحة طويلة مزودة بالمراجع والأسانيد، وبلغ عدد من ترجم لهم نحو الخمسمائة والخمسين من العلماء، وكان الأجدر أن يقصر الأستاذ تراجمه على النابهين الأفذاذ من بين هؤلاء، وهم لا يتجاوزون المائة على أكثر تقدير!
ولعل المؤلف قد شعر أنه بذل مجهودا كبيرا دون حاجة ملحة إليه فعمد إلى تبرير صنيعه، وقال في مقدمة المجلد الرابع - وكأنه يرد على -
(وتستغرق التراجم الموجزة لمشاهير العصر جزءا فسر قليل من صفحات الكتاب، وهي في الحق ضئيلة بالنسبة إلى كثيرة عددهم، وواسع فضلهم، ونظرة يسيرة إلى كتب أعلام هذا العصر وطبقاتهم تدل على صواب ما نقول، وقد بدت فيها عناية مؤلفيها نأبناء عصرهم وأنبائهم، وفي الحق أننا وجدنا فيها خضما واسعا بعيد الغور، فلم يكن لنا حاليه إلا حسن الالتقاط والنظم، على أنا مرحلة في هذا الكتاب لا بد من اجتيارزها، ولا سيما أن المؤلفات التي أشرنا إليها جمعت فأوعت، ونوهت بالمشاهير وغير المشاهير).(1006/43)
فالأستاذ محمود رزق يقتدي بكتاب العصر المملوكي في حشد التراجم من كل صوب، وقد نسي أنه يكتب مجلداته في القرن الرابع عشر، لا في المائة الثامنة، أو القرن التاسع، ولكل عصر خصائصه في التأليف واتجاهه في البحث، فقد كان السخاوي وابن إياس والمقريوي يؤمون الجهات المختلفة، ليسجلوا تراجم من يقابلونهم أو يسمعون عنهم من علماء المساجد، وأساتذة المدارس، ومشايخ الزوايا، وقضاة المحاكم، ثم يسودون صحائفهم العديدة بما يجمع الطيب والخبيث، والصالح والطالح، والسمين والغث، والتافه والجليل، وقد عفى الزمن على هذه الطريقة البالية، وأصبحنا نختار ما نكتب عن دقة وتمحيص، فإذا أراد مؤرخ معاصر أن يسجل هذه الحركة العلمية في وقتنا هذا، فليس عليه أن يتتبع التراجم في شتى المظان ثم يرصدها لقارئه في إيجاز واقتضاب، ولكن عليه أن يدرسها في مطالعته الخاصة، ثم يأخذ منها ظواهر معينة وأدلة ثابتة يقيم عليها بحثه التاريخي الكلي، ويجعل منها أسساً متينة لآرائه وقضاياه، وما ينتهي إليه من نتائج وأحكام.
وهل يستسيغ الأستاذ الفاضل - إذا أراد أن يكتب عن عصرنا الحديث مثلا - أن يترجم لجميع من يقع على مؤلفاتهم من أساتذة الكليات ومدرسي المعاهد والمدارس، ومع أنهم جميعا يتسمون بالعلم والفضل والإنتاج، أو أنه يختص أولي الأثر البارز في توجيه الحركة العلمية والأدبية بالنقد والتمحيص؟ أكبر الظن أنه يتجه الوجهة الثانية دون نزاع، ولا يقبل أن يقلد السخاوي والمقريزي والسبكي وأبن حجر فيما صنعوه منذ عدة قرون!! ولعل اهتمامه الكبير بأن يجعل كتابه موسوعة حافلة ذات كتب وأجزاء، قد فعه إلى هذا الرصد والاستقصاء، وهو بعد يعلم مناهج البحث التاريخي وما طرأ عليه في العصر الحديث من ضوابط وقيود، ولن يحتاج إلى من ينبهه إلى ذلك، وفي الأبواب العامة التي يفتتح بها المواضيع الرئيسية لكتابه، ما يدل على إحاطته الشاملة بالتيار الفكري الحديث. . .
وقد خص أستاذنا الفاضل طائفة من أعلام الفقهاء بتراجم تحليلية مسهبة تحتل مكانا فسيحا من المجلد الثالث، وقد صاغها في نسق علمي دقيق، فهو يذكر المعالم البارزة في حياة من يترجم له، ويعرض شيوخه وتلاميذه وآراءه الفكرية والمذهبية، ثم يعنى بتحليل مؤلفاته، وعرضها عرضا يكشف عن ذخائرها الدفينة، ومكانتها المستترة، وبذلك استطاع أن يحلل طائفة من الكتب العلمية التي تعتبر بحق مصادر مستوفاة في الفقه واللغة والأدب والتاريخ،(1006/44)
ولم يكتف بذلك بل أفسح المجال في المجلد الرابع لعرض مؤلفات أخرى لا تنقص عن سابقتها في شيء كوفيات الأعيان، وعجائب المقدور، والضوء اللامع، وبدائع الزهور، وكانت هذه الموسوعات العلمية في حاجة ماسة إلى من يتحدث عنها بإسهاب فيبين ما اشتملت عليه من معارف جزيلة النفع، ويكشف هما اهتز في غصونها من ثمار يانعة، وغرد على أفنانها من طيور صادحة، ولعل المؤلف بذلك يلفت الأذهان إلى ضرورة الاعتناء بإحياء هذه الكتب، وإخراجها للناس من جديد في نسق علمي يعتمد على المراجعة والتحقيق.
ومع أن الكاتب الجليل قد نقد بعض هذه المؤلفات نقدا علميا سليما ونبه إلى ما تجمعه من محاسن ونقائض، إلا أننا نلاحظ أنه يغمض العين عن بعض المآخذ الهامة، بل ريما تلمس لها من التصويب ما يتعذر التسليم به، وقد دفعه إلى ذلك هيامه بالعصر المملوكي، وموقفه منه موقف المدافع الذائد، وهو يصرح في مقدمة المجلد الثالث بأن النقد ليس غرضا أصيلا في تحليله وعرضه، وإنما يرسم صورة هادئة خالية من صخب النقد والحمد معا، كما يقول أنه يأمل أن يجد للنقد الصريح مجالا غير هذا المجال، وأنا لا أوافقه على هذا المسلك، فالفكرة العلمية لا تكون كاملة مستوفاة إلا إذا أخذت دورها الكامل في التمحيص الشامل، والنقد الدقيق.
وقد لاحظت أن الأستاذ قد كتب تراجم موجزة لبعض العلماء ثم أعادها بإسهاب مطيل، وهذا لا يكون إطلاقا في كتاب يحمل اسما واحدا، وكان الأجدر أن يترك المؤلف تراجمه الموجزة ويحيل القارئ إلى ما كتبه أو سيكتبه من التراجم المطنبة ذات العرض الشامل الفسيح، وهناك أمر ثان يتعلق بهذه التراجم الطويلة، فقد لاحظنا أن المؤلف قد أختار من الفقهاء عدد كبيرا كالنووي والعز بن عبد السلام وأبن تيمية وأبن القيم وزكريا الأنصاري، ومع الحظوة البالغة بالفقهاء فقد أغفل النحاة واللغويين فلم يكتب ترجمة مسهبة لرجل كابن منظور أو أبن هشام أو أبن مالك، وكان الأولى في التراجم التفصيلية أن توزع وفق العلوم المختلفة، فلا يطغى الفقهاء والمؤرخون على اللغوين والنحاة مثلا، فيكون في هذا التنويع تاريخ ضمني لجانب مختلف من العلوم، ولعل الأستاذ قد حاول ذلك، فتزاحمت لديه الشخصيات، وتقاتلت أمامه الأسماء، وصدق عليه قول القائل.(1006/45)
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
محمد رجب البيومي(1006/46)
البريد الأدبي
إلى صاحب الفضيلة وزير الأوقاف
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد؛ قرأت في أسرار استقالتكم من جماعة الإخوان المسلمين التي نشرت في الصحف ما جعلني أرى فيكم ما لم أكن أراه من قبل، إذ كنت أظن ولا أخفي عليكم أنك شيخ أزهري من هؤلاء الذين نراهم عمائم وصوراً! فقد آنست في أقوالكم وآرائكم روحا ذكرتنا بأئمة النهضة الحديثة؛ فحمدت الله كثيرا وزاد في حمدي أن تكون الآن في أقطاب وزراء الثورة الذين أخذوا على أنفسهم إنقاذ هذه الشركة المثقلة بديون الفساد والفوضى، وإني لأنتهز هذه الفرصة الطيبة لأفضي إليكم ببعض ما أراه في الإصلاح الديني الصحيح.
إن سيدي الأستاذ يعلم ولا ريب أننا الآن قد حق علينا قول رسول الله صلوات الله عليه (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع) وأننا لا نصلح إلا بما صلح به أولنا، وقد شاب ديننا من البدع والخرافات ما ذهب ببهائه وأخر سير أهله، وكل صلاح لا يقوم أساسه على تطهير العقائد وتحرير العقول فهو إصلاح باطل، وقد استعلنت بذلك بلساني وقلمي منذ ربع قرن ولا زلت أستعلن به مادمت حيا.
تقولون إنكم تريدون أن يعود المسجد إلى مكانته الأولى. . ولكن يجب قبل كل شيء أن يطهر من الوثنية حتى يعود إلى طهارته الأولى ويكون لله وحده (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا).
وكذلك نقضي على وصمة أخرى بالمساجد تلك هي صناديق النذور بعد تمزيق اللائحة التي وضعوها لها. ومن يرد أن يتصدق فأمامه وجوه الصدقات التي أمر بها الله وهي كثيرة.
وبعد أن تتطهر المساجد وتصبح لله وحده تعدون من سيقومون بأداء رسالتها إعدادا صحيحا حتى يستطيعوا أن يؤدوا ما عليهم للحياة وللناس أداء حسناً.
ومما نطلبه منكم كذلك أن تستبدلوا بكتاب الفقه على المذاهب الأربعة مختصراً في العبادات يحمله كل مسلم. تقتبس أحكامه من الراجح مما في كتب السنة وعمل السلف الصالح بغير تقييد بأي مذهب من المذاهب، لأن الله تعالى لم يطلب من عباده أن يعبدوه على مذاهب(1006/47)
معينة. . والعامي لا مذهب له والعالم له أن يختار.
هذا ما نريده منكم وقد سبق لنا أن طلبنا ذلك كله من المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق حينما تولى وزارة الأوقاف أو مرة. . ولكن يبدو أن مشايخنا عفى الله عنهم قد وقفوا في سبيله - ونرجو أن يتم هذا الإصلاح على أيديكم إن شاء الله.
المنصورة
محمود أبو رية
1 - التربية والتعليم معا
إن نظرة خاطفة إلى أخلاق التلاميذ في المرحتلين الأولى والمتوسطة تجعلك في يحزن عميق وألم ممض، وأخلاقهم هذه تظهر جليا في الميادين والشوارع، وفي الحدائق ودور اللهو، وفي المركبات العامة وغيرها، ولا تختفي بوادرها المؤسفة حتى حلال ذهابهم إلى دور العلم ورجوعهم منها.
الطلبة الصغار يعاكسون المارة، ويعاكسون خلق الله، ويتعلقون (بالترام) من الجهة اليسرى معرضين حياتهم للخطر، وكرامتهم لألسنة السائق (والكمساري) شأنهم في هذا الشأن الصبية المشردين - إذا رأوا عجوزا سخروا منه بعبارات نابية، وإذا أبصروا ذا عاهة صاحوا وتصايحوا عليه، ودعك بعد هذا من تراشقهم بالألفاظ البذيئة، وتقاذفهم بالحجارة والحصى، وتضاربهم بالأكف والعصي!
والطلبة الكبار يصطفون في الصباح وبعد الظهر أمام مدارس البنات لمعاكستهن ومضايقتهن، ويروحون ويجيئون في الشوارع متعرضين لهن غير مبالين باستفزازهن، وغير مكترثين للوم المارة ولا لمراقبة الشرطة، وقبيل الأصيل ينتشرون في الشوارع أيضا، ولا مهمة لهم إلا الجري والقفز، والتندر بأشكال الغاديات والرائحات.
إن هؤلاء الطلبة المعوجين في أخلاقهم، قد أساءوا إلى المدرسة حتى فقدت ثقة الناس فيها، وأصبحت مقياسا لسوء الأخلاق وأنحطاطها، ولابد من أن يتيقظ ولاة الأمور لهذه الهوة السحيقة، فلقد شغلتنا برامج التعليم، وخطط الدراسة، ونظم الثقافة، عن أهم جانب في حياة الأمم وهو التربية.(1006/48)
ليس البيت وحده المسئول عن التربية، وإنما المسئولية بجانبه واقعة على المدرسة بوجه عام - وعلى مدرسي الدين بوجه خاص، فالمدرسة مسئولة عن تعليم التلميذ، ولا يستقيم تعليمه إلا إذا استقامت تربيته، ومدرس الدين هو المختص، وكعبة الأمل المنتظر في توجيه التلميذ وطبعه بطابع الخلق الحسن، وصياغته في قالب من الخصال الحميدة والصفات النبيلة.
لسنا في حاجة إلى جبل متعلم مثقف إلا إذا كان مؤدبا مهذبا، وهذه النهضة الجديدة في مسيس الحاجة إلى جبل صالح يرفع قدر مصر، ولن يكون إلا إذا عني ولاة الأمور بالتربية كعنايتهم بالتعليم، وسارت التربية والتعليم جنبا إلى جنب. .!
2 - نحو مجتمع سليم
نرجو - وكلنا أمل في أن يحقق الله رجاءنا - أنت تعمل ثورة الجيش الإصلاحية على أيجاد مجتمع نظيف سليم في مصر يرفع شأنها ويعلي قدرها، ويعز جانبها ويصل بها إلى المكان اللائق بالأمم المتقدمة الناهضة.
إن المجتمع النظيف السليم عنوان الأمة الراقية الناهضة، ولن يوهب لأمة من الأمم ذرة من الهيبة والتقدير إلا إذا كانت تتمتع بمجتمع سليم حي، ولو بلغت هذه الأمة مبلغا كبيرا من القوة والنفوذ - والدول الغربية ذوات السلطان والجاه، إنما تربعت فوق هامة المجد والعزة لأن المجتمع في جميعها يظفر بأكبر قسط من الرقي وسلامة التكوين ونضارة الفكر.
إذن فمصر اليوم في مسيس الحاجة إلى هذا اللون من المجتمع، ولن يتيسر لها هذا إلا إذا أخذ المصلحون على عاتقهم تكوين المجتمع تكوينا سليما، يقوم على دعائم ثابتة قوية من الرقي والأخلاق والإشراف على التوجيه الذي يصلح من شأنه، وبث المثل العليا بين أفراده حتى يأخذوا بأسبابها وينشئوا عليها.
ولكي نضمن تكوين المجتمع النظيف السليم، يجب علينا أن نعني العناية الكبرى بالشباب لأنه عصب المجتمع ودعامته - والذي يتطلع إلى أحوال الشباب - ولا سيما المثقف - في مصر لا يسر بحال من الأحوال، لأن غاية معظمه إن لم يكن جميعا تنتهي عند ارتياد الملاهي وركوب الدراجات، والسير في الشوارع لمنافسة الفتيات ومعاكسة خلق الله.(1006/49)
وفي استطاعة مصر أن تخلق لهذا الشباب من المغريات ما يجذب إليها وبما يعود عليها بالفائدة، كالإكثار من الأندية الرياضية على اختلافها، وخير لهم أن يستنفذوا أوقات فراغهم بين جدرانها من أن يستنفذوها في الشوارع والميادين والملاهي وروب الدراجات.
إن العناية بالشباب من أوجب الواجبات، لإيجاد شعب حي نظيف، ومجتمع راق سليم، فإن مصر اليوم في بدء التحول من حياة أرستها ردحا من الزمن على تراب الحضيض، إلى حياة جديدة ناهضة سترسيها إن شاء تعالى - على قواعد من الرقي والتقدم، فهي في حاجة إلى المجتمع السليم النظيف حتى تصل القافلة إلى غايتها.
الإسكندرية
نفيسة الشيخ
تحية. . وإعجاب
أعجبت أيما إعجاب بجريدة الأستاذ ميشيل الله ويردي المنشورة بالعدد 1005 من الرسالة؛ وهي التي يحي بها ذكرى هجرة لرسول معارضاً بردة البوصيري.
ولئن أعجبت بالقصيدة في قوة سبكها ومتانة نظمها فإني أكثر إعجاباً بأن أرى غربيا مسيحيا يمدح الرسول (ص) بشعور صادق لا يقل عن شعور صاحب البردة ومن سبق الشاعر إلى معارضته من الشعراء المسلمين.
لقد اثبت الأستاذ الشاعر أن محمداً (ص) هو للعرب جميعاً مسلمين وغير مسلمين. . ولا غرو فمحمداً أول زعيم وحد الأمة العربية وسدد خطاها في طريق المجد والعظمة.
إني لأكبر في الشاعر هذه الروح القومية العالية وأحيي في فنه وحدة العرب على تعدد الديار واختلاف الأديان.
والأستاذ (الله ويردي) وإن كان عربي الروح فهو تركي اللقب وتعريب لقبه (عطية الله) لأن (ويردي) معناها (أعطى)!
ولكم في الختام فائق التحية وللأستاذ الشاعر خالص الإعجاب.
جمال مرسي بدر(1006/50)
القصص
العش الخالي
عن الإنكليزية
انتهى يوم العرس وسافرت آخر بنت كانت في الأسرة مع عريسها الجديد، وذهب آخر فريق من المدعوين وهم يضحكون ويمرحون فرحا بالعرس، وأصبح المنزل هادئاً هدوءا فوق العادة كأنه خال. فالأب والأم وحدهما في منزلهما الكبير، وكان كل منهما يتجنب النزر إلى وجه الآخر وينظر إلى الموائد التي عليها بقايا الوليمة، فمن زجاجات الشمبانيا إلى أطباق الفاكهة فأنواع الحلوى المختلفة.
وقال الزوج لزوجته: (أليس بالمنزل غرفة لم يدخلها هؤلاء الضيوف؟) فقالت: (غرفة مكتبك).
قال: (تعالي نذهب إليها) ثم نظر إلى الساعة وقال: جاء وقت العشاء فلنبدل ثيابنا للمائدة).
قم أبدل وإياها ثيابهما، وتذكر وهو خجلان أنه منذ سنوات كان ينتظر هذا اليوم؛ يوم تتزوج بناته وتركن له المنزل وأمهن معه.
وقد كان بغار من بناته فقد كن يشغلنها عنه بمطالبهن الكثيرة ولم يجرؤ على الاعتراف حتى أمام نفسه بغيرته منهن، وإنما كان يشعر بذلك ويخجل من شعوره، ولكي يكفر عن هذا الشعور كان يقوم بواجباته نحو أبنائه خير قيام فلم يهمل قط واحداً من هذه الواجبات، ولكنه كان دائماً يشعر بتلك الغيرة من كل شيء يحول بينه وبين زوجته. وقد ظل كذلك إلى هذا اليوم. ففي العام السالف تزوجت بنتاه (كتلين) و (كلير) وفي بداية هذا العام تزوجت جيرالد واليوم تزوجت الأخيرة وهي فرانسين، وقد كان يحبهن ولكنهن كن عقبة في سبيله.
واليوم لن تحدث بالمنزل الضجة التي كان يثيرها البنات وصاحبهن، وكانت الأم تصرف كل وقتها في خدمتهن ومرضاتهن وزوجها لا يثق بأنهن السبب في ابتعادها عنه؛ بل كان يخطر له في اكثر الأحيان أنها تجعلهن ستاراً لتخفي وراءه منه، وكانت تفتنه بجمالها ويزيده شغفا بها اشتغالها عنه، وقد تزوج منها ولكنه لم يأنس بزواجها فقد كانت دائما في حالة تشبه العزلة، وكانت تهرب منه فلما رزق منها ببناته الأربع زاد ابتعادها عنه(1006/51)
واستمرت حياتها الزوجية خمسة وعشرين عاماً وهو ينتظر، وكان ينظر إلى المرآة ويبتسم ابتسامة مرة حينما يذكر أنه تزوج منذ ربع قرن، وهو مع ذلك لا يتقدن إلى زوجته إلا كما يتقدم الشاب إلى فتاة صغيرة.
وكان جميلا قوي البنية، وكانت زوجته لا تزيد معي مرور الأيام إلا جمالا. وكانت شجاعتها تزيد مه هذا الجمال.
نظرت إليه الآن وقالت وهي تشير إلى زجاجات الخمر والأطباق التي على المائدة: (ما هذه الفوضى التي تركت لنا يا برانينو)
وكان هذا الاسم هو الذي ينادى به في الطفولة، فنظر إليها وقال بهدوء: (إن اسمي هو جون)
فابتسمت أمام هذا التقريع الهادئ. وتناولت معه الطعام العشاء؛ فقال وهو يتنهد تنهد الرضى: (منذ كم سنة لم نتعش وحدنا؟) فقالت: (منذ سنوات طويلة. مسكينة فرانسين! لقد كان التعب الشديد بادياً عليها).
قال: (ولكن من أجمل المصادفات أنها تزوجت في هذا التاريخ)
فقالت: (لماذا)
ونظرت إليه بعينيها الجميلتين الزرقاوين فأجاب (إلا تذكرين أن هذا هو تاريخ زواجنا؟)
قالت: (آه! لقد تذكرت. إنني كنت ناسية)
فعض شفته وبدا عليه الغضب لنسيانها ذلك اليوم. ثم ملك روعه. وشعر بخيبة الأمل في السعادة التي كان يرجوها لأن زوجته لا تشعر بمثل شعوره هذا. وذهبا إلى غرفة المكتب بعد العشاء وكانا يسمعان من الغرفة حركة الخدم وهم ينقلون ما على الموائد من الأطباق، وكانت الزوجة واقفة بجانب النافذة تنظر في الظلام إلى أعالي الأشجار وما عليها من أعشاش العصافير وعلى الممرات المظلمة في الحديقة الجميلة التنسيق. وكان الزوج جالساً أمام مكتبه، وقد أسند ذقنه أصابعه.
وكانت الزوجة تتذكر خلو المنزل من الموسيقى والغناء والضحك واللعب والحديث فقالت: (ألا يبدو المنزل كأنه غير مأهول؟)
فهز رأسه وعادت هي إلى الكلام فقالت: (أظن جيرالد ستأتي في العام المقبل)(1006/52)
كانت دائماً تفكر في بناتها، ولم يستطيع حملها على التفكير فيه، فشعر الآن بخيبة أمله، لأنه حتى في هذا الوقت لم يستطع الوصول إلى قلبها. ولكنه سكت فلم يجبها وعادت إلى الكلام فقالت: (وأظن كلير تستطيبه أن تأتي شهراً في الخريف. . . مسكينة فرانسين! إنني أرجو لها السعادة).
عاد إليه شعوره بالغيرة من بناته ولكنه كتمه كعادته وسكت، فقالت: (لقد سمعت من بنت عمي دوليس في الأسبوع الماضي - ولم أستطيع إخبارك إلا بعد انتهاء العرس - سمعت أنها تدير الآن نادياً للفتيات في جنوب لوندار)
فخفق قلب جون وقال: (ثم ماذا)
قالت: (وقد اقترحت على أن أنضم إليها فهي في أشد الحاجة للمساعدة. وقالت إنني سأكون منفردة هنا مستوحشة بسبب غيبة البنات وهي ترى أن أقيم معها وآتي إلى هنا يوما في الأسبوع. وأنت تتغيب عن المنزل طول النهار وفي إمكانك قضاء بقية الأسبوع في غيبتي وحدك)
دارت الدنيا أمام عينيه وشعر بالذل. ولكمن عزته المجروحة أبت إظهار ذله فقال: (افعلي ما ترينه)
قالت: (وإذا كنت تريدني فإني مستعدة لأداء واجبي)
فقال: (الواجب لا دخل له هنا)
فقالت: (إننا سنقرر الرأي في هذا الموضوع فيما بعد) فرأى الزوج أن أي قرار خير من الشك وأن عليه أن يواجه الليلة مالا بد من واجهته فيما بعد. وهو يريدها ولكن على غير هذا الشرط فقال: (إنني أرى أن تقرري الرأي الآن).
فالتفتت ونظرت إليه في صمت. ولكنه لم يطق أن ينظر إليها. وارتكن على ظهر الكرسي وكانت أمامه رزمة من الخطابات فأخذ يقلبها بصورة آلية ويقرأ العنوانات فأجابته: (سأذهب إلا إذا كنت في حاجة إلى)
فكان رده المختصر: (لست في حاجة إليك)
فتركت الغرفة في الحال وتركته بين أنقاض أحلامه
وبعد أسبوع كان الزوج جالسا وحده. وكانت الزوجة قد ذهبت في اليوم التالي للعرس إلى(1006/53)
بنت عمها. وكانت نفس الزوج لا تزال متألمة من جرح عزتها. وشعر بالتعاسة لاعتقاده أنه كان من الحماقة أن يتركها تذهب دون أن يقاوم، فهو يشعر بأن الحياة بدونها لا تطاق.
وقف أمام النافذة التي وقفت أمامها منذ أسبوع وفكر فيها وفيما تعمله الآن. وكانت صورتها المكبرة على الحائط فقال في نفسه: (ترى كيف حالتها الآن؟ لعلها في خطر!)
وإنما أتى بهذه الكلمة إلى ذهنه أن أعصابه كانت شديدة الاضطراب. ولم يكن يطيق النظر إلى صورتها.
وكانت الغرفة مملوءة بصور أخرى لبناته فنظر إلى تلك الصور وهو يبتسم ابتسامة مرة وقال: إنها انتصرت عليّ طول الخط وإنني هزمت على طول الخط كذلك.
ونظر إلى الساعة، وكان الليل قد انتصف وتشبثت بذهنه فكرة الخطر، وفكر في مقدار المسافة التي قطعها إذا أراد زيارتها، ولكنه شعر بأن ذهابه في مثل هذه الساعة ليسأل عن صحتها لا يمكن أن يكون إلا حماقة. واختصم في ذهنه العقل مع الغريزة فكانت الأخيرة هي الغالبة.
وكان الكل قد ناموا، ولكن فتحه جراج السيارة لا يستغرق إلا دقائق، ثم يخرج السيارة ويوقظ السائق، فيخبره بأنه ذاهب إلى جنوب لوندرا، وأنه ليس في حاجة إليه.
وفعل ذلك، واخترقت السيارة الطرق، وهو يزيد السرعة قبل فوات الوقت. ولم يكن قد زار من قبل النادي الذي تقيم فيه زوجته ولكنه كان يعرق عنوانه، وكانت الغريزة وحدها هي التي تقوده الآن. ثم تلاشى حكمها، وتحكم العقل فأسند ظهره إلى الكرسي، وأخذ يضحك من حماقته، وهو يخترق الشوارع الخالية. . إلى أين يذهب؟ لا إلى شيء!
وأخذ يدق الجرس. . فلو رآه حد في الطرق الخالية لخاله سكران!
ووصل إلى النادي، فنزل من السيارة ونظر إلى النوافذ فلم ير إلا دخانا يتصاعد. وأصغى فسمع أصواتا ندل على وجود حريق في النادي، فوضع يده في فمه، وصفر ليدعو الجنود، وأخذ يحاول كسر النافذة بالآلات التي يصلح بها السيارة. وفي الوقت الذي كان يصيح فيه باستدعاء المطافئ استطاع الدخول من الفتحة التي أوجدها في النافذة فجرح رأسه ويداه، وكاد الدخان يخنقه فتراجع حتى تمكن من وضع منديل في فمه، ثم دخل مقتحما وأخذ يصيح (يا هيلين! يا هيلين!) فخرجت إليه سيدة قال لها: (إن المكان يحترق! أين زوجتي؟)(1006/54)
قالت: (أنها نائمة في الطابق الأعلى).
ثم صعدت معه وصاح باسمها فخرجت ودهشت وقالت (لماذا جئت ياجون؟)
فقال: (أسرعي بقليل من الماء)
فأسرعت وعند عودتها تذكر أنه لم يشرح لها سبب مجيئه فقال: (إن النار في البناء! لا ينبغي أن نضيع الوقت) ثم وضع منديلا مبلولا آخر حول فمها وبل المنديل الذي حول فمه ونزل معها في وسط الدخان المتصاعد، فلما رآها يكاد يغمى عليها حملها بين يديه، وكانت الحرارة شديدة حتى يكاد يغمى عليه أيضا، وخرج بها من النافذة.
كانت الساعة الثالثة صباحاً عندما عاد الزوجان إلى منزلهما ولم يتبادلا إلا كلمات قليلة وكانت الزوجة شديدة الشحوب وقالت: (لقد جئت إلى هنا يوم العطلة السالفة. ولكنك لم تجئ فيه).
قال: (نعم هذا هو الواجب علي في الظروف)
قالت: (أي ظروف؟) فلم يجب. وقالت
(ما الذي جعلك تأتي في هذه الساعة وكيف علمت؟)
قال: (لا أعلم ولكن كان مستوليا على شعور غريب بأنك في خطر فأتيت وأنا أعرف أن إطاعة هذا الشعور حماقة، ولكني لم أستطيع منع نفسي. وما كنت أصدق القصص التي من هذا القبيل وكنت أسمع صوتا يقول لي إن زوجتك المحبوبة في خطر).
فسكتت مدة طويلة ثم قالت: (لم أكن أعلم أنك تحبني إلى هذا الحد)
قال: (إنني رجل محتجز يا عزيزتي وقد كنت أعتقد أنك تدركين حبي لك. ولكنني لم اكن أستطيع الوصول إليك لأنك تهربين مني).
فقالت: (نعم لأني خائفة)
قال: (خائفة!! من أي شيء؟)
فقال: (خائفة من إظهار محبة أكبر من المنزلة التي وضعتني فيها. إن لي عزة نفس وذلك كنت أجعل بناتي ساترا حتى لا تراني)
قال: (وكيف عرفت المنزلة التي أضعك فيها)
فقالت: (عرفتها من ذهابك بعد العشاء مباشرة إلى مكتبك كأنك لا تريد أن تكون معنا)(1006/55)
قال: (إنني كنت أفعل لأني لا أريد أن أرى صواحب بناتي ولا تلك الضجة التي تحول بيني وبينك)
فقالت: (وكيف لا تسر عندما أكلمك عن بناتنا؟)
قال: (كيف عرفت ذلك؟)
فقالت: (إنك خير من يقوم بواجبات الأب. ولكني عرفت ذلك من ملاحظتي ما يبدو على وجهك أثناء الحديث عنهن. وفي يوم الأربعاء الماضي أردت أن أمتحن شعورك وكان الخطاب بنت عمي قد وصل إلى. ولكنني لم أعره عناية. وقد جربتك بالتكلم عنه وقلت في نفسي إنك إذا سمحت بذهابي فإن ذلك سيسحق قلبي. وأنا لم أكن أريد الذهاب إلى بنت عمي)
فقطب حاجبيه وقال: (إنك تذكرت عزة نفسك ولم تتذكري عزة نفسي! وقولك دلني على أنك تريدين الذهاب. وقد كنت في غيابك تعسا للغاية) ثم وقف فجأة وقال: (لقد كنا مغفلين)
وتناول كفها بين كفيه وقال: (أظنني وجدت نفسك بعد هذه السنوات ولن أتركك تفلتين بعد الآن).
فقالت هامسة: (إنني أحبك كما لم أحب أحدا في الوجود)
ثم وضع ثغره فوق شعرها الناعم اللامع وقال: (لك أن تتكلمي عن بناتنا الآن فما دمت أنك كنت تتخذينهن ساترا بيني وبينك. فإني لا أغار منهن).
فابتسمت وقالت: (لقد أدركت نفسك أيها الطفل الكبير)
ع. ن(1006/56)
العدد 1007 - بتاريخ: 20 - 10 - 1952(/)
قوة الكلمة
للأستاذ سيد قطب
في بعض اللحظات لحظات الكفاح المرير الذي كانت الأمة تزاوله في العهد الذي مات. . كانت تراودني فكرة يائسة، وتلح على إلحاحا عني. . أسأل نفسي في هذه اللحظات. . ما جدوى أن تكتب؟ ما قيمة هذه المقالات التي تزحم بها الصحف؟ أليس خيرا من هذا كله أن تحصل لك على مسدس وبضع طلقات، ثم تنطلق تسوي بهذه الطلقات حسابك مع الرؤوس الباغية الطاغية؟ ما جدوى أن تجلس إلى مكتب، فتفرغ حنقك كله في كلمات، وتصرف طاقتك كلها في شيء لا يبغ إلى تلك الرؤوس التي يجب أن تطاح؟!
ولست أنكر أن هذا اللحظات كانت تعذبني. كانت تملأ نفسي ظلاما ويأساً. كانت تشعرني بالخجل أمام نفسي. خجل العجز عن عمل شيء ذي قيمة!
ولكن هذه اللحظات لحسن الحظ لم تكن تطول. كان يعاودني الأمل في ورقة الكلمة. كنت ألقي بعض من قرءوا لي مقالا، أو أتلقي رسائل من بعضهم، فأسترد ثقتي في جدوى هذه الأداة. كنت أحس أنهم يتواعدون معي على شيء ما. شيء غامض في نفوسهم، ولكنهم ينتظرونه، ويستعدون له، ويثقون به!
كنت أحس أن كتابات المكافحين الأحرار لا تذهب كلها سدى، لأنها توقظ النائمين، وتثير الهامدين، وتؤلف تياراً شعبيا يتجه إلى وجهة معينة، وإن لم تكن بعد متبلورة ولا واضحة. . ولكن شيئا ما كان يتم تحت تأثير هذه الأقلام.
ولكنني مع هذا كنت أعود - في لحظات اليأس والظلام - لأتهم نفسي. كنت أقول: أليس هذا الإيمان بقوة الكلمة تعلة العجز عن عمل شيء آخر؟ ألا يكون هذا ضحكا من الإنسان على نفسه ليطمئن إلى أنه يعمل شيئا. وليهرب من تبعة التقصير والجبن؟
وهكذا كنت أعيش طوال فترة الكفاح الماضية. . حتى شاء الله أن يطلع الفجر الجديد، وأن تنكشف الغمة المعتمة، وأن يتنفس الناس الهواء النظيف الذي حملته الثورة، وأن يصبح هذا الصراع ذكرى يضمها التاريخ في ثناياه. .
واليوم خطر لي أن أرجع إلى بعض القصاصات التي تحو بعض ما كنت أكتب في ذلك العهد الرهيب. .(1007/1)
ولست أنكر أنني فوجئت مفاجأة شديدة. . إن قوة الكلمة شيء عجيب. إن أحلاما كاملة قد أصبحت حقيقة واقعة، وأن نبوءات قد صحت برمتها. . لكأنما كانت أبواب السماء مفتوحة والمكافحون الأحرار يكتبون ويتوجهون بكل قلوبهم مع هذه الكلمات. . وإلا فمن يصدق - حتى أنا - أنني كتبت منذ أكثر من عام مثل هذه الفقرات:
(لقد بدأنا في هذه المرة بدءا أكيد لأننا بدأنا بدءا صحيحا. لقد خر اثنان من الفلاحين مضرجين بدمائهما الطاهرة، أولهما في كفور نجم بتفتيش محمد علي. . والثاني في بهوت في تفتيش البدراوي.
(لقد سالت دماؤهما في هذه المرة لا في ثأر عائلي ولا في معركة انتخابية كما اعتادت سجلات البوليس أن تسجل، ولكنها سالت في معركة الأرض! الأرض الطيبة التي روى تربتها الملايين بالعرق والدموع، ولم ينالوا منها شيئا، ثم هاهم أولاء أخيرا قد بدءوا يروونها بالدماء. ولن تخونهم الثمرة في هذه المرة لأن بذرة الدم لم تخب يوما في التاريخ ولن تخيب.
(لقد خر أول شهيدين في معركة الأرض المقدسة أردتهما الأيدي الأثيمة. وسيتبعهما آخرون حتما. فهذا الإقطاعي المجنون لن يصير على أن يرفع العبيد رءوسهم. ولن يطيق أن يسوء أدب الرقيق في حق الأسياد. ولن يكف عن إراقة الدماء وإذن فلقد بدأنا!
(إن ملكية هذه الأرض الطيبة قد ردت على أصحابها الحقيقيين. إن وثيقة التملك السماوية قد كتبت ولن تفسخ أبدا. . لقد كتبت بالمادة التي لا تمحي. كتبت بالدماء، فإذا لم تكن ذات الأرض قد وردت بعد، فإنها منذ اليوم تعد مغصوبة والاغتصاب لن يدوم.
(إن هؤلاء الإقطاعيين الحمقى سيوقعون في كل يوم وثيقة بالتنازل عن الأرض المغصوبة. سيوقعونها في صورة رصاصة طائشة تخترق صدر شهيد، أو بلطة مجرمة تمزق جثمان بطل. ولكنها ستكون هي هي وثيقة التنازل عن الأرض ووثيقة التملك للآخرين المحرومين.
(لقد طال ليل الظلم وطال ارتقابنا للفجر الجديد. . ثم هاهو الفجر يلوح. . لقد تلألأت أشعته الأولى، تلألأت في هذه القطرات الزكية من الدم المسفوح. إنها ليست قطرات من الدم الرخيص في معركة انتخابية، إنها دماء عزيزة غالية لأن وراءها قضية طال عليها(1007/2)
العمر. قضية مرت بها القرون تلو القرون. قضية كانت في حاجة إلى مستند لا ينقض، وغلى حجة لا ترد، ولقد كتبت هذه الحجة الأزلية في كفور نجم وفي بهوت. كتبت وانتهت وليس إلى مرد من سبيل!
وستكتب في كل يوم وثيقة جديدة. ستكتب بفضل حماسة الحمقى الذين لا يؤمنون بالنذر، الذين تأخذهم العزة بالإثم، الذين مردوا على التكبر الفاجر والاستغلال القذر. الذين لا يطيقون أن تقف قامة واحدة منتصبة، ولا رأس واحد مرفوعا، الذين ألفت عيونهم رؤية الراكعين الساجدين في عشرات القرون.
إن هذه القطرات الطاهرة من الدماء العزيزة ستتحول نار مقدسة تحرق، ونورا سماويا يضئ، ولن تخمد الشعلة أبدا بإذن الله، ولن ينطفئ النور أبدا وهو من نور الله!
أللهم حمدا لك وشكرا. . أللهم حمدا لك وشكرا. . أللهم بارك نارك المقدسة التي أوقدت، ونورك السماوي الذي أطلعت ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. .)
قرأت هذه الفقرات التي كتبت منذ أكثر من عام مضى ثم عدت أسأل: أية قوة غير قوة الكلمة كانت تملك في ذلك الوقت الرهيب المظلم أن تشق حجاب الغيب، وأن تتجاوز العقبات والأشواك، وأن ترقم في السجل الخالد ذلك الواقع المشهود؟
ثم عدت أسأل من جديد: ما سر قوة الكلمة؟
إن السر العجيب ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات، إنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء المدلولات! أنه في ذلك الصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس.
في هذا يمكن سر الكلمة وفي شيء آخر: في استمداد الكلمات من ضمائر الشعوب، ومن مشاعر الإنسان، ومن صرخات البشرية، ومن دماء المكافحين الأحرار.
إنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها، وتجمعها، وتدفعها. . إنها الكلمات التي تقطر دماء لأنها تقتات قلب إنسان حي. كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان. أما الكلمات التي ولدت في الأفواه، وقذفت بها الألسنة، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي، فقد ولدت ميتة. ولم تدفع بالبشرية شبرا واحداً إلى الأمام. . إن أحدا لن يتبناها، لأنها ولدت ميتة. والناس لا يتبنون الأموات!(1007/3)
إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا. ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم. أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم. أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق. . إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء، انتفضت حية، وعاشت بين الأحياء!
فإلى الذين يجلسون إلى مكاتبهم، يكدون قرائحهم، لينتقوا اللفظ الأنيق، وينقوا العبارة الرنانة، ويلفقوا الأخيلة البراقة. . إلى هؤلاء أتوجه بالنصيحة: وفروا عليكم كل هذا العناء؛ فإن ومضة روح، وإشراق قلب، بالنار المقدسة، نار الإيمان بالفكرة. . هو وحده سبب الحياة. حياة الكلمات وحياة العبارات!
ثم ماذا؟
ثم لا يقعدن القادر على العمل وهو يطمح أن يؤدي واجبه بالكلام. . ذلك خاطر أحب أن أحذر منه بعد ما أسلفت من الإيمان بقوة الكلمة، وإلى آثارها الملموسة في الحياة.
إنه في كثير من الأحيان يكون القول الفصل للشاعر الذي يقول:
السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
وفي كثير من الأحيان يصبح من العبث أن نظل نتكلم ونتكلم، ثم لا نفعل شيئا. إن الكلمات في هذه الحالة تكون استهلاكا للطاقة الكامنة وليست توليدا للطاقة.
ثم إن عددا نادرا من الكتاب الموهوبين هم الذين يملكون أن يحولوا الكلمات إلى طاقة. أما القاعدة فهي أن يعمل الناس، وأن يحققوا بالعمل ما يريدونه من مقدرات.
والكلمة ذاتها - منهما تكن مخلصة وخالقة - فإنها لا تستطيع أن تفعل شيئا، قبل أن تستحيل حركة، وأن تتقمص إنسانا. الناس هم الكلمات الحية التي تؤدي معانيها أبلغ أداء.
إن الفارق الأساسي بين العقائد والفلسفات أن العقيدة كلمة حية في كيان إنسان، ويعمل على تحقيقها إنسان. أما الفلسفة فهي كلمة ميتة، مجردة من اللحم والدم، تعيش في ذهن، وتبقى باردة ساكنة هناك.
ومن هنا كانت العقائد هي الحادي الذي سارت البشرية على حدائه، في درب الحياة المنعرج الطويل. تصعد الروابي وتهبط السفوح، وتردد حداءه في المتاهة المهلكة، فتنجو وتحيا، وترتقي وتثق في رسالتها، لأنها رسالة تنبع من أعماق الضمير، ويشتعل بها(1007/4)
الوجدان، ويتلألأ بها الشعور.
إنه لا بد من عقيدة. وقوة الكلمة إنما تبع من أنها ترجمان العقيدة. والعقيدة هي التي يغذيها الناس بحياتهم فتوهب لهم الحياة.
سيد قطب(1007/5)
دولة بلا دين!؟
ما هذا الكلام الفارغ الذي نقرأه في بعض صحف مصر؟ فمن دعوة إلى حذف النص على دين الدولة من الدستور. ومن انتقاد للدولة الدينية، ومن أمثال ذلك تفيض به الصحف، وتنطلق به الأقلام؟
والعجيب أن هؤلاء الذين يأتون بهذا الكلام، لا يعرفون الإسلام، ولا يعرفون علوم العصر؛ فهم يقررون بأن مصر هي الدولة الوحيدة التي نص في دستورها على أن دينها الإسلام، مع أن المثقفين الثقافة القانونية يعلمون أن على ظهر الأرض اليوم تسع عشرة دولة قد اشتمل دستور كل واحدة منها على مثل هذا النص هي: السويد والنرويج والدانمارك وأيرلندا والأرجنتين وبارغواي وبوليفيا وكولومبيا وبيرو وكوستاريكا وبناما وإيران وبولونيا ورومانيا ونيكاراغوا والأفغان واليونان وبلغاريا وسيام، حتى أن منها من نص دستوره على مذهب معين كاليونان وبلغاريا (الأرثوذكسية الشرقية) وبولونيا (الكاثوليكية الرومانية)، ورومانيا (الأرثوذكسية الرومانية)، ونيكاراغوا وبوليفيا والأرجنتين وبارغواي (الكاثوليكية الرسولية الرومانية)، وإيران (الجعفرية الاثنا عشرية)، والسويد (الإنجيلية السليمة على الصورة التي رسمتها طائفة أوغسبورغ الطاهرية وأقرها مجمع أو بسال سنة 1593)، ونروج والدانمارك (الإنجيلية اللوثرية)، وأيرلندا وبيرو (الكاثوليكية الرسولية الرومانية)، وبناما (الكاثوليكية).
ونحن نقول هذا لا لنكسب لقضيتنا دليلا، ونقيم على دعوانا بينة، بل لأننا نعلم أن هؤلاء الكتاب، الداعين إلى حذف النص على الدين من دستور مصر، لا يفهمون بالحجة والمنطق والبرهان، ولا يميزون بين الرأي والرأي، بمقدار ما فيه من حق وباطل، بل بالدمغة التي يقرؤونها عليه، فإن كان عليه دمغة أمريكا فهو عين اليقين، وإن كان عليه دمغة إنكلترا فهو حق اليقين فقط. وإن كان عليه دمغة فرنسا فهو اليقين، أما إن كان مصنوعا في الشرق فليس فيه إلا البطلان!
ولا تغرر كم أسماؤهم الكبيرة، فإنها طبول، وإنهم بلا عقول، أو إنهم لا يستعملون عقولهم. إني أقول الحق ولله لست أريد السباب.
وطالما ناظرت رجالا من هؤلاء فكنت آتيهم بكلمة معزوة لإمام من أئمتنا فيسخرون منها، فآتى بأخرى في معناها لعالم أو فيلسوف من أوربا أو أمريكا فيخضعون ويخشعون(1007/6)
ويسلمون.
والذي يثبت لكم أن كلامهم تقليد بلا فهم، هو أنهم سمعوا الإفرنج يقولون بفصل الدين عن السياسة، فقالوا بذلك وكرروه حتى صار من الحديث المعاد والكلام المملول، ولم يفهموا إلى الآن ماذا يريد الإفرنج بلفظ الدين.
الدين عند الإفرنج هو الذي يحدد صلة الإنسان بالله. لذلك قالوا: الدين لله والوطن للجميع، وقصروا الدين على الكنيسة.
ونحن لا ننازع في شيء من هذا، ولا نقول بأن للدين (بهذا المعنى) صلة بالسياسة، ولا نقول بأن له دخلا في الدولة، ولكن ماذا نصنع إذا كان الإسلام يختلف بطبيعته عن النصرانية وعن الأديان الأخرى، بأن كان فيه ما يحدد صلة الإنسان بالله وهو الدين (العبادات)، وكان فيه ما يحدد صلته بأهله وأسرته، (الأحوال الشخصية)، وكان فيه ما يحدد صلات الناس بعضهم بعض (المعاملات) وكان فيه حقوق عامة جزائية (العقوبات) ودستورية (أحكام البيعة وما يتصل بها من مباحث الفقه)، وكان فيه حقوق دولية عامة تحدد صلات الدولة بعضها ببعض، وخاصة تحدد صلات رعايا دولة بدولة أخرى، كل هذا في الإسلام وهو موجود في كل كتب الفقه، فهل يمكن أن نفصل بعضه عن الإسلام؟ هل يريد هؤلاء المجددون المقلدون أن نحذف سورة براءة مثلا من القرآن لأنها من الحقوق الدولية وليست من الدين، كما يفهم الإفرنج من كلمة الدين؟
نحن لا نريد أن ندخل الدين، الذي هو العبادات، أي - الصلاة والصوم - في الدولة، ولكن لا نستطيع أن نقيم دولة أو نضع قانونا، مخالفين أحكام الإسلام في إقامة الدولة، وفي موضوع هذا القانون.
هذا كلام واضح صريح مفهوم، صرت أستحي من إعادته ونشره، لكثرة ما قلناه ونشرناه. ولكن هؤلاء الناس لا يفهمونه أو هم لا يريدون أن يفهموه، وهو باطل في نظرهم وسيبقى باطلا إلى أن يقرؤوه باللغة الإنكليزية في مجلة تطبع في نيويورك أو سان فرنسسكو، أو في أي قرية من قرى أمريكا، هنالك يصير حقا ويهتفون له، ويعيدونه ويفخرون بأنهم كانوا منتسبين (بالمصادفة) إلى هذا الدين العظيم.
وإلا فهل يمكن أن تكون دولة بلا دين؟ لا أقول لكم اقرؤوا كتبنا ومباحث علمائنا. بل(1007/7)
أحيلكم على العلامة دوركايم ليثبت لكم أن ذلك ضد طبيعة الإنسان.
وماذا تكون حال مصر لو خلت لا سمح الله من الدين كما يتمنى هؤلاء (العقلاء)!؟
إنه لا يبقى إلا القانون وازعا، والقانون يمثله الشرطي، فإن أنت لم يرك الشرطي فقد جاز لك أن تسرق وتزني وتعمل السبع الموبقات. وهذه كانت شريعة إسبرطة، كانت السرقة جائزة ما لم تكشف، فأين هذا من خوف الله وازعا؟ إن المؤمن له من إيمانه شرطي مرافق لا يفارقه، يمنعه من كل محرم. فهل من المصلحة يا حضرات العقلاء الكبار جدا، أن تمحوا هذا الوازع من النفوس؟
وماذا يضركم أو يضر النصارى أو اليهود أو الإنس أو الجن إن كان دين مصر الرسمي الإسلام؟ هل أمر الإسلام يوما بظلم أحد من الموافقين والمخالفين أو أذن به؟ هل دعا إلى فاحشة؟ هل حارب ثقافة أو علما؟ هل عارض إصلاحا أو تقدما؟
إن ذنبه أنه يحرم الزنا والفسوق والقمار والربا وسائر الفواحش والنفوس تحب هذه الأمور، وتود الانطلاق إليها بحرية كحرية المجنون الذي ينزع سراويله ويكشف عورته ويدخل المسجد، لا تريد من يقيدها ويحجزها.
إنها الخلاف بين الحرية المجرمة والقيد، بين الجنون والعقل فهل تريدون أن نترك العقل ونصير مجانين؟
ومن سيكون الضحية؟ نحن! لأن أكثر هؤلاء لا بيوت لهم ولا بنات ولا أخوات، وهم عزاب فساق يريدون أن نطلق لهم العنان، ليعيثوا في بناتنا وأخواتنا فسادا، فهل نكون رجعيين جامدين إن قلنا لهم: مكانكم إنا لا نستطيع أن نسمح لكم بهذا؟
إننا حين ندعو إلى الدين، وإلى الدولة الإسلامية، إنما ندافع عن أعراضنا وأموالنا، فهل علينا في هذا ملام؟
ثم إن الديمقراطية حكم الأكثرية، ونحن (المسلمين المتمسكين) الأكثرية في كل بلدان الشرق الأدنى، فهل تريد الأقلية المتجردة المنطلقة أن نحكمها فينا؟
أين الديمقراطية إذن؟
الديمقراطية مشتقة من ديموس باليونانية، وديموس هو الشعب، والشعب يريد الحكومة الإسلامية.(1007/8)
فهل بعد هذا كلام؟!
دمشق
(ع)(1007/9)
بين الشعر والسياسة
المنفلوطي الشاعر الجريء
للأستاذ محمد رجب البيومي
حين انتقل المنفلوطي إلى رحمة ربه قوبل أدبه بعاصفة شديدة من النقد، واتجهت المعاول الحادة إلى تحطيم بنائه الراسخ في دولة الأدب، حتى ظن الكثيرون أن هذا الصرح الناهض سيخر منهدما في أمد قريب، دون أن يجد الدعائم الواقية من السقوط، وكنت تجد من يقولون عن مصطفى أنه أديب يعني بالديباجة الصافية، والأسلوب الرائق، دون أن يقدم للقارئ فكرة حية أو معنى جميلا. فإذا قلت لهؤلاء إن مقالات الكاتب الكبير لا تعدم الفكرة الحية، والرأي الصائب غير أنها كسيت ثوبا جميلا من سلاسة اللفظ وإشراق التركيب، وجدتهم يواجهونك بنقد آخر فيقولون: إن الكاتب العاطفي قد وقف بأسلوبه عند تصوير البؤس والحرمان، وما يدفعان إليه من كآبة موحشة، ودموع وزفرات، وكان عليه أن يصور من الحياة جانبها الباسم الوضئ، فيرسم لقارئه لوحات مرحة توشيها البهجة والطري والابتسام!! كأنما كان لزاما عليه أن يتنكر لعواطفه الإنسانية فيضحك ويغرد في مجتمع بائس فقير مريض. . وربما تحذلق ناقد ثالث فادعى أن أدب الكاتب تافه ساذج رغم ما يسطع فيه من إشراق، لأنه إذا ترجم إلى لغة أجنبية فقد رونق اللفظ، وبهجة التركيب، وظهر المعنى هزيلا تافها يتسم بالضعف والسطحية والإسفاف، ونحن نعلم أن كل أثر يترجم إلى غير لغته - ولو كان كتاب الله الكريم - يفقد لا محالة بعض ما يتسم به من الروعة والتأثير، فلماذا نحاسب المنفلوطي العظيم على أمر لا حيلة له فيه، إلا أن تكون ممن يتصيدون المثالب تصيدا مغرضاً ثم يلصقونها جزافا بالبررة الأبرياء.
إن أكبر دليل على قوة المنفلوطي وإبداعه، هو خلود أدبه، فقد مر ما يقرب من ثلاثين عاما على وفاته، وما زالت كتبه ورواياته تطبع وتكرر طبعاتها الواحد تلو الواحدة، ومازال الشباب يجدون في (نظراته) ما يغذي عواطفهم الجائعة، ويروى مشاعرهم الصادية، كما يلمسون في رواياته البديعة سحراً أخاه يستولي على النفوس، ولا أكاد أعرف أديبا لامعا ممن عاصر المنفلوطي ومن جاء بعده لم ينتفع بأدبه، حتى وصل إلى القمة على نبراس بيانه، بل إن التلاميذ في المدارس والمعاهد والكليات، يضلون السبيل إلى الأدب الرائق(1007/10)
الجذاب، فتتعثر بهم الخطوات، وتصارعهم الركاكة والتفكك والإسفاف، فإذا اتجهوا إلى أدب المنفلوطي الخالد، قادهم بسحره الأخاذ إلى الروعة والقوة والصفاء.
لقد كنت أدرس بعض النصوص النثرية لأعلام الأدب المعاصر بإحدى المدارس الثانوية، فكنت أعرض نماذج متنوعة فرضت فرضا عليّ، وقد لاحظت أن الطلاب يهشون لأدب المنفلوطي، ويطلبون المزيد من إنتاجه، ويسارعون إلى حفظ دون أن يرقهم المدرس بالإلحاح قي ذلك، ولم أر من يشاركه هذه الحظوة لدى الطلاب غير الأستاذ الزيات والدكتور طه حسين، وهذا هو الحق الذي أعترف به دون مجاملة أو إطراء. وربما ظن بعض الناس أن المنفلوطي مختار معشوق لسهولة لفظه، وقرب معانيه من إفهام التلاميذ، كلا والله، فقد كنت أختار لغير من الأعلام قطعا يسيرة، قريبة المتناول، فتقابل بالإعراض والصدود. وكم من أديب عشق المنفلوطي يافعا، وما يزال حبه يتأكد ويعظم دون أن يهن على تعاقب السنين، واتساع المدارك والإفهام.
دعاني من نجد فإن سنينه ... لبعن بنا شيبا وشيبننا مردا
وقد لا يعرف كثير من الناس أن المنفلوطي الكاتب قد بدأ حياته الأدبية شاعرا ينظم القصائد المجودة، ويرسل المقطوعات الطريف، فقد ساعدته نشأته الأزهرية على تصفح دواوين الشعراء ورزقه الله ذوقا سليما، وأذنا موسيقية، فعكف على استظهار الروائع الخالدة في الشعر العربي حتى اجتمعت له ثورة أدبية ممتازة في سن مبكرة، وكان الشعر في نهاية القرن السالف يتجه وجه تقليدية باليه، كما كانت الصحف لا تحفل إلا بالمدائح الخديوية المبتدئة بالغزل الصناعي الثقيل، وتتجه براعة كل ناظم إلى تصيد المحسنات المتكلفة من طباق وتورية وجناس على وجه ينبئ الإسفاف والافتعال، وقد استطاع مصطفى الناشئ أن يحتفظ في شعره التقليدي برونق صاف، وقوة مكتسبة من البارودي زعيم المدرسة الشعرية الأصلية لعهده، ومن أوائل شعره.
أردنا سؤال الدار عمن تحملوا ... فلم ندر من فرط الأسى كيف نسأل
وهاج لنا الذكرى معاهد أصبحت ... تعيث صباً فيها وتعبث شمأل
كما كان الناشئ المتأدب يحاكي شعراء العصر العباسي محاكاة تدل على بصر بالأسلوب، واعتناء بتجويده وإبداعه، ومحافظة على النهج الاتباعي العتيق. وقد نظم في مديح الأستاذ(1007/11)
الإمام الشيخ محمد عبده قصائد تنم عن إخلاص قوي، وتقدير عظيم، ثم سعى إليه فأسبغ عليه عطفه، واكتسب منه أدبا وعلما وخلقا، وقد أرشده الأستاذ إلى بعض الذخائر الثمينة من أمهات الكتب العربية فقرأها قراءة الدارس المتعمق، وزاد تعلقه بالشعر، فخاض بحوره ولهج بقوافيه، وزاد إنتاجه التقليدي قوة وصفاء حتى قارب البارودي في فحولة المطلع، ومتانة الأسر، وانسجام اللفظ، ووحدة الاتجاه، وإليك أحد مطالعه الرصينة في مديح الأستاذ الإمام:
سقاها وحياها ملث من القطر ... وإن أصبحت قفراء في منزل قفر
طواها البلى طي الشحيح رداءه ... وليس لما يطوي الجديدان من نشر
مسارح آساد ومثوى أراقم ... تجاور في قيعانها الغيد بالحجر
لقد فعلت أيدي السوافي بنؤيها ... وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر
وقفت بها في وحشة الليل وقفة ... أثار شجاها كامن الوجد في صدري
فأنشأت أبكي والأسى يتبع الأسى ... إلى أن وجدت الصخر يبكي على الصخر
وكان الاحتلال الإنجليزي - إذ ذاك - حديث عهد بالبلاد، والمصريون في حسرة بالغة لما أصاب الثورة العرابية من فشل جره إليها الرشوة والخيانة وفساد الضمائر عند بعض الناس، والمنفلوطي كما نعلم سريع التأثر، رقيق الإحساس، قوي الشعور، فكان يفكر كثيرا في مصائب وطنه ورزاياه، ثم نظم قصيدة ثورية نشرها في كتاب خاص يندد فيها بالاحتلال وصنائعه من المصريين، كما عرض بالخديوي وحاشيته، ولم يذكر في نهايتها توقيعه الصريح، بل جعل الإمضاء رمزا غامضا لا يدل على إنسان!! وقد شاعت قصيدته فتناقلها الناس، وكان لها دوي بعيد، وبحث الطغاة عن القائل فلم يجدوه.
وواضح أن جمهرة المثقفين في مصر كانوا - ولا يزالون -
يبغضون الأسرة الحاكمة بغضا لا مزيد عليه، فهم يعلمون ما
جرع إسماعيل على البلاد من خراب هائل، نتيجة لديونه
الفاحشة التي استنفدها في ملذاته وشهواته، وبناء قصوره
وحدائقه، ومتعه وحريمه، واختلاس حاشيته، وجاء ولده توفيق(1007/12)
فناهض حريات الشعب، وخان وطنه وعرشه، وقدمه لقمة
سائغة للاحتلال، لينتقم من عرابي الزعيم البطل الناهض.
ولئن تظاهر عباس بعده بالوطنية والصلاح في مستهل حياته،
فقد كانت أطماعه تمتد إلى أموال الشعب وضياعه، فقد أراد
أن يأخذ الآلاف من أفدنه الأوقاف المثمرة الخصبة، نظير
صحراء مقفرة في أرضه الشاسعة لا تجود بشيء!! فوقف
أمامه الأستاذ الإمام وقفة رهيبة، قلمت أظافره، وحطمت
كبرياءه، وأنذرته بالفضيحة الطامة، وابتدأ العداء السافر بين
الرجلين، فأوعز الخديوي بمهاجمة الإمام على صفحات
الجرائد المأجورة، ودفع الأقلام الخائنة إلى ثلمه وانتقاصه،
وكان المنفلوطي من شيعة الإمام وتلاميذه المقربين، فهاجت
ثائرته على الباطل، ونشر في جريدة الصاعقة (4111897)
التي كان يصدرها الصحفي الوطني الجريء المرحوم الأستاذ
أحمد فؤاد قصيدة قاسية في هجائه، فأحدثت دويا تردد في
المحافل لما تضمنته من تنديد بعباس وأجداده الظالمين الطغاة!
وحسبك أن تسمع منها هذه الأبيات، وقد قيلت بمناسبة عودة
عباس من الآستانة إلى مصر:(1007/13)
قدوم ولكن لا أقول سعيد ... وعيش وإن طال المدى سيبيد
علام التهاني، هل هناك مآثر ... فنفرح، أو سعى لديك حميد
تمر بنا لا طرف نحوك ناظر ... ولا قلب من تلك القلوب ودود
تذكرنا رؤياك أيام أنزلت ... علينا خطوب من جدودك سود
رمتنا بكم مقدونيا فأصابنا ... مصوب سهم بالبلاء سديد
فلما توليتم طغيتم وهكذا ... إذا أصبح التركي وهو عميد
فكم سفكت منا دماء بريئة ... وكم ضمنت تلك الدماء لحود
وكم ضم بطن البحر أشلاء جمة ... تمزق أحشاء لها وكبود
وكم صار شمل للبلاد مشتتا ... وخرب قصر في البلاد مشيد
وسيق عظيم القوم منا مكبلا ... له تحت أثقال القيود وئيد
فما قام منكم بالعدالة طارف ... ولا سار منكم بالسداد تليد
كأني بقصر الملك أصبح بائدا ... من الظلم، والظلم المبين يبيد
ويندب في أطلاله اليوم ناعبا ... له عند ترداد الرثاء نشيد
أعباس ترجو أن تكون خليفة ... كما ود آباء ورام جدود
فيا ليت دنيانا تزول وليتنا ... نكون ببطن الأرض حين تسود
وهذه القصيدة وثيقة تاريخية تبين ما ارتكبه الطغاة مما أغفله تاريخنا المشوه الممسوخ، فقد سفكوا الدماء البريئة إشباعا لشهواتهم، وحفروا القبور للضحايا من الشهداء، وملئوا البحار بجثث القتلى تأسيا بطاغوتهم الأكبر عبد الحميد، وفتحوا السجون على مصاريعها لغير المذنبين من ذوي الغيرة والإباء، وتلك فضائح يندي لها الجبين!! وقد ارتاع أولو الأمر أكبر ارتياع لنشر هذا الهجاء الصريح، فصودر ما بقي لدى الباعة من أعداد الجريدة، وقدم إلى النيابة رئيس التحرير، والشاعر الغيور بتهمة العيب في الذات المصونة!! ثم حكم عليهما بالحبس مدة طويلة ذاق المنفلوطي فيها أهوالا لم يتعودها من قبل، وعومل معاملة غادرة لا تليق بوطني يصدر رأيه عن عقيدة وإيمان، فتكونت لديه - في محبسه - من الشعر عقدة نفسية، جعلته يعاف قرضه وتجويده، فبعد أن خرج من السجن توجهت همته إلى الكتابة النثرية، فحلق في أجوائها الفسيحة، وسال نثره المترقرق مسيل الفرات العذب،(1007/14)
يروى النفوس الصادية، ويبد الجوانح الملتهبة، فهتفت باسمه الأصوات، ولهجت به أرواح الشبيبة، وأخذ القراء يترقبون مقالاته الإنسانية كما يترقب المدلج الحائر قبسا من ضياء.
أما القصيدة التي جرت عليه السجن والتشريد فقد ذاعت بين القراء ذيوعا عجيبا، ورغم مصادرة الجريدة فقد تداولها المتأدبون بالنسخ والتدوين، وبقي من لم يقف عليها متعطشا إلى قراءتها، متصيدا لها في مظانها بين مسودات الأدباء، وفي مطارح السمر، ومجالس الأندية، وقد احتال المرحوم الأستاذ سليم سركيس على إذاعتها بطريقة لبقة، فقد أوعز لبعض الأدباء أن يشطرها ويخمسها بما يغير اتجاهها، ثم طبع التشطير والتخميس في صحيفته، وبذلك أتاح لها أن ترى النور مرة ثانية دون أن تنالها الرقابة السياسية بمصادرة أو تحقيق، فقرأها من لم يكن وقف عليها قبل ذلك، وظلت عالقة بالأذهان إلى يومنا هذا، وأذكر أتي سمعتها قبل أعوام من شيخنا الراوية الأستاذ أحمد شفيع السيد الأستاذ بكلية اللغة العربية ثم قرأتها عقب الحركة الوطنية الأخيرة بصحيفة الأدب في جريدة الأخبار. . على أن المنفلوطي لم يترك الشعر مرة واحدة، بعد هذه القصيدة، فقد كان يدفعه إليه حنين جياش يغلبه على أمره، فينظم بعض المقطوعات الرقيقة والقصائد البارعة، كأشعاره في القلم وأسماء بنت أبي بكر وبول وفرجيني، ولكن طاقته الشعرية قد تحولت بلا شك إلى طاقته النثرية، فبدت كتابته سلسلة رقيقة، تتدفق فيها العذوبة وترن بها موسيقى الشعر وأنغامه، فتتفتح لها الأحاسيس، وتتوهج بها العاطفة، وتنفث في النفوس ما ينفثه الشعر من روعة فاتنة وتأثير وأعلامه، وكان يستطيع أن يصدر في تأريخه والتعريف به كتبا متنوعة كما فعل نظراؤه من الأدباء، ولكنه اقتصر على النثر الفني المبدع، ليفسح المجال لإنسانيته الحية، وشاعريته المتوثبة، فجاءت آثاره ترجمانا لما حوله من كآبة وشقاء، وأصبح المصور الأول لعبرات البائسين وهموم الأشقياء، وهل يبتعد الشعر عن هذا النطاق!! سواء كان مطلق الأعنة، أو مقيدا بالأوزان؟ سلام علي مصطفى في رحاب الخالدين من البلغاء!!
محمد رجب البيومي(1007/15)
الداء والدواء
للدكتور فضلو حيدر
محاضرة ألقاها في منتدى البردوني
بقية ما نشر في العدد الماضي
الشعب المزمن
كلنا نعلم أن العلم ضروري للحياة ونافه للجسد إذا لم يتعد حدود القوى الجسدية والعقلية والنفسانية. وكل تعب اعتيادي يجب أن يزول بعد راحة قصيرة وينبدل برغبة إلى العمل ثانية. ولذلك يحتاج العامل إلى الراحة. والنوم لا يكفي وحده لإعادة الراحة التامة؛ بل يحتاج الإنسان علاوة عليه إلى ما ندعوه التسلية والاستجمام. والتسلية تشمل كل الأفعال التي نصرف بها وقت الفراغ بلذة تؤدي غالبا إلى توازن العواطف وإزالة التعب الجسدي والضغط النفساني. فوقت التسلية ليس وقت (الفراغ) بل هو ثمين جدا فسويعاته تطيل العمر وتجدد القوى. أما إذا أسئ استعمالها فتنعكس الآية فتزهق القوى وتقصر العمر. ومن السبل المفيدة للاستجمام نذكر الرياضة الجسدية والمطالعة النافعة والموسيقى والرقص والفنون وتربية الحيوانات وغرس الجنائن والصيد وغيرها. وكم من المشاهير خلدوا اسمهم بأعمال كانت لهم نوعا من التسلية.
ومن أعراض التعب المزمن تهيج الأعصاب وقلة الشهية ونقص رغبة العمل بالرغم من الراحة الاعتيادية، فينهض المرء صباحا بدون نشاط. فالمتعب حاد المزاج، ضعيف المناعة للأمراض، يعيش تاعسا ويسئ إلى عيلته ورفاقه، شاذ السلوك، غير مرغوب به في الأعمال والمجتمعات.
ومن مسببات التعب المزمن الاحتكاكات النفسانية كالتردد في الرأي وعدم الثقة بالنفس وبالغير؛ فيستنزف المرء قواه في عراك داخلي بين الإقدام والإحجام وخوف الفشل. ومن أسباب ضعف الثقة بالنفس الجهل وإحجام الفرد عن بحث أعماله بأمانة كي يعلم أسباب الفشل والنجاح. ولو بحث المرء نتائج أعماله لبدل جهله بالمعرفة وخوفه بالثقة. كذلك إذا ساد الحسد والغضب ووخز الضمير والطمع وكثرة الطموح في سلوك الإنسان؛ ساد التعب(1007/16)
المزمن.
ومن مسببات التعب المزمن أمراض القلب والشرايين والسكري وسوء الغذاء وقلة النوم وفقر الدم والقلق والأقدام المسطحة.
فعلى المرء أن يوزع وقته بحكمة بين العمل والتسلية واليقظة والنوم والكد والراحة وأن يصغي جيدا إلى إنذار التعب المزمن ويتلافاه.
ومن مسببات الشيخوخة الباكرة تدهن الأوعية الدموية أي ترسب المواد الدهنية في الأوردة قبل أوانه، ويعقب ذلك عادة ترسب الأملاح الكلسية فتعيق مجاري الدم ويقل غذاء الأنسجة فيحدث من جراء ذلك ضعف القوى جسديا وعقليا وأمراض التجلط في القلب والدماغ.
وبالإمكان أن نكتشف تدهن الأوعية الدموية قبل استفحاله أو لربما نتلافى حدوثه، أو نؤخر سيره. وذلك بفحص القلب والأوردة والدم والكليتين وبوزن مادة دهنية في الدم تدعى كولسترول يرجح بأنها السبب الأول في تدهن الشرايين. وإذا كان الكولسترول فوق المعدل نلجأ إلى الوقاية بتخفيف وزن الجسم وتحوير الغذاء فتمنع أو تحدد المآكل الغنية بالكولسترول كالبيض والزبدة والأدهان. وعلاوة على ذلك تعالج الأمراض التي تؤدي إلى التدهن إذا وجدت في الفرد وأهمها السكري والتهاب الكليتين المزمن وإدمان الكحول والمهيجات وباستئصال البؤر الصديدية في الجسم، وفوق كل هذا تقنن الحياة بتخفيف الأعمال الجسدية وتربية روح التفاؤل والسرور والاقتصاد في أشغال القلب والكليتين.
4 - الغذاء وطول الحياة
كلنا نعلم أهمية الغذاء في الحياة. فلا حياة بدون طعان. وإذا لم يكن كاملا فلا يكون النمو تاما ولا الجسم قويا ولا المناعة ضد الأمراض كافية.
وتقدر كمية الطعام تقريبا بحاسة الشبع ووزن الجسم. فلا تأكل أكثر من قابليتك اعتقادا بأن زيادة الأكل تؤدي إلى قوة الصحة. فالجسم يستهلك حاجته فقط وما نزدرده علاوة إما أنه يشوش الهضم أو يصبح عبثا على أعضاء الإفراز أو يترسب دهنا في الأنسجة، أو يعرض المرء إلى الصراع والدوخة وأمراض الجلد والألرجية والأوجاع العصبية.
والأفضل أن يكون الطعام منوعا لأن الجسم يحتاج لترميم أنسجته وللنمو إلى عناصر(1007/17)
متعددة يصعب أن تتوفر في أنواع قليلة من الأطعمة.
والغذاء التام يحتوي على المواد الآتية:
(1) الزلاليات (اللحوم. الجبن. الحليب. الحبوب)
(2) الأدهان (الزبدة. الزيوت. الشحم)
(3) النشويات (الأرز. البطاطس. الحلويات)
(4) الأملاح المعدنية (مركبات الحديد والنحاس والفوسفور واليود والمنغنيز وملح الطعام).
(5) الفيتامينات على أنواعها (موجودة بكثرة في الحليب والزبدة والكبد والخضرة الطازجة والبيض).
(6) الماء.
والطعام المركب من الحليب والجبن والبيض والكبد والخضر الطازجة والفاكهة يحتوي على كل ما يحتاجه الجسم، وقد لقبت هذه المواد الغذائية المذكورة بالطعام الذي يطيل العمر لأنه تام غذائيا.
والفيتامينات والمعادن لا تغني عن الطعام ألبتة، ولكنها تتممه، فهي ضرورية ولا غنى للحياة، حتى أن الأرض الفقيرة بالمعادن تنتج نباتا فقيرا بقيمته الغذائية. يسبب نقص المعادن أمراضا عديدة. فنقص الكلس يسبب مرض الكساح وضعف الأعصاب ويعرض إلى أمراض التشنج، ونقص الحديد يولد فقر الدم، وقلة اليود تضعف الغدة الدرقية فيتأخر نمو الجسم والعقل. ونقص الفيتامينات تسبب أمراضا عديدة. فالفيتامين ضروري للنظر والنمو والمناعة، وللغذاء والنمو والأعصاب للعظام والنمو والأعصاب للكريات الحمراء والأوعية الدموية واللثة والمناعة للتناسل ومرض السكر وهلم جرا.
ولا لزوم لشراء الفيتامينات والأملاح المعدنية من الصيدليات إذا كان الغذاء كالا والصحة جيدة.
5 - وزن الجسم وطول العمر
ولوزن الجسم أهمية كبرى في إطالة الحياة. ومع أنه لا قانون تام لوزن الفرد الصحي فهو يساوي على التقريب كيلوات بعد السنتيمترات التي تزيد عن المتر في طول الشخص. ونقدر أن نقول إجمالا إن الوزن الأفضل لطول الممر هو ما كلن 10 كيلو فوق المعدل(1007/18)
المذكور في الشبان اتقاء لأمراض الصدر، وما كان 5 - 10 كيلوات تحت المعدل في من جاوز الخمسين من السن اتقاء لأمراض القلب والأوردة والكليتين، وما كان ضمن المعدل المذكور في من تتراوح أعمارهم بين 25 - 50 من السنين.
6 - السلوك وطول الحياة
إن الإمراض التي ذكرتها - أي الميكروبية والسرطان والتعب المزمن والشيخوخة وتشوش الغذاء وزيادة أو نقص وزن الجسم ليست خاتمة الأسباب التي تفت من وقوانا وتهدم من عمرنا بل هي ضئيلة إذا قيست بعثراتنا اليومية أي هفواتنا السلوكية التي تدمي كل لحظة نفوسنا هما وغما وحسدا وندما.
لقد قيل (قبل الكسر الكبرياء وقبل الهبوط تشامخ الروح) وقال عنترة:
لا يبلغ الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلى من طبعه الغضب
وقال المتنبي:
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الشباب ويهرم
وكل منا يخاطب نفسه قائلا:
(كيف يجب أن اسلك في هذا العالم كلي أتبوأ مقامه مرموقا؟) أو (كيف أتغلب على معضلاتي اليومية كي أنجح اقتصاديا؟) أو (كيف أعدل وأصيب بين نوازع الإقدام وروادع الإحجام؟)
يرد سلوك المرء إلى ثلاثة أشكال رئيسية:
أولها السلوك البديهي وهو ما ربينا على علمه وتعودناه في أعمالنا اليومية والمواقف المألوفة. فهو إذن مرآة أخلاقنا وصورة شخصيتنا، هو حظنا وبختنا نراه في الرجل المهضموم أو الممقوت، في اللطيف أو الفظ، في الغيرى أو الأناني، في المتفائل أو المتشائم، في القدرى أو البحاثة. ولا بأس إذا أعدت مرارا وتكرار بأن مسؤولية الأبوين حيوية في تكوين سلوك أولادهم وخصوصا في السنوات الثلاث الأولى من العمر.
والسلوك التقليدي أو الإيحائي أو سلوك القطيع هو الشكل السلوكي الثاني. تسمع كل دقيق من يقول: (حط رأسك بين الروس ونادي يا قطاع الرءوس) أو (كل الناس تعمل هكذا) أو (اعمل مثل فلان تنجح).(1007/19)
ومعلوم عند الجميع أن الناس تسير كالقطعان في الموضة والعادات والتقاليد والحياة الاجتماعية؛ وهذا النوع من السلوك مفيد جدا إذا قلدنا المبرزين والصالحين وهو يمثل الشطر الأكبر من سلوك الإنسان في الحياة.
والثالث السلوك الواعي أو العقلي
تبرز أمامنا، في البيت والعمل والمجتمع، معضلات ومشاكل جديدة لم نتعودها ولا نعلمها، فالبت فيها على البديهة يؤدي اعتياديا إلى الفشل. فهي تستدعي إذن البحث والتفكير قبل الفصل.
فإذا نزلت بك كارثة، أو هبطت عليك ملمة، في صحتك أو أعمالك أو علاقاتك الاجتماعية، فماذا يجب أن تفعل؟
ابحث أولا معضلتك بحثا وافيا وأمينا. ومنى اكتشفت السبب فأزله مهما كلفك الأمر.
وإذا لم يكن بالإمكان إزالة السبب، ولم يكن من بد لوقوع المصيبة، وافق نفسك مع الحالة الجديدة مهما كانت بدون وجل أو هم أو حسد. فالانتصار لك يا أخي إذا رضيت بالواقع فعشت في الحقيقة دون أن تفقد صحتك ولذة عشيك تحرقا على ما فات، لأن لديك دائما متسعا من الزمن ومجالا للعمل وحافزا من الأمل.
ولكن إذا أظلمت الدنيا في عينيك، فاستحال عليك الفصل، واستوى لديك العقل والجهل، فخشيت الهبوط والاضمحلال فلا تنس عند لك ثلاثة تفزع إليهم في الملمات:
أولهم صديقك الصدوق - وما أثمنه - ولربما تجده بين رفاقك وذويك، أو بين كتبك، أو في عالم مجرب، فأصغ إليه بانتباه فلربما يكون في قوله السبيل السوي.
وثانيهم طبيبك، ليس كمستشار صحي فقط بل كرجل تثق به إلى أبعد حدود الثقة، تسر غليه المكتوم، وتفشي له الكروب وتلقي على عاتقه همومك.
وثالثهم عند اشتداد الملمات، وتلبد الظلمات وسيادة اليأس هو طب النفس، فإما أن تصغي إلى صوت الفلسفة يقول لك إن أشد همومك لا بل كلها من عبادة ذاتك. فأنت ذرة من ذرات هذا الكون تتمشى عليك نظاماته من مسيئة أو سار كما تتمشى على سائر أجزائه. فإنس بأنك من شعب الله الخاص وانظر إلى معضلاتك بعين البحث العلمي والتفسير الفلسفي وهكذا تخرج من عذاب أنانيتك، أو فاتبع الدين فتجد فرجك بالإيمان. فكم من(1007/20)
المرات فرج الإيمان عن المحزون والمغبون وشفى المقعد والأعمى وفتح قلب اليائس بالأمل فأنار ظلمات النفس بقبس قصر عن أدائه العلم.
وخلاصة القول أن العلل التي تقصر العمر تأتي إما من أسباب خارجية كالمكروبات والغذاء والفواعل الطبيعية، أو من أسباب داخلية كالسرطان والشيخوخة وأمراض السلوك.
وعلاجها مركب من ثلاثة عناصر - التربية والمعرفة والأمل - ومن ثلاثة نظائر لتلك العناصر - المحبة والحكمة والإيمان.
وسعيد من حظي بالتربية الصحيحة والعواطف السامية
ومن حاز المعرفة العالية والحكمة المبدعة
ومن نصب في وجدانه هدفا ساميا يؤمن به
فضلو حيدر(1007/21)
من رجال الفكر في تركيا:
أحمد آغا أوغلو
للأستاذ عطاء الله ترزي باشي
(يتابع الأستاذ أحمد مصطفى الخطيب على صفحات الرسالة نشر ترجمة الكتاب الموسوم (في بلاد الأحرار) للكاتب التركي أحمد أغا أوغلو. وبهذه المناسبة رأينا أن نقدم للقراء كلمة عن حياة هذا المفكر وعن قيمته الثقافية معتمدين في ذلك على أهم المراجع التركية. ويمكن لمن يجيد هذه اللغة مراجعة تلك المصادر وقد أنبتناها في نهاية هذا المقال) ع. ت
توطئة:
يعد آغا أغلو من طليعة المفطرين الذين خدموا في حقلي الصحافة والتعليم في تركيا. وهو من النوابغ المعروفين. لمع نجمه في الأوساط الغربية حين قام يعرف العالم الشرقي على صفحات الصحف الأوربية للأوربيين. ويوضح الفكرة الإسلامية المقدسة. مبيناً لهم قيمة المرأة في المجتمع الإسلامي والحقوق التي وهبتها لها الشريعة، رادا عليهم سفاسفهم واعتقاداتهم الخاطئة في الإسلام.
وكان يجيد اللغتين الروسية والفرنسية إجادة تامة، فنشر بهما أبحاثا قيمة في الصحف الغربية دفاعا عن الشرق والشرقيين والدين، كان لها الأثر البعيد في نفوس الغربيين. ولا بدع في ذلك فإنه كان عليما بمسائل الشرق وملما بدقائق الشرع. وهو قانوني ضليع امتهن التدريس في كليات الحقوق زمنا غير قليل، وألف كتبا في القانون الدستوري نال بها الإعجاب والتقدير.
ولم تنحصر خدمات آغا أوغلو في هذه الساحة تل تعدتها إلى ساحات أخرى. فقد خدم الإسلام بدعوته إلى ترك المشاحنات المذهبية الدائرة بين السنة والشيعة، وسعى إلى إزالة العداوة والبغضاء بين المسلمين، الناشئة عن الطائفية في ذلك الحين. فدعا بالمسلمين إلى الاتحاد والوئام بدل التفرقة والانفصام. وقد جاءت معالجته لهذه المسائل - بسبب إتقانه اللغتين العربية والفارسية - مصيبة مفيدة. ولا غضاضة في ذلك فإنه عالم بالأوضاع الاجتماعية القائمة بين الأمم الإسلامية، ومطلع على العادات والتقاليد السائدة بين الطوائف(1007/22)
والنحل.
ولا ينكر أن آغا أوغلو كاتب اجتماعي قدير يسحر الإنسان بأسلوبه القصصي الرائع، ومعروف بدقة اختياره المواضيع وصوغه إياها في قالب أبي بديع. فيستمتع القارئ بلذتها ويكاد يبدأ بقراءتها حتى يأتي إلى نهايتها دون أن يشعر بألم أو يحس بملل.
حياته:
ولد آغا أوغلو سنة 1869 م في مدينة (شوشة) الواقعة في سهل (قره باغ) من بلاد أذربيجان. وكان والده (ميرزا حسن) عالما فاضلا (خواجه). أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في مدارس بلدته؛ وأتم بعد ذلك تحصيله الإعدادي (الثانوي) في مدينة (تفليس) ومن ثم ذهب إلى (بطرسبرغ) وذلك بغية إكمال دراسته العالية. وقد نجح في امتحان القبول إلى المعهد الهندسي ولكنه أصيب برمد في عينيه فعاد إلى بلدته مضطراََ.
وفي سنة 1888 قصد إلى باريس والتحق بكلية الحقوق هناك فنال شهادتها (الليسانس) مع درجة وخلال وجوده في باريس تعرف بكثير من المفكرين واتصل برجال جمعية (الاتحاد والترقي العثماني) وبدأ ينشر مقالات عن الشرق في الصحف الفرنسية. وقد ظهر أول مقال له في صحيفة ولما يتجاوز من العمر عشرين عاماً.
وعاد إلى بلاده سنة 1894 م فعين مدرساً في مدارس (أذربيجان). وهناك سعى مع بعض زملائه وعلى رأسهم إسماعيل غاسبرنسكي وحسين زاده وعلي مردان في إحياء الحركة القومية وتنميتها. وتمكن من إصدار مجلتين تركيتين عالج فيهما كثيراً من المواضيع الاجتماعية الخطيرة. وكان يبغي من وراء ذلك إصلاحا عاما شاملا للأقوام التركية الساكنة في بلاد أذربيجان، والجماعات الإسلامية القاطنة في بقاع روسيا المختلفة. فاضطهدته الحكومة الروسية فجاء إثر الانقلاب العثماني في سنة 1908 إلى تركيا. فعينته الحكومة التركية مفتشاً في وزارة المعارف. ولكنه تخلى عن هذا المنصب بسبب انتمائه إلى حزب الاتحاد والترقي.
واتصل بعد ذلك بالمفكر التركيب الكبير (ضياء كوك آلب) وببعض الكتاب الآخرين واشتغل معهم في ساحة القومية، فأسسوا مجلة (تورك يوردي) لتكون لسان حالهم في معالجة المسائل الاجتماعية والوطنية.(1007/23)
وفي سنة 1910 عين أستاذاً في دار الفنون بالآستانة لتدريس مادتي (المدينة التركية) و (اللغة الروسية) وكان قد أخذ إلى عاتقه في نفس الوقت رئاسة تحرير صحيفة (ترجمان حقيقت).
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى رشح نفسه فأنتخب في سنة 1951 نائباً عن ولاية (آفيون). ونال في عين الوقت عضوية الهيئة المركزية لحزب الاتحاد والترقي.
واختير في سنة 1917 مشاوراً سياسيا في الجيش التركي المحارب في جبهات قفقاسيا. وعلى أثر انتهاء الحرب عاد إلى الآستانة فنفاه الإنكليز إلى جزيرة (مالطة). ولبث فيها ثلاث سنين تمكن خلالها من تأليف كتابه الموسوم (المدنيات الثلاث) وعندما أطلق سراحه عين مديراً عاما للمطبوعات.
وبعد قيام أتاتورك بانقلابه المعروف وتأسيسه حزب الشعب الجمهوري انتسب آغا وأغلو إلى هذا الحزب ورشح نفسه للنيابة فأنتخب مرتين نائباً عن ولاية (قارص) الواقعة بالقرب من الحدود الروسية. وكان يشغل خلال هذا الوقت كرسيا في كلية الحقوق بأنقرة ويقوم برئاسة تحرير جريدة (حاكميت مليث).
وعندما أتاح أتاتورك لجماعة من النواب فرصة تأسيس حزب معارض في تركيا، كان أغا أوغلو في طليعة الزعماء الذين أسسوا حزب المستقلين المعارضين. ولقد رأى أتاتورك، بسبب المطاحنات التي دارت في المجلس والتي أدت إلى حدوث انشقاق بين صفوف الشعب، رأى أن العقلية السياسية في تركيا لن تنضج بعد، وأن قيام حياة ديمقراطية سليمة في البلاد أم رعسير، فأصدره أوامره بحل هذا الحزب. وعلى أثر ذل انصرف أغا أوغلو عن الحياة السياسية ورغب في التدريس. فانتدبته كلية دار الفنون بالآستانة أستاذاً لتدريس مادة (تاريخ التشريع التركي). وظل يدرس هذه المادة حتى أحيل في سنة 1933 إلى التقاعد.
وفي هذه السنة أصدر جريدته المسماة (آقين). وقد مضى سنواته الأخيرة من حياته في النشر والتأليف. وتوفي في اليوم التاسع عشر من مايو سنة 1939.
آثاره:
وندرجها بأسمائها العربية وفقا لتاريخ نشرها:(1007/24)
المذهب الجعفري ومصادره 1892، الإسلام وعلماء الشيعة 1900، المرأة في عالم الإسلام وفي نظر الشريعة 1901، المدنيات الثلاث1920، الهند وإنجلترا 1927، في بلاد الأحرار 1931، أتيكا (ترجمة عن كروبوتكين 1931، ماذا أنا 1939، التشكيلات الأساسية التركية (محاضرات)، تاريخ التشيع التركي (محاضرات) 1941، لا يخلو عن القلب، احتلال أم انقلاب 1942.
والمؤلفات الأربعة الأخيرة فقام بنشرها ولده النجيب معالي عبد الصمد آغا أوغلو الذي يحاول نشر بقية آثاره غير المطبوعة. ومنها: الأدب الروسي، مذكرات، الثقة بالدستور، الانقلاب التركي. . وغير ذلك.
المصادر:
(1) سرور اسكيت: دائرة المعارف الشهرية جـ3، ص 784 طبعة سنة 1946. (2) إبراهيم علاء الدين: مشاهير الترك ص 17، ط 1946 (3) دائرة المعارف التكية (أينونو) جـ1 ص 225، ط 1945.
كركوك - العراق
عطا الله ترزي باشي(1007/25)
شلر
للكاتب الكبير توماي كلرليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
- 3 -
وطبيعة الكتاب وما أيقظه من رغبة جامحة لفتت الأنظار إلى الأحوال الخصوصية للمؤلف، ولم تكن هذه المأساة وحدها هلي التي جلبت الانتباه؛ بل إن جميع ما كتبه ووجد له سبيلا إلى النشر والذيوع من الكراسات الدورية الأخرى أوضحت بجلاء بأن هذا الإنسان لم يكن شخصا عاديا. وقد أغاظت العواطف الحادة التي أبدتها مأساة (اللصوص) كثيراً من الأشخاص الرصينين، وقد كان لقابلياته التي لا تجارى وإكثاره في التعبير عن مكنونات نفسه أثرهما في تعكير القضية أكثر فأكثر. وأما ما يخص رؤساء شلر فلم تكن تهمهم مثل هذه الأشياء ولم يفهموا منها شيئا يذكر، وقد يكون شلر عبقريا ولكنه كان خادما خطرا لصاحب السمو دوق (فرتمبرك). ولم يقتصر الأمر على الناس الفضوليين في القضية؛ بل إن ذلك قد تعدى حتى إلى الرعاة في جبال الألب. وقد أصبح قضاة (كرسنز) بعد قراءتهم لهذا الكتاب يشعرون بماله من تأثير سيئ في الناس، مما حدا بهم أن يشكو من ذلك في جريدة (هامبورغ كورسبوندنت)، ثم أعقبوا ذلك برفع القضية أمام الدوق العظيم). (ولما اطلع الدوق على هذه الوضعية ساءه وعبر عن عدم استحسانه عن أعمال شلر بعبارات صريحة نابية جافة. وأخيراً قدم شلر أمامه، فما كان من صاحب السمو إلا أن شرح له سخطه على أخطائه الأخلاقية والسياسية كما استهان بقيمة مؤلفه الأدبية. ولكن رأى الدوق لم يلق رضاً من شلر، وقد انتهت المواجهة بدون جدوى بسبب إصرار الطرفين على رأيهما، وبعد ذلك أمر الدوق بأن ينصرف شلر إلى دراسته الطبية، أو على الأقل ألا ينظم شيئا من اشعر وينشره بدون الحصول على موافقته. ولم يقتصر الأمر على هذا فقط؛ بل إن كثيراً من التقريع كان في انتظاره. فكل جهوده في أداء واجبه على أحسن وجه كانت تفسر تفسيراً خاصاً.
وكان يعاقب على أبسط هناته أقسى العقاب. لقد انكمشت روحه، لما أصابها من إنهاك(1007/26)
ونزيف في النضال المرير ضد العوائق المثيرة المتمثلة في الاضطهاد اللانهائي من أناس لم يعرفوا عنه شيئاً ولكن سوء الطالع وضع مصيره بأيديهم القذرة. وقد طافت في ذهنه فكرة السجون والسجانين فعذبته تعذيباً مرا، كما أنه فكر كثيراً في الوسائل التي يتذرع بها للتخلص من عذاب السجن الذي كان ينتظره في كل يوم، فأراد نبذ الشعر الذي كان له بمثابة ينبوع السرور ومصدر الهموم في الوقت ذاته واعتزاله هذا - لو قدر له أن يقع - لاعتبر حكما بالإعدام على كل شيء سام ومفرح في نفسه وعلى القيم التي كان يعتز بها أشد الاعتزاز).
وقد دفع الشعور الطبيعي المؤلف اليافع على الجسارة للذهاب سرا لمشاهدة تمثيل مأساته في مانهايم. ولم يستره هذا التنكر، فقد ألقي القبض عليه بعد أسبوع من ذلك بسبب إساءته هذه، وما يمنعه العقاب الذي أنزل به من الاجتراء مرة أخرى وبالأسلوب عينه. وقد علم أن هناك خططا جديدة توضع ضده، وقد ألمح له بعضهم ببعض الوسائل الشديدة التي تنتظره إن هو أصر على غيه ولم يفق من غفوته.
ولم يفد في ذلك الموقف العون الذي قدمه له (البرغ) الذي كان أمله الوحيد في التخلص من هذه المضايقات. فرأى شلر نفسه محاطاً بالمصائب المختلفة والشرور المرعبة من كل جهة، وقد أثار ذلل غضبه أشد الإثارة ولكنه أضطر إلى السكوت وارتداء قناع الصبر، وأخيراً لم يطق احتمال هذا الضغط الجنوني أكثر مما تحمله. قد قرر أن يكون حرا مهما بلغ الثمن، وقرر كذلك أن ينبذ كل الفوائد المتأتية من جراء السكوت، فترك البيت الذي كان يعيش فيه، وهو بيت مربيته وخرج فريداً لا يلوى على شيء باحثاً عن عمل في سوق الحياة الكبيرة.
استغل شلر وصول أحد الأمراء والدوقات إلى مدينة ستتغار والضجة التي أثيرت في الترحاب به والحفاوة التي أسبغت على المدينة حلة من الزينة، وهكذا تمكن من التخلص وسط هذا الزحام من مراقبة العيون والأرصاد لانشغالهم بهذا الاستقبال، ففر من المدينة في أكتوبر سنة 1782 وكان عمره آنئذ ثلاثاً وعشرين سنة. وفي مثل هذه الظروف شب شلر عن الطوق وبلغ مبلغ الرجال من القوة والبأس.
وقد أثرت هذه العقبات والنكسات في سلوكه ولكن قوته الخاصة تمكنت من الغلبة في(1007/27)
النهاية. . . أما طفولته فقد كانت هانئة هادئة، كما سبق أن ذكرنا ذلك في حينه، لأن والديه أسبغا عليه جوا من المحبة والحنان، فجعلاه يشعر بالانشراح والشرور وبالسعادة الحق.
لقد قدر لهذه البذرة غير المرئية أن تنبت يوماً ما وأن تصبح شجرة التقى والفضيلة الرقيقة، ومن حسن حظه أن الهجوم العنيف الذي شن عليه لم يقع إلا بعد أن أكمل عدته لمواجهته بعد أن أجمع قوته. ويعود الفضل الأكبر في فوره النهائي في هذا النضال الهائل إلى أساتذة مدرسة ستغادر ودوقهم الأعمى. ومع ذلك لو كان النظام الذي اتبعوه أكثر مدنية وأقل تعصباً لما خسرنا شاعرنا أيضا، لأن بركان شعره كان كامنا في أعماق نفسه ولا يمكن أن يبقى مثل هذا الركان صامتا طويلا، بل إن انفجاره كان محتما في يوم لا بل في كل ساعة. وقد أثرت هذه المعاملة الخشنة في سلوك شلر فأججت حساسيته وزادت من رقته وإرهافه، وخصوصاً إذا عرفنا مدى اتصال ذك كله بطبيعته ذات الفعالية الذاتية، ولو كانت لديه ميول أقل تأججاً وأبد محبة، لرأينا في الوقت المناسب كيف ينتهي كل هذا إلى عزلة خانقة خائفة ووحشية، وحتى إلى مقت شديد للإنسانية. وإذا نظرنا عامة إلى شلر في مثل هذه المرحلة لظن لعض المتتبعين القصيري البصر أن شلر ضعيف لأن مثل هؤلاء المتتبعين يخلطون بين الرقة والضعف على اعتبارهما شيئا واحد. فعنصر القوة الذي يتمتع به وهو أصل كل تقديم يجعله يتصرف على رغائب نفسه، لقد كان له قصد وغاية فيما يعمل، وكان يحب الجمال الروح بكل جوارحه وبكل نفسيته، وهو مستعد في سبيل الوصول لمثل هذا الهدف إلى تقديم التضحيات. لقد ظهر هذا الهدف كغريزة جامحة، وتحت أشكال غامضة، وقد ازدادت قوة على قوة كما اتسمت بالوضوح في النضال والمقاومة فيما يجب الانتصار فيه. . إن لهذه النكسة في حياة شلر أهميتها في التاريخ الأدبي: وهذا التعذيب في سبيل الضمير، وهذا ما وقع للهرطقة والزنادقة في الدين أكثر مما وقع للهرطقة في الأدب. هذا النضال الأعمى الذي قصد إلى إخماد النور السماوي في الروح الإنسانية، وقد انتهى هذا النضال إلى البوار والفشل كما انتهى إلى ذلك في الأدب أيضا.
وما من شك أن ما فعله حكام محكمة التفتيش من أعمال مرعبة وجرائم نكراء لم يكن وحيداً في بابه وفريداً في نوعه. . لأن حكام محكمة التفتيش الأدبية قد خلفوا السابقين، ومع ذلك(1007/28)
فلم ينته أمرهم إلا كما انتهى أمر أسلافهم. . لأن تأثيرهم كان مؤقتا وعرضيا ولم يؤد إلى أية نتيجة تذكر.
وما كنا لنطيل النظر في هذه الإجراءات إلا لأن ذلك سيقودنا إلى أزمة شلر الكبرى ولأنها تظهر لنا لأول مرة إرادته وهي تؤكد نفسها، وتبين بصراحة القانون الذي سيسطر على مستقبل حياته، وقد قال هو نفسه في خصوص ذلك (لقد عشت فقيراً معدماً ويائساً) ومع ذلك فذهنه ظل في مكانه محافظاً على مواهبه كما أن موجوديته الحية ظلت صامدة كالطود الأشم، ومن هنا يجب اعتباره أديبا وهو سيبقى كذلك في سجيته وسلوكه وقد قال بهذه المناسبة: (لقد انحلت جميع اتصالاتي السياسية، وأصبح الرأي العام كله لي، أنه دراستي، أنه سيدي، أنه موئلي، وإلى الرأي العام فقط تعود حياتي ولن أقف أمام أية محكمة أخرى، وهذه المحكمة بالذات هي التي أعتبرها وأخشاها. يطوف أمامي الآن خيال من الخيال كلما قررت أن أصفد نفسي بقيود غير حكم العالم، ولن أستأنف حكمي إلا أمام محكمة روح الإنسان) وسنجد في حياته اللاحقة وحدة نبيلة متماسكة بما في ذلك من اختلافات خارجية، كما أن الهيام بالأدب والعزيمة التي تهزأ بالمخاطر لازمتاه طويلا ولم تتركاه وحيداً في نضاله الشريف. فنراه متجولا في العالم ناظراً إليه في مختلف الصور والأشكال والألوان، ونراه كذلك ممتزجا بمسرات الحياة الاجتماعية فيصبح زوجاً وأبا ويجرب مصائر الناس، ولكن الكوكب الساطع الهادي كان قائده الذي أرشده في متاهات شبابه وظل نور هذا الكوكب ساطعاً مدى حياته. وكان شلر في كل العلاقات والأحوال نقيا طاهراً لطيفاً حتى أنه كان قليلا ما يخطئ.
لقد كان هدفه الأعلى بعد الكمال الروحي هو الهيام بالشعر، وهذه العاطفة كانت من القوة والشدة بحيث أصبحت نقية طاهرة وعالية سامية، وكانت مصدر سلوكه الحسن وينبوع شعوره النبيل الفياض. وهذه العاطفة يجب أن تكون لدى الجميع نقية وسامية لأنها - في أي مظهر كان - هي وحدها هدف الإنسان الحق، وهي موبوءة لدى كل لإنسان، لأنها لا يمكن أن تطمس كلية، ولكنها تبقى سلبية عند كثير من الناس، أما البقية من الناس والذين تبلغ فيهم العاطفة هذه مبلغاً كبيراً من الفعالية فسيكونون شعراء قولا أو عملا، وقلما تكون الأهداف السامية بعيدة عن المطامح المبتذلة والأهداف الأرضية التي تشوه هذه المظاهر(1007/29)
كلية. فعند شلر إذن كانت هي الهدف الأساسي الذي تتجمع حوله جميع الأهداف الثانوية الأخرى، ولم تكن الشهرة نفسها والتمايز العالمي لعينيه في قليل أو كثير، فسلوكه اللطيف المخلص هو الذي كان يجذب إليه الأصدقاء، وقد كانت حياته المستقيمة المسالمة مدعاة احترام الجميع، والذين عرفوه خير المعرفة أحبوه أشد الحب.
علاقته بجوته
ولعل أهم ظرف أحاط بحياته الأدبية هي علاقته بجوته. . ولو استعملنا تعبيرنا السابق لقلنا: لو فرضنا أن شلر كان قسا لكان جوته مطرانا، وهذا الأخير هو الذي رسمه للكهنوت ومنه حصل على النور القدسي. لقد كانت علاقتهما حدثاً قل نظيره في تاريخ الأدب للأسف الشديد، وكانت علاقتها علاقة خالصة من كل زعل وبعيدة عن كل أنانية كما كانت الحالة بين (سوفت) و (بوب) اللذين كانا يتقاسمان السراء والضراء وتجمعهما رابطة الكبرياء. وقلما يتفق الناس بمثل هذه الأحوال ولأغراض من هذا النوع إذا وزنت في الميزان الاقتصادي ساوت وزن خيوط العنكبوت. ويظهر أن بعض العقبات الدولية وقفت في الطريق كما أن بعض التحامل من قبل الطرفين وقع وكان الواجب يقضي بالتغلب عليه. ولعدد من السنين يكن في الإمكان تقابلهما إما لسبب عرضي أو جوهري، وكانت مقابلتهما الأولى غير مشجعة. يقول شلر في هذه المناسبة: (هذا الاجتماع لم يقلل من الفكر العظيمة التي استحوذت والتي كنت قد كونتها مقدماً عن جوته. ولكنني أشك فيما كنا سنتصل في المستقبل مع بعضنا البعض الآخر اتصالا وثيقا فكثير من الأشياء التي تهمني لم يعد لها أي ذكر لديه، وطبيعته في جملتها وتكوينها في الأصل تختلف عن طبيعتي. كما أن عالمه ليس عالمي. ويظهر أن أساليب فهمنا للأشياء تختلف اختلافا بيناً. وطبيعي أن اتحاداً من هذا النوع لا يمكن أن ينتج ألفة وثيقة ثابتة) ومع ذلك فبالرغم من بعض التحامل الخطير من قبل جوته، إن لم نقل شيئاً من الحسد الوضيع الذي كان من الممكن سيطرته على أي شخص آخر في مثل هذه الظروف نفسها، نقول بالرغم من هذا كله فإن الذي لم يكن محتملا وقع وكانت النتيجة أن توثقت الصداقة بينهما واشتدت الألفة ولم يفرق بينهما غير الموت. وإذا نحن اعتبرنا الوضعية النسبية لكل من الطرفين وسلوكهما في هذه القضية فعلينا أن نعترف أن كلا منهما كانت لا تعوزه الفضيلة الاجتماعية كما أن حب الإيثار كان(1007/30)
مستحوذاً عليهما. والحال مع جوته خصوصاً بينة وواضحة، فهو كان أكبر سنا وأعظم الاثنين. . فهو لم ينتظر شيئاً بالمقارنة لما يعطي أما هذه الوحدة الأخوية فيمنعنا ضيق المجال من شرح طبيعتها وبيان تطورها، وهي ستعطينا دليلا آخر تأييداً لما قاله (يونغ ستيلنغ) (بأن قلب هذا الإنسان الذي يعرفه القليلون هو نبيل وصادق كعبقريته التي يعرفها الجميع).
للكلام صلة
يوسف عبد المسيح ثروت(1007/31)
4 - في بلاد الأحرار
للكاتب التركي الأستاذ آغا أغلو أحمد
للأستاذ أحمد مصطفى الخطيب
الحرية والجاسوسية
- ولكن أيها الأستاذ! أليس احترام الرجال العظام وتبجيلهم واجبا تقضي به رعاية الحقوق، والعرفان بالجميل؟
- بلا ريب! ولكن هناك حدودا بارزة بين خالص الاحترام والتبجيل. . ومحض التملق والرياء!
- كيف ذاك؟
- إن الاحترام والحب الحقيقيين يتطلبان الصدق والإخلاص، وشرطهما الأساسي أن تقول ما تفكر فيه أو تشعر به بغير زيادة أو نقصان. .
وعلى سبيل المثال أقول: ألا ترى لزاما عليك أن تصرح بما تراه من النقائص في أقرب الناس إليك، كابنك، أو أخيك، أو صديقك البار، وتواجهه بالنصيحة والإرشاد، بغية تقويم اعوجاه، وإصلاح عيوبه! قم ألا تعتبر مثل هذا العمل دينا عليك واجب الأداء تجاهه؟
والرجال العظام الذين تنجبهم الأمة، هم أعز وأغلى من الابن والأخ والصديق، لأنهم ينابيع الهناء، وأسس السعادة العامة المشتركة في الوطن
إذن أفلا يكون دينا علينا واجب الأداء أيضاً أن نون تجاه هؤلاء أصدق وأشد إخلاصا؟
ولكن المرائين والمنافقين لا يصنعون إلا نقيض هذا تماما. . فيخلعون على العظماء نعوتا زائفة، وينسبون إليهم مواهب وكفايات ليست لهم، ويظهرون جهلهم ونقائصهم وأخطاءهم بمظهر الفضائل العالية والمزايا النادرة، ويكتمون عنهم الصدق والحقيقة، ويدفعون بهم إلى الطرق الملتوية والمآزق. . ويرتبكون كل هذه الجرائم في سبيل الحصول على منافع شخصية محضة دنيئة فقط.
وفي الحق أن الرجل المتملق المتزلف لا يستطيع أن يكون صديقا حقيقيا لأي إنسان. . إذا أن فضائل سامية كالصدق والاستقامة والإخلاص ليست من نصيب ذوي النفوس المنحطة(1007/32)
السافلة.
ففي أول أدبار الحظ يقلب هؤلاء ظهر المجن للرجال العظام ويشرعون في التهكم ونكران الجميل، وشن الحملات الشعواء عليهم، ومن ثم يأخذون في الالتفاف حول السيد الجديد الحائز القوة.
- كم أنت محق في هذا أيها الأستاذ! لقد شهدت بعيني غير مرة مناظر مؤلمة من هذا التقلب الفاضح. . وكم من مرة ضغطت فيها على أعصابي لك لا ينقلب تعلقي بوطني مقتا وكراهية، وحبي لأبناء بلادي حقدا وضغينة. .
- أجل! إن الرياء والتملق هي الطريق الخطر الذي سيؤدي بالمجتمع أيا كان إلى الانحطاط والتدهور لا محالة. .
- إذن لماذا يميل إليهما الناس؟ ولماذا لا يرضون بهما بديلا؟
- لأنهم ضعفاء، ومع ذلك فالذنب كله يقع على عاتق المجتمع وحده لكونه هو المكلف بمنع انتشار الرذائل وبمكافحة الفساد والانحلال الخلقي أولا وآخرا. .
أما إذا تقاعس المجتمع عن أداء واجبه بهذا الشأن فسوف يكون هو نفسه الخاسر في النهاية بعير شك.
- لم أفهم أيها الأستاذ!
- إذن لأتبسط في القول. . إن الرجال العظام في المجتمع هم بمثابة الزهرة أو الثمرة من الشجر، فكما أن الزهر أو الثمر هما اللذان يبقيان على نوع الشجرة ويضفيان عليها صفة الخلود، فكذلك العظماء هم الذين يبعثون في عروق المجتمع دم الحياة، ويمهدون أمامه سبل العيش، ويفتحون أمامه أبواب الارتقاء والتقدم.
وفي الحق أن قوة كيان المجتمع وتماسكه لا يقاسان إلا بعادات وقيم بعض العظماء الذين تنجبهم الأمة في مختلف ميادينها الفكرية والأدبية والعلمية والعسكرية وغيرها.
وفي مثل هذه الحالة يكون العمل لتنشئة هؤلاء وإعدادهم، ثم الحرص على سلامتهم. . مسألة حياة للمجتمع ذاته ليس إلا. .
والمجتمع الرشيد هو الذي يحاول دائما أن يفيد لنفسه أعظم فائدة من عظمائه عندما تسنح له فرصة الحصول عليهم، ولا يدع أن تمر أي لحظة من حياتهم دون أن يستغلها لحسابه(1007/33)
أحسن استغلال، ويخلق منها مصدر خير وبركة للجميع بغير استثناء. . ذلك لأن العظماء لا يظهرون كل يوم أو في أي زمان، فقد يصادف أن الأمة الواحدة تحبل طوال عصور مديدة ثم لا تلد إلا واحدا من هؤلاء، وقد يتفق أيضاً أن عملية الولادة هذه تصبح قاسية ومخيفة جدا.
لهذا فالمجتمع الذي يعرف قدر نفسه يحرص على أمثال هؤلاء الأبناء كالحرص على بؤبؤ العين، ويبذل كل ما في وسعه لكي يفيد من حياتهم أعظم ما يمكن من الفوائد. .
وهذا هو السبب أيضاً في أن المداهنة والتلمق يعاقب المرء عليهما في بلاد الأحرار بعقوبة شديدة كالرجم بالأحجار، وذلك لكونهما من أفتك وسائل الإفساد والتخريب
- فهمت أيها لأستاذ! وقد أنار إيضاحكم هذا جوانب كثيرة من الماضي المؤلم القاتم أمام ناظري، فهل تتفضلون الآن بشرح المادة الرابعة من الدستور؟
- بكل ارتياح! تنص هذه المادة على أن الذين يشتغلون بالجاسوسية لا يستأهلون أن يكونوا من مواطني بلاد الأحرار، ذلك لأن الحرية والجاسوسية لا يمكنهما أن يجتمعا على صعيد واحد أو يأويا تحت سقف مشترك؛ فلا حرية حيث تسود الجاسوسية، ولا جاسوسية حيث تسود الحرية.
ولهذا ترى دوائر الاستخبارات وأوكار الدس والمؤامرات من أوقى الوسائل الفعالة التي يستند إليها الاستبداد في توطيد دعائم حكمه، وتثبيت أركان جبروته وطغيانه.
أما هدف الاستبداد الأوحد في هذا الخصوص، فهو أن تهون الروابط، وتفكك أواصر الثقة في نفوس أبناء الوطن الواحد، وتنفخ فيها روح الشك والارتياب، وليست ثمة وسيلة أقوى تمكنها من بلوغ هذا المأرب من الجاسوسية بلا مراء. .
ففي المكان الذي تنفق فيه سوق الدس والوقيعة لا نجد أحدا يثق يغيره؛ بل يجفل ويرتعد كل واحد من الآخر. . فيتلاشى بذلك الصدق، وتنتفي الصراحة بين المواطنين ليحل محلها الكذب والخداع والنميمة. . وهكذا يستحيل القيام بأي عمل اجتماعي تعاوني نافع، مهما كان نوعه أو كانت قيمته. .
والجماعات البشرية التي يصل بها الحظ العاثر إلى هذه المرحلة من الانهيار تكون أشبه شيء بقطعة مهلهلة من النسيج انحلت خيوطها، وتفككن أجزاؤها، فتفقد كل قابلية في نفسها(1007/34)
لأي نوع من أنواع الكفاح، وتصبح لا هي قادرة على منازلة الاستبداد، ولا هي مستطيعة السير موحدة القوى في مسالك العلوم والفنون، أو الضرب في آفاق التجارة والمعاملات وغرها من مقومات الحضارة الحقيقية في هذا العالم.
وطبيعي بعد ذلك أن لا تستطيع بلاد الأحرار الرضا بما هو من شأنه إلحاق كل هذا الأسى بكيان المجتمع، واستجلاب كل هذه الويلات والكوارث له. .
إننا نغرس في نفوس مواطنينا شعور الكراهية والبغضاء نحو هذا الداء الوبيل منذ نعومة أظفارهم وعهود طفولتهم، ولا ننظر نظرة ارتياح وتسامح إلى شكوى أبنائنا بعضهم من بعض، ونعاقبهم بقسوة متناهية على حوادث التهم والافتراءات التي تحدث بينهم، ونشهر بالصبي الذي يتجسس على أي عمل من أعمال زميله ردعا لغيره وزجرا.
وقصارى الكلام، أننا نبذل أقصى جهودنا قولا وعملا، لكي نبث شعور الكراهية والمقت في القلوب الفتية نحو داء الجاسوسية المرذول. وعندما يشب هؤلاء عن الطوق ويترعرعون، تتهيأ لهم فرصة الاطلاع على دستور البلاد وفهم مغازيه أيضا. . وحينئذ تكون الجاسوسية قد زالت بكلبتها من البلاد. .
- أيها الأستاذ. . إن إيضاحاتكم هذه قد أحدثت انقلابا في كياني، إنني أشعر بالحاجة إلى أن أخلو إلى نفسي وإلى أفكاري الآن، فهل تسمحون بأن نكتفي بهذا القدر اليوم!
- حسنا! سنحضر بعد يومين، ثم نهضوا لمصافحتي وانصرفوا
يتبع
أحمد مصطفى الخطيب(1007/35)
رسالة الشعر
ديوان مجد الإسلام
نظم الشاعر المرحوم أحمد محرم
وتعليق الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
عزوة بدر الكبرى
كان عدد الغزوات ثلاثين غزوة، شهد النبي صلى الله عليه وسلم تعسا وعشرين منها، وغاب عن واحدة عي غزوة مؤتة، فأما التي شهدها فهي غزوة ودان - العشيرة - سفوان - بدر الكبرى - بني سليم - بني قينقاع - السويق - قرقرة - الكدر - ذي أمر - بحران - أحد - حمر الأسد - بني النضير - ذات الرقاع - بدر الآخرة - دومة الجندل - بني المصطلق - الخندق - بني قريظة - بني لحيان - ذي قرد - الحديبية - خيبر - وادي القرى - عمرة القضاء - حنين - الطائف - تبوك - فتح مكة - وقد استغنى الناظم عن هذه الغزوات فلا مجال فيها للقول، وفي هذا الجزء من الكتاب غزوة بدر الكبرى، وغزوة بني قينقاع، وغزوة السويق، وغزوة أحد، وغزوة حمراء الأسد، وغزوة بني النضير، وذات الرقاع، وبدر الآخرة، ودوة الجندل، وبني المصطلق، والخندق، وبني قريظة، ومع كل غزوة ما يتصل بها من العناصر البارزة فيها.
كان خروج المسلمين لغزوة بدر يوم السبت (الثاني عشر من رمضان) وهو الشهر التاسع عشر بعد الهجرة، وكان عددهم 313 وقيل 314 وقيل 315 رجلا، وكان عدد الكفار 950 وقيل ألف، قتل منهم 70 وأسر 70 رجلا، فأما المسلمون فقد استشهد منهم 14 رجلا، ستة من المهاجرين وثانية من الأنصار.
نعيم
ما للنفوس إلى العماية تجنح ... أتظن أن السيف عنها يصفح؟
داويت بالحسنى فلج فسادها ... ولديك إن شئت الدواء الأصلح
الإذن جاء فقل لقومك: أقبلوا ... بالبيض تبرق والصوافن تضبح(1007/36)
أفيطمع الكفار أن لا يؤخذوا؟ ... بل غرهم حلم يمد ويفسح
أمنوا نكالك، فاستبد طغاتهم ... أفكنت إذ تزجي الزواجر تمزح؟
لا يستحون، ولو تأذن ربهم ... عرفوا اليقين وأوشكوا أن يستحوا
أملى لهم، حتى إذا بلغوا المدى ... ألوى بهم خطب يجل ويفدح
من ناقض عهدا، ومن متمرد ... يمسي على دين الغواة ويصبح
لما استقام الأمر لاح بشيرها ... - غر سوافر من جبينك تلمح
ظمئت سيوفك يا (محمد) فاسقها ... من خير ما تسقى السيوف وتنضح
فجر ينابيع الفتوح، فريها ... ما تستبيح من البلاد وتفتح
الظلم أوردها الغليل، وإنه ... لأشد ما تجد السيوف وأبرح
اليوم توردها الدماء، فترتوي ... وتردها نشوى المتون، فتفرح
المشركون عموا، وأنت موكل ... بالشرك يمحى، والعماية تمسح
خذهم بأسك، لا ترعك جموعهم ... فلأنت إن وزنوا الكتائب أرجح
ضلوا السبيل، وفي يمينك ساطع ... يهدي النفوس إلى التي هي أوضح
هفت العشيرة إذ نهضت تريدها ... والعير دائبة تشط وتنزح
تمشي (مواقر) في غواربها العلى ... (أموال مكة) فهي ميل جنح
عد باللواء، وقل (لحمزة) إنهم ... رهن بمرزمة تسح وتدلح
تهوى غداة الروع في طوفاتها ... مهج الفوارس، والمنايا تسبح
هذا الفتى الفهري أقبل جامحا ... يغزو (المدينة) والمضلل يجمح
ولي يسوق السرح، ولو لم توله ... سعة لضاق به الفضاء الأفيح
دعه، فإن له (بمكة) مشهدا ... يرضيك والشهداء حولك تطرح
ذهب ابن حرب في تجارة قومه ... ولسوف يعلم من يفوز ويربح
نسر مضى متصيدا، ووراءه ... يوم تصاد به النسور وتذبح
بينا يحيد عن السهام، أصابه ... نبأ تصاب به السهام فتجرح
بعث (ابن عمرو) ما لكم من قوة ... أن مالكم أمسى بلم ويكسح
واهاً (قريش) أنه الدم فاعلموا ... من دون بيضكم يراق ويسفح(1007/37)
تردون برد الأمن، والنار التي ... أنتم لها حطب تشب وتقدح
إن كنت لم أفصح لخطب هالني ... فسلوا (بعيري) أنه هو أفصح
وخذوا النصيحة عن قميصي إنه ... لأجل من يعظ النيام وينصح
إني صدقتكم البلاغ لتعلموا ... وجبال مكة شهد والأبطح
جفلت نفوس القوم، حتى مالها ... لجم ترد، ولا مقاود تكبح
وأبى (أبو لهب) مخافة ما رأت ... في النوم (عاتلة) فما يتزحزح
وأرى (أمية) وتأخر حينه ... لرآه (عقبة) ثاويا ما يبرح
يرميه بالهذر القبيح يلومه ... ويسومه الخلق الذي هو أقبح
غشاه (سعد) روعة ما بعدها ... لذوي المخافة في السلامة مطمح
نفروا يريدون القتال، وغرهم ... عبث اللواتي في الهوادج تنبح
غنت بهجو المسلمين، وإنها ... لأضل من يهجو الرجال ويمدح
الضاربات على الدفوف، فإن همو ... ضربوا الطلى فالنادبات النوح
يتبع
إبراهيم عبد اللطيف نعيم(1007/38)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
تلقى الأدباء ذلك النبأ الذي أعلنته الرسالة في العدد السابق، بأنها ستتجدد، وبأن الرواية ستعود إلى الصدور، بالفرح والابتهاج، فقد كان طبيعيا أن تجري الرسالة في موكب النهضة، وهي التي حمل صاحبها القلم منذ ثلاثين عاما يدافع له عن الفلاح والعامل، وطالب بحقوق الفقراء والضعفاء، ولطالما كانت مقالاتها هي صرخة الحق في وجه الباطل عندما كان الباطل قويا، ومتسلطا.
ولا شك أن الأدب العربي في حاجة إلى (الرواية) حاجته إلى المجلة القصصية الفنية، بعد أن انتشرت تلك الألوان المتهافتة من القصص.
والذين طالعوا الأعداد التي صدرت من الرواية في سنيها الثلاث مازالوا يذكرون ذلك الفيض الرائع من القصص العربية والمترجمة، المنقولة في أسلوب رفيع، وعلى نسق يكرم الذوق، ويغير الخلق، ويضع قواعد السمو والرجولة.
ويتصل بهذا أن الأستاذ الزيات قد أخذ يفرغ لهذا العمل بعد أن ترك مجلة الأزهر، وقد كانت عودته إلى الرسالة حبيبة إلى القراء الذين كانوا يطمعون في أن يوحد كاتبا الكبير جهوده في ميدانه الأصيل، ولا سيما بعد أن رسم لمجلة الأزهر الخطة المثلى، وأصبح على القائمين عليها أن يمضوا على نفس المنهج.
الكتاب الذين آثروا الانزواء
لفت نظري ذلك الكتاب المترجم الذي صدر هذا الأسبوع للدكتور محمد أبو طايلة، فقد آثر الدكتور أن يختفي وقتا طويلا عن دنيا الصحافة والأدب. . بعد أن ظل اسمه وقتا من أبرز الأسماء في الصحافة المصرية.
وقد جدد هذا الذكر في نظري البحث عن الأدباء الذين اختفوا في السنوات الأخيرة وآثروا أن يعيشوا حياتهم الخاصة يقرءون ولا ينتجون، لقد كنت أعرف أن (عقدة) نفسية قد طغت على بعض هذه النفوس فدفعت أصحابها إلى إيثار تطليق الحياة الأدبية والتوقف عن الإنتاج!
تلك هي غلبة الأدب الذي يطلقون عليه كلمة (الخفيف) والذي لا أراه صالحا لأن يكون لونا(1007/39)
من ألوان الأدب. . . فقد مرت بمصر فترة، كانت الصحافة وهي التي تلمك زمام الإنتاج تحرص على أن تقدم للقراء تلك الألوان التي تتصل بالغرائز والرغبات الرخيصة.
وقد جندت لهذا اللون بعض كبار الكتاب الذين حرصوا على (القدر) الضخم من الأجر، متجاهلين تاريخهم القديم، وماضيهم المعروف.
ولاشك أن الأدب الرفيع قد تقلص تحت ضربات هذا اللون الجديد، وانزوى وآثر هؤلاء الأدباء الانزواء أيضا.
وقد حق لنا الآن أن نطالب هذه الأسماء بأن تستأنف جهودها وعملها مرة أخرى بعد أن بدأت بشائر النهضة الجديدة التي سيكون (الأدب الرفيع) من أول قواعدها.
السجل الثاني
نظرة واحدة في السجل الثاني الجديد عن سنة 1951 تعطي فكرة واضحة عن ضعف الإنتاج الأدبي خلال العام.
فعدد الكتب القوية التي يمكن أن يطلق عليها هذا الاسم قليل جدا، بل نادر، وإنما هي مجموعة من الكتب؛ صدرت على طريقة الصحف التي تطبع في سرعة وتكتب في سرعة. . والتي ليس فيها بحث عميق، ولا تأمل واضح، ولا دراسة رصينة.
إنما هي مجموعة من الأفكار، كتبت ونشرت، ولما تستوف عناصر الكمال. . فإذا نظرنا في الإحصائيات، وجدنا ظاهرة ضعف الإقبال على القراءة واضحة، غاية الوضوح.
فإذا كان القراء في مدينة كالقاهرة في خلال عام كامل لا يزيد عددهم على 192 ألف في جميع دور الكتب، الدار الرئيسية والدور الفرعية، أي بمعدل 524 قارئ في اليوم، فإن هذا يعطي صورة صحيحة لمدى (إقبال!) القراء على البحث والقراءة والدراسة، مع ملاحظة أن هناك عدد كبيرا - من هذا الرقم - من الطلبة الذين يعاودون التردد على الدار مرتين في اليوم الواحد! وخاصة أيام الامتحانات الأولى والملحقة.
القراءات: ضعف في الكم والكيف
. . وقد رأيت أن أعرف الألوان التي يقرأها شبابنا الذين يترددون على دور الكتب فوجدت في أيدي الشباب في سن السابعة عشر قصص: صورة دوريان جراي،(1007/40)
وراسبوتين، وبيرون، وكرمن، وعربة اللذة وروايات موريس لبلان، عن أرسين لوبين.
وليس في قصة من هذه القصص ما يرفع مستوى الشباب من ناحية الفن والذوق أو الخيال أو الأدب، وإنما هي قصص هائجة مائجة، كلها شهوة وإثم وفجور وسرقات.
أنا لا أعيب قراءة القصة الممتازة، كقصص شكسبير وبرناردشو وجوته ولامرتين. .، فهي تربي في الشباب روح البيان والإنشاء والكتابة.
وإذا كنا نعيب على الشباب البعد عن القراءة، بصفة عامة والقراء النافعة بصفة خاصة. . فإننا لا ننسى أن نذكر أن وسائل طلب الكتب في دار الكتب ما تزال معقدة، فإذا طلبت دوريات الصحف في الغروب قيل لك أنه ليس بالمخزن نور، وإذا طلبت أكثر من أربع كتب رفض طلبك، هذا فضلا عن عدم وجود مراجع كاملة واضحة.
. . أما إذا كان هناك أديب من الأدباء أو مفكر من المفكرين يريد أن يبحث فنا أو مادة. . أو علماء، فإنه لا يجد ما يعينه إذا لم يكن له صديق من موظفي دار الكتب وتلك ملاحظات خفيفة نهديها إلى الأستاذ الكبير توفيق الحكيم.
أدب الجيش وتاريخه
من الملاحظة أن تاريخ الجيش المصري لم يكتب بعد على وجه موسوعي أو كامل. . وذلك نقص، إن كنا قد قصنا فيه في الماضي، فإننا يجب أن نتلافاه اليوم.
الحق أن جيشنا له تاريخ مشرق، منذ عهد طويل، منذ الفراعنة عند طرد الهكسوس. . وعندما وقف وقفته في كوتاهية، ومواقفه في فتح عكا وبطولته في عين جالوت.
وهو الجيش المصري الذي رد الصليبيين، في المنصورة ودمياط، ورجاله الأبطال الذين أسروا قلب الأسد ملك إنجلترا، والقديس لويس إمبراطور فرنسا.
. . ونحن الآن نطالب بأن يكتب تاريخ الجيش من جديد على ضوء البطولة الرائعة التي سجلها منذ سبعين عاما عندما زحف عرابي على قصر عابدين، وبعد سبعين عاما عندما زحف محمد نجيب على قصر رأس التين وخلع الفاروق.
إن في تاريخ جيشنا، مواقف كثيرة مشرفة، جديرة بأن تكتب على طريقة الأدب والفن لا على طرقة التأريخ، وأن بعض هذه المواقف، جدير بأن ينقل إلى السينما. .، فقد رأينا الكثير من الأفلام السينمائية التي صورت أجزاء من تاريخنا في أوضاع مشوهة،. . وحق(1007/41)
لنا في عهد النهضة أن نرد عن كرامتنا ونذود عن تاريخنا بعض ما أصيب به في العهد الماضي من أخطاء، وإهمال!!
الأدب النسوي
يعرف قراء الصحف اليومية، ما قيل من أن الدكتورة (بنت الشاطئ) سترفع دعوى على بعض المخرجين السينمائيين لأنهم أطلقوا اسمها على فلم من الأفلام السينمائية.
وقد عادت الدكتورة في الأسبوع الماضي من رحلتها إلى أوربا هذه الرحلة الخامسة من رحلاتها السنوية التي جعلتها في السنوات الأخيرة جزءاً من برنامجها.
وقد كانت هذه الرحلات زاداً للكاتبة الكبيرة أضافت خبرتها، حين قرأت عن هذه البلاد، خبرة جديدة وتجارب واسعة زادت خبرتها سعة وتجاربها قوة وحيوية.
ونحن نطمع أن تخرج رسالة ضخمة عن هذه الرحلات.
وإذا كانت الدكتور (بنت الشاطئ) بصدد إخراج كتاب (صور من حياتهن) الذي سيظهر خلال هذا الشهر فإننا نتساءل الآن عما تقرأ المرأة!
والواقع أنه ليس هناك أدب نسوي بالمعنى المعروف، وكتابات أمينة السعيد، وبنت الشاطئ، وسهير القلماوي،. . كلها كتابات مسترجلة، ليس لها طابع نسوي بمعنى الكلمة!
ومن الناحية الأخرى فإن قراءات المرأة في مجموعها ضعيف ومشتتة، والمرأة المصرية المثقفة عندنا في - الواقع لا تقرأ. . إن تكن تكره زوجها إذا كان يحب القراءة. . - وإذا قرأت فهي تقرأ الاثنين وآخر ساعة والمصور!. .
ولا نعتقد أن مثل هذه القراءات تكفي لتربية الذوق الفني أو الأدبي في المرأة المثقفة!
ونحن نرجو أن يتيح العهد الجديد للمرأة إنشاء أدب نسوي. . له طابعه الخاص. . يجري مع النهضة الحديثة!! ويكون طابع المرأة الجديدة.
أنور الجندي(1007/42)
المسرح والسينما
المسرح المصري في عام
للأستاذ علي متولي صلاح
شغلتنا العلة والرحلة عن أن نسجل جهود المسرح المصري في العام الماضي، فقد كان عاماً خصباً موفور الإنتاج كثير النشاط يمتاز امتيازاً واضحاً ملموساً عن الأعوام القريبة السابقة، ولعل مرد ذلك إلى التنافس القوي الذي احتدم بين الفرقتين اللتين كانتا فرقة واحدة هي (الفرقة القومية المصرية) ثم انقسمت - كما ينقسم كل شيء عندنا - غلى فرقتين هما (الفرقة المصرية) (فرقة المسرح المصري الحديث)
أما الأولى فقوامها من رجال المسرح الأقدمين، وأما أخراهما فقوامها شباب جديد يدرجون على المسرح لأول مرة وهم أصحاب مذهب آخر واتجاه آخر يعاير كثيراً ما يذهب إليه رجال الفرقة الأولى.
والمسرح هو - كما يعلم القراء - الصورة المهذبة المشذبة للحياة، وهو أرفع أنواع الفن والأدب، بل هو على الأصح جماع عدد كبير من الفنون والآداب، فالحديث عنه إنما هو حديث عن الحياة والأدب والفن جميعا، وأرجو أن يأتي اليوم الذي أرانا فيه نقتتل ونتخاصم ونختلف حول رواية من الروايات كما بفعل الأوربيون في نواديهم وأحاديثهم وصحفهم.
ولقد دأبت الفرقة الأولى - وأعني بها الرقة المصرية التي كان يتولى أمرها الأستاذ يوسف وهبي - دأبت كشأنها دائما على تقديم ما خفت مؤونته من الروايات المترجمة التي رآها الناس أكثر من مرة فكان ذلك مها إفلاساً كبيراً وقصوراً معيباً، اللهم إلا عدداً آخر من الروايات كان الأستاذ يوسف وهبي فيها هو المؤلف والمخرج والممثل جميعا! وليس من عجب في ذلك ولا من غرابة فكلنا يعلم أنه.
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد!
نعم. . . كان الأستاذ يوسف وهبي دكتاتورا متصرفا في كل الأمور، بل إن دكتاتوريته امتدت في كثير من الأحيان إلى أعمال بعض المؤلفين الذين تتقطع نياط قلبه دون أن يبلغ شيئا مم بلغوه، وأشير هنا على سبيل المثال إلى الجرأة التي ارتكبها هذا الرجل في وراية(1007/43)
(سر الحاكم بأمر الله) للأستاذ علي أحمد باكثير، فقد عدا فيها على المؤلف عدواناً كبيراً وغير شخصية (الحاكم بأمر الله) - كما أرادها المؤلف - من النقيض إلى النقيض، وحمله من الرأي والفكر ما لم يحمله المؤلف، وقلبه من رجل قوي قادر ذي بطش وذي إرادة وقوة! إلى رجل ضعيف متهالك مهرج دجال، ولا ندري لذلك من حكمة إلا رغبة الأستاذ يوسف وهبي في أن يظهر على المسرح دائما مهرجا دجالا تفرح العامة لرؤياه وتدمى أكفهم بالتصفيق له!
أما تأليفه فهو مجموعة أمشاج وأخلاط ومسوخ شائهة! بل هي سوءات لا أدري كيف يعرضها على الناس، وأشر إلى واحدة منها مما قدمه في العام الماضي وهي التي سماها (70 سنة) فهي فؤوس تهوى على عقول النظارة، وهي صخور يجرها من هنا الميكرفون ومن هناك المناظر السينمائية لأنها لا تستطيع أن تنهض منفردة وأن تعيش مستقلة! وهذا خلط ليس من الفن المسرحي في شيء.
ولذلك فقد كان حسناً جدا أن ابعدوا هذا الرجل عن تلك الفرقة. . والله المسئول أن يهيئ لها من أمرها رشدا في عهدها الجديد.
وأما الفرقة الثانية - وأعني بها فرقة المسرح المصري الحديث - فهي مجموعة من الشباب الذين نالوا حظا غير قليل من الثقافة والمعرفة والدراية بشؤون المسرح، ودرسوا فن التمثيل والإلقاء والإخراج في المعهد العالي لفن التمثيل، فكانوا دما جديدا، وكانوا وثبة جديدة باركناها يوم ظهورها على صفحات (الرسالة).
ولقد سلخت هذه الفرقة عامين من عمرها، ونهضت فيها نهضة مشكورة، واستطاعت إلى حد كبير أن تثبت وجودها في عالم المسرح، وقدمت للناس عددا لا بأس به بين مؤلف ومترجم من أمثال (مسمار جحا)، (مريض رغم أنفه)، (حورية من المريخ) وسواها مما رآه الناس وحمدوا لها حسن اختياره، فإن اختيار الرجل دليل عقله، وإن الشاعر القديم ليقول:
قد عرفناك باختيارك إذا كا ... ن دليلا على اللبيب اختياره
ولكن الحق يقتضينا أن نأخذ عليها أنها قدمت توافه خسيسة ضئيلة القيمة من أمثال (دنشواى الحديثة)، (كسبنا البريمو) مما سبق أن أفضنا في الحديث عنه.(1007/44)
ولقد استطاعت هذه الفرقة الناشئة أن تصرع الفرقة الأخرى القديمة التي يهيمن عليها الأستاذ يوسف وهبي بهيله وهيلمانه، وعندنا أن مرد الأمر في نجاح هذه الفرقة الشابة إنما يعود إلى المجهود الجبار العنيف الذي يبذله الأستاذ زكي طليمات في إخراج الروايات وتدريب أعضاء الفرقة تدريبا دقيقا على كل لفظة وكل خلجة وكل لفتة يؤدونها، وأشهد لقد رأيته وهو يتصبب عرقا في تدريبهم ويبذل في ذلك جهد المخلص الصبور، الأمر الذي جعلنا تأخذنا الدهشة والحيرة عندما سمعنا بأمر هذا الانقسام الذي يؤسف له كثيرا بين هؤلاء الأعضاء وأستاذهم زكي طليمات.
وليس المقام هنا مقام أن نخوض في أسباب هذا الخلاف؛ ولكننا نجد أن تمرد التلاميذ على أستاذهم وخروجهم عليه وتشهيرهم به أمر تأباه الأخلاق الفاضلة، فما بالك وهو ليس أستاذا عاديا ولكنه أستاذ يبذل لتلاميذه كل جهده ووقته، وينفق حياته في إعدادهم وإنهاضهم وإظهارهم للناس في أحسن صورة، ويحدب عليهم حدب الآباء على أبنائهم - ونحن نعلم من ذلك الكثير - ثم ينتهي الأمر بهذه النبوة المفاجئة وكيل التهم لأستاذ كان هو لحمة هذه الفرقة وسداها.
وعلم الله ما ندافع عن الرجل ما لقيناه وما سمعناه منه كلمة في هذا الصدد، ولقد كنا أول من حمل عليه لما اختاره من روايات سيئة، ولكننا نكون مع الحق دائما، والحق يقضي هنا بأن نقول إن فرقة المسرح المصري الحديث يعزى وجودها وكيانها ونهوضها إلى الأستاذ زكي طليمات، وإن كل تقدم ناله أعضاء هذه الفرقة أو سينالونه في المستقبل فإنما مرجعه إلى جهود هذا الأستاذ.
علي متولي صلاح(1007/45)
البريد الأدبي
ظاهرتان
طلعت علينا في العدد 1005 بظاهرتين تستوقفان الأنظار، فأولاهما في ص 1121 قصيدة بعنوان وحي البردة من أروع الشعر وأعذبه؛ استوحى فيها ناظمها هدى بردة البوصيري الخالدة. واسم الناظم أشبه بأسماء المسيحيين. فإن كان ذلك فلا عجب فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو نبي البشرية ودينه هو دين الإنسانية. . فللأستاذ ميشيل الله ويردى - خالص الشكر والقدير والتهنئة.
والظاهرة الثانية ما ذكره الأستاذ علي الطنطاوي في ص 1107 من أن البوصيري كفر كفرا صريحا يعد كفر المشركين من قريش إن قيس به إيمانا - وذلك في قوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
والأستاذ الطنطاوي في هذا يتابع محمد بن عبد الوهاب إمام حنابلة نجد - ورمى البوصيري بالكفر ليس بجيد! والإنصاف يقتضي بحث ظروف وملابسات البيت المذكور فهو يقع في أول الفصل العاشر من البردة عند الكلام على هول الزحام، وقد اتفق البخاري ومسلم وكثير غيرهما على حديث الشفاعة الطويل المتواتر وفيه أن الناس تأتي آدم ثم إبراهيم ثم عيسى ثم محمد (ص) فيقول أنا لها إلى قوله فيحد لي حدا. فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة (هكذا نص الحديث) فالبوصيري يريد بكلمة سواك سائر الرسل الذين يستعفون الناس من الشفاعة يومئذ، وهاب الناس إليهم كما يدل الحديث ليس بشك وهذا ما أوجزه البوصيري في بيته، وعبارة يا أكرم الخلق تشعر المنصف بشدة الإيمان. . فالخلق لا يوجدهم إلا الخالق سبحانه وتعالى فهو لم يؤله النبي وإنما جعله أكرم خلق الله.
واللياذ في البيت هو الإتيان للاستشفاع الذي ذكره حديث الشفاعة. والحادث العمم هو القيامة بداهة - والاعتراض على البوصيري هو إنكار لحديث اتفقت الأمة على تواتره ولم يطعن فيه أي محدث. . ونحن الآن في زمن مادي لا يحل لنا فيه النيل من السلف الصالح، وخيرنا اليوم من يكون فيه نصف صفاء البوصيري أو ربع يقينه.
وختاما أرجو تكرمكم بنشر هذا إنصافا للبوصيري وبردته المباركة؛ وتبرئة لطائفة كبيرة من الأمة ترمي بالشرك ظلما وعدوانا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1007/46)
بعد السلام النجار
لا زار في شعر شوقي
جاء في الشوقية التي لم تنشر لشوقي قوله:
ود (لا زار) يوم أحياه عيسى ... لو تذوق المنون طعم الفناء
ولا زار اسم عبري الأصل، هو اليعازر أو اليعازار ومعناه (الذي يساعده الله)، وهو بالفرنسية لازار، وبالإنجليزية لازاروس، وقد حرفه العرب قليلا عازر أو عازار، وأورده أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي يمدح بها محمد بن زريق الطرسوسي ومطلعها (هذه برزت لنا فهجت رسيسا)، إذ قال:
أو كان صادف رأس (عازر) سيفه ... في يوم معركة لأعيا (عيسى)
وحبذا لو استعمله المرحوم أمير الشعراء بهذا الشكل لكان أقرب إلى شكل العرب وإلى أصله العبري.
2 - في كتاب معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع ضبطت قرية (ظبا) الواقعة على ساحل مدين بشمالي الحجاز بالطاء. والصواب كما أعتقد أن يكتب الاسم بالضاد (ضبا) لا بالظاء
وفي الباب ذاته قيل (جبة) عن المنهل المعروف في شمالي نجد بين (الجوف) و (حائل). لقد سمعت بنفسي قبائل (شمر) و (الشرارات) القاطنة في تلك القفار ينطقونه (الجوبة) بالواو والجيم والمضمومة. ولما كانت (الجوبة) بفتح الجيم هي الحفر، وما كانت الجبة بعيد عن المقصود، إذ لا جواز لأن تكون مؤنث (الجب) (وهو أيضاً الحفرة أو البئر الواسع)، فقد تكون (الجوبة) أقرب إلى الصواب، والله أعلم.
سامي
تحت مناظر النقد
نشرت الرسالة في عددها الصادر في (6101952) قصيدة
ميمة للأستاذ (ميشيل الله ويردي) بعنوان (وحي البردة)(1007/47)
وقد اضطر الوزن والقافية الشاعر إلى تحريف بعض الألفاظ أو حشوها حشوا بحيث لم تناسب معانيها التي سيقت من أجلها، فالشاعر يقول:
ومن يهم بعظيم يتحد معه ... في الرأي والفكر قبل الوسم والأرم
والوسم بمعنى الجمال خطأ وصحتها الوسامة. . كما أن الأرم بمعنى الخلقة خطأ وصحتها الأرم بسكون الراء. (القاموس المحيط)
ويقول الشاعر:
وشرع أحمد بالقرآن وحدكم ... وجد في أمركم بالحب والسلم
و (سلم) بالتحريك خطأ أيضاً وأصلها (سلم) بكسر وفتح السين وسكون اللام.
ويقول الشاعر:
فأربا بنفسك أن تنهار من ألم ... واربأ بحسنك أن يكمد من سأم
و (يكمد) بتشديد الدال بمعنى (يستحب) خطأ والصحيح يكمد كما في المصباح المنير
ويقول الشاعر:
آياتك الغر إعجاز تنزه عن ... ند وليس دعى الحب كاللدم
ويقول:
إن كان ينجح طب الناس في جسد ... فأنت تفعل بالأرواح كالحسم
ويقول:
فاستجمعوا أمركم فالله وحدكم=والمكر فرقكم في حومة الجسم
فما معاني: اللدم والحسم والجسم التي يقصدها الشاعر والتي تتناسب مع المعنى؟ لا أدري ولا تدري قواميس اللغة. ولا شك أن القافية قد اضطرت الشاعر إلى حشو هذه الألفاظ. وفي القصيدة هذا البيت:
محمد رد من ضلوا وعلمهم ... حق النساء اللواتي كن كالرمم
ولا شك أن تشيبه النساء بالرمم شيء لا يقره الذوق السليم. فإن من طبيعة الرمم أن تعافها العيون وتفر منها الأنوف. وليس هذا من طبيعة الجنس اللطيف. وإذا كان الشاعر قد أراد أن يبين مدى إهمال النساء بالجاهلية وأن يصور النظرة التي كان العرب ينظرونها إليهن فقد كان يجب أن يشبههن بشيء مهمل ولكن ليس قذرا بشعا كالرمم. وكان الأحرى أن(1007/48)
يقول:
محمد رد من ضلوا وعلمهم ... حق النساء اللواتي كن كالبهم
أو كالنعم. فإن العيون لا تأبى أن تقع على البهم كما تأبى أن تقع على الرمم
عبد اللطيف محمود الصعيدي
1 - تصويب
أخطاء في مقالتي في العدد (1005)
الصفحة
العمود
السطر
الصواب
1107
1
6
وأنه لا يكفي فيه
1107
1
13
وأنه لا يوحي أبدا
1108
1
5
(من مشايخ الطرق)
1108
1(1007/49)
17
وهذا كله وإن صح طريقه من أخبار الآحاد لا تثبت به عقيدة. ولا يبنى عليه علم
وأخطاء أخرى في الحروف وعلامات الوقف لا تخفى على القارئ
2 - تصويب
وقع في قصيدة الأستاذ ميشيل الله ويردى هذه التطبيعات فالرجا من القراء تصحيحها
الصفحة
العمود
السطر
الصواب
1121
2
الأخير
ضلوا بدلا من خلوا
1122
1
قبل الأخير
الدم بدلا من اللدم
1122
2
14
تنابذهم بدلا من تنابزهم
1122
2
قبل الأخير
ما الدين بدلا من والدين(1007/50)
شطر (قوم إذا استخصموا) اقتباس يوضع بين وقوسين وقد كان هذا التقديم في مطلع القصيدة فتأخر نشره سهوا.
علي الطنطاوي(1007/51)
القصص
فلوريدور ومرغريت
أقصوصة فرنسية
- أحبك حبا ملأ جوانب نفسي وملك عليّ مشاعري
- لقد وهبتك قلبي عربونا لحب لا انتهاء له
- أحق ما تقولين، أم هذا صدى غرامي تردده الأوهام؟
- يشهد هذا البدر المنير، وهذا الروض النضير، ويشهد مبدعهما أنني لا أحب سواك، ولا أقف حياتي إلا عليك.
وسمع من بعد وقع أقدام فذعر العاشقان، وتواعدا إلى الغد. وتسلق الشاب جدران الحديقة العالية وتوارى مبتعدا في الشارع وهو يناجي نفسه قائلا: من تكون يا ترى هذه الفتاة التي تقف حياتها على، وما أنا إلا ممثل على المسارح العمومية؟ إن كل ما يتجلى لي فيها ينم عن محتد رفيع وثقافة عالية. لقد أرادت أن تخفي اسمها عني فقالت: ما دمت في مدرسة الدير تلميذة أتلقن العلم فما أنا إلا أسيرة لا أملك نفسي، فاقنع بما أعلنته لك من حبي الآن إلى أن أبرح هذا المكان فأطلعك على الحقيقة وأسلمك يدي أمام الله والناس.
وكان الفتى فلوريدور يستعيد ذكرى اليوم الذي رأى فيه لأول مرة هذه الغادة الفاتنة تطل من نافذة الدير وترسل إليه نظرة أو قدت جذوة الغرام في قلبه. وتابع السير حتى وصل إلى غرفته الحقيرة حيث تطرح على سريره أملا زيارة طيف الحبيبة في منامه.
وعاد الفتى في المساء التالي إلى مكان الملتقى، وبات ينتظر موافاة الحبيبة فأخفقت آماله؛ وعاود الكرة مرارا فما رأى في جنة غرامه غير أزهارها، وما نشق غير عبيرها. ومرت الليالي فتيقن العاشق أن سره قد افتضح، وتأكد أن الحبيبة قد غادرت الدير وعبثا فتش عنها فما عثر لها على أثر.
- 2 -
ومرت على العاشق أيام ساعاتها أعوام، وهو يشغل نفسه بالتمثيل على المسارح، وفي قلبه غصص من تذكارات الفتاة المجهولة وفي ذات ليلة كان فوريدور يقوم بتمثيل دور مؤثر(1007/52)
فحانت منه التفاته إلى مقاعد الطبقة العالية، فرأى حبيبته شاخصة إليه وقد ارتسم الحزن العميق على ملامحها وتساقطت من عينيها الدموع. وقف الممثل مشدوها إلى أن نبهه صوت الملقن الذي حسب أنه نسي دوره، فعاد إلى التمثيل بلهجة ملأها الحب روعة وهو يتبع على ملامح من يهوى تأثير إلقائه وإيمائه. وما انتهى من التمثيل حتى هرع إلى غرفته مغيرا أثوابه واندفع إلى مدخل المسرح لعله يرى خالبة لبه. فلم يوفق إلى لقائها؛ وتكررت هذه الحادثة والممثل يحاول عبثا مقابلة الفتاة عند نهاية عمله، إلى أن دخل عليه يوما وهو في لجج ن الأحزان شيخ مهيب تدل أثوابه على أنه من علية القوم، فاستقبله الممثل مستغربا هذه الزيارة، ولكن الشيخ مد يده مصافحا وقال: عفوا أيها الشيد؛ إنني أتيتك ولا معرفة بيننا، ولكن من الأمور ما يجيز تجاوز المألوف؛ ولدي مسألة هامة يتوقف عليها شرفي وسعادتي. أنا نبيل وأنت من كرام الناس فسوف أتناول الموضوع بلا توطئة.
- تكلم يا سيدي، فأنا مصغ
- هب أنك أمير ولك ابنة جميلة في ريعان الصبا وهي وارثة اسمك الوحيدة، وقد وجدت لها عريسا من أعاظم الدولة تحسده الملوك على أمجاده فلم تقبل ابنتك ما أعددته لها من سعادة فماذا تفعل؟
- أترك لها الحرية، وأجتهد أن أكتشف سر قلبها، إذا لعلها وهبت قلبها لمن امتلكها حبه فلا تستطيع مقاومة قضاء الله فيها.
- وإذا عرفت أنها عاشقة؟
- أطاوعها في إرادتها وأساعدها على الاقتران بمن تهوى، فليس بغير الحب من سعادة على الأرض.
- وإذا كان ما تشير به يفوت الإمكان؟
- ولماذا؟
- لأن الفتاة التي أتكلم عنها هي وحيدة الدوق بارسلان أحد نبلاء القصر، وهذا الدوق واقف أمامك الآن، ولأن الذي تهواه ابنتي رجل شريف ولا ريب، ولكنه ممثل.
- فهمت يا مولاي. إن في تنازل ابنة الدوق بارسلان إلى عشق من هو دونها نسباً لعارا تأباه الطبقة المميزة بالألقاب، ولكن ما تعني بهذا الكلام؟(1007/53)
- إذا كان الأمر لا يتضح لديك، فهاأنذا أصرح. إن الممثل الذي امتلك فؤاد وحيدتي هو أنت، أيها السيد فلوريدور.
وصعق الممثل وهتف قائلا - أنا؟
- عفوا، إن في هذا التصريح ما يمس عزة نفسك، ولكنني ألجأ إليك فلا تخيب أملي، فإنك على ما أرى لا تعرف ابنتي وما اجتمعت بها؛ فإذا ما تقدمت إليك بطلب ظاهره مستغرب يؤدي إلى إلزامك بتضحية فلن يصعب الأمر عليك، وعليه يتوقف الإيفاء على شرف اسمي وحياة وحيدتي وهي تعلن أنها لا تريد أن تقترن بغيرك.
- وما هي هذه التضحية؟
- إنك قادر على اقتلاع جراثيم حبك من قلبها
- وبأية طريقة أقتلع ما تسميه جراثيم حبي؟
- أصغ إلي. . . إن وحيدتي لم ترك إلا عن بعد وأنت على المسرح مرتديا أثواب الأبطال تنشد أجمل الأشعار، فمن السهل عليك أن تبدد أوهامها إذا أنت رضيت بالظهور إليها في مظهر الرجل العادي، بل الرجل المتهتك السكير البعيد عن كل تهذيب وثقافة، فتتأكد عندئذ أنها عشقت ثوبا، وأعجبت بما ليس منك بل من أقوال الشعراء. إن ما أكلفك به هو الظهور بهذا المظهر فتحتقرك وتشفى من دائها العقام؛ وهل من قاتل للحب غير الاحتقار؟
استغرق فلوريدور في التفكير. لو كان ما يعتقده الدوق صحيحا من أنه لم يجتمع بالفتاة وما عرفها، لكان هنالك واجب يسهل القيام به، ولكن أنى للقلب الذي ضم المحبوب إليه أن يستهل انسلاخه عنه: ولاحت الفتاة الشريفة الرفيعة المحتد لخيال الممثل واقفة من حبه على شفا جرف تكاد تنزلق عليه هازئة بقلب أبيها واعتقادات من تنتمي إليهم. وطال تفكيره وهو يقابل بين ضحيتها والتضحية التي يعرضها أبوها عليه، فإذا بصوت الشيخ والوقور يرتفع قائلا: لا تتردد، أيها السيد الكريم! إن ما يوجه إليك الآن إنما هو رجاء والد حصر في وحيدته كل ما في الحياة من سعادة ومجد وآمال؛ فما أنا إلا شيخ هاو ضعيف، بل أنا أحد أشراف وطنك أضرع إليك أن تحفظ اسم سلالتي من العار، فلا تدعني أذهب بواجبي إلى القسوة على ابنتي التي لم يترك لي الدهر سواها.
وأدمى كلام الشيخ قلب الفتى، فوعد بالقيام بما يطلب منه لاستئصال حبه من قلب الفتاة(1007/54)
الوحيدة التي ملكت لبه وملأت جوانب نفسه.
- 3 -
وفي اليوم التالي عند الظهر أعلن خادم القصر لسيده الدوق قدوم الممثل فلوريدور. فقال الدوق أدخله إلى البهو الكبير وهاأنذا آت إليه.
دخل فلوريدور البهو وجاء الدوق يصافحه؛ ثم ظهرت الغادة فقال الدوق:
أقدم إليك، يا ابنتي، الممثل فلوريدور الذي أعجبت بتمثيله وهو من كبار أهل الفن، ولذلك دعوته إلى مائدتنا ولعلك تسرين بذلك.
وطأطأ فلوريدور رأسه مفكرا بأية فظاظة يجب عليه أن يبتدئ بتمثيل دوره الذي عاهد الدوق على القيام له؛ ولكنه ما رفع بصره وشهد خالبة لبه حتى علا وجهه الاصفرار، وما مدت يدها لتصافحه وهي ترتجف من الشوق خيل إليه أنه يلصق شفتيه بشفتيها، ويغرق نور عينيه بأنوار عينيها. والتفت إلى ما حوله فارتعش أمام مظاهر الأبهة والبذخ في هذه القاعة تقف بينها فتاة حديقة الدير التي أقسمت له بالله ألا تحول عن حبه ولا ترضى بغيره رفيقا لحياتها، فرأى هاوية سحيقة تنفتح بين رجليه ولاحت له الحبيبة في معتصم من جبل لا قبل له ببلوغه، وتذكر وعده للأب الشيخ المتوسل الضعيف. فتمالك عواطفه وفيها ثورة وسعير.
وجلس فلوريدور إلى المائدة بين الدوق وحبيبته؛ فلما قدم الخدم أول لون من الطعام كان قد ملأ كأسه وأفرغها في جوفه دفعة واحدة، ثم ألحقها بكأس وكأس؛ ثم أخذ يمثل دوره متكلما بلهجة عوام الناس منتخبا ألفاظه السمجة، وما مرت نصف ساعة حتى كان فلوريدور يحملق بعينيه ويقسم ويلعن متدحرجاً تحت المائدة وقد سحب غطاءها معه فتدحرجت الأواني تتحطم بفرقعة أخفت الزفرات التي كانت تندفع من فم شهيد المروءة بالرغم عنه.
ونهضت ابنة الدوق بإشارة من أبيها وقد علا وجهها اصفرار الموت، فتقدم الدوق إلى الفتى قائلا: إن مروءتك تفوق إبداعك في التمثيل، لقد جبرت فؤادي الكسير، دعني أسد إليك الشكر الذي تستحق. ولكن ماذا أرى. . ما هذا الدموع المتدفقة من عينيك أيها السيد؟
ووجم الدوق إذ لم يجبه فلوريدور بكلمة؛ بل اندفع إلى خارج القاعة كأنه فقد رشده مرسلا ما كبته من زفرات وعويل.(1007/55)
- 4 -
ومر فلوريدور بعد أيام قرب دير راهبات الكرمل، فرأى جمعا محتشدا في الأسواق المجاورة، وسمع رنين الأجراس مؤذنة باحتفال كبير، وإذا بعربة مذهبة موسومة بشارات الشرف ووراءها عدد من العربات الأخرى، وكلها فاخرة تجرها الجياد المطهمة. فسأل أحد المتفرجين عن هذا الاحتفال فقال له: هذه عربة الدوق بارسلان تحمله وامرأته لحضور حفلة ابنتهما. .
ولم يقف فلوريدور ليسمع تتمة الحديث؛ بل اندفع راكضا نحو مسكنه الحقير وهو يقول في نفسه: أواه، لقد نجحت في تمثيلي، وهذه الحبيبة تتزوج اليوم بشريف من طبقة أهلها. ويلاه من ظلم الأقدار!
وما آوى إلى غرفته حتى رأى على الخوان غلافا باسمه، فافتض ختمه وقرأ ما يأتي:
(بالرغم من محاولتك اقتلاع حبك من قلبي لم يزل شخصك نصب عيني، فلن أنظر إلى غيرك حتى يواريني رمسي. ما فاتني الجهد الذي بذلته لإرضاء والدي. فقد كنت أقرأ في قلبك حقيقة نفسك وأنت تسدل عليها ستار تمثيلك؛ ولهذا أقسمت ألا اسلم يدي إلى سواك، ولكنك لن تتسلم هذه اليد، فكل شيء يفصلني عنك حتى إرادتك. فهاأنذا أنخرط في سلك الرهبنة لأبر بقسم أقسمته أمام الله في الحديقة بين ذراعيك وأقسمته أيضاً وأنت تخنق زفراتك، وتقضي على كرامة نفسك.
(اليوم أتشح السواد، وأسدل على وجهي النقاب. وهذا الكتاب وهو آخر فكر أوجهه إلى هذه الحياة، وحتى تطلع عليه تكون حبيبتك مرغريت دي بارسلان قد ماتت عن هذا العالم لتحيى بالله. . .)
الراهبة إيناس
ف. ف(1007/56)
العدد 1008 - بتاريخ: 27 - 10 - 1952(/)
رسالة وجوابها
كتب إليَّ السيد محمود عبد السيد حمزة يقول:
(سلام الله عليك
قرأت لك (ثورة فيها ريح النبوة)؛ والحق أنها ثورة مباركة أنعشت لمصر من الآمال ما أذواه العهد البغيض؛ ولكنك يا سيدي اختتمتها بثورتك على الأحزاب والنواب ومهازل الزعامة.
ولما كان لرأيك قدره عندي فهل يا ترى أفهم من كلامك أنك تقر حكم الفرد وأنت الذي فتح باب رسالته على مصراعيه للرأي والمشورة؟ لا تظلم الأحزاب يا سيدي ولا النواب، فمنهم من يزكيهم الله. وإذا أخذنا عليهم بعض الأوزار فوزرهم في عنق من وطد للفساد أركانه. أدع إلى الشورى يا سيدي ولا تيأس؛ فقد ذهب الفساد وعهده ولم يبق إلا الإصلاح فلرأيك قيمته وقدره).
وجوابي عن رسالة السيد الفاضل، أني لا أومن بحكم على نظام معين. وإنما أومن بأي حكم يقوم بنيانه على الشورى، وينبسط سلطانه على العدل. وليس للشورى نظام واحد لا يجوز غيره، ولا للعدالة منهج واحد لا يؤدي سواه. يجوز أن تصدق الشورى على لسان بكانة أو وزارة أو ندوه، كما يجوز أن تتحقق العدالة على إمام أو ملك أو رئيس. إن العبرة بالمعنى لا باللفظ، وبالروح لا بالنص، وبالفكرة لا بالصورة. كان على يستشير، وكان معاوية يستشير؛ ولكن ابن أبي طالب كان يستشير أهل الذكر من صحابة الرسول، وابن أبي سفيان كان يستشير أهل المكر من بطانة الملك. وكان عمر بن عبد العزيز يعدل ويظن لتقواه أنه يجور. وكان الحاكم بأمر الله يظلم ويظن لفجوره أنه يعدل.
إئتنا بمستبد كعمر أو بمشاور كالرشيد، نلق إليه مقاليد الحكم ثم نعيش في ظلاله حكمه بنفسه، أو حكمه بغيره، كما يعيش البنون في كنف الأب، أو المؤمنون في ظلال الله.
أما أن ننقل النظام البرلماني الأوربي من ورق باللغة الإفرنجية، على ورق باللغة العربية، ثم نطبقه على أمة ليس لها رأي عام ولا وعي تام ولا إرادة حرة، فذلك عبث لا ينشأ عنه إلا ملك يقول أنا الدولة وهو كومة من القذر، وبطانة تقول أنا القصر وهي مجموعة من الفحش، ووزارة تقول أنا الحكومة وهي عصبة من السماسرة، وأحزاب يقولون نحن الأمة وهم مناسر من اللصوص، ونواب يقولون نحن الشعب وهم جماعة من المرتزقة؛ ثم(1008/1)
يوهمون الناس بالقوة أو بالخديعة أن جملة هذه المخازي هي الدستور!
إن الدستور يا سيدي نظام في ذاته صالح. ولكنه في مصر حتى يراد باطل، أو انتخاب مزيف يؤدي إلى حكم مربح. والناس في الشرق يعبدون ألفاظ الحرية والوطنية والدستور من غير فهم، وفي الغرب يعبدون ألفاظ الديمقراطية والإنسانية والعدالة من غير إيمان. وعبادة الألفاظ كعبادة الأشخاص أولها جهالة وجمود، وآخرها ضلالة وكفر!
لا ينجح الدستور يا سيدي إلا في بلد يكون أهله جميعا مؤمنين بالله أو مثقفين بالعلم!
أحمد حسن الزيات(1008/2)
الإسلام في موكب الإصلاح
الحكم الوراثي
للأستاذ محمد عبد الله السمان
كانت وثبة الجيش المباركة إيذانا بنهاية حكم إقطاعي جائر. ظلت مصر السنين الطوال ترزح بسببه تحت أعباء ثقال من العنت والإرهاق والشقاء. وتتجرع كؤوسا فائضات من البؤس والأسى والعناء، ولم تكتب وثبة الجيش المباركة نهاية ذلك الحكمالإقطاعي المنقرض إلا وهي مؤمنة بفساده، وبضرورة هدمه من أساسه، لتقيم على أنقاضه نظاما صحيحا يعتمد على أسس سليمة تحقق الخير للشعب والوطن على السواء.
ومن الحقائق التي لا تحتاج إلى نقاش، أن الحكم الإقطاعي المنقرض لم يشد أزره في الماضي المنصرم سوى نظام الحكم الوراثي، الذي كان شرا كله على مصر وطنا وشعبا، فقد كان يخيل إلى الجالس على العرش أن مصر ضيعة له، وان شعبهاعبيد نعمته، كما قدر له أن يظل في جبروته مطمئنا، وفي عدوانه آمنا، لا يرهب الشعب ولا يخشى ثورته، لأن الشعب الذي لم يجلسه على العرش لا يقوى على خلعه عنه، ولأن الشعب الذي اغتصبت بلاده لتكون إقطاعية يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، لا يقوى على انتزاع السلطة من المفروضين على حكم بلادهم فرضاً.
ونظام الحكم الوراثي نظام إقطاعي محض، نكبت به بلاد الشرق، وفي مقدمتها مصر، فقد ضلت الأسرة العلوية تحكمها حكما وراثيا خلال قرن ونصف قرن، فنهبت ما نهبت من خيراتها، وسرقت ما سرقت من أراضيها، وحولت مجرى الثراء إلى أفرادها، حتى بلغوا القمة من الثراء بينما هوى الشعب إلى الدرك الأسفل من الفاقة، ولم تهب لهذا الشعب المغلوب على أمره لحظة من الحرية حتى يرى النور، ولا ذرة من الرخاء حتى يلمس السعادة، لأن الحرية كانت وقفا على الأمراء يجعلون منها حصنا لمجونهم وترفهم وعربدتهم، ولأن السعادة كانت حقا مقدسا لهم وحدهم، ينعمون بها، ويمرحون في ظلها، ويلتمسون بها حياة الدعة ودنيا الأرستقراطية البلهاء!
واليوم يرقب الشعب المصري، ويرقب العالم أجمع معه باهتمام ما جرت الأمور في مصر، وإلى أي نظام ستتجه في حكمها، ولم يعتقد الشعب المصري، ولا الدول المخلصة من دول(1008/3)
العالم، ولا الدول المخلصة من دول العالم، أن نظام الحكم الوراثي سينال لدى المسئولين شيئاً من العطف، وما قام الجيش الباسل بثورته إلا ليقوض أركان الفوضى التي كانت أثرا من آثاره. لقد كان كل من سبق (فاروقاً) إلى الجلوس على العرش طاغية، وسيكون - لا قدر الله - كل من سيخلف فاروقا طاغية أيضا، وكأن مصر لن تتفرغ إلا لمشاهدة الكفاح بين الشعب والطاغية المتربع على العرش، وهي في مسيس الحاجة إلى الاستقرار لتبلغ المكانة الجديرة بها، وليصل شعبها إلى حيث يعيش كريماً أبياً.
ولا ريب في أن القضاء على نظام الحكم الوراثي، خطوة موفقة يرحب بها الإسلام ويفسح لها صدره، لأنه نظام قائم على أسس متراقصة من الباطل، فهو يعتبر الملك في درجة الآلهة، ويعتبر الملك فوق القانون، ويخول لأسرته أن تعيث في الأرض فسادا دون أن يجرؤ القانون على مجرد سؤالها، وهو نظام يفرض على الشعب الوارث للملك ولو كان مخبولاً أو معتوهاً أو فاجراً أو عربيداً.
ولهذا كله ينكر الإسلام أشد الإنكار على هذا النظام المعتل لأن الإسلام أقوى وأعدلمن أن يرضى لإنسان - كائناً من كان - أن يكون فوق القانون، بل إنه يعتبر مسئولية الحاكم أشق من مسئولية العامة، لأنه راع لابد أن يسأل عن رعيته، ولا يعفيه القانون من العقاب ولا أسرته إذا فعلوا ما يستحقون عليه العقاب وهاهو ذا كتاب الله يخاطب محمداً (ص):
. . . (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلاً، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيرا)
وهاهو ذا محمد (ص) يخاطب من حوله في أحرج ساعات الموت:
(إلا من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد).
وهاهو ذا (ص) يخاطب أسامة حين جاءه يشفع في حد من حدود الله:. . لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!
والإسلام يعتبر الحكم من حق المسلمين جميعاً، يولون من يرضونه لدينه وخلقه، ولا يمكن أن يقر احتكار أسرة من الأسر له، ولم يكن في استطاعة محمد (ص) أن يؤثر بالخلافة من بعده واحداً من بني هاشم عصبيته، بل ولم يكن في استطاعته أن يوصي بالخلافة من بعده لأي إنسان. ولقد حدث حين عرض الرسول نفسه على بني عامر أن قال له أحدهم: (أ(1008/4)
رأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك. أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. .)
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يستطيعوا أن يؤثروا بالخلافة من بعدهم أحدا من عصبياتهم ولا أن يفرضوا على المسلمين واحدا من ذوي رحمهم، لان إيمانهم يحول دون أن يخالفوا صاحبهم، أو يحدثوا حدثاً في الإسلام ليشعلوا الفتنة. وأي فتنة أكبر من الحكم الوراثي البغيض، والاستبداد بوضع هو من حق المسلمين على السواء؟
نعم، حدث أن أشار أبو بكر على المسلمين بعمر، كما أشار عمر على المسلمين باختيار واحد من ستة من كبار الصحابة. . مات رسول الله (ص) وهو عنهم راض، وهم (عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام) وان يشهد الانتخاب عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء، حدث هذا وذاك من أبي بكر وعمر، ولكن لم يكن إلا من قبيل النصح والإشارة، لا من قبيل الفرض والإكراه، ولولا أن أبا بكر لمس الموافقة من المسلمين بالإجماع لما كان عمر خليفة، ولولا أن عمر لمس الموافقة من المسلمين بالإجماع لما كان واحد من الستة خليفة، وقد كان يمكن التكلم في حق أبي بكر وعمر، لو أن واحدا منهما أوصى بالخلافة لواحد من أبناءه، ولكن لم يحدث شيء من هذا.
لقد زين المغيرة بن شعبة لعمر أن يستخلف ابنه من بعده فأبى وهو يقول: (لا إرب لنا في أموركم، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد).
ولقد أشير علي كرم الله وجهه وهو يجود بنفسه أن يوصي بالخلافة فقال: (لا آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر بأمور دنياكم)
أما ما حدث في عهد معاوية من استبداده بالأمر وجعله وراثياً من بعده، فلم يكن من الإسلام في شيء، وليس من الحكمة الخوض في هذه المسألة الدقيقة، ولقد يكون معاوية قد تأول فأخطأ وقد يكون قد استبد بالأمر دون تأول، والمهم أن يفهم أن الإسلام يقرر النظم الصالحة، وليس مسئولاً بعد هذا عن استبداد ولاة الأمور ولا يلقي المسئولية إلا على عاتق الرعية المتخاذلة المستضعفة.(1008/5)
ولقد كان عمر بن عبد العزيز واحداً من عصبية معاوية، ولكنه لم يرض عن نظام الحكم الوراثي لأنه لا يعتمد على مشورة المسلمين، وحين آل إليه الأمر بالوراثة صعد المنبر ثم قال:
(أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي مني فيه ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعة، فاختاروا لأنفسكم) فتصارع من بالمسجد وقالوا بصوت واحد: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ولولا هذا الإجماع في الرضا ما قبل أن يكون خليفة بالوراثة، وهو يعلم أن في الحكم الوراثي خروجا عن نظم الإسلام.
وبعد - فإن باستطاعة مصر اليوم أن تتخلص من أوحال الماضي وأوزاره، ولم يصنع هذه الأوحال والأوزار إلا الملكية، التي أثبتت خلال قرن ونصف قرن من الزمن أنها أصل الفساد في كل ما أصاب مصر من التأخر، وأصاب شعبها من التقهقر، ولقد كانت هذه الملكية عقبة في سبيل الإسلام حتى لم يستطع من فوق أرض مصر أن يؤدي رسالته ويجهر بها، فهي التي قدمت للشعب المصري المسلم - وعلى أيدي فجرة بعض رجال الدين - إسلاماً زائفاً هزيلاً لا يمت إلى الإسلام الصحيح بصلة، إسلاماً زائفاً هزيلاً يترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ويدع ولاة الأمور يستبدون ويفجرون ويبطشون، ويقنع الشعب بالصبر والمصابرة، والتسليم والمسالمة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً.
نحن دولة مسلمة، ولا يمكن أن نتهاون في هذه الحقيقة ولو بذلنا آخر قطرة من دمائنا، ومن حق الإسلام علينا أن نجهر بالحق لا نخاف في الله لومة لائم، ومن الحق الذي يجب علينا أن نجهر به اليوم، هو أن الإسلام لا يقر الملكية الوراثية بحال من الأحوال، فليتدبر هذا جيدا المسئولون وغير المسئولين.
محمد عبد الله السماق(1008/6)
زوجتي
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي صديق، معروف بجمود الفكر، وعبادة العادة، والذعر من كل خروج عليها أو تجديد فيها. قال:
- أتكتب عن زوجك في الرسالة تقول أنها من أعقل النساء وأفضلهن؟ هل سمعت أن أحدا كتب عن زوجته؟ إن العرب كانوا يتحاشون التصريح بذكرها، فيكنون عنها بالشاة أو النعجة استحياء وتعففا، حتى لقد منع الحياء جريراً من رثاء زوجه صراحة، وزيارة قبرها جهاراً. وملك بن الريب لما عد من يبكي عليه من النساء قال:
فمنهن أمي وابنتاها وخالتي ... وباكية أخرى تهيج البواكيا
فلم يقل وامرأتي. . وكذلك العهد بآبائنا ومشايخ أهلنا. ولم يكن يقول أحد منهم: زوجتي؛ بل كان يقول: أهل البيت وأم الأولاد، والجماعة، والأسرة، وأمثال هذه الكنايات. أفترغب عن هذا كله، وتدع ما يعرف الناس، وتأتي ما ينكرون؟
- قلت: نعم!
فكاد يصعق من دهشته مني، وقال:
- أتقول نعم بعد هذا كله؟
- قلت: نعم! مرة ثانية. أكتب عن زوجتي فأين مكان العيب في ذلك؟ ولماذا يكتب المحب عن الحبيبة وهي زوج بالحرام، ولا يكتب الزوج عن المرأة وهي حبيبته بالحلال؟ ولماذا لا أذكر الحق من مزاياها لأرغب الناس في الزواج؟ والعاشق يصف الباطل من محاسن العشيقة فيحبب المعصية إلى الناس؟
إن الناس يقرءون كل يوم المقالات والفصول الطوال عن مآسي الزواج وشروره، فلم لا يقرءون مقالة واحدة في وخيراته؟
ولست بعد أكتب عن زوجتي وحدها؛ ولكني كما هوجو يقول: (إني إذ أصف عواطفي أبا، أصف عواطف الآباء)
لم أسمع زوجا يقول أنه مستريح سعيد، وإن كان في سعيداً مستريحاً، لأن الإنسان خلق كفوراً، لا يدرك النعم إلا بعد زوالها؛ ولأنه ركب من الطمع، فلا يزال كلما نعمة يطمع في(1008/7)
أكثر منها فلا يقنع بها ولا يعرف لذتها. يشكو الأزواج أبداً نسائهم ولا يشكر أحدهم المرأة ماتت، وانقطع حبله منها أمله فيها؛ فإنه يذكر حسناتها ويعرف فضائلها. أما أنا فإني أقول من الآن - تحدثاً وإقرارا بفضله - إني سعيد في زواجي وإني مستريح.
وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج، طالب للسعادة فيه، فلينتفع بتجارب من لم يجرب وليسمع وصف الطريق من سالكه من لم يسلك بعد هذا أولها: إني لم أخطب إلى قوم لا أعرفهم، ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني وبينهم. . فينكشف لي بالمخالطة خلاف عنهم، وأعرف من سوء دخيلتهم ما كان يستره حسن ظني، وإنما تزوجت من أقرباء عرفتهم وعرفوني، واطلعت على في بيتهم واطلعوا على حياتي في بيتي. إذ رب رجل يشهد له الناس بأنهم أفكه الناس، وإنه زينة المجالس ونزهة المجامع، وهو في بيته أثقل الثقلاء. ورب سمح هو في أهله سمج، وكريم في أسرته بخيل، يغتر الناس بحلاوة مظهره فيتجرعون مرارة مخبره. .
تزوجت بنتا أبوها ابن عمي لح، وهو الأستاذ صلاح الدين الخطيب شيخ القضاء السوري المستشار السابق والكاتب العدل الآن. وأمها بنت المحدث الأكبر، عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسيني رحمه الله. فهي عريقة الأبوين، موصولة النسب من الجهتين.
والثاني: أني اخترتها من طبقة مثل طبقتنا. فأبوها كان مع أبي في محكمة النقض، وهو قاض وأنا قاض، وأسلوب معيشته قريب من أسلوب معيشتنا، وهذا هو الركن الوثيق في صرح السعادة الزوجية، ومن أجله شرط فقهاء الحنفية (وهم فلاسفة الشرع الإسلامي) الكفاءة بين الزوجين.
والثالث: أني انتقيتها متعلمة تعليما عاديا، شيئا تستطيع به أن تقرأ وتكتب، وتمتاز من العاميات الجاهلات، وقد استطاعت الآن بعد ثلاثة عشر عاما من صحبتي أن تكون على درجة من الفهم والإدراك، وتذوق ما تقرأ من الكتب والمجلات، لا تبلغها المتعلمات، وأنا أعرفهن وكنت إلى ما قبل سنتين ألقي دروسا في مدارس البنات، على طالبات هن على أبواب البكالوريا، فلا أجدهن أفهم منها، وإن كن أحفظ لمسائل العلوم، يحفظن منها ما لم تسمع هي باسمه. ولست أنفر الرجال من التزويج بالمتعلمات، ولكني أقرر - مع الأسف - أن هذا التعليم الفاسد بمناهجه وأوضاعه، يسئ على الغالب إلى أخلاق الفتاة وطباعها،(1008/8)
ويأخذ منها الكثير من مزاياها وفضائلها، ولا يعطيها إلا قشورا من العلم لا تنفعها في حياتها، ولا تفيدها زوجا ولا أما. والمرأة مهما بلغت لا تأمل من دهرها أكثر من أن تكون زوجة سعيدة وأما.
والرابع: أني لم أبتغ الجمال ولم أجعله هو الشرط اللازم الكافي كما يقول علماء الرياضيات لعلمي أن الجمال ظل زائل؛ لا يذهب جمال الجميلة، ولكن يذهب شعورك به، وانتباهك إليه، لذلك نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء ويلحق من لسن على حظ من الجمال، ومن هنا صحت في شريعة إبليس قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق، حين قال لزوجه النوار في القصة المشهورة: ما أطيبك حراما وأبغضك حلالاً!
والخامس: أن صلتي بأهل المرأة لم يجاوز إلى الآن، بعد ثمن قرن من الزمان، الصلة الرسمية: الود والاحترام المتبادل، وزيارة الغب، ولم أجد من أهلها ما يجد الأزواج من الاحماء من التدخل في شؤونهم، وفرض الرأي عليهم، وقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل زوجين ويسخطان، فما دخل أحد منهم يوما في رضانا ولا في سخطنا.
وقد نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين ألف قضية خلاف زوجي، وصارت لي خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها بأنه لو ترك الزوجان المختلفان، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من أولاد الحلال، لانتهت بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج.
والسادس: أننا لم نجعل بداية أيامنا عسلاً، كما يصنع أكثر الأزواج، ثم يكون باقي العمر حنظلاً مراً وسماً زعافاً، بل أريتها من أول يوم أسوأ ما عندي، حتى إذا قبلت مضطرة به، وصبرت محتسبة عليه، عدت أريها من حسن خلقي، فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوما زادت سعادتنا قيراطاً.
والسابع: أنها لم تدخل جهازاً، وقد اشترطت هذا لأني رأيت أن الجهاز من أوسع أبواب الخلاف بين الأزواج، فإما أن يستعمله الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها خوفا عليه، أو أن يسرقه ويخفيه، أو أن تأخذه بحجز احتياطي في دعوى صورية فتثير بذلك الرجل.
والثامن: أني تركت ما لقيصر لقيصر، فلم أدخل في شؤونها في ترتيب الدار وتربية الأولاد؛ وتركت هي لي ما هو لي، من الإشراف والتوجيه، وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة عمامة الزوج وأخذها مكانه، أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها الرأي في(1008/9)
طريقة كنس الدار، وأسلوب تقطيع الباذنجان، ونمط تفصيل الثوب.
والتاسع: أني لا أكتمها أمراً ولا تكتمني، ولا أكذب عليها ولا تكذبني، أخبرها بحقيقة وضعي المالي، وآخذها إلى كل مكان أذهب إليه أو أخبرها به، وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه، وتعود أولادنا الصدق والصراحة، واستنكار الكذب والاشمئزاز منه.
ولست والله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها. فهي من النساء الشرقيات اللائى يعشن للبيت لا لأنفسهن. للرجل والأولاد، تجوع لنأكل نحن، وتسهر لننام، وتتعب لنستريح، وتفنى لنبقى، هي أول أهل الدار قياماً، وآخره مناماً، لا تني تنظف وتخيط وتسعى وتدبر، همها إراحتي وإسعادي. إن كنت أكتب أو كنت نائماً أسكتت الأولاد، وسكنت الدار، وبعدت عني كل منغص أو مزعج. تحب من أحب، وتعادي من أعادي. إن حرص النساء على رضا الناس كان حرصها على إرضائي. وإن كان مناهن حلية أو كسوة فغن أكبر مناها أن تكون لنا دار نملكها نستغني بها عن بيوت الكراء.
تحب أهلي، ولا تفتأ تنقل لي كل خير عنهم. إن قصرت في بر أحد منهم دفعتني، وإن نسيت ذكرتني، حتى إني لأشتهي أن يكون بينها وبين أختي خلاف كالذي يكون في بيوت الناس، أتسلى به، فلا أجد إلا الود والحب، والإخلاص من الثنتين، والوفاء من الجانبين. إنها النموذج الكامل للمرأة الشرقية، التي لا تعرف من دنياها إلا زوجها وبيتها، والتي يزهد بعض الشباب فيها، فيذهبون إلى أوربة أو أميركا ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد وامرأة تحت الإبط، امرأة يحملونها يقطعون بها نصف محيط الأرض أو ثلثه أو ربعه، ثم لا يكون لها من الجمال ولا من الشرف ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة للمرأة الشرقية؛ ولكنه فساد الأذواق، وفقد العقول، واستشعار الصغار، وتقليد الضعيف للقوي. يحسب أحدهم أنه تزوج امرأة من أميركا، وأي امرأة؟ عاملة في شباك السينما، أو في مكتب الفندق، فقد صاهر طرمان وملك ناطحات السحاب، وصارت له القنبلة الذرية، ونقش اسمه على مثال الحرية. .
إن نساءنا خير نساء الأرض، وأوفاهن لزوج، وأحناهن على ولد، وأشرفهن نفساً، وأطهرهن ذيلاً، وأكثرهن طاعة وامتثالاً وقبولاً لكل نصح نافع وتوجيه سديد. وإني ما ذكرت بعض الحق في مزايا زوجتي إلا لأضرب المثل من نفسي على السعادة التي يلقاها(1008/10)
زوج المرأة العربية (وكدت أقول الشامية المسلمة، لعل الله يلهم أحدا من عزاب القراء العزم على الزواج فيكون الله قد هدى بي، بعد أن هداني!
دمشق
علي الطنطاوي(1008/11)
مع البائسين
عبد الحميد الديب
الأستاذ محمد رجب بيومي
كتبت في الرسالة (958) مقالاً عن الشاعر البائس المرحوم محمد إمام العبد، وقد خطر لي أن أتبعه بمقال عن زميله الشاعر البائس عبد الحميد الديب رحمه الله، وما زلت أترقب فرصة الحديث عن الشاعر حتى سنحت اليوم.
وقد لاحظت أن الرجلين متشابهان في أكثر من وجه، فكلاهما بائس معدم حاربه الدهر في رزقه، ووقف أمامه يسد السبيل عليه إلى الحظوة والسعادة والجاه.
وكلا الرجلين شاعر ملهم يصوغ خواطره وأشجانه مستلهماً واقع حياته، وظروف معيشته، فتأتي قصائده حارة ملتاعة، تنطق بالكآبة، وتتسم باللوعة والقنوط.
وكلا الشاعرين - رغم فاقته المدقعة - كان مجالا للفكاهة والتندر، فتارة يبتدع النكتة المرحة، والملحة العابثة، وتارة تدور عليه القفشات البارعة، ويتخذ منه أداة للترفيه، والترويح في المجالس والمنتديات.
وكلا الشاعرين قد اضطر اضطراراً إلى التجارة بالشعر، فكان يكتب القصيدة في أي موضوع يملى عليه، ويبيعها إلى المتشاعرين نظير مبلغ خاص يرتزق به، ثم تنشر في الصحف بعد ذلك ممهورة باسم المشتري المحتال.
وكلا الرجلين - أخيراً - دميم الخلقة، عبوس الوجه، ممزق الثوب يحمل رائيه على السخرية والعبث به، لولا ما يرفرف في أضالعه من روح عذبة لطيفة، تبعث في محضرها أنواعاً مرحة من الخفة والبشر والابتهاج.
نشأ إمام في كنف عبدين رقيقين، ونشأ عبد الحميد في ظل أسرة متوسطة بإحدى قرى المنوفية، كان عائلها يتاجر بالقطن فأصاب ربحاً جزيلا منه، ثم عصف به سوء الحظ فتحول إلى المتربة والإدقاع، وتقلب فتاه معه في حالتيه، فرفل في مطارف النعمة والسعادة حينا، ثم احترق في لهيب الفاقة والحرمان حينا آخر.
وقد كان هذا التناقض المفاجئ في حياته ذا أثر هام في شخصيته، فقد أورثه تناقضاً ملحوظاً في طباعه، فكان سريع الغضب والرضا معا، يضحك فجأة ويسخط فجأة، ويمدح(1008/12)
ويشتم، ويتفاءل ويتشاءم، ويلحد ويستغفر، كل هذا في آن واحد ومجلس واحد، مما جعل أصدقائه يتقبلونه ويألفونه دون أن يجدوا فيه موضعا للمؤاخذة والعتاب.
وقد نشأ إمام العبد في جيل لا يشجع الأدب والأدباء، فالأمية فاشية، والصحافة تسير بخطى متعثرة، والقراء هم الأدباء أنفسهم، إلا ما ندر من الأغنياء والموظفين، لذلك سدت أمامه سبل العيش ولم يجد في الشعر والأدب متجراً رابحاً يدر عليه الرزق والمال!! ولكن عبد الحميد نشأ في جيل يختلف عن جيل صاحبه فقد كثر عشاق والأدب والصحافة، وأصبح الأدباء يرتزقون بثمرات أفكارهم، وأسلات أقلامهم. وهنا نجد أنفسنا نواجه سؤالاً هاماً تتحتم الإجابة عليه، فهل كان عبد الحميد الديب يائساً حقا؟ أم أنه قد احترف البؤس احترافاً، وكان في متناوله أن يصبح سعيداً محظوظاً، كأصدقائه من الكتاب والشعراء؟ لقد سمعنا كثيراً ممن يبكون عبد الحميد، يتحسرون على شبابه الضائع في أمة لا تقدر الأدب، ولا تعترف بالمواهب، فهم ينحون يا للائمة على مجتمع يهمل النابغين، ويحتقر المواهب والكفايات!!
سمعنا ذلك، وقرأناه مرات ومرات، ولكنا قرأنا في مجلة الرسالة (796) رأياً آخر للكاتب الفاضل الأستاذ عباس خضر، يتهم به الشاعر باصطناع البؤس واحترافه، ويدفع عن مصر ما ينسب إليها - ظلماً - من احتقار المواهب والنبوغ، وسننقل هنا خلاصة هذا الرأي الفريد، ثم نعقب عليه بما نراه:
قال الأديب البارع الأستاذ عباس (إنما يأتي البؤس والحرمان من التعفف مع عدم القدرة على الارتزاق، وقد كان الديب على عكس ما يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، إذ كان من العفاة السائلين، وكثيرا ما هيئت له أسباب العمل، فقد وظف عدة مرات في التدريس بمجالس المديريات، وطالما دعا إلى التحرر بالصحف والمجلات، فكان يبدأ العمل، وينقطع عنه بعد قليل، وفي بعض الأحيان كان يحتال لأخذ المرتب مقدما ثم يذهب ولا يعود).
ويقول الكاتب الفاضل بعد كلام طويل يدور حول ذلك (هذه هي الحقيقة في حياة عبد الحميد كما يعرفها خلطاؤه، لا كما يحلو لبعض الناس أن يصورها، فلم يكن البؤس يأتي إليه قدراً لا يد له فيه، وإنما كان يصنع البؤس صنعاً، كان يحصل على المال فيبذره تبذيراً في أدنأ الوجوه، وأقذر البيئات، ثم يجوع ويعرى، بصنيعه، وكانت تعوزه الكرامة والإباء(1008/13)
والعفة، ليكون بائساً حقيقياً، وكان لا يتحرج من أية وسيلة للاستفادة المادية، ولا يتورع عن أي شتم، ولم ينجو من هجوه أحد من عرفهم سواء أعطاه أم منعه، فعلى الناعين على هذا الوطن جحوده وإهماله النابغين من أبنائه أن يلتمسوا المثال في غير عبد الحميد الديب، ويعفوا التاريخ من التزوير والتزييف).
هذا هو رأي الأستاذ عباس خضر! ونحن نخرج منه بنتيجتين، أولها أن المجتمع المصري قد قدر الشاعر، وفتح له أبواب الرزق فسدها بيديه، وثانيهما أن الديب قد اصطنع البؤس اصطناعاً وكان في مكنته أن ينعم بالمال والسعادة، لو سلك الطريق القويم!!
ونحن نوافق على النتيجة الأولى، فنبرئ المجتمع المصري من احتقار المواهب ممثلة في الديب، فقد مهد للشاعر سبيل الرزق، وأعد له الوظيفة اللائقة، ومنحه الزملاء والأدباء ما يكفيه من المال لو اعتصم بالحكمة والسداد. هذا حق لا مرية فيه، وعلى الناعين على الوطن إهماله وجحوده أن يلتمسوا المثال في غير الديب كما يقول الأستاذ عباس - كأن يلتمسوه مثلا في إمام العبد، الذي نشأ في جيل غير جيل عبد الحميد، فكابد من الجوع والحرمان ما أورثه التعاسة والشقاء!!
أملا النتيجة الثانية، فسنخالف فيها الكاتب مخالفة صريحة، فقد كان الديب ملتاث العقل، لا يعي ما يصنع، بل تضيق به نفسه فيترك الوظيفة، ويهيم على وجهه دون أن يستمع إلى منطق أو تفكير سليم، وهذا الذي لا يملك زمام نفسه. بل يهوي به الشرود والذهول إلى هوة مؤلمة، فيمزق ثوبه وحذاءه، ويتراكم الغبار على رأسه الأشعث، ووجهه الشاحب، وأسنانه الصفراء، ثم يرسل الضحكات بلا مناسبة، ويرفع الصوت عاليا دون مبرر، ويبكي ويضحك في آن واحد، هذا الذي يفعل ذلك كله، لا يكون ممتعاً بكامل قواه العقلية حتى يصنع البؤس ويحترفه، وكل ما يقال عنه أنه تائه شريد، لا يعي مصلحته، ولا يقدر نفعه، فهو - إذن - جدير بالرحمة والإشفاق.
لو كان الديب يصنع البؤس عامدا، ويتخيره عن رؤيا وتفكير، ما دفع به الحظ التعس إلى مستشفى الأمراض العقلية، فيقضي شهوراً مؤلمة بين عالمه الطبيعي المزدحم بالمرورين والمجاذيب، ولكنه جن جنوناً حقيقياً، فانحدر إلى هذا المهوى السحيق.
لو كان الديب يصنع البؤس عامداً ما قضى شهوراً مريرة في السجن، تكتنفه الظلمات،(1008/14)
وتتغشاه الغياهب، ويجاور السفلة من المجرمين والأوغاد، ويقول عنهم في حنق وآسف:
بنو آدم من حولنا أم عقارب ... لها في الحشا قبل الجسوم دبيب
لقد كنت فيهم يوسف السجن صالحا ... أفسر أحلاما لهم وأصيب
لو كان الديب يصنع البؤس عامداً، ما قطع الليالي الباردة في زمهرير الشتاء، هائما في الطرقات، تتقاذفه الشوارع والأزقة، وينهمر المطر فوق رأسه، وترتعش أضالعه، وتصطك أسنانه كالمقرور، ولا يدري أين يذهبويلتجئ، حتى يسمع صوت المؤذن في الفجر، فيعلم أن المساجد قد فتحت أبوابها للتائهين، فيهرع إليها محتمياً بجدرانها من السيول الدافقة، ويجد نفسه مدفوعا إلى الصلاة بدون رغبة سابقة، فيقول:
إذا أذنوا للفجر قمت مسارعا ... إلى مسجد فيه أصلي وأركع
أصلي بوجدان المرائي وقلبه ... وبئست صلاة يحتويها التصنع
لم كان الديب يصنع البؤس عامداً، ما ترك دار العلوم دون أن يتم سنواتها الدراسية، وقد كان قريبا من مؤهلها الذي يضمن له الهدوء والاستقرار، دون أن يتساقط على الفتات.
لو كان يصنع البؤس عامدا، ما كابد هذه الشرور والأهوال، ولكنه ذو عقل ملتاث يدانيه من المخاطر، ويباعد عن الأمن والاطمئنان، وأمثاله كثيرون ممن تضج بمآسيهم الحياة، ولا يجدون الراحة في غير المقابر الحالكة، بعد أن يطوفوا طويلاً بالسجون والمستشفيات؟! أليس هو القائل:
جوارك يا ربي لمثلي راحة ... فخذني إلى النيران لا جنة الخلد
فماذا بعد الحنين إلى الموت والفزع من الحياة؟!
ولم يكن جنون الديب دائماً، بل كان متقطعا يواتيه الفينة بعد الفينة، وبذلك استطاع أن ينظم الشعر الرائع، وأن يخلد ذكره بين الأدباء، كما خلد المجنون الأكبر قيس حديثه بين العشاق.
ونحن لا نستطيع أن نحكم على شعره حكما صادقاً صريحاً، لأن عبقريته الفائقة تجلت في أهاجيه المريرة اللاذعة، وهي لم تنشر على الناس في كتاب، ولا يسمح من يحفظها من أصدقائه بتدوينها في صحيفة أو كتاب، لبشاعة ما تحمله من التجني، والإسفاف. فكيف نحكم عليها وهي ما تزال في طي الكتمان! على أني قرأت كثيراً مما نظمه في بؤسه(1008/15)
وحرمانه، فوجدته يتمتع بسلاسة اللفظ ووضوح المعنى، وصدق العاطفة، وكان يصور شجونه كما ترتسم في نفسه، دون أن تتعمق به الفكرة أو يطير بجناحه الخيال، وإنما يقتصر على الوصف الصادق، لشعوره المتألم، وإحساسه الملتاع، كأن يقول:
أفي غرفتي يا رب أم أنا في لحدي ... ألا شد ما ألقى من الزمن الوغد
فأهدأ أنفاسي تكاد تهدها ... وأيسر لمسي في بنايتها يردي
تراني بها كل الأثاث، فمعطفي ... فراش لنومي، أو وقاء من البرد
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها ... فأرجله أمضى من الصارم الهندي
تحملت فيها صبر أيوب في الضنى ... وذقت هزال الجوع أكثر من غاندي
أو يقول:
أرى الحوادث آسادا مقذفة ... على دون الورى تعدو وتقتتل
فكم تصوح عودي بعد نضرته ... وكم خبا في دياجي عمري الأمل
كأن حظي رحيق الدهر يشربها ... بكراً معتقة، فالدهر بي ثمل
إذا تطلبت عيشي مت من كمد ... وإن تطلبت حيني يبعد الأجل
جوعان، يا محنة أربت على جلدي ... كأن ليلي بيوم البعث متصل
أو يقول:
أذله الدهر لا مال ولا سكن ... حتى تزيد على أنفاسه المحن
إذا سعى فجميع الأرض قبلته ... وإن أقام فلا أهل ولا وطن
مهاجر بين أقطار الأسى أبداً ... كأنه بيد الأرزاء مرتهن
كأنه حكمة المجنون يرسلها ... بغير وعي، فلا تصغي أذن
هذه بعض النفثات الحارة التي نفس بها الشاعر عن صدره، وهي قريبة من نفثات إمام العبد التي نشرنا بعضها بالرسالة. والشاعران كما يلاحظ القارئ متماثلان في الغرض والمعنى والصناعة، ولكن بيئة إمام الشعرية لم تكن تسمح بالابتكار والتنوع، كما سمحت بيئة الديب، فقد وجد من شعراء عصره ونقاده، عمالقة موهين ذهبوا بالشعر مذاهب مختلفة، وفتحوا لها آفاق شاسعة رحيبة. وطبيعي أن يتأثر بما يقرأ ويسمع، لذلك نجده يجنح إلى الشعر التحليلي في قصائده التي نشرها بالمقتطف، كما يميل إلى الشعر(1008/16)
القصصي فينظم منه قصيدتيه: (أحزان الأسد)، (ووفاة القمر) وفيهما طرافة وأناقة في المعاني والأساليب. وقد وفق توفيقا رائعاً في قصيدته (غنى الجار) فجاءت مثالاً جميلاً للتصوير الصادق، الموشى بحلة جميلة من الأناقة والسلاسة. وقد تغلغل الشاعر إلى أعماق جاره الثري الشحيح فرسم كبرياءه وغروره، وصور اشمئزازه المفتعل، وتعاليه الوضيع، وأضفى على أولاده من البهجة والأنس أفوافاً ناضرة، ثم انحدر به إلى أسفل دركات الإنسانية، حين جعله يجثو ذليلاً ضارعاً، أمام دريهمات حقيرة، يستلها من جيب مفلس محتاج!! وقد بلغت خطراته الشعرية من الجودة مبلغاً رائعاً، وهي جديرة بأن تكون ختاماً طيباً لهذا المقال
قال المرحوم عبد الحميد الديب:
على القرب مني كنز قارون ماثلاً ... ولما أنل منه سوى حرقة اليأس
تكبر فالألفاظ منه إشارة ... كأن عباد الله طرا من الخرس
وإن نطق الفصحى فمن طرف أنفه ... كنفخة ذي جاه ريع من الفرس
له أسرة كالروض زهراً وصادحاً ... فمن شمها ألفى ملائك فردوس
بنون بنات كالورود ملابساً ... يمرون كالإصباح معتدل الطقس
يمر على سكناي في ذيل بيته ... مرور عيون الموسرين على الفلس
صحوت على قصف الرياح وصوته ... وما أحدث الطرق الشديد من الجرس
يطالبني بالأجر في غيض بائع ... تصيده المحتال بالثمن البخس
وأسمعته صوت الدراهم فانحنى ... يقدم أعذار اليهود من الوكس
وأخضع فقري كبره وثراءه ... وأي غنى للحر غير غنى النفس
أبوتيج
محمد رجب البيومي(1008/17)
تركيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
دولة يثير اسمها في نفوس المصريين ذكريات وشجوناً
وأمة كان لها في التاريخ صولة وجولة وكان لها مركز عظيم ومقام كبير، ثم دار الزمن دورته فدالت دولتها وهانت وذلت إلى أن أصبحت كرة في يد اللاعبين من أمم الغرب.
وكان ساسة أوربا يتحدثون عنها طوال القرن التاسع عشر وينعتونها باسم الرجل المريض (المحتضر).
إلى أن جاءت سنة 1920 فنهض بطل من أبنائها وقائد من قوادها هو مصطفى كمال أتاتورك فأعاد إليها مجدها ورد إليها روحها وبث في أبنائها قوة وعزة فوقفت من جديد على أقدامها.
لكن تركيا الحديثة اتجهت في سياستها اتجاهاً جديداً؛ فولت وجهتها شطر أمم الغرب وحاولت أن تقطع صلتها بالشرق: عمدت إلى أزياءها فغيرتها وإلى مألوف عاداتها وتقاليدها فبدلتها. . وحتى الدين لم تحرص الدولة على أحكامه ولم يعد دينها الرسمي.
لقد وقع أتاتورك في خطأ جسيم إذ اعتقد أن ما أصاب تركيا من ذل وهوان وضعف واضمحلال إنما يرجع في أساسه إلى الخلافة، وفات هؤلاء إلى أن فساد الخلفاء لا يرجع إلى فساد الدين وإنما يرجع إلى أشخاص الخلفاء؛ وأن ضعف الخلفاء ليس مصدره الدين وإنما مصدره انحراف الخلفاء عن كنه العقيدة وعما يأمر به الدين. وهكذا وقع الكماليون في الخطأ. . ولكن الأتراك وإن أطاعوا ظاهرياً إلا أنهم احتفظوا بعقيدتهم سليمة كما وضح لنا أخيراً.
وقطعت تركيا علاقتها بالدول الشرقية إذ أرغمت بسبب هزائمها في الحرب العالمية على أن تنسحب من الدول الشرقية: من مصر وبلاد العرب وبلاد العراق وفلسطين والشام وغيرها. وقد اعتقد الأتراك خطأ أنهم نزلوا عن عبء باهض كانوا يحملون، والحقيقة أن هذه الأمم قد تنفست الصعداء حين زال عنها الكابوس التركي.
لقد نظرت هذه الأمم إلى علاقتها الماضية بتركيا وإلى تاريخ الحكم التركي فلم تجد فيه شيئا يسر أو يرضي. لقد قام الحكم التركي على الاستغلال والظلم. والطغيان والاستبداد.(1008/18)
لقد كان الحكم التركي يهدف أولاً وأخيراً إلى جمع المال لتنفق على موائد الخلفاء في ترفهم ولهوهم. وكان المال يجمع بطرق وحشية فيها غلظة وفيها تعذيب وفيها جلد وحبس إلخ.
ولم يكن الأتراك يهتمون بإصلاح حال رعاياهم ومن ثم شلت كل حركة للإصلاح وكانت جناية الأتراك على الشرق فظيعة قاسية.
وانزاح الكابوس التركي ولكنه ترك وراءه أمماً ضعيفة، تستطيع أن تدافع عن كيانها، ومن ثم سقطت هذه الأمم في يد الدولة الأجنبية فوضعت العراق وفلسطين تحت الانتداب الإنجليزي وسوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وأما مصر فكانت تحت الحماية البريطانية!! وهكذا كانت جناية الأتراك على الشرق.
على أن هذه الأمم جاهدت الاستعمار والمستعمرين وظفر بعضهم باستقلاله كاملاً وما يزال البعض الآخر يجاهد في سبيل استكمال أسباب استقلاله وسيادته عن قريب سيزول بأمر الله كل أثر للاستعمار البغيض في الشرق.
وقد كان يحز في نفوسنا نحن المصريين ما كان يترامى إلى أسماعنا من أن تركيا تعارض في جلاء القوات البريطانية عن أرضنا باعتبار أن مصر قاعدة ضرورية لحماية ظهر تركيا. وقد كان ذلك يؤلمنا أشد الألم، فقد كنا نتوقع أن تقف تركيا في صفنا لا ضدنا وكنا نتساءل إذا كانت تركيا ترغب في أن يحمي الإنجليز أرضها فلما لا تسمح لهم باتخاذ قاعدة في بلادها وحينذاك يكونون أقرب إلى حمايتها وأسرع إلى نجدتها وإنقاذها؟
وقد حدثتنا الصحف أخيراً أن تركيا تتجه الآن في موقفها السياسي إزاء مصر اتجاهاً جديداً يهدف إلى تأييدها في طلب الجلاء الناجز عن أرضها واعتبار القاعدة الإستراتيجية في منطقة القنال قاعدة ثانوية. . وكانت تعتبر من فبل ضرورية لحماية ظهر الجيش التركي.
ونحن نحمد لتركيا أن تعدل من سياستها وأن تقف بجانب أخواتها المكافحات في سبيل الحرية فإن ذلك خير لها وأجدى.
وجدير بي أن أذكر أن سياسة تركيا الخارجية إنما يمليها عليها موقعها الجغرافي، فهي تقع في ملتقى قارتين، أوربا وآسيا، وتفصل بين بحرين، البحر الأبيض والبحر الأسود، وتصل ما بينهما بواسطة بحر مرمرة وبوغازي الدردنيل والبسفور وبحر إيجه.
وقد نشأ عن هذا الموقع عدة مشاكل أهمها مشكلة البوغازات وما عرف في التأريخ باسم(1008/19)
المسألة الشرقية.
فأما مشكلة البوغازات فأساسها سيطرة تركيا على بوغازي الدردنيل والبسفور وتحكمها في الملاحة بين البحرين الأسود والأبيض، ذلك أن روسيا لها شواطئ على البحر الأسود وهي تسعى دائما للوصول إلى البحر الأبيض، وسفنها مضطرة على أن تمر ببوغازي الدردنيل والبسفور الواقعين بيد تركيا، وهكذا كانت السفن الروسية ولا تزال تحت رحمة الدول المسيطرة على البوغازات، ومن هنا نشأ الخلاف بين تركيا وروسيا وقامت بينهما الحروب.
وفي سنة 1809 كانت إنكلترا تناصب نابليون سيد أوربا العداء وفي الوقت نفسه كان نابليون حليف روسيا إذ ذاك، وكانت الحرب قائمة بين روسيا وتركيا، ومن هنا قامت صداقة بين إنجلترا وتركيا إذ كانتا عدوتين لروسيا ونابليون، فوقعت روسيا وإنكلترا معاهدة سنة 1809 عرفت باسم معاهدة البوغازات في وجه السفن الحربية الأجنبية، ومن البديهي أن المقصود بالسفن الأجنبية إنما السفن الروسية، إذ ليس ثمة صالح لإنجلترا أن تدخل البوغازات.
وقد انتهت حروب نابليون بهزيمته، وقام تحالف إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا ولكن معاهدة البوغازات ظلت قائمة.
وفي سنة 1830 قامت الحرب بين محمد علي وتركيا، وتدخلت روسيا للدفاع عن عدوتها التقليدية تركيا ضد محمد علي، ودبت عقارب الشك في نفس إنجلترا فتدخلت وانتهى الخلاف بين محمد علي والسلطان سنة 1841 ونصت المعاهدة الدولية على الاحتفاظ بالمبدأ السابق في معاهدة البوغزات.
وفي سنة 1853 قامت حرب القرم بين روسيا في جانب، وتركيا وإنجلترا وفرنسا في جانب آخر، وقد انتصر الحلفاء ضد روسيا. وفي معاهدة باريس سنة 1856 تقررت حيدة البحر الأسود ومنعت روسيا من إقامة حصون عليه وحرم عليها أن يكون لها به سفن حربية، وتقرر الاحتفاظ بالمبدأ السائد في معاهدة البوغازات وهو إغلاق البوغازات في وجه السفن الحربية الأجنبية.
ولكن روسيا مزقت نصوص المعاهدة في سنة 1870 منتهزة قيام الحرب بين فرنسا(1008/20)
وألمانيا، وفي سنة 1877 قامت الحرب بينها وبين تركيا وتدخلت إنجلترا وأنذرت روسيا بأنها إذا هاجمت القسطنطينية عاصمة تركيا فستضطر إلى التدخل، وأذعنت روسيا لتهديد إنجلترا ووقعت مع تركيا معاهدة سان استفانو التي عدلت في مؤتمر برلين سنة 1878 وعقدت معاهدات احتفظ فيها بمبدأ إغلاق البوغازات في وجه السفن الأجنبية.
وقد مزقت هذه المعاهدة أملاك تركيا في أوربا، فقد استقلت عنها رومانيا والجبل الأسود والصرب (يوغسلافيا) ونالت بلغاريا استقلالاً ذاتياً واسع النطاق، واستولت إنجلترا على قبرص وأخذت روسيا قارص وباطوم، وكان اليونان قد حصلت على استقلالها منذ سنة 1829، وهكذا تحطمت الإمبراطورية العثمانية في أوربا وجثمت الدول الأوربية الكبرى على صدر تركيا.
أحفظ ذلك تركيا فلجأت إلى ألمانيا وقامت بينهما علاقات صداقة، وقد وقفت تركيا إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية سنة 1914 - 1918.
ولما هزمت ألمانيا وحلفاؤها مزقت الدول المنتصرة أملاك تركيا خارج أوربا، بل أن أراضي تركيا نفسها كانت موضع النهب والتنافس بين الدول العظمى والدول الصغيرة، ولولا أن الله قد بعث لتركيا مصطفى كمال لضاعت إلى الأبد.
وفي خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1939 - 1945 وقفت تركيا على الحياد فأفادت من ذلك كثيراً: أولا استطاعت أن تقوي جيشها وأن تجعله مستعداً للدفاع عن أراضيها إذا تعرضت لخطر. ثانيا: جنب هذا الحياد تركيا ويلات الحرب وكوارثها، وما الحرب في هذه العصور إلا الدمار والخراب والفناء والبؤس والشقاء.
وقد أعلن تشرشل أن العامل الوحيد في منع قيام الحرب الثالثة. هو الخوف من ويلات الحرب. وها نحن نرى بأعيننا آتون الحرب الملتهبة في كوريا ونلاحظ أن الدول تلقي فيه من الوقود بقدر مخافة أن تزداد النار اشتعالاً فتلتهم العالم كله.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية انقسمت الدول المتحالفة إلى كتلتين: إحداهما شرقية تتزعمها روسيا، والأخرى غربية تتزعمها أمريكا وإنجلترا. ولما كانت روسيا تطمع دائما في الاستيلاء على القسطنطينية والبوغازات لتتمكن من الوصول إلى البحر الأبيض، ولما كان هذا لا يتأتى إلا على حساب تركيا فقد انضمت تركيا إلى المعسكر الغربي حرصاً على(1008/21)
سلامتها.
ولكن خوف تركيا على سلامتها يجب ألا يدفعها إلى الوقوف في وجه الأماني القومية المصرية؛ فهناك القاعدة البريطانية العسكرية في قبرص وهي قريبة منها، وقد أخذت إنجلترا قبرص من تركيا سنة 1878 نظير تعهدها بالدفاع عن أراضيها.
للبحث صلة
أبو الفتوح عطيفة(1008/22)
من أدب التاريخ
أبو مروان الخرائطي
للأستاذ محمود عزت عرفة
في عام 229 من الهجرة حبس الخليفة العباسي الواثق كتاب دولته وألزمهم مغارم جسيمة، متهما إياهم بالخيانة واحتجان المال.
وكان بين هؤلاء: أحمد بن إسرائيل، وسليمان بن وهب كاتب إيتاخ القائد، وأخوه الحسن بن وهب، وأحمد بن الخصيب، وإبراهيم بن رباح، ونجاح بن سلمة، وأحمد بن خالد الملقب بأبي الوزير.
وقد تولى تدبير هذا الأمر محمد بن عبد الملك الزيات وزير الواثق. وكان ابن الزيات - على رجاحة عقله ووفور علمه وأدبه - ينطوي على أبلغ ما تنطوي عليه جوانح رئيس من القسوة والظلم والاعتساف.
وكان سليمان بن وهب من أشد هؤلاء المنكوبين تعرضاً للأذى، وإن كان قد خلص بنفسه من العطب تحت شروط ثقال ارتضاها وأقر بها. ويسجل الطبري ذلك في تاريخه فيقول:
(أمر الواثق بحبس سليمان بن وهب كاتب إيتاخ، وأخذه بمائتي ألف درهم - وقيل دينار - فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم. وسأل أن يؤخر بالباقي عشرين شهراً، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد).
ويروي القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة): بإسناد لسليمان بن وهب نفسه، قوله:
(كنت في زمن محمد بن عبد الملك في أيام الواثق لما صادرني عن كتابة إيتاخ على أربعمائة ألف دينار، وقد أديت منها مائتي ألف ونيفاً. فاستحضرني يوما وطالبني بالباقي، وحدني فيه وأرهبني، ولم يرض مني إلا أن أجبت أن أؤدي خمسين ألف دينار قاطعة للمصادرة، على أن يطلق ضياعي. .)
جلس محمد بن عبد الملك الزيات يوما يجد في مطالبة هؤلاء المنكوبين ويمعن في إرهابهم واحدا بعد الآخر. فلما كانت نوابه سليمان أعاد عليه المطالبة وأغلظ له في القول، وسامه أن يقر كتابا بقدر من المال جسيم. وقبل أن يأخذ خطه بما قرره عليه خرج من دار الحرم(1008/23)
خادم صغير ودس في يد الوزير رقعة مكتوبة، فلم يستوعب بنظره كليماتها حتى نهض في إثر القاضي معجلاً.
وكان من بين الحاضرين الحسن بن وهب أخو سليمان، وهو لا يزال موضع رضا الوزير، وإن كان ليخشى أن يتحدث إليه في شأن أخيه فهو يشهد ما يجري عليه وقد انطوت نفسه على أسف بالغ أسى كظيم.
. . كان قصارى جهد الحسن إذ حضر مجلس المطالبة - وهو يحضره غالبا بحكم موضعه من خدمة الوزير - أن يستقبل أخاه بنظرات التشجيع، ثم يشيعه وهو خارج يجر قيوده بنظرات ملؤها الأسف والإشفاق.
ولكن الحسن في ذلك اليوم كان على غير عادته، يلوح كمن يسر خبراً مفرحاً تكاد تنطق به قسمات وجهه. ولعل أخاه على شغله الشاغل بنفسه استشف من ذلك شيئاً، فبادله نظرات خفية فيها الحيرة وفيها التساؤل. ولم يمتد هذا الموقف بالأخوين كثيراً؛ فقد انتهز الحسن فرصة تغيب الوزير بدار حرمه وألقى إلى سليمان برقعة لطيفة استقرت في حجره، فراح يلمسها بأنامله في اضطراب ثم بسط ثناياها وقرأ هذه العبارة بخط أخيه: (جائني الخبر الساعة من دارك أنك قد رزقت ابناً، خلقاً سوياً، وهو جسم بغير اسم. فما تحب أن يسمى ويكنى؟)
واتجه سليمان بنظره إلى ناحية أخيه ثم همس: عبيد الله. . أبو القاسم!
وسرت في سليمان منذ هذه اللحظة روح جديدة، وتداخله فيما قرأ سرور وقوة نفس. وفي حلم خاطف من أحلام اليقظة رأى ابنه طفلاً رضيعاً، ثم غلاماً، ثم فتى يافعا، ثم رجلاً قوي الأسر كامل النفس موفور الحلم، يتبوأ المناصب الخطيرة، ويشد من أزر أبيه بماله وبجاهه.
وعاد الوزير بعد حين إلى مجلسه فأمسك قليلاً، ثم أقبل يعيد المطالبة على سليمان، ويريده أن يوقع على ما رضي الإقرار به. فما أدهشه إلا أن يرفض مرة، ويستمهل أخرى، ثم هو فيما بين ذلك يجادل ويدافع، ويدلي بالحجة وراء الحجة. .
كان سليمان بحال من انبعاث النشاط وتجدد الأمل لم يخطر للوزير أن تكون. فانعقد لسانه من فرط البغتة، وأقبل يرمق سليمان في حيرة ولإنكار، ثم قال له:(1008/24)
- يا أبا أيوب، ما ورد عليك بعدي؟ أرى عينيك ونفسك ووجهك بخلاف ما خلفتك منذ ساعة!
فأجاب سليمان: ما ورد علي شيء!
قال الوزير: والله لئن لم تصدقني لأوقعن بك من العذاب ما يستخرج منك الحق واضحاً.
فقال سليمان في غير مبالاة: ما عندي ما أصدقك عنه.
ونظر الوزير إلى الحسن بن سهل وقال: لتخبرني بشان أخيك.
ولم يطل بالحسن التفكير، فقد كان يعلم من عسف الوزير ومن زعارته أضعاف ما يترامى علمه إلى سائر الناس: فأخبره بالحديث على وجهه حتى سكنت نفسه، ثم قال:
أتدري لأي شيء قمت أنا؟
- قال: لا.
- كوتبت بأن ولداً ذكراً سوياً قد ولد لي، فدخلت فرأيته وأسميته باسم أبي، وكنيته بأبي مروان!
وبرقت في ذهن سليمان خاطرة، لم يلبث معها أن ينهض إلى موضع الوزير، فأكب على يديه ورجليه، وأقبل يهنئه بكلمات رقاق، ويدعو له ولمولوده، ثم قال:
(أيها الوزير، هذا يوم مبارك، وقد رزقت ابنا. فارحمني وارع سالف خدمتي لك، واجعل ابني موسوما بخدمة ابنك، يسلم معه في المكتب ويتعلمان وينشان في دولتك فيكون كاتبا له).
ولم يكن محمد بن عبد الملك ممن يطبيهم مثل هذا الحديث. . كان في قلبه لدادة وقسوة وجنوح إلى العسف والانتقام، مما جعل شعاره الذي لا يخل به، قولته المشهورة (الرحمة خور في الطبيعة).
فلم يزد على أن تشظت عروق جبينه قسوة وحرداً، ثم قال:
- يا أبا أيوب، أعلي تجيز هذا؟ وإياي تستغل وتخاتل؟ قد حدثتك نفسك بان ابنك هذا يبلغ المبالغ وتؤمل له الوزارة. . ورجوت في نوائب الزمان وقلت: أرجو أن يحتاج ابنه إلى ابني حتى يطلب منه الإحسان والفضل. فإني استحلفك بالله وأحرج عليك، إن بلغ ابنك هذا المبلغ، إلا وصيته إن جاء ابني لشيء من هذا ألا يحسن إليه!(1008/25)
وأعظم الحاضرون جميعاً هذا الخطاب العنيف، وخيم على مجلس الطاغية صمت ثقيل لم يقطعه إلا كليمات خافتة متعثرة من سليمان، تنصل بها مما أتهم به واعتذر مما قاله، ثم دعا للوزير وصمت.
وعاد سليمان بعد قليل إلى ظلمات محبسه وهو يحدث نفسه أن هذا غاية البغي، وان ما تحدى به هذا الطاغية القدر بعباراته المريرة، سيقع على وجه من الصحة يستخرج العبرة والعجب.
على أنه عاد بعد أيام فقبل ما قرر عليه، ورد عليه الواثق ضياعه وأقره على كتابة (إيتاخ).
ومرت سنين، أصبح بعدها وليد سليمان - الذي اختار له أبوه وهو رهن المحبس عبيد الله اسما، وبالقاسم كنية - أصبح فتى يافعاً، وشابا يتوسم فيه أهل الفراسة آيات النجابة وعلائم المجد، وطارت خلال ذلك لأبيه سليمان شهرة، وتأثل له مجد عريض.
ولما مات الخليفة الواثق تولى بعده أخوه المتوكل (بغير عهد منه) وكان يحمل أشد الضغينة لمحمد بن عبد الملك، ويحفظه عليه ما كان يجبهه به من المهانة زمن أخيه، ثم ما رامه يوم وفاة الواثق من تحويل الخلافة إلى أبن للمتوفى صغير. فلم يشف غليل نفس المتوكل إلا أن وثب على محمد بن عبد الملك وثبة سلبه فيها أسباب نعمته، ثم قتله بعد تنكيل وعاب (في صفر سنة 233هـ).
وعهد المتوكل في مستهل نكبته لمحمد بن عبد الملك، إلى سليمان بن وهب بمناظرته وإحصاء متاعه. فوافى داره في كوكبة من الجند، وهو لاهج اللسان بشكر الله على ما أولاه من نعمة، وبلغه في عدوه من رغبة.
ولقى في الدار ذلكم الابن الصغير - أبا مروان عبد الملك بن محمد أبن عبد الملك - يبكي ويتظلم. فاستدناه إليه وسأله عن قصته فقال:
- منعت كل مالي، وأدخل ما أملك كله في الإحصاء.
فقال سليمان: لا بأس عليك. ثم أمر أن يرد إليه كل ما كان له. وخر ساجداً لله على أن هيأ له أداء ذلك الصنيع.
وقص سليمان بعد حين على ابنه عبيد الله حديثه مع الوزير محمد بن عبد الملك، في يوم(1008/26)
مولده ومولد أبي مروان ابن الوزير، ثم قال لعبيد الله: يا بني، بالله - إن رفعك الله والزمان ووضع ابنه حتى يحتاج إليك - إلا أحسنت إليه!!
ووعى أبو القاسم عبيد الله بن سليمان عن أبيه هذا الحديث.
ولما تولى المعتضد الخلافة استوزر عبيد الله بن سليمان بن وهب (في رجب 279 هـ)؛ فكان من عادته أن يتخذ للمظالم مجلساً عاماً. وفي يوم من هذه الأيام المشهودة دخل عليه فيمن دخلوا رجل رث الهيئة عليه ثياب غلاظ فعرض عليه رقعة. وقرأها الوزير قراءة متثاقل عنها، ثم متفكر متعجب مما بها. ولما أتم استيعابها قال: نعم وكرامة، أفعل ما قال أبي لا ما قال أبوك. كرر هذا القول ثلاثا ثم قال له: عد إلي وقت العصر لأنظر في أمرك.
والتفت إلى خاصة صحبه فقال: إذا خلوت فذكروني بحديث هذا لأخبركم منه بعجب عجيب. فتشوقت نفوس القوم إلى هذا الحديث.
واصل الوزير عمله يأمر وينهي بقية المجلس ثم قام واستراح ودعا بالطعام فتناوله معه من حضر، فلما بلغوا من ذلك حاجتهم أو كادوا قال الوزير: ما أراكم ذكرتموني بحديث صاحب الرقعة ثم أقبل يسوق إليهم ما حدثه به أبوه حتى بلغ منهم العجب غايته.
ثم قال متمما حديثه: ولقد ضرب الدهر مضربه فما عرف لأبي مروان خبرا، حتى رأيته اليوم، فكان ما شاهدتم.
وأمر الوزير بإدخال أبي مروان عليه عند مقدمه. فلما قدم وهب له مالاً وخلع عليه وحمله. ثم قلده ديوان البريد والخرائط فشغل هذا المنصب ثلاثين سنة أو أكثر.
وكان يكتب إلى عبيد الله - عندما يكاتبه - متقلد هذا الديوان: (عبد الوزير وخادمه، عبد الملك بن محمد).
ولكن الوزير أراد أن يعفيه من هذه المخاطبة الذليلة فقال له: أنت ابن الوزير على كل حال، ولا أحب أن تتعبد لي فاكتب اسمك فقط على الكتب.
فقال أبو مروان: لا تسمح نفسي بهذا، ولكني أكتب (عبد الملك بن محمد خادم الوزير). فقبل منه ذلك، فلم يوقع بهذه العبارة إلى جميع الوزراء الذين كتب لهم حتى وافته منيته وزارة ابن الفرات الثالثة.
وكان أبو مروان كالمترتب على هؤلاء الوزراء جميعاً بما من ذلك عبيد الله، فلزم هذا(1008/27)
المنصب إلى أن مات.
وقد غلب عليه طوال هذه الفترة لقب أبي مروان الخرائطي حتى نسي الناس نسبه إلى ابن الزيات، إلا من كان يلم شأنه من جماعة الكتاب وغيرهم.
محمود عزت عرفة(1008/28)
6 - في بلاد الأحرار
للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد
للأستاذ أحمد مصطفى الخطيب
اجتماع - أقوال الخطباء
يالها من بلاد عجيبة؟ ما أصعب نيل الحرية؟. . لبت شعري هل أستطيع ألفة هذه الحياة؟. . لقد خيل لي الأمر في البداية هلا ميسوراً. . ولكن هاهي ذي المصاعب تتوالى وتتفاقم في النهاية. .
إن هناك رواسب في قرارات النفوس تركتها عهود التاريخ الماضية من ورائها، هي التي تستعبد الإنسان وتقيده أكثر من غيرها. .
وها إن الحال تتطلب الآن التخلص من نيرها وسلطانها دفعة واحدة. . . عليك أن لا تكذب، أن لا تداهن، أن تتحلى بالشجاعة، أن تدافع عن الحق، أن لا تعرف معنى التردد، أن تقول الحق!
يالها من شروط صعبة ثقيلة؟
كيف لا يخشى جانب الرجل ذو البأس والقوة؟ أو لا يجهر له بالصدق؟ أو لا يتحاشى التزلف إليه؟
إن المرء لتضطرب أحشاؤه وترتعد فرائضه عند رؤيته أحد هؤلاء الطغاة العتاة. . . ورأسه يدور، ورقبته تنحني ولسانه يباشر الحمد والثناء بغير إرادة منه!
ولا يمكن أن أنسى قط ما كان يحدث لصديق لي كلما أراد محادثة أحد الوزراء في التلفون فقد كان يشحب لونه، ويتلعثم لسانه ويأتي بحركات آلية مضحكة كما لو كان أمام الوزير نفسه بالذات لا أمام آلة صماء. . . وقد شاهدته ذات مرة وهو يردد هذه العبارات في ارتباك ظاهر وذعر شديد:
(. . . نعم يا مولاي. . . بفضل عطفكم السامي. . . هفوة الصغير عفو الكبير. . .)
ثم ألقى بالسماعة على الأرض بعنف وترامى على أحد المقعد لاهثاً وهو يقول:
- (آه!. . . كاد أن يقضى علي. . . لماذا كل هذا السخط والهياج؟. . كل ما في الأمر(1008/29)
أنني رفعت نهار أمس تقريراً إلى معاليه ذكرت فيه نبذة صغيرة عن سوء سلوك نجله في الدائرة وفساد أخلاقه. . . يا ويلي منه ومن ثورته وغضبه. . . ولكنني لحسن الحظ استطعت تهدئة الحالة. . . آه. . .).
ومع أننا كنا نسخر آنذاك من هذا الصديق المتخاذل الرعديد ونهزأ به إلا أننا في الحق لم نكن لنختلف عنه من هذه الناحية إطلاقاً.
والآن كيف نستطيع استئصال شأفة هذه العلل التي نفذت إلى عظامناً وجرت مجرى الدم في عروقنا؟
لم يغمض لي جفن في تلك الليلة من فرط تأثري. . بل ظللت أدور في غرفتي طوال الليل. . . وإذ طلعت تباشير الصبح، سقطت على الأرض كجثة هامدة من شدة الإعياء.
وحين فتحت عيني كانت الشمس في متوع النهار، وكان رأسي مثقلاً بالصداع. . فأحسست بحاجة شديدة إلى استنشاق الهواء النقي.
لقيت بنفسي إلى الشارع. . وقصدت إلى حديقة تجاور البيت الذي أقطنه. . . كان البستانيون هنا منهمكين في ري الحديقة. . وكان ثمة على بعد قليل ينهض تمثال شامخ.
اقتربت من التمثال وقرأت على أحد جوانب قاعدته هذه الكتابة:
(بطل بلاد الأحرار الأول)
ملت إلى أحد البستانيين وسألته عن اسم الحديقة وعن هوية البطل.
- هل أنت غريب عن هذه البلاد؟
- نعم!. . جئت حديثاً!
- يطلق على هذا المكان حديقة الحرية. . . وذلك التمثال يمثل أول وطني رفع لواء الحرية ضد الاستبداد. . فبلادنا تعبده وتقدسه.
وفي هذه الأثناء كان الناس قد أخذوا يتوافدون على المكان زمراً زمراً. . . ولم تمر سوى هنيهة حتى عقدت اجتماعات عديدة أيضاً في مختلف أنحاء الحديقة.
اقتربت من أحد هذه الاجتماعات. . فرأيت فتى يافعاً يلقي خطاباً حماسياً مؤثراً. . . أصغيت إليه فإذا هو ينتقد الحكومة، ويحمل عليها حملة شعواء لأنها تقاعست عن تنفيذ برنامجها بحذافيره، وترت عدداً من الوطنيين في الشوارع لا يجدون لأنفسهم عملاً. . ولأن(1008/30)
الإحصاءات الأخيرة دلت على وجوه اثنين في كل مائة أميين بين سكان المملكة، وذلك يعد عاراً كبيرا وصمة لا تمحى من جبين البلاد الحرة.
اقتربت من جماعة ثانية. . . فشاهدت رجلاً في منتصف العمر، ضعيف البنية، يتبسط في شرح النقائض التي يلاحظها على الجيل الجديد، ويؤاخذهم بشدة على انغماسهم في المادية، وانصرافهم عن المثل العليا، وإغفالهم أمر الصلات الإنسانية والوطنية الرفيعة، ويرى أن هذه حالة ستؤدي بهم لا محالة إلى أن تكون آثارهم هزيلة عديمة الحياة، ورؤوسهم فارغة جوفاء، وسجاياهم منحلة سائرة نحو التلاشي والاضمحلال.
وإذ كان الخطيب يبدي مخاوفه الشديدة من مغبة الأمر، كان لا يجد دواء لمداواة الوضع سوى المبادرة إلى إحداث تغيير شامل سريع في نظم التعليم وأهدافه وخططه التي تسير عليها الدولة في تنشئة الشبان وإعداد الجيل المقبل.
أما في الزمرة الثالثة فكان الخطيب سيدة بارعة الجمال تتحدث عن حقوق المرأة السياسية.
وفهمت من أقوال السيدة الخطيبة أن النساء في بلاد الأحرار يملكن نفس الحقوق التي يتمتع بها الرجال، ولا يضن عليهن بسوى منصب رئاسة البلاد فقط.
وقد كانت الخطيبة تشير إلى هذه الناحية في انتقاداتها وتقول:
- كيف يسوغ أن يضن بهذا المنصب على المرأة، ثم لا يضن به على الابن الذي تلده؟
إنهم يحدثونا عن الخواص الفيزيولوجية. . وكأن الرجال جميعاً في منجاة من النقائض الفيزلوجية.
اذهبوا إلى البيمارستانات، إلى السجون. . . ادرسوا إحصاءات الجراثم، فلا أظن النتيجة ستكون بجانب الرجال.
إن هذه المخاوف ليست سوى أعذار تافهة، لا تخرج عن كونها بقايا أسلحة تافهة استعملها الرجل منذ قديم الزمانلضمان استمرار سيطرته على النساء وبقاء استبداده بشؤونهن. . ولكن المرأة سوف تقضي على هذه البقية الباقية أيضا كما قضت من قبل على القيود الأصلية نفسها وحطمتها إلى الأبد، وذلكبفضل كفاحها المستمر ونضالها الدائم، وجهادها الذي لا يفتر ولا يني.
أجل سوف يعلم الرجال أن هذا الملجأ الأخير الذي يأوي إليه، يجب أن تفتح أبوابه على(1008/31)
مصاريعها أمام النساء نزولا عندما يقتضي به الشرف والكرامة. . . وإن وجود أقل تفاوت في الحقوق بين الأفراد في بلاد الأحرار ليس إلا وصمة عار جبين الحرية نفسها. وسوف تمحو المرأة هذه الشائبة مهما طال بها الأيام أو بعدت أمامها الشقة. . .)
كانت هنالك جماعات أخرى أيضاً. . غير أنني كنت أحسست بالتعب. . . فجلست فوق أحد الكراسي، وشرعت أفكر في جميع هذه المشاهد التي مرت أمامي ولأم أكن قد رأيتها أو سمعت بها من قبل.
وكان من أشد ما أثار عجبي أسلوب الخطباء ولهجتهم أثناء الكلام. . فقد كانوا يحصرون انتقاداتهم في دائرة الوقائع والحوادث، ويعنون عناية كبيرة بأن لا يظهر على حديثهم أية أثر للتذبذب أو الشكوك أو التردد، مسبغين عليه ثوباً من اللسان والوقار، متنكبين عن استعمال أية كلمة نابية فيها حر لعاطفة الشخص الذي يتصدون لانتقاده أو مس لكرامته من يشنون الحملات عليه. . .
وقد تراءى لي في الوقت نفسه من المعاني المتجلية في عيون المستمعين، وإمارات الجد اللائحة في وجوههم، أنهم يستسيغون هذا النقد ويرتاحون له ويؤثرونه على سواه، ويجدونه أضمن للفائدة وأبقى.
وقد ذكرني - بغير إرادة مني - ما شاهدته هنا من الصور الجديدة، ما في بلادي من أساليب النقد وفنون النقاش.
يا لهول الإسفاف الشنيع والتهور الجامح!. . ويا لهول السباب والشتائم المذقعة!. . أقوال مضطربة لا رابط بينها، إشارات غامضة، إيماءات مغلقة مستهجنة. . ولطالما حدث أن السامعين والقارئين سدوا آذانهم، وأغمضوا عيونهم تقززاً واستنكارا، ثم هبوا جميعا يطالبون بوضع حد لمثل هذا الجو الموبوء الخانق، فظهرت قوة طاغية كمت فواه المتكلمين وعصبت عيون الشاخصين معاً بشكل محكم، حتى عاد الناس في هذه المرة يشعرون بالاختناق من الصمت والظلام.
آه! ما أعظم كارثة الإفراط والتفريط! لقد اقتنعت الآن أن الحرية لا يمكن أن تنال بمجرد الرغبة فيها، أو المطالبة بتحقيقها. . . إن على الإنسان أن يربي شخصيته، ويخلق من نفسه سيداً قبل كل شيء. . .(1008/32)
- أجل! أجل! على الإنسان أنيكون سيدا!
- إلى من تتحدث يا عزيزي؟
استدرت قليلاً. . فوجدت أحد الضيوف الأخوان جالسا إلى جانبي، يرمقني بنظرات التعجب والحنان وأنا أحادث طيفي الماثل أمامي. .
فقلت معتذراً:
- كنت غارقا في التفكير وأنا أقارن بين ما شاهدته اليوم وما وقع لي بالأمس فبدرت تلك الكلمات من دون وعي. .
ابتسم ابتسامة رقيقة ثم قال:
- لا تحزن! هذه مرحلة قد تخطاها كل واحد منا. .
- إذن أنتم هنا منذ وقت طويل. .
- أجل!
أرجو أن تخبروني: هل تقصد هذه الاجتماعات هنا كل يوم؟
- كل يوم على وجه التقريب. . وتلك الساحة أشبه بمدرسة شعبية عامة يستطيع أي مواطن أن يطلع فيها على كل ما يعنيه أمره من شؤون بلاده:
- يالها من عادة حسنة!
حضر الأساتذة في اليوم التالي ثانية فقلت مخاطباً أحدهم:
تنص المادة العاشرة على أن التساند دين واجب الداء، فما معنى ذلك؟
- أجل! إن وجود التساند والمؤازرة شرط أساسي في بلاد الأحرار. . . انظر إلى الأقطار غير الحرة تجد فيها الأفراد والأسر كلاً مستقلاً بنفسه عن غيره، وليس بين ظهرانيهم من الصلات والروابط إلا النزر القليل. . ذلك لأن سيف الاستبداد المصلت على رؤوس هؤلاء لا يفسح المجال لهم بالتآزر والتآلف وتكوين جبهة واحدة وكيان واحد. .
فالشرط الأساسي في هذه المالك التفرق والتخاذل ووقوف (المواطن) موقف الأجنبي من أخيه المواطن وعدم اهتمام بعضهم ببعض. . .
وكما أنه من الميسور جداً سحق أفراد مجتمع كهذا وإفناؤه، كذلك من السهولة بمكان. . . أن يلعب المرء كما يشاء بهذا المجتمع نفسه كما لو كان خرقة بالية عديمة الدم والحياة. . .(1008/33)
أما في بلاد الأحرار، فالشرط الأول هو الاتحاد والإيثار والألفة التامة بين الأفراد والاهتمام بما يحدث ويقع للمواطنين. . . والكل هنا كحلقات الشبكة تتأثر من العطب الذي يصيب أي واحد منها. . .
وشؤون المجتمع ذاته لا تعتدل ولا تستقيم إلا إذا نجا أفراده جميعاً مما حاق هم من الأخطار وأصابهم من الألم والاضطراب.
هنا يتحتم على كل فرد أن يكفل بصيانة حقوق غيره وشرفه وكرامته. . وليس في معجم البلاد أقوال من قبيل: (إذا مت ظمآن فلا نزل القطر) (عش لنفسك) (هل أنا الذي أستطيع إصلاح العالم؟).
- آه أيها الأستاذ! إني مصغ إليكم بكل كياني وبكل لذة وشغف. . ولكن وا أسفاه. . إن جميع العادات التي ألفتها والتقاليد التي جريت عليهالهى على طرفي نقيض مما تفضلتم علي بشرحه وإيضاحه. . . ليت شعري كيف أستطيع أن أغير ما بنفسي. . . إلهي! ما أصعب أن يكون الإنسان حراً. . .
- نعم يا بني؟ ليست الحرية سهلة سائغة. . . والعبودية أسهل منها. . . فبينما العبد يسلم زمامه إلى غيره ليقوده كما يريد ويهوى نجد الحر مكلفاً بالتفكير في غيره. . .
إن كل مواطن هنا مكلف بحب الغير، ومعنى حب الغير هو أن يتحمل المرء في سبيل غيره المتاعب والمشاق. . وبهذه الوسيلة وحدها يستطيع المواطن أن يصون نفسه وغيره معاً في وقت واحد.
وحيث أنك قد سلكت طريقاً آخر حتى اليوم، فقد فتشت دائماً عن منافعك في خارج المجتمع، ولم تفكر إلا في نفسك. . . وقد أدى بك ذلك إلى أنك زدت ضعفاً على ضعف وانحطاطاً على انحطاط وعشت حياة كلها قلق واضطراب. .
أما وقد اعتزمت الآن أن تصبح حراً، فإنه يتحتم عليك أن تسعى لتهذيب نفسك وتتفقه في قوانين بلاد الأحرار وتعمل بمقتضاها. . .
يجب عليك أن لا تبقى في معزل عن الاهتمام بمصير المجتمع الذي أنت أحد أفراده، بل عليك الالتفات إليه والحفل بحقوقه، ورعاية مصالحه وشرفه وكرامته، والتفكر في الشؤون فقرائه وأطفاله، والانتساب إلى الجمعيات الخيرية التي تعنى ببذل المساعدة والمعونة(1008/34)
لهؤلاء وبالدفاع عن حقوقهم وبتعميم التعليم بينهم وغير ذلك من الأمور التي تكفل للجميع سعادتهم وهناءهم.
وعليك أن تعلم أيضا أنه ليس في هذه فرد واحد لا يتصل بمواطنيه الآخرين بأكثر من ست روابط وطنية واجتماعية في وقت واحد، وهذا هو السبب في أن مس الواحد منهم قيد شعرة يثير روابط الجميع، فيتحرك الكل وكأنهم شخص واحد. . .
- ياله من مجتمع سعيد!
(يتبع)
أحمد مصطفى الخطيب(1008/35)
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
لقد ساعد جوته شلر في أمور المعاشية حتى قبل معرفته به وصداقته له، وذلك بتقديمه وترشيحه لخدمة ولاية (وايمر) وتوظيفه في أكادمية بمرتب معين. وقد أدت هذه المساعدة التي جاءت لا على اعتبار عون؛ بل على اعتبار خدمة متقابلة إلى نتائج ذات أهمية دائمة. وقد ارتفع شلر إلى أوج عظمة الفن وهو مطمئن إلى عطف ورعاية ونصح صديق واحد بين مئات الأعداء. وهكذا - اعتماداً على هذا التأييد من قبل صديقه - استمر شلر في تقدمه ونجاحه غير ملتفت يسرة أو يمنة، وكانت أيامه مخصصة جميعا لتأدية واجبه الأقدس.
وقلما نجد إنساناً يمكن أن يساعد الآخر مثل هذه المساعدة وان يفيد مثل هذه الفائدة، لأننا تعودنا - كما هو الحال في الواقع - أن يكون الإحسان مبتذلا فيه الذلة والفجيعة وقلة الذوق، لان منشآتنا التي تقوم بمثل هذه الأعمال الخيرية هي مؤسسات تافهة ومضرة ولو أنها تتحصن بأسماء وألقاب. وأكثر من هذا إذ تفضل أحد أصدقائنا بمديد العون إلينا بإخلاص واهتمام، فهو لن يعمل على تفهم مشاكلنا ومعرفة احتياجاتنا الحقيقية حتى يمكننا من السير قدماً في طريقنا، بل نراه على العكس من ذلك يصير ببساطة غريبة، ويريدنا أن نغير اتجاهنا ونتبع سبيله الذي اختاره لنفسه، وبذلك يجعل أمر إصلاحنا غير ممكن لأننا لا ولن نقدر على ذلك. وهكذا فالناس كل بعيد عن الآخر، وليس لأحد أن يساعده جاره، بل أن ينتبه من جاره كي يأمن شره ويتوقى خطره ويتقي شواظ ناره وهو أمر صعب التحقيق.
لقد تحدثنا سابقاً عن حماسة شلر التام للأدب واعتبرنا ذلك وحده وظيفة توجته مدى الحياة. وأوضح دليل على حميته وغيرته للوصول إلى هذا الهدف في كل أدوار حياته، هو مواظبته على هذا المسعى حتى أواخر حياته، بالرغم من إصابته بمرض عضال هد حيله وزعزع أركان قوته. ولم يتجل نبل سجيته في أية مرحلة من تاريخه، كما تجلت في هذه المرحلة - مرحلة المرض - فقد برزت البطولة غير المنظورة وهي في عنفوانها عندما(1008/36)
كان العدو الأسود يمزقه من الداخل، ولكنه كان قادراً على إبعاده بعض الشيء. وعندنا شواهد طيبة على الخمس والعشرين سنة الأخيرة من حياته لم تخل لحظة واحدة من الألم الممض. على أنه مع كل ذلك لم يتشك قط ولم يتضجر أبداً. نلاحظ ذلك في مراسلته مع جوته، فنراه بشوشاً مشغولاً ونادراً ما كان يتكلم عن أدوائه وأوصابه، وإذا ما تكلم عنها فبلغة شخص ثالث كأنه يعتز بأيامه التي بقيت في حوزته. على أننا نستطيع أن نقول إن أعظم أعماله الشعرية تعود إلى هذه الفترة؛ خصوصاً إذا تذكرنا كم وكم من أضراب روسو من الأدباء والشعراء السطحيين الذين نحلوا وذابوا أسى، على الرغم من المواهب التي أوتوها - لأنهم أصيبوا بأمراض عصبية انتهت بكثير منهم إما إلى الجنون وإما إلى التعاسة المهلكة، على أن شلر - وهو في مثل هذه الأوضاع نفسها - كتب أعظم تأملاته وأحسن رواياته من (ولنشتاين) إلى (وليم تيل).
يقال أن هذه المحن لا يمكن تحملها إلا بالاعتماد على ركيزة الدين وحده، ونحن نقول إن شلر كان له دينه الخاص. . وكان متعبداً وناسكاً. . ولذا فهو لم يحتج في آلامه الأرضية إلى دعامة سماوية تسنده، بل اقتصر على الدعامة المثالية في تحمل أوصابه في مثل هذا العالم البائس المريض.
هل لنا أن نتكلم عن سعادته؟ واأسفاه ماذا يعني سمو العبقرية غير معدة قوية وشهية ممتازة!. . أو تعني حتى كلمة روح معنى المعدة في بعض اللهجات السكالفونية؟ أليس الجلوس في راحة والتمتع بالمشهيات والروائح العطرية والاستمتاع بالماضي والحاضر والمستقبل والإخلاد إلى الأحلام واليقظة بين الفينة والأخرى ما يدل على الطمأنينة والسرور والحياة الهانئة والبهجة الدائمة والسعادة الكلية.
إن الأمر بالنسبة إلى العبقري المريض لا يتعدى كما يقول شلر (عالمه الذهني المثالي الداخلي الذي ينخره الداء المتباطئ ويستنزف جماله ويعصف به عصفاً شديداً، فلا يبقى منه إلا اليأس والقنوط والمرأة وغلا الحرمان الذي يلازمه حتى النهاية المرعبة) ولم يكتف شلر بهذا بل نراه يستطرد في ذلك فيقول (الويل لمن تضطرب إرادته وتخور عزيمته وتنحني رقبته أمام نير هذا العدو الجديد! لان البطالة والخيال المشوش يسيطر عليه وتطلق سراح ألوف الشياطين لتضايقه وتعذبه حتى تجننه. وا أسفاه! إن عبودية الجزائر تعتبر(1008/37)
حرية إذا قيست إلى الآلام التي يعنيها العبقري المريض الذي انهد قلبه ورزح تحت كابوس بالآلام. فمسكنه الطيني يصبح سجناً مظلماً كما تصبح أعصابه منازل للقرف والعذاب، وروحه موئلاً للعزلة السوداوية، ويظل فريسة لأشباح القنوط، ويغدو متحجراً من جراء ازدياد الألم، محكوما عليه بالموت في قيد الحياة وبالشعور بالوجود الأليم، لا حول له ولا قوة ولا حتى شعور بها، ومن المفزع أن يضع الموت أو فقدان الوعي التام حداً لمثل هذه التعاسة) ومهما تكن الحالة مثيرة فعلينا أن ننظر غليها نظرة عطف لا نظرة استخفاف وتجرد. وعلى كل حال نقول إنه من العار العبقري يتشكى. أليس في نفسه نور من السماء ليست عروش الأرض ببائها إلا ظلاماً بالقياس إليه والمقارنة به؟ والرأس الذي يلبس مثل هذا التاج يأبى أن يرقد بقلق. إذا كان هذا النور السماوي هو الذي أعان سيمون السوري على أن يصمد في أعلى عمود التعذيب دون أن يتزحزح إيمانه قيد أنملة، فكم بالأحرى أن يكون الأمر كذلك إذا كان هذا النور مباشراً ومضيئاً صافياً وخالصاً من كل شائبة؟ وإلا فدع حكيم العصر يتألم من الأوصاف والرزايا التافهة في صبر وأناة؛ أو يعترف بأن المتعصبين القدامى كانوا أصدق منه تعبداً وأصفى سريرة وأرهف إحساساً. وقد يحدث بين الحين والآخر أن يعرض في بعض المجالس الأدبية والنوادي الثقافية حديث السعادة، فينسى السادة المتناقشون شرابهم ليتكلموا في السعادة وعما إذا كانت هي الغاية الرئيسية من حياة الإنسان، وأغلبهم يوئيد رأي بوب القائل بأن السعادة هي غرض وجودنا وهدفه، ولكن المعارضة لا تكتفي بهذا بل تريد أن تفهم لماذا تكون الطبقة الجاهلية أسعد حالاً من الصفوة المختارة. ومع ذلك فنحن لا نريد أن نستبدل أما كننابهم؛ أليس مكتوباً أن زيادة في الحزن؟ أليس مكتوبا قولهم تعلموا الحكمة واستزيدوا من العرفان لان في هذا بداية الخير؟ فإذا كان تعليمكم صحيحا فلماذا نشقى في النضال بكل قوتناإذا لم يكن ذلك في سبيل الحصول على السعادة والنجاة من الآلام والاوصاب؟
وهكذا تظل السعادة بين الأخذ والرد بين هؤلاء المناطقة من دون الوصول إلى نتيجة قطعية مقنعة، وهذا ما يجعلنا مضطرين إلى تركها على ما هي عليه من ارتباك وتخبط. ولكن هناك بعض النفوس الجدية التي لا تعتبر الحقيقة لهواً ولعبا بل (ماهية) الحياة. وهم لا يعتبرون الأشياء الظاهرية الجامدة إلا اعتباراً تافهاً، بل يهمهم قبل كل شيء (النداء(1008/38)
الداخلي) هذا النداء الذي إذا توقف فان يفيده حتى استحسان الملايين من الناس. فإذا ما عثر هؤلاء على الحق الذي يبحثون للاهتداء إليه بكل تشوق وبكل قلق سعوا إليه جاهدين بغض النظر عن الخير والشر وأصبح الهدف الذي يسعى إليه الإنسان.
إن أصل هذه القضية ناشئ - كما هو الحال في كثير من القضايا تحت الشمس - من الاضطراب اللغوي، فإذا كانت السعادة تعني اليسر في العيش، فمن حق كل شيء أن يسعى تحقيق مثل هذا اليسر، ومن جهة أخرى، فإذا عنينا بالسعادة والاحساسات السارة، كما هو رأي الكثيرين من الناس، فعندئذ يظهر لنا شك من القضية من الأساس. أما إذا تبصرنا بدقة في الحقيقة القائلة بأن في الإنسان شيئاً أرفع من حب السرور، بأي معنى كان هذا السرور، فإننا نجد أن المعلمين والمبشرين كانوا يعيرون هذه المسألة ما تستحقه من التفات بالغ منذ بداية نشوء العالم، وسيستمر ذلك إلى نهايته، إن كانت له نهاية. وطبيعي أن لا يخلو عصرنا الحاضر من الأشخاص الذين يصرون على هذه الحقيقة ويؤكدونها. وماذا يفعل القارئ بهذه الجملة الصغيرة من (رسائل شلر الجمالية) وهي تخص تلك المسألة القديمة ومسألة تحسين الأنواع؟ انظر كيف يعالجها بهذا الأسلوب الطريف إذ يقول (إن أول المكاسب التي أحرزها البشر في مملكة الروح هو الخوف والقلق، وهما نتيجتان من نتائج التعقل وليس الإحساس؛ ولكن العقل أخطأ في هدفه كما أخطأ في طريقة التطبيق. وثمار هذه الشجرة بالذات هي السعادة سواء كان ذلك بالنسبة لليوم العابر أو لكل الحياة، وهذا لن يزيدهم ذرة من الاحترام مدى الأبد. فاستمرار الوجود اللانهائي والسعادة لفرض الوجود والسعادة بحد ذاتها يخصان الشهية وحدها، وهي عبارة عن كفاح الحيوانية التائقة إلى الخلود. وهكذا بدون أن يحرز هذا الإنسان أي شيء لإكمال رجولته الذهنية نتيجة هذا المجهود العقلي، نراه يخسر حيوانيته السعيدة، فيفقد الحاضر في محاولته اليائسة لكسب المستقبل اللامحدود الذي لم يقصد لذاته بل الذي قصد هو الحاضر إليه بذاته.
والظاهرة الوحيدة التي يتميز بها عصرنا هذا هو السعي في سبيل الخير الحسي والسرور الشخصي في أي شكل كان، وهي الغرض الذي يسيطر على عمل الإنسان وواجبه، وإذا كان في قطيع الإنسانية عبيد الشهوة والشهية من أمثال أبيقور، فإن هذه الإنسانية لن تعدم بعض الرجال ذوي الرسائل العليا لتحقيق القيمة الروحية للإنسان، وأن هذه القيمة ليست(1008/39)
ميزاناً تقاس فيه الحوافز المختلفة؛ بل إن الروح شيء حي ذو قوة وحرية وهي تقوم بخدمة الحق والفضيلة والخير. ولكن الأوضاع في الظروف الحاضرة تقاس بمقياس أقرب ما يكون إلى العقل والرزانة. فمن جهة نرى أن الطريق الهادي الذي يقوم بتعبيده كثير من الأخلاقيين، ومن جهة أخرى نرى الاضطراب سائداً في صفوف الجماهير في هذا السجن - الذي ندعوه بسجن الحياة - وزعماء هذه الجماهير يجعلون من المنفعة إله هذه الأيام، والبنتاميون يمثلون المجلس الروحاني الأعلى لهذه الطائفة التي ديدنها السعي لملئ بطونها وحسب، وبالرغم من أننا لا نملك موهبة التنبؤ، إلا أننا يمكن أن نقول إن هذه النار التي تتأجج في صدور الكثيرين من الناس ذوي النفوس المخلصة ستنتهي بمعركة حامية الوطيس حاسمة المصير، ومحور هذه المعركة سيكون بين العقل والمادة؛ ولكننا في هذا الذي نقوله خرجنا عن سواء السبيل. . وسنعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى إذا سمح لنا الوقت بذلك.
للكلام صلة.
يوسف عبد المسيح ثروت(1008/40)
ديوان مجد الإسلام
نظم الشاعر المرحوم أحمد محرم وتعليق الأستاذ إبراهيم عبد
اللطيف نعيم
تابع غزوة بدر
تلك المآثم، ما تزال ثقالها ... تمشي الوئيد بها المطايا الطلح
أخذوا السلاح، وقد أغار لأخذهم ... جند (بآيات الكتاب) مسلح
فيهم من الأنصار كل مشيع ... يمضي إذا نكص اليراع الزمح
كانوا على عهد مضى، فأتمه ... لإلههم عهد أبر وأسمح
(سعد) يهيب بهم و (سعد) قائم ... تحت اللواء بسيفه يتوشح
ما أصدق (المقداد) حين يقولها ... حرى، وبعض القول نار تلفح
إنا ورائك يا (محمد) نبتغي ... ما الله يعطي المتقين، ويمنح
لسنا بقوم أخيك (موسى) إذ أبوا ... إلا القعود، وسبة ما تضرح
هذا (علي) في اللواء و (مصعب) ... والنصر في عطفيهما يترنح
حملا لوائه، فلو صدح الهدى ... في مشهد جلل، لأقبل يصدح
هذا (رسول الله) من يك مؤمنا ... فإليه، أن طريده لا يفلح
الموت في يده، وعند لوائه ... ريح الجنان لمن دنى يستروح
إن يملك الماء العدو فقد همى ... سيل جرى شؤبوبه يتبطح
هي دعوة (الهادي الأمين) ونقحة ... ممن يسوق الغيث فيما ينفح
مكر (الحباب) بهم فغور مائهم ... والمكر في بعض المواطن أنجح
نبئ (عمير) سراة قومك إنهم ... زعموا المزاعم، والحقائق أروح
نبئهم الخبر اليقين، وصف لهم ... يأس الأولى جمعوا لهم وتبجحوا
واذكر سميك إذ يقول (محمد) ... إرجع (عمير) فدمعه يتسجح
أذن (النبي) له فأشرق وجهه ... ولقد يرى وهو الأحم الأكفح
بطل من الفتيان، يحمل في الوغى ... ما يحمل البطل الضليع فيرزح(1008/41)
قل يا (حكيم) فما (بعتبة) ريبة ... مولى العشيرة للمهم يرشح
إبراهيم عبد اللطيف نعيم(1008/42)
رِسَالَة الشِعْر
فرحة الشعر في موكب التحرير
للأستاذ علي متولي صلاح
دعوا العر في أفراحه يترنم ... فقد عاش دهرا في الأسى يتألم
طوته يد كانت على الناس نقمة ... وكانت جحيما لا يبر ويرحم
وكانت على الأحرار في مصر محنة ... تبدد من أنفاسهم وتكمم
ففي كل ما خور سلام ومحنة ... وفي كل دار للأعزة مأتم
وكل أبي راسف في إساره ... تقيده الأغلال والنار والدم
وكل مهين العرض. . ملق بعرضه ... على قدم الطاغي. . يضم ويكرم
وهانت خلال البر، وارتفع الخنا ... واجت لركب الشر سوق وأسهم
خلائق من وادي الضلال معينها ... ومن نفثة الشيطان تسقى وتلهم. .
سقى الله يوماً كان في مصر فيصلا ... يحف بجنبيه رضا وتبسم
أطل على مصر فأشرق ثغرها ... وقد ظل دهراً ثغرها يتجهم
وألقى برأس البغي في اليم. . قائلا ... مهادك هذا. . والمصير جهنم
وزلزل ما أرسى الطغاة وهيأوا ... ودمر ما كانوا أعدوا وقدموا
فطاحوا وطاحت شاهقات أثيمة ... وراحوا. . وراحت خلفهم تتهدم
وهبت على الوادي الكريم نسائم ... تسوق إليه المكرمات وتنعم
أظلت ضفاف النيل منها برحمة ... أفاء لها الحيرى. . وفي ظلها ارتموا
تساووا فما فيهم مسود وسيد ... وعزوا فما فيهم سراة وخدم
وذلت أنوف كان صعباً قيادها ... ولانت خدود كان فيها تورم
فسيرى إذن يا مصر في موكب العلا ... ولا تتوانى. . . إن دهرك يبسم
خذي بسبيل الجد وامضي لمنزل ... أرائكه يا مصر شهب وأنجم
تهيأت الأسباب للمجد كله ... ولم يبق دون المجد إلا التقدم
عمادك فتيان أسود ضراغم ... فعالهمو نار. . وأقوالهم دم. .
علي متولي صلاح(1008/43)
وثبة الجيش
للأستاذ عبد العزيز مطر
من ذلك البطل المغوار يتبعه ... جيش من النجب الأبطال جرا
من ذلك الحر؟ قد قضت مضاجعه! ... لإذ قيل ليس بوادي النيل أحرار
من قال للظلم (قف من أنت؟) يقمعه ... فاهتز من خشية المقدام جبار
من فجر النور إذ عزت مطالعه؟! ... من حطم القيد إذ للقيد أنصار
هذا هو السيف، أيدي الله تشرعه ... على الطغاة، وسيف الله بتار
هذا نجيب، لواء الله، يرفعه ... يعلى به الحق، إن الحق قهار
في مطلع الفجر هب الليث محتدما ... غضبان، يزأر في النوام أن
هانت كرامتكم، ضاعت مهابتكم ... فالعرض منتهك، والمال منت
أرواحكم أزهقت من بغي شرذمة ... لا تعرف الحكم إلا أنه س
جاءوا بأسلحة للجيش فاسدة ... ترتد ضاربة قلب الألى ضر
زادت مفاسدهم، فاضت مساوئهم ... طالت علينا السنون السود والنو
كانت مقالته في الأفق سارية ... وجنده النجب الأبطال قد وثبوا
قسددوا ضربة للظلم قاصمة ... ترنح الظلم منها وهو ينتحب
فلن ترى الأرض اقطاعا ومفسدة ... لن يسكب الدمع فيها مرهق تعب
لن ينهب الزرع منها متخم جشع ... يرضي هواه ليردي غيره الس
فثورة العدل والإنصاف منطقها ... لا يحرم الخير من يمسسهم النصب
تقبل الغرب بالإعجاب ثورتنا. . ... واسبشر الشرق بل تاهت بها العرب
ولن أصور ما بالنيل من طرب ... فكل شيء به قد هزه الطرب
عبد العزيز مطر(1008/45)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
حقوق المؤلفين
أثار الأستاذ الدكتور طه حسين في مقاله بالأهرام في الأسبوع الماضي موضوع حقوق المؤلفين، وبين أوجه الصراع بين المؤلف والناشر.
ولا شك أن الذين عانوا طرفا من هذا الصراع، يذكرون مدى الجهد الذي تكبدوه من معاملة الناشرين، أو على الأصح مع بعض الناشرين.
فالمؤلف محتاج إلى أن يجد من أدبه مورداً ييسر له الحياة كما تيسر لرجال الصحافة والموسيقى والغناء. .
والمؤلف، إلى ذلك هو أقل زملائه من رجال الفكر والفن مكانا، فلم يعد الآن للأدب الرفيع والإنتاج الخصيب مكان مرموق بعد أن غلبت الألوان الصحفية والمكشوفة والخفيفة، وارتفعت أجورها وتقديراتها، حتى أصبح من غير المعقول أن يعيش أديب من سن قلمه.
وإني لأذكر كلمة قالها لي المرحوم الدكتور زكي مبارك سنة 1935 وكنت عولت على أن أنقطع الأدب. . قال (إن أديباً ما في مصر لا يستطيع أن يعيش من قلمه، ولو كان طه حسين أو الزيات. وإن كان كل أديب مهما كان من القوة أو الشهرة محتاج إلى عمل آخر إلى جوار أدبه يعيش به، وهو إما أن يكون الصحافة أو التدريس).
والحق أن أديباً من الأدباء لم يستطع بالأدب وحده أن يكون قوياً من الناحية المادية بحيث يستطيع أن ينصرف بالأدب عن غيره، أو يقصر عليه.
لقد استطاعت الصحافة أن تضع الأدب في الدرجة الثانية منها، وأن تغلب عليه السياسة وطرائف الأخبار والصور، ثم جاءت الإذاعة بألوانها المختلفة، التي تقصد لا إلى الترفيه والتسلية، قبل الثقافة والتوجيه، فأحلت الأدب درجة أخرى فأصبح في الدرجة الثالثة. .
وجاء اليوم الذي أصبح الأدب فيه غذاء فئة قليلة من الصفوة المختارة التي تحبه، لأنه فن رفيع، أولئك الذين يتسع وقتهم له. .
وكذلك العلم اليوم، وكذلك كل فنون التأليف - ما عدا التأليف المدرسي والجامعي - قراءه قلة، ومن ثم فقد حق أن يكون هناك قانون يحفظ لهؤلاء العلماء والأدباء حقوقهم، ويرد(1008/46)
عنهم طغيان الناشر الذي قلما يكون عالما بتلك الكنوز التي توضع بين يديه لإخراجها للناس، وهو لا يقدرها من هذه الناحية أبداً وإنما يقدر مدى إعجاب القراء لها، فهو يتخير منها الأنواع التي يراها صالحة للتجارة فحسب.
ومن قبل، مات الأدباء، فلم يجد أهلوهم ولا أبناؤهم من ورائهم شيئاً. . كانت أسماء هؤلاء الأدباء تملأ ما بين المشرق والمغرب، وكانت مؤلفاتهم المتعددة في كل الأيدي، ومع ذلك فلم يكن من وراء هذه المؤلفات مال كثير أو قليل يمكن أن يجده أبناء هذا الأديب. لقد باع المؤلف الضخم الاسم، الفقير، حق مؤلفاته للناشرين لقاء مبالغ تافهة قليلة كسب الناشر عشرات أضعافها بل لا أغلو إذا قلت مئات الأضعاف.
وقد أشار الدكتور طه حسين إلى المؤتمر الذي عقد في جنيف في أغطس الماضي، ليضيع حق المؤلف في صورة اتفاق دولي وإن كانت مصر لن تستطيع أن تشترك في هذا الاتفاق الدولي، إلا إذا أصدرت قوانين حماية المؤلف في مصر أولا. . وهناك قانون تنظيم حق المؤلف في مجلس الشيوخ، وهناك أخر في مجلس النواب، ناما منذ أمد في العهد الغابر. وفي إشراقة العهد الجديد الذي يضع الأسس الصالحة لغد أفضل، نرجو أن يتحقق للمؤلف وضعاً كريماً يمكنه من أن يتفرغ للإنتاج، ويتجرد للعمل الخالد الباقي.
بدء الموسم الأدبي
من الأسئلة التي ترددها دوائر الأدب: هل العام الدراسي هو عام الإنتاج الأدبي، أم العكس هو الصحيح؟ وهو أن موسم الأدب يبدأ عندما تنتهي الدراسة. والحق أن الصيف لم يكن حتى الآن - في مصر - موسما أدبيا، فلا بد أن يكون بدء الموسم الدراسي، وإقبال الخريف، هو علامة الفصل الذي تنشط فيه دوائر الأدب والفن. . وبعد قليل ستحفل الجرائد بباب (محاضرات اليوم)
ونحن نتوقع أن يكون الموسم هذا العام خصباً، وأن أصوات المفكرين ستتداعى إلى الإصلاح والإنشاء والبحث، في حرية وقوة وطلاقة، وقد أظلها العهد الجديد بعد أن رفع من كرامة (الإنسانية). . هذه الكرامة التي سيظهر أثرها في انطباعات نفوس الأدباء والمفكرين، ثم في إنتاجهم!
أدب الثورة(1008/47)
ولن يتأخر طويلا أدب الثورة. . فلا شك أن الحرية والكرامة. . التي هي طابع العهد الجديد ستعطي للمفكر مشاعر جديدة. . ستملأ نفسه بالقوة. إن كل مشروع، وكل إنتاج، وكل عمل صالح يدرس الآن بعناية، وتتلقفه أيد أمينة، ونفوس مليئة بالحيوية. . تريد أن تنشر الضياء على كل مرفق من مرافق الحياة. . فما بالك بقلب الحياة: الأدب والفكر.
لقد انتقلت مصر في لحظات من الهزال البغيض إلى الجد الصارم! هذا طابع العهد. . وهو طابع العهد.
العمل، الوقت، المشاريع، الإصلاح، الغربلة، التنقية!
سوف تختفي من النماذج الإنسانية صورة (المتواكل) و (اللص) و (الخطاف) و (الأثيم).
وسوف تختفي (المرأة) الجاسوسة، أو المسيطرة على الزعماء.
وسوف تختفي صورة (الخادم) الذي يملك من السلطان أكثر ما يملك الوزير!
ستكون النماذج الإنسانية الجديدة، قوية، حية، عليها سيماء النقاء والطهر، ستكون أهداف الأدب الجديد عالية، في سبيل الوطن والحق والمثل العليا.
لقد خلفت مصر وراءها روح الجمود، واليأس، والحقد، والصراع على المطامع، وبدأت صفحة جديدة من الوحدة، والتعالي عن الرغبات الشخصية، وسيمتد هذا الأثر ليس إلى الأدب والفكر وحده، ولكن. . إلى المسرح، والصحافة، والإذاعة، والنحت والموسيقى، ونحن نرى البواكير هذه الأيام في مسرحيات جديدة قد اختفت منها تلك الغرائز المهددة، والمناورات السخيفة، والنزوات الطائشة، ونرى قصائد وأغاني فيها روح الثورة. .
ونأمل أن نرى على الأيام فنا أقوى. . يتجه إلى السماء!
الأدب في سوريا
في مجلة (الوعي). . هذه المجلة الأدبية الإسلامية الأنيقة، في عددها الجديد الذي صدر هذا الأسبوع كلمة عن الأدب في سوريا بمناسبة العهد الجديد، رأيت أن أنقلها تسجيلاً لأثر العهد الجديد هناك، فقد كتب الأستاذ زكي المحاسني يقول (في سورية الحاضرة، أدباء وشعراء وأهل نقد، وفنون، بعضهم جامعيون، وبعضهم مدرسون، وبعضهم من أهل المجمع العلمي السوري، ويعدون من أهل الصحافة أو الوظائف، وفيهم أشياخ وشبان، وبعض(1008/48)
نسوة وفتيات، ويغلب على شيوخ هذا الأدب التوحد والتفرد والتحيز، وليسوا كثيراً، فهم أفراد معدودون، لكل منهم مذب في الحياة الخاصة والعامة، غير أنهم يتجهون (لأدب الشباب) إذ يؤثرون أن يكون (أدب الشباب) قويا نزاعاً إلى اللغة الحرة والبيان الراقي.
من أولئك الشيوخ شعراء، لم يستطع شعرهم بعد شوقي وحافظ ومطران أن يحلق في أجواء هؤلاء الخالدين. أما أهل النثر منهم فمنطوون على أنفسهم ينفس الواحد منهم عن أدبه بين السنة والسنة بمقال، ولم ينشطوا إلا قليلا إلى نشر المؤلفات النافعة، ولكن أولئك الجدد المنطلقين من قيود الماضي، وهم رعيل الكهول والشباب يأخذون في (بناء) أدب سوري جديد يرجى نفعه، وإن لهم نزعات نحو أدب الشعب قد تكون صالحة لزماننا هذا أكثر من صلاح أدب الأبراج العاجية) اهـ
إن سوريا هي الأخرى قد انتقلت إلى الجد الصارم.
وكذلك لبنان.
ولذا فنحن نتوقع للأدب العربي جميعاً فجراً جديداً.
أنور الجندي(1008/49)
البريد الأدبي
(الله ويردى)
حضرة الأستاذ رئيس تحرير مجلة (الرسالة)
قرأت في الرسالة الغراء ما كتبه الأستاذ عبد اللطيف محمود الصعيدي عن (ميشيل الله ويردى) ناظم (وحي البردة) ويقول الأستاذ عبد السلام إن (اسم النظم أشبه بأسماء المسيحيين). وعائلة الله ويردى هي عائلة أرمنية مسيحية كاثوليكية لها صلة قريبة بعائلة المرحوم يعقوب أرتين باشا ابن المرحوم أرتين بك الذي كان من وزراء محمد علي الكبير.
علمت ذلك من المرحومة كريمة أرتين باشا عندما أرادت أن توقف أملاكها قبل وفاتها، إذ استدعتني ذات يوم وطلبت مني أن أتولى تحرير مشروع عقد الوقف وطلبت النص على تعيين حصة لإحدى السيدات سمتها بسم (الله ويردى) فسألتها ومن هي هذه السيدة؟ فقالت إنها سيدة مقيمة في باريس ومن ذوي قرابة والدتها (بنت عمة أو بنت خالة) على ما أذكر. فهل هذا الشاعر ميشيل الله (ويردى) ينتسب إلى هذه العائلة؟ الله أعلم فليسأل!
عزيز خانكي
إلى الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
عندي سؤال تحيرني الإجابة عنه، وقد رأيت أن أعرضه على صفحات الرسالة لعل الأستاذ الدكتور الأهواني أو أحد زملائه من أساتذة علم النفس يتفضلون بالإجابة عنه في وقت سريع.
وخلاصة ما أود أن أقوله: أنني مدرس أديب، أقرأ جيدا، وأكتب جيدا، معبرا عن خواطري في دقة ووضوح، وقد
أخذت أشعر منذ عام بحدث غريب يقطع علي متعة القراءة؛ فما أكاد أطالع بضع صفحات من كتاب أو صحيفة، حتى يأخذني النوم ويقع الكتاب من يدي، مع ما أشعر به من وضوح المعنى المقروء والتمتع به تمتعا زائدا، صباحا كان ذلك أو مساء. فمن يرشدني إلى التخلص من هذا النوم المفاجئ، مع أني أنام يوميا مدة طويلة تناسب سني، وتطابق الوجهة الصحية. أرجو أن تحمل لي الرسالة ردا سريعا في وقت قريب.(1008/50)
(متألم)
عتاب
نشر صديقنا الشاعر الأستاذ كمال نشأت مقطوعة جميلة بعنوان (حياة جديدة) بمجلة الأديب اللبنانية عدد أكتوبر لم نستسغ منها قوله:
أمشي وفي عيني ... (آلام المسيح على الصليب)
فإن الله يقول (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) يا أخي:
نحن مسلمون في بلد مسلم! والفن ينبع من المجتمع، ورسالته حتماً للمجتمع، وليس الفن للفن كما يزعمون. . .
عبد المنعم أبو سيف
رد ونقد
خطأ أحد الباحثين استعمال (تعاهدنا على تحقيق أهدافنا) وأقول أن الاستعمال صحيح وإليك النصوص اللغوية:
جاء في المصباح المنير: الغرض الهدف الذي يرمى إليه، وتقول غرضه كذا على التشبيه أي مرماه الذي يقصده اهـ.
وجاء في لسان العرب: الغرض هو الهدف الذي ينصب فيرمى. . . وغرضه كذا أي حاجته وبغيته، وفهمت غرضك أي قصدك ا. هـ.
وجاء في مستدرك شرح القاموس: ويقال: غرضه كذا أي حاجته وبغيته.
قال شيخنا: قد كثر حتى تجوزوا به عن الفائدة المقصودة من الشيء وهو حقيقة عرفية بعد الشيوع لكونه مقصداً وقبل الشيوع استعارة أو مجاز مرسل ا. هـ.
وجاء في أساس البلاغة: ومن المجاز فلان هدف لهذا الأمر وغرض له ا. هـ.
من هذا يتبين للقراء أنه لا فرق بين الهدف والغرض في جميع المعاني الحقيقية والمجازية، وأنت تقول: حققت غرضي أو مطلبي، وتحققت أغراضنا ومطالبنا، وقد أجاز الكاتب الفضل استعمال (تعاهدنا على تحقيق مطالبنا) فإذا كان هناك فرق بينهما فليبينه وقد خطأ استعمال (يهدف إلى كذا) وأقول أنه صحيح أيضا كأصله السابق لأن المعنى يتجه(1008/51)
ويقصد ويدخل ويسرع إليه كما يتجه السهم أو المقذوف إلى هدفه.
وأرشدنا الأستاذ إلى الاستعمال الصحيح الوارد في اللغة؟! وهو (استهدفه) ولم أجد استهدفه متعديا في جميع المراجع التي بين يدي. . .
علي حسن هلالي
(الرسالة) أقر المجمع اللغوي هذا الاستعمال.
جناية الحزبية على الأدب
إن الحزبية الباغية في مصر شر كلها، بل هي مزيج مركب من شرور لا حصر لها. وحسب مصر من شرورها أنها مزقت الوحدة، وفرقت الكلمة، وأصابت روابط الأخوة والمودة بالوهن، وبذرت في النفوس بذور الإحن والفرقة والبغضاء، وفي الصدور بذور الحقد والعداوة والشحناء، وغرست في تربة مصر الأنانية الممتزجة بالجهل، والمهاترة المشوبة بالتوتر.
أما جناية الحزبية البغيضة على الأدب فهي أجل من أن توصف؛ فالشباب هو التربة الصالحة للأدب والبيئة التي يجب أن تهيأ له، ومن أين لمصر الشباب الذي يتجه في حياته نحو الأدب، والحزبية البغيضة المشوهة لم تدع له فرصة للاشتغال به، ولسلوك نهجه، وللاغتراف من منهله.
وقد كان من الممكن للأدب أن يكسب أنصاراً من طلبة الجامعات العلمية وهم أجدر بنصرته، ولكن الحزبية البغيضة تسللت داخل أسوار الجامعة ولم تدع قليلا ولا كثيراً إلا ساقته في موكبها، وضمته إلى شيعتها، اللهم غلا النادر الذي لا يعتد به، والذي لا حكم له بجانب الكثرة الساحقة، التي اتخذت من الحزبية البغيضة مهنة تمتهنها، وحرفة تحترفها، وأصبحت لا تقدم لمصر إلا المهارة والمناوشة والثرثرة على ضوء التعصب للأحزاب والزعماء، وعلى حساب مصر المنكوبة في شبابها وهم عصبها وعدتها وأملها في المستقبل القريب والبعيد.
نعتقد أن حركة الجيش تعتبر نهاية للحزبية البغيضة القائمة على غير مبادئ أو أهداف، والتي يجب لأن تكون اليوم في ساعات الاحتضار الأخيرة، لتلفظ أنفاسها غير مأسوف(1008/52)
عليها، والفرصة سانحة لأن يكفر شبابنا - ولا سيما طلبة الجامعات والمعاهد العلمية - بالحزبية البغيضة، ويودعها بألذع ما تستحقه من اللعنات، ويقبل من الآن على الأدب، وينضر إلى شيعته، فما عاشت دولة بغير أدب، وما وصلت دولة إلى نهاية المجد إلا بالأدب!
وها نحن أولاء في الانتظار. .
نفيسة الشيخ
لقد دالت دواتهم
لو حاول الإنسان أن يحصي الأمثلة على جحود الإقطاعيين واستهتارهم لأعجزه الحصر. . وحسبنا أن نسوق اليوم قصة إقطاعي بلغ الاستهتار حد الكفر - والعياذ بالله - وتلك نقمة الغنى يدفع يصاحبها أحيانا إلى حد الجنون، أو الكفر. . وكلاهما لا يرضاه إنسان لنفسه!
فقد سمعت أنإقطاعيا كان تدعو إليه فلاحا من فلاحيه ويأمره أن يدعو الله أن يهبه بقرة. . ثم يسأله الإقطاعي الأحمق في تهكم:
هل وهبك الله بقرة!؟ إذن أنا أهبك البقرة. . فيدعو الفلاح فيأمر له بالبقرة!
هذا منتهى الإجرام في حق الخالق العظيم، الذي بسط له في الرزق، إلى حد أنساه النعمة، يذكرنا بما قاله (موسى عليه السلام) عن فرعون وقومه:
(ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم).
ويذكرنا يوسف القرآن الكريم:
(ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم، كذلك نجزي الظالمين).
وبعد. . لقد دالت دولة الإقطاع، كما دالت من قبلها دول أقامت عروشها على الظلم والطغيان، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم. . . وتلك قصورهم خاوية على عروشها. . ينعق على أطلالها اليوم. . . فاعتبروا يا أولي الأبصار.
عيسى متولي(1008/53)
القَصَصُ
الكذبة
للقصصي الروسي بانتليمون رومانوف
كانت الغرفة مبعثرة الأثاث؛ وكان هو جالسا إلى مكتب قد انتثرت عليه الصحف والكتب في غير نظام ولا ترتيب، وكان ممسكاً بيده غطاء محبرة قد كان رفعه عنها بحركة غير إرادية، وبصره مثبت في نقطة أمامه يحدق فيها.
وكان من عادته أن يجد صاحبته بانتظاره مشتاقة في صبر، ولكنه لم يجدها على عادتها في الدار. . . لقد قالت له فتاة الجيران إن (ماريا سير جيفانا) خرجت بغير أن تترك ورائها خبراً.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي لم تنتظره فيها منذ أن تعارفا حتى اليوم. لقد كان أخبرها بالتلفون أنه ربما استطاع لقياها اليوم ساعة واحدة، ولكنه استطاع أن يتحرر بغتة طوال هذا المساء، إذ كانت زوجه قد خرجت لزيارة بعض الأصدقاء.
ومضت الساعة الحادية عشر وتلتها الثانية عشر وهو ما يزال منتظراً. وأخيرا أزفت الساعة الأولى ولما تأت! وكان كلما طال انتظاره تشتد فيه الرغبة في البقاء حتى تعود فيعرف أين كانت.
وأخيراً وقبيل الساعة الثانية دق جرس الباب ففتح لها فطرق أذنيه وقع أقدامها؛ وما هي إلا أن فتحت الباب ودخلت فلم يكن له متسع من وقت يصلح به هيئة وجهه للقياها.
كان الثلج قد غطى كمي معطفها وكتفيه، وكان خداها قد توردا من لفح الرياح المحملة بالثلج، وعيناها السوداوان مشرقتين بوميض من الغضب والهياج. كان أول من ابتدرته به من الكلام قولها:
- أهلاً بك، أنت هنا؟
وكان في صوتها نغمة فرح ودهش بينه التكلف. ثم استأنفت قائلة:
- ولكنك قلت إنك لن تستطيع المجيء!
وكانت تقول ذلك وهي تلقي على الغرفة نظرة فاحصة، فأجابها:
- كلا، لقد قلت إني ربما جئت ولكني لم أكن واثقاً تماماً من هذا. قال هذا وهو يعيد غطاء(1008/54)
الدواة إليها، ثم قام فمشى حتى جاء فوقف قبالة صاحبته.
- إنك على حق، غير أنك قلت إنك إن جئت فلن تظل أكثر من ساعة.
- حسبت أن لقاء ساعة عندك تفضل الخروج مساء. . . إلى حيث لا أدري.
فأجابته بسرعة قائلة:
- (أوه. . . إنما كنت ذهبت إلى الملهى)، ونزعت قبعتها فنفضت الثلج الذي كان يغطيها على البساط. ثم إنها بدأت تزيل الثلج الذي كان قد تراكم على كمي معطفها في أناة ظاهرة واعتناء. فهز صاحبها كتفيه وبدأ يعينها على خلع ملابس الخروج التي كانت ارتدها محتفظا بصمته، ذلك الصمت الذي كثيرا ما كان يشاهد في مناظر الشجار والمنازعات، ولم يخف ذلك منه على صاحبته ولكنها اعتصمت بالصمت العميق مثله، غير أنها بعد أن ألقت عليه نظرة جانبية بدا لها أن تغير وضعها - فجأة - فقالت تكلمه في صوت لطيف:
- أجائز أنك لا تصدقني؟ واقتربت من حبيبها بجو تشم فيه رائحة الهواء الطلق البليل الذي كانت فيه منذ برهة قصيرة، فوضعت يديها - ولم يكن ليخفى عليه جمالها - على كتفيه، غير أنه أحس ثانية أن هذا التبدل لسريع من وضعها الأول إلى هذا الوضع الأخير اللطيف مما تقسر عليه نفسها، إنه متكلف أيضا! ثم قالت له:
- وفي استطاعتي أن اعدد لك كل حركاتي هذا المساء؛ كان أحد أصدقائي ومعه خطيبته ينويان الذهاب إلى الملهى، وكانت عندهما بطاقة دخول زائدة فاستدعياني معهما إلى الذهاب ففعلت، وذلك كل شيء تم
فمجيئك من الملهى إذا في هذه الساعة؟
- نعم.
ثم رفعت يدها عن كتفيه - وما كان قد مسهماً - وذهبت إلى مرآة الصوان وكأنها تريد أن تصلح شعرها، ولكن عينيها عادتا إلى ما كانتا عليه من النظر إلى الغرفة نظرة عجلى فعل العائد إلى داره يجد فيه ضيفا غير منتظر ليطمئن على أنه ليس في المكان بعض ما لا يجب أن تقع عليه عين ضيفه من أشياء:
وكان هو يلحظها أثناء ذلك من طرف خفي ويتتبعها في كل ما تصنع، أما هي فكانت تخفي شعورها بمراقبته هذه وتدقيقه وتتظاهر بهيئة من ناله تعب أو مسه جهد، بينما كانت تمشط(1008/55)
شعرها وتعيده إلى نظامه أمام المرآة.
. . . لقد بدا له من الغريب أن تكون لشخص تصحبه إلى الملهى خطيبته بطاقة دخول زائدة!
. . . قالت: (وقد خاب ارتقابي مقدمك عند المساء تماماً)، ثم جلست على كرسي كبير بقرب المكتب قبالة صاحبها. واسترسلت قائلة:
(. . . فوعت بغض أخطاء أخرت الرواية عن موعد بدئها، فضاق المتفرجون بذلك ذرعا وعلت أصواتهم وسمع تصفيقهم. . . ألم تر هذه الرواية من قبل؟).
ومع أن الرجل كان ما يزال واقفاً في مكانه، وعلى وجهه سيماء من يستمع إلى كذبة مدبرة حازمة صادرة من شخص كانت له بصحة ما يقول ثقة قوية - منذ قليل من الزمان فقط - مع هذا، فإنها استمرت تتم حديثها وكأنها غير شاعرة بحالته الغريبة التي كان فيها.
قالت: (وكانت الرواية غاية في السخف، مملة، بينة التكلف والتصنع، وكان الممثلون يقومون بأدوارهم وما في نفوسهم شوق إليها، وكان أحسن ما هناك فتاة ممثلة جودت في دور لها متوسط)
وهناك أدار صاحبها عينيه نحوها وقال لها:
- إنه ليس ثمة سبب يدعوني إلى الشك في أمر ذهابك إلى الملهى.
فردت عليه قائلة: (عزيزي، إن شئت أريتك البطاقة) وفتحت حقيبة يدها وأخرجت له البطاقة بدون بحث ولا عناء بل كان في حركتها أثر الاطمئنان. فاخذ الورقة المطوية منها بحركة آلية ثم أردف قائلاً:
- إني لا أدري ما هذا الذي حدث بالضبط ولكني لحظت من زمن يسير أن علاقتنا قد طرأت عليها شائبة من الخداع
- وماذا تعني بالخداع؟
وكانت جالسة على كرسيها. فرفعت مرفقيها علامة السؤال والاستغراب.
فأجابها: (لا أدري تماما ولكن هناك شيئاً مما أقول على أني أطلب منك شيئاً واحداً، ذلك أن لا تضطري الواحد منا إلى الكذب على الآخر. لقد كانت بيننا عاطفة ود قوية، وفي أمثال هذه العواطف التي بيننا لا يستحسن الكذب أبداً. فلا تحدثيني الليلة بشيء، ودعي ذلك إلى(1008/56)
الغد. خابريني بالتلفون وإذ ذاك تستطيعين التحدث بكل شيء. إن كلا منا حر مطلق التصرف في نفسه، فإن لم يبق بيننا (حب) فلا حرج ولا بأس. . لنفترق.
ثم وضع قبعته على رأسه مهتاجا وارتدى (سترته) وخرج دون أن يودعها.
. . كان يسير إلى داره مستعداً في ذهنه حركاتها وصوتها فبدا له كل ذلك صورة من مكر وخداع بغيضة! لقد كانت تحدثه عن الملهى حديث المضيف إلى زائر طرقه، وذلك فعل المرأة إذا تريد كذباً، وكانت تتحدث عن الملهى حديثاً عاماً مبهماً بالطريقة التي يتكلم بها المرء عن حوادث قدم عليها العهد، وكان عليها - إلى هذا - أن تبتدع كذبة تأخير الرواية ساعة عن ميعادها المعين لتبرر تأخرها عن موعد انتهاء أوقات الملاهي عادة!
أما البطاقة. . فمن يدري؟ لعلها ابتاعتها. . . وهي تستطيع ذلك. بل ربما دخلت الملهى حقا وشاهدت الفصل الأول. . ثم. .؟
غير أن فكرة - آخر الأمر - اعترضته فوقف تحت مصباح الشارع وأخرج من جيبه البطاقة التي كان قد وضعها في جيبه بغير شعور منه.
فلما فتح البطاقة الصغيرة الخضراء ليتبين التاريخ عليها وجد أنها قديمة، مؤرخة بتاريخ أول الشهر، وهم اليوم في الثامن عشر منه! فيالها من كذبة دنيئة!
كان أول ما دار بخلده أن يمزق قطعة الورق البغيضة تلك. . غير أنه أعادها إلى جيبه ثانية لسبب خاص. .
إنها حقا كذبة إنسان صفيق الوجه! فيالها من زلة! إنها كفيلة بأن تخجل الإنسان من نفسه. .
ولما وصل إلى بيته لم يجد في شبابيك طابقه أنوارا! كأن زوجه لم تعد، وكان ذلك له خيراً، ففي استطاعته أن يزعم - الآن - لها أنه كان في الدار طوال المساء فقضاها أمسية وحيدة على مضض منه. . غير أن ضوءاً بدا في غرفة النوم - بغتة - لقد سبقته زوجته إلى الدار! منذ خمس دقائق فقط!
فصعد إلى الطابق الخامس بسكون مفكراً فيما عسى أن ينتحل من الأعذار؛ ثم تسلل إلى الردهة في ارتقاب وحذر في حين أن زوجته كانت خارجة من غرفة النوم مسرعة وهي تشد وسطها بحزام فستانها البيتي، فلما وقع نظرها عليه ابتدرته سائلة في استغراب:(1008/57)
- ماذا حصل أيها العزيز فأخرك؟ لقد ظللت في الدار طوال المساء هذا، ذهبت إلى بعض الجيران، وكان عندهم أقاربهم فلبثت عندهم ساعة ثم عدت وفي أملي أن أقضي هذا المساء معك فأجابها:
- غير أني كنت أحسب أنك ستكونين خارج البيت الليلة، وذلك الذي دعاني إلى الذهاب إلى الملهى! فغن ذلك ولا شك خير من بقائي في الدار وحدي!
- ولكن لم أراك متأخراً للآن؟
- أوه. . إنك تعرفين كيف يسير هؤلاء في أعمالهم. . لقد وقعت بعض أخطاء أخرت الرواية عن موعد بدئها ساعة، فضاق المتفرجون بذلك ذرعا، وعلت أصواتهم وسمع تصفيقهم! ثم أخرج تلك الورقة المطوية وألقاها على الطاولة بحركة تدل على تعبه، ثم استطرد قائلاً:
(وكانت الرواية غاية في السخف، مملة، بينة التكلف والتصنع في كل شيء من مظاهرها. وخير ما كان في الرواية كلها فتاة ممثلة أجادت في دور لها متوسط، ولو دريت أنك ستكونين في الدار الليلة، إذا لتركت الرواية بعد فصلها الأول!
ف. س(1008/58)
العدد 1009 - بتاريخ: 03 - 11 - 1952(/)
عدونا الأول: الرجل الأبيض
للأستاذ سيد قطب
في أمريكا يتحدثون عن (الرجل الأبيض) كما لو كانوا يتحدثون عن نصف إله. ويتحدثون عن (الملونين) من أمثالنا المصريين والعرب عامة كما لو كانوا يتحدثون عن نصف إنسان!
فالذين يعتقدون أن الأمريكان يمكن أن يكونوا معنا ضد الاستعمار الأوربي هم قوم إما مغفلون أو مخادعون، يشتغلون طابوراً خامساً للاستعمار الأمريكي المنتظر لبلاد الشرق الأوسط!
إن مصالح الاستعمار الأمريكي قد تختلف أحياناً مع مصالح الاستعمار الأوربي. ولكن هذا ليس معناه أن يكون في صف استقلالنا وحريتنا. إنما معناه أن يحاولوا زحزحة أقدام الأوربيين ليضعوا هم أقدامهم فوق رقابنا. وفي الغالب هم يجدون حلا لخلافاتهم مع الاستعمار الأوربي على حسابنا.
إن الرجل الأبيض هو عدونا الأول. سواء كان في أوربا أو كان في أمريكا. . وهذا ما يجب أن نحسب حسابه. ونجعله حجر الزاوية في سياستنا الخارجية، وفي تربيتنا القومية كذلك.
إن أبنائنا في المدارس يجب أن تربى مشاعرهم وتفتح أذهانهم على مظالم الرجل الأبيض وحقارة الرجل الأبيض. ويجب أن تكون أهداف التربية عندنا هي التخلص من نفوذ الرجل الأبيض وحقارة الرجل الأبيض. وجشع الرجل الأبيض. ويجب أن تكون أهداف التربية عندنا هي التخلص من نفوذ الرجل الأبيض. لا سياسي فحسب، ولا اقتصادياً فحسب، ولكن اجتماعياً وشعورياً وفكرياً كذلك.
ولكن الذي نفعله هو عكس هذا على خط مستقيم. . عندنا في وزارة المعارف عبيد للرجل الأبيض. عبيد يعبدون هذا الرجل كعبادة الله. بل إنهم ليلحدون في الله ولا يلحدون في أوربا أو أمريكا. سراً وعلانية!
وعندنا في معاهدة التربية التي تخرج المدرسين، فتؤثر في ذلك بعقلية أجيال بعد أجيال. . عندنا فتات آدمي ينظر إلى الرجل الأبيض نظرة التقديس، ويطبع مشاعر الطلبة الذين(1009/1)
سيصبحون مدرسين بطابع الإعجاب والقداسة لأولئك المستعمرين القذرين، الذين يحتقروننا ويهينون كرامتنا، فنتلى ذلك منهم بالشكر والثناء وهذه جناية قومية، وجناية إنسانية. . جناية قوميةلأن الرجل الأبيض يستغلنا ويستغل أوطاننا استغلالا شنيعاً، ومن واجبنا أن نعبئ أعصابنا ومشاعرنا ضده، لنسترد حقوقنا المسلوبة. وجناية إنسانية لأننا بتمجيدنا للأوربي والأمريكي إنما نمجد مثالاً مشوهاً للإنسان، ونقيم تمثالاً للجشع والطمع والسلب والنهب والاحتيال. ثم نضع تحت أقدامه أكاليل المدح والثناء!
أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة جريدة مصرية صباحية يتحدث كاتبها فيها عن مأساة تونس مع فرنسا فيقول مخاطباً رئيس الدولة الفرنسية:
(أما إذا كان يقصد شق الطرق وإنشاء السكك الحديدية، وتشييد الأبنية وزيادة الرخاء الاقتصادي. . فلعله يعرف أن هذا كله تم لفائدة المستعمرين من الفرنسيين. أما أهل البلاد الأصوليون فيعيشون كالغرباء. لا يزالون جهالا حفاة عراة. وقد ساومت أمريكا على أرض مراكش، فأعطت أمريكا امتياز إقامة المطارات والاستحكامات الحربية على الشاطئ في مقابل أن تنصرها أمريكا، وتمهد لها السبيل لتنفيذ سياستها).
ولكن الكاتب يقول مع هذا عن فرنسا إنها (البلاد التي علمت الدنيا مبادئ الحرية والإخاء والمساواة)!
وهذا هو الاستعمار الروحي، الذي يقيد مشاعرنا حتى ونحن ثائرون على الاستعمار السياسي!
هذا هو الاستعمار الروحي الذي ينطق الكاتب بهذه الخرافة حتى وهو يستعرض تاريخ فرنسا الأسود، ومساومات أمريكا الاستغلالية.
هذا هو الاستعمار الذي في أرواحنا المدرسة المصرية التي تنفذ أهداف الاستعمار إلى اللحظة الحاضرة. بل يقوم على رأسها وزير كان من عباد إنجلترا، ثم أضحى من عباد أمريكا ومعه معاهد تربية تتعبد أمريكا من دون الله في الأرض!
هذا هو الاستعمار الذي بثته في أرواحنا كتاب خانوا أماناتهم للوطن، وخانوا أماناتهم للإنسانية، فوقفوا أقلامهم طويلاً على تمجيد فرنسا. ومع ذلك فغن بعضنا لا يزال يهتف لهم، وبعدهم رواداً للفكر في الشرق!(1009/2)
إنني أفهم أن تهتف لهم فرنسا، أو أن تهتف لهم إنجلترا، أو أن تهتف لهم أمريكا. . أما أن نهتف لهم نحن العرب فهذا هو الهوان البشع، الذي لا يقدم عليه فرد وله كرامة!
إن مكان هؤلاء اليوم كان ينبغي أن يكون مكان الجواسيس والخونة والطابور الخامس، لا مكان التمجيد والتقدير والاحترام.
كل رجل غمس قلمه ليمجد فرنسا أو يمجد إنجلترا أو يمجد أمريكا. . هو رجل منخوب الروح، مستعمر القلب، لا يؤتمن على النهضة القومية، ولا يجوز أن يكون له مكان في حياة هذه البلاد بعد نهضتها.
إنني لا أكاد أتصور أن هناك إنسانا له مشاعر الإنسان يرى (الرجل الأبيض) يدوس بأقدامه على أعناقنا في كل مكان ثم يجد نفسه قادراً على تمجيد هذا الرجل، أو حتى مصادقته إنني أشك في آدمية هؤلاء الكتاب، وهؤلاء الوزراء، وهؤلاء الأساتذة. نعم أشك في آدميتهم لأن أول مميزات الإنسان أن يحس بكرامة الإنسان.
أفهم أن تكون هناك ظروف اضطرارية تلجئنا إلى تبادل التمثيل السياسي والقنصلي، وإلى المبادلات التجارية والصلات الاقتصادية مع هؤلاء المستعمرين القذرين. . أما أن يتبادل العواطف والمشاعر، وأما ن نتحدث عن المآثر والمفاخر وأما أن نفتح قلوبنا وصدورنا. . فدون هذا ويعجز خيالي عن تصور المهانة، وتصور المذلة، وتصور المسخ الشعوري الذي يصيب الفطرة البشرية، فيهوي بها إلى ذلك الدرك السحيق من الهوان.
من الذي يسمع عن وحشية الفرنسيين في الشمال الأفريقي ثم لا يمزق كل ما هو فرنسي، إن لم يكن بيديه وقدميه، فعلى الأقل بمشاعره وقلمه ولسانه؟
من الذي لا يحتقر أمريكا ويحقر معها آدمية الأمريكان وهو يجد المعدات الأمريكية والدولارات الأمريكية تشد أزر الاستعمار الأوربي في كل مكان. . لقاء مساومات اقتصادية أو استراتيجية أو عسكرية؟
من الذي يملك أن يقف على الحياد في معركة الحرية بين الاستعمار الغربي وبين البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها ثم لا يكتفي بموقف الحياد بل يمد يده بالمصافحة والمحالفة لهذا الاستعمار القذر، الذي تلعنه الأرض والسماء؟
إن الاستعمار لا يغلبنا اليوم بالحديد والنار. ولكنه يغلبنا قبل كل شيء بالرجال الذين(1009/3)
استعمرت أرواحهم وأفكارهم، يغلبنا بهذا السوس الذي تركه الاستعمار في وزارة المعارف، وفي الصحف، والكتب؛ يغلبنا بهذه الأقلام التي تغمس في مداد الذل والهوان الروحي لتكتب عن أمجاد فرنسا، وأمجاد بريطانيا، وأمجاد أمريكا.
ولن نستطيع التغلب على هذا الاستعمار، إلا إذا حطمناه في مشاعرنا، وحطمنا معه لأجهزة التي تستحق إيماننا بأنفسنا. هذه الأجهزة الممثلة في وزارة المعارف ومعاهد التربية، والأفلام الخائنة الممسوخة التي سبحت يوما وما تزال تسبح بحمد فرنسا أو إنجلترا أو أمريكا.
وأنا لا أطمع في الجيل الذي شاخ أن يصنع شيئاً. هذا الجيل قد انتهى. جيل منخوب مهماً بدا كالطود الشامخ. جيل مزيف لأنه لا يؤمن بنفسه، ولا يأنف من تقبيل الأرجل التي تركل قومه ووطنه وإنسانيته أيضا. جيل لا بأس أن تكرمه فرنسا، وأن تكرمه إنجلترا، وأن تكرمه أمريكا؛ لأنه يعمل لحسابها ويؤدي لها خدمات، لا يؤديها جيش مسلح كامل.
كلا! لست أطمع في هذا الجيل الذي شاخ. إنما أنا أطمح في جيل الشباب المتحرر. الذي يحترم رجولته، ويحترم قوميته، ويحترم إنسانيته. .
أطمع في جيل الشباب أن يخرس كل صوت يرتفع في مدرسة أو معهد أو كلية بتمجيد الرجل الأبيض، الذي خان أمانة الإنسانية.
أطمع في جيل الشباب أن يحطم كل قلم ينغمس في مداد الذل والعار، ليمجدوا الرجل الأبيض الذي يدوس أعناقنا بحذائه
أطمع في جيل الشباب أن يحتقر كل رجل يصادق الرجل الأبيض، طائعا مختارا، بدون ضرورة ملجئة تحتمها الأوضاع الدبلوماسية!
ويوم ننقض الاستعمار على هذا النحو من أرواحنا وعقولنا. .
يوم تغلي دماؤنا بالحقد المقدس على كل ما هو أوربي أو أمريكي. .
يوم نسحق تحت أقدامنا كل من يربطنا بعجلة الاستعمار. .
عندئذ فقط سننال استقلالنا كاملا؛ لأننا نلنا الاستقلال من داخلنا: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا). .
سيد قطب(1009/4)
1 - على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
للدكتور عمر حليق
يخيل إلى أن أكثرنا يميل إلى بحث المسائل الدولية بعقلية قانونية. وأصالة الرأي في معالجة السياسة الدولية تقتضي عدم التقيد بالنظرة القانونية في تحليل حاضر أو مستقبل مشكلة من المشاكل الدولية. فالقانون الدولي نظام فكري مرن مطاط يتحمل ألف تفسير وتفسير وألف مخرج ومخرج. والقانون الدولي فلسفة سياسية جوهرها الغموض وعمادها الدبلوماسية المرنة، وأبرز دعائمها اجتهاد لبق ذخيرته عناصر متشبعة من التحليل الدقيق للعوامل السياسية والاقتصادية والفكرية الطارئة، والتيارات الهادئة أو العاصفة التي تعتري حاضر قضية من قضايا الساعة، والأهواء والنزعات وخفايا الأمور التي تكتنف هذه التيارات وتوجهها إلى هدف معين. وكل هذه الحقائق على قسط كبير من التعقيد والتشابك يقصر جوهر القانون الدولي ودساتيره المدونة عن تنفيذه وشرحه وتطبيق حرفية ذلك القانون عليه.
ولذلك فإن من غير الصواب أن نعالج المسائل الدولية على ضوء القانون الدولي وحده، بل علينا أن نذهب أبعد من ذلك ونؤكد مع كثير من المراقبين للسياسة الدولية بأن الحصافة تقتضي أن وضع القانون في زاوية بعيدة من مائدة البحث، حتى إذا انتهينا من تحليل مسألة من المسائل الدولية على ضوء السياسة العملية والتيارات المعقدة المتشابكة (الاقتصادية والعسكرية والعاطفية والتاريخية) التي يكتنفها، جلبنا القانون الدولي (أو بالأحرى هذا التراث من النماذج والسوابق والشروع والتعليقات التي تؤلف ما يسمى القانون الدولي) وطلينا الصيغة النهائية لاجتهادنا في السياسة العملية بطلاء قانوني قشرته حساسة مطاطة تفسح المجال للكر والفكر وللتعديل والتنقيح.
ومثل هذه الحصافة توفر لصناع السياسة والمعقبين على السلوك السياسي مرونة يستطيعون معها أن يقبلوا على معالجة حدث من أحداث الساعة في عقل حذر واجتهاد فطن لا يضرم أن يرفض أو أن يساوم على منفعة عاجلة في سبيل نصر مرتقب، أو أن يقبل ما يبدو أنه قبول نهائي، بينما هو يضمر هدفا همه المصلحة الجوهرية الآجلة للمسؤولية التي يتولاها صناع السياسة بالنيابة عن الأمة التي انتدبوا لتسيير شؤونها وخدمة مصالحها(1009/6)
العامة.
وقد يقرأ بعضنا في ثنايا هذه السطور دعوة إلى الخداع وضرب من الغش ولكن الخديعة والغش أن تكتم عن الناس الحقائق. والحقائق في السلوك السياسي تؤكد أن جوهر هذا السلوك صراع حاد قد يكون طابعه الصدق مرة والمراوغة مرة أخرى، واللباقة آناً والتهديد آونة أخرى، ومثل هذا الصراع يفترض الخديعة والغش فإذا اعتصم فريق بالصدق وحسن النية والمثالية المجردة وهو عالم بان الفريق الآخر يتسلح بغير الصدق والمثالية والنية الصادقة فالفريق الأول يخدع نفسه ويضر بالأمانة القومية التي وكلته الأمة بالدفاع عنها وبصيانتها عن عبث العابثين.
والدبلوماسية (وهي تعريف لهذا الاجتهاد الذي يحاول به صناع السياسة أن يصونوا الأمانة القومية التي وكلهم الشعب بها) جزء لا يتجزأ من سياسة السلم والحرب. والحد بين السلم والحرب خطر نظري لا وجود له إلا في مخيلة الناس. وقد قال حكماء العرب الأقدمون (الحرب خدعة) فإذا فسرنا هذه الحكمة تفسيرا صحيحا فإن لنا أن نعتبر أن (السياسة خدعة) كذلك، والعبرة في الحكم والأمثال أن تتجاوز المتعة العقلية وأن تطبق على جوهر السلوك الإنساني.
وبعد فإن موضوع البحث هو مسالة (الدفاع عن الشرق الأوسط) وهي مسالة لها وضعية فريدة فوق إنها قضية خطيرة - فريدة لأنها تمس صميم الأمانة القومية التي يهتم بها كل مواطن عربي ويحمل لواء الدفاع عنها قادة الرأي وأولو الأمر من صناع السياسة في بلدان العرب. وعلى ذلك فإن الحديث عن مسالة الدفاع عن الشرق الأوسط هو الحديث أبرز ما يعترض حاضر السياسة العربية من أحداث لا تقتصر على الأوضاع الداخلية للدول العربية فحسب، بل تتصل اتصالا مباشراً بمستقبل الكيان العربي بأسره كمجموعة إقليمية وكدول منفردة، كما تمس مستقبل هذا الثعلب اليهودي الذي يكمن في عقر دارنا ومستقبل العلاقات التي تربط دول الجامعة العربية بالعالم الخارجي - في الشرق والغرب.
والحديث عن الدفاع عن الشرق الأوسط يختلف باختلاف الجهة التي يصدر عنها الحديث، فالعرب تنظر إليه نظرة خاصة، وتركيا تنظر إليه نظرة أخرى، وللبرطانين فيه اجتهاد منفرد، وللأمريكان رأي خاص، وللفرنسيين كذلك تفسير معين، وموقف إسرائيل منه(1009/7)
يختلف عن هؤلاء جميعاً.
ولكن المحافل العامة إجمالاً حين تتناول مسألة الدفاع عن الشرق الأوسط تفكر في أمور معينة تشترك فيها الأوساط المعنية بالأمر.
هذه الأمور هي: -
(1) - المركز الاستراتيجي للشرق العربي في خطط الدفاع عن الميدان الأوربي - كلا المعسكرين الروسي والغربي، وهذه الاستراتيجية تشمل قناة السويس والمطارات الجوية الصالحة لخطط حلفاء الغرب وما قد يفكر فيه الروس من خطط عسكرية مماثلة.
(2) - الثروة البترولية في هذا الشرق وأهميتها لعصب الجهاز الحربي لأي من المعسكرين المتطاحنين.
(3) - كون الشرق العربي نقطة القفز إلى القارة الإفريقية التي لها في مستقبل الاقتصاد الأوربي والأمريكي مكانة بارزة.
(4) - أهمية الشواطئ الشرقية للجزيرة العربية وخليج العجم في الخطط البحرية لأساطيل الحلفاء في المحيط الهندي وفي الرغبة القديمة الكامنة في روسيا للوصول إلى منافذ مائية إلى هذه البحار الآسيوية وإلى البحر الأبيض المتوسط.
وقد كثر الحديث عن هذه الأمور - أو عن بعضها - لدرجة أصبحت معالجتها من قبيل الكلام المعاد، وأصبح تحليل أوضاعها من قبيل الابتذال في الاجتهاد الفكري.
ولكن الواقع أن معالجة الناس لهذه الأمور - وفي الشرق العربي خاصة - كانت ولا تزال مشوبة بطابع السطحية والنظرة الركنية التي لا ترى الحقائق إلا من جانب واحد، وهذا شيء طبيعي مبعثه العوامل القومية العنيفة التي تتفاعل في تفكير العرب هذه الأيام؛ وقصور الصحافة العربية وألسنة الرأي العام عن الأسباب في معالجة الشؤون الدولية عامة والناحية العربية في الشؤون الدولية على وجه الخصوص - معالجة دقيقة مسهبة.
وكل ما يطمع كاتب هذه السطور لتسجيله هنا هو جمع أكبر قسط مستطاع من الآراء والتعليقات والتصريحات وما تنطوي عليه سياسة بعض الدول (المعنية بشؤون الشرق الأوسط) من مادة فكرية خاصة بموضوع الدفاع عن الشرق الأوسط، وتنسيق هذه المادة بحيث تعين الباحث في هذا الموضوع على تكوين فكرة شاملة عنه تكون ذخيرة نافعة للذين(1009/8)
يهمهم التدقيق في مسألة الدفاع عن الشرق الأوسط على ضوء المصلحة الجوهرية للحكومات والشعوب العربية؛ وعلى ضوء البرامج التي وضعها كلا المعسكرين المتخاصمين - السوفيتي والغربي - لاكتساب الشرق الأوسط إلى الحظيرة.
وإن من الطبيعي أن يتسرب إلى معالجة هذا الموضوع الآراء الشخصية التي يحملها كاتب هذه السطور، فمهما تعمد الكاتب التجرد في تحليله لمسألة من المسائل فلا مفر له من أن يبث في ثنايا السطور أطرافا من تفكيره الخاص.
والعذر الصحيح الذي يبرر لكاتب هذه السطور إقدامه على دراسة مسالة الدفاع عن الشرق الأوسط كونه قد شغل بهذا الموضوع وتتبعه بدقة في مراحله العديدة، وحاول أن يلم بخفاياه وظواهره، وأن يجمع أكبر عدد ممكن من الوثائق، وأن يزن مسألة الدفاع عن الشرق الأوسط بميزان التحليل المقارن لمسائل الدفاع عن مناطق جغرافية أخرى كالحلف الأطلنطي والجيش الأوربي وميثاق الدفاع عن الباسفسكي والتحالف الروسي - الصيني في الشرق الأقصى ومكانه الشرق الأوسط في كلا المعسكرين السوفيتي والغربي.
وعلى ضوء هذا التمهيد فاشرع في استعراض هذا الموضوع في شيء من الإطالة.
(للكلام صلة)
نيويورك
عمر حليق(1009/9)
1 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
هذه الحكومة الرشيدة التي جاد بها الدهر وهو الضنين بأمثالها، هذه الحكومة التي ثارت ونهضت لتصرع البغي وتقضي على الفساد، وخطت في ذلك الخطوات الواسعة السريعة، جدير بها أن تسرع الخطى إلى مفسدتين استشرى داؤهما وكاد يقضي على البقية من الخلق والدين، هاتان المفسدتان هما: الخمر والميسر.
(ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) (البقرة 219).
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (المائدة 90).
(إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) (المائدة91).
فهذه الآيات القرآنية التي تقرن الخمر بالميسر، وتجمع بينهما في شرورهما وآثامهما، وخضوعهما للشيطان وقى الإفساد، هذه الآيات لا ريب أنها ستجد من أولي الأمر فينا آذانا صاغية، وإصغاء واعيا لأمر الله وأحكام دينه.
وقد بادرت حكومتنا فاتجهت في سبيل سن العقوبات الرادعة لمدخني (الحشيشة) والاتجار بها، وليست الخمر والميسر بأقل في أضرارهما المادية والخلقية والصحية والاجتماعية والسياسية من (الحشيشة). فعلى موائد الشراب والقمار تضيع الأموال، وتفسد الأخلاق، وتعتل الأبدان، وتنحل الروابط الاجتماعية، ويتسلل العدو إلينا فيما بين ذلك غانما رابحا. وقد قرأنا في أثناء ثورة الشعب الأخيرة أن الأموال تتدفق من المصريين إلى خزائن الدول الأجنبية ثمنا للخمور يزيد على خمسة ملايين من الجنيهات كل عام.
حقاً إن الدولة قد حظرت لعب الميسر على موظفيها، ولكن موظفيها ليسوا كل شيء في الدولة، فإن الميسر يأخذ صوراً شتى صغيرة في مقاهي القرية والمدينة، ويبتز أموال الفقراء الكادحين، ويوقع العداوة والبغضاء إيقاعاً يترجم فيما بعد بالقتل وسفك الدماء وارتكاب كثير من جرائم السرقة والسطو والاغتصاب، فأولى بالحكومة أن تعمم تحرمه فتقطع بذلك دابر أجناس شتى من جرائم الأخلاق وجرائم النفوس.
هذه الرغبة الاجتماعية لدعاة الإصلاح في هذا البلد هي التي أوحت إلى أن أكتب هذا البحث الديني التاريخي، الأدبي اللغوي، الذي رأيت حوله ظلاماً أردت تبديده، ورأيت أن(1009/10)
لدى الكثير من الأدباء رغبة في تجليته وإظهار أسراره، فإن قليلاً من الباحثين هم الذين تعرضوا للكلام على الميسر، ومن هؤلاء القلة:
1 - برهان الدين البقاعي، المتوفى سنة 885 كتب في تفسيره المسمى (نظم الدرر، في تناسب الآي والسور) فصلا كبيرا ممتعا، وقد أفرد المستشرق السويدي (لندبرج): , , يسمي نفسه (عمر السويدي) وطبعه في مجموعة (طرف عربية) في ليدن 1303 وسماه (لعب العرب بالميسر في الجاهلية الأولى) وتشتمل الطرفة الأولى على أربعة مؤلفات عدد صفحاتها 191 وفيها هذه الرسالة، ورسالة أخرى هي (رسالة التنبيه، على غلط الجاهل والنبيه) لابن كمال باشا. والثالثة (نشوة الارتياح) للسيد مرتضى الزبيدي. والرابعة (ديوان أبي محجن الثقفي) رواية أبي هلال العسكري.
2 - السيد مرتضى الزبيدي، شارح القاموس، المتوفى سنة 1205، ألف في ذلك رسالة سماها (نشوة الارتياح، في بيان حقيقة الميسر والقداح) ضمنها شرح عبارات البقاعي، مع إيضاح ما أغفله.
3 - العلامة السيد محمود شكري الآلوسي، كتب فصلاً مسهباً في الجزء الثالث من كتابه (بلوغ الأرب). وقد صنف في ذلك أيضا كتابا سماه (المسفر، عن الميسر) وهو مخطوط لم يتسن لي أن أطلع عليه.
4 - ابن سيده الأندلسي المتوفى سنة 458 كتب فصولا لغوية في الميسر والأزلام، في المخصص (13: 20 - 23).
5 - وهو أهم أثر تاريخي يعتمد عليه، لقدم عهده وجلال مؤلفه، وهو كتاب (الميسر والقداح) لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213 - 276) الذي نشره الأستاذ المحقق السيد محب الدين الخطيب، الذي أدين له بفضل اتجاهي إلى جهاد النشر العلمي، حفظه الله وأبقاه.
وترجع أهمية هذا الأمر التاريخي إلى الطريقة العلمية التي نهجها ابن قتيبة، وهو استقراء الآثار العربية الأدبية، لاستخلاص هذا البحث النادر، على قلة ما وصل إلينا من تلك الآثار التي يذكر فيها الميسر، وفي ذلك يقول ابن قتيبة مخاطبا من كلفة تأليف الكتاب:
(قد كلفت رحمك الله شططاً، وحاولت عسيراً، لان الميسر أمر من أمور الجاهلية قطعه الله(1009/11)
بالسلام، فلم يبق عند الأعراب إلا النبذ منه اليسير، وعند علمائنا إلا ما أدى إليه الشعر القديم، من غير أن يجدوا فيه أخباراً تؤثر، أو روايات تحفظ، والشعر يضيق بالأوزان والقوافي عما يتسع له الكلام المنثور. على أني لم أجد في أشعارهم شيئا في جلالته عندهم وعظيم نفعه، هو أقل منه، إنما يعرض في شعر المكثرين من ذكره البيتان والثلاثة، وأكثرهم يضرب عنه صفحا. وليس ذلك مذهبهم في وصف الإبل والخيل والحمير، والنعام والظباء والقطا، والفلوات والحشرات. ولم أجد فيهم أحداً ألهج بذكر القداح من ابن مقبل، ثم الطرماح بعده. ولو جمعت ما في شعر أحدهما من ذكره لم تجد ما فيه من وصف حمار أو بعير).
فمن هذا يتضح مقدار الجهد الذي بذله ابن قتيبة، وكشف به الدستور الذي كان يتبعه العرب في الجاهلية في لعب الميسر
على أن ابن قتيبة كتب هذا البحث بلغة معاصريه، وقارب منهجهم الذي لا يسوده النظام الكامل، ويشيع فيه الاستطراد والحشو.
وني لمحاول هنا أن أبسط البيان في هذا بلغة معاصرة، وبأسلوب أحسبه منظماً، راجعاً في ذلك إلى شتى المصادر التي تعين في هذا البحث الشاق الوعر، وبالله التوفيق.
لفظ الميسر ومدلوله
لا ريب أن عرب الجاهلية كانوا يطلقون لفظة الميسر غالباً على المقامرة بالأقداح لاقتسام الجزور بطريقة خاصة نذكرها فيما بعد، وهو ما يعبر عنه أبو حيان في تفسيره بأنه (قمار أهل الجاهلية).
فالميسر على هذا مصدر ميمي، كالمرجع من رجع، والموعد من وعد.
ويطلقون الميسر أيضا على الجزور نفسه، فهو اسم موضع من اليسر، بفتح الياء، واليسر: التجزئة، ولذلك سموا الجازر ياسرا لأنه ييسر اللحم ويجزئه.
قال غبن قتيبة: (هذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح المتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم أيضاً جازرون، إذ كانوا سببا لذلك، وكان الجزور إنما يقع بضربهم، والجازر يفصل اللحم لهم بأمرهم. وكل من يأمر بشيء ففعل فهو الفاعل له وإن لم يتوله بيده). فالإطلاق الأول إطلاق مجازي، والإطلاق الثاني هو الإطلاق الحقيقي.(1009/12)
وقد ذهب مقاتل إلى أن اشتقاق (الميسر) من اليسر، لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة، من غير كد ولا تعب.
وقال الواحدي: إنه من قولهم يسر لي هذا الشيء ييسر يسراً وميسراً، إذا وجب.
وقال أبو حيان في تفسيره: إن السهام التي يقتسم بها يقال لها أيضا (ميسر) وذلك للمجاورة. والوجه فيما ذكره أبو حيان أن يقال إن مجازها من أنها آلة الميسر.
على الإسلام فيما بعد أطلق (الميسر) على جميع ضروب القمار.
1 - روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم). فقد جعل رسوله الله صلى الله عليه وسلم لعب (النرد) ضربا شبيها بميسر العرب في اقتسام الجزور. والكعبة في هذا الحديث هي الفص من فصوص النرد، يقال له (كعب) و (كعبة) أيضاً.
2 - وفي الحديث أيضاً أنه (كان يكره الضرب بالكعاب).
3 - وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء: (كل شيء فيه خطر - وهو ما يأخذ الغالب في النضال والرهان ونحوهما - فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز).
ولا يزال اللعب بالجوز ونحوه من البندق والفول السوداني وقصب السكر متعارفا بين صبياننا إلى هذا العهد، يزاولون لك بطرق مختلفة.
فالتابعون والفقهاء قد ألحقوا بميسر الجاهلية كل ما يمت إليه بسبب من مختلف ضروب القمار، قاسوا هذا بذاك، ولم يستثنوا من ذلك شيئاً إلا السبق في الخف والحافر. قال الفخر الرازي: (أما السبق فبالاتفاق ليس من الميسر، وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه).
وأما الشطرنج والنرد ونحوهما فكراهتهما لما فيهما من شبهة القمار. قال الفخر: (قال الشافعي: إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان، والصلاة عن النسيان، لم يكن حراماً). قال: (وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك فلا يكون قماراً ولا ميسراً).
وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، فمنه النرد والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار وهو ما يتخاطر الناس عليه.(1009/13)
وقال ابن قتيبة بعد أن ذكر الميسر الذي حرمه الله في الكتاب، وهو ضرب القداح على أجزاء الجزور قماراً: (ثم يقال للنرد ميسر على التشبيه، لأنه يضرب عليها بفصين كما يضرب على الجذور بالقداح، ولأنهما قمار كما إن الميسر قمار، ولا يقال للشطرنج ميسر ولا من الميسر، لأنها فارقت تلك الصفة وتلك الهيئة إنما هي رفق واحتيال).
ويفهم من هذا النص إما أن لعبة الشطرنج في عصر ابن قتيبة لم تكن مجالا للمقامرة، أو خفي على علمه أن لاعبيها كانوا يقامرون عليها، ولكن معرفته بأن النرد كان مجالا للمقامرة يرجح أن الشطرنج لم تتخذ في عصره موضعا للمقامرة.
وكان القوم ينفرون من الشطرنج ولاعبيها نفوراً شديداً. روى الراغب الأصفهاني أن أهل المدينة كانوا ينظرون إليه من نقص دينه، ولأنهم كانوا يزعمون أن الشطرنج (إحدى الضرتين)، وذلك لما يشغل صاحبه شغلا عن أهله وبنيه.
لفظ القمار ومعناه
والقمار لفظ أعم من الميسر، إذ يطلق على جميع أنواع المراهنة. يقال: قامره مقامرة وقماراً، إذا راهنه؛ وقمره قمراً، إذا غلبه في ذلك. وفي حديث أبي هريرة: (من قال تعال أقامرك فليتصدق بقدر ما أراد أن يجعله خطراً في القمار). ويقال تقمر الصياد الظباء والطير بالليل، إذا صادها في ضوء القمر فتقمر أبصارها في ضوئه، أي تعشى وتتحير فتصاد. والتقمر: الاختداع. فمرجع القمار إنما هو الخداع. وكذلك يفعل لاعب القمار، فإنه يحاول إختداع صاحبه لتكون له الغلبة عليه.
لفظ الأزلام ومعناه
والأزلام جمع زلم بالتحريك وبضم ففتح. والزلم، والسهم، والقدح بالكسر مترادفة المعاني، تدل كلها على قطعة من غصن مسواة مشذبة.
وأكثر ما يستعملون (الزلم) في (الاستقسام)، وهو ما سنفرد له قولا خاصاً. وأكثر ما يستعملون (السهم) في سهم القوس الذي يرمى به، وأكثر ما يستعمل القدح في قداح الميسر التي تجال لقسمة الجزور، وكل من هذه الألفاظ الثلاثة ينوب عن الآخر في الاستعمال.
زمان الميسر(1009/14)
لم يكن الميسر عند العرب لهوا يلهون به، ولعبة يلعبونها، إنما كان نظاماً اجتماعياً دعتهم إليه ظروفهم الاجتماعية، وساقتهم إليه طباعهم البدوية، فالباعث الحقيقي عليه كان (الكرم) وكان التباهي بالكرم، وهذا الأخير هو الذي أظهر الدين كراهته فيما بعد، كرهه الدين وكره معه أيضاً ما كان يصحب هذا الصنيع من نزاع وجدال وخصومة في سبيل الظفر بأوفى نصيب، هذا إلى ما يقارنه من المخاطر بالمال والتعرض للفقر.
ومن بواعثه أيضاً إعانة الفقراء فيما بينهم، إذ كان الفائز منهم بنصيب لا يتناول منه شيئاً، بل يلقيه إلى المحتاجين والمعوزين من ذويه، ليسد رمقهم.
قال أبو حيان: (وأيهم خرج له نصيب واسى به الفقراء، ولا يأكل منه شيئاً، ويفتخرون بذلك). ثم قال: (وربما قامروا لأنفسهم) أي أن ذلك أمر نادر.
والحاجة والعوز - وهما المتطلبان للكرم والجود - إنما يشتدان في وقت الشتاء عند العرب، وذلك عندما جدب البلاد وتقشعر الأرض، ويتعذر القوت على طالبه، وحينما يكلب الومان وتضن البلاد بخيراتها، والنوق بألبانها.
وليس في طوقك أن تتصور حال البؤس وشظف العيش الذي يتعرض له الأعراب في باديتهم ي ذلك الزمان، ومقدار الحاجة الملحة التي كانت تنزل على الأرامل والأيتام في تلك المجدبة والمسغبة.
فالوقت الطبيعي للميسر عند العرب هو فصل الشتاء، وهم يختارون الليل في ذلك الفصل، لأن الليل وقت طروق الضيف، وحين اشتداد البرد، فيقودون النار ليهتدي بها الضيف، وليستطيعوا أن يزاولوا هذا العمل في يسر.
وكان الرجل من العرب يخشى الصيف، أن يحضر الصيف ولم يكن قد صنع له في شتائه مفخرة تذكر له حين تذكر المفاخر، فهو يخشى أن يعير في الصيف بنكوصه عن المشاركة في هذا لجهد الاجتماعي، وإمساك يده عن مساعدة القبيلة
إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم ... فواحش ينعى ذكرها بالمصايف
وذلك أنهم يخصبون في الصيف فيتذاكرون ما كان من الناس في الشتاء، فيعير كل امرئ بسوء فعله.
وقد سجل الشعر العربي أن الميسر يكون في الشتاء، فقال الأعشى:(1009/15)
المطعمو الضيف إذا ما شتوا ... والجاعلو القوت على الياسر
وقال متمم بن نويرة:
ولا برما تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
البرم: الذي لا يدخل معهم في القداح، ويسمونه أيضاً (المغزال). وإذا كان الرجل كذلك لم يدخل اللحم بيته إلا بأن يهديه نساء الحي إلى امرأته.
وقال طرفه:
وهم أيشار لقمان إذا ... أغلت الشتوة أبداء الجزر
. . الأبداء: جمع بدء، وهو النصيب من الجزور
وقال عنترة:
ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوم
وقال لبيد:
وبيض على النيران في كل شتوة ... سراة العشاء يزجرون المسابلا
قال ابن قتيبة: يريد أنهم يضربون بالقداح فيصيحون بها ويزجرونها إذا ضربوا، كما يفعل المقامرون بالنرد.
(للبحث بقية)
عبد السلام محمد هارون(1009/16)
في توديع الرئيس ترومان
تمثال البيت الأبيض
الدكتور علي شرف الدين
في البيت الأبيض - حيث يقيم الرئيس ترومان - أبدع ما أخرج الفن الحديث من معجزاته الروائع، فيما يرى الناظر من التماثيل القائمة في مداخل القصر وحدائقه، وفي أبهائه وتحت شرفاته. طراز جديد من فن المثالة الحديثة، يكاد يسبق هذا الآيات الخالدة التي حفظها لنا التاريخ عن أيدي الإغريق. وإذا كانوا يقولون أن الفن الإغريقي قد سبق الطبيعة، وكأنه في سبقه لها، وتجاوزه لصورها، يقيم لها مثالا يتحدث إليها في صمت: بأنه كان يجب أن تكون على غراره - فإن تماثيل البيت الأبيض لا توحي بهذا إلى النفس فقط، ولكن كل واحد منها ينطق مفصحاً عما يريد، حتى ليرن صدى صوته في الأذن، وحتى لتكاد أسارير وجهه تأخذ بين الفينة والأخرى مسحة جديدة تعبر عن عواطفه، وحتى ليكاد الرائي يسمع خفقات قلبه بين ضلوعه الصخرية الجامدة.
وهم يقولون أن الرئيس ترومان كثير النظر إلى هذه التماثيل طويل الوقوف إلى جانبها، وإنه - على أن السياسة تأخذ حياته من أقطارها - له لحظات يخلو فيها إلى الفن، حيث تسبح نفسه إلى عالم الخيال ساعة من نهار، وإن انغمست بقية يومها في متاعب الدولار.
ولعل أبلغ هذه التماثيل أثراً في نفس الرئيس ترومان، هو تمثال الوطن، وهو يتألف من صخرة طبيعية قد اتخذ المثال من جانبها الممتدين في أنحاء درجاً يصعد يمنة ويسرة، حيث يلتقيان عند سطح مستو ينهض فيه تمثال أم حنون، تستقبل أطفالها عند الغروب، وهم يصعدون إليها في جانبي الدرج متدافعين متعثرين، ولكن جباههم على تعثرهم تتجه نحو الأم دائما، بينما تمد الأم يديها نحو الجانبين جميعا، لا يليها أحد عن الآخر، في إقبال كله العطف والرحمة والوفاء.
قالوا أن الرئيس ترومان قد ألف الوقوف إلى جانب تمثال الوطن، وإن جواره للتمثال أمر لا مفر منه في حياته اليومية لأنه تمثال الوطن - مع أنه يقع خلف البيت الأبيض وفي جانبه لذي تكاد أبوابه تغلق طوال العام - هو طريق وحيد يدلف منه المار إلى ربوة صناعية تحتشد فيها مواكب من الزهر النادر؛ تآزر فيها جمال الطبيعة مه ألوان التطعيم(1009/17)
الصناعي، يختلف إليها الرئيس من حين لآخر، ينشد عندها نشاط نفسه وإشراقها، كلما أرهقتها مظالم الحضارة.
ولكن المتصلين بالرئيس ترومان قد رأوا منه ما أثار الدهشة في نفوسهم. فقد أخذ وقوفه إلى جانب التمثال يقصر عن ذي قبل، ولم يعد سكونه إليه يحفه هذا الحلم الجميل يشيع في أقطار نفسه، ثم يستحيل في جبهته وعارضه ضياء مشرقاً. لم يعد سكون الأحلام والطيوف، ولكنه ذهول عميقتكتسي فيه صفحة وجهه فنوناً من الألوان تضطرب دائماً بين الشحوب والسواد. ولم يمض غير يسير من الزمن حتى هجر الرئيس تمثال الوطن، ولم يعد يختلف إلى هذه الربوة من النوار، يصطنع فيها ما يصطنعه الفنانون وأصحاب العاطفة، حين يقرءون كتاب الوجود في المروج والزهر. وللرئيس مع تمثال الوطن ما نسميه مجرى العادة المكبوتة - إذا صح التعبير - لا يكاد يتجه نحوه عن غير قصد، حتى يدور على عقبه في حركة عصبية لا تخلو من ألم، والتفاتة مفاجئة لا تخلو من حزن، وسرعان ما يجري في تضاعيف وجهه سحابة ليست هي الألم والحزن، ولكنها شيء أمر من النسيان تصرخ في جوانبها المغالطة، يضطرب فيها الرئيس أشد الاضطراب وأعنفه وقد خذله النسيان كلما مر بتمثال الوطن.
ويؤرخ المراقبون لحياة الرئيس اليومية هذه الحركة لا تخلو من حزن مرير يخالطه الألم والخوف واليأس جميعا بعام سنة 1948 بعيد خروج العرب من فلسطين عنوة، بأمر الرئيس ترومان وتدبيره، ويقولون أنه غالب شعوره في أول الأمر بفنون من رباطة الجأش المصنوعة، وضروب من الجمود لا تجديه فتيلاً، ومع أن الرئيس ترومان معروف بإصرار مرهق مبعثه الجمود، ومشهور بجمود طبيعي مبعثه الإصرار سواء في الحق أو الباطل. . . فإن جموده الطبيعي قد خانه في موقفه مع التمثال، فلا تكاد عينه تقع عليه حتى تمضي في أعصابه هزات عنيفة هي هذه الصواعق المهلكة من الحزن والألم والخوف جميعا، وحتى تمضي بنفسه خواطر صارخة قاتلة، تحمل في بروقها شريطاً متصل النكبات على نفسه الإنسانية، فيما يتمثل له في الجوع والعرى والبرد والفقر. . .
ولو أن ما تحمل الذكرى إلى نفس الرئيس ترومان كان مقصوراً على الفقر والعرى والجوع والبرد، لهان أمرها وغالب ضميره بشيء من الجمود هو فيه طبيعي، واستطاع أن(1009/18)
ينسى إنسانيته في ساعات الذكرى، لأن الفقر والعرى والجوع والبرد هي محن مادية مهما بلغ أثرها، تصيب الجسم فتسبغ عليه النعمة والرقة، أو تذيقه الشقاء والألم. مصابه ليس إذن ماديا، ولكنه مصاب روحي يتجاوز هذه الكلمات اليسيرة فيما نسميه الظلم والنعرة والطغيان. مصابه أنه أوضح للخليقة، وكتب بيده في سجل التاريخ، أنه رجل لا يدرك ما معنى الوطن، ولا يستطيع أن يحس هذه الروابط المقدسة الحبيبة بين الإنسان ووطنه، على سهولة إدراكها، ويسر الشعور بها - حتى عند الحيوان - لأنها من أوليات الشعور.
أما لك أيها الرئيس منزل بالريف، ورثته عن (أبوك) مثلاً، متواضع أشد التواضع، حتى ما تحب أن تستقبل فيه ضيفك، ولكنه على تواضعه، وعدم أهليته لاستقبال الضيف تحب أن تراه من آن لآخر؟ فتهجر البيت الأبيض، وما أقامت لك في فيه أمريكا من مجد مغصوب زائف، إلى حيث هذا المنزل المتواضع، حيث تحس في قربك منه برد الراحة، يرد إلى نفسك الشفاء والعافية، وقد أثقلتها مظالم الحضارة، وحيث تشعر بجمال الصدق والبقاء على الوفاء في موطن هجرته إلى خير منه، فما تغير عليك إذا فارقته، ولا تنكر إذا هجرته، ولكنه ظل صادقا في استقباله لك، وفياً مخلصاً يحمل إلى قلبك خير الذكريات حتى أصبح جزءاً من حياتك، أو هو الحياة نفسها في أسمى معانيها الروحية.
لقد سمعت أن الدكتور فاضل الجمالي معنى أشد العناية بعرب فلسطين الذين طردهم ترومان عنوة من ديارهم قبيل الانتخابات (النظيفة) التي أعطته مكانه في البيت الأبيض. لقد عرض عليهم ترحيب البلاد العربية بقدومهم، وأنهم منها ومن صدور أبنائها في المكان الرحب الكريم، فماذا كان جوابهم؟ لقد أجابوا: لا نريد بغير وطننا بديلاً. ليس هناك جواب اصدق وأروع من جوابهم: (لا نريد بغير وطننا بديلاً). وإني أؤكد - وهم العرب الخلص - لو كانوا قد نشأوا في سبيريا وفي أصقاع الشمال الباردة، ما ألهتهم عروبتهم الخالصة عن نسيان وطنهم في سيبريا ذات البرد القاتل، ولكان جوابهم: نحن عرب، ولكننا لا نريد بغير وطننا بديلاً.
إن الشعوبية أو العصبية الجنسية لها أواصرها القوية، وروابطها المقدسة، ولكن روابط الأوطان تظل أبدا أقوى وآكد، لأن روابط الشعوبية تقوم على الدم واللغة وطراز الحياة، وهي في جملتها روابط روحية بحتة في جملتها وتفصيلها، إنها الروابط الرفافة ذات(1009/19)
الإشراق بين الوطن وقلوب بنيه، تضيء وتضيء، وتلطف وتلطف، حتى تسبق في ضيائها ولطفها خواطر المتصوفة، وأروع ما فيها أنها قد تكون روابط ذكريات كلها دموع وشجن، ولكنها مع هذا حبيبة إلى النفس، وهي سلوتها في حياة تزدحم بالشرور واللام، ولكن من أين للرئيس ترومان أن يدرك هذه الروحيات؟
قل لي أيها الرئيس: ماذا يستطيع عرب فلسطين الذين أخرجتهم عنوة من وطنهم أن يصنعوا إذا أرادوا دعوة فيصل لزيارة وطنهم كما دعوته أنت لزيارة وطنك؟ ماذا يستطيعون أن يصنعوا وهم أحق منك بهذه الدعوة لأسباب كلها الصدق والوفاء: لأنه عربي مثلهم، ولأنه سيد شعب، وسليل بيت، وأثر نبوة. فهم حين يدعونه إنما يقيمون دعوتهم على دعائم كلها المودة والصدق الخالص الصريح. وأغلب الظن أنك ما دعوته إلا بعد أن أمسكت بقلم الحاسب الذي يعتمد على الأرقام والأعداد من يدري؟ لعلك قد خرجت من هذه (الحسبة) بنتيجة خاطئة، فتوهمت أنها قد تعطيك (جالونا) من بترول العراق!
من سوء حظ العرب أن يموت روزفلت، وقد نهضوا لاسترداد حقوقهم. لقد كان روزفلت رجلاً جهيد الجسم، ضخم الأعطاف، بعيد المناكب، ومثل هذا الجسم الكريم هو صورة لكوم النفس وسخائها وتأثرها، وهو إذا جاع أو برد كان إحساسه بالجوع والبرد أسرع وأبعد من غيره من الأجسام الضنينة، لأن الشعور بالحاجة في الجسم الكريم السخي أكثر منه في الجسم البخيل بأصله، الجائع بطبعه. والرئيس ترومان له جسم ككل الأجسام، ولكنه ضنين بخيل. وهو في بخله وضنه ليس على استعداد لان يحس الجوع والبرد - فضلاً عن أن يحس الحزن لفقد الوطن - لأنه جسم جائع من قبل أن يناله الجوع، بارد من قبل أن يصيبه البرد. ومهما بلغ الجوع والبرد من الشدة فلن يكون لهما أثر ملحوظ في جسم ينقصه الشبع، ونفس ما عرفت الوفاء، وماذا يصيب الفقر من الفقير؟
عقب تولي الرئيس ترومان سأله كثير من الصحفيين: (أما يفكر الرئيس في أن تقبل الولايات المتحدة استقبال بضعة آلاف من يهود أوربا؟ - وكان ذلك قبل أن ينفذ نيته التي بيتها للعرب - وكان جواب الرئيس: (نه لا يفكر الآن في تغيير قوانين البلاد. . .).
إنه لا يفكر في تغيير قوانين بلاده الموضوعة، فهو يحترمها ولا يأذن بالهجرة إليها على ثروتها واتساعها. ولكنه يفكر في إخراج الناس من أوطانهم لقاء أصوات الناخبين من(1009/20)
اليهود!
حين تولى الرئيس ترومان ذكرت بعض الصحف حديثاً لكاتب يصف فيه الرئيس الجديد بهدوء الأعصاب، ورباطة الجأش، وقد بالغ الكاتب في وصفه حتى قال: إنك لو ضربته بقبضة يدك على أرنبة نفه على حين غفلة منه ما تحرك هدب عينيه. .) وقد تكون قوة الأعصاب محمودة في الرجال عند الحوادث التي تصيبهم، أما الرباطة والهدوء في كوارث ينسجون لغيرهم حوادثها، ويعقدون فيها المؤامرات فليس ذلك مما قصد إليه الكاتب، لأن فرقاً واضحاً بين الرباطة والقسوة، وبين الهدوء والجمود، وبين قوة الأعصاب والبلادة، وإذا كانت السياسة تقوم على الخدعة والمناورة، فليست (الثعلبة) من معانيها في أي قاموس إنساني، يصطنعها الأقوياء للسرقة والسطو، فإن كانت السرقة عنوة وفي النهار الضاحي من معانيها، فهي ليست لسياسة إذن، ولكنها صناعة الوحل، وإن سماها الظالمون (حق المهنة).
قالوا أن جماعة من خلصاء ترومان سألوه وألحفوا في السؤال (ما بال الرئيس لم يقدم في الانتخاب الحاضر لرئاسة الجمهورية المتحدة؟) وظل الرئيس ساكتاً لا يجيب، مع إلحافهم وكثر سؤالهم، وظل الجواب مجهولاً، حتى عند الخاصة من خلصاء ترومان، حتى أبصره خدم البيت الأبيض في لحظات خاطفة يهرع إلى تمثال الوطن، يطيل النظر فيه، وتجري في لسانه مناجاة خافية مضطربة، يتهدج في خلالها صوت جريح مخنوق: (يسألونني: لماذا لم أتقدم في الانتخاب الحاضر لرئاسة الدول المتحدة؟ لأني لم أعد أحب أن أكون رئيساً في انتخاب ملوث أشتري فيه أصوات الناخبين بأوطان الناس).
(باريس)
علي شرف الدين(1009/21)
أدب التاريخ أو التاريخ الشعري
للأستاذ خليل رشيد
ليس الغرض من مقالنا بيان فضل التاريخ وما يحدثه من أثر طيب بتربية الذوق الأدبي. إنما غرضنا الحديث عن فن أدب التاريخ أو كما يسميه صديقنا المرحوم النقدي عضو مجلس التمييز الشرعي ببغداد، بضبط التاريخ بالأحرف.
وسأقدم لك لوحة فنية من مبدعات هذا لفن الخالد بخلود التاريخ، وقد أضفت إليها ريشة الفنان برد الفن ولبوسه، وأسبغ عليها قلم المؤرخ أبدع روائعه. وسأقدم لك جهبذا من جهابذة هذا الفن وغريدا تغنى على فن الشعر، وصدح في رياض الأدب منذ نصف قرن أو تزيد قليلا، هو الحاج مجيد المشهور بالعطار نور الله مرقده.
والحاج مجيد سريع النكتة، حاضر البديهة، شاعر بما يريد أن يقول، يغذي شعره عصارة فكره ودم قلبه. عميق الفكرة، متين القول، سلس الأسلوب، فإذا حلق في سماء الفكر خرت التواريخ أمامه صاغرة ليختار الجيد الجميل منها، ويرجع بغنيمة الظافر المنتصر، وقد ضمن التاريخ نكتة أدبية رائعة، تبهرك إعجاباً بعظمة الفكر وسرعة الخاطر. في شعره جزالة القديم ورقة الحديث، وفيه دقة المعنى وروعة التصوير. وليس هذا النوع من الأدب سهل المأخذ، بل هو صعب جموح، يخضع لقواعد ونظم قد لا يخضع لها غير أدب التاريخ من الفنون الأدبية الأخرى منها: ما يحسب من التاريخ على الطريقة المألوفة في علم الخط لا ما يكتبه المؤرخ حسب رأيه، فالمعتل بالياء سواء كان اسماً كموسى، أو فعلاً كرمى، أو حرفاً كإلى لا يحسب آخره في التاريخ ألفاً، وإنما يحسب ياء، فالأول كقول أحد الفضلاء في تاريخ وفاة أحد العلماء الأعلام:
مضى الحسين الذي بحسد من ... نور علوم من عالم الذر
قدس مثوى منه حوى علماً ... مقدس النفس طيب الذكر
أوصافه عطرت فأنشقتنا ... منهن تاريخه شذى العطر
والثاني كقوال عبد الغفار الأخرس، يؤرخ وفاة السيد عبد الرحمن النقيب وفي الشاهد للثالث أيضاً:
يوم به قيل أرخ ... مضى إلى ربه النقيب(1009/22)
سنة 1291هـ
وفي الثالث قول عبد الباقي العمري، يؤرخ تعيين المشير رشيد الحوزكلي لبغداد:
بشرى لبغداد فقد أرخوا ... إلى رشيد أب قطر العراق
سنة 1269هـ
وقد أهمل المد في آب. . والصحيح عدم إهمالها.
ومنها: اختلافهم في بعض ما يكتب، كالتاء التي تكون في الوقف هاء، كفاطمة. والهمزة الواقعة في آخر الكلمة، كهمزة، جاء. وداء. ورجاء. وأمثالها. . والألف من لفظ الجلالة، والألف التي يوضع لها علامة المد.
أما التاء التي تكون في الوقف هاء فقد عدها جماعة من الأدباء هاء والصحيح أنها متى تحركت بانت تاء. وتعد بأربعمائة؛ وإذا وقف عليها كانت هاء وعدت بخمسة، وكذلك الهمزة من جاء وأمثالها، عددها واحد عند الحساب كأختها الألف كما قول عبد الباقي العمري يؤرخ دار العلامة الآلوسي صاحب تفسير روح المعاني.
بنورك يا شهاب الدين أرخ ... أضاء مقامك المحمود حسنا
سنة 1252 هـ
أما الألف الساكنة مع واو الجماعة فإنها تحسب لأنها تكتب. . . وكذلك واو عمرو، وأما الألف التي على الهاء من هذا فإنها تحسب أيضاً لأنها تكتب منفصلة من الذال ومتصلة، والانفصال خط الأكثر، والاتصال خط المصحف، وكذلك الألف التي يبدأ بها لفظ الجلالة. . أما المد فقد استقر الرأي أنه مع احتياج الكلمة إليه، في الاستقلال يحسب، وإذا استقلت الكلمة بدونه وأمنت اللبس فلا يحسب، فالأول كالمد في آل. فإن الكلمة لا تستقل بدونه لأنها تلتبس بأل وأمثالها. . وأما المد في آب ومنه قول الشيرازي في وفاة الخليعي:
بشره بالخير واعذر من يؤرخه ... فللخليعي لما آب أفنان
سنة 1127 هـ
والثاني كالمد في لفظ الجلالة، فإن الكلمة لا تلتبس بغيرها، لشهرتها واختصاصها. . وأما المد الواقع في آخر الكلمة الدال على معنى مقصود. كهاء وتاء وباء وأشباهها فهو يحسب عند الجميع.(1009/23)
ومنها: إفراز مادة التاريخ أرخ أو يؤرخ أو أرخت أو أرخوا ومثالها، أو ما يفيد معنى هذه لألفاظ. . ومثل ذلك كقول بعضهم في تذهيب قبة الإمام علي عليه السلام:
يا طالبا عام إبداء البناء لها ... أرخ تجلى لكم نور على نور
سنة 1155 هـ
وقول الشيخ حسن الشامي في ولاية حسن باشا لمصر:
ولسان الحال يؤرخه ... كملت مصر بجمال حسن
سنة 1014 هـ
وقول العمري عبد الباقي يؤرخ وفاة العلامة شهاب الدين الآلوسي صاحب روح المعاني:
حور الجنان به حفت مؤرخة ... جنات روح المعاني قبر محمود
سنة 1820 هـ
وربما تزيد مادة التاريخ أو تنقص، فيجوز الإكمال أو التنقيص بنكتة أدبية. . فالأول كقول بعضهم في تعمير مسجد صاحب الجواهر:
تم بأقصى اليمن تاريخه ... شيد على أسس التقى ركنه
سنة 1351 هـ
أشار بأقصى اليمين إلى إضافة خمسين، وفيه النكتة الأدبية. . والثني كقول بعضهم أيضا في تزيين قبة الإمام علي عليه السلام بأمر أحمد خان النواب:
فأنخ والق عصاك وادع مؤرخا=الخير وفق أحمد النواب
سنة 1198 هـ
إشارة إلى إلقاء واحد من المجموع وهي نكتة أدبية لطيفة.
وقد تفنن الأدباء في هذا الفن. فمنهم من نظم القصيدة وجعاً كل شطر من شطراتها تاريخاً كما فعل النحلاوي بمدح الشيخ عبد الغني النابلسي. . ونمهم من جعل معجم كل شطر منها تاريخاً كما فعل عبد الباقي العمري في مولد حفيده وسماها الجوهرة. . ومنهم من جعل من معجم كل بيت ومهمله تاريخاً كما فعل الشيخ ناصيف اليازجي. . كما عرفنا عليه أستاذنا الجليل أحمد حسن الزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي ص 458 فقال (وشعره على طول معالجته له، وقوة طبعه فيه، أسبه بشعر الحريري وأضرابه، وبخاصة تلك القصائد(1009/24)
التي تكلف فيها لتاريخ الشعري، فقد غالى في ذلك وأسرف، حتى كان يضمن البيتين ثمانية وعشرين تاريخا، أو ينظم القصيدة، فيلزم كل شطر من شطراتها تاريخا، كقصيدته في تهنئة إبراهيم باشا في فتح مكة.
تعجبني لباقة الأستاذ الزيات ولفتته الأدبية في تعريف الأدباء وتحليل نتاجهم الأدبي. هو كصيدلي بارع، يزن الدواء بمقدار. .
لنعد لمجرى الحديث عن أديبنا الحاج مجيد، فهو أديب عرفته الأوساط الأدبية في القرن التاسع عشر بالعبقرية والنبوغ وسعة الفكر والخيال والدين، ويكاد رحمه الله يختص بأدب التاريخ، وهذه الملكة الفنية عنده من السهولة بمكان. وقد حدثني عنه صديقي الأستاذ اليعقوبي، عميد جمعية الرابطة الأدبية في النجف، أحاديث من الغرابة بمكان، بحيث يؤرخ في بيت واحد من الشعر تواريخ عدة، لا يستطيعها غيره من الأدباء، وغير من أرشدنا إليه الأستاذ الزيات:
عاش شاعرنا وقضى باكورة شبابه والشيء الكثير من شيخوخته بين الزاغ والدياغ، وما تتطلبه مهنة العطارة وتقتضيه، كي يحصل على قوته ويوفر لأهله الخبز الحر الذي يستسيغه ويستطيبه من كده وكدحه. وهو من المؤمنين بحكمة المثل القائل: من عجز عن زاده اتكل على زاد غيره. . وكان رحمه الله مثالاً صادقاً من أمثلة المسلم الصحيح، ذا نسك ودين، كما ينبئ بذلك قوله:
ما شاقني قرب الحمام وإنما ... أشتاق قرب الواحد المنان
لأشم ريح العفو عند لقائه=وأذوق طعم حلاوة الإحسان
وقوله مناجيا ربه:
أمحصلاً ما في الصدور بموقف ... لا عذر فيه لنا من العصيان
أتقيم فينا العدل يحكم وحده ... وأمرتنا بالعدل والإحسان
ومن ظريف ما يروى عنه رحمه الله أن شاعرنا مكثراً استحسن بيتين لشاعرنا فشطرهما. فصار البيتين والتشطير أربعة أبيات، ثم شطر الأربعة أبيات فصارت ثمانية، ثم شطر هذه أيضاً فصارت ستة عشر بيتاً، ثم شطر الستة عشر بيتاً، فصارت اثنين وثلاثين بيتاً، كتبها وقدمها إلى صاحبنا العطار.(1009/25)
فلما رآها نظر إليه وقال، صديقي الشيخ! أتسكب أربع قرب من الماء على قدح صغير من عصير الليمون؟ فعل الله بك وفعلب. . .
ولسنا الآن بصدد هذا كله، وإنما نحن بصدد الحديث عن أدب التاريخ. . وإليك بعض أعاجيب هذا الشيخ في هذا الباب: هذان بيتان أرخ فيهما زواج السيد أحمد بن السيد مرزا القزويني، محتوية على ثمانية وعشرين تاريخا وهي:
أكرم بخزان علم أم وارده ... منكم لزاخر بحر مد آمله
زفت إلى القمر الأسنى بداركم ... شمس لوار وزان البشر حامله
وهذان بيتان آخران، أرخ فيهما مقام الإمام علي عليه السلام في الحلة، على نفقة العلامة السيد محمد القزويني ره، وهي:
بباب مقام الصهر مرتقباً نحا ... أخو طلب بالبر من علم براً
مقام برب البيت في منبر الدعا ... أبو قاسم جر الثنا عمها أجراً
1316 هـ
والتواريخ هذه على النمط التالي:
(1) صدر الأول (2) عجزه (3) صدر الثاني (4) عجزه (5) مهمل البيت الأول (6) معجمه (7) مهمل صدر الأول مع معجم عجزه (8) معجم صدر الأول مع مهمل عجزه (9) مهمل البيت الثاني (10) معجمه (11) مهمل صدره مع معجم عجزه (12) معجم صدره مع مهمل عجزه (13) مهمل الصدرين (14) معجم الصدرين (15) مهمل صدر الأول مع معجم صدر الثاني (16) معجم صدر الأول مع مهمل صدر الثاني (17) مهمل العجزين. . . (18) معجم العجزين (19) مهمل عجز الأول مع معجم عجز الثاني (20) معجم عجز الأول مع مهمل عجز الثاني (21) مهمل صدر الأول مع مهمل عجز الثاني (22) معجم صدر الأول مع معجم عجز الثاني (23) مهمل صدر الأول مع معجم عجز الثاني (24) معجم صدر الأول مع مهمل عجز الثاني (25) مهمل عجز الأول مع مهمل صدر الثاني (26) معجم عجز الأول مع معجم صدر الثاني (27) مهمل عجز الأول مع معجم صدر الثاني (28) معجم عجز الأول مع مهمل صدر الثاني.
فجعل كل شطر برمته تاريخاً، والحروف المعجمة من كل شطر شطرين تاريخاً، ومثلها(1009/26)
الحروف المهملة؛ فيتجمع من ذاك ستة عشر تاريخاً، وكذلك المعجمة مع المهملة، والمهملة مع المعجمة، فيتجمع اثنا عشر تاريخاً. فيكون المجموع ثمانية وعشرين تاريخاً.
ونحن نكتفي بهذا القدر من هذا البحث، وعن هذا لشاعر، لقلة المصادر الموجودة لدينا عنه، وقلة من كتب عنه، أظن أن في بحثنا هذا الكفاية بعض الشيء عن هذا البحث وعن هذا الشاعر، وأخذ الفكرة عنه، ومن الله نستمد المعونة والتوفيق
العمارة - العراق
خليل رشيد(1009/27)
2 - تركيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(حققوا للشعوب حريتها فإن قلوب الأحرار خير حصن ضد
الطغيان والاستبداد والاستعمار) غلادستون
موطن نزال
تشغل تركيا مكاناً يمتاز بأهمية موقعه الدولي. . فهي تضع قدما في آسيا وتضع قدمها الأخرى في أوربا وتتحكم في الملاحة بين البحرين الأبيض والأسود.
وقد كانت أرضها ميدان النزال بين الفرس واليونان في التاريخ القديم، وموطن الصراع بين المسلمين والروم في العصور الوسطى، وكانت طريق الصليبيين إلى الشرق أثناء الحروب الصليبية، وهي الحروب التي شنها الغرب على الشرق وانتهت بانتصار الشرق وخذلان الغرب.
وفي العصور الحديثة كانت تركيا وما زال ميدان صراع دولي عرف في التاريخ باسم المسالة الشرقية.
المسألة الشرقية
في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي نزل الأتراك العثمانيون في آسيا الصغرى وأسسوا دولتهم التي بدأت صغيرة ثم أخذت تنمو وتتسع حتى شملت آسيا الصغرى، ثم عبروا البحر إلى أوربا ونزلوا بشبه جزيرة البلقان واستولوا على القسطنطينية عام 1453 واتخذوها عاصمة لدولتهم الكبيرة.
واستمر الأتراك في فتوحاتهم ففتحوا بلاد الشام والعراق وفلسطين وبلاد العرب ومصر وشمال أفريقيا؛ وفي أوربا استمر جندهم في فتحهم حتى قرعوا أبواب مدينة فينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية.
في ذلك الوقت لم تكن هناك مسألة شرقية وإنما كان يوجد ما يمكن أن يسمى بالمسألة الغربية. ما هو مصير غرب أوربا أمام الزحف التركي وما الذي سيؤول إليه أمر غرب أوربا في حالة استمرار انتصار الأتراك؟؟(1009/28)
لكن الأتراك ردوا عن فينا ثم ما لبثوا أن استقروا في البلاد الشاسعة التي فتحوها وأصابهم الترف ونزل بهم الوهن وتجلا ضعفهم شديداً شنيعاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين وظهرت المسألة الشرقية واتخذت مكانا بارزاً في التاريخ الحديث.
وكانت روسيا أكبر عدوة لتركيا: ذلك أن روسيا نهضت على يد بطرس الأكبر وبدأت تحتل مكاناً بارزاً في التاريخ منذ أوائل القرن الثامن عشر. وكانت روسيا تريد الوصول إلى البحرين الأسود والأبيض وكان هذا لا يتأتى إلا على حساب تركيا ومن أجل هذا قامت الحروب بين الدولتين ووضعت روسيا يدها على شواطئ البحر الأسود الشمالية والشرقية.
لكن روسيا كانت ترنو دائماً إلى الوصول إلى القسطنطينية وهذا هو محور سياستها، ويتجلى لنا واضحاً جلياً في جميع حوادث التاريخ منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم.
وقد ساعد روسيا على تنفيذ سياستها أن تركيا لم تعمل على إدماج رعايا البلقان في رعاياها؛ بل تركت لهم حريتهم الدينية وحكومتهم الذاتية ولغتهم القومية واكتفت منهم بما قدموا لها من جزية وضرائب.
واستغلت روسيا الروابط الدينية والجنسية التي تربطها بسكان البلقان، وعملت دائماً على خلق المتاعب في وجه السلطان، وسارعت إلى نصرة الثائرين بقواتها وأملت على تركيا شروط الصلح لفائدتها.
وكانت النمسا العدوة الثانية لتركيا، فقد اقتطع الأتراك جانباً كبيراً من أملاكها في البلقان وفي الدانوب، ولما ضعفت تركيا عملت النمسا على استرداد ممتلكاتها ونجحت في ذلك إلى حد كبير في القرن الثامن عشر.
أما فرنسا - وكانت عدوة للنمسا - فقد أقامت علاقات ودية مع تركيا منذ القرن السادس عشر.
ولكن إنجلترا في الفرن الثامن عشر كانت تجد في روسيا حليفاً طبيعياً؛ فقد كانت روسيا سوقا هامة للتجارة الإنجليزية وكانت إنجلترا ترى أنها بحاجة إلى صديق وحليف ليعاونها ضد عدوتها التقليدية إذ ذاك وهي فرنسا.
لكن حملة نابليون على مصر نبهت إنجلترا إلى الخطر المحدق بها من جراء مطامع روسيا، فقد كانت روسيا تطمع للاستيلاء على القسطنطينية والوصول إلى البحر الأبيض(1009/29)
وكان ذلك خطراً يهدد مصالح إنجلترا في الشرق. ثم أن روسيا كانت تستطيع الوصول براً إلى الهند.
وهكذا وجدت إنجلترا في مطامع روسيا خطراً عليها ومن ثم وقفت بجانب تركيا وأخذت تعمل على المحافظة عليها ولكنها لم تر بأساً من اقتطاع كثير من أملاكها في الوقت المناسب.
ويتجلى اهتمام إنجلترا بمصير تركيا في وقوفها بجانبها هي وفرنسا أثناء حرب القوم 1853 - 1856 وهي الحرب التي شنتها روسيا على تركيا وانتهت بانتصار إنجلترا وفرنسا وتركيا عليها وكان سببها مطامع روسيا في تركيا.
في 1844 زار قيصر روسيا نقولا الأول إنجلترا وتحدث مع لورد أبردين وزير خارجيتها حديثا عبر به عن سياسة روسيا إزاء تركيا: (إن تركيا رجل مريض يحتضر ويخشى أن يموت فجأة وحينئذ يحدث خلاف بين الدول حول تقسيم تركيا ولذلك فمن الأجدر أن تتخذ الدولتان إنجلترا وروسيا الاهبة لمواجهة الموقف وخير لهما أن يتفقا على تقسيم لأملاك تركيا) وقد كرر القيصر حديثه هذا مرة أخرى مع سفير بريطانيا في روسيا 1853 وكان ذلك من أهم الأسباب التي دعت إنجلترا إلى الدخول في حرب القرم ضد روسيا، فقد كان بلمرستون رئيس وزراء إنجلترا يؤمن بأن ما يقال كل يوم من أن تركيا رجل مريض يحتضر كلام فارغ لا يؤبه له؛ وأنها لو أعطيت وقتا كافيا بدون قلاقل أو متاعب لاستطاعت أن تصلح من شأنها وأن تستعيد مجدها كدولة قوية لها وزنها في السياسة الدولية.
وفي معاهدة باريس 1856 أعطيت تركيا الفرصة الملائمة وحرم على روسيا أن تنشئ قواعد حربية على شواطئ البحر الأسود إذ أن يكون لها فيه أسطول حربي وأعلن حيادالبحر الأسود.
لكن تركيا لم تقم بالإصلاح المطلوبولم تنزل شعوب البلقان عن مطالبها القومية فقد كانت تريد الاستقلال عن تركيا. وكانت الدول تخشى أنه في حالة استقلال هذه الدول: رومانيا والصرب والجبل الأسود وبلغاريا. . أن تقع في يد روسيا
ولكن غلادستون زعيم الأحرار في إنجلترا صرح قائلاً:(1009/30)
(حققوا للشعوب حرياتها فإن قلوب الأحرار خير حصن ضد الطغيان والاستبداد والاستعمار).
وفي 1876 ثارت شعوب البلقان ضد تركيا وتقدمت روسيا لمساعدتها وهزمت تركيا ووقف الجند الروس أمام القسطنطينية. . وهنا تقدمت إنكلترا وأمرت أسطولها بدخول ميناء البسفور ومقاومة الروس إذا دخلوا القسطنطينية، وأمام تهديد إنجلترا وقفت روسيا ووقعت مع السلطان معاهدة سان ستفانوا 1878. لكن إنجلترا لم توافق عليها ودعت الدول إلى عقد مؤتمر دولي لبحث المشكلة؛ وقد اجتمع المؤتمر في برلين في يوليو 1878 ووقعت الدول معاهدة برلين وبها تحقق استقلال رومانيا والجبل الأسود والصرب وأعطيت بلغاريا حكومة ذاتية وأخذت روسيا قارص وباطوم واستولت إنجلترا على جزيرة قبرص وبعدها بسنوات احتلت مصر. وتحقق لإنجلترا ما تبغيه من إبعاد روسيا عن القسطنطينية.
وتتجلى أهمية القسطنطينية في نظر روسيا في الحديث الذي دار بين القيصر إسكندر الأول ونابليون الأكبر إمبراطور فرنسا، وكان نابليون يطمع في صداقة القيصر ليتمكن من هزيمة عدوته اللدودة إنجلترا.
قال القيصر (القسطنطينية هي مفتاح بيتي ويجب أن يكون في حوزتي).
فرد نابليون (القسطنطينية! من المستحيل. . إن هذا معناه تكوين إمبراطورية عالمية).
وهكذا لم يستطع القيصر والإمبراطور الاتفاق بشأن القسطنطينية، وكان ذلك من أهم أسباب اختلافهما وانضمام روسيا إلى إنجلترا ضد نابليون مما كان له أكبر الأثر في القضاء على نابليون. وهكذا نرى أن المسألة الشرقية كانت عاملا كبيرا في سقوط نابليون وفي تحويل مجرى التاريخ.
وفي 1939 عقدت روسيا مع هتلر ميثاق دم اعتداء مما كان له أكبر الأثر في نشوب الحرب العالمية الثانية، وفي اعتقادي أنه لولا هذا الميثاق لما نشبت الحرب.
اطمأن هتلر إلى روسيا وقام يحارب، وأحرز جنده النصر في كل مكان، وسرعان ما سجدت أوربا تحت أقدامه واحتل البلقان، وهنا تقدمت روسيا تطلب أن تعطى ميناء على البحر الأبيض، ولكن هتلر رفض، فانضمت روسيا إلى إنجلترا، وكانت الدولة الأوربية الوحيدة التي بقيت صامدة أمام هتلر وإلى أمريكا. وكان انضمام روسيا إلى إنجلترا وأمريكا(1009/31)
أكبر أسباب هزيمة هتلر وسقوط دولته.
وانتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وانقسم حلفاء الأمس إلى كتلتين متعاديتين: إحداهما شرقية وهي روسيا، والأخرى غربية وتضم إنجلترا وأمريكا وفرنسا.
ومن الطبيعي أن تنضم تركيا إلى الدول الغربية، فهي تعلم أن روسيا لم ولن تتخلى عن مطامعها في أراضيها، ولعل في انضمامها إلى المعسكر الغربي ما يحفظ كيانها ويبقي على سلامتها.
أبو الفتوح عطيفة(1009/32)
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
- 5 -
في تصويرنا لشلر كإنسان له أخلاقه الرفيعة، لا يمكن لوصفنا - على أي حال - إلا أن ينتقص من كمال حياته، لأن أقلامنا تعجز عن وصفها الوصف اللائق بها. لقد نال هذا الرجل ما يأمله بصورة عجيبة. وحياته - على الأقل - من مرحلة رجولته لم تزل حتى الآن غير مشوشة وذات أسلوب واضح. وقد أخفى انتصاره الكامل عنا عظم النضال الذي خاضه ببسالة نادرة. يمكننا - إجمالاً - الاعتراف بأن سلوكه لم يكن عظيماً بمقدار قدسيته وربما لا يصفه شيء مثل وصفنا إياه بالراهب، بما يمتاز به اللقب من سمو روحي ونقاء وعزلة، على أن هذا الوصف لا ينطبق على مظهره الخارجي في شيء. لقد استحوذ على طبيعته حماس منقطع النظير وفي هذا تكمن قوته وفي هذا يتضح الواجب الذي عاهد نفسه على أدائه، وقد عاش في سبيل هذا.
لم تقم الميول الاجتماعية بأي دور فعال في حياته، وكابن وزوج وأب فهو دائماً حنون ومخلص ولطيف ولكن نادراً ما كانت تؤثر فيه الأشياء الخارجية تأثيرا يشبه في شيء العطفة العارمة. فهو لم يمتلك من الحرارة والحب المستعر والنحيب مثلا ما كان يمتاز به من معاصره الإسكتلندي (برنز)، وفي الحقيقة فإن اتجاهه وأمله كانا مصوبين نحو المثل الأعلى لا لما هو واقعي أرضي. وكانت سعادته العظمى لا تعني في شيء بالشرف الظاهري أو الأبهة أو اللهو أو التسلية الاجتماعية أو حتى الصداقة نفسها. . بل كان همه الأكبر منحصراً في مملكة الشعر ومدينة العقل الفضلى حيث الحياة النبيلة الحقة. وكذا الحال مع عاداته فإنها كانت أميل إلى العزلة لأن شغله الشاغل وسروره البالغ لم يتعديا نطاق التأمل الصامت، يقول أحد شراحه: (إن عدم تساهله مع اللذين يقاطعونه ويعيقون أعماله هو الذي اضطره إلى اللجوء إلى الدراسة ليلاً، على ما في هذا العمل المؤذي من إغراء ومن تعب. وقد شرع بهذه الممارسة في (درسدن) ولم يتركها قطعاً بعد ذلك. وقد(1009/33)
كانت تسليته الوحيدة هي العزلة، فكانت سواحل نهر (الإيلب) ملجأه المحبب صباحاً، وكان هناك يتجول في وحدته بين الكروم والمروج والخمايل الجميلة تاركاً ذهنه يسرح في الخيال العذب، أو متأملاً في مواضع الفتنة من الطبيعة الساحرة أو منغمسا في دراساتهً التي كانت تشغله دائماً وأبداً، أو كان يرى جالساً في بعض الأحيان في الجندول الطافي على صفحات النهر الناصعة، وكان يسره كثيراً أن يكون هناك عندما كانت العواصف تهدر والرياح تزمجر حتى يجد لنفسه المضطربة راحة في اضطراب الطبيعة! وكان الخطر يعير شيئاً من السحر لوضعيته وكان يشعر بالانسجام التام بالمنظر الثائر، عندما كانت العاصفة تجتاح السماء، وكانت الغابات تردد صوت هذا الاجتياح، كما أن النهر كان يشارك السماء في هذه الثورة الجامحة فيهتز ملتويا بتأثيرها وترتطم أمواجه بعضها بالبعض الآخر فتحدث ضجيجاً هائلاً وفي هذه الأثناء اشترى له حديقة في ضواحي (ينا) بالقرب من دار (ويسلهوفت) التي كانت مركز إدارة مجلة (الكيمانية ليتراتور زايتنغ) وهي المجلة الذائعة الصيت في ذلك الوقت، وأن نظرنا إلى المكان في سوق (ينا) فهو يقع في الجنوب الغربي من المدينة بين (انكليكاتر) و (بنوثور) في الممر الضيق حيث يجزي فرع نهر (لوتراباخ) حول المدينة.
بني شلر بيتاً من طابوق واحد في قمة المرتفع الذي يشرف على منظر غاية في الجمال وادي (سال) بما يحيط به من غابات الشربين. وكان هذا المكان مسكنه الحبيب إليه أثناء ساعات كتابته؛ وأكثر مؤلفاته التي دبجها يراعه في ذلك الوقت كتبت هنا. وكذلك الحال في الشتاء فإنه كان يعيش بعيداً عن ضجيج الناس وجلبتهم وذلك في دار آل (كرسباغ) خارج خندق المدينة. وكان عند جلوسه بالقرب من المنضدة يحتفظ دائماً بقهوته الجاهزة أو الشوكولاته، وغالباً ما كان يقتنى قنينة من شراب الراين أو الشمبانيا لينعش نفسه المتعبة، وكثيراً ما كان الجيران يسمعونه وهو ينشد بعض الأناشيد العذبة في هدأة الليل. وكل من استغل فرصة مراقبته في مثل هذه الأحوال - وكان ذلك في غاية البساطة - بسبب المرتفعات الواقعة مقابل حديقته من الجانب الآخر من الوادي - كان يمكن أن يراه متكلماً مرة بصوت عال أو ماشياً بسرعة جيئة وذهاباً في غرفته أو رامياً نفسه على كرسيه ليكتب ثم يراه يقف ليشرب من القنينة التي بجانبه. وكان يظل بجانب منضدته شتاء إلى(1009/34)
الساعة الرابعة أو حتى الخامسة صباحاً، أما في الصيف فكان يسهر إلى الثالثة فقط. ومن يذهب إلى الفراش ليستيقظ في التاسعة أو العاشرة.
ويقول الشارح مستطرداً (وكانت حياته في وايمر حياته السالفة في رينا) وكان شغله هو الدراسة والكتابة. وكان يتسلى في محيط عائلته، حيث كان لنفسه حرية التمتع بمسرات الحياة ومباهجها بصراحة مع قليل من أصدقائه الخلص. وقد جمع هؤلاء الأصدقاء في ناد وجعل من هذا النادي مكانا للمتعة والتسلية البريئتين. وكان مع ذلك يحب النزهة المنفردة في متنزهات وايمر وكان يرى غالباً متجولاً بين الخمائل والأروقة المرمرية البديعة، وبيده دفتر ملاحظات وهو يسير ببطيء أو يقف هادئاً متأملاً، وأما إذا رأى أحداً فيمرق مسرعاً إلى طريق آخر لئلا تنقطع سلسلة أحلامه وتأملاته، وكان ملجأه المحبوب هو الطريق الصخري الكثيف المؤدي إلى بيت (رومش) وكان هذا البيت محل نزهة الدوق وقد بني بإرشاد جوته، وكان يجلس هناك بجانب الصخور الشامخة المظللة بأشجار السرو والبقس وأمامه الأيك المعشوشبة على مقربة من جدول صغير يتدفق ماؤه في قناة مبلطة ملساء حيث توجد بعض أشعار جوته منحوتة على لوح أسمر من الحجر مثبت في الصخر). ولو أن هذه العزلة قللت من أهمية سلوكه الشخصي إلا أنها دلت على فضيلة كبرى من فضائله، ألا وهي التجرد من ترهات الحياة وابتعاده من مباذلها، فالإنسان لا يولد إلا ويجد أمامه مجالا من الرغبات العالمية الطموحة، ولا يكون الانتصار عليها كاملاً خصوصاً لإنسان مثل شلر. فوجد أن واجبه يقتضيه أن يساير مثل ذلك المسلك من الحياة، أعني بذلك مسلك العزلة، وقد جاهد بكل ما يملك من قوة وبأس على تأدية مثل هذا الواجب على أحسن صورة بعد أن اكتشفه لنفسه، ولم يكن مصدر هذه العزلة ابتعاده عن مصالح الناس بل لاهتمامه بهم، ويمكننا من بعض الإشارات والعلامات أن ندرك بان واجب الشاعر بالنسبة لشلر فيما يخص الإنسانية هو أعظم قدراً وأكبر قيمة وأعلى دلالة من واجبه الشخصي تجاه نفسه، ومع ذلك، فقد تبين لديه بأنه كان يرمي (بمواهبه في الماء لينتظرها في وقت آخر). وعندما تضمحل ضوضاء الغزاة والمشعوذين والمصلحين السياسيين تظهر الحكمة العلوية التي كانت كامنة فيه وتبقى بين الناس ليعترف بفضلها وتقدر قيمتها حق قدرها، وعليه ولو نه مات إلا روحه الخالدة لا تزال حية طافحة بالقوة والجلال. وقد حدثنا(1009/35)
الكثيرون عنه فقالوا (إنه كان رقيقاً شفافاً بشوشاً عطوفاً لأقصى درجة، ولم تستحوذ عليه رغبة أشد من رغبة إسعاد الناس أجمعين) ولم يكن في إمكان أي شخص آخر أن يتحمل ما تحمله شلر في سبيل أداء واجبه، فقد كان هذا الواجب أغنيته في المساء وصلاته في الصباح. . لقد عاش ومات في سبيله مضحياً - كما يقول جوته - بحياته في سبيل تصوير الحياة.
للكلام صلة
يوسف عبد المسيح ثروت(1009/36)
ديوان مجد الإسلام
نظم الشاعر المرحوم أحمد محرم وتعليق الأستاذ إبراهيم عبد
اللطيف نعيم
تابع غزوة بدر
نصح الرجال فردهم عن نصحه ... نشوان يملأه الغرور فيطفح
رب اسقه بيد (النبي) منية ... بعذابك الأوفى تشاب وتجدح
إيه (أبا جهل) نصرت بفارس ... يلقي المنية منه أغلب شيح
أراده (حمزة) عند حوض (محمد) ... فانظر أتقدم أم تحيد وتكفح
رام الورود، فما انثنى حتى ارتوى ... من حوض مهجته المنايا القمح
جد البلاء، وهب إعصار الردى ... يرمي بأبطال الوغى ويطوح
نظر (النبي) فضج يدعو ربه ... لاهم نصرك، إننا لك نكدح
تلك العصابة، ما لدينك غيرها ... إن شد عاد أو أغار مجلح
لولا تقيم بناءه وتحوطه ... لعفا عفا كما تعفو الطلول وتمصح
لا هم إن تهلك، فما لك عابد ... يغدو على الغراء، أو يتروح
جاشت حميته، وقام خليله ... دون العريش يذود عنه وينضح
وتغولت صدر القتال فأقبلا ... والأرض من حوليهما تترجح
في غمرة ضمن الحفاظ لقاحها ... فالحرب تسدح بالكماة وتردح
استبق نفسك يا (أبا بكر) وقف ... أن ضج في دمك الزكي مصيح
أعرض عن ابنك إن موتك للذي ... حمل الحياة إلى الشعوب لمترح
صلى عليه الله حين يقولها ... والحرب تعصف والفوارس تكلح
الله، لا ولد أحب ولا أب ... منه، فأين المنتآى والمترح؟
أفما رأيت (أبا عبيدة) ثائراً ... وأبوه في يده يتل ويسطح؟
بطل تخطر، أم تخطر مصعب ... صلب القرا ضخم السنام مكبح
أرأيت إذ هزم (النبي) جموعهم ... فكأنما هزم البغاث المضرح(1009/37)
هي حفنة للمشركين من الحصى ... خف الوقور لها وطاش المرجح
مثل الثميلة من مجاجة نافث ... وكأنما هي صيب يتبذح
الله أرسل في السحاب كتيبة ... تهفو كما هفت البروق اللمح
تهوي مجلجلة تلهب أعين ... منها وتقذف بالعواصف أجنح
للخيل حمحة تراع لهولها ... صيد الفوارس، والعتاق القرح
(حيزوم) أقدم، إنما هي كرة ... عجلى، تجاذبك العنان فتمرح
(جبريل) يضرب، والملائك حوله ... صف ترص به الصفوف وترضح
تلك الحصون المانعات بمثلها ... تذرى المعاقل والحصون وتذرح
للقوم في أعناقهم وبنانهم ... نار تريك الداء كيف يبرح
جفت جذور الجاهلية، والقوى ... هذا النبات الناضر المسترشح
طفق الثرى من حولها لما ارتوى ... من ذوب مهجتها يجف ويبلح
ومن الدم المسفوح رجس موبق ... ومطهر يلد الحياة ويلقح
يتبع(1009/38)
رِسَالةُ الشِعْرِ
نشيد
الاتحاد - النظام - العمل
للأستاذ علي متولي صلاح
مصر هذا عهدك الزاهي فسيري ... لا تبالي أي صعب في المسير
كالصعب صار سهلا لينا ... وغداً كل شديد هينا
فانهضي في عهدك الزاهي وباهي ... واجعلي كل دعاء في الشفاه
محق الظلم فشكراً ياً إلهي
مصر هبي لاتحاد وعمل ... ونظام. . تبلغي كل الأمل
وكفى يا مصر تفريقاً كفى ... وعفا الله عن الماضي عفا
فانهضي في عهدك الزاهي وباهي ... واجعلي كل دعاء في الشفاه
محق الظلم فشكراً يا إلهي
أنت يا مصر من الساعة حرة ... لن تضامي بعدها يا مصر مرة
قد تحررت من القوم الطغاة ... وتجاوزت عهود الظلمات
فانهضي في عهدك الزاهي وباهي ... واجعلي كل دعاء في الشفاه
محق الظلم فشكراً يا إلهي
لو دعا الداعي لبذل وفداء ... قسماً أبذل روحي والدماء
أي شيء هو من بلادي ... هي داري وعتادي ومهادي
فانهضي في عهدك الزاهي وباهي ... واجعلي كل دعاء في الشفاه
محق الظلم فشكراً يا إلهي
علي متوليصلاح(1009/39)
ثورة ضمير
للشاعر محي الدين فارس
فرغت كأسي. فمن يملأ كأسي
وسجا الكون وثارت من لهيب الشوق نفسي
وطوتني في شعاب الليل إطراقة بؤس
وأنا زورق أحلام، وأشواق، وعرس!
في يد الأمواج، والإعصار كم يضحي ويمسي!
إن أكن أسكرت بالألحان أسماع الوجود
وتغنيت مع الأطيار في الصبح الوليد
وسكبت الفن لحنا في مزامير الخلود
فأنا قلب شقي مل من أسر القيود
في صحاري العمر والنسيان. في دنيا العبيد!
غربت شمس فلم أبصر سوى ليل توالي
وتلاشى الحلم من أفق خيالاتي وزالا
وأنا في عالم النسيان أستاف الزوالا
ريشة في ثورة الأنواء لم تدرك مجالا
لفها الإعصار في أجنحة الليل وغالا
عذبتني في شعاب الوهم ألحان شكاتي
كم يثير الليل أشباح هموم طاغيات!
وخبت شعلة آمالي، وجفت صبواتي
وتهاوت. . . من سماواتي طيور الأمنيات!
لم يعد قلبي خفاقا بأحلام الحياة!
حدقت في صمتي الخالد أبصار الليالي
وجرت خلف نعوش العمر أسراب ظلال
لم أعد أبصر في دنياي أطياف الجمال(1009/40)
كل شيء هامد كالموت في كهف الليالي
كم قصور شدتها للفن من وهم خيالي
واسنى ياليل، يانبع خيالاتي وشعري
واسني ياليل، هل تدرك ما يحمل صدري
أنا كالبحر شقي عشت في مد وجزر
أنا طير قصت الدنيا جناحيه بغدر
لست أدري فيم أبكي. . وأغني لست أدري
إن أكن أذنبت في الدنيا فغفرانك ربي
جئت أبكي بدموعي ناشدا إخفاء ذنبي!
ناسكا في معبد الإيمان. . هيمان كصب
طهرت نفسي صلاة. . نضرت صحراء قلبي
فارحم اللهم نفسا عذبت في كل درب!
محي الدين فارس السوداني(1009/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
مهرجان الشعر
دعت اللجنة الثقافية بجمعية الشبان المسيحيين بالقاهرة إلى مهرجان للشعر في يوم الجيش عقد بدار الجمعية مساء الجمعة 17 أكتوبر سنة 1952. وقد قدمه الأستاذ خالد الجرنوسي، وعقب عليه الأستاذ كامل أبو العينين، وكانت ضيفة الشرف فيه السيدة أمينة السعيد.
إلى هنا ليس لنا اعتراض على أي شيء؛ غير أن الذي لوحظ أن جميع الشعراء الذين قدموا في المهرجان كانوا من الأسماء الجديدة. . وكان في الاستطاعة دعوة شعراء آخرين معروفين للإشتراك في هذا المهرجان، ولا ندري هل المسؤول عن ذلك جمعية الشبان نفسها، أم الأستاذ خالد الجرنوسي. .
لا اعتراض لنا أيضاً على الشعراء الجدد، فنحن ندعو إلى إعزاز الأدب الجديد، وفتح المجال أمام أصحابه لياخذوا امكانهم ليتسابقوا إلى الغاية. . ولكنني أعتقد موقنا أن قصر المجال على طائفة دون طائفة، لا بد أن يكون له سبب يبرره. .
لماذا لم نسمع في هذا المهرجان محمود حسن إسماعيل أو عبد الغني حسن أو علي الجمبلاطي أو قاسم مظهر أو العوضي الوكيل، أو علي متولي صلاح أو غيرهم وغيرهم.
وفي الميدان النسوي. . لماذا اقتصر على الآنسة روحية القليني؟ إنني مع الأسف لم أقرأ للآنسة الشاعرة. . وأرجو أن أقرأ لها في وقت قريب؛ ولكنني أسأل لماذا لم يدع إلى ندوة الشعر أمثال: جميلة العلايلي أو أماني فريد، أو غيرها من الشاعرات. .
. . وإني لأتساءل، لماذا اكتفى الأستاذ خالد الجرنوسي الإشراف، ولم يقدم قصيدة من قصائده العصماء في هذه المناسبة!
إن مهرجان الشعر في يوم الخميس عمل أدبي مشكور، وهو نافذة من نوافذ الشعور، أعطت هؤلاء الشعراء الشبان فرصة التعبير عن مشاعرهم في هذه المناسبات الفذة. .
. . ولكنها كانت تكون أعظم أثراً وأبعد قوة في محيط الأدب لو أمكن أن تنفذ على نطاق واسع، وفي جو أكثر استعداداً وأخصب إنتاجاً. . وإننا لنرجو أن تعود جمعية الشبان المسيحية الكرة، وأن توسع نطاق الدعوة حتى نسمع قصائد أخرى، وإنا لنرجو أن يشترك(1009/42)
فيها شعراء وشاعرات من الأسماء اللامعة المعروفة!
حول تطهير الأدب
أرسل إلي الأستاذ عبد اللطيف فأيد الخطاب التالي:
(في هذه الآونة التي تتنفس فيها البلاد من شر ما جثم على صدرها في العصور الغبرة، تمتد يد التطهير المباركة إلى كل مرفق من مرافق الدولة لتغسله من الأدران التي علقت به حتى يغدو نظيفا، يؤدي واجبه بدقة وأمانة.
. . أرى مرفق الأدب قد وضع في زاوية مهملة، وقد أغفله الأدباء ولم ينظروا إليه نظرة تعيد شامخ مجده!
وأنت تعلم يا سيدي أن الدخلاء على الأدب كثيرون، احترفوا الإمساك بالقلم، وهم لا يعرفون كيف يضعونه بين أناملهم ويوجهونه التوجيه الصحيح الذي يرسم العبارات في استقامة ونضوج، واتخذوا من بعض الصحف والأوراق الرخيصة ميدانا يعرضون فيه عملتهم الزائفة.
وقد راجت هذه العملة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. . وأقبل عليها طلاب المدارس والمعاهد والجامعات وكثيرون من أبناء الشعب، فتغذوا بلبانها، وأصبحت عمادا لهم في الإنشاء والتعبير!
ولأنك لتجد الحسرة والألم يغمران قلبك ونفسك وكيانك كله حينما تفتش عن روح أدبي بالمعنى القيم في المحيط التعليمي! لأنك سوف لا تعثر لا على أشخاص يصفون الكلمات في غير تناسق، ويخلقون عبارات ميتة خالية من الحياة، مما صير الذوق الفني في خطر!
ولولا البقية الباقية من السلف الصالح والشبيبة المتوثبة ممن تفتحت عيونهم وعقولهم، لأصبحت سوق الأدب في انهيار تام
أليس من واجب علماء القلم، وشيوخ الأدب، وحملة المشاعل، أن يجعلوا من أنفسهم قوامين على التراث الذي امتدت إليه يد العبث والضياع!).
هذه كلمات تفيض بالإيمان والحماسة، وتكشف عن روح أدبية خالصة، نحن ننشدها في شبابنا الجديد في العهد الجديد
وها أنت ترى يا صديقي أن (الرسالة) تواصل رسالتها، وتحتمل في سبيلها كل عنت. .(1009/43)
وأنت ترى الناس وقد تحولوا عن الأدب الرفيع إلا قلة من أصحاب الذوق الرفيع، ومع ذلك فإن (الرسالة) قد أعلنت أنها ستزداد قوة في الأيام القريبة على أداء رسالتها التي آمن بها صاحبها أصدق إيمان، وجرد نفسه له خالصاً مخلصاً لا يبتغي إلا رضوان الله. .
إن الأدب الرفيع سيخلد ويعيش ويبقى. . وكل هذه التفاهات المزخرفة، والفقاعات الملونة التي تعجب بعض ذوي الأهواء. . ستموت وتنطوي. . وتذهب أدراج الرياح. . فلا تضيق يا صاحبي إذا لم يعجبك أمر الناس. وإنا لنعتقد وقد اعتدلت الموازين في الحياة السياسية والاجتماعية. . أن تعتدل قريباً موازين الأدب، وقد غلبت نزعة الجد في أمور الحياة، فلا بد أن يستجيب الأدب لها.
عود إلى الشعر المنثور
تفضل أخي الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم فأرسل إلى كتابه (في الضباب) مع كلمة قال فيها (إنه وقف طويلاً أمام كلمتي عن الشعر المنثور).
وقد كتب صديقي كتابه هذا سنة 1941. . أي منذ اثني عشر عاماً.
كان أيامها في سن الحب والهوى. . تلك السن التي تتفق مع هذا اللون من الأدب، أما اليوم نراه وقد تحول عن هذا اللون
وكل شاب من الأدباء أحب هذا اللون يوماً كان السن وكانت العاطفة، وكانت وعمل متعددة تدفعه لان يقرأه، أو يعبر عن مشاعره بأسلوبه.
. . الضباب. . والظلال. . والأضواء الخافتة. . تلك هي مظاهر الحياة في سن الشباب، وهي مظاهر الأدب أيضاً، وفي هذا المعنى أقرأ للأستاذ إبراهيم في كتابه:
. . وفي عينيك رأيت الأسى والمرح
. . ورأيت اليأس والأمل
. . ورأيت الحيرة والاطمئنان
هذه صورة النفس في سن الشباب الباكر، عندما تتراءى الصور ولا تثبت، وتتبدى الأحلام كالخيال البعيد!
إن رأيي يا سيد إبراهيم في الشعر المنثور، هو أننا في عصر نهضة. . عصر بناء. . عصر الأعمال الضخمة. . عصر الجد الجاد؛ كل منا يستطيع أن يحمل حجرا كبيرا(1009/44)
ليضعه في هذا لبناء الضخم.
أما الشعر المنثور فإنه لون من ألوان (الطرافة) يأتي بعد الجد الصارم، ومن ألوان (الترف) يأتي بعد الحاجة الماسة، ومن فنون (المتعة) يأتي بعد المتعة الفردية.
فأنا لا أحب أن نعود إليه ونحن على أبواب حياة جديدة. وما أقوله عن مصر أقوله عن سوريا ولبنان وبلاد النهضة جميعا
هذا فضلاً عن أنني عرضت لشعر شاعرة. . أنثى؛ إن من حقها أن تصور مشاعرها، ولكن ليس من حقها أن تطلعنا على صفحة مثيرة. . ما أحراها أن تكون صفحة خاصة بها، إن شاءت أن تنظر لها من حين إلى حين.
إن الأدب اليوم لا يؤمن بمذهب الفن للفن. . ذلك هوس كان يقول به بعض ذوي الشذوذ من الكتاب. . وكانوا يصدرون هذا الرأي عن هوى صارخ. فما احرنا وقد أخذت أوربا اليوم تعيد النظر في مذاهبها الأدبية، وفي قواعد الحضارة ذاتها أن ننكر ما يتنافى مع طابعنا في الشرق. . ولا سيما في أدب المرأة.
إن أوربا اليوم لم تعد تؤمن بمذهب الفن للفن، ولن تجد كاتباً واحداً يوافق عليه إلا إذا كان من أنصار سارتر! وهو من هو في علم الفحشة والضلال، وإني لأشكر لأخي الأديب هديته، وأتمنى أن أقرأ له كثيراً. . في غير مجال الشعر المنثور
أنور الجندي(1009/45)
البَرِيدُ الأَدَبِي
حديث لا يستدل به
يقول الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين (الأهرام
27101952): (في سنن أبي داود من حديث عائشة أن أختها
أسماء دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب
رقاق، فأعرض عنها وقال: يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض
لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى وجهه وكفه).
قال الحافظ المنذري: فيه حديث منقطع وخالد بن دريك لم يدرك عائشة. وقال القرطبي: فيه انقطاع. وقال الكوثري: في سنده سعيد بن بشر وهو ضعيف، وفيه أيضا عنعنة بغض المدلسين. ولو صح لكان ترك عائشة العمل به علة قادحة تمنع من الأخذ به عند جمهور السلف، لأنه صح عنها تفسير (الأدناء) في الآية الكريمة، بإبداء عين واحدة وستر سائر الوجه، كما صح مثل ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني - وارث علوم علي ابن أبي طالب وابن مسعود، والذي كان يخضع لعلمه وفهمه مثل القاضي شريح الذي استمر على قضاء الكوفة ستين سنة من عهد عمر - رضي الله عنهم. . ويقول عبيدة هذا أخذ جمهور السلف.
واحتج الأستاذ الأكبر بحديث في تفسير جرير. وليس كل خبر في تفسير الطبري بصحيح. فمن المقرر أن المؤلفين السالفين إذا رووا خبراً وذكرواً رجاله سقطت التبعة عنهم بذكر رواته. وعلى العلماء نقد رجاله والاحتجاج به إذا سلموا من الجرح، وطرحه ومنع الأخذ به إذا لم يسلموا من ذلك.
محمد محمد الحيدري
جلوب والجيش العربي وحرب فلسطين
اطلعت على الكلمة الأستاذ الفاضل عبد القادر رشيد الناصري المنشورة في البريد الأدبي(1009/46)
عدد 1005 من الرسالة الغراء، وبما أني أعتبر نفسي من جنود العرب الأحرار الذين شهد معركة فلسطين واطلعوا على مؤامرات جلوب، فإنني أرى من واجبي أن ألبي نداء الأستاذ الناصري وأعلق على كلمته بالكلمة التالية:
دأب الجنرال جلوب على الإدلاء بتصريحات عسكرية إلى المراسلين الأجانب فقط، وذلك لتضليل الرأي العالمي وطمس الحقيقة عن أعين الغرب. ولطالما زعم وافترى أن الجيش العربي كان قليل العدد ضعيف العدة، مع أن الجيش كان عشرة آلاف مقاتل، يملكون من الأسلحة والذخائر ما نريد على ما كان بحيازة الجيش اليهودي بأسره. والجنرال جلوب كقطب كبير من أقطاب الاستعمال في العالم العربي لا يجرؤ على ذكر العوامل التي دفعته إلى رفع علم الهجوم والسير في طليعة الجيش العربي عندما زحف إلى الرطبة وبغداد وطعن الجيش العراقي من الخلف عام 1941، في حين أنه قبع في قيادته بعمان وأحجم حتى عن زيارة جبهات القتال في معركة فلطين إلا بعد انتهاء الحرب وتوقيع الهدنة المشؤومة، ثم لا نسمع منه أبدا أي تعليق على الخسائر التي مني بها الجيش العربي الذي - بحسب ادعائه - تحمل العبء وحده، مع أن الحقيقة الثابتة أن 60 % من خسائر الجيش العربي وقعت في منطقة القدس التي كان لي شرف إدارة الحرب فيها بكتيبة واحدة بغير إرادة جلوب، مما أدى إلى انتصارنا على اليهود وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية، في حين أن بين كتائب الجيش كلها لم تخسر سوى40 % من الإصابات، والسبب واضح جلي، وهو أن قادتها كانوا من الضباط الإنجليز الذين نفذوا أوامر جلوب ولم يشتركوا بكتائبهم في حرب جدية في أية معركة.
أما المدفعية التي يتحدث عنها جلوب في تصريحه، فقد كانت
قوية في الجيش العربي، ولم يكن لدى اليهود مدفع واحد حتى
وقوع الهدنة الأولى؛ غير أن هذه المدفعية كانت تحت قيادة
مساعدة (لاش) الذي حال دون اشتراكها معنا في المعركة
لاحتلال المناطق اليهودية من القدس الجديدة، مما أدى إلى(1009/47)
استنجاديباللواء مصطفى راغب قائد الجيش العراقي في
فلسطين فزارني في قيادتي بالقدس في 881948، ووعد
بتزويدي بالمدفعية اللازمة مع لواء مشاة كامل لاحتلال القدس
الجديدة، ولكنه لم يتمكن - لأسباب سياسة - من تحقيق وعده.
. فاستقال وعاد العراق.
ويتناسى جلوب مؤامراته التي كان يدبرها وينفذها (ميجر لوكث) ضد الجيش المصري في منطقة بيت لحم والخليل، وخطته الجهنمية للقضاء على القوات المصرية في الفلجة. إن لهذا القطب الاستعماري الحق في أن ينفذ أوامر حكومتهالصادرة إليه من لندن، ولكن الشيء العجيب حقا أن يخرج في عمان، وخاصة في الجيش العربي، بعد كل الذي وقع بسببه من كوارث في الماضي القريب!
عبد الله التل
حاكم القدس سابقاً
وعود الأمس. . ووعود اليوم
كم من وعود وعدها الفلاح في الماضي السنين، ولم يتحقق منها كثير ولا قليل!
كان نوابه يعدونه بمختلف الإصلاحات، ليظفروا بصوته، حتى إذا أخذوا مكانهم تحت قبة البرلمان لم يروه. . ولم يراهم!
وكانت الحكومات المتعاقبة، والوزارات المتتابعة، تعده بالكثير. . . فلطالما سمع أن الحكومة ستعمل على رفع مستوى المعيشة في القرى، والنهوض بالفلاح.
ولطالما سمع أن الحكومة ستعمل على تعميم مياه الشرب النقية في القرى. . . وأن الحكومةستعمل على تخفيف أعباء الضرائب عن كواهل الفلاحين!
وانقضت السنون والفلاح هو الفلاح. . والقرية هي القرية! الفلاح هو الفلاح، يعيش في(1009/48)
ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها.
والقرية هي القرية، أهملت مرفقها، وعاشت عيشة البؤس والحرمان.
وإذا بكل تلك الوعود وعود عرقوب!!
هذا في العهد البائد، أما في العهد الجديد فقد أفاق الفلاح على دعوة الحرية، فإذا بالحال غير الحال، وإذا بأرضه تعود إليه، فيعود معها الخير واليمن. . وإذا بالملاك الذين كانوا يمتصون دما يهوون من فوق عروشهم أذلة صاغرين!
لقد وجد الفلاح من ينصفه، ويرد إليه حقه المسلوب. . فما أبعد الفرق بين وعود اليوم ووعود الأمس، التي لم تكن إلا كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاء لم يجده شيئاً.
عيسى متولي
تعقيب
في (البريد الأدبي) للرسالة الغراء في العدد (1005) كتب صديقنا الشاعر البغدادي الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري كلمة يخطئ فيها لفظة (جرجر) في بيت الشاعر الأديب الفيتوري في قوله:
(نجرجر) خلفنا التاريخ أشلاءً وأكفاناً
ويشير إلى أن اللفظة تومئ إلى غير المعنى الذي أراده الأستاذ الفيتوري وهو الجذب والسحب؛ وإنما هي بمعنى الهدير يردده الفحل أو البعير. . الخ
وأقول: من المعلوم في نشوء اللغة وتطورها أن المفردات نشأت على هجاء واحد - أي على حرفين - محاكاة للطبيعة أوله متحرك وثانيه ساكن ثم جاء المصاعف الثلاثي والرباعي. وأنت تقول (صر) محاكاة لصوت صرار الليل. ولما كان الحرف الأخير على الوقف - أي ساكناً - لا يستبينه السامع بعد أو قرب؛ قلت: صر بتحريك الساكن الثاني في الأصل. ولما أردت أن تفهم السامع أن الصرار كان يكرر صوته ويرجعه ويردده مرة بعد مرة قلت: صرصر فأسكنت الراء الأولى على الأصل وضاعفت.
وعليه فلفظة (جرجر) في أصلها صحيحة على المعنى الذي أراده الشاعر وهو الجذب(1009/49)
والسحب أو بمعنى أصح الجر المتكرر المتثاقل الطويل المبعدة.
ويقول الأستاذ الناقد في قول الفيتوري:
لقد عدنا. أجل عدنا. . ولكن عودة (المقصور) (وقد فتشت القواميس فلم أجد معنى لكلمة (المقصور)، فما معناها يا أستاذ؟).(1009/50)
القَصَصُ
كل لنفسه
للقصصي الكبير اسكندر دوماس (الأب)
كان بالقرية فولى منذ سنوات فلاح فقير يدعى (جيوم مونا)
وكان هناك دب يسطو على بستانه كل ليلة فيصطفى من شجر الكمثرى ألذها طمعا وأكثرها عصيراً رغم أن هذا الحيوان يستسيغ كل شيء، فمن يشك إذن في أن هذا الحيوان له من حاسة الذوق ما للإنسان وإلا لما اختار هذا الصنف من الكمثرى التي غرم بها ذلك الفلاح الذي ظن بادئ الأمر أن ذلك من فعل الأطفال الذين يسطون على بستانه مما جعله يحشو غدراته بحبات كبيرة من ملح الطعام وينتظر هؤلاء الفتية.
وعند الساعة الحادية عشرة تقريبا سمع زئيراً يدوي في الجبل فقال لنفسه (آه. إن دباً غير بعيد).
وبعد عشر دقائق دوى عواء آخر قوي وقريب حتى ظن جيوم أنه لن يستطيع الرجوع أدراجه فانبسط على الأرض وليس لديه أمل إلا أن تكون الكمثرى هي مقصد الدب لا هو!
وظهر الدب فجأة في ركن الحديقة وتقدم نحو شجرة الكمثرى مارا على بعد عشر خطوات من جيوم ثم قفز على الشجرة فأنت من ثقله فروعها وأخذ يلتهم الثمار بشره حتى أنه لم زار هذه الشجرة مرتين أخريين لكانت الثالثة عبثا!
ولما بشم الدب هبط من الشجرة ببطيء كأنه يأسف لمفارقتها وعاد أدراجه مارا بصاحبه (الصياد) الذي لم تكن غدارته المحشوة ملحا لتغني عنه فتيلاً.
استغرق كل هذا حوالي الساعة ولكنها كانت طويلة جداً على الصياد كأنها عام في حين أنها مزت على الدب كأنها لحظة
ومع هذا فقد كان الرجل شجاعاً إذ أنه همس والدب يعود أدراجه (حسن، اذهب. ولكن هذا لن يمر هكذا بل سترى).
وفي اليوم التالي مر أحد الجيران فوجد جيوم منهمكاً في قطع أسنان مذراة حديدية فقال له:
ماذا تفعل؟
- أتسلى.(1009/51)
فأخذ الجار قطع الحديد وقلبها في يده وأخذ يفكر برهة ثم أردف:
- لو كنت صريحا يا جيوم لاعترفت لي بأن هذه الشظايا إنما تعدها لاختراق جلد أقوى من العنز البري.
- ربما.
فاستطرد فرنسوا (وهذا اسم ذلك الجار).
- أنت تعلم أنني نعم الفتى، فلو شئت أن يكون الدب لنا سويا، فإن اثنين خير من واحد.
- المسألة تتوقف على الظروف.
قال ذلك جيوم واستمر في قطع القطعة الثالثة.
- سأترك الجلد لك وحدك ولن نقتسم سوى الجائزة واللحم.
- إني أفضل الكل.
- ولكنك لن نستطيع أن تمنعني من أن أقتفي أثر الدب في الجبل ومن أن أكمن له في الطريق.
- أنت حر.
وانتهى جيوم من عمله وعمد إلى إعداد مقدار مضاعف من البارود.
فقال فرنسوا:
- كأنك ذاهب إلى ساحة القتال.
فلم يجب جيوم بل قال:
- ثلاث قطع من الحديد فيها ضمان أقوى من قطعة من الرصاص.
- ولكن ذلك يشوه الجلد.
- إنما فيها الموت الزؤام.
- ومتى تذهب للعمل؟
- غداً تعلم.
- مرة أخرى. . . ألا توافق؟
- كلا.
- أنذرك بأني سأقتفي أثره.(1009/52)
- هذا لا يضرني.
- لنا سوياً؟. . . قل!
- كل لنفسه،
- إلى اللقاء يا جيوم.
- أتمنى لك أسعد الظروف.
فانصرف الجار وهو يرى جيوم يحشو غدارته بالبارود وقطع الحديد.
وفي المساء وهو مار بالمنزل رأى جيوم جالساً على أحد المقاعد بالقرب من الباب وهو يدخن غليونه بهدوء. فذهب إليه ثانية وقال:
- لست آسفاً ولا مكتئباً. لقد وجدت آثار ذلك الحيوان فلم أعد في حاجة إليك مطلقاً. ومع ذلك فقد جئت أعرض عليك أن يكون لنا سوياً.
فقال جيوم بلهجة المصمم:
- كل لنفسه.
لم يستطع فرانسوا أن يعلم ماذا فعل جيوم بعد ذلك في تلك الليلة. ولكن امرأة هذا رأته في الساعة العاشرة والنصف يحمل غدارته وقد طرى تحت إبطه كيساً رمادياً، ولكنها لم تجرؤ أن تسأله إلى أين يذهب لأنه كان من الرجال الذين لا يفضون إلى نسائهم بشيء.
وأما فرنسوا من جهته فقد عثر حقيقة على الأثر الذي انتهى به إلى حديقة جيوم، ولما لم يكن له حق في أن يكمن على إحدى أشجار الحديقة فقد أخذ مكانه في غابة تقع بين منتصف سفح الجبل وحديقته جيوم.
ولما كانت الليلة قمراء فقد رأى فرانسوا جيوم وهو يخرج من بابه الخلفي، ثم تقدم إحدى الصخور الرمادية التي تدحرجت من الجبل، وكانت تبعد عن شجرة الكمثرى عشرين خطوة، ثم وقف وأدار طرفه ليرى ما إذا كان هناك من يراه ثم تناول الكيس ووقف بدخله بحيث لم يدع من جسمه خارجاً إلا رأسه وذراعيه. وارتكز على الصخرة فأصبح من غير المستطاع تمييزه عنه نظراً لاتحاد لون الصخر والكيس وثبات جيوم في موضعه.
مر من الساعة ربعها في انتظار الدب، وأخيراً أعلن مجيئه زئير متتابع وبعد خمس دقائق رآه فرانسوا.(1009/53)
لم يأخذ ذلك الحيوان طريقه العادي الذي سلكه بالأمس إما لدهائه وإما لأنه أحس بالصياد الآخر. وبدلا من أن يأتي عن شمال جيوم ارتسم لنفسه طريقاً منحنياً وأتى عن يمينه بحيث لا يمكن أن يصل إليه سلاح فرانسوا، ولكن على بعد خطوات من غدارة جيوم الذي ظل ساكناً حتى ليظن أنه لم ير ذلك الحيوان وهو يمر قريباً منه كأنه يتحداه. ويظهر أن الدب يشعر بعدوه إذ أن الريح كانت متجهة منه إليه ولذا استمر في طريقه نحو الشجرة.
ولم يكد يرتكز على رجليه الخلفيتين وقد حوط بهما الأماميتين ودفع بصدره إلى الأمام استعداداً للقفز حتى دوى في الوادي صوت هائل وسرى في الفضاء بارق من نار أعقبه أنين جرح مميت.
انقلب الدب راجعا ماراً على بعد خطوات من جيوم دون أن يراه فقد أدخل ذراعيه ورأسه داخل الكيس فاستتر في الصخرة من جديد.
كان هذا المنظر على مرأى من الجار الذي ركع على ركبتيه ويده اليسرى، قايضاً باليمنى على غدارته وقد اصفر لونه وهو يكتم أنفاسه وتمنى في ذلك الوقت لو كان نائماً في سريره بعيداً عن هذا الموقف.
كانت مفاجأة سيئة لفرانسوا حين رأى الدب الجريح بعد أن دار دورة طويلة قد أخذ سبيله عن يمينه حتى أسلم نفسه لبارئه، وتحقق من غدارته ليتأكد أنها محشوة. كأن الدب على بعد خمسين خطرة يئن من الألم ويقف ليدور برأسه فيعض على موضع الجرح ثم يتابع السير حتى صار على بعد ثلاثين خطوة.
ولكنه وقف فجأة وتنسم الريح التي تأتي من جهة القرية وزأر زئيرا مرعبا ثم قفز داخل البستان.
- خذ حذرك يا جيوم! احترس!
تفوه بها فرانسوا وهو يتبع الدب وقد نسي كل شيء إلا صديقه لأنه اعتقد تماماً أنه لن ينجو من الدب إذا لم يكن قد استطاع أن يحشو غدارته من جديد؛ ولكنه لم يكد يخطو خطوة واحدة حتى سمع صرخة ولكنها كانت صرخة آدمية، صرخة رعب، بل صرخة النزع الأخير. ثم تلتها صرخة استجمع فيها صاحبها كل ما بقي فيه من قوة ومن رجاء في الله:(1009/54)
(أدركوني!) لم يعقب ذلك أي صوت ولا تأوه.
لم ينكص فرانسوا على عقبيه؛ بل تقدم حتى اقترب من مصدر الصوت، فتبين له بوضوح ذلك الحيوان الهائل منكباً على جيوم يمزقه بمخالبه.
كان فرانسوا على بعد أربع خطوات منهما ولكن الدب كان ثائراً على عدوه لدرجه أنه لم يكترث لغيره. لم يجرؤ فرانسوا أن يطلق غدارته خوف أن تقتل جيوم إن كان لم يزل حياً. فالتقط حجرا وقذف به الدب.
فالتفت الدب نحو عدوه الجديد. لقد كانا متقاربين جداً، حتى أن الدب انحنى إلى الوراء استعداد للمهاجمة؛ ولكن بحركة آلية ضغط فرانسوا على الزناد فخرج الطلق الناري وانقلب الدب على ظهره لان الرصاصة قد اخترقت صدره وكسرت عموده الفقري.
تركه فرانسوا يتخبط في دمائه وأسرع إلى جيوم، فلم يجده بشرا ولا جثة؛ بل وجده عظاماً ولحماً ممزقاً قد التهم الدب رأسه بأكمله تقريباً.
رأى فرانسوا الانوار تتحرك وراء النوافذ فعلم أن كثيراً من فلاحي القرية قد استيقظوا فأخذ ينادي ويستغيث ويحدد المكان الذي هو فيه.
فخف إليه بعض الفلاحين بأسلحتهم وما لبثت القرية أن تجمعت بتمامها في حديقة جيوم، وكانت امرأته من بين الحاضرين
وقد كان المنظر رهيباً مرعباً إذ أخذ كل الحاضرين يبكون كالأطفال.
اكتتب أهالي المنطقة بأكملها لأرملة جيوم بملغ سبعمائة فرنك، وتنازل لها فرانسوا عن الجائزة وباع لحسابها جلد الدب ولحمه.
وأخيرا اقتنع الجميع بوجوب التعاون والتآزر!
ع. م(1009/55)
العدد 1010 - بتاريخ: 10 - 11 - 1952(/)
نصيب قريتي من الثورة
قريتي الصغيرة الفقيرة هي إحدى القرى الخمسين التابعة لمركز طلخا؛ ومركز طلخا هو أوحد المراكز جميعاً في فحش النظام الإقطاعي وفجوره. كل ما يملك فلاحه من أرضه أمتار ينام فوقها وهو حي، وأشبار يرقد تحتها وهو ميت. أما ملاكه فهم آل طوسون، وآل البدراوي، ومحمد علي، ووحيد يسري، وسرسق، ووزارة الأوقاف! لذلك كانت جملة الأرض التي نزعها قانون الإصلاح الزراعي من كبار ملاكه، ليوزعها على صغار زراعه، اثنين وثلاثين ألف فدان في السنة الأولى من سني التوزيع الخمس! وهذا الرقم الأولي الضخم يشعرك ولا شك بالحياة الأليمة التي كان يحياها أولئك البائسون التعسون في ظلال الأسرة العلوية الكريمة!
كانوا يعملون العام كله دائبين ليل نهار، لا تختلف امرأة عن رجل، ولا يتخلف صغير عن كبير، ولا تفترق ماشية عن آلة. حتى إذاآتت الأرض الطيبة أكلها فحصدوا القمح، وضموا الرز، وجمعوا القطن، وقطعوا الذرة، ذهب أولئك كله إلى المالك المرهوب، إما عيناً في مخازنه، وإما نقداً في خزائنه! أستغفر الله! لقد تدرك الرحمة أحياناً قلب الباشا أو الأمير، فيترك للفلاح أو للأجير، أرغفة من الذرة يتبلغ بها كل يوم، وجلباباً من القطن يرتديه طول السنة، وأرطالاً من اللحم يتذوقها كل عيد! أما نصيبه من ثمن قطنه ورزه، فيقول له ناظر البدراوي: أخذناه لأن أباك أو جدك كان مديناً لنا في الماضي! ويقول له مفتش طوسون: حجزناه لأن إجارتك ربما تخسر في المستقبل! فإذاهم بأن يشكو، حجز الناظر ماشيته عن الغيط، ومحصوله عن البيت. وإذاجرؤ على أن يحتج، أمر المفتش (مأمور البوليس) أن يعتقله أياماً ليسلمه إلى جنوده فيصبحوه بالعصا ويمسوه بالكرباج!
في قرية من قرى هذا المركز البائس نشأت؛ وفي غمرة هذا البوس الذي لا حد له ولا حيلة فيه رأيت الباشا كيف يطغي وينسى الله، والمفتش كيف يبغي وينسى العدل، والفلاح كيف يذل وينسى الحرية، والأجير كيف يهون وينسى الحياة!
وفي (وحي الرسالة) في مجلداته الثلاث وصفت مآسي هذه الأمة من الناس، وهذه القرية من القرى، وصفا كان مداده الدمع، وكانت كلماته الأنين! فإذاعرفت أمرهم على الوجه الذي عرفت، وأدركت حالهم من الوصف الذي وصفتهم، تبينت في جلاء ويسر نصيبهم من نهضة الجيش. لقد كانوا أذلاء فعزوا، وكانوا أرقاء فسادوا، وكانوا أجراء فملكوا ثم(1010/1)
كانوا أداة إنتاج لغيرهم فاصبحوا عامل استغلال لأنفسهم وكانوا رعاية الباشاكالدواب فاصبحوا رعاية الدولة كالناس! وجملة أمرهم أن الله انتقم لحرمانهم من الحارم، وداول الأيام بينهم وبين الظالم فكانت البؤسى لمن بغى، وكانت النعمى لمن صبر!
احمد حسن الزيات(1010/2)
الإسلام في موكب الإصلاح
توحيد الزي
للأستاذ محمد عبد الله السمان
حين وثب الجيش المصري الباسل وثبته المباركة، رجونا الله عز وجل أن يهب فقهاً في عقليته، حتى يهضم معانيهاويساير خطواتها، فتؤتي أكلها، وتقدم للوطن من ثمراتها الطيبات ما ينهض به، ويعلي كلمته، ويرفع قدره
ولقد أتاحت وثبة الجيش المباركة فرصة طيبة للإصلاح حتى يقوم على أسس ثابتة؛ ومهدت للنهضة حتى ترتكز على أصول مستقرة، وكان يحدوها الأمل في أن تجد الفقهاء من المصلحين حتى يضعوا أسس الإصلاح، والفقهاء من المشرعين حتى يضعوا أصول النهضة؛ ولكن يظهر أن الفقهاء من المصلحين يضنون بفقههم على مصر، والفقهاء من المشرعين يدخرون فقههم لبلد غير مصر، أو أن الفقهاء من المصلحين والمشرعين لم يزل اليأس الذي أورثهم إياه العهد البائد يجثم على صدورهم، فاثروا الدعة على النشاط، والانزواء على النهوض، وتركوا الميدان خاليا إلا من شراذم تتصنع الثرثرة في توافه المسائل، والجلبة في سفساف الأمور، والرغاء في كل ما من شانه أن يثير الجدل والمراء!
ولعل في مهزلة (توحيد الزي) التي تمثل اليوم المسرح دليلا على ما قدمت. فأي معنى لان يرتفع سعرها وتروج سوقها في وقت لا حاجة لنا بها، نحن في مستهل عهد جديد مشرق نريده جداً لا هزلاً، وحقاً لا عبثاً، ونرجوه مقوضا أركان العهد البائد وماحياً آثاره، ومحققاً لأمال الشعب وأماني الوطن! أي معنى لان يرتفع سعر المهزلة وتروج سوقها اليوم، وهي لا تعود على البلد بذرة واحدة من الخير؟ إنها لا تدفع جوعاً عن بطون أعياها الجوع، ولا تستر أجساداً أضناها العرى، ولا تهدئ نفوسا أثقلها الفقر، أنهكها الشقاء، أفزعها الحرمان!
البلد ما زال مسيس الحاجة إلى الانتعاش الاقتصادي حتى تهدا النفوس، والبلد في مسيس الحاجة إلى كثير من نواحي الإصلاح حتى تستقر الأوضاع، والبلد ما زال في مسيس الحاجة إلى الخطوات العمرانية حتى تستقيم الأمور، وشعب هذا البلد في شدة الحاجة إلى بعثة من جديد، وخلقه خلقاً آخر حينها يكون جديرا ببلد يبغي الإصلاح في شتى صورة، ويبغي النهضة في اكمل منازلها، ويبغي الرفعة في اسمي درجاتها، وليس البلد في حاجة(1010/3)
إلى توحيد الزي، ومعظم الشعب يجهد في سبيل الحصول على رقعة تغطي سؤته، وتستر عورته، وتدفع عن رزايا الشتاء!
كان الأجدر بهذه الشرذمة الداعية إلى توحيدالزي أن تتجه اتجاهاً يمس الإصلاح الحقيقي في صميمه. وما اكثر نواحي الإصلاح التي يحتاجها البلد اليوم ويحن إليها ويهيم بها، حتى لا تضيع جهودها سدى، وتضيع أوقاتها في غير جدوى وتتبخر هممها في سماء النقاش الممل، والجدل المتعب. كان الأجدر بها أن تتجه نحو إصلاح القرية حتى تليق بسكن الآدميين، أو نحو إصلاح الفلاح حتى يليق بالآدمية التي أكرمها اللهتبارك وتعالى، أو نح وإصلاح العامل حتى يثمر الثمرة المرجوة في العهد الجديد، وكان الأجدر بها انه تتجه نحو إصلاح المجتمع فتهب له أوقاتها، وتجود عليه بجهودها حتى ينهض فتنهض مصر بجانبه، وحتى يسعد فيسعد الشعب في ظلاله.
لتذهب هذه الشرذمة إلى الريف لترى بأعينها من الماسي ما تشيب من اجلها النواصي، ولتذهب إلى بلد الصعيد لتقضي بنفسها على الآلام التي تحطم الأعصاب وتهز القلوب، لتذهب إلى القرى لترى كيف يعيش الفلاحون هناك في حظائر تزاحمها عليها مواشيهم، وكيف يأكلون طعاماً تزاحمهم عليه كلابهم وكيف يحيون بعد هذا حياة لا وزن لها إلا في دنيا التعامل والشقاء. . لتذهب هذه الشرذمة إلى أية جهة من هذه الجهات لتوقن بان جهادها في بدعتها هذه عبث، وبان أوقاتها في سبيلها لهو، وبان حملتها لتحقيق هدفها ضرب من ضروب التسلية التي لا تليق بهذا الفجر الجديد.
إن هذه المهزلة خلقت جواً من الجدل كنا في غنى عنه فقد ولدت (القبعة) وجعلت منها مشكلة معضلة، أثاره مواكب التزمت والجمود الراكدة التي تعودت أن تتحرك في التوافه والسفاسف، لتثبت وجودها وتأكد بقائها في مسرح الحياة. ولوإنها ثارت باسم عقليتها وأفكارها لما القينا لها بالاً ولما حسبنا لثرثرتها وضوضائها حساباً، لان ثورتها مصيرها إلى التلاشي، وثرثرتها وضوضائها مصيرها إلى التبخر، ولكنها تحرص على أن تثور باسم الإسلام وكان الإسلام آمن من كل جانب فهي تخشى عليه القبعة وعزيز في كل ناحية فهي تخاف عليه انتشارها، ولو فقهت مواكب الجمود هذه لناقشت المهزلة قبل أن تعرض بالإسلام وتزج به، وتصوره للشرذمة الداعية إلى توحيد الزي كمنهج إصلاحي، بصورة(1010/4)
مشوهة تجعل منه عقبة في سبيل كل إصلاح. فإذاكان توحيد الزي وسيلة من وسائل الإصلاح فالإسلام يؤيده ويؤازره ويباركه ويدعو له، لان الإسلام لم يحتم على الناس زيا خاصا، ولا يتحكم في أزيائهم، بل يتركها لتطورات الزمن واختلاف البيئات فقد كان الرسول (صلوات الله عليه) يلبس القميص والجبة والقباء والحلة والبردة وما إلى ذلك وكان يلبس العمامة وتحتها القلنسوة، والقلنسوة بغير عمامة، والعمامة بغير قلنسوة، ولبس العمامة الخضراء والبيضاء والسوداء، ولبس الصوف والقطن والكتان، وكان هديه في هذا أن يلبس الإنسان ما تيسر له. .
تثور مواكب الجمود على القبعة لأنها من أزياء الكفار. . . ومن تشبه بقوم فهو منهم. . . ولا بد أنها لا تفقه أن رسول الله (ص) ارتدى (مستقة) - وهي نوع من الثياب - أهداها له ملك الروم، وانه (ص) ارتدى (القباطي) وهي نوع من الثياب أيضاً كان يصنعه أقباط مصر. فانظر كيف تؤول حديثه الشريف تأويلاً فاسداً، وتفسره تفسيراً يتفق مع جمودها وجهلها وتزمتها
والإسلام لا يعيب على المسلمين أن يتبعوا سنن من سبقهم إلى الإصلاح، ولكنه يعيب عليهم أن يقفوا إزاء الإصلاح موثوقي الأكتاف أو يقفوا في طريقة عقبة كأداء. والإسلام مرة أخرى لا يتحكم في الأزياء ولا يزج نفسه فيها، لان الأزياء مرتبطة بتطورات الزمن وأمزجة الشعوب وهو أيسر من أن يعوق تطور الزمن، أسمى من أن يحجر على أمزجة الشعوب.
وبعد. . فنحن مضطرون إلى أن نهمس في إذا ن دعاة مهزلة توحيد الزي حتى يعلموا إلى أي واد هم مسوقون. وليدركوا أن العهد الذي كان يشجع أشغال الرأي العام بسفساف الأمور قد انقرض إلى غير رجعة، وان الوعي الجديد لن يسمح بعد اليوم بان يستغل استغلالاً سيئاً يشينه ويشين البلد معه، وخير لها أن تعلو بهمتها إلى ما يفيد الوطن والمجتمع، من أن تبعثر جهودها لتتلاشى في مهب الريح؛ ومضطرون أيضاً إلى أن نهمس في إذا ن مواكب الجمود حتى تفيق من جمودها، وتعلم أن الإسلام ليس سلعة رخيصة تلقى بها في كل سوق، وليس مطية هينة تحترففوقها الدجل والشعوذة، وتصطنع الجدل والثرثرة؛ لانالإسلام اكرم على الله وعلى المسلمين من أن يكون شيئاً من هذا أو ذاك وخير(1010/5)
للإسلام أن يرسم خطط الإصلاح، ويضع أسس النهضة، ويشرع نظم الاستقرار، من أن يزج به في توافه الأمور وصغائرها!
محمد عبد الله السمان(1010/6)
2 - على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
للدكتور عمر حليق
سياسة توازن القوى
تشهد السياسة الدولية اليوم بحثاً جديداً لمبدأ (توازن القوى) وهو مبدأ دبلوماسي قديم اتبعته الدول الكبرى في القرن الثامن عشر وحققت به فترة هدوء نسبي في العلاقات الدوليةتختلف عن الفترة التي مر بها القرن العشرون بحروبه وثرواته ومشاكله العويصة التي تفوق حرب القرون السالفة مشاكلهافي العدد والخطورة.
ومبدأ (توازن القوى) كان ولا يزال علما على أسوء ما في الدبلوماسية الدولية من قسوة وانتهازية. ففي ظل هذا المبدأ استطاعت الدول الكبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن تتقاسم النفوذ وان توطد لنفسها فترة الهدوء النسبي ساعدها على إخضاع الشعوب المستضعفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية واستغلالها استغلالاً سياسياً واقتصادياً الاستعمار علم عليه.
ويبدو أن موجات التحرر والانطلاق التي جاءت نتيجة لازدياد الوعي السياسي والفكري الذي اجتاح العالم في أوائل القرن العشرين - هذه الموجات استطاعت أن تزعزع أركان مبدأ (توازن القوى) وان تفصم عرى هذا التواطؤ الذي هيمن على سياسة الدول الكبرى التي كانت تتكتل في مجموعات سياسية وعسكرية لتقتسم النفوذ في الميدان الدولي وتضل كل كتلة رقيبة على مطامع الأخرى لئلا يضيع على أي منها جزء من هذا النفوذ سواء في الدبلوماسيةالدولية أم في مجال الاستعمار والتوسع الاقتصادي.
ولما وقعت الواقعة وانفكت عرى هذا التكتل وخرجت روسيا القيصرية والإمبراطورية من ميدان التنافس واختل ميزان القوى الدولية بين الدول الكبرى وطمحت ألمانيا القيصرية أولاً والهتلرية بعد ذلك لان تنافس الكتلة الانجلو فرنسية في مجال السياسة الدبلوماسية على العالم الحر وعلى العالم المستعبد؛ وأخذت العلاقات الدولية تمر في طور السياسةالانفراديةالتي تحاول فيها كل دولة أن تحقق لنفسها اكبر قسط من النفوذ على حساب أي دولة أخري ولو كانت هذه الدولة تشاركها الأهداف وتشاطرها مبدأ الاستعمار وتجاريها في السلوكالتجاري والأيديولوجية السياسية.(1010/7)
وفي المرتين اللتين حاولت فيهما الكتلة - الانجلوفرنسية أن تقضي على النفوذ الألماني كانت عوامل الشقاق بين الإنكليز والفرنسيين تلعب دوراً هاماً في توجيه السياسة العالمية وقد برز هذا الشرق في أعقاب الحرب العالمية على اشده في قضية سوريا ولبنان وفي مستقبل المستعمرات الإيطالية السابقة التي كانت سياسة بريطانية إزاءها تختلف الحد بعيد عن سياسة الفرنسيين.
ولما أن دخل الاتحاد السوفيتي دخول العملاق إلى المجتمع الدولي في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة أخذت العلاقات الدوليةتمر في طور جديد كان مشجعها على إحياء مبدأ سياسة توازن القوى وبعثها من جديد. فالأيديولوجية السوفيتية وإن كانت لا تنص على مبدأ توازن القوى إلا أنها تحتوى على مبادئ ابعد من هذا المبدأ - مبادئ تؤكد بان لا مجال للوطن الشيوعي الأم (وهو الاتحاد السوفيتي) إذ أراد أن يعيش سالما معززاً إلا إذاتم تحويل العالم بأسره إلى النظام الشيوعي.
ومهما حاولنا أن نعلل الأسباب الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية التي دعت إلى زيادة التوتر بين روسيا السوفيتية وحلفاء الغرب في عام ما بعد الحرب العالمية الأخيرة فلا سبيل إلى الإنكار بان مبدأ التوسع الشيوعي يستند إلى هذه النقطة الجوهرية في تعاليم ماركس وشرح لينين وستالين عليها - هذه النقطة هي ضمان السلامة والاستقرار للاتحاد السوفيتي بتوطيد الشيوعية في العالم بأسره على أن يتم ذلك بالتدريج. وفعلا لم يجد الاتحاد السوفيتي صعوبة في السعي لتحويل المناطق الجغرافية المجاورة له إلى حصون شيوعية كما تشهد بذلك مجموعة الدول الشيوعية شرقي أوربا في البلقان وفي الشرق الأقصى (في الصين وكوريا الشمالية ومنغوليا والتبت). وبذلك استطاع الاتحاد السوفيتي إيجاد كتلة سياسية شديدة البأس والحول لا يواجههافي المجتمع الدولي كتلة مماثلة في القوة والنفوذ.
وكانت هذه الوضعية في حد ذاتها بعثا لمبدأ (توازن القوى) الذي أرغم به سياسة القرنينالثامن والتاسع عشر - وسواء جاءت ميلاد هذه الكتلة الشيوعية الجديدة عفوا أم كان أمراً مدبراً فالذي يعنينا منه انه استدعى ميلاد كتلة دولية قوية الدعائم شديدة الحول لها في ميزان القوة العالمية اعتبار هام.
وهنا يجب أن نستذكر بان العائلة الدولية في المرحلة النهائية في الحرب العالمية الأخيرة(1010/8)
وجدت نفسها موجوعة الضمير مثخنة الجراح مثقلة بالأعباء الإنسانية والاقتصادية والسياسية والمشاكل العاطفية والفكرية التي تعتري المجتمع الإنساني في أعقاب الحروب الكبرى. ولذلك ساد تفكير صناع السياسة والحرب في الدول الكبرى والصغرى على سواء اتجاه جديد يحاول أن يوطد دعائم السليم في عالم ما بعد الحرب الثانية على أساس التكتل الجماعي - تكتلاً حاولت عصبة الأمم المتحدة أن تحققه في عالم ما بعد الحرب الأولى أنها فشلت، وذلك لان أفكار الدول وقلوبها لم تكن مهيأة بعد لهذا التجربة في العمل المشترك والثقة المتبادلة في تنسيق العلاقات الدولية على أساس الضمانالمشترك وتسيير دفة الشؤون العامية على بوصلة القانون الدولي كما عبر دستور عصبة الأمم المنحلة ولوائح أعمالها الداخلية.
وقال الناس أن ويلات الحرب العالمية الأخيرة ومشاكلها كانت اعظم واعقد من الذبول التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وان هذه الويلات والمشاكل تقتضي إعادة التجربة التي فشلت في عصبة الأمم المنحلة. ومن ثم ولدت فكرة هيئة الأمم المتحدة ووضع ميثاقها ولوائحها على أساس جديد حاول أن يتفادى العقبات التي كانت تعترض دستور عصبة الأمم المنحلة وإجراءاتها الداخلية.
ولقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن القصور الذي صاحب أعمال الأمم المتحدة في المجال السياسي وعن المساوئ التي نتجت عن نشاطها مساوئ أصاب العرب منها طرف خطير في مأساة فلسطين ولكن هذه المساوئ لم تقض قضاء مبرماً على مكانة الأمم المتحدة في العلاقات الدولية، ولا تزال لهذه الهيئة أهمية قصوى في تسيير الشؤون الدولية خيراً أم شراً. . والمهم أن لا نحكم على هيئة الأمم المتحدة بصلاح البقاء أم بعدمه. . . إنما المهم أن ندرك نواحي الضعف في الدوافع التي تستند هذه الهيئة إليها.
ويطيب لي في هذه المرحة من البحث أن استنجد بطبيب اجتماعي كبير جمع بين الثقافتين الشيوعية والغربية واستطاع أن يعالج السياسة الدولية من زاوية فريدة في هدوء العالم وثقته وترفعه عن الدجل والتهريج. هذا العالم هو البروفسور برميتيف سوركون أحد أقطاب الحركة السوفيتية سابقاً ورئيس دائرة العلوم الاجتماعية الآن في جامعة هارفاردكبرى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية.(1010/9)
قال البرفسور سوركون - يجب أن لا ينظر إلى الأممالمتحدة كمحكمة عليا للقانون الدولي، وهي نظرة يخطئ كثير من الناس في اللجوء إليها عند معالجة أعمال الأمم المتحدة وما ينتج عنها من ذبول، فلا ميثاق الأمم المتحدة لا الدول الأعضاء تعتبر اختصاص محكمة العد العليا في لاهاي.
إنما هيئة الأمم حلقة للدبلوماسية المفتوحة وهي نمط جديدللمفاوضات الدولية التي كانت في الماضي تجري بعيدة عن رقابة الصحفيين وعدسات المصورين وأشرطة السينما وعيون الزوار في قاعات الاجتماع. ومع أن هيئة الأمم لا تقيد الدول الأعضاء بقراراتها وتوصياتها إلا أن في القصور عن تنفيذ هذه التوصيات والقرارات مسؤولية أدبية تؤثر خيراً أو شراً في انطباق الرأي العام العالمي عن سلوك الدول الأعضاء وأهمية ذلك في تقرير سمعتهاالدولية عل أساس هذا السلوك وما يستتبع ذلك من علو أو انخفاض في المكانة المالية للدول واثر ذلك على نفوذها في السياسة الدولية وثقة الناس بها وفي المعداتالدولية والاتفاقيات التجارية وما إلى ذلك من أوجه النشاط الدولي، ففنلندة مثلا بلد ضعيف الحول لا قيمة له من حيث الأهمية السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، إلا انه بلد عرف بتقييده بالالتزامات الدولية (سواء داخل المؤسسات العالمية أم خارجها) وترتيب عن ذلك أن حظيت فنلندة بسمعة رفيعة في المجتمع الدولي اكسبها مكانة فريدة في الجو السياسي من حيث إنها استطاعت أن تحفظ رأسها عالياً فوق الماء رغم أن التيارات القوية تهب عليه من كل طرف من جارها الاتحاد السوفيتي ومن مغريات مشروع مارشال ودول حلف الأطلنطي ووضعية السياسة الأوربية والدولية وإجمالاً. وقد نتج كذلك عن السمعة التي تحظى بها فنلندة أن استطاعت ضمان التبادل التجاري القديم مع الشرق والغرب في فترة تتوتر فيها العلاقات التجارية توتراً شديداً.
ولكن هيئة الأمم المتحدة قصرت حتى في أن تحتفظ بهذه الناحية من أهميتها الدولية - هذه الناحية هي اعتبار جزء كبير من الرأي العالمي أن الأمم المتحدة هي (المحكمة العليا للضمير الإنساني).
فهيئة الأمم مؤلفة من مندوبين يمثلون دولاً. وهذا التمثيل يفرض على المندوب أن لا يقيس قضية من القضايا بضميره الخاص أو باجتهاده الشخصي، وإنما عليه أن يتقيد باعتبارات(1010/10)
قومية محضة تفرضها عليه المقومات السياسية والاقتصادية والعاطفية وأسس السلوك السياسي الذي تتميز به الدول على بعضها. وهذه الاعتبارات إما أن تكون إطاراً فكرياً يستمد منه المندوب الوحي على معالجة قضية من القضايا في حظيرة الأمم المتحدة بالنفي أم بالإيجاب أم بالامتناع عن التصويت، وإما أن تكون في شكل تعليمات ترسلها إليه حكومته في ساعات الفصل وتقيده بشكل قد يوافق ضميره واجتهاده وقد لا يوافق. ويجب أن لا تفسر هذه الإشارة على إنها حط من خلق المندوبين أو انتقاد لأشخاصهم. فالواقع أن من الصعب أن لم يكن من المستحيل على المندوب أن يفرض شخصيته الفردية على الطابع السياسي الذي يلائمه ويهيمن عليه بوصفه ممثلاً لحكومة سلوكها السياسي مقيد بعوامل عديدة ومعقدة، وعقدها ناجمة عن شذوذ السياسة وتطور الأوضاع وتساير الحوادث.
ولما كان جوهر السلوك في حظيرة الأمم المتحدة على ما هو عليه من التعقد والتناقض فقد كان من الطبيعي أن يتطاحن في هذا السلوك اتجاهان:
أحدهما يتوخى التقيد بميثاق الأمم المتحدة والمبادئ والأهداف القويمة التي يخدمها ويجعل بذلك هيئة الأمم (محكمة عليا لضمير الإنساني). والآخر سعي الدول الأعضاء للتوجيه الأمم المتحدة توجيها يتمشى مع المصلحة الفردية لكل دولة - أو لمجموعة من الدول تتوافق وتتناسق فيها هذه المصالح. وقد ساد الاتجاه الأول في مستهل عهد الأمم المتحدة فساد (الضمير الإنساني) في قضية سوريا ولبنان وفي سعي الاتحاد السوفيتي قلب الحكم في إيران بتحويل القطاع الشمالي في أذربيجان الإيرانية إلى دولة منفصلة عن الدولة الإيرانية المركزية.
وما لبث الاتجاه الثاني أن اثبت وجوده قوياً فعالاً فطوح (بالضمير الإنساني) وتكتلت الدول ذوات المصالح المشتركة وباع بعض المندوبين والدول الذين يمثلونها ضمائرهم فاتخذوا من القرارات ما يخالف ابسط مبادئ العدالة و (الضمير الإنساني) كما تشهد بذلك مأساة فلسطين
ولا يزال هذا الاتجاه الثاني سائدا إلى الآن - بعد أن مر في مرحلة هامة جعلت القول افصل للكتل الدولية لا للدول الأفراد - وهذا التكتل هو في الواقع بعث لمبدأ (توازن(1010/11)
القوى) الذي أشرنا إليه في مستهل هذا البحث.
فلا غرابة إذن أن يصرح المستر ايدن وزير خارجية بريطانيا في افتتاح الدورة الثانية لمجلس الحلف الاطلنطي. (ان الدول الغربية لم تكن راغبة في الاندفاع في التسلح (بعد الحرب العالمية الأخيرة) إلا بعد أن اضطرت إلى ذلك لتحفظ ميزان القوى في حاضر العالم)
توازن القوى في هيئة الأمم
جوهر ميثاق الأمم المتحدة هو ضمان التعاون الدولي لصيانة السلم وهو بمعنى آخر اللجوء إلى مبدأ الدفاع المشترك ضد من وما يخل بأمن العالم وسلامته، فهذا الجوهر إذن على طرف النقيض مع مبدأ (توازن القوى) وقد وجدنا كيف اندفعت الوفود في هيئة الأمم في اتجاه التكتل ومعالجة المشاكل والقضايا وصياغة التوصيات والقرارات على ضوء المصلحة المشتركة للدول المتكتلة.
وكان من الطبيعي أن يزداد التوتر بين الكتل السياسية داخل هيئة الأمم عاكسا بذلك تساير الحوادث والمشاكل وازدياد التوتر بين المعسكرات السياسية المتطاحنة خارج حظيرة الأمم المتحدة.
ولا تسألن من هو الملوم عن ميلاد هذا التوتر - هل هو سوء نية الرأسمالية الأمريكية إزاء الدعوة الشيوعية أم هو طبيعة تعاليم الماركسية وسعيها من وراء الستار - عن طريق الجماعات الشيوعية المنظمة في كل بلد، فقد تفاعلت في تساير العلاقات الدولية في سنوات ما بعد الحرب عوامل عديدة أدت إلى نمو سياسة التكتل داخل هيئة الأمم.
ووجد كلا الطرفين في مستهل عهد الأمم المتحدة أن لهذا التكتل أثماناً وشروطاً لا تتوفر في بعض الحالات الهامة. فهيئة الأمم ليست منظمة رأسمالية ولا هي مؤسسة شيوعية. ورغم أن القول الفصل في أعمالها ونشاطها مقيد باتجاهات الدول الكبرى صاحبة القول الفصل وحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن؛ إلا أن للدول الصغرى أكثرية عددية كفيلة بأن تعاكس (الفيتو) وتشاكس الدول الكبرى في نفوذها في صياغة القرارات ووضع التوصيات وفي التصويت عليها.
وحاضر السلوك السياسي اليوم في هيئة الأمم المتحدة يشهد بان الحالات التي استطاعت(1010/12)
فيها الدول أن تظفر بأكثرية الأصوات على مشروع من المشروعات أو قرار من القرارات. . وهذه الحالات جاءت نتيجة لمساومة مستمرة مع وفود الدول الصغرى - إما في أروقة هيئة الأمم أو عن طريق البعثات الدبلوماسية في عواصم الدول وعروشها.
ولما كان للكتلة الانجلوسكسونية نفوذ تقليدي دبلوماسي واقتصادي، في كثير من عواصم العالم - نفوذ يفوق نفوذ الاتحاد السوفيتي - فقد كان من المتوقع أن ترجح كفته الكتلة الانجلوسكسونية على الكتلة السوفيتية.
وحشرت الوفود الشيوعية في ركن ضيق من أركان هيئة الأمم فازداد صراخها واشد وعيدها وأخذت تعد العدة لمواجهة الموقف بوسائل جديدة بعضها ينفذ داخل هيئة الأمم والبعض الآخر خارجها.
ونشطت موسكو فأعادت في عام 1947 تأسيس قيادة الحركة الشيوعية العالمية (الكومنترن) بعد أن كان قد وضع على الرف مؤقتا في سنوات الحرب العالمية الأخيرة ووضعت لهذه القيادة خططاً جديدة وأطلق عليها كذلك اسم جديد هو (الكومنفورم) ووجهت موسكو نشاطها توجيها عملياً، والعقلية الشيوعية عملية إلى ابعد حد، فعززت روسيا سيطرتها على شرقي أوروبا ودبرت انقلاباً سياسياً ناجحاً في تشيكوسلوفاكيا وأوت الميدان الصيني اعتباراً خاصاً حتى تحقق للشيوعيين الصينيين السيطرة على هذه القارة الصينية الواسعة الأرجاء.
وفي حين أن الكتل السوفيتية في هيئة الأمم كانت ولا تزال ضعيفة احول بالمقارنة إلى الكتلة الانجلوسكسونية أصبحت موسكو بعد انقلاب تشيكوسلوفاكيا وتوطيد النظام الشيوعي في الصين زعيمة لكتلة تتساوى في القوة والنفوذ العالمي مع الكتلة التي تزعمها واشنطون.
ومرة أخرى عاد ميزان القوى الدولية إلى نوع من التعادل وأخذت اكثر الدول الصغرى في آسيا وأفريقيا تعاند شيئاً فشيئاً في الانسياق مع الكتلة الانجلوسكسونية ومجاراتها في القرارات والتوصيات الخاص ببعض القضايا الخطرة التي يشغل بها هيئة الأمم وأصبحت المساومة مع الدول الآسيوية في هيئة الأمم اشد صعوبة مما كانت عليه في السباق وساد تفكير هذه الدول اتجاه (الحياد).
(للكلام صلة)(1010/13)
نيويورك
عمر حليق(1010/14)
2 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
الجزور:
1 - إذا كان للميسر موضوع كما يقولون، فهو (الجزور). والجزور يقع على الذكر والأنثى من الابل، ولكنهماكثر ما ينحرون النوق.
2 - وليست كل ناقة ولا كل بعير بصالح للميسر، وإنما كانوا يتخيرون أسمنها وأنفسها واعزها عليهم، فكأنما ألهموا من وراء الغيب (ن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). وفي ذلك قول لبيد:
وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أجسامها
أدعو بهن لعاقر أو مطفل ... بذلت لجيران الجميع لحامها
يقول: رب جزور تصلح لتقامر الأيسار عليها دعوت لدمائي لنحرها لتلك المغالق المتشابهة، وهي سهام الميسر يشبه بعضها بعضا. وأراد بها هنا سهام القرعة يقرع بها بين إبله أيها ينحر لندمائه. فهو يدعو بتلك السهام لنحر ناقة عاقر أو أخرى مطفلوإنما ذكر (العاقر) لأنها أسمن وأحمل للشحم , و (المطفل) نفاستها عليهم وعزتها
3 - وكان إذا أرادوا أن يسيروا ابتاعوا ناقة بثمن مسمى يضمونه لصاحبها، ولميدفعوا ذلك الثمن حتى يضربوا بالقداحعليها فيعلموا على من يجب الثمن
وسيأتي فيما بعد أن الثمن يدفعه من خابت سهامهم متضامنين في ذلك بحسب أنصبتهم لو فازوا.
4 - وكانوا قبل أن يضربوا بالقداح يجعلون بينهم عدلاً يأخذ من كل امرئ منهم رهنا بما يلزمه من نصيب قدحه أن خاب، مقدار كل الاحتمالات التي يتعرض لها الغارمون، ويسمون هذا العمل (التأريب) وهو التشديد في الخطر.
وأحياناً يتغالى الياسرون فيجعلون مكان أعشار الناقة أعداداً من الإبل، كان يجعلوا موضوع الميسر عشراً من النوق لا ناقة واحدة يقسمونها عشرة أجزاء. . . وكذلك إذاأرادوا أن يضربوا على اكثر من هذا العدد جعلوا مكان العشر من أعشار الجزور بعيرين، ومكان عشرين أربعة، ومكان ثلاثة الأعشار ستة، فان أرادوا على ذلك فعلى هذا السبيل(1010/15)
6 - وهناك ميسر آخر غريب، ذكره طائفة من العلماء، وهوان يكون موضوع الميسر إنساناً. وقد أنشدوا في ذلك قول سحيم بن وثبل الرياحي:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم
أي ألم تعلموا أني ابن صاحب الفرس المسمى (زهدم).
قال صاحب اللسان (كان قد وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام. وقوله: ييسرونني، هو من الميسر، أي يجزئونني ويقتسمونني).
وهذا تفسير ساذج، من الصعب أن يتصوره عاقل إلا أن يريدوا اقتسام رقه وعبوديته فيما بينهم، كما أن يكون العبد ملكا عدة أشخاص يملك كل منهم شخصاً منه. ونجد ابن سيده يفسر البيت تفسير أشنع من تفسير صاحب اللسان إذ يقول: (وييسرونني من الميسر، أي يجتزرونني ويقتسمونني) وهولا ريب تفسير خاطئ.
وقد فسره ابن قتيبة تفسيراً عاقلاً بقوله: (فمن زوى ييسرونني، أراد: يقتسمونني ويجعلونني اجزاء، احسبه أراد ومن رواه ياسرونني جعله من الأسر.
الجزار
ويسمونه (القدار) على وزن همام. ولذلك القدار خبرةخاصة بتقسيم الجزور، فهويقسمها عشرة أقسام:
فإحدى الوركين جزء، والورك الأخرى جزء، والعجز جزء والكاهل جزء، والزور - وهو ما ارتفع من الصدر إلى الكتفين جزء، والملحاء - وهو وسط الظهر بين الكاهل والعجز - جزء , والكتفان جزء، والذراعان جزء، وإحدى الفخذين جزء، والأخرى جزء.
ويبقى بعد ذلك (الطفاطف) وهي أطراف الجنب المتصلة بالأضلاع، و (فقر الرقبة) فتقسم وتفرق على تلك الأجزاء بالسواء، فإن بقى عظم أو نصفه بعد القسم فذلك الريم، وكانوا يجعلون ذلك الريم للجازر، فان بخلوا به ولم يجعلوه له كان ذلك مسبة لمن لم يجعله.
وأما نصيب بائع الناقة فهو الأطراف والرأس غالباً.
وذهب الأصمعي في ذلك مذهباً غريباً، وانهم كانوا يجزئون الجزور على ثمانية وعشرين جزءاً، ذهب في ذلك إلى حظوظ القداح، وهي ثمانية وعشرون، للفذ حظ، وللتوأم حظان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس اربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، فجميع هذه(1010/16)
ثمانية وعشرون.
قال ابن قتيبة: (ولو كان الأمر على ما قال الأصمعي لم يكن هنا قامر ولا مقمور، ولا فوز ولا خيبة، لأنه إذا خرج لكل امرئ قدح من هذه فاخذ حظ القدح اخذوا جميعا تلك الأجزاء على ما اختار كل واحد منهم لنفسه، فما معنى إجالة القداح؟ وأين الفوز والغرم؟ ومن القامر والمقمور؟)
عدد الأيسار
والأيسار: المتقامرون، واحدهم (يسر) بالتحريك.
وكان الحد الأقصى للأيسار أن يكون سبعة، على عدد قداح الميسر، لا يتجاوز عددهم ذلك، وليس لهم حد أدنى يقفون عنده. فإذاكان عددهم سبعة قالوا: قد توحدت القداح أي اخذ كل رجل قدحاً، وإنما يكون ذلك في المجاعات الشديدة وغلاء اللحم، فيحتاج الأمر في التكافل إلى هذا العدد الكبير وإذا نقص عدد الأيسار فلا بد أن ينبر واحد منهم أو أكثر ويأخذ اكثر من قدح واحد ويتأهب للمغامرة، ويسمون ذلك الأخذ (متمم الأيسار) وهم يعدون ذلك التتميم مفخرة وفضيلة قال النابغة:
أني أتمم أيساري وامنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدمة
قداح الميسر
1 - يقال للواحد من قداح الميسر بالكسر، وسهم وزلم، وقلم وأكثرها استعمالاً في ذلك هو (القدح).
2 - والقداح: عيدان تتخذ من النبع، وهو شجر تصنع منه القسي والسهام، ينبت في قلة الجبل، معروف بالمتانة واللين.
3 - تنحت هذه العيدان وتملس وتجعل سواء في الطول، وإنما تختلف في العلامات والوسوم.
4 - وهي صغيرة القدر، قال ابن قتيبة: وتسميتهم لها بالحظاء دليل على إنها كصغار النبل).
5 - ولهذه القداح راس صغير، قال ابن قتيبة (ووجدت الشعر يدل على أن له رأساً احسبه(1010/17)
ناقصاً عن مقدار جسمه، حديد الطرف) واستشهد لذلك بقوله الراعي:
بدا عائداً صعلاً ينوء بصدره ... إلى الفوز من كف المفيض المورب
والصعل: الصغير الرأس، ولذلك قيل للظليم، وهو الذكر من النعام (وصعل) لدقة رأسه.
6 - ولونه اصفر، لأنه من نبعوما شاكله، ولأنه ايضاً قد يقدم فيصفر كما تصفر القوس العتيقة.
7 - ويصفونه بالاعوجاج والأود، دلالة على كرم عوده ولينه.
8 - وكثيراً ما يكون ذا سفاسق، أي طرائق وخطوطا مستقيمة أو منحنية تكون في لون العود، كما تكون في الخلنج دأعواد السروج وأشباه ذلك.
9 - وهو مدور أملس كالسهم
10 - ويصفونه بالحنين والرنين إذاضرب به، وذلك لرزانته وسلامة عودة من القوادح والسوس فإذا ضرب به حن ورن كما يطن الصفر والحديد.
هذا ما أمكن الإمام ابن قتيبة أن يستخرجه من الشعر العربي لينقل إلينا ذلك الوصف الدقيق لقداح الميسر.
عدد القداح وأسماؤها
هذه القداح التي مضى وصفها في الفصل السابق ليست كلها على نمط واحد، بل هي نوعان:
النوع الأول: القداح ذوات الحظ، وعددها سبعة، وهذا العدد يقابل الحد الأقصى لعدد المتقامرين.
النوع الثاني: القداح التي لا حظ لها، وعددها ثلاثة.
قداح الحظ
1 - الفذ، وله حظ واحد.
2 - التوأم، وله حظان اثنان.
3 - الرقيب، وله ثلاثة حظوظ.
4 - الحلس، وله أربعة حظوظ.(1010/18)
5 - النافس، وله خمسة حظوظ.
6 - المسبل، ويسمى أيضاً المصفح، وله ستة حظوظ.
7 - المعلي، وله سبعة حظوظ.
وهذا السهام السبعة متشابهة الأجسام، لا يمتاز بعضها عن بعض إلا بعدد الفروض، أي الحزوز التي تحز فيها لتبين قدرها. فلفذ حز واحد، وللتوأم حزان اثنان، وللرقيب ثلاثة. . وهكذا.
وربما كانت هذه العلامات بالنار، يسمونها بالوسم والوسمين والوسوم، بدلاً من تلك الحزوز.
وقد نظم أبو الحسن علي بن محمد الهمداني أسماء سهام الحظ في قوله:
يلي الفذ منها توأم ثمبعده ... رقيب وحلس بعده ثم نافس
ومسبلها ثم المعلىفهذه ال ... سهام التي دارت عليها المجالس
وانشد الراغب الأصفهاني أبياتاً لعروة بن الورد يذكر فيها أسماء القداح الفائزة، واراها من مصنوع الشعر ومولده، وهي:
أنت بالمعلى عند أول سورة ... وبالمسبل التالي وبالحلس والتوم
وجاءت بفذ والضريب يليهما ... وبالنافس المعلوب في الرأس والقدم
فراح بها غنم وتعزم ما جنت ... وقد يغرم المرء الكريم إذااجتر
وأنت منيح باليدين متى تعد ... تعد صاغراً لا مال نال ولا غرم
وهذه الأبيات المهلهلة لم ترد في ديوان عروة، وليست من شعره بسبب، وهي أشبه ما يكون بشعر ابن مالك في الفية النحو، أو بشعر أبي الحسن على بن محمد الهمداني الذي سبق الإنشاد له، كما أن ما فيها من الخطأ الفني ينطق ببطلان نسبها إليه، فان هذه القداح لا يمكن أن يخرج جميعاً في ميسر واحد كما سيأتي القول عن الكلام على (مجلس الميسر).
وكان العرب في بعض الأحايين يستعيرون قدحاً ميموناً، أي قدح كان من السبعة ذوات الحظوظ، قد جرب من قبل فوجد سريع الخروج في الميسر، يستعيرون من غيرهم ويجعلونه في قداحهم بدلا من آخر مثله، تيمنا به وبما يجلبه من الظفر، ويسمون ذلك القدح(1010/19)
(المنيح)، وهوغير المنيح الذي سيأتي ذكره في القداح التي لا حظ لها.
وكانوا يأخذون من هذه القداح على قدر احتمالهم، فاقلهم حالاً هو اخذ (الفذ) لأنه أن ربح غنم حظاً واحد وان خاب غرم حظاً، ويليه في القدرة اخذ (التوام) أن فاز فاز بحظين، وإن خاب غرم حظين، وأقدرهم وأعلاهم شرفاً هو صاحب (المعلى) لأنه أن خاب غرم سبعة حظوظ فاحتملها.
القداح التي لاحظ لها
وهناك قداح لا حظ لها، وهي قداح الحظ، ولكنها مجردة من السنات والعلامات، وتجعل مع القداح الحظ ليكثر بها العدد، ولتؤمن بها حيلة الضارب فتختلط عليه فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً، وليكون ذلك أنفى للتهمة وابعد من المحاباة وتسمى هذه القداح (الإغفال) جمع غفل، بالضم، واصله في الدواب ما لا سمت له، ومن الأرضيين ما لا علم فيها.
وهذه القداح ثلاثة في اصح الأقوال:
1 - الوغد.
2 - السفيح.
3 - المنيح.
وقد نضم أسماؤها بعضهم في قوله:
لي في الدنيا سهام ... ليس فيهن ربيح
وأساميهن وغد ... وسفيح ومنيح
وقيل: وهذا قول شاذ -: إن عددها أربعة:
1 - المصدر.
2 - المضعف.
3 - المنيح.
4 - السفيح.
للبحث صلة
عبد السلام محمد هارون(1010/20)
العزوف عن القراءة
للدكتور احمد فؤاد الأهواني
سألني (متألم) على صفحات الرسالة، فقال انه مدرس أديب يتذوق القراءة، ويهوى الاطلاع، ولكنه أصيب منذ عام بداء يقطع عليه سبيل هذه اللذة العقلية، وهو (النوم) حين يشرع في مطالعة كتاب أو صحيفة.
وقد فرحت بهذا السؤال، لأني وجدت شخصاً يحب القراءة ويجد في الاطلاع لذة، وقد طال العهد - في الزمن السابق - بمن كانوا يلتمسون اللذة في المتع الرخيصة المبتذلة. ومقياس رقي الأمم اخذ أهلها ب الأدب الرفيع، والإقبال على ارتشاف العلم، ودوام النظر في صفحات الكتب، والاستماع إلى حلقات الدرس والمحاضرة، مما لم يكن معهوداً في العهد السابق، أو مألوفاً في سياسة الملك السابق، بل كان العهد عهد إسفاف، تنتشر فيه الخلاعة والتهتك، ويقبل الناس مع ملكهم على الإثم والفجور.
وآية ذلك هذه الصحافة الصفراء التي كان همها أن تطلع على القراء بالسيرة المفضوحة، وأخبار (الطبقة الراقية) في حلبات الرقص وميادين السباق وموائد الميسر وعلى شواطئ البحار، مع عرض صورهن في ثياب تكشف عن الفتنة وتبتعد عن الحشمة.
وأصبحت عناية الصحف والمجلات نشر الصور للممثلات وهن شبه عاريات، وتسابقت جميعاً في هذا المضمار تنشد اجتذاب الشباب بالفتنة، واستهواء الشيوخ بالخلاعة، وتوجيه العواطف وجهة دنيئة، والتلاعب بالغرائز الجنسية تبعثها وتثيرها من مكامنها. فأصبح القارئ العفيف كأنه راهب انقطع في الصحراء، أو سابح ضد تيار الماء.
وكان التيار جارفا يحمل المجتمع نحو الأغلال والفساد، ويبتعد به عن الجد والوقار. فإذاأخذ أحدنا بسبيل الجد والمثالية شعر كأنه غريب عن المجتمع الذي يعيش فيه. ولعل عزوف (المتألم) عن القراءة راجع أي شعوره بالانفصال عن الجماعة حين يقبل على القراءة والاطلاع.
قد يقول قائل، ولكن صاحب السؤال يحتاط للأمر ويقرر أنه يهوى القراءة ويشتاقها ويرغب فيها، فكيف تزعم أنه غير راغب فيها، وأن ميله إلى النوم دليل على صدوفه عنها؟(1010/22)
ونقول في الجواب عن هذا الاعتراض أن النفس الإنسانية أمرها شديد العجب، فهي تبدي خلاف ما تبطن، وتصدر عنها أفعال تباين ما يشعر به صاحبها. فهل نصدق الأعمال ونكذب المشاعر، أو نصدق المشاعر ونكذب الأعمال؟
واعلم أن اتجاه المحدثين في علم النفس هو الأخذ (بالسلوك) والأعمال الظاهرة، وليس لهم شأن بما يجري داخل النفس من ظواهر شعورية. وهناك مدرسة كبيرة على رأسها الأمريكان، ويتبعها بعض العلماء في أوربا، تبحث في علم النفس بغير شعور. ونحن إلى هذا الاتجاه اميل، فنقدم العمل ولا نقبل الشعور، ونصدق السلوك ونفسر به النزعات الباطنة.
وعلى هذا الأساس يسهل علينا تفسير هذه الظاهرة التي يذكرها صاحبنا، فهو يمسك بالكتاب ولا يكاد يقرأ منه بضع صفحات حتى تأخذه سنة من النوم. هذا هو الواقع المشاهد الذي لا سبيل إلى إنكاره. فما العلة في ذلك؟
وسوف نبين العلة الصحيحة بعد أن نستبعد ما يذكره عن مشاعره الباطنة، من انه يتمتع بما يقرأ تمتعاً زائداً. فهذا الشعور غير صادق، بل هو تمويه من النفس. فلا يستقيم أن تكون المتعة حقيقية ثم ينصرف عنها نائماً، بل العكس هو الصحيح
والنوم عند القراءة دليل لا يخطئ على عدم الرغبة فيها. وقد يعبر الإنسان تعبيراً آخر يفصح عن هذا الصدوف، كأن ينسى الموضع الذي ترك فيه الكتاب، أو ينسى اسمه وموضوعه، أو يجد في عينيه تعباً، وقد يصاب أحدنا بظهور (الذبابة الطائرة) وهي نقطة سوداء تعاكس الرؤية، وهذا إنذار بالتعب من القراءة، وفي بعض الأحيان يصاب الشخص بعمى تام، فلا يبصر شيئاً، لا لعلة في العين، بل لشدة الإجهاد العقلي في القراءة والرغبة اللاشعورية في الابتعاد عنها.
الحق أن القراءة ليست شيئاً في طبيعة البشر، فقد ركب الله العين في الإنسان ليبصر بها الأشياء الخارجية فيعرفها في المناظر من جمال هو الذي يبعث المتعة في جوانب النفس.
والأصل في التفاهمبين الناس السمع لا البصر، وذلك قيل الإنسان حيوان ناطق. فالألفاظ التي يتألف منها الكلام تنتقل من الفم إلى الاذن، ويتم عند ذلك الإدراك ويحصل العلم. حتى إذا اخذ الإنسان يتحضر عرف التدوين والكتابة، وسجل الألفاظ المنطوقة في رموز مكتوبة(1010/23)
رسمها رسماً. واتسعت الكتابة مع الرقي، وكثرت الكتب، وأصبحت مرجع الناس في تحصيل العلوم، مع أن الأصل أن يستمد المرء العلم سماعاً ويتلقاه من أفواه العلماء. ولعلكعندئذ تعلم لماذا امتنع سقراط عن التدوين، ولماذاكان يلقي دروسه إلقاءً.
الكتب - وقاك الله شرها - فيها منافع وفيها مضار. فمن منافعها أنها تلخص لك أفكار العلماء الذين افنوا أعمارهم في بلوغها في حيز ضيق، تستطيع أن تحصله في ساعات قليلة. ومن منافعها أن العلم ينتقل إليك في دارك فتطلع على آرائه وأنت مضطجع، بدلاً من شد الرحال إليه. ومن منافعها إنها صديق تأنس إليه وقت الشدة فيفرج همك ويسري عنك ويبعث في نفسك المتعة حتى إذاسئمته ألقيته جانباً.
ومن مضارها إنها كالجثة الهامدة لا حياة فيها، لأن حياة الأفكار في حياة قائلها، ولذلك كان الاستماع إلى حديث العالم أمتع للنفس وارسخ في الذهن.
ومن مضارها الذهاب بقوة البصر، لأن التحديق في الحروف السوداء ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم؛ وعاماً بعد عام، يجهد العين ويضعفها.
وكل قارئ تمر به فترات من الضيق فيسأم الاطلاع في وجوه الكتب، ويصدف عنها، ولا علاج لذلك إلا تركها مدة من الزمن، والترويح عن النفس بقراءة (كتاب الطبيعة).
وهذا شئ قل أن يفعله القراء في الشرق، نعني الخروج إلى الحدائق العامة والتأمل في مباهج الطبيعة. وكان عادة أرسو أن يلقي دروسه في بستان وهو يجوس خلال مماشيه، ولذلك سمي اتباعه بالمشائين.
فلا تتألم أيها السائل لأنك تنام عند القراءة، واسترح قليلاً، وخذ العلم من المجالس ومن أفواه العلماء ومن قراءة كتاب الطبيعة - أما النوم الذي تشكو منه، فان لم يكن لعلة جسمانية وضعف طارئ، فهو رد فعل طبيعي لإرغام نفسك على ما لا تحب وتشتهي.
والابتعاد عن الأشياء غير المرغوب فيها يتخذ أشكالاً مختلفة؛ فشخص يلقى الكتاب من يده، وآخر يمزقه، وثالث يبيعه. اعرف ناساً كثيرين حين ضاقوا بالقراءة باعوا مكتباتهم التي اقتنوها على مر الزمان، فلما ذهبت فترة السام والملل ندموا على ما فعلوا.
وقد لا تنصرف الصورة في إبعاد القراءة إلى الكتاب، بل إلى الشخص، فيشعر بالفتور، أو التثاؤب، أو الرغبة في النوم، أو ينام فعلاً.(1010/24)
ولكن الدخول في النوم يحتاج إلى تفسير آخر يضاف إلى العزوف الباطني اللاشعوري عند القراءة. ذلك أن كثيراً من الناس يعتادون القراءة وهم مستلقون على ظهورهم كأنهم نائمون، ليكون الوضع بالنسبة إليهم مريحاً، وهذا الوضع بالذات يهيئ إلى النوم. ولذلك ينبغي على مثل هؤلاء إذاأرادوا التخلص من النوم أن يتخذوا لأنفسهم عادة أخري وهي الجلوس في هيئة جادة، ويحسن إلى جانب ذلك إلا يخلعوا الملابس الرسمية التي يخرجون فيها، وإلا يلبسوا ملابس البيت. هذا إلى أن النظر في حروف الكتابة مع وضع الرأس إلى الخلف في حالة أن يكون القارئ مضطجعاً يتعب العين ويجهدها، فيكون مثل هذا الشخص مثل الوسيط الذي ينوم تنويما مغناطيسياً.
فلا بد من تغيير الهيئة.
وفي بعض الأحيان لابد من تغيير المكان، كالخروج من حجرة إلى أخري، أو الخروج من الدار إلى الحديقة، أو الخروج من حديقة الدار إلى خارج البيت.
وقد يعالج الإنسان نفسه بأن ينتقل من كتاب إلى آخر، إذ من شأن النفس أن تسأم الطعام الواحد.
وقد يكون الكتاب ثقيلا مملا يبعث كاتبه السأم إلى النفس؛ ومثل هذه الكتب إذاقسر المرء نفسه على قراءتها هي التي تجلب النوم.
فعليك باختيار النوع من القراءات الذي لا يدفعك إلى النوم، ولا تقبل على الاطلاع الشاق الجاد إلا حين تكون في يقظة تامة وصحة جيدة
احمد فؤاد الاهواني(1010/25)
في افتتاح العام الدراسي
المعلم في عهد التحرير
للأستاذ محمد رجب البيومي
أشرق على مصر فجر جديديبعث الضوء والأمل، ويطرد الظلام واليأس، وقد أحس كل مصري انه بدأ يعيش لوطنه ونفسه، بعد أن كان يعيش غريباً لغيره، فأخذ يفكر في مهمته، ويبحث عن خير مصر، ويعمل على رفعتها بين الأمم بعد أن تمهدت الصعاب، واستوى السبيل الواضح أمام السائرين.
والمعلم ذو رسالة سامية في امته، فهوالذي يخط سطور المستقبل، ويبني صرح الحياة، إذ يتعهد الناشئ بالتربية والصقل والتقويم، ويبعث في رجال الغد قوة عاتية تحطم الأغلال والسدود، ويخلق فيهم يقظة واعية تتفهم الأمور وتدرك الأسباب، وقد حرص على أن يقوم بمهمته الشاقة في دأب وكفاح، دون أن تعوقه المدافع والحوائل، ليرضي ضميره المتيقظ في أحنائه، ويقضي حياته مثلوج اصدر، هانئ البال.
وقد وفق المعلمفي أداء رسالته إلى حد كبير، ففي العهد الماضي حينما كان الظلام الدامس يرين على الآفاق في كل مكان فالصحف مكمممة الافواه، لا تسطر غير ما يرضي الباطل ويغضب الحق، والألسنة المخلصة معقولة حبيسة، تحاول النطق فلا تستطيع، الأحرار في كل ناحية يلاقون من البلاء والعنت، ما يوهي العزائم ـ ويفت في الاعضاء،!! حينما كان ذلك كله، كان المعلم يجد في ميدانه متسعاً فسيحاً لإيضاح الحق وإزهاق الباطل، فهو يتحدث إلى تلاميذه كما يتحدث الوالد إلى أسرته، كاشفا ما يرتكبه الآثمون من ضروب الخيانة والرشوة والطغيان، وقد يضطر إلىالتلميح حينما يخشى المغبة المخفية، ولكنه لا يني عن أداء رسالته المخلصة لوطنه وأمته ودينه، لذلك كان التلاميذ في كل مدرسة من مدارس القطر أول من هتفوا بسقوط فاروق وهو في شوكته وسلطانه وجنده، بل انهم حاصروا وقصوره اسمعوه من السباب والتهكم ما اقض مضجعه، وشرد النوم عنعينيه، وبذلك أتيح للمعلم أن يخلق واعيا يعرف الخائن والمخلص، ويميز الطيب من الخبيث.
ولقد اجتهد النفاق الآثم في تزييف الحقائق، وتشويه الوقائع، فامتلأت الكتب المدرسية بالثناء الكاذب على الأسرة العلوية، وجعلت كل طاغية فاسق من أبنائها الفجرة ملاكاً(1010/26)
طاهراً، يراقب ربه، ويعمل جاهداً لرفعه وطنه ودينه، وتعاونت معها الصحف والمجلات في رفعة أناس لا يستحقون غير الضعة والهوان، فكانت الجرائد اليومية تظهر مكدسة بصورهم الضخمة، ومتخمة بالأكاذيب الفاضحة تختلق اختلاقاً، عن مرؤتهم وفضائلهم في كل ذكرى تمر، أو مناسبة تحين، اجل! كانت الكتب المدرسية، والصحافة الخادعة تقوم بمجهودها الفاشل في هذا المضمار، والمعلم من وراء ذلك كله يقف بين تلاميذه ليدحض الأكاذيب المنمقة، ويميط اللثام عن الحقائق الفاضحة، حتى سطع الحق في الأذهان وضيئاً لامعاً، وعرف كل مصري تاريخ بلاده، كما كان لا كما أريد له أن يكون، وأمامك الثورة العرابية، مثال صدق لما نقول، فقد تواطأت الأقلامالآثمة، على إبراز زعيمها المجاهد في صورة المبهور الجاهل، الذي لا يقدر العواقب، ولا يتبصر الامور، واجتهدت الصحافة المتملقة في إخفاء كل مقال يكشف وجه الحق في هذه الثورة الشعبية المجيدة، فإذا حانت مناسبة ملحة للحديث عنها وجدت ضروبا بشعة من التلفيق والتضليل، ورغم ذلك كله فقد استطاع المعلم أن ينشئ أجيال متعاقبة تهيم بعرابي الخالد، وترى فيه رمز البطولة والتضحية والإيمان، وجاءت حركة الجيش المباركة فأتاحت لهذه العواطف المشبوبة نحوه أن تجد متنفساً على الأوراق ـوبين أمواج الاثير، فانطلقت الأقلام في الصحف، وانبعثت الأصوات في الإذاعة، تهتف بذكرى عرابي الخالد، وترتفع به إلى أوج البطولة والتقديس.
لقد أدى المعلم في العهد البائد المنصرم، وبقي عليه في عهد التحرير واجب شاق مرير، فهو مطالب بان ينشئ الأجيال القادمة على حب الحرية والعزة والاستقلال، ومكلف أن يحمي الأذهان الغضة مما يغيم في سمائها من الأباطيل، إذ أن حركة الجيش المباركة تصطدم في وثوبها بمن يروجون الإشاعات المغرضة، ويرجفون بالمفتريات الخادعة، فقد دأبت الرأسمالية الحاقدة على نشر السموم في كل مكان، وانحاز إليها فريق من ذوى الأغراض الخبيثة كالمحتكرين من التجار، والمطرودين عن مناصبهم اللامعة لما علق بهم من الشبه، والمآثم، وهؤلاء وأشباههم يتأوهون في مضاجعهم حسرة على ما انتهوا إليه من مذلة وهوان، ويحاولون الثار فلا يجدون غير الإشاعات والمفتريات، وان من المؤسف اللاذع انه يجدوا آذاناً تسمع، ونفوساً تصدق! ولو لم يكن ذلك: ما استطاع إقطاعي آثم في مغاغة، أن يقود شرذمة من الجهلة والرعاع، وليعلن عصيانه وطغيانه على رؤوس(1010/27)
الأشهاد، وما اندفع عامل ابله في كفر الدوار إلى قيادة عصابة تحطم المصانع وتحرق المنسوجات، ولو عقل هؤلاء الجهلة من الطغأم لعلموا أن حركة الجيش لم تبعث من مرقدها إلا لتمهد لهم سبيل الكرامة والسعادة والثراء، ومن هنا كان واجب المعلم خطير شاقاً فهو مطالب - فوق واجبه التعليمي - بإزالة الشبه والمفتريات، ولن يقول قائل انه يتدخل بذلك في السياسة، وهي محظورة على التلاميذ، إذ أن السياسة الحزبية التي تقوم على الأشخاص وتغفل المبادئ، هي المحظورة الممنوعة، أما السياسة القومية التي تسعى لخير الوطن واستقلاله، فلن يستطيع عاقل أن يحرمها على الطلاب، ولاسيما أن كل أسرة من اسر الوطن العزيزة تبعث بأفرادها إلى المدارس والمعاهد، فإذا عرف التلميذ من معه وجه الحق فيما يدور على مسرح السياسة المصرية استطاع أن يقنع أهله وذويه بما يقوم العهد الجديد من إصلاح، فيقطع السبيل على الشائعات المغرضة ويأمن الوطن ما يهدده من الزلزلة والانشقاق.
إن دراسة الأحداث الجارية من سياسية واجتماعية، تأخذ نصيبها الأوفر من مدارس الغرب ومعاهده، ولكنها لا تجد في مصر من نظر إليها نظرة جدية، بل يكتفي في بعض المدارس المصرية، بكتابة موجز يومي لأهم الأنباء السياسية، على سبورة توضع في الفناء، واكثر المدارس لا تلتفت إلى ذلك، وتراه عبر لا يفيد التلاميذ في شيء!! وهذا خطا يجب أن يلتفت إليه فالأحداث السياسية هي التي تؤلف تاريخ الدولة، ويترتب على مستقبل البلاد، ولن تكون غير حلقات مشتبكة من سلسلة الحياة، فالمدارس حين يوجه إليها اهتمامه إنما يبصر الأذهان يمثل في الوطنمن أدوار، وقد يقول قائل أن انشغال المعلم والطالب بالأحداث الجارية في مجتمعه يحول دون أداء الرسالة الثقافية التي تضطلع بها المدرسة، إذ أنها ستزاحم المواد الأخرى من رياضة وعلوم ولغات، وقد تكون سبباً فعالاً في هبوط المستوى العلمي هبوطاً لا تحمد عقباه، ونحن نقول أن دراسة الأحداث الجارية في الدولة، والعالم أيضاً، لا يكون بتخصيص أوقات خاصة تقتطع اقتطاعاً، من اليوم المدرسي للتلميذ، ولكن مدرسي المواد العلمية يقومون بهذا الواجب في دروسهم المختلفة دون أن يشعر التلاميذ انهم قد انتقلوا من موضوع لموضوع؛ فمدرسالتعبير مثلا يستطيع أن يجعل مواضيعه الإنشائية تدور حول الاصطلاحات الهامة التي تشغل الاذهان، كتحديد الملكية(1010/28)
الزراعية، ومحاربة الغلاء الصحراء، وتأميم الطب، وتشجيع الإنتاج القومي، وإلغاء الرتب والألقاب، وعلى المعلم أن يفسح لتلاميذه مجال النقاش بالحصة الشفوية في جو من الحرية والاخلاص، كما يستطيع أن يعقب على كل رأي بما يعن له من توجيه وتصحيح، وبدراسة هذه الموضوعات الهامة يلم الطلاب بمشاكل مجتمعهم وأحداثه الهامة، ويتقبلون ما يدور من الإصلاح بنفس راضية، وصدر منشرح، بل يصبحون من دعائه وحملة لوائه في كل مكان.
وقد كنا في العهد البائد ندرس التربية الوطنية دراسة مضحكة فنكتفي بالمذكرات الموجزة عن البرلمان والدستور والملك ومجالس القرى والمديريات، تاركين للطلاب أن يستظهروا ما يدونونه من القشور الجافة دون أن يتشبعوا بالروح الديمقراطية الصحيحة التي يجب أن تغمر البلاد، وكان من المؤسف أن يحفظ الطلاب فيما يحفظون أن الأمة مصدر السلطات، ويرون بعد ذلكما نعرفه من تزييف الانتخابات وتمزيق الدستور، والعبث بالحريات، كان ذلك في العهد البائد لن يكون في عهد سطعت فيه أضواء الحرية، وعرف كل مواطن حقوقه وواجباته، واصبح المعلم ملزما بدراسة التربية الوطنية تخلق النفوس، وتعرض الواجبات، وتقدس الحرية والعدل والمسأواة، وتجعل كل تلميذ يشعر بكرامته الإنسانية، وينشد وطنه الحرية والاستقلال.
لقد لاحظ بعض الباحثين ما يشيع لدى شبابنا المثقف من جهل بالأحداث الجارية، خارجية وداخلية، حتى أصبحنا نواجه مشكلة دقيقة، اصطلح الكتاب على تسميتها بمشكلة (أمية المتعلمين) فأنت ترى الشاب الجامعي يحمل مؤهلاً عالياً، فتظنوه يلم بما يلم به المثقف عادة من حوادث العالم وشؤونه في وقت كثرتفيه الصحف وتنوعت الإذاعات، ولكنك تناقشه في أمر ذائع فلا تظفر بشيء مما فطن، فترجع باللائمة على الدراسة الجافة التي عكف عليها في مدرسته وجامعته، ونحن لا نريد أن نستمر على هذا النهج المعوج فننشئ شباباً غلف العقول والقلوب، بل لا بد أن نعيد دراسة المنهاج من جديد، فنظم إلى كل مادة ما يخلع عليها الجدة والطرفة ويجري في شرايينها دماء الحياة، نريد أن نبتعد عن التوافه الحقيرة التي لا تفيد الطالب في شيء غير ازدحام الذاكرة بكل مشوه بال، نريد أن نبعد عن التاريخ أرقام الميلاد والوفاة لبعض اللامعات من السلاطين والوزراء، نريد أن ندرس(1010/29)
الوثبات الاجتماعية والسياسية للشعوب ونغفل ما كل الملوك، وهدايا الأفراد، وتحف الخلفاء، نريد أن تبتعد عن الشكلية الضيقة في تدريس الجغرافية التقليدية، فلا نقف بها عند الحاصلات والمناخ والتضاريس، بل ننتهز ما يجد من الأحداث الخارجة، فنكشف عن أسبابها ثم نتطرق إلى الدولة التي كانت مسرحا لهذه الحوادث، فنتحدث عن مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي ذلك من التشويق ما يبعث الرغبة ويولد الاهتمام، ولن يقف المنهج الرسمي عقبة معترضة، إذ لا يتعذر على الوزارة إيجاد منهج مرن يدرس الدول الهامة ذوات السيطرة والتأثير في شتى البقاع.
إن المعلم يستقبل مع تلميذه عهداً نظيفاً طاهراً، ترفرف عليه ألوية الحرية والعدالة والمساواة، فعليه أن يبذل جهده الجهيد في إنارة الأذهان، وتقويم النفوس، والتشبع بمبادئ الأخلاق، وبذلك يخلع عن وطنه نير العبودية والهون، ويحقق رسالة مصر الخالدة في موكب الحضارة والعمران.
(أبو تيج)
محمود رحب البيومي(1010/30)
سليمان العبسي
في ديوانه (مع الفجر)
للأستاذ احمد الفخري
خلني أصهر الحياة شيدا=وأذيب الوجود في إيماني
ربما مزقت أناشيدي الحم_راء بعض القبةدعن أوطاني
أنا لو أستطيع أرسلت أنفا_سي شواظا من مارج ودخان
أهكذا تنصرم الأيام كاللمحة الخاطفة؟ أحقاً تسع سنين قد مضت على لقائنا الأول؟ تاالله لكان ذلك كان بالأمس. . ولئن استطاع أن يفرق الزمانشملنا فهو اعجز من أن يهزم الذكريات. . ذكريات تلك اللحظات الحالمات. . وهل هن من حلم الحياة إلا يقظةالعمر!
يا لحظة النشوان لا تعبري ... ما أنت إلا عمري السرمدي
في صالة الاستراحة في دار المعلمين العالية ببغداد كانت عيون منجذبة إلى فتى جالس وحده، كانوا يحدقون النظر به ثم يتهامسون فيما بينهم حتى رابني أمره فسألتهم ما شأنه؟ فقالوا - وملؤهم إعجاب - هذا فتى نابغة من لاجئ (الإسكندرونة) رحمها الله، وهو شاعر جبار، فزاد اهتمامي به، وتأملته فإذا شاب هزيل الجسم، كليل البصر يضع على عينيه منظار لا يلائم شبابه الغض، ونظرت إلى عينيه فبدتا أول وهلة زجاجتين زرقاوين خابيتين لا تعرفان الاستقرار، فلما أمعنت النظر لمحت من ورائهما بريقا عميقا لم تستطع النظارة ولا قصر النظر إطفاءه.
ذلكم وهو سليمان العبسي شاعر الشباب الرقيق وشاعر الفتوة العربية بحق، ذلكم الذي صهرته عواطفه وإذا بته مآسي هذا الوطن المتلاحقة، سليمان الذي يقول:
ألقيت في الإعصار روحي ... وسقيت من قلبي جروحي
أنا لست أغنية الهوى ... بل صرخة الأمل الذبيح
والذي يقول:
أنا لو أنني خلقت جماداً ... كنت أولى قذائف البركان
وبعد فعسير على أيها القارئ أن انقد شعر سليمان نقدا علميا منظما لأني لا أستطيع أن(1010/31)
اجرد حديثي من عاطفتي وأي عاطفة هي! لقد مزجتنا الآلام ووحدت سيرنا الآمال وعشنا بضع سنين نحيا حياة واحدة تحمل من صميمها من حاضرة شكوى مشتركة وتطل بنا على المستقبل من منظار واحد.
ومجمل ما يجب ذكره أن أقول إنا بتنا نمقت الأقوال نود لو بالأعمال اعتضنا عنها أو كما يقول سليمان في مقدمة ديوانه (ما زلت أوثر أن أحيا على أن أسجل) فكانت حياته شعراً وكان شعرا هذه الحياة الفنية الفتية الغنية بحب الوطنيين (القلب) وطننا الأصغر (والأمة العربية) وطننا الاكبر، وهولا يرى الأول إلا صورة مصغرة من الثاني، وهي ممهدة ومغذية. . ولهذا فأنت لا تفتا تجد في ديوانه انتقالاً رائعاً من الغزل إلى الحماسة تفسره لك هذه العقيدة النبيلة، اسمعه يقول في موشحه (لمن أذوب ألحاني):
لو كنت حراً لأسكرت الوجود على
أنغام حبي. . . وأفنيت الصبا قبلا. . .
استسمج الحسن، بل أستغفر الغزلا
ماذا؟ أأرقص فوق النعش قد حملا
جثمان شعبي فيه، ضاحكا، جذلا؟
أأستحيل كغيري نحوه خشبا؟
وأسخط الله، والتاريخ، والعربا!
لي من هواك. . . جناح سوف أقتحم
برج النضال به، والهول يحتدم. . .
هذى (القيود) التي حولى ستنحطم
لا قدس للحب في أرض ولا حرم
ما نقلت فوقها (مستعمراً) قدم. .
قولي لمن تنكر (الذوبان) ما ارتكبا. . .
هل تأمن النمر المطعون أن يثبا؟
وبعد أن يقول من موشحه (جنة الفن) في أسمهان:
يؤثر الفن لو نسينا (المكانا)(1010/32)
واختصرنا. . . بقبلتين (الزمانا)
ما وهبنا الشباب؛ والعنفوانا
لنداري جراحنا، وأسانا
لن تراني يا قلب أشكو سنانا
خضبته كف الهوى بوريدي
لن يراني اللهيب غير وقود. . .
أسمعه بعد ذلك يقول:
حرقة أنت في فؤاد الغناء
أن تنامي عن الكؤوس الظماء
قبل أن تشهدي مع الصحراء
يوم عرس الحرية الزهراء
قبل أن تصدحي بلحن (الجلاء)
وتهزي به رفات الحدود
يوم نمشي على حطام القيود
وليس أصدق في تمثيل فكرته هذه وشدة تعلقه بها واعتزازه من وصيته في نشيده لشبله (معن)، وهل اشد إخلاصاً من نصيحة الكبد بضعة منها؟
وعدا. . . إذاعبق الجما ... ل ورفت الغيد الحسان
وتموجت شعل الشبا ... ب وصاح فيها العنفوان
ولويت أعطاف الحني ... ن فطار من يدك الغنان
فاشرب على نخب (الحيا ... ة) فإن ظامئها جبان
وأحب ملء الروح من ... طلقا. . وللحذر الهوان
وإذاتفجرت الحقود. . ... وزمجر البلد المهان
ورأيت أرضك ها هنا ... (ناب) وثمة (أفعوان)
وتكلم الأحرار فالآفا ... ق نار أو دخان
فأخضب طريقك باللهي ... ب وأنت في يده سنان(1010/33)
ذلكم سليمان: قلب ناضر ملؤه الحب والجمال، وشباب ثائر تتقاذفه الآلام والآمال، فهو بين يأس (أو شبه يأس) لولا جلال التاريخ ووقدة العزيمة لذهب بالأمل، وأمل لولا عزة الماضي وعمق جذوره لخبت جذوته واستحال رماداً، وروح قرارته خضم مائج لا يستقر، وكيف يستقر وفتوة الشباب تذكية ونكبات الضاد تمر به إعصاراً أهوج!
وهو من بعد أن سار سددت خطاء حماسة الشباب وحرارة الحياة، وهوان تكلم نطق الحب، حب تلكم الحياة الفتية المتدفقة المتألمة في كلامه، فما الحياة وما الحب إلا للوطنين القلب والضاد، وحسبه في هذين الغرضين - وقد أسراه - أن ينتقل بين أفنان لا حدود لرياضها وأن يضرب في لج لا ساحل لعبابه: الحب والبطولة - يا أخي القارئ - وقد أهدى إليهما ديوانه لأنه استوحاه منهما - الحب والبطولة حسب الشباب شبابا فهما الحياة بأجمل وأوسع وأقوى معانيها؛ وهل الفن إلا تعبير حساس عن الحياة؟
(لمحة هزت نشيدي فانطلق ... رعشة حيناً وحيناً زلزلة)
والحياة الخالدة هي أمنية كل حي فان وفقدانها سر شقاء الخيام. . ولكن سليمان خلد نفسه في خالدين. . وهل أروع من أن يخلد الإنسان ذاته في وطنه الصغير (القلب) وفي وطنه الأكبر (أمته)؟ وهل أحر لوعة من أن يشكو الإنسان مصيبته في أحدهما إلى الآخر؟
عروس الشعر. . . ما انفسح الخيال
على دنيا. . . هي السحر الحلال
ولا نديت على الظمأ الرمال
ولا غنى فم. . . لولا الجمال
قصيدة الكون أنت. . . وما أخال
ربابا في يمين الآلهات
يصاغ بها لرقته مثال
عروس الشعر معذرة القصيد
إذا ما جن في وتري نشيدي
تمرد أن ينام. . . على (القيود)
فراح يهز أجفان (العبيد)(1010/34)
ليفتحها على ذل السجود. . .
فإذ شعبي موات في موات
وإذ وطني: همود في همود
وهو في هذين المضمارين قد أرضى جميع نقاد الفن وإن لم يعتمد ذلك لأنه لم ينصت إلا إلى أوتار قلبه، أرضى في حبه أرباب الفن للفن كما أرضى معارضيهم في سمو توجيهه (وحرية) أوتاره.
أنا ما نظمت الشعر بل ... ذوبت رنات القيود
وعصفت. إذ هتف الهوى. ... ناراً على شفة الجليد
فأما الحب، وأما دفقات الشباب؛ وأما خفقات الفؤاد، فما أعرف شابا أديبا مثل سليمان أحسن نجواهن فسحر، وغنى بألحانهن فأطرب وأسكر، وهل الحياة إلا الحب؟
هي الدنيا، وهل فيها ... - إذالم نهو - ما يسبى
إذا رضى الغرام عليك فأمن جانب الرب
وهل عمر الشباب إلا: -
عمر الورد قصير. . . فلندع
كل ما في الروض يغرق في المراح
ليس في ثغر الأقاحي متسع
لسوى القبلة من ثغر الأقاح
وإن هذا الغناء وإن شابهت أنغامه أنغام الخيام إلا إنها أشد اتصالاً بينبوع الحياة، وليس وراء مرحها وإغراقها في اللذة جمرات يأس، بل هي نقية صافية لأنها من معين الخلود:
علمتني طرق السما ... ء فجن شعري بالسماء
وهتفت بي - والأرض تجذب ناظري: - إلى العلاء
فهوت على قدمي، خلف السحب، أشباح الفناء
وإذاالخلود. . . على فمي ... كأس تفجر بالغناء. . .
لا تحذري. . . لم يحطمنا سوى الحذر
لا تحسبي غير لقيانا من العمر. . .(1010/35)
ألقي بروحك في أرجوحة القدر
وعانقيني على إطلالة القمر. . .
أنقل على شرفات الخلد أقدامي
وأسكر الملأ الأعلى بأنغامي. . .
لا تأسفي للدجى إما تريه فني
في تمتمات النشاوى مصرع الزمن
دعي هواجس هذا الكون في كفن
يخلو لهن ذوو (الآراء) والفطن
واستنشديني فقد باتت تعذبني
أنشودة لم أتممها ولا عجبا
صدري يضيق بألحاني وإن رحبا. .
إذن فلينهل من هذا الكوثر قبل أن يفقده، وليمنع منه أحياناً ليشعر بألم الحرمان فما هذا الألم إلا صورة من اللذة الخالدة. .
أقفلت أنفاسي على جمرة ... لفاحة. . . تلهب ما تلهب
ورحت أستعذب آلامها ... والألم الخلاق يستعذب
في غد تخبو رؤانا الزاهية ... لم لا نشعلها قبل الغد؟
في غد. . تمضي الأماني الحالية ... والأغاني بددا في بدد
سنبسم للجراح على الجراح
ونسقيهن ألحان المراح
ويحملنا الشباب بلا جناح
إلى أحلامنا الخضر الفساح
إلى دنيا منضرة النواحي. . .
هناك إذاافترشت النيرات
غفوت على أغاريدي وراحي
البقية في العدد القادم(1010/36)
أحمد الفخري(1010/37)
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
- 6 -
إننا نجد شلر في تصادمه مع مواطنيه المثل الأعلى في سموه الخلقي، وهذا السمو هو الرابطة الوحيدة التي كانت تشده بمجتمع زمانه، وقد اظهر كل النبل مع أعدائه وأصدقائه على حد سواء، وعلى انه لم يدخل قط في مجادلات وترهات عصره، وبالرغم من مشاهدته واسفه على إسفافالأدب في زمنه لم يشهد حربا مكشوفة عليه وإنما يلمح إلى ذلك عن بعد كما هي الحال في كتابات (متون) ولذا نراه لا يتطرق إلا إلى السماء عدد قليل من معاصريه، لأنه لم يقصد الناس في هجومه وإنما كان يقصد الأفكار المعوجة والآراء الفجة. وفي كتابه (دراسة عن برغر) - هذا الكتاب الذي أسهب الناس فما الحديث عنه وعلقوا عليه شتى التعليقات، والذيانزل اشد الضربات في الشاعر المسكين (برغل) إلا أن شلر لم يقصد منه إثارة أي عداء ضد برغر - بل على العكس حاول أن يظهر فيه احترامه لفن الشاعر وتجربةلفهمه، لأنه لم يعن بالمنازعة مع برغر أو اي شخص آخر لم يقصد أي كسب رضا الجمهور، وقد كان حائزاً عليه بدرجة عالية لأنه لم يقدر هذا الرضا الجمهور، وقد قال في المعنى في فقرة جلية يعرفها قراء الإنجليز (إن الفنان في لحقيقة هو ابن عصره، لكن وارحمتاه له أن هو اصبح تلميذ هذا الفكر، فخير له لو اختطفته يد إحدى الآلهة وهولا يزال رضيعاً من حضن أمه لتربية في عصر آخر احسن فيشب ويبلغ مبلغ الرجال تحت سماء الإغريق القصية، وحالما يدرك هذا المبلغ فله أن يرجع إلى بلاده غريباً في سيمائه ليس ليسرها بوجود، بل يطهرها كأحد أبناء اغاممنون المرعبين) وعلى كل، فشلر لم يكن عنده اثر من آثار الغرور أو حتى الكبرياء لان شعوره الذاتي المتواضع كان أهم ميزة من ميزات عبقريته التي كانت ضمنية غير ظاهرة عليه، فلم يكن للمقت أو للغضب محل في نفسه اللهمإلا ضد الخرافات والإسفاف، وعنده تصبح الكراهية شيئا مقدسا، كما أن الزهو العاتي لم يكن له اثر في نظرته، أما تجهمه فكان يشبه تجهم أبولو(1010/38)
الذي كان يقضي على الأفعى بنظرة واحدة من نظراته وكلمة أخرى يمكننا أن نقول في شلر ما نقوله في أفراد قلائل من أي قطر كان: لقد كان خادم من خدام معبد الحق وقد قام بمثل هذا الواجب خير قيام، ووليكن وحدها كافية للشادة به. ولقد اتفق سلوك شلر العقلي مع سلوكه الأخلاقي اتفاقاً دائماً؛ فكان بسيطاً في عظمة، سامياً في عدم تكبر، تقياً في عدم إسفاف، غيور في عدم حسد. وكانت الحساسية النبيلة والمشاركة المخلصة مع الطبيعة في جميع تقلباتها تنعشه فيه ميت الرجاء؛ إلا أن ذلك لم يكن مدعما بقابلية إبداعية. ولكن الطبيعة بما فيها من معنى وجمالكانت محدودة بصور قليلة لدى بصيرته، وكان اهتمامه يتركز في نوع خاصمن الصور، هي اقرب إلى العاطفة القاسية الشجية، وهذا ما كان يمكنه أن يمثله خير تمثيل كشاعر وكمفكر. ويمكننا أن نقول: أن موسيقاه كانت موسيقى سماوية حقة، لكن في نغمات رتيبة غير متنوعة وفي إيقاع بسيط، ولكن الانسجام في الترتيل مفقود فيها. ولا نكران بان شلر في أيامه الأخيرة، على الأقل، أدراك أسلوباً شعرياً باهراً صافياً في المجال الخالدة من الفن، ولكن هذه الموهبة ظلت جزئية، لأنها كانت نتاجاً لبعض قابلياته المكدودة أكثر من كونها نتاجاً ذاتياً لطبيعته الكلية، فعلى قمة المحرقة يوجد لهيب ابيض ولكن المواد ليست كلها ملتهبة إذا لم نقل غير مشتعلة. لا بل يظهر لنا أن الشعر إجمالاً لم يكن موهبته الرئيسية، كان عبقريته كانت منهمكة في التأملات الفلسفية والبيانية اكثر من الشعر. وإلى النهاية كانت هناك خشونة فيه مما يجعل عدم انصهاره في بودقة الشعر أمراً لا مفر منه. وهكذا لم تكن عبقريته قيثارة (بولية) تعزف عليها الرياح كما تشاء تصنع لحناً حراً، بل آلة موسيقية علمية إذا ما عزفت عزفاً فنياً أنتجت نغمات بديعة ولو بصورة محدودة. ومن المحتمل أن جزءاً يسيراً من مواهبه انكشف لنا، لأننا يجب أن نعلم بأنه لم يحظ بما حظي به إلا بعد جهد جهيد وتعب شديد، وانه استدعى إلى العالم الآخر وهو لما يبلغ منتصف العمر. وعلى كل حال، فنحن على قدر ما نجد فيه من المواهب مجبرون على الاعتراف بان أهم هذه المواهب كان هذا الإدراك العميق الدقيق الذي نجده في كل مؤلفاته. لقد كان لديه خيال ذهني واسع الأفق وقابلية فلسفية إدراكية عميقة، ومع ذلك فان البساطة وعدم الشمول ظاهران في كل هذا.
وكان شلر ينظر إلى الأعالي بدلا من أن يحدق فيما حوله. وكان يهتم اهتماما خاصا(1010/39)
بالأمور الفلسفية البعيدة والتأملات الفنية وقيمة الإنسان ومصيره. ولم يعن بمصالح الإنسان وأعماله الآتية. ومع ذلك فهذه الأخيرة - كما تظهر لنا - ذات قيمة لا محدودة، لان ابسط مظهر من مظاهر الطبيعة، وخصوصا الطبيعة الحية، ما هو إلا نموذج ومطلع من مطالع الروح غير المرئية التي تعمل في الطبيعة. وليس من شئ تافه في الكون، بل أن اصغر شئ يمكن أن يعتبر نافذة نظر من خلالها إلى إلا محدود. ولم ينظر شلر كمفكر وكشاعر اكثر من نظرة عابرة إلى مثل هذه الأشياء، سواء كان ذلك في مناقشته أوفي عرضه للطبيعة وتصويره لها. فالشيء العادي ظل عادياً بالنسبة إليه، وإذا نظر إليه نظرة مثالية فذلك بصورة ميكانيكية ليس للوحي فيها أي مكان، وليس عن طريق التطلع الفلسفي الشعري، هذا الطريق الذي يفتح مجاهل الجمال في كل صفة من صفاته، بل عن طريق استنتاج هذه الصفات بانتقاء ما هو وضاء بارز منها وترك الباقي تذروه الرياح.
وفي هذا يختلف شر اختلافاً بينا عن الشعراء العظام وخصوصاً عن معاصره العظيم جوته، وهذه العظمة الفكرية - على ما هي عليه من قيمة وأهمية - عظمة بسيطة تسحر البصر لأول وهلة ولكنها لا تلبث أن تفقد الكثير من جلالها. فليس النظر إلى المجردات العلوية صعباً بمقدار الصعوبة التي نواجهها في النظر بعطف إلى مشاكلنا الاتية، والحكيم هو من يرشدنا ويساعدنا في أمور حياتنا اليومية، وقد يجوز أن يكون حكيما كذلك من يرشدنا إلى النظر إلى الحقائق القديمة نظرة أكاديمية شكلية، ولكننا نريد أن نرى الحكمة في أشكالها المكشوفة البينة، لأننا قد نجد في الأمثال كثيراً من الحكمة الواقعية أكثر من مما نجد في النظم الفلسفية والمدارس الأدبية. فكتاباته المبكرة وكل كتاباته تقريباً تمتاز بهذا الترف الأرستقراطي وهذا الزهو المجرد. فهو إما أن يكون تجريدياً أو نظامياً في تأملاته أو نراه متعلقاً ببعض الأفكار المعترف بها، غير عابئ بالنظر إلى ما يحيط به أو بالنظر إلى نهر الحياة المتعدد الألوان، وإذا نظر إلى ذلك فمن خلال كوة ضيقة. ففلسفته في التاريخ تستند على اعتبار كمال الإنسان نتيجة من نتائج التنظيمات الاجتماعية والمؤسسات الدينية، يستبين ذلك في شعره، فهو يدور في نطاق الأمور القديمة المعروفة من أمثال جنون الحب , والعظمة العاطفية، والحماسة في الدفاع عن الحرية وما شابه. نجد ذلك في كتابه (دون كارلوس)، هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره مرحلة انتقال ونقطة تحول بين(1010/40)
فترتين من حياته: المبكرة والمتأخرة، وفي هذا الكتاب نجد البطلة المحبوبة (بوزا) تظهر محلقة في الأجواء، مضيئة صافية نقية وباردة وجافة كالمنارة البحرية. وقد عرف شلر نفسه بان العظمة لا تكمن هنا. وبجهد لا كلل فيه ولا ملل تمكن شلر من التخفيف من غلواء تحليقه وتوسيع رقعة منطقته الأرضية بالهبوط إليها، وقد حدث ذلك في بنجاح منقطع النظير، كما تشهد بذلك أشعاره وأكبر دليل على ذلك قصيدته (نشيد الأجراس)، وهي قصيدة عظيمة بلغت مبلغ الإعجاز في بلاغتها وفي عرضها. ما مأساته (وليم تل). وهي آخر مؤلفاته - فهي في أسلوبها وروحها من احسن ما كتب في الدراما. أما قصوره الوحيد - كما قلنا سابقا - فهو عدم تنازله واختلاطه بالمجتمع، ومما له علاقة وثيقة بهذا القصور سبباً ونتيجة، هو فقدانه روح المزح والملاطفة، هذه الروح التي تعبر عن المشاعر العامة، فينظمها الشعراء شعراً عذباً مستساغاً، فالشاعر المازح يرى الحياة العامة وحتى الوضيعة منها بمنظار المرح والحب، لان كل شئ موجود له سحره الخاص.
للكلام صلة
يوسف عبد المسيح ثروت(1010/41)
ديوان مجد الإسلام
نظم الشاعر المرحوم أحمد محرم
وتعليق الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
تابع غزوة بدر
أودى (بعتبة) و (الوليد) و (شيبة) ... و (أمية) القدر الذي لا يدرح
وهوى (أبو جهل) و (نوفل) وارعوى ... بعد اللجاج (الفاحش المتوقح)
لما رأى (الغازي المظفر) رأسه ... أهوى يكبر ساجدا ويسبح
في جلده من رجز ربك آية ... عجب تفسر للبيب وتشرح
تلك السطور السود ضم كتابها ... أبهى وأجمل ما يرى المتصفح
إن لم يغيب في جهنم بعدها ... فلمن سواه في جهنم يصرح؟
أدركت حقك يا (بلال) فبوركت ... يدك التي تركت (أمية) يشبح
واف المطار ووال يا (ابن رواحة) ... زجل الحمام، إذا يطير ويسجح
هذا (ابن حارثة) يطوف مبشراً ... بالنصر يخزي الكافرين ويفضح
لما تردد في البلاد صداكما ... أمست قلوب المسلمين تروح
فكأن كلا معرس، وكأنما ... منه ومنك مهنئ ومرفح
قل يا (أبا سفيان) غير ملوح ... فالنصر يخطب، والسيوف تصرح
بيض على بلق، تساقط حولها ... سود مذممة تساف وترمح
ذهبوا، وأخلفهم رجاء زلزلوا ... فيه، فزال كما يزول الضحضح
أكذاك تختلف الزروع، فناضر ضافي الظلال، وذابل يتصوح؟
القوم غاظهم الصحيح، فزيفوا ... ومن الأمور مزيف ومصحح
خطأ الزمان فشا، فلذ بصوابه ... وانظر كتاب الخلق كيف ينقح؟
جاء (الإمام العبقري) يقيمها ... سنناً مبينة لمن يستوضح
صدى الوقعة في مكة
لما ترامت أبناء الوقعة إلى مكة فرح المسلمون كثيرا، وحزن المشركون حزناً شديداً،(1010/42)
فأقيمت المآتم وجز النساء شعورهن، وكان ممن عاد إليها من بدر أبو سفيان ابن الحارث بن هشام، وقد تقدم ذكره في الملحمة الحائية، فلما أنبأ عمه أبو لهب بما رأى قال: لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، قال أبو رافعمولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك والله الملائكة، فضربه أبو لهب في وجهه ضربة شديدة، ثم احتمله وضرب به الأرض وبرك عليه، وأخذت السيدة لبابة عاموداً فضربت به رأسه فشجته شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب سيده؟ فولى ذليلا، ولم يعش بعد هذه الضربة سوى سبع ليال ثم مات:
وضح اليقين لمن يرى أو يسمع ... ولقلما تجدى الظنون وتنفع
النصر حق، والمنبئ صادق ... والويل للمغرور، ماذا يصنع؟
إخشع (أبا لهب) فإن تك ذا عمى ... فجبال مكة، والأباطح خشع
(مولى رسول الله) يضرب ما جنى ... ذنبا، ولم يك كاذباً يتشيع
هي يا (أبا لهب) كتائب ربه ... نزلت، تذل الكافرين وتقمع
أخذت (لبابة) للضعيف بحقه ... ومضى الجزاء، فأنت عان موجع
وشفته منك بضربة ما أقلعت ... حتى رمتك بعلة ما تقلع
قالت بغيت عليه، واستضعفته ... أن غاب (سيده) وعز المفزع
ما (بالعمود) ولا برأسك رببة ... إن الغوي بمثل ذلك يردع
حييت (أم الفضل) تلك فضيلة ... فيها لك الشرف الأعز الأمنع
الله أهلكه بداء ما له ... شاف، ولا فيه لآس مطمع
تمضي البشائر جولاً، وتجول في ... دمه السموم، فجلده يتمزع
أمسى المكاثر بالرجال مبغضا ... يجفي على قرب المزار ويقطع
أكلته صاعقة العمود، وإنما ... أكلته سبع بعد ذلك جوع
هم غادروه ثلاثة في داره ... لا الدار تلقطه، ولا هو ينزع
تتجنب الأيدي غوائل دائه ... فيدع بالخشب الطوال ويدفع
رجموه، لوكره السفاهة فارعوى ... ما ساء مهلكه، وهال المصرع
ما أكثر الباكين ملء جفونهم ... للجمع بالبيض البواتر يصدع
جز النساء شعورهن، وغودرت ... للحزن منهن الدموع الهمع(1010/43)
رجعن مكروه العويل على أسى ... و (البيت) يشهد و (الحطيم) يرجع
والمسلمون بنعمة من ربهم ... فيها لكل موحد مستمتع
الله اكبر، لا مرد لحكمه ... هوربنا، وإليهمنا المرجع
يتبع(1010/44)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
. . . والمسرح أيضاً
ما تزال (البندقية) تتصدر الحركة الأدبية والفنية في هذه الأيام فهي بعد أن فضت مؤتمر الفنانين الذي عقد في شهر سبتمبر الماضي، جمعت مؤتمر المعهد الدولي للمسرح خلال الشهر المنصرم، واشتركت فيه 16 دولة أوربية وآسيوية وأمريكية وعنى المؤتمر بعلاج المشكلات والعقبات التي تقف دون تقدم الفن المسرحي، على أساس مطالبة الدولة بمساعدة مالية دون أن تفرض رقابتها سواء من الناحية السياسية والفكرية والفنية، كما نظر المؤتمر في ضرورة مقاومة الاستقلال الذي يقوم بين الوسطاء بين المسرح والجمهور، وصون حقوق المخرجين والفنيين الذين يقومون بإعداد المسرح وترتيبه.
وبينما كان هذا المؤتمر منعقداً في البندقية، انعقد في باريس اجتماع اليونسكو لدراسة (حق الإنسان في المساهمة في الحياة الثقافية) بعد أن عهد إلى مجموعة من المربين بدراسة هذه المشكلة وإيجاد حل إيجابي لها.
حق الأديب في الحياة الكريمة
في هذا الوقت الذي توقع فيه اتفاقية حقوق المؤلفين في البندقية، تدور في الصحف العربية معركة، مشتركة، لا ادري كيف تلاقت الأفكار حولها دون سابق ارتباط.
ففي صحيفة (العمل) التي تصدر في لبنان مقالة بعنوان (الموهوبون) يقول فيه كاتبه الأستاذ راجي الراعي:
(منذ خلقالأدب والفن والأديب والفنان مظلوم محروم، ونحن نعلم أن الآلام هي القيثارة التي تحمل أوتار الأديب، والدواة التي يغمس فيها قلمه، والعرائس التي تأتيه بالروائع، وأن بين الرعشات والتنهدات والعبرات والجراحات تهبط الآيات الخالدات، فلا نريد أن نخرجه من دنياه، ولكننا نريد له جوا فسيحاً مريحاً يتسع لجناحه، وبيتاً يملكه وفيه القليل الذي لابد منه ليلد الكثير الذي يتمخض به خياله، وحديقة ينتشق فيها الورود ليأتيك بورود. ونريد له ما يبتاع به الضمادة والرداء، وما تتطلبه المعدة القاهرة التي لا تعرف الهدنة والعياء. وما يقيه(1010/45)
قيظ الصيف وزمهرير الشتاء. . شر الظلم هذا الذي يعانيه صاحب الوحي والقلم، ولقد حان لنا أن نرفع الموهوب إلى المكانة التي تليق به وأن نريحه من الأئبار التي تدميه. . .).
الرصافي أحد الضحايا
وفي نفس الوقت تنشر جريدة (النبأ) في العراق مقالاً للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري يقول:
(أرأيت كيف يعيش الرصافي؟!)
اشك بأنه مات من سوء التغذية! وانه كان لا يجد بعض الأحايين ثمن الدواء الذي يقرره له أصدقاؤه الأطباء!
أهكذا يجب أن يعيش العباقرة لمجرد انهم شعراء بينما غيرهم من الجهلة واللصوص يسكنون القصور الفارهة والبيوت الشامخة.
قد تقول. . . لم لم يجار السلطات الحاكمة ليعيش برفاه، وهنا بيت القصيد وعله العلل. الرصافي كرجل وكشاعر في زمن وصل فيه الظلم الاجتماعي إلى التدهور، وليس من العدالة أن لا يدخل في حلبة السياسة ليذب عن المظلومين وينافح عن المنكوبين من أبناء الشعب، ولو إنه ترك السياسة في سبيل العيش الرغيد والمنصب الرفيع كان مجرما بحق رسالته التي كافح من اجلها راضيا صابرا رغم بوسه وجوعه وعذابه.
وإذا اشتغل الشاعر بالسياسة وكان ضد الحكومة والسلطة الحاكمة، والرجال الذين بيدهم الأمر والحل والربط، فيجب أن يموت جوعاً لأنه لا يمشي في ركابهم).
الألم العبقريليس ألم الجوع
في عدد آخر من جريدة (النبأ) يقول الكاتب (أن الأديب الشاعر لا يمكنه أن يبدع ويخلق وينتج ما هو خالد وجدير بالبقاء ما لم يتنعم على الأقل بمباهج الدنيا لأنني اختلف مع الذين يقولون أن الجوع يخلق، ولا ادري كيف يمكن الإنسان الجائع أن يفكر تفكير صحيح، إذاكانت معدته خاوية! واضن أن شوقي عندما قال:
تفردت بالألم العبقري ... وانبغ ما في الحياة الألم(1010/46)
لم يك يقصد بالألم العبقري ألم الجوع.
ومعنا هذا أن القضية واحدة، ومتصلة، ولكنها قضية الشرق كله واعتقد أن الذي آثار هذا الحديث في مختلف صحف البلاد العربية هو ما ذكره الدكتور طه حسين في مؤتمر البندقية عن حق الأديب في الحياة.
ألوان. . .
من أخبار هذا الأسبوع الأدبية الإفراج عن كتاب (المعذبون في الأرض) وقد سعدت بلقاء الأستاذ العميد مساء الخميس، وحضر الاجتماع كاتبين من كتاب الشباب.
وقد تحدث الدكتور مع أحدهما عن رأيهفي أسلوب الشباب الأدبي، معلق على كتاب من الكتب. . . فقال انه يكره جداً للشباب هذا الاتجاه نحو العامية فيما يكتبون، وان في اللغة الفصيحة ما يمكن الكاتب من أن يبلغ نفوس القراء إذا كان يريد الحديث إلى أدنى طبقاتهم واقلها ثقافة.
وذكر في هذا المجال عبارة الفيلسوف اليوناني القديم (قبل كل شيء يجب أن تتكلم اليونانية).
وجاء ذكر الأستاذ محمد السباعي فقال العميد أن ممن استفدت منهم حقيقة، وممن لهم الفضل الأول في إعطائي صورة عنالأدب الإنجليزي، وأن أول شيء قرأته عن سبنسر كان عن طريق ترجمة السباعي. . وأضاف الدكتور أن من خير ما أعجبه من إنتاج السباعي كتاب الصور.
ومما يذكر في هذا المجال أن مكتبه المعارف قد أخرجت للعميد كتاباً جديداً ضخماً اختار له اسم ألوان. . . وهو خلاصة حية لفنون الأدب العالمي المعاصر (وألوانه).
بين الرافعي وشوقي
أشار الأستاذ (كمال النجمي) في كلمة له في (الجمهور المصري) عن خصومات شوقي بين الرافعي والعقاد وجملة رأيه في هذا أن الرافعي غير رأيه في شوقي، وان العقاد ضل مصر على رأيه فيه إلى النهاية. . وهذا الرأي بعد أن تبين للأستاذ النجمي، أن ما كتبه الأستاذ شفيق منصور عن الكتاب (الذي لم يصدر عن شوقي، كان مجرد مداعبة للكاتب(1010/47)
في مناسبة ذكرى أمير الشعراء.
ومما يذكر في هذا المجال أن الرافعي قال في كلمته التي نشرها المقتطف بعد وفاة شوقي أن السر في عبقرية شوقي انه لم يكن (مصريا). . وقد أزعجت هذه العبارة المرحوم الشيخ عبد الله عفيفي ففتح بابا أسبوعياً في جريدة البلاغ عنوانه (مصر الشاعرة) ظل يختار في كل أسبوع لمحات من قصائد الشعراء المصريين طوال العصور الماضية تعزيزاً لهجومه على رأي المرحوم الأستاذ الرافعي.
ومن الذين غيروا رأيهم في (شوقي) الدكتور هيكل. . فبعد أن كتب مقدمة الشوقيات كتب فصولاً في السياسة في مهاجمة شوقي.
حول الأدب النسوي
أرسلت إلى الكاتبة (ل. س) قصائد من الشعر المنثور ترغب في نشرها في الرسالة. . . فقد هاجمت الرأي الذي أعلنته في إحدى المقالات السابقة (عنالأدب النسوي).
تقول: أدهشني يا سيدي انك تتجنى على المرأة بغير شفقة ناسيا أو متناسي تلك القطعة النثرية الرائعة التي كتبتها (ابنة الشاطئ) والتي مطلعها
(شاقني أن ارفع إليك نجواي. . . وقد فصلتني عنك قطعة من الزمان. .)
. . والحق إنني لا اعرف أن للسيدة الدكتورة بنت الشاطئ شعراً منثوراً. . أما أنني أتجنى على المرأة. . فلا وألف مرة لا
أنا على ثقة بان (الأدب النسوي) لم يكتب بعد، وان كل ما يكتب الآن ما هو إلا لمحات عامة، لم تأخذ بعد الصورة النهائية الواضحة. . الجديرة بان يطلق عليها هذا الاسم.
صحيح أنني اقرأ هذه الأيام لأسماء جديدة:
. . . الزهرة، الزهراء، نعمات احمد فؤاد، نفيسة الشيخ، ولكني لا زلت أرى هذه البراعم ما تزال في طريق النضوج، ولا يمكن الحكم عليها.
قائمة سوداء
. . أما قصيدة الشعر المنثور، (قائمة سوداء) التي تفضلت السيدة بإرسالها إليَّ فان في روحها معاني لامعة حية، تدل على نفسية مجربة خبيرة، قاست من الحياة وعانت. . فما(1010/48)
المانع أن تصاغ هذه التجربة النفيسة النفسية في قصة. إنها إذن تكون غاية في القوة والروعة، ولم تتردد الرسالة في نشرها.
وأني لأرجو أن تتفضل الكاتبة (ل. م) بان ترسل إليَّ عنوانها لأرد على المسائل التي سألتني عنها رداُ خاصاً لها، فهو مما لا ينشر على صفحات مجلة الرسالة. ولها تحياتي وإعجابي.
أنور الجندي(1010/49)
البريد الأدبي
قيس بن ذريح أم قيس بن الملوح؟
منذ أيام كنت اقرأ في كتاب (أبحاث ومقالات) للأستاذ احمد الشايب الذي صدر سنة 1946، فوجدت في مقاله السادس عن الغزل في تاريخالأدب العربي صفحة 283 قصيدة:
تكاد بلاد الله يا أم مالك ... بما رحبت يوما علي تضيق
(للمجنون) كما نسبها الأستاذ الفاضل في كتابه، ووجدت أن هذه القصيدة ما زالت عالقة بذهني ورأيت أنني كنت قد نقلتها عن (الأغاني) لأبي الفرج. فرجعت إليها وتحققت أنها لقيس ابن ذريح لا لقيس العامري والتي من أبياتها ما يثبت صحة نسبها إليه:
سلي هل قلاني من عشير صحبته ... وهل ذم رحلي في الزمان رفيق
تكاد بلاد الله يا أم معمر ... بما رحبت يوما علي تضيق
تكذبني بالود لبنى وليتها ... تكلف مني مثله فتذوق
ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني ... لكم والهدايا المعشرات صديق
أزود سوام الطرف عنك وهل لها ... إلى أحد إلا إليك طريق
تتوق إليك النفس ثم أردها ... حياء ومثلي بالحياء حقيق
فإني وإن حاولت صرمي وهجرتي ... عليك من أحداث الردى لشفيق
إلى آخر القصيدة. ولست اقصد من وراء هذا أنني اشك في قيمة مقالات الأستاذ وإنما أود التحقق من صحة نسب هذه القصيدة بالذات مع خالص اعتذاري للأستاذ احمد الشايب. . فالرجاء التفضل بالشرح والتوضيح.
ل. م
أوامر مهملة
أن الشعب الذي لا يستجيب لنزعات الإصلاح بل يتمرد عليها، ولا يتمشى مع خطوات النهضة بل يسخر منها، هو شعب لا يستحق الحياة، ولا يصلح للعيش الكريم الذي يليق بالشعوب الكريمة.
والأوامر التي تصدرها الدولة عادة تكون في صالح الشعب، فكان أحرى بالشعب أن(1010/50)
يستجيب لها ويرحب بها وينفذها بدقة، واجدر به أن يجعل من نفسه حارساً لها من العبث والاستخفاف بها وقد كان العهد البائد رزءاً ثقيلاً على عبء الشعبالمصري، جعلته لا يلقى لأوامر الحكومة إقبالاً حتى ولو كانت في خدمته أو صالحه، أما وقد انقرض العهد البائد إلى غير رجعة، فالواجب على الشعب أن يفتح أعينه من جديد ليدرك أي عهد يعيش، وليدرك أن العهد الجديد يتطلب شعباً جديداً يتعاون مع نزعات الإصلاح ويتمشى مع خطواته.
واعتقد انه من أهم الخطوات الإسلامية الإصلاحية إيجاد شعب قوي يتمتع بصحة جيدة، وعافية وافية، ولم يتيسر وجود هذا الشعب إلا إذا كان للأوامر الصحية لديه ترحيب وتقدير لا سخرية واستخفاف.
واليك مثلاً واحداً لأمر واحد من الأوامر الصحية المهملة في هذا البلد، وهو أمر نلمسه جميعاً صباح ومساء وفي معظم أوقات اليوم فأنت حين تركب (تراما) أو سيارة عامة لا بد أن تقع عيناك على لافتة بارزة وواضحة للجميع كتب عليها (البصق والتدخين ممنوعان بأمر وزارة الصحة)، كل منا قرأها مراراً وتكراراً، ولكن هل هناك اهتمام لهذا الأمر؟ كلا وألف كلا. . أن الركاب ولاسيما الطبقة المثقفة - ويا للأسف - يصرون على تدخين لفائف التبغ داخل المركبات العامة ويكاد الدخان المتصاعد منها يطمس أحرف اللافتة، ويصرون على البصق وهم يرمقون اللافتة بنظرات تنم عن السخرية والاستخفاف؟ هذا مثل واحد للأوامر المهملة، واعتقد انه لا يكفي أن تدون الأوامر في لافتات إذا لم يكن ورائها قوانين قاسية تؤدب المخالفين وإلا فلن يكون مصيرها إلا الإهمال والاستخفاف؟
نفيسة الشيخ
مهرجان الشعر
تحدث الأستاذ أنور الجندي في العدد (1009) من الرسالة الزاهرة عن مهرجان الشعر الذي دعت إليه جمعية الشبان المسيحية بالقاهرة، احتفالاً بيوم الجيش. . وقد استوقفتني أشياء عديدة في حديثه، إحداها انه كان يود أن يسمع قصيدة عصماء من الأستاذ خالد الجرنوسي: وهذا القول يدل على أن الأستاذ الجندي لم يشهد المهرجان؛ لان الأستاذ(1010/51)
الجرنوسي ألقى فعلاً إحدى قصائده؛ اللهم إلا إذا كان الأستاذ الجندي لا يرى فيها إنها قصيدة عصماء!؟ ويعجب الأستاذ الفاضل من أن الذين تحدثوا كانوا من الشعراء الجدد، ثم يتحدث عنهم بكثير من العطف، اعتقد أنا، ويعتقدون معي انهم في غنى عنه.
وارى انه من الطبيعي أن يتحدث الشعراء الشبان، انهم يمثلون - أصدق تمثيل - تطور العقلية الأدبية في مصر، وانهم أحسوا أكثر من غيرهم الأم وطنهم المكبد، فاهتزت عواطفهم ووجداناتهم الجائشة معبرة عن انفعالاتها، وأيضاً لان أقلامهم الفتية لم تلوث بمداد الذلة والابتهال إلى الطغاة.
وأخيراً احب أن أقول إلى الأستاذ أنور الجندي، انه من الملاحظ على كتابته بصفة عامة. . انه يصدر أحكاماً سريعة، دون أن يتعمق فهم المؤثرات المختلفة التي توجه التيارات الأدبية، وتحدد ألوانها. . لاحظت ذلك في حديثه عن الشعر المنثور، وعن ما يسميه مذهب الفن للفن وفي حديثه عن الشعراء الجدد، وغير الجدد، وفي طريقة تناوله وفهمه للأدب المعاصر. .
محمد فوزي العنتيل
رد على نقد
طالعت في عدد الرسالة الغراء رقم (1005) القصيدة العصماء البردة للشاعر المبدع للأستاذ ميشيل الله ويردى مؤلف فلسفة الموسيقى الشرقية، وقد تناقلتها صحف كثيرة وقرضتها اجمل تقريض ثم قرأت في العدد (1007) من الرسالة نقداً للسيد عبد اللطيف محمود الصعيدي يتعلق بكلمات في القصيدة يظهر أن معانيها خفيت عليه وضنها حشواً، مع انه لا يعقل أن يلجأ إلى الحشو شاعر فحل كصاحب هذه القصيدة. ولعل للسيد الصعيدي بعض العذر لأن القصيدة نشرت بدون شكل كما انه جاء فيها بعض أخطاء مطبعية فإيضاحاً للحقيقة ونفعاً لمن يمكن أن تخفى عليه معانيها الجميلة رأيت أن أرد على نقد السيد الصعيدي مستنداً أي قواعد اللغة واحدث المعاجم كالبستان والمحيط واقرب الموارد.
أولا - ليس الوسم بمعنى الوسامة، بل هو مصدر وسم الشيء أي طبعه بطابعه، أما الأرم(1010/52)
فهو العلم، ومن معانيها العلامة والأثر، وأرم الشيء أرماً، شده وضم بعضه إلى بعض، كضرب ضربا، أو بفتح الراء كطلب طلباً، ومنه الأرومة التي تضم الجذوع، وتستعار في الحسب، والمعنى في الحالين أن الاتحاد الفكري أهم من الشكلي.
ثانيا - السلم بفتح اللام بمعنى السلام، محيط ص 988 وقد وردت هذه الكلمة في قصائد كثيرة ولا مجال لإيراد الشواهد.
ثالثا - ليست (يكمد) بتشديد الدال بمعنى يستحب، بل بمعنى كمد الشيء أي تغير لونه، على وزن افعل مثل اربد واصفر الخ. والمعاجم لا تذكر الأفعال المزيدة إذا لم تغير الزيادة معناها ولا سبيل لنقد كلمة تجيزها القاعدة والذوق السليم.
رابعا - اللدم خطأ مطبعي، وصحتها (السدم) بتشديد السين المفتوحة وكسر ادال، وهوالشديد العشق وقول الشاعر (ليس دعي احب كالسدم) من الناحية المعنوية كمعنى قول المتنبي (ليس التكحل في العينين كالكحل) من الناحية المادية.
خامسا - الحسم بضمتين الأطباء (البستان ص 513) وهي جمع حسوم أي الذي يقطع في الأمر ويتممه على احسن وجه ويطرد وزن فعل بضمتين في جمع فعول.
سادسا - الجسم بضمتين الأمور العظام، (البستان ص 361) وهي جمع جسيم، كقضيب وقضب بضمتين
سابعا - الرمم بضم الراء المشددة، الجواري الكيسات، وهي جمع رامة، وقد ظنها الناقد بكسر الراء فكتب ما كتب دون أن يعود إلى المعاجم، والمعنى أن النساء على ما فيهن من كياسة وظرف، كن يعشن كالجواري والإماء قبل عهد الرسول (ص) فلما اشترع حقوقهن كان أول من نادى بهذه المأثرة الاجتماعية، ونصيحتي إلى السيد الصعيدي أن يعيد قراءة هذه الدرة النفيسة بعد استبدال عدسة منظاره بعدسة ناصعة، فالإنصاف واجب في مثل هذه الحال، والسلام
دمشق
حمدي بابل(1010/53)
القصص
أرملة
عن الفرنسية
كان ذلك في أوان الصيد في قصر بانفيل، والخريف مطير حزين، والأوراق المنتثرة ذابلة محمرة لا يسمع لها تقصف تحت الاقدام، بل تعطن في السكك بمدارج العجلات تحت شآبيب الذيم الهطالة.
وكانت الغابة وهي جرداء إلا قليلا تشبه الحمام من الرطوبة. فإذا أوغلت فيها تحت أفنان الدوح العالي يصفقه وابل المطر شملتك رائحة مخمة وهبوه ماء من العشب المخضل والأرض المبتلة.
والصيادون حناة الظهور يدبون تحت هذا الفيض الهتون، والكلاب محزونة ذيولها مرسلة، وشعرها ملتصق بآطالها، والغانيات الصائدات في أثواب الصوف المفصلة لاصقة مشربة بالبللل، وهم كل مساء يؤوبون من الصيد أنضاء جسم وعقل أجمعين.
وفي البهو الكبير بعد العشاء يجتمعون إلى لعبة الورق متقارعين، من غير انبساط ولا لذة. وللريح في الخارج هبات مدوية تدفع في مصاريع الشبابيك المغلقة، وتبتدر دوارات الهواء فوق الأبراج فإذا هي من دوران كالخروف المدوم.
فأرادوا أن يسمروا بالحكايات كما تروى في الكتب، ولكن الله لم يفتح على واحد منهم بابتداع حكاية مسلية. ومضى الصيادون يقصون ما وقع لهم أثناء صيدهم بالبنادق وتقتيلهم للأرانب، وجعلت الغانيات يكدون أذهانهن ويتقصين في ثناياها فلا يجدن خيإلاً كخيال شهرزاد يسعفهن بحكاية من أمثال حكايات ألف ليلة. وكادوا يكفون عن الأحاديث. وكانت إحدى الغانيات تعبث خالية البال بيد عمتها العجوز، وهي عانس لم تتزوج، فلحظت خاتماً صغيراً من شعرات شقراء طالما وقع ناظرها عليه من غير أن تفكر لحظة فيه.
فسألتها وهي تديره في إصبعها بلطف: (ألا قلت لنا يا عمتي ما هذا الخاتم؟ لكأنه شعر غلام يافع. . .) فاحمر وجه العانس ثم اصفر، وأجابت بصوت متهدج: (إن الأمر محزن جدا، محزن جدا، حتى لست أحب الكلام عنه. وكل ما في حياتي من الشقاء فهذا مصدره. لقد كنت في غرارة الشباب وقتئذ، وما زالت تلوعني الذكرى حتى يغلبني البكاء كلما(1010/54)
خطرت في نفسي)
فتلهفوا إلى سماع الخبر، وأبت العمة ذلك عليهم، فما زالوا بها حتى رضيت في آخر الأمر:
(كثيراً ما سمعتموني أتحدث عن أسرة سانثيز، وقد انقرضت اليوم جميعا، وقد عرفت الثلاثة رجال الأخر من هذا البيت، والثلاثة ماتوا ميتة واحدة وهذه شعرات الأخير، وكان في الثالثة عشرة من عمره حين انتحر من اجلي. لقد يبدو لكم الخبر غريباً، أليس كذلك؟
آه. قد كانوا معشراً عجيباً من المجانين، أن شئتم هذه التسمية، ولكن مجانين ظرفاء، مجانين غرام. فهم جميعاً - أباً عن جد - أصحاب عواطف عارمة جامحة، تدفعهم من كيانهم كله دوافع قوية إلى ابعد السبحات وإلى التفاني وفرط التحمس، بل تذهب بهم إلى حد ارتكاب الجرائم؛ وهذا منهم بمقام فرط التدين في بعض النفوس. وشتان في الطبيعة والمزاج بين أهل العبادة وبين رواد المجالس أزيار النساء، وكان يتردد في أوساطهم وبين ذوى رحمهم: (عشق كعشق بني سانثير)، وحسبك أن تراهم فتجد هذا على سيماهم. فكلهم شعره ذو خصل منسدلة على الجانبين ولحيته جعدة وعينان واسعتان ينفذ شعاعهما في نفسك فيبلبلك ويشغل خاطرك دون أن تعرف لذلك سبباً.
وكان جد الغلام - الذي رأيتم في إصبعي تذكاره الوحيد - له مغامرات عدة ومبارزات وسبى واستباحه للحريم. وقد هام بعدها وهو في نحو الخامسة والستين بابنة مؤاجر ضياعه. وأني لأذكرهما. وكانت شقراء شاحبة اللون، حسنة السمت والشارة، تتكلم متئدة وفي صوتها لين وترطيب، ونظرتها حلوة غاية في الحلاوة كأنها نظرة في صور الرسامين. فأخذها السيد الكهل عنده، وسرعان ما اصبح متيماً بها لا يطيق البعد عنها لحظة. وكانت ابنته وامرأة ابنة المقيمتان في القصر يجدان الأمر طبيعيا لطول ماقر الحب في تقاليد الأسرة. فالموضوع ما دام محور العشق فليس فيه ما تنكرانه وتتعجبان منه. وإذادار الحديث أمامهما عن هوى قامت الموانع دون قضاء لباناته، أو عاشقين فسد ما بينهما، أو وقائع الانتقام من الخيانة أو نقض العهد قالتا معا في لهجة شجية: (له الله! أو (لها الله) شد ما قد تألم ولا ريب حتى بلغ الأمر هذا المبلغ!) ثم لم تزيدا على ذلك. وانهما لترقان لماسي الحب، ولا تنقمان قط على أصحابها ولو أجرموا.(1010/55)
إلا انه في ذات خريف كان بين المدعوين للصيد شاب في عنفوان الشباب، هو المسيو دي جراديل فاختطف الفتاة. وظل المسيو سانثيز هادئا كان لم يحدث شئ. وإذا هم يصبحون ذات يوم فيجدونه مشنوقاً بمرقد الكلاب وهى حوله وقد مات ابنه مثل هذه الميتة في فندق بباريس في أثناء رحلة سنه 1841، على اثر خيانة إحدى مغنيات الأوبرا له. وترك بعده ولدا في الثانية عشرة وأرملة هي أخت أمي. وجاءت السيدة ومعهاالصغير للمقام عندنا بأرضنا في بريتون. وكنتوقتئذ قد بلغت سبعة عشر ربيعاً.
ولا يسعكم أن تتصوروا كيف كان هذا الصغير سانثيز مدهش باكر النضوج قبل الأوان. وانه ليخيل إلى المرء أن جميع صفات أسلافه من رقة عاطفة وسبحات نفس جائشة قد اجتمعت فيه ونزلت به، بهذا العقب الأخير. وكان على الدوام حالما، يتمشى وحيدا ساعات كاملة في ممشى رحيب بين أشجار الدردار الممتدة من القصر إلى الغابة. وكنت ارقب من نافذتي هذا الصبي الرقيق الوجدان وهو يسير وقور الخطى ويداه خلف ظهره مطرقاً إلى الأرض، وأحياناً يتوقف ويرفع طرفه كأنه يرى ويدرك ويحس أشياء ليست لمن كان في سنه.
وكثيراً ما كان يدعوني للخروجبعد العشاء في الليالي المقمرة قائلاً: (هلمي يا ابنة الخالة نحلم. .) فنمضي سوياً إلى الروض. وكان يتوقف فجأة في الفجوات بين تفاريج الشجر حيث تطفو تلك الهفوة البيضاء مثل نديف القطن يبطن بها القمر فجوات الغاب. ويقول لي وهو يشد على يدي: (انظري إلى هذا انظري إلى هذا! ولكنك لا تفهمينى؛ اني لأحس ذلك. لو انك تفهمينني لكنا سعداء. لابد من الحب لمن شاء المعرفة). وكنت اضحك واقبله، اقبل هذا الصبي الذي يحبني مستهلكاً في حبي. وكان أيضاً بعد العشاء كثيراً ما يجلس على ركبتي أمي قائلاً لها: (إيه يا خالة، قصي علينا شئ من قصص الحب) فتحكي له أمي على سبيل الدعابة أساطير أهل بيته كانوا وجميع ما وقع لآبائه من الوقائع الغرامية، والناس يرددون منها الألوف بعد الألوف من صحيحة ومفتراة. أن هؤلاء القوم؛ أضاعتهم شهرتهم، فقد كانوا يستجيشون لها ثم تملكهم العزة أي يكذبوا سمعة بيتهم وما اشتهر به.
وكان الصغير يهتز لهذه الحكايات: لطيفها وفظيعها، وكان في بعض الأحيان يدق بيديه مرددا: (وأنا ايضاً، واني لاحق بالحب منهم جميعاً). ثم جعل يتحبب إليَّ متغزلاً في(1010/56)
استحياء وحنان عميق كانا مثاراً للضحك لشدة غرابة الأمر. وكان كل صباح يقطف لي جني الزهر، وفي كل مساء قبل صعودي إلى مقصورتي يلثم يدي هامسا: (أنا أهواك!)
لقد اذنبت، وركبني اعظم الذنب. وما زلت على هذا نادمة باكية لا يرقا لي دمع. وأني لفي التكفير عن هذا طيلة حياتي، وقد بقيت بعده عانساً لا أتزوج، بل بقيت كالخطيبة المترملة، أجل أنا له الأرملة. كنت ألهو بهذا الحب الصبياني بل كنت اعمل على إذكائه. فكنت المرأة الخلوب ذات الدلال، وكأني إلى جنب رجل ألاعبه وأخاتله. لقد فتنت هذا الغلام ودلهته بحبي. وكان الأمر عندي لعباً ومعابثة، وعند أمي وأمه تسلية وترويحا. قد كانت سنه اثنتي عشرة سنة، فتأملوا! من كان يأخذ مأخذ الجد هذا الغرام الدري! فكنت أقبله ما شاء، بل كنت أكتب رسائل العشق إليه وأقرئها أمي وأمه قبله؛ وكان يجيب عليها بكتب مسطورة كتب من نار، وقد احتفظت بها. وكان معتقداً أن صلتنا الغرامية كانت سراً مكتوماً، وكيف لا وهو يعتد نفسه رجلاً والأمر في عرفه الجد كل الجد. وقد غاب عنا انه من بني سانتيز.
ودامت الحال على هذا المنوال عاماً أو قرابة عام. وفي ذات مساء ونحن في الروضة خر جاثياً عند قدمي ولثم حاشية ثوبي في اندفاع المهتاج مردداً: (أنا أهواك، أهواك، أنا ميت في هواك. وإذا خنتني في يوم من الأيام، أسامعة أنت - إذاهجرتني إلى سواي فإني صانع مثلما صنع أبي. . .) وأردف في صوت عميق يقشعر له البدن: (أنت عليمة بما صنع).
ولما وجمت ولم أحر جواباً نهض وشب على أطراف قدميه ليبلغ إلى أذني - وكنت أفرع منه طولاً - ودعاني باسمي، اسمي الأول، (جنفييف) بنغمة حلوة جميلة رقيقة شملتني منها قشعريرة سرت من فرعي إلى أخمص قدمي.
فغمغمت: (لنرجع، لنرجع إلى الدار). فلم ينبس بكلمة وسار في أثري، فلما هممنا بصعود درج السلم استوقفني قائلاً: (أتعرفين؟ إذاهجرتني فإني قاتل نفسي).
فعلمت هذه المرة أنني تماديت حيث لا يجب التمادي وتكلفت معه التحفظ. ولما أن كتب ذات يوم يعتب علي أجبته: (أنت اليوم اكبر من عبث المزاح واصغر من جد الحب. أني في الانتظار). وحسبتني بهذا قد أبرأت ذمتي.(1010/57)
وفي الخريف عهدوا به إلى مدرسة داخلية فلما عاد في الصيف التالي كنت مخطوبة. فأدرك الأمر في الحال، والتزم مدى ثمانية ايام هيئة المفكر الغارق في التفكير. فأهمني ذلك وساورني منه قلق شديد.
وفي صبيحة اليوم التاسع استيقظت من نومي فوقعت عيناي على رقعة صغيرة مدسوسة من تحت الباب. فتناولتها وفتحتها وقرأت فيها: (لقد هجرتني، وأنت تعلمين ما قلته لك. لقد قضيت على نفسي بالموت. وأني احب إلا يعثر بي أحد غيرك، فتعالي إلى الروض في نفس الموضع الذي قلت لك فيه أني أهواك وتطلعي في الفضاء) فكدت أن اجن. وأسرعت بارتداء ثيابي وهرولت على عجل اجري واجري وأكاد أتساقط إعياء إلى المكان المعين. وإذاقبعته الصغيرة المدرسية ملقاة على الأرض في الوحل. فقد كانت الليلة مطيرة. ورفعت طرفي فأبصرت شيئاً معلقاً يترجح بين الورق، وكان يوم ريح، ريح شديدة.
ولا ادري بعد ذلك ما صنعت. قد صرخت أول الأمر ولا ريب، ولعلني سقطت بعدها مغشياً علي، ثم عدوت هائمة على وجهي إلى القصر. وثبت إلى الرشد في فراشي وأمي إلى جانبي.
فخيل إليَّ أني رأيت ما رأيت كله في هذيان حلم فظيع. فغمغمت: (وهو، هو، جون تران؟) فلم يجبني أحد. إنها الحقيقة.
ولم اجرؤ على طلب رؤيته. فطلبت إليهم خصلة طويلة من شعره الأشقر. وهذي. . . وهذي. . . هي. . . .).
ومدت العانس يدها الراجفة بحركة القانط المقطوع الرجاء وأخرجت منديلها ومخطت مرات ومسحت عينيها الدامعتين واستأنفت تقول: (ونقضت الخطوبة دون إبداء سبب. . . وبقيت. . . العمر كله أرملة. . . أرملة. . . هذا الصبي ابن الثلاثة عشر ربيعا). ثم مال رأسها على صدرها وبكت طويلا بدموع الذكرى.
ولما انصرف المدعوون إلى حجراتهم للرقاد، مال صياد غليظ الجسم قد أفسدت عليه الحكاية صفوه إلى أذن جاره هامساً: إلا ترى أن رقة الوجدان إلى هذا الحد بلاء وشر بلاء.
ع. ص(1010/58)
العدد 1011 - بتاريخ: 17 - 11 - 1952(/)
يا لجراحات الوطن الإسلامي!
للأستاذ سيد قطب
تمثل فرنسا على مسرح الشمال الأفريقي في هذه الأيام أبشع مآسي (الرجل الأبيض) حتى إذاتحركت الكتلة العربية الآسيوية لتحول بين فرنسا وبعض صناعاتها في هذه الرقعة من العارض، وقف موسيو روبير شومان وزير الخارجية الفرنسية ينذر وزير الخارجية الأمريكية بأن فرنسا سترفض التصديق على معاهدة الصلح الألمانية وتوقيع ميثاق الدفاع عن غرب أوربا، كما ستنسحب من حلف الأطلنطي إذا أيدت الولايات المتحدة التونسيين والمراكشيين في الأمم المتحدة وحق لفرنسا أن تهدد أمريكا، فهي تعلم أمريكا غير جادة في نصرة قضية تونس ومراكشي، ولكنها تضحك على ذقون العرب المسلمين حينتتظاهر بتأييدهم في قضاياهم ضد الاستعمار الأوربي. ولو كانت جادة لوجدت الوسيلة، فإن فرنسا وإنجلترا تعيشان عالة على أمريكا. ولو أمسكت عنهما المدد لأفلستا. فهي تملك أذن أن تصنع شيئا لو أرادت، ولكنها لا تريد
واللعبة الأمريكية في موقفها هذا مكشوفة. . . إنها تدع فرنسا تهدد وتخضع لهذا التهديد الوهمي، الذي ما كانت فرنسا تقدم عليه لو أنها تعلم أن أمريكا صادقة النية. . وكذلك تستخدم دول أمريكا اللاتينية للغرض نفسه فتوحي إليها أن تعارض آي نص قاطع يؤكد حقوق التونسيين والمراكشيين في الاستقلال. ليكون ذلك تكأة لأمريكا في التراجع!
قد صرح رئيس الوفد الإندونيسي بأن أعضاء الكتلة العربية الأسيوية التي تعمل لوضع مشروع قرار بتشكيل لجنة معظم أعضائها منهم، قد تخلوا عن الفكرة الأولى التي تقتضي بأن يتضمن مشروع القرار فقرة تؤكد حقوق التونسيين والمراكشيين في استقلال وذلك خشية عدم تأييد دول أمريكا اللاتينية للقرار، إذا قدم متضمنا هذه الفقرة. . .
ووراء هذا كله أمريكا. فقد صرح مسطر فليب جيسوب رئيس الوفد الأمريكي في هيئة الأمم بأن الولايات المتحدة تحاول إقناع الكتلة العربية الآسيوية يعدم التطرف في عداء فرنسا وأنه (سعيد) لأن أعضاء هذه الكتلة قد بدءوا يتراجعون عن موقف التطرف الشديد في عدائهم لفرنسا. وقال كذلك: أن الولايات المتحدة تريد أن يكون مشروع إقرار الذي سيقدم إلى الأمم المتحدة معتدلا بحيث يقتصر على مطالبة الفريقين باستئناف المفاوضات!(1011/1)
هذه هي المأساة التي تمثل في هذه الأيام على مسرح هيئة الأمم بمعرفة أمريكا والاستعمار الأوربي. ومع ذلك فنحن ببلاهة منقطعة النظير نقف ننتظر العون الأمريكي الذي يخلصنا من الاستعمار الأوربي!
إننا ننسى أن العالم الأوربي والعالم الأمريكي يقفان صفا واحد بازاء العالم الإسلامي. والروح الصليبية القديمة هي هي ما تزال. إننا ننسى هذا لأن فينا مغفلين كثيرين ومغرضين كثيرين يضللوننا، وينشرون دعاية مغرضة عن رغبة أمريكا في أنصاف الشعوب المستبدة، ومساعدة الشعوب المتأخرة. . ومع أننا ذقنا الويل من أمريكا في فلسطين، فإن أجهزة الدعاية الأمريكية تعمل. و (جمعية الفلاح) تظهر في الميدان، وتقوم بواجبها!
إن جراحات العالم الإسلامي تنبض بالدم في كل مكان وأمريكا واقفة تتفرج. بل تساعد المستعمر الأوربي القذر. ومع هذا توجد صحف ويوجد ناس. ناس مصريون ومسلمون، ويتسمون أحمد، وحسين، وحسن، وعلي. . . يتحدثون عن تمثال الحرية في ميناء نيويورك، وعن فرنسا أم الحرية!
وأحيانا يسألك بعض المتخاذلين أو بعض المدسوسين: وماذا نملك أن نصنع؟ إذا لم نستطع ونحن ضعفاء؟
ماذا نصنع؟ إذ لم نستطع أن نحطم الكف التي تمتد إلينا بالسوء، فلا يجوز أن نقبلها. ونحن نقبل الكف التي تصفعنا!
إذا لم نستطع أن نصنع شيئا، فلنحتفظ على الأقل بأحقادنا المقدسة، ولنورثها أبناءنا، فقد يكونون في ظروف تمكنهم من رد الجميل للرجل الأبيض!
إن الرجل الأبيض يدوسنا بقدميه، بينما نحن نحدث أولادنا في المدارس عن حضارته ومبادئه العالية ومثله السامية!
إننا نغرس في نفوس أبنائنا عاطفة الإعجاب والاحترام للسيد الذي يدوس كرامتنا ويستعبدنا!
فلنحاول أن نغرس بذور الكراهية والحقد والانتقام في نفوس الملايين من أبنائنا. ولنعلمهم منذ نعومة أظفارهم أن الرجل الأبيض هو عدو البشرية وأن عليهم أن يحطموه في أول(1011/2)
فرصة تعرض. ولنكن واثقين أن الاستعمار الغربي سيرتجف حين يرانا نبذر هذه البذور
إن هذا الاستعمار هو الذي حاول أن يغرس في نفوسنا حبه واحترامه. فلما خشي اليوم أن تستيقظ اخترع حكاية (اليونسكو) ودعا هذا (اليونسكو) إلى حذف كل ما يثير الأحقاد القومية في دراسة التاريخ. وذلك باسم الإنسانية والإخاء البشري!
وهذه لعبة استعمارية جديدة يجب أن نتنبه أليها. إننا إذا اتبعنا تعاليم اليونسكو فسنخدر كل شعور قومي ناهض. ولن يستفيد من هذا التخدير سوى الاستعمار. وهذا ما تقصد أليه هيئة اليونسكو!
إن أوربا وأمريكا دول مستعمرة. فماذا عليها من حذف كل ما يثير الأحقاد القومية في دراسة التاريخ؟ إنها تكسب بهذا ولا تخسر شيئا. أما نحن فأن الاستعمار يخنقنا. فإذا لم ننبه شعور الحقد عليه فقد خسرنا السلاح الأول وخسرنا المعركة كلها. . .
ومع هذا فإن عندنا مصريين مسلمين يتسمون: أحمد، حسين، وحسن، وعلي. . . يعملون في مصر باسم (اليونسكو) وينشرون الأضاليل، ويخدعون أمتهم، ويحامون تنويمها باسم الإخاء الإنساني!
إن جراحات الوطن الإسلامي دامية في كل مكان من أن نحتفظ بالكراهية والحقد لمن يدميها. أما مبادئ اليونسكو الجميلة فنحن على استعداد اعتناقها يوم يتقلص ظل الاستعمار الأسود عن أوطاننا الدامية الجريحة
لقد عرفنا نحن مبادئ الأخطاء الإنساني قبل اليونسكو بأربعة عشر قرنا. عرفناها وطبقناها، على أنفسنا وعلى سوانا. ولم نجعلها خدعة ولا فخا، كما يجعلها الرجل الأبيض، فهذه المبادئ ليست جديدة علينا. ولكن ديننا الذي جاء بها مبكر جدا: علمنا كذلك أن نقاتل من يعتدي علينا، والانا من له ولا نستنيم، وأن لا نسالم أحدا يعتدي على شبر واحد من الوطن الإسلامي، أو يناهض العقيدة الإسلامية ويؤذي معتنقيها
(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين أخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم. ومن يتوله منكم فأولئك هو الظالمون)
والرجل الأبيض - سواء كان ذلك في أوربا أو أمريكا أو روسيا - يقاتلنا في الدين، ويخرجنا من ديارنا، ويظاهر على إخراجنا، ومع هذا يوجد ناس مسلمون يتسمون: أحمد،(1011/3)
حسين، حسن، أو علي. . . يوالونهم، ويروجون دعاياتهم، ويمكنون لهم في رقابنا. ثم يحاولون أخيرا أن يخدروا أحقادنا المقدسة حتى هذه الأحقاد التي يجب أن نورثها أبناءنا على الأقل مع العار الذي سنورثهم إياه، وتركنا جراحات الوطن الإسلامي تدمى في كل مكان، ونحن لا نصنع شيئا
إن فرنسا تمزق جسم الوطن الإسلامي في تونس والجزائر ومراكشي، وإنجلترا تقوم بدورها في مواضع أخرى، وأمريكا من خلفهما تبدو تارة وتتواري. . . هذا ما يجب أن نذكره صباح مساء، وما يجب أن نلقنه أبناءنا بكرة وعشيا
سيد قطب(1011/4)
بمناسبة الذكرى الثالثة
علي طه وبيرون
للأستاذ أنور المعداوي
هكذا كان ينظر إلى حياته فيما قبل الثلاثين. لقد كانت تلك الحياة في رأيه أو رأى شعوره هذرا وتفاهات، لأنها قد خلت مما يبهج القلب ويؤنس الروح وغدت وهي دموع وزفرات؛ وجوهر شخصيته كما قلنا لك أنه لم يخلق للقيود وإنما خلق للحرية، ولم يخلق للدموع وإنما خلق للبسمات. . . وما كان أشبهه بالشاعر الإنجليزي (بيرون) في هذه الناحية النفسية أو في هذا المجال؛ لقد كانت الفكرة السائدة عند بعض كتاب التراجم عن هذا الشاعر هي هذه الفكرة المنحرفة حين يقولون: (لقد كانت طبيعة بيرون الحق أنه إذا حزن وتألم فاض بالشعر قلمه في سهولة وقوة وعذوبة، وأنه إذا سعد وهدأت ثورته هدأ الوحي بهدوء نفسه وبضعف ثورته، وأنه قد ظل على هذا الحال طوال حياته فسجلت أيام الشقاء أروع قصائد وأجدرها بالخلود!)
ولقد صححنا تلك الفكرة المنحرفة في الصفحة الثالثة والأربعين من كتابنا (نماذج فنية) حيث ورد في معرض السؤال هذا الجواب: (هذه الفكرة تنطبق كل الانطباق على طبيعة شاعر مثل هنري هايني وتبعد كل البعد عن طبيعة شاعر مثل لورد بيرون. إن الألم في حياة الشاعر الإنجليزي لم يكن ألما بالمعنى المفهوم عند الشاعر الألماني، ولكنه كان لونا من السخط على الحياة يزول وينقضي حين تفسح الحياة طريقها للفتى المدلل ليمضي إلى غيه وهواه! وما أكثر ما تنحت الحياة عن طريقه وهيأت له كل ما يصبو إليه من تحرر وانطلاق، وفي رحاب هذا التحرر كانت تنبعث أغانيه حلوه عميقة صادقة. لقد خلق بيرون وفي دمه طبيعة بلبل لا يجيد التغريد إلا إذ رأى النور خلف حجب الضباب سمعت منه بعض الغناء، ولكنه الغناء المختنق ينبعث من أوتار حنجرة ساخطة، ثائرة، تشكو هذا الظلام الذي لا يتيح لها أن تصدح كما تشاء!
من هذه الكلمات الموجزة تستطيع أن تضع يديك على مفتاح هذه الشخصية التي لا غموض فيها ولا تعقيد، يقول بيرون: لقد هببت من نومي ذات صباح فألفيتني مشهورا يتردد اسمي على كل لسان. قالها بعد أن دفع بديوان شعره الأول إلى الناشرين فدفعوا به(1011/5)
إلى السماء، وكان ديوانه هذا الذي حقق له أسباب الشهرة والمجد والخلود هو (تشايلد هارود) وإنه في رأي الفن لخير أعماله الأدبية على الإطلاق! لقد جادت قريحته بهذا الشعر في لحظات الصفاء، هناك حيث قضى بيرون في ربوع الشرق اجمل أيامه واسعد لياليه: كأس خمر معتقة، وقلب غادة خفاق، وذهب يسيل بين يديه، وزورق يمخر به العباب إلى أثينا وأزميل ومالطة واستنبول، وهذه هي الحياة. . الحياة التي كانت تفجر الشعر في أعماقه تفجيرا، وتهدي إلى عشاق الأدب والفن أروع ألحانه وأعذب أغانيه، هناك في (تشايلد هارود) إن الطبائع الفنية معادن: بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحابالفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه أو يسطع إذا ما انتقل من حال إلى حال!)
في هذه الناحية النفسية تتفق طبيعة شاعرنا المصري وطبيعة الشاعر الإنجليزي على التحقيق. . كلاهما سخط على الألم كل السخط، وعشق اللذة كل العشق، ووزن أيام الحياة بما فيها من متعة الحس والنفس حيث تقوم الحياة في رأيه بكل عيد من أعياد الشعور. . . تتفق الطبيعتان هنا ويلتقي المزاجان، لكن خط السير نحو الغاية المنشودة ويختلف عند علي طه عنه عند بيرون،، تبعا لاختلاف البيئة والنشأة وأثر الوراثة في تكوين الشخصية الإنسانية! لقد كانت المرأة مثلا تشغل حيزا كبيرا من حياة الشاعرين وفنهما على حد سواء. ولقد طاف كلاهما بالجسد الأنثوي ذلك الطواف الذي يطالعك من شعره في صورته القوية العارمة، حتى ليخيل إليك أن مفاتن هذا الجسد كانت هي الكوى الشعورية التي نفذ منها إلى تذوق الحياة. . . كان شعورهما نحو المرأة هو هذا الشعور، ولكن شتان في الإعجاب بها بين نظرة ونظرة وفي الوصول إلى حقيقتها بين طريق وطريق!
لقد أنحدر بيرون من صلب آسرة ورث فيها الشذوذ في النفس والخلق أبناء عن اباء، حتى لقد خرج إلى الدنيا وفي دمه مزيج من شرور الوراثة وانحراف النشأة. . . كان جل همه أن ينشد متعة النفس ولذة الجسد ونزوة العاطفة، ثم لا يعنيه من دنياه غير اللحظة التي تعيش فيها وتعود عليه بكل ما يشتهيه الفتى الجميل المدلل لا يمد عينيه أبدا إلى الأمام؛ الفتى الذي لا يتحرج عند جموح الشباب وسطوة الغريزة من أن يحطم في سبيل شهواته كل ما تعارف عليه المجتمع من حدود وقيود! كان إذا ما تردى في هوة الآثم والفسق(1011/6)
والفجور سعدت نزواته وسعد عشاقهذا الفن ومريدوه. . أنها لحظات الصفاء بالنسبة إلى رجل يرى السعادة في إشباع رغبات الجسد، ولو تركزت هذه الرغبات الشريرة الجامحة في شخص (أوجستا) أخته من أبيه! ومن هذه النزوة المحرمة في شرع العرف والسماء يتدفق إبداع بيرون (عروس ابيدوس) وهي القصة الشعرية التي تصور طبيعة الهوى الآثم بين (زليخا) وأخيها (سليم) أو حقيقة الهوى الآثم بين (أوجستا) و (بيرون) كما نقلتها إلينا أصدق الأخبار والروايات. . صحيح أنه سجل ألمه المنبعث من وخز الضمير على ما اقترف من آثم في بعض شعره، ولكن الحقيقة التي بقيت لنا من شعره وحياته تؤكد لدراسته أنه لم يكن يفرغ من آلامه العابرة حتى يعود إلى لذاته الدائمة، فيسهب ويبدع هنا ويوجز ويفتر هناك؛ يسهب حيث تطول اللذة ويوجز حيث يقصر الألم، وما الفن إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور!
ولم يكن علي طه في علاقته بالمرأة أو في نظرته إلى الجسد الأنثوي من هذا الطراز. لقد كان طراز أتخر بلا مراء، أو صورة أخرى ستعرف على التحقيق ألوانها النفسية فيما يلي هذا الفصل من دراسة تحليلية. . . إن هذا المثال المستخلص من حياة الشاعر الإنجليزي، قد قصد به الإشارة إلى اختلاف خط السير عند الشاعرين تبعا لاختلاف لبيئة والنشأة كما قلت، أو تبعالاختلاف اثر الوراثة في تكوين الشخصية الإنسانية. وتبقى بعد ذلك نقطة الالتقاء بين علي طه وبيرون في زاوية واحدة تحددها المشابهة بين طبيعتين؛ تلك المشابهة التي تضع بين أيدينا المفتاح الحقيقي لجوهر الشخصيتين في لقاء الحياة، وهو أن كليهما لم يخلقللألم وإنما خلق اللذة، ولم يخلق للدمعة وإنما خلق للابتسامة، ولم يخلق للقيد وإنما خلق للتحليق شأن كل طائر طليق!
ولقد عاش علي طه فترة من حياته في ذلك الجو الرومانسي الذي تلوذ فيه النفس بالوحدة وتأوي إلى العزلة وتستشعر قسوة الاغتراب، تلك الفترة التي عاشها شاعرنا كانت في حساب الزمن نصف ما قدر له من أيام الحياة. . ولقد مرت على بيرون من ذلك الجو الرومانسي لحظات؛ لحظات وإن كانت عابرة إلا أنها عكست على بعض فنه خصائص ذلك الجو كما تبرزها في الأعم الأغلب أشعار الرومانسيين. قد عرف علي طه في حياته تلك الرومانسية الوجودية التي استحالت في شعره الأول إلى رومانسية فنية وكذلك عرفها(1011/7)
بيرون، ولكنها على اتفاقها في هذه الظاهرة يختلفان في التعرض لها والتأثر بعض الاختلاف، سواء كان ذلك في مجال الشعور أو معرض التعبير. . وهنا كما كان هناك، يلتقي الشاعران في الغاية ولكنهما يفترقان في خط السير نحو هذه الغاية حيث يمضي كل منهما في طريق!
ارجع في باب (الدراسة الفنية) لشعر علي طه أي قصيدة (الله والشاعر)، لترى أننا قد سجلنا حول تلك القصيدة هذه الكمان. . (هذه الواقعية النفسية الوجودية التي تسير فيها لفتة الفكر جنبا إلى جنب مع خفقة القلب، هي التي تطالعنا من قصيدة (الله والشاعر). . وهي واقعية تمثل القسط المشترك من الحقائق الكبرى المتبادلة تبادل كوني بين الله والإنسان، وهي حقائق أشبه بالرواسب الفكرية والنفسية المتخلفة في قرار الذهن البشري وبأقدم العصور؛ منذ أن بدأ الركب الإنساني يفكر في واقع هذا السير الطويل في طريق الحياة، ويناقش علة وجوده وغاية بقائه وما بعد فنائه، هناك حيث ينتظره الجزاء الحق أو غير الحق ممثلا في عالمي الثواب والعقاب. . ونقول الجزاء الحق أو غير الحق، ما دامت هناك صيحتان تؤمن إحداهما بأن الإنسان لا يملك أمام القوة العليا شيئا من أمر نفسه ولا من أمر دنياه، وإنما هو يدفع فيندفع ويوجه فيتجه ويسير فيسير، وأنه تبعا لهذه القدرة المسلوبة والحرية المفقودة لا ينبغي أن يجزي على سيئاته إذا أساء، فإن جزى عليها فهو جزاء غير عادل! أيمان بهذا كله تفصح عنه هذه الصيحة التي تقابلها صيحة أخرى عمادها أيمان أخر، هو أن الإنسان يملك أمام القوة العليا كثيرا من أمر نفسه ومن آمر دنياه، فهو قابض على الزمام لا يفلته إلا برغبته، مبصر للطريق لا ينحرف عنه إلا بإرادته، عليم بالحقائق لا يحيد عنها إلا بمحض هواه؛ فهو مخير تركت له الحرية فإذا أساء فهمها فعليه أن يتقبل ما أعد له من جزاء، وإنه لجزاء يتسم بالحق ويتصف بالحق ويقترن بالأنصاف!
وإذا أنت بحثت عن مكان علي طه بين أصحاب الصيحتين الخالدتين فإن مكانه هناك مع الفريق الأول. . هو معهم في اتفاق النظرة واتجاه الفكرة ولكنه يفترق عنهم في احتفاظه بإيمانه الذي لا يودي به كل تلك العواصف والأعاصير. إنه يتناول هذه القضية الوجودية الكبرى من زاويتين الأولى ليدافع عن الكيان الإنساني أمام سطوة القدر وحكمة القضاء، مستخدما في دفاعه منطق الشاعر الفيلسوف الذي يعرض المقدمات عرضا شعريا ترتضيه(1011/8)
النفس يخرج منها بنتائج فلسفية يرتضيها الفكر. الثانية ليعبر عن حريته البالغة وحيرة القافلة الإنسانية وهي تتخبط في صحراء الوجود تلتمس الظل الظليل في رحاب الواحة الإلهية، فرارا من وطأة القيظ ولفح الهجير! وهو بعد ذلك متأرجح بين البث والشكاءة، وبين الأنين والحنين وبين العذاب المهذب والخضوع العميق. . وهو أخر الأمر معذب لا يدري أين يستقر ولا إلى أي وجه تمضي به قدماه. . خطوة يأس تقذف به إلى الخلف وخطوة أمل تدفع به إلى الأمام، ولكنه في غمرة تلك التيارات النفسية المتباينة ضارع مبتهل لا يشك أبدا في رحمة الله)!
هذه الأفكار والمشاعر التي طاف حولها عقل شاعرنا وعقله هي في حقيقتها أثر من آثار ذلك الجو الرومانسي الذي عاش فيه؛ وهي نتيجة مباشرة لظروف الوحدة النفسية والعزلة الروحية والانفراد الذاتي كما بعهدها في حياة الرومانسيين، هنا حيث يدفع الإنسان دفعا إلى إطالة التأمل فيما حوله من حقائق الكون وغاية الوجود ومصير الركب الإنساني بعد انتهاء الحياة؛ ومثل هذا التأمل لا بد آن يفضي بصاحبه آخر الآمر إلى التعرض لموقفه وموقف الإنسانية جمعاء إزاء الخالق العظيم، هكذا فعل علي طه في قصيدة (الله والشاعر) وهكذا فعل بيرون في مسرحية قابيل. . إن شخصية قابل في تلك المسرحية الشعرية ما هي إلا إحدى شخصيات بيرون التي كان يصور معالمها بصدق وأصالة ليعبر بها عن حالة خاصة من حالات نفسه وهي معرضة لهزات الوجود! اتفاق والتقاء، ولكن خط السير هنا مختلف كما قلت بعض الاختلاف عن خط السير هناك، لأن هذه الشخصية (البيرونية) في مسرحية (قابيل) ثائرة على الخالق ساخطة على القدر متمردة على السماء، تريد أن تبري الإنسان من كل شر وفساد عرفتهما الأرض، ومحاولة إن ترد كليهما إلى تلك القوة العليا التي تسيطر على الكون وتوجهه إلى مصير معلوم تحاول هذا ثم تدفعها الثورة العاصفة والعصيان الجامح إلى حد التخيل بأنها (إبليس جديد)، جاء لينتقم للإنسانية المظلومة من خالقها الذي لا تلقى منه غير الظلم والعذاب وهي بعد ذلك تنتظر على يديه ألوان من الحساب والعقاب!
ثورة عند بيرون ينقصها التهذيب ويعوزها التبصر وتتشح بثوب التجديف، وحيرة عند علي طه لتبلغ هذا المدى من التهور والتنكر والاندفاع، لأنها حيرة لا تنتهي بصاحبها إلى(1011/9)
التمرد ورفع راية العصيان، وإنما تنتهي به إلى راحة نفسية مصدرها الخضوع والإذعان!
ولقد قلنا في سياق الحديث عن قصيدة (الله والشاعر) إن تلك القصيدة تمثل الواقعية النفسية خير تمثيل، فكيف يتفق هذا مع القول بأنها من نتاج ذلك الجو الرومانسي الذي قضى فيه علي طه أول العهد بالشباب؟ كيف تجتمع (واقعية) و (رومانسية) في أثر واحد من أثار الفن دون آن يكون هناك شئ من التعارض والتناقض والشذوذ، مصدره أن موازين النقد في أدب الغرب قد وضعت حدود فنية (فاصلة) بين هذين اللونين من ألوان الأدب؟ سؤال مقصود لأن الجواب عنه كذلك مقصود، ومن وراء السؤال والجواب نهدف إلى الكشف عن حقيقة المشكلة كما ينطق بها الواقع الملموس!
هل قرأت (آلام فرتر) لجيته، و (رفائيل) للامرتين، و (رينيه) لشاتو بريان، و (ادولف) لكونستان؟ هذه القصص الأربعة يضعها النقاد في (خانة) القصة الرومانسية وهم يقسمون ألوان الأدب ومذاهبه تبعاً لما يتسم به هذا الأدب من خصائص ومميزات، يردونها عادة إلى شتى العوامل النفسية التي طبع بها العصر وتركت آثارها في كتابه، بعد اتفاقهم على أن الأدب نتاج مجتمعة وثمرة بيئة المرأة جيله التي تعكس على صفحتها معالم ذلك الجيل. وتبعا لهذا التقسيم الفني الذي انتهى إليه النقد عرف الناس إن هناك أدبا رومانسياً أخر واقعياً في عرف التسمية المذهبية، وإن لم يستطع النقد (واقع الأمر) أن يفصل فصلاً تاماً بين خصائص كل لون من ألوان الأدب وهو في خانته الفنية. . . لم يستطع النقد أن يوفق إلى تلك التفرقة الكاملة لأنه نسى إن بيئة الأدب في عصر من العصور لا يمكن أن تكون (خالصة) لطابع نفسي بعينه، يلقى ظله الخاص على وجه ذلك الأدب دون إن يفسح مكاناً لظل سواه! لو فطنت موازين النقد إلى تلك الحقيقة لما وجدت أبدا من التعديل في وضع الحدود الأخيرة للمصطلحات الفنية وتقدير خط السير لاتجاهات الأدب تقديراً نهائياً لا رجعة فيه! إنك قد تقرأ قصة تمثل اتجاه رومانسياً في عرف النقاد وهي لا تخلوا في بعض مواقفها من اتجاه واقعي هنا أو هناك، ثم لا تجد في هذا شئ من الغرابة إذا ما وضعت نصب عينيك هذه الحقيقة المادية، وهي أن عصر من العصور ينتج فناً من فنون الأدب لا يمكن أن يتسم بسمة شعورية واحدة تترك آثارها التعبيرية الواحدة التي تندرج في جملتها تحت عنوان! هل نريد بذلك أن نلغي تلك المصطلحات الفنية التي اتفق عليها النقاد الأدب(1011/10)
محددين بها اتجاهاته ومراميه كلا. . وإنما نريد أن نصحح وضعا هو على التحقيق يحتاج إلى تصحيح، عندما نقرر مطمئنين أن تلك التحديات المذهبية يعوزها شئ من التعديل، عماده أننا إذا قلنا عن طابع عصر من العصور أنه رومانسي فيجب أن يفهم أننا نعنى الطابع الغالب لا الطابع العام، ونقصد المظهر البارز لا المظهر الشامل، ونشير إلى السمات الرئيسية لا السمات الكلية؛ وفي ضوء هذا التحديد يجب آن ينظر إلى ما كتبناه عن (طابع العصر) الذي قضى فيه علي طه أول العهد بالشباب!
ونعود مرة أخرى إلى تلك القصص الرومانسية الأربع في ضوء هذا التحديد؛ نعود إليها لنقرر أيضا في خانة الواقعية دون أن يكون شئ من التناقض والشذوذ. . هي (رومانسية) إذا نسبت إلى الجو النفسي القاتم الذي كتبت فيه أو إلى الخصائص الفنية التي اصطلح عليها النقد وهي (واقعية) إذا نسبت إلى واقع الحياة التي كان يحياها أصحابها في ذلك الحين؛ الحياة الذاتية التي تسجل حقيقتهم الإنسانية والتي قد تنطبق على غيرهم من الناس. أليس هذا هو واقعهم النفسي في فترة من فترات العمر سجلتها في تلك القصص سطور وكلمات؟ هو كذلك بلا جدال، وإنه لواقع عصر في صورته الغالبة لا في صورته العامة تبعا لما سبق من تحديد. . وفي هذا كله ما يفسر لك انتفاء التناقض في الجمع بين كلمتين: هما الواقعية النفسية والرومانسية الوجودية!
وفي معرض المقارنة بين شاعرنا المصري والشاعر الإنجليزي نقدم هذا السؤال: هل تأثر علي طه في شعره في ذلك الاتجاه الرومانسي الذي نلمحه عند بعض الشعراء الغربيين ومن بينهم بيرون؟ سؤال مقصود أيضا لأن الجواب المنتظر عنه مقصود؛ حين نفتح الصفحة الرابعة والستين بعد المائة والصفحة التي تليها من الجزء الثالث من (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين فنجد هذه الكلمات: (ومن الكتاب من يقول أن شاعرنا تأثر بأبي العلاء ثم يضيق بهذا التأثر. ولست أدري أثأر شاعرنا بأبي العلاء حقا أم تأثر ببيرون أم تأثر بهما جميعا وبقوم آخرين غيرهما أم لم يتأثر بأحد، وإنما لقى من لقى من الشعراء مصادفة وعلى غير قصد ولا عمد. وأحس أنا في قصيدة أخرى اسماها (غرفة الشاعر) روحا (لموسييه)، ولكني لا أدري أهو روح الذي قرأ فتأثر أم هو روح الذي أحس فتألم، فشكا فلقي موسييه في هذا كله أو في بعضه. ولست أتردد في الرضى عن هذه القصيدة(1011/11)
والحب لها والإعجاب بها، ولست أكره أن تشاركني في هذا الرضى وأن تشاطرني هذا الحب والإعجاب، فاقرأ معي هذه القصيدة وقف معي عند بعض أبياتها وقفات قصارا. . . هذه الصور المتتابعة المختلفة حسان كلها، ولكنها بعيدة إلى حد ما عن المألوف من حياة شعرائنا الشرقيين إلا أن يكونوا مترفين قد ألفوا حياة الغرب وكلفوا بالسهاد في غرفة يطرب فيها نور ضئيل شاحب، وتفنى فيها بقايا الجذوة في الموقد، وكل هذا يألفه الغربيون، وهو يذكر بموسييهتذكير قويا. وبعض الناس يعيب شاعرنا (بتغريب) الشعر، أما أنا فأحمد له هذا النوع وأراه تشريف للشعر العربي ورياضة للذوق الشرقي وللغة العربية على أن يسيغاه ما لم يتعودا أن يسيغاه من قبل. وإذا كان لي أن آخذ الشاعر بشيء فهو ما قدمته من أن الأمر يختلط في شعره على القارئ فلا يدري ألقي زملاءه الغربيين والشرقيين مصادفة أم عن تعمد وسعي)!
إن السؤال مقصود هنا لأن اسم الشاعر الإنجليزي بيرون قد ورد في سياق الحديث الذي دار به الدكتور حول قصيدة (الله والشاعر) أما آثار بيرون الفنية التي لا (يدري) الدكتور هل لقيه فيها شاعرنا المصري مصادفة أم عن تعمد وسعي! أما تلك الآثار فلم يشر إليها بكلمة واحدة تفصح عن حقيقتها حين يطلب إلى الدارسين مثل هذا الإفصاح. . ولا ندري نحن هل كان يقصد مسرحية (قابيل) التي ذكرناها عند المقارنة بين الشاعرين أم كان يطلق القول إطلاقا بغير تحديد! إن غاية ما يقال هنا أننا قد تعرضنا لقصيدة علي طه ومسرحية بيرون، وانتهينا إلى أنهما متفقتان في الهدف ولكنهما تفترقان في خط السير حتى ليذهب كل من الشاعرين في طريق. وما أبعد الشقة في بينهما حساب النقد الذي يلمس الفارق بين فكرتين قد اختلفت حولهما القيم الشعورية والتعبيرية!
لقد أدار الدكتور المفتاح مرة أخرى في ثقب الباب ولم يفتح؛ أما ذلك المفتاح فلم يكن غير تلك العبارة التي ساقها وهو يفترض وجود شيء من التجاوب الفني بين علي طه وموسيه. . ترى أهو روح الذي قرأ فتأثر، أم هو روح الذي أحس فتألم، فشكا، فلقي موسيه في هذا كله أو في بعضه؟ أن الدكتور هنا أيضا لا (يدري) ولا يستطيع أن يقطع برأي لأنه لا يملك الدليل. . والدليل الذي يعوز الدارسين كما قلنا ونحن نتحدث عن هذه القصيدة في باب الدراسة المذهبية مرجعة إلى عدم الإحاطة بظروف الحياة التي تنتج الفن، وتضع بين(1011/12)
أيديهم أداة الربط بين شخصية الكاتب وما كتب أو بين شخصية الشاعر وما نظم وتحول بينهم وبين السؤال الذي يبقى بلا جواب! لو رجع الدكتور إلى حياة شاعرنا فيما قبل الثلاثين كما استعرضناها في الفصلين السابقين، لأدراك أن الشعور بالحزن في (غرفة الشاعر) أو الشعور بالحيرة في (الله والشاعر) كان طبيعيا لا أثر فيه للتقليد والمحاكاة، وأن ذلك الروح الذي أحسه في هاتين القصيدتين كان روح الشاعر الذي تحير في صدق فالتقى في حيرته عن غير قصد مع بيرون، وتألم في صدق فالتقى في آلمه عن غير عمد مع موسييه
. . إن التشابه بين إنتاج الرومانسيين أمر لا غرابة فيه ولا موضوع للدهشة وافتراض الفروض، لأن الأجواء النفسية التي حلقوا فيها بالمشاعر وجالوا بالخواطر كانت متشابهة أو كان التوافق بينها جد قريب؛ ومن هنا لا يجوز لنا أن نسأل عن تلك العلاقات التأثرية بين أصحاب الآثار الرومانسية، ألا إذا استطعنا إن نثبت وجود شيء من تلك العلاقات بين جيته في (آلام فرتر) ولامرتين في (رفائيل)، وكونستان في (ادولف) , وشاتوبريان في (رينيه)!
ولقد قلنا أن مشكلة التفكير الإنساني في المصير وما يتعلق بها من بحث حول (شرعية) الثواب والعقاب مشكلة قديمة، ومما لا شك فيه أنها قد سبقت بقدمها أفكار هؤلاء الذين تعرض لهم الدكتور في حديثه وخص منهم بالذكر شاعرين هما بيرون وأبو العلاء. . . وإذن فلا مبرر للتساؤل عنا إذ كان علي طه قد تأثر بهذين الشاعرين في قصيدة (الله والشاعر) لأن الأمر واضح من إن يحتاج إلى سؤال!
إن المشكلة قديمة وجديدة في وقت واحد لأنها مشكلة الأمس واليوم والغد القريب والبعيد، مادامت هناك فترات قلق تمر بحياة الإنسانية المفكرة الشاعرة وتدفعها إلى إطالة التفكير فيما وراء الحياة. . هل نحن مسيرون؟ هل نحن مخيرون؟ هل نحن أصحاب إرادة فيما نقدم عليه من عمل أم إننا مجرد أدوات بين يدي قوة خفية توجهها كيف تشاء؟ أسئلة تعرضت لها الأجيال الماضية وتتعرض لها الأجيال الحاضرة وسوف تتعرض لها الأجيال المقبلة ما بقى هناك فكر يبحث في المصير وما يرتبط به من جزاء! وإذن فلا عجب إذا ما التقت أفكار الشعراء الثلاثة حول هذا المعنى الكبير في بعض ما خلفوا من أثار أدبية؛ آثار(1011/13)
تتفق في جوهر المشكلة ولكنها تفترق في صب التجربة الشعورية في القالب ألفني تبعا لاختلاف المعدن النفسي وما يقترن به من تفاوت في معدن التعبير. . . إنه اتفاق في جوهر المشكلة كما قلنا وعامل الإثارة واحد لا اختلاف عليه ونعني به القلق الذي يهز النفوس والعقول ويدفعها دفعا إلى محاولة الغوص في أعماق المجهول. قلق عند بيرون وقلق عند علي طه وقلق عند أبي العلاء، ولكن مصدر هذه الظاهرة النفسية يختلف عند الشاعر الأول عنه عند الشاعرين الأخيرين، حين تفسره عند بيرون بأنه فراغ الحياة من العطف والعاطفة. . . لقد عاش بيرون في مجتمع حرم فيه عطف الناس فثار حينا على الله والناس، وعاش أبو العلاء كل حياته وهو محروم من نعمة الشعور بالعطف الإنساني وبالعاطفة الأنثوية، وكذلك كان الآمر بالنسبة إلى علي طه ولكن في فترة محدودة من فترات الحياة، ومثل هذا الحرمان كفيل بأن يهز سكينة النفوس والعقول!
أنور المعداوي(1011/14)
3 - على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
للدكتور عمر حليق
العوامل الاقتصادية في سياسة توازن القوى
ألمت بالوضع الدولي إبان بعث سياسة توازن القوى عوامل اقتصادية هامة وللاقتصاد في توجيه السياسة العالمية شأن كبير
ففي أعوام 1947 - 1949 أخذ الاقتصاد الأمريكي خاصة والاقتصاد الأوربي (خارج الاتحاد السوفيتي) يمر في نكسات وضائقات اقتصادية لعينة. ففي أمريكا كان الاقتصاد القومي في سنوات الحرب قد توسع بصورة هائلة. فازداد عدد المصانع وتضاعف إنتاجها إلى أرقام فلكية وأصبحت مقدرة السوق الأمريكي على استهلاك المنتجات الأمريكية محدودة مقيدة والسوق الأمريكيهو المستهلك الرئيسي للإنتاج الأمريكي
وكانت الوضعية الاقتصادية في شعوب أوروبا الغربية مزعزعة بسبب الخراب الواسع الذي ألم بذلك الجزء من العالم من جراء الحرب العالمية الأخيرة
وفي آسيا وأمريكا اللاتينية أخذ الوعي الاقتصادي يزداد نموا ويدفع الحكومات والشعوب لأن تلجأ إلى سياسة الاستكفاء الذاتي لتتفادى عودة الاستعمار بألوانه العديدة الاقتصادية والسياسية، ولذلك أصبحت مقدرة الشعوب الآسيوية واللاتينية على استهلاك المنتجات الأجنبية محدودة مقيدة، وذلك لأن الميزان التجاري في دول آسيا وأمريكا اللاتينية يعتمد على تصدير المواد الخام إلى الدول الصناعية في أوربا وأمريكا الشمالية ليحصل مقابلها على عملة أجنبية تعينه على استيراد السلع والمنتجات الصناعية وأصناف التبادل التجاري الأخرى. فإذا أصيب النشاط الصناعي في أوروبا وأمريكا الشمالية بنكسة فإن حاجته من المواد الخام ستضائل، ومن ثم يتضاءل مورد الدول المصدرة للمواد الخام (ومعظمها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية)، والاقتصاد الدولي الحر حلقة متشابكة الأطراف إذا وهن بعض أجزائها تعرض الكل إلى الوهن
ولم تكن النكسة الاقتصادية العالمية مقتصرة على أوربا الغربية وأمريكا الشمالية - وبالتالي على آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية - بل إنها شملت الاتحاد السوفيتي نفسه ومنطقة النفوذ السوفيتي كذلك. ومثال ذلك سعي روسيا للسيطرة على الاتحاد اليوغسلافي وسعي(1011/15)
يوغسلافيا للتحرر من هذه السيطرة وما أدى هذا الصراع إلى قطيعة سياسية تامة بين البلدين
إلا أن أخطار الضائقات الاقتصادية العالمية تختلف باختلاف المناطق والشعوب والنظم الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الشعوب والحكومات
ففي ظل الحكم المطلق - خصوصا إذا كانت التعاليم الاشتراكية وفلسفة الاقتصاد المنظم ديدنه يسهل على الدولة أن تضبط التيارات الاقتصادية العاصفة وأن كان ذلك على حساب الحرية الفردية للكثيرة الساحقة من الشعب
وفي البلدان الآسيوية والإفريقية واللاتينية التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي تكون أضرار الضائقات الاقتصادية مقصورة إلى حد بعيد على برامج الإنشاء والتعمير، فاقتصاديات هذه البلدان اقتصاديات غير معقدة، مستوى المعيشة بها زهيد على مستوى ضئيل، ومهما ألمت أضرار النكسات الاقتصادية العالمية بهذه البلدان فإنها لن تؤثر إلا تأثيرا محدودا في مستوى المعيشة، ولما كان هذا المستوى ضئيلا ممعنا في الضالة فإن هذا التأثير لن يزيده ضالة، فليس في ذلك المستوى بعد مجال للتضاؤل، إذا استثنينا حالات المجاعات والقحط في بلدان كالهند والصين مثلا فان معظم المجتمعات الزراعية (كالمجتمعات الآسيوية مثلا) تستطيع في فترات الضائقة الاقتصادية العالمية أن تحفظ برؤوسها عائمة فوق الماء
أما وضعية المجتمعات في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية خلال النكسات والضائقات الاقتصادية الشاملة فإنها تكون معرضة لأخطار جسيمة
ففي إبان النكسة الاقتصادية الخطيرة التي ألمت بالولايات المتحدة الشمالية وبأوروبا الغربية في أعوام 1948 - 1949 كان علىالدول والشعوب هناك أن تختار وحدا من الاحتمالات معينة لصيانة نفسها من الفوضى الاقتصادية والإفلاس التام
وأحد هذه لاحتمالات أن تسرع الدولة فتسن التشريعات وتطبق رقابة شديدة على الإنتاج الصناعي والنشاط الاقتصادي بأسره، وأن تحدد الإنتاج وتعين الأسعار وتقيد التصدير والاستيراد بشكل يحول الدولة الديمقراطية إلى نظام اشتراكي لأولى الحكم فيه سلطة واسعة قد تتسع فتصبح نوعا من الحكم المطلق. وهذا ما حاولت حكومة العمال في بريطانيا(1011/16)
تطبيقه فلم تفلح طويلا بسبب طبيعة السلوك السياسي للشعب البريطاني وتأصل الوعي الديمقراطي فيه، وبسبب تعقد المشاكل الاقتصادية في بريطانيا بشكل لا يسمح بتطبيق برامج الاقتصاد المنظم والاحتفاظ بالحرية الديمقراطية في آن واحد
وثاني هذه الاحتمالات تخفيض مستوى المعيشة بين السكان بتخفيض الدخل القومي للعامل ولصاحب العمل والرجوع بألوان الحضارة المادية القهقري ووضع حد للتقدم الآلي وتوجيه الشعب نحو التقشف والتخلي عن أسباب الترف والمتعة التي أصبحت جزءا أساسياً من طبيعة المعاش الذي يعيش عليه الناس في العالم الغربي إجمالاً وفي الولايات المتحدة على وجه العموم. وقد استطاعت بريطانيا أن تطبق جزءاً من هذا الاحتمال فيما يتعلق بمسألة الدخل القومي ومسألة التقشف إلا أن حكومة العمال البريطانية فشلت في ذلك لأن السياسة الاقتصادية التي اتبعتها في بريطانيا كانت تواجه عقبات جسمية بعضها راسخ في صميم الوضع الاقتصادي البريطاني والبعض الآخر ناتج عن المنافسة الشديدة التي لقيتها بريطانيا في أسواقها التجارية التقليدية سواء جاءت هذه المنافسة من أمريكا أم من سياسة الاستقلال الاقتصادي والاستكفاء الذاتي التي أخذت تتبعها البلدان الآسيوية والإفريقية واللاتينية التي كانت فيما مضى منطقة نفوذ اقتصادي لبريطانيا
أضف إلى ذلك كله أن أي دعوة إلى تخفيض مستوى المعيشة سيتطور إلى سلاح في يد الحركة الشيوعية التي تتخذ تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية دلالة على فشل النظم الديمقراطية (الأوربية والأمريكية)
وثالث هذه الاحتمالات تجديد الحروب الاستعمارية وقيام الدول الصناعية الكبرى بغزو البلدان المتخلفة والسيطرة على الأسواق التجارية الرابحة في الشرق والغرب، وهذا الاحتمال بعيد المنال نظراً ليقظة الشعوب وتيقظ القوميات وحيوية التحرر من الاستعمار في كل مكان
ورابع هذه الاحتمالات إن تتكتل الدول الصناعية الكبرى تكتلا اقتصاديا تاما شاملا وتوزع فيما بينها الأسواق العالمية توزيعا يستند إلى اتفاقات ثابتة بين الدول المتكتلة، وقد نجح الاتحاد السوفيتي إلى حد بعيد في سياسة التكتل الاقتصادي في منطقة نفوذه في أوروبا الشرقية والبلقان والبلطيق وبعد ذلك في الصين وآسيا الوسطى - منغوليا وسينكيانغ(1011/17)
أما دول أوروبا الغربية فقد وجدت نفسها لا تستطيع إن تجهر بهذه الرغبة لأسباب عديدة منها تفوق أمريكا الصناعي الهائل على بريطانيا وفرنسا وخسارة هولندا لجزر الهند الغربية (إندونيسيا)، فمصانع أوروبا الغربية القديمة المنهوكة لعب أطفال بالقياس إلى المؤسسات الصناعية الأمريكية، وجودة الإنتاج الأمريكي وتنوعه ورونقه إعلاناته شيء لم تعرف الصناعات الأوروبية في بلادها له مثيلا. ومقارنة السيارات الأمريكية بالسيارات البريطانية والفرنسية مثل على ما نحاول به شرحه هنا
ولذلك فلم يكن لدى الصناعة الأوروبية ما تستند إليه لتساوي أمريكا على اقتسام الأسواق العالمية - هذا فضلا عن أن الأمريكي تاجر لا يرحم، والمنافسة هي عماد النشاط الاقتصادي في أمريكانموذج راسخ في السلوك الأمريكي رسوخ عادات الأكل والشرب والنوم
ويبدو أن الاحتمال الأخير (وهو توزيع الأسواق العالمية) صادف هوى في نفوس الأمريكان ولكنهم احتاطوا له بشكل دقيق بحيث يوفر لهم حصة الأسد في أية مساومة يقومون بها مع دول أوروبا الغربية
وفعلا شهدت السنوات الأخيرة توسعا اقتصاديا أمريكيا حجم النشاط ولكنه في أغلب الحالات على حساب دول أوربا الغربية وعلى الأخص بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، وقد ساعد أمريكا على هذا التوسع الاقتصادي كونها مسيطرة على مقدرات ألمانيا واليابان وهما عنصران هامان في ميدان التنافس التجاري الدولي وفي الشرق الأقصى حلت أمريكا محل اليابان وهولندا في سوق إندونيسيا والفلبين ومحل بريطانيا إلى حد ما في أسواق الملايو وأصبحت المشترية الرئيسية للمطاط والقصدير هناك
وفي الشرق الأوسط قصة التوسع الأمريكي في البترول معروفة للجميع، وكان من المقدر لبريطانيا إن تحقق هذا التوسع لنفسها لولا قوة المنافسة الأمريكية والظروف الأخرى التي صاحبت الوضع الاقتصادي في عالم ما بعد الحرب في بريطانيا
وفي أمريكا اللاتينية تلاشى تدريجا نفوذ بريطانيا التجاري هناك بعد إن تلاشى قبله نفوذ ألمانيا وأصبحت هذه القارة منطقة نفوذ تجاري وسياسي للولايات المتحدة الأمريكية
وفي شمال إفريقيا العربية توطد للأمريكان نفوذ اقتصادي طويل عريض بلغ من الأهمية(1011/18)
بحيث اضطرت فرنسا أن تخاصم أمريكا عليه أمام محكمة العدل العليا
وفي أواسط إفريقيا تسرب رأس المال الأمريكي إلى مستعمرات بلجيكا الغنية بالمعادن الثمينة ومنها معدن الأورانيوم الصالح لإنتاج الطاقة الذرية
واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية بفضل هذا النشاط الاقتصادي الواسع أن تدفع مؤقتا عن نفسها أخطار النكسة الاقتصادية الأخيرة التي ألمت بالاقتصاد الأمريكي في أعوام 1947 - 1948 - 1949
وكان لابد لهذا التوسع الاقتصادي الهائل من أن يفرض على الولايات المتحدة الأمريكية مسؤوليات سياسة ودبلوماسية من النوع الدقيق والخطير
ومع أن فكرة التكتل الاقتصادي بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين دول أوروبا الغربية لم تتبلور في شكل قانوني (سري أو علني) إلا أن انسياق الأموال الأمريكية الخاصة والنشاط الاقتصادي الأمريكي إلى مناطق النفوذ البريطاني الفرنسي والهولندي والبلجيكي قد فرض على أمريكا مسئولية فعلية في صيانة النظم السياسية التي تعيش عليها هذه الدول الأوربية أضف إلى ذلك صيانة أوروبا الغربية من أخطار الانقلابات الشيوعية سيضمن لأمريكا حلفاء أوفياء يكونون سنداً للمبادئ والأيديولوجية السياسية التي يعيش عليها المجتمع الأمريكي؛ ففي تعزيز النظم الديمقراطية لدول أوروبا الغربية تعمير لأسواق تجارية حسنة تستهلك من الإنتاج الأمريكي أضعاف ما تستهلكه البلدان المتخلفة التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي كبلدان آسيا وإفريقيا وأمريكيا اللاتينية - فهذه البلدان المتخلفة هي على العموم مصدر للمواد الخام وليست مستهلكة ألا كجزء محدود من المنتجات الأمريكية الجاهزة
ومن هذه الصور الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية الشاملة تكونت فكرة المساعدات الأمريكية المالية للدول الأوربية التي عرفت بمشروع مارشال
ولخير أن تفكر ملياً في مشروع مارشال لأن صلته بتطور فكرة الدفاع المشترك وحلف الأطلنطي ومسألة الدفاع عن الشرق الأوسط صلة وثيقة
مشروع مارشال
يقول البروفيسور جون وليامز أحد كبار الاقتصاديين (في البلدان التي لم يكتمل بعد نموها(1011/19)
الاقتصادي في آسيا وإفريقيا الأمريكان ورئيس الجمعية الاقتصادية الأمريكية ومستشار البنك الأمريكي المركزي ومندوب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في عدة مؤتمرات دولية: إن الهدف الرئيسي لمشروع مارشال هو تنفيذ برنامج عملي لاستثمار رؤوس الأموال. وهدف هذا المشروع ليس فقط بناء ما دمرته الحرب في أوروبا وإنما زيادة الإنتاج والنشاط الاقتصادي في أوروبا الغربية والشمالية بحيث تتمكن دولها من أن تحفظ الميزان التجاري مستقيماً وهذا يعني مساعدة دول أوروبا الموالية للولايات المتحدة الأمريكية على زيادة الدخل الحقيقي للفرد وللدول الأوربية، وهذه الزيادة تشجع الفرد والحكومة هناك على مضاعفة استهلاكه للمنتجات والسلع وتوفر للشعب وللدولة فرصة لادخار رأس المال اللازم لاستثمار الاقتصاد المحلي (في الدولة الأوربية وفي الاقتصاد الأجنبي وأمريكا اللاتينية)
وهذه الأهداف تتمشى مع الصورة التي رسمناها عن الوضعية الاقتصادية في أمريكا وأوروبا وبقية أجزاء العالم (خارج الاتحاد السوفيتي) وهي صورة تشير إلى اختمار فكرة التكتل الاقتصادي بين الدول الصناعية الكبرى تحفظ للأمريكان حصة الأسد وتساعد الدول الأوربية على ملاقاة نكساتها الاقتصادية مستعينة بزميلة كبرى الولايات المتحدة الأمريكية
وجدير بالذكر أن فرنسا كانت أكثر الناس حماسة لمشروع مارشال، بل الواقع أن فرنسا كانت أول من نال مساعدات مالية سخية من الولايات المتحدة الأمريكية وذلك في عهد ليون بلون اليهودي رئيس وزراء فرنسا في السنوات الأوائل التي أعقبت الحرب العالمية الثانية
ومن الطبيعي أن تتحمس فرنسا لهذا المشروع، ففرنسا هي الدولة الوحيدة من دول أوروبا الغربية التي فرضت اتباع أي احتمال من الاحتمالات العديدة التي واجهتها دول أوروبا الغربية في عالم ما بعد الحرب، فهي لم تقتد ببريطانيا فتنفذ لونا من برنامج الاقتصاد الاشتراكي المعتدل، ولم تتبع سياسة التقشف والمراقبة الدقيقة التي فرضتها بريطانيا بالاستمرار في استغلال الأسواق المتوفرة لهم في المستعمرات الفرنسية - ولفرنسا اليوم ممتلكات خارجية تفوق ما لأي دولة استعمارية أخرى
ولتعلق بأذهاننا هذه الحقيقة - وهي حماس فرنسا الشديد لمشروع مارشال وما استتبع هذا(1011/20)
الحماس من نشاط فرنسي لتنفيذ الحلف الأطلنطي والاتحاد الأوربي للنقد ومشروع مارشال ومشروع بليفان للجيش الأوربيكما سنأتي على استعراضه فيما بعد
وهنا يجدر بالباحث أن يفسر حماس أمريكا لمشروع مارشال ولفكرة المساعدات المالية للدول الخارجية أجمالا. وهذا التفسير لا يكون إلا بالتعرف على الفلسفة الاقتصادية النظرية والعملية التي يعيش عليها الشعب الأمريكي. وهي فلسفة (جورج مينارد كنيز) الاقتصادية منذ عام 1930 حتى الآن
(للبحث صلة)
نيويورك
عمر حليق(1011/21)
3 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
الخريطة:
وتسمى أيضا (الربابة) بكسر الراء، وهي وعاء من الجلد مثل كنانة سهام الرمى، توضع فيها القداح. وهي واسعة ليمكن استدارة القداح فيها واستعراضها، ولها فم ضيق بقدر أن يخرج منها قدحان أو ثلاثة، أو بعبارة اصح يمكن أن يضيق ويوسع بخيط يشد فيه، بحيث لا يسمح في حالة التضييق بخروج أكثر من ثلاثة أقداح
الحرضة
بضم الحاء، ويسمى أيضا (المجيل) و (المفيض) و (الضارب)، وهو الرجل المكلف بتقليب السهام في الخريطة ثم دفعها من فم الخريطة. وكانوا يلفون يده بقطعة من جراب، لئلا يجد مس قدح يكون له مع صاحبه محاباة. ويشدون عينيه بعصابة ليحولوا بينه وبين رؤية القداح
والحرضة هو الذي يستل السهم بعد أن يبرز وينشز، ويسلمه للرقيب دون أن يراه
ولا يكون الحرضة إلا ساقطا برما، يدعونه بذلك لرذالته وسقوطه
قال أبو الهيثم: الحرضة: الرجل الذي لا يشتري اللحم ولا يأكله بثمن ألا أن يجده عند غيره
الرقيب
ويسمى أيضا (رابئ الضرباء). ويختار في العادة من الأمناء الموثوق بهم من الرجال، وواضح أن مهمته هي مراقبة (الحرضة) وإدارة رحى الميسر. ويكون مجلس الرقيب خلف الحرضة، ليتمكن من مراقبته. وهو الذي تسلم إليه السهام بعد خروجها ليعلم من صاحبها ويعلن اسمه حينما يفوز كما انه يرد السهام الإغفال أن خرجت مرة ويعيدها إلى الربابة ويأمر الحرضة بجلجلة الأقداح وإفاضتها حتى يخرج سهم أخر من قداح الحظ
وإفاضة الأقداح: أن يدفعها دفعة واحدة إلى الأمام ليخرج منها قدح أو أكثر
مجلس الميسر(1011/22)
هو نادي القوم يجتمعون فيه في ليل الشتاء، وقد أوقدوا ناراً واحضروا جزورهم ونحرها الجازر وقسمها عشرة أجزاء، بعد أن ترك لصاحب الجزور (الثنيان) وهو ما استثنى لنفسه من الرأس والأطراف في غالب الأمر، وبعد أن حفظ لنفسه (الريم)، كما سبق القول عند الكلام على الجزار
1 - ويحضر الحرضة ومعه الخريطة والقداح، حينئذ يتبارى رؤوس القوم وأشرافهم في أخذ القداح، فأعلاهم قدراً هو من يأخذ المعلى ذا الحضوض السبعة، وأقلهم شأناً هو صاحب (الفذ) الذي له حظ واحد
وذلك أن نظام الميسر مبني على قاعدة الغنم بالغرم، أي أن من يتعرض لأخذ أكبر السهام حظاً يكون لديه استعداد أن يغرم أكبر الغرم حينما يخيب حظه إذ أن الغرم يتناسب تناسبا مطردا مع الغنم وأما صاحب الفذ فهو إن فاز بحظ واحد، وإن خاب تحمل مغرم حظ واحد
2 - وبعد أن يختار القوم سهامهم ويسجلها عليهم الرقيب توضع هذه السهام ذوات الحظ في الخريطة ومعها السهام الإغفال الثلاثة التي لا حظ لها
3 - ويؤتى بالحرضة، وهو المكلف بإجالة القداح في الخريطة، ثم يأخذ ثوب شديد البياض فيلف على يده، ويسمى ذلك الثوب (المجول). وإنما يجعل ذلك الثوب على يده ليعشى بصره ولا يعرف قدح زيد دون عمر. هذا بعد أن تلف يده بقطعة من جراب، مبالغة في الحيطة. وأحيانا يعصبون عينيه ويلفون يده. وتعصب الخريطة على يدي الحرضة
4 - ويجلس خلفه الرقيب وقد استدار الأيسار حوله، ومن خلفهم جمهور النظارة يشهدون ما يكون من ذلك، وفي هذا الجمهور طائفة الفقراء، الذين يحملون بؤسهم بجهل وعناء تدور أعينهم فوق كومات اللحم، وتشرأب أعناقهم وأسماعهم نحو الحرضة والرقيب
5 - وبعد أن يكتمل المجلس يصدر الرقيب أمره إلى الحرضة أن يجيل القداح وأن يجلجلها في الخريطة، فيفعل ذلك مراراً، فان فعل أمره أن يفيض القداح، أي أن يدفعها إلى فم الخريطة
6 - وحينئذ يبرز أحد القداح فيستله الحرضة، وهو أن كان غير معصوب العين لم ينظر إليه في هذه الحالة، ثم يناوله الرقيب، وتحدث عندئذ ضجة من الرقيب يعلن فيها اسم الفائز، يصيح بأعلى صوته: هذا قدح فلان، أو فاز قدح فلان. ذكر ذلك الخليل في تفسير(1011/23)
قول أبي ذؤيب:
وكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع
7 - فإذا فاز أحدهم اخذ نصيبه واعتزل القوم فأفاض الباقون على بقية الجزور فإن شاء ذلك الفائز أن يعود بقدحه سألهم ذلك، فان احبوا أجابته أجابوه وردوا قدحه معهم واستأنفت الإفاضة. ويعد هذا العمل مكرمة لصاحبه الفائز الذي يأبى أن يظفر ذلك الظفر السهل، ويأبى إلا أن يعرض نفسه للغرم الذي جانبه في أول الأمر
ويسمون هذا العمل (التثنية)، وهو الذي عبر عنه النابغة الذبياني بمثنى الأيادي في قوله:
أني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي واكسوا الجفن الأدما
8 - وإذا ظهر سهم من السهام الإغفال أمر الرقيب الحرضة بإعادته في الخريطة ومعاودة الجلجلة والإفاضة حتى يظهر سهم ذو حظ
ولا يكف الحرضة والرقيب عن هذا العمل حتى يكون مجموع أنصباء السهام الخارجة عشرة أنصباء على الأقل
الغنم والغرم
ليس نظام الغنم والغرم في الميسر نظاما ساذجا، بل هو نظام محكم يدل على ما كان يتمتع به أسلافنا العرب من ذهن وقاد وفكر ناضج
وإليك بعض النماذج من أقضيه الميسر، وأحكام العرب في مغانمها ومغارمها، وسأعيد هنا ذكر قائمة المغانم والمغارم ليسهل لك عرض تطبيق الأحكام عليها:
أ - صاحب الفذ، ونصيبه في الغنم والغرم (1)
ب - (التوأم، (((((2)
جـ - (الرقيب، (((((3)
د - (الحلس، (((((4)
هـ - (النافس، (((((5)
و (المسبل، (((((6)
ز - (المعلى، (((((7)
(القضية الأولى)(1011/24)
خرج قدح (أ) ثم قدح (ب) ثم قدح (جـ) ثم قدح (د) ومجموع أنصباء هذه القداح عشرة، وبذلك يكون الميسر قد تم فكل واحد من أصحابها يأخذ نصيبه، فيأخذ (أ) عشرا، و (ب) عشرين، و (جـ) ثلاثة أعشار، (د) أربعة أعشار، ويعتزل كل منهم الميسر غانما، ويبقى الثلاثة الغارمون الذين يضمنون ثمن الجزور، وهم (هـ)، و (و)، و (ز). ولنفترض أن ثمن الجزور 72 دينارا، فتفرض عليهم بالتناسب العددي، أي بنسبة 6: 5: 7 فيغرم (هـ) 20 دينارا، و (و) 24 دينارا، و (ز) 28 دينارا
(القضية الثانية)
خرج (ب) و (جـ) و (هـ) فائزين ومجموع حظوظهم 2، 3، أي عشرة حظوظ، وبذلك تم الميسر، فيأخذ كل منهم نصيب ويعتزل، ويبقى الغرم على (أ)، (د)، (و)، (ز) ونسبة مغارمهم 7: 6: 4: 1
ولنفترض أيضا أن ثمن الجزور 72 دينارا، فيغرم (أ) 4، (د) 16 دينارا، (و) 24 دينارا، (ز) 28 دينارا
(القضية الثالثة)
خرج في أول الإفاضة قدح صاحب (المعلى)، ونصيبه 7 فاستولى عليه واعتزل، ثم خرج قدح صاحب (المسبل) وحظه 6 مع أنه لم يبق من أجزاء الجزور بعد المعلى إلا 3 تتمة العشرة، فيأخذ صاحب المسبل الثلاثة الأجزاء الباقية بعد نصيب صاحب المعلى، ويغرم له القوم الذين لم تخرج سهامهم ثمن ثلاثة أعشار الجزور، استكمالا لحظه، وتكون غرامتهم في ذلك متناسبة مع نسبة أنصبائهم في الغنم لو غنموا
ويغرم القوم الخائبون أيضاً ثمن الجزور، متناسبة غرامتهم مع نسبة أنصبائهم أيضاً
وهذا الحكم السهل في أمثال هذه القضية الأخيرة، هو الذي ذكره أبن قتيبة. وإنما يلجئون إليه ويرتضونه إذا لم يمكنهم نحر جزور ثانية
فإذا أمكنهم نحر جزور ثانية فإنهم ينتظرون بسائر القداح لا يخرجون منها شيئا بعد أن ظفر صاحب المعلى، لأنه إن خرج المسبل لم يجد له حظا كاملا، لأن حظه ستة أجزاء، مع أن الباقي من الأجزاء ثلاثة(1011/25)
وحينئذ يقفون الإخراج ويعدون جميع الايسار خائبين، إلا صاحب المعلى، ويلزمونهم الغرم في الجزور الأولى بحسب أنصابهم من جهة، ثم يخلقون لهم جميعا فرصة في جزور أخرى، فينحرونها أعشار، ثم يضربون عليها بالقداح، فإن خرج (المسبل) أخذ صاحبه ستة أجزاء: ثلاثة منها هي الباقية من الجزور الأولى، وثلاثة من الجزور الثانية. فإن استوى ثمن الجزورين كان صاحب المسبل كأنه لم يغرم شيئا ولم يغنم شيئا لأنه غرم ستا وغنم ستا، فتعادل ماله وما عليه
وبقي من الجزور الثانية بعد المسبل سبعة أجزاء، تضرب عليها سائر القداح، فإن خرج (النافس) اخذ صاحبه خمسة أجزاء من السبعة الباقية، فبقى جزءان
وفي هذه الحالة بقي حظه أكبر من الجزءين، وهو (الحلس)، وله أربعة أجزاء، فيعدون صاحبه خائبا في الجزور الثانية يلزمه الغرم فيها بمقدار حظه متضامنا مع سائر الخائبين، فيتيحون له فرصة في نحر ثالثة، فإن خرج غنم أربعة أجزاء: اثنان من الثانية، واثنان من الثالثة، فإن استوى الجزورين كان كأنه لم يغنم شيئا
وبقي من الجزور الثالثة ثمانية أجزاء، يضرب عليها بالقداح من بقى حتى تخرج قداحهم موافقة لأجزاء الجزور، وحتى لا يحتاجون إلى نحر جزور أخرى، استكمالا لنصيب متوقع لأحدهم
هذا الدستور الذي سنه العرب لنظام الميسر، هو كما ترى وليد طباعهم وعاداتهم، ووليد حاجاتهم البدوية
ولا ريب أن (الميسر) كان نافعا للعرب، كان نافعا لذوي الحاجة منهم، لأن العرب في أكثر ما يقامرون إنما يبغون بذلك نفع الفقراء، والتوسع على المحتاجين المعوزين، وقل أن يطعم الايسار من لحم الميسر، وإنما كانوا يفرقونه في البائسين. إلى ذلك ما كان يحدثه الميسر من رواج في سوق الإبل وبيعها وشرائها
ذكر الواقدي أن الواحد منهم ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له مال من غير كد وتعب،، ثم يصرفه إلى المحتاجين فيكتسب منه المدح والثناء
ولا ريب أيضا أن الميسر كان ضارا للعرب، فهو أكل مال بالباطل، وهو كان يدعو المقامرين كثيرا إلى السرقة واغتصاب الأموال والنفوس، للحصول على فوز رخيص في(1011/26)
ذلك المضمار، وهو كان مجلبة عظيمة للعداوات والحزازات بينهم، التي تثيرها المنافسة وحب الذات. وكانت مجالس الميسر مجالا فسيحا للمنازعات والمهارات، وميدانا خصبا للهجاء والشتم والاقذاع هذا إلى ما يكون من أنفاق زمانهم في سخاء ظاهر، فيما يشغلهم عن غيره من جلائل الأمور، والسعي لاكتساب الرزق من شريف الأبواب
ومفاسد الميسر في عصرنا الحاضر واضحة وضوحا بينا مهلكة إهلاكا للنفوس والضمائر، قاضية على هناءة الأسرةوترابط الجماعة
وصدق الله العظيم إذ يقول: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس)، وإذ يقول: (وأثمهما أكبر من نفعهما)
وقد أتى الإسلام في ذلك بعلاج ناجح، علاج يبحث البؤس من أصله، ويقتلعه من أرومته، هو نظام (الزكاة) تؤخذ من الغنى في رضا من دينه، وتعطي للفقير في كرامة من نفسه
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم). (وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون)
للكلام بقية
عبد السلام محمد هارون(1011/27)
محنة الأدب في مصر
للأستاذ منصور جاب الله
إن محنة الأدب في مصر إنما تتجلى في هذه الضائقة التي يكابدها الأدباء، والأدباء المصريون بوجه خاص، فلقد أتى على مصر حين من الدهر كانت فيه ملتحدا لأدباء العروبة وملاذا للناطقين بالضاد في سائر الأقطار
ولقد أينعت شجرة الأدب في مصر، وتشابكت أغصانها وتهدلت أفنانها ورفت ظلالها حتى كادت تسع الناس جميعا، ثم إذا بهذه الشجرة الفينانه تذوى أغصانها وتتزايل ظلالها فإذا نحن من الأدب في صحراء جرداء
ومنذ بضعة عشر عاما سألنا شيخا من شيوخ الأدب هو المرحوم السيد مصطفى صادق الرافعي عن سبب تمسكه (بوظيفته) الصغيرة في محكمة طنطا، قلنا له: هلا احترفت الأدب وحده؟ أذن لجنيت من ورائه الذهب النضار وضحك الأديب العظيم وهو يقول: هيهات ذهب ما هنالك. . لو اقتصر عملي على الأدب وحده أذن لمت جوعا، ولما كان لي هذا الاسم المدوي الذي يطالعك في الصحف صباحا ومساء!
ولقد حسبنا الأستاذ الرافعي يومها جانحا إلى المغالاة، أو مائل إلى ناحية المزاح حتى قام على ما يقول من صميم الواقع شهيد وبصرنا بأدباء من الفحول قصروا جهدهم على الأدب فكان الجوع لهم مشربا وأداما
وقلنا مرة لشيخنا الأستاذ عبد العزيز البشري - رحمه الله - وهو في أوج شهرته ومجده: أن أمهات الصحف تتراكض خلفك تستكتبك المقال بكذا وكيت، وعملك الحكومي يحول بينك وبين كثير من وجوه الرأي التي قد لا تأمن حين إبدائها جوانب الزلل، فإذا أنت تنحين عن المنصب الحكومي، أمنت ما كنت تخاف، وأقبلت عليك جميع الصحف مشتاقة تجرر أذيالها
وأطال الشيخ البشري الصمت ثم اقبل علي يقول في مرارة: يا بني إن الصحافة إنما تقبل علي لأنني في غنى عنها، فإذا ما احتجت إليها فسوف تزول عني ازورارا وتنفر مني نفارا. إن الصحافة - مثلها مثل الدنيا - تقبل على من لا يريدها، وتطوي كشحا عن مريدها!(1011/28)
والله لقد صدق صديقنا البشري فيما قال! وإن كاتب هذه السطور لم يتعظ بنصح الخريت المجرب فوقع في المحظور ودفع الثمن باهضا غاليا
وتحرير الخبر أنني حين كنت (موظفا) حكوميا استكتبتني صحيفتان كانت لهما مكانة وكان لهما قراء، وكان الأجر الذي أتتقاضاه منهما مجتمعتين يفوق اجري من الوظيفة فطوع لي ذلك أن أهجر العمل الحكومي - بإغراء من إحدى الصحيفتين - فهل يعرف القارئ ماذا حدث بعد ذلك؟
أدركت الجريدة الأولى أنه لم يعد لي عمل حكومي، وأن ظهري اصبح غير مسنود، فحملتني على ترك العمل بها، ولم آس على ذلك كثيرا لقد كان الأجر الذي أخذه من الصحيفة الأخرى كافيا، بيد أنه لم يمض على هجري الصحيفة الأولى إلا بضع اشهر حتى بدا للجريدة الأخرى أن تستغني عن (خدمتي) وكذلك أصبحت فارغا من العمل في فترة لا تبلغ العام منذ أن استقلت من الوظيفة الحكومية. أدركت عند إذ مبلغ نصيحة الشيخ عبد العزيز البشري من الصدق، وأن الصحافة بالنسبة للأديب إنما هي كالدنيا بالنسبة لرجل الدنيا
وأتلفت اليوم حوالي فأرى جهابذة الأدب أقلامهم معطلة وكان ينبغي أن يغترفوا الذهب من الإناء الذي يضيق دونهم ويتسع لصعاليك الصحافة على حد تعبير المرحوم الأستاذ مصطفى الرافعي، أو هلافيت الصحافة بتعبير الأستاذ العقاد!
ولو كان للأدباء حظ، أو لو كان للأدب ذاته كيان مادي لاعتمد على هذا الكيان أمثال العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم فإن الأدب الصحيح كان خليقا أن يحمل على متنه هذا الثالوث العظيم فلا يحتاج الأول لأن يكون عضوا في الشيوخ ولا يحتاج الثاني لكي يكون وزيرا ولا يحتاج الأخير لكي يكون مديرا لدار الكتب،
إن الأدب لم يستطع أن يحمل هؤلاء الأدباء الأفذاذ في سفينته الجارية، بله أدباء الدرجة الثانية، وأدباء الطبقة الثالثة ومن دونهم
والصحافة الآن هي الوسيلة لنشر الأدب، ذلك لأن الجريدة اليومية أو المجلة الأسبوعية تكون عادة في متناول العامة لرخص ثمنها، وليس كذلك الكتاب الذي لا بتداوله في العادة إلا خاصة المتأدبين، ولكن الصحافة جنت على الأدب، أو جنت على (فنيته) كما قال(1011/29)
الرافعي، فلم يعد الأديب هو الذي يوجه القارئ كما كان الأمر من قبل، وإنما صار القارئ وصاحب الصحيفة هو الذي يوجه الكاتب الأديب، فقد أمست الصحف مثل حوانيت البادلين والبزازين يقبل عليها (الزبائن) بمقدار ما فيها من تزويقات ومظاهر خلابة لا غناء فيها ولا طائل من ورائها، ذلك لأن قارئ اليوم لا يحب الدسم ولا الطعام المركز، وإنما هو يقنع بالشطائر الخفيفة وإن كان ضررها على الصحة بليغا، ونقصد بالصحة صحة العقل والذهن ذلك لأن جيل هذه الأيام إنما يعني بصحة الأجسام ويطرح صحة العقول؟
وكذلك انحطت الصحافة بالأدب والأديب الناجح هو الذي يجاري الجمهور ويتملق غرائزه، فإذا عدمت الجريدة هذا النوع من الأدباء فإنها لا تعدم (المخبر) الذي يجيء كل يوم بأبشع أحداث الجنايات، وأطرف أخبار الطلاق
أني لأذكر أن أديبا نابها انتسب إلى إحدى الصحف، وسمعت أحد المعلقين يقول: إنه لا يصلح لهذا العمل، فتساءلت لماذا؟ فقيل لي: لأنه أديب - كذا والله! - فهتفت: يا قوم أفيكون المقتضى مانعا؟ ولقد كان الأمر كذلك في الواقع، فلم تمض إلا بضعة أشهر حتى استغنت الصحيفة عن الأديب المشهور واستعاضت عنه بشاب أُمي لا يحسن القراءة والكتابة ولكنه أخصائي في أنباء الفضائح والتشهير والتشنيع!
ومنذ أشهر أتصل بي أن أديب لامع الاسم موفور الكرامة سوف يعين رئيسا لتحرير إحدى الجرائد، فاستبعدت الخبر قياسا على ما علمته من التضاد بين الأدب والصحافة، وصح حدسي، فإن أديبنا سئل في ذلك فأجاب ونعم ما أجاب (أن الصحيفة التي أكون رئيسا لتحريرهالم تخلق بعد) ذلك لأن الصحافة لا تبغي أن يديرها الأدباء، وإنما تريد أن يكون الأدباء تبعا لها وصدق حدسي مرة أخرى حين اختارت هذه الجريدة لرياسة تحريرها صعلوك من صعاليك الصحافة!
أما بعد، فإن الأدب في مصر يعاني اليوم محنة بالغة الشدة. ولست في هذا متشائم، ولا أحب أن يشيع الشؤم، وإنما أريد أن ابصر رعاة العهد الجديد المجيد بحال الأدب الذي هو عماد كل أمة، فالأدب هو ضرام الثورة وشعارها، ولو بقيت سوق الأدب على كسادها، وانصرف الأدباء عن غشيانها، فقل على الأمة العفاء ثم العفاء!
منصور جاب الله(1011/30)
ذكرى الشاعر
صالح علي شرنوبي
للأستاذ محمد صبري علي سليم
كان لزاما علي أن اكتب هذه الكلمات بعد أن صرنا على بعد عام من مصرع شاعرنا الشاب صالح علي شرنوبي. . ففي مثل هذه الأيام عام مضى، صعدت روح صالح إلى بارئها أثر حادث أليم
. . . كان صالح رحمه الله شاعر مرهف الحس، مشبوب العاطفة، قوي الإحساس، ولقد عرفته طالبا بالقسم الثانوي بمعهد طنطا - وإن لم أره - وكنت حينئذ طالبا بالقسم الابتدائي في نفس المعهد. عرفته من قصائده الحماسية التي كان يطالعنا بها في مجلة (الفكر الجديد) وكان يصدرها في ذلك الوقت الأستاذ حلمي المنياوى. وذات يوم بحثت عن المجلة فلم أجدها، ولما تساءلت عن احتجابها علمت أن الرقابة صادرتها لأنها نشرت قصيده ثائرة لصالح. وبعد ذلك بأيام توقفت المجلة عن الصدور، لأن ولاة الأمور وقتذاك زعموا أنها تحض على المبادئ الهدامة. . وظللت بعد ذلك أقرا لصالح في مختلف الجرائد والمجلات، وكان إعجابي به يزداد كلما قرأت له. . ذلك لأنه لم يكن شاعرا كبقية الشعراء، بل كان له مذهب خاص في الشعر. استمع إليه في قصيدة (أختي) حينما يصور لك حياة أخته البلهاء التي جنت عليها الأقدار فحرمتها نعمة الإدراك:
وتقول أمي حين تلقاك ... يا ليت قلبي ما تمناك
أو ليت مهدك كان مثواك
لك في بنات الحي أتراب ... عرسانهن لهن أحباب
فأقول والمقدور غلاب
قد خانك أنت الحظ يا أختي
فهل رأيت شاعرا بلغ في دقة التصوير والتعبير ما بلغه صالح؟ لقد كان ذات ليلة في نقابة السينمائيين، ونظر حواليه فرأى امرأة في خريف العمر تجلس وحدها مطرقة مفكرة. ولما سأل عنها قيل أنها كانت في ربيع عمرها تلعب بقلوب الرجال، أما اليوم فليس فيها ما يسر العيون. وراقبها صالح مدة، ثم كتب قصيدة (أطلال راقصة) التي يقول في مطلعها:(1011/32)
أطرقي أطرقي فقد ضمك اللي ... ل وألقي عليك ثوب ظلامه
إلى أن يقول:
لم يعد فيك ما يسر العيونا ... فاعذري العابثات والعابثينا
وإذا أيقظت شجونك حورا ... ء وأوحت بقبحك الشامتينا
فاسخري من جمالها وصباها ... واحقريها بكثرة العاشقينا
أو عظيها فرب شيطانة منكن قالت فأبكت الواعظينا
وفي قصيدته (أشواق الربيع) تراه يخاطب تلك المجهولة ويسألها أن تعود إليه، فهو غريب القلب والدار فيهتف:
تعالي يا ابنة الأحلام يا مجهولة الذات
تعالي يا ضياء لم ينور أفق ليلاتي
تعالي نجمع الماضي الذي راح إلى الآتي
تعالييا غراما تاه في دنيا الصبابات
تعالي طهري بالحب آثامي وأوزاري
تعالي فأنا وحدي غريب القلب والدار
طريدا مثل أحلامي شريدا مثل أفكاري
ويلح عليها أن تسرع بالعودة إليه، فقد يخنقها الترب ولم يتمتعا بالحياة، فيكرر هتافه:
تعالي نخلق الحب فقد يخلقنا الحب
فقد يخنقنا الترب ولم نعشق ولم نصب
وتراه ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضا، ويلغ بعضهم في دم بعض، فيشمئز ويتألم ويثور، وتتمثل ثورته في قوله من قصيدة (السراب الخالد):
وحوالي من بنى الطين أشباه قطيع مشرد في يفاع
دمهم ماؤهم وراعيهم الذئب وأعراضهم سفوح المراعى
ويحزنه من بنى الطين أنهم لا يحسون الجمال ولا يتذوقون الحسن فيقول:
كلما رن مزهر أو شدا شاد أعاروه ميت الأسماع
ألهذا القطيع أنفق أيامي وتفنيني الليالي الحزينة(1011/33)
ألتلك الأيام أسحق عمري وأغنى ألحاني المفتونة
وهو يذكر بالخير جميع الناس، حتى أولئك الذين التفوا حوله يوم أن ابتسمت له الحياة فاخلص لهم، ثم تنكروا له وانفضوا من حوله عندما تنكرت، له فهو متسامح أبدا لا يعرف قلبه البغضاء، يتجلى ذلك في قوله:
أيها الراحلون عني رويدا ... فمن الهجر ما يكون حراما
كنت يوما وكنتمو ثم شئتم ... ما أراني قبل الختام الختاما
لم يعد لي من حبكم غير أحلام صداها يشتت الأحلاما
ذكريات أبكي لها وأغني ... وهي لي بعدكم هوى وندامى
سوف أحيا لكم فإن مت يوما ... فاحفظوني فقد حفظت الزماما
فبوركت يا صالح إنك فنان ملهم. .
لقد عشت مخلصا لفنك كل الإخلاص، وفيا له كل الوفاء. . ففي سبيل الله تلك النفس الطاهرة الكريمة التي ما حملت في حياتها حقدا لإنسان. . ويا دولة القريض العزاء
أخي. . عزيز علي أن أكتب في يوم ذكراك، وقد كنت أود أن أكتب في يوم زفافك ولكن. . ولكن هكذا شاءت الأقدار. . على أن مما يعزيني أن شعرك سيظل خالدا على ممر الأيام، ينير الطريق للمدلجين الحائرين
أخي. . طبت في مثواك، وسقى الله ثراك، وسلام عليك في الخالدين
محمد صبري علي سليم(1011/34)
سليمان العبسي في ديوانه (مع الفجر)
للأستاذ أحمد فخري
هذا البلبل الصداح في جنائن الهوى يشدو تارة ويشكو طورا، ولكنه في كلتا الحالين لا يستطيع إلا أن (يغني) ألحان الحياة، وما الحياة أن لم تكن نشوة حب، وخفقة قلب، أو لوعة تبعثها اللهفة إلى تلك النشوة، والحنين إلى ذلك الخفقان؟
أنا أهوى الألحان نبض حياة
ودموعاً. . . طروبة العبرات. .
وجراحاً. . . تلف بالبسمات
لا نواحا ميتا. . . على أموات
لا عيوناً تسيل فوق الرفات
أنا أهوى على رنينك عودي
أن أحس اختلاجه الجلمود
ولو شئت أن أطوف بك في رياض هذا الهوى - رغم صغر حجم الديوان - لطال بنا المطاف ولتحيرت والله أين أقف بك، ولكن حسبنا هذه البقة ففيها من الشذى والحسن ما يدلك على نضارة رفيقاتها وجمالهن. ولقد رأيت معي كيف نسقها صاحبها وكيف رسم فيها من (الحضري) العف صورة لأنبل العواطف وأرقها وأعنفها وأوسعها حتى لكأن الكون كله محب وحبيب. . .
وهذه سمة الشاعر العبقري الذي يتصل في وجدانه بأرحب ما في العالم ويحلق بخياله إلى أعلى ما في السماوات، ينهل من معين جمالها ويرشف من خمر ثنائها ويبادلها حبا بحب، فيسكب عليها من فؤاده من ينطق الجامد منها حتى لكأن هذا الوجود كله قلب ينبض وكبد تهفو وعاطفة تتأرجح، وهو يجيد تصوير الطبيعة ولكن لا بالألفاظ الجوفاء والصور الجامدة وإنما هي في ريشته إنسان يحس ويحب، ويسعد ويتألم. . وستخلد الطبيعة وستخلد معها صورها الرائعة هذه. .
أنشد معي هذه الأبيات:
الصخرة الغرقى بأحلامها ... تحس مثلي وحدة قاتلة(1011/35)
هذي خطانا لم يزل وقعها ... وشوشة في سمعها ماثلة
تسألني الصخرة يا طفلتي ... عنك وترتد معي ذاهلة
ألم نكن نرسو على شطها ... طفلين مثل النغم الشارد
في قبلة حالمة إن أضع ... وإن تضيعي فعلي ساعدي
تبارك الحب فكم أرعشت ... يمناه. . قلب الحجر الجامد. .
واسمعه يرثي العندليب ويشكو مع الروض فقدانه. .
الوردة الحمراء. . . يا طائري ... تشكو إلى الأنسام أشواقها
عاشت على ترجيعك الساحر ... قد فتحت للنور إحداقها
تلك شظايا قلبك الشاعر ... تخضب بالحمرة أوراقها
على دم المبدع والثائر ... تركز أورد الربى ساقها
سلها أتحلو رقصة أو يطيب ... بعدك لحن للهوى والنسيب؟
ستهمس الوردة: أين الحبيب ... ويهتف الغصن وما من مجيب. .
ما ضر لو غنيت حتى المغيب ... يا شاعر الأطيار يا عندليب؟
كنت إذا ما الفجر لف الظلام ... بالشفق الوردي. . فوق الربى
رقرقت في سمع الزهور النيام ... من اللحون. . المعجب المطربا
فاستيقظ الوجد، وأج الغرام ... في كل قلب نابض بالصبا
أين الأغاريد وأين الهيام ... إني أرى روض الهوى مجدبا
أعد إلى هذا الوجود الكئيب ... بنغمة، برد الشباب القشيب
ما حطمت لغز الوجود الرهيب ... إلا يد الفنان، يا عندليب
ما ضر لو غنيت حتى المغيب؟
هذا هو حب سليمان، وهذا هو غزله. نفس مرهفة الشعور، وعواطف كريمة يصوغها بأرق أسلوب وأمتنه، وذلك من الصعوبة بمكان! إذ لا تكاد تتيسر هذه السلاسة وهذه العذوبة في هذه القوة ألا لقليل من كبار الشعراء. . . .
وأما المعاني والصور الفنيةوالتجارب النفسية فما أخالك إلا معي في الإعجاب بهذا الخيال الخلاق الذي صورها فاحسن تصويرها. ولكأنه والله حين يستعمل الكلمة يخلق لها معنى(1011/36)
جديدا أخاذا، يزيده روعة هذا الجرس الموسيقي الساحر، هو بحق من أكثر الأدباء سيطرة على اللغة وقدرة على التلاعب بالألفاظ، حتى لكان اللغة - كما يعبرون - قد أسلمته قيادها فلحنها أنغاما طروبة افتن ما تكون في (موشحاته) المرقصة التي انفرد بها وحقق للأندلسيين ما كانوا يرنون إليه. . . ولا حاجة بنا إلى الاستشهاد ففي ما عرضنا الكفاية. ولنختم حديثنا عن هذا (الغرض) بهاتين الصورتين القريبتين البعيدتين لتدرك كيف تمر الحقائق الجانحة بخيال الشاعر فيخرجها حية ناضرة مفعمة بالحرارة، مترعة بالظرافة الخفيفة الفطرية التي لم تستطع تلكم العواطف الصاخبة رغم تأججها، أن تخفي حلاوتها ومرحها: -
أين حقل مائج الزهر ظروب ... نتخطاه وقد مال الغروب؟
ونسيم الريف مغناج لعوب ... يلمس الغيمات لمساً فتذوب!
طفرت بين الشجيرات القلوب
انبرت تملي على الزهر كتابا ... من سرور. . وهو يفتر جوابا
حسناء. . إن تبعدي عني فما غربا ... صوت طروب، وثغر باسم، وصبا
وخفة من فؤادي. . خلتها لعبا ... حتى إذا أفهمتني أختها السببا
أيقنت أن الذي غالبته غلبا!
وأما المضمار الواسع الثاني، والذي استأثر بأكثر اهتمام شاعرنا الفتى فهو مضمار البطولة، مضمار الوطنية المشبوبة
صبى صغير، يرتع ويلعب على ساحل الأبيض المتوسط، تدغدغه الأمواج، وتداعبه النسمات، ثم لا يلبث فجأة أن يجد الغاصب المتعسف ينهب وطنه، ويستأثر بملاعب صباه، ويشرد أهله ويسلبهم أملاكهم. . ويتشرد هذا الصبي مع المتشردين. . ويترك وطنه مع اللاجئين. . وفي فؤاده نار. . وفي عينيه دمعة أبت عليها حرارة الزفير أن تسيل. . هذا الصبي الملتاع يشب وتشب معه مآسي وطنه فهو أينما تلفت فعلى لواء مسلوب أو وطن موطوء، وهو أين ألقى بطرفه - فعلى نصل تغذيه (صلة) رقطاء
ليت شعري بعد هذا كيف تخبو هذه الشعلة في فؤاده وكيف يلطف هذا السعير في عروقه؟ لقد صهرته النكبات أذابته النوائب، وصاغته الأعاصير نشيدا عاصفا ولحنا ملتهبا، ويهتف(1011/37)
بالضاد ليله ونهاره، ولا يعرف مللا. . ولا يكاد يشغله عن مآسيه فيه مؤاس حتى ولو كان حبيبه ومالك قلبه
هذا هواي. ولن أفنى به شغفا ... مهما استبد ومهما في دمي عصفا
قد كان حسبي. . لولا أن لي هدفا ... عاهدت يوما عليه النبل والشرفا
حسناء. . قد سارت الدنيا وقد وقفا. .
شعبي تمزقه (أطماعهم) شعبا. . ... فهل تلومين ذا روح إذا غضبا؟
فما هو ألا زفرة موتور يريد الانتقام والآثار، وهو لو حبسها لأصلته سعيرا: -
ما أردت القريض، إن هي إلا ... عاصفات جنت على قيثاري
ثورة. . لو حبست عودي عنها ... حطمت أضلعي مع الأوتار. .
وأين لليأس في هذا القلب الثائر مكان؟ وهو كلما اشتدت به الزعازع فحسبه أن يلقي نظرة على الماضي وأن ينصت إلى دمه النقي ليتفجر بركانا يكتسح اليأس ويضيء أملا. .
لفتة يا خيال. . نستلهم الماضي ... ونسكر على صدى التذكار
لفتة نشهد (الجزيرة) نشوى ... من سلاف الرسالة المعطار
أنفضي الموت. . أنت أخصب من أن ... تقفري من مواكب الأحرار. . .
وافتحي للصباح جفنك يا صخراء. . ... هذي زماجر (الثوار). . .
سيعود الوجود يوما إلى الرشد ... على صوت لجك الهدار. . .
وسيظل يهزج حتى تتحرك الصحراء وينتفض الرمل: -
وأهزج يا صحراء حتى تحركي ... وحتى تهز الليل أنشودتي البكر
كفى ألماً أن تحمل القيد أمة ... ولا يشتكي سوط العذاب بهاجر
قوافل تمضي من مهازيل أمتي ... يسيرها ناب، ويحدو بها ظفر. .
يمر بنا التاريخ غضبان ساخرا! ... ويمضي بنوه خاطفين، وننجر
قوافل من بيض العبيد كأنما ... على روحهم قفل، وفي سمعهم وقر
إذا أنت ناشدت المروءة فيهمو ... تملكهم من طيفك الرعب والذعر
سأهزج يا صحراء ولتمض صيحتي ... إلى كل رمس بات يرقبه الحشر. . .
أيغمض كف الموت جفني وليس في ... بلادي شبر لم نحرره أو متر؟(1011/38)
وأي لوعة مشبوبة في هذا البيت الأخير؟ ولكنها ما إن تشتكي حتى يهدهدها الأمل ويطمئنها الشباب:
شباب يغذيهم هوى، وعقيدة ... ويجمعهم هم، ويخفرهم ثأر
لنا المجد، إن نرقد عيون حماته ... فمن دم أحفاد الحماة له مهر
إذا لم نعش للرائعات من العلى ... فلا خط في سفر الحياة لنا سطر
أرى وطن الأحرار قد طال ليله. . ... غدا يشرق الصبحان: ألبعث والفجر
البقية في العدد القادم
أحمد الفخري(1011/39)
رسالة الشعر
شعب يتحرر
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
مرت على تحريرك الأيام ... وغداتمر بذكرك الأعوام
يا أيها الوطن العزير تحررت ... بالجيش فيك مواكب وزحام
كانوا على ظلم الطريق جماعة ... قد هدها الإعياء والإظلام
يتخبطون على ظلام دامس ... لم تتضح في ليله أعلام
مشت المظالم فيه وهي كثيفة ... وسرى الفساد إليه وهو قتام
واندك من صرح الفضائل حائط ... وانهد من أركانهن دعام
وجرت أمور بالبلاد عظيمة ... ومشت خطوب بالبلاد جسام
ضاقت بأحرار النفوس صدورهم ... وتحطمت بمدادها الأقلام
فالهجس حتى في الضمير محرم ... والهمس حتى بالشفاه حرام. .
وبدا الصباح على البطاح مضوئا ... فإنجاب منه عن البلاد ظلام
هي آية لله وهي رعاية ... قدسية قد حفها الإكرام
هي ثورة بيضاء لم يهرق دم ... فيها ولم تسكب بها آثام
تركت بناء البغي وهو مصدع ... دكت قواعده فليس يقام
دهمته وهو يظن أن مناله ... فوق الظنون فما له استسلام
أرخت له الأيام في طغيانه ... يا ويل من أرخت له الأيام
ظن الحوادث عنه نائمة ولم ... يعلم بأن الله ليس ينام
وبنى على الإفساد حائط ملكه ... هل للبناء على الفساد دوام؟؟
يا مطلع التحرير وجهك ضاحك ... والصبح مؤتلق به بسام
بك أنقذ الله البلاد فلم يعد ... في حكمها ظلم ولا إجرام
تمشي العدالة فيك وهي حقيقة ... ويسود فيك الحق وهو قوام
ومضى بموكبك الفساد وعهده ... وتحطمت بقيامك الأصنام
وعنت وجوه الظالمين لواحد ... تعنو الجباه له وتحنى الهام(1011/40)
الله جل جلاله متجبر ... والحاكمون بأمرهم أقزام. . .
ولى زمان الطامعين ولم يعد ... يا مصر للإقطاع فيك زمام
لا عاد عهد لم تكن تجري به ... بالعدل أرزاق ولا أقسام
قد أتخمت فيه بطون جماعة ... مصوا دماء الكادحين وناموا
رقدوا على شهواتهم وتنبهوا ... فكأن ذلك كله أحلام
أعمتهم الشهوات عن أقدارهم ... فهم الأناس وغيرهم أنعام
يا أيها النوام في غفلاتهم ... الجيش قام فأوقظ النوام
واعشوشب الأمل الجديب وأخصبت ... أرض بها قعد الطغاة وقاموا
وتفتحت آمال شعب مثلما ... يفتح النوار والأكمام
وتصححت أوضاع جيل ناهض ... جارت على آبائه الأحكام
وبدت على الوطن المريض نضارة ... من بعد ما فعلت به الأسقام
تمشي الكرامة فيه وهي عزيزة ... ويرد فيه لأهله الإكرام
يا عهد تحرير البلاد وطهرها ... منا إليك تحية وسلام
لك في الضمير مكانة مرموقة ... لك في النفوس رعاية وذمام
عهد تميزه الفعال فلم يعد ... فيه لتزويق الكلام مقام
يزدان بالتنفيذ في أفعاله ... ويشده التصميم والإقدام
قل الكلام به، وخير حكومة ... ما قل فيها بالوعود كلام
مشت الخطى فيه سراعا مثلما ... تمضي إلى غاياتهن سهام
بوركت من جيش تبارك خطوه ... وتحركت برجاله أعلام
قاموا على أعقاب ليل هادئ ... والحاكمون الظالمون نيام. .
غضبوا فضج الكون من غضب لهم ... واهتزت الأفلاك والأجرام
وتهدمت للظالمين منازل ... وتقوضت للمفسدين خيام
وجلا الصباح الكون أعظم جلوة ... وعلا النشيد كأنه أنغام
والجيش سباق إلى أهدافه ... متحرر برجاله مقدام
فيه الشباب الملهمون كأنهم ... يحدوهمو في الثورة الإلهام(1011/41)
خطواتهم يصغي الزمان لوقعها ... ويسجل التاريخ والأهرام
يا جيش مصر ويا محرر نيلها ... لك في النفوس الحب والإعظام
أنقذت مصر من الفساد فلم يعد ... فيها لدولات الفساد قيام. .
محمد عبد الغني حسن(1011/42)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
الأدب الرمزي
يزور مصر الآن السيد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية علماء الجزائر. وقد اجتمعنا به ندوة الشورى مع طائفة من الشخصيات العربية والمصرية منها السيد القضيل الورتلاتي والكولونيل عبد الله التل والسيد الوزاني الزعيم المراكشي والأستاذ الشافعي اللبان والسيد محمد علي الطاهر صاحب الشورى ودار الحديث حول ما تقوم به جمعية علماء الجزائر من نشاط في سبيل نشر العلم والثقافة بالوسائل الشعبية في الجزائر، وقال السيد الإبراهيمي إن هناك 400 مدرس هم مجندون لتثقيف الشعب، وإنهم أشبه بالعباد المتجردين في سبيل أداء هذاالواجب المقدس
ومما يذكر أن جمعية العلماء التي أنشأها السيد علي عبد الحميد أبن باديس وخلفه على قيادتها السيد الإبراهيمي بعد وفاته، هي إحدى الدعامات الضخمة القوية التي أفزعت الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا وأقضت مضجعه
فقد عملت هذه (الحركة) منذ فجر نشأتها على مقاومة البدع التي انتشرت في المغرب وأعان عليها الاستعمال، ودعت إلى العودة إلى الإسلام في متابعة الأولى؛ ووقفت للطرق الصوفية بالمرصاد على أساس أنها مصدر الشر والستار الذي يخفي خلفه الاستعمار ويتخذ منه سبيله إلى تفسير بعض الآيات القرآنية التي تدعو إلى طاعة الله ورسوله وأولي الأمر تفسيرا خاطئا
ولقد تطرق الحديث إلى (الوسائل) التي يستطيع بها رجال جمعية العلماء إعلان آرائهم دون أن يقف الاستعمار في وجههم، فقال لنا السيد البشير الإبراهيمي إن الأدب الرمزي هو الوسيلة الوحيدة لهذا وإنه قد ابتدع لونا من فنون الأدب هو (سجع الكهان). . . استطاع عن طريقه أن يفصح عن كثير من آرائه الجريئة الحرة في الكثير من المسائل والأشخاص. وكانت جريدة البصائر التي تصدر في الجزائر ميدانا لهذا اللون الجميل من الأدب
وقد روى لنا أكثر من أرجوزة من هذا السجع، صور فيها رأيه من كثير من القضايا(1011/43)
العربية والإسلامية ما كان من المستطاع الإشارة إليها عن طريق الكتابة العادية
وليس من شك أن اللغة العربية كانت خلال حياتها الطويلة ظهيرا لأصحاب الآراء الحرة في إذاعة آرائهم وتسجيلها عن طريق الأدب الرمزي في الأوقات التي كان يحال فيها بين الأحرار وبين إعلان آرائهم عن طريق الكتابة الصريحة. .
وليس قصائد اللزوميات التي أنشأها المعري، وليست رسالة الغفران والفصول والغايات جميعها إلا من هذا الأدب، وقد كان صاحبها لا يستطيع أن يقول للناس كل شيء في صراحة فكان يضمن شعره هذه المعاني ويدعها ليفهمها من يفهمها على الوجه الذي يريد
وليس كتاب البخلاء وغيره من آثار الجاحظ إلا (أدبا رمزيا) قصد به الجاحظ إلى تصوير بعض الشخصيات التي كانت تعيش في عصره، لم يكن يستطيع أن يجهر بهجائها وإعلان الخصومة لها فوجد في هذا الأدب الرمزي كثيرون من الكتاب في عصرنا الحديث في مقدمتهم الدكتور طه حسين وهو يقول في مقدمة كتابه (المعذبون في الأرض) الذي صدر أخيرا
(هذا الأدب الجديد الذي أنشأته حكومات الطغيان إنشاء حين اضطرب الكتاب إلى العدول عن الصراحة إلى فنون من التعريض والتلميح. ومن الإشارة والرمز، حتى استقل هذا الأدب بنفسه وتنافس القراء عليه تنافسا شديدا، وجعلوا يقرءون ويؤولون، ويناقش بعضهم البعض في التأويل والتحليل واستخراج المعاني الواضحة من الإشارات الغامضة. وأنظر إلى ما نشر صاحب هذا الكتاب من جنة الشوك وجنة الحيوان، ومرآة الضمير الحديث، وأحلام شهرزاد فلن ترى ألا رمزا لمظاهر كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود: فكنا نؤثر الغموض على الوضوح، والرمز والألغاز على تصريح، والإشارة والتلميح على تسمية الأشياء بأسمائها وكانت حكومات ذلك العهد ورقابتها تقرا فلا تفهم فتخلى بين الكتاب وما يكتبون، وتخلي بين القراء وما يذاع فيهم من ذلك الأدب الجديد)
اللهجات العربية
ومما دار من حديث في ندوة (الشورى) ما أثاره الأستاذ الشافعي اللبان من أنه كان خلال فترة الصيف في جينيف لا يفهم كثيرا اللهجات العربية المغربية، ومما قاله في هذا أنه(1011/44)
استمع إلى بعض أهالي المغرب وهم يتحدثون، فوجد أنه لا يستطيع أن يفهم منهم كثيرا مع أنهم يتكلمون باللغة العربية وكان يسأل في هذا السيدين الوزاني والفضيل
وقد أجاب الأستاذ الفضيل على هذا بأن في اللغة العربية كلها حوالي 150 كلمة هي التي تحول دون فهم أهالي البلاد العربية بعضهم بعضا وهي ليست كلمات عربية بالطبع، وإنما هي كلمات عامية أو لهجات
وبينما يعتبر المغربيون أنفسهم يتكلمون اللغة العربية الخالصة، لا يجد المصريون الذين هم في مثل ثقافة الأستاذ الشافعي اللبان قدرة على فهم الكثير من أحاديث أهل المغرب، ومثل هذه المشكلة تقع بالنسبة للمغربي والشامي أو بين المصري والعراقي
ومما قاله السيد الفضيل الورتلاني: أنه أحصى أثناء أقامته في بيروت حوالي 60 كلمة (لبنانية - سورية) هي الحائل بين فهم المغاربة للهجات الشوام. وكذلك في لغة المغاربة حوالي 40 كلمة؛ فلو أن كتابا وضع في بيان هذه الكلمات وشرحها والتقريب بين المتشابه منها في اللهجات المختلفة لامكن تضييق شقة هذا الخلاف اللغوي ولأصبح العراقي مفهوما في المغرب والمغربي مفهوما في مصر
محمد فريد (المؤرخ)
في الأسبوع الماضي، كان موعد ذكرى محمد فريد (قديس الوطنية المصرية) كما أطلق عليه ذلك الأستاذ عبد الرحمن الرافعي المؤرخ الكبير، وفريد خليق حقا بهذا اللقب فقد ضحى في سبيل بلاده بكل شيء وكان علما خالدا على التضحية في تاريخ مصر والشرق جميعا
. . . ولكن (محمد فريد) يدخل في هذه الصفحة أيضا من باب الأدب، فقد كان كاتبا من أعلام الكتابة والبيان، ومؤرخا غاية في القوة والتثبت والوضوح وهي أبرز علامات الكاتب الناضج والمؤرخ المنصف
حدثني أول أمس الأستاذ محمد علي الطاهر المجاهد العربي وصاحب الشورى، وقد رأيت معه كتابا ضخما يعني بتجليده، وتغليفه ويبذل في ذلك جهدا كبيرا؛ فلما سألته عنه قال هذا كتاب قرأته في خلال ثلاثين عاما، مرتين. . وأنا أقراه اليوم للمرة الثالثة
قرأته سنة 1922 في طبعته الأولى وسنة 1935 في طبعته الثانية وأنا اليوم إقراء طبعته(1011/45)
الثالثة، إنه كتاب الدولة العثمانية الذي آلفه قديس الوطنية المصرية محمد فريد وهو من أوفى الكتب التاريخية في هذا الباب
وذهب الأستاذ الطاهر يصور الكتاب ومؤلفه في صورة رائعة حية، تدل على مدى تقديره لهما
وإذا ذهبنا اليوم نسأل عن محمد فريد في محيط الحياة المصرية لم نجد له اثر! فها هي ذكراه تمر، لم يكتب فيها ألا فصل واحد في جريدة اللواء الجديد
وإذا أخذنا ننظر إلى مجموعة التماثيل المنثورة في أنحاء القاهرة لم نجد بينها مع الأسف تمثالا لهذا الزعيم الوطني، بينما نجد تماثيل لآخرين كانوا ولا شك أقل منه وطنية وبطولة وتضحية
وإنا لنرجو في هذا العهد الجديد أن يتاح لهؤلاء الأبطال أن يستردوا ما فقدوه خلال عهود الظلم القديمة. . . من مكانة هم جديرون بها وخليقون أن يوضعوا فيها بعد أن اعتدلت الموازين
أنور الجندي(1011/46)
البريد الأدبي
ضيف كريم
يزور القاهرة اليوم الكاتب العالم الخطيب شيخ علماء الجزائر ورئيس تحرير البصائر الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي وهو في طريقه إلى أقطار الشرق الإسلامي ليلقى رجاله ويدرس أحواله. وقد تفضل الأستاذ فزار إدارة الرسالة فانسنا بلقائه ونعمنا بحديثه والرجل أحد الآحاد الباقين الذي يكتبون لغتهم بأسلوب رصين، ويبرزون فكرتهم في صورة أنيقة، وهو عميد جمعية العلماء الجزائريين وطريقتهم إلى الإصلاح والجهاد بما أوتي من صدق أيمان وقوة بيان ووفرة علم. ولولا هذه الجمعية لفتنت الجزائر عن دينها ولغتها ووطنها، فهي في جانب والاستعمار في جانب، والجانبان يتنازعان الأمة الجزائرية كل إلى جهته. وليس بين المتنازعين تكافؤ في المادة والوسيلة. فإذاقبضنا أيدينا عن مؤازرة هذه الجمعية ساعدنا المستعمرين على أن ينصّروا المسلمين ويبربروا العرب. ولعل الأستاذ الفاضل يكتب كلمة عن هذه الجمعية في الرسالة؛ فإن أكثر الناس عنها شيئا
إلى الأستاذ رئيس التحرير
قرأت في نشوة (نصيب قريتي من الثورة) وكنت من قبل قد قرت في وحي الرسالة نصيبكم من الإصلاح، ففي (وصف مآسي قريتكم من القرى، وأمتكم من الناس، وصفا مداده الدمع وكلماته الأنين) وإن فيما حفزتم به المستنم على اليقظة، والتوكل على العمل، والجازع على الصبر، والقلق على الاطمئنان، أن في كل ذلك وفي غير ذلك من آثار قلمكم - لخيوطا من سدى الثورة ولحمتها
ولئن لم ترى العين اليوم من الثورة غير جملتها فإن نسيجها كان بأيد مختلفة قدر لها أن تأتلف، وفي المأمول أن لا تعود فتختلف، ومن ثم كانت ثورة الجيش ثورة الأمة وكان لكل ذي نفس حساسة فيها نصيب
ولئن كنا في البداية من ثورة، نصيبكم فيها المساهمة في إعزاز الذليل وسيادة الرقيق وتمليك الأجير، فأحر بكم أن تدأبوا
- وقد حثثتكم على الدأب - ولا تحرموا الرسالة في بعض أسابيعها من بسمات في مكان سوابق الدمع. وضحكات في موضع سوالف الأنين(1011/47)
لقد كان لانقطاعكم أحيانا عن الكتابة عذره العاذر فليس بالمغري وصف المفاسد والمخازي، وليس بالمشجع أيقاظ النيام. ولقد وعدتم مع بداية النهضة بتجديد الرسالة في الشكل والموضوع والتحرير والحجم لتساير العهد الجديد الذي بدأته مصر في الثقافة والحضارة، كما عدتم بعودة الرواية أقوى مما كانت عليه - جمال أسلوب - وحسن اختيار - فهل ينطوي تحت هذا الوعد استمراركم على موالاتها بما ينتظره القارئ منكم. وما يرجوه لكم من صحة وعافية
وبعد فلغيركم يقال
علام أقول السيف يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أنزل إذا الحرب شبت
أما انتم فقد شبت الحرب وأنتم في ميدانها صائلين جائلين معقودا لكم لواء من ألويتها
وما انتهت بعد المعارك ومعاذ الله أن نرى ولو في خلال أسبوع من بين أسابيع من ينجو برأس طمرة ولجام - ولو أن رأسه رميت بأشقر مزيد)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإسكندرية
أحمد عوض
(الرسالة) اشكر للسيد الفاضل جميل رأيه وحسن توجيهه، وأدعو الله على أن يعينني على تنفيذ ما أراد، وتحقيق ما أمل
ضبة - جبة
علق كاتب حذر - في العدد 1007 الصادر في 30 محرم سنة 1372 من مجلة (الرسالة) النيرة على علمين من أعلام الأمكنة في بلاد العرب وردا في مقالي عن كتاب (معجم ما استعجم) يطلق أحدهما على بلدة واقعة في شمال الحجاز على بحر (القلزم) باسم (البحر الأحمر) والثاني منهل من أعرف مناهل نجد بين بلدتي حائل والجوف (دومة الجندل) في الرمل المعروف قديما برمل (عالج). فقال ذلك الكاتب الذي لم يشأ ذكر اسمه الصحيح
1 - (ضبطت قرية (ظبا) بالظاء والصواب - كما أعتقد - أن يكتب الاسم الضاد (ضبا) لا بالظاء)(1011/48)
وأقول الصواب أن تكتب بصيغة ثالثة مخالفة للصيغتين المذكورتين - هي (ضبة) بضاد فباء فهاء، قال ياقوت الحموي في معجم البلدان ج 5 ص 424 الطبعة المصرية: ضبة بلفظ واحد الضباب أما الحيوان وإما الضباب - اسم أرض وقيل قرية بتهامة على ساحل البحر مما يلي الشام وبحذائها قرية يقال لها (بدا) وهي قرية يعقوب النبي عليه السلام بها نهر جار بينهما سبعون ميلا ومنها سار يعقوب إلى أبنه يوسف عليه السلام بمصر - انتهى كلام الحموي، وضبة القرية هي المقصود وكل الأوصاف التي ذكرها الحموي تنطبق عليها فهي - 1 - قرية بتهامة على ساحل البحر مما يلي الشام - 2 - و (بدا) بفتح الباء والدال المخففة (وقد ضبطت في تاريخ الإسلام السياسي الدكتور حسن إبراهيم حسن ص33 ج 1 بتشديد الدال خطأ) لا تزال معروفة باسمها هذا بقرب ضبة وبقربها أيضا (شغب) قرية المحدث المعروف محمد أبن مسلم أبن شهاب الزهري - أول من دون الحديث النبوي - وفيهما يقول كثير الشاعر:
وأنت التي حببت (شغبا) إلى (بدا) ... إلي وأوطان بلاد سواهما
حللت بهذا حلة بعد حلة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما
وفي الواديين مياه كثيرة وزروع. وقد كنت أثناء إقامتي في (ضبة) أسمع أهلها ينطقونها بالظاء لا بالضاد ويقولون أن اسمها القديم وأدى الظباء فكتبت في مجلة (المنهل) أصوب كتابة الاسم بالظاء بدل الضاد وكتبتها في كلمتي عن معجم البكري بها - ولكنني بعد أن اطلعت على كلام الحموي ظهر لي خطآن اثنان - بل ثلاثة - أحدها ما ذهبت إليه من كتابتها بالظاء وثانيها: كتابتها بالألف بدل الهاء، وثالثها: ضبط ياقوت لها بالتشديد كما يفهم من كلامه - والصواب في رأيي التخفيف مع ضم الضاد (ضبة) وكذا ينطقها أهل نجد إلا أنهم يسكنون الحرف الأول كعادتهم في كثير من أوائل حروف الأسماء
2 - وحاول الكاتب أن يخطئ استعمال كلمة (جبة) اسم المنهل المذكور - لعلتين أبداهما - 1 - سماعه من قبيلة الشرارات كلمة (الجوبة) - 2 - حكمه بعدم جواز أن تكون مؤنث (الجب). وفات حضرة المصحح المخطئ أن قبيلة الشرارات لا تسكن تلك الناحية وأنها تقصد بكلمة الجوبة - هي وغيرها من قبائل العرب - الأرض المنخفضة الواسعة أيا كانت، وفاته أيضا - الرجوع إلى معاجم اللغة والأمكنة - ولو رجع إليها لوجد اسم (جبة)(1011/49)
يطلق على هذا المنهل وعلى عدة مواضع في العراق وفي الشام وغيرهما (أنظر هذه المادة في القاموس المحيط وهو من أسهل القواميس تناولا أتكثرها تداولا - مثلا) وإما الحكم بعدم جواز تأنيث (الجب) فأمر خارج عن موضوعنا - وهو - في حد ذاته - لم يصادف المحل ولم يستوف الشروط فصار باطلا - كما يقول السادة الفقهاء. وبعد فالرسالة الزاهرة يد بيضاء لما تنشره من كتابات لا تخلو من فائدة ولحضرات القراء تحية طيبة
حمد الجاسر
حول البوصيري
مجلة (الرسالة) هي مجلة العرب جمعاء - يجد كل باحث ومحقق عالم وأديب ميدانا واسعا لنشر ما يمتع ويفيد القراء وإذن فليأذن لنا الأستاذ الكبير الزيات بأن نعلق على ما جاء في العدد 1007 منها حول البوصيري بهذه الكلمة المجملة التي لا نريد بها إلا بيان الحق المجرد من كل غرض
قال القاضي الفاضل السيد علي الطنطاوي كلمة الحق حينما قال أن شرك المشركين الأولين أقل من شرك بعض المسلمين المتأخرين - لأن أولئك يدعون الله في الشدة - وهؤلاء يدعون غيره فيها؛ والدعاء من أنواع العبادة التي خلق الله الخلق ليصرفوها خاصة له (وما خلقت الجن والأنس آلا ليعبدون). ولكن الحق لا يرضي كل أحد فالأستاذ عبد السلام النجار يرى أن قول البوصيري
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العم
جائز ولا يتناقض مع شيء من أمور الدين بدليل حديث الشفاعة - وللأستاذ المحترم أن يعتقد ما شاء ولكن ليس له أن يرمي طائفة من المسلمين بما هم منه براء! فهو يقول (إن الطنطاوي تابع في تكفير البوصيري محمد بن عبد الوهاب أمام حنابلة نجد) فالأمام المجدد ابن عبد الوهاب - رحمه الله - وحنابلة آهل نجد بل كل المسلمين - لا يكفرون إلا من اتصف بالكفر - ولم يثبت عن واحد منهم تكفير البوصيري. وغاية ما يقولون ويعتقدون هو:
(1) أن البوصيري دعا الرسول والرسول ميت، ودعاء الأموات شرك (ولا تدع من دون(1011/50)
الله ما لا ينفعك ولا يضرك)
(2) لا ينكر أحد من المسلمين شفاعة الرسول (ص) تلك الشفاعة التي أوضحها الله سبحانه وتعالى في القران الكريم وبينها الرسول (ص) (من ذا الذي يشفع عنده ألا بأذنه؟) (ولا يشفعون ألا لمن ارتضى). وقال (ص) مجيبا لسائل سأله من أحق الناس بشفاعتك؟ فقال من قال لا اله آلا الله خالصا من قلبه. . فالآذن والرضا من الله وإخلاص العبادة له لا بد منها في الشفاعة
(3) تكفير المعين لا يجوز إلا من أن ارتكب شيئا من المكفرات وأصر على ارتكابها بعد إيضاح الحق له ومات على ذلك، وكل مسلم يبرأ إلى الله من إن يصف البوصيري بهذا الوصف - إذ لا يمكن الجزم بخاتمته. وليكن حسن الختام كلمتنا هذه تحية - من ربي نجد مضخمة بأريج شيحة وعراره للأستاذين الجليلين الطنطاوي والنجار - وشكرا عطرا للقائمين على هذه المجلة الغراء
عبد الرحمن بن رويشد(1011/51)
القصص
مجنون
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
أبي مس من جنون؟ أم أن ما بي فيض من غيرة فحسب؟ لست أدري من أمر ما بي شيئا، ولكنني أكابد مر العذاب، ومض الألم. لقد أجرمت يداي أثم طيش، طيش أهوج مجنون، إن هذا لحق. ولكن ألا تكفي هذه الغيرة الرابية المبهورة، وذلك الحب الثائر الخائن الملعون، وهذا الألم الباهظ الممقوت - ألا يكفي كل هذا لأن نأتي إثما من الأمر وسخفا دون أن ينزع منا إلى هذا السخف أو ذاك الإثم عقل أو فؤاد؟ أواه أنى لآسي وآلم. . . من عذاب دائم حاد مفرط. لقد أحببت تلك المرأة حبا سليطا طاغيا. لكن أكان حبها حقا؟ أعلقتها؟ كلا ثم كلا! لقد ملكت علي حسي، وحالت بيني وبين نفسي. . أسرت وصرعت، فكنت في يدها - وما أزال - دمية. كنت ملك النظرة الخاطفة، واللحظ الرهيف؛ أسير الغلالة والقد الدقيق؛ عبد التبسم والشفاه. . . وكنت الهث إذا ما تسلط علي هيكلها وتأمر. . . ولكنها هي، صاحبة كل هذا، وكائنة هذا الجسد، امقتها أحقرها والعنها. فقد كانت كديره غادرة، وكانت دنسة ماكرة، وكانت محط الفساد ومهبط السوء، إنها لحيوان فاسد مثير تخلى عن الروح فتخلت عنه ولم تعد بعد فيه؛ ولم يعد يسير عقله كما يسير نسيم منعش متطلق. إنها البهيم الآدمي، بل هي أحط من هذا واقذر. أنها ردغة مستوحلة. هي آية من آيات الجمال البض الغريض سكنت دار الخزي والعار
كان اتصالنا في أول الأمر غريبا جميلا. وكان يقتلني - بين ذراعيها المفتوحتين أبدا - جنون الرغبة الملحة العاتية. وعيناها كانتا تفغران فمي كأنما ألهب حلقي العطش. كانتا سنجابيتين حين الظهيرة، ومشوبتين بخضرة وقت دلوك الشمس، وكانتا زرقاوين أبان الشروق. ليس بي مس من جنون، فإني لأقسم أن كان لعينيها هاته الألوان الثلاثة. فهم في أحايين الحب زرقاوان ثاقبتان، يتوسطها إنسانان كبيران مضطربان، وشفتاها تقلصهما رعدة محمومة، فلربما انفجرتا عن طرف لسان ريق احمر يتحرك كلسان الافعوان، وجفناها الغضيضان الناعسان تشرعهما في وناء وهينة، فتكشف عن نظرة مضطرمة وآرية، كانت تزيدني جنونا. وكنت احتدم غيظا إذا ما رأيت نظرتها هذه لدى العناق،(1011/52)
وارتجف حنقا ورغبة أن اقتل هذا الحيوان الذي تلحف الضرورة في بقائه
وكان فرعي يهتز لوقع خطاها وهي تتخطر في حجرتي؛ وكان قلبي يثب لحفيف ثوبها إذ تأخذ في خلع ثيابها فتدع ثوبها يقع. وتخرج منه عارية مخجلة، وكنت أحس من ريح غلالتها الملاصقة انحلالا رخيا يسري في أعضائي وأطرافي جميعا. . .
وشعرت بأنها ملتني فجاءة واجتوتني. إذ رأيت ذلك في عينيها يوما حين أصبحنا، فقد كان من دأبي أن أحنو عليها كل صباح ارقب نظراتها الأولى. . . وكنت انتظر - وصدري يدور به الخنق ويحرجه الكره والاحتقار معا - انتظر مترقبا نظرات ذلك البهيم النائم الذي يهيمن علي فأنا له عبد ذليل، ولكن ما تكاد تبدو لعيني حدقتاها الشاحبتان كليلتين سقيمتين إثر الأحضان الأخير، حتى تتقد حواسي ويضطرم كياني فكأنما نار تلهبني فتستنزف كل عزمي وقواي. لكنها حين ذلك اليوم طالعتني بنظرة مختلفة حزينة بائسة لا ترجو من العالم شيئا
آه! حقا رأيت ذلك وعلمته، ولقد شعرت به للتو وفهمته، إذ انتهى كل شيء؛ انتهى كل ما ترجو إلى الأبد، وعندي على ذلك الدليل يقوم في كل ساعة وأخرى؟
فإذاما عانقتها صدفت قائلة (هلا تركتني أذن؟) أو قبلتها فتقول (إنك لبغيض) أو تقول (أفلن اجلس حينا وادعة؟!)
حين ذلك غرت، ولكن كما يغير الكلاب. . . أثارت ما أثارت من ارتياب وكتمان وحيلة. علمت حقا أنها ما عزفت عني ألا لتفسح مجالا لآخر تذكي عواطفه وتلهب حواسه. .
غرت غيرة هادرة طائشة مجنونة، ولكني لم اكن مجنونا كلا! حقيقة كلا! وانتظرت، أه! ثم حنوت عليها ولم يخب ظني ولم تخدعني عيناها إذ ظلتا باردتين مثقلتين، وقد تقول حينذاك: (إن الرجال لتوذيني وتسئمني) وكان ذلك حقا غدوت حينئذ غيورا منها نفسها، ومن عزوفها ونفورها؛ غيورا من فراغ لياليها ووحدتها؛ غيورا من حركاتها وإشاراتها ومن عقلها الذي استشعر دائما عاره؛ وغيورا من كل ما آتوهم وأحدس ورى. وقد تلقاني صبح ليلة من ليالينا المضطرمة، بنظرة رضية ناعمة، كأنما خالطت روحها شهوة فحركت من رغباته. . . حينئذ يحتدم قلبي حنقا فتختنق أنفاسي في صدري المتحرج، وتصرخ رغبة في نفسي أن أخنقها، وأهشم عظمها تحت ركبتي، وأنشب في جيدها أظفاري، حتى(1011/53)
تقر بمخازيها المخلة وتفضح أسرار فؤادها المرذول
أبي مس من الجنون؟
- كلا!
فهاأنذاقد انتعشت في إحدى الليالي وانتشيت واستشعرت إحساسا جديدا يخالطها، وكنت واثقا من هذا تمام الثقة؛ فقد كانت تتمم كما تفعل بعد العناق عادة، ونظراتها توقدت واضطرمت وذراعاها قد شاع فيها الدفء والحميا، واضطرب كيانها اجمع إذ تتحكم فيه الرغبة الثائرة الجموح. وضاعت منه البصيرة
وتغابيت، ولكن أحاط بها انتباهي كالشرك، ومع ذلك فما كشف لي منها عن شيء
وتريثت أسبوعا، فشهرا، ففصلا. والآن رأيت جهومتها قد زالت وتدفقت فيها حميا مبهمة، ثم استراحت إلى حياة قوامهم عناق، وعمدتها قبل
وفي لحظة وامضة أدركت! فما بي مس من جنون! وإني لأقسم أن ليس بي مس من جنون!
كيف أقص ذاك عليك! كيف فهمت؟ كيف أبين لك الشيء المبهم الممقوت؟!
إليك ما نبهني إلى كل شيء: في تلك الليلة التي حدثتك عنها كانت عائدة من نزهة على صهوة جواد فسقطت عنه. وقد جلست ليلتئذ أمامي في مقعد وثير متوردة الوجنتين، مخمشة العينين مرضوضة الساقين، صدرها يعلو ويهبط مثل أمواج المحيط. لقد أدركت كل شيء حين رايتها. إنها تحب! ولم استطع أن أخادع نفسي!
حينذاك فقدت شعوري وكرهت أن أنظر إليها. فتحولت إلى النافذة وهناك بصرت بخادم يقود جواد من عنانه يشب ويثب. . . أما هي فقد نظرت الجواد الفتي الشابي واتبعته بصرها حتى غاب فاستلقت وغفت. . .
وطفقت ابحث طول الليل في ذلك. وخيل إلى آني أوغل في غموض ما كنت أتوقعه من قبل. ومن زعم أنه عجم عود النساء الأعوج، وسبر رغباتهن المتضاربة؟ ومن ادعى أنه فهم تقلباتهن الغادرة ورغباتهن السافلة؟
كانت تخرج صباح كل يوم على صهوة جواد إلى الغاب والسهول، ثم تعود لاغبة مكدودة في كل مرة، كما تفعل عادة بعد أن تسكت عنها نوبة من الحب الطائش. الآن قد فهمت(1011/54)
فغدوت غيورا من الجواد النهد الكريم، واجداً على النسيم العاشق إذ يحتضنها بينما تنطلق في شوط سريع أهوج؛ وغدوت حاقدا على أوراق الشجر إذ تقبل أذنيها عرضا، حاسد لأشعة الشمس إذ تلثم جبينها من بين الغضون، ولذلك السرج إذ يحملها ويلمس فخذيها البضتين
كان هذا كل ما يسرها ويغويها، ويطلق أسارير محياها ويغريها، وكان هذا كل ما يكدها ويضنيها، فتلقاني متعبة لاغبة إلى حد الإغماء. .
وأزمعت الانتقام لنفسي. وكنت أتلطف معها في الخطاب متلطفا مدللا، وكنت أمد إليها يدي لتعتمد عليهما حين تقفز عن صهوة الجواد بعد أشواطها الهوجاء المضنية. وكان الجواد يرمقني ثم يفحص الأرض صبوة وفتوة. وكانت تدلله وتربت على كتفيه، أو تحتضن أنفه اللاهث. ولا تنسى أن تمسح على رأسه وأصداغ فمه المزبد. وكان ريحها العطر يضوع من جسد تصيب منه عرق اعرف أريجه وسط الليل. وكان هذا العطر يختلف في أنفي بريح الجواد الأصهب
وطفقت أتحين الفرص أتربص الدوائر. لقد كانت تسير كل صباح في إحراج من السدر توغل في الغاب. . ففي يوم غدوت مع الفجر، وفي يدي حبل متين الفتل، وفي صدارى مسدسان محشوان كأني ذاهب إلى مباراة
وعدوت نحو الطريق التي تحب، وربطت الحبل في جذعي شجرتين متقابلتين، ثم تعقبتها في الإحراج
وكثيرا ما خبرت الأرض بسمعي. والآن سمعت وقعا رتيبا من بعيد. وبصرت بشيء من الأغصان يسبح في الهواء سبحاء اه!. . . لم أخدع فقد كان هو الجواد فقد كان النهد الأصيل. وإما هي فقد كانت نشوى من فرط السعادة محمرة الوجنتين. وتبدلت نظرات عينيها فهي الآن طروب لعوب، وتطلقت أعصابها من الهم واستراحت إلى تلك القسوة المنعزلة
ولما أن كبا الحصان بمقدمه تهشمت عظامه، وطرح بفتاتي بعيدا فلقفتها بين ذراعي القويتين حينذاك على حمل ثور سمين. وبعد أن وضعتها على الأرض في هينة ورفق دنوت منه (هو) وقد كان يحملق فينا حينذاك ويحاول أن ينهشني، فأطلقت عليهالرصاص(1011/55)
في الأذن فخر صريعا يشحط في دمائه الثرة وقتلته. . .
كما يقتل الغريم!
ولكني أنا نفسي سقطت على الأرض ووجهي قد أدمته جلدتا سوط كان في يدها. ولما أن تأهبت لأن تلهبني بالثالثة أفرغت في جوفها الرصاصة الأخرى. .
فخبرني بربك أكان ما بي مس جنون؟!
س. م(1011/56)
العدد 1012 - بتاريخ: 24 - 11 - 1952(/)
الإسلام في موكب الإصلاح
دولة الألقاب
للأستاذ محمد عبد الله السمان
كانت الألقاب الملغاة دولة داخل مصر، لها سلطانها وصولجانها، ولها جلالها ونفوذها، ولها كلمتها المسموعة، وارتدادها التي لا ترد، ولكنها كنت دولة هزيلة لم يقم العقلاء لها وزن، ولم يلق الحكماء لها بالاً.
وكان الملك العربيد - الذي الغي لقبه من الوجود قبل أن تلغى دولة الألقاب - يجعل منها دمية يلهو بها، ويشغل بها الطبقة المترفة من هواة الألقاب الجوفاء، وغواة المظاهر الكاذبة، وأشيع الفوضى والعربدة، ليتخذ الجميع منها ستاراً يحجب مخازيهم، وحصانة تدفع عنهم سيف العدالة وسلطان القانون، ومطية للاستغلال الممقوت على حساب الشعب المكدود. وكان لهذه الدولة الهزلية سماسرة يعرضونها في الأسواق، ويساومون عليها طلاب الغرور وعشاقه من أثرياء الحرب المفتونين، وأرباب العصبيات الفاجرة، وغيرهم ممن يجيدون استغلال الألقاب، وتكييف سلطانها ونفوذها.
لقد لبثت دولة الألقاب في مصر عمراً طويلاً، دعمت خلاله صرح الفروق بي الشعب واحد، تقله ارض واحدة، وتظله سماء واحدة. وثبتت دعائم الطبقات في وطن واحد، لا ينتسب إليه زائف، ولا ينتمي إليه دخيل؛ وبذرة بذور الفوضى بين أرجاء الكنانة حتى أثمرت الأحقاد في الأفئدة، والعداوة في النفوس، والبغضاء في الصدور، وبثت جراثيم الهمجية حتى أنتجت الجرائم في شتى صورها، والشرور في مختلف ألوانها.
ولقد جاء إلغاء دولة الألقاب في مصر خطوة صلاحية لها قدرها. واعتقد أنها ليست بأقل قدراً من خطوة تحديد الملكية فإذا كان تحديد الملكية خطوة مادية في سبيل توازن الطبقات، فان إلغاء الألقاب خطوة أدبية في سبيل المساواة الأدبية، التي لا غنى عنه لشعب يبغي حياة أدبية كريمة، واعتقد أن تفاوت الطبقات المادي لم يكن إلا ثمرة من ثمرات دولة الألقاب، ففي ظلها أستغل أشياعها مورد البلد وخيراته، وسخروا الدولة بأسرها لحسابها، حتى تكدس الثراء لديهم تكدساً أتخمت منه خزانتهم فعمدوا إلى الأرض يبتاعونه بأفحش الأثمان وأبهظ الأسعار، حتى أوشكت جميعها أن تكون ملكاً لعصاباتهم، فيتحكمون في(1012/1)
أرزاق الشعب وأقواته لولا أن الله سلم.
ولسنا في حجة إلى أن نقول: إن هذه الخطوة لمباركة، خطوة إصلاحية محضة يرحب بها الإسلام لأنها اصل من أصوله، وهل يوجد من ينكر على الإسلام أنه لم يقم بناءه إلا على دعامة المساواة المطلقة؛ وأنت حين تتدبر أول آية نزلت من كتاب الله تجدها لم تهمل قاعدة المساواة، ففيها وضح أن الناس جميعا متساوون، إذ انهم خلقوا جميعاً من مادة واحدة: (أقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. .) ونزلت بعد هذه الآية آيات لا حصر لها، مؤكدة هذه القاعدة، وذلك حين تشير إلى أن الناس جميعا مخلوقون من نفس واحدة، أو من ذكر وأنثى وما إلى ذلك: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة. .) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى).
والإسلام الذي أقام بناءه على قاعدة المساواة لا يمكن أن يقر هذا الألقاب، أو يتعرف به كمقياس لتقدير ذويها، ودليل على استحقاقهم للتقدير، لأن للإسلام مقياساً وحداً لإخلاص المخلص، وإنتاج المنتج، ومثابرة المثابر، واجتهد المجتهد، وهو: (إن أكرمكم عد الله اتقاكم. .).
ولا يمكن أن يقر الإسلام هذه الألقاب، وهي التي تميز بعضها من الناس على البعض لآخر، وتملأ أنوف أصحابها تكبراً وغروراً وصلفاً، بل إن الإسلام، وقاعدته السماوات المطلقة بي الناس جميعا، لم يشاء أن يلقب بين إنساناً - كائناً من كان - بأي للقب يميزه على غيره، وقد يقول قائل: لقد كانت هناك ألقاباً مثل: أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، والأمير، ونحن نقول له: إن هذه ليست ألقابا بالمعنى الذي نراه، إذ أنها ألقاب عائدة على المناصب أصحابها لا على أشخاصهم، كما نسمي رئيس الوزارة، والوزير، والمدير، والمأمون ومن إليهم، وهذه ليست بالألقاب التي نرمي إليها.
إن الله تعالى اختار رسله من خير البشر، ليقوموا بمهمات شاقة مضنية وهي الرسالات، ومع هذا فلم يمنحوا لقباً واحداً يميزهم على سائر البشر، اللهم إلا الأسماء التي تشير إلى مناصبهم كرسل أو أنبياء، ولقد أفاض القران الكريم بذكر أسماء الرسل مجردة من الألقاب، لتأكيد قاعدة الإسلام التي قام عليها وهي المساواة: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. . - محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفر رحماء بينهم. . - ما كان(1012/2)
محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين. . - قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك. . - وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وما تلك بيمينك يا موسى؟ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض. . - يا زكريا إنا بشرك بغلام اسمه يحيى. . - يا يحيى خذ الكتاب بقوة. . - إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك. .).
والرسول (ص) عنى كل العناية بهذه القاعدة - قاعدة المساواة - فطالما صاح في آذان صناديد قريش، منبت العصبية الجامحة والعنجهية الكاذبة، والغرور الممقوت: (كلكم لآدم وآدم من تراب - الناس سواسية كأسنان المشط).
بل لقد كان رسول الله (ص) يكافح الغرور في النفوس فكرة أن الإنسان اسم يهب له الغرور والكبرياء، حتى لا يهوى من غير أن يشعر، قال أبو هريرة حديث رواه البخاري: إن زينب كان اسمها برة فقيل تزكي نفسها فسماها رسول لله صلى الله عليه وسلم (زينب) وقد روى البخاري أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك وبعد - فلقد جاء إلغاء الألقاب خطوة موفقة في سبيل الإصلاح الاجتماعي الذي لله خطره وله قدره، فحطمت الفوارق ومحت دولة الطبقات، وأذكت في النفوس الشعب نخوة الاعتزاز بقدره، وبقى أن تتم الخطوة بالإتيان على فلول دولة الألقاب من الإمارات والبالة والسمو، فهي أولى بالإلغاء من الباشوية والبكوية وما إليهما، واجدر بأن تمحو لا ثر بعده فقد كانت أسس الفساد، وأصل الشقاء، في بلد أحسن إليها فقابلت إحسانه بالإساءة، وفضله بالنكران!
محمد عبد الله السحاق(1012/3)
علي هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
للدكتور عمر حليق
جوهر السلوك الاقتصادي في أمريكا
عندما ألمت بالعالم أزمة سنة 1929 وما بعد، وعانى العالم من شرها ما عانى، كانت نفسية الشعب الأمريكي ودوافعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية غير مهيأة لقبول هذه الصدمة العنيفة. وكتب الأدب والاجتماعوإحصاءات الاقتصاد وصحف التاريخ مليئة بأوصاف الهزة العنيفة التي أصابت المجتمع الأمريكي من جراء هذه الأزمة العالمية الخانقة.
وهيأت الأقدار للولايات المتحدة الأمريكية - رجلان: زجل يفكر وآخر ينفذ، وانطوى تحت لوائها المتطوعون من الاقتصاديين ورجال الأعمال والكتاب والمثقفون والجهلة - والمجتمع الأمريكي بأسره. ورغم أن أزمة سنة 1929 وما بعد زعزعت كيان الاقتصادي الأمريكي زعزعة عنيفة؛ إلا أنها لم تقوضه، يولي الكثير من المراقبين تلك الفترة والمعقبين عليها الفضل للمستر فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وللبروفيسور جون مينارد كينز الاقتصادي البريطاني الذي استوحى روزفلت من نظرياته الاقتصادية برنامج (العهد الجديد) الذي طبقه روزفلت على الاقتصاد الأمريكي القومي في سنوات 1929 - 1940 والذي هو اليوم الدستور السياسة الاقتصادية للشعب وللحكومة لأمريكية والمجال هنا لا يسمح بالانزلاق إلى بحث النظريات الاقتصادية، ولكن وصفا قصيرا لعقلية (كينز) تلقي ضوءاً نافعاً على فلسفته الاقتصادية وعلى جوهر السلوك لاقتصادي للحكومة وللاقتصاد القومي في الولايات المتحدة الأمريكية.
قال مترجم حديث لهذا الاقتصادي الشهير (إن كينز لا يرى الأمور في حالها الراهنة، وكان همه أن يثبت الفكرة التي يحملها لتخدم هذه الحالة الراهنة ولا يجد ضراً في أن ينفى ما أثبته في حالة سابقة أو أن ينشط غداً لينفى ما أثبته اليوم. وكان يستجمع الجهد والنشاط والمنطق والدهاء والحصافة ليثبت فكرته عن الحالة الراهنة، وأن يعتبر الماضي والمستقبل تواقة لا قيمة لها، ومن ثم فإن أفكاره عن الحقائق والأوضاع كانت وليدة الساعة وعلى ذلك فإنها - أي الأفكار - في تطور مستمر لا يتقيد بالأمس ولا يعبأ بالمستقبل(1012/4)
البعيد.
ويخيل إلى هذا الوصف لشخصية البر فسور كينز البريطاني وصف واقعي مطبق للعقلية الأمريكية في نشاطها الاقتصادي والسياسي وكذلك. فلا غرابة أن تتصل أسباب التلمذة العقلية والتعاون العلمي بين رئيس الجمهورية الولايات المتحدة فراكلين روزفلت وبين هذا العالم (الاقتصادي البريطاني).
شغل كينز في أعقاب الحرب العالمية الأولى بمعالجة المشاكل الاقتصادية الناتجة عن هزيمة ألمانيا القيصرية، وطال تفكيره وتدريسه لفنون الاقتصادي النظري والتطبيقي، وخرج بنتيجة مستحدثة فحواها أن شر المساوئ الاقتصادية هو في خط النظام النقي المعمول به في العالم المتمدن؛ أو على الأقل في الدول التجارية والصناعية الكبرى صاحبة القول الفصل في تسيار الاقتصاد العالمي.
كان ذلك في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة وبريطانيا موطن كينز تعاني أزمة بطالة وضائقة اقتصادية لعينة. ووجد كينز أن تقيد النقد المتبادل، أي الجنيه الإسترليني في بريطانيا وأنواع العملة الأخرى في بقية أقطار العالم - تقيد النقد بأسعار الذهب شيء يخنق التجارة الدولية ويزيد من ضائقة العالم الاقتصادي.
لم يقل كينز بالقضاء على معدن الذهب كأساس للنقد الرصين، بل انه دعا إلى تحرير النقد من استعباد معدن الذهب وجعل الذهب ملكا دستوريا للعملة الصعبة - كملك بريطانيا سلطته صورية اكثر منها فعلية.
وقال (كينز) إن الذهب معدن واحد من المعدن الثمينة وصنف واحد من أصناف الإنتاج الثمين؛ فهنالك مواد اثمن منه في خدمة الناس والتجارة الدولية، وإن من الجنون أن نربط أسعار كل شيء بسعر معدن الذهب - وهو معدن إنتاجه محدود والحصول عيه صعب شاق، وإن من غير الأنصاف أن نقيد النشاط الاقتصادي لشعب ماله إمكانيات واسعة في كثير من المواد الصالحة والإنتاج النافع لمجرد أن هذا الشعب لا يملك حصة وافية من معدن الذهب، فهذا التقيد مسؤول عن انتشار البطالة وانقطاع رزق الناس وتفشي الفوضى الاقتصادية بين الشعوب التي لا يتوفر لها معدن لذهب؛ بينما يتوفر لها إنتاج اقتصادي قيمته الفعلية تعادل قيمة الذهب إن لم تفقه.(1012/5)
وبمثل هذا المنطق نشر (كينز) هجومه على معدن الذهب كأساس للنقد الثابت الرصين، متهماً إياه بأنه (من مخلفات العهود الإقطاعية المتوحشة) ودهش الناس لآراء هذا العالم الشهير! وكانوا بين شاك في اتزانه العقلي وبين ومنتظر لميلاد فلسفة عملية جديدة للسياسة النقدية.
ثم سرعان ما نشر كينز في سنة 1930 تفاصيل مشروعه لاستبدال معدن الذهب بشيء آخر يصون النقد ويثبته على أساس محترم مضمون، وشرح هذه الفكرة الجديدة في (بحث عن المال) في أهم الكتب في علم الاقتصاد الحديث.
وفي نهاية استعراض دقيق ممتع عن النقد والشؤون المالية - والحديث عن المال ممتع في جميع المناسبات - اقترح (كينز) إنشاء سلطة نقدية دولية تتحكم في تقدير أسعار الذهب بحيث لا يصبح هذا المعدن الأصفر متحكماً في رقاب النقد المحلي لكل دولة ولكل شعب، واقترح صاحبنا أن تقوم هذا السلطة الدولية التي تضم جميع الدول الراغبة في الانضمام بتنسيق أسعار العملة لكل دولة، وتحديد أسعار المواد الأولية وما إلى ذلك من اوجه الشؤون المالية التي يهم بها أهل الاختصاص.
وأشار كينز كذلك أن يكون من ابرز (أهداف سلطة النقد الدولية) بعد تنسيق أسعار النقد في كل دولة تشجيع استثمار الأموال الحكومية والخاصة في داخل البلد وفي البلدان الخارجية ضمن ترتيبات وإجراءات معينة تحددها سلطة النقد الدولية هذه بالتشاور مع الدول والهيئات المعنية بالأمر.
وأخذت بريطانيا بمشورة كينز فتخلت في سنة 1931 عن اعتبار القيمة التقليدية لمعدن الذهب أساساً للجنيه الإسترليني.
ثم أغرم رئيس الجمهورية الأمريكية فرانكلين روزفلت في ذلك الحين بآراء كينز واقتبس منها جزءاً كبيراً وطبعه على سياسة أمريكا المالية في داخل الولايات وفي خارجها.
وفي كلتا الحالتين - في بريطانيا وأمريكا - كانت مشورة كينز وآراءه عاملاً قوياً في الإفراج عن ضائقات البلدين في الشؤون المالية والاقتصادية أجمالاً.
وجدير بنا أن نستذكر بأن عقلية (كينز) كما وصفها كاتب سيرته وسجلناها في مستهل هذا الفصل - هذه العقلية كان همها معالجة حالة راهنة غير مقيدة بأحداث الأمس ولا مترقبة(1012/6)
خفايا الغد.
وهنا سر إغرام الأمريكان بنظريات (كينز) وعودتهم إليها بين آونة وأخرى كلما استعصى عليهم أشكال عاجل بينما تعمد البريطانيون - أهل كينز ومواطنوه - تجاهل جزء كبير من مشورته ونظرياته. فالعقلية البريطانية تحتسب الأمور ولا ترى في الحالة الراهنة كل شيء! بينما يميل الأمريكان إلى معالجة مشاكل الساعة بالمسكنات وحبات الأسبرين والأقراص الكيماوية المنومة.
وتطورت فكرة (كينز) عن النقد فأصبحت برنامجاً تطبيقياً عملياً. فقد شغل هذا العالم في سنوات الحرب باستثناء المشاكل الاقتصادية والنقدية العويصة التي تأتى عادة في أعقاب الحروب، وخرج من تحليله لمستقبل الاقتصاد العالمي ببرنامج (لاتحاد دولي للقضية النقدية) على أساس عالمي. ونشر هذا البرنامج في عام 1943 عندما كانت رحى الحرب لا زالت دائرة. وهدف هذا البرنامج تنسيق المعاملات النقدية على أساس عزم الدول جميعها على ضمانة هذا التنسيق ضمانة رسمية، وأن تقوم هذه الدول في نفس الوقت على توسيع تبادلها ونشاطها الاقتصادي والتجاري على أفسح مجال ممكن. فهذه الضمنة النقدية وهذا التوسيع الاقتصادي سيجعل نقد الدولة مستندا إلى نشاطها التجاري والاقتصادي لا إلى سعر الذهب فحسب.
واقترح (كينز) في برنامجه عن (الاتحاد الدولي للتصفية النقدية) أن يقوم الاتحاد بجمع اكبر عدد ممكن من الضمانات النقدية للدول الأعضاء، وأن يوضع هذا المبلغ المجموع تحت تصرف الدول الأعضاء تقترض منه إذا شاءت بقدر ما يراه الاتحاد ضرورياً لها وبنسبة متمشية مع حصة الدولة في ميزانية الاتحاد، على أن يقوم الاتحاد باتباع سياسة سمحة تعين الدول في الحصول على النقد العزيز حتى لو كان الميزان التجاري لهذه الدولة تعترضه بعض النكبات.
واقترح على الاتحاد كذلك أن يشجع الاستدانة والإقراض بين الدول الأعضاء على أساس المسؤولية الحكومية المتبادلة. أما تحديد أسعار النقد لأي دولة فأمر لا لزوم له في برنامج هذا الاتحاد، ويترك أمر هذا التحديد للتطورات ولمدى النشاط الاقتصادي في تلك الدولة على أن يكون ذلك خاضعا لرقابة دولية نزيهة.(1012/7)
ووافقت بريطانيا فوراً على هذا البرنامج. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية تقاعست أول الأمر عن قبوله بحذافيره، وادعى الأمريكان أن هذا البرنامج يفرض على أمريكا دفع اكبر حصة من ميزانية الاتحاد، فالحصص في الاتحاد تتناسب مع سعة النشاط الاقتصادي في الدول المشتركة فيه. ولما كانت أمريكا أعظم بلدان العالم نشطاً في المجال الاقتصادي فأن حصتها في الدفع لميزانية الاتحاد ستكون اكبر حصة. ورأى الأمريكان فضلاً عن ذلك أن اشتراك جميع الدول في هذا الاتحاد ودفعهم نقدا محلياً (دعائمه غير ثابتة في كثير من الدول) ثم تخويلهم سحب القروض من الاتحاد بالعملة التي يشاؤونها (ومعظمهم راغب في اقتراض الدولارات الأمريكية) - هذا التخويل يشجع الدول الهزيلة الكسولة في النشاط الاقتصادي على الاقتراض في غير وعي وحساب، ويكون ذلك الاقتراض على حساب الدول الصناعية الفنية الكبرى وفي طليعتها أمريكا.
ولم يرفض الأمريكان فكرة (الاتحاد الدولي للتصفية النقدية) وإنما اقترحوا تعديلات جوهرية عليها. وفي مؤتمر (بريتون وودز) الذي عقد في الولايات المتحدة الأمريكية في عقاب الحرب العالمية الأخيرة مباشرة اقنع الأمريكان المستر (كينز) (الذي من ابرز المشرفين على هذا المؤتمر) بتعديلاتهم - أقنعهم كينز ببعض نظرياته التي كانت موضوع جدل، ونجح الأمريكان في ذلك المؤتمر بتقييد عملية الاستدانة والإقراض للدول الأعضاء التي تنضم إلى الاتحاد النقدي الدولي. وغضب (كينز) لهذه القيود الشديدة التي وضعها الأمريكان على برنامجهم العالمي ولكنه رضى بها وكان من نتائج هذا الرضى أن استطاعت (بريطانيا التي كان المستر كينز يمثلها في مؤتمر بريتون وودز) في الحصول على أول قرض وهبات سخية من الدولارات الأمريكية.
وذهب الأمريكان إلى ابعد من ذلك، فلما تبلورت فكرة الاتحاد الدولي للتصفية النقدية في مؤتمر (بريتون وودز) (وتأسس صندوق النقد الدولي التابع لهيئة الأمم المتحدة) بعد المؤتمر بقليل أصرت الحكومة الأمريكية أن يكون لها إدارة هذا الصندوق مع أنه اصبح وكالة فنية خاصة تابعة لهيئة الأمم. وعارض (كينز) في ذلك وقال بما أن للأمريكان تحفظات شديدة في هذا البرنامج فإن إدارتهم لصندوق النقد الدولي (الذي وكل بتنفيذ البرنامج) ستؤثر تأثيراً شديداً في مستقبل الفائدة المطلوبة من هذا الصندوق الدولي. ولكن(1012/8)
الحكومة الأمريكية أصرت على أنها إذا كانت ستدفع اكبر حصة في هذا الصندوق فأن من حقها أن تفرض النغم الذي يطيب لها عزفه.
وانزعج كينز من هذا ووجد في إصرار الأمريكان على إدارة هذا الصندوق الهام رغبة الحكومة الأمريكية في أن تفرض رقابة شديدة على الأوضاع النقدية في جميع الدول الأعضاء.
وسلم (كينز) للأمريكان واكتفى بتحذير المسؤولين عن وخيم العواقب، ثم عكف عن التأمل في وضعية العالم الاقتصادية في عالم ما بعد الحرب ونشر ذلك في سفر اقتصادي نفيس هي آراؤه العلمية.
وخرج كينز من تأمله العميق وخبرته العملية والتطبيقية الواسع بنتائج اقتصادية عظيمة الخطورة في التعرف عليها اليوم لبعض دقائق السلوك الاقتصادي (والسياسي) للأمريكان حكومة وشعباً.
وكان هم (كينز) أن يضع العلاج للمساوئ التي تكتنف الاقتصاد الحر الذي تعيش عليه الدول الاقتصادية الكبرى في أمريكا الشمالية وبريطانيا، وأن يثبت بأن تنبؤات كارل ماركس الشيوعي عن إفلاس النظم الرأسمالية هي تنبؤات خاطئة لو تيسر لهذا الاقتصاد الحر أن يتبع أساليب مستحدثة في نشاطه الاقتصادي وسياسته المالية والتجارية.
وقد وجد كينز أن عهد الاستعمار المباشر قد انتهى وأن السياسة الاقتصادية الصائبة تقتضي جعل حرية التبادل النقدي أساسا للرخاء الاقتصادي بدل أن تكون السيطرة الاستعمارية على الأسواق التجارية هي عماد الرخاء في البلدان الصناعية الكبرى كأمريكا وبريطانيا، فحرية التبادل النقدي كفيلة بأن تضمن استقرار للأوضاع الاقتصادية وإصلاحا للمساوئ السياسية والاجتماعية التي ترافقها.
وكان الفكر الاقتصادي والتقليدي المعمول به في بريطانيا وأمريكا يؤكد بأن النظام الرأسمالي كفيل بأن يصون نفسه إذا استطاع أن يحقق العمالة الكاملة. فإذا توفر العمل لجميع الأيدي العاملة تولدت حلقة اقتصادية سليمة. فالعمل المستمر يحقق دخلاً مستمراً للناس ويزيد الإنتاج ويتوفر الدخل يزداد الاستهلاك المنتجات، أما استقرار أجور الأيدي العالمة وأسعار المنتجات المستهلكة فسيتوقف على طبيعة المنافسة الحرة في الاقتصاد الحر(1012/9)
وعلى مدى إدراك الناس لفضائل الادخار والاستثمار والإقبال على رفع مستوى معيشتهم وترك النقد المتداول جاريا مجرة سليم.
وتعمق كينز في هذه النظرية الاقتصادية القويمة على ضوء الأضرار الواسعة التي جلبتها الحرب على اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى وعلى مصانعها وموارد إنتاجها، وعلى ضوء التقلبات السياسية والاجتماعية التي ألمت بجزء واسع من آسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا (إلى حد ما) وهو جزء كان فيما مضى أجزاء من إمبراطوريات استعمارية واسعة. وخرج كينز بعد هذا التعمق بنتيجة مخالفة لهذه النظرية الاقتصادية القديمة فوجد:
أن العمالة الكاملة ليست أساس كل شيء، ففي استطاعة الدول أن تعيش على اقتصاد سليم إذا توفر فيها الاتزان - عمالة معتدلة لا هي بالكاملة ولا هي بطالة متفشية.
يجب على الدول الصناعية الكبرى التي تعيش على الاقتصاد الحر أن تدرك من أن النكسات الاقتصادية الخطيرة التي تصيبها بين آن وآخر - ليست عوارض تأتى وتزول - بل إن من الممكن لهذه النكسات أن تتطور فتولد إفلاساً تاماً لهذه الدول.
ويهمنا هنا أن نتعرف على موقف الأمريكان من نظرية (كينز) الجديدة؛ فقد استمر (كينز) يدخل تعديلات وإصلاحات على نظريته مما لا مجال لذكره هنا، وكان لا يجبن عن أن يناقض نفسه في رأي كان قد قرره سابقاً ثم وجد أنه مخالف لحقائق اكتشفها الآن. فهذه المرونة وجدت قبولاً حسنا لدى العقلية الأمريكية التي وجدناها طلقة لا تتقيد بحدث مضى ولا تترقب خفايا الغد البعيد.
فقد وجد الأمريكان أن كينز يعطي أهمية فائقة للاستهلاك الفعال في النشاط الاقتصادي. فقال إن علة القلق الاقتصادي الذي يعتري النظم الرأسمالية هو في الاستعمال الخاطئ للدخل والدخل على أنواع: دخل ينفق ودخل يدخر ودخل يستثمر في المشاريع المربحة. وأمر كينز ضرورة الاهتمام الرئيسي بالنوعين الأخيرين من أنواع الدخل وهما الدخل المدخر والدخل المستثمر في المشاريع المربحة. وقال إن ثروة الشعوب لا تقدر بكمية ما تملكه من مال مدخر بل بكمية الاستهلاك الفعال المستمر الناتج عن سياسة الاستثمار النافع الواسع النطاق.
وحذر كينز الدول الرأسمالية الكبرى بأنها يجب أن تتبع النصائح التالية إذا شاءت لنفسها(1012/10)
البقاء عزيزة سالمة.
(1) يجب أن تسرع في تنفيذ الأساليب المستحدثة على ضوء التطورات الاقتصادية والسياسية الجديدة وألا فإن على النظام الرأسمالي السلام.
(2) إذا ظل الدخل قاصراً عن استهلاك المنتجات التي تنتجها الصناعة والزراعة وسائر ألوان النشاط الاقتصادي فإن عجل الحياة الاقتصادية ستتوقف؛ فالدول الصناعية الكبرى بما لها من تفوق واستعداد فني حديث ستظل تنتج إنتاجاً هائلاً قد لا يوقى استهلاكه الشعبي في تلك الدول بسبب التفاوت بين مبلغ الدخل الفردي وبين كمية الإنتاج الهائلة وبسبب اكتفاء الناس بحاجات معينة تجعل لاستهلاك الفرد حداً لا مزيد عليه. ولك تتفادى الدول الصناعية الكبرى وقوف عجلة الحياة الاقتصادية فإن عليها أن تشجع سياسة الاستثمار - استثمار الأموال المدخرة للفرد وللمؤسسات المالية والصناعية - فهذا الاستثمار سيزيد من الدخل الفردي والدخل القومي ويشجع بالتالي على زيادة الاستهلاك ويوفر لعجلة الحياة الاقتصادية (الصناعية والزراعية) أن تتابع سيرها في أمن وسلامة.
وللاستثمار أوجه عديدة: منها استثمار محلي نافع خصوصا في الدول التي لها إمكانيات واسعة في الموارد الطبيعية والصناعية كأمريكا مثلاً، واستثمار في المشاريع المربحة في البلدان الخارجية.
(وجدير بالذكر أن الاقتصاد المنظم في الدول الشيوعية والاشتراكية إلى حد ما؛ يفرض على عجلة الاقتصاد خطوط السير ويحاول أن يقيد الإنتاج الصناعي والزراعي بحيث يعادل الإنتاج مع مقدرة الناس على الاستهلاك والشراء. وهذا التقييد يكون عادة على حساب حرية النشاط الاقتصادي ويأتي عن طريق مركزية حكومية صارمة تضع للنشاط الاقتصادي برامج لخمس أو لعشر سنوات أو لأكثر من ذلك أو اقل).
ولما كان النظام الاقتصادي الحر في الولايات المتحدة الأمريكية ينفر من المركزية الحكومية في التقييد والتوجيه الصارم؛ لذلك ولما كان شبح أزمة 1929 الاقتصادي يتراءى للأمريكان من بعيد في عالم ما بعد الحرب العالمية الأخيرة، وجدت نظرية الاستثمار - استثمار الأموال المدخرة أو الأموال الفائضة - التي جاء بها كينز - مكاناً عزيزاً في تفكير الأمريكان حكومة وشعبا.(1012/11)
وعلى ضوء هذه الحقائق يجدر بنا أن ننظر إلى (مشروع مارشال) وما استتبعه من خطوات أمريكية أخرى (كمشروع النقطة الرابعة) (ومشروع الضمان المتبادل) وبقية النواحي في سياسة أمريكا الخارجية في مجالها الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري - بما فيها الدفاع عن الشرق الأوسط.
وقبل أن نستعرض ذلك دعنا نتعرف على أهمية العنصر الأيديولوجي على المبادئ والعقائد والأسس العاطفية التي تكمن وراء فكرة الدفاع المشترك التي يبشر بها الأمريكان.
نيويورك
للكلام بقية
عمر حليق(1012/12)
الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
هل بقي الميسر في الإسلام
كان لأهل الجاهلية الكثير من العادات والنظم الشنيعة التي جاء الإسلام من بعد ونص على تحريمها، ونهى عن مزاولتها ومن ذلك وأد البنات وما كان فيه من شناعة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومنها نكاح المقت، وهو نكاح زوجة الأب. ومنها توريث الذكر دون الأنثى. من ذلك شن الحروب فيما بينهم للسلب والتهب، ومنها الميسر، والاستقسام بالأزلام، وشرب الخمر، وكثير غيرها من عادات الجاهلية.
وقد قضى الإسلام على معظم هذه المفاسد قضاءً مبرماً، فلم نسمع بأن شيئاً منها حدث في الإسلام إلا ما كان من شرب الخمر، فإن غلبتها لضعاف النفوس من المسلمين كانت غلبة متصلة الحلقات، لم يسلم عصر ولم يسلم بلد ممن كان يشرب الخمر ويحد فيها، ويلقى جزاء الشارب.
ولكنا لم نسمع ولم نقرأ أن قوماً من المسلمين اجتمعوا لمزاولة الميسر الجاهلي على نحو ما كان يصنع العرب قديماً، فلم تكد تظهر شمس الإسلام على ذلك الباطل حتى أزهقته وقضت عليه قضاء، ومحت معالمه، حتى تعذر على بعض الرواة القريبي العهد بالجاهلية أن يعرف حقيقته أو يظهر على كنهه، وحتى وجدنا إماماً كبيراً من أئمة العربية - وهو الأصمعي - يخطئ في ذلك خطأً ظاهراً، كما أسلفنا القول في المقال الأول.
وحرم الإسلام القمار - وهو ضروب شبيهة بالميسر الجاهلي كما قدمنا - ولكن القمار ظل إلى عصرنا هذا يقترفه الآثمون في صور شتى، ولعل أفشى صوره أظهرها اليوم هو (لعب الورق) الذي صار إثما دولياً يلتقي عليه المصري والأوربي والآسيوي والأمريكي في يسر، وصارت قوانينه عرفاً عاماً بين المتقامرين على شتى أجناسهم وبلدانهم.
والاستقسام بالأزلام
أما الاستقسام فهو طلب القسم، أي ما يقسم للإنسان ويقدر. والأزلام: جمع زلم، بضم ففتح، أو بالتحريك، وهو القدح، بكسر القاف، أو السهم من سهام الاستقسام.(1012/13)
والأزلام ذكرت في كتاب الله مرتين:
أولاهما قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام، ذلكم فسق).
والأخرى قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من علم الشيطان فاجتنبوه).
وقد اختلف المفسرون في هذه الأزلام، هل هي أزلام الميسر وقداحه، أم هي أزلام أخرى معينة؟ والراجح المعتمد أن المراد بالأزلام في الكتاب العزيز ضرب آخر من القداح يستعمل في أغراض أخرى غير الميسر، سنبسط القول فيما يلي. ويرجح ذلك:
1 - أنها ذكرت في الآية الأولى بعد (النصب) فهاك علاقة بين هذه الأزلام وبين الأنصاب.
2 - وفي الآية الثانية ذكر الميسر، ثم ذكرت الأنصاب ثم الأزلام؛ ولو كانت الأزلام والاستقسام بها شيئاً هو الميسر لما ذكرت في الآية مرة ثانية، أو لذكرت بعد الأزلام مباشرة على طريق الترادف أو نحوه.
3 - قال الأزهري: (وقد قال المؤرخ وجماعة من أهل اللغة إن الأزلام قداح الميسر). وقال: (وهو وهم).
4 - وقال الفخر الرازي: (قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة: الاستقسام هنا هو الميسر المنهي عنه، والأزلام قداح الميسر. والقول الأول اختيار الجمهور). يعني بذلك طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح.
5 - ومما يؤيد أن المراد بالأزلام في القرآن غير أزلام الميسر ما روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة). فالاستقسام في هذا الحديث مقرون بالتكهن والتطير. وهذا يدل على أنها أزلام الاستخبار والاحتكام لا أزلام الميسر.
6 - وجاء في اللسان رواية عن الأزهري: (ومعنى قوله عز وجل: وأن استقسموا بالأزلام، أي تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم. ومما يبين ذلك: أن الأزلام التي كانوا(1012/14)
يستقسمون بها غير قداح الميسر ما روي عن عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو أبن آخي سراقة بن جشعم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة يقول:
جاءتنا رسل كفار قريش يجعلون لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتلهما أو أسرهما. قال: فبينا أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم فقام على رءوسنا فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل لا أراها إلا محمداً وأصحابه. قال: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بغاة. قال: ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتي أن تخرج لي فرسي وتحبسها من وراء أكمة، ثم أخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخفضت عالية الرمح وخططت برمحي في الأرض حتى أتيت فرسي فركبتها ورفعتها تقرب بي حتى رأيت اسودتهما، فلما دنوت منهم حيث اسمعهم الصوت عثرت بي فرسي، فخررت عنها وأوهيت بيدي إلى كنانتي فأخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضيرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره: أن لا أضيرهم. فعصيت الأزلام وركبت فرسي فرفعتها تقرب بي حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي وخررت عنها. قال: ففعلت ذلك ثلاث مرات إلى أن ساخت يدا فرسي في الأرض).
قال الأزهري: (فهذا الحديث يبين لك أن الأزلام قداح الأمر والنهي، لا قداح الميسر).
الأزلام في الشعر العربي
1 - وقد نطق الشعر الجاهلي بأزلام الاستقسام، إذ يقول طرفة:
ففعلنا ذلكم زمناً ... ثم دانى بيننا حكمه
أخذ الأزلام مقتسماً ... فأتى أغواهما زلمه
عند أنصاب لها زفر ... في صعيد جمة أدمه
دانى، أي أقارب. ويعني بالحكم الغلاق بن شهاب السعدي، أنفذه النعمان الأكبر ليصلح بين بكر وتغلب فأصلح بينهم محتكما في ذلك إلى الأزلام. الزفر من العطايا: الكثيرة. يعني بها ما يهدي إلى الأنصاب من قرابين. ووعني بالأدم جلود ما ينحر عندها من الإبل ونحوها.
2 - ونطق الشعر الإسلامي بذلك الاستقسام. قال الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري:
لم يزجر الطير أن مرت به سنحاً ... ولا يفيض على قسم بأزلام(1012/15)
يريد أنه لا يتطير من السانح والبارح، ولكنه يمضي متوكلاً على الله عز وجل، ولا يستسقم بالأزلام كما كانت تفعل الجاهلية.
وقال آخر:
هم المجيرون والمغبوط جارهم ... في الجاهلية إذ يستأمر الزلم
3 - ونلمح في الشعر العباسي أيضاً وميضاً من الإشارة إلى الأزلام أو أقداح الاستقسام فيما رواه أبو الفرج من القصة التالية، ن عن محمد وهيب الشاعر قال:
لما ولي الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك قلت فيه شعراً وأنشدته أصحابنا دعبل بن علي وأبا سعد المخزومي وأبا تمام الطائي فاستحسنوا الشعر وقالوا: هذا لعمري من الأشعار التي يلقى بها الملوك فخرجت إلى الجبل، فلما صرت إلى همذان أخبره الحاجب بمكاني فأذن لي فأنشدته الشعر فاستحسن منه قولي:
أجارتنا إن التعفف بالياس ... وصبرا على استدرار دنيا بإبساس
حريان ألا يقذيا بمذلة ... كريماً وألا يحوجه إلى الناس
أجارتنا إن (القداح) كواذب ... وأكثر أسباب النجاح مع اليأس
فأمر حاجبه بإضافتي. فأقمت بحضرته كلما وصلت إليه لم أنصرف إلا بحملان أو خلعة أو جائزة حتى أنصرف الصيف، فقال له: يا محمد، إن الشتاء عندنا علج فأعد يوماً للوداع فأنشدنني الثلاثة الأبيات، فقد فهمت الشعر كله. فلما أنشدته:
أجارتنا إن (القداح) كواذب ... وأكثر أسباب النجاح مع اليأس
قال صدقت فلم يزل يستعيدني هذا البيت وأنا أعيده عليه، ثم قالوا عدو أبيات القصيدة فأعطوه لكل بيت ألف درهم، فعدت فكانت اثنين وسبعين بيتاً، فأمر لي باثنين وسبعين ألف درهم.
للبحث صلة
عبد السلام محمد هارون(1012/16)
تاريخنا العربي
دعوة إلى دراسته وإعادة كتابته من جديد
بمناسبة المؤتمر الثقافي للإدارة الثقافية في جامعة الدول
العربية المنعقد قي عمان
للأستاذ كمال السوافيري
نشرت مجلة الرسالة الزاهرة في العدد 995 البيان الذي أذاعته الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية عن سعيها لخلق جيل عربي يعتز بقوميته العربية ويقدس تراثه المجيد، وتحقق الإدارة من أن علم التاريخ هو أهم الوسائل التي تحقق هذه الاهداف، ودعوتها إلى تأليف لجنة من الخبراء في التاريخ لوضع قواعد عامة، يسترشد بها في تأليف كتب التاريخ المدرسية في البلاد العربية وتقرير مناهج موحدة في هذه المادة في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي.
واتجاه الإدارة الثقافية هذا الاتجاه القومي أمر محمود الأثر جليل الخطر، إن يكن لنا اعتراض عليه فهو تأخره حتى اليوم.
وإننا إذا نتمنى للإدارة الثقافية، وللجنة الخبراء في التاريخ المنبثقة عن الإدارة التوفيق في مهمتها، نرجو ألا يقتصر الأمر على بحث توحيد المناهج التاريخية في الأقطار العربية؛ بل يتجاوز ذلك إلى النظرة الفاحصة والدراسة الشاملة الدقيقة للكتب التاريخية المنبثة في المكتبة العربية.
ولست أعدو الواقع إذا قلت إن تاريخ العرب لم يجد منهم العناية اللائقة به، والدراسة المنظمة لإحداثه ووقائعه، وتنقيته من الرواسب التي علقت به منذ عصر تدوين العلوم. والتبعة في هذا واقعة على كواهل أعلام الفكر وأقطاب البيان في الأمة العربية.
ولسنا نريد أن نرجعإلى الوراء لنغوص في أعماق الماضي البعيد ونوضح الخلط الذي وقع فيه المؤرخون حين تحدثوا عن العرب في الجاهلية وما وقعوا فيه عند الحديث عن هذه الفترة من اخطاء؛ ولكنا نقصر كلمتنا عن التاريخ العربي بعد أن بزغ الإسلام على الجزيرة العربية وأرسل نوره الوهاج إلى آفاق المعمورة فبدد ظلامها، وأضاء جوانبها. مستعرضين(1012/17)
المراحل التي مر بها تدوين ذلك العلم وما وجه إلى طريق تدوينه وجمع أخباره من نقد وما أبدى عليه من ملاحظات. لقد مر تدوين التاريخ بعد الإسلام على وجه التحديد في أوائل العصر العباسي الأول بمرحلتي الأولى تدوين الأحداث حسب الترتيب الزمني الذي لها، وربطهم بالسنين وروايتها بطريقة السلسة؛ وممن سار على هذه الطريقة المؤرخ المشهور ابن جرير الطبري. حاكاه فيها - خلفه العظيم ابن الأثير بعد أن اسقط سلاسل الرواة. ومن قبلهما ابن اسحق والواقدي. . الأول في السيرة والثاني في ألفتوح. والمرحلة الثانية هي التدوين على غرار الأسر أو الدول والأشخاص كتاريخ الخليفة عمر بن الخطاب أو الدولة الأموية أو الطولونية حيث يترجم المؤرخون للخليفة أو الحاكم ويستعرض ما حدث في عهده من الأحداث وقد يتطرف إلى ذكر بند عن حالة البلاد المجاورة في ذلك العهد ومن الذين ساروا على هذه الطريقة كل المؤرخين الذين كتبوا عن الأمم والأشخاص والبلدان كابن طيفور صاحب تاريخ بغداد ويوسف ابن الداية والكندي والعتبي وغيرهم.
وفي هاتين المرحلتين لوحظ على تدوين التاريخ أن الأخبار كانت تروى في المرحلة الأولى على علاتها دون بحث أو تمحيص وفي الثانية يسقط منها ما لا يرضى الأسرة الحاكمة أو الدولة أو الخليفة. ولوحظ أيضاً أن التدوين في المرحلتين لم يعد النواحي السياسية والحوادث التاريخية المرتبطة بحروب الخليفة مع غيره أم المتعلقة بشخصه؛ حتى ليكاد القارئ يظن أن تاريخ الأمة العربية كان جملته حياة ولاة وخلفاء، ووحدة منازعات ومخاصمات، لا تاريخ أمة ولا حضارة شعب. ويبدو ذلك جلياً في استعراض المؤرخين للأحداث السياسية الجارية في أزمانهم وإبرازهم ما يتصل منها بالقادة والخلفاء، وإهمالهم النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للشعب. ومما لا ريب فيه أن التاريخ ليس هو الجانب السياسي المحض للامة، ولكنه الوحدة القائمة على تفاعل الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد ظل هذا التشويش يسود تدوين التاريخ إلى أن ظهر الفيلسوف الاجتماعي المؤرخ العلامة ابن خلدون في القرن الثامن وألف مقدمته فألقى أضواء متألقة على تدوين التاريخ، ولم يفته أن يطلع على المراجع التاريخية التي ألفت في العهود السابقة لعهده وما نقله المؤرخون من الأخبار التي لا سد لها من الحقيقة فهاجمهم وأنكر عليهم تخبطهم ورسم لهم الطريقة المثلى وابرز المطاع المأخوذة(1012/18)
على بعضهم إذ قال: وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز وهو معرف عند الإثبات ومشهور بين الحفظة والثقات.
وكان أهم ما أخذه ابن خلدون على المؤرخين القدامى اعتمادهم في الأخبار على مجرد النقل دون تحكيم أصول العادة وطبيعة العمران ومبادئ الاجتماع.
إن الأخبار إذ اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسية وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبورها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ومع أننا لا نوافق ابن خلدون في كل ما جاء في مقدمته وخصوصاً في تحامله على العرب نرى أن طريقته في تدوين التاريخ كما جاءت في المقدمة هي الطريقة العلمية. ويغلب على ظننا أنه كتبها بعد أن انتهى من تأليف كتابه لأنه لم يجر على المنهج الذي رسمه لنفسه فيها.
ولا نريد أن نضرب الأمثال على تخبط المؤرخين القدامى في الحوادث فقد سرد أبن خلدون عدداً منها وناقشها مناقشة علمية، ولكنا نورد حادثتين على سبيل التمثيل لا الحصر يؤيدان ما ذهبنا إليه؛ هما: فتك المنصور بابي مسلم الخرساني وتنكيل الرشيد بالبرامكة وفيهما يتضح التخبط في تعدد الأسباب واختلاف الآراء.
وهناك ناحية أخرى لها أهميتها البالغة وهي الشعوبية المدمرة التي أطلت برأسها في العصر الأموي ثم استعمل في خطرها في العصر العباسي فلم تترك خليفة من الخلفاء العرب أو قائداً من عظام قوادها إلا حاولت أن تغض من قدره وتحط من شأنه باختلاق الأكاذيب وابتداع الأقاويل التي لا ظل لها من الحقيقة. لذلك أرى أن تمتد رسالة اللجنة المؤلفة لتوحيد مناهج التاريخ إلى النظرة الفاحصة في تاريخ الأمة العربية والعمل على إعادة كتابته من جديد. ولا بأس من أن نمهل اللجنة حتى تفرغ من مهمة توحيد مناهج التاريخ المدرسية.(1012/19)
وعلى الإدارة الثقافية وأعلام الفكر في دنيا العروبة أن يوجهوا عنايتهم إلى التراث العربي المجيد المبعثر في شتى المراجع ومختلف المصادر تختلط فيه الحقائق بالأساطير، ويختلف، فيه مؤرخي الإفرنج، ويوجه إليه المستشرقون غمزات النقد والتجريح، فينقوه من الشوائب ويصفوه من الرواسب ويخرجوه إخراجاً جديداً في إطار جميل تبرز فيه جوانب العظمة وأمجاد الماضي ومناهل العلم وأنوار الحضارة مع توجيه النظر إلى المآثر الغر والأيام الخالدة في تاريخ العرب والإسلام التي تهز المشاعر وتحرك العواطف، ليقف العربي المسلم على مجد أمته حين اتسعت رقعتها وترامت أطرافها فضمت معظم أجزاء آسيا وأفريقيا وجزر الروم ثم وثبت على أوربا فأنشأت حضارة في الأندلس استضاءت بنورها دول أوربا وظلت تدرس في جامعات الغرب حتى عصور متأخرة. ويبقى بعد ذلك أن نقرر أننا لا نريد أن يفهم القراء من دعوتنا هذه مفاخرة العرب لغيرهم من الأمم بالماضي أو الاعتزاز بعظام نخرة وقبور دارسة؛ بل نهدف إلى أن يطلع الشباب العربي والإسلامي على الماضي ليربط العرب والمسلمون بين ماضيهم وحاضرهم فيستلهموا من الماضي العزة والبطولة ويعلموا أنهم ليسوا اقل شأناً من اعظم الأمم المعاصرة، مثل هذا الشعور إذا نفذ إلى مسار النفس ملأها ثقة وطمأنينة، وحفزها للوثوب والنهوض، ولدى الأمة العربية اليوم من الوسائل ما يمكنها من أن تنهض بحاضرها على ضوء ماضيها المجيد.
كامل السوافيري(1012/20)
هل كان النبي يعلم الغيب؟
للأستاذ احمد محمد جمال
هل كان النبي محمد عليه السلام يعلم (الغيب) كلياً، ومطلقاً، ودائماً؟
أما أنا: فأقول: لا. وإنما كان يعلم (الغيب) بإيحاء الله له - متى شاء - في أزمنة، وأمكنة، وقضايا محدودة غير مطلقة. وليس الحجاب مكشوفاً له دائماً، بحيث يرى (غيب) ملكوت السموات والارض، ويعلم كل ما حدث أمس، وكل ما يحدث بعده. . وإن لم يرهما.
ولكن الأستاذ ناصر سعد - من العراق - كتب في مجلة الرسالة الغراء (العدد - 998) مقالا يجزم فيه بقوله: (إن النبي - ولا شك - كان يعلم الغيب فيخترق بعقله أو بروحه الحجب، ويعرف حقائق أسرار الكون. . . ولا مجال لتكذيب هذا الأمر اليوم، بعد أن اقر علم النفس الحديث قراءة الأفكار وإحضار الأرواح ومحادثتها) الخ.
وذهب الكاتب الفاضل يضرب الأمثال على ما زعم فذكر:
(1) إخبار النبي عليه السلام لعمار بن ياسر (إنما تقتلك الفئة الباغية).
(2) تحديثه بأشقى رجلين: أحمير ثمود عاقر الاقة، وعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
(3) تحديثه عمير بن وهب بما جاء من اجله إلى المدينة، وهو ما تآمر عليه هو وصفوان بن أمية، في الحجر باليمامة، من اغتياله عليه السلام.
(4) إخباره لعمه العباس يوم أسر في واقعة بدر، بما خبأه عند أم الفضل بمكة من مال.
(5) ما حدث به سلمان الفارسي أثناء حفر الخندق، عنده لمعت برقات ثلاث تحت معوله - عليه السلام - الذي كان يضرب به صخرة اعترضت الخندق، فقال عن الأولى إنها بشار فتح اليمن، والثانية فتح الشام والمغرب، والثالثة فتح المشرق،
وقد صحت هذه البشريات، فتمت هذه ألفتوح.
(6) حديثه عن العاصفة التي هبت في طريقه إلى غزوة بني المصطلق، بأنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، فلما وصل المسلمون إلى المدينة وجدوا رفاعة بن زيد اليهودي قد هلك في ذلك اليوم. . .
(7) قصة حاطب بن أبي بلتعة، وعلم النبي بالمرأة التي حملت حاطب رسالة إلى مشركي(1012/21)
قريش ينبئهم فيها بمقدم النبي إليهم.
(8) إخباره لوفد أهل جرش - باليمن - بما أصاب قومهم من تقتيل صرد بن عبد الله لهم.
إلى غير ذلك من الحوادث - ذكرها الكاتب أم لم يذكره - مما اتخذها أدلة على علم النبي (بالغيب)، وهي - إن كثرت أو قلت - لا تغني في تقوية ما زعم، ولا تكفي لتصحيح ما ادعاه.
وأول ما نريد نقضه من قواعد زعمه ما زين له من الاحتجاج بما اقره علم النفس الحديث من (قراءة الأفكار) و (إحضار الأرواح ومحادثتها).
فليس ما كان يوحى إلى النبي عليه السلام من (غيوب محدودة معدودة من قبيل قراءة الأفكار، وإحضار الأرواح. وإن فما الفرق بينه وبين الناس العاديين الذي يحترفون هذين العملين الوهمين - على الصحيح -؟
إن الحجة يجب أن تكون من جنس المحتج عليه. وعرف النبي ببعض (الغيوب) كان وحياً إلهياً، لا أكثر ولا أقل وهذان العلمان أو الوهمان ليسا كذلك بلا مراء، ثم إن علم النبي ببعض (الغيوب) لا يصححه لدينا أو يصوبه ويؤكده لنا شيء من هذه التجارب والمعارف الحديثة؛ وإنما نؤمن به، كما نؤمن بالقرآن الذي يذكر لنا أن محمداً عليه السلام أوتى بمعجزات عديدة، كما أوتى النبيون من قبله معجزات أيضاً. ولا نزيد.
وهذا (القرآن) الذي نؤمن به، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونؤمن بما ذكره عن معجزات الأنبياء جميعاً - يذكر في آيات صريحة فصيحة مكررة مؤكدة: أن النبي عليه السلام كان لا يعلم الغيب كلياً، ومطلقاً ودائماً.
- (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله).
من سورة النمل
(قل لا أملك لنفسي نفعاً أو ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. .)
من سورة الأعراف
- (قل ما كنت بدعا من الرسل، وما ادري ما يفعل بي ولا بكم. .) من سورة الأحقاف
- (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب. .)(1012/22)
من سورة الأنعام
اجل لو كان النبي عليه السلام يعلم الغيب كله، لاستكثر من الخير، ولما مسه سوء أعدائه ومكائدهم، ولاتخذ من كل أذى حمى، وحسب لكل هزيمة من المعارك التي هزم فيها المسلمون حساباً، ولما أسف على كفر من كفر، وما حزن على مسارعة من يسارع إلى الكفر، أو على قول من يقولون له لست مرسلاً. . أو من يطلبون منه مطالب الإعجاز والإعنات، لأن من يعلم ما سيحدث له لا يبالي به إذا حدث، لأن نفسه قد استقرت على تلقيه استقباله. .
ولكن النبي - كما يذكر القرآن في عدة مواضع - كان بأسف وكان يحاول أن يبخع فسه، وكان يضيق صدره، بما يفاجأ به من أحداث.
وبعد فما كان همي أن اقرر ما قررت من عدم علم النبي بالغيب مطلقاً، في ردي من زعم هذا العلم. فذلك واضح في القرآن والسنة، ولكن همي أن افرق بين علم النبي ببعض الغيوب، وبين قراءة الأفكار وإحضار الأرواح وغيرهما من تجارب العصر الحديث، التي لم تصل بعد إلى درجة اليقين، أو التي لا تعد علما بالغيب - بالمعنى الصحيح - وإنما تعتبر من قبيل التفهم والتفرس واشتداد قوتهما عند بعض الأذكياء من الناس.
وهمي كذلك ألا يتخذ بعض المحترفين ما زعمه الكاتب حجة لهم فيما يحترفون من قراءة أفكار، وإحضار أرواح. . .
وشتان بين معجزات الأنبياء، وترهات الأدعياء.
مكة المكرمة
احمد محمد جمال(1012/23)
خاطرة
نداء الفلاح. . .
للأستاذ احمد عبد اللطيف بدر
يا صباح النور!
أشرقت على طلعتك، وكنت غريقاً في ظلام الحيرة! تائها في متاهات الظلم! يا صباح النور!
في مشرك إشراق الأمل بقلبي؛ فقد عشت طويلاً أرى أشباحاً تجمع الغيم على عيني، وتحول بين وضاءتك وبيني!
يا صباح الخير!
كنت مخفقاً في حياتي، ولكنك خفقت بأضوائك فخفق فؤادي لسنا سنائك! فيك - يا صباح الخير - نور الحياة، وشرف المبدإ.
كانت الحبات تساقط على جبيني؛ فتلمع في وهج الشمس؛ ثم تروي ارضي الطيبة وتخرج اللؤلؤ الذي ارقبه من بعد، لأعد حبات الحصى!
يا صباح النور!
طال ليلي، وزاد ويلي، واستحب استعبادي حتى ذهب رشادي!
اخرس اللسان بعد أن أسكتته الحاجة، وذل الجنان بعد أن أخضعته الشراهة، وانحنى الرأس على الفأس لكن بقيت الكرامة!
يا صباح النور!
زعم السادة خلود السيادة؛ فورمت انوفهم، وانتفخت أوداجهم، وطغت أهواؤهم، حتى جئت بالأمر الجلل الذي جدع الأنوف، وقدمت الوعيد الذي قطع الوريد، وأرهبت الشيطان فتناثرت الأهواء!
يا صباح النور!
كنت اجمع الخير من حقلي لأطعم أخوتي الذين يرقبون نتاجي، لكن تأبى خليقة الجشع إلا أن تضن أو تمن، والأرض الطيبة ضاحكة ساخرة!
يا صباح النور!(1012/24)
كنت أتطلع إلى مطلع الشمس! وارى أشعتها تباكر بالتحية؛ فأخفض الجناح، لأن الخالق قد أودع فيها سر النماء.
وكنت أتسمع إلى زقاء الديك الذي يردد تسابيحه في مشرق اليوم الجديد فأسبح القادر الذي أودع هذا المخلوق تلك القدرة الفائقة!
يا صباح النور!
لقد تطلعت في مولدك إلى بهاء الحياة بعد أن رسمت في الأقل أشعت الحرية، والعدل، والمساواة!
وصحوت على زأرة الأسد التي أرهبت الذئاب، فذهبت على ظهور الملق والخداع والرياء، تظهر العطف على الحملان!
يا صباح النور!
لم تعد سحب تطغي هذه الأشعة الوضيئة؛ فأنر القلوب لتزول عتمتها وتذهب احقادها، وتتألف وحدتها!
يا صباح النور!
عشت قانعا فلن اخرج عن قناعتي، بل أعطي لذي الحق حقه، غير أني لا اخفض رأسي لغير فأسي!
يا صباح النور!
أنت أمل مترقب، بعد يأس مخضع، فأشرق على الوادي ليرى فيك سر السعادة، وجمال الحياة!
بور سعيد
احمد عبد اللطيف بدر(1012/25)
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
اعتبر المزاج في الشعر أول دليل من دلائل عذوبته ولطفه وخفته. والذي يعوزه هذا، ولو كان يمتلك جميع المواهب الاخرى، يمتلك نصف ذهن لأن نظره لا يفارق الأشياء العلوية ليرى الأشياء الدنيوية المحيطة له. وينفرد شيلر من بين جميع الشعراء العباقرة بمثل هذا القصور. لأنك لن تجد في كل كتاباته دليلاً واحداً على هذه الروح ولا حتى محاولة في هذا الاتجاه. لأن طبيعته نفسها خالية من ذلك. وكانت مشاعره جدية لدرجة لا تسمح لنفسها باتخاذ أي أسلوب في أي نوع من المرح أو المزاح. وهكذا لا يمكن الكشف على أي نوع من الهزل أو الكاريكاتور أو السخرية. هذا الأشياء التي هي جوهر المزاح - في أي شيء كتبه شيلر. فمؤلفاته مفعمة بالجد المكدود ولذا يعتبر أرصن كاتب. ولكننا مع ذلك نجد في بعض بحوثه النقدية وخصوصاً كتابه (الرسائل الجمالية) ما يدعي (بالنازع الرياضي) وهو يعتبر أعلى هدف في ثقافة الإنسان. وهذا يدل دلالة بينة على أنه عرف معنى الهزل وأهميته بالنسبة إلى فكره، ولو أن ذلك كان غريباً عنه وبعيداً منه. . . ومع ذلك فهو لم يدرك هذه الذروة التي رآها بكل هذا الوضوح والجلاء. فالروح الرياضية ظلت معه مجرد نظرية إلى الأخير. وباستثناء كتابه (ولنشتاين لاغر) - الذي يظهر فيه الهزل باهتاً ضحلاً - فإن محاولاته في هذا الخصوص - على قلتها - كانت ثقيلة جامدة. وميزاته في كل شيء كتبه لا تعدو الشدة الصارمة والغيرة الحماسية الجدية، والفخامة البعيدة عن الرشاقة، بينما نرى الخفة والمرح الرياضية معدومة فيه تماماً. وربما يرجع ذلك إلى إخلاصه واستقامته في استخدام فطنته، وانصبابه على تبيين العلائق العميقة بي الأشياء بدلا من ملاحظة تصادماته الوقتية. زد على ذلك أنه كان يقصد (الإثبات) لا (النفي) - أي أنه كان يعتبر ما هو موجود أنه احسن ما هو موجود - وفي النفي وحده يظهر عامل الفطنة الهازلة، لقد وضعنا هذه الملاحظات للإشارة إلى حدود عظمة شلر والفرع الذي اختص به. وهذا لا يعني نكران حقيقة هذه العظمة. أما شعوره بالحقيقة تأملاً وعملاً وإدراكه البهيج العميق للطبيعة والانسجام الحي الذي بواسطته يتمكن من تصوير ما هو جليل وعظيم في(1012/26)
الطبيعة، فأمور يعرفها كل من قرأ كتبه، وعليه فليس من حاجة لتذكيرهم بها. وهو يعد في طليعة الشعراء الذين كتبوا في البطولات التراجيدية الشجية، إذا لم يكن أعظمهم إطلاقاً. وهناك أما دارسي شلر المثابرين جهاد شاق قبل التعرف على آرائه، لأن الكنوز الخفية من الفكر الشعور لم تزل مغطاة بغطاء النسيان. وهناك غمة في بعض كتبه الأخيرة فيها لحن العوالم العليا مجسداً في الفن. وعليه فليست النواقص الطبيعية والعرضية التي عرضنا لها في عبقريته، بمانعة من اعتباره من أعاظم الشعراء، وهذا ليس غريباً في شيء لأن كثيراً من الشعراء العظام كانت لديهم هذه الهنات. ولنضرب لذلك مثلاً، ملتون، فهو يقاسمه في كثير من معايبه، لأنه كان يركن إلى الجزالة في اللفظ والفخامة في الاداء، ويتطلع إلى الأعلى والى كل شيء جدي، أما ما يخص شؤون الحياة الأرضية فتراه قاصراً على فهمها وإدراكها. وهو كذلك ليس لديه من المزاح إلا القليل. وأسلوبه خشن في الهجاء مع توكيد على السخرية والتهكم وابتعاد من المرح والروح الرياضية اللعوب. أما من الناحية الإيجابية فهناك تشابه اكبر بين هاتين الشخصيتين، ولو أن شلر عاش في ظروف اخرى، ولم يمتلك تلك القوة الروحية العنيفة ولا تلك القابلية الضخمة، ولكنه كان يشبه ملتون في شدته وتركيزه على ما هو سام في الطبيعة والفن. وقد عشق - كل على طريقته الخاصة - ذلك السناء السماوي - وعبد عبادة قلبية صادقة. ولكن طبيعة شلر يعوزها الانسجام الفني الذي امتاز به ملتون. وقد عرف ملتون بعقمه وعذوبة موسيقاه المترابطة. ومع ذلك، فعند شلر شيء من القوة النقية المتفجرة والنغمات العذبة التي تشبه في جلالها وعمقها وفخامتها نغمات ملتون الخالدة.
امتاز شلر في العالم كمؤلف دراماتيكي، وغالباً ما نشعر بأن القدر وليس الميل الطبيعي هو الذي قاده في هذا الاتجاه، لأن موهبته كانت غنائية أو بطولية اكثر مما كانت دراماتيكية. لقد عاش منطوياً على نفسه، وهذا ما جعل عمله في تصوير العالم الخارجي أمراً صعباً. لا بل إن كثيراً من شعره - كما أشرنا من قبل - هو خطابي اكثر مما هو شعري. ومع ذلك، فالنار النقية الوهاجة ظلت مستعرة في أعماق روحه، هذه النار التي لا تجد متنفساً إلا في الشعر. أما بقية سجيته فكانت أميل إلى الصرامة العادية، مما جعل تطور قابليته الشعرية أمراً في غاية الصعوبة والإجهاد. فهذا العنصر المسيطر النقي لم يكن يتطور التطور(1012/27)
المطلوب، لأنه كان كالنهر البطيء الجريان في وسط صخور ناتئة كبيرة. لقد تكلمنا كثيرا عن حمية شلر غير المجزأة في التثقيف الذاتي وفي التقدم الذي أنجزه بالرغم من الصعوبات التي تخطاها. يتجلى لنا ذلك بكل وضوح إذا نحن قارنا بين مؤلفاته المبكرة والمتأخرة. وبهذه الواسطة سنقدم لقرائنا الذين لم يتعرفوا على شيلر فكرة واضحة عن شخصيته الشعرية، لأن الوصف وحده غير مجد في ذلك. دعنا نأخذ (اللصوص) لأنها أول إنتاجه، هذا الإنتاج الذي يدعوه شيلر (بالعملاق الذي ولد في التزاوج غير الطبيعي بين العبقرية والعبودية)؛ ولا شك في أن النار المتأججة في هذه القطعة حتى في الفقرات المنفصلة. وللمنظر الآتي معجبون حتى في ترجمتنا الإنجليزية العادية المائعة وهي المنظر الثاني في الفصل الثالث.
(اللصوص)
منظر ريف على الدانوب
اللصوص مجتمعون في المرتفع تحت الأشجار الوارفة؛ الخيل ترعى في سفح التل.
مور: لا اقدر على السير اكثر (يرمي بنفسه على الأرض). إن أطرافي تؤلمني وكأنها سحقت سحقاً. إن لساني لافح من العطش (يتسلل شفارز خلسة). ارجوا أن تجلبوا لي قليلاً من الماء من الساقية؛ ولكنكم متعبون حتى الموت.
شفارز: وكذلك الخمر موجودة في الأدنان.
مور: انظر ما أجمل موسم القطاف! إن الأشجار تتكسر تحت أثقالها التي تنوء بها. والأمل في الكروم كبير.
كرم: إن السنة سنة خير.
مور: أتظن ذلك؟ وإذن فمتاعب الإنسان في هذا الموسم ستجازى. ومع ذلك فقد تدهمنا عاصفة برد فتدمر كل شيء.
شفارز: هذا محتمل تماما. قد يدمر كل ذلك قبل الحصاد بساعتين.
مور: وهكذا أقول أنا. سيتدمر كل شيء. لماذا الإنسان. فيما يتعلمه من النملة، بينما هو يفشل فيما يجعله بالآلهة. أهذا الهدف الحق من مصيره؟(1012/28)
شفارز: أنا لا اعمل ذلك.
مور: لقد قلت حسناً، وأجدت عملاً، إذ انك لم تحاول أن تعرف ذلك! - أخي - لقد نظرت إلى الناس ومخاوفهم التافهة ومشاريعهم العظيمة وخططهم الإلهية ومشاغلهم الوضيعة ومسابقاتهم المدهشة لإدراك السعادة؛ فمنهم من يعد على قدميه، وفلك الحظ دائر بسرعة جنونية، ومثل هذا الذي يقرر مصير كثير منهم. كل يسعى لاهثاً للحصول على الجائزة ولكن البطاقات كلها فاشلة. إنها، يا أخي، مأساة تستحق الدمع الدامي ولو أنها تستثير الضحك.
شفارز: أن غروب الشمس رائع جداً.
مور: (متوارياً عن الأنظار) وهكذا يموت البطل.
كرم: يظهر إن هذا أثارك.
مور: عندما كنت صبيا، كانت فكرتي الحبيبة أن أعود كذلك وأموت كذلك (بألم دفين) لقد كانت فكرة صبى.
كرم: آمل أن يكون ذلك حقا!
مور (ينزل قبعته على وجهه) يوم كنا ولا تسل كيف كان دعوني. وحيدا، أيها الرفاق.
شفارز: مور! مور! ماذا؟ يا للشيطان! كيف تغير لونه.
كرم: ها! ماذا يؤلمه؟ أهو مريض؟
مور: مرت أيام لم اكن أستطيع أن أنام فيها إذا أنا نسيت صلاة المساء. . .
كرم: هل أنت مجنون؟ هل تترك مثل هذه التخيلات والوساوس لتهذيك من جديد!؟
مور: (يضع رأسه على صدر كرم) أخي! أخي!
كرم: تعال! لا تكن طفلا، أستعطفك بالله. . .
مور: آه لو كنت طفلاً! آه لو كنت وحيداً!
كرم: بوه! بوه!
شفارز: مرحى. تطلع إلى المنظر البديع والمساء الجميل.
مور: نعم أيها الأصدقاء، إن هذا العالم بديع حقاً.
شفارز: نعم، هذا حق.(1012/29)
مور: إن هذه الأرض رائعة.
كرم: حقا، حقا، وهو كذلك.
مور: (مستلقياً على ظهره) ولكني بشع الخلقة في هذا العالم الجميل وغريب الشكل في هذه الأرض الرائعة.
كرم: دعنا من ذلك.
مور: سذاجتي! سذاجتي! انظر، إلى الأشياء كيف تضحي تحت أشعة الربيع الهادئة: لم يجب علي أن أتنشق عذاب الجحيم من مسارب مسرات الحياة؟ والناس كلهم مسرورين تربطهم رابطة الإسلام؛ والعالم عائلة واحدة ترعاها عين الأب الحدب في الأعالي، ولكنه ليس أبي! وأنا وحدي طريد شريد، وبعيد عن مجتمع الاخيار، ليس لي ولد يلغ باسمي، وليس لي أمل في نظرة واهنة. ممن احب، ولا رجاء في عناق صديق حميم. أنا محاط بالقتلة، والأفاعي تفح حولي، أنا مندفع إلى خليج الفناء على تيار الإثم المتدفق
شفارز: (إلى الآخرين) ما هذا؟ لم أره هكذا قبلا أبداً.
مور: (بحزن مثير) آه، لو كان في إمكاني الرجوع إلى بطن أمي! - آه، لو ولدت متسولاً! كلا! أيتها السماء أنا لا اجرؤ أن اصلي كي أكون واحدا من العمال حتى اعمل طول نهاري.
اعمل حتى يتفطر صدغي دماً، لأشتري لنفسي راحة نوم ظهيرة واحدة. وعزاء دمعة واحدة.
كرم: (إلى الآخرين) صبراً لحظة واحدة، لأن النوبة عابرة.
مور: لقد فات الزمان الذي كنت أتمكن من البكاء فيه.
آه على أيام السلام، يل قلعة والدي، أيتها الوديان الخضراء! واها على مناظر طفولتي! ألا تعودين إلى مرة أخرى بتأوهاتك المسكرة العاطرة لتهدئ روع قلبي المستعر. اندبي معي أيتها الطبيعة. إن هذه الأيام لن تعود مطلقاً لتطفئ النار المشتعلة في صدري. إنها ذهبت! ذهبت! ولن ترجع.
(أو خذ مثلاً مناجاة مور في موضوع الانتحار، في غابة في منتصف الليل بين اللصوص الراقدين).(1012/30)
(يترك القيثارة جانبا، ويسير صعودا ونزولا في تفكير عميق).
للكلام صلة
يوسف عبد المسيح ثروت(1012/31)
سليمان العبسي في ديوانه (مع الفجر)
للأستاذ احمد الفخري
تتمة
ليس بإمكان النفس المطمئنة أن تستريح والزمن يمضي سريعاً، والجديدان كل يوم في شان، فما بالك بالشاب العربي الجريح، الذي ينتظر بحماس نافذ الصبر يوماً يمسح بعزته ذلة كلومه فلا تزيده الأيام إلا كلوماً. . . والذي يترقب، فارغ الصبر نشيد الحرية والنجاة فلا يسمع إلا نشيد الوهن والخيبة والهزيمة. . . ويل لهذا التعس المفؤود. . . إذا هو اغمض عينيه هزمت عنهما الرقاد ذكريات المآسي، وإن هو منحهما فلا يلمح فيهما إلا ما يحز قلبه وينكأ جراحه.
أين ألقيت ناظري فعلى نصل ... مميت يحتل صدر بلادي
وطن الضاد. يا شهيد الأفاعي ... كل يوم جريمة واعتداء. . .
ويل لهذا الشاعر المسكين. . . ما الذي بمقدوره أن يفعله لهذا الوطن المسكين. . .
ما الذي يستطيع إنقاذه من ... ك قصيد ودمعة خرساء؟
إنه لا يملك إلا نفسه وإلا هذه الأماني. . . فلتهب رفافة ندية تروي هذا القفر تارة، ولتعصف ملتهبة منتقمة تارة أخرى. . .
أإذا ذبت كالندى لأروي ... كل شبر من قفرنا الظمآن؟
أإذا ما أفنيت في ميعة العمر ... انتفاضاً على الاذى، والهوان؟
أإذا ما أحرقت روحي لأهدي ... بسناها مسالك الاظعان؟
هل يعود الربيع والطير يا روض ... هنئ وتغدو الحياة مثل الجنان؟
ليتني كنت في يمين الليالي ... خنجراً. . . ما لشفرتيه أرتواء!
ليتني في صميم كل فؤاد ... أضمر الغدر. . طعنة نجلاء!
ولكنها لا تزال أمنيات ... على أنها لو عاشت في خيال
شاعر غير عربي لحققها له زعماؤه، فلنسأل زعماء العرب، وهذا صف قرن يصولون فيه ويجولون. . . لنسألهم هل استطاعوا أن يحققوها؟ أو فرطوا فيها وساعدوا على فقدانها؟ ويل لأكثرهم من سخرية التاريخ! وويل لهم من حساب هذه الأمة إذا انفجر بركانها. . . آه(1012/32)
يا فلسطين.
أوليت أمرك خادعين يمزقونك كيف شاءوا. .
هم داؤك الفتاك لا البؤس الملح. . . ولا الشقاء. .
بدمارك افترشوا النعيم وماج حولهم الثراء. .
بدم الجياع. . . ودمعهم شيدت قصورهم الوضاء. .
مهلا. . سينتهك الستار إذا تكلمت الدماء. .
ماذا؟ أترتقبين خيراً من (جنانك) أو فلاحاً!
يكفيك إغضاء على البلوى. . ويكفينا جراحاً. .
عرفوا القيادة (منصباً) يعلى. . وتضليلاً صراحاً. .
وتجارة يتقاسمون بها دم الشعب المباحا. .
في صدرهم. . يا أمتي - إن تشهري يوماً سلاحا
قالوا: فلسطين فقلنا: دونها وخز القتاد. .
شرف العروبة لن يكون على الأذى سلس القياد
أسمعت أبواق (العبيد) تصم آذان الجهاد؟
وتهز بالخطب الشداد دعائم السبع الشداد؟
وتصيح ناذرة دماها للمعارك والجلاد
أين الجهاد؟ وأين أبواق البطولة. . يا بلادي. .
لفظت فلسطين الحياة (ومجرموك) على الحياد
أو لك يزالوا (يلتقون) على الخيانة والفساد؟. .
أعلمت أين ممزقوك ومسلموك لكل عادي؟
أجل. . . هؤلاء الزعماء هم الذين مزقوا البلاد، وأضاعوا فلسطين. . . كما أضاعوا من قبلها لواء (الإسكندرية) وإذا يزاحوا فستصبح البلاد العربية و (في كل زاوية فلسطين مدينة التراب) وإذا لم يحاسبوا.
ف: خل اللواء فإنهم لن يخجلوا ... أن يجعلوا كل البلاد
يل لهذا المسكين. . ويا لرفاقه الشبان المساكين. . . ويا لهذه البلاد المسكينة. . . أفلا(1012/33)
تكفيها مخالب الغاشم المستعمر ليتعاون الزعماء على تمزيقها؟ مهلا أمتي مهلاً. . . فالنهاية لن تطول
ضمدي أمتي جراحك وأمضي ... لك يوماً. . . مع (الجناة) لقاء
سيوافيك من خلال المنايا ... والأعاصير. . . فجرك الوضاء. .
ويا وطني:
قل (لصهيون): دون أحلامك السو ... داء عض الشجا، ولسع القتاد
لم تهن - مثلما ظننت - على الصياد ... يوماً فريسة (الصياد)
لا يغرنك الهدوء على الغا ... ب وتطمعك هجعة الآساد
يعلم الناهلون من دمنا المه ... دور أن الثرات بالمرصاد
ويا شباب العرب:
قولوا (لسيدة البحا ... ر) الموج و (ظلها) من حاكمينها
قولوا لها: ليس الخضم كما أرادته. . . سكونا
إني لألمح خلف ... صمت الموج إعصاراً دفينا
وزعازعاً. . قد تحطم ال ... ربان يوماً والسفينا
إني لألمح في العبا ... ب تمرداً. . . لا بل جنونا
ويا وطني لا تخدعنك الفرحة البتراء. . ولا يغرنك الاستقلال إذا لم يكن شاملا ولم تتم فيه الوحدة: -
أبلغ الشام وهي مائجة الأف ... راح نشوى من فجرها المتهادي
وأغاني (الجلاء) تلعب بالعو ... د كما تشتهي، وبالعواد
لم يحن بعد موعد العرس (فيحاء) ... ولا جر عاطر الأبراد. .
لا تقيمي الأعياد فالفرحة (البت ... راء) شوك في جبهة الأعياد. .
أتغضين عن فجيعتك الطر ... ف أيبقى (الأسير) من غير فادي؟
أفتنسينا؟ ولم ننس يوماً ... أننا نذر فكرة، واعتقاد؟
أتنامين على (ضحيتك) البكر ... أهذا عهد الكرى والرقاد؟
وطني كل بقعة يتجلى ... فوق غبرائها محيا (الضاد)(1012/34)
هذا هو العربي الصميم، وهذه هي الوطنية الصادقة التي إذا غشى عليها اليأس قبست من التاريخ الحي في أعماقها ما يجلو الدجى ويزيح الظلام؟
أرأيت أحر من هذا الفؤاد؟ أسمعت أروع من هذا الزئير؟ هذا هو سليمان. . . شعلة متأججة بالوطنية، وشباب يتدفق حماسة، وروح مرهف تدميه هذه المآسي والنكبات وفكر وقاد يرى ويدرك، وخيال خلاق يتصور ويصور، ولسان ماض أتته اللغة منقادة طيعة فصاغ بها تلك الآلام أناشيد دامية تهز الموتى، وأنطق بها تلك الفواجع زفرات مشبوبة تلسع الجماد. . ثم مضى يستوحي التاريخ العربي المجيد أسياده ويوقظ من نام كتابه، حتى ماج ديوانه بالعباقرة والأبطال، وزخر بالبناة الخالدين والقادة المراد. . . بعثهم في أروع صورة، وأنطقهم بأبلغ لسان:
لا تلمني إذا بكيت على الما ... ضي؛ على عربي، على عنفواني
أنا أحيي التاريخ في كل ومضي ... من خيالي، وخفقة من جناني
ثم عاد يصور أقزام هذا العصر تصويرا دقيقا شفافاً أظهر ما أسن في قراراتهم، وبين ما أحتقن في أعماقهم من خور وطمع، وجشع وجبن، ثم عرج على الشعب المخدر يوقظه ويصور له هول مآسيه وجمال ماضيه تصويراً يستفز الجماد ويلهب الجليد.
أتلمست نفساً أحر من هذا النفس؟ وزفرة أطول من هذه الزفرة؟ إنها الأمة حاضرها وماضيها. . لقد انصهرت في عواطفه فصاغها آلاماً وأمالاً. . وسيظل يسقي من هذا المعين الذي في فؤاده، والذي لا ينضب. . وهل تنضب الأمة العربية من إيحاء؟
أما أني - علم الله - لم اسمع مثل هذه الملحمة، ولم تهزني مثل تلكم الأناشيد. . وبقدر ما أنا معجب بها وبصاحبها أتألم له ولها. . وأتمنى لو تحققت آمالها لتحقق آماله ليخف الألم، وليسكرنا سليمان بأناشيد الشباب المرحة الخالدة: -
شعل الحب والصبا والرغاب. .
لست حراً. . لتعصفي بشبابي. . .
إهدئي الآن. . . واقذفي بركاني
في الأعاصير، في لهاة العباب
أنا لو حقق الزمان طلابي. . .(1012/35)
عشت وقفاً على العيون السود ... وأذبت الحياة عنقود. . .
احمد الفخري(1012/36)
رسالة الشعر
قصر شمبرون. .!
للشعر الكبير عزيز أباظة
في الصيف الماضي زار الشاعر الكبير عزيز أباظة قصر شمبرون بمدينة فينا عاصمة النمسا، والذي شهد أروع أمجادها واجل احداثها، وقد طاف الشاعر بغرف ملوكها ومقاصيرهم، هؤلاء الملوك الذين حكموا اكثر من خمسمائة سنة، ثم زالت دولتهم، وانطوت أيامهم على صحوة الشعوب. . .
اضطربت هذه الخواطر في نفس الشاعر الكبير، وأثار مشاعره الطغيان الذي كان مضروبا على وطنه.
وقد نظم الشاعر هذه القصيدة في العام الماضي، وهو يتوقع لمصر نفس المصير الذي كتب على النمسا، ثم ظلت القصيدة حبيسة عهد كريه طوته حركة الجيش الباسل، حتى أذن الله لها أن تجد سبيلها إلى الناس.
قال حادي القطار، هذي فيّنا ... فنشطنا من أسرنا وهبطنا
واحتوتنا سيارة تنهب الأرض ... فقلت اخطري الهوينى الهوينى
إنما تسبيحن في سمة التاريخ ... رفت هنا جمالاً وفنا
خصها الله بالرواء فما تبصر ... إلا حسنا يناغم حسنا
روعة إن شهدتها وهي يقظى ... وفتون إن جئتها وهي وسنى
ما لها جهمة المعارف حسري ... أدلال الصدود قبل الوصال؟!
ومن الغيد، من ترى وهي غضبى ... آية من سماحة وجمال
أين ثغر يفتر عن ألق الخلد ... وهدب يخفى جنون الليالي؟!
أين عزف كأنه من لحون الله ... طهر الأهزاج والأرمال؟!
ما لفينانها ذوى؟ ما لشمس ... آذنت عند صحوة بزوال؟
أين حور كأنهن اللآلي=إن أطاقت صيد القلوب اللآلي؟
أين ليل ينهل صبحا فما ينماز ... إلا بهجعة الأطفال؟
أكلت فتنة الليالي الليالي ... فأمحت كالرؤى العذاب الخوالي(1012/37)
ووقفنا في (شمبرون) فهاج النفس ... ذكرى الأقيال من (شمبرونا)
غرف خر فوق أنماطها الدهر ... وإن فض سترها المكنون
ومقاصير شب فيها، وشاب المجد ... ضخم الاسناد حتى بلين
نسق من قياصر، لم يروع ... بدخيل، ولم يقل هجين
عترة الكابرين من (هبسبرج) ... أين هم في الكواكب الآفلينا
قال لي رائدي الذي يحفظ القول ... ويزهي به على الزائريناا
هذه حجرة الذي اعتبد الدهر ... وثل العروش (نابليونا)
واصطفاها ابنه، فأينع فانهار ... فأودى فيها ذليلا سجينا
ومضى في الذي يدير من القول ... ولم يلفني سميعاً أذِينا
ملت عنه إلى مناجاة نفسي ... إي دنيا هذي، وأي مقا
هتكت حرمة الملوك، ودكت ... برحاها الطحونِ تاج القياصر
وطوتهم صرعى، كما ينطوي الليل ... وطاحت بعادل وبجا
أفنهج الزمان هذا؟ يشيد الصرح كالطود فوق أنقاض آخر
أم هفا الناس للجديد من الحكم، فخاضوا له فجاج المخاطر
ظلم الناس، ليس كل جديد ... بشهي الجنى، ولا كل دا
إن حكم الملوك، إن كان عدلا ... وعزوفاً عن الهوى والكبا
والتماساً لطاعة الله في الناس ... ببث الشورى، ودعم المنا
واحتفاء بهم، وعطفا عليهم ... في جدا صابر، ورمة قاد
واقتضاء من المياسير للمحروم ... حتى يأتمهم غير صاغرينا
وانتصافاً من الجبابر للضعفي ... فلا يصطلون نار الجبا
فهو ضرب من حكم أربعة الأشياخ تسنى به الدنا وتفاخ
قال لي رائدي، أتسمع؟ قلت السمع ملآن، والجهود قواص
عزيز اباظة(1012/38)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
استهل نادي الاتحاد الثقافي موسم محاضراته هذا العام، بمحتضرة لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عن مهمة الأديب في مصر.
وقد غصت حجرات النادي وشرفاته وأبهائه بجمهرة كبيرة من الزوار والوافدين وكبار الشخصيات.
وكان في مقدمة هؤلاء السيدة كرمة السعيد وبعض فضليات المربيات والأساتذة محمد صلاح الدين وحسين هيكل وأحمد زكي وكامل كيلاني وسعيد العريان وأنور احمد.
وكان الدكتور محمد عوض محمد يشرف على النظام العام بروحه اللطيفة ومداعباته البارعة
وتحدث الدكتور ساعة كاملة. . . فعرض موضوعه في لباقة وبراعة. . واستطاع أن يخرج لنا صورة حية لهذا الموضوع الدقيق تناولت جوانبه الفياضة بالعرض الدقيق.
تحدث عن الأدبي العربي القديم: أيام الجاحظ والمعري. . وتحدث عن الأديب الحديث في الشرق والأديب الحديث في الغرب. . . وعرض لمؤتمر البندقية.
وصور مسئولية الأديب الإجماعية في هذا الزمن، وكيف أنه لا يستطيع أن يجمع بينه وبين عمل آخر. ذلك لأن الأدب الآن يتطلب جهدا جبارا، ويتطلب من الأديب ألا يشرك به، وأن يتجرد له، يقرأ ويدرس ويستقصي. . ويلم بكل جديد من الآراء؛ وهو إذا قصر في هذا، عجز أن يجري في ركب الحضارة.
وقال إن الدولة ملزمة بأن توفر للأديب أسباب الحياة حتى يستطيع أن ينتج.
ثم عرض لحرية الأديب فقال إن الأديب لا يستطيع أن ينتج إلا إذا أحس بأنه حر في أن يكتب ما يوحي به ضميره وتهجس به نفسه. وأنه مسئول كعضو من أعضاء المجتمع عما يذيع بين الناس وعليه تبعة ما يكتب.
ومن تبعاته أن يوجه وأن يهدي إلى الخير والحق والجمال.
وعليه ألاينزل إلى الناس ولا يرضى أهواءهم، وإنما عليه أن يرفعهم إليه وأن ينقلهم من الحياة العامة التي يحبونها إلى حياة فكرية ممتازة.(1012/39)
وصور عميد الأدب اثر الصحافة والسينما والإذاعة بالنسبة للأدب والكتاب المطبوع وقال إن الأدب قد تحرر من سلطة الملوك والأمراء. وأنه لن يقبل بحال أن يعود إلى هذه العبودية.
وعرض لقضية (أدباء الشباب) فكان غاية في الإنصاف. وطالب بضرورة تهيئة الوسائل الكفيلة بإعانتهم على الإنتاج والتبريز.
وقد أولى هذا هو الموضوع مقالاً من مقالاته في الأهرام، كما بدا في هذا الأسبوع ينقد إنتاج الأدباء الشباب، وقد تناول قصة (إني راحلة) ليوسف السباعي. وهي ظاهرة جديرة بالتسجيل لعميد الأدب.
ولم يكن الدكتور طه حسين في محاضراته جافاً، ولا متكلفاً، بل كان شعبياً منطلقاً، وكان لا يترك مناسبة دون أن يدخل عنصر الفكاهة اللطيفة الممتازة، في حديثه، ومرتين أثار عاصفة من الضحك. عندما عرض للأدباء الذين يعملون في المصالح الحكومية ومعاملة رؤسائهم لهم، في تعنت وصلف. وعندما أشار إلى أن كل أديب من شأنه أن يذهب إلى السينما لأن أهله يفرضون عليه هذا الذهاب. ولذا لا يستطيع أن يتخلف ليقرأ كتاباً من الكتب مثلاً! وأثار الدكتور عاصفة من التصفيق الحاد عدما عرض لتحرر الأدب من سلطان الملوك والأمراء، وعندما صور الحياة الأدبية التي يمكن أن تستقبلها مصر في ظل العهد الجديد.
نقابة الأدباء
وكان الدكتور طه حسين قد اجتمع بأعضاء نادي القصة في الأسبوع الماضي، هذا النادي الذي يخرج الكتاب الذهبي الشهري. . . وقد تحدث الدكتور في هذا الاجتماع عن مشروعه الذي يوشك أن يتقدم إلى الجهات الرسمية لإنشاء نقابة للأدباء ترعى إنتاجهم وحياتهم ومستقبلهم وتهيئ لهم حياة كريمة.
على أن تكون موارد هذه النقابة بعض حصص على المؤلفات القديمة والمؤلفات الحديثة.
ولا شك أننا في حاجة إلى أن نقرأ تفصيلات وافية عن هذا المشروع فهو يهم جميع الآباء الآن، وبخاصة الذين يعملون في الوظائف الحكومية، والذين قد يخيرون بين العمل الأدبي، أو العمل الصحفي، وبين وظائفهم الحكومية.(1012/40)
فعسى أن يتفضل الدكتور العميد بنشر تفاصيل هذا المشروع.
النشاط الثقافي
افتتحت في هذا الأسبوع ندوة الجامعة الأمريكية بمحاضرة للرئيس السابق علي ماهر عن (فلسفة الثورة المصرية الجديدة) كما افتتح النشاط الثقافي لنادي ضباط الجيش بمحاضرة للدكتور مصطفى الحفناوي المحامي عن قناة السويس.
كما استجابت جمعية الشبان المسيحيين لملاحظة الرسالة فعقدت مهرجاناً شعرياً عن أهداف الثورة ودعت إليه بعض الشعراء الذين وردت أسماؤهم في باب (الأدب والفن).
وقد علمت أن شباب القراء الذين دعوا إلى الندوة الأولى قد ظنوا على اثر كلمتي التي طالبت فيها بدعوة القدامى من الشعراء أن هذا انتقاص لحقهم، وما أردت هذا، ولكي رجوت التنويع وربط الأواصر، وضم الكفايات المختلفة، وأحببت أن تنمحي تلك النزعات القديمة التي كان يحرص أصحابها على دعوة فريق من الشعراء، متجاهلين العناصر الأخرى.
وإذا اتجهنا نحو المسرح أو السينما لاحظنا سمة (فن الثورة) أيضاً. . فهناك فيلم مصطفى كامل ومسرحيات نزاهة الحكم ونهاية الأندلس غيرها. وهكذا أخذت روح الثورة الجديدة تبرز في الإنتاج الثقافي بصفة عامة.
هل عندنا شعراء أو شاعرات:
لفت نظري في محلة (القلم الجديد) التي يصدرها في عمان الأديب الكاتب السيد عيسى الناعوري مقالاً للدكتور زكي أبو شادي عن (أبو القاسم الشابي) تحدث فيه الشاعر المهاجر عن الشاعر الذي ودع الحياة وهو في ريق الشباب.
واهتززت فعلاً عندما وقع نظري على مفتتح قصيدته (صلوات في هيكل الحب).
. . هذا المطلع الذي قرأته مرة إلا أحسست بأن الشابي كان يعيش في غير دنيانا. . وأنه لا يصدر عن نفس يمكن أن تكتب لها الحياة الطويلة. .
(عذبة أنت كالطفولة، كالأحلام، كاللحن، كالصباح الجديد) (كالسماء الضحوك، كالليلة القمراء، كالورد، كابتسام الوليد).(1012/41)
وعجبت كيف لا نجد مثل هذا الشعر اليوم عند شعرائنا الشباب، هذا الصدق، هذه الحيوية الفياضة، التي تدل على أن الشابي عاش تجربة شعورية كاملة، كان مزيجا من الصدق والوفاء. . وكانت غاية في السمو والنقاء.
وبينما اقلب صفحات المجلة، وقع بصري على شعر آخر كتبته الشاعرة العراقية نازك الملائكة.
. . . ولفت هذا الشعر نظري أيضاً. . لقد قرأت شعر لأكثر من شاعرة عندنا هنا في مصر. . ولكني لم أحس وقدة الحياة فيه كما أحسستها في شعر نازك الملائكة أو فدوى طوقان. .
فلماذا تنقص شاعراتنا هذه (الأنوثة) والحيوية. . اعتقد أن السبب واحد، وأن النقص مصدره واحد في شباب القراء والشابات.
إن شعراءنا وشاعراتنا - إن صح أن عندنا شاعرات - يتكلفون ويتكلفن، إنهم لا يعيشون في الحياة الصادقة، التي تمنح الوحي الصادق أو تمد بالإلهام!
وهذه لمحة من شعر نازك الملائكة
استرحنا. . كشف اللغز ومات المبهم
وتلاشت حرقة الأحلام في لون العيون
استرحنا. . هدأ الشوق وواراه السكون
استرحنا نحن وارتاح الزمان الفهم
وغدا ينهزم الماضي بعيداً
وترى أعيننا شيئا جديداً
ولا زلت احسن بأننا لم ننشأ الأدب النسوي بعد. . ولا الشعر النسوي بالطبع!
وإذا كنا نحن اليوم في مطلع نهضة جديدة، فإننا نحب من الشعراء أن يكونوا روح هذه النهضة. . نريد ذلك الشعر الذي نحس أن الحب فيه يصعد إلى السماء. . ويرف مع الملائكة!
نريد تلك الروح النقية الصافية الخالصة التي لا يشوبها الفاحشة والمجون!
فمتى نرى هذا الشعر! عندها يحق لهؤلاء وأولئك أن يقولوا إنهم شعراء!(1012/42)
أنور الجندي(1012/43)
الكتب
آن لهذا الشعب أن يفهم
تأليف الأستاذ عبد المغني سعيد
للأستاذ احمد عوض
هذا الكتاب من بواكير التأليف بعد النهضة الكبرى، فهو يهدف إلى مراميها وتتمثل في طبيعتها. وهو مثلها شعور طال كبته ثم تدفق فجأة عند أول فرصة لتدفقه كما ينفجر البركان عندما تقترب متفجراته الحبيسة من طبقة أرضية ضعيفة.
ولقد تسبق التفجر إرهاصات منبهة به كما سبقت النهضة أزمات حادة، وكما تلجلج هذا الكتاب فحاول الخروج قبل أن تخرجه المطبعة على الصورة التي أخرجته بها الآن. في سنة 1942 حاول مؤلفه السيد عبد المغني سعيد أن ينفس عن شعوره الجياش وأن يخرج جانباً من الكتاب باسم (تيارات الإحلال وتيارات الحرب في مصر)، وحاول إذ ذاك أن يوضح خفايا فترة الانحلال، ويحلل اتجاهات الإصلاح، ويرسم المحاولات الارتجالية التي كادت تتمثل إذ ذاك في الأحزاب، وأن ينبه إلى ما شابها من خطأ، وما يصيب البلاد من ضرر لو لم يفسح للثورة الفكرية المحسوبة في الصدر مجال الظهور.
لقد بدت هذه المحاولة، ولكن لم يكن الوقت قد آن لنشوب الثورة في مصر. ولا لصدور التعبير عنها بمثل هذا المؤلف، فلم يفلت مشروع كتابه من مقص الرقيب.
واضطر إلى انتزاع أجزاء منه وتقسيم فكرته، بعد تهدئتها على فصول نشرت في الصحف، ولكن كذلك لم يكفه، فأعد من كتابه نسخا معدودة على الآلة الكاتبة، بعد أن أعاد كتابة ما نشر وزاد فيه من التوسع والصراحة.
لكن هذه الثورة لم تكن لترضيه، ولم يكن في الإمكان نشر الذي يرضي، فهرب النسخة الكاملة من معتقله في ألمانيا.
وهكذا كانت الثورة نفسها تحاول الظهور ثم يحول دون ظهورها ما حال دون ظهور الكتاب وأمثاله من رقابة، إن تشبهها بشيء فبقشرة الأرض الغليظة فوق ثورة محبوسة في صدر بركان.(1012/44)
وحدثت الثورة وظهر الكتاب (آن لهذا الشعب أن يفهم)؛ هذه في شهر يوليو سنة 52، وهذا في شهر سبتمبر سنة 52، ولكن تأليفه كما تقدم يسبق صدوره بكثير.
وليس الكتاب تاريخاً للثورة ولا شرحاً لمبادئها؛ ولكنه صورة منها. هو انفعالات قوية في اتزن. ثائرة ثورة العقل المقتنع لا الشعور الصاخب.
لم ينسج على منوال الكتب التاريخية ولا الأدبية. ولكن المنطق الذي يسوده منطق الثورة، منطق هذه الثورة بالذات لا أية ثورة اخرى؛ ففيه حكمتها ورصانتها، فيه صفوة التجاريب التي أنضجت مصر في ألوف السنين.
تترسم في خطى النهضة في محاولتها الفرار من محبس الكبت، بادئة بالمظهر العسكري في عهد محمد علي، ثم بالمظهر الأدبي من خطابة وكتابة، ثم بالمظهر القانوني من جدل ونقاش ومفاوضة إلى أن تتبلور فتجمع كل الخصائص والمزايا، وتتحرر من كل وجوه القص، فتقذف بالحواجز التي رقت وشقت ثم تدفعت فتهاوت.
في أسلوب السيد عبد المغني كما في أسلوب النهضة، اثر من تلك الاساليب؛ غير أنه كالنهضة سيد لما يستخدمه من وسائل التعبير.
ليست عسكريته وسيلة عامة لغاية خاصة. وليست لهجة استنهاضه دعاية للنوم في أجفان طفل يراد إيقاظه. وليست قانونيته مغالطة يقصد بها إخضاع الحق لمنطق تشريعي.
ولكن عسكريته صراحة، ودعوته الوطنية فكرية تذاوبت فيها العاطفة، فهي إقناع يجر الإرادة لا وخز يهيج الشعور. وليست قانونيته جدلا ولكنها حكم.
(آن لهذا الشعب أن يفهم) والذي آن له أن يفهمه هو ما احتواه الكتاب من صورة للثورة يحدد اهدافها، لا مشيرا إليها عن بعد ولكنها متجها نحوها.
فلمن شاء أن ينتقل إلى أهداف الثورة أن يقرأ هذا الكتاب ليخلص من اثر الماضي عليه من جدل لا يراد به الإقناع، واهتياج لا يراد به الاستقرار، واضطراب لا يقصد به إلى الهدوء هو ثورة ولكنها منطقية، وهو منطق ولكنه ثائر.
احمد عوض
مستقبل الإسلام(1012/45)
تأليف الأستاذ محمد عبد القادر العماوي
للأستاذ عبد السميع المصري
هذا هو الكتاب الثاني الذي يتحدث فيه الأستاذ محمد عبد القادر العماوي عن إمكانيات هذا الدين الحنيف. أما كتابه الأول الذي أصدره في العام الماضي فكان عنوانه (هذا هو الإسلام) ولقد تحدث الأستاذ العماوي في (مستقبل الإسلام) طويلاً عن أسباب الجمود الذي أصاب الدين خلال عصور التاريخ، والعوامل التي أدت إلى ذلك؛ كما تحدث عن تطور الأديان وقارن بين العقيدة في مختلف الأديان مقارنة مبنية على أسس من العلم والتاريخ، وبين كيف أن الإسلام نظام عالمي مرن متطور وفق حاجات الزمان والمكان، وما كان له أن يصل إلى هذه النتيجة قبل أن يعرج على نشأة الفرق الإسلامية والعوامل التي أثرت في تاريخها وأسباب ما رميت به من تعصب أعمى وأودى بالكثير من جمال تعاليم بعضها والأسباب الخفية لنشوء معظم الفرق الإسلامية.
ثم يخلص من كل هذا البحث التاريخي العلمي إلى النتائج الطبيعية له وأثره في الإسلام ووجوده كقوة عالمية ثالثة وإمكانيات هذه القوة ومستقبلها بين الكتلتين الشرقية والغربية التي تتنازعان اليوم، لكنه في هذا المكان من الكتاب وقد جعله خاتمته يختصر القول اختصارا ويجمله إجمالاً ويكتفي بالتلميح دون التصريح وهو لب الكتاب وأس موضوعه. . وكأني به يخشى الإفصاح عما في نفسه أو يتهيب الرقيب الحسيب ويخشى مغبة آرائه الحرة، ويقيني لو أن الأستاذ العماوي تأخر في إصدار كتابه أياماً لكان له شأن غير الشأن ولأجرى القلم بما يشاء وأفاض فيما يريد، ولعله فاعل ذلك في الطبعة الثاني إن شاء الله تعالى.
ومن أمثلة هذا الاختصار المخل ما جاء في الصفحة 209 من قوله (لكن الإسلام لم يكتف بذلك وإنما يريد أن يقضي في صراحة وقو على ميكروب النظام الطبقي الذي ينشأ عادة من سوء التوزيع الاقتصادي للدولة فيوجب ضرورة التوازن في دخل الأفراد وبذلك يقضي على كل العوامل التي ينشأ في ظلها الربا والاحتكار).
هذا كلام جميل يحتاج إلى كثير من التفصيل ويحتاج إلى أن يبين لنا الأستاذ العماوي(1012/46)
الوسائل العلمية التي لا تتعارض مع روح التشريع الإسلامي وتحقق هذه الأهداف الجليلة؛ ويكون بذلك قد أدى خدمة لله والوطن. وفي مكان آخر (ص213 يعرض الأستاذ المؤلف لنظام الإسلام في صورة اشد غموضا وأبهم فيقول. . (إننا لا نحب أن نخدع أنفسنا فنتمسك بالقشور على اللباب فإذا كنا حقيقة نحرص على بلوغ ما رسمه الإسلام من غايات فالسبيل إلى ذلك الانتقاض عن هذه النظم التي تسير على حياة العالم وما يتحمله من أساس العدالة ومن نظام في الحق والسياسة والاجتماع لا يبتعد كثيراً عما شرعه الإسلام للعالم وكان بودي لو أن المؤلف أوضح لنا النظام الذي يراه موفقاً ما شرعه الإسلام والنظم الغربية القائمة؛ أو ما يحقق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولا يتعارض مع روح الإسلام ولا روح العصر! أما ترك الأمر للحدس والتخمين فلا والطريق العلمي الذي اخذ المؤلف به نفسه.
والكتاب بعد ذلك مجهود قيم وخطوة جريئة موفقة الأستاذ العماوي نرجو أن تتبعها خطوات إن شاء الله.
عبد السميع البصري(1012/47)
البريد الأدبي
الدراسات العليا لكلية اللغة العربية
ليس هناك شك في أن الدراسات العليا لا غنى عنها للحياة الدراسة في
مختلف الكليات، ذلك أنها تخلق طبقة من المفكرين والباحثين والعلماء
ونحن بحاجة ملحة اليهم، وبخاصة في هذا العهد الجديد الذي يعتبر
التجديد من أهم خصائصه ومقوماته.
وموضوع الدراسات العليا شائك أو هكذا اخذ ودرس على أنه من الصعوبة بحيث لا ينبغي له أن يمر بسهولة ولا يرى النور إلا بعد تمحيص وبحث من نوع جديد.
لقد مرت هذه الدراسات بأدوار مختلفة، واصطدمت بآراء متضاربة، وأخيراً قدر لها أن تخرج إلى عالم الحياة، كان ذلك في العام الماضي، وأسرع (الخريجون) فقدموا أوراقهم إلى قسم الدراسات العليا بالكلية، واطمأنوا إلى أنه ستتاح لهم دراسات عليا تقوم على أسس جديدة صالحة تتمشى مع روح العصر، وتحذو حذو مثيلاتها من الجامعات.
ولكن لأمر ما، أو لأمور كثيرة، لا ادري! اجل افتتاح هذه الدراسات، ووضع مشروعها على الرف كما يقولون إلى اجل غير مسمى؛ وهكذا يصل التهاون بصوالح الطلاب ومقتضيات التعليم الجامعي إلى هذا الحد المقيت.
ونحن هنا لا نريد أن نتناول موضوع الدراسات العليا الذي قدر له أن يقبر في مهد - لا نريد أن نتناوله بالنقد والتشريح، فالكلام فيه لا داعي إليه، وربما نضطر إليه في وقت قريب.
والذي نريده من أولي الأمر أن يكون هدفهم صالح الأزهر دون أن يسمحوا للرغبات الشخصية بأن تثبت وجودها في هذا الميدان الذي يتطلب صفاء القلوب وإخلاص النيات نريد دراسات عليا تكون صورة مماثلة لما يتبع في الجامعات المصرية، ويلتحق بها كل طالب تتوفر لديه الشروط المرسومة من حيث التقدير العام في السنة الرابعة.
ولا يفوتني هنا أن اقرر حقيقة واضحة، فالدراسات العليا تعتبر حقاً لطلبة الكليات، ومن الواجب على كل إنسان ألا يتغاضى عن حقه، لذا كتبت كلمتي هذه أطالب بتحقيق رغبة(1012/48)
هي الحق الصراح، فلن يحمد لإنسان أن يعقد لسانه فلا ينطق بما يراه حقا؛ ومما يبشر بالخير أن العهد الجديديحتم علينا أن نعرف حقوقنا وواجباتنا، وبذلك نكون جنودا مخلصين للحركة المباركة.
ويضطرني الاستطراد إلى أن اذهب بعيدا فأدعو أولي الأمر إلى أن يعملوا على إلحاق أبناء كلية اللغة العربية بالدراسات العليا في كليات الآداب المصرية، ولنعتبر هذه الخطوة بعثات داخلية يستعاض بها مؤقتاً عن البعثات الخارجية.
وحرصا على مستقبل أبناء كلية اللغة أرى لزاماً على أن أشير إلى وجوب تذليل الصعوبات التي تحول دون انتساب طلبة الكلية إلى معهد اللغات الشرقية، ما داموا يدرسون هذه اللغات في كليتهم وإلا فلا فائدة ترجى منها.
وبعد فهذا إيجاز وتركيز لبعض الرغبات التي نأمل أن تتحقق في أسرع وقت في ظل العهد الجديد إن شاء الله، ولنا عودة.
أزهري عجوز
بدعة اليوم الكامل
لا زال وزير المعارف مصرا على اليوم الدراسي الكامل، برغم ثورة الرأي العام على هذا الاتجاه المعتل، وفي مقدمته المسؤولون عن سير الدراسة من المعلمين والمعلمات.
ولو كان لهذا الاتجاه حسنة واحدة لاحترمنا إصرار الوزير الذي اصبح غير قابل للتغيير، ومستحيلاً عليه التخاذل والتقهقر، وقد يرى الوزير نفسه لهذا النظام حسنات كثيرة، ولكنه لا يجد من يقره عليها، اللهم إلا شرذمة من بطانته وحاشيته، لأنه لا رأي لها مع أي وزير، فمهمتها قاصرة على التصديق والتأمين ليس إلا.
يقول وزير المعارف: إنه يهدف من وراء هذا النظام إلى إلصاق التلميذ بالمدرسة حتى ينجذب اليها، ويصقل بين جدرانها وينشأ التنشئة الصالحة فوق تربتها، ويهدف أيضا من وراء هذا النظام إلى إيجاد فسحة كبيرة ليستجم خلالها الطالب، ويتخلص من الإرهاق الذي كان يعانيه من جراء تكديس الدروس دفعة واحدة دون راحة أو استجمام.
أما إلصاق التلميذ بالمدرسة، ودفعه إلى الاجتذاب إليها وصقله بين جدرانها، وتنشئته(1012/49)
التنشئة الصالحة فوق تربتها، فهو من الخيال الرائع المحكم، إذ ليست المدارس في مصر مهيئة ولا مستعدة لتحقيق هذا الخيال الرائع المحكم، فهل في مدارس مصر حدائق غناء يستجم الطلاب بين أشجارها؟ وهل في مدارس مصر من المسليات الكافية لجذب التلاميذ إليها؟ يستطيع الوزير الهمام أن يجيب عن هذين السؤالين بسهولة، ولا سيما وأنه قد زار مدارس الأقاليم التي هي اقرب إلى الأكواخ والقبور.
أما الفسحة الكبيرة التي أطالت حياة اليوم الدراسي، فإن الطلبة يقتطعون منها خمس دقائق فحسب، يتناولون خلالها (السندوتش) من الباعة المتجولين، أما الباقي مناه، فإن البعض منهم يجري خلالها في الفناء، والبعض الآخر يفترش الأرض ليمرق بعينه الجدران والأبواب!
لنعمد إلى خلق المدرسة المصرية خلقا آخر، ولنقلب أوضاعها من جديد، ولنهيئها حتى تصبح مستعدة لاستقبال الطالب يوما كاملا، وليكن بعد ذلك الإكرام والتقدير لهذا الاتجاه - أما أنحتم على الطالب أن يظل من مطلع الشمس إلى مغربها بين جدران أربعة، فلن يكون إلا من قبيل العناد، والعناد - كما يقول الرسول عليه السلام - كاد أن يكون كفراً ,.
نفيسة الشيخ
إلى الأستاذ علي الطنطاوي
يا سيدي لي بنات طالبات أجهدت نفسي في سد ما بينهن وبين الفساد فلم اتركهن للمجتمع المنحل، والملهى الرخيص، والكتاب الداعر.
ولكن فساد المجتمع ما لبث أن نفذ إلى (برضا) من جهاز الراد ومن رفيقه المدرسة، ومن مثيرات الطريق.
. . وبدأت أنكر أن بناتي ومن أوضاعهن ما ينكر الرجل الغيور من بنات العصر وأوضاعهن وإن لم يصل الأمر إلى هذا الحد الكريه.
وحاولت أن أقوم ما اعوج واصلح ما فسد بالمنطق الواضح والحجة البينة فكان رأيهن مع رأيي ولكن بقيت عواطفهن منفصلة عن هذا الرأي متصلة بالفساد المستشري إلى أن شاء الله لي الرحمة ولهن الستر فاتصل ما بينهن وبين رسالة (الزيات) جزاه الله عنا كل خير.(1012/50)
وفي الرسالة لقينك يا أستاذ فقرأن معجبات أول الأمر ثم متأثرات.
لق استطعت يا أستاذ بأدبك البارع، وروحك القوية ما عجزت عنه أنا، استطعت أن تنفذ إلى ما وراء الفكر، إلى أعماق الشعور فتكونهن تكويناً وجدانياً جديداً وإذا هن في طريق جديد نهايته - إن شاء الله - التقاء الفكر والشعور على الفضيلة والخير.
وقد قلت كتابتك في الرسالة أخيراً وتركت ذلك النوع من القصص الذي كان يقطع ما بيننا وبين هذه الدنيا ليضعنا في دنيا ثانية لا سبيل إلى وصفها.
فهل لك يا أستاذ إن تتابع الكتابة وفي هذا الصنف من القصص خاصة. . إنك لو دريت كم تبني من نفوس وكم تجنح من همم وكم تنقذ به أرواحاً من الإسفاف لقبلت أن تحمل في سبيله أقسى المشقات.
القاهرة
أب غيور
هي مسالة خلافية
قال الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر (في الأهرام 27 - 01 - 1952) بعد أن أورد حديثين ضعيفين في إباحة الوجه واليدين: وعنى هذا أن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تظهر لغير محارمها إلا بمثل ما تكون عليه في صلاتها هذا هو الدين.
وقال الإمام القرطبي في تفسيره (ج 12 ص 237): اجمع المسلمون على أن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيها وقال في تفسيره سورة النور: ثم استثنى ما يظهر من الزينة، واختلف الناس في قدر ذلك، قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء، فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك.
محمود مصطفى عليبة
عطارد
يصدر أول ديسمبر العدد الأول من مجلة (عطارد) التي يصدرها لفيف من الشباب المثقف(1012/51)
ويشترك فيها الأستاذ أنور الجندي. وستكون شاملة لفصول حارة جريئة من السياسة والأدب والاجتماع.(1012/52)
القصص
السفينة السوداء
عن الإنجليزية
كانت تحب الأطفال حبا ملك عليها قلبها فلم تر صغيراً إلا وجدت من نفسها دافعا قويا إلى حمله بي يديها ومداعبته، وكانت تعلو ثغرها عند ذلك ابتسامة مؤلمة.
وكانت (لينا) على الرغم من سعادتها الزوجية لما بينها وبين قرينها من الحب المتبادل تشعر بأنها تعسة لأنها لم ترزق قط مولودا يملأ عليها منزلها مرحاً وسروراً. وكانت تتمنى لو أنها فقيرة معدمة تتوسد التراب وتأكل خبز الصدقات على أن يكون بجانبها طفل ينظر إليها نظرة احن من نظرات الملائكة.
وكانت تفكر في ذلك تفكيراً يستغرق الساعات الطوال ولحظها في هذا الأثناء معقود بنقطة من أرجاء الغرفة.
ولقد يحسبها من رآها على هذه الحال تمثالاً لولا أن لونها الدائم التبدل يدل على أنه مستغرقة في التفكير. لكنها كانت حريصة على إلا يطلع زوجها على اشتغال بالها وعلى وجهة تفكيرها، فهي أمامه تضحك وتلعب وتقترح التنزه والتلهي وتزعم أنها سعيدة.
وكانت تدعي أنها لا تميل إلى النسل ولا تبالي أن تقضي بقية العمر كما هي الآن.
وللقد كان صواحبها يقلن لها في السنوات الأولى من الزواج إنها سترزق الأبناء في الوقت المناسب. وكانت تعلل نفسها بذلك. ولكن لما انقضى العام بعد العام وكاد يجف عودها ولم يثمر دب في نفسها دبيب اليأس وظلت في وحدتها تعاني ألمها الخفي. وكانت في بعض الأحيان تأنس بالوحدة لتستمتع بلذة هذا الألم. ولكنها في أحيان أخرى تهرب إلى الضجيج والزحام من الآم الوحدة وكان ملجؤها الأول في الحالات الأخيرة في الحفلات الراقصة ففيها لا يسمع القلب مناجاة نفسه.
وكان زوجها يسر من مرافقتها إلى تلك الحفلات لأنه يحب أن يراها سعيدة. وكانت تقدر له هذا الشعور نحوها وتتمنى لو تستطيع أن تخلي له قلبها من كل حب لولا أن حب النسل كان مالئا فراغ هذا القلب.
والأطفال إن لم يوجدوا فهم معان. ولا بد لتعلق القلب أن يكون بشيء ملموس. ولا بد لكل(1012/53)
إنسان من تعليق قلبه بإنسان أو بشيء آخر. ولكن (لينا) كانت ترى حولها من الرجال بلداء وما يحيط بها من الأشياء لا يطاق. فبعد أن جالت جولة في ميدان الطرد انتهى بها المطاف إلى حب نفسها، وأخذت تعامل نفسها كأنها تعمل طفلا مدللا فهي تهدي إلى نفسها الهدايا من الجواهر إلى الأزاهير.
وكانت تجلس الساعات الطوال أمام المرآة تبادل وجهها النظرات، وتقبل صفحة المرآة حيث يرتسم ثغرها. وبودها لو تستطيع تقبيل خدها في المرآة. وكانت تناجي نفسها بأعذب الكلمات وتفزع عندما تسمع بعض الاصوات، ثم تفكر في أيام الدراسة وفي الأشهر الأولى من عهد الزواج فتحس بحاجة قوية للبكاء.
وكانت نتيجة هذا التطور في عهود حبها أنها رأت جسامة الفروق بين طفولتها اللاهية وبين شبابها الحزين، فبدأت نفسها المعشوقة تخاف من نفسها العاشقة.
وبدأت كذلك تشعر أنها بعد ازدواج نفسها صارت اكثر وحدة واكثر وحشة، ولجأت من حب نفسها إلى حب زوجها فوجدت فيه ذلك المهذب الذي لا ينسى واجبه والذي يفهمها حق الفهم ويعطف عليها ابلغ العطف.
ولكنه بعد مدة لم يعد يستطيع التفرغ لها فقد كان محامياً واشتغل أخيراً بالسياسية وسعى لترشيح نفسه للعضوية في مجلس النواب. وكان لذلك كثيراً ما يتخلف عن منزله أسبوعا أو أسبوعين. وكان الزوجان في ذلك الوقت يقيمان في مغنى صيفي مجاور للبحر؛ وقد أنست الزوجة بالسكنى في هذا المكان طلباً للوحدة فيه وفراراً مما تشعر به في المدينة من الإغراء، وكان الهواء الخالص في ذلك المصيف يهدئ من أعصابها، ولكن مشغول البال بخاطر واحد لا يمكن أن يستريح سواء أقام في جوار البحر أو في ذروة الجبل.
وكان لا يزورها في هذا المغنى إنسان ولا تزور إنساناً، ولولا زوجها الذي يأتي بين فترات انقطاعه لكانت في هذا المسكن في وحدة كاملة.
واعتادت أن تقضي أوقاتها في هذه الوحدة جالسة في حديقة المنزل وفي يدها كتاب تمر بنظرها فوق سطوره ولا تقرأ شيئا منه أو ماشية في الأدغال المجاورة تقطع الوقت الذي لا تشعر بمروره أو جالسة شاردة الذهن في خواطرها وأمانيها. وكانت ترى بين حين وحين سفينة سوداء فيها صياد شاب تتمنى أن يكون الابن الذي ترزقه مخلوقاً على مثاله.(1012/54)
وكانت تطرب إلى الصوت الذي يحدثه مجدافه في الماء، لكنها إلى جانب هذا الطرب كانت تشعر بشيء من الخوف وتسرع بالعودة إلى منزلها كأنما رؤية هذا الصياد الفرد تضيع عليها سرور الوحدة.
وكانت كثيراً ما تفكر في معيشته فتقول: إن صياداً وزوجته لا يكاد رزقهما المحدود يكفيهما؛ ولكن إذا كان بينهما ابن صغير فقطعة من الخبز عندهما ألذ مأدبة، والكوخ الضيق أرحب بها من ملكوت السماء. . . ثم تذكر حظها وتتنهد. وكانت في كل ليلة يتلو رؤية الصياد تصاب بالأرق وتشتد عليها وطأة الهم حتى تكاد تلقي بكل أثاث المنزل من النافذة في البحر لتكون حياتها بسيطة كحياة الصيادين. وكانت تشعر في هذا الحين كأن إنساناً ينتظرها أو أنها على موعد؛ فهي لذلك تترقب وهي لا تعرف مدى ترقبها، ولا من هو الطيف الذي تنعكس أحلامها عليه.
وكان شعورها جلياً صريحاً فهي تدرك كنهه وإن كانت تجهل سببه. وكانت تدرك أن ذلك الإنسان الذي يصوره لها الشعور مرتبط بها من عهد بعيد وأنها قضت كل هذا العمر في انتظاره.
وكانت في ساعات وحدتها تخاطبه بأعذب الجمل وارقها، وتخال أنها تسمع من فمه السحر الحلال. وأي ضرر في التمادي في حبه؟ أليس شخصاً خفيا يحبها سراً فما يشعر بحبه إنسان؟
وسواء قضت ليلها ناعسة الطرف، أو مؤرقة، فقد كانت تقوم في الصباح مبكرة، فتسقي أزاهير الحديقة، وتتعهد أحاديث النبت منها كأنه مولود جديد. وتهش إلى الفراش الطائر. ثم تجلس في الظلال بين الألوان الزاهية، والروائح العطرة. . .
وفي يوم من هذه الأيام، سمعت طلقة عيار ناري. ثم وقع تحت قدمها عصفور مصاب بهذه الطلقة. ففزعت ووقفت في مكانها، وقد امتعق لونها. . . وبعد لحظة جرى نحوها كلب من كلاب الصيد فاختطف العصفور وظهر على الأثر ذلك الصياد صاحب السفينة السوداء. فلما رآها رفع قبعته محيياً، وهم بأن ينطق بكلمات الاعتذار. . . ولكن ألفاظه اختنقت!. . . فنظرت إليه نظرة طويلة دون أن تتحرك. ومشى نحوها الشاب وقال: (إنني آسف يا سيدتي! لأني ما كنت احسب هذا المفنى معموراً وقد كنت اصطاد في الأدغال المجاورة(1012/55)
فأصابت طلقتي طائراً هنا، ولولا اعتقادي أن المكان خال لما دخلته. ولو كنت أستطيع عقاب نفسي على إزعاجك لعاقبتها. .).
فلم تجبه (لينا)! ولكنها أشارت إلى باب الحديقة. . . فأحنى الرجل رأسه ومشى نحو الباب! فلما وصل إليه التفت مرة وأحنى رأسه.
وكانت في هذه الأثناء قد عادت إلى الجلوس، وتظاهرت بأنها تقرأ، ولكن نظرها لم يرتفع عن الصياد، وقد أعجبتها صوته الرخيم الذي لم تسمع مثله قبل الآن، والذي دلت عذوبته على انسجامه مع حسن منظره.
وكانت توازن بين هذا المنظر وبين الرجل الذي تتوهمه وتشعر بأنها مرتبطة به من سالف السنين فلا تحد في الموازنة إلا انطباقاً؛ فخرجت من الباب الذي خرج منه باحثة عنه وقضت في البحث طوال النهار فلم تجده وكانت تسائل فسها: هل يعود؟ وتجيب عن هذا السؤال بأنه لا يمكن أن يعود بعد طردها إياه عندما طلب إليها العفو. وكنت تخجل كلما فكرت في لقائه مرة أخرى لشعورها بأنها ستلقاه، وستعتذر إليه لأنه ليس غريبا عنها ولأن لقاءه كان هو الموعد المنتظر.
وفيما هي تفكر على هذا النحو إذ سمعت صوت مجدافيه في الماء وهو يمر بسفينته أمام المغنى فأطلت من النافذة ورأته يقف لحظة لينظر إلى الحديقة، وأحست بأن السنة تصيح في قلبها بصوت مفرح: (هذا هو! هذا هو!).
ووقع نظره عليها فحدق فيها، وكان هو الآخر كان يحلم بها مثلما حلمها به. وكان يشعر بضعة مكانته وسمو مكانها فلم يجرؤ على مطالبتها بأن تحبه ولكنه تشجع فطلب إليها أن تفصح عنه.
وجرت بينهما جملة صغيرة يسمع الناس مثلها كل يوم ولكن (لينا) تبينت في لهجة هذه الكلمات حباً خالصاً وهوى مشبوباً، ونسيت في هذه اللحظة كل الماضي بل نسيت الحاضر أيضاً.
وسكت كلاهما،، ولكن نظراتهما كانت ابلغ في الخطاب من كل بيان. وقرأت في عينيه تضرعه في الاعتذار فقالت: (لقد عفوت عنك).
ثم ذهبت بعد ذلك منهوكة القوى فألقت نفسها على السرير وبعد تلك الليلة كنت السفينة(1012/56)
السوداء تأتى كل يوم إلى المنزل فتنزل لينالاستقبال الصياد في الحديقة وتترك يدها البيضاء بين كفيه وثغره يقلبها كيف يشاء. ولم تعده بشيء آخر ولكنها سمحت له بأن يؤمل أنه قد يجوز في المستقبل أن. . .
وفي أحد الأيام وصل الزوج بعد غيبة طويلة. وكان مهتاجاً مشغول القلب والذهن لأن الوزراء سيزورونه في المساء في معناه وسيكون للوليمة التي سيقيمها لهم شأن عظيم يدنو به من مجلس النواب.
وجرى الاستعداد للحفلة على قدم وساق. وأُضيئت المصابيح على شاطئ البحر وعلى جوانب الحديقة. وجاء الوزراء واشتركت لينا في الجزء الأول من الحفلة. . . فلما دب دبيب الخمر في بدنها وأبدان الزوار غادرت المغنى إلى الشاطئ وركبت في السفينة السوداء مع الصياد للتنزه ساعة أو بعض ساعة تاركة زوجها والزوار. . .
ولما عادت إلى المنزل كانت أضواء الحفلة قد خمدت وأوشك الصباح أن يبزغ. وكان الزوج نائماً يحلم بأنه صارً عضوا في البرلمان فنامت لينا وهي تحلم بالسفينة السوداء وبمولود جميل ستضعه بعد تسعة اشهر.
ع. ن(1012/57)
العدد 1013 - بتاريخ: 01 - 12 - 1952(/)
في ظلال مولد الرسول
تفسير آية
للأستاذ سيد قطب
(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلمهم الله، ورفع بعضهم درجات. وآتينا عيسى ابن مريم البيات، وأيدناه بروح القدس. ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد).
(تلك الرسل). . لا هؤلاء الرسل. . إنهم جماعة خاصة، ذات طبيعة خاصة. ثم يجيء التفضيل والتفاضل في دائرة هذه الجماعة، أو هذه الطبيعة.
فما الرسالة؟ ما طبيعتها؟ كيف تتم؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلاً وبماذا؟
أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعاني لا أجد لها كفاء في العبارات. ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعني بالعبارات!
إن لهذا الوجود سننا أصيلة، يشير إليها هذا القرآن فيقول: (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا) هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله في الوجود، ليسير على وفقها، ويتحرك بموجبها، ويعمل بمقتضاها.
والإنسان يكشف عن أطراف من هذه القوانين، كلما ارتقى في سلم المعرفة، يكشف عنها - أو يكشف له عنها - بمقدار يناسب علمه المحدود، المستمد من الملاحظة والتجربة، وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما؛ ولكنهما تقودان أحياناً إلى أطراف من القوانين الكلية، في آماد متطاولة من الزمان. ثم يظل هذا الكشف جزئياً لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها، الناموس الأزلي الخالد الذي بين القوانين جميعاً، ذلك السر يظل خافياً لا تهتدي إليه الملاحظة الجزئية، ولا التجربة الجزئية مهما طالت الآماد.
هنا يجيء دور الرسالة. دور الطبيعة الخاصة التي آتاها الله الاستعداد اللدني لتتجاوب في أعماقها - بطريقة ما نزال نجهل ماهيتها وإن كنا ندرك آثارها - مع ذلك الناموس الخالد الذي يسير الكون كله على هداه. . هذه الطبيعة الخاصة هي التي تلتقي الوحي، فتطيق تلقيه، لأنها مهيأة لاستقباله. أنها تتلقى الإشارة الإلهية التي يتلقاها هذا الوجود، لأنها متصلة(1013/1)
اتصالاً مباشراً بناموس الوجود. . . كيف تتلقى هذه الإشارة، وبأي جهاز تستقبلها؟ نحن في حاجة - لكي نجيب - أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله من يشاء من عباده. و (الله اعلم حيث يجعل رسالته).
كل الرسل أدركوا حقيقة (التوحيد). وكلهم بعثوا بها. ذلك أن إيقاع الناموس الواحد في حسهم كله هداهم إلى مصدره الواحد الذي لا يتعدد - وإلا لتعدد الناموس وتعدد إيقاعه في حسهم، وهم المتصلون اتصالاً مباشراً بالناموس الكوني في أعماقهم - وكان هذا الإدراك في فجر البشرية، قبل أن تنمو المعرفة الخارجية، وقبل أن تتكشف بعض القوانين الكونية. . وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد، لأن هذا المنطق الفطري، الناشئ من إيقاع الناموس الواحد، في الفترة الواصلة، المتصلة بناموس الكون الواحد.
ويوماً بعد يوم تكشفت أطراف من قانون الوحدة الأزلي الخالد في نظام الوجود. . . وحدة التكوين، ووحدة الحركة، وأخيراً - في هذه الأيام - وحدة (الذبذبات) لكل أنواع الذرات التي يتألف منها الكون المعروف. . . لقد تكشف أن الذرة - وهي طاقة - هي أساس تكوين جميع القوى والأجسام، ثم تكشف أن عدد (الذبذبات) الكهربائية واحد في جميع الذرات. . إنه طرف من قانون الوحدة يكتشف بمقدار ما تطيق الملاحظة والتجربة أن تبلغ. . أما الطبائع الخاصة الموهوبة فقد أدركت القانون كله في لمحة، لأنها تتلقى إيقاعه وتطيق وحدها تلقيه.
إنهم لم يجمعوا الأمثلة والشواهد على تلك الوحدة عن طريق التجارب العلمية؛ ولكنهم وهبوا جهاز استقبال كامل مباشر، فاستقبلوا إيقاع الناموس الواحد استقبالاً داخلياً مباشراً، فأدركوا إداركاً مباشراً أن الإيقاع الواحد لا بد من مبعث عن ناموس واحد، عن مصدر واحد. . واليوم تنبئ وحدة عدد الذبذبات الصادرة من جميع الذرات التي تلقتها أجهزة العلم الحديثة وسجلتها. . تنبئ على أن ذلك الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة، كان أسبق، وكان أدق، وكان أشمل وأكمل؛ لأنه أدرك ما وراء وحدة الإيقاع، من وحدة المصدر، ووحدة القدرة، ووحدة المشيئة.
ترى قد بلغت شيئاً في تصوير تلك المشاعر والمعاني، التي تفعم حسي تجاه الرسالة؟ أرجو. وإلا فليكتف القراء مثلي بتلك المشاعر والمعاني!(1013/2)
و (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض). . والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول. كأن يكون رسول أمة، أو جيل، أو أجيال، أو جميع الأجيال. كما يتعلق بالميزات التي يهبها لشخصه أو لأمته. أو بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الكونية والإنسانية.
وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى؛ وأشار إشارة عامة إلى سواهما: (منهم من كلم الله - ورفع بعضهم درجات - وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس).
ولم يذكر محمداً - صلى الله عليه وسلم - في صدر الأمثلة، لأن الخطاب موجه إليه، وهذا إخبار له عن غيره من الرسل فقد سبق هذه الآية قوله تعالى:
(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين)
وحين ننظر إلى مقامات الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - من ناحية الاستعداد لإدراك الوحدة الكبرى، ومن ناحية شمول الرسالة لكل جوانبها، ومن ناحية محيطها وامتدادها نجد محمداً - صلى الله عليه وسلم - في القمة العليا - فالإسلام هو أكمل تصوير لتلك الوحدة: وحدة الخالق الذي ليس كمثله أحد، ووحدة الإدارة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة: (كن). ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإدارة، ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود، ووحدة الحياة في الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق، ووحدة البشرية من آدم إلى آخر أبنائه في الأرض، ووحدة الدين الصادر من الإله الواحد إلى البشرية الواحدة، ووحدة الرسل المبلغين لهذه الدعوة، ووحدة المؤمنين الذين لبوا دعوة الدعاة، ووحدة النفس البشرية جسماً وعقلاً وروحاً، غزيرة وميلاً وشوقاً، ووحدة العمل والعبادة ما دام كلاهما متجها إلى الله، ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء.
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أطاقت روحه التجارب المطلق مع الوحدة الكبرى، كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها.
كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني.
ومن ثم كان هو خاتم الرسل، وكانت رسالته خاتمة الرسالات، وهذا ما يعني أن أبرزه هنا،(1013/3)
تفسيراً لانقطاع الوحي بعده. فلقد ارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى وأعلن الناموس الخالد الذي لا يتبدل ولا يتحول. ومن ثم لم تعد إلا التفصيلات والتطبيقات، التي يستقبل بها العقل البشري، ولا تحتاج إلى رسالة إلهية أخرى.
وبعد فلقد اقتتل أتباع (تلك الرسالة) ولم يغن توحد طبيعتهم، وتوحد طبيعة الرسالة التي تجمعهم، عن اختلاف اتباعهم من بعدهم: حتى ليقتتلون من خلاف!
(ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد).
ولكن هذا الاختلاف لم يقع مخالفا للمشيئة الإلهية؛ بل وقع وفق سنته المقررة، مشيئته المقدرة.
إن اختلاف الطبائع والمشاعر والأفكار سنة من سنن الخالق لتنويع الخلق - مع وحدة الأصل والمنشأ - وما كان الله ليجعل عباده جميعا نسخا مكررة، كأنما طبعت على ورق (الكربون)!
لا بد إذن لتكون للحياة قيمتها، وليكون الاختلاف والتقابل وسيلة للتكامل والتنوع، أن يكون هنالك اختلاف في الطباع والمشاعر والأفكار. ومتى وجد الاختلاف على هذا النحو فإنه يستتبع نتائجه؛ وإحدى نتائجه الاقتتال، الذي وقع بين أتباع الرسل. . فهو إذن وفق المشيئة، بمعنى أنه جار على السنة.
(ولو شاء الله ما اقتتلوا) لو شاء أن يجعل التماثل هو الناموس لا التنوع، لما وقع الاختلاف، ولما وقع الاقتتال.
(ولكن الله يفعل ما يريد). . ولقد أراد أن تجري السنة بما جرت؛ فوقع في الكون ما يقتضيه جريان السنة في طريقها المرسوم، وفق المشيئة الكبرى، لتحقيق حكمة خاصة تجري بها هذه المشيئة.
سيد قطب(1013/4)
من أحاديث الإذاعة
أيها الإنسان. . اعرف نفسك
للأستاذ علي الطنطاوي
إنكم تسمعون كل يوم أحاديث في الجد وفي الهزل، وفي الخير وفي الشر. أحاديث تدعو إلى الوطنية، وأحاديث تسمو بالخلق، وأحاديث فيها متعة وفيها تسلية؛ ولكن حديثي الليلة أهم من هذه الأحاديث كلها، لا لأني أنا كاتبه، أعوذ بالله من رذيلة الغرور، بل لأنه أمس الموضوعات بكم، وأقربها إليكم، ولأنه دعوة لكم لتعرفوا أنفسكم.
لا تضحكوا يا سادة ولا تظنوا أني اهزل، ولا تقولوا: ومن منا لا يعرف نفسه؟ فإنه مكتوبا على باب معبد أثينا كلمة سقراط: (أيها الإنسان اعرف نفسك) ومن يوم سقراط إلى هذه الأيام، لم يوجد في الناس (إلا الأقل الأقل منهم) من عرف نفسه!
ومتى تعرف نفسك يا أخي، وأنت من حين تصبح إلى حين تنام مشغول عنها بحديث أو عمل أو لهو أو كتاب؟
ومتى تعرف نفسك وأنت لا تحاول أن تخلو بها ساعة كل يوم تفكر فيها لا يشغلك عنها تجارة ولا علم ولا متاع؟
ومتى. . وأنت أبدا تفكر في الناس كلهم إلا نفسك. . وتحدثهم جميعا إلا إياها؟
تقول (أنا) فهل خطر على بالك مرة واحدة أن تسأل: (ما أنا)؟ هل جسمي هو (أنا)؟ هل أنا هذه الجوارح والأعضاء؟
إن الجسم قد ينقص بعاهة أو مرض، فتبتر ساق، أو تقطع يد، ولكن (أنا) لا يصيبني بذلك النقصان!
فما (أنا)؟
ولقد كنت يوماً طفلاً ثم صرت شاباً، كنت شاباً فصرت كهلاً، فهل خطر على بالك أن تسأل: هل هذا الشاب هو ذلك الطفل؟ وكيف؟ وما جسمي بجسمه، ولا عقلي بعقله، ولا يدي هذه اليد الصغيرة. فأين ذهبت تلك اليد. ومن أين جاءت هذه؟
وإذا كانا شخصين مختلفين فيهما أنا؟ هل أنا ذلك الطفل الذي مات ولم يبقى في من جسده ولا فكرة بقية؟ أم أنا الكهل الذي يلقى هذا الحديث؟ أم أنا الشيخ الذي سيأتي على أثره(1013/5)
بجسمه الواني وذهنه الكليل؟ ما أنا؟
وتقول: (حدثت نفسي، ونفسي حدثتني) فهل فكرت مرة، ما أنت؟ وما نفسك؟ وما الحد بينهما. وكيف تحدثك أو تحدثها؟
وتسمع الصباح جرس الساعة يدعوك إلى القيام - فقد حان الموعد، تحس من داخلك داعيا يدعوك إلى النهوض، فإذا ذهبت تنهض ناداك منك مناد أن تريث قليلا واستمتع بدفء الفراش، ولذة المنام - ويجذبك الداعيان: دعي القيام وداعي المنام. فهل فكرت ما هذا؟ وما ذاك؟ وما أنت بينهما؟ وما الذي يزين لك المعصية ومن يصور لك لذتها، ويحرك إليها؟ وما الذي يفرك منها، ويبعدك عنها؟ يقولون: إنه النفس العقل. فهل فكرت يوما ما النفس الأمارة بالسوء، وما العقل الرادع عنه؟ وما أنت؟
وتثور بك الشهوة، حتى ترى الدنيا كلها مخدع الحبيب، والحياة كلها متعة الجسد، وتتمنى أماني لو أعطيها شيطان لارتجف من فظاعتها الشيطان، ثم تهدأ شهوتك فلا ترى أقبح من هذه الأماني، ولا أسخف من ذلك الوصال!
ويعصف نفسك الغضب حتى ترى اللذة في الأذى، والمتعة بالانتقام. وتغدو كأن سبعا حل فيك، فصارت إنسانيتك وحشية. . ثم يسكت عنك الغضب،، فتجد الألم فيما كنت تراه لذة، والندم على ما كنت تتمناه.
وتقرأ كتاباً في السيرة، أو تتلو قصة، أو تنشد قصيدة، فتحس كأنك قد سكن قلبك ملك فطرت بغير جناح إلى عالم كله خير وجمال، ثم تدع الكتاب، فلا تجد في نفسك ولا في الوجود إثارة من ذلك العالم.
فل تساءلت مرة ما أنا من هؤلاء؟ هل أنا ذلك الإنسان الشهوان الذي يستبيح في لذته كل محرم ويأتي كل قبيح؟ أم ذلك الإنسان الباطش الذي يشرب دم أخيه الإنسان، ويتغذى بعذابه ويسعد بشقائه؟ أم ذلك الإنسان السامي الذي يحلق في سماء الطهر بلا جناح؟ أسبع أنا أم شيطان أم ملك؟
أتحسب أنك واحد وانك معروف. وأنت جماعة في واحد وأنت عالم مجهول. كشفت مجاهل البلاد، وعرفت أطباق الجو، ولا تزال أنت مخفياً، لم يظهر على أسرارك أحد. فهل حاولت مرة أن تدخل إلى نفسك فتكشف مجاهلها؟(1013/6)
نفسك عالم عجيب، يتبدل كل لحطة ويتغير، ولا يستقر على حال: تحب المرء فتراه ملكاً، ثم تكرهه فتبصره شيطاناً، وما ملكاً كان قط ولا شيطاناً، وما تبدل، ولكن تبدلت حالة نفسك. وتكون في مسرة فترى الدنيا ضاحكة، حتى أنك لو كنت مصورا لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان، ثم تراها وأنت في كدر، باكية قد غرقت في سواد الحداد. وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي.
فما هذا التحول فيك؟ وأي أحكامك على الدنيا أصدق؛ وأي نظرتيك أصح؟ وإذا أصابك إمساك فنالك منه صداع، ساءت عندك الحياة، وأمحى جمال الرياض، وطمس بهاء الشمس، اسود بياض القمر، وملأت الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفاً، وحشوت الأسماع شعر بؤس إن كنت شاعراً. فإذا زال ما بك بقدح من زيت الخروع، ذهب التشاؤم في الفلسفة، والبؤس في الشعر. فما فلسفتك يا أيها الإنسان وما شعرك إن كنت مصدرهما فقد قدح من زيت الخروع؟
وتكون وانياً، واهي الجسم، لا تستطيع حراكاً، فإذا حاق بك الخطر، أو هبط عليك فرج. وثبت كأن قد نشطت من عقال، وعدوت عدو الغزال، فأين كانت هذه القوة كامنة فيك؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة فتحسن استغلالها؟ هل تساءلت مرة عندما تغضب أو تفرح فتفعل الأفاعيل - كيف استطع أن تفعلها؟
إن النفس يا أخي كالنهر الجاري؛ لا تثبت قطرة منه في مكانها، ولا تبقى لحظة على حالها، تذهب ويجيء غيرها، تدفعها التي هي وراءها، وتدفع هي التي أمامها. في كل لحظة يموت فيك واحد ويولد واحد، وأنت الكل؛ أنت الذي مات وأنت الذي ولد، فابتغ لنفسك الكمال أبداً، واصعد بها إلى الأعالي، واستولدها دائماً مولودا اصلح واحسن، ولا تقل لشيء لا أستطيعه فإنك لا تزال كالغصن الطري، لأن النفس لا تيبس أبداً، ولا تجمد على حال، ولو تباعدت النقلة، وتباينت الأحوال. . إنك تتعود السهر حتى ما تتصور إمكان تعجيل المنام؛ فما هي إلا أن تبكر المنام ليالي حتى تتعوده فتعجب كيف كنت تستطيع السهر! وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها، فما هي إلا أن تدعها حتى تألف تركها وتعجب كيف كنت تشربها. وتحب المرأة حتى ما ترى لك الحياة إلا بها، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها. فلا تقل لحالة أنت فيها، لا أستطيع تركها، فإنك في(1013/7)
سفر دائم، وكل حالة لك محطة على الطريق، لا تنزل فيها حتى ترحل عنها.
فيا أخي. اعرف نفسك، وأخل بها، وغص في أسرارها. وتساءل أبداً: ما النفس؟ وما العقل؟ وما الحياة؟ وما العمر؟ والى أين المسير؟
ولا تنس أن من عرف نفسه عرف ربه، وعرف الحياة، وعرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة. وأن أكبر عاقب به الله من نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم!
علي الطنطاوي(1013/8)
5 - على هامش الدفاع عن الشرط الأوسط
للدكتور عمر حليق
1 - الصراع العقائدي وعلاقته بفكرة الدفاع في الشرق
الأوسط
ضرورة التعرف على جوهر سلوك السوفيتي
المنطق الرئيسي الذي تلجأ إليه الحكومتان الأمريكية والبريطانية معها بقية الحلف الأطلنطي لإقناع الدول والشعوب العربية بالتعاون معهما في نظام الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط يستند إلى خطر تعتقد دول الحلف الأطلنطي أنه كامن في مطامع روسيا السوفيتية للتوسع في الشرق الأوسط ورابض في صميم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية (والسياسية كذلك) التي تعيش عليها شعوب الشرق العربي وبعض الشعوب الإسلامية المجاورة.
وفي اعتقاد كاتب هذه السطور أن من أهم الأمور التي يجب أن يشغل بها صناع السياسة والمصلحون الاقتصاديون والاجتماعيون في الشرق العربي هو محاولة التعرف على دقائق السلوك السياسي والفكري للشيوعية العالمية ممثلة في مركزية الاتحاد السوفيتي وفي الحركات الشيوعية المحلية وفي مختلف البقاع - حركات تدين لموسكو بالولاء وتستوحي منها الإرشاد والتوجيه.
فإن ابرز ما في هذه الاتجاهات السياسية والفكرية في حاضر الشرق إجمالاً والعالم العربي على وجه الخصوص هي البلبلة السياسية والفكرية التي تعتري القادة والمواطنين حتى يحاولوا مخلصين صادقين في تحديد موقفهم السياسي ومبادئهم الاقتصادية والاجتماعية إزاء التنافس الحاد الذي يشهده الشرق العربي (بل العالم بأسره) بين المعسكرين المتطاحنين الشيوعي وحلف الأطلنطي.
ولقد وجد الشرق العربي نفسه ملما بكثير من دقائق السلوك البريطاني والأمريكي والفرنسي وهؤلاء هم دعامة المعسكر الغربي وذلك بفضل هذه التحارير القاسية المرة التي تكشفت عن ألوان الثقافة الغربية التي تجد سبيلها إلى الثقافة العربية وعن الحاكم بالمحكوم(1013/9)
والتاجر بالمشتري والقوي بالضعيف سواء في استعمار بريطانيا السابق لأجزاء هامة من عالم العرب أم صهيونية أمريكا ومصالحها الاقتصادية والدبلوماسية أم في استرقاق الفرنسيين لعرب المغرب الأحرار.
ولكن يندر أن تلمس في تجارب العرب السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية احتكاكاً مباشراً مع الروس توفر للمواطنين العرب وزعمائهم السياسيين فرصا نافعة تعرفوا فيها على دقائق السلوك الروسي على ما عرفوه من سلوك الأمريكان والأوربيين في تجاربهم الطويلة معهم.
وإن من غير الصواب أن نحلل الفكر والسلوك لروسيا السوفيتية على ضوء موجات الدعاية أو بما نلمسه من سلوك العناصر الشيوعية المحلية التي تدين بالولاء لموسكو، فالفكر السوفيتي خصائص فريدة زرعت ونمت وشبت في طبيعة المجتمع الروسي، وإن ما يصدر إلى الخارج من هذه الخصائص السوفيتية عن طريق الحركات الشيوعية خارج الاتحاد السوفيتي لا يتعدى نماذج مصطنعة اختيرت لتلائم وضعاً إقليمياً معيناً، وهذه النماذج تختلف باختلاف الأوضاع الإقليمية وباختلاف الشعوب التي يجري فيها النشاط الشيوعي. فالبضاعة التي تروجها الشيوعية المحلية في الشرق العربي مثلاً تختلف عن النماذج التي يروجها الشيوعيون في إيطاليا أو فرنسا مثلاً. وكل هذه النماذج ليس صورة صادقة لحقيقة الأهداف التي تطمح موسكو لتنفيذها في المراحل النهائية.
والمهم أن ندرك أن الوضع الجغرافي والمركزي الدولي للعالم العربي يفرض علينا يقظة حساسة لمراقبة دقائق السلوك السياسي والفكري لكلا المعسكرين المتطاحنين السوفيتي والغربي. ولما كانت علاقتنا السياسية والثقافية مع المعسكر الغربي متواصلة مستمرة توفر لنا وسيلة طيبة للتعرف على تفكير هذا المعسكر ونواياه وأهدافه وسلوكه، وحيث أن صلتنا الفكرية والسياسية بالاتحاد السوفيتي بعيدة متقطعة، فإن المصلحة الجوهرية لكياننا القومي تفرض علينا سبر غور هذا اللغز السوفيتي خصوصاً وأن في العالم العربي أوساطاً واعية ذات مكانة ونفوذ تؤمن بأن كثيراً من مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية مرتبطة (بالورقة الغامضة) التي يحملها الاتحاد السوفيتي إزاء الشرق الأوسط في هذه المقامرة السياسية والعسكرية التي يلعبها المجتمع الدولي في هذه الأيام.(1013/10)
وبعد فإن كاتب هذه السطور لن يحاول في هذا البحث أن يقارن بين أهداف الطرفين (الروس وحلفاء الغرب) وسلوكهما، ولن يطمح في أن يربط قضايا العالم العربي بهذا أو ذلك. وإنما هي محاولة للتعرف على بعض الحقائق الجوهرية للفكر والسلوك الروسي في إطاره العام، فلعل في هذه المحاولة نفعا للمواطن العربي الذي يقف بين حجري الرحى وقدراته العامة والخاصة في يديه يحاول أن يجد الخلاص من هذا المأزق المحرج الذي فرضه عليه صراع فكري وسياسي واقتصادي بين كتلتين سياسيتين تتنافسان اليوم على السيادة الدولية.
ليس المهم في هذا النوع من البحث أن يحلل الكاتب المبادئ لفكرية (الأيديولوجية) التي تستند إليها الدعوة الشيوعية السوفيتية بقدر ما يهمه أن يتعرف على الأساليب التي تتميز بها السياسة السوفيتية عند قيامها بتنفيذ هذه المبادئ في روسيا نفسها وفي العالم الخارجي.
فالاقتناع بالعقائد والنظم الفكرية (شيوعية كانت أم غير شيوعية) اصبح أمراً ثانوياً إزاء سياسة توازي القوى التي تشوب سلوك المعسكرين الكبيرين الروسي والغربي. فقد اصبح كلا الطرفين أميل إلى توطيد نفوذه في المناطق الحساسة (كمنطقة الشرق العربي) في أساليب تبتعد في كثير من الحالات عن جوهر المبادئ والمعتقدات الفكرية التي تستند إليها نظم الحكم في كل من الاتحاد السوفيتي ودول حلف الأطلنطي. فالعالم اليوم في حالة حرب (باردة) حالات الحرب تستلزم خدعه في السلوك ومناورة في أساليب الفكر والفن الدبلوماسي. وعلى ذلك فإن حاضر الوضع الدولي يتطلب اهتماماً بدقائق هذا السلوك اكثر من اهتمامه بالمعالجات لجوهر النظم الفكرية والسياسية التي تبشر بها الدول الكبرى التي لها القول الفصل في مصير السلم والحرب.
ولقد أشرنا في فقرة سابقة إلى أن الشعوب العربية قد اختبرت عن كثب كيف أن سياسة الدول الديمقراطية الغربية في العالم العربي لا تتمشى في كثير من الحالات مع المبادئ الديمقراطية التي يستند إليها الفكر العربي وأنظمة الحكم القائمة في أوربا وأمريكا. فمأساة فلسطين علم على ذلك وتراث الاستعمار الغربي في دنيا العرب مثل حي من أمثلة هذا التناقض بين العقائد والسلوك.
أفليس من الصواب إذن أن نسعى لمعرفة ألوان التناقض بين العقيدة الشيوعية السوفيتية(1013/11)
وبين سلوكها السياسي مع العالم الخارجي، ونحن في منطقة حساسة يتوقف كيانها السياسي وبقاؤها على خريطة الأرض على ما يتمخض عنه من صراعات الدول الكبرى المتنافسة. ألم يصرح الجنرال أيزنهاور كبير القادة العسكريين في دول الحلف الأطلنطي بأن الشرق الأوسط هو أهم ميدان عسكري في خريطة العالم العسكرية.
وبعد فإن التعرف على دقائق السلوك يتطلب معرفة بخصائص العقلية السوفيتية. ويجب أن نميز بين العقلية السوفيتية وبين العقلية الروسية؛ فالأولى إطار فكري يعيش على تراث ماركس ولينين - وستالين وهو تراث راسخ في ثقافة رجال الحكم وصناع السياسة الذين يسيطرون على مقدرات روسيا اليوم. والثانية عقلية (شعبية) تراثها الثقافة الروسية التقليدية والمقومات التاريخية والأدبية والعاطفية وطبيعة المناخ والإقليم وسائر ألوان النشاط الإنساني التي تتميز بها الشعوب من بعضها. ولا شك أن هناك تشابكا بين العقلية السوفيتية وبين العقلية الروسية بحكم أن رجال الحكم المسؤولين عن روسيا اليوم هم من صلب الشعب الروسي. وهذا التشابك بين العقليتين ينقطع في كثير من الحالات والأحداث الخطيرة الهامة. ففي عقول البلاشفة السوفيتيين طبقات كثيفة من فلسفة ماركس ولينين وستالين والمدارس الفكرية المنبثقة عنها ترقد فوق تراثهم ومقوماتهم الخلقية الروسية التي ورثوها بحكم كونهم من إنتاج الشعب الروسي، ولكن هذه الطبقات الكثيفة جامدة متحجرة تنفرد في التأثير بسلوك رجال الحكم السوفيتي بصور قد تتناقض في بعض الحالات مع طبيعة العقلية والمقومات الخلقية للشعب الروسي. وليس هذا التناقض بشيء جديد في سلوك الأفراد والجماعات؛ فالبريطاني في بلده إنسان يختلف في عقليته وسلوكه عن مواطنه الذي يتولى حكماً في مستعمرة أو ينفذ سياسة معينة درب نفسه على تنفيذها مسلحاً بثقافة استعمارية خاصة، فرجال السلك الخارجي البريطاني مثلاً حين ينتدبون للخدمة في المستعمرات والمحميات والانتدابات يمرون في تدريب خاص في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن مثلاً، وما اكثر ما خلقه هذا التدريب من سلوك شائن بعيد عن أوصاف العقلية البريطانية التقليدية.
وبمثل هذا المقياس يجب أن نوازن بين رجال الحكم السوفيتي في موسكو وبين المواطنين الروس من غير رجال الحكم والإدارة. فنصف رجال الحكم بأن لهم عقلية سوفيتية(1013/12)
(والسوفيت كلمة اشتقت بعد توطد الحكم الشيوعي في روسيا).
ولنعرج الآن بعد هذه المقدمة على صلب البحث ونحاول أن نتعرف على بعض خصائص السلوك السوفيتي وعقلية الذي يوجهونه
نيويورك
للكلام بقية
عمر حليق(1013/13)
5 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
لماذا استسقم العرب بالأزلام؟
كان العرب في الجاهلية على حيرة من أمرهم: أديان شتى، وقبائل شتى؛ لا نظام لهم يجتمعون عليه، ولا حكومة موحدة يرجعون إليها، ويقفون عد الحدود التي ترسمها، والقوانين التي تضعها فتكون موضع التنفيذ. والصحراء التي يضطربون فيها فتغتالهم حينا وتبسط عليهم جناح الأمن حيناً، وكذلك حال الفزع التي كانت تصاحبهم من أشباح الحرب والغارات التي تصبحهم وتمسيهم، وتفاجئهم في ساعة من ليل أو ساعة من نهار. وكذلك حالتهم المعيشية التي تصيبهم بالبؤس المدقع والجوع القاتل أحياناً لاضطراب الحياة الاقتصادية. وكثرة حوادث القتل والاغتيال التي يتعذر عليهم إصدار حكم فيها. كل أولئك جعلهم في حيرة من أمرهم، وألقى عليهم ظلا ممتداً قاتماً من التردد والحيرة، والشك والاضطراب. فكان لا بد لهم مما يذهب عنهم هذه الحيرة القاتلة، فلجئوا إلى وسائل شتى ظنوها تجلب إليهم شيئا من الروح والطمأنينة وإن صارت عليهم حربا فيما بعد ذلك. لجئوا إلى التفاؤل والطيرة فحكموا الطير والحيوان في أمورهم، أيقدمون أم يحجمون. وتفاءلوا بالأصوات والكلمات يلتمسون فيها المعنى الذي يبسطهم فيمضون فيما هم بسبيله، والمعنى الذي يقبضهم فيرتدون إلى حيث الأمن والسلامة.
قال الجاحظ: ويدل على أنهم يشتقون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون قول سوار بن المضرب:
تغنى الطائران ببين ليلى ... على غصنين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغراب اغتراب غير داني
فاشتق كما ترى الاغتراب من (الغرب) والبينونة من (البان) وقال جران العود:
جرى يوم رحنا بالجمال نزفها ... عقاب وشحاج من البين يبرح
فأما العقاب فهي منها عقوبة ... وأما الغراب فالغريب المطوح
فلم يجد في العقاب إلا العقوبة، ووجد في الغراب معنى الغربة واستخبروا الجماد، فكانوا يضربون بالحصى ليحكم بينهم في امرهم، يطيعون حكمه وهو الجماد الذي لا يسمع ولا(1013/14)
يبصر ولا يغني شيئاً.
كان يفعل ذلك دهماء العرب ذوو النفوس اللينة الضعيفة.
ويذكرون أن النابغة الذبياني كلن من أولئك. زعم الأصمعي أن النابغة خرج مع زيان بن سيار يريدان الغزو، فبينما هما يريدان الرحلة إذ نظر النابغة وإذا على ثوبه جرادة تجرد ذات اللون، فتطير وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجه! فلما رجع زيان من تلك الغزوة غانما سالما قال:
تخبر طيره فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير
أقام كأن لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
والبيت الثاني من هذه الأبيات يدلنا على مقدار إيمان بعض العرب بالطيرة، وخضوعهم التام لسلطانها كما أن البيت الرابع يدلنا على نظرة العقلاء منهم إلى الطيرة، وأنها من صميم الاتفاق لا غير. وكان زيان من دهاة العرب وساداتهم.
وممن كان لا يرى الطيرة شيئاً المرقش من بني سدوس، إذ يقول:
إني غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
فكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم
فالعرب في جاهليتهم كانوا يضطرون إلى ذلك ليجتلبوا قوة العزيمة فيما ضعفت عزيمتهم فيه، وليقطعوا الشك قطعاً بذلك الحكم الحاسم الذي يخضعون له خضوعاً كاملاً.
1 - فكان العربي إذا أراد السفر والنقلة من موضعه استسقم بالأزلام، ففي السفر مخاطر كثيرة، مخاطر الطريق أن يضل به أو تعترض لله من جباته السباع، أو تطيح به العاصفة الهوجاء، ومخاطر الرحلة التي يعتليها فقد تهلك راحلته فتستبد به مشقة السفر. وتحدثه نفسه بعد ذلك، أيؤوب سالما غانما، أم يغتاله الهلاك وتطويه الخيبة، فلا بد له أن يقوى عزمه باستشارة الأزلام فهي التي تأمره، وهي التي تنهاه.
2 - وكان العربي إذا ابتغى تجارة وليس التجارة أمراً هيناً عند العرب، فلا بد للتجارة في اغلب الأمر من رحلة إلى شرق البلاد أو غربيها، أو شمالها أو جنوبها، وفي ذلك التعرض(1013/15)
للسلب والنهب والعداوات القبلية. فهو قبل أن يضع رجله في غرز ناقته يستفتي الأزلام لتبشره بالفوز وتؤيد رأيه في القيام بهذه الرحلة، أو لترده عما عسى أن يكون قد كمن لله في ثنيات الطريق من مخاوف وأخطار.
3 - وكان العرب يلقون بالاً كبيراً إلى الانساب، يتحرجون أن يدخل الأجنبي في انسابهم، مبالغة منهم في حصانة القبيلة وتماسكها، فإذا شكوا في نسب مولود أو رجل فليست لهم وسيلة تذهب عنهم ذلك الشك إلا أن يحتكموا إلى الأزلام لتخبرهم بصحة نسبه أو بطلان ذلك.
4 - وكانوا إذا في حرب عرجوا قبل ذلك على أمين الأزلام ليكشف لهم بالأزلام عما يخبئ الغيب لهم من فوز وغنيمة، أو خيبة وإخفاق فيمضون أو يرتدون.
5 - وإذا حصل بينهم (مداراة) أي خلاف وخصومة، فإن الحكم فيها هو الأزلام.
6 - وإذا أرادوا استنباط المياه وأرادوا أن يحفروا بئراً ضربوا بالقداح يستأمرونها في ذلك.
7 - وكذلك الأمر إذا عزم أحدهم على الزواج، أو على ختان ولده، أو على بناء قبته، وسائر شؤون الحياة التي يطرأ عليه فيها الشك والاضطراب.
أزلام الاستقسام
وأزلام الاستقسام هذه شبيهة بقداح الميسر، فهي عيدان تسوى مثل ما تسوى عيدان قداح الميسر. وإنما سميت هذه القداح بالأزلام لأنها زلمت، أي سويت. ويقال: رجل مزلم وامرأة مزلمة، إذا كان خفيفا قليل العلائق. ويقال: قدح ملزم، وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعه. وما احسن ما زلم سهمه، أي سواه. ويقال لقوائم البقر أرلام، شبهت بالقداح لطاقتها.
وقد أسلفنا القول أن قداح الميسر تحز فيها حزوز، أو ترسم برسوم تميز بعضها عن بعض. ولكن أزلام الاستقسام كانت تعلم بعلامات خر تتفق مع الغرض الذي أعدت له، وذلك بكتابة خاصة تسجل عليها، كما سيأتي.
ويختلف الرواة في عدد هذه الأزلام فيبلغون بها الثمانية عداً. كتب على واحد منها: (أمرني ربي)، وعلى واحد منها: (نهاني ربي) وعلى واحد: (منكم)، وعلى واحد: (من غيركم) وعلى واحد: (ملصق) وعلى واحد: (العقل) أي الدية. ويضمون إلى هذه الستة قدحاً غفلاً(1013/16)
لم يكتب عليه شيء، فإن خرج الغفل مرة أعيد الضرب إلى أن يخرج غيره من القداح.
وذكر ابن حبيب في المحبر أنه قد كتب على أحدهما (افعل) وعلى الثاني (لا تفعل) وعلى الثالث (نعم) وعلى الرابع (لا) وعلى الخامس (خير) وعلى السادس (شر) وعلى السابع (بطيء) وعلى الثامن (سريع). وذكر أيضاً أنه كتب على بعضها (صريح) وعلى الآخر (ملصق). كما ذكر أن قداح (المداراة) التي سبق الكلام عليها كانت بيضاء ليس فيها شيء. وذكر أيضاً أنه كان للحضر والسفر سهمان فيأتون السادن من سدنة الأوثان فيقول السادن: (اللهم أيهما كان خيراً فأخرجه لفلان). فيرضى بما خرج له.
وذكر ابن كلب عند الكلام على (هبل): (وكان في جوف الكعبة، قدامه سبعة أقدح مكتوب في أولها (صريح) والآخر (ملصق) فإذا شكوا في مولود اهدوا له هدية ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج (صريح) ألحقوه، وإن خرج (ملصق) دفعوه. وقدح على الميت، وقدح على النكاح، ثلاثة لم تفسر لي على ما كانت. فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفراً أو عملاً أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه).
قال: (وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله) وسنذكر هذا الأمر بتفصيل عند الكلام على العامل الديني.
وذكر أيضاً في الكلام على ذي الخلصة: (وكانت له ثلاثة اقدح: الآمر، والناهي، والمتربص).
وقال ابن هشام: (وكانت عند هبل قداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب. قدح فيه (العقل) - أي الدية - إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. وقدح فيه (نعم) للأمر إذا أرادوه يضرب به في القداح فإن خرج قدح نعم عملوا به. وقدح فيه (لا) إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه (منكم)، وقدح فيه (المياه) إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحينما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً، أو ينكحوا منكحاً، أو يدفنوا ميتاً، أو شكوا في أحدهم ذهبوا به إلى هبل).
وقال الجاحظ: (واستعملوا في القداح الآمر، والناهي، والمتربص. وهن غير قداح(1013/17)
الأيسار).
وفي صبح الأعشى: (افعل، لا تفعل، نعم، لا،، خذ، سر، سريع). وقال: (وإن كان بين اثنين اختلاف في حق سمى كل منهما سهما وأجالوا القداح، فمن خرج سهمه فالحق له).
واختلاف الروايات في ذلك يدلنا على أن العرب ما كانوا يلتزمون في صناعة الأزلام نهجا معينا يقسرون عليه أنفسهم، وإنما كان لكل كاهن من كهانهم، ولكل حكم من حكامهم طريقة خاصة فيما يكتب على أزلامه من الإشارات، كما يدل على أن لكل قضية من قضايا الاستفتاء أزلاماً خاصة بها تناسبها وتنهض لها.
للكلام صلة
عبد السلام محمد هارون(1013/18)
3 - تركيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
مؤتمر برلين 1878
لا أستطيع أن أتحدث عن تركيا دون أن أشير إلى أهمية مؤتمر برلين وأثره في تاريخ تركيا وفي السياسية الدولية العالمية فإن هذا المؤتمر يعتبر مفترق الطرق في السياسة الأوربية الحديثة بل وفي السياسة العالمية.
وقبل أن أتحدث عن هذا المؤتمر يحسن بي أن اصف الظروف الدولية التي أدت إلى انعقاده.
في 1875 قامت الثورة ضد الحكم التركي ومظالمه في ولايتي البوسنة والهرسك، وسرعان ما اشتعلت نيران الثورة في جميع أنحاء البلقان في بلغاريا وفي الصرب وفي الجبل الأسود وفي رومانيا، وقام القتال بين الأتراك وبين شعوب البلقان.
وإذا عطست شعوب البلقان اضطربت أوربا فإن شبه الجزيرة هذه تعتبر مخزون البارود في أوربا، ولذا سرعان ما تدخلت الدول: تقدم الكونت اندراس وزير النمسا باقتراحات لإنهاء الثورة قبلها السلطان ورفضها الثوار، وعقدت الدول مؤتمر القسطنطينية 1877 لحل المشكلة، ولكن السلطان فاجأ الدول فأعلن الدستور وبمقتضاه اصبح أمر الحاكم متروكا للشعوب، وأعلن أن الدول بمقتضى معاهدة باريس 1856 لا يحق لها أن تتدخل في شؤون تركيا الداخلية، وانقض المؤتمر ولكن الثورة زادت اشتعالاً.
وأخيراً جاءت روسيا لمساعدة شعوب البلقان ولتحقيق مآربها، فأعلنت الحرب على تركيا 1877 وتقدمت جيوشها حتى وقفت على أبواب القسطنطينية في يناير 1887، وحينئذ طلب السلطان الصلح وأمرت إنجلترا أسطولها في الوقت نفسه بالتقدم إلى مياه القسطنطينية وبضرب الروس إذا حدثتهم أنفسهم بدخول القسطنطينية.
وأمام الهزيمة اضطر السلطان أن يقبل ما عرضته عليه روسيا وأن يوقع معاهدة سان ستفانو في مارس 1878 وبمقتضى هذه المعاهدة تقرر أن تستقل رومانيا الصرب والجبل الأسود استقلالا تاما وأن تمنح البوسنة والهرسك استقلالاً إدارياً وأن تأخذ روسيا باطوم وقارص وإرزن وأن تنشأ بلغاريا العظمى التي كانت حدودها تمتد من البحر الأسود إلى(1013/19)
بحر إيجة ومنه إلى البحر الأبيض. وكان مفروضاً أن بلغاريا العظمى هذه ستقع تحت حماية روسيا وبذلك يتحقق الحلم الروسي وهو الوصول إلى البحر الأبيض.
لكن الدول وخاصة إنجلترا ثارت ضد هذه المعاهدة التي تضع البلقان تحت حماية روسيا وطلبت عرض المعاهدة على مؤتمر يعرض في برلين.
وقد اجتمع هذا المؤتمر في برلين في يوليو 1878 تحت رئاسة بسمارك منشئ ألمانيا الحديثة ورئيس وزرائها إذ ذاك وكبير دهاة الساسة وقطب السياسة الدولية حتى إن الفترة من 1870 - 1890 تسمى بعصر بسمارك. وقد عبر بسمارك عن السياسة التي انتهجتها بقوله (لقد كنت سمساراً شريفاً). صحيح أن ألمانيا لم تأخذ لنفسها شيئا ولكنها أعطت ومنعت وأرضت وأغضبت فأثارت والبغضاء وأقامت الصداقات مما جعل هذا المؤتمر بحق مفترق الطرق في السياسة الدولية.
أخذت النمسا البوسنة والهرسك فرضيت وتوطدت صداقتها مع ألمانيا لأن المداد النمساوي كان أغلى من الدم الروسي، وغضبت روسيا وكان ذلك تمهيدا لانسحابها من تحالفها مع النمسا وألمانيا وقيام التحالف بينها وبين فرنسا ثم إنجلترا فيما بعد.
وأما إنجلترا فقد حققت ما كانت ترنو إليه إذ قضى المؤتمر على بلغاريا العظمى فأعيدت مقدونيا إلى تركيا وبذلك حرمت بلغاريا من شواطئ على بحر إيجة والبحر الأبيض، وجعلت بلغاريا الحقيقية إمارة مستقلة استقلالاً داخلياً وجعل الرومللي الشرقي إمارة يحكمها وال مسيحي فوافق السلطان على تعيينه.
وأخذت إنجلترا جزيرة قبرص ورضيت وعاد رئيس وزرائها دزرائيلي إلى بلاده يقول (لقد حققت السلام وجئت بصلح مشرف).
وجدير بي أن اذكر أنه في ذلك التاريخ لم يكن هناك ما يدعو إنجلترا إلى أن تعادي ألمانيا، ولكن ظهور مطامع ألمانيا الاستعمارية فيما بعد هو الذي إلى قيام العداء بينهما؛ وهو الذي محافظة العداوة التقليدية بين فرنسا وإنجلترا وأدى إلى قيام الصداقة بينهما؛ تلك الصداقة التي تجلت في وقوف جيوشهما جنباً إلى جب في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وأما فرنسا فقد كانت جريحة كسيرة إثر هزيمتها في حرب السبعين وانتصار ألمانيا عليها واحتلالها لبلادها، ولذلك لم يكن لها نصيب يذكر فقد كان المؤتمر تحت رئاسة بسمارك(1013/20)
عدوها الأكبر.
وقد كان بسمارك يعمل دائماً على عزلة فرنسا ويحاول جاهداً إلا تجد لنفسها أصدقاء؛ وكان يؤمن بأن فرنسا لن تجرؤ على الوقوف في وجه ألمانيا طالما كانت وحيدة لا حليف لها.
على أن سخط روسيا على ألمانيا بسبب موقفها منها في المؤتمر كان الدافع الأول إلى أن تمد روسيا يدها إلى فرنسا 1893 وقد انضمت إليهما إنجلترا 1907.
وأما إيطاليا فقد غضبت لأن فرنسا استولت على تونس 1882 وكانت إيطاليا تطمع فيها وبذلك انضمت إيطاليا إلى ألمانيا والنمسا، وهكذا انقسمت أوربا إلى معسكرين: إنجلترا وفرنسا وروسيا في جانب، وألمانيا والنمسا وإيطاليا في جانب آخر.
والصرب غضت لأن النمسا انتزعت منها ولايتي البوسنة والهرسك وهي تعتبرهما جزءاً منها وبذلك انضمت إلى جانب فرنسا وروسيا وإنجلترا، ولقد كان اغتيال طالبين صربيين لولي عهد النمسا في 28 يونية 1904 سبب قيام الحرب العالمية الأولى.
وتركيا غضبت على أصدقائها لأن هؤلاء الأصدقاء كانوا في الواقع أعداء، كانت مصالحهم سبب صداقتهم، كان أهم هؤلاء الأصدقاء إنجلترا وفرنسا. أما إنجلترا فقد أخذت قبرص 1878 واحتلت مصر 1882، وأما فرنسا فقد استولت على تونس 1882.
وكان مسلك إنجلترا فرنسا هذا سببا في إغضاب تركيا مما دفعها إلى أن تتجه شطر ألمانيا، وكانت ألمانيا قد بدأت تغير من سياستها وتعمل على اتخاذ مناطق نفوذ لها فرحبت بصداقة تركيا وعملت على مد يد المعونة إليها وشرعت في ربط تركيا بألمانيا وإنشاء سكة حديد برلين - بغداد مما أثار مخاوف إنجلترا.
وقد وقفت تركيا بجانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، أما إيطاليا فبرغم أنها كانت حليفة لألمانيا وقت على الحياد في أول الحرب، حتى إذا تجلى لها كفة الحلفاء (إنجلترا وفرنسا) راجحة نكثت بعهدها ونقضت سابق تحالفها وانضمت إلى الحلفاء 1915.
وقد بذل الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى 1914 - 18 جهودا جبارة في الدفاع عن بلادهم وانزلوا بالإنجليز خسائر فادحة في موقعة غاليبولي 1916 وردوهم عن بلادهم، وكذلك قضوا على عدة حملات بعثت بها إنجلترا إلى العراق، ولكن تلك الجهود لم تؤثر في نتيجة الحرب فسرعان ما سقطت العراق وفشلت حملة فلسطين ومصر وتقدم الجنرال(1013/21)
أللنبي فأحتل فلسطين 1917 وتقدمت قواته فاحتلت سوريا 1918 وساءت حالة تركيا فاضطرت إلى قبول الهدنة في 31 أكتوبر 1918، واحتلت إنجلترا القسطنطينية وقلاع الدردنيل والمواقع الحربية الهامة، ونزل الفرنسيون والسنغاليون باستنبول واحتل الإيطاليون (بيرا) وخطوط السكك الحديدية. وهكذا أصبحت تركيا تحت سيطرة الحلفاء.
وفي 10 أغسطس 1920 أرغم مندوبو حكومة الآستانة على توقيع معاهدة سيفر وبها فقدت تركيا العراق ومصر وبلاد العرب وفلسطين وسوريا وتراقيا في أوربا.
وهكذا كانت معاهدة برلين 1878 معاهدة انحلال الإمبراطورية العثمانية في أوربا، وكانت معاهدة سيفر معاهدة انحلال الإمبراطورية العثمانية في آسيا وإفريقيا.
بل اكثر من هذا لقد أصبحت تركيا ذاتها موضع إذلال محتليها وكانت الشعوب الصغيرة التي طالما خضعت لحكمها تطمع في تقسيمها والاستيلاء على أراضيها. أما كيف تخلصت تركيا من متاعبها وكيف انتصرت على قاهريها فذلك ما سنفصله في حديث قادم إن شاء الله.
أبو الفتوح عطيفة(1013/22)
عن سير الخالدين
حياة المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب).
(المازني)
عهد الطفولة
لم يعش المازني طفولته، أو هو جاهزاً مسرعاً، بأسرع مما يجوزها الأطفال في مثل سنه. وكأنما كانت طفولته، في قصرها واقتضابها، أشبه بالحلم الجميل بددته صحوة مفاجئة وروعه نذير غير منتظر. فقد كبرت عليه الحياة بأحزانها وآلامها، وحملته في ذلك العمر الغض تبعاتها التي تؤخرها عن غيره عادة إلى ما بعد مرحلة الشبيبة والنضج.
قضى أبوه وهو بعد طفل التاسعة. فأرادت أمه أن تكون عليه معتمدها بعد أبيه - وكان اكبر ابنيها وإن لم يكن أكبر اخوته - وصارت تعامله كأنه رب الأسرة وسيد البيت، وأخذت توطنه على احترام النفس واحتمال العبء ومواجهة الحياة. وقد وسعها ذلك فقد كانت رزاناً حصيفة عاقلة، (صارمة الجد، حادة قاطعة كالسيف، غالبة كالقدر) أو كما أوجز هو وصفها حي قالا عنها أنها كانت (رجلاً). ووسع الفتى الناشئ يوم ذاك أن يفهم عن أمه. . ويوم سمعها تقول له في شيء من الصرامة المغتصبة يخالطها فرط الحنو:
(اسمع يا إبراهيم! إنك لم تجاوز العاشرة، ولكني احب لك أن تعد نفسك من الآن، رجلنا. . فتسلك سلوك الرجال لا الأطفال).
في ذلك اليوم، أو في تلك اللحظة منه، قطع الطفولة كلها وثباً.
كان مولد المازني بالقاهرة (1890) في أحد الأحياء الوطنية التي ظلت، إلى عهد قريب، محتفظة بطابعها القديم. وفي القاهرة درج المازني ثم شب ثم جاوز الشباب إلى الرجولة فالكهولة. ولعل هذا سر تعصبه لها وإيثاره إياها. ولقد عدها بلدته وإن لم تكن بلده آبائه وأجداده كانوا يستوطنون بلدة (كوم مازن) من أعمال تلا بمديرية المنوفية.
ويذكر المازني أن ولادته كانت في دار لزوج عمته، وإن كانت مشاعاً لمن شاء أن يتخذها(1013/23)
سكنا من ذوي قرابته. وقد خصصت بعض (المناظر) - وهي الغرف الواسعة - التي تقع على جانبي الفناء من تلك الدار، مكتبا يستقبل فيه أبوه موكليه من أصحاب الدعاوى والأقضية، وكان أزهري الثقافة فاشتغل زمنا بتدريس اللغة العربية بالمدرسة الخديوية، ثم هجر التدريس واحترف المحاماة إلى آخر أيامه. وكان على الحالين مبسوط الرزق موفور الدخل، ولكنه كان كذلك متخرق اليد بالنفقة والعطاء، مسرفاً في تحقيق رغائبه وتلبية أهوائه، ولعله لهذا السبب كان مزوجاً يكثر من البناء بالتركيبات الخصوص. وكانت طبيعة عمله في المحاماة تقتضيه أن يلم بالقسطنطينية بي حين وحين، فكان كلما سافر إليها عاد مناه بزوجة جديدة، لا يلبث أن يعود بها أدراجه إلى بلدها فيسرحها بإحسان ويبني بسواها. على أنه كان، فيما عدا ذلك، حليما طويل البال قليل الكلام ساك الطائر. لعله استفاد مزية الأناة والحلم من كثرة ما راض فسه على احتمال ما كان يتعرض له، من الجفوة والمعتبة، من أبيه الشيخ أو من زوجته الشابة المصرية أو أولاده، كلما استجد عليها بإحدى تركياته الحسان.
وكان، كما هو المعهود في أصحاب هذا الطبع، قليل الاستقرار فهو لا ينفك ينتقل بأهله من دار إلى دار. وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع المازني الطفل أن يحتفظ في ذاكرته بالصورة الغالبة على تلك الدور. وأبقى ما بقي منها منظر الفناء الرحيب الذي كان صفة مشتركة بينها، والذي كان على هيئة الصحن تقعي في وسطه أحيانا شجرة جميز عتيقة عظيمة كثيفة الغصون، وربما قامت في موضعها نافورة ماء تروي الحديقة المترامية الأطراف من حولها.
وقد قضى المازني سني الطفولة الباكرة في بيت من بيوت المماليك - وكانت تعرف ببيوت (الغز) - في درب الجماميز، ويصفه المازني فيقول (كان البيت عجيب الطراز، له بوابة ضخمة تصلح أن تكون لقلعة، ومع ذلك لا تغلق في ليل أو نهار، ثم مدخل طويل ضيق على جانبيه الغرف وهي أبداً موصدة الأبواب والمرء لا يستطيع في النهار أن يبصر كفه من شدة الظلمة، وكنا نضع مصباحاً ولكنه لم يكن يضيء شيئا، بل كان كل ماله من النفع هو أن يرينا شدة السواد ويزيده وقعاً في النفوس).
وكان الصبيان من لداته وأترابه يقضون أيامهم في اللعب البريء، فيجتمعون في فناء أحد(1013/24)
الدور، أو يخرجون إلى الطريق - أو (الحارة) كما يسمونها - يصرفون نهارهم كله فيما يتعلقون به من فنون اللهو. وكان المازني الطفل أشوقهم إلى اللعب وأرغبهم فيه وأجزلهم حظاً منه، وقد تميز من بينهم بحب للدعابة وميل إلى الفكاهة. وكانت فيه دفعة وجرأة تغريانه بالتقحم والمغامرة وطلب الشجار أو (جر الشكل) كما يقول، وإن كان مع ذلك ضعيفاً نحيفاً، ولقد اعتاض من ضعفه سعة الحياء والدهاء، فصارت له بفضله منزلة بين لداته الصبيان.
على أنه لك يكن يهنأ بهذه الرغبة الطبيعية فيه أو يأخذ بحظه منها؛ فقد كان يدفع دونها ويحلأ عنها، فلا يهم باللعب مرة إلا زجره أهله ونهوه عنه كأنما كان يقترف منكراً ويقارب معصية، حتى لخيل إليه - وهو يدير عينه في تلك الأيام - أن وظيفة الآباء والأمهات (كانت صرف الأبناء عن النظر والتفكير، وإلزامهم الجمود ونهيهم عن كل حركة جسمية أو عقلية).
ولا غرابة بعد ذلك أن تضيق نفس الطفل بالبيت وبالحياة فيه، وأن يراه أشبه بالجحيم. فهو لا يكاد يقبل إلى الدنيا، غريباً عنها مأخوذا بجدتها مشوقا إلى معرفتها؛ يحفزه إلى ذلك فسه المتفتحة وطبعه المتوثب؛ حتى يطالبه الكبار بأن يكون له، وهو الطفل الغرير، (عقل الكبار واتزانهم وفهمهم).
وربما بدا عصياً على التصديق أن تكون هذه نظرة الطفل إلى البيت في ذلك العهد. ولكن الأمر لا يتعاصى على التحقيق، إذا عرفنا أن المازني نشأ في بيت من بيوت الورع والتقوى، فأبوه وجده من علماء الأزهر، وقد طرقت مسامع الطفل الناشئ آنذاك عبارات الثناء على جده من أفواه تلاميذه وعرف منهم منزلة مرعية للشيخ. وكذلك كان هذا البيت ببنيانه فضلاً عن سكانه؛ فكان يقوم في فنائه مصلى أو مسجد صغير (عامراً أبداً بالمصلين ليلاً ونهاراً)، ويختلف إليه المريدون والاتباع يعقدون حلقات الذكر التي كانت تمس قلب الطفل الصغير وتملك عليه نفسه، فينغم إليهم، ويأتي بمثل ما يأتونه من صوت وحركة فكانت نشأته اقرب إلى النشأة الدينية التي يغلب عليها المحافظة والتوقر ومجافاة ما عساه يكون مظنة شك أو مدعاة ريبة، مع التشدد في التقاليد المرعية والعرف السائد، والذهاب في ذلك كله إلى حد المغالاة والإسراف. ومن طرائف ما لقيه الطفل في هذه النشأة، أنه(1013/25)
درج يسمع عن شخصين في البيت ولا يراهما أبداً؛ (وإن كان ذكرهما على لساني أبي وأمي؛ وهما (الست) و (الأفندي)، فأبي يقول للخادمة مثلاً، قولي كذا أو كذا (للست)، ويتحدث في أوقات شتى ولا سيما حي يكون معه رجال من أقربائنا عن هذه (الست). وأمي لا تفتأ تقول، (الأفندي) قال أو (الأفندي) أتى أو الأفندي) خرج. فاعجب أين هما؟ ولماذا لا أراهما؟ واصعد إلى السطح باحثاً عنهما فلا أجدهما، وادخل كل غرفة فلا اهتدي إلى أثرهما، وانزل إلى فناء الدار فلا التقي بهما. أين ينامان يا ترى؟ ماذا يأكلان؟ ألا يظهران أبداً؟). . . وظل يجهل شخصيهما حتى قدر لهذا اللغز أن يحل على يد جده الذي قال له (لقد اخطئوا معك يا بني، وكان حقهم أن بدلوك).
ونحسبنا في غنى عن القول بأن هذين الشخصين لم يكونا أحدا غير أمه وابيه، يذكر كل منها الآخر، ويتحدث عنهما الآخرون، فعلا يعدي في الإشارة أليهما عن تلك الصفتين، وكانت النتيجة هي ذلك الازدواج الساذج في وهم الطفل الصغير.
على هذه الحال، دفعوا بالطفل، وهو لم يعد الخامسة، إلى كتاب من كتاتيب القاهرة لذلك العهد، على مقربة من الدار. . ويقول المازني (ويصبح الصباح فأحمل إلى الكتاب حملاً، وهناك توضع قدماي في (الفلقة) ويهوى عليها (سيدنا) - فقيه الكتاب - بالجريدة (المقرعة) ويكل ذلك إلى مساعدة (العريف)، وبهذا يبدأ النهار. .).
على أن عهده بالكتاب لم يطل. فقد أصرت أمه على المدرسة وألحقته - عن طريق إحدى معارفها - بمدرسة للبنات. ولم يلبث أن هرب منها - أو من قسوة ناظرها - إلى مدرسة أخرى كانت تقع وقتذاك في شارع تحت الريع - أو في درب سعادة - وعلم أبوه بذلك فنقله إلى مدرسة (القرشوللي) في شارع محمد علي، على مقربة من القلعة. وبقى به هذه المرة حتى أدى الامتحان في آخر العام، ومع ذلك فقد أبى الناظر أن ينقله إلى فرقة أعلى لصغر سنه، ولعله بقي في هذه المدرسة عاما آخر، استقر بعده في المدرسة القريبة.
ويقول المازني (كنت أعود عصر كل يوم إلى البيت، فأرمي كتبي وكراساتي واخرج إلى الشارع لألعب مع أقراني، فأزجر عن اللعب، فأصعد واطل على اللاعبين من الشرفة، وبي حسرة ولهفة. واسمعهم يصفونني بالعقل والهدوء، فألعن العقل وأذم الهدوء).
وقد كان في حياة أبيه لا يعدم الوسيلة إلى اللعب والاحتيال له بما يدخل في وسعه؛ فقد كان(1013/26)
على أبيه جرأة لا يجدها على سواه. فلما مات أبوه وهو يشرف على التاسعة أرادت أمه أن تصرفه عن اللعب وأن تنأى به عنه، وألقت إليه فيما يشبه الإيحاء أن يعد نفسه - قبل الأوان - رب الأسرة ورجلها ووحدها، وأعدت من ناحيتها للأمر عدته، فكان إذا انتهى العام الدراسي وحل الصيف، بعثت بابنها إلى كتاب في الأزهر ليحفظ القرآن فلا يجد الطفل لعبه من الوقت إلا الهين اليسير.
ولقد كان المازني خليقاً أن يستوفي حظ طفولته من رغد العيش وخلو البال وعدم الاشتغال بأمر نفسه فضلاً عن أمور غيره، لولا أن الأقدار كانت تهيئ له أمراً، فكتبت عليه أن يحمل في تلك السن المتقدمة أعباء الرجال المسئولين، بما أوحى إليه من ضرورة الاعتماد على النفس والكدح في سبيل ما ينتظره من أهله في المستقبل. نعم، لم يكن الطفل ملتزماً مطالب العيش لمن خلفهم أبوه بعده، وإنما كان عليه أن يعرف أن عهد الطفولة، أو عهد اللعب، قد مضى، وأن يقصر نفسه على غير ما تتهيأ له طاقتها في سنه. وعندما فرغت البقية الباقية من مالا أبيه، وقد كفل ذلك سرف أخيه الأكبر؛ كان عليه أن يوطن نفسه على الفقر وأن يستعد له. . ولقد عرف المازني الفقر في ذلك العهد من حياته، وخبره عن كثب، وامتحن به، حتى وصفه بأنه أستاذه، ولكنه كان يلقي على دروسه كما تهوى العصا على أم الرأس!).
محمد محمود حمدان(1013/27)
كرامة الأخيار
للأستاذ محمد منصور خضر
لله در هؤلاء العلماء الأخيار الذين اكرموا العلم فأكرمهم الله وجعل لهم منزلة تتصاغر دونها منزلة الملوك، وفروا إلى الله فحفظوا حدوده ولم يرضوا بالظلم لأن الراضي بالظلم كالظالم في الإثم - وهذا أمر قل من ينتبه إليه في هذا الزمان - فلا بد من إظهار الغضب والسخط على الظالم حتى يشهد بذلك له الخلق فيكون ذلك حجة له يوم القيامةوهو ما لم نسمع به من العلماء في عصرنا. وهناك أيها القارئ بعض أخبار العلماء الذين نصحوا لله ورسوله (فحفظهم وأعلى ذكرهم):
كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول: لما أرسل إلى أبو جعفر المنصور دخلت عليه فرأيت النطع بين يديه والسيوف مسلولة وهو يعاتب ابن طاووس على أمور ثم قال له: ناولني الدواة فأبى؛ فقال له ما منعك؟ قال خشيت أن أكون شريكاً لك فيما تكتب. قال: فضممت ثيابي مخافة أن يصيبني دمه ثم قال له: اذهب إلى حال سبيلك. فلم أزل اعرف ذلك لأبن طاووس!
هذا وقد طلب أبو جعفر المنصور أيضاً صحبة ابن أبي ذئب فقال له بشرط أن تقبل نصحي. فقال له أبو جعفر نعم فصحبه. فقال له أبو جعفر يوماً: ما نقول في؟ فقال له: لا تعدل في الرعية ولا تقسم بالسوية. . فتغير وجه أبي جعفر فولى عن ابن أبي ذئب ولم يطق صحبته.
ومن ذلك أن هشام بن عبد الملك كان بمكة وطلب الاجتماع بطاووس اليماني فلم يجبه طاووس إلى ذلك. فعمل عليه الحيلة حتى اجتمع به. فلما دخل عليه طاووس لم يسلم عليه بسلام الخلفاء وإنما قال: السلام عليكم يا هشام! كيف حالك؟ وخلع نعليه بحاشية البساط وجلس بجانبه. فغضب هشام لذلك حتى هم بقتله. فقال له الوزير أنت يا أمير المؤمنين في حرم الله عز وجل. فقال هشام ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال ماذا صنعت؟ فقال خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تجلس بي يدي ولم تقبل يدي ولم تقل السلام عليكم يا أمير المؤمنين كما يقول غيرك، وسمتني باسمي ولم تكنني. فقال طاووس: أما ما فعلت من خلع نعلي بجانب بساطك فإني افعل ذلك كل يم خمس مرات بين يدي الله في بيته فلا(1013/28)
يعاقبني ولا يغضب علي. وأما عدم تقبيلي يدك فإني سمعت علي بي أبي طالب بنهى عن تقبيل يد الملوك إلا من عدل، وأنت لم يصح عندي عدلك. وأما عدم قولي لك يا أمير المؤمنين حين سلمت عليك فليس كل المسلمين راضين بإمرتك عليهم فخشيت أن أقع في الكذب. وأما أني لم أكنك فإن الله سبحانه وتعالى قد كنى أبا لهب لكونه عدوه، ونادى أصفياءه بأسمائهم المجردة لكونهم أحباءه، فقال ي داود يا يحيى يا عيسى. وأما جلوسي بجانبك فإنما فعلته اختبار لعقلك فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول يختبر عقل الأمير بجلوس آحاد الناس بجانبه فإن غضب فهو متكبر من أهل النار. فأخذت هشاماً الرعدة وخرج طاووس من عنده بغير استئذان فلم يعد إليه:
ويقال إن عبد الملك بن مروان خطب يوما بالكوفة فقام إليه رجل من آل سمعان فقال مهلاً يا أمير المؤمنين؛ اقضي لصاحبي هذا بحقه ثم اخطب. فقال وما ذاك؟ فقال إن الناس قالوا له ما يخلص ظلمتك من عبد الملك إلا فلان فجئت به إليك لأنظر عدلك الذي كنت تعدنا بهد من قبل أن تتولى هذه المظالم. فطال بينه وبينه الكلام فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتعظون، أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بالسنتكم؟ فإن قلتم أطيعوا امرنا واقبلوا نصحنا فكيف ينصح غيره من غش نفسه! وإن قلت خذوا الحكمة حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها فعلام قلدنا كم أزمة أمورنا وحكمناكم في دمائنا وأموالنا! أو ما تعملون أن منا من هو اعرف منكم بصنوف اللغات واحكم بوجوه العظات؟ فإن كانت الأمانة قد عجزت عن إقامة العدل فيها فخلوا سبيلها وأطلقوا عقالها يبتدرها أهلها الذين قاتلتموهم في البلاد وشتتم شملهم بكل واد. أما والله لئن بقيت في يدكم إلى بلوغ الغاية واستيفاء المدة لتضمحل حقوق الله تعالى وحقوق العباد! فقال له وكيف ذلك؟ فقال لأن من كلمكم في حقه زجر ومن سكت عن حقه قهر! فلا قوله مسموع، ولا ظلمه مرفوع ولا من جار عليه مردوع، وبينك وبين رعيتك مقام تذوب فيه الجبال حيث ملكك هناك خامل وعزك زائل وناصرك خاذل الحاكم عليك عادل. فأكب عبد الملك على وجهه يبكي ثم قال له: فما حاجتك؟ فقال عاملك بالمساواة ظلمني وليله لهو ونهاره لغو ونظره زهو، فكتب إليه بإعطائه ظلامته ثم عزله!
وحكى الكلبي عن رجل من بني أمية قال: حضرت معاوية ابن أبي سفيان في خلافته وقد(1013/29)
أذن للناس إذناً عاماً فدخلت عليه امرأة وقد رفعت لثامها عن وجه كالقمر الذي شرب من ماء البرد ومعها جاريتان لها فخطبت للقوم خطبة بهت لها كل من هناك ثم قالت: وكان من قدر الله تعالى انك قربت زياداً واتخذته أخاً وجعلت له في آل سفيان نسبا ثم وليته على رقاب العباد فسفك الدماء بغير حلها ولا حقها، وينتهك المحارم بغير مراقبة فيها، ويرتكب من المعاصي أعظمها! لا يرجو لله وقارا ولا يظن أن له ميعاداً وغداً يعرض عمله في صحيفتك وتوقف على ما اجترم بين يدي ربك، فماذا تقول لربك يا معاوية غداً وقد مضى من عمرك أكثره وبقى أيسره وشره؟ فقال لها من أنت؟ فقالت امرأة من بني ذكوان وثب زياد المدعي أنه من بني سفيان على وارثتي من أبي وأمي فقبضها ظلماً وحال بيني وبين ضيعتي وممسكة رمقي؛ فإن أنصفت وعدلت وإلا وكلتك وزياداً إلى الله تعالى وأن تظل ظلامتي عنده وعندك، فالمنصف لي منكما الحكم العدل. . فبهت معاوية منها وصار يتعجب من فصاحتها ثم قال: ما لزياد لعنه الله مع من ينشر مساوينا، ثم قال لكاتبه اكتب إلى زياد أن يرد لها ضيعتها ويؤدي إليها حقها.
وحكى أن سليمان بن عيد الملك قدم إلى المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. فقال: يا أبا حازم كيف القدوم على الله؟ قال: يا أمير المؤمنين: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لي عند الله؟ قال أبو حازم اعرض نفسك على كتاب الله حيث قال: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال قريب من المحسنين، ثم قال سليمان: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم؟ قال أهل البر والتقوى، قال: فأي الأعمال افضل؟ قال أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي الكلام اسمع؟ قال قول الحق عند من تخاف وترجو، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها. قال فأي الناس أخسر؟ قال رجل حط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره.
فهكذا كان دخول أهل العلم على الملوك وهم بحق علماء الآخرة. فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم على الرخص، ويستنبطون لهم بدقائق الحيل وطرق السعة(1013/30)
فيما يوافق أغراضهم، ويأخذون الهدايا المنوعة ويباهون الناس بها لأنها هدية ملكية ولم يراقبوا الله فيهم فلم يعظوهم أو يخوفوهم من عذاب الله ومقته. ثم يكون بعد ذلك زوال الملك والعذاب الشديد يوم القيامة.
شطانوف
محمد منصور خضر(1013/31)
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
تتمة
مور: من فوضني بهذا؟ - إن الظلام مخيم على كل مكان، متاهات شائكة، لا منفذ، ولا نجم هاد، يل ليتني تخلصت من هذا النفس، وكل شيء منته كمهزلة مؤسفة، ولكن ما مصدر هذا العطش الشديد للسعادة! ما مصدر فكرة الكمال الذي لا يمكن التوصل إليه! هذا الاستمرار في وضع الخطط الفاشلة، إذا كان الضغط الطفيف على هذا الشيء التافه (ممسكاً المسدس) يجعل من الحكيم والأحمق، والجبان والشجاع، وعزيز النفس وذليلها سواسية كأسنان المشط، وإذا كان الانسجام الإلهي موجوداً في الطبيعة غير العاقلة، فلم هذا النشاز في الطبيعة العاقلة؟ - كلا! كلا إن هناك شيئاً خلف كل هذا، لأنني لم اعرف العادة مطلقاً إلى الآن. أتعتقدون بأنني سأرتجف يا أرواح الذين أهلكتهم!؟ لا لن ارتجف (يرتجف بعنف) - فأنينكم الحافت الميت ووجوهكم المختنقة السوداء، وجروحكم الفاغرة المرعبة ما هي إلا حلقات في سلسلة القدر، ومصيرها في النهاية يتوقف على ألاعيبي الصبيانية وعلى نزوات مربياتي ومعلمي، وعلى مزاج والدي (مرتجاً من الرعب) لماذا جعلني بريلوس عجلاً نحاسياً لأشوي الإنسانية المسكينة في معدتي الملتهبة؟ (محدقاً في المسدس) الآن يمكن ربط الزمان والخلود في لحظة واحدة! - أيها المفتاح المرعب الذي يغلق خلفي سجن الحياة، ويفتح قدامي مسكن الليل الخالد - آه، قل لي! قل لي - إلى أين - إلى أين ستقودني؟ أإلى الأرض الغريبة التي لم يعد منها إنسان. انظر، إن الرجولة تنهار أمام هذه الصورة ويستسلم الإنسان لهذا المنظر المورع، والوهم الذي هو مسخ الشعور النزق يلعب بنا بصورة غريبة. كلا! كلا ليس من شأن الرجل أن يتأرجح ويخور في ساعة الحرج. كن من تشاء، إنني احتفظ بذاتي معي. أنا جنتي وأنا ناري. وإذا أردت أن ترسلني وحيداً فريداً شريداً طريداً إلى ركن مشتعل من أركان الكون. هذا الركن الذي أقصيته عن ناظريك، هذا المكان الموحش المظلم والصحراء المخفية التي لا حراك فيها ليصبح ذلك كل ما أمله والى(1013/32)
الأبد. إني سأعمر هذا القفر الصامت بهواجس، وسأتخذ من الخلود مجالا للكشف عن سورة البلاء اللانهائي.
أو انك ستقودني من ولادة لأخرى، ومناظر أخرى للألم المفجع قدما إلى الفناء. أليس في مكنتي قطع أسباب الحياة كما اقطعها هنا والآن؟ هل لي أن أموت في سبيل حياة تعسة؟ هل سأمنح الشقاء نصراً علي؟ - كلا - إنني سأحتمل هذه الحياة (يرمي المسدس بعيداً) ولتثلم التعاسة نفسها على صخرة كبريائي. إنني سأسير محتملاً إياها.
وفي مؤلفه (عذراء أورليانس) نجد تالبوت، ذلك المحارب القديم، الأشهب، الملحد، الذي لا يقهر، وهو يمر مفكراً بأرض العدم، مستهزئاً حتى بالقدر الواقف له بالمرصاد، وهذا المنظر هو المنظر السادس من الفصل الثالث و (في زحام المعركة).
(يتغير المنظر فيصبح فسحة منبسطة محاطة بالأشجار. وفي أثناء عزف الموسيقى يرى الجنود وهم يهربون من ساحة القتال) تالبوت، متكئاً على فاستولف، يرافقه بعض الجنود. يقبل ليونيل بعدئذ بسرعة.
تالبوت: ضعني هنا، تحت هذه الشجرة، واعمدوا إلى المعركة: أسرعوا أنا لا أريد مساعدة كي أموت.
(يدخل ليونيل) فاستولف ياليوم الشؤم! انظر، ليونيل، ماذا ينتظرك، إن قائدنا الجريح يموت.
ليونيل: لا سمح الله: آه يل تالبوت الجليل، إن هذا ليس وقت الموت، لا تستسلم للموت، واجبر الطبيعة المترددة بقوة روحها حتى لا تفارقك الحياة.
تالبوت: عبثاً: عن يوم القضاء قد حم، هذا القضاء الذي يسوي جيروت فرنسا بالرغام. وعبثاً ما ضحيت بأعز شيء لدي للصمود في هذا التصادم الضاري وفي هذه المعركة اليائسة. لقد أصابت في الصاعقة مقتلا فتحطمت. وها أني مضطجع لا قومة لي بعد الآن. لقد خسرنا (ريمز)، فأسرعوا لإنقاذ باريس.
ليونيل: إن باريس بيد الدوفان، وقد وصلتنا الآن الأنباء السيئة بأنها استسلمت.
تالبوت: (يمزق ضماداته) وإذن تدفقي يا سواقي الحياة، إن هذه الشمس أصبحت ممقوتة لدي.(1013/33)
ليونيل: فاستولف! انقلوه إلى المؤخرة: إن هذا الموقع يمكن أن يصمد لحظات أخرى، إن الخبثاء الجبناء يتراجعون، لقد أقبلت الساحرة التي لا تقاوم، يحيط بها الدمار والخراب.
تالبوت: أيها الجندي، انك تنتصر وأنا استسلم؛ إن الآلهة أنفسهم ضعاف أمام البلادة والخرق، وأنت يا آلهة العقل، يا ابنة الإله الأكبر، يا مؤسسة نظام الكون، وقائدة النجوم، من أنت إذا كنت مربوطة بذيل الحصان الأخرق، حصان الخرافة، إنك ستدفعين بعيونك المفتحة صراخك المدوي إلى الهوة السحيقة مع ذلك الحيوان السكير؟ ملعون من يربط مصيره بمصير العظماء والأشراف المبجلين، إن هذا العالم ملك السلطان أحمق.
ليونيل: آه، إن الموت قريب، ففكر في إلهك وصل، ولو أن القدر هو الذي نصر الشجعان على أمثالنا المغاوير لما اهتممنا قيد انملة، ولكن إن تسحقنا مثل هذه الأضحوكة الوضيعة فأمر لا يستحق منا كل هذا التعب وكل هذه المخاطر.
ليونيل: (يمسك بذراعه) وداعا، تالبوت! سأبكيك بملء دموعي إذا بقيت حيا بعد انتهاء المعركة. ولكن القدر يدعوني الآن إلى ساحة المعركة. . وداعاً! إلى الملتقى وراء الشاطئ غير المنظور، وداعاً مبتوراً لصداقة طويلة وليكن الله معك (يخرج).
تالبوت: إن كلل شيء سينتهي آجلاً، وسأسلم إلى الأرض والى الشمس الأبدية هذه الذرات الفانية التي امتزجت، إن خيراً أو شراً، لتكوني. أما تالبوت الجبار الذي ملأ صيته العالم فلن يبقى منه إلا كومة من التراب السافي. وهكذا يقبل الإنسان إلى نهايته، وكل نضالنا في الحياة هو معرفتنا أنها عدم في عدم، وما علينا إلا أن نسخر من هذه الصورة الجوفاء التي كثيرا ما نقشناها وعبدناها.
- الفصل الرابع -
(يدخل شارل، برغندي، دونوا، دو شاتيل، والجنود)
برغندي: لقد نسفت الخندق
دونوا: مرحى! إن المعركة في صالحنا
شارل: (ملتفتا إلى تالبوت) من هذا الذي يودع النهار بمثل هذا الوداع الحزين المكبوت، فمظهره يدل على أنه إنسان اعتيادي، اذهبوا فساعدوه، إن كانت المساعدة جدية.
(جنود من حاشية الدوفن يتقدمون إلى الأمام).(1013/34)
فاستولف: إلى الوراء، ابتعدوا لا تقتربوا من الراحل البطل، الذي كنتم تخشون التقرب منه في الحياة.
برغندي: ماذا أرى؟ تالبوت الجليل متخبطاً في دمه.
(يذهب برغندي إليه، تالبوت ينظر إليه في تمعن وتفرس ويموت).
فاستولف: ابتعد يا برغندي. لا تقلق آخر لحظة من حياة البطل بمنظر خائن.
وقلما نجد في هذا الكتاب تلك (الكلمات النارية القوية) كما يدعوها الألمان كالتي نجدها غالباً في (اللصوص) لأن الهياج البركاني قد خف، فبدلاً من الحمم والدخان والشظايا المتطايرة نجد أشعة الشمس والعالم الزاهي. وهناك أمثلة مثيرة على هذا التبدل اللطيف في مناظر كثيرة من مؤلفه (وولنشتاين) وكل كتبه الدراماتيكية التي أعقبت ذلك، وخصوصاً في (وليم تيل) التي هي آخرها. وهذا التغير يمكن العثور عليه في الكيان الشعري في كل هذه المؤلفات، هذه المؤلفات التي تعتبر قصائد كاملة، وكان أملنا أن نوفيها حقها في الشرح، ولكن ضيق المجال منعنا من ذلك.
وأملنا كبير في القراء المتمكنين والشرح المعنيين بأن يلتفتوا إلى هذا. واهم المؤلفات الشعرية التي نظمها شلر هي (ليدر وبركلوش) و (رترتو غنبرغ) و (نشال التنيرة) و (الغواص) و (كراكي - يبكي) وكلها تمتاز بالروح الإغريقية الصميمة كأنها نفحة عطرية من نفحات قيثارة اخليوس العبقة، أو كأنها أغان ملائكية.
فلسفته وعقيدته الكونية
أما موهبة شلر الفلسفية وما توصل إليه في هذا المجال الحيوي فأمر يحتاج إلى كثير من الجدل وكثير من التفكير، وهذا ما لن نطرقه الآن بإسهاب. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه كان يمتاز بقابليتين: فلسفية وشعرية. وكان تفكيره معروفاً بهاتين الصفتين، وكان عقله قوياً، نفاذاً، نظامياً ومدرسياً اكثر منه بدهياً، وكان هذا الميل واضحاً في جميع البحوث التي عالجها وفي أسلوب معالجته لها. وقد أثرت فلسفة التسامي التي ظهرت في عصره فيه تأثيراً كبيراً: وقد درس باعتناء زائد منهج (عمانوئيل كانت) الفلسفي، ويظهر أنه لم يعترف به وحسب، بل إنه اعتنق تعاليمه الرئيسية، ولكنه مع ذلك صاغها بأسلوبه الخاص لدرجة أنها أصبحت فلسفته الخاصة وخرجت عن كونها فلسفة (كانت). وكثير ممن لا(1013/35)
يعرفونه معرفة حقيقية يعتقدون بأن هذه التأملات لم تنفعه في شيء. ولكن شلر كان راضيا كل الرضى بفلسفته التي اعتنقها بعد أن صرف في ذلك جهداً شاقاً. وفي هذه الفلسفة - التي انسجمت مع شعره - تمكين لقوته الفطرية والخلقية. يقول شلر بخصوص ذلك ما يلي: (أنا لا انتظر من أعداء هذه الفلسفة الجديدة شيئا من التسامح، كالذي أظهروه تجاه الفلسفات الأخرى، التي لم يعرفوا عنها شيئا كما انهم لم يعرفوا هذه! لأن الفلسفة كانت - في قضاياها الإنسانية - لا تحتمل أي تسامح، وهي تحمل صفة جدية لا تفسح مجالا لأية تسوية. وهذا - في نظري - يشرفها لأنها لا تحتمل العبث بالحق. إن هذه الفلسفة لا تناقش بمجرد هز الرأس. ففي حقل البحث الصريح الواضح الذي يمكن التوصل إليه تبغي هذه الفلسفة ومنهجها - فهي لا تتظلل بأي ظل - ولا تبحث عن أية تحفظت تتستر بها، وهي تحب أن تعامل كما تعامل هي جيرانها، وهذا يجعلنا نغتفر لها عدم اعتدادها بغير البراهين. ولن أخشى من التفكير في أن قانون التغيير - الذي يأتي على كل شيء - الهي سيسري على هذه الفلسفة أيضاً، وسينال منها منالاً شديداً، إلا أنه سيحافظ على جوهرها، لأن النوع البشري منذ بزوغ شمس العقل اعترف بمثل هذه المبادئ الأولية وعمل بها.
إن إنجازات شلر الفلسفية تخص قضايا الفن والأدب بصورة رئيسية، وهي لا تخلو من نظرات مهمة في مجالي التأمل: لا بل إن الفن نفسه - كما تصوره - يستند على أساس متين من مصالح الإنسان وهو بنفسه (أي الفن) يتضمن تسوية انسجامية بين هذه المصالح. لقد أخذنا على أنفسنا من مدة أن نقدم إلى قرائنا خلاصة (الرسائل الجمالية)، هذه النتف المتماسكة العميقة من الجدول الذي قلما نجد مثيلا لها، وبهذه الواسطة نتمكن من دراسة الصفةالبارزة لشلر كفيلسوف، وفي الوقت نفسه فالفقرتان القصيرتان الآتيتان ستقدمان دليلا على وجهة نظره في جميع القضايا الفلسفية بدون الاحتياج إلى أي تفسير أو إيضاح. ليتكلم شيلر في هاتين الفقرتين عن (وليم مايستر) و (اعترافات القديس الجميل) التي تحتل الكتاب السادس من ذلك المؤلف فيقول: (إن الانتقال من الأديان البدائية إلى الديانة المسيحية بتجربة الخطيئة مفهوم بصورة جيدة - إنني في الواقع - أجد في النظام المسيحي أصول الفكرة السامية، ولكن الصور المشوهة المختلفة لهذا النظام في الحياة الواقعية، تجعل هذه الفكرة مؤذية ووضيعة، لأنها تمثل تمثيلاً سيئاً الفكرة الأصيلة التي(1013/36)
تبناها واضع المسيحية الأولى. وإذا أنت درست الصفة البارزة في المسيحية تجد أن ما يميزها عن الأديان التوحيدية الأخرى هو قضاؤها على (القانون) والتوكيد الكانتي، وبدلاً من ذلك تسعى المسيحية لتحقيق الميول الحرة، وهكذا تراها في شكلها الفني تمثال الجمال الخلقي أو تجيد ما هو مقدس، ولهذا المعنى يمكننا أن نعتبرها الدين الجمالي الوحيد (البعيد ع التشريعات السياسية والأنظمة الدنيوية).
وعلى هذا الأساس يمكن تفسر نجاح هذا الدين في الطبائع النسوية (والدليل الواضح على ذلك هو أن أول مبشر بهذا الدين كانت امرأة: هي مريم المجدلية التي نسج المسيحيون حولها هالة من القداسة ووضعوها في منزلة الأصفياء والأولياء المختارين من قبل السيد المسيح). ويقول شلر مستطرداً (ولكن بصورة جدية، وهل يمكنك أن تجد إنساناً متثقفاً بدون أن يلتجئ في ساعاته الحرجة إلى الفلسفة؟ أما أنا فإنني مقتنع تماماً، بأنه إن وجد إنسان من هذا النوع فهو مجبر على مسايرة الاتجاه الجمالي، لأن المزاج الجمالي لا يحتاج إلى الاقتناع الذي هو وليد التأمل والتفكير، ولا يحتاج إلى العقل المجرد إلا متى اصطدمت الاحساسات الطبيعية بالقانون الأخلاقي. والطبيعة الشاعرية السليمة لا تحتاج إلى مثل هذا القانون الصلب، أو حتى حقوق الإنسان أو الميتافيزيقية السياسية كما تدعوها أنت (يقصد جوته)، ويمكنك أن تضيف إلى ذلك أيضاً، بأن هذه الطبيعة لا تحتاج إلى الآلهة ولا إلى الخلود، وما هذه النقاط الثلاث (وهي الآلهة والخلود والقانون الأخلاقي) التي تدور حولها كل المناقشات والتأملات الفلسفية بأكثر من تسلية لمثل هذه الطبيعة الشاعرية وهي لهذا السبب ليست أموراً ضرورية مطلقاً).
وهذه الفقرة الأخيرة غريبة في مدلولها، لأنها إن كانت صحيحة فهي تعتبر طبيعة شلر بالذات (طبيعة شاعرية غير سليمة) لأننا نجد هذه النقط الثلاث بارزة في مؤلفاته وبحوثه - وقبل أن ننهي موضوعنا هذا علينا ألا ننسى ملاحظة لها علاقة وثيقة بموضوعنا، وهذه الملاحظة تتلخص في السؤل الملح الذي يوجهه كل من درس الآداب الألمانية وهو: أيهما أشعر جوته أو شلر؟ ولنا إذا سمح لنا أن نقول: إن هذا السؤال تافه وغير ذي موضوع لسنين: فأولاً أن شلر وجوته يختلفان في مواهبهما اختلافاً كلياً سواء كان ذلك في مساعيهما أو في المجالات الثقافية العامة. ثانياً: إذا كان السؤال يعني - على العموم - المفاضلة(1013/37)
بينهما في عظم الشأن وأهمية كل منهما بالنسبة للأدب الألماني أو الآداب العالمية، فجواب هذا السؤال واضح كل الوضوح وهو لا يحتج إلى تفسير مسهب، ولو وضعنا هذا السؤال أما شلر الحي الخجول لانتفض متعجبا من ذلك.
ولم يعرف أحد خيراً منه بأن جوته ولد شاعراً، بينما هو اصبح كذلك بتأثير المحيط (والفرق شاسع بين الطبع والتطبع). فكما كان الأول بديهياً بروحه وانطباعاته وإيقاعه الجميل، كان الثاني مدرسياً، وعامل التكلف بين نغماته. زد على ذلك بأن جوته عاش حتى اكمل رسالته الشعرية بعد أن صقلت موهبته وتهذبت ألفاظه حتى بلغت مبلغ الكمال في الإيقاع الموسيقي وفي الأداء الشاعري، بينما نرى الثاني تخطفه يد المنون وهو لم يزل غض الإهاب شاباً في روعة الرجولة وازدهارها: ولهذا السبب اثر بالغ في تقصيره عن اللحاق بجوته وعذره واضح جلي.
يوسف عبد المسيح ثروت(1013/38)
رسالة الشعر
رباعيات
للدكتور عبد الوهاب عزام
لا يبالي الأخيار في هذه الأر ... ض بباغ ومفتر وحسود
لو يباولون لم يشقوا طريقاً ... بين هذي الآفات نحو الخلود
علماء الزمان في درجات ... لا من العلم بل من الأموال
إنما هذه الوظائف أثمان ... بها قومت قدور الرجال
قد تهاوى إلى الحضيض رجال ... وخزوا يوم حوسبوا بالظواهر
ليت شعري فما يكون رجال؟ ... ما يكونون (يوم تبلى السرائر)
ينضح الناس حين يكشف سر ... عن عيوب وخلفه أستار
كيف لو تكسف القلوب عن ... الخبء وتبلى الغيوب والأسرار
في جهاد الحياة خسر وربح ... وصروف ما بين سعد وحس
لكن الشهم من يول بحق ... (صنت نفسي عما يدنس نفسي)
قلت: ماذا الهيام في شهوات؟ ... قيل: هذي حياتنا في الصميم
لت: زيدوا حياة عقل وروح ... إن صدقتم، إلى حياة الجسوم
كلمات بقين لي من صديق ... من دموع تألفت وشجون
لهف نفسي يبقي الحنين على الطرس ... وتفنى القلوب ذات الحنين
زهرات قطفن منذ سنينا ... ناضرات عواطر قد بقينا
لم تزدها الأيام إلا ازدهاراً ... وغصون قطفن منها بكينا
ذلك الخط ناضر كالزهور ... لم يغير شذاه مر الدهور
يملأ الأذن والفؤاد حديثاً ... أين أين الصديق رب السطور
قال نسر محلق لأخيه: ... أي سر في خلقه الإنسان
ملأ البر والبحار فساداً ... ثم وافي مدمرا في العنان
عبد الوهاب عزام(1013/39)
من شعر الوطني
بين عهدين
للأستاذ محمد عثمان الصمدي
صار هزل الأمور في مصر جداً ... رب هيئ لها سداداً ورشدا
لم تزل تعرك النوائب حتى ... جعل الله للنوائب حدا
قيض الله للظلوم رجالاً ... صدقوا مصر أن في مصر جندا
يا لها لحظة تذبذبت الأقدار ... فيها بالقوم نحسا وسعدا
لم تكن غير جولة إثر أخرى ... جد فيها النضال أخذا وردا
ثم أجلت عن خلعه خلع نير ... لم يجد حاملوه من ذاك بدا
لا تظنوا به الظنون وقولوا ... : ظالم مهدوا لها فاستبدا
كم أراد الخنا إليهم فألفى ... كل شيء كما أراد معدا
وكم استلهموا فنون هواه ... حسبه عنده ودينا يؤدى
طالما قربوا القرابين زلفى ... منه واستنفدوا التسابيح حمدا
ما يبالون حين يدنون منه ... نضب النيل أو جرى النيل شهدا
ليت قوما مصوا الدماء عناهم ... أن يصح الجريح عرقا وجلدا
شد ما استنزفوا الدماء وأبقوا ... بعدها في الفؤاد جرحا ممدا
أهدروا قوة البلاد فأرضوا ... سيدين المحتل والمستبدا
ليس يعيهم من الشعب إلا ... أن يسوسوه سادة وعبدى
جعلوه صفين يرقب كل ... بأخيه ريب الزمان الاشدا
بئس ما اذكوا العداوة فيه ... بين صفيه والخصم الالدا
ويمينا لم يؤثروا الحكم إلا ... ليفيدوا جاها ومالا ومجدا
واسألوا الشعب كم أباحوا حماه ... واستخفوا به عوقا وجحدا
سلبوه قوام كل حياة ... كيف يحيا وما عن الخبز معدى
ولعمري ما أعوز الخبز شعباً ... وهو يرجو التحرير إلا وأكدى
أي ولاة الأمور فيما بلونا ... كم وأدتم من النوابغ وأدا(1013/41)
ما غناء النبوغ إن ظل يسعى ... ناشداً قوته دؤوباً مجدا
وإذا استأثر المعاش بجهدي ... كله فالخمول لا شك أجدى
أي شعب يا قوم حقق مسعى ... في المعالي ولم يكن مستعدا
إن أقوى الشعوب في الأرض شعب ... عاش عيش الكريم فراداً ففردا
لم يفرق أبناءه حاكموه ... وفق ما يشتهون مولى وعبدا
وليقل لي المرتاب ماذا استردوا ... من حقوق أحرى بأن تستردا
أم تراهم أجلوا عن النيل رهطاً ... كم جهدنا أن يطردوا منه طردا
ودع الغاصبين يا صاح وانظر ... كيف عاثوا في الحكم حلاً وعقدا
يبتنون الدعام حتى إذا ما ... لم تقهم انحوا عليهن هدا
آية الرأي عندهم أن يدوروا ... حيث دار الدخيل جورا وقصدا
ما لقطب داروا عليه زمانا ... لم يدع برهة ولم يخل عهدا
نزلوا عند أمره واستمدوا ... منه عونا هيهات أن يستمدا
وهو فيما يدور يمنى ويسرى ... لم يرغ غير وكده ذاك وكدا
قد تواصوا بالبغي حتى حسبنا ... أن نص الدستور ينميه بندا
فتراهم يجرون جرى المذاكي ... في المخازى حشدا يسابق حشدا
ليت من يستدر ضرعاً حرماً ... كلأ الشاة مشفقاً أن تندا
أخمدوا جذوة النفوس فبعدا ... لألاء القوام بالأمر بعدا
واستذلوا السواد بالبؤس حتى ... بايعوهم أن ينفد العمر كدا
أيهذا اللواء إياك نعني ... قد وجدنا فيك اللواء المفدى
إنما أنت يا نجيب شعاع ... تجتويه العيون إن كن رمدا
أي زعيم البلاد نحن انضوينا ... تحت ظل اللواء له جندا
أنت أنت الزعيم ماد دمت تسعى ... هكذا في البلاد لم تأل جهدا
قد نبذت الإقطاع فانبذ بنيه ... لا تدع والدا ولا تبق ولدا
يا له ماردا قضى وتراه ... نابضا في ذيوله ليس يهدا
في شرايينه ذماء سيبقى ... رغم فرط البلى مغيظاً مغدا(1013/42)
وسم العصر بالتسلط فانظر ... كيف تخلى المعد مما أعدا
وأرى المرء ليس يبلغ سؤلا ... جل شأنا أو دق حتى يجدا
وبحسب الراقين أن قد اعدوا ... رقية تصرع الطواغيت لدا
ساسة النيل إن بالنيل شوقاً ... لزوال الفساد عنه ووجدا
فسد الأمر كله في حمانا ... ليت شعري هل يعقب الجزر مدا
وثب الجيش حيث توعد مصر ... حقها في المعاش خفضاً ورغدا
فقوانين ماتني إثر أخرى ... تعد الخفض أو تفي فيه وعدا
ولعل القانون ليس بمجد ... وحده في البلاد ما لم تعدا
فأعدوا الحمى لما سوف يلقى ... بعد حين يمرد على الوعي مردا
إن أعصى الأشياء ما في السجايا ... من عناد أدى بها حيث أدى
صار هزل الأمور في مصر جداً ... رب هيئ لها سداداً ورشدا
وأجنب الشعب أن يضل هداه ... واجعل الجيش واقفاً منه ردا
محمد عثمان الصمدي(1013/43)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
الموسم الثقافي
ومرة أخرى يفتتح (طه حسين) الموسم الثقافي لنادي الخريجين المصري بمحاضرة عن (الثقافة الوطنية، والثقافة العالمية).
ولنا قبل أن نلخص المحاضرة عتاب على نادي الخريجين الذي يرأسه الدكتور العميد، لأنه لم يوفر للعدد الضخم الذي حضر ليسمع (طه حسين) الأماكن. . وإذا كان النادي لا يتسع، فقد كان في الإمكان أن يختار أي قاعة من القاعات الواسعة: نقابة الصحفيين، أو يورت، أو الشبان المسلمين. .
لقد ذهبنا قبل موعد المحاضرة بنصف ساعة فلم نجد مكاناً واضطررنا أن نقف في تلك الطرقة العتيقة محشورين على وجه غاية في القسوة، فترة تزيد على ساعة ونصف الساعة. .
وبعد. فهل أستطيع أن ارسم خطوطاً عامة لهذه المحاضرة الممتعة؟ أرجو. .
تحدث الدكتور عن الثقافة، وقال أنها ليست شيئا يمكن تحديده، وأنها وسيلة من وسائل التقارب بين الناس والأجناس، وأنها الأداة الوحيدة لمنع الحرب ونشر السلم. .
رسم العميد صورة للمثقف في العصر القديم، قبل الإسلام وبعد الإسلام، وكيف كان الشاعر يسعى من باديته إلى الحاضرة، يحمل قصيدة يمتدح بها الخليفة أو الأمير، فإذا وصل إلى الحاضرة أعجبته ورضي عنها فاستقر بها طويلاً. . وأفاد من اتصاله بالناس في خلال رحلته الطويلة وفي خلال مقامه في الحاضرة، فإذا عاد بعد ذلك إلى البادية، عاد ومعه ثقافة واسعة جديدة. .
وقال الدكتور طه حسين إنه ليس هناك ثقافة وطنية وثقافة عالمية، وإن التفريق بينهما خطأ واضح، إذ أن الثقافة عالمية قطعا، وإنه لا سبيل لأمة الآن أن تعيش منفصلة عن غيرها، ولا أن يعيش شعب على الثقافة العربية وحدها، لعاشوا بعيداً جداً عن الحياة الحاضرة.
وليست مصر وحدها هي التي تستطيع أن تتخلف عن الثقافة العالمية، بل إن الأدب الفرنسي والأدباء الفرنسيين، لا يستطيعون أن يقولوا إنهم عاشوا دون أن يقرئوا الأدب(1013/44)
الإنجليزي أو الألماني أو الروسي أو اليوناني. . وكذلك الشأن في الآداب الأخرى.
وعاد الدكتور بعد ذلك فقال: غير أن الأدب في كل وطن يصور البيئة وروحها، ذلك أن الثقافة بالرغم من عالميها فأنها تتأقلم وتتبلور في صور النفس التي تكتبها. .
ورسم الدكتور صورة المثقف، فقال إنه ليس ذلك الذي يحفظ النصوص ويلقيها في كل مناسبة أو غير مناسبة، إنما هو القادر على أن يهضم كل ما يقرأ من فنون الأدب والثقافة، ويحولها في كيانه إلى قوة وتصنع فنونا جديدة.
وقال إن المثقف في عصرنا الحديث لا يستطيع أن يعد نفسه مثقفاً، إلا إذا ألم إلماماً وافياً بكل الآثار التي تنتجها القرائح في عصره. . وأن يواصل دائماً هذه القراءة، ويدأب على الدرس الدائم!
وفي نهاية المحاضرة تحدث (طه حسين) عن التعليم، وهاجم الرأي القائل بالتحفظ في إذاعته وتيسيره للناس جميعاً، وحمل على نظرية التعليم للتوظف، هذه النظرية التي قامت في العهد البائد ويجب أن يقضي عليها العهد الجديد، واستقبل المستمعون حملته هذه بالإعجاب والتصفيق. .
ومع الأسف فإن الصحف اليومية لم تذكر شيئاً عن هذه العاصفة الضخمة التي أثارها عميد الأدب!
الأدب النسوي والشعر المنثور
في رسالة مطولة وردت إلينا من الكاتبة الثائرة (ليلى مسلم) تقول: (إن حملتك على الأدب النسوي يا سيدي قاسية، إنك تنكر أن هناك أدب نسوي، وقد رددت هذا أكثر من مرة وقلت إنه ليس هناك شاعرات). .
ووقفت من الشعر المنثور الذي كتبته (هند سلامة) موقف المعارضة. . لست أدري إن كن ذلك منصباً على اللون الأدبي نفسه أم على المعاني التي تضمنه الشعر. . إنني أرسل إليك طي هذا بعض القصائد والقصص وأنا متحدية وواثقة من أنك ستغير رأيك في الأدب النسوي والشعر المنثور.
إن هناك كاتبات يا سيدي يكتبن لأنفسهن، ويعشن في برجهن العاجي ليقرأن. . ويتبن. . إنهن - وأنا منهن - يعرفن أن الصحف لا تعرف غير الوجوه، ولا تعرف غير اللواتي(1013/45)
يتصلن بهذا الكاتب أو ذاك.
أما أولئك اللائى ينتجن في صمت، فهن لا يردن أن يعرفهن أحد. . غير أنه عز علي أن تقول إنه ليس هناك أدب نسوي، ولذلك أرسلت لك هذه الصورة من كتاباتي).
والحق أنني أعجبت بهذه الرسالة لأن كاتبتها مركزة الأسلوب، ولأن القطع التي أرسلتها إلى توحي بالثقة بأننا سنطالع فجر الأدب النسوي الجديد. . سنطالعه على يد أمثال ليلى مسلم. . وغيرها من الشابات المجددات، اللواتي لم تتألق أسماؤهن بعد. .
وأسارع فأعرض قطعة من شعر (ليلى مسلم) المنثور:
بيني وبينك. . خفي مجهول
سمه عبادة، أو سمه حنينا
سمه ما شئت مما تعرفه وحدك، ويخفى على من دونك
إنه موجود، باق لا يزول
يسرى فجأة في بدني فيرتجف له. .
ثم يدب على أرضي. . فأقف في ثبات
. . أقف أمامك، وقفة موسى عند الطور الأيمن
ويجري بينك وبين عتاب. . حار
وتنتصر أنت، وأتواري أنا خجلاً. .
ويحزنك أمري. .
فتبعث إلى. .
تبعث إلى من ذلك الينبوع الذي لا يجف، ينبوعك!
وترطب جفاف روحي بآياتك الحسان
ولكني من فرط خجلي لا أستجيب. .
فتنتظرني قليلاً. . ولا تهجرني. .
وتفتش عني في كل مكان. .
فلا تترفع عن ارتياده، مهما كان، لتهمس في أذني: عودي يا ضالة!
عنك المؤمنون الأبرار. . راكعين، ساجدين(1013/46)
ولكنك لا تلبث أن تجيب دعوة الداعي. . إذ دعاك. . فأنا أدعوك. .
وحق على أن أنشر هذا الشعر المنثور. . فهو غاية في السمو والنقاء. .
إنهن يرسم صورة لنفس (صوفية) تحلق وتصعد في السماء. فارق بعيد بين هذا اللون (الروحي)، وبين ذلك اللون (النفسي) الذي عارضناه، وإن كنا نحتفظ برأينا في الشعر المنثور بصفة عامة.
(هند سلامة) تصور الحياة وتغوص في معالمها. . وتجري في تيارها. (وليلى مسلم) تسمو وتتحرر، وتتجه إلى الله، وترسم النفس الإنسانية وهي تتعالى وتندفع إلى الخلود.
وبعد فكلمة أهمس من وراء النقد، ونجدنا على استعداد لأن. نغير رأينا في الأدب النسوي، إذا برزت فنون من الأدب جديدة يمكن أن تملأ هذا الفراغ.
إننا يا سيدتي ننحني للأدب الرفيع. . ونحيي الروح الجديد. . و (الرسالة) يا سيدتي لا تعرف الوجوه، ولكنها تعرف الفن الخالص. . فقدمي إليها إنتاجك، وسترين أنها تحفل به ما دام متسقاً مع مستواها وروحها.
أنور الجندي(1013/47)
البَرِيدُ الأَدَبِي
اقتراح بإنشاء (مجمع فكري) بمناسبة إنشاء وزارة الإرشاد
لعل أمة من الأمم سواء في التاريخ القديم أو الحديث لم تكن أحوج من
مصر في يومها الحاضر إلى التوجيه والإرشاد القوميين - وليس
ازدياد حاجتها لذلك نتيجة عيب أو نقص.
ولكن كثرة ما توارثته من عناصر الحضارة واختلافها الشديد مع كثرتها في الوسائل والغايات؛ ولأنها وهي وسط بين أمم مختلفة المذاهب متباينة المشارب قد تشبعت فيها وجوه الرأي في حديثها مع تهيئتها بحكم اختلاف الوراثات لهذا التشعب واستعدادها لمرونتها إلى الأخذ من كل شيء بطرف.
في مصر لا يزال أثر من وجوه النظر التركية إلى جانب آثار عميقة من التقاليد العربية وأخرى من العادات الفرعونية. وهي في اليوم الحاضر ملتقى ثقافات غربية متنوعة العناصر، وأخرى شرقية مختلفة الأصول. وبعض هذا وذاك قد تلقته من الآباء والأمهات والمصلحين، والبعض مدسوس عليها من المستعمرين والغاصبين والحكام الطاغين.
وفي مصر دوامة من آراء وأحاسيس ومشاعر، ولقد بذلت في العصور الأخيرة محاولات تلقائية لا نقول من الزعماء ولكن دفع إليها الزعماء من إحساس باطن في الأمة إلى وجوب توحيد الهدف وتوحيد الوسائل إليه. ولقد استجاب إلى هذا الإحساس من أصاخوا إلى صوته في الضمائر أو سمعوه من أعالي المنابر أو من آثار الأقلام والمحابر. ولكن الاستجابة لم تكن شاملة ولا كاملة لانتشار الأمية ولأن الزعماء كانوا أحرص على الظهور بشخصياتهم منهم على بث المبادئ في البيئة.
صيحة النهضة الحاضرة بالاتحاد والنظام والعمل إنما بدأت بما يجب البدء به نتيجة إحساس عميق بالافتقار إليه. وما احتاجت مصر إلى هذه الصرخة المدوية إلا لتعدد آثار الثقافات. واختلاف ألوان الحضارت، وإن شئنا الإنصاف فلتعدد ألوان الطامع واختلاف آثار المظالم أيضاً.
أدبنا العربي تراث عظيم الضخامة ولئن لم يرتو منه الكل بسبب انتشار الأمية فلقد تأثر به(1013/48)
الكل كما تتأثر الأرض بالمياه الجوفية. وفيه من المتناقضات لطول عهده ولأنه وإن كان أدب لغة واحدة فهو جماع آداب لأمم مختلفة في عصور متباينة تحت ظروف لا تكاد تتشابه. ولم ينقد هذا الأدب الطويل العريض نقدا مميزاً.
وأدب الأمم الأخرى المعاصرة نشأ في عهد أقرب وفي بيئات أكثر اندماجاً وظروف اكثر تشابها فلم تحتج كحاجتنا إلى التوجيه والإرشاد.
ابتعدت الأمم الأخرى في عصورها القريبة عن محنة الاستعمار وتعدد المستعمرين واختلاف آثارهم - كل ذلك كون لكل دولة شخصية اكثر تماسكاً وأكبر استقلالاً. وتلك مزية فيهم والمزية كما يقولون لا تقتضي الأفضلية؛ ففينا مقابل هذه مزايا من عمق الأيمان. ومن الصبر والاطمئنان. ومن المرونة الاستعداد للتطور. ولكننا بما لنا وعلينا في حاجة اكبر إلى إلغاء أهداف وإلغاء وسائل. والتخلي عن آراء وهجر عادات ومحاربة تقاليد الاندماج بعد ذلك في موكب واحد نحو هدف واحد.
ذلك كان إحساس الأمة التي عبرت عنه بصيحتها في فجر نهضتها إذ تهتف قلوبها على السنة قادتها بالاتحاد والنظام والعمل.
ولقد كان إنشاء وزارة جديدة للدعوة والإرشاد وسيلة لتحقيق هذا الاتحاد، لكنه ليس بمأمون مع ذلك أن تتشعب وتتفرع وتنداح وتنساح فكرة تبدو اليوم موحدة وتجري عليها سنة الخلق من توالد وتكاثر.
وليست الوزارات بالعمل الذي ينشأ من أجل ليلة وضحاها، وإنما هي للغد البعيد وما يليه. وضمانا للتوحيد في كل ما تقدم مما اختلف على طول العصور يجمل أن توضح البرامج الواسعة النطاق - ما كان منها صالحا للتنفيذ اليوم وما كان منها منظما للآمال والغايات البعيدة.
وسبيل ذلك التأليف بين رجال الفكر الدارسين ورجال الفن الحساسين. ونحسب هذا لا يكفل إلا بإنشاء الأكاديمية المصرية التي طال انتظارها (مجمع فكري).
ومجمع اللغة العربية والمجمع العلمي لم يكونا إلا خطوتين في سبيل هذه الغاية. ووزارة الإرشاد خطوة ثالثة. وإنما ينظم هذه الخطوات مجمع من رجال الفكر يكون كل رجاله من المؤلفين والدارسين فهؤلاء أكفل لحياة الوزارة الجديدة من مديرين ووكلاء وموظفين. إن(1013/49)
يكونوا اليوم بحكم جدة النهضة من لامس أغراضها فإنهم في الغد لن يكونوا كسائر الموظفين.
نحن ندعو إلى مجمع من مجامع الخالدين ليكون على رأس المصالح التي ضمتها الوزارة الجديدة.
الإسكندرية
احمد عوض
الأزهر. . والثورة
لقد أحدثت الثورة المباركة انقلاباً خطيراً في كل مرافق الدولة، وخطت خطوات موفقة في سبيل الإصلاح. وقطعت شوطاً بعيدا في سبيل التطهير وقطع دابر المفسدين، وكان لهذا الانقلاب الخطير أثر في نفوس الشعب كافة، وما دامت الثورة قد أحدثت هذا الانقلاب العظيم فما لنا نرى الأزهر لا يزال متمسكا بجموده، متشبثا بالماضي العقيم؟ إن الأزهر يحتاج إلى انقلاب عام شامل في كل ناحية من نواحيه وفي كل شأن من شؤونه.
اجل: فإن الكتب الأزهرية التي الفت في عهود غابرة وبأسلوب عقيم - لا يتفق مع عقول الطلاب - لا زالت هي التي تدرس إلى اليوم، وأنها لمحشوة بالأساليب المعقدة والمسائل التافهة، ومع ذلك فهي بعيدة كل البعد عن حياتنا العامة. . فالطالب الأزهري يقضي زهرة شبابه بين هذه الكتب البالية ثم يخرج بعد أن نبت الشيب في رأسه ليرى الحياة حوله لا تتفق وهذا الجمود الذي يتصف بها الأزهر، إن الحياة تسير والنظم تتغير والأساليب البالية تزول، وذلك حسب سنة التطور ولكن التطور لم يدخل الأزهر بعد، لذلك يحتم الأزهر على الطالب الذي يريد الالتحاق به أن يكون حافظاً للقرآن كله، وقد كان هذا الشرط يجوز ويكون مقبولاً منذ ربع قرن مضى. . أما الآن وقد انتشرت المدارس الابتدائية في كل قرية فلم يعد هذا الشرط مقبولاً أبداً، وغير ذلك يجب أن تدرس إحدى اللغات الأجنبية في معاهد الأزهر، ويجب أن يوحد زي الطلبة فوراً، فقد أصبحت مسألة الزي هذه مهزلة المهازل! فهناك من يرتدي الزي الأزهري ومن يرتدي الزي الإفرنجي ومن يكتفي بالجلباب أو (البيجاما). كل هذه أمور من شأنها أن تحتل المكان الأول من اهتمام المسئولين في(1013/50)
الأزهر، وذلك حتى يتجاوب الأزهر مع روح العهد الجديد، وهي أمور كلها تجيش من آن لآخر أردت أن أضعها نصب أعين ولاة الأمور في لأزهر على سبيل الذكرى. فالذكرى تنفع المؤمنين.
محمود حمدي زقزوق
حضرة
قرأ كلمة لأحد الباحثين قال فيها إن (حضرة) بمعناها الحالي كلمة تركية دخيلة وهذا ليس صحيحا وإليك النصوص اللغوية:
جاء في شرح القاموس ما نصه: حضرة الرجل قربه وفناؤه، ووفي حديث عمرو بن سلمة الجرمي (كنا بحضرة ماء) أي عنده، وكلمته بحضرة فلان أي بمشهد منه، قال شيخنا وأصل الحضرة مصدر بمعنى الحضور كما صرحوا به ثم تجوزوا به تجوزاً مشهوراً إلى مكان الحضور نفسه ويطلق على كل كبير يحضر عنده الناس كقول الكتاب أهل الترسل والإنشاء. الحضرة العالية تأمر بكذا، والمقام ونحوه - وهو اصطلاح أهل الترسل كما أشار إليه الشهاب في مواضع من شرح الشفاء هـ
وجاء في (صبح الأعشى ج6 ص498) في مبحث الألقاب:
الثامن: الحضرة والمراد بها اللقب. . وهي من الألقاب القديمة التي كانت تستعمل في مكاتبات الخلفاء وكان يقال فيها الحضرة العالية والحضرة السامية وتستعمل الآن في المكاتبات الصادرة من الأبواب السلطانية إلى بعض الملوك ويقال فيها الحضرة الشريفة العالية والحضرة الكريمة العالية والحضرة العلية بحسب ما تقتضيه الحال الخ. . وكثير من كتاب الزمان يظنون أن هذه الألقاب الأصول أو أكثرها أحدثها القاضي شهاب الدين أبن فضل الله وليس كذلك. . الخ. وجاء في (محيط المحيط) المولودون (المحدثون والمتأخرون) يستعملون الجناب لأكابر الناس بمعنى الحضرة فيقولون: ننهي إلى جنابك مثلا أي نلقي كلامنا بين يديك وذلك في الأصل؛ ثم توسعوا حتى بلغوا الجناب لغوا يراد به مجرد التعظيم، فيقولون هذا غلام جنابك أي غلامك ا. هـ.
من هذا يتبين أن (حضرة) عربية صحيحة ولكنها تطورت، والاستعمالات المجازية(1013/51)
صحيحة بل فصيحة.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي(1013/52)
القصص
الزوجة الحسناء
للكاتب النمساوي هيرمان بار
. . . ولاقيت صديقي بول دوران بعد غياب طويل فاندفعت إليه في شوق قائل: (كيف حالك يا عزيزي؟ لقد احتجبت عنا طويلاً، أفتزوجت حقاً؟ لم يكن ليضطرب في خيال واحد من رفاقك أنك تتزوج فتزل على بعض ما فيك من عبث ومرح ولكن المرأة. . المرأة يا بول!).
وابتسم بول في رقة واخذ بذراعي يجرني اليه، أفكان لبول أن يتزوج وقد عرف في صحابته المجون والعبث؟ إن هذا خيال ما يستطيع الإنسان أن يثق به!
وتناول سيكارة في هدوء وقار، وحدجته بطرف عيني فآلمني أن أرى فيه الرزانة والسكون! لا ضير،، فهو زوج! ثم. . . ثم قلت: (لقد أبدلت طبعاً بطبع يا بول بعد أن تزوجت. . تزوجت من فتاة جميلة) فترك ذراعي في غضب وهو يقول: (دع عنك المزاح وإلا كان هذا فراق بيني وبينك!) وأزعجني حديثه فاندفعت أسأل: (ماذا يا صديقي؟)
قال: (حقاً، أنها حسناء فاتنة. . ولعمري إن البلاء في الزوجة الحسناء، فأنا ادفع الثمن غالياً! نعم إنني أحبها ولكن أتعلم ما يثقل زوج المرأة الحسناء؟ إذا غاب عنك هذا فلا تتحدث عن شيء بعده. إن الزواج من حسناء يتطلب صبراً كصبر أيوب ثم يصفر صفيراً مزعجاً وفي وجهه العبوس والتهجم؛ وخيل إلى أنني سموت إلى الغاية متى يريد فقلت: (أفرأيت يا بول، أن خطاياك تنحدر إليك من صبب! هذا هو الجزاء! إن الغيرة تكاد تعصف بك) ونظر إلى في دهشة وهو يقول: (يا للغباء! أي غيرة؟ فيم تفكر؟ وأسفت على أن رميته بتهمة هو منها براء، فقلت: (أفلا تستشعر الغيرة؟) قال: (لا. لا. إن الزوجة الحسناء هي خير ما يتمنى المرء ما لم يستعبده جمالها) قلت: (لقد قصر عقلي عن أن أستشف ما تريد) قال: (سأضرب لك الأمثال لأكشف لك عن بعض ما عمي عليك).
وبدا لي أنه يتنفس عن كربته حين ينشر على عيني أمره، وأنا صديق قديم حبيب إلى نفسه، فتعلق بصري به وهو يتناول سيكارة أخرى فيشعلها وهو يقول:
إن النشوة التي سيطرت علي - يوم زوجنا - كادت تستلبني عقلي. لقد انطلقت إلى ميونخ(1013/53)
برفقة زوجتي، وخيالي يصور لي أننا نستطيع أن نجول في أنحاء المدينة في لذة وسعادة؛ نزو معا بعض أصدقائي ثم نطير إلى مروج بافاريا ننعم بالخلوة، ونقطف الثمرة الحلوة. ووجدت السعادة في ميونخ، وعلى حين فجأة بدأ القلق يضطرب في ناظريها، فجلست إليها أستطلع الخبر، فقالت: (لا شيء! إنني أرى الجمال هنا، ولكن. . ولكنني أرى الناس غلظة وجفاء!) وحدثتني نفسي: (يا لله! لا ريب أن في سكان ميونخ البطيء الهدوء، أما الغلظة والجفاء. . .!) واندفعت هي في حديثها: (حقا، إن فيهم غلظة وجفاء! إن المرء ليضرب في الطرقات والشوارع ساعات فلا يرى إنساناً واحداً يرفع بصره فيحدق في الآخر. هذه هي النقطة التي رأيتها فيهم).
أفرأيت يا صديقي؟ لقد زلت زوجتي، فهر تريد الشوارع تموج بالناس بين معجب بها وعاشق لها، وهي لا تجد بغيتها في ميونخ. لعلك تنفجر ضاحكا من هذه السخافة، ولكنك ستجد فيما أقص عليك متعة وسلوى.
وفي الصباح التالي انطلقت أجلس في ندى مكسمليان أنتظر زوجتي لأصحبها إلى المعرض. لقد تركتها في الفندق ترتدي ملابسها تتزين. ولبثت طويلاً أنتظرها. ودقت الساعة عشراً وأنا جالس إلى نضد أردد بصري بين المارة وأحدق في دار الأوبرا وهي قبالتي؛ وابتدأ الناس يتصدعون عن المكان والنذل متكئون إلى الجدار في كسل وفتور. وخلا المكان إلا من شرذمة من الطلبة يحتسون الجعة ويلعبون؛ وهدأ المكان إلا من بعض كلمات تنفرج عنها شفاه الطلبة بين الحين والحي؛ وبذر الانتظار في نفسي غراس القلق والضيق. . ثم جاءت عند الظهر. . جاءت ترف رفيفاً جميلاً، حسناء جذابة، فاتنة خلابة، تسير الهوينى في خيلاء وصعر، وعلى ثغرها ابتسامة عذبة. . ومالت إلى النادلة تسألها ثم دلفت إلى في أناة وتؤدة، وحين صارت بازاء الطلبة تركت مظلتها تسقط من يدها فاندفعت النادلة إليها والطلبة في شغل.
وسألتها عن بعض ما تحب من أصناف الطعام لتتناول طعام الإفطار فلم تعر سؤالي التفاته وراحت تقول: (أنا لا أريد أن أجلس إلى هذا الشباك فهناك في الشارع وعلى جدار الملهى أشياء تبعث في النفس الضيق والملل. . خبر لنا أن نتنحى عن هذا المكان. ثم انطلقت تختار نضداً إلى جوار الطلبة؛ وحين سحبت إليها كرسياً هزت الآخر فانتثر ما عليه من(1013/54)
صحف فتناولتها والطلبة في لهوهم ما ينظرون. واستقر بنا المقام فسألتها مرة أخرى عما تتطلب من طعام، والشوق يدفعني إلى المعرض؛ غير أنها قالت في تؤدة وهي تضع نظارتها على عينيها: (خبرني، أفلا يجد هؤلاء الطلبة عملاً سوى شرب الجعة ولعب الورق؟) وأمسكت بصحيفة أصرف بها عن نفسي السوء وأكفكف بين سطورها نزوة تضطرب في قلبي، ولكنها لم ترض أن تتنزل عن رأيها في سهولة، فاندفعت تتحدث إلى: (يا لتعس آباء هؤلاء الطلبة! إنهم يبذلون آخر فلس في جيوبهم في سبيل أبنائهم وهم يبددون المال في المقاهي! أين المعلم وعصا المعلم؟) وانطويت عنها أردد بصري في سطور الصحيفة في إغضاء وإهمال؛ ولكنها قالت: (أنظر إلى كؤوسهم. . إلى رؤوسهم! يا عجبا! إنهم كحمالي المحطة!).
وتأجج الغضب في رأسي وأنا أهدئ من ثورتي خشية أن يتثلم شرفي في هذا الندي، ثم قلت في هدوء: (لا، بل أستطيع أن أرى أن ميونخ تبعث في نفسك الضيق والضجر، وأنا لا أجد بداً من أن ننطلق إلى شليرسي بعد ساعتين، فهو مكان هادئ جميل، وهناك دريتشر صديق قريب إلى نفسي) ثم رجعنا إلى الفندق نتأهب. . .
وأبرقت إلى صديقي. . وبلغنا شليرسي عند الساعة الرابعة، فألفيت صديقي لدى المحطة ينتظر. وانطلقنا جميعاً إلى فندق جميل على شاطئ البحيرة وحللنا غرفة واسعة أنيقة جميلة، تتراءى أمامها البحيرة وما حولها من مباهج. وأضنى التعب زوجتي - أجاتا - فانطرحت في فراشها في سبات عميق، أما أنا فقد انطلقت على دراجتي أطوف بالبحيرة والقرية وأستحلي رواء الريف الجميل، ثم عدت عند الثامنة فإذا هي في الحديقة، وفي يدها كتاب ما تستقر عيناها بين سطوره، وعلى خطوات منها بعض الريفيين، وقس يجلس إلى الحارس. وأخذتني روعة المكان فأحببت أن أقضي بعض وقتي هناك؛ واندفعت إليها وهي جالسة في ثوبها الأبيض الحريري الجميل، يتأرجح العطر منها عبقا طيبا؛ غير أنه لم يلتفت إليه أحد، وقفت بازائها أقول: (ما رأيك يا عزيزتي؟) فحدجتن بنظرة قاسية وقالت: (أهذه هي شليرسي؟ أنا لا أستطيع أن أمكث هنا أكثر من يومين فهذا مكان لا يلذني) قلت: (إنه هادئ. . . والبحيرة. . .).
فقاطعتني (والبحيرة صغيرة عابسة) قلت: (والوادي الجميل. . .) فقاطعتني ثانية:(1013/55)
(والوادي الجميل غير صحي) قلت: (والجبال. . .) فقاطعتني مرة أخرى: (والجبال، أنا لا أحبها!) ثم نظرت إلى في ازدراء وهي تقول: (والطعام رديء الطهي والجعة البافارية تملأ الجسم شحما، أنا لا أريد أن أبدو عبلة كالفلاحات. إنني أبتغي حياة هادئة. لقد كان من الخير لي أن أسجن في دير ولا أتزوج من رجل لا يحبني) قلت: (لا بأس، سنرحل إلى بلد آخر إن لم تجدي اللذة هنا)، واضطرب قلبي، ن وانتفض فؤادي، واستولى علي الأسى والحزن، فأنا لا أطمئن إلى حياة قلقة لا أستطيع فيها أن أستقر في مكان جميل جذاب أجد فيه السكون والراحة، ولكن ماذا أفعل وأجاتا ما تهدأ ولا تطمئن. لا ريب فهي تريد أن تنطلق إلى فينا حيث تطوقها الأنظار في كل مكان، لأنها إن افتقدت من يعجب بها حارت حيرة من اعتاد التدخين ثم لا يجد إلى الدخائن سبيلاً. تلك حقيقة مروعة، فخير للإنسان ألا يتزوج من حسناء!
وفي الصباح التالي بكرت إلى البحيرة، إلى الوادي، إلى الغابة أمتع نظري وأشيعها جميعاً بنظرات الوداع، فنظرات فيها الألم والحسرة، والخواطر المتناقضة تصطرع في خيالي. أما هي. . . هي أجاتا فما تزال في مخدعها تنعم بالنوم الهادئ. . إنني أتعشق هذه الناحية من الأرض، ولكن. .
ولمع في خاطري رأي، انفجرت له شفتاي ع ابتسامة فيها الرضا والاطمئنان، فانطلقت أعدو في لهفة إلى صديقي دريتشر، وهو ممثل بارع، وهو رئيس فرقة التمثيل الأهلية في بافاريا يستمتع بشهرة عالية؛ وهو أيضاً شاب فيه المرح والطرب والفكاهة والرأي النافذ والقريحة الوقادة. . وهو صديق فيه الإخلاص والوفاء.
وحين ضمنا المجلس اندفعت أقول: (دريتشر، إنني أطلب إليك شيئاً وارجوا ألا تجادلني فيه. إنك تعرف كل إنسان في هذه الناحية، أفتستطيع أن تمدني بشاب أنيق وسيم يمثل دور عاشق؟) قال في دهشة (ليمثل ماذا؟) قلت (ليمثل دور عاشق. إنني أريده يجلس ويحدق. . يحدق في زوجتي ساعة من نهار. إن زوجتي قد اعتادت هذا النوع من الغزل فهي تفزع من كل مكان تفتقد فيه بغيتها. وسأدفع له ثلاث ماركات في اليوم ثمنا لجلوسه في الحديقة يردد بصره بي الفنية والفنية في زوجتي، وأدفع له ثمن شرابه) قال: (لا ضير، لا ضير. . .!) ثم نشرت الخبر أمامه، فقال: (نعم سأفعل غير أني لا أستطيع أن أستغني(1013/56)
عن واحد من زملائي، ولكن. . . آه، نعم، إن في الفرقة عاملا شاباً فيه الأناقة والظرف و. . . دع عنك هذا، سأحدثه الحديث كله الآن؛ وفي المساء نبتدئ العمل. .) قلت (أشكرك يا صديقي. ولكن أفتطمئن إلى العامل؟) قال (وماذا يعنيك أنت؟ إن المرأة لا تعني بنظرات من يعشقها بقدر ما تعني بنظراتها هي؛ وسترى. . .)
وعند المساء انطلقت إلى مكتب البريد وخلف أجاتا وحدها في الحديقة. . . وجاء العامل في ثوب أنيق. . جاء ينفذ أمر سيده في براعة وإتقان. . . ورجعت أحدثها: (لقد ذهبت إلى المحطة. . فراقني أن نسافر على قطار الساعة العاشرة صباحاً) قال في لهفة: (ماذا؟ ماذا تعني؟ أفلا تستطيع أن تستقر في مكان؟ إنني أميل إلى هذا المكان، إلى البحيرة. . .) فقاطعتها قائلاً: (ولكنها صغيرة!) قالت: (هذا هو موضوع الجمال فيها) قلت: (والجبال من حولها) قالت (لا ضير، فأنشد الهواء العليل في أعاليها. سنبقى هنا حيناً من الدهر فما يرضيني أن نضطرب في أنحاء العالم. . .)
ومكثنا هناك ثلاثة أسابيع دفعت فيها الثمن غالياً. ولا ريب أن أجاتا لن ترضى بهذا المكان بديلا. . .
ك. ح(1013/57)
العدد 1014 - بتاريخ: 08 - 12 - 1952(/)
القرآن والدستور
نشرت إحدى الصحف ذات يوم أن بعضا من علماء الأزهر قد اجتمعوا ليستنبطوا مما شرع الله في الإسلام قوانين تحكم بها الدولة. فصادف هذا اخبر هوى في نفوس قوم، ونفورا في نفوس آخرين؛ وهتف أتباع هؤلاء في بعض الحفلات قائلين: القرآن دستورنا! واستطار النبأ في أجواء الأرض ففزع أصحاب الأموال في أوربا، واستراب رجال الأعمال في أمريكا، وقال مرضى الهوى أو الجهل منهم: نكسة الداء، ووثبة إلى الوراء! فلم يسع السياسيين إلا أن ينتفوا من هذا الخبر، ولا الأزهريين إلا أن يبرءوا من هذه التهمة!
أمر عجيب! إلى هذا الحد بلغ جهل الجهال بحكم القرآن فيصوروه هولة يفزعون بها الناس حتى أهله؟ إن كانوا من الذين يؤمنون بأنه من وحي الله فالله سبحانه لم ينسخه ولم ينسه، ولم يأت بخير منه أو مثله. وإن كانوا من الذين يزعمون أنه من وضع الإنسان فماذا يخشون منه وقد جربوه؟ لقد حكم الدنيا القديمة وهي همجية وفوضى، يتولاها الهوى، ويقودها الضلال، ويسوسها الجهل؛ فردها من الشرود المهلك، وأقامها على الطريق المؤدي: وأذاقها رخاء العيش المطمئن، وكفل لها من الحرية والعدالة والمساواة والكرامة ما كفل بعضه الدستور. وما الدستور؟ أليس هو في حقيقته وجوهره معنى من معاني القرآن ينبثق عنه كما ينبثق الشعاع عن الشمس؟
أعطوا الدستور ذوي الرأي من الراسخين في علوم الدين أمثال عبد المجيد سليم ومحمود شلتوت بحدوا قرآنا كأول ما أنزل الله. وأعطوا القرآن أولى الرأي من المتضلعين من علوم القانون أمثال عبد الرزاق السنهوري وعبد الحميد بدوي تجدوه دستورا كآخر ما وضع الناس.
أما القرآن الذي تخشونه فليس قرآن الله، إنما هو قرآن مسيخ فسره جهال العلماء على قدر ما في عقولهم من قصور وزيغ، وما في نقولهم من خطأ وحشو؛ فضيقوا سعته، وحددوا شموله، وعوقوا تقدمه، وزيفوا صحيحه، وشابوا صريحه، ووقفوا به عند عصر معين، فلا يقبلون إلا قوله، ولا يجيزون إلا فعله، ولا يعلمون أن عموم الرسالة المحمدية يقتضي أن تساير الزمن وتجاري الطبيعة، حتى لا ينقطع ما بينها وبين ركب الحياة.
وأما الدستور الذي تنكرونه، فهو الدستور المهين العاجز الذي يرضى أن تقوم باسمه(1014/1)
دكتاتورية حزب، وأن يقضى على حكمه طغيان ملك؛ ثم لا يأنف أن يفسره عابث على هواه، وأن يطبقه فاجر على مشيئته. فإذا لم يكن للدستور سند من روح الله يجعل الخروج عليه مروقا من الدين وفسوقا عن الإيمان، وإذا لم يكن للدستور حام من إرادة الشعب يعصمه من جور الحاكم وبغي السلطان، كان ضرره أكبر عن نفعه، وعدمه خيرا من وجوده.
آمنوا بالقرآن تجدوا الدستور الحق، وآمنوا بالدستور الحق تؤمنوا القرآن!
أحمد حسن الزيات(1014/2)
على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
2 - الصراع العقائدي وعلاقته بفكرة الدفاع عن الشرق
الأوسط
للدكتور عمر حليق
هل لروسيا مطامع استعمارية
لعل أولى ما يجب أن نتساءل عنه ونحن في صدد الحديث عن الدفاع عن الشرق الأوسط ما إذا كان للاتحاد السوفيتي مطامع (استعمارية) توسعية في العالم الخارجي؛ أم أن الخوف من عدوان المعسكر الغربي هو الذي يدفع روسيا إلى احتلال بعض المناطق في شرق أوربا احتلالا مباشرا وقيام الحركة الشيوعية في الدول المجاورة كما حدث في الصين وتشيكوسلوفاكيا واليونان؟
هذا سؤال اختلف في تحديد الجواب الصائب عنه دراسات المعنيين بالشؤون الروسية والمعلقين السياسيين وأخصاء علم النفس الاجتماعي وتقارير البعثات الدبلوماسية الأجنبية المقيمة في موسكو.
- وكل هذه مواد استند إليها كاتب هذه السطور في هذا البحث.
فالمستر جورج كنان سفير أمريكا في موسكو حاليا وأحد كبار الخبراء الأمريكان في الشؤون الروسية يعتقد بأن ما لجأت إليه موسكو في عالم ما بعد الحرب من توسع شمل شرق أوربا وتسرب إلى الصين فاكتسحها وبنى له وكرا في فرنسا وإيطاليا وغيرها - هذا التوسع ما هو إلا مغامرة سياسية استنبطتها العقلية السوفيتية ورجال الحكم السوفييت في موسكو لخوفهم من أن يتركوا حدود الاتحاد السوفيتي معرضة لنفوذ الدول الرأسمالية التي يعتقد السوفييت بأنها لا بد من أن تشن على الاتحاد السوفيتي حربا تقوض النظام الشيوعي القائم في روسيا. ومن رأى هذا الخبير الأمريكي كذلك أن الشعب الروسي (على نقيض رجال الحكم السوفييت) لا يرغب في توسع إقليمي.
ومن ثم اقترح المستر كنان على حكومته لكي تضع حدا لهذا التوسع السوفيتي بأن تنشئ قواعد عسكرية قوية على حدود البلاد السوفييتية وتعزز دعائم الاستقرار الموالية لأمريكا(1014/3)
في الدول المجاورة للاتحاد السوفييتي كتركيا واليونان، ومحاربة الأوكار الشيوعية القويمة في فرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول المعرضة لانتشار الشيوعية. ثم كان مشروع مارشال لمعونة الدول الحليفة لأمريكا، ومن ثم تمت بسرعة فائقة إقامة القواعد العسكرية الأمريكية في شرقي الجزيرة العربية وفي مطار الملاحة في ليبيا والقواعد الهامة الأخرى في شمالي أفريقيا العربية؛ وبذلك يثبت الأمريكان لرجال الحكم السوفيتي بأنهم لن يهنوا أمام أي حركة توسعية سوفيتية جديدة وإنما يقاومونها بالسلاح (كما حدث في كوريا) لعل رجال الحكم في موسكو يعدلون عن مغامرتهم السياسية.
ولما كان المستر كنان ومن يشاركه في الرأي من خبراء الشؤون الروسية في أمريكا وبريطانيا مؤمنين بأن الشعب الروسي لا يرغب في توسع إقليمي فقد اقترح السفير على حكومته بأن تخصص الأموال اللازمة لبث الدعاية في روسيا نفسها وفي المناطق الشيوعية الأخرى ضد رجال الحكم السوفييت في مغامرتهم التوسعية هذه. وأخذت الحكومة الأمريكية بهذا الاقتراح وخصصت في الميزانية العسكرية الأمريكية لعام 1951 مبلغ100 مليون دولار لهذه الغاية. وقد احتجت روسيا على هذا وعرضت الموضوع على الجمعية العامة لهيئة الأمم في دورة سنة 1951.
والفريق الآخر من خبراء الشؤون الروسية في المعسكر الغربي يعتقدون بأن التوسع السوفييتي في أوربا الشرقية وفي الصين وفي سائر بقاع العالم ليس وليد العقلية السوفييتية فحسب؛ بل أنه وليد العقلية الروسية الشعبية الكامنة تحت الطبقة الماركسية الكثيفة التي تشبع بها صناع السياسة في موسكو. وهذه العقلية الروسية هي الآن كما كانت في أزمنة التاريخ الروسي السابقة في عهود القياصرة والحكام التتر والمغوليين راغبة في التوسع الإقليمي خارج حدودها، لا لأنها تخاف العناصر المعادية لها في العالم الخارجي فحسب؛ بل لأن التوسع الإقليمي غريزة في العقل الروسي. فهذا التوسع إذن من الخصائص الثقافية للخلق الروسي وليس وليد النظام الشيوعي السوفييتي القائم الآن في روسيا.
ومن الطريف أن نستعرض التحليلات التي يستشهد بها أصحاب الرأي من خبراء الشؤون الروسية.
الشخصية الروسية(1014/4)
ويقول هؤلاء بأن الشخصية الروسية منطوية على نفسها عاطفية تتضارب فيها الأزمات الروحية وفيها نزعة إلى الجدل الغامض والرغبة في الراحة والطمأنينة التامة. ومرجع ذلك إلى النكبات التي حلت بالشعب الروسي تحت سيطرة القياصرة (وقبلهم تجولند وجنكيزخان) وجبروتهم وعبوديتهم واسترقاقهم لأفراد الشعب الروسي. فهذه النكبات قد أوجدت في الشخصية الروسية رغبة ملحة في الاستقرار والطمأنينة، وأولد فيها حبا عميقا للوطن الروسي، وأذكى في الروس قومية عنيفة لا تتوانى عن الموت في سبيل الدفاع عن الوطن وصيانة حدوده من أطماع الخصوم. وهذه الرغبة في توطيد الاستقرار والطمأنينة والدفاع عن الوطن الروسي تتطور في حالات معينة بتأثير الأحداث السياسية فتميل إلى التوسع على حدود الوطن الروسي كوسيلة لضمانته وحراسته. ومن الصعب على العقلية التي من هذا القبيل أن تحدد المدى الجغرافي الذي ينته عنده توسعها الإقليمي خارج الوطن الروسي. وأصحاب هذا الرأي من خبراء الثقافة والتاريخ وعلم النفس الاجتماعي يعتقدون بأن الفلاح الروسي واسع الخيال - وخياله مستمد من هذه السهول الشاسعة الواسعة التي تهيمن على جزء كبير من الوطن الروسي - من حدود فنلده إلى مياه بحر الصين - سهولا لا نهاية لها يتصور العقل الروسي أن في نهايتها أسرارا رهيبة، فمن السهول الآسيوية - خففت جحافل التتر والمغول، ومن السهول الأوربية شن نابليون وهتلر غزواتهما. وكم شط الخيال بالشخصية الروسية فدفعها إلى الرغبة الملحة في سبر غور هذه المجاهل البعيدة واكتشاف أسرارها؛ ولكن طبيعة المعاش وقساوة المقادير وصعوبة المواصلات لم تحقق لمعظم الحالات للشخصية الروسية هذا الحلم. فإذا عادت إلى الحياة الواقعية ثارت على هذه الأسرار ثورة الناقم؛ فإذا ناداها منادي ضد هذه الأسرار الغامضة - ضد هؤلاء الأعداء الذين يكمنون وراء الأفق البعيد ويضمرون للوطن الروسي شرا - لبت الشخصية الروسية النداء في حماس مندفع تشهد له بطولة الجندي الروسي في ميادين القتال.
والأدب الروسي ملئ بوصف هذه السهول والأسرار الغامضة الرهيبة التي تكمن في أفقها البعيد، ففي إنتاج (ترجنييف) الأدبي مادة غريزة عن هذا وأوصاف متعددة له.
كتب (ترجنييف) إلى مدام فيادون في عام 1850 يقول:
(دعى روسيا بسهولها المترامية الأطراف الهادئة الساكنة الصامتة صموت أبي الهول(1014/5)
تنتظره فإنها ستبتلعني فيما بعد. وإني لأرى نظراتها القاسية العميقة تحذق بي في حدة كما لو كانت عيونها من الصخر الأصم).
والواقع أن هذه العيون القاسية التي تخيلها (ترجنييف) تحدث فيه في عمق وقساوة ليست إلا هذا الأفق البعيد الذي يهيمن على السهول الروسية الشاسعة التي لا نهاية لها - نهاية غامضة محاطة بالأسرار لم تقو الشخصية الروسية ممثلة في الفلاح ورجل الشارع أن تقهرها، ولذلك تولدت في هذه الشخصية خصائص اندفاعية قاسية تستميت في الصراع (العسكري والسياسي) لتفرج عن الشخصية الروسية هذه الأزمنة النفسية التي تنتابها بين حين وآخر من الحوادث والملمات. ومن هنا يفسر علماء النفس الاجتماعي تقبل العقلية الروسية للمبدأ الفوضوي (النهلستي) فهذه الكلمة من اشتقاق المفكر الروسي المعروف نيقولاي شرنيشيفسكي الذي وصف للشعب الروسي في كتابه (ما الذي يجب عمله (فردوسا) (فوضويا) تنعدم فيه المسؤولية ويسود الرخاء والحرية التامة، فلا يشتغل فيه أمرؤ إلا بمحض مشيئته، وينعم فيه الفلاح براحة تامة يستطيع معها أن يسترخي مرتاحا وبجانبه قدح النبيذ ويداعبه النسيم الهادئ الرقيق فلا يعبأ بالأحداث الطارئة والقيود الثقيلة التي يتقيد بها المجتمع التقليدي للأفراد والجماعات. وهذا الوصف كما ترى تعبير يلائم كثيرا مقومات الشخصية الروسية ورغبتها في الراحة والاستقرار والطمأنينة وتجنب النكبات التي حاقت بها من غزوات التتر والمغول إلى طغيان القياصرة ومذابح نابليون وهتلر.
وحين تعتقد الشخصية الروسية بأن هذا الفردوس لا يتحقق إلا إذا أمن شر ما رواء هذا الستار البعيد الذي يحد أفق السهول الشاسعة تنفعل فيتولد فيها عند الحاجة جماح عنيف ورغبة ملحة في اختراق هذا الستار، ومن ثم فليس من حرج على الشخصية الروسية أن تتقبل فكرة التوسع سواء تحت قيادة القياصرة أم بزعامة ستالين.
ولقد سبق الثورة الشيوعية التي استولت على الحكم في روسيا عام 1917 ميلاد الحركة النهلستية التي برزت قوية ذات بأس في عام 1870 والتي يعتقد بعض مؤرخي الحركة السوفييتية بأن البلشفيك قد تأثروا بها. فقد اعترف لينين فيلسوف الشيوعية السوفييتية بدينه الفكري لبعض تعاليم (ناشايف) زعيم الحركة النهلستية التي من مبادئها التحلل من القيم(1014/6)
الأخلاقية واعتناق مبدأ (الغاية تبرر الواسطة).
وعلى ذلك فإن طابع الصراع المسلح والحروب الروسية (الداخلية والتوسعية) مليء بالعنف والتدمير الساحق. والتاريخ الروسي يسجل مذابح أهلكت فيها الأنفس بالآلاف ودمرت بها قطاعات بأكملها. فلا غرابة أن يقول الشاعر الروسي ألكسندر بلوك في عنفوان الصراع السوفييتي الدامي للسيطرة على الحكم في روسيا (إن ما نواجهه اليوم من مذابح ليس إلا صورة جديدة لمنظر قديم).
وحين نمى إلى (إيقاف المخيف) إبان هجومه على (لنغوغرود) بأن هذه المدينة تتفاوض سرا مع أعدائه، لم ينتظر ليتحقق من صدق هذا التفاوض؛ بل أسرع فضرب ضربته القاسية فأهلك 60 ألف نسمة قتلا وحرقا وتنكيلا، ولما تبين له خطأ حسابه لم يعتذر ولم يساوم ضحيته، وتقبلت العقلية الروسية هذه الفظاعة على أنها أمر لا مفر منه وجزء من السلوك الروسي الذي لا يرحم في الملمات.
وبمثل هذه السلبية تقبلت العقلية الروسية فضائع الخان التتري الذي زحف من شبه جزيرة القرم متعقبا (إيقاف المخيف) إلى موسكو فلم تسلم هذه المدينة القاسية إلا بعد أن أهلك الخان التتري نصف مليون من أهلها.
وسلبية العقلية الروسية إزاء القساوة والعنف لا تقتصر على الصراع الداخلي والحروب الأهلية. فالتاريخ يسجل على نابليون قساوة رهيبة في حملته الروسية، وعلى جحافل هتلر فظاعة أهلكت النسل في أوكرانيا وروسيا البيضاء، ومع ذلك فلم تجد العقلية الروسية وسلبيتها، ومع ذلك فلم تجد العقلية الروسية وسلبيتها إزاء الأحداث الدامية غرابة في أن تعود إلى مصادقة الألمان كما تدل على ذلك سياسة روسيا السوفييتية اليوم الداعية إلى الوحدة الألمانية. وسبب ذلك أن طبيعة الروس كثيرا من المرونة والانتهازية تتلون حسب الحاجة فتتلاءم مع الظروف والمناسبات.
وثمة أمر آخر يتصل بسلوك العقلية الروسية إزاء العالم الخارجي؛ فإذا كنت متفقا مع أصحاب الرأي القائل بأن العقلية الروسية مدفوعة في رغبتها بالتوسع واختراق الستار القائم في أطراف الأفق البعيد - مدفوعة بالخوف مما يكمن وراء هذا الستار من أعداء شداد - إذا كنت على وفاق مع أصحاب هذا الرأي فإنك لن تنتظر من العقلية الروسية(1014/7)
(والسوفييتية أيضا) - وهي ما هي عليه من مقومات خلقية - أن نكتفي بالتحصن على حدودها الطبيعية وتقبل الالتزامات الدولية والمعاهدات القانونية مع العالم الخارجي على أنه ضمان لهذا التحصن.
ويقول لك أصحاب هذا الرأي بأن من الصعب على العقلية الروسية أن تتحصن في حدودها الجغرافية وتترك العالم الخارجي وشأنه. فالرغبة في التوسع ليست مدفوعة بنزعة استعمارية كامنة في العقل الروسي بقدر ما هي تلبية لشعور عميق بالخوف مما وراء الأفق. فذكريات الحروب النابوليونية والهتلرية في روسيا الأوربية، وفظاعة الحروب المغولية اليابانية في روسيا الآسيوية لا تزال حية في التفكير الروسي شعبيا كان أم سوفييتيا.
ومما لا ريب فيه أن استعداد روسيا السوفييتية اليوم عسكريا قد بلغ من القوة والمهارة بحيث يضمن الحدود الروسية الجغرافية إذا قيست الحروب بمقاييس الدفاع لا بمقاييس الهجوم. وامتلاك روسيا للقنابل الذرية وتفوقها في السلاح الجوي والغواصات على خصومها في المعسكر الغربي لم يمنع عن العقلية الروسية (والسوفييتية) الخوف من هذا الخصم المخيف الذي يجثم وراء الأفق البعيد بقنابله الذرية يضرب بها موسكو والمدن الروسية فيعيد إلى الذاكرة تاريخ الغزوات النابوليونية والهتلرية والمغولية. ومن الطريف أن الوفد الروسي في هيئة الأمم المتحدة يرفض باستمرار أن يبحث مشاريع خفض التسلح ومراقبة القنبلة الذرية قبل أن يأخذ وعدا قاطعا بتحطيم القنابل الذرية الموجودة حاليا لدى الدول الكبرى قبل الشروع في التفاوض على مشاريع خفض التسلح ومراقبة الإنتاج الذري؛ فهذا الإصرار مدفوع بهذه الخاصة - خاصة الخوف مما يكمن في الأفق البعيد - التي هي جزء من مقومات الخلق الروسي القومي.
وثقة الروس في المعاهدات الدولية ثقة ضعيفة. فالواقع أن جوهر الخلاف بين المعسكرين المتطاحنين السوفييتي وحلف الأطلنطي هو أزمة في الثقة، فلا الروس واثقون من أن خصومهم سيتقيدون بالمعاهدات الدولية فيحترمون حدود الوطن السوفييتي ومنطقة نفوذه، ولا الأمريكان واثقون من أن الحكومة السوفييتية تحترم المواثيق العالمية وتعكف عن التوسع الإقليمي والسياسي والفكري في آسيا وأوربا.(1014/8)
ولعل الأمريكان صادقون حين يعرضون في هيئة الأمم المتحدة على الروس مشاريعهم لخفض التسلح ومراقبة القنابل الذرية وحل الخصومات السياسية بين الدول عن طريق المفاوضة السلمية واحترام الحدود الجغرافية والمواثيق الدولية وما يوفره القانون الدولي من معاول لصيانة السلم وإبعاد شر الحروب بواسطة الأمم المتحدة أو عن طريق المعاهدات الثنائية والمتعددة الأطراف، وذلك لأن الأمريكان قد عاشوا في عزلة عن العالم الخارجي طوال تاريخهم القصير فلم يسبق أن اعتدى عليهم عدو قاس كنابليون وهتلر وتيمورلنك. فحروب الأمريكان كانت حروبا خارجية في ميادين تفصلها عن أمريكا قارات ومحيطات.
ولكن من الصعب على العقلية الروسية والأوربية إجمالا أن تمد يدها إلى الخصوم بمثل هذا الصفاء، وأن تأخذ المعاهدات الدولية لصيانة السلم في طيبة قلب وثقة تامة. فقد مر بالشعوب الأوربية (روسية وغير روسية) أحداث خرقت فيها العهود وأصيبت هذه الشعوب من جراء ذلك بالأحداث والويلات والكوارث.
فلا غرابة إذن أن تلمس اتجاها ملحوظا بين دول أوربا الغربية في مخالفة الأمريكان في سياستهم نحو الاتحاد السوفييتي. فحين قدمت موسكو في الآونة الأخيرة عروضا جديدة لحلفاء الغرب لتسوية المشكلة الألمانية وتفادي إحياء البأس العسكري الألماني. وجدت هذه العروض الروسية صدى حسنا في أوربا الغربية بينما أصر الأمريكان على رفض هذه العروض الروسية. فذكريات الحربيين العالميتين الأخيرتين والحروب الأوربية السابقة لا تزال تؤثر في عقلية الرجل الأوربي فتجعله أميل إلى مساومة الروس منه إلى الدخول معهم في حرب طاحنة. أما الأمريكي فلا تزال في باطنه (انعزاليا) يعتقد بأنه مستطيع أن يربح أي حرب جديدة يشترك فيها دون أن يجعل الوطن الأمريكي ميدانا. ومن ثم نستطيع أن نفسر حماس الأمريكان لإنشاء القواعد العسكرية في أوربا وآسيا وأفريقيا وبذل المال والجهد لتقوية الجيوش الأوربية الحليفة وتنظيم الدفاع عن الشرق الأوسط وإعادة البأس العسكري لليابان على احتساب أن اليابان خصم تقليدي للاتحاد السوفييتي.
نيويورك
للكلام بقية(1014/9)
عمر حليق(1014/10)
من سير الخالدين
حياة المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب)
المازني
- 2 -
بداية الشوط
انتقل المازني إلى مرحلة جديدة، أو منتظمة، في الدراسة عندما دخل المدرسة (القريبة) على مقربة من داره. وكانت على عهده كما يصفها:
(مثلما ضمت سبيل ... من صنوف الخلق وفدا
أو كيوم الحشر، أو وقفة عرفات على الأقل). وكان ناظرها جارا وصديقا لأبيه. فأفادته هذه الصداقة اهتمام الناظر به ورعايته لشأنه، كما أنزلته بين أترابه التلاميذ منزلة مرموقة، فجعلوه رسولا بينهم وبين الناظر يتصلون به إلى إجابة مطالبهم وتحقيق رغائبهم.
وكان الطفل أعلم بموطن الضعف في نفس ناظره، فما كان يأتيه من ناحية صداقته لأبيه وكفى، بل يتحرى في مخاطبته أن ينعته دائما بلقب (البكوية)، وكان حديث عهد به، فلا يقصده مرة ويكرر على سمعه هذا اللقب مرات، حتى يرتد مطيب الخاطر مقضي الرغبة مستجاب الرجاء.
ويذكر المازني أنه كانت في هذا الناظر سذاجة عجيبة، وأنه كان جاهلا وإن تظاهر بالعلم بكل شيء. ومن نوادره التي يرويها أنه دخل يوما إحدى الفرق وكان الدرس ترجمة. . (وكان المعلم غائبا، ولم يكن هو يعرف ذلك وإن كان فيما يزعم إداريا حاذقا. ولكنه سمع ضجتنا العالية فسأل فقيل له إن هذه الفرقة ليس فيها معلم، فلم يندب غيره بل جاء هو إلينا بنفسه - وبطوله وعرضه - وسألنا (ما لكم يا أولاد؟) قلنا (يا سعادة البك المعلم غائب). قال (الدرس إيه؟) قلنا (ترجم يا سعادة البك). فأنشرح صدره واغتبط وأيقن أنه سيظل(1014/11)
يسمع منا ما يسره فقال (طيب، وإيه يعني؟). فقلنا (يا سعادة البك لم نفهم الدرس السابق يا سعادة البك). فسأل عن هذا الدرس السابق الذي استعصى علينا فقلنا له أنه كان يحاول أن يعلمنا النفي في اللغتين العربية والإنجليزية ولكن لم نفهم عنه. فأعرب لنا بعبارات صريحة عن دهشته وتعجبه بوزارة المعارف التي تعين مدرسين لا يحسنون تفهيم التلاميذ، وأكد لنا أنه يعطف علينا لأننا نؤدي للوزارة أجور التعليم كاملة ولا نتعلم مع ذلك شيئا. ثم قال إن المسألة بسيطة وإن النفي سهل جدا وإن أدواته في اللغة العربية معروفة وهي (لا ولم ولن الخ) والأمثلة سهلة ومعروفة، وشرع يسوق الأمثلة فلما بلغ (لم) قال (مثلا. . لم كتب. لم ضرب. لم ذهب) فانفجرنا ضاحكين ولنا العذر. فلما سكنت العاصفة بعض السكون قال يوبخنا ويزجرنا ويعظنا (تضحكون؟ إبكون. . إبكون) فلم يبق منا طفل على مقعده من شدة الضحك. ولم يسكتنا الخوف منه وإنما أسكتنا الألم الذي صرنا نحسه في بطوننا من الضحك الطويل).
ومن معلميه في هذه المدرسة شيخ كاتوا يسمونه فيما بينهم (الأسد) وكان قاسيا غليظ الكبد سريع الغضب، ومن لوازمه (خيزرانة) قصيرة يدسها في طيات ثيابه. . (وقد أطعمنها مرارا كثيرة، وذاقتها كفتي وذراعاي وساقاي وظهري وعرفت طعمها كلها بالخبرة الطويلة والتجربة المعتادة).
وإلى هذه المدرسة، أو إلى معلم الخط فيها، يعزو المازني رداءة خطه، وحكاية ذلك ما نرويه هنا عنه.
(كان الشيخ الذي يعلمنا الخط وحشا، أعني أنه لم يكن وحشا حقيقيا، وإنما كان وحشا آدميا غليظ القلب منحوس الضريبة، وكان بناء المدرسة عتيقا متداعيا، والأبواب ذات مصراع واحد وكانت إذا فتحت تنسد بالحجارة. فكان هذا الشيخ لا يعاقب التلميذ إلا بشيء واحد. يضع الواحد راحته على المكتب، ويجيء الشيخ بحجر الباب ويدق به عقل الأصابع. وكان هذا عقابه الوحيد على رداءة الخط، وعلى كل خطأ أو ذنب يرتكب فكيف يرجى ممن تدق أصابعهم بالحجارة أن يحسنوا الخط ويجيدوا الكتابة؟ فهذا سبب أن خطي رديء).
وأتم الطفل دراسته الابتدائية. وجاء أخوه الأكبر إلى أمه يشير عليها بأن تكتفي من تعليمه(1014/12)
بهذا القدر. على أنها أبت ذلك وأصرت على إبائها حين ألح عليها، حتى أنذرها ذلك الأخ أنه مانع عنهما بعد ذلك معونته وقابض يده. ولعل هذه الحادثة زادت المازني الطفل شعورا بوطأة الفقر وحنقا عليه، ودفعته إلى ذبل الجهد في سبيل تحقيق رغبة أمه في أن يتم تعليمه إلى نهايته. وكانت الأيام قد أنضجته وتقدمت به فساعده ذلك على أن يصمد لتجارب الحياة وأن يستوعب جيدا دروسها القاسية.
ودخل المازني المدرسة الخديوية وهو على أعتاب الشباب. ولعل هذه الفترة - فترة الدراسة الثانوية - كانت بداية التكوين الحقيقي للرجل الذي صاره من بعد. ولعلها كذلك كانت بداية ميله إلى القراءة والأدب، فما كانت الدراسة الابتدائية لتسمح بإظهار مثل هذا الميل، فضلا عن أن سنه لم تكن تهيؤه قبل ذلك للقراءة لواسعة أو الصبر عليها.
ولا يشير المازني كثيرا إلى فترة دراسته الثانوية فيما كتب عن ذكريات طفولته وصباه، فلعلها قد تقضت في الجد الصرف من ناحية مشقة التحصيل، وفي محنة قاسية من شظف الرزق والمعيشة. على أنه يحدثنا أنه أخريات هذه الفترة_وكان قد بلغ السادسة عشر اعترضت الحمى طريقه وألحت وطأتها عليه، وقضى طيلة صيف ذلك العام وهو يعاني وقدتها. ويقول (في إحدى الليالي ثقلت علي وطأة المرض جدا، حتى جزعت أمي على ما أخبرتني بعد ذلك، وكادت توقن إني هامة اليوم أو غد، لولا أن الأم لا تفقد أملها. وكنا في بيت كل غرفة فيه تصلح أن تكون ساحة أو ملعبا، وكانت نوافذ الحجرة التي أرقد فيها تطل على فناء البيت وفيه شجرة جميز عظيمة، تصل أغصانها الذاهبة في الهواء إلى النوافذ، وكنا نضع قليل الماء على أحد هذه الشبابيك لتبرد، فحدث أن مدت أمي يدها إلى قلة تريد أن تشرب، ففلتت القلة من بين أصابعها وهوت إلى أرض الفناء ففزعت أمي واضطربت جدا، وكبر في ظنها أن هذا نذير بموتي، وخطر لها أن تنحدر إلى الفناء في فحمة الليل لترى أسلمت القلة أم تحطمت. . ومن العجائب أن القلة لم يصبها سوء، ولعل ذلك لأنها وقعت على أرض رخوة طرية كثيرة البلل تحت ظل الشجرة. وقد حدثتني أمي بعد ذلك وهي تروي لي هذه القصة أنها بكت وأنها عجزت عن القيام، فظلت قاعدة على الأرض غير عابئة بالبلل، والرطوبة والوحل، وفي يدها القلة، والدموع تنهمر من عينيها؛ دموع الأمل والاستبشار. وقضت ساعة فيما تحس، ثم نهضت فصعدت، ودنت مني وأنا(1014/13)
نائم، ولمست وجهي بكفها، مترفقة محاذرة، مخافة أن توقظني، فإذا أنا أتصبب عرقا، وإذا بثيابي كلها - كما قالت - عصرة. وأصبحت وقد ذهبت عني وقدة الحمى وأخذت أتماثل).
ويتحدث المازني عن الفرق بين الدراستين الابتدائية والثانوية فيقول: (إن التعليم الثانوي كان انتقالا أدق المعاني، فقد صار كل ما في المدرسة إنجليزيا - الناظر والمدرسون والتعليم - ما عدا اللغة العربية، ولم يكن تدريس اللغة العربية خيرا من تدريسها في الوقت الحاضر، ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان - لا أدري لماذا؟ - وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلا طيبا ووقورا مهيبا، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده فيدعو له الشيخ، ولا نستغرب نحن شيئا من ذلك، بل نراه أمرا طبيعيا جدا. وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس في نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فإني أراني إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعني إلا إكبارهم حين ألتقي بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئا يستحق الذكر).
وللمازني مع الشيخ حمزة فتح الله حادثة طريفة لا تخلو من دلالة. وكان يؤدي الامتحان الشفوي في الشهادة الثانوية، والشيخ رئيس لجان اللغة العربية. وندع المازني يروي بقلمه قصته مع الشيخ:
(لما جاء دوري اتفق أنه كان موجودا، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألني ماذا أحفظ؟ وكنت في صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبي صلى الله عليه وسلم فعلقت بذهني وألهمني الله أن أقول إني أحفظ خطبة للنبي، ففرح الشيخ جدا وخلع حذاءه وصاح (قل يا شاطر، قل يا شاطر فتح الله عليك) وسترني الله فلم أخطئ، واكتفى الشيخ بهذا وأعفاني من النحو والصرف والإعراب).
وقد التقى المازني بالشيخ مرة أخرى. وكان اللقاء في هذه المرة عاصفا، تجلى فيه غضب الشيخ الحليم وتحفز الطالب الطلعة. ولا بأس أن نورد هنا حديث ذلك اللقاء وإن كنا نسبق بذلك ترتيب الحوادث قليلا؛ فقد كان المازني يوم ذاك في آخر عهده بمدرسة المعلمين، وكان يؤدي الامتحان النهائي للتخرج، وكانت لجنة الامتحان الشفوي في اللغة العربي برياسة الشيخ حمزة ومن أعضائها الشيخ عبد العزيز شاويش والأستاذ عاطف بركات. .(1014/14)
(فقال أحد إخواني بعد خروجه من الامتحان أن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذي يقع عليه الاختيار. ولم نكن ندرس لا نحوا ولا صرفا في المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب. فأيقنا بالفشل وجاء دوري فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه فناولني كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت. ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهي (إعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها) إلى آخره، فقال ضع الكتاب فوضعته. فسألني عن العدوان والفعلين عدا واعتدى وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التي يكون عليها الفعل (اعتدى) مثل (اعتديا) للماضي المثنى و (اعتديا) للأمر، فسألني لماذا كان الماضي بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببا وقلت أنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بها هكذا. فدهش لهذا الجواب وقال ولكن لهذا سببا. قلت إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فإن هذا يكفي ولا داعي للبحث عن سبب مختلق. فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه، وحدثت نفسي أنه خير لي وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطي الجهل. وأصررت على رأي وكاد يحدث ما لا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش تدارك الأمر، فقد نظر في ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال (العصر وجب يا مولانا) فنهض الشيخ وهو يقول (إي نعم) وذهب للصلات ونسيني فكان في هذا نجاتي).
للكلام بقية
محمد محمود حمدان(1014/15)
6 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
العامل الديني:
كان (هبل) أعظم صنم لقريش في مكة، وكان مكانه في جوف الكعبة وفيه يقول ابن الكلبي: (وكان فيما بلغني من عقيق أحمر، على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب). وهو الذي قال له أبو سفيان بن حرب حين ظفر يوم أحد:
أعل هبل!
- أي أعل دينك - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الله أعلى واجل!!
عند هذا الصنم الجليل القدر لديهم كانت توضع (الأزلام)، ويقوم الكهان أو السدنة بإجالتها وإفاضتها لمن يريد الاستقسام، إعظاما للأمر الذي يبتغونه، فهم يختارون موضع القضاء في أقدس مكان لهم، وإعظاما للحكم الذي يرتضونه، فإن الذي حكم به هو سادن الكعبة أو أحد كهانهم.
فكانوا يذهبون إلى (هبل)، ومعهم (مائة درهم) و (جزور)، ويعطونها لصاحب القداح الذي يضرب بها، ثم يقربون صاحبهم الذي يريدون الحكم في نسبه إن أرادوا، ثم يقولون: (يا إلهنا، هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه!) ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب! فيجيل القداح ويفيضها، فإن خرج (منكم) كان منهم وسيطا، وإن خرج (من غيركم) كان حليفا، وإن خرج (ملصق) كان على منزلته، لا نسب له ولا حلف.
وإن استشاروه في أمر يقتضي (نعم) أو (لا) فخرج (نعم) عملوا به، وإن خرج (لا) أخروا الأمر عاما كاملا ثم أتوا مرة أخرى يستقسمون بالأزلام.
بهذا العامل الديني، وبهذا الشعور الروحي الوثني استقسم عبد المطلب بن هاشم مرتين:
1 - في حفر بئر زمزم، حينما أمر في منامه عدة مرات بحفرها، وقام ليقضي ما كتب عليه في منامه، فحفر في البئر - ولم يكن له من الولد حينئذ إلا الحارث بن عبد المطلب - فلما تمادى به الحفر وجد فيما حفر غزالين من ذهب خالص، ووجد أسيافا قلعيه(1014/16)
وأدراعا، فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في شرك وحق!! قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج له قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له. قالوا: أنصفت! فجعل قدحين (أصفرين) للكعبة، وقدحين (أسودين) لعبد المطلب، وقدحين (أبيضين) لقريش، ثم أعطوا تلك القداح لصاحب القداح التي يضرب بها عند (هبل)، فضربها على الغزالين فخرج (الأصفران) فكانا من نصيب الكعبة، ثم ضربها أخرى على الأسياف والدروع فخرج (الأسودان) فكانا من نصيب عبد المطلب، وتخلف قدحا قريش لم يظفرا بشيء. فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فأرضى بذلك نفسه وشعوره الديني العميق، وحسم الخلاف بينه وبين قومه بما حكم به (هبل)، وهو الذي لا يرد له قضاء!!
2 - والمرة الثانية حينما نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر بئر زمزم واستخفافهم به لقلة ولده: لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة!! فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني. فغفلوا ثم أتوه، فدخل بهم على (هبل) في جوف الكعبة، وكان منصوبا على بئر يجمع فيها ما يهدي إلى الكعبة. فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عبد المطلب عند (هبل) يدعوا الله جاهدا، ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على (عبد الله) وهو أعز ولده عليه، فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، وكذلك قام بنوه، فقالوا: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه! لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا؟!
وكان أن لجئوا إلى عرافة في (خيبر) يسألونها في ذلك، فقالت: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل. قالت، فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم!
فرجعوا إلى مكة وضربوا بالقداح بين عبد الله وبين عشر من الإبل، فخرج القدح على(1014/17)
(عبد الله)! فزادوا عشرا وضربوا، ثم زادوا عشرا وعشرا حتى بلغت مائة، فضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب فزعموا أن عبد المطلب: قال لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات! فضربوا ثلاث مرات توثيقا للأمر، كل ذلك يخرج القدح على الإبل المائة. فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع.
فهاتان الحادثتان تدلان على مقدار خضوع سادة العرب وأشرافها لحكم الأزلام، ومبلغ اضطرارهم وتقديسهم لأحكامها.
تقديس الأزلام
وبلغ من تقديسهم للأزلام أنهم جعلوا في البيت الحرام صورة لإبراهيم عليه السلام، وفي يده الأزلام التي يستقسم بها.
وفي حديث فتح مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت فرأى إبراهيم وإسماعيل بأيدهما الأزلام.
قال ابن هشام: (وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام؟ ما شأن إبراهيم والأزلام؟! ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست).
وفي مسند أحمد برقن 3093 عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل. عليهما السلام، في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم الله! أما والله علموا ما اقتسما بها قط).
الأزلام في التاريخ الديني القديم
نص القرآن الكريم على حادثين اثنين كان للأزلام فيهما نصيب، ولكنها لم تكن على ما كانت عليه عند العرب من التقديس الوثني، بل كانت بمثابة القرعة التي سيأتي الكلام(1014/18)
عليها:
الحادث الأول أشار إليه الكتاب الكريم في قوله تعالى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) آل العمران 44
والحادث الثاني أشار إليه قصة يونس: (فساهم فكان من المدحضين). الصافات 141
1 - أما الأول فهو ما كان من أمر زكريا عليه السلام. روى أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجة في الكعبة - فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة! فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنوا ماثان رءوس بني إسرائيل وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها. قالوا: لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر الأردن فألقوا فيه (أقلامهم)، فأرتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكلفها.
واختلف المفسرون في هذه الأقلام فقال بعضهم: هي أقلام الكتابة كانوا يكتبون بها التوراة، فاختاروها للقرعة تبركا بها وقال بعضهم: الأقلام هنا الأزلام، وهي القداح.
وقال أبو مسلم: كانت الأمم يكتبون أسمائهم على سهام عند المنازعة، فمن خرج له السهم سلم له الأمر. وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بها الجزور.
وقال ابن قتيبة: وكانوا تشاحوا في كفالتها، فضربوا بالقداح، وهي الأقلام، فخرج قدح زكريا فكفلها.
2 - وأما الثاني فما كان من أمر السفينة التي ركب فيها يونس عليه السلام فرارا من قومه، حين ذهب مغاضبا، فلما أبعدت السفينة في البحر ويونس فيها ركدت، فقال أهلها: إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه فلنقترع. فأخذوا لكل منهم سهما على أن من طفا سهمه فهو، ومن غرق سهمه فليس إياه. فطفا سهم يونس، ففعلوا ذلك ثلاثا تقع القرعة عليه، فأجمعوا على أن يطرحوه، فألقى بنفسه فلتقمه الحوت.
وقصة يونس هذه - وتسمية كتب العهد القديم يونان - مذكورة بتفصيل في سفر (يونان) جاء في الإصحاح الأول:
(فقام يونان ليهرب إلى (ترشيش) من وجه الرب، فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب. فأرسل الرب(1014/19)
ريحا شديدة إلى البحر فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر. فخاف الملاحون وصرخوا كل واحد إلى إلهه وطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم. وأما يونان فكان قد نزل إلى جوف السفينة واضطجع ونام نوما ثقيلا. فجاء إليه رئيس النوتية وقال له: ألك نائما. قم اصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك. وقال بعضهم لبعض: هلم نلقي قرعا لنعرف بسبب من هذه البلية. فالقوا قرعا فوقعة القرعة على يونان. فقالوا له: أخبرنا بسبب من هذه المصيبة علينا. ما هو عملك ومن أين أتيت؟ ما هي أرضك ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبراني وأن خائف من الرب إله السماء الذي صنع البر والبحر. فخاف الرجال خوفا عظيما وقالوا له: ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا. لأن البحر كان يزداد اضطرابا. فقال لهم: خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم لأنني عالم أنه بسببي هذا النواء العظيم عليكم). . (ثم أخذوا يونان في البحر فوقف البحر عن هيجانه، فخاف الرجال من الرب خوفا عظيما وذبحوا ذبيحة للرب ونذروا نذورا: وأما الرب فأعد حوتا عظيما ليبتلع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال).
وبعد أن يسرد سفر (يونان) صلوات (يونان) في جوف الحوت يقول: (وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر).
فهاتان القصتان على ما فيهما من حمل المفسرين الأقلام فيهما والمساهمة على معنى أزلام الجاهلية، لا ريب أن ما فيهما من صنيع هو بعيد كل البعد عن صنيع أهل الجاهلية فيما كانوا يجعلون لتلك الأزلام من قداسة ومن شرائط دينية وتقاليد خاصة، وإنما هاتان ضرب من (القرعة) لا يزيدان عن تلك شيئا ولا ينقصان شيئا.
والنص الذي سقته من سفر يونان مؤيدا أنها قرعة بعيدة عن الاستقسام الوثني.
التمرد على الأزلام
وقد بدت ظاهرة من ظواهر التمرد على تلك الأحكام الدينية في ما رواه بن الكلبي من أن أمرؤ القيس بن حجر أقبل يريد الغارة على بني أسد، فمر بذي الخلصة - وكان صنما بتبالة - وكانت العرب جميعا تعظمه، وكانت له ثلاثة أقداح: الآمر، والناهي، والمتربص. فاستقسم عنده ثلاث مرات فخرج (الناهي) فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم وقال:(1014/20)
(عضضت بـ. . . أبيك! لو كان أبوك قتل ما عوقتني!).
ثم قال في ذلك:
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... مثلى وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
ثم غزا بني أسد فظفر بهم
قال ابن لكلبي: (فلم يستقسم عنده بشيء حتى جاء الله بالإسلام، فكان امرؤ القيس أول من أخفره)
للبحث بقية
عبد السلام محمد هارون(1014/21)
المسلمون
للأستاذ محمد عبد الله السمان
إن من ألزم اللوازم للمسلمين - كأمة في مجموعهم - صحيفة تنطق بلسانهم، وتعبر عن مشاعرهم وعواطفهم، وتدعو إلى مبادئهم وتوضح أهدافهم، وترسم الطريق إلى الخلاص من آلامهم، وتحمل بصدق وعزيمة رسالتهم إلى الدنيا مشرقها ومغربها. .
أجل! إن المسلمين - كأمة في مجموعهم - في أمس الحاجة إلى هذه الصحيفة التي تبعث الشعوب الإسلامية المبعثرة الممزقة من مرقدها، فتربط بينها برباط وثيق من الأخوة الصادقة، والتي تثير خواطرها، وتستفز همها، حتى تزيح عن أعناقها أرباق العبودية والمسكنة، وعن كواهلها أعباء المذلة والهوان، والتي تعرض الإسلام من جديد، دينا خالصا، وإسلاما مصفى، لا دخن ولا دخل.
وقد أدرك حاجة المسلمين إلى صحيفة تنطق بلسانهم، الحكيم الثائر (جمال الدين الأفغاني) وصنوه (الإمام محمد عبده) فأخرجا إلى الوجود (مجلة العروة الوثقى). وكانت تنشر في باريس حيث كان المجاهدان قد اتخذاها وطنا ثانيا لهما، أو اتخذها الاستعمار منفى لهما؛ ولم يقد لهذه المجلة الثائرة الملتهبة أن تعمر طويلا، بعد أن لاقت ما لاقت من عنت الاستعمار واضطهاده.
ثم قام بعدهما بهذه المهمة الدقيقة الثقيلة تلميذهما (السيد محمد رشيد رضا). فأخرج إلى الوجود مرة ثانية مجلة (المنار) سار بها على نهج سلفيه الصالحين، فكانت بحق شعلة متقدة، وجذوة ملتهبة، استطاعت أن تلفت إليها أنظار المسلمين في كل بقعة إسلامية. كانت سياسة متطرفة تحمل على الاستعمار الأجنبي في أية أرض إسلامية، وتناهض حكومات الشعوب المسلمة الإقطاعية، منددة بها، ومنذرة إياها بأوخم العواقب، ولقد توقف ظهورها بعد أن لحق صاحبها ومنشئها بالرفيق الأعلى وإن كان جهادها ظل متواصلا بما تركته من أثر فعال في نفوس الأغيار من المسلمين، وبما تركته مجلداتها الضخمة من آثار علمية ستبقى خالدة ما خلدت السماوات والأرض إن شاء الله تعالى.
ثم مرت فترة طويلة حرم المسلمون خلالها لسانهم الناطق، حتى أخرج لهم الشهيد الأعزل (حسن البنا) مجلة (الشهاب) فكانت شهاب يضيء ويحرق، يضيء السبيل نحو الحياة(1014/22)
الصحيحة التي تليق بالشعوب المسلمة، ويحرق الطواغيت التي تعترض هذه السبيل، وما أن ظهرت هذه المجلة حتى تلقتها الأيدي المسلمة في كل مكان، وحرص على أذخارها الشبيبة المثقفة والطليعة الناضجة، ولقد اتجه منشئها - رحمه الله - حين أراد إصدارها إلى أن يتولى تحرير موضوعاتها المبرزون المسلمون من كل قطر إسلامي، لتكون صدى لدعوته الجامعة التي لا تعترف بالمركزية بين الشعوب الإسلامية، ولم يعمر (الشهاب) أيضاً طويلا، فتوارى عن الأعين، حين اختبرت دعوة الإخوان بمحنة قاسية، خرجوا منها وهم أرسخ عقيدة وأثبت إيمانا.
ثم بدأ الفراغ يتخذ أفق أوسع من جديد، وحرم المسلمون للمرة الرابعة صحيفتهم، ولم يطل حرمانهم في هذه المرة، إذ برز في الميدان الأستاذ (سعيد رمضان) ليملأ الفراغ بمجلته (المسلمون) ولتنهج منهج الشهاب وتنسج على منواله، وتكون امتدادا لمنهجه، والأستاذ سعيد رمضان شاب في نضرة الشباب، مثقف بالثقافتين المدنية والدينية، فقد تخرج في كلية الحقوق، كما تخرج في جامعة حسن البنا الدينية وأكرم بها من جامعة، ويعتبر خليفة حسن البنا الأول في الخطابة والإلمام بدقائق المسائل والمعاني الإسلامية الحية.
طاف الأستاذ سعيد رمضان بجميع البلاد الإسلامية بلدا بلدا، ومعظم الممالك الغربية، وأعانه على هذا تغيبه عن مصر خلال محنة الإخوان، فقد أصدرت الحكومة وقتذاك الأمر باعتقاله، وهو يطوف بالبلاد العربية داعيا إلى الله تعالى، واستطاع أن يصل إلى الباكستان خشية أن تستجيب الحكومات العربية إلى رجاء الحكومة المصرية فتسلمه إليها، وفي الباكستان نال مكانة مرموقة في ميدان السياسة الإسلامية، ولم يعد إلى مصر إلا بعد أن انجلت المحنة وتلاشت السحب.
ومما لا ريب فيه أن الأستاذ سعيد رمضان أفاد خبرة واسعة من جولته التي استغرقت بضع سنين، فقد اتصل بالشعوب الإسلامية كلها، وتعرف على آلامها وآمالها، ودرس وناقش قضاياها، وألم إلماما دقيقا بشؤونها وأحوالها، ووقف على الكثير من أسرارها وخفايا أمورها، كما اتصل بزعماء المسلمين، وسبر أغوارهم، وخبر جهادهم ومطامعهم، فإذا أضفت إلى خبرته هذه تمكنه من دعوة الإخوان المسلمين، وإسهامه بنصيب ملموس وجهد مشكور في مجلة الشهاب، أيقنت بأنه جدير كل الجدارة بأن يخرج للمسلمين مجلته(1014/23)
(المسلمون).
لقد مضى على (المسلمون) عام، وهاهي ذي قد بدأت منذ أيام عامها الثاني، وأمسكنا القلم طيلة العام الماضي والأول من حياتها حتى تكمله، فنستطيع أن نحكم لها أو عليها، غاضين الطرف عن الأخوة التي تربطنا بصاحبها ومؤسسها، لأن النقد البريء الخالص يجب أن ينسى حياله كل عاطفة، وتهمل كل محسوبية.
اتضح لنا أن (للمسلمين) هدفين: الأول تقديم زاد إسلامي مصفى، من موارد موثوق بها، وثقافة إسلامية عذبة مطمأن إليها، وتاريخ صادق معتمد لا زيف ولا شائبة فيه. والهدف الآخر احتضان قضايا الشعوب المسلمة ومشكلاتها، وتحليل آلامها وأوجاعها. أما الهدف الأول فقد وفقت فيه توفيقا كاملا تغبط عليه، وأما الهدف الآخر فلم تزل تسير نحو تحقيقه بخطى وئيدة، وكان المنتظر أن توفق (المسلمون) التوفيق الكامل في الهدف الآخر. وفي حقائب الأستاذ سيد رمضان من المواد والمعلومات التي جمعها من جولته، ما تضيق عن استيعابها الأسفار الضخام، وقد سبق أن ناقشته هذا النقص فأبدى من الأعذار ما أعتقد اليوم زوال أسبابها، وفي العدد الأول من السنة الثانية لمسنا عناية ملموسة بالأوطان الإسلامية وقضايا شعوبها، نرجو أن تزداد في المستقبل إن شاء الله تعالى.
وفي المجلة موضوعات يمكن الاستغناء عنها مؤقتا، لأن حالة المسلمين لا تستدعي هذه البحوث الجدلية التي لا صلة لها بحاجتهم، وهم أحوج ما يكونون إلى المعاني الجديدة الحية، التي تضيء أذهانهم، وتثقف أفكارهم، وتنمي ملكات التفكير ملكات التفكير فيهم، وتصون عقائدهم مما شابها من الدخل، وكتابها من المبرزين المعدودين في الشرق الإسلامي والحمد لله.
وبعد فيمكننا أن نقول - غير محابين - إن مجلة (المسلمون) قد ملأت الفراغ الذي تركته العروة الوثقى والمنار والشهاب، وإن الداعية الكبير الأستاذ سعيد رمضان جدير بأن يكون ربانها، ليقطع بها المراحل، فتصل إلى الشعوب المسلمة على اختلافها، لأنها غذائها الطيب الشهي، ولسانها المعبر عن مشاعرها وعواطفها.
محمد عبد الله السمان(1014/24)
4 - تركيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
طاغية
وعدت القراء في نهاية المقال السابق أن أحدثهم عن الحركة المجيدة التي أنقذت تركيا من الحرج الذي كانت فيه 1920 ومن الأزمات والنكبات التي حلت بها في ذلك التاريخ، ولكني أرى لزاما على أن أشير إلى العوامل الداخلية التي كانت سبب تلك الكوارث بعد أن تحدثت عن أسبابها الخارجية، وبذلك نضع أمام القراء صورة انحلال تركيا الداخلية والخارجية ثم بعد ذلك نتحدث عن الحركة الكمالية أو حركة الإنقاذ.
كانت أوربا تتحدث جميعا منذ القرن الثامن عشر عن قرب انحلال تركيا، وأكثر من هذا قامت بعض الدول بمفاوضات بقصد تقسيم تركة تركيا. والواقع أن ضعف تركيا كان يرجع إلى عوامل متعددة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي.
ولعل من أهم العوامل الداخلية كثرة الشعوب والأجناس التي كانت تركيا تحكمها، فقد كانت تحكم إمبراطورية واسعة يسكنها البلغاريون واليونانيون والصربيون والجبليون والرومانيون والسوريون والعراقيون والمصريون والعرب والمغاربة وغيرهم، وكانت هذه الشعوب تختلف في الجنس واللغة والدين والعادات والتقاليد، وتختلف أيضاً عن الدولة الحاكمة في تلك النواحي الأمر وذلك ما جعل الإمبراطورية العثمانية معرضة للانحلال بمجرد ضعفها.
وكان أهم أسباب ضعف تركيا فساد الحكم التركي في تركيا ذاتها وفي أملاكها، فقد كان الخليفة أو السلطان رأس الدولة موطن الفساد والانحلال وسبب السوء والضعف.
صحيح أن بعض المحاولات للإصلاح قد قامت فعلا ولكنها فشلت. . أولا لأن الدولة كانت حريصة على أن تظل تركيا ضعيفة منحلة تستطيع الدول أن تقتطع لنفسها من أملاكها ما تشاء حين تحين الظروف أو تواتي المناسبات. وثانيا لأن العقلية الرجعية كانت تسيطر على الخلفاء والأتراك وحاشيتهم ووزرائهم مما جعل هذه الحركات الإصلاحية عديمة القيمة.
وتناهت الأمور إلى السلطان عبد الحميد 1876 الذي تولى العرش على أكتاف الأحرار(1014/25)
من أبناء حزب تركيا الفتاة الذي كان يتزعمه مدحت (باشا) وقد كانت الحياة النيابية أهم أماني مدحت الذي كان يرى أن الحياة الدستورية الصحيحة هي السبيل الوحيد لإنقاذ تركيا.
وقد كانت تركيا إذ ذاك في موقف لا تحسد عليه، فالشعوب البلقانية ثائرة والدول تتدخل لإنهاء الموقف فوجد لسلطان عبد الحميد خير وسيلة للخروج من هذا المأزق هي إصدار الدستور فهو كفيل بإسكات الأحرار من الأتراك والثوار من رعاياهم؛ بل أكثر من هذا أنه سيقضي على محاولات الدول للتدخل في شؤون تركيا.
أصدر عبد الحميد الدستور 1877 ولكنه كان غير مؤمن به ولذلك لم يلبث طويا أن قضى عليه فحل البرلمان ونفى مدحت (ذلك المجرم الذي أحتل الناس وساقهم في طريق الغواية) وشتت أنصاره وأتباعه وأصبحت تركيا سجنا للأحرار من الرجال.
وأقام عبد الحميد من نفسه طاغية جبارا يتحكم في الرقاب وينشر الظلم والذل والاستعباد وملأ الحكومة برجال لا أخلاق لهم ولا مبدأ ولا عهد ولا دين، غايتهم الوحيدة الإثراء وجمع المال بأي طريق (هذا هو العهد الذي كان فيه المال والثروة غرض الحياة الأعلى، وما كان ذلك الغرض يستدعي سوى أن يتبرأ الإنسان من قومه ويتجرد من شخصيته ويضحي ابنه وأمه وأخته وأصحابه وذمته وكل العواطف الوطنية والمبادئ البشرية).
وحتى لا تتسرب بذور الحرية إلى تركيا منع عبد الحميد الأتراك من السفر إلى الخارج وشدد الرقابة على الصحف والكتب ومنع الصحف التي تصدر في أوربا من دخول تركيا؛ وانتشرت الجواسيس وراقبوا الناس وانتهكوا حرمة المنازل وعاش الأتراك تحت نير هذا العسف ثلاثين عاما.
ومنع الأئمة والخطباء في المساجد من ذكر الأحاديث أو الآيات التي تحط من قدر الطغاة والتي تذكر الظالمين بسوء العاقبة، وكان حديث الجمعة الثابت (إن الله جميل يحب الجمال) أما الأحاديث التي تشير إلى العدل أو تذكر الوالي بمسئوليته نحو رعيته فكانت ممنوعة منعا باتا.
وكشأن الملوك الطغاة المفسدين كان قصر عبد الحميد يعج بالنساء والجواري. ويذكر المؤرخون الأجانب أن عبد الحميد حين ولي العرش وعد بأن يقضي على تقاليد الخلفاء الذميمة ومنها الإكثار من النساء في قصورهم كما وعد بأنه سيقتصر على زوجة واحدة(1014/26)
ولكن لم يمض عام واحد حتى كان عدد الحريم بالقصر السلطاني قد بلغ تسعمائة!
ومدحت (باشا) زعيم الأحرار نفي إلى الطائف حيث قضى بقية حياته على الفجل والماء! إلى أن مات شهيدا في سبيل الحرية.
وكان الطاغية ضعيفا أمام الأجانب وللوقوف في وجههم عمد إلى إذكاء روح الجامعة الإسلامية وكان يهدد الأجانب بمحاولة إثارة المسلمين ضدهم وكان التهديد سلاحه الأول والتسليم سلاحه الأخير.
ثورة يوليو 1908
حين عطل عبد الحميد الدستور 1878 ونكل بالأحرار هاجر كثيرون منهم إلى الخرج. وفي 1891 اجتمعوا في جنيف وأسسوا جمعية الاتحاد والترقي وظل هؤلاء الأحرار يعملون على قلب حكومة لطاغية التي أنزلت بالبلاد المصائب وذاقت على يد الأجانب الذل والهوان.
وفي ديسمبر 1907 قرر هؤلاء الأحرار بدأ العمل وتقرر أن تكون مقدونيا مركز الحركة.
وعمد أعضاء الجمعية إلى نشر دعوتهم في صفوف الجيش فأنضم أغلب رجاله إليهم وحدد يوم 3 يولية 1908 لإعلان الثورة على يد أركان الحركة أمثال نيازي (بك) وأنور (بك) وصلاح (بك) أولئك الفدائيون الذين حملوا أرواحهم في أيديهم وخرجوا إلى البلاد لهدم كيان الظلم ومحو آثاره.
ووصلت أنباء الحركة إلى السلطان فأنزعج وأمر أحد رجاله شريف (باشا) بسحق الثورة ولكن الثوار قضوا على تلك المحاولة. واستنجد السلطان بقوات من الأناضول ولكنها سحقت أيضاً وبدأت البلاد تسقط تباعا في يد الثائرين. وأنذر الثور السلطان بوجوب إعلان الدستور فورا وأسقط في يد الثعلب الماكر عبد الحميد واضطر إلى إعلان الدستور وتأليف حكومة دستورية، ولام مستشاريه على أخطاء الماضي ومظالمه ثم ألغى الجاسوسية وأعلن ترحيبه باستقبال زعماء الثوار فعاد أنور ونيازي على رأس قواتهما إلى سالونيك واستقبلتهم هناك جموع حاشدة متحمسة من اليونانيين والأتراك واطمأن الجميع إلى أن عهد الإرهاب قد زال!
وتدفقت جموع من المنفيين السياسيين الأتراك في تركيا وانضم أكثرهم إلى الضباط الشبان(1014/27)
واشتركوا في جمعية الاتحاد والترقي ثم هرعوا إلى القسطنطينية ينشدون الظفر بنصيب من الغنيمة ويتآمرون للاستئثار بالحكم!
لكن الدول لم تدع الفرصة: فالنمسا أعلنت ضم البوسنة والهرسك إليها نهائيا، وبلغاريا أعلنت استقلالها، وقامت الثورات في ألبانيا وفي بلاد العرب.
ونشط أعوان السلطان والرجعيون فرشوا بالمال جنود القسطنطينية فقتلوا ضباطهم وأعلنوا ولاءهم لدين الإسلام! وللسلطان ظل الله في أرضه وخليفة الرسول!
لكن الاتحاديين تقدموا من سالونيك وقضوا على تلك الحركة الرجعية وعزلوا عبد الحميد وسجنوه في سالونيك وتولى لسلطان محمد الخامس.
لكن نهضة تركيا لم تكن ترضي الدول ولذلك عمدت إلى تحقيق أطماعها فيها، فإيطاليا استولت على طرابلس 1911، وفي البلقان قامت الدول البلقانية ضد تركيا واستطاعت جيوشها أن تنزل بجيوش تركيا الهزائم واضطرت إلى طلب الصلح.
لكن شعوب البلقان المتحالفة ضد تركيا وهي بلغاريا والصرب والجبل الأسود واليونان لم تلبث أن انقسمت على نفسها وقامت الحرب بينهما؛ فأنتهز الأتراك الفرصة واسترجعوا بعض أراضيهم في شرق ووسط تراقيا بقيادة أنور (بك) فخلص هذا النصر شرف العثمانيين.
ولم يمضي عام حتى اشتعلت نار الحرب العظمى ووقفت تركيا بجانب ألمانيا. وكانت نتيجة الحرب وبالا على تركيا ففقدت أملاكها واحتل الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون عاصمتها، وأشرفوا على مرافقها ونزل اليونانيون بأرض الأناضول يطمعون أن تكون تلك البقعة الخصيبة حول أزمر ملكا لهم.
وسط تلك الأزمة الخانقة جاء مصطفى كمال لإنقاذ تركيا.
أبو الفتوح عطيفة(1014/28)
نكسة في دار العلوم!
للأستاذ الطاهر أحمد مكي
كان المستشرقون أول من عني بالبحث في اللغة العربية وأخواتها من اللغات السامية في مطلع العصر الحديث، دراسة منتجة مثمرة، تعتمد على العقل والفكر والاستنباط، وتتخذ مادة درسها من الكتب والآثار والمقارنة، ومن ثم بدأ علماؤهم يجوبون الأقطار العربية وما اتصل بها قديما من أمم، وذهب كثيرون منهم شهداء العلم، اغتالهم الجهال، أو أضناهم العمل، أو أفناهم المرض، أو فتكت بهم الأوبئة!
وقد انتهت هذه البحوث إلى أن اللغات السامية نشأت من أصل واحد، ثم تنوعت بفعل البيئة أو تطورت بعامل الزمن فنشا ما بينها من تفاوت لا يمس أصولها، ولا يقطع ما بينها من رحم، وأن على الباحث في واحدة منها، أن يستهدي أخواتها الأخريات.
فلما تقدمت الحياة العقلية في مصر، رأى الذين يهمهم أمر الثقافة العربية، أن مجال التقدم والابتكار فيها، والكشف عن كنوزها، وتبيان غامضها، ما زال ضيقا، وأن الشرق في تفهمه لآثاره عالة على الغرب، يتابع خطواته، ويتلمس طرائفه، ويتلقى ما انتهى إليه من نتائج قضايا مسلمة!
وكان واضحا أن نقطة الضعف في التفكير العربي المعاصر، أن الذين يتصدون للبحث في شتى أنواع المعارف القديمة، يجهلون اللغة العربية ولا يلمون بدقائقها، مما ينتج عنه سوء فهم لتلك الثقافات، أو خطأ في الإلمام بقضاياها، وكان مخجلا أن يدرس التاريخ الإسلامي أو يؤلف فيه من لا يعرف أصول اللغة وتاريخها ومادته جلها نصوص لغوية وأدبية، أو يتصدى للفلسفة الإسلامية شارحا أو مؤرخا، وهو يجهل التطور الذي أصاب اللغة، فجعل للفظ معناه حين يكون في القاموس مغايرا لمعناه إذا ورد في أساليب الفلاسفة، فكان الخلط والاضطراب والتعثر، ملحوظا لكل من يطالع النتاج المعاصر في الفلسفة أو التاريخ أو الشريعة، وغيرهما من التراث العربي القديم، إذا استثنينا القليل!
ولم يكن هذا الخلط وقفا على الثقافة التي تبعد عن اللغة قليلا أو كثيرا، ب امتد أثره حتى إلى اللغة نفسها، ذلك أن تقدم الإنسانية وسع من إمكانيات الدارسين والمؤلفين، وانتشار الطباعة والتخصص جعل مهمتهم سهلة لينة، وتقدم منهاج البحث العلمي والاستعانة(1014/29)
بالمقارنة جعل من الممكن ملء الفجوات التي تبدو بين معالم الثقافة القديمة، والاهتداء إلى الأصول المجهولة، والتي كانت تعترض القدماء، فيعللونها بالفرض، أو يصلونها بالخيال، أو ينحرفون بها إلى الخرافة!
ومسايرة لهذا المنطق، بدا أن دارس العربية لكي يستفيد منها ويتبين حقائقها، وينير قضاياها، عليه أن يكون عارفا ما استطاع بأخواتها من الفصائل السامية، كالعبرية والسريانية واليمنية القديمة والحبشية، وما جاورها من لغات أخرى، كالفارسية والآرية والتركية، في حدود القدرة والتخصص.
روعي هذا النهج عندما أنشئت كلية الآداب بالجامعة المصرية القديمة، ودعا إليه الدكتور طه حسين دار العلوم العليا في حرارة وقوة عام 1935، عارضا عليها أن تضم إلى الجامعة، على أن تحتفظ باسمها التاريخي المجيد، لتكون معهدا للغة العربية واللغات الشرقية، ولم يقف بدعوته عند هذا الحد، بل اقترح أن تبدأ العناية بهذه اللغات من التعليم الثانوي، لمن يريدون أن يتخصصوا فيها، لكي تكون دراستهم منتجة مثمرة.
ولم يتح لدعوة الدكتور طه حسين أن تجد سميعا إذ ذاك، فطواها على مضض وإن لم ييأس منها، ومضى يهيئ لها الأذهان حتى اختمرت، وأذن لها أن تؤتى أكلها عام 1946، حين ضمنت دار العلوم إلى جامعة القاهرة، لتنتفع بالنهج الجامعي وحريته، ولتأخذ في ركب الحضارة وجهة جديدة، توائم التطور الثقافي الذي انتهى إليه العالم ومصر عقب الحرب العالمية الأخيرة.
أجل، كانت دار العلوم المدرسة قد أدت رسالتها في تنقية الفصحى من أوشاب العامية، وتحرير الألسنة من اللكنة الأعجمية، وفي إعداد المدرس الصالح لأدائها، والكتاب الطيب الملائم للقراءة، وفي تطوير اللغة لتصبح مرآة ناصعة، تنعكس عليها مظاهر الرقي المتعددة، وتتسع ألفاظها للتعبير عن أسمى المشاعر والأفكار. . . . وبقى الشق الآخر من الرسالة، وهو البحث والتقصي والعكوف على القديم لدرسه ونقده وتمييزه، وتتبع مساربه ومجاريه، بعد أن هيئت الوسائل وأكملت الأداة!
ومن ثم شفع ضمها إلى الجامعة إفساح المجال فيها للدراسات السامية والشرقية على الخيار بين واحد منهما، وأحس الطلاب أن شيئا جديدا من الثقافة بدأ يأخذ طريقه إلى أذهانهم،(1014/30)
ليساعدهم في تفهم كثير من المشكلات، كانت تبدو أمامهم معقدة غير واضحة، وكانت هذه العلوم أداة ليصبح عندنا نحو مقارن يرفع الستر عن قصة النحو العربي، متى نشأت، وكيف، وعلى يد من؟. . . ولأي المؤثرات تعرضت. وقل الأمر نفسه عن البلاغة وفقه اللغة، وعن الأدب أيضا.
ولكن البلاغة والنحو والصرف وفقه اللغة والأدب، ليست هي كل التراث الإسلامي، فهناك الفلسفة، وهناك التاريخ، وهناك الشريعة، وما يتصل بهذه العلوم أو يتفرع عنها، وهي علوم محور التبريز فيها أن يكون الدارس لها عارفا باللغة العربية أولا. ولسد هذا الفراغ وتهيئة المجال أمام الراغبين في هذا النوع من الثقافة الإسلامية، رؤى أن تتولاه دار العلوم تبعا، لتحرير بحثه ومادته من سلطان المستشرقين بعد أن ظل وقفا عليهم، مع الانتفاع بنهجهم ومذهبهم في التقعيد والاستنتاج، على أن يتخصص الطلاب في واحدة منهما؛ لتكون إفادتهم كاملة، فكانت شعب التاريخ والفلسفة والشريعة، بجوار الثقافة العربية الأخرى. ولتثبيت هذا المعنى في أذهان الطلاب وتقويته، وليأخذ صبغته القانونية، رؤى أن تكون براءتهم إذا تخرجوا (الليسانس في اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية).
ومضى الركب في طريقه. . .
ثم أذيع أن عميد كلية دار العلوم الأستاذ إبراهيم اللبان، دعا مجلس جامعة القاهرة، إلى تدعيم (معهد اللغات الشرقية) التابع لكلية الآداب، بجعله مستقلا على أن يكون للدراسات الشرقية كلها، أدبا ولغة، تاريخا وحضارة، واستبشر الطلاب والدارسون من وراء دعوته خيرا حين تلقفوها من أفواه الصحف ولكن. . . سرعان ما أعجلتهم الحقيقة، فأخبتت فيهم الأمل، وغاضت البشرى، ذلك أن العميد سبب دعوته، بأن مفتشي اللغة لعربية في وزارة المعارف، يشكون ضعف خريجي دار العلوم الكلية في النحو والصرف، وعزى ذلك إلى مزاحمة اللغات السامية والشرقية فدعا إلى إلغائهما، بل وارتأى ألا حاجة إلى دراسة التاريخ والفلسفة أيضاً ففكر في استبعادهما!
لن أرفع عن زملائي وأندادي تهمة الضعف، فنحن، ما زلنا طلابا رغم التخرج. ولن نزعم لأنفسنا العلم أبدا، فنحن في أول الطريق ومن سار على الدرب وصل. ولن نقول للعميد إن التدريس لتلاميذ الابتدائي والثانوي لا يحتاج إلى مزيد علم، ولا يصلح مقياسا لقوة أو(1014/31)
ضعف، وإن المسائل موضع الخلاف لا تعدو (همزة الوصل والقطع) والإعجام، واختلاف النظرة إلى الكلمة الواحدة، حين تكون العامية خفيفة سهلة، ومثيلتها العربية ثقيلة موحشة. . . لن نقول له إن المدارس اليوم تموج بأناس حظهم من الثقافة متواضع، وجهدهم في التحصيل ضعيف، ونظرتهم إلى التعليم مادية، وإيمانهم بالرسالة معدوم، وإن خريجي دار العلوم وسط هذه الأخلاط، قلة لا يسمع لها صوت، ومواهب لا يترك لها مجال!
لن نقول له شيئا من ذلك كله، لأن رسالة دار العلوم الجامعية يأتي فيها التدريس تبعا لا أصالة كما يقول الأصوليون، وإنما رسالتها أن تنير للطالب الطريق. . . طريق الكشف عن مجاهل الحضارة والثقافة، ثم تقول له سر على بركة الله، ليكتشف ويتأمل ويقنن، مشكورا أخطأ أم أصاب، ونحن جد سعداء، لأن دار العلوم الجامعية أمسكتنا أكثر من مشعل. وأنارت أمام عقولنا أكثر من طريق!
لقد جارينا العميد فيما ارتآه من أننا ضعفاء في النحو، لا تقريرا للواقع بل إسهاما في حل المشكلة، فليسمح لنا أن نخالفه أشد المخالفة، في أن مبعث ذلك هو اللغات السامية أو الشرقية أو التاريخ أو الشريعة، أو تزاحم مختلف المواد، ذلك أن واحدا من هذه العلوم، ليس جديدا في تقريره، وإن تطور في منهاجه، وأن محاضرات اللغة في نحوها وأدبها وفقهها لم تنزل عن المستوى الذي أنشئت عليه منذ أن كانت دار العلوم، بل إن منها ما استحدث كالأدب المقارن، أو خص بعناية في الوقت والدرس والمنهج كفقه اللغة، وإن الذين يطاولنا بهم في النحو من أساتذتنا في الدار وخارجها، كان نصيبهم من الدراسات السامية مضاعفا، فدرسوا العبرية والسريانية، على حين يدرس طلاب اليوم الأولى وحدها، ولم يمنعهم ذلك، إن لم يدفعهم، إلى أن يبرزوا في الميدان، وأن يسدوا إلى الفصحى خدمات جلى!
لقد توسعت دار العلوم في دراسة هذه المواد، ولكن هذا التوسع لم يكن على حساب اللغة أو قواعدها، وإنما كان على حساب علوم دست على الدوار لدوافع استعمارية، كان على حساب الطبيعة والكيمياء والهيئة والصحة والرسم والحساب والجبر والهندسة والجغرافيا، والأشغال اليدوية (!!) وهي علوم كان مؤسفا ومخجلا أن تدرس في معهد عال يعد المتخصصين في اللغة العربية، وأن يشغل بها الطلاب، على حين أن مكانها في المرحلتين(1014/32)
الابتدائية والثانوية!. ويستطيع العميد أن يراجع برامج دار العلوم منذ عام 1872 حتى اليوم، فلن يجد حيفا من اللغة أو علما عدا عليها.
حتى ولو جاريناه في دعوته ونظرته لدار العلوم، وتفهمه لرسالتها على أنها تزويد المدارس بعدد صالح من المعلمين (فإن معلم اللغة العربية محتاج أشد الحاجة إلى أن يكون قادرا على أن يفهم الصلة بين مادة اللغة العربية وأصولها السامية الأولى، فيجب أن يدرس اللغات السامية درسا حسنا، وأن يتقن بعض اللغات الأجنبية الحديثة، وبعض اللغات الشرقية الإسلامية الحية، في شيء من التنويع والتخيير بين هذه المواد)، (فدراسة اللغات السامية دراسة قران، أصبحت الآن ضرورية لكل من يريد أن يلم بتاريخ اللغة العربية إلماما يشمل نشأتها وعوامل انتشارها، واللغات التي أثرت فيها وتأثرت بها، ولكل من يريد أن يدرس فقه اللغة عامة، وفقه اللغة العربية بوجه خاص، دراسة علمية دقيقة. إن طالب دار العلوم في حاجة إلى التزود بمعلومات كافية عن بعض اللغات السامية التي لها علاقة وثيقة باللغة العربية، أسوة بما هو متبع في أوربا، حيث تدرس اللغتان الإغريقية واللاتينية لاتصال اللغات الأوربية الحديثة بهما).
لقد استقبلت دار العلوم حياتها الجامعية من سبع سنوات مزهوة بماضيها، مؤملة في غدها، مقدرة لرسالتها، وكان اندماجها في الحياة الجامعية موضع فخار وإجلال، وتطورها السريع موضع تقدير وإكبار، رعت الأفذاذ من أبنائها فاستردتهم معيدين، وأرسلت بهم وراء البحار دارسين وباحثين، وهيأت لهم من حياتهم العلمية رشدا. . .
ثم، ماذا أقول!. . . إن الحسرات لترعى قلبي، وإن الحزن ليغشي جوانحي، ويكاد الألم يقتلع من عقلي ذكريات علمية عزيزة عليه، لأن الكلية التي شهدتها زاهرة ناضرة، واختزنت لها في حنايا نفسي أروع الذكريات وأنبلها، نكصت على عقبيها، فتراجعت القهقري، لتنطوي على نفسها بعيدا عن الحياة والناس، وأخشى أن يفوتها الركب. . .
لم يعد للنابهين من أبنائها فيها نصيب، فتوقفت عن تعيين المعيدين، وكل جريمتهم أنهم صغار السن شباب، وتوقفت عن إرسال البعثات، لأن سياسة (ليس في الإمكان أحسن مما كان) عادت تطل برأسها من جديد!
ثم أسلمت مكتبتها، مكتبة أعرق كلية تدرس العربية في الشرق - وللجامعة مكتبة - وبها(1014/33)
كثير من النفائس والذخائر، إلى أمين كل مؤهلاته أن يحمل الشهادة الابتدائية، وفي بقية الكليات الأخرى، تنال المكتبة أعظم رعاية وأبلغ اهتمام، ويشترط في أمينها من المؤهلات ما يشترط في هيئة التدريس.
وبعد. . . إني أناشد الذين في دار العلوم - وأنا أعرف من هم علما وفضلا - ضمائرهم وعقولهم، أناشد فيهم تاريخ دار العلوم وحاضرها وغدها. . . إذا لم تستطيعوا السير إلى الأمام فلا ترتدوا.
لا تنقصوا مواد الدراسة، بل زيدوها إذا أحببتم، أنشئوا معهد الدراسات الشرقية، لكن لا تمسوا هذه الدراسة في دار العلوم، خرجوا شبانا يدرسون ويفهمون، أصحاب ثقافة منوعة تسمو بهم عن المحلية، وتحلق بهم في أجواء عالمية فسيحة، أيان توجهوهم يأتوا بخير كثير. . .
إني أناشدكم بكل مقدساتها، ألا تعودوا بها (مصنعا) للمدرسين من جديد!
الطاهر أحمد مكي(1014/34)
رسالة الشعر
الرؤيا الصادقة
بمناسبة الذكرى النبوية
للأستاذ محمد بهجة الأثري
من لحر بات يشكو الوصبا ... زافرا أنفاسه كاللهب؟
هاجت (الذكرى) شجاه فصبا ... وانثنى يندب حظ العرب
رب ليل بت موصول الأنين ... يتنزى شجنى مضطرما
باكيا مجد الشموس الأولين ... وزمانا بالمعالي معلما
أمة عزت بدنيا وبدين ... كيف ذات واستحالت أمما؟!
سامها ما سام أقوام (سبا) ... في الليالي زمن ذو ريب
مثلما تعصف ريح بدبي ... عصف الظلم بها في الحقب
صحت لما ذقت ذرعا بالشجا ... أرقب الليل برقراق الدموع:
أيها الليل! أما فيك رجا؟ ... أو ما للصبح من بعد طلوع؟
ثم أغفيت على هم رجا ... بفؤادي وأنا معي جزوع
فعراني مثل أحلام الصبا ... طائف في النوم قد طوف بي
هز أشواقي إليه طربا ... ليته في الصحو يحيي طربي
وتنورت مع الفجر سنا ... طبق الشرق وجاز المغربا
أطلعته البيد منها موهنا ... مشرقا بين (حراء) و (قبا)
ساطعا يغمر آفاق الدنا ... باهر الحسن يروع الغيهبا
فاض يهدي في طريق موكبا ... يتلألأ في الفلا كالشهب
سالت البيد به مصطخبا ... جائشاً فوق وهاد وربى
تارة يعلو أهاضيب الصخور ... لا يبالي ما يلاقي من صعاب
ويخوض الرمل حيناً كالبحور ... مثلما تمخر فلك في عباب
كلما جد وأضنته الوعور ... يمتلي عزماً شديداً واصخاب(1014/35)
وإذا رامت رجال مطلبا ... ذللت كل عصى منصب
وإذا استحلى هواها مأربا ... وجدت لذتها في النصب
لجب راع فؤاد الملكوت ... وثنى الشمس إليه والقمر
لم تشاهد مثله في العظموت ... هذه الدنيا، ولم تسمع خبر
كربت من ذعرها منه تموت ... قبل أن يأخذه منها النظر
راعها حتى إذا ما اقتربا ... فرعى أحوالها في حدب
وجدت أنبل قوم رغبا ... ينشد الخير كريم الرغب
سار يطوي الأرض خفاق اللواء ... كلما مر بقوم عظما
وهو في كل صباح ومساء ... يفتح المدن ويهدي الأمما
كاد لما ضاقت الأرض الفضاء ... يبتغي بالفتح آفاق السما
وإذا حل بواد أخصبا ... منبتاً أزكى نبات طيب
أمرعت منه البرايا أدبا ... وحياة حرة المضطرب
وتبينت فتى صلت الجبين ... لامع الغرة يجلي من بعيد
حف بالبيض بأيدي الدارعين ... فوق جرد تحتها الأرض تميد
قلت: من ذا؟ قيل لي: ليث العرين ... قلت: من تعنون؟ قالوا: ابن الوليد
قلت: والأبطال راعت بالطبا؟ ... قيل لي: صحب النبي العربي
قلت: ما يبغون؟ قالوا: أربا ... جل عن قصد الهوى والغلب
صاح كالضيغم: يا خيل اهذبي ... ورمى الشرق بلحظ أشوس
قال: هيا، أبلغيني أربى ... أربى تطهير (بيت المقدس)
فاستطارت في الفضاء الأرحب ... تنهب الأرض لعز أقعس
واستطارت في فؤادي لهبا ... لهفة للمشهد المستغرب
ثم شيعت بطرفي الموكبا ... وبنفسي منه كل العجب
قلت للنفس، وفي النفس جراح ... كلما ذكرتها نضت دما
وخيول الله تعدو في البطاح ... ، بين عيني، تعض اللجما
فوقها كالقدر العاتي المتاح ... كل جبار علا مستلئما:(1014/36)
انظري يا نفس هذا العجبا ... أترين القوم أصحاب النبي؟
كيف لا بست زماناً غربا؟ ... كيف عادت سالفات الحقب؟
وعلا التأذين في الفجر الرهيب ... موقظاً تهداره كل نؤوم
فتيقظت وفي قلبي وجيب ... كحبيس الطير في كف ظلوم
مطبقا عيني على الحلم العجيب ... بالتذاذ أتمنى لو يدوم
خلتني يقظان حتى أكذبا ... حاضر أبصرته عن كثب
صحت لما بان لي منقلبا: ... إن هذا أسوأ المنقلب!
حاضر أقبح به من حاضر ... وثبت فيه على الأيد القرود
قد تجلى عن خؤون غادر ... دغل النبات جياش الحقود
أخضع العرب لحكم جائر ... قد قضى أن يستنيموا لليهود
لعب اليوم بهم ما لعبا ... ولكم جد يرى في اللعب
شقهم لا دولا بل عصبا ... ثم أشقاهم بحرب العصب!
فيم هاجت بينكم (حرب البسوس) ... يا معيدي نكبة (الأندلس)؟
أعلى الميراث أحقاد النفوس؟ ... أم على تسليمه المختلس؟
أم بقايا من رمال وضروس ... هيجت من شهوات الأنفس؟
أخجلوا يا قوم صرتم عجبا ... في الدنا، بل لعنة في الكتب
ما أضعتم وطناً، بل حسبا ... أين من يحمي لرد الحسب؟
أمة قد أنسيت أوطارها ... فأدارت في المناحات الكؤوس
وأثارت للهوى أوتارها ... والأعادي في مغانيها تجوس!
فمتى ترحض عنها عارها؟ ... ومتى تعبس في يوم عبوس؟
إنما يلعب حر غلبا ... لا حريب مبتلى بالنوب
أو عزيز سيم خسفا فأبى ... لا الذي أضحى وطئ المركب
لا تلمها، إنما خذلانها ... جره التضليل من قوادها
جار عن نهج الهدى ركبانها ... إذ جروا فوق خطا روادها
كل من تبصره يختانها ... لا يبين الصدق في إرشادها(1014/37)
في سبيل المال. . من قد كتبا ... جاذب الساسة حبل الكذب
وانثنى الشاعر عما وجبا ... ومضى ينعت بنت العنب
يا شباب العرب في شتى البلاد ... لست أختص شآماً أو عراق
إن لي فيكم وإن عم الفساد ... أملا أن تحطموا عنها الوثاق
إن جرح العرب محتاج ضماد ... ضمدوه بدم منكم يراق
وأعيدوا الوطن المغتصبا ... بالمواضي من يد المغتصب
تبعات الملك شتى أربا ... سوف تلقى للشباب النجب
اذكروا - الله - مجد الفاتحين ... واصنعوه مثلما قد صنعا
لا تغروا، مالكم غير (الأمين) ... أسوة فيما نهى أو شرعا
كل جد في جديد الحاضرين ... لم يغب عن شرعه فيما وعى
اقرءوا دستوره المنتخبا ... تجدوه زاخراً بالنخب
هو روح وحياة وهبا ... صادق الإيمان أسمى الرتب
نسخت آيته في العالمين ... آية الشمس بآفاق السماء
وتحدى ما بنى في الغابرين ... عادي الهلك وآفات الفناء
وتعالى فوق مجد المالكين ... مجده الخالد ما دام البقاء
لو وراء الخلد ملك أو نبا ... لاحتوى محموده من كثب
كذب المطري سواه كذبا ... غير مدح التبر مدح الترب
أيها المبعوث بالأمر العظيم ... جل باري النور! ماذا أطلعا؟
جئت والدنيا يغشيها السديم ... فأنرت الشرق والغرب معا
طلعت شمسك. . لكن في الحلوم ... وتسامت عن كسوف مطلعا
كم أزاحت عن عقول سحبا ... جللتها من ظلام الريب
وجلتها في الأعالي شهبا ... هاتكات للدجى والحجب
أنت من علم أمثال (عمر) ... يتحدى بالفتوح الدولتين
أنت من أطلع أبطال السير ... مثلما تبدي السماء النيرين
أنت من أحيا الأعاريب الغرر ... وبهم أحييت أهل المشرقين(1014/38)
ثم مالوا عنك ميل، فنبا ... عزهم، واستهدفوا للنوب
وأقلوا في الحياة الكربا ... وهوان العيش في المرعى الوبى
يا رسول الله خير المرسلين ... يا منيل العرب غايات الفخار
قم تأمل حالهم في العالمين ... كيف بعد العز ذلوا في الإسار
هدموا ما شدت من دنيا ودين ... فقضى الله عليهم بالبوار
أركضوا الأهواء فيهم خببا ... ورموا وحدتهم بالشجن
كل من تلقاه ينحو مذهبا ... ويحهم! لم يتركوا من مذهب
صدعت بيضتهم أشقى الأمم ... وهمو لاهون. . كل بهواه
جدعت منهم خياشيم الشمم ... وبغى بعض على بعض وتاه
هل سبيل النجح إيقاظ النقم ... عمه الجاهل شر من عماه!
ليتهم قد أججوها الهيدبى ... للعدا لا لابن أم وأب
ويحهم! قد بلغ السيل الزبى ... غير ذي رفق، وهم في حرب
يا نياما ضيعوا ما ورثوا ... عهد العلي والشرف!
أفما آن لكم أن تبعثوا ... سيرة الهادي ومجد السلف
إن (أهل الكهف) قبل انبعثوا ... من رقاد طال تحت السدف
وأعادوا في الحياة الدأبا ... ومنال المجد رهن الدأب
فاستفيقوا وأثيروا العربا ... طال يا قوم رقاد العرب!
بغداد
محمد بهجة الأثري(1014/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
صدرت (الرواية). . بعد أن احتجبت عن قرائها طويلا، صدرت قوية كالعهد بها من قبل، فتحتل مكانها في ميدان القصة الرفيعة والأدب الممتاز.
عادت الرواية بعد أن اكتسح ميدان الأدب، ذلك اللون الفاتر الضعيف الركيك، الذي يهدهد الغرائز، ويحرك الألوان القاتمة في النفوس، عادت لترد للأديب الرفيع مكانته، وللفن الخالص كرامته.
أسبوع النبي
كان ميلاد النبي. . هذا العام قويا حيا. . غاية القوة والحياة.
فقد جاء في الوقت الذي تستقبل فيه مصر حياة كريمة نقية تتمثل فيها صورة البطولة والقوة والحرية.
وقد أقيمت في كل مكان أحفال الذكرى، وكان للأديب فيها مكانه المرموق. . كان الشعر والنثر هذا الأسبوع ملونا منوعا، يصور حياة الرسول الكريم، وجهاده وكفاحه، تمثل ذلك في القصائد المختلفة التي نشرتها الصحف وأذاعتها الإذاعة، وألقيت في الهيئات والجمعيات التي احتفلت بالذكرى. . وفي المقالات، وفي القصص، وفي المسرحيات.
كانت الأقلام التي تعمل في ميدان الأدب والفن كلها تعمل لذكرى الرسول. . . وتصور تلك الشخصية الضخمة التي أضاءت الكون وأفاضت عليه نور الإسلام وهدته إلى التوحيد الخالص.
وإن كان لنا أن نقول شيئا في هذا المجال فهو أننا لا زلنا نطمع أن يتخلص شعراؤنا من القيود التقليدية التي خيمت على الشعر زمنا طويلا خلال العهد الماضي. وأن هذه النفسيات الشاعرة تستطيع أن تتجدد على أفق واسع.
ندوة الشباب المسلمين
وكانت ندوة الشبان المسلمين من أضخم هذه المهرجانات فقد اشترك فيها عدد كبير من شعراء الشباب: الغزالي، ومخيمر، وشعلان، والعوضي، والمنشاوي، والتهامي، والماحي،(1014/40)
وحمام، والعماديين، وجبر، وقاسم.
وألقيت قصائد كان أغلبها في مولد الرسول.
ولا شك أن اشتراك هذا العدد الضخم من الشعراء الناضجين الذين عرفوا بالماضي الحافل في ميدانهم كان من أقوى الأعمال الأدبية التي كللت بالنجاح وكانت تأييدا لدعوة الرسالة التي طالبت بذلك من قبل.
وقد علق على الندوة وعقب على قصائد الشعراء الدكتور إبراهيم سلامة أستاذ النقد بكلية دار العلوم. استمر الدكتور سلامة يتحدث حوالي الساعتين ونصف الساعة، وكانت له طرائف حلوة في التعليق على الشعراء منها قوله:
شعراء المناسبات كحمالي القطارات لا يعملون إلا عندما يصل القطار.
مصطفى حمام هذا الشاعر الذي لم أفهمه، الشاعر الذي يتألم ويرسل زفراته وأناته من شفاه تبتسم. أنه كالرجل الأجرب الذي يجد اللذة في أن يحك جلده.
ولم يدع شاعرا من هؤلاء الشعراء دون أن يبدي رأيه في شعره بصراحة تامة. ومن القصائد الرائعة التي لقيت الاستحسان قصائد مخيمر والمنشاوي والتهامي.
فلسفة التكريم
في حفل التكريم الذي أقيم للأستاذ الفضيل الورتلاني المجاهد الجزائري هذا الأسبوع، في فندق سمير أميس، تحدث المحتفى به بعد انتهاء كلمات التكريم التي وجهت إليه فقال:
(إن حفلات التكريم في ذاتها ليست إلا مظهرا من مظاهر التعبير عن البطولة في ذاتها وتصوير معالمها. وإن الأمر في هذا أشبه بالمعركة التي يقوم بها الجيش حين يقوم بأعمال التمرين والتجارب. ففي هذه الحالة يتخير المهاجمون هدفا محددا، ولو كان ورقة، تصبح في نظرهم ولها صفة الهدف الحقيقي ثم يأخذون في مهاجمتها. وكذلك فعلتم أنتم حين جعلتموني هذا الهدف الوهمي لتصوروا ملامح البطولة كما تحبون أن تتمثل في الأفراد).
الأدب لا يطلب النجدة
كنا قد نشرنا بعض ما فاضت به الصحف في العراق ولبنان من حق الأديب.
وقد قرأنا في جريدة النبأ رأيا جزئيا في هذا المعنى في كلمة عنوانها (الأدب لا يطلب(1014/41)
النجدة) جاء فيها (أن الأدب أجل من أن يطلب النجدة؛ فهو يفرض نفسه فرضا ويخلق له متتبعين إذا قدم لهم وجبات ممتعة فلا يطعمون العدس في كل وجبة.
. . ليس للأديب أن يجأر بالشكوى وهو قابع في صومعته فارضا نفسه غير مسؤول إلا إذا أنجد، فأين البضاعة المعروضة ليصح الطلب؟
إن الأدباء عندنا هم من الشعور بضعف واقعهم بحيث يستترون ثم يروحون ينعون على الجمهور ذوقه وتقصيره.
لم ينكب الأدب إلا الأدب نفسه، فمع قلة البضاعة أضحى البعض قراصنة يستولون عنوة على مال الناس بوسائل شتى ضاربين خير الأمثلة للناشلين.
حوشوا من هذا الحقل هذه الطفيليات فإن الأدب يحتضر. لقد أفزعنا أن نطالع بعض آثار أدبائنا فإذا هم ومحطة الإذاعة سواء بسواء).
والقضية التي يعرضها الكاتب هي قضية الأدب في كل مكان. على الأديب أن ينطلق في الحياة فلا يقبع في برجه العاجي ليكتب للناس من خياله. إن الأدب الواقعي هو الذي ينبع من آلام الناس وآمالهم ورغباتهم وأهدافهم. إن بعض الأدباء الذين أحسوا بأن أسماءهم قد لمعت، نسوا ماضيهم، وتبلد نشاطهم، وفترت حيويتهم ومن ثم جاءت آثارهم الجديدة غاية في الضعف.
ذكرى شكيب أرسلان ومحمود سامي البارودي
تقع في هذا الأسبوع ذكرى رجلين من كبار الرجال في الشرق. . . هما شكيب أرسلان وسامي البارودي. لقد ترك كل منهما من ورائه ذكرا مرفوعا وأثرا قويا في عالمي الأدب والسياسة.
أما شكيب أرسلان فقد عاش حياته مهاجرا. كان مظهرا من مظاهر الشرق الحية في الغرب، وكان منارا لكل شرقي في قلب أوربا. وما من مجاهد أو زعيم أو زائر قصد إلى هناك إلا وأحس بمدى الأثر الضخم الذي يفيضه على الشرقيين هناك.
وكانت الصحف لا تنشر له الفصول الضافية في الأدب والاجتماع والسياسة، وهو الذي علق على كتاب حاضر العالم الإسلامي فأضاف إلى ذلك السفر الصغير فصولا عن حياة المسلمين في مصر والمغرب والعراق وسوريا والهند وإندونيسيا. . غاية في القوة(1014/42)
والوضوح، تعد بحق مرجعا من أوفى المراجع لمن يريد أن يكتب عن قضايا البلاد العربية والإسلامية.
ولم يقف جهد شكيب أرسلان عند التاريخ والسياسة؛ بل كتب عن العرب في الأندلس كتابا مستفيض الصفحات في تصوير الحضارة الإسلامية في ذلك الفردوس المفقود.
وكتب شكيب أرسلان كتابين في الأدب والتراجم غاية في القوة هما كتاباه عن شوقي وعن رشيد رضا.
ويتميز إنتاج شكيب أرسلان بالإسهاب والوضوح والجزالة والتدفق وبيانه غاية في القوة، لأنه يصدر عن قلب يخفق بحب الشرق والإسلام والعروبة، قلب المجاهد الذي عاش مهاجرا، تتمثل له في كل لحظة تلك المعالم الحية، التي يعيش فيها أهله وإخوانه وبني وطنه، وتلك الآلام التي يقاسونها في ذلك الكفاح المرير مع المستعمر والغاصب والمستبد.
أما محمود سامي البارودي، فهو ذلك الشاعر الذي نقل الشعر العربي من مدرسة إلى مدرسة. ونقل الوطنية المصرية من وضع إلى وضع. فهو على رأس الفريق الذي حرر الشعر العربي من قيوده التقليدية وفتح له باب التحديد الذي جرى فيه من بعد.
وكان من بين الفريق الذي وقف في وجه الظلم والطغيان، ظلم الحاكم المستبد وطغيان الاستعمار الغاشم، فكان أحد أولئك المجاهدين الذين حملوا لواء الثورة العرابية.
وقضى محمود سبعة عشر عاما من عمره في جزيرة سيلان منفيا ومبعدا عن وطنه الذي أحبه، قضاها أيضاً في جهاد، فهو لم يلبث أن دعا أهل سيلان إلى الإسلام وعمل حثيثا على نشر دعوته فيهم.
ثم عاد إلى مصر فلم يلبث أن فقد بصره وأمضى الأيام الباقية من عمره منقبض النفس مطويا حزينا.
وهو أول من أنشأ فن (رثاء الزوجة) في الأدب العربي الحديث، فلم يكن هذا اللون معروفا أو مقبولا من قبل حتى جاء محمود سامي البارودي فكتب قصيدته في رثاء زوجته، ثم جاء بعد ذلك عزيز أباظة وعبد الرحمن صدقي فمضيا في هذا الطريق.
ويلتقي شكيب أرسلان وسامي البارودي في ذلك المعنى الذي تحمله النفس المهاجرة لأمد طويل، فقد قضى كل منهما صدر حياته في المنفى، فلما عادا لم يلبثا طويلا.(1014/43)
وإذا كان تاريخ أبطال الثورة العرابية لم يكتب حتى الآن لأن الظلم والغبن كان يحيط بتاريخ الأحرار من الرجال، فقد حق اليوم أن يكتب عن هؤلاء الرجال الذين كتبوا في مصر الحديثة صفحة الحرية، فما بالك وقد كتب محمود سامي البارودي صفحتين في الأدب والسياسة جديرتين بالخلود.
أنور الجندي(1014/44)
المسرح والسينما
مسرحية
غروب الأندلس
تأليف الشاعر الكبير عزيز أباظة
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
لا يستطيع أديب أن يعبر عن آلام الشعب التي تهز كيانه، وأن يصور آماله التي تهفو إليها نفوس أفراده إلا إذا كان يحس إحساسهم ويشعر شعورهم فيضطرب بين ضلوعه ما يختلج في حنايا صدورهم ويعتمل في أطواء قلبه ما يجول في خبايا أفئدتهم، على أن يسعفه إلهام لا ينضب معينه، وفن مبدع تتحلب أفاويقه، ولسان مطاوع يأخذ الألباب بسحر بيانه. فإذا رزق غزارة العقل وحنكة الدهر وتجارب الأيام جلى ما يريد أدبا رائعا نستعذ به الفطر السليمة كما نستعذب الهيم سلسبيل الماء، وتطرب له الجماعة كما يطرب السامرون لرنين الوتر في هدأة الليل وخفقة السحر، وتصغي إليه كل أذن واعية كما يصغي الشوق إلى نغمات المطرب ورنة الغريد. وإن الكلمة البليغة لا تمل تردادها الأفواه، والبيت الرقيق لا تسأم من تكراره الأسماع.
لقد سقت هذه المقدمة بمناسبة ما قدمه الشاعر الكبير الأستاذ عزيز أباظة للمسرح في تلك الأيام. . ألا وهو مسرحيته الشعرية (غروب الأندلس).
وإذا كان الأستاذ قد أتحف المسرح بمسرحيات قيس ولبنى، والناصر، والعباسة، وشجرة الدر، فإن مسرحية غروب الأندلس التي تعرض الآن في دار الأوبرا تعد أقوى ما ألف وأبدع ما نظم من حيث عمقها وبحثها وراء الأسباب التي تنهار من أجلها الشعوب، ومن حيث حكمها وما فيها من توجيهات يجب أن يأخذ بها من يريد للأمم حياة كريمة وصونا من الأقوال والزوال.
ولعمري إن مأساة العرب في الأندلس لتذهب النفس عليها حسرات، وتنسكب الدموع أسى وحزنا على ذلك المصير الذي أرادها فيه ما كان عليه زعماؤها وأمراؤها من تطاحن وتنازع وتفرق كلمة وانغماس في الملاذ والشهوات، والاستعانة بالأجنبي الطامع لقهر(1014/45)
الأهل وذوي القربى.
ولقد كان الأستاذ عزيز أباظة وهو يستوحي التاريخ يتمثل حال مصر في عهودها البائدة، عالما بأسرارها مطلعا على خباياها لما له من خبرة ومنزلة، فتغلي مراجل غضبه ويثور الغيظ في قلبه فيسكبه شعرا تلمس فيه حرارة التأثر مما رأى وبلاغة التأثير فيمل فيمن يسمع ويروى.
ويذكر المؤلف في مقدمة المسرحية أنه نظمها قبل أن يبعث الله لمصر 23 يوليو روحا طاهرا وثابا في جيشها الكريم فيتداركها من السقوط في هوة لا يدرك لها قرار. وما من شك أنه قد أضاف إليها شيئا قل أو كثر بعد هذا العبث الذي نشر مصر على أيدي أبنائها الأخيار.
كم شقيت مصر في عهودها البائدة وتعثرت في خطاها إلى المجد فلم يقلها من عثرتها أولئك المهيمنون عليها، ولم ينهضوها من كبوتها مخافة أن تحرمهم مما انغمسوا فيه من ترف السفهاء وشره الجبناء؛ وأراد الله أن يجعل نهايتهم فجعل في آذانهم وقرا فانكبوا يخضمون ويلغون لا تنغص عليهم لذاذاتهم هذه الأنات المكتومة والزفرات المحمومة. وزادهم الله ضلالا فجعل على أبصارهم غشاوة أعمتهم عن رؤية النذر والنظرات الصاعقة المتوعدة، وأملي لهم فساق لهم عبيدا بعيونهم على اقتراف آثامهم واجتراح كبائرهم فكانت الأقلام الحرة تقصفها القوة الغاشمة، والعزمات الأبية تكبلها القوانين الظالمة، والأفواه الناطقة تقفلها الأيدي الملطخة بدماء الأبرياء. ويا ويل الأمة المغلوبة على أمرها المنهوكة القوى بسبب ما يمتصه رؤساؤها من دماء أبنائها وهم يتطاحنون على السلطة ويتنافسون على بلوغ المناصب بكل الوسائل، فيكيد بعضهم لبعض، ولا يرضى هذا أن يجيء الخير على يدي ذلك، ويضيع أحدهم خيرا محققا في سبيل ما سيكون في بطنه يوم القيامة نارا تتلظى وفي الدنيا سبة وخزيا، لكنه حريص على المنصب ولو كان يكنفه الصغار وتحيط به الذلة والمسكنة. ومن حول الأمة أعداء طامعون في تمزيقها حريصون على استعبادها على توسيع شقة الخلاف بين أفرادها الذين تفرقوا شيعا وراء المتزعمين الضالين.
إن مسرحية غروب الأندلس ويصدقها التاريخ تعرض لكل هذا في حبكة فنية وتسلسل متماسك وبيان أخذ، ولن تقلب صفحة من المسرحية وأنت تقرأ، ولن تمر لحظات وهي(1014/46)
تمثل إلا رأيت وسمعت حكمة بليغة تقع على ما في نفسك موقع البلسم الناجع على الجراح الأليمة فلا تملك إلا أن تمنحها التقدير والإعجاب.
ولا تسكت المسرحية عن التعرض للمعاهدات التي يعقدها القوي مع الضعيف، وآثارها الوخيمة، وذلك التخريج والتأويل الذي يفسره صاحب القوة كما يشاء.
الأمر للأقوى يؤوله كما ... شاءت له الأطماع والأهداف
ولا يغفل عن الطرق الملتوية التي يسلكونها اكتسابا للوقت وهم يمدون حبال الآمال وخيوط الأماني الواهية فيسوق على لسان الحبر وزير فرديان وهو يخاطب إيزابلا.
لا تقطعي الأمر حتى ... تصح منا العزيمة
والخير أن تستمر ... المفاوضات العقيمة
تظل تلهى فتوهى ... عرى الأمور الجسيمة
ولم يفت الشاعر أن يصور لنا هذه النفسية الوضيعة بطريقة مرحة وهي تداهن وترائي وتغير آراءها وتتلون، زاعمة أن ذلك هو السياسة الرشيدة والله يعلم أنها الخسة والصغار. فالمسرحية تمثل لك ذلك في شخصية أبي القاسم وزير العرب في الأندلس أيام غروبها.
حتى الزواج بالفرنج ومساوئ الضرائر قد وجد له نصيبا في المسرحية وكان له في الغروب تأثير.
وبين هذا العبوس والظلام، وفي وسط هذه المحن والآلام، لا ينسى الشاعر في مسرحيته ذلك الحب ورقته، ورأى النساء في الدلال الذي قد يبعد الحبيب وقد يجره مطواعا وبين الاستجابة التي قد تدنيه أو تنئيه.
إن هذه المسرحية مسوقة لتكون عظة للشرق وعبرة، ولا خير فيمن لا يتعظ بماضيه، فإن الشرق في الواقع لم يصب بالكوارث ولم تتحيفه الخطوب تحيف المقراض، ولم يصبح نهبا مقسوما ولقمة سائغة لا تشجي عند ابتلاعها حلقوما ولا تغص حلقا إلا لتفرق كلمته. ويا ليت أعداءه حسبوا أهله جميعا فهابوهم، بل عرفوا أنهم شتى وأن يأسهم بينهم شديد.
وإذا كنت قد ذكرت لك طرفا مما في المسرحية فإن ما فاتني ذكره كثير. ولم أرد أن أسوق لك نماذج عديدة من حكمها الغوالي ما ذلك إلا لكي ترى وتسمع بنفسك، وعلى كل شيخ وشاب أن يعمل على رؤية المسرحية فهي للشيوخ زاجر وواعظ يدعوهم إلى أن يتركوا(1014/47)
خلافاتهم أو يدفنوا أنفسهم حتى لا يضروا أوطانهم. وهي للشبان حافز ودافع يدعوهم إلى أن يجعلوا أنفسهم للوطن جنة وعدة تقيه السوء وتحميه من كيد الكائدين، ولا ينساقوا وراء الدجالين والمتزعمين المضللين. فإلى الأستاذ الكبير والشاعر المبدع عزيز أباظة أبعث تحية الإعجاب بهذه المسرحية، راجيا أن يقدم للمسرح مثلها أخوات.
عبد الستار أحمد فراج(1014/48)
البريد الأدبي
إلى هالة
للدكتور عبد الوهاب عزام ابنة تدعى هالة وهي صغرى بناته. وقد
رافقت هالة أباها إلى جدة حين كان وزير مصر المفوض لدى الدولة
السعودية العربية، ثم رافقته في سفره إلى كراتشي حين عين سفيرا
لمصر في باكستان. وكانت تقدم القهوة إلى أبيها في ليالي رمضان،
وتحرص على أن تصنعها بنفسها وتقدمها وتأبى أن يشاركها أحد، ثم
تجلس إلى أبيها بعد العشاء، فيحدثها حديث شيخ الأرانب، وهو حديث
طويل بدأ في جدة، واستمر في كراتشي ولم ينته. وكان يملى عليها
الحديث في كراتشي فتكتبه ثم تصور بعض مناظر الحديث تصويرا
دقيقا؛ فصورت الأرانب وهي قائمة للصلاة، وصورا أخرى.
وسافر الدكتور عبد الوهاب عزام إلى كراتشي في هذه المرة وحده، وبقيت هالة في مصر، فأرسل إليها شوقه وحنانه الأبوي بهذه الأبيات:
أهالة إن شط المزار فإنني ... إليك، على نأي الديار، قريب
حديثك عندي، والخيال يطيف بي، ... له في خيالي جيئة وذهوب
ولكنني والحق أشتاق قهوة ... يضوع شذاها في يديك، تطيب
تزفينها بعد الطعام محرماً ... لغيرك فيها شركة ونصيب
وأشتاق من شيخ الأرانب مجلساً ... أحدث فيه والخيال خصيب
وخطك ما أمليه تسطير حاذق ... وضحكك منه، والحديث عجيب
وتصوير ما سطرت تصوير حاذق ... يزيد بياني روعة ويجيب
لأذكر صفا للأرانب قائما ... يصلي منيبا، من رآه ينيب
يكاد من الإتقان يسجد خاشعا ... ويسمع منه في الخشوع وجيب
وجمعا دعاه للصلاة مؤذن ... وأحسن فيه قارئ وخطيب(1014/49)
فليتك عندي كي أتم حديثها ... وذلك تحديث إلى حبيب
كراتشي:
عبد الوهاب عزام
شونبرون لا شمبرون
قرأت قصيدة الشاعر الكبير عزيز أباظة ليسمح لي حضرته أن أوجه نظره إلى غلطتين:
الأولى - غلطة في اسم قصر (شمبرون) إذ صحة الاسم (شونبرون) وهو القصر الذي اعتقل فيه ابن نابليون بعدما هزمت جيوش الحلفاء وعدد جنودها 300 , 000 الجيش الفرنسي الذي كان تحت إمرة نابليون نفسه وعدد جنوده 50 , 000 في واقعة واترلو المشهورة في 18 يونية سنة 1815 وفي أثرها تنازل نابليون عن العرش في 23 يونية سنة 1815 ثم سلم نفسه إلى إنجلترا، والحكومة الإنجليزية نفته إلى جزيرة سانت هيلانة وبقى في المنفى إلى أن توفى في 5 مايو سنة 1821 وعمره 51 سنة.
أما ابنه - وكان عمره أربع سنوات وبضعة شهور - فقد أطلق عليه أبوه عقب ولادته لقب ملك روما؛ إلا أن ماري لويز لما تزوجت بعد نفي زوجها إلى جزيرة سانت هيلانة سمته أمير بارم؛ ثم سلمته إلى أبيها فرانسوا الثاني إمبراطور النمسا فسماه دوق دي رايشستاج؛ ولكن فرنسا آثرت أن يبقى له لقبه الأصلي الذي تلقاه عن أبيه وهو ملك روما. وكان الحلفاء أرادوا تنصيبه ملكا على بلاد اليونان أو على بلاد بولونيا، إلا أن البرنس مترينك كبير وزراء إمبراطورية النمسا اعتقله في قصر شونبرون وبقى معتقلا إلى أن توفاه الله في 22 يولية سنة 1832.
وقد زرت هذا القصر قبل قيام الحرب العالمية الأولى ورأيت من آثاره التاريخية سرير ابن نابليون وهو السرير الذي قدمته بلدية باريس هدية إلى الإمبراطور نابليون عقب ولادة ابنه في 20 مارس سنة 1811.
الثانية - غلطة لغوية في قوله (واحتوتنا سيارة تنهب الأرض) وكلمة (تنهب الأرض) غير صحيحة والصحيح تنتهب الأرض.
عزيز خانسكي(1014/50)
1 - لمن هذا الشعر
أخبرني صديقي القصاص الموصلي الأديب جلال الخياط - وهو يعرف ولعي بجمع شعر شوقي وتتبع آثاره - أنه قرأ في كتاب لا يذكر اسمه الآن هذين البيتين منسوبين إلى شوقي مع القصة التالية:
في عهد الخديوي عباس حصلت جفوة بين الأمير وشاعره؛ وبعد توسط الوزراء قابل شوقي الخديوي في مقره الرسمي وكان بينهما عتاب فارتجل شوقي البيتين التاليين:
أليس من العز الممنع أن ترى ... أمير القوافي في ركابك جاثيا
فو الله لولا العرش الذي أنت ربه ... لما زعزعتني قوة من مكانيا
واستدل الأديب الموصلي بقوله (أمير القوافي) أنها لأبي علي، أما أنا فلم أقرأها في مكان؛ فهل هي لأمير الشعراء أم لغيره؟ هذا ما أحب أن يتفضل علي به القراء الكرام.
2 - عودة الرواية
قرأت الإعلان الذي نشر مؤخرا بمجلة (الرسالة) عن عودة مجلة (الرواية) إلى الظهور لقراء العربية فغمرتني نشوة من الفرح. وكيف لا يفرح مثلي وقد كانت خير موسوعة للقصص العربية الموضوعة والعالمية المترجمة. ومن عرف أن أستاذنا الجليل الزيات صاحب البيان الساحر والقلم الشاعر سيقدمها إلى قرائه المعجبين يدرك كيف ستكون، وليس لي إلا أن أمد يدي مصافحا ومهنئا ذاته العظيمة وقراءه الأعزاء بهذه البشرى السارة فإلى الأمام يا صاحب (دفاع عن البلاغة)
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
رد ونقد
خطأ بعضهم استعمال (نعاه ينعيه) واستشهد بقول الشاعر:
زعم العواذل أن رحلتنا غدا ... وبذاك (ينعانا) الغراب الأسود
وأقول أنه ورد في بعض المؤلفات القديمة فقد جاء في (حياة الحيوان) في الكلام على(1014/51)
(البوم) ما نصه: ورأيت في بعض المجاميع بخط بعض العلماء الأكابر أن المأمون أشرف يوما من قصره فرأى رجلا قائما وبيده فحمة وهو يكتب بها على حائط قصره، فقال المأمون لبعض خدمه اذهب إلى ذلك الرجل وانظر ما يكتب وائتني به، فبادر الخادم إلى الرجل مسرعا وقبض عليه وتأمل ما كتبه فإذا هو:
يا قصر جمع فيك الشوم واللوم ... متى يعشش في أركانك البوم
يوم يعشش فيك البوم من فرحي ... أكون أول من (ينعيك) مرغوم
ثم إن الخادم قال له أجب أمير المؤمنين فقال له الرجل سألتك بالله لا تذهب بي إليه. فقال الخادم لا بد من ذلك ثم ذهب به. فلما مثل بين يدي المأمون أعلمه الخادم بما كتب، فقال له المأمون ويلك ما حملك على هذا، فقال أمير المؤمنين أنه لن يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلي والحلل والطعام والشراب والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك مما يقصر عنه وصفي ويعجز عنه فهمي، وإني يا أمير المؤمنين قد مررت الآن عليه وأنا في غاية من الجوع والفاقة فوقفت مفكرا في أمري وقلت في نفسي هذا القصر عامر عال وأنا جائع ولا فائدة لي فيه فلو كان خرابا ومررت به لم أعدم منه رخامة أو خشبة أو مسمارا أبيعه وأتقوت بثمنه، أو ما علم أمير المؤمنين ما قال الشاعر؟ قال وما قال الشاعر؟ قال:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ ... نصيب وإحسان تمنى زوالها
وما ذاك من بغض لها غير أنه ... يرجى سواها فهو يهوى انتقالها
فقال المأمون أعطه يا غلام ألف دينار ثم قال له هي لك في كل سنة مادام قصرنا عامراً بأهله.
وجاء في (نور الأبصار) في الكلام على (مناقب السيدة فاطمة بنت الحسين) ما نصه: لما قتل الحسين رضي الله عنه جاء غراب فتمرغ في دمه وطار حتى وقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين ابن علي رضي الله عنهما وهي الصغرى فرفعت رأسها ونظرت إليه وبكت بكاء شديدا وأنشأت تقول:
نعق الغراب فقلت من ... (تنعيه) ويحك يا غراب
قال الإمام فقلت من ... قال الموفق للصواب(1014/52)
الخ. . . فنعته لأهل المدينة فما كان بأسرع من أن جاءهم خبر قتل الحسين رضي الله عنه انتهى.
أما الشاهد فلا أعرفه وأخشى أن يكون محرفا عن بيت النابغة وهو:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود
والبيت قبل علاجه من عيب (الإقواء) هكذا:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك خيرنا الغراب الأسود
انظر قصة البيت في الأغاني وغيره.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
أين كنا. . وكيف أصبحنا؟!. .
كنا سادرين في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الإنسان يده لم يكد يراها، وقد تحالفت علينا العلل الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية. فأصبحنا نعيش في النور، تظلنا الحرية بلوائها الجديد، وظلها الوارف المديد!. . .
كنا نعيش في مجتمع أنهكته العلل، ودب فيه الفساد، وتغلغل في كل مرافقه وأركانه، وتحكمت في مصيره طائفة صرفتها مصالحها الشخصية عن مصالح الوطن، فأصبحنا نعيش في مجتمع صححت أوضاعه، وعولجت أدواؤه!
كنا أمة تفرقت كلمتها، وتعددت أحزابها، كل حزب بما لديهم فرحون. . يكبد بعضنا لبعض. . فضعفت قوتنا، وتبعثرت جهودنا، وضربت الفوضى علينا إطنابها، وقعد الكثيرون عن العمل المجدي المثمر. . . فأصبحنا أمة صهرتها الأحداث، فجعلت منها كتلة واحدة، يحدوها هدف واحد، وتسعى إلى غاية واحدة، شعارها (الاتحاد والنظام والعمل)!
كنا نعيش بلا أمل. . فأصبحنا نعيش والأمل يملأ قلوبنا، والإيمان يعمر صدورنا. .
فأين كنا بالأمس؟! وكيف أصبحنا اليوم؟!
إنها رحمة الله الواسعة أدركتنا، فإنتشلتنا من وهدتنا. . . ونعمته الكبرى أظلتنا. . . فلنتحدث بنعمته. . . ولنسأله المزيد من رحمته!(1014/53)
عيسى متولي(1014/54)
القصص
كرد علي
للقصصي الروسي بوشكين
(كرد علي) بلغاري بمولده. وهذا اللقب في اللغة التركية يطلق على ذوي الجرأة والقوة، ولا أعرف ما هو أصل الاسم الذي يتسمى به بطل هذه القصة فقد أطلق عليه لقب (كرد علي) وعرف به وأصبح شخصية مخوفة مرعبة في أنحاء (مولدا فيا) لكثرة ما يرتكبه من العدوان.
ولما أعلن إسكندر أبسلانتي الثورة وأخذ في حشد المتطوعة جمع له كرد على أصحابه القدامى من قطاع الطرق ومن على شاكلتهم وكان هؤلاء لا يدركون حقيقة السبب في نشوب الثورة؛ فقد كان مثيرها يبغي من ورائها تحرير اليونان. ولكنهم كانوا يرون في الحصول على الثروة من أسلاب الأتراك أو أهل مولدا فيا سببا كافيا لنشوب أية ثورة.
وكان إسكندر أبسلانتي شجاعا، ولكن لم يتوافر لديه من الصفات ما يكفي لتنفيذ المهمة التي اضطلع بها، فلم يستطع السيطرة على رجاله الذين لم يكونوا يحترمونه ولم يكونوا يثقون به.
وبعد الموقعة التي أفنى فيها زهرة الشباب اليوناني أشار عليه يوردا كي ألمبيوتي بالتخلف. وتولى هو مكانه. وهرب أبسلانتي إلى حدود النمسا ثم أرسل لعناته إلى الشعب الذي كان يقوده واصفا رجاله بأنهم خونة جبناء سفلة.
ولكن هؤلاء الموصوفين بالخيانة وبالجبن هلكوا تحت أسوار معبد سيكوا أو على ضفاف نهر بروث وهم يدافعون دفاع المستميت جيشا يربو عدده على عشرة أمثال عددهم.
وكان كرد علي في فرقة جورج كانتا كوزين الذي يصح أن يقال عنه ما قيل عن أبسلانتي.
وفي الليلة التي حدثت فيها موقعة أسكولانا أستأذن كانتا كوزين السلطات الرسمية، وتخلف عن فرقته منضما إلى جيشنا فبقيت فرقته بغير قائد، ولكن كرد علي وسفيانوس وكانتاجوني وغيرهم لم يكونوا بحاجة إلى قائد.
ولم توصف موقعة أسكولانا على ما يظهر بالوصف الذي تستحقه فتخيل سبعمائة رجل من(1014/55)
الألبان واليونان والبلغار وحثالات كل الأجناس وليس فيهم من يعرف شيئا عن فنون الحرب. . . تخيل هؤلاء أمام خمسة عشر ألف فارس من فرسان الجيش التركي العظيم.
عسكرت هذه الفرقة أمام نهر بروث وأمامها مدفعان قل في الفرقة من يعرف كيف يستعملان. وكان بود الأتراك أن يبدءوا بإطلاق النار ولكنهم في تشبث وعناد أرادوا أن نكون نحن البادئين.
وكان قائدنا بحمد الله لم يسمع قط صوت رصاصة تطلق، فلما بدأ الجيشان بإطلاق الرصاص في الهواء نفر سمعه، ونفد صبره، وتقدم جيشنا متوعدا الجيش التركي بثباته ثم ارتبك فلم يعرف ماذا يفعل. ثم بدا له أن يجري فجرى على شاطئ النهر وجرى وراءه جيشه. وفي أثره كتلة الجيش التركي.
وكان هذا القائد الذي هدد جيش الترك بإصبعه يدعى خوتشفسكي ولا أعرف ماذا صار إليه أمره.
وفي اليوم التالي هاجم الأتراك الثوار وعلى خلاف عادة الترك لم يستعملوا المدافع، بل استعملوا السلاح الأبيض، فكنت ترى الرمح في يد كل جندي. ولم يكن الأتراك قد استعملوا الرماح من قبل. وكانت رماحهم روسية سلبوها من جنودنا في موقعة سابقة. جرح كرد علي في تلك الموقعة، وقتل سفيانوس. وكان كانتا جوني عظيم الجسم فأصابته حربة في بطنه فاستل سيفه بإحدى يديه، وقتل نفسه حتى لا يموت بسلاح العدو.
وبانتهاء هذه الموقعة تم النصر للأتراك. وخلت مولدا فيا من الثوار إلا ستمائة ألباني تشردوا في أنحاء بسار أبيا. ومع أنهم كانوا لا يكادون يحصلون على القوت فإنهم كانوا شاكرين حماية روسيا وكانوا يرون جلوسا في المقاهي الصغيرة في بسار أبيا التركية الروسية وعلى أفواههم أقداح القهوة. وقد أخذت الرثاثة تبدو على أكسيتهم الملونة وأحذيتهم الحمراء. ولكن طرابيشهم المطولة ذات الزر الطويل كانت لا تزال مائلة إلى أحد الجانبين. وكانت الخناجر والمسدسات لا تزال على مناطقهم ولكن أحدا لم يشك فيهم، فقد كان من المحال أن يتصور إنسان أن هؤلاء المساكين بقية من ثوار مولدا فيا زملاء كرد علي وأن كرد علي نفسه كان بينهم.
على أن الباشا التركي علم بهذه الحقيقة وطلب إلى السلطات الروسية عملا بالمعاهدات أن(1014/56)
تسلمهم إليه فاعتقلتهم ولم ينكر كرد علي شخصيته ولم ينكر ماضيه وقال:
(ولكنني منذ عبرت نهر بروث على أثر الموقعة لم أمد يدي على أي إنسان، وقد يكون الأتراك وأهل مولدا فيا محقين في عداوتهم إياي لأني كنت أقطع الطريق عليهم، ولكنني ضيف على الروس فلماذا يسلمونني إلى أعدائي؟)
وبعد هذا القول لزم الصمت وانتظر في هدوء ما تقضي به الأقدار في شأنه. ولم يطل أمد انتظاره فإن السلطات لا تنظر إلى قطاع الطريق نظرة العطف التي يلقيها عليهم الكتاب والشعراء لانصرافهم إلى الجانب الروائي من حياتهم. ومن أجل ذلك سيق كرد علي مكبلا بالحديد فكان يبدو من النظر إلى وجهه أنه ابن الثلاثين. وقد كان طويل القامة عريض الكتفين عظيم القوة عليه علائم الخشونة ونظراته زهو وسكينة.
ودخل غرفته في السجن موظف تركي أحمر الوجه أشيب الشعر يرتدي ثوبا عسكريا قد سقطت منه ثلاثة أزرار. وفي وجهه كتلة حمراء من اللحم مثقوبة تقوم في ذلك الوجه مقام الأنف. وكان في يده أوراق أخذ يتلوها وهو بين حين وحين ينظر إلى كرد علي وهو يصغي إليه باهتمام.
وبعد أن فرغ الموظف من القراءة طوى الأوراق وصاح في خشونة بأن يحمل السجين إلى مدينة جاسا، فالتفت كرد علي إلى الموظف وتمتم في صوت يتهدج، وقد تساقطت من عينيه العبرات وقد تغير شكله تغيرا عظيما؛ وعرته رعشة جعلت لأصفاده وأغلاله رنينا أزعج الموظف فتقهقر ثم صدع السجين بالأمر فاستسلم للجنود الذين حملوه إلى عربة جرت به في الطريق.
قال موظف صغير لذلك الموظف العسكري: (ما الذي قاله لك كرد علي؟) فأجاب وهو يبتسم: (لقد إلي أن أعنى بزوجته وبابنه اللذين يعيشان غير بعيد في مدينة كيليا وهي من قرى بلغاريا فإنه يخشى أن تؤذيهم الجماهير بسببه والجماهير حمقى.
ووصل كرد علي إلى مدينة جاسا فحوكم أمام الباشا فحكم بإعدامه، ولكنه أرجأ موعد التنفيذ إلى يوم عيد. وحجز المحكوم عليه في السجن إلى أن يحين الموعد.
وتولى حراسته في السجن سبعة أتراك هم في صميم أنفسهم لا يختلفون شيئا عن كرد علي لأنهم قطاع طريق مثله. ولذلك كانوا يحترمونه ويصغون في دهشة ولذة إلى ما يقصه(1014/57)
عليهم من الأحاديث.
ونشأت بين السجين وبين حراسه مودة وصداقة. وفي يوم من الأيام قال لهم كرد علي: (أيها الإخوان! إن ساعتي قريبة وليس يستطيع إنسان أن يفر مما قدر عليه، فسأترككم ولكني أريد أن أترك لكم أثرا تذكرونني به)
أرهف الأتراك آذانهم ليسمعوا، واستمر كرد علي يقول: (أيها الإخوان! منذ ثلاثة أعوام كنت من قطاع الطريق في منسر ميخالاكي. ودفنا بالقرب من هذه المدينة آنية مملوءة بالمال. ثم منعتنا ظروف الثورة والحرب عن أن نستردها وسأدلكم عليها فهي لكم)
كاد الأتراك أن يفقدوا وعيهم، وكان السؤال الوحيد الذي يخطر ببال كل منهم هو كيف يستطيع الوصول إلى مكان هذه الآنية. ورأوا أنهم لا يستطيعون ذلك إلا بإرشاد السجين نعسه. فلما أقبل الليل، فكوا الحديد على يديه ورجليه وربطوه بحبل ثم أطلقوه وساروا خلفه خارجين من المدينة.
قادهم من مكان إلى مكان فمشوا مسافة طويلة. وأخيرا وقف أمام صخرة عظيمة وقال: هنا تحت هذه.
وقف الأتراك يتدبرون. لما استقر رأيهم اخرج أربعة منهم الخناجر، وأخذوا يحفرون بها حول الصخرة. وبقى ثلاثة منهم في الحراسة. وجلس كرد علي فوق الصخرة ينظر ويترقب؛ ثم قال بعد مدة: ألم تجدوها؟ فقالوا كلا.
فأظهر أنه فقد صبره وقال: من أي نوع من الناس أنتم؟ حتى حفر الأرض لا تستطيعونه؟ إنني كنت أفرغ من عملكم هذا في دقيقتين. حلوا وثاقي وأعطوني خنجرا.
ففكر الأتراك ثم قالوا؛ أي ضرر في إجابته إلى ما يطلب؟ نحن سبعة. فلنحل وثاقه ولنعطيه خنجرا.
وما أغرب الشعور الذي شعر به عند ذلك! لقد تناول الخنجر وأخذ يحفر. وفي أثناء عمله أغمد الخنجر في صدر أحدهم وتركه في صدره واختطف من منطقة المصاب مسدسين.
وما يزال كرد علي إلى اليوم يقطع الطريق بالقرب من جاسا وقد كتب منذ أيام إلى حاكم المدينة يطلب إليه في مكان عينه خمسة آلاف ليقي، متوعدا بأنه إن لم يرسلها فهو ميت لا محالة.(1014/58)
وقد أرسل إليه هذا المبلغ.
وهذا هو كرد علي.
ع. ق(1014/59)
العدد 1015 - بتاريخ: 15 - 12 - 1952(/)
فرنسا أم الحرية!
للأستاذ سيد قطب
هذه هي فرنسا. . أم الحرية. . كما يقول العبيد الكثيرون المنتشرون في مصر والشرق العربي!
هذه هي فرمسا بلا تزويق ولا دعايات براقة. فرنسا كما تصفها أعمالها، لا كما تصفها الأقلام الخائنة، والألسنة الخادعة، أقلام العبيد، وألسنة العبيد، المنتشرين في مصر والشرق العربي!
هذه هي فرنسا. . عصابة من قطاع الطرق. . عصابة متبربرة متوحشة، تترصد للزعماء السياسيين فتقتلهم غيلة وغدرا، وتمثل بجثثهم في نذالة وخسة. . ثم تقف لتتبجح على ملأٍ من الدنيا كلها، لأن هذه الجرائم مسألة داخلية لا يجوز أن يسألها أحد عنها!
هذه هي فرنسا تقف كاللبؤة، فمها يقطر من دم الزعيم البطل (فرحات حشاد)، والدنيا كلها ترقبها وهي تلغ في الدم ولكنها لا تخجل، لأن فرنسا (الحرة!) قد ضيعت دم الحياء، وهي تلغ في دم الشهداء!
هذه هي فرنسا التي تهجد بذكراها، وسبح بحمدها وصلى، رجال ممن يقال عنهم أو عن بعضهم إنهم من قادة الفكر.
ومنذ قرن وربع قرن؛ وفرنسا تمثل مسرحيتها الوحشية هذه على مسرح الشمال الأفريقي، منذ احتلالها للجزائر في عام 1830. وفي خلال تمثيل هذه المسرحية البشعة كان العبيد ينشدون نشيدهم الدائم باسم فرنسا. فرنسا حامية الحرية.
وفرنسا تكرم هؤلاء العبيد الذين يخدعون شعوبهم، ويخونون أوطانهم، ويخدرون جماهيرهم، ويمسحون عن فم فرنسا القذر آثار الدماء. . ومن العجيب أننا نحن أيضاً كنا نكرمهم كلما كرمتهم فرنسا؛ ونرفع أقدارهم كلما رفعتها فرنسا، وتهيئ لهم المناصب والمراكز، التي تمكنهم من خدمة أمهم فرنسا!
ونبحث اليوم عن هؤلاء العبيد. من قادة الفكر، نبحث عنهم ليقولوا كلمة واحدة عن الجريمة الوحشية الجديدة، فلا نجد لهم أثرا. لا يثور ضمير واحد منهم فيقول كلمة. ولا يرتعش قلب واحد منهم أمام الجثة المشوهة العالم. جثة البطل الذي جبنت فرنسا عن(1015/1)
مواجهته، فقتلته غيلة وغدرا!
إن جريمة فرنسا الجديدة هي جريمة الضمير الغربي كله ففرنسا لا ترتكب جرائمها إلا وهي مسنودة الظهر بالعسكر الغربي. لا ترتكبها إلا وهي تستند إلى إنجلترا إلى وأمريكا.
إن الضمير الغربي كله، بكل ما فيه من وحشية عميقة الجذور.، ليتمثل بوضوح في تلك الجريمة. إنها جريمة الديمقراطية، جريمة (العالم الحر). جريمة الحضارة التي يدعونا العبيد الكثيرون المنتشرون في مصر والشرق الغربي، من قادة الفكر أن نترك عقائدنا وتقاليدنا وتاريخنا وأمجادنا، لتلهث وراءها، كيما نرتقي ونتحضر، ونلحق بركب العالم المتحضر! العالم الذي يقتل الزعماء الوطنيين غيلة وغدرا، ويمثل بجثثهم في نذالة وخسة!
إن هذا الضمير الذي أوحى لفرنسا بأن تقتل الزعيم التونسي وتمثل بجثته، لهو ذات الضمير الذي أوحى إلى الإنجليز أن تلقي بالجرحى من الفدائيين في القتال، إلى الكلاب المتوحشة لتنهشهم وهم بعد أحياء، لا يملكون دفعها عن أجسادهم لأنهم جرحى.
وهو ذاته الضمير الذي شاهدته بعيني في أمريكا. والبيض يتجمعون على شاب زنجي بمفرده، ليضربوه ويركلوه ويدهسوه بكعوب نعالهم حتى يخلطوا عظمه بلحمه، في الطريق العام، والبوليس لا يحضر أبدا إلا بعد إتمام الجريمة وتفرق الجماهير المتوحشة الهائجة كوحوش الغابة.
إنه هو هو ضمير العالم المتحضر. العالم الذي تسبح بحمده أقلام خائنة، وألسنة خادعة. ومن بين هذه الأقلام أقلام قادة الفكر، ونحن ببلاهة منقطعة النظير نصفق للخونة ونهتف للخادعين، ونرفعهم مكانا عليا. . ونهيئ لهم المناصب والمراكز التي يتمكنون بها من تنفيذ جريمة الخداع والخيانة!
ولدينا في مصر والشرق من عبيد فرنسا من يقولون لنا: لا تكتبوا هكذا، لئلا نخسر صداقة فرنسا. ونحن - كمصريين - لا بد أن نلاحظ مصالحنا القومية، وألا نندفع مع حماسة العاطفة!
إلى هؤلاء العبيد أوجه سؤالي: متى كانت فرنسا صديقتنا؟ متى وقفت في صفنا مرة واحدة في التاريخ كله؟ وفي أي مظهر من المظاهر تمثلت لنا صداقة فرنسا؟
فرنسا هي التي قادت الحملات الصليبية على الشرق العربي منذ تسعة قرون، وكانت(1015/2)
جيوشها الصليبية أشد جيوش الصليبين ضراوة وإجراما وفتكا.
وفرنسا هي التي خانت مصر في قناة السويس، فاستغفلت (محمد سعيد) وإلي مصر بطبق من (المكرونة) بواسطة ديلسبس المحتال الذي تحتفظ مصر بتمثاله على مدخل قناة السويس إلى هذه اللحظة. وسرقت ملكية القناة من مصر، وقد أنشأتها في أرضها بمالها وعمالها ونصيبها من الربح، وحقها في الإشراف. وهي تعمل اليوم جاهدة لإتمام سرقة القناة في نهاية مدة الامتياز بوسائل شتى.
وفرنسا هي التي خانت عرابي، ومهدت للاحتلال الإنجليزي؛ ومعركة التل الكبير ما كانت لتقع لولا خيانة ديلسبس لعرابي. وما كانت الجيوش الإنجليزية بقادرة على هزيمة مصر في معارك تقع من الغرب في الدلتا. ولكن الخيانة الفرنسية قد آنت ثمارها وما زلنا نعلك هذه الثمرة المرة حتى يومنا هذا.
وفرنسا هي التي قاومت كل المقاومة إلغاء الامتيازات في مؤتمر مونتريه وعرقلت جهود مصر في إزالة آثارها النهائية. وكانت تعض على هذه الامتيازات بعنف، فلا تدعها تفلت إلا بعد معارك حامية في المؤتمر لا نزال نذكرها.
وفرنسا هي التي وقفت تسند إنجلترا بعنف في مجلس الأمن ضدنا. وكان لسان مندوبها في المجلس هو أقسى الألسنة علينا. وقد تجاوز حد الجدل السياسي إلى الوقاحة والسباب والتهكم. وهذه محاضر مجلس الأمن بخصوص قضية مصر القومية الكبرى تشهد بمدى (صداقة) فرنسا!
وفرنسا هي التي تحارب ثقافتنا وكتبنا وصحافتنا في الشمال الأفريقي كله. ولقد عجز الدكتور طه حسين وهو في وزارة المعارف - وهو أصدق أصدقاء فرنسا - أن يفتتح معهدا لمصر في الجزائر. أو حتى في طنجة التي تحكم دوليا بسبب تعصب صديقته الكبرى فرنسا!
وفرنسا هي التي تحارب جلاء الجيوش الإنجليزية الآن عن مصر، وتكافح كل حركات التحرير - لا في الشرق العربي وحده، بل كذلك في جميع أطراف الدنيا - ومع هذا كله فإن فرنسا هي حامية الحرية الكبرى!
هذه هي صفحة (صداقة فرنسا) فأي سطر فيها هو الذي نخشى أن نشوهه أو أن نطمسه.(1015/3)
ومتى وأين وكيف كانت هذه الصداقة التي نخشى عليها؟!
وبعد فإن الكلمات لم تعد تجدي. . أنه لا بد من إجراء يتخذه كل بلد عربي - بل كل بلد إسلامي - لكفاح فرنسا. وكفاح العالم الاستعماري الذي يسندها.
وأول إجراء في نظري يجب أن يتخذ هو إقصاء المسبحين بحمد هذا العالم من حياتنا الفكرية والشعورية. لأن قوى الاستعمار تسندهم، وتمكن لهم في وظائف الدولة وفي الأسواق ودوائر الأعمال.
إنه لا بد أن نتحرر فكريا وشعوريا من عبادة (العالم الحر). العالم المتحضر، العالم الذي يغتال الزعماء ويمثل بجثثهم في نذالة. والذي يلقي بالجرحى إلى الكلاب المتوحشة لتنهشها. والذي يتجمع كالوحوش الهائجة على شاب ملون فلا يتركه حتى والدماء الغزيرة تتفجر من فمه وأنفه ورأسه.
وحين تتحرر مشاعرنا من عبادة هذا العالم المتعفن. وحين تتجمع أحقادنا المقدسة ضد هذا العالم، حين نمسي ونصبح وهذه الأحقاد المقدسة تغلي في عروقنا. . حينئذ سنعرف كيف نتخلص من العبودية. إن عبودية الضمير هي التي تخضعنا. فلنتحرر منها أولا، ولنخرس كل صوت، ولنكسر كل قلم يحدثنا حديث العبيد، العبيد الكثيرين المنتشرين في مصر والعالم العربي.
سيد قطب(1015/4)
الإسلام دين الفطرة والحرية
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
رحم الله الأستاذ عبد العزيز جاويش فقد أمضى عمره مكافحا دون وطنه ودون دينه. وخرج من الدنيا كما خرج المجاهدون أمثاله من غير نسب ولا جاه ولا مال. وحسبه من مجد الدنيا وزخرفها أن يذكره الناس من بعده بكل خير وجمال ومعروف، وأن يبعثوا إليه في مثواه الأخير بتحيات عاطرة خارجة عن حدود المادة وحدود الضرورة، إنما هي تحية روح إلى روح، جزاء ما قدم للدين والوطن من نفسه وماله ونشاطه.
لم تكن حياة هذا البطل المجاهد سهلة ولا ميسرة، وهو لم يرد أن يقنع في حياته هذه بما ييسر لكثير من الناس، فيرضى به، ويقبل عليه، ولا يرى بأسا في الركون إليه ولو إلى حين، فيكفي نفسه مشقة الجهد والبذل والدءوب. بل أرادها حياة واسعة في مجال واسع، حتى يستشعر لذتها وبهجتها، كلما ضرب هنا وهناك في فجاج الأرض وأقطار المعمورة، وكلما جرد قلمه منافحا عن وطنه الذي ذل تحت أقدام المستعمرين. وكلما سود الصحائف في تبيان أهداف دينه وأغراض الدعوة الإسلامية المباركة.
وما كان الإنجليز ليرضوا عن هذا الوطني الحر والمتدين عميق الإيمان، فطاردوه من مكان إلى مكان. وكانوا وراء كل محاولة لإيذائه أو إعناته أو إخراجه من وطنه مصر. ولذلك لم يكد يستقر به المقام في هذه البلاد. فكان دائما يضطر إلى الاضطراب في بقاع أخرى من العالم، يجاهد فيها في سبيل وطنه ودينه ما أتيحت له الأسباب والوسائل، فإذا ما سنحت فرصة لرجوعه إلى الديار مرة أخرى، رجع غير محس ضجرا ولا خوفا ولا ضعفا، واستأنف جهاده الذي لا ينقطع إن في مصر وإن في غيرها، وعاد إلى التحرير والكتابة في الصحف التي كانت ترحب بما يكتب وتفسح له في صفحاتها مكانا محمودا.
وقد رأس عبد العزيز جاويش تحرير (اللواء) بعد مصطفى كامل، وأخرج مجلة (الهداية) لإفهام المسلمين أسرار القرآن وهو في مصر، ولما أبعد إلى تركيا أعاد إصدار هذه المجلة، وأصدر مجلة (الهلال العثماني) ومجلة (الحق يعلو).
وقد حوكم أكثر من مرة بسبب مقالاته الوطنية اللاذعة في اللواء، كمقاله (دنشواي أخرى في السودان)، وكمقاله (ذكرى دنشواي)، وكمقدمته لكتاب (وطنيتي) الذي وضعه علي(1015/5)
الغاياتي.
واشتغل بعض الوقت بالتعليم. وتولى منصب المفتش الأول للغة العربية. وكان أستاذا للعربية بجامعة أكسفورد. وعين مراقبا عاما للتعليم الأولى وأدخل عليه إصلاحات كثيرة، ووضع أساس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وأعاد إصلاح كلية صلاح الدين بالقدس الشريف وعهد إليه بإدارتها.
وأسهم في جميع التبرعات وإرسال الأسلحة وتهريب القواد الأتراك إلى طرابلس لمقاومة الغزو الإيطالي. وحين أعدت قوة من الجيش التركي في سنة 1915 لتخليص مصر من الاحتلال الإنجليزي اشترك فيها.
وإذا ضاقت به مصر خرج إلى تركية أو ألمانية أو سويسرا وأصدر مجلة (العالم الإسلامي) الوطنية في تركية. وأصدر مجلة في سويسرا ومجلة في ألمانيا.
من هذا ترى أن الرجل كان شعلة من النشاط الدافق. وكان نشاطه منوعا فحينا يكتب في الصحف. وحينا يصدر المجلات بلغات مختلفة. وحينا يجمع التبرعات ويسهم في تحرير الوطن الإسلامي من الغزو الأجنبي. وحينا يصلح برامج التعليم ويشرف على بعض فروعه ونواحيه. وحينا يكتب محررا وطنه صابا لعناته على المستعمرين وأعوانهم. وحينا يكتب مدافعا عن الإسلام شارحا دعوته مبددا للشبهات التي يثيرها أعداؤه. وهو حينا في مصر. وحينا آخر في تركية أو ألمانية أو سويسرا أو إنجلترا وكان يوجه كل هذا النشاط إلى الخير، لا يألوا في ذلك جهدا، ولا يرى بابا إلا طرقه، غير طامع في منصب أو مال أو جاه.
وفي الحق أن الأستاذ عبد العزيز جاويش كان من الأبطال المجاهدين، الذين أخلصوا لله وللوطن من غير أن يعلنوا عن أنفسهم وجهادهم، ومن غير أن يطلبوا على ما فعلوا أجرا ولا جزاء، حتى تخطاهم إلى الظفر والفوز كل مهرج دعي أفاق.
وكتاب (الإسلام دين الفطرة والحرية) الذي ألفه الأستاذ عبد العزيز جاويش يتفق وطبيعة مؤلفه المكافحة. فالمؤلف لم يرض بالذل ولا بالاستعمار ولا بالخنوع، ولم يرض بالقيود التي تعوق الإنسان عن أداء رسالته التي تؤهله لها فطرته، فهب مناديا بالتحرر من الاستعمار والجهل والطواغيت. والكتاب كذلك لم يرض بالظلم الواقع على الإسلام، ولا(1015/6)
بالدعاوى الفارغة التي يتهم بها زورا، ولا بالتقليد الذي حد من قدرة المسلمين وجعلهم آلات من غير وعي ولا إدراك، فكان هو الآخر صوتا ناطقا بما للإسلام من حق مجحود، وبما له من ميزات سامية تحمل الناس في رفق على العدل والإنصاف والحرية والكرامة.
ولكي نفهم قيمة هذا الكتاب، وهو كتاب قيم لا مراء، يجب أن نعرف أن الفترة التي كتب فيها هي الفترة التي كان الاستعمار يطرق بمطرقته الآثمة كل معاقل الحرية والأمان والنور في مصر. كان يحاول أن يشككنا في قدرتنا، وفي اقتصادياتنا، وفي علمنا، وفي ديننا، وفي معنوياتنا التي نستند إليها في الظروف العصيبة والمحن الملمة. وكان هذا، ليخلو له وجه البلد، فيصنع ما يشاء، ويوجهه إلى حيث يريد. وكان يتابعه في ذلك كثير من أبناء الوطن من المسلمين وغيرهم. وكان هو يعتمد على هؤلاء المشايعين له في تحقيق أغراضه وإذلال البلاد وإهانتها، ممثلا ذلك في زعمائها الأحرار، ودينها، وأخلاقها، ومواردها كلها. وفي ذلك الحين شن المستعمرون والمبشرون والمقلدون من المسلمين على الإسلام حربا واسعة. واتهموه بكثير من الاتهامات الباطلة، فألقوا في قلوب المسلمين وعقولهم أن الإسلام لم يعد يصلح أساسا لحياة أمة حرية بالتقدير والاحترام. ولم يكن المسلمون الأكفاء ليرضيهم هذا التجديف فوقفوا له واعترضوا طريقه. وقفوا في وجه الاستعمار، وفي وجه المبشرين، وفي وجه المقلدين من أبناء الإسلام، وفي وجه الجهل بشؤون الدين وشؤون الحياة العامة.
قيل إن الإسلام انتشر بالسيف ولم ينتشر بالحجة والاقتناع، وقيل إن الإسلام أباح للمسلم أن يعمد إلى الطلاق ليتخلص من زوجته دون قيد ولا شرط. وقيل إن الإسلام رضى عن الرق وأباحه. وقيل إن نبي الإسلام لم يكن إنسانا سويا حين تزوج كثيرا من النساء، وحين تزوج امرأة زيد بعد طلاقها. وهذه كلها موضوعات دار حولها البحث، وعرضها كتاب (الإسلام دين الفطرة والحرية) عرضا مفيدا، وأبان عن وجهة الإسلام في هذا كله، وأظهر الناس على حقائق الأمور فيما يتعلق بعدا الإسلام وأنصافه وحكمته ومراعاته صالح الأفراد والجماعات في كل قوانينه وأصوله، فلم يكن دينا إباحيا ولا ظالما ولا قاهر بالسيف ولا غابنا الإنسان حقه وحريته.
وإذا كان للصليبين والاستعماريين عذر فيما يدعون، فإنه لا عذر للمسلمين الذين طمس الجهل والغرور على عيونهم وبصائرهم، والذين يجرون وراء الأوربيين متابعين لهم فيما(1015/7)
يرون من رأي ويصطنعون من مذهب. وقد جدف علماء المسلمين كثيرا في تفسير القرآن، وفي تأويل الحديث، وفي الفهم عن موارد الإسلام النقية، حتى كانوا_من حيث يعلمون أو لا يعلمون_عونا لأعداء الدين، بل كانوا أشد إيذاء له وتكديرا لصفوه، فاتخذت أقوالهم وأعمالهم حجة على الإسلام لا حجة له (إن النقائص التي مثلت بالإسلام في أعين غير أهله، إنما نشأت من اعتبار أعمال الخلف الصالح، ميزانا لتقدير قوانين الشرع ونواميسه، فمن قائل بسد باب الاجتهاد، ومن إمام أو خليفة قضت عليه أغراضه البهيمية أن ينتهك حرمات الله، ثم يحارب الله فينسب إليه ما ليس من دينه في شيء، ومن عالم اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فأفتى بما يطابق أهواء ملك أو أمير تذرعا إلى الزلفى منه، ومن أحمن أرعن لم يرض من اليسر ما رضى الله لعباده فشط بالناس وأعتسف بهم، حتى ضاقت نفوسهم، وأيقنوا بالعجز عن احتمال تكاليف الدين فانقطعوا عنه ظانين بالدين الظنون)
والدعوة الإسلامية دعوة تهذيبية اجتماعية إصلاحية. ولكن كثيرا من المسلمون لم يرموا إلى هذه الغاية في تفسيرهم القرآن الكريم، ففسروه على وجوه مختلفة، لا على هذا الوجه الذي يؤدي إلى غابته الرفيعة. منهم من فسره تفسيرا علميا فلسفيا مستوحيا الحقائق العلمية والنظرات الفلسفية. ومنهم من حشاه بالإسرائيليات التي لا تغني كثيرا ولا قليلا. ومنهم من عنى بالنكات البلاغية والفوائد النحوية. ومنهم من جعل للقرآن ظاهرا وباطنا، فالظاهر للعوام، والباطن للخواص، مع أنه قرآن عربي صريح واضح، ومنهم من أول بعض الآيات تأويلا سيئا يصرفها عن غرضها الذي سيقت له إلى أغراض أخرى ليست من الإسلام في شيء.
هذه الجهود المختلفة في تفسير القرآن، لم تكن على بصيرة من هدف الدعوة الإسلامية، ولم تكن تستقي من منابع الإسلام الصافية، ولذلك ضلت الطريق السوي في خدمة الإسلام والمسلمين ولو أنفق المسلمون جهودهم في الاستنارة البصيرة، والاجتهاد القويم، وشرح أهداف الإسلام كما يرسمها القرآن والحديث، لما كانت هذه الدعاوى المزورة التي يقصد بها الإزراء على الإسلام وعلى نبيه وعلى مبادئه وغاياته.
إن الإسلام يجل الحرية. ذلك لأن أنسامها تنفس عن الصدور والعقول والأفئدة، وترقى بالإنسانية مصعدة في مدراج الكمال، وتضفي على أعمال الإنسان وأقواله وأفكاره وشاح(1015/8)
الشخصية الأصيلة. وقد بسط الأستاذ عبد العزيز جاويش موقف الإسلام من الحرية بسطا رائعا لا يخلو من تعمق وفهم لأسرار الشريعة الغراء. وهو يستدعيك إلى التسليم بما يقول حتى فيما يرى من رأي مخالف لرأي جمهور العلماء. وهذا الخلاف نفسه يجعلك تؤمن بأن الرجل نقي السريرة لا يرى إلا إلى عزة الإسلام والمسلمين.
لم يقصر الإسلام في ذات الحرية، بل دعا إليها، وجعلها أساسا لبناء المجتمعات وصيانة الأفراد، وأنحى على المقلدين باللوم العنيف، وراح يجأر بالدعوة إلى التفكر والتدبر، دون مشايعة لرأي موروث أو فكرة بذاتها، وقرر أن الذين لا يستخدمون أبصارهم ومسامعهم وقلوبهم فيما خلقت له هم كالأنعام بل أضل (ألهم قلوب لا يفقهون بها، أم لهم أعين لا يبصرون بها، أم لهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) وأكثر من هذا أن الإسلام لم ير الإكراه في التعقيد، بل ترك الحرية لكل إنسان يختار من العقائد والمبادئ ما يشاء (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
وإذا كان لا إكراه في الدين، ولا إكراه على أتباع عقيدة معينة، فلم أباح المسلمون قتل المرتد؟ ولم شنوا هذه الحروب في صدر الإيلام على الذين شقوا عصا الطاعة وكفروا بالدين أو ببعض مبادئه؟ وهنا تجد الأستاذ عبد العزيز جاويش يجيب في صراحة تامة أن المرتد نوعان: نوع ارتد عن الإسلام أو بعض مبادئه من غير أن يعلن حربا أو يساند عدوا أو يدل على عورة في الجبهة الإسلامية، وهذا لا يجوز قتله، لأن آيات القرآن الكريم لم تشرع حكما يجوز أن نؤاخذه على أساسه، بل إن الإسلام يرى عدم الإكراه في العقيدة ولا على أتباع فكرة بعينها ولو كان هو هذه العقيدة أو تلك الفكرة. ونوع ارتد عن الدين، وصار حربا عليه، وأعان الكفار على المسلمين، ودل على مواطن الضعف فيهم وهذا يقتل ويحارب، لأن الشرائع المنزلة والوضعية قبل الإسلام وبعده أباحت قتل المحارب واتخذته عدوا. أما الذي حدث على عهد الخليفة أبي بكر، من قتل المرتدين ولو لم يحاربوا، فمرجع ذلك إلى أن الإسلام كان في أول عهده ضعيفا يخشى الانتقاض عليه والإيقاع به، ولذلك قتل كل خارج عليه بعد أن اعتنقه، حتى يأمن على نفسه في أول أمره.(1015/9)
وقد حمل الإسلام الزنادقة على حكم المرتدين. فالزنادقة قتلوا في أول الأمر زمن علي بن أبي طالب، لأن الإسلام كان يخشى الدسائس، وكان يعمل على أن يؤمن حياته وحياة أتباعه في هذه الفترة الأولى من حياته. أما بعد أن آمن، وقوى، واشتد، ولم يعد يخشى المكائد ولا الانتقاض، فلا يجوز أن يقتل الزنديق، كما لا يجوز أن يقتل المرتد، وإن كانا ينصحان ويستتبان أبدا، عملا بمبدأ الحرية الذي أقره الإسلام وحماه ودعاه إليه.
والإسلام لا يخشى العلوم المختلفة ولا المعارف الكونية. وهو الذي وسع فلسفة اليونان وحكمة الهنود ومعارف الفرس. ودفع المسلم إلى استقبال العلم من مشارق الأرض ومغاربها، عن المسلمين وعن غيرهم، لأن العلم الصحيح لا وطن له، ولأن العلم الصحيح من الحقائق الكونية التي لا تبدل، ولأن الحرية أصل كريم في الحياة الإسلامية (لذلك كان شأن القرآن إزاء العلوم، وقد كان من موسوعاتها العلوم العقليات من الرياضية والطبيعيات وما وراء الطبيعة، فهو الذي قام بالدعوة إليها، والترغيب في البحث عن دقائقها وأسرارها، وهو الذي ببركته وجد بين المؤمنين آلاف من أمثال: الكندي، ومحمد بن موسى الخوارزمي، ويحيى ابن أبي منصور، والعباس بن سعيد الجوهري وأحمد بن كثير الفرغاني، وجعفر بن محمد البلخي، ونصير الدين الطوسي، وثابت ابن قرة، وعمر الخيام، وابن سينا، وابن رشد، وأبي الحسن أبن الهيثم، وأشباه هؤلاء من فطاحل العلوم الرياضية والطبيعية والأثقال والموسيقى وغيرها).
لم يكن الإسلام إلا دينا حرا، يرعى العقل ويحترمه، ولا يميل إلى إلزام أحد شيئا. فهو واسع العلوم المختلفة والفلسفات المتباينة، وهو لا يقتل المرتد المسالم ولا الزنديق الذي يهادنه. وهو ندد بالمقلدين ودعا إلى التفكر والتدبر وإلى العلم الصحيح والنظر السليم. وأنت تعلم أن الكفار في أول العهد بالدعوة المحمدية قد طلبوا من النبي - على سبيل التحدي والتعجيز والمشاقة - معجزات كونية، كأن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، وكأن يرقي في السماء ولن يؤمنوا لرقيه حتى ينزل عليه كتاب يشهد بصدقه ورسالته، وكأن يكون له بيت من زخرف وجنات من نخيل وعنب قد فجرت الأنهار خلالها تفجيرا. وأنت تعلم أن النبي لم يجبهم إلى هذا، لأنهم يعجزونه، ولأنهم لن يؤمنوا مهما أتوا من المعجزات، ولأن الإسلام لا يريد أن يكبتهم ويحملهم على اعتناقه والإيمان به، إذ هو دين الحرية والاختيار(1015/10)
الخالص. ولكن كيف يكون ظهور المعجزة إلزاما وحملا للمشركين على الإسلام؟
الحقيقة التي جرت عليها السنة الإلهية في الأمم السابقة، أن الأمة من الأمم إذا طلبت معجزة وحققت لها هذه المعجزة، ولم تؤمن بها وتنزل على مقتضاها، عجل الله لها الخسف والعذاب والإبادة. ومعنى هذا أن الأمة كانت بمنطوق المعجزة ومفهومها تحمل الناس على الإيمان برسالة الرسول الذي ظهرت على يديه، وإلا فالعقاب والإهلاك. أما الإسلام، فلأنه دين الحرية الذي لا إلزام فيه ولا حمل، ولأن المعجزة الكونية التي كان يتبعها الإيمان أو العذاب - فلم يستجب إلى ما طلبه المشركون من هذه المعجزات الكونية، حتى لا يكون ثمة حمل على الإيمان به ولا إلزام للمشركين أن يتبعوه.
هل لنا أن نعرف وجوه الجمال في هذا الدين التي كثر ما أغصينا عنها! وهل لنا أن نعرف المجاهدين الأبرار الذين أنفقوا أعمارهم وحيويتهم في سبيل الدين والوطن! وهل آن أن ترجع الحقوق المهضومة إلى أصحابها فيتسنموا الذروة اللائقة بهم! إن الدين قد أساء إليه أبناؤه المرتزقون، وإن الوطن قد غلي على أمره بفعل المهرجين أدعياء الوطنية، وها نحن أولاء الآن في عهد بوادر الكرامة والعدل والحرية، وما أظن هذا العهد يحرم المخلصين جزاءهم، ويجحدهم فضلهم، بل يرفعهم إلى مكانهم في الخالدين - الأحياء منهم والأموات سواء.
محمود عبد العزيز محرم(1015/11)
من سير الخالدين
حياة المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب)
(المازني)
- 3 -
بداية الشوط
انتهى المازني من مرحلة الدراسة الثانوية. وبقى عليه أن يختار لنفسه الاتجاه الذي يؤثره في المرحلة النهائية. وقد اختار مدرسة الطب، لأنها كانت المجال الذي آثره غير واحد من ذوي قرابته، ولأن (مصروفاتها المدرسية) كانت مما يدخل في طوقه، (. . ولكن ناظرها الدكتور كيتنج رمى لي بأوراقي في الشارع، لأني يوم الكشف الطبي دخلت قاعة التشريع فرأيت جثة منتفخة تفوح منها رائحة نتن خبيث، فدار رأسي وأغمي علي).
وطرق باب مدرسة الحقوق وهي أقرب إلى ملكاته، وكانت نفقاتها كذلك مما يقدر عليه. على أنه لم يكد يتقدم إليها حتى ضوعفت (مصروفاتها) فارتد عنها حائرا لا يعرف إلى أين يصير.
وكان القدر ينسج بعض خيوط هذه الحياة المضطربة، حياة المازني. حين أعلن في ذلك العام افتتاح مدرسة المعلمين العليا. وعرف المازني أن التعليم فيها بالمجان، وأن مدة الدراسة سنتان، بل إنها، فوق ذلك، تمنح تلاميذها مكافآت شهرية يسيرة ولكن لا بأس بها في ذلك الحين. واجتذبت المازني كل هذه المزايا إلى المدرسة، فألقى فيها بنفسه، على كره، بعد أن ردته الطب والحقوق.
وفي مدرسة المعلمين لم تكن مواد الدراسة كثيرة ولا البرامج طويلة، ولا تخصص فيها.
ويقول الأستاذ العقاد (كان الطالب في تلك المدرسة يستعد لتدريس الرياضة والجغرافية أو التاريخ في الوقت الواحد. . فأوحت سليقة الأدب إلى هذا الطالب الجديد على المدرسة أن(1015/12)
يهدي أساتذتها إلى التفرقة بين ملكات العلوم وملكات الآداب، فقد اضرب عن تعليم الرياضة، بل أضرب - كما قال لي - عن فهمها ومذاكرتها. وذهب مع زملائه مرة في زيارة من زيارات التدريب التي تمتحن فيها خبرة المعلم الناشئ بصناعته، فكان زملاؤه يختارون درسا في الحساب أو درسا في الجبر أو درسا في تقويم البلدان، وأبى هو إلا أن يختار لدرسه أبياتا من الشعر العربي، ويشرحها على طريقته ويتكلم عن ناظمها، ويبين في سياق شرحها مزايا الشعر العربي بالقياس إلى أشعار الأمم الأخرى).
واستطاع طلبة الدفعة الأولى بالمدرسة - وكانوا سبعة وعشرين طالبا ليس إلا، أصغرهم سنا صاحبنا المازني - أن يقفوا أوقات فراغهم، في المدرسة، على المطالعة الخاصة. وكانت لهم في الأسبوع ثماني ساعات لا يتلقون فيها أي درس. ووجدوا الحث والتوجيه والتشجيع من الناظر والأساتذة. ويقول المازني عن ناظر المدرسة الإنجليزي لذلك العهد، الدكتور دليني، أنه كان عالما واسع الإطلاع، (فكان إذا رآني أستعير كتابا من مكتبة المدرسة يعدني بأنه يعيرني كتابا من عنده في موضوعه، وينجز وعده، ثم يتركني أياما، حتى إذا لقيني مصادفة في فترة من فترات الاستراحة بين الدروس، أقبل على وراح يحدثني من الكتابين، دون أن يسألني عنهما، أو عما قرأت منهما، ثم يمضي عني. فكان هذا يضطرني إلى العكوف على الكتب وكانت هذه إحدى وسائله لتشجيعنا على القراءة والإطلاع).
ومن المحامد التي تذكر لمدرسة المعلمين، ولناظرها الدكتور دليني على التخصيص، أنه كان أول من ثنى عنان الاهتمام في نفوس تلاميذه نحو طائفة من أدباء الإنجليز ونقادهم من أمثال ماكولي وكارليل وهازلت ولي هنت. فشاعت كتبهم بين ناشئة ذلك الجيل وساعدت على تنوير الأذهان وتحويلها إلى معنى الأدب الصحيح.
ولا ريب أن ما لمسه المازني من هذه الروح قد شحذ فيه موهبته الأدبية، فأقبل على الدرس والقراءة والتحصيل، وحفزه الجو الذي كان يضطرب فيه وتمتلئ بهوائه كلتا رئتيه، إلى المثابرة والتوفر على ثمار القرائح في شتى الآداب. وكان من زملائه في المدرسة من له مثل ميله إلى الأدب والكتابة فاتصل بهم، وعرف منهم في ذلك الحين الطالبين محمد السباعي وعبد الرحمن شكري، وكان كلاهما واسع الاطلاع على الأدبين(1015/13)
العربي والإنجليزي. وقد أخرج شكري الجزء الأول من ديوانه وهو يعد طالب بالسنة الأولى وكان له في الوسط الأدبي ضجة كما كان السباعي يكتب في (الجريدة). . وكان هذا بمثابة الدافع والحافز للمازني، فعالج الكتابة والشعر، وبدأ ينشر في الصحف منذ عام 1907. وتوثقت الصلة بينه وبين شكري، أو كما يقول (فصار أستاذي وهو زميلي، وكان ينقصني التوجيه فتولاه شكري).
ووسع المازني، وهو طالب بعد، أن يقتني الكتب. . (وكان موظفو مكتبة (ديمر) يعرفونني ويأتمنونني لكثرة ما أشتري منهم، وهو في كل شهر فوق الكفاية لشهور. ومع ذلك غافلتهم وسرقت طبعة جيب لروايات شكسبير! وإن كانت عندي مجموعة كاملة منها بشروحها وتفاسيرها!)
وكان كما يقول كثير الغياب عن المدرسة؛ (لأني كنت أسهر إلى الصباح أقرأ وأحاول أن أفهم، ثم أنام فأخلف. فدعاني ناظر المدرسة، المرحوم إسماعيل حسنين باشا - عليه ألف رحمه - وقال لي يا بني إنك (حمار) في العلوم الرياضية، وأنا أخشى عليك الرسوب، ولا ألومك على التخلف ما دام هذا عذرك، فخذ إجازة خمسة عشر يوما، واقرأ ما شئت، ثم واظب بعد ذلك على الحضور).
وظل هذا نهمه بالقراءة المتقصية العميقة وعكوفه على الكتب ومنها الجاف العويص مثل (أصل الأنواع) لدارون. ولم يصرفه تخرجه واشتغاله بالتدريس عما كان فيه.
ويروي المازني أنه اتفق يوما أن كان في مقهى فيما يعرف الآن بميدان الإسماعيلية، (. . وكان معي كتاب الشاعر على مائدة الإفطار لويندل هولمز، وكنت اقرأ فيه. فمر أستاذي في الأدب الإنجليزي، فنهضت لتحيته، فقال لي بعد كلام، لقد أصبحت موظفا وأكبر ظني أنك انصرفت عن القراءة والإطلاع، فأريته الكتاب فربت على كتفي وقال، هذا ما أرجو، أن تظل تقرأ وتقرأ ولا تشبع، وأن تحرص دائما على أن تضيف عقولا على عقلك).
ولعل الإنصاف يقتضينا أن نزيد هنا كلمة حق. فقبل أربعين سنة، لم يكن يتيسر لطلاب الأدب في مصر سبيل القراءة الأدبية كما تتيسر لطلاب اليوم. فقد كانت أمهات الكتب العربية - في الأغلب - لا تزال مخطوطة في دور الكتب العامة أو المكتبات الخاصة، وكان ما طبع منها في مصر أو الشام، على ضآلته، حافلا بالنقص والتشويه والتصحيف.(1015/14)
وقد بلا المازني معاناة هذه الكتب في عهد الطلب، وراض نفسه على الجد والتشدد ومصابرة الجهد في سبيل لوصول إلى غايته وإشباع رغبته.
ونسوق هنا قصته مع كتاب (الأغاني) وكان من أول ما اقتنى من الكتب، وكانت نسخته التي وقعت له من طبعة ناقصة مشحونة بالخطأ والتصحيف في كثير من مواضعها. فعمد إلى أجزائه يفكها (ملازم) وجعل يحملها معه ملزمة ملزمة إلى دار الكتب ويراجع النصوص نصا نصا، وبيتا بيتا، ويدون التصحيح أو التكملات على ورق أبيض أعده لذلك، وصار يلصق الورق المكتوب بين الصفحات المطبوعة، وهكذا إلى آخر الكتاب بأجزائه التي تربو على العشرين.
ومثل ذلك قصته مع ديوان (الشريف الرضي) - والشريف أول من اتجه إليهم المازني وآثرهم بميله من شعراء العربية - فقد وقعت له نسخة من مطبوعة الهند، ويقول المازني أنه لم يسلم فيها بيت واحد من التحريف والتشويه حتى أعياه فهم الديوان وكاد اليأس أن يصرفه عنه. على أنه أقبل عليه يعالج تصحيحه، وقضى في ذلك قرابة عامين، يوفق حينا ويخفق أحيانا. حتى عثر في النهاية على نسخة من طبعة بيروت - وهي أسلم وأصح في مواضع - فاستراح إليها.
أما قصته مع ديوان (ابن الرومي) فهي أعجب. ذلك أن الديوان بقى مخطوطا منسيا يكاد لا يذكره أحد، حتى التفت إليه أساتذة المذهب الجديد. فشرع المازني في نقله عن إحدى نسختيه - وصادف أنها كانت أردأهما خطا وأكثرهما غموضا - ثم عكف عليه سنوات طويلات المدد، يعالجه بالضبط والتصحيح ورد المحرف والمصحف وما أكثره. وأغرى بحفظه حتى كاد أن يأتي عليه.
تلك كانت، في حياة المازني، بداية الشوط وفاتحة الكتاب. . وهي بداية لمتكن تبعث كثيرا على الأمل أو تغرى بالثقة والاطمئنان، فقد كانت في جملتها تجربة قاسية من تلك التجارب التي تمتحن بها معادن الرجال؛ اتسمت، كما رأينا، بالعسر والجهد والكفاح، وزادها وطأة على وطأتها ما كان يحتدم بنفس المازني الشاب من إرادة الحياة وقوة الإحساس بها، وما كان يرد عليها من عواطف ومشاعر لم تكن لتجد سبيلها إلى الاستعلان بله الانطلاق. ولقد كان صبر المازني على هذه لتجربة القاسية وصموده لها إحدى عجائب بنيته المستدقة التي(1015/15)
كانت تزيدها مشقة العمل وبهاظة العبء - في كافة مراحل العمر - فرط جلد ومصابرة واحتمال. . . وكأنما كانت الآلام والأعباء نصيب المازني المقدور في الحياة، وكأنما كان مهيأ لها لطبيعته وتكوينه منذ صباه.
(يتبع)
محمود محمد حمدان(1015/16)
7 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
الأزلام المدنية
لم يكن نظام الاستقسام بالأزلام نظاما موحدا يظله ظل الوثنية، بل كان إلى جانب هذا النظام الديني نظام آخر مدني يلمحه الباحث من ثنايا أخبار العرب
1 - جاء في اللسان تعليقا على قول سراقة: (فأخرجت الأزلام)، قال: (وهي القداح التي كانت في الجاهلية، كان الرجل منهم يضعها في وعاء له فإذا أراد سفرا أو رواحا أو أمرا مهما أدخل يده فأخرج منها زلما، فإن خرج الأمر مضى لشأنه، وإن خرج النهي كف عنه ولم يفعله)
2 - وجاء فيه أيضا: (وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابة، فإذا أراد الاستقسام أخرج أجدهما)
3 - وقال أبو حيان: (وأزلام العرب ثلاثة أنواع: أحدها الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه، في أحدها (افعل) وفي الآخر (لا تفعل)، والثالث غفل، فيجعلها في خريطة، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده في الخريطة منسابة وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي. وإن خرج الغفل أعاد الضرب.
ثم ذكر النوع الثاني، وهي القداح السبعة التي كانت عند (هبل)، والنوع الثالث وهي قداح الميسر.
علة تحريم الاستقسام بالأزلام
أما الاستقسام بها على الوجه الديني المتقدم فلم يختلف العلماء في تحريمه وأنه فسق، لأنهم كانوا يلجئون إلى الأنصاب وبيوت الأصنام، وكانوا يظنون أنها هي التي تخرج لهم في القدح ما يمتثلونه.
قال الزمخشري: (فإن قلت: لم كان استقسام المسافر. . وغيره بالأزلام لتعرف الحال فسقا؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب، وقال: لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، واعتقاد أن إليه طريقا إلى استنباطه. وقوله أمرني ربي(1015/17)
ونهاني ربي افتراء على الله، وما يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم - فقد روى أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم - فأمره ظاهر).
وأما الاستقسام بها على الوجه الآخر الذي لا تدخل فيه الأصنام ولا تستشار الكهان فأمر اختلف فيه العلماء كما اختلفوا في طلب معرفة الغيب بأي وسيلة من الوسائل.
قال الآلوسي: (واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل)
القرعة
بضم القاف، واشتقاقها من القرع بمعنى الضرب. قال ابن فارس: (والإقراع والمقارعة هي المساهمة، سميت بذلك لأنها شيء كأنه ضرب)
والقرعة قديمة عند العرب، ولها طرق شتى:
1 - فعن سعيد بن المسيب أنه كان يأخذ الخواتم فيضعها في كمه، فمن أخرج أولا فهو القارع.
2 - وقال أبو داود: قلت لأبي عبد الله في القرعة: يكتبون رقاعا؟ قال: إن شاءوا رقاعا، وإن شاءوا خواتمهم.
3 - وعن الأثرم، قلت لأبي عبد الله: كيف القرعة؟ فقال: سعيد بن جبير يقول بالخواتيم أقرع بين اثنين في ثوب، فأخرج خاتم هذا وخاتم هذا. قال: ثم يخرجون الخواتيم ثم ترفع إلى رجل فيخرج منها واحدا. قلت لأبي عبد الله: فإن مالكا يقول: تكتب رقاعا وتجعل في طين. قال: وهذا أيضا. وقيل لأبي عبد الله: إن الناس يقولون: القرعة هكذا، يضم الرجل أصابعه الثلاث ثم يفتحها. فأنكرها وقال: ليست هكذا.
4 - وجاء في صحيح البخاري (في حديث الإفك)، عن عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه). قالت عائشة: (فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت معه بعد أن أنزل الحجاب)
5 - وعقد البخاري في صحيحه بابا سماه (باب الاستهام في الأذان)، قال فيه: (ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان، فأقرع بينهم سعد).(1015/18)
قال ابن حجر: (قال الخطابي وغيره: قيل له الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسمائهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج سهمه غلب)
وكان من خبر هذا الأذان الذي حدثت فيه القرعة، ما رواه البيهقي عن ابن شبرمة قال: (تشاجر الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد فأقرع بينهم). وكان المسلمون في الصدر الأول يعدون الأذان أمرا خطيرا يسعون إليه، ويحفظون في ذلك ما واه أبو هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الماس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا، والمراد بالنداء في هذا الحديث هو الأذان.
وروى الطبري في تاريخه حادث هذا الأذان رواية عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق قال: (اقتحمنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أتى الصلاة، وقد أصيب المؤذن، فتشاح الناس في الأذان حتى كادوا أن يجتلدوا بالسيوف، فأقرع سعد بينهم، فخرج سهم رجل فأذن). وسعد هذا هو سعد بن أبي وقاص.
6 - وقال ابن سيرين حين بلغه أن عمر بن عبد العزيز أقرع بين الفطم: (ما كنت أرى هذا إلا من الاستقسام بالأزلام.)
فأنت ترى أن القرعة تمت بسيب إلى الاستقسام والأزلام، ولكنها لا تمت إليه بسبب الحرمة، إلا أن يترتب عليها ضياع حق مشروع، أو تطاول إلى معرفة الغيب وادعائه. أما إذا جعلت وسيلة لفض نزاع، أو تخل عن مسئولية المحاباة والأيثار، أو لاستعلان البراءة عن الميول الشخصية، فلا ريب أنها في تلك الحال تكون أمرا مستحسنا
القرعة في الكتب الدينية القديمة
قد مر من طرق القرعة ما كان من أمر زكريا ويونس عليهما السلام، وكان في الآيتين الكريمتين اللتين وردتا بشأنهما حجة من حجج الأئمة الأربعة في تجويز القرعة بناء على القاعدة تقول: (شرع من قبلنا شرع لنا).
وكانت القرعة عند الإسرائيليين بمثابة استدعاء للأمر الإلهي في القضايا التي تعرض لهم. جاء في سفر الأمثال (16: 33): (القرعة تلقى في الحضن ومن الرب حكمها). وهذه الكلمة تسجل أيضاً صورة من صور مزاولة القرعة التي تلقى بها القرعة في أحضان المتقارعين.(1015/19)
فكان الإسرائيليون يلجئون إلى استفتاء القرعة في كثير من القضايا
1 - منها تبيين المذنب والمخطئ إذا اختلفوا فيه: (فقال شاول: ألقوا بيني وبين يوناثان ابني. فأخذ يوناثان). صموئيل الأول (14: 42).
2 - وتقسيم البلاد المقدسة بين الأسباط: (إنما بالقرعة تقسم الأرض. حسب أسماء أسباط آبائهم. يملكون حسب القرعة. يقسم نصيبهم بين كثير وقليل). العدد (26: 55، 56). وانظر أيضاً سفر يشوع الإصحاحات 13 - 18
3 - وفي مزاولة الواجبات الدينية جاء في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن الكلام على زكريا: (فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله حسب عادة الكهنوت أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر).
4 - واختيار الحيوان للذبيحة المقدسة: (ويلقى هارون على التيسين قرعتين: قرعة للرب وقرعة لعزازيل. ويقرب هارون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة) لا ويين (16: 8 - 9).
وقد استعملها أيضاً (أعداء) الإسرائيليين، جاء في سفر (أستير) أن هامان الوزير أراد أن يهلك اليهود، فكان يصطنع القرعة لكي يعرف الوقت المناسب للفتك بهم في جميع أقطار الأرض: (في الشهر الأول أي شهر نيسان في السنة الثانية عشرة للملك أحشو يروش كانوا يلقون (فورا) أي قرعة أمام هامان من يوم إلى يوم ومن شهر إلى شهر إلى الثاني عشر، أي شهر آذار) وقد استمرت هذه القرعة سنة كاملة. ولكن هامان أخفق في سعيه لدى الملك، وذلك بالجهود المضادة التي بذلها أستير ومردخاي اليهوديان، الذين تمكنا من إحفاظ الملك على وزيره حتى صلبه في اليوم الثالث عشر من شهر آذار، فاتخذ اليهود يومي 14، 15 من هذا الشهر عيدا سموه (عيد الفوريم) جمع (فورا) وهي القرعة التي كان يصطنعها هامان لتعين موعد الإبادة.
واستعملها المسيحيون أيضا:
1 - فبها انتخب متياس: (ثم ألقوا قرعتهم فوقعت القرعة على متياس، فحسب مع الأحد عشر رسولا) أعمال (1: 26)
2 - واقتسمت ثياب المسيح عليه السلام (اقتسموا ثيابه مقترعين عليها) إنجيل متى (27:(1015/20)
35) ومرقس (15: 24) ولوقا (23: 24) والمزامير (22، 18)
للبحث بقية
عبد السلام محمد هارون(1015/21)
دموع البطل!
للأستاذ عمر عودة الخطيب
(شاهدت صورة للرئيس اللواء محمد نجيب يبكي متأثرا حين جاءته أم تحمل طفلها الصغير فوق ذراعيها ومن حولها أبناؤها الثلاثة تشكو له ما تعاني من حزن وما يقاسي أطفالها من بؤس فأوحت إلي بهذا المقال)
لا تموت الدموع إلا في عيون الجلادين القساة، والظالمين العتاة الذين يرتكبون جرائمهم الكافرة من غير أن يخفق لهم قلب أو يثور وجدان، أو يستيقظ ضمير. . . فهم كالوحوش الضارية تعدوا على الفريسة وتمزقها بأنيابها الحادة غير عابئة بالإناث والآهات. . . وهكذا كان الطاغية وأعوانه من السفاحين والإقطاعيين يرون الشعب التعس يكدح في سبيل اللقمة، ثم لا ينال أدنى الغذاء، ولا يظفر بأقل الكساء، ولا يجد ثمن الدواء؛ وهم في لهوهم ومجونهم غارقون، وفي أودية اللذة والضلال هائمون، يرون بأعينهم الأطفال الذين شردهم بغيهم، والصغار الذين يتمهم ظلمهم، والنساء اللواتي ترمن على أيديهم. يرون كل هذا فلا ينبض فيهم عرق بحنان، ولا تجود لهم كف بإحسان، ولا تبض عيونهم الجاحدة المتكبرة بقطرة من دمع، وما يرونه من مشاهد البؤس في الكبار والصغار والشيوخ والنساء يبكي الصخر الأصم. . . ولكنها القلوب التي تتضاءل أمامها الأحجار، ويتعلم الصخر منها دروس القسوة والجمود، (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار. . .)
هذه صورة الأمس المظلم المقيت، الذي ذهب يخزي الطغاة وعارهم، أما اليوم فقد أذن الله الرحمن الرحيم لهذا الشعب الصابر أن يقطف ثمرة الصبر التي أيعنت، وأن يستظل بفيء الحرية التي بسقت وأزهرت، والتي رواها بدمه، وغذاها بتعبه، وصانها بروحه، فخرج من صفوف الشعب القائد النجيب؛ فكان لمصر المنقذ المخلص، والحاكم العادل، والحارس الأمين، والبطل الحبيب، فالتف حوله الشعب المظلوم يشكو إليه ما لقي من عنت وأذى، كما يجتمع الأبناء حول أبيهم يبثونه ما بنفوسهم من جراح وآلام. . . فلم يترفع الرئيس عنهم، ولم يشمخ بأنفه كبرا عليهم، ولم يعتصم بحصن أو يتوارى في قصر، بل مشى بينهم فرحا بهم وفرحين به، يسمع إلى ما يقولون، ويحقق ما يأملون، ويلبي ما يطلبون، باسم الثغر، ثابت العزم، راسخ المبدأ. . . يأتيه المظلوم الصادق فيرفع عنه ظلامته، ويلوذ به(1015/22)
الشيخ العاجز فيخفف من مصابه. . . وتجيئه هذه الأم المحزونة ومن حولها أبناؤها، وعلى وجوههم علائم البؤس، وفي صدورهم لذعة اليتيم، لأن من كان يطعمهم من جوع، ويكسوهم من عري قدمات. . . وتركهم صغارا حيارى يعانون قسوة الأيام، ولوعة الحرمان. . . فيذكر الرئيس البطل أن السماء قد أعدته ليكون أبا لهؤلاء اليتامى ولكل يتيم في مصر فقير. . . فلا يملك قلبه من البكاء، ولا يقوى على حبس الدموع في عينيه!
وكيف لا يبكي؟ وهو الأب الرحيم لهذا الشاب الذي أجاعه ظالموه وأذله حاكموه، وسرق حراسه الأشداء، وروعه طغاته الأقوياء. . . بل أنه ليبكي ويسكب الدموع. . . دموع الحزن العميق والفرح الغامر. . . لأن الله قد اختاره ليمسح ما بالقلوب من أحزان، ويطهر ما بالنفوس من أدران، ويداوي ما تركه الماضي من علل وأسقام. . . وقد أعانه الله فحطم (هبتل) البغي والضلال، وسحق أعوانه وعابديه، فهو يذرف دموع الفرح لما حقق لأمته وبلاده من حياة حرة كريمة. . . فإذا رجع من المعركة الظافرة إلى الشعب رأى ما خلفه فيه المقهورون من مآثم، وما تركوه من مظالم، وشاهد فصولا من البؤس حية لا يقوى على خلقها الخيال. . . فتثور فيه العاطفة الصادقة، ويشيع في أوصاله التأثر العميق، ويخفق قلبه الكبير بالعطف والحنان. . . فيبكي ويذرف الدمع السخين!
رعاك الله أيها البطل
إن هذه الدموع التي تنبع من قلبك الطاهر، وثيقة الرحمة والإخلاص، وبرهان البطولة والإيمان، وهي - لعمري - قصيدة لا يحسنها إلا من وهبه الله قلب ملاك وروح شاعر، ولها في القلوب فعل السحر. . . ويدرك معناها من خبر هذا الضرب من الشعر!
عمر عودة الخطيب(1015/23)
الكتاب ولوازمهم
للأستاذ محمد فرحات عمر
دعاني إلى كتابة هذا المقال أمران طالما أثارا من دهشتي وعجبي:
أولهما ما راعني من التزام أكثر كتابنا بعض عبارات لا يسبغون عنها حولا، ولا يريدون بها بديلا.
وثانيهما مدى دلالة هذه اللوازم على شخصيات ملتزميها، بحيث يمكن أن تكون عنوانا لها ومرشدا عليها، ونبراسا مضيئا يكشف لنا عن أغوارها، وعما يختلج في لواعجها من مشاعر وميول.
وأول ما يصادفنا من هؤلاء الكتاب هو الدكتور طه حسين؛ فمن لوازمه قوله دائما (مهما يكن من شيء) و (ما استطعت إلى ذلك سبيلا)، هذا إلى جانب استعماله للمفعول المطلق استعمالا ظاهرا يثير الانتباه ويدعو إلى الالتفاف! وهذه اللوازم إن كانت جديرة بالاهتمام فهي من حيث أنها عنوان أمين لكيانه النفسي ومسبار صادق لسبر أغوار هذه الميول وتعقب أسباب هذه الأهواء التي ضربت بجذورها في أعماق هذه النفس الكبيرة. فبديا نعلم أن الدكتور طه قد فقد بصره إبان طفولته، فلا غرو أن تولد عن هذا فيما أسماه آدلر بمركب النقص الذي كان حافزا له على اصطناع أسلوب تعويض من شأنه أن يحقق تكامله الشخصي كفرد سوى.
ويجمل بنا كي ينجلي الأمر أمام القارئ أن نأخذ في بسط معنى (المركب) وفي التعريف بمعنى (النقص) بغاية الإيجاز ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. أما المركب فنعني به مجموعة العواطف التي تندس في العقل الكامل فتوحي إلينا باتجاهات خاصة وتملي علينا سلوكا معينا قد يستعصي علينا تعليله ونحار في فهم أسبابه فقال فرويد بمركب أوديب وقال آدلر بمركب النقص معتمدا في هذا على نظريته الغائية في حب السيطرة. . والذي يعنينا هو مركب النقص الذي يتولد عادة في أيام الطفولة حين يشعر الطفل بضعفه إزاء المحيط الخارجي، وقد يطول به الأمد إلى أيام الشباب ولكنه لا يجنح إلى الظهور ولا يحمي وطيسه عند الفرد إلا في حالة نقص طبيعي ظاهر والمصاب به يشعر بقصوره، ومن ثم يدأب على أن يخلق من نقصه كمالا وذلك في نطاق الظروف المواتية والأحوال الموائمة(1015/24)
وعلى قدر الذكاء الموروث. وهذا السلوك التعويضي قد تترتب عليه نتائج بعيدة المدى تدعونا إلى العجب والإعجاب معا. ومن سمات المصاب به أن يكون كثير التهكم على الناس، عابثا بهم، ساخرا منه. ومن شواهدي على ذلك ما نراه من برناردشو وأبي العلاء مثلا. على أن المصاب به قد لا يجحد العبقرية كائنة ما كانت في أي شخص، ولا يفكر بالعظمة حتى يخر لها ساجدا، وكأنه حين يصل القمة في إيمانه بالغير يكون قد وصل الذروة في إيمانه بنفسه. فلقد كان شو على تهكمه اللاذع بالناس، وسخريته المقذعة منهم، شديد الاحترام للنبوغ، فلقد أبدى تواضعا غير معهود فيه حين قابل غاندي وقال له أقدم لك نفسي أنل المهاتما الصغير. كذلك أبدى احتراما فائقا حين جمعته الظروف بأنشتين. وعلى هذا الحال كان أبو العلاء المعري على عبثه بالناس معجبا بالمتنبي إلى حد التقديس!
ومن الإمارات التي تهدينا أيضاً إلى التعرف على شخصية الرجل الذي تنطوي نفسه على هذا المركب تكلفه السلوك وتصنعه له تصنعا ظاهرا يدعو إلى العطف والإشفاق.
والمحلل لشخصية عميد أدبنا العربي يعرف عن كثب مقدار تغلغل هذا المركب في نفسيته، وإلى أي حد كان حافزا له على المثابرة والكفاح حتى تألق نجمه وأصبحت له هذه المكانة المرموقة. فالسخرية من الغير هي مسلاته. . . وعبادة العبقرية أو على الأصح عبادة نفسه بطريق غير مباشر، أطيب الأمور إلى نفسه، فما أظن إعجابه بأبي العلاء وإشادته بذكره وتعصبه له، إلا إعجابا بنفسه وإشادة بذكره. وأنا أذكر على سبيل المثال هذه المناقشة التي قامت بينه وبين أحد نواب الوفد في قاعة البرلمان والتي ختمها الدكتور طه بقوله (إن طه حسين هو اللغة العربية).
ومن ثم فلا غرو أن كان لسان حاله يردد (مهما يكن من شيء) و (ما استطعت إلى ذلك سبيلا) ثم لا يلبث بعد ذلك إلا ريثما يستعمل المفعول المطلق استعمالا ظاهرا كأنه يرمي إلى توكيد ما ردده من قبل. فكل هذه اللوازم تدل على أنه قد طرح عن نفسه كل يأس، وخلع عليها كل فضل فوطدها على العمل وعقد عزمه على الشد من أزرها مهما كانت الظروف والملابسات.
والآن ننتقل إلى كاتب آخر هو الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد. . ولكاتبنا لوازم عديدة يعنينا منها هنا كلمة لا مراء وكلمة (مليحة) يعني أن فلانة جميلة! فبهاتين اللازمتين يمكننا(1015/25)
أن نهتدي إلى (مفتاح) شخصية الكاتب الكبير فبديا الأستاذ العقاد رجل عاطفي إلى أبعد ما يتصور المرء، فإذا صادق تحمس في صداقته إلى حد أن يرفع صديقه إلى مصاف العظماء، وإذا سخط على أحد أو غضب منه أنزله أحط مرتبة وأسفل درك. فكلنا يذكر أيام خروجه على الوفد وأي حملة حملها عليه وأي تجريح وتقريع صبهما على رأس الوفد ورئيسه. هذا مثل حي من عداوته، أما صداقته فأنا أذكر على سبيل المثال رواية طريفة: كنت يوما بمجلسه وتجاذبنا أطراف الحديث في السياسة حتى انتهى بنا المطاف إلى الكلام عن شخصية المرحوم محمود فهمي النقراشي فما كان من الأستاذ إلا أن بادرنا بقوله (إن النقراشي في رأيي لا يقل إطلاقا عن المهاتما غاندي إن لم يزد) لقد قال الأستاذ قولا عظيما لا أظن أحدا يوافقه عليه؛ ولكن هذا هو إذا صادق فطوبى لصديقه، كما أنه لو عادى فويل لعدوه. ومن كانت هذه حاله فهو إنما ينظر إلى قيم الأشياء بوجهة نظر ذاتية لا بوجهة نظر موضوعية فهو يقومها بمقتضى هواه وبحسب ما يشتهي. ومن كان دأبه هذه النظرة فهو رجل شديد الإيمان بنفسه عظيم الاعتداد بشخصه! وعلى ذلك فلا عجب إن لازمت الأستاذ العقاد كلمة مثل (لا مراء) سداها الحسم ولحمتها القطع! بل العجب كل العجب ألا تلازمه مثل هذه (اللازمة).
وليس مما يشبن الرجل أو يقلل من قدره أن يقال عنه أنه معتد بنفسه، فإن هذا لعمري شيمة كل رجل عظيم لم يعرف قدره ولم يلق تكريما من أهل عصره، بل على العكس قد يلقي حسد وجحودا وبهتانا عظيما. فالأستاذ العقاد على الرغم من أنه أكثر كتابنا ثقافة وأوسعهم اطلاعا وأقواهم حجة وأرصنهم عقلا وأنظمهم فكرا ما زال أنصاره قلة وأعداؤه كثرة دون ما سبب سوى الهوى المغرض المستبد بنفوس الكثيرين من الناس.
ثانيا: يبدو الأستاذ في كثير من الأحايين متمسكا بالتقاليد الموروثة متعصبا لها، أو بالأحرى فيه حنين دائم إلى الماضي، فما زالت بعض تعاليم التربية التي تلقاها في فجر حياته تتحكم في كثير من تصرفاته وفي تحديد طرائق تفكيره، فهو مثلا لا يوافق على مساواة المرأة بالرجل على النحو الذي ينادي به كثير من أنصارها الآن، وله أدلة على ما ذهب إليه عديدة، بعضها فسيولوجي وبعضها سيكولوجي وبعضها الآخر سوسي ولوجي. . وسواء قويت هذه الأدلة أم وهنت، فإن هذا لا يعنينا في شيء؛ إنما الذي يعنينا هو اتجاه الرأي في(1015/26)
ذاته. وزد على هذا أن للأستاذ زيا تقليديا خاصا لا يكاد يتأثر بموجات (المودة) وتياراتها فهو لا يبغي عنه حولا ولا يريد به بديلا. ثم فضلا عن هذا كله فإن ما نراه تغلغل العاطفة الدينية في شخصه تغلغلا لم تزلزله كثرة قراءاته لأفكار الغربيين والتي لولاها لما أخرج لنا كتابه عن الفلسفة القرآنية وسلسلة العبقريات والديمقراطيات في الإسلام. . . أقول إن ما نراه من تغلغل العاطفة الدينية فيه إلى هذا الحد لينهض دليلا كافيا على أنه ما زال متأثرا بملابسات بيئته الأولى. وإذا كان ذلك كذلك وكان الأستاذ العقاد ما زال متأثرا بملابسات بيئته الأولى، فلا عجب أن تظل على لسانه بعض الكلمات التي تتميز بها اللهجة الصعيدية، ولا غرو أن يمتد هذا إلى لغة الكتابة. ومن ثم فإن كلمة فلانة (مليحة) التي رددها مرارا على الأخص في قصة سارة هي لازمة لها مغزاها، ولا يمكن أن تمر على القارئ دون أن تثير انتباهه وتدعوه إلى الالتفات.
بعد هذا يصادفنا المرحوم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني فقد كانت له - رحمه الله - لازمة هي أصدق ما تكون وصفا له ولفلسفته، ألا وهي بسيط ومشتقاتها، فيقول (هذا أمر بسيط) و (أمور بسيطة) (والرد عليه غاية في البساطة) وعلى الرغم من أن هذه الكلمة لا تؤدي المعنى المراد لغويا وإنما هي ترجمة غير دقيقة لكلمة فقد لاقت هوى في نفس كاتبنا، وربما كان هذا لأن الأستاذ المازني كان رجلا بسيطا في نفسه بعيدا عن التعقيد الذي انطوت عليه نفوس أهل زماننا، وربما كان هذا أيضاً لأن الأستاذ المازني كان ينظر إلى الحياة ببساطة منقطعة النظير. أذكر له مقالا كتبه في أخبار اليوم جاء فيه ما معناه: إن الصحافة ليست هي باب رزقه الوحيد فإنه في مقدوره أن ينقطع عنها غير نادم ويعتزلها غير آسف فإنه يملك سيارة يستطيع في يوم وليلة أن تصير (تكسي) كما أنه يستطيع أن يفتتح حانوتا للمرطبات وهو ضمين بأنه سيكسب من الكوكا كولا وحدها قدر ما يقتضيه من صاحبة الجلالة الصحافة. إن فكرة هذا المقال تدلنا على أنه كان ينظر إلى الدنيا على أنها يسر في أحرج مواقفها، وأشد أزماتها. وكذلك كان رحمة الله بسيطا في حياته الفكرية، فأبغض شيء عنده هو قراءة الفلسفة كما صرح بهذا في كتابه قبض الريح، وقال ما معناه أنه لا يفهمها ولا يهضمها ولا يرى طائلا ما تحتها. ثم لقد كان أسلوبه نموذجا للسهل الممتنع، كنت أقرأ له فيهيأ لي لأول وهلة أني بصدد كلام دارج، ولكني لا ألبث إلا أن(1015/27)
أرجع عن ضني وأقول في نفسي ويحك يا فلان لقد ظلمت الرجل. . . والواقع ما ظلمت إلا نفسي. . .
إن المازني كان بسيطا، في جميع وجوه حياته، ولقد كانت هذه اللازمة هي أصدق ما تكون وصفا له ولفلسفته، رحمة الله لقد كان عظيما في بساطته.
يقابلنا بعد هذا كاتب له طابعه الفكري الخاص هو الأستاذ سلامة موسى وثقافة كاتبنا تكاد تكون غربية بحتة وهو يرى أن مهمته الكتابية تنصب على صبع الفكر الشرقي بالروح الغربية، وهو كثير التنبيه إلى هذا! ولذا كانت عبارته المأثورة التي يلتزمها وهي (مما هو ذو مغزى) خير ما تعبر عن التنبيه إلى نياته وما استقرت عليه أفكاره. إن الأستاذ صاحب رسالة يرنو إلى تحقيقها، أنه يرى وجوب هجر التراث العربي والأخذ بتلابيب الثقافة الأوربية وحدها. هذا هو مغزى كل كتاباته على اختلافها؛ وهو يريد من القراء الالتفاف إلى هذا المغزى. . فلا مناص إذن من التنبيه بعبارته التقليدية كلما اقتضت الحاجة ذلك.
هذه لوازم بعض كتابنا الكبار، ولقد شاهدنا مما سبق كيف أن هذه اللوازم لم يكن وجودها اتفاقا وصدفة، بل هي ترجع إلى أساس مكين في نفوس أصحابها. . . حقا إن الأسلوب هو الشخصية. . . أو قل إن اللوازم من الشخصية.
محمد فرحات عمر(1015/28)
من الشعراء والأدباء الشباب في العراق
كاظم جواد
للأستاذ خالص عزمي
في مطلع عام 1928 ولد شاعرنا من أب عربي ينحدر من قبيلة عربية تسمى (آل عارض) تقطن المنطقة الجنوبية من العراق في أطراف مدينة السماوة، وقد أبلت البلاء الحسن في الثورة العراقية الكبرى عام 1920: ولد شاعرنا في تلك المنطقة التي تكثر فيها المياه وتحيط بها المزروعات من كل مكان، وجعلت فيها قدرة الله ألوانا من البديع والجمال الأخاذ. فشب وهو يحب الجمال وترعرع وهو ينظر إلى الطبيعة الفاتنة نظرة البشر والبهجة فانطبقت هذه الصورة في مخيلته حتى تأثر بها كل التأثر في قصائده ومقتطفاته.
وفي جو تسوده التقاليد القبلية والعادات العربية العريقة نما ونمت معه العزة، والكرامة والصراحة، وطيبة القلب، والخلق القويم، لم يعرف المداجاة، ولم يمارس النفاق فشب وهو كامل الرجولة يتمتع بالمزايا النادرة التي يجب أن يتمتع بها كل رجل.
وفي نفس ذلك الجنوب الهادئ الوديع، القوي الجبار راح شاعرنا يتلقى علومه الأولية فدخل المدارس الابتدائية ثم المتوسطة والثانوية، ثم نزح بعدها إلى مدينة العلم والمعرفة (بغداد) حيث راح يكمل دراسته العالية، فدخل كلية الحقوق العراقية وفي خلال أوقات فراغه كان يقبل على مختلف العلوم والفنون ينهل منها ما شاء الله له أن ينهل، ولم يكتف بكل ما قرأ ودرس وتعلم بل دخل مدرسة دينية مسائية الدروس قرأ فيها أصول الفقه وفلسفة الدين وألفية (ابن مالك) و (البديع) و (البيان) و (أصول النحو) و (العروض). . . الخ من الكتب الدقيقة. وبقي على حاله تلك حتى تخرج في كلية الحقوق هذا العام وحصل على (الليسانس).
وكان خلال فترة دراسته يتابع نشر قصائده في مختلف الصحف العراقية والعربية وكانت مجلة (الثقافة) الغراء الميدان الواسع لشاعرية كاظم، فقد نشر فيها أغلب قصائده وأروع مقتطفاته التي كتبت له مجد الشباب الواعي.
كنت أجلس إليه ذات مرة وهو شارد الفكر فوجدت الفرصة سانحة لكي أوجه له بعض الأسئلة التي كنت أود معرفتها منه.(1015/29)
فقلت: - ما هي أول قصيدة لكم. قال: (لقاء). قلت ألا تود أن تسمعني منها شيئا: فأنشد يقول وأنا أسجل بعض أبياتها
أطلت كوكبا وضاء يسمو فوق آفاقي
دنت كالعابد الهيمان من محراب أشواقي
أطلت بسمة سكري على مرآة إطراقي
كئيب ظامئ للحب تذكو نار أعماقي
منى نفسي، سجين الأمس هل حطمت أطواقي
بلا ماض، أريد العمر يحلو بعد إخفاقي
حياتي بعدما نثرت رياح الغدر أوراقي
ربيع سال من عينيك واستلقي بإحداقي
وقفت أمامها خجلا وطرفي حائر شحب
وأنفاسي مولولة على شفتي تصطخب
فؤادي كاد من لهف إلى أحضانها يثب
جريحا والهوى جرح بعيد الغور منشعب
سفحت الآه فانتقضت تسائل هل لها سبب
أخاف، أخاف من أمل إذا ما بحت يحتجب.
قلت بمن تأثرت من الشعراء: قال تأثرت كثيرا (بالمتنبي) من الشعراء الأقدميين و (بأبي ريشة) من الشعراء المحدثين. قلت ومن الأدباء. قال (بأبي حيان التوحيدي) من القدامى، وبجبران. وطه حسين. والزيات. ونعيمة. وزكي نجيب محمود. من المحدثين.
قلت: هل لك ديوان مطبوع. قال إلى الآن لم أطبعه وإن كان قد جهز للطبع حاليا وأسميته (من أغاني الحرية) وهو مجموع القصائد والمقتطفات الشعرية التي قلتها في مناسبات كثيرة وأغلبها منشور في الصحف العربية. وتلك القصائد تدور في موضوعين: منها في الجمال والوجدان والحب. ومنها في القومية العربية والوطنيات، وقد تأثرت جدا بالحركة المصرية الأخيرة فقدمت للعالم العربي تسعة قصائد في وصف شعوري نحو إخواننا المصريين وهم يكافحون كفاح الأبطال لنيل الحرية وإليك بعض ما قلت في قصيدتي(1015/30)
(اعزفي يا رياح).
مات ضوء النهار وأحلو لك الأفق المدمي بحشرجات ذكاء
شرق الليل بالجراح وغصت ربوات (للقنال) بالشهداء
ومجاري الدماء أذكى محانيها عناق الأشلاء للأشلاء
فإذا (النيل) والضحايا حواليه صلاة مسحورة الأصداء
إلى أن يقول:
اعزفي يا رياح ما أحقر العمر إذا آلا غمغمات رثاء
اعزفي فالظلام ولي ولكن أين فجر البطولة السمحاء
أين قيثارة الحياة يموج الوعي فيها مزمجر الأصداء
أين من ومأة الصباح أراجيز كفاح صخابة الأجواء
فوراء المدى، وإن زحف الفجر بقايا غمامة دكناء
ها لها، ها لها، شموخ أمانينا على كل ذروة شماء
فعدت بغيها الأثيم فيا مصر أخرسيها (بوحدة وجلاء)
وإليك في قصيدتي (المصري الجديد):
طلعت على دجى الطاغي صبوحا ... يبارك فجرك الوطن الجريحا
دعاك لمجده فنهضت تعلو ... كفرخ النسر تحتقر السفوحا
وفي شفتيك تصطخب الأغاني ... يجن إلى الكفاح هوى جموحا
نداء ما وعاه النيل حتى ... كساه الموج من لهب مسوحا
إلى أن يقول:
إذا (السودان) كان لمصر روحا ... فقد كانت له مذ كان روحا
قرأت ما أنشدني (الجواد) مرة وأخرى ثم قرأت ما سجل في ديوانه في باب الوطنيات فوجدتني أمام شاعر يتدفق وطنية تهزه الأعمال الخوالد في ميدان الكفاح فينشد وينشد حتى يكل منه النفس، هذا الشاعر الشاب سبق عصره كثيرا، فقدم للعالم العربي قصائد في الوطنية والوجدان ما لم يقدمه شاعر في هذه الأيام! لنقرأ للقارئ الكريم هذا المقطع الرائع من ملحمته الكبرى التي تقع في ألف بيت من الشعر وهو يصف فيها مصرع البطل(1015/31)
العربي الشهيد (عبد القادر الحسيني) في معركة القسطل في الحرب الفلسطينية الأخيرة إذ يقول منها في وصف سقوط (الحسيني) مضرجا بدمائه على الرمال الدكناء، فيمثله أروع تمثيل ويقدم للقارئ بذلك صورة مجلوة المعاني زاخرة بالعواطف تدل على تمكن الشاعر من دقة التعبير، قال في المقطع الرابع:
من ترى ذلك المطل؟ أفجر، أم شهاب على أديم صاح
يتملى الأجيال ملحمة حمراء كالنور في الضحى. . . الوضاح
حملته عرائس الوحي للنجم شهيدا على أعف جناح
بعده، بعده، ترنحت الأرض وضجت حناجر، في الساح
تزفر الرعد فالجوانب أصداء تخطت. . . على أنين الجراح
كوثوب الأمواج، والبحر داو صفعت جبهة الخطوب الطلاح
تنحر البغي فالرنين المدمي. كالأعاصير هائج في النواحي
يا شهيداً على الرمال تسجى. . . أدمعت بعده جفون الكفاح
يا شهيداً كأنه الشفق المخضوب ينساب في أصيل الجراح
يا شهيداً نأى وخلف للثوار جرحا في مأتم الأرواح
مأتم الذكريات والفارس المعلم في السوح كالضياء الصراح
كانفلاق الشروق. كاللهب الثائر. كالجمر. كالدم النضاح
صبغ الأفق بالسناء وبالوهج ودمي هياكل الأشباح
فإذا الليل في جوائله السود عروس تؤج كالمصباح
تنثر الضوء يابسا فعليها. . . جمدت دمعة العلي المستباح
هذا هو المقطع الرائع من القصيدة الدامية التي خرجت من القلب وكتبها العقل وسجلتها للخلود العاطفة، نعم هذا مقطع من تلك القصيدة التي أحدثت ضجة كبرى في ميدان الأدب العراقي عندما نشرها الأستاذ (كاظم) في جريدة اليقظة البغدادية وقد عدها بعضهم بأنها الوسام الخالد الذي علقه الشاعر على صور البطل (الحسيني).
في هذه القصيدة بالذات لمس (القارئ الكريم) انبعاثات روحية علوية وانطلاقات شعورية وصورا رفيعة النفس عميقة لفكرة صورت في روح متألمة حزينة.(1015/32)
ثم هنا نقدم للشاعر صورة أخرى هزت عاطفته حينا كثيرا فجعلت منه شاعر الحب والجمال - كما يسمونه في بغداد - نقدم هذه الصورة وهي ملونة بلون الإحساس الرهيف والإخلاص العميق. هذه الصورة هي بعض الأبيات في قصيدته العاطفية ندرجها للقارئ: -
عبرت على دربي خطاها ... وتناولت قلبي يداها
في الليل في بيداء وهني ... في صحاري العمر تاها
في هوة اليأس البهيم وعي من الدنيا أذاها
طلعت فشب به الشباب ... وأج في دمه لظاها
عزراء سلت من مآقي النور ... فأتلقت مناها
يكسو محياها العفاف ... أشعة ورؤى وجاها
وكنجمة الليل الوليد ... هفا على أفقي ضياها
منحته كالطفل اليتيم ... حنانها وحبته فاها
قد أرضعته هوى الحياة ... فراح لا يهوى سواها
يا طالما أهوى تلاوين ... البكور شذى سناها
وروى إلى الأطيار ... أغنية مجنحة لغاها
وأذاب في الأوتار ... أحلام العرائس في صباها
هو بسمة الحب البريء ... يضيء في شفتي رؤاها
حتى إذا بالأمس أجنحة الهوى بلغت ذراها
رزئته بالذهب الحقير ... وماله إلا جواها
فهوى على السفح الجديب ... مني تضرجها دماها
فكأنه لم يملك الدنيا ... إذا وهبت رضاها
واضيعة الأمل الشرود ... إذا رنا فسفحت آها
خفتت شمع الذكريات ... وجف في عيني ضحاها
ستظل ترقبني مع الناي المكسر مقلتاها
وهناك في وادي الدموع ... لعل آلامي تراها(1015/33)
هيهات لن أنسى هواها ... السمح لن أنسى هواها
والقصيدة طويلة النفس فيها من التعابير الوجدانية أسماها، فيها من العاطفة الزاخرة بالإخلاص والحب والتفاني أروعها.
والأستاذ الجواد: بعد كل هذا: فنان يلمس الحياة بما ألهمه الله القدير من فكر ثاقب وعقيلة طموحة عالمة، تدفع صاحبها إلى أرفع مكانة.
ولعل الكثيرين من الشعراء يعرفون أن (الجواد) شاب خلق من نفسه إنسانا يعرف معاني الحياة، ويقيس الناس بمقاييس العقل الواعي، ولعلهم يعرفون في شاعرنا أنه قومي من الطراز الأول يتفانى في سبيل عروبته إلى أقصى مدى وهذا ما جعله محبوبا من جماعته محترما منهم يقدرونه كل التقدير.
وأخيرا نود أن نقدم (للقارئ) بعض نماذج من شعره الوجداني، والوطني، والإخوان الذي أمتاز كثيرا:
من ملحمة العربي التائه وتقع في ألف بيت من الشعر: -
حشرجات الكئيب. . . يا آهة الفن، ويا حسرة شجت بذمائه
رب جرح تناهشته كروب ... تنقذ الشعب قطرة من دمائه
أيها الشاعر اللهيف إلى النور بزوغا، فالصبح من سجرائه
شعبك الأخرس الشقي ذليل ... سارد في ضلاله وعمائه
كافر يلعن الحياة ويبقى ... مستكينا لذله واصطلائه
عابس يحصد السنين شقاء ... ويماري الأساة عن أدوائه
يتمشى الغناء في جسمه الناحل، والموت صار من أسمائه
يا نشيداً في حومة المجد يرقي ... مشمخرا على ذرى عليائه
يا نشيداً بدونه شرف الشعب مهان يذوق سم شقائه
يا نشيداً كأنه نغم الخلد ... تهاوى إلى رؤى عذرائه
فكرت أنت كالطلاسم ظلت ... فهي سر الإله في أنبيائه
وفي قصيدة له عنوانها (الهارب) نقدم هذه الأبيات التي فيها انطلاقات روحية فلسفية تدل على الفترة التي انغمر فيها شاعرنا في كتب الدين والفلسفة ينهل منها كثيرا يقول في تلك(1015/34)
القصيدة:
عذراء، إني ذاهب فاهدئي ... هل نحن إلا من صدى حكمته
الله لا أنت، ولا من عتا ... ولا أنا ننال من قدرته
كل على الأرض إلى غاية ... وننتهي، تسمو على خلقته
الليل لن يفتح أبوابه ... لو لم يطل الفجر من كوته
سبحانه، سبحان ذاك الذي ... فجر نبع الحب من جنته
نشرب منه الأمل المشتهى ... ونأكل الزقوم من سدرته
لا كان عهد الحب إن لم تكن ... عين النوى ترعاك في غيبته
هذا هو (كاظم جواد) شاعر الحب والجمال، الشاب الذي أحرق من أعصابه بخورا في سبيل عقيدته وأهدافه في الحياة.
بغداد: الأعظمية
خالص عزمي(1015/35)
في موكب النهضة
كتابان
للأستاذ علي العماري
يخطئ الذين يظنون أن الحياة المصرية تحتاج إلى التجديد من ناحيتيها السياسية والاجتماعية فحسب، ويرون أن الجمود والتأخر والبطء كانت تلازم هاتين الناحيتين، ولا غير؛ فالحق الذي لا سبيل إلى المراء فيه أن الحياة المصرية أصابها الركود والجمود في كل نواحيها، وإن كانت نسبة هذا الجمود وهذا الركود في ناحية أقوى وأظهر منها في أخرى، ولذلك فإن النهضة والبعث والتجديد يجب أن تمس كل نواحي الحياة مسا رفيق أو عنيفا على حسب ما تحتمله طاقة الأمة.
وإلا فهل في مصر وفي العالم العربي من الفاقهين المخلصين لدينهم ولغتهم من يجهل مدى الجمود الذي يسيطر على الدراسات العربية والشرعية؟
فكما أننا كنا في حاجة ماسة إلى من يجدد لنا حياتنا السياسية، وحياتنا الاجتماعية، كذلك نحن في أمس الحاجة إلى من يجدد لنا حياتنا العلمية، وبخاصة في الناحيتين اللغوية والشرعية.
والذين لا يتعبدون بدراسة الكتب القديمة، ولا يعتقدون أن الله جعل علم اللغة وعلم الشريعة وقفا على الأقدمين، ويؤمنون أشد الإيمان بأن أتفه كلمة في العربية هذه التي يتناقلها الخلف عن السلف: (ما ترك الأول للآخر شيئا) هؤلاء يعتقدون أن حاجتنا إلى تجديد هذه الدراسات، وصوغها صياغة جديدة لا تقل - في ميزان النهضة - عن حاجتنا إلى تجديد سياسة الأمة وحالتها الاجتماعية.
وقد يطول الحديث ويتشعب لو أخذت أبين ما في هذه الدراسات من جمود، ولو بالإشارة العابرة، فلذلك سأقصر حديثي عن الدراسات العربية، بل عن كتابين اثنين من هذه الكتب العربية التي نتعبد بدراستها في مصر وفي غير مصر من الأقطار العربية. وكم كنت أن لم ييسر الله لصاحبي هذين الكتابين في تأليفهما، فإن الخطر الذي دخل على العربية منهما لا يقل عن الخطر الذي أصاب الحياة المصرية من تحكم رجال الإقطاع والطبقة الحاكمة.
أما أول هذين الكتابين فألفية ابن مالك. أقول هذا وأنا على يقين من أن آلافا من الناس(1015/36)
سيفتحون أفواههم وستجحظ عيونهم تعجبا، ودهشة، ولكن الذي يؤثر الحق لا يبالي.
وضع ابن مالك ألفيته في النحو في القرن السابع الهجري، ومنذ ذلك التاريخ وعلماء النحو يتخذون هذه الألفية كعبة يطوفون حولها، يضعون لها الشروح، ويضعون على الشروح الحواشي، وبعضهم يؤلف في إعراب الألفية، وأكثر هذه الكتب وضع في عصر الضعف الأدبي، ففيها ما شئت من تعقيد والتواء، ومن تعليلات تافهة لا تستند إلى منطق معقول. وقد أضر عكوف العلماء بهذه الصورة على هذا لكتاب، فوقف الاجتهاد في النحو، وأصبحت غاية المتعلمين أن يفهموا تلك العبارات الملتوية، وأن يحسنوا الجدل في تخريجها وتصحيحها. وربما كان هذا معقولا ومقبولا في تلك العصور التي ركدت فيها ريح العلم، وعمها الانحطاط في كل نواحيها، ولكنه غير معقول ولا مقبول في هذا العصر الذي يمتاز بالسرعة، ويتطلب المحافظة على الوقت ويضيق به أن يضيع في فهم عبارات لا جدوى من فهمها - إن فهمت - وكم تكون الكارثة أطم لو ضللتنا على هذه الحال مع هذه النهضة المباركة، فنحن نقف والقافلة تسير، وويل للمتخلف.
لا تزال الآثار التي يوحي بها تقديس هذه الكتب مسيطرة على أفكارنا وعلى آرائنا وعلى تقديراتنا وعلى مناهجنا، فنحن نجيز الطالب ونمنحه شهادة دراسية يكافح بها في الحياة لأنه حفظ شرح ابن عقيل، أو شرح الأشموني على الألفية. ونحن نشيد بعلم العالم لأنه لا تغيب عنه كبيرة ولا صغيرة من هذا الكتاب أو ذاك، ونحن نسأل عن فلان فيقال لنا أنه عالم جليل، ونسأل عن علمه الجليل فيقال لنا أنه أقدر الناس على فهم الكتب الأزهرية، وتخريج عباراتها، وتعجب أشد العجب حين تذهب إلى هذا العالم الجليل فلا يختلف في نظرك عن الكتاب الأصم في شيء، فأنت تستطيع أن تستغني بالكتاب عن ملاقاته والاستماع إليه، تسأله فيدلك على موضع الجواب من الكتاب، فإذا تخلل الجواب بيت من الشعر، أو حكمة مأثورة لم يزد في تعريفك بهما على موضع الشاهد منهما، أما المعنى الأدبي للبيت أو للحكمة، فيشرحه لك شرحا عاميا كما لو سألت جاهلا لم يطلع على شيء من كتب النحو.
وهذه الأمثلة السخيفة التي تطالعك في كل صفحة، وتؤذي سمعك وإحساسك في كل حين، هي هي منذ أن وضع النحو واضعوه! أما الشواهد فهي في الأغلب الأعم من الشعر(1015/37)
الركيك المتهافت، وقد ورط القدماء في هذا ما كانوا يعتقدونه خطأ من قولهم (البحث في المثال ليس من دأب المحققين).
ولو كنا - حقا - نريد أن نساير النهضة، لطرحنا هذه المؤلفات جانبا، وكتبنا النحو العربي من جديد، وكتبناه بأسلوب واضح أدبي، ولتركنا الأمثلة جملة وتفصيل، واعتمدنا على الشواهد الفصيحة من القرآن والحديث، والشعر والنثر، وليس من المنطق السليم أن نعهد بهذا التجديد إلى أولئك الذين تحجرت عقولهم على القديم، وأصبحوا لا يؤمنون إلا به، لأنهم لا يحسنون غيره، وهذه الحكمة البسيطة الساذجة هي التي تهدينا في هذا السبيل (إنك لن تجني من الشوك العنب). بل يجب أن نعهد بهذا العمل إلى العلماء الأدباء الذين تعمقوا في دراسة النحو العربي ولهم مع ذلك ذوق أدبي جميل، فهؤلاء هم ضالتنا.
أما ثاني الكتابين، فهو (تلخيص) المفتاح للخطيب القزوبني، وما قلته عن ألفية ابن مالك هو نفسه الذي يقال عن التلخيص، مع فارق واحد، هو أن الأمر مع هذا التلخيص أدهى أمر، ذلك أنه في علوم البلاغة، وهذه العلوم أمس بالبيان العربي من علم النحو، فربما لا يروعنا أن نجد العلماء والمتعلمين في النحو لا يتذوقون الأساليب البيانية العالية، ولا يحسنون أن يأتوا بشيء منها قل أو كثر، ولكنه يؤسفنا أشد الأسف أن نجد الدارسين للبلاغة أبعد الناس عن تذوق البليغ من القول.
والتلخيص كالألفية منذ وضع وهو قطب رحا البلاغة، يدور حوله، وتستهدي بضوئه مع ما في شروحه الكثيرة من خلط وخبط، وضعف وتفكك، فهي مملوءة بالمباحث الكلامية، والمباحث المنطقية، والمباحث الفلسفية، ونصيب الذوق الأدبي منها أقل من القليل.
ومع ذلك فهي التي يعتمد عليها دارسو البلاغة العربية جل الاعتماد، وما ظهر من الكتب الحديثة ليس إلا صورة من تلك الكتب، وإن زادت عليها شيئا من الشواهد والتمارين، لكن الطريقة القديمة والأمثلة القديمة والشواهد القديمة هي هي، ومن عجيب الأمر أن بعض الشراح القدماء يعيبون بعض هذا المنهج، ولكنهم يسلكونه، وأشد من ذلك عجبا أن يسلكه المحدثون. هذا سعد الدين التفتازاني، وهو صاحب القدح المعلى في الكتابة عن التلخيص، وأبيه (المفتاح) يقول عائبا طريقة السكاكي في حشد كثير من التقسيمات في باب التشبيه، يقول: (واعلم أن أمثال هذه التقسيمات التي لا تتفرع على أقسامها أحكام متفاوتة، قليلة(1015/38)
الجدوى، وكأن هذا ابتهاج، من السكاكي بإطلاعه على اصطلاحات المتكلمين، فلله در الإمام عبد القاهر، وإحاطته بأسرار كلام العرب، وخواص تراكيب البلغاء، فإنه لم يزد في هذا المقام على الكثير من أمثلة أنواع التشبيهات، وتحقيق اللطائف المودعة فيها). وما يقال عن التقسيمات في التشبيه يقال عن كثير من التفريعات في علوم البلاغة الثلاثة.
إنني دافعت هنا في مجلة الرسالة الغراء، منذ سنوات عن البلاغة العربية، وهاأنذا الآن أدعو إلى نبذ هذه الكتب منها، وليس - في الحق - أي تناقص بين الموقفين، فقد كنت هناك أدافع عن البلاغة كعلم عربي ألف فيه عبد القاهر والزمخشري، وأبن سنان، وابن الأثير، والآمدي، والجرجاني عبد العزيز، وأبو هلال العسكري، وأنا اضرب المعول في هذه الكتب التي نهجت منهج السكاكي والخطيب فجعلت البلاغة جدلا لفظيا عقيما.
وقد يتساءل متسائل، أو تعجبك هذه الكتب التي وضعها المحدثون، والتي تعني بالشواهد الفصيحة؟ والجواب: لا. فإنها كتب جوفاء لا غناء فيها. والذي أريده أن تدرس البلاغة العربية القديمة في كتبها ذات الأسلوب العالي والتفكير المستقيم ثم تكتب بلغة أدبية عالية، ويزاد فيها أو ينقص منها، ولكن لا تخلو كتابتها من هذه اللمحات القوية التي دونها العلماء السابقون.
كما أريد أن يضطلع الأزهر بهذه المهمة فإن رجاله أقدر الناس على تجديد القديم تجديدا نافعا مفيدا؛ وأن يخفى من الدراسات المدرسية هذه الكتب التي عمت الشكوى فيها، والتي لا فائدة منها في الحقيقة إلا ضياع أوقات الطلاب سدى، وإلا إفساد أذواقهم، وحين تتغير الحال في الأزهر، سيترسم خطاه كل المعاهد العلمية في العالم العربي التي تقلده الآن فيما يقدم لأبنائه من طعام لا يسمن ولا يغنى من جوع.
علي العماري(1015/39)
رسالة الشعر
نفخة نبوية
محمد. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
أي سحر هفا فرنم عودي ... وشدا مرقمي وغنى قصيدي؟
وأحال الدجى ينابيع نور ... ضاحكات عن ثغر غيداء رود
ومحي غمرة الأسى والرزايا ... وأثار الأفراح بعد هجود
أي سحر ندى الحياة وألوى ... بالأماني مؤطرات القدود
فالربيع الضحوك يقفز في السهل، ويحبو على سفوح النجود
والنسيم الهفهاف يعثر بالور ... د ويهفو كقلب صب عميد
فرحة عمت الوجود، وعيد ... راقص النور فاتن التغريد
يا ربي الخلد ألهميني شعراً ... فاتن الجرس رائع الترديد
وامنحيني كما منحت هتوفاً ... ترسل الشدو للضياء البديد
أنا في ليلة الهدى فاستجيبي ... واسكبي العطر في ثنايا نشيدي
أنا في مولد المتوج بالنور ... وفي غمرة الفخار العتيد
منقذ العرب من ضلالات دين ... لم يكن غير شقوة وقيود
عرب ألقت الجهالة سدا ... بين أفكارهم وبين الكبود
فأطاعوا هوى النفوس وضلوا ... بين أربابهم ضلال (الوليد)
كل يوم لهم إله جديد ... نحتوه من الصفا الجلمود
كم تمنوا الرشاد منه ولكن ... هو لو يعلمون غير رشيد
أو يرجى من الحجارة خير ... يا لنكراتهم ويا للجحود!
كيف شكوا بمبدع الكون والكون لسان يفوه بالتوحيد
أرسل الله للعوالم نورا ... أنقذ العرب من دياجى الجمود
أرشد الجاهلين بعد ضلال ... وأنار العقول بعد خمود(1015/40)
واستفز الشعور منهم فهبوا ... من خرافات جهلهم والرقود
حطموا قيدهم وثاروا أباة ... يسمعون الدنى زئير الأسود
ملئوا البيد بالفوارس حتى ... سئمت منهمو رمال البيد
والصحاري مهاد كل كمى ... عشق الموت في ظلال البنود
بوركت (يثرب) وبورك بيت ... هل فيه هلال عصر جديد
نحن لولا (محمد) وهداه ... لبقينا ننوء تحت القيود
هاشمي به النبوة تمت ... بعد (عيسى) وأشرقت بالسعود
ضحك الكون منذ أطل عليه ... وله همت الدنى بالسجود
والسماوات أسفرت والروابي ... بسمت كالعروس في يوم عيد
(سدرت المنتهى نعيم وأفياء ... وأغرودة على أملود)
قل لمن ينكر النبوة مهلا ... إن رأى الظليل غير سديد
أو يحتاج عاقل لشهود ... وكلام الإله خير شهود
يا نبي الهدى أتيتك أشكو ... من حماقات عالم منكود
أشعلوا الحرب عنوة وأثاروا ... كل شعب منعم وسعيد
قتلوا الأبرياء في كل صقع ... وأراقوا الدما بكل صعيد
شردوا اللائذات من غصب القتل وراعوا أطفالها في المهود
قوة المال قومت كل وغد ... فطغى في الدنى بفضل النقود
هذه الحرب قد أقامت فروقاً ... جددت بين سيد ومسود
ضجت الأرض والسماوات منها ... فمتى ينجلي دخان الوقود
ومتى يغمر الهدوء البرايا ... ويرف السلام فوق الوجود
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(1015/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
طه حسين بين الأدب والسياسة
في خطاب من الأديب عبد اللطيف فايد يقول (كتب الأستاذ محمود عبد المنعم مراد في جريدة المصري في 28 نوفمبر سنة 1952 بعنوان (في الأدب والحياة) تعرض فيه لمؤلفات الدكتور حسين فوزي، وقد دفعه مديح المؤلفات وصاحبها إلى اتهام الدكتور طه حسين بما هو منه بريء. إذ قال في معرض الحديث مخاطبا الدكتور حسين فوزي (أصدقاؤك الذين احترفوا الأدب وزاولوا السياسة، وجعلوا الأدب وسيلة لتلهية الفارغين ليزيدوا كتبهم انتشارا، كما اضطروا إلى مذاراة الحاكمين والمحكومين ليصلوا إلى كراسي الحكم. ومن هؤلاء صديقك الذي أهديت إليه كتابك الجديد الدكتور طه حسين).
وإن القارئ ليقف أمام هذا الاتهام وقد استولى عليه العجب من كل جانب، لأنه إن جاز هذا على بعض الأدباء، فلن يجوز على أستاذنا العميد، وأدب العميد ليس في حاجة إلى التعريف فنقول للكاتب الفاضل إن الدكتور طه حسين لم يجعل الأدب وسيلة لتلهية الفارغين كي يضمن لكتبه الذيوع والانتشار.
وأينما قرأت له وجدت الإيمان بالفكرة، والأدب الرفيع الذي يستعصي العثور على مثله.
ثم أعود فأسأل الأستاذ مراد ألم يقرأ الأيام ومستقبل الثقافة وحديث الأربعاء وعلى هامش السيرة والوعد الحق وغيرها مما تفخر به المكتبة العربية من مؤلفات العميد، وهل كانت هذه الكتب وسيلة لتلهية الفارغين!!
وأود أن أقول للكاتب إن الدكتور طه حسين لم يصل إلى كرسي الوزارة عن طريق التملق ومداراة الحاكمين والمحكومين. . لأننا لم نعثر على أديب شق طريقه بكفاحه وجهاده وإنتاجه حتى وصل مرتبة سامية كالدكتور طه. ثم ما عيب الأديب إذا اشتغل بالسياسة وحافظ على مبادئ أدبه ولم يجعل منها طريقا للإثراء والغنى. والحق أن السياسة كانت دائما في حاجة إلى جبه من الأدباء ليهذبوا حواشيها وليسخروها لإسعاد الناس.
فليبحث الكاتب عن أديب آخر زاول السياسة حتى صار.
وبعد فهذه كلمات اقتطفتها من رسالة الأديب عن طه حسين وليس لي بعد ذلك أن أقول(1015/42)
شيئا، فطه حسين كاتب وهب نفسه للأدب خالصا مجردا، وقد عاش لفنه مجاهدا، باذلا من أعصابه ودمه وروحه.
وكان في كل وقت المناضل المكافح، الذي يحارب الظلم والطغيان. ويكفي أن يكون طه حسين قد اختير من بين 150 عظيما في العالم، كأعظم شخصية في الشرق، ويكفي أن نقدم هذا للأستاذ مراد. .
والحق أنني لست أدري ما هو وجه الشبه بين طه حسين وحسين فوزي مما يدعو إلى أن يقحم الأستاذ مراد الدكتور العميد عند الحديث عن مؤلفات حسين فوزي؟
والعجيب أن أقرأ هذا في الوقت الذي أستمع فيه إلى حوار مع طلبة إحدى الجامعات في راديو الشرق الأدنى وقد أخذ المذيع يسأل الطلبة عن الكتب التي يقرءونها فأجاب 8 من عشرة منهم بأنهم يقرئون كتب طه حسين. . .
هل يكتب تاريخ مصر من جديد. .
كتب الأستاذ محمد عبد الله عنان في الأهرام يصف المحاولات المنظمة التي قام بها الطغاة والمستبدون، لتحريف تاريخ مصر فقال (لقد بدأت هذه المحاولات المنظمة، لطمس معالم تاريخ مصر الحديث في وقت مبكر، عصر محمد علي ذاته، فطورد الجبرتي مؤرخ العصر، وطورد مؤلفه وشوه وبترت منه صحف مما يتعلق بأعمال محمد علي وتصرفاته. ومن خلال هذه الحقبة الطويلة من تاريخ مصر وحياة الأمة المصرية لم يصدر مؤلف شامل رصين تعرض فيه الحوادث والصور على حقيقتها، ويعرض فيه حكم الطغاة وأهواؤهم وأخطاؤهم بأسلوب نزيه حق، وتعرض فيه حياة الشعب المصري وآلامه وكفاحه وجلده في نفس الصور الأليمة المؤثرة التي كان يحياها، ذلك لأن الطغاة كانوا دائما بالمرصاد لمن يحاول أن يجلو الحقائق المنزهة، وأن يجعل من تاريخ الأمة شيئا يذكر إلى جانب سيرهم).
وأنا أستميح المؤرخ الكبير الأستاذ عنان القول بأن مؤرخا واحدا استطاع أن يكتب تاريخ مصر في حرية وجرأة وقوة بعد (الجبرتي) ذلك هو عبد الرحمن الرافعي.
إن من يقرأ الفصل الذي كتبه عن (أحمد فؤاد) في الجزء الثاني من كتاب (في أعقاب الثورة) يعرف كيف استطاع الرافعي أن يقول رأيه في صراحة كمؤرخ في هذا الملك، في(1015/43)
وقت كان الطغيان فيه قد بلغ حده ومداه، وقد احتمل الرافعي في سبيل ذلك عنتا كثيرا ولم يعبأ بذلك فقد كان مؤمنا بما يقول.
وبعد فنحن نرجو أن يكتب الأستاذ عنان تاريخ مصر من جديد بعد أن أمضى هذا الوقت الطويل دون أن يكتب شيئا عن مصر الحديثة.
حياة المازني
. . . وهذه صورة جديدة من الوفاء لكتاب مصر العباقرة الذين ذهبوا، أذكر اليوم كيف حملت (الرسالة) عبء الوفاء للرافعي، عندما كتب سعيد العريان حياة الرافعي. وظل يتلقى السهام من كل مكان.
. . . كنت اعلم أن الأستاذ محمد محمود حمدان قد كتب قصة المازني بعد وفاته، وكان قد اعد هذه الفصول لتكون كتابا، ولكن ظروفا حالت دون نشرها، حتى أتيح لها أن تطالع قراء الرسالة. في نفس المكان الذي طالعتهم فصول حياة الرافعي.
وقد كان المازني أحد كتاب الرسالة وأحد دعائم الأدب العربي المعاصر.
القصصي العالمي
كتبت إلى الآنسة (ليلى مسلم) تقول (في صحف فرنسا الأدبية هذا الأسبوع أن لجنة مكونة من أندريه موروا وفرنسوا ورياك قد اختارت 12 قصة من بين 123 قصة لنشرها في مجموعة
خاصة هي:
أدولف، الأحمر السود، الخيبة المزدوجة، الأب جوريو، مدام بوفاري، دومنيك، البلياد، الطفل، جرمنيال، التلميذ، سارق الأدب، في طريق.
وهي لكونستان، واسنتدال، ومريمي، وبلزاك وزولا، وبورجيه وغيرهم.
وطلبت الآنسة (ليلى) أن تترجم مجلة الرواية هذه القصص لتقدمها إلى قراء العربية في نفس الوقت الذي تقدم فيه إلى قراء الفرنسية)
ونحن بدورنا نرفع هذه الرغبة إلى صاحب الرواية.
والفن(1015/44)
شهدت القاهرة فيلم (مصطفى كامل). . . هذا البطل الوطني الأول. . . وبقى أن نشهد أفلاما عن محمد فريد وعمر مكرم ومحمد كريم وحسن باشا. . . إن مثل هذه القصص هي زاد روحي غاية في القوة للمصريين في هذا العصر الجديد، الذي يعيش فيه الناس على الحقائق الوطنية وعلى المعاني الروحية الخالصة.
لقد عاشت مصر طويلا، تشهد قصصا كلها التهريج والإثم والهوان، ويجب أن ينتهي هذا، مع العهد المظلم الذي انتهى. .
إن المصريين الآن يستقبلون عهدا جديدا،. . جديدا في كل شيء، وعليهم أن يستقبلوا أدبا جديدا وفنا جديدا. . أدب القوة وفن القوة، الأدب والفن المطبوع على الحرية والحيوية والسمو.
والنشيد الوطني، يجري الحديث هذه الأيام حول تغييره. . وهو اتجاه محمود، إننا نريد أن نحس أننا في عهد جديد، في كل شيء، ولا نريد أن نسمع هذا الصوت الذي أتصل يوما بالطاغية. . . المطرود!
ميدان جديد
دعت السفارة الباكستانية إلى مسابقة شعرية في موضوعات أربعة.
أولا: الإسلام وحدة عالية.
ثانيا: رسالة الباكستان.
ثالثا: محمد بن القاسم.
رابعا: محمد إقبال.
ولا شك أنه ميدان جديد يفتح المجال أمام شعرائنا للحديث عن الإسلام والحضارة والتاريخ، ونحن أشد الحاجة من الناحية الثقافية لأن يقتحم شعراؤنا هذه الميادين الخالدة من الإنتاج بعد أن تعثرت خطواتنا طويلا في أدب المناسبات والشعر التقليدي.
أنور الجندي(1015/45)
البريد الأدبي
أين الأدب المصري القديم
إن المطلع على الآداب القديمة على اختلاف مصادرها يجد كل أمة من الأمم غنية بتراثها الأدبي من شعر ونثر تستطيع به أن تتعرف إلى ملامح المجتمعات التي كانوا يعيشون بينها - سواء كانت هذه الأمم ذات نصيب من الحضارة كالرومان والإغريق، أو كانت تغلب عليها البداوة كالأمة العربية.
فإذا ما ذهبت لتبحث عن نصيب القدماء المصريين من ذلك لم تستطع أن تعثر على ما يشفي غلتك.
فلن تجد ناشئا من ناشئة الأدب يعرف شاعرا مصريا قديما كما يعرف (هوميروس) وإلياذته في الأدب الإغريقي أو (فرجيل) في الأدب الروماني.
فإلى أي شيء نرد هذا؟ أنرده إلى أنه ليس لقدماء المصريين أدب. وهذا غير معقول؛ لأنه لا يمكن أن تحيا أمة بلا أدب يترجم عن مشاعرها ويصور نوازعها. أم أن ذلك الأدب بلغ من التفاهة والعجز حدا لا يستطيع معه أن يتخطى سدود الزمن.
هذا ما نرجو أن يكشف عنه المختصون مشكورين.
محمد إبراهيم الجيوشي
حول الأدب والفن في أسبوع
تولى الأستاذ أنور الجندي تحرير باب (الأدب والفن في أسبوع) فانتظرنا التجديد والتطور الكبير لهذا الباب.
ولكن يظهر أن الأستاذ أنور لا يعطي هذا الباب من العناية ما يستحقه.
فقد كتب هذا الأسبوع تحت عنوان (ندوة الشباب المسلمين) في معرض الحديث عن المهرجانات التي أقيمت احتفالا بمولد الرسول يقول:
(فقد اشترك فيها عدد كبير من شعراء الشباب: الغزالي، ومخيمر، وشعلان، والعوضي، والمنشاوي، والتهامي، والماحي، وحمام، والعمادين، وجبر، وقاسم.
وأريد أن أسأل الأستاذ أنور بعد ذلك هل كان حاضرا تلك الندوة؟ يقينا لا! بدليل أنه لا(1015/46)
مخيمر ولا شعلان ولا أحد العمادين تكلم إطلاقا في تلك الندوة.
ومن الغريب أن الأستاذ غالى بعد ذلك قائلا: (ومن القصائد التي لقيت الاستحسان قصائد مخيمر والنشاوي والتهامي) مع أن مخيمر لم يتكلم مطلقا كما قلت.
أرجو من الأستاذ أنور أن يعطي هذه النواحي بعض الاهتمام كي يخرج لنا شيئا يصح أن يقرأ فيفيد لا أن يعلق ويستنتج مقتصرا بذلك على الأسماء الواردة في بطاقة الدعوة.
محمود بخيت الربيعي الجهني
الباكستان أو باكستان
من غرائب هذا العهد الأخير أن قد أخذ يتزلزل فيه ما كان ثابتا متوطدا منذ القدم من قواعد النحو والبلاغة. فعادت بعض مسائل النحو مما كانت تجمع عليه العرب وتتخذ فيه مذهبا واحدا في العصور الماضية كأنف من الشمع في أيدي الكتاب، يلوونه ويعبثون به كيف يشاءون. هذا يميله إلى اليمين، وذلك يعطفه نحو اليسار، ثم يأتي الواحد فيتيامن به تارة ويتياسر به أخرى. من تلكم المسائل مسألةٍ إدخال الألف واللام على الأعلام الأعجمية. فقد أصبحنا نرى أخيرا أن الكتاب والأدباء من الناطقين بالضاد يكادون لا يتفقون على مذهب فيها بعينه عند تعرضهم لذكر بعض الأعلام الأعجمية التي ظهرت حديثا بظهور مسمياتها إلى حيز الوجود، ومن تلك الأعلام اسم دولتنا الناشئة: باكستان.
إنا لم نزل - ولا نزال - نقرأ كلمة (باكستان) ونتتبعها فيما يكتبه الكتاب والأدباء في مختلف المجلات والجرائد العربية، فلم نر من أمرها إلا عجبا!
في جريدة أسبوعية سيارة في القطر الجزائري، يستعمل نائب مدير الجريدة كلمة (باكستان) فيعرفها بالألف واللام، فيقول: (ولا يزال فن يتنقل في ربوع الباكستان). وأما مدير الجريدة المفضال وصاحب امتيازها المسئول فلا يكتب اسم وطننا - أينما كتب - إلا مجردا منها وممنوعا من الصرف، فيقول: (وانفصلت باكستان) و (وسكان البنغال وهي باكستان الشرقية)، و (لأن باكستان هي الأول في البرنامج. . .)
وفي الرسالة الغراء يتفضل الأستاذ أبو الفتوح عطيفة فيتناول القطر الباكستاني ببحثه الممتع في سلسلة بحوثه عن جميع الأقطار.(1015/47)
ولكنه لا يرضى أن يجعل لكلمة (باكستان) شكلا واحدا معينا في جميع المواضع من مقالاته تفاديا - على ما نظن - من سآمة القراء منه، فتارة يسبغ عليها جبة فضفاضة من الألف واللام، وأخرى يجردها حتى تتنفس في الهواء الطلق وتستحم من تعب الجبة.
هذه بعض الشواهد على ما قلنا آنفا. فنسأل إخواننا الكتاب والأدباء الأفاضل: لماذا هذا التشتت والاختلاف في مسألة كانت أحرى أن تكون موضع اتفاق للجميع!
أما ما نعلم في هذه المسألة فهو أنه من الثابت المحقق - أولاً - أن باكستان من الأعلام الأعجمية التي تمنع من الصرف أو التنوين وذلك على قاعدة النحو القائلة بأن العلم يمنع من التنوين أو الصرف.
(1) إذا كان أعجميا غير ثلاثي ساكن الوسط
(2) إذا كان مركبا مزجيا غير مختوم بكلمة ويه
وباكستان ولا شك علم أعجمي غير ثلاثي ساكن الوسط، كما أنها مركب تركيب المزج من (باك) و (استان) ومعنى الأول الطاهر، ومعنى الثاني الأرض أو البقعة، ومعنى المركب البقعة الطاهرة. والمعلوم أن من عادة العرب أنها لا تعرف بالألف واللام - في أغلب الأحوال - الأعلام الأعجمية التي تمتنع من الصرف، مثل لندن ونيويورك وأمريكا وآسيا وليفر بول وبتروغراد ودبشليم وبيدبا. . . بل ترسلها مجردة منهما. وأما ما كان ينصرف من تلك الأعلام الأعجمية لكونه ثلاثيا ساكن الوسط، فالعرب تارة تحليه بالألف واللام كالصين والهند، وأخرى ترسله عاطلا كنوح وشيث، والأمر كله يقف على سماع القوم.
هذا من جهة قواعد النحو. والذي قد استخرجناه من كتابات اللغويين المحققين والكتاب المتحفظين - حفظهم الله - في هذا العصر، أمثال الأستاذ أحمد حسن الزيات في مصر، والأستاذ محمد البشير الإبراهيمي في الجزائر، والأستاذ مسعود الندوي في باكستان، فهو أن كلمة (باكستان) قد أغناها الله عن التنوين وعن الألف واللام. ولا بد أن يكون عليه أساتذة العراق والشام ممن لم نطلع على استعمال (باكستان) في كتاباتهم.
ذلك ما عندنا في هذا الباب، ويا حبذا لو يتفضل أحد أساطين النحو والبلاغة في بلاد العروبة فيأتي بحكم قاطع في هذه المسئلة، حتى لا تبقى باكستان موضع خلاف ونقاش بين الكتاب والأدباء من الناطقين بالضاد، وهي دولة ناشئة ميمونة ينبغي أن تأتى مؤلفة بين(1015/48)
الجميع!
بهاول بور - باكستان
محمد كاظم سباق
1 - من تاريخ الفقه الإسلامي
يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف (في 1 - 24 من مجلة الأزهر): ولهذا عني بتدوين الفقه فدون محمد بن الحسن كتب ظاهر الرواية، ودون سحنون المدونة في فقه مالك، وأملى الشافعي فقهه في كتاب الأم، وجمع ابن قدامة فقه أحمد في كتابه المغنى.
أقول: إن أبن قدامة صاحب المغنى توفى سنة 620 فالصواب أن الذي جمع فقه الإمام أحمد هو أبو بكر الخلال المتوفى سنة 311 ففي (شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج2 ص361): أنفق عمره في جمع مذهب أحمد وتصنيفه، وله كتاب الجامع - لعلوم الإمام أحمد - وهو كبير جليل المقدار. وفي طبقات الحنابلة لابن الفراء: رحل إلى أقاصي البلاد في جمع مسائل أحمد. . وسبق إلى ما لم يسبق إليه سابق ولم يلحقه بعده لاحق. وقال الخطيب: جمع علوم أحمد. . . ولم يكن فيمن ينتحل مذهب أحمد أحد أجمع لذلك منه. وقال الكوثري: بلغ ما سجله من مسائل أحمد أربعين مجلدا.
2 - من تاريخ الفقه
يقول الدكتور أحمد أمين (1 - 24 من مجلة الأزهر) ومما امتاز به (الشافعي) اهتداؤه إلى علم الأصول ووضعه له ثم استنباط الحكام على وفقه مما لم يصل إليه إمام آخر. ولذلك كان مذهبه أكثر المذاهب انطباقا على المنطق بعكس الأئمة الآخرين فإنهم كانوا يعتمدون على فهمهم لآيات الأحكام وأحاديثها وكان الاستنباط كالملكات في نفوسهم.
وقال ابن العماد في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج1 ص301): قال ابن الفرات في تاريخه: أبو يوسف أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. وقال: الكوثري (في سيرة أبي يوسف القاضي ص33): قال طلحة الشاهد: أبو يوسف أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، كما حدث بذلك الخطيب البغدادي. فأوليته في وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة لا تنافي أولية(1015/49)
الشافعي في وضع الكتب في أصول الشافعي، بل صنيع الشافعي في مناقشة من تقدمه في مسائل الأصول في كتبه من أجلى الأدلة على أن أوليته هي بالنظر إلى مذهبه فقط. ويقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف في (1 - 24 من مجلة الأزهر): (أصول الفقه دون فيه أبو يوسف ولم يصل إلينا ما دونه، ودون فيه الإمام الشافعي رسالته وهي أول مدون في أصول الفقه بين أيدينا). ولا يتسع المجال هنا لبسط قواعد الاستنباط وأصوله عند الإمام النعمان وغيره من الأئمة.
محمد شفيق(1015/50)
القصص
الدم
للكاتب الفرنسي إميل زولا
ها أنت ذي لا زلت بين أشعة الشمس وأرج الأزهار. ألم تسأمي هذا الربيع المستمر يا نينون؟ دعيني إذن أغمض جفنيك الناعستين على تلك القصة الكثيرة الهول، فإن النفس متى ملت طول النشوة قد تسكن إلى صوت الأهوال.
- 1 -
في اليوم الذي انتصر فيه الجند أخذ أربعة منهم مقاعدهم عند ركن من ميدان القتال وقد التف من حولهم الظلام وهم يتناولون طعامهم بين جثث الموتى.
وكانت ألسنة اللهب التي يشوون طعامهم عليه تنعكس أشعتها على وجوههم وترسل من خلفهم ظلالا ضخمة إلى مسافات بعيدة حتى أن سيوفهم كانت تتألق من وقت لآخر تحت شرارات تلك النار، وحتى أن الناظر كان يلمح في قلب الظلام جثث القتلى وهي نائمة جاحظة العيون.
أما رفاقنا فكانوا فرحين يضحكون في جوف الليل غير شاعرين بتلك العيون المحملقة فيهم. ولعل لهم عذرا من هول ما رأوا في يومهم الدابر، ومن الهول الذي ينتظرهم في الغدر. فأخذوا يحتفلون بتلك الساعات القليلة التي جاد بها عليهم حسن الحظ غافلين عن ظلام الليل وظلام الموت وأجنحتها التي تحلق فوق هذا الميدان فتهز سكوت الفضاء.
ولما انتهوا من طعامهم تاقت نفس أحدهم إلى الغناء واسمه (جنوص) ولكن نبرات صوته كانت تمزق غشاء الهواء القاتم الحزين، وكانت أغنيته إذا خرجت من شفتيه امتزجت بالصدى فكانت كتنهد عميق. وعند ذلك شق حجاب الظلام صرخة مزعجة دوت في الفضاء فاضطرب حتى أنه كلف رفيقه (إلبرج) ليذهب ويرى فلعل إحدى الجثث عادت إليها الحياة. وهكذا ابتعد إلبرج على ضوء مشعل أخذه معه ورفاقه يشيعونه بعيونهم لحظة على قدر ما يسمح به امتداد الضوء فأبصروا به وقد انحنى من بعيد يسائل الموتى ويفتش بينهم بطرف سيفه ثم اختفى.(1015/51)
وبينما هم سكوت صاح جنوص بزميله الثاني (كليريان) أن يذهب في أثره خوفا عليه من الذئاب.
وهكذا اختفى هذا أيضاً في الظلام.
أما جنوص وفيلم فبعد أن طال بهم الانتظار ارتديا معطفيهما واستسلما للنوم إلى جانب تلك النار وقد أشرفت على الانطفاء. وما كادا يغمضان أجفانهما حتى سمعا تلك الصرخة من جديد وكأنها تمر من فوق رأسيهما حتى أن فيلم انتصب فزعا واتجه إلى تلك الجهة التي اختفى عندها رفيقاه.
وهكذا لبث جنوص وحده وقد أخذ شبح الخوف يتمثل لعينيه كلما وقع بصره على تلك الهوة السوداء التي كانت تدوي بحشرجة الموتى. وعندئذ ألقي في النار بعض الحشائش اليابسة لعل اشتعالها يبدد شيئا من ذلك الرعب الذي تملكه.
ولقد أخذت ألسنة اللهب ترتفع أخيرا حمراء كالدم فأضاءت الأرض على مسافة مستديرة واسعة كان يخيل إليه أن حشائشها أخذت ترقص من فوقها، وكأن أصابع خفية كانت تحرك جثث القتلى.
على أن القمر أخذ بعد ذلك يظهر قرصه عند الأفق فتبدد أشعته الضئيلة مخاوف تلك الأهوال التي كان الليل يخفيها في جوفه وكانت الصحراء جرداء خالية إلا من بعض أشلاء منطرحة تحت أكفان من النور.
أما جنوص الذي كان العرق يتصبب من جسمه فقد فكر في الصعود فوق رابية هناك وهو يسائل نفسه: لم لا تنصب من مكانها أشباح أولئك الموتى وقد أخذت تحملق فيه. وهكذا أخذ جمودها أيضاً يرسل إلى قلبه عوامل الرعب فأغمض عينيه. وبينما هو في مكانه جامد شعر بحرارة تدب في قدمه اليسرى فانحنى ليتبين أمرها ولكنه رأى سلسالا رقيقا من الدم يعلو وينحدر بين الحصى، ولجريانه خرير ناعم لطيف.
وكان هذا السلسال يخرج من الظلام ويتلوى تحت أشعة القمر ليعود ثانية إلى الظلام، فكان كالثعبان الملطخ ببقع سود تتتابع كالحلقات بخفة وبلا انتهاء. وعندئذ تراجع إلى خلفه وقد تمردت أجفانه فلم يستطع إطباقها من هول ما رأى. أما السلسال فأخذ يتسع مجراه حتى استحال إلى جدول ثم إلى نهير ثم إلى سيل يسمع له وهو يجري صوت أصم وقد أخذ(1015/52)
يقذف على جانبيه زبدا أحمر، وأخيرا استحال إلى نهر واسع يكتسح أمامه هذه الجثث.
ولكن كيف خرج كل هذا الدم الغزير من جروح أولئك الموتى حتى غمرهم؟ وعلى كل حال اضطر جنوص إلى التراجع أما تلك اللجة الصاخبة وقد غاب عن نظره الشاطئ البعيد، كأنما تلك المسافة المترامية الأطراف قد استحالت إلى بحيرة واسعة، حتى خطر له أن يفر لولا أنه وجد نفسه فجأة عند كوم من الصخور وأمواج الدم ترتطم بفخذيه، وكأنما الأشلاء التي يجرفها التيار أمامه تلعنه كلما أبصرت به في طريقها، وكأن كل جرح من جراحها فم يزدريه ويسخر من رعبه. أما البحر الزاخر فكان يعلو ويعلو حتى بلغ صدره، وعندئذ استجمع ما في نفسه من قوة وأخذ يتعلق بالفجوات التي بين الصخور حتى غاص إلى كتفيه والقمر الحزين الباهت ينظر كيف يبتلع هذا البحر أشعته كلما انعكست فيه، وكأن ظلمته ودويه يخرجان من فوهة هوة سحيقة.
- 2 -
ولما بزغ الفجر عاد إلبرج فأيقظ جنوص وكان قد ضل السبيل في الإحراج فغلبه النوم أيضاً عند شجرة حيث رأى من غريب المشاهد ما كانت صورها لا تزال عالقة بذهنه.
قال: رأيت كأن العالم لا يزال في طفولته والسماء تبتسم والأرض بكر تنبت فيها السنبلة وتنمو، حتى أن شجرة البلوط العالية عندنا لا تعد بجانبها شيئا. الأشجار الباسقة تملأ الفضاء بأوراقها العريضة التي لا يحصيها عد؛ والحياة تجري صافية في شرايين الكون؛ والماء عذب غزير حتى إذا أخذت الأشجار كفايتها منه سال بين أحشاء الصخور.
وكانت الآفاق تمتد ساكنة متشعبة، والطبيعة كالطفل يجثو عند الصباح ليحمد الله على نعمة النور وتمجده هي أيضاً بأريج الأزهار وتغريد الأطيار.
كنت أراها زاهية خصبة تفيض بخيراتها من غير ما نصب، والأشجار ذات الثمر تنمو وحدها، وسنابل القمح تكسو جوانب الطريق كما يكسوها الآن الشوك. وكنت أستنشق الهواء فلا أشعر بأن عرق ابن آدم أخذ يتصبب فيمتزج بأنفاس السماء، لأن الله كان يهيئ كل أسباب الحياة لخليقته.
كان الإنسان كالطير يعيش مما تخرجه له الطبيعة فيأكل من ثمارها، ويرتوي من أنهارها، وينام إذا دجا الليل تحت أشجارها حامدا الله؛ وقد عافت عيناه مرأى الدم، فظل طاهرا،(1015/53)
ورفعته طهارته فوق جميع المخلوقات.
نعم كان الوئام سائدا بين الناس، والسلام خافقة رايته في كل مكان؛ حتى أن الطيور ما كانت لتحرك أجنحتها فزعا من الخوف، ولا كان البغي يدفع أحدا إلى الالتجاء للغايات والأحراج، كل له حصة من حرارة الشمس، والجميع أسرة واحدة شريعتها المحبة.
ولقد خيل إلي وأنا أمشي بين الناس أنني أصبحت أطهر وأقوى مما أنا عليه الآن؛ وكان صدري يستنشق طويلا نسيم تلك السماء البليل بعد أن كان يستنشق نسيم جونا الفاسد، فأشعر بنشوة الطفل وهو يصعد رويدا رويدا في الفضاء.
وبينما كانت هذه الأحلام تهزني انتقل خاطري إلى غابة فوقع بصري على رجلين يقطعان طريقا ضيقا تعانقت من فوقه غصون الأشجار، وكان أصغرهما متقدما على رفيقه ووجهه يفيض بالاطمئنان، ونظراته تداعب كل سنبلة تقع عليها عينه، وهو بين لحظة وأخرى يلتفت إلى زميله وعلى شفتيه ابتسامة صافية لم تكن غير ابتسامة أخ.
أما زميله فكان صامتا يرسل إليه وجهه المكفهر نظرات حارة ملؤها الحقد، وهو يتعثر كلما أسرع من خلفه كأنه يقتفي أثر فريسة فرت منه.
وعندئذ قطع فرعا من شجرة أخذ يسوي منه هراوة أخفاها تحت ثوبه، ثم اندفع وراء صديقه الذي وقف ينتظره وقد أخذ يقبله عندما اقترب منه كما يقبل الإنسان صديقه حميما طالت غيبته عنه.
وهكذا عاد إلى سيرهما وقد آذنت الشمس بالمغيب، والفتى مسرع وهو يبصر من بعيد خطا لطيفا أصفر عند سفح الجبل لم يكن غير تحية المساء ترسلها الشمس للطبيعية. أما صاحبه فظنه يتهرب منه، حتى إذا التفت إليه وعلى طرف لسانه كلمة حلوة أراد أن يستر غرضه بها كانت الهراوة على وجه ذلك المسكين فهشمته.
ولقد صادفت أول نقطة من دمه بعض الحشائش فنفضتها عنها إلى الأرض مرتاعة فامتصتها هذه وهي لا تقل ارتياعا منها؛
وقد خرج من بين أحشائها أنين مؤلم يحمل إلى السماء صوت سخطها ومقتها حيث طفح الرمل ذلك الشراب القاتل على صورة زبد خالطه دم.
وما كاد القتيل يصرخ من ألم الضربة حتى تشتت الخلائق هولا، وأخذت تهيم على وجهها(1015/54)
في الأرض، وأقوياؤها في مفارق الطرق يصرعون الضعفاء منهم. وعندئذ أيقنت أن الكون قد بدأ فيه نذير الاضطراب والانحلال.
وهكذا استعرضت عيناي مناظر هذا الاعتداء المطرد، فكان الباشق يهوى على القبرة، وهذه على الذبابة، والذبابة على جروح القتلى؛ فلم يترك الفزع أحدا من الدودة إلى الأسد كأنما قد استحالت الخليقة إلى عقرب أخذت تعض ذنبها بفمها فغابت في ظلمة الفناء.
وعلى أثر ذلك انتابت الطبيعة هزة طويلة كسرت خط ذلك الأفق الصافي، وشوهت جمال الشفق بما اعترضه من السحب الحمراء.
وكذلك البحار أخذت تضطرب بين قصيف الأمواج وهزيم الرياح من خلال الأشجار وقد التوت سيقانها وأخذت تنفض عنها كل سنة حلة اوراقها.
- 3 -
وما كاد إلبرج ينتهي من حديثه حتى ظهر كليريان وهو يقول: لست أدري إذا كان ما سأقصه عليكم حلما أو حقيقة، لأن ما رأيت في نومي يكاد يكون حقيقة، ولأن الحقيقة من بعده تكاد تكون حلما.
رأيت كأنني في طريق يشق المسكونة على جانبيه المدن والأمم تقطعه مثلي، وهو مكسو ببلاط اسود انعقد فوقه دم كانت قدماي تنزلقان من فوق.
أما الناس فقد كان الآباء منهم يقتلون بناتهن ليكون من دمائهن قربان لله، فكانت تلك الرؤوس الفتية الجميلة تحز تحت مداهم وقد هرب لونها على أثر هذه القبلة التي كانت شفة الموت تضعها عند أعناقهن.
وفي مكان آخر كان العذارى يصن عفافهن بالانتحار جاعلات من القبور الكفن لبكور تهن.
وعلى مسافة من هذا المكان كنت أرى العشيقات تفيض أرواحهن تحت قبلات المحبين، هذه تنوح ثم تسقط جثة هامدة عند الشاطئ وعيناها تنظران إلى روحها وهي تصعد حاملة معها مهجتها، وتلك تتجرع كأس الموت على صدر رفيقها مطوقة عنقه بذراعيها تودعه الوداع الأبدي.
وكذلك كنت أرى من بين الناس من سئموا الحياة وملوها فودعوها لعل أرواحهم تذوق طعم النعيم في عالم آخر.(1015/55)
أينما كنت أذهب كان أثر أقدام الملوك مرسوما محفورا على ذلك البلاط القاني. . . فمنهم من كان يمشي على دم أخيه، ومنهم من كان يسير على دم شعبه، فتترك أقدامهم من خلفها أحرفا ناطقة: هنا مر ملك!
أما القساوسة فكانوا يخفون السيوف في مطاوي أثوابهم الكهنوتية وأصواتهم تعلن الحروب باسم الإنسانية وباسم الله.
كان العالم كله ثملا بخمرة البطش، يضرب كل منهم أخاه سيف ذي حدين، والأرض عطشى تكرع من الدم ولا ترتوي.
- 4 -
وعند ذلك صاح جنوص لقد هلت تباشير الصباح، ولكن طرق آذانهم صوت بوق بعيد لم يكن غير أمر للمتفرقين من الجند بالاجتماع تحت علمهم، فنهض الثلاثة حاملين أسلحتهم ثم ابتعدوا وهم يرسلون إلى موقدهم نظرة وداع أخيرة. غير انهم لمحوا رفيقهم الباقي مقبلا وقدماه معفرتان بالتراب فاستوقفهم يقص عليهم ما رآه:
قال: إنني أجهل من أين أتيت لأني كنت أعدو عدوا وكأن الأشجار لجزعها تعدوا مثلي حتى غلب علي سلطان النوم فنمت حيث رأيت نفسي فوق تل منفرد وقد كادت قدماي تحترقان من حرارة الشمس.
وبينما أنا أثب من صخرة إلى أخرى لمحت رجلا صاعدا نحوي وعلى رأسه تاج من الشوك وعلى كتفيه معطف ثقيل والعرق يتصبب من وجهه في حمرة الدم، وكانت حرارة الشمس قد أثرت في قدمي فأخذت في الصعود حيث أنتظره تحت كل شجرة فوق التل، حتى إذا اقترب مني وجدته يحمل صليبا ففرحت إذ بيده ملكا.
ولكن جنودا كانت تجد في أثره وهم يهددونه بحرابهم، حتى إذا ما أدركوه صلبوه فوق تلك الشجرة ودموعه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة صفراء تنم عن مبلغ ما حل به من الحزن.
هالني هذا المشهد ولكنني رأيت الرجل عظيما في موته فتأكد لي أنه غير ملك. ولذلك أشفقت عليه وأنا أصيح بهم: اطعنوه في قلبه حتى لا يطول عذابه. وعندئذ وقفت حمامة على الصليب وأخذت تنوح ونبرات صوتها تصل إلى سمعي فتصورها لي عذراء لم تملك نفسها من البكاء وكأنها تقول:(1015/56)
(ما لي أرى الدم قد صبغ اللهيب والفضاء والأشجار؟ وما لساقي تغوصان من تحتي في الرمل القاني، وما لجناحي حين لمسا هذه الأغصان صبغتهما الحمرة؟
لقد صادفت في طريقي رجلا صالحا فتبعته حتى اغتسلت في المنبع خرجت وثوبي طاهر نقي ولذلك كنت أقول لريشي: قر عينا فإنك فوق كتفي هذا الرجل لن تحمل هما ولن تدنسك آثام. أما اليوم فقد أصبح نشيدي:
نوحي يا حمامة وابكي ثوبك الذي لطخه دم من اتخذت حماك بين ثدييه. أنه جاء ليصون لك بياض ثوبك ولكنه تحت حكم أولئك القساة بلل ريشك بندى جروحه.
هاأنذا أنوح على ثوبي الملطخ فأين أجد أخاك أيها المسيح ليفتح لي طرف ثوبه فأحتمي فيه؟ ومن ذا الذي يغسل بعد الآن الذي صبغه دمك؟)
وكأن المصلوب كان يستمع لنواح تلك الحمامة وريح الموت تحرك جفنيه، وسكراته تلوي شفتيه؛ غير أن نظراته اتجهت فجأة إليها كأنها توجه إليها لطيف العتاب. ثم صرخ صرخة مالت عنده رأسه إلى صدره فذعرت الحمامة وفرت، وقد اغبر وجه السماء واهتزت الأرض، ثم أخذت تبتعد حتى اختفت في ثوب الظلام.
أما أنا فأخذت أعدو وقد بزغ الفجر واستيقظت الطبيعة باسمة من خلال ضباب الصباح، وقد اختفت زوابع الليل فعاد للسماء صفاؤها، وعادت للأشجار نضرتها؛ ولكن الطريق كانت لا تزال تكسو جانبيها الأشواك، ولا تزال ساكنة في فجواتها الزواحف التي كانت تقف في طريق سيري بالأمس. نعم إن دم المسيح جرى في شرايين الأرض القديمة من غير أن تعود إليها نضرتها الأولى.
على أن البوق لا يزال يسمع صوته من بعيد فصاح جنوص في رفاقه قائلا:
(ألم تشعروا يا أولادي بقسوة هذه المهنة؟ لقد أزعجتكم تلك الأشباح في نومكم كما أزعجتني مثلكم ساعات طويلة. إن لي الآن ثلاثين سنة لم أقضها في غير قتل بني جنسي حتى سئمت نفسي. وإنني أعرف أن هنالك أراضي واسعة في حاجة إلى سواعد ومحاريث، فهلا ترون أن نتذوق بعد ذلك طعم الخبز الذي يخرج من كدنا؟)
وعند ذلك صاحوا جميعا: نعم
ثم أخذوا يهيئون حفرة يدفنون فيها سلاحهم وبعد أن اغتسلوا في النهر اختفوا بين ثنايا(1015/57)
الطريق.
م. خ(1015/58)
العدد 1016 - بتاريخ: 22 - 12 - 1952(/)
سيفا العروبة يلتقيان
في الأسبوع الماضي، وفي حاضرة النيل، التقى سيفا العروبة نجيب وأديب، فالتقى طريق بطريق، واجتمع شقيق بشقيق، واتصلت نهضة بنهضة!
ولعمري ما افترقت القاهرة عن دمشق منذ جمعتها العروبة، ولا بعد النيل عن بردي منذ قربها الإسلام، ولا انقطع المصري عن السوري منذ وصلها الجوار. فالشعبان بحكم الطبيعة والواقع شعب واحد، مزجتها المجاورة والمصاهرة، وخلطتها المتاجرة والمهاجرة، حتى اتحدت النية والوجهة والغاية والأمل، فزالت الحدود، وارتفعت الحواجز، واتصلت الأسباب، ووشجت القرابة؛ فلم يتدابر إلا حاكم وحاكم، ولم يتناكر إلا دخيل ودخيل. ثم أجرتهما الأقدار في عنان واحد، فكابدا من فسوق الرؤساء وفجور الزعماء ما أقنطهما من صلاح الأمر واستقامة الحال؛ فرضيا بالدون واستسلما للهون، وكاد العدو المشترك الذي يترصد الغفلة ويتسقط العثرة، يظن أن ملك العرب إلى انهيار، وأن ملك اليهود إلى استقرار، لولا أن الله الذي وعد المؤمنين العاملين أن يستخلفهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا، قد ادخر لكل متاهة هاديا، ولكل مفسدة مصلحا، فجعل ولاية الأمر في هذا الوقت الذي انهار فيه البناء، واستشرت الأدواء، وتحللت العقد، لأصحاب السيف، وهم قوم مختارون صناعتهم الدفاع، ووسيلتهم القوة، وطبيعتهم النظام، وخلقهم الطاعة، ومبدأهم التضحية. عاهدوا الوطن وضمنوا له من أنفسهم الوفاء، أن يستعدوا ليأمن، ويجاهدوا ليستقل، ويموتوا ليحيا. فإذا انصرفت الشعوب اليوم عن رجالة السياسة إلى رجال القيادة، فإنما ينصرفون عن الكلام إلى العمل، وعن الضعف إلى القوة، وعن الانحلال إلى التماسك، وعن الغش إلى النصيحة، وعن الفوضى إلى النظام، وعن المطامع الخسيسة إلى المطالب الرفيعة، وعن قوم يعبدون الفسولة ليكونوا بها آلهة، إلى قوم يمجدون البطولة ليكونوا لها ضحايا. وإن في السياسة الجدية العملية التي ينفذها العسكريون هنا وهناك من غير وعود تعطى، ولا عهود تؤخذ، لسخرية أليمة من تلك الخطب الطوال الثقال التي كان يلقيها رئيس الحكومة باسم رئيس الدولة في افتتاح البرلمان، فيجعجع بها جعجعة الرحا التي تطحن القرون: تسمع ما يصدعك، ثم لا ترى ما يفيدك!
وإن في اجتماع القائدين العظيمين في قيادة الجيش التي لا تقبل الرياء، وتفاوضهما بلغة(1016/1)
الجيش التي لا تعرف السجع، لقضاء على ذبذبة السياسة العربية التي عالجت بها الأمور حتى الأمس، وعلى ثرثرة الجامعة العربية التي تعيش عليها حتى اليوم!
احمد حسن الزيات(1016/2)
إحياء المقومات الدينية
للأستاذ عبد العزيز محمد التركي
لقد اشتهر الشرق منذ القدم بأنه منبت كل دين، ومنبع كل عقيدة. منه انبعثت التعاليم الدينية، وانتشرت في مختلف أرجاء العالم، ومنه انبثقت العقائد الروحية، واستقرت في قلوب شتى الشعوب. وإن تاريخ الحضارات يشهد بأن الذي بعث الطاقة الحيوية في نفوس الشرقيين للخلق والابتكار في جميع ميادين الحياة من علم وفن ومدنية، هي البواعث الدينية التي تضع قوانين حياتهم الاجتماعية، وتنظم وسائلهم الاقتصادية، وتسن نظمهم الدنيوية. ولم تخالف مصر الفرعونية الشرق في روحيته، ولم يتخلف قدماء المصريين عن الإيمان العميق بالدين، ولم تهمل الحضارة الفرعونية في اتخاذ الحوافز الدينية محركا فعالا لنهضتها الخالقة.
لقد قال هيرودوت عن المصريين إنهم شعب تقي ورع، يخاف الله. ولم يبعد هيرودوت عن الحقيقة حينما تلتمس في قدماء المصريين تلك النزعات الدينية السامية، إذ أن تاريخهم الطويل وتراثهم الحضاري الضخم يعطينا من الأدلة ما يغنينا عن شهادته. لقد لعبت عقيدة البعث الدور الأول في بناء حضارة الفراعنة، إذ أن إيمان المصريين بحياة أخرى بعد الموت، حصر همهم في الاستعداد لهذه الحياة. وتحت تأثير هذه العقيدة الدينية نشأت العلوم والفنون، وتحت رعاية رجال الدين تقدمت حتى بلغت حدا من الكمال لا يدانيه إلا ما تمتاز به الحضارة المعاصرة من رقي وتقدم.
آمن قدماء المصريين بعودة الإنسان إلى الحياة مرة أخرى، ولكن عقيدتهم تشترط لإمكان تمتع الإنسان بهذه الحياة الثانية: أن يبقى الجسد سليما لا يعتريه التلف، لأن الروح لا ترجع إلى جسد فاسد؛ وإن نال البلى من الجسد فإن الروح مصيرها الهلاك والفناء. فحرص قدماء المصريين على المحافظة على جثث الموتى حرصا على الخلود. ولقد كان هذا الحرص من أقوى البواعث الدينية التي ساعدت على وضع أسس حضارة تبرز ذكراها جميع الحضارات القديمة، فلا نعجب إذا نشأت الحضارة الفرعونية مع بناء المقابر، وتطورت مع تطورها. وكانت أولى المحاولات التي استعان بها قدماء المصريين على المحافظة على الموتى، هي دفن الميت في حفرة بسيطة تردم بالتراب والرمال، ولكن(1016/3)
هذه الطريقة لم تصن الجسد. فلما قويت عقيدة البعث في النفوس وازداد تأثيرها في العقول، أظهروا احتراما أعظم للموتى، فوضعوا فروع الأشجار على هيئة صندوق خشبي داخل القبر، كما دفنوا مع الميت بعض أنواع الطعام التي كانوا يظنون أن الروح تطعم منها، ولكن سريعا ما كان يتآكل الخشب، ويعتري الجثث الانحلال، مما دفع قدماء المصريين في صيانة جثث الموتى ما عرفوا صناعة الطوب اللبن، أو لتأخرت صناعته بعض الأجيال، ولا شاع بناء مختلف المباني من منازل وغيرها من هذا الطوب. ولكن الطوب اللبن ليس من المتانة بحيث يقوى للصمود حتى يوم البعث، فأستبدل به الأحجار الجيرية التي استخدمت في بناء المصاطب. وأحدث بناء المصاطب من الأحجار الجيرية ثورة خطيرة في فن البناء، ساعدت على ظهور بعض العلوم الرياضية من حساب وهندسة، وضح أثرها في إقامة الأهرام التي يحتاج تشييدها إلى مهارة معمارية تستعين بالفن الهندسي، وتستند إلى عمليات حسابية دقيقة. وهكذا كان الحافز الديني لحفظ الموتى من التلف من أهم البواعث التي عملت على تقدم فن المعمار، ووجهت اهتمام المصريين إلى وضع أسس علمي الحساب والهندسة.
ولم تقف عناية الفراعنة بالموتى عند حد بناء مقابر متينة تحميها، وإنما امتدت هذه العناية كذلك إلى الجثث نفسها، واجتهدوا في سبيل الوصول إلى عقاقير تحفظها من الفساد، فاكتشفوا التحنيط معجزة العلم الفرعوني. ولقد أتاحت عمليات التحنيط من نزع المخ وفتح الجنب وإخراج الأحشاء وغسل البطن بعقاقير خاصة ثم خياطة الفتح، فرض دراسة جسد الإنسان، ومعرفة كثير من أجزائه ووظائفها، والإقدام على إجراء كثير من العمليات الجراحية المتنوعة، كما هيأت الظروف لفحص خواص بعض النباتات العلاجية لإعداد العقاقير وتركيب الأدوية التي تدفع عن الإنسان المرض. وعلى هذا النحو حثت عقيدة خلود الروح على اكتشاف فن التحنيط الذي مهد إلى تقدم الطب وفن الجراحة في عهد الفراعنة تقدما فاق تقدم جميع الشعوب التي عاشت في العصور القديمة.
وبالرغم من كل هذه الاحتياطات لم يطمئن قدماء المصريين كل الاطمئنان إلى متانة المقابر، أو يثقوا كل الثقة في مهارتهم في التحنيط، واعتقدوا أن جثث الموتى ما زالت عرضة للتلف، فاستعانوا بآلهتهم، وطلبوا منها العون والمساعدة لتحفظ أجسادهم من البلى(1016/4)
الذي يهدد أرواحهم بالفناء، فكانت تتلى بعض الأدعية التي تدفع عن الميت الأشرار. ولما أخذت هذه الأدعية في الازدياد والتكاثر بمرور الزمن خاف الكهنة عليها من النسيان، فدعت الحاجة إلى تدوينها؛ فاخترعت الكتابة الهيروغليفية وهي كتابة رمزية تستخدم الصور في التعبير، وسرعان ما استعان بها المصريون في حماية الموتى، فدونت على جدران المقابر والأهرام أدعية وطلاسم ظن أنها تحفظ الموتى، وتحول المآكل والمشارب المرسومة إلى حقائق، كما وضع في توابيت الموتى لفائف من ورق البردي تحوي تعاويذ تحفظ الروح من الأخطار، وتقيها أشرار القبر.
فالرغبة الأكيدة في بقاء الجسد سليما دعت إلى اختراع الكتابة التي سرعان ما عم استخدامها في الوثائق العامة والتجارية، ثم نشأت كتابات أخرى أكثر منها اختزالا، خرجت من مصر، وانتشرت في بقاع العالم المتمدن في ذلك الوقت. ولما احتاجت الكتابة إلى ورق اخترعت صناعة الورق وتقدمت على أيدي المصريين حتى أصبحت سلعة مربحة وهامة، تباع في الأسواق الخارجية. أما الكتابة على جدران المقابر فتتطلب مهارة في الرسم والنقش والتصوير، لأن الكتابة الهيروغليفية المقدسة، تعتمد على صور شتى الحيوانات والنباتات ومختلف الأشياء، فكان الحافز الديني دافعا ملهما عمل على تقدم فن الرسم والنقش والتصوير، وبرع المصريون فيه براعة يسرت رسم الخطوط وعودت المخيلة على تصور الكائنات الحية، ودربت القدرات على التعبير الصادق لحياة هذه الكائنات وحركاتها، ومرنتها على الاستعانة بالألوان الزيتية التي تظهر الصور على أنها حقائق حية، حتى خيل لقدماء المصريين أن يستغنوا عن وضع المآكل والمشارب والحاجات التي ظن أنها تلزم الميت، واكتفوا برسم صور حية لهذه الحاجات، اعتقادا بأن قراءة الروح للعبارات السحرية المدونة على الجدران، تحول هذه الصور إلى حقائق، فأنتج المصريين الشيء الكثير من روائع الفن.
وزيادة في الحرص وإمعانا في الاحتياط عمد قدماء المصريين إلى وضع تماثيل كثيرة للموتى في المقابر، حتى إذا ما لحق الجثة أي عطب، حلت الروح في التمثال فيبعث الإنسان من جديد إلى الحياة الثانية. ولكن التمثال عرضة للكسر، ولذلك وضعت تماثيل عديدة لنفس الميت، حتى إذا ما انكسر تمثال حلت الروح في آخر. وإلى هذا الاعتقاد(1016/5)
يرجع الفضل في وجود ذلك العدد الضخم من التماثيل المصرية القديمة التي بلغ بعضها حد الإتقان الفني، مما جعلها تعتبر أجمل أمثلة النحت في العالم، لأنها تتوخى بساطة وإنسانية عبر عنها في يسر ورشاقة. وفن النحت يحتاج إلى أحجار ومعادن، فجد الفراعنة في سبيل استخراج هذه الأحجار والمعادن من المحاجر والمناجم التي نظم استقلالها، وأصبحت تشغل كثيرا من الأيدي العاملة، وتدر على خزانة الدولة مالا وفيرا.
لقد كانت عقيدة البعث الباعث الأول على وضع أسس كثير من العلوم والفنون والآداب. ولقد كانت الديانة الفرعونية تقدم الحوافز والأفكار التي هيأت وضع أصول العلوم الرياضية، ومهدت السبيل لتقدم الطب وفن الجراحة، وساعدت على رقي فن البناء وفن الرسم والنقش والتصوير، وفن النحت، وأدت إلى اختراع الكتابة وظهور الآداب الدينية، ودفعت إلى اكتشاف صناعة الورق وتنظيم استقلال المحاجر والمناجم. فكان لهذا الباعث الديني الفضل الأول في قيام الحضارة الفرعونية، بل كان السبب الوحيد في اطراد نموها وتطورها، وظلت هذه الحضارة محافظة على كيانها آخذة في الرقي والتقدم، ما دامت تستوحي عقيدة البعث، وتستلهم الإيمان بخلود الروح، ولكنها اضمحلت حين بدأت تخبو العقائد الدينية في النفوس، وأصبح لا سلطان لها على القلوب.
ويؤمن المصريون بدين جمع شمل العرب، ووحد قبائلهم، وكون منهم دولة، حفزها للخروج من شبه الجزيرة العربية في سبيل إعلاء كلمة الله، فاستطاع العرب على قلة عددهم وعددهم من أن يدركوا أمما عريقة في المدينة، وأن يهزموا شعوبا ظلت قرونا تسيطر على العالم، وذلك لأن الدوافع الدينية ملكت قلوبهم، وغرس الإسلام في نفوسهم روح الاستشهاد، فبذلوها رخيصة حبا في نصرة دين خاتم الأنبياء، وبغية الفوز بالجنة يوم نبعث أجمعين.
وظلت أفئدة المسلمين تطوف بالقرآن الكريم سابحة في ملكوت آياته البينات، تحرص عليها حرصها على أعز ما تملك. فلم يتوانوا في تدوين القرآن، ولم يفرطوا في العناية بلغته، فكانت اللغة العربية اللغة الرسمية في جميع أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، وسارعوا بوضع قواعد النمو العربي بضبط قراءة القرآن وفهم معانيه. ولما انشغل علماء اللغة بإظهار ما في القرآن من إعجاز بلاغي ألفت الكتب في البلاغة العربية، ولما شغفت(1016/6)
العقول بالتعمق فيما أورده القرآن من تعاليم وأفكار وأسرار انكبت على تفسيره، ولما صادف المفسرون قصصا وأخبارا وردت في القرآن رغبوا في تحديد زمن وقوعها ومعرفة ظروفها وأسبابها، مما دعا إلى ظهور كتب تتناول هذه القصص والأخبار، فمهدت لقيام علم التاريخ، وأخذت موضوعات التاريخ تتسع عندما اهتم المسلمون بتتبع السيرة النبوية وسلوك الخلفاء الراشدين. فكان الحرص على القرآن من أولى البواعث الدينية التي حضت على خلق جو ثقافي أوجد كثيرا من العلوم مثل النحو والبلاغة والتفسير والتاريخ.
ولم يكن الإسلام مجرد عقيدة دينية تلزم من يعتنقها أداء ما تفرضه عليه من عبادات، بل كان محور الحياة الاجتماعية، فاستمدت منه التشريعات التي تنظم العلاقات بين الأفراد والجماعات، وسن المسلمون القوانين التي أسست علم الفقه وأصوله، وبذلك بعث قرآن الإسلام نهضة فكرية دربت الأذهان على استغلال العلم واستنباط القوانين، حتى إذا ما أخذت الحركات المناهضة للإسلام تشتد في هجومها، وتتذرع بالمنطق، وتطعن تعاليمه بالفلسفة، وتناقش معجزاته مناقشة عقلية، قام بالرد على هذه الحملات طائفة من العلماء ساهموا بما أتوا به من حجج لدحض ما ألصق بالإسلام من افتراء بوضع أصول علم الكلام الذي ما وجد إلا ليدافع عن معتقدات الإسلام، وتسلح في دفاعه بسلاح أعدائه؛ أي الفلسفة والمنطق، فانتشرت الدراسات الفلسفية بين المسلمين ونبغ فيهم فلاسفة حملوا شعلة العلم والثقافة إلى أن استلمها منهم الغربيون. .
ولم يقف أثر الإسلام في الحياة الثقافية عند النواحي الأدبية والاجتماعية، بل تعداه إلى العلوم الرياضية خصوصا الحساب. ذلك العلم الذي يحتاج إليه خبراء التوريث في مهام عملهم، لأن كل من يشتغل بعلم الفرائض الذي يحدد نسبة ميراث كل فرد حسب الشريعة الإسلامية يجب أن يجيد مختلف عمليات الحساب، ولذلك وجب على الجميع تعلمه فتوفر المسلمون على دراسته، فعرفوا الأرقام العربية البسيطة السهلة المتداولة بيننا الآن، وأخذها الغرب عنهم، وترك أرقامه الرومانية المعقدة الصعبة، ففتحت الأرقام العربية آفاقا جديدة لعلم الحساب. ولقد أدى تعلق المسلمين ببحث العمليات الحسابية إلى الاهتداء إلى (الصفر) الذي كان له أهمية كبرى في مستقبل العلوم الرياضية. وكذلك قاد اهتمام المسلمين بالحساب إلى اكتشاف علم الجبر وبذلك مهدوا السبل لتقدم العلوم الرياضية فيما بعد حين بدأت نهضة(1016/7)
الغرب الحديثة.
إن الإسلام كان على الدوام يعاون العلوم التي تخدمه، ولم يوجه المسلمون أية عناية جدية لعلم من العلوم إلا إذا كان يدعم أحكام الإسلام. وكذلك لم يعاون الإسلام فنا من الفنون إلا إذا هدف إلى نشر تعاليمه. وما اهتم المسلمون ببعض الفنون إلا لأنها تحقق فرائض دينهم، وتهيئ السبل لأداء عباداته. وإن لم يكن للعرب قبل الإسلام فن يذكر، إلا أنه لم يكد يحس المسلمون بحاجتهم إلى أماكن لإقامة فريضة الصلاة حتى بدأ يبزغ الفن الإسلامي في الوجود، وأخذ يترعرع في رحاب المساجد بيوت الله، فبعد أن كانت المساجد الأولى مجرد أبنية بسيطة أعدت للصلاة والوعظ؛ سرعان ما تطور الفن المعماري الإسلامي، وأصبح من بين المسلمين فنانون مهرة، أقاموا كثيرا من المساجد والأبنية الدينية كالمدارس والتكايا ذات المصلى! معبرين فيها عن أفكار هندسية تنم عن بصيرة فنية حاذقة. لقد شيدت معظم المساجد على نظام تقليدي أوحاه الإسلام، فأصبح كل مسجد يشتمل على منبر ومحراب وصحن وإيوان وقباب ومئذنة، وكلها تقريبا من إبداع القريحة الإسلامية الفنية.
ولما توخى المسلمون في بناء المساجد أن تكون فخمة رائعة مهيبة، لتدل على ما في الإسلام من عظمة وقوة، زينت جدران المساجد بنقوش وزخارف، فبرع المسلمون في الحفر. على الأحجار وفي رسم الزخارف خصوصا الزخارف الهندسية، وفي نقش الآيات القرآنية بخطوط جميلة خلابة تظهر فن الخط العربي.
وهكذا أخذت ترتقي شتى العلوم والفنون التي كان لها علاقة وثيقة بالإسلام والقرآن، عندما كانت العقيدة الدينية قوية في النفوس، بينما خبا نور الإيمان، فضعف الوازع الديني وهزل الحماس للإسلام، وتدهورت جميع العلوم والفنون التي بعثها واحتضنها حتى بلغت مرتبة ممتازة من الكمال، مما أدى في النهاية إلى انحطاط الحياة الثقافية، واضطراب أحوال المسلمين، لأن سر قوة المسلمين تكمن دائما في العمل على قوة الإسلام.
نحن المصريين أحفاد الفراعنة الذين أنبتت عقيدة البعث مشاعرهم الدينية، وأمدت عقولهم بطاقات خارقة لم تتوان في ابتكار مجد حضاري يجد العلماء لذة فائقة في التنقيب عنه. ونحن المصريين نؤمن بدين الإسلام باعث حضارة العرب وخالقها، وحملت الشعوب الإسلامية مصر لواء الإسلام وارتضت زعامتها الدينية والثقافية. فنحن المصريين إذا(1016/8)
ورثة الفراعنة وحماة الإسلام، انصهرت في نفوسنا ديانات روحية تثير الوجدان، وتنشط العقل؛ فلقد حفزت عقيدة الخلود على تأسيس حضارة برعت في العلوم والفنون، وحض الإسلام على تكوين إمبراطورية فسيحة الأرجاء تدين بتعاليمه، ودعا إلى قيام حضارة جدت في خلق كثير من العلوم والفنون. فالمشاعر الدينية والعواطف الروحية تلعب على الدوام دورا هاما في تطور حياتنا الثقافية. ولقد سبق أن أخبرنا التاريخ بأنه ما من فترة ضعف فيها الوازع الديني في نفوس قدماء المصريين، وخبا نور الإسلام في قلوب المسلمين، إلا اضمحل الفكر؛ وتأخرت الحضارة، وتفككت أوصال البلاد، وتدهورت أحوالها، وتعرضت للغزو الأجنبي.
ألا يوحي كل ذلك بأننا لا نملك أن نقيم حضارة تخرجنا مما نحن فيه من تخلف فكري ما لم نفزع إلى دوافعنا الدينية نستنهض بها هممنا، ونحث عقولنا على الخلق والابتكار، وما لم نسع من أجل إحياء مقوماتنا الروحية إحياء يحرك أذهاننا الخاملة، ويلهم نفوسنا، ويساعدنا على إظهار ما نملك من نبوغ قد يسوقنا إلى اكتساب مهارات ترفع من شأننا في خضم الحضارة الحديثة، لأن حيوية الجو الديني الذي يجب أن تعيش فيه عقولنا يدعها تحس بأنها تعيش في بيئة ترتاح إليها، وتشعر بأنها تسكن في بيت تألفه ويألفها، فتنساب وتنطق، لا يعوقها عائق، وتأخذ في الإبداع دون تعثر. ولكن إذا مات الجو الديني الذي يجب أن تتربى فيه عقولنا، وخرب البيت الذي تعودت أن تنشأ نفوسنا بين جنباته مات الباعث الذي يوحي إلى عقولنا بما تخلق، وخربت نفوسنا فتفقد انطلاقها وانسيابها، وتظل حبيسة الجمود والركود، فتشل المواهب وتعطل القدرات. وإذا ما طال أمد الركود، فقد يؤدي في النهاية إلى ضرب من الجدب العقلي، يشعرنا على الدوام بنقص يغرس فينا ميلا للأخذ من الغير. وبدل أن نعتمد على استعداداتنا ومهارتنا نركن إلى طلب عون ممن صقلت استعداداته، وبرعت مهارته، وبدلا من أم نستوحي مقوماتنا النفسية نتكالب على ثقافة من نظن أنهم بلغوا الكمال في كل ما تناولوه من علوم وفنون، وفي هذا انتحار فكري ما بعده انتحار، لأن الفكر المستضعف قد يتولاه الخمول، ويقعده الكسل عن أي إنتاج. وقد يعجزه الشعور بالنقص في آخر الأمر عن النهوض، ويربطه بعجلة ذلك الفكر الغريب عنه بتهافته النهم على ما يتساقط من موائده الشهية من فتات لا تغني ولا تشبع، لأنه ارتضي(1016/9)
العبودية الفكرية، ولم يحاول أن يبحث عن الطرق والوسائل التي تحرر روحه من أغلالها، وتحطم القيود التي تحول دون انبثاق مواهبه وشحذ استعداداته.
عبد العزيز محمد التركي(1016/10)
من سير الخالدين
حياة المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب)
(المازني)
- 4 -
في التدريس
نال المازني إجازة التدريس من مدرسة المعلمين العليا (1909) وهو إذ ذاك شاب في التاسعة عشرة لم يطر شاربه، فكان يستعجل مظاهر الرجولة في نفسه. . (فأحلق وجهي ثلاث مرة في اليوم لعل ذلك يعجل بإنبات الشعر، فقد اشتهيت أن يكون لي شارب مفتول وخدان كأنما سقيا عصير البرسيم!).
وكان من أوائل المتخرجين فعينته الوزارة مدرسا للترجمة بالمدرسة السعيدية، ومنها نقل إلى المدرسة الخديوية. وكلفته الوزارة في ذلك الحين تدريس مبادئ اللغة العربية للأساتذة الإنجليز بمدارسها فترجم لهم فصولا من كتاب (كليلة ودمنة) غير معتمد في ذلك على الترجمة الإنجليزية كما يقول الأستاذ العقاد.
ولم يلبث أن وقعت بينه وبين وكيل المعارف جفوة نقل على أثرها إلى مدرسة دار العلوم. وكان هذا النقل في ظاهره (ترقية) وإن لم يكن كذلك في حقيقته، لأن مهمته فيها كانت تدريس مبادئ الإنجليزية لطلبة دار العلوم. ولم يسترح المازني إلى هذا التكليف فكان من الأسباب التي حملته على ترك وزارة المعارف بعد ذلك بقليل.
ولا شك أن تلك الجفوة تدلنا على ما كان يعتصم به المازني من الإباء والضن بالكرامة في وسط شارع فيه التزلف والرياء. وقد كان المستشار الإنجليزي (دنلوب) في ذلك الحين رب الوزارة والحاكم بأمره فيها، فلم يكن كبير أو صغير إلا ويرهب صولته ويتقي غضبه. ولكن المازني لم ير فيه ما يرهب أو يخيف حين دعي يوما لمقابلته ليسأله المستشار رأيه(1016/11)
في بعض المدرسين الإنجليز. وتفصيل ذلك ما نرويه عنه:
(اتفق يوما - في آخر عهدي بالتعليم في الوزارة المعارف - أن قصدت إلى مدرسة دار العلوم، وكنت معلما بها، فألفيت ناظرها - وهو مصري - على بابها، فاستقبلني بالاحتجاج على تأخيري، فاستغربت وبينت له أنه لا يزال على موعد دروسي نصف ساعة. فصاح (من قال إننا نريد منك اليوم دروسا؟ إن جناب المستشار يطلبك! وقد بعث إليك رسولا فكيف لم تعلم؟) فطمأنته وطيبت خاطره وقلت (إني سأذهب إلى الوزارة بعد الفراغ من دروسي). فكأنما ألقيت على النار حطبا، فقد جعل يصيح على الباب وأمام المارة - (يا خبر أسود! وجناب المستشار حتى تفرغ! هل تريد أن تخرب بيوتنا؟ رح غليه حالا! الآن!). فركبني عفريت الشباب المتمرد، وكنت أكره هذا الناظر ولا أحترمه فأبيت أن أذهب إلا إذا أعطاني أمرا كتابيا بإعفائي من التدريس في ذلك اليوم. وقصدت إلى الوزارة فإذا على رأس السلم طائفة من كبار الموظفين المصريين فجعلوا يشيرون إلي كالمجانين ويأمرونني أن أجري. وكيف بالله كان يستطيع أن يجري من كسرت ساقه ولم يبرح بيته إلا منذ أسبوع؟. . وقابلت المستشار ومعه كبار الإنجليز وسألني عما أراد فجاوبته، وانصرفت وأنا أستغرب وأتساءل عن ذلك الغول الذي يرعب كل هؤلاء الرجال أين هو؟ ولاحظت وأنا منصرف أن رؤوسا أو وجوها تطل من الأبواب المواربة، ولا شك أنه أذهلهم أن يروا مدرسا صغيرا يدعى لمقابلة المستشار).
ولم يكن هذا الشعور من المازني تكلفا للعظمة أو تظاهرا بالاستخفاف، ولكنها طبيعته التي تملك عليه أمره في كل كبيرة وصغيرة. وكاد يستقيل من الوزارة حين بدا لهم أنها تنظر إلى المعلم نظرتها إلى طوائف (الموظفين) وأنها لا تقدر رسالته تقديرها الصحيح. ويروي أنه مرض يوما (. . فطلبت إجازة، وأبطأ الطبيب وشفيت قبل أن يحضر، فطالبتني الوزارة بتقديم شهادة طبية تثبت أني كنت مريضا، فكتبت إليها أنه لم يعالجني طبيب فعادة تطالبني بالشهادة الطبية، فكتبت أنبهها إلى أنها، في الواقع، تكلفني أن أحمل طبيبا على التزوير. وكثرت المكاتبات العقيمة فسئمت؛ فكتبت إليها أني معلم، وقد كان المسيح عليه السلام يدعي المعلم، وكان أرسطو يسمي المعلم الأول، وأني مؤتمن على عقول مائتي تلميذ وزيادة فيجب على الأقل أن أعد صادقا وإلا فإنني أوثر أن أستقيل من وزارة تنظر إلى(1016/12)
معلم هذه النظرة).
وقد كان المازني كما ذكرنا مدرس ترجمة. فحدث عند نقله إلى المدرسة الخديوية أن اختارت الوزارة لتدريسه مادة الحساب. وبين المازني والحساب، والرياضيات عامة، عداء قديم ونفور طبيعي لا يخفيه، أو كما يقول هو (لا أكتم القارئ أني أخيب خلق الله في الحساب). . فلا بد إذا من تفادي هذه الورطة! ولكن كيف السبيل؟
يقول المزني وهو يروي هذه القصة في كتابه الساخر (رحلة الحجاز):
(. . اعترضت واحتججت، فما أجدى عني اعتراضي شيئا، فقصدت إلى ناظر المدرسة - وكان إنجليزيا - وقلت له: إن وزارة معارفنا تعتقد أن كل امرئ يصلح لكل شيء؛ ولكني أعرف من نفسي أني لا أصلح لتعليم الرياضة عامة والحساب خاصة، وأصارحك أني لا أصدق أن واحدا في واحد يساوي واحدا، هذا، كما يقول شاعر عربي، كلام له خبئ معناه لبست لنا عقول. وقد تكون أولا تكون لنا عقول؛ هذه مسألة خلافية ندعها الآن، ولكن المحقق عندي أن العلوم الرياضية وفي جملتها هذا الحساب لا تدخل في دائرة عقلي، فهل لك في عوني على ما أريده؟ فضحك وقال: وما تبغي؟
قلت: تعفيني من التدريس للفرق العليا؛ وتقنع بأن تكل إلى تلاميذ الفرقة الأولى، أعني الحاصلين على الشهادة الابتدائية في هذا العام ليتسنى لي أن أحفظ الدرس أولا فأولا، ثم ألقيه عليهم، فنتعلم معا، وفي خلال ذلك تبذل وساطتك لتردني مدرس ترجمة كما كنت.
فسرته صراحتي ووعدني خيرا. وشرعت في العمل، وكنت احفظ الدرس جيدا وأراجع زملائي ثم أدخل على التلاميذ وألقنهم ما حفظت، وقد وفقني الله في الهندسة والجبر، أما الحساب فأعوذ بالله منه!! كنت أخطئ في كل مسألة أطرحها على التلاميذ، ولم أكن أكتمهم أني أجهل منهم وأن الذنب للوزارة وليس لي، وأن الوزارة هي المسئولة عن خلطي وتخبطي، وأنصف التلاميذ فأقول إنهم قبلوا عذري واغتفروا لي ضعفي وجفوني بعطفهم ولم يبخلوا علي بإيضاح ما يشكل علي وبهدايتي إلى الصواب حين أضل، وكنا أحيانا - إذا استعصى عليهم إفهامي طريقة الحل - تقضي بضع دقائق في ندب سوء حظي وحظهم، وربما قال الواحد منهم وقد فاضت نفسه بالعطف علي والمرثية لي: كيف ترتكب الوزارة مثل هذا الخطأ الشنيع فتعهد إلي تدريس العلم إلى جاهل به؟(1016/13)
ولم ينقذني إلا مفتش إنجليزي جاء على عادته ليشرف على سير الدراسة، فعلمت أنه مع الناظر في غرفته، وكانت مجاورة للغرفة التي أنا فيها، فأوصيت الخادم أو الفراش كما يسمونه - بأن يدعوه إلي، حين يخرج، وفتحت الباب على مصراعيه فلما دخل علي رحبت به واحتفيت بمقدمه وسرت به إلى مقعدي ومكتبي؛ وهناك سلمته كراسة التحضير وكراسة الأسماء، وإصبع الطباشير وممسحة السبورة، وقلت له: التلاميذ أمامك، ومعك كراساتي وأدواتي، فسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وخرجت، فجرى روائي وأدركني أمام غرفة الناظر وقال: إن هذا جنون. فعد إلى فرقتك. فقلت: جنون؟ وهل كنت تنتظر أن أظل عاقلا؟ لقد صارحتكم مائة مرة بأني حمار؛ فماذا تريدون؟ إن لي ذمة، وذمتي لا تقبل أن أضيع على التلاميذ المساكين سنة من أعمارهم. قال: ولكني أكدت لك أننا لا نجد مدرسا للرياضة فيحل محلك. فأنتظر حتى نجد واحدا ثم نعيدك إلى الترجمة. فقلت: كلا! تتولى أنت التدريس حتى تجدوا المدرس، وأنا مستعد أن أقوم عنك بمهمة التفتيش. فضحك، وضحك الناظر وكان قد خرج على صوتنا، ولا أطيل: أقنعاني بالعودة إلى فرقتي على ألا يطول عذابي إلا أياما معدودات، وقد كان).
واتفق عام 1915 أن أصدر المازني كتابا في نقد (شعر حافظ) وكان يمثل في رأيه المذهب القديم. وهو مجموعة مقالات كتبها قبل ذلك بعامين ونشر بعضها في مجلة (عكاظ) ثم جمع متفرقها وطبعها. وظهر الكتاب وكان له دويه. فلم يكن أحد في ذلك الحين ليجرؤ على نقد حافظ وهو آمن، فساءه النقد، واضطهد المازني - وهو مدرس - وأوصى به الرؤساء شرا. وغضب المازني لكرامته فاستقال.
ويحدثنا المازني أنه راجع نفسه وندم يومه على الاستقالة، وساورته المخاوف وأدركه الجزع من أن تضيق الدنيا به، وكانت الحرب على أشدها والغلاء ضارب إطنابه. وأرق ليلته، فوجد أمه بجانبه لتقول له (لا عليك يا بني. لقد تعلمت كل ما يمكن أن تتعلمه هنا. فما خير ذلك إذا عجزت عن الانتفاع به في الحياة؟ ولماذا لا تستطيع أن تعمل إلا في الحكومة؟ لقد كنت أنا مستعدة أن أعمل بيدي في سبيل تربيتك، فكن أنت مستعدا أن تعمل حتى بيدك إذا احتاج الأمر؛ وثق أنك لن تخيب فإني داعية لك راضية عنك. قم فنم وتوكل على الله!)(1016/14)
ثم كان أن دعاه الشيخ عبد العزيز جاويش للعمل بمدرسته (الإعدادية الثانوية) واختار له مادة التاريخ. ومن زملائه في هذه المدرسة الأساتذة العقاد والزيات وأحمد زكي.
وقد كان المازني مدرسا ناجحا، وكان ما بينه وبين تلاميذه عامرا قائما على التوفير والتقدير، إذ كانوا شبانا وكان هو كذلك لا يكبرهم إلا قليلا. والتقارب في السن أدعى إلى التجاوب وحسن الأخذ والتلقي. وكان نمطا جديدا في الأساتذة لا عهد للتلاميذ بمثله. ولم يكن اعتماده في تحضير الدروس وإعدادها على الكتب المقررة أو الموضوعة، بل كان يعتمد على موهبته الشخصية ومحصوله الخاص. وكان الأثر الذي خلفه في نفوس تلاميذه قويا موحيا، فدلتهم طريقته الفريدة في ذلك الحين على حقيقة مدرسهم وأي أستاذ عظيم هو وفي الحادثة التالية التي يرويها الأستاذ عبد الرحمن صدقي - وهو من تلامذة المازني في المدرسة الخديوية لذلك العهد ما يقوم دليل على ما كان للأستاذ الشاب من مكانة في نفوس تلاميذه لم يكونوا يعرفونها لأساتذة الطراز القديم.
يقول الأستاذ صدقي: (في ذات يوم دخل علينا - على غير علم منا - في درس ترجمة أستاذ غير أستاذنا. ومما زاد في غرابة أمره أنه كان على نقيضه، فهو شاب من أهل جيلنا لا يكبرنا إلا قليل. وهو قصير القامة نحيل غير جسيم. ثم إنه لا تركب أنفه نظارة غليظة العوينات كصاحبنا. وهو لا يتهادى في مشيته إلى المنصة، بل قد مشى إليها مشية غير متكلفة، بخطى متزنة لا سريعة ولا متئدة. وهاهو ذا يستقبلنا بوجه مخروط ترين على وسامته صفرة نعرفها في أنفسنا قبيل الامتحان من معاناة الدراسة وطول السهر. وهاهو ذا يطالع جمعنا من غير تخصيص ولا تحديق، بناظرين نفاذين وقاذين، فيهما عمق وحزن من غير وحشة وانقباض.
وقامت في الصفوف المتأخرة كمألوف العادة هينمة ولغط، وهب تلاميذ الصف الأول للتحية واقفين، ونهض الذين من بعدهم بعضهم النهوض متئاقلين، وظل الآخرون قعودا متجاهلين ولكن الأستاذ لم يفارقه سكونه المترفع الحزين، وكان فوق منصته العالية كأنما يستوي في نظرته العابرة ونفسه الكبيرة الشاملة، أهل الطاعة وأهل المعصية، ثم أجمل التحية في غير استكراه ولا زلفى.
ودق الأستاذ الشاب في لطف على المنضدة. وبادرنا دون أن يرفع صوته: أخرجوا كتاب(1016/15)
أدبيات اللغة العربية. فاستولت علينا دهشة وتملكنا العجب، فللترجمة كان الدرس لا للأدب! وقبل أن ينقضي عجبنا ونفيق من غاشية ذهولنا، أومأ الأستاذ إلى أحدنا، وطلب إليه في غير احتفال أن يفتح الكتاب على أية صفحة وأن يجهر بتلاوتها علينا. ثم توجه إلينا بالدعوة إلى مراجعتها والشروع على الفور في ترجمتها. ولا تسل عما دخل على نفوسنا من هذا الارتجال. إنها - على طول الفترة - أول مرة يجري فيها درس الترجمة على خلاف الخطة. وليت الأمر وقف عند هذا القدر. بل بلغت الجرأة بأستاذ الترجمة المحدث أنه لم يأخذ لدرسها أدنى أهبة، ثم كان من ذهابه إلى غاية المدى أنه لم يكن له شأن حتى في اختيار القطعة.
في هذه اللحظة، لو أن متسمعا تسمع لقلوبنا الصغيرة لألفاها جميعا تنبض بلحن واحد: يا للعظمة! يا للعظمة!
واسترقنا النظر إلى الأستاذ الشاب القصير النحيل، فإذا هو غيره قبل تلك اللحظة. إنه ملء عيوننا روعة، وملء صدورنا هيبة!
ولم يحدث خلال السنوات العشر التي أنفقها المازني في التدريس، أن احتاج إلى أن يعاقب تلميذا أو يوبخه أو يقول له كلمة نابية. وكان لقرب عهده بالتلمذة وسابق تجربته وخبرته بشقاوة التلاميذ، أعرف بما يقابل به الرغبة الطبيعية في هذه لشقاوة، ومما يدل على تلك المقدرة عنده هذه الحادثة التي يرويها.
(اتفق يوما أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفا والجو حار جدا، فضاعف الحر شعوري بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هي المادة التي كنا ونحن تلاميذ نضعها في الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسي إنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد، وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثي نفسي فإنها تغثى نفوسهم معي أيضا. فحالهم ليس خيرا من حالي، والإحساس المتعب الذي أعانيه ليس قاصرا علي ولا أنا منفرد، وإنهم لأغبياء إذ أشركوا أنفسهم معي وقد أرادوا أن يفردوني بهذه المحنة. والفوز في هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال. فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد الأخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان. فصبرت وتشددت ودعوت الله في سري أن(1016/16)
يقويني على الاحتمال، ومضيت في الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسي عما أعاني من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى في وجوههم أمارات الجهد الذي يكابدونه من التجلد مثلي فأسر وأغتبط وأزداد نشاطا في الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا في الكلام، فقد كنت أعرف أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا في فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها. وضللنا على هذه الحال نصف ساعة كادة أرواحنا فيها تزهق ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادي المكتوم واغتنمت فرصة إصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد. قلت افتحها. وفتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعا واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال ما لا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بي. وقال لي واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وأن الأمر كان مقصود به غيري، وأنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكن تجاهلت وسألتهم عما يعنون. قالوا: الرائحة الكريهة التي كانت في الفصل. قلت: رائحة. . أي رائحة؟ إنني مزكوم ولهذا لم أشم شيئا فلا محل لاعتذاركم. ومضيت عنهم)
ويروي الأستاذ العقاد عن تلاميذ المدرسة الإعدادية أنهم كانوا يسمون المازني فيما بينهم باسم (تيمورلنك)، ويقول الأستاذ الكبير إن السر البراعة في هذه التسمية، هي أنه كان يدرس التاريخ، وأنه كسميه صغير الجسم مصاب بإحدى قدميه، وأنه مسيطر على التلاميذ قلما يحتاج إلى معاقبة أحد منهم لخروجه على نظام الحصة، لأنه كان مهيبا بينهم قديرا على أخذهم بمهابتهم إياه قبل خوفهم من عقابه، فجمعوا كل ذلك في اسم تيمورلنك أحسن جمع مستطاع.
وفي عام 1918 تولى المازني أمر مدرسة ثانوية، فاستغنى في إدارتها عن كثير من الأوامر والنواهي، وعن دق (الجرس) في مواعيده، ورفض أن يستعمل في مدرسته (الدفاتر) الوزارية العديدة التي تستعملها المدارس، كذلك ألغى العقوبات بكافة أنواعها، فقد كان رأيه أن المدرس الذي يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لمهنة التدريس، وكانت المدرسة تحت إشراف وزارة المعارف، فحدث خلافا بينه وبينها بسبب هذه (الإداريات)؛(1016/17)
هو يراها تافهة لا غناء فيها ولا نفع وراءها، وترها الوزارة من اللازم اللازب لحفظ النظام.
ولعل هذا الخلاف لم ينته بغير ترك المازني للمدرسة أو إغلاقها في أخريات ذلك العام، وانتقاله إلى ميدان غير ميدان التعليم.
لماذا هجر المازني التدريس؟
لعل ذلك كان زهدا فيه ورغبة عنه بعد عشر من السنين الولاء هي خلاصة العمر وصفوة الشباب. على أن المحقق انه رآه أبعد عن طبيعته وأدعى إلى تعطيل مواهبه، وأنه لا يلتقي بالأدب في ملتقى واحد، وكان يرى - كما يقول - أن الوقت الذي ينفقه في التعليم كان الأدب أولى به، أو هو مقتطع من حق الأدب، وأن التعليم لا يصله بالحياة الصلة اللازمة لفهمها. وكان يرى كذلك أن أدبه في تلك الفترة نظري بحت أو هو الأدب الذي يعتمد على الكتب ولا يستمد من الحياة إلا قليلا، فخرج في الأغلب دراسات قوامها القراءة دون التجربة.
وسبب آخر من أسباب ترك التعليم. فقد أخذت نذر الثورة المصرية (1919) تتجمع في الأفق، وتأججت في المصريين روح الوطنية وجمعت كلمتهم على القيام بها وتأريث شعلتها في وجه الاحتلال. وهي روح خبرها المازني عن كثب في هيئة مدرسته من مدرسين وتلاميذ، وممن كان يلقاهم في الطريق - بين البيت والمدرسة - من أبناء الشعب وخاصة في الأحياء الوطنية. فأعدته هذه الروح وتجاوب نداؤها الخفي بين جنبيه، وعرف أن قد آن له النزول إلى المعمعة وخوض الغمار، وأن الفرصة قد سنحت لتحقيق نيته القديمة على ترك التعليم، فأغلق المدرسة واتجه صوب الصحافة ليخدم الثورة بقلمه.
ولعله إلى جانب ذلك، قد دار بنفسه خاطر التأسي بالذين سبقوه من زملائه إلى التفرغ لرسالة الأدب مضحين في سبيلها وظائفهم الحكومية، وكانت على ذلك العهد غاية مطمح الشبان؛ وكان المذهب الجديد التمهيد له مما يحتاجون معه إلى توحيد الخطة وتجنيد الجهود. فلم يكد يحين الوقت للبدء في إعلانه والدعوة إلية، حتى شمر المازني عن ساعديه، وحمل - كما يقول - فأسه ومعوله ومجرفته ولحق بأصحابه.
يتبع(1016/18)
محمد محمود حمدان(1016/19)
بنديتو كروتشه
1866 - 1952
للأستاذ جمال مرسي بدر
في العشرين من نوفمبر سنة 1952 وفي مدينة نابولي الرابضة على خليجها مضرب المثل في جمال الطبيعة، انتقل من الفانية إلى الباقية رجل من بقية الفلاسفة العظام ورواد الفكر الإنساني وحملة مشعل الحقيقة - ذاك هو بنديتو كروتشه أكبر فيلسوف أنجبته إيطاليا منذ زمن بعيد، وأحد القلائل المشهود لهم في عصرنا ببعد الأثر في توجيه الفكر الحديث.
ولد بنديتو كروتشه في 25 فبراير سنة 1866 في بسكاسيرولي بمقاطعة اكويلا، ثم نزحت عائلته إلى نابولي حيث بدأ (بنديتو) تعلمه في إحدى مدارس الكاثوليك شأنه شأن أغلب فتيان وطنه.
وفي سنة 1883 نكب بنديتو كروتشه وهو في صدر شبابه بأبويه جميعا في زلزال من تلك الزلازل التي لا تجهلها مدينة نابولي فغادرها إلى روما حيث عاش في كنف عم له. ودخل الجامعة ليدرس الحقوق ثم تحول عنها إلى الآداب ولكنه على أية حال لم يكمل دراسته الجامعية إذ لم يلبث أن عاد إلى نابولي بعد سنوات ثلاث من إقامته في روما.
وفي نابولي عكف كروتشه سنين طويلة على دراسته الخاصة في التاريخ والدب والسياسة والاقتصاد والاجتماع وتفاعلت ثمار هذه الدراسات في ذلك العقل الممتاز حتى أخرج صاحبه أول أثر فلسفي له في سنة 1983 وهو مجموعة مقالات في (طبيعة التاريخ) وفي (مذاهب النقد الفني).
ولقد كان للدراسات الاقتصادية في تفكير كروتشه شأن كبير وانعكست عقليته الاقتصادية على كثير مما كتب وإن كان موضوعه غير متصل بالاقتصاد، ولقد بدأ اهتمام كروتشه بالدراسات الاقتصادية في شبابه الباكر إذ عكف على ما كان يشغل العالم آنئذ (ولا يزال شغله) من مذاهب اقتصادية متضاربة وأخرج فيما بين سنتي 1896 - 1900 دراسات في نواح من المذهب الماركسي.
أما اهتمامه بالنقد الفني الذي كتب فيه واحدا من أوائل آثاره فقد تجلى في نشره منذ سنة 1903 مجلته (النقد) التي تولت عرض أبدع أعمال الأدباء الإيطاليين ونقدها نقدا فنيا(1016/20)
مذهبي حقبة طويلة من الزمن بحيث أصبحت مجموعاتها مرجعا لا غنى عنه لكل من يدرس الأدب الإيطالي الحديث
ولم تتخلف عن أعمال كروتشه وكتاباته نتيجتها الطبيعية فذاع صيته في الأوساط الأدبية والعلمية. ولم يلبث هذا الشاب الذي غادر جامعة روما قبل أن يتم دراسته أن أصبح قبلة أنظار جامعات إيطاليا التي تسابقت إلى عرض الأستاذية عليه! غير أنه رفضها جميعا مفضلا الاستغراق في دراساته الحرة وبحثه المستقل الذي ينشر على الناس نتائجه في كتبه وفي رسائله فتقع من أذهانهم ونفوسهم موقع الإكبار حينا وموقع الإنكار حينا آخر لغرابة ما كان يدلي به من آراء.
ولئن تسابقت الجامعات الإيطالية لتظفر بكروتشه أستاذا بها فإن الجامعات الأجنبية قد تسابقت إلى تكريمه بإسباغ ألقاب الشرف العلمية عليه، وأول ما ناله من ذلك لقب دكتور فخري في الفلسفة من جامعة فريبورج الألمانية.
على أن كروتشه لم يعدم نصيبه من المناصب العامة في بلده إذ عين في سنة 1910 عضوا بمجلس الشيوخ ثم عين وزيرا للمعارف في وزارة جيوليتي فيما بين سنتي 1920، 1921. فلما جاء العهد الفاشستي ابتعد كروتشه عن الحياة العامة لعدم توافق آرائه واتجاهات ذلك العهد وما كان يقوم عليه من فلسفة سياسة.
ولقد أثمر تفرغ فيلسوفنا للبحث والدرس والتأليف ثمارا طيبة؛ إذ بلغت مجموعة آثاره المطبوعة سنة 1926 عشرين مجلدا عدا ما كتبه بعد ذلك التاريخ وهو شيء كثير؛ إذ أنه لم ينقطع عن الدراسة والكتابة إلى أن أدركته الوفاة.
وكان كثير من آراء كروتشه الجريئة وأفكاره المبتكرة صدى بعيد وآثار بعضها حملة من الانتقاد والهجوم صمد لها كروتشه ودخل مع معارضيه في مجالات طويلة تولاها بجنان قوي ويراع سوى.
وقد اعتبر كروتشه عند الكثيرين من أتباع هيجل ووصفت فلسفته بأنها (هيجلية)؛ غير أن أغلب الباحثين اليوم - ومنهم الأستاذ جون ألكسندر سميث أستاذ الفلسفة بجامعة أكسفورد - يخطئون هذا الرأي ويعتبرون كروتشه صاحب فلسفة خاصة تأثر فيها بكتابات اثنين من مواطنيه هما دي سانكيتس، وفيكو من كتاب القرن الثامن عشر.(1016/21)
وإنه لم يجاوز نطاق مقال واحد الإلمام بجميع نواحي كروتشه والإحاطة بفلسفته التي قسمها إلى أقسام أربعة: فلسفة الجمال، والمنطق، وفلسفة السلوك (الاقتصاد والأخلاق)، وفلسفة التاريخ وهو يراها في مجموعها وحدة لا تنفصم، وتشمل كافة مظاهر الوجود الإنساني.
ولكن لا أقل من أن نلم في هذه العجالة بشيء من آراء كروتشه في فلسفة الجمال. ولعل اقتصارنا على جانب واحد من جوانب هذه الفلسفة الخصبة (فلسفة كروتشا) أكثر فائدة من مرورنا على عجل بكل جوانبها في حدود ما يقتضيه المقام من إيجاز.
بسط كروتشه مذهبه في فلسفة الجمال في كتابه الذي ظهر سنة 1902 (وطبع بعد ذلك طبعات عديدة وترجم إلى أكثر من لغة أوربية) ثم في كتابات متفرقة أهمها المجموعة التي نشرت بعنوان (مقالات جديدة في فلسفة الجمال) (باري سنة 1926).
ليس كروتشه من أنصار فكرة المثل الأفلاطونية، وهو لا يرى الفن كما كان يراه أفلاطون محاولة لتقليد مثال الجمال الذي تحسه النفوس من بعيد مجردا عن موضوعاته وتسعى عن طريق الفن بمختلف صوره إلى الوصول إلى شيء من ذلك المثال، فكروتشه يرى أن الجمال - أو الفن - هو وموضوعاته شيء واحد، فهو من المنادين بالوحدة بين الجمال وبين موضوعه أو بين الفن وبين العمل الفني.
يقول كروتشه إن الأفكار القبلية كفكرة الجمال أو الفن ليست موجودة في ذاتها وإنما هي موجودة في الموضوعات المتعددة التي تتجلى فيها، والجمال أو الفن ليس مثالا بعيدا عن الإدراك تعجب به النفوس في ذاته! وإنما هو نفسه الأشياء الجميلة أو الأعمال الفنية التي يخطئها الحصر والتي وجدت وتوجد وستوجد في هذا العالم المتغير.
ومن هذه الوحدة بين الجمال وموضوعاته وبين الفن والأعمال الفنية يخرج كروتشه بتجديد مهمة فلسفة الجمال لا على أنها (كما كان مسلما) تعريف الفن تعريفا يسمح بمعرفة قوانين الجمال الأزلية التي تحكم كل مظاهره، وإنما على أنها محاولة دائمة لتنظيم وتبويب مظاهر الجمال الفني التي تتعدد وتتسع على مر الزمن، فهي بهذا الوصف علم متجدد نام دائما أبدا.
والعمل الفني عند كروتشه ليس هو الشكل المادي الذي يتجلى فيه ذلك العمل للناس ويبقى فيه على الدهر كالألفاظ في الشعر وكالخطوط والألوان في التصوير، وإنما العمل الفني(1016/22)
عنده هو الحالة النفسية أو الانفعال النفسي لدى الفنان المبدع ولدى غيره ممن يتذوق ما أبدعه الفنان. وعلى هذا يقول كروتشه إن الأشياء الجميلة والأعمال الفنية غير موجودة في ذاتها وإنما هي موجودة في نفوس المبدعين والمتذوقين.
وإذ ينتبه كروتشه إلى ما في القول بأن الأشياء الجميلة والأعمال الفنية غير موجودة في ذاتها من تناقص ظاهري يلجأ إلى علم الاقتصاد ليضرب مثلا يقرب المسألة من الأذهان فيقول: إن الاقتصاد لا يعرف للشيء في ذاته قيمة، وإنما القيمة هي وليدة العرض والطلب وليست وليدة صفات طبيعية في ذات الأشياء. وإذن فالاقتصادي الذي يبحث عن القيمة على هدى الصفات الذاتية للشيء يرتكب نفس الخطأ الذي يقع فيه من يبحث عن الجمال في المظاهر المادية التي تبدو فيها الأشياء الجميلة أو الأعمال الفنية.
ومن هذه التفرقة بين الأشكال المادية التي تتجلى فيها الأعمال الفنية وبين العمل الفني في ذاته يخرج كروتشه بمبدأ وحدة الفن؛ فهو يرى أن التمييز بين الفنون المختلفة إنما هو تمييز غير جوهري مرجعه إلى الشكل المادي الذي تبدوا فيه آثار مختلف الفنون كالأصوات في الموسيقى والألفاظ في الشعر والألوان في التصوير، أم في الجوهر فالفنون المختلفة التي جرى العرف على التمييز بينها تربطها وحدة قوية، لأن العمل الفني لا يتوجه إلى الحواس التي ترى أو تسمع، وإنما يتوجه إلى النفس البشرية في عمومها، وتأثيره في تلك النفس واحد وإن اختلفت الأشكال المادية التي تبدو فيها آثار الفنون ومن ثم فإن كروتشه لا يقر من يرون لكل فن من الفنون الجميلة قواعد استاتيقية خاصة به، ويرى أن فلسفة الجمال ينبغي أن تشمل بذات القواعد الفنون كلها لأنها في حقيقتها فن واحد.
هذا وإن عملية الإبداع الفني قد نالت من اهتمام كروتشه جانبا كبيرا؛ ولا غرو فهي من أهم المشاكل التي يتناولها الباحثون في الفن والجمال، وفي صدد الكلام عن الإبداع الفني يشير كروتشه إلى التفرقة المعتادة بين الإلهام والتعبير، ويرى فيها ذات المشكلة التي تتجلى في نواح أخرى من الفلسفة كما في مسألة الباطن والظاهر ومسألة العقل والمادة ومسألة الروح والجسم ومسألة الإرادة والفعل.
ومشكلة الإلهام والتعبير - منظورا إليها على هذا الوضع - هي عند كروتشه مشكلة لا تقبل الحل؛ لأن التفرقة المبدئية بين باطن وظاهر أو عقل ومادة أو إلهام وتعبير من شأنها(1016/23)