الأمثال في حياة اللغة
للأستاذ حامد حفني داود
- 2 -
عرفنا أن الأمثال ولغة الحديث توءمان. وأن هذين التوءمين - وحدهما - استطاعا أن يسايرا الحياة على ما فيها من خير وشر، وما فيها من فصاحة مقبولة وهجنة ممقوتة، ثم هما استطاعا أن يكشفا عن أصول العربية الفصحى تارة ويحملا رواسب العامية الإقليمية الطارئة تارة أخرى، ثم هما إلى جانب هذا وذاك يستجيبان للحياة ويعيشان في نفوس الناس، ويمثلان كل ما طرأ على اللغة من نماء مطرود وتطور مستمر يدل دلالة قاطعة على أن اللغة كائن حي يعيش ويتطور كغيره من الأحياء.
إذا عرفنا كل ذلك فإننا بلا شك نستطيع أن نحدد موقفنا من العربية إذا أردنا أن نأخذ بزمامها، وإن ندفعها إلى الصف الأول الذي كانت تحتله في صدر الإسلام - يوم كان القرآن - وكانت الفصحى وقبل أن تختلط بالعجمي وتصاب بما أصيبت به من رواسب اللغات الإقليمية سواء في مقاطعها وإعرابها وتراكيبها.
فقد هبطت اللغة العربية - بعد أن خرجت من الجزيرة - في أقاليم جديدة لم يتكلم أهلها بالعربية من قبل. وانتشرت في هذه الأقاليم بسرعة عجيبة لم يعهد تاريخ اللغات مثلها وساعدها على هذا الانتشار أنها كانت تحمل لواء الدين الجد في يمينها، والانقلاب السياسي والتحول التاريخي الأكبر يسارها. ولكن هذا الانتشار - على الرغم من كل هذه السر - لم يتم في يوم وليلة وإنما كان نتيجة تفاعل مستمر بين اللغة (الغازية) و (المحلية) دام وقتاً من الزمن تحققت فيها إلغاء - تارة - للغة الغازية التي فرضت نفسها في مصر وبلاد المغرب وتخوم العراق والشام، على حين استمسكت أقاليم آخر كالهند وبلاد فارس بلغاتها المحلية بعد أن اعتصمت بعوامل كثيرة حفظت لها طابعها القديم وأبقت عليها كيانها وثقافتها. وهي عوامل كثيرة نترك الحديث عنها إلى موضوع أخر يتعلق بطبيعة اللغة ومقوماتها، ولكن الشيء الذي لابد من ذكره أن العرب استطاعت أن تترك أثرا في كلتا الحالتين لأن (الأثر) نتيجة حتمية لـ (المؤثر) مهما كان ضعيفاً، كما أن (التفاعل الكيماوي) نتيجة حتمية لـ (المواد القابلة للتفاعل) مهما اختلفت كمياتها.(992/24)
ففي مصر تغلبت الغربية على اللغة القبطية ثم تفاعلت بلغات أخري كالفارسية والتركية. ولازلنا نرى آثار هذه اللغات في (العامية المصرية). أما في العراق فقد كانت رواسب الفارسية أعمق وأشد ظهوراً في عاميتهم. على حين نرى شيئاً من آثار التركية وقليلاً من السريانية في بلاد الشام.
ونحن إذا تتبعنا أقاليم الصنف الثاني التي لم تغزها اللغة العربية غزواً تاماً رأينا أنها خضعت بالمثل لنظرية (المؤثر والأثر وهذا على الرغم من قوتها السياسية، وعلى الرغم من ابتعادها عن مركز الثقافة العربية. فأنت ترى أن اللغة الفارسية القديمة التي تسمى (الفهلوية) تتطور بسبب هذا التفاعل وتبدو في وثوب جديد هو (الفارسية الحديثة). وقد أثبت البحث اللغوي أن ستين في المائة من ألفاظها عربي صرف. كما ترى أن اللغات الهندية التي تمت بصلة إلى الفصيلة (السنسكريتية) نالت ما نالتها أختها من الأثر فظهرت إحداها في ثوب جديد هو (اللغة الأردوية). وإن ما اشتملت عليه الأردو من ألفظ عربية لأكبر دلي يؤيد استمرار هذا التفاعل.
وإذا كانت الأمثال - كما قدمنا في المقال السابق - تلونت بالبيئة وتطورت مع الزمن كما تلونت لغة الحديث وتطورت تماماً - أدركنا بوضوح ما بين الأمثال ولغة الحديث من سمات عجيبة كشفها أمامنا الاستقرار ولم نصنعها صنعاً أو نبتدعها ابتداعاً، ثم إذا كانت الأمثال - وحدها من بين فنون النثر - هي التي استطاعت أن تستمر مع الزمن وتلين لهذا التفاعل الدائم كما استمرت ولانت لغة الحديث - كان خليقاً بنا أن ندرك وجوه الشبه بينهما وأن نقف عندهما وقفة المصلح اللغوي الذي يتلمس الطريقة المثلى في النهوض بأمر اللغة، وإن موقف المصلح اللغوي هنا يشبه تماماً موقف العالم الطبيعي الذي يتوسل إلى معرفة الشيء بشبيهه. ويقيس ما غمض عليه من المسائل بما وضح أمامه منها حتى يصل من البسيط إلى المركب، أو قل هو كالطبيب المجرب الذي يستخدم دماء الأصحاء في حقن أجسام المرضى من بني الفصيلة الواحدة.
والأمثال - عنده - هي النص الأدبي الحي الذي لم يعتوره الجفاف أو يلحق به الجمود أو تحجبه الصنعة أو يحول فيه التكلف والتعمل دون تذوق الناس له سواء الخاصة منهم والعامة. فما أشد حاجة ذلك المصلح إلى أن يتخذ من مادة ذلك النص المصل الواقي الذي(992/25)
يعيد به الحياة إلى رميم هذه الفنون اللغوية الأخرى إذا أراد أن يرفع من مستوى تعليمها ونشرها
وهكذا يصبح تعليم الأدب في مدارس المرحلة الثانية بأنواعها قاصراً عن أداء الرسالة التي ننشدها من تذوق النص الأدبي مادمنا لا نعالجه في هذه الصورة الحية. بل أن تدريس الأدب للناشئة في صورة ما يشرح لهم من جيد الشعر والنثر يعتبر دراسة كلاسيكية تقليدية لا تصلح لهذه المرحلة من التعليم، لأن الصلة بين هذه النصوص وبين نفوس التلاميذ تكاد تكون مفقودة، بعيدة كل البعد عن متناول مداركهم. وهي صورة بتراء لا تحقق الجانب العملي المقصود في الدراسات الأدبية الحية - إلا إذا أردنا أن نخرج ناشئة يستوعبون ولا يتذوقون، ويفهمون الفكرة فهماً عابراً ولا يمارسونها ممارسة عملية. أن مثل هذه الدراسات لا يمكن بحال أن تخرج أديباً إنشائياً يعالج الفكرة الأدبية ويواجهها في حيز حياته وبيئته، ولكنها تخرج ببغاء يردد ما لا يفهم وإن فهم شيئاً أو عالجه فهو بسفاد الغراب أو بالكبريت الأحمر أشبه.
وهنا يحق لك أن تسألني: وما علاقة تدريس الأدب بالأمثال في حياة اللغة؟ وكيف تستغل هذا الفن في تدريس الأدب لتلاميذ هذه المرحلة - أن كانت هناك علاقة.
أما عن علاقة الأمثال بفنون اللغة وآدابها فلا سبيل إلى تكراره بعد الذي ذكرته لك من صلات وطيدة بين لغة الحديث والأمثال والحياة. بينما تحس بخطورة البحث وأهمية التطبيق حين تفكر في هذا الفن وتبحث فيه على أنه وسيلة من وسائل إصلاح اللغة والنهوض بآدابها. وهي في المدرسة غير المجتمع العام.
ففي المدرسة أرى أن تستغل دراسة الأمثال العربية الأصيلة في الفصول الأولى من مدارس هذه المرحلة. ويرجع المدرس في ذلك إلى الكتب المعتمدة في هذا الباب ككتاب الأمثال للميداني. ويلتقط منها بقدر الطاقة ما يقابل الأمثال العامية في معناها ومبناها ومرماها. ويستطيع المربي الحصيف أن ينجح في تدريس الأدب العربي في هذه الصورة نجاحاً محققاً؛ وأن ينهض بالثروة اللغوية والأدبية للأسباب الآتية:
1 - إن نصوص الأمثال في ذاتها سهلة ميسورة مهما التوت مفرداتها اللغوية؛ لاتساع معناها وجرس مبناها، ولأن لها في الغالب ما يقابلها من الأمثال العامية ولو من ناحية(992/26)
المعنى والمرمى.
2 - إن الناشئة في هذا المقام يحاطون بجو عربي خالص، وذلك حين يعرض المدرس إلى دراسة ما حول (المثل) من تاريخ وأحداث طريفة دعت العربي إلى إرساله في هذه الصورة وهو في بيئته العربية.
3 - وبقدر ما يكون الحديث عن الأمثال وأسباب إرسالها قريباً من جو القصة - يكون نجاح المدرس في دراسة نصوصها، لأن التلاميذ في هذا الدور حديثو عهد بدراسة القصص في مدارس المرحلة الأولى. وطبيعة الأمثال وانتشارها في بيئتهم تغريهم بحفظها واستعمالها في مواضعها من الكلام، وتحملهم على تتبع ما يقوله المدرس وما يصطنعه من إثارة المشكلات خلال هذه الدراسة. وفي ذلك نجاح كبير وتحقيق للأهداف التي تدعو إليها التربية الحديثة. وهو علاج الفكرة في حيز الحياة نفسها!
4. . . وأخيراً يستطيع المدرس في دراسة نصوص الأمثال على الرغم من ضآلة طولها أن يحقق من الفائدة ما لا يستطيعه في تدريس درس من الشعر أو فن من فنون النثر الأخرى، لأن هذه الأمثال تعتبر درساً في الحياة الاجتماعية عند العرب ودرساً في التاريخ ودرساً في الأساليب العربية ودرساً في مفردات اللغة - بالإضافة إلى إحياء تراثنا الأدبي القديم.
وإذا زود التلاميذ بدراسة النصوص الأدبية في هذه الصورة ومرنوا على هذا النوع من التذوق سهل عليهم أن يتذوقوا نصوصاً من الشعر والنثر في السنوات المقبلة. كما يستطيعون بعد ذلك أن يزودوا بعجالة من النصوص تمثل تطور التاريخ الأدبي في كل عصر. وعند ذلك يتحقق الغرض المقصود من تدريس الأدب في هذه المرحلة - الذي يهدف إلى التذوق ومتابعة البحث.
ذلك في المدرسة. . أما في المجتمع فيتسع مجال الإصلاح ويتضاعف واجبنا في النهوض بحياة إخواننا العامة: الفكرية والأدبية. ولدينا من إقبال عامة المثقفين على القصص وكتب الأدب ما يشجع على رفع مستوى العامية وينهض بها حتى تصبح أقرب إلى الفصحى من ما كانت عليه بالأمس القريب. ولن يكون ذلك إلا بعلاج لغة الحديث من الطريق الحساس الذي يميل إليه العامة وتألفه نفوسهم. . ألا وهو (الأمثال العامية) فنقدم إليهم قصصاً مبسطة(992/27)
يزودون فيها بهذه الأمثال. والكاتب البارع هو الذي يستطيع بلباقته أن يصل بين حاضر الأمثال العامية وغابرها، وأن يقرب أذهان القارئين من أصولها الفصحى حتى إذا حقق هذا الغرض أخذ بأيديهم إلى متابعتها في كتب الأدب. وهذا واجب كتاب القصة في مصر وواجب المتأدبين من علماء النفس.
ومن هنا تتقارب الخطى وتسد الثغور وترمم الثلمات ويرأب الصدع ونقف من الطبيعة موقف الحكيم المتفنن الذي يستطيع بلباقته أن يتحكم فيها وأن يوجهها توجيهاً علمياً لا يتفانى مع قوانينها. أريد أن أقول: إننا بهذا القدر نستطيع أن نوجه النماء المطرد في اللغة العربية ككائن حي، وأن نقوم من اعوجاجه في نفوسنا - لا في ذاتها - وذلك العمل جدير بالتنفيذ، وهو أعظم من مما نقوم به اليوم من تعريب وتصويب.
حامد حفني داود
أستاذ اللغة العربية والتربية بمدارس المعلمين(992/28)
شوقيتان لم تنشرا في الديوان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
1 -
توطئة
يعلم قراء (الرسالة) الزاهرة مدى إعجابي بشعر أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي بيك، ويعلم القراء الكرام أيضاً تعصبي له وتفضيلي شعره على غيره من الفحول الكبار، ومن تحصيل الحاصل قولي أن نهضة مصر الأدبية الحديثة قامت على أكتاف ثلة نادرة من أفذاذ الرجال، كان على رأسهم شوقي الذي استطاع بما وهبه الله من عبقرية ملهمة وقريحة وقادة وعلم غزير، أن يثب بالشعر العربي إلى قمة الإبداع، بعد أن كان محنطا بقوالب من المحسنات اللفظية السخيفة، فهو بحق الحد الفاصل بين موت الشعر وحياته، لأنه رحمه الله لم يكن كغيره من شعراء القريحة، أمثال الرصافي وحافظ، يعتمد على محصوله اللغوي من الألفاظ والمرادفات، ومحفوظة من عيون شعر من سبقوه من الأفذاذ، كزميله سامي البارودي، بل كان نسيج وحده وطراز لا شبيه له، لأنه كان يغترف من بحر خضم متلاطم الأمواج، هو بحر العبقرية والإلهام والنبوغ، ولو لم يكن كذلك لما تقدم شاعر النيل لمبايعته هاتفاً:
أمير القوافي قد أتيت مبايعاً ... وهذي وفود الشعر قد بايعت معي
ولا أجد في معرض الحديث عنه وعن شعره أصدق ولا أكمل من قول المرحوم الرافعي؛ إذ قال فيه: (هذا الرجل انفلت من تاريخ الأدب لمصر وحدها كانفلات المطرة من سحابها المتساير في الجو، فأصبحت مصر به سيدة العالم العربي في الشعر، وهي لم تذكر في الأدب إلا بالنكتة والرقة وصناعات بديعة ملفقة، ولم يستفض لها ذكر بنابغة ولا عبقري. ولولا البارودي وصبري وحافظ في المتأخرين وكلهم أصحاب دواوين صغيرة لما ذكرت مصر بشعرها في العالم العربي. على أن كل هؤلاء لم يستطيعوا أن يضعوا تاج الشعر على مفرق مصر ووضعه شوقي وحده.
كل شاعر مصري هو عندي جزء من جزء ولكن شوقي جزء من كل. والفرق بين(992/29)
الجزأين أن الأخير في قوته وعظمته وتمكنه وأتساع شعره جزء عظيم كأنه بنفسه الكل. ولم يترك شاعر في مصر قديماً وحديثاً ما ترك شوقي، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لسواه، وذلك من الأدلة على أنه هو المختار لبلاده فساوى الممتازين من شعراء عصره وارتفع عليهم. . أن شوقي من النفس المصرية بمنزلة المجد المكتوب لها في التاريخ بحرب ونصر. . الخ)
وإلا فدلوني على شاعر غير شوقي تمكن أن ينظم في كل الفنون والأبواب فيجيد ويبدع؟ أنا أعلم أن أكثر الشعراء في لون من ألوان الشعر فيشتهرون به كما حدث بالفعل. فأبو نواس مثلاً أجاد في الخمريات وأبو العتاهية في الزهديات والنابغة في الاعتذارات والمتنبي في الحكمة وهكذا. . أما أن يجيد الشاعر في كل باب فهذا لم يحدث في تاريخ الشعر العربي قط ولم يتح منذ الجاهلية حتى الآن إلا لشوقي؛ لأن شوقي لم يكن شاعر مصر فقط ولا العروبة وحدها ولا الإسلام خاصة، بل كان شاعر الشرق كله أو قل الإنسانية جميعها، وهكذا يكون الشعراء العالميون الخالدون. وشوقي بعد هذا كله جمع في رأسه ونفسه نفسيات جميع الشعراء وأفرغها بعد فحصها في ثوب جديد خاص به، وبذلك دل على أن أسلوبه لا يجاريه أسلوب، حتى ليستطيع المتذوق لشعره أن ينسب كل ما قال من الشعر له حتى ولو غالط مدح ونسبها إلى غيره؛ لأن ألفاظه وتعبيره وديباجته تنم عليه كما ينم العطر على الوردة ولو اختفت بين الأشواك، وهذه ميزة قلما ينفرد بها أحد غير العباقرة الملهمين.
وإذاً فمن تكرار القول وإعادة الحديث أن أبدي إعجابي بشوقي إلى هذه الدرجة من الإفراط والتطرف، ومن التبجح أن أذكر ذلك، ولكني في هذا الحديث مرغم لأنني أعجب غاية العجب من عدم عناية أدباء مصر بشعر سيد شعرائهم وخصوصاً شعره لم يدرج في كتاب ولم يضم إلى دواوينه الأربعة. ولما كنت أعتقد أن لشوقي قصائد كثيرة لم تنشر أخذت أعنى بجمع أكثر القصائد التي أعثر عليها في بطون الصحف الأدبية القديمة التي كانت تسعى إلى نشر ما يقوله أمير دولة الشعر وكرسي الأدب حتى تمكنت بعد جهد جهيد وسعي متواصل أن أحصل على عشر قصائد نشرت أثنين منها في الرسالة الغراء قبل عام وها أنا أتبعها الآن بقصيدتين من عيون شعره، على أن أقدم بعد ذلك ما لدى من شعره في(992/30)
كتاب صغير بعنوان (شوقيات لم تنشر) بعد أن أقدم لهذا الشعر مقدمة ضافية تليق بمكانة قائلة
عتاب لأنجاله:
لا أظن أن شاعراً في الدنيا أحب أنجاله وأولاده بقدر ما احب شوقي علياً وحسيناً، والمتتبع لقراءة شعره يلمس حنانه لهما في كل ما نطق به، حنان الأبوة الصادقة والقلب العطوف، فهل بعد ذلك الحنان بر أنجاله به، أنا لا أريد أن أتحامل عليهما إكراماً لأميرنا. . ولكني أود أن أقول ما سبب تقاعسهما عن جمع ما لديهما من شعر في ديوان جديد؟ المال موجود لديهما والحمد لله! دور النشر ما أكثرها في مصر! ثم ما ذنبنا نحن المعجبين بشوقي وبشعره أن نحرم منه! أين إذن مسرحية (البخيلة) ومسرحية (الست هدى) وهما تمثلان ذلك العصر أصدق تمثيل؟!
أين شعر والدهما الباقي؟! إني أهيب بكل أديب عربي يحمل بقلبه ذرة من الحب لشوقي ولمصر أن يحث الأستاذين الكريمين وهما أكبر أنجاله على طبع روايتيه الشعريتين (البخيلة) و (الست هدى) ليسديا بذلك إلى المسرح والشعر يداً تذكر فتشكر. كما أطالب أخواني الأدباء الذين يحرصون على قراءة شعر شوقي في ديوان جديد أن ينشروا ما لديهم من شعره المنسي على صفحات الرسالة الزاهرة أو يرسلوه إلي لأضمه إلى مجموعتي كي أستطيع أن أظهرها للوجود في القريب العاجل أن شاء الله.
الشوقية الأولى
قلت إنني عثرت بعد تنقيبي وبحثي في حنايا الصحف على بعض الشوقيات التي خلت منها دواوينه. . وأولى هذه النفحات عثرت عليها في الصفحة (270) من الجزء الرابع مجلد (5) من مجلة (الزهراء) القاهرية لسنة 1347 هـ - 1928 م والذي كان يصدرها في مصر الأستاذ محب الدين الخطيب خال صديقة الأستاذ الطنطاوي. . وهذه الدرة الشوقية نظمت في تكريم الشاعر الأستاذ المرحوم عبد الحميد بك الرافعي. . وقد قدمها محرر الزهراء بهذه الديباجة:
(أقيمت في طرابلس الشام حفلة تكريم عظيمة للشاعر الكبير الأستاذ عبد الحميد بك(992/31)
الرافعي في شوال الجاري (أي سنة 1347 هـ) ألقيت فيها قصيدة أمير الشعراء)
فمن هو هذا الشاعر الذي كرمه شوقي؟
لم أجد للشاعر عبد الحميد الرافعي ترجمة أعتمد عليها ولكن وجدت في (مختارات الزهور) كلمة عن شعره هي:
(عبد الحميد بك الرافعي من أدباء طرابلس الشام المعدودين، وسليل أسرة عريقة في النسب. مشهور عن أفراده العلم والفضل. أما شعره فشعر البداوة مع مسحة حضرية فصيح الألفاظ، جيد التراكيب. له ديوان حافل بغر المنظومات. .)
ومن شعره قوله في (المشيب)
يا شيب عجلت علي لمتي ... ظلماً، فيا ابن النور ما أظلمك
بدلت بالكافور مسكي وما ... أضواه في عيني وما أعتمك
من يقبل الفاضح في ساتر ... فهات ليلاك وخذ مريمك
غرك أن الشيب عند الورى ... يكرم، هل في الغيد من أكرمك
فليت أيام شبابي التي ... أرقتها غدراً، أراقت دمك
وإلى هنا أقف عن الشرح لأقدم للقراء وخصوصاً المعجبين بعبقرية أبي علي الخالد قصيدة كاملة وهي التي ألقاها في تكريم الرافعي
أعرني النجم أوهب لي يراعا ... يزيد (الرافعيين) ارتفاعا
مكان الشمس أضوء أن يحلى ... وأنبه في البرية أن يذاعا
بنوا الشرق الكرام الوارثوه ... خلال البر والشرف اليفاعا
تأمل شمسهم ومدى ضحاها ... تجد في كل ناحية شعاعا
قد اقتسموا ممالكه فكانت ... لهم وطن (الفصحى) مشاعا
هموا زادوا (الفضاء) جمال وجه ... وزادوا غرة (الفتيا) إلتماعا
أبو في محنة (الأخلاق) إلا ... لياذاً في العقيدة وامتناعا
أووا شيباً، وشباناً إليها ... تخالهم (الصحابة) والتباعا
إذا أسد الشرى شبعت فعقت ... رأيت شبابهم عفوا جياعا
فلم ترى (مصر) أصدق من (أمين) ... ولا أوفى إذا ريعت دفاعا(992/32)
فتى لم يعط مقوده زمانا ... شرى الأحرار بالدنيا وباعا
عظيم في الخصومة ما تجنى ... ولا ركب السباب ولا القذاعا
تمرس بالنضال فلست تدري ... أأقلاماً تناول أم نباعا
ويا ابن السابق المزري ارتجالا ... برواض القصائد وابتداعا
أما يكفي أباك السبق حتى ... أتى بك أطول الشعراء باعا
شدا الحادي بشعرك في الفيافي ... وحركت الرعاة به اليراعا
وفات الطير ألفاظاً فحامت ... على المعنى فصاغته صناعا
إذا حضر البلابل فيه لحن ... تبادرت له الحمام استماعا
مشى (لبنان) في عرس القوافي ... وأقبل ربوة واختال قاعا
وهز المنكبين لمهرجان ... زها كالباقة الحسنى وضاعا
وأقبلت الوفود عليه تترى ... كسرب النحل في الثمرات صاعا
غدا يزجي الركاب وراح حتى ... أظل (دمشق) وانتظم البقاعا
ترى ثم القرائح والروابي ... تبارين افتناناً واختراعاً
ربيع طبيعة وربيع شعر ... تخلل نفح طيبهما الرباعا
كأنك بالقبائل في (عكاظ) ... تجاذبت المنابر والتلاعا
بنت ملكا من (الفصحى) وشادت ... بوحدتها الحياة والاجتماعا
فعادت أمة عجباً وكانت ... رعاة الشاء والبدو والشعاعا
أمير المهرجان، وددت أني ... أرى في مهرجانك أو أراعا
عدت دون الخفوف له عواد ... تحدين المشيئة والزماعا
وما أنا حين سار الركب إلا ... كباغي الحج هم فما استطاعا
أقام بغبنه لم يقض حقا ... ولا بل الصبابة والنزاعا
(طرابلس) انثنى عطفي أديم ... وموجي ساحلا وثبي شراعا
كسا جنباتك الماضي جلالا ... وراق عليه ميسمه وراعا
وما من أمس للأقوام بد ... وإن ظنوا عن الماضي انقطاعا
ألم تسقى الجهاد وتطعميه ... وتحمي ظهره حقباً تباعا؟!(992/33)
شراعك في (الفنيقيين) جلى ... وذكرك في (الصلبين) شاعا
كأني بالسفين غدت وراحت ... حيالك تحمل العلم المطاعا
(صلاح الدين) يرسلها رياحاً ... وآونة يصففها قلاعا
أليس البحر كان لنا غديراً ... وكانت فلكنا (البجع) الرتاعا
غمرنا بالحضارة ساحلية ... فما عيا بحائطها اضطلاعا
توارثناه أبلج عبقريا ... ذلول المتن منبسطاً وساعا
ترى حافاته انفجرت عيوناً ... ورفت من جوانبه ضياعا
فما زدنا الكتاب الفخم حرفاً ... ولا زدنا العصور الزهر ساعا
عقدنا معقد الآباء منه ... فكنا البهم قد خلف السباعا
كأن الشمس مسلحة أصابت ... عفيفاً في طيالسه شجاعا
تحجب عن بحار الله حتى ... إذا خطرت به نضت القناعا
وما رأت العيون أجل منها ... على أجزاء هيكله اطلاعا
فما كشروقها منه نعيما ... ولا كغروبها فيه متاعا
هذه عصماء شوقي التي قالها في تكريم الشاعر الكبير المرحوم عبد الحميد بك الرافعي وهي كما يراها القارئ الكريم نفحة خالدة من نغمات شاعر الشرق الخالد الذي لم يك شاعر مصر وحدها بل شاعر الإنسانية برمتها وإن حدد هو فقال:
كان شعري الغناء في فرحة الشرق وكان البكاء في أحزانه ومثل شوقي يظل خالداً ما ظلت الشموس تدور في أفلاكها. وفي العدد القادم أن شاء الله أقدم (شوقية أخرى)(992/34)
دراسة وتحليل
الجواهري شاعر العراق
للأستاذ محمد رجب البيومي
2 -
ونترك كارثة فلسطين لننتقل إلى أذناب المستعمرين. . .
ولا تكاد تخلو إحدى قصائد الشاعر من تجريح هؤلاء الأذناب والتشهير بهم، بل أن إنجلترا الغادرة لم تنل من الشاعر ما ناله أذنابها المتزعمون، وللجواهري وجهة نظره الصائبة في ذلك، فالإنجليز مهما عصفوا بالشرق والإسلام، وناهضوا الحريات بشتى الوسائل، فهم يخدمون وطنهم بما يرونه. والأساليب الظالمة، أما هؤلاء الأذناب فخائنون آثمون يشنون الحرب على بلادهم، ويصادرون حرياتها وكرامتها في غير هواهم وإشفاق، وقد يبلغ بك الأسف أشده إذ تجد الشاعر يقارن به عهدين، عهد برز فيه الاستعمار سافراً بوجهه الدميم، يأمر وينهب ويسلب ويبتز، وعهد رجع فيه المستعمر إلى الوراء خطوة ووقف خلف ستار رقيق شفاف ينظر ما ينفذه صنائعه من تعسف وبطش، وقد أخلى الطريق أمامهم فما استشعروا عاطفة نبيلة، أو أحسوا بواجب قومي، بل صالوا ذئاباً نهمة جشعة وعاثوا أضعاف ما عاث المستعمر الظلوم، وانطلقت المطامع من مكامنها تحتجر وتدخر وكانوا ستاراً لعورات المحتل ومثالبه حتى فضل الناس أن يعودوا إلى العهد الأول فيقابلوا الاحتلال وجهاً لوجه!! إذ رأوا بعد التجربة الأليمة أن افتراش القتال أهون من افتراش الجمر، فأضحت أمنيتهم أن يضعوا الصفاء بأيدهم من جديد، وكانوا يشتكون الجدب والمحول فرأوا من هؤلاء المستوزرين جرادا يستأصل ما بقى من الغصون والأوراق بدل أن يهطلوا غماماً ينعش الأرض ويسقى الزرع ويضاعف الثمر وليس الجواهري سادراً في خياله، بل أنه يضع في يد قارئه الحجة، فيتساءل عن حرية النقد التي كانت تجد مجالها في عهد المستعمر، فلا يرى لها صدى يتجاوب، وينظر إلى السجون والمعتقلات، فيراها تستقبل أضعاف من كانت تستقبلهم قبل ذاك؟ فليذرف الشعر دمعه الغزير على الشرق الكليم، وما يوجه إليه من طعنات قاتلات:(992/35)
فكم في الشرق من بلد جريح ... تشكي لا الجروح ولا الضمادا
تشكي بغي مقتاد بغيض ... تأبى أن يطاوعه انقيادا
فكانت حيلة أن يمتطيه ... رضيع لبانه فبغى وزادا
صدى للأجنبي ورب قفر ... أعاد صدى فسر بما أعادا
فكانوا منه في العورات سترا ... وكانوا فوق جمرته رمادا
تروي من مطامعه وأبقا ... لهم من سؤر ما ورد النمادا
وكان إذا تهضمه غريب ... أقام له القيامة والمعادا
فأسلمه الغريب إلى قريب ... يسخره كما شاء اضطهادا
فبئس منى لمصفود ذليل ... لو أن يده لم تضع الصفادا
وبئس مصير مفترشين جمرا ... تمنيهم لو افترشوا قتادا
وكانوا كالزروع شكت محولا ... فلما استمطرت قطرت جرادا
والشاعر ذو نظرة واعية فاحصة، فهو ينظر إلى أعمال هؤلاء مدركاً عللها وأسبابها، وقد فطن إلى أن المدرسة الاستعمارية التي تخرج المستوزرين في شتى الأمم العربية مدرسة واحدة متفقة المناهج والأساتذة، حتى لكأنها توزع من هؤلاء نسخاً مطبوعة على الشرق، وفي سطور كل نسخة وظروفها ما يتفق ومبادئ الاحتلال وأغراضه، ويتضح هذا بجلاء في قصائد الشاعر، فأنت ترى ما يمثل في العراق نظير ما يمثل في كل قطر شقيق. وسيعرض لنا الشاعر في فرائده رواية محبوكة الأطراف، منسقة الفصول، وقد استمدت أبطالها وحوادثها مما يجري في الشرق الصريع من محن وأرزاء، وهو بعد موفق في مسرحيته، بارع في أدواره إلى حد كبير، وسأدير لك الشريط لتجد في الفصل الأول ما لا يغيب عن ذهنك من ألاعيب الاستعمار في كل قطر منكوب، فأنت أمام مستوزر بغيض يعرف ما يكنه له الشعب من احتقار وازدراء، فيقابل ذلك بالبطش العنيف، والرقابة المليئة بالدسائس والمؤامرات، فإذا أراد أن يختلق ما يبرر فظائعه الآثمة لجأ إلى الدستور فأخضع نصوصه الفضفاضة إلى ما يريد من تعسف وإرهاق، وأوجد الشروح المتكلفة، والتفاسير المموهة، ممهورة بأسماء قانونية يغريها الذهب والمنصب والجاه، فتحيل النهار ليلا والحق باطلا، فإذا وجد الحجة القانونية الموهومة في يده، لجأ إلى المجلس النيابي فبدده في طرفة(992/36)
عين، وشرد أعضائه الأحرار، وأخذ يتحدث عن الحرية والمساواة والنزاهة، وأجرى انتخابات باطلة زائفة، وقد حشد لها رهطاً من الأنصار والأنسباء، فإن تجاوزهم فإلى فريق وصولي نفعي يروح مع الذئاب ويغدوا مع الرعاة، وبذلك يضمن الحجة الدستورية لبقائه في المنصب، دون أن يغفل أولياء نعمته من المستعمرين، فيسوق إليهم ما يريدون، وفوق ما يريدون، وإن جر على بلده النكال والوبال، هذا الفصل المؤسف من الرواية يمثل في كل قطر نكب بالاستعمار، وإن الشاعر ليبرزه بوضوح إذ يقول على لسان أحد هؤلاء:
اتخذت الورى بالظن أحصى خطاهمو ... ورحت لدقات المقلوب محاسبا
ولم أر للاثم الفظيع ارتكبته ... سوى أنني أديت للحكم واجبا
لجأت إلى الدستور في كل شدة ... أفسر منه ما أراه مناسبا
أكم به الأفواه حقا وباطلا ... وأخنق أنفاسا به ومواهبا
أهدم فيه مجلسا لا أريده ... وإن ضم أحراراً غياراً أطايبا
وأبني عليه مجلساً لي ثانيا ... أضيع ألكاكا عليه رواتبا
وأحشد فيه أصدقائي وأسرتي ... كما ضم بيت أسرة وصواحبا
فإذا أنهي الفصل الأول من المسرحية أدار الشريط مرة ثانية. فطالعك في الفصل الثاني بفريق من المستوزرين جذبهم الاستعمار إلى موائدهم، وأظهر لهم العطف الزائد والحب الأكيد لبلادهم، ورآهم أهلا لمحالفته على البأساء والضراء، وأبرم معهم وثائق خادعة، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب، فطار بها الأغراء كل مطار، ورجعوا إلى بلادهم يتشدقون بالعزة والحرية والاستقلال! ويدعون أنهم أنقذوا الوطن من براثن الاستعمار، إنقاذاً مشرفاً يتفق وكرامة البلاد، فإذا حزب الأمر وتغير الوضع الدولي، تنكر الحليف لوثائقه، وسخر بأذنابهم وحلفائه، وأخذ يفسر النصوص تفسيراً مجحفاً ظالما وطالب بحقه كصديق محالف في الانتزاف والاستلاب، وهنا فقط يتيقظ النائمون من رقدتهم فيردون في الوثائق أغلالاً خانقة، وقيوداً ثقيلة مرهقة، فيتنصلون مما اقترفوه، كمولود تحدر من سفاح، ويلصق كل فريق جريمته بأخيه، ويعرف الجميع أن معاهدة الذئب للحمل ماكرة باغية، ولا سبيل إلى مصادقة غريم يهدد صاحبه بالمحق الذريع، ثم يضحك الشاعر من غفلة هؤلاء الذين لا يلمسون بدائه الأشياء فيتخبطون تخبط العشواء، حتى يفجئهم الواقع المرير بما لا(992/37)
ينتظرون، هذا هو الفصل الثاني من الرواية السياسية المؤلمة وأظن القارئ قد تشوق إلى رؤيته فلينظر في هذه الأبيات
ووضع أمس كلهمو لواه ... به واليوم كلهموا لواحي
تنصل منه زورا صانعوه ... كمولود تحدر من سفاح
وذموا أنهم كانوا عكوفا ... عليه في الغدو وفي الرواح
وتأريخ أريد لنا ارتجالا ... فآب كما أريد إلى افتضاح
شحنا دفتيه بمغمضات ... (كأحداق المها مرضى صحاح)
وغلقنا مظاهره حسانا ... مزغرفة على صور قباح
وأحللناه وهو ضريح شعب ... محل الوحي جاء من الضراح
نجرعه زعافا ثم نظفي ... عليه محاسن الشيم القراح
وربة صفقة عقدت فكانت ... كتحريم الطلاق على النكاح
تدبر في العواصم من مريب ... خبيث الذكر مطعون النواحي
يفوح الخمر منها في اختتام ... ويبدو البتر منها في افتتاح
ويسفر نصها المسود خزيا ... ومظلمه عن الغيد الملاح
وحلف ليست أردى من ذهول ... أعن جد ينفذ أم مزاح
لنا حق يرجى بالتماس ... وباطلهم ينفذ بالسلاح
وليست بعارف أبداً حليفاً ... يهدده حليف بأكتساح
ثم يدور الشريط فيعرض لك المؤلف فصله الثالث والرابع والخامس حتى تنتهي المسرحية الأليمة بانتهاء ديوانه، ولن أجد من نفسي الرغبة في تتبع الفصول وتحللها تحليلاً يرشد إلى كوامنها السياسية، فهذا ما لا يغني عن قراءة ديوان الشاعر، بجزأيه الكبيرين، وبخاصة إذا كان الحديث عن هؤلاء الأوشاب يسجل أكثر قصائد الديوان، سواء أكانت في الرثاء أو السياسة أو الاجتماع، فهم القاسم المشترك في كل ما يجلب الكوارث على البلاد، وقد وصفهم الشاعر بما لا يعد مبالغاً فيه، وصور الحقد في نفوسهم. ورسم القطوب والعبوس والانقباض، وجميع ما يلوح في وجوههم الانفعالات والغضون، وتهكم بثرائهم المغتصب وجاههم الزائف وشهواتهم الجامحة العاصفة، ونظر إلى أوسمتهم اللامعة نظرات(992/38)
أطفأت ما بها من تألق وبريق، وحسبك أن يقول:
تداول هذا الحكم ناس لو أنهم ... أرادوه طيفاً في المنام لخيبوا
ورب وسام فوق صدر لو أنه ... يجازى بحق كان بالنمل يضرب
نشاربه بين المخازي وراقه ... وسام عليها فهو بالخزي معجب
ولن نترك ما قاله الشاعر في أعداء الشعوب دون أن نشير إلى سخريته الهازئة من أمانيهم الخادعة، وعجبه لغفلتهم ممن يتهددهم من مصير أليم، وترقبه الساعة الفاصلة التي تستيقظ فيها الشعوب النائمة على صوت لجب صاخب يبعث بها التوثب والطموح، فتندفع هائجة إلى فلول الخونة من الأذناب فتدوسهم بالنعال، وتطؤهم بالأقدام، وكم يؤلمك أن يتمنى الشاعر من هؤلاء أن يقتدوا بإنجلترا! فيهادنوا المروءة والرجولة ويحاربوا العقائد والمذاهب، وأنى يكون ذلك، والشعب البريطاني يقظ متوثب، يقدر زعماؤه كرامته وحيويته، أما أذنابهم في الشرق فلا يعترفون بحمية وإباء، فصادروا الحريات، وكمموا الأفواه، فأنطلق الجواهري يقض مضاجعهم، وكشف الأستار عن مثالبهم الفاضحة إذ قال:
ولقد رأى المستعمرون فرائسا ... منا وألفوا كلب صيد سائبا
فتعهدوه فراح طوع بنانهم ... يبرون أنياباً له ومخالبا
مستأجرين يخربون بيوتهم ... ويكافئون على الخراب رواتبا
الشاربين دم الشباب لأنه ... لو نال من دمهم لكان الشاربا
والحاقدين على البلاد لأنهم ... حقرتهمو حقر السليب السالبا
ولأنها أبدا تدوس أفاعيا ... منهم تمج سمومها وعقاربا
شلت يد المستعمرين وفرضها ... هذى العلوق على الدماء ضرائبا
ألقى إليهم وزره فتحملوا ... أثقاله حمل الثياب مشاجبا
وأذابهم في الموبقات فأصبحوا ... منها فجوراً في فجور ذائبا
يتمهل الباغي عواقب بغيه ... وتراهموا يستعجلون عواقبا
حتى كأن مصائرا محتومة ... سودا تنيلهموا منى ورغائبا
يتبع
محمد رجب البيومي(992/39)
رسالة الشعر
حر مقيد وعبد مسيب
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
في الناس عبد قيده رهبة ... أو رغبة في هذه الفانية
يعيش هجيراه: وا حسرتا ... لطمعي يا حسرتا لما ليه
يبيت موفورا ولكنه ... مرزأ قد حرم العافية
معبد إلا لدى نفسه ... قد أطلقته في الخنا راضية
يرتع في سوآته سائباً ... كما تجر الكلأ الماشية
وفيهمو حر له همة ... لكل قيد في الورى قالبه
تعلو على القيد به نفسه ... تطير في آفاقها العالية
تراه من ذل الورى مطلقا ... مقيدا من نفسه الآبية
أنعم به مقيدا مطلقا ... حرية بين الورى غالية
لا يتسع وقتنا للخطب القصار
سمعت بمحفل خطبا طوالا ... تصاب لها المسامع بالسقام
فقلت: عجبت للخطباء تزجى ... فسيح القول في ضيق المقام
فكم وقت أضاعوا في كلام ... سخيف النسج منفرط النظام
فقال محدثي: إنا سمعنا ... عجيب القول عن أحد العظام:
(يضيق الوقت عن خطب قصار ... فنرمي بالطويل من الكلام)
عبد الوهاب العزام(992/41)
بنيتي
إذا تطلعت إلى وجهها رأيت أمي مرة ثانية
للأستاذ أنور العطار
بنيتي عصفورة شادية ... تلعب في عش الصبا لاهية
بنيتي لحن رقيق سرت ... في مهجتي أفراحه صافية
يهفو إليها القلب من وجده ... فتنتشي أحلامه الماضية
بنيتي شعر تغنت به ... روحي في عزلتها الساجية
بنيتي وحي تلقيته ... من نفحة عطرية سارية
من عبق الزهر سقاه الندى ... خمرته العلوية الشافية
ومن نشيد النبع في حقله ... ومن صلاة الغابة الخاشية
ومن صفاء الجدول المنتشي ... ومن رؤى الأمسية الحالية
من عودة القطعان مسحورة ... تصغي إلى شبابه الراعية
والدرب في سكرته حالم ... يسبح في الأنشودة الشاكية
والقرية السجواء في صمتها ... مطلة من شوقها رانية
بنيتي أمنيتي في الدنيا ... ومأملي والبغية الغالية
سريرها يهتز في أضلعي ... تنام في أعطافه هانية
أيامها مشرقة بالمنى ... ضاحكة بالبشر والعافية
بنيتي طيف تعلقته ... من صغري والفتنة النائية
صورة أمي سربت في دمي ... وانبثقت من طفلتي بادية
بغامها وشوش في مسمعي ... وطاف في مهجتي الصابية
إذا تطلعت إلى وجهها ... رأيت أمي مرة ثانية
أنور العطار(992/42)
الكتب
فن المقابلة. . . مبادئه وطرقه
تأليف آنيت جاريت
للأستاذ محمد عثمان محمد
كثيراً ما يتوقف نجاح الفرد في حياته العامة على قوة شخصيته ومدى تفهمه وإتقانه لفن المقابلة.
فقد يستقبلك شخص يستحوذ عليك أدبه ورقة حديثه فتنجز له في الحال طلبه، وتقدم له ما استطعت من مساعدات، وقد يستقبلك آخر بأسلوب السوقة والدعماء فتنفر منه ولا تحقق له أملا، أو تنجز له طلبا.
كما أن الأخصائي أو القائم بالمقابلة في أية هيئة أو مؤسسة أو منظمة اجتماعية يتوقف نجاحه في عمله إلى حد كبير على هذه الشخصية وعلى مدى تمكنه وإدراكه لهذا الفن كذلك.
ولذا كان ولا يزال للمقابلة شأن عظيم في الدوائر السياسية والمجالات الدولية وفي المنظمات الإنسانية المختلفة التي تقوم بتأدية الخدمات الاجتماعية للأفراد والجماعات وفي مكاتب الاستعلامات وفي المصالح الحكومية وفي البنوك والشركات العديدة وفي المستشفيات العامة وفي المصحات وفي عيادات الأطباء وفي مكاتب المحامين والمحاسبي وفي دور النشر والصحافة وفي غيرها وغيرها.
وقد قام أخيراً المعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالإسكندرية مشكورا بترجمة مؤلف قيم يدور حول هذا الموضوع إلى اللغة العربية اسمه (فن المقابلة - مبادئه وطرقة) بقلم الأخصائية الأمريكية آنيت جاريت.
والكتاب من الحجم الصغير، ويقع في مائة وثماني عشر صفحة، وقد تناولت المؤلفة في فصوله السبعة فهم الطبيعة البشرية والحالات النفسية للقائم بالمقابلة وأغراض المقابلة وكيفية القيام بها والأشياء التي نبحث عنها فيها، وأخيرا الظروف الضرورية للمقابلة الحسنة، ثم اختتمت بحثها الممتع هذا بكلمة عابرة موجزة عن (ثقافة الأخصائي) وما يجب(992/43)
أن يتزود به من معلومات عامة وخاصة حتى يقوم بما وكل إليه من عمل في المؤسسة التي ينتمي إليها على الوجه الأكمل.
وقد يتصفح المتصفح الكتاب فيرى لأول وهلة أن بحثه يدور حول المقابلة من ناحيتها (المهنية) فقط، وأنه ما نشر إلا لينتفع به الأخصائيون والقائمون بالمقابلة في مختلف المنظمات والمؤسسات، ولكنه لو تفكر حقا لوجد أن كل ما جاء في تضاعيفه ما هو إلا دراسة مستفيضة وافية مفيدة للجميع، للأخصائي ولغير الأخصائي.
ومن الملاحظ أن المؤلفة لا تعرض بحثها فيه عرضا سطحيا سهلا، ولكنها تلجأ في أسلوب سلس إلى التركيز فالمناقشة والشرح والتبيين.
أسمعها حين تتكلم عن حوافز السلوك الإنساني (ص 17) فتقرر أن الكثير من سلوك الإنسان يصعب علينا تعليلة، وأننا (. . . قد نفلح في تقديم تبريرات بارعة ولكنها قد لا تجد القبول حتى منا أنفسنا. . .) ثم تعمد إلى الشرح والإيضاح بقولها (. . . أمثال ذلك كيف تستبد بنا ثورة الغضب إذا كان علينا أن ننتظر دقيقة واحدة، على حين أننا نقف في أوقات أخرى في الصف ننتظر دورنا هادئين مدة نصف ساعة!؟ ولم ننزل عقوبة صارمة بطفل ما لأنه ارتكب هفوة يسيرة على حين نتجاوز عن أخطاء له أشد شناعة؟)
ثم اسمعها حين تتحدث في موضوع آخر عن الصراع بين الدوافع (ص 28) قائلة (إننا كثيرا ما نشك فيما قد يصدر عنا من أحكام، وكثيرا ما نعيد النظر كرات فيما اخترناه متحسرين على سابق اختيارنا الذي قد يبدو لنا أننا كنا فيه غير موفقين) ضاربة المثل بالطالب الذي يتخلى عن إخوانه في حفل بهيج ليعود إلى استذكار دروسه استعدادا لامتحان مقبل من أنه (. . . يشعر شعورا قويا أثناء الاستذكار أن هناك قوة تجذبه إلى الحفل، وفي بعض الأحيان قد تكون هذه القوة من السلطان بحيث تغير اختياره فإذا هو مسرع إلى إخوانه، وعندئذ فقط يشعر بصوت الضمير محاولا في يأس أن يجذبه إلى عمله. . . وأيا كانت الرغبة التي تنتصر في النهاية والتي نفسح السبيل لها في حياتنا. . . فإن الرغبة المهزومة لا تموت، ولكنها تثور بين وقت وآخر. . .)
وهكذا لا تتناول نقطة من نقاط الكتاب إلا وتستوفيها شرحاً وتمحيصاً ولقد لفت نظري واستوقفني طويلا قولها في صفحة 46 (. . . وهنك خطأ يسهل الوقوع فيه وهو أن(992/44)
تعرض على - عميلك - توكيدات غير حقيقية كأن تقول: أنا واثق أنك ستتحسن قريبا أو ستحصل على عمل في القريب العاجل أو سيتهيأ كل شيء على خير ما يرام، فمثل هذه الملاحظات فضلا عن أنها لا تطمئن - العميل - فإنها تسبب له شعورا بالشك في إمكان فهم القائم بالمقابلة للموقف وبالتالي قدرته على المساعدة)
فهل على الطبيب المعالج مثلا أن يصارح مريضه الطريح الفراش المعاني بحقيقة علته إذا كانت مستعصية ولا أمل له في الشفاء منها؟! أليس من الأفضل أن يتذرع بالحكمة فيطرد الوهم القاتل ما استطاع من فكره وأن يوهمه بأن علته هذه التي يشكو منها غير مزمنة ولا هي غير مستعصية. وأنه واثق الوثوق كله من أن حالته بأذن الله ستتحسن قريبا؟!
نعم، ليس من الحكمة ولا من الخير أن يكون المرء في جميع أحواله صادقا، ولا أن يكون في جميع ظروفه كاذبا، ولكنه يجب أن يكون للصدق موضعه، وأن يكون للكذب موقفه ومبرره
ورحم الله شيخ المعرة كم كان صادقا موفقا حين قال في لزومياته:
أصدق إلى أن تظن الصدق مهلكة ... وبعد ذلك فاقعد كاذبا وقم
محمد عثمان محمد(992/45)
البريد الأدبي
مفرد شمائل
جاء في مقال شخصية الرشيد للأستاذ أنور الجندي في العدد 991 من الرسالة الزهراء ما يأتي: وتلك شمائل الرجل الفذ: والمعروف أن مفرد شمائل شمال بالكسر بمعنى الخلق والطبع، ولم أعثر على شميلة التي استعملها الأستاذ، ويحضرني قول عبد يغوث:
ألم تعلما أن الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا
كما يحضرني قول لبيد وقد جمع المفرد والجمع في شعار واحد
وهم قومي وقد أنكرت منهم ... شمائل بدلوها عن شمال
عبد الرزاق عبد ربه
رسالة السينما في تربية الشعوب
إن (للسينما) في بلاد الغرب رسالات لها قدرها في تربية الشعوب، ولها خطرها في النهوض بها، وما من رواية تعرض على الشاشة في تلك البلاد إلا ولها قصة حية، وموضوع قوي، ومعان عظام تأخذ بالألباب. .
إن (السينما) أصبحت هناك وسيلة إلى تربية الشعوب والنهوض بها، وتقويم أخلاقها وبذر بذور المثل العليا في نفوسها ودفعها إلى الأمام نحو الحياة الصحيحة لتصل إلى غاية المجد ونهاية السؤدد، وبذلك أمكنها أن تؤدي لأوطانها خدمات كثيرة جليلة، وأن تكون لها رسالة تنال تقدير الجميع وثقتهم.
أما هنا في الشرق - ولا سيما في مصر - فلم (تصبح السينما) بعد، وبكل أسف إلا عاملا من عوامل الترفيه ليس إلا، يغزوها أفراد الشعب ليشبعوا أنظارهم من المناظر الماجنة، ويرفهوا عن أنفسهم بالنكات الفارغة - وإذا حاولت أن تجد قصة لها مغزاها الاجتماعي أو السياسي أو الخلقي فلن تجد، وبذلك استساغت الطبقة المثقفة أن تنفر من الرواية المصرية متجهة إلى الرواية الغربية تنهل من معانيها وترتوي من مثلها.
إننا لا ننكر أن بعض السينمائيين يتجهون اتجاها سليما في التأليف والإخراج، ويقدمون للشعب المصري زاداً طيبا يرضى عنه الجميع، ولكن هذا الزاد ضئيل الضآلة التي تجعله(992/46)
ضائعا بين الغث الكثير الذي لا ساحل له.
إن الألم ليملأ نفوسنا حين نجد الشوارع والميادين والصحف تغص بالإعلانات عن روايات، تعال سلم - ما تقولش لحد - أحبك أنت - قبلني يا أبي - لهاليبو - بيت الأشباح - في الهوى سوى. . وما إلى ذلك من الفوضى التي لا حد لها. وكم كنا نود من صميم أنفسنا ألا نقل عن الغرب في هذا الجانب، ولنا من طبيعتنا ما يساعدنا على ذلك، ولنا من أحوالنا ما يجعلنا في مسيس الحاجة إلى القصص الحية ذات المعاني التي تنهض بنا في كل شأن من شؤون الحياة.!
نفيسة الشيخ
الاقتباس من القرآن
. . أعتاد الكتاب والشعراء أن يضمنوا مقالاتهم وكتبهم وأشعارهم بعض آيات من القرآن الكريم. وربما لم تكن هناك أدنى صلة بين المقال والموضوع الذي نزلت الآية من أجله. لذلك عد العلماء هذا النوع من الاقتباس من النوع المحرم الذي ينبغي أن تعاف النفوس مساغه. . وفي ذلك يقول الإمام الحجة أبو عبد الله محمد المعروف بابن قيم الجوزية في كتابه (كنوز العرفان في أسرار وبلاغة القرآن). يقول في مبحث الاقتباس ما يأتي: - (. . . وقد أودعت جماعة من الشعراء وجلة من الكتاب الفضلاء في أشعارهم ورسائلهم وأنواع فصاحتهم التي هي من جملة وسائلهم آيات من كتاب الله تعالى وسموه اقتباس من القرآن. وهذا مما قد نهى عنه جلة العلماء وأفاضل الفقهاء الأتقياء وكرهوا أن يضمن كلام الله تعالى شيئاً من ذلك أو يستشهد به في واقعة من الوقائع كقولهم لمن جاء وقت حاجتهم إليه - ثم جئت على قدر يا موسى - وأشباه ذلك لأن ذلك كله صرف لكلام الله عن وجهه وخروج له عن المعنى الذي أريد به. . فمن التضمين النهي عنه قول عبد الله بن طاهر لأبن السرى حين ملك مصر وقد ورد رسوله وهديته إليه - لو قبلت هديتك نهاراً لقبلتها ليلاً - بل أنتم بهديتكم تفرحون - وقال لرسوله - إرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون - وأوحش من ذلك وأعظم منه قول الشاعر: -
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... بما جناه وانتهى عما اقترف(992/47)
لقوله. . أقل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
إلى أن قال: هذا وما أشبه مما يعدونه من الفصاحة والبلاغة وهو مما ينبغي أن تعاف النفوس مساغه وهو مندرج في التحريم لما فيه من عدم الإجلال لكلام الله عز وجل والتعظيم. وكيف يليق أن يجمع بين المحدث والقديم؟)
محمود حمدي زقزوق
اقتراح. . ودعوة
بضعة أسابيع أخرى. . وتزف دار الرسالة العدد الألف من هذه المجلة الكريمة.
العدد الألف! أليست تستوقف هذه الكلمة الصغيرة نظر كل قارئ وكل كاتب تصله بهذه المجلة صلة، أي صلة؟ أليست تشير هذه الكلمة الصغيرة إلى المنارة التي رفعتها! سامقة هذه المجلة على شاطئ المفاخر العربية في جهادها الطويل في محيط الأدب والعلم؟
أليست من المفاخر الخالدة في تاريخنا الحاضر أن تواكب الحياة مجلة أدبية جدية كالرسالة كل هذا العمر المديد؟ إن مواكبة الرسالة للحياة لم تكن نزهة خالية إلا من المرغبات والمنشطات والمبهجات. .
لقد كانت مواكبتها للحياة هذه الفترة كلها جهاداً ونضالاً. . كانت تحمل أمانة العلم الخالص، وكانت تضطلع برسالة الأدب الإنساني الحر. . وما أثقله حملاً! وأمانة العلم تبهظ أشد الكواهل! وما أخطرها وظيفة، ورسالة الأدب الحق تهول أثبت الأفئدة!
وكانت تخوض - بما تحمل - من ظروفها أعنف الأمواج، ويناهضها من كل مشاكل جهادها المنزه المجرد أضرى الأنواء. . ومع ذلك فقد أدت الرسالة أماناتها أمثل أداء. . وسمت برسالتها إلى أخلد الآفاق وأمجادها. . يقر بذلك كل قارئ ورد غديرها، ويشهد به كل كاتب وقع على روحها!
فهل تمر بعد ذلك هذه المناسبة السعيدة - مناسبة العدد الألفي - دون أن تستلفت أحد؟!
ألا يجدر بأبناء العربية أن يقفوا هنيهة يحيون فيها هذا المجاهد العظيم في هذه المناسبة العظيمة؟
ألا يقتضينا الولاء قبل الإنصاف أن نسجل للرسالة هذا الفخر الفاخر بكلمة تكتب أو كلمة(992/48)
تقال؟
إني أقترح على راعي هذه المجلة العظيم الأستاذ الزيات بك أن يخرج من العدد الألفي عدداً ممتازاً. .
وإني أدعو أدباء العربية أن يتبادروا للمشاركة في هذه المأثرة الأدبية النادرة - تحية الرسالة بمناسبة عددها الألفي!
محمد الأرناؤوط(992/49)
القصص
تجربة قاسية
مترجمة عن الإنكليزية
إن التغير المستمر الذي طرأ على مركز المرأة قد سبب كثيراً من مصائبنا الاجتماعية، ولا تزال الحالة تزداد كل يوم سوءاً وما دامت المرأة ترى واجبها في الحياة أن تكون أماً وزوجة وربة منزل فهي شريكة الرجل في سروره وحزنه وغناه وفقره، ولكنها متى تركت هذا المجال فلا يمكن أن تكون إلا واحدة من اثنتين: إما خادماً للرجل وإما حاكمة له، ومن أجل ذلك كانت أتعس السيدات هن نساء الطبقة التي يدعونها بالطبقة الراقية واللواتي يقضين أيامهن كسالى بليدات ويعهدن بكل واجب من واجباتهن إلى أخريات، فإنهن اقل شعوراً بالسعادة من سائر النساء.
ولقد كانت بطلة هذه القصة من النوع الأخير. . فإنها نشأت وظلت طوال عمرها لا تقدر مسئولية لشيء، فهي تنتقل من يد المرضعة إلى يد المربية إلى معلم الموسيقى والرقص دون أن تشعر في هذه الأدوار إلا بأنها مخدومة، وأن على غيرها واجبات لها وليس عليها لأي إنسان أي واجب.
وتزوجت من رجل متقدم في العمر فمات وهي لم تبلغ الخامسة والعشرين، وقد وجدت نفسها عند موته غنية ذات معجبين كثيرين بجمالها وهي حرة في اختيار ما تريد وترك ما تشاء، فكانت نتيجة حياتها على هذا النمط أن بالسأم وأحست بأن الحياة عبء ثقيل عليها، فكان لذلك كل عملها أن تقتل الوقت كأنما هي لا تريد إلا التخلص من حياتها جزءاً فجزءاً. ولكنها مع هذا السأم من الحياة كانت زينة الحياة وبهجتها في أعين كثيرين، ومن الغلطات الشائعة أن الناس يحسبون أن جميلة العينين وسيمة الوجه تكون حتماً ذات ذكاء يتناسب مع جمالها وتكون ذات روح شعرية.
ولئن كان في السيدات من تجتمع فيهن هذه الصفات فإن صاحبتنا البارونة أديل لم تكن كذلك بل كانت روحها قاتمة مظلمة كانت متوسطة الطول نحيلة شديدة البياض بحيث يظهر في جلدها الناصع لون عروقها الزرقاء. وهي جميلة الوجه والأنف صغيرة الفم وردية الشفتين ذهبية الشعر، ولكن عينيها كانتا أجمل شيء فيها فقد كانت نظراتها الوسنى مثل(992/50)
نظرات الحالم.
وقد قضت سنوات في الحداد على زوجها تتنقل بين البلدان فزارت إيطاليا وفرنسا الجنوبية وإسبانيا، وكان أحب أماكن الاصطياف إليها جبال التيرول حتى لقد جمعت كل صورها ومناظرها فوضعتها في غرفة استقبالها. وفي يوم من الأيام أرادت أن تتسلق إحدى قممها المكللة بالجليد فلبست ثوباً من الفرو وأمسكت بعصا غليظة وصعدت إلى الجبل قبيل الغروب، فلما وصلت إلى مكان مرتفع منه كانت الشمس قد غابت. ثم وجدت أنها ضلت الطريق وأصبحت محاطة بحفائر مكدسة بالثلج بحيث لا تستطيع العودة ولا الاستمرار في المشي.
وحاولت عبثاً أن تجد لها منقذاً، فرأت من المستحيل أن تتقدم أو تتأخر أو تعلو أو تهبط فاستغاثت بأعلى صوتها، ولكنها لم تسمع غير صدى صوتها فأخرجت من جيب معطفها مسدساً وأطلقته ولكنها لم تسمع غير دوي الطلقات، فخارت قواها وجلست على صخرة بعد أن أزالت ما عليها من الجليد وظلت تبكي. وبعد ربع ساعة مر عن كثب منها رجل يصفر فنادته وكلمته بلهجة لم تتكلم بها منذ سنوات وهي لهجة التوسل والضراعة، وطلبت إليه أن ينقذها فمشى نحوها رافعاً قبعته محيياً باحترام. وعرض عليها مساعدته فشكرته شكر الضارع الخاضع ورأت من ثيابه ومن الأسلحة التي يحملها أنه من هواة الرياضة والصيد. ودلتها هيئته على القوة والإعجاب.
قال لها: (اسمحي لي أن أحملك)
فقالت: (أخشى أن اسبب لك تعباً كثيراً)
قال: (لا داعي إلى مثل هذا القول)
ثم حمل البارونة بين يديه فشعرت وهي محمولة بشعور غريب لم تجربه من قبل. وكانت أنفاسه الحارة تدفئ خديها فتسائل نفسها أي شعور هو الذي تجده في نفسها في هذا الوقت، هل هو الحب؟
فلما وصل بها إلى الفندق الذي تقيم فيه شكرته ودعته إلى زيارتها ووعدها بأن يرافقها في فرصة أخرى إلى جبال التيرول. . وسألته عن اسمه فقال أنه فرديك فون فاردورف.
قالت: (أنت ذلك الروسي الشهير؟ لقد سمعت اسمك يتردد كثيراً في الأوساط العالية)(992/51)
فأخبرها فاردوروف بأنه من أسرة ألمانية تنتمي إلى أصل روسي، وأن ضياعه في كونترلاند ولكنه لم يزرها منذ سنوات لأنه كان في العهد الأخير يزور بقاعاً مختلفة من الأرض.
وفي اليوم التالي زارها فاردوروف ودار الحديث عن زياراته لأمريكا الجنوبية وأفريقيا الشمالية وقرأ لها قصة أو قصتين من قصص إيفان ترجنيف. وكانت تصغي إلى حديثه متلذذة وتدعوه إلى تكرار زيارته فكررها. وصارت بعد ذلك تخرج معه إلى جبال التيرول وإلى غيرها من المتنزهات وتدعوه للعشاء كل ليلة فأخذ الناس يتحدثون عن علاقاتهما وعن احتمال زواجهما قبل أن يتم التفاهم على شيء من ذلك.
وفي ليلة من الليالي كانا جالسين معاً في المنزل فقالت إديل
(إننا سنفترق سريعاً يا فاردوروف) فقال: (لماذا؟)
قالت: (لأنني تغيبت عن المنزلي طويلا وأريد العودة، فهل تزورني هناك؟) فقال: (ما الذي تعنين؟ هل تحبين ألا أزورك)
قالت: (ما الذي تعنيه أنت؟ إنني أتأثر كثيراً إذا ابتعدت عنك) فقال الروسي بلسان متلعثم: (هل تسمحين؟. . . ألا يغضبك. . .؟)
قالت: (تكلم! ما الذي يمنعك من الكلام) فقال: (إنني أحبك يا إديل)
فأطالت البارونة التحديق في وجهه فقال: (لا تمنعيني عن الكلام حتى أقول كل ما أريد)
قالت: (ولكنني لم أعد أؤمن بالحب) فقال الروسي: (أعرف ذلك ولم أعلل نفسي قط بأنك ستجازينني على حبي بمثله ولكنك قلت لي مراراً إنك تعيشين بغير غرض ولا تسرين من أي بواعث السرور فعيشي معي زوجة لي وأنا الكفيل بأن ينشأ في قلبك ميل لي بعد الزواج)
فنظرت إديل نظرة شاردة من النافذة دون أن تجيبه بأي جواب وسكت الروسي لحظة ثم قال. . (قرري يا سيدتي بكلمة منك إما حياتي وإما موتي)
فأجابته وهي تبتسم: (الحياة أو الموت؟)
قال: (نعم إنني أعني ما أقول فإني أفضل الموت إذا لم تحبيني. .
فقالت المرأة التي لا قلب لها: (هذا مجرد تعبير)(992/52)
قال: (كلا ولكنها الحقيقة فاختاري لي الحياة أو الموت)
فقالت: (إنني سأعطيك مهلة عام فإذا لم تستطيع في خلالها إقناعي بأنك تحبني حقيقة وإذا لم تستطيع أن تبعث في نفسي عاطفة الحب نحوك فإني سأقضي عليك بأن تقتل نفسك)
قالت ذلك ثم بدأت تضحك ضحكاً عالياً فقال الروسي وهو عابس مقطب: (إذا حكمت بعد انقضاء العام بأنه لا أمل في الحياة معك فإني أفعل كما تريدين ولكن يكون لي عندك رجاء آخر)
قالت: (ما هو؟) فقال: (أن تقتليني أنت)
قالت: (لك ذلك) فقال: (ولكن هل تستطيعين؟)
فقالت: (ولم لا؟ أنه يستوي عندي أنه يستوي عندي أنا أن تقتل عندي نفسك من أجلي أو أن أقتلك بيدي) فقال الروسي: (إذن فما هديني على أنه بعد انقضاء العام إما أن تقتليني أو تتزوجي مني)
قالت: (أعاهدك على ذلك ولكن يجب أن تتذكر أنت أيضاً تعهدك عند انقضاء العام وألا تنتظر مني رحمة)
فقال: (لا وسط بين الحالتين فإما أن تكوني لي وإما أن أموت)
ومد كلاهما يده إلى الآخر فتعاهدا على ذلك
ومضى العام وهما يعيشان معاً في منزلهما بفينا وكان الليل ساجياً من ليالي الربيع الجميلة وهي جالسة على نمرقة بجانب الشرفة وهو جالس عند قدميها فقالت: (هل نسيت)
قال: (نسيت ماذا؟) فقالت: (هل نسيت عهدنا؟ إن اليوم موعده) فعرت جسم الروسي رعشة باردة وقالت له همساً: (أدن مني وأخبرني ما هو رأيك اليوم قي تعهدك قبل أن تسمع حكمي)
قال: (إنني أرتعش. . .) فقالت: (إذن فاسمع الحكم: (إنك قد أقنعتني بأنك تحبني فليس عندي شك في ذلك. . .)
وهنا ارتمى الروسي على قدميها ليقبلها فقلت: (لا تتسرع فإنك لم تسمع بقية الحكم)
فقال: ما الذي تعنين؟ فقالت: (إنك أقنعتني بأنك تحبني ولكنك لم تستطع أن تجعلني أحبك)
قال: (ما أشد قسوتك يا إديل!)(992/53)
فقالت: (إنني أكلمك كلاماً صريحاً شريفاً)
قال الروسي: (أنا عند حكمك إذن فاقتليني)
فقالت: (هكذا سأفعل فإني ذاكرة عهدي. وروحك الآن في يدي ولن أتركها هبة لك. إنني لا أحب ولكنني أريد أن أكون محبوبة وأن يحبني من يحبني فيموت تحت قدمي وأنا أنظر إليه نظرة احتقار)
قال: (هل تجدين فيما تقولين؟) فقالت: (ألا تصدق؟ هل حبك لنفسك أكثر من حبك لي؟) قال: (كلا كلا: وإني مستعد للموت) فقامت وعادت وفي يدها زجاجة صغيرة مملوءة بسائل أسود وقالت: (إشرب هذا).
فتناولها وقال: أشرب في حبك يا إديل ثم قال: (ناوليني يدك فإن قواي تخونني).
ثم أظلمت الدنيا في عينيه. وبعد ساعتين أفاق فوجد رأسه على حجرها وهي تنظر إليه وعلى وجهها ابتسامة دالة على السعادة
قال: (ما الذي حدث؟) فنادته باسمة بصوت عذب فقال: (هل أنا أحلم الآن؟ ألم أمت؟) قالت: (كلا وستعيش وستكون لي زوجاً فإني أحبك كما تحبني) فقال: (وماذا كان السائل الأسود الذي في الزجاجة؟ ألم يكن سماً؟)
قالت: (كلا، ولكنه مخدر) فقال: (لماذا؟)
قالت: (لكي أجربك) فوقف الروسي مسرعاً وقال: (تقولين إنك تحبيني؛ ولكنك مع ذلك تتركيني أقاسي أشد الآلام بقصد اللهو والتسلية. إن المرأة التي تفعل ذلك لا تستطيع أن تملك قلبي) قالت إديل بصوت الخائف: (ألم تعد تحبني يا فاردورف؟ ما الذي جعلك تتغير هذا التغير الفجائي؟ ألم تعد تحبني؟) فقال: (إنني لا أحبك الآن ولن أحبك في المستقبل، وداعاً!)
فطوقت إديل عنقه بذراعها وقالت: (أستحلفك بحق السماء ألا تجعلني أتعس إنسانة في الوجود) فقال: (أنت التي أتعستني وأتعست نفسك. وداعاً)
قال ذلك ثم تخلص منها فارتمت على قدميه ولكن ذلك لم يفد وأظهر قوة إرادته فخرج مغضباً
ولما جاءت الخادمة وجدت إديل مستلقية على الأرض جثة هامدة(992/54)
ع. ق(992/55)
العدد 993 - بتاريخ: 14 - 07 - 1952(/)
إلى النائمين في العالم الإسلامي
للأستاذ سيد قطب
نحن في مصر مشغولون لا نفيق، ليس لدينا وقت للتفكير فيما يدبره لنا اليهود بمعاونة العالم الصليبي. نحن مشغولون بالانقلابات الوزارية، مشغولون كذلك بالانتخابات: هل تكون بالقائمة أم بالوزن أم بالكيل؟ مشغولون بحكاية الاستثناءات، هل ترد لأصحابها أم لا ترد؟ ومن منهم ترد إليه استثناءاته ويزاد، ومن منهم يؤخذ منه ما معه. .
وهي أمور - كما - من الأهمية بحيث لا تترك وقتاً ولا جهداً للتفكير في أي شيء آخر
وفي هذا الوقت تقترب إسرائيل يوما بعد يوم من حدود سينا المصرية، المصرية اسماً وان كانت مصر لا تعرف عنها شيئاً، لأن السياسة اليهودية الإنجليزية عزلتها عن مصر طوال فترة الاحتلال، ولم يكن هذا العزل شيئاً عارضاً ولا أمراً غير مقصود، إنما كان وفقاً لسياسة بعيدة الغور، تتفق مع أطماع اليهودية العالمية
إن شبه جزيرة سينا يشتمل على أقدس مقدسات اليهود. فمن جانب الطور الأيمن نودي موسى، وعليه تلقى الألواح، وبه صخرة العهد. وسينا هي أرض التية. . لذلك كله ترف حول سينا أطماع اليهود التاريخية، ويربى أبنائهم على عقيدة أن جزيرة سينا هي قلب مملكتهم الموعودة، وما فلسطين ألا جزءاً صغيراً من تلك المملكة التي تضم سينا وفلسطين وشرق الأردن وقسماً من سورية والعراق حتى الرافدين
وعلى هذا الأساس هم يعملون منذ أجيال، وفي سنة 1906 وفدت على مصر لجنة إنجليزية يهودية قضت في سينا خمس سنوات كاملة، تفحص عن كل شيء فيها، وتنقب عن المياه الجوفية والأراضي الصالحة للزارعة، والمعادن والطبيعة الجيولوجية بصفة عامة، والمناخ والطرق والأهمية الاستراتيجية، وعادت ومعها تقرير شامل يثبت أن سينا صالحه لإسكان مليون نفس وأعاشتهم
وقد عني الإنجليز بعزل سينا عن كل نفوذ للحكومة المصرية، وكان محافظ سيناء (جارفس) الإنجليزي هو حارس شبه الجزيرة أن تمتد إليها عين مصرية، وأفهموا المصريين أن هذه الصحراء لا أمل فيها ولا ضرورة للاهتمام بها، لأن المياه الجوفية فيها لا تصلح لخلق حياة مستقرة، وكان هذا كله لحساب اليهود الذين يسيرون دفة بريطانيا(993/1)
ومن المعروف أن جيش إسرائيل عندما تجاوز الحدود المصرية سنة 1948، كان أول عمل لرجاله عندما وطئت أقدامهم رمال الصحراء بعد رفح أن ترجلوا جميعا، وقبلوا تراب الأرض، وأقاموا الصلاة، ثم تابعوا خطواتهم في الأرض المقدسة.
أما اليوم فهم يقيمون على الحدود استحكامات قوية، ويسكنون في أرضها الفتيان الفدائيين بزوجاتهم وأولادهم، يقطعونهم الأرض، ويبنون لهم مساكنهم تحتها - لا فوقها - ويمدونهم بالمال ليستصلحوها
وأمامهم ألوف الأميال المربعة في الشقة المصرية خلاء فإذا أرادوا هم أن يزحفوا فسيزحفون من استحكاماتهم على الحدود وورائهم العمار. وإذا أردنا نحن - حتى أن ندافع - وقف جيوشنا وورائها هذه الألوف من الأميال القاحلة الجرداء الخاوية من السكان.
لماذا؟ لأننا نحن مشغولون. مشغولون بالانقلابات الوزارية، مشغولون بالانتخابات هل تكون بالقائمة أم بغير القائمة مشغولون بالاستثناءات ومن ترد إليهم استثناءاتهم ومن لاترد؛ مشغولون بهذه الأمور الكبار التي لا يجوز أن يلهينا عنها خطر اليهود أو غير اليهود، وما تكون سينا وهي صحراء جرداء إلى جانب كراسي الوزارة الفخمة ومقاعدها الوثيرة، وقاعاتها المكيفة الهواء!
وفجأة - وفي هذه الظروف - تطلع علينا نغمه لا يدري مبعثها إلا الله، والراسخون في العلم من اليهود والصليبيين. نغمة تحديد النسل. . لماذا؟ لأن مصر تضيق بسكانها، ولأن موارد الرزق لا تنمو بنسبة نمو السكان، ولأن الأرض الزراعية محدودة
جميل! نحن معكم في أنه حين تعجز موارد البلد عن إعالة سكانه يجب أن يقف نمو هؤلاء السكان. ولكن حين تكون في موارد هذا البلد بقية فيجب أن يستمر سكانهم في التزايد، لأن نمو السكان في هذه الحالة ضمانه من ضمانات البقاء أمام تكتل الأعداء. وضمان من ضمانات القوة في المجال الدولي. لأن الأمم التي تريد أن يكون لها وزن في الكتل الدولية تحاول كلها زيادة سكانها. وأمامنا ألمانيا وإيطاليا وروسيا واليابان. بل أمامنا إسرائيل الصغيرة وهي تحاول مضاعفة سكانها على الرغم من كل ما يشاع من الأزمة الاقتصادية الممسكة فيها بالخناق!
فهل استنفذت مصر وسائلها لزيادة مرافقها أن في مصر من الموارد والمرافق ما يكفي(993/2)
لأعاشت ضعف سكانها كما يقول بعض الخبراء، وأمامنا مثل واحد في سينا، فهي كافية لأعاشت مليون من الناس، لو وجدت من يعمرها ويرد إليها الحياة فلماذا يتجه التفكير أول ما يتجه إلى وقف نمو السكان؟ ومرة أخرى نكرر، أننا لا نعارض - بل نحتم - وقف نمو السكان حين يثبت أن مرافق البلاد غير قابلة للنماء. أما حين يثبت أنها قابله لأن تتضاعف، فإنه يكون من الحمق، أو الاتجاه المريب، أن يثور مثل هذه النغمة. لأن معناها وقف نمو البلاد لا من ناحية تعدادها فحسب، ولكن من ناحية مرافقها فضغط السكان قد ينبه الغافلين إلى محاولة الاستغلال الكامل لمرافق البلاد
على أن حكاية تحديد النسل أو زيادته لا تخضع لحسن الحظ لهذه الأفكار السطحية التي لا تحاول التعمق في دراسة الأمور أن الحرص على زيادة النسل في الريف ضرورة اقتصاد وضرورة اجتماعية. ولا عبر بالمدن لأنها على هامش حياة الوطن!
إن الذي لا أولاد له في الريف يعيش في مستوى اقتصادي اقل من مستوى أبي الأولاد. كما أنه أقل هيبة وحصانة على الاعتداء! وهذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية من القوة بحيث لا تستمع لنصائح السطحين وان يتغير حكم هذه العوامل ويخف ضغطها إلا حين ينتشر التعليم، ويصبح هناك مورد آخر للرزق على العمل في الأرض وقوة أخرى للحماية غير قوة العضلات! وعندئذ فقط يستطيع الشعب كذلك أن يستعيض من قوة العدد قوة العقل، ليقف في وجوه أعدائه المحيطين به
أن الفطرة تتصرف في هذا أحكم مما يتصرف السطحيون الذين يحسبون أنفسهم (مثقفين!) فإذا عز على حضراتهم أن يدرسوا الأمور دراسة حقيقية، فلا أقل من أن يدعوا الفطرة تعمل بحكمتها عن حكمتهم الذهبية، المستمدة من الدسائس اليهودية والصليبية!
وبعد فنعود إلى استصراخ النائمين في العالم الإسلامي ليصحوا على مطامع الصهيونيين في سيناء. فإن مصر مشغولة الآن، مشغولة بالانقلابات الوزارية. مشغولة بالانتخابات وهل تكون بالقائمة أو بالوزن والكيل. مشغولة بالاستثناءات وغير الاستثناءات. وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. والأهم يقدم. ولا حول ولا قوة إلا بالله
سيد قطب(993/3)
تبعات السينما في حياتنا الاجتماعية
للأستاذ أنور الجندي
استفاضت المجلات الأوربية في الأسابيع الأخيرة في الحديث عن السينما والأفلام التي تعرضها، وكان الحديث هذه المرة جد غاية الجد، انطوى على تقدير ومراجعة العوامل التي تصيب المجتمع نتيجة لموضوعات هذه الأفلام.
وكانت الصحف الفرنسية الأسبوعية أكثر الصحف شغلاً لهذه الآثار الاجتماعية والاخلاقية، وتطرق الحديث إلى الشباب والشابات قبل سن المراهقة وأبانها، ومدى أثر الأفلام وموضوعاتها في شخصيته وكيانه، ونتائج الهامة المترتبة على ذلك في محيط الحياة العامة
وكانت إحدى المجلات الفرنسية قد قامت باستفتاء ضخم منذ عدة شهور في موضوع (السينما والشباب)، وتدفع إلى المعصية والخطيئة والإجرام.
وقدمت صحف أخرى إحصاءات ظهر منها أن 90 % من الأفلام المعروضة تنطوي قصصها على القتل والإجرام والاختلاس والإغراء والزنى والنصب والاحتيال.
وبذلك أصبح موضوع النتائج الاجتماعية للسينما والأفلام من الموضوعات الجديرة بالاهتمام في مصر، بعد أن لقيت مثل هذه الرعاية في البلاد الأوربية التي ابتدعت هذا الفن.
ولاشك أننا في الشرق قد بدئنا نحس مدى الخطر الضخم الذي يجتاح المجتمع نتيجة للأفلام المعروضة، والتي لا هدف لها ولا سياسة ثابتة توجهها.
وكان من الضروري - والفلم جزء من الثقافة العالمية - أن يشغل أمره بال المصلحين والكتاب والباحثين
ولست أشك لحظة في أن عنصر التسلية والمتعة، والخروج من النفس والجد، هو أبرز ما يهدف إليه القائمون على العمل السينمائي، غير أن ذلك لا يحول مطلقاً دون تقدير المدى الذي تستطيع أن تهضمه عقليات المراهقين والشبان والفتيات، مما له أبعد الأثر في تكوين السلوك الفردي والعقد النفسية.
وإذا كانت الشاشة تستجيب لرغبات الجماهير - في بعض الأحيان ألا أنه من الممكن اليسير أن يحاط ذلك بقيود تهدف إلى المحافظة على قواعد الخلق وتقاليد المجتمع.(993/4)
ولسنا نطمع في أن تكون الشاشة موجهة مؤثرة منافحة عن المثل العليا في الخلق، أو عن الأمجاد الرفيعة المستمدة من التاريخ والماضي، ولكنا نريدها على أقل تقدير كريمة وطنية بحيث لا تطغى عليها الناحية المادية التجارية التي يحرص عليها الممولون، فتكون هدفها الأول والأخير
ويبقى أن كتابة القصة السينمائية وحبكتها الفنية، وبراعة عرضها، كل هذا كفيل بأن يكسبها أكبر عدد من المعجبين، ويدر على أصحابها الربح بصرف النظر عن العوامل المصطنعة التي يغرى بها فريق قليل من النظارة
وأنا لنرجو أن تنال هذه الصيحات الأوربية اهتمام المشرفين على السينما في مصر فيحرص على أن يتفادوا الآثار النفسية الإجرامية أو الآثمة، وأن يحولوا دون كل ما من شأنه إبراز معنى الغواية، وهي خطيرة الأثر على الشاب والشابة المراهقين.
وأنا لنرجو أن يتسع الميدان أمام العاملين، فلا يقصر عن المعاني الضيقة والأوهام والشهوات بعد أن خطت الأفلام الغربية خطواتها في مضمار الثقافة والتوجيه، وعرفت بأنها جميعها بلا استثناء تحمل فكرة معينة مدروسة.
وإذا كان الأوربيون اليوم يدرسون تبعات السينما وأثارها الخطيرة في المجتمع، فنحن أولى - ونحن نجري وراءهم دائماً - أن نأخذ عنهم هذه الخطوة دون أن نخشى أن نتهم بالرجعية أو القصور.
والسينمائي الناجح كالطبيب الماهر، يعرض الأداء ويصف الدواء، ويستطيع أن يحشد عوامل الإيحاء والسيكولوجية والفن في تحويل نفسية المريض وإقناعه.
ولا أظن أننا في كبير حاجة إلى هذه الاستعراضات الراقصة التي يتمسك بها المنتجون، وقد ظهرت أفلام دون أن تحشر هذه المناظر المبتذلة، فنجحت نجاحاً منقطع النظير، وقيل عنها في الخارج إنها رفعت رأس مصر عالياً، بعد أن كانت مصر متهمة بإنتاج الألوان الغثة وحدها
وجدير بالشاشة في مصر والشرق أن تحرص على عرض أمجاد الشرق ومحاسنه، ليكون ذلك - على الأقل رداً علي على ما تحرص عليه الأفلام الغربية من تشويه تاريخ الشرق ومسخه، ووضعه في صورة من ألف ليلة وليلة. . .(993/5)
فلطالما عرضت الأفلام الغربية للشرق على نحو من التعصب والهوى، وهي بما لها من قوة التوزيع والانتشار استطاعت أن تقنع الكثيرين بأن هذه هي حقيقة الشرق، ونحن نستطيع - وفي أيدينا الوسائل ميسرة - أن نواجه هذه الحملة بتصوير صحيح لأمجادنا وقضايانا، من شأنه أن يضع الحقائق في نصابها
ومما هو جدير بالذكر أن الأمم المتحدة كانت قد طلبت من مصر في العام الماضي موافاتها بيانات عن أفلام تنتفع بها لجنة التربية والعلوم الثقافية للهيئة، لتوزيعها بعد اعتمادها على سائر الدول الأعضاء في العالم كله.
وقد حدد هذا الطلب بأفلام تصلح للعرض على الطلبة في المدارس، وعلى الجمهور المثقف، مما يعالج المشكلات العالية، من سياسية واجتماعية واقتصادية، ومن موضوعات صحية، وأساليب وقائية، ومن رعاية للطفل إلى نظام المنزل، إلى مزارع نموذجية لتربية الحيوانات، إلى مصايد الأسماك، ثم في مسائل التغذية واختيار الاطعمه، وطريقة تحضيرها وحفظها. . الخ.
ومع الأسف الشديد أن السينما المصرية لم تجد ما تقدمه لهذه اللجنة، لأننا لازلنا قاصرين عن بلوغ هذا الشوط. .
فالسينما هي إحدى المدارس الثلاث الخطيرة الأثر، البعيدة المدى في حياة الشعوب، وهي لذلك جديرة بأن تحاط بالكثير من العناية، وعن طريقها يمكن إصلاح المجتمع وتوجيه خير وجهة، بعد أن تغلغلت دور السينما في الأحياء وفي البلاد وفي القرى، حتى يمكن القول بأن 90 % من السكان يحضرونها، ومعنى هذا أن جزءاً ضخماً من مواردنا المالية، وخاصة موارد العمال والطبقات الوسطى، وهي موارد محدودة جداً تذهب إلى هذا الباب، ولما كنا نقاسي في حياتنا العاملة العامة ضغط وضيقاً، فإننا نجد في السينما باباً من أبواب التسلية، وفرجة من فرج تصريف العوامل النفسية المكبوتة، ولذلك فنحن في مثل هذه الحالة من الاستعداد للتلقي، نتأثر إلى ابعد حد مما يقدم لنا لاسيما الفتيات في سن مبكرة، والأطفال والشباب أبان المراهقة، ولعلنا نلحظ بوضوح تلك الحركات التقليدية الواضحة في تصرفات النشء الصغار، والتي هي منقولة نقلاً كاملاً عن حركات الممثلين والممثلات
ولهذه العوامل مجتمعة كان من حقنا على المصلحين أن يولوا مدرسة السينما عناية كبرى(993/6)
بحيث لا يقضي جانب التسلية والترفيه على روحنا المعنوية أو شخصيتنا الحقيقية.
أنور الجندي(993/7)
4 - إندونيسيا
الحياة الاقتصادية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة.
الاقتصاد والاستعمار.
لاشك أن الدافع الأول إلى الاستعمار هو العامل الاقتصادي. فالدول الاستعمارية إنما تقصد بوضع يدها على المستعمرات إلى أن تضمن لنفسها إنتاج هذه البلاد سواء أكان زراعيا أم حيوانيا ام معدنيا، كما تضمن أن تكون هذه المستعمرات أسواقا لتصريف مصنوعاتها. وكل هذا يحقق رفاهية الشعب المستمر ورخاءه، وهكذا يسعد بعض الشعوب ويشقى البعض الآخر
تلك هي قصة الاستعمار منذ نشأته، وستظل كذلك ما بقي! أنه الدليل الحي على ظلم الإنسان للإنسان وجشعه وطمعه وأنانيته.
ولم تختلف قصة الاستعمار الهولندي لإندونيسيا عن غيرها من القصص، فقد ظل الهولنديون يدأبون على وضع يدهم على منتجات إندونيسيا وخيراتها وأرضها وعلى تسخير الإندونيسيين في العمل والإنتاج حتى تم لهم ذلك، فأصبحوا يسيطرون تماماً على الاقتصاد الإندنوسي وجنت هولندا (بقالة أوربا) وشعبها من وراء ذلك أرباحاً طائلة وسعد الهولنديين بينما كان الإندونيسيون لا يجدون القوت! وكثيراً ما أستخدم الهولنديون القسوة في دفع الإندونيسيين إلى العمل، ولما وجهه إليهم اللوم قالوا إنا نفعل ذلك لأن فيه صلاح الإندونيسيين وهذا هو الاستعمار: شر وبلاء وفقر ومذله!
وقد كانت الشركة الهولندية الشرقية أول محتكر لإندونيسيا ولكن منذ 1870 سمح للرأسماليين الهولنديين باستثمار أموالهم في إندونيسيا فامتلأت البلاد بشركاتهم ومؤسساتهم، وعاد الربح الوفير على الشركات الهولندية والهولنديين
راع الدول الكبرى ما تجنيه هولندا من أرباح فطلبت أن تسمح لرعاياها باستثمار رؤوس أموالهم في إندونيسيا، واضطرت هولندا إلى اتباع سياسة (الباب المفتوح) فتدفقت رؤوس الأموال الأجنبية من هولندا وإنجليزية وأمريكية وفرنسية وألمانيا ويابانية على إندونيسيا(993/8)
وقال المستعمرون انهم يعملون على إنماء ثروة إندونيسيا. ربما كان صحيحاً، ولكن هل أدى ذلك إلى تحسين حال الإندونيسيين ورفاهيتهم؟ والجواب على ذلك: لا
صحيح أن إندونيسيا قد أصبحت قطرا غنيا عظيم الإنتاج يمج بالمصانع والبنوك، وتنتشر فيه الطرق الحديدية والسيارات، وتكثر بموانيه السفن والبواخر، ولكن الشعب الإندونيسي كان ينظر إلى تلك الثروة بكل حسرة لما أصابه من الحرمان والفقر المدقع. يقول الأستاذ (هلفرسن) الهولندي عندما ودع إندونيسيا: آه يا إندونيسيا الغنية. . . ولكن شعبك في عوز وفقر مدقع! ويقول الدكتور ليفرت (إن الأجور التي يتقاضاها العمال الإندونيسيون لا تزيد عما يسد الرمق).
على أن هذا البؤس كان مما دفع الإندونيسيين إلى أن ينهضوا والى أن يحاولوا رفع هذا الضغط الاقتصادي عن كاهلهم والى أن يعملوا على تحسين حالتهم الاقتصادية، وفي النهاية إلى أن يعملوا على تحرير وطنهم من ربقة المستمر وإعادة الاستقلال إليه. وهكذا استيقظت إندونيسيا من سباتها
وكانت الشركة التجارية الإندونيسية التي تأسست 1909 أول حجر في هذا البناء الشامخ أصبحت الجمعيات والأحزاب الإندونيسية تعني بالتحرر الاقتصادي للإندونيسيين كما تعني بالتحرر السياسي ومن ثم كثرت الشركات الوطنية التجارية والصناعية
وفي 1938 تأسست شركة (الملاحة والتجارة) للجمعية المحمدية، وقد كانت تهتم بتيسير نقل الحجاج إلى مكة، وساعدت كثيراً على تقدم حركة النقل التجاري الإندونيسية.
ثم أنشئ (البنك الإسلامي) تحت إشراف الجمعية المحمدية وبمجهود المرحوم الدكتور ستدمو قام في سورابايا (البنك الإندونيسي الوطني).
وهكذا سارت حركة التحرير الاقتصادي جنبا الجنب مع حركة التحرير السياسي، وفي 1945 تحقق استقلال إندونيسيا ونحن نرجو لشعبها الرفاهية والقوة في ظل الاستقلال
قصة جوز الهند:
شجرة جوز الهندي زينة المناطق الحارة وحلية المناظر الطبيعية في الغابة، تمتاز بارتفاع هامتها وباعتدال جذعها النحيل وبتجرد ساقها من كل فرع أو غصن، وتتوج هامتها أوراقها الوارفة تتموج في الفضاء تحت ضربات الرياح فيسمع لحركاتها صوت يشبه حفيف(993/9)
أجنحة الحمائم الطائرة.
وإندونيسيا من أكثر الدول إنتاجاً لجوز الهند فهي تنتج 25 % من المحصول العالمي وتصدر منه ما يزيد على 500 , 000 طن سنوياً.
وللجوز الهندي منافع جمة: فبداخله شراب لذيذ الطعم ويحيط به لب ناصع البياض هو غذاء شهي. وللجوز الهندي غلاف صلب يمكن استخدامه كوعاء وتغطيه ألياف يمكن صناعة الحبال منها وكذلك تستخدم في صباغة الأكلمة والمكانس أما السعف والأوراق فتستخدم وقودا وأما الجذع فيعتبر من أقوى خشب العمارة ويتخذ لبناء البيوت والجسور.
ولشجرة الجوز الهند قصة طريفة ترويها الأساطير الإندونيسية.
زعموا أنه كان يعيش في إندونيسيا في قديم الزمان ملك عظيم الشأن يخضع لسلطانه جميع الملوك المعاصرين. وكان لهذا الملك طاهيه قديرة تتفنن في صناعة الأطعمة الشهية والمأكولات اللذيذة ولا يفوقها أحد في براعتها أو مهارتها. وكان الملك فخوراً بها مزهواً في براعتها ويشملها دائماً بعطفه ورعايته وهدايا وجوائزه.
ولقدرتها الفائقة بعث الملوك بطهاتهم إلى قصر الملك ليأخذوا عن الطاهية فنها ولكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى السر وظل فنها قاصراً عليها.
وذات يوم كانت الطاهية مشغولة بطعام الملك فغافلها أحد ندمائه ودخل المطبخ خلسة واختفى في ركن من أركانه وظل يراقبها لكي يقف على سرها.
وكانت الطاهية تحمل على ذراعها طفلها الرضيع، وسرعان ما وقف النديم مبهوتاً مدهوشاً. لقد رأى الطاهية تحلب من ثديها لبنا صبته في الإناء الذي يفور فيه الطعام المهيأ للملك. عرف النديم السر فتسلل من مخبئه وذهب تواً إلى الملك وأوقعه على الأمر.
ثار الملك وغضب على طاهيته التي تجرأت على أن تطعمه من لبن ثديها القذر، ولم ير سوى الموت عقاباً لها على جريمتها، وأمر بتنفيذ حكم الإعدام فوراً ولم يشفع لديه بكاؤها ولا توسلاتها.
عرفت المسكينة أنها هالكة لا محالة فدعت الإله في ضراعة أن يحمى طفلها الوحيد بعد موتها وسألته أن يرد جسمها بعد دفنه إلى شيء يستطيع أن يقوم لأبنها ولأعقابه بأجل الخدمات ودفنت جثتها في موضع بداخل الغابة، ولم تمض أيام على موت الطاهية حتى(993/10)
شوهد فوق قبرها نبات ينمو ويترعرع في سرعة مدهشة، وما لبث أن أصبح شجرة عالية ذات ثمار كبيرة مستديرة أن الوجود قد أنشق عن أول شجرة للجوز الهندي أو النارجيل
لقد تحقق جميع ما طلبته الطاهية: أن جسمها قد تحول إلى شجرة جمة المنافع، فثمرها عظيمة، في جوفها ماء ليس كالمياه تجده نقياً صافياً فيه حلاوة الرحيق وأنفاس النبيذ لذة للشاربين ومطفئا لأوار الظامئين. كم من مسافر أطفأ ظمأه شراب جوز الهند
وكم من جائع ناله الشبع من لب جوز الهند.
وكم للجوز الهندي من فوائد (راجع ما سبق)
وهكذا استجاب الإله لدعاء الطاهية فصنع من جسمها شجرة عظيمة النفع وأحفادها.
وتمضي الأسطورة فتقول: أن روح الطاهية تطوف بأشجار النارجيل ليلا تودع أحفادها وكأنها تقول
نم أيها الطفل الحبيب نم
فأن أعمالي قد انتهت
وقد أجهدت أنت نفسك كثيراً في اللعب
والنهار قد ولى وبلغ نهايته
والليل قد أرخى سدوله
فنم أيها الطفل العزيز نم
وأغمض جفونك أيها الحبيب
وخذ قسطك من الراحة
كيما تشب قوياً مفتولا
وأتخذ من صدري فراشا وثيرا
وأغمض جفونك أيها الحبيب
للبحث بقية
أبو الفتوح عطيفة(993/11)
هلن كلر
العمياء الصماء البكماء
للأستاذ نقولا الحداد
بقية ما نشر في العدد الماضي
قالت مس سوليفان في أحد تقاريرها. أن لهن ذاكرة عجيبة لا تصدق. كنا ذات يوم في فندق في بلدة تدعى هوسفيل وتجمع النزول حولنا لكي يروا تلك المرأة العجيبة. كانوا نحو عشرين شخصاً. فقدموا لهن هدايا مختلفة. وقدموا أنفسهم إليها بأسمائهم. وكانت تصافح كل واحد منهم وكنت أنقل لها اسمه على كفها. وفي اليوم التالي تجمعوا حولها. وكانت تصافح كل واحد منهم وتذكر لي اسمه على كفي
هذا هو العجب العجاب من يصدق؟ المعلمة لا تكذب إذ لا غرض لها من الكذب في تقريرها. وكان كل واحد من نزلاء الفندق يقول كلمة من إعجابه. فقال أحدهم: ما رأيت في حياتي وجهاً يشع بهاء كهذا الوجه كأنها ليست عمياء أو خرساء وقال آخر: أود أن أهب كل ما أملك وأن تكون هذه الفتاة دائماً إلى جانبي)
روت مس سوليفان في أحد تقاريرها أن هلن كانت شديدة الأساس العقلي لدرجة لا تتصور. كانت تدرك عاطفة كل شخص تلمسه أو تلمس يده أو تتصل به بأية طريقة. فتعلم هل هو مرح أو غاضب أو مستاء أو يائس أو آمل ففي ذات يوم رمى ولد (فرقيعة) صغيرة أمام أمها فما جفلت فسألتها هلن في الحال (مم خفت)؟ (ألا يخفى أنها كانت قابضة على يد أمها كعادتها حين تسير مع أي شخص). وفي ذات يوم كانت هلن ومعلمتها سائرتين في الشارع، فرأت المعلمة شرطياً قابضاً على غلام يمضي به إلى دائرة البوليس، فقالت لها هلن: (ماذا تشاهدين؟) كأنها أحست أن المعلمة أشفقت على الغلام
وفي ذات يوم دعا داع أن تدخلا إلى مقبرة. قالت سوليفان رأيت هلن قد انقبضت كأنها أحست بشيء كئيب من إنها حتى ذلك الحين لم تكن تعرف شيئاً عن الموت، بل عرفته لأنها في ذات يوم عرفت أن حصاناً انكسرت رجله في حادث. فكانت تريد أن تزوره كل يوم. وكانت تشعر أنه يئن من الألم، وفي ذات يوم ألحت في الذهاب إليه فقالت لها أنه مات ودفن تحت التراب. فسألت كيف مات؟ هل مات كما تموت البطة التي يصطادها(993/12)
أبوها بالبندقية؟ وكانت تمسك البطة الميتة وهي تعرف كيف تكون البطة الحية. فقالت لها المعلمة: نعم وقد رموه بالرصاص كي يخلصوه من الألم إذ لم يبق أمل بشفائه. وهكذا عرفت الموت
وفيما كانت في المقبرة كانت تتحسس كل حجر وكل رخامة إلى أن صادفت اسم فلورنس محفوراً على رخامة قبر. فسألت: (أين فلورنس الآن؟) هل بكيت عليها؟ من وضعها في الحفرة الكبيرة؟ أظنها ماتت جدا. وكانت المعلمة تتجنب أن تجاوب على أسئلتها. وإنما أفهمتها معنى الموت
وكانت هلن في حداثتها رقيقة الشعور جدا. ففي ذات يوم ألبستها أمها معطفاً أنيقاً، وكانت فرحة به جدا، وقالت لها أمها (يوجد غلام أعمى فقيرة ليس له مثل هذا المعطف. فما قولك؟ فما كان منها إلا أن جعلت تخلع المعطف لكي تعطيه للغلام. . فردته أمها عليها وقالت سأصنع معطفا غيره للغلام
وكانت رقيقة الإحساس نحو جميع الأحياء الذين حولها. وكانت إذا ركبت المركبة إلى جنب السائق نرجو منه أن لا يقرع الحصان بالقرعة فتقول له بلغتها. (حرام الحصان يبكي).
كانت في أوقات الفراغ تخيط أو تطرز. ولكنها كانت تقرأ كثيراً، وفي قراءتها تمر أصابع يسراها على الخط العماني وبأصابع اليمنى تتهجى الكلمات، وحركات يدها سريعة جداً وفي ذات يوم علمها ابن عمها أبجدية التلغراف فتعلمتها بسرعة وكانت تخاطب بها كل من يعرفها بنقر أصابعها على كفه. عجيب أنها تفهم بسرعة ولا تنسى ما تعرفه
والغريب أنها تعلمت السباحة والغوص، وكانت تسوق المركبة ذات الحصانين. وبالطبق كانت معلمتها إلى جنبها لتقيها من الزيغان والحصان يقيها منه لأنه يرى الطريق وهي تلقى له اللجام على الغارب
وكانت كل أمنيتها أن تدخل كلية ردكليف لتدرس مع المبصرين والسامعين العلوم العليا، ولما دخلت الكلية انتخبها الصف الأول نائبة رئيس الصف والصف أربع سنين دراسة أعلاها الرابع
جميع كتب الدراسة والتعليم مكتوبة للعميان بالحروف البارزة. وللعميان آلات كتابية (تيب(993/13)
ريتر) يستعملونها. وكان لهلن جميع الكتب العميانية ولها اله كاتبة خاصة. ومس سوليفان لا تفارقها وتساعدها مي كل ظرف من ظروف دراستها ففي الكلية درست النحو وآداب اللغة الإنكليزية. ودرست اللغة الألمانية واللغة الفرنسية واللغة اللاتينية واليونانية. ولما كان للعميان جميع الكتب المهمة في هذه اللغات بالحروف تيسر لهلن أن تقرأ بعض إلياذة هوميروس وبعض شكسبير. وأهم مؤلفات الألمان والفرنسيين.
والغريب أنها وهي في الكلية كانت تهتم بإنشاء كلية لتعليم العمى والبكم. وبذلت جهدا في هذا السبيل وألفت لجنة لهذا الغرض منها معلمتها وأمها وبعض موظفي مدرسة العميان التي درست فيها، وهي تعترف دائماً بأن مس سوليفان صاحبة الفضل الأعظم عليها وأنها أمها الثانية، ثم إنها جعلت تسعى لتحويل هذا المشروع فكتبت للكثيرين أن يمدوه بالمال. فلا بدع أن نراها وهي في سياحتها في الشرق توجه كل اهتمامها إلى مدارس العميان والسعي لمساعدتها.
وانتهت هلن من كلية رد كليف بنجاح فائق وأخذت مع المبصرين والسامعين درجة بكالوريوس علوم. وما قنعت بهذا بل طمحت إلى الجامعة لكي تحصل على دكتوراه في العلوم ثم دكتوراه في الفلسفة.
ولما بلغت العشرين من العمر وكانت قد انتهت من الدرس شرعت تكتب تاريخ حياتها الذي طبع في سنة 1903 أول مرة ثم طبع سنة 1932 مرة ثانية.
وكانت مجلة السيدات تنشر مقالاتها وجميع أخبارها وأخبار مس سوليفان عنها.
وبكل أسف ليس في كتاب تاريخ حياتها الذي نحن بصدده شيء عن حياتها بعد كتابة كتابها الأول. وإنما هناك كتاب أخر بعنوان يستوفي بقية حياتها في الجامعة وبعدها. وأتأسف أنه لم يتيسر لي الحصول عليه.
ولمس سوليفان فصل طويل في مسائل هلن عن الوجود والله والطبيعة، فكانت مس سوليفان تسوف الأجوبة على هذه الأسئلة إلى أن تنتهي هلن من الجامعة ودرس الفلسفة
هذه هي هلن كلر التي هي كتلة عقل في دماغ طري مرن، وكتله أعصاب في بدن شديدة الحساسة ماعدا أعصاب السمع والبصر. والذين رأوها في مصر دهشوا من مقدرتها في التعبير عن نفسها وأفكارها. ومنهم كثيرون لم يصدقوا هذه المقدرة لأنهم رأوا وجهها يشع(993/14)
جمالاً وليس في عينيها ما يدل على عمى، وما فهموا أن العيب ليس في عينيها ولا في أذنيها، وإنما هو في مراكز السمع والبصر في الدماغ
فسبحان من منع ثم منح(993/15)
جحا القاضي
للأستاذ عطا الله ترزي باشي
أشتهر من بين المستطرفين في الشرق رجلان سميا بجحا، أحدهما عربي، هو أبو الغصن بن رجين بن ثابت الذي عاش بمدينة الكوفة في القرن الثاني من الهجرة، والآخر تركي يعرف بجحا الرومي، وهو الخوجة نصر الدين الفيكهان العالمي المعروف
ونريد في هذا المقال أن نتكلم عن الثاني على أن تحصر الكلام في ناحية هامة من نواحي حياته، ونعني بها جانب القضاء، وان تطرق كذلك بإيجاز إلى جوانب حياته الأخرى كلما مست بنا حاجه أودت إلينا ضرورة.
ولد جحا في مدينة (سيورى حصار) من ولايات الأناضول وتلقى علومه الابتدائية في مدينتي (آق شهر) و (قونيه). وعين بعد ذلك إماماً في بعض المساجد فمدرساً. وقد اشتهر بالوعظ والخطابة، وشغل منصب القضاء مدة غير قليلة في نواحي قونية. وتوفي سنة 683 هـ عن عمر يناهز الستين سنه، فكتب تاريخ 386 هـ بدلاً من 683. وهذا الأخير مشكوك فيه أيضا.
لقد كان جحا الرجل الفذ المعروف بحضور بداهيته وقدرته على إبداع النكات بما لا يضارعه في ذلك أحد من المستظرفين. ولئن كان جحا ضحكةبين الناس فإنه لم يكن صاغراً أو مهاناً راضياً بالذل والضيم. . فقد كان شيخاً كريماً وأديباً ممتازاً جمع بين الجد والهزل بشكل لا يجاري فيه أحد من الأدباء، وعالماً فاهماً يفحم فطاحل العلماء بأجوبته المسكتة وأدلته المقنعة. وهو يعد بلا شك برنادشو زمانه، والواقع بأنه كان أذكى وأعقل. . ومن درس حياته دراسة عميقة توسم فيه أدباً رفيعاً بعيداً عن المهازل المبتذلة. . ورأى من وراء سفاسفه فلسفة مثلى. . والمطلعون على نكاته - باختلاف طبقاتهم واختلاف ألوانه - نراهم يستمتعون بلذاتها أبد الدهر. فهو يتمثل في مخيلة كل قارئ شخصاً يتغير وصفه بتغير حال المخيل، فيتصوره الصغير رجلاً طاعناً في السن وعصاه في يده يسوق بها حماره الذي يلازمه في أكثر نكاته. ويتخيله الجاهلون من طبقة العوام رجلاً ذا جنة فيهرفون في الضحك به، ويعتبرون نوادره لونا من الهزل الرخيص. وهو في الواقع رجل عظيم كما ذكرنا، حكيم رزين، وعالم متزن متحل بمزايا الإنسان الكريم. أما نكاته فهي(993/16)
مرآة صافية تتمثل فيها جوانب شخصيته الممتازة. وقد ترجم أغلب نوادره إلى اللغات العربية والفارسية والهندية فضلاً عن أنها ترجمت إلى كثير من اللغات الأوربية الحديثة. وقيل أن أحد الإنكليز المغرمين بنوادر جحا كان يقتني كل نادرة غير موجودة في مجموعته بجنيه أسترليني، حتى تمكن من الحصول على عدد غير قليل من نوادره. .
كان جحا يجالس العلماء البارزين ويتحداهم في كثير من المسائل، وكان يصاحب رجال الدولة وخاصة القضاة منهم، فيستشيرونه في كثير من الأمور فيرشدهم إلى أسلم الحلول. وكان الأفراد، صغيرهم وكبيرهم، يحتكمون إليه فنراه يحل مشاكلهم بفطنته وبقطع بينهم دابر الفساد بدرايته. فيرضى بحكمه الصغير ويقنع برأيه الكبير. . يحسم النزاع بشكل لا يدع فيه للاعتراض مجالاً ولا يترك للمناقشة باباً. يعبر عن غاياته بتعابير شيقة توافق مقتضى الحال. فيعرف كيف يخاطبٍ الصغير ويجارى الجاهل الغرير وهو يعرف كيف يوازي الحكيم المحكم ويوازن الشيخ الكريم. . .
أدرك جحا عصر تيمورلنكالملك الجبار وأنس بمجلسه. وكان يواجه في كل حين مواجه صديق لصديقه، لا يأخذه منه روع أو جزع. .
دخل تيمور بلدة جحا مظفراً منتصراً على العثمانيين. فخاف الناس أن يصيبهم منه أذى حتى أقدم جحا على زيارته وأبدى جسارة في الجلوس بجانبه. ولما رآه وقد مد إحدى رجليه أراد أن يضحك منه؛ فمد هو رجله من ساعته. فاستشاط تيمور غضباً وقال له: لقد سمعت عنك أنك ظريف حكيم ولكن تبين لي أنك حمار! فتبسم جحا ضاحكاً وقال له: أجل أنه ليس بيني وبين الحمار فرق سوى ذراع أو ذراعين! فتعجب تيمور من هذا الجواب فأمر بالانعدام عليه وجعله من المقربين
ويروى عنها نكات كثيرة، تخص بالذكر هنا إحداها وقد تميزت بطابع القضاء الذي جعلنا المقال يدور حوله
ارتجل جحا يوماً إوزه وجاء يقدمها إلى تيمور. فغلب عليه الشوق إلى كل شرحة منها، فعالجها لاختيار الموضع الذي يأكل منه حتى تناول إحدى رجليها. . ففطن السلطان للمسألة، فسأله بغضب عن علتها فأجاب جحا قائلاً:
- إن الإوز في هذه البلاد - يا سيدي - له رجل واحدة! وأشار إلى الإوز في الحديقة وهي(993/17)
واقفة على رجل واحدة. . وعندها قام تيمورلنك فضرب الإوز بعصاه حتى تولت برجليها مسرعة. . قال له جحا: لئن ضربناك بهذه العصا لرأيناك تركض بأربع أرجل! وكان ذلك جواباً مفحماً ابتغى من ورائه الإشارة إلى الآثار السيئة التي تنجم عن التعذيب في المجتمع
لقد زادت قيمة جحا وعلت منزلته بين الناس بمر الأيام وكر الأعوام حتى تكون له مركز ممتاز في المجتمع. وقد ذاع صيته في أطراف البلاد، فاهتمت به الأوساط الأدبية وعنت المجالس الثقافية بجمع نوادره الرائعة. . وأحبه الناس حباً جما فكانوا يكرمون وفادته في كل مكان. رجال العلم وأكابر القوم وولاة المملكة وقضاتها لا ينقطعون عن مجلسه ولا يدعونه ينقطع عن مجلسهم
يروى أن أحد القضاة أراد يوما أن يستهزئ بجحا في مجلس ضم جمعا غفيراً من علية القوم، وكان يغريه في ذلك أحد التجار، قال:
- لا غرو أن كثرة الكلام داعية للخطأ، فهل صادف أن سببت لكم الثرثرة خطأ؟
قال جحا: نعم. وكان ذلك في موضعين: أحدهما في جملة (وقاضيان في النار) فقد قرأتها خطأ (وقاض في النار) وثانيهما في آية (إن الفجار لقي جحيم) إذ قرأتها (إن التجار. . .)
ويروى له مع هذا القاضي نادرة أخرى أطراف من سابقتها وهي أن جحا كان يوما جالساً مع صديقه القاضي في قاعة المرافعة، فجاء رجلان يتخاصمان على رفع جيفه ملقاة في الطريق بين داريهما، يطلب كل منهما إلزام الآخر برفعها
رأى القاضي أن يحيل المسألة على جحا فيحسم النزاع وكان يروم الاستهزاء به. فما كان من جحا إلا أنه اعتلى منصة القضاء واصدر حكما يتضمن أن الأفراد غير ملزمين بإزالة الجثث من الطريق العام، وإنما المختص بهذا العمل هو حضرة القاضي الذي يمثل المصلحة العامة
وهكذا حسم الدعوى حسماً موفقاً لمقتضى القانون والعدالة، منتقماً من القاضي الذي أراد الاستهزاء به. .
ويعبر جحا بنكاته البديعة عن واقع الحال تعبيراً صادقاً، ويصور بها الأوضاع السيئة في عصره خير تصوير. فانظر إلى فكاهته هذه كيف يوضح بها سوء القضاء وتفشي الرشوة بين الحكام:(993/18)
حكي أن ثرياً قال لجحا: أن تبصق على وجه فلان، وهو عدو لي، فلك مني دراهم كذا. . وافق جحا على ذلك. . فرفع المشتكي أمره إلى القاضي ولدي السؤال أجاب جحا قائلاً. أن لدى فرمانا يخول لي في ذلك. .
فاستغرب القاضي من ذلك وقال له ارني هذا الفرمان. فأجاب بجحا يدفع كيساً إليه رغيفه نصف المبلغ الذي أخذه من صاحبه التاجر. وما أن اخذ القاضي الدراهم حتى ولي وجهه إلى المشتكي وقال:
- حقا لقد ابرز خصمك فرمانا يخول له الحق أن يبصق. على وجهك وعلى وجوه الناس بل وعلى وجهي كذلك. .
وتقلد جحا منصب القضاء مدة طويلة كان خلالها مثال الحاكم العادل الذي لا يغريه الطمع والحكيم المجرب الذي لا يغويه الفساد. فكان حازماً في رأيه صريحاً في نطقه، قوي الحجة كثير البلاغة، ذكيا ذا فطنه لا تخدعه خديعة الماكرين ولا يجترفه عن الصواب مكر الماجنين.
حكى أن أحد الماكرين أراد أن يحتال على كسار خشب، فادعى أن له بذمته مبلغاً نشأ عن المدعى عليه على كسر الحطب بترديده كلمات (هينغ. . هينغ) حيث سهل أمر الكسر، ولذا فإنه يطلب من المحكمة إلزام المدعي عليه بالمبلغ المدعي به وهو اجر قوله. . .
تأمل القاضي - وكان جحا - في المسألة ثم قال للمدعي عليه: هات المبلغ المدعي به وما أن اخذ الدراهم حتى رنها وأعادها إلى صاحبها المدعي عليه قائلاً:
- إياك الدراهم. . وأنت يا مدعي قد انتفعت بصوتها فهو اجر قولك
ويروى عن جحا في هذا الموضوع نوادر شتى، منها:
المدعي (مشيراً إلى المدعي عليه) لقد كان هذا يحمل ثقلا فوقع من ظهره، وطلب إلى أن اعاونه، فسألته عما يعطينيه قال (لا شيء) فرضيت بها وحملته الثقل. . . ولذا فإني أطلب من المحكمة إلزام المدعي عليه بتأدية (لا شيء) لي
جحا (وهو القاضي) - دعواك صحيحة يا بني. . تقرب مني وارفع هذا الكتاب. . ماذا في أسفله؟
المدعي - لا شيء. .(993/19)
جحا - فخذها وانصرف
ويلاحظ أن القرارات التي يصدرها جحا لم تكن من نوع القرارات القراقوشية التي لا تتفق مع قواعد العدالة. . ولئن كان ظاهرها موصوفا بطابع الهزل فإن باطنها كان محبوكا بأنسجة الحق والصدق. . فلم يكن جحا ليمزج الحق بالباطل أو يخرج الصدق بالمين إلا على سبيل الملاطفة. . جاءه يوماً رجل وقال له:
ان ثوركم نطح ثوري فهلك فهل يلزم الضمان؟
فقال جحا: كلا فإن دم العجماء جبار. . .
فقال صاحب الثور: عذرا لقد أخطأت، فإن ثوري هو الذي نطح ثوركم
وعندها قام جحا منزعجا وقال:
- هات لي الكتاب الفلاني، فقد تغير وجه الادعاء وأبدع جحا مرة في الإجابة عن بعض الادعاءات المتناقضة بقول حاسم جميل، لقد جاءه أحد المتخاصمين يبسط له النزاع ويبرئ نفسه ويدين خصمه. فقال له جحا: (نعم أنك على حق)، وبعد قليل جاء المتخاصم الثاني وبدأ يشرح له الأسباب، فقال له جحا: (نعم انك على حق)، فاستغربت امرأته من ذلك وقالت له: لقد جاءك المتخاصمان فقلت لكل منهما انك على حق ولئن كان أحدهما محقا في دعواه، فإن الآخر ولاشك غير محق فيها، فالتفت إليها جحا وقد تدارك الجواب:
(نعم وأنك على حق)
كركوك
عطا الله رزي باشي(993/20)
زعماء التاريخ
مصطفى كمال أتاتورك
للأستاذ عبد الباسط محمد حسين
(لم يكن مصطفى كمال رجلا من رجال المصادفة والحظ. . يرفعه إلى الزعامة غباء الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضم الله فيهم الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل. والحيوية للشعب الذي يأبى أن يموت.)
الزيات بك
- 6 -
انتهى الكفاح المسلح. . . وخرجت تركيا من الحرب منتصرة ظافرة. . وبذلك بدأت الحياة تدب في قلب الوطن التركي من جديد. . واضطر الحلفاء أن يعترفوا باستقلال الأتراك. . ويعيدوا إليهم حريتهم المسلوبة. . وأراضيهم المحتلة
ومن عجيب المتناقضات. . أن هول هذه النكبة التي حاقت باليونانيين. . كانت أكبر سبب في إزالة العداء بينهم وبين الأتراك. . وإنشاء علاقات ودية بين حكومتي أنقرة وأثينا. وهكذا نفذ مبدأ تقرير المصير عن طريق السيف والنار. . والذبح والتدمير
وإن الباحث في تاريخ الحركة الكمالية يرى أن هناك ظروفا - لم تخل من مزايا - ساعدت مصطفى كمال وأتباعه. . على الوصول إلى هذه النتيجة الباهرة. . التي لم يكن يتوقعها الأتراك أنفسهم
وهذه المزايا يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولا: نجد الترك في سنة 1919 - 1920 قد تخلصوا - إن طوعا وإن كرها - من عبء إمبراطوريتهم. . وكانت عبئاً أثبتت الحوادث أنه لم يكن لهم طاقة بحمله
ثانياً: في الحروب الماضية لم تنفذ الأطماع الأوربية إلى أرض الوطن التركي نفسه. أما عند نهاية الحرب العالمية. . فقد قسمت تركيا إلى مناطق نفوذ بين الدول الكبرى. . فكان لذلك أثر كبير. إذ دبت في صدور الأتراك عاطفة وطنية قومية. . تهدف إلى استقلال الوطن. . لا إلى استبعاد الغير. .(993/21)
ثالثاً: أنهكت الحرب العالمية قوى المتحاربين جميعا لا فرق في ذلك بين المنتصرين والمنهزمين. . ولذلك لم يعبأ الرأي العام في الغرب بغضب رجال السياسة. . ولم ينل اليونانيون مساعدة جدية. . من جانب الحلفاء. . . مما ساعد الكماليون في حركتهم القومية
رابعاً: عملت الحكومة البلشفية في روسيا على تشجيع الكمالين ومساعدتهم. علهم يتمكنون من إجلاء الحلفاء عن القسطنطينية. . وسد المنافذ للبحر الأسود
ويرى الأستاذ محمد شفيق غربال. . أن هذه المزايا الأربع. . كانت عظيمة الأثر. . كبيرة الخطر. . ولكن لا يقلل هذا من عظمة مصطفى كمال. . وحسن بلاء أتباعه. . إذ لم تكن إذ ذاك واضحة وضوحها لنا الآن. . وكان قيامه بالحركة كله جرأة وإقدام وبعد نظر
وإذا أردنا أن ندرك عظمة الجهود التي قام بها مصطفى كمال. . فلنرجع إلى خطابه الذي ألقاه أمام حزب الشعب سنة 1927م. . والذي جاء فيه. . (وهناك أمران مهمان في صدد هذه الفترة. . أولهما: أنه كان يسود في الأذهان فكرة وجوب عدم إغضاب الدول الكبرى المنتصرة. أثناء البحث في وسائل الخلاص. . وكانت فكرة عجز الأمة عن الوقوف أمام واحدة منها. . فضلاً عن الجميع. . . راسخة رسوخا قويا في الأذهان. . ولم يعد منه شيء أبعد عن المنطق والعقل في نظر الناس من الوقوف في وجه قوى الحلفاء
أما ثانيهما: فهو الارتباط التام بمقام السلطان الخليفة انسياقا وراء التقاليد الدينية والوطنية التي مرت عليها الأجيال. . ولم يكن أحد قادرا على فهم معنى الخلاص من غير الخليفة. وكان من يشذ عن هذا المفهوم. . يتهم باللادينية. . واللاوطنية. . والخيانة. . .)
ومع هذا الفساد في الحكم. . والتشاؤم من المستقبل المظلم القاتم. . وفقدان الثقة بعظمة الأمة التركية وحيويتها. . كانت خطب الزعيم مصطفى كمال. . وأقواله المأثورة منذ أوائل الحركة النضالية وفي أثنائها. . وبعدها. . تدل على أن ما صدر عنه من توجيهات. . وأعمال قضائية. . وسياسية. . وانقلابية. . وإصلاحية. . في مختلف النواحي. . لم يكن مرتجلا، وإنما كان يدل على عظمة حقيقية
بعد أن انتهى مصطفى كمال من تحقيق غرضه الأول. . وهو الحصول على الاستقلال الوطن التركي. . بدأ ينظر في حالة البلاد الداخلية. . فكان أول عمل قام به هو الفصل بين السلطنة والخلافة. . وإلغاء السلطنة نهائياً من البلاد(993/22)
أخذ يخطب في المؤتمر الوطني. . وقال للنواب: (إن السلطنة شئ. . والخلافة شيء آخر. . ولابد من الفصل بينهما وإلغاء الأولى. .)
وحينما طال الاجتماع - وكثرت المناقشات. . ضجر مصطفى كمال من طول الانتظار. . فاقتحم القاعة وقال. (لقد اغتصبت السلطنة العثمانية السلطنة من الشعب. . ومن حق الشعب أن يستردها. . ويفصل بين السلطنة والخلافة. . ويجب عليكم أن توافقوا على هذا القرار. . وإلا كلفتكم المعارضة ثمنا غاليا هو. . . رؤوسكم. .) وما أسرع ما وافق الأعضاء. . وألغيت السلطنة. . وعزل السلطان وحيد الدين. . ونصب مكانه عبد المجيد خليفة للمسلمين. . دون أن تكون له صفه سياسية. . وبعد فترة قصيرة. . أعلنت الجمهورية. . وأصبح مصطفى كمال رئيسا لها. . ورئيسا لأركان حرب الجيش. . ورئيسا لحزب الشعب. . .)
نظر مصطفى كمال بعد ذلك إلى منصب الخلافة. . وكان يعتقد بعبث وجوده. . خصوصا وأن زعماء المعارضة بدءوا يتخذونه محورا لحركاتهم. وعملوا على تقويته بمختلف الوسائل، وكانت خطتهم تقضي بإعادة السلطة الزمنية للخليفة، وجعله سلطانا على الأتراك وفي سنة 1924، قرر المؤتمر إلغاء الخلافة وحرمان الخليفة المخلوق، وأفراد العائلة العثمانية ذكورا وإناثا، من الإقامة داخل حدود الجمهورية إلى الأبد
عمل مصطفى كمال بعد ذلك على إلغاء الطرق الصوفية، لأنه رأى ما لمشايخ الطرق من تأثير على الجمعيات والاجتماعات السرية، والدعوة إلى المظاهرات، وأثارت العصبية الدينية ضد العهد الجديد، وفي سنة 1925، صدر قانون بإلغاء الطرق، وإغلاق الزوايا، ومما قاله مصطفى كمال في ذلك، (إن هذا الظرف كان من خير الظروف للقضاء على هذه المخلوقات البغيضة التي شوهت الدين ومبادئه، وجعلت أماكنه أوكار جهل وعبث وفساد. .) كما أصدر تشريعا يقضي بمنع الإسراف في الأعراس، ومما جاء في هذا التشريع، (منع إقامة الأفراح لأكثر من يوم واحد، ومنع إقامة مآدب أفراح عامة، ومنع إهداء العروس أكثر من ثوبين. . .)
وعمل أيضاً على منع تعدد الزوجات، وتعليم البنات، وقد نص الدستور على التعليم الإجباري للأنثى كالذكر تعليما ابتدائيا، ويعتبر هذا التشريع خطوة كبرى أدت إلى سفور(993/23)
المرأة التركية، وخروجها إلى ميدان الحياة، ولم يقتصر على ذلك، بل نادي بتغير الزي بما يتناسب وروح العصر، وجعل القبعة غطاء الرأس لجميع أفراد الشعب التركي. . كما أصدر قانوناً بإلغاء الرتب والاقاب، واكتفى بأن جعل لكل عائلة لقبا تعرف به، وبذلك عرف باسم (أتاتورك) أي والد تركيا
حقا: لقد كان مصطفى كمال، والد تركيا، وزعيمها الأكبر، فإليه يرجع الفضل في نهضتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهو الذي جدد معالمها، وخلقها آخر، وجعلها من أقوى الدول الشرقية
ومما عرف عنه، أنه كان يكره أن يعزى إليه كل الفضل في بناء صرح النظام الجديد، بل يعزو نجاحه إلى وطنية الشعب التركي، وإخلاص رفاقه القائمين معه بأعباء الدولة، وكان يكره أيضاً أن يوصف عهده (بالكمالي)، أو أن يقال أن الشعب التركي ينتمي إلى الحزب الكمالي، وذلك لأنه يعتقد أن ليس في البلاد حزب كمالي، وحزب غير كمالي، لأن الشعب كله حزب واحد، هو حزب الوطن، يسعى لخير الأمة، ويعمل على رفع منارها
ولقد كان للأتراك في مصطفى كمال ثقة عمياء، وقد سئل أحدهم عنه مرة فقال (انه صفوة الرجولة التركية، ونموذجها المعصوم عن كل خطأ) لقد كمال زعيما وطنيا مخلصا، أحيا وجاهد، واصلح وشرع. . . (ولم يكن رجلا من رجال المصادفة والحظ، يرفعه إلى البطولة خلو الميدان، ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة، وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل، والحيوية للشعب الذي يأبى أن يموت. . .)
الإسكندرية
عبد الباسط محمد حسن(993/24)
مجال الدعوة الإسلامية يجب أن يشمل المجموعة
البشرية
للأستاذ أحمد عوض
مهداة إلى الأستاذ سيد قطب
كان من اثر الاستعمار في البلاد الإسلامية أن سلبها حريتها، وألزمها خطة الانطواء على النفس، وركز فيها سوء الظن، وحرمها مزية التعاون، وكفها عن نشر دعوة ألزمهم دينهم نشرها؛ هي دعوة الإسلام
والإسلام دين لم يخص من الناس فريقا دون فريق، ولا عني بطائفة دون أخرى، وإنما على قوم كلفوا بأن يوسعوا مجاله بنشر تعاليمه حتى تشمل الكافة. وعلى كل من ينضم إليه أن يشارك السابقين إليه في الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالجدل بالتي هي احسن
لكن الدعوة إلى تعاليم عالمية تستلزم أول ما تستلزم ضروبا من الحريات، منها حرية الكلام، وحرية الاجتماع، وحرية العقيدة
وهذه الحريات جميعا وسائر الحريات كبحها الاستعمار وبخاصة ما كان منها مؤديا إلى دعوة عالمية، فالاستعمار منفعة خاصة أساسها أنانية المستعمرين على حساب حريات الإنسانية العامة.
وفرط المسلمون في حق أنفسهم وحق دينهم بما أهملوه من التسلح بكافة الأسلحة، معنويها وماديها، فغلبهم المستعمرون على امرهم، وكبتوا مشاعرهم ذلك الكبت الذي لم يصل ولن يصل إلى اصل العقيدة، ولكنه وصل إلى وسائل نشرها، فلم يقو الاستعمار على رغم بطشه وظلمه على انتزاع الإسلام من الصدور ولكن قوته كانت كافية لمنع المسلمين من توسيع مجال الدعوى اليه، وهذا ركن أساسي فيه
واكتفى المسلمون قرونا بالتحدث عن مزايا الإسلام بين المسلمين، حديثا مادام بين مسلم ومسلم، فهو لا يشرح العقيدة المفروغ بين المسلمين من اعتقادها، وإنما يشرح الطقوس والشكليات، لأن هذه هي التي يحتاج المفروغ من أمر عقيدتنا الإسلامية إلى الاستزادة من(993/25)
معرفتها. وبذلك أصبحت الدعوى بين المسلمين قاصرة على العبادات والمعاملات، وهي عظيما الشأن ما في ذلك من شك، ولكن روح الإسلام وأهدافها الجماعية - وهي التي من اجلها أنزل - أصبحت مهملة، لأن الكلام في الدين أصبح بين مفروض فيهم التمتع بها، بتلك الروح والمعرفة بهذه الأهداف
لكن لا هذه ولا تلك ولا المعاملات ولا العبادات ولا أي شيء في الحياة يمكن أن يصل إلى كماله أمام العقبات التي أوجدها الاستعمار من كبت الحريات، ومن نشر الجهل والمرض والفقر
والآن وقد أكلت النار نفسها حين لم تجد ما تأكله وتناقصت قوى الغرب المستعمر بما تناقص إيمانه بالله وتمسكه بالفضائل، فأصبح لا يكاد يستقر في حكم نفسه حتى يستقر في حكم المستعمرات. والآن وقد أحس المفكرون في الغرب بأن الحضارة التي أقاموها على الماديات توشك أن تنهار، فقد انتقمت الفضائل المهملة لنفسها، وتزعزعت عقائد الماديين بالمادة، وبشر الإسلام بنفسه حين أكره المسلمون على الكف عن التبشير له
والآن وقد بدأ المسلمون يستروحون نسيم الحرية بما أضعف خصومهم، فانصدعت قيودهم، واتسمت حدودهم، فإنهم يجدون في الغرب عقائد دينهم تمشي على أقدامها هي لا على أقدام المسلمين. وللفكرة أقدام وأيد ولها أيضاً أجنحة، ولئن أهملنا أن نعطي من مزايا الإسلام، فقد أكره الغرب وان لم نعطه منها على أن يأخذ هو، وشتان بين أخذ هـ من ماديتنا ذلك الأخذ الذي ينتقص من تلك الماديات، وبين أخذه من معنوياتها ذلك الأخذ الذي يزيدها ويباركها، والدين كالعلم يزيد مع كثرة الإنفاق، والآن أمام هذا كله أصبح في الغرب من يبشرون بالإسلام، أو بركن من أهم أركان الإسلام، هو نواحيه الخلقية، ودائرته الجماعية ومساواته بين الخلق كافة في الحقوق والواجبات، ودعوته إلى السلام، وتحريمه الحرب إلا دفاعا
بدأنا نتحرر، وبدأنا نستطيع استئناف ما وجب علينا، ولا يزال مستمر الوجوب من الدعوة اليه، فهل يقضي المنطق بأن نصحح أخطاء الداعين دعوتنا، ونكمل النقص إذا كان هناك ثمة خطأ أو نقص، أم نظل نحن المنوطة بنا رسالة الدين من بين المدعوين المستمعين، أم نظل مقتصرين على الدعوة للإسلام بين المسلمين؟(993/26)
ماذا يجب على المفكر المسلم الملم بلغات الغرب حين يقرأ في تلك اللغات دعوة إلى مبادئ دينه؟ أيناهضها لأنها (من الخارج) أم يدعو الداعين ويجادلهم بالتي هي احسن
ليس هناك إسلام أجنبي، بل ولا إسلام عربي، وإنما هناك رسول عربي بكتاب عربي من عند (الله)، كلف المسلمون أن ينشروا تعاليمه في أرجاء العالم الفسيح، ومن أركان الإسلام: الشهادتان والصلاة والصوم والزكاة وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا
نعما ونعم هي، ولكن الإسلام الذي هذه أركانه والذي كتابه قرآنه، قد نص على سبب نزوله، وهو الهدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ونبيه المبعوث بين سبب بعثته بأنها إتمام مكارم الأخلاق
وبعد فالحركات القائمة في أوربا وأمريكا لنشر فضائل الدين الإسلامي، لا تهدف إلى مزاحمة ديننا، وليست مذهبا في هذا الدين، وهي لا تزيد فيه ولا تنقص منه ولا تبتغي التأويل، وإنما القوم قد أسرفوا في مادياتهم واستعزوا بها، ومن استعز بشيء أورثه الله ذله، فاتجهوا إلى الدين، إلى دينهم أولا فوجدوا من الهداية بالمحبة والتسامح والتضحية، ولكنهم فطنوا بعد ذلك إلى أمور نص الإسلام فيها أصرح وأوضح ن فالإصلاح المنشود سبيله في الإسلام التغيير. تغير المرء ما بنفسه حتى يغير الله ما به. ولئن دعاهم السيد المسيح فيما ينص عليه إنجيلهم أن على الذي يحبه أن يحمل صليبه ويتبعه، فإن القوم قد لهجوا بالآية القرآنية
ولئن فطن القوم إلى علة شقائهم هي التنازع فيما بينهم على المستعمرات، والعداوة التي وجهها العالم سببها التنازع بين الطبقات وبين الألوان وبين الأديان، فقد لهجوا بما نص عليه القرآن من أن أفضلكم عند الله أتقاكم، وما نص عليه مبعوث هذا الدين من أنه لا فضل لحر قرشي على عبد حبشي إلا بالتقوى وقام فيهم من يدعو، لا إلى اعتناق الإسلام على صورة غير صورته، ولا إلى نسبة شيء إلى الإسلام ليس فيه، ولا إلى اخرج لفظ في الإسلام عن معناه، بل إلى روح الدين والى الفضائل الشائعة بينه وبين سائر الأديان
ولكنهم أخذوا بعضه، فهل ندلهم على باقيه؟ أم لا تزال بأنفسهم من أثر الاستعمار بقية تلزمنا الانطواء على النفس؟
أنهم يريدون محاربة الشر بمثل سلاحنا، بسلاح الخلق. فهل نحارب الشر معهم به؟ قبل أن(993/27)
ننطق بالجواب يجب أن نسائل أنفسنا، أين منا موضع الدعوة ومن الذي ندعوه وكيف ندعوه؟
ليس في أمريكا ولا أوربا إسلام أمريكاني ولا أوربي، وإنما فيها اليوم أكثر من دعوة لنشر فضائل الدين الإسلامي ولكن في مصر وفي سائر البلاد الإسلامية من يهملون الدعوة إلى الإسلام تاركين هذا الواجب لدخلاء عليه مستغلين له مسخرين لغابات استعمارية ابتغاء منفعة شخصية كما يقال بحق الأستاذ سيد قطب في افتتاحية العدد الأخير من الرسالة
هؤلاء يجب أن يحاربوا ولكن يجب أن نفرق بين هؤلاء وبين الداعين مخلصين لمبادئ إسلامية لم يجدوا غيرها وسيلة لمحاربة المادية، استعمارية كانت أو شيوعية، ولانتشال المدنية مما جنى عليها من الطامع الأشعبية
أحمد عوض(993/28)
دراسة وتحليل
لجواهري شاعر العراق
للأستاذ محمد رجب البيومي
- 3 -
أما الأوضاع الاجتماعية في الشرق العربي فقد شغلت الشاعر شغلاً عنيفاً حتى أتعبته، فقد دار بعينيه فيما حوله فوجد العطب يدب في كل مكان، والظلم يخنق الرقاب بقيد حديدي ثقيل، وقد تعددت مظاهر الفساد، فلم تقتصر على شكل واحد، واختلفت أماكن الداء فلم تخيم في بقعة واحدة ولكنها سلاسل ممتدة مشدودة، لا تجد الرقاب ولأيدي والأجل منها بعض الفكاك، والجواهري لا يفرد النواحي الاجتماعية بقصائد خاصة تكشف عن مساوئها الخاطئة، بل يقرن الشغب السياسي بالفوضى الاجتماعية في قصائده الملتهبة، فلولا الانحطاط الاجتماعي الشائن في الشعوب المحتلة، ما وجد المستعمرون وأذناهم ماء عكرا للصيد، ولولا فساد الساسة وأنانية القادة ما رزحت الدول تحت كابوس ثقيل من الجهل والمرض والحرمان! وكان شاعر الفرات يتأوه تأوها مريرا لما تقابل به صيحاته من دس واتهام، فقد علم المستعمر أذنابه أن يقاوموا حركات الإصلاح في كل شعب، فكل ناصح مخلص ثائر مخرب، وكل مدافع عن دينه ووطنه هدام ثوري يدين بالمبادئ الخطيرة المتطرفة، حتى التبس الأمر على السواد، ودفعهم الجهل إلى التردد في قبول النصائح وإحلالها محلها من القبول والانصياع.
فالوعي بغي والتحرر سبة والهمس جرم والكلام حرام ومدافع عما يدين مخرب ومطالب بحقوقه هدام
وقد كانت الشيوعية - ولا زالت - أقرب تهمة وأيسرها على المحتلين وأشياعهم، فما يكاد أحد في الشرق العربي ينطق بكلمة في الاصلاح، حتى يتهم اتهاما خطيرا بما لا يقصد إليه بحال، واضطر الساسة جريا وراء مآربهم الذاتية أن يربطوا عجلتهم الضعيفة الوانية، بعجلة إنجلترا القوية السريعة، ووقف الدب الروسي رمزا للخوف والهلع والازعاج، كأن الأسد البريطاني المتوحش لا يؤذي أحدا من الضعفاء من أن ضحاياه في الشرق من تسعين(993/29)
عاما قد ملأت المقابر بالأشلاء، والطرق بالدماء. ولا يزال المغرضون يفيئون إلى حنانه الكاذب وعطفه المزعوم.
شدوا بذيل غراب أمة ظلت ... تطير أن طار، أو تهوى إذا وقعا
وخوفوها بدب سوف يأكلها ... في حين تسعين عاما تألف السبعا
وضيقوا أفق الدنيا بأعينها ... بما استجدوه من بغي وما ابتدعا
وذاك معناه أن بيعوا كرامتكم ... بيع العبيد بتشريع لكم شرعا
ورغم هذه التهم الكاذبة شق الشاعر طريق الإصلاح في صلابة وإيمان، وقد حارب ببراعة المكافح في جبهات متعددة، وحمل المشعل في يده يطارد الظلام في كل مكان ساخرا بالعواصف، متحديا جميع الصعاب!
ففي جبهة أولى يقف أمام الفقر فيحلل أسبابه، ويكشف عن علله، ويرمي بنظره في هذه الكتل المتراصة في الشوارع وقد كسرها الجوع لباسا أصفر شاحبا هزيلا تمد الأيدي السائلة وتتبع الفتات في القمامات كما تتبعه الحيوانات، وتقف أمام القصور الشامخة منحية ذليلة تتطلب الكفاف مما يرمي إلى الكلاب المدللة!! وقد مسح الفقر من نفوسها معاني الكرامة والعزة والإباء، وفي داخل القصور الممردة نفوس تبترد بالخمور، وتتجمل بالحلي والعطور، وأخونة تمتد بالطيبات من المطاعم، وليالي حمراء مرنة بالقصف والرقص، مغردة بألحان الفتيان، مضيئة بوجوده الكواكب الحسان! فشتان بين أولئك وهؤلاء
عجب لخلق في المغارم رازح ... يقدم ما تجنى يداه لغانم
وأنكأ من هذا التغابن قرحة ... غباوة مخدوم وفطنة خادم
لو اطلعت عيناك أبصرت مأتما ... أقيم على الأحياء قبل المآتم
إذا أقبل الشيخ المطاع وخلقه ... من الزارعين الأرض مثل السوائم
قياما على أعتابه يمطرونها ... خنوعا وذلا بالشفاه اللوائم
حنايا من الأكداح تلقى ظلالها ... على مثل جب باهت النور قاتم
أمبتردات بالخمور تثلجت ... وبالماء يغلي بالعطور الفواعم
ومفترشات فضله في زرائب ... يوسدها ما حولها من ركائم
أمن كدح آلاف تفيض تعاسة ... يمتع فرد بالنعيم الملازم(993/30)
سياسة إقفار، وتجويع أمة ... وتسليط أفراد جناة غواشم
وفي جبهة ثانية يحارب الجهل فيعلن أنه أس المصائب وشر لمحن، فلولاه ما نهش الجوع نهشا في النفوس الكادحة، ولولاه ما حيكت الدسائس والمؤامرات للشعوب في ظل من الخداع والابتسام، ولولاه ما وطد المستعمر قلاعه وأقام بناءه الراسخ، ولولاه ما أقفلت المصانع والمتاجر وأصبحت الوظيفة الحكومية مناط الآمال ومبعث الرجاء، ولولاه ما قيدت الجموع اللاغية حفاة عراة لراكب، ولولاه ما حاز أشباه الجهلة من المتعالين أسمى المناصب، وأعظم الألقاب، ولولاه ما كمت الأفواه الناطقة، واحتجزت الألسنة الصارخة عن كشف المثالب والهنات!! وأخيراً لولاه ما تدهورت الشعوب العربية إلى ما انحدرت إليه من ذلة وهوان
غزا الجهل أرض الرافدين فحلها ... كثير السرايا مستجاش الكتائب
طليعة جيش للمصائب هددت ... كرامته، والجهل أم المصائب
وما خير شعب لست تعثر بينه ... على قارئ من كل ألف وكاتب
تمشي يجر الفقر ردفا وراءه ... وأتعس بمصحوب وأتعس بصاحب
فكان لزاما أن تحوز عصابة ... تزينت بزي العلم أعلى الرواتب
وكان لزاما أن تتم سيادة ... عليه لأبناء الذوات الأطايب
وكان لزاما أن تعطل صنعه ... وأن يصبح التوظيف أعلى المكاسب
وكان لزاما أن تقاد جموعه ... حفاة عراة مهطعين لراكب
وأوجع ما يصمى الغيور مقاصر ... أطلت على محجورة في الزرائب
يبين على الحيطان شرخ نعيمها ... وتغمرها اللذات من كل جانب
وتحيا ليالي الرقص فيها خليعة ... تكشف عن سوق الحسان الكواعب
وتلك من الأدقاع تتسد الثرى ... يلاعب جنبها دبيب العقارب
والجواهري قد حارب الجهل كما تقدم محاربة عنيفة، يحمل سوطه في يده ويهوى به على النشء المثقف من المتعلمين! فيعجب القارئ بادئ ذي بدء لهذا الثائر الذي لا يرضى عن أحد، ولكنه ينصب للشاعر فيجده صاحب حق في جميع أقواله، فلا تناقض بين ما يقوله في شئ، إذ أن النشء المثقف في العراق وغيرها لم يحققوا الآمال المعقودة عليهم فقد رأوا(993/31)
كثيرا من الخرافات فلم يجلوا ظلامها الحالك عن النفوس، وشهدوا الأوضاع الظالمة - في عالم السياسة والاجتماع - فلم يحاولوا أن يقفوا أمامها وقوفا ينذرها بالتصدع والانهيار، بل ربما ساروا في ركابها سيرا مشينا، وقذفهم التيار إلى لحجها الزاخرة، فهزوا مع الغواة وأساموا سروح اللهو حيث اساموه، والشاعر يرجع ذلك كله إلى التربية نشأ عليها التلميذ في مدرسته، فقد وجد من الأساتذة من لا ينير طريقه ويكشف ليله، ومن المناهج قشورا بالية يعني وضعها المستعر، فليست خلقا أو تحيى كرامة، بل تخلق فتى مائعا بهندامه كلبسه، ويتشبه بالنساء في عطوره وزينته، ويمشي متخاذلا مدلا تغمره الأحاسيس الناعمة. وتقوده العواطف الرقيقة وقد يتناسى رجولته فيلجأ إلى التخنث والتبذل والعربدة، فخطرات النسيم تحرجه، ولمس الحرير يكلم راحته، وقد مات شعوره فلم يفكر في ضحايا قومه، وصرعى معشره، كأنه ليس عنهم وليسوا منه! فيصير هؤلاء المماسيخ المشوهون خلقا وعقلا ومعقد آمال ومبعث حياة، أم يسيرون بأمتهم إلى الوراء مئات الأميال، ويهوون بها إلى الحضيض السحيق في أغوار الظلام!
هلمو إلى النشء المثقف واكشفوا ... حجابا يغطي نفسه وقناعا
تروا كل مفتول الذراعين ناهدا ... قصيرا إذا جد النضال ذراعا
وكل أنيق الثوب شد رباطه ... إلى عنق يمشى العيون لماعا
يموع إذا مس الهجير رداءه ... كما انحل شمع بالصلاء فماعا
تراه خلي البال أن راح داهنا ... وان قد ذكا منه الأريج وضاعا
وليس عليه ما تكامل زيه ... إذا عرى الخلق الكثير وجاعا
وان راح سوط الذل يلهب أمة ... كراهية يستاقها وطواعا
ولم تشجه رأيا وسمعا قوارع ... يسوء عيانا وقعها وسماعا
ورب رءوس برزة عششت بها ... خرافات جهل فاشتكين صداعا
بها نومتنا الأمهات تخوفا ... وما أيقظتنا الحادثات تباعا
وكما حنق الجواهري على المثقفين من بني وطنه، حنق على بعض رجال الدين من ذوي العثانين الممتدة، والعذبات الطويلة، إذ أن رجل الدين الصادق في رأيه هو الذي يغير المنكر بيده ولسانه وقلبه، فيكون ثائرا أن دعا الأمر للثورة، وصائلا حين يتحتم الصيال،(993/32)
وقد تزين بلباس الدين أقوام من مشايخ الطرق وأصحاب الأذكار والأولاد، هم لايفهمون قليلا عن روح الشريعة ولباب الإسلام، وصادفوا من العامة ثقة غالية ومنزلة رفيعة فحرفوا الكلم عن موضعه، وابتدعوا البدع ابتداعا، وجسموا الأوهام تجسيما يدعو إلى الذعر والهلع، ومسخوا روح الدين من النفوس، وساعدوا الطغاة والآثمين، فكانوا مطاياهم السريعة في التنويم والتخدير، وزاد الكارثة هولا أن هؤلاء الأدعياء لا يتورعون عن الآثام في حقير أو جليل، فهم يقترفون الموبقات، وينتهكون المحارم! ويتصيدون الرشى والأموال من سبل مريبة، حتى فاح النتن الآسن منهم على الناس، ولابد لهذه الشرذمة من نقد عاصف يكشف زيفها الخاتل، ويطمس بريقها الأخاذ، فأندفع الجواهري يندد بهم في قصائده الثائرة كأن يقول
تحكم باسم الدين كل مذمم ... ومرتكب حفت به الشبهات
وما الدين إلا آلة يشهرونها ... إلى غرض يقضونه وأداة
وخلفهمو الأسباط تترى ومنهمو ... لصوص ومنهم لاطة وزناة
وما كان هذا الدين لولا ادعاؤهم ... لتمتاز في أحكامه الطبقات
أتجبي ملايين لفرد وحوله ... ألوف عليهم حلت الصدقات
وأعجب منها أنهم ينكرونها ... عليهم وهم لو ينصفون جباة
والشاعر لا يترك سبيلا للتنديد بهم إلا سلكه وأغل فيه، ولو لم تكن مناسبة الكلام قوية ملحة، فعندما احتفلت البلاد بالذكرى الألفية لأبى العلاء المعري، وذهب الشاعر إلى دمشق ليلقي قصيدته باسم العراق، لم يشأ أن يقصر الحديث على روائع الفيلسوف وآثاره، بل حلل آراءه الاجتماعية تحليلا شعريا يمس اللباب الخالص، ويشع مومضا بمختلف الإيحاء والإلماع، وكأن الشاعر الفرات يجد الراحة الهانئة في التنفيس عن مشاعر الممتزجة بمشاعر أبي العلاء، والناس هم الناس في كل زمان ومكان، فما أغضب المعري من أوضاعهم الشائنة قد أغضب الجواهري بعد ألف عام!! وكان لأدعياء الدين نصيبهم الوافر من النقد والتجريح، فحفلت قصيدة الجواهري بقوارس لاذعا تسيل دماءهم وتحطم كبريائهم، وتوغر صدورهم، وما عليها وقد وافق أبا العلاء في رأيه، وجرى معه في سنن واحد حين أهدى إلى روحه هذه الأبيات(993/33)
وهؤلاء الدعاة العاكفون على ... أوهامهم صنما يهدونه القربا
لحابطون حياة الناس قد مسخوا ... ما سن شرع وما بالفطرة اكتسبا
والقاتلون عثانينا مهرأة ... ساءت لمحتطب مرعى ومحتطبا
والملصقون بعرش الله مانسجت ... أطماعهم بدع الأهواء والريبا
والحاكمون بما توحي مطاعمهم ... مؤولين عليها الجد واللعبا
على الجلود من التدليس مدرعة ... وفي العيون بريق يخطف الذهبا
أوسعتهم قارصات النقد لاذعة ... وقلت فيهم مقالا صادقا عجيبا
صاح الغراب وصاح الشيخ فالتبست ... مسالك الأمر أي منهما نعبا
يتبع
محمد رجب البيومي(993/34)
شوقيتان لم تنشرا في الديوان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
- 2 -
اطلع القراء في العدد السابق من الرسالة الغراء على درة من درر شوقي التي تجمع إلى أخواتها في دواوينه الأربعة المطبوعة ولم تضم إلى شعره المتداول بين أيدي القراء في جميع البلدان الناطقة بالضاد، وكنت وعدتهم في ذيل مقالي السالف أن أقدم لهم في هذا العدد شوقيه أخرى من تلك الشوقيات الفذة التي لم نتفتح عنها غير قريحة أبي علي، وهذه القصيدة الجديدة عثرت عليها في مجلة أدبية قديمة يرجع تاريخ صدورها إلى سنة 1928 أيضاً. أما اسم المجلة فلا أعرفه لأن أكثر صفحاتها الأولى والأخيرة كانت ممزقة، وأما كيف عثرت عليها فتفصيل الخبر أنني كنت في يوم من الأيام في سوق الوراقين ببغداد أنقب بين الصحف القديمة التي تعرض للبيع بالأكوام فلفت نظري صديق إلى مجلة ممزقة كانت بين يديه وهو يشير إلى بعض بحوثها فلما أخذتها منه وتصفحتها عثرت فيها على قصيدة أميرنا مدرجة. وكم كان سروري عظيماً عندما راجعت دواوينه فلم أعثر لها على ذكر! فقلت في نفسي هذه هدية قيمة لا يستحقها إلا مجلة الأدب الرفيع والشعر الخالد حيث تقدمها إلى ابناء العروبة
والقصيدة كما يراها القراء لا تختلف في كثير أو قليل عن شعر شوقي من جميع النواحي، فالديباجة ديباجه، ولأسلوب أسلوبه، والنفس واحد، والصور والتركيب والتعابير والموسيقى اللفظية واللفتة الشعرية البارعة كلها له، وهي فوق كل هذا قصيدة عالية مشرقة بالرغم من أنها من بحر الرمل، ذلك البحر الذي لا يجيد فيه من حيث متانة تركيب الأبيات إلا القادر من فحول الشعراء. ولا أذكر أنني - على كثرة قراءتي للشعر - وقفت إلى شاعر نظم قصيدة من بحر الرمل وأجاد فيها أو أظهرها بديباجة متينة اللهم إلا شوقي، لأن هذا البحر على الرغم من سهولة النظم فيه لابد أن تأتي القصيدة فيه ركيكة مهلهلة الأبيات كما يحدث عند الكثير من الشعراء. لذلك يتجنب الفحول النظم فيه على العكس من البحور الأخرى كالكامل والوافر والبسيط حيث تأتي الأبيات قوية التركيب متينة الأبيات كأنها البنيان المرصوص. وأذكر أنني في بدء نظمي الشعر كنت لا أقوله إلا على بحر الرمل لسهولته،(993/35)
ولكنني تركته بعد ذلك ولم أعد ألجأ إلى النظم فيه إلا ما ندر؛ حتى الموشحات الغنائية التي أكثر من النظم فيها أترك الرمل وألتزم مجزوءه - نظرا للإيقاع الموسيقى الذي فيه والجرس الراقص، أما شوقي فهو حتى في هذا البحر يبدع ويجيد - خذ مثلا قوله
ارفعي الستر وحيي بالجبين ... وأرينا فلق الصبح المبين
واتركي فضل زماميه لنا ... نتناوب نحن والروح الأمين
ألا يرى معي القارئ القوة والمتانة التي تتخلل الأبيات على سهولتها وعذب موسيقها؟ أيستطيع أحد مهما بلغ من المقدرة البيانية والبلاغية ومطاوعة اللغة والقوافي له أن يضع لفظة بدل أخرى!! أشك في ذلك لأن الفحول من الشعراء عندما ينظمون حتى على هذا الوزن لا يتركون فيما يقدمونه مغمزا لناقد فيه! وهكذا الحال عند شوقي على خلاف غيره من الشعراء عصره
قد يطول بنا القول إذا نحن قارنا بينه وبين غيره لأن المفاضلة والموازنه تحتاج إلى إيراد أمثلة تخرجنا عن الموضوع الذي نطرقه الآن، لذلك نترك ذلك الحديث إلى مجال آخر وعسى أن يكون ذلك في القريب
قلت في بدء الكلام أن القراء نشقوا في العدد الماضي عطر باقة من الأزهار أبي علي ويسرني الآن أن أتحفهم بإضمامة أخرى قطفها لهم من روضته وهي كما يرون نغمة ككل شعره العطر الندى، تزول جدة الدهور ولا تزول جدتها، فإن كان الورد لا تتفتح إكماله إلا في الربيع ولا يعبق نشره إلا في أيار، فإن شعر شوقي فواح الأريج في كل الفصول. فلنستاف إذا شذاه الموار
الشوقية الثانية
وهذه العصماء الثانية قالها شوقي في جمعية الشبان المسلمين حيث ألقيت في حفلتها التي أقيمت بدار الأوبرا الملكية في 14 شوال من عام 1347هـ - 1928م
لم يضع صاحب المجلة عنواناً للقصيدة ولم يذكر المناسبة التي قيلت فيها ولكن القارئ يدرك من فحواها أنها نظمت لأجل جمع الإعانة لدار الأيتام التي قامت ببنائها الجمعية المذكورة على حد قوله:
يا شباباً حنفاء ضمهم ... منزل ليس بمذموم النزيل(993/36)
يصرف الشبان عن ورد القذى ... وينجيهم من المرعى الوبيل
أو قوله
رب عرس مر للبر بما ... ماج بالخير وبالسمح المنيل
ضحك الأيتام في ليلته ... ومشى يستروح البرء العليل
والتقى البائس والنعمى به ... وسعى المأوى لأبناء السبيل
ومن أحق بالرعاية من اليتامى وأبناء السبيل؟ ومن غيره شوقي من الشراء عصره يستطيع أن يلهب أكباد الأثرياء حماسة ويضرب على المواطن الحساسة من شعورهم فيجودوا لهذا المشروع النبيل بالمال عن طيب خاطر؟
إذن لنستمع إلى صناجة القرن العشرين وهو يوقع على أوتار قيثارته أغاريد الخير والحق والحنان، في أسلوبه الموسيقى المشرق ونغماته العذاب إذ قال في. . .
مهرجان اليتيم
حبذا الساحة والظل الظليل ... وثناء في فم الدار جميل
لم تزل تجزى به تحت الثرى ... لجة المعروف والنيل الجزيل
صنع (إسماعيل) جلت يده ... كل بنيان على الباني دليل
أتراها سدة من بابه ... فتحت للخير جميلا بعد جيل
ملعب الأيام، إلا أنه ... ليس حظ الجد منه بالقليل
شهد الناس به (عائدة) ... وشجي الأجيال من (فردي) هديل
وائتلفنا في ذراها دولة ... ركنها السؤدد، والمجد الأثيل
أيعنت عصرا طويلا وأتت ... دون أن تستأنف العصر الطويل
كم ضفرنا الغار في محرابها ... وعقداه لسابق أصيل
كم يدور ودعت يوم النوى ... وشموس شيعت لا يوم الرحيل
رب عرس مر للبر بما ... ماج بالخير وبالسمح المنيل
ضحك الأيتام في ليلته ... ومشى يستروح البرء العليل
والتقى البائس والنعمى به ... وسعى المأوى لأبناء السبيل
ومن الأرض جذيب وند ... ومن الدور جواد وبخيل(993/37)
يا شبابا حنفاء ضمهم ... منزل ليس بمذموم النزيل
يصرف الشبان عن ود القذى ... وينجيهم من المرعى الوبيل
اذهبوا فيه وجيئوا أخوة ... بعضهم خذن لبعض وخليل
لا يضرنكم قلته ... كل مولود وان جل ضئيل
أرجفت في أمركم طائفة ... تبغ الظن عن الإنصاف ميل
اجعلوا الصبر لهم حيلتكم ... قلت الحيلة في قال وقيل
أيريدون بكم أن تجمعوا ... رقة الدين إلى الخلق الهزيل
خلت الأرض من الهدى ومن ... مرشد للنشء بالهدى كفيل
فترى الأسرة فوضى وترى ... نشئاً عن سنة البر يميل
لا تكونوا السيل جهما خشنا ... كلما عب، وكونوا السلسبيل
رب عين سمحة خاشعة ... روت العشب، ولم تنس النخيل
لا تماروا الناس فيما اعتقدوا ... كل نفس بكتاب وسبيل
وإذا جئتم إلى ناديكم ... فاطرحوا خلفكم العبء الثقيل
هذه ليلتكم في (الأوبرا) ... ليلة القدر من الشهر النبيل
مهرجان طوف (الهادي) به ... ومشى بين يديه (جبرائيل)
وتجلت أوجه زينها ... غرر من لمحة الخير تسيل
فكأن الليل بالفجر انجلى ... أو كأن الدار في ظل الأصيل
أيها الأجواد لا تجزيكمو ... لذة الخير من الخير بديل
رجل الأمة يرجى عنده ... لجليل العمل، العون الجليل
أن داراً حطتموها بالندى ... أخذت عهد الندى أن لا تميل
إلى هنا تنتهي القصيدة ويبدو فيها شوقي مرشدا ينصح شباب الجيل بعدم الطعن في العقائد لأن الطائفية من شأنها التفرقة، والأمة لا تستطيع الوثوب إلى الأمام ومما شاة ركب النهضة إلا بالاتحاد، وأن الأمة التي لا تستطيع أن تذهب أبنائها وتجد لهم سبل العيش والثقافة ما هي إلا أمة مقضي عليها لا محالة وخصوصا إذا جمع أبناؤها (رقة الدين إلى الخلق الهزيل) لأن (الأمم هي الأخلاق) والله دره حين يقول:(993/38)
وليس بعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا
فشوقي إذن هنا مصلح اجتماعي يلبس مسوح الوعاظ ليقدم نصائحه، وهكذا يجب أن يكون الشاعر الإنساني حيث يؤدي رسالته على الوجه الأكمل
عبد القادر رشيد الناصري(993/39)
رسالة الشعر
الشاعر
أنت حب ورقة وحنان ... ومن الحب عبقري الغناء
(تهدى إلى الكاتب الكبير الذي أغار الشعر من النثر، بما أراق عليه من العطر، وأشاع فيه من سحر، الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات بك)
(أنور العطار)
للأستاذ أنور العطار
واهب عاش خالد الأصداء ... غمر الكائنات بالنعماء
للهوى قلبه، وللشجو عينا ... هـ، وللعالمين سحر الحداء
طافت الأرض في رؤاه تصاويـ ... ر ندايا بجدة ورواء
قيل لي صفه قلت: دنيا من الفـ_ن وكون من رفعة وزدهاء
ليس يدري غير التسامح دينا ... فهو روح السخاء رمز الفداء
صاغه الله من حنان ورفق ... ودموع وصبوة ووفاء
صور الطبع خير من صور الطب ... ع وغنى في رقة وصفاء
يشرق البشر في محياه نضرا ... ومن البشر أنفس الشعراء
ويرف المعني النبيل على اللف ... ظ رفيف السنا على الأنداء
هو في حالتيه قيثارة النج ... وى تسامت في ضحكها والبكاء
تذر النفس أدمعا وشعورا ... ولهيبا كوقدة الرمضاء
ياله ساحرا تمرس بالسح ... ر وأربي عليه في الافناء
ان تغنى مسترسلا ملك الأر ... واح حتى تغيب في الاصفاء
كل معنى مثل الطبيعة باق ... والمعاني أنى مناجم الحكماء
يا صدى الأنفس اللهيفة يا حا ... مل عبء الهموم والأدواء
تنقل البرء للألى نشدوا البر ... ء وفي القلب عالم من رثاء
هكذا الأنفس الكبيرة تحي ... لسواها في فرحة واحتفاء
فإذا رمت أن تكون سعيدا ... فتعهد مصائب الأشقياء(993/40)
بسمات الحنان أفعل في الأن ... فس من أي نائل وعطاء
تمحى الكائنات والفضل يبقى ... وهو ارث العلياء للعلياء
وإذا راعك القضاء بخطب ... فكن الثبت في صروف القضاء
واحي للشعر والهوى والتمني ... واصحب العيش بالرضا والرجاء
قل إذا اهتجت في احتدام الليالي ... والتحام الأرزاء بالأرزاء:
أنا ما عدت أستسيغ بكائي ... مردت مرتي على البأساء
نقيت مهجتي من الوهن المز ... ري ولم تحفل الأسى حوبائي
ونفضت الأعياء عني وصعب ... أن يعيش الفتى بلا إعياء
وتهزأت بالحياة ولاقي ... ت الرزايا بالنظرة الشزراء
وتقحمت غايتي غير هيا ... ب صراع الدجنة السوداء
وهي النفس أن تثر تركب الصع ... ب وتزحم منكب الجوزاء
فاعصفي يارياح، هامتي اليو ... م تعرت عن صخرة صلداء
واصخبي واصرخي فلن تثلمي الده ... ر اعتزامي ولن تفلي مضائي
من هبوب السموم أنفاسي السح ... م ومن شعلة الشموس ردائي
ما أبالي الرمضاء وهي تلظى ... بلهيب يفرى حشا الغبراء
أنا من زأرة الأسود أناشي ... دي ومن جأرة الرياح ندائي
أنا هذى الصحراء في قلبها الثب ... ت وفي هزئها من اللأواء
أنا دينا من المهابة والعز ... م وكون يضج بالأنباء
لست أختار أن أكون تبيعا ... أنا أسمى والمجد يسمى ورائي
عربي النجار من ذروة الحز ... م ومن قمة العلي والاباء
يا دموع الضعاف، خير وأبقى ... من شجا الدمع بسمة الأقوياء
ونعيم الحياة ملك الأشدا ... ء قواها للمعشر الضعفاء
غًن يا أبن الغمام والجبل المله ... م والظل والشذا والماء
غًن يا أبن الليل الموشح بالنو ... ر وياأبن الضحى ويأبن المساء
غن يا أبن الوديان يا ابن الينابي ... ع ويا ابن السماء والدأماء(993/41)
غن يا ابن النجوم والقمر العا ... شق والسفح والربا الشماء
عن يا ابن الفتح الذي انتظم الأر ... ض وأولى طرائف الأشياء
غًن يا ابن الماضي المضمخ بالمج ... د ويا ابن العروبة العرباء
غًن فالعالم الرحيب تسابي ... ح هيامي من نشوة الإيحاء
صور الرحمة التي تغمر الكو ... ن بغيض الأنداء ولآلاء
صور الحب والحنان على الأر ... ض ونجوى الأصداء للاصداء
طف كهذا الربيع نشوان فرحا ... ن غنى العبير جم البهاء
لح كهذا الصباح يختال جذلا ... ن يعم الأكوان بالأضواء
بأبي القلب سامياً بالمزايا ... يأبى الوجه طافحاً بالحياء
بأبي العبقرية الفذة البك ... ر تلف الحياء بالكبرياء
أنا نشوان من نشيدك هيما ... ن فهات اسقني وزد في انتشائي
هدهد القلب والهوى والأماني ... بغناء باق على الآناء
وطن أنت ظاعنا ومقيما ... لست والله بالغريب النائي
إنما الغربة التي ما تقضي ... غربة الفكر والندى والعلاء
شاعر الخلد يا نشيد الأناشي ... د ويا روعة الأماني الوضاء
لك لحن جم المناعم فيه ... راحة النفس والقلوب الظلماء
هو فيض العقول والفطرة السمح ... ة وأين الطبيعة السجواء
لا يغني سوى الجمال ولا يع ... رف غير الحقيقة الغراء
خيره كالربيع صاف شهي ... طافح بالطيوب والأشذاء
لم يزل ينشد الوضوح ويبغي ... الشعر خلوا من زخرف وطلا
لك من روضه الظليل المندى ... مثل ما للربيع من أفياء
عبق يغمر السماوات والأر ... ض ويزهي بمطرف وشداء
حافل بالعبير آذار ندا ... هـ وأغفى على البطاح الرواء
كل زهر في الكون يذوي ويفنى ... غير زهر القريحة الغناء
درج الليل والنهار ... حثيثين وملا من روحة واغتداء(993/42)
وأصاب الحياة عادي المنايا ... فتوارت عن نفسها بخباء
وأطل البيان من رفرف الخ ... لد عتيا على الردى والعفاء
لم يزل عطره يروح ويغدو ... وهو زاد الحياة والأجيال
هو باق على امتداد الليالي ... والليالي إلى هوالك ونوائي
هات يا شاعر النهي نبه القو ... م وحدث بالدمعة الحمراء
شاعر الحب شد قيثارة الشع ... ر وغًن الحمى لحون السماء
أيها الموقظ النفوس من الض ... يم ومردى جحافل البغضاء
انفح الكون بالعظائم تترى ... فالعظيمات نفحة العظماء
أيها العبقري يا روعة الفك ... ر ويا رفرف السنا والسنا
أنت حب ورقة وحنان ... ومن الحب عبقري الغناء
خالد أنت والعوالم تفنى ... لا يذوق الخلود طعم الفناء
أيها الشاعر الذي عاش لحنا ... وسرى كالعبير في الأرجاء
زهر أنت يغمر الكون بالعط ... ر وحلم موشح بالضياء
يا نجي القلوب يا جدول البش ... ر بسفح الخميلة الغيناء
منك صغت القريض لحناً شجيا ... وتفردت في بديع أدائي
كرمتك الأجيال يا رفة الخ ... لد وأولتك روضة من ثناء
فلئن صاغت القريض عقودا ... فبما صغت يا شعاع البقاء
هات منك البيان سمحا طروبا ... خيرا نيرا كقلب الفضاء
لا يوفي القصيد مهما تغني ... ما دناني تكفي ولا صهبائي
أنور العطار(993/43)
الكتب
دواوين الشعراء الستة الجاهليين
شرح الأستاذ عبد المتعال الصعيدي وتنسيقه
نشر مكتبة القاهرة سنة 1952. ص 376 من القطع المتوسط
الدكتور زكي المحاسني
عناية الأدباء المحدثين بأدب لغتهم القديم دليل على أصالة ذلك الأدب. وأيما أمة أطرحت أصول أدبها فإنما هي قد جزت جذورها، وأنكرت أنسابها، فضاعت بين سمع الأرض وبصرها. وما شيء كان أجدر بالعناية في أدبنا العربي من الشعر الجاهلي، لأن فيه نبعة التراث الروحي لأدب الأمة العربية. وهذا سر عكوف الأقدمين على دراسة هذا الشعر يجمعونه ويمحصون فيه، ويروون قصائده، ويروقون رواياتها. ولقد عاق التلهف على دراسة الشعر الجاهلي في الفترة الحديثة ما طلع به بعض الأدباء من إنكار لصحة هذا الشعر، وما زعم الزاعمون من أن هذا الإنكار مرده دراسات لبعض المستشرقين. وإن الصواب الذي لا أرتاب فيه أن هذا الشك ذاته قد سبق الناس إليه الأصمعي وقد بان لي أن من عند الأصمعي كان مولد هذا الشك حين اختلفت لديه أبواب الرواية في الشعر الجاهلي، واضطراب الأسانيد في بعض أنحائه. وقد ترك السبيل مفتوحة أمام ذوى الشك في الأدب خلو النصوص الجاهلية للشعر من التقييد الحجري. فلو أن شعراء المعلقات بديلاً من أن تكتب لهم معلقاتهم على رقاق الغزلان بماء الذهب وتعلق على الكعبة قد نقشوها في الحجارة، لما تركوا سبيلاً لذلك الشك والارتياب الذي كدر علينا في فسحة من الزمن
نقاء الشعر الجاهلي
إن الدكتور طه حسين حين أنكر الشعر الجاهلي سنة 1926 كان كمن جاء إلى أسرة فيها الزوج الوقور والأم الحنون والولد المطيع، وهم جميعاً في خير وطمأنينة، فقال للأبوين أن ابنكما هذا مدخول النسب. قالها قولة جارفة فأقض على الأسرة مضاجعها، وهدم بناءها. ولم تكن أداته أكثر من شك وارتياب. ومن المحمود للدكتور طه حسين بعد ذلك أنه اعتلى(993/44)
منبراً في جامعة فؤاد الأول سنة 1945 سمعته وشهدته يقول من فوقه فيدلى باعترافات أدبية جديدة في أنساب الشعر الجاهلي الذي صح عنده أنه يمثل في تاريخنا الأدبي أدبا كلاسيكيا قديما. وقد أمسك بيده الأستاذ الفاضل عبد الوهاب حمودة قبل أن يغادر ذلك المنبر وصاح في الناس أيها الجامعيون أن طه حسين الذي أنكر الشعر الجاهلي يعترف به اليوم يرد إليه اعتباره.
هذه خواطر دارت بفكري وأنا أقلب كتابا حديثا فيه دواوين الشعراء الستة الجاهليين شرحه ورتبه صديقنا الأستاذ الجليل عبد المتعال الصعيدي. ومن المقطوع به أن يكون بدء الكلام على امرئ القيس وختامه على عنترة. وقد نسب شرح هذه الدواوين في أصلها إلى ثلاثة من علماء الأدب القديم أشهرهم الأعلم الشمنتري من سانتا ماريا بالأندلس. وفي عصرنا تناول هذه الدواوين بالشرح أحد فضلاء العلم في جامعة فؤاد الأول هو الأستاذ مصطفى السقا. حتى إذا حانت عناية الأستاذ عبد المتعال الصعيدي. ومن المقطوع به أن يكون بدء الكلام على امرئ القيس وختامه على عنترة. وقد نسب شرح هذه الدواوين في أصلها إلى ثلاثة من علماء الأدب القديم أشهرهم الأعلم الشنتمرى من سانتا ماريا بالأندلس. وفي عصرنا تناول هذه الدواوين بالشرح أحد فضلاء العلم في جامعة فؤاد الأول هو الأستاذ مصطفى السقا. حتى إذا حانت عناية الأستاذ عبد المتعال الصعيدي بالشعر الجاهلي أخرج هذا الكتاب بطبعة جديدة تضم هذه الدواوين بتناول ميسور. وعنى بشرحها على صورة موجزة كثيرة الجدوى. فهو يعطيك في معنى البيت على استغلاق وجهه وغرابة لفظه، شرحا موفيا للغرض من أقرب سبيل. وقد قدم لكل شاعر من هؤلاء الستة وهم امرؤ القيس فعلقمة فطرفة فالنابغة الذبياني فزهير فعنترة بنبذ يسيرة مكثفة، ألم فيها بتاريخ الحياة ثم بلمحات ثابتة في دراسة الشعر وتحقيق الرواية. والذي كنت أتمناه عليه، وقد يكون مطلوبا منه صنعه، أن يكون قد كتب لهذه الدواوين مقدمة، وإنما كتب تقديما في سطور. فهو لم يذكر رأيه في الشعر الجاهلي، ولم يتناول قضية هذا الشعر، وقد شغلت الناس زمنا في القديم وفي الحديث. كما لم يفضل شاعر على شاعر وإنما قصر همه على الشرح وحده. وذلك ضرب من ضروب التأليف الذي عرف في عصرنا الحديث ولدى الأقدمين، وقل شبيهه في الأدب عند الغربيين. فليس شائعا عندهم نشر ديوان للشعر ديوان للشعر مقصور(993/45)
على الشرح لألفاظه، وإنما لديهم الناشرون من الأدباء الذين يكثر تناولهم الدواوين بالدراسة والتعليق مع الشرح والتفسير، وقد تعذر الأقدمين منا والمحدثين في هذا الضرب من التأليف إذ المعول فيه على إبراز النصوص القديمة كما جاءت دون التقول فيها. وهذا مذهب أدبي له دعاته. فللنصوص القديمة حرمة لا ينبغي أن تمس بتقويل.
والقصد الذي ينبغي أن يدكه دارسوا هذه الدواوين هو الوقوف على صحيح معانيها لتمثل الشعر الجاهلي واهتضمامه في الفكر والإحساس. وحين يقنع المتأدبون المحدثون أن الرجعة إلى الشعر الجاهلي هي قوام الأدب العربي كله، وأن صفاء ذلك الشعر ونقاء معانيه هو الشعاع الأول الذي ينبغي أن تستمد منه كل روح في كل شعر عربي؛ فقد حملوا رسالة الأدب لا في العصر الحديث فحسب؛ وإنما في سائر العصور الأدبية التي توالت على العرب. وإني لأعد الشعر الجاهلي ضمان لغة العرب في الشعر، وناظم روحها الأصيلة مهما تجدد الأدب، وتطور الشعر والأستاذ الكبير عبد المتعال الصعيدي إلى إكبابه على التأليف في الموضوعات الدينية والأدبية التي اتسمت بالدقة والإحكام جدير بالثناء على جهده الذي بذله في شرح دواوين الشعراء الجاهليين وعنايته بتبسيط المعاني للطلاب خاصة وللقراء عامة
زكى المحاسني(993/46)
البريد الأدبي
المدرسة الصلاحية
حمل إلى بريد الكنانة الأخير هدية غالية من هدايا صديقنا الأستاذ أحمد أحمد بدوي المدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول وهي الجزء الأول من مؤلفه القيم (الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام) ولا أريد في هذه الكلمة أن أذكر قيمة الكتاب من الناحية التاريخية لأن مثل هذا المؤلف الضخم الذي اعتمد علامتنا البدوي على أكثر من (202) مرجع في تأليفه يحتاج إلى دراسة طويلة وقريبا متقنة؛ وخاصة أن لهذا الجزء بقايا تحت الطبع، كما أنني لا أريد أن أعرف الأستاذ البدوي فهو غنى عن التعريف بمؤلفاته ومترجماته وبحوثه النادرة التي نشرها وما زال ينشرها الصحف ويذيعها على الناس. وقراء (الرسالة) الزاهرة لا شك يعرفونه جيدا ولكني أحببت وأنا أقرأ كلامه عن المدرسة الصلاحية المنشور في الصفحة (43) من كتابه النفيس أضيف إليها هذه النبذة الموجزة التي نشرتها مجلة (الزهراء) الجزء السادس سنة 346 هـ - 927 م وهي:
(هي مدرسة إسلامية أقامها السلطان صلاح الدين الأيوبي لفقهاء الشافعية منذ القرن السادس الهجري وقد زارها رصيد السيد عمر الطيبي وقرأ على بابها الكبير منقوشاً في الحفل السطور الخمسة الآتية
(1) - بسم الله الرحمن الرحيم. وما بكم من نعمة فمن الله
(2) - هذه المدرسة المباركة أوقفها مولانا الملك الناصر صلاح الدنيا والدين سلطان الإسلام
(3) - والمسلمين أبي المظفر يوسف ابن أيوب بن شاذ محي دولة أمير المؤمنين أعز الله
(4) - أنصاره وجمع له خير الدنيا والآخرة على الفقر من أصحاب الإمام أبي عبد الله
(5) - محمد بن إدريس الشافعي رضى الله عنه. في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
واستمرت هذه المدرسة إسلامية سبعمائة سنة ثم سعي الفرنسيون سنة 1856 م لدى السلطان عبد الحميد بانتزاعها من أيدي المسلمين بحجة أنها كانت في الأزمان القديمة كنيسة على اسم حنه أم سيدتنا مريم عليهم السلام، فأذن لهم السلطان عبد الحميد بأخذها، وجعلها هدية منه إلى نابليون الثالث، فاتخذها الفرنسيون داراً للتبشير بالمذهب الكاثوليكي.(993/47)
ولما أعلنت الحرب العظمى ووضع الترك أيديهم علىما لرعايا دول الحلفاء من مدارس ومعاهد أعادوا هذا البناء إلى تصرف المسلمين وجعلوا فيه (الكلية الصلاحية) التي كان يديرها الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش. فلما انتهت الحرب العظمى بانكسار الترك واستيلاء الإنكليز على القدس أعطى الإنكليز هذه الدار إلى البعثة الفرنسية وهي الآن مدرسة لتخريج الرهبان الكاثوليك.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
للمعري لا للمتنبي
أورد الأستاذ احمد الشرباصي هذا البيت:
فيا موت زر أن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي أن دهرك هازل
منسوبا إلى المتنبي والصواب أنه لأبي العلاء المعري من قصيدته المشهورة التي مطلعها: -
(ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل) ومثل الشرباصي في فضله وعمله لا يفوته ذلك ولابد أنه سبق قلم سببه تأثر الأستاذ أثناء رده. وقد انتظرت حتى صدر العدد التالي 990 وما بعده الأستاذ يصحح هذا الوهم. فلما لم أجد ما توقعته بكتابة هذا راجيا نشره مع خالص الشكر.
عبد السلام النجار
تصحيح
طالعت في العدد 986 من الرسالة مقال الدكتور الكفراوي عن أبي العتاهية فاسترعى انتباهي قوله في آخر المقال: قال الشاعر مشيرا إلى جواري المهدي
رحن في الوشي وأصبحن عليهن المسوح
كل نطاح من الدهر له يوما نطوح
نح على نفسك يا مسكين أن كنت تنوح
لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح(993/48)
والذي نعرفه أن أبا العتاهية قال هذه القصيدة وهو في السجن لما آلم لحن الملاحين في دجلة الخليفة الرشيد فأرسل إليه أن يصنع لهم شعرا سهلا يتغنون به فغاظه أن يطلب إليه ذلك ولم يأمر بإطلاقه فصنع هذه القصيدة لينغص عليه عيشة ومطلعها
خانك الطرف الطموح ... أيها القلب الجموح
هل لمطلوب بذنب ... توبة منه نصوح
فمن هنا نعلم أن القصيدة قيلت في عهد الرشيد لا المهدي كما يقول الدكتور وأن الإشارة إلى جواري الرشيد.
محمد إبراهيم الجبوشي
دار العلوم
أشكر للأستاذ الشاعر أحمد العجمي عنايته بشعراء الشباب وأتوقع لها أثرا طيبا وان قد ذكر في العدد (987) من الرسالة الغراء أن في الاستطاعة أن يحصي الناقد خمسة عشر شاعرا من دار العلوم أيام أن كانت مدرسة، أما بعد أن صارت كلية جامعية فلا يستطيع أحد أن يحصى شاعرا أو اثنين، فيسره أن يعرف أن السبب في ذلك هو أن الفترة التي قضها دار العلوم وهي مدرسة فترة طويلة جدا كفيلة بأن تنجب فيها ما تشاء من الشعراء، أما التي قضتها وهي كلية جامعية فهي فترة وجيزة لا تكفي لإشهار شعراء يعدون ويحصون
على إنني أرى أن هناك أزمة شعرية في الأيام الأخيرة في جميع المعاهد الأدبية. ومرد ذلك - فيما اعتقد - إلى أن الصحافة وهي المنبر الذي يذيع عليه الشعراء الناشئون أشعارهم أصبحت يضيق صدرها بالشعر والشعراء ولا سيما الناشئين منهم، فبعض الصحف تنشر القصائد في صفحة الغلاف بشكل يوحي بالإهمال، والبعض الآخر يفرد لها حيزا محدودا جدا يستوعبه في الغالب من اشتهر من الشعراء! بربك ماذا يفعل الشعراء الذين يريدون أن يظهروا؟
أيلجئون إلى طبع أشعارهم في دواوين وهم في الغالب لا يملكون من المال والشهرة ما يساعد على ذلك؟!(993/49)
أم ينطوون على أنفسهم يقولون الشعر لا يسمعه أحد حتى يملوا هذا الوضع فيطمر ينبوع الشعر في نفوسهم؟
إننا نرى كل فن من فنون الأدب قد خدم الخدمة اللائقة به، فالمقالة تعج بها معظم الصحف، والقصة أفردت لها صحف خاصة، بقي الشعر والشعراء المساكين
إني لأذكر بالخير ذلك العهد الذي كانت تقوم فيه مجلة (أبو لو) على خدمة الشعر الحي. واعتقد أنها أفسحت لكثير من الشعراء الناشئين طريقهم حتى برزوا وجلوا في ميدان الشعر. فهل إلى بعث هذه المجلة أو ما يشبهها من سبيل حتى تتفتح براعم من شعراء الشباب أوشكت أن تموت؟
محمد علي جمعة الشايب
أدب لغة
1 - كسول: صنيع اللغويين يشعر بأن كسولا من الأوصاف المختصة بالإناث، قال جار الله في الأساس - كسل: وامرأة كسلى، وهي مكسال وكسول ونحوه في المختار والمصباح والتاج والقاموس واللسان واكثر المعاجم التي رجعت إليها، ومن ثم ذهب كثيرا من الخاصة إلى تخطئة مثل هذا التعبير (تلميذ كسول)
بيد أني وقعت في لسان العرب مادة - زمل - على هذا البيت:
فلا وأبيك ما يغني غنائي ... من الفتيان زميل كسول
وهذا نص لا يحتمل التأويل ينادي بصحة ما خطأه بعض الباحثين. ولعل من يتتبع كلام العرب يقف على اكثر من شاهد لهذا الاستعمال. ولا يعزين عن البال أن كتب اللغة لم تلزم الإحاطة بكل ما نطقت به العرب، فدون هذا خرط القتاد كما يقولون. على أنه يمكن أن نلتمس عذرا لصنيع اللغويين في أن النص على - امرأة كسول - من قبيل النص على البعيد المتوهم - لا من قبيل البيان لما يجوز حتى يمنع ما عداه، وعلى هذا أرى أن لفظة - كسول - مما يوصف بها المذكر والمؤنث على السواء، وليست مختصة بأحدهما
2 - كسلان: أما كلمة - كسلان - فقد يتبادر إلى الذهن بادئ كسلان الرأي إنها عامية أو خاطئة وان هي إلا فصيحة، وقد وردت في تضاعيف قصة أديبة نرويها لقراء الرسالة(993/50)
لطرافتها ولما فيها من جمال وإبداع
روى المبرد أن عمر الوادي سمع عبدا أسود يغني، فأعجب به، وطلب إليه أن يعيد عليه ما سمع، فقال العبد: والله لو كان عندي قرى أقريك ما فعلت، ولكني أجعله قراك، فإني ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته - وأنا كسلان - فإنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى، ثم أنبرى يغني:
وكنت إذا ما زرت سعدي بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما قضت أحدوثة لو تعيدها
تحلل أحقادي إذا ما لقيتها ... وتبقى بلا ذنب على حقودها
وكيف يحب القلب لا يحبه ... بلى قد تريد النفس من لا يريدها
3 - نسوان: وقد وردت هذه الكلمة التي تتردد على السنة العامة - وقد تنفر الأسماع منهافي شعر يسحر اللب ويأخذ بمجامع القلوب، قال كلثوم العتابي.
تلوم على ترك الغنى بأهلية ... لوى الدهر عنها كل طرف وتالد
رأت حولها - النسوان - يرفلن في الكسا ... مقلدة أجيادها بالقلائد
العقد ج3 ص 159
وقال الحكم بن معمر - عامر ابن ميادة -:
فوالله ما أدري أزيدت ملاحة ... وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل
فساهم ثوباها، ففي الدرع غادة ... وفي المرط لفاوان ردفاهما عبل
الأغاني ج2 ص 286
وقال الهمذاني (الأجدع أبو مسروق بن الأجدع الفقيه)
لقد علمت نسوان همدان إنني ... لهن غداة الروع غير خذول
وأبذل في الهيجاء وجهي وإنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول
(تهذيب الكامل ج2 ص93)
وقال ابن مقبل:
أصوات نسوان أنباط بمصنعة ... يجدن للنوح واجتبن التبابينا
(الأساس - صنع)(993/51)
رياض عباس(993/52)
القصص
الخادم
للكاتب العظيم سيمونوف
عاد جيرازيم إلى موسكو حين كان يتعذر الحصول على عمل فيها، وذلك قبل عيد الميلاد بأيام قلائل. وفي هذه الفترة كان كل عامل يتمسك بعمله مهما كان حقيرا، طمعا في الحصول على هدية من مخدومه. وهكذا قضى الشاب الفلاح ثلاثة أسابيع دائبا في البحث عن مهنة ولكنه لم يوفق.
وكان يعيش مع أقاربه وأصدقائه الذين نزحوا مع قريته. ولم يكن في فقر مدقع، ولكنه يغتم لرؤية شاب قوي مثله يحيا بغير عمل.
وقد عاش جيرازيم في موسكو منذ حداثته. وعندما كان طفلا كان يشتغل بغسل الأواني في معمل من معامل البيرة، ثم اشتغل بعد ذلك خادما في أحدا المنازل. وفي السنتين الأخيرتين كان يعاون أحد التجار، ولولا أنه دعي إلى قريته لسبب يتعلق بالخدمة العسكرية لبقى حيث كان إلى الآن. ولسبب ما لم يقبل جيرازيم جنديا. ولما لم يكن معتادا حياة الريف فقد بدت القرية لعينيه في حلة من الكآبة، وصمم على الرجوع إلى موسكو مهما كانت النتائج.
وكل دقيقة تمر كانت تزيد ملله من جوب الطرقات في فراغ وبطالة. ولم يترك جيرازيم أي سبيل للعمل إلا طرقها. ولقد ضايق جميع معارفه بإلحافه، وأحيانا كان يتصدى للمارة ويسألهم إذا كانوا يعرفون سبيلا إلى عمل خال
ولم يعد يحتمل جيرازيم أن يكون عالة على الناس. وقد اصبح وجوده يغيظ بعض مضيفيه. وتعرض بعض الخدم الذين كان ينزل عليهم لتأنيب مخدوميهم إياه بسببه. لقد كان في حيرة تامة لا يدري ماذا يفعل. وأحيانا كان يجوب في الطرقات النهار كله دون أن يتناول طعاما
وفي أحد الأيام ذهب جيرازيم إلى صديق له من أبناء قريته، يعيش على حدود موسكو. وكان هذا الصديق حوذيا عند رجل يدعى شاروف، وقد مضى عليه أعوام كثيرة في خدمة شاروف وقد أفلح في أن يستحوذ على محبة سيده فأصبح يأمنه على كل شيء ويبدي له دلائل الرضا. ولعل لسانه الفتيق هو الذي كسب له ثقة سيده فقد كان يشي بكل الخدم،(993/53)
وكان شاروف يقدره من اجل ذلك.
وتقدم جيرازيم وحياه، واستقبل الحوذي صديقه استقبالا مناسبا وقدم إليه شايا وبعض الطعام ثم سأله عما يفعله فأجابه:
- في أسوأ الأحوال يا يجور. أني أعيش بدون عمل منذ أسابيع ألم نسأل مخدومك القديم أن يستعيدك إليه؟
- لقد سألته
- أو لم يقبل؟
- هناك من حل محله
آه. . . هذا هو السبب. تلك هي خطتكم أيها الشبان. تخدمون رؤسائكم حيثما اتفق، فإذا تركتم مهنتكم تكونون قد سددتم طريق الرجوع إليها بالأوحال. إلا يجب أن تقوموا بواجباتكم بحيث تنالون التقدير الحسن، فإذا رجعتم إلى مخدوميكم لا يهملونكم - بل يخرجون من حل محلكم. . .
- وكيف يكون ذلك؟ إنك لا تجد مخدومين على هذه الشاكلة في هذه الأيام كما إننا لسنا بملائكة!
- وما فائدة الكلام؟! إني أريد أن أحدثك عن نفسي: إذا حدث أني تركت عملي لسبب من الأسباب ورجعت إلى منزلي، فالسيد شاروف يقبلني عندما أرجع ويكون سعيدا بقبولي وجلس جبرازيم. لقد لاحظ أن صديقه يباهي بنفسه ورأى أن يسايره فقال:
- إني أعرف ذلك ولكن من العسير وجود رجل مثلك يا يجور. ولم لو تكن من أجود الخدم ما أبقاك سيدك في خدمته أثني عشر عاما
فابتسم يجور لأنه كان يحب المدح وقال:
- ذلك هو الواقع. لو انك اتبعت نظامي في الحياة والعمل ما وجدت نفسك عاطلا شهرا بعد شهر
ونادى شاروف حوذيه فخرج وهو يقول
- أنتظر برهة. . سأرجع حالا
- حسن جدا(993/54)
عاد يجور وأخبر صديقه أن عليه في خلال نصف ساعة أن يعد العربة ويسرج الخيل ويستعد لحمل سيده إلى المدينة. وأشعل يجور بيته وأخذ يذرع أرض الغرفة ثم وقف فجأة أمام جيرازيم وقال:
- أستمع يا بني، إذا رغبت أن احدث السيد شاروف عنك فلا بأس؟
- وهل هو في حاجة إلى خادم؟
- لدينا خادم غير كفء تقدم به العمر ومن المتعذر عليه القيام بالخدمة. ومن حسن الحظ أن هذه الضاحية غير مأهولة - كما أن رجال البوليس لا يدققون كثيرا، وإلا لما استطاع الخادم الشيخ أن يحتفظ بالمكان على حالة من النظافة ترضيهم
- آه. . لو أمكنك، حدثه على يا يجور - أني سأدعو لك طول حياتي. . لم اعد أحتمل العيش بدون عمل.
- حسن. سأحدثه عنك. تعالى غدا. والآن يحسن أن تأخذ هذه الدريهمات
- شكرا يا يجور. هل ستحدثه عني؟ قم بهذا الجميل من أجلي.
- حسن سأحاول!
وانصرف جيرازيم وأعد يجور العربة وارتدى ملابسه الخاصة بمهنته وقاد العربة إلى الباب الرئيسي للمنزل حيث ركب شاروف ثم آب إلى منزله. ولاحظ يجور أن سيده على شيء من البشاشة فبدأ حديثه معه
- هل لي أن أسألك معروفا؟
- وماذا تطلب؟
- شاب من قريتي، شاب طيب. . . ليس لديه عمل
- حسن!
- ألا تلحقه بخدمتك؟
- ألحقه على أن يقوم بأي خدمة تطلب منه
- وماذا يعمل بوليكار؟
- وما فائدة بوليكار؟؟ لقد حان أوان فصله
- ليس من العدل فصله. لقد خدمنا سنوات. فلا أستطيع طرده بدون سبب(993/55)
- ولنفرض أنه اشتغل بخدمتك سنوات، أنه لم يخدمك بغير أجر. لقد كان يتناول مرتبا، ومن المؤكد أنه ادخر بعض المال لسني شيخوخته
- أدخر؟ كيف يمكنه ذلك، أنه ليس وحيدا في الدنيا: لديه زوجة يعولها وهذه مضطرة أن تأكل وتشرب أيضاً
- إن زوجته تكسب أيضا. إنها أجيرة باليومية. ولم تعير بوليكار وزوجته اهتماما؟ حقا أنه خادم فقير، ولكن لم تبعثر أموالك؟ أنه لا يؤدي عمله كما يجب. وعندما تحين نومته في حراسة المنزل يترك مكان الحراسة اكثر من عشر مرات أثناء الليل. لم يعد يحتمل البرد وقد يكدرك البوليس بسببه يوما. قد يهبط المفتش علينا يوما، وعندئذ لن يسرك أن تكون مسؤولا عن نتائج إهمال بوليكار
- ومع ذلك ففصله قسوة واستهتار. لقد خدمنا خمسة عشر عاما، وبعد هذه المدة نعامله هذه المعاملة الفظة في شيخوخته. إنها لخطيئة.
- خطيئة؟ هل يصيبه منك ضرر؟ أنه لن يموت جوعا بل سيذهب إلى ملجأ الفقراء. وهذا أجدى عليه. هناك يقضى شيخوخته في سلام
وأخذ شاروف يفكر في المشكلة ثم قال.
- حسن. دع صديقك يحضر غدا. وسأرى ما يمكنني أن افعل له
- أرجوا يا مولاي أن تلحقه بخدمتك. كم أنا حزين له!
يا له من شاب خيرا ومع ذلك فهو عاطل منذ أمد طويل. أنه سيؤدي واجبه على أكمل وجه وسيخدمك بإخلاص: لقد ترك عمله الأول بسبب الخدمة العسكرية ولولا ذلك ما تركه مخدومه الأول
عاد جيرازيم في المساء التالي وسأل صديقه:
هل أمكنك أن تقوم بشيء في سبيلي؟
- نعم. . . . على ما اعتقد: دعنا نتناول بعض الشاي أولا وبعد ذلك نذهب لمقابلة سيدي
ولم يكن جيرازيم بالراغب في شرب الشاي: لقد كان متشوقا إلى معرفة ما قر عليه أمره ولكن مقتضيات الواجب واللياقة نحو صديقه أجبرته أن يشرب قدحين من الشاي، أخذه بعدها صديقه إلى رب الدار.(993/56)
وسأل شاروف جيرازيم عن مكان مسكنه وعن مخدوميه السابقين ثم أخبره بعد ذلك باستعداده لقبوله خادما عاما يؤدي كل ما يطلب منه وأن يأتي صباح اليوم التالي ليبتدئ عمله. وأذهل جيرازيم هذا المفاجئ وكان فرحه عظيما حتى أن قدميه لم تقويا على حمله، وبعد برهة رجع جيرازيم إلى غرفة الحوذي.
وقال له الحوذي: (حسن يا بني يجب أن تعنى بأن تؤدي واجبك على الوجه الأكمل حتى لا أضطر يوما إلى الخجل بسببك، أنت تعرف من هم السادة إذا قصرت مرة تعقبوك دائما بالبحث عن أغلاطك ولن يدعوك في سلام أبدا.
- كن مطمئنا يا يجور
وانصرف جيرازيم وعبر في طريقه فناء المنزل، وكانت غرفة بوليكار تطل على هذا الفناء وكان ينبعث منها نور ضئيل يضئ طريق جيرازيم الذي شعر بالشوق إلى رؤية الغرفة التي ستخصص له، ولكن زجاج النافذة كان مغطى بالصقيع بحيث يتعذر رؤية أي شيء خلاله. وسمع جيرازيم أصواتا تنبعث من الغرفة فوقف يتستمع. سمع صوتا نسائيا يقول (ماذا نفعل الان؟) فأجاب رجل - وكان بوليكار لاشك:
- لست ادري. . لست ادري نطوف الشوارع مستجدين
- هذا كل ما بقي لنا. وما من حيلة أخرى. بالله لنا، نحن الفقراء! أي حياة تعسة نحياها؟ نكد ونكدح من الصباح الباكر حتى الليل يوما بعد يوم وعاما بعد عام، وعندما تتقدم بنا السن تتضور جوعا.
- ماذا نفعل؟ إن سيدنا ليس من طبقتنا ولا جدوى في الذهاب والتحدث إليه. أنه لا يهتم إلا بمصلحته.
- كل السادة على مثل هذه الحالة. انهم لا يهتمون إلا بأنفسهم، لا يخطر ببالهم أننا نعمل بشرف وإخلاص مدى سنوات، نفى زهرة قوانا في القيام بخدمتهم ثم يخشون أن يبقونا عاما آخر، حتى ولو كانت لدينا للقيام بواجباتهم. فإذا عجزنا تماما وجب علينا أن ننصرف من تلقاء أنفسنا.
- إن شاروف لا يلام بقدر ما يلام حوذيه الذي يود الحصول على مهنة لصديقه.
- نعم. . . . يا له من ثعبان! أنه يعرف كيف يشقشق بلسانه. . . . وأنت يا يجور أيها(993/57)
الحيوان القذر اللسان. . . . انتظر، سأنتقم منك، إني سأذهب إلى السيد وأخبره كيف كان هذا الوغد يغشه وكيف يسرق التبن والعلف. وسأقنع السيد أن هذا الوغد يكذب في كل ما ينقله عنا
- لا لا: أيتها المرأة لا ترتكبي خطيئة.
أية خطيئة؟ أو ليس حقا ما اقوله؟ أنني أعرف صدق ما سأتحدث به وسأفضي بكل شيء للسيد. ولم لا؟ ماذا نفعل الآن؟ أين نذهب؟ لقد حطمنا، وانفجرت المرأة باكية متأوهة سمع جبرازيم الحديث كله وكأن خنجر نفذ في أوصاله.
لقد تحقق أي بلاء كان يجره إلى هذين الشيخين وشعر أن قلبه يتمزق وقف حيث كان زمنا طويلا محزونا غارقا في الفكر، ثم دار على عقبيه وذهب ثانية إلى غرفة الحوذي الذي سأله عندما رآه.
- هل نسيت شيئا
وأجاب جيرازيم متلعثما: لا. . . لقد أتيت. . . أستمع إلي. . .
أود أن أشكرك كثيرا على حسن استقبالك أياي، وكل ما عانيته من أجلي. . ولكني لا أقبل العمل هنا.
- ماذا؟ ماذا تعني؟
لا شيء. لا أرغب في العمل هنا، سأبحث عن عمل آخر. وانتابت يجور حدة غضب وقال:
- هل تعني أن تجعلني مجنونا في رأي سيدي؟ هل تعنى ذلك أيها الأبله؟ لقد أتيت تتضرع في وداعة وترجو المساعدة.
والآن ترفض العمل. أيها الوغد لقد أخزيتني!
وصعد الدم إلى الوجه جيرازيم وخفض عينيه ولكنه لم ينبس ببنت شفة.
وأدار يجور ظهره في احتقار وكف عن الكلام وعندئذ ألتقط جيرازيم قبعته بهدوء وترك غرفة الحوذي وعبر الفناء مسرعا ثم اجتاز باب المنزل وابتعد عن الدار مهرولا
وكان يشعر بالسعادة والفرح. . .
ن. ع. م(993/58)
العدد 994 - بتاريخ: 21 - 07 - 1952(/)
علماء!
من مفاليك العامة جماعة انتسبوا إلى علماء الدين كما ينتسب الزوان إلى الحنطة. نالوا شهادة العلم بالغش، ولبسوا شارة الدين بالباطل، وبلغوا مناصب الدنيا بالملق؛ ثم اندسوا في المجتمع اندساس الإثمفي الضمير، أو الداء في البدن، فكانوا في الوحدة مظهر تفريق، وفي النهضة مصدر تعويق، وفي العقيدة مثار شبهة. ثم اتخذوا من دورهم معامل لتفريخ الأكاذيب، ومن ندواتهم وسائل لترويج الشوائع! يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا، ويثيرون الريبة في الذين عملوا، ويقعدون من حركات الإصلاح مقاعد للتربص والتلصص؛ فإذا دعاهم المصلح هبوا في وجهه هبة الريح العاتية على المصباح الهادي؛ وإذا دعاهم المفسد نفحوا قلبه الهادئ نفح النسيم الرخي للنار المشتعلة! ذلك لأنهم لا يختلون فرأسهم إلا في الظلام، ولا يشوون ذبائحهم إلا في الحريق. ينفرون من العبير كما تنفر الجعلان، ويفرون من النور كما تفر الخفافيش، ويموتون من الطهر كما تموت الجراثيم، ويفزعون من الخير كما تفزع الشياطين! أما الروح، وأما الدين، وأما الخلق، وأما الأدب، فهي ألفاظ شأنها في صدروهم كشأنها في المعجم: صفات لا تدل على موصوف، وكلمات لا تزيد على أنها حروف!
المادة في حياتهم الفارغة هي كل شئ. غلفوا بها قلوبهم حتى صدئت منهم النفوس، وأفعموا بها أفواههم حتى تنتب منهم الأنفاس. تم جعلوها قياسا لكل قضية، وسببا لكل حكم، وأساسا لكل نقد، وغرضا من كل عهد؛ فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون!
وقد تسول لهم النفس الغرور أن يلوثوا وجوه الصحف بما يكظ بطونهم من أخلاط الحقد على المصلحين والعاملين فيكشفوا عن سوءاتهم تم يدعوها تزكم الأنوف بالنتن الوبئ، وتؤذي الآذان بالصوت الكريه!
إن من أول وسائل الإصلاح للدين والدنيا أن يكسح هؤلاء من معاهد العلم ومقاعد التعليم كما تكسح الأوحال من الطريق. فإن الباني لا يبني وفي يده مسطرين وفي أيديهم معول. وان الغارس لا يغرس وفي يده مشتل وفي أيديهم منجل. ولولا أبو جهل وابن سلول وشيعتهما من عدو الله لما قال الرسول الصادق الصابر الشجاع وهو يلوذ بأحد الجدر: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس!(994/1)
وأفظع الأمر أن أولئك كانوا يحاربون وهم يقولون: صدق وإن الكفر خير من النفاق. وإن العداوة أفضل من الخديعة. وإن الصراحة على كل حال عظمة، وإن المراءاة على أي وجه حقارة!
(حسان)(994/2)
التصوف على (البلاج)
للأستاذ أنور الجندي
من أعجب المفارقات أن يذكرني (البلاج) بالتصوف بل لعل غاية العجب أن أكتب هذا الفصل أمام إحدى (كباين) ستا نلي باي. .
وليست هذه المرة الأولى فيما أعتقد، التي تدعو المفارقات فيها مثل هذه الدعوى. .
إننا لاشك نمر بمحنة عنيفة، وتبدأ أطرافها الأولى هنا على البحر وتنتهي هناك في معترك الحرية واستخلاص الحقوق، وإقامة المجتمع الصالح. .
وليس بالإمكان أن يجتمع الخير والإثم معا، ولا أن يشترك الحق والباطل، ولا يمكن أن نواجه المستقبل إلا بنفوس مفطومة من الشهوات وأوضار اللذات. . فإذا لم نستطيع أن نصوغ هذه النفوس، كنا أعجز عن أن نحقق لوطننا أو لبلادنا ما تبتغيه من مجد.
ولا عبرة بما يقوله البعض، من أن النفس الإنسانية تستطيع أن تجمع بين الجهاد واللذة، آو أن بعض المكافحين والمناضلين كانوا في حياتهم الخاصة على غير الصورة المثالية التي كانوا يدعون إليها. .
أن (البلاج) الآن مدرسة ضخمة من مدارس الرخاوة والميوعة والانطلاق، يلتقي فيها الآباء والأمهات والشبان والفتيات والأطفال دروساً على جانب كبير من الخطورة، إنها أبعد أثراً في مستقبل هذا الوطن من مدرسة السينما، أو أقل إنها التطبيق العملي لتلك الصورة المتحركة.
إنني أشك كثيرا في قدرة الشباب الذي اعتاد أن يقضي بضعة شهور من العام في محيط ينضح بالإغراء، وأشترك إلى حد كبير في تلك المناورات التي تقوم على الشاطئ والأمواج وفي الكابينات، أشك كثيرا في أنه يستطيع الصمود يوما لمعركة فاضلة في سبيل الحرية آو الإصلاح. .
وهذه الفتاة وهي النصف الثاني من الأمة، هي الجزء البعيد الأثر في رعاية الزوج وتنشئة الابن، كيف يمكن أن يعتمد عليها، وهي على هذه الصورة من الاندفاع في العباب العنيف.
أنا أومن كل الأيمان بحق الجسم في الرياضة والهواء والماء ولكن ليس على هذه الصورة المزعجة القاسية، التي لا يمكن أن تتحملها نفسية الشباب المراهق، دون أن تدفعه دفعا إلى(994/3)
اتجاه قد يكون بعيد الأثر في حاضره ومستقبله. .
في الإمكان أن يتاح للأسر وللشباب وللفتيات أن يحققوا جميعاً غايتهم من الاستفادة من الهواء والماء، بطريقة آو بأخرى أما على هذه الصورة، فليس الأمر أمر صحة أو راحة أو إجازة، فان الحياة فوق البلاج ليست باليسيرة على النفوس التي تعيشها، وليست مؤدية بأي حال إلى ذلك السلام آو الاستجمام المنشود. .
وإنما هذه (سوق) يقام، فيه كل أنواع الصراع والصياح والضجيج، وفيه قسوة النزاع النفسي الداخلي، وأسباب الإغراء، ووسائل المتاع الجسدي، واستفزاز الشهوات وتدافقها واندفاعها.
أن الحياة في القاهرة طوال العام ليست إلا مقدمات إلى نتائج لهذه الفترة التي يقضيها الفتى أو الفتاة على البلاج. أنها فترة التحضير والأحلام بالأجساد العارية، والجلسات المائية والنظرات الباسمة، أو هي النتائج القاسية للحظات التي استحكم الشيطان، أو تطامنت فيها الغريزة. .
أن (الحرية) التي يتمتع بها الناس على البلاج (ضريبة قاسية تدفع من الأجساد ومن النفوس ومن الأرواح، تدفع من حساب هذا الوطن، ولا يستفيد بها إلا خصومه، فهي تؤخر نهضته أعواماً، بل أجيالاً. . وهي لا تفسد نفوس الجيل الحاضر فحسب، بل تترك جرائم المرض في أجساد أخرى مازالت يافعة نضرة، فإذا استوت كانت اعجز من أن تقاوم التيار آو تواجه الحقائق. . فإذا ما اصطدمت في (معركة) خرت كليلة واهية.
أن الأمم التي أطلقت لنفسها العنان في ميدان اللهو كانت قد تحررت أولا ونضجت، واستحصدت شخصيتها. . فكان بعد ذلك أن تلهو. . أما (نحن) الذين ما زلنا نكافح ونجاهد ونصارع في سبيل الوجود الذاتي، وفي سبيل تحرير أوطاننا، وإقامة دعائم مجتمع كامل، فإننا في حاجة إلى سواعد قوية مفتولة، ونفسيات قد بلغت غاية السمو والكرامة والعزة، نفوس قد فطمت عن الشهوات، وترفعت عن الصغائر، وتسامت عن النزوات، فحفظت كيانها الروحي والنفسي والعقلي قويا عالياً. . ولاشك أن مدرسة (البلاج) تتعارض مع هذا النوع من الشباب تعارضاً كاملا، بلى أنها من أسباب القضاء عليه. . أنها تمده بالمادة السامة التي تحطم البقية الباقية. . فلا تدعه يسطع يوماً، أو يقف موقفاً حاسماً آو يصمد في(994/4)
جولة حامية.
ولعل هذه المعاني هي التي جعلتني أفكر في (التصوف). . التصوف المستنير الذي عرفه عمر وعلي والحسن البصري والجنيد. .
هذا الذي يرتبط فيه الزهد في مغريات الدنيا بالقدرة على مواجه الحقائق. .
فليس شك أن الرجل (الجنتيل) الذي لا يستطيع أن يجهز بكلمة الحق، هو في الأغلب رجل غلبت علية المطامع الدنيوية، فهو يجامل ويتملق ويسمع ما يكره، ويخفي آراءه الخاصة، حتى لا تنشأ خصومة مع فلان آو فلان، ممن قد تضطره الحياة يوماً إلى أن يلجأ إليه. . وبهذا يظل إمعة، ومصدر هذا أن متاع الحياة قد وقذه، فماتت في نفسه روح الجرأة والشجاعة الأدبية.
أما الصوفي الزاهد الذي استهان بالدنيا واحتقرها، فهو أجرأ الناس في قول كلمة الحق، ونقد ما يراه.
ولذلك عرف المتصوفة بالجرأة على الزعماء والأمراء والحكام يجبهونهم بكلمة الحق، ويقولنا سافرة جريئة ولا يبالون. . لان الحياة هانت فلم يعد يخيفهم الحرمان منها، ولأنهم قد استخفوا بزخارفها، وانمحت من قلوبهم مطامعها، فأصبحوا يرددون مع الصوفي القديم (أن قتلي شهادة، وسجني خلوة، وتغريبي سياحة).
والتاريخ يذكر شعيبا والفضيل بن عياض وعطاء وأبي حازم وبن السماك وعمارة بن حمزة والأوزاعي، بأنهم كانوا زهادا صوفية، وقفوا مواقف الجراءة في تذكير الخلفاء بعيوبهم وأخطائهم، ورفضوا ما يقدم لهم من أعطيات أو هدايا، وكان الخلفاء من سليمان إلى المنصور إلى الرشيد إلى المهدي يسمعون نصحهم بقلوب واجفة، ونفوس متأهبة لقبول النصح.
وعندما وضع الغزالي أصول التصوف، نصح الصوفية باعتزال الأمراء والحكام والانصراف عن موائدهم، حتى يكون لديهم الشجاعة ما يكفيهم لأداء رسالتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونحن في حاجة إلى مواجه التصوف، حتى نوازن ذلك الخطر (البلاجي) وقديما كان التصوف يغزو ميادين الحياة عندما يجنح الناس إلى الترف والغنى، وينصرفون إلى(994/5)
الأمصار ويكونون الثروات، فكان بذلك عامل (سد الفراغ) كما يقول المتحدثون.
ويرمى التصوف في صميمه إلى القناعة ونفض اليد من البر بق وشغل القلب عن المتاع، والانصراف عن زخرف المال والنضال إلى ما هو أسمى منه. .
والتصويف في غايته يدعو إلى القصد من متاع الدنيا، رجاء متاع الآخرة، والانصراف عن كثير من حلال المتاع خوف الوقوع في حرامه، ويهدف إلى حرمان النفس مما تتطلع إليه مما في أيدي الناس.
وكان هؤلاء الصوفية أنفسهم يحملون السيف إبان الغزو، فإذا انتهى الجهاد بالسيف عادوا إلى جهاد النفس وإخلاص النية لله.
وليس شك أن انصراف النفس الإنسانية في بعض العهود عن التصوف هو الذي أرخى العنان لهجمات التتار والصليبيين، وكان عاملاً فعالا من عوامل الهزيمة، إذا واجهت هذه القوات التي كانت تحمل فكرة معينة، جيلا مريضا رخوا قد أضرت به الرغبات وقتلت قوته وصلابته، فلم يستطيع أن يقف أمام الجحافل المغيرة أو يردها، فلما برز مرة أخرى الرجال الذين أشربوا روح الصوفية الحقة أمثال الشهيد نور الدين زكي وغيرهم أمكن مقاومة العتاة وسحقهم، واستعادة مجد البلاد.
هي الصوفية الناصعة الصافية التي كانت تعتصم باحتقار المغانم والأموال والجاه، في سبيل الله، وترى رجالها فوق سروج الخيل، وأطباق الماء وأعماق الصحراء.
أن نظام الفروسية في ذاتها الذي اقتبسه الأوربية نظام صوفي، ونظام الصفوة القائم على الكرم والسخاء والشجاعة والمروءة نظام صوفي، وهي تهدف في جملتها إلى أن يجرد الفرد نفسه للأمة، فيعيش للجماعة ويعيش للفكرة، ويعيش للمثل الأعلى. ولا شك أن روح الصوفية الخالصة هي التي دفعت أبي حنيفة عن أن يقبل القضاء، وهي التي أدت إلى أن يجلد مالك ويعذب احمد بن حنبل.
فلست اقصد بالتصوف، ذلك الزاهد والاعتدال والاعتكاف، فليس هذا من الإسلام في شيء. أننا نمر بمرحلة (الضرورة) من تاريخ الوطن، وهي تقتضينا أن نكون جنوداً قد أعدو أنفسهم لاحتمال أعباء ضخم طويل المدى، من شأن هذا الكفاح أن نعد له أنفسنا بالتربية الروحية، التربية التي تستدعي صلابة وقوة الاحتمال والقدرة مواجهة الخطوب.(994/6)
ولن يتيسر هذا للشباب الذي يئد شبابه ورجولته ووقته ويصرفها على غير وجهها.
نريد ذلك التصويف الذي تحس النفس فيه بالقوة آو غزوات الأغراء، والاستعلاء أما اللذات والشهوات التصويف الذي يدفعنا في الحياة كراما، نعمل ونجاهد ونواد الخطوب، فنصبر لها ونقاومها، ولا نهزم أمامه ولا ننهار
إستانلي باي
أنور الجندي(994/7)
عود على بدء
الاستعمار البريطاني في الملايو
عرض وتحليل
للأستاذ محمد جنيدي
هناك في الشرق الأقصى على بعد آلاف الأميال من قلب العالم الإسلامي يربض شبه جزيرة الملايو ربضة الأسد المتحفز للوثبة الكبرى للتحرر من قيود الذل والاستعباد.
هناك وعي قومي منبعث من النفوس الحرة، ثائر على الأوضاع الاستعمارية. يمثل القوى القومية المناهضة للقوى الاستعمارية. يضع الخطوط الرئيسية الأولى لبرنامج قوى لإعداد قوى الأمة لجهاد طويل مرير، وكفاح شاق عنيف. تسفك خلاله دما زكية، وتبذل أموال طائلة، حتى يتحقق الأمل القومي المنشود.
لقد أتقضى أكتر من ثلاثة قرون للحكم البريطاني في الملايو تخللتها تطورات في أنظمة الحكم، وتغيرات في شؤون المال والاقتصاد. ولا يزال الحكم البريطاني فارضاً سلطته على الشعب الملايوي مستغلا جهوده. وملايا قطر شرقي يقع في جنوب شرق أسيا، يطل على المحيط الهندي. اشتهر في العصر الحديث بإنتاجه الزاخر من المطاط والقصدير، وبقاعدته الحربية (سنغافورة) واهم إنتاجه المعدني القصدير. وفي جزيرة سنغافورة القاعدة الحربية البريطانية اكبر مصفاة لتصفية القصدير الخام في العالم تملكها الشركات البريطانية. ير د القصدير الخام على الناقلات البحرية من سائر أنحاء العالم لتصفيته ثم تصديره إلى الأسواق العالمية. وأما أهم إنتاج ملايا الزراعي فهو الأرز. وتنتج غاباتها الكثيفة أنواعا مختلفة من الأخشاب. ويصدر المطاط والقصدير والأخشاب وزيت جوز الهند والأناناس والكوبرا إلى البلدان الأجنبية. وتستغل الشركات البريطانية والأوربية والصينية المزارع الواسعة التي تفيض بأحسن المنتوجات. ويتحكم البريطانيون في إنتاج المطاط وفي تقرير سعره. والمطاط هو الدافع العظيم لبقاء بريطانيا في الملايو. فقد تخلت عن بعض مستعمراتها في الهند الشرقية لهولندا إزاء تنازل هولندا عن بعض مستعمراتها في الملايو. . . ففي عام 1824 تنازلتبريطانيا عن ولاية في جزيرة سو مطرا لهولندا(994/8)
وتخلت هولندا لها عن مقاطعة في الملايو. ويظهر لنا من خلال هذا التبادل مدى اتحاد الحكومات الغربية في سبيل استبعاد الشعوب الشرقية الضعيفة. وفي سبيل الاستعمار والاستغلال تأتلف القوى الغربية الحديثة وتقف جبهة متحدة أمام القوى المناوئة لها. وأبرز مظاهر التعاون الاستعماري الغربي الحديث: الحرب الكورية والقتال في الهند الصينية والحركات العسكرية في الملايو. فقد اتحدت الدول الاستعمارية الكبرى على القضاء على الحركات التحريرية المنبعثة من البلدان الشرقية التي لا تزال تتجرع علقم الاستعمار الغربي. كما تعاونت تعاونا تاما فيما بينها على احسن الطرق التي يجب على كل منها أن تتبعها إزاء توارت الأفكار الحرة التي تطالب بالحرية والاستقلال ولا تزال نيران المعارك التحريرية مندلعة في أنحاء الشرق للقضاء على الاستعمار الغربي.
بدأ الاستعمار البريطاني في القرن السابع عشر يبسط نفوذه على الملايو. فقد مهدت (شركة الهند الشرقية) البريطانية السبل أمام الحكومة البريطانية لاستعمار الملايو. والاستعمار البريطاني للملايو بدأ أولا عن طريق الفتح الاقتصادي حيت تغلغلت شركة الهند الشرقية البريطانية في حياة الشعب الملايوي الاقتصادي. وغدت المرافق العامة في قبضتها، واستغلت جهود الشعب الملايوي في الإنتاج، كما استغلت سوء الحكم الإقطاعي الذي تميز به ذلك العصر في ضم الحكام البريطانيين إليها. حتى تركزت قدمها وانتشر نفوذها. وغدت الحياة الملايوية الاقتصادية تحت إشرافها. فرجال الاستعمار البريطانيون رجال ذوو خبرة وكفاءة ممتازة في أعمالهم، وذوو معرفة بعلم النفس استعملوا كل وسائل الأغراء والنفاق في جذب النفوس واستمالتها، والوسائل الاستعمارية البريطانية قد وضحت لدى الشعوب الشرقية، ورغم معرفتها لها، فإن التدخل البريطاني في شؤون الشرق لا يزال مستمراً، وإذا حققنا الأسباب التي جعلت بريطانيا تتدخل في شؤون الشرق منذ ثلاثة قرون إلى اليوم. برزت لنا من خلال هذه القرون الطويلة مآس دامية طوحت بالمثل الإنسانية العليا وبالكرامة والشرف، فصفاء القلب، ونقاء النفس، ونزاهة العمل، مفقودة عن بعض الزعماء للشرقيين الذين نصبوا أنفسهم زعماء على شعوبهم، فأصيبت بلادهم وشعوبهم بالخسران المبين جزاء لما اقترفوه من أثم. ثمكانت الطامة الكبرى. والبلية العظمى. بلية الاستعمار والاستعباد. ولم يدر بخلد الزعماء الشرقيين أن يدرسوا حياة القادة الأوائل الذين(994/9)
أقاموا صروح المدينة الشرقية التي غابتها سعادة الإنسانية وخدمة البشرية، فاحتفظوا بحرية أوطانهم قرونا عديدة، حتى انهارت ممالكهم بخروج خلفهم عن السياسةالمرسومة التي وضعت لحفظ تراث المدينة الشرقية، أو يدرسوا حياة القادة الغريبين الذين فرضوا نفوذ حكوماتهم على الشرق، وكيف كانت نفوسهم تسموا على الصغائر. . لكن تصفو قلوبهم، وتنقى نفوسهم من ادرأن الحكم. فيسعوا متحدين لخلق قوة شعبية تناصرهم في منع التدخل الأجنبي في شؤون أوطانهم. وهذه الأمور المعنوية هي السبب الذي أوقع البلاد الشرقية تحت الاستعمار الغربي. وأوقع الملايو ضمنها. وملايا - كما عرفناها - قطر صغير مقسم إلى عدة أقسام يشرف على كل منها حاكم يلقب بالسلطان كان يحكم بلاده حكما إقطاعياً. وقد زال هذا الحكم بانتشار الوعي القومي بين الشعب الملايوي، وبانتشار النفوذ البريطاني في مصالح الدولة.
أوجد الاستعمار البريطاني في الملايو إصلاحا عمرانيا. فقد جيش الوطنيين في إصلاح الطرق وإنشاء الكبارى. واستغل جهودهم في التعمير والبناء. فخطوط السكك الحديدية تقطع ملايا من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غر بها. وغدت بعض بلدانها مراكز هامة للتجارة الدولية. وقد اشتهرت (سنغافورة) خلال القرن الرابع عشر بمركزها التجاري للشعوب القاطنة على سواحل المحيط الهادي والهندي. واستمرت شهرتها التجارية حتى الآن، كما اشتهرت بمركزها الإستراتيجي. وفي سنغافورة جاليات أجنبية كثيرةمن شعوب مختلفة. هاجرت أليها ابتغاء المعيشة. وفتحت بريطانيا أبوابها أمام شعوب العالم لتغدو مدينة تجارية حرة في الشرق الأقصى. ثم اشتهرت بعد سنغافورة (ملقا) في القرن السادس عشر، وأصبحت مركزا تجاريا دوليا وخشيت بريطانيا أن تنافس ملقا جزيرة سنغافورة من ناحيتها التجارية فأغلقت أبوابها أمام التجارة الدولية. وأمست ذات مركز تجاري ثانوي. . ولا نغمط الاستعمار فضله في إنشاء ملايا وتعميرها؛ فقد قبل الاستعمار الأوربي قطعة ارض تمسها يد الإصلاح. ولما دخلت في عهد الاستعمار الغربي أحالها إلى قطعة جميلة توفرت فيها وسائل الترفيه والكمال. وغدت مدنه الكبرى في مستوى البلدان الراقية في الشرق ولم يعمل الحكم البريطاني على نشر الثقافة والتعليم بين الشعب الملايوي. ويعد القارئ الكريم أن من مبادئ السياسة الاستعمارية الغربية في الشرق عدم نشر التعليم بين(994/10)
المستعمرين لان العلم والاستعمار لا يتفقان. وأما التعليم الذي نشره الاستعمار البريطاني في ملايو فهو تعليم بسيط لفئة قليلة من الوطنيين لخدمة الحكم البريطاني في مصالح الدولة. وسنتكلم في نهاية البحت عن الثقافة في الملايو منذ بدأ الحكم البريطاني فيها. وعن مجهود الوطنيين في نشر التربية الوطنية والثقافية بين مواطنيهم.
تنقسم ملايا طبيعيا إلى إحدى عشر ولاية ومقاطعة وهي: =
1 - سنغافورة2 - ملقا3 - بيراك4 - سيلا نجور5 - نجرى سبيلان 6 - فاها نج7 - كد 8 - ييرليس 9 - كلانتان10 - ترنجانو11 - جوهور.
وقد قسمتها الحكومة البريطانية إلى ثلاث وحدات سياسية كل واحدة منها منفصلة عن الأخرى تمام الانفصال. ولكل منها حكومة محلية يشرف عليها مستشار بريطاني يتصل بالمندوب السامي البريطاني وهذا يتصل بوزارةالمستعمرات البريطانية وهذه الوحدات هي: -
1 - مستعمرات البرفاز وتتكون من ثلاث مقاطعات هي: - (1) سنغافورة (2) فينا نج (3) ملقا وهذه المستعمرات ليس لها سلطان وطني لذلك اعتبرتها بريطانيا فيما بعد من ممتلكاتها فيما وراء البحار.
وهذه المستعمرات متقاربة فيما بينها، والحركات التجارية فيها، عظيمة، ويمكن اعتبارها من البلدان التجارية الهامة في جنوب شرق أسيا، وقد جعلها الاستعمار البريطاني مراكز دولية في الشرق الأقصى، ففيها جاليات أجنبية كبيرة، وفيها مؤسساتها والاقتصادية، والحياة فيها تقوم على شؤون التجارة الدولية.
2 - ولايات ملايا المتحدة وتتشكل من أربع ولايات كبيرة هي: - (1) بيراك (2) سلانجور (3) نجرى سبيلان (4) فاهانج والرئيس الوطني لكل ولاية هو السلطان وفي عام 1909 - أنشأت الحكومة البريطانية لهذه الولايات مجلسا اتحاديا للأشراف على شؤون الولايات العليا، ويرأسه المندوب السامي البريطاني، وقد اختبر أعضاؤه من سلاطين الولايات الأربعة المتحدة، ومن كبار الأعيان فيها، ومن البريطانيين والصينيين الذين ليسوا في خدمة الحكومة المحلية، وقد أظهر سير الحياة في الملايو أن هذا المجلس ما هو ألا صورة خيالية أرادت به بريطانيا أن تظهر للملايويين مسايرتها الذي يحدث في(994/11)
ملايا.
3 - ولايات ملايا اللا متحدة وتتكون من أربع ولايات هي (1) كدة (2) برليس (3) كلانتان (4) ترنجانو، ولكل ولاية من هذه الولايات سلطان وطني عليها. ويذكر التاريخ الحديث أن ولايات (كدة وكلانتان وترنجانو) كانت خاضعة لمملكة سيام البوذية، وفي عام 1909 عقدت بريطانيا وسيام اتفاقية بمقتضاها انضمت هذه الولايات الثلاثة تحت علم الاتحاد البريطاني وأمست خاضعة للحكم البريطاني، وسميت بولايات ملايا اللا متحدة، ثم في عام 1914 - انضمت ولاية (جوهور) إلى الولايات الملايوية اللامتحدة، وقبلت مستشارا بريطانيا لها، وهذه الولاية في مقدمة الولايات الملايوية تقدما وعمرانا.
لنلق نظرة خاطفة على التقسيمات الإدارية التي أجرتها بريطانيا في ملايا لنستشف من ورائها ما تخبئه السياسة الاستعمارية البريطانية من غايتها تقسيم ملايا إلى ثلاث وحدات سياسية، لكل منها أسلوبها الخاص في سياسة الحكم.
أن سياسة فرق تسد لا تزال الحكومة البريطانية تتبعها في مستعمراتها، فهذه التقسيمات الحكومية لملايا حاجز منيع أرادت به بريطانيا أن تضع ستارا بين كل ولاية وأخرى يضعف العلاقات القومية بين كل منها. فتصبح الولاية غريبة عن الثانية. ليس هناك عامل قومي يربط بين سكانها وأوجدت السياسة الاستعمارية البريطانية بجانب هذه التقسيمات الإدارية حصارا شديدا على للملايويين منعهم عن مباشرة حقوقهم الشرعية في إنشاء المؤسسات السياسية والثقافية التي تهيئ الشعب لحياة الحرية والاستقلال، فمنذ بدأ الحكم البريطاني للملايو إلى أن وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها كان الاشتغال بالسياسة محرما على الشعب الملايوي. ولما بدأ الاحتلال الياباني للملايو في فبراير عام 1942 نفخ اليابانيون في أبواق الدعاية اليابانية (آسيا العظمى) و (الرخاء الآسيوي) فدب النشاط الفكري في المجتمعات الملايوية: وأقبل اليابانيون على تدريب الشبان للملايويين على الأعمال العسكرية: فشعر الملايويون بحياة جديدة أساسها التقشف والخضوع.
لقد نهجت الحكومة البريطانية هذه السياسة في إدارة شؤون الملايو. وهي سياسة استعمارية بحتة تتناف مع الحياة في عصر النور.
كنا في ديسمبر عام 1941 والقوات اليابانية تكتسح القوات الاستعمارية في الشرق الأقصى(994/12)
وتطردها عن هذه البقعة التي يسيطر الاستعمار الأوربي منذ ثلاث قرون. فالقوات اليابانية الصفراء تنتقل من نصر إلى نصر في معاركها ضد القوات المتحالفة في الباسيفيك وفي جنوب شرق أسيا. وفي 8 ديسمبر عام 1941 قذفت القوات اليابانية السائرة نحو جنوب أسيا أول قنبلة على (سنغافورة) تم تابعت سيرها على الملايو لإقصاء القوات البريطانية عنها. وفي 15 فبراير عام 1942 وهو يوم تاريخي في حياة الاستعمار البريطاني في الشرق الأقصى عقدت وثيقة تسليم سنغافورة إلى القوات اليابانية حيت اجتمع الجنرال مع الجنرال الأول ممثل من الحكومة البريطانية: والثاني عن الحكومة اليابانية في ووقعا على وثيقة تسليم ملايا إلى القوات اليابانية وغدت ملايا محتلة يابانية.
لقد دخلت ملايا في عهد جديد من حياتها العامة فالسلطات اليابانية المحتلة فرضت نظامها العسكري على الشعب الملايوي ذلك النظام الذي أحال الحياة في الملايو إلى جحيم.
ضمت الحكومة اليابانية الملايو إلى جزيرة سو مطر. وكونت منهما دائرة واحدة لها حكومة خاصة تحت أشراف قائد عسكري. ولما صفيت الملايو من القوات البريطانية، وانتشى اليابانيون بخمرة النصر، واصبحوا سادة الشرق الأقصى قدموا بعض الولايات الملايوية هدية إلى مملكة سيام البوذية جزاء للأعمال الجليلة التي قامت بها سيام نحو القوات اليابانية خلال زحفها إلى الملايو. فعندما كانت المعارك الطاحنة تدور بين القوات اليابانية والقوات البريطانية خلال الحرب العالمية الأخيرة في الشرق الأقصى لم تجد القوات اليابانية منفذا لها لاكتساح الملايو. فأفسحت سيام المجال أمامها بالدخول من أراضيها والتغلغل في الأراضي الملايوية. وجزاء لهذه الخدمة الحربية التي قدمتها سيام لليابان سلمت الحكومة اليابانية ولايات (كدة. برليس. كلانتان. ترنجانو) الملايوية إلى حكومة سيام لتستعمرها وتستعبد أهلها. . .
دار الزمن دورته ودارت عجلات الحياة في الملايو تحت احتلالها. فقد قامت بأعمال تتضاءل أمامها أعمال الشياطين. . . وفي 10 أغسطس عام 1945 ترنح ذلك القزم الشرقي الجبار تحت تأثير قنبلتين ذريتين ألقيتا عليه واستسلم للقوات المتحالفة. وهنا تتحرك السياسة الاستعمارية البريطانية لوضع نظام الحكم الجديد للملايو. ففي 15 سبتمبر عام 1945 بسطت السلطة العسكرية البريطانية نفوذها على الملايو. وعاد الشعب الملايو(994/13)
تحت الاستعمار البريطاني مرة ثانية. .
وهنا نتساءل لماذا خضع الشعب الملايوي للاستعمار البريطاني مرة ثانية؟
هناك عدة أسباب هامة أجبرت الشعب الملايوي على قبول الأمر. بوقوع بلادة مرة ثانية تحت النفوذ البريطاني وتتلخص هذه الأسباب فيما يلي: -
1 - أن الجيش البريطاني قد بدأ بغزو الملايو قبل الغزو الياباني، وأنه تكمن من احتلال بعض مناطقها وفرض سلطتها عليها.
2 - أن الشعب الملايوي فقير في الرجال والقادة الذين يثبتون أمام الكوارث والخطوب. يقودون أمتهم لخوض غمار معارك التحرير، ويقفون أمام المستعمرين يناضلونهمويكافحونهم في ميدان السياسة والاقتصاد.
3 - أن الجيش الياباني لم يترك سلاحه في الملايو كما في بغض البلاد التي احتلها. فأصبح الشعب الملايوي أعزل من السلاح.
4 - أن في الملايو أكتر من مليون صيني. وهؤلاء يكونون جبهة متحدة للمطالبين بسيادتهم على الملايو. وهم رجال تجارة وأعمال.
5 - أن الشعب الملايوي تنقصه الدعاية الخارجية لعرض قضيته أمام العالم الحر، وجذب عطف الشعوب المحبة للحرب إلى جانبه.
6 - أن القيادة الداخلية للحركات التحريرية لم توسع نطاق أعمالها في جميع أنحاء الملايو لكي ينصف الشعب الملايوي في وطنه الذي لاقى الأمرين من الاستعمار الغربي، وأن الدعاية الوطنية لم تنتشر الانتشار المطلوب بين للملايويين ليشعروا بواجباتهم الوطنية نحو وطنهم.
فهذه الأسباب التي أمكننا استنتاجها من الحياة الملايوية هي بعض من أسباب كثيرة جعلت الشعب الملايوي يخضع للأمر الواقع.
رسم السياسة البريطانيون القابعون في مكاتب وزارة المستعمرات البريطانية بلندن السياسة الجديدة التي ستتبع الحكومة البريطانية في الملايو بعد أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها. فأصدرت الحكومة البريطانية (الكتاب الأبيض) وفيه المناهج الجديدة لنظام الحكم الملايو. وفي أكتوبر عام 1945 وصل السير هارولد مكميل من رجال وزارة المستعمرات(994/14)
البريطانية إلى الملايو. وقدم مذكرة إلى سلاطين ملايا ليوقعوها. وتنص هذه المذكرة بأقرار الموقعين عليها تسليم سلطتهم إلى ملك إنجلترا. . ثم في أول أبريل عام 1946 ظهرت على مسرح الحياة في الملايو الحكومة الجديدة التي أوضحت في الكتاب الأبيض. وهي حكومة (ملايا المتحدة) شملت جميع الولايات والمقاطعات الملايوية وهي حكومة مركزية تولى رئاستها الحاكم البريطاني وهو السير أدوا رد جنت. ويستمد سلطته من حكومة لندن. وبظهور هذه الحكومة توحدت أجزاء ملايا. واصبح لملايا حكومة واحدة لا ثلاث حكومات كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية، وخسر سلاطين ملايا مركزهم العالي وهو سلطتهم.
أنشئت حكومة ملايا المتحدة مجلساً تنفيذا وآخر تشريعيا يعاونان الحاكم البريطاني في إدارة شؤون الدولة وأنتخب أعضائها من البريطانيين ذوي المراكز العالية في الحكومة الجديدة ومن ممثلي طبقات الشعب. وأنشأت أيضا مجلسا تنفيذيا لمقاطعة سنغافورة وآخر تشريعيا. وانتخب أعضائها من أتنين وعشرون عضوا نصفهم بنتيجة الحاكم من أعضاء الحكومة البارزين والنصف الآخر من ممثلي الأحزاب السياسية ويشترط فيهم أن يكونوا من رعايا بريطانيا ومولودين في المستعمرات الجديدة وقد قامت حركات وطنية ضد الحاكم الجديد وقامت الأحزاب السياسية بتنوير أذهان الشعب حول الحكم الجديد وما يخبئه لمستقبله. واتحدت كلمة الشعب الملايوي على رفض النظام الذي سلب كل حق كان يتمتع به سلاطينه.
مضى النظام الجديد في عمله ما يقرب من عام واحد وهو يترنح تحت ضغط الشعور القومي الملايويالذي ناصبه العداء منذ مولده. وقد كان هذا النظام تجربة استعمارية لمعرفة مدى قبول الشعب الملايوي للاستعمار البريطاني في وضعه الجديد وقد باءت بالفشل. فالشعب الملايوي التف حول زعمائه لدفع الحكم الجديد الذي أظهر مناوأته للحياة الملايوية الجديدة الرامية إلى مقاومة الاستعمار وإزالته عن ملايا وفي فبراير عام 1947 شيع الحكم الجديد إلى مقبرته وظهر بعده حكم آخر أساسه الاتحاد فقد أستبدل الاستعمار البريطاني حكومة ملايا المتحدة بحكومة أخرى هي حكومة الاتحاد الملايوي وضمت كافة الولايات الملايوية عدا مقاطعة سنغافورة. فإنها بقيت خارج الاتحاد. حيث اعتبرت التاج البريطاني.
فما هو الجديد في الحكومة الجديدة؟(994/15)
لقد أعاد الحكم الجديد إلى سلاطين ملايا نفوذهم بعد ما سلبته الحكومة السابقة. وصاروا يتمتعون بسلطتهم كما كانوا قبل الحرب العالمية الأخيرة. وأفسح الحكم الجديد المجال لممثلي الشعب الملايوي بإيجاد مقاعد لهم في مجلس التنفيذ والتشريع الجديدين. وتولى بعض الوطنين مناصب الوزارة وإذا دققنا النظر في الحكومة الجديدة يظهر لنا أنها حكومة استعمارية، فقد ترأسها حاكم بريطاني برتبة مندوب سام وأشترك الأجانب في التمثيل. فمجلس التنفيذ والتشريع مكون من خمسة وسبعين عضوا منهم أربعة وعشرين عضوا من موظفي الحكومة ذوي المناصب العالية وتسعة وزراء ممثلون عن مجالس الولايات التي شكلت الحكومة الاتحادية وعضوان عن مقاطعة فينانج وملقا، وخمسون عضو، منهم اثنان وعشرين من الوطنين، وأربعة عسر من الصينيين وخمسة من الهنود وسبعة من الأوربيين، وعضو واحد من السيلانيين، وعضوا واحد أيضا عن المولدين.
هذه هي تشكيلات الحكومة الجديدة، وقد قبلها الشعب الملايوي مكرها وخلال هذه التطورات السياسية في أنظمة الحكم نشطت الحركات القومية التحريرية في جميع أنحاء ملايا لمقاومة الاستعمار البريطاني في ثوبه الجديد.
أنشأ الأحرار الوطنيون الأحزاب السياسية للسعي لاستقلال الملايو، وهي أول خطوة سياسية فعالة في جيل الاستقلال والأحزاب السياسية كالماء والهواء للشعوب المستعبدة لا تستطيع الاستغناء عنها فهي تكافح الاستعمار وتنشر الروح الوطنية وتلهب المشاعر والاحساسات القومية، وتجعلها شعلة نار متوقدة، وأهم الأحزاب السياسية الملايوية هي:
1 - حزب الاستقلال الملايوي، 2 - الهيئة الشعبية الملايوية المتحدة، 3 - حزب العمال، ولكل من هذه الأحزاب برامجها الخاصة في الكفاح والنضال لتحرير ملايا من الاستعمار وأقوى الأحزاب وأعظمها نفوذا هي (الهيئة الشعبية) فهي التي تقف أمام الحكومة الاستعمارية لتدافع عن حقوق الشعب المهضومة، وتطالب الحكومة البريطانية باستقلال ملايو، وتنتشر فروعها في جميع أنحاء ملايا، ولها منظمات كثيرة للشبان فهم سواعد في الكفاح والجهاد، ويؤيد الطلبة الملايويون المنتشرون في الشرق الأوسط والأدنى الهيئة الشعبية في مطالبها الوطنية وجهاد المقدس. وهؤلاء هم طلائع الدعاية الوطنية الملايوية في أنحاء الشرق. وقد بعثوا بمذكرات إلى الحكومة البريطانية يؤيدون فيها مطالب وطنهم،(994/16)
ويطالبون الحكومة البريطانية بتسليم السلطة في ملايا إلى الوطنيين. وتدل الحياة اليوم في الملايو على نشاط الأحزاب السياسية الملايوية في حركتها التحريرية، وهو نشاط ينبئ بالنجاح في تحقيق الحرية والاستقلال لملايا أن أمام الملايوين الأحرار مشاكل ومصاعب شتى تعترض سبلهملتحقق استقلال ملايا في زمن قصير وتتطلب هذه المشاكل رؤوسا مفكرة عاملة لحلها، وقد أبرزت الحياة الملاوية الحديثة زعماء ومفكرين يعملون في الحقل الوطني، وأنتجت أعمالهم شعور الطبقة المتعلقة من الشعب الملايوي بالواجبات الملقاة على عواتقها نحو وطنها. وتكونت منها دعامة قوية من دعائم الاستقلال، تقوم عليها ملايا في بناء حياتها الحديثة. والبناء هو أول ما تطلبه ملايا - اليوم - في حياتها الجديدة، وهو شامل لكل مناحي الحياة لشعب اعترض سبيله الاستعمار قرونا لكي ينهض ويسير في ركاب الحياة، وتنشر التعليم بكل وسائله المعروفة يؤدي إلى فتح آفاق واسعة من المعرفة بين جمهور الشعب، وقد كان الاستعمار خلال عهده الطويل في الملايو مبعدا الشعب الملايوي عن مناهل العلم، فخلال الحكم البريطاني الطويل استمر ثلاثة قرون حتى أوائل الحرب العالمية الثانية لم تخرج المدارس الحكومية في الملايو مهندسا أو محاميا أو طبيبا. فما معنى ذلك؟
لست أجيب القارئ عن هذا السؤال فهو اعلم بأسبابه مني.
لقد قامت الهيئات التبشيرية والأوربية والأمريكية في الملايو بفتح المدارس والمعاهد، وكما قامت الهيئات والمنظمات الصينية أيضا بفتح المدارس لأبنائها. وأنشأ الملايويون في الأيام الأخيرة مدارس لتثقيف أبنائهم بالثقافة الوطنية التي ترتكز على حب الوطن والعلم والمعرفة. وفي الملايو اليوم مدارس ثانوية وعالية تابعة للحكومة المستعمرة والجاليات الأجنبية وللوطنيون وأشهرها كلية السلطان إدريس للمعلمين، وكلية البنات الملايوية، ومدرسة الهندسة بكوا لا لمفور: ومدرسة الزراعة بسلا نجور، وكلية رافلس للمعلمين الإداريين. وكلية الطب، وهاتان الكليتان هما نواة للجامعة الملايوية. هذه هي المدارس الثانوية والعالية في قطر يزيد عدد سكانه علة خمسة ملايين نسمة، نصفهم من الوطنيين، والنصف الأخر من الأجانب. وفي البلدان الشرقية طلاب ملايويون منتسبون لمعاهدها العالية وجامعاتها، وهم النواة الأولى للطلبة للملايويين الذين سيحملون مشاعل الحرية إلى(994/17)
وطنهم ليقيموا له حياته الجديدة على أيساس العلم والمعرفة.
محمد جنيدي(994/18)
اتجاه الأدب الحديث إلى الطبيعة
للأستاذ أنيس المقدسي
الطبيعة
إذا كان الأدب القروي يعيني خاصة بحياة الفلاح والبيئة التي يعيش فيها فإن أدب الطبيعة يعني بتصوير المشاهد الطبيعية والتعبير عما تثيره في نفس الإنسان. وليس وصف الطبيعة جديدا في الأدب العربي فد عرفته جميع العصور الأدبية واشتهر به كثيرون من شعرائها.
والوصف الطبيعي القديم وثيق الاتصال بالبيئة البدوية من قفار ورياح وأنواء ونبات وحيوان وما إلى ذلك. وهو عادة دقيق يميل إلى شرح الجزيئات؛ فإذا أراد الشاعر وصف حيوان كالناقة مثلا أو كالحمار الوحشي صور لك أعضاءه وألوانه وأوقفك على جميع حركاته وساكناته.
ومن خصائص الوصف البدوي الصدق وعدم التصنع، فهو عموما عرض واقعي لا يعمد إلى الزخرف اللفظي والتأنق الصناعي الذي نراه ضائعا في عصور الحضارة. يرى الشاعر شيا فيعرضه كما هو بلغة قد نراها غريبة ولكنها جارية مع سجيته منبعثة عن طبيعة بيئته.
وقد تطورت البيئية العربية بعد استقرار الملك العربي في الشام والعراق ومصر والأندلس فتطور معها الشعر الوصفي، وهكذا انصرف عن الصحراء وأحوالها إلى الحواضر الجديدة وما تحويه من بساتين ومتنزهات وفواكه ورياحين ومجاري مياه وما إلى ذلك من ظواهر الحياة المدنية. ولا بد لنا هنا من التنبيه إلى فرق واضح بين أسلوب الوصف البدوي القديم وهذا الوصف الحضري المولد. ففي الأول كما ذكرنا آنفات يغلب الصدق والبساطة في التصوير. أما الثاني فتبرز فيه الصناعة الفنية التي تتحرى إلباس الموصوف برداً قشيباً من الخيال. ولقد تمادى المولدون في حرصهم على ابتداع المعاني البيانية حتى طغت الصناعة عندهم علة صدق العاطفة فأصبحت الطبيعة في كثير من الأحيان وسيلة لإظهار براعتهم الفنية ومقدرتهم على التوليد.
على أننا إذا أنعمنا النظر في وصف القدماء عموما للطبيعة وقابلناه بما استجد في أدبنا(994/19)
الحديث من ذلك وجدنا من الفرق بينهما مالا نجده بين الشعر القديم أو الجاهلي والشعر المولود في العصر العباسيوالأندلسي. فالطبيعة في الشعر القديم لم تتخذ موضوعاً خاصا وإنما كان الشعر يعرض لها في سياق غرض آخر كالغزل أو المديح أو الفخر، وكان يكتفي بأشكالها الخارجية لا يتجاوز الأفق الحس المشاهد إلى ما هو أبعد وأعمق. وبكلمة أخرى لم ير في الظواهر الطبيعية ما يحمله على التأمل العميق وما يوحي إليه من المعاني الخالدة والأفكار السامية، ولم يتغير الموقف في الشعر المولد تغيراً يصح أن يسمى اتجاها عاما، فظات الطبيعة عند المولدين وسيلة لا غاية ومعرضا لمشاهد جميلةلا مصدراً لأبحاث روحية. أما الأدب الحديث فلم يقف عند حد المشاهد التي تبهج النفس بل اتجه اتجاها عاما إلى ما للطبيعة من وجود معنوي يلذ للخيال الجولان فيه ويروق للفكر أن يسمو إليه.
ولهذا النظر الحديث إلى الطبيعة خصائص نحاول شرحها فيما يلي:
قد يقال أن الوصف ألحي للطبيعة يمتاز بملاحظة مالا يؤبه له عادة كانحناء السنبلة وتفتح البراعم وتبعثر أوراق الخريف وربوض البقرة تحت الشجرة واختباء الفراخ تحت جناحي أمها وتجاوب الأجراس في الواديولون العشب الذاوي وغير ذلك من مشاهد طبيعية متواضعة، وأنه يرتاح إلى الطبيعة الساذجة (البرية) دون المصطنعة المنمقة. فهو يؤثر الغاب على البستان، وشواهق الصخور على أسوار الحصون، وبحيرات الجبال على برك القصور. ورمال الشواطئ والصحاري على الساحات المعبدة في المدن والنوادي، والمجاري الطبيعية المتدفقة بين السهول والهضاب على الترع المحفورة لري الحقول والمزارع. بل إنه ليرى روعة خلابة في ما كان يهول القدماء كصخب العواصف وطغيان السهول وانقضاض الشلالات ووصف الرعود وتجهم الفدافد ووحشة الدياجي وتلاطم اللجج وما أشبه. وفي هذا القول شئ كثير من الصحة، على أن ذلك عند التحقيق ليس الفارق الرئيسي الذي يميز آداب الطبيعة في هذا العصر عنه في العصورالسابقة وإنما يميزه ما تقدمت الإشارة إليه من أن الأدب الحديث ينظر إلى الطبيعة نظراً معنويا يتجاوز أفق المشاهدات.
ومما لاشك فيه أن التصور المعنوي الذي تثيره المشاهد الطبيعية هو أقوى وأعم في أدبنا الحديث منه في أي عصر من عصورنا الماضية. ولهذا التصور أو النظر المعنوي نزعات(994/20)
نجملها في النزعتين التاليتين:
النزعة الحيوية:
وهي اعتبار الطبيعة ذات حياة وروح يمكن مخاطبتها ومناجاتها ومبادلتها الأفكار والعواطف.
وليس من الصواب القول أن الأدب القديم خلو من مثل هذا النظر أو الشعوب. فقد طالما وقف القدماءعلى الطلول فبثوا لها أشواقهم وسألوها عن أحبابهم، وإنما فعلو ذلك في الأغلب تمهيداً لبعض أغراضهم وجريا على اتباع السنة الشعرية التي كانت تقتضي الابتداء بالغزلومنهم من انطق الطبيعة ونسب أليها التأمل والتفكير كم فعل ابن خفاجة الأندلسي في قصيدة بصف جبلا فيقول فيه:
وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي مفكر في العواقب
على أننا نعيد القول أن تجده من ذلك فيما مضى لم يبلغ أن يكون اتجاها عاما أو بابا مستقلا يلجه الأدباء ليتصلوا بالطبيعة فيسجدوا في هيكلها ويحملوا إلينا منه ما توحيه من جمالها وأسرارها، أو على الأقل لم يبلغوا في هذا السبيل شأن زملائهم في القرن العشرين.
أن الطبيعة في الأدب الحديث (حيوية) عالقة يحس بضربات فؤادها ويسمع رخم إنشادها ويلذ له التحدث إلى أنهارها وغابتها وجبالها ووهادها. وممثل لك ذلك جبران جبران إذ يقف أما (الأرض) مقابلا محاسنها بقبائح الإنسان فيقول (ما أجملك أيتها الأرض وما أبهاك). ما أتم امتثالك للنور وأنبل خضوعك للشمس. ما أظرفك متشحة بالظل وما أطول أناتك! نحن نضج وأنت تضحكين. نحن نذنب وأنت تكفرين. نحن نجدف وأنت تباركين. نحن ننجس وأنت تقدسين نحن نكلم صدرك بالسيوف والرماح وأنت تغمرين كلا منا بالزيت والبلسم. نحن نستودعك الجيف وأنت تملئين بيادرنا بالأغمار ومعاصرنا بالعناقيد. نحن نتناول عناصرك لنصنع منها المدافع والقذائف وأنت تتناولين عناصرنا وتكونين منها الورود والزنابق!)
ولشكر الله الجر قصيدة في شلال البرازيل يدعى (تيجوكا) وهي أيضا من باب الوصف التأملي الذي تشعر فيه بحيوية الطبيعة. ومن أداورها:
غسلت بمائك عيني وعدت فأبصرت ما الناس لا تبصر(994/21)
فبالله قل لي إلام تنظر كذلك تجتاحك الأعصر
وأنت تكر كرور الزمان ... فلا تستقرر ولا تفتر
وهذا الوجود كما كان قبل شعوب تجئ وأخرى
تروح
ودنيا تضج بسكانها ... فهذا يغني وهذا ينوح
وذلك مستلم للقدر
وكثيرة هي وقفات الأدب الحديث على الطبيعة الملاحية من جبال وأودية وأنهار وصحار ونجوم ورياح وبحار حتى ليتعذر حصرها.
وكما شغف الأدب الحديث بالطبيعة الملاحية فأحياها وجعلها ذات شعور وأدراك ونظراً مستوحياً منها الأفكار والخواطر والعبر، شغف أيضا بالطبيعة الحية من نبات وحيوان فجعلها موضعاً لتخيلاته وتأملاته، ووسيلة للتحدث عما يتجلى له في حياته.
ففي عالم النبات مثلا يقص علينا جبران جبران حديث البنفسجية التي كانت تطمح أن تكون وردة.
وممن استخلص من البنفسجية موضوعاً إنسانياً خليل شيبوب إذ وصف جمالها وتواضعها فقال.
قد التحفت أوراقها وتطامنت ... على نفسها في ورق وتواضع
مكحلة الأجفان يقضي حيائها ... عليها بإغضاء اللحاظ الخواشع
وهل كبرياء الدوح تعدل نظرة ... للمومة ثوبها المتواضع
وفي غابة من غابات البرازيل يمر الشاعر القروي مرة فيرى دوحة عظيمة قد طرحتها الأرض يد الإنسان فيحدثنا حديث تلك (الدوحة الساقطة) وشكواها من جور الإنسان. وفي هذا الحديث تذكر لنا الشجرة شيئاً عن حياتها ونشأتها وكيف نمت حتى أصبحت كثيرة الأغصان وأرفه الظلال تأوي أليها الطيور ويقصد ظلالها طلاب الراحة. ثم نصف عالم النبات وأنه هو موطن المساواة والخير، لا عالم الإنسان الموبوء بالطمع والفساد القائم على التعدي والتدمير. وبعد أن تنعى نفسها إلى أشجار الغاب يتناول الشاعر الحديث مستطرداً إلى وصف الدوحات البشرية (أي النوابغ) وما يصيبهم بين الناس من هوان وعناء. ومن(994/22)
الشعر التأملي المستوحي من عالم النبات قصيدة (الورقة المرتعشة) لرشيد أيوب. . يرى الشاعر ورقة من أوراق الخريف فتثير فيه - وقد دنت شمسه للمغيب - خواطر وذكريات ويخاطبها بقوله:
أبنت الربيع استريحي غداً ... فكل الهناء لمن لا يعي
قضيت الربيع وكل الحيا ... ة زمان الربيع فلا تجزعي
فماذا أتقول أنا في الشتاء ... وصوت العواصف في مسمعي
أبيت الليالي أرعى النجوم ... وان نمت نامت همومي معي
والشعر الحديث المستوحى من الطبيعة النباتية شعر كثير ومثله المستوحى من الطبيعة الحيوانية عالم الطيور والحشرات وحيوانات البر والبحر وإليك منه بعض الأمثلة:
ينظر الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل إلى الغراب وهو واقف على غصن شجرة من أشجار النخيل، فيتصوره (راهباً) كبير السن واسع الاختبار (وعوضاً عن أن يتطير منه كما يفعلون عادة بتلطف في الاقتراب إليه ثم يلقى عليه أسئلة عما لم يستطيع فهمه من أسرار الحياة راجياً منه لأن يجلو له أسرارها ويكشف أستارها. وهذه الأسئلة ليست في الحقيقية إلا ما يساور نفس السائل لدى تأمله في حياة الناس وأحوالهم. وقد أتخذ الغراب وسيلة للتحدث عنها والتعبير عن رأيه فيها.
وفي الخريف يرى أبليا أبو ماضي فراشة وقد دنا أجلها فيجعلها موضوعاً لقصيدته (الفراشة المحتضرة) ومن هذه القصيدة قوله مخاطباً تلك الفراشة:
فالزهر في الحقل أشلاء مبعثرة ... والطير - لا طائر إلا جناحاك
يا روضة في سماء الأرض طائرة ... وطائراً كالأفاعي ذا شذا زاك
مضى مع الصيف عهد كنت لاهية ... على بساط من الأحلام ضحاك
تمسين عند مجاري الماء نائمة ... وللأزاهر والأعشاب مفداك
يا نغمة تتلاشى كلما بعدت ... إن غبت من مسمعي ما غاب معناك
ويسمع احمد رامي طائر يغرد تغريداً شجيا وهو يتنقل من غصن إلى غصن فيغبطه لأنه بعيد عن الناس ويقول له:
واصدح فصوتك في الفؤاد صد ... للغابر المدفون من زمني(994/23)
لك انه في الليل خافتة ... تسري إلى قلبي بلا أذن
هبني جناحك كي أطير به ... وأحط فوق شواهق الفتن
وأطل فوق الكون مبتهجاً ... بجماله المتناثر الحسن
ومن هذا القبيل موشح الشاعر العراقي محمود الحبوبي استوحاه من تغريد طائر على شجرة فحداه ذلك دلك إلى وصف الحياة والناس، متمنيا لو كان للبشر نصيب من حياة الطائر المرحة الوديعة لعلهم يرجعون إلى صوابهم وينبذون ما أفسد عليهم سعادتهم.
ولو أردنا أن نعدد الأمثلة على ما للطبيعة الحية من أثر في أدبنا الحديث لطال بنا سفر الكلام.
النزعة التاريخية:
ولم يكتف أدباء هذا العهد بمناجاة الطبيعة وبثها ما يشعرون به، بل كثيراً ما تراهم ينظرون من خلالها إلى التاريخ حيث يتجلى لهم جلال القدم وحوادث الزمان. والذي يلاحظ أن هذه النزعة تكاد تكون مفقودة في أدبنا الماضي. ومن أمثلتها قصيدة احمد شوقي (أيها النيل) ومطلعها:
من أي عهد في القرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من ... عليها الجنان جداولا تترقرق
وفي هذه الوقفة التاريخية يصف النيل مسهباً ذا كراً ما قام على ضفافه من ممالك وأديان ومن مشى عليها من أنبياء وفاتحين، وأنه كان مهد الحضارة والعلم وموئل الحكمة ومصدر النور.
ومن الأنهار الشرقية الموحية للذكريات التاريخية: الفرات ودجلة والأردن والعاصي وبردى واليرموك ونهر الكلب قرب ببيروت وسواها. ومن البحيرات طبريا والبحر الميت.
ولا تقتصر الوقفات التاريخية على الأنهار والبحيرات، بل تتناول أيضا الجبال والأودية كجبل الشيخ والكر مل وطور سينا ووادي موسى وسواها.
وكما يتأثر الأدب الحديث بالطبيعة الشرقية يتأثر بالطبيعة الغربية. وقد نشر الشاعر محمد عبد الغني كلمة في مجلة الرسالة موضوعها (شعراء الشرق والطبيعة الغربية) ذكر فيها أن(994/24)
كثير من شعراء الشرق الذين عرفوا أن البلدان الغربية تغنوا بمحاسن الطبيعة هناك ومنهم ايليا أبو ماضي وميخائيل نعمة وشكر الله الجر وبشر فارس والشاعر القروي وفخري أبو السعود وأشار إلى بعض قصائد له نشرت في مجلة المقتطف سنة 1935، وإننا نضيف إلى ما ذكر الوقفتين التاليتين: (على نهر التامس) في لندن و (على نهر السين) في باريس.
وفي أدب المهاجرين وغير المهاجرين أقوال كثيرة من هذا القبيل.
أنيس المقدسي(994/25)
طبيعة الحج في الإسلام
للأستاذ محمد فياض
(مهداه إلى الأستاذ الكبير سيد قطب)
الحج في إسلاميته الخالصة، ركن عبادي حين يتصل بالله في مناسكه وشعائره، وأقواله وأفعاله؛ وأساس اجتماعي حين يتجه بالمجموعة الإسلامية، في مؤتمره السنوي العام، إلى التنظيم والتعارف، والى توحيد القوى الفردية والجماعية، والتوجيه بها إلى شطر قبلة واحدة: عن صاحبها صدر الخلق ووجدت الحياة، واليه تتجه حياتنا كلها، بما فيها من نشاط واتجاه وأهداف.
وبهذه الصور الإسلامية للحج، تتحد وتتأصر، ضمن ما تتحدد به وتتأصر في الإسلام علاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالفرد وعلاقة كليهما بالله الذي منحهما الوجود والحياة. علاقة لا يختلف فيها باطن مع مظهر، ولا كيف مع مقدار، ومن أجل هذه العلاقات، تقوم دعائم الحج في الإسلام، منسقة منسجمة: في استعراض عام، حيث يشهد الله مالك الكون، وفي وحدة عامة تصل السماء بالأرض، والإنسانية بالكون، والعباد بالله:
والحجاز من وجهة النظر إليه، كرقعة تؤدي على اثر شعائر الحج، ما موقف الإسلام منه؟ أنه ميدان الاستعراض العام، وقاعة المؤتمر السنوي، ومحراب التوجه الوجداني ومدرسة التربية الاجتماعية. انه الأرض التي انبثق منها روح الإسلام الأول وبقيت على أرضه (الكعبة) قبله للإنسانية الراشدة، رمزية محسوسة بين العباد والرب، ومنارة معنوية للإسلام في الأرض. انه معسكر التدريب الذي يعود من رائدة، وفي قلبه حرارة وانفعال، وأمامه قلة من المشاعر والأحاسيس، بها يملك شحنات من التجاوب: على نهجها يسير، وعلى أضوائها يهتدي، في فيافي الحياة، المضللة المعقدة المختلطة المتشابكة حين يعود؛ أنه كل ذلك وأكثر منه! فكرة الإسلام عنه؟ لا: بل ما القواعد الكلية التي تركتها فكرة الإسلام، لتحدد طبيعة الحج، وترتكن عليها أهدافه؟ بل ما الوسائل التي تقر هذه الطبيعة، وتلك القواعد، وتحفز لها وجودها وكيانها، حيا منتجاً، محقق الأهداف، يلم الناس ويؤمنون بجدواه؟
تبدأ النظرة الإسلامية إلى الحج أول ما تبدأ، بتقرير القاعدة الكلية الأولى، في النقطة(994/26)
الرمزية المحسوسة التي يتوقف على اتصال الناس بالله، ووحدة الاتجاه الإنساني، فتقرر هذه القاعدة أن البيت الحرام هو الملك المختار لله في الأرض، والمقصود لتوحيد الاتجاه: لا شبر فيه ولا فتر لمخلوق، ولا سلطان لأحد عليه سوى سلطان الله وأحكامه، لأنه حلقة الاتصال بين الناس والله. ومن الصالح الإنساني أن يكون كذلك، مادام قدر له ذلك الشرف الإلهي الخاص (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيلأن طهرا بيتي للطائفتين والعاكفين والركع والسجود): بهذه الإضافة بين الياء والبيت؛ تقررت هذه الملكية، وهذه القاعدة.
وحين تتأكد في عقولنا هذه الأولى، فإن هناك قاعدة كلية ثانية تقرر أن البيت، أو المسجد الحرام، بل الحرم الأرضي الإلهي كله آمن بطبيعة الخلق التي أوجده الله عليها، آمن بطبيعة التشريع الإلهي للحج، آمن لا يجب أن يخشى فيه مسلم شيئاً، أو يخاف كائنا سوى الله، آمن يلجأ إليه أيضا من يضطهد في دينه من سائر البقاع، أو من يظلم في نفسه أو عرضه أو ماله أو اهله، ولو شاء؛ بل لقد أمن ذلك الحرم المقدس في أعرق عهود الجاهلية، أو شدها فتنا ووحشية، بل لقد أمنت حتى الحيوانات والطيور في ذلك الحرم الإلهي من اعتداء الناس، (وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا)، (ومن دخله كان أمناً)، (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم)، (لا تقتلوا الصيد وانتم حرم)، (وحرم عليكم صيد البر مادمتم حراما).
وإذا ما قرت في الأذهانهاتان القاعدتان، فنحن في حل، لنأخذ بالقاعدة الكلية الثالثة التي تحدد علاقة المسلمين بالمسجد الحرام، وتكشف عن سر وجوده، فتنص على أن هذا البيت، قد جعله الله ليكون بيت للجميع من المسلمين، يرجعون إليه رجوع الزائر القاصد لا المالك، لتستقر في أذهانهم وفي قلوبهم، وتسيطر على أرواحهم ونفوسهم اتجاهات الإسلام، وعلاقاته وأهدافه، ثم ليعقلوا جيدا، معنى الوحدة الإسلامية، ومعنى الاتجاه إلى البيت كقبلة، وكرمز معنوي محسوس (وإذا جعلنا البيت مثابة للناس) (أن أول بيت وضع للناس الذي ببكة).
وحين تقرر هذه الأخرى في عقائدنا، ضمن ما نحسبه من اتجاهاتنا وأهدافنا، فأن هناك قاعدة كلية رابعة بها تقرر المساواة التامة بين سائر الأفراد والجماعات، أحمرهم وأصفرهم وأبيضهم وأسودهم، ساميهم وآريهم، لا فرق، لا فرق بين فقير وغني وحتى بين عبقري(994/27)
وعادي. . ما دمت تجعهم كلمة الإسلام. ولكن آية مساواة؟ أنها المساواة الكلية المطلقة لا مساواة الصلاة الجزئية المحدودة، أنها مساواة الوحدة العامة، مساواة مندوبي العالم لمن شاء أن يكون مندوباً لقومه وجماعته ونفسه، دون أفضلية أو اختيار، أنها مساواة التجمع حول يمين الله في التوجه والاستهداء، واستشفاف النفس، لمعاني العلاقات الفردية والجماعية والإلهية، ومن مظاهر الحج وشعائره بما فيها من مظاهر وجموع، كل نفس بما تقدر، وعلى حد ما تستطيع بذله من إفهام ونظرات. أنها أيضا المساواة التي لا تفضل دولة على دولة ولا أسرة على أسرة ولا لونا على لون، ولا فردا على فرد، بالقرب أو بالبعد (أن أول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركا ًوهدى للعالمين) (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد).
وبعد أن يفهم الناس هذه القواعد الأربع عن الحرم، وعن مليكته، وعن حكمة وجوده؛ وبعد أن تستقر في الأذهان، وتطمئن إليها الوجدانات والعواطف. . بعد ذلك كله تلوح في أفق فكر الإسلام القاعدة الخامسة التي من أجلها وجدت القواعد الأربعة السالفة، حتى لا يكون وجودها عبثاً ضائع الهدف بدون هذه القواعد الأربع الكلية. تلوح هذه القاعدة كالسقف مستندة على أربعة أركان لتقرر أن الناس جميعا مفروض عليهم واحد واحدا الحج إلى قبلته التي يتوجه إليها، حجة محسوسة ملموسة، منتقلة متحركة؛ مرة في عمرة - فمن شاء أن يستزيد فهذا موكل لحريته الذاتية - ما دام قد اعتنق شرعة الإسلام. الناس جميعا، بلا تفريق ولا تمييز ولا تفضيل ولا اختيار بين واحد وواحد، وجماعة وجماعة، في اللون أو المكان، والقرب أو البعد، في الزمان أو المكان؛ الناس جميعا مفروض عليهم الحج، واحدا ولحدا، ما دام مسلما، وما دام قادرا على أحداثها في عالم الواقع، قادر على تحمل نفقات الحج وتبعاته. (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وإلا، فـ (لا يكلف الله نفسها إلا وسعها).
ومن هذه القواعد الكلية تتبين طبيعة الحج في الإسلام، وتتركز تلك الطبيعة هناك، في الحرام الإلهي المقدس، حيث لا تكلف على الحاج، ولا شواغل سوى عبادة الله. بالأيمان والصلوات، والقربات والحج؛ وسوى الأستغراق في الاتصال بينه وبين الله؛ وسوى التسامي بالروح والأشواق، والانفعالات والوجدانات، المتطلعة إلى السماء؛ وسوى التطهر(994/28)
جهد الطاقة من النزعات الجسدية والمادية اللاصقة بالأرض. هناك في ذلك الفردوس الروضي في عالم من التحرر الوجداني؛ تتركز طبيعة الحج في الإسلام، في وحدة الاتجاه الفردي والجماعي. إلى الله صاحب القبلة والبيت، والمسجد الحرام؛ وفي وحدة المساواة الكلية المطلقة، المتجردة بين سائر أفراد المسلمين. من أي لون، ومن أي شعب، وعلى أي درجة من الوعي والاستعداد والعلم.
وعلى هاتين الوحدتين تتحدد وتتأصر علاقة الفرد بالجماعة وبالعكس، وعلاقة (2) كليهما بالله ضمن ما تتحدد به وتتأصر في قواعد الإسلام؛ ولكن هذا التحديد وذلك التأصر؛ يبدو في طبيعة الحج عمليا، على أرحب ما يقدمه ركن إسلامي، وعلى اكمل ما يشمله من أفراد، بل أن الركن الوحيد الذي يجمع مسلمي العالم في مندوبيهم، في ساحة واحدة، ليلقنهم درسا واحد، هو المقصود من الحج، هو الوحدة، وحدة الاتجاه، ووحدة المساواة. وبهذا وحدة تقوم وحدة العالم الإسلامي، منسقة الافراد، منسجمة الشعوب والجماعات، محفوظة من الأحاث، والتقلبات، والخلوف، متجهة في وحدة، وفي مساواة إلى الله صاحب الكون، وواهب الحياة.
ولكن هل تعيش تلك القواعد الكلية وحدها؟ هل تحفظ طبيعة الحج، حية منتجة، محققة الأهداف، دون وسائل وأسباب، تحفظ عليها كيانها المقصود؟ اللهم لا، أنها وحدها لا تعيش.
ومرة أخرى؛ تتقدم الفكرة الإسلامية، بالوسائل التي تقر فريضة الحج، ثابتة لا يعتبرها تفكك أو تخلخل؛ تتقدم بما يحفظ على طبيعة الحج، حية، منتجة محققة الأهداف؛ تتقدم بما بقي هذه الفريضة وتلك القواعد وهذه الطبيعة، شرور الفساد والنقص والاضطراب؛ تتقدم الفكرة بنفسها، ثم بوسائلها ثانية، لتهدم مظاهر الفساد ومنابع الظلم التي يخشى منها عادة على فريضة الحج وقواعده وطبيعته؛ وهذه المصادر، وتلك المنابع؛ تكمن عادة، في الاستبداد من فرد ظالم، أو جماعة ضالة، أو فرد متمرد؛ وتكمن في استغلال الاقتصادي، المقصور على أفراد أو أفراد، وتكمن في أخطار التاريخ وتقلبات الزمن، من دولة قريبة أو بعيدة، أو من مبدأ مناهض يغاير طبيعة الإسلام، في كثير أو قليل؛ وتكمن أخيرا في التعطيل بواحد من هذه الثلاثة، أو بعضها، أو كلها مجتمعة، لمظهر من مظاهر الحج، أو جزء من كيانه، أو تقليد من تقاليده أو سبيل من سبيله، أو تسيرمن تسيراته.(994/29)
تتقدم الفكرة بنفسها أولا، ثم بوسائلها ثانية، على طريقتها المتميزة، في أي حقل من حقولها، في مخاطبة، العقل أو العاطفة، والضمير أو خارجه، والفرد أو جماعته، والسلوك أو العمل، بالتوجيه تارة، والتشريع أخرى، وقد تزاوج بينهما، ومن مصدرين متجاوزين: الكتاب والسنة. .
. . . فتتقدم الفكرة بنفسها، وتقيم ما يشبه القاعدة، أو قل قاعدة مساعدة، أو وسيلة كلية جامعة؛ لتقاوم بطريقتها المتميزة التعطيل أيا كان مصدره؛ فتقرر أن المعطل، كافر، كافر ينص القرآن) أن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام. .؛ بل أنها لتعتبره إلى جوار ما بهذه الآية من صراحة ومخاطبة بالتوجيه والتشريع - ملحدا (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب اليم) وبنفس ما بسابقتها من صراحةومخاطبة قد صيغت هي الأخرى، مع زائدة ثالثة، هي في تلك المشاعية المطلقة، في تنكير كلمة الظلم فيها، تلك المشاعية التي دفعت بعض المفسدين ليقولوا المعصية في الحرام سيئة مضاعفة. مع أن الحقيقة أن هناك حد السنة، يفسر نوع الظلم في الحرم بأنه استغلال، كما سيأتي بعد سطور. وان كنا نرى أن هذا التشريع المفسر لا يمنع مطلقا من شمول الظلم في الآية لسائر مصادر التعطيل عن المسجد الحرام، خاصة وفي الآية هذه الشاعية، المتكئة في تحديدها على آية ثالثة (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها أسمه وسعى في خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها ألا خائفين، لهم في الدنيا خزي) هكذا بلفظة المنع وتعبير فني (سعى في خرابها).
ثم تتقدم الفكرة الإسلامية بوسائلها ثانية،. . . لتقيم الحواجز والسدود فتقدم وسيلة أولى، مساعدة للوسيلة الكلية الجامعة وتقوم عليها الوسائل اللاحقة، بها تقرر الفكرة وتفرض على الناس، وجوب تطهير بيت الله (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) في غير موضع من القرآن. . ويدعي أن الأمر بالتطهير ليس مقصورا على المأموزين وحدهما ولا موقوفا عليهما دون غيرهما من الناس، وبدهي أيضا أن التطهير في مثل هذا المقام لا يقصد منه سوى إزالة جميع مصادر التطهير في الحرم كانت، أو في ما يؤدي إليه (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر، يأتين من كل فج عميق)(994/30)
وتأتي الفكرة بالوسيلة الثانية لتقر الحرم في أمانة وعلى طبيعته بعيداً عن المعطلات. . عن طريق التوجيه تارة التوجيه الحار المجرد الذي يتسلل إلى ما وراء منافذ الشعور، فتقرر أن الحرام حرام، بحرمة من الله لا من إنسان (أن مكة حرام، حرمها الله ولم يحرمها الناس) ثم عن طريق التشيع العملي أخرى، بأربعة أسباب:
السبب الأول: أن أرض مكة وهي قطب الرحى، ومركز الدائرة في الحج، أرض مشاعة الملكية المسلمين جميعا لأنها ملك الله، مباحة لكل قاصد وكل مقيم، لا ملك فيها لإنسان بعينه فلا بيع ولا أيجار. روى الدار قطنى عن علقم بن فضلة (توفى رسول الله، وما تدعي رباع مكة إلا السوائب، من أحتاج سكن، ومن استغنى أسكن) وفي رواية (ولا تباع) وروى عن ابن عمر (أن الله حرم مكة فحرم بيع رباعها وأكل ثمنها) (من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا) (مكة مناخ لاتباع رباعها، ولا تؤجر بيوتها). . كما أن عمر بن الخطاب نهى أن يغلق بمكة باب دون الحاج، فأنهم ينزلون كل موضع رأوه فارغا كماأن عمر بن عبد العزيز عهد إلى أمير مكة أن لا يدع أهل مكة يأخذون إلى بيوت مكة أجرأً، فانه لا يحل لهم، فكانوا يأخذون ذلك خفية ومساترة.
السبب الثاني: تحريم الأستغلال، من الأحتكار، وما يشبه الاحتكار. . من تجارة السوق السوداء والتلاعب بالسوق التجاري. . . (احتكار الطعام في الحرم؛ الحاد فيه) يقول القطربى: والغموم يأتي على هذا كله.
السبب الثالث: تركة الجاهلية الضخمة التي أبقى عليها الإسلام وورثها، في ذلك التقليد الرائع المشهور في نظام السقايا والرفادة، والأولى معناها أسقاء الحجيج كلهم، الماء العذب. . (مجانا بدون مقابل. أما الثانية فإطعام من لم يكن له سعة في العيش أو لا زاد معه من الحجاج. . مجاناً أيضا وبدون إدانة؛ هذا النظام التيسيري بجانب مكافحة مصادر التعطيل قد عمل بها الرسول، وعمل بها الخلفاء الراشدون. ثم انقطع أو كاد. حين تفشت الخلوف ولا ندرى. . متى؟
ثم، تتقدم الفكرة بالوسيلة، لتقاوم أخطار التقلبات التاريخية، من دولة قريبة أو بعيدة. وتمنع تيارات المبادئ المناهضة، المغايرة للإسلام في قليل أو كثير، سماوية مضت، أو أرضية حدثت، فيوصي الرسول في لحظاته الأخيرة وصية تقي فريضة الحج، وشرور هذه(994/31)
الأخطار وتلك التيارات، بل أنها لتكاد تحدد أيضاً مكانة الحجاز جميعه، من العالم الإسلامي والعوالم المناهضة: (لا يترك بجزيرة العرب دينان) (أخرجوا يهود أهل الحجاز، ونصارى نجران، من جزيرة العرب) (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)؛ كل هذه الأوامر قد كانت امتداداً لعزم الرسول (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع فيها إلا مسلماً) ولكن: يبدوا أن الرسول لم يجد الفرصة السانحة لتنفيذ تلبك الخطة الحكيمة، ويبدوا أيضاً أن أبا بكر كان مشغولاً في حروب الردة، وتنظيم الجزيرة، وتثبيت أقدام المسلمين بها، فلم تتح له فرصة التنفيذ هو الآخر حتى فعلها عمر ثم هبت الخلوف، ولا ندري متى؟
وبقيت وسيلة أخيرة، لتقاوم الاستبداد، من حاكم ظالم، أو جماعة ضالة، أو فرد متمرد. كمصدر من مصادر التعطيل، لم اعثر لها على نص خاص وأعتقد قبل الترجيح أن السبب في ذلك، هو تكفل كليات الفكرة الإسلامية مباشرة، بمقاومة هذا المصدر، في نظام الحكم، وفي تشريع الفئة الباغية، والمحاربون الله ورسوله والساعون في الأرض بالفساد.
وبهذه الوسائل الكلية والفرعية، والتوجيهية والتشريعية، والمقرة الواقية: لفريضة الحج وقواعده؛ تحفظ طبيعته حية، منتجة، محققة الأهداف. ذات كيان يلمسه الناس ويؤمنون بجدواه ولكن هذه الوسائل، يتوقف تنفيذها على كل مسلم، على وجدانه وعقله، وعلى يقينه وعمله، وعلى خضوعه للأمر الإلهي بالتطهير فالوسيلة الأولى، فإذا حدث وتدهورت طبيعة الحج بانهيار أساس من أساسه، أو وسيلة من وسائله، فسببه ليست الفكرةولا وسائلها؛ إنما هو عدم الاستجابة بالفهم واليقين والسلوك والعمل. إنما هو انهيار الوسيلة الأولىالمساعدة؛ إنما هو التقاعد والتقاعس، حباً في الحياة ولو ذليلة مهيضة الجناح مسلوبة القيم. . إنما هو النقص في الدين، آو الخروج عن الإسلام.
محمد فياض(994/32)
دراسة وتحليل
الجواهري شاعر العراق
للأستاذ محمد رجب بيومي
- تتمة -
فنه الشعري:
لابد لنا من كلمة عن مذهب الشاعر في فنه، وطريقته الأدبية في بيانه، وفيما تقدم في شعره لإيضاح الرأي. ويمكننا أن نلمح ميزات ثلاث يتسم بها شعره، وتظهر مشتبكة متعانقة في قريضه، فلا تتخلف واحدة عن أختيها بحال، هذه الميزات الثلاث هي، صدق الأحاسيس، وقوة التعبير، وواقيعة التفكير.
فصدق الإحساس يخلع عن أدب الشاعر عاطفة قوية حارة، تشتمل وتتقد في سطوع وبريق، وتدفع صاحبها إلى الإجادة والتأثير، كما يكون لها سحر أخاذ في نفوس القراء، فما يكاد القارئ يتلو إحدى القصائد حتى ينفعل بانفعال ناظمها، ويسير في نياره حيث اتجه، وتصل الأبيات إلى القلب فتحرك كوامنه وتهيج أحاسيسه) وهنا يكون الأثر المنشود للأدب بوجه عام، والشعر بوجه خاص، بل أن الصدق ذاته يجعلك تحس في أعماق نفسك بخواطر متشابهة لما تقرأ، وكان الشاعر يعبر عن عواطفك انت، فقد سلط أشعته على قلبك، ونفذ إلى أغوارك فرأى الخوالج المستترة، والكوامن الموغلة، فجمع أشتاتها المتنافرةواتخذ منها مادة شهية لأدبه، وقد تكون خواطر الشاعر الصاد بعيدة عن شعورك ونبضك، ولكنك تجدها محببة أثيرة لديك وكأنك كنت تحسها قبل ذلك! وأمامك أبيات يقولها الجواهري: في رثاء بعض أصدقائه الشعراء، تجد فيها الكثير مما تحب أن تسمعه سواءأحسست به قبل ذلك أم بعد عن إحساسك فهو رائع خلاب.
أصخت لمن نعاك على ذهول ... كأني قد أصخت لمن نعاني
وكنت أحس أن هناك رزءا ... واجهل كنه حتى دهاني
لعنت اللفظ، ما أقسى وأطغى ... وما أعطى كل صور المعاني
تتقاضاني بيومك ترجمانا ... وكنت ألوذ منه بترجمان(994/33)
وصدق الإحساس بلبس حلة زاهية إذا اقترن بقوة التعبير وهي الميزة الثانية للشاعر. والناس من قوة التعبير في ليل مشكل فقد فهمها الكثيرون على غير وجهها الصحيح، فرأوها في ترادفه الغرابة في اللفظ، والقعقعة في الصوت، فكل بيت تحتاج فيفهمه إلى معجم لغوي فهو قوى كمعلقة لبيد، وكل شاعر يطحن في سمعك قرونا صلبة فهو متين رصين كابن هانئ الأندلسي في رأي آبي العلاء. وليست قوة التعبير لدى الجواهري من هذا الطراز العجيب، ولكنها تظهر في تماسك الألفاظ، وترابط المعاني مع الوضوح والإشراق. وهي بوضوحها لا تناسق مع السلاسة والسهولة، فقد تكون القصيدة من السهل الممتنع وهي آية في قوة التعبير، ورصانة التركيب، بل أن السلاسة طريق الشاعر المبتدئ إلى المقدرة والإبداع، فإذا سار في ميدان خطوات وجد قوة التعبير تأخذ بناصره وتشد أزره، مع أحتفاضه بالرونق الخالب والانسجام المترابط. وقد بدأ الجواهري قصائده سهلا رقيقاً وكلف بشعراء السلاسة كلفا زائد، وتغن بروائع الوليد وابن زيدون في القديم، وحافظ والرصافي في الحديث ونسج على منوالهم الرقيق المبدع في نظمه. وقد قرأت له بعض القصائد التي نظمها في صدر شبابه، فكدت أنسبها إلى البحتري بعينه، وأخص قصيدة (سامرا) الرقيقة العذبة التي قالها البحتري في القرن العشرين على لسان الجواهري ومنها:
إيه أحباي الذين ترعرعوا ... ما بين أوضاح الصبا وحجوله
إني وإن غلب السلو صبابتي ... وأعتضت عن نجم الهوى بأفوله
لتشوقني ذكراكمو ويهزني ... طرب إلى قال الشباب وقيله
أحبابنا بين الفرات تمتعوا ... بالعيش بين مياهه ونخله
بلد تساوي الحسن فيه، فليله ... كنهاره، وضحاه كأصيله
ساجى الرياح كأنما حلف الصبا ... ألا يمر عليه غير عليله
وكفاك من بلد جمالا أنه ... حدب على إنعاش قلب نزيله
وقد سار الجواهري مع سلالته الرقيقة عدة أشواط، حتى صاحبته القوة والتماسك. فأنفق له من ذلك كله الحان عذبة صادحة تختلف انخفاضا وارتفاعا باختلاف ما يعالج في شعره من الأغراض، وقد نسمع له بعض الجلبة الصاخبة في قصائده السياسية وهي صدى لما يهتز(994/34)
في نفسه من انفعال ثائر يأخذ مظهره في جو من الصخب والضجيج، وفيما أسلفناه من الشعر دليل لما نقول.
هذا وقد تعثر في شعرة على ألفاظ يسيرة تنكرها معاجم اللغة أو القواعد النحوية والعروضية كقولهولن تجدي كإيان نصيرا=يدق من الأسى راح براح
وقوله
أعقما وأمات البلاد والودة ... أنك يا أم الفراتين أنجب
وقوله
وأتى زمان من مكارم أهله ... النفي والتشريد والإعدام
هذه الأبيات وأمثالها تجد نقدا صاخبا من المتتبعين للأخطاء المطبعية والهنات الغوية - وكثير ما هم في بريد الرسالة - ويحسبون انهم ظفروا بصيد ثمين يجر إليهم نصيبا من الذبوع والحقيقة أن شاعر كبير كالجواهري ومن على شاكلته من أنداده الأفذاذ لا يجهلون قواعد النحو، ومسائل اللغة، ولكن يهملون بعض القيود التي تحد من تدفقهم المزبد، وقد يرفضون قاعدة علمية، فيقطعون همزة الوصل، ويضعون ضمير النصب في غير مكانه، وهم يعرفون جميع ما يقوله النحاة واللغويون، ولست أوقفهم على مذهبهم في الاستهانة بالقواعد العلمية، ولكني أدعو سادتنا المتعقبين الأفاضل أن يريحوا أنفسهم من النقد اللغوي المكشوف، لان التعقيب يكون واجبا إذا جهل المنقود حقيقة خطئه؛ أما إذا كان الخطأ معرفا لطلبة المدارس الثانوية - والابتدائية أحيانا فلماذا نشغل به الناس.
ونمضي إلى ميزة الشاعر الثالثة، وهي واقعية التفكير والشعر العربي في شتى عصوره يصطبغ بالواقعية ويسايرهافي كل مكان وزمان ولكن الهائمين بآداب الغرب وروائعه سنوا في الشعر مذاهب جديدة، فأصبحنا نرى الشعر الرمزي الغامض، والخيالي الطائر المتذبذب، وصار لكل أبطاله ورواده، ولكن هناك حقيقة واحدة لا يستطيع أن ينكرها منكر، تلك الحقيقة تنبئ أن رواد المذاهب الشعرية الحديثة لم يستطيعوا أن يفرضوا مذاهبهم على قراء الشعر العربي، وأعوزهم أن يجدوا الشاعر الوثاب الذي يجذب الأنظار إلى مذاهبه، ويخلق له فريقا من الأشياع والتلاميذ، وبهذا بقيت الواقعية صفة ملازمة للشعر العربي على أن هناك أغراضاً شعرية يتحتم على المتجه إليها من الشعراء أنيكون واقعيا فالشعر(994/35)
السياسي والاجتماعي يتطلب الواقعية المحيطة الشاملة، ولاسيما إذا كان الشاعر ذات رسالة خاصة في الإصلاح والتوجيه، فهو مضطر إلى إلهاب العواطف واستحثاث الجماهير، ولن يكون ذلك بغير الحديث الواضح المعقولوهب شاعر مصلحا كالجواهري لجأ إلى الرموز الغامضة، والخيالات التائهة، والأشواق البعيدة، والسبحات الحالمة، واتخذ منها مادة لرسالته في البعث والإصلاح، أفيجد من القراء من يستجيب لصرخاته أو يحس بإحساسه وشعوره؟ هذا ما لا يعقل بحال. ويجب ألا نغفل من حسابنا أن الشعر الرمزي يحتاج إلى عقل يغوص، وذهن يعلل، مما يجعل القصيدة شبيهة بمسألة حسابية أو معادلة جبرية، وبذلك تفقد تأثيرها الساحر وتعجز عن أداء رسالة الشعر في التأثير والانجذاب. وأنا لا أنكر بعض الاهتزازات الغامضة التي تختلج في النفس حين يقرأ الإنسان بعض القطع الرمزية. ولكن هذه الاهتزازات الغامضة التي تخلق مزيجا غريبا من الحيرة والقنوط والتساؤل، وتغرق القارئ في بحر لحى لا ساحل له، وهيهات أن يرحب بالغرق عاقل حصيف، فمتى يجد هواء الحالمون الواهمون شاعرا كبيرا يقود الأذواق إلى مذاهبهم الجديدة فيمهد له سبيل الذيوع.
على أن الواقعية قد أصيبت بكارثة فادحة، تحاول أن تبغها إلى الأذواق والقلوب، فقد داب بعض المتشاعرين أن يتخذوا من الحوادث اليومية، والأخبار الصحفية مادة للنظم الواقعي فيصدموا القراء بما هو شبيه بقول حافظ إبراهيم.
ثلاثة من رجال النيل قد وقفوا ... على مدارسنا سبعين فدانا
ثم يدعون انهم يعيشون في الحياة ويسيرون مع الواقع، ويعبرون عما يجدون في البيئة من شؤون. ويجب أن يفهم هؤلاء السادة أن رسالة الشاعر الواقعي ليست هي التعبير عن الأخبار الصحفية بكلمات موزونة مقفاة، ولكنه يرى الحادثة فيتأثر بها، وتثير في نفسه انفعالات خاصة، وتصل إلى ذهنه فتوحي أليه فيضا من الإلهام الصادق، ثم تجول في خاطره ثائرة حائرة، فلا ينقذه منها غير التعبير عما تخلقه من انفعالات، وما توحي به من الهام يبرق بالومض والألتماع. وهنا تكون الحادثة نواة صغيرة لما يدور حولها من ذبذبة وانفعال؛ أما أن تكون الحادثة وحدها مصبوبة في القوالب العروضية. فالأجدر بالقارئ أن يغفلها تمام الإغفال، كتفيا بما قرأه عنها في الصحف والمجلات.(994/36)
وقد نأخذ على الجواهري إخلاله بوحدة القصيدة، وأرى أنها تتعذر على الشاعر السياسي الذي تتمدد أمامه مظاهر الفساد فيريد أن يلم بها وينبه عليها فوق كل منبر يعتليه، فإذا تركنا الشعر السياسي إلى غيره وجدنا الشاعر يلتزم الوحدة في اكثر ما قال، وللقارئ أن يطلع قصائده الوصفية مثل دجلة في الخريف أو الفرات الطافي؛ أو الأصيل في دجلة أو سامرا، فسيجد ما يرضيه من وحدة الموضوع، وترابط المعاني، وتناسق الأفكار. ويهمنا أن نشير إلى مقطوعاته الغزلية الرقيقة التي نظمها في حبيبته الباريسية (أنيت) فقد ظهر فيها الشاعر جديد في أخيلته ومعانية، جديد في أوزانه وقوافية، جديد في نظراته الباسمة للحياة، مع انه لم يفارق ميزاته الثلاث، فكان صادق الإحساس، قوى التعبير، واقعي التفكير، فوق طرافة الابتكار، وجدة السياق، واختلاف الإيقاع. وأرى أن ادع الشاعر - في ختام هذا البحث لسريع - بأبيات من قصيدته الجميلة التي نظمها في وداع صديقته (أنيت) لتمتع القارئ ببعض غزله الرائق، ولنتصيد المناسبة الموهوبة بين وداع ووداع.
(أنيت) نزلنا بوادي السباع
بواد يذيب حديد الصراع
يعير فيه الجبان الشجاع
(أنيت) لقد حان يوم الوداع
إلى إلى حبيبتي (أنيت)
إلى إلى بجيد وليت!
كأن عروقهما النافرات!
ضروب من الكلم الساحرات
إلي بذاك الجبين الصليت
تخافق عن جانبيه الشعر
يبث إلى أريج الزهر
سيعبق في خاطري ما حييت
ويذكرني صبوتي لو نسيت
إلى إلى حبيبتي (أنيت)(994/37)
(تم البحث)
محمد رجب البيومي(994/38)
ديوان مجد الإسلام
نظم المرحوم الشاعر احمد مهرم
يقدمه الأستاذ عبد اللطيف نعيم
من قباء إلى المدينة
أقبل فتلك ديار يثرب تقبل ... يكفيك من أشواقها ما تحمل
طال التلوم والقلوب خوافق ... يهفو بها إليك الحنين الأطول
القوم مذ فارقت مكة أعين ... تأبى الكر وجوانح تتململ
يتطلعون إلى الفجاج وقولهم ... أفما يطالعنا النبي المرسل؟
أقبلت في بيض الثياب مباركا ... يزحي البشائر وجهك المتهلل
يا طيب ما صنع الزبير وطلحة ... ولصنعك ألا وفي أجل وأفضل
خف الرجال إليك يهتف جمعهم ... وقلوبهم فرحا أخف وأعجل
هي في ركابك ما بها من حاجة ... ألا إليك، وسألها متجول
هجرت منازلها بيثرب وانتحت ... أخرى بمكة دورها ما تؤهل
وفدان هذا من ورائك يرتمي ... عجلا وهذا من أمامك ينيل
أنظر بنى النجار حولك عكفا ... يردون نورك حين فاض المنهل
لم ينزلوك على الخؤولة وحدها ... كل المواطن للنبوة منزل
نزلوا على الإسلام عندك إنه ... نسب يعم المسلمين ويشمل
ما للديار تزها نشوتها! ... أهي الأناشيد الحسان ترتل
رفت نظراتها وطاب أريجها ... وترددت أنفاسها تتسلسل
فكأنما في كل مغنى روضة ... وكأنما في كل دار بلبل
هن العذارى المؤمنات أقمنه ... عبيدا تحييهالملائك من عل
في موكب لله اشرق نوره ... فيه وقام جلاله يتمثل
جمع (النبيين الكرام) فآخذ ... بيد (الأمام) وعائذ يتوسل
يمشى به (الروح الأمين) مسلما ... وجبينه بفم النبي مقبل(994/39)
أية بنى النجار أن محمد ... لا شد حبا للتي هي اجمل
خلوا سبيل الله ما لرسوله ... عما اعد من المنازل معدل
ذهبت مطيته، فقيل لها قفي ... هذا مناخك، لست ممن يجهل
الناس في طلب الحياة هاهنا ... سر لها خاف، وكنز مقفل
أعطى أبا أيوب رحلك واحمدي ... من أمر ربك ما يجئ ويفعل
ودعى الزمام (لأسعد بن زرارة) ... فإليه يعد الله أمرك يوكل
لما حملت الحق اجمع والهدى ... أمسى بحبل الله حبلك يوصل
يتنافس الأنصار فيك وما داروا ... لمن المفاز، وأيهم هو الأول
هي (كيمياء الحق) لولا أنها ... تهدى العقول لخلتها لا تعقل
دنيا من العجب العجاب ودولة ... يهوى النظار بها ويعلو الجندل
أرأيت أهل الكهف لولا سرها ... هل كان يكرم (كلبهم) ويبجل
شكرا (أبا أيوب) فزت بنعمة ... فيها لنفسك ما تريد وتسأل
ما مثل رفدك في المواطن كلها ... رفد يضاعف. أو عطاء يجزل
لله دارك من محله مؤمن ... نزل الحمى فيها، وحل للقفل
نزل النبي فيها، فحل فنائها ... مجد يقيم، وسؤدد ما يرحل
مجد (النبوة) في ضيافة ماجد ... سمح القرى يجد الجزيل ويبذل
وسعت جفان المطمعين جفانه ... كرما فيها يأبى ولا هي تبخل
أضفى على السعدين برد سماحة ... فأهتز جودهما وأقبل يرفل
جذلان محتفلا يقرب منهما ... لله ما يرضى وما يتقبل
جعل القرى سببا إلى رضوانه ... والبرى والإيمان فيما يجعل
جفنه أم زيد بن ثابت
يا زيد من صنع الثريد وما عسى ... ترجوا بما حملت يداك وتأمل
بعثتك (أمك) تبتغى في دينها ... ما يبتغى ذو الهمة المتعمل
شكر النبي لها، وأطلق دعوة ... صعدت كما شق الفضاء مجلجل
أطيب تلك هدية يسعى بها ... في الله ساع بالجلال مظلل(994/40)
لو أنها وزنت بدنيا (قيصر) ... رجحت وأين من الخضم الجدول
هي أن عيبت بوصفها ما يجتني ... من نعمة الإسلام، لا ما يؤكل
ما في جهادك (أم زيد) ريبة ... نار الوغى احتدمت وأنت الجحفل
شرع سرابيل الحروب وما اكتسى ... من سابغات الخير من يتسربل
المهاجرون في ضيافة الأنصار
يا معشر الأنصار هل لي عندكم ... ناد يضم النابغين ومحفل؟
عندي لشاعر كم تحية شاعر ... يسم القوافي وسمه يتنخل
تنمية في دنيا البيان روائع ... منها رواد كد ما تر يم، وجفل
الثاويات على هدى من ربها ... والسابحات السائحات الجوال
شغلت بها الدنيا وما هي بالتي ... تعنى بدنيا الجاهلين وتشغل
تأبى القرار بكل وأية ممحل ... وتحل بالوادي الذي لا يمحل
(حسان) أبلغ من يقول وليس لي ... فيه إذا ادعت المصاعق مقولا
انتم قضيتم للنبي ذمامه ... ونصرتم الحق الذي لا يخذل
وصنعتم الصنع الجميل كرامة ... لمهاجرين هم الرفيق الأمثل
فعرفت موضعكم وكيف سما بكم ... مجد لكم في المسلمين مؤثل
وأذعته نبأ لكم ما مثله ... نبأ يذاع ولا حديث ينقل
القوم قوم الله ملء دياركم ... وكأنهم بديارهم لم يرحلوا
الدين يعطف والسماحة تحتفي ... والحب يرعى، والمروءة تكفل
والله يشكر، والنبي بغبطة ... والشرك يصعق والضلالة تذهل
(دين الهدى والحق) في أعراسه ... والجاهلية في المآتم تعول
أن ها لها الحديث الذي نكبت به ... فلسوف تنكب بالذي هو أهوى
زولي معطلة العقول، فمن قضى ... أن البصائر والعقول تعطل؟
ألقى السلاح، فما لخصمك دافع ... ودع الكفاح، فما لجندك موثل
أزرى بك الفشل المبرح وارتمى ... بحماتك القدر الذي لا يفشل
السهل يصعب أن تواكلت القوى ... والصعب أن مضت العزائم يسهل(994/41)
أرسى المعاقل مؤمن، لا نفسه ... تهفو، ولا أيمانه يتزلزل
هذا النذير فإن أبيت سوى الأذى ... فالأرض الدم لا محالة تغسل
علقت بمقتلك الإسهام وما عسى ... يبقى الرمي إذا أصيب المقتل
الله اكبر، كل زورينقضي ... مر السحاب، وكل أفك يبطل(994/42)
رسالة الشعر
خواطر
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
قافلة البشر
يسير الناس على هذه الأرض في سبل الحياة، تنبهم السبل أحيانا وتظلم، وتعترض العقبات، وتبعد الشقة، ولكن الأمل يحدوهم، والوجدان يبصرهم فيهتدون ويسيرون.
قيل: ليل مظلم قلت: اذكروا ... في ظلام الليل إشراق الصباح
قيل: غيم مطبق قلت: انظروا ... رب نجم من وراء الغيم لاح
قيل: سهب طامس مشتبه ... قلت: لكن فيه للسفر اتضاح
قيل: لكن برح السير بنا ... قلت: بعد السير إحماد النجاح
قيل: والمنزل ما آياته؟ ... قلت: في مغناه للنار اقتداح
قيل: هل ذاك قصارى سيرنا ... قلت: بل نزل به السفر يراح
قيل: فالتسيار ما غايته؟ ... قلت: كل الدهر سير، لا براح(994/43)
لست طروبا
قال لي اللائمون: لست طروبا ... لك حق إلى الصخور انتماء
كم تثير الأوتار لحناً فلحنا ... ويهز الأوتار منا عناء
وترى الناس ثائر الموج لكن ... أنت الموج صخرة صماء
وعلى البحر والعشى صموت ... غير لحن تثيره الدأماء
والهلال النحيل يلقي خيوطا ... هي في لحمة الدجى إسداء
قد طربا ولم يهز الفؤاد ... فيك نور ولم يهز الماء
كم رأينا الجمال قيد عيون ... لك عنه برغمنا إغضاء
تدعى الشعر والفؤاد جماد! ... كيف ترضى انتسابك الشعراء
إن تكن شاعراً فأمرك بدع ... أنت في الشعر بيننا إقواء
حسبك الله قد بلغت ملاما ... وحماك الصواب هذا الهراء
طرب الطفل وثبة وصياح ... ومن الكهل بسمة خرساء
ومن الغصن في الرياح اهتزاز ... ومن الطود عزة وشماء
ضاق قلب عن الجمال مجالا ... فإذا كل سره أصداء
رب قلب وعي الجمال ولكن ... عزة فيه لسره إفشاء
رب قلب حوى العوالم طرا ... تصغر الأرض عنده والسماء(994/44)
ما فوق هذه الأنجم
قال الصديق، وقد أطال حواره ... يا صاحبي ماذا وراء الأنجم؟
قد هالني منه سؤال هائل ... فأجبته بتعجب وتبسم
يا صاح! هذى الزهر هل أدركتها ... حتى تجوز إلي السؤال المفحم؟
يا صاح! ما تحت النجوم؟ أعالم ... ما تحتها في الكون أم لم تعلم؟
يا صاح! أرضك هذه هل تعرفن ... ما في ضمير الأرض من مستعجم؟
بل ما عليها؟ هل أحطت بعلمه ... في البر أو في كل بحر خضرم
وجمادها ونباتها والسر في ... حيوانها من ناطق أو أعجم
اعترفت هذا الإنس في آحاد هـ ... وثباته في بؤسها والأنعم
ابدأ بنفسك فاعرفنها جاهدا ... والأرض فانقذها بعقل مقدم
وأصعد بعلمك طالبا من مستوى ... ما فوقه، كالمرتقى في السلم
فإذا بلغت من الكواكب منزل=فهناك فأسال ما وراء الأنجم(994/45)
النهر الشاعر
للأستاذ أنور العطار
نقلها إلى الإنكليزية شعراً المستشرق البريطاني الكبير السيد
(أرثور جون أربري) أستاذ الآداب العربية في جامعة
كامبردج في كتابه (أزهار الشعر).
بردى المشتهي يفكر شعرا ... وهو يحيى لحنا وينساب عطرا
في حناياه أضلع تتناجى ... وقلوب من حرقة الحب حرى
خبر العالمين جيلاً فجيلا؟ ... ووعى الكائنات دهرا فدهرا
خط في مصحف الوجود سطورا ... باقيات تختال تيها وكبرا
معجبات أنقى من الفن لألا ... ء وأبهى من سطعة العلم فكرا
يتلوا زهواً كراقصة ألح ... ان تنزى وجدا وتقطر خمرا
مر في الأرض كالربيع ائتلاقاً ... وكأيامه صفاء وبشرا
وكسا جلق الأنيقة ثوبا ... عبقريا من نعمة الفجر أطرا
أيهذا النهر الحبيب إلى نفس ... ي ويا ملهمي إذا قلت شعرا
عش بقلبي لحنا على الدهر حلوا ... وأسر في خاطري فنوناً وسحرا
أنور العطار(994/46)
الكتب
صلاح الدين الأيوبي
مسرحية
للداعية الأستاذ عبد الرحمن البنا
للأستاذ محمد رجب البيومي
الأستاذ عبد الرحمن البنا مؤلف مسرحية (صلاح الدين الأيوبي) داعية غيور متحمس لعروبته وإسلامه، وخطيب ساحر تعرفه منابر الأخوان المسلمين في عواصم المديريات ومراكز القطر المصري، وهو - فوق ما يتمتع به من البيان الجزل، والأدب الرصين - يستمد من إيمانه العميق ينبوعا دافقا للحديث المؤثر الخلاب، وقبسا ساطعا للهداية الملهمة الرشيدة، وأنت تجلس إليه في حديث عام فتسمع كلمات: (العروبة والقرآن ومحمد) تتزاحم مطردة في غير سأم ونشاز على لسانه، فتدرك أن معانيها الحبيبة قد تحولت دما يجري في عروقه، وعاطفة تتأجج في جوانحه، وعصبا تمتد شباكه في رأسه، ورغم دراسته المدنية، ق حفظ القرآن الكريم حفظاجيدا، وفهم شروحة المتنوعة فهما واعيا مستنيرا، وحفلت ذاكرته بمدد زاخر من الأحاديث النبوية المنتقاة ودراسة وافية للتاريخ الإسلامي في شتى عصور، فتهيأ له من ذلك مادة غزيرة تنصره في ارتجال الخطابي الذي يتكرر في اليوم الواحد عدة مرات، وترفعه إلى مستوى يتطلع إليه الكثيرون من أصدقائه ومر يديه.
وقد رأى أن يخدم دعوة الأخوان (التي حمل لوائها شقيقه الأمام الشهيد (رضي الله عنه) - بقلمه كما خدمها بلسانه، فأظهر عدة روايات إسلامية تبرز العناصر الهامة في تاريخ الدعوة المحمدية وتصور للقراء انتصار الفكرة المخلصة، والعقيدة الصادقة، وقد مثلت جميعا في فترات متقاربة، وحظيت بإقبال الجمهور وتزاحم برغم بعدها الشديد عن التدجيل المسرحي الوضيع، والذي يتملق الغرائز ويستثير العواطف، بل قيد الكاتب نفسه في كل كلمة وحركة بآداب الإسلام، وتعاليمه المنتقاة، وهذه روايته الرائعة (جميل بثينة) - مع ما يلوح من بعدها عن محيط الفكر ة الإسلامية - قد حلقت في هذا الأوج الطاهر الرفيع، فصورت معاني الوفاء والمروءة والصدق والشرف، ورسمت - في فصل طويل - مناظر الحج(994/47)
والعمرةوالطواف والسعي والاستلام، والنسك ورمي الجمرات والأضحية والتلبية، وقد أطال الكاتب في ذلك إطالة ممتعة ومشوقة، يهب منها شذى إسلامي عاطر ينعش الأفئدة ويجذب الأرواح.
وحين تقدمت الجيوش العربية إلى نجدة فلسطين الشقيقة رأى الأستاذ أن يهتبل الفرصة، فيذكي الحماس، ويثير الحمية فأخرج مسرحيته الموفقة (صلاح الدين الأيوبي)، ومثلتها الفرقة الإسلامية لمسرح بدار الأوبرا الملكية إبان اشتعال المعركة منذ أعوام، فتركت أثرها القوى في نفوس الشبيبة الطاهرة من كتائب الأخوان، واندفعوا إلى حومة الاستشهاد باذلين أرواحهم رخيصة في سبيل الله، وقد شاء المؤلف أن ينشر مسرحيته اليوم على الناس، فأبرزها في حلة زاهرة قشيبة، وقد حفلت بثلاث فصول قوية محكمة. . . وإذا كان العمل الفني يشوه بالتلخيص تشويها يذهب بأصالته وعمقه وجدته، فنحن نكتفي بذكر العنوان الموجز لكل فصل من الفصول فالأول منها يصف المؤامرة الخبيثة التي دبرها الفاطميون لمحق الدولة الأيوبية لمصر، والثاني والثالث يصوران المعارك الحامية التي شنها بطل الإسلام صلاح الدين على أعداء العروبة من الصليبيين. وقد وفق الكاتب حين عمد إلى إبراز الأوضاع السياسية الغابرة التي تشترك مع أوضاعنا الراهنة في كثير من الأمور، فالهدنة المعقودة، ونقضها المتكرر، وقتل النساء، والأطفال والشيوخ، وتحالف الدولة الغربية مع الباطل أمام الحق، وتدفق الكتائب الإسلامية من مصر وسوريا وفلسطين. . . كل ذلك كان بالأمس كما هو اليوم!! وإذا كان النصر النهائي قد حالف صلاح الدين القوي المتسامح في وثبته الظافرة، فما زالت معركة اليوم تتطلب فصلا أخيرا يرجع الحق إلى نصابه، ويقشع عن فلسطين كابوس السفلة الأنذال، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فتحقق الآمال، وتتفق المعركتان!!
وإني لأهنئ الأستاذ المؤلف بجهاده وإيمانه، وأبارك جهوده الموفقة في سبيل دينه ووطنه ولازلت أنتظر على يده السداد المأمول، فهو صدى شقيقه الإمام وشعاعا من شمس أنارت الظلمات، ثم صعدت إلى ملئها الرحيب في جنات النعيم، راضية مرضية برضوان الله وثوابه العميم.
محمد رجب البيومي(994/48)
-(994/49)
البريد الأدبي
المواهب المقدرة
نشرت جريدة المصري في 1271952 أن وكالة (تاس)
للأنباء السوفيتية أذاعت بأنه منح أخيرا لقب (دكتور في العلوم
العملية) لأحد الفلاحين في مزرعة (شو كاو مكا) الجماعية
وقد نال هذا اللقب دون أن يقدم بحثا في هذا الموضوع كما
هي العادة. . وقالت الوكالة: (إن هذا الفلاح وصل إلى
اكتشافات عظيمة تنهض بفن العمارة إلى حد كبير. ومن هذه
الوسائل العملية التي استحدثها استعمال الجير الحي بدل الجير
المطفأ مما يوفر 25 إلى 30 % من الأيدي العاملة).
قرأتبعجب هذا الخبر الذي إن انطوى على شيء فإنما ينطوي على مدى ما تمتع به هاتيك البلاد من نهضة وتقدم يدل عليهما تقديرها لمواهب الناس العلمية ولو كان هؤلاء الناس ممن لم يتمتعوا بالمؤهلات العلمية الضخمة، ولا بالشهادات الدراسية العالية، ضنا بالمواهب أن تتلاشى أو تختفي أو يحول بينها وبين البروز الحواجز العتيقة من المؤهلات والشهادات وما إليها. .
ترى كم في مصر والشرق من نوابغ موهوبين في شتى العلوم والفنون، فهل سمعت أن وزارة من وزارات المعارف تنازلت فشملت بعطفها واحد من هؤلاء تقديرا لنبوغهم ومواهبهم، وضاربة صفحا عن الحواجز البالية من المؤهلات والشهادات؟
إن في مصر والشرق شبابا وكهولا بلغوا القمة في الذيوع والشهرة في شتى العلوم والفنون دون أن ينالوا ذرة من تقدير وزارات المعارف، وليس لهم ذنب سوى انهم - لظروف خارجية عن إراتهم - لم ينالوا مؤهلات ولا شهادات، ولو انهم نالوا التقدير والتشجيع لفتحوا الآفاق الفسيحة أمام مهرة الصناع ونوابغ الفانين. . .(994/50)
إن إحدى جامعات أمريكا احتاجت إلى إنشاء كرسي لفن طبائع الطيور، ولم يشغله إلى صياد له خبرة واسعة في صيد الطيور وهذه كل مؤهلاته أما في مصر والشرق فإن معوقات النهضة فيهما أسلوب من الأساليب البالية التي يجب أن تتلاشى إلى غير رجعة!!
رمل الإسكندرية
نفيسة الشيخ
تصويب واستدراك
السلام عليكم وبعد فقد جاء في العدد 991 ص 727 للأستاذ عدنان بعنوان في مقال لعميد الأدب ذكر المؤلفات العربية التي تعنى بالنقود أخطأ فيه الأستاذ وفاتته أشياء.
فأما الخطأ فقد ذكر الرسالة المخطوطة التي أشار إليها الكرملي وهي رابع كتب النقود التي يعرفها منسوبة إلى تقي الدين المقريزي والصواب أنها لمصطفى الذهبي الشافعي كما جاء في ص 6 من كتاب النقود العربية للكرملي.
وأما ما فاته فأولا ذكر كتاب النقود لحسين عبد الرحمن بأشراف وزارة المالية المتوفى في جمادى الأولى سنة 1367 وهو كتاب كبير حافل يقع في اكثر من 262 صفحة وصدر منذ اكثر من أربعة عشر عاما وفيه صور كثيرة من النقود من صدر الإسلام إلى ألان.
وثانيا كان ينبغي للأستاذ عدنان أن يذكر أن رسالات البلاذري والمقريزي ومصطفى الذهبي نشرها الكرملي كاملة في صدر الكتاب وصححها وعلق عليها، فالإشارة أليها افضل من ذكر طبعة الجوائب وغيرها.
وثالثا كان ينبغي للأستاذ اعتبار كتاب الكرملي خامس الكتب العربية التي تعنى بالنقود، فأنه بعد أن نشر في صدر الرسائل المذكورة آنفا ذكر أقوال ابن خلدون والقلقشندي وذلك لغاية ص 118 ومن ص 119 إلى آخر الكتاب تعرض لبحث النقود بعنوان علم النميات. والكتاب بفهارسه يقع في 259 صفحة وإذا أضفنا إليه كتاب حسين بك عبد الرحمن تكون الكتب العربية المعروفة في النقود ستة لا أربعة. وللأستاذ عدنان خالص التقدير ولمجلة الرسالة فائق التحية.
عبد السلام النجار(994/51)
النعت بالمصدر
في العدد 706 من الثقافة الصادرة بتاريخ 7 يوليو سنة 1952 اخذ الأستاذ الفاضل محمود فتحي المحروق على زميله الشاعر الأستاذ كمال نشأت انه استعمل المصدر صفة في قوله من قصيدة (بحيرة البجع)
والجناح (النصوع) في لونه الأبيض ... فلك يسير في استبطاء
والواقع أن الوصف بالمصدر ليس محظورا في اللغة العربية فقد قال ابن هشام الأنصاري المصري في كتابه (أوضح المسالك) الرابع من الأشياء التي ينعت بها المصدر. قالوا: هذا رجل عدل ورضا وزور وذلك عند الكوفيين على التأويل بالمشتق أي عادل ومرضى وزائر. وعند البصريين على تقدير مضاف أي: ذو عدل ورضا وزور. ولهذا التزم أفراده وتذكره) أهم وهناك رأي ثالث: هو أن الوصف بالمصدر على سبيل المبالغة كأن الشخص المذكور هو نفس العدل والرضا والزور. كأن هذه النعوت قد تمثلت في هذا المنعوت بشرا سويا. وفوق ذلك فان الوصف بالمصدر الشائع الاستعمال في اللغة قرآنا وحديثا وشعرا، فمنه في القرآن. قول الله في سورة الملك (الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) أي مطابقة بعضها فوق بعض، أو ذات طباق: أو كأنها نفس الطباق، وللأستاذين الفاضلين تحياتي.
عبد الحافظ عبد المجيد
تصحيح نسبة أبيات
ذكر نباش جريدة المصري هذه الأبيات ونسبها إلى عمران ابن حطان الخارجي.
لولا بنيات كزغب القطا ... رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
وليست هذه الأبيات إلى عمران بن حطان الخارجي وإنما هي لحطان بن المعلي كما ذكر ذلك أبو تمام في ديوان الحماسة وهي أبيات سبعة أولها.
أنزلني الدهر على الحكمة ... من شامخ عال إلى خفض(994/52)
وبعض الرواة ينسبها إلى المعلي الطائي أحد الشعراء الذين نزحوا إلى مصر واستقروا بها.
عبد العليم علي محمود
أغاني الربيع
ديوان ضمير الحجم كبير المعاني للشاعر الشاب بشير حسن القطان يقع في (47) صفحة من القطع المتوسط طبع ببغداد وأهداه إلى قبل أيام، ولست أريد في هذه العجالة أن أبين للقراء ما يحوى من شعر رقيق يبشر بمستقبل زاهر لناظمة، ولكنى أحببت أن أنبهه إلى بعض الأخطاء التي وجدتها في الديوان وهي
جاء في قصيدته (الناي الفارسي) ص (11) هذا البيت الخارج عن وزن الأبيات الأخر
لكن الناي المغنى ... قد غدا اليوم كئيبا
بينما القصيدة كلها من مجزوء الرمل، ثم ورود لفظة عروسة كقوله في ص (16) - عروسة الشعر أنت الزنبق العطر) وصوبها عروس للمؤنث وعريس للمذكر، ولفظة رغاب بمعنى أمنية وقوله ص (47) - والأنجم الزهراء والصبح الأغر بينما تجمع أفعل وفعلاء على فعل فيجيب أن يقول والأنجم الزهر، كما في القرآن الكريم (سبع سنبلات خضر) و (يلبسون ثياباً خضراً من سندس) ولم يقل خضراء، هذه بعض المآخذ وهي لا تغض من قيمة شعره الرقيق.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(994/53)
القصص
الشقي المدلل
للفيلسوف الروسي (تولستوي)
كانت تقوم على شاطئ البحر الأبيض، وقريبا من الحدود الفرنسية الإيطالية مملكة صغيرة اسمها (مملكة موناكو)، ولعل لكثير من المدن أن تحتال على هذه المملكة بوفرة نفوسها وازدحام سكانها، فأن سكان هذه المملكة ما كانوا يتجاوزن سبعة آلاف! وعلى انه لو قسمت بينهم أراضى المملكة جمعاء لما أصاب المواطن الواحد منهم فدانا! ومع ذلك كله فقد كان لهذه المملكة ملك حقيقي له قصر وحاشية ووزراء، وله أسقف وجيش وقادة.
وعلى أن الجيش لم يكن بالجيش العرمرم الضخم - إذا ما كان عدد أفراده يزيد عن الستين - فهو مع ذلك جيش له خطره وأهميته بالمحافظة على كيان البلاد. . وكانت الحكومة في هذه المملكة ضرائب على الشعب تتقاضاها شأن بقية الحكومات، فضريبة على التبغ وضريبة على الشراب، وضريبة غير هاتين على الرؤوس. . ومع أن الشعب كان كعامة شعوب العالم يدمن التدخين. ويتعاطى الخمور، ألا أن الضرائب الحكومية من ذلك لم تكن تسد حاجات الأمير ونفقات بلاطه وجيشه، لو لم تسعفه ضريبة أخرى من مصدر جديد هو لعبة (الروليت) فكان الناس يتقاطرون من أنحاء أوربا ليقامروا هناك في دار القمار، وسواء اربح اللاعبون أم كانوا من الخاسرين فان لصاحب الدار الحصة المعروفة من المال. وكان يجتمع له بهذا مال كثير يكون النصيب الأوفر منه للأمير. . وتتضخم أرباح الأمير من هذه اللعبة مرجعة أن دار القمار هذه الوحيدة من نوعها في أرجاء أوربا كلها؛ وإذا كان أمرا الألمان قد منعوا من إقامة أمثال هذه البيوت في بلادهم لما يقع فيها من حوادث الأجرام والأضرار المتأنية عن خسارة وبعض اللاعبين ومغامراتهم ومضاربتهم وانتهائهم عند نزول الكارثة بهم إلى الانتحار بالرصاص، وإذا كان أمير (موناكو) غير متقيد ولا تابع لسلطة من التي يعطيها أمراء الألمان، فقد ألغيتدار القمار عند أولئك وبقيت داره هذه الوحيد في أوربا التي لا قدرة لأحد أن يتعرض لها بشيء، وظل هو محتكرا هذه الأربا.
وكذلك كان الناس يفدون على (موناكو) كان عليما بالمثل القائل (ليس من نتائج أعمال(994/54)
النزاهة والشرف تشييد شوامخ القصور) وعلى انه كان عارفا بأن الميسر ليس من مشرفات الأعمال فأنه لم يجد بدا من إبقاء نظام الميسر على وضعه ليسد حاجته، وليعيش عيشة يرضاها، فكان يقيم الحفلات ويولم الولائم. ويظهرللناس بمظهر الأبهة التي يعدونها في قصور الملوك. وكان يمنح المنح، ويجزل الهبات ويشكل اللجان، ويشرع النظم وينشأ المحاكم. . . وكان يعرض الجيش ويطوف بأنحاء المملكة، ويفعل فعل غيرة من الملوك ولكن في صورة مصغرة كنسبة مملكته المصغرة إلى بقية الممالك!
وكان أهل (موناكو) معروفين بالمسلة وليس العريكة، فليس بينهم مجرم ولا سفاح، حتى حدثت منذ سنوات جريمة قتل كانت الأولى في تاريخ هذه المملكة؛ فأجتمع لها القضاة في يوم مشهود ليتداولوا في شؤون هذه القضية وفق أصول العدل والأنصاف. وكان ذلك الحفل المهيب يضم رجال القانون من محامين وقضاة ومحلفين ومدعين عامين. وقد ظلوا يتدارسون نصوص القانون. ويؤولونها، ويذهبون في تفسيرها المذاهب حتى اصدروا حكم الإعدام على ذلك القاتل وفق إحدى مواد القانون! وحمل القرار من بعد ذلك إلى الأمير، فقرأه وأصدر الأمر بالموافقة على ما يرتئون!
على أن مشكلة واحدة بقيت لتنفيذ الحكم، إذا لم يكن في المملكة مقصلة ولا كان بها جلاد! فبحث الوزراء المشكلة وقرروا أن يفاوضوا الحكومة الفرنسية في أمر أعارتهم مقصلة وجلاد لتنفيذ حكم الإعدام وطلبوا منها معرفة ما يقتضيهم ذلك من الأجور. ثم أرسلوا بالكتاب إلى رئيس الجمهورية الفرنسية.
وبعد أسبوع ورد جواب الرئيس قائلا (أن تكاليف إرسال مقصلة وجلاد تبلغ ستة عشر ألف من الفرنكات) وعرض هذا على الأمير فعجب من استحالة قطع راس هذا الأثيم إلا بهذا المبلغ الجسيم الذي لا تقوم بشيء من حياته! ثم طلب التفتيش عن طريقة أرخص لا ترهق الأهليين بضريبة جديدة يجبرون عليها، وربما كان من ذلك ثورة جامحة تندلع ألسنتها فتغطى على الأمن في البلاد!
. . . ودعي مجلس الوزراء للبحث في هذه المشكلة من جديد. . وعندئذ قرر المجلس إرسال طلب آخر إلى ملك إيطاليا ذلك بان حكومة فرنسا جمهورية لا ترعى الود المتبادل بين الملوك وليس أمر ملك إيطاليا كذلك، فإنه - ولا شك - سيرعى حرمة الزمالة التي(994/55)
تربطه بالأمير فيتساهل معه وعلى هذا فقد كتبت رسالة في هذا الغرض وأرسلت، فجاء الجواب: (إن من دواعي غبطة الحكومة الإيطالية تجهيز جارتها بالمقصلة والجلاد مقابل أثنى عشر ألفا من الفرنكات ضمنها تكاليف الإرسال والإعادة) وهذا الأجر وان كان اقل من سابقه إلا أن المجرم لا يستحق إنفاق هذا المبلغ عليه، وتكليف الرعية بان يدفع كل فرد منها فرنكين:
وهكذا دعا المجلس الثالث للاجتماع فتداول أعضاؤه الأمر وتناقشوا في المعضلة لعلهم يهتدون إلى طريقة رخصةفي قتل هذا المجرم. فقال قائلهم: أو لا يمكن تكليف أحد من الجند بقطع رقبة هذا الأثيم؟ وليكن ذلك كيفما اتفق إذ المهم أن يموت! فدعا لذلك قائد الجيش وألقى عليه السؤال. فجمع جنده وسألهم: أفي استطاعة أحدكم تنفيذ المهمة؟ غير انهم يجبوه ولم يرتضوا ذلك منه، وقالوا له (أن ذلك من شأننا - نحن - ولا كان مما سبق أن دربنا عليه!)
هنالك فكر الوزراء وتذكروا فأجمعوا أمرهم على تفويض النظر في القضية إلى لجنتين: عليا ودنيا، وأخيراً تم القرار على الاستعاضة عن حكم الإعدام بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة، وكان الأمير بهذا يستطيع أن يرى الرعية رأفته ورقة قلبه، كما أن تلك الطريقة كانت أرخص العقوبات جميعا! ووافق الأمير على هذاالحكم الأخير وأوشك التنفيذ أن يتم لولا أن قامت أزمة جديدة؛ وتلك هي أزمة أيجاد سجن يقضي فيه هذا السجين حياته. على انهم أخيرا وفقوا إلى إيجاد غرفة لأقامته وكانوا به سجاناً يتولى أمر حراسته وإطعامه من مطبخ القصر.
ظل السجين في محبسه تتعاقب عليه الشهور حتى اكتملت عليه سنة تماما؛ ولكن بيننا كان الأمير يفحص ميزانية الدولة ويقلب فيها نظره لاحظ أن فيها باب جديدا من النفقة، تلك هي نفقات سجن هذا المجرم الشقي، ولم تكن هذه بالنفقات اليسيرة البسيطة، ولا كانت بالسهلة القليلة، وإنما كانت شديدة الكلفة ثقيلة الوطأة على ميزانية الدولة! فقد كان المجرم هذا حارس يمنعه من الهرب، ورجل غيره يتولى أمر إطعامه! وفي هذا السبيل صرفت ستمائة فرنك من ميزانية الدولة هذا العام! والأدهى من ذلك أن الرجل في ميعة الشباب صحيح البدن معافى، ولربما امتد به العمر إلى خمسين من السنين! ولو حسب المرء(994/56)
للمسألة هذا الحساب لم يجدهابالسهولة التي كان يتصور وعلى ذلك فقد جمع الأمير وزرائه وقال لهم: (إن عليكم أن تكتشفوا طريقة غير هذه تكون أخف مؤونة وأقل منها نفقة، فهذه التي اتبعتموها باهضة لا قبل لنا بها!)
وتداول الوزراء الأمر بينهم حتى اهتدى أحدهمإلى فكرة فقال لإخوانه: (أيها السادة، إن من المعقول - في نضري - أن نفصل الحرس فنقتصد نفقاته). غير أن وزيرا آخر اعترض عليه قائلا: إن الرجل سيهرب إن لم يجد من يحرسه.) وهناك رد عليه صاحبه: إن ذلك ما يريدون إذ لا يهمهم أن يهرب)
وتم على ذلك الاتفاق. فرفعوا إلى الأمير تقرير يشرحون له الأمر فوافقهم على ما يرتئون. وفصل الحارس عن عمله وظل جماعة الوزراء يرتقبون المآل حتى جاء موعد الغداء واشتد بالسجين الجوع، فخرج بعد أن طال ارتقابه لحارسه حتى يأس منه - إلى مطبخ القصر وأخذ طعامه منه وعاد إلى غرفته وأغلق على نفسه الباب! وعاد في اليوم التالي فكرر ما صنع بالأمس في الوقت المعين المحدود. وهكذا قبل السجين هذا العناء الجديد، دون أن تخطر له فكرة الهرب من هذا السجن على بال!
وإذا فماذا ترى الوزراء فاعلين؟
هنالك اجتمعوا وبحثوا المشكلة من جديد فقر رأيهم أن يصارحوه بعدم رغبتهم في بقائه، فاستدعاه (وزير العدل) إليه وسأله
- ما بالك لا تهرب وليس عليك حارس يمنعك؟ أذهب حيث شئت فلن يعني بذلك الأمير. فأجاب الرجل: - لعلي أستطيع أن أقول أن الأمير لا يعنيه، ولكن أين المأوى الذي آوي إليه؟ ولا حيلة لي في الحصول على قوتي وقد وصمتموني بأشنع الصفات بأحكامكم التي أصدرتم علي. وهؤلاء الناس لن يأتمنوني بعد الآن على شيء. ذلك إذا أني اعتدت حياة الكسل والخمول فنحطط بالتدريج. لقد أسأتم إلي حقي، فقد كنتم أصدرتم الحكم علي بالإعدام فلن تنفذوه، استعضتم عن ذلك بحكم الأشغال المؤبدة الشاقة وعينتم لذلك حارساً كان يأتيني بطعامي، غير أنكم - بعد بره من الزمن - عزلتموه فاضطررت إلى الذهاب بنفسي إلى المطبخ للحصول على ما يكفيني من الطعام. ثم إنكم - بعد ذلك - تريدونني على الفرار! كلا يا سيدي، كل شيء يصح إلا ما تريدونني عليه؟ اصنعوا ما بدا لكم(994/57)
وافعلوا بي ما حلا لكم غير أني لن ألوذ بالفرار!
إذاً فكيف؟
وأجتمع مجلس الوزراء يبحث المعضلة بحثاً جدياً حاسماً، ولكنهم احتاروا فيما يقررون؟ وترددوا في اختيار النهج الذي يرون اتباع السير عليه. . إن الرجل لن يبرح الديار أبداً. وفكروا واحتالوا فما وجدوا غير منح الرجل (معاشاً) يكفل لهم الخلاص منه! وأنهوا الحل الأخير إلى الأمير قائلين إنه ليس من حل خير من هذا الذي ارتأوه، وهو أن يمنح الشقي معاشاً يقيهم أذاه ويبعده عنهم! فأقر الأمير رأيهم مرغماً وقدر للمجرم الشقي معاشا سنويا قدره (600) فرنك فلما أخذ في ذلك رأيه أجاب.
- أما الآن فقد طاب الفرار! على أن تلزموا أنفسكم دفعه إلي بانتظام.
وهكذا حسمت المشكلة. وأخذ الشقي ثلث جرايته مقدما وغادر المملكة إلى مسيرة ربع ساعة بالقطار! ونزل قرية ابتاع فيها أرضا بالقرب من حدود بلاده وزرعها متجرا بثمارها وغلاتها وعاش في راحة واطمئنان. وكان كلما حان موعد معاشه ذهب فأستلمه ثم اتجه إلى مائدة القمار فقامر عليها بفرنكين أو ثلاثة مكتفيا بهذا القدر اليسير ورجع إلى مهجره يستأنف حياة الدعة والراحة.
ولعل من حسن طالعه أنه لم يرتكب جريمته الأولى في قطر آخر ترخص فيه أثمان قطع الرقاب وتقل فيه تكاليف الإيداع في أعماق السجون مدى الحياة!
ف. س(994/58)
العدد 995 - بتاريخ: 28 - 07 - 1952(/)
نقطة البدء
للأستاذ سيد القطب
لقيني الأستاذ الأديب الشاعر محمد فهمي وقد قرأ مقالي الأخير في الرسالة بعنوان: (إلى النائمين في العالم الإسلامي) فقال في شيء غير قليل من الحدة والضيق: لمن تكتبون هذا الكلام؟ وما قيمة توجيهه إلى شعوب كاملة من الأميين الذين لا يقرءون ما تكتبون؛ والقلة القلية التي تقرأ لا تملك أن تصل بكتلة الشعوب، لأنها شعوب جاهلة لا تدري شيئا مما حولها، ولا تستطيع شيء حتى لو درت، لأن الحياة في هذا العصر تريد شعوباً متعلمة وإلا فالموت والذل للأميين. . .
واستمعت إلى ثورته. . إن فيها كثير من الحق. وإن كان لهذا الحق بقية هي التي أردت أن أعرضها للناقد الثائر، لولا أنه لم يمهلني. لقد ارتفع صوته بالسخط، وأنا لا أريد أن أسترسل في مناقشة الساخطين الثائرين!
نعم. نحن في حاجة إلى توجيه حملات ضخمة لنشر التعليم في العالم الإسلامي كله نشراً سريعاً في خطوات جازمة حازمة، لا تسير بخطوات السلحفاة، نحن في حاجة إلى توجيه هذه الحملات لا إلى اليمن مثلاً حيث يحارب التعليم كما تحارب المخدرات، أو أشد وأعنف، لأن المخدرات هناك لا تقاوم، ونبات (القات) المخدر يزرع في كل مكان، ولا تفكر الدولة في مقاومته كما تفكر في مقاومة التعليم، ولا تطارده كما تطارد المتعلمين!
ولا إلى الحجاز ونجد حيث لا تبلغ ميزانية التعليم كلها ربع ميزانية فرد؛ ولا ينفق عليه عشر ما ينفق على السيارات والكماليات والعطور.
ولا إلى بلاد الشمال الإفريقي حيث يقف الاستعمار سداً في وجه الثقافة، حتى لتعد الكتب والمجلات محظورات، تهرب داخل طرود سرية، خيفة أن تثير شبهات الجمارك والبريد!
نحن في حاجة إلى توجيه تلك الحملات لا لمثل هذه الأصقاع في العالم الإسلامي، بل إلى مصر التي تعد أكثر بلاد العالم الإسلامي تقدماً من هذه الناحية، إذا استثنينا لبنان، ونسبة التعليم فيها أكثر ارتفاعاً.
نعم في حاجة أن نوجه تلك الحملات إلى مصر التي تعطي وكلاء الوزارات والمديرين العامين بدل سيارات، يتراوح شهرياً بين ثلاثين وأربعين جنيهاً ثم تخفض ميزانية التعليم(995/1)
إلى الثلث بحجة التقشف! مصر التي تبعثر معظم ما تملكه من العملة الصعبة في شراء السيارات الفاخرة ثم لا تجد ما تشتري به مصانع أو آلات زراعية ميكانيكية أو آلات صناعية، أو حتى أدوات صحية، لأن ما لديها من العملة الصعبة محدودة! مصر التي يتعطل ثلاثة أرباع سكانها عن العمل، لأن مرافق العمل فيها محدودة ولا تملك توسيع مرافق العمل هذه، لأن ميزانيتها تحوي ملايين الجنيهات لشراء أثاث فاخر، وشراء يخوت فاخرة، وحضور ولائم ومؤتمرات ونزهات للمحظوظين!
لقد قال لي محدثي الثائر: دعوا الاستعمار لا تحاربوه الآن. نحن لا يهمنا أن يكون في أرضنا مليون من الجيوش الاستعمارية. إذا كان لدينا عشرة ملايين فقط من المواطنين المتعلمين. إن ألمانيا بالجيوش الروسية والأمريكية والإنكليزية والفرنسية، ولكن الجميع يترضونها، لأن الشعب الألماني شعب متعلم، لا يمكن أن تحكمه جيوش المستعمرين. .
وقال: دعوا الكفاح الاجتماعي لتعديل الأوضاع الاقتصادية - وحتى الدستورية - فهذه الأوضاع التي تشكون منها ستعدل نفسها بنفسها يوم يستحيل الشعب المصري أو أي شعب عربي أو إسلامي إلى شعب متعلم. .
كنت أريد أن أفهم محدثي أن هذا كله صحيح، ولكن هنالك أشياء أخرى يجب أن تكون في الاعتبار. لولا أنه لم يترك لي فرصة للكلام؟
نعم. إن الاستعمار لا يملك أن يعيش في بلد متعلم. . نعم إن الحرمان لا يمكن أن يدوم في شعب متعلم. . نعم إن الطغيان لا يمكن أن يقوم في وطن متعلم. . نعم. كل هذا صحيح؛ ولكن بقي أن نعرف: من هو الشعب المتعلم؟ ومن هو الفرد المتعلم؟
إنني أومن بقوة المعرفة. أومن بقوة الثقافة. ولكني أومن أكثر بقوة التربية. . .
إنني أنظر في تاريخ الاستعمار، فلا أكاد أجد له إسنادا إلا من المتعلمين. . كل الرجال الذين قدموا للاستعمار خدمات ضخمة. الذين مهدوا للاستعمار ومكنوا له. الذين كشفوا له عورات البلاد ومقاتلها. الذين تولوا عنه تحطيم معنويات الوطن وقواه الكامنة. الذين جعلوا أنفسهم ستاراً لمساوئ الاستعمار ومخازيه. . كلهم. . كلهم كانوا من المتعلمين!
كذلك كان الذين مهدوا للطغيان وأعانوه استمرءوا سلطان الجبابرة وهم يؤدون ضريبة الذل والعبودية الذين استغلوا النفوذ للإثراء على حساب الشعب. الذين أفسدوا ضمير الشعب(995/2)
بالمحسوبية والرشوة والسرقة والغش. الذين خانوا الوطن والأمانة والخلق والضمير. . كلهم كانوا كذلك من المتعلمين!
نعم. إنه لو كانت الشعوب أو كثرتها من المتعلمين ما أمكن للسماسرة أن يسلموا البضاعة بهذا اليسر وهذه السهولة. هذا صحيح. ولكنه صحيح كذلك أن (الصنف) المتعلم الذي تخرجه المدارس في بلادنا اليوم، ليس هو الذي يقف في وجه التيار، وليس هو الذي يستعصي على السماسرة، بدليل أن كثرته يجرفها تيار العبودية والذل والفساد، دون أن ترفع رأسها، ودون أن تدافع عن كرامتها، بل عن إنسانيتها. . إن أنشودة (أكل العيش) هي النشيد القومي للجميع! وأكل العيش ممكن في ظلال الكرامة لو أرادها الجميع.
إن التعليم الذي نزاوله في مصر، ومعظم البلاد الإسلامية، تعليم فاشل، بل تعليم قاتل. إنه تعليم بلا تربية، بل تعليم يكافح التربية. إن المدارس والجامعات تخرج لهذه الأوطان فتاتاً آدمياً وحطاماً بشرياً. تخرج له عبيداً. نشيدهم القومي الخالد هو أنشودة (أكل العيش)!
لست أنكر على الشباب المتعلم أن يطلب رزقه، فالحياة لا بد أن تعاش. والمال عصب الحياة. بل لست ألوم هذا الشباب المتعلم، فلو وجد هذا الشباب أجيالاً من الأساتذة الصالحين، وتقاليد من النظم الصالحة، لكان أفضل شباب الأرض. ولكني أقرر الحقيقة المؤلمة، حقيقة أن معاهد التعليم في مصر كلها وفي معظم البلاد الإسلامية الأخرى. . لا تخرج رجالاً أحراراً بقدر ما تخرج عبيدا أرقاء. ولا تخرج شخصيات متماسكة بقدر ما تخرج فتاتاً آدمياً وحطاما بشرياً. . . إنها معاهد خاوية من الروح. . وهذا مفرق الطريق.
إن نظم التعليم وخططه ومناهجه وكتبه. . وأخشى أن أقول أساتذته. . لا يمكن أن تخرج رجالا أحراراً مفكرين مستنيرين. إلا الشواذ الذين يكافحون الجهاز التعليمي كله ويخرجون من براثنه سالمين.
ولقد كان ذلك قائما قبل تلك الفوضى الأخيرة، التي سميت (مجانية التعليم). إن التعليم كان يجب أن يكون بالمجان. وكل بلاد العالم المتحضر التعليم العام فيها مجان. ولكن المجانية شيء والفوضى شيء آخر. والذي حدث والذي تحقق هو الفوضى. أما المجانية فليس فيها قولان فقط، بل عدة أقاويل!
لقد كان الآباء يدفعون عشرة جنيهات للمدرسة الابتدائية أو عشرين جنيهاً للمدرسة الثانوية؛(995/3)
فتقوم عنهم بتعليم أبنائهم، ذلك التعليم الخاوي من المثل الخاوي من الروح. . فأصبحوا اليوم مكلفين - من استطاع ذلك منهم - أن يدفعوا للدروس الخصوصية عشرين أو ثلاثين أو خمسين جنيهاً ليحصلوا لأبنائهم على النجاح في الامتحانات، لا عن طريق التعليم الخاوي من المثل الخاوي من الروح. بل عن طريق اطلاعهم على أسئلة الامتحان وتيسير الغش فيه!
إنها الكارثة. الكارثة المضاعفة التي تربي على ما كنا فيه
إن التعليم الذي نزاوله، والذي كنا نزاوله قبل حكاية المجانية الزائفة؛ ليس هو الذي يؤدي إلى كفاح الاستعمار، وكفاح الطغيان، وتعديل الأوضاع الاجتماعية المخلة بكرامة الإنسان. .
إن التعليم لكي يؤدي مهمته هذه يحتاج إلى تعديله من أساسه. . ومما يؤلم النفس إن هذا التعديل لا يحتاج إلى مال غير الذي ننفقه. وقد لا يحتاج إلى رجال غير الذين يزاولون اليوم مهمة التعليم. ولكنه يحتاج فقط إلى إيمان بهذا التعديل الشامل، وإلى عقليات قليلة ناضجة تشرف على التنفيذ. .
أم لعلني أمام عقدة العقد، وأنا أحسبها من الهين اليسير؟!
ألم أحاول مرة أن أغير نظام دراسة اللغة العربية ليقام على أساس سليم عام 1943 ففشلت. وكان الأمر يومها متروكاً إلى سعادة المستشار الفني الدكتور طه حسين؟!
ألم أحاول مرة أن أغير نظام دراسة التاريخ ليقام على أساس سليم عام 1947 ففشلت وكان الأمر يومها متروكاً إلى معالي الوزير المعارف الدكتور عبد الرازق السنهوري؟!
ألم أحاول عشرين مرة - بعد عودتي من البعثة إلى أمريكا - أن أنشئ لوزارة المعارف أداة فنية صحيحة، تقيم نظم التعليم ومناهجه على أساس سليم، ففشلت في هذه المرات كلها فشلاً ذريعاً؛ لأن المراد في هذه المرة كان إصلاحاً في الصميم؟!
لقد أفلح الاستعمار في تطعيم عقلية وزارة المعارف بالميكروب الثابت. . إنه يبدو دائماً في صورة كبار الموظفين!
نعم يجب أن ينتشر التعليم؛ ولكن أي تعليم؟ يجب أن يقوم هذا التعليم على أسس ثقافية سليمة، وعلى أسس تربوية سليمة. نعم وينبغي أن تكون له مثل، وأن تكون به روح.(995/4)
وإلى أن يقيض الله لوزارة المعارف رجالا يؤمنون بهذا ويقدرون في الوقت ذاته على مقاومة الميكروبات الاستعمارية الكامنة في وزارة المعارف، في صورة كبار الموظفين!
إلى أن يقيض الله لوزارة المعارف أولئك الرجال، فليس أمامنا لمكافحة سموم الأجهزة التعليمية الحاضرة إلا المحاضن الخاصة، التي تتلقف الشباب الضائع، والحطام المفتت، فتعيد صياغته في قوالب جديدة سليمة، وفي جو روحي نظيف. لترد هذا الشباب الضائع الحائر رجالا كراماً على أنفسهم، كراماً على أوطانهم، كراما على ربهم. . .
وهذا ما يحاوله. . الإخوان المسلمون. .
سيد قطب(995/5)
من المعارك الأدب السياسي
للدكتور عمر حليق
في الأوساط الاشتراكية في بريطاني هذه الأيام جدل حول تفسير المبادئ الاشتراكية التي يؤمن بها حزب العمال - أحد الحزبين الرئيسين اللذين يتنازعون الحكم هناك
ويتخذ هذا الجدل معركة فكرية سلاحها الكراريس والنشرات والمقالات التي ينشرها كهنة الحركة الاشتراكية في مجلاتهم الأسبوعية وحلقاتهم الأدبية التي يكثر انتشارها في مراكز النقابات العمالية وأوساط الثقافة والفن في الجامعات ومعاهد العلم
والمحرك الأكبر لهذه المعركة الفكرية هو المستر (أورين بيفان) - قطب من أقطاب حزب العمال نبت في (العشش) المزرية البائسة التي تتاخم مناجم الفحم في مقاطعة ويلز ولم يتلقى من التعليم المدرسي إلا مبادئه وثقافته عصامية تتلمذ فيها على الكتب والبحوث التي توفرها للطبقات الفقيرة في بريطانيا المكتبات الحكومية الدوارة بحيث تقدم الغذاء العقلي للباحثين عن الحقيقة من الذين حالت ظروف المعاش بينهم وبين التتلمذ على الأساتذة في معاهد العلم الرسمية. واستطاع المستر بيفان بفضل عصاميته الثقافية أن يرتفع من أقبية المناجم ومجتمعها العليل إلى مركز مرموق في الحركة العمالية، ومن ثم إلى قبة البرلمان؛ فالوزارة التي استقال منها في العام المنصرم (قبل أن تفشل وزارة العمال في الانتخابات الأخيرة) إعلاناً عن سخط لسوء اجتهاد زملائه من أقطاب الوزارة في تفسير وتطبيق المبادئ الاشتراكية التي يدين بها الحزب
فحزب العمال البريطاني يستند في قوته السياسية إلى عنصرين أحدهما: نقابات العمال التي تضم ملايين الناخبين من الأيدي العاملة، وثانيهما نفر من المثقفين لا ينتمون في محتدهم ونشأتهم إلى طبقة العمال؛ وإنما اعتنقوا المبادئ الاشتراكية وانضموا إلى الحزب الذي يمثلها في الحياة السياسية للبريطانية، وهؤلاء المثقفون يشكلون الدماغ المفكر للحزب. وهم يفهموا الاشتراكية كما وضع أساسها المفكرون الإنكليز ولا يعترفوا بأن تعاليم ماركس ولينين وستالين التي تطبق في روسيا اليوم هي السبيل الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية في بريطانياً وهذا لا يعني أن الاشتراكية البريطانية خالية تماماً من نظريات ماركس؛ وإنما تحرص الرؤوس المفكرة وراء الحركات الاشتراكية في بريطانيا أن تطبعها بطابع(995/6)
بريطاني فتتعمد أن تعزز نظرياتها بالبحوث الاقتصادية والاجتماعية والفلسفة السياسية التي سجلها المصلحون البريطانيون في معالجاتهم لمساوئ الثورة الصناعية التي قلبت أوضاع المجتمع البريطاني في القرن الثاني عشر
وينفرد (أورين بيفان) من بين أقطاب حزب العمال بأن يجمع في شخصيته مزيجاً من كلا العنصرين. فقد وفر له عمله في المناجم وتنظيم النقابات خبرة ثمينة وفهماً صادقاً لعقلية العامل البريطاني وحاجاته ومطالبه وحقوقه وواجباته. وكذلك استطاع المستر بيفان بفضل دراسته العميقة للاشتراكية البريطانية أن يجاري أقرانه من المثقفين من قادة حزب العمال الذين انضموا إلى الحزب برغم أن تربيتهم الجماعية التقليدية ونشأتهم في أوساط مترفة محافظة كانت تؤهلهم إلى غير ما اختاروه من معتقدات اشتراكية ونشاط سياسي يعنى بمشاكل الطبقات الفقيرة التي كانت تفصلهم عنها ستائر كثيفة من الفوارق الاجتماعية والفكرية والمصالح الذاتية
والمشهور عن الأدب السياسي في بريطانيا أنه شغوف ينشر البحوث القصيرة الموجزة لمشكلة من مشاكل الساعة في كتيب أو كراس أو مقال مدروس يظهر في نوع خاص من المجلات البريطانية تحرص على أن تعالج السياسة ودقائقها معالجتها لفنون الأدب وألوان الثقافة العامة
والجدل الذي يدور هذه الأيام بين أنصار المستر بيفان ومعارضيه في حزب العمال يتبع هذا التقليد البريطاني في الأدب السياسي. فقد أصدر الطرفان في الأشهر الأخيرة عدداً من الكراريس والنشرات والمقالات تشرح وجهات نظرها على أرفع ما يكون الأدب السياسي من نقاوة وعمق وتدقيق
فللمستر بيفان مجاله الخاص في مجلة (تريبون) التي تحررها زوجته، وكل مقال أو كتيب ينشره هذا القطب السياسي يولد صدى أبعد وأوسع من العدد المحدود من بيع المجلة أو الكتيب، امتد هذا الصدى في الآونة الأخيرة إلى درجة أزعجت المستر أتلي رئيس حزب العمال وزملاءه من أدمغة الحركة الاشتراكية البريطانية الذي اتخذ المستر بيفان سياستهم وآرائهم هدفاً لنقده العنيف. ولم يجد المستر أدلي وجماعته بداً من أن يواجهوا تحدي المستر بيفان بنفس السلاح فتألفت من بينهم جماعة من الكتاب السياسيين أطلقت على(995/7)
نفسها اسم (الاتحاد الاشتراكي) واختارت البرفسور (آلان فلاندرز) أستاذ العلاقات الصناعية في جامعة أكسفورد رئيساً لها، وأخذت تكيل للمستر بيفان الصاع بالصاع. فلما أصدر المستر بيفان كتابه الهام (بدلاً من الخوف) أصدرت الجماعة كتيباً بعنوان (مقالات فانيانية (اشتراكية) جديدة) ولما رد عليها بيفان بمقال بليغ في مجلة (تريبون) أسرعت الجماعة فأجابت بكراس عنوانه (الاشتراكية: بيان جديد عن مبادئها) وضع مقدمته المستر أتلي رئيس حزب العمال
وقد خلق هذا الحوار لوناً من المتعة العقلية للذين يتابعون الأدب السياسي في بريطانيا - وهو لون من الأدب يحرص على بلاغة التعبير ومتانة الأسلوب وروعة الفن حرصه على عمق الدراسة وقوة المنطق وسلامة التفكير
والحوار بين قادة حزب العمال ورؤوسه المفكرة لا يقتصر على السياسة الداخلية للحزب وعلى علاقة بريطانيا الخارجية مع خصومها وحلفائها، وإنما يمس نواحي هامة من تيارات الفكر السياسي في حاضر الثقافة البريطانية؛ وهي ثقافة محافظة تمر الآن في مرحلة هامة تواجه فيها لوناً من التطرف الفكري يعبر عنه المستر بيفان ومشايعوه في الرأي وهم جماعة لها وزنها في الحياة السياسية وفي أوساط الأدب والفن كذلك
فهذا الرجل وآراؤه عنوان للتطور الفكري في عقل ثوروي يحرص على تغير الأوضاع على أسس اشتراكية بأن العنف والثورة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة الاجتماعية والواقع أن الحركة الاشتراكية في بريطانيا كما يؤمن بها ويعمل على تطبيق مبادئها حزب العمال تختلف في هذه الناحية اختلافاً جوهرياً عن الحركات الاشتراكية الأوربية، وهي حتماً تختلف عن اشتراكية السوفييت والدول الشيوعية الأخرى
وهذا الطابع السلمي للاشتراكية البريطانية هو الذي مكنها من أن تكسب ثقة خصومها المحافظين الذين دعوها إلى الاشتراك في الحكم إبان الحرب العالمية الأخيرة، وأن تستخلص منهم الحكم في سنوات ما بعد الحرب، وأن تشاطرهم السلطة التشريعية في البرلمان البريطاني حتى بعد أن أفلتت من يد العمال السلطة التنفيذية (الوزارة) إثر انتخابات العام المنصرم. وقد استطاع العمال الاشتراكيون في بريطانيا أن يحققوا هذا النصر المتتابع دون أن يلجئوا إلى إراقة نقطة واحدة من الدم أو أن يعصفوا بالحياة(995/8)
الدستورية أو يعبثوا بالكيان الاقتصادي بالإضرابات وما إليها من الوسائل التي لجأت إليها الحركات الانقلابية الأخرى اشتراكيو أم شيوعية في أوربا الغربية الشرقية واليوم يجد نفر من أصحاب الرأي المسموع في حزب العمال البريطاني يرأسهم بيفان أن هذه الثورة السلمية التي حقق بها الاشتراكيون في بريطانيا خلال السنوات التي سيطروا فيها على الحكم جزءاً من المبادئ التي وضعوها تأسيساً للعدالة الاجتماعية. ولكن هذه الثورة السليمة لم تمكنهم من أن يحققوا الجزء الأهم من هذه المبادئ. فكيف السبيل إذن لتحقيقها الآن وقد فقدوا السلطة التنفيذية بعد أن فاز تشرتشل وحزبه المحافظ بسدة الحكم.
وأمعن المستر بيفان النظر في صلب هذه المبادئ فوجد أن أقرانه في قيادة عندما كان لهم قد تساهلوا في اتباع الخطوط الجوهرية لهذه المبادئ، فساوموا المحافظين على بعضها. فبدلاً من أن يصروا على توجيه الجزء الأكبر من ميزانية الدولة لتنفيذ مشاريع الضمان الاجتماعي ورفع مستوى الطبقات العاملة ومكافحة البطالة وإعادة التبادل التجاري مع روسيا والصين الشيوعية، وعوضاً عن أن يمعنوا في تأميم الصناعات والمنشآت الاقتصادية الكبرى ويقيدوا أرباح أصحاب الدخل الواسع، وبدلاً من أن يربطوا علاقاتهم مع مناطق النفوذ البريطاني على أساس سياسي واقتصادي جديد يضمن لبريطانيا صلات اقتصادية وأسواقاً تجارية سليمة بدلا من أن يعمل المستر أتلي وجماعته على تبعيد هذه الخطوط الجوهرية امتثلوا لضغط المحافظين ومن ورائه إغراء أمريكا المادي وضغطها السياسي والاقتصادي فتأثرت من جراء ذلك مشاريع الضمان الاجتماعي وبقي مستوى الطبقات العاملة على حالته الكئيبة. ولم يحرص البريطانيون (عمالا ومحافظين) على صيانة تجارتهم الخارجية إزاء المنافسة الأمريكية والألمانية واليابانية ففقدت بريطانيا كثيراً من أسواقها التقليدية. وانتقد المستر بيفان تقاعد بريطانيا عن تعزيز صداقتها مع الصين الشيوعية لتحتفظ بالسوق الصينية الكبيرة كمصرف المنتجات البريطانية وإعادة التبادل التجاري بين بريطانيا ومنطقة النفوذ السوفيتي في أوربا الشرقية. ووجد المستر بيفان أن هذا التصور في مصادقة الروس وحلفائهم، وأن انسياق بريطانيا في الامتثال لسياسة أمريكا العدائية لروسيا السوفيتية وما خلقه من سباق التسلح. كل هذا أثر في وضعية بريطانيا الاقتصادية والسياسية فكانت النتيجة أن ناصرت بريطانيا الفرنسيين في حروبهم(995/9)
الاستعمارية في الهند الصينية وفي المغرب العربي، وعجزت المصانع البريطانية عن أن تجد لمنتجاتها أسواقا فعمت البطالة في مصانع النسيج في لانكشير، وعجزت المنشآت الصناعية البريطانية الأخرى عن تزويد زبائنها في آسيا وإفريقيا وأوربا اللاتينية بما يحتاجون إليه من آلات ومعدات بعد أن استأثرت برامج التسلح البريطاني بالجزء الأكبر من الحديد والمواد الخام.
وبسبب هذا التطور في وضعية بريطانيا الاقتصادية وبفضل امتثالها لإغراء أمريكا المادي وضغطها السياسي فشلت الاشتراكية البريطانية في تنفيذ إصلاحاتها الاجتماعية وفشلت بريطانيا في إنقاذ نفسها من شبح الإفلاس الاقتصادي والتدهور السياسي الذي أخذت تنحدر إليه في الآونة الأخيرة.
ولم يكتف المستر بيفان بالنقد وإنما رسم لحزبه والمجتمع البريطاني الأكبر برامج جديدة للخروج من هذه الورطة؛ فأشار في كتابة (بدلا من الخوف) أن لا تنساق مع أمريكا في إصرارها وعزمها على القضاء على النظام الشيوعي في روسيا والصين؛ وتهيئة الحرب اللازمة للمعركة الفاصلة.
وبفيان لا يؤمن بالشيوعية السوفيتية ولا يرغب في أن يجعل السياسة البريطانية مرتبطة بها. ولكنه مع ذلك يعتقد بأن في العالم مجالاً واسعاً لجميع الأنظمة السياسية. فهو لا يرى بأساً من أن تعيش روسيا بنظامها الشيوعي المطلق في نفس العالم الذي تعيش فيه أمريكا بنظامها الرأسمالي وبريطانيا بنظامها الاشتراكي واسكندنافيا بحركاتها التعاونية. وهو يعتقد أن روسيا لا ترغب في حرب جديدة ويستشهد على هذا بأن إنتاج روسيا من الحديد (ومقداره السنوي 30 ألف طن) لا يشجعها على الدخول في حرب مع أمريكا وحلفائها ومعدل إنتاجها من الحديد والمواد اللازمة لجهاز الحرب يفوق الإنتاج الروسي بعدة أضعاف.
وينصح بيفان قومه بأنه إذا استقلوا في سياستهم الخارجية عن أمريكا وضمنوا عدم اعتداء الروس على المصالح البريطانية استطاعوا أن يتفادوا برامج التسلح ونفقاته الهائلة، وأن يحولوا الإنتاج إلى صناعة سلمية تستعبد الأسواق التقليدية في الشرق على شرط أن تتبع بريطانيا أسلوباً جديداً في علاقاتها مع الشعوب التي لم يكتمل نموها الاقتصادي في آسيا(995/10)
وإفريقيا. وهذا الأسلوب يستند إلى مبدأ المعونة الفنية لتستطيع هذه الشعوب أن ترفع مستوى المعيشة بين سكانها، وبذلك تزداد حاجتها من المنتجات الصناعية التي تصدرها بريطانيا، وهذا أسلوب باشرت حكومة العمال تنفيذه عندما كانت في الحكم فيما يعرف الآن بمشروع كولومبو الذي منحت فيه بريطانيا الدول الآسيوية المرتبطة بنظام الكومنولث بضعة ملايين من الدولارات لتنمية المرافق الاقتصادية وزيادة قوة الشراء والتعامل التجاري بين هذه الدول وبين بريطانيا.
ويكرر المستر بيفان في كتابه الأخير هذه النداءات في قوة وعنف ويتهم كبار رجال الصناعة وأصحاب المصالح الذاتية في حزب المحافظين بأنهم العقبة الكبرى في وجه هذه الإصلاحات التي يقترحها المستر بيفان. ولذلك فهوا حاقد على أقرانه في حزب العمال أمثال المستر أتلي لتعاونهم مع المحافظين في السياسة الخارجية. وفي مقالات بيفان وكتاباته نوع من الثورة ضد هذه الطبقة الصناعية التي يعتقد بأنها توجه سياسة بريطانيا لتتماشى مع السياسة الأمريكية. فهو لذلك يدعوا إلى وضع تشريعات قاسية تعصر أرباح هذه الطبقة وتنتزع عن طريق التأميم المنشآت الصناعية والمالية الهامة التي يملكونها.
وهذه الثورة على طبقة الصناعيين هي من أبرز النقاط التي يحاولها خصوم بيفان في الرأي من أقرانه الاشتراكيين. ففي الكراس الأخير الذي أصدره الاتحاد الاشتراكي بعنوان، الاشتراكية: بيان جديد عن مبادئها، هجوم على دعوة المستر بيفان لنصر الطبقة المترفة. ويقول واضعو هذا البحث بأن مبادئ الاشتراكية البريطانية لا تؤمن بصراع الطبقات وإنما تستند إلى أسس أخلاقية تضع الحرية الفردية فوق المساواة الاقتصادية. ويشير الكراس كذلك إلى أن بريطانيا في ظل وزارة العمال في الحكم وفي البرلمان قد خطت خطوات هامة في التسوية بين طبقات المجتمع عن طريق التشريعات التي وضعتها حكومة العمال في مجال الضرائب على الدخول والتركات وفي سياسة التأميم التي نفذت حكومة العمال جزءاً منها.
ويؤكد واضعو هذا الكراس بأن سياسة التأميم لا تعني أن على الدولة أن تملك كل مصدر من مصادر النشاط الاقتصادي في البلد؛ فالاشتراكية يجب أن لا تفسر على أنها سياسة تأميم فحسب، فقد أثبتت تجارب وزارة العدل بأن سياسة التأميم لا تحل بصورة أوتوماتيكية(995/11)
المشاكل الاقتصادية والآفات الاجتماعية فإذا استبدلت بصاحب المصنع الدولة كمالك لمنشأة اقتصادية فإن العامل في هذه المنشأة سيظل يعتقد بأنه مهضوم الحقوق. ويجب أن لا يفهم العامل أن سياسة التأميم تجعله مالكاً للمصنع الذي يعمل فيه وإلا تولدت فوضى اقتصادية واجتماعية لا يقوى على ضبطها إلا نظام إداري قاس يعصف بالحرية الشخصية ويضع العامل والمجتمع في ظل حكم ديكتاتوري لا ترضى عنه فلسفة الاشتراكية البريطانية ومفهومها للعدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية.
واستنادا إلى مثل هذا المنطق يبرر خصوم المستر بيفان في الرأي تساهل حزب العمال في سياسة التأميم وقبولها لبرامج التسلح وتحالفها مع الأمريكان في السياسة الخارجية. فهم لا يوافقون المستر بيفان على أن روسيا السوفيتية راغبة في السلم، وأن قصور إنتاجها من الحديد والمواد الخام عن اللحاق بإنتاج حلفاء الغرب رادع لها من الدخول في المعركة الفاصلة. فقد دخل هتلر الحرب العالمية الأخيرة وكان إنتاج بلاده من مواد الاستعداد الحربي يقل عن إنتاج خصومه عدة مرات. ومع ذلك استطاع هتلر أن يبني آلة حرب جبارة شغلت العالم بأسره عدة سنوات طوال.
والطريف في معركة (الكراريس) هذه أنها سجل لاتجاهين هامين في التفكير السياسي المعاصر في بريطانيا وفي كثير من بقاع العالم الأخرى؛ فقد رسخ في عقلية المجتمع الإنساني الأكبر أن كيانه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أصبح في حاجة ماسة إلى أسس جديدة من العدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص الاقتصادية. والدعوة لهذا الإصلاح تجد صداها البعيد في أوساط الاشتراكيين في أوربا الغربية وفي رجال (العهد الجديد) من أتباع الحزب الديمقراطي في أمريكا؛ صدى يتجاوز الانفعال العاطفي ويتخذ البرامج الحزبية والسياسية العملية وسيلة لتنفيذ هذه الأسس الجديدة.
ففريق من هؤلاء الاشتراكيين لا يزال يؤمن بأن السياسة التطبيقية للمبادئ الاشتراكية يجب أن تتقيد بحرفية النظريات حتى لو استلزم ذلك تقييد الحرية الخاصة لطبقة معينة من المجتمع لا تنوي لهذه المبادئ خيراً. والمستر بيفان أميل إلى هذا الفريق منه إلى الفريق الآخر الذي ينظر إلى الأمور نظرة واقعية فلا تعترف بأن أسباب الطمأنينة المادية للفرد كما تسعى لتحقيقها النظم الشيوعية المطلقة ستوفر لهذا الفرد سعادة في المجتمع. فهناك(995/12)
عناصر أخرى في السلوك الإنساني لا يمكن أن تصبح ضحية للطمأنينة المادية. من هذه العناصر حرية الفرد وما توفره الديمقراطية الصحيحة له من ضمان وكرامة. وقد رد المستر بيفان على أصحاب هذا الرأي فقال بأنهم يحملون الكلمات أكثر مما تتحمل. فبعض حقائق الحياة القاسية تهزأ في كثير من الحالات بهذه التعابير اللطيفة (كالطمأنينة المادية) و (الحرية الفردية) و (الديمقراطية الصحيحة) و (الكرامة) وماشاكلها.
ولكن أليست صناعة الأدب تفترض تحميل الكلام أكثر مما يتحمل؟ والأدب السياسي أدب فوق أنه سياسة.
نيويورك
عمر حليق(995/13)
هلا قطعتم يد السارق؟
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان
تحت هذا العنوان قالت السيدة سيزا نبراوي رئيسة الاتحاد
النسائي في مجلة المصور بتاريخ (206 1952) تعليقاً على
فتوى الأزهر ومؤتمر الهيئات الإسلامية بشأن حقوق المرأة
السياسية: (لقد دخلنا هيئة الأمم المتحدة وتغيرت طرق الحياة،
وعلى شيوخنا أن يتطوروا، في تفسير القرآن في الحياة، وإلا
فلماذا لا تقطع يد السارق، ولماذا لا يرجم الزاني والزانية؟ لقد
جعلنا قوانيننا) تعني الوضعية (تتفق في ذلك مع تطورات
الزمن)
نحن لا نود أن نناقش اتهام هذه السيدة الإسلام بالجمود وعدم صلاحيته لتطور الزمن، كما تهدف إليها كلمتها، ولكنا نود أن نناقش هذه المعركة الهزيلة التي أشعل نيرانها الغوغاء الثرثارون من الفريقين، والتي لا نعرف لها سراً إلا الثرثرة في غير جدوى، ولا ندرك لها هدفاً إلا تضيع الأوقات سدى وشغل الرأي العام عن مهام الأمور ولا سيما قضية البلد التي أصابت الذروة من الفشل، ونالت أعلى مراتب التهاون والإهمال.
إن الفريق الأول المؤيد لحقوق المرأة السياسية تتزعمه حركات نسائية هزيلة. تلعب من ورائها أصابع الاستعمار الذي يهمه يظل الرأي العام مشغولاً عن قضيته، ووراء هذه الحركات الهزيلة بعض الأقلام الهينة التي من رسالتها أن تبرز في غوغاء المعارك وضوضاء المناورات، وصخب المهازل. والناظر إلى هذه الحركات في مظهرها يعتقد أنها ستحقق للبلاد كل الخير، وتنهض بالوضع إلى القمة، وتدفع بالشعب إلى حيث يتربع فوق هامة المجد ولسنا ندري ماذا نفعل بصوت المرأة في الانتخاب إذا كان الرجل بعد لم يحسن إعطاء صوته؟ وماذا نفعل بنيابة المرأة شياختها، إذا كانت نيابة الرجل وشياخته بعد لم(995/14)
تنجحا تحت قبة البرلمان، ولم تقدما ذرة من الخير لهذا البلد المنكوب،
إن عملية الانتخاب في الريف لم تزل عملية آلية، يتولى تحريكها العصبيات وذوو البطش وأصحاب السلطة من عمدة القرية إلى خفيرها. والفلاحون لا يفهمون من الأمر شيئا سوى أنهم يساقون يوم الانتخابات إلى الصناديق كما تساق المواشي إلى الحظائر. وأصحاب الحول والطول منهم لا يدفعهم إلى التأييد أو الخذلان سوى المنافع الشخصية، أو الحزازات الأسرية. وإن عملية الانتخاب في العاصمة لم تزل عملية تجارية يلعب خلالها السماسرة من رواد المقاهي وفتوات الأحياء دورا يشهد لهم بالبطولة ويقر لهم بالفروسية؛ لأن الطبقة المثقفة في العواصم تضم بأصواتها أن تكون وقوداً للضوضاء ودخاناً للمهازل!
ثم ماذا فعل البرلمان لمصر وهي لم تزل ترسف في قيود الذل والاحتلال؟ ثم ماذا فعلت أصوات الناخبين وصيحات المنتخبين ومصر لم تستطيع بعد أن تسحق الاحتلال الجاثم فوق صدرها وتزهق روح النفوذ الأجنبي الذي يسير دفة سياستها، ولا أن تظفر بالوحدة المؤكدة لشعب وادي النيل، ولا أن تنهض بالشعب إلى المستوى الذي يليق بالآدمية في دنيا الناس.
ثم ماذا فعلت هذه الحركات النسائية! هل استطاعت أن تعمم التعليم بين بنات جنسها، وإن تشق جداول الثقافة لينهل منها الجميع على السواء؟ ألا تدري المتزعمات لهذه الحركات أن نسبة المتعلمات لم تزل تافهة لا يقام لها وزن، وأن نسبة الجهل في السواد الأعظم من بنات جنسهن لم تزل عالية إلى درجة الخجل. فلتسهم هذه الحركات النسائية - إن كانت صادقة في جهودها - في تحقيق الوحدة والجلاء. ولتسهم بجانب هذا في النهوض بالمرأة ثقافياً واجتماعياً وعلمياً، بحيث تشمل نهضتها المدن والقرى والكفور، وليكن للمرآة بعدئذ ما أرادت من حقوقها السياسية والاجتماعية.
أما الفريق الآخر: وهو الفريق المناهض للحركات النسائية فتتزعمه الهيئات الإسلامية الراكدة وبعض رجال الدين المحسوبين على الدين ظلماً. والواقع أنه ليس لهؤلاء الناس أهداف حية يرغبون في تحقيقها حتى يعملوا، فهم يتصيدون المعارك الجدلية والميادين الفارغة ليثبتوا وجودهم. وهم يحاولون أن يجعلوا للإسلام سلطة في توافه المسائل ولو ظل مسلوب السلطة في مهام الأمور. ويؤولون في كتاب الله تأويلا فاسدا يتفق وضآلة الحجة(995/15)
وتفاهة البرهان.
ولسنا ندري ماذا فعل هؤلاء الناس للإسلام حتى يخشوا الخروج عليه، ويتصنعوا الدفاع عنه! إن الإسلام لم يزل قريباً في مصر وفي كل بلد إسلامي، وإن شعوبه لم تزل رازحة تحت نير الاستعمار دون أن تقوى على تحطيمه، وإن قانون السماء لم يزل مبعداً لا ينظر إليه، ولا يكترث لوجوده، وإن شريعة الله لم تزل مضطهدة في كل رقعة إسلامية لا يعترف بقدرها، ولا يسأل عن كيانها.
ولسنا ندرى ماذا يضير الإسلام أن يكون للمرأة صوت انتخابي، وأن تدخل تحت قبة البرلمان وهو الذي أقر كتابه تلك المرأة التي تحكم حكماً ديمقراطياً شوريا، وسمح لها تناقش الخليفة في أمور الدنيا والدين، والتي بايعت الرسول كما بايعه الرجل سواء بسواء، وحابت معه في كل ميدان، وشاطرت الرجل الجلوس في بيوت الله.
إذا كان هؤلاء الناس يخسون على الأخلاق أن تزاحم المرأة الرجل، وأن تمهد للسفور والاختلاط بحقوق السياسة. فالملاهي والمراقص والحانات ودور اللهو والعبث أصبحت مجالا فسيحا للمزاحمة والاختلاط والسفور.
أليس من العار أن يتحدى الهيئات الإسلامية (شرذمة النساء) وتعقد من أجلها المؤتمرات، ويبعثر المال في النشرات وبرقيات الاستنكار والاجتماع؟ بل أليس من العار أن يتحدى هذه الشرذمة أيضاً رجال الدين فيصدرون الفتوى تلو الفتوى كأن لهم مصنعا من الفتاوى يخرج العشرات في كل لحظة؟
إننا نود أن نقول للفريقين رويدكم فإنكم تناضلون في ميدان لا بركة فيه ولا خير يرجى من ورائه. إنكم توهمون أنفسكم بأنكم تناضلون في سبيل الوطن والدين، وتزعمون أنكم تجاهدون في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولو صدقتم في نضالكم وجهادكم لحققتم أماني الوطن وأعززتم الإسلام بتحقيق مطالبه. ولكن. . وما أمر ولكن على من ضل سمعهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
محمد عبد الله السمان(995/16)
5 - إندونيسيا
الحالة الاقتصادية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
الزراعة:
إندونيسيا أمة زراعية وما تزال الزراعة هي المصدر الرئيسي لثروتها.
ويعتبر المطاط أهم حاصلات إندونيسيا، فهو يكون 41 , 8 % من قيمة الصادرات، وذلك بحسب إحصاء 1950 حيث بلغت قيمة ما صدر منه 1 , 146 , 000 , 000 روبية.
ويلي المطاط أهمية سكر القصب، فإندونيسيا تمتاز بزراعة أنواع ممتازة من قصب السكر، ولما أصبحت مصر دولة منتجة لسكر القصب استخدمت تلك الأنواع الممتازة في زراعتها مما عاد عليها بخير عميم.
وأما جوز الهند فيزرع في جميع أنحاء إندونيسيا ولكن الجهات الشرقية منها تنتج أكثر الكميات، وقد بلغت قيمة ما صدر من جوز الهند المجفف 1950 211 , 000 , 000 روبية.
وتجود زراعة الشاي فوق المرتفعات في جاوا وفي الشمال سومطرا حيث يجفف الشاي ويعد للتصدير، وفي 1950 بلغت قيمة ما صدر منه 101 , 000 , 000 روبية.
والفلفل الأسود والأبيض من أهم حاصلات إندونيسيا وصادراتها وبلغت قيمة ما صدر منه 1950 80 , 000 , 000 روبية.
والطباق والبن وزيت النخيل من أهم الحاصلات والصادرات، والأرز يزرع بوفرة وهو الغذاء الرئيسي للسكان. وتنمو الغابات وكثير من أشجارها يؤخذ منه الخشب النافع الصالح لصناعة الأثاث وغيره.
وهناك حرفة أخرى متصلة بالزراعة اتصالاً وثيقاً وقد بدأت تحتل مكانا هاما في حياتها الاقتصادية وهي تربية الماشية. ذلك أن الفلاح الإندونيسي كان يهتم بالزراعة كل الاهتمام، وكانت تربية الماشية بالنسبة له عملاً إضافياً لازماً للزراعة. ولكن بعد عصر الاستقلال بدأت تربية الماشية واعتبارها مورداً من موارد الثروة القومية تحتل مكاناً هاماً لدى حكومة(995/17)
الجمهورية فافتتحت في 1947 أكاديمية خاصة للطب البيطري لإعداد أطباء بيطريين للاستغاثة بهم في إرشاد الفلاحين وللعمل على تنمية إنتاج المواشي وترقية نوعها وزيادة عددها حتى تصل إلى المستوى الذي تكون فيه مصدراً من مصادر ثروة الشعب ومورداً هاماً من موارد رزقه
وأهم الحيوانات التي تربى في إندونيسيا البقر والجاموس ولأغنام والخنازير والخيل.
الري:
في البلاد الغريزة الأمطار لا توجد ضرورة لاستخدام وسائل الري الصناعي، فالنبات يستمد حاجته إلى الماء من المطر المتساقط.
وإندونيسيا تتمتع بقسط كبير من المطر لأنها واقعة عند خط الاستواء، ولكن يجب أن نذكر أن السنة في هذه المناطق تنقسم إلى فصلين: فصل تشتد به الحرارة ويغزر المطر وهذا يحدث عند تعامد الشمس على خط الاستواء في شهري مارس وسبتمبر، وفصل تقل فيه الحرارة نوعاً ويقل سقوط المطر ويحدث ذلك عند تعامد الشمس على مداري السرطان والجدي ونظراً لقلة الأمطار في الفصل الأخير رئي أنه لا بد من تنظيم وسائل الري حتى يتوفر الإنتاج، فمثلا الأرز يعتبر الغذاء الرئيسي للسكان، والأرز يحتاج إلى الماء الوفير لكي يجود. من هنا عنيت إندونيسيا منذ قديم الزمان بوسائل الري. ولكنها الآن وقد تزايد عدد سكانها وزاد تبعاً لذلك استهلاكها أصبحت مضطرة إلى العناية بوسائل الري حتى تضمن الغذاء لشعبها.
وقد كانت حكومة إندونيسيا في عهد الاستعمار تعنى بوسائل الري وذلك بسبب النظام الزراعي الإجباري الذي سارت عليه الحكومة الهولندية، فقد كانت الحكومة تجبر السكان على زراعة أنواع مخصوصة من الغلال وفي مناطق خاصة، وكان بعض أنواعها مثل قصب السكر والإنديجو لا يجود إلا إذا زرع في أرض تروى ريا كافيا. كل هذا دفع الحكومة الاستعمارية إلى العناية بوسائل الري.
وقد أقامت تلك الحكومة السدود والخزانات لحفظ الماء واستخدامها وقت الحاجة. والى 1935 تم بناء خزانات كبيرة مثل خزان بيجتان وبانشال وغيرها.
ولم تكن حومة الجمهورية الإندنوسية أقل اهتماما بالري من الحكومة السابقة، فقد وضعت(995/18)
نصب عينيها تنمية الإنتاج حتى يتوفر للسكان الغذاء، وحتى تمنع حوادث المجاعات التي كانت البلاد تتعرض لها قبل الاستقلال. وقد وضعت الجمهورية الإندنوسية خططا لتجفيف مناطق المستنقعات في بورنير وغيرها لتوفر الرخاء لشعبها.
التعدين
يحتل البترول مركزا هاما في الاقتصاد الإندونيسي ويستخرج من جلوا وسومطرا وبورنيو وايريان. وفي 1950 بلغت الكمية التي صدرت 5 , 994 , 497 طنا وبلغت قيمتها 538 , 600 , 000 روبية
وتنتج إندونيسيا مقادير وفيرة من القصدير وهي من أهم دول العالم إنتاجا وفي 1950 صدرت 44 , 308 طنا بلغت قيمتها 185 , 200 , 000 روبية.
وإندونيسيا غنية بالفحم والذهب والفضة والملح 0
الصناعة
تعتبر الصناعة أمر ناشئاً في إندونيسيا، ذلك أن الحكومة الاستعمارية كان يهمها أن تبقى إندونيسيا أمة زراعية تنتج لها ما تحتاجه من مواد أولية وتكون سوقا لتصريف مصنوعاتها، ولكن الحكومة الجمهورية عملت على النهوض بالصناعة، فقامت صناعة النسيج وصنع الآلات الحديدية وبناء السفن وصياغة المعادن النفيسة وعمل السكر وعمل الإطارات وصنع الأكياس وصناعة الإسمنت والأسمدة الخ. ولما كانت خبرة الإندونيسيين بالصناعة بسيطة فقد سارعوا بإرسال بعثات إلى أوربا وأمريكا الأمر الذي يساعدهم على النهوض بالصناعة في بلدهم. وإندونيسيا غنية بالمواد الخام وبالأيدي العاملة، ومن ثم فالمرجو أن تزدهر الصناعة فيها، ونرجو أن نراها في القريب أمة صناعية ناهضة.
التجارة
نشطت تجارة إندونيسيا نشاطا كبيرا منذ أن استقر وضعها السياسي 1949. ومعظم الصادرات حاصلات زراعية ومعدنية، ومعظم الواردات آلات ومواد صناعية.
ويحاول الإندونيسيون جاهدين أن يعملوا على موازنة ميزانهم التجاري، بحيث تكون قيمة الصادرات أعلى من قيمة الواردات، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد 1950.(995/19)
السياسة الاقتصادية
ترمى الحكومة الإندونيسية إلى رفع مستوى المعيشة للشعب على أساس تنمية قوتها الاقتصادية، ويتحقق ذلك بالعمل على رفع شأن الزراعة وتحسين أحوال المزارعين والنهوض بالصناعة والتجارة وتحسين أحوال العمال وتأمين حياتهم.
وجدير بي أن أذكر أن إندونيسيا قد واجهت وما تزال تواجه عدة متاعب اقتصادية أهمها: عدم وفرة المواد الغذائية في بعض أنحائها وتأخر الصناعة بها ونقص قوتها الكهربائية واضطراب الأمن وعدم استقرار العدل في بعض جهاتها وكثرة النقود المتداولة وسوء طرق المواصلات بها. لكن على رغم كثرة هذه المتاعب فأننا نرجو لهذه الجمهورية الناشئة مستقبلا زاهرا، ويؤيدنا فيما نذهب أليه عظيم ثروة هذه الدولة وكثرة عدد سكانها وحرص زعمائها وشعبها على أن يرفعوا من شأنها. فحيثما سرت وجدت شعبا ناهضا: مدارس ويسرع الطلاب إلى أبوابها لتلقى العلم على اختلاف أنواعه، ومصانع تقام ومستشفيات تنشأ، وسعي دائب لتحقيق خير الوطن وزيادة إنتاجه ورفع مستوى شعبه، وعمل مستمر على تحسين علاقاتهم واتصالهم بإخوانهم في العالم الإسلامي! أليس كل ذلك دليل على نهضة حقيقية تبنى على أساس من العلم والأخلاق والدين. . ولعلك لو سألت حاجا مصريا: من كان أكثر حجاج الأمم الإسلامية عددأ؟ لأجابك على الفور: الجاويين (الإندونيسيين) وأنني بهذا أختم هذا البحث داعيا الله أن يحقق لإندونيسيا مستقبلا زاهر لتعيش أمة حرة وسط عالم حر.
أبو الفتوح عطيفة(995/20)
دماء الشهداء
عروس الجنة
للأستاذ عمر عودة الخطيب
- 1 -
(في تاريخنا الزاهر دماء زكية خالدة خطت آية المجد الكبرى
ورسمت حدود عالم إسلامي واسع)
ع
جلس (أبو عامر بن صيفي) ومن حوله فئة من شباب (الأوس) قد غلظت أكبادهم، وقست قلوبهم، ورسمت المعارك التي خوضوها مع أعدائهم آثارها في وجوههم الكالحة المربدة. جلسوا مطرقين يسودهم صمت ثائر قلق. . . وكانت عيونه ترمق زعيمهم (أبا عامر) بنظرات ملؤها الإكبار والإجلال، ولكنهم لفرط مهابتهم له، وخضوعهم لسطوته، لم يجدوا من أنفسهم الجرأة في النظر أليه، والتبسط في الحديث معه، بيد انهم يعلمون أن من واجبهم أن تكون أيديهم دائما على مقابض سيوفهم ليسلوها من أغمادها إذا ما بدرت من زعيمهم أي إشارة لهم.
وكانت المدينة - إذا ذاك - تضج بالتكبير، ويتعالى في جنابتها هتاف يشق عنان السماء من هذه المواكب الفرحة التي زحفت إلى ظاهر المدنية وتسلقت أعلى النخيل، ترمق الأفق البعيد وترنوا إلى قافلة النور والإيمان. . . التي خرجت من مكة مهاجرة في سبيل الله. وتناهت إلى أسماع أبي عامر وأتباعه في مجلسهم ذاك، أصوات ناعمة رقيقة كأنها تسبيح الملائكة في الملأ الأعلى. فوقف (أبو عامر) يستطلع الأمر نبأ هذه الأصوات ووقف من حوله فتيانه ينظرون، فرأوا صبايا يثرب بأيدهم الدفوف، يسرون في موكب حافل جذلات غردات. . . وهن يرتلن نشيدهن الساحر:
طلع البد علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع(995/21)
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
وجلس أبو عامر وقد زادته هذه المواكب الطرية حنقا وحقدا، ونظر إلى اتباعه وفي صدوره مرجل يغلي (نار تشتعل. . وقال: (لقد جاء محمد إذا) وصمت قليلاً شأن من يفكر في أمر خطير ثم قال (واللات والعزى لن نتركه يجد في يثرب الراحة والاستقرار. . .) وأمن اتباعه في كلامه، وسلوا سيوفهم ورفعوها في الهواء، إيذانا بإعلان الحرب على محمد. . وانفرط عقدهم، وانصرفوا إلى بيوتهم. . وقد بيتوا أمرا.
(2)
دخل (حنظلة بن أبي عامر) وكانه شاب ريق الشباب، جاري العود، غض الأهاب، فألقى أباه غارق في تأمله، يصعد بين فترة وأخرى زفرات حرى تنم عما يعتلج في قلب صاحبها من هم وكمد. . وكانت اساريره تفضح ما في نفسه من حقد وثورة. . فوقف حنظلة غير بعيد منه وألقى عليه تحية المساء، فلم يشعر به ولم يلتف أليه. . ثم ضرب بقبضته على فخذه وصاح كالمحموم (كلا! كلا! لن تكون أرض يثرب لمحمد موطنا سهلاً!!) ورفع رأسه فرأى أبنه حنظلة واقفا، فنظر أليه نظرات صارمة كأنها جمرات الجحيم ثم قال:
- أهذا أنت يا حنظلة! اين كنت وقد انقض السامر وغاب القمر!
- كنت في دار أبي أيوب الأنصاري أستقبل محمد وأحييه. لطالما تاقت نفسي أليه، وحنت روحي إلى لقائه. . كنت قبل أن أراه كسالك البيداء. . تحرقه شمسها، ويلفحه غبارها، ويغمره ظلامها، وتعييه رمالها. . فلما أبصرته رأيت النور الإلهي بشراً سويا؛ تحف به الملائكة الله، وترعاه عناية السماء. . وحين مددت يدي أليه وصافحني - روحي فداء له - ذهلت عن نفسي، ورأيتني طائر ترفرف بجناحيه في رياض الخلد. . فأويت إلى ظل محمد. . ونسيت متاعب الصحراء سمع أبو عامر كلام أبنه؛ فقام كمن يتخبطه الشيطان من المس ثم قال:
- ويل لك يا حنظلة! أو قد صبأت! أكفرت بآلهتنا؟ هل سحرك محمد فنسيتني وعصيتني؟ كيف ألقى بعد اليوم فتيان الأوس وقد جاء لمي العار؟!
- لقد آمنت بمحمد (ص) منذ بعثه الله وكفرت بهذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع ولا تغنى من الحق شيئاً. . . لقد طهرتني رسالة السماء من الجاهلية. . وأخرجني محمد من(995/22)
الظلمات إلى النور. . وسكب في روحي أيمانا يشع بالخير والنقاء. . وعلمني أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. . وإن المسلم في الدنيا خليفة الله بالأرض. . ينشر رسالته ويعلي كلمته. . وأنا أدعوك يا أبت إلى نبذ عبادة الأصنام، والإيمان بالله الواحد القهار. . بارئنا وقيوم السماء والأرض. وسكت أبو عامر قليلا ثم اصطكت أسنانه، وتلاحقت زفراته وقال:
- ماذا آري! ماذا اسمع؟ رحماك أيتها الآلهة! أغرب عن وجهي يا حنظلة. . فلا أراك بعد اليوم، وليس لي منذ الساعة بيثرب مقام.
ثم لبس رداءه وحمل سيفه، وامتطى راحلته، وصفق الباب وراءه صفقة عنيفة وأنطلق
(3)
ومرت سنتان ونصف. . حتى كانت تلك الليلة التي استوى فيها القمر بدرا، وملأ الكون نورا. وقد أنصرف حنظلة من المسجد فرحا يرقص قلبه طربا، وبعد أن بارك رسول الله زواجه بفتاه من الأنصار. . سار في أزقة المدينة، يحيط به أقربائه من الفتيان والبشر يملأ وجوههم؛ والسعادة ترفرف عليهم. . سارو يزفون حنظلة إلى فتاته في عرس لم تشهد المدينة له مثيلا. . فكان الفتيان يهتفون، والنساء يزغردن، وحلت الفرحة كل بيت. . لأن حنظلة حبيب إلى كل قلب، لما حباه الله من رقة في الشمائل، وكرم في المعشر، ونبل في الخلق. . إذا كانت الأصنام قد حرمته في مثل هذا اليوم حنان الأب وفرحته، فقد حباه الإسلام حنان كل أب في المدينة وعطف كل أخ. . فلا عليه أن يهنأ ويسعد وقد غدا الإسلام له أبا وأم. زف حنظلة إلى عروسه وكانت فتاة صنعتها رسالة محمد، فأقبلت عليه تتعثر في أثوابها، فحف أليها يستقبلها، فأفتر ثغرها الحلو عن ابتسامة عذبة أسرت قلبه، وملكت عليه لبه؛ لأنها ابتسامتها الأولى لرجل 0 فما عرفتها المدينة ألا فتاة عفة نقية، كالزنبقة المغلقة تنشر الشذى من خلف أوراقها البيضاء الندية. ونام حنظلة ليلته هانئا ناعم البال. . ورأى نفسه مع بعض إخوانه في روضة جميلة ضاحكة. . موشاة بالزهر، مضمخة بالعطر، تجري من تحتها الأنهار. . وتخطر في ورودها الحسان، وهن يوقعن أعذب الألحان. . وأفاق من غفوته وقص على عروسه حلمه الجميل. فابتسمت له وقالت: سيتحقق حلمك يا حبيبي. . وكادت يده تلامس يدها حتى سمع منادي رسول الله ينادي(995/23)
بالخروج إلى العدو في أحد؛ فنظر أليها ونظرت أليه، ثم وضع ثيابه عليه وحمل سيفه وودعها. فانحدرت من مقلتيها دمعتان. . ولم تفارقها ابتسامتها.
(4)
خرج من صفوف المشركين فارس على جواد مطهم، وبيده سيف ثقيل يهزه هزات عنيفة، وينادي بصوت جهير. . كأنما يريد أن يجتاز به السهوب، ويزلزل القلوب. . ليصل إلى يثرب. . بلدته فارقها منذ أمد بعيد، بعد أن قطع على نفسه عهد أشهد عليه اللات والعزى، إلا يترك محمداً يجد في يثرب الراحة والاستقرار نادى في المعركة) (يا معشر الأوس! أنا أبو عامر) فإذا بأصوات المؤمنين القوية المرعدة تصك مسمعه بقوة وعنف: (لا مرحبا بك) وسمع حنظلة صوت أبيه. . ذلك المشرك الذي يحارب الله ورسوله، ويكيد الإسلام؛ فلم يسمعه صوت أب وإنما سمعه صوت مشرك يتحدى المسلمين فأخذته عزة الإسلام فهب يستأذن رسول الله في قتل أبيه فنهاه رسول الله عن ذلك فرجع كئيبا ينظر.
ولما أنكشف المشركون رأى حنظلة أبا سفيان قائد جيش المشركين. . يسير مزهوا يميل برأسه تهيا وكبرا. فأنقض عليه وضرب بسيفه قوائم فرسه فوقع على الأرض يصيح، وحنظلة يريد ذبحه، ولم يكد يرفع السيف ليهوى به على هامة أبي سفيان، حتى أدركه (الأسود بن شعوب) فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه ولكنه وثب كالأسد ومشى في الرمح وقد أثبته، فعالجه الأسود بضربة ثانية فخر صريعا.
وقبل أن يغمض عينيه. . تذكر عروسه وهي تبتسم له وتقول: سيتحقق حلمك يا حبيبي. . ورآها وقد انحدرت من مقلتيها دمعتان. . ولم تفارقها ابتسامة. . ورأى رسول الله يقبل نحوه. . فتعلق بالحياة وهم أن ينهض لاستقبال رسول الله ولكنه وقع على الأرض. . وقبل أن تفيض روحه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأترابه. . بصوت تقطعه الحسرات. . (إن صاحبكم هذا تغلسه الملائكة)
جبلة - سوريا
عمر عودة الخطيب(995/24)
أبو هلال العسكري
بين البلاغة والنقد
للأستاذ عبد العزيز قلقيلة
تقدمت بهذه الدراسة إلى أستاذي الفاضل الدكتور (إبراهيم بك سلامة أستاذ البلاغة والنقد الأدبي بكلية دار العلوم عام 1949 فظفرت منه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.
وأنا أهديها أليه على صفحات الرسالة الغراء تحية تقدير ووفاء وتهنئة بظهور كتابه الجديد الخصب (تيارات أدبية بين الشرق والغرب).
(ع. ق)
تمهيد
هذا بحث تكلمت فيه عن أبي هلال - في كتابه (الصناعتين) بين النقد والبلاغة، وكان مما وجهني أليه وحفزني إلى الكتابة فيه أني قرأت كتاب الدكتور محمد مندور (النقد المنهجي عند العرب) فهالني بل روعني أن يكون في القرن الرابع الهجري - وهو ألمع القرون وأحفلها بجلائل الأعمال في جميع أنواع المعرفة عند العرب - رجل بتلك الصفات وهذه النعوت التي أضافها أليه الدكتور، وقلت: ألا يمكن أن يكون في العرض من جانب الدكتور لأبي هلال ظلم للرجل وتحامل عليه؟ وعلى فرض أنه بهذا الفساد وذلك الانحراف ألا يمكن الاعتذار عنه!
وكان أن عولت على لقاء آبي هلال في كتابه والاستماع أليه ثم التحدث عنه بما يثبت حكم الدكتور آو ينقضه كم أذى من نفس قلقها وأراها إلى شيء من الاطمئنان.
وسيستبين القارئ منهجي في البحث: أما أجماله فهو قد جعلته ثلاث مراحل: الأولى: - تمهيد للقاء أبي هلال وذلك أني أحببت أو رأيت أنه لا ينبغي لمن يتصدى للقاء العفو أن يكون جاهلا بطبيعة عملهم ونواحي العبقرية والنبوغ غيرهم في هذا العمل 0 فكان هذه الإلمام السريع من جانبي بتلك البلاغة والنقد وتطورهما إلى عهده. ومنه وقفت على تشهيد نشأتيهما بل على وحدة الظروف التي خلقها؛ وإذاً فليس الغريب أن يلتقيا في تطورهما اكثر من مرة على أيدي رجال موزعين بينهما أو قد أحاطوا بهما فتكلموا فيها على اختلاف(995/25)
في الميل إلى أحدهما آو زيادة في الاهتمام به. والمرحلة الثانية: - الاختلاف إلى أبي هلال والتردد عليه، بل مصاحبته مصاحب شديدة في أبواب الكتاب العشرة وفصوله الثلاثة والخمسون أستمع أليه فأفهم عنه وأعنون له. ولم أنس أني إنما سعيت لقائه لاحق حقا آو لأبطل باطل. فلم يغب عني وأنا في حضرة ما قاله: صاحب (النقد المنهجي) فيه. وكثيرا ما قررت كي صاحبي آو ترجمته موضحا عبارته، مستخلصا فكرته، وأضع إياها في ميزان النقد العام بها تثقل وترجح بينما مبين الدكتور قد شال بها وخف.
لهذا بعد أن فرغت من لقاء أبي هلال وودعته قمت بعملية تجميع للتهم التي وجهها إليه الدكتور مندور وناقشت واحدة واحدة وتلك كانت المرحلة الثالثة.
وكانت الخاتمة، فنبهت إلى أن أبا هلال وإن كان قد تأثر في البلاغة والنقد وجمعها بل ومزجها في كتاب فليس هو بدعا في هذا، لا في تاريخ النقد العربي ولا في تاريخ النقد العام
البلاغة والنقد ووظيفتهما
البلاغة بمعنى الكلام البليغ هي الأدب، وهي بهذا الاعتبار مادة البحث وموضوعة للبلاغة الإصلاحية والنقد الأدبي. ولن أتعرض لها هنا من الناحية، كما لن يكون من همي أن أتتبع تلك التعريفات التي أوردها أبو هلال في صدر كتابه وعلق عليها شارحا موضحا. بل يعنني من البلاغة ما كان يفهم قديما وما يفهم الآن من كلمة (البلاغة). أعني هذه القواعد وتلك التقاسيم آلت كونت هذا الثالوث الضخم (المعاني والبيان والبديع) ووظيفتهما: - أنها ترشنا إلى أحسن الوسائل التي تجعل كلامنا ممتعا نافعا مؤثرا. أما النقد الأدبي فهو من دراسة النصوص وتمييز الأساليب). ووظيفته (تقويم العمل الأدبي، وتحديد مكانه في خط سير الأدب) فكل منهما يدور حول تحقيق الصدق والقوة والجمال في النتاج الأدبي.
نشأة البلاغة وتطورها إلى عهد أبي هلال
من حسن فهم أبي هلال لطبيعة الأشياء هذا النص الذي نقله عن مجموعة التحفة البهية الدكتور زكي مبارك أن البلاغة ليست مقصورة على أمة دون أمة، ولا على ملك دون سوقة، ولا على لسان دون لسان. بل هي مقسومة على اكثر الألسنة. فهي موجودة في كلام(995/26)
اليونان وكلام الفرس وكلام الهند وغيرهم. ولكنها في العرب اكثر لكثرة تصرفها في النثر والنظم والخطب والكتب وهم أيضاً متفاوتون فيها. فقد يكون العبد بليغا ولا يكون سيده، وتكون الأمة بليغة ولا تكون ربتها فالبلاغة قد تكون في أعراب البادية دون ملوكها وقد يحسنها الصبي والمرأة)
والبلاغة التي يقصدها أبو هلال في هذا النص هي (الملكة) أي القدرة على تأليف الكلام البليغ وهي قديمة جدا قدم الأدب. ليست هذه الآداب إلا آثارها ودلائل وجودها ولقد وجدت الآداب منذ وجدت الجماعة. وكان لهذه الجماعة تحضر وتمدن وعقيدة.
أما الاتجاه إلى دراسة هذه الآداب بقصد نقدها واستنباط قواعد البلاغة منها فهذا ما تأخر ظهوره اختلفت مظاهره عند كل أمة وفي كل أدب حسب الظروف والملابسات. أما عند العرب فقد نزل القرآن بلغتهم الأدبية وفيه كثير من الأنواع البلاغية؛ لكنهم ما كانوا في فهمه وتذوقه إلى علم آو معلم أنهم بلغاء بالطبع لكن الدين قد انتشر ودخل فيه خلق كثير من غير العرب بدءوا يقرءون القرآن فيلقاهم منه من الكلمات والآيات ما يعجزهم فهمه ويعز عليهم تأويله. ولهذا رأينا منهم من يسعى إلى بعض علماء العربية (أبي عبيد سنة 206 هـ) يسأله في معنى قول الله (طلعها كأنه رؤوس الشيطان) فيجيبه بما هو من صميم العربية ومألوف استعمالها.
(هذا نظير قول أمرئ القيس): -
أيقتلني والشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
ولكن هذا العالم الجليل لا يدع الموضوع يمر دون التفات منه لحاجة الناس إلى بيان فيه فيؤلف كتابه (مجاز القرآن) وتكون هناك محاولات وابتداءات تظهر في شكل رسائل آو مقالات، وتنشط هذه الحركة وتنمو، ويزداد سلطان المعتزلة ظن ويترجم منطق أرسطو فيتصلون به والفلسفة اليونانية؛ ويعجب الفرس وغيرهم بهؤلاء المتكلمين الذين يحكمون العقل والمنطق في جدولهم وحوارهم فينحازون لهم وينضمون إليهم.
وتروج هذه الثقافة وتشيع فتزدهر البلاغة وتنموا حتى إذا جاء القرن الثالث، عرف بجمع المادة الأدبية وعرضها في أبواب تنقصها الطريقة العلمية ولكنها موصولة أليها فهذا (الجاحظ) (255) يبتدئ به البيان ويكتب فيه ويجمع له مادة غزيرة، متعقبا بعضها أحيانا(995/27)
بنقد يعتبر أساس للبلاغة وللنقد المنظم فهم يتحدث عن الفصيح وعن الفصاحة ويفرق بين الفصاحة بمعنى البيان وبين البلاغة بمعنى الوصول إلى الغرض؛ ثم يعرض لتعريفات عدة في البلاغة عند العرب، وعند غيرهم ممن لهم بالعرب اتصال جغرافي أو ثقافي.
ويعمل جهده في التدليل على أصالة البيان العربي وأنه للعرب خاصة، ويتكلم في الأسجاع ما يحس وقعه منه وما يسؤ مع التمثيل لهذا وذاك، ويطوف في بيانه وتبيانه على الشيء الكثير من الأنواع من البلاغة، وقد يؤرخ لها ويقارن بينها ضاربا الأمثال من القرآن والسنة والشعر القديم والشعر الحديث. ثم هو يعد صاحب المذهب الكلامي.
وبحق ما قيل من أنه أول باحث في البلاغة، ولكن أبحاثه لم تكن مبوبة ومرتبة، وإنما هي معلومات عابرة فتحت مغاليق هذا العالم.
وبموت الجاحظ حوالي منتصف القرن الثالث الهجري كانت البلاغة قد استقرت عند أوليات الأمور التي تبحث فيها وتفنن لها، وقد لخصها الدكتور طه حسين باشا آو عنوان لها بالأمور الآتية:
الكلام على صحة مخارج الحروف، ثم على العيوب التي سببها اللسان آو الأسنان آو ما قد يصيب الفم من التشوه.
الكلام على سلامة اللغة، والصلة بين الألفاظ بعضها ببعض، والعيوب الناشئة عن تنافر الحروف.
الكلام على الجملة والعلاقة بين اللفظ والمعنى، ثم على الوضوح والإيجاز والإطناب، والملاءمة بين الخطبة والسامعين لها، والملاءمة بين الخطبة وموضوعها.
الكلام على الخطيب.
أما النصف الثاني من القرن الثالث فقد ظهر فيه علمان من أعلام البلاغة، ترك كل منهما فيها من الآثار ما جعلها تنقسم إلى قسمين آو تسير في اتجاهين: أحدهما عربي صرف آو هو اقرب أن يكون عربيا صرفا، والثاني منطقي صرف آو هو اقرب أن يكون منطقيا صرفا: -
فأما أولهما: فهو عبد الله بن العتز (296 هـ) فهم ما قاله الجاحظ واهتدى بطريقته وجمع من فكرته مع زيادة علها ما ألفه وسماه (البديع) وجعل منها خمسة أنواع أصيلة عند العرب(995/28)
القدماء وليست مبتكرة، يرد بذلك على المتحدثين الذين ادعوا اختراعها والسبق أليها وهي: -
الاستعارة والتجنيس، والمطابقة، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها، والمذهب الكلامي وتطغى هذه الأنواع على غيرها في كتابه، لأنه يبدأ بذكر الخاصية ثم يورد أمثلة لها من القرآن والحديث والشعر، ويعقب على هذا بذكر ما عيب من استعمالها.
ثم بعد ذلك يذكر بعض محاسن الكلام والشعر، وهي كثيرة يجتزئ منها بالآتي: الالتفات، الاعتراض، الرجوع: الخروج من معنى إلى معنى، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف، هزل يراد به الجد، حسن التضمين، التعريض والكتابة، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، إعنات الشاعر نفسه بالقوافي، حسن الابتداءات.
والناظر في موضوعات كتاب (البديع) يرى أن علوم البلاغة: (المعاني والبين والبديع) لم تنفصل بعضها عن بعض، ولم توضع لها حدود تميزها. فإن المؤلف ساق أيوب البيان الثلاثة وهي الاستعارة والكناية والتشبيه مساق الأنواع البديعية في كتابة وأما ثانيهما: فهو قدامة بن جعفر (275 - 337)، كان نصرانيا ثم أسلم، درس الفلسفة والمنطق، وألف كتابا سماه (نقد الشعر). يقول أستاذنا الكبير طه حسين باشا (إن هذا الكتاب قد استغله كل مؤلف جاء بعده، وعندما نقرأه نحس من أول فصل أننا إزاء روح جديدة لا عهد لنا بمثله من قبل).
وقد ألم قدامة في كتابه بعشرين نوعا من أنواع البديع، توارد مع ابن المعتز في سبعة منها وانفرد بثلاثة عشر.
ونلاحظ هنا ما لاحظناه سابقا، وهو أن العلوم الثلاثة لازالت مختلطة.
وهنا نجد أنفسنا بصدد أبي هلال العسكري وكتابه (الصناعتين). فلنعد الآن من حيث أتينا، ولنسر هذا الشوط مرة أخرى كي ما نؤرخ للنقد.
يتبع
عبد العزيز قلقيلة(995/29)
نظرات خاطفة
شاعر السودان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
وهذا شاعر آخر من السودان، القطر الذي فتنت بنبل كرم أهله، وسموا أخلاقهم، وعروبتهم الأصلية، القطر العربي الأفريقي المصري الذي ظلت قيود الاستعمار البغيض تعض ساقية سنوات طوالا، وسوطه يلهب بالظهور، ويدمي الرقاب، وهو ثابت كالطود الأشم يكافح ويناضل في سبيل استقلاله وحريته، والمحافظة على لغته الأصلية، لغة القرآن الكريم، دون أن يلين آو يستكين، وبين حين وآخر يلتفت نحو منبع النور والثقافة والحرية ليهتف على لسان شبابه المتوثب:
أملي في الزمان مصر فحيا ... الله مستودع الثقافة مصرا
نصر الله وجهها فهي ما تزداد ... ألا بعداً علي وعسرا
إنما مصر والشقيق الأخ السود ... ان كانا الخالق النيل صدرا
لا رغبنا ولكن دهراً ... ناوأتنا صروفه كان دهرا
في هذا القطر المترامي الأطراف والجوانب، والشاسع الحدود، الذي يعيش فيه أهلوه واكثر شبابه غرباء الروح والفكر، يظهر بين فترة وأخرى فنان يعيش لأجل فنه يرى بعينه آلام شعبه، فيحرق نفسه بخوار لينير لهم السبيل القويمة لعله يوصلهم إلى محجة الخير والسعادة والكمال، ومن هؤلاء الأفذاذ الذين أنجبتهم هذه الأمة الكريمة العربية المحتد والأصل شاعر عربي النزعة مصري الهوى بدوي النفس لشعره جميع الخصائص والميزات التي يتصف بها الشعر (الكلاسيكي) الأصيل، من جزالة في الأسلوب، وإشراق في الديباجة، وجمال في المبنى والمعنى وهو الأستاذ محمد سعيد العباسي
ترجمة حياته:
كتب الشاعر تاريخه بقلمه فقال:
(أنا محمد سعيد العباسي بن محمد شريف بن نور الدائم بن أحمد الطيب العباسي منشئ الطريقة السمانية بمصر والسودان، ولدت بعز أديب ولد نور الدائم بالنيل الأبيض 33 من(995/30)
رمضان 1298 هجرية، ولما انتقل بي والدي في حوادث المهدية إلى الشيخ الطيب بمديرية الخرطوم شمالا وبلغت من العمر سبع سنين أدخلني مكتبا (خلوة) لقراءة القرآن عند عمي الزاهد الورع الشيخ زين العابدين، ثم تنقلت في مكاتب أخرى تبلغ العشرين عدا، وكان والدي يأمرني أثناء قراءة القرآن بحفظ متن الآجرومية صورة لي بنفسه مع متن الكافي في علم العروض والقوافي، ويعد استرجاع السودان ودخول الجيش المصري طلب (كتشنر) من والدي إلحاقي بالمدرسة الحربية المصرية فدخلتها يوم 28 مارس 1899 وبعد سنتين استعفيت لأني رأيت أن لا أمل لي في الترقية وإن كنت أول الناجحين في الامتحان) ثم يسترسل المترجم فيذكر أساتذته الذين ثائر بهم فيقول: (إن أولهم كان أباه الذي حثه على حفظ أشعار الفحول القدامى ثم أستاذة الجليل المرحوم الشيخ عثمان زناتي الذي كان في طليعة الشعراء والأدباء في زمانه ومن رثائه له يستبان لنا ذلك حيث يقول:
فيا رحمة الله حلى بمصر ... ضريح الزناتي عثمانية
غذاني بآدابه يافعا ... وقد شاد بي دون أترابية
ويا شبيه الحمد إن القريض ... اعجز طوقي وأعيانية
أعرني بيانك اسمع به الأ ... صم، وانطق به الراغية
وهذا كل ما يعلمنا عنه الشاعر من سيرته التي كتبها بقلمه ولكننا لو رجعنا إلى مقدمة الكتاب التي كتبها الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك نراه يوضح المميزات الخاصة بشعر العباسي وتأثره بالحياة المضطربة التي عاشها في السودان والحوادث السياسية التي تعرض لها والتي صحبته في أواخر القرن المنصرم، قال:
(فالسيد العباسي إذا صدح في شعره أحسست في موسيقاه أصداء أناشيد الشريف الرضى إذ تتردد في شعره حرارة السرة السادة الذين يحسون مسئوليتهم في المجتمع، وتجمع معها نغمة أخرى من كرامة السادة الذين يحسون قصر اليد عما يريدون، وإذا كان شعر السيد يمثل لنا ديباجية موسيقى السيد الكريم فإن فيه ألواناً أخرى تذكرنا بأرواح يملؤها الطموح وتتقد فيها حرارة القلب القوى الذكي إلى فن الشاعر الذي يغوص إلى اعمق المعاني ويصورها في ابرع اللوحات. ثم هو في ديباجته فذ لا يكاد يجد. الناقد عديلا ألا في عباقرة الشعراء من قدماء ومحدثين وإذا أردنا نحن أو أردنا ناقد آخر أن يكشف للقارئ عن تلك(995/31)
التي أشار أليها الأستاذ أبو حديد فهل يستطيع، أما أنا فأقول بالإيجاد، ومن قرأ له مثل هذه الأبيات:
إلى كم أمنى النفس مالا تناله ... يجوب الفيافي وادراع الفدافد
وقد رقد السمار دوني فهل فتى ... يعير أخا البأساء أجفان رافد
فيا نفس أن رمت الوصول إلى العلا ... ردى قسطل الهيجا وغمرتها ردى
أما ويمين الله وهي أليه ... تقال فتغنى عن يمين وشاهد
سأصفح عن هذا الزمان وماجني ... متى ظفرت كفاي منه بماجد
وإن ألقه بعت الحياة رخيصة ... وآثرته باثنين: سيفي وساعدي
وقوله:
ما أعجب الأيام كم دفعت بنا ... في ذي الحياة لشدة ومضيق
أنا في زمان عشت فيه بمعشر ... يجزي الجميل لديهم بعقوق
طرحو المهند للعصاو استبدلوا ... بالأمس تغريدي لهم ينعق
مادمت سباقا فليس بضائري ... أبدا مقال مدفع مسبوق
لاشك في أن الروح التي كانت تعتلج في أجساد الشعراء السادة الفحول من شعراء العرب وخصوصا الفرسان هي نفسها التي كانت تضطرم بين جنبي شاعرنا العباسي إبان نظمه للأبيات الآنفة الذكر. ولا غرو فالعباسي كان من أرباب السيف والقلم وقد خاب في مضمار السيف فتركه ليبرع في الشعر أسوة بشاعر النيل حافظ إبراهيم. . على أن حافظا كان رحمه الله فقير محتاجا فكان يحس في أعماق نفسه بالمجاعة فأراد أن يكون شاعر القصر عساه يتمتع بمباهج الحياة في ظل القصور الفارهة الناعمة. . ولما خاب أمله اتجه إلى الشعب ليسكب ثورة نفسه وألم خيبته في الشعر الذي كان يعبر به عن آمال نفسه 0 أما العباسي فقد كان مكتفيا وكانت المادة متوفرة لديه فلجأ إلى الشعب يخاطبه بشكل آخر، شكل السيد الآمر، والزعيم المضطهد، لذلك جاءت في شعره أقباس من طموح الزعماء، وآلام من ثورة الأحرار الذين رغم انصرافهم إلى السياسة وأمور الدنيا لم ينسوا أخرتهم ودينهم لتأثير الناحية الدينية عليهم منذ نشأتهم.
البقية في العدد القادم(995/32)
عبد القادر رشيد الناصري(995/33)
الإسلام وحياتنا العامة
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
إن أمتنا أمة مسلمة. غير أنها لا تستوحي الإسلام في تصرفاتها ونظرتها للحياة وأحداثها. ولا ترى أن من الخير الذي يعود عليها بأجزل النفع أن تنظر إلى الحياة من خلال الفكرة الإسلامية. وإن كثيراً من الكتاب يخرجون علينا بأفكار مختلفة، منهم من يرى أن حياتنا يجب أن تنهض على الإسلام، ومنهم من يرى أنه يجب أن ننحي الإسلام عن حياتنا هذه، وأن نشرع فيها على أسلوب جديد يوافق روح العصر، ويقطع كل ما يصلنا بهذا الدين العتيق.
والعجيب أن أكثر هذه الكتابات التي تنادي بفصل ديننا عن حياتنا إنما هي بأقلام كتاب مسلمين. والمفروض أن المسلم يكون أحرص على دينه، وأغير عليه من أي إنسان آخر، حتى يؤدي واجبه نحو نفسه، ووطنه، وربه، على خير الوجه وأكملها. وهؤلاء الكتاب بعملهم هذا ينهجون نهج أقوام آخرين لا تربطهم بالدين الإسلامي رابطة، لا يكادون يهادنونه ويدعونه يرسم صورة للحياة الناضجة القديمة، ويقفون له بالمرصاد ينتقصونه، ويسفهونه، ويزرون به، وينعون عليه أحكامه وآدابه وتوجيهاته.
وإذا استوحى المسلم غير الإسلام فهو وغير المسلم سواء. وهو حرب على دينه. وهو عون لأعدائه عليه. وهو دخيل علينا لا يجوز أن نركن إليه، ولا نأتمنه، ولا نهادنه. وعلينا أن نحذره ونتعرف على نياته ودخائله لأنه أخطر علينا من العدو الألد والمهاجم الصريح.
ليس ما نشكوه في هذه الحرب هو الأجانب وحدهم، بل نشكو المسلمين أيضاً؛ هؤلاء الذين يعملون لهدف غير هدفنا، ويسعون لمثل غير مثلنا، ويبنون حياة لا تتفق وحياتنا. وبعد ذلك تتخذ أقوالهم وأعمالهم حجة على الإسلام إن لم تتخذ على أنها الفكرة الإسلامية في ذاتها. ونعني من وراء هذا العسف الغليظ والضر الأليم. وننفق من قوانا في جهتين، إحداهما داخلية، والأخرى خارجية.
هذا الإسلام بعيد عنا. وكلما نادينا بالاقتراب منه، والاسترواح في ظله، والاستقاء من نبعه، خرجت علينا الذئاب العاوية لتقتنص منا الغنم الشاردة، فتفرق وحدتنا، وتضرب في صفوفنا، وتزعزع إيماننا برسالتنا وديننا وأهدافنا المنيرة الحقة. ومن هنا يظل الإسلام(995/34)
بعيداً عنا أطول مدة ممكنة، حتى يمتص المستعمرون وأعوانهم الثمالة الباقية من ذخائرنا، ثم بعد ذلك نكون جسداً هامداً لا خير فيه.
إذا أردنا أن يكون الإسلام أسلوب حياتنا فعلى كل مسلم أن يكون صاحب دعوة وصاحب رسالة. عليه أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن الواجب لا يتم إلا به، فعليه جزء منه، وعليه أن يبذل في سبيله، لا فرق بين رجل دين وغيره. فالإسلام، والعمل له، والإيمان به، دعوة كل مسلم ورسالته. والمسلمون جميعاً مسئولون عنه لا فرق بين إنسان وإنسان. أما هذا الكلام المعلول في مسؤولية المسلمين فليس من الإسلام في شيء. ليس في الإسلام رجل دين ورجل دنيا، ولا رجل مسؤول ورجل غير مسؤول، ولا فرد يعمل وآخر يعتمد على عمل غيره، إذ كل المسلمين في نظر الإسلام سواء، وهم مكلفون العمل له والإيمان به، لا يغني بعضهم عن بعض شيئاً.
إذا أردنا أن يكون الإسلام أسلوب حياتنا فعلى كل مسلم أن يهتدي به في حياته، فيحققه في كل عمل وقول، ويتجه إلى وجهته. ويشيعه في حياته العامة والخاصة، ويعتنقه مبدأ لا يحيد عنه، ويشارك به فيما يرى من رأي أو يرغب من رغيبة
على كل مسلم أن يجعل حياته إسلامية، وأن يفيض من خيرها وبرها على الوجود من حوله، وأن يحمل غيره على ما يحبه له ولنفسه وللناس جميعاً، من خير لا ينقطع، وبركة زاكية، وحب شامل، وإخلاص عميق في كل ميادين الحياة، في التجارة والزراعة، في التعليم والسياسة، في الاجتماع والاقتصاد، في خاصة الرجل وخاصة المرأة وفي المشترك بينهما.
ليس في هذا مشقة على أحد. فكل إنسان يستطيع أن يرسم حياته بالطريقة التي تروقه وتحلو له. وحياة الفرد ليست غير تحقيق عملي لعواطفه وأفكاره. وحوافز النفس وخلجات الضمير هي أمهات جلائل الأحداث. وتاريخ الأبطال والعظماء ما هو إلا انعكاسات القلوب الكبيرة والنفوس النبيلة.
إننا ننعى على الحكومة موقفها من الإسلام. والواجب أن ننعى على أنفسنا مثل ما ننعاه على هذه الحكومات، لأننا نستطيع أن نعمل الكثير لأنفسنا وللإسلام من غير أن نلجأ إلى حكومة نسألها العون ونستجديها العطف، حياتنا المنزلية، وحياتنا مع أصدقائنا، وحياتنا في(995/35)
عملنا، وسلوكنا مع الناس عامة، وحياتنا الذاتية التي لا يطلع عليها إنسان - كل هذه مجالات مختلفة متفاوتة، نستطيع أن نحياها صحيحة وأن نبعثها إسلامية. وذلك متى ما تصورنا حياة سهلة سائغة سمحة واتخذنا هذا التصور هدفا لنا ومثالاً نسعى إليه.
وقد قرأت في مجلة الثقافة مقالاً لكاتب مسلم، هو الأستاذ محمد عبد الله عنان، وقد عنون الكاتب موضوعه بهذا العنوان (المرأة والحقوق الدستورية، لا محل للاحتكام بشأنها إلى الدين) ومن هذا العنوان وحده نستطيع أن نلمس حرص الكاتب على تخلي الدين على حياتنا العامة. مع أنه يجب أن نحتكم إلى الفكرة الإسلامية في كل شؤوننا العامة والخاصة، شؤون الفرد والجماعة، شؤون الرجال والنساء، شؤون الأطفال والبالغين، في عملنا السياسي أو الاجتماعي أو التهذيبي أو الذاتي، في سلوكنا الظاهر وسلوكنا الخفي. نحتكم إلى الفكرة الإسلامية في كل هذا حتى نتعرف على مواضع الرشاد ومواضع الزيغ في سلوكنا، وإذا ما نادى إنسان بمثل هذه الدعوة التي نادى بها الأستاذ عنان فإننا نعتبره أحد رجلين: إما أن يكون رجلا لا يعرف من أمر دينه الكثير، وإما أن يكون رجلا يعين غيرنا علينا. وهو على كلا الحالين غير محمود ولا مشكور.
يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان في مقاله هذا (. . . ولا محل على الإطلاق أن يتخذ الدين أساساً لمثل هذا الموضوع، سواء لتوكيد التحريم أو الإباحة، وإذا كانت مصر دولة إسلامية فليس معنى هذا أنها دولة دينية، أو بعبارة أخرى أنها دولة تطبق أحكام الدين في سائر نواحي حياتها العامة. فالنظم الأساسية والقوانين المدنية والجنائية المصرية كلها نظم وقوانين تطبعها الصفة اللادينية. ولا يطبق في مصر شيء من أحكام الشريعة الإسلامية في العبادات أو المعاملات أو الحدود بصورة جبرية، فلا تقطع يد السارق ولا يرجم الزاني، ولا يعاقب شارب الخمر أو تارك الصلاة أو مفطر رمضان، وغير ذلك ولا يطبق منها إلا ما أمكن تطبيقه في شؤون الزواج والأسرة والميراث والوقف (القضاء الشرعي) وحتى هذا يعتبر قضاء استثنائياً بالنسبة للقضاء الوطني العام)
ويستطرد الكاتب قائلاً (فإذا ما تقرر ذلك، وهو أن النظم والقوانين المصرية هي نظم مدنية لا دينية، لأنها هي النظم والقوانين التي توافق روح العصر، ومقتضيات الحياة الاجتماعية الحديثة، فلا محل إذا لأن نجعل الدين حكماً في مسائل لا علاقة لها بالدين ولا تمس العقيدة(995/36)
الدينية ذاتها، ولا محل إذا لنرجع بمطالب المرأة السياسية والاجتماعية إلى أحكام الدين ما دامت هذه المطالب لا شأن لها بالعقيدة الدينية. . .).
وتخرج من هذا الاقتباس بثلاث نقاط هامة مؤلمة ومؤسفة في نفس الوقت:
مصر دولة مسلمة ولكنها لا دينية، فدينها الرسمي هو الإسلام، غير أنها لا تطبق أحكامه في حياته العامة. والنظم والقوانين المصرية مدنية موافقة لروح العصر ومقتضيات الحياة الاجتماعية الحديثة. ومعنى هذا أن الدين وأحكامه لا يوافق روح العصر ومقتضيات الحياة الاجتماعية الحديثة.
أن الدين قد ضاق مجاله، ولم نطبق منه إلا ما أمكن تطبيقه وهو شيء يسير في شؤون الزواج والأسرة والميراث والوقف بحيث أصبحت هذه الأحكام اليسيرة قضاء استثنائياً بالنسبة للقضاء الوطني العام.
يمثل هذا الأسلوب في الكتابة والتفكير يتناول بعض الكتاب الحديث عن دينهم وحياتهم العامة. وهم يخلطون ما يرونه في واقع حياتنا بآرائهم الخاصة ونظرياتهم في الإسلام وصلاحيته. وإذا كانت حياتنا قد انحسر ظل الإسلام عنها في كثير من نواحيها، فليس معنى هذا أن ندع الأمور تجري إلى غايتها المشئومة، بل علينا أن نعرف ما نحن فيه وما نطمح إليه والأسباب التي توصلنا إلى ما نتمنى، والأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه الآن، وأن نقرن ذلك كله بما كان لنا من ماضي زاخر مجيد والأسباب التي دفعت إليه - كل ذلك لنستخلص العبرة التي تقوم على ضوئها أسلوب حياتنا الراهنة، ونعالج مشاكلنا المعقدة، وننهض من كبوتنا السياسية التي لا تجد منها مقيلا.
إن الأمم الغربية الاستعمارية تنتفض فزعاً كلما فكرنا في ديننا وفي إخراجه إلى مجال الوجود العملي. والسبب في هذا ليس خافياً على أحد إذ أن هذه الأمم الغربية على يقين راسخ من أن ديننا ينظم حياتنا ويهذب نفوسنا، ويبعث الكامن فينا من القوة الخفية، ويوحد وجهتنا، ويبلغنا رشداً. وإذا كان أمرنا كذلك، فإنها الحرب على الاستعمار والاستغلال والفساد، وإنه البعث الجديد الذي ننشط منه إلى قيادة العالم وصدارة الأمم، وحينئذ لا يبقى لأمم الغرب سبب واحد تطمئن إليه، وتعتمد عليه، في تثبيت أقدامها في أنحاء العالم الإسلامي لاستغلاله وتسخيره.(995/37)
على أن الغريب حقاً هو فزع بعض المسلمين من تطبيق مبادئ الدين. ونحن لا ندري علة لفزعهم هذا. هل نقول إنهم عملاء للمستعمرين؟ هل نقول إنهم يجهلون من أحكام دينهم ما لا يصح أن يجهلوه، هل نقول إن معين ثقافتهم الذي استقوا منه يحارب الإسلام في خفية، ويعكر صفوه، ويطمر موارده النقية؟ انهم على أي حال يعملون غير ما نعمل، ويشخصون إلى غير أفقنا.
مثل واحد بسيط للدلالة على لون التفكير اللاديني الذي يسيطر على بعض المسلمين، وهو في الموضوع الذي أشرنا إليه من قبل واقتبسنا فقرات منه، إن الكاتب المسلم يستوحي دينه في إعطاء المرأة حقوقاً سياسية أو غيرها، ويرجع إلى أحكامه يستفتيها، وعليه أن يلتزم ما تفتيه به هذه الأحكام، فإن أفتته بالإباحة فهي الإباحة، وإلا فالتحريم الذي لا وجه فيه لحل بعد ذلك. والكاتب اللاديني، المسلم رسمياً، اللاديني عملياً، يسارع إلى أمم الغرب يسألها ماذا فعلت؟ وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟ ومن الذي أعانها؟ وعلى خطوة أو خطوتين أو خطوات؟ وهناك! عند تقاليد هذه الأمم، وميراثها، وشرائعها، يجد الجواب الشافي الذي لا يحس حرجاً في الأخذ به والاعتماد عليه!
(ففي إنجلترا لم تنل المرأة حقوقها الانتخابية لأول مرة إلا في سنة 1918 ونالتها عندئذ جزئية، محدودة، ولم تنلها كاملة إلا في سنة 1928. وفي أمريكا لم تمنح هذه الحقوق إلا في سنة 1920، وبعد محاولات عديدة متوالية شملت كل ولاية بمفردها. . . . . . والمرأة لم تحصل على حقوقها الدستورية في بعض الدول الأوربية العريقة مثل فرنسا وإيطاليا والنمسا إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ولم تحصل عليها في بلجيكا إلا في سنة 1948، وفي ألمانيا الغربية في سنة 1949)
وعلى هذا فإنه لا يجوز أن تحرم المرأة الحقوق السياسية ما دامت هذه الدول الغربية العريقة قد أعطت المرأة هذه الحقوق. يجب أن تعطى هذه الحقوق، دون نظر إلى ما يقوله ديننا في هذا الموضوع، لأن أحكامه عتيقة لا توافق مقتضيات العصر ولا روح التقدم. المهم أن نكون كهذه الأمم التي قلدناها، وقصصنا آثرها، وأسلمنا زمامنا لآدابها وتقاليدها وروحها. . . أما أثر هذا التقليد فينا. . . وأما وقوعنا في قبضة هذه الأمم تستغلنا. . . وأما انهيارنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بسبب تشربنا روح هذه الأمم وآدابها - كل هذا(995/38)
ليس له عندنا كبير أثر. وهو حقيق أن ينسى ما دمنا ندور في فلك هذه الأمم ولو على حساب كرامتنا، وتقاليدنا، وديننا، وصالحنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي!
إن حياتنا بنت تصورنا وتفكيرنا. فإذا كان تصورنا إسلامياً، كانت حياتنا إسلامية. وإذا كنا لا دينيين في التصور والتفكير كانت حياتنا لا دينية. وعلينا الآن أن نختار، إما أن نتجه إلى الله الذي منحنا دستورناً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإما أن نتجه إلى هذه الدول (العريقة!) التي أذاقتنا المر، وألبستنا الهوان، وباعتنا في أسواق النخاسة الدولية - نعمل بدساتيرها، ونحتكم إلى قوانينها.
محمود عبد العزيز محرم(995/39)
رسالة الشعر
ديوان مجد الإسلام
للمرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
مسجد المدينة
المسجد الثاني يقام بيثرب ... و (محمد الباني) يجد ويعمل
(عمار) أنت لها وليس ببالغ ... عليا المراتب من يكل ويكسل
إن يثقل العبء الذي حملته ... فلما يحمل ذو التباعة أثقل
ماذا بلغت من السناء على يد ... أدنى أناملها السماك الأعزل؟
مسحته ظهراً منك طال منيفه ... حتى تمنى لو يكوتك (يذبل)
هذا (رسول الله) في أصحابه ... لا يشتكي نصباً ولا يتمهل
يأتي ويذهب بينهم فملثم ... بالتراب، يغشى وجهه ومكلل
من كل قوام على أثقاله ... سام، له ظهر أشم وكلكل
ما كان أحسنها مقالة زاجر ... لو كان يعرف حكمتها المتمثل
هتف الإمام بها، فراح يعيدها ... ثم انثنى متلطفاً يتنصل
(عمار) يالك إذ تلام، وياله ... من ذي محافظة يلوم ويعذل
هجت ابن مظعون فأقبل غاضبا ... حنقا، يجيش كما يجيش المرجل
ولقد يحيد عن التراب إناقة ... من لا يحيد عن الضراب وينكل
مهلاً (أبا اليقظان) قرنك باسل ... وأخوك في جد الوغى لا يهزل
ولئن أهاب الله (يال محمد) ... صونوا الحمى، لهو الأشد الأبسل
السيف يعجز أن ينال غراره ... ما ليس يعجز أن ينال المعول
أبو بكر يؤدي ثمن الحائط الذي أدخل في المسجد
إيه (أبا بكر) ظفرت بصفقة ... شتى مغانمها لمن يتأمل
القوم عند إبائهم وسخائهم ... لو يبذلون نفوسهم، لم يحفلوا(995/40)
لا يقبلون لحائط ثمناً ولا ... يبغونها دنيا تذم وترذل
الله يطلبه لنصرة دينه ... والدين هم أنصاره، ما بدلوا
قالوا: أمنا يا (محمد) تبتغي ... ما ليس يخلق بالأباة ويجمل
إنا لعمر الله نعرف حقه ... ونعز ملته التي نتملل
نعطي (اليتيمين) الكفاء وإن هما ... أبيا، ونتبع التي هي أنبل
خذ ما أردت فلن نبيعك مسجداً ... يدعوه فيه مكبر ومهلل
هو ربنا، إن نالنا رضوانه ... فلنا المثوبة والجزاء الأكمل
إيه (أبا بكر) خليلك مطرق ... يأبى، وأنت بما يريد موكل
لا بد من ثمن يكون أداؤه ... حكما يطاع، وشرعة ما تهمل
لولا الرسول وما يعمل قومه ... جهل المحجة ظالم لا يعدل
وإذا قضى أمراً، فما لقضائه ... رد، ولا في غيره متعلل
الحق ما شرع (النبي) وباطل ... ما يدعي المرتاب والمتأول
لا بد من ثمن، ولست بواجد ... في القوم من يضح الصواب فيغفل
أمر (الرسول) به فدونك أده ... ولأنت صاحبه الكريم المفضل
يا باذل الأموال، نلت ببذلها ... ما لم ينل في المسلمين ممول
أتبعت نفسك ما ملكت فمهجة ... تنهال طيعة، وكف تهطل
بلال يؤذن للصلاة
أذن بلال لك الولاية لم تتح ... لسواك، إذ تدعوا الجموع فتقبل
الله ألبسك الكرامة واصطفى ... لك ما يحب المؤمن المتوكل
يا طول ما عذبت فيه، فلم تمل ... تبغي التي اتبع الفواة الميل
(أحد) إلهك ما كذبت وما لمن ... يرجو النجاة على سواه معول
أرني يديك: أفيهما (لأمية) ... ورد من الموت الزعاف مثمل؟
للسيف سيف الله أهول موقعا ... من صخرة تلقى، وحبل يفتل
لك في غد دمه إذا التقت الظبى ... تحت العجاجة والرماح الذبل
أذن، فإن الدين قام عموده ... ورست جوانبه، فما يتقلقل(995/41)
هبط الجزيرة. فاحتوى أطرافها ... وانساب في أحشائها يتغلغل
فكأنما طرد السوائم ضيغم ... وكأنما ذعر الحمائم أجدل
خف الرجال إلى الصلاة وإنها ... لأجل ما تصف الصفوف المثل
عنت الوجوه فراكع متخشع ... يخشى الإله، وساجد متبتل
صلوا بني الإسلام خلف نبيكم ... وخذوا بما شرع الكتاب المنزل
الله أيدكم به، وأمدكم ... منه بنور ساطع ما يأفل
آثرتم السنن السوى، فجدكم ... يعلو، وجد ذوي العماية يسفل
هل يستوي الجمعان هذا صاعد ... يبني، وهذا ساقط يتهيل؟
يتألفون على الهوى وقلوبهم ... (شتى) يظل شعاعها يتزيل
نصر على نصر، وفتح بعده ... فتح يغيظ المشركون محجل
إن امرأ جمحت به أهواؤه ... من بعد ما وضح الهدى لمضلل
الحق باب الله هل من داخل؟ ... طوبى لمن يبغي الفلاح فيدخل(995/42)
الكتب
في حياة الفن
أم كلثوم
تأليف الأستاذة نعمات أحمد فؤاد
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
الغناء روح النفس، وروح القلب، يزيل الشجو بالشدو، ويبعد الآلام بالأنغام، وإذا تواءم الصوت المعبر، واللحن المصور، كان التحليق والسمو. ولعل أجل المواهب ما تعاطف (المشاركة الوجدانية) وما تؤالف النزعات الإنسانية، فالشعر، والغناء، والموسيقى، يكمل بعضها بعضاً في موكب الفن الرفيع، فالموهوبون في هذه الألوان ينغمون المشاعر، ويشاركون الأفئدة في اتجاهها الوجداني. والتعبير (فن) قبل أن يكون أداء. وقد أودع الخالق في الحواس القدرة على التذوق؛ فالأذان موصلة التناغيم في تأثر وانعطاف وإشباع، وهي صادقة الحكم ما دامت تتفاعل معها مثيرات الوجدان، لذلك عظم شأن التغني وارتفع قدر اللحن. أليست اللغة في أول أمرها أصواتاً؟ أليس التعبير عن الإحساس كان مقاطع ساذجة تدل على الغرض؟
بلى، فالصوت أصل أصيل في قوة التأثير والتأثر، و (الأوتار) الواهبة جمال الصوت ثروة إلهية أودعها المبدع الأعظم لتكون نعمة من نعمه الجليلة! وإن النعمة الممنوحة للشرق المكدود ممثلة في صوت (أم كلثوم) الذي يسري عن النفوس أوجاعها، ويسري في الحنايا سريان الكهرباء؛ فيؤثر تأثير السحر. . . لقد تسمعت إلى الكبد الحري التي كانت ترسل في التياع (يا آسى الحي هل فتشت في كبدي) وكنت في استهلال صبوبي أجنح بخيالي الصغير إلى عالم روحي بحت، وعشت في هذا اللحن أنهنه الأنة في صدري؛ فترسل الزفرة، وتريق العبرة، وأحسست في أعماقي أن الشادية خالدة، لأن تعبيرها (فني)، لا ترسل الكلمة مرتجلة اكتفاء بالصوت العذب، والتغريد الآسر، فكأنها تعرب ما يطرب؛ وتراعي مخارج الحروف الدقيقة مراعاة فيها العجب العجاب. وهذا هو الفرق بينها وبين سواها وهو عينه ما دعا الأديبة (نعمات أحمد فؤاد) أن تعرض لحياة (أم كلثوم) في كتاب(995/43)
دقيق، أنيق، شائق، رائع.
لقد تميز أسلوب هذا الكتاب بالأصالة التعبيرية الفنية؛ فليس ثمت حشو، ولا إملال ولا صنعة. بل توافق، وتساوق، واتساق في أناقة شعرية ترف بين السطور فتلمع إلى الذوق الكتاب والكاتبة!
عرضت الأديبة حياة المفتنة المبدعة عرضاً في صدق وإخلاص وصفاء، ولهجت بوفاء (أم كلثوم) في غير موضع مما يدل على نقاء النفس، وطيب السيرة، وألمعت إلى (تحفظها) واستحيائها وانطوائها؛ ثم انطلاقها، ومسايرتها، وانفعالها في تحفظ وتوقر وأناة - وقد استغرق الحديث عن هذه النواحي نصف الكتاب ولا غرو فهو تأريخ فني يستدعى الإفاضة، والاسترسال والإيضاح.
هذا النزوع الفني من الأديبة دال على تأصل في الفهم وانفعال بالفن ومظاهره، لكنها أهدت الكتاب إلى (قيثارة الله) وهذه الإضافة لا تقع في نفسي موقع القبول، وكان في مقدور الكاتبة أن تهديه إلى (منحة الله) أو (هبة الله) أو ما أشبه التسمية التي تؤدي القصد من دون تحرج ولبس. ولا يقال إن للفن تعبيره الذي لا يتقيد بقيود، فهو متصل بالروح المجرد، لأن الأديبة قالت في موضوع آخر معبرة عن رأي (أم كلثوم) في حقيقة الفن (والفنان) فاهمة تعابير (الخيام) أنه: (إذا استشف فاعل المنكر ما وراء الأشياء، وشرب الخمر شاربها بعقيدة أنها تخلصه من عالم المادة وتساعده على النفاذ والمضي إلى ما وراءها؛ فهو ليس بآثم بنظر الفن) ثم تقول في موضوع آخر ص 130: (الفنان كالصوفي لا يتحرج من الأشياء تحرجاً ظاهراً كتحرج الفقيه؛ بل الخيرية والشرية عنده تتوقف على النية) هذا كلام وقفت عنده لأنه تخريج بعد عن القصد مما يتجه إليه المذهب الصوفي في أرقى مظاهره؛ فالمتصوف يتجرد عن المادة ليصل إلى الذات، وما جاء مشكلا يرد إلى الحقائق المجردة، أما (النية) فقدر مشترك لا يمكن الحكم عليه حكماً ذاتياً، وإباحة الفنان المعصية باعتماده على (حسن النية) لا يخرجه عن الإثم، فالملابسة أقوى دليل على العزم، والعزم مظهر النية ومدلولها، وهذا الاتجاه في فهم التصوف يتلاقى مع قول بعض المغرقين: (اعص الله لتعرف كيف تبكي وتعبده)!
على أن ذكر (الخمر) في الكلام الصوفي ليس القصد منه مادتها؛ بل الغرض (الغفلة عن(995/44)
تذكر الذات العلية)؛ ومجرد التغافل يعد إثماً لدى الخواص وخواصهم من الواصلين. . ولذلك يقول (الخيام):
أسكرني (الإثم) ولكنني ... صحوت بالآمال في رحمتك
والتعبير بقوله (صحوت) يرمز إلى مدلول التطابق في (أسكرني) المعطى معنى الغفلة لا الاحتساء!!
هذه ناحية دقيقة كنا نود أن تعرض لها الأديبة عرضاً فيه إلمام وتحر للحقيقة! ولا نشك في الإيمان العميق في قلب (أم كلثوم) إلى درجة تساميها بما تغني، وترفعها عن سوقية الأغاني وماديتها!
أما (الإيمان الواسع الأفق يتسامى عن الظهور بالتزمت والتحرج) ص 132 فلا نقر الأديبة عليه، لأن الإيمان فيه تصديق متصل بعمل، ولا نعرف مدى التسامي به إذا لم يرتفع عن الريبة ويتحصن بالتحرج!
وبعد؛ فإن هذا الكتاب تحفة فنية، تدل على استعداد فطري في صفاء الأسلوب بحسن ديباجته، وروعة أدائه، ونقاء عباراته، ولعل دراسة أغاني (أم كلثوم) هي اللامعة إلى المدى تمتع الأديبة بالذوق الرفيع!
أحمد عبد اللطيف بدر(995/45)
البريد الأدبي
1 - عقاب تذكر وتؤنث:
جاء في الصفحة (255) من كتاب (من أسرار اللغة) للدكتور إبراهيم أنيس ما يلي:
لعل شوقي حين قال:
أعقاب في عنان الجو لاح ... أم سحاب فر من وهج الرياح
ولم يؤنث الفعل (لاح) رغم أن (العقاب) مؤنثة كأن في ذهنه مثل هذه الظاهرة التي جاءت في شعر القدماء ويعني الدكتور قول الشاعر:
فإما تريف ولي لمة ... فإن الحوادث أودى بها
إشارة إلى تأنيث (الحوادث) وتذكير (أودى)
والحقيقة أن شوقي لم يخالف اللغة لأن العقاب كما في معاجم اللغة طائر يطلق على الذكر والأنثى. وهي من الأسماء التي يجوز فيها التذكير والتأنيث (كعقرب، وسلاح وسكين وقفا وقميص. . الخ. .) وجاء في الصفحة (516) من دائرة معارف القرن العشرين الطبعة الثالثة أن العقاب طائر من الجوارح يذكر ويؤنث ويجمع على أعقب وعقبان وعقبات. وقد عرف العرب هذا الطائر واشتهر لديهم فضربوا به المثل في العزة والمتعة فقالوا أمنع من عقاب الجو
قال الشاعر:
ما أنت إلا كالعقاب وأمه ... معروفة، وله أب مجهول
فمنهم من يذكر العقاب كشوقي وكقول شاعر مجهول الاسم حيث يقول:
لقد لج الخباء على جوار ... كأن عيونهن عيون عين
كأني بين خافقتي عقاب ... يريد حمامة في يوم غين
ومنهم من يؤنثها كقول المتنبي
يهز الجيش حولك جانبيه ... كما نفضت جناحيها العقاب
كما هو في الصفحة (155 من الجزء الأول من شرح ديوانه لعبد الرحمن البرقوقي. هذا ما أردت الإشارة إليه وعند علماء اللغة الفصل اليقين. .
2 - زيادة في الوزن:(995/46)
قرأت في العدد (989) من مجلة الرسالة الغراء قصيدة عامرة الأبيات للأستاذ الشاعر حسن كامل الصيرفي بعنوان (شعلة المجد) وجدت في البيت التالي منها خروجاً عن الوزن بزيادة (تفعيلة) واحدة في العجز وهي من بحر (الكامل)
الشاعر الحي الشعور نشيده ... من قلبه ذوب ومن إيمانه الإيحاء
فما هو قول شاعرنا الرقيق؟!
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
توحيد مناهج التاريخ في البلاد لعربية
من أهم ما تسعى إلى تحقيقه الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية هو تنشئة جيل عربي يعتز بقوميته العربية ويقدس تراثه المجيد. ورأت أن علم التاريخ هو أهم الوسائل التي تحقق هذه الأهداف، فدعت إلى تأليف لجنة من الخبراء في التاريخ لوضع قواعد عامة يسترشد بها في تأليف كتب التاريخ المدرسية في البلاد العربية وتقرير مناهج موحدة في هذه المادة في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي، وقد تألفت هذه اللجنة برئاسة حضرة صاحب السعادة الأستاذ محمد شفيق غربال بك وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية وعضوية حضرات الملحقين الثقافيين بالمفوضيات العربية بالقاهرة وحضرات: صاحب العزة الدكتور محمد مصطفى زيادة بك، الدكتور إبراهيم نصحي بك، الدكتور أحمد بدوي، الدكتور أبو الفتوح رضوان، الأستاذ علي إبراهيم عبده
وقد عقدة عدة اجتماعات ناقشت فيها شتى المسائل المتعلقة بكتب التاريخ المدرسية كالنظام المتبع في تأليفها واختيارها، ومادة الكتاب المدرسي في علم التاريخ، ونسبة الموضوعات بعضها لبعض، ونصيب التاريخ القومي والتاريخ العربي والتاريخ العالمي في هذه الكتب، والروح التي تعالج بها المسائل التاريخية، والمصادر التي تستقى منها المعلومات وهكذا. وقد عالجت اللجنة هذه المسائل وغيرها من ناحيتين: الأولى ما يسير عليه العمل فعلا في الوقت الحاضر في البلاد العربية المختلفة، والثانية ما يجب أن يراعى في المستقبل عند تأليف كتب التاريخ لهذه البلاد الشقيقة.(995/47)
ورأت اللجنة أن تقسيم البحث إلى شعبتين: الأولى خاصة بكتب التاريخ المدرسية في المدارس الابتدائية والثانوية. واستندت اللجنة في هذا إلى مختلف العوامل التي تحدد الكيفية التي يكتب بها كتاب مدرسي في التاريخ وإلى اختلاف هذه العوامل في حالة كل من التعليمين الابتدائي والثانوي. إذ لا شك في أن غرض كل من التعليمين يختلف عن الغرض من الآخر، وأن الخصائص السيكولوجية التي يتمتع بها الطفل في المدرسة الابتدائية هي غير الخصائص التي يخضع لها المراهق في المدرسة الثانوية. كما أن المادة وطرق علاجها ووسائل توضيحها وكيفية عرضها تختلف كثيرا باختلاف مراحل الدراسة، وهو اختلاف قائم على اعتبارات اجتماعية ودراسية وسيكولوجية مقررة.
ورأت اللجنة أنه لا مندوحة من إقامة بحثها وقراراتها على ضوء ما هو حاصل فعلا في هذا الميدان في البلاد العربية المختلفة. ولذا قررت أن تدرس أولا كتب التاريخ المدرسية المقررة في مختلف البلاد العربية دراسة فحص وتحليل وتقويم. فقسمت أعضائها بحسب تخصصهم وكلفت كل مجموعة بفحص الكتب المتعلقة بموضوع تخصصها وتقديم تقرير عنها. ثم ناقشت اللجنة مجتمعة كل هذه التقريرات مناقشة أدت إلى اتفاق الجميع على القواعد العامة والمناهج التي تقدمها اللجنة باسمها، وقررت اللجنة أن يكون المدار في تقويم الكتب المستعملة الآن وفي تقرير القواعد العامة والمناهج التي ستتقدم بها هو ذلك التقدير القيم الذي وضعته شعبة التاريخ في المؤتمر الثقافي العربي الأول الذي انعقد في لبنان في صيف سنة 1947، والذي أدرج ضمن (مقررات المؤتمر) الذي نشرته الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية في القاهرة في سنة 1948 فدرس أعضاء اللجنة فرادى ومجتمعين هذا التقرير القيم واسترشدوا به.
ورأت اللجنة أيضاً ضرورة الاسترشاد بتقرير لجنة الخبراء الدولية التي دعتها هيئة اليونسكو إلى الاجتماع بدار الهيئة بباريس في أكتوبر سنة 1950 لدراسة طرق تدريس التاريخ وكتبه المدرسية والوسائل المؤدية إلى استخدام ذلك في تحقيق التفاهم بين الشعوب.
وقد أستغل كل عضو من أعضاء اللجنة ما تحت يده من الموارد الخاصة ككتب التاريخ المدرسية المقررة في الأجزاء الأخرى من العالم كالولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا، وكتب الطرق الخاصة بتدريس التاريخ ومطبوعات هيئة اليونسكو.(995/48)
وفوق هذا كله استفادت اللجنة بما يعرفه كل عضو من أعضائها من حاجات الدول العربية الشقيقة في هذه الحقبة الدقيقة من تاريخها وما تستلزمه هذه الحاجات من التعاون، ولا شك في أن التعاون الفكري والثقافي هو أساس كل تعاون سياسي واقتصادي، والدول العربية لها من وحدة ظروفها التاريخية ومقوماتها الروحية والثقافية واللغوية المشتركة ما يمكن أن يكون أساسا متينا للتعاون في غير ذلك من ميادين الحياة يندر أن يوجد في أي مجموعة أخرى من دول العالم. وعلم التاريخ هو جماع كل هذه العوامل المشتركة ومن ثم وجب أن يعتمد عليه قي هذه الأمم الشقيقة في توطيد أواصر المودة والتفاهم بين أجيالها الناشئة.
وقد انتهت هذه اللجنة من عملها وقدمت تقريرها إلى الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية توطئة لعرضه على اللجنة الثقافية للجامعة العربية في دورتها القادمة التي ستعقد في عمان في 16 أغسطس 1952لإقراره وتوصية حكومات الدول العربية بتنفيذ المقترحات الواردة به.(995/49)
القصص
اللص الثرثار
عن الإنكليزية
لما أضيئت الغرفة فجأة شعر اللص بالخطر، وكان هذا اللص يلقب
بين أصحابه بالدوق لجرأته على اقتحام المنازل ولحسن طلته وهيئته.
وقد قضى أكثر من عشرة أعوام في مخاطراته دون أن يعتقل مرة
واحدة. لكن الخوف يعتري أجرأ اللصوص عند وقوع الخطر.
وكان البيت مكوناً من طابقين: أما الأول فهو إدارة جريدة، وأما الثاني فهو مسكن رجل من الأغنياء كان مسافراً وكان البيت خالياً من السكان فجاء هذا الدوق ليسرقه على هذا الاعتقاد
لكنه لما دخل من النافذة وجد الغرفة مظلمة ورأى في وسطها منضدة وشم رائحة فأدرك أن في المنزل سكاناً لأن الرائحة هي رائحة وسكي، وكانت الزجاجة موجودة على المنضدة وبجانبها كأس وزجاجة من الصودا. ولما كانت النافذة لا تزال مفتوحة فقد تردد الدوق وهم بالعودة. ولكن في هذه اللحظة أضيئت الغرفة ووقف عند الباب رجل في يده مسدس وهو يقول: (من هذا؟)
فأجاب اللص: (حسن، استدع البوليس)
قال صاحب المنزل: (سأفعل) وفي نفس اللحظة دخلت سيدة فاختفت وراء صاحب المنزل وسألت: (ما هذا؟)
فقال صاحب المنزل:: (اذهبي فارتدي المعطف وعودي إذا شئت فانظري لصاً من أشهر اللصوص) وقال: (ألست الوغد الذي يدعونه بالدوق؟)
فابتسم اللص وقال: (نعم أنا الدوق ولكنني لست وغداً)
وكان الدوق في الخامسة والثلاثين مهيب الطلعة يحمل وقاره رجال البوليس على رفع أيديهم بالسلام عندما يرونه. وكانت ثيابه ثمينة وصوته ينم على السيطرة والنفوذ، وقال له صاحب المنزل: (إبق هنا) ثم مشى نحو آلة التليفون فجلس اللص أمام المنضدة ووضع(995/50)
رجلا على رجل كأنه جالس في منزله أو كأنه ضيف كريم
وطلب صاحب المنزل قسم بوليس (لايم ستريت) فقال اللص: (بل اطلب قسم بوليس (واردور) فهو أقرب مكاناً ونحن تابعون له)
قال صاحب المنزل: (كما تريد) وطلب القسم الذي أشار به الدوق، ثم قال في سماعة التليفون: (من؟ مفتش البوليس؟ أرسل بعض جنودك الآن. أنا السير براندون برتون - شارع كوربري رقم 162 - عندي لص. الأمر لا يدعو إلى عجلة شديدة فإني أستطيع الانتظار حتى يحضر الجنود)
ثم ألقى السير برتون بالسماعة والتفت إلى اللص الجالس أمام المنضدة وقال: (مرحباً بك!) فقال الدوق: (إنني أعلم منك بأقسام البوليس؛ وأنا فضلاً عن ذلك أحب قسم واردو فإن سجنه من السجون الجديدة النظيفة) فقال السير: (إنني لم أر لصاً أبرد منك. ما مقدار العقوبة التي تظن أنه سيحكم عليك بها؟) ففكر الدوق لحظة ثم قال: (خمسة أعوام لأنهم سيسجنونني مدة سابقة بسبب حكم لم ينفذ. وقد كنت في الواقع لا أريد دخول هذا المنزل بل المنزل المجاور وهو نادي السباق)
مضت بعد هذا فترة في صمت ثم قال السير وهو يشير إلى زجاجة الويسكي: (اشرب كأساً إذا شئت)
فشرب وشكره ومضت فترة صمت أخرى. ثم قال السير برتون: (ولكن لماذا كنت تريد أن تدخل في نادي السباق؟)
فقال الدوق بلهجة تنم على الوثوق التام: (لقد كنت أعلم من قبل باسم الجواد الذي سيربح في السباق المقبل) فابتسم السير وقال: (أنا كذلك أعلم)
فهز الدوق رأسه وقال: (أنت مخطئ فقد تغير العزم على منح الجائزة لجوادك (ويت لادي) الذي كنت تعتقد حتى هذه اللحظة أنه صاحب الجائزة)
فامتقع وجه السير لما رآه يصرح باسم الجواد وصاحبه. وقد كانت الحقيقة أن التدبير جرى من قبل في النادي على أن ينال هذا الجواد الجائزة.
ثم قال اللص: (وكنت قد اشتريت أوراقاً للمراهنة على جوادك، ولكنني بعتها واشتريت بمائة وخمسين جنيها أوراقاً أخرى على الجواد الآخر لكي أربح خمسة آلاف جنيه وحملت(995/51)
أصدقائي من اللصوص على مثل ذلك)
وكانت لهجة الثقة التي يتكلم بها اللص داعية للسير برتون على تكرار الابتسام وقال: (لكنه من المحتمل أن تخسر) فقال الدوق: (إن هذا مستحيل - لكن البوليس تأخر)
وكان إبداؤه هذه الملاحظة بمناسبة هي أن الساعة دقت الثانية بعد منتصف الليل. وقد نظر إليها اللص وأبدى تعجبه من ارتفاع صوتها حينما تدق دقة مزعجة مع أنها من أغلى طراز. فلم يجبه السير على هذه الملاحظة ولكن سأله: (ما اسم الجواد الآخر؟)
قال الدوق: (ليس من حقي أن أخبرك لأن المصدر علمي يتعلق بحادثة غرامية بين رجل أعزب وبين امرأة متزوجة. ولو أخبرتك باسم الجواد فقد تعرف هذه المرأة. وأرى مما يتنافى مع شرف الكبار من اللصوص أن يفعلوا ذلك. لقد كنت أسرق منزلاً لأحد الأغنياء فوجدته مستيقظاً ومعه امرأة فاضطررت إلى الاختباء وسمعت الحديث الذي دار بينهما وهو عن التدبير الذي تم لتغيير الجواد الرابح. وقد كان هذا التدبير لمصلحة الرجل وبواسطة تلك المرأة.
وهنا دخلت اللادي برتون وقد دهشت عندما وجدت زوجها واللص يتحادثان كأنهما صديقان ووجدت اللص جالساً مطمئناً. وزادت دهشتها عندما وقف اللص ووقف زوجها للترحاب بها عند الدخول. وقالت لزوجها: (ما الذي فعلت؟ ألم تستدع البوليس؟)
فتناول اللص كرسياً وأشار إليها بالجلوس فجلست وهي في غاية الدهشة مما تراه.
وقال السير: (اسمعي ما يقوله الدوق. لقد أخبرني بأن العزم تغير في نادي السباق ولن ينال الجائزة جوادنا (وايت لادي)
فنظرت اللادي في حيرة إلى اللص وقالت: (ما هو الجواد الأخير؟)
فقال: (لا تسأليني فإن القصة تمس شرف إحدى السيدات، وقد كنت منذ أسبوع أسرق بيت رجل غني فجلست في غرفة الاستقبال. وكان في غرفة النوم سيدة متزوجة تتآمر مع الرجل على موضوع السباق)
ولاحظ الدوق ارتباك السيدة مما بدا في نظراتها وصوتها، ولكن السير كان بطئ الملاحظة فلم يدرك شيئاً من ذلك.
وقالت اللادي: (وهل رأيت السيدة؟)(995/52)
فقال: (لقد لمحت) فقال السير برتون (هل هي زوجته؟)
قال: (كلا وقد قلت الآن إنها متزوجة)
قالت اللادي: (ولماذا لم تظهر نفسك؟) فلاحظ السير على زوجته هذه الملاحظة: (وكيف يظهر نفسه ويتعرض للاعتقال؟)
فقالت: (إنه ما كان من المكن أن يعتقل ما دامت المرأة التي معه متزوجة)
قال الدوق بإباء وترفع: (إنني لا أستغل الأسرار ولا أتجر بسوء السمعة)
استمر اللص في سرد ما سمعه عن تغيير الجواد الرابح فاستثار اهتمام السير لأنه وثق من صدق ما يسمع لما فيه من تفاصيل عن شؤون النادي.
وفي أثناء الكلام دق الجرس فاستأذن السير من اللص وذهب إلى الباب. وفي أثناء غيبته التفتت اللادي إلى اللص وقالت: (أرجو أن تصارحني الآن، أليس المنزل الذي سمعت فيه هذا الحديث هو منزل اللورد آرثر جريفزلي؟)
قال: (نعم ولكن ما يدريك ذلك؟)
فقالت اللادي: (دع هذا التجاهل فإنني السيدة التي كانت هناك. ألم تكن الليلة ليلة الأربعاء؟)
قال اللص: (أأنت مجنونة حتى تعترفي أمامي بمثل هذا الاعتراف؟ لكن سرك على كل حال مصون في قلب يكتم الأسرار، وقد كانت الليلة ليلة السبت وكانت المرأة امرأة غيرك)
وقد كان اللص يحسب هذا القول مطمئناً لها ولكنه أخطأ فإن هذا القول لم يزدها إلا انزعاجاً. وألحت عليه أن يخبرها باسم المرأة الأخرى.
وقالت إنها لا تهتم لنفسها ولا تعبأ بالسر ولكنها تهتم لأن اللورد يدعو إلى منزله امرأة غيرها. وأخذت تلعن وتسب وتقسم أنه لن يكون بينها وبين اللورد علاقة)
وفي أثناء الحديث عاد السير برتون وقال إن الذي كان يدق الجرس هو رجل البوليس وإنه صرفه بأكذوبة اخترعتها وإنه يرجو من الدوق أن يخبره باسم الجواد الآخر.
قال الدوق! (لا تتعب نفسك فإني لا أسمح بذكر حديث يؤدي إلى معرفة المرأة) فقال السير: (عجيب والله أن يأتي لص في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ليلقى علينا درساً في الأخلاق. قل وسأعطيك ما تريد من المال) فأبدى اللص علائم الاشمئزاز.(995/53)
وقالت السيدة لزوجها: (ليس مما يتفق مع مكانتك أن تساوم مثل هذا الرجل على ما أفهمك أنه سر)
ولكنها رأت إصرار زوجها وتشبث الدوق وضاق صدرها بسرها وشعرت بأنها أحرجت فقالت: (إن الرجل الغني الذي يتحدث عنه هو اللورد آرثر جريفزلي والجواد الرابح جواده)
وقف الدوق مغضباً وقال: (هذا سر خنته)
ولكن اللادي خرجت باكية متعثرة وقد عرتها رعشة المضطرب فتبعها زوجها. ووقف اللص وحده وهو نادم على إفشاء السر أكثر من ندمه على أنه سارق.
وبعد ساعة عاد السير برتون وهو أصفر الوجه خائر القوى وقال: (إن اللادي اعترفت لي بالحقيقة كلها وهي ترجو مكافأة على إطلاق حريتك الليلة أن تسرق لها الخطابات التي كتبتها إلى اللورد آرثر)
فوعده الدوق بذلك
وفي الليلة التالية كان اللورد آرثر في حجرة مدير البوليس السري ليساعده على استكشاف جريمة
قال المدير! (ما هو الشيء المسروق؟) فقال: (رزمة من الخطابات يظهر أن اللص حسبها أوراقاً مالية)
فقال مدير البوليس: (وما فائدة البحث عنها؟ إن اللص سيمزقها كما كنت تفعل لو أعيدت إليك)
لكن مدير البوليس كان مخطئاً فإن اللص أخذها ليردها إلى اللادي برتون وقد نال في مقابل ذلك جائزة هاجر بها من إنجلترا إلى أمريكا وترك مهنته الدنيئة
ع. ق(995/54)
العدد 996 - بتاريخ: 04 - 08 - 1952(/)
وأخيرا ظهر القائد المنتظر
كانت بلية العظمى أن تزعمها نفر من المحامين صناعتهم الجدل، وبضاعتهم الوعود، ووسيلتهم الخطب، وغايتهم المناصب. أكثرهم يقولون الحق ويفعلون الباطل، ويذكرون الأمة ويريدون الغنيمة؛ وأقلهم يطلبون التحرير، ويرغبون الإصلاح؛ ولكن قصارهم أن يخطبوا ما أسعفهم الريق، وإن يكتبوا ما واتاهم المداد، وإن يتظاهروا ما أمكنتهم الفرص، وإن يهتفوا ما أطاعتهم الحناجر! ثم أحترف الطماعون مهنهم الدفاع عن القضية الكبرى لأنها أوفر ربحا وأيسر كلفة، فكان من غرضهم أن تعرض، ومن مصلحتهم أن تطول! ثم أنقلب هؤلاء المحترفون صيادين في بحر زاخر بالخلاف والفساد والفوضى، بعضهم يطمع في اللآلئ، وبعضهم يقنع بالجيف؛ والشعب المظلوم المحروم يصارع الأمواج الرُّعن، ويجابه الصخور الصم، ويستغيث أفلا يرى ألا الشباك الجارفة تغرق أشلاءه وتجمع أسلابه! وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ويحسب كل عامة خاصة نشَّأته جدودنا العواثر تنشئه الوارث العابث المتبطل، فلم ينل ما يناله الإنسان العادي من التربية والتعليم، وإنما ثقفه الفراغ في الرأس والنفس والضمير ثقافة الفجار من أمراء بيته، فصاد الطير وقاد السيارة ولعب الورق أطلق المسدس!
كانت غاية همه أن يغني وإن يطغى وإن يحكم. ولم تكن غايته من الغنى أن يخفف شدة الفاقة عن رعيته، ولا من الطغيان أن يكفكف شرة الحزبية عن أمته، ولا الحكم أن يواجه سير النهضة في بلاده. إنما كانت غايته من الرغائب الثلاث السرف والترف والفحشاء والمنكر والبغي!
تناصر هذه الملك اللاهي وأولئك الساسة المحترفون على إذلال هذه الأمة ففرقوا كلمتها، وعوقوا نهضتها. وبددوا ثروتها، وسوءوا سمعتها، ودفعوا بها إلى هواة من هوى الفساد لا سبيل لها لنجاة ولا بصيص فيها لأمل. فلم يكن بد من أن يظهر في مصر مصطفى كمال ليعيد الروح إلى الجسد الميت، ويرد الكون إلى النظام الفاسد! وما محمد نجيب ألا الرجل الذي ادخره الله لهذا اليوم لتنكشف به غمة، وتحيا بفضله أمة، وينصلح على يده عهد ويبتدئ بإسمه تاريخ! وان مصر التي حلمت به كثيرا في ليلها الطويل، وانتظرته طويلا في سجنها المظلم لترجوا منه أن يكون لها ما كان كمال من تركيا: يطهر الحكم كما طهر الملك، ويرفع الشعب كما رفع الجيش، ويقيم الدولة والحكومة والأمة على أسس جديدة من(996/1)
الخلق الفاضل والعدل الشامل والخير المحض والعلم الصحيح والعمل المثمر لا يثبت عليها دجل، ولا ينفق فيها غش، ولا يتطرق أليها فساد
لقد كان فرعون المطرود قادر على أولئك كله لو أراد؛ ولكن الله الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، لم يرد هذه النعمة إلا لمحمد نجيب. فلتكن إرادة الله!
احمد حسن الزيات(996/2)
الحاجة إلى الجذور
الدكتور عمر حليق
في تراث الماضي ورواسخه ذخيرة من الطمأنينة الروحية جيلنا المثقل بالأعباء في حاجة أليها. وفي النفس رغبة ملحة لأن تعادل في نباهة بين ما تتشوق إليه في الحياة اليومية من هناء وطمأنينة واستقرار، وبين ما يكتنفها من قلق وفتنة وتشويش مبعثه تسيار الحوادث وطبيعة التيارات الفكرية التي تعصف بالمرء في طور الفتوة العقلية في حاضر جيل كجيلنا مشحون بشتى أنواع الصراع
فهذا الجيل عجيب بين أجيال التاريخ. ولد في أهوال الحروب، ورضع من دم الثورات، وشب في عهود الفتن والانقلابات، وفي عواصف الفوضى الثقافية والعاطفية التي تنقلها إليه مواصلات فكرية سريعة ربطت أركان المعمورة بعضها ببعض فأصبحت كالدف تنقر عليه من أي ناحية فينقل الصدى إلى السامعين.
وقد فرض على هذا الجيل مسؤوليات جسام، فوجد نفسه مشوش التفكير موزع الأهواء، فقد اتسعت مداركه بالعلم الحديث وازدادت احساساته بالتجارب فأصبح يبحث عن استقرار وحرية الانطلاق، لا كترف يزين به رجولته، ولكن كمعول لتحقيق الطمأنينة في مفاهيمها العديدة - اقتصادية وسياسية وثقافية - لعله مستطيع تلبية حاجاته، وهي تفوق في ماهيتها وكميتها حاجات الأجيال السابقة.
وفي إبان يقظة هذا الوعي يواجه جيلنا ألوانا من المغريات فينساق معها المرة بعد المرة راميا بمسؤولياته إلى الجحيم، ولكن سرعان ما تجذبه هذه المسؤوليات أليها في عنف وشدة لتذكره بان المغريات في هذا الجيل لا تنال اختلاسا، ولا تستطيع أن تمنع المتعة الحقة ألا إذا توافرت أسبابها الاقتصادية وأوسطها الاجتماعية ودون ذلك ستائر كثيفة نساجها من مقدمات البيئية وتركز الثروة وسوء توزيعها، وما أولدته من أنظمة الطبقات واختلال الميزان الاجتماعي وما نتج عن ذلك من كبت للمواهب وقضاء على الفرص والإمكانيات، وعلى كل هذه عقبات منيعة لا مفر لجيلنا المدرك لحقوقه وواجباته أن يجاهد للتغلب عليها.
وفوق هذه المشاكل الاقتصادية والسياسة والاجتماعية مشكلة أهم بتخبط فيها جيلنا حين يحاول أن يوفر للنفس ذخيرة ثقافية تعينه علة مواجهة هذا التحدي. فبين النفس(996/3)
واستقرارها فوضى ثقافية تسربت إلى جيلنا من بلبلة برامج التعليم وتنوع الغذاء العقلي والروحي الذي يغزونا من كل الجهات، من تراث الماضي وقوته التي تهيمن على بيئتنا وتكويننا الخلقي، ومن تيارات فيها من عناصر التشويش والتناقض ما يفرض على عقولنا واحساساتنا صراعا لا رحمة فيه، ندفع إليه مسيرين لا مخيرين رغبة منا في أن نحقق لأنفسنا نهجا في السلوك وسبيلا إلى الطمأنينة تتناسب مع ما تشعبت به عقولنا وعواطفه من مبادئ وما تولد في أنفسنا من حاجة إلى العيش الشريف في عالم تشعبت مطالب العيش فيه وازدادت في مجال الموازنة مع مطالب الأجيال السابقة.
هذا والكثير من أشباهه بعض ما نواجهه من تحد. ومن ثم ألمت بشخصية جيلنا ألوان من القلق وضروب من المسؤوليات تفرض عليه أن يجد لمواجهتها حلولا سليمة
فمنا من ينساق إلى مغريات التطرف فيثور على النظم والمجتمع وبيئته وثقافته، ويعتقد بأنه واجد الخلاص في اعتناق هذه النظم والمبادئ المتطرفة التي يخيل إليه إنها ستوفر لأزمته أقرب الحلول وأقصر المسالك. وتاريخ الإنسانية ملئ بهذا النوع من أفراد المجتمع الذين يسأمون من بطأ التطور، فيلجئون إلى التغلب عليه بسلاح التطرف في العمل والتفكير.
ومنا من ينكر على جيله تعدد المطالب وتشعب المسؤولية فيختار العيش في الماضي المحافظ ويمتزج امتزاجا كليا في تقاليده وتراثه وبيئته لعله قادر على أن يحقق مطلب النفس من الطمأنينة والاستقرار الذي يبدو له أن الجيل السابق والأجيال التي أتت قبله قد استطاعت أن تنعم بها.
ولكن أكثرنا لا يرضى عن هذين الاتجاهين، فهو لا يستطيع أن يعيش في الماضي المحافظ في عزلة عن تيارات الفكر والتطور الذي ألم بالحياة وبالمجتمع الأكبر. فكل شيء في الحياة والمجتمع تلح عليه أن يواجه العصر بأسلحة العصر. ولكن أكثرنا مدرك كذلك بان التطرف والثورة على النظم ليست كفيلة بان توفر لهم ولقومهم ما هم في عوز إليه من عدالة واستقرار
فالثورة والاندفاع المتطرف في عالم تكتنفه الذئاب لا يحقق لجيلنا ما يطمحون إليه من أسس ومبادئ ألا إذا ارتضى لنفسه ولقومه أن يصبحوا فريسة لطبقة من المجتمع أو لدولة(996/4)
من الدول التي تتحين ميلاد الأوضاع الثائرة فتزحف لتملأ (الفراغ) بدعوى حفظ الأمن والاستقرار. ولنا في اختباراتنا واختبارات غيرنا في كوريا وغير كوريا أمثلة وافية على ذلك.
وحين يحاول أكثرنا في صدق ونباهة أن يدفع عن نفسه القلق وإن يواجه مسؤوليات السياسة والاجتماعية والفكرية يجد نفسه تنزلق في مسلك وعر.
ففريق يندفع إلى الاعتقاد بان جوهر الأشكال هو توفير الحرية الديمقراطية خالية من سيطرة الذين ورثوها مع ما ورثوه من مال وعقار. ومن ثم يتجه هذا الفريق إلى النشاط الحزبي مدفوعا إلى ذلك برغبة تلح في أن يصلح الأداة السياسية فيحقق لنفسه ولقومه العدالة والطمأنينة في مفاهيمها العديدة، واثقا من أن الحرية السياسية (على نحو ما تفسرها الديمقراطية الغربية) ستوفرها له على أتم الوجوه وأحسنها. وهذا الفريق أميل إلى تجاهل العناصر الأخرى التي تشارك الحرية السياسية في الأهمية والقوة.
وفريق آخر يختار التفسير الاقتصادي لأزماته ومسؤولياته فيجد العلة الكبرى في تركز الثروة وفقدان التوازن في النظام الطبقي ويتحمس لاعتناق تعاليم (ماركس) وغيرة من أبناء الشيوعية ودعاة الاشتراكية على علاتهما. وهذا الفريق أميل في المراحل النهائية إلى الشك في صلاح هذا التفسير الاقتصادي منه إلى الثقة به. فأنبياء الشيوعية ودعاتها لم يتطرقوا إلا من طرف غير مباشر إلى ألوان العقد والمشاكل والمسؤوليات التي يواجهها جيلنا مجتمع عربي إسلامي هم بحكم البيئية والتراث والمقدمات وبفضل دوافعه الروحية والمادية يختلف في أوجه عديدة هامة عن المجتمعات التي عالج مشاكلها ماركس وفلاسفة الاشتراكية الأوربيون. ومثل هذا الفريق مثل الطبيب الذي يعالج أمراض المناطق الحارة بالأدوية والوصفات التي تعالج بها أمراض القطب المتجمد الشمالي. وهناك فريق ثالث يشارك أقرانه في مواجهة التحدي وملاقاة المسؤوليات التي فرضت عليه ولكنه لا يسمح لنفسه أن تقتنع بأي حل من الحلول التي أقتنع بصلاحها الفريقان الآخران. فهو لا يؤمن بان الحرية السياسية كما تبشر بها ديمقراطيات الغرب كافية وحدها لبناء المجتمع الجديد. فهذه الديمقراطيات نفسها ساعية لتطعيم أنظمتها بعناصر مستجدة من تطور الفكر والوعي في الجيل الجديد. وهذا الفريق الثالث لا يستطيع كذلك أن يتجاهل العناصر التقليدية(996/5)
الراسخة - الدينية والثقافية والاجتماعية - التي تعيش عليها بيئته عندما يبحث عن الحلول في تعاليم الشيوعيين والمبادئ والنظم الأخرى التي وضعها المصلحون لمجتمعاتهم التي أن شابهت مجتمعنا في وجه فإنها تختلف عنها في أوجه أخرى.
وفي هذا الفريق نزعة كامنة - سمها ما شئت دينية أو قومية تصر على أن يرعى تراث الماضي وذخيرته، وهذه المقدسات والعناصر الخالدة التي تطفح بالروعة وتمتلئ بالطمأنينة والاستقرار في عالم يكتنفه التفكك والعقد والأزمات الروحية والمادية.
وهذه النزعة ليست لونا من الترف العقلي أو نوعا من المخدرات الروحية التي ما أكثر ما يتهم بها الراغبون في مواجهة التحدي في ترفع عن صرخات الاجتهاد الخاطئ للذين اعتقدوا بأنهم وجدوا الحلول لمسؤولية الجيل. بل الحق أن هذه النزعة ضرب منا الاجتهاد الجاد للبحث عن معقل للإيحاء الروحي والفكري لا ينضب معينه - وهو معقل لابد لكل من أحاطت به مسؤولية أو ألمت به أزمة من أن يلجأ إليه ليستمد منه القوة والشجاعة والرأي السديد
فجيلنا أشبه بالجيش المنهزم يواجه المعركة الفاصلة على حدود بلاده فهو لا يجد الحكمة في أن يغامر بما تبقى لديه من قوة ومناعة ليظفر بجزء من عتاد الأعداد وذخيرتهم ليتسلح بها في الموقعة الفاصلة، بل الحصافة في أن يجمع ما استطاع جمعه من ذخيرة وقوة محلية من طول البلاد وعرضها. فيقتلع أسلاك الحدائق وبوابات القصور وقضبان النوافذ ليصهر ويصنع منها سلاحا يتحصن فيه خندق مكين إلى أن يستعيد من بأسه ويجند قوته الكامنة في عزم شديد
وجيلنا في عراكه مع المسؤوليات الجسام التي تتحداه لا يستطيع أن يضمن لنفسه النصر إذا اختار المغامرة في المعركة الفاصلة فاندفع بجمع ذخيرته من فتات الآراء والمبادئ يلتقطها من أطراف الميدان الذي يسيطر عليه العدو الملاحق. بل أن طبيعة هذا العراك تفرض على جيلنا أن يختار لنفسه حصنا منيعا يجمع فيه ما استطاع اكتشافه من ذخيرة فكرية وتراث روحي من صميم المجتمع الذي نصب نفسه مدافعا عن حماه ساعيا إلى تحويله إلى مجتمع افضل
فكما أن آلة الحرب في أزمنة الصراع لا يمكن لها أن تقتصر في استعدادها على ما(996/6)
تستورده من ذخيرة وعتاد وإنما تسعى جادة لإنشاء المصانع في أرض الوطن بعد أن تتيقن من أصناف المواد الخام المتوفرة في تربتها؛ فإن عراك الجيل يجب أن لا يقتصر في استعداده على ما يستورد من بضاعة فكرية مصادرها عديدة وإلا كان أشبه بالجيش الذي يتسلح ببندقيات بريطانية رصاصها بلجيكي وطائرات روسية لا يصلح لإدارتها ما يتوفر لهذا الجيش من غاز معكر.
فالمهم أن نعكف قبل كل شيء على إحصاء ما يتوفر لدينا من مادة خام - من بيئة ومقومات وتراث روحي - قبل أن نختار القوالب الفكرية المستوردة التي نطمح في أن نجهز بها أنفسنا وعقولنا لمواجهة مسؤوليات الجيل.
فبنا حاجة ماسة إلى الجذور؛ جذور الفكر وأحوال التراث ودعائم البيئة التي نشأنا فيها وطبيعة المقدمات الخلقية والثقافة التي يعيش عليها مجتمعنا.
ومن هنا أخذ فريق منا يندفع باحثا عن همزة الوصل بين تراث الماضي وذخيرته ومسؤولية الجيل الذي نحن منه
وبفضل ذلك وجد كاتب هذه السطور نفسه راغبا في أن يشارك قراء الرسالة في متعة نعم بها مطالعته لكتاب أصدرته المطابع الغربية مؤخرا لمؤلفة فرنسية شابة كلفها رجال المقاومة السرية في فرنسا إبان الاحتلال النازي أن تدرس الأسباب التي آدت التي أدت إلى انهيار فرنسا السياسي والعسكري وتقلص الروح المعنوية بين الكثرة الساحقة من أبنائها، وإن تستوحي من ذلك من ذلك أسسا للمجتمع الجديد الذي ألقيت مسؤوليات تعميره على عانق الجيل الذي هي منه.
فجاء هذا الكتاب سجلا لكثير مما يسود حاضر هذا الجيل من قلق وانفعال؛ وإيجاد صادقا لما تعتقد هذه الكائنات القديرة بأنه عون على مواجهة مسؤولياته الجسام.
وقد شغفت هذه المؤلفة سنوات طوالا بمعالجة موضوعات فلم تكترث للسل الذي كان يمتص حيويتها ولم تضع القلم ألا بعد أن تمت البحث فتلقف الناس الكتاب وزحفت هي إلى القدر لتقد رقدتها الأخيرة.
واسم المؤلفة (سيمون وايل) وقد توفيت عن (33) عاما أما الكتاب فترجمة عنوانه (الحاجة إلى الجذور) وهي الترجمة التي أختارها الناشر الإنجليزي.(996/7)
فلنصاحب هذا الكتاب في عدد الرسالة القادم.
للكلام صلة
عمر حليق(996/8)
خروج المتنبي من مصر
القسم الثالث
لحضرة صاحب العزة الأستاذ احمد رمزي بك
سافرت في آخر شهر أكتوبر سنة 1951 إلى خارج مصر لحضور اجتماع هيئة الأمم المتحدة ولم اعد ألا في النصف الأخير من شهر فبراير سنة 1952 لذلك تأخرت في الكتابة عن رحلة المتنبي الذي لازمني طول مدة إقامتي بعيداً عن مصر.
ذكرنا في المقالين الماضيين كيف قطع المتنبي المسافة بين الفسطاط ونخل في مرحلة واحدة وكيف مدح الهجن البيجاوية التي حملته هذه المسافة الطويلة بقوله: -
ولكنهن حبال الحياة ... وكبد العداة وميط الأذى
ولم يقف أبو الطيب طويلا في نخل التي تركها بعد أن مر بها ونفسه مملوءة بالفخر فقال:
فمرت بنخل وفي ركابها ... عن العالمين وعنه غنى
وسار من نخل حتى قرب من النقاب أو أشرف على ما نسميه اليوم رأس النقب وهو على حدود مصر الحالية. ثم نزل في الوادي وسار شمالا في القطاع الواقع الآن بين شرق الأردن ومصر والذي اصبح من أملاك إسرائيل. وانتهى إلى وادي تربان وهو وادي ينزل من الحميمة إلى المنخفض الواقع في هذا القطاع
ويظهر أن أبا الطيب المتنبي أخفى نيته واتجاهه في السفر إذا يقول.
وأمست تخبرنا بالنقاب ... بوادي المياه ووادي القرى
وبقصد بوادي المياه ووادي القرى الاتجاه جنوبا إلى الحجاز بدلا من الاتجاه شمالا إلى الشام واخذ طريق الكوفة. ويظهر أن شمال الحجاز كان عامر في عصره بدليل ما جاء في كتاب ذيل الأمالي صفحة 121.
ولما علوت اللايثيى لشوقت ... قلوب إلى وادي القرى وعيون
كما جاء في كتاب الأمالي صفحة 299 جزء 2 شعر جميل.
ألا ليث شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذا لسعيد.
وجاء في صبح الأعشى جزء 4 صفحة 292 انه بضم القاف وفتح الراء المهملة وألف في الأخر جمع قرية.(996/9)
قال:
في الروض المعطار: وهي مدينة كثيرة النخل والبساتين والعيون بها ناس من ولد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الغالبون عليها وتعرف بالواديين، والذي أخبرني به أهل الحجاز انه كان بها عيون كثيرة عليها عدة قرى فخربت لاختلاف العرب، وهي الآن خراب لا عامر بها ولو عمرت أغنت أهل الحجاز جميعا عن الميرة من غيرها.
ولما صعد المتنبي الهضبة المقابلة ووصل إلى وادي تربان باح بما يجول في صدره وقال أين أرض العراق كما جاء في شعره:
وقلنا لها: أين أرض العراق؟ ... فقالت ونحن بتربان: ها
وجاء في ديوانه أنه حينما صعد النقب ومر بثربان وفيه ما يعرف بغرندل فسار يوما وبعض ليلة ونزل.
وغرندل هي من المحطات التي قيل أن بني إسرائيل مروا بها بعد عبورهم البحر الأحمر - ذكر عنها صاحب كتاب أنها كانت مركز أسقفية تحت اسم أرنديلة وكانت واقعة على الطريق الروماني الذي يوصل إلى ايلياء (العقبة) الحالية.
ومن المدهش انه بمجرد قيام حرب فلسطين ودولة إسرائيل انقطعت المواصلات التلفونية بين مصر وسائر البلاد العربية
ثم انقطعت الطرق البرية بين مصر والحجاز وشرق الأردن حتى الطريق الذي سلكه أبو الطيب المتنبي لم يعد بوسعنا أن نسلكه فكان أن أصبحت إسرائيل في النهاية تتحكم في مواصلاتنا.
وتدل الأبحاث على أن هذه المنطقة بالذات كانت مسكونة بقبائل من العرب من معن وبني فزارة وسنبس.
وقبل وصوله إلى هذه المنطقة تلقاه رائد من بني سليم سار معه حتى وسط بيوتهم آخر الليل فضرب له ملاعب بن آبي النجم خيمة بيضاء وذبح له. وسار من غدة فنزل بين بادية معن وسنبس وهي التي كان الوزير الناصر أبي محمد اليازوري الفاطمي يخشى قوتها وكانت تسكن حول غزة ثم انتشر نفوذها بعد ذلك أخذت تقلق بال الفاطميين ثم انتقلت مع غيرها من بلاد الشام إلى مصر ومنها إلى المغرب. وقد ذكر الدكتور عباس(996/10)
مصطفى عمار أن مواطنها حول غزة. وجاء في ديوان أبي الطيب أن منطقة نفوذها امتدت إلى الجنوب فشملت الأجزاء المحيطة بالعقبة.
ومن هذه المنطقة أي بين تربان وغرندل التي بجوارها اذرع والحميمة وهي مناطق معروفة بالتاريخ في القرن الأول الإسلامي وكان يسكنها طوائف من الطالبيين أبناء علي بن أبي طالب ومن العباسيين سلالة العباس طول عهد الدولة الأموية وذلك لما كانت عليه هذه المناطق من الخصب وكثرة المياه، وليكون أبناء أبي طالب والعباس بذريتهم وثرائهم على مقربة من دمشق وبعيدين عن شيعتهم في العراق والحجاز فيسهل على الدولة مراقبتهم وتقصي أخبارهم.
ويخيل إلى أن أبا الطيب كان غير مطمئن لسلامته إذا اتجه مباشرة إلى شمالي الحجاز عن طريق العقبة نظرا لما يعلمه من تحوط كافور واتصاله بعربان هذه المناطق. ويقول الديوان أن بعد أن أمضي ليلته في هذه المنطقة من أرض الشراة اتجه إلى جبال حسمي وواجهته رياح الحجاز وقال قصيدته:
وهب بحسمي هبوب الدبور ... مستقبلات مهب الصبا
وجاء في ديوان إرم وهو علم لجبل من جبال حسمي من ديار جذام بين العقبة وتيه بني إسرائيل0 وهذا الجبل عال عظيم العلو تزعم أهل البادية أن فيه كروما وصنوبرا، وكان النبي عليه (ص) وقد كتب إلى زعماء قبيلة جذام أن لهم جبل إرم لا يشاكهم فيه أحد ولا يحاقهم فيه غيرهم.
وفي ديوان المتنبي أن امتداد جبال حسمي مسيرة ثلاثة أيام طولا في يومين عرضا ويعرفها كل من يمر بها ن وقد وجدا أبو الطيب في حسمي بني فزارة وفيهم أولاد لاحق بن مخلب فنزل بينهم لان أمير فزارة حسان بن حجمة كان بينه وبينه مودة وصداقة. وبهذا تحقق ما كتبه قبل ذلك من الشعر وهو بمصر إذا قال:
إذا سرنا عن الفسطاط يوما ... خلفني الفوارس والرجالا
لتعلم قدر من فارقت مني ... وإنك رمت من ضيمي محالا
للكلام بقية
أحمد رمزي(996/11)
المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي(996/12)
هل المسيحية في ازدهار؟
للأستاذ الكبير الفاسي
هذا السؤال إذا اكتفينا في الجواب عنه بقبول ما يرد علينا في الإحصائيات على عواهنة، أجبنا عنه بالإيجاد، لأن الإحصائيات تزعم أن عدد المسيحيين في اطراد. على أنها تعتبر سكان أوربا كلهم مسيحيين كما تعتبر سكان أمريكا - جنوبا وشمالا كذلك مسيحيين. والإحصائيات لها منطوق ومفهوم وظاهر وباطن، ومن شأنها تصليح دليلا للمثبت ما دام لا ينفيها ناف يريد أن يثبت خلاف ما يدعيه المثبت.
والعبرة في كل شيء ليست بالعدد وإنما هي بحقيقة الواقع في الشيء المعدود؛ فإذا كانت المسيحية كثرة لأفراد فإن المسيحيين قليلو المسيحية، بعبارة أخرى فإن من يعتبرون في عدد المسيحيين سواء في أوربا أو في غيرها لا تسيطر المسيحية على أكثريتهم ألا بقدر ما تسيطر عليهم التقاليد والعوائد، بحيث أصبحت المسيحية في كثير من الأقطار ظاهرة اجتماعية أكثر منها معتقدات فلسفية وتعاليم وأخلاقا.
والناس طبقات، وأظهر هذه الطبقات طبقة المالكين وأصحاب رؤوس الأموال وطبقة العاملين لهم وهم العمال والمأجورون.
فالطبقة الأولى، وهي طبقة رؤوس الأموال، لا ترى في المسيحية ألا إطار يحسن فيه إقامة المهرجانات الاجتماعية من زواج ودفن. وتباهي في تلك المهرجانات ولا تترد في الإنفاق عليها. . ثم أنها عهد قريب كانت ترى في الدين أداة لتسكين غضب العامل والأجير والفلاح لما هم فيه من بؤس وشقاء؛ وترغيبهم في حياة الآخرة بما فيها من نعيم يعوضهم ما لم يدركوه من أنواع الخير والنعيم في هذه الحياة الدنيا. غير أن طبقة العملة استقطبت من سباتها وأدركت أن الدين شيء، وما هي عليه من بؤس وشقاء شيء أخر. وإن الدين، الذي هو إيمان وسلوه ورجاء، لا ينبغي أن يكون ذريعة لأصحاب رؤوس الأموال يتوسلون بها إلى استغلال عملهم الشاق المضني لجمع المال وتنميته ينفقون جزءا تافه منه على تشييد الكنائس وإقامة الصلوات ويتركونهم يعيشون هم وأولادهم في بؤرة الشقاء والمرض والبؤس
ولم تحصل هذه النتيجة في عقول العامل والفلاح والأجير بتعاليم الاشتراكية والشيوعية(996/13)
طيلة القرن التاسع عشر فحسب، بل كان الفضل في ذلك لانتشار العليم أولا، ولفضائح الطبقات المالكة. ولفضائح الكنيسة الكاثوليكية الأخلاقية والمالية. بحيث اصبح العامل والقروي لا يغرهما بهرجة الدعاية وجمال المظهر وحسن الهندام، إذا يعلمون أن من يمثلون الدين لا يعيشون دائما حسب تعاليمه وإن أصحاب رؤوس الأموال لا يتأثرون من الدين بشء، فساءت الظنون وتبع ذلك ما هو ما هو اكثر منه أي فرار اكثر به العملة من حظيرة الكنيسة. وأحسن برهان على ذلك فقرات نسوقها للقارئ نقلا عن مجلة (إنكليزية) وهي لسان حال الكنيسة الأسبانية بقلم أسقف بلنسية جاء فيها:
(يتمنى العملة الإسبانيون استبدال الحكم في بلادهم ولكنهم يجهلون بأي شيء يستبدلونه، والعملة لا يخافون الكنيسة، وإنما يخافون رجال الجيش ويعتبرون ما يتقاضونه من الأجور لا يدفع عنهم البؤس وإنما هم مرغمون على تقاضيه من طبقة المترفين. والعملة من وجهة العلائق الجنسية مع نسائهم ليسوا من العفة في شيء: فالأعزب منهم لا يزيد الزواج والمتزوج منهم لا يرى في زوجه إلا أداة للمتعة الجنسية ويعمل على ألا يكون له من زوجه ولد. ويلاحظ أن حديث العملة فيما بينهم اكثر ما يدور حول النساء والشؤون الجنسية لا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.)
ويختم الأسقف قائلاً: (لا يتورع العملة عن سرقة مستخدميهم كلما وجدوا لذلك سبيلا، وذلك أما بالقيام بالعمل أقل ما يمكن، وأما باختلاس بعض الأدوات. وهم يتصرفون هكذا كأنهم يقولون هذه بضاعتنا ردت ألينا! وما ذلك ألا انهم ملحدون).
ذلك ما يخص الشعب في أمة تعتبر أعرق الأمم الكاثوليكية ولا حاجة بنا لتعليق أو شرح إذ كلام الأسقف من حيث البيان قد بلغ الغاية القصوى. وإذا كان الأمر كذلك في مثل هذه الأمة فماذا يكون في غيرها من الأمم التي لعبت في عقول أفرادها التعاليم الماركسية والماسونية التي سيطرت على التعاليم في كثير من البلاد الأوربية وفرقت بينه وبين التربية الدينية. فحالة المسيحية في فرنسا لا تقل تحرجا عنها في غيرها. فقد نشرت جريدة رجعية كارفور في عددها الصادر في 30 أبريل الأخير مقالا بقلم أحد مساعديها الاختصاصيين في المسائل الدينية يقول فيه: (يمكن أن نؤكد من غير خشية الوقوع في الخطأ أن فرنسا في مجموعها تسير شيئا فشيئا في طريق العدول عن الأيمان بالله.(996/14)
وإذا كان جمهور أهل البوادي لازال يقدم أولاده لماء المعمودية، ولا زال يتزوج ويقيم جنائز أمواته في الكنائس، مظهرا بذلك تشبثا بالكاثوليكية؛ فإن مجموع سكان المدن ألا من شذ - وحتى أفراد الطبقة الوسطى منهم وقسط من الطبقة البرجوازية العليا - كل هؤلاء أصبحوا يعتبرون الكاثوليكية كتحفة أثرية وعقيدة عتيقة دخلت في حكم التاريخ لا حاجة بالناس لإضاعة الوقت في مناقشتها والجدل فيها والخاصة في كل وسط من الأوساط الاجتماعية هي التي عدلت عن الأيمان بالله وهي التي قطعت علائقها بالكنيسة الرومانية متوجه نحو العلم والرقى العلمي، ونحو جميع الأوثان المزيفة التي نصبها العالم الحديث، وبذلك يحاولون تحقيق أهدافهم الإنسانية على أكمل وجوهها).
وبعد أن أطال الكاتب وأنبط في تصوير هذه الحالة التي تعتبر من صفحات الكاثوليكية السوداء في العصر الحاضر، زاد قائلا:
(أخذت فرنسا تبتعد عن المسيحية منذ القرن الثامن عشر ميلادي، وقد اصبح إغراقها في الإلحاد في الوقت الحاضر في أقصى درجة ممكنة، ويشمل ذلك عدداً كبيرا من الفرنسيين، وخصوصا أفاضلهم ممن ينعتون بكونهم محافظين ممن عرفوا بانتمائهم للنظريات التقدمية.
نعم أن الكاتب يقول بعد ذلك أن هناك رد فعل لا نزاع في وجوده من طرف الكاثوليكيين وخصوصا من الشباب لاسترداد ما فات الكنيسة من تأثير على النفوس، ونحن كذلك لا نناقش في هذا لأن الكاتب متفائل كل التفاؤل ونرجوا أن يكون موفقا في تفاؤله وإن تتوج تلك الجهود بالنجاح أو ببعض النجاح
ويختم مقاله المتشائم في بدايته المتفائل في نهايته بقوله: أن كنيسة فرنسا تتمتع بصحة جيدة 0
ونحن لا يسعنا ألا أن نبارك هذه الصيحة، لولا أننا فوجئنا بكتاب كتبة الراهب منتو كلار عنوانه: الحوادث والإيمان صادرته الكنيسة الكاثوليكية بعد ظهوره وحرمت قراءته على المسيحيين نظراً للأفكار التي يتضمنها والتي تعتبرها أفكار ثورية، وهذا الراهب من أولئك الرهبان الأذكياء الذين عرفوا أن من بواعث انتشار الإلحاد والكفر والابتعاد عن تعاليم المسيحية، كون من سبقوهم فيها - وخصوصا منذ فجر النهضة الصناعية في أوائل القرن المنصرم - لم يكونوا في صفوف العمال والفلاحين، بل كانوا في جانب الرأسماليين(996/15)
يباركون في تصرفاتهم لاستغلال المال والعملة، وكانت الكنيسة الكاثوليكية كلما قاموا من بينها ومن بين رجال الفكر والمنتمين أليها من يندد بأعمال الرأس ماليين ويدافع عن العملة مثل الأب لكوردير والأب لمنى وغيرهما تقاومه وتحرم النظر في كتبه لأنها تشتمل على أفكار وأراء تعتقدها مخالفة لتعاليمها وقد قام في فرنسا بعض صغار الرهبان، واغلبهم من الشعب وأخذوا على أنفسهم التقرب من العامل والفلاح لدرس حالته أولاً وأعانته في شدته وضيق عيشته والدعوى إلى رحمته ليخرج بذلك مما هو فيه من بؤس وشقاء.
وإذا خرج من ذلك أبتعد - في نظرهم - كل البعد عن حظيرة الشيوعيين. ولقبهم مناوئهم - بالآباء الحمر - لكونهم يعيشون في أواسط العمال ويعيشون عيشتهم، ومنهم من يخدم في المعامل. وإذا كان عددهم الآن قليلا جدا لكون الكنيسة لا تنظر إليهم بعين الرضا - فإن أثرهم ملموس في أواسط العمال الذين يحسون منهم بصدق وإخلاص في المأمورية الإنسانية التي يهدفون أليها.
والعجب كل العجب أن بعض هؤلاء (الآباء الحمر) قد توصلوا في درسهم حالة العمال إلى نتيجة هي نفسها النتيجة التي توصل أليها الباحثون قبلهم من أصحاب النظريات الاقتصادية في كل زمان ومكان، وهي أن مسألة العمال الفلاحين - أو ما نسميه العدالة الاجتماعية - تحتاج إلى قلب النظام في الاستهلاك والاستغلال وإعادة النظر في توزيع الأراضي الخ - وهم بوصولهم لهذه النتيجة كأنما كانوا على موعد عندها مع مفكري الماركسية احب ذلك أمكره! لذلك فأنهم يسخطون الكنيسة والرأسمالية على السواء غير انهم لا يخشون في الحق لومة لائم وإن كانوا ناقدين لأوامر الكنيسة
ولكي تعرف رأي أحد هؤلاء (الرهبان الحمر) نأتي إليك بفقرات من الكتاب المذكور، يقول صاحبه ما نصه:
(لقد قوضيت أيام من فصل الربيع الأخير مع جماعة من المبشرين في بادية فرنسا في أواسطها. ولقد أنسلخ سكان هذه الناحية عن المسيحية بحث لم يبقى عندهم من مظاهر المسيحية ألا ما علق بتقاليدهم الشعبية وما هو ممتزج بخرافاتهم وأوهامهم التي تسود فيها معتقدات هي ألصق بالسحر من غيره. وكان حاضرا معي في هذا الجمع عدد من الرهبان والخوريين يبلغ نحو العشرين - ففحصنا يوما لدرس هذه الحالة وأمامنا سؤال واحد وهو:(996/16)
ما العمل لرد أهل هذه الناحية إلى حظيرة المسيحية فكان جواب الجميع انه لا أمل لنا في ذلك قبل قلب نظام توزيع الأراضي واستغلالها، وهو نظام إنساني يعيش فيه الفلاح وهو ينظر للحياة نظرات لا آفاق فيها).
ورغما من كون هذه النظريات التي تشبع بها غير ما واحد من رجال الكنيسة وإن لم يتوصلا كلهم لنفس النتيجة أي قلب نظام الحالي في الامتلاك والاستهلاك، فإن الرجعيين من الفرنسيين وخصوصا أصحاب الحزب الملكي المنتمين لأحد زعمائه وهو موراس - يقولون في حكمهم على هذه النظريات: إن هذا دين جديد، مخالف لما كان عليه دين آبائنا لكونه لا يقر الحياة التقليدية التي عاش عليها الفلاح منذ قرون وتكونت منذ قرون، والذي يظهر من أمر هؤلاء الحوارين الصغار أن نظرياتهم لا تستند على كاثوليكية ولا على سياسة اجتماعية رشيدة، وإنما مبناها أقوال الماركسية!
ولا غرابة في هذا الحكم مادام مأتاه من قوم عرفوا بضيق الفكر وشذوذه في كل شيء. والعجب كل العجب أن متزعم الحركة الملكية في فرنسا يقول بخلاف ما يدعه من يزعمون الانتساب إليه، وقد عرف عن لوكنت دوباري أن له نظريات اجتماعية قد يرتضيها كثير من أحزاب العمال وهي مغايرة لكثير من نظريات أتباعه.
ولكن الذي لا نفهمه هو أن كثير من المسيحيين المترددين أو المتحجرين الحامدين أمام القضايا الاجتماعية سواء في فرنسا أو في إسبانيا أو إيطاليا - لم يعتبروا بما وقع لروسيا التي ترددت كثيرا وجمدت ما شاء لها من التعصب والجمود أن تفعل طوال القرن التاسع عشر، وعلى رأسها الأرستقراطية جبارة كانت تتصرف في الأراضي وما عليها من رقاب تصرف السادات والإقطاعيين، ولم تحاول حل المشاكل الاجتماعية بل لم يثبت أن قادتها أعاروا أذنا لسماع شكوى العامل والفلاح مما كانوا فيه من أنواع البؤس والشقاء. فنفس جواب الرجعيين في أوربا الغربية الآن كان يجيب به سادات روسيا العامل والفلاح ومن كان يتزعم حركتهما الإصلاحية مستندين في ذلك على سوء فهم الدين، وعلى تخدير الأعصاب الذي كان يقوم به رجاله المأجورون. ولكن ماذا كانت النتيجة سنة 1917؟
إنها كانت الشيوعية التي اكتسحت نصف أوربا وبعض من أسيا الآن، والتي ستضطر الإنسانية لصرف جميع ما تملكه في مقاومتها مع عدم تحقيق الغلبة عليها، لأن القضاء على(996/17)
الخطر الروسي ليس هو القضاء على الخطر الشيوعي!
كانت الشيوعية نتيجة لتحجر المسيحية والمسيحيين وكانت روسيا هي أكبر الدول المسيحية مساحا وأكثرها عدداً ولكن النتيجة هي ما نعلم.
وذلك لا تغتر بقول من يقول: أن المسيحية في ازدهار، بناء كل الإحصائيات.
على أن ما يقال في شأن التأثر بالدين وتعاليمه والتهذب بأخلاقه ومبادئه في حق المسيحية والمسيحيين، قد يقال مع مزيد الأسف والحسرة في حق الإسلام والمسلمين مع ما لابد منه من التفرقة التي تقتضيها الاعتبارات التاريخية والجغرافية والاجتماعية.
عبد الكبير الفاسي(996/18)
من أثار السيدة زبيدة
للأستاذ المغربي
قال محمد بن علي العبدي للخليفة القاهر وقد سأله يوما أن يحدثه عن السيدة زبيدة: كان من فعل زبيدة وحسن سيرتها في الجد والهزل ما بارزت فيه على غيرها.
فأما الجد والآثار الجميلة التي لها في المملكة فهي حفرها العين المنسوبة أليها في الحجاز. وتمهدها الطريق لمائها في كل خفض ورفع وسهل ووعر من مسافة أثنى عشر ميل، حتى بلغت بها مكة. وأنفقت عليها ألف ألف وسبعمائة دينار ولها كثير من أمثال هذا العمل العمراني.
هذا في الجد. وأما في الأمور التي تتباها بها الملوك في أعمالهم، وينعمون بها في أيامهم، وتزين بها سيرهم وأخبارهم. فهو أنها:
أول من أتخذ الآلة (أي أدوات البيت وأمتعته) من الذهب والفضة المكلة بالجوهر. وصنع لها الصناع الرفيع من الوشى حتى كلف الثوب نحو خمسين ألف دينار.
وهي أول من أخذ (الشاكلية) من الخدم والجواري يركبون الدواب ويغدون ويرحون برسائلها وحوائجها
وأول من أتخذ القباب على الهوادج من فضة وآبنوس وهندل، لها كلايب من الذهب والفضة، وهي ملبسة بالوشى والسمور والديباج وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق. واتخذت النعال المرصع بالجوهر. واصطنعت الشمع من العنبر. وقلدها أغنياء الناس في ذلك جميعا.
ولما أفضت الخلافة إلى أبنها (الأمين) قدم الخدم وآثارهم ورفع منازلهم ككوثر وغيره من خدمه، فلما رأت أمه شغفه بهؤلاء الغلمان المماليك اتخذت الجواري الحسنان المقودات وعممت رؤسهن، وجعلت لهن الطرز والأصداغ والاقفيا (لعلة يعنى الشعور تجمع على القفى بشكل خاص مؤنق) وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق (وهي من ألبسة شباب الجند وغلمان العسكر) وأرسلتهن وهن بهذا الزي إلى أبنها (الأمين) فراقت شكلهن. وأبرزهن في مجلسه أمام الخاصة والعامة وشاع أمر هذا الزي في الناس فجعلوا يتخذون الجواري المطمومات (أي المقصوصات الشعور من طم الشعر إذا جزة أو عقصة)(996/19)
ويلبسونهن ملابس الغلمان: من أقبية ومناطق وسموهن (الغلاميات).
وقد اكثر وراء ذلك الزمن من وصف هؤلاء الغلاميات وفي طليعتهم أبو نؤاس
ويظهر أن اتخاذ هؤلاء الجواري الزي المذكور لم يكن بواسطة اللبوس من الثياب وطم الشعر فقط بل يتعدى إلى تصفيف الشعر كما يفعل الغلمان والى تخطيط شوارب من المسك والغالية والعبير على الشفة العليا تقليدا للشوارب الطبيعة. وقد أشار إلى ذلك أبو نؤاس بقوله:
حور طلعن مؤنثا ... ت الدل في زي الذكور
أصداغهن معقربا ... ت والشوارب من عبير
والعبير أخلاط من طيب تداف بالزعفران، فالجارية كانت تلبس لبوس الغلام وتخط على مواضع الشوارب خطا من العبير وفي لونه شقرة فيبدو كشارب الغلام أو ل ما يبدو وهو بعد أشقر أو أصفر، أما مواضع الصدغ من الجارية فلا يكون عليه شعر السالف مسترسلا أو سبلا كسوالف الجواري وإنما هن يقصصن ذلك الشعر ويلونه على شكل العقرب، أو لعلهن يكوين شعر الصدغ كما تكوى الشعور اليوم بحدائد خاصة. فالغلمان كانوا يومئذ يتخذون من شعر أصداغهن كهيئة العقرب. والجواري المتشبهات بهم كن يفعلن ذلك، فإذا نظرت لوجه الواحدة منهن أول ما يقع نظرك على أصداغ غلام وشوارب غلام ومن هنا كثر في لغة الغزل قول الشعراء معقرب الصدغ وعقرب الأصداغ ولا يكون ذلك على ما يظهر في الغزل بالغلمان الذين لهم على أصداغهم شعر ملوي ومثني على نفسه بحيث يمثل للرأي عقرب أسود يلسع. أما الجواري فليس لعن عقارب أصداغ، وإنما لهن أفاعي وحيات من ذوائبهن تتلوى على ظهورهن.
فلما سمع القاهر منى هذا الوصف تهلل ونادى بأعلى صوته اسقني يا غلام على وصف (الغلاميات) فبادر إليه جوار قدهن واحد توهمتهن غلمانا بالقراطق والأقبية: والطرز والأفقية ومناطق الذهب والفضة فأخذ الكأس بيده وجعلت أتأمل صفاء جوهر الكأس ولآلاء ما فيه، وحسن أولئك الجواري الغلاميات، ولمعان الحربة التي بجانبه. ثم التفت القاهر إلي وقال:
قد سمعت كلامك وكأني مشاهد للقوم حسبما وصفت وسرني ما ذكرت وفصلت(996/20)
ثم أمر لي بجائزة أخذتها على الفور وانصرفت
هذا ما رواه عن (محمد بن علي العبدي) المتخصص في علم الملوك كما شهد له بذلك المؤرخ المسعودي، وقد علمنا من مسامرته للخليفة (القاهر وما أفاض به من وصف (الغلاميات) واسترساله في هذا الوصف إجابة لرغبته الملحة علمنا منه أن هذا الخليفة لم يكن على ما يحبه له منصب الخلافة من عفة وصلاح وحسن سمت ووقار، اللهم ألا إذا كان هذا من قبيل الدعاية التي أذن بها المأمون، فقد روى أن بعض جلسائه سأله:
هل تأذن لنا يا أمير المؤمنين بالداعية، فأجاب:
وهل يطيب العيش ألا بها؟
(المغربي)(996/21)
درس مطالعة. .
للأستاذ محمد علي جمعة الشايب
كان ذلك في الحصة السادسة وقد تسربت أذهان التلاميذ من نوافذ المدرسة وأبوابها إلى منازلهم حيث يهيأ لهم طعام الغداء وحيث ينتظرهم أهلهم وذووهم. . وقد كانت سحابة من التعب تلوح على وجوه التلاميذ تظهر من ثناياها إشراقة خفيفة من الأمل في الانتهاء من اليوم المدرسي وإلقاء هذا العبء الذي أثقل كواهلهم من أول النهار إلى منتصفه تقريبا؛ فهم لذلك يستحثون عقرب الساعة كما يستحث الناس آخر يوم من رمضان. وكنت أحس أن آذان التلاميذ ظامئة إلى موسيقى الجرس الآذن لهم بانتهاء اليوم ومغادرة المدرسة، ولعلهم لو فطنوا لقرءوا في وجهي من بين ثنايا هذه القوة المقتطعة من الضعف وذلك العزم المأخوذ من الإعياء مثل ما أقرأ في وجوههم أو بعض ما أقرأ. . ولكنة التلميذ الذي يعتقد أن مدرسه من حديد لا يلحقه الكلل أو التعب! وإن صدر النهار وآخره عنده سواء. 0 وكان موضوع الدرس هو (السلع الآدمية) من كتاب (المطالعة المختارة) للمدارس الثانوية. وخلاصة الموضوع - ولا أثقل عليك - أن شابين إنجليزيين جلسا على حديقة منزل بإنجلترا وسرحا بصرهما فيما حولهما فوجدا من محاسن الطبية ومفاتنها ما يأخذ النفس إعجابا ووجدا الطيور تنتقل من غصن إلى غصن في حرية وانطلاق؛ بل وجدا كل ما في الحديقة يدعوا إلى الحرية والانطلاق. تذاكر الشابان أن الحرية حق طبيعي، ويجب أن ينعم به الناس في الأرض كما تنعم به الطيور في جو السماء، وإن شقاء الإنسان مبعثه الإنسان، وما يدعيه الغربيون من مدينة وحضارة ليس ألا ستار يحجب عن الأعين كثيرا من الرذائل والوحشية. وعرضا لما يجري إذ ذاك من تجارة الرقيق فاعتزم الشابان أن ينتشلا وطنهما من تلك الحماة ويطهرا سمعة الأمة الإنجليزية من جريمة الرق المنكرة. . وقد كانت تجارة الرقيق في ذلك العهد قائمة على قدم وساق، فقد حدث أحد السائحين انه رأى زنجيين يصيدان السمك في داهومى وقد ملآ منه أسفاط عدة؛ فسمعا واقع أقدام خيل مقبلة فتركا ما صاداه وفرا هاربين من تجارة الرقيق الأوربيين، ولكن التجار أدركوهما وسلكوهما مع من معهم من الرقيق.
وقد بر الشبان بوعدهما. ونشر رأيهما في بلادهما، فصادف نفوسا تكره الظلم، ولم يمض(996/22)
قليل حتى هبت الأمة الإنجليزية كلها تنادي بالقضاء على هذه التجارة الخاسرة، وكانت إنجلترا أسبق الأمم إلى هذه الدعوة الكريمة، ولم يكتف الشعب الإنجليزي بذلك بل جاد أبناؤه بأموال طائلة لشراء وطن في غرب أفريقية للعبيد المعتقين ثم تبعتها الأمم الأخرى في ذلك
لم أكد أفرغ من قراءة هذه الفقرات من الدرس حتى رأيت التعب قد طار عن وجوه التلاميذ كما يطير النعاس عن عين المذعور، وأحسست أن أعصاب التلاميذ المتهدجة من الإرهاق قد شدت من فورة الحماس وأنهم قد صبت فيهم قوة الأسد المتأهب للوثوب، وأخذت أقرأ في وجوه التلاميذ وعيونهم الارتياب في صحة ما ينطوي عليه هذا الكلام، وأخذوا يمطرونني بوابل من الأسئلة؛ فمن سائل يقول:
إذا كانت إنجلترا حقا هي أول من نادي بإبطال تجارة الرقيق فلماذا هذا الاستعمار المسعف؟ وهل هناك فرق بين الاستعمار والرق في نظر إنجلترا؟
وتطوع تلميذ بالإجابة عن هذا السؤال قائلا: أن الاستعمار ابشع أشنع من الرق لأن الرق استرقاق أفراد ولكن الاستعمار استرقاق شعوب، وقد يعتمد الرقيق على سيدة في مالكه وملبسه ومطالب عيشه ولكن الاستعمار يستحوذ على أقوات الشعوب وكسائها بل يمتص دماءها. . والرقيق يشترى بثمن ولكن الاستعمار ليس كذلك. 0 ولكن كان محرجا حقا ذلك السؤال الآتي:
كيف يشتري الإنجليز وطنا في غرب إفريقية للعبيد المعتقلين وهم اليوم يغتصبون الأوطان من الأحرار المسودين بل وقبل اليوم بعشرات السنين؟
وما أن انتهى التلميذ من إلقاء هذا السؤال حتى رمقته بنظرة الإعجاب ونظر التلاميذ إلى ينظرون الإجابة وعلى شفتهم ابتسامة خبيثة، وكأنهم فهموا أن المدرس يجب عليه أن يجيب عن كل سؤال حتى ولو كان السؤال لا يستطيع أن يجيب عنه البرلمان الإنجليزي ولا إيدن ولا تشرشل. . . وشاءت المصادفات أن تمر في شارع المدرسة هذه الساعة دبابتان إنجليزيتان فتفزع الشارع بصوتهما الأجش الغليظ فينسى التلاميذ الإلحاح في طلب الإجابة، والقيت على الدبابتين نظرة من نافذة الفصل فوجدتهما تهرولان وفيهما المدافع والجنود؛ وقد رآهما الأطفال الذين كانوا يلعبون بجمع الحصى من الصحراء المشرفة عليها(996/23)
المدرسة فتسللوا إلى الحارات والبيوت هاربين؛ فحضرت في ذهني صورة الصيادين اللذين جمعا السمك في أسفاط عدة فلما رأيا تجار الرقيق تركا الصيد ووليا هاربين؛ فتبينت في ذلك شبها بين الاسترقاق والاستعمار، وعدت ببصري إلى الفصل فإذا هو يكاد يتميز من الغيظ، فقد كان أبناء الإسماعيلية الذين ذاقوا ماذا قوا، فقالت في هدوء ورزانة المدرس التي يطنعها أحيانا: لعل الله يبعث في إنجلترا شابين آخرين ترتفع صيحتهما للقضاء على الاستعمار وخنق أنفاس الشعوب
ودق الجرس وأنصرف التلاميذ وأنا أسأل نفسي من هذه الضجة التي أثارها هذا الدرس وقد درسته في العام السابق فمر في هدوء وسلام. . ولقد تمنيت لو سمع كله ذلك الدرس الصاخب فقد كان درسا حقا.
محمد علي جمعة الشايب(996/24)
آراء جون ديوي في التربية
للأستاذ حسن محمد آدم
توفى أخيراً الفيلسوف الأمريكي جون ديوي الآراء والنظريات المشهورة في التربية. ومن حق الرجل علينا - حن المشتغلين بالتربية والتعليم - أن نكشف للناس عن بعض ما لهذا الفيلسوف من فضل على المناهج التربوية الحديثة في المدارس والمعاهد وبالتالي على الجيل الجديد الذي يتربى فيها في هذا القرن العشرين.
يعتبر جون ديوي صاحب مدرسة وصاحب مذهب في التربية وله أتباع وأنصار عديدون وآراؤه الفلسفية في التربية تتميز بأنها عملية ترتبط بواقع الحياة وترمي إلى نفع الإنسانية منفعة مباشرة، ولهذا أطلق على مذهبة التربوي مذهب البراجماسية. وإذا نظرنا هذه الآراء نجد أن ديوي يقرر أول ما يقرر أن (التربية يجب أن تهدف إلى تنظيم اشتراك الفرد في حياة المجتمع اشتراكاً إيجابياً عن وعي وقصد، كما يجب أن تهدف إلى الإصلاح الاجتماعي الذي لا يتحقق إلا إذا وجهنا نشاط الفرد وتفكيره نحو الاشتراك في المجتمع حتى يصبح فيه عضو نافعاً منتجاً)
وكانت هذه المبادئ التي بدأ يقررها وينادي بها حدثاً في حياة التعليم التي ألفها الناس وعكفوا عليها القرون الطوال. فإن السنة التي كان الناس يجرون عليها في تربية أبنائهم وتهذيبهم هي إرسالهم إلى المدارس بغية تلقي العلم واكتساب المعرفة عن طريق المربين الذين كانوا يتبعون طريقة واحدة هي طريقة إلقاء المعلومات وتلقينها للأطفال تلقينا نظرياً حتى تمتلئ بها أذهانهم وكانت هذه هي الطريقة المثلى لازديادهم علما وخبرة ومعرفة بالحياة!
وهاجم ديوي هذه الطبقة التقليدية الجافة وبين ما فيها من عقم وأوضح أنها لا تفيد الصغير بخبرات جديدة تحقق الغرض من اكتسابه لها، لأن موقفه السلبي الذي يتمثل في مجرد الإنصات والاستماع إلى خبرات الغير من شأنه أن يصرفه في غالب الأحيان عن الاستفادة؛ ومن شأنه كذلك أن يكرهه في مادة الدرس بما تدخله في نفسه من السآمة والملل، لأن الأشياء التي يكره على تقبلها لا تتعلق بذات نفسه لافتقادها عنصر التشويق ولبعدها عن ما يوائم ميوله الفطرية ويجاري غرائزه الطبيعية في هذه السن المبكرة.(996/25)
هذا فضلاً عن أن انتفاع الطفل بما يتلقاه في مدرسته في حياته المنزلية والاجتماعية يكاد يكون مستحيلاً لأنه لا يجد ربطاً بين حياته في المدرسة وحياته في المنزل أو في المجتمع، وبذلك تكون التربية التي من هذا النوع عقيمة غير مجدية يصعب عليها أن تمد المجتمع بمواطن صالح واحد.
لهذه الاعتبارات كلها رأى (ديوي) أن التربية السليمة هي التي تقوم على أساس من خلق حياة طبيعية للتلميذ في المدرسة، مبنية على حاجاته وميوله ونشاطه الذاتي حتى يسعى بنفسه إلى اكتساب الخبرات الذي تنمي مداركه وتغذي عقله. . وبذلك نقل التلميذ من ميدان السلبية والركود إلى ميدان الإيجابية والعمل والنشاط. وبعد أن كان أساس التثقيف في الميدان الأول التلقين النظري الذي يأخذ فيه المدرس الجانب الأكبر من النشاط ولا يشاركه التلميذ فيه إلا بقدر ضئيل تافه. أصبح أساسه في الميدان الثاني التوجه العملي الذي يندفع فيه التلميذ من تلقاء نفسه بالتعليم، باذلاً النشاط الأكبر تحت إشراف مدرسه الذي لا تتعدى مهمته أكثر من التوجه والإرشاد إلى خير السبل لا كتساب المعرفة وتحصيل المعلومات.
وخالف (ديوي) رجال التربية التقليدية في أن هناك أغراضاً ثابتة للتربية لا تتغير بتغير الأحوال والظروف. فكان يرى أن التربية الحقة هي عملية نمو مستمرة ومتغيرة دائماً إلى ما هو أحسن بالنسبة لنوع المجتمع وظروفه ومثله العليا.
ولقد فهم كثيرون فلسفة ديوي هذه فهماً خاطئاً. إذ توهموا أن معنى هذا هو التحلل من البرامج والمناهج التربوية. ولكن ديوي كان ينص دائما على أن عملية النمو التي يقصدها ليست نمواً لا ضابط له. بل هي عملية نمو موجهة ومرغوب فيها هذا أنه لا ينكر المنهج بل غاية ما يشترطه فيه هو أن يكون مرناً ملائما المجتمع، منتظماً لمختلف أوجه النشاط التي تمكن الصغار من اكتساب خبرات جديدة في أطوار النمو المختلفة.
ثم إنه على أساس هذه الفكرة التربوية أقلع نهائياً في مدارس الأحداث الأوربية عن طريقة التلقين القديمة. ورسمت الطرق الحديثة في التدريس كطريقة المشروع وطريقة المشاكل وغيرهما. ويعتبر (وليم كلباتريك) و (جون ستيفنسون) اللذان يذكران إذا ذكرت هذه الطرق من تلاميذ ديوي الذين تلقوا عنه في مدرسته أفكاره الرئيسية التي بنوا عليها فلسفاتهم فيما بعد.(996/26)
وكما كان لديوي أثره في الغرب كان له أثره أيضاً في الشرق وفي مصر خاصة. وقد بدأ المعنيون بشؤون التربية والتعليم يفتحون أذهانهم إلى هذه الفلسفة الجديدة واقتبسوا منها الشيء الكثير، وتعتبر المدارس النموذجية إلى حد ما خير من أخذت بآراء ديوي. وهذا لا شك خطوة طيبة إلى الأمام. ونرجو أن يأتي قريباً هذا اليوم الذي تتحرر فيه المدارس المصرية من الطرق التقليدية الجافة في التربية، وتعمم فيما بينها منهج ديوي وغيره من رجال التربية المحدثين بقدر ما تسمح به الظروف بيئتنا حتى نتخلص بذلك من الجمود والنقص المعيب الموجود في مناهجنا الحالية. وحتى يحين للتربية أن تثمر وتحقق المقصود منها.
حسن محمد آدم(996/27)
الولاة والعمال في التاريخ الإسلامي
للأستاذ عواد مجيد الأعظمي
إن موضوع الولاة والعمال، موضوع فريد في بابه، يستوجب البحث والعناية، لأهميته في تبيان بعض الأسس المهمة في النظم الإدارية عند الإسلام. . وقد لعب الولاة، والعمال دوراً فعالا في إدارة الممتلكات الإسلامية في مختلف عصور التاريخ الإسلامي، وحاولت جهدي بيان سياستهم تجاه الأمور المالية، والسياسية، والإدارية، والعمرانية، والثقافية، والقضائية، وسياستهم نحو الرعية. . . وقبل البحث في سياسة الولاة من الناحية العملية، والواقعية، أرى لزاماً توضيح معنى الولاية، والإمارة، وتطور مفهومها، وملاحظة أسسها من الناحيتين النظرية والفقهية.
معنى الولاية (الإمارة) وتطور مفهومها
ليست الإمارة أو الولاية إلا شكلاً من أشكال الإدارة المحلية خاضعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة للسلطة المركزية المتمثلة في السلطان أو الملك أو الخليفة. . ومنشأها يرجع إلى حاجة الأمة في إدارة البلدان التابعة لها؛ وبعبارة أخرى أن توسع الدولة وتعقد شؤونها المختلفة أدى إلى وجوب إنشاء الإمارة أو الولاية (ويراد بالولاية - الإمارة على البلاد، فيولى السلطان، أو الملك، أو الخليفة من يقوم مقامه في حكومة الولايات، وهي الأعمال في إصلاحهم. . وهذا النوع من الحكم قديم). . (وكان لكل إقليم حاكم أو عامل، والغالب أن يكون بطريقاً) (وكان أمراء الأقاليم يسمون (عمالا) ومعنى عامل يفيد أن صاحبه ليس مطلق السلطة - على أنه فيما بعد استعملت كلمة والى وهذا يشعر بالنفوذ والسلطان)
ويقولون (متز): (وبهذا الاسم كان يسمى - ولاة البلاد. . وكذلك أبناء بيت الخلافة) ومن كل هذا نرى، أن جميع المؤرخين المحدثين، يتفقون على مفهوم الولاية أو الإمارة في أنها - نيابة - (وال) عن الخليفة، أو الملك أو السلطان في إدارة شؤون الولايات التابعة له.
وقد تطور مفهوم هذه الكلمة - (فأطلقت كلمة (أمير) على يزيد بن عبد الملك كما أصبحت كلمة (عامل) في عهد بني أمية تطلق على رئيس الناحية الإدارية كالمدير الآن. .) وقد امتنع كافور بمصر من التسمي (بالإمارة) ورأى أن يجرى على رسمه في المخاطبة (بالأستاذية). . . على أنه في العصور السياسية المتأخرة اتخذت الإمارة شكل أمير(996/28)
الأمراء:) فلقد لقب ابن رائق (أمير الأمراء) وصار بيده رئاسة الجيش وامتدت سلطته بصورة مباشرة على جباية الضرائب وعلى إدارة الحكومة المركزية، وغدا أسمه يذكر مع اسم الخليفة في خطبة الجمعة) والواضح أن لقب (الأستاذية) و (أمير الأمراء) كان نتيجة لضعف مركز الخلافة العباسية وزيادة النفوذ الأجنبي وتوسع حركة انفصال الولايات عن جسم الدولة العباسية.
الولاية فقهيا ونظريا
وقد صاغ الفقهاء نظرية الإمارة أو الولاية على النحو الآتي:
(1) إمارة عامة
(2) إمارة خاصة
والإمارة العامة على نوعين
(1) إمارة استكفاء بعقد اختيار
(2) إمارة استيلاء بعقد اضطرار
والإمارة عن اختيار تشمل سبعة أمور أوردها الماوردي وهي: -
(1) النظر في تدبير الجيوش. . . وترتيبهم في النواحي وتقدير أرزاقهم
(2) - النظر في الأحكام - وتقليد القضاء والحكام
(3) - جباية الخراج - وقبض الصدقات وتقليد العمال
(4) - حماية الدين - والذب عن الحريم - ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل
(5) - إقامة الحدود في حق الله وحقوق الآدميين
(6) - الإمامة في الجمع والجماعات - حتى يؤم بها أو يستخلف عنها
(7) - تسيير الجميع من عمله ومن سلكه ومن غير أهله حتى يتوجهون معانين عليه
وأما الإمارة عن اضطرار فهي التي يأخذها الوالي ويقررها الخليفة، وفيها يكون الوالي مستبداً بالسياسة أو التدبير، ولكن في المسائل المتعلقة بالدين تكون من اختصاص الخليفة فلا يمكن أن يغض النظر عن بدعة أو إهمال. . ومن ذلك يقول الماوردي: (وأما إمارة الاستيلاء التي تعقد عن اضطرار فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة إمارتها ويفوض إليه تدبيرها وسياستها فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسية والتدبير،(996/29)
والخليفة بإذنه منفذا لأحكام الدين، وهذا وإن خرج من عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولا ولا فاسدا معلولا، فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز.
وأما عن الإمارة الخاصة. . . فيول الماوردي (يكون الأمير مقصور الإمارة على تدبير الجيش وسياسة الرعية وحماية البيضة، وتشمل المجتمع وموضع السكان ومستقر الدعوة - والذب عن الحريم - وليس له أن يتعرض للقضاء، والأحكام والجباية، والخراج والصدقات)
ونختم قولنا عن وظيفة العامل كما جاء في كتاب قوانين الدواوين (أن العامل هو المتولي، ويلزمه عمل الحسابات ورفعها، والكتابة على ما يرفعه من معاملته منها بالصحة والموافقة، وكل من الناظر والمشارف، إنما هو لضبطه، والشد منه، ويلزمه تحقيق الباقي إذا انصرف عن الخدمة)
هذه هي مصيغة الفقهية. . . لشكل الولاية، وأقسامها ووظيفة الوالي والعامل وسنبحث في الفصول الأخرى - الناحية العملية في سياسة الولاة والعمال في مختلف عصور التاريخ الإسلامي وعلى القارئ ملاحظة مدى المطابقة والمقارنة بين الناحيتين الفقهية العملية في سياسة الولاة والعمال في مختلف شؤون الحياة.
بغداد - العراق
عواد مجيد الأعظمي
-(996/30)
شاعر السودان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
بقية ما نشر في العدد الماضي
إذن فشعر العباسي هو شعر الفخامة والجزالة والموسيقى العربية الأصيلة ذات الإيقاع الكلاسيكي والرنين البدوي العنيف الذي يعيد لنا تارة صوراً من شعراء بني العباس وأخرى من شعراء الأمويين الذين عاصروا الخلفاء الراشدين وعمروا حتى أوائل الدولة التي اتخذت دمشق عاصمة لها.
على أنني وقد قرأت الديوان بإمعان رأيت ناحيتين مهمتين تطغي على شعره وهما:
1 - حبه لمصر:
عرفنا أن الشاعر جاء إلى مصر في مطلع حياته ودخل المدرسة الحربية في القاهرة ليعد نفسه حامياً لسياج الوطن، وعلمنا أيضاً أنه مكث فيها مدة سنتين وكان آنذاك طري الإهاب، ندي العود، في فجر شبابه الريان فلذلك لم تعجب إذا ما ظل وفيا إلى الديار التي أبلى فيها بعض سني شبابه، ولا نستغرب منه حنينه إلى معاهد شبيبته ورفاق صباه؛ خاصة بعد ما ترك فيها أستاذه الشيخ زناتي الذي كان له الفضل الأكبر في توجيه وتثقيفه، لذلك نسمعه يقول فيها:
مصر وما مصر سوى الشمس التي ... بهرت بثاقب نورها كل الورى
ولقد سعيت لها فكنت كأنما ... أسعى لطيبة أو إلى أم القرى
وبقيت مأخوذاً، وقيد ناظري ... هذا الجمال، تلفتاً وتحريرا
ووقفت فيها يوم ذاك بمعهد ... كم من يد عندي لن تكفرا
دار درجت عال ثراها يافعاً ... ولبست من برد الشباب الأنضرا
ثم يسترسل في وصف ربى مصر ومغانيها ورياضها وطيب هوائها العليل:
فهنا يسكب الشاعر ألمه الذي يحس به منذ فارق مصر وفرحة بالعودة إلى الذي أحبه وعقد عليه رجاءه ورجاء شعبه الكريم لذلك يهتف في مدح (ملك الوادي) من منبعه إلى مصبه
أقوى المالكين عزيمة ... وأسدهم رأيا، وأكرم عنصراً(996/31)
فأقام من صرح العروبة ركنه ... مذ قام فيها منذراً ومبشراً
ثم يقول
مولاي يا زين الملوك ومن غدت ... مصر به زين العواصم والقرى
علمت جاهلها وعلت فقيرها ... وسقتهمو يمنى يديك الكوثرا
بوركت من ملك وبورك عهد ... ك الميمون ما أبها سناه وأبهرا
انضر إلى السودان نضرة مشفق ... فلقد أمض زمانهم وتنكرا
وهمو بعرشك لائذون ومالهم ... إلاك من يذر العسير ميسرا
فلذا تراهم كالعطشان تطلعوا ... بالدو يرتقبون مزنا ممطرا
ثم يصرخ صرخته الموجعة فيشرح لملك النيل حال شعبه وما فعل به المستعمر البغيض من تفرقة الصفوف وسجن الأحرار وخنق الحريات وكم الأفواه فيقول:
ضربوا بأقفاص الحديد عليهم ... مثل الذي فعلوا بآساد الثرى
صبروا لها صبر الجبال رواسياً ... وسروا وما ملوا مغالبة السرى
وسهرت أحدوهم بذكرك دائماً ... وحدي وأشدو بلبلا أو مزهر
حتى لصغت كل أذن منهمو ... قرطاً وكنت فريده المتخير
ونراه في قصيدة أخرى يتشوق فيها إلى عهد الشباب الذي قطعه في مصر وهو ناعم البال مستريح القلب فيقول:
هل إلى مصر رجعة وبنا ش ... رخ شباب غض وزهرة عمر
وليال قد أشرقت في رباها ... كلها في الأقدار ليلات قدر
ومكان كأن كل نسيم ... ناشر في أرجائه طيب النشر
يبهر العين منه مرأى أنيق ... من مروج قيد النواضر خضر
وهناك النسيم يبعث بالما ... ء، ويزري والورق للماء تغري
وهناك البهي من كل زهر ... وهناك الشجي من كل طير
بقعة شاكلت هوى كل نفس ... فصبا نحو حسنها كل فكر
رب هل تلك جنة الخلد أدخل ... نا إليها أم تلك جنة سحر
كنت في ذلك الحمى ناعم البا ... ل خليا من كل قيد وأسر(996/32)
فيك يا مصر لذتي وسروري ... وسميري وقت الشباب ووكري
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن أكثر شعراء السودان لا يزالون متعلقين بمصر، يبنون عليها آمالهم وآمال شعبهم وبلادهم غير ملتفتين إلى صيحات دعاة التفرقة والاستعمار. هاتفين بالوحدة والتمسك بأهداف أمهم الحنون. وعلى رأس هذه الطبقة من الشباب المرحوم شاعر الإبداع التيجاني يوسف بشير. فهو يقول في قصيدته (ثقافة مصر)
عادني اليوم من حديثك يا (مص ... ر) رؤى وطوفت بي ذكرى
وهفا باسمك الفؤاد ولجت ... بسمات على الخواطر سكرى
من أتى صخرة الوجود ففرا ... ها وأجرى منها الذي كان أجري
سلسبيلا عذب المشارع ثرا ... راً، رويا جم الأوذاي غمرا
كلما مصر المسود منها ... زاد في مجده جلالا وكبرا
كلما طوق (الكنانة) علماً ... خولتنا منه روافد تترى
هو من صاغنا على حرم الن ... يل وشطآنه دعاء وشكرا
فجر النيل يوم نشر في الأر ... ض ضحاها وصاغ للناس فجرا
قال:
كن فاستجاش يقذف دفا ... عاً ويجري على الشواطئ خمرا
ويقول أيضاً في قصيدته (رسل الشباب في مصر)
وشباب من الكنانة حمس ... ينثرون الحماس صاعا بصاع
صرخوا بالعرين صرخة ذي مج ... د مذال وذي مقر مضاع
في سبيل الجهاد عن ... مصر بنو بمنصل ويراع
وأرى مصر الشباب حليفي ... مجد فرعون أو ضجيعي يفاع
مصر دين الشباب في الحضر الراف ... ة والبدو من قرى وبقاع
مصر أم الشعوب ماذا عراها ... واعترى الشرق من وجي وضياع
حبذا الموت في سبيلك يا مص ... ر لنشئ عن الحمى دفاع
قل لمصر وحيها في شباب ... صيغ من جرأة ومن إزماع
شاد أركانها وشد ذراها ... وابتنى صرح مجدها المتداعي(996/33)
في جهاد عن العقيدة صدق ... ونضال عن الحمى وقراع
مصر يا مهبط الحضارة والن ... ور ويا مبعث الهدى كل ساع
وهكذا نجد أكثر أرباب الفن والقلم في السودان لا ينكرون فضل مصر عليهم بل يتجهون دائما وأبدا صوب زعيمة النهضة وأم البلاد العربية متخذين منها قبلة يوجهون إليها صلاتهم وتسابيحهم وأناشيدهم لأنها الملجأ الوحيد والمأمل الذي يخلصهم مما هم فيه، ولا غرو ففضل أعلام مصر وأدبائها وشعرائها يستوي فيه السوداني والسوري والعراق واللبناني وكافة العرب في أقطارهم. .
والناحية الثانية الظاهرة في شعر العباسي التي تظهر واضحة جلية في شعره هي بكاؤه على شبابه الذاهب وتذكره أيامه السالفة
2 - ذكري الشباب:
تطالعنا لوعة تذكرة لأيام صباه في كل قصيدة من قصائده، فهو ببكي على ساعات لهوه وسني مراحه وذكريات أفراحه، والناظر في ديوانه يلمس هذه الظاهرة بوضوح تام فلنستمع إليه وهو يقول:
فارقتها والشعر في لون الدجى ... واليوم عدت به صباحاً مسفرا
(سبعون) قصرت الخطى فتركنني ... أمشي الهوينا ضالعاً متعثرا
من بعد أن كنت الذي يطأ الثرى ... زهوراً، ويستهوي الحسان تبخترا
يا من وجدت بحبهم ما أشتهي ... هل من شباب لي يباع ويشترى
ولو انهم ملكوا لما بخلوا به ... ولأرجعوني والزمان القهقري
لأظل أرفل في شباب فاتني ... زمن الشباب، وفته متحسرا
أو يقول:
ولله قلب قد سلا نشوة الصبا ... وقد كان في ريعانه جد جاهد
وهل أبقيت الأيام شيئا ألذه ... وقد أسلمتني للردى والشدائد
لذا بعت لذات الصبا غير نادم ... وعدت لشيب لم يكن خير وافد
أو يقول:(996/34)
ليت الشباب عاد لي ... بعد المشيب والكبر
حتى أرى أين محط ... الرجل كم كف القدر
أو قوله:
واليوم قصر بي عما أحاوله ... وعاقني من لحاق الركب ما عاقا
وأنكر القلب لذات الصبا وسلا ... حتى النديمين: أقداحاً وأحداقا
أحبو إلى الخمس والستين من عمري ... حبواً وأحمل أقلاما وأوراقا
أو قوله:
ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني ... فتانة للحظ ذات الحاجب النوني
يا بنت عشرين والأيام مقبلة ... ماذا تريدين من موءود خمسين؟
أو قوله:
ولى شبابي وانطوت ... أيام غصني الندي
جادك نجاح الحيا ... من مبرق ومرعد
لأنت ريحان القلو ... ب عدت أو لم تعد
وهكذا فنحن كلما قلبنا صفحات الديوان لا تقع أعيننا الإ على ذكرى مؤلمة لشباب مضى. . فهو كلما مرت به عجلة الحياة سجل أعوامها في شعره وهذا يرجع سببه كما يقول (علماء النفس) إلى كبت عواطفه وعدم الانسياق في ظرف اللهو التي يزينها الشباب وعدم إطاعة نوازع الجسد في دور الصبا؛ وذلك لوجده في بيئة جامدة محافظة ووجوده بين أحضان عائلة دينية متمسكة بتقاليدها، لذلك نجد طابع الألم مرتسما على كل بيت يذكر فيه شبابه كما يفعل اليوم أكثر الرجال الذين يحرمون في شبابهم من متع الحياة لفقرهم أو لانصرافهم إلى العلم ولكنهم عندما تتاح لهم الفرصة ولو في كهولتهم نراهم يركضون وراء الملذات كأنهم منطلقون من السجون، كما حدث للشاعر الرصافي فإنه بعد أن قضى شبابه وهو منطو على نفسه رأيناه في صدر رجولته يعب من كؤوس اللذة عبا، دون ما وازع أو رادع
ولذلك فإن العباسي محق ببكائه على أيام شبابه لأنه حرم من لذته وهو في كل ما قاله صادق العاطفة يحس فيه قارئه حرارة اللوعة وصدق الإيمان
إلى هنا نمسك عن الحديث لنترك المجال إلى غيرنا للكتابة عن هذا الشاعر لنعود مرة(996/35)
أخرى إلى تقديم جديدة من شعراء السودان الشباب في أعداد قادمة إن شاء الله
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(996/36)
ديوان مجد الإسلام
للمرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
هي الأواصر أدناها الدم الجاري ... فلا محالة من حب وإيثار
الأسرة اجتمعت في الدار واحدة ... حييت من أسرة بوركت من دار
مشى بها من (رسول الله) خير أب ... يدعو البنين، فلبوا غير أغمار
تأكد العهد مما ضم ألفتهم ... واستحصد الحبل من شد وإمرار
كل له من سراة المسلمين أخ ... يحمي الذمار ويرعى حرمة الجار
يطوف منه بحق ليس بمنعه ... وليس يعطيه إن أعطى بمقدار
يجود بالدم، والآجال ذاهلة ... ويبذل المال في يسر وإعسار
هم الجماعة، إلا أنهم برزوا ... في صورة الفرد فانظر قدرة الباري
صاح النبي بهم كونوا سواسية ... يا عصبة الله من صحب وأنصار
هذا هو الدين لا ما هاج من فتن ... بين القبائل دين الجهل والعار
ردوا الحياة، فما أشهى مواردها ... دنيا صفت بعد أقذاء وأكدار
الجاهلية سم ناقع وأذى ... تشقى النفوس بداء منه ضرار
تأهبوا، إن دينا قام قائمة ... يومى إليكم بآمال وأوطار
أما ترون رياح الشرك عاصفة ... تطغى على أمم شتى وأقطار؟
لن أترك الناس فوضى في عقائدهم ... ولن أسالم منهم كل جبار
أكلما ملك الأقوام مالكهم ... رمى الضعاف بأنياب وأظفار؟
الشر غطى أديم الأرض، فارتكست ... أقطارهم بين آثام وأوزار
أخفى محاسنها الكبرى فكيف بكم ... إذا تكشف عن وجه لها عار؟
لأنزلن ذوي الطغيان منزلة ... تستفرغ الكبر من هام وأبصار
ظنوا الضعاف عبيدا بئسما زعموا ... هل يخلق الله قوماً غير أحرار؟(996/37)
ما غرهم إذ أطاعوا أمر جاهلهم ... بواحد غالب السلطان قهار؟
يرمي العروش إذا استعصمت ويبعثها ... مبثوثة في جناحي عاصف ذار
بعثت بالحق، يهدي الجامحين كما ... يهدي الحيارى شعاع الكوكب الساري
أدعو إلى الله بالآيات واضحة ... تهدي الغوى، وتنهى كل كفار
فمن أبى، فدعائي كل ذي شطب ... ماضي الرسالة في الهامات بتار
الله أكبر هل في الحق معتبة ... لمستخف بعهد الله غدار؟
ألم يكن أخذ الميثاق من قدم ... فما المقام على كفر وإنكار؟
إن الأولى اتخذوا الأصنام آلهة ... على شفا جرف من أمرهم هار
يستكبرون على من لا شريك له ... ويسجدون على هون لأحجار
راحوا يجلونها من سوء ما اعتقدوا ... والله أولى بإجلال وإكبار
لكل قوم إله يؤمنون به ... ما يبتغى الله من إيمان فجار؟
النار أعظم سلطانا ومقدرة ... في رأى عبادها، أم خالق النار؟
سبحانه من أله شأنه جلل ... يهدي النفوس بآيات وآثار
لأكشفن عن الأبصار إذ عميت ... ما أسبل الجهل من حجب وأستار
ما للسراحين بد من مصارعها ... إذا انتضت سطوات الضيغم الضاري
ضموا القوى إنها دنيا الجهاد بدت ... أشراطها وترا آي زندها الواري
لابد من غارة للحق باسلة ... وجحفل من جنود الله جرار
خير الذخائر أبقاها ولن تجدوا ... كالعهد يرعاه أخيار لأخيار
لا تنقضوا العهد إن الله منزله ... على لسان رسول منه مختار
قالوا: عليك صلاة الله، إن بنا ... ما يعلم الله من عزم وإصرار
آخيت بين الرجال يصدقون إذا ... زلت قوى كل خداع وختار
جنود ربك، إن قلت اعصفوا عصفوا ... يرمون في الحرب إعصار بإعصار
من كل منغمس في النقع مرتجس ... وكل منبجس باليأس فوار
يتبع
إبراهيم عبد اللطيف نعيم(996/38)
رسالة الشعر
- إلى مجلس الدولة
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
يا معقلا أنصف الأحزاب كلهم ... ولم يجد منصفا منهم إذا حكموا
الحق رائده. . . والعدل ديدنه ... سيان مضطهد يشكوا ومنتقم
ليت الأولى هتفوا لما نصرتهم ... تذكروا صنعهم بالأمس أو ندموا
بل ليتهم فكروا في يومهم لغد ... لكنها شهوات النفس تضطرم
خلف السياسة والأحزاب أفسدنا ... حتى القضاء. . له كادوا وما رحموا
لكنك لطود: لم تهتز إذا عصفت ... بك الرياح. . ولا زلت بك القدم
يا موئل الدولة اضرب للحمى مثلا ... عليا وبصر بني قومي فقد وهموا
كم حاولوا أن ينالوا منك وا آسفا ... ماذا سيبقى إذا ما حصننا هدموا
لعل فيما رأوه عبرة لهم ... لو أنصفوا قبلوا الجدران واستلموا
علمتنا أن روح العدل باقية ... وأن صرح الهدى هيهات ينهدموا
وأن فيك قضاة كلما جلسوا ... للحكم عفوا فما جاروا ولا ظلموا
لوجه مصر وللتاريخ ما كتبوا ... وللعدالة والإصلاح ما رسموا
حصن البلاد: تحياتي وتهنئتي ... وما أهنئ أقواماً لك احتكموا
لكن أهنئ فيك العدل مؤتلقا ... فالعدل أعظم ما تحيا به الأمم(996/40)
2 - حتى النساء. .
حتى النساء وما قربن ... من النيابة - بعد - قريا
أو ذقن طعما لانتخ ... اب بات يشغفن حبا
دب الحلاف بجوهن ... وقام معركة وحربا
أنظر لجمعياتهن ... وما حوت: طعنا وسبا
أو ما ترى (الحزب النسائي) ... قد غدا عشرين حزبا؟
فصلت رئيستهن عضوات ... به إربا فإربا
وفصلن منه رئيسة ... فاضحك معي عجباً وعجبا
البعض يأكل بعضه ... قد صار جد الأمر لعبا. .
يا برلمان: متى أراك ... بجوهن ملئت صخبا؟
وأرى معاركهن فيك ... تطورت: لطما وندبا؟
يا أطول النواب زندا ... من بني جنسي وأربى
وأشدهم لسناً وأجرأهم ... - لدى الميدان - قلبا
يا صاحبي: قل لي إذا ... زاحمنكم جنبا فحنبا
وغدا التنافس بينهن ... وبينكم دفعا وجذبا
كيف المصير متى دخلن ... البرلمان؟ وقيت ضربا
وحماك ربي يا زميل ... ولا أراك الدهر غلبا
من (شبشب) يتهال إن ... عارضت ثائرة وغضبى
ومن المخالب إذ ترى ... أظفورها بقفاك (طبا)
ومن الدموع الزائفا ... ت إذا انهزمن تفيض سبكا
ومن القرار بفصلكم ... تمضيه (زنوبه) (وبنبا)
محمد يوسف المحجوب(996/41)
الكتب
وحدي مع الأيام
للشاعرة الآنسة فدوى طوفان
للأستاذ كامل السوافيري
اعتقدت أني لست بحاجة إلى أن اقدم للقراء الشاعرة الآنسة فدوى طوفان صاحبة ديوان (وحدي مع الأيام) الذي أصدرته لجنة النشر للجامعيين، وهي الكوكب اللامع في سماء الشعر، والنجم الساطع في أفق الأدب، والبلبل الصداح في دوحة العروبة الذي غنى فأشجى القلوب، وهز النفوس.
عرفت فدوى منذ فترة تزيد على عشرة أعوام مما قرأته لها من قصائد ومقطعات على صفحات الرسالة الغراء، والأديب الزاهر وقد اختصتها بطائفة كبيرة من أنتاجها الشعري، فهزني شعرها وأطربني غناؤها، لا لأنه شعر نسائي ظهر في فترة أقفر فيها الشعر الحديث منه، لا لأن صاحبته آنسة تستحق المجاملة والتشجيع، ولكن لأنه صادرة عن شعور صادق، وموهبة فطرية. وكنت أتيقن أن يوماً قريبا آت تتبوأ فيه الشاعرة الناشئة مكانتها في موكب الشعر. وقد حققت الأيام ذلك وأصبحت فدوى طوفان شاعرة لا لفلسطين وحدها؛ بل لدينا العرب والعروبة.
وليس ديوان الشاعرة ألا مجموعة من القصائد المتناثرة هنا وهناك تخيرتها الشاعرة مما نظمت وضمتها إلى بعضها، لوجود وحدة نفسية بينها فهناك شعر كثير لم يتضمنه الديوان وأملها تنشره في ديوان آخر.
وأستميح صديقي الكاتب المعروف، والناقد اللامع الأستاذ أنور المعداوي العذر إذ أنوه بإشرافه الفني على إخراج الديوان. وأنا أعلم انه لن يرضيه هذا التنويه. ولكنه يرضي الفن والأدب، والى المشرف يرجع الفضل في الحلة الأنيقة التي ظهر بها الديوان أهدت الشاعرة الفاضلة ديوانها إلى روح شقيقها الشاعر المرحوم إبراهيم طوقان الذي قصف يد المنون غصنه الرطيب وهو ريان الصبى، ربق الشباب، وكان للشاعر الأخ والوالدة والأستاذ، فأحدث موته في قلبها فاجعة لم تستطيع الأيام أن تسدل عليها ستار النسيان،(996/42)
وشق في فؤادها جراحا لم تندمل وفجر فيها ينابيع الحزن والآسى، فصاغت من دموع العين، ودماء القلب، المراثي تزخر باللوعة، وتفيض بالألم، وهي في حزنها عليه ورثائها له تلتقي بالشاعرة المخضرمة الخنساء في بكائها على أخيها صخر، ورثائها له، ويبدو أن فجيعة فدوى إبراهيم كانت فوق ما يحتمله قلبها، فأحالت حياتها الهانئة الوادعة إلى مأتم دائم ودموع لا تجف وزفرات لا تنقطع، وطبعت شعرها بطابع الأسى والحزن، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائدها من الحزن الدفين، والحرقة اللاذعة.
أستمع أليها في قصيدتها (حياة) ص 39 من الديوان التي مطلعها:
حياتي دموع
وقلب لوع
وشوق، وديوان شعر، وعود
إذ تبكي أحبائها الراحلين إلى عالم الخلود، وتصور اللوعة على فقدهم، فتناجي روح المرحوم والدها، ثم تتجه إلى شقيقها إبراهيم الذي كان لها نبع حياة وحب، وضياء العين والقلب، وإذا برياح الموت العاتية تطفئ شعلته وتصبح الشاعرة وحيدة في ظلام الوجود، حائرة في قفار اليأس، ولا نور يهديها ولا أمل يناغيها
وفي ليل سهدي
يحرك وجدي
أخ كان نبع حياة وحب
وكان الضياء لعيني وقلبي
وهبت رياح الردى العاتية
وأطفأت الشعلة الغالية
وأصبحت وحدي
ولا نور يهدي
ألجلج حيري بهذا الوجود
ومن قصيدة (على القبر) ص 115 تناجي قبره فتحس أن للقبر إشعاعا من النور، وأنه أجمل القبور لان دنياها فيه، وفي قلبها مأتم دائم.(996/43)
آه يا قبر. . له إشعاع نور
لا أرى اجمل منه في القبور
فيك دنياي وفي قلبي الكسير
مأتم ما أنفك مذبات لديك
قائما يأخذ منه بالوتين
وهنا أقف لحظة لأسجل أن فدوى قد بلغت القمة في هذا الفن؛ أقصد فن الرثاء من ناحية الصدق والشعور؛ والصدق الفني وأقصد به الصياغة اللفظية التي تتجلى واضحة في شعر الشاعرة. مما يدل على تمكن من لغة عدنيان، وإحاطة بإسرار بيانها، واستعمل مفرداتها. وللشاعرة في رثاء أخيها شعر كثير لم يتضمنه الديوان.
وتترك فدوى التي هدها الحزن وأضناها الأسى على إبراهيم. . إلى فدوى الشاعرة الوطنية التي ترى بلادها المقدسة تخر صريعة أمام العدوان الاستعماري الظالم - ولا أقول الاستعمار الصهيوني فنحن نعلم من يقف وراء الصهيونية - وتشاهد الكارثة المريعة تدمر بناء أمتها وتدك مجدها فتثور عاطفتها الوطنية، وترسل صيحتها الشعرية تستصرخ أبطال العروبة وتستنهض همم العرب ليدفعوا عن فلسطين العدوان ويدرءوا عنها العدو؛ فتقول من قصيدة (بعد الكارثة) ص 127
يا وطني مالك يخنى على ... روحك معنى الموت معنى العدم
أمضك الجرح الذي خانه ... أساته في المأزق المحتدم
لا روح تستنهض من عزمهم ... لا نخوة تحفزهم، ولا همم
ولا يلبث الأمل أن يداعب قلب الشاعرة فتحس أن الغمرة ستنجلي، وإن هذا الليل المظلم سيعقبه فجر مشرق، وإن السحاب المركوم سيتبدد عن صفحة الجو، فلا يزال في الأمة العربية شباب أحرار من الذين يأبون الضيم، ويحاربون الهون أن يقعدوا عن ثأرهم.
ستجلي الغمرة يا موطني ... ويمسح الفجر غواشي الظلم
هو الشباب الحر ذخر الحمى ... اليقظ المستوفز المنتقم
لن يقعد الأحرار عن ثأرهم ... وفي دم الأحرار تغلى النقم
ولقد عاصرت فدوى مراحل جهاد العرب في فلسطين ضد الاستعمار البريطاني(996/44)
والصهيوني الآثمة. وشهدت قوافل أبطال الحرية المتتابعة، الذين قدموا أرواحهم رخيصة للدفاع عن أوطانهم منذ البطل المجاهد المرحوم عز الدين القسام. إلى الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936. وشهدت جبلي جرزيم وعيبال يموجان بالمجاهدين من أبطال جبل النار، فكان كل ذلك من أكبر العوامل التي جعلت من فدوى شاعرة وطنية تؤجج في النفوس عاطفة الدفاع عن الوطن. وتضرم فيها النخوة والحمية، وتذكر المجاهدين العرب بصفحات البطولة اللامعة التي سطوها التاريخ لأجدادهم الغابرين.
وتقع الكارثة عام 1948 وتهوى البلاد إلى حضيض الاستعباد وتهيم جيوش اللاجئين من أبناء فلسطين على وجوههم يبحثون عن المأوى فلا يجدون ألا المغاور والكهوف والأودية والشعاب والخيام المهلهلة التي لا ترد الحر والقر فيتخطفهم الموت زمرا لا فرادى. ويوحي هذا المنظر المريع الشعر في قلب فدوى فتنشد من قصيدة (مع لاجئة في العيد) ص 129
أختاه هذا العيد رق سناء في روح الوجود
أشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد
وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالا شقيا
متهالكا يطوى وراء هموده ألما عتيا
يرنو إلى اللاشيء. . . منسرحا مع الأفق البعيد
وأترك هذين الفنين الشعريين من الفنون التي حلقت فيهما الشاعرة الحديث عن فدوى الإنسانة التي لا تقف برسالتها الفنية عند تصوير عواطفها، وبث آلامها وأحزانها. شأن الشعراء الذين يتحدثون عن ذواتهم ولا يحسون بإحساس أمتهم ومشاكل مجتمعهم، ولأقرر أن فدوى فنانة وإنسانة تشاطر البائسين آلامهم، وتدعوا البشرية لتجفيف دموعهم. وتنادي بالعدالة الاجتماعية حتى لا يكون في الناس جائع ولا محروم. تقول من قصيدة (مع سنابل القمح) ص 26
كم بائس، كم جائع كم فقير ... يكدح لا يجني سوى بؤسه
ومترف يلهو بدنيا الفجور ... قد حصر الحياة في كأسه
لم تحبس السماء رزق الفقير ... لكنه في الأرض ظلم البشر
بقي أن أقوال بعد ذلك أن هناك ظاهرة واضحة تطالع النقاد في شعر فدوى: وليست تلك(996/45)
الظاهرة سوى فراغ الحياة. أوسمها إن شئت الحرمان. الحرمان من العطف والحنان. الحرمان القاتل الذي جعل الحزن يرين على نفسها، ويستحوذ على قلبها فيشعرها بأنها تحيا غريبة في دنيا الناس. ولعل اسم ديوانها أكبر دليل على ذلك حيث أضنتها الحيرة، وأستبد بها القلق، فرغبت عن الحياة وتمنت أن تنطق روحها من الأرض إلى السماء.
تقول في قصيدة (أشواق حائرة) ص 32
وهناك تومى لي السماء وبي ... شوق أليها لاهف عارم
فأود لو أفنى وأدمج في ... عمق السماء ونورها البلسم
وقد كررت الشاعرة هذا المعنى في قصائد متعددة من الديوان وقد أوحى أليها بهذا القلق بالتساؤل عن حقيقة الموت والبعث والخلود.
تقول قصيدة (خريف ومساء) ص 12
عجبا ما قصة البعث ... وما لغز الخلود؟
هل تعود الروح إلى الجسم ... الملقى في اللحود؟
وأنتقل إلى شعر الطبيعة في ديوان فدوى لأقرر أن الشاعرة قد تغنت بجمال الطبيعة في البيئة المحيطة بها، والشاعرة عاشت في مدينة عريقة في مدينة نابلس في فلسطين حيث يحتضن جبلا جزريم وعيبال المدينة، وعلى سفح الجبلين تكثر المروج التي أوحت للشاعرة بقصيدة (مع المروج) ص 9
هذى فتاتك يا مروج ... فهل عرفت صدى خطاها
عادت إليك مع الربيع الحلو ... يا مثوى صباها
درجت على السفح الخضير ... على المنابع والظلال
روحا تفتح للطبيعة ... للطلاقة والجمال
وقد حلقت الشاعرة في أجواء بعيدة، وتناولت فنون الشعر المختلفة، وبرهنت على أن طاقتها الشعرية متعددة المنافذ تغذيها ثقافة واسعة، واطلاع دائم
ولها في الديوان قصائد من تجارب شعرية اجتازتها الشاعرة فكانت تعبيرا صادقا عما يختلج في شعاب القلب ومسارب النفس، وتبدو هذه التجارب في القصائد الآتية.
من الأعماق، غب النوى، إلى الصدور(996/46)
ولا ينحدر مستوى الشاعرة في هذه التجارب عنه في الرثاء والوطنيات. والتأملات والنزعات الفلسفية.
وبعد فأظنني قد قدمت للقراء صورة عن ديوان الشاعرة الملهمة التي قرءوها. والتي قدمها شعرها إلى القراء خير تقديم.
كامل السوافيري(996/47)
البريد الأدبي
رسالة في أدب البشري
تلقيت عن طريق صحيفة (المصري) الغراء كتابا من الأستاذ جمال الدين الرمادي يقول فيه انه بعد رسالة جامعية عن المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري للحصول على إجازة (الماجستير) ويستفسرني عما نشرته قبل سنوات في (الرسالة) عن شعر الشيخ البشري الذي كان ينشره في صحيفة (الظاهر) التي كان يصدرها المرحوم محمد أبو شادي بك
وكنت أريد أن أجيب الكاتب الفاضل برسالة خاصة لولا أني افتقدت كتابه خلال إقامتي في المصيف برمل الإسكندرية، ومن ثم أتبهم على عنوانه الذي طلب إلي أن أكتب إليه بوساطته.
والذي سمعته من شيخنا البشري عام 1934 أنه كان يقول الشعر وينشره في بعض الصحف ومنها جريدة الظاهر، على أن ما نشره في تلك الصحيفة لم يكن يعدو - فيما يظهر - هجاء الشيخ علي يوسف صاحب المؤبد - رحمه الله - أيام قضية الزوجية المشهورة عام 1904 ولو رجع الكاتب الفاضل إلى مجموعة الظاهر في تلك السنة لوجد عندها الخبر اليقين. فإذا غم عليه الأمر فإني انصحه بالرجوع إلى الكاتب اللغوي الأستاذ محمد شوقي أمين المحرر في مجمع فؤاد الأول للغة العربية فهو حجة في أدب البشري إذ كان يملي عليه مقالاته في أخريات أيامه.
والذي أعرفه من طبيعة الشيخ البشري أنه لم يكن يعنى بجمع ما ينشره في الصحف الدائرة، ولقد عهد - رحمه الله - إلى كاتب هذه السطور وبعض إخوانه في جمع المقالات التي احتواها فيما بعد كتابه (المختار).
وبعد، فأحب أن اشكر الأستاذ جمال الدين الرمادي حسن ظنه بصاحب هذا القلم الضعيف، وارجوا أن يوقفه الله لنشر أدب البشري قبل أن يعفى عليه الزمان.
منصور جاب الله
تحية طيبة
قرأت بالعدد 993 من الرسالة الغراء بحثا موضوعه (جحا القاضي) للأستاذ عطا الله(996/48)
ترزي باشى جاء فيه ما يأتي: -
(ولئن كان جحا ضحكة بين الناس فإنه لم يكن صاغرا أو مهانا راضيا بالذل والضيم) وجاء الشرح بالحاشية لكلمة (ضحكة) هكذا: -
(هو من يضحك على الناس ويضحك الناس عليه) ونحن نتساءل أيريد الأستاذ الكاتب كلمة ضحكة (بفتح الحاء المهملة أم بسكونها؟) إن كان الأولى فالشرح الذي أورده على هذا في الحاشية خاطئ لا يستقيم وكذلك الأمر إن أراد الثانية.
تقول العرب ضحكة بضم ففتح لمن يضحك عليه الناس. وتقول ضحكة بضم فسكون لمن يضحك عليه الناس، ويكون الأستاذ على هذا قد أتى بشرح لا يخضع تحته أحد اللفظين.
قال ابن السكيت في الإصلاح والتبريزي في تهذيبه (إعلم أن ما جاء على فعله بضم للفاء وفتح العين من النعوت فهو على تأويل فاعل وما جاء منه على فعله ساكن العين فهو في معنى المفعول) وجاء بالمقامة الثالثة والعشرين (الشعرية) للحريري:
وإني لأكره أن تشيع فعلته بمدينة السلام. فأفتضح بين الأنام. وتحبط مكانتي عند الأمام. وأصير ضحكة بين الخاص والعام. . .) أي يضحك علي.
خميس محمد إبراهيم
على هامش الحياة - رسالة
(وبعد) فقد حدثتني نفسي أن اخط إليك هذه الرسالة، وقطعت الإحجام والإقدام شوطا بعيداً، وكاد يقعد بي عنها أني كتبت إليك مثلها يوما، فما حققت غرضا، ولا أصبت هدفا، وواجهتني حين التقينا بالصمت، فلم أدر مخبوء سرك، ولم أتكشف وقعها على نفسك، وظلت على خطتك في الحياة، لا تبالي نصيحة، ولا تحفل بتسديد، وكاد يقعد بي عنها ثانيا أن موضوع الحديث شائك، وقد أكون فيه متهما، وربما وصمتني فيه بالحيف أو التحيز، أو ما يحلو لك أن تسميه، ويشهد الله أن باعثه هو الشعور الأخوي الذي يوحد بيني وبينك، فمرد هذه الرسالة إلي، وإن توجهت. وما أخال واحداً منا يرضى أن يحايد أخاه أو يقنع منه باللقاء والافتراق، والتبسيط في الحديث، والجهد في الابتسام، وستر الخواطر، ولست أملك نفسي أن سلط عليك لسان أجنبي، أو نال منك نائل حقد ممن انقطعوا دون غابتك،(996/49)
وانبهروا عن اللحوق بك، لست أملك نفسي أن أثور لك فأفقد أصدقائي، وأستهدف لملام الناس وتقريعهم، وخير لي ولك وللناس جميعا، أن تلقي إلي سمعك وتبذل من وقتك بمقدار ما تنظر في هذه الرسالة، فلعله أن تلتقط من بينها ما يضئ لك السبيل، فتمضي حيث يمضي الناس، لا تخلد إلى الأرض، أو تحيا في السماء وانه ليطفئ علي شعورك بأنك ربما أزريت بي وبقلمي وبسائر منهجي، فقد جلست مني يوما مجلسا فيه طائفة من الاتهام، وكثير من الحيف وخشيت على نفسي أن أكون كما جردتني من كل محمدة، وألصقت بي كل مذمة، وقمت خزيان من ترادفك وإطرادك، ولا أبرئ نفسي من المساقط والمزالق؛ فيما في الحياة من برئ من الذنب، وخلص من العيب، ولا حملت لك نفسي غيظا، أو ما يشبه الغيض، لأنك أخي، وما يمكن أن يريد أخي إلى إحراجي، أو إغاظتي أو النيل مني، أو الزراية بي، وأنت تفهم عني هذه الحقائق سافرة واضحة، وربما كان هذا هو الذي دعاك إلى الثورة علي بالأمس، كما أثور أنا عليك اليوم، ولا احب أن أتميز عليك في خليقة، أو أفظلك في مكرمة. هي مسائل من هامش الحياة ولكنها ترمى إلى الصميم، وقد تعدها أنت تافهة، ولكنها في اعتباري جسيمة، وهي لا تخصني أنا، فمن خلقي التسامح والعفو والإغضاء، ولكنها تمس أشخاص يمتون إلي بسبب، وهم يدققون في مسائل الحياة، بما لا يستوجب العتاب، لان ذلك منهج البشر، وما بد من الخضوع لهذا القانون، وقد تجنيت عليهم، وتخدعك نفسك أن رائدك الحق، وما سواء الباطل، وأنا وهم وسائر الناس لا نراه ألا تعنتا وشططا، ومبعثه الخيال، ومرده إلى الجور والتحيف. . إنها مسائل مما أراه يدنو من فهمك، ولا تقتصر عنه يدك، ولا يعوزك أن تفهم أن سوء الظن في أقوال الناس وأفعالهم يكاد يملك عليهم أسماعهم وأبصارهم، ويأخذ عليهم مسالك التعقل، فلا يدع للهدوء إلى أنفسهم طريقا، فإن رأيت ألا تضع نفسك مواضع التهمة، وتعلم أن هذا المجتمع البشري، يقتضيك أن تفهمه، وتعقل مواجبه، ولا تشذ عنه برأي، أو تنعزل بفكرة، في غير ما استهانة بكرامتك، أو امتهان لشخصيتك، كنت قد حققت أملي فيك، ورأيت أنني رميت إلى غابة، وأصبت في مسعاي، وإن تركت الثغرة تفصل بينك وبين الناس، ورغبت عن حديثي إليك وبرمت بدعوتي إياك أن تجانس الناس في اتجاهاتهم، وتتلاقى وإياهم في أفكارهم، فتجاملهم في غير نفاق، وتقدرهم بلا تكليف، وتأني إليهم الذي يأتونه إليك، فلن(996/50)
تجد مجتمعا راقيا مهذبا يعينك على سلوكك، ويفسح صدره لآرائك، وما شد من عزمي في تحرير هذه الرسالة إليك إلا إنني اعلم فيك استعداداً فطرياً وسماحة، وخلقا، لا يمنعك أن تفيد من التجارب ما دامت شريفة المقصد، نبيلة الغاية، فاسمع يا أخي، ولا تضق بي، أو تمط من فمك، أو تغضن من جبينك، فما أريد ألا الخير. وأعلم أن أحد لم يوح إلي، أو يمل علي، وإنما أنا وحدي الذي ارتأيت كما رأيت؛ أنا وحدي حتى لا أكون سببا في متاعب ذهنية، كلانا في غنى عنها، لأنني أحبك، وأوثرك على سواك، فإن تلاقى رأيانا كان ذلك لي نجاحا، وإن رأيت إنني أبعدت في الفهم، وجرت في الرأي، فأحب شيء إلى نفسي أن تبين ما بصدق اللهجة، ونفاذ البصيرة، وإخلاص الدفاع، وكل ما أهدف إليه ألا أراك موضعا لقالة، أو ظنينا بجور، وهذا ما يعنيني أن أتحدث معك في أمره، أما سائر شأنك، فلا أدس أنفي فيه، لأنه سلوك شخصي قد يكون لك فيه تأويل أو مساغ، ولا أدعي لنفسي عقلا أكبر من عقلك، على كبر في السن، وكثرة في التجارب، وهاأنذا صنعت. . فهل تجد هذه الرسالة منك أذنا صاغية، وقلبا واعيا، فتسوى أمرك، وتدنوا من إفهام الناس، لتتقي أذاهم، وتكتفي من ظنونهم، وإلا فأين هو السلاح الذي أشهره في الدفاع عنك، إن تطاير من أجلك حديث، أو أثير حولك غبار، وسلام عليك.
محمد محمد الأبهشي
إلى الأستاذ حبيب جاماتي
قرأت كتابكم الذي أخيرا في سلسلة كتب للجميع بعنوان (أغرب ما رأيت) فعنت لي بعض خواطر أسجلها فيما يلي: -
1 - حول تجارة الرقيق:
تمنى الأستاذ جاماتي أن يكون تقدم الزمن منذ عام 1930 قد خدم العبيد ضد النخاسين ولا أدري لماذا لم يتتبع الأستاذ الفاضل أخبار تجارة الرقيق بعد هذا التاريخ!!
وبالأمس القريب وفي سنة 1950 اتهم الكاتب الأمريكي لورنس جرسولد اليمن بتجارة الرقيق
فقد كتب مقالاً عنوانه (مازلت تستطيع أن تشتري جارية) وقد نشر هذا المقال في إحدى(996/51)
المجالات الأمريكية ثم نشرته مجلة (وورلد) في عدد سبتمبر سنة 1950 وقد نقلت مجلة الفصول الغراء المقال بأمانة تامة وقدمته إلى قرائها في أقطار الشرق العربي. فانبرى لنقد المقال الأستاذ علي بن الآنسي اليمني وذكر أن اليمن ليس بها أسواق للرقيق. ومع احترمنا لرأيه بصدد اليمن. . وللحقيقة نقول أن كثيرا من المعلومات التي وصلت ألينا تدل على أن تجارة الرقيق لم يقض عليها القضاء الأخير. ولا يسعنا ألا أن نردد المثل العربي (وعند جهينة الخبر اليقين) ولعل تقدم الزمن كفيل بالقضاء على تلك التجارة الشائنة تماما في المستقبل القريب.
2 - حول معجزات الهند:
سألني صديق عزيز وهو بين مصدق ومكذب عن معجزات الهند ولا سيما معجزات الحبل الهندي فقلت له: إن معجزة الحبل رآها ابن بطوطة الرحالة العربي القديم في القرن الرابع عشر الميلادي وعاينها بنفسه بل وذكر خبرها في كتابه عن رحلته المعروفة بتحفة النظار في عجائب الأمصار وغرائب الأسفار
وبعد أفلا كان من الواجب أن يشير الأستاذ جاماتي ولو بكلمة واحدة إلى ابن بطوطة وما شاهده في صدد الحديث عن الموضوع نفسه.
3 - زرافة الباشا أولا:
إن من يقرأ ما كتبه الأستاذ حبيب جاماتي عن المسلة المصرية التي من الأقصر وتقوم الآن في ميدان الكونكورد بباريس قد يظن أن العلاقات لم تتوطد بين محمد علي باشا عاهل مصر الكبير وبين فرنسا ألا في سنة 1830 وهو التاريخ الذي أهدى فيه محمد علي الكبير مسلة الأقصر إلى عاهل فرنسا لويس فيليب. وللحقيقة والتاريخ أقول أن العاهل الكبير تبادل الهدايا مع ملوك فرنسا قبل سنة 1830 واهم هذه الهدايا التي أرسلت إلى فرنسا وكان لها صداها زرافة كانت مناط إعجاب الفرنسيين وعرفت بزرافة الباشا.
فحوالي عام 1835 بسطت مصر سلطانها على الجزء الجنوبي من الوادي وخضعت لها كردفان وأمر والى هذا الإقليم - من قبل عاهل مصر - وهو إذ ذاك مختار باشا الفرسان السودانيين بصيد الزراف وقد استطاع مختار باشا أن يرسل إلى محمد علي الكبير وكان بالإسكندرية في ذلك الحين زرافتين صغيرتين على قيد الحياة0(996/52)
وقد استطاع دروفيتي قنصل فرنسا في مصر بوسائله الخاصة أن يحصل على إحدى هاتين الزرافتين كهدية لفرنسا من عاهل مصر ولتكون تحت تصرف علماء متحف التاريخ الطبيعي بباريس. وقد وصلت هذه الزرافة إلى فرنسا سنة 1827 وكانت مناط إعجاب الفرنسيين بل وتركت أثر كبير في الأدب الفرنسي في ذلك الوقت. . .
هذه وقد استفاض مسيو جبريل داردو (مدير وكالة الأنباء الفرنسية بالقاهرة الآن) في الكلام عن رحلة زرافة الباشا وعن أثرها في الأدب الفرنسي ودعم بحثه القيم بالوثائق والأسانيد، ويقع هذا البحث في اثنتين وسبعين صفحة من القطع الكبير وقد نشر هذا البحث في عدد يناير سنة 1951 من مجلة
وهي المجلة التي أخذت على عاتقها ذكر وبيان شتى العلاقات التي تربط بين فرنسا والشرق وبخاصة بين فرنسا ومصر.
ومن الأشياء التي أهديت إلى فرنسا كذلك عقب هذه الزرافة المعروفة بزرافة الباشا الزدياك أو دائرة البروج التي كانت بمعبد دندرة. . وأخيرا تأنى مسلة الأقصر التي اهتديت سنة 1830
شفيق احمد عبد القادر(996/53)
القصص
عودة الروح
للكاتب الفرنسي تيودوردي بانفييل
استكملت السيدة هورتنس دافراي في 1882 ربيعها العشرين، وليس في قولي (السيدة) تجانفا مني ولا مينا. فقد كانت هورتنس زوجة، بل أرملة بائسة لا ولد لها يسهر ولا قريب يؤويها إلا جدتها (مدام دي برييل). . استقدمتها تلك الجدة لتشاطرها العيش في مسكنها بشارع ليل. وكانت هورتنس تنشق - بقرب جدتها - آخر نسمات العيشة العائلية الهادئة تهب عليها في ونى وهدوء. قد مضى الآن حولان كاملان على وفاة جدتها الطيبة التي ماتت حزينة قلقة على مصير حفيدتها إذ تتركها وحيدة في غياهب الفقر وأمواج الحياة. إنها عمرت ثمانين عاماً رأت فيها من تحب يتزوجون، ومن تعرف يرحلون ولم يبق منهم أحد تعهد إليه بحفيدتها البائسة.
ولما أحست مدام دي برييل بأجلها يقترب، رتبت أمرها في شهرها الأخير، كي لا تقلق بال حفيدتها. ولقد غالت الجدة في ذلك، فكانت ترمي أوراقاً كثيرة في النار وتحفظ الأخرى. وكانت الجدة تحتفظ - طوال مرضها - بصندوق صغير في دولابها الكبير. وكانت تضع مفتاحه في خيط من الحرير تحت الوسادة الحائلة. وكثيراً ما كانت الجدة تمسك الصندوق ساعات طوالا، كأنما تريد أن تنتهي من أمره إلى حل، وتتخذ حيال ما فيه قراراً. ودهمتها سكرة الموت قبل أن تقرر مصيره أو تتخلص منه.
واستشعرت السيدة دافراي قلقاً يساورها عندما عثرت يداها الباحثتان على الصندوق الصغير.
وقررت أول الأمر أن تحرقه - أمانة منها وإخلاصا - دون أن تعرف ما فيه من أسرار. ولكنها لم تفعل ذلك خشية أن تضيع - بحرقه - أداء واجب عليها أداؤه، أو وصية لا بد منها. وهكذا فتحت الصندوق وألفته مليئا برسائل جمة، لا تحمل العنوان على الأغلفة كما هي الطريقة الحديثة، ولكن تحمله على شرائح من ورق رفيع. وقد علمت - بعد أن بصرت بأول خطاب - أنها ليست رسائل جدتها مدام دي برييل، ولكنها رسائل أم جدتها - السيدة إيودكسي تيرين. وقد رأت هورتنس تلك الجدة العتيدة. فأنها لم تمت إلا أخيراً في(996/54)
سنة 1882. ولها من العمر خمسة وثمانون عاماً.
على أنها تستطيع أن ترى خيالها كل حين إن أرادت، فأسرتها تحتفظ لها بصورة رسمها البارون جروس، في ميعة شبابها ووفرة صباها. وقد كان عن طريق غريزة ركبت فينا، نشعر بها ولا نستطيع أن نكيفها، أن رأت هورتنس دافراي بينها وبين صورة الجدة - التي صورت من ثلاثة وخمسين عاماً خلون - شبهاً قوياً. بل لتكاد - إذ تنظر إليها - ترى وجهها في مرآة صافية!
ذلك بأن الطبيعة يحلو لها في فترات مختلفة وفي أسرات خاصة، أن تعيد خلق وجوه درست وثوت بالتراب من أمد بعيد. . تعيد خلقها كما كانت، كأنها مثال يأخذ عدة أشكال من قالب واحد. ولكن المرء يسائل نفسه في تلك الأحوال: إلى أي حد يبلغ الشبه؟ أيقتصر على الوجه والخلقة؟ أم يسيطر على الأفكار والمشاعر؟ أم ينفذ إلى سواد الفؤاد؟! تلك مشكلة من مشاكل العلم الحديث يرمينا بها فتفتح أمامنا آفاقاً واسعة غير ذات بر ولا حدود.
وقبل أن تقرأ السيدة دافراي أولى الرسائل لمحت سكة كبيرة تتدحرج في الصندوق بجوار جداره الرقيق. فالتقطتها، وتفقدتها، فإذا بها رسم ملازم شاب، من ضباط الدولة الأولى، ذي شعر وحف جعد، وعينين يلمع فيهما بريق الشهامة وبأس الشباب. وجبهة قسمتها ندية جرح طولي إلى قسمين عريضين. ينبسط أكبرهما من حاجبيه إلى منبت الشعر بوسط المحيا. وجبهته عامة جبهة شجاع جسور. وأدمنت هور تنس النظر في الصورة، فجذبها بريق العينين، وفتنها سحر الجمال، وأخضعها بأس الهوى! فاستشعرت في قلبها آلافا من المشاعر المتضاربة المركبة، آلافا من الخوف وأخرى من سرور، إنها تحب! ولكن ويلها من تحب!؟ فتى مرت على وفاته حقب وأعوام، وتوالت على قبره أحداث ورجام! فتى دالت دولته، وراحت صولته، وقدر لها ألا تراه على الأرض حيا!. . . ولكن كثيراً ما لعبت الجذوة التي تلهبنا بالحقائق والأفكار! وكثيراً ما كانت الحقيقة شيئاً مستحيلاً، فليس ضرورة أن يكون الشيء ممكناً حتى نقول بأنه حقيقة.
وإنه لمن الضلال البعيد أن نقول بأن هوتنس قد فجئها الحب، ولكنها كانت تشعر في قلبها بحب قديم، له آلامه وآماله، ولسبب ما خمد وانطفأ بل نزع من القلب والذهن انتزاعاً. ولكنه استعر فجأة، وقفز إلى ذهنها وقلبها معاً يعذب هذا بالذكريات، ويكوي ذاك بالشوق(996/55)
والألم.
وتفقدت الرسائل فإذا بإمضاء واحد يذيلها جميعاً. وقرأتها في شغف وجنون. ثم كانت لا تني عن القراءة والإعادة كأنها محمومة. ولم يكن عسيراً أن يجمع المرء خيوط القصة التي أنجبت تلك الرسائل
تزوجت جدتها السيدة إيوودكسي تيرين من أحد متعهدي الجيوش. وكان كهلاً أنانياً، أفسدته الخلاعة، وأضواه المجون. وقد مكنتها مهنة زوجها من الاتصال بضباط الجيش. فهام بحبها ملازم شاب من جند نابليون، يدعى بول فراند وجرفها تيار هواه. فلم تستطيع أن تقاوم أو تتشبث. فسايرت التيار في هوادة وإخلاص. فكان جميلا أن ترى عاشقين شفهما الهوى وبرح بهما الغرام يتعاطيان كؤوس الوصل مترعة هنية، وينهلان من منبع الحب الخالص. فيحلمان بسعادة خالدة، ونعيم مقيم. غير أنهما - طوال الوقت - يشعران بأجنحة الموت السوداء تصفق فوقهما كأجنة الخفاش الأعمش، وبإنسان بمسوح الردى الطخياء تهددهما بالبعد والحداد.
وسرعان ما تبددت الأحلام، وحلت المخاوف! لقد فرق الدهر المشتت بينهما أيام (أوسترلتز) وإبينيا وإيلو، أيام فريدلند ووجرام. . . وكانا قليلا ما يلتقيان - في تلك الأعوام العصيبة - لحظات معدودات. ولكن فراديير كان يختلس ما بين واقعتين أو ما بين نصرين فيسيطر لها - وهو أشعث أغبر - آيات الحب والهيام. ويبثها وقدة الشوق وجدوة الهوى. يسطر لها رسلات مترعة أسى وعذاباً، تقرأها الآن حفيدتها الصغرى بين دمع وأكف وقلب خافق، بين صدر يعلو ويهبط كالموج، وأنفاس حرى تذهب وتجئ. كان من أجل إيودكسي - كما كان من أجل نابليون - أن خاض فرانديير المعارك الدامية، وشرق في البلاد وغرب، وقاسي كثيراً واصطبر. كان يريد أن ينصر العاهل حتى النفس الأخير، وإن يكسب لإيودكسي عرشاً فحيما.
ومات في تلك الأثناء زوجها. وجن فرادنديير الأمل، وحن إليها ففكر في الرجوع إلى الوطن. وبينما الأمل ينمو ويوطد الجذور، والشوق يستعر والقلب خفاق، إذا به يقع في الميدان يتشحط في دمه المغرم، وإذا برصاصة تخترق صدره العاشق وتسكت قلبه الخافق. فثوى في حزون سمولنك الباردة وحيداً، لا قلب يخفق له، ولا دمع يترقرق في المحاجر(996/56)
أسى عليه. ونعى فرادنديير زميل ائتمنه على سر قلبه وذات صدره. وكان خطاب الزميل مع الرسائل الأخرى في الصندوق الصغير.
ما في هذا الأمر من شيء غريب. ولكن الغريب حقاً أن يتراءى لهورتنس دافراي أن التوسلات والذكريات التي حفلت بها الرسائل. وإن الجوى والهيام كل ذلك لها هي من دون جدتها إيودكسي تيرين. واندفعت روحها الظامئة ناشدة ذلك الحب تاركة وراءها الحقيقة ونواميسها، وحلقت بالغرام في الخيال غافلة عن الواقع ونظمه، وتمادت في ذلك فاستباحت لنفسها أن تخلق المعدوم وإن توجد المستحيل! ولم تكتف بذلك بل وهبت نفسها لفرانديير هذا دون أن تفكر لحظة أنه مات منذ أمد بعيد، في تيه المجد وضجة النصر المبين. واعتقدت أنه يوماً موافيها، وأنها ملاقيته بعد أمد قريب أو بعيد، وأنها مسلمة عليه ومصغية لحديثه الحنون، ولم يخامرها في يقينها هذا شك، ولا وجدت على عقيدتها غباراً. . . رأت فأحبت فأغرمت فتعذبت ثم راحت تنتظر الحبيب بثقة واطمئنان!
لو رأى النائم المعجزات في حلمه لما استغرب، لأن النفس تكون متطلقة من الواقع ونظمه، والحقيقة وأشراطها. وكذلك لم تستغرب هورتنس دافراي - حينما كانت تزور مدام دي سيمور - أن تعلن الخادم قدوم السيد بول فرانديير
راته يدخل، هو بعينه الذي أحبت وتحب: بول فرانديير! بول فرانديير بشعره الوحف المجعد، وعينيه السوداوين، ثم بندبة الجرح في جبهته العريضة. . . لم يكن هناك فرق سوى انه يرتدي زي ملازم من مدفعية الفوج الإفريقي الأول. . . كلا! ولم تعجب مدام دفيراي إذ تراه، فقد كانت تنتظره بصبر واطمئنان. على أن قلبها غاص في حنايا صدرها البض، وراح يحطم ضلوعها بخفقه الشديد، وودت إن لم تكن بين ذلك الجمع من الرجال المتألقين وتلك الثلة من النساء ذوات الأساور والحلي، فتقفز كالغزال اليه، ثم تغيب في أحناء صدره الرحيب قائلة (هاأنا ذي)
وانحنى فرانديير لعمته مدام سيمور. ثم يرى هورتنس فجأة، فيبهت، لا عرف لديه ولا نكر، وغاض لونه واصفر وجهه، واستطاع بعد لأي أن يعتمد على الحائط وإن يجر قدمه الواهنة إلى مخدع كان لحسن الحظ خاليا، فتخاذل وارتمى على بساطه الثمين. ودهشت مدام سيمور من سلوكه الناشز عن العرف والتقليد، فتعقبته إلى حيث تداعى يئن أنينا.(996/57)
ودخلت المخدع ساعة رانت عليه صفرة الموت وغاب عن الوجود.
واستدعت عمته طبيبا مشهورا من أضيافها. ولكنها أحست - بغريزة المرأة - أن هناك سرا لا يحسن ان تفض غلفه لأحد غريب. فجثت على العليل تدلك رأسه وصدغيه، وتنشقه بعضا من ملح قوي مفيق. ثم رفعت رأسه براحتيها واضعة تحتها وسادة من حرير غال.
ولما أن أفاق وثاب إليه الوعي، دس يده في جيب صداره وأخرجها تحمل رسما على ورق قديم حمله قبلات والهة، فأراه عمته، ثم صاح في فرح المجنون وطرفه غريق في الدمع الهتون: (أي بلانش! بلانش! إنها تحيا!) فأجابته عمته: بلانش! بالطبع! إن هورتنس دافراي تحيا، وهي فوق ذلك صديقتي. ولكن قل لي لم تدخل في زي الدولة الأولى؟ على انك لم ترها مرة واحدة! فما معنى تلك النوبة التي انتابتك من لحظة؟ فقال فرانديير:
- أني لم أرها إلا الآن ولكن روحي هامت بها من زمن بعيد، وأوسعتها حبا وعشقا. وقد استقر حبها بين جوانحي وفؤادي، وسرى بين لحمي وعظمي. لم يفارقني ذلك الرسم منذ خلص إلي وتناهى من ثلاثة أعوام خلون. واصطحبني في الفتح والحروب، في النفق والخنادق، فكان رسول السلام إلى قلبي الموله الجازع إذا ما اشتد النزال وحمى الوطيس، وكان بشير الحصانة إذا ما رنق على الرؤوس الموت ليختار على أي يقع. كان فيض الأمل ونبع الحياة، كان كل هذا برغم ما كنت اعلم من موت صاحبته. ولكني لا املك من امري شيئا. وكنت أعلل نفسي أني ملاقيها في جنان الرحمن حيث لا تعجز اللقيا. . . ولم يكن خيالي يستبيح لنفسه - وهو الشرود الجموح - أن يتصورها حية في عصرنا هذا. فهو إن صورها يصورها نائمة بجلال بين الورود والزهور في جدثها العاطر. فيطير لبي شعاعا، وتنسرق نفسي هياما وحبا!
- هذا حسن! ولكنك لم تحدث لي من أمر الصورة ذكرا. كيف تناهت إليك؟
- ذلك أمر بسيط! فقد كان لدى أبي - في مكتبته - مكتب مهجور. طلبته منه كي استذكر عليه فأعطانيه ولم يمهل. وقال لي انه من مخلفات - سميي - عمه الأكبر بول فرنديير. كان ملازما في جيش الدولة الأولى. ومات في سمولنسك في السابع عشر من سنة 1812. وكانت مفاتيح المكتب ضائعة فاضطررت إلى كسر أغلاقه، وفي أحد أدراجه الخفية عثرت يداي المجدودتان بتلك الصورة المقدسة، ولقد عشقتها من ذلك الحين(996/58)
- حقا إن في ذلك الحادث جانبا كبيرا من الغموض والإبهام، وعلى أية حال فأنت شاب طليق وهي فتاة حرة. فلا مانع يفصلكما من الحب ويحرمكما الزواج
ولكن الأماني كانت سرابا. ادكر كل من بول وهورتنس صاحبه، فتذاكرا العهود وجددا الغرام، فنعما بجنة الحب أمد قصير. ولكن بول ذهب في فوجه إلى (تونكين) وهناك مات - كجده - برصاصة شقت الصدر وباتت في الفؤاد، أي بؤس وعذاب!
س. م(996/59)
العدد 997 - بتاريخ: 11 - 08 - 1952(/)
العبيد. .
(هذا المقال منع من النشر في عهد الطغيان. وهو اليوم هدية
للأحرار الذين طهروا الوادي وكرموه)
للأستاذ سيد قطب
ليس العبيد هم الذين تقهرهم الأوضاع الاجتماعية، والظروف الاقتصادية، على أن يكونوا رقيقا، يتصرف فيهم السادة كما يتصرفون في السلع والحيوان، إنما العبيد الذين تعفيهم الأوضاع الاجتماعية والظروف الاقتصادية من الرق، ولكنهم يتهافتون عليه طائعين!
العبيد هم الذي يملكون القصور والضياع، وعندهم كفايتهم من المال، ولديهم وسائلهم للعمل والإنتاج، ولا سلطان لأحد في أموالهم أو أرواحهم. . وهم مع ذلك يتزاحمون على أبواب السادة، ويتهافتون على الرق والخدمة، ويضعون بأنفسهم الأغلال في أعناقهم، والسلاسل في أقدامهم، ويلبسون شارة العبودية في مباهاة واختيال!
العبيد هم الذين يقفون بباب السادة يتزاحمون وهم يرون بأعينهم كيف يركل السيد عبيده الأذلاء في الداخل بكعب حذائه. كيف يطردهم من خدمته دون إنذار أو إخطار. كيف يطأطئون هاماتهم له فيصفع أقفيتهم باستهانة، ويأمر بإلقائهم خراج الأعتاب، ولكنهم بعد هذا كله يظلون يتزاحمون على الأبواب، يعرضون خدماتهم بدل الخدم المطرودين، وكلما أمعن السيد في احتقارهم زادوا تهافتا كالذباب!
العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر، لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية. لأن لهم حاسة سادسة. . أو سابعة، حاسة الذل. . لابد لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد أحست نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الأعتاب، يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الإشارة من إصبع السيد، ليخروا ساجدين!
العبيد هم الذين إذا أعتقوا وأطلقوا حسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة، لا الأحرار المطلقي السراح، لأن الحرية تخيفهم، والكرامة تثقل كواهلهم، لأن حزام الخدمة في أوساطهم هو شارة الفخر التي يعتزون بها، ولأن القصب الذي يرصع ثياب الخدمة هو أبهى الأزياء التي يتعشقونها!(997/1)
العبيد هم الذين يحسون النير لا في الأعناق ولكن في الأرواح، الذين لا تلهب جلودهم سياط الجلد، ولكن تلهب نفوسهم سياط الذل، الذين لا يقودهم النخاس من حلقات في آذانهم، ولكنهم يقادون بلا نخاس، لأن النخاس كامن في دمائهم.
العبيد هم الذين لا يجدون أنفسهم إلا في سلاسل الرقيق، وفي حظائر النخاسين، فإذا انطلقوا تاهوا في خضم الحياة وضلوا في زحمة المجتمع، وفزعوا من مواجهة النور، وعادوا طائعين يدقون أبواب الحظيرة، ويتضرعون للحراس أن يفتحوا لهم الأبواب!
والعبيد - مع هذا - جبارون في الأرض، غلاظ على الأحرار شداد، يتطوعون للتنكيل بهم، ويلتذون إيذاءهم وتعذيبهم، ويتشوفون فيهم تشفي الجلادين العتاة!
إنهم لا يدركون بواعث الأحرار للتحرر، فيحسبون التحرر تمردا، والاستعلاء شذوذا، والعزة جريمة، ومن ثم يصبون نقمتهم الجامحة على الأحرار المعتزين، الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق!
إنهم يتسابقون إلى ابتكار وسائل التنكيل بالأحرار، تسابقهم إلى إرضاء السادة، ولكن السادة مع هذا يملونهم ويطردونهم من الخدمة؛ لأن مزاج السادة يدركه السأم من تكرار اللعبة، فيغيرون اللاعبين ويستبدلون بهم بعض الواقفين على الأبواب.
ومع ذلك كله فالمستقبل للأحرار. المستقبل للأحرار لا للعبيد ولا للسادة الذين يتمرغ على أقدامهم العبيد. المستقبل للأحرار لأن كفاح الإنسانية كلها في سبيل الحرية لن يضيع. لأن حظائر الرقيق التي هدمت لن تقام، ولأن سلاسل الرقيق التي حطمت لن يعاد سبكها من جديد!
إن العبيد يتكاثرون نعم؛ ولكن نسبة الأحرار تتضاعف والشعوب بكاملها تنضم إلى مواكب الحرية، وتنفر من قوافل الرقيق؛ ولو شاء العبيد لانضموا إلى مواكب الحرية؛ لأن قبضة الجلادين لم تعد من القوة بحيث تمسك بالزمام، ولأن حطام العبيد لم يعد من القوة بحيث يقود القافلة؛ لولا أن العبيد كما قلت هم الذين يدقون باب الحظيرة، ليضعوا في أنوفهم الخطام!
ولكن مواكب الحرية تسير؛ وفي الطريق تنضم إليها الألوف والملايين. . وعبثاً يحاول الجلادون أن يعطلوا هذه المواكب أو يشتتوها بإطلاق العبيد عليها. عبثا تفلح سياط العبيد(997/2)
ولو مزقت جلود الأحرار. عبثا ترتد مواكب الحرية بعدما حطمت السدود؛ ورفعت الصخور، ولم يبق في طريقها إلا الأشواك!
إنما هي جولة بعد جولة. وقد دلت التجارب الماضية على أن النصر كان للحرية في كل معركة نشبت بينها وبين العبودية. لقد تدمى قبضة الحرية ولكن الضربة القاضية دائما تكون لها. وتلك سنة الله في الأرض، لأن الحرية هي الغاية البعيدة في قمة المستقبل، والعبودية هي النكسة الشاذة إلى حضيض الماضي!
إن قافلة الرقيق تحاول دائماً أن تعترض موكب الحرية. . ولكن هذه القافلة لم تملك أن تمزق المواكب يوم كانت تضم القطيع كله، والموكب ليس فيه إلا الطلائع؛ فهل تملك اليوم وهي لا تضم إلا بقايا من الأرقاء أن تعترض الموكب الذي يشمل البشرية جميعا؟
وعلى الرغم من ثبوت هذه الحقيقة، فإن هنالك حقيقة أخرى لا تقل عنها ثبوتا؛ إنه لابد لموكب الحريات من ضحايا. . لابد أن تمزق قافلة الرقيق بعض جوانب الموكب. لابد أن تصيب سياط العبيد بعض ظهور الأحرار. لابد للحرية من تكاليف. إن للعبودية ضحاياها وعي عبودية، أفلا يكون للحرية ضحاياها وهي الحرية؟
هذه حقيقة وتلك حقيقة. ولكن النهاية معروفة والغاية واضحة والطريق مكشوف والتجارب كثيرة، فلندع قافلة الرقيق وما فيها من عبيد تزين أوساطهم الأحزمة ويحلي صدورهم القصب، ولنتطلع إلى موكب الأحرار وما فيه من رؤوس تزين هاماتها مياسم التضحية، وتحلي صدورها أوسمة الكرامة. ولنتابع خطوات الموكب الوئيدة في الدرب المفروش بالشوك، ونحن على يقين من العاقبة، والعاقبة للصابرين. . .
سيد قطب(997/3)
كلمة صغيرة
للأستاذ (ع)
أكتب هذه الكلمة وأنا مريض في المصيف في (مضايا)، قد هبط معي الضغط، وضعف مني الجسم، وانقطعت عن عمل اليد وعمل الدماغ، ولذلك ما أخللت بعهدي، وكان العهد أن أكتب إلى (الرسالة) مرتين في الشهر. ولكن أخبار مصر، ومن قبلها أخبار إيران، تطرد المرض، وتنهض الجسد، وتهز من الحماسة الجبال، وترقص الحجر، فكيف أنام اليوم واليوم عزت بالإسلام العرب والعجم. واليوم استكمل الشرق يقظته إلا بقايا في عينيه من الكرى وأقسم أن لن ينام، واليوم أحس كل مسلم بأن الأمة التي يكون فيها زعماء الدين أمثال حسن البنا والقاشاني، ومن زعماء الدنيا أشباه نجيب ومصدق. لم تفقد عزتها، بل إن لها من حاضرها أياما غرا محجلات لا يضر من رآها ألا يكون رأى تلك الأيام. لا، لا يضر من حضر الجلاء عن الشام، وإقامة إندونيسيا والباكستان، وشهد ظفر الشعب في طهران أمس وفي مصر اليوم ألا يكون قد حضر القادسية وشهد اليرموك.
لقد تتالت علينا الأفراح، وتتابعت البشائر حتى ما تستطيع أن تحتملها أعصابنا. إننا نعدو عدوا في طريق الظفر لا نقدر أن نقف ساعة لنستريح ونلقتط أنفاسنا. هذا شعب إيران يهب هبة الرجل الواحد، يحمل معه أكفانه ليثبت للدنيا أن الكفن يد المستميت أمضى من المدفع في يد من يحب الحياة ويكره الموت، وأن الرغبة الصادقة في الموت هي أقصر طريق إلى الحياة، وأن الشعب إذا استمات لا تغلبه قوة في الدنيا. وهل يمكن أن يباد الشعب على بكرة أبيه فلا يبقى له أثر؟ هل تستطيع قوى الشر كلها التي حشدها المتمدنون ليقتلوا بها البشر باسم المدنية التي نسبح جهلا بحمدها، ونموت في عشقها، أن تهلك أربعمائة مليون ضفدع لو هاجمت بلداً من أقطاره الأربعة؟ فكيف لو هبت أربعمئة مليون إنسان، يستجيبون لصوت إيمانهم، ويغضبون لماضيهم، ويعملون لمستقبلهم؟ إن القطة إن غضبت لأولادها، كشرت عن أنيابها، وأبدت عن مخالبها، وهجمت على الذئب، فكيف إن غضب شعب كشعب إيران؟ وكيف إن كان يقوده شيخ له عزة العلم، وله قوة اليقين، كالقاشاني، ينفخ فيه من روح الدين ما يثبت للعالم أن قوة الإيمان هي أقوى القوى، وأن العدو لم يصنع بنا شيئاً أضر علينا من صرفنا عن ديننا، وتعطيل هذا السلاح الماضي(997/4)
الذي وضعه الله في أدينا!
ثم جاءت أخبار مصر. مصر الدينة الصينة التي طالما احتملت الفسوق والعصيان. . . وسكنت ترجو أن ينيب الفاسق، ويتوب العاصي. . مصر العزيزة الحرة التي صبرت على الطغيان والاستبداد. . مصر التي بذلت في حرب فلسطين ما لم تبذله دولة عربة، ثم ضربها في ظهرها من كبار أبنائها من كان شرا عليها وعلى جيشها من أعداء الله والإنسانية: اليهود. مصر التي طالما زرتها وأقمت فيها الشهور الطوال فكنت أشم روائح الفساد كلما خرجت من إدارة الرسالة مررت بالميدان الكبير. وانتشرت هذه الروائح حتى عمت مصر، ثم وصلت إلى أوربا. . وشمها أصحاب الجرائد هناك بأنوفهم الحساسة فنشروها في كل مكان حتى بلغت الشام ودخلت كل بيت؛ لذلك كانت أخبار الانقلاب الأولى فرحة في كل بيت. . يتباشر بها الناس. ويفتحون الراديو ليسمعوها، وأزهد الناس بسماع الأخبار صار يعانق الراد في داره ليسمع إذاعة مصر وغير مصر. . فلما أذيع أن الفاروق (الذي كان يوما الملك الصالح) قد أخرج من مصر لم يعد يستطيع الناس أن يضبطوا من الفرح أعصابهم. ووالله ثم الله الذي لا يحلف به كذباً إلا فاجر، لو أعطيت مائة ليرة ما فرحت بها مثل فرحي بهذا الخبر. ولولا أني مريض. . وأن ذهني مكدود. . . لحييت هذا اليوم العظيم التحية التي تليق به. . . ولسقت له كلاما غير هذا الكلام: كلاما تثب له القلوب، وتحمى منه أقحاف الرؤوس، وترقص له من الحماسة الأعصاب، وتغلي الدماء، ولكني إن عجزت اليوم عن نظم هذا الكلام. . فلقد قال هذا البطل بفعاله أكثر منه؛ وهو صامت متواضع لم يفخر ولم يتحمس. فيا أيها الرجل العظيم حقا؛ لك شكر العروبة. لك شكر الوطن. لك شكر الإسلام.
يا محمد نجيب، لقد نقش اسمك على محاريب القلوب مع أسماء أبطال التاريخ.
وبعد فهذه عاقبة الفسق والفجور، واستغلال أموال الأمة وسلطانها في إرضاء الشيطان وإرواء الشهوات؛ فاعتبروا يا من لم تصل إليهم النوبة بعد فإنها ستنوبكم. إن الله يمهل ولا يهمل. وينسي ولا ينسى. وليعتبر الذين أنبت الله لهم من التراب ذهباً، وأنبع لهم من الرمال دولارات؛ فتركوا قومهم جياعا حفاة وأنفقوها على الفسوق والشهوات حتى ضجت من عجبها من فجورهم باريس مدينة الفجور.(997/5)
اعتبروا فإن نعم الله لا تحفظ بالمعصية ولكن بالشكر. . وإن الأوطان لا تحمى باتباع الشهوات، وإضاعة الأموال في البذخ والترف؛ ولكن بتقوية الجيش وإعداد السلاح؛ وإطاعة الله، والعمل على إعلاء كلمة الله. وإن الملك لا يكون ليستمتع الملك ويلهو، ويعدو هو وحاشيته على العرض وعلى الأرض. ويرفع نفيه عن النقد؛ بل ليكون أطول الناس سهرا على مصالحهم؛ وأكثرهم شغلا بهم، وأعظمهم تبعة؛ وأشدهم من الله خوفا. كذلك كان الرسول صلوات الله عليه؛ وكان أبو بكر وعمر؛ وكان الصالحون من الملوك. وبعد فإن في كل بلد (محمد نجيب) لا تعرفونه اليوم؛ ولكنها ستعرفه الدنيا كلها في لحظات كما عرفنا محمد نجيب؛ وما كنا قبل دقائق قد سمعنا في الشام باسمه. وأن في كل بلد (يخت) كالمحروسة، أو سيارة تقوم مقامها و (دار ابن لقمان على حالها). .
وبعد فبارك الله في شعب مصر. وبارك الله في شعب إيران، وبارك الله في كل شعب يأبى الدنية ويرفض العار، ويعرف كيف يرفع رأسه ويقول: لا!
والسلام على روح حسن البنا موقظ الأرواح النائمة في مصر؛ وعلى القاشاني؛ وعل مصدق؛ وعلى البطل النجيب: محمد نجيب
دمشق
(ع)(997/6)
الحاجة إلى الجذور
للدكتور عمر حليق
- 2 -
لتراث الماضي في عنق الجيل المعاصر مسؤولية قدسية. فإذا انهدم الماضي فإن عودته ضرب من المحال. وإن أعظم الجرائم قسوة أن يهدم الناس ما ورثوه عن أسلافهم من تراث. فما علينا إلا أن نجعل همنا الأكبر الاحتفاظ بالقليل الذي تبقى لنا من تراث الماضي.
ليس في هذه الصرخة من البلاغة والحكمة إلا ما يزكيها من تحليل دقيق وفكر عميق يطفح به هذا الكتاب النفيس الذي قدمنا له في المقال السابق.
ولعل بين القراء طائفة نقرأ في ثنايا هذه الصرخة (رجعية) لا ترضى عنها رغبتهم في بناء المجتمع الجديد على أنقاض الماضي وجموده.
ولكن الحاجة إلى الجذور ليست نزعة عاطفية مبعثها الرجعية والجمود وما يمت إليها من ألوان المحافظة والتزمت. إنما هي غريزة روحية تكمن في نفوسنا جميعا. فحين تستذكر ما يعتري الجيل من بلبلة فكرية وانفعالات نفسية حادة لا يسعك إلا أن توافق المؤلفة على أن رجل العصر إنسان اقتلعت جذوره لأنه قطع الصلة بالذخيرة الروحية التي هي جزء من تراث الماضي ومن أصوله الخالدة.
ففي الثورة على الماضي دعوة إلى القطيعة الروحية بين الخالق والمخلوق، بين الجذور والأغصان. وهذه القطيعة من أين العناصر التي تزيد من بلبلة الفكر وتشتت الجهد وكآبة النفس التي تشيع بين الواعين من أفراد هذا الجيل.
فرجل العصر حين يقتصر في تسلحه لمواجهة مسؤولياته ومشاكله الخاصة والعامة على المعاول الحديثة المستنبطة من فنون السياسة والاقتصاد والإصلاح الاجتماعي خالية من الذخيرة الروحية التي تكمن في تراث الماضي - وحين يتخذ من هذه المعلول وحدها أسلحة يواجه بها تسيار الحوادث وتيارات الفكر وانفعال المشاعر والاحساسات - لا مفر له من أن يفكر بالمجتمع والناس حين يمر بنكسة قاسية أو خلاذن كبير. فهذه المعاول مجردة من الذخيرة الروحية لا تستطيع أن تبعث في رجل العصر الإيحاء والطمأنينية(997/7)
الصادقة حين تخفق (هذه العوامل) في تلبية حاجته عندما تدهمه بعض حقائق الحياة القاسية مما لا تقوى على ترويضها فنون الاقتصاد والسياسة والخدمات الاجتماعية. فهذه المعاول مجردة من العنصر الديني والروحي العميق ليست سوى آلات ميكانيكية لا تتأثر لانفعال المرء ولا تستطيع أن تعبر عن حمايتها له وعفها عليه حين يعتريه في صراعه مع الحياة وقيامه بواجبات الجيل ومسؤولياته. الفتور والفتنة والكآبة. فهذا النوع من الإيحاء والطمأنينه والعطف والحماية مقصور على الصلة الروحية التي تربط المرء في جميع الأجيال بهذه العناية الإلهية الرحيمة الرءوفة السمحة التي تعيد إلى النفس الثقة وتبعث في قرارتها القوة والعزم فتدفع عنها بالإيمان والاختبار الروحي الصادق شر الفتنة ومساوئ الفتور وبلية الكآبة وأمراض القلق وعلل الشك.
ومن ثم يجد الذين اقتصروا في تسلحهم لمواجهة مسؤوليات الجيل ومشاكله على فنون الاقتصاد والسياسة والاجتماع واستمدوا من فلسفتها ذخيرتهم الروحية - يجدون أنفسهم في حيرة شديدة. . فإذا تبين لهم أن الشيوعية لا يمكن أن تطبق إلا في ظل النظام المطلق فتصبح قاسية في حكمها على الطبيعة البشرية اتجهوا إلى الاشتراكية أو الديمقراطية كما تفسر في أوروبا والعالم الجديد لعلهم يجدونها أكثر سماحة في توجيه السلوك الإنساني في أقرب المسالك لتحقيق ما يتطلع إليه أهل الجيل من عدالة ومساواة.
ولكن طبيعة السلوك الإنساني وتسيار الحوادث أكثر تعقداً وأشد قساوة من أن تلين لهذه النظريات. وما أكثر ما يقف الذين اختاروا هذه المعاول (المادية) واجمين قلقين حين يعتري مسلكهم في التفكير والعمل نكسات تدفعهم في ساعات التجرد والتأمل أن يكفروا بهذه المعاول أو أن ينفروا من إحداها ليلتجئوا إلى أخرى؛ وهكذا دواليك.
ويجب أن لا يساء الفهم في هذا التحليل. فليس القصد أبداً إنكار النفع في هذه المعاول - هذه المبادئ والنظريات اشتراكية أم ديمقراطية أو غير ذلك من الأنظمة المعاصرة فهي أيضا جزء من تراث الماضي وأسلحة لابد للجيل من أن يلجأ إليها ليواجه مسؤولياته ويحقق مطالبه. إنما القصد بيان الدور المهم الذي يمارسه التراث الروحي (وهو الجزء الأهم من تراث الماضي) في سلوك الناس ومبلغ الإيحاء والقوة الدافعة التي توفرها الذخيرة الروحية للذين يتسلحون بفنون العلم والنظم الحديثة ومعاولها لبناء المجتمع الجديد.(997/8)
وإنك لا تستطيع إلا أن تعجب لهذه البلاغة التي عبرت بها مؤلفتنا الشابة عن هذه الصلة بين فنون العلم ونظمه الحديثة وبين القوة الروحية الكامنة في تراث الماضي. فهي تقول بأنها لا ترغب في شيء أشد من رغبتها في أن تتعمق في عشق المجتمع وكل ما في الكون من جمال وقبح. فهي لا ترغب في أن يعيش الجيل في برج تحيط به سحب الروح وينغمر في تراث الماضي، فهي تشارك الناس صراعهم في الحياة اليومية (وفترة اشتراكها في حركة المقاومة السرية الفرنسية للاحتلال النازي شاهد على ذلك) ولكنها شديدة الرغبة كذلك في أن ترتفع بنفسها وبأهل الجيل عن هذه (العزلة النفسية) القاسية التي يمرون بها كلما عجزت فلسفة العلم ومعاول النظم الحديثة عن أن تحل مشاكلهم وتمهد لهم طمأنينة النفس واستقرار الروح.
وهذا الارتفاع لا يكون إلا بتوطيد الصلة بين الجيل الجديد وبين العناية الإلهية والذخيرة الروحية العميقة التي خلدها تراث الماضي.
فهي تستهل مؤلفها في فصل عن (الحاجة إلى الروح) وهو مثال طيب للمنطق الفرنسي حين يتعمد أن يضع قاعدة فكرية يؤمن بها ويدعو الناس كذلك إلى الإيمان بها.
فالحاجة إلى الروح تستند إلى افتراضين:
أولهما: أن الله موجود وكل شيء في الكون والسلوك الإنسان يثبت وجوده، فلا العلم ولا النظم الفكرية قادرة على أن تنفي هذا الوجود وحاجة الناس إلى إدراكه واستيحاء رشده العلي وهداه. وأن الله تعالى بصفته جوهر الكون هو الجذر الأوحد لتراث الماضي والعنصر الرئيسي في ذخيرته الروحية.
وثانيهما: أن فشل العلم الحديث ومعاول النظم الاقتصادية والسياسية في الاعتراف بحاجتها على هدى الله قد أوجد هذه المساوئ وهذا التفكك والتشويش والقلق الذي يهيمن على أفكار أهل الجيل وسلوكهم.
وقد بلغ من حماس هذه المؤلفة الفرنسية لتعزيز الحياة الروحية في هذا العالم القلق أن دعت في كتابها إلى سن أقسى التشريعات ضد الذين يتعمدون تشويش الحياة الروحية من المجتمع من الطامعين في السيادة السياسية والسيطرة الاقتصادية، وفي الكتاب والفنانين الطامحين إلى المجد الفني مع شل الدين والقيم الروحية (الذين يبثون في عقول الناس(997/9)
وأفئدتهم من الصور الفنية المشوهة ما ينحط إلى مستوى البدائية فيعكر على القيم الأخلاقية صلاحها وبدفع القيم الروحية إلى الانحطاط.
والمؤلفة في دعوتها هذه تضرب يمينا وشمالا. فتهاجم (أندريه جية) الكاتب الفرنسي الشهير لهجومه على بعض القيم الأخلاقية، وتنتقد (جاك ما ريتان) الفيلسوف الكاثوليكي العتيد لتزمته في تفسير صلة القيم الروحية بمسؤوليات الجيل ومشاكله.
وهي لا توقر رجال الصحافة في حملتها هذه، فتقترح لهم العقوبة الصارمة إذا ثبت عليهم جرم تزوير الأنباء وتحريف الوقائع والاتجاهات لحاجة في نفس يعقوب.
و (سيمون وايل) في ثورتها على (الجراثيم التي تعيث فسادا في الذخيرة الروحية) مدفوعة برغبة ملحة في أن تثير في أفراد المجتمع الحماس فيمن يأنس في نفسه القدرة على أن يعين أهل هذا الجيل على مواجهة مسؤولياته بقلب آمن وفكر سليم وفتح خزائن التراث الروحي والإلهام الديني لهم ودفع شر الذين يغلقون الأبواب فيزيدون دنيا هذا الجيل حلكة وظلاما.
ففي كتاب آخر لها عنوانه (في انتظار الله) تقول كاتبتنا إن الذين تحيق بهم الكآبة والتعاسة ليس لهم في هذا الكون حاجة أشد من أن يجدوا في الناس من يوليهم لفتة مخلصة وعناية صادقة. فلا يكتفي أن تصمت إذا ألمت بجارك مصيبة وتتركه لشأنه. إن حسن الجوار يتطلب أكثر من الصمت وترك الجار وشأنه. إنه يفرض عليك أن تنشط للاتصال بجارك في المجتمع لتضع بين يديه ما في طبيعتك البشرية من أنس وبشر. وفي مكان آخر من هذا الكتاب تؤكد بأن (سكوتك عن ضلال الآخرين وصمتك إزاء محنتهم وكآبتهم ومشاكلهم هو في الواقع ضرب من الحقد عليهم والسخرية بهم، فالصمت والحالة هذه لون من الشلل النفسي وعنوان على تفاهة العيش وحيوانية السلوك)
وبعد فهذا استعراض متواضع لكتاب نفيس. والكتب القيمة على نوعين: كتاب يعالج في كل فصل فكرة أو فكرتين، وآخر في كل فقرة من فقراته حكمة ورأي سديد. وكتاب (الحاجة إلى الجذور) من النوع الأخير. فهذا الاستعراض الموجز لا ينصف ولا يوفيه حقه.
ولكنها على كل حال محاولة أحببت أن أعراضها للقارئ دلالة على أن حاجة جيلنا إلى(997/10)
الجذور حد وواجب، وليس سرف عقلية أو رجعية فكرية ينفر منها بعض المثقفين الذين يعتقدون مخطئين بأن البضاعة الفكرية المستوردة من حاضر الثقافة الغربية هي في كليتها نتاج (علماني) صلته بالحياة والذخيرة الروحية مبتورة لا وصل لها.
فأمثال (سيمون وايل) من الداعين إلى صيانة تراث الماضي وعناصره الروحية كثيرون في حاضر الفكر الغربي.
وجيلنا في العالم العربي سعيد الحظ بأن يجد نفسه في بيئة لا يزال فيها للقيم الروحية معاقل وحماة. فما عليه إلا أن يعير تراث الماضي قسطا وافيا من اجتهاده، ويعزز بالذخيرة الروحية ما اختاره من معاول العلم وفنون النظم الفكرية الجديدة ليتسلح بها جميعا لمواجهة هذه المسؤوليات الجسام التي تتحداه.
نيويورك
عمر حليق(997/11)
من الإسكندرية إلى ديروط
للأستاذ أنور الجندي
جمعت في خلال إجازتي بين سفرين؛ كلاهما أبعدني عن القاهرة. فسافرت إلى الإسكندرية ثم عدت إلى ديروط؛ فكأنما ذهبت إلى أقصى الشمال حتى شارفت البحر الأبيض. . ثم قصدت إلى الصعيد الأوسط حيث قضيت أياما في البلد التي ولد على ضفافها حافظ إبراهيم شاعر النيل.
وفي كلتا الرحلتين متاع كبير، ومتاعب كثيرة. . .
أما في الإسكندرية فقد التقيت بصفوة الناس، وتغلغلت في الطبقات الميسورة التي لان لها العيش وأتيح لها أن تأخذ بأوفى حظ من المتاع. . فهجرت القاهرة والأقاليم، وأقلعت إلى الساحل تأخذ أكبر قسط من الهواء والماء. . ومن متاع النفس والجسد
رأيت المجتمع المصري في صورة الحرية المطلقة. وقد تجرد الرجال والنساء على وجه أهله البحر وحرمه الدين؛ وأعطى كل من الجنسين لنفسه الحق في أن يذهب حيث شاء. إن شاء أمضى يومه أمام الكابين. أو تحت المظلة. أو سابحا في الماء. . .
ورأيت صورة الهدى وهي تختلط في صورة الضلال. . . فلا تكاد تفصح إحداهما عن نفسها أو تتبدى واضحة جلية، وأشفقت من المصير الذي ينتظر هذه الجماعات وقد منحت أنفسها ما تهوى وما تحب دون أن تجعل للعرف أو للتقاليد أو للدين حسابا معلوما أو حقا مفروضا. . .
ومن العجب أن تقوم مسارح الفتنة والجمال على شاطئ البحر بين مقامين كبيرين لرجلين من أعظم رجال التاريخ والتصوف هما: ابن جبير الأندلسي الرحالة الذي طاف الشرق وقدم من المغرب ومات في الإسكندرية.
وبشر الحافي الصوفي العراقي الذي أثر عنه الزهد والعلم والورع ولكل منهما مسجده الضخم القائم في قلب المنطقة الآهلة بالمصيفين ورواد الكابينات؛ والذاهبين إلى البلاج والعائدين منه وبينما تذهب آثار الرجلين في بطون التاريخ فلا يذكرهما ذاكر إلا القليل من الباحثين والعلماء، يبسط الله في اسميهما؛ فيكتب في تذاكر الأتوبيس والسيارات، وينادى به الحمالون والسائقون، ويجرى على ألسنة المسافرين والعائدين. . .(997/12)
ثم سافرت إلى ديروط، تلك المدينة التي كانت حديث الصحف في الشهور الماضية، فلقيت قوما يختلفون كل الاختلاف عمن لقيت في الإسكندرية.
لقيت قوما يكدحون في سبيل العيش والرزق، يعملون سحابه يومهم. . . فإذا أمسى المساء التقوا على (القناطر) التي هي أبدع عمل هندسي في الصعيد بعد خزان أسوان وقناطر أسيوط
رأيت أهل الصعيد في نقائهم وطهرهم وبساطتهم، يمضون في الحياة لا يتكلفون، قد أخذوا من الحضارة بطرف، ولكنهم ما زالوا يضنون عليها بالعرض والشرف والخلق والتقاليد.
رأيت (المئذنة) العالية وسمعت صوت النداء باسم الله ينبعث من فوقها فيهز النفس من الأعماق، ويرسل إلى الكون كله فيضا من الحب والسلام. . . هذه مئذنة الجامع الكبير، من أعلى مآذن القطر كله؛ قد بنيت بالقرميد الأبيض والأحمر على هيئة غاية في الرواء والإبداع، وكان مقامي في بيت قريب منها على الضفة الثانية للترعة الساحلية، فما كنا ألقى نظري من النافذة مرة، جالسا أو قائما، إلا كانت تتراءى لي فتهزني، وتملأ نفسي بذلك الإحساس الروحي الغامر. . فإذا واجه فرقتنا المؤذن في صلاة الفجر، انبعث صوته رطبا نديا. . كأنما يسكب على هذا الصمت والسكون الضياء والنور، فما ألبث أن أهتز في مضجعي أردد اسم الله. . .
ألا ما أبعد الفارق بين ما تثيره ديروط وما تثير الإسكندرية في النفس؛ إن هذه تعطيني معنى الروح كاملا حيا، أما تلك فلا تترك في نفسي إلا متاعب الصراع بين الهوى والحق، وبين القلب والغريزة. . .
وفي ديروط كنت أطلق الطرف بعيدا في تلك المروج الخضراء أتزود وأقتات من جمال الريف، وهناك في أطراف المدينة حيث تلتقي الحضارة بالريف، والصناعة بالزراعة. . . كنت أجلس الساعات الطوال أنظر وأسلح بعيداً حتى ردني عن أفكاري قطار (الديزل) السريع وهو ينهب الأرض في طريقه إلى القاهرة. . .
وفي المساء كنا أسير مع صديقي (محمد زكي) نتحدث عن الرافعي. . . إن صديقي لا يمل الحديث عنه، إنه يحبه غاية الحب، ويرى يومه عبثا من العبث لو أنه انقضى دون أن يقرأ له فصلا أي صفحة أو كلمة أو (كليمة)(997/13)
إن صديقي من أدباء الريف المغمورين، الذين قضت عليهم ظروف الحياة أن يعيشوا هناك، حيث لا تصفو الحياة كثيرا للأديب الذين يريد أن يصنع المجد. . .
وفي ساعات الغروب على الإبراهيمية أو على اليوسفية، تلبس ديروط حلة قشيبة من الجمال. . الحزين. حيث نعود بالذاكرة كرة إلى ما قبل عشرين عاما من العمر، عندما كنا نخطو إلى هذه المدرسة القائمة تجاه مبنى الري. . . نلتقي أول دروس العلم، ودروس الحياة
أما ذلك المساء، فقد كان حزينا حقا، بالغا غايته في الظلمة والحزن. فقد انطلقت إلى حيث كان للقلب قصة منذ سن السابعة عشر، ولما مرت العربة بنا على ذلك المكان الذي يعيش فيه ذلك الروح الحزين. هتف القلب: ترفق أيها السائق؛ فإن لنا هنا ذكرى عزيزة.
كان الوجه الأول الذي لقيني بين ظلمات الأحداث، ومتاعب الشباب الباكر، فأحال دنياي جنة وارفة الظلال، وأمد روحي بذلك الرحيق القدسي الذي يحسه الشباب الحدث، الذي يتطلع إلى المجد، حيث يلتقي مصادفة بإنسان وهبة الله فيض الجمال وفرط الحسن. . . وأمده بذلك الروح الشاعر الصادق، بحيث لا يخرجه عن تقاليده وخلقه، ولا يصرفه عن طهره ونقائه. . .
ولكن الظروف تقصر، والأقدار تأبى، فإذا به يمضي في طريقه وأمضي في طريقي. وأظل على الرغم من مرور بضعة عشر عاما أحس كأنما كان الأمر بالأمس، مازال قائما في النفس لا يبرح، وما تزال صورته في الضمير لا تزول. إذا هتف الهاتف باسمه ظننت أنه هو، وإذا خطر من يشبهه ذكرته، وعدت بالخيال مرة أخرى إلى أيامه الحلوة، عليها سلام الذكريات.
وبالرغم من الزمن البعيد، فهو ماثل في القلب، يذكرني بالماضي البعيد، وكأني به أنتظره وأترقبه؛ وأرجو على مر الزمن أن يتاح لي مرة أخرى أن ألقاه. . .
كان ذلك المساء قاسيا على نفسي، فقد كنا في السيارة نتذاكر قصيدة الأستاذ محمود محمد شاكر (اذكري قلبي فقد ينضر من ذكراك عودي). . . وبينا كان صاحبنا يرددها، كنا نمر في نفس المكان الذي يتنسم فيه شاعرنا أنفاس الحياة.
والحق أن (ديروط (أعادت إلى نفسي الذكريات التي طوتها أعباء الحياة في القاهرة؛ فما(997/14)
أظن أنني قضيت في ديروط عشرة أيام منذ سبعة عشر عاما غير هذه المرة. . .
لقيت وجوها كثيرة لم أرها منذ طويل، وجوه كلها إلى حبيب، ولي معها ذكريات؛ ولكن غاب عني وجه لطالما أحببت أن ألقاه، ولكنه طريح في المستشفى، عجل الله له الشفاء وكتب له الصحة والعافية. . .
أنور الجندي(997/15)
حلوان المنوفية قويسنا
للأستاذ أبو الفتح عطيفة
مدينة حديثة. . . يرجع تاريخ إنشائها إلى أوائل هذا القرن، بلدة جميلة تمتاز بطيب هوائها واعتدال مناخها وجفافه. تلك هي حلوان المنوفية أو مدينةقويسنا
تقع هذه المدينة عند خط عرض 30، 30 شمالاً وعلى خط طول 31. 10 شرقا وهي وبلاد مركزها تحتل الجزء الشمالي الشرقي من مديرية المنوفية.
وقد بنيت هذه المدينة في عهد المرحوم عبد الرحيم باشا صبري حين كان مديرا للمنوفيه ولذلك يسمى الجزء الحديث منها منشأة صبري، وقد اختير لبنائها بقعة رملية هي جزء من جبل قويسنا، ووجودها في هذه المنقطة الرملية هو الذي جعلها تشبه حلوان مناخا.
ظهور السلحفاة
يشاهد المسافر من القاهرة إلى الإسكندرية بعد عبوره لجسر بنها وعلى مسيرة خمسة أميال من بنها عدة بقع رملية تنتشر حول مدينة قويسنا شمالا وجنوبا وشرقا، تلك البقع أطلق عليها هيوم اسم ظهور السحلفاة، وهي بقع فريدة في بابها وغريبة في وجودها؛ إذ أنها هي البقع الرملية الوحيدة الموجودة في الدلتا باستثناء منطقة فاقوس.
ويطلق عليها الأهالي اسم جبل، وهذا ليس من الحقيقة في شيء؛ ولكن ندرة رؤيتهم للجبال وللبحار هي التي جعلتهم يتحدثون عن بحر النيل وبحر شبين وجبل بوغوص وجبل قويسنا وغيرها. ذلك أن هذه الجبال لا يزيد ارتفاعها في أعلى جهاتها عن سطح الأرض المجاورة بعشرة أمتار، وهي بهذا ليست جبالا بل ولا تلالا.
وقد حاول الجغرافيون تعليل وجود هذه البقع الرملية في تلك المنطقة واختلفت آراؤهم:
ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه (الجبال) كانت جزائر رملية في وسط الخليج الذي تتكون منه الدلتا، فلما ردم النهر بطميه ورواسبه هذا الخليج وكون الدلتا بقيت هذه المرتفعات بعيدة عن أن تغطيها رواسب النهر وظلت قائمة بشكلها الحالي، ويؤيد هذا الرأي عدم وجود أية قواقع بحرية في تلم المنطقة. وأنا أعتقد أن هذا هو أسلم الآراء.
وهناك رأي آخر يذهب إلى أن هذه البقع الرملية هي من عمل النهر، وأن النهر قد قذف بهذه الرمال في أثناء موجة شبابه الأول وتركها في مكانها الحالي.(997/16)
هذه هي أهم الآراء، ولعل من الخير أن أحاول وصف هذه البقع. وهي تتكون من أربعة أجزاء أو (جبال):
1: جبل قويسنا
وتوجد مدينة قويسنا في شماله ويمتد جنوبا إلى بلدة كفر السيخ إبراهيم وتبلغ مساحته 495 فدانا. وتمتاز رماله بحسن صلاحيتها للاستخدام في البناء، ومن هنا أخذت يد الإنسان تعتدي على تلك المنطقة مما يهدد بزوالها.
وفوق ربوة عالية اختارت وزارة الدفاع مكاناً أعدته ليكون معسكرا للقوات المرابطة التي يجند رجالها من أبناء مديريات المنوفية والغربية والقليوبية. ويمتاز هذا المعسكر بحسن موقعه وجودة هوائه واعتدال مناخه لولا قسوة الحر في أيام الصيف نهارا.
2: جبل بوغوص
وهو أكبرها جميعا وأكثرها ارتفاعا ويقع شرق السكة الحديدية ويمتد من منشاة دملو إلى شرانيس إلى كفور الرمل وتبلغ مساحته 1800 فدان.
وقد جاءته هذه التسمية نسبة إلى بوغوص بك وزير التجارة في عهد محمد على الكبير، فقد أخذ بوغوص بك يعمل على استصلاح هذا الجبل وإعداده للزراعة، ولكن ارتفاعه وتعذر وصول مياه النيل إليه وكثرة تكاليف الري الصناعي قد أدت إلى فشل التجربة.
وقد بنيت فوق ربوة عالية دار كبيرة ما تزال قائمة وتعرف بسراي موريس
وقد اشترى هذا الجبل حديثا ملاك وطنيون أخذوا يعملون على استغلاله وأخذوا في بيع رماله ونقلها حتى ينخفض سطحها إلى مستوى الأرض الزراعية فتزرع.
3: جبل أبو طاقية
وبقع في شمال شرق قويسنا بجوار قرية كفر ابنهس ومساحتي 267 فدانا
وقد اشترى جزءا من هذا الجبل رجل فلسطيني وزرعه فواكه فنمت أشجار البرتقال واليوسفي والليمون الحلو والأضاليا. وقد انتقى المالك بذورا ممتازة فجاءت بخير الثمار، وتنتج تلك المزرعة أنواعا ممتازة جدا من البرتقال واليوسفي والمانجو والليمون.
وقد واجهت المالك مشكلة الري ولكنه تغلب عليها. .(997/17)
أولاً: حفر ترعة لتصل مياه النيل إلى الحبل.
ثانياً: أقام آلة لرفع المياه إلى أعلى مستوى في الجبل حتى يمكن ري جميع جهاته في سهولة.
ثالثاً: حفر لكل شجرة حفرة كبيرة ملائها بالطمي والردم والسماء فأتاح بذلك لجذور الشجر أن تجد الغذاء الكافي.
رابعاً: أنشأ مساقي صغيرة أو قنوات من الطوب الأحمر والأسمنت أو من المواسير والغاية من ذلك ألا تضيع المياه في الرمال. وهكذا تغلب على صعوبة الري ونمت الأشجار باسقة وجادت بخير الثمر ونجحت التجربة.
وإلى الذين يدرسون مشروعات زراعة الصحراء أقدم تلك المزرعة كنموذج لزراعة الصحراء فعليهم زيارتها والانتفاع بتلك التجربة.
4: جبل سيدي هلال
ويقع قرب بلدة الرمالي وتعرف تلك المنطقة بمنشاة رزق الله وتبلغ مساحتها 30 فداناً. وقد زال معظمها إذ استهلك الفلاحون الرمال في زراعة القطن.
هذه هي المناطق الرملية بقويسنا، ومن العجيب أنها تخلو تماما من الآثار فليست بها آثار للمصريين القدماء ومن جاء بعدهم.
تل أم خراب:
ويقع بجوار قرية مصطاي من ناحية الجنوب وتبلغ مساحته 105 فدادين. وكان يتكون من تراب كفري ويشبه تل أتريب بينها وتل بسطة بالزقازيق، وهو يكون المنطقة الأثرية الوحيدة في تلك المنطقة، وقد زالت هذه المنطقة إذ استهلك الفلاحون ترابها الكفري ثم وضعوا يدهم على الأرض وزرعوها. وما تزال هناك أحجار أثرية بجوار مقام الست فاطمة أم حرب
وبهذه المنطقة جبانة لليهود ما تزال آثارها موجودة مع أن العناصر اليهودية قد انقرضت منها، وهذا يدل على أن تلك المنطقة كانت من أقدم المناطق التي سكنت الدلتا.
منشاة صبري(997/18)
بلدة جميلة تمتاز بروعة مبانيها وبساطتها وحسن تنسيق شوارعها وتخطيطها، وليس ذلك عجيبا فهي حديثة الإنشاء، ومن ثم خططت تخطيطا هندسيا فجعلت شوارعها واسعة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء مما نشاهده في كثير من الدن القديمة التي تمتلئ بالأزقة الضيقة والحواري الملتوية.
ومنازلها جميلة لكل بيت حديقة، وسر ذلك هو اتساع الأراضي وعدم صلاحيتها (فيما مضى) للزراعة.
ومناخ البلدة جميل حقا؛ فشتاؤها دفئ جاف وصيفها لطيف وليله جميل ساحر وهواؤه عليل طيب. وأمطارها قليلة وهي تسقط شتاء كما يحدث في سائر المناطق الجنوبية من الدلتا.
وقد حبب سكني هذه المدينة إلى الناس جمال مناخها فنمت وترعرعت. ويتمنى كثير من الموظفين أن تنقل عاصمة المنوفية من شبين الكوم إلى قويسنا، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب:
1: إن شبين الكوم مدينة عتيقة يتغير الزمن ولا تتغير، ويتقدم الدهر ولا تتقدم. وهناك قصة مصرية طريفة ملخصها أن مصريا قديما بعث وأحذ معه دليلا ليطوف بالوجه البحري وليشاهد ما أطرأ عليه من تغيرات. وطاف المصري القديم ودليله ببلاد الوجه البحري حتى إذا وصلا إلى شبين الكوم وهم الدليل بتعريفها أجابه المصري القديم: إنني أعرفها: إنها شبين الكوم.
2: سهولة اتصال قويسنا بعاصمتي مصر القاهرة والإسكندرية، فبينها وبين القاهرة ساعة وبينها وبين الإسكندرية ساعتان تقريبا. أما شبين الكوم فهي مدينة قريبة بعيدة، قريبة لأن المسافة بينها وبين القاهرة قصيرة، ولكنها بعيدة لأن القطار يقطع هذه المسافة القصيرة في ثلاث ساعات وهي مدة تكفي لانتقال الإنسان من القاهرة إلى جدة أو أثينا بالطائرة طبعا.
3: جودة مناخ قويسنا واتساع مساحة الأراضي اللازمة للبناء؛ وقد عطف المفغور له جلالة الملك فؤاد على قويسنا؛ فأمر أن يقف بها القطار الملكي أثناء انتقال جلالته من القاهرة إلى الإسكندرية، ومنذ ذلك التاريخ والقطار الملكي يقف في قويسنا ليتشرف مدير المنوفية وأهلها بتقديم التحية إلى الجالس على العرش.
وتحقيقاً لرغبة كريمة أنشاء المرحوم محمد أفندي نصر مسجدا عظيما بجوار محطة السكة(997/19)
الحديدية.
ويبلغ عدد سكان مدينة قزيسنا عشرين ألفا، وتحيط بها منطقة زراعية من أجود أراضي المنوفية.
وقد قامت قويسنا دائما بنصيبها الكامل في الحركات الوطنية، وكانت القوات الإنجليزية تعسكر في جبل بوغوص 1919 ولكن الأهالي قاوموها وتعرضوا لكثير من البلاء، ولكن الله أنقذ المنطقة منهم، فبفضل جهودهم وتعريضهم تلك القوات للخطر رحلت تلك القوات وطهرت البلاد.
ويطيب لي أن أذكر أن سعادة محمود فوزي ممثل مصر لدى هيئة الأمم المتحدة ومستشارها السياسي والرجل الذي يعرف دقائق قضية مصر والسياسة العالمية من أبناء قويسنا.
أبو الفتوح عطيفة(997/20)
ما غرض التربية في مدارسنا؟
للأستاذ إيليا حليم حنا
لكل أمة طابع وغرض من التربية. فما هو طابعنا الحالي؟ وما الغرض العام المرسوم للتربية عندنا؟ الحقيقة لا طابع ولا غرض لنا إلا إعداد أطفالنا وشبابنا للامتحانات لينجحوا ويحصلوا على الشهادة التي تمكنهم من النزول في معترك الحياة ليرتزقوا ويعيشوا. هذه غاية التربية في مدارسنا، وقد مضى هذا الهدف على كثير من شبابنا المتعلم أن يموت فكريا لأنه لا يتابع سير تفكيره بعد أن يتخرج في معهده أو مدرسته. ونجد أن أصحاب المهن الفنية من شبابنا المثقف يعيشون بما يتعلمونه لا يسايرون الزمن في فنهم، ولا ينتجون شيئا جديدا في ميدان الخلق والابتكار. إننا في حاجة إلى نوع العلم الذي يتيح للمواهب الفردية أن تنمو تبعا لطبيعتها، ويكفل لكل طفل الأحوال التي تتمكن فيها فرديته من النمو إلى أكمل حد مستطاع ونزوده مع ذلك بالثقافة التي تجعله منسجما مع المجتمع. يجب أن نقلب سياسة التربية الحالية رأسا على عقب، ونوقف نظام صب القوالب وحشو الرءوس. إننا الآن لا نراعي الفروق الفردية والميول المختلفة؛ بل نصب أطفال الفرقة كلها في قالب واحد.
لقد بدت في الأيام الأخيرة ظاهرة يجب أن يهتم بها رجال التربية أشد الاهتمام، وهي تفشي داء الغش بين الطلبة والطالبات في جميع مراحل التعليم والسبب الأول لهذا الداء الخلقي الوبيل هو أن ما يتعلمه الفرد عندنا لا يناسب الميول والقوى الكامنة، وأن الهدف الذي يهدف إليه المتعلم هو الشهادة وليس العلم لذاته، وفي هذا أكبر دلالة على أن مناهجنا الحالية فاشلة في توجيه أبنائنا نحو حياة اجتماعية خلقية شاملة وشخصية متكاملة.
وهناك ظاهرة أخرى هي كراهية الشباب لمعاهد التعليم، وللقراءة بعد التخرج. ذلك أيضاً لأننا لا نراعي ميولهم التي هي النواة الحية ونقطة الابتداء والأساس لتربيتهم في مراحل التعليم المختلفة. إن كل اهتمامنا موجه إلى ملء الإناء الفارغ إننا نملأ الرءوس استعدادا للامتحان؛ المدرس يجاهد لإدخال المعلومات؛ والطالب يكافح لإتقانها حتى يفرغها على ورقة الامتحان ويخرج وقد شعر براحة لأنه قد تخلص مع عبئه الثقيل. وقراءة سطرين في كتاب بعد تخرجه تجعله يشعر بالسأم والملل، وهو إن أراد أن يقضي على أرقه في(997/21)
إحدى الليالي فعلاجه يسير وهو قراءة بضعة أسطر في كتاب. إننا نحن الذين غرسنا في نفسه الكراهية للعلم، وقضينا عليه ألا يتابع التطور الفكري ويتخلف عن قافلة الزمن؛ هذا بجانب النسيان الذي يقضي على معلوماته المكروهة وهو يفزعه ولا يهمه أن ينسى كل ما درسه. أليست معه الشهادة تلك الوثيقة الرسمية من الدولة؟ ماذا يهمه حتى لو أنه أصبح أميا!
إننا في حاجة إلى سياسة محدودة مدروسة في المراحل التعليمية المختلفة لنصل إلى الهدف التربوي الصحيح؛ ونقضي على الركود الفكري والأمية الفاشية بين كثير من المعلمين منا. ففي مراحل التعليم العام يجب أن نراعي وضع البرامج التي تمكن كل فرد من أن ينمي ما تنطوي عليه نفسه، وأن نجعل المدرسة صورة مصغرة للمجتمع الكبير حتى يتدرب النشء على الحياة نفسها. . . فالتربية ليست إعدادا للحياة بل هي الحياة نفسها.
أما الجامعات في كل أقطار العالم الراقية فهي معاهد للبحث تخرج العلماء في الفنون المختلفة ينزلون إلى الحياة وقد تدربوا على الأسلوب العلمي؛ يمنحون الإجازات الدراسية ليبدءوا حياة البحث والاستزادة. . مستقلين معتمدين على أنفسهم يستخرجون الحقائق الجديدة من المبادئ التي درسوها وبحثوها. أما إن جعلناها معاهد للدرس لنيل الشهادة ليحصل المتعلم على درجة ممتازة في كادر الموظفين فقد قبرنا مواهب شبابنا، وأقصيناه عن ميادين العلم والفن وجعلنا منه آلة متحركة وعبدا للوظيفة، وحرمنا مصر من نبوغ كامن كل ما يمكن استغلاله في اختراع والاستكشاف وكل ما يتصل بقوى الفكر. وإذا قضى على الناحية الإبداعية في التفكير فإن الأمة تصبح جامدة متخلفة ذات رتابة مملة وشخصية مطموسة.
جميل حقا أن نهتم بزيادة عدد المتعلمين وتيسر التعليم للجميع وأجمل من ذلك أن نهتم بنوع العلم الذي نقدمه. لقد أوليت لكم ما فيه الكفاية وبقى أن نولي الكيف عناية أشد.
إن هدف الأمم الديمقراطية في التربية هو تدريب النش على أن يفكر بنفسه لنفسه بتنمية قواه العقلية والنفسية والخلقية وتغذية ميوله الكامنة، وإعداد أصحاب النبوغ والعقليات والملكات الممتازة ليكونوا علماء الأمة وروادها في مختلف فنون الحياة. لذا أقول لا فائدة من وضعنا سياسة تعليمية نسير بها العلم وننشره ما لم نتجه نحو قيم جديدة نصل إليها(997/22)
بالأساليب التربوية الصحيحة التي تجعل النفس تبسط وتعبر عن كيانها؛ لا عما تخزنه الحافظة محنطا دون روح ولا انسجام.
إيليا حليم حنا(997/23)
روح الإنسانية يقرع باب الإسلام
لمولانا محمد علي
للأستاذ على محمد سرطاوي
تمهيد:
هذا المقال القيم كتبه الزعيم الإسلامي العظيم مولانا محمد علي - الذي يدلف الآن إلى السنة السبعين من عمره المجيد الذي قضاه في خدمة الإسلام - منذ أيام في مدينة لاهور ونشرته مجلة (ليت) الإسلامية في عددها الصادر في اليوم الأول من أيار 1951 باللغة الإنجليزية.
لقد تفضلت الرسالة فنشرت في أعدادها 929، 930، 931 قصة جهاد الحاج خواجة كمال الدين تحت راية الإسلام في الشرق والغرب، ولكن قصة ذلك الجهاد لا تكون تامة إلا إذا قرن بها جهاد مولانا محمد علي الذي سنقدمه للقراء في بحث مفصل حين تصل إلينا من لاهور المعلومات التي طلبتها عن طريق الصديق الباكستاني المسلم الغيور السيد تصدق حسين القادري الذي يبذل من ماله وراحته الشيء الكثير في صمت المؤمنين لخدمة الدين الحنيف في عاصمة الرشيد. وأنا حين أنوه باسمه على صفحات الرسالة الغراء لا أكشف عن جندي مجهول من جنود الإسلام فحسب؛ وإنما أعطي صورة دقيقة عن شعور كل مسلم باكستاني تحت الشمس نحو الإسلام؛ فلقد طلب إلى أن يطبع على نفقته كتاب مولانا محمد علي المشهور (نبي الإسلام) إذا أنا أقدمت على ترجمته إلى اللغة العربية حتى يكون لي نصف ثواب العمل، فوعدته بذلك مغتبطا بعمل من هذا النوع.
ولكن انتظار ذلك المقال المفصل لا يمنع من ذكر ملخص لحياة مولانا محمد علي. فلقد ولد عام 1874 في قرية (مرار) في إمارة (كبورتلا) من مقاطعة البنجاب من عائلة متوسطة، ودرس في القرية مبادئ القرآن وقواعد اللغتين الفارسية والأردية. ثم دخل معهد الإرسالية في لاهور فقضى فيه سبع سنوات وأتقن اللغتين الإنجليزية والأردية، ودخل بعد هذا النجاح جامعة الدولة في لاهور وحصل على شهادتين عاليتين. وفي هذه الجامعة ظهرت اتجاهاته الدينية. وقد رغب في ممارسة المحاماة عام 1897، ولكنه بدلا من ذلك رأس(997/24)
تحرير المجلة الإسلامية المسماة (ريفيو أورلجن) التي كانت تصدر بالإنجليزية وبقي في هذا العمل حتى 1914. وبدأ بترجمة معاني القرآن الكريم عام 1908. وفي عام 1914 رأس الفرقة الأحمدية التي انشقت على القاديانية وجعل مقرها مدينة لاهور. ولقد كان صديقا حميما لمحمد علي جناح مؤسس الدولة الباكستانية العظيمة، يستشيره في كل الأمور التي لها مساس بالأمور الدينية، وله مؤلفات باللغة الإنجليزية كثيرة سأذكر معظمها.
ولسنا نجني على الحقيقة حين نزعم أننا نحن العرب المسلمين قد قصرنا في واجب الدعاية للإسلام والتمكين له في بقاع الأرض كما صنع المسلمون في الباكستان.
والأزهر على جلال قده وعلو مكانته في الحياة الإسلامية لم يساهم مساهمة فعلية في الدعاية للإسلام في مدة قرون عشرة من عمره السعيد.
واللغات الحية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية لم يكن لها نصيب في مناهج الأزهر لإتقانها إتقانا واسعا للدعاية للإسلام عن طريقها بين الشعوب التي تتكلمها بالكتب والخطب والمجلات على طريقة الدعاة الإسلامية في الباكستان.
ولم ينحصر تقصيرنا في الناحية الدينية معاشر العرب؛ وإنما تجاوزها إلى النواحي الأدبية والسياسية: فلقد امتلأت المطابع في البلاد العربية بالصحف السياسية والمجلات الأدبية. ولكن أحدا لم يفكر في تأسيس صحيفة سياسية قوية باللغة الإنجليزية يتولى العرب أنفسهم الإشراف عليها مباشرة للدعاية للقضايا السياسية التي لا يعرف عنها الذين من إلا سمات مشوهة المعالم. حتى لم تكر جامعة الدول العربية في إنشاء صحيفة من هذا النوع.
فنحن أحوج ما نكون إلى مجلات أدبية وصحف سياسية تصدر باللغات الأجنبية للدعاية إلى آدابنا ومشاكلنا التي لا تزال تفهم فمها مشوها والتي يشوهما خصومنا كما يشاءون في الرأي العام الدولي كما اقتضت مصالحهم ذلك التشويه.
ويقتضيني الاعتراف بالجميل أن أنوه بفضل الدكتور صفاء خلوصي أستاذ المشرقيات بجامعة لندن بما كان يكتب عن الأدب العربي باللغة الإنجليزية في مجلة (إسلامك ريفيو) من بحوث رائعة كان يتجلى فيها ذوقه الأدبي الرفيع وأسلوبه الفاتن في اللغة الانجليزية؛ ونحن نرجو من الدكتور الملهم أن لا يقصر بحوثه الرائعة على آداب العراق في المستقبل.
ونحن نرجو أن لا يبعد ذلك الوقت الذي نشاهد فيه كل قطر عربي صحيفة سياسية ومجلة(997/25)
أدبية تصدران بالإنجليزية وتبثان الدعاية لأدبنا وقضايانا. في الوقت الذي جعلت المواصلات الحديثة العالم بأسره بقعة واحدة وأرغمت البشر على التلاقي في صعيد واحد للتفاهم والتآلف في أجواء قد يسودها الحب والوئام إذا أشرق عليها نور الإسلام في داعية مركزة وقوية تقوم عليها قلوب مؤمنة بما في الإسلام من خير للإنسانية.
قال مولانا محمد علي:
تمد الإنسانية المعذبة في مشارق الأرض ومغاربها أكف الضراعة، مستنجدة بمن ينقذها من التردي في الهاوية السحيقة التي تنحدر إلى قرارتها في سرعة جنونية. فالاعتقاد بأن التقدم المادي غير المحدود، والسيطرة على الطبيعة بالشكل الذي لم يتوقعه الإنسان سيوصلان الإنسانية إلى السعادة والطمأنينة، قد قضت عليه حوادث السنين السابقة، وأضحت الإنسانية تشعر بفراغ هائل لا تستطيع ملئه غير مبادئ دين صحيح. لسنا ننكر أن التقدم المادي قد عاد على الإنسان بفوائد مادية على مقياس واسع؛ ولكنه في الوقت نفسه قد سلبه الشيء الكثير الذي يمكن أن يوصل السعادة الحقيقة إليه، وحرمه من السكينة وراحة الضمير. إن الإنسانية تتلمس طريقها في الظلام الحالك إلى الطمأنينة التي لا يوصلها إليها غير الإيمان بالله؛ والنظام الذي يسير عليه العالم بأسره. في حاجة ماسة إلى أن يقوم صرحه الشامخ على أسس متينة من الإيمان بالله ووحدة الإنساية، ولا يملك مثل هذا الأساس المتين لتثبيت صرح الإنسانية غير الإسلام
إننا نسمع هذا الصوت مدويا من ديار الغرب هاتفا: (لا يمكن لأوروبا. وهي في سبيل التحليق بحياتها العقلية في الآفاق النائية إلا الاستعانة فما في المجتمع الإسلامي من قوة وأجنحة جبارة تعين على ذلك التحليق البعيد)
ولعلها تنبعث إذ ذاك بين شعوب الشرق قوة جديدة تشيع الحياة في الإسلام، وربما حولته إلى اتجاه جديد إذا استمرت أوربا مندفعة وراء جنونها المادي. وأي إنسان ينكر الاحتمالات التي قد يتمخض عنها تطور من هذا النوع حين يرى على سبيل المثال ما قامت به الجمعية الأحمدية، بما تملك حركتها من قوة أخلاقية وعاطفية دينية عميقة، من النتائج البعيدة المدى في نشر الدعوة للإسلام في المواطن البعيدة عن البلدان التي أشرق نوره عليها.(997/26)
إن الغرب متعطش إلى مبادئ الدين الإسلامي، والمسلمون يتطلب منهم الإخلاص لدينهم الحنيف أن يشمرا عن ساعد الجد ويخرجوا من عزلة الضعفاء، ويقدموا للغرب ما هو في أشد الحاجة إليه من غذاء روحي. ولقد خطت الجمعية الإسلامية في لاهور بالباكستان الخطوة الأولى في هذا السبيل حين أسست الإرساليات الإسلامية في أوربا وأمريكا وفي أقطار الدنيا الأخرى منذ زمن بعيد. وهي بالإضافة إلى ذلك ذد أصدرت سلسلة من الكتب الإسلامية باللغة الإنجليزية بكثرة واستعداد وإتقان لم يسبق لها مثيل، ثم راحت تترجم هذه الكتب إلى لغات العالم المختلفة بعد أن بثت فيها مبادئ الإسلام وروح الإسلام ونبي الإسلام. . بأبرع ما يكون العرض؛ وبأصدق ما يكون العربي ولعل من تمام الفائدة أن نشير إلى هذا الجهد الجبار بشيء قليل من التفصيل:
1) لقد تأسست الإرساليات الإسلاميات لبث الدين الحنيف في وكنج بإنجليزية. . وبرلين بألمانيا. . وهوج في هولندا. . وسان فرنسكو في الولايات المتحدة؛ وإلى جانب هذه المراكز الكبيرة أنشئت مراكز أخرى للغاية نفسها في نيجيريا. . وغانا الهولندية، وغانة البريطانية؛ ونرننداد؛ وإندونيسيا، وسيام وبورما، وأماكن متعددة أخرى في بلاد الهند
2) لقد تم إنشاء مسجد فخم في برلين
3) ترجمت معاني القرآن الكريم إلى تسع لغات؛ نشرت منها فيما سبق ترجمات بالإنجليزية، والألمانية، والهولندية، والأوردية وتمت ترجمته أيضا إلى خمس لغات أخرى هي التميلية، والسندهية، والجرموخية، والخاسية، والجافية، وقد تمت هذه الترجمات وأصبحت معجة للطبع الآن. وتقوم اللجان الأخرى بترجمة معاني القرآن إلى البنغالية؛ والسيامية، والبرمية؛ والهندية، والفرنسية
4) لقد وزعت من ترجمة القرآن بالإنجليزية أكثر من ستة آلاف نسخة مجانا، وبلغ مجموع النسخ الموزعة أربعين ألفا. وتتخذ العدة الآن لطبع عشرين ألف نسخة جديدة
5) ولقد ترجمت حياة الرسول ونشرت في سبع عشرة لغة من لغات العالم، كالإنجليزية؛ والألمانية، والعربية؛ والألبانية. . ووزعت مجانا أكثر من عشرين ألف نسخة.
6) ويعتبر كتاب (الدين الإسلامي) الذي ألف بالإنجليزية دائرة معارف بذل في تأليفه جهد كبير؛ وهو يتحدث عن مصادر الإسلام ومبادئه العملية، وتعاليمه. وقد تم نشره في لغات(997/27)
ثلاث هي: الإنجليزية، والهولندية؛ والتركية. . وهو ينقل الآن إلى اللغة العربية.
7) ومجلة (ليت) الإسلامية الأسبوعية التي تصدر بالإنجليزية في لاهور ويشرف على تحريرها أفراب الدين أحمد؛ تقوم بعمل جبار في نشر مبادئ الدين في أنحاء الدنيا التي يتكلم الناس فيها الإنجليزية. . وهي تطفح كل أسبوع بالمواضيع الإسلامية الرائعة ويشترك في تحريرها فطاحل الكتاب.
8) ونشرت كتب أخرى متعددة عن نواحي الإسلام في ثلاثين لغة من لغات البشر.
9) تنشر رسالة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بين الأمم والأفراد عن طريق إرسال الكتب الإسلامية مجانا إلى أكثر من خمسة آلاف مكتبة في العالم من مجموعة الكتب التالية:
أ) ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية مع التعليقات المطولة على الآيات الكريمة
ب) الديانة الإسلامية
ج) مختصر الأحداث النبوية
د) محمد رسول الله
هـ) الخلافة الأولى
و) نظام العالم الجديد
ز) الأفكار الخالدة للنبي محمد
ح) تعاليم الإسلام
10) توزيع كتب مجانية عن نواحي الإسلام المختلفة في عدة لغات بكميات هائلة، وهي ترسل مجانا لكل من يرى في نفسه القدرة على توزيعها
11) تأسيس ثلاث مدارس عليا للدراسات الإسلامية
12) إن الموازنة السنوية للدعاية الإسلامية تزيد على عشرة ملايين روبية أي ما يساوي أكثر من مائة أف جنيه إسترليني. وتبلغ ممتلكات الجمعية الإسلامية الأحمدية في لاهور أكثر من خمسين مليونا من الروبيات.
وتغتبط هذه الجمعية بقبول التبرعات من جميع المسلمين الذين يسرهم أن يروا نور الإسلام مشرقا في ظلام الدنيا، فالزكاة والربح الذي تدفعه المصارف على الأموال الودعة(997/28)
لديها، والصدقات الأخرى. . هي موارد إسلامية ينبغي أن تصرف لهدف عظيم من هذا النوع يخدم مبادئ الإسلام. والذين تهزهم الأريحية ويجدون لديهم الرغبة في إرسال شيء، فليوجهوا مشكورين ما يرسلون إلى أمين سر الجمعية الإسلامية الأحمدية في لاهور بالباكستان
بغداد - أعظميه
علي محمد سرطاوي(997/29)
الأدب واللغة من الكائنات الحية
للأديب محمد عثمان الصمدي
ينهض الأدب واللغة تبعا لنهوض الدولة وامتداد سلطانها، ويقوى ساعداهما بالقياس إلى قوة ساعد الدولة أيضا. هكذا يقول بعض الباحثين إلى قوة ساعد الدولة أيضا. هكذا يقول بعض الباحثين ومؤرخي الآداب والفنون. وقد يكون هذا أو بعضه حقا؛ ولكن من الحق أيضا أن ليس الأمر مقصورا على اللغة أو الأدب أو الفن، وإنما هو ينسحب على سائر مرافق الدولة، وعناصر الحياة فيها، وكل ما من شأنه أن يكون من مقوماتها. ولكنها تختلف ويسبق بعضها بعضا إلى الوجود بحسب الحاجة إليها، والباعث عليها، وبحسب ما يكتنفها من صعاب وعقاب. وأخيرا بحسب قدرة الدولة على الخلق والإيجاد، أو البعث والإحياء. وإنما كان الأدب أسبقها جميعا إلى النمو والازدهار لأنه وليد الفطرة لا يحتاج إليه سائر العناصر والمرافق والمقومات. . ولأمر ما أجاد الجاهليون الشعر
وقد عجب بعض الباحاث من العربية حين قويت وشاتد ساعدها في مدى العصر العباسي كله؛ لأنها لم تأبه لما منيت به الدولة من تدهور سياسي في القرن الرابع الهجري. ثم عللوا ذلك بأن الفاتحين لم تكن لهم لغة جديرة بالإحياء. ولأنهم كانوا يتخذون الشعر دعاية لدوهم الناشئة. ولأنهم مع هذا كان لهم تمكن في الأدب ومشاركة في فنونه)
ولعل هذا أو بعضه أن يكون حقا. ولكن يجدر بنا أن نلاحظ مع أن هذا أن الأدب كائن حي كسائر الكائنات الحية. فمنذ أن نمته الدولة بعد الجاهلية، واصبح بتلقي المؤثرات التي جاءت نتيجة للصراع السياسي وما إليه، صار له من الأغراض والأهداف ما لم يكن له من قبل. وما هي إلا أن اتسعت هذه الأغراض وامتدت على مدى الأيام. وأصبح كثير من الشعراء يطرقونها لا لشيء إلا أنها موضع للإجادة والتفوق والتبريز.
وبعبارة أخرى أصبحت ضرورة فنية دون أن يكون لها من الحياة ما يوحي بها أو يحمل عليها. وإنما يوحي بها ما سبقها من آثار جاءت في أول الأمر نتيجة لمؤثرات الحياة الواقعة، وما تتمخض عنه من أحداث. ثم أصبحت هذه الآثار تؤثر بدورها كالحياة الواقعة في الشعراء وأرباب البيان. ومن ثم فقد صار للأدب حياة قادرة على أن توحي وتلهم، وعلة أن تمس النفوس فتفجرها أرحه واهتزازا وطربا، وعلى أن تأخذ بالعقول إلى حيث(997/30)
تفكر وتقدر. وقليل أولئك الذين يفرضون أنفسهم وأدبهم عليها وعلى الأدب فرضا. وهم مع ذلك لا يكاد يخلو الأمر من أن يكونوا متأثرين تارة ومؤثرين أخرى. وإلى هذا فإن حياة الأدب ككل حياة يختلف عليها ما يختلف على سائر الكائنات الحية من قوة وضعف وتطور في الغرض والوسيلة والاتجاه. إلى غير ذلك من ملابسة الزمن ومخالطة الحضارة التي يستمد الأدب جدته منها، والتي تسمه آخر الأمر بميسمها في اللفظ والمعنى والهدف والأداء. وإذا جاز لنا أن نشبه الأدب بالإنسان قلنا إن يلابس الأدوار التي يلابسها الإنسان من طفولة فصبا فشباب فكهولة فشيخوخة فموت. ولسنا نريد أن نقول إن الأدب عابث لاغ في طفولته كالطفل. أو أنه قوي طاغ في شبيبته كالشباب وإنما نريد أن نقول إن الأدب كائن حي نام يحمل في أدوار نموه عناصر الموت والفناء. وقد تطول أو تنصب إحدى هذه المراحل أو كلها مجتمعة بالنسبة إلى عوامل حضارية وأخرى ثقافية واجتماعية، وإن كان لا تخلو كل مرحلة من آحاد يعيشون بأذواقهم وعقولهم في بيئات سلفية أو مستقبلية. ففي عهد الطفولة تظهر الفطرة بجميع مميزاتها من حسنات وسيئات لا تكاد ترتفع ببصرها إلى السماء ولا تهبط إلى الأغوار، وإنه تتخذ ما يحيط بها من الحيوان ونبات وجماد موضوعا للقول وأداة للتمثيل والتخيل. وهي لا تنزع إلى غايات اجتماعية أو إنسانية. ولا يعود بصرها إذا امتد شؤون القبيلة وما هو من ذلك بسبيل. تؤثر الكلام والوفاء؛ وتأنف أن تتقيد بشيء إلى ما يقيد به نفسه الرج الحر. وأنت لا ترى عندها فرقا كبير بين الإباء والجماح. أو بين الكرم والتضحية. أو بين الوفاء والفداء. أو بين الشجاعة ووالتهور. أو بين الصراحة والغلظة والفظاظة. وبالتالي فهي تتسم بالصدق ودقة الملاحظة وحرارة الإحساس ومعاطفة اللغة عطافا قلما نشعر بمثله نحن الآن. وهي تحن حنينا قويا إلى تحقيق قول القائل
أطيب الطيبات قتل الأعادي ... واختيال على متون الجياد
ورسول يأتي بوعد حبيب ... وحبيب يأتي بلا ميعاد
ثم إن شعر الرثاء فيها لا نكاد نجد له مثيلا في الصدق والحرارة في سائر المراحل والعهود التي تليها جميعا. وهي جامدة لا تكاد تتطور إلا بحدث يهزها هزا عنيفا، وينال منها ومن تقاليدها وعرفها نيلا شديدا. ولكنها تاقومه أحيانا وتذعن له حينا. يظهر ذلك في حياة الأدب(997/31)
عامة. وفي حياة المعنيين بالإذعان والمقاومة على وجه خاص. ومن ثم فقد ظفرت حياة الأدب بشيء من التطور والانتقام ووسعت أغراضا جديدة، وأحيت مثليات قديمة. وأصبحت في صبا غض تتفتح فيه المتدارك وتتهيأ لما عسى أن يتكشف عنه عهد الشباب من دوافع البعث والإيقاظ. وإذن فقد صار لها امتداد مكفول يأتيها من نفسهتا حينا، ومما حولها حينا آخر. ونحن حين ننظر إلى عهود الخلفاء الراشدين بحسبانها امتداداً لعهد النبوة. كذلك نرى الأدب في ظلها امتدادا لذلك العهد أيضا. ولا نكاد ندع هذه العهود إلى عصر بني أمية حتى يدخل الأدب مرحلة الشباب من حياته. وهنا يقوى حقا قوة لم نر ما يقرب منها في سائر المراحل والعهود. وإن لم يسع من الأغراض ما وسعه في العصر العباسي بعهديه أوله وثانيه. فالسلائق كعهدها من قبل غنائية لم تتعقد بضروب الثقافات، ولم تصبح رواسب عقلية كما سنرى فيما بعد. ولكنها تصدر عن تلك النفس العربية السمحة الكريمة، نازعة إلى مثل عليا هي جماع الخلال الرفيعة للعربي في الحب والأدب والسياسة والاجتماع.
أما اللغة فقد نالها غير قليل نمن التطور والصقل والمرونة. ذلك لأن العربي في عهود اللغة الأولى كان يحس في اللفظة الواحدة شحنة عاطفية وجدانية. وكانت صوتية اللغة تصور له المدلولات تصويراً ليس إلى مثله من سبيل في زمننا هذا إلا بالجمل الفضفاضة والعبارات، فلو أن عربيا رأى حية ولم يكن عرف اسمها من قبل، ثم ذكرت له لفظة الأفعوان وهو جاهل بها أيضا لو ثبت إلى ذهنه صورة الحية التي كان قد رآها منق بل فيما رأى. فإن في لفظ الأفعوان وهو يتلوى ويمتد في النطق لدليل على ما يمتاز به من خصائص ومميزات. ولو ذهبنا نفترض أن قبيلة من قبائل العرب كانت تدعو حنشاً، وأخرى كانت تدعوه (الأرقم). ثم عرض لفظ الحنش للأخرى فلا تلبث أن تدرك على نحو ما يراد بهذا اللفظ من مدلول. ذلك لأنه مصور لخصائص عديدة فيه. فاللفظ في جملته مصور له وهو ممدود على النحو المعروف. أما الحاء فهي منه بمثابة الرأس. وأما النون تفيدنا دقة جسمه بحركتها المفتوحة وهي خارجة في النطق مع أخويها الحاس والشين هوائية هكذا. وكذلك الشين فهي ربما أعطتنا مغازلة الشمس لجلده وهو يتألق ومضا ولمعانا
للكلام بقية(997/32)
محمد عثمان الصمدي(997/33)
رسالة الشعر
الشاعر
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
شف روحاً وراق فيض جنان ... وارتوى من منابع الرحمن!
أطلق الله روحه فنجلى ... شاعرا واستوى نبي معان!!
وتلك أيضا تهدي كأختها قصيدة شقيق الروح الأستاذ الملهم الشاعر أنور العطار. . على مهذب الروح، ومثقف العقل. . من كان له فضل تقدير ينابيع نفسي. .
أستاذي الجليل (الزيات) حسين
شف روحاً وراق فيض جنان ... وارتوى من منابع الرحمن
زخرت مقلتاه بالنور وال ... ظل ففاضت من ناظريه المعاني
غمرته الحياة. . . فهو حياة ... ورعاه النشيد فهو أغان
في حساب الزمان سار خلوداً ... ويعرف المكان فوق المكان
جمع العالم الوسيع بروح ... يسع الكون في شفيف كيان!
كان معنى في خاطر الأكوان ... يتهادى رؤى وراء الزمان
أطلق الله روحه فتجلى ... شاعراً واستوى نبي معان!
ياله شاعراً يكاد من الف ... ن يذيب الفؤاد في الألحان
رجع حناته ترانيم خلد ... وصدى قلبه نشيد حنان
الخيالات بين جنبيه نشوى ... من رحيق مقدس روحاني
تترسلن أغنيات بقلب ... عبقري الإغفاء والثوران
ملهم ظامئ المشاعر لهفا ... ن لخمر الحياة في كل آن
فاض من حوله الخيال وشاع ال ... فن. . . يا للمغرد الفنان
أيها الشاعر المفيض على الكو ... ن من روحه فيوض البيان
إنما أنت ما هم عبقري ... دينه الفن جل في الأديان!
رب شعر مقدس روحاني ... من فؤاد مقدس ريان
ومعان تنساب إثر معان ... حيوات مفجرات الحنان(997/34)
طهرت لحنها أكف قدا ... سات ففاض القيثار بالإيمان
أنبياء الفنون إشراقة الله ... بأرض السراب والبهتان
نبضة الطهر في حنايا وجود ... دنسته غرائز الإنسان
يا بني الترب. . . إن روحنا من الخل ... د تجلى بشعره النتوراني
لاح في جدبكم ربيع قلوب ... وسرى بينكم بشير أمان
شاعراً ينبض الخيال بكفي ... هـ كنبض القلوب في الأبدان
ساخراً يقهر الحياة بروح ... سخرت من صلالة الطغيان
خالقاً للجمال في كل آن ... عابداً للجمال في كل آن
ملهما يعبد الحقيقة في الكو ... ن ويطوي متاهة الأزمان
كلما شاقه فراق ربيع ... سبق العمر للربيع الثاني
يا له شاعراً يحدثه الفج ... ر حديث المتيم والولهان
وحفيف الأنسام قبل عطفي ... هـ ففاضت نسائم الوجدان!
وطيوف الوجود أوحت إليه ... كل سر جرى وراء العيان
إنه الشعر كالغواني جمالا ... هل رأيت القصيد مثل الغواني
كل بيت حسناء أبدعها الله ... بحسن يسمو على الإحسان
فتن كالسنا الأغر محلاة ... بإشراقة من الألوان
يدفق الشعر من براعم نحواها ... ويفتر عن معان حسان
ما تراها كأن خفق صداها ... همسات التحنان للتحنان
تملك الروح آسرات وتشتق ... طريق الإلهام للفنان
دفقات من المشاعر تنساب خيالا منغم الأوزان
سلست منطقا وراقت رويا ... واستوت صورة وصدق بيان
إن ألفاظها تشف عن المع ... نى كما شفت القلوب الحواني
فهي روح من روحه قد تسامت ... عن قيود الإيهام والإدجان
وضحت كالندى وقد قبل الزه ... ر بفجر معطر نديان
يا ضمير الوجود ما أنا إلا ... شاعر هائم وراء المعاني(997/35)
لي قلب أرق من نسمة الفج ... ر وأصفى من عطرها الريان
أعبد الفن في الحياة وأحيا ... عابداً للجمال في كل آن
كلما شاقني فراق ربيع ... أسبق العمر للربيع الثاني
حسين محمود البشبيشي(997/36)
رسالة النقد
مناقشة هادئة مع الأستاذ الناعوري
القيم الفنية في الشعر المتطلق
للأستاذ سليم غاوي عبد الجبار
أصدر الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ديوانه الأول (أزهار ذابلة) عام 1948، وقد تفردت قصيدة (هل كان حبا) من بين قصائد الديوان بطريقتها التعبيرية الجديدة، هذه الطريقة التي آن للشعر العربي أن يدركها. وبعد صدور الديوان استرسل بدر في نظم قصائده، وفقا لطريقته الحميدة، وقد جمعها فيما بعد في ديوانه الثاني (أساطير)
وقرأت الشاعرة العراقية المبدعة نازك الملائكة، هذه القصائد، - كما قرأها آخرون يهمنا منهم الآن صالح جواد الطعمة - فصادفت عندها قبولا ومن ثم حاولت مجاراة الشاعر - في موسيقاه - فنظمت أغلب قصائد ديوانها الثاني - شظايا ورماد - وهي تتأثر خطي بدر. وفعل صالح كذلك، فنظم بعض قصائد (ظلام الغيوم - و - والربيع المحتصر) على هذا المنوال
وقد كتب بدر، ونازك، عن هذه الطريقة، أما بدر فقد اكتفى بإشارة تهدي السارين، ولم سهب. وأما ناظك فقد أفاضت بالكلام. . . ولكن عن القيم (العروضية) فقط، مما يدلنا، دلالة واضحة، على أنها لم تفطن للقيم الأخرى ولم تتحسس بها، وليست ملومة على ذلك، فلا يطلب من الشاعر، ما هو من حصة النقاد
ولكن الناقد لم يقصدوا لهذه الطريقة، ولم يدرسوها، دراسة موضوعية شاملة غرضها الأصيل، توضيح القيم، وتثبيتها للآخرين، فمثل هذه الدراسة تحتاج إلى جهد مضن، مما قد يتمهل عن مثله النقاد العجالي
على أن أمامي الآن عددين من أعداد مجلة الأديب البروتية، وفيهما مالات للناقد الأردني الأستاذ عيسى إبراهيم الناعوري، حاول فيهما مثل ذلك الدراسة؛ ولكننا نراهما بعيدين عن الروح العلمية، هذه الروح التي تحتم على كل ذي مقال نقد أن يلتجئ إليها، وإلى الذوق المرهف الحساس، وكان من الطبيعي وقد تناءى الأستاذ عن ذلك، أن يتورط في أخطاء(997/37)
علمية بارزة، وأخطاء ذوقية وعرة، لا يرتضيها الواقع الشعري، ولهذا وددنا أن ننطلق في تثمين هذا الإنتاج، أن نقف قليلا، ونناقشها، مناقشة علمية هادئة، بدون تحيز إلا للعلم، وبدون خضوع إلا للذوق.
قال الأستاذ - وهو بصدد الأسلوب التعبيري الجديد
(ولكنه جاء يشبه النثر بتفعيلاته غير المتجانسة، وغير المنضبطة في نظام موسيقي)
لابد وأن الأستاذ - مع احترامنا الوافر له - لم يقرأ مقدمة شظايا ورماد وإلا لأدرك أن التفعلات ليست متجانسة فقط، وإنما هي (متطابقة)، وأزيد للتوضيح فأقول إنها عبارة عن تفعيلة واحدة مكررة - في كل بيت - عدداً من المرات يتغاير - عدديا - مع البيت الذي يليه أو يسبقه تغايراً يشاؤه الاعر أو بالأحرى كما يتطلبه المعنى، وذلك لأن هذا الشعر يعتمد على (الأبحر الكاملة) المتساوية التفاعيل.
ثم. . . ما الذي يقصد الكاتب بجملته (وغير منضبطة في نظام موسيقي) إذا كان ما يقصده بالنظام الموسيقي هو الطريقة السلفية - الكلاسية - فالشعر الغربي منذ هوميروس وإلى الآن غير منضبط في نظام موسيقي، وهذا ما لم يقله أحد
هذا وقد أحس الشاعر العربي منذ القديم بقساوة هذا النظام - نظام الشطرين المتوازنين - والتفاعيل الثمان - فحاول الانفلات منه، فابتدع المجزوء، والمشطور، والمنهوك، وتوج ابتداعه (بالموشح)، ولم أقرأ مقالا لناقد عربي أو غرب يتهم هذه الفروع الشعرية - وخاصة الموشح - بالخروج على النظام الموسيقي!!
إن النظام الموسيقي للشعر العربي (أو الغربي) لا يحدد يا أستاذ بنظام الشطرين - الأبحر - بقدر ما يحدد بالتفعيلة الواحدة، أو التفعيلتين! راجع أوزان الشعر للدكتور محمد مندور. في الميزان الجديد
ثم يقول الأستاذ في مكان آخر من مقاله الأول (العدد الثالث)
(ولكننا لا نظلم الشاعرة إذا قلنا إن طريقة النظم فيها لم تعرف الرحمة بآذان القراء وأذواقهم الشعرية)
أرأيت - طريقة النظم - وليس نظم الشاعرة، إن الأستاذ هنا (يحابي) الشاعرة - ومعذرة من الصراحي - فلا ينسب الفشل إليها، بل يرجعه إلى (طريقة النظم!) فشأن الأستاذ كشأن(997/38)
ذاك التلميذ الذي تستعصي عليه مسألة رياضية فلا يستطيع حلها، ولا يستطيع اتهام أستاذه بقدرته على التفهيم، فيلقي القلم - مرتاحا - ليقول (إن المسألة مغلوطة!!)
ما ذنب (طريقة النظم) إذا فشل الشاعر في التعبير بواستطها؟ وهب أن قارئا - مثلي - استطاع البرهنة على صلاحية (طريقة النظم) وعدم تخديشها لآذان القراء! وأذواقهم الشعرية، فما يكون موقف (طريقة النظم) آنذاك؟ أتكون تعرف الرحمة ولا تعرف، في آن واحد!
ثم من الذي أخبر الأستاذ بآذان القراء وأذواقهم الشعرية! هل استفتى القراء - والعصر عصر التجريب - أم اعتمد على رأي موثوق بصحته له أثره التوجيهي في تأريخنا النقدي!
ألا يجوز اعتبار تنادي شعراء العراق للتعبير وفقاً لهذه الطريقة دليلا على رحمتها بآذان القراء. والشعراء (وهم من أدق القراء إحساسا) فما إن ابتدع بدر هذه الطريقة حتى تصايح الشعراء العراقيون، ونسجوا أشعارهم على تلك الطريقة؛ أذكر منهم نازك، صالح، بلند الحيدري، عبد الوهاب البياتي، شاذل جاسم طاقه، عبد الرزاق عبد الواحد.
ثم إن الكاتب احترس فحدد تذوق القراء بالنسبة لقصائد ثلاث من قصائد الشاعرة، فما الرأي في القصائد الأخرى المنظومة بنفس (طريقة النظم) لماذا لم يشر الكاتب إلى طريقة النظم فيها؟
إذا ما أراد الأستاذ أن يصدر هذا الرأي - الذي كاد يكون حكماً - من وجهته الذاتية فله كل الحق أن يتحدث عن نفسه، أما أن يشرك آذان القراء وأذواقهم الشعرية، فهذا ما هو بعيد عن الحياد العلمي
ولكن لماذا لم تعرف طريقة النظم فيها - كما يقول الأستاذ - الرحمة بآذان القراء، وأذواقهم الشعرية. لابد من سبب، والأستاذ ماهر، لا يعوزه ذلك فاسمعه متمماً جملته السالفة
(فقد ألف القراء في الشعر العربي إيقاعا موسيقيا متجانساً، فوجدوا هنا نظماً، غريباً مقلفاً يصدم الأذن بشكل عنيف)
والمطلوب من الأستاذ أن يعرف - لنا الإيقاع - تعريفاً علميا، فالذي أفهمه أنا من الإيقاع، التعريف الذي جاء فيه مندور إذ يقول(997/39)
(نعرف الإيقاع؟! فهو عبارة عن رجوع ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة)
فمن تعريف مندور يتراءى لنا أن الإيقاع لا علاقة له بنظام الشطرين. لا علاقة له مطلقاً، هذا وليس هناك إيقاع (غير متجانس) (فأنت - والكلام لمندور - إذا نقرت ثلاث نقرات، ثم نقرت رابعة أقوى من الثلاثة السابقة، وكررت عملك هذا، تولد الإيقاع من رجوع النقرة القوية بعد كل ثلاث نقرات)
ومن هذا التبسيط الأخير يلتزم وجود الإيقاع المتجانس (وكل إيقاع متجانس) في الشعر الجديد كما في الشعر القديم
وما دام النقد هو فن دراسة النصوص - كما يقولون - فلم يعد بالإمكان الرضوخ والقنوع بمثل قول الأستاذ (فوجدوا هنا نظما. . .) إذ أصبح من اللازم أن يقوم الناقد - بوضع خطوط سوداء -! تحت استنباطاته كأن يبين أثر هذا اللفظ، أو ذاك، وأثر هذه التفعيلة أو تلك، أما أن يرسل (تذوقه) إرسالا مطلقاً، فهذا ما لا نقره عليه
ثم تابع الأستاذ
(والحقيقة أن القارئ يسير مع الشاعرة في هذه القصائد وأمثالها (!) لاهثاً من التعب. . . فهناك بين طويل، وآخر قد لا يريد على لفظة واحدة)
ماذا نقول للأستاذ! أيصح لدينا أن ننبذ هذا اللون من الشعر لمجرد أن هناك بيتاً طويلاً. وآخر قد لا يزيد على لفظة واحدة، أم يتحتم علينا - كنقاد - أن نقف باستغراق وعمق إزاء هذا الإنتاج، وكل إنتاج، فنتساءل - مادام الشاعر قد ارتضاه - عن مدى ما فيه من طاقة، ونستقرئه استقراء دقيقاً شامخاً، ونحلله تحليلا جزئيا، ومن بعد نصدر حكمنا القاطع عليه
لا عليك - يا أستاذنا - من الرتابة التقليدية، فإنها أصبحت لا تثير ولا توحي، عليك أن تنظر إلى المعنى! فإذا كان القصر أو الطول مما يقتضيه المعنى ليستثير الخيال والعاطفة، رحب به، وأفسح له صدرك
هل يجوز لنا أن ننتقد - رساماً لا لشيء إلا لأنه يستعمل لوناً واحداً أو لونين في صورته - راجع المدرسة الثانوية في الرسم - (الأديب ت 4801)(997/40)
ألم تلاحظ يا أستاذ أن غرض الشاعر هو الخروج عن ذلك التوازن الهندسي!
هذا ما جاء في مقال الأستاذ الأول، ولم يزد في مقاله الثاني - الأديب العدد السابع 1952 على ترديد ما سلف قوله فاسمعه
(إلا أن تشكيلة تفعيلاته غير المتجانسة تمنع من رؤية الجمال والحيوية فيه) وقوله (فلو جاءت هذه القصائد على أوزان وتقطيعات متناسبة متناغمة، لكانت أجمل وألطف وقعاً في النفس ففيها معان جميلة لكنها ضاعت بالصياغة)
أما عن جملته الأولى فقد ناقشناها من قبل، وأما عن جملته الثانية فقراء عبد القاهر الجرجاني، يرد كون مقدار ما فيها من التواء، فالمعنى لا يكان له - إلا ظلا ضئيلا لا يعبأ به - خارج الصياغة، وليس لنا أن نتسائل عما يصبح عليه المعنى إذا ما تبدلت الصياغة تبدلا جوهريا، فعلينا تقبله أو رفضه ضمن الصياغة
ولا أفهم أكثر تناسقاً وتناغماً من سيطرة تفعيلة واحدة على كافة أبيات القصيدة
على الأستاذ الماهر أن يتحرز من استعمال كلمته خارج دلالاتها العلمية المتقف عليها (وسك الأفكار - كما يقول جورج ديهاميل - مجازفة خطرة). مما سبق يتضح لنا بجلاء أن الكاتب الأردني لم (يحاول) أن يسير وفق المنهج العلمي للنقد، ولم يختط له خطة مثلى، تعينه على اجتياز مشق الطريق، وعلى ثغره ابتسامة ناضرة
ولو درس الكاتب الشعر العراقي - الجديد - دراسة موازنة، وراجع شعر بدر، والآخرين، لما تورط
(وموعدنا في عدد قادم)
العراق - العمارة
سليم غاوي عبد الجبار(997/41)
الكتب
الفلسفة الصحية في الإسلام
تأليف الشيخ جلال الحنفي
للأستاذ عبد الخالق عبد الرحمن
هذا الكتاب الصغير أصدره فضيلة الشيخ جلال الحنفي رئيس جمعية الخدمات الدينية والاجتماعية في العراق، وبالرغم من أن هذا الكتاب يغلب عليه الطابع العلمي إلا أن أسلوبه كان رائعاً حقاً، فالشيخ الحنفي من المتأثرين إلى حد بعيد بأسلوب أستاذنا الزيات صاحب الرسالة، فهو يقتفي آثاره ويترسم خطته، ولا أدل على ذلك مما جاء في العدد الأخير الصادر بتاريخ 8 تموز سنة 1952 من الصحيفة التي تصدرها الجمعية التي يرأسها الحنفي حيث يقول: (. . . واحترامنا الفائق للأستاذ الزيات وإيماننا بأسلوبه الجميل وبلاغته المشهودة. . . الخ)، والأستاذ الحنفي لا يترك فرصة تفلت من يده دون أن يشيد بأسلوب الزيات الرائع، وديباجته الساحرة، وفنه اللامع
والحنفي في كتابه هذا يعالج مشكلة من مشاكلنا الاجتماعية التي عالجها الإسلام، فكتابه هذا لم يكن بالكتاب العادي، فهو غير عادي في دروسه وأحكامه، لما يتناول من القضايا التي تهم جزءاً كبيراً من البشرية في حياتهم كل يوم
يقول في فصل (الحياة كفاح) لا نغلو إذا قلنا إن الإسلام كان أول دين سماوي عني - بصورة دقيقة - بمثل هذه النواحي الحيوية، وذلك لأن الإسلام قام على فلسفة عميقة في توجيه الإنسان إلى فهم الحياة. فالحياة في الإسلام كفاح في سبيل تثبيت دعائم السلام والفضيلة والإنسانية، وهذه الأقاليم العظيمة لا تستقر إذا كان الدعاة إليها مضرى، ولا تستمر إذا كان العاملون عليها يلتحفون ملاحف الهزال والضنى والعلة، إلى آخر هذه الكلمات التي تفيض بالحكمة وتحض الناس على التمسك بالصحة وفهم الدين على وجهه الصحيح
والواقع أن هذا الكتاب من الكتب التي يعتز بها، ولست أشم أبداً في أنه إذا ما انتشر في البيئات الإسلامية حق الانتشار خليق بأن يوقظها على آفاق جديدة، وأن يحدث في جنباتها(997/42)
دويا فكريا
جاء في فصل (فوائد الاعتدال وأضرار الشراهة) ما يلي:
من القواعد الصحية السديدة التي وضعها الإسلام قاعدة الاعتدال وعدم الإسراف، ففيما يتعلق بتناول الطعام مثلا نقرأ في القرآن الكريم: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا)، ونجد في الحديث النبوي: (إن المؤمن يأكل في معي واحدة وإن الكافر ليأكل في سبعة أمعاء) فالاعتدال في الطعام والشراب طريق من الطرق الموصلة إلى سلامة الإنسان من الأسقام، وقد كان هذا الموضوع من الموضوعات التي تردد عليها الكلام في الآيات الكريمة والحديث النبوي الشريف، لأن الاعتدال أصل مهم في الصحة، وقد استشهد المؤلف بعدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية تثبت ما ادعاه. فمن الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام (حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان ولابد فثلث للأكل وثلث للشرب وثلث للنفس). وقد وصف الله ذوي الشراهة في إلتهام الأطعمة بأنهم يأكلون كما تأكل الأنعام، وهذا وصف أراد الله تعالى به أن يذكر الناس بمصير من يأكل كما تأكل الأنعام وهو الغباء والغفلة والحرمان من فهم حقيقة الحياة
وجاء في فصل (الحجر الصحي) والإسلام أول دين سماوي وضع نظام الحجر الصحي عند حدوث أوبئة عامة، فقد جاء في الحديث النبوي النهي عن الدخول في أرض أصابها الطاعون، وكذلك النهي عن الخروج منها، وقد كان لهذا الابتكار الصحي العظيم أثر ملحوظ في حماية البشرية من الموت بالجملة، أما ما كان يحدث في بعض فترات التاريخ من الأوبئة الماحقة التي كانت تفتك بالناس في عواصم الإسلام خلال العهود الأخيرة فما كان ذلك إلا من جراء الغفلة عن الأخذ بهذا النظام الصحي الدقيق
وقد حث النبي أيضاً على اجتناب الموبوئين بالأمراض المعدية فقال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) والغرض من ذلك حماية الصحة أولا ولفت أنظار الهيئة الاجتماعية إلى عدم الاستهانة بالأمراض المعدية ووجوب معالجة المصابين بها
وقد أمر النبي بغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب لما ينقله لعاب الكلب من الأمراض
ومما يؤخذ على الشيخ الحنفي الاستشهاد ببعض الحكم الدينية القديمة بينما الكتاب يبحث(997/43)
عن الصحة في الإسلام، فمن ذلك قوله: (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، واستشهاده أيضاً بالحكمة القديمة القائلة: (إذا امتلأت المعدة فسدت الفكرة) وعلى كل فإن هذه الهنات الهينات، لا تحط من قدر هذا الكتاب المفيد
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن
النقد الأديب
للدكتور أحمد أمين
للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد
حسب القارئ الذي يطلي خلاصة مركزة مهضومة سهلة التناول في النقد الأدبي؛ أصوله؛ وتاريخه؛ هذا الكتاب الذي يقدمه أستاذنا لطلاب الثقافة الأدبية؛ النقدية؛ فهو يعد أوفى كتاب في اللغة العربية في باب النقد وتاريخه؛ فليس يغنى غيره عنه. وقد يغنى هو عن كثير من الكتب في هذا الباب. ولكن ما خصائص أسلوب هذا البحث القيم الفكري والفني؟ أما عن أسلوبه الفكري أي مادته العلمية فهي تتسم بالإحاطة والشمول بكل ما قيل بصدد المسائل التي يتعرض لها في اللغة العربية واللغات الحية؛ ثم موازنة؛ وهضم هذه الأفكار؛ ثم مزجها مزجا فنيا، وتقديمها بأسلوب أستاذنا الهادئ، الطيع، السلس، المبين، حتى تشعر أنك قد ألممت بعصارة الآراء مبلورة في رأي المؤلف. ثم ينتقل بك من موضوع إلى موضوع في رفق، ولين، واتزان منطقي. أرأيت أسلوب فجر الإسلام، وضحاه، وكيف قدم إليك هذه المادة العلمية في ذلك الأسلوب الأدبي مما جعلك تشعر أن الدكتور قد أدب العلم بعرضه وفنه. فأنت أيضا في هذا الكتاب لا تطالع مادة عقلية، منطقية، جافة، ثقيلة، بل مادة موشاة بألوان الفن مما جعلها أقرب إلى القلب، وأعلق بالنفس، وهذا هو سر حياة كتبه، وتجدد طبعاتها. ومما يزيد هذا الكتاب اتزانا في البحث، وسلامة في المنطق، ووضوحا في العرض، هو تحضير مادته في هدوء، وعلى مهل، فلا عجلة، ولا اضطراب ثم بعد أن تحضر هذه المادة تدرس لطلاب الجامعة. فيزيدها هذا تركيزا، واستجلاء(997/44)
وتقويما، أن في عرضها إشاعة الضوء في كثير من جوانبها، واستبانه ما دق على النظر عند تحضيرها، فإذا ما انتهت من عمل المؤلف واجتازت بوتقة الدرس فقد وصلت مبرأة من المآخذ، خالية من الشوائب. وهذا ما يحسه القارئ في كل مبحث من مباحثه وباب ومن أبوابه. فهو يتناول النقد الأدبي وعناصر الأدب والشعر والنثر. ودراسة العناصر الأساسية للأسلوب؛ والرواية، ثم نظرة عامة في النقد، والنواحي التاريخية، ثم تطبيقات وملاحظات عامة، ثم تاريخ النقد عند الأفرنج، وعوامل انحلال الكلاسيكية الحديثة، ثم يتناول النقد عند العرب في الجاهلية، والعصر الأموي. والنقد في العراق، والشام، والعصر العباسي، إلى آخر ما يتعلق بهذا الموضوع
هذه هي بعض المباحث التي يضمها هذا الكاتب القيم الذي يجمع دقة البحث العلمي وجمال العرض الفني. ومن المباحث الجيدة في الكتاب ذلك البحث الذي تناول فيه الدكتور والرواية، وتتبع نشأتها، وأنواعها، وعناصر كل منها، وأيضاً البحث الذي تناول فيه النقد، والنقد كأدب، ومهمة النقد، والنقد الاستدلالي، والنقد الحكمي، ومؤهلات الناقد، وذخيرة الناقد كل هذه
ديوان ابن أبي ربيعة
نشره فضيلة الأستاذ الشيخ محي الدين عبد الحميد
شخصية ابن أبي ربيعة من الشخصيات التي كانت ولا زالت محورا لكثير من الدراسات التي تناولت سمات فنه الشعري، وحاولت أن تبرز ملامح شخصيته الأدبية؛ وأن تضع تراثه في ميزان النقد، وأن تفسر تلك الألوان التي تطبع شعره، والتي يتفرد بها ابن أبى ربيعة بين شعراء جيله. وهي ذلك الولع بالحديث عن المرأة، وتلك الأحاديث الشعرية التي يقصها الشاعر عن مغامراته. وغرامياته في ميدان الهوى؛ ومسارح الصبابة؛ ومقدار ما فيها من صدق فني ونفسي وتاريخي؛ وهل كان صادق العاطفة يصدر في شعره عن بواعث نفسية؟ كل هذه قضايا طال تجاذب الرأي فيها. وبرغم كل هذا فشخصية ابن أبي ربيعة من شخصياتنا الأدبية التي استطاعت أن تشغل كثيرا من الأقلام في سبيل استجلائها فنيا ونفسيا، غير أن هذه الدراسات التي قامت حوله على تطاول العصور؛ لم تنسق وتنشر(997/45)
نشر علميا، بحيث تكون بين يدي الباحث على ضوئها. هذا ما يتعلق بالدراسات التي قامت حوله. وشعر ابن أبي ربيعة أيضا في حاجة قوية إلى بذل المجهود اللغوي الذي يتصل بضبط ألفاظ وشرحها، لتصبح سهلة التناول ميسرة السبل على الباحث.
وقد تمكن الأستاذ الجليل الشيخ محيي الدين أن يجمع كل ما قيل حول هذا الشاعر، وأن يتولى ضبط ألفاظ الديوان، وشرحها شرحا لغويا أولا، ثم شرحا أدبيا ثانيا ليمهد على قدر الإمكان السبيل أمام القارئ ليتذوق ويدرس، ثم عهد إلى ما امتازت به صناعة ابن أبي ربيعة من حيث استعمال بعض التراكيب التي خرج بها عن لغة قريش، فعرض لهذه المسائل مع استشهاده لذلك، ثم تتبع الألفاظ التي استعملها عمر جانب فيها معاجم اللغة، ثم ختم الكتاب ببيان الشعر الذي نسب إلى عمر في بعض كتب الأدب وليس من شعره. وقد أنفق في هذا العمل عامين كاملين يجمع النصوص ويقارنها ويصححها، ويقوم بضبطها وشرحها، حتى تهيأ له أن يخرج هذا الكتاب الذي نيف على الخمسمائة صفحة من القطع الكبير. وقد قسمه إلى أربعة أقسام: الأول يشمل أخبار عمر، والثاني آراء العلماء فيه، والثالث يشمل الديوان، والرابع الشعر الذي نسب إلى عمر وليس له. ولا شك أن هذا العمل يعد مساهمة جديدة للشيخ محيي في نشر ذخائرنا الأدبية
محمد عبد الحليم أبو زيد(997/46)
البريد الأدبي
بين الإسلام وحركة التسلح الخلقي
نشرت مجلة (الأزهر) الغراء كلمة تحت هذا العنوان في جزئها العاشر لسنة 1952 أشار فيها إلى المصلح الاجتماعي الدكتور فرانك بكمان فوصفته بأنه قصد إلى تغيير المجتمع بتغيير، أفراده ووسيلته أن يتسلح كل فرد بمبادئ يأخذ بها نفسه في غير تساهل، ومن هذه المبادئ الاتجاه إلى الله والإصغاء إلى أوامره وطاعته، وأن يحاسب المرء نفسه كلما أذنب مصمما على أن يتجنب الرذائل، وأن يتعاون الأفراد على تحقيق هذه المبادئ كي تسود في المجتمع (فالانقسام من علامات عصرنا. . . والاتحاد مطلبنا العاجل. والانقسام نتيجة التكبر والحقد والشهوة والخوف والطمع وهو من صنع المادية وهو العلامة التي تميز بضاعتنا)
وهذا تلخيص موجز بليغ لحركة التلسح الخلقي. . . وقد أشارت المجلة أيضا إلى فصل عقده أحد الكتاب في المجلة الإسلامية التي تصدر باللغة الإنكليزية في ووكنج بإنجلترا مقارنا فيه مقارنة طريفة بين مبادئ الإسلام الخلقية وبين ما تدعو إليه حركة التسلح الخلقي. ومما قاله هذا الكاتب وهو هولاندي يدعى فرانز ستال أن التوبة في إسلام هي وسيلة تغيير الأفراد وهي لسلاح خلقي عظيم.
وقد أحسنت مجلة الأزهر بإيرادها الإشارة إلى رأيه في المقارنة بين الآداب الخلقية في الإسلام وبين حركة التسلح الخلقي بعد تلخيصه مبادئ تلك الحركة
وبقي أن يلم القارئ إلمامة سريعة بالأسباب وبالظروف التي دعت إلى نشأة هذه الحركة، ولما كان كاتب هذه السطور أحد الذين اتصلوا بهذه الحركة الخلقية وحضروا بعض المؤتمرات التي دعت إليها جماعة التسلح الخلقي في سويسرا وخطب في تلك المؤتمرات مقارنا بين مبادئ الإسلام وبين أهداف هذه الحركة فمن واجبه أن يتحدث عما رآه وما عرفه عنها
كان الدكتور بوكمان يعمل سنة 1921 مدرسا في مدرسة أمريكية وكان منهجه في الحياة أن يقضي في التدريس نصف العام ويقوم برحلات في أرجاء العالم المختلفة في النصف الآخر(997/47)
وفي خلال سنة 1921 دعي لحضور مؤتمر (نزع السلاح) في واشنطن وكان السفر إلى تلك المدينة يستدعي بين ليلة في غربة النوم بالقطار - وقد سافر ولكنه لم ينم الليلة وانحصر تفكيره في (نزع السلاح) وفي الأسباب التي دعت إليه. ووصل التفكير إلى أن السلاح الذي لا ينزع والذي لا خطر على الخير في استعماله وفيه على الشر الخطر الأكبر هو سلاح الخلق
في هذه اللحظة كان مولد فكرة التسلح الخلقي وقد كان من بين ما فكر فيه أن الحرب الكبرى (1914 - 1918) التي أدت إلى مؤتمر نزع السلاح لم تحدث (تغييرا) في العالم ولم تفرق بين ما قبلها وما بعدها؛ وفكر بمثل المعنى الكريم الذي تضمنته الآية
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) - فجعل وسيلته لنشر مبادئ التسلح الخلقي في الدعوة إلى التقوى وفسرها بأنها الإصغاء لصوت الله وطلب الوقاية منه دون غيره، وقال في نفسه إن الله لن يحدث تغييرا في الناس حتى يحدث التغيير لما في أنفسهم، فقرر أن يستقيل من عمله وأن يتفرغ لدعوته؛ فالدعوة وفقا لنشأتها كانت رد فعل لويلات عالمية، واستجابة لدعوة بنزع السلاح تجنبا لتكرار المأساة الدامية، وصراعا مع العوامل التي كانت تهب لتصل إلى الحرب العالمية الثانية
وقد حدثت تلك الحرب وكان من بين آثارها تعليم الناس أن ميدان القتال ليس هو وحده مجال الحروب، فالحرب في المجال الاقتصادي وفي ميادين العمل وفي الأسرة وفي كل مكان سببها التكالب على المادة ولا سبيل إلى وضع حد لها إلا التمسك بالخلق بمحاربة الأنانية
وكما نشأت الحركة في أعقاب حرب فقد زاد نشاطها وكثر عدد المؤمنين بها بعد الحرب الثانية وكان هذا رد فعل لها وصراعا للعوامل التي لا تزال تدب لتصل بالدنيا إلى حرب عالمية ثالثة
وكلما خطت هذه الحركة خطوة في سبيل توحيد الناس بالتمسك بما لا خلاف عليه بين أديانهم ومصالحهم وعرفهم - خطت هذه الحركة خطوة في هذا السبيل تبين أنها تتأثر الإسلام وتصاحبه قاصدة إلى أهدافه
وليست هذه الحركة ذات عصبية فهي ليست بالهيئة التي تدعو إلى الانضمام إليها ولكنها(997/48)
فكرة يعاش بها وشعارها (أن في العالم من الخيرات ما يكفي حاجة كل إنسان ولكن ليس فيه ما يكفي مطامعه)
وقد كان لي في أحد المؤتمرات في سويسرا شرف الموازنة بين الإسلام وبين مبادئ هذه الحركة؛ كما خطب فيها من المسلمين من شهدوا بأنها تتأثر مع ديننا الحنيف وتتمشى معه رجال مسؤولون من بينهم سعادة محمد صلاح الدين وزير الخارجية السابق وسعادة عبد الرحمن عزام الذي أكد (أنه يعضدها على اعتبار أنها تتوافق كل التوافق مع العقيدة الإسلامية)
الإسكندرية
أحمد عوص
براعم شعراء الشباب
لا خوف على براعم شعراء الشباب في مصر وفي البلاد العربية مهما قست الظروف وضاق نطاق الصحف والمجلات وعجز الشعراء عن طبع دواوينهم لسبب من الأسباب. . . لا خوف على هؤلاء الشعراء ما تذرعوا بالصبر، وتدرعوا بالجهاد، وأقبلوا على نظم الشعر برغبة حارة وقوة دائبة وشعور لا يغيض
هكذا قلت لنفسي حين قرأت الكلمة التي تفضل بتوجيهها إلى مشكورا - الأستاذ محمد علي جمعة الشايب في العدد 993 من الرسالة، وهو يبدي مخاوفه من هذه الأزمة الشعرية لدى الشعراء الناشئين الذين تعرض الصحف والمجلات عن نشر أشعارهم وأكثرهم ما يزال في دور البدء والتكوين، وإنما المهم دائما الإقبال على النظم وإمعان النظر وإدامة الفكر فيما ينبغي أن يقال على نهج جديد، وبروح جديد. وسيأتي يوم لكل مغمور فيشهر، ولكل مجهول فيعرف، ولكل مظلوم فينال حقه المهضوم. . . وخير للشاعر أن يظهر أمام الناس قمة عالية تتطلع إليها الأنظار، من أن يبدو وهدة سحيقة تتخطاها العيون وتدوسها الأقدام
أحمد أحمد العجمي
إذاعتنا الغراء(997/49)
لست أجانب الحقيقة لو قلت: إن إذاعتنا المصرية (الغراء) أوشكت أن تعلن إفلاسها، وتثبت أنها عاجزة عن مسايرة أهزل إذاعات العالم جميعا. . .
إن برامج إذاعتنا الغراء لا تشجع مطلقا على الإقبال عليها، ولا على تتبع محتوياتها، فتسعة أعشارها حشو من الأغاني الغثة، والتمثيليات التافهة التي لا تثقف عقولا ولا ترقي أفكارا ولا تنهض بشعب
لا تسل عن ركن الأطفال الذي هو مزيج من الأناشيد المكررة، والقصص المفزعة، والأصوات المنكرة، ولا تسل عن ركن المرأة الذي لا يتصل برسالة المرأة في الحياة إلا من جانب الكماليات الأرستقراطية. ولا تسل عن ركن الريف الذي هو خلو مما يفيد الريف ويوضح آلامه ويحل مشكلاته وينهض بأهله. . . لا تسل عن ركن من هذه الأركان أو غيرها حتى لا تتميز من الغيظ حسرة وأسفا على إذاعتنا الغراء. . .
لعلك اضطررت اضطرارا ليلة تأليف الوزارة الهلالية الثانية إلى تتبع برامج الإذاعة لعلك تستريح إليها ولو خلال لحظات، ولعلها تنال منك ولو ذرة واحدة من رضاك، فماذا سمعت في تلك الليلة المشهودة التي تستمع فيها بلاد العالم إلى إذاعة مصر، فتقف على حقيقة الأحوال فيها، والتقلبات السياسية المفاجئة. إن إذاعتنا لم تكن - بالطبع - مستعدة لتسترنا في مثل هذه الليلة، فأبت أن ترحمنا من أغاني فيلم (في الهوا سوا) وفيلم (من القلب للقلب)، وكل ما تكرمت به علينا أن أذاعت علينا وثائق استقالة الوزارة السابقة، وتأليف الوزارة اللاحقة، دون أن تتكرم ولو بتعليق واحد سياسي على تقلبات السياسة في مصر، وهل هي في مصلحتها أم في غير مصلحتها. . .
أما بقية الليلة فقد قضاها (ميكرفون) الإذاعة الغراء بالجمالية بالقاهرة ليذاع علينا من هناك الاحتفال بمولد العارف بالله (سيدي) مرزوق الأحمدي، وواصل الشعب المصري الكريم السهر إلى قبيل الساعة الواحدة صباحا يستمع إلى (أبيض الوجه، وجميل القد، وأحمر الوجنتين، وأكحل العينين) من قصائد وتواشيح الشيخ طه الفشني.!
وبعد فإن المذياع ليعتبر من أهم وسائل النهوض بالشعوب والتقدم بها، والعمل على رقبها ورفع مستواها الثقافي. ولكن يظهر أن مصر هي البلد الوحيد الذي كفر بهذا الاعتبار وتنكر له وسخر منه؛ لأنها نكبت بإذاعة لا تتساوى مع إذاعات العالم إلا في الاسم وكفاها(997/50)
بهذا فخرا!
فقية الشيخ(997/51)
القصص
الوطنية
مترجمة عن الإنجليزية
تزوجت من (هانز) - وهو أحد الجنود الألمانيين - لعام واحد قبل الحرب العالمية الضروس التي أهلكت كل حي ودمرت كل شيء، بالرغم من أني فرنسية الأصل والجنس. . . وكان أول عهدي به لاقيته في معرض من معارض الفنون في (باريس) - وكان قد ذهب إليه زائرا - فلما سمعته يتكلم الفرنسية بطلاقة تحدثت إليه، فملكني حديثه العذب الفكه، وأسرني غزله المرح الرقيق، فكان ما كان، وانتهى بنا الأمر إلى الزواج بعد قليل
وتركت وطني راضية لأعيش مع زوجي (هانز) في قرية صغيرة من قرى ألمانيا. وعشت بين أحضان عائلته في سعادة ورفاهية، ورغد وبلهنية. وصار أصدقاؤه مع مضي الزمن أصدقائي، وخلصاؤه خلصائي، وأقاربه أقاربي! وما مضى على وجودي بينهم غير قليل حتى تعلمت كيف أتكلم الألمانية، وحتى كدت أنسى أنني كنت فرنسية الجنس واللغة في يوم من الأيام. ونقلني (هانز) بما حباه الله من قوة وسحر إلى دنياه فذقت لذة الهناء، وحلاوة الصفاء، ومتعة الحب
ولكن هذا النعيم لم يدم طويلا وا أسفاه! فقد أعلن لي (هانز) في يوم من الأيام - وقلبه يفيض فرقا - أن ألمانيا قد أعلنت الحرب على أعدائها، وأنه سيسافر إلى ميدان القتال لأن اسمه قد درج بين أسماء المحاربين هناك. . . ثم رجاني أن أعود إلى (باريس) - في الوقت نفسه - خوفاً من أن تجد ظروف تحول بيني وبين ذلك. وقد كان (هانز) - بالرغم من كل ذلك - على يقين من أن الحرب لت تستمر أكثر من ثلاثة شهور على أكثر تقدير، وأنه سيعود إلى بعد ذلك. . .
وأحسست بعد ان أفقت من صدمة هذا النبأ الفاجع، وهول هذا الخبر المؤلم - أن حبي لزوجي (هانز) أقوى وأعنف بكثير من حبي لوطني (فرنسا)! وشعرت أن كل ما هو حبيب إليه أحب إلى نفسي من كل ما سواه، وأن كل ما هو عزيز عليه أعز على قلبي من كل ما عداه. ومن أجل ذلك أهبت بنفسي أن أكون ما حييت فداء لهانز وللقيصر ولألمانيا. . . متحملة في سبيل ذلك ما قد ينتابني من الألم أو يمسني من السوء. . .(997/52)
وودعت (هانز) وأرسلته إلى المعركة، وقلبي يفيض إعجابا ونفسي تتيه فخارا. وقد كنت أنا أيضا أعتقد أن الحرب ستضع أوزارها عمل قليل، وأن (هانز) سيعود إلى سليما قويا آمنا. وانقضت شهور عدة فما خمد لهيب الحرب وإنما ازدادت الممالك المشتركة فيها عددً وعددا. وكان (هانز) يرسل إلى بين الحين والحين بعض الرسائل - وهو في ميدان القتال - فكنت أجد فيها قليلا من المتاع واللذة، وشيئاً من الراحة والطمأنينة، ووميضاً من السلوان والأمل! ولكني ما كنت أريد إلا أن أرى وجهه، وأسعد به جواري مرة أخرى!
أواه يا قلبي!
إنني ما رأيت (هانز) بعد ذلك اليوم أبدا، وما كنت أحسب أنني قد ودعته الوداع الأخير! فقد ترامى إلى أن طائرة فرنسية دمرت الكمين الذي كان يختبئ فيه - بعد مضي عشرة شهور من بدء الحرب - فقضى نحبه محترقا. وكاد الحزن يفقدني عقلي ويورثني الخبل. . .
ومن ذلك اليوم تولدت في نفسي الكراهية والبغضاء لفرنسا وتمنيت لو استطعت أن أثأر لزوجي أو أنتقهم له من أولئك الذين قتلوه! وأحببت لو أن فرنسا خرجت منهزمة منكسرة من الحرب، بل مدمرة مهدمة مخربة! ولكن السنين - وا حسرتاه - قد خيبت ظني، إذ وقعت الهزينة على ألمانيا؛ فملأت الأحلام المفزعة فؤادي، وأفعمت الأوهام القاتلة خيالي؛ فصدقت كل ما يقال عن قسوة الألمانيين، وكل ما يذاع من أبناء اعتدائهم على الأطفال الآمنين والنساء الضعيفات. فدعوت الله من قلب خالص أن ينصر القيصر ويكتب له الفوز المبين!!
. . وفي يوم من أيام سبتمبر من عام 1918 أجلى الفرنسيون الألمان عن قريتنا، ولكن المانيين تمكنوا - قبل غروب شمس ذلك اليوم - من استرداد قريتهم المسلوبة ومحاصرتها وتطويقها. . .
واستيقظت على حين غرة على صوت مزعج ودوي هائل وضجيج وجلبة الاستقبال التي في الطابق الأسفل من منزلي، فارتديت منامتي على عجل واضأت المصباح الكهربائي الذي ينير الدرج ثم هبطت الدرجات مسرعة يدفع بعضي بعضاً
فماذا رأيت هناك؟(997/53)
لقد رأيت جنديا فرنسيا يرتدي ملابسه العسكرية متكئاً بجانبه على المنضدة، ولدم يتفجر غزيراً من جرح في رأسه، وكانت سترته ملطخة بالوحل، وعلى وجهه أثر ما يعاني من الألم ويقاسي من الجهد. . .
وما كاد الرجل يراني - وأنا أقترب منه - حتى ألقى إلى نظرة فيها كل معاني الاسترحام كأنما يستجدي بها المعونة، ويرجو بها الغث. ثم مد إلى إحدى يديه كأنما يعلن إلى أن لا لا حول له ولا قوة
فقلت له بلهجتي الفرنسية الوطنية: (هل يؤلمك هذا الجرح كثيراً؟)
ففتح الجندي عينيه على مهل ثم قال: (هل سيدتي. . . فرنسية؟)
وما أدري لماذا أحسست ساعتئذ بثورة في دمي وهزة في جسمي، وخفقات في قلبي!
وقلت للجندي: (نعم، إنني فرنسية، ولكني مقيمة هنا. . . إني. . . أنا. . .!)
وأمسك الجندي بذراعي ثم قال: (إن الواجب يحتم عليك أن تساعديني. لقد حسبني زملائي ميتا فتركوني، والآن يجب على أن أرجع إلى صفوفنا! يجب علي. . .)
وما كاد يتم كلامه حتى سمعت دقا عنيفاً على الباب، وصوتاً عالياً ينادي: (أيتها السيدة!. . . أيتها السيدة)
كانت في منزلي حجرة صغيرة اعتاد (هانز) أن يقضي فيها شؤونه الخاصة؛ فلما مات أغلقت بابها الصغير ثم غطيته بستر عن الأبصار. وأبقيت الحجرة على ما كانت عليه، فلم أتناول أي شيء فيها بتغيير أو تبديل كأنها مكان مقدس لا يمس، أو كأنها الموئل الذي يستريح فيه زوجي ويطمئن إليه
وما أدر ما الذي دفعني إلى أن أنتهك هذا الحرم المقدس في ذلك الموقف العصيب!
لقد دقت الجندي الفرنسي إلى الحجرة فرفعت الستر عن بابها، ثم فتحته، وبعد أن أدخلته فيها أغلقت بابها ثم أعدت الستر إلى موضعه
واشتد الدق على الباب الخارجي عنفاً، وما كدت أفتحه حتى دخل منه جندي ألماني ضخم الجسم كبير الجرم أحمر الوجه فدفعني جانباً وزاحني عن طريقه، ثم أخذ يجول في أنحاء البيت كيفما شاء باحثاً عن الجندي الفرنسي. ففتش المطبخ ثم الحمام فلما لم يجد غريمه اندفع يرقى الدرج إلى أعلى(997/54)
وتلبثت في موضعي حتى عاد إلى، وحرصت على أن أكثر شعوري، وأكبح عواطفي، وأدفع عن نفسي رجفة كادت تهزني. وحاولت أن ابعد عيني عن الستر حتى لا ألفت نظر الألماني إليه
وما كاد الجندي يقف أمامي وجهاً لوجه حتى أدركت أنه مخمور لا يعي!
وقال لي بصوته الغليظ الخشن: (إنني. . . إنني أظن أني قد رأيت كلباً فرنسياً يجري في فناء دارك وما أرتاب في أنه قد تسلق الحائط ودخل منزلك من النافذة. . . إني. . . إني. . .!)
فأجبته بهدوء: (لقد بحثت بنفسك فلم تجد أحداً هنا)
وكان من العسير عليه أن يدرك ما يقول أو يفكر فيه فقال (أنا. . . أنا. . . لقد أخطأت. . . أنا. . . أنا. . .)
وانتشرت على شفتيه ابتسامة شيطانية ما رأيت أخبث منهم ثم قال: (هل تعيشين هنا. . . وحيدة؟!)
فأجبته: (نعم. إنني أعيش هنا وحيدة منذ أن قتل زوجي)
فاقترب مني شيطاناً فاجراً، وعربيداً داعرا، ومخموراً خبيثاً وهو يتمتم: (وعلي ذلك فأنت تعيشين هنا وحيدة؟!)
ولكن بالرغم من كل ذلك لم أتحرك من موضعي ولم أتزحزح عنه، بل قلت له: (ألا تظن أنه من المستحسن أن تخرج الآن لتبحث عن الكلب الفرنسي فلعلك عاثر عليه؟!)
ولكنه أجابني - بعد أن طوق خصري بذراعه وضمني أليه بعنف -: (لا. . . لا. . . لقد ذهب. . . و. . . وأنا لا اريد أن أربح هذا المكان. . . بل أريد أن أمكث هنا بأية طريقة!!) وأحسست بعد ذلك بشفته تنطبقان على عنقي. ثم قال: (ستكونين - ولا ريب - متساهل لينة الجانب معي. . . أليس كذلك؟!)
وحاولت أن أدفعه بعيداً عني ثم قلت له: (أرجوك. . .)
ولكنه ضمني إليه بقوة، ثم تتابعت أنفاسه سراعاً وهو يقول: (لا تقاومي. . . فلن تجديك المقاومة شيئا. لابد مما أريد. . . وتستطيعين أن تنسي كل شيء عندما أتركك إن كنت لا تريدين أن. . . لا تقاومي. . .!!)(997/55)
وهممت أن أصرخ مستغيثة ولكني تذكرت أن صراخي سيجلب دون ريب عدداً كبيراً من الجند، وأن هؤلاء سيفتشون وسيبحثون من جديد عن الجندي الفرنسي. فقلت للجندي الألماني: (أرجوك. . . أرجوك. . . أن تدع هذا لوقت آخر. . .!!)
فقهقه الرجل ثم قال: (لوقت آخر؟! وقت آخر؟! ربما يكون ذلك عندما أموت!!)
وما تلبث حتى حملني على ذراعيه وأخذ يصعد بي الدرج إلى أعلى. ولكنه لم يكد يخطو خطوة واحدة حتى سمعنا صوتاً يقول على حين غرة: (إنني آسف يا سيدتي على ما سببت لك من تعب. . .!)
وما سمع الألماني هذا الصوت حتى أنزلني من فوق يديه وأوقفني على قدمي، ثم أدار وجهه فيما حوله وإذا. . . وإذا بالجندي الفرنسي واقفا أمامه وجهاً لوجه، منتصب القامة، مرفوع الهامة، بالرغم مما يقاسي من جراحه، وما يعاني من آلامه! وإذا به يبسم لنا بالرغم من أنه كاد يغمى عليه من الألم، ويغشى عليه من الجهد والإعياء
إنني سجينك الذي تبحث عنه، وأسيرك الذي ترجوه، إنني حاجتك وطلبتك. . . ومادام الأمر كذلك فهيا بنا إذن نذهب من هنا ونترك هذه السيدة الكريمة في سلام وطمأنينة!!) هكذا قال الجندي الفرنسي للجندي الألماني الذي أذهلته المفاجأة فوقف مرتبكا لا يدري ماذا يفعل. وأخيراً قال هامساً في نفس متقطع (نعم. . . نعم. . . إنك سجيني!)
وخرج الرجلان من داري وسار معا؛ وعلى ثغر الفرنسي ابتسامة لا تفارقه، وعلى وجه الألماني حيرة وذهول!
وما رأيت الجندي الفرنسي بعد ذلك اليوم أبداً. فيا ليت شعري هل مات في الحرب أم هو ما يزال حيا إلى اليوم!؟ ولو أنني رجعت إلى (باريس) بعد الحرب لما تباطأت في البحث عنه حتى ألقاه فاشكره على ما أسدى إلى من عارفة وما قدم إلى من جميل
ولكني وا أسفاه لم أعد إلى فرنسا، لأن حياتي فيها تزوير على نفسي؛ ولم أبق في ألمانيا، لأني فجعت فيها بموت زوجي الذي كنت أعيش من أجله على أرضها، بل أتيت إلى إنجلترا لأبدأ حياة جديدة، وما نسيت هذه الذكريات المؤلمة في يوم من الأيام بالرغم من مرور هذه السنين الطوال.
م. س(997/56)
العدد 998 - بتاريخ: 18 - 08 - 1952(/)
الوثبة المباركة
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان
مهداة إلى المجاهد الأكبر القائد العام
في أصيل الثلاثاء (2271952) جلسنا ثلة من الشباب الناضج
فكرا ووطنية، على مقربة من قصر المنتزه بالإسكندرية.
وبدأنا الحديث فيما يهم مصر وأماني شعبها المغلوب على
أمره، وما كانت أنسم الشاطئ العذبة، ولا أمواج البحر
المتراقصة، ولا أشعة الشمس الذهبية التي تخطف الأبصار
لتشغلنا عن الحديث عن مصر وآلام مصر. ولست أدري لم
كانت أنظارنا ترمق قصر المتنزه، متجهة إليه لا ترغب في
التحول عنه! لم تكن متجهة إلى هذا القصر باعتباره الحصن
الذي يعلق الشعب عليه كل آماله، لأن هذا الاعتبار كان بمثابة
نظرية ابتكرها النفاق والملق والصغار، وأثبت خرافتها ستة
عشر عاما حكمت مصر خلالها حكما إقطاعيا تسوده الأنانية
واللصوصية والاستهتار، حكمت بالحديد والنار دون رحمة
بأناتها وزفراتها، فرزحت تحت أعباء ثقال من الفاقة والحرمان
والبؤس والشقاء، وتجرعت كؤوسا فائضات من الكبت
والاستبداد. . .(998/1)
إذن فما كانت أنظارنا خلال الحديث ترمق قصر المنتزه باعتباره حصن الأمل لمصر البئيسة، ولا باعتباره كعبة الرجاء التي يجب أن يرتكز عليها محور الجهاد والنضال في سبيل الوطن، ولا باعتباره أي معنى من المعاني التي يسر لها ويطمأن إليها، وإذا كان يطيب لأناس - زعماء كانوا أو غير زعماء - أن يسرفوا إسرافا بغيضا في صياغة العبارات التي تجعل هذا القصر وأخواته بمثابة قلاع حصينة لمصر، ومشاعل مضيئة لنهضتها، والتي تجعل ساكن القصر وحاشيته في صفوف الملائكة الأطهار، والمجاهدين الأخبار، والمخلصين الأبرار، فليس معنى هذا أنهم صادقون نزهاء ما دامت لهم مصالح يبذلون في سبيلها شرفهم وكرامتهم، إن كان فيهم بقية من الشرف والكرامة، ومادام تكوينهم الشخصي لا يؤهلهم إلا الحياة الذلة والملق والصغار. وإذا كان يطيب للشعراء أن يصوغوا الثناء والمديح في لآلئ من القصيد، ويضفوا على العرش وصاحبه (المفدى) ألقابا من صنع الخيال الفاسد، ونعوتا من الملق الزائف. فليس معنى هذا أنهم حجة فيما ينشدون وفيما يضفون من ألقاب ونعوت. . .
أخذنا نتحدث تارة همسا خفيفا، وتارة أخرى بأطراف الشفاه، وحديثنا يدور حول محور واحد، هو أن القصر موطن البلاء، وأساس الفساد والعقبة الكأداء في طريق كل نهضة من شأنها إلى أن تصل بمصر إلى القمة، وإن حاشيته لم يكونوا في يوم من الأيام سوى سماسرة على حساب البلد المنكوب؛ وعصابة مغامرة ستقذف بالعرش إلى الهاوية إن قريبات وإن بعيدا، وما جهاد الأحزاب وزعمائها إلا لوان من التخدير والتغرير بالشعب الصابر المصابر. وليس للأحزاب المصرية وزعمائها من هدف سوى التربع على كراسي الحكم ليتحكموا لا ليحكموا، وليستبدوا لا ليعدلوا، وليستغلوا لا ليبذلوا، وليجشعوا لا ليقنعوا. . .
قلت: إن عم الجالس على العرش هو الذي مهد للاحتلال ليحمى عرشه من غضبه الشعب، حين تلاشت شخصيته وسط أمواج متلاطمة من الفساد، وتلقى تهاني الصغار من المتزلفين وأشباههم حين انتصر الاحتلال الغاشم على شعب مصر، ووطئ بنعاله كرامة الوطن. ومن وقتها أصبح هذا الاحتلال لازما لعرش مصر يحميه من صولة الشعب حين يثأر لكرامته. وثقوا بأن المحتلين أنفسهم ليسوا بأرغب في بقاء الاحتلال من المجالس على العرش نفسه،(998/2)
لأن الاحتلال يمكنه من أن يستبد ويبطش، ويلعب ويستخف، دون أن يناقش أو يحاسب، والزعماء من خلفه يلهون ويعبثون ويرضون من الأمر بالحكم تارة وبالألقاب تارة أخرى، والشعب مغلوب على أمره يقنع بالرضا والتسليم. وثقوا مرة أخرى بأنه لن يخلص البلد من الشر بشتى ألوانه إلا إحدى وسيلتين لا ثالث لهما: زعيم صادق ينفخ في روح الشعب حتى يهب من نومته، أو ضابط شجاع يضع روحه فوق كفه، وإذا وجد الزعيم الصادق فليس من السهولة أن يحيي شعبا نكبه الحكم الإقطاعي حتى وهن وأثقلته أنات الاستبداد والبطش به حتى سكن، وإذا وجد الضابط الشجاع فليس من الميسور له أن يطبع الجيش على طابعه، بعد أن آل أمره إلى الجهلة المستغلين، وتغلغل بين صفوفه كثير من الوضعاء في أخلاقهم وشخصياتهم.
لقد طال بنا الحديث ولم يتصرف أنظارنا عن قصر المنتزه سوى منظر الشمس في لحظاتها الأخيرة. والبحر يتأهب ليفغر فاه فلتقمها في بطنه، أجل طال بنا الحديث ونحن لا ندري أننا كنا مع القدر حين سطر نهاية الظلم الجاثم فوق صدر مصر، وإن أنظارنا لم تتحول عن القصر إلا لتودع شمسا لن تشرق عليه مرة أخرى، وأننا حين كنا نتحدث عن آلام مصر وأنات شعبها، كان في العباسة بالقاهرة أسود تخفق نبضات قلوبهم من أجل مصر وشعب مصر، أصروا على أن يضعوا حدا للفساد الذي بلغ الذروة، والفوضى التي وصلت القمة، والهمجية التي فاقت همجية القرون الوسطى، ولم يكاد الليل أن ينتصف حتى منحت الدنيا مصر صبحا جديدا وعهدا مشرقا، كتب لها فيه الخلود، ولجيشها البطولة، ولشعبها الكرامة إلى الأبد. . .
كانت وثبة جريئة مباركة، أمدها الله بقوته، وشملها بعنايته، وهتف لها الشعب من صميم قلوبه وأعماق نفوسه، وأدهشت العالم بحسن تدبيرها، وحزم تنفيذها، وإيمان القائمين بها، وغيرت مجرى التاريخ في بلد ظل مجراه راكداً فيه سبعين عاما، ومحت عارا أسكن مصر الحضيض وأنزلها منزل الدول الراكدة المتخلفة عن الحضارات والنهضات. . .
إنها فرصة أوجدها جيش مصر الباسل للشعب لعله يخلق نفسه خلقاً آخر لا تشوبه شوائب الدعة، وللأحزاب لعلها تضع المناهج والبرامج التي تنهض بمصر، وللزعماء لعلهم يبدءون عهدا جديداً فيما يفيد الوطن، ولدعاة الإصلاح لعلهم يرسمون خطط الإصلاح(998/3)
الرشيدة في أمن وهدوء. . .
إن هذه الوثبة المباركة لنقطة تحول في تاريخ مصر، لن تنساها أبد الدهر لجيشها الباسل، حسبها تقديرا لها وفخراً بها أنها أذلت جبارا عنيدا خدعه الغرور حتى لم يحسب أن في الدنياذلا وظالماً غشوماً خدعه الحمق والسفه حتى لم يحسب أن في السماء قصاصا وعدلا، ومستخفا طائشا غرر به بطانة السوء وحاشية الشر فهوت به إلى الدرك الأسفل فاصبح في ذمته التاريخ. . .
إن في التاريخ عظات ولكنه لم يتعظ، وفي سلوك جده عبرة ولكنه لم يعتبر. كان يعيش في دينا غير دنيا الناس، وخيل إليه أنه إله يجب أن يعبده شعب مصر، (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) صدق الله العظيم
محمد عبد الله سمان(998/4)
عدد (1000) من الرسالة
ذكريات وخواطر
للأستاذ على الطنطاوي
لما سمعت أن الرسالة كادت تستكمل أعدادها الألف، دهشت وفرحت، كما يدهش من يقال له لقد غدا ولدك شابا، ويفرح به كأنه شبابه لأول مرة، وما ذاك عن جهل به أو إهمال له، بل لأنه لا يزال يذكر مولده وطفولته، ولأنه يراه كل يوم فلا يحس أنه تغير، ولا يدري متى جاوز الطفولة إلى الشباب، وأنا أذكر أبداً فرحتي بصدور الرسالة، وموقف أخي أنور العطار، وقد جاء بالعدد الأول منها فخبأه وراء ظهره، وقال: أحرز.
- قلت: ماذا؟ - قال: الزيات أخرج مجلة أدبية.
إنني أحس من شدة وقع الفرح في نفسي لما قالها كأن قد كان ذلك أمس. . . فكيف مرت الأيام حتى بلغ عمر الرسالة ألف أسبوع؟ كيف مر هذا الأمد الطويل، وكأنه من قصره ليالي الوصال!
ألف عدد؟! كم أنفقت من ذهني في إعداد المقالات لها، ومن أعصابي في ارتقاب وصلها! وكم سألت الباعة عنها؛ في شارع رامي في دمشق، وفي سوق السراي في بغداد، وفي العشار في البصرة، وعلى السور في بيروت، وعند باب السلام في مكة، وعند الجسر في الدير، وفي شارع الملوك في حيفا، وفي كل بلد عشت فيه أو مررت به! وكم قرأت مسوداتها وراء مكتب رئيس التحرير في الإدارة، وأمام الآلات في المطبعة! كانت الأيام عندي السبت والأحد ويوم الرسالة، وكانت تتبدل على المشاهد، ويتغير الرفاق؛ ولكن الرسالة هي رفيقي الدائم! أذكر كل عدد منها، وكل مقال نشرت فيه، وكل مناقشة فيها وكل بحث، وقالت زوجتي أول ما قدمت علي:
- إنني لا ضرة بي، ولكن الرسالة ضرتي.
ثم رأت - وهي من أعقل النساء وأفضلهن - أنها ضرة لا تضر ولا تؤذي.
كم وضعت فيها من قلبي ومن فكري، ومن مشاهد حياتي ومن ذكرياتي، ومن آلامي ومن آمالي، من سنة 1933 إلى اليوم.
ألف عدد، وستعيش الرسالة إن شاء الله حتى تبلغ الألف العاشر، وحتى تكون من أعلاق(998/5)
المكتبة العربية وكنوزها - وقد كانت.
ستعيش حتى يصير في مثل عمر (المقتطف)، وليست المقتطف - مد الله في عمرها - بأحق منها بالخلود.
ولقد كان للرسالة فضل على اللغة، وفضل على الأدب، وفضل على الأخلاق، وكان لها عمل كبير في إحياء روح الدين في دنيا الإسلام.
ولقد أخرجت للناس كتابا وشعراء، وكانت مدرسة للبيان العربي، جئناها شبابا فمشينا في ركاب شيوخ الأدب، وبقينا فيها حتى أوشكنا أن نعد في الشيوخ، وهل بعد خمس وأربعين شباب؟
لقد ولى الشباب، وذبلت زهرة العمر، وجاءت الكهولة، إن نسيتها ذكرتني بها كل جارحة من جوارحي، وكل عضو من أعضائي: أن أثقلت الطعام قالت المعدة: حاذر إنك لم تعد شابا. وإن مارست ما كنت أمارس من الرياضة قال القلب: قف إنك لست بشاب. وإن تعرضت للبرد قالت المفاصل: تنبه، لقد فارقت عهد الشباب.
وإن تطلعت إلى الحب، أو ابتسمت للجمال، قال الفؤاد الملول السأمان. . . ويا ما أشد ما يقول الفؤاد السأمان الملول!
وإن اشتعلت في الأعصاب نيران الحماسة، وأخذت (ذلك) القلم الذي كنت أكتب به في الأيام الخوالي، تراءت لي هموم الأسرة، فأطفأت نار الحماسة في أعصابي.
كنت وحيدا خفيفا؛ وكان لي جناحان من أحلامي وأماني، فأثقل ظهري بناتي الأربع وأمهن وعماتهن وعمة أبيهن، واصطدم جناحاي بأرض الواقع، فبينت ضلال الأحلام وكذب الأماني، فتحطما، فكيف يطير بغير جناحين من يحمل هم ثماني نساء؟
إني لأقف الآن لأراجع حسابي، وأنظر ماذا ربحت وماذا خسرت!
أما الرسالة فقد أفضلت علي، وأضاءت للناس مكاني، ومشت باسمي إلى بلاد ما كنت أسمع بها، وجاءتني بالشهرة والجاه ومجد الأدب، وعرفتني بإخوان كرام في أقطار ما دخلتها ولا أظن أني سأدخلها، وهذي رسائلهم تحت يدي من المشرق والمغرب، من إيران وإندونيسيا واليابان؛ فهل تعلمون أن للرسالة سوقا وقراء في اليابان؟ ومن تونس والجزائر ومراكش وأميركا. ولقد كتبت مرة مقالة عن - الحياة الأدبية في دمشق - فتجاوبت في(998/6)
الرسالة أصداؤها ببضع عشرة مقالة فيما أذكر عن حياة الأدب في هاتيك البلدان، وكانت مناقشة مرة بيني وبين الأستاذ محسن البرازي، الذي صار رئيس الوزراء حسني الزعيم، ثم قضى رحمه الله. فجاءني التأييد من - جاوا - وهذه جريدة - برس - بشيراز تنشر الآن كتابي الجديد (كلمات) مترجما إلى الفارسية، بقلم الأديب الفارسي الأستاذ أحمد آرام؛ مع تعليقات في المدح والتأييد شعراً ونثراً، يمن بها على القراء، وهي على وشك الترجمة إلى الأردية ولولا الرسالة ما كان هذا كله.
ولكن ما جدوى هذا كله؟ ما الشهرة؟ ما الجاه؟
إن لأكتب هذه الكلمة وأنا في دار في مضايا منفردة في الجبل، وأنا مريض وحيد منعزل، فهل أذهبت الشهرة عني المرض، أو دفع الجاه عني الملل؟ وكذلك أنا في دمشق، أنا منذ سنين أعيش في حلقة مفرغة لا تكاد تتجاوز الدار والمحكمة والسينما، حتى يوم الجمعة، وحتى يوم العطلة أذهب إلى المحكمة كالحمار (ولا مؤاخذة. . .) الذي يدور بالسانية، إن أطلقت عنقه من الحبل عاد يدور، لأنه مربوط من قيد العادة بحبل لا تراه العيون.
فماذا ينفعني في عزلتي وسأمي أن يمدحني في بلاد الله من ألف، وماذا يضرن أن يذموني أو ألا يكونوا قد سمعوا باسمي وماذا يفيدني وأنا أعيش في دمشق عيش الغريب، أن يكون (وهذا هو الواقع - ولا فخر) بين كل عشرة يمرون في أي شارع فيها، خمسة على الأقل يعرفون أسمي، ويحفظون طرفا من مناقبي، أو أطرافا من مثالبي.
ولقد اشتغلت الجرائد منذ سنة أسبوعا كاملا بشتمي وسبي في صفحاتها الأولى من أجل تلك الخطبة المشهورة، وفعلت مثل ذلك أيام الانتخاب سنة 1947، ونسبت إلى نقائص تشبه إبليس، فهل يصدق القراء أني لم أبال بها، حتى أني لم أقل أكثرها. أقسم بالله أن هذا الذي كان؟ ولقد نشرت الجرائد مرات أخرى أطيب الثناء عليّ، وألصقت بي مناقب تزين الملائكة فما باليت بها أيضا، لأن كل طرفي قصد الأمور ذميم والثناء إن زاد كالهجاء إن زاد، كلاهما أقرب إلى الكذب وما أن ملك ولا أنا شيطان، ولي حسنات ولي سيئات، وأنا أعرف بنفسي من سائر الناس. . .
إني لأسأل مرة ثانية: ما الشهرة؟
إن الشهرة وهم ليس له في سوق الحقيقة قيمة، وليس له في ميزان الواقع وزن، حتى أن(998/7)
هذا الحرف (أي الشهرة) لا يصيب لغة، ولا تكون الشهرة في الفصيح إلا بالعيب والعار والفضيحة ولكن الألسنة أدرتها على هذا المعنى، فكتبنا للناس ما يفهموا.
إن الشهرة سراب زائف، إنها مثل (المستقبل) الذي يركض وراءه الناس كلهم فلا يصلون إليه أبدا، لأنهم إن وصلوا إليه صار (حاضرا) وعادوا يفتشون عن مستقبل آخر يعدون إليه كحزمة الحشيش المربوطة برأس الفرس يسعى ليدركها وهي تسعى معه أبداً!
إنني أقول هذا من أعماق قلبي مؤمنا به؛ ولقد مر علي زمان كان أحلى أماني فيه أن أسير فيشير إلى الناس بالأيدي يقولون هذا علي الطنطاوي، وإن أعلو خطيبا كل منبر، وإن أجد أسمي في كل صحيفة، وكان قلبي يتفتح للجمال، ويستشرق للحب، فلما جربت هذا كله، وذقت لذته، صار كل ما أرجوه أن أتوارى عن الناس، وإن أمشي بينهم فلا يعرفني منهم أحد.
لقد مر بي أكثر العمر، ورأيت الحياة، ونلت لذاتها وجرعت آلامها، لم تبق متعة إلا استمتعت بها، فلا اللذائذ دامت ولا الآلام، ولا الشهرة أفادت ولا الجاه، ولقد شهدت حربين عالميتين، ورأيت تعاقب الدول على الشام من العثمانيين إلى الفرنسيين إلى من جاء بعد، ومن قام ومن قعد، ومن أتى ومن ذهب، ولو أردت الوزارة وسلكت طريقها لبلغتها من زمان كما بلغها من مشي على أثري في الدراسة وفي الحياة، ولو شئت لكنت من المشايخ الذين تقبل أيديهم ثم تملأ بالمال، فيملكون الضياع والسيارات، ويصيرون بحرفة الدين من كبار أبناء الدنيا؛ ولكني ما وجدت شيئا يدوم. تذهب الوزارة فلا تترك إلا حسرة في نفوس أصحابها، ويصحو الناس فيعلمون أن الذي يأكل الدنيا بالدين، لا يمكن أن يكون من الصالحين المصلحين، فزهدت في المناصب والمراتب والمشيخات، وهانت على وصغرت في عيني؛ ولم يبق لي من دنياي (الآن) إلا مطلب واحد: يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود، وغاية الحياة، وأستعد بها لما بعد الموت، وهيهات يقظة القلب في هذا العالم المادي!
إن الذي يبلغ ذروة الجيل تنكشف له الجهة الأخرى، فيرى ما بعد الانحدار، وأنا قد بلغت ذروة العمر وانحدرت ولكني لم أبصر شيئا، إن الطريق مغطى بالضباب، وقد أضعت مصباحي في زحمة الحياة، ومعترك العيش.(998/8)
أما الرسالة فقد أفضلت عليّ وأحسنت إلي. وما أشكوها، إنما أشكو دهري، وأشكو نفسي، ومن حق الرسالة عليّ تحية خير من هذه التحية في عيدها الألفي؛ ولكني أكتب بيد عليل، من فكر كليل، ولي من الأستاذ الزيات الصديق النبيل، العذر الجميل.
علي الطنطاوي(998/9)
ميثاقان لا ميثاق واحد
للدكتور عمر حليق
لم يكن بد لهذه الناسكات السيئة التي منيت بها قضايا العرب والمسلمين وقضايا دولية أخرى في هيئة الأمم من أن تخلق في عقول الناس وأفئدتهم فتورا إزاء كل ما يصدر عن هذه الهيئة العالمية من نشاط.
وليس في ذلك من عجب. فهيئة الأمم المتحدة في ميثاقها وفي أهدافها نتاج فكري تحمست ليصاغته وتحديده في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة جماعة من أئمة الفكر السياسي المعاصر مزودين بمثالية عميقة ودراسة دقيقة لمشاكل الإنسانية وآمالها، ورغبة صادقة لإصلاح ما أفسدته الحروب وشرورها من دنيا الناس وفي عقولهم وأفئدتهم.
ولكن تاريخ الإنسانية منذ أقدم العهود يأبى إلا أن يتجاهل قوالب الفكر الصائب ودعائم المثالية الصادقة؛ ويندفع في صياغة الأحداث على نحو يراعي جنون السياسة وشذوذ أساليبها ومسالكها أكثر من مراعاته لاتزان الفكر وروحانية المثاليين من بناة المجتمع الذين تجردوا مما يتعرى السياسة العملية من انتهازية لا ترحم ومكر لا يرتدع.
وفي خضم هذه الجلبة التي تنبعث عن شقاق المعسكرين المتطاحنين الغربي والسوفيتي في حلقات الأمم المتحدة وصدى تراشق التهم ومساوئ السلوك الذي توجه به وفود هذين المعسكرين أعمال الأمم المتحدة وقراراتها. . . في هذا الخضم تندثر معالم جزء عام من العلاقات الإنسانية تعمل على خدمته هيئات اختصاصية متفرعة عن هيئة الأمم في واحدة أو أكثر من هذه القاعات الهادئة المكيفة بأحدث آلات التهوية والإضاءة والمزينة بفاخر الأثاث والتي تطل على النهر الشرقي التي تحيط بمقر الأمم المتحدة الدائم هنا في نيويورك. ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة واحدة من الهيئات الاختصاصية التي تعمل خلال انفضاض الجمعية العامة في فصل الربيع والصيف وهذه اللجنة هيئة لا تضم جميع الدول الأعضاء في هيئة الأمم - وهم ستون دولة - وإنما تقتصر على فئة مختارة تمثل نختلف النظم السياسية المعاصرة والمناطق الجغرافية التي تقسم إليها هذه المعمورة، ففيها الروس والأمريكان والبريطانيون والفرنسيون؛ وفيها من يمثل القارة الآسيوية والشرقي العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.(998/10)
وقد أنشأت هذه اللجنة منذ أن استقر لهيئة الأمم كيانها الداخلي في السنتين الأوليين من عمر هذه المؤسسة العالمية. وكلفت هذه اللجنة في عام 1947 أن تصوغ ميثاقا عالميا يضمن للفرد في المجتمع ما وهبه الله من حقوق طبيعية وما اكتسبه من حقوق قانونية وسياسية واقتصادية واجتماعية وفرها لها تاريخ الفكر وصراع الناي وتطور المجتمع على مدى الأجيال.
إذن فمهمة اللجنة هي في الواقع مهمة مثالية المفروض فيها أن تستوحي العقل والروح؛ وإن تتجنب نزاعات السياسة الانتهازية وفوضى السلوك الدولي الذي يهيمن على أعمال معظم اللجان والهيئات والمجالس في الأمم المتحدة.
وكان من المنتظر أن يستغرق وضع هذا الميثاق العامل لصيانة حقوق الإنسان وقتا طويلا. لكل ثقافة ولكل كتلة سياسية تفسير خاص عن جوهر الحقوق والواجبات للفرد في المجتمع الأكبر، وهذا التباين مردة اختلاف اجتهاد الثقافات والنظم الفكرية وفلسفات السياسة والاقتصاد في إيضاح صلة المواطن بدولته والنظم القائمة عليها؛ وعلاقة الفرد بالجماعة الإنسانية التي تشاركه العيش في بقعة معينة من هذا العالم الواسع.
ومضت لجنة حقوق الإنسان تعمل في تؤده، فتوصلت في دورتها الأولى والثانية (1947 و1948) لوضع مسودة الميثاق وخطوطه الرئيسية، واتفقت مبدئياً على أن تنشر في الناس الأسس الفكرية وخلاصة المبادئ والنظريات التي تستند إليها في صياغة المواد التفصيلية لهذا الميثاق العالمي، ومن ثم وضعت وثيقتها الموجزة المعروفة (بإعلان حقوق الإنسان) وهي بيان قصير لا يعرض جوهر الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبني البشر، ولا يدخل في تفصيلها وتعريف الناس بنا يتصل بها من حقوق فرعية وصيانة ذلك والمطالبة به. وتركت هذه التفاصيل الجوهرية إلى الميثاق الشامل الذي قررت اللجنة متابعة الدارسة والبحث في مواده وفصوله إلى الدورات القادمة.
وفي سنة 1948 وافقت الجمعية العامة لهيئة الأمم على صيغة (إعلان حقوق الإنسان) كما صاغته اللجنة، وأوصت الجمعية العامة اللجنة بأن تتابع عملها لصياغة المواد التفصيلية لهذه الحقوق.
وأخذت اللجنة تعقد دورات متتابعة فاجتمعت في عامي 1949 و1950 وتوقفت عن العمل(998/11)
في عام 1951 بسبب تأخر بعض الدول عن الإجابة على الأسئلة التي وجهتها اللجنة إليها عن مدى انطباق التشريعات المعمول بها في تلك الدول على مبادئ حقوق الإنسان. ثم عادت اللجنة فعقدت دورة أخرى هذه السنة في المقر الدائم لهيئة الأمم هنا في نيويورك استغرقت تسعة أسابيع من 14 إبريل إلى 13 يونيو وترأس هذه الدورة الدكتور شارل مالك رئيس الوفد اللبناني الدائم لدى هيئة الأمم. وقد سبق للمسز روزفلت عقيلة رئيس الجمهورية الأمريكية الأسبق أن ترأست عددا من الدورات السابقة.
وفي خلال هذه السنوات التي انقضت على تألف لجنة حقوق الإنسان في عام 1947 ألم بالعلاقات الدولية من التوتر ما أتاح لجنون السياسة وشذوذها أن ينافس الاتزان والمثالية التي كان المفروض في اللجنة وأعضائها أن يهتدوا بها في اجتهادهم لصياغتهم لميثاق حقوق الإنسان كمعاهدة عالمية تتقيد بها الدول مترفعة عن المؤثرات والأهواء والنزعات السياسية ومتقيدة بالمثل الفكرية والوعي الثقافي واليقظة العاطفية التي تسود المجتمع المعاصر في عالم مرت به في الأزمنة الحديثة ألوان من التطور والتجارب ما أرهق احساسات الفرد وأذكى وعيه وفرض على الدولة نهجا في السلوك واجب في تهاد التشريع يتناسب مع يقظة هذا الشعور وشدة هذا الوعي.
ولذلك فقد سيطرت على جو اجتماعات لجنة حقوق الإنسان في دورتها الأخيرة اعتبارات سياسية زادت من شدة التباين بين الثقافات والنظم التي يمثلها أعضاء اللجنة.
فأصر المندوبون الروس وزملاؤهم من الدول التي تؤمن بالناظم الماركسي على ضرورة توكيد الحقوق الاقتصادية للفرد في الميثاق الدولي الذي تشغل به اللجنة توكيدا مفضلا على التوكيدات الأخرى؛ لأن العنصر الاقتصادي في رأيهم هو المهيمن على سلوك الفرد إزاء الدولة والمجتمع؛ وعلى اجتهاد الدولة والمجتمع في مجاراة هذا السلوك، ولم يأخذ المندوبون الأمريكان وحلفاؤهم - وهم كثرة بين أعضاء الأمم المتحدة - بهذا التفسير الماركسي، وأخذوا يشرحون - في كلام كثير وفي مقترحات عديدة وتعديلات متلاحقة - بأن الديمقراطية الحقة كما يفهمها الأمريكان ويمارسونها في أنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي الضمان الوحيد لحقوق الإنسان وتنظيم علاقاته مع الدولة ومع إخوانه في الإنسانية. ومن ثم كان المنطق الأمريكي في النقاش وفي المقترحات والتعديلات التي(998/12)
وجهت إلى مواد الميثاق المقترح يتعمد توكيد الحقوق المدنية السياسية والأسس الديمقراطية (كما يفهمها الأمريكان) في الحكم وفي سلوك الفرد توكيدا مفضلا على سواه من التوكيدات.
وكان من الممكن أن تسود وجهة النظر الأمريكية في أعمال اللجنة بفضل ما للأمريكان من نفوذ في أعمال الأمم المتحدة لولا ظاهرة مستجدة في حاضر السلوك الدولي. . هذه الظاهرة يمثلها وتعبر عنها طائفة من الدول الصغرى في آسيا وأمريكا اللاتينية وهي دول إن فقدت النفوذ العسكري والسياسي في تسيار العلاقات الدولية فإن لها ضربا آخر من النفوذ يستند إلى تعداد أصواتها في المؤتمرات الدولية - وهو تعداد يرجح الكفة حين يتكتل ويجمع على اتخاذ خطوة يختلف عليها الكتلتين الرئيسيتين (السوفيتية والأوروبية - الأمريكية) التي تكثر اختلافاتها في حلقات التفاوض أو الخصومة الدولية.
وإزاء اختلاف الروس والأمريكان في وضع حجر الزاوية وتحديد نقطة الارتكاز في حقوق الإنسان وهي العنصر الاقتصادي أن الحرية السياسية والمدنية بأوسع معانيها نشط منودبو الدول الصغرى الذين يمثلوا آسيا (ومعهم مندوب مصر الدكتور محمد عزمي) وأمريكا اللاتينية إلى التكتل، أصروا على أن تجربتهم في عهود الاستعمار والسيطرة الأجنبية لم تقنعهم بأن توكيد الحرية السياسية كما فسرها الأوربيون والأمريكان كاف لأن يضمن للفرد حقوقه الطبيعية وحقوقه المكتسبة، وإن التطور الذي ألم يحاضر الفكر يفرض على اللجنة أن توازن موازنة عادلة بين فضائل الحرية السياسية بمعانيها الواسعة الشاملة وبين فضائل الضمان الاقتصادي والاجتماعي. فالناس في الشعوب الآسيوية والأفريقية واللاتينية التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي والاجتماعي لا تستطيع أن تضمن حقوقها السياسية وتوطد حرياتها الديمقراطية ما لم يتوفر لديها من أسباب العدالة الاقتصادية والضمان الاجتماعي ما يساعدها على أن تنال حرياتها السياسية كاملة، فالفرد الذي لا يتوفر له فرص اقتصادية تعينه على ملء معدته، وطريق اجتماعية تساعده على تغذية عقله بالعلم والتحصيل، لا يحسن الانتفاع بحريته السياسية حتى لو تحققت له كاملة في الدساتير والتشريعات.
وتعمد مندوبو الدول الصغرى أن يفهموا اللجنة بأنهم في حماسهم لتوكيد التوازن بين الضمان الاقتصادي - الاجتماعي، وبين الحرية السياسية والمدنية؛ ليسوا مدفوعين بعداء أو ولاء لأي من النظم (السوفيتية أو الأوربية - الأمريكية) وإنما هم مقيدون بما يلمسونه(998/13)
من تباين في مجتمعاتهم والآسيوية والإفريقية اللاتينية وبين المجتمعات الأوربية والأمريكية في مدى التطور وفي مستوى الوعي وفي معاول الاجتهاد للحاق بهم في ميدان المساواة الدولية.
والدول كالأفراد فاقدة الحول بمفردها ولكنها شديدة البأس في تكتلها وتكافلها، وهكذا كان حال مندوبي الدول الصغرى في لجنة حقوق الإنسان، فقد فرضوا بفضل تآزرهم على الروس والأمريكان وجهة نظرهم، فلم يجد هؤلاء مفرا من أن يلاقوا رغبات الدول الصغرى. فاستنبطت العقلية الأنجلو سكسونية ما اعتقدت أنه حل وسط. وتقدم الوفد الأمريكي وحلفاؤه باقتراح يطلب من اللجنة أن تحصر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ميثاق؛ وإن تجمع الحقوق السياسية والمدنية في ميثاق ثان، ويترك للدول الخيار في قبول أي من الميثاقين أو قبولهما معا.
ورفضت أكثرية الدول الآسيوية واللاتينية قبول هذا الاقتراح الأمريكي؛ وقالت بأن الهدف من صياغة حقوق الإنسان في ميثاق عالمي توقعه جميع الدول هو ضمان الحريات الكاملة للفرد. فلا معنى لأن نفصل بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبين الحقوق السياسية والمدنية، فكلاهما متمم للآخر. فالخيار في مثل هذه الحالة يقضي على المبدأ الذي تستند إليه اللجنة وهو مبدأ الإجماع. فكما أن السيادة جزء لا يتجزأ فإن الحرية كذلك لا تتجزأ.
ورفض الوفد الروسي هذا الاقتراح الأمريكي وأخذ بوجهة نظر أكثرية الوفود الآسيوية واللاتينية لا لأنهم يشاركونه في الرأي - فالحقوق السياسية في روسيا نفسها مفصولة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية - ولكن الوفود الشيوعية في الأمم المتحدة تعارض كل اقتراح أو فكرة يطرحها الأمريكان على بساط البحث في الأمم المتحدة مهما كان صائبا. وهذا الحال ينطبق كذلك على موقف الأمريكان من اقتراحات الروس وحلفائهم.
واستطاع الوفد الأمريكي أن يضمن الفوز لاقتراحه بوضع ميثاقين لحقوق الإنسان بدلا من ميثاق واحد. وجدير بالذكر أن الهند قد خرجت عن الوفود الآسيوية الأخرى في معارضة الاقتراح الأمريكي، وشاء بعض الخبثاء في هيئة الأمم أن يفسروا تراجع الهنود على ضوء المباحثات المالية التي كانت تقوم بها الهند مع أمريكا آنئذ والتي أدت فيما بعد إلى منح(998/14)
الهند معونة مالية سخية.
وكذلك خرجت لبنان إلى إجماع الدول العربية والآسيوية في معارضتها للاقتراح الأمريكي. ولرئيس وفد لبنان الدكتور شارل مالك غرام لا حد له بكل ما يمت إلى أمريكا بصلة.
ولم تجد اللجنة إزاء إقرار الاقتراح الأمريكي بأكثرية تافهة بدا من أن تتابع عملها لوضع ميثاقين بدلا من ميثاق واحد، وأكثريتها الساحقة مؤمنة بأنها ستستطيع في المراحل النهائية حمل الجمعية العامة لهيئة الأمم على دمج الميثاقين في ميثاق واحد بمؤازرة بقية الدول الصغرى التي ليست ممثلة في لجنة حقوق الإنسان والتي لها أكثرية الأصوات في الجمعية العامة.
أما المرحلة التي وصلت إليها اللجنة في دورتها الأخيرة فلا تتعدى مراجعة المواد الأساسية للميثاق الذي يسعى لأن يضمن الحقوق المدنية والسياسية، وإلقاء نظرة عابرة على الميثاق الثاني الذي يعتني بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولم تدقق اللجنة في المواد الإضافية التي صيغت في دورات سابقة لتخويل الأفراد حق رفع الشكوى، وتقديم المظالم ضد الدول التي تمتهن حقوقهم؛ وهناك محاولة تقوم بها الدول الشيوعية ونفر من الدول الأوربية والأمريكية لمنع الأفراد والهيئات والمؤسسات الشعبية من رفع الشكاوى والمظالم إلى لجنة حقوق الإنسان.
وقد صمدت وفود الدول الآسيوية لضغط شديد، وجهته الدولة الاستعمارية فيما يتعلق بإدخال مادة (حق تقرير المصير للشعوب التي لا تحكم نفسها بنفسها) في ميثاق الحقوق المدنية والسياسية، وهذا يعني اعتراف لجنة حقوق الإنسان بأن صراع الشعوب الخاضعة للحكم الأجنبي هو حق مشروع منصوص عليه في ميثاق حقوق الإنسان. وهذا طبعا أمر لا ترضى عنه الدول الاستعمارية، وقد أخذت الولايات المتحدة الأمريكية بوجهة نظر بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من الدول المستعمرة، ولكن اللجنة لم تجد بدا من إدخال مادة (حق تقرير المصير) على الميثاق بعد جدل استغرق جلسات عاصفة، ساد فيها الرأي للوفود الصغرى من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
والفقرة الأولى من هذه المادة تنص على أن (لجميع السكان ولكل الشعوب حق تقرير مصيرهم؛ وهو حق يقرر في حرية تامة وضعيتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية(998/15)
والثقافية).
والفقرة الثانية تطلب من جميع الدول أن تسعى لتثبيت حق تقرير المصير في جميع المناطق (الخاضعة لها) بموجب ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة.
والفقرة الثالثة تؤكد بأن حق تقرير المصير يشمل سيادة الشعب وامتلاكه لثروته القومية وخيراته الطبيعية؛ ولا يصح في أية حالة من الحالات لأية دولة أو دول أن تتذرع بأي من الأعذار أو الحقوق (المفتعلة) لتحول بين الشعب وبين امتلاكه لأسباب العيش (الشريف).
وقد دافع مندوبو مصر والدول الآسيوية الأخرى عن هذه القرارات دفاعا مجديا إزاء معارضة الدول الاستعمارية، وفندوا بالنقد اللاذع الأعذار التي يتذرع بها الاستعمار للسيطرة على مصادر القوة في البلدان الصغيرة، سواء لسد الفراغ كما هو الحال في نزاع مصر وبريطانيا حول قناة السويس، أو تنفيذا لمعاهدات أبرمت في أوضاع شاذة، كما هو الحال في وضعية الحماية الفرنسية في تونس وبقية أقطار المغرب العربي، أو تحقيقا لوعد مزور، كوعد بلفور البريطاني للحركة الصهيونية في امتلاك بلد كفلسطين ليس لبريطانيا حق التصرف في مصيره.
أما الفوارق الجوهرية بين الميثاقين: ميثاق الحقوق المدنية والسياسية، وذلك الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فتتلخص فيما يلي:
(1) تعتبر اللجنة أن الحقوق المدنية والسياسية هي فوق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولذلك فإن تطبيقها يجب أن يتم فورا، بينما يصح أن تطبق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مراحل (تدريجية) تتماشى مع حالة البلد الاقتصادية ومبلغ وعيها الاجتماعي والثقافي.
(2) ميثاق الحقوق الاقتصادية (الخ. . .) يجب أن لا يطبق عن طريق التشريعات الحكومية فقط، وإنما عن طريق السعي الحر للفرد وللجماعة كذلك. وليس على الدولة إلا أن تساهم - ما استطاعت إلى ذلك سبيل - في توفير الإمكانيات الحسنة للفرد وللأمة للحصول على هذه الحقوق.
وهذه نقطة كانت مجال نقاش حاد. فقد أصر مندوبو الدول الشيوعية على أن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا يتم إلا عن طريق التشريعات الحكومية،(998/16)
والحكومية وحدها.
(3) بينما تعمد ميثاق الحقوق المدنية والسياسية أن يشرح جوهر هذه الحقوق، وتفاصيلها الفرعية؛ أهمل ميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هذا الشرح، وصاغ المواد في مبادئ عامة يشوبها الغموض وتكون مدعاة لسوء الاجتهاد أو للتطرف فيه.
وسبب هذا التباين في لغة الميثاقين ومضمونهما هو اختلاف فلسفات الحكم والنظم السياسية والمعوقات الثقافية التي تعيش عليها الكتل الدولية التي تهيمن على أعمال الأمم المتحدة هذه الأيام.
وبعد فهذا استعراض متواضع لموضوع خطير؛ فليس أنفع لمجرى العلاقات الإنسانية من أن يدرك الفرد ماله من حقوق تستند إلى وثائق دولية همها أن توفر له ذخيرة (قانونية) يستعين بها على توطيد حقوقه الطبيعية والمكتسبة حين يعصف بهذه الحقوق نظام غاشم، إن أفلح في طبت الرأي العام المحلي، فإنه أضعف من أن يقهر الرأي العام العالمي، بعد أن تشابكت عناصره في معظم ألوان النشاط الإنساني.
وما هذا الاتجاه الذي ساد في لجنة حقوق الإنسان لتجزئة الحقوق إلى مدنية سياسية، وأخرى اجتماعية ثقافية، إلا محاولة لإعادة عجلة الحياة والوعي الإنساني خطوة إلى الوراء؛ ولكن الحياة قطار يسير هذه الأيام بوقود الفكر الواعي والشعور المتقد، ومن خصائص المواصلات أن تسير قدما، لا أن تعود القهقري.
نيويورك
عمر حليق(998/17)
علم النبي بالغيب
للأستاذ ناصر سعد
ذكرت لنا كتب التاريخ الإسلامي أن النبي (ص) كثيراً ما كشف عن حوادث لا يعرف سرها إلا أصحابها، وكثيراً ما أنبأ عن حوادث المستقبل فكانت كما قال. إن النبي ولا شك كان يعلم الغيب فيخترق بعقله أو بروحه الحجب ويعرف حقائق أسرار الكون، وكل ذلك بقوة إلهية وهبت له كنبي عظيم جعله ربه خاتما لأنبيائه، ولا مجال لتكذيب هذا الأمر اليوم بعد أن أقر علم النفس الحديث (قراءة الأفكار) واثبت علم الأرواح أن بالإمكان إحضارها ومحادثتها، وإن بعض نجاح الأناس العاديين بهذين العلمين هذا الزمن لهو خير دليل على تمكن النبي (ص) من اختراق حجب السماء والاتصال بالأرواح الخيرة والملائكة، لأنه زيادة على السر الإلهي المودع فيه ذو نفس أكبر وأزكى، وذو عقل أوسع وأنمى من عقول البشر. ونقول إنه سر إلهي أودعه محمدا (ص) بعد البعثة؛ إذ لو لم يكن كذلك لظهر له من المعجزات قبل بعثه ولتحدث عنها التاريخ. ولما كان في تلك الحوادث متعة وفي عرضها إظهار لعظمة النبي أحببنا أن نعرض بعضها على باصرة القارئ؛ فنقول إن من تلك الحوادث:
حادث عمار بن يسار (رض) لما دخل على الرسول (ص) وقد أرهقه قريش بالأذى وحملوه وأثقلوه باللبن فقال (يا رسول الله! قتلوني، يحملون على ما لا يحملون) فقال رسول الله (ويح أبن سمية ليسوا بالذين يقتلونك. إنما تقتلك الفئة الباغية) قيل وسمع رسول الله (ص) يقول (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فإن الحق يومئذ لمع عمار) ولما كانت صفين خرج عمار على رأس كتيبة لعلي بن أبى طالب (ص) فطعنه أحد رجال معاوية فانكشف مغفره عن رأسه فضربه الرجل على رأسه فقتل (ض)
ومنها أن النبي (ص) لما خرج إلى العشيرة ونزل بها ذهب علي بن أبي طالب (ض) وعمار بن ياسر (ض) إلى عين ماء ونخل لبني (مدلج) فنظرا كيف يعمل أهلها ثم عشيهما النوم فناما وسفت عليهما الريح التراب وما هما إلا برسول الله (ص) يوقظهما قائلا لعلي: (مالك يا أبا تراب؟ - لما عليه من التراب - ثم قال: ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين قالا: بلي يا رسول الله. قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذا -(998/18)
ووضع يده على قرنه - حتى يبل منه هذه - وأشار إلى لحيته -). وقد كان ما كان من ضرب ابن ملجم رأس أمير المؤمنين علي على رأسه. ومن ذلك أن صفوان بن أمية وعمير بن وهب اجتمعا في الحجر بعد نكبة قريش ببدر وأسر وهب بن عمير بن وهب؛ فقال صفوان يذكر القتلى من أصحابه: والله إن في العيش بعدهم خيرا، فقال عمير: صدقت والله. أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء؛ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله - قال صفوان: على دينك أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما يقوا لا يسعني شيء ويعجزهم، فقال عمير: فاكتم شأني وشأنك. قال صفوان (أفعل) ثم أعد عمير سلاحه فسم سيفه وذهب إلى المدينة يريد النبي فرآه عمر على باب مسجد الرسول وهو يحمل سيفه فدخل على رسول الله (ص) فقال له: يا نبي الله! هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، قال: فأدخله عليّ، فلما دخل عمير بن وهب ورآه الرسول (ص) ورأى عمر قد أخذ بحمالة سيفه قال: أرسله يا عمر. ادن يا عمر، فلما دنا فمن النبي قال: انعموا صباحاً، فقال النبي: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير. بالسلام تحية أهل الجنة، فقال عمير: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث العهد، قال النبي: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال قبحها الله من سيوف وهل أغنت شيئا؟ قال النبي اصدقني ما الذي جئت به؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال النبي (ص) بل قعدت أنت وصفوان في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم ذكر جلية الأمر فانبهت عمر وقال: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء. . الخ ثم اسلم.
ولما أسر العباس عم النبي يوم بدر وطلب منه النبي أن يفدى نفسه ويفدي أبني أخويه عقيلا ونوفلا قال فإنه ليس لي مال، قال النبي (ص) فأين المال الذي وضعته عند أم الفضل بمكة حين خرجت وليس معكما أحد؟ ثم قلت إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا ولعبد الله كذا، قال العباس: والذي بعثك بالحق نبيا ما علم بهذا أحد غيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ثم إنه فدى نفسه بمائة أوقية ولكل من ابني أخويه أربعين أوقية وقال: تركتني أسأل الناس في كفي، ثم إنه أسلم وأمر ابن أخيه عقيلا فأسلم.
ومن ذلك ما روى عن سلمان الفارسي (ص) قال ضربت في ناحية من الخندق فغلظت(998/19)
على صخرة ورسول الله (ص) قريب مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان على نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول رقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت تحته برقة أخرى، فقال سلمان للنبي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال الرسول: أو قد رأيت يا سلمان؟ قال نعم، قال أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح بها المشرق - وكان كما قال رسول الله من الفتوحات التي من بها الله على الإسلام، وهنا نقول إنه يتراءى للقارئ الكريم أن ظهور البرقة من دق الحديد بالحجر شيء عادي لا يبهر الناس ولكن الحال هنا ليس كذلك؛ لأن من مثل سلمان الفارسي والذي خبر الحياة وعركها ورأى ما رأى من جبال فارس والحجاز لم يكن لتعجب من البرقات الثلاث إلا لأنه رآها حدثت بحال غير عادية طبعاً.
ومنها أن رسول الله (ص) لما خرج لغزو بني المصلطق وسلك بالناس الحجاز ووصل ماء بقعاء ثم راح منها هبت عاصفة شديدة خاف منها المسلمون، ولما رأى النبي جزعهم قال: لا تخافوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار - قيل فلما وصل المسلمون المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت وهو أحد عظماء بني قينقاع قد هلك ذلك اليوم.
ومن ذلك أن رسول الله (ص) لما دخل الكعبة بعد الفتح أمر بلالاً (ض) أن يؤذن، وكان أبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جالسين بفناء الكعبة ولم يسلم هذان الأخيران بعد فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغضبه، فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محق لا تبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً لو تكلمت لأخيرت عني هذه الحصى - قيل فلما جاءهم الرسول (ص) قال: قد علمت الذي قلتم، ثم حكى لهم ما كانوا تكلموا به، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله. . . والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.
ومنها أن حاطب بن أبي بلتعه لما تهيأ الرسول (ص) لفتح مكة كتب كتابا لقريش ينبئهم فيه بما عزم الرسول وأرسل كتابه ذاك مع سارة التي كانت مولاة لبعض بني عبد المطلب؛ فأخذته هذه ووضعته على رأسها تحت شعرها وراحت تطلب مكة، ولما علم رسول الله(998/20)
بالخبر من السماء أرسل علي بن أبي طالب (ض) والزبير بن العوام (ض) وطلب منهما أن يلحقا بالمرأة ويأخذا كتاب حاطب منها؛ فذهبا ولحقا بها في بعض الطريق وبحثا في رحلها فلم يجدا للكتاب أثراً فقال علي (ض) إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت المرأة أن لا مناص من إظهار الكتاب ناولته إياهما فأتيا به رسول الله (ص) فسأل حاطباً عن ذلك فقدم للنبي سبباً واهياً لما حدث منه وطلب عمر (ض) أن يسمح له بقتله فلم يسمح له ذلك، ثم نزلت بحق حاطب هذا هذه الآية الشريفة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدكم أولياء تلقون إليهم بالمودة. .).
ومن تلك الأنباء أن أهل جرش لما أرسلوا رجلين منهما إلى الرسول (ص) بالمدينة لينظر في أمره قال الرسول والرجلان جالسان عنده: بأي بلاد الله شكر؟ فقام الجرشيان وقالا يا رسول الله ببلادنا جبل بقال له كشر وكذلك يسميه أهل جرش فقال: إنه ليس بكشر ولكنه شكر، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن - ثم جلس الرجلان إلى أبي بكر (ض) فقال لهما: ويحكما إن رسول الله (ص) الآن ليعني لكما قومكما فقوما إلى رسول الله (ص) فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما، فلما أتيا الرجلان الرسول وسألاه ذلك قال: اللهم ارفع عنهم - قم إنهما لما رجعا لقومهما وجداهما قد أصابهم صرد بن عبد الله اليوم والساعة التي أخبرهما بها الرسول - قيل ثم أسلم أهل جرش.
ومنها أن رسول الله (ص) لما مر بالحجر إبان أمره الناس بغزوة تبوك نزل ماء وأمر الناس ألا يشربوا منها وأمرهم إن كانوا قد عجنوا منها أن يعلفوه للإبل ومن جملة قوله في ذلك: ولا يخرجن أحمد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له - قيل فعمل الناس بما أمر به النبي (ص) إلا رجلين منهم خرج أحدهما لقضاء حاجة فخنق على مذهبه وخرج الآخر فذهبت به الريح لجبلي طي؛ فلما علم الرسول (ص) بذلك قال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه.؟ فأما الذي خنق فقد دعا له الرسول فشفى، وأما الآخر فقد أهدته طي للرسول عند قدومه المدينة.
ومن ذلك أن الرسول لما بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك ملك كندة النصراني قال له: إنك ستجده يصيد البقر، ثم جد خالد يطلبه ولما كان على مد البصر من حصنه في ليلة مقمرة كان أكيدر وزوجته على السطح يستروحان وقد كثر البقر حول الحصن حتى(998/21)
أنه كان يضرب الأبواب بقرونه؛ فقالت امرأة أكيدر: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذه؟ قال لا أحد، ثم إنه أمر بفرسه وسلاح صيده فركب هو وأخوه حسان ونفر من وقومه يريد صيد البقر فلما أوغلوا في الفلاة ولقيهم خالد حاربهم فقتل حسان وأسر أكيدر ذاك.
ومنها أن عبد الله بن أنيس (ض) لما بعثه الرسول لمنازلة خالد بن سفيان بن نببح الهذلي الذي جمع الجموع لمحاربة الرسول قال لرسول الله: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه، قال: إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان وآية ما بينك وبين أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة، قيل فلما خرج عبد الله ورأى خالداً في ظعن له وقت العصر وجده كما وصفه الرسول (ص) فلما قتله وعاد ورآه رسول الله قال: أفلح الوجه، فقال عبد الله: قد قتلته يا رسول الله، قال: صدقت ومنها أن عمير بن عدي الأموي لما قتل عصماء بنت مروان الأموية عدوة النبي وذلك بغرسه سيفه في صدرها ليلا ولم يعرف أحد ذلك وجاء المسجد ليصلي الصبح مع الرسول قال له النبي بعد أن هم بالخروج من المسجد: أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم يا رسول الله قال: نصرت الله ورسول، فقال: عمير: هل على شيء من شأنها يا رسول الله؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان
العراق
ناصر سعد(998/22)
شوقيتان لم تنشرا في الديوان
بقلم محمد عدنان حسين
قرأت في العدد (992) من مجلة الرسالة الغراء مقالا للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري بنفس العنوان الذي أكتب به مقالي.
كان عنوانا أثار الرغبة الجارفة في حتى لم أستطع أن أبدا بمطالعة المجلة من أولها، وإنما استعجلت الأمر وقلبت صفحاتها إلى أن وقفت على المقال المذكور، وطفقت أقرأها بلهفة. وكيف لا؛ وأنا الآن أمام عقدين لؤلؤيين سأمتع ناظري ببهجتهما، ومنهلين عذبين سأغذي روحي بسلسالهما الخصب.
كنت أنساب مع أفكاري في القصيدة دون ما شعور خارجي وكأن جميع أوصالي انقلبت مشاعر، وحلقت طائرة في جو فسيح من المتعة والنشوة حتى انتهيت منها فجأة وامتد بصري إلى ما بعدها لأنها من غدير الثانية ما يطفئ أوامي بعذوبتها، ولكن كلمة (العدد القادم) صدمتني وتمنيت أن لو نشرت القصيدتان معا حتى لا ينقطع عليّ حبل هذه اللذة الروحانية، وكان عزائي أن موعد العدد القادم قريب.
وتلقفت العدد التالي (993) بنهم وملت على الشوقية الثانية لأسبغ على نفسي من رونقها غلالة سحرية تجعلني.
ولم تكن التوطئة التي قدم بها الأستاذ الناصري لمقاله لتزيدني إعجاباً بأمير الشعراء، فلقد ملك عليّ كل عواطف الإعجاب منذ أمد طويل، ولا عجب فهو يضطر كل مكابر إلى الاعتراف بعظمته ومكانته في ذروة الأدب.
وإنني لأذكر تماما أنني كنت من المكابرين الذين يأبون أن يعترفوا بأن (شوقي) هو حامل لواء الشعر منذ أكثر من عشرة قرون، وكنت أفضل عليه المرحوم (حافظ إبراهيم) شاعر النيل؛ ذلك لأنني قرأت ديوان (حافظ) وأعجبت به وأحتل في قلبي مكانة سامية قبل أن أطلع على بحر (شوقي) الزاخر وأمواجه المتلاطمة في حال الانفعال والقوة، أو حين تتلاعب النسمات الرقراقة. وإنما كنت قد اجتزأت ببعض النتف من شعره، وعلمتني هذه التجربة ألا أطلق الحكم اعتباطا قبل الدرس والتدقيق.
ولأعد إلى الحديث عن الشوقيتين اللتين أزفهما الآن إلى إخواني قراء الرسالة الغراء نزولا(998/23)
عند رغبة الأستاذ الناصري، ولأنني أعلم أن النفوس صادية إلى السلسبيل القراح:
الفرق بين الشوقيتين اللتين نشرهما الأستاذ الناصري، وهذه التي أنشرها الآن على صفحات (الرسالة) الزهراء هو أن الأوليين ترف طيور البشر في سمائهما، وترن ألحان السرور في جوهما، لأنهما قيلتا في مهرجانين شارك أمير الشعراء القائمين عليهما في التفاعل مع تموجات الأعراس والانطباع بقالب الفرح، وهذه إنما هي موجات من الأسى تجتاح النفوس، وأنغام بائسة مصطدمة بقوة الأقدار لأنها قيلت في رثاء (الخديوي توفيق).
لا عجب إذا انتحى أمير الشعر زاوية الحكمة في عبقريته ليغرف منها ما عركته به تجارب الحياة ويلبسه برد الوعظ ويبرزه للملأ الغافل الغارق في غفلته القاتلة حتى يوقظ النفوس النائمة من سباتها، ويجعلها تنتفض أمام هذا التذكار الذي يهزها هزا: الموت: القضاء: الحساب: كلها بيد الله. الكون ما أحقره أيها الغافلون: وبئست الحياة فيه.
بئست الدار دارنا بكت المولود من قبل علة للبكاء
حسنت نارها وساء قراها ... هل رأيت المجوس في الظلماء
بينما القوم موقدوها صباحا ... إذ تراهم وقودها في المساء)
حديث يطول! ولكنني أكتفي بما قلت لأقدم إلى إخواني القراء هذه المرثية التي حرم منها ديوان أميرنا لعل بها ما يرجونه. وسأقدم لهم في العدد القادم شوقية أخرى خلا منها الديوان. . إن شاء الله! وهذه هي القصيدة.
رثاء الخديوي توفيق
بين ماضي الأسى وآتي الهناء ... قام عذر النعاة والبشراء
نبأ معذر نفي بعضه بع ... ضا فكان السفيه في الأنباء
سر من حيث شاء كل مصاف ... ساء من حيث سر كل مراء
ما نظرنا محمداً في فتاه ... إن غفرنا الضراء للسراء
هابنا الدهر فيه حيا وميتا ... فأتانا من دائنا بالدواء
وعزاء البلاد أن يخلد الم ... لك ويحيى الآباء في الأبناء
لهف نفسي على نظام نعيم ... حله الدهر باليد العسراء
كل شيء إلى شتات ويبقى ... في التئام جماعة الجوزاء(998/24)
بئست الدار دارنا أبكت المو ... لود من قبل علة البكاء
حسنت نارها وساء قراها ... هل رأيت المجوس في الظلماء
بينما القوم موقدوها صباحاً ... إذ تراهم وقدوها في المساء
وثراها بينا يرى المرء منه ... ذا وطاء حتى يرى ذا غطاء
عاذت الطير منه بالجو لكن ... علقت من حبالها بهباء
ود (لازار) يوم أحياه عيسى ... لو تذوق المنون طعم الفناء
وهوى يوم عاود لموت لو لم ... يحيه للردى فتى العذراء
ولو أن الفرار في وسع نفس ... لزم العرش صاحب الإسراء
إن سر الحمام في النفس سار ... وقصاري الطبيب في الإفشاء
فهو الداء واحد ورثته الن ... اس عن آدم وعن حواء
والذي ارتاحت العقول إليه ... زخرف من وساوس الحكماء
(في أمان النعيم توفيق مصر) ... فرع خير الولاة والأولياء
يا جمادى ألم يكن كل بدر الأ ... رض يفدي بنصف بدر السماء
يا جمادى أما ترى حاضر الب ... درين عطلا من السنى والسناء
يا جمادى فجعت فيه أباه ... رجباً صاحب اليد البيضاء
يا أميري أبا أميري المفدى ... من لشعري بذلك الإصغاء
أسهرتني النون فيك ونامت ... لا خلت علينها من الأقذاء
وأطارت عن المضاجع جنبي ... أسكن الله جنبها كل داء
أعجلت منك مصدر العدل والإح ... سان والحلم والتقى والسخاء
من رأت مصر ملكها مطمئن الم ... هد فيه وفي ابنه بالوفاء
قام بالأمر والبلاد بلا ما ... ل وشمل الأمور ذو أجزاء
جاو العصر فخره ببنيه ... وفخار المصري بالقدماء
فبنى للبلاد للعلم دوراً ... تتباهى بالفتنة النجباء
وأبى أن يقال عن مصر والأه ... رام فيها تضن بالبناء
ويحول المحراث من هرم بي ... ن ثراها الوافي وبين الثراء(998/25)
ويرى الناس أن فلاح هذا العص ... ر فلاح غابر الآناء
فحباها دار الفنون وحيا ... ها بدار الزراعة الفيحاء
ومحا السخرة التي عهدها عه ... د قيام الأهرام في الغبراء
ليس للناس بعد خطبك رأي ... يا مبيد الخطوب بالآراء
علم السلم عند رأسك ساهي ال ... طرف باك بالعبرة الحمراء
أمسك النعش منك سيفا مهيبا ... طاهر النصل زاهداً في الدء
وذوى فيه منك روض كريم ال ... غرس داني مواقع الأفناء
وانطوت فيه منك شمس تجلى ... عند تهطال خمسة الأنواء
ملأ النعش منك والكفن الأط ... هر ملء السرير ملء الرداء
ما هممنا بأن نفديك حتى ... نقض الدهر فيك عهد الفداء
وبعثنا لك الرجاء طبيباً ... فنعوه إليك قبل اللقاء
لا جزلا الله قصر حلوان خيراً ... وجزى عابدين خير الجزاء
ذاك أخفى عنا سناك وهذا ... بفتاك السامي العلي في أزدهاء
أعذرت يوم أنذرت فتلقت ... ك ونار الفراق في الأحشاء
شاد توفيق مصر ما شاء ومن فض ... ل وعدل لقومه وعلاء
وأبى الدهر سرعة فيه إلا ... أن يتم الله نظام البناء
هو ذا الدهر عند بابك ألقى ... عذره فاعف لا بعد للرياء
وتجلد لأجل مصر فلولا ... ك لماهم قلبها بالعزاء
واحمل السيف والبس التاج وارق ال ... عرش وانهض بالدولة العلياء
وزد الملك من شبابك حسناً ... وأثر عصره بذاك الذكاء
فكفى الوقت مرشداً لك ترقى ... فيه مرقى ملوكه العظماء
وكفى العلم منك أنك تدري ... كيف ترقى البلاد بالعظماء
فأعد دولة المنابر فينا ... إن هذا الزمان بالخطباء
وارع قانوننا الرحيم وخذه ... مستضيئاً بأشراف الأسماء
أنت إن أحصيت لغات البرايا ... ترجمان الزمان في الفصحاء(998/26)
زرت ما زارت النجوم من الأ ... رض وفارقته مقيم الثناء
فسبرت الزمان أرضا وناسا ... وقلوب الملوك والأمراء
وتركت الورى يقولون لا يت ... رك هذا الأمير للأذكياء
لك عند الملوك منزلة في الس ... حب فاغنم رعاية الأصفياء
وتعزز برب (يلدز) حامي ... حوزة الدين قدوة الخلفاء
إن (عبد الحميد) سيف نضته ... آل عثمان (هاشمي) المضاء
صدق الوغد مصر فيك ومازا ... ل حفيا بآلك الكرماء
ورأى فيك رأى نور من الصد ... ق جديراً بذاتك الغراء
لك شورى أبيك تلقى صوابا ... في مائي رجالك الأمناء
إن تحرر عقولهم تملكك الآ ... راء والنيرات بالأضواء
ولك المجلس الرفيع جلاه ... أبلج الرأي مكرم الوزراء
بايع الجيش منك إسنكدر الأك ... بر في البأس والنهى والفتاء
ضاحك السن لا بتسام المواضي ... مائل العطف لاهتزاز اللواء
إن خيلا حملن (سوز ستريس) الع ... صر أولي الجياد بالخيلاء
ضاقت الأرض عن جلالك في السل ... م فماذا تركت للهيجاء
حبذا الجند أنهم يا ابن (إبرا ... هيم) أبناء صحبة الأقوياء
قمت فيهم قيام جديك من قب ... لك في يومي الندى والفداء
وعلى الآل من علاك جلال ... وكذا الرأس زينة الأعضاء
وحواليك (كامل) الفضل والص ... نو (علي) متوجا بالبهاء
دام يرقي في ظل ملكك بدراً ... في ذرى السعد ساطع اللألاء
وتهنأ بالنعمتين وفاخر ... بسماء أعظم بها من سماء
وطني قبلتي وأنت إمامي ... بك فيها لوجه ربي إقتدائي
راعني وارعني وكن لي أصفى ... لك حبي وخدمتي وولائي
ولساني فإنه لك إرثا ... عن أبيك اشتراه بالآلاء
أنت مصر ومصر أنت فدوما ... أبداً في رفاهة ووفاء(998/27)
جبلة سوريا
محمد عدنان حسين(998/28)
الأدب واللغة من الكائنات الحية
للأديب محمد عثمان الصمدي
- 2 -
كان هذا الشعور العربي باللغة ومفرداتها بل الأدب أيضا. ومن أجل هذا نرى أن اللغة قد نشأت بطريقة وجدانية. ومن أجل هذا أيضاً اختلفت ألوان البلاغات في القديم والحديث. وظل كذلك هذا الشعور في العصر الجاهلي إلى زمن كبير من صدر الإسلام حتى أصبحت اللغة لغة حياة جديدة ففقدت كثيراً من مدلولاتها على الزمن من جهة، ومن جهة أخرى زحزح الاستعمال في شؤون الحياة الجديدة كثيرا من مفرداتها عما كانت عليه في العصر الأول. وبذلك خسرت تلك الشحنة العاطفية التي أشرنا إليها من قبل. ولكنها ربحت غير قليل من الصقل والمرونة والمواتاة.
كان إذن عصر بني أمية عصر شباب للغة كما كان عصر شباب الأدب، الفطرة فيه قوية لم يبعد بها الزمن من عهود البلاغة المطبوعة. والسلائق غنائية بسيطة لم تتركب بعد بساطة الحياة التي كانت تمارس في ذلك الزمان. هذا والأخلاق بوجه عام لم تتميع بعد بتأثير الحضارة، وما تتيحه للناس من خفض ولين ووثارة. وإنما كانت الأخلاق تمتاز بشيء من القوة والصرامة وقلة الفضول. والأثر الأدبي تبعا لذلك يبدو ومطبوعا قد خلا من كل تكلف وتعمل، وإن احتمل فيه قائله ضروبا من العنت والمشقة والعناء. وسيظل ذلك العصر كما كان منهلا ينهل منه أبناء العربية صورا من الكلام البليغ في كل زمان ومكان، ما نطق بالعربية لسان.
ولكنه لم يكد يدنو من أواخره حتى بدت في الأدب طلائع البديع كما تتبين ذلك من بعض عبارات للجاحظ في البيان والتبيين. وقد كان من الطبيعي أن تتطور طرق البيان بعد أن لانت العرائك وأصبح تلمس الجمال المصنوع من مطالب الحياة.
وثمة شيء آخر، وهو أن الحياة العقلية لذلك العهد وإن بلبلت الخواطر والأذهان لم تكن قادرة على أن تنفخ من روحها في موضوعية الشعر شيئاً له خطر. وكل ما استطاعت أن توحي به هو فنية الصورة الشكلية أو فلسفتها دون الموضوع. ومن هنا جاء البديع وانتقل الأدب لذلك من طور إلى طور في تدرج طبيعي ملحوظ.(998/29)
ثم يمضي في هذا الطور حتى ينتهي إلى كهولته في العصر العباسي الأول. وهو يستقبل عهد الجديد حاملا إليه ما حصل الشباب، وفيضا غير كبير مما كان عليه من أريحية وحمية وحماسة، وإنه ليمضي في عهده هذا مستوعبا لما حوله من مختلف ألوان العيش، منتفعا منا يحيط به من الثقافات والمعارف. مستجيبا لما يحف به من حضارة وترف ونعيم. ومع هذا فقد هبطت درجة حرارته. وناله كثير من الفتور والإعياء. وأصبحت صور الأداء قوالب محفوظة تصلح لكل ما يملأ منها الفراغ. وأمحت فيه أو كادت تلك السلائق الغنائية المستجببة المشبوبة. أو قل صارت رواسب عقلية فحسب. ولكن الغناء أصل من أصوله ولا معدي للشعر عنه بحال. فليستعض عنه بتلك الغنائية التي تجئ نتيجة لتلاؤم الجمل والعبارات والألفاظ. ولهذا فهو مجرد فن فقط، يظفر به من يعانيه بشيء من الدربة والممارسة، وبالبصر بمنازع الكلام. وهو في عمومه ككل شيء تلده المدنية يروقك منه الصقل والتنسيق ولكنه قلما ينبض فيه روح، وإن لم يخل من الألمعية والنفاذ أحيانا. ولقد استتبع خلوه من الروح خلوه من الموضوع؛ وبالتالي فقد الوحدة التي تربط بين عناصر الأثر الفني المحتفل به. وبذلك فهو معرض للحياة بكل ألوانها ما اختلف منها وما ائتلف. ولا ريب في أنه احتفظ بأكثر مما ينبغي من تقليد للقديم، ومن ترسم له لخطاه ولئن اتخذ مادته مما حوله من حياة، فهو قد اتخذ أيضاً أدوات التصوير لها، والتعبير عنها من حياة البادية دون الحياة المعاصرة له، تلك التي كان ينبغي له ألا يعدوها في شيء سواء في ذلك مادته أو وسائل الإفصاح عنها والأداء. وليس من العجب في رأينا - وإن لم يكن من الحسن - أن يرجع إلى الحياة البادية فيتخذها موضوعا؛ أو يتخذ منها أداة للبيان. فهو كما قلنا، وكما قلنا، وكما نريد أن نقول، كائن حي. وأي عجب في أن يرجع الكائن الحي إلى ذكرياته وفي وسعه الرجوع إليها. تلك التي قد تتيح له العزاء والسلوى. أو تحقق له المثل الأعلى فيما هو منه بسبيل. ثم هل انقطعت تلك الوشائج التي تربط بين حاضره وماضيه. ومن المحقق أنها لم تنقطع. بل هي أوثق وأقوى مما كان يجب أن يكون. وشيء آخر يجب أن نلفت إليه النظر في هذا المقام. وهو: ما هي الصلة بين الأديب والأدب. وعندي أنها صلة الموصل الكهربائي بالتيار. أو هي صلة الشعلة بحاملها يتسلمها ثم يذكيها ويعدو بها ليدعها آخر الشوط إلى من يضع بها صنيعه وهكذا. ثم ما هو الأدب؟ أليس الأدب في(998/30)
حقيقته بعض دوافع الحيوية في النفس. ولئن صح هذا فإن سلسلة حيوات الأدباء الذين تعاقبوا في لغة ما تؤلف امتداداً لحياة الأدب على الزمان. ومن ثم فهو كائن حي. وهو كذلك في تطور وتجد. لأنه أثر من آثار تلك الحيوات التي لا بست الزمان والمكان. وهذان لا يستقران على حال. ولهذا فقد كان الأدب في تطور وتجدد في كهولته التي نتحدث عنها إلى جانب عناصر التقليد التي انحدرت إليه من ماضيه القديم ولا تزال حية فيه
كان هذا شأنه، تجدد في مسايرة الحياة المعاصرة له. وتحجر في وسائل الأداء والتعبير. وكما تحجرت فيه صورة الأداء، كذلك تحجرت اللغة في أنفس الناطقين أيضاً. وأصبحت مفرداتها لا تدل على المعنى اللغوي منها فحسب. واندثر ما كان فيها من شحنة وجدانية، بل لقد سار النظر إلى العبارات وإلى فهمها فهماً إجماليا. ونظن الفقرة الأخيرة هذه في حاجة إلى توضيح فلنضرب لها مثلا. قال بعض الشعراء من قصيدة يحي مؤتمر جغرافيا.
يا موكب العلم قف في أرض منف به ... يناج مهداً ويذكر للصبا شانا
كان المستمع إلى هذا البيت لا يعنيه منه إلا معناه على وجه الإجمال. وهو أن العلم نشأ أول ما نشأ في مصر القديمة. دون أن يلتفت إلى النداء إلى موكب العلم. ولا إلى الأمر بوقوفه أرض منفيس تلك المدينة المصرية القديمة. ولا إلى مناجاته لمهده الأول. ولا إلى ما كان له من ذكرى شأنه في صباه، وحسب القارئ أو المستمع المعنى المجمل الذي أشرنا إليه.
للكلام بقية
محمد عثمان الصمدي(998/31)
ديوان مجد الإسلام
للمرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
(تابع)
اليهود والمنافقون
دعا فأجابوا، والقلوب صوادف ... وقالوا استقمنا والهوى متجانف
مضى العهد لا حرب تقام ولا أذى ... يرام، ولا بغي عن الحق صارف
لهم دمهم والدين والمال ما وفوا ... فإن غدروا فالسيف واف مساعف
سياسة من لا يخدع القول رأيه ... ولا يزدهيه باطل منه زائف
رسول له من حكمة الوحي عاصم ... ومن نوره في ظلمة الرأي كاشف
يسالم من أحبارهم وسراتهم ... رجالا، لهم في السلم رأي مخالف
يغيظهم الإسلام، حتى كأنما ... هو الموت أو عاد من الخطب جارف
إذا هتف الداعي به اهتاج ناقم ... وأعول محزون، وأجفل خائف
إذا ما تردى في الضلالة جاهل ... فما عذر من يأبى الهدى وهو عارف؟
يقولون قول الزور - لا علم عندنا ... كفى القوم علما ما تضم المصاحف
لهم من سنا التوراة هاد وللعمى ... ركام على أبصارهم متكاثف
دنا الحق من بهتانهم ورمى بهم ... غلى الأمد الأقصى هوى متقاذف
عنا ابن أبي من هوى التاج لاعج ... وطاف به من نشوة الملك طائف
جرى راكضا ملء العنانين فانتحى ... له قدر ألقى به وهو راسف
فما مثله في مشهد الإفك فارح ... ولا مثله في مشهد الحق آسف
ظنون يعفيها اليقين، ودولة ... من الوهم تذروها الرياح العواصف
يهيب بأضغان اليهود، تشبها ... عداوة قوم شرهم متضاعف
وما برح الجبر السمين يعزهم ... ويأكل من أموالهم ما يصادف
أعدوا له المرعى فراح مهبلا ... كظنك بالخنزير واتاه عالف(998/32)
ينوء بجنبيه، ويرتج ماشيا ... إذا اضطربت منه الشوى والروانف
رماهم بها عمياء، لم يرم معشرا ... بأمثالها أحبارهم والأساقف
فقالوا غوى أبن الصلت وانفض جمعهم ... يريدون (كعبا) وهو خزيان كاسف
رمى (الصادق الهادي) لفيفة نفسه ... بصادعة تنشق منها اللفائف
فأما (لبيد) فاستعان بسحره ... رويدا أخا (هاروت) تلك الطرائف
أعندك أن السحر لله غالب ... تأمل لبيد أي مهوى تشارف
و (شاس بن قيس) هاجها جاهلية ... الذكر تطيرها الحلام الرواجف
يقلب بين الأوس والخزرج الثرى ... وقد وشجت فيه العروق العواطف
يذكرهم (يوم البعاث) وما جنت ... رقاق المواضي والرماح الرواعف
غلت نخوات القوم مما استفزهم ... وراجعهم من عازب الرأي سالف
وخفوا يريدون القتال، فردهم ... نبي يرد الشر والشر زاحف
دعاهم إلى الحسنى، فأقبل بعضهم ... يعانق بعضا، والدموع ذوارف
أتى أبن سلام يؤثر الحق ملة ... وينظر ما تأتي النفوس العوازف
تسلل يستخفي، وأقبل قومه ... وللؤم منهم ما تضم الملاحف
فقيل اشهدوا؛ قالوا: عرفناه سيدا ... تجل مساعيه، وتعلو المواقف
هو المرء، لا نأبى من الدين ما ارتضى ... ولا ندع الأمر الذي هو آلف
فلما رأوه خارجا، ينطق التي ... هي الحق قالوا: عاثر الرأي عاسف
ظننا به خيرا، ولا خير في امرئ ... أبوه أو سوء على الشر عاكف
ظلمناه لم يوصف بما هو أهله ... فماذا له إن أخطأ الرشد واصف؟
تراموا بألقاب إذا ما تتابعت ... تتابع شؤبوب من الذم واكف
أهاب أبو أيوب ردوا حلومكم ... أعند رسول الله تكفى المآزف
وقال (الرسول) استشعروا الحلم إنما ... يسود وستعلي الحليم الملاطف
أتؤذون (عبد الله) أن يتبع الهدى ... فيا ويحه من مؤمن، ما يقارف
أهذا هو العهد الذي كان بيننا ... أهذا الذي يجني العقيد المحالف
تولوا غضابا، ما تثوب نفوسهم ... ولا ترعوى أحقادهم والكتائف(998/33)
يذيعون مكروه الحديث وما عسى ... يقولون والفرقان بالحق هاتف
إذا بعثوا من باطل القول فتنة ... تلقفها من صادق الوحي خاطف
يشايعهم في القوم كل منافق ... إلى كل ذي مشنوءة هو دالف
شديد الأذى يبدي من القول زخرفا ... وكالسم منه ما توارى الزخارف
زحالف سوء ما يكف دبيبها ... وأهون شيء أن تدب الزحالف
أقاموا على ظلم، كأن لم يكن لهم ... من العدل يوما لا محالة آزف
لكل أناس يعكفون على الأذى ... معاطب من أخلاقهم ومتالف
رويد يهود؛ هل لها في حصونها ... من البأس إلا ما تظن السلاحف
يظنون أن لن ينسف الله ما بنوا ... ولن يثبت البنيان والله ناسف
سيلقون بؤسا بعد أمن ونعمة ... فلا العيش فياح ولا الظل وارف
(يتبع)(998/34)
رسالة الشعر
جيش. . . وشعب
للأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن
ألا قل للنيام كفى المنام ... إرادات الشعوب لها احترام
زمان الظلم والطغيان ولى ... وليس عليك يا زمن السلام!
لكل رواية قامت ستار ... نعم! ولكل مهزلة ختام
فقل للحالمين على دوام ... وظنوا أنهم خلدوا وداموا
فراحوا في أباطيل الأماني ... وتاهوا في مساريها وهاموا
وظنوا أنهم بلغوا مكانا ... حصينا لا ينال ولا يرام
كذبتم فالليالي ساهرات ... وعين الله عنكم لا تنام
تعالى الله ليس يدون شيء ... على حال. . . ولله الدوام
مضت بكم الحوادث وهي حبلى ... ومرت إثرها العبر الجسام
وأنتم في ضلالتكم رقود ... وفي ظلمات شهوتكم نيام
تطاول عهدكم بالضيم حتى ... كأنكموا أمنتم أن تضاموا
أكان لكم مع الأيام عهد ... تؤكده المواثق والذمام؟
أكان لكم مع الأحداث حلف ... بأن مقامكم قدس حرام؟
فهل منعتكمو يوما بروج ... مشيدة، وأسوار ضخام؟
وهل حرستكمو يوما سيوف ... وهل عصمتكمو يوما سهام؟
وما تغني الحراسة عن بناء ... تزلزله المفاسد والأثام؟
وما تجدي الحراسة في لواء ... تمزقه العواصف والركام؟
سياج الملك معدلة وتقوى ... وطهر في الضمائر واحتشام
وعفة طعمة لا يحتويها ... شراي في المحارم أو طعام
ومن لم يعتصم بالعدل يوما ... فليس له على الدنيا اعتصام
أيا أرض الكنانة قد تجلت ... لك الآفاق، وانقشع القتام
ولاحت في السماء خيوط فجر ... له في مطلع الشرق ابتسام(998/35)
وخر على ثراك الطهر رجس ... وذابت موجة. . . واندك هام
وكانت ثورة لك لم يخضب ... دم فيها، ولم يضرب حسام
تولتها السواعد من رجال ... صناعتهم فعال. . . لا كلام
يثرثر بالسياسة كل لسن ... وهم صمتوا لنيتهم وصاموا
لقد فاض الإناء ففاضوا ... وقام المجد يدعوهم فقاموا
فلسطين الشهيدة لقنتهم ... فثارات البطولة لا تنام
لقد كانت ذخيرتهم سلاحا ... تلملمه الموائد. . . والمدام
ويجمعه من الشهوات قوم ... صغار في منازعهم. . . لئام
وقيل بطانة تحمي بظهر ... خفافيض يشجعها الظلام. . .
حمى الله البطولة في رجال ... همو ركن الكنانة والدعام
هم الجيش الذي صنعته مصر ... وصاغته مآثرها العظام
هم النجباء وحدهم (نجيب) ... وهم همم تألفها همام
لقد غضبت كرامتهم لمصر ... وويل الظلم إن غضب الكرام
حماك الله من جيش أبي ... إرادته مضاء واعتزام
ألم تك ناطقا بلسان شعب ... تأجج بين جنبيه الضرام؟
إذا الأحرار بالشكوى أبانوا ... فإن عذابهم أبدا غرام
وإن كتبوا فسخطوا احتدام ... وإن خطبوا فعسف وانتقام
لقد كذب الطغاة غداة ظنوا ... بأن النقد يمسكه اللجام
هبوهم قيدوا الأفلام منا ... فهل للنفس إن ثارت خطام
تولى عهد مفسدة وظلم ... وبان الحق وانحسر اللثام
وعهد عبادة الأشخاص ولى ... فما الدستور أصنام تقام
أقيموا الحق بينكمو متينا ... فليس بغيره لكمو قوام
ونحو كل ثرثار بغيض ... بضاعته اللجاجة والخصام
فما في الوقت متسع لهذر ... يؤججه السباب والاتهام
أهزل حين جد الجد فيكم ... وفوضى حين طوقكم نظام؟(998/36)
فما (التطهير) ألفاظ عذاب ... وتعبير يزخرفه الكلام
دعوا الأقوال إنا قد سئمنا ... وليس لهن يتسع المقام
محمد عبد الغني حسن(998/37)
من بعيد
للأستاذ محمد محمود عماد
غدا ترحلين
لشط الجمال ومهد الفتون
وبحر تميس عليه السفين
ووحدي أبقى بقيد الظنون
ولا تدركين
وقر القرار
ولم تتركي لي مجال الخيار
ولكن أردت فشط المزار
وعز اللقاء وعز الجوار
وكان اليقين
قرار عسير
وليس تقبله باليسير
ولكن تقبلته بالسرور
عسى تبصرين بوجهي الحبور
ولا تألمين
وتحت السماء
لقد كنت أرجو هناك اللقاء
ولي في وجودك ظل وماء
ولكن نريد فيأبى القضاء
وتنفردين
قرار يهون
يهونه للفؤاد الحزين
وجودك في جوها تمرحين(998/38)
وأنك في شمسها تنتشين
إذا تسبحين!
بتلك البقاع
إذا سار يوما هناك الشارع
على صفحة الماء مثل اليراع
فحييه عنى بتلك الذراع
وتلك اليمين!
وعند الغروب
إذا تبصرين الشعاع الغريب
يذيب بأمواهها ما يذيب
ألا فاذكريني، إني قريب
إذا تذكرين
وإما أندفق
بخدك فجر عليك انبثق
ألا حدقي حدقي في الشفق
فقلبي هناك. . هناك احترق
بشوق دفين!
وعند المسير
إذا ما رأيت خفاف الطيور
تجوب السماء وتعلو الصخور
ألا حمليها السلام الوفير
لإلف حنون
حديث القلوب
حديث لعمري عجيب. . عجيب
يجمعنا في شعاع المغيب(998/39)
كلانا لديه سميع مجيب
لهمس الشجون
ويا طفلتي!
سأفتقد البدر في ليلتي
وأفتقد الإلف في جولتي
إلى أن أضمك في قبلتي
متى ترجعين
محمد محمود عماد(998/40)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
يجب أن يكون (الأدب) قد استقبل عهداً جديداً، تتحول فيه مقاييسه وأساليبه ومظاهر إنتاجه، بحيث تجري مع هذه النهضة الجديدة وتوجهها.
فالأدب في طبيعته الحقة صدى النفوس وصوت المشاعر ومظهر الأنات الكامنة في الأعماق، وقد أصيب خلال الفترة الماضية بما أصيبت به الحياة السياسية والاجتماعية من اضطراب وفساد. .، وتغلفت روحه الفنية بحجاب كثيف من النفاق والمداجاة والدجل والأوهام.
ولا شك أن فريقا من الكتاب قد آمن برسالة الأدب، وحاول خلا لا لعهد الذي انتشر فيه الضباب أن يتكلم وإن يقول، ولكنه كان مضطرا لأن يستعمل الرمز، وإن يصطنع الإيماء، وإن يتخذ من اللف والدوران وسيلة إلى الإفضاء وإن لم تكن وسيلة للإفصاح.
يجب أن يكون (24 يوليه 1952) حد فاصلا في تاريخ مصر بين عهد وعهد، وبين جيل وجيل، فقد انتهت به مرحلة الانتقال العصيبة القاسية التي شهدت مصر فيها أهوالا من الطغيان والأحقاد والآثام.
كان يوم 24 يولية ختاما لمرحلة تمزقت فيها وحدة الأمة، واستشرى لفساد، واشرأبت الفتنة، وتنازعت الناس عوامل الوصولية والرشوة والاستعلاء.
وكانت الحزبية، والسياسة والاستعمار الوصولية، من العوامل البعيدة المدى في الأدب والفكر والفن.
أما اليوم فقد بدأ عهد جديد، يتاح للأدب فيه أن يؤدي رسالته على أكمل وجه، في حرية كالة، وهو عهد انتهت به القصة الداعرة، والكلمة المكشوفة، وانتهى عهد إغراء القراء، وهدهدة غرائزهم،. . . والنزول إلى مستواهم، ورسم الصور العارية، ونشر الكتابات المثيرة.
يجب أن يكون عهد الأدب الرخيص والأفكار البهلوانية التافهة قد انتهى مع العهد نفسه، ويجب أن يستجيب الأدب لعهد القوة والعزة، وإن ينفتح لروح الحرية، فينشئ الأدباء فنونا من القول فيها حماسة ورجولة وتوجيه وإصلاح.(998/41)
لقد دبت في مصر حياة جديدة، خصبة غاية الخصوبة، مشرقة كل الإشراق، تريد أن تستنقذ الكنانة العزيزة من الوهدة التي انحدرت إليها وكادت أن تتردى فيها. . .، والكتاب رسل الإصلاح والخير والحق والجمال. . . وهم سناد النهضات، وأعمدة الكفاح. . وإذا كان بعض الكتاب قد أسروا بأنهم كانوا لا يستطيعون الإعلان عما يريدون حلال الفترة العصيبة التي مرت بالبلاد من قبل، فقد جاء الوقت الذي يمكن توجيه الشعب فيه إلى العمل الصالح، والحياة الطيبة، والارتفاع فوق الصغائر والدنايا والشهوات والآثام.
لقد استجاب الشعب للوثبة الجديدة فبرهن على ضمير نقي، مازال حيا، فعلى الكتاب أن يمدوا هذا لضمير بالنور والنار، والحب والخير.
مذكرات الرافعي
ها هو ذا الأستاذ عبد الرحمن الرافعي، مؤرخ الجيل، بضع أخيراً بين أيدينا، مذكراته السياسية بعد أن أرخ مصر منذ أول الحركة القومية، في بضعة عشر مجلدا، تعتب في مقدمة الأبحاث التاريخية الخالصة، المجردة من الهوى، والغاية، التي ظهرت في عصرنا الحديث.
ومع أن عبد الرحمن الرافعي من أقطاب الحزب الوطني، ومع أنه عاش في تلك الفترة المظلمة التي ضعفت قدرة الناس فيها عن الجهر بالحقائق، واصطنعوا المداورة في الكتابة حتى لا تمس هذا أو ذاك، إلا أنه كتب التاريخ في صراحة وجلاء ودون محاباة، ووضع حياته ومصالحه في كفه، والحقائق في الكفة الأخرى. . . وقامر بالأولى وضيعها في سبيل الأخرى.
والرافعي بعيد الأثر في جذور النهضة المعاصرة؛ فقد كان أول من تحدث في حرية عن سعد زغلول وفؤاد والأحزاب السياسية القائمة، وكانت لكتاباته نتائج جعلته موضع الاضطهاد من جميع الجهات، كرهه الإنجليز وكرهه رجال القصر، وكرهه رجال الأحزاب، لأنه كتب عنهم في صراحة وكشف عن عيوبهم وأخطائهم.
رجل يفعل هذا لابد أن يكون قد تجرد من مطامع دنياه، فهو على حد المثل يروي عن عمر (إن كلمة الحق لم تدع لي صديقا)، لقد وهب الرافعي نفسه لتاريخ مصر، وآلى على نفسه أن يحرره خالصا بالحق وللحق، وافتدى به كل مطمع من مطامع الدنيا. وأنفق على طبع(998/42)
هذا التاريخ الضخم من جيبه الخاص، ومن رزقه وليس له مورد إلا مكتب المحامي.
ولا شك أن الرافعي مثل من أمثلة العلماء الأبرار المتجردين، أولئك الذين عاشوا داخل المعامل السنوات الطويلة في سبيل تحقيق علمية خطيرة.
كذلك فعل الرافعي، وضحى بكل شيء، بمنصب المستشار والوزير والنائب والشيخ وعضوية الشركات في سبيل شيء واحد، أن يكتب تاريخ مصر خالصا صادقا.
وكان وهو الوطني حزباً لا يمالئ على حساب مذهبه السياسي؛ ولا يفهم العمل السياسي على أنه حزبية حمقاء.
والرافعي من أخلص تلاميذ (محمد فريد)، ومن أوفى الناس له، وهو على جانب كبير من التواضع والحياء، وقد كان يركب الترام وهو وزير، وكافح في ميدان السياسة كفاحا ضخما بدا منذ 1924 حتى اليوم واشترك قبل ذلك في ثورة 1919، وكان بعيد الأثر في تكوين الجبهة الوطنية سنة 1935.
المسلمون
صدر العدد العاشر من مجلة (المسلمون) وبذلك تكون هذه المجلة الشهرية التي يصدرها الأستاذ سعيد رمضان قد أتمت عاما كاملا.
وقد تفضل صاحبها فأهدى إلى بعض أعداد هذه المجموعة فوجدتها على جانب كبير من القوة في التحرير، والجمال في التنسيق، وقد لقيت (المسلمون) منذ صدور العدد الأول منها تقدير قراء العربية وإعجابهم من إندونيسيا إلى المغرب، إذ كانت بحق امتداداً طبيعيا للشهاب التي كان يصدرها الإمام الشهيد حسن البنا، والتي هي صورة من مجلة النار التي كان يصدرها السيد رشيد رضا من قبل.
وقد سارت (المسلمون) على نسق (الشهاب) ونظامه وحجمه، واتخذت نفس الأهداف، أهداف الدعوة إلى الفكرة الإسلامية وتبليغها وعرضها على طريقة مستحدثة، وقد استكتبت طائفة من خيرة المعنيين بالثقافة الإسلامية وبالدعوة إلى إصلاح المجتمع عفن طريق الإسلام، وقد انتظم فهارس أعدادها عدد كبير من أقطاب الفكر والأدب في مصر والشام والعراق أمثال معروف الدواليبي ومصطفى السباعي ومصطفى الزرقا، وأبو زهر والبهي الخولي ومحب الدين الخطيب.(998/43)
وليس في ذلك غرابة، فالأستاذ سعد رمضان من حواري الإمام الشهيد، ومن الشباب الذي نبغ في الخطابة منذ سن باكر حتى كان صورة قريبة في خطابته من عميد الإخوان ورائدهم الأول، وقد كان سكرتيراً لتحرير الشهاب إبان صدوره، وجاب بلاد الشرق العربي وأقام فترة من الوقت في الباكستان، وله أصدقاء وقراء في إندونيسيا والعراق وسوريا. . وهو يعرف جميع زعماء العالم الإسلامي.
وتمتاز (المسلمون) بروح التناسق والوحدة بين موضوعاتها ودراساتها فهي مجلة توجيهية خالصة، تعرض الإسلام على أنه نظام صالح للتطبيق، وتواجه المشكلات الاجتماعية في الشرق مواجهة البحث والدراسة والعلاج.
وإنا لننتهز هذه الفرصة فنهنئ صاحبها على مجهوده البار الواضح في باب (أفق العالم الإسلامي) ونرجو ألا يصر على أن تظل قاصرة على المشتركين وحدهم، وأم يعرضها على القراء عامة فهو حتما سيجد بينهم من يرحب بها ويقرأها بشغف.
. . . والفن
وكان للفن حظ في النهضة الجديدة التي بدأت في 24 يوليه 1952. . . هذا التاريخ الذي يؤرخ به عهد جديد لمصر. . . فقد قرأنا في بعض الصحف أن النية متجهة إلى أن ينصب على قاعدة التمثال المقامة في ميدان الإسماعيلية تمثال للبطل أحمد عرابي أول جندي رفع رأسه في وجهة الغاضب، وجهر بكلمة الحق في وجه المستبد،. . . وقد ظل اسم عرابي منكورا، لا يجوز الكتابة عنه، ولا تمجيده، ولا الاحتفال به. . .، حتى جاء اليوم الذي يرد فيه عرابي مكانه كبطل للتحرير قال للحاكم الظالم (لن نستعبد بعد اليوم).
وأوقد الشعلة الأولى التي رفعها الجيش سنة 1881 في سبيل تحرير مصر؛ حتى جاء (محمد نجيب) بعد سبعين عاما فأتم الرسالة.
ولا شك أن المثالين سيتبارون في سبيل صناعة تمثال غاية في الروعة لبطل الجيش الأول. . .، ولابد أن هذه النهضة في الفن ستتصل برجال طالما غمط حقهم وكانوا يقفون دائما في وجه الظالم أمثال عمر مكرم ومحمد كريم وغيرهم.
أنور الجندي(998/44)
البريد الأدبي
ذكرى ورجاء في مناسبة العدد الألفي للرسالة
بعد أسابيع. . . يطالع قراء الرسالة العصماء عددها الألفي، ومجلة الرسالة تعد في طليعة المجلات النابضة بالآداب الرفيعة، الناهضة بكل ما استحدث في الضاد من علوم وفنون.
وغني عن البيان أن لصاحبها الأستاذ أحمد حسن الزيات أكبر الفضل في إبرازها بتلك السمة الأخاذة الرائعة التي وضعتها في مقام الصدارة من الأدب الحي.
وللأستاذ الزيات مكانته الملحوظة، لا في مصر وحدها بل في الأقطار الشقيقة عامة وسائر الديار الناطقة بلفة القرآن، بما برز فيه من أدب عال، وأسلوب جزل رصين، قوي البيان، راسخ البنيان، سديد الهدف، بعيد المرامي، هذا إلى ما عرف عنه من خلق عظيم، وذوق سليم، وغيرة إسلامية قومية وطنية.
وأشهد أنني ما طالعت فاتحة مقال، بارع الاستهلال، في جميع الأحوال لأستاذنا الزيات، إلا وجدت حافزاً قويا يحفزني لإتمام المقال، حتى لم أعد أقنع بما ألفه وزفه للعربية الفصحى من كتب قيمة جمعتها وقرأتها مرات، ومازلت أطلب المزيد منها.
غير أني أحب أن تفسح رسالتنا الغراء صدرها الرحيب لبعض الملاحظات التي نعرضها لذكرها والذكرى تنفع المؤمنين.
كانت الرسالة في أول عهدنا بها، أفسح مجالا، وأكبر حجما، وأقرب منالا، فلما عطلت الحرب الأخيرة موارد الروق، وضنت على الصحف والمجلات بوفرته، ضاق النطاق، وشجت الأوراق، حتى عاد العدد من المجلة لا يتسع لأكثر الموضوعات. وعشاق الرسالة يحبون أن تكون مجلتهم الحبيبة، جامعتهم العامة، يلتقون فيها بخواطرهم، ويتبادلون نواحي الفكر المختلفة، في الآداب والعلوم الاجتماع.
وفي باب (البريد الأدبي) مجال ضيق الحدود، لا يتسع لأكثر من ثلاث رسائل في غالبية الأعداد. وباب القصص الغربية والمصرية كسابق العهد - مجال واسع لا يزال شاغرا في مجلتنا الأثيرة.
ولقد كانت ومازالت مجلة الرسالة تعتبر مجلة الخاصة من الممتازين بالثقافة العالية؛ لهذا أصبحنا لا نجدها إلا في أماكن محدودة - يوم صدروها، وهي تكاد تطالعنا بغير المقالات(998/46)
الخاصة لفئة خاصة، من كتاب وأدباء الأقطار العربية، وقد تتغير الأسماء وتتجدد الأقلام ولكن في النذر اليسير منها.
فإذا ما عن لأديب من عشاق الرسالة - وكثير ما هم - أن ينشر على صفحاتها بعض ما يعتز ويعتد به من إنتاجه - بعد الكد وطول البحث، أو دفعه دافع من غيرة أدبية، أو حب استطلاع علمي، إلى الفزع إليها، ضنت وما اطمأنت لغير الأسماء اللامعة.
ولو جاز لأديب يعيش في عزلة مثلي، أن يكتب في معظم الصحف والمجلات العربية، مقالات أدبية، وقصائد ومقطوعات شعرية، قرابة ربع القرن مضى من الزمان. . أقول لو جاز له ذلك، لما استطاع أن يجتاز امتحان الرسالة العسير!!
(أحرام على بلابله الدو ... ح حلال للطير من كل جنس)
وفي البريد الأدبي بالعدد 993 تحت عنوان (دار العلوم) كلمة للأستاذ (محمد علي جمعة الشايب) فيها إشارة لبعض ما توجهنا إليه.
فإذا لم تكن مجلة الرسالة الناهضة، هي الملجأ الأمين، والمفزع المنصف، لإبراز المواهب وصقل الأفكار وشحذ القرائح. فمن للشعر والشعراء والأدب والأدباء الذين ضاقوا بتدهور سوق الأدب، وقصوره على النواحي الماجنة المبتذلة، لغالبية الناشئين من أدباء اليوم والمطمورين من شعراء الجيل.
لقد حمدنا لأستاذنا الزيات ما أضفناه على مجلة الأزهر من جمال، وما أضافه إليها من بحوث قويمة وأبواب آية في الروعة ومتانة الصياغة، وطرافة النواحي الدينية والتاريخية والأدبية والاجتماعية، فبعد أن كانت مجلة الأزهر مقصورة على طائفة من أهل العلم، والبحث الديني، أصبحت مجلة الجميع! أما آن للرسالة أن نجدها أيضاً مجلة الجميع وملتقى الأدباء والشعراء في مصر والأقطار العربية على السواء؟
وأذكر لصاحب الرسالة قوله في مقال: (الرسالة في عامها الحادي عشر) (وإذا قدر الله للرسالة أن تخرج من محن هذه الحرب وفيها حشاشة نفس، كانت حرية بعد ذك أن تستهين بكل صعب، وتثبت على كل خطب) إلى أن يقول: (ويؤمئذ يتسع لها المجال فتشارك جاهدة مخلصة في رأب ما تصدع وتجديد ما تهدم) وإنا لمنتظرون وعلى الله قصد السبيل.
سلامة خاطر(998/47)
(الرسالة) تشكر للأستاذ الكاتب حسن ظنه وجمال رأيه، ونعده
أن نعمل جاهدين لتحقيق ما أراد وتنفيذ ما اقترح.
الصحافة الأدبية في العراق
اتصل بي كثير من أدباء وشعراء البحرين والكويت والقطيف وعدن بريديا طالبين مني إرسال بعض صحف العراق الأدبية للإطلاع على الحركة الفكرية الحديثة، لأنهم يجهلون كل شيء عن الأدب العراقي المعاصر، ولا يعرفون شيئا عن أدباء وشعراء الشباب إلا القليل الذي لا يبل الصدى ولا يقنع الغلة، فهم مثلا لا يستطيعون أن يرسموا خطوطا واضحة عن شاعر أو أديب عراقي لأنهم لم يقرءوا له البتة، ومن كان ينشر منهم في صحف بغداد السيارة، فهم يعرفونه لأن صحف العراق لا تصل أبداً؛ أما الذين ينشرون في صحف مصر ولبنان وسورية والمهجر العربي في أمريكا فهم فئة قليلة جدا، تكاد تعد بأصابع اليد الواحدة؛ وفي الوقت نفسه كتبت إليهم جميعا أعتذر عن تلك المهمة لعدم وجود مجلة أدبية راقية تمثل الأدب العراقي المعاصر خير تمثيل تستحق أن تكوم سفيرا بيننا وبين البلدان العربية الأخرى، وكاد الأمر ينتهي عند هذا الحد لو لم يصل العراق هذا الأسبوع بعض الأدباء المعروفين، منهم شاعر القطيف الأستاذ محمد سعيد المسلم، والأستاذ عبد الله الطائي من البحرين. وفي معرض الحديث عن الأدب العراقي عاب الطائي علينا خلو البلاد من صحيفة أدبية راقية، وأيده الأستاذ المسلم، فأخبرتهما أنني أحسست بهذا النقص قبلهما. لذلك منذ أكثر من عام قدمنا طلبا إلى مديرية الدعاية العامة حول منحى الرخصة اللازمة لإصدار مجلة أسبوعية أدبية باسم (الخميلة) لتكون منبرا حرا للآراء وبعد إجراء المعاملات الرسمية من الشرطة وإكمالها حفظت المعاملة لأن وزير الداخلية لم يوافق على ذلك في حين أنه وافق على إعطاء الترخيص - الامتياز - اللازم لكل من هب ودب من الأميين وأنصاف المثقفين. . فسكت على مضض، ثم قابلت صديقي الأستاذ المجاهد سلمان الصفواني صاحب جريدة (اليقظة) الغراء وشكوت له معاملة الدعاية معي، فأجابني بالحرف الواحد: (إنك يا أستاذ لست بأمي ولا بمشعوذ) ثم لجأت إلى صديقي سعادة الأستاذ محمد جواد الخطيب المحامي عضو البرلمان العراقي وعضو اللجنة العليا في حزب(998/48)
الاتحاد الدستوري - الحزب الحاكم في وزارة السعيد - فقال لي إنك شاعر معروف وأديب لك مكانتك في البلاد العربية، ويكفي أن (الرسالة) تحمل كل أسبوع نتاج قلمك إلى القراء، ولكن الحكومة لا توافق على منحك الامتياز. قلت له: لماذا؟ في حين أن من أعطتهم الإجازة اللازمة لا يعرفون حتى كتابة أسمائهم فسكت.
ثم رجعت مرة أخرى إلى موظف كبير في الدولة قلت: يا سيدي إن الحكومة تحاربني في رزقي الذي يدر علي من قلمي؛ فقال كيف؟ قلت: إن مدير الدعاية بأمر من وزير الداخلية منعني من إصدار مجلة أدبية، وهي كما تعلم دعاية للأدب العراقي الذي يجب أن يعلن عنه، لأن الأمة التي لا أدب لها لا قيمة لها؛ قال: هذا أمر وزاري، قلت: ما رأيك في أنني نظمت شكواي في قصيدة رفعتها إلى الأستاذ الجليل الزيات، وسأنشرها قريبا ومنها:
أأبا (الرسالة) والحديث كما ترى ... شجن ولولا أن يقان أعادا
لأسلت من شكواي جرحا داميا ... هيهات يلقي في العراق ضمادا
في أي مملكة يموت أديبها ... جوعاً وتختزن الكلاب الزادا
في أي مملكة يقيد شاعر ... ليعيث وغد في البلاد فسادا
ثم ختمتها بقولي له:
ما زلت في بغداد أحتمل الأذى ... حتى سئمت من الأذى بغدادا
قال ومتى ستنشرها كاملة؟ قلت: خلال هذا الشهر
هذه قصة الصحافة الأدبية في العراق أسوقها شاهداً وأطلب من كل قارئ التعليق عليها أولا، ثم أريد أن يفهم إخواني الذين يعتبون عليّ لكوني أنشر في مصر ولا أحب النشر في العراق، أنني لا أحب أن أقبر بين ظلال العبودية، وتحت أقدام أذناب المستعمرين الجهلاء. فهل من سميع؟
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
جمعية جديدة للمسلمين في أمريكا الشمالية
وقع الاختيار على عبد الله اجنام من سيدار رابيدز ليكون أول رئيس للجمعية الدولية(998/49)
لمسلمي أمريكا الشمالية التي تألفت هذا الأسبوع.
وتهدف الجمعية الجديدة إلى تعزيز أواصر الصداقة والأخوة والتفاهم بين المسلمين في أمريكا الشمالية؛ كما تهدف إلى زيادة التفاهم بين المسلمين في الولايات المتحدة وإخوانهم في الوطن من ذوي المذاهب الأخرى.
وتعتبر الجمعية أول محاولة للوحدة يبذلها ستون جالية إسلامية في الولايات المتحدة فضلا عن خمس عشرة جالية أخرى مبثوثة في أنحاء متفرقة في كندا.
وقد نهض بعبء تأليف الجمعية الجديدة المندوبون الخمسمائة الذين مثلوا مسلمي الولايات المتحدة وكندا في المؤتمر الذي عقد تحت إشراف جمعية الشبان المسلمين في أمريكا - ومقرها في سيدار رابيدز - وأستغرق ثلاثة أيام.
هذا وقد ألقى الدكتور محمود حب الله الأستاذ بالجامعة الأزهرية المنتدب لإدارة معهد الدراسات الإسلامية بواشنطن كلمة في المؤتمر قال فيها إن اتباع التعاليم السماوية سيؤدي إلى خلق عالم ينظر فيه الناس إلى أنفسهم كأعضاء في أسرة دولية قبل أن يكونوا أبناء وطن واحد.
شكوى طلاب العلم من وزارة الداخلية
كانت ووزارة الداخلية في العهد البائد لا تؤمن بالشباب؛ ولولا ذلك لما منعت عشرات الطلاب المصريين من السفر إلى الخارج للاستزادة من العلم، متعللة في ذلك بأتفه الأسباب. وهناك طلاب كثيرون فاتتهم الفرص التي لن تعود، وضاعت عليهم البعثات التي كدوا وجاهدوا في سبيل الحصول عليها، وذلك لأن وزارة الداخلية كانت كافرة بإخلاص الجامعيين، وكل جامعي لديها فهو متهم لا لشيء إلا لأنه جامعي؛ وهي لهذا كانت تحتاط وتأخذ حذرها، وعندما يأتيها طلب جواز سفر من أحد الجامعيين كانت تقوم بالتحريات الشاملة الطويلة عن ماضيه وحاضره ومستقبله! فإذا وجدت أدنى شبهة رفضت في إصرار التصريح له بالسفر.
ألم يكن هذا ظلما للعلم وللمتعلمين؟
أليس من حق كل مصري أن يرحل إلى معاهد العلم الأجنبية كي يعود إلى وطنه أكثر قدرة على خدمته؟ وأنا واحد من هؤلاء الجامعيين، تخرجت من كلية الآداب، ومنحت بعثة(998/50)
دراسية من إحدى الحومات الأوربية؛ فأعددت العدة للسفر، وكدت أن ارحل لولا أن عملت من وزارة الداخلية يومئذ أنني ممنوع من السفر. . .
أجل! ولم تبد الوزارة أسباب هذا المنع. ولم أجد أنا له في صفحة حياتي مبرراً.
أيعامل إنسان معاملة المجرمين لا لشيء إلا لأنه يريد أن يتعلم؟
هذه شكوى جامعي مخلص، عسى أن تجد في مجلتكم سبيلا لآذان المسئولين في هذا العهد الجديد السعيد.
م. . . .(998/51)
القصص
الرسالة الأخيرة
بقلم رالف بلومر
أخذ الناس على أنفسهم أن يتجنبوا سبيل الأخطاء، ووضعوا نصب أعينهم أن يحيدوا عن طريق الأغلاط؛ ومع ذلك فكثير منهم من يهوى في هاويتها، ويتردى في حمأتها؛ بل أصبحت وكأنها من مستلزمات الحياة؛ أو من ضروريات البشر، فقد ترى البعض يتدارك الخطأ قبل وقوع في نتائجه، والآخر يقع فيه ويتخبط في إشراكه وجرائره.
بيد أن الأخطاء كثيراً ما يمحو بعضها بعضاً. وهنا نرى أالقدر يشاء للعض أن يجني من وراء ذلك ويربح. . . ويشاء للبعض الآخر أن يخسر من جرائه بل ويهلك.
أخذت يد (جرافيل فورلاند) ترتجف ارتجافاً تحت المصباح الكهربائي الموضوع على المكتب؛ وهو يترع كأسه من شراب البراندي. وما كاد يفرغ من ذلك حتى تقلصت يده على الكأس وتمتم: لقد انتهى كل شيء، وعما قريب سأمسي في حالة أخرى آن بها كل عدوان الدنيا وغدرات الناس، وهجران الزمن.
ثم غيب يده في درج المكتب وأخرج مظروفاً وضعه نصب عينيه.
لقد طالما عاب عليه رئيسه الكولونيل باكستر إهماله وتوانيه، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل راح يقدح فيه وينال منه أمام زملائه في الجيش وإخوانه، وقد قال له فيها قال. . . (فورلاند!. . سوف لا تسلم من ارتكاب الحماقات والأخطاء مادمت حيا. . إن حياتك لمليئة بالأغلاط، مفعمة بالأخطاء منذ أن أدركت معنى الحياة. وإني أقول لك على رؤوس الملأ: (إن دخولك في رحمة الله أو إلقائك في قرار الجحيم لن يكون ألبته سولا نتيجة حتمية لإحدى هذه الغلطات. . أيها الرجل! إنك تعيش على الأخطاء وستموت من جرائها).
وأطلق فورلاند العنان لأفكاره تحلق في أجواء السنتين الماضيتين، وهو يكتب عنوان الكولونيل على الظرف.
ونحى المظروف جانباً، ثم أمسك بإحدى يديه الرسالة التي كتبها منذ لحظة. بينا كانت يده الأخرى تعبث في حركات عصبية مضطربة بمسدس متوسط الحجم.
وراحت يمناه تجريان على كلمات الرسالة.(998/52)
(الكولونيل أ. هـ. باكستر
سيدي الكولونيل
أرجو المعذرة يا سيدي إذا وجدتم أن هذا الكتاب لا يمت إلى أعمال الجيش بصلة. وسوف أكون - حينما يصلكم هذا - إما في جنة الخلد أو في عذاب السعير. هناك حيث ينال المرء جزاءه من جنس عمله. وقد فضلت هذه النهاية وآثرتها لأني عجزت عجزاً بيناً عن إعادة ما امتدت إليه يداي الآثمتان من أموال الفرقة التي وكلت بحفظها. ووسد إلى أمر حراستها والعناية بها. ولا عجب إذا وصلك كتابي هذا قبل اكتشاف الحادث، فذلك ما علمت على أن يكون.
وكان الأمل يشيع في نفسي حتى الآن، لظني أني لابد واجد طريق الخلاص الذي ينئيني عن ذلك المأزق الضيق الخانق. وكان مما يغمر نفسي بالأمل ويفيض عليها بالرجاء، أن يوم اكتشاف الحادث ليس منا بقريب، بل دونه أيام عديدة، وليال كثيرة، تمكنني من إخفاء الأمر وتسديد العجز وإكمال النقص.
غير أن الأيام قد مرت، ولليالي قد تصرمت، وأصبح اليوم المروع الرهيب قاب قوسين أو أدنى؛ فلا يمر الليل حتى يفيض نوره، ولا تمضي ساعات إلا ويبزغ فجره وتترجل شمسه. كل ذلك وأنا كما كنت. . . عاجز عن إخفاء الحادث، أو إكمال النقص الذي أحدثته يداي الملوثتان. . فليس أمامي في هذه الحال غير السجن والعار. . سوى الخراب والدمار. . وليس ذلك مما أسيغه أو أرضاه.
أما عن المبلغ المختلس فقد بلغت قيمته حتى الآن ستمائة جنيه أو تزيد. فهل يدور بخلدك يا سيدي أنه في وسعي إعادته إلى مكانه من الخزانة دون أن يدري أحد؟ قد يكون ذلك ممكنا من وجهة نظرك، ولكن المعجزات لا تحدث في عصرنا هذا يا سيدي الكولونيل، إنما الأخطاء فحسب هي التي يشيع حدوثها، أو إحداثها إن شئت.
وقد تقول: إنه كان في وسعك أن تقترض المبلغ؛ غير أني سوف لا أكون معك إبان اكتشاف الحادث، بل أن روحي هي الأخرى ستأبى أن تحضرك، لأني لا أرضى أن تزعجك. ولا أود أن تهيجك.
وإني على يقن أن رحيلي إلى العالم الآخر هو خير سبيل تطرق، وأفضل طريق تسلك؛(998/53)
ودعني أقول لك: وداعا يا سيدي الكولونيل!
المخلص
درافيل فورلاند
ملازم أول
وغيب الرسالة بعد ذلك في الظرف وختمه. . . ثم ألصق عليه طابع البريد. وكان هو يفعل ذلك حالما ساهما، مفكراً واجما، تتناوب وجهة الحمرة والصفرة. يرى يديه ترتجف وأصابعه ترتعش. . . ولم يكن ذلك لما يشعر من تأنيب في الضمير لسرقته، أو وخز في النفس لفعلته. بل كان ذلك لأنه لا يستطيع درء الفضيحة عنه، ولا يمكنه دفع العار بعيدا منه، ولأنه سيفقد عمله لما أتاه من المنكر، ولما اقترفه من الجرم.
إن السبيل الوحيدة والطريق السهلة المعبدة للخلاص من الفضيحة، والاغتسال من العار اللذين سيجرهما عليه اكتشاف الحادث. هي رصاصة تحترق رأسه.
وأبصر يده ترتجف وهو يشعل إحدى لفافات التبغ، فأيقن أن تظاهره بالثبات وادعاءه الرزانة والهدوء إن هما إلا قناعا شفافا يخفي وراءه ما يصطخب في نفسه ويعج من عوامل الرعب والفزع الهائلة. . . وقال بلهجة الواثق يحدث نفسه:
- سينتهي كل ذلك سريعا. . ما هي إلا ضغطة واحدة لهذا الزناد وينتهي الأمر كله، بل ويشق على أي أحد أن يلحق بي أو ينالني.
وأخفى المسدس في أحد أدراج المكتب، ثم تناول الرسالة، وغادر البيت ليودعها صندوق البريد، أي حظ تعس ذلك الذي يلازمه؟ من له بمن يمد له يد العون فيرد المال المسلوب قبل أن يجردوا الخزانة؟ أي دهر جائر ظلوم، هذا الذي يأبى مساعدته وتخليصه من وهدة العار التي تردى فيها، وهاوية الدرن الذي تمرغ فيه.
وتمتم فورلاند يحدث نفسه:
- ها هو ذا آخر يوم من أيام حياتي، ينقضي تحت سمعي وبصري.
وألقى الرسالة في صندوق البريد، ثم كر راجعا إلى مثواه.
وهناك أخر المسدس وأدناه من رأسه المحموم، وزم شفتيه، وغمض عينيه، وراحت إصبعه(998/54)
تضغط شيئاً فشيئاً وكاد كل شيء ينتهي، لولا أنه سمع وقع أقدام تقترب منه أعقبه سلعة مكبوتة ودق خفيف على الباب.
ودخل الخادم فألفى سيده منتحيا ناحية من المكتب جالسا في تراخ وخمول، أما المسدس فقد كان مختفيا وراء علية السجاير.
- لقد جاءت الآن فقط يا سيدي
فاه الخادم بهذه الجملة في صوت خافت ولهجة احترام وهو يمد يده إلى سيده برسالة مسجلة. . . فتناولها فورلاند بيد مرتجفة ثم أومأ إليه بالانصراف.
وفض الظرف في عجلة واضطراب فسقطت منه الرسالة وهو يخرج حزمة من الأوراق المالية كانت فيه.
والتقط الرسالة وأخذ يقرأ ما جاء فيها بعينين جاحظتين.
(سيدي: لقد أمرني عمك جيمس. . ب. موبيث أن أرسل إليك هذا الكتاب وبه ألف من الجنيهات، وهي نتيجة الارتفاع المفاجئ لأسهم شركة آبار البترول، التي كان لك حظ الاشتراك فيها عند فجر حياتك).
وكانت الرسالة ممهور بإمضاء مسجل شهير.
وأحس فورلاند رغبة ملحة في أن برفع عقيرته بالصياح فرحاً وابتهاجاً، ها هي ذي ألف جنيه في يده. . . ملكه وحده، لا ينازعه فيها منازع. ولا يشاركه فيها شريك، سيعيد ما اختلسه في صبيحة اليوم التالي قبل اكتشاف الأمر دون أن يعلم أحد. . . أية معجزة أية خارقة. . أي حظ سعيد؟ لقد هزأ بالمعجزات وهاهي ذي قد حدثت، وسخر من الخوارق وها هي ذي قد حلت.
بيد أنه عبس قليلا وهو ينظر إلى المال، لماذا لم يرسله عمه صكا على المصرف؟ ولكنه عاد وتذكر أن عمه يمقت معاملة البنوك، بل هو لا يثق بها ولا يأمن لها، إن عادته دواما أن يدفع بالنقد.
وتذكر قول عمه له ذات يوم: (أصغ إلي يا فورلاند، إن شركتنا هذه وإن كانت لا تدر علينا أي ربح الآن. فإنها ستغدو في مدى زمن - طال أم قصر - من أعظم الشركات الدولية في العالم) إذن فهذه هي أولى الأرباح. . . إذن ستترى عليه المبالغ بعد الآن. . .(998/55)
وفورلاند يعلم عن عمه أنه ما كان يرسل إليه فلسا واحداً، إذا درى بموقفه الدقيق الحرج؛ إنه - أي عمه - يكره أن يرى أحد أفراد الأسرة يتلوث بهذا العار، ويتمرغ في هذا الرجس. وتقطب جبينه وهو يفكر. . حسنا!. . سيعيد المال المسروق فتبقى له بعدئذ أربعمائة جنيه أو تقل، ولن يكون هناك ما يشينه ويعيبه أمام عمه أو يحط من قدره. بيد أنه أن كوحش حبيس؛ وزأر كأسد جريح، حينما تذكر الخطاب الذي أرسله الكولونيل بعنوان بيته في (إيست كوست). . . لا مرية أنه سيتسلمه في الصباح الباكر.
وهب واقفاً في ذعر. . ما الذي بحق الشيطان جعله يتسرع ويرسل الكتاب؟ أما كان لأولى به أن يتريث إلى الصباح؟ إنه لا يسعه الآن أن يتلافى الأمر أو يتفادى الكارثة. . ولا يمكنه أن يعيد المال؛ ويزعم أنها مزحة من مزحة، أو مهزلة أراد بها التسلية واستطلاع ما قد يحدث. فقد يرتاب الكولونيل في الأمر، ويجرد الخزانة بعين أخرى. . منتبهة متيقظة. ويميط اللثام عن التلاعب الذي أحدثه بالمال منذ سنتين.
وألقى فورلاند المسدس في درج المكتب. ووضع المال في حرز حريز. ثم تناول قبعته وغادر مثواه إلى صندوق البريد.
يا للحظ التعس. ويا للأمل الخائب!! لقد أفرغت الرسائل التي في الصندوق منذ عشر دقائق فحسب.
وتراءت له أشباح السجن والفضيحة والعار. فجن جنونه. إن مصيره الآن في يدي رجل، ولو أنه طيب القلب إلا أنه لا يلين ولا يرحم في مثل تلك الأمور. ثم إنه عمه جيمس لا يتردد في ازدرائه ولفظه والتبرئ منه إذا بلغه خبر جريمته الشنعاء وإثمه الكبير الزرى.
وأبصر مكتب البريد يجثم في نهاية الطريق فهرول إليه. وألفاهم هناك في عجلة من أمرهم وهم يفرزون الرسائل.
وارتدى فورلاند ثوب الهدوء وثبات الجنان وهو يدلي إليهم بأنه أرسل بمحض الخطأ والتسرع خطاباً يود استرداده. ثم وصف لهم الظرف.
فأجاب أحد العمال في رقة مشوبة بحزم أن إعادة أية رسالة إلى صاحبها ضرب من المستحيل وأفهمه أن مصلحة البريد تعد نفسها مسئولة عن الرسائل حتى تصل إلى المرسلة إليهم.(998/56)
فأخذ فورلاند يتهدد وتوعد تارة، ويلين ويتذلل تارة. وكان كل ذلك عبثاً. فلمح إليهم بالرشوة، ولوح لهم بالمال. وقد رفع المبلغ حتى أضحى يغري المرء على مخالفة ضميره والإخلال بواجبه، فنظر إليه العامل نظرة شزراء مليئة بالتهكم والازدراء. ثم أدار عنه وجهه واستغرق في عمله.
فخرج فورلاند يلتمس الهواء البارد الرطب عساه يلطف من هاته النار التي تضطرم بين أضلعه اضطراماً ولعله يخمد ذلك السعير الذي يحتدم في أحشائه احتداماً.
وتراقصت على صفحات ذهنه كلمات الكولونيل التي طالما صوبها إليه معرضا به قادحاً فيه (إنك أيها الرجل تعيش على الأخطاء وسوف تموت من جرائها).
وفي مأواه غرق في مقعده وراح يشحذ ذهنه ويكد قريحته لعل يصل إلى حل لتلك المعضلة الجديدة أو عساه يجد طريقا للخلاص مما وقع فيه من الخطأ مرة أخرى.
وهبط الليل وانتشرت معالمه الطاغية على الكون. بل مضى كل الليلة إلا قليلا واقترب الفجر وكاد يبزغ. وورلاند لما يجد بعد حلا لذلك الإشكال الجديد، وظل جالساً بأعين جاحظة وجفون مقرحة، وشعر مشعث وخدين أصفرين غائرين.
ستصل الرسالة إلى الكولونيل بعد بعض ساعات فيقرأها ويدرك كل شيء.
ليس هناك سبيلا لمنع ذلك، على الرغم من أن الخطاب لا يزال في مكتب البريد. يا لله! كيف يمنع وصوله؟ لقد أصبح ذلك مستحيلا، لأن الكولونيل يتسلم رسائله يدً بيد من موزع البريد. وزأر فورلاند يقول:
- لماذا لم أتريث قليلا؟
واختفى فورلاند المرح الطروب، واحتل مكانه فورلاند آخر وحشى النظرات. كساه اليأس ثوب الجنون، وأورثه الهم والقلق حالة التوحش.
ها هو ذا الخراب يتراءى له كوحش هائل يريد ابتلاعه، والدمار يهاجمه كجارح جبار يبغي اختطافه، ومع ذلك كان في وسعه أن يتفادى ذلك لو أنه لم يخطئ ويرسل ذلك الخطاب. وملأ كأسه من الكونياك ورفعها إلى فمه بيد ترتعد في شدة وعنف، حتى لقد تساقطت قطرات من الشراب على أرض الغرفة.
وانتبه أخيراً من ذهوله فرأى أن الصبح قد تنفس وبزغ النهار وأضاء. فأخذ يضحك بينا(998/57)
كانت أصابعه تعبث بالأوراق المالية عبثها بشيء تافه لا خير فيه.
إن الكولونيل ليرفض رفضاً باتا أن يأخذ منه المال ويودعه الخزانة دون أن يفطن إلى الأمر أحد.
يا للخراب! يا للدمار! لقد خرب ودمر. . . كل ذلك من جراء غلطة واحدة. ألا ليته تريث إلى الصباح، أو إلى أن أتاه المال من عمه.
ونظر إلى الساعة فألفاها تشير إلى التاسعة.
سيستلم الكولونيل باكستر الرسالة حالا. . . إنه يقرأها الآن، وربما يكون قد أخطر البوليس. . وغرق في مقعده ثم تمتم.
- السجن!!!. . .
واعتدل في جلسته بغتة ثم أردف.
- سيأتي البوليس بين لحظة وأخرى. . . أجل، سيأتي فوراً. ألم ينبئ الكولونيل بالسبب الذي حدا به إلى الانسلاخ من هذا العالم والتخلص من الحياة؟
وعادت وتراءت له أشباح السجن والعار والدمار.
وضحك مرة أخرى ثم جلس على حافة المكتب وأفرغ في جوفه كأسين مترعتين من الشراب
ثم امتدت يده تبحث عن المسدس.
- كل ذلك من أجل غلطة. . . غلطة واحدة ألا ليتني تريثت قليلا قبل أن ابعث بهذه الرسالة اللعينة.
ثم رفع السلاح إلى رأسه المندى بالعرق البارد في عزم وإصرار.
وعلى عتبة الباب الخارجي راح الخادم يتفرس ويديم النظر في رسالة سلمها إياه موزع البريد، وكانت تحمل - فضلا عن عنوان الكولونيل باكستر - ثلاثة أحرف تومئ إلى أن اسم الرسالة مكتوب على الوجه الآخر من الظرف.
وزمجر موزع البريد يقول
إنه لا يحمل أسم البلد المرسل إليه، وقد أعدناه لنفس العنوان. كثير من الناس يقع في مثل هذه الغلطة. . . يا إلهي! ما هذا؟!(998/58)
(وهذا) هذه كانت طلقة نارية دوت في سكون المنزل العميق أعقبها سقوط جسم على الأرض.
م ع م(998/59)
العدد 999 - بتاريخ: 25 - 08 - 1952(/)
أدب الانحلال
الأستاذ سيد قطب
(كان من المقرر أن يذاع هذا الحديث من محطة الإذاعة المصرية في الساعة الثامنة من مساء اليوم 10 من شهر أغسطس، ولكن جو المحطة لم يتطهر بعد إلى الحد الذي يسمح بإذاعة مثل هذا الحديث! أن الكثيرين هناك يحسبون أنفسهم مقصودين يوصف العبيد. كما أن الحماية ما تزال مفروضة على الأصوات الدنسة التي تذيع على الناس: (الدنيا سيجارة وكأس)!
أدب الانحلال هو في الغالب أدب العبيد. عبيد الطغيان، أو عبيد الشهوات. وحين تستذل النفس البشرية لطاغية من طغاة الأرض، أو لشهوة من شهوات الجسد؛ فإنها تعجز عن التحليق في جو الحرية الطليق، وتلصق بتراب الأرض، وترتكس في وحل المستنقع: مستنقع الشهوة، أو مستنقع العبودية سواء.
فأدب الانحلال على هذا هو أدب العبودية، وهو لا يروج إلا حين تفرغ الشعوب من الرغبة أو من القدرة على الكفاح في سبيل مثل أعلى. مثل أرفع من شهوة الجسد، وأعلى من تمليق الطغيان، لتحقيق مطمع صغير، أو مطمح حقير. . أي عندما تصبح (الدنيا سيجارة وكاس) أو تصبح الحظوة عند الطغاة أمنية المتمني في دنيا الناس!
عندئذ يظهر في الأمة كتاب، ويظهر في الأمة شعراء، ويظهر في الأمة فنانون. . يلبون هذا الفراغ من المثل العليا، ويمثلون هذا الارتكاس في حمأة الشهوة أو حمأة العبودية، وعندئذ يستمع الناس إلى هؤلاء الكتاب والشعراء والفنانين، لأنهم يصورون مشاعرهم، ويصورون أحلامهم، ويزينون لهم الراحة من الكفاح، والاطمئنان إلى الدعة، والإخلاد إلى حياة الفراغ والترهل والانحلال.
إن هؤلاء الكتاب والشعراء والفنانين ليقومون حينئذ بمهمة تخدير الشعوب وتنويها. سواء سبحوا بحمد الطغاة، أو سبحوا بحمد الشهوات. فأما حين يسبحون بحمد الطغاة فهم يزيفون الواقع على الشعوب، ويخفون عنها شناعة الطغيان وقبحه، ويصدونا عن الثورة عليه أو الوقوف في وجهه. . وأما حين يسبحون بحمد الشهوات، فهم يخدرون مشاعر الشعوب، ويستنفدون طاقتها في الرجس والدنس، ويدغدغون غرائزها فتظل مشغولة بهذه الدغدغة،(999/1)
لا تفكر في شأن عام، ولا تحس بظلم واقع، ولا تنتفض في وجه طاغية لتناديه: مكانك. فنحن هنا! فالشعب المستغرق في ذلك الخدر اللذيذ ليس هنا، وليس كذلك هناك!
والتاريخ يشهد أن الطغيان يملئ دائما لهذا الصنف من الكتاب والشعراء والفنانين؛ ويهيئ لهم الوسائل، ويخلق لهم الجو الذي يسمح لهم بالعمل. جو الفراغ والترف والانحلال.
عندما أراد الأمويون أن يأمنوا أهل الحجاز، وإن يستبدوا دونهم بالملك، وإن ينحوهم عن الحياة العامة، غمروا سادتهم وأشرافهم بالمال والإقطاعيات والهبات؛ وجلبوا إليهم المغنين، والملهين والجواري، وزينوا لهم حياة الدعة والترف. وأطلقوا عليهم الشعراء المجان يدغدغون غرائزهم في القصور بأناشيد الشهوة. . وفي الوقت ذاته انطلق الشعراء يمدحون الملوك الطغاة ويسبحون بحمدهم، ويصوغون حولهم الهالات.
والتاريخ يعيد نفسه. وهكذا كان في حاضر الأوان. . كان في مصر طاغية صغير؛ كان يعبد ذاته، ويقدس شهواته. وكان يريد أن يحول هذا الشعب إلى عشرين مليونا من العبيد.
عندئذ انطلق كتاب وشعراء وفنانون يسبحون بحمد الطاغية الصغير، ويسجدون له من دون الله. ويخلعون عليه من صفات الله. سبحانه! مالا يجرؤ مسلم أو مسيحي على النطق به. حياء من الله.
وحينئذ انطلق كذلك كتاب وشعراء وفنانون يسبحون بحمد الشهوة، ويعبدون اللذة. وعندئذ استمع الناس إلى أغنيات تقول: (الدنيا سيجارة وكاس) و (أنسى الدنيا) وما إلى ذلك من أدناس وأرجاس.
إن التسبيح بحمد الطاغية، والتسبيح بحمد الشهوة؛ لم يكونا منفصلين، ولا غريبا أحدهما عن الآخر. . لقد كانت فترة انحلال. وأدب انحلال. إنها العبودية ذات طبيعة واحدة. عبودية الشهوة أو عبودية الطغيان.
فإذا نحن أردنا أن نكافح أدب الانحلال، فيجب أن نكافح أولا أسبابه في حياة الأفراد أو حياة الشعوب. يجب أن نكافح روح العبودية في الضمير الإنساني. نكافح عبودية الشهوة فنحرر الضمير البشري من الخضوع لها. فالإنسان إنما صار إنسانا بتعاليه على ضرورات الحيوان. والتربية الدينية هي الطريق الأنجع والأقرب إلى تقوية روح الإنسان، وتساميه على ضرورات الحيوان.(999/2)
ونكافح عبودية الطغيان. فالطغيان يحمل معه دائما تشجيع الانحلال والدعة والترهل، كي يبقى هو في أمان من انتفاض الكرامة، وانبثاق الحرية، والانتقاض على العسف والطغيان
وشيء آخر نملكه اللحظة:
لقد عاد الذين كانوا يسبحون بحمد الطاغية الصغير، ويملون له في البغي والعدوان، ويمجدون أسمه ويخلعون عليه من صفات الله الواحد القهار. . . عاد هؤلاء هم بأنفسهم يلعنون الطاغية ويطلقون ألسنتهم فيه، ويمزقون عنه أردية المجد الزائفة التي ألبسوها إياه.
هذا نفسه لون من ألوان الانحلال. وصورة أخرى لأدب الانحلال. هؤلاء لم يخرجوا في الأولى أو الثانية عن أن يكونوا عبيدا منحلين. عبيدا يحنون ظهورهم لسوط السيد يلهب به جلودهم. فلما أن سقط السوط من يده - رغم أنفه - التقطه العبيد وادروا به يبحثون لهم عن سيد جديد!. . سيد جديد يلهب جلودهم بالسوط، ليحرقوا له البخور، وينثروا من حوله الزهور.
هؤلاء هم ممثلو أدب الانحلال. وهؤلاء هم الذين يجب أن يقصيهم الشعب عن الإنشاد له في العهد الجديد. عهد العز والقوة والاستعلاء، عهد التحرر من عبودية الطغيان، والتحرر من عبودية الشهوة اللتين قد تجتمعان أو تفترقان، فتمهد إحداهما للأخرى، وتهيئ لها النفوس والأذهان.
أجل ينبغي ألا نسمح لهؤلاء العبيد بالإنشاد للشعب في العهد الجديد، ولا أن نغفر لهم تمريغ جبهة الأدب والشعر والفن في المستنقع الآسن. فكل غفران لهؤلاء هو تنازل عن مبادئ الثورة الجديدة، وكل استماع لهم هو خيانة للمثل الجديدة.
ولا يقل أحد: إنهم كانوا معذورين في تمريغ الأدب والفن والشعر والإنسانية في ذلك الوحل. فلقد كان باستطاعتهم أن يسكتوا، إن لم تبلغ بهم الرجولة أن يكافحوا.
إن الاعتذار لهم على هذا النحو تبرير للجريمة، التي يمكن اغتفارها للتجار لا لقادة الفكر وزعماء الأدب والكتاب والشعراء والفنانين.
إن من حق الثورة علينا أن نتذكر ولا ننسى. نتذكر شناعة الجريمة. شناعة الانحلال الدنس.
إن الديدان والحشرات التي عاشت طويلا في المستنقع كفيلة بتدنيس كل مقدس، إذا نحن(999/3)
سمحنا لها بالحياة مرة أخرى في الأرض الطيبة، التي يجب أن تخلو من الديدان والحشرات.
سيد قطب(999/4)
قد مضى عهد ألف ليلة وليلة
للأستاذ أبو الحسن على الحسني الندوي
كتاب ألف ليلة وليلة يمثل ذلك العهد الذي كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد - وهو شخص الخليفة أو الملك أو حول حفنة من الرجال - هم الوزراء وأبناء الملوك - وكانت البلاد تعتبر ملكا شخصيا لذلك الفرد السعيد. والأمة كلها فوجا من المماليك والعبيد، يتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأعراضهم، ولم تكن الأمة التي كان يحكم عليها إلا ظلا لشخصه، ولم تكن حياتها إلا امتدادا لحياته.
لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وإنتاجها، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة، ولا حرية لها ولا كرامة.
وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة، فلأجله يتعب الفلاح، ويشتغل التاجر، ويجتهد الصانع، ويؤلف المؤلف، وينظم الشاعر، ولأجله تلد الأمهات وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها، ويقذف البحر نعائمه، وتستخرج كنوز الأرض وخيراتها.
وكانت الأمة - وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها - تعيش عيش الصعاليك أو الأرقاء المماليك، قد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر، وقد تحرم ذلك أيضاً فتصبر، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئا بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص.
هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلا وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها، وفي أدبها وشعرها، وأخلاقها واجتماعها، وخلف آثارا باقية في المكتبة العربية، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي يصور ذلك العهد تصويرا بارعا يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة، هو كل شيء وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة.
إن هذا العهد الذي يمثله كتاب (ألف ليلة وليلة) بأسا طيره وقصصه، وكتاب الأغاني(999/5)
بتاريخه وأدبه، لم يكن عهدا إسلاميا ولا عهدا طبيعيا معقولا؛ فلا يرضاه الإسلام، ولا يقره العقل، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعض فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه - ككسرى وقيصر - وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار.
إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان، ولا سبيل إليه إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أو مصابة في عقلها أو فاقدة الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح.
إن هذا الوضع لا يقره عقل. ومن الذي يسوغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعا ومسغبة؟ ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عبث المجانين، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم؟ ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة - وهي الكثيرة - الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له، وحظ طبقة - وهي لا تجاوز عدد الأصابع - إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي؟ ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة، وأهل الذكاء، وأخل الاجتهاد، وأهل المواهب، وأهل الصلاح، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير، ولا يعرون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور؟ ومن الذي أن يجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهل الأمانة ويقصوا كالمنبوذين، ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخاف العقول وفاقدي الضمائر ممن لا هم لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات ولا يحسنون فنا من فنون الدنيا غير التملق والإطراء، المؤامرة على الأبرياء، ولا ينصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء؟
إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوما فضلا عن أن يبقى أعواما.
إنه إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها، ولسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها.
فالذين لا يزالون يعيشون في عالم (ألف ليلة وليلة) إنما يعيشون في عالم الأحلام، إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت، إنما يعيشون في بيت مهدد بالأخطار لا يدرون(999/6)
متى يكبس ولا يدرون متى تعمل فيه معاول الهدم، وإن سلموا من كل هذا فلا يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم فإنه قائم على غير أساس متين وعلى غير دعائم قوية.
ألا إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فلا يخدعن أقوام أنفسهم ولا يربطوا نفوسهم بعجلة قد تكسرت وتحطمت. إن الفردية مصباح - إن جاز هذا التعبير - قد نفد زيته واحترقت فتيلته فهو إلى انطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة.
إنه لا محل في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة. إنه لا محل فيه للأثرة الفردية أو العائلية التي نراها في بعض الأمم الشرقية والأقطار الإسلامية، ولا محل فيه للأثرة المنظمة التي نراها في أوربا وأمريكا وفي روسيا، فهي في أوربا أثره حزب من الأحزاب وفي أمريكا أثره الرأسماليين وفي روسيا أثره قلة آمنت بالشيوعية المتطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل العمال والمعتقلين بقسوة نادرة ووحشية ربما لا يوجد لها نظير في تاريخ السخرة الظالمة.
أن الأثرة بجميع أنواعها ستنتهي؛ وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاما شديدا. إنه لا مستقبل في العالم إلا للإسلام السمح العادل الوسط، وإن طال أجل هذه (الأثرات) وأرخى لها العنان وتمادت في غيها وطغيانها مدة من الزمن.
إن الأثرة - فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية - غير طبيعية في حياة الأمة، وإنها تتخلص منها في أول فرصة. إنه لا محل لها في الإسلام ولا محل لها في مجتمع واع بلغ سن الرشد ولا أمل في استمرارها، فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولادة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق فيغرقوا معها.
ألا إن الفردية آذنت في الشرق أيضاً بالرحيل وبدأت نجومها تهوى، وما هي مسألة زيد وعمرو وإنما هي مسألة عهد ينقضي وفكرة تختفي ومؤسسة تلغى، فليحذر الذين يعيشون عليها أن يواجهوا مصيرا واحدا
أبو الحسن علي الحسني الندوي(999/7)
شاعر من يوغندا. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
توطئة:
الشيء الذي كنت أنتظره، يوم وجهت ندائي على صفحات المجلات العربية في الجزيرة والمهاجر طالباً من إخواني الشعراء تلك الأصقاع النائية موافاتي بقسم من نتاج قرائحهم وترجمة حياتهم لعرضها على القراء الذي يجهلون كل شيء عنهم في سلسلة مقالات تكشف المستور من نزاعاتهم الحسية، وعواطفهم الجياشة، وأحاسيسهم الملتهبة، لتقدمها (الرسالة) الزاهرة، مجلة الأدب الحي، والشعر الخالد، إلى عشاق الأدب، وجمهرة المثقفين، ولكن بالرغم من مرور ستة اشهر على توجيه دعوتي تلك لم يصلني من شعراء الجزيرة إلا النزر القليل، كأنما تلك الأم الولود عقمت فلم تعد تنجي شاعراً بعد، وكأنما الأرض التي أطلعت نجوم البيان وأعلام الشعر - منذ الجاهلية حتى الآن - استحالت إلى صخور جرداء لا نبت فيها ولا زرع. فإلى جميع من وجهت إليهم ندائي بالأمس، سواء على صفحات (الرسالة أو الأديب أو صوت البحرين أو الصراحة السودانية أو الإصلاح النيويوركية أو العصبة البرازيلية) أكرر عليهم الطلب ثانية. . . وحسبي أن أقدم إليهم اليوم. . أخاً من إخوانهم في هذه الدراسة على أن أتبعها في القريب بدراسة جديدة عن (شعراء القطيف. .)
الشاعر:
هو الزميل الفاضل الأستاذ لطفي جعفر أمان. . ولد في (عدن) في منتصف عام (1928) للميلاد فيكون بذلك قد سلخ من حياته 23 سنة و6 أشهر تقريباً. تلقى دروسه الأولية في مدرسة حكومتها الابتدائية لمدة سبع سنوات. . وفي ذلك العهد الطري المشبع برائحة الطفولة كانت ميوله تتجه اتجاها بدائيا إلى الفنون والأدب؛ كما كان أخوه الأكبر ينصب انصبابا وينكب انكبابا على مطالعة الكتب مع إيثار العزلة وخلق جو شاذ من الانطواء على النفس متخذا من حكمة شاعر الأجيال (وخير جليس في الزمان كتاب) رائداً. . ودليلا. . أما أخوه الثالث فكان يجيد الرسم ويبعثر لوحاته على الجدران وفي الأدراج وبين جوانح(999/8)
المجلات المصورة. أما أخوهم الرابع فكان يقرض الشعر. . فخلقت هذه الأسرة التي كرست حياتها للفن جوا خاصا للأخ الصغير. . وهيأت له كل شيء لتعده إعداداً أدبياً خاصاً. . ولنستمع إليه وهو يقص علينا أحاسيسه في تلك الفترة. . .
(. . ولن أنسى انزوائي معه - يقصد أخاه الشاعر - فترات طويلة من الصمت أحدق في وجهه التائه أو أغرق معه في موجات السطور التي كانت تتلاطم على الورق وهي تشهد ميلاد شيء اسمه قصيدة. . في ذلك الجو القاتم المضيء بإيحاءات الأدب والفن أولعت بقراءة الروايات بإدمان. . ورسم الصورة بشغف. . وحفظ الشعر بسرعة عجيبة. . وأخذت أنزوي حتى عن ملاعب الصبيان الطبيعية)
ومن هذه الكلمات القصيرة التي اقتطفتها من مذكراته يتبين لنا كيف أن الأسرة نفسها دفعت بالصبي الصغير إلى الأدب بعد أن هيأت له الأجواء. . .
وفي نهاية عام 1941 أتم دراسته الابتدائية وكان من الأوائل فاختارته حكومة عدن مع زميل له لإتمام دراستهما الثانوية والعالية في السودان. وهكذا أشرف عليه عام 1942 بحياة جديدة في أرض غريبة. حيث التحمت الأشواق بالكفاح، وامتزجت الدموع بالعرق. . وترنح العمر اللدن بين التيه والرشاد. . تيه الغربة. . ورشاد العلم.
وأخذت موجة الانتقال من بيئة إلى أخرى تعكس انطباعاتها على الخاطر وتسجل آثارها في الوعي والخيال.
وفي تلك البيئة تعرف بصديق كان له الأثر الفعال في تكوينه الأدبي إذ كانت مدرسة أم درمان الثانوية تنظر إلى هذا الصديق الساخر الكئيب على أنه شاعرها الفيلسوف. . وهذا الصديق هو محمد عثمان جرتلي الذي كان ينشر قصائد في الصحف الأدبية السودانية ويقتني كل ديوان حديث.
وعلى يدي ذلك الصديق الشاعر أخذ مترجمنا الشعر وحفظه وخصوصاً دواوين وقصائد المرحوم علي محمود طه والتيجاني يوسف بشير وفؤاد بليبل، ومحمود حسن إسماعيل. . حيث كان الظلام الملتهب على خلجات أولئك الشعراء يثير في أعماقه أصداء مماثلة ويحمله معهم بعيداً عن فجاج الأرض إلى إشراقات روحية ضافية يحس فيها بأن للحياة. . معنى غير التراب.(999/9)
وفي عام 1943 أخذ شاعرنا يقول الشعر. وكانت مجلة (فتاة الجزيرة) التي تصدر بعدن. . تحمل بواكيره للقراء. . ثم وسعت له الصحف السودانية صدرها فنشرت له قصائد ومقالات وأقاصيص كما نشرت له الصباح المصرية بعض ألحانه.
وفي أوائل عام 1946 التحق بقسم الآداب بكلية (غردون) الجامعية بالخرطوم بع
حصوله على شهادة (السينير كمبردج) بدرجة ممتازة في اللغة العربية.
وراح شاعرنا الشاب يدرج في محيط الكلية على نمط جديد من الحياة ولم يكن له أي صديق. . . فقد سافر محمد عثمان جرتلي إلى مصر والتحق بكلية الطب بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية.
كان كل شيء حوله يبعث على الاكتئاب رغم ضحكات الطبيعة المتألقة على النيل. . وعلى الانزواء رغم صخب المحيط الجامعي ووحدته الاجتماعية. . وهذه الوحدة وهذا الألم النفسي وبعده عن دياره وأسرته زينت له الهروب من الحياة. . من واقعها المؤلم. . فلجأ إلى المطالعة وسماره دواوين شعراء الإمبراطورية الإنجليزية. شيلي. . وبيرون. . وكيتنس. . . ودالامير. . وأوبرت برولا. . ومعظم ما تخرجه المطابع العربية من دواوين.
فقد كان كل مساء يحمل بعض الكتب والأوراق إلى ركن قصي هادئ في (الألبيون هوتيل) بالخرطوم أو إلى (بي كباريه) أو إلى (حديقة المقرن) المشرفة على النيل والغارقة بالحسان والزهور والأقداح. حيث يستلهم الطبيعة الفاتنة أغانيه وألحانه. وهكذا مرت عليه ثلاث سنوات في كلية (غردون) وقبل أن ينال شهادة (الدبلوم) في الآداب بعشرين يوما كانت مطبعة (فتاة الجزيرة) بعدن قد فرغت من طبع ديوانه الأول (بقايا نغم) الذي صدره بهذا الإهداء.
أنت يا من يفيض من صدرك الغض جلال الصليب نوراً عليا
لك مني هذا الذي بين كفيك خفوق بحبك المفقود
نغم ضاع في مجاهل دنياك هياما، وجف إلا بقايا
فاذكريني بها. . فيا، رب ذكراك تعيد المفقود من دنيايا
من أمان، أضعت فيها شبابي(999/10)
ولهذا الديوان قصة، وها هو ذا الشاعر ذاته يقصها علينا.
(كان ذلك في كلى الآداب حين أحسسن لأول مرة بظمأ الروح للروح، وكانت ذات الصليب تبعث في نفسي ذلك الإحساس الجارف فأصوره لها. . ثلاث سنوات. . ناراً من الحب في روض من الشعر. .)
وقد أنزلت الدموع من أعماقه، وفجرت في آفاقه الظلمة والضياء. . وسحقت أمامه كل أمل لتهيب له أملا خليا لم يكن سوى اليأس، اليأس القاتل الذي يسحق كل شي:
يا خضما جهم الجوانب يجري ... في مدى مبهم وافق قصي
أي لغز مطلسم في دياجيك. . وسر في لغزك المطوي؟!
كلما لاح لي شراع على الأفق تهادى مثل الشعاع السني
هاج في ناظري تطفل تفسي ... فتلفت سائلا كالصبي
ما ترى ذلك الذي يقحم الغيب ويمضي إلى مداه الخفي!
وركبت العباب يدفعني منه قوى يردني لقوي
لاحقا بالشراع أستنفذ الهمة في لجة الخضم العصي
وهو ينأي. . وأن يكن حيثما كان. . كوهم في لمحة العبقري
وكان في منتصف كل ليلة ينهض بقوة من بين الكتب والدروس تجتاحه مشاعر عارمة ذات غموض. . فيرتعد وهو يحس بالربد والجوع. . لا يدري ماذا يعمل. وحشة وسكون. . فيمرق من الباب كالشبح عليه وثار من الصوف. . النيل على مقربة عشرين خطوة. . الطريق مقفر إلا من رجال الشرطة. والعسس قابعون تحت الشجر أو سائرين تحت الظلام. . صمت أمامه. . وضجيج في أغواره. . يقطع الجسر الطويل. . إلى أين؟. إلى ما وراء ذلك الجسر. هناك حيث يسند ظهره على عمود الكهرباء وأمامه ي لله. . مسكنها الغارق في الظلام والشجر.
الوقت. سحر. . الفجر قريب.
وتقطع السكون عجلات أول ترام في الفجر فيعود: -
خفقات الزهر في الأسحار للفجر القريب
وانبثاق الأمل المشرق في ليل الغريب(999/11)
واختلاج النور في المصباح. . عربيد اللهيب
وجراح الشفق الدامي على الأفق الكئيب
كلها معنى بقلبي. من حبيب. لحبيب
يا شموساً روعت بالأمس قلبي بمغيب
أين أنت!!
وتتوالى الليالي. . لا شيء. . كل شيء. . يمضي إلى النيل. . النيل القريب. هناك تحت الشجر ألفته وألفها لا يرضى بغيرها من الأتراب العالقات أوراقها بها فهتف:
من رآني هنا. . شريد خيالات. وهم مجنح الخطرات
أتملى السكون في ظل زهراء ... حنون مخضلة النغمات
سكبت من دمي. . تسلسل في الليل. فأصغت نوابت الربوات
وجرى النيل. . واقفاً في حنايا الليل ينساب كالشجى في اللهاة
والمصابيح قائمات على الشط. . نجوما مجنونة الومضات
وظلال النخيل أطياف أشباح. . تربصن ي الدجى جاثيات
غبت عن ضجة الحياة، وأطلقت لفكري أعنة السبحات
في دجى مطبق. . وأفق سحيق. . وفضاء محلولك الظلمات
وتصاوير أبدعتها يد الجن. . خفاف. . عربيدة الحركات
في غمار الذهول تبعث في نفسي تهاويل من جنون الحياة
ذكريات تدب في ظلمة اليأس وتنساب في دمي صاخبات
أزهق العمر في يديها نضيرا. . وتهاوى في كهفها أمنيات
من رآني أشيع الحب وحدي. . وهشيم الآمال فوق الرفات
وبعد يا قارئي الكريم أظن أن اليأس بلغ بك منتهاه حينما قرأت هذه اللوعة الدامية التي وصرها لنا شاعر الشاب. . فماذا تريد؟ سأتركك تجتر أنفاسك ببطء. . أو بعمق إن شئت. . ثم هلم معي لنخرج من هذه الكوة المعتمة بالحب واليأس والألم المرير. . وهيا بنا نغلق على الروح الأبواب وننسرب في سراديب الجسد. . حيث نسمع صراخ الدم في العروق:
ههنا في غرفة حمراء. . عابثة الظلام(999/12)
وفراش رقصت في عطره أحلى الليالي
ههنا أحلام مسحورين: قلب. . وجمال
حلم. . أم سكرة؟ أم نهزة دامت لنا
نحن من نحن. غريبان عن الدنيا هنا
وفي عام 1949 عاد الشاعر إلى مسقط رأسه إلى عدن بعد غياب سبع سنوات لاستقبال حياة جديدة أخرى من العمل والكفاح الوطني. فقد عين مدرسا بمدرسة الحكومة الثانوية كما اشترك محرراً في مجلة المستقبل. . ومحرراً أديباً في (فتاة الجزيرة) وكان ينشر في الأخيرة - وهي أكبر صحيفة في الجنوب قصائد ومقالات بعضها صريحة التوقيع وبعضها مستعارة الاسم تحت رمز (النسر) وقل أن يمضي أسبوع دون أن يتحف قراءه بشيء من الشعر أو النشر. . ثم أخذت مجلة (الأديب) اللبنانية تحمل آثاره للبلاد العربية. .
وفي سنة 1950 كانت الحياة الجافة في عدن قد سودت العيش في عينه فلم يعد يطيق البقاء والصبر. فأحس بشعور الثورة على الأوضاع والنظم القائمة والكهانة وعباد المال. فالتفت كالمجنون: سلسلة جبال بركانية عارية تضج بالجحيم. . وسلالة آدمية كالقبور تتحرك ببله. . ومظالم استبدادية جائرة تنتقل بقفازات من حرير. . وفن موتور مغمور يحترق في قماقم. . وصنف من الرق عجيب. . يبيحه قانون القرن العشرين. . وكل هذا الأوضاع والصور كانت مادة لديوان جديد هو (أغاني البركان). . ومن هذه الأغاني صرخته المؤلمة هذه.
تلفت فلا لمحة من جمال ... تلفت. فإن الحياة محال
فأني تلفت تلق الجبال ... جبالا تضج بنار الجحيم
وسكان مقبرة في زوال
حياة. . كحلم الصدا في سراب ... حياة. . كلفح اللظى في عذاب
حياة. . كثورة جن غضاب ... لقد أزهق الحق. . يا ويحهم
وديس على الفن فوق التراب
إذا الريح طوعى لسخرتها ... إذا النار ملكي لأضرمتها
وهذى الجبال لفجرتها ... براكين تسحق هذى القبور(999/13)
فأزهو بأني حطمتها
كل شيء لم يكن غير الثورة واليأس: -
فقامت تلم بقايا القوى ... على هيكل مضمحل الأهاب
وتسحب أنغامها النازفات ... وتقلع خطوتها باغتصاب
إلى أن محاها شفيف الفضاء ... وأغوت هداها الفيافي الرحاب
تساقط ثورتها في الرماد ... وتعشو بصيرتها في الضباب
وقد جمد الكون في نبضها ... وغاض الجمال بقفر يباب
وأين مضت في غيوم الظلام؟ إلى الخلد؟ لا بل سحيق التباب
مصير الذي فج في نفسها ... مغاور يأس عتي الرغاب
تسائل عن ذاتها في القبور ... فتهتف ديدانها بالجواب
ومن حولها. . . كل ما حولها ... ضجيج ضياع. . وصمت غياب
ثم مضت سنتات. . وفي سنة 1951 حدثت للشاعر حركة انتقال كبرى. . فبعد صراع نفسي واجتماعي عنيف تزوج حيث احتضن إلى حياته العاصفة إشراقة من السماء وجذوة من النفس. فانتقل من بين الأغلال الجبلية في عدن إلى مسكن أنيق في ضاحية (الشيخ عثمان) في فيحاء من الرمال حيث مسير القوافل. . الرعاة في المساء. . وحداء البدو. . فاعتزل المجتمع فترة طويلة إلا ما يعنى بها في مدرسته وبين طلابه.
وآنذاك بغضا الحياة في عدن. . بغضاها معاً. وأحسا أنهما يفقدان شيئا جسيما. . هي (الحرية). . هما يعيشان ولكن في محيط من البارود والأغلال. . فحملا أمتعتهما وحطما أطواق الجبال فجاءة إلى غابات أفريقيا. . إلى يوغنده. . حيث يدير اليوم الشاعر مدرسة إسلامية في (كلمولي) وكان ذلك في نوفمبر من عام 1951.
وهما الآن وحيدان هناك. ليس معهما من جني الدنيا سوى الحب. . غريبان يعيشان على زاد ضئيل جاف من أباديد الذكريات.
وفي مساء بارد ممطر موحش. . حينما وضعت راحتها على كتف شاعرها الغريب بحنان وأجهشت تبكي فراق الأهل فهتف من أعماقه:
نفض المساء ستار نافذتي ... فترنحت في رعده الهطل(999/14)
وتعلقت والستر يجذبها ... بذراع منحل القوى كهل
فنهضت أحميها وقد حضنت ... أعشى الزجاج بصدر مبتل
وأزحتها عن لوحة خفقت ... بالأفق خلف الماء والظل
والريح تخبط في مساربها ... مجنونة بسنابل الحقل
وتجهمت ديم مقرحة ... سالت مآقيها على السهل
حلك يقطعها الغمير على ... أرض كأن أديمها يغلي
حتى الطبيعة هاج سادرها ... وتقلب محزونة. . مثلى
ونبهت إذ لطفت على كتفي ... كف تمر به على مهل
لما التفت وراعني منها ... نضو الخال وشاحب الشكل
ألقت على صدري جدائلها ... ورنت بصمت الدمع كالطفل
وعلى الشفاه تدب رعشتها ... وتسير في جفنين من ذل
حتى إذا ساءلتها هتفت! ... نحن الغريبان بلا أهل
وهي كما يقول (من أعز الأبيات إلى نفسه. .)
وبعد أيها القراء فهذه لمحة سريعة لفترة من سباب أبلى وجاهد. . ثم انهار. . وحملته المظالم إلى الهروب. . . والتغرب. وليس هذا بجديد في عصر تتشعوذ فيه القوة بالنسف والتخريب. . . نسف المثل وتخريب مزايا الإنسان. .
هذا ولا أريد أن أودع الشاعر لطفي جعفر أمام دون أن أقدم
لقرائي الأعزاء قصيدته التي نظمها يوم 24111951 في
الباخرة (دتوتر ماسل) وهو في طريق هجرته من عدن إلى
ممباسا ومنها إلى يوغنده وهي بعنوان (شريد)
سوف أمضي. لكن إلى أين. . لا أدري؛ خطا في الظلام تسري جريئه
لي إشراقة من الذات. . من ذاتي أنا. . هذه القتام الوضيئه
عبرت والحياة. . إثم وذنب. . وهي منها. . ولكن ومنها بريئه
كلما أفرغت جمالا وطهرا ... طفحت بالأثام كاساً مليئه(999/15)
ويح نفسي ضحية تتردى ... في خناق التلال. . أية بيئه
أنا في الناس سبحة من طهور ... فجفتها أنامل من خطيئه
وحدتي. . يا غيوم ظللها الدمع وأخرى في جانبيها أواره
تحتمي بالعذاب في كل قبر نبذ الليل في الدجى أحجاره
وهي في لينها وفي عطرها النامي شباب ونفحة من طهاره
أي شيء تنهد في إثر بلهاء ... مخلوعة الخطا. . مختاره؟!
أخطايا تنهدت في دماها؟ ... فمضت تنحر الهوى كفاره
أم غرام تلقفته الأماني ... فسلته. مليحة غداره
شق بي في مجاهل الكون صوت مستفيض الصدى جهلت قراره
أنا في يمة الدجوري ريح. . ودوى. . وومضه وحراره
ولأي الدروب يزجي بي الصوت محثا. مطلسما أسراره
شقوتي أنني على شفة الحسن وفي نبضه الهوى قيثاره
يا غريباً موزعاً كأمانيه. . شريداً كالنجمة المحتاره
غم أشجانه على من الغرب ووارى عن ناظريه بحاره
فمضى والحياة زاد كفاف من نشيد يقتات منه، استعاره
تربأ النفس أن يحط بها الرق. . ويلقي لها النفاق نضاره
فلله هذه النفس الكريمة التي تحمل ما تحمل في سبيل الفن. . والفن الخالص. . وسلا عليك أيها الشباب الذي تناضل وليس وراءك إلا الثقة بالروح الخالدة والأمل بالمستقبل. وفي الأعداد القادمة نماذج جديدة من شعر السودان الحديث. . وإلى اللقاء القريب أيها القراء الناطقون بالضاد.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(999/16)
الولاة والعمال في عصر الرسول
للأستاذ عواد مجيد الأعظمي
لقد بحثت في موضوع سابق معنى الولاية، وتطور مفهومها، وصيغتها الفقهية والنظرية، وقد ذكرت في نهاية الموضوع، أني سأتناول الناحية العملية والواقعية في سياسة الولاة والعمال في مختلف عصور التاريخ الإسلامي مبتدأ في عصر الرسول (ص).
لم تكن حكومة النبي (ص) حكومة دينية حسب، بل حكومة سياسية أيضاً (فقد كان (ص) يقود الجيوش، ويفصل في الخصومات ويجبي الأموال) (وأن النبي (ص) كان صاحب دولة سياسية، ورئيس حكومة كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وحدة دنيوية) وبهذا كان رسول الله (ص) يجمع في يده بين السلطتين الدينية والدنيوية، (ولا شيء أصوب من جمع محمد (ص) لجميع السلطات المدنية والحربية والدينية في يد واحدة أيام كانت بلاد العرب مجزأة) وقد أكد الرسول (ص) على نظام الشورى في إدارة الأمة الإسلامية الذي جعله يعتمد على اختيار عمال وولاة صالحين يساعدونه في الإدارة (حيث كان يتخير عماله من صالحي أهله، وأولي دينه، وأولي عمله، ويختارهم على الأغلب من المنظور إليهم في العرب، ليوقروا في الصدور، ويكون لهم سلطان على المؤمنين وغيرهم، ويحسنون العمل فيها يتولون، وكان يستوفي الحساب على العمال ويحاسبهم على المستخرج والمصروف)
وقد كان لانتشار الإسلام وتوسعه أثره البين في اختيار الرسول (ص) عمالا وولاة ينوبون عنه، لإرسالهم إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية، وإناطة بعض الأعمال الدينية والمالية بهم. . فيروي المسعودي: (لقد تتابعت اليمن على الإسلام وقدمت على رسول الله (ص) فكتب لهم كتباً بإقرارهم على ما اسلموا عليه من أموالهم وأرضهم، ووجه إليهم عماله لتعريفهم شرائع الإسلام وقبض صدقاتهم وجزية من أقام على دين النصرانية والمجوسية واليهودية).
وإن حاجة حكومة الرسول (ص) إلى المال لإدارة شؤون الدولة الإسلامية اقتضى تعيين عمال يقومون بجبايتها: (وكان رسول الله (ص) قد ولى عمرو بن العاص على صدقات سعد، وعذرة، وجذام وجديس). . كما (وجه عامل البحرين العلاء الحضرمي ألف درهم إلى رسول الله (ص) وهو أول مال حمل إلى المدينة فصرف على الناس). (وكان (ص)(999/17)
يولي حمل كل مدينة كبيرة بالحجاز واليمن، وكذلك على كل قبيلة كبيرة عاملا من قبله. . وكانت وظيفة هؤلاء العمال هي الإمامة في الصلاة وجمع الصدقات).
هذا إلى أن الرسول (ص) كان يعير انتباها خاصا للشؤون العسكرية، والقضائية، وكان يعتبرها جزءاً أساسيا من واجبات العمال. . (فقد كان للرسول (ص) نقباء كما كان له عرفاء أو رؤساء الجند). . (وجعل الرسول (ص) القضاء جزءاً من الولاية يقوم به الوالي) وإن استقل القضاء فيما بعد كما سترى في الفصول القادمة.
ومما مر - نرى أن اختيار الرسول (ص) للعمال والولاة؛ كان نتيجة حاجة الأمة الإسلامية في إدارة شؤون حياتها المتعددة - دينيا، واقتصاديا، وعسكريا، وقضائيا - ولكن الواضح أن الرسول (ص) لم يعط لهؤلاء العمال صفة سياسية في الأوقات التي كانت ينيبهم عنه في المدينة (فإن الرسول كان ينيب عنه قائدا يقود سرية من السرايا، أو ينيب عنه بالمدينة أحد أصحابه لإمامة الناس والصلاة). . (ولكن لم يكن لهؤلاء العمال صفة سياسية).
وقد فرض الرسول (ص) الرواتب لعماله. . (فقد فرض لعتاب بن أسيد الذي ولاه مكة درهما كل يوم. . فكان هذا الراتب أو لما وضع من الرواتب للعمال) وقد استمر ذلك إلى زمن عمر بن الخطاب حيث قدر الرواتب للعمال بعد تدوين الدواوين وتعيين أرزاق الجند، وأو ما فعل ذلك ما وجه عمار بن ياسر إلى الكوفة وولاه صلاتها وجيوشها فجعل له 600 درهم في الشهر) (كما أجرى على عثمان خمسة دراهم كل يوم).
وكان الرسول (ص) يوصي عماله خيرا، بأتباع سياسة الحق والعدالة، فمما يروى عنه أن قال لمعاذ بن جبل: (إني أحب لك ما أحبه لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تتولين مال يتيم) وهناك أحاديث كثيرة تروى عن الرسول (ص) وجميعها توضح ما يجب على الولاة أتباعه من سياسة العدل والمساواة بين الرعية؛ فمن قوله (ص): (ما من يؤمر على عشرة إلا وهو يأتي يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يكون عمله هو الذي يطلقه ويوثقه).
وقد ورد في الحديث أن النبي (ص) قال: (يؤتى بالولاة يوم القيامة فيقول الله عز وجل أنتم كنتم دعاة خليقتي وخزنة ملكي في أرضي، ثم يقول لأحدهم لم ضربت عبادي فوق الحد الذي أمرت به، فيقول يا رب لأنهم عصوك وخالفوك؛ فيقول لا ينبغي أن يسبق غضبك غضبي، ثم يقول لأحدهم لم عاقب عبادي أقل من الحد الذي أمرت به، فيقول يا رب إني(999/18)
رحمتهم، فيقول تعالى: كيف تكون أرحم مني، خذوا الذي زاد والذي نقص واحشوا بها زوايا جهنم) وفي الحديث أيضاً قال (ص) (لا يقف أحدكم موقف يضرب فيه رجل مظلوم، فإن اللعنة تنزل على من حضر حيث لم يدفع عنه).
فكهذا كان الرسول (ص) قويا حازما، حريصا على توجيه النصائح والإرشادات لولاته وعماله، حاثا لهم على تطبيق الحق والعدل والمساواة بين الرعية.
بغداد - العراق
عواد مجيد الأعظمي(999/19)
ميلاد أمة
للأستاذ حامد بدر
كنا نريد الكلام ولا نتكلم. ولنا ألسن؛ لأن على الأفواه أقفالا. وكنا نظلم ويبطش بنا، فلا نستطيع أن نرد الظلم، أو ندفع البطش. ولنا أيد؛ لأن في الأيدي أغلالا؟ وكنا نؤخذ في كل شيء قسرا. فلا نجد مفرا. لأن الحرية ضائعة. والطغيان بالغ منتهاه!
فإذا فاض الإناء. ونفد الصبر. لم يجد الكاتب ما يخفف به من بلائه سوى زفرة حارة يرسلها على القرطاس. في عبارة مقنعة لا يفهمها إلا من يعرف أسرار الرموز. ويفك عقد التعابير. ولا يعرف أسرار الرموز. ويفك عقد التعابير إلا من نزل به هم كهم هذا الكتاب المحزون، أو أصابه جرح كجرح ذلك الفصيح الأبكم!
ولا شك في أن للمظلوم الذي لاذ بالصمت كارها شكاة تسمع ولو لم نطق بها. فليس بين الإله وبين قلوب عباده حجاب. وهو بالمظلومين والظالمين خبير بصير. كما لا شك في أن للظالم جزاء يلاحقه أينما كان. فإن لم يلحقه عاجلا. فلابد أن يلتقي به يوم ما. وإن يوم الفصل الذي أعد له لأبشع وأشنع وأفظع من كل انتقام عاجل يصيبه في الدنيا!
كنت بالأمس لا أستطيع الكلام الصريح. ولي لسان عليه غل. وفي يدي قلم عليه. غل أيضا. فإن حاولت الكتابة لأنفس عن نفسي. وأخفف عن آلامها. أخذت أدور حول الغرض ولا أقربه. ولأني أمقت الدوران. كنت كثيراً ما أطوي الكتاب قبل إتمامه. وأعرض عن الموضوع قبل استيعابه.
كنت أقول في نفسي: إن كل شيء في الصدر مخطوط. وفي الإفضاء بما في الصدر راحة. ولكن كف أسجل شكاتي التي أريدها صريحة ناصعة ولا سبيل إلى ما أردت؟ لن أكتبها مشوهة مبتورة! فالسكوت السكوت!
هكذا كنت أوثر السكوت وأنا مكره. والآن وقد انطلقت الألسن والأقلام. . فما عذري إن لم أتكلم؟
بالأمس كنت مكرها على السكوت. واليوم زالت الأسباب التي من أجلها أردت الكلام. فلا كلام بالأمس. ولا كلام اليوم! والفرق واضح بين سكوت الأسير العاجز، وسكوت الحر القادر، وليس أدل على الرضا من سمت المرء وهو قادر على الإفصاح.(999/20)
كنت بالأمس أريد التحدث عن الحرية المسلوبة. والحق الضائع. والظلم القائم. واليوم وقد ردت الحرية. وجاء الحق. وذهب الظلم. لا أجد ما يدعوني إلى الكلام.
إن العبرة تذهل من يفكر تفكيراً عميقاً في هذا الحلم الذي حققه بمشيئة الله وقدرته - جيشنا الأمين. وقائده النجيب. وإن نشوة الانتصار تغمر قلب كل مصري، يفيض من الحمد والشكران.
لا أريد اليوم أن أقول شيئاً. فإن الرضا بالحاضر أسكتني. والثقة بأن الزمام في أيدي الأمناء المخلصين الذين خرجوا بنا من الهوة. إنما هي ثقة من يتطلع إلى القمة، فلا شك في أن الخروج من الهوة صعود. والوصول إلى القمة منتظر (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم).
إن كل دقيقة ينفقها الرجل في كلام ضائع. وهو قادر على إنفاقها في عمل نافع. لهي فرصة ضائعة. وإضاعة الفرص المتاحة خيانة وسرقة ومماطلة في حقوق البلاد.
وإنه ليغمرني شعور بالرضا. وراحة الضمير. والشكر لله سبحانه. عندما ينهض الرئيس علي ماهر ليتكلم فيقول: عملنا وفعلنا وقررنا. . وكان غيره يقول: سنعمل وسنفعل. . والفرق كبير جدا بين الوقت الذي أنفقه الرئيس علي ماهر في العمل. والوقت الذي أضاعه غيره في إنشاء الخطب وإذاعتها ونشرها. هذا وقت قليل جدا في حساب الساعات والدقائق. لكنه كثير مبارك. في نتائجه السريعة الناجحة. وذاك وقت كبير جدا في حساب الأيام والسنين. لكنه صغير وتافه. في نتائجه البطيئة الفاشلة.
لو قيل لي: ماذا تتمنى؟ لتمنيت للبلاد رئيسا حكيما مخلصا. وجيشا قويا أمينا يقوده قوي أمين
لو قيل لي: ماذا تتمنى؟ لتمنيت ما كان. فحمداً لله على أن حقق ما تمنيت. فأعطى البلاد خيرا كثيرا يعقد الألسن من العجز عن تصوير معاني الرضا والشكران.
وهب الله البرد الرئيس والقائد اللذين أعدهم لحماية المظلومين من الظالمين. وإقامة الحكم الصحيح المنقذ للبلاد.
فاليوم لا كلام إن لم يكن مسبوقا بالعمل أو مقرونا به. لا كلام إن لم يكن توجيها صالحا أو تشريعا طيبا نافذا.(999/21)
إن الوقت أصبح غاليا جدا. وكم بذلناه وأفنيناه رخيصا. بل من غير ثمن!
وإذا حق لنشوة النصر أن تدفع القلم ليكتب. فإني أسجل هذه العبارة الموجزة:
ليمض كل مصري في واجبه أمينا مخلصا، فقد أتيح لكل مصري أن يؤدي واجبه من غير التواء ولا انحراف.
حامد بدر(999/22)
2 - أبو هلال العسكري
بين البلاغة والنقد
للأستاذ عبده عبد العزيز قلقيلة
نشأة النقد ونطوره إلى عهد أبي هلال
لابد للأثر الأدبي في نفوس الناس من صدى يتمثل في استجابة عواطفهم له وتجاوب أفكارهم معه؛ وقد يأخذ مظهر النفور منه والازورار عنه. ونتيجة هذا أو ذاك تلك الآراء والأحكام العامة بالحسن أو القبح، والجودة أو الرداءة. وقد وجد عند العرب منذ الجاهلية نقد أدبي بهذا المعنى لم تكن له أسس أو أصول مقررة، وإنما هو أحكام تقوم أكثر ما تقوم على التأثر والانفعال. حتى إذا كان القرن الأول الهجري اتسع أفق النقد وجنح إلى شيء من الدقة وحاول أن يحدد بعض خصائص الصياغة والمعاني؛ وما كاد هذا القرن ينتهي حتى ارتقى النقد ارتقاء محمودا، وكثرت مواطنه في البادية والحضر.
ثم يكون القرن الثاني فترى طائفتين لهما شأنهما في النقد هما: اللغويون والنحاة. من أمثال أبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، والأصمعي، وأبي عبيدة، والمفضل الضبي. وقد سلك هؤلاء لونا جديداً من النقد تشعبت بحوثه وتنوعت، وعرفت له مقاييس أصول، وابتدأت محاولات النقد المنهجي تظهر.
فهذا (محمد بن سلام الجمحي) الذي عاش في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث يؤلف كتابه (طبقات الشعراء) يتكلم فيه عن الشعر الموضوع، ويبرهن على وجود الوضع بأدلة عقلية ونقلية، ثم يخص إلى فكرته الرئيسية في الكتاب وهي الحديث عن الشعراء وتقسيمهم إلى طبقات، صادرا في تقسيمه هذا عن مبادئ عامة اتخذها أساسا للحكم عليهم هي: كصرة شعر الشاعر وتعدد أغراضه وجودته، متناولا في ثنايا ذلك بعض الظواهر الأدبية وتعليلها من مثل: أثر البيئة في لين اللسان أو غلظه، وفي رقة الشعر أو خشونته، ومن مثل: قلة الإنتاج الأدبي في بعض البيئات وكثرته في البعض الآخر.
أما القرن الثالث فقد كان خصبا حافلا بالرجال والأفكار، إذا انضمت فيه إلى الجداول العربية الأصيلة من التفكير جداول أخرى من المعارف الأجنبية، كان لها أثرها في تشعب(999/23)
النقد واختلاف مشارب النقاد. فمن لغويين كالمبرد، إلى أدباء مثل عبد الله ابن المعتز، إلى علماء أخذوا نصيبا يسيرا من المعارف الأجنبية يمثلهم الجاحظ وأبن قتيبة؛ إلى آخرين تأثروا كل التأثر بما نقل عن اليونان كقدامة، ومن أهم الكتب التي تصور هذه الاتجاهات كتاب الكامل للمبرد، وكتاب البديع لابن المعتز، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والبيان والتبيين للجاحظ، ونقد الشعر ونقد النثر لقدامة
أما كتاب الكامل فيفيض بطاقة كبيرة من النصوص الأدبية المأثورة حتى كانت تعجب الذوق العرب الخالص في ذلك الوقت. ونرى مؤلفه - وهو أديب لغوي نحوي - يعالج هذه النصوص على طريقته العربية الخالصة فيشير إلى ما فيها من (اختصار مفهم أو إطناب مفخم أو لمحة دالة) ويأتي بالأمثلة الكثيرة على (ألفاظ العرب البينة القريبة المفهمة الحسنة الوصف الجميلة الرصف) وعلى (ما يفضل لتخلصه من التكلف وسلامته من التزيد) ثم على (ما يستحسن لفظه ويستغرب معناه ويحمد اختصاره) وهكذا. ويعجب المبرد بالتشبيه، ولذا نراه في الباب 47 ج 2 يطيل في ذكر بعض ما مر للعرب والمحدثين بعدهم منه، ويعلق على الأمثلة بطريقته الخاصة محاولا في ثنايا ذلك أن يلم ببعض النواحي النظرية فيه.
أما كتاب عبد الله بن المعتز فهو الذي حدد خصائص مذهب البديع، وفصلها عما عداها ورد هذه الخصائص إلى التراث العربي القديم. وقد كان لهذا أعظم الأثر في توجيه النقد وجهة تاريخية وحمل النقاد على اتخاذ التقاليد في الشعر مقاييس لهم؛ وكان هذا سببا في أن عظمت العناية بمسألة السرقات الأدبية.
وحين نصحب أبن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) نرى أنه رفض الأخذ بتقسيمات ابن سلام لأنه لم يؤمن بها؛ بل بحث الموضوع من وجهة نظر عقلية بحتة، ونجح في هذا حتى إذا كان دور التطبيق وعمل الذوق الفني أخفق. وقد تدبر الشعر فوجده أربعة أضرب حسب الحسن والجودة في لفظه ومعناه، ومثل لكل ضرب، وقسم الشعراء حسب ما فيهم من تكلف أو طبع، وبين أن للشعر دواعي تحث البطيء وتعبث المتكلف، وله أوقات يبعد فيها قريبه ويستعصب ريضه ولا يعرف لذلك عله إلا من عارض يعرض على الغريزة، كما أن له أوقات يسرع فيها أتيه ويسمح أبيه. ثم يأخذ أبن قتيبة في الكلام على الشعراء(999/24)
وترجمة حياتهم.
أما الجاحظ فقد يكون أهم شخصية من شخصيات القرن الثالث، وذلك لأن عمله مزدوج، وقد برز تبريرا ظاهرا سواء في البلاغة أو في النقد. ففي البيان والتبيين يتحدث عن المعاني وتصورها واختلافها في النفوس، وأنها ما لم يعبر عنها موجودة في قوة المعدومة، وإنما تحيا بالتعبير عنها. وكيفية التعبير عن المعاني تجذبه إلى التحدث عن الألفاظ، وإلى المقارنة بينها وبين المعاني، وهذه البحوث من صميم البلاغة. لكنه مع ذلك يلاحظ ملاحظات ويبدى آراء على جانب عظيم من الأهمية في الإنتاج الأدبي ونقده - منها:
(1) البعد عن الهوى والمحاباة. أي يدعو إلى أن يكون النقد موضوعيا معللا قائما على أسس تبعده عن التحيز والتعصب.
(2) الطبع والاستعداد. فهو يدعو من يأنس في نفسه ميلا إلى الأدب أن ينمي هذا الميل ويلتمس له النماذج الرفيعة غير متهيب من إساءة، ولا متخوف من نقد.
(3) رسالة الأدب ويرى أنها خلقية.
(4) عدم إذاعة الآثار الأدبية قبل التأكد من جودتها.
وسنرى بعد أن هذا العمل المزدوج الذي اضطلع به الجاحظ كان شيئاً طبيعياً اقتضته روح العصر وتلك الحركة العلمية التي كانت في عنفوان نشاطها لكنها كذلك كانت في مراحلها الأولى.
إلى الآن والنقد الأدبي إما عربي صرف؛ أو عربي فيه لمحات خافتة من ثقافة اليونان لكنه عربي القواعد والتطبيق على كل حال. لكن مع هذا النقد أو بعده بقليل (في الربع الأخير من القرن الثالث والثلث الأول من القرن الرابع 275 - 337) ألف قدامة بن جعفر كتابين: أحدهما في نقد الشعر والآخر في نقد النثر على اختلاق في نسبة الثاني إليه.
ذكر في نقد الشعر أنه لم يجد أحداً وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتابا مع أن الناس يخبطون فيه وقلما يصيبون. وكأنما ساءه هذا الإهمال وعز عليه أن يضل الناس في نقد الشعر. فوضع في ذلك كتابه، وقد عالج الموضوع على طريقة ظاهرة التأثر بتفكير أرسطو. وأظهر أثر لكتاب الخطابة عند قدامة هو الكلام في الفضائل النفسية التي جعلها أرسطو أمهات الفضائل. فقد نقلها قدامة إلى الشعر وربط معانيه بها وأدعم بينه وبينها(999/25)
الصلات.
أما نقد النثر فإنه يستدرك به على الجاحظ (الذي لم يوف وصف البيان ولا أتى على أقسامه ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان) ولهذا راح قدامة يتكلم عن البيان والقياس والعبارة وما يندرج تحتها من الاستعارة والأمثال وغيرها. بهذا ننتهي من القرن الثالث حتى إذا كان القرن الرابع رأينا حركة النقد تبلغ ذروتها على أيدي الآمدى والجرجاني وأبي هلال حيث تتسع دائرة التاريخ الأدبي وتقسيم الشعراء إلى طبقات.
ويزداد الاهتمام ببحث موضوع التعبير الشعري ومناقشة خصائص الأسلوب القرآني وتظهر الكتب القيمة في جميع هذه النواحي مثل: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وديوان المعاني لأبي هلال في تحليل البواعث الشعرية وتبويبها، وتتجلى الموازنة بين الشعراء وتحديد منزلتهم الأدبية في كتاب (الموازنة) للآمدى و (الوساطة) للجرجاني. كما يتمثل اقتراح البحوث.
التي بدأها قدامة وأبن المعتز، والبحوث القائمة على سوق الأدبي في كتاب (الصناعتين) موضوع البحث.
تداخل البلاغة والنقد أمر طبيعي: -
سبق القول بأن كلا من البلاغة والنقد يدور حول تحقيق الصدق والقوة والجمال في التعبير الأدبي. وهذا العرض السريع لنشأة كل منها وتطوره يوقفنا على تشابه هذه النشأة بل على وحدة الظروف التي خلقتها.
وإذا فلم يكن من الغريب أن يلتقيا في تطورهما أكثر من مرة على أيدي رجال موزعين بينهما أو قد أحاطوا بهما فتكلموا فيهما على اختلاف في الميل إلى أحدهما أو زيادة في الاهتمام به. وأرى أن طبيعة الثقافة، وحاجة العصر، وتقدم الزمن أو تأخره بالمؤلف؛ كل ذلك شارك في توجيهه ودفعه إلى هذا البحث الخاص من بحوث البلاغة أو من بحوث النقد أكثر مما كان عند هذا المؤلف من دوافع الرغبة والإرادة.
فالمبرد: أديب لغوي ثم هو من صميم العرب ولم تطعم ثقافته بهذا اللون من ألوان الثقافة الأجنبية. ولذا نراه يتكلم في البلاغة والنقد بروح اللغويين، فما جارى اللغة وساير قواعدها فهو الجيد، ولا يحتاج بعد هذا إلا إلى جزالة أو فخامة أو متانة حتى يكون بليغا. والبلاغة(999/26)
عنده تتراءى من بعيد في الاختصار المفهم والإطناب المفخم واللمحة الدالة وفي التشبيه (الذي لو قال قائل إنه أكثر كلام العرب لم يخطئ).
وأبن المعتز: ذلك الشاعر المطبوع ذو الذوق الخصب والملكة الموسيقية كان أديبا أنيق الصياغة والتصوير، وإلى جانبأيأأألباب هذا كان ذا قدم راسخة في رواية الأدب ونقده. ولقد ألف في ذلك كتاب منها (طبقات الشعراء) و (السرقات). وله في البلاغة والنقد كتاب البديع.
والجاحظ الفحل: بسط جناحيه على معظم مسائل البلاغة والنقد ثم انتفض العبقرية الفن فكان كتابه الخالد (البيان والتبيين).
وقدامة بنقد فيرده النقاد إلى البلاغة، ويتكلم في البلاغة فيرده البلغاء إلى النقاد، وبوسعنا أن نقول. إنه كان ناقدا وكان عالما بالبلاغة ولو أن نقده وبلاغته كانتا بحيث تغلب عليهما روح الفلسفة والمنطق.
وهذا التداخل بين البلاغة والنقد أمر طبيعي بعد ذلك علمنا من تقارب عمليهما وبعد ما كان من توحد بعض المؤلفين فيهما. دعا إلى ذلك وساعد عليه تكتل العلوم وجعلها مجاميع لذلك العهد. فقد كانت هناك علوم الدين من فقه وأصول وتفسير وحديث ووعظ. وعلوم اللسان من متن اللغة وتعريفها واشتقاقها وروايتها وبلاغتها ونقدها. وعلوم التاريخ العام والخاص. وعلوم أجنبية من فلسفة ومنطق ورياضيات. فكان الرجل يشتغل بمجموعة من تلك المجاميع فيشتهر بها ويؤلف فيها؛ بل قد ساعد النشاط العلمي والتنافس بين البيئات المختلفة على إحاطة العالم بعلوم مجموعتين أو ثلاث.
والآن لنتقدم إلى أبي هلال ولنصحبه في كتابه (الصناعتين) لنرى حظ البلاغة منه وحظ النقد.
(يتبع)
عبده عبد العزيز قلقيلة(999/27)
حول مقال
يقظة الوعي الإسلامي
(إلى الأستاذ محمد عبد الله عنان)
للأستاذ محمد رجب البيومي
أخذ الروح الإسلامي في مدى عشرين عاما يرسل أضواءه المتلاحقة في المجتمع المصري الحديث، حتى أصبح لدينا وعي ديني يحسب حسابه، ويلمس أثره الواضح في كل اتجاه، غير أن طائفة من الكتاب يطبقون عيونهم عما حولهم، فلا يقدرون لهذا التيار العنيف أثره البعيد في اختلاف النظرة، وتحول الرأي، بل يتكلمون عن الدين كما كانوا يتكلمون عنه في مطلع هذا القرن، قبل أن تتبدل الحال غير الحال، حيث أفلح الاستعمار في أداء رسالته التبشيرية ردحاً من الزمن، فرسم للشريعة الإسلامية صورة مخيفة مفزعة تتقوض معها دعائم الحضارة والعمران، وقد أذن الله أن ينجاب ليل الباطل عن النفوس، فأخفق أعداء الإسلام في محاربته، وأسفر صبحه الوضئ بهيجاً ساطعاً، فسار الناس على ضوئه وطالبوا بتحقيق رسالته، وهم لابد واصلون إلى ما يبتغون على يديه من خير وإصلاح.
ولقد كانت القوانين الوضعية تسن في مصر مخالفة روح الشريعة الإسلامية قانونا آثر قانون، ويقابلها الرأي العام في الصحف والأندية مرحبا هاتفا، فإذا اعترض عليهم مسلم مخلص لدينه وعقيدته، رمي بالجمود المتأخر، والرجعية البالية، وقوبل حديثه باستخفاف هازئ وسخرية مريرة، أما الآن فقد تيقظ الوعي الديني في الأمة المصرية تيقظاً يبشر بالخير والسداد، والتف الجمهور الناضج حول الشريعة الإسلامية التفافا متماسكا، وسمع الناس كلمة الدين في حقوق المرأة تدوي عالية قوية، فيذعن لها أصحاب التشريع، ويقف لديها القانون سامعاً مطيعاً، ولكن الرجوع إلى الحق لم يرض فريقاً من الناس فاندفعوا يهاجمون القوانين الدينية هجوماً فاشلا، ويرددون النغمة البالية التي لحنها الاستعمار قديماً لتحول بين الشعب وكرامته، فهم ينذرون الوطن بالتأخر والفشل إذا احتكم لقرآنه في تشريع، أو تبع دينه في مذهب، وقد أدهشني أن أجد الأستاذ محمد عبد الله عنان - مع ما عرف عنه من التعقل والاتزان - يصيح مع هؤلاء الناقمين، فيهجم على قوانين الشريعة(999/28)
هجوماً ظالما، ويرى في نظمها العريقة تقهقرا لا يليق بمجتمع متحضر مستنير، وسأنقل هنا بعض ما كتبه الأستاذ بالعدد (706) من مجلة الثقافة الغراء دون أن اشوه حديثه بالتلخيص الموجز ليقف القراء على رأيه من أقرب طريق.
يقول الأستاذ:
(والحقيقة أن هذا الاتجاه (نحو الشريعة الإسلامية) خاطئ من أساسه ولا محل على الإطلاق أن يتخذ الدين أساسا لمثل هذا الموضوع، سواء لتوكيد التحريم والإباحة، وإذا كانت مصر دولة إسلامية فليس معنى هذا أنها دولة دينية، أو بعبارة أخرى أنها دولة تطبق أحكام الدين في سائر نواحي الحياة العامة؛ فالنظم الأساسية والقوانين المدنية والجنائية المصرية كلها نظم وقوانين تطبعها الصفة اللادينية).
إلى أن يقول: (فإذا ما تقرر ذلك وهو أن لنظم والقوانين المصرية هي نظم مدنية لا دينية، لأنها هي النظم والقوانين التي توافق روح العصر ومقتضيات الحياة الاجتماعية، فلا محل لأن نجعل الدين حكما في مسائل لا علاقة لها بالدين، ولا تمس العقيدة الدينية ذاتها، ولا محل إذن لنرجع بمطالب المرأة السياسية الاجتماعية إلى أحكام الدين ما دامت هذه مطالب لا شأن بها بالعقيدة).
ثم يقول في النهاية: (فمحاولة النيل من هذه النهضة المباركة (نهضة المطالبة بحقوق المرأة) والرجوع بها إلى الوراء باسم الدين أمر لا يقبله عقل مستنير أو منطق سليم).
ونحن حين ننقل هذا الكلام الجريء لا نرغب أن نعقب عليه بنقد يكشف خطأه للناس، فالناقد المخلص يشرع قلمه حين يخشى استجابة المجتمع لرأي خطير يلتبس فيه الحق بالباطل، ولكن الوعي السائد ينكر بداهة، أن يوجد فرق بين الحكومة الإسلامية، والحكومة الدينية، كما يعتقد الأستاذ، فكل حكومة لا تلتزم شريعة الإسلام فليست إسلامية ولا دينية معاً، ومن الخطأ الواضح أن يعتقد مسلم أن الدين شيء والإسلام شيء آخر، فإذا وجد من يجرؤ على هذا القول في مجتمع رفع الغشاوة عن عينه، فلن يجد من يستمع إليه، ولا حاجة لمن يتعقب كلامه بنقد صريح، إنما لحاجة ماسة إلى من يوقف الكاتب وأمثاله على مدى النشاط الديني الذي أخذ يسيطر على الحياة المصرية سيطرة مباركة ليزن كل كاتب كلامه عن الإسلام بميزان دقيق.(999/29)
والمدهش الذي لا يتوقعه القارئ من الأستاذ عنان بعد أن كتب هذا الكلام، أنه يتفق مع رجال الدين في هدف واحد، فينادي بحرمان المرأة مما تزعمه لها من الحقوق، ولكنه يرفض أن يكون هذا الحرمان وفق تعاليم الشريعة الإسلامية كما يقول رجال الدين! بل احتذاء وتقليداً لفرنسا وإنجلترا وبلجيكا! إذ أن هذه الدول الغربية قد لزمت الحيطة والأناة حين منحت للمرأة حقوقها السياسية في فترات متباعدة، ولم نفتح لها الباب على مصراعيه مرة واحدة، فالثورة على القوانين الإسلامية وحدها هي التي تشغل بال الأستاذ، وتدفع بع إلى محاربتها دون تردد واكتراث.
ولقد كان اللائق بالكاتب بعد أن تشبث بالقوانين الوضعية واعترف بأنها - وحدها - التي توافق روح العصر، ومقتضيات الحياة الاجتماعية، أن يدافع عنها دفاعا يحببها إلى الذهن المصري الحديث، بعد أن كفر بها كفراً لا مزيد عليه، إذ أنها سيطرت على التشريع المصري حقبة طويلة، ففتحت الطريق للرشوة والظلم والاستبداد، ومحت معاني العزة والحرية والكرامة من النفس، وهذه القضايا السياسية الفاضحة التي تمتلئ بها صفحات الجرائد كل يوم لم تكن غير نتيجة حاسمة لهذه القوانين الآثمة التي تتستر على الخيانة والرشوة والاختلاس والتبذير، حتى فطن المصريون إلى ما تجره الشرائع الغربية من نكبات أليمة على الشرق والإسلام، فأعلنوا الحرب عليها في غير هوادة، وسيأتي اليوم التي تلفظ فيه أنفاسها في الشرق الإسلامي إلى غير رجعة مادام في الشر قرآن يعلن كلمة الله، وجمهور يعتقد أن الحكم بغير شريعة الإسلام ضلال وكفران.
وإذا كانت الدستاير الحديثة التي يؤمن بها الأستاذ عنان تنادي بأن الأمة مصدر السلطات، فلماذا يخالفها الأستاذ مخالفة سافرة فيتحدى الشعور السائد في الجمهور، ويتجاهل ما طرأ على المجتمع من تطور سريع في الرأي والاتجاه؟ ويغمض عينه عن الآلاف المحتشدة التي تنادي بالاحتكام إلى الإسلام؟
إن كان الكاتب في شك مما نقول، فلينظر إلى من يطالبون بشريعة القرآن الآن؟ أهم الأزهريون وحدهم كما كان الحال منذ أعوام؟ أم أن الصفوة المختارة من الشباب الجامعي طلابا وأساتذة يجاهدون في هذا السبيل جهاداً يوشك أن يكلل بالنجاح!
من المسيطرون اليوم على دعوة الإخوان المسلمين؟ أليسوا أعلام القانون وأساتذة التشريع(999/30)
في مصر! أفينقصهم العقل المستنير الذي يتشبث به الأستاذ عنان، أم أنهم يشاركونه الفقه والتعمق والإنتاج!
لقد كان على الأستاذ الفاضل - وهو كاتب لامع ينشر مقالاته في الصحف اليومية - أن يلحظ ما طرأ عليها من اتجاه ملحوظ نحو الدين، فقد أفردت صفحاتها الواسعة المناقشة المسائل الدينية نقاشاً مسهباً، وتسابقت كل جريدة في تصيد الأبحاث الإسلامية بحثا وراء بحث، ومن أصحاب هذه الصحف من لا يرحبون بتعاليم الإسلام، ولكنهم يملقون الوعي الديني في الأمة، ويودون التحبب إلى القارئ بشتى الوسائل، وفي الكتابة الإسلامية ما يغذي العقول ويشبع الرغبات.
لماذا أصدرت أخبار اليوم كتابا عن محمد، ولماذا أصدرت دار الهلال كتابا يفسر آيات القرآن؟ أكان المهيمنون على الصحيفتين من عشاق الفكرة الإسلامية في يوم من الأيام؟ أم أن الوعي الديني قد أجبرهم على الإذعان لمشيئته، فألقوا إليه السلم طائعين، والتاجر الناجح هو الذي يقدم الثمرة المشتهاة، لتدفق عليه الثراء وتتضخم لديه الأرباح!
هذه هي المحاضرات اليومية المتنوعة، بعلن عنها في الصحف مساء فلماذا يختار الشباب منها ما يمت إلى الإسلام بأقرب الصلات؟ وهذه هي المجلات الإسلامية تتزايد يوماً بعد يوم فلماذا يتكالب عليها القراء رغم ما يحمله غيرها من مغريات اليانصيب والسباق، ورغم ما تتعلق بع الغرائز من صور وأقاصيص!
أليس من المضحك أن يعيش كتابنا الأفاضل في عزلة تامة عن مجتمعهم المتوثب، فهم لا يحسون بما يسوده من تطور وانتقال! فإذا كتبوا إليه أخذوا يرددون ما تعافه الأسماع!
لقد ازدحمت المكتبة العربية بسيل جارف من الكتب الإسلامية التي تناقش الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية على ضوء القرآن؛ فلماذا التهمها القراء في نهم واشتياق، فتعددت طبعات الكتاب الواحد عدة مرات؟ ولماذا خرس دعاة الإثم من الكتاب فلم نعد نسمع بمن يكتبون عن (كبرياء الحب) (ومأساة قلب) (والموجة العذراء)!
إن المستقبل للإسلام دون نزاع، فمن شاء أن يلحق بالركب المجاهد فليحمل قلمه في سبيل العزة والحرية والإيمان، فعما قريب تبدد الغيوم، ويشرق النور المتألق، (يومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).(999/31)
محمد رجب البيومي(999/32)
الأدب واللغة من الكائنات الحية
للأديب محمد عثمان الصمدي
- 3 -
كان هذا كله لأن الذوق الأدبي كان قد تعقد وأصبح موضوعيا إلى أبعد حد، فلا يرضى إلا عن الخصب والغزارة. وهو لهذا يضغط المعاني حين يتذوقها أو يتفهمها ضغطا شديدا. ويختصرها نافيا منها ملم يكن في الجوهر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وقد يكون من الملائم هنا أن نلم بقول للجاحظ إزاء بيت من شعر أبي نواس وهو وصف كأس.
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسى الفوارس
قال: (نظرنا في شعر القدماء والمحدثين فوجدنا المعاني نقلت. ورأينا بعضنا يسرق من بعض إلا قول عنترة (وخلا الذباب بها فليس ببارح) وقول أبي نواس (قرارتها كسرى) الخ البيت).
وليس يعنينا من قول الجاحظ أسرق المحدثون من القدماء أم لم يسرقوا. . بقدر ما يعنينا نظره إلى المعاني. فهي مهما تلونت وتشكلت وظهرت في أثواب وصور مختلفة متباينة فلن يحول ذلك كله بينها وبين رجوعها إلى مصادرها. أو بينها وبين ذوي قرباها وكل ما تمت إليه بسبب قريب أو بعيد. وما من شك في أن ليس للجاحظ وأمثاله من المثقفين مصدر يحملهم على هذا النظر إلى المعاني إلا ما أشرنا إليه من قبل من الفهم الإجمالي. هذا مع اعتقادنا أن الجاحظ قد أسرف إسرافا شديدا حين عزاها كلها إلى النقل والسرقات.
وكذلك روى أن وراية مسلم بن الوليد وفد على يزيد ين مزيد بقصيدة مسلم المشهورة التي مطلعها.
لا تدع بي الشوق إني غير معمود ... نهى النهى عن هوى الهيف الرعاديد
فلم يسمح له حاجب يزيد بالدخول. ولكنه عاد فاشرط قبل أن يسمح له بالدخول على يزيد أن ينشده القصيدة. وكان كما قيل للحاجب أدب وفهم. فأنشده القصيدة أو شيئا منها ثم أذن له.
ويهمنا في هذا الخبر أن نتبين إلى أي مدى قد مجت الأذواق والأسماع الكلام المكرور. أو بعبارة أدق قد مجت المعاني المكرورة في أثواب غير الأثواب، وفي صور غير الصور.(999/33)
فهي لا تخدع بما تعرض فيه المعاني من تغيير للوزن والقافية. ومن تلوين وتصوير. ولكنها كما قلنا تفهم ما يلقى إليها على وجه الإجمال، فإن ظفرت بالطريق المبتكر على هذا النحو في الفهم كما ظفر حاجب يزيد فذاك، وإلا فلا.
وقد كان بودي أن أنقل طرفا من النثر الفني لذلك العصر. ولكني أجتزئ بالتنويه إلى أنه موجز شديد الإيجاز، قد اصطنعت كل الوسائل الفنية لضغطه وتركيزه ووجازته، حتى ليبدو غامضا أو كالغامض في كثير من الآثار. وهو لهذا منطفئ الأديم باهته لا يترقرق عليه بماء. وليس من شك في أن ما آل إليه النثر الفني هو طور طبيعي، وأثر من آثار استجابته للحياة ككل كائن حتى يتأثر بها ويؤثر فيها. ونحو هذا تحديد بعض المعاني على ضوء المعرفة النحوية، كما تقول حين تريد التعظيم: (إنا أرسلنا إليك الكتاب) وقد كان حسب المرسل إليه أن يفهم أن الكتاب قد صار إليه والسلام. ثم لا يعينه التعظيم في كثير ولا قليل، بل لم يكن يخطر على بال. ولقد رأينا من اجل ذلك عالما كبيرا كابن قتيبة يشكو أحر الشكوى مما انتهت إليه اللغة في ذلك العصر. ثم يؤلف للناس ما ينفعهم في هذا السبيل، وما يقوم من أيديهم وألسنتهم، وما يبصرهم بدقائق اللغة، ويحدد لهم ما في مفرداتها من فروق. وحسبنا أن نشير إلى هذه العبارة له حيث يقول:
فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين. ولأهله كارهين. أما الناشئ منهم فراغب عن التعليم. والشادي تارك للازدياد. والمتأدب في عنفوان الشباب ناس أو متناس ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين.
ولفظة الأدب في عبارة أبن قتيبة تعني اللغة وعلومها. فلم يكن لفظ الأدب قد تطور إلى ما نفهمه منه في عصرنا الآن. وكذلك لم يكتف أبن قتيبة بما عاب به آهل زمانه من جهل باللغة وعلومها، بل عاب به أيضا: الأدباء وكتاب الدواوين. وأولئك كما يقول الجاحظ خير ممن سواهم علما وبصرا وكتابة. . قال أبن قتيبة:
(فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخط قويم الحروف. وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتا في مدح قينة أو وصف كأس).
وكذلك يقول في كتاب الدواوين أيضا:
(وأي موقف أخزى لصاحبه من موقف رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء لنفسه.(999/34)
وارتضاه لسره. فقرأ عليه يوما كتابا وفي الكتاب (ومطرنا مطراً كثر عنه الكلأ) فقال له الخليفة ممتحنا له: وما الكلأ. فتردد في الجواب وتعثر لسانه ثم قال: لا أدري) نعم ضعف العلم العام بمدلولات اللغة، وأصبح الناس يفهمون ما يلقى إليهم على وجه الإجمال، ذلك لأن العقل كان قد سيطر على مصير النثر والنظم. فهو قد هضم كثيرا من ألوان الثقافات، بل لقد أصبح خالقا لها بالقدر الذي أهله له تطوره ونموه بالقياس إلى ما أتاحته له الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية من حرية وانطلاق. ولقد بلغ من سيطرة العقليان على النفوس أن صار التشدق مصطلحات الفلسفة والمنطق في الأندية والمجتمعات ظرفا وكياسة. وليس ذلك فحسب؛ بل لقد أراد أصحاب المنطق إلى الشعراء أن يشعروا على نحو من حدود الفلسفة والمنطق. هذا وليس رد البحتري على أولئك النفر بمجهول لدى أحد من الباحثين والأدباء. ومن قوله:
كلفتمونا حدود منطقكم ... والشعر يغنى عن جده كذبه
وبالرغم من البحتري، وبالرغم من كل شيء سرت العقليات إلى الشعر سريانا قويا. حتى ليبدو شعرا بن الرومي في عمومه رواسب عقلية تارة. وجدلا كلاميا تارة أخرى. والبحتري نفسه هو أعظم (موسيقار) في الشعر خلص العقل إلى أدبه في أماديحه الضعيفة التي كان يلفقها لأولئك الذين ليست لهم مآثر خليقة بالذكر والتسجيل. فقد كان يستمدها من العقل حينا، ومن التراث الأدبي حينا آخر. وهو مالا نجد له مثيلا في نضوب الروح فيما سلف من شعر أموي على نحو عام. ورأيي - ولعله أن يكون من الغرابة بمكان في أنفس بعض الناس - أن أماديحه في الخلفاء بوجه عام أضعف من مثيلاتها في القواد والحكام وملوك الأطراف.
وعدا هذا فقد كانت له تأملات شعرية يغلب عليها العقل الخالص دون سواه، ومنذ أن استأثرت العقليات بالسيطرة على الأفئدة والنفوس، تطلع الناس إلى آفاق من المعرفة لم تكن معروفة من قبل. وهذا طور تتحجر معه اللغة، وينظر إليها على أنها وسيلة وليست غاية من الغايات. ولا تبقى لها منزلة الغاية إلا في أنفس المختصين أمثال أبن قتيبة ومن لف لفه من اللغويين والنحاة. وأحب ألا يفهم أحد أن اللغة قد اندثرت وأصبحت أثراً من الآثار في ذلك العهد. كلا. فما إلى هذا أردت، وإنما أقصد إلى سنة التطور، وإلى أن(999/35)
تيارين من المعرفة قد تعارضاها فأيهما كانت روافده أقوى، ودوافعه أشد، كتب له الظفر، وأصبح سمة من سمات العصر يتميز بها من سائر العهود والعصور. وقد كان إلى جانب اللغويين والنحاة تلك البيئات الأرستقراطية التي انحدرت من أصول عربية خالصة. فهي تعمل على المحافظة على تراث العرب وإنمائه لأنه من مقومات الشخصية العربية في ذلك الحين. وإن يحل بينها وبين الأخذ بأسباب الحياة الجديدة في ذلك الحين أيضاً ولكن هذا شيء وروح العصر شيء آخر.
ومازال العقل يقوى سلطانه ويشتد، حتى ينتهي الأدب إلى شيخوخته في العهد العباسي الثاني. وهنا يتغلغل العقل والفلسفة في الأدب تغلغلا تاما، إذ إنه كان قد تمثل ما هضم من الثقافات، وأحالها إلى أثر من آثاره. ويكفي أن ننظر إلى أبي الطيب المتنبي وإلى أبي العلاء المعري فهما مظهران صحيحان لذلك العصر. وإنما كانا كذلك لأنهما الشاعران اللذان تثقفا بثقافة العصر تثقفا تاما. نعم يكفي أن ننظر إلى هذين الشاعرين لنرى إلى أي مدى تأثر الإنتاج الأدبي بالعقل والفلسفة. وهنا نقطة التحول كما يقولون. وأقف لأسأل القارئ هذا السؤال: إلى أي طور كان يمكن أن يتطور إليه الأدب بعد أن بلغ هذه المرحلة؛ مرحلة العقل؟ أما أنا فأرى أنه أدركته الشيخوخة، وما بعدها غير الموت. فالشعر وهو أعظم مظهر له لا يحتمل من المعاظلات العقلية أكثر مما أحتمل على يدي أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء. ولولا ما كان للدين من سلطان لكان من المحتمل أن يتطور الشعر فيه إلى الملحمة. وكنه لم يقع، لأن الملحمة أرقع ما تكون حين تستمد موضوعاتها من الأساطير الوثنية تعالج عليها كثيراً من مشكلات النفوس والعقول والاجتماع في مختلف البيئات والطبقات. وقد قال باحث أن رسالة الغفران للمعري ضرب من الملحمة على نحو من الأنحاء. . ولكن مع هذا هل استطاعت رسالة الغفران التخلص من أغلال الدين؟ من الحق أنها لم تستطع. وما كان لها أن تستطيع.
وإلى هنا نرى من الخير أن نشير إلى ما قاله الباحث الذي ألممنا به في أول البحث. وهو أن اللغة لم تبال بما رزئت به الدولة من تدهور سياسي في القرن الرابع الهجري. وأنا أيضاً أقرر أنها لم تبال. ذلك شعلة الأدب لم تكن قد انطفأت بعد. ولأنها كما قلنا كائن حي لم يكن قد استنفد حياته. ولم تكن شعلة هذه الحياة قد أتت على كل ما قدر لها من وقود. بل(999/36)
ربما كانت أشد توهجا مما كانت عليه في العهد السابق. شأنها في ذلك شأن الخفقة الأخيرة في السراج.
ولقد يبدو لقصيري النظر أن تعليلنا هذا بسيط بل ساذج. ولكنهم لو ذكروا أن الأدب كائن حي كما بينا آنفا لبدا لهم غير ما يظنون. ونحن ما سقنا هذا البحث من أوله إلى هذه المرحلة؛ وما طرأ على الأدب في أثناء ذلك من تحول وتطور، إلا ليكون كله تعليلا لها. ولننتهي آخر الأمر إلى ما انتهينا إليه من نتائج طبيعية محتومة ليست في حاجة إلى تعليل ولا تحليل. وغلى هذا فقد كان أمام اللغة طور لم يفض بعد إلى غايته، وهو طور الفقه فيها وفلسفتها وتدوينها على نحو أوسع شمولا وإحاطة؟
ومما يزيدنا يقينا بأن الأدب لذلك العهد في الخفقة الأخيرة ما نراه عند شعراء البيئات العربية الموسومة بالمحافظة وعند أشياعها من مغازلة لبعض الألفاظ اللغوية. وإحساسها بها إحساساً شعريا خاصا. وهو طور الشادي المبتدئ الذي يرى في بعض ألفاظ اللغة رنينا وسحراً أخاذاً قويا. أما الفحل فيرى اللفظ مهما عذب وحسن موقعه في السمع فإنه يستمد قوته وجماله من السياق. وأجدر هؤلاء المغازلين للألفاظ بالذكر في نظرنا الشريف الرضى. ولننظر إلى بيته التالي.
يا قلب ما أنت من نجد وساكنه ... خلفت نجداً وراء المدلج الساري
فإن نجدا وساكنه والمدلج والساري كلها ألفاظ لها إيحاءات خاصة بالشريف الرضى وبأمثاله من الشعراء. ولكن البيت برغم هذا كله قوي رائع. ومصدر روعته فيما أرى أنه حقق المزاج العربي، وما يهدف إليه من شجو وشجن. وإلى هذا فقد حقق غنائية النظم أيضا. وليست هي غنائية الفطرة والسليقة التي ألمعنا إليها في العصر الأموي. وقد يقال إن الشريف الرضى يرمي من وراء الألفاظ إلى مدى أعبد مما نقول. وق يقال إنها عناصر التقليد المنحدرة من التراث الأدبي القديم. وقد يقال غير هذا وذاك. ولكن بشيء من التدقيق لا يسعنا آخر الأمر إلا أن نسلم بما نوهنا به. وقد قلنا من قبل إن الشعر في العصر العباسي الأول كان في عمومه مجرد فن فقط. وفي العصر الذي نحن بصدده قد تطور هذا الفن. وما ظنك بشاعر يقول مقطوعة من الشعر في الغزل ليست بالقصيرة، ثم لا تخرج منها بشيء إلا أن الشاعر يريد أن يقول لمن يغازله (أنت قمر). وأنا أفهم أن هذا من(999/37)
أغراض الفن. ولكنه تطور على كل حال. وما بعد ذلك غير التفكك والانحلال. وانتقال الشعلة من أيدي الأدباء والشعراء إلى أيدي المفكرين والفلاسفة.
أما بعد. فهذا رأيي أسوقه لوجه الحقيقة كما أعتقد. غير مبال سخط الناس أو رضوان.
تمت
محمد عثمان الصمدي(999/38)
رسالة الشعر
نهاية ملك
للأستاذ محمود عماد
ومن بعد، لاح بمصر البطل ... وكان لها راصدا في الأزل
ومصر تجس بطون الليالي ... ترى أي بطن به قد حمل؟
ويأخذها الحزن من عقمهن ... وتسشعر اليأس بعد الأمل
ولكن كذاك يطول اصطبار الز ... مان إذا رام صنع البطل
وأحسبه يقتضيه كثيرا ... من الجهد حتى يراه اكتمل
لمن هذه الفلك، قد ودعت ... بغير الدموع وغير القبل؟
وما من دعاء لها يالسلا ... مة. شأن العزيز إذا ما رحل
تقول لي الشمس: هذا مليك ... عن النخل في الشط مثلي أفل
نغيب معاً، غير أن مغيبي ... إلى أجل، وهو غفل الأجل
أجل كان هذا المليك من الش ... عب ملء القلوب وملء المقل
هنيهة كان على العرش طفلا ... قصير الذارع، قصير الحيل
فلما استوى الهيثم الغض نسرا ... قوى الجناح، شديد العضل
تكشف عن عنصر عبقري ... غلى الشر في كل وكر وصل
مضى ملك الغابة المستبد ... يحل بها كل مالا يحل
يدان برئ، ويعفى مسيء ... ويغضب مال، ويخلى محل
ومن قاد جيش رجال يذل ... ومن قاد سرب نساء يجل
ويعطي الجنود سلاحا يصي ... بهو ويقي من عليهم يسل
ويلقي بهم للعدو طعاما ... وبالنصر بعدهم يحتفل
ويقصى البعول لأمر صغير ... وتغشى البيوت لأمر جلل
ولو عاد بعل إلى البيت يق ... تل ثم يثاب الذي قد قتل
وهل يعرف الوحوش إلا الفسا ... د وإلا السفاد إذا ما انتقل؟
لقد غضب الشعب من بعد حلم ... وثاب إلى رشده واعتدل(999/39)
وحق على الدهر أن يخلق ال ... بطولة إن لم يكن قد فعل
فكانت لدى الجيش تزجي الجنو ... د وتزجي مدافعهم والأسل
وهاجمت الظلم في أوجه ... وقد ريع من أمرها وأنذهل
وقالت له: انزل عن العرش وارحل ... فقال: نزلت. وعنه ارتحل
وراحت تسلل من جانب العر ... ش كل الأفاعي التي قد أظل
وتلدغ صاحبه من بعيد ... وكم ضربت بهداه المثل
فيا ملكا كان يأخذ كل ال ... سفائن غضباً، وقالوا عدل
لقد أخذتك السفينة غصبا ... وجنس الجزاء كجنس العمل
فسر عن بلاد أسأت إليها ... أما كنت عنها تجب النقل
وعم فوق بحرين، بحر الورى ... وآخر من مقلتيك أنهمل
عسى تغسل الرجس أن كان من في ... قرارته الرجس منه اغتسل
وإما حللت غدا أرض قوم ... سواك عليها الأعز الأجل
وناديت مصر فلم تستجب ... وألقيت أمراً فلم يمتثل
ولم تبصر الشمس رأد الضحى ... كما قيل، كالشمس رأد الطفل
فظلمك بدل أبراجها ... وما كان يرجى لها من بدل
ويا نيل إن كنت من بعد هذا ... ستترع كل فم قد نهل
سواء لديك طهور اللعا ... ب، ونجس وبئ يريق العلل
فلا وسعتك صدور الصحاري ... ولا الغيث في رافديك انهطل
محمد عماد(999/40)
عرش هوى
للأستاذ محمود غنيم
تكلم أيها القدر المتاح ... وللأقدار ألسنة فصاح
وحدت عن نهاية كل باغ ... فإن حديثك الحق الصراح
بربك عظ جبابرة إذا ما ... تراءى الواعظون لهم أشاحوا
ففي أحداثك الجلي عظات ... لو اعتبر الطغاة بها استراحوا
أحقابات (رأس التين) حلا ... تطوقه الكتائب والسلاح
ومن دون الوصول إليه كانت ... رءوس في الهواء بها يطاح
أحقا أنكر (الفاروق) شعب ... عراه من الهتاف له بحاح؟
مغاني الملك بات على ذراها ... يرف لكل ناعبة جناح
وهام المالكون بكل أرض ... وتلك قصورهم بقيت وراحوا
قصور أوحشت من بعد أنس ... فما لسنا بساحتها لياح
وقد كانت يباري النجم منها ... إذا جن الدجى غرف وساح
وكانت كعبة يغدي إليها ... بأفواج الرعية أو يراح
وكان حجيجها وفدا فوفدا ... تضيق بهم على سعة (صلاح)
على عتباتها الهامات تحني ... كما تحني من الطعن الرماح
كأن ترابها مسك ذكي ... له في أنف لاثمه نفاح
سلوا طير الغصون (بعابدين) ... أطال به على القصر النواح؟
أم الأعراس في الوادي شجته ... فكان له مع الوادي صداح
سرير الملك قد أمسى خلاء ... وقد ذهبت بعاهله الرياح
لئن جزع السرير فرب شعب ... بمصر قد استخف به المراح
سياج الملك تدبير وعدل ... - لعمرك - لا مقامرة وراح
وحاشية تحف به ثقات ... لهم بالعلم والخلق اتشاح
لهم حزم وتجربة ونصح ... وأعراض نقيات صحاح
وليس العرش للحشرات ظلا ... ولا من جنده الغيد الملاح(999/41)
ولن يبقى على الأيام ملك ... دم الأحرار فيه يستباح
ولا ملك تعبده هواه ... ولم يكبح لشهوته جماح
تظاهر بالصلاح لناظريه ... ومن أخلاقه برئ الصلاح
تساق إليه أموال الرعايا ... وتسلب باسمه الأرض البراح
أيخشى الفقر ذو عرش وتاج ... تدين له الروابي والبطاح؟
وأقبح ما ترى عرش حريص ... وتاج لا يزينه السماح
ولن يرجى لشعب بات فيه ... ولاة الأمر تجاراً فلاح
إذا ما فإن بالدستور شعب ... فسل عنه أجد أم مزاح؟
فما الدستور إلا عند قوم ... إذا جار الملوك عليه صاحوا
مضى الزمن الذي ما كان فيه ... على الأملاك إن ظلموا جناح
فلا ملك تناسل من (أمون) ... ولا عرش يباركه (فتاح)
حماة النيل أحرزتم لمصر ... نجاحا لا يضارعه نجاح
قد اجتحتم بثورتكم شرورا ... وما للشر إلا الاجتياح
تهللت العروبة يوم ثرتم ... كأن العرب أدركهم (صلاح)
وما كالظلم للثورات زاد ... ولا مثل الفساد لها لقاح
وكيف يكافح الأعداء شعب ... وبين الشعب والعرش الكفاح؟
معارك بالثبات كسبتموها ... ولم تطلق بساحتها قداح
ولا سالت على أرض دماء ... ولا احمرت من القلق الصفاح
بدأتم أمرها خمسا فأمست ... على شفة الزمان بها يباح
شفيتم مصر من قرح قديم ... يعاف لأجله الماء القراح
ألا فاليوم كل عسير أمر ... يهون وكل إصلاح يتاح
إذا السرطان فارق قلب شاك ... فليس يضير ناجذه القلاح
حماة النيل من لعثار شعب ... إذا هو قام أقعده الكساح؟
به مستوزرون إذا ولوه ... فما للشعب بل لهم الرباح
تجار سياسة وهواة حكم ... بأحشاء الحمى منهم جراح(999/42)
تولوا أمره حزبا فحزبا ... فأطلق للفساد به السراح
إذا استلموا زمام الأمر عاثوا ... وإن حرموا زمام الأمر ناحوا
يفرقهم على الحكم اختصام ... ويجمعهم على الحكم اصطلاح
دعوا أمر البلاد يليه قوم ... لهم ذمم مطهرة وراح
جياد إن دعوا للبذل لكن ... بأموال البلاد همو شحاح
إذا فاض الثراء بمصر غابوا ... وإن نزل البلاء بمصر لاحوا
خطونا الخطوة الأولى بمصر ... وتتلوها بمصر خطى فساح
وألغيت الفروق فلا وسام ... تزان به الصدور ولا وشاح
تعالى الله. صار لمصر وعي ... وآذن ليلها وبدا الصباح
محمود غنيم(999/43)
حفنة رماد. . .
للأستاذ عبد اللطيف الشهابي
(. . إلى الجذوة الخالدة، الغافية تحت الرماد!.)
لملمت أشلائي وأحرقتها
في مجمر الأيام
وفي لهيب الروح طهرتها
من وصمة الآثام
تحت رماد الشوق أخفيتها
في معبد الأحلام
وهذه الأطياف هدهدتها
على صدى الأوهام
في اللذة الهوجاء لعنة شيطاني
في الجذوة الحمراء! ثورة نيراني
جبلت كأسي في رماد السنين
في خمراً أتراحى
وفي دروبي، في كهوف الحنين
أطفأت مصباحي
وفي عذاب الضارع المستكين
نادمت أشباح
لكنني. . على صخور اليقين
حطمت أقداحي
في اللهب المجنون نثار أحلامي
في الحمأ المسنون أغرقت آثامي
عبد اللطيف الشهابي(999/44)
رسالة النقد
كتاب معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع
تأليف: أبي عبيد البكري الأندلسي
المتوفى سنة 487 هـ
تحقيق الأستاذ مصطفى السقا المدرس في الجامعة المصرية
للأستاذ حمد الجاسر
تم طبع هذا الكتاب القيم، بصدور جزئه الرابع، حاوياً لحرف (الكاف) وما بعدها من الحروف، وفيه فهارس لأسماء البلدان والمواضع، والمياه والجبال، وللأعلام عامة، وللقوافي تقع في اكثر من مأتي صفحة. وضعها ورتبها الأستاذ السقا فزان الكتاب قيمة علمية.
وقد ألمعنا - في كلمة نشرتها هذه المجلة الكريمة عند صدور الجزء الثالث - إلماعة موجزة عن صعوبة نشر المؤلفات القديمة وخاصة ما يتعلق بتحديد المواضع، وأشرنا إلى ما بذله الأستاذ السقا من جهد في سبيل تحقيق هذا الكتاب، وصححنا بعض أغلاط وقعت فيه، ويسرنا أن نرى الأستاذ قد أخذ بكثير من تصحيحنا حينما وضع فهرس الخطأ والصواب، في آخر الكتاب وإن نسب تصحيح تلك الأخطاء إلى المجلة التي نشرت التصحيح ولم ينسبه إلى كاتبه.
وتقديرنا لما بذله الأستاذ من عناية في التحقيق، واعترافا بفضله، لا يحولان بيننا وبين الإشارة إلى شيء من ملاحظاتنا على هذا الجزء، إشارة نقصد من ورائها الخير. من إفادة القراء في تصحيح بعض ما جاء في هذا الجزء، مما هو بحاجة إلى تصحيح.
الملاحظة الأولى:
يعني بتحقيق النصوص؛ الرجوع إلى مصادرها الأولى للتثبت من صحتها، ولوثوق من مطابقتها لما في تلك المصادر والأستاذ السقا - وإن رجع إلى كثير من الكتب التي ألفت في تحديد المواضع وبيانها، وغلى غيرها من الكتب اللغوية والأدبية، إلا أنه قد فاته(999/46)
الرجوع إلى كثير من الكتب التي استقى البكري مواد كتابه منها. وهذا أمر غريب جدا من أستاذ جامعي، يدرس مناهج التحقيق العلمي، ويؤلف فيه وينقد ويناقش البحوث والمؤلفات وفق قواعده. وها هي الأمثلة.
(1) في صفحة 1274: (المهجم. . . هو خزار الجبل المتقدم ذكره، قاله الهمداني) كذا. فلنرجع إلى المصدر الأول - وهو الهمداني - لننظر هل قال هذا القول للهمداني - وهو أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب المعروف بابن الحائك المتوفي في سنة 334 تقريبا - مؤلفات، طبع منهم (صفة جزيرة العرب) والجزء الثامن والعاشر من (الإكليل وقد عول البكري على هذين الكتابين ونقل عنهما، وأثر النقل. ومما نقل عن (صفة جزيرة العرب) كلامه هذا في تعريف المهجم، ولكن النقل هنا مبتور ناقص، كقراءة من يقرأ: (فويل للمصلين) ثم يقف. وهاهو نص كلام الهمداني: (ص 171 طبعة ملر، في ليدن وهي الطبعة الوحيدة): (ديار ربيعة، من العروض ونجد: الذنائب، وواردات، وخزاز - ويقال فيه خزازي. وقد يرى قوم من الجهال أن ديار ربيعة بن نزار كانت من تهامة، من سردد، وبلد لعسان من عك، وإن تبعاً أقطعهم هذه البلاد، لما حالفوه، وهذا من الأخبار المصنوعة لأن الملوك أجل من أن تحالف ألعابا، وإنما بنوا هذا الخبر على وهم وهوى، فقالوا في المهجم وهي خزة: خزازي، وفي الأنعوم الأنعمين، وفي الذنبات: الذنائب، وفي العارضة: عويرض). اهـ ملخصا. وتتضح المسألة حينما نعلم أن المهجم واد في تهامة، يصب في البحر، قرب مدينة زييد، وأنه كان يطلق عليه اسم (خزه) ويقارب هذا الاسم (خزاز) وهو اسم لجبل في نجد، بينه وبين المهجم، مفاوز وفيافي، ولهذا الجبل ذكر كثير في أشعار العرب، وله يوم من أيامهم المعروفة، بين القحطانيين، والعدنانين، وقد أورد البكري شيئاً مما ورد فيه، عند ذكر اسمه، فلما عرف المهجم قال بأنه هو خزاز المتقدم، ناقلا عن الهمداني، بل ناسبا القول إليه. اعتمادا على الكلام الذي نقلناه آنفا، والذي قال عنه الهمداني إنه مبني على وهم وهوى، وبهذا النقل المبتور الناقص اختل المعنى، وانعكس القصد.
(2) وفي صفحة 1171 - نقل عن الهمداني أيضا - يتعلق بمأرب، جله مأخوذ من الجزء الثامن من كتاب (الإكليل) وهذا الجزء مطبوع مرتين؛ مرة في العراق، والأخرى في أمريكا، ولكن الأستاذ السقا لم يرجع إلى هذا الجزء لكي يحقق النص(999/47)
(3) لعرام بن الأصبغ السلمي الأعرابي رسالة عن (تهامة وسكانها، وما فيها من القرى والمياه) وقد نقل البكري جل هذه الرسالة، في مواضع متفرقة من كتابه هذا، وصرح بالنقل منها في مقدمة الكتاب، وفي الكلام على (رضوى) وقد نشر هذه الرسالة العلامة المحقق الشيخ عبد العزيز الميمني الهندي، عضو (المجمع العلمي العربي) في (أورتتيل كوليج مجازين التي تصدر في (لاهور، الباكستان) منذ بضع سنوات، وكان خليقاً بالأستاذ السقا الرجوع إلى هذه الرسالة، لتحقيق النقول الكثيرة التي نقلها البكري منها، وقد يكون للأستاذ العذر في عدم إطلاعه عليها، ولكن ياقوت الحموي، نقل جلها في (معجم البلدان) والسيد السمهودي مؤرخ المدينة نقل كثيرا منها في (وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى) و (المعجم) و (وفاء الوفا) مطبوعان ولا غنية لمن يقوم بتحقيق مؤلف في تحديد مواضع بلاد العرب وأمكنتها عن الرجوع إليهما، وإلى أمثالهما. وعدم تحقيق ما نقل البكري من هذه الرسالة سبب كثيرا من الخلط في تحديد المواضع، ومن الغلط في تلك النقول، ومن أمثلة ذلك ما جاء في صفحة 1377: (ورقان بفتح أوله وكسر ثانيه، بعده قاف، على وزن فعلان؛ وهو من جبال تهامة، ومن صدر مصعدا من مكة فأول جبل يلقاه ورقان). وهذا غلط شنيع، فورقان جبل لا يزال معروفا باسمه هذا وهو بعيد عن مكة، وليس أوب الجبال التي يلقاها المصعد منها، بل كل الجبال الواقعة بين مكة والمدينة هي إلى مكة أقرب منه إليها. والبكري نقل الكلام هذا من رسالة عرام، إلا أنه أبدل كلمة (المدينة) بكلمة (مكة) فورقان بقرب المدينة. وجاء في هذه الصفحة: (وأهل الحجاز يسمون السماق الضمخ، وأهل الجند يسمونه (العرتن). والأستاذ السقا يعلم أنه ليس لأهل الجند لغة تقارن بلغة أهل الحجاز، وإن الصواب: (وأهل نجد) كما في رسالة عرام، طبعة الميمنى ص 275 من المجلة، وعلى ذكر اللغة نرى الإشارة إلى أن قول الأستاذ السقا (ص 1271) أنطى؛ بمعنى أعطى، في لغة اليمن. فيه تساهل؛ إذ من المعروف أن هذه اللهجة لا يختص بها اليمنيون، بل يشاركهم فيها بعض العدنانيين، من قيس عيلان وغيرهم، ورياح بن الأشل الذي فسر الأستاذ كلامه غنوي من قيس عيلان، فما معنى حصر تلك اللهجة بآهل اليمن؟
(4) وفي ص 1352: (تأتي من شمنصير وذروة. . . وبأعلى كلية ثلاثة أجيال صغار، منفردات من الجبال، يقال لها سنابك). ولو رجع الأستاذ إلى رسالة عرام، أو إلى الناقلين(999/48)
منها غير البكري. لوجد أن كلمتي (ذروة) و (سنابك) مما تصحف على البكري، وإن وصوابهما (ذرة) و (شنائك).
الملاحظة الثانية
يرى القارئ في مقدمتي الجزء الأول، والرابع في هذا الكتاب، تقليلا من قيمة مطبوعة المستشرق وستنفيلد، وثناء على هذه المطبوعة مطبوعة الأستاذ السقا، ومن ذلك، من مقدمة الجزء الرابع: (أرجو أن يكون من ورائها تصحيح لكثير من الأخطاء التي وقعت في تلك الطبعة. . فهرس هذه الطبعة يمتاز بالتقصي الدقيق، الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. . . فهرس الأعلام يمتاز بالاستيعاب والاستقصاء كسابقه، وبأنه لا نظير له في طبعة جونتجن. . . فهرس القوافي ليس له نظير في طبعة جونتجن كذلك، ويمتاز بشموله في دقة كاملة. . . أما ما وقع من المؤلف من خطأ، وكذلك ما وقع في مطبوعة جونتجن فقد أصلحته، ونبهت عليه). للأستاذ السقا أن يصف عمله بالإتقان والجودة، والشمول والإحاطة، فهو جدير بذلك، ولكن الاستنقاص ليس من صفات المنصفين، ومطبوعة جونتجن هي أول مطبوعة من هذا الكتاب انتفع بها الباحثون، وهي على ما فيها من أخطاء - قل أن يسلم من مثلها مطبوع عربي - على درجة عظيمة من الصحة، وطابعها معروف بسعة اطلاعه، وتحريه للصواب، ولو لم يكن من فضله إلا تمهيد السبيل للأستاذ السقا، لكفى سببا لعدم النيل من عمله، إن لم يوجب الثناء عليه، ولعلنا لا نعود الحقيقة إذا قلنا إن كثيرا مما ظنه الأستاذ السقا خطأ في طبعة جونتجن هو الصواب بعينه، وقد ذكرنا شيئا من ذلك في نقدنا للجزئين الأولين، الذي نشرناه، واعتمد عليه الأستاذ في تصحيح الأخطاء، ومن الأمثلة، مما في هذا الجزء:
(1) ص 1333: (وتجتمع سيول العقيق وبطحان وقناة بالرعابة) وقال الأستاذ في الحاشية: في طبعة جونتجن (الزغابة) وقال: إنه تصحيف. والتصحيف هو ما اختاره الأستاذ، إذ مجتمع سيول تلك الأودية: (الزغابة) بالزاي المضمومة، فغين معجمة، فألف، فباء موحدة فهاء (انظر هذه المادة من (وفا الوفاء ج2) (معاجم اللغة والمواضع).
(2) ص 1150: (ضم القنان لفقعس سوءاتها) والصواب ما في طبعة جونتجن: (ضمن) - راجع مادة (القنان) من (معجم البلدان).(999/49)
(3) وفي ص 1144: (ديار سعد بن هذيم). وقال السقا ابن
ساقطة من طبعة جونتجن والصواب سقوطها، لأن سعد هذا
حضنه عبد حبشي يقال له هذيم، فغلب عليه فقيل: سعد هذيم،
وليس هذيم أباً لسعد. (انظر المقتضب من جمهرة نسب (ورقة
1051 مخطوطة دار الكتب المصرية).
(4) وفي ص 1227: (المسلح: بكسر أوله. . . منزل على أربعة أميال من مكة). وفي طبعة جونتجن: (أيام) مكان: (أميال) وهي الصواب؛ قال الهمداني - في (صفة جزيرة العرب) ص 185 - : ومن أخذ الجادة من مكة إلى معدن النقرة، فمن مكة إلى البستان 25 ميلا، ومنه إلى ذات عرق 24 ميلا، ومنها إلى الغمرة 20 ميلا، ومنه إلى المسلح 17 ميلا). ا. هـ ملخصا. وهذا من أدق التحديد، في بعد هذا الموضع عن مكة، ومن أوضح الأدلة على أن المسافة بينها وبينه أربع (ليال) لا (أميال)
(5) وفي ص 1271: (منعج: بفتح أوله، وإسكان ثانيه، بعده عين مهملة مكسورة، وجيم معجمة) وكلمة (معجمة) لا محل لها. إذ كلمة (الجيم) لا مشابه لها من الحروف في صورتها. لكي تميز بالإعجام، وهي ساقطة من طبعة جونتجن.
(6) وفي ص 1285: (الحضرمي: هو عبد الله بن عماد ابن سليمان) وفي مطبوعة جونتجن (سلمى) ولعلها أصوب. إذ هذا الاسم هو المعروف بين العرب الجاهليين. بخلاف سليمان. فهو وإن اشتهر بين أهل المدن في العهد الجاهلي، قليل بين البدو (وانظر ترجمة (العلاء بن الحضرمي) في الأعلام للزركلي) ولعل في هذا القدر كفاية.
البقية في العدد القادم
حمد الجاسر(999/50)
البريد الأدبي
حول (علم النبي بالغيب)
نشرت الرسالة الغراء في العدد (998) مقالاً للأستاذ ناصر سعد عن علم النبي بالغيب، ونحن نحمد له جهده الموفق في إيراد تلك الحوادث التي جعل منها شواهد على رأيه، ولكننا لسنا معه في أن النبي ولا غيره يعلم شيئا من الغيب عن طريق العقل أو الروح كسبا نفسيا تتجلى فيه شخصيته، وتبرز عنه إنسانيته، فالقرآن الكريم أثبته لله ونفاه عن غيره في قوله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً) وعلى لسان النبي في القرآن أيضاً (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) و (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) وغيرها وغيرها، وأخبار الرسول بهذه المغيبات، إنما بوحي يوحى إليه، وليس لنا أن نقول كما قال الأستاذ (إنها بقوة إلهية) حتى نحصر مسائل الغيب على التوفيق من الله، والرسول بشر يوحى إليه، فما ينطق عن الهوى، والقوة البشرية كائنة ما كانت، لا تطول أن تخلص إلى الغيب إلا بإظهار الله، وهذا هو الذي يتساوق مع منطق العقل، مضافا إلى ذلك ضآلة كل ما سوى الله بجانب العلم الإلهي، أما قراءة الأفكار فهي من باب الحدس الذي يعتمد على قوة النفس، وشدة الفراسة، وحدة الذكاء، وحسن الاستدلال ببعض المظاهر الانفعالية على أشياء قد يخطئ الحدس فيها ويصيب، فلا ترقى بحال من الأحوال أن تكون علما مباشراً للحقائق الخفية عن حواسنا الظاهرة والباطنه، ويقال عن عالم الأرواح هذا أو قريب منه، ولتقريب ما أذهب إليه إلى الذهن أو رد فقرات من حديث العلامة المرحوم السيد رشيد رضا في كتابه (الوحي المحمدي) قال: (الغيب ما غاب علمه عن الناس، وهو قسمان (غيب حقيقي) لا يعلمه إلا الله، و (غيب إضافي) يعلمه بعض الخلق دون بعض لأسباب تختلف باختلاف الاستعداد الفطري والعمل الكسبي، ومن أظهره الله على بعض الغيب الحقيقي من رسله، فليس لهم في ذلك كسب، لأنه من خصائص النبوة عير المكتسبة) من هذا يتضح أن الرسول لا يعلم الغيب، وإنما يظهره الله عليه في بعض المسائل تصديقا له، وعونا على أداء رسالته وذلك يلتقي مع المعجزة في غرض واحد، هو ما رأيت، فلو كان يستشف ما وراء الغيب من نفسه لأمكنه أن يتوقى ما حدث له من إيذاء، وما خطر في سبيله من أهوال، ولجانب المصاعب في سبيل رسالته،(999/51)
ولكنه ككل بشر تعرض لما يتعرض له كل كائن حي، فلم يدن بنبوته إلى مقام الألوهية، ولطالما حدث عن نفسه بهذا وأشباهه، حتى لا يفتن الناس عن دينهم، وما يرمي إليه من إصلاح واعتدال، وقد يقول قائل: أي خطر على الأمة مما تخوض فيه اليوم حتى ولو وصل إلى درجة المعتقدات؟ للناس أن يعتقدوا ما يشاءون فلا ضير على العامة من أي اعتقاد شخصي في مسألة كهذه، وأنا أقول: إن الذي دفعني إلى هذا الاعتراض خوفي الشديد من أناس يحترفون علم الغيب، ويصطنعونه أداة من أدوات العيش، يثرون من طريقه، ويتمتعون من أجله بقدسية وكرامة، في محيط العوام الذين يرتمون على أقدامهم، يستجلونهم المستقبل الغامض، ويستمطرون سحائبهم الجهام، وإن هؤلاء ليتمثلون في (أرباب الطرق) أو بعضهم، و (أهل الكشف) و (ضربات الرمل) ومن لا صلة لهم بدين ولا دنيا، وهم كثير، نعاني منهم الولايات، وهم شر مستطير بما يدعون إليه من تبطل، وما ينشرونه من فساد، فأحر بنا أن نأخذ على أيديهم ونشنها عليهم حربا عوانا، ونبين لهم في وضوح وجلاء أن الغيب محجوب عن النبيين، فكيف بهؤلاء الصعاليك المفاليك الذين لا يدفعون عن أنفسهم ضرا، ولا يرجون لها وقاراً، والدين الإسلامي دين بساطة ووضوح، لا تعقيد فيه، وهو يهدف إلى استقامة أمور الناس، وليس من المصلحة في دين ولا دينا أن يعلم أحد الغيب من دون الله، لئلا ينقلب العالم إلى مهزلة، تخضع للمؤثرات البشرية المتباينة، والتيارات العاطفية المتخالفة، ولئلا يتحكم الناس بعضهم في مصائر بعض، وليترك الأمر لله، يستأثر بعلمه، لتنظيم ملكه على أسس صالحة، من العلم والحكمة والتدبير؛ فهو وحده الذي يمسك السماوات والأرض، والكل بجانب عدله الإلهي سواء فإن أظهر على غيبه أحداً من خلقه، فإنما لتتم حكمته، ويكمل نظامه، ويتسق أمره (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً). . . في مقال الأستاذ ناصر متعة شائقة، ولكن عظمة النبي في أغنى الغنى عن ادعاء علم الغيب له، وبحسب المباحث ليلمس عظمته ويدل عليها، وإن ينهل من معين آيات الله، ويرشف كؤوس السنة النبوية المظهرة فهما حافلان بآيات الآيات في الدلالة على الفضائل والهداية إلى مكارم الأخلاق، التراث الخالد الذي ورثناه عن صفي الله وخاتم أنبيائه الذي أوحى إليه(999/52)
فيما أوحى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
محمد محمد الأبشبهي
مدرس ببروة الثانوية
علم النبي بالغيب أيضا
طالعت في (الرسالة) الغراء المقال الذي كتبه تحت هذا العنوان حضرة الأستاذ ناصر سعد، من أدباء العراق، وتعقيبا على ما ذكره الكاتب الفاضل أروي القصة التي أشار إليها القرآن الكريم، في الآية الشريفة: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير) - سورة التحريم - فقد روى عن النبي - صلوات الله عليه وسلامه - أن زوجته (حفصة) قدمت له شرابا من العسل، فاتفقت زوجتاه (صفية) و (وسودة) على أن تقولا له إننا نشم منه رائحة (المغافير) وهي لون من ألوان الصموغ المحلاة. فحرم النبي على نفسه العسل، وأسر إلى زوجه (حفصة) بذلك فلم تكتم (حفصة) حديث النبي الكريم، ونزلت الآية تعتب على الزوجتين فعلتهما. . .
ومن هذا يتضح أن النبي صل الله عليه وسلم كان يلم بعض الإلمام بالغيب. . .
وفي موضع آخر من القرآن الكريم، تنطق الآيات بلسان النبي الأمين فتقول: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء). . . وهذه الآية تنفي علم النبي بالغيب، وليس بغريب أن يطلع الله سبحانه وتعالى نبيه على الغيب، وهو الذي أعذق عليه نعمه وفضله، واصطفاه لرسالته العليا، واختاره ليحمل مشاعل النور والإيمان. . . فكان فضل الله عليه كبيراً. . .
سلام عليك أيها النبي الكريم ورجمة الله وبركاته. . .
عيسى متولي
تصحيح ودفع شبهة:(999/53)
جاه في مقال لي نشر في العدد الماضي من مجلة الثقافة الغراء رداً على مقال نقدي تناول مجموعتي الشعرية (رياح وشموع) جملة (وأنا كشاعر كبير لا أرضى أن أعيش على فتات الماضي) والجملة في الأصل (وأنا كشاعر مجدد لا أرضى أن. . . الخ).
ولست أدري كيف غيرت هذه الجملة بحيث خرجت إلى معنى كله غرور وادعاء أنا بعيد عنهما كل البعد فلعلها إحدى غلطات المطبعة. . .
إن طريق الشعر وعر طويل. . . والمجد الأدبي وليد دراسة. . . وكفاح وصبر، وأنا مازلت في أول الطريق.
كمال نشأت
في روضات الجنات
في ويوم الأحد 19 من ذي القعدة سنة 1371 توفي العالم الجليل الشيخ محمد زاهد الكوثري. ولد بتركيا سنة 1296 ودرس في المدارس الرشدية ثم في أكبر المعاهد الدينية هناك، إلى أن حذق علوم الشريعة فاختير أستاذاً في جامع الفاتح وجامعة استنبول ومعهد التخصص ثم انتقل لمصر وأقام بها وألف كتبا كثيرة وحقق كثيراً من المخطوطات وعلق عليها، ونشر مائة مقالة ونيفا في مختلف البحوث. وكان جزءاً ضخما من الثورة الإسلامية، جمع إلى العلم سمو العالم، وكان نسيج وحده في الوفاء والمروءة والصراحة والإباء، لا يلاين في الحق ولا يضعف في دفع الباطل.
وقد دفن في مدفن الشيخ إبراهيم سليم في شارع رضوان بقرافة الإمام. تغمده الله برحمته وجزاه عن الإسلام خيراً.
محمد شفيق(999/54)
القصص
وتفضلوا بقبول احترامي
القصصي الروسي سالتيكوف
كانا في قوت ما يشغلان منصبين من مناصب الحومة
وكان كلاهما فارغ الرأس. ومن أجل ذلك وعلى غرة منهما وجدا نفسيهما (يشحنان) إلى جزيرة غير مأهولة كأنما ينقلهما إليها بساط سليمان.
وكانا قد قضيا عمريهما في ديوان حكومي نشأ فيه وتربيا وشابا؛ وكأنما قد ولدا به أيضا. وهما من أجل ذلك لا يعرفان أي شيء لا يتصل بأعمالهما، وكل الذي يعرفانه ينحصر في الصيغ الديوانية المألوفة التي تنتهي بهذه الجملة (وتفضلوا بقبول احترامي).
لكن هذا الديوان ألغي وأقالتهما الحكومة فهاجرا، بعد أن أطلق سراحيهما، إلى شارع بوديشسكايا في بطرسبورج، وكان لكل منهما فيه منزل وطاهية ومعاشه.
ولما استيقظا من النوم في الجزيرة التي (شحنا) إليها، وجدا نفسيهما نائمين تحت لحاف واحد. ولم يفهما بالطبع في البداية ماذا أصابهما؛ فأخذا يتكلمان كمل لو كان الأمر بينهما يجري على عادته.
قال أحدهما: (ما أغرب الحلم الذي رأيته ليلة الأمس يا صاحب السعادة! لقد رأيت في الحلم أني نقلت إلى جزيرة غير مأهولة).
لكنه ما كاد ينطق بهذه الكلمات حتى وثب من مكانه ووثب الموظف الآخر أيضا، وقال في دهشة شديدة: (ولكن أين نحن الآن؟ وهل كان ما رأيناه حلما؟).
ولمس كل منهما الآخر ليستوثق هل هو في حلم أم يقظة. وكان أمامهما المحيط، ووراءهما متسع قليل من الأرض خلفه المحيط أيضا، فبكيا لأول مرة بعد أن ألغى ديوانهما.
ونظر كلاهما إلى الآخر فرآه لا يرتدي إلا قميص النوم وقد علقت في جيده صفيحة عليها رقم. وقال أحدهما: (الآن موعد تناول القهوة، ولكن من لنا بها الآن؟) ثم عاد إلى البكاء وقال: (ما الذي نفعله يا صاحب السعادة؟ إننا لو كتبنا تقريرا فكيف نبعث به؟).
فأجابه الموظف الآخر: (سأخبرك بالذي يجب أن نفعله يا صاحب السعادة: أنا أذهب شرقا وأنت تذهب غربا، ثم نعود إلى الاجتماع هنا، وإذا اهتدى أحدنا إلى رأي تشاورنا فيه)(999/55)
وهنا اختلفا في تعرف الشرق والغرب وتذكرا قول رئيس الديوان:
(إذا أرت أن تعرف الشرق فاجعل الشمال أمامك، فالذي على يمينك عند ذلك هو الشرق)، ولكنهما لما أرادا أن يعرفا أين هو الشمال اتجها نحو كل الجهات دون أن يهتديا إليه. ولأنهما قضيا كل حياتهما في دار المحفوظات؛ فقد ذهب مجهودهما هذا عبثا
وقال أحدهما: (أرى يا صحاب السعادة أن يذهب أحدنا إلى اليسار والآخر إلى اليمين)
وكان هذا الموظف قد اشتغل فضلا عن عمله في دار المحفوظات بتدريس علم الخط وقتا ما، فهو لذلك أذكى قليلا من صاحبه.
وكان كما اقترح. أما الموظف الذي إلى أليمين فوجد أشجار تحمل كل أنواع الفاكهة؛ وكان بوده لو يستطيع تناول تفاحة، ولكن الثمر كان شديد العلو فلا يستطيع الحصول عليه إلا إذا تسلق الشجر. وقد حاول أن يتسلق إحداها، ولكن ذهبت محاولته سدى. وكل الذي نجح فيه أن مزق قميص نومه.
وألقى نظرة على الماء فرآه ممتلئا بالسمك، فتمنى لو أن كل ما فيه من سمك معروض للبيع بشارع بودشسكايا. ولما مر هذا الخاطر بذهنه جرى لعابه، ومشى في الغابة، فرأى كل أنواع الطيور والأرانب والغزلان فقال:
(يا رب ما أكثر رزقك وما أقل قدرتنا على الحصول عليه!)
واشتدت عليه وطأة الجوع. وعاد إلى المكان الذي اتفق مع صاحبه على لقائه فيه فوجده في انتظاره.
قال: (ماذا وجدت يا صاحب السعادة؟) فأجابه صاحبه: (لم أجد غير عدد قديم من جريدة الوقائع الرسمية): فأخذ يحدثه عما وجده هو. وجلس الموظفان، ثم حاول كل منها أن ينام ولكن خلو معدتيهما من الطعام سبب لهما أرقا شديداً. وكان من أسباب الأرق أيضاً تفكيرهما في المعاش المرتب لكل منهما، وفيما يتقاضاه عنها الآن فيتمتع به دونهما. وكان من أسباب الأرق فضلا عن ذلك تفكيرهما فيما بالجزيرة من سمك وسماني وأرانب وفاكهة وإن ليس في مقدورهما الحصول على شيء منها. قال أحد الموظفين: لا أعرف كيف نعيش هنا؟ إننا حتى لو استطعنا الحصول على طائر فكيف نذبحه وننظفه ونطبخه؟ كيف يحدث كل ذلك؟(999/56)
فأجابه الآخر: (إنني في الحق لا أفهم كيف يحدث كل ذلك)
ثم عادا إلى الصمت وحاولا أن يناما، ولكن قبل أن تغتمض عيونهما مر سرب من السماني فتخيلاه وهو مقلي على الأطباق. وقال أحد الموظفين: (لقد هممت من شدة الجوع أن آكل حذائي) فأجابه الآخر: إنني سأمتص جوربي).
ونظر كل منهما إلى الآخر نظرة شر كأن نفسه تحدثه بأن يأكل صاحبه؛ ثم صرخ كل منهما صرخة جنونية كأنها عواء الذئب. وقال الموظف الذي اشتغل بالتدريس: أضننا لن ننتظر حتى يحاول أحدنا أن يأكل الآخر) فأجابه: (وكيف نفعل؟ إننا بلا ريب سنلاقي الموت؛ فما رأيك يا صاحب السعادة؟).
قال يجب أن نقطع الوقت بالمحادثة، وإلا فإن واحداً منا سيأكل الآخر لا محالة) فأجابه الموظف الآخر: (ولكن ماذا نقول؟ أبتدئ أنت).
قال الموظف الذي كان مدرسا: (قل لي لماذا تشرق الشمس أولا ثم تغرب)؟ ولماذا لا يكون العكس؟) فأجابه الآخر: (هذا سؤال مضحك يا صاحب بسعاد. إن الشمس تشرق لكي نستيقظ ويذهب كل منا إلى الديوان، ثم تغرب لكي ننام)
قال: (ولكن لماذا لا تفترض العكس فنذهب عند شروق الشمس إلى الفراش فننام ونحلم، وعندما تغرب الشمس. . .) فقاطعه الآخر قائلا: (إن هذا القول لا يستقيم مع التفكير لأن شروق الشمس يحمل الإنسان على الاستعداد للذهاب، كما أن غروبها يحمل الإنسان على طلب العشاء).
وقد أفسدت كلمة العشاء المحادثة لأنها هاجت جنون الموظفين الجائعين، فقال أحدهما: (إن أحد الأطباء قال لي إن الإنسان يستطيع أن يعيش مدة ما بما في جسمه من سوائل. فقال الآخر: (لا أفهم ماذا تعنيه).
قال: (هذا يعني أن في الجسم أنواعا مختلفة من السوائل، وإن بعضها يتحول إلى بعض حتى تصير إلى الخلاصة الغذائية) فقال الآخر: (وماذا يحدث بعد هذا).
قال: (يحتاج الإنسان في النهاية إلى طعام جديد ليتحول إلى الأنواع المختلفة من تلك السوائل) فقال: (إذن فالعبرة كلها بالطعام! لعنة الله على الطعام!).
وأدرك الموظفان أن هذا النوع من الحديث لا يؤدي إلى الغرض الذي يقصدان إليه، بل هو(999/57)
يزيد من شهوتيهما فقرر أن يتركا الحديث؛ فلما طال بهما الصمت تذكر أحدهما الوقائع الرسمية فتناولها ليقرأ فيها لصاحبه. ولكن انتهت الفقرة الأولى - وهي خبر وليمة رسمية - إلى ذكر أنواع الطعام، فأخذ الآخر منه الجريدة ليقرأ خبراً آخر. وأخذ يقرأ، ولكن الخبر - وهو استكشاف جديد - قد انتهى بإقامة حفلة تكريم، وتناول أيضاً ذكر الطعام.
ودفع بالجريدة إلى صاحبه فقرأ فيها فقرة لا تتعلق بدايتها بالطعام، ولكنها انتهت إلى ذكره أيضا. فأطرق كلا الرجلين وتثاءبا تثاؤبا مؤلما.
ثم برقت عينا صاحب السعادة إذ خطر بباله خاطر سعيد ووقف فجأة ليعلن استكشافه وصاح: (ماذا تقول؟ لقد عرفت السبيل إلى النجاة، فماذا تقول إذا أتينا بخادم؟).
فصاح الآخر: (وكيف نأتي بخادم يا صحاب السعادة وأي صنف من الخدم تجده هنا؟)
فقال: (خادم بسيط كسائر الخدم يستطيع أن يعد لنا الطعام وإن يصيد أسماني والسمك ويطبخهما)
قال: (هذا حسن ولكن كيف نجده؟) فقال: (لماذا إن الخدم موجودون في كل مكان. إننا نقوم فنبحث حتى نجد واحداً منهم. ولابد أن يكون هنا خادم على الأقل)
اطمأن الموظفان إلى هذه الفكر. وقام كل منهما ليبحث عن خادم، وطالت مدة بحثهما، ولكنها لم تذهب سدى، فقد وجدا في النهاية رجلا أسود اللحية على جسمه ثوب من جلد الماعز وهو نائم تحت شجرة كبيرة، فلكزه صاحب السعادة وصاح: (كيف تنام هنا ونحن موظفان نكاد نموت من الجوع قم!)
فنهض الخادم ونظر إلى الموظفين وكان أول ما هم به أن يفر ولكنهما أمسكا بتلابيبه فاستسلم المسكين للقدر المقدر عليه، وصدع بالأمر وتسلق شجرة تفاح فجمع للسيدين الجديدين خير ما فيها، وقطف تفاحة نشوك على الفساد فجلعها لنفسه. ثم نزل عن الشجرة، فجمع مقدارا من البطاطس وأوقد النار بضربة حجرين في وسط هشيم وطبخ البطاطس؛ وفي أثناء ذلك صاد أرنبا فأضافها إلى الطعام، وصاد كذلك زوجا من السماني؛ فأدرك الموظفان مقدار ما لقياه منت السعادة بقرب هذا الخادم. ونسيا أنهما كادا يموتان من الجوع منذ قليل. وقال كل منهما للآخر (ما أسعد حياة الموظف!).
وقال لهما الخادم: (هل أنتما مسروران؟) فقالا: (نعم ونحن نقدر خدماتك).(999/58)
قال: (فهل تسمحان لي الآن بأن أستريح؟ فقالا: (نعم على شرط أن تأتي لنا بحبل أولا) فذهب وجمع أليافا طويلة لوم يزل يفتلها حتى صنع منها حبلا طويلا متينا فلسمه أليهما وأستأذن في السماح له بالراحة فقيداه بالحبل وأذنا له بأن ينام في ظل الشجرة المجاورة.
وزاد حذق الخادم في تهيئة الطعام فزاد الموظفان بدانة وصحة. وقال أحدهما للآخر وهما يتناولان طعام الإفطار: (ما رأيك يا صحاب السعادة؟ هل تعتقد أن قصة برج بابل قصة رمزية أم قصة واقعية؟).
فقال: (إنها بلا شك قصة واقعية، والدليل على ذلك كثرة ما في العالم من اللغات. وإلا فكيف تنشأ اللغات لولا تبلبل الألسن؟).
قال الآخر: (وهل تعتقد أن قصة الطوفان صحيحة؟) فقال صاحب السعادة: (نعم بغير شك. ودليلها وجود أنواع كثيرة من الحيوان) وتناول عدد الوقائع الرسمية فأخذ يقرؤه للمرة العاشرة من أوله إلى النهاية.
لكن السأم دب إلى نفسيهما، فقد كانا يذكران ثيابهما الرسمية ومعاشهما وطاهييهما في طبرسبورج فتذرف عيونهما الدمع.
وقال أحدهما: لا أعرف كيف شارع بودشسكايا الآن يا صاحب السعادة. فقال: لا تذكرني به فقد كاد يقتلني الحنين إلى الوطن.
قال الآخر: (إن الحياة هنا لذيذة لا عيب فيها، ولكن الحمل يتوق إلى ثدي أمه، ونحن نتوق إلى رؤية بلدنا وإلى ارتداء ثيابنا الرسمية في يوم قبض المعاشات على الأقل.
قال صاحب السعادة: (إن الملابس الرسمية حتى ولو كانت من الدرجة الرابعة تسر الإنسان وتنسيه متاعبه.
واستدعى الموظفان الخادم ليشير عليهما برأي لكي يعودا إلى شارع بوتشسكايا.
فصنع لهما من أشجار الغابة سفينة لن تكن كسائر السفن، ولكنها مجرد أخشاب مربوطة بعضها إلى بعض، وصنع لنفسه مجدافين ليتولى بمفرده تسيير السفينة.
وبدأت الرحلة، فكانا يلعنانه ويلقبانه بأقبح الألقاب كلما ظنا أن حياة اثنين من الموظفين ستتعرض للخطر في سفينة هذا الخادم.
وكان البليدان لا يعملان شيئا في السفينة، فنهض الخادم مع انفراده بالتجديف يهيئ لهما(999/59)
الطعام مما يصيده من السمك ويشويه حتى بلغت السفينة النهر.
وما كان أسعدهما عندما انتقلت السفينة من بحر البلطيق إلى نهر النيفا، ودخلت السفينة قناة كترينا وهما لا يزالان بها، ولم يخطر ببالهما أن يقطعا بقية المسافة مشيا على الأقدام. وفي النهاية وصلا إلى العاصمة.
كانت سعادتهما سعادة بالغة عندما نزلا من السفينة فجلسا على أقرب مقهى من الشاطئ يشربان القهوة. وفي اليوم التالي لبسا الثوب الرسمي وذهبا لقبض المتجمد من المعاش. ولست أستطيع الإخبار عن مقدر هذا المعاش ولكنهما لم ينسيا الخادم، فقد أهديا إليه زجاجة من الويسكي وخمسة قروش صحيحة. . . تمتع يا خادم.
ع. ن(999/60)
العدد 1000 - بتاريخ: 01 - 09 - 1952(/)
بلغنا العدد الألف!
نعم، بلغنا العدد الألف! ومعنى ذلك انقضاء ألف أسبوع من عمر الرسالة الباقية، أو عشرين عاما من عمر صاحبها الفاني! وان عشرين عاما يقضيها الكاتب المتأمل في هذا المرصد الأدبي والاجتماعي يصوب مناظيره إلى كل سماه، وينصب مخابيره في كل أرض، لتكشف له عن ظواهر في الآفاق، وعن بواطن في الأنفس، ما كان ليراها، ولا بقلبه، لو أنه جلس مجلس المشاهد المتفرج في مسرح الحياة.
قضيت ثلث عمري الأعلى والأغلى دائبا دءوب القمرين، أعمل ليل نهار في عالم عبقري الأحلام والرؤى، يزخر بالعقول النيرة، والنفوس الخيرة، والأخيلة الخصبة؛ أناجيهم بالروح، وأخاطبهم بالقلم، وأقابلهم في البريج، وأجعل لهم من صفحات الرسالة جواء يسبحون في أطباقها مع الملائكة، ورياضا يهيمون على زهورها مع الفراش، وحقولا يعسلون من رحيقها مع النحل، حتى اجتمع لهم من أفانين الحق والخير والجمال عشرون مجلدا ضخما هي تاريخ نهضة وثورة أمة وتراث جيل.
في ذات عشية من عشايا نوفمبر من عام 1932 زرت أخي الدكتور طه حسين في دارته بالزمالك. وكنت منذ أربعة أشهر قد رجعت من العراق بعد من أغلقت دار المعلمين العليا ببغداد، وكان هو قد أنزل عن كرسيه في كلية الآداب من جامعة فؤاد. فقلت له بعد حديث شهي من أحاديث الذكرى والأمل:
ما رأيك في أن نصدر معا مجلة أسبوعية للأدب الرفيع؟
فضحك طه ضحكته التي تبتدئ بابتسامة عريضة، ثم تنتهي بقهقهة طويلة، وقال:
وهل تظنك واجدا لمجلة الأدب الرفيع قراء في مجتمع ثقافة خاصته أوربية، وعقلية عامته أمية، والمذبذبون بين ذلك لا يقرءون - إذا قرءوا - إلا المقالة الخفيفة والقصة الخليعة والنكتة المضحكة؟
فقلت له: لعل من بين هؤلاء وهؤلاء طبقة وسطا تطلب الجد فلا تجده، وتشتهي النافع فلا تناله.
فقال وهو يهز رأسه ويمط شفتيه: حتى هذه الطبقة، أن كانت، ستقبل على الجد النافع أول الأمر لأنه يتغير وتنويع، فإذا ما ألح عليها لا تلبث أن تسأمه وتزهد فيه. والمثل أمامك في (السياسة الأسبوعية).(1000/1)
فقلت له: ربما كان لإقبال القراء على (السياسة الأسبوعية) ولأدبارهم عنها سببان آخران غير التغيير والسأم. كانت هذه المجلة أول ما صدرت قوية غنية خصبة فأصبحت حاجة؛ ثم اعتراها ما يعتري الكائن الحي من الوهن والانحلال فصارت فضلة.
فقال لي بعد نقاش طويل: أنت وشأنك! أما شأني فهو المقال الذي أكتبه، والرأي الذي أراه.
وكان يظاهرني على تفاؤلي أصدقائي الأدنون من لجنة التأليف والترجمة والنشر، فكانوا بهذه المظاهرة نقطة الارتكاز ومبعث المدد.
وأخيرا تغلب العزم المصمم على التردد الخوار فصدرت الرسالة. صدرت قوية بالروح، غنية بالمادة، فتية بالامل، فكانت ولله الحمد حدث العام وحديث الناس! صادفت خلاء فشغلته، وخللا فسدته، وعبثا فحاولت أن تصدر عنه بإيقاظ النخوة في الرءوس والكرامة في النفوس والرجولة في النشء. ثم حركت في الملكات الموهوبة ساكن الشوق إلى الإنتاج فأبدعت، وأهابت بالقوى الأدبية المتفرقة فتجمعت. ثم سفرت بين الأدباء في كل قطر من أقطار العروبة، فعرفت بعضا إلى بعض، وأطلعت كلا على عمل كل. ثم قادت كتائب الفكر والبيان في ميادين الإصلاح الأدبي والاجتماعي والسياسي على نهج واضح من الدين والخلق، فكتب الله لها النصر في معارك، ووعدها الفوز في معارك. ولو كانت الرسالة اليوم بسبيل أن تكشف عن قلبها، وان تتحدث بنعمة ربها، لذكرت فيما تذكر بلائها العظيم في إنهاض الأدب، وتوحيد العرب، وتخريج طبقة من الأدباء، وتثقيف أمة من القراء، بله مجاهدتها السلطان الباغي والثراء الطاغي والفقر المهلك. ولكنها ترى ذلك من لغو الحديث ما دام (وحي الرسالة) منشورا وأعداد المجلة محفوظة.
كانت نشأة (الرسالة) كنشأة (الوفد) من كل الوجوه؛ وكان تطورها كتطوره من بعض الوجوه. نشأة الرسالة كما نشا الوفد إجابة لحال مقتضية وضرورية موجبة. لم تكن في مصر حين صدرت الرسالة مجلة الحق، وتقضي حاجة القارئ الجاد. إنما كان الأدب السامي حينئذ خبئ في الصدور وحبيس المكاتب. فلم تكد تخرج إلى الناس حتى احتشدت فيها القوى المدخرة، وظهرت على صفحاتها الملكات المستترة، فلم يبق في العالم العربي صاحب نثر أو شعر إلا أشرق فيها عقله، وانتشر مع انتشارها فضله.
كذلك لم يكن في مصر يوم ظهر الوفد جماعة سياسية تواجه مشكلات الحرب العالمية(1000/2)
الأولى، وتوجه خطوات الثورة المصرية الثانية. إنما كانت السياسة يومئذ أصداء خافته لأصوات الماضي، وآراء متهافتة من ترهات الحاضر. فلم يكد سعد زغلول يؤلف الوفد حتى انضم إليه عباقرة الرأي ودهاقين السياسة فلم يبق في مصر صاحب قلم أو لسان أو منطق أو جاه إلا قصر جهده على الوفد، وأضاف جهاده إلى جهاد سعد.
ثم سعى الشيطان بين الأخوة فتصدع الشمل وتفرق الهوى وتمزقت الوحدة. فأنشق على الرسالة كتاب. واشتق منها صحف كما انشق على الوفد أقطاب، واشتق منه شعب. فضعف الأصل ولم يقو الفرع، واعتل المصدر ولم يصح المشتق، وخسر المفرد ولم يربح الجمع. وأصبحت الرسالة رجلا واحدا يجتمع من حوله أشياع الفكرة، كما أصبح الوفد رجلا واحدا يسير من خلف أتباع المبدأ.
على أننا نطمع في فضل الله أن يزيد الرسالة قوة في عهد مصر الجديد. وما تسال الرسالة إلا العون من الله؛ فقد عودها جل شانه ألا تفزع إلا إليه فيما يحزب من أمر وما ينوب من مكروه.
ولعل السر في بقائها إلى اليوم على ضعف وسيلتها وقل حيلتها أنها عفت عن المال الحرام، فلا تجد لها اسما في (المصروفات السرية)، ولا فعلا في المهمات الحزبية، ولا حرفا من الإعلانات اليهودية.
وإذا لم يكن للفضيلة نفاق في عهد غرق فيه (القصر) في الفحش والنكر والبغي والاغتصاب والاستبداد والقتل وارتطمت فيه (الحكومة) في الاختلاس والغش والخيانة والرشوة والمحاباة والختل، فإنا لنرجو أن يكون لها من السيادة والفوز نصيب، في عهد يتولى الأمر فيه بإذن الله على ما هو ومحمد نجيب!
أحمد حسن الزيات(1000/3)
(الرسالة) مؤمل الرأي الحر
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان
أعتقد أن أهم ما تهدف إليه رسالة الصحافة في الوجود إنارة الرأي العام وتبصرة ببواطن الأمور وخفاياها، ولن تتمكن من تأدية هذه المهمة إلا إذا احتضنت الرأي الحر، وصارت مؤملا له. والصحافة التي لا تحتضن الرأي الحر ولا تصير مؤملا له - لا تعتبر صحافة في ميزان الحق ولو بلغت الذروة والقمة من الذيوع. . والصحف في مصر كثيرة لا حصر لها، ولكنها مع تباين مشاربها، وتنوع اتجاهها، وتعدد ألوانها، لا تظفر بواحدة منها تقسيم للرأي الحر وزنا، وتحسب له ولو ذروة من الحساب، فهي إما حزبية يهمها تأييد سياسة حزبها والتنديد بسياسة غيره، وإما مستقلة يهمها أن تظل على الحياد - مؤثرة نشر الموضوعات التي لا تحتمل الجدل، ولا تجر إلى المناقشة. وهي إما طائفية تعني بالدعاية لمذهبها، وسلق مخالفيه بألسنة حداد. وهناك لون رابع تافه تفاهة تجعله لا يشعر بوجوده ولا يكترث لظهوره.
والذي لا ريب فيه أن هذا التقسيم لا يشمل مجلتنا (الرسالة) إذ أن مشربا خاصا يميزها على غيرها، واتجاهها فريدا يجعلها في معزل عن سواها - أما مشربها فهو الأدب المصفى. تحمل إلى العروبة رسالته - وتتزعم وحدها جبهته، وتذود عن كرامته، وتنقيه من شوائب الدخن، وتحميه من بوادر الوهن. وأما اتجاهها فهو إلى تشييد حصن حصين للرأي الحر. وإقامة مسرح أمين للبحوث الجريئة، وبهاتين الخاصتين استطاعت الرسالة أن تشق طريقها في الحياة مرفوعة مكرمة. واصبح لها مكانتها المرموقة في مصر والشام والعراق والمغرب، وفي كل بلد ينطق بالضاد ويعتز بالعربية، وأصبحت موضوع ثقة الطبقة المثقفة، ومحل تقدير عشاق الأدب.
وحين نقول: - إن مشرب الرسالة هو الأدب المصفى. فإنما نقصد الأدب الخالص المعتمد الذي يتناوله الأديب وهو أكثر ما يكون اطمئنانا. ويتلقاه المتتلمذ إليها وهو أوفر ما يكون شوقا إليه وائتناسا به. وليس معنى قولنا: إن مشرب الرسالة الأدب أنها معنية بمادة الأدب وحدها، وإنما معناه أن الأسلوب في شتى موضوعاتها من الأدب الممتاز. حتى لتجد أن الألفاظ كلها منتقاة، وان العبارات جميعها مصفاة، وان صفحات الرسالة قد حرم عليها(1000/4)
الركة في الاسلوب، والتعقيد في الألفاظ، والتكلف في العبارات، وأحل لها المرونة المتقنة، والعذوبة الممتعة. وليس من البالغة في شيء إذا قلنا: إن موضوعات الرسالة سواء أكانت في الأدب أم في التاريخ أم في الدين أم في السياسة أم في الفن أم في غير هذه، هي من الموضوعات القيمة المقدرة لأن لها مستوى يجب أن يظل عاليا لا يرقى إليه ولا يعلى فوقه. ولذلك فهي لا تتسع إلا للموضوعات الحية القوية في أسلوبها، وفي مادتها، وفي أدلتها وبراهينها.
وحين نقول: أن للرسالة اتجاها خاصا هو تشييد حصن حصين للرأي الحر، فإنا نعتبرها الوحيدة في الصحف والمجلات المميزة بهذا الاتجاه الخطير الدقيق. تفتح مهمته آمنا من جمود المتزمتين، وسفه المتنطعين، وثرثرة الفارغين، وجعجعة المتخلفين، وصلف المكابرين. فالرسالة لا تجد غضاضة في أن ينقد على صفحاتها أبرز كتابها، ولو كان صاحبها، وأن يناقش أكبر الناس، ولو كان ممن بلغوا أسمى مكانة في العلم والأدب، لأن الجميع في ميدانها سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، ورئيسهم ومرؤسهم، إلا بقدر ما يصيب كل منهم من التوفيق والسداد، وبقدر ما يقدم كل منهم من قوى الحجة وساطع البرهان.
أول عهدي بالرسالة كتلميذ لها كان منذ أن عرفت الطريق إلى الصحف، فاتخذتها كمرجع ملم له قدره منزلته. أنهل من معينه كلما شئت، وأتناول منه غذاء فكريا كلما أحتجت، ويحتل من نفسي المكانة الأولى معتزا به اعتزازي بأغلى كنز في عالم الأدب. وأول عهدي بالرسالة ككاتب متواضع من كتابها كان منذ أعوام قلائل، يوم أن كتبت لها منتقدا رأيا في التفسير للإمام محمد عبده، وأنا واثق من أن الإقدام على نقد أمثال الإمام محمد عبده ليس بالشيء الهين اليسير، ولكن ثقتي بالرسالة واعتزازها بالرأي الحر شجعني على الإقدام من غير توان أو تباطؤ، ولم يكد يمضي أسبوع واحد حتى نشرت كلمتي ونشر رد بعدها الأستاذ جليل، وبذلك ازددت إيمانا بأن الأدب والعلم بخير في مصر والشرق، ما دامت الرسالة باقية تتلألأ طلعتها ويشرق نورها.
إن ثمة خاصة من خصائص الرسالة اختصت بها وحدها فهي المجلة الوحيدة التي تعبأ بالموضوعات، وبذلك أدت خدمة جليلة للأدب والعلم حيث قدمت إليهما أعلاما مبرزين(1000/5)
ظلوا مجاهيل خلف الصفوف، وضحايا للأثرة والأنانية حتى أخذت الرسالة بأيديهم، وقدمت إليهم دراسات حية كانت متوارية بين أضابير الإهمال والنسيان، وكادت تختنق بين ضوضاء السفاسف والتوافه في شتى الموضوعات. حتى أدركتها الرسالة وأنقذتها وأعادت إليها الحياة من جديد.
وبعد فإن الرسالة اليوم لجديرة بأن تكون أكبر مدرسة لطلاب العلم وعشاق الأدب في الشرق، وميدانا حرا لأبرز الكتاب، وأقيم البحوث، ومنبتا خصبا للرأي الحر، والنقد الجريء، وعنوانا للمثل العليا في دنيا الأدب والعلم والفضل.
محمد عبد الله السمان(1000/6)
على ضوء علم الاجتماع
حركات الإصلاح
للدكتور عمر حليق
الإصلاح نشاط اجتماعي. ويعرف علم الاجتماع (الحركة الاجتماعية) بأنها (مجهود عملي مشترك تقوم به طائفة واعية من أفراد المجتمع لكسب ولاء الشعب ومعونته لإحداث تبديل في الوسائل والأساليب التي تتوخى خدمة الصالح العام). وقد يكون قالب هذا التجديد حديثا لم يصغ من قبل، أو قد يكون إحياء (لنموذج سبق استعماله. وفي كلتا الحالتين فإن الدافع لتبديل الأساليب والوسائل ناتج عن الاستياء من الوضع الراهن وعن الرغبة في إصلاح الأمور.
إذن فالمجهود الإيجابي المشترك بين الطائفة الواعية وبين المجموعة الشعبية التي تمنحها الولاء والمعونة هو ما يعرف في الاجتماع (بالحركة الاجتماعية). وهذا التعريف يفترض أن يكون هدف الحركة خدمة المصلحة الجوهرية للشعب بأسره أو للكثرة الساحقة من أفراده. فقيام نفر من أعضاء جمعية معينة لتعديل دستورها أو تغيير مجلس إدارتها لا يعد حركة (اجتماعية) لأن هذا التعديل يمس مصلحة الجمعية وأعضائها ولا يهدف مباشرة خدمة المجتمع القومي الأكبر. وبنفس المنطق لا يمكننا أن نعرف (التيارات) و (الاتجاهات) الفكرية أو السياسية بأنها حركة اجتماعية. فإذا اتجه الناس نحو المطالبة بحق من الحقوق أو تبديل وضع من الأوضاع، وإذا ساد هذا الاتجاه تيارات فكرية معينة فذلك لا يعني أن هناك (حركة) بمعناها الاجتماعي الذي نحاول أن نعالجه في هذا المقال.
وأبرز ما يعنى به علم الاجتماع هو الحركات الاجتماعية التي تولد في نطاق شعبي واسع وتؤثر في صميم الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الدينية أو المقدمات الثقافية والخلقية للأمة بأسرها.
وعلى ضوء هذا التعريف فإن لنا أن نستنتج بان الحركة الاجتماعية صبغة مزدوجة طابعها الهدف والإنشاء في آن واحد. فهي موجهة ضد وضع معين تأمل الحركة في تعديله أو إزالته؛ وهي في نفس الوقت طامحة إلى تحقيق برامج وأهداف إنشائية ديدنها خدمة الصالح العام.(1000/7)
إذن فالحركة الاجتماعية تستند إلى عنصرين رئيسين هما: (القضايا) التي أخذت الحركة على عاتقها حلها والتغلب عليها، و (الأيديولوجية) - المبادئ والبرامج والأهداف - التي تنوي التقيد بها وتحقيقها بمعونة الشعب ولمصلحته العامة. وهذا التحديد يدفعنا لأن نتساءل عن جوهر (القضايا) وعن أسس (الأيديولوجية) التي تؤدي إلى ميلاد الحركة وإلى كسبها ولاء الشعب ومعونته، ومن ثم إلى الاستقرار والنجاح.
وهنا يحسن بنا أن نقرر السلوك الإنساني لا ينشط ضد وضع ما، وفي صالح هدف معين إلا حين يمر في تجربة قاسية تؤثر في المقدمات السياسية والاقتصادية والدينية التي يعيش عليها، وفي المثل العليا التي تتعلق بها الجماعات الإنسانية؛ فالحرية الفردية والكرامة القومية والقيم الإنسانية الأصلية التي هي في قرارة النفس تتوازى في مجال المقارنة مع المصالح السياسية والاقتصادية. وقد تمر الجماعة الإنسانية خلال هذه التجربة القاسية في ألوان من المحن والملمات التي تمعن في تحدي المصلحة الشعبية ومقوماتها ومثلها العليا وقيمتها الإنسانية، ولكن الحركات الاجتماعية لا تتبلور وتنشط للعمل الإيجابي إلا حين تبلغ هذه التجربة القاسية منتهاها، وهذا لا يكون إلا إذا كان المنتهى شاملا عاما لا يقصر سوؤه على طائفة معينة أو مجموعة محدودة العدد من أفراد الأمة، وإنما يمس الكيان الشعبي بأسره، وهو كيان له سيطرة قويه على عقول الناس وأفئدتهم حتى لو ساد الناس في بعض الحالات فتور وسلبية إزاء التجارب والمحن.
وقد يتريث دعاة الحركة وقادتها والشعب بأسره قبل القيام بعمل إيجابي عاجل لحل (القضايا) وتنفيذ (الأيدلوجية) ولكن هذا التريث ليس إلا نتيجة حتمية لهول الصدمة التي أوجدتها التجربة القاسية. وعلم الاجتماع يقرر بأن الذيول التي تتولد عن هذه الصدمة لا بد لها من أن تسير على منوال المساوئ التي كانت سائدة في الوضع الذي أوجد الصدمة ودفع المحن والتجارب المريرة إلى المنتهى. وهذا يعني أن سلوك أولياء الأمر في الأمة المسؤولين عن هول الصدمة الكبرى وعن سوء الأوضاع الراهنة سيمعن في التحدي محاولة منه للقضاء على ما تبقى في نفسية الفرد وفي شعور الأمة من معنوية وكرامة. وهذا السلوك ظاهرة اجتماعية قل أن يشذ عنها المسؤولون عن الكرامة القومية الذبيحة وآلام النفس المعذبة.(1000/8)
وعلى ذلك فإن ميلاد الحركات الاجتماعية (سياسة كانت أو عسكرية أو دينية) أمر لا بد منه. . . ومبلغ حماس الحركات وإخلاصها لحل (القضايا) والتغلب عليها وتحقيق (الأيديولوجية) الإصلاحية الجديدة يتوقف على الصدمات وفظاعة المنتهى.
ويمكننا استنادا إلى هذه الحقائق الاجتماعية أن نؤكد بان جوهر (القضايا) التي تتولى الحركات الاجتماعية معالجتها والتغلب عليها يتوقف على مبلغ الخطر الذي تتعرض له مقومات الحياة القومية ومصالح الشعب السياسية والاقتصادية والقيم والمثل العليا التي تعيش عليها الكثرة الساحقة من أفراد الأمة.
أما جوهر (الأيديولوجية) - المبادئ والبرامج والأهداف - التي تؤمن الحركة وتعمل لتحقيقها فيتوقف على مفهوم الحركة وقادتها لحقائق هذه (القضايا) وأي منها كان السبب المباشر للصدمة التي ألمت بالكرامة القومية وبمصلحة السواد الأعظم من الشعب. وهل سوء الجهاز الإداري هو ضعف القوة العسكرية أم فقدان القيم الدينية وانحلال القيم الأخلاقية وتفشي المساوئ الاجتماعية؟ وهل الخطر الذي يهدد الكيان القومي موجه من عدو يرتقب؛ أم أن أعداء الأمة هم الفاسدون من قادتها وأبنائها؟
وعلى مدى تقدير الحركة الاجتماعية الجديدة لحقائق هذه (القضايا) يتوقف استقرارها ونجاحها ومبلغ ولاء الشعب لها. وعلى ذلك فكلما كانت الحركة ورجالها نتاجا (شعبيا) شديد الصلة بالعناصر الأصلية التي يتكون منها السواد الأعظم من أبناء الأمة كان فهم الحركة ورجالها لحقيقة هذه القضايا صادقا أمينا، وكانت (أيديولوجيتها) مطابقة لمصلحة الشعب متمشية مع شعوره الصادق وضميره الحي ومنقذة لما يدور في خلده من آمال وما يطفح به فؤاده وعقله وعواطفه من حماس ورغبة في مؤازرة الحركة والاندماج فيها والتضحية في سبيلها كأحسن ما تكون تضحيات الأمم الحية في معركة الحياة الشريفة.
والحركة الاجتماعية الناجحة هي التي تؤمن بما تعمل. وتعزيز القول بالعمل لا يكفي إلا إذا توفر للحركة مرونة فكرية طابعها الحكمة لا التزلف. فعليها أن توازن موازنة صادقة لحاسية الشعب - أو بالأحرى أغلبيته العظمى. فإذا لمست الحركة أن جزاء كبيرا من الأمة يؤمن بان الإصلاح يجب أن يشمل إحياء القيم الدينية ومكافحة الفساد وما أولده من انحلال في القيم الأخلاقية فجدير بالحركة أن تجعل لهذه الناحية من الإصلاح مكانا راسخا في(1000/9)
(أيديولوجيتها).
وإذا أدركت بان بين المواطنين طائفة مخلصة واعية تثر في قرارة النفس على أن التنمية الاقتصادية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية يجب أن تنال مكان الصدارة بين أهداف الحركة فمن الخير لإيديولوجية الحركة أن تولي ذلك عناية خاصة.
وإذا تحقق للحركة والمسؤولين فيها أن الحاجة ماسة لتعزيز الدفاع العسكري على أقصى حد مستطاع فما عليها إلا أن تلبي هذه الحاجة - فهي كحركة شعبية صلتها وصلة قادتها بالشعب صلة الأغصان بالجذوع كفيلة بأن تضمن حماس الأمة وتضحياتها في سبيل المناعة العسكرية، وجعل ذلك مبدأ أساسيا من مبادئ الأيديولوجية الجديدة.
وهناك طبعا سيل لا حد له من آراء الناس في أوجه الإصلاح وأيها أولى بالعناية من سواه.
والمهم عند تقرير الأيديولوجية أن توازن الحركة في مبلغ الحماس الشعبي الصادق لأوجه الإصلاح ومبلغ شعور الشعب وتقدير لأخطار (القضايا) والمشاكل التي تتحدى سلامة الكيان القومي. فليس المطلوب من الحركات الاجتماعية أن تتقيد بمعالجة قضية واحدة. فالعوامل التي توفر للحركة النجاح والاستقرار عديدة، وكثرتها تتوقف على كثرة الأخطار الناتجة عن هذه القضايا والمشاكل. ولذلك فلا نفر للأيديولوجية أن تتضمن أكبر عدد ممكن من البرامج والأهداف التي تكفل التغلب على هذه الأخطار.
والدراسة الاجتماعية للحركات الإصلاحية تثبت صواب الرأي في اتخاذ قضية أو أكثر من قضايا الأمة كعنوان للأيديولوجية الجديدة، إلا أن هذه الدراسة تؤكد كذلك أهمية إدراك الشعب للأخطار التي سببت له المحن والمساوئ في العهد أو العهود التي استبدلتها الحركة الجديدة.
فالحركة الشعبية الناجحة تولد عادة في جو اجتماعي اعتاد السماع لدعوات الإصلاح من دعاة أساءوا فهم المشاكل الرئيسية العميقة التي تواجه الأمة، ولذلك تفشل هذه الدعوات في كسب ولاء السواد الأعظم من المواطنين. فولاء السواد الأعظم وإخلاصه في مؤازرة الحركات الجديدة هو ميزان الاستقرار والنجاح، وعلى ذلك فإن الخطأ الذي ترتكبه معظم الأحزاب السياسية (وهي تقليد مشوه للحركات الاجتماعية) هو تصويرها القضايا القومية(1000/10)
على نحو لا يستند إلى فهم أمين لضمير الشعب، وإنما هو فهم مشوه اقتبسه قادة الحزب من شعورهم الخاص وهو شهور تتضارب فيه المصالح الذاتية - شعور يتزلف في اغلب الحالات إلى أوساط ليست من صميم الشعب وليست عنوانا على شعوره ويقظته ومصالحه، أوساط تنتمي إلى هذه الفئات الطفيلية التي تعيش على الشعب لا معه.
والشعب - أو بالأحرى الجزء الهام منه - يتحفظ في إعلان الولاء وبذل التضحية للحركات الناشئة إذا توفرت له عوامل نفسية معينة سجلها علم النفس الاجتماعي في دراسات لنفسية الجماهير وعقليتها، وطبيعة الزعامة الصالحة ومقوماتها، وإلى الأخطار والتجارب التي مرت بها الأمم في نشاطها الاجتماعي، كما أشرنا إلى ذلك في صلب هذا المقال.
وبعض هذه العوامل غامض يحمل أكثر من تفسير واحد، والبعض الآخر محدود الصفات واضح المعالم إدراكه سهل ميسور.
على كل دعنا نسترض فيما يلي بعض هذه العوامل ما دمنا في حديث الاجتماع وعلمه ولو كان ذلك على حساب أدب المقال في غير مجلات الاختصاص.
أ - يجب أن تكون القضايا التي تولت الحركة معالجتها شديدة الصلة بالمصلحة الشعبية العامة وبالمصلحة الخاصة لأكبر عدد ممكن من المواطنين.
ب - للحركة الاجتماعية الناشئة أن بمعالجة القضايا التي بها مكان الصدارة في شعور الناس ويقظتهم العاطفية والفكرية وحين يقتضي الوضع تفضيل قضية على أخرى فللحركة أن تعالج قضية واحدة معالجة عامة شاملة وتبدأ في نفس الوقت بمعالجة القضية أو القضية التي تليها في الأهمية معالجة جزئية - على ألا يكون لهذا التوزيع هدف غير الموازنة العادلة بين أهمية القضايا في تفكير الناس وفي مبلغ صلتها بالصالح العام وبمستقبل الحركة وأيديولوجيتها وأثر ذلك كله على الكيان القومي ومصلحته الجوهرية.
جـ - يؤكد علم الاجتماع أن استقرار الحركة الاجتماعية الناشئة لا يتوطد إلا إذا كانت أيديولوجيتها حاوية لقيم وأهداف تمس المنفعة الشخصية للكثرة - الغالبة - من أفراد الشعب. والمنفعة الشخصية شيء والشعور الشعبي المشترك شيء آخر، وإن كان كلاهما يعزز الآخر. فالأهداف الوطنية مثلا شعور شعبي مشترك، أما العدالة الاقتصادية والمساواة(1000/11)
الاجتماعية وصيانة القيم الدينية والأخلاقية فإنها أهداف تخدم المنفعة الشخصية لكل فرد من أفراد المجتمع، أو على الأقل أولئك الذين حرموا منها - وهم كثرة في معظم المجتمعات الإنسانية.
د - حين تختلف أوساط المجتمع في توكيد أهمية قضية ما على غيرها من القضايا التي يشغل بها الناس وتعالجها الحركة الجديدة فإن الضرورة تقتضي مجهودا صادقا يصدر عن الحركة والمسؤولين فيها ليقرر أولوية القضايا ويسعى جادا مخلصا لإقناع السواد الأعظم من المواطنين بها حرصا على سلامة وحدة الشعور الشعبي وتماسك اليقظة العاطفية والفكرية. وهذا المجهود يفترض حملة توحيد فكري وعاطفي واسعة النطاق يضمن نجاحها هذه الأيام المواصلات الفكرية الحديثة - الصحف والإذاعة والأفلام وما إليها من وسائل الدعاية والثقافة الشعبية.
هذا رأي علم الاجتماع في بعض نواحي الحركات الإصلاحية وهو رأي وإن كان لا يصح أن يؤخذ على أنه القول الفصل في تصور الحركة الاجتماعية ونضوج ثمارها فلكل حدث اجتماعي ظروف خاصة وتيارات وعوامل طارئة تتطلب مرونة للاستنتاج العلمي تؤكد في تواضع مقدرتها على تسليط ضوء نافع على جوهر السلوك الإنساني.
عمر حليق(1000/12)
حول العدد الألفي
أثر الرسالة في الأدب الحديث
للأستاذ محمد سالم الخولي
للرسالة في الأدب الحديث آثار خالدة خلود الأدب والفن. . سهرت على شوارده وأثبتتها، وتتبعت نوافره فجمعتها، وجلت غوامضه بالبيان الرائع والأسلوب الطيع، واللغة السليمة والمنطق المسلسل.
أشرقت على البلاد العربية والرأي الناضج في مصر يكاد لا يسمع به أديب بالعراق، والفكرة في العراق لا يتعالمها إلا من بالعراق، والشعر في الشام لا تتردد أصداؤه إلا بين جنبات الشرق حتى توحدت الفكرة والرأي والشعر وأصبح لحملة الأقلام رسالة. . . . رسالة تجمع بينهم وتعرفهم كلماتهم. . . والحقيقة أن المتأمل في أعدادها الألف اليوم يستطيع في يسر عجيب أن يجمع بين يديه خيوط دراسة أدبية رائعة لنهضة الأدب العربي الحديث.
فبين أحضان الرسالة نشأت مدارس الأسلوب الرائع النابض الحي، وبين صفحاتها تكونت مدارس للنقد المتعمق المحلل لخفايا النفوس والأساليب، وفوق أغصانها غردت أطيار من الشعراء لكل جماعة منها أهداف معلومة ورسالات محدودة. ولها لون وذوق فني خاص مع تفاوت بين أفرادها في طرائق العرض وأساليبه وطرائق تناول الموضوعات الشعرية، وإلقاء الظلال والألوان على الصور الشعرية.
إن دراسة أعداد الرسالة الألف تعتبر بحق دراسة للأدب العربي الحديث، بل لأزهى عصور الأدب العربي عامة.
وجدير بمحبي الأدب ودارسي روائعه أن يعملوا الفكر والتأمل في هذا التراث الخالد العظيم. حتى يقدموا للأجيال القادمة صوراً صادقة للنهضة الأدبية متمثلة في مدارس أدبية ناثرة أو شاعرة أو ناقدة كالرسالة تمتاز بصفة لازمتها دائما هي الاحتفال بما تقدم من الآثار الفنية. فهي لم تنشر من النثر إلا ما بلغ الغاية من الكمال الفني والنضوج الفكري. . . ولم تقدم من الشعر إلا ما ارتفع إلى مراتب الروائع الفنية وحلق في أجواء تعبق بالشاعرية الملهمة الفذة.(1000/13)
والرسالة لم تقدم إلى العالم من الأدباء أو الشعراء إلا من اكتملت لهم الأداة وتم لهم النضوج. . . وسعى لهم الفضل. . ودان لهم الخلود أو كتب لهم الخلود على يديها، وإنك لتلمح بين صفحاتها بين الحين والآخر أسماء تشرق حينا ثم تغيب، وأسماء تسطع دائماً وإن هي غابت فإلى عودة. . . فتحب أن تسأل عن السر في ذلك الإشراق المفاجئ. وذلك التكرار المتواتر على فترات قد تطول وقد تقصر. . . فتجد السر في برنامج مدرسة الرسالة. . حيث تراها مضطرة إلى الاحتفال بالموضوع الجدير بالنشر والمعروض في قالب جدير بها. فهي إذن ترحب كلما سنحت لها فرصة العثور عليه، ومن هنا يجيء سر الإشراق المفاجئ لبعض الأسماء، أما الأسماء المستمرة السطوع في افقها فهي إما لأبناء نجباء من أسرتها أو لأسماء استطاعت أن تقدم دائماً الطريف الجديد الرائع.
وأكبر مظاهر التقدير للرسالة الخالدة في يوم صدور عددها الألفي. . هي أن نحاول رسم خطوط متزنة لمدارس الرسالة الأدبية مع عرض لأسماء أشياخها الأفاضل وأسماء شبابها الخالد. . من كتاب ونقاد وشعراء.
فمن أشياخها الأعلام الأفاضل الذين قدمتهم في مشرق عمرها المديد ولا زالت تقدم بعضهم: الأساتذة الكبار طه حسين واحمد أمين وعبد الوهاب عزام وتوفيق الحكيم وعباس العقاد ومحمود البشبيشي وتوحيد السلحدار ومحمود تيمور ونقولا الحداد وأحمد رمزي ومحمد غلاب ومحمود أحمد الغمراوي والشيخ شلتوت والشيخ المدني والمرحوم الدكتور زكي مبارك وأحمد الزين والزهاوي وطوقان والنشاشيبي والكرملي والمازني والرافعي.
ولكل من هؤلاء الأشياخ الأعلام خصائص مميزة واتجاهات خالدة، منهم الأدباء الفنانون كطه حسين وتوفيق الحكيم وتيمور والمازني وزكي مبارك. وكان الرافعي فرداً في فنه، ومنهم الأدباء الرواة الثقات واللغويون الأعلام كالزيات والنشاشيبي والكرملي ومحمود البشبيشي. ويمتاز الزيات بالروعة في الأسلوب والدقة في العرض والإحاطة بالأدب، والبشبيشي بسعة الاطلاع والجزالة في الأسلوب، أما الكرملي والنشاشيبي فكانا يصدران عن طبع لغوي علمي يشوبه الجفاف في العرض.
وفيهم الأدباء والأعلام المختصون بالدراسات الأدبية والاجتماعية كالعقاد وأحمد أمين، ويمتاز العقاد بأفق واسع وأغوار عميقة لا يسبح فيها ولا يصل إليها سواه، أما الأستاذ(1000/14)
الحداد فله اتجاهاته الاجتماعية والعلمية، والأستاذ أحمد رمزي اتجاهاته الاجتماعية والدولية. وكان الزهاوي فيلسوفاً شاعراً ولم يكن الشاعر الفيلسوف، وكان الدكتور مبارك الفنان الشاعر ولم يكن الشاعر الفنان، أما شباب الرسالة فيهم بين أبن نشأ فيها ورعاها ورعته وأخذ عن صاحبها العظيم وتأثر به وحده أو به وبغيره من أشياخها. . أو بين أديب آثر الرسالة بآثاره المكتملة فأقرته واحتفلت به وقد يكون تأثر بها من بعد وقد لا يكون.
فمن الشباب كتابها الأساتذة الأعلام عبد المنعم خلاف وسيد قطب ومحمود الخفيف وعزيز أحمد فهمي وكامل محمود حبيب وفهمي عبد اللطيف وعباس خضر والدكتور محمود يوسف موسى وأنور المعداوي وأحمد أحمد البدوي ومحمد القصاص ومحمد محمد زيتون وراجي الراعي وعلي متولي صلاح ومحمد رجب البيومي وأنور الجندي ومحمود أبو ريه وصلاح الدين المنجد وفوزي الشتوي وسعيد العريان وصلاح المنجد، ومن شباب شعرائها الأساتذة الملهمون علي محمود طه ومحمود إسماعيل والزهاوي وإيليا أبو ماضي وسيد قطب وحسين البشبيشي وكامل الصيرفي وأنور العطار ومحمود السيد شعبان وعبد الرحمن الخميسي وإبراهيم نجا وأحمد العجمي ومحمود رجب البيومي والصافي النجفي وفدوى طوقان وعبد القادر رشيد الناصري.
ومن هؤلاء الشعراء من جمع بين الأسلوب الكتابي الرائع والقدرة الشعرية السامية فكان منهم من اشتهر بنثره النابض بالحياة وفكره المتعمق المساير للمجتمع والأدب كالأساتذة الأفاضل سيد قطب الكاتب المسلم الاجتماعي الخطير والناقد البصير وعبد الرحمن الخميسي الصحفي المعروف والعجمي وحسين البشبيشي والناصري، وإنك لتلمح أثر العقاد في سيد قطب واضحاً، وأثر الرافعي في سعيد العريان إلى حد تقيده طاقة العريان الفنية، وأثر الزيات في أنور المعداوي وحسين البشبيشي وصلاح المنجد والناصري. . وبعد فهذه خطوط رئيسية لا تصل إلى حد الدراسة. نأمل أن تجد من أدباء العروبة من يبادر إلى تناولها بالتفصيل. فللرسالة مكانتها الخالدة في الأدب والأدباء.
محمد سالم الخولي
مستشار سابق(1000/15)
اذكروا الشهداء
للأستاذ محمد زيتون
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون
بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم
يحزنون).
قرآن كريم
اليوم. . بعد أن انطلقت أسود العرين من إسارها، لخوض أروع معركة للتطهير والتحرير، في العصر الحديث، يحق لنا أن نذكر شهداء فلسطين من قواد وضباط وجنود، نعموا بجوار ربهم، وخلفوا وراءهم أرامل ويتامى، لهم عند الله اجر الصابرين.
أستشهد هؤلاء في نضال عنيف بين كتائب الحق، وشراذم الباطل، بعد أن ائتمرت على قضية فلسطين دعاة الميكيافيلية، وحماة الصهيونية، وتمكنت الذئاب المسعورة حتى تمكنت، وفي غفلة من الزمن، قامت لهم (دولة)، كان يوم ميلادها، نذيرا بحلقة جديدة من الاستعمار الجماعي، مما أصاب الضمير الإسلامي، بالحسرة والألم.
وشهداؤنا الأبرار، لم تذهب دمائهم من جراء مغامرة طاغية، ولا عدوان غاشم، وإنما هم الذين حملوا أكفانهم على رءوسهم، وجادوا بأرواحهم في سبيل الله، لا عن حزبية ولا عصبية، ولا دفاعا عن أموال وضياع، ولم تكن محارم الله مطيتهم إلى الهدف الذي تسابقوا إليه. وحسبهم أن باعوا الدار وأهلها، وخفوا لنجدة الجار المهضوم، والحرم المنهوب، فأنعم بها من غاية، وأكرم بها من سبيل.
كانت الشهادة - وهي إحدى الحسنين - رزقا، يتوسلون إلى بارئ النسيم أن يخصهم به، ورحم الله عمرو بن الجموح إذ حمل سلاحه، وأخذ يتكفأ في طريقة - وهو أعرج - ومن ورائه بنوه الأربعة كالأسود يجرون ليصدوه، ولكنه يتوجه إلى القبلة، ويضرع إلى الله في لهفة واشتياق (اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني خائبا إلى أهلي) وقاتل حتى استشهد، فرآه(1000/17)
رسول الله، وهو يطأ بعرجته في الجنة.
فلنذكر هؤلاء الذين باتت أرواحهم في حواصل طيور خضر، يسرحون في رياض الجنة، ولنتذاكر ما يوجبه علينا دين الجهاد نحوهم ونحو أهليهم ومواطنيهم أجمعين، يدفعنا إلى ذلك، قول نبي المجاهدين عليه الصلوات (من جهز غازيا أو خلفه في أهله بخير فقد غزا). . فمن الذي ينكص على عقبيه، وقد بلغته دعوة إلى غزوة. . نصيبه فيها عمل صالح يرفعه، ولا يصيبه منها ضربة أو طعنة!
كان رسول الله أول من عنى بتكريم الشهداء، فقد كان - عقب المشاهد - يجمعهم في مصارعهم، ويترحم عليهم، ويستعبر، ثم يأمر بتكفينهم في أثوابهم التي استشهدوا فيها، ونزع ما عليهم من جلود وسلاح، ودفنهم من غير غسل، فقد استشهد حنظلة بن عبد الله بن أبي عامر الفاسق، وعليه جنابة، فأطلع الله تعالى نبيه على أمره، وسماه (غسيل الملائكة).
وكان يقدم للجنازة أكثرهم جمعا للقرآن. ويأمر بدفن كل رجلين أو ثلاثة في قبر واحد لما يكون بينهم من صفاء أو قرابة في الدنيا، وكان يشرف على القتلى ويقول: (أنا شهيد على هؤلاء. وما من جرح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه: اللون لون الدم، والريح ريح المسك)، وكان يواسي ذويهم، ويوصي بهم خيرا، ويتعهدهم بحنانه وبره، ويدعو الله لهم بالخلافة عليهم.
كان النبي على فرسه وسعد بن معاذ ممسك بلجامها، فأقبلت أم سعد تعدو نحوه. فقال سعد: يا رسول الله، أمي. . فقال النبي: مرحبا بها. فلما وقف لها، دنت منه، وأخذت تتأمله، فعزاها بابنها عمرو، فقالت: أما إذ رأيتك سالما، فقد اشتريت المصيبة. فقال لها: يا أم سعد، أبشري، وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد تشفعوا في أهلهم جميعا. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ يا رسول الله، ادع لمن خلفوا. فقال: (اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا)
وسار الخليفة الراشد أبو بكر، على هذا خليله المصطفى عليه السلام، فقد دخلت عليه فتاة، فألقى لها رداءه لتجلس عليه إكراما له، ولذكرى أبيها الشهيد الذي قال عنه رسول الله (رحمه الله، نصح لله ولرسوله حيا وميتا) وإذ ذاك قدم عمر، فما إن رأى من أبي بكر هذا التكريم لتلك الفتاة، حتى عجب من أمرها، وسأله عنها فأجابه: هذه ابنة من هو حير مني(1000/18)
ومنك، رجل تبوأ مقعده من الجنة، وبقيت أنا وأنت، هذه ابنة سعد بن الربيع.
وعقب (أحد) أحتمل أناس قتلاهم ليدفنوهم بالمدينة، فجاء منادي رسول الله يعلن في الناس (ردوا القتلى إلى مضاجعهم) ولم يبق إلا قتيل واحد، ودفنوه حيث أستشهد.
على أن رفات الشهداء الأبرار لا تبلى كسائر الأجساد، فقد روى أن معاوية بن أبي سفيان أمر بحفر عين جارية وسط مقبرة شهداء أحد، واستصرخ الناس إلى قتلاهم، وأمر بنقل رفاتهم، فأخرجوهم رطابا تنثني أطرافهم، وذلك على راس أربعين سنة من دفنهم، ومع ذلك أصابت المسحاة قدم حمزة سيد الشهداء، فأنبثق الدم، وفاح المسك، وكأنما هو صريع ساعته، مع أن أرض المدينة سبخة، قيل يتغير الميت في قبره من أول ليلة، ولكن تأبى الأرض الطيبة - بقدرة الله - أن تأكل لحوم شهداء المعركة، لأنهم مع النبيين والصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
ويجب دفن الشهيد فور مصرعه والصلاة عليه، فقد رجعت هند بنت حرام بعد أحد تسوق بعيرا يحمل ابنها خلاد بن عمرو بن الجموح، وأخاها عبد الله بن عمرو، وزوجها عمرو بن الجموح، وصار الجمل يبرك يهم كلما وجهته إلى المدينة، فإذا ضربت في وجهه إلى أحد نزع وأسرع، فسألت النبي في ذلك فقال: (أن الجمل مأمور، فقبرهم بأحد، يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن).
وفي تاريخ الإسلام أروع الأمثلة لرباطة جاش المرأة المسلمة إذا نعى إليها زوجها أو ابنها أو أخوها أو أبوها، فهذه حمنة بنت جحش تلقى النبي عند منصرفه من (أحد) إلى المدينة، فينعى إليها خالها حمزة فتحتسب، وأخاها عبد الله بن جحش فتحتسب، ثم زوجها مصعب بن عمير فتصيح مولولة وتقول: وا حزناه. فينظر النبي إلى من حوله، ويقول (أن زوج المرأة لبمكان ما هو لأحد) ثم يسألها: لم قلت هذا؟ فتجيب (تذكرت يتم بنيه، فراعني. فدعا لها أن يحسن الله الخلف على أولادها.
وأثبت منها عند الجزع، امرأة من بني دينار أستشهد زوجها وأخوها وابنها وأبوها، فلما نعوا إليها احتسبتهم عند الله. واعتصمت بالصبر، وقالت، كيف رسول الله؟ فقيل لها: هو يحمد الله كما تحبين. فتقول أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، وتعلقت بثوبه عليه السلام وهي تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من(1000/19)
عطب.
وكانت الخنساء مضرب المثل في الإيمان عند النازلة، استشهد بنوها الأربعة في القادسية. بعد أن بلغت الثمانين من عمرها. ولما أقبل البشير بعد المعركة، جاءت تسأله عن حال الإسلام والمسلمين، فقيل لها: ألا تسألين عن أبنائك الأربعة؟ فقالت: هم بعد ذلك، فلما طمأنوها على سلامة جيش الإسلام، ذكروا لها أن بنيها قد استشهدوا جميعاً فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في الإسلام وأساله تعالى أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
والإسلام بهذا لا يتناقض مع طبيعة البشر، ولا يدعي القضاء على غريزة من الغرائز التي هي القوة الدافعة للسلوك، أو انفعال من الانفعالات التي هي مظاهر الوجدان. فقد ثبت أن هذا الدين المتين يتمشى مع الطبيعة البشرية إلى الحد الذي يرتفع بها إلى أفق أعلى، وخلق أسمى.
وآية ذلك، أن نسوة الأنصار جئن إلى النبي يذكرن عمه حمزة ويبكين موتاهن، فصرفهم النبي في غير عنف وهو يقول: أرجعن رحمكن الله. لقد واسيتن معي، رحم الله الأنصار. وبلغ الحزن مبلغاً لم يقدر على مغالبته رجل أو امرأة، فجاء وفد من الرجال يسألون رسول الله: (يا رسول الله، بلغنا أنك نهيت عن النوح، وإنما هو شيء ندب به موتانا، ويجد فيه بعض الراحة، فأذن لنا فيه، فقال: أن فعلن، فلا يخمشن ولا يلطمن، ولا يحلقن شعراً، ولا يشققن جيباً.
وتكريم الشهداء لا يكون بتلك الأساليب العقيمة المرتجلة، التي يجترها السطحيون، فلا يسمو بهم الحس البليد إلى أكثر من اقتراح تسمية شارع أو ميدان أو محطة باسم الشهداء، أو اقتراح لإقامة نصب أو تمثال أو لوحة تذكارية أو قبر للمجهول في العاصمة والمدن الرئيسية.
وما أبعد هذا كله عن سبيل التكريم الخالص لوجه الله ولن نصل لهذه الترهات إلى الهدف النبيل الذب من أجله أرخص الشهداء دمائهم الزكية الغالية.
كما أن نقل رفات الشهداء غير جائز اعتمادا على ما أمر به رسول الله عقب غزاة أحد من رد القتلى إلى مضاجعهم، ولذا يجب إعادة النظر في الخمسة والعشرين ألف من الجنيهات التي اعتمدتها وزارة الوفد الأخيرة لبناء المقابر بجهة الغفير ونقل رفات الضباط من شهداء(1000/20)
فلسطين إليها.
وهذا تفكير عقيم ضحل، إن دل على شيء فإنما يدل على جهل مطبق بحقائق الدين. كما فيه امتهان لكرامة الشهداء الجنود، وإثارة الأحزان الدفينة في مشاعر ذويهم الصابرة وتملق رخيص للعواطف النبيلة.
وأول ما يجب البدء به لتخليد ذكرى الشهداء، وتمجيد بطولتهم وتكريم ذويهم. هو إحياء سنة عمر بن الخطاب، وذلك بإنشاء (ديوان المجاهدين) الذي وضع له اللوائح. ورتب الاختصاصات، وفرض مستحقات الجند أحياء ولذويهم من بعدهم، كل حسب بلائه وسبقه في الإسلام.
ويجب أن توضع الملفات لأسر الشهداء، لكي يتسنى للتاريخ الصحيح متابعة مجريات حياتهم، والتنويه بمظاهر الإعجاب في سلوكهم، والإشادة بآثار شهدائهم، مع منحهم مزايا اجتماعية تبقى رمزا إلى ما قدموا للوطن من أغلى التضحيات.
أما أبناء الشهداء وبناتهم، فأولئك ودائع عزيزة، ائتمنت عليها الأمة: جيشا وشعبا وحكومة. فلتكن نشأتهم على خير وجه مسنون من كرامة العيش وحسن التربية.
فهذا الفتى أسامة بن زيد؛ عقد النبي له لواء على جيش كثيف لغزو بني غسان قاتلي أبيه، وهذه الربيع بنت معوذ قاتل فرعون العرب أبي جهل: نراها في عهد عمر تشتري العطر من أسماء بنت مخرمة أم أبي جهل وذات يوم وزنت لها ولأصحابها على الأعطية فقالت لهن أسماء اكتبن لي عليكن حقي. فلما أملت الربيع اسمها على الكاتب استشاطت أسماء غيظا وتداركت: وإنك لأبنة قاتل سيده،؟ قالت الربيع: لا أبدا. وقالت عبده فقالت أم أبي جهل: والله لا أبيعك شيئا أبدا. وقالت الربيع: وأنا والله لا اشتري منك شيئا أبدا، فو الله ما هو بطيب ولا عرف. ولما عادت إلى بيتها قالت لأبنها والله يا بني ما شممت عطرا قط أطيب منه، ولكن يا بني غضبت.
هذا الترفع والإباء وليد روح عالية - بلا شك - دفعت ببنت المجاهد إلى مقاطعة البضاعة الكافرة. لمجرد غضبة المسلمة الغيري على سيادتها وعزتها.
وخير هدية من شهداء الوطن نقدمها للجيل الناهض، سفر كبير. لا يخلو منه بيت، ولا يدع شاذة أو فاذة من تاريخ الشهداء الأبرار إلا أنطوي عليها. مع ذكر تاريخ حياتهم، ومسقط(1000/21)
رأسهم، ومحامد سيرتهم وبطولتهم، والمعارك التي أسهموا فيها. إلى غير ذلك مما يقرب إلى النفوس مشاهد الجهاد في عصر تميعت فيه الرجولة، ورخصت فيه القراءة وطفحت الصحف والمجلات والكتب بقصص الغرام و (أصول الحب) و (نساء في حياتي).
وحق على وزارة المعارف أن تواكب هذه النهضة المباركة حتى تسير حملة التنوير وكتيبة التطهير جنبا إلى جنب. وتنهض بواجبها في بث الروح الجهادية قولا وعملا. فتختار للناشئة نخبة مختارة من أناشيد الحماسة، وخطب القادة، وأوامر الأمراء لجيوشهم، وعرض الأفلام والقصص التمثيلية التهذيبية، وتسهيل الزيارات لمتاحف الحضارة، وسرد الوقائع التاريخية بكل دقة وأمانة، من غير تمليق أو تزويق. هذا مع طبع المعاهد العلمية بطابع الجهاد الصحيح.
كان زين العابدين بن الحسين يقول (كنا نعلم مغازي رسول الله كما نعلم السور من القرآن)، وكان إسماعيل بن محمد ابن سعد بن أبي وقاص يقول (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول يا بني إنها شرف آبائكم. فلا تضيعوا ذكراها.
وفي (جهاد النبي). . حقا. أغلى ما يتزود به الجيل المؤمن ليتخذ من حقائق التاريخ مقياسا متينا لكل دعوة وغزوة، تنحل إزاءها حرب البطش والعدوان في القديم والوسيط والحديث على السواء. . . وبالتربية الجهادية تسمو النفوس، وتعلو الرءوس، وتنتظم الخطى، وتنسق الخطط، ويستبشر الشهداء في مضاجعهم بالذين لم يلحقوا بهم. . فنظفر بنصر من الله وفتح قريب.
محمد محمود زيتون(1000/22)
بمناسبة العدد الألفي للرسالة
الرسالة في حياة الأدب
للأستاذ حامد حفني داود
في أوائل القرن التاسع عشر تخلصت مصر من نير العصرين المملوكي والتركي، وانسلخت من حياة قاسية انحط فيها الأدب إلى الدرك الأسفل، واستقبلت عهدا جديدا في تاريخ أسس دعائمه على الكبير.
وزخر العهد الجديد بالإصلاحات الكثيرة التي تناولت مرافق الحياة في مصر، وأخذ ركب الحياة يمضي في ثوبه الجديد. ولكن الحياة الأدبية في ذلك الوقت لم تنل حظا كبيرا. فعلى الرغم من الإصلاحات العلمية وعلى الرغم من التعليم المدني الذي بعثه محمد علي في فجر النهضة المصرية فإن الأدب المصري كان يعاني لونا من التفكك وضربا من الجمود.
وقد شاهد العهد الجديد تغييرا كاملا في الحياتين السياسية والاجتماعية، ولكن الشجرة الأدبية لم تؤت أكلها أو ترسل ثمارها بالسرعة التي كنا ننتظرها، لأن سياسة التعليم في ذلك الوقت وبالتالي حياة الأدب لم تكن جميعها منبعثة من منبعها الطبيعي، وإنما كانت إصلاحات عامة يصدرها الحكام وحدهم، ويحس لها العلماء والأدباء ليسيروا سيرا مدرسيا بحتا لا يتجاوز جدران المدرسة أو يعدو قوانين التعليم العام. أما الأدباء المطبوعون والشعراء الموهوبون الذين يستطيعون أن يعبروا عن ميولهم وميول الشعب ويرسمون حياتهم وحياة الشعب؟ والذين كان في مكنتهم أن يضعوا لبنة متينة تمثل مرحلة من مراحل الحياة الأدبية في ذلك الوقت - فلم يفتح الباب أمامهم ولم يعطوا الحرية الكافية ليصوروا الأدب المصري الرفيع كما ينبغي.
وما كاد عقرب الزمن يطوي وراءه نصف قرن بعد محمد علي حتى اشتد الفارق بين الأدب الشعبي والأدب المدرسي. ثم أخذ الزمن يمضي وأخذت الأحداث تتقلب، وعاشت المدرسة في بيئة وعاش المجتمع في بيئة أخرى وازدادت الألسنة تبلبلا حين جمدت الثقافات الأدبية في موطن واحد هو المدرسة، استعصت على الحياة وامتنعت عن التفاعل بها.
وتقدم الزمن ووقعت (الثورة العرابية) وتدخلت أصابع الأجنبي لكبحها وقتلها. وشاء الله لها(1000/23)
أن تموت وتقبر في مهدها، ولكن جذورها النفسية وآثارها الأدبية لم تمت، فقد نبهت العقول الراكدة والنفوس النائمة إلى الواجب الوطني، في الوقت الذي شعرت الأمة بضرورة التقريب بين الطبقات، وحثت على محو الفوارق الاجتماعية التي لا يقرها الإسلام ولا تعترف بها المبادئ الإنسانية.
وقد كان لهذا الشعور العميق الذي شاع بين طبقات الشعب وعم أرجاء البلاد بعض الأثر في حياة الأدب. وكثيرا ما تكون الأحداث السياسية والثورات الوطنية مادة خصبة للبناء الأدبي ووقودا صالحا يشمل جذوة الحياة الأدبية بعد خمودها الطويل. وقد ساعد على ذلك أن لاقت الثورة الأولى نفوسا صافية وقلوبا واعية وأرواحا أدبية وثابة تتأثر بما حولها وتعبر عن آلام الشعب وآماله. ثم أنعكس شعاع هذه الثورة في الحياة الأدبية: انعكس في الخطابة فكان عبد الله النديم وأترابه، وغزا دولة الشعر فكان البارودي وكانت مدرسته وهي أولى مدارس الشعر المعترف بها في عصر النهضة، ونال الحياة الفكرية ما نال الخطابة والشعر من تجديد، وظهر ذلك واضحا في شخصية الشيخ محمد عبده وأستاذه الشريف جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق ومجدد القرن الرابع عشر.
ولم يكد يمضي الزمن بالثورة العرابية ولم تكد تأخذ مكانها في سجل التاريخ حتى تمخضت عن مولود هو (ثورة 1919) وقد أعادت هذه الثورة إلى الحياة المصرية سالف رونقها وأجرت في شرايينها دماء الثورة الأولى والدعوة إلى المثل. وهكذا تقدمت الحياة المصرية خطوة إلى الأمام بعد الثورة الثانية. وارتقى التعليم المدني تبعا لذلك فغادرة ميدان المدرسة إلى ميدان أرقى وأجل هو الجامعة المصرية القديمة. وقد كان الغرض الأول من إنشائها تثبيت مكانة مصر السياسية والاجتماعية والأدبية.
ومنذ ربع قرن تطورت الجامعة المصرية القديمة إلى وضعها الجديد الذي بدأت خطوطه الأولى في جامعة فؤاد الأول. ولكن الحياة الأدبية الرفيعة التي كانت تدب في مصر في ذلك الوقت ظلت مختنقة بين جدران الجامعة. أما المجتمع الخارجي الذي كان يتمثل في النوادي والمجالس الأدبية - فلم يكن مقياسا صحيحا يمثل ما اعتور الأدب من تطور في ذلك الوقت، وإن كان في ذاته يعتبر امتدادا طبيعيا لنوع من الحياة الأدبية الشعبية في تاريخ مصر. ولعلك تعجب أن نضطرب هذا التطور بين الجامعة والمجتمع وأن تختلف(1000/24)
البيئتان في رسم هذا الاتجاه وتحديد ذلك النما!!
كان ذلك منذ ربع قرن حين كانت الجامعة وكان الجامعيون يعيشون بين جدران الجامعة ويدرسون الأدب للجامعة ولأنفسهم قبل أن يدرسوه لخدمة المجتمع وأهله أو قبل أن يتحملوا عبء هذه الرسالة ويكلفوا أنفسهم مشقة عرضها على المجتمع في صورتها الجديدة , وهي الصورة التي كانت تساير الزمن ونساير الحياة الجديدة الناهضة في العالم كله.
أعنى: كانت هناك حلقة مفقودة بين (الأدب الرفيع) في الجامعة و (الأدب الشعبي) في المجتمع. واستمرت هذه الفجوة السحيقة والهوة الضخمة بين الأدبيين ردحا من الزمن أعني خلالها الأدب المصري لونا من التفكك وضربا من الجمود الذي ذكرناه.
ويوم تفقد الحلقة بين الأدب الرفيع وأدب الشعب تقع الطامة الكبرى على المجتمع وعلى القومية وعلى الدين وتصبح الحياة ضرباً من الترهات والتفكك والحواجز السخيفة التي لا تحتمل، وتصير الأمة أشبه بأمتين متباينتين متنافرتين في أمة واحدة.
وقد كان من رحمة الله على مصر أن هذه الفترة لم تطل حين قيض لها بالأمس جماعة من الأدباء حملوا لواء الحياة الأدبية. ونقد هؤلاء صفوف الأدب وأخذوا يقربون بين الأدب الرفيع وأدب الشعب ويرسمون من المثالين مثالا واحدا صادقا يصور التطور الصحيح ويتجانس مع الزمان والمكان.
وقد كان الأستاذ الزيات في مقدمة هؤلاء النفر الذين قربوا الخطى ووحدوا الصوف ووسعوا الميدان الأدبي وأفسحوا المجال الصحفي للمطبوعين المقبورين والموهوبين المنسيبين. كما كان في رسالته عون الشباب المتوثب المكافح المناضل العامل على رفع القواعد من المدرسة الأدبية المصرية. وهو من هؤلاء النفر الذين يقدرون الشيء لذاته. فليس أكرم الأدباء في نظره أشهر ولا أسنهم ولا أغناهم ولا أعظمهم جاها وشأنا، وليس أتفههم عنده أخملهم ولا أصغرهم ولا أفقرهم ولا أحقرهم مكانة ورتبة. إنما أكرمهم عنده بأدبهم وأعلمهم. وهكذا لم يشأ الأستاذ الزيات أن يتخذ من المقاييس اللاإرادية مقياسا يقيس به الأدباء والعلماء لقد أبى الأستاذ في رسالته إلا أن يكون الناقد الحصيف الذي يحسن الاختبار ويصل إلى الأعماق في النقد، ذلك لأنه يأبى إلا أن يجعل من الإرادة والإرادة وحدها مقياسه النزيه. أما هذه المقاييس التي تقوم على صفات عريضة لاحظ للإنسان فيها(1000/25)
ولا قدرة له على توجيهها فهي مقاييس زائفة تافهة في نظرة لأنها لا تمثل الحقيقة المجردة ولا نستقيم مع النقد النزيه، ويماثل ذلك قوله تعالى في محكم كتابه (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فالتقوى وأمثالها جانب إداري في حياة الإنسان. ولذلك صح أن تعتبر مقياساً التفاضل الأخروي.
وفي ضوء هذا النهج السليم قرب الزيات بين الحياتين ووحد بين الأدبين حين جعل من الرسالة منبراً عاماً يعتليه الأدباء لذواتهم وشخصياتهم لا لمناصبهم ومراتبهم، يعتلونه على اختلاف مشاربهم وأهوائهم وميولهم ونزعاتهم يعرضون ما لديهم من بضاعة الأدب والعلم والفن. ثم يطرحون ذلك كله أمام القراء الذين أقبلوا على الرسالة يتدافعون ويتزاحمون حين أدهشهم جلالها وأعجبهم اتساع صدرها وتمثيلها لجوانب الحياة الأدبية كلها. والقراء هم الحكومة النزيهة بين الرسالة وكتابها. فهم وحدهم الذين يستطيعون بإخلاص أن يسجلون ذلك في بريدهم الأدبي. وهم وحدهم يستطيعون أن يعلنوا ويثبتوا للأصلح (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
وهكذا ظلت (الرسالة والرواية) عشرين عاما منذ حرجت إلى الناس تحمل عددها الأول وهي تؤدي في صدق وأمانة رسالة الحرية الكاملة في الأدب العربي المصري الحديث ولا تزال تؤدي هذه الرسالة إلى اليوم وستؤديها ما شاء الله لها أن تبقى. وهي في ذلك كله تعرض على الملأ الكتاب الأحرار المخلصين للحقائق المجردة، وترسم أمام الناس صورا صادقة لتطور المقالة الأدبية والشعر الحديث والقصة الحديثة. وهي إلى جانب هذا وذاك تعتبر سجلا لطيفا يصور التاريخ الأدبي المصري وما يعتريه من نماء وتطور أسبوعا فأسبوعا. ولولا عنصر الصدق الذي امتازت به في أداء رسالة الأدب لعصفت بها يد الزمان ولحطمتها معاطب الحدثان.
نعم إنها ظلت تناضل مع الزمن وتصورا لحياة الأدبية المصرية في غير تكلف ولا تعسف. كما استطاعت بفضل عناصر: الصدق والدقة والإحاطة أن تصبح مرآة عامة تنعكس عليها آداب مصر والعراق وآداب الأقطار الشقيقة، وأن تستجيب لذلك كله لما وجدت من القراء في الأقطار الشقيقة من يمد لها الطريق ويعينها على أداء رسالة العربية وآدابها. فالرسالة - في نظر المنهج العلمي الحديث - هي الأدب الحي المعاصر. . . والأدب الحي(1000/26)
المعاصر هو الرسالة:
واليوم شاءت الأقدار أن تحتفل الرسالة بعددها الألفي، وأن تختم به عهدا قديما في حياة مصر، وأن تفتتح به عهدا جديدا حبيبا إلى النفوس، وهو عهد الحرية والفضيلة، عهد العدالة التي حطمت صخرة الطغيان وخلصت مصر من ربقة الظلم والإثم والبهتان. ولعل من أجمل الصدف وأحلاها في حياة الأقدار أن تفتتح الرسالة الألف الثانية من أعدادها في مفتتح هذا العهد الجديد. ذلك العهد الذي لا تزال الأعناق نشرئب إليه احتراما وتعظيما وتحملق العيون فيه إكبارا وإجلالا وتكريما، وقد خشعت له أصوات المردة وارتفعت فيه صيحات الحق، بعد أن ظل الناس زمنا يجأرون بالشكوى فلا يلتفت إليهم ويهيبون بالإصلاح فتداس حقوقهم وتحطم آمالهم.
ما أجمل أن تفتتح الرسالة ألفها الثاني في ذلك العهد الجديد وما أحراها أن تسهم فيه بنصيبها في الإصلاح والتطهير والتجديد، وأن تكتب عن ذلك كله وقد حمل صاحبها لواء الكتابة الإنشائية عشرين عاما كاملة. فما كان الأدب الحر في أي عصر إلا سلاحا ماضيا يدافع عن الأبطال المجاهدين وسيفا مصلتاً فوق رقاب الطغاة المتمردين. ألا إن حاجة الأمم إلى الكتاب وعذبات الأقلام ليس بأقل من حاجتها إلى القادة والقواد العظام.
حامد حفني داود(1000/27)
يوم 26يوليو
بمناسبة مرور شهر عليه
للآنسة نعمات أحمد فؤاد
ودنت ساعة الخلاص وكانت مصر بشعورها ولكن قلبها كان يهتز. كان يخفق فرحا بقرب إعلان مولد الفجر الجديد، وكان يضطرب إشفاقا خشية أن يكون أسرف في التفاؤل والأحلام. . وعاشت مصر أربعة أيام تترقب وتتكهن القدر وتتطلع إلى السماء، تدعوها في صوت مختلج أن تسند وقفتها في وجه الظلم فلا ترتكس، وأن تبارك هبتها في وجه الطغيان فلا اليوم الرابع أطول يوم لأن مصر عاشته لحظة لحظة، وكان أقصر يوم لأن مصر من هول ما عانت قبله، وعظم ما نالت فيه، بدا لها كالحلم السعيد الموشى، قصير الأمد بعيد التصديق.
لقد صبرت حتى شقي صبرها، واحتملت حتى ضاق ذرعها، وكابدت حتى وهى جلدها، وتجلدت حتى رماها الجاهلون ووصفوها بالجمود الذليل، ولكنها كانت تعرف أين تضرب ضربتها ومتى، كانت تدبر لها بحكمة السنين، ثم نفذتها بعزم الفراعين الجبابرة، ومضت إلى غايتها في استبسال المستميت. ثم استمدت ربها العون فأجاب، وفوقت سهمها فأصاب، واستلهمت تاريخها فتبدد من جوها اليأس، وأشرق في أفقها الأمل، وجاشت في صدرها العزة، وسرى في كيانها الشعور بالقوة والكرامة.
في 23 يوليه سنة 1952 قالت مصر (لا) مدوية كالرعد، نافذة كحكم القدر. وفي 26 يوليه سنة 1952 أصدرت مصر أمرها فطأطأ الطغيان رأسه، وأعلنت مصر كلمتها فخفض الاستبداد صوته، وفي 26 يوليه سنة 1952 فتحت مصر بابها فخرج الظلم إلى غير رجعة. ودهش العالم، وابتسم القدر، وسجل التاريخ، وهتفت الوطنية.
في 26 يوليه سنة 1952 خرج الظلم وانكمش أعوانه متضائلين بعد أن عاثوا الفساد وأشاعوا الفوضى، وأرهقوا بالبؤس، وحرمونا من الخير، وأذلونا بالاضطهاد، وقتلوا بالعنت والكبت، واعتصروا دمائنا ليريقوها في كؤوسهم خمرا، وما حسبوا أن الله لهم بالمرصاد وأن وراء الخمر أمرا.
في 26 يوليه سنة 1952 طردت مصر الظلم واكتفت بهذا فلم تنكل به كما نكل بفلذات(1000/28)
أكبادها، لم تودع في صدرها الأثيم الرصاص الذي أودعه صدور بنيها في فلسطين ليزداد ثراءهم لقد قبض ثمن أرواحهم حين أبتاع لهم الأسلحة الفاسدة ليضاعف خزائنه. . كانت مصر جبارة في غضبتها، ولكنها كانت كريمة في عفوها مع القدرة، النبيلة في صفحها مع غصة المرارة من الدم المسفوح. . . إن وطني صانع المعجزات، أن التاريخ القديم والحديث ليس فيه صفحة واحدة لشعب عفا عن طاغية استبد به واستهتر بكل القيم كما عفا شعب مصر.
لقد بكى قلبي مع الكثيرين من قومي عندما أعلن البشير خلاص مصر من ربقة البغي والطغيان، ولكن دموعنا هذه المرة طفرت من الفرح بالنصر المبين، وطالما سكبناها في مصارع ضحايانا فما تحدرت من مآقينا حتى اختلطت في بحر الدموع والعرى بلوعات الثكالى وزفرات اليتامى، وأنين المجهودين والحيارى ومن تقطعت أنفاسهم في منتصف الطريق.
اشتدي أزمة تنفرجي
نعم لولا تفاقم الخطب لما نفذ الصبر، ولولا اشتداد الكرب لما انفجر الصدر، ولولا توالي لذعات الألم لما فاضت الكأس.
لقد أكرهنا على أن نقدم ما نزرع ليتخموا ونجوع واغتصبوا الضرائب التي ندفعها باسم مخصصات ومرتبات يكدسونها أكواما من النضار عاما بعد عام دون أن تنقص لأنهم مكلفون مع هذا أن تتحمل تكاليف طعامهم ولباسهم ومركباتهم ونزهاتهم وأسفارهم وولائمهم وزينات أفراحهم، حتى إذا ضاقوا ذرعا بالمال كما نضيق ذرعا بالعدم بعثروه في سفاهة على الموائد الخضراء وفي الليالي الحمراء، حتى إذا طلع النهار اتخذوا سمات الصالحين فغشوا المساجد، وأداروا حبات المسبحة. وبلغت السخرية مداها حين زعموا. . . زعموا اتصال نسبهم بنبي المسلمين!
ويرى الشعب هذا ويسمع به وينتظر ويتحرق ولكن البغاة الذين أغراهم صبره وغرهم حلمه، أضافوا إلى صفحاتهم السود صحائف من الغيلة وانتهاك الأعراض والعبث بدستور البلاد وقوانينها. فخرج الاحتمال عن طاقة الإباء، وكبر الجرم حتى ضج به الحلم، وطاح معه الصبر فكان الانفجار.(1000/29)
لقد نسينا ما فدحنا به إسماعيل من ديون، وما نكبنا به توفيق من ويلات الاستعمار، واستقبلنا منذ ستة عشر عاما الطاغية الطريد كما يستقبل الميامين الأبطال، وأملنا فيه خيرا وأحببناه حبا دنا من العبادة وحففناه بقلوبنا، ولكن تركيته غلبت عليه، فسامنا الخسف كأسلاف له من قبل، وبغى واستكبر وما درى أن الله أكبر وأن على الباغي تدور الدوائر.
إن يوم 26 يوليه اجل أعيادنا خطرا وأعمقها أثرا، فيه ولدت مصر الجديدة، وفيه رفع الجيش رأس مصر المجيدة، وفيه صح الوعي من مصر الرشيدة. وفيه دمدم قائدنا نجيب أكبر حصون البغي ليبني على أنقاضه دولتنا من جديد.
إن أرواح الأبرار من أسلافنا تطوف بنا مرفرفة، ففي أرضنا فرحة وفي سمائنا تبريك.
إننا سنجعل من يوم 26 يوليه سنة 1952 طلائع موكب الحياة والنور، سنجعل من هبتنا فيه بداية يقظة موصولة تصحح على هديها اوضاعنا، وتستقيم على ضوئها أمورنا، فلا نضل بعد اليوم وقد وضحت معالم الطريق.
إننا سنجعل من ذكرى 26 يوليه سنة 1952 درساً بليغاً في العزة القومية نلقنه صغارنا حتى نجنبهم التجربة القاسية التي مررنا بها فما سلمنا منها إلا بمعجزة نجيبة.
سنلقنهم أنه في يوم 26 يوليه أمر المصريون الفلاحون السادة الأتراك أن ينزلوا عن عرش لا يستحقونه فأذعنوا صاغرين. ثم أمروهم أن يغادروا مصر فورا لا تشيعهم السلامة به قذفت بكبيرهم إلى البحر لعنات شعب ممرور. وأمر قائدنا نجيب ربان الباخرة أن يطرحه على شاطئ بعيد ثم يعود إلى مصر فوراً بباخرتنا (المحروسة).
سنجعل من ذكرى 26 يوليه سنة 1952 نشيدا قوميا يحفظه عنا أبناؤنا ليعرفوا حقهم فلا يفرطو فيه، ويعتزوا بوطنهم فلا ييأسوا منه مهما ران عليه الظلام والكمد، فها هو النور انبثق دفعة واحدة، وعلى غير انتظار من جوف ليل يهيم عابس حسب معه الكثيرون أن الصبح ضل طريقه، فإذا به غامر الضياء مائس النور.
سلام على مصر بين أوطان العالمين
وسلام على شعب مصر بين الخالدين
وسلام على جيش مصر بين الغر الميامين
نعمات أحمد فؤاد(1000/30)
تحية جديدة للرسالة المجيدة
بمناسبة أعيادها الأربعة في يوم واحد العدد الألف، والسنة
العشرين وعيد الأضحى، وعيد استقلال مصر.
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
لم لا أعود إلى تحيتها ... تلك التي تحنو على الأدب؟!
لم لا أعود لها فأحمدها ... والحمد عند العطف والحدب!
تطوي السنين بنا وتنشرها ... تختال في أثوابها القشب
وتفيض بالآداب مترعة ... بالفن يبعث هامد الطرب
الحق ديدنها وغايتها ... تجلوه بين الشك والريب
كم غابت الأقمار واحتجبت ... إلا (الرسالة) فهي لم تغب!
لولا الرسالة لانطوت شهب ... منا وراء الغيم والحجب
لولا الرسالة ما جرى قلمي ... بالمعجزات وجد في الطلب!
كنا معاً من فجر مولدها ... كصبية شغفت فؤاد صبي!
ألهو بها وأجد مقتبسا ... منها وليس الجد كاللعب
كم كنت أحبو في قراءتها ... واليوم أحبوها بوحي نبي!!
أعيادها مثنى ثلاث وقد ... وافت رباع تفيض بالعجب
في عيدها الألفي ساطعة ... في عامها العشرين كالشهب
أضحى بها (الأضحى) يحج إلى ... بيت البيان وكعبة الأدب!
والنصر وافي مصر بحبها شغفاً ... حتى شغلت بربها الأرب
أني ثملت بحبها شغفاً ... حتى شغلت بربها الأربُ
يا حبذا (الزيات) كم صلة ... يحبوبها الفصحى وكم سبب؟
رأس البيان وغيره ذنب ... شتان بين الرأس والذنب!
نالت بلاغته بروعتها ... حد النهى ونهاية الأرب
والشرق يبصر في براعته ... موسوعة تغنى عن الكتب!(1000/32)
آراؤه في الفن والأدب ... دع عنك ذكر البدر والشهب
يعتز بالأسلوب في زمن ... يعتز فيه الناس بالسلب!!
حسب الرسالة أن في يدها ... يده التي تنهل كالسحب
هيهات أنسى من يؤازرني ... ويهش للمغمور في النوب
قد كنت كالمغمور في ظلم ... بالريف ويح الريف من غضبي!
أحيا كأني من سوائمه ... وأعيش فيه عيش مغترب
أتضيع أحلام الشباب سدى ... ويظل ذاك الظل في الكثب؟!
كم من يد طاشت فداء يد ... راشت جناح النسر بالزغب!
وعلى ملوك البغي دائرة الس ... وء البغيض تدور بالعطب!
تيجانهم قد أصبحت لعباً ... شتى فيا لطرافة اللعب!!
يا رب تاج فوق ناصية ... النعل أرفع منه في العقب!!
ولرب عملاق تعقبه ... فأرداه بلا تعب!
التاج تاج الجيش والقضب ... والعهد عهد الشعب و (الشعب)
وكتائب التحرير ساهرة ... وعناصر التطهير عن كثب
والظلم مدحور فإن برزت ... أنيابه فالرأي للقضب!!
والقائد الأعلى (نجيب) له ... بأس الكمى وفطنة الذرب
يا شانئين كفي مناهضة ... للناشئين الفتية النجب!
أخلوا الطريق لنا فموكبنا ... يحدوه حادي النصر والغلب
أو فالبثوا. . هذى كتائبنا ... تختال بين البيض واليلب
نحن الشباب وتلك نهضتنا ... تسمو على الأفلاك والشهب
كم من فتى منا متى رغبت ... نالت يداه الشمس لم يثب!
المعجزات لنا نسخرها ... أرأيت فعل الريح بالسحب!
وعلى (الرسالة) من أسنتنا ... أصداء هذا الجحفل اللجب
دامت ودام الشرق في فمها ... أنشودة منشودة الطرب
أحمد أحمد العجمي(1000/33)
رسالة الشعر
هوى الملك الباغي
للأستاذ محمود البشبيشي
بعزم (نجيب) أدراك الحق طالبه ... وروع صرح البغي وانهار جانبه
وأشرق وجه الشعب بعد عبوسه ... وولى زمان قد تمادت غياهبه
يسائلني صحبي وقد بهرتهمو ... من الجيش نفاثاته وعجائبه
لمن موكب كالرمح يمضي مسددا ... تحوم المعالي حوله وتواكبه
لمن قامة كالسيف يسطع عزمها ... تسير إلى الجبار صبحا تحاسبه
أذاك (نجيب) منقذ الشعب قد بدا ... تحف به أنصاره وكتائبه
فقلت، وقلبي دائم الخفق باسمه: ... أجل هو تحدوه العلا وتصاحبه
أجل هو سيف الله يمضي مظفرا ... إلى الملك الباغي، وتلك مواكبه
إلى ملك لم يرع للحق جانباً ... فقد شغلته نفسه ورغائبه
إلى ملك قد أثقلته ذنوبه ... وذاعت على موج الأثير غرائبه
وعاث بآمال البلاد وأهلها ... كما عاث في الكرم المباح ثعالبه
وقد عزه ما قد أعد وما درى ... بأن عيون الشعب يقضى تراقبه
فلم يغن عنه - والجيوش محيطة ... به ماله أو قصره ومساربه
أيحسب أن البطش يعصم تاجه ... وكيف؟ وجبار السماء محاسبه!
لقد طوقته الغاشيات فلم يجد ... أخا يفتديه أو صديقا يعاتبه
وما الجيش إلا نقمة الله أطبقت ... عليه فما تنجيه منها مهاربه
وكيف يرجى رحمة الله ظالم ... ويطمع في لطف الإله محاربه؟
فلا الجو ينجيه وقد زمجرت به ... من الجيش نفاثاته وضواربه
ولا البحر ينجي والبوارج رصد ... ولا البر منج والأسود طوالبه
كذلك بأس الله إن حاق بامرئ ... (ولو ملكا) ضلت عليه مذاهبه
هو الجيش لله القوي حفاظه ... وللوطن المحبوب تنضي قواضبه
لقد ظل دهرا يهتف الشعب باسمه ... ويزجى من الألقاب ما هو طالبه(1000/35)
يسيء فيفضي الشعب حلما لعله ... يثوب وراء الصبر كبتا يغالبه
وقد عزه صبر الكرام وما درى ... بأن وراء الضبر كبتاً يغالبه
وقد حسب الدستور لهواه وملعبا ... يقربه حيناً وحيناً يغاضبه
وينساه أحيانا وحينا يهزه ... إليه حنان خادع ويداعبه
وكم همس الشعب الكريم ينصحه ... وفيقاً فحلت بالبلاد مصائبه
تمرد واستعلى على الشعب لاهيا ... فطور يرائيه، وطورا يشاغبه
وأملي له شيطانه فما له ... (نجيب) بجيش لا ترد مطالبه
وصبحه بالجيش فالنهار عزمه ... وأيقن أن الحق لا شك غالبه
وأدرك أن البغي يصرع أهله ... وأن الأماني العذاب كواذبه
ولاح له طيف المنون فراعه ... وقد برزت أنيابه ومخالبه!
فألقى إلى الجيش الأبي زمامه ... فما بات حتى غيبته مغاربه
واقلع عن أرض الكنانة خاسئا ... تشيعه آثامه ومعايبه
خدعنا به حينا فلما تبينت ... مثالبه جئنا إليه نحاسبه!
وإنا لشعب لا تلين قناته ... إذا استل سيفا لا تخون مضاربه
(إذا الملك الجبار صعر خده ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه)
محمود البشبيشي(1000/36)
نشيد الخلاص
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
آن للظلم أن يزول فمرحى ... بزوال القيود يا مصر مرحى
كم شربنا الحياة جرحا وجرحا ... وعرفنا الجهاد كبتاً وكبحا
وانتهينا إلى النجاة. . . فمرحى
بزوال الطغاة والبغي مرحى
آن للبغي أن يزول فعالا ... كالخطايا. . . وان يزول رجالا
بارك الله جيشنا حين قالا ... قولة الشعب (زل) فخر وزالا
بعد عهد من البلاء توالى
آن يا شعب أن تعيش فمرحى
بزوال الطغاة والبغي مرحى
كم صبرنا على الهوان زمانا ... وشربنا الخداع آنا فآنا
ونسينا الكفاح حتى سلانا ... فصحونا على بشير دعانا
دعوة النصر صادقا وهدانا
لطريق الخلاص يا مصر مرحى
بزوال الطغاة والبغي مرحى
حسين محمود البشبيشي(1000/37)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
مدرسة الرسالة
في 15 يناير سنة 1932 بزغ النجم فصدر العدد الأول من الرسالة، وفي أول سبتمير سنة 1952 يصدر العدد الألف من هذه المجلة خلال فترة بلغت عشرين عاما، تطور فيها الأدب والفكر والفن، وانتقل من مرحلة إلى مرحلة، وسايرت الرسالة هذه النهضة ووجهتها وتفاعلت معها، وتركت فيها آثار حية ما تزال باقية خالدة.
وفي خلال هذه النهضة الأدبية التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى نشأت مدرستان: مجلة السياسة ومجلة الرسالة.
أما مدرسة السياسة فقد بدأت منذ عام 1922 وانتهت عام 1931، أما مدرسة الرسالة فإنها منذ بدأت لم تنته، وما زالت تواصل جهادها في قوة.
كانت مدرسة السياسة تنشئ الأدب الجديد، وتواجه التيارات المختلفة، وتقف من الحضارة الأوربية ومن القديم والجديد، ومن الشرق والغرب؛ موقفا بين الوضوح والغموض، وبين الاتزان والشطط، وبين الاعتدال والاضطراب.
أما مدرسة الرسالة فقد جاءت بعد أن استقرت الأمور، ونضج الأدب وبدت ثماره دانية القطوف، وانتهت المرحلة العصيبة الجادة إلى غير عودة.
وبينما كانت مدرسة السياسة تقول بالفرعونية، وتدعو إلى التنهيج بكتابين متواليين عن الشعر الجاهلي؛ والخلافة وأصول الحكم؛ كانت الرسالة تقول بالامتزاج وتقريب وجهات النظر ورعاية القديم وبعثه، وتقبل الجديد بعد دراسته ونقده.
وكان الصراع في (السياسة) بين الأدب القديم والجديد، أقرب إلى الهدم منه إلى البناء؛ فلما جاءت الرسالة واءمت بين القديم والجديد، وبين الشرق والغرب على هدى وبصيرة.
وبعد أن مالت (السياسة) بالأدب إلى النيل من شوقي والرافعي، جاءت الرسالة فأنشأت روحا جديدة قوامها الجمع بين الأفكار والنفوس عن ميدان الصراع، وخلق ميجان للبناء والإنشاء.
وفي مدرسة (السياسة) كتبت الأقلام التي أبرزتها النهضة بعد ثورة 1919: طه حسين،(1000/38)
وهيكل، والمازني، وعنان، ومحمود عزمي. . أما في الرسالة فقد كتبت هذه الأسماء، ونشأت في محيطها أقلام جديدة هي صفوة الكتاب الذين يلون الصف الأول.
وبعد أن كانت الكتابة في (السياسة) من ذلك النوع الذي أطلق عليه الدكتور طه حسين اسم (الأدب الموضوعي) وهو النقد، جمعت (الرسالة) بين الأدب الموضوعي والأدب الإنشائي. . . وكان الخلق والفن الجديد أغلب.
كان قوام مدرسة الرسالة روح (الزيات)، الأسلوب البليغ، والعبارة التزنة، والكلمة النقية، والنقد النزيه، والإبداع. .
وبالرغم من أن كتاب (السياسة) انتقلوا إلى الرسالة إلا أن إنتاجها قد تطور وتحول من حال إلى حال.
فالدكتور طه حسين الذي كان يكتب فصولا في تصوير الحياة الاجتماعية في العصر الأموي والعباسي تحت عنوان (حديث الأربعاء) في (السياسة)، كتب فصولا غاية في الروعة عن سيرة الرسول في الرسالة باسم (على هامش السيرة)، وكان هذا فنا جديدا من فنون القول والإنشاء.
والرافعي الذي كان يكتب حديث القمر، وأوراق الورد، والمساكين وغيرها قبل أن يتصل بالرسالة، فلا يقرأها إلا صفوة قليلة من الأدباء، كتب في الرسالة أجود إنتاجه، ونزل إلى مرتبة القراء الوسط، وخلف كتابا ضخما هو (وحي القلم).
وتوفيق الحكيم بدأ على صفحات الرسالة أول كتاباته في الأدب والفن في مساجلاته مع طه حسين عن نشأة الحوار والفن الإغريقي والفوعوني.
وعلى صفحات الرسالة بدأ العقاد عبقرية محمد، والحكيم قصة محمد المسرحية، ومن ذا الذي ينسى مقالة عبد الرحمن شكري في الرسالة بعد أن ظل أعواما وأعواما لا يكتب حتى نسيه الناس.
وعبد الوهاب عزام وأسفاره ورحلاته، وكتاباته عن التصوف.
والكتاب الذي يعد أجمل ما كتب زكي مبارك بدأه في الرسالة: (ليلى المريضة في العراق).
والقصص الإغريقي الخالد، كتب لأول مرة على صورة رائعة في الرسالة عندما أنشأه دريني خشبة.(1000/39)
والمساجلات الرائعة الخالدة، كانت صفحات الرسالة منبرها أمثال (بين الرافعي والعقاد) (بين سيد قطب ومحمود محمد شاكر وسعيد العريان) (ولايتينون وسكسيتون) بين العقاد وطه حسين.
و (صداقات الأدباء) بين توفيق الحكيم وزكي مبارك والعقاد.
و (ما لزكي مبارك وكتاب الله) بين زكي مبارك ومحمد أحمد الغمراوي.
و (الشيخ المرصفي) بين زكي مبارك والسباعي بيومي
و (أومن بالإنسان) بين علي الطنطاوي وعبد المنعم خلاف.
و (الأدب المهموس) بين محمد مندور وسيد قطب.
والمذهب الرمزي والتبياني بين العقاد وكثير من الكتاب.
وكان للرسالة فضل في إبراز شخصيات أدبية غاية في القوة في مصر والشرق وفي مقدمتها: الأستاذ صلاح المنجد وعلي الطنطاوي وناجي الطنطاوي وجواد علي وفهمي عبد اللطيف وأنور العطار وسعيد العريان ومحمود محمد شاكر وعزيز أحمد فهمي ومحمود الخفيف وعبد المنعم خلاف.
ومن كتابه ثلاثة كانوا غاية في القوة، وكان ينتظر لهم مستقبل حافل، لولا أنهم انتحروا: فخري أبو السعود وفيلكس فارس وإسماعيل أدهم أحمد.
وغاية القول أن مدرسة الرسالة كانت مدرسة الخلق والإنتاج، وان الأدب المعاصر مدين لها بكل ما فيه من قوة وعظمة وجلال، ولا نبالغ إذا قلنا إن كتابا من الكتب الأدبية الحديثة لم يكن قبل صدوره إلا فصولا في مجلة الرسالة. ونحن نهنئ الأستاذ الزيات بهذا الفضل الذي طوق به الأدب العربي الحديث.
هل يكتب التاريخ من جديد
فارق كبير بين ما يكتب الآن، وبين ما كان يكتب قبل 23يوليه 1952، إن القيود التي كانت موضوعة على الحقائق قد رفعت، فاصبح في مقدور كل من يعرفها أن يعلنها صادقة، هذه الحقائق هي مادة التاريخ، الذي يجب أن بكتب من جديد.
إن الأحزاب السياسية التي كانت تلي الحكم في الثلاثين عاما الأخيرة قد كانت في حديث الصحف والكتب قبل هذا التاريخ صاحبة أمجاد، وكان فلان وفلان وفلان هم زعماء(1000/40)
الشعب، أما الآن فقد أمكن أن تقال الحقيقة، وهي مدى الأثر الذي تركته هذه الأحزاب بصراعها ونفاقها في البلاد.
إن الملك السابق كانت تكال له عبارات التمجيد والتقدير والإعجاب من رجال السياسة والدين والصحافة، وقد تحول هذا كله اليوم إلى إعصار من الحقائق التي كانت محجوبة. . . والتي كان يمكن أن تظل محجوبة وقتا طويلا لولا هذا الانقلاب.
والصحف قبل 23 يوليو كانت تحمل أشياء كثيرة، لا أظن أنها صالحة لكاتبة تاريخ مصر كتابة صحيحة، ولا أظن أنها المادة النافعة لهذا، والمؤرخ الذي سيعتمد عليها سيكتب حتما صورة خاطئة لمصر.
وقد ألفت في هذه الفترة الطويلة كتب عن فاروق وفؤاد وإسماعيل وعن سعد زغلول والنحاس، وعن السياسة والوطنية والمجتمع، كل هذه المؤلفات ما عدا القليل منها أصبح زائفا.
ولم يكن هناك غير عبد الرحمن الرافعي وفتحي رضوان وبعض كتاب الإخوان المسلمين الذين كانوا يقولون بعض الحقيقة أو يحاولوا في لباقة أن يقولوا الحقيقة المرة.
لقد كانت المطامع والأهواء تغطي على كل شيء، فطالما زيفت الصحف الحقائق، وقالت غير ما هو كائن، وصورت الأمور على غير وجهها، وكان ذلك في بعض الأحيان رغم أنفها، وفي بعضها الآخر بإرادتها، وكانت بعض الصحف مشتراة، للأحزاب أو لغير الأحزاب، لتزييف هذه الحقائق، ولذلك وجب أن يكتب تاريخ مصر: تاريخ الملك والأحزاب والسياسة والأزهر من جديد بعد أن أصبح ذلك فعلا في مقدور كل كاتب.
أيها الكتاب: اكتبوا تاريخ مصر من جديد
أنور الجندي(1000/41)
رسالة النقد
كتاب معجم ما استعجم
من أسماء البلاد والمواضع
تأليف أبي عبيد البكري الأندلسي
المتوفى سنة 487هـ
تحقيق الأستاذ مصطفى السقا المدرس في الجامعة المصرية
للأستاذ حمد الجاسر
بقية ما نشر في العدد الماضي
الملاحظة الثالثة
وقع في هذا الجزء هفوات تحتاج إلى إصلاحات، منها:
1 - ص1175:
ما كان بين الشيطين ولعلع ... لنسائنا إلا مناقل أربع
والبيت بهذه الصفة، وإن استقام وزناً - إلا أنه خرج عن وزنه الصحيح، إذ هو من الطويل، وبعده: -
فجئنا بجمع لم ير الناس مثله ... يكاد له ظهر الوريعة يظلع
وصوابه إذن: (فما كان. . . لنسوتنا). كما في كتاب لغدة الأصبهاني، عن بلاد العرب (ص17 نسختنا الخطية المقابلة على نسخة السيد المرحوم محمود شكري الألوسي).
2 - ص1185: (المجازة، ومعرض، وحجر، والعامرية والصواب: (العمارية) وهي قرية من أعراض اليمامة، كما نقل المؤلف هنا، ولا تزال معروفة، تقع غرب مدينة الرياض مسافة 30كيلا (كيلو متر) - انظر (معجم البلدان) هذه المادة و (صفة جزيرة العرب) ص162 -
3 - وفي ص1201: (وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى مدين، أميرهم زيد(1000/42)
بن حارثة، فأصاب سبياً من أهل ميناء، وقال ابن إسحاق: وميناء هي السواحل). كذا - وكلمة (ميناء) تصحيف (مقنا) بالقاف مكان الياء، ولعل هذا التصحيف سببه أن الفاء بالخط المغربي تنقط بواحدة من تحتها، فصحف أحد النساخ القاف فاء، ثم صحفت الفاء ياء لاشتباهها بالياء. ومقنا قرية معروفة الآن في ساحل مدين، بين قريتي (ظبا) و (حقل) وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سكانها من اليهود، إذ هي قريبة من وادي القرى (انظر هذه المادة في معجم البلدان، كتاب الرسول (ص) لأهل مقنافي (فتوح البلدان) للبلاذري، وفي (الوثائق السياسية للدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي، المطبوع بمصر، بمطبعة لجنة الترجمة والنشر والتأليف).
4 - وفي ص1236: (ثم تنزل تريم وهي لبني جشم) و (تريم) تصحيف (بريم) بالباء الموحدة المضمومة فراء مفتوحة فياء مثناة تحتية ساكنة، فميم، وهو منهل لا يزال معروفا بهذا الاسم، في عالية نجد، بقرب جبل حضن، وثم منازل بني جشم قديما، وبقاياهم في هذا العهد يقرب هذا المنهل وانظر لتحديد (صفة جزيرة العرب) ص144 و151 وكتاب لغد الأصبهاني حيث تجد فيه: وفي بريم وهم شركاء جشم فيه، قال الراجز: (تذكرت مشربها من تصلبا - قصبا مثقبا). أما تريم - بالتاء والمثناه الفوقية المكسورة، بعدها راء ساكنة فياء مثناه تحتية مفتوحة فميم، فهو موضع آخر يقع في شمال الحجاز، يقرب مقنا، بين (المويلح) و (حقل) وهو الذي ورد ذكره في شعر كثير عزة. وتريم - بفتح اوله وكسر ثانية - بلدة في حضرموت معروفة.
5 - ص1347: (قال أبو الصلت الثقفي). والمعروف (أمية بن الصلت الثقفي).
6 - وفي ص1270: (سيحان من جنب). والصواب (سنحان) بالنون بدل الياء، وهي قبيلة معروفة في عهدنا هذا من قبائل جنب، منازلها في جنوب المملكة العربية السعودية وفي أطراف اليمن الشمالية، وفي السراة، (انظر تاج العروس مادة (سنح) وراجع كتب الأنساب)
7 - وفي ص1335: أورد المؤلف شاهدا على تحديد (النميرة) بيتا للراعي، وعقبة بقولة: (فذلك أن حقيلا من ديار بين تميم). وكلمة (تميم) هنا مصحفة وصوابها (نمير) وهم قبيلة الراعي، وحقيل جبل في بلادهم قال فيه الراعي:(1000/43)
وأفضن بعد كظومهن بجرة ... من ذي الأبارق إذرعين حقيلا
8 - في ص1398: (بلقيس بنت هداد بن شرح). والصواب ما نقل الأستاذ في الحاشية عن الجزء العاشر من (الإكليل): الهدهاد. وأما شرح فصوابه إلى شرح، كما حقق ذلك الدكتور نبيه أمين فارس (انظر طبعته للجزء الثامن من الإكليل ص19) وورد في كثير من المؤلفات العربية بصيغ متعددة - الشرح - إلى شرح - ليشرح - لي شرح - وأورده نشوان الحميري في مادة (شرح) وسماه بهذا الأسم، ولكن الهمداني أوثق وأعلم من نشوان.
9 - وفي ص1403: (صيد ين همدان). والصواب: (صيد من همدان) إذ الصيد هؤلاء من ولد عمرو بن جشم بن حاشد، وحاشد من همدان (أنظر نسبهم في الجزء العاشر من الإكليل، وانظر ص80ج 8 منه طبعة الدكتور نبيه فارس).
10 - نقل الأستاذ في حاشية ص 1272 - عن ياقوت أن (منفوحة) قرية كان يسكنها الأعشى وبها قبره، وهي لبني قيس بن ثعلبة نزلوها بعد قتل مسيلمة. ولا أدري كيف غاب عن الأستاذ ان جملة (نزلوها بعد قتل مسيلمة) لا تتفق مع كون تلك القرية بلدة الأعشى وبها قبره، إذ الأعشى مات قبل قتل مسيلمة، وهو من بني قيس هؤلاء؟ وإذن فسكنى بين قيس متقدم على قتل مسيلمة.
هذه بعض الهفوات، ولم نحاول إحصاءها وحصرها، ولم نشر إلى الأغلاط المطبعية إيجاز للقول، وضنا بالوقت، ولأن جل من يرجعون إلى هذا الكتاب لتحقيق موضع ما من العلماء الذين لهم من سعة الإدراك والاطلاع ما يمكنهم من التثبت والتحقيق حتى يصلوا إلى الصواب، حينما يريدون الاستفادة من هذا الكتاب.
الملاحظة الرابعة
ذكر الأستاذ السقا - في مقدمة هذا الجزء - أنه صحح أغلاط المؤلف أوهاماً كثيرة، وأغلاطا فاحشة لم تصحح، وقد ذكرنا في كلمتنا التي نشرناها في هذه المجلة عند صدور الجزء الثالث عذر المؤلف في ذلك. لكونه ينقل عن كتب كثر فيها التحريف والتصحيف، وهو في بلاد الأندلس، البعيدة عن بلاد العرب. ولا نريد استقصاء ما وقع من المؤلف من الغلط، ولكننا نشير إلى بعضها، مؤملين من الأستاذ السقا إعادة النظر فيها عند إعادة طبع الكتاب، فمنها:(1000/44)
1 - في ص1288 و1370: (وحسن خبة) بالخاء، وقد أوردها المؤلف في بابها، والصواب (جبة) بالجيم، وهو منهل معروف في فلاة واسعة يقع بين بلدتي (حائل) و (الجوف) في شمال نجد، وتلك بلاد طئ في العهد القديم.
2 - وفي ص1218: (الحزواء) وأوردها كذلك في حرف الحاء مع الزاي - وهي في رأيي (الحوراء) التي ورد تحديدها في صفحة 1310 وهي فرضة قديمة على ساحل البحر الأحمر، تقع بقرب بلدة (الوجه) في جنوبها وقد خربت قبل القرن السابع الهجري.
3 - في ص1253: (الملح) وقال المؤلف أنه مذكور في رسم القاعة والقاعة تسمى في عهدنا الحاضر: وادي المياه، وتقع غرب الإحساء، ممتدة من الجنوب إلى الشمال، وفيها قرى كثيرة ومن قراها (ملج) بالجيم بدل الحاء، وبقربها قرية (نطاع) وقد أورد البكري في ص104 - قول الشاعر
طحون كملقى مبرد فعمة ... بصحراء ملح أو بجود نطاع
وقال الأصبهانيى - في كتابه عن بلاد العرب ص45 نسختنا الخطية: (ثم تخرج من بطن غر فتقع في الستار، وفيه أكثر من مائة قرية،. . . ومن قراها ثاج قال ذو الرمة
نحاها لثلج نحية ثم إنه ... توخى بها العينين عيني متالع
وعينا متالع منها، وقرية يقال لها ملج، وقرية يقال لها نطاع، قال العجاج،
إن تك وهنا ظعنت عن دارها ... عامدة لملج أو ستارها
فقد تصيد القلب باحوارها ... وكفل ينصار بانصيارها
فإذا خرجت من الستار وقعت في القاعة، فيها مياه كثيرة) أهـ
4 - وفي ص1217 (كداء. . جبل مكة، هو عرفة بعينها)
5 - وفي ص1217 (المروة جبل بمكة معروف، والصفا جبل بإزائه، وبينهما قديد، عنهما شيئا، والمشلل هو الجبل الذي ينحدر منه إلى قديد) إلى غير ذلك من الخلط في تحديد المواضع، مما لا نطيل بذكره ونرى أن هذه الصحيفة لا تتسع لبيان وجهة الصواب فيه.
وبعد كل ما تقدم: فإننا نشارك حضرة الأستاذ السقا في قوله (إني لمغتبط إذا أقدم معجم ما استعجم بعد إتمام طبعه في هذه الصورة إلى العلماء، والباحثين في الثقافة العربية، ليحلوه من خزائنهم محل الصديق الوفي، يفزع إليه في التماس العون والرأي، إذا أدجن ليل(1000/45)
الشبهة، وغامت سماء الشكوك، خاصة فيما يتعلق بالجزيرة العربية، التي هي الوطن الأول للإسلام والعرب والعروبة) ونزجي لحضرته - مع هذا - شكرنا، لما أبداه للعربية من يد بيضاء.
حمد الجاسر
الإمام المراغي
تأليف الأستاذ أنور الجندي
للأستاذ عبد العزيز الدسوقي
كان الإمام المراغي. . طيب الله ثراه. . ورضى عنه. . قبساً من أقباس الفكر الخالق المتعمق، وشعاعا من نور النبوة الصافية. . . ونوراً من هدى السماء. مزج الدين بالدنيا، ووصل الأرض بالسماء. . وواءم بين وثبات الفكر المتطور المتألق، والعلم الزاحف. . . وبين منابع الدين الغامرة العامرة. . حتى صار بحق ثالث ثلاثة أحدثوا في الشرق والعالم الإسلامي، ثورة فكرية بعيدة المدى. .
. . وكان - الإمام - أحد نماذج التي تعشقتها، وكنت أستلهمها. وأستوحيها. . كان حبيباً إلى نفسي بنظراته النفاذة العميقة. وصوته الهادئ الموسيقي العذب النبرات، الفياض بالإخلاص. والمعبر القوي،. . ثم اختفى بعد حياة حافلة بالكفاح والاصطلاح. . وخنق صوته غول الفناء الرهيب. . وكادت سيرته تحتفي في قبو النسيان. . والشرق. . ومصر خاصة ما أكثر ما ينسى أبطاله، فلم نسمع عن المؤلفات التي تكتب عن المراغي وشخصيته متعددة الجوانب، ولم نر الأزهر يخلد ذكرى الإمام الذي وقف حياته على إصلاح، حتى قيض الله لهذا الإمام. . الصديق الكريم الأستاذ أنور الجندي وهو وإن كان من غير بيئة أن هيامه بالشرق، وتوفره على دراسة المسائل الإسلامية، وكتبه المتعددة في هذا المضمار، شاهد قوي على أنه ليس غريبا على جو الإمام والمراغي. .
لذلك أقدم الزميل الحبيب في إيمان حار. . وأخرج كتابه الإمام المراغي. . والكتاب وإن كان صغير الحجم كما تقضي بذلك طبيعة سلسلة (أقرأ) إلا أنه ألم بكل حياة المراغي. . فكتب عن المراغي طفلا تنطبع على نفسه انطباعات الطفولة في قريته المراغة بصعيد(1000/46)
مصر، وكتب عنه قاضيا لقضاة السودان، وصوره تصويرا بارعا، وتعمق نفسه، وقارن بينه وبين محمد عبده، وذكر وطنيته، وإصلاحه في المجتمع والأزهر، وتجديده ونزعته المتحررة، كتب عن كل هذا في أسلوب مشرق يفيض بالحماس الحار، والإخلاص لحياة الإمام المراغي. . .
وأنا لا أستطيع أن ألخص كتاب الزميل بهذه العبارات القلائل، فليس الكتاب قصة ألخصها، وإنما هو دراسة نفسية لحياة الإمام تنبسط أحيانا، ثم تنقبض أحيانا أخرى، وتمر على بعض الأدوار مرورا سريعا مكتفية باللقطات المعبرة، واللمسات الجياشة، وتمعن في التعمق واستكناه الأسرار في بعض الأدوار، ثم تمضي هذه الدراسة شيئا فشيئاكما تمضي الحياة نفسها حتى يبلغ الكتاب أجله، وتخمد الجذوة، ويسدل الستار على حياة الإمام، وهنا ينتهي الكتاب، ولكنه يترك في النفس خطوطا قوية، ودبيباً عارما، وهمساً فياضا. يدفع المرء إلى التأمل. . والكتاب الذي يدفعك إلى التفكير بعد قراءته هو كتاب قد أدى رسالته.
لذلك أهنئ الصديق أنور الجندي بهذا المجهود الطيب. . جزاه الله عن العروبة والإسلام خير الجزاء.
عبد العزيز الدسوقي(1000/47)
البريد الأدبي
عبد الحميد الزهراوي
جاء في عدد المصور 1451 (10 ذي القعدة 1371 - أول أغسطس سنة 1952) تحت عنوان شيخ الصحافة أحمد لطفي السيد يتكلم. . أن الشيخ الزهراوي عاد إلى وطنه سوريا ليكافح الفرنسيون هناك ويرد إلى بلاده حريتها واستقلالها. . فلم يرتح الفرنسيون إلى هؤلاء الوطنيين الأحرار فنصبوا لهم المشانق وأزهقوا أرواحهم، وكان الشيخ الزهراوي في مقدمة المشنوقين.
والحقيقة أن الشيخ رحمه الله كان ضمن الذين حكمت عليهم المحكمة العسكرية التي أقامها جمال باشا في عالية لبنان إبان الحرب العالمية الأولى.
ولقد أنشأ الأحرار العرب جمعيات:
الإخاء العربي، جمعية العهد، المنتدى الأدبي، الجمعية السورية العربية، والجمعية القحطانية، حزب اللا مركزية. وغيرها
وكان الزهراوي مؤسسا للمنتدى الأدبي باستنبول ومروجا لبرنامجه السري، وتوالى رئاسة حزب اللامركزية واشترك في مؤتمر باريس يوم عين في مجلس الأعيان ولم يقبل هذه العضوية إلا بموافقة حزبه، فهو في مقدمة الأحرار العرب الذين ذهبوا ضحية إهمال القنصلية الفرنسية في بيروت وهي التي وضعت السلطات التركية اليد على محفوظاتها السورية، واتضح لها منها وجود حركة منظمة لفصل البلاد العربية من الدولة العثمانية وتمكن فرنسا من الاستيلاء عليها.
وقد جاء في هذه المحفوظات ما يثبت سعي البعض في قلب سوريا إلى إمارة ممتازة تحت حماية فرنسا تدار من قبيل أمير مسلم ينتخبه الأهلون بكامل الحرية. . برقية مسيو دوفرانس في 22 مارس سنة 1913 إلى وزارة الخارجية الفرنسية.
كما تبين منها مساعي السير ألدون غورست المعتمد البريطاني في مصر من اجل قيام حركة لصالح بريطانيا وإرساله للأنصار والأتباع إلى سوريا تنفيذا للسياسة الموضحة بين الدول الاستعمارية على اقتسام أملاك الدولة العثمانية بتحطيم الخلافة الإسلامية.
وأن التقسيم سيجعل سوريا من نصيب فرنسا من حدود حيفا إلى إسكندرونة ولإنجلترا من(1000/48)
حيفا إلى حدود مصر مع جزيرة العرب والعراق.
كما تبين بشكل واضح وجود فريق يسعى جهده في لبنان لتحقيق:
1) استيلاء فرنسا على سوريا
2) ضم متصرفية بيروت إلى لبنان بعد فصلها من ولاية بيروت
3) وضع لبنان بأكمله تحت سيطرة ونفوذ فرنسا
ولا شك في أن الأحرار العرب ومن بينهم الشيخ الزهراوي لم يكونوا على علم تام باتجاهات السياسة الاستعمارية وأهدافها وهي التي استغلت غفلتهم.
ولذلك ذهبوا ضحية هذه السياسة الملتوية الجبارة التي سلمت أحرار العرب ومروجي هذه السياسة لحبال المشانق فكأنها في سبيل التخلص من رجال المبادئ باعت الأنصار والأتباع - والخونة - معهم، وتلك عبرة الأمم الناهضة ورجالها المخلصين الأبرار لكي يحترسوا من هذه الدول.
ولقد تيقظ أحرار العرب لمصيرهم من أول اجتماع لمؤتمر باريس سنة 1913 وكان لموقف هؤلاء رنة وصدى في الدوائر الاستعمارية إذ أعلنوا أنهم في كفاحهم ينشدون حرية البلاد العربية لا بيعها وتسليمها بعد الخلاص للدول الغاصبة.
والسيد الزهراوي أحد الذين غمرتهم الحركة فكان في مقدمة الأحرار الذين ذهبوا ضحية الاستعمار الأوربي والخونة. رحمه الله وغفر له.
أحمد رمزي
القائم بأعمال مصر سابقا في سوريا ولبنان
ألف ستتبعه ألوف!
يحمل هذا العدد من (الرسالة) الزاهرة رقم الألف، في لغة الأرقام. . . أما في لغة البيان فإن جهود (الرسالة) يخطئها الحصر، ولا يحدها إحصاء. . أو ترقيم. . .
وإنا لنبعث - في هذه المناسبة - بالتحية الحارة الخالصة لأستاذنا (الزيات) وأعوانه من حملة الأقلام الحرة التي سمت بالرسالة إلى تلك المنزلة الرفيعة في دنيا الصحافة، ودنيا الأدب. . أملين أن تتبع الألف ألوف. . . وألوف حتى تتبوأ مكان الصدارة في الصفوف!(1000/49)
لقد حملت (الرسالة) منذ عددها الأول مشاعل الأدب الرفيع، فجبت إلى القلوب هذا اللون من الأدب، في وقت تنافس فيه المتنافسون في تقديم ألوان رخيصة من الأدب للشباب، محاولين قتل الروح المعنوية في نفوسهم، بما يقدمونه له من أدب داعر، وصور ماجنة، وقصص يسري في فصولها السم!
حملت (الرسالة) مشعل الأدب، تقود على ضوئه كتائب الشباب نحو أهداف العزة والمجد، وتخرج في معدها الكثيرون من حملة الأقلام الحرة، التي تؤمن بما كتب، ولا تكتب إلا ما تؤمن. . . فأصبحت المنبر الذي تتلاقى فيه أقوى الأقلام. . . أقلام الإصلاح، والتقديم، والتوجيه السديد!
حملت لمحبي القصة أرفع القصص. . وحملت لمحبي خير ما يقرأ. . وحملت لمحبي العلوم كل ما يعوزهم. . كل ذلك في أسلوب رفيع. . ونهج بديع. . ما حادت عنه يوما. . وما رضيت عنه بديلا!
وبعد. . هذه تحية سريعة. . أسجلها على صفحات (الرسالة) إقراراً للحق. . واعترافا بالفضل. . لا أبغي من ورائها المديح ولا الإطراء. . لأن (الرسالة). . . وصاحب (الرسالة). . وأقلام (الرسالة) كل أولئك ليس في حاجة إلى المديح. . ولا الإطراء!
عيسى متولي
معاهد للأمهات
حبذا لو أنشئت في مصر والشرق معاهد للأمومة، تتلقى الأمهات بين جدرانها دروسا شتى في تربية أطفالهن، وينشئتهم النشأة الصالحة التي يقوم عليها تكوينهم الشخصي السليم.
يدفعني إلى هذا التفكير ما يلاحظ على كثير من الأمهات من أخطاء ملموسة في تنشئتهن أطفالهن وطبعهم بطابع يسوده التعقيد والاضطراب والجبن والفزع، والحيلولة بينهم وبين الحياة الصحيحة التي يجب أن يشبوا عليها، ويندر أن تجد الأم الحازمة التي تنشئ أطفالها على الشجاعة الأدبية والخلقية والاعتزاز بالشخصية، والثقة بالنفس والاعتماد عليها، والتي تفتح أمامهم منذ الصغر آفاقا فسيحة من الطموح والمثابرة والتنافس والإقدام.
لا تزال بعض الأمهات يقفن عقبة صامدة في سبيل النضوج الفكري والشخصي لأطفالهن(1000/50)
ويعقن التفتق الذهني لهم: محاولات أن يجعلن منهم آلات صماء تأتمر بأمرهن، وتتحرك بإرادتهن، وتنشأ على الحياة التي توافق مزاجهن. أبصرت سيدة ذات يوم تؤنب طفلها لأنه اختلس لحظات من وقته ليتصفح مجلة للأطفال بحجة أنها تشغله عن استذكار دروسه، وبهذه الحجة نفسها تحرم بعض الأمهات على أطفالهن أن يدنوا من المذياع أو يتصفحوا أي نوع من الصحف والمجلات، وأبصرت بنفسي أما تنهر طفلها في طريق عام فارضة عليه التزام الصمت وعدم الثرثرة، وكان هذا عقابا له لأنه سألها شرح بعض المعلومات العامة البسيطة التي لم يتسع ذهنه الصغير لهضم سرها، وأكثر من هذا ما تعمد إليه بغض الأمهات من تكلف القسوة الدائمة على أطفالهن باسم الأدب والتربية، ومن بث الروع في نفوسهم، وتهديدهم بالمروعات والمفزعات ليشبوا على أكبر قسط من الجبن والهلع.
لقد سمعت بنفسي إحدى الأمهات الجاهلات في طريق عام تستعين بالشرطي ليحمل طفلها على الحد من بكائه، والخضوع لأمرها بمتابعتها في سيرها، وما أكثر ما تخترع الأم الجاهلة من الأسماء الفظيعة للأشباح المجهولة تروع بها أطفالها حتى يناموا إذا لم يحل لهم النوم، وحتى يسكنوا إذا طابت لهم الحركة، وحتى يصمتوا إذا عن لهم أن ينطقوا ويتكلموا.
إن الطفل كالمعدن السائل تسهل صياغته وتكوينه، والأم الجاهلة تستطيع أن تخلق منه سفيها عييا، وجبانا مضطربا، ومخلوقا لا شخصية له، كما تستطيع الأم المتعلمة أن تخلق منه إنسانا ذا شخصية فذة يفيد نفسه ووطنه وأمته.
إن معاهد الأمومة من الأهمية بمكان، وسيكون لها أثرها الفعال في خلق جيل من الشباب النافع الذي ينهض ببلاده ويصل بها إلى ذروة المجد، فمتى يفكر المسؤولون في إنشائها؟، نأمل أن يكون قريبا، والله الموفق.
رمل الإسكندرية نفسية الشيخ(1000/51)
القصص
ذيول الحادث
عن الإنجليزية
بينما كان رئيس الشرطة غارقا في أفكاره، مستسلما لتأملاته يتبع بنظره تموجات الدخان الصاعدة من لفافة تبغ كان يدخنها، دخل عليه زائر بادي الاضطراب، شاحب اللون، غائر العينين يخيل لمن رآه أنه يشكو أرقا طويلا، وكان يمشي متثاقلا كأنه ينوء بحمل سر خطير. . فتهالك على مقعد أمام الرئيس، وابتدأ الحديث من غير تحية ولا سلام:
- إذا لم يخطئ ظني، فإن رجالك يتحرون دار المستر (جين أرنوت) ليقفوا على آثار الجاني، بعد أن عثروا على قتيلين: أحدهما رجل ملقى على الأرض، والثاني زوج صاحب الدار ملقاة فوق مقعد. . .
فقاطعه الرئيس قائلا:
- أصبت. . ويبدو لي أنك تعلم عن الحادث الشيء الكثير
- نعم. نعم أرجو أن تدعني أنتهج الخطة التي أريد في سوق الخبر إليك، لأني صحبت أرنوت سنوات كان لي فيها خير رفيق. . فقد حدثت هذه الجريمة المزدوجة ليلة البارحة، وكانت نتيجة حتمية لعذاب نفساني برح بأرنوت منذ شهور. .
ولكنه لم يكن قد تذوق منتهى العذاب إلا بعد وقوع الجريمة. . فاجتاحته عاصفة من الآلام النفسية، ليس في وسعه أن يتحملها. . فهل تعلم - أيها الرئيس - عنها شيئا؟
فهز الرئيس رأسه نفيا وهو يحدق في الزائر العجيب الذي استمر يقول:
- إن أرنوت رجل ذو ثراء واسع ومصالح عديدة متنوعة تتطلب - غالبا - غيابه عن المدينة عدة أيام لتدبير شؤونها وللوقوف على سير أمورها. أما داره فإنه لم يدخر وسعا في تأثيثها على أحسن ما يكون، لتكون صالحة من كل الوجوه لسكن زوجة. . . تلك الفتاة الجميلة الساحرة التي خلبت لبه عند أول نظرة. . . فقال الرئيس مقاطعا:
- ولم تقص علي كل هذه الأمور؟ أما الزائر فاسترسل في حديثه في شيء من الدهشة. .
- تمهل قليلا أيها الرئيس فستعلم كل شيء. . . فقد كانت زوج أرنوت امرأة فتانة الجمال، وهي المرأة الوحيدة التي أسرت أرنوت بسهام لحظها، فجن بها من أول نظرة وصار لا(1000/52)
يعرف للعيش طعما إلا بقربها. . وبعد لأي وفق في الاقتران بها. . فهو لا يضن عليها بحاجة مهما غلت، ولا يقصر في أمرها مهما عز إن كان فيهما ما يبعث السرور إلى تلك الحبيبة الساحرة. . . ولكن نيران الغيرة التهبت في صدره فجأة، فقد كان يغار عليها من كل عين ترنو إليها غير عينينه، ومن كل رجل يبادلها الحديث سواه. . ولم يكن ذلك لأنه لا يأمن جانبها، أو لأنه يشك في عفتها وطهارتها، بل لأنه كان يحبها حبا يقرب من العبادة ويعتقد أن أقرانه من أصحاب الجاه يحسدونه لأنه يملك هذه الدرة الغالية المتلألئة في داره.
إن أرنوت أيها الرئيس رجل من طراز خاص، فإنه بالرغم من هذه العاطفة الجامحة التي تعتلج في صدره لم يبد على وجهه أثر لهذا الشعور المضني. . بل كثيرا ما كان يبدو هادئاً رابط الجأش محتفظا بسكونه وفي باطنه عراك عنيف بين عقله وغيرته. . وهو في هذه الحال يتصور أن أحلى أمنياته أن يلبي أي طلب تسأله إياه. . .
فأوقفه الرئيس عن الحديث بإيماء من يده وقال: أراك ملما بحياته الخاصة إلى حد بعيد
فأجاب الزائر: كنت صديقا مخلصا له ومطلعا على جل أموره فأحنى الرئيس رأسه موافقا واستمر الزائر يقول:
- كانت لأرنوت صديق يدعى (بول ليس) ألزم له من ظله، مجتمعا مدرسة واحدة من زمن الطفولة وبقيا صديقين وفيين حتى ساعة الجريمة. . وكان (ليس) أعزب وقد تم تعارفه بزوج صديقه بعد اقترانه مباشرة، ولم يكن أحد ليدري ما يخبئه القدر وراء تعارفهما. . أخذ (ليس) يرعى زوجة صديقة ويصحبها إلى أماكن اللهو والتسلية في غياب ذلك الصديق أرنوت الذي كان كثيرا ما كانت تستدعي أعماله هذا الغياب. . ولما نمى إليه هذا الأمر، تصنع الرضا أمامها، ولكنه في الحقيقة بدأ يرتاب في صديقه (ليس) تحت وطأة تلك الغيرة الملتهبة في صدره، وكان وجهه الهادئ الرزين، وابتسامته الرقيقة، يخفيان تحتها هذا الشك القاتل. . تذكر أيها الرئيس أن أرنوت رجل كسائر الرجال يعرف الكثيرين ممن غدروا بأصدقائهم وخانوا شرفهم. . . وقد يعترض أحد الناس قائلا: أن أرنوت كان مخطئا في ارتيابه ما دام واثقا من صديقه، ومؤمنا بطهارة زوجه وعفتها. . . ولكن أيها الرئيس نحن - أنا وأنت - نعلم أن الغيرة عامل نفساني يثور لأقل وهم وأدنى شك وبقى أرنوت يحترق بين اللهيبين يحس بنار الجحيم تضطرم بين ضلوعه(1000/53)
لم يظهر أرنوت أي أثر لهذا الشك بل تمالك شعوره التام حيالهما، وأخذ يعاملهما كما عاملهما من قبل، ولكنه كان ينتظر وينتظر. . . ويفتح أذنيه لكل كلمة تدور بينهما عسى أن يجد بها رأي قاطع، وأخذ يراقب كل إيماءه أو حركة ويؤول كل لفظة بما يلائم شكه. فقاطعه الرئيس قائلا.
- ولم لم تحاول تخفيف هذه الحال عن صديقك؟
فأجاب الزائر:
- إن أرنوت لم يكن يزحزحه أي رأي أو نصيحة عن شكه، أنه آمن بهذا الشك إيمانا مطلقا. .
وفي يوم آب أرنوت إلى داره بعد سفرة شاقة فحادثته زوجة عن (ليس) ورعايته لها، حتى تولاه غضب عظيم فصرخ:
- أراك تبذلين له من العناية أكثر مما يستحق. . . بل أكثر مني. .
وولكن أجابته بابتسامة هادئة ثم قالت:
- إنك تهينني يا أرنوت. .
فقد كانت أيها الرئيس معتزة بكرامتها. . . ومن ذلك الحين أخذ أرنوت يتحين الفرص ليفاجئهما في خيانته كما يعتقد. ولما طال به الزمن أخذ يعد العدة لفخ يوقعهما به متلبسين بالخيانة. . فأعلن أرنوت لزوجه أن أمراً استدعى سفره إلى خارج المدينة. . وصحبها عند المساء إلى غرفة النوم وأشعل لفافة من التبغ وجلسا يتحادثان فقال أرنوت:
- هل يزورك (ليس) هذا المساء؟ وانتظر جوابها وهو يحدق في دخان اللفافة المتموج تجنبا لأي أثر قد يبدو في عينيه
فأجابته:
- لا أعلم. . فإنه يزورنا من غير موعد
ونهض بعدها أونوت وودع زوده وهي في حلة المساء أشبه بالزهرة الندية الفواحة وذهب إلى غرفته يجمع بعض أوراقه وغادر عن الدار. . إلى سفرته المزعومة. . وما ابتعد قليلا حتى اختبأ في منعطف إحدى الطرق يترقب. . فبان له شبح من بعيد دنا من باب الدار وولج إلى الداخل. . ذلك الشبح أيها الرئيس هو (ليس) بعينيه أما أرنوت فأخذ يهدئ من(1000/54)
روعه ويتغلب على شعوره حتى عاوده الهدوء. . . ومكث في مخبئه مدة يتأهب فيها للمفاجأة المنتظرة. ثم قفز إلى الشارع ومضى إلى داره. وكان صديقه وزوجه جالسين في المقصف يتسامران بحشمة ووقار حين اندفع إليهما أرنوت ووقف يحدق فيهما. فصرخت الزوجة: أرنوت! بعد أن غلبتها الدهشة لهذه العودة المفاجئة. . . أما (ليس) فقال:
- أهلا بك يا أرنوت ماذا عاد بك من السفر؟ فكتم أرنوت غضبه وأجاب:
- لم أدرك القطار. . وهنا صاح الرئيس بالزائر. .
- صه! لا بد أنك قابلت أرنوت بعد الجريمة
- نعم
- وهل تعلم مقره الآن؟
- نعم. هذا ما كان يحز في نفسي ليلة البارحة حتى أرقني فقد كنت أعمل الرأي من أجله. . وللسبب نفسه تجدني أحادثك بشأنه.
- وأين يقيم الآن؟
- إنه لا يستطيع الفرار فأنتظر. . اعتذر أرنوت لهما وغادر الغرفة، وهما في ذهول عظيم إلى غرفة النوم عله يجد دليلا يؤيد ظنونه. وأخيرا وجد ما يبتغي. . وجد رمادا متخلفا عن لفافة تبغ على المنضدة. . وجد الأثر الذي ينم على وجود (ليس) هذه الغرفة مع زوجه. . . واندفع إليهما راكضا شاهرا مسدسه هرول إليهما ليطفئ تلك النيران المتأججة في صدره. . . دخل إليهما بهذه الحال ففاجأه (ليس) واقفا يقول:
إني ذاهب الآن على موعد لا أستطيع التخلف عنه ولكن أرنوت صاح به:
- انتظر! لي كلمة معك. . ثم رفع ذراعيه إلى أعلى وتوقدت عيناه شرراً كأن به جنه وانهال عليهما شتما وسبا، فأنقلب وحشا ظامئاً لشرب الدماء بعد أن غمرته موجة من الظلام الدامس ليس فيها إلا نيران الحقد والغيرة وهما ينظران إليه مشدوهين حتى صاح (ليس):
أرنوت! أرنوت! كفى، هل جننت؟ رباه! إني لا أسمح لك أن ترمي زوجك بالخيانة وهي منها براء. .
ولكن أرنوت انتفض فجأة، وصوب مسدسه نحوه. . . ودوى طلق ناري ترنح (ليس) على(1000/55)
أثره وسقط جثة هامدة. . . ثم دوى صوت أرنوت كالرعد القاصف قائلا:
- انظري إلى عشيقك. ها هو ذا جثة لا حراك بها، أنظريه فأجابته بصوت ضعيف مرتجف:
إنه يعتقد ذلك! ثم شحب لونها واهتزت كأنها ريشة في مهب الرياح وصرخت بفزع:
- أتمم يا أرنوت عملك! أكمل يا أرنوت صنيعك!
فارتجف أرنوت يحزه ألم للثأر لشرفه المثلوم، ووجه المسدس إلى زوجته وأطلق النار. . ترنحت المسكينة قليلا ثم سعلت وانفجر الدم بغزارة من فمها وسقطت على الأرض هاتفة: أرنوت! أرنوت! ولفظت أنفاسها.
نظر إليهما أرنوت بعد أن عاود هدوءه وأشبع رغبة نفسه في الانتقام وأطفأ نيران الغيرة، فعاد ذلك الرجل الهادئ الرزين. . فتحركت بقية من حبه في سويداء قلبه فأندفع إلى الزوجة وهي ملقاة على الأرض وانتشلها بين يديه ووضعها على مقعد بقربه وشبك ذراعيها فوق صدرها. . ولكنه لم يجروء على إلقاء النظرة الأخيرة عليها فأطفأ النور. ثم. . ثم غادر الغرفة ينوي الرحيل من المدينة حالا. ولما مر بغرفة النوم لاحظ أنها لا تزال مضيئه فعول على إطفاء نورها. . أندفع إلى تلك الغرفة وهو محتفظ بشعوره متمالك نفسه، وسرعان ما وقع بصره على شيء أعمته غيرته الجامحة عن رؤيته قبل الجريمة فقذف بنفسه عليه. . . أنه عقب لفافة تبغ تحت تلك المنضدة. . فانتشله ونظر إلى علامته، فاضطرب واهتزت أوصاله وزفر زفرة كادت تقضي عليه. . إنها العلامة الموجودة على لفافات التبغ التي اعتاد تدخينها والتي يحفظ علبتها بدرج خاص مقفل، مفتاحه لا يفارق جيبه أبداً. . . ولكن ما مضى فات وذهبت نفسان بريئتان من غير ذنب. فقد تجلت الحقيقة له، فإن ذلك الدليل كان عقب لفافته التي تركها قبل سفرته المزعومة. .
في تلك اللحظة الرهيبة استمرت بين جوانبه نيران الإثم وحز قلبه الألم الممض. . .
وهنا أحس الزائر بأنه يكاد يختنق فعالج الكلام في صوت كأنه الحشرجة وقال:
- نعم أيها الرئيس، تلك اللفافة كانت لي فقفز الرئيس واقفا على قدميه وراء مكتبه وصرخ:
- لك!(1000/56)
- نعم - ليساعدني الله - أنا جين أرنوت!
س. ع(1000/57)
العدد 1001 - بتاريخ: 08 - 09 - 1952(/)
صيحة في وجه وزارة المعارف
صححوا أكاذيب التاريخ
للأستاذ سيد قطب
إن تلاميذنا وطلابنا لا يعرفون شيئا حقيقيا عن الأحداث الجارية في وطنهم اليوم، بسبب أنهم لا يعرفون شيئا حقيقيا عن الأحداث الجارية في وطنهم اليوم، بسبب انهم لا يعرفون شيئا حقيقيا عن تاريخ بلادهم، ولا عن الأسباب والملابسات البعيدة، التي عنها نشأت الأحداث الجديدة.
لقد تآمر جماعة من المرتزقة - من مؤلفي كتب التاريخ المدرسية، مع العهود الظالمة الباغية التي أظلت مصر منذ عهد محمد علي، على كتابة تاريخ مزور، يطمس الحقائق ويشوها، وبذلك بقيت طبيعة الفترة ما بين سنتي 1800 - 1950مجهولة لدى جميع الأجيال التي خرجتها المدارس المصرية في ذلك العهد الطويل. والقليلون الذين اطلعوا على مراجع أجنبية لم تمتد إليها يد التزوير المصرية، لم يكونوا يملكون إذاعة الحقائق، لأن سيف الطغيان كان مصلتاً على الرقاب!
لقد كان الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي هو أجرأ من كتبوا عن تاريخ هذه الفترة. ولكن هنالك حقيقتين يجب أن نعرفها:
الحقيقة الأولى: أن الأستاذ الرافعي لم يكن يملك أن يقول كل شيء عن الحكام من أسرة محمد علي؛ لأن هنالك أشياء كان يعاقب عليها القانون لو قيلت. في أي تعبير وعلى أي شكل. ولم يكن يسمح بطبعها ونشرها في أي عهد من العهود.
وأذكر على سبيل المثال أن المؤرخ أحمد شفيق (باشا) كانت له مذكرات من أواخر عهد إسماعيل إلى آخر عهد عباس الثاني. وكنت أشتغل معه في إعداد هذه المذكرات للنشر. وكانت تحتوي على شناعات ليست المخازي الأخيرة لفاروق إلا طرفا منها وامتدادا لها. ففي هذه الأسرة لوثة وشذوذ لا شك فيهما لمن يتتبع تاريخ أفرادها. وكنت أحاول أن أنشر شيئا من الحوادث الكثيرة الواردة بتلك المذكرات الخطية. ولكن القوانين التي سنها الملوثون لحماية أنفسهم وعروشهم كانت تحول بيني وبين هذا. لأن الرجل كان قد ائتمنني على مذكراته، ولم يكن من الأمانة أن أعرضه وهو شيخ كبير للاتهام والمحاكمة! ومرة(1001/1)
واحدة حاولت أن أنشر في الجزء الخاص بعباس الثاني، بعض ما حوته المذكرات من وقائع، مما تسمح القوانين القائمة بنشره. ولكن عندما تم طبع هذا الجزء في مطبعة بنك مصر، وقبل توزيعه، اتصل الأمير محمد علي - وكان بعضهم قد أبلغه - بالمشرفين على المطبعة، كما اتصل بالسراي، وبالنائب العام، لوقف صدور هذا الجزء إلا بعد تعديله. وأجبر الرجل المؤرخ على تغيير صفحات كثيرة، واستغرق ذلك مني جهدا جديدا. وبذلك اختفت نهائيا تلك الحقائق والوقائع التي لا يعرفها إلا القليلون.
ولقد رجوت الرجل في أن يودع لدي الأصول الخطية لمذكراته، فقد يجيء اليوم الذي يمكن نشرها فيه، ووعدني بهذا، ثم بدا له خاطر أن يودعها في صناديق مقفلة تحفظ في دار الكتب المصرية إذ ذاك. . ولكن المنية عاجلته قيل أن يفعل. وعلمت مع الأسف أن معظم هذه المخطوطات قد أعدمه أولاه. وأرجو ألا يكون ما بلغني صحيحا.
ولقد كان في وسعي أن أنقل لنفسي بعض هذه المخطوطات. ولكن وقف في وجهي أنني كنت أمينا عليها، وأن الرجل كان واثقا بأمانتي!
والحقيقة الثانية أن الكتب المدرسية التي لا يقرأ معظم المتعلمين غيرها في تاريخ تلك الفترة، هي التي طبعت غالبية العقليات. وهي كتب مزورة كما قلت. ومع هذا فهي لا تزال مقررة في المدارس. وهذه مسالة خطيرة جدا.
لقد تركنا أجيالا من التلاميذ والطلاب في خلال مائة وخمسين عاما مضللة، لا تعرف شيئا حقيقيا عن أخطر مرحلة في تاريخ مصر الحديث، بل في تاريخ الشرق كله.
تركنا هذه الأجيال كلها تفهم أن محمد علي أوجد مصر الحديثة من العدم. ولم يكن هذا صحيحا؛ فمصر كانت قبل محمد علي أقوى بكثير في جوانب شتى. ويكفي أن نعرف أن الفرنسيين عندما استولوا على مصر خاضوا مع الشعب معارك كثيرة وفي كل مكان قبل أن تخضع مصر لهم؛ وظلت الثورات الشعبية تهددهم طوال مدة إقامتهم. وكان ذلك قبل استيلاء هذه الأسرة الملوثة الشاذة على مقاليد الحكم في البلاد. بينما الإنجليز وجدوا الطريق أمامهم مفتوحة بعد نصف قرن فقط، ولم يجدوا مقاومة شعبية تذكر؛ لأن طغيان هذه الأسرة كان قد حطم كبرياء الشعب وروحه المعنوية في أوائل عهد توفيق!
تركنا هذه الأجيال كلها تفهم أن تحطيم محمد علي للحركة الوهابية في الجزيرة العربية كان(1001/2)
عملا عظيما. وهو في حقيقته كان جناية تاريخية على النهضة الإسلامية التي كان يمكن أن تبكر مائة عام عن موعدها، لو تركت هذه الحركة تمضي في طريقها، وتبلغ أهدافها في ذلك الحين.
تركنا هذه الأجيال كلها تفهم أن ثورة المهدي في السودان كانت عملا عدائيا بالنسبة لمصر، وأن مصر ردت هذا العمل العدائي وحطمت المهدي وثورته. والحقيقة أن ثورة المهدي في السودان كانت ضد الحكم الإنجليزي في مصر وضد الحكام الخاضعين للاحتلال. وكان هدفها تطهير الوادي من الاحتلال الأجنبي وسيطرة الفكرة الإسلامية على الوادي كله. وكان القضاء عليها هو الخيانة الوطنية التي ارتكبتها حكومة مصر تحت ضغط الاحتلال؛ ثم ظلت هذه ثغرة بين شطري الوادي؛ كما أراد لها الاستعمار أن تكون!
تركنا هذا الأجيال تفهم أن إسماعيل كان حاكما عظيما وأنه أحد بناة الدولة العظام؛ وسترنا فصائحه التي لا تقاس إليها فضائح فاروق نفسه؛ وسترنا الكوارث التي جرها على الوطن والشعب؛ وتركنا الآلام التي جرعها لشعب مصر في حياته وبعد مماته، وسميناه ساكن الجنان! وسميناه المغفور له! والله يعلم أين مثواه ومثوى آبائه الأولين!
ولقد آن أن نصحح التاريخ الذي زوره المزورون على هذه الأجيال الكثيرة. آن أن نعرف من هو محمد علي على حقيقته. وما هو الشذوذ الكامن في شخصيته، والذي ورثه أبناءه من بعده. وهو شذوذ واضح كتب عنه الكثيرون، ولكنه كان محظورا على الشباب أن يعرفوه!
آن أن نعرف من هو إسماعيل على حقيقته ما هو الشذوذ الكامن في شخصيته، والذي ورثه أبناءه من بعده، وهو شذوذ واضح، كتب عنه الكثيرون، ولكنه كان محظوراً على الشباب أن يعرفوه!
نعم آن لنا أن نصحح كتابة التاريخ الذي تدرسه الأجيال المقبلة، وكفانا تزويرا وتضليلا، فعلى أساس هذا التزوير والتضليل قامت تلك القداسة المصطنعة لمحمد علي وأسرته. هذه الأسرة التي لم تبتل مصر بشر منها ومن حكمها في خلال مائة وثلاثين عاما.
نعم آن أن تتحرر الأجيال المقبلة من خرافة (الأسرة المحمدية العلوية) التي أوجدت مصر من العدم. ولم يبق إلا أن يقال: إنها هي التي حفرت مجرى النيل، وردمت الدلتا بالطمى،(1001/3)
وخلقت وادي النيل!
سيد قطب(1001/4)
صوت من الماضي
أنا الملك الفتى. .!
للأستاذ محمد محمود زيتون
لبس سليمان بن عبد الملك يوما حلة وعمامة، ونظر في المراة، فأعجبته نفسه، ونفخ الشيطان في منخريه، فقال:
أنا الملك الفتى
وكان إلى جواره، إحدى جواريه، فأنطلق لسانها يقول:
أنت نعم المتاع، لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس، غير أنك فان
ولم ينقض أسبوع حتى مات الخليفة الشاب الذي لم يعرف التاريخ أشد منه حبا للطعام والشراب والنساء، في حقبة لم تتجاوز ثلاث سنوات، احتفلت بالترف والبذخ، وطفحت بالزيغ والفساد، والتحزب والتعصب، والنكال بالأخيار، ومداراة الأشرار.
قيل إن أباه - عبد الملك بن مروان - جاءه نبأ مصير الخلافة إليه. وهو جالس يقرأ في المصحف، فأطبقه وقال: (هذا آخر العهد بك). فما لبث هذا التقى أن استهوته الدنيا بزخرفها، فتغير حاله، وأطلق العنان لفرعون بين أميه - الحجاج ين يوسف الثقفي - الذي ولغ في الدماء والأشلاء. وحسب التاريخ مؤاخذة لعبد الملك أن كان الحجاج سيئه من سيئاته.
ورث سليمان عن أبيه دولة وصولة، وجمع مثله بين النقيضين، فإنه غمط فضل العاملين، ولم يستشعر جهود القادة الفاتحين الذين وطدوا له دعائم الخلافة، ومكنوا له في الملك العريض، فقلب لهم ظهر المجن، ولا سيما من كان فيهم قريبا للحجاج أو مقربا من، وذلك لما كان بينهما من عداوة قديمة. فقد كان الحجاج يهمل أوامره ويتكبر عليه أيام كان سليمان ولي عهد أخيه الوليد، ومن هنا امتد بغضه للحجاج حتى عصف بأشهر القادة.
واتبع سليمان خطة الإيقاع بين الولاة والأمراء، فدبت عقارب الفتنة بينهم، وتسللت أفاعي الفساد إلى الحكومة، ويئست الأمة من الإصلاح، وقبع كل صالح في عقر داره يلتمس النجاة.(1001/5)
ولم يدخر وزيره الصالح وابن عمه عمر بن عبد العزيز وسعا في بذل النصيحة له، ولكن جذور الشر كانت قد بلغت الأعماق في كل مرافق الدولة. ولم يكن عجبا - آخر الأمر - أن تنهار دولة الأمويين بعد اثنين وثمانين عاما، حملت خلالها جراثيم الانحلال والتدهور، فقد سئل حكيم: ما سبب زوال ملك بني أمية مع كثرة العدد والعدد، والأموال والموالي؟ فأجاب، وأحسن الجواب: لأنهم أبعدوا أصدقائهم ثقة بهم، وقربوا أعدائهم جهلا منهم، فصار الصديق بالإبعاد عدوا، ولم يصر العدو بالتقريب صديقا.
وفي ذات يوم دخل الملك الفتى. مدينة رسول الله فسأل: هل بالمدينة أحد من أصحاب رسول الله؟ فقيل له: أبو حازم، فأرسل في طلبه، فلما دخل عليه سأله: يا أباحازم، ما لنا نكره الموت؟ فأجابه: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من عمران إلى خراب. . . وأغضى الملك الفتى، ثم أخذ يستزيد أبا حازم: وكيف القدوم على الله؟ فقال: أما المحسن فكغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكآبق يقدم على مولاه
وبكى أبو أيوب، ثم قال: يا ليت شعري، ما لنا عند الله؟. . فقال له أبو حازم:
أعرض عملك على كتاب الله. فسأله: في أي مكان أجده؟ قال: في قوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم). فقال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: قريب من المحسنين. فقال: فأي عباد الله أكرم؟ فأجاب: أولو المروءة
وكان وزيره الأمين شديد الحرص على قول الحق، تأخذه في فيه لومة لائم. اصطحبه يوما في الحج، فراع الخليفة عدد الرمل والحصى من رعاياه، فتلفت إلى وزيره وقال: ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره؟ قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء رعيتك اليوم، وهم خصماؤك غدا عند الله. فبكى سليمان اشد البكاء. وقال: بالله أستعين.
وفي الواقع أن لحظات الندم التي كانت تطرق ضمير الملك الفتى، لم تكن غير فواصل عنكبوتية بين طغيان موصول، واستبداد متأصل، فقد أسرف يوما على الدنيا، فأعجبه ما صار إليه من الملك الذي نسجته دماء الشهداء، ودموع الفقراء، فنسى هذا كله أو تناساه، وتلفت إلى الوزير المؤمن وقال له: يا عمر، كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، وملك لولا أنه هلك، وفرح لو(1001/6)
لم يعقبه ترح، ولذات لو لم تقترن بآفات، وكرامة لو صحبتها سلامة.
وبكى سليمان ما شاء ولم يكد يضيق مما في حتى دخل عليه أعرابي يقول: يا أمير المؤمنين، إني أكلمك بكلام فاحتمله، فإن وراءه إن قلبته ما تحب. فقال: هاته يا أعرابي. فقال الأعرابي:
إني أطلق لساني بما خرست عنه الألسن، تأدية لحق الله، أنه قد اكتنفك رجال فد أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنيا لك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، وسلم للدنين، فلا تأمنهم على ما استخلفك الله عليه، فإنهم لن ينالوا بالأمانة، وأنت مسؤول عما اجترموا، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله عيبا من باع آخرته بدنيا غيره.
عندئذ صعر الملك الفتى خده للأعرابي الذي قدم ينصحه بتطهير حاشية السوء، وبطانة الفساد، واستكثر أن يكون ذلك التوجيه منبعثا من أعرابي، فقال: أنت، ما أنت بأعرابي، فقد سللت لسانك علينا كما تسل سيفك. فأجابه في جرأة: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عليك.
ويشاء مالك الملك أن تنقشع هذه الغمة الغليظة التي جثمت على صدر الخلافة، فأحس الملك الفتى بقرب منيته، وآن له أن يستخلف بعد أن عهد إلى ابنه أيوب بالخلافة لولا أنه مات في حياة أبيه، ولم يبق لسليمان إلا صبية صغار، أمر بأن يعرضوا ما عليه في أردية الخلافة، فإذا بهم لصغر أسنانهم لا يحتملون ما لبسوا، وأخذوا يسحبونها سحبا، ويتعثرون فيها، فنظر إليهم وهو يقول في حسرة:
إن بني صبية صغار ... قد أفلح من كان له كبار
فقال عمر: يا أمير المؤمنين، يقول الله تعالى (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى). فلم يلتفت إليه الملك المريض وأمر بأن يعرض عليه أولاده مرة أخرى عليهم السيوف ذات الحمائل، فعرضوا. فإذا بهم يتكفأون بها، ويجرونها، ولا يطيقون حملها، والسير بها، فنظر إليهم، والدمع يغالبه، وهو يقول:
إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون
وأعاد عليه عمر ما قال آنفا، فأغمض جفنيه قليلا، وكأنه أقتنع بأن الخلافة زائلة عنه وعن(1001/7)
اعقابه، فأشير عليه بان يعقد لأبن عمه ووزيره عمر بن عبد العزيز، فأدار الأمر في رأسه حتى لم يعد مناص من القبول.
وأشتد به الوجع فكتب له العهد بخطه، ولم يطلع عليه أحدا غير رجاء بن حيوة الذي بالغ في التكتم حتى أنه لم يذكر من ذلك لأحد شيئا إلا بعد موت الملك الفتى، ففي آخر صحوة له قال: لأعقدن عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب
وحضره إذ ذاك عمر، ففهم بفطنته أن الخلافة قد أتته تجر أثقالها، فأوجس خيفة، وأفضى بذلك إلى رجاء، فتظاهر رجاء بالإنكار قائلا على سبيل التمويه: أتظن بني عبد الملك يدخلون في أمورهم؟!
فاطمأن عمر أو هكذا حاول أن يطمئن، فلما أعلن النبأ وبويع بالخلافة، طلب إلى أحد خلصائه أن يعظه فقال:
يا أمير المؤمنين، أبونا آدم، أخرج من الجنة بخطيئة واحدة
محمد محمود زيتون(1001/8)
سيادة الشعب
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
أقسمنا على أن نحرر أمتنا من الطغيان ومن المذلة والعار -
أو نموت دون ذلك
محمد نجيب
أفاق الناس كأنما كانوا في حلم مروع، وأنزاح عنهم كابوس ثقيل جثم على صدورهم ليلة كان طولها ستة عشر عاما!! سبحانك ربي تعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير وأنت على كل شيء قدير.
بلغ السيل الزبى وجاوز الطغيان مداه وبلغت القلوب الحناجر وراح الناي يتساءلون: أما لهذا الليل من آخر؟؟
وحار الناس في امرهم، وأشفقوا على مصير وطنهم: فحيثما نظروا وجدوا ظلما صارخا وفسادا قائما وفوضى لا أول لها ينظر ولا آخر لها ينتظر. أخلاق تنهار ونجتمع يضمحل وحكم فاسد وفساد يستشري. قتل للأبرياء الأحرار وسجن وتشريد ونفي وتعذيب. . . رشوة ومحسوبية، سرقة ونهب، ظلم وغدر: تلك هي قواعد الحكم.
وأشهد أني قرأت الكثير من كتب التاريخ ولكن ما شاهدته مصر لم تقرأ عيني له نظيرا!!
ويئس كثيرون ولكني كنت دائما أقول (إذا غفلت عين لإنسان فلن تتخلى عنا عناية الرحمن)
وأخيرا جاء اليوم المرتقب وأشرق العهد الجديد السعيد بمشيئة الله. وكان ذلك يوم 23 يوليو 1952.
أستيقظ الناس من نومهم واستمعوا إلى المذياع. أنه يتلو نداء جديدا. الله أكبر، هذا يوم كان الشعب ينتظره بفارغ الصبر.
لقد كان الجيش ينادي بزوال عهد الفساد والطغيان وبقيام الحكم الصالح في ظل الدستور.
وأشفق المصريون جميعا على رجال الجيش البواسل وانطلقوا يدعون الله أن يكلأهم بعنايته وأن يوفقهم في حركتهم.(1001/9)
وأشهد أن الناس قد أخذوا جميعا بحركة الجيش. لقد كان الملك السابق يعتمد على الجيش في إذلال الشعب وكان الشعب على أتم استعداد لمقاومة الطغيان لو ضمن حياة الجيش.
ونسى الطاغية أن الجيش من الشعب وللشعب وأن الولاء إذا قام حينا على أمل الإصلاح فلن يقوم دواما على الفساد.
وامتدت حركة الفساد إلى الجيش ونكل بالأحرار من رجاله وقتل بعضهم جهارا في شوارع العاصمة.
وكان ما لا بد أن يكون، قام الجيش في 23 يوليو يضع حدا للظلم، وللطغيان، والفساد.
وكانت الحوادث أسرع مما تصروا الناس. وجاء يوم 26 يوليو 1952 وجلست أستمع إلى المذياع وإذا به يذيع (انتظروا بيانا هاما في الساعة السادسة) وكرر المذيع ذلك النداء مرارا، وأشهد أن هذا التكرار قد أشاع القلق في نفسي ورحت أتساءل: ترى ماذا يكون هذا النبأ؟ وأخذت أحسب الثواني والدقائق حتى إذا كانت الساعة السادسة انطلق المذيع يتلو بيان اللواء أركان حرب محمد نجيب:
بني وطني
إتماما للعمل الذي قام به جيشكم الباسل في سبيل قضيتكم قمت في الساعة التاسعة من صباح اليوم بمقابلة حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء وسلمته عريضة موجهة إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول تحمل مطلبين على لسان الشعب: الأول أن يتنازل جلالته عن العرش لسمو ولي عهده قبل ظهر اليوم. والثاني أن يغادر جلالته البلاد قبل الساعة السادسة مساء.
قد تفضل جلالته فوافق على المطلبين وتم التنفيذ في المواعيد المحددة دون حدوث ما يعكر الصفو. .
استمعت إلى البيان وكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي ولم تصدق أذناي ما سمعت فانطلقت إلى الشارع أشارك الشعب سروره وابتهاجه ورحت أطوف بالشوارع والطرقات فوجدت الناس من فرط السرور لا يعرفون كيف يستقرون على حال.
لقد كان زوال الظلم والطاغية حلما ولكنه أصبح الآن حقيقة واقعة، وهكذا أدركت مصر عناية الرحمن وعاد لشعبها سلطانه وسيادته.(1001/10)
الثورة المجيدة
كنت أقرأ في كتب التاريخ قصصا خالدة كتبتها جيوش بعض الأمم حين وقفت تدافع عن حرياتها الداخلية وكنت أتساءل دائما: لم لا يقف جيشنا يدافع عن حريتنا الداخلية كما يدافع عن أرضنا ضد العدو الأجنبي وكما فعلت جيوش تلك الأمم؟؟ وجاء الرد يوم 23 يوليو المبارك.
وإني هنا أصف للقراء تلك المواقف. في 1688 كان يحكم إنجلترا الملك جيمس الثاني وكان كاثوليكيا متعصبا يؤمن بالحق الملكي المقدس ميالا إلى التسامح مع الكاثوليك ولذلك كرهه الشعب والبرلمان. وكان الشعب يمني نفسه بأنه عند انقضاء أجل جيمس الثاني ستعتلي العرش ابنته ماري وكانت بروتستانتية ولكن في 1688 ولد لجيمس ولد من زوجته الكاثوليكية وبذلك صار وارثا للعرش. فلم يطق الشعب صبرا وقار ضد جيمس وأستدعى ماري وزوجها وليم أورنج من هولندا للحضور إلى إنجلترا لتوالي العرش فقدما.
أرسل جيمس جيشا ليحول بينهما وبين النزول في أرض إنجلترا ولكن الجيش رفض أن يحارب الشعب وانظم إلى صفوفه في الترحيب بماري ووليم وأسقط في يد جيمس واضطر أن يغادر إنجلترا إلى فرنسا. وتعرف هذه الثورة بثورة 1688 المجيدة.
بعد فرار جيمس اجتمع البرلمان وقرر أن عرش إنجلترا خال ودعا ماري ووليم لاعتلائه، وكان هذا معناه أن الملك مولى من قبل الشعب وبذلك سقطت نظرية التفويض الإلهي واستقر الحكم الدستوري الملكي في إنجلترا.
وفي فرنسا قامت ثورة 1830 ضد ملك طاغية هو شارل العاشر. كان هذا الملك رجعيا ظالما لا يؤمن بحرية الشعب ومن ثم عمد إلى مقاومة الحياة النيابية وتعسف ضد أعضاء البرلمان ولكنهم قاوموه. فحل المجلس أكثر من مرة وعدل قوانين الانتخابات وقيد حرية الصحافة وضاق الشعب ذرعا به فقام بالثورة ضده في 26 يوليو 1830
وأمر الملك الجيش بمحاربة الثوار، ولكن الجنود رفضوا مقاتلة أبناء وطنهم الذين قاموا يدافعون عن حرياتهم وانظموا إليهم.
وأسقط في يد الملك وسقط عن عرشه وغادر أرض فرنسا إلى غير رجعه.
وتولى العرش بعده لويس فيليب وكان مفروضا أن تستقر الديمقراطية في عهده ولكن هذا(1001/11)
الملك فشل في تحقيق الديمقراطية في داخل فرنسا فزيف الانتخابات واشترى ذمم النواب ووقف ضد رغبات الشعب فكرهه الشعب.
وزادت كراهية الشعب له بسبب ضعف سياسته الخارجية، ذلك أن فرنسا كانت تحب أن ترفع رأسها في أوربا وأن تكون لها الكلمة العليا في شؤون القارة كما كان الحال في عهد نابليون.
ولكن لويس فيليب كان ضعيفا متخاذلا ومن ثم عمل دائما على الخضوع لرغبات إنجلترا وكانت إذ ذاك أكبر أعداء فرنسا.
من ذلك أن فرنسا رفضت أن تعطي إنجلترا حق تفتيش سفنها بحثا عن العبيد المهربين، وكان ذلك في عهد لويس الثامن عشر وشارل العاشر، ولكن لويس فيليب وافق على ذلك، وكان في هذا إذلال الفرنسيين وجرح لشعورهم. من ذلك أيضاً أن فرنسا وقفت بجانب محمد علي أثناء الأزمة المصرية 1840 واعتقد محمد علي أن فرنسا ستقف بجواره في حالة قيام الحرب بينه وبين إنجلترا. ولكن لما أشتد الخلاف وأصبحت الحرب وشيكة الوقوع تخلى لويس فيليب عن حليفه محمد علي وتركه يتلقى وحده ضربات إنجلترا وحلفائها.
وأضعفت هذه السياسة المتخاذلة مركز لويس فيليب. وهكذا عجز لويس فيليب عن تحقيق الديمقراطية في داخل فرنسا وعن إحراز المجد لها في الخارج.
وأخيراً ثار الشعب ضده في فبراير 1848 وأمر الملك الجيش بمقاومة الثوار ولكن الجند رفضوا مقاتلة إخوانهم أنصار الحرية واضطر الملك أن ينزل عن عرشه وان يغادر فرنسا إلى غير رجعة أيضا.
تلك هي مواقف خالدة لبعض الجيوش الوطنية التي قامت لحماية حرية شعوبها.
ولكن حركة الجيش المصري الأخيرة كانت أروع الحركات التي سجلها التاريخ المعاصر.
مصدر السلطات
تذهب الدساتير حديثة جميعا إلى أن الشعب مصدر السلطات وهذه نظرية مقررة، ولكن أهم من تقريرها أن تكون نافذة وان يحرص الشعب فعلا على حقوقه فلا يتركها للمضللين والمفسدين.(1001/12)
وهذه النظرية ليست حديثة كما يعتقد بل إنها قديمة، وهي كذلك ليست نظرية مقررة في الغرب فقط وإنما هي نظرية مقررة في الشرق منذ جاء الإسلام.
واستمع إلى قول أبي بكر حين تولى الخلافة (أيها الناس: قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).
وهكذا قامت الحكومة الإسلامية الأولى على أساس اختيار الشعب وحددت سلطة ولي الأمر، فإذا عصا الله وجب عزله، وكان خوف الخلفاء من الله أكبر عاصم لهم من الزلل.
وفق الله قادة العصر الجديد إلى ما فيه خير الشعب وسعادته، ورعى الله كنانته وحفظ لشعبها سيادته وبارك لها في جيشها الباسل.
أبو الفتوح عطيفه(1001/13)
زعماء الحركة القومية
السيد محمد كريم
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
- 1 -
يعتبر السيد محمد كريم أول زعيم من زعماء الحركة القومية. ظهر في مصر قبل أن يظهر فيها سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد عرابي. . فكانت حركته بذلك أول صفحة من صفحات الجهاد القومي في تاريخ مصر الحديث.
ولقد كان السيد محمد كريم شخصية فذة، وزعيما حقا من زعماء الوطنية المصرية. . فاستطاع بمفرده ان يبث الشعور القومي في نفوس أهالي الإسكندرية. . وجعلهم يواجهون جيوش الثورة الفرنسية في سنة 1798م.
تلك الجيوش التي كانت لا تزال في عنفوان قوتها ومجدها. . والتي كان يقودها نابليون بونابرت. . أعظم شخصية حربية ظهرت في أوربا خلال القرن الثامن عشر!
وبعد أن احتل الفرنسيون أرض مصر، لم يتوقف السيد محمد كريم عن الكفاح لحظة واحدة، ولم يخضع لمشيئة نابليون، ولم يطأطأ رأسه كما فعل كثيرون غيره. . بل أخذ يثيرون روح الكراهية في نفوس الأهالي ضد الحاكم الجديد. . الذي لم يرغب من نزوله بمصر إلا أن يستبدل حكما بحكم. . واحتلال باحتلال. . وظل السيد يوالي نشاطه واتصالاته بالبلاد التي تمر بها الجيوش الفرنسية. . في طريقها إلى مصر. . لتمنع الماء عن رجال الحملة. . ولتقابلهم بكل ما استطاعت من أنواع المقاومة.
ولما ضاقت القيادة الفرنسية بجهود السيد محمد كريم. . اتهمته بخيانته للجمهورية الفرنسية، وإثارته العصيان في نفوس الأهالي. . وحكمت عليه بالإعدام رميا بالرصاص. . وبذلك أصبح بجانب زعامته للشعب، أول شهيد من شهداء الحرية. . في عهد الحملة الفرنسية.
نشأ السيد محمد كريم في مدينة الإسكندرية نشأة عادية. . كغيره من شبان الثغر. . ولم تكن للإسكندرية قيمة كبيرة في ذلك الحين. . بعد أن تحول عنها طريق التجارة القديم، ففقدت(1001/14)
بذلك مركزها التجاري العظيم.
وكان جمرك الإسكندرية في يد مراد بك. . يولي عليه من يشاء. . ويعزل من يشاء. . نظير إيراد معلوم.
فلما كبر السيد محمد كريم، ونما عوده، اشتغل قبانيا وكان مشهورا بالصدق والأمانة، والنشاط وخفة الحركة. . ولذلك سرعان ما عرف اسمه. . وذاع صيته. . حتى سمع به مراد بك. . حاكم مصر. . . وزعيم طائفة من أكبر طوائف المماليك. . فعينه مديراً للجمارك. . ثم حاكما عاما لمدينة الإسكندرية. . وقد استطاع السيد محمد كريم - بعد أن تسلم مهام منصبه الجديد - أن يحكم البلاد بحكمة وحزم. . وأن يعامل الأهالي معاملة طيبة. . ولذلك احترمه الناس وأحبوه.
وفي شهر يونيه سنة 1798م. . وصلت الأخبار إلى أهالي الإسكندرية. . بأن حملة أوربية تعتزم احتلال مصر.
وكان المصريون في ذلك الوقت. . لا يزالون يحملون في أنفسهم تلك العقيدة المتوارثة عن عظمة السلطان. . وقوة المسلمين.
ولذلك عقدوا العزم على محاربة الجيش الأجنبي، والوقوف في وجهه. . مهما بلغت قوته.
ومن سوء الحظ أن وصل الأسطول الإنجليزي الذي كان يتعقب الفرنسيين - إلى ميناء الإسكندرية قبل وصول الحملة بأيام. . وحاول نلسن قائد الأسطول البقاء في مياه الإسكندرية في انتظار الحملة الفرنسية. . وعرض على السيد محمد كريم أن يسمح بإمدادهم بالماء والمؤونة اللازمة لمقامهم. . لكن الحاكم رفض طلبه. قال الأستاذ عبد الرحمن الرافعي:
(ولعل السبب في رفضه أنه أساء الظن في مقاصد الأميرال نلسن لأن الإشاعات التي كان الناس يخوضون فيها ذلك الحين، تنبئ أن (الإفرنج) يعتزمون احتلال مصر. . وكلمة (إفرنج) كانت تتناول الفرنسيين والأوربيين على السواء. . فخشي أن يكون طلب الأميرال نلسن خدعة لها صلة بالحملة المقبلة).
ولم يكتف السيد محمد كريم بالرفض، وإنما أعطاهم مهلة قصيرة لكي يبرحوا المياه المصرية، وإلا أطلق عليهم النيران.(1001/15)
وعبثا حاول الإنجليز أن يفهموه خطر الحملة القادمة. . فقد وجدوا منه إصراراً وعناداً شديدين.
ولم ير (نلسن) أن يضيع وقته في مناقشات لا فائدة منها. ولذلك قرر الانسحاب عن الشواطئ المصرية.
يقول الجبرتي:
(وفي يوم الخميس الثامن شهر المحرم عام 1213هـ، الموافق 1798م. . ظهرت في ميناء الإسكندرية عشرة مراكب حربية. . وأرست بعيدا بحيث يراها أهل الثغر. . ولحق بها خمسة عشر مركبا أخرى. . وأرسلوا بعض الجنود إلى الشط في قارب. . فاستقبلهم كبار البلد، وعلى رأسهم السيد محمد كريم. . وسألوهم عن شأنهم. . فقالوا إنهم من الأسطول الإنجليزي حضروا للتفتيش عن مراكب الفرنسيين. . فقد علموا أنهم خرجوا في جيش كبير إلى جهة لا يعلمونها. . فلا تقدرون على دفعهم. . فلم يقتنع السيد محمد كريم والذين معه بصحة ما يقولون، وقابلوهم بجفاء فقال لهم الإنجليز:
- سنقف بأسطولنا في عرض البحر لنحافظ على ثغركم ولا نطالبكم إلا بالماء والزاد بالثمن الذي ترضونه. . فرفضوا طلبهم وقالوا:
(هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيين ولا غيرهم علينا سبيل فاذهبوا لشأنكم)
ولم يكد السيد محمد كريم يتخلص من الحملة الإنجليزية حتى أخذ يفكر في الخطر الجديد الذي بدأ يلوح في الأفق. . فالحملة الفرنسية التي وصلته أخبارها قد تأكدت لديه قدومها، بعد أن سمع حديث الأميرال نلسن. وعلم بنشاطه، وأصبح من الواجب عليه أن يعد للأمر عدته، وإلا سقطت الإسكندرية في أيدي المحتلين الأجانب. . وكان عليه أن يسرع بالعمل قبل أن يضيع الوقت، وتفوت الفرصة.
فبادر بالاتصال بمراد بك، وبالعرب المجاورين للثغر. . طالبا منهم المعونة. وأمر بتحصين أسوار المدينة. . كما طلب من الأهالي حمل السلاح. . استعدادا للكفاح القريب.
وباتت الإسكندرية كلها تترقب قدوم الحملة الفرنسية. حتى رأت وجه البحر وقد تغطى بالمراكب. . فعلمت حينئذ أن وقت الجهاد قد حان. . وان ساعة الكفاح آتية لا ريب فيها.
للكلام بقية(1001/16)
عبد الباسط محمد حسن(1001/17)
دماء الشهداء
شهيدان في كفن
للأستاذ عمر عودة الخطيب
(في تاريخنا الزاهر، دماء زكية خالدة، خطت آيته الكبرى،
ورسمت حدود عالم إسلامي واسع)
ع
- 1 -
قال (عمرو بن الجموح) لصديقه الوفي الحميم (عبد الله بن عمرو): -
- هل أتاك يا عبد الله حديث النبي الذي ظهر في مكة. . وأقبل عليه الناس من كل فج، يجتمعون إليه، ويؤمنون به، ويعاهدونه على أن ينصروه ويؤازروه، ويمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم؟
- أجل: لقد وفد على (يثرب) منذ أيام رجل من هؤلاء ما سمعت بمثل حديثه وما رأيت أكثر جرأة منه. . كنت اجلس إلى جواره، وكان المجلس حافلا. . وقد اجتمع الناس ليعلموا نبأ هذا النبي الذي سفه آراء قومه، وعاب آلهتهم، ثم لما عارضوه وآذوه، وقف في وجههم صابراَ ثابتا. . لا تهده النكبات، ولا تثنيه الأزمات. .
قال الرجل: إني رسول (محمد) إليكم، محمد رسول الله الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق، وهو يدعوكم إلى عبادة الله وحده، ونبذ هذه الأصنام التي تنحتونها بأيديكم، ثم تعكفون عليها، وتقدمون القرابين لها، وتهملون عقولكم أمامها، إن لهذا الكون خالقا مديرا حكيما، بيده مقاليد الأرض والسماء. . وهو الذي يقول لكم (وفي أنفسكم أفلا تبصرون. .)
قال (عمرو بن الجموح) وقد ثارت حفيظته عندما سمع حديث ذلك الرجل:
- ماذا قلت له (يا عبد الله)؟! وماذا قال له الناس؟! أحسبكم ضربتم عنقه، وأعدتموه إلى من أوفده، ليكف عن غزو (يثرب) بمثل هذه الأفكار، فنحن هنا إلى جوار (اليهود)، ولو كنا متخذين غير ديننا، لكان دين (يهود) أقرب إلينا. قال عبد الله:(1001/18)
- كلا. . يا عمرو: لقد أراد الله الخير بنا، إذ بعث لنا رسولا من انفسنا، من خير قبائلنا، وأشرف بقاعنا. . . يتلو علينا الكتاب بلسان عربي مبين، لقد آمن به الناس وآمنت، وأكرموا رسوله وأكرمت، وعاهدناه على الطاعة والوفاء. . ومن فضل الله علينا أن كان اكثر من في المجلس من شباب يثرب، ومن أعرقهم نسبا، وأكرمهم أبا، وأرفعهم عمودا، وأكثرهم يداً، يا عمرو. . لقد آمنت بمحمد. . وآمن به ابني جابر، وآمن أبناؤك معاذ ومعوذ وخلاد، فأسرع إلى النور، واعتصم بحبل الله، واستظل براية الإسلام، قبل أن يسكت اللسان، وينطق الحسام. .
صعق (عمرو بن الجموح) لهذا الخبر، فاسودت الدنيا في عينه، وذهل عن نفسه، وأصبح كالمحموم، ربي، وحقك، لا أتركك، ولن أدع يداً تمسك، وسوف أحملك إلى بيتي وأعبدك.
- 2 -
تحت جنح الليل والناس نيام و (يثرب) تحلم أحلامها العذاب بعد أن انسابت إلى كثير من بيوتها أشعة طاهرة من ذلك النور الإلهي الذي توهج في مكة، خرج ثلاثة أخوة جمعت بينهم وشائج الدم، وأواصر العقيدة، ووجد بين قلوبهم هدى السماء، وتعاقدوا على الفداء، وساروا في أزقة المدينة بخطى وئيدة، ونور إيمانهم يسعى بين أيديهم، وكان همسهم الخافت، وحذرهم الشديد، يدل على أنهم خرجوا لأمر ذي بال.
طرقوا باب جابر بن عبد الله فلباهم، قال معاذ:
- هل لك إلى خير وثواب جزيل؟
- أجل ما أحوجني إلى ثواب الله وخيره العميم فما ذلك؟
- هلم إلينا فإن يد الله مع الجماعة
تكاثر الفتية المؤمنون من بني سلمة قوم (عمرو) وفي طليعتهم معاذ، واجتمعوا على الكيد للصنم، وتسللوا في غفلة من عمرو إلى الدار، فطرحوه في بعض الحفر، وكان عمرو، والصنم في الحفرة، يحدث نفسه ويقول: لقد حفظت إلهي في بيتي، وضمنت بهذا السيادة في بني سلمة، والسدانة على أصنامهم، وسوف أنصح لقومي أن يحمل كل واحد ربه إلى بيته، يغسله ويطييه، ويعظمه كل صباح ومساء، ويدين له بالطاعة والولاء.
وفي الصباح رأى (عمرو) صنمه المقدس، الذي كان يحلم به طول ليله، منكبا على وجهه(1001/19)
في الحفرة، وقد علاه الرغام، فورم أنفه غصبا، وثارت حفيظته، ورفع الصنم من الحفرة وغسله وطيبه ثم قال، وهو يربت على الصنم -: وحقك لو كنت أعلم من صنع بك هذا لأخزيته، ثم نظر إليه نظرة صارمة، فيها بشائر من نور الهداية، لأنها أول الشك في هذه العبادة، ولأن فيها صرخة خافتة ضعيفة من العقل الذي خنقته الأكاذيب، وألجمه التقليد، ثم هب إلى سيفه وعلقه على الصنم وخاطبه قائلا: إن كان فيك خير فامتنع!
وجاء الفتيان في الليل - يجرون كلبا وربطوه في عنق الصنم، وأخذوا السيف وانطلقوا، وكأنهم أرادوا بربط هذا الكلب في عنق الصنم، أن يوقظوا بهذا الدرس الساخر عقلا وثنيا، استعبده الخشب والحجر، وكان درسا ناجحا مؤثرا، فحين أصبح عمرو سار إلى صنمه فألفاه ملقيا إلى جانب الكلب في الحفرة، فهان في عينيه، وصغر في نفسه وقال:
تا لله لو كنت إلهاً لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن
ثم قام إلى الصنم وحطمه، ودعا زوجه (هند) وأمرها بأن توقده، وتطبخ عليه ثم قال لها: اذهبي إلى أخيك عبد الله وابن جابر وقولي لهما: باني قد أولمت اليوم وليمة فإذا كان الليل فليغد إلى بيتي كل مسلم في يثرب، من بني سلمة
قالت (هند) وقد عمها البشر، وأستخفها الطرب.
حمدا لك يا إلهي! فلقد أسبغت علينا النعم، وصرفت عنا النقم، وبدلت شقائنا سعدا، وظلامنا نورا، وايم الله يا عمرو ما رأيت كاليوم أنسا وسرورا، لقد أحببتك حبا ملك على نفسي مذ كنت تغدو إلى بيت أخي عبد الله، وكان الحديث عنك يهز أوتار قلبي، ثم لما صرت إليك، كنت أزهو على أترابي بك، لأنك سيد قومك، وأكرم عشيرتك، ولكن هذا كله أمام إيمانك اليوم، قطرة من بحر، وحصاة بين در، فما أنت - الآن - بشر، بل أنت ملك كريم.
- 3 -
وكرت الأيام، وتتابعت على المسلمين أحداث، وظفروا بأعدائهم في بدر، وأعملوا في رقابهم السيوف، وسقوهم كؤوس الموت الزؤام، حتى كان (عمرو بن الحموح) يوما في مصلاه مقبلا على ربه يقرأ القرآن، مطمئن النفس، هانئ القلب، فإذا بصديقه (عبد الله) يدخل عليه فرحا مستبشراً، فتلقاه بالتحية والترحيب ثم قال له:
- ما ورائك يا عبد الله؟!(1001/20)
- لك البشرى يا عمرو فلقد ذهبت اليوم مع جمهرة من بني سلمة إلى بيت رسول الله، فقال لنا: (من هو سيدكم يا بني سلمة؟) فقال نفر منا: (هو الجد بن قيس على بخل فيه) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأي داء ادوأ من البخل، بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح)
فقال رجل من إخواننا المهاجرين: صدقت يا رسول الله، لقد رأيته يوم بدر، منقضا على الأعداء انقضاض الصقر على فريسته؛ وكان يقبل على الموت، إقبالا الإبل العطشى على الماء القراح، وكنت أرى فرسان قريش تفر من وجهه، وتتقي ضرباته الشداد، حتى أصابته ضربة بتار في رجله، فجعل يمشي على الأخرى، ويخوض الغمرات ببسالة وإقدام، ورأيت من صبره، يا رسول الله، ما ملأ نفسي إعجابا
رأى ابنه معاذا في إبان المعركة، وقد أصابته ضربة على عاتقه طرحت يده، فتعلقت بجلدة من جسمه حتى آذته، وأجهده القتال، فقال له بصوت فيه حنان الأب وشجاعة المؤمن: (يا معاذ ضع قدمك على يدك ثم تمطى حتى تطرحها، ودونك بعد هذا أعداء الله. .)
ولم يكد الرجل يتم حديثه، حتى رأيت البشر يملأ وجه الرسول، ويتلو قوله تعالى (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فهنيئا لك يا عمرو!!
وسمع عمرو حديث صاحبه عبد الله بقلب يفيض فرحا، ويرقص طربا ثم قال: حسبي من الحياة - يا عبد الله - أن يرضى الله ورسوله عني، بعد أن حفتني عناية السماء، وأظلني لواء محمد.
- 4 -
كانت الشمس قد أرسلت تباشيرها، ونشرت خيوطها الذهبية على مشارف المدينة، وهضاب أحد، حين سمع (عمرو) جلبة وتكبيرا، وإذا مناد يقول: الصلاة جامعة! حي على الجهاد، فدعا زوجه (هندا) وأمرها أن تعد له سلاحه، وأن تصاحبه إلى المعركة، لتضميد الجرحى، وإثارة المشاعر ثم قال لها:
- أين أولادك يا هند؟!
- لقد أسرعوا إلى المسجد يا عمرو
- وهل لبسوا لأماتهم وتنكبوا سلاحهم؟!(1001/21)
لقد جهزتهم بيدي، ووصيتهم أن يكونوا صفا واحدا وألا يفارقوا رسول الله وقلت لهم:
اعلموا - يا أبنائي - أنه لا بد لهذه الدعوة من وقود، فكونوا أنتم وقودها، ولا بد لها من ضحايا، فكونوا انتم أول ضحاياها، واصبروا عند اللقاء، واشتدوا على الأعداء، واذكروا أن الجنة مثوى الشهداء الأبرار، وأستودعكم الله
- حييت (يا هند) من أم!! بمثل هذا الإيمان ننتصر، وبه تعلو راية القرآن وتنتشر، والآن ركضا معي إلى الجنة، إلى السعادة، إلى الله.
وفوجئ المسلمون في المسجد بدخول الشيح الجليل الأعرج (عمرو بن الجموح) متقلدا سيفه، متنكباً قوسه وهو يقول: سوف نهد لهم حتى ينقلبوا على أعقابهم صاغرين، أو يمرتوا بحد سيوفنا خاسرين.
وسمع أولاد عمرو صوت أبيهم، فأقبلوا نحوه، وحاولوا منعه من الخروج إلى ساحة المعركة، ولكنه راع المسلمين جميعا بإصراره على الجهاد، قال له أبناؤه: (قد عذرك الله ولا حرج عليك!!) فحزن حزنا شديدا، وآلى على نفسه أن يذهب، وأتى رسول الله وكان في جانب من المسجد، ووقف بين يديه وقال:
- يا رسول الله! إني بني يريدون أن يحبسوني من الخروج، فو الله إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.
فقال له رسول الله:
- أما أنت فقد أعذرك الله فلا جهاد عليك!. . .
فتطلع يعين كئيبة إلى السماء، وقد انحدرت الدموع على خديه حتى ابتلت لحيته ثم قال بصوت تخنقه الحسرات: يا رسول الله إني أرى يعيني هاتين، أن الشهادة مني قاب قوسين أو أدنى، وأن أمنيتي الكبرى أن ألقى ربي، تزملني الدماء، فلا تردني خائبا، روحي لك الفداء.
وحين رأى رسول الله إلحاف عمرو في الطلب، ورغبته الملحة في الجهاد، التفت إلى بنيه وقال لهم: (لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة. .) ولم يكد يسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم حتى استقبل القبلة، وقال على مسمع من الناس جميعا (اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني خائبا إلى أهلي) وامتلأت عيناه بالدموع، وساده صمت خاشع، ثم نظر إلى الرسول(1001/22)
وقال له: (يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟) فطمأنه رسول الله وابتسم وبان السرور في محياه، وإذا بعبد الله بن عمرو ومعه ابنه جابر يقبلان، فقال رجل من المسلمين لعمرو، هذا صاحبك عبد الله قد أقبل فطب نفسا، وتعانق الصديقان عناقا امتزج في فيه قلبان، وانسجمت روحان، وقال عبد الله لابنه جابر: (يا جابر إني أرجو أن أكون أول من يصاب، فأوصيك ببناتي خيرا).
ثم نظر إلى صديقه الحبيب عمرو وقال له بصوت يسيل رقه وعطفا، وكأنه يودعه الوداع الأخير:
- يا عمرو أتدري أين يكون اللقاء بعد الآن؟!
- أرجو أن يكون في دار البقاء في مقعد صدق عند مليك مقتدر
- 5 -
- وثار النقع، وصهلت الخيل، ولمعت السيوف، وحمى الوطيس في أحد، ونشب القتال، والتحم الفريقان، وأقبلت على رسول الله قائد المسلمين الأكبر، كتيبة متراصة من المشركين، قد احمرت منهم الإحداق، وثارت في نفوسهم الأحقاد، فوقف (عبد الله بن عمرو) في وجه المشركين، يفرق صفهم، ويفل عزمهم، ويناضل عن الرسول، وينافح عن الإسلام، ويحطم الفرسان، وجندل الشجعان، حتى صدق ظنه وأكرمه الله فكان أول شهيد في المعركة
واستلأم الأعداء، وأخذوا من المسلمين بالثأر، وانتقموا شر انتقام، فمثلوا بعبد الله الشهيد الأول في أحد أشنع تمثيل، جدعوا أنفه، وقطعوا أذنه، ولم يتركوه حتى هشموا عظمه، وشوهوا جسمه، ولما سجى بين يدي رسول الله أقبل ابنه جابر، وكشف الثوب عن وجه أبيه، ثم أكب عليه يقبله ويبكي
وسمع المسلمون من بعيد صوت امرأة نادبة، فشقوا لها الصفوف فإذا هي (هند) تبكي أخاها، وتوأم روحها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (ابكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها)
وانصرفت هند وصورة أخيها ماثلة أمامها، وملائكة السماء تظله بأجنحتها، وبشرى رسول الله تطئن نفسها، ولكن الدموع الحزينة كانت تملأ مقلتيها، ثم وقفت واجمة فزعة، وغامت(1001/23)
الدنيا في وجهها، وأظلم الكون أمامها، وجمدت الدموع في عينيها، فقد رأت - ويا لهول ما رأت، أبصرت زوجها (عمروا) وابنها (خلادا) مضرجين بالدماء، وقد فاضت منهما الروح إلى السماء، فهدها المصاب الرهيب، وأشجاها الدم الصبيب، وغرقت في لجة الأسى، وإذا بصوت الرسول الحبيب يخاطب الجاهدين فيقول (والذي نفس محمد بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح) فمسح هذا الصوت ما بنفسها من أشجان، وكان بلسم جراحها، وعزاء مصابها، فاحتسبت مصيبتها عند ربها، وتقدم رسول الله من الشهيد الباسل، وكشف عن وجهه وقال له: (كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة).
- 6 -
وعند الأصيل الكثيب، وقد مالت الشمس للغروب، وأقبل الليل ينشر أمامه ودائه الأسود القاتم. كانت (هند) المفجوعة، تتوكأ على عصاها، وتجر وراءها بعيرا حملت عليه شهدائها، وزوجها وأخاها وولدها، ميممة شطر المدينة، لتدفنهم هناك قريبا منها، فرأتها السيدة عائشة وكانت تسقي العطاش، فسألتها عن الخطب الذي حل بالمسلمين، فقالت لها:
- يا أم المؤمنين! أما رسول الله فسالم، وكل مصيبة بعده هينة، وأتخذ الله من المؤمنين شهداء
- ومن هؤلاء على البعير؟
- أخي عبد الله وولدي خلاد وزوجي عمرو بن الجموح وبينما السيدة عائشة تعزيها في شهدائها، جاء صائح يقول (أمر رسول الله بان يدفن الشهداء في موضع استشهادهم، فاتجهت شطر أحد، وعادت بشهدائها حتى وقفت أمام رسول الله فتلا قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) ثم نظر إلى عمرو وعبد الله وقال (كفنوا هذين المتحابين في الدنيا في كفن واحد، واجعلوهما مع خلاد في لحد واحد، وزملوهم بجراحهم فإني أنا الشهيد عليهم. . .).
دمشق - المزة
عمر عودة الخطيب(1001/24)
في بلاد الأحرار
للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد
بقلم الأستاذ أحمد مصطفى الخطيب
عندما استتب الأمر في تركية، وشرع في تنفيذ إصلاحاته العظيمة، ألف البروفيسور الكاتب التركي المعروف أغا أغلو أحمد، وأحد زملاء أتاتورك في الجهاد ضد الاستبداد كتابه الموسوم (في بلاد الأحرار) ليكون نهجا واضحا للذين الإصلاح عملا، والحرية خلقا، ومكافحة الطغيان طبيعة. . وقد كتبه بأسلوبه البليغ الساحر في شكل قصة شائقة خالية من الغموض والتعقيد، يستطيع أن يفهمها بكل سهولة ويسر، المتعلم مهما كانت ثقافته، ويستنير ويتعظ بها قادة الحكم ومحترفو السياسة مهما كانت نزواتهم وشهواتهم.
وقد خطر لي أن أنقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية وأن أنشره في شكل مقالات متسلسلة أولا، ثم في هيئة كتاب مستقل ثانيا.
وإني أعتقد أن الفرصة قد سنحت لإخراج هذا الكتاب القيم على أي صورة. . . فثمة طاغ جبار يطرد من أرض الكنانة إلى غير عوده. . وقائد بار شجاع يتولى قيادة الأمة المصرية إلى حيث الشرف والعزة والكرامة والعدل. . . وشعب أبي متحرر أنقذ نفسه بنفسه من عهد فاجر جائر، يريد سلوك خير الطرق وأفضلها للوصول إلى أهدافه ومثله العليا. . أفلا يجب أن يكون لكتاب (في بلاد الأحرار) مكان على صفحات الرسالة الزاهرة لينير الطريق، ويرشد الضال، ويوقظ الهمم، ويضع الأسس ويصف الداء ثم الدواء.
أ. م. الخطيب
كنت أسيراً فشئت أن أكون حرا
كنت أسيراً، فشئت أن أكون حرا، وحطمت سلاسلي، وثقبت جدار الحصن. . فنفذت إلى الأرض الفضاء. وهناك تنفست الصعداء.
امتد أمامي براح شاسع. . ولم أكن عارفا إلى أين أتجه؟ ولا ماذا أعمل؟ خطوت بضع خطوات وأنا متردد محجم. . فوجدتني على مفرق طريقين. . فقرأت هذه الكتابة القائمة على رأس عمود هنا:(1001/26)
الطريق المؤدي إلى اليسار طريق الحرية
الطريق المؤدي إلى اليمين طريق العبودية
التزمت جانب اليسار، وسرت على قدمي حتى الصباح. . وعند انبثاق الفجر وجدت نفسي أمام قلعة. . وهناك قرأت لوحا كتبت عليه بأحرف ذهبية هذه العبارة:
(بلاد الأحرار)
قلت: هذه ضالتي التي نشدتها ثم هممت بالدخول. . قطع الحراس السبيل. . . وسألوني:
- من أنت؟. . ومن أين قدمت؟. . وإلى أين تقصد؟
فقلت:
- كنت أسيراً. . فحطمت سلاسلي وحضرت ههنا. . أريد أن أكون حرا. .
رمقني الحراس بنظرات الفحص والتأمل. . كانت آثار السلاسل في عنقي، ومعالم القيود في يدي ظاهرة جلية.
- أجل!. . يلوح لنا أنك قد حطمت قيود الأسر. . ولكن يا ترى. . هل اقتلعت قيودك الباطنية أيضا، وقذفت بها؟
قلت:
- لم أفهم ماذا عنيتم!
- إذن أجب عن هذه الأسئلة:
1 - هل أنت مسيطر على نفسك؟
2 - أتحب الصدق؟
3 - أتستطيع تحمل الحقيقة؟
4 - هل أنت ذو كبرياء؟
اتضح لي أنهم يمتحنونني قبل إفراجهم عن الطريق لدخولي فأحبت عن كل هذه الأسئلة (نعم)
انحنى الحراس أمامي احتراما لي، وفتحوا لي باب القلعة ثم رافقني أحدهم إلى الداخل.
كانت المدينة قد استيقظت، والحوانيت والأسواق قد نشطت وكان الجميع دائبين في أعمالهم.(1001/27)
إنها أول مرة في حياتي، كنت أرى فيها مدينة جميلة عليها سيما العمران كهذه. . فالسعادة والهناء تقرأهما في وجوه الأهليين أينما حللت، وحيثما ذهبت. وكان الذين يلقونها في الطرق يبتسمون في وجوهنا ويهشون لنا ويرتاحون.
وأخيرا انتهى بنا المطاف عندما وقفنا أمام باب دار كبيرة طرق الحارس الباب، فجاء شيخ طاعن في السن.
قال الحارس مشيراً إلي
- وطني جديد!
حياني الشيخ باحترام ودعاني إلى الدخول ثم قادني إلى غرفة فسيحة وقال:
هذا الموضع لكم بكل ما فيه وقبل أن أفيق من الذهول الذي انتابني؛ أضاف الشيخ إلى كلامه قائلا: سيحضر أستاذنا بعد قليل لمقابلتكم. خذوا قسطكم من الراحة الآن.
وإذ غادر الشيخ الغرفة جاءني رجل تبدو عليه إمارات الفتوة وأحضر لي طعاما وشاربا
وبعد لأي حضر الأساتذة أيضا. . وذهبوا إلى غرفة أخرى؛ وهناك سألوني من أنا؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا قدمت هذا المكان. فأجبتهم هكذا:
(. . أرومتي أصيلة. . بلادي نجيبة، ودمي طاهر نقي. . كان موطني قديماً هضاب آسية الوسطى العالية. . ثم ثار الدم في عروق أجدادي وهاج. . فتغلغلوا في الشرق والغرب، والشمال والجنوب.، واجتاحوا الممالك، وشادوا الدول، وأنشئوا الحضارات. .
كان زعماؤنا قبلا يعيشون عيشة ساذجة، يشاركون الشعب في سرائه وضرائه؛ يحترمون العهود والمواثيق، يطيعون الحق ومجالس الشورى. . وكانت قادة الحكم، ورؤساء القبائل وملوك البلاد لا يخشون شيئا في سبيل الذود كرامة الحق، وقولة الصدق، والتنكيل بالطغاة، ومنع الاستبداد. .
وطوال استمرار الحال على هذا المنوال كانت بلادي قوية، ومهيبة، مرفوعة الكلمة بين الممالك. . إلى أن جاء يوم فسدت فيه دماؤنا، وشرعنا نقلد البلاد المستعبدة في تقاليدها ومواطن ذلها. . فتلاشت مجالس الشورى، واختل النظام، وانتصر الاستبداد، وصار شعبي السيد الآمر عبداً رقيقاً. . .
ومنذ ذلك الحين انطفأت نارنا الواهجه، واضمحل صيتنا الذائع، وتلاشى صوتنا المدوي. .(1001/28)
حتى يوم أراد فيه خاقاننا السافل أن يبيعنا للأغراب. . وعندئذ بلغ السيل الزبى، وطفحت الكأس
خرج من صفوفنا شخص ذو شعور ذهبي، وسحنة رجليه ونظرة هي نظرة الأسد بعينها. .
فإذا هو الذائد عن حمى بلاده، والضنين بوطنه، ورسول ربه الكريم. .
قال أقوالا بعثت بالحمى الدافقة إلى القلوب الجامدة، وبالحياة إلى العروق الميتة، عمل أعمالا دهش منها القاصي والداني. . طرد الأغراب من المواطن وأسقط الخاقان من عرشه. . وهو الب منهمك في لم شعث أمته حول راية الحرية الخافقة. .
إنني كنت حينذاك من أسرى الخاقان في سجنه. . وبينما أنا أتقلب على أشواك اليأس والقنوط، إذا بصوت رجل آخر يطرق سمعي. .
دبت في الحياة فجأة، فحطمت سلاسلي، وأحدثت فجوة في الجدار، وجئت إلى هذه الديار في طريقي إلى الحرية التي أنشدها.
أصغى إلي الأساتذة باعتناء واهتمام شديدين. . . ثم قال أحدهم:
- أجل! أجل! إننا كذلك نعرف ذلك البطل ونحبه حبا جما، ونحن إنما نعمل هنا وفقاً لمبادئه وفكرته. .
ثم أضاف إلى كلامه قائلاً:
- هل عقدت النية على أن تكون حرا؟
- نعم!
- هل فكرت في الأمر جيداً!. . أعزمت على ذلك عزماً نهائيا؟. . ثم هل تعلم مبلغ صعوبة الحرية على الإنسان؟
أجل!. . أعرف كل ذلك، وعزمي في هذا الشأن لا يتزحزح!
- إذن ثمة شروط يجب أن تطلع عليها، وتعمل بمقتضاها. . وهذه الشروط مدرجة في سفر خاص بها. اقرأ وفكر مليا. . وسنأتي لمقابلتك ثانية بعد بضعة أيام. .
ثم غادر الأساتذة المكان. .
يتبع
أحمد مصطفى الخطيب(1001/29)
ساعة بين أعداد الرسالة
للأستاذ محمد حسن شرع الدين
لانقطاع الرسالة بسبب الملاحة في الشلال شعرت بالحاجة إلى قراءتها، وذلك لما كنت أتوقعه من انقلاب في أقلامها بعد الانقلاب الذي قام به البطل محمد نجيب (نجيب الحرية والدستور) وكانت تجول بخاطري أشياء أتذوق حلاوتها وألتذ لها لاعتقادي أن أعداد الرسالة القادمة سوف تتحدث عنها، وما تلك الخواطر إلا حوادث الانقلاب والملك المطرود، وقد تكلمت كل الصحف والمجلات عدا الرسالة التي لم تصل إلي: والكلام الرسالة وقع في نفسي غير كل كلام مقروء. قلت شعرت بالحاجة للإطلاع على الرسالة، ففزعت إلى أعدادها المودعة بمحل خاص - وأنت قد تعجب إذا قلت لك إني أحتفظ بأعداد الرسالة من سنة 1934 إلى يومنا هذا بصورة مستديمة - من قسم الإعارة لا التأخير، وتناولت أول عدد فكان العدد 962 وفتحته فكان أول ما قرأت مقال يوازن بين شوقي وولي الدين يكن في قصيدتين قيلتا بمناسبة (سقوط السلطان عبد الحميد) بقلم أستاذنا الأديب محمد رجب البيومي، وعلم الله أني أرتاح لكل ما يكتبه، وأجد فيه متعة الروح وغذاء العقل، متعنا الله بأدبه ومد في عمره بالعافية. فعجبت كيف هيأت الصدف للربط بين خواطري بالماضي المقروء للحاضر المشهود، وقلت لو كتب هذا الموضوع قبل الانقلاب بأسبوع لقلنا إن الكاتب يشير إلى نهاية (الفاروق) بالتورية للآتي القريب، ولكن مر على المقال أكثر من سنة فلا أظنه كتب لهذا الغرض وغم أنه كان ينفع للعظة لو وجد مجده بعده، وآخر يشمت به ويشيع عهده باللعنات، بتلك القوة الممتعة في الوصف البارع للمدح والذم، ووجد مقل قلم البيومي ليوازن بينهما، فهل نجد اليوم مثل هذين الشاعرين وقد وجدنا الظرف.
ولا نريد بعد أن أشرنا إلى العدد أن نأتي بشيء من القصيدتين، فمن أراد المتعة فليرجع إليهما فإنهما أنسب ما يقرأ في هذا الظرف وهذه المناسبة.
وبعد الفراغ من هذا العدد مددت يدي فأخذت عدداً آخر فإذا هو العدد 748 بقلم صاحب الرسالة في 3 نوفمبر سنة 1947 بعنوان: (يا أغنياء! قولوا أسلمنا ولا تقولوا آمنا) وقد علق به على حديث نشرته الأهرام لصاحب السمو الملكي الأمير محمد علي قال فيه:(1001/31)
(إني أشهد الله على أن كل توفيق أصبته وكل خير نلته منذ نشأتي إلى اليوم كان مرجعه إلى إئتماري بأوامر الدين وانتهائي بنواهيه).
وقد علق على هذا الكلام فقال: (جميل من سمو الأمير أن يعتقد الدين وأن يعمل به ويتعصب له ويدعو إليه في وقت نسي الناس فيه الله. فبعد الأمراء الشهوة - وكأنه يعمي القصر - وأله الأغنياء المال، واتبع الزعماء الهوى) ثم يقول بعد فصل: (لماذا اقتصر أمي الأمراء من فضائل الإسلام على (المحبة والسلام، والصلاة والصيام، والعمل والصبر والطهارة. وقد كنا نطمع في صدق إيمانه وسمو بيناه أن يذكر كذلك الزكاة والإحسان والبر والتعاون ليعلم أولئك الأمراء الذين أسلموا ولم يؤمنوا، وهؤلاء الأغنياء الذين أساءوا ولم يحسنوا) ويسترسل فيقول: (إن الدين عمل ومعاملة، وتثقيف وتكليف، وإيثار وتضحية. ثم يقول بعد فصل: وحق الله الذي يشبع الجائع، ويكسو العاري، ويداوي المريض، ويكفن الميت، ضئيل بجانب حق الشيطان الذي يولم الولائم الفاجرة، ويقيم السهرات الداعرة، ويجود على إنجلترا الخؤون من غير طلب، وينفق على العامل والفلاح، وحق الشيطان على ضخامته حفيف لأنه ينفق في الميسر والراح) ثم يسترسل فيقول: (إن أكثر الكبراء عقام أو عزاب، فلا عيال يكلفون في الحياة، ولا أعقاب يرثون في الموت؛ فليت شعري لم لا يتبنون هذا الشعب الكريم وهو الذي وضعهم في ركب الحياة على كاهله، فأقدامه تحفي من الكلال وهم في دعة، وجسمه يضوي من القلال وهم في سعة، ونفسه تضطرب من الأهوال وهم في أمن) ثم يقول (إنهم إلا يفعلوا يندموا فإن من المشكوك فيه أن يتسع حلم الشعب طويلا لهذا الحد من المقال عجبت! ولا عجب أن يصاحب التوفيق قلم أستاذنا، فيشير لهذه النهاية البعيدة حينذاك، ولكن زال عجبي عندما رجعت لقول ولي الدين يكن للسلطان عبد الحميد في قصيدته التي أسلفت القول عنها عندما قال:
عزاء أيها النافي الرعايا ... ولا تجزع فخالقكم نفاكا
حرمت كراك أعواما طولا ... وليتك بعد ذا تلقى كراكا
تفارقك السعادة لا لعود ... وقد عاشت حطاها في خطاكم
فدع صرحا أقمت به زمانا ... وقل يا قصر لست لمن بناكا
نعم عبد الحميد اندب زمانا ... تولى ليس يحمده سواكا(1001/32)
ومنها:
ستحيا في سلانيك زمانا ... ستحسد فيه عن بعد أخاكا
وتعلم أن ملكا ترتضيه ... ولعت به ولكن ما ارتضاكا
أما قصيدته الثانية التي جارى بها شوقي، فلا يتسع المقام لسياقها، فلنتركها وليرجع إليها من يريدها بالعدد المذكور أو في غيره.
وعجبت أن يحقق الشعب ما أشار إليه أستاذنا؛ فيطرد المليك الجبار. . المليك الذي أراد أن يجعل من مصر وجيش مصر أضحوكة بين الشعوب. المليك الذي ضحى بشباب مصر في حرب فلسطين، وكان يستعرض الجيش ابتهاجا بولده في الوقت الذي يقتحم فيه البوليس الموت مع الإنجليز في قنال السويس، ويشد أزر كفاح البوليس أولئك الأبرار المجاهدين من الفدائيين. لقد حقق الله نبوءتك يا أستاذي، فها هو ذا الجبار قد ذل وطرد، وهاهم مانعوا الزكاة ومبددو ثروات الشعب يحاسبون حسابا عسيرا، فلننتظر قليلا ولنقل: حيا الله المخلصين من أبناء مصر، وأزال بهم طغيان كل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، ولنقل مع الشاعر أيضا:
إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ... ولا بد للقيد أن ينكسر
محمد الحسن شرع الدين
تاجر بأم روابة(1001/33)
شيلر الشاعر الألماني
للأستاذ عيسى إسكندر المعلوف
حياته
هو فريدرك فون شيلر ولد في مدينة مارباخ من أعمال مقاطعة ورتمبرغ الجرمانية في 10ت سنة 1895. وكان أبوه يوهان كاسبار جراحاً مساعداً في الجيش استخدم في حرب أوستريا الارتية. وكانت والدته تقية حنوناً فغرست فيه تلك المبادئ. واسمها اليصابات كورفايس. كان منذ صغره ولوعا بالكتب، وفي المدرسة كان ينفرد ويطالع، فيجد تلك الساعات من ألذ أيام حياته، وكان يهيم في الطبيعة ويسرح في آفاق الخيال وراء شاعريته التي كانت نفسه تنزع إليها.
وكان نحيف الجسم مجتهداً كثير المطالعة تنزع نفسه إلى نظم الشعر، ولذلك جمع بين الإنشاء الطلي والشعر الرقيق والتاريخ الوطني، فكان ثاني غوته أشهر شعراء ألمانيا.
ترك آثاراً تشهد بنبوغه وتفوقه، وكان أصغر من زميله ومعاصره غوته بعشر سنوات، تعارفنا لما كان شيلر في الرابعة والثلاثين من عمره وغوته في الرابعة والأربعين.
أنصب شيلر على مطالعة أشعار هوميروس اليوناني وفيرجيل الروماني لإتقانه اللغتين اليونانية واللاتينية كل الإتقان.
ثم طالع منظومات (كلوستوك) شاعر ألمانيا العظيم وغيره من كبار الشعراء، مما بث فيه روح الشاعرية وقواها.
وكان قد درس على علماء عصره المشهورين ونال شهادته بإتمام دروسه سنة 1779 بحفلة حافلة شهدها غوته الشاعر الألماني الآنف الذكر. ولم يكن غوته يظن أن شيلر سيكون نابغة في عصره وصديهاً مخلصاً له، ورجلا محبا لوطنه وشعبه، ومؤثرا عظيما في رقي بلاده. ولم يكن غوته ليظن بأن شيلر سيصبح كاتباً مدققاً وشاعرا بليغا ومؤرخا ثقة، صاحب مخيلة واسعة، طلي الإنشاء، حتى يحبه الشعب ويحترمه.
وكان لما حل شيلر بقرية فولكشتات سنة 1788 أن اجتمع بغوته مرة فاستقبله هذا غير مكترث له فأثر ذلك المشهد الاحتقاري في نفس شيلر وحركته عزة نفسه أن كتب إلى صديق له يخبره بعدم تناسب الذوقين أي ذوقه وذوق غوته، لأن لكل منهما وجهة يتجه لها(1001/34)
الواحد دون الآخر.
على أن غوته بعد أن طالع آثار شيلر، ولا سيما قصيدتيه الشهيرتين (المتفننين) و (آلهة اليونان)، اللتين نسج بردتيهما إذ ذاك نسجا بليغا، انقلب عن الإعراض إلى الحفاوة والاحترام، فصار ودهما وثيق العرى متين الأسباب.
فكان شيلر ينظر إلى الحياة نظرات فلسفية وينظم الشعر التمثيلي، وغوته يسبح في عالم الطبيعة ويصوره ناظما الشعر الحقيقي، ومع ذلك هذا التباين في الذوقين بمانع من اتفاق آرائهما بالصداقة وتبادل الحب الصحيح بينهما بإخلاص وأمانة حتى آخر نسمة من حياتهما. وذلك نادر بين صاحبي صناعة واحدة. ولكن الشاعرية التي عرفا بها لم تستطع أن تبث روح الحسد في أحدهما ليعادي الآخر.
فصرف شيلر أوقاته مع غوته يتبادلان الآراء ويتجالسان ويتحاوران فأنتفع كل منهما من زميله. وهكذا أخرج شيلر آثارا نفيسة في الشعر والتاريخ والروايات التمثيلية الكثيرة، وهي مما لا تزال تتناقلها الألسنة والأقلام، وتترجم إلى اللغات المختلفة الغربية والشرقية.
ومن غرائب الاتفاق أن هذين الشاعرين المتحابين مرضا كلاهما بوقت واحد وخشي كل منهما موت الآخر. ولكن شيلر قبض إلى رحمة ربه قبل غوته وذلك في أيار سنة 1805 فبلغ نعيه غوته فبكاه واشتد حزنه عليه وقال كلمة لا تزال مضرب المثل.
لقد فقدت بموت شيلر نصف حياتي.
ولشدة حزنه انقطع مدة عن عمله وتفرغ للبكاء ومعاناة الأسف الشديد الذي ألم به. وطال ذلك العهد على غوته حتى توفي سنة 1832 وأقيم له سنة 1932 تذكار مرور مائة سنة على وفاته بحفلات شائقة، وسنة 1934 أقيم له تذكار مرور 175 سنة على ولادته. وكتبت الجرائد ومقالات شائقة عن الحفلتين في الشرق والغرب. ونشر كثير منها ترجمة حياته واعماله. وحضر تلك الحفلة كبار رجال الحكومة. وأقاموا الصلاة على قبره. وخطب الهر جيبلز فقال: (لو عاش شيلر، إلى اليوم لكان زعيم ثورتنا حرفيا. فنحن نحني رؤوسنا أمام ذلك الميراث الفني الذي هو لنا، لأن لنا وحدنا المقدرة وروح الابتكار لإنجاز رسالة بلك الثورة).
وأنشأت صحف اليونان مقالات أطرت فيها على ذكر شيلر، ومثلت في المسرح اليوناني(1001/35)
الوطني رواية (دون كارلوس) من نظمه.
آثاره
أشتغل هذا الشاعر بالأدب والتاريخ والروايات، فترك آثاراً ذات شان في نظر العلم والأدب من روايات تمثيلية وقصائد رائعة، فأخرج شيلر الدراما (قطاع الطرق أو اللصوص) طبعت سنة 1781 و (المؤامرة والحب). . ومن أهم رواياته (دون كارلوس) (1786). وبها اشتهر أول ما أشتهر. وآخرها (وليم تل) التي كتبها سنة 1804 ومدارها على أخبار وليم تل البطل السويسري الوطني. وكان غوته قد سافر إلى سويسرا ودرس جميع الشؤون المتعلقة بهذه الرواية على أمل أن ينسج بردتها بقلمه العسال. فحالت دون ذلك عوائق حملته على انتداب حميمة شيلر لهذا العمل فأعطاه دروسه كلها، فنظمها وأجاد فيها ما شاءت بلاغته. ولما وقف عليها غوته دهش منه وازداد تعلقاً به واحتراما له فعاشا على حد قول الشاعر:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
ومودة الأدب إذا كانت بإخلاص نية وعدم حسد وتنابز كانت آية الآيات في حسن السلوك وأدب المعاشرة.
فكانت هذه الرواية (بوق الحرية الشريف) وآخر رواياته.
من بدائع قصائده؛ (آلهة اليونان) و (ماري ستوارت)، (عذراء أورليان)، و (عروس مسينا). وفي مقدمتها يقول (ليس موضوع العلم أن يثير حلم الحرية للحظة. ولكن قصده أن يجعلنا أحرارا بالحقيقة). و (المتفننون)، (القتال)، ونشيد (فالنشتاين) (1799).
ومن مآسيه المشهورة (دون كارلوس) و (وليم تل). ومما قاله في مقطوعة عن وليم تل: (نحن نستنشق الهواء الجبلي للحرية ونطأ جبال الألب بحرية شخصية ونشعر برعدة).
ومن مشهورات تواريخه: (تاريخ ثورة هولندا) و (الحرب الثلاثينية) وهو كتاب تاريخ ممتاز
وكان شيلر صحافيا اشتغل بمجلات أنشأها هو أو ساعد غيره بكتابة مقالاتها.
وعلى الجملة كان شيلر فيلسوفا ومتفننا ومؤرخا وشاعر وصحافيا.(1001/36)
شيء من آرائه وأقواله
تناقل الكتاب والشعراء كثيرا من آراء هذا الشاعر وأقواله مترجما إلى لغاتهم ومنها لغتنا العربية.
قال في وصف فتاة: (أنت في السادسة عشرة إذ يبتدئ إن فؤادك أن يخفق لأول مرة بعواطف ويردد صدى نغماته. إن الفتيات أمثالك لهن دائما مرآتان: المرآة الحقيقية ومرآة المعجب بجمالهن. فتصلح الثانية بتمويهها ما تفسده الأولى بصدقها. فإذا أرتك المرآة أثر الجدري يقول المعجب الأعمى: تلك غاية الجمال.)
وقال يصف شابا: (كنت سالكا سبيلا قويما ولكن تخلى عني أقراني وأضلوني الطريق إذ انفصلوا عني واحدا واحدا).
وقال في تأثير المرأة: (كلما وجد رجل وصل بعمل إلى غايات المجد وجدت في جانبه امرأة محبوبة).
ومن أعظم قصائده (لحن الجرس) خاطب به رأسا قلوب الجماعات بقوله: (أنا أدعو الأحياء وأنا أنوح على الموتى وأنا أكسر اللمعان). فهي أشبه بقصيدة لنفلو الشاعر الأمريكي (بناء السفينة). وقد عربنا معظم ديوان الشاعر الأمريكيو.
ومن قوله في قصيدة القتال: (لا. لا. لن أصبر طويلا على هذا القتال الطاحن الذي يقوم به الواجب. فإذا لم تقدري على كبح أهواء قلبي أيتها الفصيلة فلا تطلبي مني التضحية. فإكليلك هذا يجب أن يبقى كل الأيام بعيدا عني. خذيه ودعيني وحدي أتلاشى).
عيسى إسكندر المعلوف(1001/37)
رسالة الشعر
أنا والحياة
للأستاذ حسين عبد الفتاح سويفي
أي شيء يا حياتي فيك يدعو للحياة؟
كل شيء فيك يهتاج بكائي وشكاتي
مل جفني من دموعي وشكا من عبراتي
كل شيء في حياتي غارق في الظلمات
ألسنا الوضاء معنى لم يلج في خطراتي
أي شيء يا حياتي فيك يدعو للحياة؟!
هذه النار التي تسري بروحي ودمائي
والأعاصير التي قد عكرت صفو هنائي
والأحاسيس التي تعشق دمعي وبكائي
والتعلات التي كانت عزائي ورجائي
والأماني التي لم تغنني أي غناء
كلها مجتمعات عجلت يوم فنائي
من أنا هذه الدنيا؟ أنا طير غريب
ضل في البيد فلا مأوى ولا عش قريب
بين جنبي جراح ليس يشفيها طبيب
وفؤاد ظامئ اللهفة موصول الوجيب
لم أجد في الكون قلبا عاطفا بين القلوب
لهف نفسي لحبيب مخلص - أي حبيب
ظامئ الروح ولكن أين كأسي وشرابي؟
أين آمالي. وأوهامي. وأحلام شبابي؟
أين حلو الصفو ما بين رفاق وصحاب؟
أين ما أملت من تلك الأماني العذاب؟(1001/38)
لم أنل غير عنائي وشقائي وعذابي
واجتراري الليل يمضي بين سهد وانتخاب
ها هي الآلام تدعوني فعذار يا رفاقي
هل رأيتم كيف يسقيني من الآلام ساق؟
هل رأيتم كشرابي؟ أنه مر المذاق
من مزيج اليأس والحرمان والدمع المراق
وسعار اللهفة الظمأى ونيران المآقي
أيها الآلام كفي بلغت روحي التراقي
من أنا في هذه الدنيا؟ أنا العاني الشريد
أنا من قد مل العيش في هذا الوجود
أنا من قد عاش في الأسر وفي ظل القيود
أنا من قد عاف طعم الذل في أرض العبيد
ثائر النفس على كل قديم وجديد
إنني أجهل نفسي. لست أدري ما أريد؟!
فاضت الكأس فخلوني أبث الطرس وجدي
لم يعد ينفع صبري. ولا يغني التحدي
قد قطعت العمر والأيام في أخذ ورد
وطموح في الأماني لانهيار وترد
وشكاة من حياتي وزماني المستبد
مل من شجوى صحابي وحملت الهم وحدي
يا ربيع العمر ماذا فيك من روح الربيع
هذه شمس حياتي قد حبت قبل الطلوع
يحجب الأنوار عن عيني سحاب من دموعي
ودخان من قنوط ثائر بين ضلوعي
كلما أوقدت شمعي أطفأ الدهر شموعي(1001/39)
يا ربيع العمر كم ذا فيك من يأس مريع
هل رأيتم مثل صبري في الورى صبرا عجيبا
أكتم الأشجان في نفسي وأخفيها ضروبا
ثم أبدو بين صحبي مرحا طلقا طروبا
أمسك القلب على الوجد وأخشى أن يذوبا
وأداري اللوعة الكبرى ولا أشكو لغوبا
إن أكن أذنبت فهل لي أن أتوبا
حسين عبد الفتاح سويفي(1001/40)
العائدون من الحرب
للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري
(مهداه إلى القائد الأعظم اللواء محمد نجيب)
لقد عدنا. . أجل عدنا من الحرب ميامينا
على أعناقنا قد عبئوا النصر رياحينا
ومن أفواهنا قد جسموا المجد أرانينا
ألا يا ليتنا متنا بعيداً عن أراضينا.!
لقد عدنا من الحرب. . إلى الحقل إلى المصنع
لكي نحرث. . أو نبذر. . أو نحصد. . أو نجمع
لكي نبني للغير. . لكي نطهو ولا نشبع
لكي نحلم بالفجر الذي من يدنا يسطع!
لكي نصنع جربا ضخمة أخرى. . لكي نصنع
لقد عدنا إلى الأكواخ. . أكواخ أهالينا
وكنا قد كسوناها أسمال أمانينا
فماذا أبصرت أعيننا غير مآسينا
وغير الطلل الموجع نكبه ويبكينا
وإن لج بنا الشوق لمسناه بأيدينا
لقد عدنا. . ألا تبصرنا. . تبصر بلوانا
بقايا آدميين مساكين. . بقايانا
نجرجر خلفنا التاريخ أشلاء وأكفانا
ألا ليت الذي رقعنا بالموت أبلانا
ولم يبق لنا كالناس أشواقا ووجدانا
لقد عدنا. . أجل عدنا ولكن عودة المقهور
شربنا عرق الحرب. . أكلنا صدأ التنور
لبسنا كفن الثلج. . سكنا جدت الديجور(1001/41)
وها عدنا إلى القيد. . إلى قيد الأسى المضفور
فيا ضيعة هذا العمر. . هذا الصدف المكسور
وقالوا. . قال رب السوط والقانون والقوة
سأمضي قبلكم. . إني لكم. . لقطيعكم قدوه
وظل السيد المعبود في رقدته الحلوة!
وكانت كأسنا الموت. . . وكانت كأسه الشهوة
فماذا يبتغي الجلاد. . ماذا يبتغي منا!
لقد سرنا كما شاء. . وعدنا لا كما شئنا
هدمنا وتهدمنا. . وعذبنا وعذبنا
وكم حلم سحقناه. . وكم مقبرة شدنا
وكم من مرة متنا. . وكم من مرة عشنا
فلا بارك هذى اليد. . لا باركها الرحمن
إذا لم تسق بالحب صدى الحيران
إذا لم تك فأسا في جدار البؤس والطغيان
إذا لم تك ميزانا لوحانية الإنسان
إذا عاشت لغير النور والرحمة والإيمان
محمد مفتاح الفيتوري(1001/42)
خطاب مفتوح
إلى الأستاذ محمد فتحي مستشار الإذاعة
من الأستاذ علي متولي صلاح
يا أخي الأستاذ
الآن وقد عاد إليك مكانك الطبيعي في الإذاعة التي اقترنت باسمك منذ مولدها، واقترنت أنت بها منذ مطلع سبابك وباكورة عملك في الحياة. . والآن وقد عاد إليك مكان المشورة والرأي والتوجيه في الإذاعة، وقد صارت مؤسسة ذات خطر في الدولة وذات أثر في الناس، وأصبحت عاملا هاما في التثقيف والتهذيب والمعرفة الصحيحة. .
والآن وقد عاد إليك مكانك هذا في عهد جديد سعيد كأنما انسقت عنه السماء ليكون برزخا فاصلا بين النقيضين: الرذيلة والفضيلة، وليكون تغييراً لمعالم الحياة في مصر، وليكون قبرا أخير للفساد والظلم والطغيان والاستعباد وما إلى ذلك مما تردت فيه البلاد حقبة ليتها لم تكن في تاريخها!
الآن وقد عاد إليك مكانك هذا في عهد كهذا، فإن على كاهلك ليقع عبء كبير ثقيل لا ينهض به إلا أولو العزم من الرجال، وإني أعيذك أن تحتسب الأمر هينا سهلا، فإنك - إن تردج الإصلاح حقا - لتنفق من ذات نفسك وجهدك الشيء الكثير.
إن الإذاعة - حتى اليوم - مهزلة كبرى وفضيحة لمصر ليس وراءها فضيحة، وكأنما تنفق الدولة ما تنفقه على هذه الإذاعة ابتغاء التشهير بها والنيل من كرامتها وقدرها أمام العالم أجمع، فهذا العبث الذي ترسله الإذاعة، وهذا التخنث الذي يشيع في الأغلب الأعم من أغانيها من أمثال قولهم (ما قال لي وقلت له، وجالي ورحت له، يا عواذل فلفلوا) وسواه مما لا اذكره احتراما لقلمي أن يخطه ويتلوث بذكره، إنما هو فضيحة ليس وراءها فضيحة. . وهذا النفاق الذي يتدفق من شعراء الإذاعة وكتابها، هؤلاء الذين كانت تجرهم الإذاعة كالثيران البدنية ليلقوا على الناس عقود المديح والثناء والإطراء في الطغيان والعسف والظلم والاستبداد، هؤلاء المنافقون الدجالون عليك إبعادهم ونفيهم وكتم أنفاسهم، وتطهير الإذاعة منهم فإنهم رجس يجب ألا يعيش في هذه الأيام. .
إن عليك يا أخي أن تمحو من الأغاني والأناشيد والأحاديث كل ما يضعف الرجولة ويشيع(1001/43)
الوهن والضعف والاستخذاء في النفوس. أمح من الإذاعة بجرة قلم جميع هذه الأغاني المخنثة المائعة التي يغنيها الرجال والنساء على السواء! يغنيها المغنون - يا أخي - بأصواتهم الغليظة فيجملونها بالتأوه والتعوج وإرسال الزفرات الحارة والتنهدات المتسعرة! أمح هذا العار الذي يحيل هؤلاء الرجال إلى إناث بعيدي الأنوثة ينافسون الإناث فيما اختصهن به الله!
إن عليك يا أخي أن تمحو باب الارتزاق - لمجرد الارتزاق - أمام كل من هب ودب من هؤلاء الذين يسقطون على الإذاعة وكأنها تكية السلطان! هؤلاء الذين يقدمون إلى الإذاعة أي كلام وأي أغاني وأي مسرحيات، ثم يضمنون إذاعتها دون مراجعة ودون اعتراض، معتمدين على ما لهم في الإذاعة من صلات وقرابات!
إن عليك ألا تكل إلى أحد من رجال الإذاعة مالا يفهم! فإن الناس ليعجبون كيف ينهض بالأمر في الإذاعة من لا يحسنه؟ وكيف يسند إليه من الأعمال ما لا يؤهله له علم أو فهم؟ أعط القوس باريها، ولا تعهد بعمل إلى رجل ألا إذا سبقت له به دربة كافية ودراية طويلة، ولا تقم وزنا لهذا الذي جاء به الوزير الفلاني والكبير العلاني. فإن هذه دولة قد دالت ويجب ألا يكون لها وزن في حياتنا الراهنة. . وإن الإذاعة - كما يعرف الناس جميعا موبوءة مشحونة بمن جلبتهم الشفاعات والوساطات لا يحسنون عملا ولا تعدو إليهم ضرورة!
هذه خطوط رئيسية جدا أنت أدرى الناس بها وبأكثر منها، فعليك أن تأخذ الأمر بالحزم والصرامة، وأنت تعلم ما الإذاعة وما خطرها وما أثرها في تتوجيه الدولة في الداخل وحسن سمعتها في الخارج؛ وأنت بعد اليوم مسؤول عن كل كلمة نسمعها في الإذاعة، فإن أحسنت وغيرت أيدناك، وإلا خذلناك وما نرى إلا محسنا إن شاء الله.
علي متولي صلاح(1001/44)
الكتب
الزعيم أحمد عرابي
الأستاذ عبد الرحمن الرافعي
الأستاذ محمود عبد المنعم محرم
الأستاذ عبد الرحمن الرافعي هو مؤرخ التاريخ المصري الحديث، وكتبه التي أخرجها هي في دقتها وصدقها مثال رائع لما يجب أن يقوم به المؤرخ المنصف. وكتابه الذي بين يدي الآن (الزعيم أحمد عرابي) انتهى الأستاذ الرافعي من كتابه في يناير مفتتح هذا العالم. وكان مقدراً لهذا الكتاب أن يرى النور في مارس من العام الحالي، غير أن الطغيان والظلم جالا دون ذلك، فبقى الكتاب حبيسا حتى خلى سبيله أخيرا يحمل الدعوة إلى التضحية والدعوة الإصلاحية إلى أبناء الوطن.
ومن تصاريف القدر أن الزعيم أحمد عرابي ظلم ظلما متواترا أثناء حياته وبعد مماته. وهذا الذي وقع لسيرته الرافعية ما هو إلا حلقة من سلسلة الاضطهادات المادية والمعنوية التي أصيب بها بطلنا الكبير. ولئن كان الأولون الذين ظلموه قد اتخذوا باطن الثرى مضاجع لهم، فإن هؤلاء الذين وقع ظلمهم عليه الآن، قد خرجوا من الديار يجوبون الآفاق طريدي العدالة والأنصاف، وراحوا مشيعين بما فعلوا من سوء وما قدموا من بغي وخذلان.
وأحمد عرابي زعيم فلاح نشأ في القرية، ودرس في الأزهر فترة وجيزة. وكتب علية أن يترقى في مناصب الجندية من ابسطها إلى أعلاها حتى كان زعيم مصر في عهد من احلك العهود التي مرت ببلادنا العزيزة. وكانت نهاية هذا البطل المخلص، أن ائتلفت ضده قوى الاستخذاء والاستعمار والأنانية والطغيان، وحاربيه في ميدانه الوطني، وأخرجته من وطنه الحبيب وبلاده التي جاهد لها.
وإن العدالة الإلهية تقتص لهذا الوطن البائس، ولأبنائه الفلاحين الفقراء العراة ولجنوده المظلومين من الطواغيت المستبد التي أخذت عليه مسالك الحرية والأمن والصعود إلى مصاف الدول القوية والشعوب المستنيرة. وغير خفي أن أحمد عرابي هب يطالب بحقوق الوطن، وأبنائه، في عهد الخديوي توفيق، الذي كان يمثل العقلية التركية القذرة بكل(1001/45)
غرورها الغبي وزهوها المخبول. وكانت الخاتمة أن يطرد ابن الوطن البار من بلاده، ويبقى الدخلاء المترفون يتمتعون بالخيرات والنعم التي يلتهمونها من أفواه المساكين. ثم على تعاقب الأيام، قلم بطل جديد ينادي بحق الشعب مرة أخرى وكانت النتيجة، أن ثبت الحق على يد أربابه وفي قلوب المؤمنين به، وطرد الغشوم الذي أساء إلى نفسه وأبعد في التنكيل بها، وراح ينسل بنفسه الآبق وشذوذ المتغطرس.
وإن ثمة وجوه شبه بين الثورتين، ثورة أحمد عرابي، وثورة محمد نجيب. من وجوه الشبه هذا المطالبة بحقوق الشعب. ومنها أن الثورة وجهت أول ما وجهت إلى الجالس على العرش الذي يمثل الظلم الصارخ والكبرياء الحقير. ومنها أن قائدي الثورتين من أبناء الاعتماد على العنصر الديني والإنابة إلى الله ومنها أن القائمين بهما من رجال الجيش. وغير ذلك من العوامل السياسية الأخرى التي تكاد تكون واحدة في مغزاها على عهد الثورتين كلتيهما.
وحرب فلسطين ليست بعيدة عنا بآثارها ونتائجها. ولعلك سمعت ما قيل حولها من خيانة وائتمار بالجيش، ومحاربة للشجعان المخلصين من أبنائه، وتقريب الذين كانوا سبب الهزيمة وعوامل الاندحار، مع جهلهم أو فسادهم أو خيانتهم، وهذا يشبه ما حدث في عهد إسماعيل. وهو فريب مما حدث على عهد توفيق أيضاً (ولا مراء في أن إسماعيل كان يميز الضباط والرؤساء الشراكسة والترك على الوطنيين في المعاملة، يرغم ما بدا منهم من العجز والجهل وعدم الكفاية، مما ظهر أثره جليا في الهزائم التي حاقت بالجيش سنة 1875 - 1876 في حرب الحبشة. وعلى ما كان لهذه الهزائم من أسوأ الأثر، فإن إسماعيل لم يحاسب أولئك القواد والضباط على ما وقع منهم من الإهمال والتقصير، وقيل أنه اعتزم محاكمة راتب باشا قائد هذه الحملة، ولكنه ما لبث أن رجل عن ذلك فقربه إليه وجعله من بطانته. وهذا يدلك على شديد ميله إلى تلك الفئة. فكانت لها الخطوة لديه ثم لدى الخديوي توفيق).
وإن الحكم النيابي قد عطل في عهدنا هذا. وكان الملك يستبد بالأمر، ولم يكد يدع للوزراء حرية يتصرفون بمقتضاها. حتى كان يولي من يشاء ويعزل من يشاء تبعا لأهوائه ونزواته. وهذا مثل ما حدث في عهد الخديوي توفيق. فقد كان الآخر يستبد بالأمر ويملي(1001/46)
إرادته على وزرائه. وإلا عمل إعفائهم من الحكم (وبينما كانت الطبقة المثقفة ترتقب إعلان الدستور على يد الخديوي توفيق؛ إذا بهم يرون شريف باشا يستقبل لمعارضة الخديوي يؤلف وزارة برياسته، مما ينم عن ميوله الاستبدادية، ثم يكلف رياض باشا تأليف وزارة من مبادئها الأساسية حكم البلاد حكما مطلقا، وحرمانها أي نظام دستوري. . حتى مجلس شورى النواب القديم على ما كان عليه من ضعف السلطة، فقد ظل معطلا سنتين، طوال عهد وزارة رياض باشا).
وقد كانت الصحافة تلاقي العنت والمشقة. ولا تزال تذكر قانون تقييد الصحافة الذي أطل برأسه من مدة، غير أن الصحف ومن ورائها أبناء الأمة، تنادوا حتى وأدوا هذا القانون الرجعي في مهده. والرقيب لا زال صرير قلمه يدوي في آذاننا إلى وقت قريب. وفي عهد توفيق استهدفت الصحف المعارضة للاضطهاد في عهد وزارته، ثم في عهد وزارة رياض، واستخدمت الحكومة اللائحة القديمة المسماة لائحة المطبوعات لإنذار الصحف أو تعطيلها. وقد عطلت الحكومة في عهد وزارة توفيق جريدة (مرآة الشرق) مرة لمدة شهر ومرة لمدة خمسة أشهر، وأنذرت جريدة (التجارة). وفي عهد وزارة رياض أنذرت الحكومة جريدتي (مصر) و (التجارة)، وأنذرت جريدة (مصر الفتاة)، وأنذرت جريدة (الإسكندرية) ثم عطلتها شهرا، وعطلت جريدة (المحروسة) لمدة خمسة عشر يوما، ومنعت جرائد (النحلة) و (أبو نضارة) و (أبو صفارة) و (القاهرة) و (الشرق) من دخول القطر المصري.
ولم يكن حظ المخلصين والوطنيين في عهدنا هذا بأحسن منه في عهد توفيق، فإنهم قد أوذوا في كلا العهدين، ونابهم رزء شديد وتجن بالغ، لا لشيء إلا لأنهم يخلصون لوطنهم ويعملون لإخوانهم أبناء الشعب، فكان جزاؤهم الإقصاء والحرمان، وتقديم العملاء والأصهار والمحاسيب والمرتشين، وبذلك تتعطل مصالح العامة، ولا يتقدم إلا كل خب مخادع مستغل، لا يخدم وطنه، وأن كان على استعداد لأن يتمرغ تحت أقدام وسادته وأولياء أمره، الذين لا يختلفون عنه في أنانيته واستغلاله ونكوصه عن قواعد الشرف والمروءة. وقد أرغم الخديوي توفيق محمود سامي البارودي على تقديم استقالته من وزارة الحربية لمشايعة العرابيين ولأسباب أخرى، وعين صهره داود باشا الدرة مللي محافظ القاهرة، لما كان معروفا عنه من مشايعة حركة عرابي، وتعيين عبد القادر باشا حلمي(1001/47)
مكانه، وكان مكروها من العرابيين، وبث محافظ العاصمة الجديد العيون والجواسيس لينقلوا أخبارهم، ويتعرفوا على جركاتهم وسكناتهم.
ما أشبه الليلة بالبارحة، وإن التاريخ يعيد نفسه. ولكن الذين يعتبرون به هم القليلون. وهذا الذي ذكرته من قبل كان من أسباب ثورة أحمد عرابي. وهو ذاته من أسباب ثورة محمد نجيب. الاستبداد بالأمر! تقييد الأذناب والمفسدين! فضائح الاستغلال والارتشاء! الغطرسة والتنكر لحقوق الشعب! كل هذا دروس بالغة كان يجب أن تؤتي ثمارها، غير أن الناس غافلون عما تقدمه لهم يد الزمان من ألوان العظة والاعتبار. ولو اعتبروا، ولو اتعظوا، لما وقع المتأخرون في مثل ما وقع فيه المتقدمون من عوامل الإفساد والأثرة، فانقلبت عليهم شعوبهم طالبة العدل والإنصاف!
أنا لم أر الأستاذ الرافعي، ولكن كتابه ينم عنه، فهو كتاب دقيق واضح عادل. ومعنى هذا أن مؤلف الكتاب يتمتع بصفات نادرة هذه الأيام من العدل والنظافة والإخلاص. وهي ذات الصفات التي قد تكون وفقت في سبيله، وغبنته حقه، فتقدم عليه من هو دونه. وإنه لأثر قبيح من آثار هذا الزمان الذي كنا نعيش فيه - والذي أرجو أن ينقشع - أن تكون الصفات النبيلة والكفايات الخلقية النادرة من أسباب تعويق الإنسان عن أن يصل إلى ما يستحق من تقديم وتكريم.
وأظن أنه كان من الخير أن حرم كتابه (الزعيم أحمد عرابي) النور إثر انتهائه من كتابته ولم يظهر في وقته المحدد. ذلك أن الظرف الذي ظهر فيه فيما بعد هو انسب الظروف لاستقباله مثل هذا الكتاب. فالكتاب عن جهاد زعيم ثائر - والثورة كانت للظفر بحق الشعب. ونحن الآن، وبقراءته، يجب أن نقارن بين الثورتين في دوافعهما وأسبابهما، وفي أغراضهما، وفي طبيعتهما. ويجب أن نعرف الدواعي التي أدت إلى إخفاق الثورة الأولى، لنتحاشاها ونحصن أنفسنا وثورتنا ضدها، ولئلا نقع فيما وقع فيه العرابيون.
يذكر الأستاذ الرافعي بحق أن الثورة العرابية مرحلتين: المرحلة الأولى كانت الثورة فيها مسددة موفقة، والمرحلة الثانية حادت الثورة فيها عن الطريق الإصلاح المنشود. والفارق بين المرحلتين هو عمل العرابيين على تنحية محمد شريف باشا كان بلا نزاع أقدر من البارودي على حسني تدبير الأمور في تلك الأوقات العصيبة، إذ له من ماضيه السياسي،(1001/48)
وثقافته، واختباره، ما يجعل له كفاية ممتازة في الاضطلاع بالمهام السياسية. أما البارودي فقد كانت نشأته أدبية حربية فحسب، وهذه مزايا ليست هي المطلوبة لتصريف سياسة مصر، وخاصة في هذا الظرف المضطرب. زد على ذلك أن رجال الجرب والشعر لا يعالجون المشكل علاجا واقعيا، بل يعالجونه بالحمية القلبية والخيال الذهني، لا بعقلية الحكيم المتبصر.
وهذا درس يجب أن يصغي إليه القائمون بأمرنا الآن عنايتهم، ويرعوه حق الرعاية. فإننا الآن عرضه - قدر الله - لمقل هذه المزالق التي تعثر فيها الآراء. ولو استمعنا إلى الماضي، وأحسنا التلقي عنه، لجنبنا ذلك كثيرا من الصعوبات السياسية الكثيرة، تلك الصعوبات التي ينقب عنها كل لحظة أعداء الحركة في الداخل والخارج.
وقد كان لكل من إنجلترا، وفرنسا، وتركيا، موقف مشهود في الحركة العربية، أما فرنسا وإنجلترا فكانتا تتدخلان في شؤون مصر الداخلية، وتعملان على إحباط الحياة النيابية، وتوسيع شقة الخلاف بين الثائرين والخديوي. وكان لهما ما أرادتا. ثم انسحبت فرنسا من الميدان وخلت إنجلترا وحدها فيه تتصرف بمحض جشعها واستغلالها ومصالحها الخاصة، ولا لمصالح العرابيين، ولا لمصالح الخديوي الذي تدعي أنها تحميه وتعمل على استقرار عرشه. وأما السياسة التركية فكانت تتسم بقصر النظر، والغرور الأحمق، والعمل على تسوئ سمعة مصر، وإعلان سيطرتها الوهمية على البلاد. وهذا شبيه بموقفها الذي الآن من الدول العربية عامة ومصر خاصة، فهو موقف الحقود الذي يتربص بنا الدوائر، فلا تنصر قضية عربية، وموقفها من مرور ناقلات البترول بقناة السويس لحساب اليهود معروف، وكذا موقفها من قضية تونس الذبيحة معروف أيضا.
والأستاذ الرافعي كتب كتابه بأسلوب المجتهد، إذ المعروف أن مصادر التاريخ المصري ملوثة، وان الكاتب يجد حرجا كبيرا، خاصة إذا كان من الوطنيين المخلصين أمثال الأستاذ الرافعي، فهو يكتب للوطن، لا لحساب دولة معينة ولا ناحية ما، بل إرضاء للحقيقة والواقع وتسجيلا لفترة من ماضي هذا الوطن المنكوب، حتى يفيد من يرجو الخير لبلاده، وحتى يشيح بوجهه من يشاء.
وهو مستقل في أحكامه على أحداث الثورة العرابية ووقائعها. وهو لا يعفي العرابيين من(1001/49)
اللوم والتقريع. ولا يعفي الخديوي ولا أوليائه من المؤاخذة العنيفة والصفع الدراك. فقد نقد موقف العرابيين من وزارة شريف باشا التي جاءت على أثرها وزارة البارودي باختيارهم. ونقدهم على عدم ردمهم قناة السويس اعتمادا على قول فرديناندي ليسبس. ونقد موقف إنجلترا من وزارة إسماعيل راغب التي جاءت بعد وزارة البارودي. واغلب الظن أن إنجلترا لم تكن تبغي تأليف وزارة في مصر لكي تبدو البلاد في حالة غير اعتيادية وتتخذ من ذلك ذريعة إلى التدخل في شؤون البلاد. فلما تألفت وزارة إسماعيل راغب قابلتها السياسة الإنجليزية بالجفاء وعدم الثقة والغض من قدرتها على إعادة الأمن إلى نصابه وأخذت تتخلق لها العقبات والعراقيل. ونقد موقف تركيا، فبينما كانت تتظاهر بتأييد سلطة الخديوي، إذ بالسلطان عبد الحميد يعلن عطفه على عرابي ويمنحه نيشانا رفيع الشان، ثم إذا جد الجد ونشبت الحرب بين عرابي والإنجليز طعنه السلطان في الصميم بإعلانه عصيانه، فكان هذا الإعلان من أكبر أسباب هزيمة عرابي وخذلانه. هذا التناقض والاضطراب، مضافا إليهما قصر نظر تركيا وسوء نيتها نحو مصر، ورغبتها في إنقاص استقلالها، ثم ما جلبت عليه من الدس والوقيعة، وتأثر وزرائها بالمال والرشا، وجعل السياسة التركية عامل فساد استخدمته بريطانيا لتحقيق أطماعها في مصر.
إني أدعو إلى كتابة التاريخ المصري الحديث من جديد، على هذا النحو الذي يكتب به الأستاذ الرافعي، لأننا بحاجة لأن نعرف بلادنا وتاريخنا على الوجه الصحيح في هذه الفترات المظلمات، ولنكون على بينة من مصالح الوطن وأمانيه ومطالبه في السنوات الخوالي.
محمود عبد العزيز محرم(1001/50)
البريد الأدبي
حول بيت المتنبي
نشر الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري في العدد 995 من مجلة الرسالة الغراء هذا البيت ونسبه للمتنبي في الصفحة 155 من الجزء الأول من شرح الديوان لعبد الرحمن البرقوقي.
يهز الجيش حولك جانبيه ... كما نفضت جناحيها العقاب
ولدى تصفح الجزء الأول من شرح الديوان لم أجد هذا البيت الذي أشار إليه الأستاذ الناصري. . . ولعل الأستاذ يقصد ما ورد في الصفحة 154 من شرح الديوان من قصيدة المتنبي يمتدح بها بدر بن عمار ارتجالا وهو على الشراب.
إنما بدر بن عمار سحاب ... هطل فيه ثواب وعقاب
ومعنى هذا البيت أن مثله مثل السحاب الذي ينهل بالمطر تنقض فيه الصواعق ففيه حياة لقوم وهلاك الآخرين. وهذا المعنى يناقض ما ذهب إليه الأستاذ الناصري. ويتضح من ذلك أن الأستاذ لم يطلع على شرح الديوان كما ذكر في تعقيبه وله مني جزيل الشكر.
خلف إبراهيم الكاتب
إلى الأستاذ (عين)
كلمتك الصغيرة يا أستاذ في العدد (997) من الرسالة الغراء - مترعة العاطفة، واثبة الروح؛ ولكنك لم تصب في تقدير قيمة، أو (حقيقة) هذه الحركة المباركة حين قلت: (ووالله ثم الله الذي لا يحلف به كذباً إلا فاجر لو أعطيت مائة ليرة ما فرحت بها مثل فرحي بهذا الخبر).
أعتقد أنك أخطأت تقدير حركة هذا الانقلاب لما كان يوازي - عندك - مائة فما فوقها. .
إن هذا الانقلاب يا سيدي الأستاذ - لا يقدر بالمائة ولا المائتين، ولا الألفين؛ وإنما يوزن بالحياة بكل معانيها من حرية وعزة وكرامة. .
والله لو وضع انقلاب مصر في كفه، ووضع ذهب الأرض وفضتها في كفة أخرى. لرجحتها الكفة الأولى.(1001/51)
إن وثبة الشعوب وانعتاقها لا يوازيه ثمن إلا الحياة بكل مقوماتها. . فعلى بركة الله يا شعب مصر.
عبد الله الشيرازي الصباغ
شوقية أخرى
الحرب لا بد منها ... وإن أباها الأنام
حقيقة وضعوها ... فليس فيها كلام
ما دام شر فحرب ... والشر فيهم لزام
في كل يوم دعاوى ... لا تنقضي وخصام
إذا استراح فريق ... تقاتلت أقوام
والناس للناس بالحر ... ب سيد وغلام
ولن يسودوا جميعا ... حتى يسود السلام
أرسل إليكم هذه الشوقية النادرة أو المفقودة فيما أعتقد رجاء عرضها على الأستاذ عبد القادر الناصري وعلى القراء لمعرفة ما إذا كان أحد قد صادفها قبل الآن. وسأوافيكم بالموجود فيما بعد
لطف الله نصر الدين أيوب
حول علم النبي بالغيب
في (عدد الرسالة999): فالقرآن الكريم اثبت الغيب لله ونفاه عن غيره في قوله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا).
وفي (شرح المقاصد للسعد التفتازاني): النفي في قوله تعالى (فلا يظهر على غيبه أحدا) مع فرض التغاضي عن الاستثناء - مسلط على مصدر مضاف - أعني غيبه وهو من ألفاظ العموم، فيفيد سلب العموم، لا عموم السلب. فيكون المعنى نفي علم جميع الغيب لا نفي علم شيء من الغيب.
محمد شفيق(1001/52)
غضبة لصيحة
عزيز علينا أن يفرض الصمت على الناي المغني بالعراق، وان تظل. . الخميلة (غائبة لا يباح لها اخضرار ولا إيراق، بينما تحت الأنظار عشب يجهد الأرض ولا يجود بالثمر، يرعى ويغذي، ويخص دون غيره (بالامتياز). . هذا وقضاء الله قائم بان الزبد ذاهب جفاء، وان العاقبة للنافعين.
لقد أصغيت إلى صيحة (الناصري) (بالرسالة) موئل الثقافة الحرة، فعجبت للرجعية! كيف تنبح موكب التقدم؟ وكيف لم تصعق من جبروت الحضارة.
أحرام على بلابله الدو ... ح حلال للطير من كل جنس
إن الفكر كالنهر حليم رزين قد يقف للسد ويطيع، ولكنه إذا فاض وتجمعت دفقاته، خرت صاغرة في جوف وادية كل العوائق والسدود، وما حطم أحجار (الباستيل) غير وخزات (فولتير)، وما أسقط (القيصرية) إلا أمثال (جوركي) ونصيب الشعوب بعد ذلك من الجهاد، إنها استجابت لصيحة العقل، وحققت إرادة الفكر، وغنمت النصر والحرية؛ فحرام تعضيد الأميين، وخذلان المثقفين. لأن ذلك إطفاء لشموع يريد لها ربها أن تضيء. . . واعتبروها إن
كنتم تبصرون.
بني سويف
بركات
يتيم ولطيم
ظهر أخيراً كتاب المساكين لدستو يفسكي ترجمة السيدة صوفي عبد الله وجاء في ص34 منه هذه العبارة: -
(وساشا فتاة يتمية لطيمة مات عنها أبواها. . .) ونقول سائلين على أي نوع من أنواع البلاغة يكون التعبير بهذه الطريقة؟
يقولون يتيم لمن مات عنه ابوه، ويقولون عجى لمن ماتت عنه أمه، ويقولون لطيم لمن(1001/53)
مات عنه أبواه جميعا.
وخلاصة ما نريد قوله أنه ما دام مات عن الفتاة والداها فلا داعي لاستعمال لفظ (يتيمة) إذ أن كلمة (لطيمة) وما تبعها من تفسير لها يغني كل الغناء عن استعمالها.
لقد حسبته المترجمة الفاضلة من الاتباع وليس منه.
خميس محمد إبراهيم(1001/54)
القصص
وفاء زوجه
عن الإنكليزية
كان يعيش في العاصمة منذ عدة قرون رجل فيلسوف اسمه شوانج. وكان معتكفا عن الناس لا يكاد يخرج من داره. وقد كانت زوجته الأولى في سن الشباب ولم يكن سعيدا معها؛ وكذلك كل الفلاسفة لا يسعدون بالزواج. فتزوج للمرة الثانية ولكنه طلق زوجته الأخرى منها إياها بسوء السلوك؛ وتزوج للمرة الثالثة بسيدة تدعى (تاين) فوجد معها من السعادة ما لم يجده في المرتين السالفتين.
وغير مسكنه بعد الزواج منها فأقام في ضاحية بالقرب من الجبال كان يتنزه في الخلاء، ففي يوم من الأيام وجد امرأة أمام قبر حديث البناء وفي يدها مروحة تحاول بها تجفيف بناءه. فكان ذلك الحادث داعياً إياه للتساؤل، فاقترب منها وسألها في رفق: (ما الذي تفعلين؟)
فأجابته: (في هذا القبر رفات زوجي. ولما كان رحمه الله غبيا فقد استحلفني إلا أتزوج بعده حتى يجف بناء قبره وقد زرت القبر أياما متوالية فلم أجد بناءه جف ولذلك استعجلت تجفيفه بهذه المروحة).
قالت ذلك ونظرت إلى الفيلسوف نظرة حملته على أن يؤدي لها خدمة. فقال: (إن يديك ليستا قويتين فدعيني أساعدك) فقالت: (شكرا! وهذه هي المروحة وستؤدي لي أعظم خدمة إذا عملت في تجفيف القبر).
فجلس يروح بقوته السحرية فجفف القبر بعد لحظات قليلة. وسرت السيدة بنجاحه فابتسمت له ابتسامة مشرقة وجعلت علامة شكرها إياه أن أهدت إليه مروحة أخرى ثمينة كانت تحتفظ بها بين ثيابها: وأهدت إليه كذلك دبوساً غاليا كان في طيات شعرها فقبل الهدية الأولى ورفض الهدية الثانية، ثم ذهب إلى منزله فتذكر الحادث وهو جالس مع زوجته فتنهد؛ فلما سألته عن سبب تنهده أخبرها بما سمعه، فبدا عليها الغضب وثارت على تلك الأرملة التي فضحت بنات جنسها. فردد شوانج المثل القائل: إن رؤية وجوه أناس شيء، ورؤية وجوههم شيء آخر؛ فقالت زوجته: (إنك تظلم النساء إن زعمت أنهن جميعا مثل(1001/55)
تلك الأرملة التي لا تخجل).
فقال الزوج: (علام هذا الاهتمام؟ أخريني، إذا مت وكنت لا تزالين صغيرة جميلة، أترضين بالترمل خمسة أعوام أو ثلاثة؟).
قالت: (إن الوزير الأمين لا يخدم سيدين، والزوجة الفاضلة لا تتزوج من رجلين؛ فإذا قدر الله أنك تموت قبلي فلن يقتصر وفائي على الترمل ثلاثة أعوام أو خمسة، ولكنني سألبس ثياب الحداد حتى الموت).
قال شوانج: (هذا كلام يصعب تصديقه) فقالت: (هل تظن أن النساء كالرجال المجردين من الإنصاف والوفاء؟ أن الزوجة متى ماتت بحث عن غيرها، وقد يطلقها لأنه اختار غيرها فلا تستمر في حديثك الذي أزعجني).
فعندما سمع الزوج هذه الكلمات مزق المروحة التي أهديت إليه عند المقبرة. وقال: (هدئي من روعك وأرجو أن يكون عملك في المستقبل مطابقا لقولك الآن).
بعد أيام كثيرة من هذا الحديث مرض شوانج مرضا خطرا فلزم الفراش. ولما بدت عليه علائم الموت قال لزوجته: (أشعر الآن بقرب منيتي فأستودعك الله. ولكنني آسف على تمزيق تلك المروحة، فقد كانت تنفعك في تجفيف قبري).
فقالت الزوجة وهي تبكي: (أرجو يا زوجي العزيز ألا تكون هذه الساعة الأخيرة ساعة ريبة تشعر بها نحوي. إنني قرأت كتاب السنن وتعلمت منه أن المرأة الفاضلة لا تتزوج إلا من رجل واحد. فإذا كنت لا تزال ترتاب في فإني أقتل نفسي بين يديك لأبرهن على وفائي).
فأجابها شوانج: (إنني لا أريد شيئا بعد الذي سمعته منك).
ثم اشتدت وطأة المرض عليه فقال: (هاأنذا أعالج سكرة الموت. إن الدنيا تظلم في نظري).
وعند هذه الكلمات فقد الحركة والتنفس. فلما عرفت تاين أن زوجها مات علا صوتها بالبكاء وعانقت جثته مرة بعد مرة وبكته آناء الليل وأطراف النهار مفكرة في فضائله وحكمته، وجريا على العادات المتبعة في الصين لم يدخر جيرانها جهداً إلا بذلوه في سبيل مساعدتها.
وبعد أيام أقبل طالب وجهه كوجه الدمية من الحسن وشفتاه كالعقيق وعليه ثوب من الحرير(1001/56)
البنفسجي وفوق رأسه قبعة سوداء مزركشة بالحرير وحذاءه قرمزيان ووراءه خادم.
وقال الطالب للسيدة أنه منذ بضعة أعوام أفضى للفيلسوف شوانج برغبته في أن يصير تلميذاً له فقبل، وإنه جاء من بلاده اليوم لأجل هذه الغاية، ولكن لسوء حظه لم يصل إليه بعد موت الأستاذ، وانه وفاء لعهده يريد أن يقيم في منزله حزينا عليه مائة يوم.
وبعد أن أبلغها ذلك سجد أربع سجدات وبلل الأرض بدموعه. ولما هدأت أعصابه قليلا طلب مقابلة تاين فرفضت ثلاث مرات، ولكنها رضيت أخيراً أن تراه بعد أن أخبرها الثقات بأنه لا حرج على أرامل العلماء من مقابلة تلاميذهم.
وتلقت تحياته بأهداب مسترخية فقد فتنها جمالة ورشاقته واختلج قلبها بمشاعر كثيرة وطلبت إليه أن يقيم بالمنزل. وأعد العشاء فتناوله معه، وكان تنهدها يمتزج بتنهده، وأهدت إليه علامة على تقديرها إياه نسخة من كتاب (نانهوا) وأخرى من كتاب (سوترا) وهما الكتابان اللذان يؤثرهما زوجها.
وكان هو أيضاً علامة على حزنه يصلي كل يوم بجانب القبر ساعة تجلس إليه لتبكي.
وفي إثناء هذه الجلسات كانت تدور أحاديث قصيرة ويتسارقان النظرات فنشا بينهما العطف فمال إليها كثيرا وأحبته اشد الحب.
ولما كانت راغبة في تعرف أحوال ضيفها استدعت خادمه وقدمت إليه النبيذ حتى سكر وسألته: (هل سيدة متزوج؟) فقال: (إنه لم يتزوج قط) فسألته الزوجة: (وما هي الصفات التي يشترطها فيمن يريدها زوجه). فقال وقد أثر فيه مثل جمالك يا سيدتي)
فسألته باهتمام: (هل قال ذلك حقا؟ أتخبرني بالصدق؟)
فأجابها الخادم: (إن رجلا في مثل سني لا يكذب)
قالت: (إذا كان الأمر كذلك فكن وسيطا في الزواج بيني وبينه)
فقال: (إن سيدي كلمني في ذلك قبل الآن، وإنه لولا احترمه لذكرى أستاذه لبادر بطلب الزواج)
قالت الزوجة: (الواقع أنه لم يكن قط تلميذا لزوجي، أما جيراننا فهم قليلون وليسوا من ذوي الاعتبار فلا يحسن أن تقيم وزناً لانتقادهم)
وهكذا ذللت العقبات وتعهد الخادم بان يكلم سيده. ولما ذهب الخادم شعرت السيدة بقلة(1001/57)
الصبر شعوراً مضاعفا. وكانت تسير في منزلها ذهابا وجيئة وتنصت قرب النافذة علها تتسقط كلمة من حديثه وهي لا تفكر إلا في الزواج.
فلما دنت من القبر سمعت صوتا منه واضحا، وسمعت تنهدا فقالت: (هل من الممكن أن يعود الميت إلى الحياة في الدنيا؟).
ولكنها سرعان ما اطمأنت أما رأت الخادم السكران نائما بجانب القبر. ولو أنها لاحظت هذه الملاحظة في وقت عادي لأنبت الخادم وزجرته، ولكنها في هذا الوقت لم تجد خيرا من السكوت.
وفي صباح اليوم التالي قال لها الخادم أنه كلم سيده وإن السيد يجد في هذا السبيل ثلاث عقبات وهي:
أولاً: إن قبر الميت في وسط الدار، وذلك لا يجعله مسكنا صالحا للعروسين.
ثانياً: إن شوانج كان يحب زوجته حبا شديداً وإنها كانت كذلك تحبه، وهو يخشى إن تزوج منها ألا تستطيع حبه كما كانت تحب زوجها الأول؟
ثالثاً: أنه لم يأت معه من الثياب ولا من المال بما يلزم لإتمام الزواج
قالت الزوجة: إن هذه الأمور لا يصح أن تسمى عقبات في سبيل الزواج. . فقبر الميت ينقل من داخل المنزل إلى الحديقة التي خلفه. . أما من الوجهة الثانية، فقد كان شوانج محترما عظيم النفوذ ولكن به ضعفا من الوجهة الخلقية؛ فقد ماتت زوجته الأولى، وطلق زوجته الثانية، وكان قبل وفاته بقليل يغازل امرأة تروح على قبر زوجها ليجف، فلا يكن عند الطالب شك في أنه سينال من حبها إن تزوج منها أكثر مما ناله الزوج السابق! وأما من الوجهة الثالثة فإن لديها مالا كثيرا وستعطيه ثمن الثياب وتقوم بنفقات العرس!
وقالت: أخبره أن اليوم أنسب يوم للزواج، فلا يتردد، ولا يرجئ الأمر! وأعطت الخادم مالا كثيرا فذهب إلى سيده الطالب.
ولم يكد يذهب، حتى أبدلت تاين ثياب الحداد بثياب العرس وأوقدت الشموع واستعدت لحفلة الزفاف، ولكن في الموعد المحدد جاء الطالب هائجا وعليه الجنون. فاستدعت تاين الخادم وسألته هل اعتاد سيده أن تنتابه هذه النوبات؟
قال: نعم، فإنه مدله بحب الإله (تسو) إله العلم، وكانوا يعالجونه من هذه الحالة بأن يطعموه(1001/58)
مخ إنسان!
فقالت: وهل يصلح لذلك مخ إنسان مات موتا طبيعيا؟
قال: نعم على شرط ألا يكون مضى على وفاته تسعة وثلاثون يوما!
فقالت: (الأمر سهل فأنه لم يمض غير عشرين يوماً على موت زوجي الأول فلنفتح قبره، ولنطعمه مخه).
قال: (وهل توافقين على ذلك؟)
فقالت: (إنني وسيدك الآن زوج وزوجة، وعلى الزوجة أن تفعل من اجل زوجها كل شيء فكيف أرفض إطعامه من جثة إن تركناها قليلا استحالت إلى تراب؟).
فأحضر الخادم فأسا وذهب مع تاين إلى القبر فحفراه حتى بدا الصندوق فناولها الخادم الفأس، وكسرت الصندوق فظهرت الجثة، ورفعت الزوجة يدها بالفأس لتكسر الجمجمة وتستخرج المخ، ولكن الجثة تثاءبت ثم فتحت عينها.
فصاحت تاين مذعورة ووقع الفأس من يدها، وجلس الفيلسوف الميت في قبره وقال: (يا زوجتي العزيزة ساعديني على القيام).
فخافت الزوجة ولم يكن في وسعها إلا أن تطيع، فساعدته وقادته إلى غرفتها، وكانت غير ناسية النظر الذي سيؤلمه في هذه الغرفة، ولذلك ارتعشت وهي تقترب من الباب؛ ولكن كان من حسن حظها أن الطالب وأصحابه خرجوا من تلك الغرفة قبل ذلك.
فانتهزت هذه الفرصة وقامت بالخدمة التي تحسنها كل امرأة وأقسمت أنها لم تكف عن البكاء بالليل ولا بالنهار. وأنها لما سمعت صوتا من جانب القبر تذكرت القصص القديمة التي تدل على احتمال عودة الموتى إلى الحياة؛ فأخذت الفأس لتفتح له القبر؛ وحمدت الله أن جعل ظنها صحيحا فعاد زوجها إليها.
قال: (أشكرك يا زوجتي العزيزة ولكن هل لي أن أسألك لماذا ترتدين ثيابا مفرحة كثياب العرس؟)
فقالت: (لما سمعت الصوت من جانب القبر حدثتني نفسي بأنك عائد إلى الحياة فلم أرد استقبالك في ثياب الحداد).
فقال: (ولكن أمراً آخر يستدعي الإيضاح وهو لماذا لم يكن قبري في داخل المنزل كما هي(1001/59)
العادة بل خلف المنزل في الحديقة؟)
فلم تستطع الزوجة مع ذكائها أن تجيب عن هذا السؤال.
ونظر شوانج إلى كؤوس الخمر والشموع الموقدة وموائد العرس، ولكنه لم يد ملاحظة أخرى بل طلب إلى الزوجة أن تناوله كأساً من النبيذ ففعلت وهي تهش في وجه زوجها وتبسم له. ولكن رفض أن يتناول الكأس، وقال: (انظري إلى الرجلين الواقفين خلفك).
فنظرت ورأت الطالب وخادمه فارتجفت. ولكنهما اختفيا في الحال فعادت إلى النظر إلى زوجها فوجدته اختفى كذلك. ثم عادت إلى النظر خلفها فلم تجدهما، والتفتت فرأت شوانج أمامها مرة أخرى فأدركت الحقيقة، وهي أن طالب وخادمه لم يكونا إلا طيفين خلقتهما روح شوانج، ووجدت من العبث إنكار الحقيقة عنه.
ولما اعترفت بها وضعها في الصندوق الذي كان مدفونا فيه ثم أضرم النار في منزله فلم يسلم منه شيء غير كتابي (نانهوا) و (سوترا).
ثم سافر شوانج متجهاً إلى ناحية الغرب ولا يعرف أحد إلى أين ذهب، ولكن شيئا واحدا هو الذي يوثق به وهو أنه لم يعد إلى التزوج مرة أخرى.
ع. ق(1001/60)
العدد 1002 - بتاريخ: 15 - 09 - 1952(/)
الأزهر في مفترق الطرق
أبد ما كان يخطر بالبال أو يقع في الظن أن الفساد وإن طم وعم يدنو من الأزهر وهو معقل الدين، ويعلق بالعلماء وهم وراث النبوة. ذلك لأن العقل لا يجيز أن يكون المصباح الذي يهدي هو الذي يضل، وأن الإكسير الذي يشفى هو الذي يُعل، وأن السائل الذي يطهر هو الذي يعدي! ولكن الأزهر الذي لزمناه اثنتي عشر سنة من أوائل هذا القرن نتفقه فيه ونتأدب لم يعد هو الأزهر. والعلماء الذي كنا نأخذ عنهم الدين بالاعتقاد، والخلق بالقدوة، والعلم بالعمل، لم يعودوا هم العلماء!
لقد استجاب الأزهر الحديث لدواعي الفتنة، وتأثر العلماء الأحداث
بعوامل المادة، وزُين للدينيين ما زُين للدنيويين من حب الشهوات،
فتنافسوا في المكاسب، وتفارسوا على المناصب، ورضوا بميسور العلم
حتى أنحصرهم الأستاذ في المقرر، واقتصر جهدا الطالب على
المقروء!
من أجل ذلك كتبنا وكتب المخلصون لدين الله ولرسالة الأزهر، نصف هذه العلل، ونستطب لها بالرجاء والدعاء؛ وما كانت وجهة رجائنا، ولا قبلة دعائنا، إلا أن يقيض الله لهذا الحصن الباقي من حصون الإسلام رجلا من أهله ينقذه من العصبية المفرقة، والمادية الموبقة، والعلم المشوب، والمعلم الجاهل، والمتعلم الفج، والكتاب المعقد. ثم لاحت تباشير الفوز في عهد الإمام مصطفى المراغي بعد أن حجبتها السحب الجون بموت الإمام محمد عبده؛ فتصارع الفساد والصلاح، وتعاقب الفشل والنجاح! ولكن الأرض كانت لا تزال نكدة فذوي الغراس وكذبت بروق الأمل.
وفي السنين العشر الأخيرة اجتاحت مصر كلها من شلالها إلى دالها جائحة من طغيان القصر وفجور الحكومة وعبث الأحزاب، ففسدت الذمم، وصغرت الهمم، ونغلت الصدور، ووقحت الأطماع، ففزع الناي إلى الله يستهدونه الطريق، ويستمدونه المعونة. ثم رفعوا أبصارهم إلى القيادة الدينية العليا، فلم يجدوا في الأزهر حرارة من نار سيناء، ولا شعاعة من نور حراء؛ فكادوا يضمرون اليأس من صلاح الحال، لولا أن نعَش الله عاثر الأمل(1002/1)
فاختار لمشيخة الأزهر المصلح الثالث الإمام عبد المجيد سليم.
والإمام عبد المجيد يختلف عن الإمامين السابقين بأنه يؤمن بالأزهر وإيمانه بالله، ويعتقد اعتقاد المؤمن بأن العمل لإصلاحه عبادة، وأن الأذى في سبيله تمحيص. فهو يتولى مشيخته على أنها جهاد وبذلك، لا على أنها منصب ومال. يتولاها بتقوى المتحنث، وزهد المتوصف، وصبر المجاهد، وفقه المجتهد. لا يراقب إلا الله، ولا يؤثر إلا الحق، ولا يتوخى إلا الصواب، ولا بغى إلا الخير. وتلك هي الصفات التي انفرد بها هذا الإمام من بين جيله.
فإذا أراد الله له أن ينجح - وفي نجاحه نجاح الأزهر - صد الرياح الهوج عن مصباحه، ودك العقبات الكؤد من طريق إصلاحه، وإلا كان الشيخ الأكبر وا أسفاه آخر شيخ يجمع الناس على فضله، ويرجون على يديه الخير للأزهر وأهله!
أحمد حسن الزيات(1002/2)
نحو بعث جديد
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان
إن الحركة الموقفة هي التي يتبعها بعث، والوثبة المباركة هي التي تتبعها نهضة. ومن ألزم اللوازم لحركة الجيش بعث جديد، بعث في الشعب والحكومة والدستور، وبعث في الأزهر والدين وبعث في الأحزاب والهيئات، وبعث في الإذاعة والمسرح، وبعث في كل شيء يتصل بحياتنا ونهضاتنا ومثلنا العليا.
فالشعب المصري يجب أن يبعث من جديد إزاء هذه الحركة المباركة، فقد ظل السنين الطوال الثقال لا يؤمن بغير العبودية دينا، ولا يعتنق غير المسنة عقيدة، ولا يتخذ غير المصابرة والمسالمة مبدأ. وظل السنين الطوال الثقال لا يعترف له بوجود، ولا يقر له على الإنكار على الباطل، وقدم التواري على تقويم الاعوجاج. وظل السنين الطوال الثقال في حضيض الفاقة، بينما السادة الأغنياء فوق القمة من الثراء؛ ووسط أمواج من التعاسة والشقاء، بينما السادة الأغنياء داخل أبراج من الترف والبذخ. وظل السنين الطوال الثقال محكوما كما يحكم العبيد، ومسوقا كما تساق الأنعام، وتستبد به كل حكومة منحت سلطة الحكم المطلق، ووهب لها سياط الحكم الإقطاعي الجائر. وهذه الحركة المباركة فرصة للشعب المصري حتى يبعث من جديد، فيكون مصدر السلطات كما تتضمنه دساتير العالم، وتكون إرادته فوق إرادته حكومته كما هو في دول الدنيا الناهضة، ويكون حرا متحررا لا يقر بالعبودية لإنسان، ولا ينكس رأسه لمخلوق، ولا يرغم على اعتناق عقيدة لا يرتضيها، ولا على الاستمساك بمبدأ لا يرغب فيه. ولا على سلوك حياة لا يطمئن قلبه إليها.
والحكومة في حاجة إلى بعث جديد، فقد كانت من قبل أداة فاشلة يستغلها الاستعمار لمصالحه، ويسخرها لرغباته، ويسيرها الطاغوت المتربع على عرشه كما يهوى ويحب، وما كان يهوى إلا الفوضى في شتى ألوانها، وما كان يحب سوى الهرج، شأنه شأن الصبية في الأزقة والدروب، وكانت الحكومة موظفة لدى الطبقة الأرستقراطية ترضي أهواءها، والطبقة الرأسمالية تحرس ضياعه وتزيد في أموالها، والطبقة المترفة العابثة تهيأ لها سبل الترف وتمهد لها الطريق إلى العبث، وتجلب لها الفرق الراقصة الأجنبية على حساب الشعب المكدود حتى لا تتكبد مشاق السفر إلى أوربا، ووعثاء الجو إلى الدنيا الجديدة، وهذه(1002/3)
الحركة المباركة يجب أن تضع حدا لتلك الفوضى، فتصوغ الحكومة في قالب جديد حتى تفهم كل حكومة أنها موظفة لدى الشعب تعمل على إسعاده وراحته ونهضته، وتعمل على استقراره ورفاهيته، وتضع لأسس السليمة للعدالة والمساواة بين أفراده.
والدستور في حاجة إلى بعث جديد. وحسبنا دليلا على هذه الحاجة أنه ظل قرابة ثلاثين عاما لم يقدم مصر خلالها شبرا نحو الأمام، وأنه تضمن من المواد ما يجعل الملك في منزلة الآلهة، وحاشيته في درجة الأحبار، وأعضاء حكومته في صفوف الملائكة؛ ومن المواد ما يجعل هؤلاء جميعا فوق القانون لا يسألون عما يفعلون ولا يحاسبون عما أجرموا. والدستور الجديد الذي يتفق وهذه الحركة المباركة يجب أن يكون دستورا حيا يحقق الخير لمص والعدالة الاجتماعية لشعبها. ولا نعتقد أن ترقيع الدستور يحقق الغرض، فحسبه من الهوان أن دستور مرقع. ولسنا ندري لم نهمل دستور الله الخالد الذي لا يأتيه باطل من يديه ولا من خلف تنزيل من حكيم حميد، وفيه عنى عن كل دساتير العالم، ونحن أمة مسلمة لا خير فينا إذا لم نعتز بتراثنا ونعتد به
والأزهر في حاجة إلى البعث، يجب أن يطهر من الحزبية الهزيلة لأنه أكبر من أن يتحزب، ويطهر من التعصب لأنه أجل من أن يتعصب، ويطهر من المناورات الصغيرة حتى ينال تقدير العالم وثقة المسلمين. إن له رسالة دينية إنسانية فيجب أن يعيش من أجلها، ويبتكر المناهج التي تحقق أغراضها. إن للشعوب المسلمة عليه واجبا، فيجب أن يرفع مستواها وينهض بأفكارها والدين في حاجة إلى البعث، لأن عهد الإقطاع والإرهاب قد جعل منه دينا هينا لينا، وجعل منه مخدرا يخدر الفقير حتى لا يعرف حقه على الغني، ويخدر المحكوم حتى لا يعرف حقه على الحاكم، ويخدر الشعب في مجموعه حتى لا يعرف قدر نفسه، وحصره في حدود التكاليف الشرعية، وتوافه الأمور التي لا تتصل بأسسه، حتى يظل بمعزل عن السياسة وبمعزل عن الحياة، وبعث الدين يجب أن يقوم على عاتق الأزهر والجماعات الإسلامية الناهضة حتى يؤدي الدين رسالته التي ارتضاها الله له، ورضيها لعباده، والتي يجب أن تحقق العزة والسعادة لأتباعه في مشارق الأرض ومغاربها.
والأحزاب والهيئات في حاجة إلى بعض جديد، لأن الأحزاب السياسية لم تكن طيلة السنين(1002/4)
الماضية سوى نواد لعلية القوم وأعيان مصر، يدلفون إليها لاحتراف السياسة والتعلق في حبال الزعامة التي هي أوهي من خيوط العنكبوت. ويثرثرون بين جدرانها ليليقوا بكراسي الوزارة أو مقاعد البرلمان - أما منهاج هذا الأحزاب هو تضياع الأوقات في غير جدوى، وأما هدفها فهو كراسي الحكم التي تحيا وتموت عليها، ولأن الهيئات الدينية والاجتماعية ظل معظمها مظهرا لا جوهر له، وشكلا لا حقيقة له. وعلى الأخص الهيئات الدينية التي احترفت الظهور، في توافه الأمور، والتعصب للقضايا الفاشلة. وحسبك أن تضحك من جماعة دينية ضخمة تنادي باللحية والعذبة ولا ترى الإسلام إلا منحصرا فيهما، وجماعة ثانية تندد بالأضرحة والأولياء ولا ترى الإسلام إلا منحصرا في التنديد بهما، وجماعة ثالثة تطارد المرأة ولا ترى في المسلمين خيرا إلا إذا طاردوها، ورابعة وخامسة إلى مالا ينتهي حصره من هذه الجماعات التي حصرت جهادها في سفساف الأمور، أما مهامها فهي أعجز من أن تجاهد في سبيلها. ومن حق هذه الحركة على هذه الجماعات الضئيلة أن تبعث من جديد، فتحصر جهادها فيما يقدم الإسلام وأمته، ويحل مشكلاتها ويحقق أمانيها.
والإذاعة المصرة والمسرح والسينما جميعها في حاجة بل في أمس الحاجة إلى البعث الحديد، لأنها موارد طيبة ومنابت خصبة للنهوض بالثقافة والأدب والعلم والمجتمع، فعلى الإذاعة أن تتعفف عن الأغاني الساقطة والتمثيليات الهزلية والقصص الركيكة، وعليها أن تسقط من برامجها التواشيح المهلهلة التي تسيء إلى الإسلام، والأحاديث الدينية المضطربة التي تشوه جماله، وعليها بعد هذا أن تبدأ عهدا لا تكون فيه تكية من التكيات التي تؤوي العجزة والعاطلين. وعلى المسرح والسينما أن ينتقل على حياة مشرفة لا تعيش فيها الأفلام الساقطة التي تلطخ جبين الفن بالعار، وتسود صفحته بالفضيحة، وتنزل بمستوى الشعب إلى الحضيض. وإذا كان للرقص والمجون والعربدة أثر فعال في نجاح كثير من الأفلام في العهد البائد، فلا نظن أن هذه المخازي سيكون لها ذرة من الأثر في نجاحها في هذا العهد المشرق، لأن مصر اليوم في حاجة إلى أفلام تجعل مصر في المقدمة، وتجلس شعبها فوق القمة، وتعالج المشكلات المستعصية، وتكافح الأمراض الاجتماعية المتوطنة، وليست في حاجة إلى الأفلام التي تثير الغرائز، وتشجع على الرذيلة، وترسم طرق الاحتيال والنصب للمشردين والعاطلين.(1002/5)
نريد بعثا جديدا في كل شيء يتصل بحياتنا وتتأثر به نهضاتنا حتى تؤتي حركة الجيش المباركة أكلها كل حين بإذن ربها، وتثبت للدنيا أن مصر جديرة بها، وأن شعبها خليق بثمراتها.
محمد عبد الله السمان(1002/6)
إلى القوي الأمين الرئيس اللواء محمد نجيب
من شيخ في الشام
يا سيدي:
// لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... قد كنت شهما فأتبع رأسها أذنبا
وما كان فاروق (على قبح سيرته، وتسخيره عقله لشهوته وسلطانه للذته) رأس الشر، بل كان ذنبا طويلا من أذنابه. . وما كان فاروق أصل الفساد، بل كان فرعا عاليا من فروعه، سمق حتى بدا، وبسق حتى أظل، وإن كان بعش الشر كالعقرب، أخبث ما فيها الذنب، ومن الظل ظل ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب.
إن رأس الشر التربية التي صنعت فاروق. وهذه الحياة المستهترة المنحلة التي مكنت لفاروق. . ومادام الجذع قائما، والتربة منبته، فإنه سيخلف الفرع المقطوع، فروع.
وما فاروق؟ ولد نشئ على أن يعطي كل ما يطلب، ويمنح كل ما يريد. على غير توقى ولا حياء. ما يعصمه من خوف الله عاصم، ولا يمنعه من هيبة الناس ما يمنع أوساط الناس، فأدت به البداية على هذه النهاية. ولو كان الزمان مقبلا، والتربية صالحة والأمة نقية دينة كما كانت أمة صدر الإسلام، وربي فاروق على ما كان يربى أبناء المسلمين في ذلك الزمان، لكان (الملك الصالح) حقا.
وما دام هذا الفسوق باقيا، والتكشف والاختلاط والفساد، ومادام في الناس آلاف يعيشون عيش انطلاق وراء اللذة، وسعي لنيل الشهوة، من حل ومن حرمة.
وما دام في أطفال آلاف يربون الآن على نحو ما ربي عليه فاروق، فمن يأمن أن ينجم إذا أو بعد غذ من ينال منهم على فساده سلطانا فيكون شرا على الناس من فاروق؟
فإذا أردت الإصلاح يا سيدي حقا. وأنت لا شك تريده، فاقطع أصل شجرة الفساد، وأسحق رأس الأفعى، واستأصل بذور الداء، فإنه لا يكفي أن تفقأ الدمل، ولا أن تدفع (النوبة) إن ذلك يريح المريض ولكنه لا يشفيه. ما الشفاء إلا قطع أسباب الداء. ووقاية الجسم من عدواه، وتقويته حتى لا تؤثر فيه العدوى ولا يكون ذلك إلا بمحاربة الدعارة ومظاهر الإثم ودواعيه أولا ثم بتشجيع الزواج الحلال، ليغني عن الزنا الحرام، ثم بإصلاح المدارس، وتنشئة الناشئة على خوف الله. وكراهة المعصية، وعلى الرجولة والعفاف وابتغاء المعالي.(1002/7)
ولا يقولن أحد ما شأن (شيخ في الشام) بالإصلاح في مصر فإن المسلمين أمة واحدة وجسد واحد. والإسلام لا يعرف هذه الحدود. وإن النصح واجب. لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ثم أن هذه الفساد الذي نشكو منه إنما جاءنا الصلاح (ولا حياء في الحق من مصر، فلعل مصر إن حلت جاءنا الصلاح من مصر، وهذا (الشيخ) بعد ذلك مصري قدم الشام جده الأدنى، فهو مصري الأصل، شامي المولد، عراقي تارة، حجازي تارة.
في الشامي أهلي وبغداد الهوى وأنا ... بالرقمتين وبالفسطاط إخواني
في مصر يا سيدي ست مدارس تعلم الناس الفساد: مدرسة التكشف في الحدائق والشوارع الحفلات والشواطئ، ومدرسة المجلات، ومدرسة الإذاعة، ومدرسة الأفلام، ومدرسة الملاهي. وهذه المدارس الرسمية التي وضع بذور الشر فيها (دنلوب)، ورعاها حتى نبتت من بعده (دناليب. . .).
أما التكشف فلقد عشت في مصر دهراً، ورأيت منه عجباً، أفخاذا بادية، وعورات ظاهرة، في حديقة الحيوانات وسائر الحدائق، وعلى العربات البلدية، وفي الأعراس التي تقام على السطوح. ولقد رأيت والله رجالاً يستحمون عراة لا يسترهم شيء تحت جسر الملك الصالح حيث يلتقي من أعظم شوارع مصر، طريق الجيزة وطريق الفسطاط، وخطا (ترام) وسبيلا (أتوبوس)، ورأيت بنت تنزل في الماء كما خلقها الله - أي والله العظيم - لتغسل طبق فجل لتبيعه. أما العرى على شواطئ فشئ أفظع من أن يوصف، وإن كنت زرت مصر مراراً وأقمت فيها سنين ولن أره بحمد الله قط أما المجلات الأسبوعية المصورة فلقد كانت معمولاً لهذه الأخلاق، سارت على طريق معبد، وفق خطة موضوعة، لإضعاف الأمة بصرف شبابها إلى الشهوات، وشغلهم بالغرائز الجنسية، عن الجهاد الوطني، والتسلح بالرجولة والقوة والصبر. . ومحاربة المستعمر. ولقد بلغت منا هذه المجلات أكثر ما بلغته جيوش الاحتلال جميعا، وكانت أنفع لأعدائنا من كل ما ساقوه إلينا من حملات، وما أنفقوه على حربنا من أموال.
ثم جاءت هذه الأفلام:
هذه الأفلام التي بحت الخناجر، وبريت الأفلام، وامتلأت الصحف بالكلام عنها، وبيان شرها، وسوء أثرها في نفوس رائيها، أفلام لا موضوع لها ولا حوار، ولا تمثيل فيها مثل(1002/8)
تمثيل الناس، ولا إخراج ما فيها إلا التخنث والخلاعة والسقوط والخزي ورقص البطن، والتهريج البارد، والتقليد السمج، حتى صار لقب المصري في فلم علامة على سقوطه وانحطاطه، وصار المهذب من الناس والشريف ومن يعرف لنفسه قدرها يتحامى هذه الأفلام ويحمي أولاده منها، وصار من المعروف أنه لا يرتاد دورها إلا العوام والسوقة والرعاع وسفلة الناس، ولا يخرج مع ذلك الكثير منهم إلا وقد ملأ نفسه التقزز والاشمئزاز و (القرف. . .).
إن هذه الأفلام دعاية على مصر لا لمصر، لو أنفق اليهود نصف أموالهم، ما استطاعوا أن يصلوا إلى بعضها، وهدم لكل ما تبنيه المدارس وما يقيمه المعلمون والمصلحون، ودرس في التخنث، وسقوط الهمة، والبعد عن عزة الإسلام وخلائق العرب، وفصاحة اللسان، والرجولة والإباء. وإن محاربتها أوجب عن محاربة الكوليرا واليهود، لأن الكوليرا تفتك بالأجساد، وهذه تفتك بالأعراض والأخلاق، واليهود وراء الحدود، وهذه منا وفينا.
أما الإذاعة فقد كان من الممكن أن تكون مدرسة ليس لها نظير وأن نجعل منها أداة للإصلاح لا يستعصي عليها فساد، ولكنا لم نتخذها مع الأسف إلا أداة للفساد. ولم نجد شيئاً نذيعه فيها إلا الأغاني، أغان دائماً وأبداً، كأننا أمة من الصراصير في الصيف لا تعرف إلا الغناء.
أغان ليس فيها نصاعة البيان، ولا روعة الأدب، ولا حلاوة الأنغام، ألفاظ عامية غثة باردة، لا وزن لها ولا رنين ولا قافية، كلها دعوة إلى الشهوة، وإثارة الغزيزة، وتصريح بطلب الفاحشة، ولو شئت ضربت الأمثال، ولكني أنزه قلمي عن أن يجري بألفاظها، أو أن يشرف بذكر اسمه أحداً من أصحابها.
لقد كانت الأغاني الأولى، أغاني حب وشوق، ونداء روح لروح، ومناجاة قلب لقلب. وهذه صرخة داعرة من أفواه فاجرة.
ولقد سكتنا من عجزنا وضعفنا عن إنكار منكرات الملاهي والحانات، وحمينا أنفسنا منهال وأهلينا، فما معنى أن تأتي الإذاعة فتنقلها إلى دورنا رغما عن آنافنا، وتسمعنا ما يكون في الأفلام الخبيثة من أغان، وأن تنقل إلينا حفلات آثمة بكل ما فيها. وإن نحن سددنا الراد عنها جاءنا الصوت من بيوت الجيران الذين يفتحونه على مصراعيه، فيزعج كل راد(1002/9)
دائرة قطرها مئة متر. وما معنى أن نحرم للنام إلى ما بعد نصف الليل لنسمع هذيان حفلة من هذه الحفلات، أو غناء مغنية من المغنيات؟ أليس في الناس مرضي؟ أليست لنا أشغال؟ ألا نحتاج إلى النوم. أنعطل أشغال النهار كله أو نقضيها مرضى لأن الآنسة أم كلثوم كانت تغني طول الليل؟ وإن كانت ليلة جمعة، ليس بعدها عمل. . . هل كانت ليلة الجمعة في نظر الإسلام للطاعة والقيام، أم لسماع أم كلثوم؟
وما معنى أن تذاع كل أغنية مرة ومرتين وعشرا وعشرين نملها ونشعر أنها خرجت من أنوفنا، وهبها أغنية جيدة فهل في الدنيا ألذ من الفراني والبقلاوة والكنافة وما شئت من هذه الألوان، أطعم رجلا منها أبدا، لا تطعمه غيرها في الصباح والظهر والمساء يشته الخبز والبصل. . . ثم إنها كانت مدرسة شر لأطفالنا، فما منهم إلا حافظ لبعضهم بدل حفظه آيات الكتاب، والحكم والآداب. وصار أبناؤها يرددون أسماء الممثلين والممثلات والمغنين والمغنيات، عوضا عن ترديد أسماء الأبطال والعلماء.
بقيت المدارس يا سيدي. وأنا لا أتكلم الآن عن برامجها وإهمال تعلم تاريخ الإسلام، وجغرافية بلاده؛ فإن لذلك حديثا آخر طويلا، ولكني متكلم عما يتصل منها بالفساد الخلقي وهو ما عقدت له هذا المقال.
المدارس يا سيدي تفسد بناتنا، وتعلمهن التكشف وتسوقهن إلى شفا المحرمات. وكم من متسترة ما تعلمت السفور إلا في المدارس، وكم من متمسكة بعادات البلاد وأوضاع الإسلام. ما جرأها على الخروج عليها إلا المدارس.
أليست المدارس تجبر البنات البالغات على كشف أفخاذهن في درس الرياضة في المدرسة؟ ألا يأتي المفتش مثلا فيراهن على هذه الحال؟ ومن في المدرسة من المعلمين الرجال؟! أليست المدارس تعلمهن الرقص التوقيعي، وفي الشام رقص السماح. وهو طريق إلى الفاحشة، وباب من أبواب الفساد.
ألا تكشف العورات في العرض الرياضي العام أمام الآلاف من الرجال وتأتي هذه المجلات الآثمة فتنشر صورة ذلك في الدنيا كلها، حتى يراها كل من لم يكن رآها.
والاختلاط في الجامعة؟ هل يرضى به الإسلام؟ هل تقره سلائق العروبة؟ أما رأيتم من مفاسده وشروره ما لا يجوز إبقاءه يوما واحدا؟(1002/10)
وهذا طرف مما نشكوه من المدارس، ولقد جاء مرة وزير للمعارف صالح اسمه مرسي بدر. شرع في الإصلاح، فخاف لصوص الأعراض أن يسد دونهم الأبواب والنوافذ، فقاموا عليه حتى أخرجوه. فخذ يا سيدي بالإصلاح فهذا طريقه، واقض على الفساد فهذا رأسه، واقطع شجرة الشر من جذورها، فإن الرجاء منوط بك، والأمل معقود عليك، وإلا تستطع ذلك لم يستطعه أحد بعدك.
أخذ الله بيدك، وسدد خطاك، وجزاك عن الحق والحرية والشعب والأخلاق خير الجزاء، وجعل كل رجال الانقلابات، وأصحاب السلطات، مثلك.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
دمشق
(ع)(1002/11)
التيتوية
للدكتور عمر حليق
ليست التيتوية (نسبة إلى المارشال تيتو عاهل يوغسلافيا الشيوعية اليوم) مجرد خلاف عارض بين دولتين شيوعيتين بواعثه خصومة سياسية أو حزازات شخصية بين ستالين وتيتو، أو اختلاف على زعامة الشيوعية العالمية التي اشترك هذان القطبان الماركسيان في خدمتها سنوات طوالا، أداتها مؤامرة مزيفة بين قطبين شيوعيين يخدمان هدفا واحدا؛ إنما هي (ردة) أيديولوجية جذورها في خلاف فكري عميق على مسألة دقيقة في التعاليم الماركسية تتعلق بتحديد العلاقات بين الدول اتخذت الشيوعية نظاما لها - تحديد يفسد على موسكو (وهي كعبة الشيوعيين) مركزيتها وسيطرتها المباشرة على النشاط الشيوعي في كل مكان، ويوفر للدول الشيوعية خارج الاتحاد السوفييتي حرية في التصرف تخالف مبدأ الوحدة الشيوعية العالمية وما تدعو إليه من تحالف وتعاون وتضامن في المبدأ والسلوك السياسي يبت بعضها بعضا وفي علاقاتها مجتمعة مع العالم الخارجي.
ولعل في استعراض حركة المارشال تيتوا الانفصالية عن موسكو ما يلقي ضوءا نافعا على ناحية هامة في العقلية الشيوعية ومستقبل نشاطها في الشؤون العالمية.
انفردت يوغسلافيا من بين الأمم الأوربية خلال الحرب العالمية الأخيرة بأنها الأمة الوحيدة التي استطاعت أن تقهر الاحتلال النازي قبل أن تلوح بوادر الهزيمة على ألمانيا النازية ففي حين أن حركات المقاومة السرية في الدول الأوربية التي احتلها جيوش هتلر كانت حركات ضعيفة مقيدة النشاط محدودة الأثر. . كانت حركة التحرر من الاحتلال النازي في يوغسلافيا واسعة النطاق فائقة النشاط عمت الأكثرية الساحقة من الشعب اليوغسلافي ومكنته من أن يحتفظ بأجزاء واسعة من بلاده في حرة طليقة لم تقو على استعبادها القوات النازية المرابطة في دساكر يوغسلافيا ومعاقلها الرئيسية. وكان عزم اليوغسلافيين وبأسهم في مقاومة الألماني على أشده حتى بعد أن رضيت الحكومة اليوغسلافية الشرعية آنئذ أن تهادن النازية وتتعاون معها وتخضع لمشيئتها. وقد حقق هذا العزم لحركة التحرر جيشا منظما وجهازا إداريا انتزع السلطة من الحكومة اليوغسلافية الشرعية التي أصبحت آلة فيد يد القوات النازية المحتلة، وما إن لاحت بوادر الهزيمة الألمانية في الميادين الأوربية(1002/12)
الأخرى حتى أسرع هذا الجيش اليوغسلافي الحر وجهازه الإداري المنظم فطرد الألمان إلى غير عودة، وأقصى معهم الحكومة اليوغسلافية الشرعية التي تعاونت معهم - بما فيها النظام الملكي الذي فر من الميدان في وقت مبكر.
ومع أن حلفاء الغرب كانوا يمدون جيش التحرر اليوغسلافي ببعض الذخيرة والعتاد العسكري والمعونة الأدبية إلا أن الفضل في انتصاره يعود إلى وطنية الشعب اليوغسلافي وتضحيته فوق كل شيء آخر. وعلى ذلك ظل اليوغسلافيون مؤمنين بأن تحريرهم لبلادهم من سيطرة النازية كان مجهودا يوغسلافيا بحتا لا فضل لأحد فيه - لا لحلفاء الغرب ولا لروسيا السوفيتية.
إلا أن انشغال ستالين ومكتبه السياسي بالحرب النازية ومعارك الشتاء على حدود موسكو وليننغراد لم تله صناع السياسة الشيوعية الروس عن مراقبة مستقبل القارة الأوربية - ومستقبل يوغسلافيا على وجه الخصوص من حيث أنها منفذ حسن لمياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة على رمية حجر من الشاطئ الأفريقي الذي كان ولا يزال يحتل مركزا هاما في خطط العسكريين والمسئولين عن سياسة الحرب في التاريخ المعاصر. أضف إلى ذلك أخوية اكتساب بلد كيوغسلافيا كقاعدة شيوعية في منطقة البلقان التي كانت ولا تزال حدا رئيسيا من حدود المجتمع الشيوعي الأكبر التي نصبت روسيا السوفيتية نفسها وكيلة بتشييده محققة بذلك تعاليم ماركس وشروح لينين وستالين عليها مما لا يتسع المجال في هذا المقال لاستعراضه.
وقد ساعد روسيا السوفيتية على دوام الاتصال بالتطورات في الوضع اليوغسلافي خلال الحرب العالمية الأخيرة ذلك النشاط الواسع الذي قامت به العناصر الشيوعية اليوغسلافية في محاربة الاحتلال النازي متعاونة مع العناصر الوطنية اليوغسلافية الأخرى على نحو ما فعلته العناصر الشيوعية في الصين عندما تآلفت مع العناصر القومية في محاربة الاستعمار الياباني وغزوه المسلح للقارة الصينية.
ولقد لعبت الحركة الشيوعية في يوغسلافيا أدوارا مماثلة لتلك التي قامت بها الحركة الشيوعية في الصين من حيث أنها تسربت إلى القوات المسلحة والجهاز الحكومي والسلطة الشرعية التي كانت تحارب الاحتلال الياباني، فما إن تمت هزيمة النازيين حتى قامت(1002/13)
العناصر الشيوعية في يوغسلافيا باستخلاص الحكم والسلطة من الحكومة الشرعية والقضاء على النظام الملكي والعناصر التي كانت تسانده؛ وتلك التي تعاونت مع الألمان الغزاة. وكان المارشال تيتو - زعيم الحركة الشيوعية في يوغسلافيا - وثيق الصلة بستالين وبالقيادة العليا للحركة الشيوعية العالمية التي كان المارشال اليوغسلافي من أبرز أعضائها، إذ سبق أن مثلها لدى الجيش الشيوعي الأسباني خلال الحرب الأسبانية الأهلية التي انتهت بفوز الجنرال فرانكو على خصومه الشيوعيين.
وأخذ المارشال تيتو يطبق في يوغسلافيا ما تلقنه من تعاليم ماركس وشروح لينين وستالين عليها عندما كان المارشال لاجئا سياسيا في موسكو وصديقا شخصيا لستالين.
وفي يونيه عام 1948 - بعد ثلاث سنوات من استتبات النظام الشيوعي في يوغسلافيا فوجئ العالم بخصومة علنية بين تيتو وستالين، وقطيعة حاد بين روسيا السوفيتية ويوغسلافيا الشيوعية، شغلت العالم في تلك الآونة وكانت حديث الناس في كل مكان.
فلأول مرة في تاريخ الحركة الشيوعية يشق عضو من أبرز أعضائها عصا الطاعة على موسكو ويعرض نفسه وبلاده لخطر (التأديب) الروسي الذي كانت جيوشه على حدود يوغسلافيا في البلقان وأوربا الوسطى الخاضعة للنفوذ السوفيتي.
ولكن يوغسلافيا ومارشالها استطاعا أن يحتفظا برأسيهما عائمين فوق الماء، وأن يضمنا لونا من المؤازرة العسكرية والسياسية من المعسكر الغربي - خصم الاتحاد السوفيتي - رغم أن يوغسلافيا ظلت بلدا شيوعيا في أنظمته ومبادئه وأهدافه ومراميه.
ولأول مرة سجلت قواميس اللغة كلمة (التيتوية) علما على الشيوعية (القومية) التي تعيش على نظام ماركسي بحت، ولكنها لا ترتبط بالحركة الشيوعية العالمية عن طريق مركزها الروحي والإداري في موسكو.
وليس المهم أن نتعرف هنا دقائق المراحل التي تمت بها هذه القطيعة بين البلدين الشيوعيين - بين موسكو والمارشال تيتو ربيبها السابق، إنما المهم أن نأخذ بما يؤكد معظم الخبراء في شؤون يوغسلافيا من أن هذه القطيعة قد تمت وأنها ليست مزيفة كما يعتقد بعض الناس.
ووجه الخطورة في هذه القطيعة أنها تستند إلى خلاف جوهري على مبدأ أساسي من مبادئ(1002/14)
الفكر الماركسي. . ألا وهو تحديد السلطة المركزية التي يمارسها (الوطن الأم) وهو أول بلد يتوطد فيه النظام الشيوعي - على بقية الدول الشيوعية التي تنتمي إليه بالولاء وتشاركه في السلوك وتؤمن بما يؤمن به من ضرورة تشييد المجتمع الشيوعي الأكبر في هذا العالم المترامي الأطراف.
ذلك لأن المارشال تيتو وأعوانه في الحكم لا يزالون يؤمنون ويطبقون التعاليم الشيوعية كاملة في يوغسلافيا، ولا يزالون يعتقدون بأنها أفضل النظم للعالم بأسره، ولا يزالون تواقين لمناصرة الحركات الشيوعية في كل مكان كما تشهد بذلك مواقف الحكومة اليوغسلافية في هيئة الأمم وفي خارج هيئة الأمم في دفاعهم عن وجهة النظر الشيوعية في معظم المشاكل الدولية التي دعين يوغسلافيا لإبداء رأي فيها، أو تولت - غير مدعوة - لإبداء الرأي، ولكن المارشال تيتو يرفض أن يمتثل لزعامة موسكو وهذا الرفض هو سر القطيعة بين تيتو وستالين.
ومما لا ريب فيه أن هذا الخلاف مبعثه حدة القومية اليوغسلافية ورفضها الانقياد لدولة أجنبية حتى لو كان في ذلك خروجا على المبدأ الماركسي الذي يصر على العمل الموحد والتناسق الدقيق بين الوطن الشيوعي المركزي (وهو الآن الاتحاد السوفيتي) وبين الدول الشيوعية المنتمية إليه كما يعترف وزير الدولة اليوغسلافي (ميلوفان دجيلاس) في عدد أبريل سنة 1951 في مجلة الشؤون الدولية اللندنية.
ثم إن هناك تطورا آخر على قسط كبير من الأهمية في مستقبل الحركة الشيوعية العالمية عقيدة وتطبيقا لتطور مجسم عن القطيعة بين موسكو والمارشال تيتو، وهو أمر يمس صميم التعاليم الماركسية وشروح لينين وستالين عليها - وهي إنجيل الشيوعيين في كل مكان. فالحركة الشيوعية في يوغسلافيا تمر الآن في انقلاب فكري خطير مبعثه نضال المارشال تيتو لبناء المجتمع اليوغسلافي على أسس ماركسية صادقة دون أن ينتظر العون والتأييد والإرشاد والتوجيه من الاتحاد السوفيتي ومن (الكومنفورم) الذي هو في الواقع دائرة عظيمة النفوذ تابعة لوزارة الخارجية الروسية. ولقد وجد المارشال تيتو نفسه منفردا في مسعاه يواجه تحديا عنيفا في منطقة النفوذ الشيوعي في أوربا الشرقية والبلقان ويتقاعس عن الارتماء كليا في أحضان المعسكر الغربي.(1002/15)
ولكن الغزل السياسي والدبلوماسي الذي أخذ يزداد في الآونة الأخيرة بين يوغسلافيا وبين دول أوربا الغربية وأمريكا الشمالية شق الطريق إلى صميم المجتمع اليوغسلافي الشيوعي وحمل إليه ألوانا من الفكر والأدب والفن الغربي (الرأسمالي) فأوجد تشويشا في الفكر والثقافة والعقيدة الشيوعية السائدة بين ولاة الأمور في يوغسلافيا وبين طبقات المجتمع اليوغسلافي. فالأفلام الأمريكية، والقصص والبحوث الفرنسية، والصحف والمجلات البريطانية، وجوقات الموسيقى والمسرح الأوربية والأمريكية. . أصبحت الآن أشياء مألوفة لدى المواطنين اليوغسلافيين، بعد أن انقطعت صلتهم بالحياة والفكر الغربي عشر سنوات طوال.
ونتج عن هذه الغزوة الثقافية أن تأثر عدد من أبرز أعضاء الحزب الشيوعي في يوغسلافيا، وصناع السياسة وقادة الفكر فيها بهذه التيارات الفكرية، وظهر هذا التأثير في موجات من النقد الخافت الموجه إلى النظام الشيوعي وأساليب تطبيقه؛ الأمر الذي أزعج المارشال تيتو وأعانه الخلص من الماركسيين المتعصبين للتعاليم الشيوعية. وقد أعرب عن هذا الانزعاج المارشال نفسه في خطاب ألقاه مؤخراً، ندد فيه بهذه الشعوبية وود لو أن يوغسلافيا طهرت نفسها من هؤلاء الشعوبيين، حتى أو استدعى ذلك إقصاء مائة ألف شخص من عضوية الحزب الشيوعي. . وهذا تعبير يعكس ما يتعرى المارشال من قلق وانزعاج.
وكرر (موشي كرولجي) وزير خارجية تيتو هذا التنديد في تصريح آخر حذر فيه هؤلاء الشعوبيين بأن من حق الدولة الشيوعية ومن واجبها أن تضع حدا للتيارات الشعوبية التي أخذت تنتشر في أوساط المجتمع اليوغسلافي بفعل البضاعة الفكرية الواردة من أوربا الغربية وأمريكا الشمالية.
وقد عزز المارشال تيتو القول بالعمل، فأخذ يقصي عن مراكز الحكم نفرا من أهم أعوانه من الذين ألموا بهذه الشعوبية لكنه لم يستطع أن يضع حدا لهذا الاتجاه الطارئ، فلم يفرض رقابة على البضاعة الفكرية الواردة من أوربا الغربية وأمريكيا الشمالية خشية أن يفقد عطف المعسكر الغربي بعد أن اختار القطيعة التامة مع المعسكر السوفيتي.
ولم يجد تيتو بدا من أن يلجأ إلى المساومة. فاختار نفرا من قادة الفكر الشيوعي في(1002/16)
يوغسلافيا وكلفهم بوضع تفسير جديد للتعاليم الشيوعية يوفق بين جوهر الفلسفة الماركسية وبين بعض النظريات والمبادئ السياسية والاقتصادية والثقافية التي تعيش عليها الدول والمجتمعات في أوربا الغربية والعالم الجديد وتوخى هذا التفسير الجديد أهدافا محدودة منها التأكيد بصلاح الشيوعية لتشييد المجتمع المثالي ليوغسلافيا ولجميع الشعوب.
ومنها رفض أساليب ستالين ومكتبه السياسي وسياسة (الكومنفورم) لبناء المجتمع الشيوعي. انتقدها انتقادا لاذعا ووصف الاتحاد السوفيتي بأنه دولة استعمارية سلاحها البطش والعدوان.
ومن هذه الأهداف كذلك تحرير الجاهز الحكومي في يوغسلافيا الشيوعية من المركزية الصارمة، واقتباس نواح من فن الإدارة (الديمقراطية) المصطلح على أتباعها في الغرب، بحيث تنتفي من المارشال تيتو وحكومته التهم (الديكتاتورية) الموجهة إليه من أوساط الغرب ومن بعض الأوساط اليوغسلافية التي تأثرت بالغرب وآرائه ومعتقداته وتحليلاته السياسية عن الوضع اليوغسلافي.
وأخذ التفسير اليوغسلافي الجديد للشيوعية يتفلسف ما استطاع ليجعل من المارشال تيتو صورة تخالف الصورة المعهودة في الغرب عن ستالين؛ وهي صورة الحاكم المستبد الذي لا ورد لأمره، والذي يستند في تنفيذ مآربه إلى جهاز دقيق من البوليس السري، فيتعقب الناس ويسترق آراءهم ويبطش بهم إذا ألمت بهم شعوبية أو أضمروا سوءا للعهد القائم.
وخلاصة القول في هذه الإيديولوجية الشيوعية الجديدة التي يحاول تيتو وباسطتها التوفيق بين ماركسيته ورأسمالية أصدقائه الجدد في المعسكر الغربي. . أنها كما يقال وزير الدولة اليوغسلافي (ميلوفان دجيلاس).
(استنباط فكري لا سابق له. فبلادنا الصغير (يوغسلافيا) بلاد جريحة ولم يكتمل نموها بعد. وعليها أن تناضل لا لتنمية مرافقها فحسب بل لصيانة كيانها القومي).
أليست هذه المحنة التي دفع إليها الشعب اليوغسلافي أشبه بالمحن التي تنتاب معظم البلدان في آسيا وفق شرفنا الأوسط؟ - بلاد متخلفة تحاول أن تنمي مرافقها وتقوي كيانها القومي في آن واحد، وفي وجه تيارات سياسية واقتصادية وثقافية تهب عليها من الفريقين المتخاصمين اللذين يهيمنان على مقدرات العالم هذه الأيام.(1002/17)
نيويورك
عمر حليق(1002/18)
رحلة أبي الطيب من مصر إلى الكوفة
للأستاذ أحمد رمزي
تتمة البحث
وكنت إذا يممت أرضا بعيدة ... سريت فكنت السر والليل كاتمه
شعوران قد تملكا قلب أبي الطيب في رحلته، وأعترف بأني أشاركه فيما: شغفه بالبادية والتغني بمحسانها ولياليها، ومقته للظلم والطغيان، فهو لا يذكر أيامه بمصر إلا مقرونة بالألم والحسرة، ولا يمر بعقبة أو يخرج من أمر مدلهم، إلا عد ذلك نصرا على كافور وظلمه وطغيانه، ولا يترك مناسبة دون التغني بالبادية.
إنك لا تشعر بشعور أبي الطيب إلا إذا عشت بالبادية، ورأيت سماء الصحراء المقمرة أو لياليها التي تسطع فيها النجوم. إنني أذكر ليلة مقمرة في وسط الصحراء كدت أقرأ فيها على ضوء القمر صفحة من كتاب. ولقد تركت هذه الرحلة برغم مصاعبها أكبر الأثر في نفس أبي الطيب، حتى أنه بعد مضي أكثر من سنتين تقرأ له في قصيدة وضعها سنة 352 هـ أبياتا تشعرنا بحنينه الذي ملأ قلبه وقت السفر إذا قال يذكر مسيره من مصر ويرثي أبا شجاع فاتكا:
ختام نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراه على ساق ولا قدم
ولا يحس بأجفان نحس بها ... فقد الرقاد غريب بات لن ينم
وهو مع ما أوتيه من نصر لتغلبه على الصعاب، يذكر حر الشمس في وسط القيظ، طول أيام السفر في الفيافي فيقول:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم
ثم تجده لا ينسى مدح المطايا التي لولاها لما خرج من مصر بعد ما لقيه من الظلم والعنت فيها:
لا أبغض العيش لكني وقيت بها ... قلبي من الحزن أو جسمي من السقم
فكأنه يسير في تفكيره ليستعيد ما مر به من ألمه وأحزانه وهو الذي سبق له أن قال وهو بالفسطاط:
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخب لب الركاب ولا أمامي(1002/19)
قليل عائدي سقم فؤادي ... كثير حاسدي صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام ... شديد السكر من غير المدام
فلا غرابة إذن أن مطلع جبال حسمي قد غمر قلبه، وأن رؤيته لتلك الشعاب قد نفخت فيه روحا جديدة، بعد ما لقي من نصب ومتاعب في رحلته؛ وبعدما تحمل في مصر من ألم نفساني ومرض أضنى جسمه.
إن مناظر الجزيرة وجبال حسنى قد ملأت نفسه حبورا وجعلت منه إنسانا آخر. . نرى ذلك في شعره ونحس معه أحاسيس الذي خرج من سجن وانطلق للفضاء. . ولا ننس أن بين حسمي ووادي القرى ليلتان، وبين الأخير والمدينة ست ليال.
ولا يمر هذا الشعور دون أن يعتريه انفعال آخر هو إحساسه بالنصر والغلبة على كافور كيده، وأنه رفض أن يقبل الذل على يديه، فها هو قد ترك دنيا الظلم والظلام، وذلك الوسط الذي قال عنه (كأن الحر بينهم يتيم) وقال فيه عن كافور (غراب حوله رخم وبوم) وهناك انطلق شاعريته في الكوفة فقال في مواجهة الأحداث وليشهد الدنيا على انتصاره.
لتعلم مصر ومن بالعراق ... ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت ... وأني عتي على من عتا
وما كل من قال قولا وفى ... وما كل من سيم خسفا أبي
وهو شعر يبلغ فيه النهاية ويترنم به من كان مثلي قد عانى الشدة وألم الاضطهاد ووقف أمام الظلم. رحم الله أبا الطيب وطيب ثراه! أنى أعد هذه القصيدة قطعة موسيقية من أروع ما أنشد هذا الشاعر العظيم. ولقد كنت ضحية للظلم يوما، وتنكر لي أقرب الناس إلي، وشعرت بشعور أبي الطيب، وأقمت مدة وأنا أترنم بهذه الأبيات، فاشعر بنفسي وقد قويت، وأستمد منها شجاعة وصبرا. . وهكذا يحيا شعر أبي الطيب في نفوس من يفقه أمر المتنبي ومن عاش عيشته ومن انكوى بنوع من الظلم يشبه ما أصاب شاعر العرب العظيم.
وأقسم بالله إني لأتحين الفرص لرؤية حسمي العالية الأطراف والتي قيل أن لا مثيل لها في الدنيا، هذه الجبال المتمدة على خليج العقبة الملساء الجوانب، والتي إذا أراد الناظر أن يمتع نفسه بالنظر إليها وإلى قنة منها، رفع بأبصاره إلى السماء.
إنها أوحت لأبي الطيب بالكثير من شعره عن نفسه، وأعذب الشعر ما تحدث به الشاعر(1002/20)
عن أحاسيسه، والمتنبي إعصار هائل من أين أتيت إليه، فهو عظيم في حجمه وجبروته، ولكن هذا الإعصار وسط الأدب العربي، بلغ القمة وجاوز حدود العظمة حينما سجل بشعره آلامه وأحزانه وفرحه وغبطته ويوم انتصاره.
وطابت حسمي لأبي الطيب فنزلها وأقام بها شهراً. أليست مواطن الأفذاذ من قبائل العرب، التي لم تعرف الخنوع ولا الخضوع، والتي على رغم قربها لملك كافور لم تسمح لنفسها أن تقبل ظلمه وجبروته وطغيانه.
جاء في كتاب الهمداني أن أرم وحسمي والبياض هي مساكن من تشاءم من للعرب الأقحاح، وقد سكنت لخم المنازل بين الرملة ومصر (الجفار) وطرق جبال الشراة، أما جذام فكانت تسكن ما بين مدين وتبوك وامتدت أذرح أو أذرع، واحتلت عاملة جبلها المعروف باسمها، من بحيرة طبرية إلى البحر.
وبقيت جبال حسنى بين فزازة وجذام. ولما نزلها أبو الطيب وارتاحت نفيه إليها، لم تتركه دسائس كافور، وهو الذي عمل حسابا له فتحاشى أقرب الطرق إلى حسمى خوفا من كمين قد يرصده له في طريق نزوله من رأس النقب إلى عقبة إيليا، واضطر أن يسلك طريق الشام أولا ثم بنكفئ من تربان إلى غرندل ثم جنوبا إلى منازل جبال حسمى.
أقول إن صاحب مصر أبي إلا أن ينغص عيش أبي الطيب وأن يتتبعه إلى الأطراف البعيدة، فكتب إلى رؤساء العرب ووعدهم وواعدهم، وبعد مضي شهر ظهر لأبي الطيب فسادنية عبيده وجاءت الحادثة مع وردان بين ربيعة من قبيلة طئ، وهو الذي سمع بأن لأبي الطيب سيفا مذهبا، فأخذ يلح في أن يريه إياه، وأبو الطيب يحاول التخلص منه، لأنه سيف يعتز به ويحرص عليه، فجعل الطائي يحتال على العبيد الذين في خدمة أبي الطيب ويحرضهم عليه طمعا في الحصول على السيف.
وهنا اكتشف أبو الطيب أن أبا المسك صاحب مصر قد كاتب العرب الذين حوله، ولم يبق هناك مفر من الرحيل، فأرسل من يثق به إلى بني فزاره وبني مازن، وإلى شيخ من ولد هرم بن قطية. ولما أتاه الخبر بقبوله النزول لديه شد ليلا على الإبل وجنب الخيل، وسار تحت كنف الليل على طريقته لما غادر الفسطاط والقوم لا يعلمون برحيله، وكان يقصد تضليلهم إذا حاولوا القبض عليه، كما ضلل من قبل جماعة كافور. ويظهر من تصرفاته أنه(1002/21)
كان على علم وإلمام بطرق البادية، مسالك البلاد وأسرارها، بدليل أنه أتخذ السير في طريق البياض وسار فيه ليلا حتى رأس الصوان، وهذا الدري خطير يحتاج فيه الراحل إلى الخفارة لتعذر الأمان فيه وهو الطريق الذي يسلكه من يرحل من تيماء ووجهته الكوفة فيمر يسرة فيما يلي البياض ثم يخترق ديار ذبيان، فمنازل كلب في صحراء السماوة ثم الدهناء، فإذا مر منها واجهه نخل الفرات. وما وصل أبو الطيب إلى رأس الصوان حتى انكفأ عائداً إلى الشمال مرة أخرى، محترسا من أن يقع على كمين إذا سار في الطريق الأول
وفي صفحة 495 من الديوان (وسار أبو الطيب حتى نظر آثار الخيل ولم يجد مع فليتة خبرا من العرب التي طلبها فقال له اخرق أو أحرف بنا على بركة الله إلى دومة الجندل؛ وذلك لأنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمى قد علمت أنه يريد البياض، فصار حتى انحدار إلى الكفاف فورد البويرة بعد ثلاث ليال.
ذكر ياقوت أن البويرة موضع بين وادي القرى وبين بسيطة الواقعة في طريق الكوفة
ومن ذلك يتضح أن أبا الطيب أقر في نفسه طريق السفر فجعل: أولا وجهته دومة الجندل
ثانيا تحاشى العودة إلى جبال حسمى.
فكأن انحداره للبياض كان تمويها لأنه اتخذ كعادته طريقا آخر هو طريق الكفاف ثم البويرة.
والخرائط لا تسعف هنا لأن المناطق الواقعة في أراضي المملكة السعودية لم تسمح بعد المساحة التفصلية، فأبدأ بالكلام على هذه المواقع جاعلا أول الكلام على دومة الجندل ثم بقية الأماكن إلى الكوفة.
إذا فتحت الخرائط وجدت منطقة الجوف تتوسط الصحراء وهي التي قال عنها صاحب جزيرة العرب كانت تسمى قديما دومة الجندل والجوف هي البلدة الرئيسية تقع وسط منطقة زراعية كبيرة على رأس وادي السرحان والواحة وقعة في منخفض نحو 500 قدم تحت سطح الصحراء المحيطة بها.
وفي هذا المنخفض واحات صغيرة مثل سكاكة وقارة والطوير وجاوة، وسكاكة هي أكبرها وتكثر فيها مزارع النخيل.(1002/22)
ولأهمية موقعها طلب مندوب المملكة الأردنية في مؤتمر الكويت أن تكون حدود نجد كما كانت عام 1919 أي طلب إخلاء الجوف وسكاكة ووداي السرحان من قوات المملكة السعودية فطلب مندوب نجد استفتاء أهالي الجوف ففشل المؤتمر.
وقد برز اسم دومة الجندل في تاريخ الإمام علي كرم الله وجهه ومعاوية، فقد ذكر المسعودي (وفي سنة 38 كان التقاء الحكمين بدومة الجندل، وقيل بغيرها على ما قدمناه وصف التنازع في ذلك) وذكر اسم كتاب له في تفاصيل النزاع ضاع ضمن ما ضاع من مؤلفاته.
ويقول الأستاذ الخضري في تاريخ الأمم الإسلامية.
(فتوافوا (أي الحكمين ومن معهما) بدومة الجندل بأذرح فيكون قد أقر بأن الاجتماع في دومة الجندل التي هي بأرض الشراة. وقد نقل هذا عن ابن خلدون الذي قال: وبعث معاوية عمرو بين العاص في أربعمائة من أهل الشام والتقوا بأذرح من دومة الجندل) صفحة 441
(وكتب الكتاب لثلاثة عشرة خلت من صفر سنة 37 واتفقوا على أن يوافي على موضع الحكمين بدومة الجندل وبأذرع في شهر رمضان) 440
وجاء ذكر دومة الجندل في صفحة 216 (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى من السنة الخامسة لستة أشهر من فتح بني قريظة، وذلك إثر رجوعه من دومة الجندل فسلك على طريق الشام أولا ثم أخذ ذات اليسار إلى صخيرات اليمام).
ولذلك اختلف الناس في تحقيق موضع اجتماع الحكمين هل هو ف دومة الجندل بالصحراء أم في دومة الجندل بأراضي المملكة الأردنية؟ أي في بلدة أذرح الواقعة في نطاق دومة الجندل التي كان يطلق عليها الصخرية.
إنني أميل إلى الرأي الأخير وإن كنت أدعو أحد المهتمين بتحقيق الدراسات الإسلامية أن يضع بحثا عنها.
وقد جاء في كتاب تاريخ الإسلام السياسي ما يأتي (اجتمع عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري بدومة الجندل وهي بضم الدال وفتحه وتبعد عن دمشق بست مراحل وتقع على الطريق بيد دمشق إلى المدينة).(1002/23)
وكان عقد التحكيم مدته من رمضان إلى رمضان وكتب في يوم الأربعاء 13 صفر سنة 37 وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجند المواثيق واتفقا على تأجيل القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا في بلدة أذرح المبينة على الخريطة شمال غرندل وتربان.
وبعث علي للميعاد بأربعمائة رجل ولم يحضر علي، وبعث معاوية بأربعمائة رجل ثم جاء معاوية واجتمعوا في أذرح والتقى الحكمان.
كل هذا يقتضي بأن الاختيار وقع أولا على دومة الجندل التي الجوف لتوسطها بين الطرفين ولكي يحضر المتخاصمان أمام الحكمين؛ ولكن معاوية الحريص على ملكه وحياته اختار الشق الثاني وجعل بلدة أذرع المكان المختار وقد يكون احتج بأنها قائمة بأرض دومة الجندل لأن هذه المنطقة كانت تسمى بأرض أدوم أو دومة من القدم. . . فقد جاء في قاموس الكتاب المقدس ص 451 أن دومة التي بها أذرح محرفة عن أدوم، وأنها البلاد التي يسكنها نسل دومة هو أدوم بن إسماعيل أو سادس أولاده (نك 25: 14) وأنهم سكنوا في صحراء سورا على بعد 150 أو 200 ميل من دمشق حيث توجد قطعة أرض تعرف باسم دومة الحجرية أو دومة السورية.
وفي كتاب الإمامة والسياسة ج 1 صفحة 136 ما يشير إلى كتاب بين علي ومعاوية اتفقا فيه على أن يرجع أهل العراق إلى العراق وأهل الشام إلى الشام ويكون الاجتماع إلى دومة الجندل (وأظن أنهما يقصدان دومة الجندل بالجوف) فإن رضيا أن يجتمعا بغيرها فلهما ذلك. . . ثم ذكر في صفحة 138 أن أبا موسى وعمراً لما اجتمعا بدومة الجندل كان عقد التحكيم هدنة من رمضان إلى رمضان.
وإذا رجعنا إلى اسم أدوم وجدنا أن معناه في قاموس الكتاب المقدس أحمر وهو لقب عيسو بن أسحق أخذ بلون العدس يوم باع بكوريته إلى أخيه يعقوب وأخذ الأرض الواقعة جنوبي (حبرون) مدينة الخليل إلى جنوب البحر الميت ثم تخوم أرض موآب ثم اتسعت البقعة فشملت الأراضي الواقعة بين برية (سين) وغربيها إلى البلاد العرب الواقعة شرقيها أي شملت منطقة أذرح وما حولها. التي اشتهرت بجودة هوائها، وخصب أراضيها ومناعة(1002/24)
حصونها. أما تسميتها بأدوم فأخذا من عيسو الملقب بأدوم (نك 43: 36) والمظنون أن نسله استوطن هناك فأصبح هذا القسم من جنوبي البحر الميت يشمل كل تخوم كنعان الجنوبية من البحر الميت إلى الخليج الشرقي للبحر الأحمر ومن ضمنها جبل سعير وكانت سالع عاصمة القسم الجنوبي وفيها استوطن تيمان بن عيسو (نك 11: 36) فتسمى الجزء الجنوبي تيماء باسمه وكان للأدوميين ملوك يحكمون باسمهم.
ولما جاء حكم الروم أنشئوا في تخوم العقبة باباً كبيرا ووضعوا عليه شحنة لجبي الضرائب على القوافل القادمة من الجنوب. . . وفي الاصطخرى وابن حوقل تمتد جبال أدوم من الشراة إلى أيلة أي العقبة كما جاء في كتاب فلسطين تحت حكم المسلمين لمؤلفه جوى لوسترانج أن أدوم في مادة الشراة.
أما تحقيق أدوم أو دومة الجندل لدى العرب فقد جاء في صفحة 106 جزء 4 من معجم ياقوت كما يأتي: بضم أوله أو فتحه.
ابن دريد: أنكر الفتح وعده من أغلاط المحدثين
حديث الواقدي: جاء فيه دوما الجندل
ابن الفقيه: عدها من أعمال المدينة: وقال سميت بدون بن إسماعيل بن إبراهيم
الزجاجي: دومان بن إسماعيل وقيل دوما
ابن الكلبي: دوماء بن إسماعيل، ولما كثر ولد إسماعيل بتهامة خرج دوماء حتى نزل دومة وبنى به حصنا فقيل ودماء ونسب الحصن إليه وهي على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. . . وقال أبو سعيد: دومة الجندل في غائط في الأرض خمسة فراسخ وفيها عين يسقى ما به من النخل والزرع وحصنها مارد، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل) ولا يبعد أو وصفه ينطبق على دومة الجندل بالجوف والحصن على ما بناه الأكيد وهو من فتح خالد بن الوليد. ثم يؤكد أبو عبيد الكوفي أن دومة الجندل قرب جبلي طي ويقصد بذلك واحة الجوف لأنه ذكر بلدة دومة وسكاكة وذو القارة أما دومة ففيها سور يتحصن به وفي داخل السور حصن منيع يقال له مارد وهو حصن أكيدر.
ونعود إلى أرض أدوم أو دومة الجندل الصخرية فنقول إن هذه البقعة كانت عامرة في(1002/25)
العصور السابقة وفي عهد الروم انشئت بها كما قلنا أسقفية في (غرندل) تحريف (أرندل) التي بقيت على الطريق الروماني من العقبة إلى بصرى، وكان يمر بأرض الشوبك وعليه حصن الكرك المشهور في الحروب الصليبية، وكان عامرة في عهودها الإسلامية بدليل سكنى الخلائف من قرش وبني هاشم، وأن الدعوة العباسية قامت من بلدة الحميمة حين مات بها إبراهيم الإمام.
وبعد هذا التحقيق والبحث كنت أقلب الجزء الأول من العقد الفريد تحقيق العلامة الدكتور أحمد أمين فوقع نظري في الصفحة 264 سطر 13
(وأوصل أبو دلامة إلى العباس بن المنصور رقعة فيها هذه الأبيات
قف بالديار وأي الدهر لم تقف ... على مناظر بين الظهر والنجف
فإذا الحاشية (4) تقول
(النجف بالتحريك موضع بظهر الكوفة، وهو دومة الجندل بعينها، وبالقرب منها قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) ولاشك في أن واضع الحاشية كغيره من الأدباء أغفل تحقيق الأماكن الجغرافية لعدم أهميتها، والحقيقة أن بالكوفة مكانا يدعى (دومة) والنجف محلة منها ويقال إنها سميت بذلك لأن عمر بن الخطاب لما أجلى الأكيدر صاحب دومة الجندل المشهورة في الجوف قدم الحيرة ثم بنى بها منزلا سماه دومة على اسم حصنه الذي نزع منه (راجع كتاب تاريخ الكوفة تأليف المؤرخ السيد حسين ين السيد أحمد البراقي طبع النجف صفحة 148 سطر 2
ولا يصح أن يفهم القارئ خطأ بأن موضع دومة الجندل التي كر ذكرها واختلاف الرواة بشأن الحكمين كان موضعا بالقرب بالنجف حيث يرقد الإمام علي رضي الله عنه وبين النجف ودومة الجندل بالجوف مئات الأميال وبين أرض أدوم وبالشراة مئات أخرى.
أحمد رمزي
المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي(1002/26)
لا قريش بعد اليوم. .!
(فصل من كتاب (جهاد النبي) الجزء الثاني - الذي صدر
حديثا)
للأستاذ محمد محمود زيتون
(جيش الإسلام في الطريق إلى مكة. . أبو سفيان والعباس يسبقان الجيش ويتحدثان)
أبو سفيان: ما شاء الله يا أبا الفضل. لقد ذقت والله حلاوة الإسلام في نفسي
العباس: ثبت الله قلبك على الحق يا أبا حنظل
أبو سفيان: والله ما كنت أظن أن رسول الله يزيد في قومه هكذا
العباس: فما بالك بجيشه الفاتح المنصور بإذن الله!
أبو سفيان: لئن جئت محمدا أخاف أن تهوى أسياف من معه على رقاب قريش، فأصبحت وأنا أشد شوقا إلى أن أراهم يرتعون في الإسلام، وإلا فالسيف بيننا وبينهم
العباس: بل ستكون المعجزة الكبرى يوم الفتح
أبو سفيان: بشرك الله بالفضل يا أبا الفضل
(العباس وأبو سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل. . . القبائل تدخ على قادتها. . . والكتائب على رايتها)
أبو سفيان: (لحكيم) أغدراً؟
حكيم: لا
أبو سفيان: إن أهل النبوة لا يغدرون
حكيم: ولكن لي إليك حاجة حتى تنظر جنود الله، وما أعد الله للمشركين
كل قبيلة تمر. . . تكبر ثلاثا. . . وتمضي في قوة وشجاعة)
أبو سفيان: من هذه؟
العباس: سليم
أبو سفيان: مالي ولسليم. . ومن هذه؟
العباس: مزينة(1002/27)
أبو سفيان: مالي ولمزينة. . وقد جاءتني تقعقع من وشواهقها، ومن تلك؟
العباس: تلك أسلم
أبو سفيان: مالي ولأسلم. . فمن؟
العباس: فجهينة
أبو سفيان: مالي ولجهينة والله ما كان بيني وبينهم حرب قط، فبنو من؟
العباس: فبنو غفار. . وهؤلاء طوائف أخرى من تميم وقيس وأسد
أبو سفيان: ما مر محمد بعد؟
العباس: لا
أبو سفيان: من هؤلاء الذين يكبرون؟
العباس: بنو بكر
أبو سفيان: نعم. . أهل شؤم، والله هؤلاء الذين غزانا بسببهم محمد. . فمن هؤلاء بعدهم؟
العباس: أشجع
أبو سفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد
العباس: أدخل الله الإسلام في قلوبهم. . فهذا فضل الله
أبو سفيان: أبعد ما مضى محمد؟
العباس: لو أتت الكتيبة التي محمد فيها لرأيت الخيل والحديد والرجال، وما ليس لأحد به طاقة
(تمر كتيبة الأنصار. . ابن عبادة على الراية)
ابن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة
أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار
(أبن عوف وعثمان وعلي حول النبي)
عثمان: يا رسول الله ما نأمن أن تكون لسعد بن عبادة صولة في قريش، وقد قال ما قال
النبي: (لعلي) أدركه فخذ الراية منه ثم مره أن يسلمها لأبنه قيس بن سعد بن عبادة
عمر: (للجيش) رويدا يلحق أولكم آخركم
(أبو سفيان لا يزال يتعجب مما يرى)(1002/28)
أبو سفيان: هلا ذكرت لي من على رأس هذا الجيش الكثيف يا أبا الفضل؟
العباس: أما رأيت خالد بن الوليد في بني سليم على الجناح الأيمن وهذا الزبير بن العوام على الجناح الأيسر، أحدهما آخذ من أعلى مكة والآخر من أسفها
أبو سفيان: ومن على المقدمة؟
العباس: أبو عبيدة بن الجراح
أبو سفيان: ولمن هذه الكتيبة الخضراء؟
العباس: إنها والله كتيبة رسول الله
أبو سفيان: هذه والله معها الموت الأحمر
العباس: أما تراهم في الحديد!
أبو سفيان: والله ما أرى منهم غير الإحداق من وراء الحديد، ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. . ومن هذا الغلام رديف رسول الله؟
العباس: هذا خادمه وابن خادمه أسامة بن زيد
أبو سفيان: أفي مثل هذا الموكب!!
العباس: تواضعاً لله. . ومن تواضع لله رفعه. . وفتح عليه
(يمر النبي على القصواء في تواضع. . . يحاذي أبا سفيان)
أبو سفيان: أمرت بقتل قومك.
النبي: لا
أبو سفيان: أنشدك الله والرحم في قومك، فإنك أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم، فما بال سعد؟
النبي: كذب سعد. . يا أبا سفيان: اليوم يوم الرحمة. . يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة.
(يمر النبي في كتيبته بين أبي بكر وأسيد بن حضير يتحدث إليهما. . ويظل أبو سفيان والعباس يتحدثان)
أبو سفيان: فمن هذا الوازع الذي يرعد في الكتيبة يا عباس؟
العباس: ذاك عمر بن الخطاب
أبو سفيان: لقط أمر أمر عدى في الكتيبة يا عباس؟(1002/29)
العباس: إن الله يرفع ما يشاء بما يشاء. وإن عمر ممن رفعه الإسلام
(فترة صمت. . أبو سفيان في شبه ذهول)
العباس: فما ترى؟
أبو سفيان: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغاداة عظيما
العباس: يا أبا سفيان إنها النبوة
أبو سفيان: إي والله إنها النبوة
العباس: إذن فالنجاء إلى قومك
أبو سفيان: فامض بنا. . ومن أين يدخل النبي مكة؟
العباس: من (كداء)
أبو سفيان: ناشدتك الله والرحم يا عباس إلا حدثتني. . . ما حملك على هذا الموقف؟
العباس: أما والله لأصدقنك. . قدمت على النبي، والناس متفرقون بين الأراك، فخفت أن ترغب في قلة الإسلام فتكفر بعد إسلامك فلا يقبل منك شيء غير القتل، فأصدقني أنت يا أبا سفيان أين وقع حديثي مما كان في نفسك؟
أبو سفيان: اللهم كان في نفسي أن أفعل بعض الذي قلت، فأما إذ رأيت الذي رأيت فقد علمت الآن أن هذا الأمر من الله لا مرد له، والله مازالت الكتائب تمر حتى خفت أن تسير معها جبال مكة. . سر بنا يا عباس فلم أر كاليوم قط صباح يوم في دارهم.
(نساء قريش يلطمن وجوه الخيل بالخمر)
(أبو قحافة وقد كف بصره ومعه ابنته من اصغر ولده)
أبو قحافة: أي بنية أظهري بي على (أبي قيس)
(تذهب به إلى الجبل)
أبو قحافة: ماذا ترين؟
- أرى سوادا مجتمعا
أبو قحافة: تلك الخيل
- وأرى رجلا يسعى بين يدي ذلك مقبلا مدبرا
أبو قحافة: ذلك الوازع(1002/30)
- قد والله انتشر السواد
أبو قحافة: قد والله إذن دفعت الخيل فأسرع بي إلى بيتي
(تمر بهما بعض الكتائب فيختطف رجل منها طوقا من الفضة حول عنقها)
- طوقي. .! طوقي. .!
النبي: (مبتسما) يا أبا بكر كيف حال حسان؟
أبو بكر: قال حسان
عدمت بنيتي إن لم تروها ... نثير النقع موعدها (كداء)
ينازعن الأعنة مسرجات ... على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات ... يلطمهن بالخمر النساء
(أبو سفيان والعباس يخلان مكة)
أبو سفيان: يا معشر قريش. هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به
- ويحك يا أبا سفيان!
- صباء الشيخ
(عكرمة ومقيس يقبلان عليه)
عكرمة: أقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهبل وأساف ونائلة. . لقد سحرك محمد
مقيس: أو لهذا أرسلنك يا أبا حنظلة؟!
أبو سفيان: أقبلا على أمركما، فإنه قد أتاكما مالا تطيقان، أنمت ولا قومكما
عكرمة: على رسلك يا أحمس. . وما أتانا؟
أبو سفيان: أتاكم الله مثل الليل الدامس
مقيس: والله لقد طاح أبو سفيان بما بقي لدينا من عقل
أبو سفيان: وأخرى؟!
مقيس: وما تلك؟
أبو سفيان: من دخل داري فهو آمن
مقيس: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟(1002/31)
أبو سفيان: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن
(هند تأخذ بشارب أبي سفيان)
هند: أقتلوا الشيخ الأحمق. . . اقتلوه فإنه صبأ. . . اقتلوا الحميت الدسم الأحمس. اقتلوه. . قبحه الله من طليعة قوم. . . يا آل غالب هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم.
أبو سفيان: ويحك! اسكتي وادخلي بيتك. . والله لتسلمن أو لأضربن عنقك. . ويلكم. . تغركم هذه الحمقاء عن أنفسكم فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به. فتفرقوا إلى دوركم وغلى المسجد
(الناس يعدون إلى بيوتهم. . مقيس وعكرمة وسارة حيارى لا يدرون أين يتوجهون)
أبو سفيان: ومن جنح إلى الكعبة وألقى السلاح فهو آمن
(مقيس وعكرمة. . . يخلعان الحديد ويركضان نحو الكعبة)
أبو سفيان: اللهم إلا مقيس وعكرمة بن أبي السرح وابن حنظل وسارة مولاة عبد المطلب. . لم يجعل لهؤلاء أمان ولو تعلقوا بالأستار
(سارة ومقيس وعكرمة ومن ليس لهم أمان. . تنهار أعصابهم فيخرون على الأرض. . ترتعد فرائصهم)
أبو سفيان: يا آل غالب اسلموا تسلموا
(حماس بن قيس بداره. . يتحدث إلى زوجته)
- ما تفعل يا حماس؟
حماس: كما ترين أبري نبلا
- فلم تبريه؟
حماس: بلغني أن محمدا يريد أن يفتح مكة ويغزوها
- والله ما أدري أنه يقوم لمحمد وأصحابه شيء
حماس: والله إني لأرجو أن أستخدمك خادما من بعض من نستأسره
- والله لكأني بك قد رجعت تطلب مخبأ أخبئك فيه لو رأيت خيل محمد
صفوان: يا حماس. . . يا حماس
- فمن هذا الذي يناديك؟(1002/32)
حماس: هذا صفوان بن أمية (يخرج ومعه سلاحه)
صفوان: وقد أعددته؟ فهام إلى عكرمة
حماس: أعنده من أحد؟
صفوان: عنده سهيل بن عمر، أما جمعت بني بكر؟
حماس: بل كنت في شغل بسلاحي أعده. . ألم تفعلوا أنتم؟
صفوان: بلى. . غدا نجتمع عند (الخندمة)
(الخندمة: القتال بين رهط خالد ورهط صفوان. . قتلي المشركين اثنا عشر. . حماس منهزم. . يدخل بيته)
حماس (لزوجته) أغلقي عليّ بابي. . لا تفتحي لأحد أبدا
- أين نبالك؟
حماس: قبحها الله من سلاح. . ويحك. . هل من مخبأ!
- فأين الخادمة التي وعدتني بها؟
حماس: دعيني عنك
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد قائم كالمؤتمه ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة ... ضربا فلا يسمع إلا غمغمة
لهم نهيت خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
(أسفل مكة. . حول راية خالد. . . ومعه بنو بكر وبنو الحارث وبعض من هذيل)
- والله لا تدخلها عنوة
خالد: الله أكبر. . الله أكبر
(المسلمون يجتمعون حول الراية)
حكيم: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟
أبو سفيان: من دخل داره فهو آمن، ومن وضع سلاحه فهو آمن
(قريش يقتحمون الدور ويغلقون الأبواب وراءهم تاركين السلاح بعد أن طرحوه بالطرق فيأخذه المسلمون)(1002/33)
(النبي ينظر إلى بارقة السيوف. وقد وقع القتال)
النبي: ما هذا، وقد نهيت عن القتال؟
- نظن أن خالدا قوتل، وبدئ بالقتال فلم يكن بد من أن يقاتلهم
النبي: فقم فقل له فليرفع يديه من القتل
- يا خالد. . إن نبي الله يقول لك أقتل من قدرت عليه
النبي: ألا آمرك أن تنذر خالدا؟
- أردت أمرا فأراد الله أمرا، فكان أمر الله فوق أمرك وما استطعت إلا الذي كان
النبي:!؟. .!؟. .!؟
- يا رسول الله هذا خراش بن أمية وقد قتل ابن الأثوع الهذلي
النبي: إن خراشا لقتال، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم قتيلا، لأدينه
(خالد يقوم على النبي بعد أن قتل سبعين مشركا)
النبي: قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟
خالد: هم بدؤونا بالقتال وقد كففت يدي ما استطعت
النبي: قضاء الله خير. (ينظر إلى أبي هريرة) اهتف لي بالأنصار
أبو هريرة: يا معشر الأنصار أجيبوا رسول الله
النبي (للأنصار) ترون أن أوباش قريش وأتباعهم (يضع يدا على يد) أحصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا
(المسلمون يحصدون أوباش قريش التي وبشتها من قبل)
أبو سفيان: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش. لا قريش بعد اليوم
النبي: من أغلق بابه فهو آمن
محمد محمود زيتون(1002/34)
2 - في بلاد الأحرار
للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد
بقلم الأستاذ أحمد مصطفى الخطيب
عكفت على مطالعة السفر في الحال، وكانت صفحته الأولى تحمل هذا العنوان: (القواعد الأساسية لبلاد الأحرار).
وعندما قلبت الصفحة الأولى منه وقعت نظرتي على هذا العنوان: (الأسس العامة)
ثم تلا هذه المواد:
(1) الحرية منحة سامية. . . ولكيما يكون المرء حرا، يجب أن يجوز منزلة كبيرة من السمو والرفعة. . . نزاهة الفكر. . نزاهة القول. . . نزاهة الحركة. . . تلك هي الأسس اللازمة للحرية.
(2) لا يستطيع نيل الحرية أولئك الذين لا يتمكنون من التحكم في نفوسهم.
(3) سذاجة القول. . . سذاجة المعيشة هما شرطا الحرية. . وبعد أن أقرأت هذه المواد التي بدت لي غريبة جدا لفت نظري هذا العنوان: (القانون الأساسي لبلاد الأحرار).
كان هذا القانون يتضمن المواد التالية:
(1) الحرية تقوم على الصدق والجرأة
(2) الكذب ممنوع منعاً باتا في بلاد الأحرار ومن يبتل بهذا الداء يطرد من البلاد.
(3) الرياء والتزلف يعدان من أكبر الجرائم، ومرتكبهما يرجمه بالأحجار أفراد هذا الشعب كافة.
(4) لا يجوز للجواسيس أن ينتسبوا إلى رعوية (بلاد الأحرار).
(5) لا يجتمع الجبن وتوطن بلاد الأحرار على صعيد واحد.
(6) إن من يعتدي على غيره قولا أو عملا يقذف به إلى خارج البلاد.
(7) الاحتيال والنميمة يورثان مرتكبهما عقوبة إسقاط رعوية بلاد الأحرار عنه.
(8) الدفاع عن الحق واجب. . . ومن لم يقم بهذا الواجب يطرد من البلاد.
(9) العمل واجب. . . ومن تحدثه نفسه بالبقاء بغير عمل يستكره على العمل لحساب البلاد بغير أجر.(1002/35)
(10) التساند واجب. . . والذين لا يقومون بتأدية هذا الواجب يفقدون رعوية البلاد.
(11) إن القيام بإدارة شؤون بلاد الأحرار لهو من حق ذوي التجارب والاختصاص فحسب.
(12) إن كل وطني مكلف بأن يراقب موظفي البلاد.
(13) على كل موظف أو فرد في المملكة أن يؤدي الحساب في أي وقت كان، عن أعماله التي يقوم بها، أو ثروته التي يمتلكها. . . والذين يحاولون الهرب من تأدية مثل هذا الحساب يحكم عليهم بعقوبات قاسية ويفقدون صفة الاستيطان.
(14) على كل وطني استظهار المواد المدرجة في أعلاه والعمل بمقتضاها.
قرأت هذه المواد، ثم أخذت أفكر. . ما أعجب هذه البلاد؟ إنها نقيض ما رأيته أو سمعته أو تعلمته حتى الآن.
ليت شعري! هل أستطيع آلفة هذه الحياة الجديدة؟ داخلتني الشكوك وساورني الإحجام. . . حتى خيل إلى لحظة وأنا في غمرة تفكير عميق أن من الأفضل أن أهرب من هذا المكان.
. . . ولكن غروري وكبرياء نفسي قد حالا بيني وبين ذلك.
وقد قلت لنفسي:
- (. . إذ قد أتيت. . وطلبت أن أكون (مواطناً) في بلاد الأحرار فالعمل في سبيل التعلم قضية كرامة شخصية ليس إلا. . نعم! أنا أعرف أن لي عادات كثيرة، وسجايا اكتسبتها من جدودي وعهود التاريخ، وإنه من الصعوبة بمكان. . . على أن أفارقها وأنبذها نبذ النواة دفعة واحدة. . . ولكن مهما يكن من شيء فالواجب يقضي على بالعمل وبذل كل الجهود المستطاعة).
وهكذا صممت على تعلم الدستور، فأقبلت عليه بالدرس والبحث والتأمل. . . ولم تمر غير أيام معدودات حتى كنت في خلالها قد تمكنت من استظهار مواده وفهم مغازيها. . . على أنه كانت ثمة أيضاً بعض المواد لم أفهم الحكمة من وضعها، وأخرى داخلني الشك والارتياب فيها. . فلذا صممت على مكاشفة الأساتذة بالأمر، وطلب الشرح الوافي منهم.
وبعد كل هذا أخذت أنظر ما حولي، وافحص الدار التي أسكنها، وأدرس الرجال الذين أتصل بهم.(1002/36)
إن ما رأيته بحيط بي قد بعث في نفسي من الحيرة والدهش أضعاف ما بعثه فيهما ما كنت قد قرأته من المواد والنصوص.
فقد علمت أن الدار التي أسكنها دار ضيافة، وأن هناك عدة دور أخرى مماثلة لها في المدينة خاصة بالذين يلجئون إلى بلاد الأحرار.
وكان معي في الدار ضيوف آخرون يبلغ تعدادهم عشرين ضيفاً بينهم نسوة.
وفي اليوم التالي أفضى بي الشيخ الذي فتح لي الباب إلى قاعة الطعام العمومية، ثم قدمني إلى الضيوف الذين كانوا قد اجتمعوا هناك؛ قائلا:
- ضيف جديد!
رحب بي القوم جميعاً بوجوه تطفح بشراً وإيناسا، ونظرات تفيض رقة وحنانا، ثم قال الجميع بصوت واحد:
- هنيئا لك!. .
كان الطعام وافراً ساذجا. . وبعد انتهائنا من تناوله، انتقلنا إلى البهو، وهنا جلست إحدى السيدات إلى المعزف، وأخذت توقع ألحانا مؤثرة
نهض الضيوف جميعا، وأخذوا ينشدون بصوت واحد نشيدا أشبه شيء بالدعاء. . . فنفذ لحن هذا النشيد إلى شغاف قلبي، وشعرت شعورا غامضا لا سبيل لي الإفصاح عنه
وهنا خاطبني الشيخ قائلا:
- يجب أن تحفظ هذا النشيد!
ثم ناولني ورقة مكتوبة فإذا أنا أقرأ فيها:
(ما أصعب أن يكون المرء حرا)
لست بمتذكر نفس الأقوال التي كانت قد وردت في ذلك النشيد، ولكنني أستطيع أن أقول إن خلاصتها كانت لا تعود ما يلي:
(الإنسان شعور الكون)
(نعبده ونقدسه)
(الحرية جوهر الشعور المقدس)
(نحبها ولا نتخلى عنها)(1002/37)
(بلاد الأحرار هيكل الشعور والحرية)
(نلجأ إليها ونعتز بها)
إنه ليس بوسعي أن أصف لكم مبلغ ما أحدثه هذا النشيد من الأثر البالغ في نفسي. . . فقد أصغت صوابي لعدة دقائق. . . وعندما عاد إلى رشدي وجدت الضيوف قد انقسموا إلى جماعات والكل يتحدثون.
جاءني جماعة منهم وأخذوا يجاذبونني أطراف الحديث كما لو كانوا من معارفي منذ مدة طويلة. . . فعلمت أن هؤلاء أيضاً مثلي قدموا هذه الديار عند بحثهم عن الحرية.
وبعد هنيهة أخذت أطوف الأقسام الأخرى أيضاً من البناية. . كانت الغرف والقاعات قد فرشت بفرش ساذجة، ولكنها تلمع من شدة النظافة. . والجدران مزدانة بعدد كبير من الصور الفنية الغالية والألواح النفسية.
وعلى معظم هذه الألواح دونت مواد دستور بلاد الأحرار بخط رائع جذاب. . . كانت ثمة كتابات أخرى أيضاً لفت نظري منها.
(الحريص يكتوي بنار حرصه ويحرق ما حوله)
(الكلام أول صوت إلهي شعر به الكون)
(الاستبداد معرة متوارثة من عهود الهمجية)
(العدل ميزة تثير غبطة الملائكة للإنسان)
(التضحية من أسمى مظاهر النفس البشرية)
(نكران الذات والتواضع خلتان يختص بهما ذوو الأرواح السامية)
(الغرور والعجرفة دليلان على سقوط النفس وضعة القدر)
كان ثمة بهور رحيب في ركن من البناية يضم في أرجائه الفسيحة مكتبة الدار. . وعلى منضدة تمتد على طول البهو صفت أشتات من الجرائد والمجلات والكتب، كما أن الرفوف كانت عامرة بآلاف المجلدات.
كان أغلب الضيوف حاضرين هنا. . . وكانوا جميعا مكبين على المطالعة والتأمل.
واقتربت أنا أيضاً من المنضدة. . فوقع نظري على كتاب عليه هذا العنوان: (فذلكة من تأريخ بلاد الأحرار)(1002/38)
حرك ذلك مني الرغبة فعكفت على مطالعته في الحال
لم يكن هذا تأريخا. . . بل مأساة دامية
أي أيام سود كانت قد مرت على هذه البلاد؟ يا لقسوة القدر!
كافحت هذه البلاد في سبيل الحرية عصورا طويلة واغلة في القدم
جرت الدماء جداول وأنهارا في هذه الشوارع التي تفيض بالهدوء والوداعة اليوم
فتارة يتخاصم الأهلون ويتقاتلون فيما بينهم، فيهدمون ويخربون؛ وتارة تجتمع كلمة الكل وتتحد غاياتهم فيهبون هبة واحدة لمحاربة الطغاة المستبدين، والحرب في كل ذلك سجال بين الفريقين. . إلى أن أتى يوم رسخت فيه دعائم الحرية، وتنفست البلاد الصعداء، وأخذت تعيش في كنف الهدوء والاطمئنان، وكل ذلك منذ قرنين من الزمان.
وإذ أنا أتأمل هذا الكتاب قلن بغير إرادة.
(ما أصعب أن يكون المرء حرا)
يتبع(1002/39)
رسالة الشعر
في مهرجان (الرسالة)
للأستاذ زهير مبرزا
لا تسلني فلن أحير جوابا ... غرب الفكر عن زماني وغابا
واستحال السماك أشياع أعجا ... ل أرونا الجوزاء فيهم ترابا
واستوى عقد بعضهم نضو فكر ... وهزيل يرى الكتاب كسابا
وتخلى عن السباق عتاق ... عطروا الساح فكرة وكتابا
وتباروا في حلبة المجد أنضا ... ء اجتهاد فما أصابوا اضطرابا
كلهم رائد الخلود فما تلقى جبانا ولست تلقي ذئابا
من ترى يخلع الوقار على العيدان إن أهمل العتيق الرحابا؟
طوى السبق وانجلى عن فصيل ... لم يعود شوطاً فضل صوابا؟
من لهذا البيان إن غاب أعلا ... م أناروا الدنى وفاقوا السحابا
من لهذا البيان أن أمسك القر ... ضاب جبس فدنس القرضابا؟
ضل من يقلب البراعة في كفيه فأساً تهدم الألبابا
ورأينا على الجياد خيالا ... ت رجال لم يألفوا الإركابا
حطهم فوق سرجها عبث الدهر وحط الكمى عنها وغابا!!
سائل الحفل عن فتى عربي ... تجد الحفل ضاق عنه جنابا
لم يجل فيه غير بعض هجين ... أهمل النطق واستباح (الكتابا)
ورأى في البيان مظهر تقييد فدك البيان والإعرابا
وبنى المنطق الضعيف على الضعيف. . فكان البناء يشكو الخرابا
طلعت هذه (الرسالة) والنا ... س عبيد لم يلقفوا الأسبابا
هم عبيد القديم، عن جهل فحوا ... هـ، وبعض يرى القديم صوابا
هم عبيد الحديث، عن طفرة الوهم يزقونه شراباً سراباً
هم عبيد وكل عبد زنيم ... كبرت ضلة وجلت مصابا
والعظيم العظيم من يقهر الجهل وينجي من القيود الرقابا(1002/40)
ألف جزء من (الرسالة) دنيا ... جمعت طيباً فطابت وطابا
حملت مشعل الحضارة والبعث وجازت على الزمان الصعابا
ورقت بالفطير يعوزه الزق ... إلى أن غدا من الخلد قابا
كم سما ناشئ إليها بدنيا ... هـ فكانت نبراسه والشهابا
وانضوى في سجلها كل فكر ... عبقري فكان تبراً مذابا
أطلعت هذه (الشموس) ولولا ... ها لكان الضباب يعلو الضبابا
أعصر الانحطاط لم تك إلا ... غفوات لم تلق صوتا مجابا
لم تكن فيهم (الرسالة) حتى ... يتبارى إبداعهم وثابا
هي أم الكتاب قد حضنتهم ... من طفولاتهم ليغدو شبابا
وشباب في نضجهم ككهول ... لم يخب رأيها ولا الجد خابا
ثم كان الصباح. . وانبثق النو ... ر إذا بالوجود يلقي النقابا
فتراه تكشف اليوم عن نو ... ر سطيع يشعشع الأدبا
لا تلمني إذا غضبت لقومي ... شيعة الصدق أن نكون غضابا
نحمل القلب طيباً ولنا الرأ ... ي سديدا فما طغى أو حابي
خلق بعضه صنيع عصامي ... وبعض من (النبي) اكتسابا
كل عصر له (أبو عبادة) إلا ... عصر جهل يرى البلاغة عابا
ويح قومي!. . أما يخافون يوما ... يفقدون الآداب والأنسابا
فيقول الإنسان عاشوا سواما ... يقول التاريخ فيهم سبابا
غصة ملء صدرنا وأنين ... لو يذيب الأحجار كان أذابا
لا تقل: تلك ضجعة الموت فينا ... قدرة الفكر تبدع الإنقلابا؟
زهير ميرزا(1002/41)
أغنية الكفاح
فجر. . . ونور. . .!
للأديب محي الدين فارس
أقبل الفجر وغنى في الذرى طير الأماني
فانتشى النيل وأسماع الورى والشاطئان
بهجة في الأرضتغشى كل أفق ومكان
وابتسام ساحر رف على ثغر الزمان
إنه يا نيل عيد تنشق الأرواح زهره
هتفت في غمرة البشرى: فما أروح عطره!
اصدحي يا طير. هذا العبيد. عيد الكائنات
كم ترقبناه شوقا فهو أحلام الحياة. .
بقلوب ظامئات، وعيون شرهات!
فإذا بالغد في جنبيه فجر الأمنيات. . .
إنه يا نيل عيد تنشق الأرواح زهره
هتف في غمرة البشرى: فما أروح عطره!
ها هو القيد نثارات بأحضان الرياح
فارقصي يا بهجة النيل على لحن الكفاح
وتملي نشوة الدنيا وأفراح الصباح
فالمني ملء يدينا والسنا ضافي الوشاح
إنه يا مصر عيد تنشق الأرواح زهره
هتف في غمرة البشرى: فما أروح عطره!
خمدت نارك يا أمس خمودا فصحونا
فإذا بالركب لا يشكو على البيداء أينا
فرحة يا رب!. . . عيد ملأ الأكوان لحنا
ما علينا رضى (الغرب) فأصغي أم تجني؟(1002/42)
إنه يا شرق عيد تنشق الأرواح زهره
هتفت في غمرة البشرى: فما أروح عطره!!
محي الدين فارس(1002/43)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
تطهير التاريخ
(. . نعتقد أن تطهير التاريخ قد بدأ فعلا، وأن الكتب التي تصدر في هذه الأيام، وخاصة التي بذل في تحريرها جهد، وسمت عن إرضاء رغبات القراء أو أهوائهم، تصحح وقائع التاريخ في العصر الأخير فعلا. .).
هذا بعض ما جاء في خطاب (عبد المحسن حسني) تعليقا على ما كتبنا في هذا المكان، في العدد الألف، ولكن الواقع أننا لا نريد تحرير التاريخ في العصر الأخير أو في السنوات الأخيرة وحدها. . وإننا نحن إزاء تاريخ كامل مضطرب، منذ الاحتلال الإنجليزي إلى اليوم، هذا التاريخ الذي حالت الكثير من الأوضاع والظروف دون تحرره!
ليس تاريخ الملوك والسلاطين والخديويين فحسب، وإنما تاريخ الزعماء ورجال الأحزاب والسياسة، وجانب كبير من تاريخ الأدباء والمفكرين.
لم تكن الموازين على طبيعتها العادلة المضبوطة، التي تضع كل إنسان في موضعه، وكانت أنباء كل شيء تنشر على غير حقيقتها، إما مزيدة أو مضيعة، كانت الأهواء من وراء كل حقيقة تلونها بلونها، وكانت الوصولية والهوى والغرض، تصبغ كل شيء بطابعها الأسود القاتم، وقد رفعت السياسة أسماء كانت أهلا لأن تهوى، وحرمت أسماء من أكرم الأسماء نصيبها من التقدير لأنها تجنبت الانزلاق إلى مهاوي السياسة والوصولية والحزبية!
إننا نريد أن نطهر التاريخ، فننصف تلك الشخصيات التي ظلمها التاريخ، حين أعطى لسعد أكثر مما أعطى لمحمد فريد، وحين رفع أسم فلان وفلان وفلان لأنهم كانوا موصولي الأواصر بإنسان يملك سلطان الإعزاز والإذلال.
إن هناك حقائق كبيرة تكمن وراء الكثير من الأحداث، لم تكتب ولم تفسر، وإن في تاريخ ثورة 1919 وعوامل اندلاعها، وقيادتها، ونتائجها، أشياء كثيرة لم تكتب بعد، وفي تاريخ إنشاء الأحزاب حقائق أيضاً لم تكتب، وفي الخلاف بين الحزب الوطني، الذي حمل لواء الجهاد وبين الوفد المصري الذي أنشأ بعج الحرب خلاف، وفيما بيم مصطفى كامل ومحمد(1002/44)
عبد خلاف، كل هذه قضايا لم تكتب على وجهها الصحيح.
وفي تاريخ الخديوي إسماعيل، وتوفيق، وعباس، وفؤاد وفاروق أشياء وأشياء. . لم تكتب، وهي في ذاتها بعيدة الأثر في تطور التاريخ الحديث.
كل هذا هو ما نريد أن يكتب، بروح الإخلاص والحرية والنزاهة
التطهير في محيط الأدباء
ويتصل بهذا، الحديث عن التطهير في محيط الأدباء ولا شك أن الأدباء هم أناس من الناس، وأن بعض الأقلام قد تلوثت وقد غرقت في المداد الأسود، وهي بهذا ليست جديرة بأن تحمل رسالة التطهير أو العمل الإيجابي أو البناء في العهد الجديد.
الكتاب الذين جعلوا القلم حرفة للإثراء، والنفاق، على حساب الأمانة التي حملهم الله إياها، والذين عقوا الفطرة، وجانبوا المهمة الكبرى والرسالة العظمى، فمحوا الظلم، ووصفوه على أنه عدل، وساروا في ركاب الظالمين، هؤلاء يجب أن نطهر منهم دولة الأدب والقلم.
الشمس في منتصف الليل
كتب إلى الأستاذ محمود تيمور من الإسكندرية يقول أنه مشغول الآن بإعداد كتابه الجديد (الشمس في منتصف الليل) وهو موضوع رحلته التي رحلها في الصيف الماضي إلى بلاد النرويج والسويد والمناطق الشمالية في القارة الأوربية، وقد فهمت من خطابه أنه يعني بذلك الرد على ما قلناه في مقالنا السالف من أن الصيف ليس فصل إنتاج، وأن الأدباء يقضون هذا الموسم في حالة استجمام.
والواقع الذي نعرفه أن عميد القصة المصرية، قد جرد نفسه لفنه تجريدا وأنه لا يشرك بعمله الأدبي شيئا، ولذلك فهو ما يلبث بين آن وآخر أن يطالعنا بعمل أدبي جديد.
مؤتمر اليونسكو
كتب الدكتور طه حسين في الأهرام يقول أنه لا يحول بينه وبين العودة في هذا الوقت، إلا انتظاره موعد انعقاد مؤتمر اليونسكو، الذي دعت إليه هذه الهيئة العالمية منذ مايو الماضي، وانتدبت الدكتور طه حسين إليه باسمه لا بوصفه.
وقد كان الدكتور طه ضيق الصدر في خلال الفترة التي أعقبت إقالة الوزارة الوفدية في(1002/45)
يناير الماضي، وكان يستحث الأيام لقرب موسم الصيف، حتى يهجر مصر هجرته المحببة التي لا ينسى فيها مصر، والتي تكون دائما موعدا بينه وبين الإنتاج الأدبي. . وقد حدثني عميد الأدب، أنه يصرف هذا الوقت الذي يقذيه في أوربا عاكفا على القراءة والإملاء، وأنه ما أن يقصد إلى فرنسا، ويذهب إلى باريس، حتى يسرع فيستقر في إحدى الجبال التي يحب الحياة فيها، وهناك حيث لا (تليفون) ولا اتصالات ولا زوار تقطع حبل الأفكار ونطغى على الإلهام، وتفسد الوحي.
وقد كنت أعلم أنه يعد في موسمه هذا. . الجزء الثاني من كتاب (الفتنة الكبرى) التي كان للجزء الأول منه دوي أي دوي. . وكان الدكتور طه حسين قد أعد تقريرا مسهبا في خلال شهر مايو الماضي، أرسله إلى مؤتمر اليونسكو، وهو الموضوع الخاص الذي سيتحدث فيه، وقد ناقش فكرة المذاهب الأدبية المختلفة في (أدب الاعترافات)، وخلاصة رأى الدكتور في هذا الموضوع: أن الأديب إذا ما وضع يده على الورق ليكتب فإنما هو يحس أن من ورائه قارئا، ولا يمكن مطلقا أن يكتب شيئا ليدخره لنفسه، وعلى هذا الأساس وما دام هو يحس أن ما يكتبه سيذاع على الناس، فهو يتجمل، ويحاول أن يلبس الوقائع والاعتراف الثوب الذي يجعلها مقبولة لدى القراء، وهذا (القبول) يختلف باختلاف الكتاب، فمنهم من يحب أن يواجه الجماهير على طريقة جريئة مكشوفة أمثال جان جاك روسو، ومنهم من يحب أن يكون مقذعا كأندريه جيد. . وهكذا.
وقد أكد لي الدكتور طه وهو يروي لي وجهة نظره في هذا الموضوع أن أيا من الكتاب: روسو، جيد، أوسكار، وايلد، إنما كان ينظر إلى القارئ وهو يكتب فصول اعترافاته.
أدب القصور
ظهر في خلال هذه الفترة الأدب البغيض الذي كان قد اختفى منذ عهد طويل، ذلك هو أدب القصور.
كان الأدب قد تحرر من سلطان الأمراء والملوك والخلفاء، وجرى طليقا، على نحو من الوطنية والقوة والصراحة.
ولكن النفاق عاد فاستشرى، فأصبح اسم الملك السابق، جري في كل قصيدة وفي كل مناسبة، وبدون مناسبة على صورة لم ينلها عمر بن الخطاب، ولا خالد بن الوليد، ولا(1002/46)
نابليون.
وكانت مناسبات الأيام السوداء في الميلاد والجلوس وغيرها، تحفل الصحف والمجلات والإذاعة بتلك القصائد المصنوعة التي لا تصدر من القلب ولا من العاطفة الخالصة، ولا من الإيمان العميق.
وكانت هذه أدوات الزلفى، وقماقم الراغبين في الوصول إلى غاية أو غرض، ونشرت دواوين، وكتب ومؤلفات، وحمل أصحابها أرقى الألقاب،. . . ومات هذا الأدب كله، وانطوى، وأصبح صفحة سوداء في تاريخ الذين وضعوه. . وإن جاءوا بعد ذلك ليقولوا قصائد أخرى، في مدح العهد الجديد. . . وبعد فنقولها كلمة صريحة: إن الشعراء الذين لوثوا أقلامهم في آثام العهد الماضي، وكذلك الكتاب. . يجب عليهم أن يتواروا. . . .
لا صدارة الآن إلا للأقلام النقية التي لم تلوث، تلك التي احتفظت بطهارتها ونقائها في وسط العواصف والأنواء.
أنور الجندي(1002/47)
البريد الأدبي
المصدر صحيح
صاغ الأستاذ المفتن (الزيات) رائعة من رائعة فيها جلال الذكرى، وجمال الوفاء، ومنها لطف العتب وحسن الاعتذار، فقد ألفت مجلته الخالدة شتات الألوان في ألفه (الألف) ودفعته الفرحة إلى التنويه ببلوغها بعد تبليغها، وساق تاريخها مساق الحقيقة، لكنه عنف حين عرض للخارجين على رسالته ونال منها حتى جعلها (معتلة. .)!
إن الاعتلال عرض عام يشترك فيه كل كائن، لكنه حين يتناول المبادئ لا يبلغ هذا المبلغ؛ فالمبدأ أخو العقيدة، والعقيدة أصل الكيان، والكيان لا يمكن أن يعتوره اختلال إلا إذا فسد اصل من أصوله؛ وفساد الأصل يتحقق بتحقيق دواعيه؛ وقد عاشت الرسالة ثلثي الألف وهي مسددة الخطا مبرأة من العيب بالغة الهدف، راغبة في الحق، مرتغبة عن الباطل. فكيف يمكن الحكم باعتلالها وكيانها صحيح؟
لقد قسا أستاذنا (الزيات) على رسالته لكنه نزيه في قسوته. فلا شك أنها كانت ولا زالت، ينبوعا فياضا تغترف منه النهى أصول المعرفة، واتخذت طابعا يطبعها بالاتزان، والوقار، والأناة، وحسن التأدي، وجودة التخير، وهي هي في اتسامها بتلك السمات لا تنحرف، ولا تنقاد، ولا تميل مع الأهواء حيث تميل!
إن المشتق والمصدر فرع عن أصل، والأصل لازال سليما معافى لم يثقله غير الكفاح في سبيل تحقيق المبدأ السامي الذي يدور حول سيادة لغة الضاد في إعزازها، والاعتزاز بها، وهذا ممثل في كل صفحة من صفحات الرسالة. إن مجلتك أيها الرجل الحصيف قد كفت عن الابتذال، لأنها عفت عن المال، وارتفعت بقوامها وقومها لأنها تأبى الإسفاف والانحراف، فحسبك ما ترى ونرى، ترى إشعاعها، ونحن نرى أضواء هذا الإشعاع!
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
الفتاة وجور الجاهلية الأولى
نحن في القرن العشرين، ولكن يظهر أن الدنيا تغيرت وشمل هذا التغيير مخلوقات الله(1002/48)
جميعا ماعدا الفتاة. فالفتاة لم تزل إلى اليوم أشبه بالتركة البغيضة، والسلعة البائرة، والمتاع الهين المهين. ويظهر أن للعقلية التي كانت تسيطر على أجدادنا منذ عشرات الأعوام فحسب، كانت امتدادا لعقلية الجاهلية الأولى، ولذلك نرى تصرفاتهم تصر على اعتبار الفتاة من سقط المتاع، وكمية مهملة لا قدر لها، وإلا فلم حرموها الميراث وأوقفوا أملاكهم على الذكور دونها، كأن الله لم يخلقها لتعيش كويمة سعيدة وإنما خلقها لتهون وتشقى، وتذوق الأمرين في ظل شريعة العقول الرجعية الآسنة. وإن تعجب فعجب لهؤلاء الأجداد المسلمين الذين كانوا يؤدون شعائر الدين، ويفهمون تعاليم الإسلام كيف جاز لعقولهم أن تتنكر لنظام الشريعة العادلة، وتتمرد على نظم قوانينها في الميراث، ولم تجئ هذه القوانين إلا وفق العدالة الاجتماعية. وكيف فات هؤلاء أن البنت أقرب الرحم إليهم، وأن الله سائلهم عن هذه الرحم التي اشتق لها اسما من أسمائه، ووعد بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها كما في الحديث الشريف المشهور. أجل إن الله سائلهم عن هذه الرحم كما جاء في الآية الأولى من سورة النساء.
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا) لسنا ندري كيف جاز لعقول هؤلاء الأجداد، ما داموا مسلمين، أن يتمردوا على الإسلام فيتنكبوا طريقه، ويتمردوا على قوانينه العادلة التي اعتبرت الفتاة مخلوقا له وجوده وكيانه فأعلنت حقها في الميراث بجانب الذكر، وتوعدت المتمرد بغضب الله وشديد عذابه.
(للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر، نصيبا مفروضا) (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين. .) (تلك حدود الله. . . ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين).
وبعد. . فنحن الآن في موكب التحرير، وأظن أن الفرصة قد سنحت لمحق هذه البدعة المقيتة، بدعة حرمان الفتاة من الميراث، هذه البدعة التي لا يقرها عقل، ولا ترتضيها شريعة، وأملنا أن ينالها التطهير في هذا العهد المشرق الجديد.
الإسكندرية(1002/49)
نفيسة الشيخ
الصحافة الأدبية في العراق
قرأت في الرسالة النيرة (عدد 998) كلمة قصيرة للزميل الأستاذ عبد القادر الناصري عن (الصحافة الأدبية في العراق) وكنت، وأنا أطالع تلك السطور أتوقع أن أجد تحليلا دقيقا لصحافتنا الأدبية وأسباب تأخرها والعمد التي يمكن أن تقوم عليها نهضة أدبية شاملة. . . ولكني لم أجد إلا أمورا شخصية: اتصل به بعض شعراء البحرين والكويت والقطيف وعدن. . . واستفسروا منه، وقابل بعضهم وتجادل معهم (وذكر أسماء من قابلهم). . . الخ. . . ثم تطرق إلى موضوع امتياز مجلة أدبية طلب إصدارها ففشل وثمة توضيحات أريد أن أذكرها:
(1) ليس السيد الناصري هو أول من قدم طلبا لإصدار مجلة ثم فشل، هناك كثيرون غيره قدموا طلباتهم ومازالوا ينتظرون، وهؤلاء لا يقلون كفاءة عنه، وإخلاصا لما أقدموا عليه.
(2) وجه الكاتب لوما وتقريعا إلى السلطات التي لم تمنحه الامتياز، وكان يجب عليه ألا يشغل نفسه وتعبها بذلك. إنني لا أريد الدفاع عن مديرية الدعاية العامة عندنا، عفواً، فهي دائرة لا تعمل إلا بإيحاء من رجال الحكم؛ وهي لا تعطي امتيازات لشخص إلا بعد أن يثبت تلعقه وإخلاصه لرجل من رجال الحكم، أو الولاء لأية وزارة تأتي إلى الحكم، ولكني كنت أود ألا يهتم الزميل بمثل لهذه الأمور التي أصبحت بديهية ومعروفة.
(3) قال (بعدم جود مجلة أدبية راقية تمثل الأدب العراقي المعاصر خير تمثيل تستحق أن تكون سفيرا بيننا وبين البلدان العربية الأخرى) وهذا صحيح، وكان الأحرى به أن يذكر أن هناك مجلات تمثل الأدب العراقي المعاصر، صدرت، ولكنها لم تر النور كثيراً، وأن يذكر العوامل التي أدت إلى ذلك.
(4) أفهم من كلمته أن ليس في العراق مجلة أدبية، بينما كان الواجب أن يوضح ذلك مع ذكر الصحف الأدبية التي تصدر في (النجف) هذه الصحف التي تغالب الصعوبات وتقاوم (الاحتجاب)! فمجلة (الغري) مثلا مجلة أدبية راقية ينشر فيها كتاب العراق ومؤرخوه، وهي لا تقل نجاحا وقوة عن المجلات الأدبية الصادرة في لبنان ومصر؛ كما تعتبر (البيان)(1002/50)
منبرا حر لآراء الشباب وأفكارهم
وكان بودي أن أذكر تأريخ الحركة الصحفية في العراق اعتباراً من عهد الاحتلال البريطاني حتى اليوم، لولا أن ذلك يحتاج إلى شرح مسهب ووقت ليس قصيرا مما قد أفرد له مقالا خاصا في وقت آخر. غير أن من الضروري أن أبين العوامل التي يمكن أن تقوم عليها صحافة ونهضة أدبية مباركة:
(1) أرى أن العامل الأول هو توفير مطابع راقية تقوم بطبع الصحف الأدبية بأجور بخسة، على أن تقوم بهذه المهمة دور للنشر والطباعة يعتمد عليها. وهذا عامل له أهمية في صحافتنا الأدبية التي تعاني غلاء الورق وأجور الطباعة الباهظة.
(2) رأس مال ضخم أو مناسب لإصدار صحيفة راقية يمكن أن تصمد طويلا أمام العقبات، مع مساعدة (جمعية الصحفيين) لها في حالة (الركود!) إذ الصحف الأدبية عندنا ليست كالسياسية اليومية التي تعتمد أكثرها على مساعدات و (مخصصات سرية) تعينها على (البقاء)!
(3) تأليف الجمعيات للأدباء والشعراء وإنشاء النوادي لهم وجمع التبرعات والقيام بإصدار مجلة خاصة لهم.
(4) إفساح المجال لأقلام الأدباء والشعراء وإنتاجهم وإعطاؤهم الحرية الكاملة للتعبير عن أفكارهم، وتشجيع الأكفاء منهم باستمرار، ومساعدتهم بشتى الوسائل
(5) نتاج متين قوي؛ وأحسب أن هذا موجود في العراق في أي وقت. . فهناك مواهب وقابليات كامنة، لا تزال (بالقوة) ولم تخرج إلى الفعل بعد! مع أهمية انصراف الأدباء والشعراء لأدبهم وفنهم، والخروج من وظائفهم الحكومية التي تحد من نشاطهم وحريتهم.
إن هذا لا يمنعنا من القول أن قيام نهضة أدبية ناجحة في العراق ليس أمر بعيدا، بل على النقيض نجد الجهود اليوم تتضافر للعمل لخلق تلك النهضة. وفي رأيي أننا يجب أن نتفاءل فأمامنا طريق يجب أن نعبده بأيدينا وجهودنا.
بغداد
فؤاد البعلي(1002/51)
القصص
من الأدب الإيطالي
عدو. . .
كان جالساً في حجرة المطالعة إلى نضد بجوار النافذة شارد اللب، مشتت الخاطر، يحدق في الفضاء المترامي أمامه لا يثبت شيئا ولا يحققه، وقد اضطربت في رأسه خواطر. . خواطر سوداء يريد أن يطردها بما ينفثه من دخان سجائره. كان كذلك حين نادته زوجته من خلف الباب: (بيتروا! بيترو؛ أأستطيع الدخول؟) ثم. . ثم دفعت الباب في رفق وهي تقول: (أرجو أن تعيرني سمعك قليلا. سأقص عليك خبرا هاما) وتقدمت في هدوء وهي تلوح بمنديلها تطرد به سحب الدخان المتكاثفة هنا وهناك: لقد أفرطت في التدخين يا بيترو، وهو يهد من كيانك. لماذا تجلس صامتاً في الظلام؟ وكان ثوبها الحريري الجميل يحف حفيفاً خفيفا، وقرطها الماسي يشع نورا؛ وكانت هي تبدو أنيقة جذابة لأن هذا اليوم هو يوم الاستقبال. . .
وزفر الزوج زفرة عميقة ثم نظر إلى زوجته وهو يبتسم في تهكم ويقول: (لماذا رتبت شعرك بمثل ما أرى وقد جاوزت سن الفتاة؟) فاضطربت شفتاها وقالت: (إن شعري لا يلبث أن يتشعث، ولكن لابد للمرء أن يبدو أنيقاً حين ينتظر قدوم الزائر)، وفي لهجة السخرية قال: (حقا. إن هذا اليوم عظيم. إن النواقيس لا تنفك ترن رنينها العذب. . .)
واقتربت الزوجة رويداً رويداً من زوجها وقالت هي تبسم في رقة وقد طرحت وراءها كل تهكماته: (أتعرف سالفيتي القانوني الشاب؟ إن أمه كانت هنا اليوم؛ أفهمت ما أعني؟)
فقاطعها الزوج في جفاء وقال: (لا، أنا لا أعرفه)
(إنك تذكره تماما! القانوني الشاب! أنه يبدو أنيقا رقيقاً!)
(أنا لا أذكره)
وفي الحق لقد كان بيترو يعرف الشاب، ولكن أي قوة على الأرض تستطيع أن تنتزع من بين شفتي هذا العنيد اعترافا؟
فقالت الزوجة في رقة: (لا بأس فأنا موقنة بأنك ستذكره حين تراه. لقد أسهبت أمه في وصف ابنتنا إيلينا بصفات الجمال والكمال والرقة والأنوثة و. . . ثم راحت تطلبها زوجا(1002/53)
لابنها الشاب في رجاء واستعطاف فوافقت، وسيزورك زوجها بعد. . .)
(وافقت؟ أحقا ما تقولين؟)
وصاحت المرأة: (بيترو، أي زواج خر من هذا الزواج؟ وإيلينا تهوى الفتى!)
وانتفض الرجل كمن مسه طائف من الشيطان يرعد ويزأر هائجاً مضطربا (وكيف؟ كيف استطاعت الفتاة أن تغرم بهذا الشاب؟ أين تلاقيا؟ أريد أن أعرف. . . وأنت. . . أنت التي لا تعرفين معنى الأمومة، كيف تركت لها العنان لتندفع في طريقها طائشة؟ هيه! نعم! لقد سمحت لابنتك أن تحب رجلا لا أعرفه. لعلهما تراسلا أيضا! ولعلك كنت واسطة بينهما! لقد تمت القصة وعلى عيني ستار كثيف أسود!)
واضطربت المرأة، وخارت قوتها، وطار عنها ثباتها، فغطت وجهها بيديها تخفي بعض خجلها، وتستر ضعفها النسوي المنسكب من عينيها، ثم راحت تنتزع الكلمات من بين شفتيها انتزاعا:
(لا لا يا بترو، لقد ظننت أني أحمل إليك بشرى، لماذا أنت كذلك؟ لماذا؟ ماذا اقترفنا، وأي غرابة في ذلك؟ شابان راق كل منهما في نظر صاحبه فتعلق أحدهما الآخر وأحبه، وبادله الآخر حبا بحب وغراما بغرام؛ أليس هذا ما كان بيننا يا بيترو؟ أنت ظالم)
وكان الرجل ظالما، وبدأ ف جلسته مهموما مضطربا، وقد تدلى رأسه كأن فيه ثقل جبل، وكانت أفكاره تضطرم اضطراما، وأحس كأنما يعاني ألما ممضا، وحين كبح جماح غضبه ارتد هذا في جسمه فتوراً واستخذاء، واستيقظ ضميره يخزه وخزات شديدة تؤلمه، كما آلمته أعصابه المضطربة من قبل. نعم لقد أحب سليليا وهام بها، فسعى إليها وقد اختارها لنفسه، ثم. . . ثم فاز بها بعد طويل عناء. أنها قصة غرام قديم. . . قديم منذ نيف وعشرين سنة؛ ولكن الحقيقة لا تهزم، وعلى رغم أن العقد الثالث من عمر سليليا قد انفرط منذ زمان إلا أنها لا تزال جذابة جميلة. أما هو. . . وهو يحبو للخمسين يبدو للعين كمن جاوز السبعين، أما قلبه فما برح شابا يؤمن بالحب، ويحبوه بما في رأسه ويده معا، لذلك. . . لذلك كان الرجل ظالما.
وحين تراءى له في خياله كل ذلك تقارظته الهموم فصاح: (سليليا، أعصابي!. . . دعي هذا الأمر الآن. . .).(1002/54)
وكفكفت المرأة عبرات الخيبة في صمت، ثم انطلقت إلى ابنتها حزينة كئيبة تحدثها الحديث كله، وتقف في طريقها إلى أبيها الثائر خشية أن يقع في أمر. وساد صمت رهيب حين علم الجميع أن أعصاب الأب تضطرب، فأمسك فرنسكو عن العزف على البيان، وتركت لوشيانا لعبتها، وصمت بيبينو الصغير عن استذكار دروسه، حتى الخادم المسكينة، خفقت من وطئها وهي تعد المائدة لئلا تزعج سيدها. . .
وعلى المائدة جلس الجميع في سكون، وبدت إيلينا قلقة جزعة وقد سيطر عليها اليأس، واضطربت الشوكة في يدها فسقطت، في سذاجة الطفل التقطها بيبينو وهو يبسم، ثم انفجر ضاحكا، وضحكت لوشيانا، ثم فرنسكو، حتى الأم الحزينة افتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة. وغاظ الزوج ما رأى، فأراد أن يخمد هذه الزوبعة في خشونة وغلظة، فنظر إلى زوجته ومن عينيه يتطاير شواظ ينتقد وقال: (أعدي ملابسي، سأسافر غدا إلى قريتنا. . قريتنا فالكونيتو)، وذعرت الزوجة وتردد نظرها حائرا بين الزوج المحنق وبين الفتاة وهي تتلقى الصفعة القوية. وأدرك الجميع ما أراد الأدب، فأطرقوا في حزن إلا بيبينو الصغير، فقد لمعت عيناه بالفرح. . . فرح التلميذ الصغير ينتظر الإجازة. . . فأشار إليه الأب: (أمسرور أنت لأنني ذاهب؟) فارتعد الطفل وقال (لا. لا يا أبي، حقا لا!)
وانطلق الأب والزوجة تقول له في صوت ضعيف: (أتعود قريباً؟ لابد أن تفكر في هذا الأمر) فقال: (أي أمر؟) قالت: (زواج إيلينا! إ ذهابك معناه الرفض والتحدي معاً. إن سعادة ابنتك فوق كل عمل في فالكونيتو) ولكنه كان في ثورته يبدو عنيدا فقال: (لا جرم أن المرأة حين تفكر في الحب تراه فوق كل عمل وإن كان عظيما!)
لم يكن العمل هو الذي دفع الزوج إلى القرية ولم تكن الرغبة، وإنما كانت النفس الشريرة التي فيه هي التي أرادته على أن يسئ إلى أهله
وصاحت الزوجة: (بيترو، لا تذهب. . .) غير أن الرجل اندفع لا يلوى على شيء. حتى إذا كان لدى الباب التفت إلى ورائه فرأى. . . رأى أبناءه في إطراق حزين، وصمت مؤلم، وما هم أحد ليودعه، فقال له ضميره: (أرأيت. . . أرأيت أسرتك المحبوبة كيف تتركهم عبيداً أذلاء؟)
وعند انبثاق الفجر كان الزوج في طريقه إلى القرية.(1002/55)
جلس بيترو وحيداً إزاء المدفأة في بيت قديم له بالقرية، وخياله عند الجماعة الذين خلفهم هناك في المدينة؛ وبدت نفسه رفيقاً له يحدثه: (كأني أسمع الزوجة تقول لابنتها: أمغتبطة أنت يا إيلينا؟ فتنطوي الابنة على هم، ونفسها تضطرم أسى ولوعة. وكأني بالأولاد من حولها يمرحون ويقولون: ما أجمل المكان حين يرتفع عنه هو. . . هذا الكابوس هذا الكابوس هو أنت. . . أنت الذي لا يحبك أحد، ولا يسر لمرآك طفل. . . أنت الشبح المخيف. . . إنهم يكرهونك ويمقتونك. . . عجيب هذا؟ كيف مرت الأيام وأنت تورث الفكرة في أذهانهم عن جهل منك وغفلة؟
لقد كان وحيداً، ولكنه كان هادئاً يستطيع أن يشعر نفسه الأخطاء التي ارتكبها؛ ويستطيع أن يرى بعيني عقله ثمار القسوة والغلظة وهي مرة كريهة. واستيقظ ضميره مرة أخرى يؤنبه بكلمات لاذعة قاسية، وحكم هو على نفسه حين نشر على عينيه تاريخ أعوام مضت. لقد كان إلى عهد قريب هادئ الطبع حلو الشمائل، رقيق العاطفة، طيب القلب؛ وحين أحس مصباح الحياة ينطفئ أمام عينيه لمس هو الظلام في كل شيء، وراحت أعصابه تضطرب فما يقوى على ضبطها. ماذا جنت زوجته وهي رقيقة عذبة الحديث عطوفة رحيمة طيعة؟ وماذا جنى هؤلاء الأطفال الأبرياء ليرى هو الهفوة الهينة منهم كبيرة لا يكفر عنها إلا العقاب الشديد؟ ثم ماذا في هذه الأعصاب الفانية المضطربة؟ لقد كانت رسول الشؤم والظلام في هذه الدار وأهلها آمنون).
هذه هي النهاية. . .!
وطلعت أيام الشباب في خياله تذكره قصة الماضي. فرأى أسرته جميعاً تنهد فرقا من ذكر أعصاب الأب المضطربة، تلك الأعصاب الظالمة التي وقفت سدا منيعا في سبيل زواج كبرى بناته، والتي أرغمت الصغرى على أن تتخذ خماراً وقد سيطر عليه الشك؛ ثم هي أخرجت أكثر أبنائه من الدار لا يملك صلدياً يسد به الرمق، وبيترو. . بيترو نفسه قاسي ويلات ما منته به هذه الأعصاب الظالمة. لقد كانوا يكرهون الأب ويمقتونه، لما يرون فيه من الظلم والأنانية، وكان بيترو نفسه يقول: (آه، لو أن لي ولدا فقسوت عليه بمثل هذا لخنقت نفسي بيدي هاتين. .) أما الآن. . . أما الآن فقد تراءى له ما يضطرب في خواطر أبنائه هو جميعا، وأحس بما يضمرون له من المقت والكراهية.(1002/56)
ليته يستطيع أن يطرح عن نفسه ذلك كله ليرجع إليهم وادعاً هادئا رقيقا. . . وشغلته الفكرة وتصرمت أيام.
ووافته الزوجة وهي تقول: (ما كنت لأجرؤ على المجيء ولكن. . . أنت مريض. . . أنت مريض حقا) ثم راحت تبكي في صمت.
وكان هذا الصراع النفساني قد أنهك الرجل فهو ذابل ذاو شاحب اللون، مضطرب لا يكاد يستقر، غير أنه قال في لطف (علام تبكين؟ هل الأسرة بخير؟) قالت: (أنت. أنت. . يجب أن تعود إلينا) قال: (نعم يجب أن أعود. . . أعود إكراما لإيلينا، يجب. . ولكني أجد الراحة واللذة هنا، وعندي هنا ما يشغلني. . . يجب. . . لأن إيلينا سأكتب إليها)
وكتب:
ابنتي العزيزة؛ أنا أوافق على زواجك من السنيور سالفيتي، لك تمنياتي الطيبة وحبي الطاهر.
(أبوك)
وناول الزوجة الورقة وهو يقول: (أفي هذا ما يكفي؟)
قالت: (كفى. . ولكن بيترو، ماذا وراء الباقي؟ الجهاز. الناس. الزفاف. . . لا يمكن أن ترفض!)
وتغاضى الرجل عن حديثها حينا ثم نظر إليها وهو يقول: (إن القطار يتحرك في الثالثة تماما)
(وأنت. . .؟)
(سأرافقك إلى المحطة)
وانطلقا جنبا إلى جنب وذارعا في ذراع والزوجة تقول: (تعال معي يا بيترو، تعال إلى دارنا تعال! لا تبذر فينا غارس الشقاء بفراقك!)
فقال الرجل في هدوء: (سأظل هنا ما بقي لي من العمر لأنكم تشقون بي، سأعيش هنا)
- (وحيدا!)
(نعم، هنا، إنني أريدكم هانئين سعداء)
- (وكيف. . كيف نكون سعداء وأنت هنا ونحن هناك يتامى وأرملة؟)(1002/57)
ثم راحت تندب حظها السود العاثر
قال: الرجل (إن كل من في الحياة يحمل قسطه من المتاعب والأحزان، وفي كل دار عدوها؛ فالفاقة والرذيلة والسقوط كل أولئك أعداء؛ أما دارنا ففيها عدو من نوع آخر هو. . هو أنا، هذا ما أعرفه وأوقن به، وليس لي من العزم ما أستطيع أن أخرج عن طبعي هذا. . . عن قسوتي وغلظتي، ولا أريد أن ابذر في أبنائي غراس العداوة والبغضاء لي، لهذا. . . لهذا فأنا لا أستطيع أن ارجع إلى داري. . . لن أرجع. . . لن أرجع حتى أبرأ)
وبدا ليعني المرأة مراد زوجها، ووضح لها ما يريد؛ فقالت في عطف وشفقة: (سأبعث إليك بفرنسسكو أو سالفيتي فهو فصيح اللسان قوي الحجة)
وراحت تودعه في حرارة وشوق وقد اشرق في نفسها تاريخ السعادة الأولى حين شبا حبيبين، وهي تقول: (وسأرسل فرنسسكو يا بيترو، فهو رحيم، وهو يحبك؛ يحبك على رغم كل شيء لأنك أبوه (ثم صعدت إلى القطار.
ورجع الزوج يتثاقل كأنما يحمل على ظهره حملا ثقيلا، وتراءى له ابنه الأكبر في الخيال يستعطفه ويرجوه ويجثو عند قدميه يبكي ويبكي. . . فيصغي هو، فيلين، فيلبي. . . ثم يرجع ويرجع معه العدة الذي فيه، فتضطرب الدار ويفزع الأبناء. أين الخلاص؟ وبدا له الخلاص وهو يسير على حافة هوة عميقة، في خطوة. . . خطوة واحدة يتقدمها في ثبات وعزم، فأغمض عينيه وسار. . .
وخرج فرنسسكو ليعود بأبيه فما عاد إلا بقصاصة ورق تحمل إليه النبأ المفزع. . . موت أبيه
ك. ح(1002/58)
العدد 1003 - بتاريخ: 22 - 09 - 1952(/)
أخرسوا هذه الأصوات الدنسة
للأستاذ سيد قطب
(مهداه إلى وزير الدولة وضباط القيادة)
محطة الإذاعة المصرية لم تشعر بعد بأن هناك ثورة في هذا البلد. وقد ظل إدراكها لمعنى الثورة محصوراً في إضافة بعض إذاعات جديدة إلى البرنامج العادي، قائمة على جهد فردي بحت. لا علة أساس انقلاب أساسي في عقلية الإذاعة!
وهذا طبيعي. فغن العقلية المشرفة اليوم على المحطة هي بذاتها العقلية التي كانت تشرف عليها منذ نشأتها
ومكلف الأشياء ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
إن الأصوات الدنسة التي ظلت تنثر على الشعب رجعها خلال ربع قرن من الزمان هي ذاتها التي تصبها الإذاعة على هذا الشعب صباً، وتكثر من عرض أشرطتها المسجلة بحجة أن الجماهير تحب هذه الأصوات
والجماهير تحبها نعم! كما أن هذه الجماهير تحب المخدرات! ولكن واجبنا اليوم هو حماية هذه الجماهير من الأصوات التي تحبها كما نحميها من المخدرات التي تحبها كذلك. وأجبنا هو أن نصون ضمائر الناس وأخلاقهم من التميع والشهوات المريضة، - المعذرة للرجولة والأنوثة - التي ينفثها في أرواحهم مخلوقات شائهة بائسة كعبد الوهاب ومحمد فوزي وفريد الأطرش وعبد العزيز محمود وليلى مراد ورجاء عبده وفايدة كامل وشهر زاد وأمثالهم.!
إن هذه الطابور المترهل الذي ظل يفتت صلابة هذا الشعب ويدنس رجولته وأنوثته، وهو المسؤول عن نصف ما أصاب حياتنا الشعورية والقومية من تفكك وانحلال في الفترة الماضية
إن فساد فاروق وحاشيته، ورجال الأحزاب ومن إليهم، لم يدخل إلى كل بيت، ولم يتسلل إلى كل نفس. أما أغاني هذا الطابور وأفلامه فقد دخلت إلى البيوت، وأفسدت الضمائر، وحولت هذا الشعب إلى شعب مترهل لا يقوى على دفع ظلم أو طغيان. وعبد الوهاب ينفث في ورعه أن الدنيا سيجاره وكاس!(1003/1)
إن هذه الأصوات بذاتها تكون جريمة وطنية، وجرمية إنسانية، بغض النظر عما تقول! فلقد تحول هي ذاتها إلى ميوعة مدنسة حتى ولو كانت تنشد مشيداً حماسياً!
وهذا هو محمد عبد الوهاب يغني أخيراً (نشيد الحرية) للأستاذ كامل الشناوي. فماذا صنع به؟ لد استحال في حنجرته رجعاً ضارعاً؛ ووصل إلى ضمير الشعب دعوة خانعة إلى تهويمة مخدرة! ومع أن تلحين النشيد من الناحية الموسيقية فيه جهد واضح، ولكن الكارثة كلها تكمن في طريقة الأداء الصوتية التي انطبعت بالشجن الضارع المترهل المحلول!
وعبد الوهاب رأس مدرسة، والآخرون ليسوا خيراً منه بل هم شر. ولا سبيل لعلاج هذه المخلوقات الشائهة الزرية. لا سبيل لعلاجها إلا بأن تخرس هذه الأصوات الدنسة إلى الأدب، إذا أردنا أن نربي روح هذا الشعب تربية جديدة، وأن نبث فيه حياة جديدة، وما كنا بمستطيعين من قبل أن نصنع هذا، ولا أن نطالب بإخراس هذه الأصوات كلية - مهما كان الشعب يحبها - لأن العقلية العامة لم تكن تستسيغ هذا الطلب. وربما لا تستسيغه الآن كذلك. ولكن واجب الثورة يحتم عليها أن تفعله - مهما بكن فيه من اعتداء على حريات الأفراد - فواجب الثورة أن تحمي الناس من أنفسهم أحياناً. كما تحميهم من المخدرات. والمخدرات لا يمكن أن تفسد ضمير الشعب، وأن تفتت تماسكه، كما يفسدها فلم واحد، أو أغنية واحدة من أغنيات هذا الطابور!
ثم نعود إلى محطة الإذاعة فنجدها توالي برامجها القديمة بعقليتها القديمة - فيما عدا تعديلات طفيفة قائمة على جهود فردية بحتة - كأن شيئاً ما لم يحدث في حياة هذا البلد
لماذا؟ لأن الرجال الذين عاصروا مولد الإذاعة هم القائمون عليها حتى الآن. وأنا آسف حين أتعرض لأشخاص بأعيانهم؟ فالأشخاص لا يهمونني في شيء، لولا دلالة وجودهم على أن الثورة لم تصل لعد إلى محطة الإذاعة
خذ مثلاً لذلك رجالاً، ردهم العهد الجديد إلى مراكز هامة في محطة الإذاعة، بينما هو عنوان على عهد لا ينبغي أن تظل له آثار في العهد الجديد
كل من احتكوا بالإذاعة يعرفون كيف نال بعضهم رتبة (بالكوية) في سنة مبكرة وكيف صعدوا الدرجات المالية وثباً
إن رتبة (البكوية) كان لها معناها، ولها أسبابها في مثل تلك العهود. ومع هذا فقد استطاع(1003/2)
بعضهم أن يعود إلى الإذاعة، وأن يطلق أبواق الثناء عليه في كافة الصحف!
لماذا. لمجد أن المنافسة القاسمة على الحظوة بالرضى الملكي السامي قد أبعدت قوماً وقربت آخرين
ولكن أحداً لم يسأل، ولم يعرف، فيم كان هذا الخلاف؟
إنه لم يكن قطعاً خلافاً على مبدإ، ولا على حق من حقوق الشعب، ولا على خطة ولا على فساد. إنما كان خلافاً على الحظوة بلثم الأعتاب الملكية الكريمة!
ولم يقل أحد إن انتصار موظف على موظف في هذا السباق يجعل أحدهما شريفاً والآخر مجرماً. ولكن بعضهم قال هذا. وجاء بالمبعدين ليشرفوا على محطة الإذاعة من جديد، في العهد الجديد!
إنني آسف حين أضطر إلى لمس ذلك الموضوع الشخصي ولكن عذري أنه عنوان على عهد يجب أن يزول
إن محطة الإذاعة يجب أن تنفض نفضاً من أقصاها إلى أقصاها. إنها في حاجة إلى تطهير من نوع خاص. فلم يبلغ الدنس في جهة من جهات الدولة ما بلغ في محطة الإذاعة. وإن جدرانها لو نطقت لأفصحت عن كثير، مما لا يجوز نشره في الصحف: لا لأن القانون يحرمه، بل لأن كرامة النفس البشرية تأبى الإفصاح عنه!
ولا سبيل للتطهير والأشخاص الذي عاصروا مولد الإذاعة وسايروها باقون في مراكزهم بالمحطة. إن لهم صلات معينة بالوسط الإذاعي لا يمكنهم التخلص منها. وإن لهم سهرات معينة لا يمكنهم أن يتنازلوا عنها. وإن لهم ارتباطات معينة لا يمكنهم التنكر لها، ومهما حاول الوزير المختص أن ينقي جو الإذاعة من الشوائب فإنه سيظل عاجزاً عن الوصول إلى تلك الملابسات التي تتدخل في عقود الإذاعة. وإلا اضطر إلى مراجعة ظروف كل إذاعة وهذا مستحيل!
وإن عقلية الإذاعة يجب أن تتغير، فتنصرف إلى بناء أخلاق الشعب ومبادئه ومثله وأهدافه. وإلى بناء ثقافته وتفكيره وتعبيره، وغلى تعبئة قوى الشعب وعزيمته وأطماعه وأشواقه وإلى دراسة مشكلاته وتوجيهه وجهة سليمة
وهذا لا يكفي فيه تعديل البرامج، ولا تنحية فرد أو اثنين، إنما هو في حاجة إلى تنحية(1003/3)
عقلية، وتنحية تاريخ
ولا حاجة إلى المساس بالموظفين جميعاً لتحقيق هذه الغاية. فالمهم هو تطهير الرؤوس المشرفة. الرؤوس الموجهة. الرؤوس التي عاصرت الفساد وسبحت بحمده وانغمست فيه
إن الرؤوس وحدها هي المتعفنة في هذا الشعب. وقد سار الفساد من أعلى إلى أسفل، ولم ينتقل من أسفل إلى أعلى
وكذلك يمكن أن يسير الإصلاح في نفس الطريق
سيد قطب(1003/4)
القيم الأخلاقية والوظيفة الحكومية
للدكتور عمر حليق
شغل المجمع الأمريكي للعلوم السياسية والاجتماعية في إحدى حلقاته الأخيرة بموضوع هام يتعلق بجوهر النظام الديمقراطي الذي هو مقياس الرقي للشعوب الحية. فقد تختلف النظم الفكرية في تحديد معنى الديمقراطية وأهدافها إلا أنها لا تختلف في ناحية واحدة على الأقل وهي نزاهة ومسئولية الوظيفة الإدارية مهما كان نوع الحكم الذي يعيش عليه المجتمع
والذي دفع المجمع الأمريكي إلى الاهتمام بهذا الموضوع هو الاستياء الشديد الذي أعربت عنه الأوساط الواعية في الولايات المتحدة الأمريكية أثر الكشف عن سلسلة من الفضائح في دوائر ضريبة الدخل والتجارة ومؤسسات الإقراض الحكومية التي توفر للزراع والصناع قروضاً طويلة الأمد بفوائد زهيدة في حالات الضيق الاقتصادي، وفي دواوين حكومية أخرى كانت مسؤولية بعض الموظفين فيها نزاهتهم موضع الشبهات
وقد أحب المجمع أن يعين الحكومة المركزية في مواجهة هذه المشكلة وجعل حركات التطهير مستندة إلى دراسة علمية ترتفع عن مآرب السياسة الحزبية وأهواء ذوي النفوذ والمصالح. وقد عقد المجمع حلقة لدراسة القيم الأخلاقية في الوظيفة الحكومية اشترك فيها نفر من أئمة العلوم السياسية والاجتماعية ومن كبار رجال السلك المدني وأعضاء البرلمان. وقد نشرت محاضر جلسات هذه الحلقة في سجل استند إليه كاتب هذه السطور في وضع هذا المقال في آونة يشغل بها الرأي العام العربي في هذا النوع من النشاط الاجتماعي
الوعي القومي في المجتمعات الديمقراطية يفترض احتراماً وتقديراً لمسؤولية الحكم والإدارة. وهذا يعني أن نظرة الناس إلى الوظيفة الحكومية يجب أن تستند إلى نوع من الاحترام شبيه الذي يحظى به أصحاب المهن الحرة من أطباء ومحامين وكتاب وعمال ومدرسين ومن يعملون في شتى أنواع العيش الشريف. فإذا اعترى السلك الحكومي ما يدفع الناس إلى وصمه بغير النزاهة فإن الأساس الديمقراطي الذي يدعم الدولة والمجتمع يصبح معرضاً إلى الانهيار
والوعي يستلزم يقظة مستديمة لمحاسبة المسئولين عن الأمانة الشعبية في جهاز الحكم والإدارة. فالمسؤولية الإدارية كانت منذ أقدم الأزمنة معرضة للإغراء؛ وندر أن تجد(1003/5)
مجتمعاً من المجتمعات القديمة أو الحديثة خلا من هذه المحاسبة. وقد تتخذ هذه اليقظة طابعاً حزبياً في بعض الحالات إلا أنها على وجه العموم تستند إلى طبيعة السلطة وطبيعة السلوك الإنساني وغلى تأصل القيم الأخلاقية في المجتمعات مهما تراكم على هذه القيم من الأطمار البالية
إذن فتعريض القيم الأخلاقية في الوظيفة الحكومية إلى المحاسبة الحزبية أو الشعبية مسؤولية ديمقراطية، وحد اجتماعي مهما صاحب هذه المحاسبة من نزوات الساسة ومآرب الذين يصطادون في الماء العكر
وقد وجد أعضاء المجمع الأمريكي للعلوم السياسية والاجتماعية أن دراسة القيم الأخلاقية في الوظيفة الحكومية اجتهاد يتطلب أكثر من الأمانة العلمية - يتطلب لباقة وسعة صدر تأخذ بعين الاعتبار نقاط
الضعف في الطبيعة البشرية؛ وتشعب المسؤولية الحكومية وتعرضها إلى ضغط أو إغراء أسبابهما في تضارب المصلحة الشعبية العامة مع المصلحة الخاصة لأرباب النفوذ من علية القوم أو من أرباب المصالح الاقتصادية والسياسية؛ ومن ثم يتيقن من أن مصادر الشبهات التي تحوم حول المسؤولية الحكومية المتهمة ليست مصادر مغرضة. فحقائق هذه الشبهات قد تضع في كثير من الحالات في ثنايا الاجتهاد الخاطئ الذي تنشره الصحافة في الرأي العام لأسباب تتعلق بفن السبق الصحفي ونفسية القارئ وإدراك الصحفي للعوامل المثيرة التي تستجلب انتباه القراء. والناس أميل إلى أن تحمل نوعاً من الحسد الدفين لذوي السلطان ومن هم في مركز إداري مسؤول، والناس أميل إلى تناقل الأنباء السيئة منهم إلى التحدث عن الأمور الحسنة التي ينظر إليها الناس على أنها من تحصيل الحاصل لا تتطلب تعليقاً
ومقاييس القيم الأخلاقية في الوظيفة الحكومية هي مقاييس غامضة لا يمكن بالضبط تحديدها على أساس مثال صادق , فأكثرنا يميل إلى وزن هذه القيم الأخلاقية بمقاييس معينة منها الاختلاس أو الرشوة أو ما شكلهما من أنواع المنفعة المادية. ولكن سوء استعمال المسؤولية الحكومية لا تقتصر على مثل هذه المقاييس فقط، بل يدخل في نطاقها الوساطة الشخصية لمآرب لا صلة لها بمنفعة مادية للوسيط أو للموظف المسؤول. وهذا يعني أن(1003/6)
وزر الاعوجاج يقع على الطرفين. ومن الصعب في مثل هذه الحالات تحديد القيم الأخلاقية إذ أن فيها تقارباً بين مسؤولية الإدارة والحكم
ومن النقاط الطريفة التي أثارها أعضاء المجمع الأمريكي في معرض تحديده لمقاييس القيم الأخلاقية في المسؤولية الإدارية إشارته إلى أن هذه المقاييس تختلف باختلاف الزمان والمكان والمجموعة الإنسانية التي تنفذ فيها المسئولية الإدارية
ففي المجتمع الريفي الشرقي مثلاً تتخذ رشوة صاحب المصلحة للموظف المسؤول طابع (الهدية) والاعتراف بالجميل والود الخالص والاحترام والتقدير. وهذا النموذج من نماذج السلوك الريفي يتخذ في المدن لوناً مغايراً. فصاحب الحاجة في العاصمة حين يقدم للموظف (هدية) نقدية كانت أم غير ذلك يدرك تمام الإدراك أنه يتعمد رشوة الموظف المسؤول. فطابع هذه الرشوة لا يوحي إلى صاحب الحاجة باحترام الموظف أو الاعتراف له بالجميل والشكر والتقدير. والموظف نفسه لا يفترض هذا الاحترام. وبين هذين السلوكيين الريفي والحضري (ممثلاً في عاصمة الدولة) يوجد نموذج ثالث هو بين هذا وذاك. ففي المدن الصغرى يشترك الموظف المعوج مع صاحب الحاجة في تعيين نوع (الهدية) وكلاهما يعلل نفسه بأن هذا التعامل نوع من العادات الاجتماعية ليس طابعها ارتشاء محض أو أمانة مطلقة. وعلى ذلك فإن الصلة بين الموظف المعوج وصاحب الحاجة في هذا النموذج من السلوك المدني صلة (تجارية)
وهكذا نرى الصعوبة في تحديد مقاييس القيم الأخلاقية للوظيفة الحكومية وللوعي المدني ما دام للعوامل الاجتماعية ولنماذج السلوك صلة وثيقة بهذه المقاييس - صلة تتعارض في بعض الحالات مع النظرة الأخلاقية الصرفة
والعلاقة بين المسؤولية الحكومية والوعي المدني ذات صلة بجدل قديم العهد بالفلسفة وعلم الاجتماع. فمن قائل بأن عناصر النزاهة والأمانة في الفرد قد يقدر لها أن تظل خالية من الشوائب لولا تعكير المجتمع الفاسد لها، على اعتبار أن للمجتمع شخصية (فردية) مستقلة عن شخصية الأفراد الذين يشكلونه. ومن قائل بعكس ذلك
فالنظرية التي تعتبر الإنسان فاضلاً في فطرته معرضاً للفساد حين يتأثر بالصلات التي تفرضها عليه علاقته الأبدية بالمجتمع - هذه النظرية تتلخص فيما يلي: كلنا معرض(1003/7)
للخطيئة؛ وأكثرنا تعرضاً أولئك الذين لهم نفوذ وسلطان. وقد يقدر لنا أن نعصم أنفسنا عن الحرام لولا أن طبيعة النفوذ والسلطان التي نوفرها الظروف لبعضنا تجعله عرضه للإغراء وهدفاً مستمراً له
ثم إن هناك النظرة الميكيافيلية لمسؤولية الحكم، ولمقاييس القيم الأخلاقية. وهذه النظرة لا تزال تشكل عنصراً هاماً من عناصر السلوك السياسي والإداري في كثير من المجتمعات والنظم - ديمقراطية وغير ديمقراطية - على رغم أن الجميع يرمون ماكيافيلي بالكفر والإلحاد السياسي. ونظرية ماكيافيلي تقول بأن رجل الحكم حين يوكل إليه تنفيذ مسؤولية إدارية يشعر بأنه ملوم بأن يفعل ذلك في ظروف تستوجب مراعاة نواحي الضعف والقوة في الطبيعة البشرية؛ فليس من الحكمة والصواب - في رأي ماكيافلي - أن نزن رجال الحكم بمقاييس أخلاقية مستمدة من نظريات مثالية ينقصها الاختبار العملي بطبيعة السلوك الإنساني في مادته الخام. فما دام رجل الحكم قد تولى المسؤولية ومارسها برضى الناس فلا مفر له من أن يعالج الأمور ونصب عينيه أهواء الناس وحقائق طباعهم البشرية، وهي حقائق لا تقاس في بعض الحالات بمقاييس القيم الأخلاقية الفاضلة، النظريات المثالية الرفيعة. ويرى - ماكيافيلي - أن رجل الحكم وصي على أمور الناس، فإذا واجه ضغطاً من بعض هؤلاء الناس لتنفيذ غير ما نصت عليه الشرائع والأمانة الإدارية فإنه يفعل ذلك تلبية لأهواء هؤلاء الناس أو على الأقل أهواء نفر منهم ذوي حول وقوة ونفوذ. والنفع الذي يجنيه رجل الحكم حين يحيد عن القانون المدون في أغلب الحالات أقل في ناحيتها المادية من النفع الذي يجنيه الحزب أو الوسيط أو صحاب الحاجة. وعلى ذلك فإن عواقب الاعوجاج في السلوك الحكومي تقع في أغلب الحالات على صغار رجال الإدارة لأنهم لصغرهم (في النفوذ والمكانة والدخل) أميل إلى تقبل الإغراء في صفقة يكون النصيب الأكبر من الربح فيها عائداً إلى صاحب الحاجة. وهذا الاعوجاج إذا مارسه كبار رجال الإدارة والحكم كان نفعه عليهم أعم واستفادتهم منه أعظم
ورجل الحكم الذي يفوز بحصة الأسد من سوء استعماله للأمانة الحكومية يكون عادة رجلاً نافذ المكانة مهابته تفوق أهمية الوظيفة الحكومية التي يشغلها. وصاحب الحاجة من أفراد الأمة حين يحاول أن يتغلب على الأمانة والنزاهة الحكومية يعلم أنه يرتكب نوعاً من(1003/8)
الجريمة عقابها كامن في طبيعة الصفقة؛ وهذا الارتكاب يفرض على صاحب الحاجة المغامرة والإقدام. والمقامر لا يرضى عادة بالربح الطفيف ويترك حصة الأسد الموظف الذي اشترك معه في الإجرام. فإذا كان هذا الموظف ذا مكانة ونفوذ (اجتماعي أو سياسي أو مالي) تفوق حدود وظيفته كان نصيبه في النفع من الصفقة نصيب الأسد
وهكذا يتبين لنا حقيقة طالما تجاهلها الناس في معرض حديثهم عن الاعوجاج في الخدمة المدنية ومن الانحلال في القيم الأخلاقية لبعض رجال الإدارة والحكم؛ وهي أن وزر الاعوجاج في تنفيذ الأمانة الشعبية يقع قسطه على الموظف وعلى صاحب الحاجة من المواطنين. والقسط الأكبر من النفع الذي يصيبه الغالب على صغار المسؤولين الذين أساءوا استعمال الأمانة
وإلى أن يدرك المواطن أن الوزر في سوء استعمال الأمانة الحكومية يقع عليه كما يقع على الموظف المعوج - كبيراً كان أم صغيراً أم متوسطاً! - فإن دارسو القيم الأخلاقية ومحاسبة الوعي المدني لها ستظل عديمة الجدوى. ومع أن القانون يدين كلا الطرفين بالإجرام إلا أن الرأي العام يميل إلى تركيز التهمة على الموظف ويتجاهل اعوجاج المواطن، وكما أنك لا تستطيع أن تقدر القيمة الفنية للصورة الجملية إلا إذا كان لديك استعداد ثقافي معين فإنك لن تستطيع أن تقدر شناعة الانحلال الخلقي في الوظيفة الحكومية إلا إذا أشركت المواطن المعوج فيها ووفرت لنفسك ثقافة (مدنية) تعينك على إدراك الصورة الكاملة لشناعة الإجرام. وهذا ما يتطلبه الوعي المدني الصادق في المجتمع السليم
نيويورك
عمر حليق(1003/9)
هل كان الزهاوي فيلسوفاً؟
للأستاذ محمد رجب البيومي
قرأت المقال الرائع الذي كتبه المستشار الفاضل الأستاذ محمد سالم الخولي عن اثر (الرسالة) في الأدب الحديث، وقد اغتبطت كثيراً بما نم عليه من رأي صائب، وإطلاع دائب، وذوق سليم. وليس ذلك عجيباً، فالأديب يمت إلى القانون بأوشج الصلات وأكدها، فهو عدة المحامي اللسن ينمق به الدفاع، وسلاح القاضي المتمكن يدبج به الحيثيات، ولن ترى فقيها مرموقاً لا يستند إلى بلاغة الحجة وقوة البيان
وقد لاحظت أن الأستاذ يقول عن الزهاوي رحمه الله أنه الفيلسوف الشاعر وليس الشاعر الفيلسوف! وذلك قول تختلف فيه الآراء، ويفسح مجالاً للمناقشة والتعقيب، إذ أن الشاعرية أصل في جميل، قام عليها بناء مجده وخلوده، وكان للفلسفة ظلال خفيفة تتراقص في أبياته ومقالاته، ولكنها لا تصبغ إنتاجه بطابعها الدقيق، فظل الزهاوي طيلة حياته شاعراً يتشوف إلى الفلسفة، وقد يوجد من ينعته بالشاعر الفيلسوف على ضرب من التجاوز يدفع إليه الإطراء والتقدير، وقد يكون هذا مقبولاً جائزاً، أما الذي لا يقبل بحال فهو أن يكون الزهاوي فيلسوفاً شاعراً كما ذكر الكاتب الكبير
وحين نتعرض لجلاء هذه الحقيقة نذكر أن كلمة (الفلسفة) قد فقدت مدلولها الصادق عند كثير من الناس، فأنت تجد من يطلقها على كل مبهم غامض من القول، ومن يقف بها عند البحوث الشائكة التي تتعلق بالقدر والإله وما وراء الطبيعة، كما تجد من يطلقها على الحكم السائرة، أو الأمثال العابرة، حتى جاز أن يكون شعراء الحكم والمواعظ فلاسفة متأملين، ولو علمنا أن الفلسفة هي البحث عن حقائق الأشياء في شتى مناحي الكون، لاتضح لدينا أن كثيراً ممن نزعمهم فلاسفة شعراء، لا يصدق عليهم الزعم في قليل أو كثير
ومن البديهي أن الفلسفة لم تكن - مرة واحدة - علماً - كما يقول الأستاذ مهدي علام - في أساطير القصاص، وشعر الشعراء، وأقوال الحكماء، ثم اجتازت هذه المرحلة على جسر من أنصاف الفلاسفة، حتى وصلت إلى أيدي أساتذة الفكر وسادة العقل البشري فأصبحت ذات مذاهب دقيقة، ومدارس متشعبة تكد الأذهان وترهق العقول
فهل كان للأستاذ الزهاوي مذهب خاص يدعو إليه، ويقيم الأدلة على صحته، حتى يكون(1003/10)
فيلسوفاً يتبوأ مكانه بين الفلاسفة الخالدين؟!
إننا نبحث في إنتاجه - النثري والشعري معاً - فلا نجد غير مجموعة متناقضة من الآراء، وقسطاً وافراً من الشكوك العقلية، لا تجد من يذهب بها إلى الجزم واليقين، والشاعر حائر مضطرب لا يدري بأي رأي يتمسك، وإلى أي سبيل يتجه، فهو من هواجسه في ليل دامس لا يشرق فيه بدر منير، وقد دارت أكثر شكوكه حول الموت وما يعقبه من فناء أو خلود، فأكثر من الحديث في ذلك دون أن يجزم برأي يظهر اتجاهه، ويكشف عقيدته، فقد تقرأ له القصيدة فتظن أنه من الماديين الذين ينكرون خلود الروح، فإذا انتقلت إلى قصيدة أخرى رأيته يتشبث بالفكرة الإسلامية في الخلود والبقاء، ثم تقرأ قصيدة ثالثة فتجده في حيرة دامسة بين الرأيين السالفين، يذكرهما في شك وتردد، دون أن يعتصم برأي خاص يجهر به، ويصرح باعتقاده، وما هكذا الفيلسوف الصادق، بل أنه صاحب المذهب الفكري الذي يقيم بناءه على دعائم قوية من الأدلة والبراهين، وقد نلاحظ صلات واضحة بيم ما قاله أبو العلاء وما نظمه الزهاوي، فكلا الرجلين عريق في هواجسه وظنونه، ينفي ويثبت، ويلحد ويستغفر، ويجزم ويتردد، وقد أطلق المؤرخون على المعري ما أطلقه المحدثون على الزهاوي، فكان الأديب الفيلسوف، على ضرب من التجاوز، ولم يكن الفيلسوف الأديب، وأذكر أن الأستاذ أمين الخولي قد كتب كتابه (رأي في أبا العلاء) ليجرده من الفلسفة، ويقصرها على أصحابها المفكرين، وقد ذكر مجموعة كبيرة من لزوميات أبي العلاء، تظهر تناقضه الصريح في جميع ما ذكره من المعاني والآراء. . فهو يقول في الموت والقدر والروح والإله وغيرها أشعاراً متضاربة ينقض البيت أخاه، والكلمة سابقتها، حتى لا يستقر بقارئه على موضع، ثم خرج الأستاذ الخولي بالنتيجة السافرة التي تنفي أن يكون من التناقض والاضطراب والتردد والحدة مذهب فلسفي يدعي صاحبه بالفيلسوف
وسنفحص أقوال الزهاوي على ضوء ما كتبه الأستاذ في أبي العلاء لنصل إلى ما وصل إليه من نتائج، وحين نفعل ذلك لا نظلم الزهاوي في شيء، بل ننصفه من الفلسفة وننصف الفلسفة من أناس فهموها على غير وجه صحيح، فلقد حسب كثير من القراء في عصرنا الحاضر، أن كل كلام يقال في القدر والحياة والموت يمت إلى الفلسفة بنسب عريق، ومن(1003/11)
ثم فقد ظهر لدينا ألوف من الشباب، يتساءلون في قصائدهم عن سر الحياة، ورهبة الموت، ومن أين نجئ؟ وإلى أين نذهب؟ ويملئون أبياتهم بالدهشة والارتباك والذهول، ثم يحسبون بعد ذلك أنهم فلاسفة شعراء، مع أن الأفكار التي تجد مجالها في عقولهم كثيراً ما تتردد في أذهان العامة والأميين، فهل صار هؤلاء جميعاً بتساؤلهم الحائر فلاسفة مفكرين؟! كلا أيها القوم فالفلسفة لا تستند إلى الأوهام والتناقض، ولكنها تستند إلى الجزم والثبات، ونحن نعلم أن من الفلاسفة من بنى فلسفته على الشك في الحقائق، ولكن الشك شيء، والتناقض والتردد شيء آخر دون نزاع
ولابد لنا أن نذكر مثالاً من شعر الزهاوي يوضح قلقه الذهني، وتبلبله النفسي، وتردده في مجاهل اللوعة والحيرة، وأقرب شاهد لدينا ما ذكره في مصير النفس بعد الموت، فقد أطال في ذلك إطالة تدعو إلى السأم والاستخفاف، وما تكاد تقرأ له قصيدة حتى تستشف أوهامه الحائرة، وهواجسه المضطربة، فوجه بذلك أذهان الشبيبة الشاعرة إلى ما عرفوا فيه من التخرض والظنون، وأصبح المتأدبون من بعده ينهجون نهجه، زاعمين أنهم مثله، فلاسفة شعراء! وقد ارتاع أستاذنا محمد فريد وجدي لهذه النوازع الإلحادية، متى تسممت بها قصائد الشباب في فترة من الزمان، فكتب إلى الأستاذ الزهاوي خطاباً مفتوحاً، على صفحات جريدة السياسة (وقد كانت مسرحاً لنوازعه المادية) يرجو أن يناقشه نقاشاً علمياً أمام القراء لتتضح الحقيقة للعيان بعد الجدل والتمحيص، فاعتذر الزهاوي ولم يجد لديه من الأسلحة العلمية ما ينازل به فريد، وعلة ذلك واحدة، فالشاعر إذا نظم قصيدته لا يتقيد بمنطق دقيق بل يرسل آراء في جو شعري يستثير العاطفة والانفعال، ويحيطه الوزن العروضي بضرب من النغم الموسيقي الخلاب! أما الكاتب فملزم بمقارعة الحجة ومناهضو الدليل، ولن ينقذه من الحقيقة بيان ناصع، ولفظ رشيق
لقد قال الزهاوي في فناء الروح
يقولون إن النفس حق وجودها ... فلا ينبغي إنكارها وجحودها
فقلت لهم هذا جميل وعله ... خيالات عقل شارد لا أريدها
ولم يكن الإنسان إلا ابن غابة ... على فجأة قد أنجبته قرودها
فماذا يرى القراء في هذه الأبيات، إنها مثال من عشرات الأمثلة التي تؤكد فناء الروح،(1003/12)
وقارئ الزهاوي يجد نظائره في دواوينه، ورباعياته، فهل استقر الشاعر على هذا الرأي لندرك نزعته المادية، ونضمه إلى فريق معين من الناس، كلا، فالشاعر يعلن ما يناقض ذلك حين يقول
فيا نفس سيري في الفضاء طليقة ... فلا شيء فيه للنفوس يعوق
لأنت شعاع طار عن مستقره ... وكل شعاع بالبقاء خليق
تحيق المنايا بالجسوم كثيفة ... وأما بأرواح فليس تحيق
فما رأى القراء مرة ثانية في هذا القول؟ ألا يقف من سابقه موقف النقيض! على أن الشاعر لا يريح نفسه بعد ذلك، بل يفعمنا بوابل من التردد المتذبذب بين هذين المثالين، فهو يعلن مرة ثالثة خفاء مذهبه بين القول الأول والقول الثاني، ويجهر بأن الدليل يعوزه في ترجيح أحدهما على الآخر، ويغرق في شكوكه واضطرابه، فهو من هواجسه في بيداء مجهل تتقاذفه الكثبان والأودية وتشرد به التعرجات والسهوب
وإنك لتلمس اضطراباته وبلبلته في مثل قوله
قالوا وراء الموت أهوال ولم ... أحفل بما قالوا ولم أتيقن
ولعل هذا الموت يتبع رحلة ... للروح خالدة وراء الأزمن
وقوله
إني ملم بأخبار الحياة وما ... عندي سوى الظن عما بعدها خبر
ما بال ليلتنا سوداء حالكة ... فهل تقدر ألا يطلع القمر
وقوله
أتحسب أن النفس بعد منيتي ... تطير بهذا الجو شبه قطاه
أم النفس من بعد المنية ريشة ... تقاذفها الأرواح في فلوات
أم الروح بنت الكهرباء مصيرها ... إلى هدران أفلتت وشتات
على أنني ماض إذا صاح بي الردى ... وآت، وماض بعد ذاك وآت
خلال دهور مالها من نهاية ... بسلسة موصولة الحلقات
والأمثلة السالفة وأكثر هواجس الزهاوي لا تخرج عن قول أبي الطيب المتنبي
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب(1003/13)
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
فإذا جاز لنا أن نعتبر المتنبي فيلسوفا، فالزهاوي إذن فيلسوف!
وقد كان الزهاوي حينا من الدهر أستاذاً للفلسفة بالآستانة، فمن المؤكد أنه درس كثيراً من الآراء الفلسفية، ومدرس الفلسفة لا يكون فيلسوفاً، وإلا فجميع أساتذتها بالمدارس والمعاهد والكليات فلاسفة مفكرون، ولن يصدق هذا أحد من الناس
وقد يقول قائل إن الزهاوي قد ألف كتباً علمية هامة، ونشر في المقتطف والمقطم أبحاثاً طبيعية، ونحن نعترف أن هذه الكتب تضع الزهاوي في صفوف العلماء لا الفلاسفة، وتنبئ عن جدارته العقلية، وملكته الفكرية، كما أنها لم تخل من مطاعن تتجه إلى دعائمها الثابتة فتحيلها إلى أنقاض، فكتاب (الكائنات) مثلاً يقوم على أن الأثير أم الكائنات تتولد منه القوى البسيطة، فترتقي إلى أن تكون مادة، والمادة ترتقي إلى أن تكون عناصر، والعناصر ترتقي وتتركب فتكون أحياء منها الإنسان والحيوان، وغير خاف أن الأثير شيء افترضه العلماء افتراضاً، فكيف يكون نواة الحياة والأحياء في هذا الوجود، وكتاب الجاذبية للزهاوي يطلعك على عجائب وهمية تتصل بالدماغ والإشعاع والنور والتصور، وقد أكون ممن لا يستطيعون الحكم على أقوال الزهاوي العلمية، فلست ممن يتعمقون في البحث الطبيعي، ولكني أقول إن الزهاوي قد اثبت بكتبه في الطبيعيات أنه عالم لا فيلسوف، ويجمل أن نشير إلى بحث هام نشره الأستاذ محمد فريد وجدي بمجلة الأزهر سنة 1356، مؤيدا بالأدلة التي تجرد الشاعر من الفلسفة دون تحيف أو إنقاص
لقد كان الزهاوي شاعراً فحلاً يطيل القول فيجيد، وهو من كبار المجددين الذين سنوا للشعر مناهج طريفة وطرائق جديدة؛ كما كان صاحب رسالة إصلاحية في المجتمع يدين بها ويكافح عنها، وقد قاسى بسببها آلام السجن والاغتراب، ولن يضير مجد الأدبي ألا يكون فيلسوفاً، فهو من أدبه الرفيع في قمة عالية وحصن منيع
محمد رجب البيومي(1003/14)
عرض سريع عن
تاريخ النهضة الفكرية في السودان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
إذا أردنا التحدث عن تاريخ النهضة الفكرية في السودان فإننا لا نجد بأيدينا من الأدلة ما يكفينا للاستدلال على المعالم الواضحة التي تنير لنا الطريق أو توصلنا إلى الحجة، فالخطوط الرئيسية مطموسة المعالم يكتنفها الغموض ويحيط بها الضباب من كل جانب؛ فنحن إذن نسير في سبيل ملتاث وفي ظلام دامس غير منار، ذلك لبعد الشقة بين الأمس واليوم، ولانعدام الصلة بين الماضي والحاضر، ولعدم وجود رابطة بين العهدين القديم والحديث، وستظل الحلقة مفقودة إلى أن يهيئ لها الله باحثاً سودانياً ينقب بجد ليكشف لنا السر المختفي وراء أطلال الماضي البعيد
وإذا أردنا الرجوع إلى الماضي فليس لدينا ما يثبت صحة قولنا غير أحاديث يتناولها الناس في مجالسهم الخاصة، يقتلون بها الوقت أو يتسلون بها لينقلها الخلف عن السلف، وهي أشبه ما تكون بأحاديث الرواة في العصور الأولى من صدر الدولة العباسية. . وهذه الأحاديث ينقص بعضها الثقة وبعضها السند. . على أنني تمكنت بواسطة اتصالاتي ومراسلتي مع إخواني أدباء وشعراء السودان أن أجمع مادة لبحثي هذا الذي أقدمه للقراء، وخصوصاً أبناء البلد الشقيق، راجين منهم إيضاح ما فات عني، واستدراك ما قد سهوت عنه
بدء النهضة
تبدأ النهضة الفكرية في السودان منذ العهد التركي أي منذ سنة 1820 م، وكانت الثقافة آنذاك تحبو وتتعثر، إلى أن هاجر بعض أبناء الجنوب إلى مصر والتحقوا بالأزهر الشريف حيث أتموا دراستهم ثم عادوا إلى بلدهم يحملون طلائع نهضة جديدة، ولكن مهمتهم كانت مقتصرة على الوعظ والإرشاد والترنم بالمدائح النبوية، ونظم كل ما له علاقة بالدين الإسلامي. على أن ذلك لم يمنع من التفاخر بالأمجاد. وكانت الحالة آنذاك في السودان غير مستقرة؛ العصر عصر حروب واستبداد ومظالم وإرهاب وثورات داخلية(1003/15)
وانحرافات خلقية، بل كانت الفوضى منتشرة في القطر، فمن فتك إلى سلب ونهب إلى تخريب إلى إقطاعية شاذة وعسف لا يطاق، وكيف تستقر الأمور في بلد كالسودان إذا كان الجهل باسطا جناحيه على السكان، والوعي القومي في مهده، والشعور بالحرية مقبور. فلهذه الأسباب لم تكن العوامل آنذاك مشجعة للنهوض بالأدب، لأن الطغيان التركي كان يحطم كل شيء ويسيطر على كل مرافق البلاد، حتى اللغة العربية كانت متفككة الأوصال، يكاد الدود العثماني العين ينخر جسدها المنهوك ويحترم عمرها وهي في الشباب
وظل السودان على هذه الحالة من العسف حتى سئم الناس الظالم، فولد الثورة في النفوس التي تمخضت عن انقلاب شامل قامت على أثره حكومة المهدي - المهدية - التي ظلت تحكم البلاد زهاء ستة عشر عاما، إلى أن تم الفتح الأخير على أيدي الإنكليز والمصريين في سنة 1898 م، إذ أبرمت الاتفاقية الثنائية لحكم السودان على النظام الحاضر
ورب قائل يقول: إذن كيف كانت الاتجاهات الفكرية في العهد (المهدوي)؟ أقول: لم تكن هناك اتجاهات أدبية وفكرية بالمعنى المفهوم الواضح نستطيع أن نتحدث عنها أو نسجل بعضها؛ إذ كل ما وصل إلى أيدينا من نتاج ذلك العهد هو أن الأدباء والشعراء كانوا يقصرون إنتاجهم الفكري على المدح والتغني بالأمجاد، وكل ما نظموه لا يتعدى حدود الدين والشريعة، وقد كان أكثر شعرهم نظماً شبيهاً بألفية ابن مالك ومدائح البرعي في الرسول الأعظم
وهكذا استمرت الحال حتى دارت عجلة الزمن دورتها البطيئة إلى أن وقفت أمام عام 1924 م، حيث تمخضت البلاد عن ثورة أخمدت في مهدها، ولا أريد أن أتحدث هنا عن الثورة، ولكني أحب أن أعرج على نفسية شباب ذلك العهد الذي يعتبر نقطة تحول بالنسبة للسودان من جميع النواحي، وإيضاحاً للحقيقة نقول: إن ذلك العهد بشبابه المتوثب الثائر، كانت فترة انتقال من عهد الجهل والخمود إلى عهد اليقظة والعلم والمعرفة
ففي تلك الفترة كان اتصال السودانيين بمصر الشقيقة وثيقاً، حيث أخذت الكتب والمؤلفات المصرية تغزو الأسواق فتتلقفها أيدي القراء، وتقبل عليها النفوس في لهفة وشو لتروي عطشها إلى العلوم والمعارف، وفي الحق أننا نستطيع أن نقسم ذلك العهد إلى أقسام ثلاثة هي:(1003/16)
1) التعليم:
كانت المدارس في ذلك الحين قليلة العدد، وكان باب التعليم مقصوراً على فئة قليلة من الناس
2) الصحافة:
أما الصحافة فقد كانت متأخرة وقليلة، إلا أنه كانت هناك صحف تعنى بالأدب وبالنتاج الفكري، وأهمها مجلة (الفجر) التي كانت كما قيل لي قد لعبت دوراً خطيراً في تاريخ السودان الأدبي، إذ خلقت ثورة أدبية لأنها كانت المنبر الوحيد لتجاوب المواهب والعبقريات المختلفة الأشكال والثقافة، ثم جريدتي (النيل) و (الملتقى)
3) التأثير الرسمي للثقافة:
لما كان السودان تحت الحكم الإنجليزي، والإنجليز يعدون أنفسهم مستعمرين وحاكمين، فطبيعياً تكون سياستهم مناوئة لنشر الثقافة، بل هم حاربوا العلم وسعوا في الحد من ذيوعه، حتى أنهم أخذوا يطاردون كل أديب متحرر وشاعر يفكر في طردهم من البلاد، أما تلك الحركات الأدبية والجولات القلمية التي ربت الجيل الجديد، ما كانت إلا نتيجة للصراع الفردي الذي بذله أحرار الفكر والعقيدة في السودان لخلق نهضة فكرية واتجاه ثقافي وأدبي مشرق اللمحات، بارز القسمات، إذ أنهم شعروا بضرورة العمل على خلق تلك النهضة لتؤدي خدمتها إلى أبناء البلاد كما ينبغي، وإذا ما ظهرت هناك جمعيات أدبية فمعنى هذا أن الاستعمار في خطر، لذلك كان الإنجليز يحاربون كل جمعية، حتى ولو كانت غير سياسية، على أنه رغم ذلك تأسست جمعية (اللواء الأبيض)، وهي سياسية الغايات والأغراض، ولعبت دوراً هاماً في ثورة عام 1924، ثم جمعية (أصدقاء الفجر)، وهي أدبية المقصد
ثم قام مؤتمر الخريجين، وكانت غايته أدبية اجتماعية، وقد فتح المؤتمر عدة مدارس أولية ومتوسطة وواحدة ثانوية. وكان المؤتمر يعد العدة كل عام لقيام المهرجان الأدبي الذي كان يعقد في (أم درمان) الجزء الثالث من العاصمة، والأبيض وعطبرة، وأخيراً تطور المؤتمر وأعلن عن أهدافه السياسية
ثم ولدت بعد ذلك الأحزاب السياسية المختلفة، وأنشئت الجرائد الحزبية التي لم تعد تهتم(1003/17)
بغير المهاترات السياسية السخيفة التي لا طائل تحتها، والتي كانت السبب في موت الأدب وخنق قابليات الأدباء والشعراء
ومنذ سنة 1946 اتجه السودانيون نحو السياسة وخلفوا الأدب وراءهم غير مهتمين بكل ما يمت إلى الفن بصلة
فالخطب السياسية والقصائد الحماسية هي اليوم تدور على ألسنة الناس، وهي التي تمتلئ بها أعمدة الصحف، وإنها لو جمعت في كتاب واحد لكانت تعطي فكرة عن الأدب السياسي السوداني الآن
ولكن رغم انحراف الناس وراء السياسة، وحبهم للجدل السياسي، لا يزال بعض الشباب المتوثب يولي الفن الصادق والأدب الرفيع أهمية بالغة، وكما أنه لا يخلو كل قطر من بعض الشعراء الأفذاذ، وسنعرض لهم بالتفصيل في مقال قادم إن شاء الله
ماذا ينقص السودان
بكل ألم وأمل نلاحظ أن السودان لا يزال متأخراً عن القافلة الأدبية العربية، بل في حاجة إلى كتاب ثائرين يجمعون بين قوة الفكرة واتساقها إلى جمال الأسلوب وقيمته، كتاب ينقطعون للدراسات الأدبية والتأليف، ويخرجون من الكتب ما يحمل طابع بلادهم الأصيل
كما يراد من أدباء السودان أن يطرقوا باب الثقافة الشعبية عن طريق المحاضرات والمدارس الأدبية التي تعلم العلوم العقلية، والتي تربط بين طبقات الشعب عن طريق حياة جماعية مشتركة، والتي تنمي في نفوس أبناء الأمة روحاً من المساواة الاجتماعية، وتمنحهم إلهاماً ومثلاً إنسانياً رفيعاً يؤدي إلى تطور اجتماعي لا يقوم على نضال اقتصادي بين الطبقات، تثيره الأطماع المادية وروح الشر والقسوة والجدب الروحي
الشعر السوداني
من الإنصاف للواجب والإثبات للحقائق أن نقف لحظة نتناول فيها الشعر السوداني بكلمة. وهي أن الباحث الذي يقرأ كتاب (شعراء السودان)، الذي جمعه الكاتب المصري سعد ميخائيل منذ سنوات، يلاحظ أن الشعراء المذكورين في ذلك الكتاب لا ذكر لهم الآن، ولذلك عدة أسباب: فمنهم من مات، ومنهم من انغمر في الحياة فهجر الشعر، ومنهم من حطمته(1003/18)
قيود الوظيفة، وبعضهم لم تساعده الظروف المالية على طبع ديوانه ونشره حتى اليوم. لأن السودان - وهو كالعراق تماماً - يفتقر إلى الناشر، إلا أن بعضهم - وهم الشيوخ. . . ظل مستمراً على النشر، كالأستاذ (محمد سعيد القياسي) الذي كتبت عنه في عدد سابق، و (الأستاذ عبد الله عبد الرحمن) و (التيجاني يوسف بشير)؛ أما الشعراء الشباب المعاصرون - وهم كثر بحمد الله - فأترك البحث عنهم إلى مقال مستقل، لأن روحتهم وأسلوبهم الفني يختلف بكثير عمن ذكرتهم، وهؤلاء جميعا يطلب منهم أن يكونوا أكثر جرأة من غيرهم، ويظهروا الحياة بجرأة وعزيمة صادقة، وليقفوا أمام العالم العربي ويظهروا نتاجهم للناس، غير عابئين بناقد أو حاسد، وإلا فإن انطواءهم على نفوسهم معناه الموت والضياع، لاسيما وأن فيهم من يبشر شعره بالخير العميم والعبقرية الكامنة وراء زوايا النسيان. .
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري(1003/19)
حركة التسلح الخلقي
بمناسبة الاشتراك في مؤتمرها بمدينة (كو) بسويسرا في
شهري يوليو وأغسطس سنة 1952
للأستاذ أحمد عوض
نشرت في عدد سابق من الرسالة الغراء كلمة عن (التسلح الخلقي والإسلام) تحدثت فيها عن أهداف هذه الحركة التي تدعو إلى الخلق الفاضل على أساس ديني وتمدح من بين رسالتها الفضائل الإسلامية، وتعين من بين الأهداف التي تحاربها النزعات الاستعمارية
كتبت هذا لأنني حضرت بعض مؤتمرات (التسلح الخلقي) في الأعوام السابقة، وسمعت صاحب الفكرة يشرحها شرحاً وافياً بما يتفق وديننا. ولأنني قرأت في أدب القوم ما يسوغ حسن الظن بهم. وقلت فيما قلت بتلك الكلمة إنهم وإن كانوا من أبناء أديان أخرى فإنهم فضلاً عن التمدح بالخلق الفاضل في ديننا وفضلاً عن حربهم للاستعمار فإن بيننا وبينهم غرضاً مشتركاً هو محاربة الإلحاد والشيوعية وأي استعمار على حد سواء
ولكني بعد ذلك زرت (كو) في شهري يوليو وأغسطس، ولست أدري هل تغيرت أهداف هذه الحركة أم اندس عليها من يحاولون استغلالها؟ ولكن الذي أدريه أن شعوري بين الحالين نحو هذه الحركة - لا مبادئها - كان ظاهر الاختلاف
لقد وجدت في رحلاتي الأولى من يستشهد بآيات من كتابنا الكريم ويمجد ذكرى نبينا العظيم ويرجو لنا وللعالم التحرر بفضل ما في هذا الكتاب من آيات بينات وما في هذا الرسول من أسوة حسنة
ووجدت كما وجد غير من المصريين وسائر المسلمين أن المذهب الداعي إلى تجديد بناء العالم على أساس الفضائل الخلقية يتفق مع تعاليم ديننا - في حين لا أجد في سائر مظاهر الحياة في الغرب من يقدرنا هذا التقدير، ولا من يبدي لنا مثل هذا الشعور وقد جمعت في رحلاتي قبل الأخيرة ما استطعت جمعه من كتب ألفها القوم عن حركاتهم فوجدت بينهم أنصاراً لنا ضد الاستعمار يدعوننا إلى مناصرتهم ضد الشيوعية ويرحبون بالفضائل الخلقية في ديننا سبيلاً إلى بناء عالم جديد(1003/20)
لقد صرح القوم في كتاباتهم وفي خطبهم بأن الاستعمار والدكتاتورية يتناقضان مع الخلق الفاضل، فكلاهما من مظاهر الأنانية ومن أعداء التطهير، ومن ابعد ما يكون عن فضيلة الحب فضلاً عن التضحية
وسمعت في المؤتمر الأسبق داعيا مصرياً - هو الدكتور محمد صلاح الدين - يدعو القوم إلى مساعدتنا على المستعمرين بقصد تغييرهم فيجيبه العضو الإنكليزي باعتراف صرح في أنه سيدعو في أمته إلى التغيير (التحرر من الرذيلة)
لكن المؤتمر الأخير كان خاليا كل الخلو من أية كلمة ضد الاستعمار
فلما أردت التوجيه إلى هذه الناحية لمست اتجاهاً واضحاً إلى أن التلويح بعداوة الاستعمار كان من أجل غرض واحد هو الاستفادة بعداوتنا نحو الشيوعية، ولم يمنعني ذلك عن الإفاضة في بيان مساوئ الاستعمار. ولكني لم أجد بينهم جدية الإصغاء
لست نادماً على حسن الظن السابق فقد كان الدليل قائماً لدي على مسوغات، ولا أزال عند رأيي في أن الخلق الفاضل مشترك بين الأديان وفي أن الدكتور بوكمان مؤسس هذه الحركة رجل فاضل، ولكن هؤلاء الذين اندسوا عليه وأحاطوا به يحاولون استغلال هذه الحركة في أغراض أخرى
إن في الدنيا كثيراً من الحق الذي يراد به الباطل، ومن الزيت الذي يردا به إيقاد النار، ومن استغلال حسن الظن بالتلويح بالخير؛ فهل تغيرت الحركة أم انضم إليها بعض الوصوليين والانتهازيين أو بعض أصحاب المطامع؟ هذا ما ستظهره الأيام
على أنني أعتقد أنه مهما يكن الرأي في القائمين بهذه الحركة أو المندسين عليهم فإن البرنامج الذي وضعوه مفصلاً على أساس تلك المبادئ يمكن تبنيه على أن يكون الخلق الذي تتسلح به ذا طابع قومي
إن الأخلاق في ذاتها لا تختلف بين أمة وأمة، ولا بين دين وآخر ولكن الفهم لها وطرق التوجيه إليها والانتفاع بها تختلف كما بدا لي أخيراً من الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة:
(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)
الإسكندرية
أحمد عوض(1003/21)
المعرفة بين الفلسفة والتصوف
مهداه إلى الأستاذ علي الطنطاوي الذي كتب يقول: لي من
دنياي الآن مطلب واحد. يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود
وغاية الحياة
للأستاذ حسن محمد آدم
ما سر الوجود؟ وما لغز الحياة؟ من أين جئنا وإلى أين المصير؟ وكيف السبيل إلى إدراك كنه هذا الوجود، وفهم غاية هذه الحياة؟ وما السبيل إلى المعرفة الحق، والسعادة العظمى؟ هذه أسئلة عميقة تتفاعل في رأس الإنسان، وتدور في عقول الناس، ولا يدري لها الكثيرون أجوبة شافية، وردودا مقنعة، فيعيشون في الحياة قلقين حائرين، ويضربون في بيدائها تائهين يائسين، وكأني بهم يسيرون في موكب الإنسانية وهم يترقبون بنفوس قلقة متشائمة، أن يبتلع الجميع بعد الطريق الطويل. . هاوية سحيقة من العدم! والإجابة على هذه الأسئلة هي في صميمها المعرفة الحقة، وهي في ذاتها عين الحقيقة التي يتوق إليها الجميع، فأنت إن وفقت للإجابة الصحيحة فقد فككت طلاسم الكون، وحللت ألغاز الحياة، ووقفت على سر الوجود والغاية من هذه الحياة
ومنذ القدم، منذ وجد الإنسان المفكر على سطح هذا الكوكب، حاول الوصول إلى الجواب، وتمثل ذلك في فلسفات ونظريات متباينة تعددت وتنوعت على أعصر التاريخ، ولكنها جميعاً ظلت عبر القرون تتأرجح بين مذاهب متضاربة، ومدارس متعارضة، يقترب بعضها من الحقيقة أو يبعد بقدر ما أوتي الفلاسفة من نضج في الفكر، وقوة في التبصر، وإمعان في التأمل والحكمة
وكان حين تأتي على الناس فترات من الوحي، تشرق عليهم أنوار النبوات، فيتبدد عنهم الظلمات، ويستنير ما غم من طريق الحياة، ويذهب الشك والارتياب، ويتضح على هدى الرسالات سبيل المعرفة، ولكن رأي الدين في الوجود والحياة لون مفروض من المعرفة، يمليه الوحي وتلزم به العقيدة، وهو تصديق بأمور من الغيب، تصديقا لا تحتمل النقاش، ولا يقبل الجدال، يحمل الناس على اعتناقه سواء وافق ذلك منهم هوى العقل الطليق أم(1003/23)
خالفه، أو جارى منهم منطق التفكير الحر أم جافاه
فما كان للفلسفة أن تقتنع بهذا وهي ناصرة الفكر الحر، صناعة مناهج البحث، فرأت أن تحرر نفسها من أكبال الغيبيات، وأن تنهج على منهاج العقل علها تصل بذلك إلى المعرفة وتدرك الحقيقة وتفهم غاية الوجود. . وبدأ الزمان يسجل على صفحات القرون وخرج لنا تاريخ الفلسفة زاخراً كما أسلفنا بمآت من المذاهب الفلسفية والآراء النظرية في الوجود وفي الحياة، ويتيه الإنسان في غمارها، لا يدري أين الحق من هذا المذهب أو ذاك، وأين الرأي السديد من هذه النظرية أو تلك، ثم لا يخرج من بينها إلا وذهنه أشد فراغا، إلا من سيل دافق من علامات الاستفهام والتعجب يوشك أن يؤدي بعقله إلى محيط مظلم من الشك والإلحاد!
إن الفلسفة أرادت أن تدل الناس على المعرفة فلم تستطع. أنها أرادت أن ترسم سبيل الحقيقة فلم توفق. . . لماذا؟ ذلك لأن الفلسفة قد ترضي العقل النظري، وقد ترضي الاستدلال المنطقي، ولكنها لا تستطيع بحال أن ترضي الإحساس الروحي، والذوق القلبي، وطريق المعرفة إنما يلتمس بالروح لا بالعقل، ويطلب بالذوق والقلب لا بالمنطق والفكر!
ولا تعجب بعد ذلك إن رأيت الفلاسفة يجهدون، عقولهم وأفكارهم القرون الطوال بحثاً عن المعرفة، ثم يغادرون الحياة ولما يعرفوا سبيلها، بل يغادرونها جهالاً كما دخلوها، كما يؤثر عن سقراط الذي قال هو على فراش الموت: (الآن أعرف من الدنيا حقيقة واحدة وهي أني لا أعرف شيئاً!)
هذا، وفي الوقت الذي كان فيه الفلاسفة يسعون سعيهم، كان الذين عرفوا السبيل الصحيح من المتصوفة وأرباب الأذواق والمواجيد يطلبون المعرفة عن طريق تصفية النفس والتسامي بها من أدران المادة وشوائب الحس، إلى عالم النور والفيض والإلهام، ووصل هؤلاء الروحيون إلى بغيتهم فكانوا الرواد الأول، وكانوا مكتشفي الحقيقة، والراسمين سبيلها للحائرين في الأرض. . وقرر هؤلاء أن منهاج المعرفة منهاج واحد فريد هو مجاهدة النفس، فنها تشرق الروح وتتم النعم وتكمل السعادة
فيا من تريد قلباً يقظاً تدرك به حقائق الوجود، عليك بالنفس فادرس مراتبها وظلماتها ومقامات صفائها، وعليك بهيكل الجسم الحائل فروضه على الرياضة الروحية الصادقة(1003/24)
وخلصه بقدر من علائق الدنيا، ثم عليك من فورك بالطريق إلى الله فتعرف آداب سالكيه، ثم شد الرحال إليه صوب مقامه الأسنى وهناك في المعية الأولى الذي فاض منه الوجود بكل ما فيه ستعرف حقيقة إنسانيتك وحقيقة الكون الذي تعيش فيه، وحقيقة الحياة التي تحياها، وفي ذلك الفرصة الكبرى والسعادة العظمى
وإليك الغزالي حجة الإسلام وفيلسوفه الأكبر خير مثل على ما يقول، إن نفس هذا الفيلسوف العظيم تاقت في بداية حياته الروحية أن تصل إلى المعرفة، وتحرقت شوقاً للوصول إلى الحقيقة، فانطلق يطلبها عند أدعيائها من الفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين، وكان في سعيه بادئ القلق، عظيم اللهفة، فوقع ضحية صراع نفسي مرير ظل يعانيه وهو دائم التردد على تلك الطوائف، فبلى أمر الفلاسفة فلم يجد عندهم ضالته، وبلى أمر المتكلمين فلم يعثر عندهم كذلك على بغيته. . . وأخيرا لجأ إلى التصوف، فأفهمه أربابه أن ضريبة المعرفة عندهم تجرد ومجاهدة، فكانت نفسه أن تستكين، ولكن روحه المعذبة كانت تناديه من الأعماق (الرحيل، فإنه لم يبق من عمر له إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل) فاستجاب لهذا الهاتف الباطني، وترك بغداد مسقط رأسه مهاجراً إلى الله صوب ربوع الشام وهو يردد:
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل ... وعدت إلى محبوب أو منزل
ونادت بي الأشواق مهلا فهذه ... منازل من تهوى رويدك فأنزل
وهناك وجد في زلال التصوف راحة النفس، وهدوء البال وسعدت روحه بالمعرفة المشرقة والسعادة الحقة، وعبر عن ذلك بقوله:
فكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخلل
حسن محمد آدم(1003/25)
زعماء الحركة القومية
السيد محمد كريم
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
(2)
اقتربت الحملة الفرنسية من مياه الإسكندرية في اليوم الأخير من شهر يونيو - وكان الفرنسيون ينظرون إلى الشعب المصري. . . نظرة العملاق الضخم. . إلى القزم الضئيل - الذي يستطيعون سحقه في دقائق معدودات!
ألم يقرءوا من قبل ما كتبه الرحالة الفرنسيون عن سهولة فتح مصر؟
ألم يخبرهم (فولني) بأن الاستيلاء على البلاد، والسيطرة عليها. . لا يتطلب إلا عدداً قليلاً من الرجال؟
ألم يبين لهم ضعف الحصون، وقلة الذخيرة، وعجز الإسكندرية عن المقاومة. . فوصفها بقوله:
(إنه ليس في المدينة سوى أربعة مدافع في حالة صالحة - وليس بين الحامية التي يبلغ عددها خمسمائة من يمكنه إصابة المرمى - بل جميعهم من العمال العاديين الذين لا يحسنون سوى التدخين؟)
فماذا ينتظر الفرنسيون بعد كل هذا الوصف الذي وصفه (فولني) وغيره من الرحالة والتجار الذين زاروا مصر من قبل؟!
وهل تعجز مدافعهم الضخمة عن تحطيم أسوار الإسكندرية أو تخريب المدينة كلها إذا لزم الأمر؟
إلا أن ذلك كله سهل يسير، وليست هناك وقوة في الأرض تستطيع أن توقف تقدم الجيش الفرنسي الظافر، أو تحطم آمال نابليون في تكوين إمبراطورية شرقية عظيمة
ولقد كان (نابليون) يظن أن المصريين سيستقبلونه هاتفين مرحبين - وسيضعون فوق رأسه أكاليل الغار. . أينما سار، وحيثما كان - وكان أبعد ما يتصوره. . أين يقف المصريون في وجهه. . أو يقابلوه بالقوة والعدوان!(1003/26)
ولذلك بعث إلى قنصل فرنسا يستدعيه، قبل أن يبدأ الجنود بالنزول إلى البر. . . وفي اليوم التالي عاد القنصل ومعه عدد من البحارة أرسلهم السيد محمد كريم لحراسته، وليعودوا به بعد أن ينتهي من مقابلته للفرنسيين
فأخبرهم القنصل بثورة الشعب وهياجه، واستعداده للنضال والمقاومة. . كما أخبرهم أن أسطولاً إنجليزياً يبحث عنهم في عرض البحر. . وأنه كان بالثغر ولم يغادره إلا عشية أمس الأول
فلما سمع نابليون حديث القنصل، خشي أن يباغته الأميرال نلسن بأسطوله، ولذلك أصدر أوامره إلى القواد بمحاصرة الإسكندرية، وتطويقها من ثلاث جهات
(وسارت القوة في منتصف الساعة الثالثة من صبيحة يوم 2 يوليو بحذاء الشاطئ، فوصلت تجاه أسوار المدينة عند شروق الشمس، وأخذت تحاصرها في الضحى - الجنرال مينو من الغرب. . والجنرال بون من جهة باب رشيد. . والجنرال كليبر من باب سدرا - بينما وقف نابليون على قاعدة عمود السواري، واتخذها معسكره العام. . يرقب منها حركة الهجوم، ويصدر أوامره لقواد جيشه. . .)
ولم يكد السيد محمد كريم يرى الجيوش الفرنسية القادمة. . . حتى أصدر أوامره إلى أهالي الإسكندرية بالصعود فوق الأسوار، ومقابلة القوة بمثلها، وصد العدوان بالعدوان
ووقف بنفسه فوق قلعة (قايتباي) ومعه فريق من المقاتلة لا ليشرف على المعركة كما فعل نابليون، ولكن ليحارب بنفسه كما يفعل غيره من أهالي الإسكندرية، وليضرب لهم أروع الأمثلة في الجهاد والكفاح والتضحية
وحينما بدأت المعركة، وضع المصريون أرواحهم فوق أيديهم وباعوها رخيصة في سبيل الوطن، وجعلوا يمطرون العدو بوابل من رصاص بنادقهم
وكان السيد محمد كريم - طوال المعركة - يثير النفوس، ويستحث الهمم، ويقوي العزائم، وقد استطاع المصريون خلال هذه المعركة أن يواجهون الفرنسيين، ويقتلون منهم عدداً ليس باليسير. . .
وقد أصيب الجنرال كليبر أثناء الموقعة بعيار ناري في جبهته، كما أصيب الجنرال مينو بضربة حجر أسقطته من أعلى السور، وكادت تودي بحياته، ولذلك كتب الجنرال مينو إلى(1003/27)
نابليون يقول:
(إن الجنود يستحقون الثناء العظيم على ما بذلوه من الإقدام والهمة والذكاء، وسط المخاطر العظيمة التي كانت تحيط بهم. . . لأن الأهالي قد دافعوا عن المدينة بشجاعة كبيرة. . وثبات عظيم)
ولما رأى (نابليون) استماتة الشعب المصري في الدفاع عن الإسكندرية، نظر إلى أسوار المدينة فلاحظ أن بالسور رغم ارتفاعه وضخامته ثغرات كبيرة رممت حديثاً. . .
فطلب من رجال أن يوجهوا مدافعهم تجاه هذه الأسوار، وظلوا يضربونها حتى عجزت عن المقاومة، وبدأ الجنود يدخلون المدينة من الثغرات التي أحدثوها، حتى وصلوا إلى الجهة الآهلة بالسكان. . فأخذ الأهالي يطلقون عليهم الرصاص. . حتى كاد نابليون نفسه أن يصاب برصاصة قاتلة. . وكذلك قال سكرتيره الخاص:
(دخل بونابرت المدينة من حارة ضيقة. . لا تكاد لضيقها تسع اثنين يمران جنبا إلى جنب. . وكنت أرافقه في سيره. . فأوقفتنا طلقات رصاص. . صوبها علينا رجل وامرأة من إحدى النوافذ. . واستمرا يطلقان الرصاص فتقدم جنود الحرس، وهاجموا المنزل برصاص بنادقهم، وقتلوا الرجل والمرأة)
ولقد ظل السيد محمد كريم يدافع عن المدينة، حتى ضعفت الحامية عن المقاومة. . فكف عن القتال، وسلم المدينة. . ولم يكن في ذلك التسليم ما يقلل من جهاد السيد محمد كريم. . وحسن بلاء أتباعه. . وإنما كان ذلك منه حكمة وحزما. . وحسن تقدير لعواقب الأمور. . .
يقول أحمد الحكماء:
(لا عار على أمة قليلة العدد. . ضعيفة القوة. . إذا تغلبت عليها أمة أشد منها قوة. . وإنما العار الذي لا يمحوه كر الدهر. . هو أن تسعى الأمة. . أو أحد رجالها. . أو طائفة منهم. . لتمكين أيدي العدو من نواصيهم. .)
للكلام صلة
عبد الباسط محمد حسن(1003/28)
رسالة الشعر
ابن عمي
للشاعر المرحوم صالح شر نوبي
ابن عمى مات. . . . فامضوا بي إلى قبر ابن عمى
ودعوا همي. . . . فقد ودعت منذ اليوم همي. .
غير ما جد من الموت، الذي آذن قومي
فرماهم. . . ورماني ومضى ما شاء يرمي. .!
ابن عمى مات. . . ما بين صباح ومساه
مات والأحلام تجلوه. . . كما يهوى هواه
مات والنعمة. . . والقوة فيه. . . والحياه
فدعوني من هوى الدنيا. . . وعزوا من نعاه
أيها الخلان، والراحة. . . والموت. . . هنا
أين من كان يرانا ... ونراه. . . حولنا؟
أين من كان يحاكي ... نضرة الدنيا لنا؟
غيب الترب سناه ... وهو في أعيننا؟
أيها الراحل. . . والغبراء قبر فوق قبر. . .!
أيها الساكن. . . والموكب بالأقدار يجري
أدنني منك - على قربك من سري وجهري
أدنني منك. . . فما أدري - بما أصبحت تدري
أدنني منك قليلا ... وادن من روحي قليلا
إن لي فيك رجاء ... ورجائي أن يطولا
فلقد صاحبت مذ ... فارقتني الصبر الجميلا
وبقلبي من تباريحك. . . نار. . . لن تجولا
أيها الراحل. . ماذا ... بعد فقدان الحياه؟
ما الذي بعد انعتاق ... يعلم الله مداه؟(1003/30)
بعد أن يجري قضاء ... شاء أن يجري الإله
حار فيه كل من دبت على الأرض خطاه
بعد أن يطبق جفني ... وترى الظلمة عيني
ظلمة الموت الذي ما ... ذقته إلا بظن
ظلمة الفقد الذي ... ييأس فيه المتمني
ظلمة البين عن الدنيا. . . وعن نفسي. . . وعني
ما الذي بعد نعتاقي ... وزوالي عن رفاقي
أين أمضى.؟. وإلى أين.؟ وقد فك وثاقي
سيصلون على روحي. . ويبكون فراقي
ويقولون إلى الله. . . شبابا في البواقي
سيقولون. . . إلى الله. . شبابا. . وكهولا
وسيبكون كثيرا ظنه الناس قليلا
شاعرا. . عاش. . ولم يصنع بما قال جميلا
غير أنت يرثي ما فات. . . ويرجو المستحيلا
شاعرا. . . عاش كما شاء الذي الأقدار أمره
والذي يلطف بالعبد. . . فما يغلب صبره
والذي. . . لا شيء. . . إلا عنده يطلب سره
والذي الرحمة من أوصافه. . والقهر قهره
أيها الراحل. . والدنيا بما فيها تهون
حينما أذكر ما تصنع بالناس المنون
الرحى الشمطاء. . . ما تفتأ تجريها السنون
والبرايا. . . بين شرقيها. . . قلوب. . . وعيون
شغلتني عنك أحزاني. . . فلم أشهد سراك
ورأى وجهك أهلونا. . . ومولاك يراك
ومشى نعيك فيهم ... وتولتك البواك(1003/31)
وأنا أجهل ما تخفيه. . . من حر أساك
ذقت في موتك ما ذقت. . . وما زلت صبورا
ورأى فقدك أعماني. . . وقد كنت بصيرا
وبعادي عنك. . . إنساني. . . وقد كنت ذكورا
غير أن أبكي منعاك. . . وأستوحي القبورا
طبت في مثواك. . . ما شاء الرحيم المستعان
وعلى دارك غفران. . . ونور. . . وأمان
وعلى أكبادنا بعدك. . . سلوان الزمان
أيها الخالد. . . ما تفني لمعناه معان
صالح علي شرنوبي(1003/32)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
الصيف
ليس فصل الصيف - عادة - فصل الأدب والفن، أقصد فن الإنتاج والإخراج، وقد يكون موعد الخلق والإبداع، وموسم تجمع الرؤى والصور، إذ أن هذا الفصل بالنسبة للأدباء والكتاب والمفكرين فصل استجمام وراحة واستجلاء للحياة في مناطق البحر والجبل، على سواحل مصر أو غيرها من البلاد
ولذلك كان موسم الأدب بطيئاً، بحيث يمكن القول أنه بكتب المدارس وتعد منها ما يكفي للعام الجديد الذي أصبح وشيك الظهور
وقلما تحمل الصحف في باب (محاضرات اليوم) هذه الأيام شيئاً ذا قيمة أو أهمية يكون من شأنه أن يوجه الأدب أو يؤرخه، فما زال بيننا وبين الموسم الجديد وقت غير قصير
وما تزال حركة الانقلاب الجديدة، بعيدة الأثر في الصحافة والأدب، فقد انطلقت أقلام الكتاب والشعراء والقصصيين، وتحررت، وأخذت تعبر عن مشاعر الأمة، بالوضع الجديد، وتصور فرصتها بإنهاء عهد مظلم طال أمده
غير أن هذا اللون الجديد من الأدب ما زال قاصراً على صورة واحدة مكررة، هي تهنئة الجيش، وتصوير طغيان الملك السابق
وحفلت الصحف، ومازالت، بقصص عن الحياة الآثمة التي كان يحياها فاروق، والتي تمثل في الصور الجنسية والتصرفات المجنونة، والأساليب الخادعة، التي كانت تتكون منها شخصيته
وهي (موجة) عاتية لابد أن تمر بها الصحافة بعد الانقلاب، ولكن الأدب مازال حتى الآن، لا يجد مكانه في النهضة الجديدة
فلا زلنا نرجو أن ينشأ جيل جديد من كتاب النهضة جيل فيه إيمان وحرارة وثقة، وفيه جرأة
جيل لم يتلوث بآثام العهد الماضي ولا شروره، تكون له القدرة على أن يحلل على أضواء علم النفس والتاريخ والتطوير (بزوغ) ذلك الفجر الجديد. إن فريقا من كتابنا الكبار قد(1003/33)
وضع أساس هذا العهد الجديد، أولئك الذين صوروا آلام الأمة وأثاتها، والحجب المظلمة التي كانت تعيش فيها، أولئك الذين طالما ترقبوا مطلع النور الجديد، ورسموا صورة الزعيم المنتظر، فهؤلاء هم الذين أرضعوا النفوس لبان الثورة، وهم من حركتنا بمنزلة روسووفولتير في الثورة الفرنسية، ولكن مهمة جديدة الآن توشك أن تلزم شباب الكتاب، وهي (إبداع) اللون الجديد الذي يمثل العهد الجديد
عودة الغريب
كان الدكتور زكي أبو شادي صاحب مدرسة جديدة في الشعر، وكانت مجلة (أبو لو) من المجلات الفريدة، التي حملت لواء الدعوة إلى المذهب الابتداعي، وقامت بجهد ليس بالقليل، وأبرزت طائفة من الشعراء الشبان الذين لمعوا بعد ذلك في أكثر من مجال من مجالات الأدب والفن والصحافة والإذاعة
ثم بدا للدكتور أبو شادي أن يقيم في الإسكندرية فنقل مطابعه وصحفه إلى هناك، وأخذ يوالي عمله الأدبي هناك، غير أنه أحس أخيراً أن فترة من الحرج تمر به، وقيل أنه وقع في محنة (تقوى الإحسان)! وإن بعض خصومه الذين حمل عليهم بعنف، حمل على اتجاهاتهم الأدبية، استطاعوا في ظرف ما أن يضايقوه ويزعجوه، وأحس أنه لا سبيل مع ذلك إلى البقاء في مصر، وكانت طريقته في معاملة مريديه وأتباعه تقوم على أساس من الأخوة والوفاء والتضحية مما كان له أثره في حالته المالية
وأخيراً استقر رأى الدكتور أبو شادي إلى السفر إلى أمريكا؛ ولكنه فوجئ قبل أن يركب (الباخرة) بوفاة زوجته، فكانت نكبة أخرى ضاعفت متاعبه وآلامه
وقد نشرت (الرسالة) إذ ذاك هذه القصيدة العصماء التي ضمنها الدكتور ديوانه (نحو السماء) الذي طبعه في أمريكا ووزعه في العام الماضي
وسافر الدكتور أبو شادي إلى أمريكا واستقر في (نيويورك) وستقبل هناك استقبالا حافلا، وكان موضع تقدير البيئات الأدبية هناك
ومضت سنوات. . .
وأحس (أبو شادي) بالحنين إلى مصر، الحنين الجارف، وكانت لهب هذا الحنين تتبدى في قصائده وكتاباته، وبدأ يتصل بمصر مرة أخرى، وأحس أحباؤه وأصدقاؤه هنا بأنه يجب أن(1003/34)
يعود
كتبت مجلة (الأهداف) التي تصدرها السيدة جميلة العلايلي، وكتب صاحب هذه السطور في (الزمان) في هذا المعنى، وقد وجهت خطاباً إلى الدكتور طه حسين وكان إذ ذاك وزير المعارف؛ وتحدثت معه في هذا الشأن في مقابلة خاصة. . .
ويبدو أن الدكتور زكي أبو شادي علم هذا، فأرسل إلى بعض خاصته يقول أنه لا يريد العودة إلى مصر، وإن مكانه في نيويورك لا يدانيه أي مكان يمكن أن يصل إليه في القاهرة
غير أننا كنا نعرف سلفاً، أن الدكتور أبو شادي ثائر على الأوضاع في مصر، وأنه ساخط على كل شيء
أما الآن - وقد أثيرت مسألة إعادته من جديد - فنعتقد أنه سيكون غاية في الرضا بالأوبة إلى وطنه بعد أن تحرر، وأخذ يستقبل فجراً جديداً
(في موعد الذكرى)
كان الأسبوع المنقضي، موعد ذكرى لعرابي ولدوفيح وفرويدج. . ومن قبله كان موعد ذكرى السباعي وفيلكس فارس
وقد مرت هذه المناسبات - في الشرق - وغيرها يمر كل يوم، دون أن يذكرها ذاكر، أو تكون موضع اهتمام الدوائر الأدبية وتقديرها
فنحن لا زلنا لا نحتفل إلا بطائفة قليلة من الأسماء التي لمعت في غفلة من الزمن، والتي فرضتها مناورات السياسة، أو مجاملات التملق!
كنا نحتفل بسعد وفؤاد وإسماعيل وهؤلاء وغيرهم، أناس رفعت أسماءهم الصدف، ولا يدخلون في عداد الأبطال حين يفصل تاريخهم على وجه صحيح!
أما الرجال الذين جاهدوا حقا، وحفروا أسماءهم في ضمير الحياة الوطنية أو الفكرية في الشرق، فقد كانوا إلى عهد قريب - قبل وثبة الجيش المباركة - مبعدين عن محيط الحياة، كان لا يستطيع إنسان أن يذكرهم أو يفصل تاريخهم
كان عمر مكرم وجمال الدين والجبرتي، وأحمد عرابي، وحسن البناء، من الأسماء البغيضة إلى الجهات التي تتحكم في كتابة التاريخ، وكانت أوامر في صورة نصائح توجه إلى بعض(1003/35)
الصحف بأن لا تنشر عنهم شيئاً
وكان محمد فريد ومصطفى كامل، لا يلقيان ما يلقي سعد زغول أو غيره، من الحفاوة والتكريم والتقدير!
ولا يزال محمد فريد حتى الآن، لا يجد من مصر ما هو جدير به من تكريم بعد أن ضحى أغلى تضحية بذلها زعيم في سبيل بلاده!
وإننا لنرجو - وقد خلعنا ذلك الثوب القديم المهلهل، وجردنا الأدب والفكر والفن منه - أن نستقبل (موعد الذكرى) لأبطالنا والرجال الذين جاهدوا فينا على وجه كريم يليق بذكراهم وكفاحهم، وعلينا على الأقل أن نقيم تمثالاً لأمثال عرابي ومحمد فريد وجمال الدين وحسن البنا
والحق أنه ما من جريدة أو مجلة أوربية تفتحها عفوا، في أي موعد من مواعيد الذكرى، لبطل أو كاتب أو موسيقي أو فنان، إلا وتجدها حافلة بآثار هذا البطل أو الكاتب، على صورة مجددة، مشرقة
ذكرياته الصغيرة، أحاديثه العامة، فكآهاته، قصاصاته، خطاباته الغرامية، كل شيء حتى الأشياء الصغيرة التي لا يعيرها الناس التفاتاً
والأديب في هذا الميدان لا يقل عن الزعيم، كلاهما بطل، كلاهما جاهد وأدى واجبه، وبذل عصارة دمه وأعصابه وأفكاره في سبيل وطنه، في سبيل الحق والحرية والجمال
لماذا - كما يقول الأستاذ توفيق الحكيم - لا نضع لوحة تذكارية صغيرة على المنزل رقم 232 ونكتب عليها، هنا كان يسكن (ألما زني)
وكرر هذا على المنازل التي سكنها سيد درويش، وكامل الخلعي، والرافعي، وفخري أبو السعود، وغيرهم!
إن هذه اللوحة الصغيرة لن تكلفنا شيئاً، ولكنها ستكون بعيدة الأثر في إحياء ذكرى الكاتب أو الفنان بعد مائة عام!
إننا في عهد البعث، عهد الإحياء، هذا العهد الجديد الذي جب كل ما كان قبله، العهد الذي يقوم على السواعد الشابة الفتية والنفوس المؤمنة الصادقة، التي ظلت تجاهد وتعمل حتى طلع الفجر من وراء الليل الأسود الطويل، وفي هذا العهد يجب أن نصنع كل شيء في(1003/36)
سبيل المجد، مجد مصر. . والأبطال الحقيقيون، الخالصون، الذين رفعوا صوتهم في الأيام السود، والذين جاهدوا في وقت كان الظلام يعم فيه كل شيء، وكانت كلمة الحق أقسى على الظالمين من أصوات المدفع، وكان كل حر معرض لأن يذهب إلى غير رجعة، هؤلاء الذين وقفوا وقفة الأسد في وجه الطغيان، يجب أن ننحني لهم اليوم!
أنور الجندي(1003/37)
المسرح والسينما
زكي طليمات المفترى عليه
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
كنت آمل أن أستقبل الموسم المسرحي الجديد بما استقبلت به الموسمين الماضيين من بشر وتفاؤل. بل كنت آمل أن أزداد بشراً وتفاؤلاً كما تقضي بذلك سنة التطور. غير أن الأحداث التي تواجه المسرح المصري في الآونة الراهنة تدعوني مع الأسف الشديد إلى الحزن والأسى إشفاقاً على مصيره. ذلك لأنها ليست من قبيل الأحداث الكثيرة التي واجهت مختلف المسارح في مختلف الأمم حينما كانت في دور التكوين، وإنما هي أحداث مفتعلة من شأنها - لو تحققت مراميها - تقوض مسرحنا وتدمر كيانه وتجهز على حاضره ومستقبله، وتعصف بالجهود المضنية التي بذلها المخلصون من رجاله حتى وصل إلى ما وصل إليه من ارتقاء نسبي ولعله من العجيب أن تحدث هذه الأحداث في الوقت الذي تطالب فيه البلاد بتطهير مرافقها - والمسرح في مقدمتها - من الجهل والفوضى، بل الأعجب من ذلك أن تحدث هذه الأحداث باسم التطهير دون أن يفطن مفتعلوها إلى الفارق الجسيم بين التطهير والتدمير
بدأت هذه الأحداث عملياً منذ منتصف الشهر الماضي عقب أو أوفدت قيادة الجيش الباسلة مندوباً عنها إلى الهيئات الفنية ليعاونها في استنقاذ النشاط الفني من براثن الرجعية وتوجيه الفنون وجهة قومية تحقق بها وظيفتها المثلى. وكم كان غريباً ومريباً أن يجتمع ممثلو الفرقة المصرية وفرقة المسرح الحديث لا ليعملون على تحقيق هذه التوجيهات القويمة؛ ولكن ليقدموا إلى ولاة الأمور مذكرات لا تمس الفن والإصلاح الفني إلا بقدر ضئيل، وهي بعد ذلك تتضمن مطالب ينحو بعضها منحى شخصياً ويستهدف غايات غير فنية وينطوي على مثالب وترهات يندى لها الجبين. وليس أدل على ذلك من أن يطعن ممثلو فرقة المسرح الحديث عميدهم (زكي طليمات) طعنات قاتلة! والأدهى من ذلك أن يطالبوا بتنحيته عن إدارة الفرقة التي تعتبر ثمرة جهاده الفني
وأبادر فأؤكد أنني لا أبتغي الدفاع عن تصرفاته ولا أبتغي مهاجمة أعضاء الفرقة في وضعهم الجديد الذي استقروا عليه الآن، بل لا أبتغي تناول النواحي الشخصية التي انزلقوا(1003/38)
إليها، تاركا تقدير ذلك لحكمة ولاة الأمور وفطنتهم. وإنما أبتغي، كناقد، أن أكشف عن بواعث هذه المحنة من الناحية النية وحدها، وأن أوضح مدى ما يترتب عليها من خطورة على الفن المسرحي
وربما لا يفي لإيضاح ذلك أن نسرد تاريخ زكي طليمات وجهاده الفني في أكثر من ثلاثين عاماً؛ بل يجدر بنا أن نتلمس أثره العميق في الحقبة الأخيرة التي بدأت بإنشاء فرقته وانتهت باستقالته وندب غيره لإدارتها وانقطاع الصلة الوثقى بينه وبين تلامذته الذين تألبوا عليه لنرى نتائج هذا الأثر في تطور المسرح المصري وبالتالي لنرى مدى الخسارة آلتي ستلحق به بفصل المتأبين. . . الناشئين!
ولنعد قليلاً إلى الوراء. وحسبنا أن نعود إلى الفترة التي سبق إنشاء هذه الفرقة لنستذكر ما جاهر به النقاد وقتئذ، فقد أجمعوا على أن المسرح المصري بلغ من الهزال حدا لا رجاء فيه، وحاول بعضهم تأويل ذلك إما بغلبة السينما عليه على اعتبار أنها أكثر منه ملاءمة لروح العصر. . أو بانصراف الناس إلى أمور معاشهم أو ما شبه ذلك ونسوا جميعاً أن المسرح فن لا يزال يزدهر عند الأوربيين وهم أكثر منا انشغالاً بالسينما وتكالباً على الأمور المعاشية. . . والمهم أن أحداً لم يتمكن من تشخيص الداء ووصف الدواء سوى زكي طليمات. . إذ اهتدى بثقافته وتجربته وتخصصه إلى أمرين جوهريين:
الأمر الأول أن النهاية التي وصول إليها مسرحنا لم تكن إلا نتيجة حتمية للبداية التي بدأ بها. فقد بدأ في أواخر القرن الماضي بداية ساذجة بمعنى أنه لم ينبت نبتاً طبيعياً كما حدث عند الإغريق، ولم ستنبت استنباتاً سليماً كما حدث في أوربا، فكان لابد من أن ينتهي إلى تلك النهاية الساذجة
والأمر الثاني أن المسرح فن لا تستقيم له الحياة إلا إذا توافرا له البيئة التي تحيى فيها والعقلية التي تدركه، وهذا ما لم يتهيأ لمسرحنا في شتى عهوده. فكما أن فكرة الجيل القديم عنه لم تخرج عن اعتباره إحدى وسائل التسلية والتلهية والتنفيس. . كذلك ظلت فكرة الجيل الأخير مع اختلاف في التفاصيل دون الصميم
من أجل ذلك وضع سياسته الفنية على أساس تقريب إنتاجنا من الأوضاع الفنية الصحيحة وتهيئة بيئتنا وأذهاننا لتقبل هذه الأوضاع، وتحقيقاً لهذه السياسة أنشأ فرقته على دعائم(1003/39)
منهجية وحدد برنامجها في ثلاث مراحل رئيسية: المرحلة الأولى مرحلة الترجمة عن الغرب والتتلمذ على الغربيين فيما امتازوا فيه، والمرحلة الثانية مرحلة التجربة والممارسة، والمرحلة الثالثة مرحلة الخلق والابتداع. وكما وفق في التصميم وفق أيضاً في التطبيق، ولهذا أعرضت فرقته عن الوسائل الارتجالية، وترفعت عن ممالأة النزعات السطحية، وآثرت تقديم المترجمات الممتازة، فقدمت في مستهل عهدها ثلاث روايات لموليير ورواية لتشيكوف وأخرى لبريستلي دون أن تمسخها بالتمصير والتعريب. . وظلت تسير على هذه الوتيرة حتى تأججت الثورة على الاستعمار في الموسم الماضي. . فكان زكي طليمات أول من استجاب للدواعي الوطنية من رجال المسرح. . وقدم روايتين وطنيتين. . وآثر أن يرجئ برنامجه ليشارك الثوار ويضئ الطريق للأحرار
وهكذا نجح مادياً ومعنوياً. . وأفلح فنياً وقومياً. . وفاز برضاء الوطن والفن وتأييد المخلصين
هذه هي قصة زكي طليمات موجزة ظلال العامين الماضيين، وهذه هي أيضاً قصة بجماليون القرن العشرين
فقد روت الأساطير الهلينية أن الفنان بجماليون ابتدع تمثالاً رائع الجمال فشغف به حباً وتوسل إلى الإلهة أفروديت أن تمنحه زوجة شبيهة بهذا التمثال. واستجابت الإلهة لهذا التوسل بأكثر مما كان يتصور. . إذ منحت الحياة للتمثال ذاته وتزوج بجماليون تمثاله الذي ابتدعه بيديه. وما أظن أن رمزية هذه الأسطورة في حاجة إلى إيضاح. . لكن ما يجدر بنا إيضاحه أن أحدا من شعراء الإغريق لم يحاول إخراجها مسرحياً وإنما اكتفوا واكتفى الأدباء من بعدهم باستلهامها واستيحائها. . فاستلهمها (مارستون) في أشعاره التي ظهرت عام 1598 واستوحاها (موريس) في مجموعته القصصية التي ظهرت عام 1868 وجاء المحدثون فوجدوا فيها معينا لمسرحيات كوميدية. . نذكر من هؤلاء جلبرت ثم شو ثم توفيق الحكيم وغيرهم. . ومع هذا لم يرتض أحدهم أن يخرجها من إطارها أو أن يزري بكرامة الفنان بجماليون في الصراع بينه وبين تمثاله. . واحتفظوا له بكيانه وأخرجوه منتصراً على تحفته الفنية باعتباره مبتدعها ونافخ الروح والجمال فيها. ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الرونق الفني فرموا المبتدع بحجارة تمثاله وخلقوا من الكوميديا(1003/40)
مأساة. . أولئك هم الزملاء الفضلاء ممثلو فرقة المسرح الحديث وهذه مسرحيتهم التي مثلوها أخيراً مع عميدهم الذي ابتدع فرقتهم، ونفخ فيها الحياة والجمال، وعشقها وتفانى في الإخلاص لها فكان جزاءه الجحود والعقوق
وإني لأذكر في يوم ميلادها كيف حرص على أن يكتب في أول نشه أذاعها: (إن هذه الفرقة لن تهلك إلا إذا ائتمر أعضاؤها على قتلها) وكنت مع إيماني بحصافته وبعد نظره أعجب لذلك وأعجب أكثر من ذلك لإصراره على تسجيل هذه العبارة في كل نشراته بلا استثناء، وما كان يدور بخلدي أن ما توقعه سيحدث بعد عامين اثنين من إنشائها على الرغم من نجاحها نجاحاً منقطع النظير. لم يكن زكي طليمات نبياً ولا مطلعاً على الغيب؛ وإنما أدرك - وهو اسبق من زمنه - أن منهاجه العلمي سيؤدي به إلى النجاح بين قوم لم يتوسلوا من قبل بمنهاج علمي بديل أنهم كانوا يتوقعون له الإخفاق. . وأدرك من جهة أخرى أن هؤلاء القوم سيحاولون هدم ما بناه. . وأدرك أيضاً أن لا شيء ينال منه إلا أن ينهار البناء بذاته. وربما كان أبرز ما يؤيد صحة مدركاته أن مما تتجه إليه الآن إدماج فرقته. . بعد ما أوشكت أن تتداعى - بالفرقة المصرية. . . وهكذا يتكشف الباعث الأصيل للمطالبة بإقصائه أو بعبارة أخرى لهدم الصرح الذي أقامه. . . وتتكشف تبعا لذلك أغوار هذه المحنة الأخلاقية التي أصبحت مضرب الأمثال
إن شيئاً واحداً أريد أن أصارح به زملائي، وهو أن زكي طليمات (الفنان) حقيقة تاريخية لا سبيل إلى طمسها، وإذن فلا ضير عليه، وإنما الضير على أبنائه الذين ضربوا مثلاً رائعاً في انتهاز الفرص حتى لقد استباحت ضمائرهم إهدار كرامته وهانت أبوته وأستاذيته، وكل ما أخشاه أن تكون في الإطاحة به إطاحة بهم وبمدرسته الفنية وبالأمل الذي يراودنا في تحقيق نهضة المسرح المصري الحديث
عبد الفتاح البارودي(1003/41)
الكتب
الأخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية الحديثة
تأليف الدكتور إسحاق موسى الحسيني
217 صفحة من الطع المتوسط - نشر دار بيروت 1952
للأستاذ عودة الخطيب
هذا الكتاب يجيء في أوانه، لأن لحركة الإخوان أثراً كبيراً في كثير من الحركات التي شملت الشرق الإسلامي في السنين الأخيرة، ولا يستطيع المؤرخ المنصف أن يغفل هذا الأثر الذي سجلته الأعمال الجسام والأحداث العظام، ولذا يجدر بالمثقفين أن يغيروا هذا الكتاب عنايتهم، وبالنقاد أن يعرضوا له بالنقد والتحليل
أما مؤلفه الدكتور إسحاق موسى الحسيني، فهو أحد أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت، ومثقف واسع الإطلاع، وأديب مشرق الأسلوب، وهو جدير بأن يتناول هذا الموضوع الدقيق بقلمه الحر المنصف، وأن يحلل هذه الحركة الجبارة بعقله الخصب الواعي، بعد أن كتب في موضوع الإخوان كثير من الكتاب، وهم بين أنصار يقومون بواجب الدعاية والدفاع، وبين خصوم يتناولون الحركة بالتجريح والهجوم، وقد اصبح طالب الحقيقة الواضحة الصافية حائراً بين هؤلاء وأولئك، وبقيت هذه الثغرة مفتوحة لم يستطع الكثيرون سدها، حتى جاء الدكتور الحسيني بمؤلفه الجديد وجعل رائدة أن يبحث عن الحقيقة بحياد وإنصاف، ولذا فهو لا يألوا جهداً في تتبع كلام الخصوم والأنصار، فيؤيد هؤلاء تارة، ويميل مع أولئك أخرى، بأسلوب مهذب لبق، برئ من التهجم، وخلا عن التعصب، وحاول أن يكون دائماً على الحياد، وقريباً من الصواب، بيد أنه - في سبيل هذا الحياد - سلك في بعض الأحيان طريقاً وعرة، وقيد قلمه بقيود ثقيلة، ما كان أغناه عنها! ولذا وقع في بعض الأخطاء، ذلك لأنه يريد أن يقرر في ذهن القارئ بعده عن التحيز لهذه الدعوة، خشية أن يتهمه أحد بالانتصار لها
وأكبر أخطائه - على ندرتها - وأكثرها شيوعا في كتابه، رأيه في الحكومة الدينية التي يقول إن الإخوان يعملون لها. ولا غضاضة على الإخوان - في رأينا - أن يسعوا إليها،(1003/42)
ويبذلوا الغالي والرخيص في سبيلها، لأنها أمنية كل مسلم يقظ، يعرف ما في الحكومة الإسلامية من خير وسعادة للفرد والمجتمع والإنسانية عامة، ولكن المؤلف في حديثه عن الحكومة الدينية يقف موقف المعارض لها بأسلوب فيه كثير من ألف والدوران يقول: (لا شك في أن الإخوان لم يطالبوا بالحكومة الدينية عبثاً. لقد رأوا بعض القوانين في مصر تبيح ما نهى عنه الدين، رأوا قانوناً يبيح الزنا وآخر يبيح الخمر، وهما محرمان ديناً فثاروا وطالبوا بتطبيق التشريع الديني في جميع الأحوال بلا استثناء، كما كان الحال في صدر الإسلام، وهذا هو موطن الدقة في الموضوع، هل جميع القوانين المدنية أدت إلى ما أدى إليه هذان القانونان؟ هل كل تشريع مدني فاسد؟ لو كان الأمر كذلك لكان التشريع الغربي بل تشريع العالم أجمع؛ عدا القسم من العالم الإسلامي الذي يطبق التشريع الديني فاسداً، وهو قول سخيف، فالتشريع يستوحى المصلحة العامة في كل الأمم قاطبة، والمصلحة العامة تلتقي مع الغرض الأسمى من الدين، ولا يجوز عقلاً أن يختلفا) ص 165 وموضع الخطر والخطأ في هذا الكلام أن الأخوان بنوا فكرة دعوتهم للحكومة الإسلامية حين رأوا قانوناً يبيح الزنا وآخر يبيح الخمر، والحقيقة غير ذلك، لأن كل من يدعو إلى الحكومة الإسلامية سواء أكان الإخوان أم غيرهم، يستطيع أن يجعل قانون الزنا والخمر مثلاً سبيلاً لقيام الحكومة الإسلامية، لأن مثل هذا السبب لا يصح أن يكون وحده أساساً لمثل هذه الدعوة، وإلا كانت هذه الدولة أخلاقية روحية فحسب، لا شأن لها في تنظيم المجتمع، وتنمية الثروة، والعلاقات الدولية. نعم إن من أهداف الحكومة الإسلامية، إقامة حدود الله ومنها حد الزنا والخمر. . . ولكن ليست هذه وحدها أيضاً مما تقول به دولة الإسلام
والسبب الحقيقي في قيام الحكم الإسلامي إنما هو الإسلام نفسه. . . . فالإسلام وجد ليحكم، ويؤسس دولة، ونشئ أمة، ويقود عالما، والعبادة فيه وسيلة لتربية الضمير الإنساني، ليعدل إذا حكم، وينصح إذا استشير، ويخلص إذا عمل، ويسعى للمصلحة العامة، ويدفع أذى الأعداء، والتشريع الإسلامي الذي هو قانون الحكومة الإسلامية، ينظم شؤون الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو صالح لكل زمان ومكان، لأنه قواعد عامة، وأصول مرنة، قابلة للتصور والاجتهاد. وقول المؤلف (بأن التشريع يستوحي المصلحة العامة في كل الأمم قاطبة، والمصلحة العامة تلتقي مع الغرض الأسمى من الدين، ولا(1003/43)
يجوز عقلاً أن يختلفا) في هذا القول تأييد للتشريع المدني وأنه يلتقي بالغرض الأسمى من الدين. . . ولا يجوز عقلاً أن يختلفا، ونحن نعلم أن التشريع المدني يبيح الربا وأن الدين يحرمه، والتشريع المدني - في كثير من البلاد - يحمي الإقطاع والاستغلال، والإسلام حرب عليها. . . فكيف جاز عقلاً أن يختلفا؟!
إن فكرة فصل الإسلام عن الدولة، وإبعاده عن الحكم، وإقصائه عن التشريع انحراف به عن غايته السامية، وحبس له في الخلوة والزاوية، وجعله هيكلاً راهناً منحلاً، لا يقوى على رد عدوان، أو صد هجوم، وهذا هو ما آل إليه أمر الإسلام بعد أن تكالب عليه الأعداء، ورموه بالجمود والرجعية، ووصموا أتباعه بالتأخر والهمجية، وساموهم سوء العذاب بالاستعمار والطغيان. . ومن المؤسف أن كثيراً ممن شد طرفاً من الثقافة الغربية، وتأثر بالنهضة الأوربية التي قامت على أساس إبعاد الكنيسة عن الدولة، يدعون بهذه الدعوة، وينادون بهذه الفكرة، ناسين ما بين الإسلام والمسيحية من فروق شاسعة، وبون بعيد، وقد تصدى لرد هذه الفكرة الخاطئة الأستاذ السيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وكانت سياسية الإخوان، ونشاطهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، رداً عملياً على هؤلاء الذين يتهمون الإسلام بالجمود، ويصمونه بالعجز عن تنظيم المجتمع الحديث، وهم كما قال فيهم الأستاذ الزيات (يحاولون أن يبعثوا في الهيكل الواهن المنحل روح الإسلام الفتية القوية، التي نقلت البدو الجفاة الحفاة من بوادي الجزيرة رعاة غنم، إلى حواضر الدنيا قادة أمم) و (هم هم وحدهم الذين يمثلون في هذا المجتمع الممسوخ، عقيدة الإسلام الخالص، وعقلية المسلم الحق، إنهم لا يفهمون الدين على أنه صومعة منعزلة، ولا الدنيا على أنها سوق منفصلة، وإنما يفهمون أن المسجد منارة السوق، وأن السوق عمارة المسجد، وكان للإخوان المسلمين في الإرشاد لسان، وفي الاقتصاد يد، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي)
وهناك أمر آخر وثيق الصلة بموضوع الحكومة الدينية، وهو اشتراك الجمعية في السياسة، يخطئ فيه المؤلف فيقول: (وأثرت هذه الإجراءات الصارمة - يعني بطش إبراهيم عبد الهادي - في البنا الذي رأى البيت الذي بناه بيده في عشرين عاماً قد انهار بين ليلة وضحاها، ويبدو أنه ندم على اشتراك الجمعية في السياسة ص 36، وأحب أن أؤكد(1003/44)
للمؤلف أن البنا لم يندم على اشتراك الجمعية في السياسة) لأن السياسة - في عقيدته - جزء لا ينفصل من الإسلام، ولو فرضنا أن هذه الإجراءات القاسية الرهيبة، أثرت في نفسه، فلا يمكن أن يبلغ أثرها حداً يجعله يتخلى عن جزء من عقيدته التي هي عقيدة الإسلام الخالص. على أني شهدت له موقفاً خالداً مع مندوب الحكومة في دار جمعية الشبان المسلمين قبل استشهاده بأيام. . . سمعته - رحمه الله - يقول لمندوب الحكومة المفاوض (قل لمن وراءك: إذا كان ملك البلاد، ومن ورائه حكومته الرشيدة وعلماء الأنام، كل هؤلاء حرب على الإخوان المسلمين، فلا أقول عندي مليون أو ثلاثة ملايين. . . بل عندي خمسون، لا يضع الواحد منهم أنفه في الرغام، حتى يحطم خمسين من هذه الأصنام) وفي هذا الكلام - بلا ريب - تهديد خطير، وهو لا يدل على نفس نادمة، أو عزيمة خائرة، بل يعني أن هذه المحنة لم تنل من نفسه ولم تغير من عقيدته، وكيف؟! وهو الذي كان يسمي تلك المحنة العصيبة محنة يمحص الله بها الصادقين المخلصين
ثم أراد المؤلف أن يعلل اهتمام الإخوان بالصناعة والشركات، فعجب من أن يغرق الدين بطوفان من الظواهر غير الروحية ص 145 وقال (إن كانوا يقصدون أن الدين يشرع لهذه المظاهر الدنيوية، ويفرض سلطانه عليها، ويحدد سلوك الفرد فيها، فقد غالوا في مفهوم الدين، ووضعوا أمام السائرين في الدنيا مزالق لا يؤمن فيها العثار) ص 146، ويبدو أن المؤلف الذي يعجب من هذا الطوفان غير الروحي، لا يريد أن يتخلى عن نظرته إلى الإسلام، على أنه عبادة وروح وأخلاق، وأود أن أذكره أن في كتب الفقه الإسلامي قسماً كبيراً للمعاملات، فيه فصول مسهبة دقيقة تنظم البيع والسلم، والقرض والرهن، والتفليس والحجر، والصلح والحوالة، والضمان والشركة، والوكالة والشفعة، والمزارعة والمساقاة، ولهذه الأحكام الفقهية أدلة قوية، من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، بذل الفقهاء جهداً كبيراً في استنباطها وترتيبها. . . وليس مرد هذا الاهتمام إذا إلى ممارسة البنا لصناعة إصلاح الساعات كما يقول المؤلف (أما الاهتمام بالنصاعة والشركات فربما مرده الأول إلى صناعة إصلاح الساعات، التي أتقنها الوالد، وأولع بها الفتى، ومارسها كذلك) ص 44، ولا أجد داعياً إلى اتهام الإخوان بالمغالاة في الدين، كما لا أجد حاجة لأن يتساءل المؤلف هذا التساؤل العجيب فيقول: (وما الذي حمل الإخوان على مط الدين على هذا(1003/45)
النحو؟) ص 146، فليطمئن على أن الدين لم يمط، ولن يمط، لأن فيه إمكانية واسعة لتنظيم شؤون الدين والدنيا
هذه ملاحظات يسيرة، لا تغض من شأن هذا المؤلف القيم الذي يحوي بيد دفتيه حقائق ناصعة، وآراء صحيحة، وتحليلاً ناجحاً لهذه الحركة. فضلاً عن ذلك الإحصاء الدقيق لكل ما يتعلق بالإخوان، وقد ذيل المؤلف كتابه بالمراجع والشروح التي اعتمدها، ونقل عنها، فلا يكاد يترك كتابا أو رسالة أو صحيفة أو مقالة فيها حديث عن الحركة، إلا ذكرها وأوجز ما فيها، وقد بذل - ولا شك - في هذا السبيل جهداً كبيراً، يستحق أن يسجل بآيات الشكر والثناء
محمود عودة الخطيب(1003/46)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ محمد سالم الخولي
تحية مباركة
وبعد فقد قرأت في العدد الألفي مقالكم القيم (أثر الرسالة في الأدب الحديث) وأعجبني منه كيف غاب عن ذاكرتكم - وأنتم تعددون أسماء الأشياخ الأعلام وشباب الكتاب - اسم الأستاذ علي الطنطاوي الذي رافق الرسالة من مشرق عمرها المديد على حد تعبيركم - ولا يزال.
أجل لقد عجبت أن يند عن الذاكرة اسم هذا العلم الشامخ، وإن العهد به في الرسالة لقريب، فارجعوا إن شئتم إلى مقاله المنشور في العدد الـ 998 فهو الغاية في التعريف بهذا الأديب الكبير والدلالة على منزلته الرفيعة وصوته البعيد في الأقطار الشاسعة التي فتحتها له الرسالة الغراء ومكنت له فيها، وهو إلى ذلك فن بديع في التنويه بالنفس والتعريض بالآخرين
دمشق
خليل صدق
لا يعلم الغيب إلا الله
قال الأستاذ ناصر سعيد: (إن النبي ولا شك كان يعلم الغيب)
وهذا خلاف الثابت المعروف من الدن بالضرورة، من أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وإنما يكشف الله لرسوله عن أشياء معينة، لحكمة يريدها فيخبر بها
ولعلي أعد هذا الموضوع فصلا أنشره في الرسالة
تصويب
في مقالتي في العدد (998) تطبيعات منها كلمة يستشرق للحب وهي يستشرف للحب
علي الطنطاوي
حول شوقيه لم تنشر(1003/47)
نشر الأستاذ محمد عدنان حسين في العدد 998 رثاء شوقي للمغفور له الخديو توفيق في الصفحات 921 - 923 وتقع المرثية المذكورة في 83 بيتاً. وقال إنها لم تنشر في ديوان شوقي - ولكن التوفيق الذي يصاحب الأستاذ عبد القادر الناصري في استدراكاته خان الأستاذ عدنان. فالرثاء المذكور طبع ضمن الجزء الأول من الشوقيات طبع مطبعة الآداب والمؤيد سنة 1898 م وهو الجزء الوحيد الذي طيع من الشوقيات القديمة والقصيدة فيه من ص 134 إلى 138. وتقع في 86 بيتاً أي بزيادة ثلاثة أبيات على ما نشر الأستاذ عدنان. وغني عن التعريف أن الشوقيات القديمة المذكورة أعلاه تحتوي على كثير مما لم يعد طبعه في الأجزاء الأربعة من الشوقيات الجديدة - كما أن بعض ما نشر في الجزء الثاني من الشوقيات الجديدة على أنه غزل إنما هو استهلال قصائد مدح الخديو عباس طيب الله ثراه - مثال ذلك قصيدة علموه كيف يجفو - نشر منها تسعة أبيات من أولها فقط في ص 163 من الجزء الثاني من الشوقيات الجديدة - بينما هي في 34 بيتاً في الشوقيات القديمة انظر ص 89 - 91، وحبذا لو تكرم حضرات المستدركين بمراجعة الشوقيات القديمة قبل الجزم بعدم نشر فريدة من فرائد شوقي
عبد السلام النجار
من عثرات الأقلام
كتب الأستاذ الربيع الغزالي في جريدة الأهرام أن (متشرد) صحيحة مثل. مشرد وشريد، وحجته في ذلك: أن التاء مزيدا للطب، وأنه جاء في بالمنجد، تشرد القوم: ذهبوا
وهذه الحجة لا تنهض دليلاً على صحة ما ذهب إليه، فإن التاء وغيرها من حروف الزيادة، ليست زيادتها قياسية في الفعل أو مشتقاته بل مدار هذه الزيادة على سمع من العرب، والقاعدة عند اللغويين أن ما سمع يحفظ، ولا يقاس عليه، ولم يؤثر عمن يوثق به من أئمة الفصحى الفعل (تشرد) بمعنى صار شريداً، ولا يمكن أن يتصور معنى الطلب في (تشرد) لأن التشريد لا يطلبه أحد لنفسه
وورود كلمة (تشرد) في المنجد ليس دليلا على صحتها، لأن المنجد ليس من المصادر المعتمدة عند علماء اللغة، ولو كانت الكلمة صحيحة لوردت هي أو بعض اشتقاقاتها في(1003/48)
أحد المراجع المعول عليها عند اللغويين، ثم لم نظلم المنجد وقد أورد كلمة (تشرد) بمعنى ذهب لا بمعنى طرد، ولا يخفى على أحد ما بين المعنيين من فرق
هذا ولن يضير اللغة أو ينقص من قدرها أن ينفي الزائف عنها؛ ويقتصر على استعمال الصحيح من مفرداتها
عبد الجواد سليمان
سرقة أدبية
قراء الرسالة يذكرون تلك العجالة الخاطفة التي نوه بها الأستاذ كمال رستم في العدد 922 من مجلتنا الغراء، ذاكراً أن الأستاذ إبراهيم المصري الكاتب القصصي المعروف. . قد سطا على قصة أنطون تشيكوف (الرهان) واضافها إلى نفسه بالعدد 852 من مجلة آخر ساعة تحت عنوان (الرهان العجيب)! ومع أن كلمة الأستاذ كمال رستم كانت تتسم بطابع العنف، فقد ضمت الأستاذ المصري صمت المتهم الذي ثبتت إدانته. .
واليوم. . تتكرر نفس المأساة على صفحات آخر ساعة نفسها، فقد طلعت علينا في عددها الفائت بقصة للأستاذ أمين يوسف عرابي تحت عنوان (دقات الساعة)، وقدمها على أنها قصة رمزيه مصريه! والقصة ليست من الرمزية أو المصرية في شيء؛ وإن القراء للعدد 934 من الرسالة إلغاء. . الصادر بتاريخ 28 مايو سنة 1951، وعلى الصفحة 627 من نفس العدد، يطالع هذه القصة. . وهي مسرحية ذات فصل واحد من ورائع (ميشيل وست) قمت بترجمتها وتقديمها. وقد تطاول الأستاذ أمين على أصول القصة، فنفحها بعضاً من عندياته، ولست أدري! أهذا إمعان منه ي الكرم على مؤلفها ذي الحق المسلوب؟ أم رأى فيها اعوجاجا فأبى أن يتفضل بتقويمه؟ أم أراد أن يطمس معالم السرقة كما فعل الأستاذ المصري في قصته (الرهان العجيب)؟
عبد القادر حميدة
شخصية الأسبوع
نشرت البروجريه ديمنش كلمة تحت هذا العنوان عن فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم أشارت فيها إلى مقترحاته لتطهير الأزهر وعزمه على الاستقالة إن لم تجب(1003/49)
مطالبه؛ وقالت إن الشيخ عبد المجيد سليم يتمتع بثقة الغالبية من رجال الدين والعلماء واحترامهم، وهو معروف بالتقوى والروع. وما حاول قط أن يفيد لنفسه، وقد جعل همه مصلحة الجامعة الأزهرية قبل مصلحة الأفراد، ومن أجل ذلك كافح في سبيل إنقاذ تلك المؤسسة الدينية. وهو لا يخشى إلا الله ولا يساوم في كرامته، ولذلك يستحق بجدارة تقدير الوطن
يهز الجيش حولك جانبيه
في البريد الأدبي من العدد 1001 من الرسالة الزهراء، يقول الأستاذ خاف إبراهيم الكاتب أنه لم يجد البيت:
يهز الجيش حولك جانبيه ... كما نفضت جناحيها العقاب
في الجزء الأول من شرح ديوان المتنبي لعبد الرحمن البرقوقي، والحق أن البيت المذكور إنما هو للمتنبي، وهو من قصيدته التي يمدح فيها سيف الدولة ومطلعها:
بغيرك راعيا عبث الذئاب ... وغيرك صارما ثلم الضراب
وليرجع الأستاذ إلى هذه القصيدة في الصفحة 75 من الجزء الأول من شرح ديوان المتنبي للعكبري، شرح وتحقيق الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ سلبي
عبد الرزاق عبد ربه
هفوة
قرأت بالعدد الأخير من الرسالة الغراء قصيدة ممتعة للشاعر الشاب. . محمد مفتاح الفيتوري. تحت عنوان (العائدون من الحرب)، والقصيدة تعد أنموذجا يحتذى في الشعر الوطني الحديث، لولا أن وقع الشاعر الفاضل في هفوة كنت أحب أن تتخلص منها قصيدته، ' ذ أن البيت الثاني من المقطوعة الأخيرة تنقصه (تفعيلة) فهو يقول:
فلا بارك هذى اليد لا باركها الرحمن
(إذا لم تسق بالحب صدى الحيران)
وكان الصحيح أن يقول مثلاً:
إذا لم تسق بالحب ... صدى للعائد الحيران(1003/50)
وبذلك يتسقيم البيت وزناً
عبد المنعم عواد يوسف(1003/51)
القصص
الحذاء المشئوم
للكاتبة الإيطالية جرازيا دليدا
ضاقت سبل الحياة بالفتى إيليا كراي فهو لا يجد عملاً، وهو لا يدري كيف يزجي هذا الفراغ العريض الذي وقع فيه على حين فجأة، ألا أن يقضي شطراً من نهاره في حجرة الانتظار بالمحكمة واضعاً كراسة على ركبته يثبت فيها ما توافيه به قريحته من أشعار يناجي بها زوجته الحبيبة، لقد كان الضجيج يعلو بازائه، والجموع تتقاطر من هنا ومن هناك: ففقيرات النساء يتخاصمن على دريهمات ضئيلة كأنما يتناز عن أقطار الأرض جميعاً، وشاهدو الزور يسيرون في هدوء وأناة يبتغون شيئاً، وصغار المحامين يندفعون هنا وهنا يفتشون عن صيد جديد؛ هذا وإيليا جالس في هدوئه في زاوية الحجرة، يكتب إلى زوجته بعض الشعر وكأنه لا يحس مما حوله شيئاً:
(أنا أستطيع أن أرى الحياة بعيني عقلي، فكل ما يدور في العالم مقدر قبل أن يكون. أنا شاعر فيلسوف، فليس شيء في الحياة يثير في الدهشة لأنني أعلم أن الأيام تعلو بالمرء مرة وتسفل به أخرى. لا تقنطي - يا عزيزتي - فل ربما تذكرنا عمى أغسطينو، أغسطينو الذي طرد زوجته، وحرمها ماله؛ لعله يذكرها يوماً فتذهب إلى شاطئ البحر معا، نشهد القوارب تضطرب بين الأمواج الهائجة، ونحن نسير ذراعاً في ذراع كأننا عروسان في شهر العسل؛ على أننا - الآن - سعيدان، فالحب والاطمئنان يغمران قلبنا وحياتنا، وأنت يا سيدار؛ أنت فينوس هرموزا؛ أنت ثرائي وأنت ملكتي)
وفي صباح يوم من أيام الشتاء، أحس إيليا وهو في مكانه من حجرة الانتظار، حيث يجلس دائماً؛ أحس أن يداً قوية تجذبه في عنف، وسمع صوتاً خشناً يناديه: (أسرع! لقد كنت في (تيرانوفا) وعمك هناك يعالج مرضاً مخطراً. . .
هذا صوت سائق ينبهه إلى أمر، ولكنه ما كان ليسلبه بعض هدوئه. لقد أرسل أنة خفيفة خافتة، ثم قال يحدث نفسه: (سأنشر هذا الخبر المحزن على عيني زوجتي)
لم تضطرب الزوجة لما سمعت، ولم تحزن، ولم تفزع من مكانها وهي جالسة أمام باب الدار تلتمس الدفء من أشعة الشمس، وقد ارتدت خير ملابسها، وانتعلت، ورتبت شعرها(1003/52)
في دقة وأناقة؛ غير أن ملابسها وحذاءاها وقد عبثت بها يد البلى، ووجهها وقد شحب وتغضن وذوى جماله، وعينيها وهما تضطربان وقد خبا ضوءهما وانطفأ بريقهما؛ كانت كلها ترسم سطوراً واضحة في تاريخ فاقتهما وعوزهما
ومن أقصى المكان ارتفعت ضجة تشبه ما يسمعه إيليا دائماً في المحكمة: فهؤلاء أصحاب الدار يتنازعون فيما بينهم أمراً؛ وهذا الندى - وهو جزء من الدار - قد ضم جماعة يلعبون الورق ويمزحون في ضجة وصخب؛ والزوجة لا يعنيها ما يدور حولها. أما هو - هو إيليا - الزوج العاشق فقد وقف بازاء زوجته يداعب شعرها في رفق وتحبب ويقول: (أف تعلمين ما أنا صانع؟ سأذهب. . .!) قالت الزوجة: (إلى أين. . .؟) قال: (إلى أين؟ لعلك لم تعي شيئاً مما قلت! إلى عمي أغسطينو طبعاً! ما أجمل ما أرى في هذا اليوم. . .!) قالها وقد كتم في نفسه أموراً استشعرتها الزوجة المسكينة فراحت تحدق في حذائه الممزق مزقاً أعيت على الإسكافي، ثم قالت: (وأين لك بالمال تستعين به على السفر؟) قال الزوج في ثبات: (إن معي ما يكفيني، لا يشغلك هذا. إن كل ما في الكون يلد الحياة والجمال لو أن في النفس الهدوء والدعة. إن ما يهم المرء حقاً هو أن يحب الناس ويحسن معاملتهم. لقد شغلني هذا كل ساعات الصباح. . . أفتر يدين أن تقرئي؟) ثم قطع قصاصة من دفتره وألقى بها في حجرها وهو يبتسم. . . ثم أنطلق وما خلف من شيء سوى هذه القصاصة
انطلق ماشياً لأنه لا يملك سوى ثلاث ليرات؛ وكانت فلسفته قد أوحت إليه ألا يتخبط بين هذا وهذا، يقترض، فيضيع وقته فيا لا غناء فيه. . . هذا نوع من الرياضة تعوده منذ زمان؛ وما كان لشيء ما أن ينزع عنه رزانته أو يحاول بينه وبين أن يصل إلى عمه أغسطينو، وهو رجل سيار. لقد سار في نشاط وخواطره معلقة بحذائه دون قدميه، فهو يشفق عليه ويشفق. . .
بلغ إيليا (أوروسى) - وهي قرية في طريقه - ولم يحدث ما يعكر صفوه؛ فالطريق ممهد لا حب، والطبيعة جميلة تحنو عليه لتنسيه بعض متاعبه. لقد كانت رحلة ممتعة، في ناحية من الأرض سحرية، فالشمس تتألق كأنها ماسة كبيرة، وترسل أشعتها الذهبية في رفق على صخور الجبل، والحشائش تضطرب تحت نسمات البحر الرقيقة. وحين اندفع هو في(1003/53)
طريقه تراءت له الزهور الرفافة - زهور الربيع الجميلة - تنفث من عطرها الشذي في روحه النشاط، وتذكي في أعصابه القوة؛ ثم. . . ثم انحدرت الشمس إلى مغربها، فاستحالت حرارتها المنعشة إلى برد قاس تحمله نسمات الليل؛ وأحس الرجل أن قدميه تننديان، وأن حذاءه قد انفرج عنهما من هنا ومن هنا؛ فاضطرب وخانته رزانته الفلسفية حين بدا لعينيه أنهلا يستطيع أن يصلح حذاءه أو أن يجد غيره؛ وأنه لا يقوى على أن يحمل هم الطريق وهم الحذاء الممزق معاً. وتمثل له ما يلاقيه من مهانة واحتقار حين يبدو في دار عمه رث الملابس، زري الهيئة، ممزق الحذاء، وهو لا يريد أن يكون هو ألمن نفسه وعار زوجته حين يلج دار عمه في مثل حذائه. لابد أن يجد حذاء؛ ولكن كيف؟ أنه هو لا يدري. . . وبعد فترة كان يسير في شوارع القرية المهجورة المظلمة الندية وقد سيطرت عليه فكرة الحذاء الآخر. وفي ناحية من ساحة فندق هناك صغير يشع نوراً ذهبياً قوياً جذب إيليا إليه. . . جذبه لينام ليلته في حجرة قذرة، حيث نام عاملان فقيران؛ وقد كان غطيط أحدهما يستلب إيليا من أفكاره ومن نومه معاً. استقلي الرجل على فراشه وما في رأسه غير صورة نعل جديد تتراءى له أينما هفا خياله. في الشارع، في الحقل، في زاوية الحجرة، في صندوق في الزاوية الأخر، ثم هناك عند الباب وكانت تحور أحياناً إلى أخرى بالية تنم عن الفقر والفاقة
وظل إيليا تفزعه الريح العاصفة، والغطيط المدوي في أرجاء الحجرة؛ والساعات تمر، وتعلق بصره بنجم يتألق في السماء كأنه يسبح بين أمواج البحر المضطربة؛ وخياله عند زوجته وهو جالس إليها ينشر على عينيها بعش أشعاره الرقيقة الطلية، وعند الحياة الناعمة التي يحياها إلى جانبها لو ظفر بما يملك عمه
وانتفض الرجل من فراشه بعد لأي وهو يضطرب، وانحنى على حذاء العامل يريد أن يسلبه فوجده ثقيلاً واسعاً فتركه إلى حذاء الرجل الآخر، غير أنه لم يجد شيئاً، وطن في مسمعيه صوت أقدام تدب خارج الحجرة فاضطرب ووقف في مكانه وقد سيطر عليه الحزن والفزع؛ وبدت له خسته فخزن. . . حزن حزن القلب يستشعر الخطر المحدق؛ وحين انمحى الصوت دلف هو إلى الخارج ليرى. . . ليرى الردهة خالية إلا من بصيص من نور، وإلا من قطة تحك جسمها في الجدار، وإلا من حذاء بازاء القطة، بدا في عيني(1003/54)
الرجل جميلاً، فأنطلق إليه يخبئه في ثنايا معطفه، ثم اندفع إلى الشارع في هدأة الليل وسكونه. ولقد غادر الفندق لم يشعر به أحد، ثم أسرع وتراءى له هو يسير على شاطئ البحر كأن كواكب السماء تتساقط رويدا رويدا لتغتمر في هذه اللجة، فقال: (يا عجباً! أكل شيء في الطبيعة والإنسان يريد أن ينهد؟) وظل يحدث نفسه هذا الحديث وهو يخب في الظلام بين الصخور المظلمة والبحر الداكن
ومضت نصف ساعة جلس بعدها ليلبس الحذاء المسروق، لقد بدا عليه السرور والفرح - بادئ الأمر - غير أنه ما لبث أن استشعر الحسرة تفجره وتكاد تعصف به، فراح يحدث نفسه (ماذا يكون لو أنهم تبعوني؟ سيقتلونني لاشك، ماذا تقول زوجتي إذن؟ ستقول: ماذا صنعت يا إيليا؟ أف تسرق حذاء؟ أي فرق بينك وبين من يسرق مليون ليرة، أيها السارق؟
واضطربت الفكرة في رأسه: (مليون ليرة! أين هي؟ أين أجدها لو وجدتها لا ختطفتها لا أني ولا أتباطأ!) ثم تمطى وهو يبسم لهذه الخاطرة، ومد رجليه وحرك أصابعه في الحذاء الجديد؛ يا عجبا! لقد رانت على نفسه سحابة سوداء من الكآبة مرة أخرى، وشعر بقدميه تتقدان، وبأصابعه تختلج كأنها تنفر من هذا الحذاء المسروق! لقد سار في طريقه متكاسلاً، ومتأبطاً حذاءه ليستطيع أن يلبسه إذا تبعه أحد؛ ثم اضطرب وتوزعته الأفكار السود؛ فهو يلتفت إلى وراء بين الفينة والفينة ليرى من عساه يتبعه
وانبثق الفجر كأنه شيطان مارد يحدجه بعينيه فيهما البغض والازدراء؛ يطل عليه وقد قنعته سحابة دكناء من الضباب لبيعث في نفسه الفزع والرعب، ولينذر بالفضيحة والويل؛ وهؤلاء الناس - عما قريب - ينسلون إلى القرية مارين به، وحين يسمعون قصة الحذاء المسروق يقول قائلهم: (نعم، لقد رأينا رجلاً هناك يسير مضطرباً، وقد تأبط حزمة بخبئها تحت معطفه. . .)
ورأى - وهو يسير - فلاحاً يسير الهويني، في طريقه إلى القرية، فخيل إليه أنه يحدق به، ويلتفت إليه بين الحين والحين وعلى شفتيه ابتسامة السخرية والتهكم
ثم. . . ثم انحسر الظلام عن نهار حزين كالح؛ وقد نشرت السحب ذوائب طويلة سوداء تصل بين الجبل الشاهق والبحر المضطرب؛ والغرباتن تمر به وهي تنعق نعيقها المشؤوم؛ وقد انطوى الجمال الذي أحسه بالأمس في هذه الناحية؛ وبدت له الحياة عابسة تبعث في(1003/55)
النفس الألم والضيق، ودوت في أذنيه أصوات تفزعه من مكانه لأنه رأى فيها أصوات الذين من خلفه يقصون أثره ويسخرون منه؛ فاستبدل حذاءه القديم الممزق بالحذاء الذي سرقه، ألقى به في ناحية ثم انطلق
لقد ألقى بعض همه حين ألقى الحذاء المسروق، ولكنه مي زال في اضطرابه، وخياله ما يفتأ يصور له أشياء! فهذان العاملان اللذان قضى معهما ليلته، على أثره يطلبانه بعد أن وجدا الحذاء الملقى. . . سيلبيانه ثم يدفعان به إلى المحكمة، وهناك. . . وهناك. . .؛ وتراءى له جماعة يعذبونه ويعذبونه حتى يعترف. . .
ماذا تقول زوجته حيت يترامى الخبر؟ وتأججت الفكرة برأسه يؤوثها الإجهاد والبرد والجوع، فأنطرح تتنازعه الخواطر المظلمة كما تتناول الرياح الشديدة العاصفة سحابة في كبد السماء؛ ورجع إلى نفسه يلومها على أن طوحت به الأيام في هذه المتاهة، يضرب في الأرض، ويفقد الراحة والطمأنينة في وقت معاً؛ ثم هو لا يطلب إلا سراباً أو أملاً كالسراب، ومن يدري؟ لعله لا يستطيع أن يأتي بالحدة القاطعة يثبت بها أن أغسطينو هو عمه. . . وبرعم هذا فهو قد ألصق بنفسه عاراً لا يغسل
نكص الرجل على عقبيه ممتلخ العقل، مأخوذ اللب، يحدق في الحذاء الملقى في ذهول وبلاهة، أفيواريه التراب؟ أنه إن فعل فما غير من الحقيقة التي في رأسه! أن هذا الحذاء مسروق، وأنه هو السارق. . .
وتردد إيليا حيناً، ثم هوى إلى الحذاء يخفيه تحت طيات معطفه، وارتد إلى القرية لا يستطيع أن يهبطها إلا أن يسدل الليل أستاره، لقد غبر يوماً كاملاً لا يطعم شيئاً، فأحس بأعصابه تتراخى ومشى الهوينى يترنح كأنه عود ذاو تعصف به الريح الهوج، وولج الفندق ثانية وكأنه في حلم، وعلى شفتيه كلمة الاعتراف؛ غير أنه وحد المكان هادئاً كأن شيئاً ذا بال لم يكن، ومر فما تعلق به بصر، ولم تحم حوله شبهة؛ فتناول طعامه، ووضع الحذاء مكانه الأول، ثم ألقى بنفسه في لجة من النوم العميق الهادئ، فما استيقظ إلا عند ظهر اليوم التالي. وحين هم من مرقده اشترى رغيفاً بما بقي معه من مال ثم سار. .
وبد الجو في ناظري إيليا - مرة أخرى - جميلاً، والوادي كأنه يبسم في رقة وظرف، والنبات الأخضر تنبعث منه القوة والنشوة، وهو يندفع في سيره يفور نشاطاً وحيته على(1003/56)
رغم هذا الحذاء الممزق الذي تموج فيه قدماه، وهو - هو هذا الحذاء - كان يوقظ الرحمة والشفقة في قلوب الذين يرونه فيمنحونه بعض الخبز واللبن يبلغ بهما
وبلغ دار عمه وقد أجهده المسير وأضناه التعب، ولكن الأمل كان يشرق في عينيه فيدفعه إلى الأمام. . . لقد مات عمه منذ ساعات قليلة، وراحت الخادم تنظر إليه في دهشة وهي تعجب: (أأنت ابن أخيه حقاً؟ لماذا لم تسرع إلى هنا؟) ولكنه وقف صامتاً، فاندفعت هي تقول: (لقد أرسل إليك منذ ثلاثة أيام وانتظر. . . انتظر طويلاً وهو يذكرك، ثم بدا له أنك نسيته ففقد الأمل. وحين أحس بالموت يكاد يقصم عوده أوصى بكل ما يملك إلى اليتامى من أبناء البحارة). . .
فارتد إيليا إلى داره يحمل إلى زوجته الحبيبة إلى نفسه خيبة الرجاء وضيعة الأمل وهو لا يستطيع أن يقول شيئاً. . .
ك. ح(1003/57)
العدد 1004 - بتاريخ: 29 - 09 - 1952(/)
تجلد يا قارون باشا!
لك الله يا مسكين! لم تعد باشا بعد يوليو، ولن تعود قارون بعد أكتوبر!
ذهب اللقب وضاع (الطين)، فلا رأس يشمخ ولا لغد ينتفخ! وخلا
الدوار والإسطبل، فلا ثور يخور ولا فرس يصهل! وخوي القصر
والديوان، فلا حاجب يسعى ولا حاسب يحسب! وخفت الصوت الراعد
فلا (شخط ولا نطر)، وخرس اللسان البذيء فلا نهر ولا قهر!
لم يبق لك من ثارئك الفاحش الضخم، إلا جسد بض، وبطن شحيم، ووجه جهم، وذهن مغلق، وحس نظلم، وجهل مطبق، وسمعة قبيحة! وكانت هذه المزايا التي مازك الله بها مستورة بالطين فما كان يراها أحد. فلما كشفوا عنك غطاء الذهب، واستردوا منط جلال اللقب، بدوت في شرفة القصر عارياً من زينة الجسد والروح، كما بدا فاروق في شاطئ كابري عارياً من زينة الملك والإنسان!
أنا والله شامت بك يا قارون! لطالما قرعت سمعك وسمع الأمير بزواجر النصح الخالص، ولكنكما لم تكونا يومئذ تصدقان أن للناس رباً يمهل ولا يهمل، وأن للعدل نوراً يخبو ولا ينطفئ، وأن للشعب وعياً يضعف ولا يموت! وها هو ذا غضب الله يحل، ونور العدالة يشرق، ووعي الأمة يستيقظ؛ فهل أغنى عنكم النضار الذي كنزتموه، والعقار الذي حزتموه؟ لقد أخذتكم صيحة الجيش بالحق، فآمنتم لأول مرة أن الناس عبيد الله، وأن الوطن ملك الجميع، وأن الملك أحد الناس
أنا والله شامت بك وبأمثالك يا قارون! كان كل منكم حاشية كحاشية فاروق، وزبانية كزبانية جهنم! حاشية تحبب إليكم الفسق، وتهون عليكم الإثم، وتوفر لديكم المتاع. وزبانية يعقدون لكم دم الفلاح ذهباً، ويحولون إليكم عرق الأجير فضة. ثم لا يشيرون عليكم أن تعملوا لعبيدكم ما يعمل الفلاح لمواشيه: يغذي البقرة لتحلب، ويقوى الثور ليحرث!
لقد أصبحتم بكفرانكم لنعم الله ناساً من أقل الناس، تذوق ألسنتكم الحلو والمر، وتحس نفوسكم العز والذل، وترجون الدستور كما نرجو، وتخشون القانون كما نخشى. وستنسون من طول ما يلح الغلاء وتفدح الأعباء، أنكم كنتم من الطبقة التي أقامت نفسها بقوة المال(1004/1)
وسطوة الحكم بين الله وبين عباده، تملك الأمر والنهي، وتعطي الحياة والموت، وتضع يدها في يد إبليس، لتنقض ما أبرم الله، وتفسد ما أصلح الدين
كنت يا قارون تكره العلم لأنك تحب الجهل، وتوالى الظلم لأنك تعادي العدل؛ فماذا تصنع اليوم وقد أصبحت محتاجاً إلى العلم لتعمل، ومفتقراً إلى العدل لتعيش؟
إن في مذكراتي وذكرياتي افانين من مخازيك يا قارون، لو نشرتها على أعين الناس لأنكروا أنك منهم، وأشفقوا أن تعيش فيهم؛ ولكني أتأدب بقول الرسول الكريم: أكرموا عزيز قوم ذل، وغنى قوم افتقر!
احمد حسن الزيات(1004/2)
رسالة المسجد في ظلال النهضة الجديدة
للأستاذ محمد عبد الله السمان
أعتقد أن وزير الأوقاف فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري لم يقبل هذه الوزارة إلا وفي مخيلته رسالة الإصلاحية يبغي تحقيقها، وفي نفسه ثورة انقلابية يود إشعالها، مستعيناً على تحقيق رسالته وإشعال ثورته بنضارة شبابه وسداد رأيه وقوة عزمه، ومستمداً التأييد من هذا العهد الجديد القائم إلى أسس ثابتة من الإصلاح
وأعتقد مرة أخرى أن وزير الأوقاف هذا ينال ثقة كبرى من شعب مصر على اختلاف أحزابه وهيأته. ولا سيما شباب الطليعة الذي يقدر ثقته، ويحسن الظن بها. وما أكثر ما يئس الناس قبلاً من إصلاح وزارة الأوقاف وفقدوا الأمل كله في إنقاذها من أوحالها وأثقالها وأوزارها! ولكن ما أكثر ما يملأ الرجاء اليوم قلوبهم وما ينبعث الأمل في نفوسهم، واثقين كل الثقة من إصلاحها وإنقاذها على يد وزيرها الشاب الناهض الذي لا يقر العجز ولا يلين لليأس ولا يؤمن بالتقهقر، ولا يرضى الفشل ثمرة لجهده الجبار الذي يهب له صحته وراحته
ونحن لا يعنينا حل الوقف الأهلي، ولا تنظيم الوقف الخيري، ولا وضع حد لفوضى الصدقات والخيرات. بقدر ما يعنينا رسالة المسجد في ظلال وثبة الجيش الجبارة، والنهضة الجديدة المباركة، وبرنامج الإصلاح الشامل المنشود، لأن الوقف بنوعيه يهم فئة من الشعب، ونظام الصدقات يجب ألا يكون من مقومات الأمة في عهدها الجديد
أما المسجد فيخض الشعب بأسره، وهو ضروري له، لأننا نبغي بعثه من جديد، وتكوينه التكوين السليم، حتى نؤهله للوقوف بجانب الشعوب الناهضة الحية التي أبت إلا حياة العزة والكرامة والمهابة فكان لها ما أرادت
كان المسجد في ظلال العهود الإسلامية الأولى معبداً تؤدى فيه الشعائر، ومعهداً تدرس بين جدرانه شتى العلوم ومختلف الفنون وندوة يروج تحت سقفه ألوان من الأدب المصفى، وبرلماناً شعبياً تلتقي تحت قبته الآراء الحرة، وترسم خطط النهضة، وبرامج الإصلاح وكانت خطبة الجمعة بياناً شاملاً عن سياسة الدولة وشؤونها وخطواتها وكان أن نكبت البلاد الإسلامية بعدئذ بعهود حائرة حكمتها حكماً إقطاعياً فإجراء أصاب فجوره وفساده(1004/3)
أسلوب الحكم؛ كما أصاب الشعب والعلم والأدب والفن حتى المسجد لم ينج من شره لأنه لم يكن يملك غير الشر، ولم تنله رحمته، لأنه لم يكن يملك ذرة واحدة من الرحمة
إن ذلك الحكم الإقطاعي الذي حكم بلاد المسلمين في القرنين الأخيرين وقف بالمرصاد للمسجد لأنه البوتقة التي تصهر فيها قوى الشعوب، وتتكون من بخارها الصيحات الجريئة، والآراء الحرة فعولت على أن تجعل منه مجرد معبد تؤدى فيه شعائر الدين ليس إلا وتجعل من خطبة الجمعة منشوراً دورياً، يزهد المسلمين في الحياة الدنيا وزينتها، ويحذرهم مغبة التكالب على الثروة والجاه والسلطان، ويذكرهم بسكرة الموت وظلمة القبر، وهول الموقف، ويروج بينهم للصبر والمثابرة، والتسليم والمسالمة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خشية الفتنة، والغفلة عن ظلم الولاة وطغيان الحاكمين وجبروت السلطان حتى لا يموتوا ميتة جاهلية. . .!
واليوم وقد وثبت مصر هذه الوثبة المباركة، وبدأت تتحرك وفق أرض المنانة قافلة الإصلاح في غير توان أو تلكؤ؛ يجب أن يعود للمسجد شأنه فتعود مكانته إلى قلوب الناس من جديد، والمسجد الجديد يجب أن يشمل الإصلاح مكانه وإمامه، فمتى وجد المسجد المنظم النظيف وجد الشعب نفسه منجذباً إليه يؤثر الصلاة تحت سقفه على الصلاة في بيوته، ومتى وجد الخديب الحر اللبتي القوي؛ وجد شباب الطليعة المثقف نفسه منجذباً إلى المسجد ليفيد من المعاني الإسلامية الحية التي تزيده ثقافة دينية فوق ثقافته العصرية
إن هناك مساجد ضخمة كبرى تهوى إليها الآلاف يوم الجمعة وما أن تسمع خطبة الجمعة من شيخ كهل لا يقوى على النطق فضلا عن الخطابة وهي لا تزيد على كلام مكرر ركبك ذي أسلوب معقد عقيم! ما أن تسمع مثل هذه الخطبة حتى تريد عن المسجد ضيقة الصدر كئيبة النفس - وبجانب هذه المساجد الضخمة مساجد صغيرة أشبه بالزوايا، موزعة في الأزقة والحارات والدروب، لا تشعر بالدنيا، ولا تشعر الدنيا بها! قد عين لها خطباء من الشباب الكفء القدير، القوي في تفكيره وأسلوبه ومنطقه، فإذا كان الضروري للعهد البائد المنقرض أن يبقى هذا الوضع الشائن ليضمن غفلة الشعب وغفوة الرأي الحر، فأي مبرر لأن يظل كما هو اليوم، ونحن في ظلال حياة جديدة هي في مس الحاجة إلى الشعب القوي ليكون دعامة لها وسياجا لبنائها(1004/4)
وهناك مسألة لها أهميتها، فالمعروف أن الدروس التي في المساجد دينية محضة تشتمل في معظم الأحيان على ألوان من التفسير والفقه والتوحيد والحديث ومزيج من القصص الركيكة، فلماذا لا يكون بجانب هذه الدروس ولا سيما في المساجد الكبرى بالعواصم دروس أخرى في السياسة والأدب والفلسفة والتاريخ والاجتماع وغير ذلك، وتشرف الوزارة على اختيار المدرسين - بشرط أن يتطوعوا للمساجد المشهورة، وتترك للأئمة في المساجد الأخرى حرية الاستعانة بمن يشاءون، وبذلك نضمن رواداً للمساجد من الطليعة الناضجة شبابا وكهولا، ونخطو بالمسجد خطوة موفقة نحو المكانة التي تليق ببيوت الله. . .؟
هذه همسات خفيفة نرجو أن تصغي لها أذن وزير الأوقاف الموثوق بكفاءته وإخلاصه لرسالته - والله الموفق
محمد عبد الله السمان(1004/5)
العلم والمال
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
ليس للعلم في ذاته قيمة، وليس للمال كذلك في ذاته قيمة، وإنما تتغير قيمة كل منهما بالنسبة للآخر، حتى إذا تبدلت ظروف أحدهما فارتفع أو انخفص، ارتفع الآخر أو انخفض تبعاً لذلك
وقد كان للعلم في العهد السابق على الانقلاب الأخير قيمة معينة بالنسبة للظروف الاجتماعية السائدة حينذاك، والتي كانت تخضع إلى حد كبير إلى عامل أساسي عظيم الأثر هو المال. فقد كانت الثروة هي المقياس لجميع الأشياء، حتى إذا تبين للناس أنها المحرك الأول في الحياة، وأنها هي التي تجلب حاجات المعيشة، ووسائل الرفاهية، وأسباب اللهو والزينة، مما كان فتنة الناس وقبلتهم، أقبلوا على المال يقتنونه بشتى الوسائل، شريفة كانت أم غير شريفة، لا يحلفون في سبيل ذلك بشيء، حتى لقد أخضعوا العلم نفسه للماس، فأصبح يباع ويشترى، وتطرق إلى بيعه وشرائه أسباب الفساد والرشوة والمحسوبة، كما تطرق الفساد والرشوة والمحسوبة في كل شيء آخر في الحياة
فإن قلت: وهل يخضع العلم للمال؟ وكيف كان ذلك؟ قلنا: ألم يبلغك نبأ المعلمين الذين يحملون العلم ويتجه إليهم الطلاب يلتمسون عندهم هذه البضاعة، كيف انغمسوا إلى الأذقان في (الدروس الخاصة) يزعمون أنها أجر على التعليم، وحددوا للساعة أجراً أخذ يرتفع إلى أن بلغ قيمة لا يطيقها أوساط الناس وأصبحت ترهق ميزانياتهم. ولم تكن بدعة الدروس الخاصة معروفة من قبل، اللهم إلا في نطاق شديد الضيق، لأن المعلمين كانوا يقومون بمهنتهم خير قيام، ويؤدونها أحسن أداء، ويكفيهم في ذلك أن الدولة قد تعهدت بمعاشهم، وأعطتهم الرواتب للقيام بهذا العمل وتنفيذه. وقد شاعت هذه البدعة حتى بلغت أسوار الجامعة واقتحمتها وأصبحت شيئاً مألوفاً في معظم كلياتها. وهذا أعظم باباً من أبواب الفساد
ولم يقنع المعلمون بالأجر يأخذونه على الدروس الخاصة، فتهافتوا في جميع أنواع التعاليم على تأليف كتب يتجرون في بيعها، ويفرضونها فرضاً على الطلاب، سواء أكان ذلك في مدارس الروضة أم في المدارس الابتدائية والثانوية، أم في كليات الجامعة. وهذا باب آخر من أبواب الفساد(1004/6)
وهيأ الجشع لبعض المعلمين أن يتجروا في الامتحانات، فيهبونها لمن لا يستحق في نظير مبلغ معلوم، وفاحت رائحة تزكم الأنوف، وضبطت حوادث كثيرة من هذا القبيل. وهذا باب ثالث من أبواب الفساد
جملة القول: هبطت قيمة العلم بالإضافة إلى المال، وتلوثت أيضاً أقدار العلماء والمعلمين، وهم حملة راية العلم، أصبحنا نجد رجالاً لا يمتون إلى العلم الصحيح بصلة يتصدرون المجالس ويتبوءون أرفع المناصب، ويتحكمون في المصائر، ويحكمون على غيرهم، وهم أبعد ما يكون عن المعرفة وعن صفات العلماء
والآن وقد قام الانقلاب على هدم أقدار الناس الذين يعتمدون على المال فقط، ومن أجل ذلك أصر الموجهون للثورة على تحديد الملكية، فلا غرابة أن تتغير قيمة العلم ومنزلة العلماء مع تغير قيمة المال
وما دامت الثروة قد أوشكت أن تفقد ما كان لها من سلطان ونفوذ وسحر وأثر في النفوس، فسوف يقضي على ألوان الفساد الذي تطرق إلى أبواب العلم
والموقف الذي تقفه مصر اليوم هو أشبه شيء بما كان يجري في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، حين تفشت الديمقراطية وهي حكم الشعب، ثم فسدت هذه الديمقراطية، وانتشرت طائفة من الفلاسفة والمعلمين يعرفون باسم السفسطائيين، يعلمون الناس الخطابة والبيان لحاجتهم إلى هذه الأسلحة في المجالس النيابية. ولكنهم كانوا يتناولون أجوراً باهضة على التعليم، ولم يكن غرضهم العلم لذاته؛ بل تعليم الخصم كيف يتغلب على خصمه بالحجة باطلة كانت أم صحيحة
فما أشبه العهد السابق بعصر السفسطائيين!
فلما جاء سقراط كان أول همه أن يكافح تلك الجماعة، فكان يقوم بالتعليم دون أجر، مع أنه كان فقيراً، يمشي في الأسواق حافي القدمين. وعلة الرغم من صلته بكثير من الأغنياء كان يرفض أن يمد يده إليهم
ثم كان ينشد في تعليمه الحق الخالص، لا يبغي تزييفاً أو نفعاً أو شهرة أو تغلباً على خصم. وذلك سخط السفسطائيون عليه، ودبروا له المحاكمة المشهورة في التاريخ، والتي انتهت بالحكم عليه بالإعدام. ولكم الروح التي بثها سقراط هي التي أثمرت وسرت ونجحت، فكان(1004/7)
أفلاطون ثمرتها، ثم أر سطو من بعده، واستتبت قواعد العلم على أسس صحيحة بعيدة عن السفسطة
وجدير بمصر اليوم أن تكافح جماعة السفسطائيين الذين ألبسوا الباطل أثواب الحق، ونشروا أسباب الفساد، وهبطوا بالعلم والتعليم درجات ودرجات
فلا أجر على التعليم إلا ما تدفعه الدولة
ولا تجارة في الكتب
ولا مساومة على الامتحانات
ولم تكن هذه المفاسد كلها مجهولة في السنوات الماضية، فقد كتب كثير من أحرار المفكرين في الصحف ينادون بمكافحتها والقضاء عليها، واجتهد بعض وزراء المعارف أن يلتمسوا لها حلاً فأمروا بمنع إعطاء الدروس الخاصة، وأصدروا المنشورات التي تحرم على المعلمين القيام بها. فكانت تلك المنشورات حبراً على ورق، وظلت تجارة الدروس شائعة رائجة
ولجأ بعض الوزراء إلى إلغاء الامتحانات أصلاً، ونقل التلاميذ من عام دارس إلى عام آخر بمجرد الحضور، واكتفاء بتقارير المدرسين. ولم يحل هذا الإجراء المشكلة، بل زادها تعقيداً على تعقيد
ولم يكن من الميسور ولا من المعقول أن تصلح حال العلم والتعليم في وسط موبوء، كله مفاسد وشرور ومحسوبة وشذوذ، ولذلك كان طلب الإصلاح في تلك الظروف من المحال
فلما أجتث الرأس الفاسدة، والحاشية التي كانت تبث الفساد في كل ركن من أركام الحياة، لأن معظم أفرادها من العامة بل وسفلة القوم، ونحن نعني ذلك لأن الحاشية كانت من الخدم! ويحضرني بهذه المناسبة وصية لابن سينا في تعليم الرجل أبناءه: هي (ألا يتركهم في أيدي الخدم حتى لا يتطرق إليهم الفساد، ولا يتخلق بأخلاقهم) نقول لقد مضى عهد الخادم الجهل الذين كانوا يتصدرون الدولة ويعدون بحكم مناصبهم قدوة لغيرهم، وأصبح الطريق مفتوحاً لمن يتصف بخصلتين أساسيتين هما: العلم والخلق، وذهب إلى غير رجعة من يسلك الطريق بالمال
غير أن انهيار أصحاب المال لا يكفي وحده في إصلاح الحال؛ فأنت تعرف ولا ريب(1004/8)
سلطان العادة على النفوس. وقد درج الكثيرون فيما سبق على كسب المال من طريق العلم والاتجار فيه، وتزييف الكتب ودفعها إلى السوق، متسترين باسم الألقاب العلمية التي حصلوا عليها بأسباب غير شريفة. وهؤلاء وأولئك لن يعفوا عن باب اعتادوه وكان يدر عليهم الذهب. وسوف يكون موقفهم كموقف الأحزاب السياسية التي رفضت الدعوة إلى التطهير حتى أرغمت عليه
لذلك نحن في حاجة إلى تطهير جبهة العلم من الأدعياء السفسطائيين بحركة جريئة تجتث الرؤوس الفاسدة، وقد تعفنت من الفساد، ولا يرجى معها إصلاح
إن قوة الأمة تقاس بانتشار العلم الصحيح بين أبنائها، لا بمقدار ما يملكه أفرادها من مال. وجدير بمصر وهي في فجر ثورتها أن تعول على الطريق الجدي الموصل حقا إلى تقويتها، وهو العلم. ولن يتيسر ذلك إلا بالإصلاح هيئات التعليم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعمل الخالص لوجه العلم والابتعاد عن فتنة المال كما كان الحال في صدر الإسلام، حين كان العلماء يقومون بتعليم الناس حسبة لوجه الله، لا يتناولون على تعليمهم أجراً. بل إن فقهاء الدين أصحاب المذاهب كأبي حنيفة وأبن حنبل، لم يعرف عنهم التكسب بالفقه، بل كان للواحد منهم صناعة يعتمد فيها على معاشه، مثل أبي حنيفة الذي كان بزازاً
فأين علماء اليوم من علماء الأمس؟
عاش علماء الأمس فقراء طول حياتهم، فخلد اسمهم على الزمان، وظلت آثارهم باقية حتى اليوم، وتنعم علماء اليوم في رغد من العيش وفيض من الثروة، فقتلوا أنفسهم، وقتلوا أمتهم معهم
فليبتعد العلماء عن فتنة المال حتى ينزهوا العلم عن الشوائب، وحتى يكونوا قدوة صالحة للطلاب وعاملاً في بناء مجد مصر
ليبتعدوا عن هذا كله قبل أن تمتد إليهم يد الثورة فتحرقهم
أحمد فؤاد الأهواني(1004/9)
عبد الله بن الحسين وعباس الثاني
للأستاذ أحمد رمزي
بقية من نشر في العدد 948 - 2 سبتمبر 1951
كتب عبد الله بن الحسين مذكراته وطبعها في لندن وجاء في نسخة بالإنجليزية وقعت ليدي، اطلعت فيها على الفصل العاشر المسمى (الحرب)، وكانت إحدى المجلات الأسبوعية قد نشرت قسماً منه في مصر نقلاً عن الصفحة 128 جاء فيه (لقد زارني الخديو عباس في عمان وكان ذلك إبان حكم الملك فؤاد الأول لمصر وقال لي الخديو (هذا هو القدر وأنا غير نادم على شيء، لقد تعبت بعد أن حكمت 25 سنة كاملة وأن عمي الملك فؤاد الذي يحكم مصر الآن يعاني ما كنت أعانيه - إن من الصعب أن ترضي شعبنا - الشعب المصري - ومن الصعب أن ينتهي الاحتلال البريطاني لأن الإنجليز أقوى منا بحيث لا نستطيع طردهم) ثم قال لي الخديو بصوت حزين (إن الشيء الوحيد الذي أنا آسف عليه فعلاً هو أني أعيش بعيدا عن البلاد الإسلامية فلا أستطيع أن أرى مآذن المساجد أو أسمع الأذان للصلاة منبعثا منها، إني أخاف أن أموت بعيدا عنها وأن أدفن في أرض غريبة
ولما اطلعت في الأصل الإنجليزي على هذه الفقرة بالذات عادت إلي ذكريات الحوادث والأيام التي عشتها بمدينة القدس بين سنة 1935، 1937 فقد حضرت طرفاً من هذا الموضوع الذي أثاره عبد الله بن الحسين وكان لي معه حديث فيه، كما أنني دعيت إلى حفلة أقامها الخديو السابق، ولما استأذنت الحكومة في حضورها جاءتني برقية غريبة تقول بادعاء المرض والتزام الفراش في نفس الوقت الذي كنت مقيما فيه بالفندق الذي نزل فيه الخديو السابق
إن حوادث هذه الأيام تقع في شهر يناير سنة 1936 ومقابلة الخديو عباس مع بعد الله بن الحسين تقع في شهر رمضان، أما الدعوة إلى حضور مأدبة الخديو السابق فقد كان محددا لها يوم 19 فبراير سنة 1936
ولشرح ما جاء في تلك الأيام عدت إلى مذكراتي في تلك الفترة بالذات التي حضر فيها الخديو السابق إلى مدينة القدس ونزل في فندق الملك داود (كنج دافيد) وقام زيارة القنصلية(1004/10)
المصرية وطلب إلي بعد تقديم القوة له أن يرى المكاتب وطريقة العمل فيها. فرافقته في زيارته وقدمت إليه الموظفين، واحداً واحداً، وكان السرور باديا على وجهه لأن بعد سنوات طويلة اتصل لأول مرة بعد اعتزاله الحكم بمكتب مصري رسمي تابع للحكومة المصرية التي بقي على رأسها اثنين وعشرين عاماً
وقد لاحظت بعد وصوله كثرة عدد الرواد المصريين في فلسطين ولكل منهم وجهته الخاصة وكانت آمالهم تتجه إلى تنسم أخباره، وكان من بينهم من يعرف جيداً كيف يستغلون الخديو السابق ويحصلون على أمواله، وكان منهم من أتقن طريقة استغلال مصر لمنفعتهم والقيام برحلات على حساب المصاريف السرية للتمتع بؤرية فلسطين
وكانوا يحضرون إلى القنصلية للتحية، ويكفي الحديث معهم عدة دقائق لتفهم الوضع الصحيح لعواطفهم واتجاهاتهم، فقد زارني كثيرون من رجال السياسة والأعيان وأهل الرأي ورجال الصحافة. اذكر من ذلك تصريح أحد الصحفيين المعروفين الأب بقوله لي (إن إحدى الجرائد المصرية المشهورة لم تكن على وفاق تام مع السراي الملكية، وأنه وفق بناء على جهوده إلى إزالة هذا البرود وذلك حينما اقنع صاحب هذه الجريدة بأن يطبع عدداً ممتازاً خاصاً بأعمال فؤاد الأول في المدة التي حكم فيها) صرح بهذا لي في الوقت الذي كان دائم الاتصال بالخديو السابق ويعمل لحسابه. . .
وكان عباس حلمي الثاني يتبع نظاماً خاصاً للأكل، ولذا اعتاد الحضور إلى الفندق في الساعة السابعة مساء لتناول العشاء، وكان ينتهي نته في الساعة الثامنة وهو الوقت الذي أدخل فيه قاعة الطعام. فكان يتفضل بتحيتي ويدعوني للجلوس معه في ردهة الفندق وهناك يجتمع حوله الزوار المصريون فتأتيه أنباء المفاوضات القائمة بمصر بقصر الزعفران وما تم في الجلسات من المناقشات وما تبودل من الرأي فيها، وكان يعلق على ذلك جميعه بأسلوب الرجل المتمكن فهمه لتطور سياسة بلاده وعلاقتها يتطور السياسة العالمية
وفي بعض الأحيان كان يحضر المجلس المرحوم سليمان فوزي فيحدث كيف كان أحد الذي ضربوا بالمسجد الأقصى عند اجتماع المؤتمر الإسلامي الذي عقد هناك فأثار ضحك المجلس بأسلوبه الفكه النادر
وفي ليلة من الليالي بعد انصراف الخديو السابق التفت إلى أحد المشتغلين بالسياسة في(1004/11)
مصر ووجه حديثه إلى قائلا (لا تنسه يا رمزي في تقاريرك التي سترسلها حتما عما دار في هذه الجلسة من أحاديثنا) وهنا جمد الدم في عروقي ورددت عليه بقولي: (إن لحكومة مصر ألف وسيلة لكي تعلم ما دار في هذا المجلس من الأحاديث وهي لا شك ستعلم ما دار هنا، أما أنا فلا أجد فيها من الأهمية والخطورة ما يصح أن تعلق مصر أهمية عليه؛ ولكني أذكر جيداً كيف اجتمع البعض في تركيا وقابلوا الخديو الذي كان جالسا معنا منذ لحظة: وحينما انصرف وانفض الجمع بادر كل واحد لتقديم تقرير هزيل عما تم في هذه المقابلة وما تحدث به إخوانه وأصحابه) واستأذنت للذهاب إلى حجرتي
وإني لأعجب لهؤلاء الذين يملأهم الغرور، ويدعون العلم بالسياسة وستظاهرون بانتقاء الأخبار والتقرب زلفى إلى ذوي السلطان، ويتنقلون بين مختلف الأحزاب والهيئات، كيف كانوا يعيشون ويحملون في وقت دائم الحركة والعمل والإنشاء
وقد ملأ الأسى نفسي لما فكرت في هؤلاء النكرات وأنا أقلب صفحات مذكراتي عن تلك الأيام فوقع نظري على ما كتبته في يوم 4 فبراير 1936
(حضر إلي إدوارد صمويل نجل هربرت صمويل المندوب البريطاني الأسبق في فلسطين، وهو يشعل وظيفة وكيل مصلحة المهاجرة بحكومة الانتداب. . . فقال لي
(إن الصحافة المصرية تصل بانتظام كل يوم إلى فلسطين أي في اليوم الذي تصدر فيه بالقاهرة، ولها تأثير غريب في عقلية أهل البلاد العرب فهي تلهب حماسهم وتجعلهم يفتحون أنظارهم كل صباح على أحوال العالم الخارجية والاتصال بتطورها)، وقال (إنه علم بأن الوزارة المصرية الجديدة أقدر من سابقتها على فهم مركز مصر الدولي)
ثم أردف بقوله: (إن مركز قنصلية مصر هنا هام لكثرة المصريين المهاجرين إلى فلسطين ولكثرة أعمالها واتصالها بالهيئات الرسمية وغير الرسمية (يقصد الوكالة اليهودية والهيئات العربية) ولكن حكومة مصر لا ترسل إلى هذا المكان إلا من كان مغضوبا عليه في بلاده) وهنا قاطعته وقلت (أنت مخطئ في هذه الناحية لأنني كنا أشغل وظيفة أقل من هذه ثم رقيت إليها) قال: (أقصد أن حكومة مصر لا تقدر هذا المركز تماماً ولا تعلق عليه ما يستحق من أهمية. وقد سمعت من الكثيرين من رجالكم الرسميين وغيرهم من أن القناصل المتقدمين في السن والذين لا يصلحون في شيء هم الذين يرسلون إلى القدس)(1004/12)
ثم صرح بما يأتي (إن شرق الأردن تحسد فلسطين على حالة الرواج فيها، وأهل فلسطين يحسدون مصر لأنها بلاد من أغنى بلاد الأرض وبشكل لا يتصوره أحد منكم. ويظهر أن الحكومة المصرية ورجالها الرسميين لا يقدرون هذا وكانت كلمته بالإنجليزية)
ففي الوقت الذي يتحدث فيه ابن هربرت صمويل وهو بريطاني يهودي عن هذه الأمور الهامة التي ذكرتها وعن إمكانيات مصر التي لا يمكن تحديدها من ناحية الثروة والانتعاش والتنمية الاقتصادية ويظهر قلقه من أثر الصحافة المصرية في نهضة الشعوب العربية كان جماعاتنا من المصرين يفكرون في نقل حديث عن بعضهم أو يظهرون أهميتهم في التقريب بين صحيفة يومية ورجال الحاشية بإخراج عدد ممتاز من أعمال الملك السابق فؤاد الأول
في غمرات هذه الحوادث تلقيت الدعوة التي أشرت إليها لحضور المأدبة التي أقامها الخديو السابق في فندق أريحا ودعا إليها المندوب السامي البريطاني وبعد الله بن الحسين وطائفة من رجال حكومة الانتداب وحكومة شرق الأردن، ولا شك في أن حضور ممثل ممصر في تلك المأدبة كان لازماً إن لم يكن لإعطاء صورة واضحة عما دار في تلك المأدبة فعلى الأقل لإظهار أن ما تم الاتفاق عليه بين العرش الخديو السابق كان جدياً ولا أثر لبقاء أي اختلاف بين الجالس على العرش وابن أخيه
ولكن تلقيت رداً على برقيتي التي أرسلتها إلى الخارجية أدهشني غاية الدهشة، وهو الذي يقول (الزم حجرتك وادع المرض)؛ وكان عبد الله البشرى في معية الخديو السابق، يتصل بي كل يوم لمعرفة رأيي في قبول الدعوة أو رفضها. فلما علمتا بمضمون هذه البرقية الرمزية لم أجد مناصاً من اعتذار، ولكن الأسلوب الذي فرض عليّ أن أعتذر به لم يقنعني. . وفي صباح اليوم التالي وهو يوم 18 فبراير نشرت الصحف خبر زوبعة ترتب عليها فقدان عدد من مراكب الصيد المصرية على شواطئ فلسطين، وأن بعض البحارة وصل إلى الموانئ في غزة ويافا؛ فانتهزت فرصة هذا النبأ، واتخذته مبرراً لتغيبي عن القدس واعتذاري عن قبولي دعوة الخديو السابق. وكنت تلقيت في نفس اليوم دعوة من راغب النشاشيبي عن حفلة شاي أقامها في منزله للخديو السابق؛ فبدأت بالاعتذار عنها(1004/13)
لاضطراري للسفر ثم اعتذرت عن مأدبة الخديو السابق في اليوم التالي
ونشرت صحف يافا خبر وصولي لتتبع حوادث مراكب الصيد المصرية التي تعرضت للخطر بعد الزوبعة التي هبت في البحر الأبيض المتوسط؛ وفعلا ذهبت إلى يافا وتنقلت منها إلى غزة وما حولها
وبعد ثلاثة أيام عدت إلى مدينة القدس. ولما قابلني الخديو السابق ابتسم، فقد كان يعلم عن أساليب الحكومة المصرية في أيامه وبعد عهده أكثر مما أعلم، وإن كان أقرني على الطريقة التي اتبعتها
كان اتصالي بحكومة شرق الأردن دائماً وباستمرار؛ ولما اقترب شهر رمضان وكنت في ذلك الوقت أتم صيامه كاملاً سواء كنت في الشرق أو في الغرب، رأيت من واجبي أن أذهب إلى عمان وأهنئ عبد الله بن الحسين بحلول هذا الشهر المبارك وأعلمه بأنني سأقضيه في مدنية القدس، ولن أحضر لزيارته قبل حلول عيد الفطر لأقوم بواجب التبريك
قمت مبكراً على نية قضاء ليلة بعمان، أرتب فيها مواعداً للمقابلة ثم أعود في اليوم الثاني، وكانت دهشتي عظيمة حينما دخلت حجرتي فأعلمت بأن الشريف جميل ناصر رئيس الديوان والسيد الخطيب مستشار الأمير ينتظرانني بحجرة الاستقبال، فنزلت لمقابلتهما حيث أخبرني الأول بأن الأمير يدعوني لتناول الغداء معه، وأنه في شدة الاشتياق لرؤيتي ولا يقبل أي اعتذار للتخلف عن هذه الدعوة. فطلبت منهما إمهالي لتغيير ملابسي ثم ذهبن برفقتهما إلى قصر الإمارة، حيث استقبلت استقبالاً كما يقول الأتراك (فوق العادة) ورافقني في الدخول إلى الأمير ضابط مصري اسمه خاطر، كان يعمل في الجيش الأردني، التحق به بعد ترك خدمة الجيش المصري في السودان وحضر هذه المأدبة الأمراء أنجال عبد الله بن الحسين، والشريف جميل ناصر والد الملكة زين ومستشار الأمير وغيرهم، ولم يدر في المأدبة حديث خاص، وعند انتهائها أخذني عبد الله بن الحسين، فسرت برفقته إلى حجرة الاستقبال الكبرى حيث أجلسني على يمينه وأقفلت الأبواب وراءنا
قال بلهجته العربية الحجازية (إنه جد حريص إلى علاقات المودة والصداقة التي تربطه بالعائلة المالكة في مصر، وعلى رأسها فؤاد الأول وهو لا ينسى ما غمره به محمد علي مؤسسها من الإنعام على عائلة الشريف بما مقداره خمسة آلاف فدان من أراضي مصر(1004/14)
وهو في تصرفاته وأعماله يرغب رغبة أكيدة في أن يكون محل رضا الجالس على عرش مصر. . .)
(بل هو يؤمل في ألا تفسر دعوته الخديو السابق إلى عمان تفسيراً يسئ إلى العلاقات القائمة بين البيتين العلوي والهاشمي؛ وأما الخديو السابق فرجل قد انتهت أطماعه، ولم يعد يرغب في شيء من مظاهر هذه الدنيا، وأنه أبدى لعبد الله بن الحسين رغبته في أن يرى بلد إسلاميا في شهر رمضان، بعد أن أمضى السنوات الطوال بعيداً عما تعود أن يراه في شهر رمضان من سماع الأذان والدعوة إلى الإفطار، وفرح الشعب بحلول شهر الصوم، ولذلك دعاه عبد الله بن الحسين إلى تناول طعام الإفطار لديه، وليس في ذلك أية رغبة لإحراج مصر وحكومتها، وإنما هو أداء لواجب صداقة وعلاقة قديمة)
ولقد دهشت لكل ما سلف، فأنا لا أعلم بهذه الدعوة، ولم أحضر للاحتجاج عليها، ولا أدري ماذا دار في خلد عبد الله ابن الحسين ولا في خلد الخديو السابق، ولا في فكر رجال الانتداب البريطانيين في فلسطين وشرق الأردن، وإنما جئت مهنئا بحلول شهر الصوم، جئت مهنئا الجالس على عرش شرق الأردن بحلول هذا الشهر المبارك، ولم أجد شيئاً أقوله سوى أن صارحته بما جئت من أجله، وأكدت عليه أنني لا أعلم شيئا، ولا أدري هل صدقني عبد الله بن الحسين في ذلك أم اعتبر مصارحتي له نوعاً من السياسة الملتوية والدبلوماسية الشرقية التي اعتاد عليها رجال الشرق في مواجهتهم الأمور واهتمامهم بالصغائر
والحقيقة التي أعلمها عن عبد الله بن الحسين رحمه الله، وعن المرحوم عباس الثاني، إنهما كغيرهما ممن أسندت إليهم الشؤون العامة والسيطرة على أجزاء من أقطار الشرق، يتلهفون لمعرفة أخبار الناس وتتبعها؛ وأذكر على سبيل المثال اليوم الذي جاء فيه أحد رجال سوريا الذين تنقلت بهم الأيام بين خدمة عبد الله بن الحسين والحكومة السعودية وقبل ذلك حكومة سوريا، وكيف تقرب من مجلس الأمير بمجموعة من الأخبار التي أتى بها من الحجاز عن أنباء الملك أبن السعود وتصرفات الأمراء أبنائه
وأذكر جلسة مع عبد الله بن الحسين، والتليفون لا ينقطع ينقل أخبار سيارة المندوب البريطاني بين جسر بنات يعقوب وأربد واتجاهها إلى جسر المجامع. .(1004/15)
إن اهتمام رجال الحكم في الشرق بتتبع أخبار بعضهم بعضاً في الوقت الذي كانت الوكالة اليهودية تنشئ وطناً قومياً على أسس ثابتة، أمر أصبح الآن ظاهراً واضحاً للعيان. .
إن الحياة كانت تدب في فلسطين تحت معول الحضارة الحديثة بينما كنا نحن نغط في نوم عميق وسبات لا نهاية له، حتى تنبه الشرق تحت ضربات النكبات والهزائم والأرزاء
أحمد رمزي
المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي(1004/16)
الاتجاهات الحديثة في الثقافة الأوردية
للدكتور عمر حليق
لعل أبرز الظواهر في حاضر الحياة الفكرية في الباكستان هو العكوف عن التقليد الأعمى والانسياق التام في تيارات الثقافية الغربية التي كانت تهيمن على الحياة العقلية في القارة الهندية قبل تقسيمها إلى هند وباكستان
وجدير بالذكر أن أثر الثقافة الغربية مع الإنتاج الفكري في القارة الهندية لم يكن في جملته سيئ النتائج. فقد أولد هذا الأثر اتجاها ملحوظا لتوجيه الحياة العقلية هناك على أساس مناهج البحث العلمي الحديث. بحيث أخذ إنتاج الهند والباكستان يتميز بطابع الدقة وعمت الفكرة التي يلمسها كل من أتيح له الاطلاع على البحوث القيمة التي عالجت مشاكل الساعة سواء في الدراسات العلمية للتراث الإسلامي والهندوس أو في الشعر والنثر الأوردي، أو في الإنتاج الفني الذي أخذ ينمو هناك نمواً سليماً
ولكن الظاهرة الفريدة في حاضر الثقافة الأوردية هي انفراد حفظة الثقافة في الباكستان - إثر ميلاد هذه الدولة الإسلامية - في العكوف عن جعل الحياة العقلية والأدبية والفنية هناك صورة مشوهة للثقافة الغربية وصدى سطحي العمق للتيارات الأدبية والفنية التي تتسرب إلى حاضر الثقافات الآسيوية من أوربا والعالم الجديد
فقد شعر حفظه الثقافة الأوردية في الباكستان أن الانسياق في التغذي بالصورة المتوهمة للثقافة الغربية قد أخذ يولد في الأوساط الثقافية هناك لونا من التشويش قد يؤدي إلى توجيه الحياة الفكرية في هذه الدولة الجديدة على نمط لا يتمشى مع روائع المجتمع الباكستاني وتراثه الإسلامي وقضاياه السياسية ومشاكله الاقتصادية والاجتماعية
وثمة أمر آخر دفع الباكستانيين إلى مراقبة تيارات الثقافة الغربية المتسربة إلى مجتمعهم مراقبة نبيهة. . . ذلك هو ازدياد الشعوب إيمانا بأن دعائم الفكر الغربي لم تستطع أن تثبت صلاحها لتوطيد الاستقرار في الغرب نفسه وفي المجتمع العالمي الأكبر
ومما فرض على حفظة الثقافة الأوردية في الباكستان هذا التحفظ في نشاطهم التوجيهي. . الأحداث السياسية والأوضاع الاقتصادية الطارئة التي جاءت في أعقاب التقسيم، وتعرض الدولة الباكستانية الجديدة إلى مشاكل إدارية واجتماعية نشأت عن طبيعة التكوين الجغرافي(1004/17)
لهذه الدولة الناشئة، عن تشرد الملايين من المسلمين الهنود نتيجة للصراع الطائفي الذي صاحب التقسيم، ونزاع كشمير وقضايا الحدود ومياه الري المشتركة بين الهند والباكستان وما إلى ذلك من القضايا الفرعية التي لها صلة مباشرة بوضعية الباكستان الإقليمية
وفي مثل هذا الجو وجد الكتاب والشعراء الباكستانيون أنفسهم منساقين إلى معالجة المشاكل الوثيقة الصلة بحياتهم اليومية، وأن يكتبوا وينظموا في أمور وأحداث هي من صلب الأحوال والأوضاع التي تكتنف دولتهم ومجتمعهم الجديد
ومن الاتجاهات المتولدة عن هذا المناخ العقلي الجديد ما ألم باللغة الأوردية في السنوات الأخيرة من تطور. فالمعروف أن نشوء اللغة الأوردية جاء نتيجة لأثر اللغتين الفارسية والعربية على اللهجات الأصلية في شبه القارة الهندية (وعلى الأخص في السند والبنجاب) عندما خضعت للحكم الإسلامي، فأصبحت الفارسية والعربية بمثابة لغة الاشتقاق للغة الأوردية التي تطورت بدورها فوطدت لنفسها استقلالاً لغة يا سليماً
ويبدو أن اللغة الأوردية في الباكستان أخذت اليوم تقوم بنفس الدور الذي قامت به اللغتان العربية والفارسية منذ قرون. فبعد أن توطد الاستقلال الثقافي للغة الأوردية، وبعد أن تثبت الكيان لدولة الباكستان أخذت الأوردية تؤثر تأثيراً مباشراً في اللهجات المحلية في القطاعات التي تؤلف الأمة الباكستانية
فلقطاع البنجاب مثلاً تقليد عريق في الأدب مدون باللغة البنجابية - تقليد أصوله في التراث والثقافة الإسلامية التي عاش عليها شعب البنجاب حقبة من الزمن. وتمتاز اللغة البنجابية بغزارتها في الإنتاج الأدبي إجمالاً، في الشعر الغربي والأدب الشعبي على وجه الخصوص. وللمناطق الشمالية الغربية من الباكستان لغتها المحلية الخاصة - لغة البوشنو - وللتراث الإسلامي في تلك المناطق دعائم متينة
ولقد وجدنا أن تيارات الثقافة الغربية كانت قبل تقسيم شبه القارة الهندية تجتاح الحياة العقلية هناك، وأن ذيول التقسيم قد فرضت على المثقفين الباكستانيين رغبة ملحة في صيانة حياتهم العقلية من عناصر التشويش في التقليد والانسياق الأعمى، وفي توجيه هذه الحياة نحو مشاكل الساعة والظروف والأوضاع الطارئة. ولذلك لم يكن لهؤلاء المثقفين بد من أن يمعنوا في صيانة الدعائم التي يعيش عليها مجتمعهم - لا في مجال السياسة(1004/18)
فحسب، بل في أصول الفكر وعناصر الثقافة العامة. فأخذوا يعملون في يقظة ونباهة على صيانة الثقافة الأوردية من التيارات الضارة التي كانت تتعرض لها - سواء جاءت هذه التيارات من الغرب البعيد أم من الهند القريبة. وهذه النزعة (القومية) في حاضر الثقافة الأوردية جاءت نتيجة لعوامل منطقية فرضتها طبيعة الأوضاع وفلسفة الحكم وأسس التطور الاجتماعي الذي يعمل أولو الأمر في الباكستان على تحقيقه بوحي من الإسلام وتراثه. ولذلك لم يجد حفظه الثقافة الأوردية في الباكستان صعوبة في تعميمها - على صورتها الجديدة - في المناطق والقطاعات التي في لغاتها المحلية قسط واف من التراث الإسلامي - كما هو الحال في لغتي البنجاب والبوشنو
ولكي يضمن الباكستانيون اطراد النمو في نهضتهم اللغوية الجديدة - بعد أن اختاروا العكوف عن التأثر بالاستعارة المشوهة من ثقافات الهندوس والأوربيين والأمريكان - اتجهوا إلى تعزيز الروابط اللغوية والثقافية مع الشعوب الإسلامية الأخرى، وما رغبتهم في إحلال اللغة العربية مكانة رفيعة في الباكستان إلا تحقيقاً لهذا النحو وتعزيزاً لهذه النهضة
وكان من نتائج هذا التنظيم الفكري أن أخذ الأدب الأوردي في الباكستان ينمو ويزدهر فلا يقتصر على إحياء الذخائر القديمة في قالب مجدد أو أن يعالج الحياة الجديدة في إطار الإبداع الفني، بل أخذ يستمد الإيحاء من التراث الأدبي والفني العريق الكامن في الثقافات المحلية التي تعيش عليها الجماعات ذوات التقاليد الاجتماعية الزاهية التي تؤلف قطاعات الباكستان الشرقية والشمالية والغربية. فقد ترجمت عشرات من مقطوعات النثر والنظم من هذه اللغات المحلية إلى اللغة الأوردية، وأخذت الأوردية تتغذى بالصور الفنية الرقيقة التي خلدها شعراء الغزل والأدب الشعبي في البنجاب، وقصائد البطولة والرجولة التي يتميز بها شعراء البوشنو - بطولة مستمدة من طبيعة الإقليم وأسلوب الحياة الذي يسود في مناطق الحدود في الشمال والشمال الغربي
وعلى الرغم من تحفظ المثقفين الباكستانيين في تأثرهم بالتيارات الفكرية الأجنبية الخاطئة، فإن إقبالهم على ترجمة روائع الآداب العالمية تشهد لهم بحسن الاختيار وسلامة الذوق
أما طابع الأدب الأوردي الجديد فهو اليوم يتميز باتجاه عام لمعالجة شؤون الناس والحياة في جلد وتعمق، وفي إطار العناصر الفنية المكتسبة من هذا التمازج الجديد بين تراث(1004/19)
الثقافة الأوردية والذخيرة الفنية من التقاليد الطريفة الزاهية للمناطق التي تؤلف المجتمع الباكستاني
وهذا الطابع الجدي ملموس في فن القصة القصيرة والقصة الطويلة، وفي الشعر والنقد الأدبي
وقد أتى على الأدب الأوردي حين كان العنصر الرئيسي المهمين على إنتاجه يكاد يقتصر على مشاكل اللاجئين والصراع الطائفي الذي عصف بالناس وبعواطفهم في ذيول التقسيم. ويبدو أن نجاح أولى الأمور والشعب في الباكستان في احتضان هؤلاء المنكوبين والتخفيف من محنتهم، قد ترك أثره في انطباعات الأدباء والشعراء. فأصبح تطرقهم إلى هذه المحنة أقل غزارة مما كان عليه قبل بضع سنوات
أما اليوم فقد تطور فن القصة وعلى الأخص القصة القصيرة في الباكستان على يد نفر من الكتاب الناشئين الذين نافسوا قدامى الكتاب منافسة شديدة. طمعوا الأدب الوردي بنوع سليم من القصة التي تحمل في ثناياها أشياء أهم من التسلية أو إثارة الغرائز
وفي مجال القصة الطويلة لا يختلف الباكستانيون عن غيرهم في معظم الشعوب الشرقية التي لم يرسخ فيها هذا النوع من الإنتاج، فالأدب الأوردي كثير من الآداب الشرقية العريقة ليس في تراثه ذخيرة من القصص الطويلة على النحو الذي عرفته الآداب الغريبة، ولا يزال إنتاج القصة الطويلة في الباكستان مبعثر الجهد ضئيل القيمة في الناحية العددية والفنية
أما الشعر فقد أخذ يقتدي بألوان العروض والمواضيع التي تعالج عادة في الشعر الأوردي الحديث وأخذ الغزل القديم يفقد مكان الصدارة التي كان يحتلها في الحياة الأدبية وبعض الشعراء الناشئون ستطرقون إلى الغزل التقليدي في مستهل حياتهم الأدبية إلا أن قرضهم للشعر يتطور فيها بعد ويتخذ طابع التجديد في أبواب العروض وفي مواضيع النظم وفي الصور الفنية التي تحتويها العقائد
أما أدب المقال والنقد الأدبي والدراسات التحليلية فينزعهما ثلاثة من فطاحل الأدباء: مولانا عبد الجق، ومولانا سيد سليمان ندفي، وميرزا محمد سعيد، ويشاركهم في ذلك الأديب الكبير الشيخ إكرام الذي يتوخى في دراساته وتحليله توجيه الإنتاج الفكري في باكستان(1004/20)
ليعزز المبادئ والأهداف التي تكتنف هذه الدولة الناشئة بتوطيدها في ذلك الجزء من العالم الإسلامي
ويضاف إلى هؤلاء نفر من الجامعيين في معاهد (البنجاب) (والسند) و (دكما) و (لاهور) المنهمكين في تزويد المكتبة الأوردية بالبحوث والدراسات العلمية في مختلف ألوان الثقافة الجامعية
ومدارس النقد الأدبي في الباكستان تدين بالاجتهاد لطائفة من الكتاب والشعراء الذين استهلوا حياتهم الأدبية بقرض الشعر أو إنشاء المقالات ثم ما لبثوا أن انصرفوا عن ذلك إلى معالجة النقد لا لأنهم فشلوا في الإبداع الفني فلأكثرهم إنتاج فني مرموق المكانة ولكن لرغبتهم في تخصيص اجتهادهم لخدمة النهضة الثقافية في الباكستان وتوجيه الموهوبين من كتاب الجيل الجديد وشعرائه لبناء نهضة أدبية سليمة الدعائم عميقة الفكر رفيعة في إبداعها الفني
وقد أثمر هذا الجهد نتائج طيبة، فاستطاع الشعر مثلاً أن يتخلص من رخاوة مدرسة (طاغور) وابتعادها عن شؤون الساعة وانسياقها في مشاعر عواطف صلتها بالأدب الحي واهنة ضعيفة. ولم تقتصر هذه الثورة (الشعرية) على موضوع القصيد بل تعدته9 إلى فن العروض، فأنطلق الشعراء في استنباط بحور جديدة على نحو ما يمارسه بعض الشعراء المحدثين في حاضر الأدب العربي، وازداد النظم بالشعر المنثور إلا أن كثير من أئمة العروض في الأدب الأوردي لا يزالون يلجئون إلى جزالة اللفظ ورصانة التعبير ليسبغوا على الشعر لوناً من القوة. وللشعر الرمزي في الباكستان أتباع ومريدون يغرمون بالإيجاز في الكلم والبراعة في اختياره على نحو ما تتطلبه الرمزية
وقد تزعم الأديب البنغالي الكبير (نصر الإسلام) الثورة على مدرسة طاغور، فقد لمس فيها رخاوة وخنوعاً لا يتمشى مع مطالب الحياة العقلية الإسلامية، ودعا نصر الإسلام إلى أن تكون صلى الأدب بالحياة السياسية والاجتماعية وثيقة متينة، ودواوين هذا الشاعر البنغالي تطفح بالقوة والنظرة العميقة فضلاً عن جزالة اللفظ ورقة الموسيقى ومهارة الصياغة وبلاغة التعبير
وفي الشعراء المجددين في حاضر الأدب الباكستاني شاب يجمع في القصيد بين الروعة(1004/21)
الفنية والنظرة الواقعية للصور والمواضيع التي يعالجها في شعره - هذا الشاعر هو (عبد الحسين) الذي يمتاز نظمه بالتعابير المستحدثة والنغمة الرقيقة والبلاغة المبسطة التي قال عنها ابن المقفع (إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها)
والتجديد في الأدب الأوردي في شرق الباكستان وغربيها لم يتعمد القضاء على تراث الماضي والذخيرة النافعة الكامنة فيه، بل إن النهضة الفكرية إجمالاً توخت استيحاء التراث القديم والكشف عن نفائسه. وهذا الاتجاه ملموس في البنغال الشرقية أكثر منه في المناطق الأخرى
وحركة بعث الذخائر الأدبية القديمة لا يقتصر على تراث الإسلام الذي اندثر تحت سيادة الهندوس الثقافية في تلك البقاع الإسلامية بل شمل أكثر نفائس الأدب الشعبي الذي سبق انتشار الإسلام. وقد تخطى هذا الإحياء حدود نشر القديم وتبويبه وتحريره في لغة الجيل فطعمت اللغة الأوردية بأكثر من ألفين وخمسمائة كلمة جديدة من مشتقات عربية وفارسية وجدت سبيلها إلى الأدب الشعبي القديم عن طريق الإسلام، وارتأى حفظة الثقافة الأوردية في الباكستان إحياءها وتغذية النهضة الأدبية بها
وإذا جاز للباحث عن حاضر هذه النهضة الثقافية في الباكستان أن يحصر أسسها في عنصر متميز، فإن هذا العنصر هو ازدياد الثقة بالنفس والشعور بالمسئولية في مجتمع اختار التراث الإسلامي نبراساً له واتخذ معاول العلم الحديث أسلوباً للتعبير عنه ولتعزيزه وتوطيده
وليس أدعي إلى الإيمان بمستقبل الثقافة الأوردية في الباكستان من أن يكون نبراسها هذا التراث العتيد وأن تكون معاولها واتجاهاتها متماشية مع مطالب الجيل الجديد
نيويورك
عمر حليق(1004/22)
الظلم. الجبن. الأنانية هذه هي أعداؤنا
للأستاذ محمد محمود زيتون
يتشدق الكثيرون بأن الفقر والجهل والمرض هي أعداؤنا التي يجب أن نكافحها، إذا أردنا صلاح أمر هذه الأمة، وأسارع إلى القول بأن هناك فرقاً بين العلة وأعراضها، وليس بدعا من الرأي أن يكون الظلم والجين والأنانية هي العلل الفتاكة التي تنمو في نفوس الأفراد والجماعات وتحطم كيان الأمم حتى يكون من أعراضها الفقر المدقع والجهل المطبق والمرض الفتاك
ومن بداهة العقل أن الظلم هو الصورة السلبية للعدل، والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، من غير إفراط أو تفريط، بحيث تسير الأمور في هذه الدنيا على سواء، ومن مظاهر العدل أن ينسجم الفرد مع نفسه ومع غيره، وأن تتسق الجماعات والهيئات في نشاطها الاجتماعي، وأن تتعاون الأمة مع الحكومة، وأن تتناسق الدول بحيث تكون كفالة الأمن والسلام أمراً لازماً لا معدي عنه. وبعد: فإن من العدل أن تهدف الإنسانية إلى أسمى المثل، وتعمل على تحقيقها قولاً وعملاً
إما إذا اضطرب هذا الانسجام في الفرد والمجموع ساد الظلم في أقصى حديه: الإفراط والتفريط. وعمت الفوضى التي لا يصلح عليها أمر، وينعدم حيالها كل رجاء في الإصلاح والتقدم، وإن أقرب ما يحس به الفرد حينذاك هو الشعور بالفارق بينه وبين غيره، وقد يتنكب هذا الشعور كل حقيقة فإذا به يرد هذا الظلم الواقع على من بيده ملكوت كل شيء، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً
إنه تبارك وتعالى يأمر بالعدل وينهى عن الظلم ويبعث المرسلين مبشرين ومنذرين، ولقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة أنه يقول: (يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظلموا) ومن الطبيعي أنه إذا وقع الظلم انحلت القوى الفكرية، وانتشرت جراثيم الوهم، فلا مناص من أن يثوب المرء إلى رشده ويسحن التدبير ليوقن أن الظلم إنما هو (انحراف الموازين الموضوعة) وليس هذا قضاء حاتما ولا قدر لازماً، وإنما على الفرد والجماعة مكافحة هذا الانحراف وإلا حاق بهم ما يكرهون
قال أبو بكر (أيها الناس: إنكم تقرءون هذه الآية (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا(1004/23)
يضركم من ضل إذا اهتديتم) وأني سمعت رسول الله يقول (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوه على يده، أوشك الله تعالى أن يعمهم جميعاً بعقاب) وماذا يمنع المرء أن يكون قادراً على رد الظالم وقد أعزه الله تعالى بقوله الكريم
(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، ولماذا يتخلى صاحب العزة عن سلاحه الذي به يسود، وهو يعلم أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وأن نصر المؤمنين حق. ولقد ساير الإسلام طبيعة البشر في مدارج الإسلام لدفع الظلم بالقلب، فإذا امتلأ بالإيمان نطق اللسان قوياً في الجماعة التي تقوى بدورها لدر كل منكر باليد حتى يزول، وهذا مصداق لقول الرسول (ص) (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)
وما كان لمؤمن أن يرضى لنفسه الضعف أو الوقوف عند مجرد الإنكار بالقلب، وذلك مما لا يؤدي إلى الغرض، وهو القضاء على الظلم، وإلا ارتفعت درجة الظلم كلما انخفضت حرارة الإيمان، ولذا يقول الرسول الأعظم (الساكت عن الحق شيطان أخرس)
إن الجبن الذي يقعد بصاحبه عن المغامرة في شرف دفع الظلم فتتفكك أوصاله وترتعد فرائصه، وتختل قواه، ويقبع في عقر داره، وينعقد منه اللسان إن لم يلجأ إلى الملق والنفاق، ليحجب أفاعيل الخور والهزيمة في نفسه، وهنا يزين له الشيطان مسلكه! فإذا بالجبان طاغية وباغية، وإذا بالرعديد كالصنديد إذا خلا بأرض طلب الطعن والنزال وحيداً
والأصل أن يكون المؤمن قوياً عزيزاً ليكون شجاعاً كريماً، يندفع إلى الحق في صراحة وحماسة، لا تأخذه لومه اللوام، وله في ذلك شرف المجاهدين في أشق ميادين الجهاد وهو النفس، وبهذا يرتفع لواء الخير وتعلو كلمة الحق، ويسود العدل، وما يلبث ضعاف الإيمان أن يتدافعوا نحوه، فتقوى قلوبهم، وتشتد سواعدهم في سبيل الله، والجبان لا يتخلف عن الركب القوي إلا لأنانيته الخسيسة، وحبه لنفسه المتهالكة الواهية، وإمعاناً في إخفاء ما يستذل العنق، وإبقاء على سر موغل بصاحبه إلى عيب دفين، فإذا به ينطوي على نفسه يكتم منافذها جهداً استطاعته، منزوياً بها عن الهواء الطلق والنور الصريح، وهنا يعقد له منطق التبرير ما يطمئن قلبه، بقول فيلسوف العرب ديكارت (عاش سعيدا من أحسن(1004/24)
الاختفاء). مثل هذا الشخص مريض، على المجتمع أن يعالجه، بل هو جاهل علينا أن نعلمه، فليسمع قول المتنبي شاعر البطولة:
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
وليتمثل علو الهمة في الشافعي:
همتي همة الملوك ونفسي ... نفس حر ترى المذلة كفرا
وعندي أن الأناني لص اجتماعي، لأنه إذا استغنى عن المجتمع بما لديه من مال أو جاه إنما يتسلل في الخفاء وبنهب عرق الكادحين ويمتص دماءهم، وهو في وكره البعد ينعم بالدفء والراحة، فهو يأخذ ولا يعطي
وما علينا إذن إلا أن نحطم أوكار الأنانية على أصحابها، وأن نسوقهم أمامنا إلى ميادين العمل حتى يتذوقوا مرارة العيش التي يمسي فيها العاملون ويصبحون. وهكذا يتدخل الفرد والمجموع وتتفاعل الحياة بينهما على نحو طبيعي تقدمي:
ولقد دل حديث الرسول (ص) على استمرار العمل الإنساني بقوله عليه السلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)
أما بعد: فليعلم كل من لا يعلم أن الفقر والجهل والمرض ما هي إلا أعراض الظلم والجين والأنانية؛ وهي بحق العلل الفتاكة، فلنحارب كل ظالم، وكل جبان، وكل أناني، وإليكم رائدنا قول الشاعر:
متى تحمل القلب الذكي، وصارما ... وأنقاً حميا تجتنبك المظالم
محمد محمود زيتون(1004/25)
زعماء الحركة القومية السيد محمد كريم
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
(3)
بعد أن انتهى الفرنسيون من احتلال مدينة الإسكندرية أمر نابليون بإبقاء (السيد محمد كريم) حاكماً لها حتى يخلد الأهالي إلى الهدوء والسكينة، وينصرف الجميع إلى أعمالهم
وكان نابليون يعلم تماماً أن الأهالي وعلى رأسهم (السيد محمد كريم) لم يخضعوا له إلا إذعانا للقوة المسلحة، وأنهم يتحينون الفرص للثورة على الحكم الجديد، ولذلك عمل على التقرب إليهم لينال عطفهم، ويكسب مودتهم
وقد بين لهم أنه ما جاء إلى مصر - إلا ليحارب المماليك الذين استبدوا بحكم البلاد وحرموا الفلاح المصري ثمرة خيراته، واعتدوا على التجارة وأساءوا إلى أهل البلاد بما ارتكبوا من مظالم
وأخذ نابليون يذيع منشوراته على الأهالي، ليثبت هذه المعاني في نفوسهم، ويضمن ولاءهم للجمهورية الفرنسية، كما طلب أعيان الثغر وألزمهم بجمع السلاح، وإحضاره إليه حتى لا يفكر الأهالي في المقامة المسلحة
(لقد أخذتك والسلاح في يدك، وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير ولكنك استبسلت في الدفاع؛ لذلك أعيد إليك سلاحك وآمل أن تبدي للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنت تبديه لحكومة سيئة)
ولم يكن هذا القول من جانب نابليون إلا تقديراً منه لجهود (السيد محمد كريم) وعلمه بما يشعر به الشعب نحوه من محبة وإكبار وتقدير
وقبل أن يترك نابليون مدينة الإسكندرية، عين الجنرال (كليبر) حاكما لدائرة الإسكندرية وضواحيها) وأوصاه بأن يعمل كل ما في وسعه لاستبقاء العلاقات الحسنة مع الأهالي وإبداء كل أنواع الاحترام للعلماء ورؤساء المشايخ في المدينة)
بهذا نرى أن (السيد محمد كريم) بقي في منصبه بناء على رغبة نابليون، ولكن هذا الحاكم الوطني المحب لبلاده، المخلص للسلطان العثماني خليفة المسلمين وظل الله في أرضه، كان يشعر بالكراهية والمقت لهؤلاء الحكام الأوربيين(1004/26)
وقد زاد من نفوره منهم وحقده عليهم أنهم فرضوا على الأهالي غرامة قدرها ستة آلاف جنيه تقريباً في الوقت الذي حل فيه الكساد محل الرخاء. . وانتشرت الفاقة والضيق بالأهالي بعد أن كانوا أوفر ثورة، وأحسن حالاً
وقد زاد من سوء الحالة أن الجنود الفرنسيين بدءوا يشكون من البلاد المصرية بعد أن ذاقوا ملذات المدن الإيطالية؛ وبعد أن وجدوا أن الأماني التي وعدهم بها نابليون لم تكن إلا مجرد وهم وخداع، وظهرت روح التمرد بين الجنود، فأخذوا يغتصبون ثمر الأشجار ويقطعون النخيل من جذوعه، ويعتدون على الأهالي المسالمين. .
ولقد ظلت روح التمرد والعصيان كامنة في نفوس الأهالي حتى أشعلها (السيد محمد كريم) وأوقد نارها من جديد
فاعتدى الأهالي على أحد جنود مدفعية الأسطول، وألقه جثته في الطريق، كما القوا في البحر خادم أحد الضباط فمات غرقاً وقد ثارت ثائرة (كليبر) وأراد أن ينتقم من الجناة. . ولكن لم يعثر لهم على أثر، كما تأكد لديه أن الجندي الفرنسي قد تعرض للقتل نتيجة لاعتدائه على الأهالي
ولذلك أصدر منشوراً إلى جنوده، طالباً منهم أن يحافظوا أنفسهم بحماية الأهالي والمحافظة عليهم، ومهدداً بالإعدام كل جندي يعتدي على حقوق المسلمين الدينية أو المدنية
ولم يقتصر السيد محمد كريم على إثارة روح الكراهية والثورة في نفوس الأهالي، بل جعل يتصل بجميع المدن والقرى التي يمر رجال الحملة الفرنسية ليعدوا للأمر عدته، وليقاوم نابليون وجنوده بكل ما استطاعوا من وسائل المقاومة
وقد حدث أن إحدى الكتائب الفرنسية خرجت من الإسكندرية لتقوم بحملة تفتيشية في بعض الجهات المجاورة - فلما علم السيد محمد كريم بما يعتزمه الفرنسيون، اتصل بالمدن والقرى القريبة، وطلب منها أن تقاوم الكتيبة، وتمنع الماء عن رجالها
فلما غادر الفرنسيون الإسكندرية، تابعوا سيرهم حتى وصلوا إلى دمنهور، وكانوا يجدون مقاومة شديدة من جانب الأهالي، كما قتل منهم ما يقرب من ثلاثين جندياً، ولذلك عادوا إلى الإسكندرية وهم في حالة سيئة، وقد ثبت لديهم أن الأهالي لم يخضعوا - بعد - للحكم الفرنسي، وأن هناك اتصالاً مستمراً بين الإسكندرية وغيرها من المدن والقرى(1004/27)