وما كان محمد عابثاً قط ولا شابت أقواله شائبة لهو أو لعب، بل إنه كان ينظر إلى الأمور نظرة جد ثاقبة، ممزوجة بالإخلاص الشديد والجد المر، فلقد كان الأمر إما أمر فلاح وإما أمر خسران، والحياة إما حياة بقاء أو حياة فناء. أما التلاعب بالأقوال والاستشهاد بالقضايا المنطقية والعبث بالحقائق، فلم يكن من شأنه قط ولا عرف عنه شيء من هذا أبداً، فإن ذلك التلاعب بالألفاظ والقضايا المنطقية. . . عندي لمن أفظع الجرائم وأكبر الدلائل على كذب المرء وعبثه. إذ أن هذه الأشياء ليست إلا رقدة القلب ووسن العين عن الحق، وبرهان على عيشة المرء في مظاهر كاذبة، وليس يستنكر من إنسان يتخذ التلاعب بالألفاظ والقضايا المنطقية، هو أن جميع أقواله وأفعاله أكاذيب وأضاليل؛ بل إنه هو نفسه أكذوبة، إنه إنسان كاذب ولكنه مصقول اللسان مهذب القول، يلقى احتراماً في بعض الأزمان وبعض الأمكنة، لا تؤذيك بادرته، لأنه لين الملمس رفيق المس، لكنه كحمض الكربون تراه على لطفه سماً نقيعاً وموتاَ ذريعاً، والأدهى من ذلك أن خصلة المروءة والشرف - شعاع الله في مخلوقاته - نجدها متضائلة في ذلك الإنسان كما أنه يكون مضطرباً بين عوامل الحياة والموت.
أما محمد ذلك الرجل العظيم فإنه من المحال أن يكون كهؤلاء الميتين القلوب الذين لا يعرفون الطريق إلى الله. إنه من المحال أن يكون كاذباً مثل هذا الرجل الكبير؛ فإني أرى الصدق أساسه وأساس كل ما جاء به من فضل ومحمدة. وعندي أنه ما من أحد من الرجال الذين يسمونهم العظماء أمثال - نابليون أو بارنزا أو كرموبل أو ميرابو وغيرهم -، ينال النجاح والفوز في عمل يقوم به إلا إذا كان الصدق والإخلاص وحب الخير أول بواعثه على محاولته فيما يحاول، أي أن صدق النية والجد في الإخلاص، بل أقول إن الإخلاص - الحر العميق الكبير - هو أول خواص الرجل العظيم وأهم صفاته. وأنا إذا قلت الرجل العظيم، لا أريد به ذلك الرجل الذي لا ينئي يفتخر أمام الناس بإخلاصه، كلا فإن ذلك الرجل ليس عظيماً بل هو حقير جداً، وإخلاصه إخلاص سطحي لا يقصد به نفع الآخرين، إنما يبتغي به منفعة نفسه، وهذا الإخلاص هو الغالب، إنما هو غرور وفتنة.
أما إخلاص محمد ذلك الرجل العظيم، فقد كان لا يتحدث عنه ولا يفتخر به، بل ربما كان في بعض الأحيان يشعر من نفسه بعدم الإخلاص إذا كان يرى غيره لا يستطيع أن يلتزم(980/18)
منهج الإخلاص يوماً واحداً فكان يلجأ إلى ربه الذي لا ملجأ منها إلا إليه يطلب منه أن يرزقه الإخلاص.
لقد كان إخلاص محمد غير متوقف على إرادته، فهو مخلص على الرغم من نفسه سواء أراد أم لم يرد، وكيف لا يكون مخلصاً إخلاصاً حقيقياً، وهو يرى الوجود حقيقة كبرى تروعه وتهوله، ولا يستطيع أن يغمض عينيه على جلالها الباهر، وهو يرى الكون مدهشاً ومخيفاً حقاً كالموت وحقاً كالحياة، وهذه هي الحقيقة التي لم تفارقه أبداً وإن فارقت أكثر الناس، فساروا على غير هدى، وخبطوا في دياجير الظلام وغياهب العماية والضلال، وهكذا خلق الله محمداً ذا عقل راجح ونظر ثاقب، وإخلاص في غير تفاخر، وهذه هي أهم أسباب العظمة.
كانت الحقيقة الكبرى ماثلة دائماً نصب عينيه، حاضرة أبداً في ذهنه كأنها منقوشة بحروف من اللهب، وهذه هي أولى صفات العظيم، وبها يمتاز ويعرف. وهي ما أمتاز به محمد، ولا أنكر أنها قد تكون موجودة في الرجل الصغير، لأن كل إنسان خلقه الله جدير أن توجد صفة الإخلاص في نفسه، ولكنها قد تكون وقد لا تكون. أما الرجل العظيم فإنها من لوازمه؛ بل إن الرجل العظيم لا يكون عظيماً إلا بها، وإني أرى أن من أسباب عظمة محمد أنه كان نافذ النظر إلى لباب الحقيقة، يمتاز بنفس شاعرية كبيرة، وآيات تدل على أكرم الخصال وأشرف المحامد، وإني كلما قرأت عنه تبين لي فيه عقل راجح وفؤاد صادق وعين بصيرة، ورجل عبقري لو أنه أراد أن يكون شاعراً لكان من فحول الشعراء، ولو شاء أن يكون فارساً لكان من أشد الفرسان شكيمة، ولو ابتغى ملكاً لكان ملكاً جليلاً مهيباً، ولو أحب أن يكون أي شيء من كل هذا لكانه بغير أن يكلفه أي مشقة أو عناء.
وأي دليل على عظمته وصدق نبوته أقوى من نظرته إلى الكون، فلقد كان العالم في نظره معجزة كبرى تدل على خالق الكون العظيم. كان ينظر إلى الكون فيرى فيه غير ما كان يراه أعاظم المفكرين من الذين كانوا يقولون إن العالم في الحقيقة لا شيء أما محمد فقد كان يرى العالم آية منظورة ملموسة على وجود الله، بل إن ظل الله علقه على صدر الفضاء، وكان يقول: إن هذه الجبال، هي أوتاد الأرض، وهي رغم عظمتها وشموخها ستذوب وتصير كالعهن المنفوش في يوم القيامة (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال(980/19)
كالعهن المنفوش) في يوم القيامة ستتصدع الأرض وتتفتت وتذهب في الفضاء هباء منثوراً.
وكان سلطان الله وعظمته لا يزال واضحاً لعينه على كل شيء، وأن كل مكان مملوءة بقوة مجهولة ورونق باهر وهول عظيم، إن هذا الكون هو الحقيقة الصادقة، والجوهر القوي، هكذا كان محمد ينظر في الكون، وهذا ما يسميه علماء العصر الحديث القوى والمادة. ولكنهم لا يرونه شيئاً مقدساً، بل إنهم لا يرونه واحداً، بل أشياء متعددة تباع وتشترى بالدرهم والدينار، وتستخدم في أغراض الناس وإصلاح حالهم أو إفساده، فهم لا ينظرون إليها على أنها سر من أسرار الله في الكون.
إن العلوم الحديثة من كيماويات وحسابيات، قد أنستنا ما يكمن في الكائنات من سر إلهي وعظمة تدل على الخالق القوي القدير. فما أفحش ذلك النسيان عاراً وما أشد هذه الغفلة إثما، فإذا نسينا قوى الله في العالم فأي الأمور يستحق أن يذكر، إن العالم اليوم يسير في مجاهل الغرور والضلال، وصار الناس يفتخرون بما بلغوا من علوم ومخترعات، ولو كان لهم نظرات صادقة لرأوا أن معظم علومهم أشياء ميتة بالية، وأن مخترعاتهم بقلة ذابلة، وأن هذه العلوم التي يفتخرون بها لولا سر الله لما كانت إلا خشباً يابساً ميتاً، ليست بالشجرة النامية التي تعطي الثمر اللذيذ المفيد، ولا بالغابة الكثيفة الملتفة التي لا تبرح تعطينا الخشب الذي نستفيد به، ووالله لن يجد المرء - إذا أبتعد عن طريق الله - السبيل إلى العلم إلا شقشقة كاذبة، وبقلة كما قلت ذابلة.
محمد رسول الله:
مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجلاً أصيلاً كريم العنصر صافي الجوهر، وهو رسول مبعوث من لدن القوة العلية أرسلته إلينا برسالة قدسية فيها لنا هدى وتبصرة، وقد نحار في تسميته فنسميه شاعراً أو نبياً أو إلهاً. . . وسواء كان هذا أو ذاك، فالذي يجب أن نعلمه أن ما جاء به هو من عند الله، وأن قوله ليس مأخوذاً من رجل غيره؛ وإنما هو صادر عن الأبدية السرمدية وأنه من لباب الحقائق.
ولن أكون مغالياً إذا قلت إن مثل هذا الرجل يرى باطن كل شيء لا يحجب عنه ذلك اصطلاحات كاذبة ولا اعتبارات باطلة ولا معتقدات وعادات سخيفة، فقد نزه نفسه عن(980/20)
النظر إلى هذه الأشياء كلها. وكيف ينظر إنسان إلى هذه السخافات وهو يرى الحقيقة تسطع أمام عينيه قوية باهرة حتى ليكاد نورها يغشى عينيه، وفي رأيي أن محمداً مخلوق عظيم من فؤاد الكون وأحشاء الدنيا وأنه جزء من الحقائق الجوهرية، وقد دل الله على أنه رسول إلى هذا العالم بعدة آيات، أهمها أنه علمه العلم والحكمة وأمره أن يدعو الناس إليهما، ثم أوجب عليه الإصغاء إليه قبل كل شيء، لأن الرسالة التي بعث بها هي الحق الصراح، وليست كلماته إلا أصواتاً صادقة صادرة من مصدراً على لا ندركه نحن، فإذا عرفنا هذا استحال علينا أن نعد محمداً هذا أبداً رجلاً كاذباً أفاقاً يتصنع الحيل ويتذرع بالوسائل طمعاً في ملك أو سلطان أو غير ذلك من صغائر الأمور وحقائر الأشياء. كلا ليس محمد بالكاذب ولا الملفق، وإنما هو قطعة من الحياة الأبدية قد تفتح عنها قلب الطبيعة، وإنما هو قبس من النور المقدس يشع من الأبدية فإذا هو شهاب قد أضاء سناء العالم أجمع (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) وهذه حقيقة تدفع كل باطل وتدفع حجة الدجالين وتدحض افتراء الكاذبين المفترين.
إن قوماً قد اعترفوا بنبوة محمد ولكنهم قالوا إنه وقع في بعض الأخطاء وليس في مقدور أي إنسان أن يثبت على محمد هفوات وأخطاء تذر بتلك الحقيقية الكبرى الظاهرة لكل عين بصيرة. وهي أن محمد رجل صادق ونبي مرسل من رب العالمين. ولا نكلف أنفسنا شططاً فنجسم الهفوات ونجعل من الجزئيات حجباً تحجب عنا نور الحقيقة الباهرة.
إن أخطر الذنوب وأكبر الآثام ليهون أمرها إذا كان لباب النفس حراً كريماً وسرها شريفاً، إذ أنها لا بد تائبة عما ارتكبت، وفي التوبة النصوح والندم الصادق ولذع الذاكرة ووخز الضمير المكفر الأكبر للسيئات، والمطهر للروح من أدران الشوائب والموبقات. إن التوبة الصادقة في نظري أكرم أعمال المرء جميعها وأقدس أفعاله كلها.
أما إذا حسب المرء نفسه بريئاً من كل ذنب، بعيداً عن كل خطأ فإنه يكون في نظري خالياً من الوفاء والمروءة، بعيد عن الحق والتقى والخير، وإن نفسه لتكون ميتة - وإن شئت فقل إن نفسه تكون نقية نقاء الرمل الجاف.
والذي يعرف سيرة نبي الله داود وتاريخه كما هو مدون في مزاميره، يرى أنه أكبر دليل وأصدق شاهد على ارتقاء النفس البشرية في مدارج المكرمات، وأن الحرب بين العقل(980/21)
والهوى إن هي إلا حرب طالما ينهزم فيها العقل هزيمة تضعضع جانبه وتتركه على شفا الانقراض وحافة الزلزال. ولكنها حرب تكون مشفوعة دائماً بالتوبة والندم، إنها حرب تستنهض العزم الصادق وتحدد قوى الإيمان بوجوب انتصار العقل وهزيمة الهوى، هذا إذا كان جوهر النفس نقياً ولبا بها حراً، فإن الخير فيها سينتصر على الشر لا محالة.
يا ويل النفس الإنسانية بين ضعفها وقوة شهواتها، وما أشد خطبها بين قوى الخير والشر، أليست حياة الإنسان سلسلة من العثرات؟ وهل في مقدرو الإنسان أن يتفادى كل العثرات وينجو منها. إن المرء لا ينهض من عثرة إلا على أخرى. وبين هذه وتلك عبرات ونحيب وبكاء وشهيق وزفرات ونشيج. فإن استطاع بعد طول المجاهدة أن يغلب على هواه كان ذلك فوزاً عظيماً،
وكان دليلاً على لباب نفسه حقاً وجوهرها صحيحاً. وفي هذه الحالة يمكننا أن نتجاوز عن الجزئيات، لأنها وحدها لا تستطيع أن تجلو لنا الحقيقة وتعرفنا معدن النفس.
إن حياة المرء العادية هي الحياة التي تكشف لنا عن جوهر نفسه وحر معدنه؛ لأنه سيكون فيها سائراً على سجيته بغير كلفة ولا تصنع.
ونحن إذا تتبعنا محمداً في حياته اليومية خرجنا بما يثبت صحة ما نقول، من أنه مبعوث الأبدية ورسول العناية القدسية.
فقد كان محمد صوت فؤاد يهيم بين الرجاء والخوف، الرجاء والأمل في سعة ورحمة ربه. . . والخوف من ارتكاب الذنوب وهول يوم الحساب رغم أنه كان متديناً شديد التمسك بدينه. . موعوداً من ربه بالمثوبة وحسن الجزاء. وقد تروى عنه مكرمات عالية وتذكر له صفات هي في الذروة من الصفات الإنسانية، فعندما مات أبنه إبراهيم قال: إن العين لتدمع والقلب ليوجع والنفس لتجزع ولا نقول ما يغضب الله. . . ولما استشهد مولاه زيد بن حارثة في غزوة (مؤتة) قال محمد: لقد جاهد زيد في الله حق جهاده، وقد لقي الآن ربه خالصاً فلا بأس عليه. غير أن أبنت زيد رأت محمداً بعد ذلك يبكي على جثة أبيها، رأت الرجل الذي دب المشيب في مفرقيه تسيل عينه دمعاً ويذوب قلبه حزناً، فنظرت إليه متعجبة، ثم قالت: ماذا أرى؟ فقال لها: صديقاً يبكي صديقه. إن مثل هذه الأقوال وهاتيك الأفعال لتوضح لنا شخصية محمد وترينا أنه كان أخا الإنسانية الرحيم الذي بعثه الله رحمة(980/22)
للعالمين، إن مثل هذه الصفات التي أمتاز بهامحمد والأحكام التي جاء بها القرآن والتعاليم التي أختص بها الإسلام، كل هذه جميعاً هي التي أخرجت العرب من الظلمات إلى النور، وأحيت بها أمة كانت هملاً بين الأمم، فجعلتها تمسك بزمام العالم تقوده إلى بر الأمان.
وهل كان العرب إلا فئة من الرعاة الجوالين خاملة فقيرة تجوب الفلاة منذ أن خلق الله العالم، لا يسمع لها صوت ولا تحس لها حركة ولا يقام لها وزن.
فلما جاء محمد من عند الله وبرسالة من قبله، بدل أمرهم فإذا الضعة قد استحالت رفعة ومجداً، والخمول شهرة والضعف قوة، وإذا الظلام نور شع سناه في جميع الأنحاء وعم نوره الأرجاء، ووصل شعاعه الشمال بالجنوب والمشرق بالمغرب، ولم يمض غير قرن من الزمان على بعثة محمد حتى بلغ العرب الذروة في المجد، وأصبح لهم رجل في الهند ورجل في الأندلس، وأضاء نور الإسلام دهوراً عديدة نصف الكرة الأرضية، وتمتع الرعايا الذين كانوا تحت حكم الإسلام بفضل الإسلام ورونق الحق ونبل المسلمين ومروءتهم وشجاعتهم وبأسهم ونجدتهم، وهدى الله الكثير منهم فشرح صدرهم للإسلام فدخلوا فيه طائعين مختارين بعد أن عاشروا أهله ورأوا ما في الإسلام من تعاليم تكفل العدل وحر الحياة لكل أفراد الرعية، وهذا حال الحكم الإسلامي ما دام الإيمان القوي - الذي هو مبعث الحياة ومنبع القوة - يملأ نفوس المسلمين ويرسم لهم مناهج الحكم وسبل الحياة.
إن في استطاعة المسلمين في أيمن العصور أن يصلوا إلى أرقى مدارج الفضل وأن يبلغوا ذرى المجد إذا اتخذوا اليقين مذهبهم والإيمان الصحيح منهجهم، وما دام الإسلام وتعاليمه رائدهم. فالإسلام نور ونار، نور يهدي إلى الحق والى الطريق المستقيم (يهدي به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) ونار تحرق كل شوائب النفوس وأقذارها فتصفي معدنها وتحيي ميتها.
ألستم ترون في حالة محمد مع أولئك الأعراب الوثنيين عندما جاءهم بدعوته، كأنما وقعت من السماء شرارة على تلك الفيافي الواسعة التي لا يرجى فيها خير ويبصر بها فضل، فإذا هي بانفجار سريع قوي يبدل حالها ويضيء ظلامها ويحيي مواتها، وإذا الرمال الميتة قد تأججت واشتعلت واتصلت نارها بين غرناطة ودلهي، وهذا أكبر دليل على صدق محمد(980/23)
وعظمته، ولطالما قلت إن محمداً شهاب أرسلته السماء وكان الناس جميعاً في انتظاره كأنهم حطب يابس، فما هو إلا أن سقط عليهم حتى تأججوا والتهبوا وصاروا خير أمة أخرجت للناس.
خاتمة:
وعلى كل حال فالدين الذي جاء به محمد دين عالي فيه للمبصرين أشرف معاني الروحانية وأعلاها، فاعرفوا له فضله ولا تبخسوه حقه، فقد مضى على ظهور محمد ودعوته مائتان وألف عام ولا يزال هو الدين القويم والصراط المستقيم لأكثر من خمس العالم، يؤمن به أهله من أعماق أفئدتهم، ولا أحسب أن أي أمة حتى أمة النصارى قد اعتصمت بدينها اعتصام المسلمين بالإسلام، لأنهم يوقنون به كل اليقين ويواجهون به الدهر والأبد، وكيف لا وهو أصلح دستور للحكم وأقوم طريق لقيادة الشعوب إلى السلام الدائم والعدل المقيم. وإن في استطاعة المسلمين ذوي الغيرة في الله والتفاني في حبه، أن يأتوا شعوب الوثنية بالهند والصين والملايو، فيهدمون أضاليلهم ويشيدون مكانها قواعد الإسلام. ونعم ما يفعلون.
إن العالم اليوم في حاجة إلى قيادة حكيمة وحكم قوي يؤمن بالمثل العليا لينقذه مما هو فيه. ولن يكون له ذلك إلا في الإسلام الصحيح وأتباع دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
تم البحث
عبد الموجود عبد الحافظ(980/24)
لا يا حضرة القاضي أنا مستأنف
للأستاذ عبد الجواد رمضان
قرأت ما كتب القاضي الفضل الأستاذ علي الطنطاوي في العدد الأخير من الرسالة، تحت عنوان: (أنا مع سيد قطب)
ولا كلام لي مع سيد قطب، ذلك الأستاذ الذي أحبه، وأجله - على غير رابطة ولا اتصال - وأشهد الإخلاص في كل ما يكتب، وإن خالف وجهة نظري أحياناً؛ ولا مع تلميذي وصديقي الأستاذ رجب البيومي، الذي آلمني - علم الله - أن يتورط في موقف لا خير فيه.
وإنما دفعني دفعاً إلى كتابة هذه الكلمة، حديث ذلك الكاتب الرائع، المؤمن حق المؤمن، الذي تطير به كتاباته إلى آفاق من الروحية، يعييني التطلع إليها عند غيره من كرام الكاتبين: الأستاذ علي الطنطاوي، وما أصدره من أحكام تعوزها (الحيثيات) ويخونها التعليل.
وقد حاولت أن أهزمه بضربة قاضية من أول جولة، حتى لا أدع له فرصة مساجلتي أو الرد علي، فبحثت في أعداد الرسالة التي تملأ البيت عن مقال له في بني أمية نشرته منذ سنتين أو ثلاث على ما أذكر، طار بهم فيه إلى عنان السماء؛ ثم أنسخه وأبعث به إلى الرسالة لتعيد نشره من جديد، فأظفر بالقلج من أيسر طريق؛ ولكن الحظ كان معه علي، فقد ذهب بحثي أدراج الرياح، بعد عناء طويل.
وإني اختصر الطريق إلى فضيلة القاضي، فألقاه وجاها، دون مداورة ولا مجاملة، ولا احتيال؛ وأقرر - في صراحة - 1 - أنه أحال، في اعترافه (بأن لبني أمية في نشر الإسلام، وفي فتح الفتوح فضلاً لا ينكره أحد، ثم إنكاره أن تكون دولتهم دولة إسلامية - 2 - وأنه أخطأ في أن معاوية هدم أكبر ركن في صرح الدولة الإسلامية حين أبطل الانتخاب الصحيح وجعله انتخابا شكلياً مزيفاً، وترك الشورى الخ الخ.
ومعاوية رضي الله تعالى عنه من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد كتاب وحيه؛ والخلافة مسألة اجتهادية لم ينص فيها الشرع على وضع معين، اتكالاً على الاجتهاد فيها لمصلحة المسلمين؛ فقد لحق الرسول بالرفيق الأعلى دون أن يقرر فيها رأياً(980/25)
خاصاً، وأستخلف أبو بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ ووضعها عمر في أهل الشورى. روى الطبري أن عمر رضي الله عنه لما طعن، قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ قال من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً استخلفته، فإن سألني ربي، قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً، استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إن سالماً شديد الحب لله. فقال له رجل: أنا أدلك عليه: عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله! والله ما أردت الله بهذا، ويحك! كيف أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته؟ وأنظر، فإن استخلفت، فقد أستخلف من هو خير مني، وأن أترك، فقد ترك من هو خير مني، وأن يضيع الله دينه، وما أريد أن أتحملها حياً وميتاً. عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم من أهل الجنة الخ.
وقد ولى معاوية بعد صراع، رجحت فيه كفته سياسياً، ثم حربياً بعد اختلاف جند علي عليه، ثم صالحه الحسن، وسلم له الأمر، بعد استشهاد الإمام فاجتمع عليه أمر الأمة، ولا تجتمع أمة محمد على ضلالة.
عن الزهري، أن الحسن بن علي لما أستخلف، كان عنده شرطة الخميس التي ابتدعها العرب، وكانوا أربعين ألفاً بايعوا علياً على الموت، وعلى مقدمتهم قيس بن سعد؛ ولكن الحسن كان لا يريد القتال، وإنما يريد الدخول في الجماعة؛ وكان قيس يخالفه في هذا الرأي، فشغب الجند بالحسن، ونهبوا سرادقه، حتى نازعوه بساطاً كان يجلس عليه، وطعنه أحدهم؛ فلما رأى الحسن تفرق الأمر عنه، بعث إلى معاوية يطلب الصلح، وخطب أهل العراق فقال: يا أهل العراق، إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي.
وقال للحسين وعبد الله بن جعفر: إني قد كتبت إلى معاوية في الصلح وطلب الأمان، فقال الحسين: نشدتك الله أن تصدق أحدوثة معاوية، وتكذب أحدوثة علي! فقال له الحسن: اسكت، فأنا أعلم بالأمر منك. ولما علم بذلك عبد الله بن عباس، كتب إلى معاوية يسأله الأمان. ودخل الناس في طاعة معاوية.
ومعاوية مجتهد، ما في ذلك من شك، وقد أقره على اجتهاده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(980/26)
رضي الله عنه، وناهيك!
قال الطبري بسنده: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه، وراح إليه في موكب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله؟! وبلغني أنك تصبح في منزلك، وذوو الحاجات ببابك؛ قال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا، ولهم عيون وجواسيس، فأدرت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزاً.
فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب!
فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، مرني بما شئت، أصره إليه. قال ويحك! ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه، إلا تركتني ما أدري: آمرك أم أنهاك.
وإذن فما فعله معاوية من صميم الإسلام، ولو كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبي الإسلام حياً لأقره عليه، وقبله منه.
فالواحدة التي بألف ليست عند معاوية - وحاشاه - ولكنها عند من تجنى عليه!
فأما ما أخذه فضيلة القاضي على بني أمية - بالجملة - من تحكم الشهوات في مصلحة الأمة، واختيار شر الولاة، وعدوانهم على الحريات، وقتلهم العلماء كالحسين وأبن جبير الخ الخ الخ.
فلعمري، دولة يعد منها: عبد الملك بن مروان، الذي كان الإمام مالك إمام دار الهجرة يحتج برأيه، والذي حمله على تأليف (الموطأ). وسليمان بن عبد الملك الذي يعد الإمام عمر بن عبد العزيز حسنة من حسناته؛ والوليد بن عبد الله الذي خفقت في أيامه راية الإسلام على ثلاث أرباع العالم المعمور وقتئذ، وهشام بن عبد الملك الذي أتم تعريب الدولة؛ أقول: إن دولة منها من ذكرت، لدولة لم تغلبها الشهوات، ولا مال بها الهوى عن الاجتهاد للأمة وللإسلام، ولا يضيرها أن كان منها بعض الأعضاء الفاسدين، فالكمال المطلق لله!
والقاضي خير من يعرف أنه لولا الحجاج وأمثاله لانتهى الإسلام بانقضاء عهد الخلفاء الراشدين. ولقد تمرد الخوارج على علي الإمام الراشد، ولم يفرقوا في ائتمارهم المعروف بينه وبين صاحبيه معاوية وعمرو؛ والله يعلم أي كارثة كانت تصيب الإسلام لو تم ائتمارهم على الوجه الذي أرادوه. فالحجاج والقسري وبنو الملهب من هؤلاء الجبارين حقاً ليسو شراً ممن سلطوا عليهم، ولا يفل الحديد إلا بالحديد.(980/27)
وإن قلبي ليبكي قبل جفني، حينما أذكر مصارع آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم وأولهم الحسين، ولكني أشرك شقيقه الحسن في دمه؛ على أن زمام الجيوش كثيراً ما يفلت من إدارة الولاة، خصوصاً في الدول التي يعظم حظ أفرادها من الحرية كالدولة العربية. وعلى الجملة فما أجتمع الناس على إمام، فإن الخروج عليه جريمة في نظر الشرع.
وليس مما يقبل من فضيلة القاضي أن العباسيين قلدوا الأمويين في شرورهم، فإن العباسيين أعظم في أنفسهم من أن يتأثروا أحداً، وهم - في نظرهم على الأقل - بيضة الإسلام وذووه. والدليل على ذلك تمثيلهم بني عمومتهم الطالبيين إلى تمثيلهم بالأمويين.
أما بعد، فإنني أختم كلمتي هذه، التي طالت رغم أنفي - بما قاله أبن السبكي صاحب جمع الجوامع في أصول الفقه - باب العقائد - ص347 جـ2:
(ونمسك عما جرى بين الصحابة من المنازعات والمحاربات التي قتل بسببها كثير منهم؛ فتلك دماء طهر الله منها أيدينا، فلا نلوث بها ألسنتنا. ونرى الكل مأجورين في ذلك، لأنه مبني على الاجتهاد في مسألة ظنية، للمصيب فيها أجران على اجتهاده وإصابته، وللمخطئ أجر على اجتهاده؛ كما يثبت في حديث الصحيحين أن الحاكم إذا أجتهد فأصاب فله أجران وإذا أجتهد فأخطأ فله أجر. اهـ بنصه.
فهل لي أن أطلب من حضرات الباحثين في هذه الموضوعات أن يعملوا بهذه (العقيدة الإسلامية) وفي شؤوننا الحاضرة ما يغنينا، عن تبديد تراثنا الخالد على وجه الزمان؟
عبد الجواد رمضان(980/28)
شعراء من أشعارهم
عدي بن زيد العبادي
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
وعلى شعر عدي بن زيد مسحة من حزن دفين. وقد يحار المرء في تعليل هذا الحزن والبحث عن أسبابه. ولا يجوز أن نقول إن هذا الحزن قد ألم بعدي بعد أن فسدت عليه الأيام وأوقع به النعمان وحبسه، لأنا نراه في شعره من قبل هذا، من يوم أن كان حراً طليقاً، صديقاً للملك ومحبوباً منه، فهو كان من قبل الوقيعة ومن بعد. وأظنك تذكر الأبيات التي أنشدها عدي النعمان حين خرجا بظاهرة الحيرة يستريضان، والتي وعظه بها، وتنصر النعمان بسببها، وتنصر أبناؤه وأهل بيته وبنوا البيع والأديار. إن أكثرشعر عدي موسوم بالأشجان والأحزان، ولا تجد غير القليل منه طليقاً من إسارها. ومن هذا القليل الأبيات التي ذكرتها لك يتغزل فيها عدي بهند ويشبب بها. ومنه أيضاً:
يا لبيني أوقدي النارا ... إن من تهوين قد حارا
رب نار بت أرمقها ... تقضم الهندي والغارا
عندها ظبي يؤرثها ... عاقد في الجيد تقصارا
ويقول في بعض أخلاق نفسه:
ألا يا ربما عز ... خليلي فتهاونت
ولو شئت على مقد ... رة مني لعاقبت
ولكن سرني أن يع ... لموا قدري فأقلعت
ألا. لا فسألوا الفتي ... ة ما قالوا وقد قمت
ولعل من بواعث هذا الحزن أن عدياً قد نشأ في غير بلاده، فقد كان منزل سيده أيوب بن محروف باليمامة في بني امرئ القيس بن زيد مناة، فأصاب دماً في قومه، فهرب ولحق بالحيرة.
ولعل من بواعثه أن زيد بن أيوب قتل في هذا الدم الذي أصابه أبوه في بني امرئ القيس، فقد قتله رجل منهم بعد أن تعرف عليه وأقتص نسبه ومنزله.
ولعل من بواعثه ما كان يراه لدى الملوك - وأنت تعلم أنه عمل لكسرى، وأنه زار قيصر،(980/29)
وأنه صديق الملك النعمان - من مآثم وجرائم ودس ومكائد، أطلع على بعضها وسمع ببعض آخر.
ولعل من بواعثه أنه كان رجلاً مثقفاً أديباً. ومثل هذا يتدبر في أحوال الناس وحوادث الأيام، ويتبصر فيها، ويفكر فيمن نزلت بهم. ومثل هذا يكون ذكي القلب مرهف الحس رقيق العاطفة. وأنت تعلم أن الارتحال يكسب الإنسان الخبرة، وتعلم أنه يصقله ويهذبه، وتعلم أنه يفسح مجال تفكيره ويزيد في معرفته. وأنت تعلم أن عدياً كان عالماً بالفارسية، وعالماً بالعربية، فهو قارئ كاتب مطلع على أخبار من تقدموه.
ولعل من بواعثه أن ملك الحيرة كان في أيديهم - في يد زيد أبي عدي - قبل المنذر أبي النعمان، ثم تولاه عنه المنذر. وعلاوة على هذا فإن أهل الحيرة ولوا زيداً أبا عدي الحيرة وأبقوا أسم الملك للمنذر بعد أن غضبوا عليه وثاروا به. فهم كانوا ملوكاً حيناً. ثم كانوا شركاء في الملك حيناً آخر. ولا يبعد أن يطمح شاب كعدي إلى مثل هذا، فإذا ما غلب على أمره، وإذا لم يظفر بما يريد، وإذا كان ملك الحيرة خالصاً للنعمان، فإن هذا قد يخلف أثراً سيئاً في نفس عدي، يدعه يجتر أفكاره وآماله، ويجعله ينظر إلى الحياة بمنظار قاتم.
يبدو أن حياة عدي لم تكن سهلة، بل كانت معقدة، وكانت لا تسير على ما يهوى. ويبدو أنه كان يبذل نشاطاً كبيراً ولكن هذا النشاط كانت تعترضه مشقات كثيرة. لقد كان يكافح غير أنه لم يكتب له الظفر ولم تدنه الأيام مما يريد. وتأمل هذه الأبيات:
وعاذلة هبت بليل تلومني ... فلما غلت في اللوم، قلت لها اقصدي
أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى ... وأبعده منه إذا لم يسدد
أعاذل من تكتب له النار يلقها ... كفاحاً. ومن يكتب له الفوز يسعد
أعاذل قد لاقيت ما يزع الفتى ... وطابقت في الحجلين مشي المقيد
أعاذل ما يدريك أن منيتي=إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
بليت وأبليت الرجال وأصبحت ... سنون طوال قد أتت قبل مولدي
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد
تأمل هذه الأبيات فستجد في نفس هذا الشاعر شياً يريد أن يفصح عنه، شيئاً تعجز الأبيات عن احتماله والإبلاغ عنه، معنى مخنوقاً من طول ما توارت عليه الأيام بالطعن والتنكيل.(980/30)
ثم تأمل هذه الكلمات (الرشاد - النار - الكفاح - الفوز - بليت أو أبليت الرجال - فلا أنا بدع من حوادث تعتري) هذه الكلمات القصار دالة على كفاح هذا الرجل في حياته، وسعيه للفوز والنجاح، ولكنه لقي من الحوادث العنت والقسوة، وثنته الأيام عما يريد ويأمل.
لقد تربى عدي في أحضان النعمة، وخالط الأغنياء والموسرين والملوك، وكتب للملوك وسفر لهم. وكان بعيد مطارح الآمال، لأنه رأى أباه شريكاً في الملك، بعد أن كان الملك له خالصاً. وكان قارئاً كاتباً ملماً بكثير من الأخبار والأحداث. وكان رقيق الحاشية وذا طبع مهذب أنيق. وكل هذا لم يكن من وسائل الترفيه عنه بل كان من العوامل والبواعث التي تبتعث أشجانه وأحزانه، والتي أضفت على شعره لوناً قاتماً بائساً.
وإذا عرفت أنه فيما بعد قد أصهر النعمان بزواجه من هند، وأن هذا الزواج لم يكن موفقاً للأسباب التي أسلفناها لك، وإذا عرفت أن أعداءه لم يهادنوه بل اتخذوا كل ما وقعوا عليه وأولوه تأويلاً سيئاً للإيقاع به. وإذا عرفت أن أعداء عدي أوقعوا الشك في نفس النعمان حين زعموا أن عدياً يرى أنه صنيعته وأنه ولاه ما ولاه. وإذا عرفت هذا كله عرفت أن حياة عدي من قبل أن يغضب عليه النعمان، ومن بعد، كانت شائكة مثيرة محرجة، لا تدع صاحبها يتنسم راحة ولا يعرف قراراً.
كل هذا أنعكس على شعر عدي، فخرج حزيناً بائساً شاكياً، وترجم عن نفس لم تجد في الحياة منافذ لتحقيق الآمال، فشكت أحوال دنياها في أبيات حزينة. ولذلك يكرر عدي قوله عن صروف الأيام وأحداثها، وما توقعه بالإنسان من هم وحزن وقتل للآمال وغبن في الحقوق. وإذا كان هذا شأنها فعليه أن يرشد نفسه، وأن يتدبر أفاعيلها، وألا يغتر بها:
لم أر مثل الفتيان في غبن ال ... أيام ينسون ما عواقبها
ينسون إخوانهم ومصرعهم ... وكيف تعتاقهم مخالبها
ماذا ترجى النفوس من طلب ال ... خير وحب الحياة كاربها
يظن أن لن يصيبها عنت الد ... هر وريب المنون صائبها
ويقول أيضاً:
كفى زاجراً للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
وعدي قد طوف بكثير من البلاد. وعرف من أخبار الروم والفرس والعرب الشيء الكثير.(980/31)
وهو قد قرأ عن الغابرين الأول، وأمتحن الدنيا حتى تكشفت له عن لون قاتم وقد ذكر في شعره بعض ما عرف. وأظنك سمعت عن قصة الزباء وجذيمة وقصير الطالب بالثأر. وهذا عدي يقصها علينا في شعر له، ويذكر كيف خدعت الزباء جذيمة وأردته، وكيف قام قصير يطلب بالثأر حتى جدع أنفه بالموسى، وكيف ساق إليها العيس بما دهاها وأذلها، وكيف جعل الفرسان في مسوح الرهبان، على حين لم تتوقع من قصير هذا أذى ولا ضراً على فرط حذرها من الناس:
أطف لأنفه الموسى قصير ... ليجدعه، وكان به ضنينا
فأهواه لمارنه، فأضحى ... طلاب الوتر مجدوعاً مشينا
وصادفت امرأ لم تخش منه ... غوائله، وما أمنت أمينا
إذا ما أرتد عنها أرتد صلباً ... يجر المال والصدر الضغينا
وقد هلك جذيمة وهلكت الزباء. وهكذا الحوادث والمنايا لا يعفين أحدا من الابتلاء بهن، وإن كان مجدوداً فهن يتركنه إلى حين:
وأبرزها الحوادث والمنايا ... وأي معمر لا يبتلينا
إذا أمهلن ذا جد عظيم ... عطفن له ولو في طي حينا
ولم أجد الفتى يلهو بشيء ... ولو أثرى، ولو ولد البنينا
وأقرأ هذه القصيدة فهي تكشف أيضا عن تشاؤم عدي وشجنه، وسوء ظنه بالأيام. وتدل
على مدى معرفته بما حوله ومن حوله. وتدل على إلمامه بشؤون كثيرة:
أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأي ... أم؟ بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن؟ أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير؟
أين كسرى؟ كسرى الملوك أنوشر=وان؟ أم أين قبله سابور؟
وبنو الأصفر، الكرام، ملوك الر ... وم، لم يبق منهمو مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبي إليه والخابور
شاده مرمرا، وجلله كلسام ... فالطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون، فباد ال ... ملك عنه، فبابه مهجور(980/32)
وتذكر رب الخورنق، إذا أشر ... ف يوماً، وللهدى تفكير
سر ماله، وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسدير
فأرعوى قلبه، فقال: وما غب ... طة حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح، والملك، والإم ... ة، وأرتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور
للبحث صلة
محمود عبد العزيز محرم(980/33)
الوجودية في نظر التحليل النفسي
للأستاذ شاكر السكري
أثبت التحليل النفسي وجوده بين مختلف العلوم والآداب والفنون، لا بل تخطى ذلك كله وتقدم بزهو نحو المكانة اللائقة به في عالم الطب النفسي! وليس هناك من ينكر الخدمات الجبارة التي حققها هذا العلم في خدمة الإنسانية، تلك الخدمة التي تجلت فيها المعرفة الخارقة في كشف أغوار النفس البشرية وما تنطوي عليه من ألغاز وأمور معقدة! كادت أن تفتك فتكاً ذريعاً فيها، كما أثبت لنا هذا الطب الحديث الأخطار النفسية التي كانت تغزو البشرية في معاقلها. . . وكان الفضل الأكبر يعود بذلك (للأستاذ فرويد) ومدرسته الفنية التي خدمت ولا زالت تخدم المجتمع الإنساني في مجال تقدمه ورقيه، هذه لمحة وددت أن أستهلها في بحثي هذا لما لها من علاقة وثيقة بين الموضوع الذي سأتناوله.
سبق لي وتحدثت إلى قراء (الرسالة) الغراء في بعض أعدادها عن (فلسفة الوجودية) وما تحويه من أفكار، وتقوم عليه من آراء، سفسطائية كوميدية، تكاد تلقي بسامعيها من الضحك إلى الوراء!
ولست الآن بصدد كوميديتها، بل في تحليلها تحليلاً صادقاً لكشف ما تحتفظ به من سموم مميتة ومخدرات (مورفينية) لتحقن بها أجسام الناشئة من الشباب الذين لم يتجاوزا بعد دور المراهقة، وربما تعدوا هذا الدور قليلاً! غير أنهم لم يستطيعوا من ضبط أعصابهم والسيطرة على عواطفهم الجامحة.
أقول: الشباب وأقصد بالطبع الفتيان منهم والفتيات
لعل مدينة (النور) تذكر الأدوار التي لعبتها في إغراء الناس من مختلف الطبقات والقوميات، وأخص بالذكر منهم الغرباء النازحين إليها والمقيمين، ولم تقتصر في إغرائها هذا على نفسها بل تعدته إلى نفوس الآخرين.
ولعا (فرويد) غير مرتاح لما يسمعه عن هذه المدينة الطائشة، والمذاهب الانحلالية القائمة فيها.
ويعتبر (فرويد) حسب نظرياته الطيبة أن المذهب (الوجودي) مذهب لحمته التفسخ وسداه الاضمحلال الخلقي، لأنه نشأ في وسط متفسخ بلغت به الفوضى الخلقية حد الجنون! لأنه(980/34)
ترعرع بين الفترات المظلمة التي خلفتها وتخلفها الحروب البربرية!
ولما كانت هذه الحروب ذات تأثير سيئ على المجتمعات من حيث شكلها ومادتها، ولما تحدثه فيها من انعدام النظام وتفشي الفوضى والأمراض المختلفة بين السكان، كان معنى ذلك أن الفرد أخذ يحس إحساساً قوياً بانعدامه في هذا الوجود المجنون، كما أنه بات لا يشعر قط بوجوده، ولأجل ذلك أخذت فكرة انغماس الفرد في ذاته، وسعياً لتحقيق رغباته، ذلك السعي الذي جعل منه إنساناً (بوهيميا) يعيش لنفسه في جو من الخلاعة والدعارة، كأنه يريد بذلك أن يثبت وجوده (بسلوكه الشاذ) على طبيعته وطبيعة الكائنات المخلوقة الأخرى، وهو بذلك يسلك الطريقة الشائعة (خالف تعرف). هذا من ناحية، أما النواحي الأخرى التي أوجدتها ظروف الحرب، هو الكبت الجنسي الحاصل عند الجنود من جراء بعدهم عن المرأة في ميادين القتال، ولعل هذا البعد يستغرق سنوات طويلة في هذه العزلة الكئيبة التي تخلف في نفوسهم رد فعل عنيف لا يستطيعون معه كبت عواطفهم، وكثيراً ما أدى هذا الكبت إلى انتشار الشذوذ الجنسي بين المحاربين.
كل ذلك أثر من آثار الحروب المدمرة! ولعلنا أدركنا وندرك كم من الحضارات الزاهرة اندثرت! وكم من المدن النضرة أصبحت أثراً بعد عين! وكم من المجاعات الفظيعة انتشرت تأكل بعضها بعضاً، وكم من الحدائق الغناء والمروج الجميلة أضحت أرضاً جرداء لا ماء فيها ولا زرع! بغض النظر عن الكوارث الجسيمة التي يصاب بها المجتمع البشري والتي أوردت بملايين من العوائل إلى البغي والإثم! من جراء الفقر وغزو الفاتح لها. . .
ولعلنا أيضا لم ننس ما حل في أوربا وخاصة في الحربين العالميتين (1914 و1939) من تهتك الفاتحين بعضهم لبعض، وكيف أن الجنود الأمريكيين والإنكليز كانوا يحصلون على بغيتهم من الفتيات العذارى بقطعة من (الشكولاته) أو غيرها.
هذه صورة مصغرة لما حدث ويحدث من جراء هذه الحروب الوحشية!
فلا غرابة إذاً من ظهور مذاهب انحلالية تدعو جهدها لإقامة (الدهاليز الأرضية) وهي ملاجئ تمثل فيها أبشع ما تصوره الغريزة من همجية!
كما أنها تدعو ضحاياها للعيشة الهمجية كما يصوره لها عقلها الباطن (اللاشعور) وكما(980/35)
ترتضيه غرائزها الجنسية!
ولا يخفى أن العقد النفسية الكامنة في نفوس معتنقي هذه المذاهب تكاد تسيطر تامة على العقل الواعي (الأنا) وتشل حركته لكي يبدأ (اللاشعور) عمله المبعثر ليجمع شتات الأفكار والذكريات القديمة المكبوتة فيه، ليخرجها على شكل (أفعال منقوصة) و (عقائد قاسية) أما الشعور بالنقص الذي يغمر نفوس هؤلاء لم يكن إلا وليد البيئة.
يتبع
شاكر السكري(980/36)
رسالة الشعر
حريق القاهرة
للأستاذ عثمان حلمي
هذي بلادك ذاكر أم ناسي؟ ... أم حرت ما بين الرجا والياس؟!
زحمتك فيها الحادثات ولم تدع ... لك غير محض الخوف والوسواس
فوقفت مشدوه الفؤاد كأنما ... تجري مقادرها بغير قياس
وكأنما الدنيا سوى الدنيا التي ... عاهدتها والناس غير الناس
ماذا رأيت؟ - وما لأمرك حائراً ... ومن الدموع على المصاب مواسي
أسألت ما تلك الطلول فلم يجب ... من ناطق فيها سوى أدراس
وعرفت كيف جنى عليها من جنى ... من كل جبار الحفيظة قاسي
فإذا المغاني الغاليات كأنها ... لم تغن قبل خرابه بأناس
وإذا الديار الشامخات كأنها ... في العين مهجور من الأرماس
من كل منهار الجدار كأنما ... قامت جوابه بغير أساس
دكت بما فيها وأصبح أهلها ... نهب البلى وتصرف الأحراس
وكأنما أيدي المغول تظاهرت ... فيها بغير هدى ولا نبراس
فرأيت من بغداد صورة كربها ... في مصر - بل في قلبها الحساس
في كل منعرج مكان خافق ... أو موحش خال من الإيناس
وبكل ناحية دمار شامل ... ومدامع مهراقة ومآس
يا للنفوس ويا لها من فتنة ... جنت جنون جوامح الأفراس
إبليس أوقدها وأشعل نارها ... وأثارها هذا العين الحاسي
وكأنه قد كان أودع سره ... من قبل صدر موسوسخناس
وكأنه والنار تزأر صارخ ... أو نافخ في قسوة وحماس
فإذا بأبواب الجحيم تفتحت ... وطغى ركام دخانها الجواس
وتشققت سحب الدخان بلامع ... كالبرق نور ظلمة الأغلاس
ما بين محمر ومصفر جلا ... منها اربداد سحابها العاس(980/37)
وإذا القلوب لدى الحناجر جاوبت ... في الجوف خفق تقطع الأنفاس
من كل من لم يدر أية حيلة ... لنجاته إلا الرضى باليأس
أو كل مفتقد صريع قضائه ... يبكيه مسكوب المدامع آسي
بطشت به النيران بطشة غادر ... كالوحش بالأنياب والأضراس
والقوم إلا الأشقياء لهولها ... غشيتهمو سنة من الإبلاس
وقفوا حيارى لا يرون بأعين ... أجفانها نعست بغير نعاس
وتقيدوا أن لا نجاة لهول ما ... وقعت عليه العين من أرجاس
حتى تداركها المليك بحكمة ... محمودة العقبى وعزم رأسي
فإنجاب من قلب الكنانة رعبها ... وأنزاح ما أضنى النهى من باس
عثمان حلمي(980/38)
المسرح والسينما
كدب في كدب
مسرحية جديدة للأستاذ محمود تيمور بك
للأستاذ علي متولي صلاح
للأسرة التيمورية فضل على الأدب عريق، فهم منذ أزمان بعيدة سدنة الأدب في هذه البلاد، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، ولا يفتئون يضيفون إلى المكتبة العربية الذخائر والكنوز، ويقدمون لها الآثار الجليلة النافعة. . . ونحن اليوم بصدد الحديث عن أثر من هذه الآثار التي تغمر الأدب العربي الحديث، وهو تمثيلية (كدب في كدب) التي تعرض الآن بدار الأوبرا الملكية، وتنهض بها فرقة المسرح المصري الحديث.
والذي يبدو من وراء سطور هذه المسرحية، أن الأستاذ الجليل محمود تيمور بك ألفها من جراء أزمة قامت بنفسه بفعل قوم أنكروا ما أسدى إليهم من أياد بيضاء، وجزوه عليها جزاء ستمار!! وأغلب الظن أنه لم يكن يعني بشخصية (فواز بك) في هذه المسرحية سوى نفسه، وإن تعمد إخفاء بعض الملامح وتغيير بعض السمات! فإن (فواز بك) رجل سمح طيب الخلق، وتلك خلال نعرفها ويعرفها الناس جميعاً على الأستاذ محمود تيمور بك، نهض بما توجبه المروءة وما يقتضيه الخلق القويم الكريم، فكان جزاؤه العقوق والجحود والنكران، ولكن الأستاذ محمود تيمور بك - خشي فيما بينه وبين نفسه - أن يحس الناس ذلك، وغلبه حياؤه المعروف، فأسرع إلى طمس بعض المعالم لكي ينصرف الناس عنه! ولهذا فإن الفطن اللبيب يستشعر شيئاً من التناقض في شخصية (فواز بك)، ولكن إذا ظهر السبب بطل العجب!
ولا تقوم فكرة المسرحية على هذا المعنى، ولكنها تقوم على فكرة أن الكذب قد ينتهي إلى الصدق، ورب جد ساقه اللعب! فهما شاب وشابة تعرف كل منهما إلى صاحبه في صورة لا تمثل حقيقته، فالشاب فقير يظهر لها الغنى الطائل والثروة العريضة، وهي كذلك تماماً! واستمرت العلاقة بينهما على أساس هاتين الصورتين الزائفتين، ولكن كل خاف سيعلم! وحبل الكذب قصير! وإذا بالحقيقة تنكشف لهما، ولكن الحب كان قد سبق هذه الحقيقة إلى(980/39)
قلبهما، وصار هو الحقيقة الواقعة! فلم يضعف هذا التكاشف شيئاً منه ولم يطفئ سعيره، بل أستمر الشابان على ما بهما من حب قام أول ما قام على الكذب والبهتان!!
هذه هي فكرة المسرحية، وهي فكرة كما يرى القارئ حسنة ذات قيمة كبرى عند علماء النفس، ولكنها عند رجال المسرح لا تفي للنهوض بتمثيلية كبرى تعرض على الناس في نحو ثلاث ساعات، ولهذا كثرت من حولها الحوادث التي لا تكاد تتصل بها، وازدحم فيها الأشخاص الذين تستغني هذه الفكرة عنهم، ولا تريد منهم عوناً أو مساعدة! وانطلقت الألسن بكلام لا تراه هذه الفكرة لها ولا عليها، ولكنها ترى بينها وبين (كمال الانقطاع) كما يقول علماء البلاغة!
والمسرحية مكتوبة باللغة العامية، وقد أخبرنا الأستاذ الكبير مؤلفها أنها ستطبع بالعامية وبالفصحى، ولكننا نسارع فنشير على الأستاذ الكبير أن يكتفي بالفصحى. . . إننا نريد من الأستاذ محمود تيمور بك العضو في المجمع اللغوي أن يؤدي إلى المسرح المصري خدمة طالما تمنيناها له، وهي تطويع اللغة العربية وتقريبها إلى العامية، مع المحافظة على سلامتها وصحتها، ومع عدم الانحدار بها إلى هذه العامية الكريهة البغيضة الشائهة. . . هذا مطلب نرجو أن يحمل مئونته الأستاذ محمود تيمور بك، ولقد تحقق الكثير منه على يدي صديقنا الأديب الكبير الأستاذ علي أحمد باكثير فلانت لغته كثيراً في مسرحياته الأخيرة، وصارت سهلة رقراقة بريئة من التفاصح، بريئة كذلك من الإسفاف إلى مستوى العامية. . . نرجو جاهدين أن يتم الأستاذ الكبير محمود تيمور بك تحقيق هذا المطلب العزيز، ونرجو جاهدين أن ينأى بجانبه عن استعمال اللغة العامية، وليس ذلك عليه بعزيز.
وكنت أود ألا يكون في المسرحية مثل هذا الشذوذ الذي وقع فيه الزوج (كريم بك) مع ابنة زوجته (كريمة) فإنه شيء ليس في طباع الناس إلا من ابتلاهم اللهبالشذوذ والانحراف، إذ ليس مألوفاً أن نرى الرجل يهم بابنة زوجته كما فعل كريم بك إلا إذا كانت به لوثة أو كان به انحراف عارم، ومثل هذا الانحراف العارم لا يجوز عرضه على المسرح على أنه شيء طبيعي عادي!!
وكان يجمل أن يلقي كثير من الضوء على علاقة (فواز بك) بمن يحيطون به، فإن هذه العلاقة غامضة كثيراً. . .(980/40)
أما عن التمثيل والإخراج فالحق أن أعضاء هذه الفرقة قد شبوا عن الطرق كثيراً، وثبتوا على خشبة المسرح ثباتاً حميداً، فأذكر منهم - على سبيل المثال - الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني إذ يقوم بدور (فواز بك) في دقة وإلمام تام وتؤدة، وإن كان يبدو أصغر مما ينبغي، والأستاذ عدلي كاسب فقد أتسع بيانه النفسي حتى استطاع أن يلعب أدواراً عديدة يبلغ في كل منها شأواً بعيداً، فقد رأيناه في (مريض الوهم) ورأيناه في (مسمار جحا) ثم رأيناه اليوم في دور (العمدة) عمدة حقاً ولكني أرجو ألا يسرف في المبالغة! وأن يحد قليلاً من حركاته الجسمية، وأن يمضي إلى التلفزيون سريعاً بل واثباً عندما يدعوه لحادثة قتل، وألا يبطئ ويتثاقل كما رأيناه!!
ولست أستطيع أن أذكر الممثلين واحدا واحداً وهم ثمانية عشر ممثلاً وممثلة وإلا ضاقت صفحات الرسالة دون هذا الغرض! ولكني أنوه بصفة خاصة بالآنسات زهرة العلى بكير، وسناء جميل، وبالأساتذة نور الدمرداش وأحمد الجزيري.
أما الإخراج فلي عليه ملاحظة أرجو أن يشفي الأستاذ الكبير زكي طليمات ما بنفسي منها، وإني لأتوجه إليه متسائلاً مستفيداً:
كيف يتفق أن يقع في (البار) - وهو محل عام يغشاه الناس جميعاً - أقول كيف يتفق أن يقع فيه العناق والقبلات أمام الخدم وفي عرضة للداخلين والخارجين؟ ولماذا لا يكون هذا (البار) جانبياً ليمكن أن تقع هذه الأشياء بعيدة عنه؟؟ وهل عجزت الحيل المسرحية عن إيراد ما يصح معه هذا العمل؟؟ هذا - ومما يقتضيه الحق أن أذكر أن الأستاذ ينفخ في مسرحياته حياة زاخرة فياضة، ويملؤها بالصور والحركات والإشارات التي تجعلها تموج بالحياة النابضة، وعندي أنه يتمم أعمال المؤلفين بهذا الذي يفعله، وليس المخرج الحق من ينقل التأليف نقلاً آلياً فوتوغرافياً، ولكنه من يضيف إليه ثروة فوق ثروته، ويمده بقوة فوق قوته، وهذا ما يفعله مخلصاً الأستاذ زكي طليمات.
علي متولي صلاح(980/41)
الكتب
الصعلكة والفتوة في الإسلام
تأليف الدكتور أحمد أمين بك
للأستاذ عبد العزيز محرم
نحن في حاجة إلى مثل هذه الكتب أو الكتيبات التي ترسل أضواء كاشفة على بعض المعاني التي ورثناها عن القرون الماضية، فهذه المعاني هي الميراث الذائب في دمائنا، يوجهنا ويرشدنا ويوحي إلينا. وكل أمة تعرف ما اختلج في ضميرها، وما استسر في أعماقها، وما يبتعثها دائما إلى أنواع معينة من السلوك، تسترشد في طرائق الحياة الصحيحة، لأنها تجربتها على مدرجة الزمن وانصرام الأعوام، قد عرفت الشيء الكثير عن عوامل الرقي وأسباب الانهيار.
ونحن الآن في زمن نتلفت فيه كثيراً إلى الماضي نسترشده ونستلهمه، ونسأله العون والتوفيق. وإذا عرفنا معانينا الموروثة، وأخلاقنا الكريمة، ومثلنا الرفيعة، وما طرأ على كل ذلك من عوامل تقدم أو من عوامل نكوص، استطعنا أن نتبصر في موقفنا الراهن وحياتنا الحاضرة.
وليس على وجه التاريخ أمة عاشت منقطعة عن ماضيها، بل الحياة دائمة مستمدة من ميراث الماضي، ومن ضرورات الحاضر، ومن آمال المستقبل. والأمم والأفراد في هذا المجال سواء. واليوم وليد الأمس. والغد وليد اليوم وحفيد الأمس. والأمة التي تتنكر لماضيها لا تتمكن من السير ولا تتمكن من الرقي. وقد تندفع إلى مهاوي الضلال والدمار.
على هذا الأساس نرحب بكتاب (الصعلكة والفتوة في الإسلام) لأنه يكشف لنا بعض تقاليدنا وآدابنا ومعانينا التي ورثناها عن أجدادنا السالفين، ولأنه وضع أيدينا على مواضع الرشاد ومواضع الخيبة في حياة هؤلاء الأجداد، ولأننا بهذا نستطيع أن نرسم لأنفسنا طريقاً لا حباً. يوصلنا إلى أهدافنا، ويدفعنا إلى غايتنا، ويستشرف بنا إلى حياة رفيعة مأمولة، ويخلصنا من أصر ما نحن فيه من انحلال وضعف وتخاذل وذلة.
وقد ذكر الأستاذ الدكتور أحمد أمي بك معاني الفتوة. فقال إنها الشباب. وقال إنها القوة. وقد(980/42)
تلونت الكلمة بلون البيئة، فإن إنساناً قد يرى في الفتوة أنها كرم وشجاعة كطرفة أبن العبد، وقد يرى غيره أنها العقل والفصاحة والرزانة كزهير، وقد يرى ثالث أنها كتمان السر وعدم البوح به كمسكين الدارمي.
ويرى الدكتور أن الفتوة أثر الغنى، وأن الصعلكة أثر الفقر، ومن فتيان الجاهلية طرفة بن العبد وامرؤ القيس. ومن صعاليكها السليك بن السلكة، وعروة بن الورد، والشنفري، وتأبطشراً. وهؤلاء كانوا فقراء صعاليك. وطرفة وامرؤ القيس كانا غنيين من الفتيان.
واستعرض الدكتور مثل الصعاليك ومثل الفتيان استعراضاً تاريخياً تحليلياً من العصر الجاهلي، إلى عهد الخلافة الرشيدة، إلى العهد الأموي، إلى العهد العباسي، إلى أزمنة المماليك، إلى العصر الحاضر في مصر. وبين الآداب الرفيعة والتقاليد الرائعة للفتوة والصعلكة. وبين كذلك ما لحقها من ضمور وهزال وشوائب أضعفت من أثرهما، وقللت من شأنهما في بعض الأوقات.
وقد استشهد بكثير من الأشعار في العصر الجاهلي على ما يقول. أو قد استخلص كثيراً من معلوماته في هذا الموضوع من أشعار الجاهليين. فذكر شعراً لطرفة. وذكر شعراً لتأبط شراً. وذكر شعراً للشنفري. وذكر شعراً لعروة أبن الورد.
وعروة بن الورد هو المثال الرفيع للصعلكة الجديرة بالتقدير والاحترام. إذ كان اشتراكياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وكان يغير على الأغنياء البخلاء ليرد أموالهم على الفقراء المحاويج. فهو لم يكن يغير لغرض ذاتي؛ بل لغرض تهذيبي. وآخر اجتماعي. الغرض التهذيبي أن يؤدب هؤلاء الأغنياء الذين يضنون بأموالهم ورفدهم على المحتاجين والمساكين. والغرض الاجتماعي أن يمول كثيراً من الذين يعجزون عن الكسب لمرض أو شيخوخة أو عجز. أما هو نفسه فلم يكن يظفر من غنائمه ولا من نهبه بأكثر مما كان يظفر به شيخ قعيد أو عاجز ضرير.
(فهو فقير يتحسس أخبار الأغنياء، فمن وجده كريماً سخياً خلاه، ومن وجده شحيحاً بخيلاً غزاه، وفرق ما جمعه على زملائه بالعدالة لا يرضى بشيء لنفسه إلا برضاهم. فمثله مثل برنادشو في إحدى رواياته إذ هاجم قوم سيارة فخمة يركبها أغنياء مرابون. فقال الهاجمون، نحن سراق الأغنياء، وأنتم سراق الفقراء. وكما فعل تولستوي إذ كان غنياً(980/43)
واسع الغنى، فوزع ثروته على فلاحيه وعاش فقيراً. غاية الأمر أن عروة هذا سبقهما في النبل بنحو ألف سنة.
(والخلاصة أننا نرى في الحياة الجاهلية البدوية نوعين متميزين من الشبان: (أبناء الذوات)، قد يجتمعون ويتخذون لهم محلاً مختاراً، ويعيشون عيشة إباحية، فيها خمر، وفيها غناء، وفيها نساء. وهم مع ذلك كرام، يضيفون من نزل بهم، ويغدقون عليهم من خيرهم. وتقابلهم طائفة أخرى من أبناء الفقراء يسمون الصعاليك، يشاركونهم في الكرم والاشتراكية، ويخالفونهم في أن حياتهم ليست حياة دعة واستمتاع، ولكن حياة غزو وسلب ونهب، وتوزيع المال على أمثالهم. يضاف إلى ذلك فرق آخر وهو أن الفتيان يعطون ما يعطون وهم مترفعون، والصعاليك يعطون ما يعطون وهم يعتقدون أنهم مع زملائهم متساوون. وإن شئت فقل إن الفتيان يعطون ما يعطون عطفاً وتفضلاً، والصعاليك يعطون ما يعطون أداء لما يرونه واجباً).
وفي عهد الخلافة الرشيدة أرتفع الدين بمعنى الفتوة. ورفع الإماء والعبيد إلى مقام الأحرار، فسيدنا إبراهيم في حجاجه قومه فتى، وأهل الكهف فتية آمنوا بربهم، والعبد والأمة ليسا عبداً ولا أمة، إذ (لا يقوا أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي) ولا يجوز أن تكرهوا (فتياتكم على البغاء).
وعلى العهد الأموي نجد نكوصاً إلى فتوة امرؤ القيس وطرفة بن العبد. وهب فتوة الخمر واللهو والعكوف على الغناء. وقد يكون فيها إكرام للناس وقرى للضيف وإيواء للغريب. وقد يكون من هؤلاء الفتيان اللاهين من يخرج للصيد والطرد بعدده وآلاته، وهذه الفتوة الموروثة جاهلياً، المبعوثة أمويا، تأثرت بما أخذه الفتيان عن الفرس من اللعب بالبندق، وهي كرات صغيرة من طين أو حجر أو رصاص يرمى بها على قوس لصيد طير أو نحوه. ثم حشيت بالبارود. ومن هنا سميت البندقية.
وكما كانت الفتوة في العهد الأموي متأثرة بفتوة طرفة وفتوة الفرس، كذلك كان بعض ألوان الفتوة في العهد العباسي. ونجد لونا آخر وهو فتوة المتصوفة؛ وفي هذا يقول محي الدين بن العربي:
إن الفتوة ما ينفك صاحبها ... مقدماً عند رب الناس والناس(980/44)
إن الفتى من له الإيثار تحلية ... فحيث كان فمحمول على الرأس
ما إن تزلزله الأهوال قوتها ... لكونه ثابتا كالرأس في الرأس
لا حزن يحكمه، لا خوف يشغله ... عن المكارم حال الحرب والبأس
أنظر إلى كسرة الأصنام منفرداً ... بلا معين. فذاك اللين القاسي
وفي البيت الأخير إشارة إلى فتوة إبراهيم عليه السلام
وكذلك نجد في العهد العباسي لونا ثالثا من الفتوة وهو فتوة العيارين والشطار، وكانت تستخدم في السلب والنهب. وثمة لون رابع من الفتوة، وهو الفتوة المنعقدة بين جماعة لسبب ما كغربة، وكما حدث من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في عهد النبوة الكريم. وهناك فتوة الإسماعيلية كالحسن الصباح وفتيانه، وأيضاً فتوة الحروب الصليبية كصلاح الدين الأيوبي، وأسامة بن منقذ، ونور الدين محمود بن زنكي.
وقد تأثرت الفتوة في العصر العباسي بفتوة الفرس وفتوة الترك، علاوة على تأثرها بالفتوة العربية، وعلاوة على تأثرها بالعناصر الدينية.
ومن ميزات الفتوة أنها (تتضمن الشجاعة، والإتيان بأعمال البطولة، والكرم والسماحة والعفو عند المقدرة، واحترام المرأة، ووفاء العهد وحماية الضعفاء)، وكذلك يكون الفتى معروفاً بالسخاء والشجاعة، والزهد والعبادة، وإطعام الطعام للمساكين، وإكرام العلماء والفقهاء، وحسن سيرة وصدق الحديث. قليل الكلام، لا يسمع منه أحد كلمة كذب ولا غيبة. لا يخوض في كلام لا طائل تحته، آمر بالمعروف ناه عن المنكر)
وأنت ترى أن هذه الصفات الكريمة والأهداف النبيلة لم تتحقق في كل ألوان الفتوة التي ساقها الدكتور أحمد أمين بك، وهي إن تحققت في الفتوة الدينية، أو الفتوة الصوفية، أو فتوة صلاح الدين وأسامة بن منقذ، فهي قاطعاً لم تتحقق في فتوة العيارين والشطار، ولا في فتوة العابثين اللاهين.
ولعله كان من الأجمل أن تعدد ألوان الفتوة بالنظر إلى أهدافها، فقد يهدينا هذا إلى معرفة الفتيان حقيقة هؤلاء الذين يجمل بهم وبنا أن نذكرهم دواماً ليكونوا أمثلة للهداية والنور والحق والطهور. وبهذا نحفظ مقاماتهم، وذكرهم عند الاقتران بهذا الخليط العجيب من الفوضى والإباحة الذي أنساق إليه كل لاه عابث مغلوب. وبهذا نضع كل إنسان في مكانه(980/45)
من الفتوة الصادقة حتى نربأ بصلاح الدين وأسامة بن منقذ ومحي الدين بن العربي عن دنس قرنهم بالعيارين والشطار في إطار الفتوة. وحتى نحفظ لهذا الاسم الجميل معناه الجدير بالاحترام والتقدير.
ولم يذكر المؤلف فتوة المسلمين الأولين في العهد الرشيد التي تمثلت في فروسية الفاتحين كأسامة بن زيد، وخالد بن الوليد، وعلي بن أبي طالب.
ويدو أنه لم يكن من اللازم، في هذا العصر الرشيد على الأقل، أن يكون الفتى في سن الشباب. والمثال على ذلك قصة إبراهيم التي كسر فيها الأصنام، والتي أحرقوه بسببها، والتي سموه فتى فيها. ومن سياق هذه القصة - كما وردت في سورة الأنبياء - نعرف أنها بعد بعثته بنبوته، أي بعد الأربعين، وهي السن التي يرسل فيها الرسول إلى قومه. وليسمن السائغ أن نقول إن الإنسان نبياً أو غيره، في هذه السن، يكون في شبابه. بل هذه فاتحة الكهولة التي يستحصف بها العقل وتصفو النفوس.
وحين ننتقل إلى العهد الأموي نجد مؤلفنا الجليل لم يذكر الخوارج. وقد كانوا من الفتيان حقاً وصدقاً. وقد وهبوا كل ما يملكون لمبدئهم الذي رأوه حقاً وصواباً.
ولم يذكر أيضا فتوة أشياع علي والحسين، مع أنهم خرجوا على ملك بين أمية العضوض راجين رد الحق إلى نصابه ومصادره، ولقوا في سبيل ذلك القتل والتمثيل والتشريد.
وذكر الدكتور المؤلف فتوة المماليك؛ ولكن يهمنا نحن المصريين هذه الفتوة التي تجلت في موقفين رائعين: الموقف الأول هو انهزام الصليبين أمام المماليك والمصريين في المنصورة.
والموقف الثاني هو تفرق التتار في عين جالوت أمام المماليك والمصريين أيضاً. وهاتان الموقعتان حفظتا العالم الإسلامي من الضياع بفضل فتوة المماليك الرائعة.
وعرض المؤلف للإخوان المسلمين، وهم جماعة أكثر أتباعها من الشبان المسلمين. بدءوا أمرهم بتعليم الشبان الفضائل عن طريق الدين. والحق أن الناظر إليهم كان يراهم أميز من زملائهم من حيث القوة والرجولة والتخلق بالأخلاق الحسنة. ثم دعتهم الظروف المحيطة بهم أن يتحزبوا. فتظاهروا. وأيدوا الحكومات أحياناً وعارضوها أحيانا تبعا للتعليمات. ثم تطوروا تطور آخر، فكان منهم محاربون، وكان منهم فدائيون.(980/46)
ومن رأي الدكتور أن الأخوان ضعفوا عما كانوا عليه. وفي رأيه أن قتل الشهيد حسن البنا كان جزاء وفاقا لما فعل الأخوان من قتل المرحوم النقراشي. وقد تكون للتاريخ كلمة غير هذه الكلمة حين تنجاب الحجب عن الألغاز الاستعمارية والأحاجي السياسية، وحين يعرف لماذا شرد وعذب وأعتقل شباب مسلمون لا هم لهم إلا نصرة دينهم على المستعمر الغاشم، وإلا نصرة دينهم على الانحلال والرأسمالية البغيضة.
لقد كانت رحلة شائقة من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث أفدت منها كثيراً، واستمتعت كثيراً، وعرفت ما لم أكن أعرف من وجوه الكرامة والرجولة والفتوة لدى هؤلاء الاماجد الأبطال الذين تنطفئ الدنيا ولا تنطفئ مصابيحهم. فشكراً للمؤلف الفاضل. وشكراً للفرص المواتية.
محمود عبد العزيز محرم(980/47)
البريد الأدبي
من أين لك هذا؟
قد يكون من المفيد - بعد ما تبين لأولي الأمر منا أي ضرورة ملجئة، وأي مصلحة عامة تجعل حتما سن مثل هذا القانون - أن نذكر الحكومة الإسلامية منذ ثلاثة عشر قرناً، فطنت إلى هذا القانون، فنادى به محمد صلى الله عليه وسلم زعيم الإصلاح، ومعلم الإنسانية الأول، وآمن به من بعده إيماناً لا يتسرب إليه شك. والتاريخ يحدثنا عن غير واحد من علية القوم ووجهائهم ممن حوكموا بمقتضى هذا القانون، فهذا خالد بن الوليد الذي اقتعد غارب المجد، وتسنم ذروة الشرف، وأبلى في الدفاع عن الإسلام أحسن البلاء، لم يغن عنه كل أولئك أمام الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحين أحس أنه أثرى فجأة - وكان عاملاً له - عزله من الولاية ثم استجوبه وحقق معه، ورد إلى بيت المال بعض أمواله.
روى الطبري أن خالد بن الوليد إثر عودته من (قنسرين)، بعد أن أظفره الله عليها، وأفاء خيراً كثيرا عليه، وفدت عليه الوفود، وكان ممن وفد عليه الأشعث بن قيس، فأجازه خالد بعشرة آلاف. وسرعان ما أنهى إلى الخليفة العادل الساهر هذا النائل الغمر، فأبرد إلى عبيدة (أن يقيم خالداً، ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته، حتى يعلمهم من أين إجازة أبن الأشعث؟ أمن إصابة أصابها؟ أم من ماله؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأعزله على كل حال، وأضمم إليك عمله) فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس، فقام البريد. فقال: يا خالد! أمن مالك جزيت بعشرة آلاف؟ أم من إصابة؟ فلم يجبه، حتى أكثر عليه - وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا - فقام بلال إليه فقال: إن أمير المؤمنين أمر بكذا وكذا فيك، ثم تناول قلنسوته، فعقله بعمامته وقال: ما تقول؟ أمن مالك؟ أم من إصابة؟ فقال: لا! بل من مالي، فأطلقه، وأعاد إليه قلنسوته، وعممه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونخدم موالينا. وعندما قدم خالد على عمر المدينة، بعد عزله، شكاه إلى المسلمين وقال له: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك غير مجمل في أمري يا عمر. . فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال خالد: من الأنفال والسهمان، وما زاد على الستين ألف فلك. فقوم عمر عروضه، فخرجت إليه(980/48)
عشرون ألفاً، فأدخلها في بيت المال، ثم قال: يا خالد! والله إنك علي لكريم، وإنك ألي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.
وكذلك وقف عمر بن الخطاب موقفا مشابها من والي مصر عمرو بن العاص، فقد كتب إليه: (أما بعد، فقد بلغني أنه فشت لك فاشية من خيل وإبل وبقر وعبيد، وعهدي بك ولا مال لك، فأكتب إلي من أين أصل هذا المال؟ ولا تكتمه)
فأجاب عمرو: (. . وإني أعلم أمير المؤمنين أنني ببلد السعر فيه رخيص، وإني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالج أهله، وفي رزق أمير المؤمنين سعة، وواله لو رأيت خيانتك حلالا ما خنتك، فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحساباً هي خير من العمل لك، إن رجعتنا إليها عشنا بها).
على أن عمر لم يجد في هذا مقنعاً، فأرسل إلى عمرو محمد بن سلمة ليشاطره ماله. وعندما قدم رسول عمر إلى عمرو قدم إليه أصنافاً كثيرة من الأطعمة، فرفض أن ينال منها شيئاً، فقال له عمرو: أتحرمون طعامنا؟ فقال: لو قدمت إلي طعام الضيف لأكلته، ولكنك قدمت إلي طعاماً هو تقدمة للشر. نح عني (أكلك) طعامك، وأحضر إلي مالك، وأكتب إلي كل شيء، هو لك، ولا تكتمه. فشاطره ماله أجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك له الأخرى. هذا وغيره كثير وفي هذا بلاغ.
وصنيع عمر هذا يعد من قبيل الاحتياط والتورع، ولم يكن عن خيانة من خالد أو عمرو، فإنهما أعز وأكرم التماس الغني والثراء مما لا يحل، يدل لهذا كتاب عمر إلى عمرو بن العاص (والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة، وآنست من نفسي ضعفاً، وانتشرت رعيتي، ورقي عظمي، فاسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرط، والله إني لأخشى لو مات جمل ناقص عملك ضياعاً أن أسال عنه).
وورد في كتاب من عمرو لعمر (معاذ الله من تلك الطعم، ومن شر الشيم، والاجتراء على كل مأثم، فأقبض عملك، فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنيئة، والرغبة فيها).
أما موقف سيدنا خالد فيشهد لما أشرت إليه ما جاء على لسان أمير المؤمنين نفسه؛ على ما مر بك، والله ولي التوفيق.
رياض عباس(980/49)
عبد المنصف محمود باشا
كان لتعيين عبد المنصف محمود باشا وكيلاً لوزارة الداخلية وقعه الجميل في نفوس أصدقائه ومحبيه. وإني وإن كنت ممن لم يتشرفوا بتلك الصداقة الشخصية، إلا أن للرجل في نفسي مكانة أدبية من حق الرسالة على أن أنوه بها، على سبيل التهنئة الخالصة لوجه الثقافة والأدب.
ولقد أشرت في تقريظي لكتاب (السنوسية دين ودولة) للدكتور فؤاد شكري إلى رجالات مصر الذين أسهموا في الجهاد الليبي، وذكرت من بينهم عبد المنصف محمود الذي كان ضابطاً في ذلك الوقت.
وعسى ألا يغيب عن الأذهان أن عبد المنصف محمود - الذي كان من قبل مديراً لمصلحة خفر السواحل ومصائد الأسماك - من أدباء الإسكندرية المعدودين، ومكانة في ثقافة عروس البحر لا يزال كالدر اللامع في جيد الأدب الرفيع.
ولم تكن مشاغل الوظيفة لتصرفه عن التأليف والبحث، فوضع سلسلة من الكتب القيمة عن بحيرات مصر، ضمنها دراسات تاريخية واجتماعية وأدبية، وجمع فيها بين التقرير والتقدير، ولما كانت قد وضعت سنة 1936 كتاب (إدكو) ودرست فيه كل ما يتعلق ببلدة إدكو، فإن كل دراسة تتصل بها مما يدفعني إلى التلهف عليها، لهذا كنت أتابع عبد المنصف محمود باشا في كتابه (على ضفاف بحيرة إدكو) كما أني اشتركت في المعركة الفكرية بين الرأي القائل بتجفيف تلك البحيرة أو الإبقاء عليها، وأدليت برأيي على صفحات الأهرام.
أما عبد المنصف محمود، وهو الشاعر الحريص على الجمال، فقد كان يرى عدم التجفيف لتظل البحيرة كغيرها من البحيرات (ترصع جيد مصر)، ومما جعلني أخالفه في هذا الرأي ما انتهت إليه الحالة الاقتصادية في إدكو من تدهور أدى إلى انهيار اجتماعي عام، ولولا ذلك لحرصت أكثر منه على بقاء هذه البحيرة الجميلة وهي أول ملهم لي في حياتي الأدبية، حتى لقد كانت قصيدتي (البحيرة الناعسة) أول ما نشر لي في الأهرام وأنا طالب بالسنة الثالثة الثانوية سنة 1933.(980/50)
وعسى ألا يكون المنصب الجديد بمعوق شاعر البحيرات عن المضي في بحوثه وأشعاره، وأمل الرسالة في الباشا الكبير ألا يحرمها من نفحاته، وكيف لا يفعل وهو تلميذ صاحب الرسالة؟ ولعلي بهذا أن أكون قد اشتركت بتقديم هذه التحية مع المهنئين
محمد محمود زيتون(980/51)
القصص
جندي قبل الإعدام
عن الإنكليزية
جلس مستر أوين في غرفته الخاصة بداره الكبيرة في جرين مونتن بالولايات المتحدة، وكان كاسف البال، شديد الكآبة؛ والى جانبه قسيس القرية يواسيه ويخفف عنه.
بينما مكثت لوسي الصغيرة في ركن الغرفة تنصت إلى حديث الرجلين دون أن تلفظ ببنت شفة.
وتكلم مستر أوين قال: كنت أحسب حين وهبت أبني لهذا الوطن أني فعلت من أجل بلادي ما لم يفعله أي رجل آخر في أمريكا على سعتها، إذ ليس لي ولد غيره؛ ولكن هبتي لم تعش طويلاً، لأن ولدي المحبوب غلبه النعاس فنام دقيقة واحدة في نوبة حراسته بالمعسكر، وهو الذي لم يغفل لحظة عن أداء واجبه وكان مثالاً للنشاط الموفور والهمة العالية. . .
صحيح أنه أستسلم للكرى دقيقة، وأستحق حكم الإعدام الذي صدر عليه. ولكن ليتهم رحموا شبابه، وراعوا حداثة سنه، فأنه لم يجاوز الثامنة عشر. . . من يصدق هذا.
إنهم يتهيئون لرميه بالرصاص؛ لأن هذا التعس نام بضع ثوان، ولم يظل ساهراً الليل بطوله يراقب قدوم جيوش الأعداء المهاجمين. إنه الآن في السجن ينتظر تنفيذ العقوبة. فيما ترى كيف يقضي الوقت إلى أن تحين ساعته؟
وأثرت لهجة الرجل في نفس القس. فقال يروح عنه: دعنا نأمل رحمة الله. . . لماذا تيئس!
قال: نعم. نعم. فلنبتهل إلى الله ولنضرع إليه إنه غفور رحيم.
كان (بني) قبل التحاقه بالجندية يقول لي: سأعيش يا أبي خجولاً أمام نفسي وأمام الناس إذا لم أستعمل ذراعي القويتين المفتولتين من أجل بلادي عندما تقع الحرب ويدعوني الوطن. وكنت أقول له: أذهب يا ولدي، اذهب في حراسة ربك، وها قد حرسه الله!
ونطق مستر أوين بالعبارة الأخيرة في بطء، كما لو كان على رغم إيمانه قد ساوره الشك في رحمة الله!(980/52)
فقال القس: تشجع يا صديقي تشجع، ولا تقنط من رحمة الله!
وأصغت لوسي لهذا الحوار، وهي في موضعها منكسة الرأس، بالغة الأسى، ممتعقة اللون، لما أصاب أخاها (بني)؛ لكن لم ترسل عيناها دمعاً ولم تسمح لهمها وكدرها أن يشيعا على محياها، وكانت على حداثة سنها تقوم بنصيب وافر في إدارة شؤون البيت؛ ولذلك هبت واقفة حين سمعت طرقاً خفيفاً على باب (المطبخ)؛ وأسرعت وفتحت الباب ووجدت رجلاً يقدم إليها خطاباً.
وحملت الخطاب إلى أبيها وهي تقول:
- إنه منه. . . من أخي. . .
وكأن الخطاب وصية ميت أو رسالة من القبر! فقد تطلع فيه مستر أوين دون أن يجسر على فض غلافه. وارتجفت أصابعه وهو يدفعه إلى القس كما لو كان طفلاً لا حول له ولا قوة.
وفض القس الغلاف وقرأ ما يلي:
أبي العزيز:
- عندما تصلك هذه الرسالة أكون في عالم الأبدية! فالموت ينتظرني عند باب السجن. ما أشد ما أخافني هذا الخاطر وروعني! على أني فكرت كثيراً وقلبت الأمر على كل الوجوه حتى لم يعد لي الإعدام مخيفاً في نظري. . . لقد احترموا آخر رغباتي في الحياة وسوف لا يضعون الأغلال في يدي ولا العصابة على عيني، وعلى ذلك سألقى الموت كما يلقاه الرجل الشجاع الباسل، وفي هذا تعزية كبرى.
غير أني كنت ارجوا أن تقضي الأقدار بغير ما قضت، وأن تكون ميتتي أشرف من هذه الميتة. كنت أود لو أموت شهيداً في ساحة الوغى وحومة النضال مدافعاً عن بلادي وفي سبيل المجد، أما أن أعدم رميا بالرصاص كالكلب وبتهمة إهمال الواجب العسكري وهو شيء يقارب الخيانة، فذلك ما يؤلمني أشد الألم. ولا أدري كيف لم تقتلني هذه الفكرة قبل أن تقتلني بنادقهم؟
أبي: سوف لا يكون في حادثتي ما يخدش اسمك أو يصم شرف أسرتك. سأعترف ها هنا بكل شيء، وعندما أفارق الحياة آمل أن تشرح للداتي وأصدقائي ما وقع. أما أنا فرجل(980/53)
ميت والموتى لا يتكلمون.
تذكر أني كنت قد وعدت أم صاحبي (جمي كار) أن أعني بولدها الذي هو زميلي في الفرقة، فلما سقط (جمي كار) مريضاً بذلت كل جهودي من أجل راحته والأخذ بيده حتى تماثل للشفاء. على أنه قبل أن تجتمع له قواه وترد إليه صحته صدرت الأوامر لفرقتنا بالتقدم إلى خطوط النار. وناء (جمي) بحمله فحملته عنه فضلاً عن حقائبي وقطعنا شوطاً بعيداً، وانقضى النهار وأخذ الرجال يشعرون بالتعب وخارت قوانا جميعاً. أما (جمي) فقد عجز عن مواصلة السير ولم يمش إلا بعد أن مددت إليه يد المساعدة.
وحين شارفنا المعسكر كنت في أشد حالات التعب وأحوج الرجال إلى الراحة. لكن شاءت الصدف أن تكون نوبة الحراسة تلك الليلة لزميلي (جمي كار)، ورأيته محطماً يكاد يقتله الضعف والتعب، فتقدمت للحراسة عنه ونسيت أني في تلك اللحظة كنت أشد منه ضعفاً وإعياء، وصدقني يا أبي أني كنت عندما غالبني النوم على حال من التعب والإعياء بحيث أو أطلقت على رأسي رصاصة لما فتحت عيني ولا حركت ساكناً.
على أني مخطئ وخطئي أني لم أفطن لحالتي إلا متأخراً جداً. . . وعندما وصل القس إلى هذا الحد من القراءة قاطعه مستر أوين بهذه العبارة:
شكراً لله. إن أبني يموت شهيداً وليس خائناً، وعاد القس يقرأ هكذا:
قيل لي اليوم إن إعدامي تأجل يوماً واحداً بسبب ظروف طارئة، وهذه فرصة لكي أكتب إليك كما يقول رئيسي الطيب القلب. أصفح عنه يا أبي فإنه لم يفعل سوى أن قام بواجبه، وقد كان يود بإخلاص أن ينقذني لكن القوانين العسكرية صارمة ولا حيلة فيها. كذلك أرجو أن لا تضع مسؤولية إعدامي على رأس (جيمي كار) فإن المسكين منكسر القلب شديد الأسف لما حل بي. وقد ألح عليهم أن يأخذوه فدية عني ولكن أحداً لم يعر طلبه التفاتاً بطبيعة الحال.
أبي، لا أجسر أن أفكر في أمي ولا في أختي لوسي فيا ليتك تواسيهما وتجفف دمعهما. وليتك تقول لهما أني أموت شجاعاً باسلاً وإنه عندما تنتهي الحرب سينسيان العار الذي سيلحق بي الآن.
في هذا المساء عندما تغرب الشمس سوف تمر بخاطري صورة من صور السعادة الضائعة(980/54)
فأرى قطعان الماشية تمشي الهوينا من المرعي إلى الحظيرة، وأرى بعين الخيال شقيقتي لوسي في الشرفة واقفة تنتظرني وتلوح لي حين تراني؛ على أنها لن تراني ولن أعود!
(بني)
وفي ساعة متأخرة من تلك الليلة فتح باب الشرفة الخلفية بمنزل مستر أوين وانسابت من بين مصراعيه صبية صغيرة وهبطت الدرج الذي يؤدي إلى الطريق.
وكان المشاهد يحسبها لسرعتها طائرة لا ماشية، وكانت تهرول إلى جهة معينة لا تلتفت إلى يمين أو شمال، لكنها ترفع رأسها بين حين وحين شطر السماء يداها منقبضتان كأنها تضرع إلى ربها وتبتهل.
وبعد ساعتين طويلتين قضتهما هذه الصغيرة تسير وحدها في ظلمة الليل ووحشة وصلت إلى محطة ميل. وقبل أن تشرق الشمس كانت لوسي في العاصمة تسرع الخطى إلى البيت الأبيض الذي يقيم فيه رئيس الجمهورية.
وكان مستر لنكولن (رئيس الجمهورية العظيم) قد دخل غرفته تواً وبدا يلقي نظرة على الأوراق المكدسة على مكتبه وأقبل يفحصها وينظر في شؤون دولته. . وبدون جلبة فتح الباب بهدوء وانسابت لوسي إلى الداخل وخطت نحوه ثم وقفت قبالته بخشوع ورهبة: عيناها إلى الأرض ويداها منقبضتان.
ووقع نظر الرئيس عليها ولم يبد عليه أنه غضب أو تململ حين فوجئ بدخولها، بل أبتسم لها مترفقاً وخاطبها بصوت مشجع، قال:
- نعم يا صغيرتي؛ ماذا تريدين في هذا الوقت المتأخر؟
- أريد حياة (بني) يا سدي
- بني؟ من هو بني؟
- أخي. إنهم يرمونه بالرصاص بسبب نومه في نوبة حراسته فعاد مستر لنكولن إلى الأوراق التي أمامه ينظر فيها وهو يقول:
- آه، لقد تذكرت الآن. إنه نام في أحرج الأوقات وأخطرها، وأعلمي يا صديقتي الصغيرة أنه أختار لنومه ساعة تتوقف عليها مصائر بلاده وحياة ألوف من الجنود. وهذا استهتار شنيع.(980/55)
قالت:
- وهكذا يقول أبي لكن (بني) المسكين كان متعباً جداً يا سيدي، وكذلك كان (جمي) وقد قام أخي بعمل رجلين ولم تكن تلك الحراسة حراسته. كانت النوبة على (جمي) ولكن (جمي) كان مريضاً وعندما حل أخي محله لم يكن يفكر في نفسه ولا في تعبه ونسي أنه خائر القوى.
ورفع الرجل العظيم رأسه من بين الأوراق وعاد ينظر إلى ائرته الصغيرة وقال:
ما هذا الكلام يا طفلتي؟ أنا أكاد لا أفهم شيئاً. تعالي إلى جانبي وقصي قصتك.
وبمثل العناية التي يبذلها دائما في مختلف شؤون الدولة أقبل الرئيس لنكولن يفحص هذه الدعوى، ومشت لوسي إليه فربت على منكبها وحول بيده وجهها إليه، وأحست بعطفه عليها فرددت قصتها وقدمت إليه خطاب أخيها لأبيها فأخذه منها وألقى عليه نظرة ثم قرأه بعناية، وحالما انتهى منه أمسك قلمه وخط بسرعة بضعة أسطر على ورقة ودق جرساً أمامه فأقبل أحد الحجاب، وسمعت لوسي الرئيس وهو يقول للحاجب: أبعث بهذه الرسالة في الحال!
وبعد يومين من هذه المقابلة وفد إلى دار الرياسة جندي شاب ومعه صبية صغيرة. كان الشاب (بني) وكانت الصبية أخته (لوسي) واستقبلهما الرئيس في غرفته الخاصة واحتفى بهما؛ وكان يلبس حلة عسكرية جديدة تزين كتفيها شارات الترقية التي رفعته إلى درجة ملازم وخاطبه الرئيس قال:
لقد عفوت عنك ورفعت درجتك يا بني لأن الجندي الذي يحمل حقائب زميله المريض ويموت من أجل غيره دون أن يشكو أو يتبرم، يستحق تقدير الوطن.
وعاد بني ولوسي إلى جرين مونتن، حيث استقبلتهما الجماهير الهاتفة في المحطة، وبسط مستر أوين يده لولده والدموع تنهمر من مآقيه على خديه وسمعه الناس وهو يهتف بحرارة: (لله الحمد!)
م. ص(980/56)
العدد 981 - بتاريخ: 21 - 04 - 1952(/)
غبار حول الكتلة الإسلامية!
للأستاذ سيد قطب
يجب أن يتوقع الدعاة إلى الكتلة الإسلامية غبارا كثيرا يثأر حولهم، وحول الفكرة ذاتها، غبارا من نواحي شتى: في الداخل وفي الخارج، بطرف مباشر وغير مباشر، تصريحاً وتلميحاً، من قريب ومن بعيد، عن طريق بعض السلطات وبعض العناصر وبعض الجماعات. . .
يجب أن يتوقعوا هذا كله منذ اليوم، لأن الدعوة إلى الكتلة الإسلامية مرادفة للدعوة إلى البعث الإسلامي آت لا ريب فيه؛ ولكن المعرضين والمناوئين لهذا البعث لن يستلموا بسرعة، ولن يسلوا عن طواعية. أنهم سيقاومون هذا البعث لن يستسلموا بسرعة، وأن يسلوا عن طواعية. أنهم سيقامون هذا سيقاومون هذا البعث إلى آخر لحظة، ويستخدمون جميع الوسائل، ومن بين هذه الوسائل تخويف المسلمين أنفسهم من هذا البعث آخر لحظة، وسيستخدمون جميع الوسائل، ومن بين هذه الوسائل تخويف المسلمين أنفسهم من هذا البعث أو إثارة مخاوفهم وشكوكهم حول الدعوة وحول الدعاة!
إن البعث الإسلامي آت لا محالة، لأنه حركة طبيعية غير مصطنعة. حركة تجيء في أوانها، ولم يكن مستطاعا أن تجيء قبل هذه الأوان. . ولقد حاولنا الكثيرون من قبل منذ أيام جمال الدين الأفغاني بل قبله، ولكنها لم تتم، لأنها في ذاك الوقت كانت دعوة رواد سابقين لزمانهم والمقتضيات هذا الزمان. أما اليوم فهي دعوة أوانها بعد أن تهيأت لها معظم الأسباب.
لقد انتهى العالم إلى كتلتين اثنتين قائمتين بالفعل، تتنازعان فيما بينهما على أرض الكتلة الثالثة ومواردها. كذلك انتهى عهد النوم والخمود الذي كانت تعانيه الكتلة الثالثة، وقامت شعوبها بلا استثناء تتملص من البراثن الاستعمار. ومهما تكن تلك البراثن من الشراسة والقوة، فإن تملص الفريسة وحده يكفي لإثبات البعث الجديد. .
ولقد آتت الحضارة الغربية أقصى ثمراتها. وبدا عليها الإفلاس. وبدأت البشرية تتلفت إلى منفذ - كما كانت تتلفت قبيل مولد الإسلام - والمذهب الشيوعي في الجانب الشرقي هو بدوره مذهب مادي كالحضارة الغربية، لا يختلف في طبيعة الحضارة المادية الغربية. وهو(981/1)
مذهب تعسفي الفطرة البشرية ويعيش على كبتها وكبحتها بقوة الحديد والنار. فهو مذهب ضد الطبيعة البشرية؛ فمن المحال أن تطمئن إليه الإنسانية. . لقد تندفع إليه فرارا من نار الاستغلال الرأسمالي والطغيان الاستعماري. . ولكنه مجرد اندفاع اضطراري؛ كالمستجير من الرمضاء بالنار كما يقولون في الأمثال.
ويبقى النظام الاجتماعي الإسلامي وحده، يحمي البشرية من طغيان الاستعمار، دون أن يكبت الفطرة البشرية، ويحكمها والنار. .
وهذا ما يجعل البعث الإسلامي حركة كونية، حركة إنسانية. حركة طبيعية. . وهذا ما يجعله ضرورة لا لتخليص الرقعة الإسلامية وحدها من شر الاستعمار، ووقايتها في الوقت ذاته من شر الشيوعية، بل لتخليص البشرية كلها من المأزق الذي صارت إليه، ومن القلق الذي تعانيه، ومن الخواء الذي انتهت إليه حضارته الغرب بعد ثلاثمائة عام!
ولكن هذا كله ليس معناه أن حركة البعث الإسلامي ستلقي ترحيباً من الكتلة الشرقية أو الكتلة الغربية، أو إسنادهما وعملائهما ودعاتهما في الوطن الإسلامي. . وإذن فسيثور كثير. وقد بدت طلائعه من نواحي شتى. وفي صور شتى. وبوسائل شتى. .
اخذ بعضهم يثير الريب والشكوك، مدعياً أن الإنجليز أو الأمريكان هم الذين يخلقون حركة التكتل الإسلامية ليقفوا بها في وجه الشيوعية. .
وفي ذات الوقت أخذوا يثيرون المخاوف من رد الفعل في العالم المسيحي أي الكتلة الغربية - إذا التكتل العالم الإسلامي!!!
وهكذا في وقت واحد، يكون العالم المسيحي هو الذي يخلق حركة التكتل الإسلامي، ويكون هو نفسه الذي يكره حركة التكتل الإسلامي!!!
ومرة يأتي الغبار من جهة الهند، ومرة يجيء من ناحية لبنان، ومرة يجيء من فرنسا، ومرة يتبع من الأرض المصرية. . والصحافة المصرية المأجورة لأفلام المخابرات البريطانية والأمريكية تنفذ تعليمات هذا الأفلام. . وعملاء الشيوعية ينثرون الريب والشكوك في كل مكان. .
كل هذا يجب أن يكون متوقعا. ويجب مع ذلك أن تسير الدعوة إلى الكتلة الإسلامية في طريقها لا تحفل هذا الغبار. وأن تسير الاستعدادات العلمية في طريقها بضغط الشعوب(981/2)
الإسلامية والعناصر الواعية فيها بصفة خاصة، فلا تترك للحكومات، كما تركت جامعة الدول العربية للأهواء!
انه لا خطر على حركة البعث الإسلامية أن يستغلها الاستعمار - كما حدث أحياناً لجامعة الدول العربية - لأن طبيعة الجامعة الإسلامية غير طبيعة الجامعة العربية.
إن الجامعة العربية حركة قومية عنصرية بعيدة عن الروح والضمير، حركة الجامعة الإسلامية حركة عقيدة وبعث روحي شامل. . فإذا جاز لعملاء الاستعمار أن يوجهوا الجامعة العربية أو يعرقلوها، فإن الجامعة الإسلامية سوف تستعصي على التوجيه.
إن حركة التكتل الإسلامي لن تتم لأن بضعة حكام من كل دولة سيجتمعون ويتآمرون! بل إنها ستتم لأن حركة وعي إسلامي ستعمر القلوب والإسلامية فهي بطبيعتها تأبى أن تسخر لأعدائها. إن الإسلام عقيدة استعلاء، فمن المحال أن تخضعأو تذل. إنها تقبل الخضوع يوم تكون هامدة خامدة، فأما حين تستيقظ فلا.
وإذن فلا خوف من استغلال هذه اليقظة لحساب الاستعمار والاستعمار يدرك هذا، ويثير الغبار حول الحركة الإسلامية، لأن تبلورها وبروزها هو النذير الأكبر تقلص ظله البغيض.
هذه الحقائق يجب أن تعرفها الشعوب الإسلامية، وأن تنفض عنها الغبار الذي يثيره أعداؤنا من الجانبين، ويسخرون له أقلاماً وصحفاً وألسنة، تعيش في صميم الوطن الإسلامي!.
وبعض الذين تخب الاستعمار الغربي أفئدتهم، فأفئدتهم هواء، يرتجفون من الذعر أن تثير الدعوة الإسلامية ثائرة العالم الغربي والعالم الهندي!. . كأن هذا العالم أو ذاك قد سالم المسلمين في يوم من الأيام، أو انه يسالمهم الآن!.
إن فظائع وشناعات ترتكب كل يوم ضد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. والأقليات الإسلامية في بعض البلاد تباد إبادة منظمة، وتضطهد بنفس الأساليب التي اتبعتها محاكم التفتيش الإسبانية أو أشد. .
وعلى ذكر الأسبان ها نحن أولاء نراهم يقومون بدور السمسار للكتلة الغربية في العالم الإسلامية وترى بعض رجالاتنا مع الأسف الشديد يقومون لهم بدو السمسار كذلك!.(981/3)
أن أسبانيا في هذه الأيام ود العالم الإسلامي. وهي في ذات الوقت تسوى حسابها مع أمريكا!
ربما يقول الوقت بعضهم: أترى؟ أليس هذا دليلا على أن قيام الكتلة الإسلامية هو من وحي السياسة الاستعمارية؟
انه حق يراد به باطل! يجب أن نفرق بين البواعث الطبيعية لقيام الكتلة الإسلامية، وبين محاولة أن يستغل هذه الحركة الطبيعية.
إن قيام الكتلة الإسلامية اليوم، على أساس النظام الاجتماعي الإسلامي، وعلى أساس تحكيم الشريعة الإسلامي، في أساس تحكيم الشريعة الإسلامية في الحياة. . هو حركة طبيعية لا بد منها كما أسلفنا. . أما محاولة الاستعمار أن يستغل لحسابه هذه الكتلة الناشئة فهي محاولة مصطنعة يمكن القضاء عليها.
وإذن فلندع لقيام الكتلة الإسلامية، على أساس النظام الاجتماعي الإسلامي، لا على أساس أتفاقات دبلوماسية بين بعض السياسيين - على طريقة جامعة الدول العربية! - وليكن همنا أن ننشر حركة إسلامية حقيقي بين الشعوب. وهذا هو الضمان لاستقلال هذه الكتلة عن الاستعمار، وقيامها على أساس مكافحة الاستعمار.
وحين يقوم العالم الإسلامي على أساس النظام الاجتماعي الإسلامي؛ فانه سيكون في حصانة من الشيوعية، بل سيكون بدء تحطيم الكتلة الشيوعية، والنظام الشيوعي. .
هذه حقيقة واضحة تحب أن ننفض عنها الغبار؛ ونعرضها ناصعة للأنظار والأفكار. . .
سيد قطب(981/4)
كلمات
للأستاذ علي الطنطاوي
5 - مشكلة وجبة
سيدي الوجيه الكبير
قرأت كتابك الذي أرسلته إلى، وفهمت قصتك الطويلة، أما رأيي الذي تقسم على بأن أعلنه بصراحة، وأن أنشره.
فإني أخاف أن تغضب إذا أبديته لك، أو أن يلومني على إبدائه القراء.
لأن رأيي فيك يا سيدي المحترم أنك. . . أحمق كبير، ولا مؤاخذة، وأنك لا تصلح أبا لهذه البنت العاقلة، وأنك مع الأسف صورة لأكثر الآباء، لا تختلف عنهم إلا كاختلاف نسخ القصة المطبوعة بعضها عن بعض. فهمت من كتابك أن الخاطب الذي رغبت فيه ابنتك محام فقير، لا يملك إلا شرفه وخلقه وعزة نفسه، والمال الذي يأخذه بكد يمينه، وعرق جبينه
وأن الخاطب الشاب الجميل الغني المدلل وحيد أبويه، اسم الله عليه، الذي يملك وزنه ذهباً، لم تقبل به البنت لأنه ليس بصاحب علم، ولا بذي مهنة، وأنها أبت من تريد، وأبيت من أرادت، فبقيت بلا زواج.
وأنك حائر في هذه المشكلة لا تدري ماذا تصنع؟
ومشكلتك هذه يا سيدي مشكلة البلد كله.
مشكلة سببها أنتم أيها الآباء الذين يحسبون البنت سلعة فيهم يريدون أن يبيعونها، لمن يدفع فيها الثمن الأكبر، ويظنون الزواج صفقة تجارية، فيهم يتمنون أن يخرجوا منها بالربح الأوفى
أنتم سلبتم الزواج معناه الإنساني العاطفي، وجعلتموه معاملة مالية، يبحث فيها عن المهر والجهاز، والحفلات والولائم، قبل أن يبحث عن التوافق والحب، والسعادة الزوجية.
أنتم وضعتم الأشواك في طريق الشباب الذين يريدون بناء البيت، وإنشاء الأسرة، وإرضاء الله والخلق، وأقفلتم في وجوههم أبوابكم، ففتحتم لهم بذلك باب الفجور والفساد، وعبدتم لهم(981/5)
طريق البغاء والمرض والإفلاس.
أنتم الذين يضحكون بصحة بناتهم، وبأخلاقهن وبسعادتهن في سبيل التفاخر والتكاثر، والعظمة الفارغة، ويضحون بعد ذلك بمصلحة هذا الوطن! أنتم المسئولون عن مشكلة البغاء السري أنت وأمثالك من الأدباء! وتسألني بعد ذلك رأيي؟
رأيي أنك مجرم كبير. . . يا سيدي الوجبة الكبير!
6 - بترول
قرأت أن أمير إحدى المحميات العربية صار أغنى رجل في العالم، وأن البترول الذي ظهر في أرضه. . . سيأتيه كل سنة بـ. . . بمبلغ نسيت والله من ضخامته. . .
قرأت هذا الخبر فكدت من العجب أفقد عقلي
أيأخذ شيخ هذه المحمية وحده ثمن البترول، ويتصرف فيه على هواه ولا يقول له أحد. ماذا صنعت؟
ومن إعطاء هذا البترول؟ ومن كتب له به سند التمليك؟ في أي عصر نعيش أيها الناس؟
إنه بترول هذه الأرض التي أكلت أجساد أجدادنا. وشربت دماءهم: أرض العرب فهل ترونها ادخرته في بطنها ثلاثة ملايين سنة حتى يأتي في آخر الزمان الشيخ الفلاني فيأخذه وحده ملكا خالصاً له، ليعطيه لأمريكا أو لإنكلترا؟
إني لأسأل مرة ثانية: في أي عصر نعيش؟
وأين هي ديمقراطية أميركا وإنكلترا؟ أمن شرع الديمقراطية إن نبع البترول في صحاري كاليفورنيا أن يكون ملكا لترمان، ينعم بثمنه هو وأولاده وعبيده (إن كان عبيد) ويسخر لشهوائهم ولذاذاتهم، ويترك الشعب في بلائه وشقائه؟.
الديمقراطية كلمة يونانية الأصل، جاءت من (ديموس) أي الشعب، وكل شيء في الديمقراطية للشعب، وخيرات الوطن وبترول الأرض لأصحاب الأرض.
فلماذا لا يكون بترول أرض العرب للعرب، يسخر لمصالحهم ويشتري به لهم المجد والقوة، والحضارة والعلاء؟ لماذا لا نصير به أرض العرب جنات فيها من كل الثمرات، وفيها المدن والمصالح والقلاع والمدارس، وفيها الطرق والجسور وكل ما أنتجت المدينة وأثمر العمران؟ أليس ملك الشعب؟(981/6)
أنى لأسأل، فهل من مجيب؟!
7 - الزوجة الثانية
قابلت أمس صديقاً فوجدته ضيق الصدر، لقس النفس، كأن به علة في جسده، أو هما في قلبه، فسألته أن يكشف لي أمره فتأبى ساعة وتردد، ثم قال لي: أنت الصديق لا يكتم عنه، وإني مطلعك على سرى، ومستشيرك فيه: إني أريد الزواج.
- قلت: وما فعلت ربه دارك، وأم أولادك؟
- قال: هي على حالها.
- قلت. وهل أنكرت شيئاً من خلفها أو من دينها أو من طاعتها لك، وميلها إليك؟
- قال: لا والله!
- قلت: فلم إذن؟
- قال: إني رجل أحب العصمة وأكره الفجور، وقد ألفت زوجي حتى ما أجد فيها ما يقنع نفسي عم أن يميل إلى غيرها، وبصري عن أن يشرد إلى سواها، وأطلت عشرتها مللتها وذهبت في عيني فتنتها.
قلت: ما أقبح والله ما جزيتها به عن صحبتها وإخلاصها! وما أعجب أمرك تسمع صوت النفس، وأنت صوت العقل، وتتبع طريق الهوى، وأنت تحسبه سبيل الصلاح، وهذا من تلبيس إبليس، ومن وساوسه؟
وهل تحسب أن المرأة الجديدة تقنعك وتغنيك، إن أنت لم تقهر نفسك وتزجرها؟ إن الجديدة تمر عليها الأيام فتصير قديمة، وتطول ألفتها فتصير مملولة، وتستقرى جمالها فلا تجد فيها جمالا فتطلب ثالثة، والثالثة إلى الرابعة، ولو أنك تزوجت مائة، ولو أنك قضيت العمر في زواج، لو جدت نفسك أمرآة أخرى. . .
وهذي سير الملوك الذين كانت تجعل إليهم كل جميلة من كل بلد، وكان في قصورهم آلاف الجواري من كل بيضاء، وسمراء وسوداء، وعربية، وتركية، وكرجية، وأفرجية، من كل سن وكل لون، وكل جنس وكل شكل، فهل أشبع ذلك هوى نفوسهم؟ وهل عصمتهم من أن يتطلع أحدهم إلى المرأة الممنعة فيعشقها أو يهم حبا بها، ولا يرى لذته إلا بقربها؟.
وهل الزواج ويحك لهذا (الأمر) وحده؟ فأين الوفاء وأين التذمم؟ وأين حقوق المعاشرة؟(981/7)
وأين روابط الولد؟ وهل تقوم الحياة على الحب وحده؟
هل يمضى زوج عمره في تقبيل وعناق؟ إن لذلك لحظات باقي العمر تعاون على الحياة، وتبادل في الرأي، وسعى للطعام واللباس وتربية الولد، واسترجاع الماضي والإعداد للمستقبل:
وهل تظنك تسعد بين زوجتين، وتعرف إن جمعتهما ما طعم الراحة؟ وهل تحسب أن ولدك يبقى معك وقد عاديت أمه، وصادقت غريبة جئت بها تشاركها دارها ومالها وزوجتها؟ فهل يرضيك أن تثير في أسرتك حرباً تكون أنت أول ضحاياها؟
لا يا صاحبي، لقد تغبر الزمان، وتبدل عرف الناس، فعليك بزوجك. عد إليها وانظر إلى إخلاصها، لا تنظر إلى وجهها ولا إلى جسمها، فإني قرأت كتباً في تعرف الجمال كثيرة، فلم أجد أصدق من تعريف طاغور: (أن الجمال هو الإخلاص) ولو أن (ملكة الجمال) خانتك وغدرت بك لرأيتها قبيحة في عينك. ولو أخلصت لك زنجية سوداء، كأن وجهها حذاء السهرة اللماع لرأيتها ملكة الجمال. . .
وثق أن ما حدثنني به سرا بيننا لا أفشيه أبداً، ولا أطلع عليه أحداً!!
وهل سمعت أن (أفشى) سرا؟!
8 - نعم. لقد هزمنا!
إلى الأستاذ الذي كتب إلى فلم أعرف اسمه ولكن نم أسلوبه على فضله:
نعم. لقد هزمنا في فلسطين، ولكنها لم تهزم فينا إلا الأخلاق التي قبسناها من غيرنا، وتركنا لها أخلاقنا. ما هزم إلا التردد والاختلاف، والثرثرة والكلام الفارغ، وإيثار الزعماء مصالحهم على مصالح الأمة، واتخاذ الإنكليز والأمير كان أولياء، أما سلائق العروبة، أما خلائق الإسلام، أما الإرث لذي تركه محمد في عروقنا، معشر العرب وصبهفي دمائنا، فلم يهزم ولن يهزم أبداً.
إن لكل أمة أياما لها، وأياماً عليها، وليس العار أن يجزع من الغلب ويرضاه، ولا يعاود الكفاح، ولقد مر علينا في تاريخنا مصائب أشد هؤلاء، لقد قامت في هذه البقعة من فلسطين دولة أقوى من هذه الدولة الكسيحة، دولة زحفت أوربا كلها لتقيمها وتحميها، فعاشت أكثر من مائة سنة فأين هي اليوم؟(981/8)
هدمها رجل واحد اسمه صلاح الدين، فذهبت حتى أن أكثر القراء لم يكن يدري بها، قبل أن يسمع مني الآن خبرها.
فلا تجزعوا كثيراً من ضياع فلسطين، بل اجزعوا من المصيبة التي هي أكبر من ضياع فلسطين، ومن ضياع بلاد العروبة كلها، لا أذن الله - أتدرون ما هي؟ هي أن تخسروا إيمانهم بأنفسهم وماضيكم، وأن تفقدوا كبرياءكم وتنسوا عزتكم، وتجهلوا مكانكم في هذه الدنيا.
تلك هي المصيبة حقا، ولن تكون أبداً ولئن داخل الضعف نفوساً قد اكتهلت وشاخت في ظلام الماضي القريب فسيكون من هؤلاء الأطفال، شعب نشأ في نور الاستقلال، وستلهب دمه ذكريات عشرة آلاف معركة مظفرة، خاضها الجدود، وسيخرق صماخ أذنيه نداء عشرة آلاف بطل، أنجبهم الجدود، وستدفعه إلى ميادين التضحية والبذل، حتى يطهر أرض الوطن من إسرائيل، وبغل بالدم هذه الصفحة التي كتبها في تاريخنا التردد والتخاذل والانقسام، وحتى يعيد مجد الماضي فيقرأ الطلاب في المدارس بعد حين، خبر هذه الدولة التي قامت يوما في فلسطين باسم دولة إسرائيل، كما نقرأ نحن اليوم خبر الدولة التي أقامها من قبل جموع الصليبيين.
ومن شك في هذا لم يكن عربيا ولم يكن مسلماً.
9 - الآن يا بنت
الآن يا بنت؟! آلآن؟! بعد ما سفح الماء، واحترق العود، تكتبين إلى بدم القلب، ودموع العين تقولين: تعالوا يا عقلاء، ويا مصلحون، خبروني ماذا أصنع؟ وهل يقدر أحد أن يرد الماء الذي اندلق، والعود الذي احترق، والغشاء الذي أتخرق؟
وهل رجعت لبنت عذرتها، بعدما فقدتها، حتى تعودي عذراء كما كنت؟ فلا تطلبي المحال فإن الميت لا يعود. . .
وإنه قد بطل الخيار، ولم يبق إلا طريق واحد، فأنسى كل ما ذكرت أي من شرف أسرتك وهو أن عائلته، وغنى آلك وفقر أهله، وتوسلي إليه بك، فلعله قد بقى قلبه شيء من شرف الرجل؛ أو عاطفة الإنسان فيصلح ما أفسد.
أما أهلك فإن الأيام ستروضهم على الرضا بالواقع، فيندمل مع الزمان الجرح، وتذهب(981/9)
القطيعة، ويطول بهم الفكر، فيعلموا أنهم هم المذنبون، وأنهم هم الذين ساقوك إلى دكان الجزار، وألقوا بك بين أنياب الذباب، عزلاء لا مخلب لك ناب، ولو أنهم نشئوك على عادات العروبة، وآداب الإسلام، لما كان الذي كانت، واعلمي يا بنتي أن قصتك مع هذا الشاب، زميلك في المدرسة، قصة كل بنت حواء مع كل ابن آدم، يميل إليها، وتميل إليه، (فطرة الله التي فطر الناس عليها) لكنه يريد منها غير ما تريد منه، إنها (وهي التي تحمل عليها) تريد أن يكون لها أبداً وحدها، كما تكون له أبدا وحده، يريد حبا باقيا لأن آثاره باقية فيها، تنتقل من الرغبة إلى الأمومة، وهو يريد أن يقطف الزهرة ويجني الثمرة، ثم الرغبة إلى الأمومة، وهو يريد أن يقطف الزهرة ويجنى الثمرة، ثم بوليها ظهره، يبحث عن زهرة أبهى لونا، وثمرة أشهى طعما، فالحب عندها استعراق ودوام، وهو عنده لذة ساعة، ومتعة نهار، إذا أخطأ معا، غفر المجتمع له خطيئته، ولم يغفر لها خطيئتها أبداً.
من هنا جاءت شكوى النساء من خيانة الرجال، ومن هما حرم الله، ومنع الشرف اقتراب الرجل من المرأة، إلا بعد أن تقيده بقيد الزواج، لئلا يتبع فطرته وهواه، فيقضى أربه ويهرب - إن هذه يحاول الخروج عليها، والتخلص منها، أفليس هذا عجيبا؟
على أنك لو لم تشجعيه لنا أقدم، ولو لم تضعفي عنه قوى، ولو تصونت عنه بالحجاب، وتمنعت منه بالخلق، ولو أن كل بنت كانت تحمل عقلها دائماً في رأسها، لا تنساه في قصة غرام ولا ديوان غزل، ولا على مقاعد السينما، وكرامتها بين عينيها، وتعرف كيف ترد عنها شيطان أنسي يبغي العدوان عليها بالكلام إن كان ممن يفهم بالكلام، وبكعب الحذاء تخلعه وتنزل به على رأسه، إن كان سيفها خبيثا قليل الحياء، لما فجعت بعفافها فتاة. فالأمر في أيديكن يا بنات، وإن أفسق الرجال وأجرئهم على الشر، يخنس ويبلس ويتوارى، إن رأى أمامه فتاة مرفوعة الهامة، ثابتة النظر، تمشى إلى غايتها بجد وقوة، وحزم، لا تتلفت الخائفة، ولا تضطرب الخجل، ولا تميس ميسان من يقول: هأنذا فمن يريدني؟
وبعد يا بنتي فلا تيأسى، فما في الذنوب ذنب غير الشرك يضيق عنه عفو الله، ولا في الوجود مذنب يرد عن بابه إن جاءه تائباً منيباً، وإن في عفو الله متسعاً لجميع العصاة (قل: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)
علي الطنطاوي(981/10)
المجتمع التقدمي
للدكتور قسطنطين زريق
مدير الجامعة وصاحب الوعي القومي
تدور على ألسنتنا في هذه الأيام بضعة ألفاظ أساسية نعبر بها عن عقائدنا ومناهجنا العملية، وعما نطمح إلى بلوغه من غايات وأهداف. من هذه الألفاظ: القومية، والديمقراطية، والاتحاد، والتقدمية، والاشتراكية، وأمثالها. ولما كانت المعاني التي نسبغها على الألفاظ لها خطورتها الكبرى فيما نصوغ من فكر وما نبني من منشآت، وجب علينا أن نوضح لأنفسنا حقيقتها، ونستخرج متضمناتها، كي نسير على هدى، ونشيد على أساس صحيح. ولملنا إذا تبينا الجوهر، وكشفنا عن الأصل، لا نضيع ما نضيعه الآن من جهد ووقت في مناقشة الأعراض والبحث عن الفروع.
ولا جدال في أن هذه المهمة الإيضاحية تقع أولا على عاتق رجال الفكر، فهم المسؤولون في الدرجة الأولى - إزراء مجتمعهم وإزاء التاريخ - عن تحديد المعاني، ورسم الأهداف، وتخطيط السبل وإليهم يتطلع المجتمع لقيادته في الكشف عن الأسس، وتمييز الأصول من الفروع، ووضع الأهم قبل المهم، والنهم الباقي قبل التافه الزائل.
وليس حديثي هذا سوى محاولة لإيضاح معنى لفظ من هذه الألفاظ الأساسية التي نرددها ومشتقاته المختلفة. فكثيراً ما نتحدث عن التقدم، والنقدية، والمجتمع النقدمي، وننقسم شيعاً تبعاً نفهمه منها. ولذا كان حريا بنا أن نقف بين آن وآخر لنتبين حقيقة ما نقصد إليه، ونتفق على ما نعني، توفيراً للجهد، وتوضيحاً لجوهر الخلاف - إذا كان ثمة خلاف - واتباعاً للأسلوب العلمي المنظم في المناقشة الفكرية والسلوك العلمي.
فما هو المجتمع التقدمي، وما هي الصفات الأساسية التي ننطوي عليها تقدميته؟
المجتمع التقدمي هو، أولا، مجتمع متحرك متطور، وإذا أردنا استعمال لفظة غريبة قلنا: (ديناميكي). وليس من الصعب علينا أن نفرق بين مجتمع بهذه الصفات وآخر يغلب عليه الركود والجمود. فالمجتمع المتحرك الديناميكي يتميز بالقوة والتغير. أما قوته فبإنتاجه المادي والعقلي: إنتاجه فيما يستثمر من موارد الطبيعة، ويستغل من كنوزها، وما يبنى من منشآت، وينظم من علاقات، وما يصاحب ذلك كله من نظر عقلي وبحث علمي. وتركيز(981/12)
للمفاهيم. وتجميع للحقائق. وأما تغيره فبتطور منتجاته المادية، وأحواله المعاشية، وأخلاقه، وعاداته، وسبله في الحياة عموماً. وعلى العكس من هذا كله المجتمع الراكد (الستاتيكي) فهو، من ناحية ضعيف بإنتاجه المادي والعقلي، ومن ناحية أخرى ساكن واقف لا تتغير أحواله ونظمه إلا قليلا على ممر السنين.
ولا حاجة بنا إلى القول أن الحركة في المجتمعات المتحركة، والركود في المجتمعات الراكدة، ليسا صفتين مطلقتين، وإنما الاختلاف بينهما اختلاف نسبي يتوقف على أحوال هذه المجتمعات وعلى قوة العوامل المؤدية إلى الحركة والركود أو ضعفها. كذلك هاتان الصفتان ثابتتين لرجوعها - كما يعتقد البعض - إلى الجنس الذي يتكون منه المجتمع، والذي إن تغير أو تبدل فإلى حد أدنى بكثير من التغير أو التبدل الراجع إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية. إن الأبحاث الحديثة، واختبارات الإنسانية، قد أنبتت فساد التعليل الجنسي المطلق، وأقرت للعوامل الاقتصادية والاجتماعية بالأثر المستقبل الراجح، فلكم من مجتمع راكداً في بعض مراحل حياته ثم انتفض وتحرك، على ثبات في تكوينه الجنسي وإرثه العرقي. ولا ينكر أن للعرق أثره، ولكن هذا الأثر ليس مطلقاً، ولا - بعرفنا - راجحا، وإنما الراجح في تطور المجتمعات هو العوامل الاجتماعية المتشابكة الناتجة من علاقة المجتمع بمحيطيه وعلاقة عناصره بعضها ببعض.
وتبعاً لهذا نقول إن مرد الحركة (الدينا ميسم) في مجتمع ما إلى مقدرته على التفاعل بينه وبين محيطة الخارجي، وعلى تفاعله الداخلي في نفسه. والمحيط الخارجي ذو وجهين: محيط طبيعي مادي، وآخر بشري اجتماعي. والحركة والحياة تنشأن عندما يكون المحيط الطبيعي على درجة متوسطة بين اللين والشدة، بحيث تستدعي شدته نشاط المجتمع، وييسر لينة، في وقت ذاته، لهذا النشاط أن يزدهر ويثمر. فإذا كان المحيط الطبيعي ليناً كل اللين، واستطاع الإنسان فيه أن يرضى شهواته البدائية بأيسر السبل، لم يكن هناك داع للهمة والنشاط ولتوليد الحركة وبث الحياة. وكذلك، إذا كان المحيط في الطرف الآخر من حيث القسوة والشدة تغلب على مقدرة الإنسان، في المراحل الأولى من تطوره، وسل حركته، منع تقدمه. ومنع تقدمه. وهذا ما ترى واضحا كل الوضوح في المناطق القاسية المناخ، حرارة أو برودة أو رطوبة أو جفافاً، أو التي يغلب عليها الجليد أو الأدغال أو(981/13)
الصحراء أو أمثالها.
إن هذه الظروف الطبيعية مؤثرة، كما قلنا، تأثيراً حاسما في المراحل الأولى من نشوء المجتمعات ونموها. وهي التي، في الأغلب، تبعث في مجتمع ما الحركة والجدب والجمود، إذ تستنفذ جهوده كلها في اقتناص عيشه الضئيل وتحصره في دائرة ضيقة يصعب عليه اجتيازها. أما المجتمع الذي تتيسر له أسباب الحركة والنمو، ويقطع في هذه الطريق شوطاً مديداً، فإنه يصبح قادراً على التغلب على المحيط الخارجي مهما اشتد وقسا: وها نحن نراه يستخرج المعادن من بطن الصحراء، ويركب متون البحور والأجواء.
ومثل المحيط الطبيعي المحيط البشري. فإذا كان هذا المحيط هيناً ليناً لا يمكن فيه أي خطر استهان أهل المجتمع عيشهم، وانصرفوا إلى ملذاتهم، وساروا إلى الركود فالانحلال. وإذا كان العكس من ذلك خطرا كله وتغلب على المجتمع بشكل المجتمع وكبتت حيويته. وتاريخ البشرية في الشرق والغرب مليء بالأدلة الواضحة على ما تقول، فلا تحتاج إلى إيراد أدلة مفصلة، وإنما يكفينا أن نشير إلى ما تعرضت له بلادنا العربية في الستمائة السنة الأخيرة من غزوات خارجية جامحة وضروب في الحكم الأجنبي المستأثر امتصت حيوية أرضها وسكانها، وجعلتها تركد وتعجز عن الإنتاج بأي شكل من الأشكال. أما الحالة المؤدية إلى الحركة والنمو فهي وجود الخطر - وإحساس المجتمع به - وما يتبع هذا الإحساس من بعث للهمم، وإثارة للنشاط، وتعبئة للجهود.
ولا تقتصر حيوية المجتمع المتحرك على التفاعل بينه وبين محيطه الخارجي: الطبيعي والبشري، بل تتمثل أيضاً في تفاعله الداخلي: بين أفراده، ومنظماته، وطبقاته. فالعلاقات البشرية في المجتمع الراكد علاقات بسيطة، قليلة التغير. أنا في المجتمع المتحرك، فهي تزداد على الأيام تطورا وتعقدا. والحيوية المنصرفة إلى الخارج لا تلبث أن تضعف وتنحل إذا لم تصحبها حيوية في الداخل تؤدي إلى نمو في شتى دوائر المجتمع: في العائلة، والمدرسة، والدولة، وسواها. بل نقول إن التفاعل والنمو في داخل المجتمع هما أصدق دليل على مقدرته على مجابهة المحيط والصمود في وجه قوى الخارج.
وخلاصة القول أن المجتمع المتحرك الديناميكي هو مجتمع متطور، متفاعل مع محيطه الطبيعي والبشري، ومتفاعل في ذاته داخليا.(981/14)
ولكن ليس كل حركة تقدماً، ولا كل تطور نموا وارتقاء. فما هو السبيل إلى ضمان هذه الأهداف المنشودة؟ وإذا أردنا نحن في البلاد العربية أن ندفع بمجتمعنا العربي إلى الأمام فكيف نأمن أن يكون انبعاثه من ركوده، وتحركه من جموده من جموده، مؤديين فعلا إلى نمو وتقدم، وغير مقتصرين على مجرد الحركة والتغير؟ وبكلمة أخرى، ما هي المقاييس التي يقاس بها تقدم مجتمع على آخر، أو درجة التقدم أو التأخير في نفس المجتمع؟
توضيحاً لتفكيرنا في الموضوع الأساس أتقدم ببضعة مقاييس عامة لا بصفة نهائية حاسمة بل بصفة تمهيدية تجريبية، لعلها تكون أساسا صالحاً للبحث، وخطوطاً عامة نسترد بها هذا الميدان الواسع المتشعب.
أول هذه المقاييس، في نظري، هو مبلغ سيطرة المجتمع على الطبيعة وقدرته على ضبط قواها واستغلال مواردها. فالمجتمع الذي تحده قوة الطبيعة أو تتغلب عليه يكون عبداً لها خاضعاً لسلطانها، ويظل متأخراً عن سواء من المجتمعات التي سبقته في هذا المضمار. وتأخره عنها يكون في ناحيتين أساسيتين: الأولى سلبية والثانية إيجابية. أما في الناحية السلبية فيقي عرضه لأحداث الطبيعة وفعل عناصرها المادية والحية، يتحكم فيه نوع الأرض وشكلها وموقعها، ودوران الفصول، وتقلبات المناخ، وتتسرب إليه الجراثيم الفتالة، والأعراض الفتاكة. فهو، من هذا القبيل، مغلوب على أمره، مستعبد لمحيطه الخارجي. ثم هو محدود من الناحية الإيجابية أيضاً لعجزه عن استدار غنى الطبيعة، واستخدامه لتحسين معاشه وترقية حياته ماديا وأدبياً. وما دام ضئيل الإنتاج، مهدداً بالفقر والمرض، فهو حتما متأخر عن سواه، وغبر مجهز للسير في ميادين التقدم والرقي.
والمدينة الحديثة إنما تمتاز عن المدنيات السابقة في هذا المضمار، ولا حاجة بي هنا إلى التفضيل والإيضاح، فلأمر ظاهر بين دون دليل أو برهان. وإنما يجدر بنا أن نلاحظ أن المدينة الحديثة هي، من هذه الجهة، وحده غير متجزئة. ولا يغرنا اختلافها في نواحي أخرى، فهي في هذه الناحية متفقة كل الاتفاق. لننظر إلى القوتين الجبارتين اللتين تتنازعان العالم اليوم الغربية التي تتزعمها أمريكا، والقوة الشرقية التي تقودها روسيا، نجد أنهما كلتيهما قائمتان على الحرص الشديد والقدرة الجبارة على استثمار الطبيعة واستغلال مواردها. في كل منهما، في الولايات المتحدة وروسيا على السواء، وفي الدول الأخرى(981/15)
بدرجات متفاوتة، اهتمام بالآلة، وانكباب على التكنيك، وحرص على الاقتصاد. وما الآلة والتكنيك والاقتصاد سوى التي يتسلح بها الإنسان لضبط الطبيعة وعلاقته، بها ينتج عن ذلك من علاقات اجتماعية.
وهذا الانكباب على الوسائل الإنتاجية هو سر الحركة (الدينا ميسم) ومصدر القوة النادية والعقلية في المجتمع الحديث على اختلاف ألوانه واتجاهاته. وهو الواجب الأول الملقى على عاتقنا نحن العرب اليوم، لأننا لا نستطيع أن نحمي كياننا إلا عن سبيله. فالعالم أصبح يضيق بغنى غير مستثمر، وموارد غير مستغلة. والدول تكاد تسير في معاملاتها على أن المجتمع الذي لا يستثمر موارده يخسر حقه فيها. ولئن كان القانون الدولي لا يقر هذا المبدأ، بل بالعكس يصرح بسيادة الأمة على أرضيها وإرثها الطبيعي، ولئن كانت شرعة الأمم المتحدة قائمة على مساواة الدول في هذه السيادة، فالواقع أن الدوافع المسيرة للدول في هذه تصرفاتها هي غير ذلك. ولا نكران أن الصهيونية بنت جانباً هاما من حجتها لقضيتها في فلسطين على تفوقها على العرب في استغلال الأرض واستخدام وسائل الإنتاج الحديث. وكان دعاتها يجوبون أطراف العالم مرددين هذه الدعاوة ويستقدمون الوفود والبعثات ليطلعوهم على سبقهم للعرب في هذا المضمار. وكان نجاحهم في هذا، مخالفته أبسط قواعد الحقوق الدولية مقنعاً لكثير من الناس وموجهاً للرأي العام العالمي في مصلحتهم. وليس هذا الواقع فعالا في مثل هذا العدوان الفاضح فحسب، بل هو مؤثر أيضاً في التدخلات الأخرى الأكثر خفاء، التي تدفعها قوى لا ترد من منطق المدينة الحديثة ذاته، لاستغلال البوار، وإحياء الموات، أينما كان ولمن كان.
فاستثمارنا لمواردنا هو إذن داعم لحقنا فيها وإهمالنا لها هو بالعكس، وسواء أشئنا أم أبينا لهذا الحق في مفهوم العالم الحديث. ثم إننا بهذا الاستثمار نهيئ لأنفسنا من الناحية الإيجابية وسائل الدفاع عن كيانا في الميادين الحربية والاقتصادية والسياسية والعلمية، ولا شك في أن سبق الصهيونية لنا قرونا في هذا المضمار هو الذي لها سبل عدوانها علينا واستجرار القوى السياسية والاقتصادية الكبرى إلى مساندتها في هذا العدوان.
وعندما نتبين هذا الواقع ونقره نخرج منه إلى نتائج حتمية لا مفر لنا منها. خلاصتها أن نهضتنا القومية، بما تتضمن من سياسة داخلية ودولية ومن تنظم اقتصادي واجتماعي(981/16)
وتعليمي، يجب أن تبنى أولا على هذه الأركان المتسلسلة: آلة، تكنيك، اقتصاد، إنشاء. فيها يتحرك مجتمعنا وتسري فيه الروح الديناميكية التي تيسر الوسائل لملية كيانه أولا ولنقدمه في النواحي الأخرى ثابتاً.
على أن هذه الوسائل الإنتاجية الاستثمارية لا تأتي عفوا ولا تهبط من علو. وإذا استمددناها من سوانا فهي لا تبقي لنا ولا تعمل في مصلحتنا إلا اكتسبنا معها القوى الأصيلة التي ابتدعتها. والشعوب التي تقدمتنا في هذا المضمار لم تنلها إلا بعد أن حققت شرطها الأساسي وباعثها الأصلي: وهو التحري عن الحقيقة والأسلوب العلمي المنضبط والنتائج العلمية المحققة المتراكمة. هو العقل النامي المنتظم في نفسه المنظم لسواه.
ولا جدال في أن العقل الإنساني هو من أعظم القوى التقدمية في الوجود، فهو ما ينفك يبحث عن المجهول ويغتبط باقتحامه. وما اقتحام الرائد للمناطق المعزولة الصعبة بأيسر من اقتحام العالم للمجهول من أسرار الطبيعة والإنسان، وما نجاحه فيها أعظم، أو السرور الذي يبعثه في نفسه أشد. بل العالم هو في جوهرة وكيانه رائد ممتاز لا تسعد نفسه إلا بالمغامرة والتقدم.
ثم إن العقل المتمثل في جهد العالم الرائد ملح مستمر في تقدمه. فإن لم يطغ عليه ما يطفئ جذوته أو يبطل عمله سار من خطوة وقبض على حلقة من سلسلة الحقيقة المترابطة. وهو لا يقف عند حد ولا يرضى بحال، بل يندفع دوما إلى الأمام منقبا باحثا مكتشفا. هذا هو منطقة وكيانه وهو فيه منسجم مع منطق الحقيقة وكيانها.
ثم هو بعد هذا وذاك منتظم في تقدمه. فالخطىالتي يقبض عليها متماسكة. ذلك أن جوهر الحقيقة التي يسعى إليها ويتقيد بها ويخدمها جوهر متماسك متحد. وليس معنى هذا العالم لا يخطئ ولا يخرج عن السبيل السوي، فكثير ما وابتعد وضاع وضيع، ولكن الأسلوب العلمي المنبعث عن طبيعة العقل وجوهرة كفيل برده إلى الصواب والعبرة ليست الضلالات العريضة، بل في السير الأساسي المتصل والسلسلة المترابطة الحلقات. إن بناء العلم بناء متماسك الأحجار! وإذا اتفق أن وضع حجر فاسد فيه فالجهد العلمي خليق بأن يكتشفه يوما فيطرحه وكل ما بني عليه.
فالعلم، بجوهره الخالص وتقليده الإيجابي الأصيل، تقدمي. وتقدميته تتميز بالتطلع(981/17)
والاستمرار والانتظام. ولذا كان مقياسا من أهم المقاييس التينقدر بها تقدمية مجتمع من المجتمعات. وهو من الناحية العلمية التطبيقية، أساس المقياس الأول: أي قدرة المجتمع على الطبيعة، لأنه، كما ذكرنا، الباعث الأقوى للعمل الإنتاجي الاستثماري. على أن أيضاً ناحيته التي يتجلى فيها مقدار الحقيقة المكتسبة والمجهول المكتشف. فإذا أردنا أن نقارن مجتمعين من حيث التقدم والتأخر، أو نقيس تقدمه مجتمع ما، أمكننا أن نركن إلى هذا المقياس: إلى درجة اكتساب المجتمع للأسلوب العلمي وخضوعه لسلطان العقل، والى مقدار الحقيقة المتراكمة التي يملكها ويؤمن بها ويسير على هداها.
وإذا أراد مجتمعنا العربي أن يكون تقدميا فعلا وجب عليه أن يتمسك بهذا العنصر التقدمي الحي، ويؤمن به، ويجعل سيرة مظهرا صادقا له، وحياته تجسدا لإيمانه به وبالحقيقة التي يؤدي إليها.
ترى أيكفي هذان المقياسان مقياس على الطبيعة ومقياس الاكتساب العلمي كيفية وكمية لقدر تقدمية المجتمعات؟ إن النظر الدقيق ليظهر أن هذين المقياسين لا يستنفذان التقدمية الصحيحة. ذلك أن استثمار الطبيعة هو، في الواقع، عامل مساعد أكثر منه عاملا أصيلا. فهو يهيئ الوسائل للتقدم ويدفع المجتمع قدما في جوهره وتمامه إلا إذا توفر له عامل آخر مستقل عنه. إنه يعد الأسباب ويهيئ ويجهز النتائج لكنه، بنفسه، لا يقر الغايات التي يجب أن توجه إليها الأسباب والقوى والنتائج، إنه يضع بين يدي المجتمع موارد وافرة استخرجها من الطبيعة وثروات استمدها منها وقوى فجرها من بطونها ولكن، ترى، لأي شيء يستخدم المجتمع هذه كلها؟ للبناء والتعمير أم للهدم والتدمير؟ للتحكم والاستئثار أم لنشر العدل والمساواة؟ للحرب أم للسلم؟ للتقدم الشامل المتوازن أم للتقدم الجزئي المضطرب؟
كذلك يقال عن العلم نفسه، وهو المقياس الثاني الذي اتخذناه. إنه يستكشف الحقيقة والحقيقة وحدها غالية ومبتغاه. ولكن من الذي يستخدم هذه الحقيقة ولماذا؟ هو أمر خارج عن سلطته، أو لعل العالم يساعد، عن وعي أو غير وعي، في استخدام الحقيقة لأغراض هدامة إلى التأخير والهلاك في حين أنها وجدت لتخدم التقدم والانبعاث.
فلضمان التقدم الصحيح لا يكفي توفير الوسائل؛ بل يجب تحقيق الغايات الصحيحة التي(981/18)
توجه إليها. لا يكفي مجتمعنا أن يتغلب على الطبيعة ويضبطها، بل عليه مع هذا، إن لم نقل قبل هذا، أن يضبط نفسه ويتغلب على أهوائه. لا يكفيه أن يتبين الحقيقة التي اكتشفها بالعقل، بل عليه أن يولد الإدارة التي تمنع تشويهها أو استخدامها لما هو مناقض لطبيعتها، وبالتالي هادم لأركان المجتمع.
هنا تظهر العلة الأصلية في المدينة الحديثة وداؤها الدفين، فلقد أحرزت هذه المدينة تقدما شاسعاً واسعا في ميدان استثمار الطبيعة، لكنها لا تزال مقصرة تقصيرا شائنا في معرفة الغايات التي يجب أن توجه إليها نتائج هذا الاستثمار وفي تكوين الإدارة الصحيحة لهذا التوجيه. وقطعت كذلك لا تزال عاجزة عن الأمثال لها بل هي تمعن تحويلها عن غايتها واستخدامها للشر والفساد.
البقية في العدد القادم
قسطنطين زريق(981/19)
2 - لغة المستقبل. .
للأستاذ محمد محمود زيتون
تحية علمية إلى البرلمان الفيلسوف أستاذي الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك عميد الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقا، وعضو مجلس الشيوخ، وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية.
ذكرت لك أيها القارئ نبذة عاجلة عن الرياضة وفرعها السابقين وهما علم العدد وعلم الهندسة، وفي المقال نعرض للمنهج الرياضي وماله من أثر في نفوس الرياضيين بحيث يكسبهم هذا الذوق الذي يسميه العلماء الروح الرياضي.
ولعلك يا قارئ تسأل: إذ كان العقل في كل ميادينه يعتمد على التحليل والتركيب - وكل في ذاته منهج مشروع - وإذا كان العقل يستعمل القياس والاستقراء، وليس في غنية عن أحدهما أو كليهما. . . ففهم نخصص للرياضة منهجاً؟. . وما هو هذا المنهج الذي به انفردت الرياضة؟
ألا إن التجارب التي نقوم بها لا تعدو أن تكون إحدى اثنتين:
1 - تجربة خارجية أو مادية تبني قراراتها على موضوعات مادية.
2 - تجربة داخلية أو ذهنية وهي التي قد تكون في الفكر عن طريق العالم الذي توجد صورته في مخيلتنا، وبمقتضاها نتمكن من تمثل الأعداد في نقط وأشكال.
فهل نحن نتلمس بالحدس - في هذه الأعداد وتلك الأشكال - النسب المجردة أو المثالية التي هي قوام الحقائق الرياضي؟
الحق أن دور البداهة في الهندسة غير منكر، ولكنه في نظر (رابييه) إلا عاملا مساعدا، ومحبة في ذلك لها وجاهتها: فهو يرى أن البداهة تغلو في تقدير الحقيقة المراد إثباتها، وإن كانت البداهة تلقي الضوء على طريق الاستدلال إلا أنه لا تستطيع أن يتخذ منها سندا متيناً، لأن الخطأ قد يتسرب منها إليه لإمكان نسرب الخطأ إليها.
وعلى ذلك، لا يمكن أن تعتمد العلوم الرياضية جمعاء على البداهة، ما دمنا قد افترضنا للفكر قيمة موضوعية، وإلا كانت العلوم التي تعتمد على البداهة فنوناً، وهنا تتوقف قيمة الفكر وموضوعه على (لحظات التجلي) حيث يكون العقل في حالة تصوف أو تأمل.(981/20)
والرياضة - من ناحية أخرى - ليست في منهجها - تجريبية - لأن الاستقرار - ولا سيما العلمي - لا يضمن لنا الحقيقة ثابتة، كما أنها لن تكون قياسية، لأن القياس يضع مقدمات يفترض صحتها ثم يستخرج منها نتائج على الوجه المسنون.
لم يبق بعد إلا (البرهان ليكون هو منهج الذي تنشده الرياضة، ذلك لأن البرهان - كما يعرفه أرسطو - هو (قياس الضروري) وغايته: إقامة الحقائق الواضحة، أو التي سبق البرهنة عليها - غير مهتم بالضروب والأشكال التي ينتهجها المنطق الصوري. لذا يقول أرسطو (ليس كل قياس برهاناً، وإنما كل برهان قياس) كما أن البرهان كما يقول ليار (يقاوم قواعد القياس المنطقي، وفي نفسه له مبادئه التي لا يجدها في القياس، وهذه المبادئ ضرورية ضرورة الحقائق التي يقيمها)
والبرهان الرياضي لا يستغني عن التحليل والتركيب، والتحليل قد يكون مباشرا، وقد يكون غير مباشر.
فالتحليل المباشر يستلزم معرفة العناصر الموضوع، والسير بالقضايا تدريجياً مما تم إثباته إلى ما يراد إثباته، أما التحليل غير المباشر فهو البرهان بالخلف، وهو ليس برهانا بالمعنى الصحيح، وإنما هو إحراج، وفيه خطورة، وقد نهج المنهج الرياضي في تلافيها. ونقصد بهذه الخطورة ذلك العناد الحقيقي في القضية الشرطية المنفصلة. فالزاوية س إما أن يكون حادة أو متفرجة أو قائمة، فإذا تكن الأولى ولا الثانية كانت الثالثة حتما، اعتمادا على بدهية الزوايا. ومثل هذا البرهان لا يليق بالمنهج الرياضي المتفرد بإحدى هاتين الحسنيين، وقد اجتمعتا معا الرياضة وحدها.
لهذا، احتدم الجدل حول هاتين الميزتين بين الفلسفة والرياضة. يرى فيثاغورس أن العالم أشبه بعالم الأعداد، وأن العالم عدد ونغم، وأن الأعداد نماذج تحاكيها الموجودات دون أن تكون هذه النماذج مفارقة لصورتها.
وانحدرت هذه الأنظار الفيثاغورية إلى أفلاطون الذي ظل - بالجدل الصاعد - يرقي من المحسوس المتكثر إلى المعقول الواحد وهو (المثال)، ومنه انتقلت هذه الأنظار إلى الأكاديمية الجديدة، حتى لقد غالى أحد رجالها سبيزيب - في ربط الرياضة بالفلسفة؛ أي ربط الكائنات الرياضية وهي الأعداد والمثلثات بالصور إلى حد الخلط بينهما، وفسر(981/21)
الوجود على ضوء هذه الكائنات الرياضية.
واعتبر (باسكال) المنهج الهندسي المثل الأعلى للمناهج، وعلى ذلك الأمور الفلسفية العليا كما لو كانت مسائل هندسية أو معادلات جبرية.
وأعطى (اسبينوزا) للفلسفة الأولى جفاف البراهين الهندسية وصورتها، وأخذ يتحدث عن الله، والحرية كما لو كان يتحدث عن أعداد.
هؤلاء جميعاً إنما يطمحون بأنظارهم إلى العمومية والمعقولية حتى يصلا إلى الحق والخير معا، وهما هدف الرياضة البحث التي لا تتوسل بغير العقل إلى غايتها.
وإذا كان المنهج الرياضي هو مجموع الوسائل والقواعد التي تمكن من بلوغ القوانين الرياضية الموثوق بها، فإن (الروح الرياضي) نوع من العقل يمكن من بلوغ الغاية، وهما في الحق متلازمان أولهما وجهان لشيء واحد: هذا موضوعي وذاك شخصي. فإذا نظرنا إلى جميع الوسائل العقلية بالنسبة إلى الموضوع المدروس فذلك (المنهج) أما بالنسبة إلى الشخص الدارس فهي (الروح).
يقول (فافر) (هنالك صفير ينعش العالم، ويحفز الباحث إلى الحقيقة، ولئن تعذر سماع هذا الصفير إلا أنه يباعد المرء عن الخطأ، هذا الصفير هو الروح العلمي).
ومن الناس من أوتى مواهب تجعله قادراً على متابعة الحقيقة، وتجعله ماهراً وتمكنه من التزام الوضوح، واجتناب غواشي الحق، ومثل هذا الموهوب لديه روح علمي. فما مظاهر ذلك في الرياضة؟
رسم أفلاطون في خياله تخطيط المدينة الفاضلة وكان ينشد في (الحاكم) شيئين هما: الجندية والفلسفة، فأنطق سقراط بهذه الكلمات البارعة (إن لنا نشيداً علميا غايته التعقل المنطقي، ويقع في منطقة النفوذ العقلي، وهو يجاهد لينظر نظراً قويا في الحيوان والنجم ثم في الشمس ذاتها. وهكذا يبدأ المرء يبحث بالمنطق ناشداً كل أنواع اليقين بفعل الذهن البسيط مستقلا عن أي معونة حسية، ولا يكف حتى يدرك بفعل الذهن النقي طبيعة الخبر الحقيقة، وهنا يبلغ آخر مدى العالم العقلي).
في أي فرع من فروع العلم تستقر قوة الحاكم المنشود؟ بحث أفلاطون فلم يجدها في الرياضة البدنية ولا في الموسيقى، وإنما وجدها في (علم الحساب) الذي (كل لعلم وكل فن(981/22)
مفتقر إلى الاشتراك فيه) وبعد أن يبن فائدته في الحرب قال (إنه يلزم الفيلسوف في درسه لأنه ملزم بأن يسمو فوق التغير، ويلوذ بالثبات وإلا فلا يكون مفكراً ذكيا). . وذلك لسهولة انتقال النفس من المتغير إلى الحقيقة الثابت) ولأنه. . (قد يرفع النفس إلى فوق، ويحملها على البحث في الأعداد المجردة!)
. . (وإن العاكفين على الحساب - إلا الغدر منهم - سريعو الخاطر في كل العلوم، وإن الذين فهمهم بطئ إذا تثقفوا به وتمرنوا عليه ولو لم منه على فائدة أخرى يصيرون أسرع فهماً مما كانوا. .)، (والهندسة علم الموجود الدائم يجب أن تجتذب النفس نحو الحقيقة، وتضرب الضربة الحاسمة في ميدان الروح الفلسفي). .
(وإذن يجب أن نلقن تلاميذنا منذ الحداثة: الحساب والهندسة وكل فروع العلوم الابتدائية الممهدة لفن المنطق).
هذه أقباس من (جمهورية أفلاطون) حبذا لو عرضنا معها لوامع من (مقدمة ابن خلدون) ليرى القارئ إلى أمدى من التخبط بتعثر أولئك الأدعياء الذين لا يدرون من أين حينما يستأثرون بالعلم المدني الذي هبط به وحي مزعوم.
يقول ابن خلدون محبذا تعليم الحساب نوع تصرف في العدد يحتاج فيه إلى استدلال فيبقى معقودا للاستدلال والنظر وهو معنى العقل).
ويعلل الابتداء بصناعة الحساب بأنها (معارف متضمنة وبراهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء مدرب على الصواب، وقد يقال: من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره، إنما يغلب الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس فيصير ذلك خلقاً ويتعود الصدق ويلازمه مذهباً)
ويقول عن فائدة الهندسة! إنها (تفيد صاحبها إضاءة في علقه، واستقامة في فكرة، لأن براهينها كلها بينه الانتظام، جلية الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها، فيبعد الفكر عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على هذا المبيع (أي الطريق الواضح)، وقيل إنه كان مكتوبا على باب أفلاطون (لا يدخلن مدرستنا من لم يكن مهندسا) وكان شيوخا يقولون: (ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثواب الذي يغسل منه الأقذار، وينقيه من الأوضار)(981/23)
وابتدع أفلاطون (مقياس السجية المنطقية) ليعرف به ما إذا كان يستطيع المرء أن يدرك الموضوع إدراكا إجماليا أولا يستطيع.
إلى أي مدى نجح التفكير الإنساني في استخدام المنهج الرياضي في ضروب العرفان؟ وما مقدار استنباطه من الروح الرياضي في ميادين الأعمال؟ وماذا تحقق من هذا وذاك في بناء (الحضارة الفكرية). .؟
هذا ما سنحاول الاستجابة له في العدد القادم، إن شاء الله.
محمد محمود زيتون(981/24)
4 - الباكستان
دولة إسلامية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
دين ودولة:
إذا أردت أيها القارئ الكريم أن ترى دولة إسلامية بالمعنى الإسلامي الدقيق فلا تحاول أن تبحث عنها في الشرق الأدنى، وإنما تعال معي إلى الباكستان فهناك سوف ترى تلك الدولة الإسلامية.
ففي الباكستان نرى أن الإسلام هو محور الحياة وأساسها، فالحياة السياسية والأنظمة الاقتصادية والحياة الاجتماعية تستمد أصولها جميعاً من الأنظمة الإسلامية. ليس في هذا غرابة، فقد قامت دولة الباكستان لتكون دار أمن وسلام للمسلمين من أبناء القارة الهندية الذين عذبوا واضطهدوا بسبب عقيدتهم الدينية. وإن سياسة الباكستان الإسلامية ليست فرضا من حكومة مستبدة على شعب مائع، بل هي رغبة شعب مؤمن قوى تنفذها حكومة مخلصة عادلة.
واجب قبل أن أتعرض لوصف النظام الإسلامي القائم الآن في الباكستان أن أناقش في إيجار أنواع النظم الحكومية التي قامت في العصور الوسطى والتي تأثرت بها الأنظمة الحكومية القائمة في عصرنا الحاضر.
انقسمت الأنظمة الحكومية التي في العصور الوسطى إلى نوعين: أحدهما قام في الشرق والآخر قام في الغرب.
فأما النظام الأول فقد وضع أساسه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حين قامت الدولة الإسلامية الأولى في المدينة. كان القرآن دستور هذه الدولة وقانونها ومحمد (ص) زعيمها. ولما توفي النبي قام خلفاؤه من بعده بإدارة شؤون هذه الدولة، وقد تمكن الخلاء من توسع رقعة الدولة حتى صارت تشمل مساحات شاسعة تمتد المحيط الأطلنطي غربا إلى الصين شرقا.
كان الخليفة يرأس هذه الدولة ويجمع في يديه بين السلطتين الدينية والدنيوية: يؤم الناس(981/25)
في الصلاة ويقيم حدود الله ويقود الجيوش ويجبي الزكاة ويجمع الضرائب ويصرفها على إدارة الدولة وينفق منها على الفقراء والمساكين. ولكن سلطة الخليفة لم تكن مطلقة أو استبدادية بل كانت مقيدة: فقد كان إيمان الخلفاء بربهم وخوفهم من عذابه يدفعهم إلى أن يحرصوا على إقامة العدل ورفع الظلم والسهر مصلحة الرعية. استمع إلى قول عمر ردا على من أشار عليه بترشيح ابنه عبد الله للخلافة من بعده (يكفي بني الخطاب أن يحاسب منهم عمر) واستمع إلى قوله (لو عثرت بغلة بالعراق لسئل عمر عنها يوم القيامة: لم يمهد لها الطريق؟) وهكذا كان الخلفاء يرون في الحكم مسئولية خطيرة وعبثا ثقيلا.
وكان الخليفة ينفذ أحكام القرآن ويشاور أصحابه. والله تعالى بقول (وأمرهم شورى بينهم).
وقد نجح النظام الإسلامي في إقامة دولة تتمتع بالأمن والسلام والعزة والمنعة.
هذا في الشرق. أما في الغرب فقد قام نظام آخر انقسمت فيه السلطة في الدولة إلى قسمين: سلطة دنيوية في يد الملك أو الإمبراطور؛ وسلطة دينية في يد البابا. وهكذا انفصلت السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية في الغرب واتصلتا في الشرق.
ودار الزمن دورته وتقدم الغرب ونهض وجثم على صدر الشرق فاستعمر بلاده وعمل أن يهدم نظامه وتقاليده وعاداته. ولم يعدم المستعمرون أن يجدوا من الشرقيين أفرادا استهوتهم مبادئهم فسخروهم لتحقيق مآربهم. وعمل هؤلاء على تقليد الغرب، والواقع أنها لم تستطع أن تكسب مزايا نظم الحكم الغربية أو الشرقية على حد سواء.
إن أهل الغرب يؤمنون بأن قوة الشرق في عقيدته الروحية، وأن هذه العقيدة إذا ضعفت انهار الشرق. ومن ثم اتجه أهل الغرب إلى أن يباعدوا بين الشرق وبين عقيدته الروحية الخالصة، ووجدوا لأنفسهم أبواقا تردون وتعمل على تحقيق ما يرغبون. وهكذا قامت وقوانين حكومات وقوانين ضعيفة في الشرق هي التي نشاهدها اليوم وهي التي تقف متخاذلة أمام المستعمرين من أبناء الغرب.
إذا أردنا إذن أن نبحث عن الدولة الإسلامية بمعناها الإسلامي فعلينا أن نولي وجوهنا شطر الباكستان.
النظام الحكومي:
الحاكم العام هو رئيس دولة الباكستان. ولما كانت الباكستان مكونة من عدة مقاطعات هي(981/26)
البنغال والبنجاب وباثان (إقليم الحدود الشمالية الغربية) والسند وبلوخستان فإن لكل مقاطعة مجلس وزراء وبرلمان. ويشرف على المقاطعات جميعاً مجلس وزراء مسئول أمام مجلس نيابي يمثل سائر المقاطعات في السياسة الخارجية والشؤون الحربية.
ولم يتم بعد وضع دستور الباكستان الجديد، وما تزال الجديد، وما تزال الجمعية التأسيسية تشتغل بوضعه. وجدير بالذكر أن نقول: أن المغفور له لياقت على خان قدم في 7 مارس 1947 اقتراحه التاريخي إلى الجمعية التأسيسية، ويقضي الاقتراح بأن يكون القرآن والسنة أساس دستور الباكستان الجديد. وقد وافقت الجمعية التأسيسية على ذلك الاقتراح بالإجماع.
وقد قدم الأستاذ أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في الباكستان مقترحات لتكون أساس الدستور فيها نلخصها فيما يلي:
1 - الحاكمية في الدولة لله وحده.
2 - الشريعة الإسلامية هي القانون الأساسي للدولة.
3 - وظيفة الدولة تنحصر في أن تحقق مرضاه الله تعالى بالعمل في هذه الدنيا وفقا لهدايته المنزلة وفي ضمن الحدود التي عينها المولى وتعالى.
4 - يجب أن تعمل الحكومة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمحافظة على تحقيق أهل الدولة من هجمات الأعداء.
5 - يجب أن تكون الحكومة شورية ينتخب أفرادها لصلاحيتهم وكفايتهم لإدارة شؤون الدولة.
6 - كل تأويل للدستور يخالف مضمون القرآن والسنة لا ينفذ شرعا.
7 - لا يجوز التفرقة بين الناس في الحقوق والواجبات بسبب لونهم أو جنسهم أو لغتهم.
8 - يكون رئيس الدولة فيما يتعلق بالحقوق المدنية مساويا لكل مسلم آخر يجوز له أن يتخطى القوانين.
9 - إذا خرج رئيس الدولة على الدستور يجب عزله.
وقد عرضت هذه المقترحات على المؤتمر الإسلامي في العام الماضي فوافق عليها باعتبارها (مبادئ أساسية لإقامة دولة إسلامية).(981/27)
وهكذا يتضح لنا أن الباكستاني لا يستطيع أن يجعل نطاق الدين ضيقا بل يراه شاملا لكل شيء. وتتجلى تلك الروح الإسلامية في كل شيء. فالباكستان لا تسمع لدور السينما أن تعرض أفلاما فيها خروج على الدين والفضيلة، بل إنها تعمل دائماً على تطبيق المبادئ الإسلامية في جميع مناجي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
في 12 فبراير 1952 افتتح حاكم عام الباكستان المؤتمر الاقتصادي الثالث فعدد المسائل الاقتصادية التي تواجه الباكستان وطلب معالجتها، وهذه المسائل هي (1) تطبيق المبادئ الإسلامية على النظم الحديثة (2) الإصلاحات الزراعية (3) زيادة الادخار ووسائل الاستثمار (4) توزيع الإنتاج بالعدل.
وختم الحاكم العام بيانه قائلا: إن الباكستان قامت لتكون مجالا لمجتمع إسلامي حدودها، فعلينا والحالة هذه ألا نتقاعس عن تحقيق هذا الذي جاهدنا من أجله.
وخطب وزير التجارة والاقتصاد فقال: إن عظمة الدولة الاقتصادية لا تنهض إلا توفر لها عاملان: الأيدي العاملة ووفرة الموارد الطبيعية، وقال إن القرآن يتضمن أحسن المبادئ الاقتصادية التي يمكن أن تطبق في الظروف الحاضرة وهي كفيلة بالتغلب على كل الصعاب التي يثيرها الرأسماليون والشيوعيون.
ومن كل ما سبق يتجلى لنا أن الباكستان تحاول جاهدة أن تقيم دولة إسلامية بالمعنى الإسلامي الدقيق. وفقها الله.
أبو الفتوح عطيفة(981/28)
البلبل الذبيح
للمغفور الدكتور زكي مبارك
بعث إلى المجلة بهذه الكلمة المرحوم الدكتور زكي مبارك قبيل وفاته بأيام يرثي المرحوم الأستاذ علي محمود طه، وقد أخرناها انتظار لأي مناسبة تدعو إلى نشرها والمناسبة اليوم هي حفلة تأبينه التي أقامتها نقابة الصحفيين في هذا الأسبوع وقد وصفناها في غير هذا المكان.
أخي الأستاذ الزيات:
أرجو تكون بخير وعافية، وأن تجد في المنصورة الغناء ظلالا أجده في مصر الجديدة. وأرجو أن تكون تناسيت حزنك على البلبل الذبيح وهو الشاعر علي محمود طه.
آخر العهد به كان وكيلا لدار الكتب المصرية وكنت زميله هناك، وكنت أفرح بلقائه فرح الحبيب بلقاء المحبوب.
أظلمت الدار من بعده، فنقلني معالي الدكتور طه حسين إلى منصبي الأول وهو تفتيش المدارس الأجنبية فاسترحت من رؤية مكتب علي محمود طه خالياً، فقد ذوى الورد الذي كان يضعه في مكتبه كل صباح.
ومع أن الأعمار بيد الله فأنا أذكر أن الشاعر مات بالمرض الذي مات به أبي وهو ضغط الدم، فقد كان أبي لحميا لا يسيغ الطعام بدون لحم، وكذلك كان الشاعر علي محمود طه فقد كان لحميا بصورة تفوق الوصف.
دخلت دار الكتب فوجدت قنديل بك يبكي، وسألت عن السبب فعرفت أن شقيق الفقيد حضر ليخبر الدار أن الشاعر مات، فبكيت أنا أيضاً حتى شرفت بدموعي.
أعطانا المدير إجازة لنشهد جنازته، ولكن أخاه نقلة بسيارة إلى المنصورة وطنه الأول.
بين الكفر والأيمان.
من حق الشاعر أن يكفر بالله، وإن كان من واجبه أن يؤمن بالله، ولا أدري كيف كنت حين نظمت القصيدة الآتية وأنا أخاطب البلبل الذبيح:
يا ماضياً لبلاد ليس يشهدها ... من يرتئيها وجفن العين وسنان(981/29)
جميع من يرتئيها كلهم نفر ... حجوا إليها وهم بالموت عميان
إن الحياة وهذا الموت يطلبها ... في شرعه الصدق تزوير وبهتان
قالوا سنلقي غداً ما سوف يفرحنا ... في جنة عندها البواب (رضوان)
فيها الفواكه من تين ومن عنب ... وفي جوانبها حور وولدان
هذا جميل، ولكني بلا أمل ... ففي حياتي ضلالات وكفران
إن الذي أسكت الغريد أسكته ... وفي مشيئته جور وطغيان
إني إلى النار ماض خالد أبداً ... ففي مسالكها للشعر ميدان
قالوا اسينصب في يوم الحساب لنا ... عند المهيمن قسطاس وميزان
الموت نوم فلا صوت ولا خبر ... خلوا فؤادي فإن النوم سلطان
هذا (علي) مضى لم يبكه أحد ... ولا أفاض عليه الحزن فنان
أوحى إلى الشعر ما أوحى ومن عجب ... أن يصدر الشعر وحياً وهو شيطان
أما بعد فهذه قصيدتي في رثاء البلبل الذبيح الذي لم يرثه أحد من الشعراء، وكان يجب أن يرثيه زميله أحمد رامي.
كان البلبل يمر بالقهوة مرور الطيف ليتحدث معي، ويأنس بلقائي، وكنت أتحداه أن يساجلني فلا يستطيع، لأنه لا يقوى على الارتجال، فقد كان يتأنق في شعره كما يتأنق في هندامه، والشعر في ذاته تأنق.
في سهرة بمنزل توحيد بك السلحدار ومعنا الأستاذ الزيات أخذ راية الشعر من أيديكم، فيقول: لن تستطيع يا دكتور.
أخرجت من جيبي ورقة وقرأت الأبيات الآتية:
عجب الناس من بقاء أديب ... رغم بغي الخطوب والأيام
أنا أيضاً عجيب من طول عيشي ... في زمان مجنح بالظلام
إن يوماً يمر من غير غم ... هو طيف يمر في الأحلام
لا صديق يرد ديني عليه ... لا حبيب بقي بعهد الغرام
قد سئمت الحياة أو سئمتني ... فرمتني بكيدها الهدام
قال لي صاحبي: نراضع قليلا ... تجد الرزق صافياً كالمدام(981/30)
قلت: رزق من الرياء يوافي ... هو هندي من الطعام الحرام
قال البلبل: هذا شعر نفيس
وزارني الأستاذ مرة ثانية في القهوة فرآني مكروباً فسأل عن حالي فأنشدته قول زكي مبارك.
يا سائلا ما الحال ... ألحال أنت الحال
وسألني عن أسباب كربي فقلت: كان لي موعد غرام في مشرب تربومف بمصر الجديدة وهو يطل على الصحراء فانتظرني المحبوب دقائق وانصرف فصرخت بهذه الأبيات:
دقائق أضجرتك عني ... وغادرت المكان بلا انتظار
فما حالي وقد مرت شهور ... شربن الصبر من طول اصطباري
جلست أسامر الصحراء وحدي ... وأشرب لوعة مزجت بنار
قال البلبل: وهذا أيضاً شعر نفيس
كان الشاعر علي محمود طه يكره الشاعر محمد الهراوي، وكانت بينهما مهاجاة تذكر بالمهاجاة بين عبد اللطيف النشار وعثمان حلمي، وهما شاعرا الإسكندرية، وكان البلبل مغرماً بمكايدة الهراوي، فأمضى معه إلى القهوة فيقول الهراوي: أشعارك يا سيد علي من فتات موائد الشعراء الأجانب!
فيقول البلبل: وأنت يا سيد محمد لا تدخل السينما ولا تشرب الخمر، فكيف تكون شاعراً؟
فيقول الهراوي أنا قلت:
هم أحلوا دم الأنام شراباً ... كيف لا نستحل ماء الكروم
فيقول البلبل: هذا بيت جميل
ديوان الهراوي
الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف بك يشهد بأن لجنة التأليف والترجمة والنشر قامت على قدميها بما جنت من أرباح (سمير الأطفال) وكان مقراً على جميع المدارس الأولية، ومع ذلك بخلت اللجنة يطبع ديوان الهراوي.
ودعوت أخاه الدكتور حسين الهراوي لطبع الديوان فوجد النفقات غالية.
فهل يمكن إنقاذ هذا الديوان قبل أن يضيع ضيعة أبدية؟(981/31)
الشبيبي في مصر.
في العدد المقبل سأنشر في الرسالة قصيدة حييت بها معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي زميل الأستاذ الزيات في المجمع اللغوي، وقد نظمتها في الإسكندرية والبحر يضرب أمواجاً بأمواج:
محطة الرمل جننتني ... وحيرتني بلا صواب
بها ظباء بغير عد ... ولا بيان ولا حساب
عشرون ألفاً وألف ألف ... أطلت في حبهم عذابي
زكي مبارك(981/32)
في تأبين الدكتور زكي مبارك
المجد الطموح الجريء
للأستاذة زينب الحكيم
عرفت الدكتور زكي مبارك بالسماع به والقراءة له في بادئ الأمر، فقد كان له جيل من القراء والمعجبين، كما كان له حلقة من المنافسين المحنقين.
فلما رأيته. . وجدته رجلا متقشفا أشد ما يكون التقشف، فوقعت في حيرة شديدة، لأني عرفته غير هذا في كتابه (النثر الفني) الذي كنت سأشترك في تقريظه بعد أيام قلائل، وحدث أن اجتمعنا في الندوة، وتجلت شخصية زكي مبارك، وفاض علمه واطلاعه في الردود المفحمة التي واجه بها كل ما دار حول كتابه وكسب المعركة. ولا غرابة في ذلك فهو ابن الأزهر المجتهد المستوعب، وابن الجامعات المصرية والفرنسية، وابن جامعة الحياة العملية والصحافة. رجل نابه من الريف ينزح إلى القاهرة للتعلم، لم يتملق عظيما ولم يستجد ثريا لينجح في دراساته أو لينال رزقه. . . إنما هو رجل نجح نجاحا عزيزا مشرفا؛ فإذا لم يكن في حياة الدكاترة زكي مبارك إلا هذا، وإلا أنه شق طريقه بالنحت بأبرة في صخور الحياة الصلدة لكفاه فخرا وخلودا فكيف بنا وزكي مبارك له فلسفة، ولقلمه مدرسة، ولنفسه طموح وجموح وثورة؟! أودع كثيرا من كله مؤلفاته العديدة، ومقالاته العتيدة.
في ذمة الله الكريم فتوة ... سكنت ولما تنته النهضات
في ذمة الله الرحيم فتية ... شبل ينعم درسه وفتاة
في ذمة الله العزيز فقيدنا ... وعليه من رب العلا الرحمات
يا آله لا تجزعوا إن الذي ... في الخلد ذكراه إليه حياة
أيها السادة والسيدات:
أهدي إلى المبارك مجلدات (ليلى المريضة في العراق) ومما رأيته على غلاف الجزء الأول منها لعلي الجازم بك ما يأتي: - (لقد ابتكر زكي مبارك فنا جديدا حين نقل الغزل والتشبيب من الشعر إلى النثر) وهذه شهادة من أديب لا يستهان بها.
وكنت أتمنى لو أن زكي مبارك لم يسرف في هذا، فإن العبقرية الجامحة يجب أن تنظم(981/33)
وأن تلتزم قواعد وحدودا، ولا سيما وليس عندنا معاهد للنوابغ ترعى نبوغهم. وتحرص على توجيههم.
أنظر إلى نتاج تجارب زكي مبارك فيما قاله في الجزء الثاني من كتاب ليلى: -
(أنا أشرب المر من عصير الحياة لأحيله على سنان القلم إلى شراب سائغ للشاربين) إن هذا القول يدل فعلا على أن الدكتور زكي قد ضحى بنفسه في سبيل غيره
قابل قوله هذا بقول من قال:
لا أذود الطير عن شجر ... ذقت (طعم) المر من ثمره
لترى مقدار تضحية زكي، ومبلغ أنانية غيره. لقد أوذي زكي مبارك في سبيل النقد الأدبي. . . والنقد في الشرق ليس بمستساغ، ولا يقبل على أحسن وجوهه.
لهذا حمل زكي أعصابه فوق طاقتها، وظلم وقته ونفسه؛ فهل ولكنه بئس؟ كلا، وإنما أفلت زمام نفسه من يده في أحد أطرافه، ولكنه قبض تماماً على باقي نواحي نفسه الذكية السامية.
استمع لبعض ما قال عن النواحي الإنسانية في الرسول حيث تتجلى فلسفته، وتنجلي عبقريته في إحدى مقالاته الفريدة:
1 - (يا محمد إنك إنسان ونبي، والنبوة عهد من عهود العظمة الإنسانية، إنك آية من آيات التاريخ.
2 - أحبك أيها الرسول لأنك كنت إنساناً له ذوق وإحساس، ولم تكن كما يصورك الجاهلون الذين رأوا عظمتك في أن تكون حاليا لوحي السماء - وما أنكر وحي السماء - ولكني أمن بأن في السريرة الإنسانية ذخائر من عظيم الصدق والروحانية، وأنت أول من أعز السريرة الإنسانية.
3 - أحبك أيها الرسول وأشتهي أن أتخلق بأخلاقك السامية، وأحب بنوع خاص أن أوفر من الشيطان كما فررت منه. . حتى أسلم بجهادي من شهوات النفس كما سلمت بجهادك من شهوات النفس.
4 - أحبك لأنك أعززت الشخصية الإنسانية يوم اعترفت بأنها صالحة للخطأ والصواب.
ولكن ما رأيك فيمن يقاومون الحرية الفكرية باسم الغيرة على دينك؟(981/34)
وما رأيك فيمن يحاربون الفنون والآداب باسم الدين؟
5 - لقد فكرت مرات كثيرة في الاقتراب من روحك، فلم يعقني لأن بيني وبينك وشيجة من الإنسانية.
6 - ودعاني الشوق إلى مسافرة خيالك، فرأيتك إنساناً كاملا لا تقع عينيه على غير الجميل من شمائل الأصدقاء.
7 - وصحبك في إحدى غزواتك فهالني أن تكون رجلا نبيلا يصبر على الظمأ والجوع والأذى في سبيل الحق.
وشهدتك يوم الموت وأنت تواسي ابنتك فتقول:
(لا كرب على أبيك بعد اليوم) فعرفت أن الكرب في الدنيا مقصور على الرجال.
أيها الناس: هذا طرف عابر من حياة وعبقرية وفلسفة زكي مبارك. . فيها عظة وعبرة، وتدل على مبلغ ما خسرناه بموته، ولكن الحياة حق كما أن الموت حق (والله خلقكم ثم يتوفاكم) وزكي مبارك لم يمت فهو حي في قلوبنا ومشاعرنا - والسلام
زينب الحكيم(981/35)
رسالة الشعر
البحيرة
(للشاعر الفرنسي لامرنين)
نظم الأستاذ عبد العزيز السيد مطر
يا إلهي! حرت في بحر الزمان! ... هام فلكي في ظلام لا نهائي!
لا أرى الشاطئ يدنو، أو أرى ... أين أمضى، ما أمامي؟ ما ورائي؟
طالما ناديت، أرجو مرفأ ... لي، دون جدوى لندائي!
جئت وحدي ها هنا مستلهما ... حدثيني، هل توافي يا بحيرة؟
شارف العالم تماما، فاشهدي ... ما ألاقي من تباريح وحيره؟
رقص الموج، وغني، واستوى ... ماؤك العذب على الصخر القريب
ومضى سنساب درا نحوها ... يخطب الود، (جوليا) تستجيب
كان هذا أمس حلما، وانتهى! ... أيعود الأمس أم سوف يغيب؟
اذكرى ليلة كناها هنا ... نتساقي الحب، (جوليا) وأنا
عزف (المجداف) ألحان الأمل ... فمضى (الزورق) مختالا بنا
وسرى الإيقاع في روح الزمن ... فاستجابت كل نفس حولنا
شق صمت الكون صوت حالم ... يجذب الأسماع بالسحر الحلال
صافح الآذان فاهتزت له ... وهنا العالم يصغي للجمال
أبطئ الدورة يا أرض بنا ... أيها الساعات لا يمض الأوان
خليانا وحدنا في حلمنا ... تنهل الكأس، فإنا عاشقان
أسرعا ما شئتما مع غيرنا ... أسرعا مع كل مكروب مهان
واحملا الآم عنه والضنى ... واحميا العشاق من غدرالزمان
هل أجاب الدهر سؤلي؟ لم يجب؟ ... هكذا الدهر ضنين بالطلب
ها هو الليل تقضى مسرع، ... هجم الصبح عليه، فهرب!
امزج الكأس بحبي واسقنيهـ ... ادهاقا، فهي سلوى الحائرين(981/36)
واقض كاللمح الأماني، واغتنم ... إنما الدهر عدو الحالين!
فهو كالسهم مروقا، لا يشا ... ء أناة أو رسوا بالسفين!
وبح نفسي من زمان حاسد ... يكره الحب، ويهوى البائسين!
جعل الليل سواء، لو عدل ... طال ليلى، وانقضى ليل الحزين
أيها الغور أجبني مخلصا ... وتكلم أيها الماضي الدفين!
أيرد الدهر أياما مضت؟ ... أم طواها في ثنايا الذاهبين؟
ليت دهري يحفظ الذكرى لنا! ... إنما الذكرى حياة العاشقين؟
هذه الليلة كانت نشوة ... يبهج النفس شذاها إن خطر
أيها التاريخ خلد ذكرها ... في نسيم الفجر، أو ضوء القمر
إنما الحب جميل دائماً ... في هدير الموج، أو صفو اللجين
شاهد الكون هوانا فليقل ... كل شيء (كانا عاشقين)
عبد العزيز مطر(981/37)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تأبين الدكتور زكي مبارك:
أقامت نقابة الصحفيين يوم الجمعة الماضي حفلا لتأبين فقيد الأدب والصحافة الدكتور زكي مبارك، وقد توالي الخطباء والشعراء في هذا الحفل، فوفوا الفقيد حقه من الرثاء ودراسته حياته وأدبه. ويعتبر مجموع الكلمات التي لقيت كتابا عن (زكي مبارك) لا بأس به، وتحسن النقابة صنعا لو أنها قامت بطبعه ونشره.
كانت كلمة الأستاذ حافظ محمود - على إيجازها - وافية، وأفاض الأستاذ محمد عبد القادر حمزة في محاضرة التي تناول فيها جوانب مختلفة من شخصية الفقيد وأدبه، وكان الأستاذ مظهر سعيد - كعادته - مجليا في الخطابة، وكان ختام كلمته رائعاً إذ قال: كنت واحداً ممن اكتووا بنار الدكتور زكي مبارك، وقد أشبعني شتماً، ثم مات وبيننا عداوة، وقد سمعتم رأيي فيه، والفضل ما شهدت به الأعداء.
وتحدث الأستاذ حسين كامل عن جهاد الفقيد في القضية العربية فقال إنه من أوائل من نادوا بالوحدة بين الناطقين بالضاد.
وتطلعت الأنظار حين وقفت الآنسة زينب الحكيم. . . ترى ماذا عن زكي والدعوة إلى أخذها بالعنف. . ولكن الآنسة زينب جازت الفقيد إحسانا بإساءة، ومما قالته أن الدكتور زكي مبارك كان خفيفا على قلوب النساء سواء في عدواته ومناصرته. . . ولعل هذا من مصداق رأيه في النساء من حيث إنهن إنما يسكن بالشدة!
أما الدكتور منصور فهمي باشا فقد كان الحاضرون يتوقعون منه - باعتباره عضوا في مجمع اللغة وعميدا سابقا للداب - أن يكون على وفاق مع سيبويه. .
وقد ألقى الأستاذ محمد مصطفى حمام قصيدة جيدة تميزت بالانطباق على شخصية الدكتور زكي مبارك، مطلعها:
عابد الحسن هل جفا محرابه ... مدمن العشق هل سلا أحبابه؟
ومنها:
الخطيب المبين أفحمه المو ... ت وألغى بيانه وخطابه(981/38)
الجريء المغاضب الصعب قد أو ... دى فلن يملك العدا إغضابه
وهب الله للصدور صفاء ... وتولى حسابهم وحسابه
حول تقدم الشاعرين الفائزين في مسابقة المجمع اللغوي
أتيت في الأسبوع الأسبق بخلاصة الكلمة التي ألقاها الأستاذ عباس محمود العقاد في تقديم الشاعرين الفائزين بجائزتي الشعر لهذا العالم في مجموع الأول للغة العربية. وقد عني الأستاذ في تلك ببحث أسباب الأزمة الشعرية في الغرب وما أدت إليه من قيام (الاستفزازيين) في الشعر وفي سائر الفنون، الذين فقدوا روح النضال ووجهوا همهم إلى تحدي المثل والمناهج والأهداف.
وقد لوحظ أن ذلك البحث استغرق جل عناية الأستاذ، فلم يظفر الفائزان منه إلا بسير من القول تطرق إليه بقوله إن حالة الاجتماع عندنا تختلف عن حالة البلاد الغربية، فلم تصل فنونا إلى ما وصلت إليه الفنون في الغرب من الحيرة والانقطاع عن المثل، واتخذ الديوانين الفائزين يا لجائزتين شاهدا على ذلك. وهنا موطن الملاحظة الثانية، وهي وهن العلاقة الموضوع الذي ظفر بأكبر الجهد وبين الديوانين اللذين طفا عليهما ذلك الموضوع وكانا أحق بالنظر والدروس في مناسبة إجازتهما.
كنا نتوقع أن يحدثنا الأستاذ عن شعر كل من الديوانين، معرفا أو ناقدا، وبين لنا خصائص كل منهما على حدة، ولم استحق الأستاذ إبراهيم نجا الجائزة الأولى، ولم استحق الأستاذ خالد الجرنوسي الجائزة الثانية.
حقا أن الأستاذ العقاد جرى أن يكون لكلمته في مثل هذه المناسبة موضوع عام، وأذكر كلمته في مسابقة من مسابقات المجمع السالفة، إذ أجرى الكلام فيها على المذهبين الشعريين: الاتباعي والابتداعي، وطبق ذلك على الشعراء الفائزين إذ ذاك وهم الأستاذة محمود غنيم ومحمد الأسمر ومحمود عماد.
ولكن الأستاذ الكبير هذه المرة أتى بموضوع لم يطبق نتيجته على الشعر الشاعرين الفائزين؛ ويخيل إلى أنه فعل ذلك تخلصا من الجرح الذي يتمثل في عدم انطباق هذا الشعر على مذهبه المعروف الذي يجعل القيمة الأولى للشعر فيما يتضمنه من (فكرة) ولهذا اختار منه - للاستشهاد - ما يلائم هذا المذهب.(981/39)
وماذا يقول من يتحدث عن الشعر إبراهيم نجا إن لم يكن في مقدمة ما يقول، ما يمتاز به هذا الشاعر من الروح الشعرية الرفافة والتعبير البين عن الوجدان الصادق؟ ومن هنا - فيما يبدو لي - يتلمس العذر لصاحب المذهب الفكري في تجنب الحديث التفصيلي في هذا المضمار.
مسرحية (كدب في كدب)
قدمت فرقة المسرح المصري الحديث أخيراً على مسرح الأوبرا الملكية، مسرحية جديدة للأستاذ محمود تيمور بك عنوانها (كدب في كدب) وقد قام بإخراجها الأستاذ زكي طليمات مدير الفرقة.
تعرض المسرحية أشخاصاً يعيشون في بيئة (أرستقراطية)
فهذا (كريم بك) شاب وسيم يستهلك ثروته الكبيرة الموروثة في المقامرة على سباق الخيل، ويأتي في ذلك بضروب من السفه والتبذير والإتلاف حتى ينتهي به الأمر إلى الإفلاس، ويلتقي في خلال ذلك بالفتاة الجميلة (كريمة) التي تتبناها وتكلفها امرأة غنية هي (شقيقة هانم) ويبدي كل من الفتى والفتاة استخفافا بالآخر أول الأمر، ثم يزين لهما المحيطون بهما أن يتزوجا، فيقال لكريم بك إنك على وشك الإفلاس وهذه فتاة غنية، ويقال لكريمة شبه ذلك، فيصطنعان الحب ويتزوجان.
و (نصار بك) زوج شقيقة هانم رجل وضيع النفس يطمع في مال زوجته وقد تزوجها من أجل ذلك، ومن أغراضه أن يستأثر بهذا المال دون (كريمة) ثم يتظاهر بالعطف على الفتاة طمعا فيها. . فتجاريه أولا لتكشفه ثم تصده وتزجره، فيتمادى في خطته لحرمانها كل شيء.
و (نبيه بك) عمدة إحدى القرى يغشى مجتمعات القاهرة الراقية، يتطرف ويتأنق محاولا أن يبدو مثل أفراد هذه المجتمعات، ويوجه اهتمامه إلى (كريمة) رغبة في زواجها، ويحاول صديقه (نصار بك) أن يعاونه على ذلك، ثم ينتهي الأمر بهذين الصديقين إلى السجن لتلاعب في بعض الوثائق.
و (فواز بك) رجل سرى متزن حصيف خرجته تجارب العمر الطويل، يعمل على التوفيق بين أشخاص الرواية وخاصة (كريم) و (كريمة) على أساس فلسفته التي استفادها من(981/40)
الحياة، وهي أن الإنسان لا بد له من الكذب والنفاق ليساير الناس ويواكب الحياة، فحين تنكشف حقيقة كل منهما للآخر فتبين إفلاس الغنى، وتنجلي ظروف الفتاة بذهاب الثروة التي كانت تظاهر بها، ويعرف كل منهما أن صاحبه كان يكذبه ويخدعه - يقوم فواز بك بهمته في إقناعها بأن ما كان منهما لا بأس به ولا ينبغي أن يؤدي إلى القطيعة بينهما ويخلي لهما المكان ليتفاهما. فيتفاهما عملا بفلسفة فواز بك، بل هما أكثر من ذلك يشعران بانتهائهما إلى تبادل شعور المودة، فيحمدان الكذب الذي تبادلاه أول الأمر إذ كانت نتيجته الحب. . . وتلتقي فلقتا الستار وهما في جحيم من القبل. . .
هل لهذه المسرحية موضوع؟ لا أريد أن أجرم بشيء من ذلك. يخيل إلى أولا أنها (رد فعل) للفن الوعظي الصارخ الذي يشتمل على الخطب ويعتمد على التأثير بالافتعال والمفاجآت.
وتيمور قصاص هادئ يرقب الحياة في سكون ونفاذ، ويتمثل ذلك على أكمله في هذه المسرحية التي يقدم بها أشخاصا ينتزعهم من الحياة كما هم ويدفع بهم إلى المسرح ليأتوا من الأفعال والأقوال ما يأتون في الحياة، وأحسب أن شخصية (فواز بك) تعكس بعض صفات المؤلف نفسه. .
والمسرحية ليس فيها صراع، فلا يأتي شوق المشاهد وتتبعه لما يجري فيها - لا يأتي ذلك من أحدث يتوق إلى أن يعرف كيف ينتهي، وإنما يجتذب المشاهد عرض التصرفات التي يراهامطابقة لما يجري في المجتمع، وطلاوة الحوار وما فيه من دعابات وإشارات إلى حقائق في النفوس الإنسانية.
وإذا كان لا بد من تلمس الموضوع فلا أجده إلا في هذه الفلسفة الواقعية التي تنطبق بها أفعال الأشخاص وأقوالهم، وكأنهم يقولون: ها نحن أولاء ناس من الناس نفعل ما تسوق إليه دوافعنا البشرية ولا يغنينا أن توصف أعمالنا بخير أو شر.
وكأني بالمؤلف يقول: إلى متى نظل نكذب ولا نستطيع أن نعيش بغير كذب، وليقل من يقول على المنابر، وليكتب من يكتب على الأوراق، في فوائد الصدق ومضار الكذب، ما يشاء، ولنقصد نحن إلى الواقع، وهذه هي نتيجة الكذب. . . الحب. . .
ومن مظاهر التوفيق في إخراج المسرحية ما قام به مخرجها الأستاذ زكي طليمات من(981/41)
أنواع التعبير عن طريق المناظر والأضواء المطابقة والموحية، ويسترعي انتباهي دائماً في إخراج الأستاذ زكي طليمات حسن تنسيق المجموعات الصامتة وإحكام حركاتها ليحيل صمتها إلى نطق. . . ومن تلك المظاهر أيضاً حسن إعداد الممثلين الممثلات وإسناد الأدوار الملائمة إليهم واستنباط كفاياتهم الكامنة. هذا ولست أدري لماذا جعل نور الدمرداش في دور كريم بك يستمر في حالة عصبية من أول الرواية إلى آخرها، والمفروض في هذا الدور أن يكون صاحبه الشاب المتلاف مرحا طروبا. نعم قد يبتئس في بعض الأحيان لما يطرأ من سوء الحال، ولكنه لم يكن على ما ينبغي في عدة مواقف كانت يتطلب التلطف والمرح.
وألاحظ في تمثيل هذا الشاب (نور الدمرداش) أنه هو تقريبا في أدواره بالروايات المختلفة، فهو يكرر نفسه كما يقولون وتماثله في ذلك الفتاة (زهرة العلي) التي قامت بدور (كريمة) فالشبان لا تكفي وسلمتهما، بل لا بد لهما من التنويع والتجرد من السمة الواحدة.
وقد قام عبد الرحيم الزرقاني بدور فواز بك فأجاد بالاندماج في الشخصية المرسومة، وبراعة الاندماج من مميزات الأستاذ الزرقاني.
وكان أحمد الجزيري، الذي مثل سكرتير كريم بك، عصب الفكاهة في هذه الرواية، وقد وفق في دوره كل التوفيق، وكذلك علي كاسب الذي صور شخصية (العمدة) وما لا بسها من مفرقات فأجاد في ذلك.
أما سميحة أبواب فقد لاحظت أنها تقدمت تقدماً كبيراً، فقامت بدور (أرتست الحرب) خير قيام.
في ذكرى ابن سينا:
كان الدكتور محمد يوسف موسى من أنشط أعضاء اللجنة التي ألفت في الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية للإعداد للاحتفال بذكرى ابن سينا، فقد قام بستة بحوت في نواح مختلفة لصاحب الذكرى، منها بحث موضوعة (الناحية الاجتماعية والسياسية في فلسفة ابن سينا) وهو بحث قيم تناول فيه بالعرض والتحليل آراء ابن سينا في مسائل الاجتماع والسياسة، وعرض لما يمكن أن يطبق منها في العصر الحاضر. وقد قام المعهد الفرنسي في القاهرة بنشر هذا البحث باللغتين العربية والفرنسية.(981/42)
وكان المفروض أن يكون الدكتور موسى بين أعضاء وفد مصر في المهرجان الذي أقيم ببغداد، ولذلك دهشنا رأيناه بالقاهرة في وقت انعقاد ذلك المعرجان. والذي حدث أن جميع أعضاء اللجنة سافروا إلى بغداد بصفات مختلفة، ممثلين للجامعات والهيئات العلمية والجامعات العربية. أما الدكتور موسى فقد أهمل إهمالا لا أجد له وصفا أخف من أنه غير لائق، فهو من أستاذة جامعة فؤاد الأول، ومن أبناء الأزهر، وكان أستاذا به، فكان يمكن اختياره ممثلا للجامعة أو للأزهر، ولم يكن أقل من أن يختار في وفد الجامعة العربية، وقد كان بين المندوبين من هو أقل منه نشاطا في هذه الذكرى، بل من لم يكن له نشاط فيها. . .
عباس خضر.(981/43)
الكتب
عقيدة المسلم
تأليف الأستاذ الداعية محمد الغزالي
للأستاذ محمد فياض
من القواعد الاجتماعية التي نرى مع معتنقيها وجوب الأخذ بها: أن الشيء لا يوجد، أو بعبارة أدق وأصدق في الحكم، لن يكون له كيان إلا إذا كان المجتمع في حاجة إليه، وبمقدار ما تكون عليه حاجة المجتمع لشيء ما بمقدار ما يكون وجوده بل كيانه متحققاً في عالم الواقع، وكلنا يعلم انه قد يوجد عبقري في بيئة ما، ولكن تلك البيئة في حالة لا تسمع له بوجود أو كيان، أو في حالة لا تهيئ له الظروف التي ينبثق من ورائها نبوغة؛ ومن يدري فلربما لو قدر لنابليون، أن يعيش في غير عصره أو في غير بيئته؛ بل لم تكن بيئته على الوضع الذي كانت عليه إبان وجوده؛ لما قدر وجود أو كيان. . لأن استجابة مجتمعه إليه، كان متوازناً مع حاجته إلى قدرات (نابليون) وإمكانياته الخاصة.
وعندنا الآن في الشرق، حين نقتفي الآثار العديدة في ميادين الحياة العامة، على ما بها من تشابك واختلاط وتغلغل؛ وهنا في مصر على وجه الخصوص، حين نتتبع علائم الحياة في مجتمعنا العريق؛ نجد أن كل مظهر نشهده، وكل تقدم نحصل عليه. . إنما حدث ويحدث وفقاً لمقدار الحاجة الشعبية إليه، ولمقدار شعورنا بتلك الحاجة، ونعتقد أن ما يمنعنا عن التفضيل في تتبع الآثار الرئيسية التي تكشف عن حاجاتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية. . في الشرق وفي مصر؛ هو أننا في غير موطن الحديث، خاصة والأحداث الشرقية والمصرية على السواء لم تستكمل حلقاتها النهائية بعد؛ وشيء آخر لعل القارئ يدريه، ولعله أن يتصل بشؤون السياسة الحاضرة أو نظم الحكم الموجودة. . من قريب أو بعيد!!
ولكننا مع ذلك، سنتحدث في ميدان من تلك الميادين، وعن كتاب من تلك الكتب التي خرجت إليه باعتباره أكمل كتاب وجد في حقله الخاص من ذلك الميدان، وعن مؤلفه باعتباره أول رائد أصاب في ذلك الحقل جسد الكمال.
فما سقنا تلك المقدمة المجملة إلا من أجل شيء أردنا توضيحه وأردنا الخلوص إليه، بعد(981/44)
إقامة الأساس الذي تستند إليه فكرتنا عن ذلك الكتاب وعن مؤلفه العالم الأديب.
ونستطيع القول أنه منذ ربع تقريباً، وقد بدأت حاجة الشعوب الإسلامية إلى النهضة من جديد في الاشتداد؛ نعني أن هذه الشعوب قد بدأت في مرحلة الإحساس بالظمأ والجوع إلى الاستقرار العام والتنظيم الشامل. . على الأساس الإسلامي؛ ونعني أيضاً أن مشاعر الفكرة الإسلامية في نفوس هذه الشعوب قد دخلت في دور آخر دعامتاه: التكتل من جهة، والتكوين من جهة أخرى، ولقد كان ذلك الدور الحديث نتيجة طبيعية لأدوار الانحلال التي منيت بها القرون الإسلامية الأخيرة تحت وطأة الحكم الفردي، بما جره من ألوان الخلافة والإمارة والإقطاع؛ فذلك الانحلال الذي أصاب الشعوب الإسلامية هو نفسه الذي أشاع اليأس القاتل فيها، وشوه العقيدة والسلوك في القلوب والأذهان. . وهو نفسه أيضاً الذي أحدث الأمل كرد فعل طبيعي مباشرة، لما شاع من يأس وما استشرى من قنوط. ونملك أن نؤكد بأن ذلك الأمل قد بزغ أول ما بزغ، وأشرق أول ما أشرق. . في أرض الحجاز بدعوة (محمد بن عبد الوهاب) السفلية. . ثم ما أعقبه من أصداء الدعوة، في آسيا. . على يد الإمام الشوكاني، والسيد أحمد، وجمال الدين الأفغاني، وفي أفريقيا. . على يد السنوسي، ومحمد عبدة، وجمال الدين الأفغاني.
ويجب أن نقرر: أن الحكم الفردي الذي كان السبب الأول والمباشر، لانحلال الفكرة الإسلامية وتدهور شعوبها، هو الذي قضى على أزهار الدعوة الوهابية وانتشارها، وشوه حقيقتها في نفوس معتنقيها ومؤيديها إن لم يكن قد طمسها؛ وأن الطابع الفكري المحض، الذي اقسم به الدعاة من بعد ابن عبد الوهاب، هو الذي باعد بين عامة تلك الشعوب، بين هذه الدعوات وأطبها، فاتجه هؤلاء الدعاة إلى الحكومات دون الشعوب، والى الخاصة دون العامة. . وساعد على ذلك كله أن مرحلة الظمأ والجوع أو اليقظة الشعبية، لم تجاوز بعد الفجر الأول للأمل؛ وأن الروح التكوينية التربوية، وكانت شديدة البعد عن هذه الدعوات، وبخاصة فيما أعقب دعوة ابن عبد الوهاب من دعوات. وعلى أية حال. فقد مهدت دعوة ابن عبد الوهاب وما حدث بعدها من أصداء، لحدوث الفجر الصادق للفكرة الإسلامية؛ لتبدأ مرحلة الظمأ والجوع في الاشتداد؛ ولتدخل الجموع الشعبية في طور (التكتل) الذي تمخض حتى الآن عن (إندونيسيا والباكستان)، وفي طور (التكوين) أو طور الشروق - كما يحلو(981/45)
لي أن أسميه - وقد قدر لذلك الطور أن يقبل في يسر من الرأي الشعبي العام، بغض النظر عما اعتراضه من صعاب. . نتيجة للجهل الشعبي الذي يكافحه ذلك الطور، ونتيجة للاستبداد الفردي الذي ما تزال بقاياه.
ولقد بدأ هذا الطور منذ ربع قرن، كما أسلفنا الإشارة، نتيجة للحاجة الشعبية، والجو المعد الملائم، الذي سبقته الإرهاصات والنذر، فقدر لداعية الشهيد (حسن البنا) أن يكون أول من يرتاد ذلك الطور، فتتكون على يديه هيئة إسلامية عالمية، كل أهدافها تنحصر في التكوين التربوي الاجتماعي، على المنهج الإسلامي الفردي للعقيدة والسلوك، قبل الدخول في دور (التكتل العام) الموحد، وأرى من التباشير ما يبني بالنقاء طوري (التكتل والتكوين) في ذلك الدور المنتظر. . في المستقبل القريب.
ومن طبيعة الدعوات الناجحة أن تنمو وتتسع، وتتعد جوانبها، حتى تشمل سائر مرافق الحياة. سواء منها الاجتماعي والسياسي والفكري. . . وقد كانت دعوة (الأخوان المسلمون) دعوة اجتماعية، تمثل الحاجة الاجتماعية للشعوب الإسلامية، وإلا لما قدر لها ذلك الصمود وهذا الانتشار. وكان لا بد لتلك الدعوة من الاتساع والامتداد، لتشمل كل ما يتصل بحياة الإنسان؛ وليس معنى استغراق الدعوة الاجتماعية، لكل من الميدان الفكري والسياسي، على تفرد معناها الخاص، بل إن أي ميدان تتناوله منهما لا بد وأن يكون إلى جوار معناه الخاص وصفة أخرى. هي الصفة الاجتماعية.
فالدعوة الاجتماعية إذن. . تزاوج بين طبيعتها وطبيعة الميدان الذي تعمل فيه. والحاجة الشعبية إذن. . كما احتاجت إلى الهيئات الاجتماعية في الميدان الشعبي الاجتماعي، فهي أيضاً تحتاج إلى الأفراد الأفذاذ، في الميدان الفكري، وفي الميدان السياسي. . وهي كلها دون شك حاجات عامة تحتاجها الفكرة الإسلامية وشعوبها. وفرق كبير بين الحاجات العامة التي تحتاجها الفكرة والشعوب، وبين الحاجة الخاصة التي تحتاجها الهيئات الاجتماعية لتسد الحاجة الشعبية في الميدان الاجتماعي.
والجانب الذي سنعرض له، هو الجانب الفكري من الميدان الاجتماعي، وهو بلا شك، يشمل حقلين اجتماعيين في الفكرة الإسلامية، هما: حقل (العقيدة) وحقل (النظام) (السلوك والتشريع). وفي هذا الجانب بحقليه، كتب الأستاذ محمد الغزالي كتبه، كواحد من الدعاة في(981/46)
الميدان الاجتماعي؛ وزواج في مؤلفاته بين النظر إلى نظم الشرق الحالية، ونظم الإسلام التي كانت أو التي يجب أن تكون؛ بل زواج بين ما يصطرع في الأفق العالي من مبادئ ونظريات، وبين مبادئ الفكرة الإسلامية، بطريقة المقابلة أو التعرض. . يحدوه في كل ذلك الطابع الاجتماعي الذي تنشده دعوته الشعبية، والذي لا يهدف أصلا لغير الإصلاح الاجتماعي العام كمبدأ أساسي مقصود. والواقع الذي تتبعناه في كتبه، عن طبيعته كمؤلف. وطبيعة كتبه وطريقة عرضها، يؤيد لنا ما ننسبه إليه، من أنه يعمل في الميدان الاجتماعي وفي الجانب الفكري منه، ومن أنه يسد حاجة خاصة تحتاجها دعوة اجتماعية لتسد حاجة عامة من الحاجات الشعبية المعاصرة.
فالأستاذ محمد الغزالي؛ يفكر برأس عالم، بما يحويه المعنى العلمي من لوازم الدقة المنطقية؛ وينفعل بخواطر الأديب في وضع تأملي محدود؛ ويكتب بعد ذلك برأس هذا العالم، وقلم ذلك الأديب. ولكنه ليس بالفرد الذي يجول في محيط تفكيري خالص، فهو إذا عكس لا يضخم، وإذا أحاط لا ينسق، وإذا تغلغل لا يتوغل. ومع ذلك، فهو صفحة حساسة صادقة التصوير الجزئي للفكرة والمجتمع؛ فعدسة منظاره، ليست بالمجمعة المكبرة، ولا بالمفرقة الموزعة؛ فهو إذن. . باحث محدود المجال، لا يكتب للزمن كله، والمكان كله، والفكرة نفسها، بقدر ما يكتب لجيله وعصره ومن يعيش فيه، ولسوف تلمس في أسلوبه، ليونة الانسياب، وعقد المفاصل حين الانتقال من فكرة إلى فكرة، وقد يفقد أسلوبه أحياناً سلاسته التعبيرية وبساطته العامة. ولكن الفكرة والمعان، ستظل دائماً موصلة لما نبا عنه. ولسوف تحس من أصداء عباراته على طولها، لهجة الحديث، ونغمة النقاش، وهشيش العواطف، وحدة الحماسة: كأنك معه في وقعة تفاهم، تتراوح على وجهك أنفاسه. أما أداؤه فأداء تلقائي يجر في ركابه مصطلحات عديدة، تكونت أخيراً في الميدان الاجتماعي، من جراء البحث المستند على علوم المنطق والاقتصاد، والنفس والاجتماع، وأما تصويره، فكل ما نملك قوله فيه، أنه لن يخرج خصائصه ولا عن طريقته الناتجة من رأس العالم المدقق، وخواطر الأديب المتأمل.
وحين نقرأ كتب الغزالي، ورائدنا البحث عن طبيعتها وطريقة عرضها، فسنعرف أولا أنها عامرة باللمحات، ناطقة بقدرة المؤلف على الاستنباط والاستنتاج، ومدللة على طرافة(981/47)
البحث وجدة جوانبه ومناحية، ولكنها لا تدلل كثيراً على أنه مفكر خالص وكاتب أصيل. . فوجد الموضوع - وإن وجدت في غالب كتبه - مفقودة الاستغراق والعمق، ووحدة العرض وجودته ضائعة تحت هذه العناوين العديدة التي تموج بها كتبه، والتي لا تجري على أساس من التتابع المنسق والتبويب المنظم. . ودقة التقسيم في الموضوع وفي الكتاب مفقودة العرض والطول، ولا تشمل عادة كل الأقسام المبتغاة. وسنعرف أخبراً عن بطابع العاطفة والإخلاص وعدم التحيز؛ وأنها طريقة ذعر منها منهج البحث الحديث. ونعلل ذلك بأن غالب كتبه قد كتب في مقالات، لتكون (فصولا ناضجة بالأيمان الحي، والمنطق الذكي، والعاطفة الحارة) وبأنه قد كتب بطريقة ذاتية محضة، لا تعتمد إلا على دقتها الخاصة، وثقافتها المختمرة، وخواطرها الذاتية، ولكن ذلك لا يطعن مطلقاً في سدها لحاجة الجانب الفكري من الميدان الاجتماعي، وما نظنه يقلل من أهميتها، كما لا نزعم لحظة، أنه سينقص قارئاً من عشرات الألوف الذين يقتنون كتبه!!
وهذا المنحى الذي ألمنا بجوانبه، هو ما يسيطر على ما أخرج الأستاذ الداعية محمد الغزالي في الحقل النظامي من كتب، سواء فيها من الإسلام والأوضاع الاقتصادية، والإسلام المفتري عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، والإسلام والمناهج الاشتراكية، وتأملات في الدين والحياة - ومن هنا نعلم - إلى سوف يخرج في أفق (السلوك) في كتابه المرقوب (خلق المسلم)، ولكن هذا المنحى سوف يتغير كثير من جوانبه في كتابه (عقيدة المسلم) الذي أخرجه في حقل العقيدة، ليسد حاجة الفكرة والشعوب إليه، غير أن التغير في بعض الأحكام، لن يؤثر على مكانة الغزالي، كحاجة خاصة في ميدانها الاجتماعي.
ولست أدري والله، أكان يجب صدور هذا الكتاب منذ سنوات؟ أم أنه قد جاء في وقته الملائم؟ فقد انتهت العقيدة الإسلامية إلينا الآن، بل ومنذ أجيال عديدة، موسومة بعلم (الكلام)، مربوطة بعجلة المنطق (البيزنطي) مبتوتة الصلة بالفؤاد، شديدة التآخي مع العقل. بقواه الذهنية الجافة، ومقاييسه الآلية البحتة، وموازينه النظرية الخالصة، مما دفع بالعديد من طلاب العقيدة إلى الهرب من جفافها، ليقفوا بجوار العامة اليائسين، في رحاب التصوف وشطحاته، باحثين عن الجذوة التي تحي في قلوبهم جذور الأيمان، وتنعش في نفوسهم عاطفة الحب الإلهي. وكنا بين ذلك، في قفر مجدب من روح الأيمان العقيدي؛ لابتعاد(981/48)
العاطفة الوجدانية عنه، ولصوق الجفاف الذهني عنه، وكانت حاجتنا الشعبية تحتاج إلى غربلته من الحصى، وتصفيته من الرواسب، وتنقيته من الخلاف، وتشذيبه من التطرف؛ بل تحتاج إلى أن تكتب موضوعات العقيدة من جديد، بروح الإسلام الخالد، الموازنة بين العقل والوجدان، والمنطق والعاطفة منذ أن عرفنا الفجر الأول للأمل، ومنذ أن عشنا في فجرة الصادق. ولقد خرجت إلى هذا الحقل العقيدي رسائل عدة؛ ولكنها لم تكن لتحمل روح الأيمان المنساب، وطبيعة العقيدة؛ أما هذا الكتاب. . . فقد حمل كل ذلك، وغربل، وصفى، ونقى، وشذب، حتى أحسست وأنا أقراه. . أنني أعيش في المشهد الأول للوجود، وأتصل بالله وبالكون وبالحياة، اتصالا أليفا لا تنفصم عراة، ولسوف أعود لقراءة ذلك الكتاب كلما دبت في أعصابي معركة، أو تسرب إلى نفسي قلق، والى روحي اضطراب.
وأعتقد من العبث في التفكير في تركيز الكتاب أو فكرته، ما دامت موضوعاته الشهيرة لا تتجاوز نطاق الإلهيات والنبوات والسمعيات، وما دام المؤلف الداعية لا تسمح لأحد أن يجمع خيوط كتاب له من يديه ليعرف هيكله العام. ولسنا نقصد أن المؤلف لم يتبع نهجا معينا في نسج كتابه؛ فقد خرج لنا المؤلف في موضوعات العقيدة ما تزال هي هي لا تزيد، اللهم إلا في فصول يستدعيها العصر الحاضر (كعقيدة الألوهية عند الفلاسفة والعلماء) و (بين النبوة والعبقرية) والشيء المتبقي إذن هو في معرفة المنارات الرئيسة، التي وضعها المؤلف نصب عينيه، حين طبخه لذلك الكتاب، ومن مقدمه الكتاب، نقتطف بضع نقاط ترشدنا إلى مناراته العامة: (هدف بحوث في العقيدة دفعتني إلى كتابته قلة الرسائل التي تعني بهذا اللون من علوم الدين، وتعرضه في أسلوب يتفق مع حاجة المسلمين المعاصرين)
(وقد رأيت أن أسواق الأصول العلمية لعقيدة المسلمة في نسق يخالف ما ألف الناس قراءته عن هذه الأصول في مظانها من ثقافتنا الدينية، لا لأني سآتي بجديد في هذا الميدان: بل نزولا على منطق التجارب، وانتفاعا بما اكتنف جوانب التاريخ الإسلامي من أحداث، وتوخياً للسير جهدي أن أتجنب أشواك الخلاف، فإذا استطعت طيه في السياق المطرد طويته وتجاهلته، وإذا اضطررت إلى خوضه عالجته على كره، وذكرت ما استبان لي أنه صواب. وقد أستجهل الطرف المقابل - ولا أكفره - لأن الجهل الفاضح كما ظهر لي،(981/49)
أساس كثير من المشاكل العلمية المبهمة. وربما لمحت في أخلاق المجادلين عوجاًوفي أسلوبهم عنفاً، فأوثر مغفرة هذا كله، على مقابلة السيئة بمثلها؛ لأننا أمة فقيرة جدا إلى التجمع والائتلاف، فلندفع ثمن هذا من أعصابا. . والمرجع إلى الله)
ومع أن الكتاب خرج ليسد حاجة المسلمين المعاصرين في حقل العقيدة، ويعالج مشاكل العصر، فإن هذا الكتاب سيقبل الزمن كله؛ لأن هذه الحاجة وتلك المشاكل في حقل العقيدة، هي دائماً حاجة كل الشعوب، ومشاكل كل العصور: يضاف إلى هذه العلة: أن النسق أراد به المؤلف محو آثار الماضي السواء عن جبين الحاضر في هذا الحقل، قد دفعه إلى الحذر والأناة. . في تعبيره وتصويره وأدائه؛ وأن طبيعة الموضوع المقسمة المطروقة، ووحداته. . . العديدة، قد جعلت طريقة العرض لديه في هذا الكتاب، حسنة التكوين مقبولة. وهذان الأمران الأخيران، لم يعرفهما كتاب له من قبل، وهكذا نجح في ذلك الكتاب الواقع في 180 صفحة من القطع المتوسط، وسد به حاجة لدعوة اجتماعية في الميادين الشعبية.
وكل ما نرجوه، هو أن نشهد ذلك الكتاب مطبوعا بالملايين، شائعاً بين الشعوب كلها؛. . عسى أن تعرف عقيدة الإسلام في وضعها الطبيعي الفطري؛. ز وعسى أن تبصر حقائق التوحيد الإلهي. . والقضاء والقدر والجبر والاختيار. . والأيمان والعمل. . والخطيئة والتاب. . والخلود؛ فتنجاب روائح الفساد السياسي والاجتماعي والنفسي. . ولعل الخطورة إلى ذلك: أن ندرسه في المرحلة الثانية من التعليم الأزهري، لنخرج طائفة نبصر جيلها بعقيدتها؛ صحيحة خالية من الشوائب، ومع هذا. . فسنظل ننتظر المبحث المكتمل الشامل المبتكر. . في حل العقيدة من الميدان الفكري، مبحثا لا يتقيد بموضوعات الماضيين، التي نمت الجدل والزمن، بل يستغرق مساءل العقيدة في الكتاب والسنة، وأراء لا يكون في غير فكرة الإسلام عن (الله: والكون والحياة والإنسان) وحينئذ نرجو أن نتعرف إلى لب الإسلام كاملا غبر منقوص إن شاء الله
محمد فياض(981/50)
البريد الأدبي
أخي الأستاذ محمود شاكر
صدقت والله؛ إني لم أقرأ ما كتبت في (المسلمون) ولقد فهمت مما قرأت في الرسالة أن الخلاف على دولة بني أمية، فقلت الكلمة التي لا أزال أراها حق، وأنا أعتذر إن كنت قد أخطأت الفهم، أو أسرعت في الحكم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
علي الطنطاوي
العدالة الدولية:
من أعجب ما قرأناه في الصحف أخيراً أن أمريكا قررت الامتناع عن الاقتراع أثناء عرض المشكلة التونسية أمام مجلس الأمن؛ حتى لا تغضب فرنسا؟! ومعنى هذا أن أمريكا تريد أن تجامل فرنسا على حساب شعب عربي أبي، يريد أن يتحرر من ربقة الاستعمار.
إذن ما هي المهمة الحقيقية لمجلس إنجلترا أن تغضب أمريكا. . فتمنع دولة عن الإدلاء، وهي تشهد بعينها - إن كان لهم أعين يبصرون بها أو قلوب يفقهون به - مآسي الاستعمار تنزل بساحة شعب أعزل من سلاح إلا من سلاح الحق.
ما هي المهمة الحقيقية لمجلس الأمن. . وكيف يؤدي هذا المجلس رسالته على وجه ترضاه العدالة. . والحال كما ترون. . أمة باغية لا يردعها رادع. . وأمة تجامل أمة على حساب شعب هضم حقه، فلجأ إلى ساحة العدل الدولي، يحمل في يمينه مظلمة وشكواه؟. .
ولسنا نجهل الباعث الذي استجابت له أمريكا حين امتنعت عن الاقتراع، خشية أن تغضب فرنسا. .
فأمريكا لا تريد أن تغضب اليوم فرنسا، لكيلا تغضب فرنسا أمريكا في يوم من الأيام!. .
فهل هذه هي العدالة الدولية، التي حققها مجلس الأمن؟!. .
عيسى متولي
إلى أستاذي رئيس التحرير:
لماذا. . . لماذا. . .(981/51)
لماذا. . لماذا تغاضيت عني. . أما لاحتجابك عني مدى
أفي كل يوم تدق الرسالة كفي ولكن يموت الصدى
فما أنت تسمع هذاالنداء. . وما أنت ترحم تلك اليدا
وفيها من الدق جرح - يزول بعطفك إما بدا
أتتركني - لنفسي، لجرحي، هنا منشدا
وما من سميع، وما من مجيب إلى أن يلف حياتي الردى
ويمضي خيالي مع الهالكين - وشعري أيذهب مثلي سدى.
بربك تفسح صدر الرسالة. حتى أخط لنفسي، الطريق
فكم أنت نميت نبياً ضعيفا - بفضلك أصبح روضاً وريق
ورويته فاستوى عودة، وغنى الحياة بلحن رقيق
أفاض على الكون عذب النشيد فأسكره بالشذا والرحيق
ولولاك ما كان إلا صدى خفوتا - يواريه صمت عميق
أتتركني في هجير الحياة وأنت أب - من قديم - شفيق
وتهمل شعري فمن يا ترى بصدر الرسالة غيري خليق.
ومن يا ترى سيغني الجراح فيمكن فيها صراخ الألم
سوى شاعر يسنلذ الدموع ويقتات من همة المحتدم
أغانيه، ألحانه. . صورة لدنياه. . ويرسمها. . بالقلم
يود يرى شعره. . دمه. . يردده كل قلب وفم
فيفرح قبل اقتراب الرحيل وتطوى كف العدم
إليك أقدم شكوى الضعيف الخصم وأنت الحكم
فإن شئت أسبغت حولي رضاك فألفيتني صادحاً في القمم
وإن شئت قيدتني في السفوح. أغني، أغني، هنا للرمم.
كيلاني حسن سند
(الرسالة) لعل في نشر الشكوى إشكاء للشاعر الفاضل.(981/52)
خطوط
نشرت الرسالة في عددها (977) قصيدة بعنوان (خطوط) الأستاذ محمد مفتاح الفيتوري، فدفعني جمال شعره إلى إنعام النظر فيه، والتعقيب عليه بكلمه لا تفي بما يدور في القلب؛ ومن العلامات الرئيسية على مكانة الشعر في النفوس، ووقعه الجميل في القلوب، النقد البريء له وإبداء الرأي الصحيح فيه.
يقول الشاعر في وصف الحصير العتيق:
حصير تقادم حتى يكا ... د يخضر يرجع عشباً نضير
وكل ما تعلم أن الحصر المتقادم يسود ويعفن إن كانت هناك رطوبة، كما هو شأن حصر الفقراء، وكيف يكاد يخضر ويعود إلى عشب نضير؟ ويسند في بيت آخر الإهراق إلى (معول) فيقول:
وبهرق معولة في تراب ... ليالية محتفرا رمسه
ولا أستطيع أن أتصور - في حدود طاقتي التصويرية - إهراق (المعول) في التراب، إنما الذي أستطيع تصوره هو الهدم به، وإهماله والتدمير به.
وختاما أود تكون هذه الكلمة بداءة صداقة متبادلة بين شاعر رقيق وقارئ معجب بشاعريته.
سورية
عفيف الحسيني(981/53)
القصص
من روائع الأدب الروسي
رثاء!. . .
للقصصي الروسي أنطون تشيكوف
في صبيحة يوم صاح مشرق مات (عضو التحكم) (كيريل أفانوف بابيلونوف) صريع الداءين اللذين كثيرا ما أوديا بحياة الروس: إدمان الخمر وفظاظة الزوج. . . وكان الناس في شغل بتشييع موكب جنازته الذي كان في طريقه إلى القبر. . . إلا أن (بولافسكي) وهو صديق حميم للفقيد، أسرع فركب عربة أدت به إلى صديق له يدعى (زايوكين). ولزابوكين هذا قدرة على ارتجال الخطب فائقة فهو يقولها أني كان وحيثما يدعي، فلا تموته سنة ولا حمى ولا سكر عن ارتجالها. . . سواء أكان في مأتم يرثي، أو في حفل يلهج ويشيد، كانت الكلم تتدفق من فيه كالماء عزيزا سلسالا. . .
وكان هذا ما حدا ببولافسكي أن يسرع إليه، ولاسيما والخطب الذي ألم يحتاج إلى خطيب يعدد مناقب الراحل العقيد كزابوكين. . . وقال بولاكسي لزابوكين حينما لقيه:
- إنني آت لأدعوك. . . فهيا يا صاح ارتد معطفك واتبعني. لقد مات اليوم أحد زملائي، موكب جنازته في طريقة الآن إلى القبر. وليس لنا مثل هذه الخطوب غيرك. . . ليس لنا من خطيب راث مفوه سواك. . . ثق يا صاح أنه لو كان الميت وضيعا مركزه لما أزعجتك. ولكنه (الأمين). . . فلا يليق بنا أن نوسده التراب دون مرات تلقي أو خطب تقال. . .
فتتثاءب زابوكين وقال:
- الأمين؟ آه. أتعني ذلك السكير؟ -
- أنه هو. . ولكني لا تنس يا عزيزي أن مأدبة عشاء ستؤدب. وأجر العربة سيدفع، هيا يا صاح فما عليك إلا أن تلقي بإحدى خطبك على القبر. . وستلمس بعينك مدى عجاب المشيعين بك وتقديرهم لك. .
فأجاب (زابواكين) طلبه تردد ولا إحجام. . . وتكلف الحزن العميق تأهباً لما سيلقي. ثم(981/54)
قال لصاحبه: إنني أعرف (الأمين). ذلك الوغد الزنيم. . عليه رحمه الله! وأدركا الموكب وقد بلغ المقادير، وحط النقش على الأرض، ووقفت أم الفقيد وزوجته وأختها تذر فإن الدمع الهتون - تبعاً - وما إن أنزل النعش في القبر حتى أعولت زوجه وصاحت باكية: دعوني أرحل معه. إلا أنها لم ترحل معه؛ مع أن أحداً ممن حولها لم يحل دون ذلك. ولعل ما حال دون أن تشاركه رمسه ذلك الراتب التقاعدي الذي ستتناوله. أما (زابوكين) فقد سكت حتى شمل الجمع السكون، فأدار بصره في الحاضرين وبدأ خطبته قائلا:
يا ترى أبصري وسمعي صادقان؟! أنني أشهد حلماً مرعباً يبدو لي فيه هذا الرمس المظلم الرحيب وهذا الحشد الباكي الحزين وا أسفاه. . . أنها الحقيقة. فليس ما أراه حلماً، وليست أبصارنا - ويا للأسف - بخادعة. . إن من كان حتى الأمس يفيض صحة ونشاطاً. . قد مات وروى التراب وأصبح ذكرى تستدر الدمع الساخن الغزير. لقد سلبه الردى منا، وهو لا يزال في عنفوان قوته وبهائه. . وأوح فتوته ونشاطه وإن بك متقدما في السن. . أية خسارة منينا بها. . من ذا الذي يستطيع أن يحتل مكانه في قلوب عارفيه. لدينا أيها السادة كثير من الموظفين. . إلا أن (بروكوفي أورزبتش) كان جوهرة يتيمة فيما كان يزدهي به ويفخر. وكان أيها السادة - المثل الأعلى للرجل الكامل الرفيع بخلقه، السامي بنفسيته. لقد كان الفقيد يأبى الرشوة فلم يرضيها يوما. وكثيراً يبدي مقته واحتقاره لمن كان يلح في أخذهاوتقبلها. لقد كان يرفضها كل الرفض ويزري ضعاف النفوس ممن كانوا على نقيضه. كما لا أظنكم تجهلون أنه كان يهب راتبه التافه على مشهد منا لزملائه المعزين وها أنتم الآن تسمعون بآدابهم نحيب الأرامل والأيامي اللائي كن يعشن من فيض إحسانه. لقد ذهب ذلك الذي وهب حياته للبر، نفسه للخير، وإنكم لا تعلمون بلا شك - أيها السادة - أنه كان أعزب ولم يزل كذلك حتى وسد التراب. . إنني لأتصوره الآن بوجهه المشرق الحليق وببسماته الحالمة العذاب، ويخيل إلى أنني أكاد اسمع صوته الرؤوف الذي كان يفيض حنانا ويقطر رقة وإخلاصا. فإلى رحمة الله يا (بروكوفي أوزبتش). . . إلى الجنان الخوالد أيها العزيز. . وداعاً أيها الراحل الكريم. .
وكان الخطيب مبدعا حقا في إلقائه فأحرز بها إعجاب السامعين. . إلا أن العارفين منهم بالميت أدهشهم مما قاله أشياء. ذلك أنهم لم يفقهوا علة ذكر الخطيب أسم الميت على أنه(981/55)
(بروكوفي أوزبتش) وثانيا أن الكل كان لا يجهل أن الميت قضى حياته في تعكر صفو حياة زوجه، فكيف يقول الخطيب إنه كان أعزب؟ وأخبراً لقد كانت للميت لحية حمراء كئة ولم يك بحليقها. . فلماذا يصفه الخطيب بأنه كان حليقها؟! واشتد عجب السامعين وتبادلوا الهمس والنظريات. . وهزوا أكتافهم ساخرين.
وتابع الخطيب كلامه: أي (بركوفي أوزبتش) لقد كان وجهك شاحبا مرعبا. . إلا أننا كنا نعرف أن وراء ذلك قلباً طاهراً نبيلاً ونفساً كريمة) وما لبث السامعون أن لحظوا على الخطيب دهشة بلغت حد الذهول. فقد اتجه بصره إلى ركن من الحشد، ثم التفت إلى بولافسكي زائغ البصر، وقال بصوت متهدج: أنه حي!
- من تعني: إنه حي!
- بروكوفي أوزبتش. إنني أراه واقفا عند القبر!
- ومن قال لك أنه الميت.؟ إن الذي مات هو (كيريل إبفانوفتش) أيها الأبله.
- ولكنك قلت لي إن (الأمين) قد مات
- لقد كان (كيريل أفانوفتش) أمينا أيها الأحمق. . لقد حل محل (بروكوفي أوزبيتش) بعد أن نقل هذا ككاتب في مستهل العام المنصرم.
- أني لي أعرف هذا ولم يسبق لي به علم؟!
فأدار زابوكين وجه شطر القبر وواصل رثاءه وعينا (بروكوفي أوزبتش) عالقتان به تحدقان في حنق وغضب. . وما إن انتهى من الدفن وعاد المشيعون حتى أخذ زملاء (زابوكين) يلغطون. . . لقد دفنت رجلا حيا. . . وأسرع (بروكوفي أوزبتش) إلى الرائي حلقاً ساخطاً: لا بأس أيها الغبي الأحمق بخطبتك إذا كانت رثاء لميت. . أما أن ترثيني وما زلت حياة فإنها سخرية بي بليغة وتهكما بخلقي فظيعا. . . لقد قلت إنني لم أقبل الرشوة ولست بذي أغراض ومنافع. . ومثل هذا القول لا يقال عن موظف حي إلا بقصد إدانته واتهامه. . . لم يطلب منك أحد أن تصف وجهي المخيف المرعب. . . إنها إهانة فظيعة سوف ترى مني العقاب عليها)
ف. ع(981/56)
العدد 982 - بتاريخ: 28 - 04 - 1952(/)
لا بد للإسلام من مؤتمر
ذلك عنوان مقال كتبته في مارس عام 1942، ونار الحرب العالمية الاستعمارية تتسمر في مواطن الإسلام وأقطار العروبة، والمسلون والعرب يصلونها ولا أرى لهم فيها، ولا رجية لهم منها، وإنما كانوا وما زالوا كعبيد الأرض، يملكهم من يملكها، ويستغلهم من يستغلها.
أهبت في تلك الكلمة برجال الدين - وهم المسئولون الأولون عن تنبيه المشاعر وتوجيه القلوب - أن يكون لهم ما للمبشرين والمستعمرين والمستشرقين من مؤتمرات تعقد العام بعد العام في الدولة بعد الدولة. وذكرتهم أن الله قد فرض على المسلمين مؤتمراً سنوياً بمكة حين فرض عليهم الحج؛ لأني لا أعلم لحج البيت وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة، حكمة أسمى من اجتماع المسلمين من فجاج الأرض وآفاقها في وقت واحد، على صعيد واحد، ليتذكروا في أمور دينهم، ويتشاوروا في شؤون دنياهم. ولقد قلت فيما قلت: (لا بد للإسلام من مؤتمر يجمع زعماء الرأي في أهله، ليجددوا ما درس منه، ويوضحوا ما التبس فيه، وينفوا عنه ما غشيته من أساطير القرون وأضاليل النحل، ويجلوه للناس كما كان، صالحاً للحياة، كافلاً للفوز، ضامناً للسعادة. وليس مما نطمع فيه أن يجتمع هذا المؤتمر اليوم؛ فإن الزلزلة التي لا تنفك آخذة بأقطار الأرض وأفكار الناس تجعل العقبات والسدود من دونه؛ ولكنا نطمع أن يفكر أولو الأمر فيه ويهيئوا الأسباب له؛ حتى إذا عادت السلم وتحلق زعماء الأمم حول الموائد الخضر لإقرار السلام الدائم، واختيار النظام الملائم، اجتمع كذلك علماء الإسلام ليعرضوا على العقول الحائرة والأجسام الحائرة نظام الله، خالصا كما أوحاه، صافياً كما أنزله. نعم لا بد للإسلام من مؤتمر يقيم بي البهرج والصحيح حداً من نور الحق يجتمع عليه القطيع الشارد، ويهتدي إليه الركب المضلل. ولكن ليت شعري من الذي يفكر في هذا المؤتمر ويعمل له ويدعو إليه؟ لقد عقدنا الآمال بالأزهر في كل ذلك، فهل عقدناها بلعاب الشمس؟ إن علماء الدين هم الطوائف التي نفرت من كل فرقة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم. فإذا تفقهوا ولم ينذروا، أنكروا ما خلقوا له، وعصوا ما أمروا به. وليس الإنذار أن يلهجوا بذكر الحساب والعذاب، وإنما الإنذار أن ينبهوا المخطئ، ويوجهوا الحائر، ويرشدوا الغوي، وينصبوا في مجاهل الأرض أعلام الطريق)
ذلك بعض ما قلناه منذ عشر سنين في هذا المعنى فلم يستجب له اليوم غير الباكستان!(982/1)
والباكستان مشرق من مشارق الشمس سيسطع فيه الإسلام من جديد فتعشو على أضوائه الهادية أمة السلام والتوحيد!
أحمد حسن الزيات(982/2)
حسن البنا الرجل القرآني
للأستاذ أنور الجندي
(أشهد أنني لم أغير شيئا من (روح) كتابات (روبيرجا كون)
- الكاتب الأمريكي الذي التقى بالمغفور له الأستاذ حسن البنا
سنة 1946 واجتمع به طويلاً - ولكني أخذت (معالم) كتاباته
وملاحظاته وخطوط بحثه، كما أرسلها إلى صديق يطلب العلم
في (واشنطن)، وأضيفت عليها من الأسلوب الأدبي ما يجعلها
قريبة من مستوى (الرسالة)
(أ. ج)
لم أكن أظن أن الوقت قد حان بعد للكتابة عن رجل هز تاريخ مصر والشرق الحديث هزة قوية، تركت فيه آثاراً حية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو الغض من قدرها، هي تلاميذه وحواريوه الذين لا يزالون على درجة من القوة والفاعلية
كنت أظن أم أمر هذا الرجل سيظل إلى وقت ما مبهما، يراه بعض الناس قديسا من القديسين، ويراه غيرهم طاغية من الطغاة؛ ولكن الحوادث في مصر قد أسرعت فأعادت إلى (الإخوان) مظهرهم الذي تجلى في صورة من القوة، أعادت إلى الأذهان أثرهم المعروف في توجيه الحياة السياسية والاجتماعية في مصر
وقد أختلف الناس في أمر كل (عظيم) وعبقري ونابغة، ولم يجتمعوا على رأي فيه ما دام حيا، ولكن الموت يحسم الأمر دائما، ويصرف عن صدور الناس أوهامها ويردها إلى شيء من الحق، فتحكم متجردة عن الهوى
وكان ضرورياً أن يختلف الناس في هذا الرجل، وكان حتما أن تفيض بعض النفوس بضروب من الحقد والحسد نحو رجل استطاع أن يجمع حوله الناس، وأن يؤلف بين طائفة ضخمة من الأتباع، بسحر حديثه، وجمال منطقه، وروعة بيانه، فتنصرف هذه المجموعة الضخمة من حول الأحزاب، والجماعات، والفرق الصوفية، وتنضوي تحت لوائه، وتطمئن(982/3)
له وتثق به
وكان هذا مثار حسد الناس، وثار حقد بعض ذوي الرأي، وكان خليقاً بهم أن ينقموا وأن يحسدوا هذا الرجل المتجرد الفقير، على أنه استطاع أن يجمع الناس إليه بوسائل غاية في البساطة واليسر، وهي لباقته وحسن حديثه. . فيرفعهم فوق المطامع المادية، التي يجتمع عليها الناس عادة
وكان طبيعياً أن يتنكر له بعض الناس، وأن يذيعوا عنه بعض المرجفات، فليس أشد وقعاً في نفوسهم من أن يسلبهم أحد سلطاناً كان لهم. وليس أبعد أثرا في نفوسهم أن يجئ رجل من صميم الشعب ليجمع الناس حوله باسم القرآن، ويقول لهم أن الله قد سوى بين الناس بالحق، وجعل فضيلتهم عنده على أساس العمل والتقوى
خيل إليَ بعد أن انطوت حياة الرجل على هذه الصورة العجيبة، وثار حولها ذلك الغبار الكثيف، أن وقتاً طويلاً يجب أن يمر قبل أن يقول التاريخ الحق كلمته، ويروي المؤرخ النزيه قصته
غير أن الظروف السياسية في مصر سرعان ما تغيرت، وأمكن أن يكشف التحقيق في بعض القضايا بطلان كثير مما وصمت به دعوة الإخوان من إدعاءات، وأن يبرأ جانب هذا الرجل بالذات فيبدو نقيا طاهراً
وكنت قد التقيت بالرجل في القاهرة سنة 1946، ثم عدت إلى القاهرة مرة أخرى سنة 1949 بعد أن قضى، وحاولت أن أتصل ببعض الدوائر التي تعرفه فسمعت الكثير مما صدق نظرتي الأولى إليه
فقد علمت أنه كان في أيامه الأخيرة يحس بالموت، وكان الكثير من محبيه ينصحه بالهجرة أو الفرار، أو اللياذ بتقية أو خفية، فكان يبتسم للذين يقصون هذه القصة وينشد لهم شعراً قديماً:
أي يومي من الموت أفر ... يوم لا قدر أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجوا الحذر
وكان لايني لحظة عن محاولة استخلاص أنصاره من الأسر، وكان يبلغ به الأمر مبلغه، فسيتيقظ في الليل، ويضع كلتا يديه على أذنيه، ويقول: إنني أسمع صياح الأطفال الذين(982/4)
غاب آباؤهم في المعتقلات
إن تاريخ جهاد (الرجل القرآني) طويل. . ولكن أخصب سنواته أيام الحرب. . منذ أن خرج من المعتقل عام 1939، في هذا الوقت الذي شغلت الحرب الدنيا جميعها، عن الأحزاب، وعن السياسة، وعن كل شئ، كان الرجل لا ينام، كان يسعى ويطوف ويذهب إلى كل قرية، وكل نجع وكل دسكرة يفتش عن الشباب، ويحدث الشيوخ، ويتصل بالعظماء والعلماء، ويومها بهر الوزراء، وأعلن بعضهم الانضمام إلى لوائه الخفاق، وجيشه الجرار
وحاول الإنجليز أن يقدموا عروضا سخية. . فرفضها الرجل في إباء. ونامت الأحزاب في انتظار الهدنة، وظل الرجل الحديدي الأعصاب يعمل أكثر من عشرين ساعة لا يتعب ولا يجهد، كأنما صيغت أعصابه من فولاذ
لقد كان يحب فكرته حباً يفوق الوصف، ولم يكن في صدره شيء يزحم هذه الدعوة. كان يعشق فكرته كأنما هي حسناء! لا يجهده السهر، ولا يتعبه السفر، وقد أوتي ذلك العقل العجيب، الذي يصرف الأمور في يسر، ويقضي في المشاكل بسرعة، ويفضها في بساطة، ويذهب عنها التعقيد
كان لا يحتاج إلى الإسهاب ليفهم أي أمر، كأنما لديه أطراف كل أمر، فما أن تلقى إليه أوائل الكلمات حتى يفهم ما تريد، بل أحياناً كان يجهر بما تريد أن تقول له، ويفتي لك فيما تريد أن تسأل عنه
كان نفاذ البصيرة، نقادها، يرى ما وراء الأشباح، فيه من ذلك السر الإلهي الصادق قبس
كان يلتهم كل شئ، لا تجد علما ولا فكرا ولا نظرية جديدة في القانون، أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب، لم يقرأها ولم يلم بها، ولم يحاول أن يفيد منها لدعوته وفكرته
ولم تكن هناك دعوة ولا نزعة ولا رسالة، مما عرف العالم في الشرق أو في الغرب، في القديم أو في الحديث. . لم يبحثها أو يقرأها أو يدرس أبطالها، وحظوظهم من النجاح أو الفشل، أو يحمل منها ما يصلح لتجاربه وأعماله
وكان يقول كل شئ، ولا تحس أنه جرح أو أساء. . وكان يوجه النقد في ثوب الرواية أو المثل، وكان يضع الخطوط ويترك لأتباعه التفاصيل
كان قديراً على أن يحدث كلا بلغته وفي ميدانه وعلى طريقته، وفي حدود هواه، وعلى(982/5)
الوتر الذي يحس به، وعلى (الجرح) الذي يثيره
يعرف لغات الأزهريين والجامعيين والأطباء والمهندسين والصوفية وأهل السنة، ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا وفي الصحراء وفي مصر الوسطى والعليا، وتقاليدها، بل أنه يعرف لهجات الجزارين والفتوات، وأهالي بعض أحياء القاهرة الذين تتمثل لهم من القصص ما يتفق مع ذوقهم وفنهم
بل كان يعرف لغة اللصوص وقاطعي الطرق والقتلة، وقد ألقى إليهم مرة حديثاً
وهو يستمد موضوع حديثه - أثناء سياحته في الأقاليم وفي كل بلد - من مشاكلها ووقائعها وخلافاتها، ويربطه في لباقة مع دعوته ومعالمها الكبرى، فيجئ كلامه عجبا. . يأخذ بالألباب
كان يقول للفلاحين في الريف (عندنا زرعتان. . إحداهما سريعة النماء كالقثاء، والأخرى طويلة كالقطن)
لم يعتمد يوماً على الخطابة، ولا تهويشها ولا إثارة العواطف على طريقة الصياح والهياج. . ولكنه يعتمد على الحقائق، وهو يستثير العاطفة بإقناع العقل، ويلهب الروح بالمعنى لا باللفظ، وبالهدوء لا بالثورة، وبالحجة لا بالتهويش
ويعد (الحديث) عند بعض الناس آيته الكبرى، غير أنني علمت من بعض المتصلين به. . أنها آخر مواهبه، فقد كان أبلغ مواهبه القدرة على الإقناع، وكسب (الفرد) بعد (الفرد) فيربطه به برابط لا نفصم، فيراه صاحبه صديقاً خاصاً، وتقوم بينه وبين كل فرد يعرفه صداقة خاصة خالصة، يكون معها في بعض الأحيان مناجاة، وتنتقل بالتعرف على شؤون الوظيفة والعمل والأسرة والأطفال
وهذه أقوى مظاهر عظمته، فهو قد كسب هؤلاء الأتباع فرداً فرداً، وأصاب منابع أرواحهم هدفاً هدفاً، وإن لم يكسبها جملة ولا على صفة جماعية، وقد استطاع بحصافته وقوته وجبروته أن ينقلها من عقائدها وأفكارها، سواء أكانت سياسية أم دينية، إلى مذهبه وفكرته. . فتنسى ذلك الماضي، بل وتستغفر الله عنه، وتراه كأنما كان إثماً أو خطأ
ومن أبرز أعمال هذا الرجل، أنه جعل حب الوطن جزءا من العاطفة الروحية فأعلى قدر الوطن وأعز قيمة الحرية، وجعل ما بين الغني والفقير حقاً وليس إحساناً، وبين الرئيس(982/6)
والمرءوس صلة وتعاوناً وليس سيادة، وبين الحاكم والشعب مسئولية وليس تسلطاً
وتلك من توجيهات القرآن، غير أنه أعلنها هو على صورة جديدة لم تكن واضحة من قبل.
يتبع
أنور الجندي(982/7)
كلمة أخرى
للأستاذ علي الطنطاوي
سيدي الأستاذ عبد الجواد رمضان
ما تشرفت بمعرفة شخصك، ولكن تشرفت بتلاوة فضلك الذي يدل على فضلك ونبلك، وأنا أعترف يا أستاذ أني لم أقرأ مقالات أخي الأديب الضليع الأستاذ محمود شاكر في (المسلمون) ولم أطلع إلا على الجزء الأول من هذه المجلة، ولست مشتركاً فيها (مع الأسف)، ولا تباع في مكتبات دمشق فأراها، ولا أقول بذم أحد من الصحابة فضلاً عن القول بكفره والعياذ بالله أو نفي الإسلام عنه، ولا أنتقص بني أمية أقدارهم ولا أسلبهم فضائلهم، ولئن كنت كتبت مقالة في تمجيد بني أمية بالحق، لأكتبن مقالة في نقدهم بالحق. وما بنو أمية ولا غير بني أمية، ولا شيء في الدنيا إلا وفيه ما يمدح وما يذم، والكمال المطلق لله وحده، والعصمة للأنبياء. ولقد قال مثل مقالتي رجل فأنكرها عليه، ثم قبلها منه - من هو خير مني ومنك، ومن أهل الأرض: محمد رسول الله، حين قال له الرجل: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت.
فقال الرسول صلوات الله عليه: إن من البيان لسحرا.
فليس يرد على ما أوردته من فضل معاوية ومناقبه، ولست أنكره، ولكن قل لي: هل تنكر أنت أن معاوية بشر يخطئ ويصيب؟ وهل تنكر أن الإسلام حجة على معاوية، ومعاوية ليس حجة على الإسلام؟
فما حكم الإسلام في البدعة التي ابتدعها معاوية؟
هذا هو موضوع الكلام
لقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، واستخلف أبو بكر، وتركها عمر لمجلس الستة، كل هذا معروف ولكن هل نال عمر الخلافة بعهد أبي بكر؟
لا يا أستاذ. وهذه الأخبار استقصيتما في كتابي (أبو بكر) وكتاب (عمر) وقد جمعت فيه ما تفرق من سيرة عمر في سبعين ومائة كتاب، وعوزت كل جملة فيه إلى مصادرها، والأخبار كلها على أن أبا بكر لما أحس الموت أمر الناس أن يختاروا لأنفسهم، فتركوا ذلك إليه، فاختار عمر وعرض ذلك عليهم فقلبوا به، فلما مات بايعوه فصار خليفة بالبيعة، أي(982/8)
بالانتخاب الحر، لا بالعهد، وكذلك كان عثمان بن عفان خليفة من بعده بالبيعة، إن الإسلام لم يحدد أسلوب الحكم، وترك ذلك لرأي الأمة، ولكنه وضع أساساً لا يمكن إقامة الأمر إلا عليه، وهو الشورى والانتخاب الحر، فإذا انتخبت الأمة رجلاً وبايعته حرم الخروج عليه، ومنازعته الأمر، لئلا تعم الفوضى، والفوضى أكبر ضرراً على الأمة من الاستبداد
ومعاوية جاء ببدعتين:
الأولى: أنه انصرف عما وضع في عنقه من أمانة الحكم، والنظر لمصلحة الأمة، إلى تمهيد الأمر لابنه يزيد من بعده، جمع لذلك فكره، وسخر لذلك ماله وسلطانه، فصارت سنة من بعده، أدت إلى إضاعة أمر المسلمين بانصراف الخليفة عنه إلى أمر ولده، وإلى تولية من لا يصلح للولاية
الثانية: أنه حول الانتخاب الإسلامي الحر الصحيح إلى نوع من الترغيب والترهيب والتدخل، ولو أن المسلمين كانوا أحراراً في انتخاب من يخلف معاوية ما انتخبوا يزيد، ولا يخلو من فضائل. ولكن هل كان يزيد أتقى الناس؟ أو هل كان أعلم الناس؟ أو هل كان أحق الناس بالخلافة؟
وهل سار يزيد بالدولة سيرة أبي بكر وعمر؟ أم أظهر المحرمات، وجرأ الناس على الباطل؟ ومن أطلق لسان الأخطل الشاعر النصراني في أنصار رسول الله إلا يزيد؟ من فعل بالمدينة ما لا تفعله الروم والمغول إلا يزيد؟
إنه إذا قيل عن الأسود أبيض، يقال عن الأبيض لا محالة أسود. فإذا كانت حكومة يزيد وأمثاله حكومة إسلامية، فإن حكومة عمر لا تكون إسلامية لأنهما متناقضان مختلفان
وإذا كان عهد معاوية إلى يزيد من الإسلام، فإن صرف عمر الأمر عن عبد الله ليس من الإسلام. هذا إن كانا متشابهين متكافئين، فكيف وهذا يزيد، وذاك عبد الله!
وأنت تذكر يا أستاذ أن الذي قال عن معاوية، لقد جعل الأمر كسر وياً قيصرياً ليس على الطنطاوي! وأنت تعلم يا أستاذ رأي عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين في أهله من بني أمية، وفي حكمهم، وفي الحجاج وأمثاله خاصة!
وأنا أشكر لك نصحك الناس ألا يلوثوا ألسنتهم بدماء القوم، وأنا أول من يسمع هذا النصح، وما بي والله عداوة الأمويين، ولا محبة غيرهم، ولكن المقام مقام الدفاع عن الإسلام، ببيان(982/9)
حكمه في حكم بني أمية، لئلا يحمل أحد سيرتهم على الدين فيقتدي بهم، فيضل عن سبيل الحق
علي الطنطاوي(982/10)
بحث في الموسيقى الشرقية
للأستاذ نقولا الحداد
الموسيقى: فلسفة وعلم وفن. . فهي إذن بنت الطبيعة والفكر والاجتماع، فلا بدع أن يعنى بها الفلاسفة والعلماء وأصحاب الفن ويضعوا لها قواعد وقوانين، بل هي أولى ظاهرة كونية للدرس والتقرير والاستنباط
والصوت منذ القديم من قبل التاريخ مستند الإنسان في التعبير عن عواطفه وميوله وآماله. هو أصدق آلة للتعبير. فبالأحرى أن تكون الأنغام والألحان أداة لتفسير ما يطرأ على النفس من شعور داخلي. ولا بدع أن يتصدى علامة في الأنغام لشرح القوانين الموسيقية من جميع نواحيها، ويبحث البحث الفلسفي في شؤونها، ويدرس الدرس الفني للأنغام والألحان والتطريب
لا بدع أن يتصدى لهذا البحث العلامة الأستاذ ميخائيل خليل الله ويردى فيؤلف كتاب فلسفة الموسيقى الشرقية في أسرار الفن العربي. ولعله من قبيل التواضع لم يقل فلسفة الموسيقى الشرقية والغربية على الإطلاق وكل ما يمت الموسيقى بسبب. وقد ملأ في هذا البحث نحو 700 صفحة من القطع الكبيرة، وتواردت إليه رسائل من كبار العلماء وكبار الساسة وكبار الكهنوت من أمم مختلفة من الشرق والغرب مثنين على كتابه. وكان أهم هذه الرسائل رسالة من العلامة العظيم جوليان هكسلي مدير مؤسسة اليونسكو العالمية يشكر له فيها جهوده البالغ في إخراج هذا الكتاب الفذ، ويعده فيها أنه متى بلغ مشروع اليونسكو أشده سيعمل على ترجمة كتابه هذا إلى اللغة الأكثر شيوعا لكي تكون فوائده واسعة النطاق
وقد رد المسيو جيم توريس جوده المدير العام لمنظمة اليونسكو على كتاب المؤلف المصحوب بنسخة من الكتاب الذي نحن بصدده وعلى نسخ من محاضراته عن الموسيقى في بناء السلام العام يبلغه في رده أن المؤسسة العالمية لليونسكو مهتمة الاهتمام التام الذي أثاره عمله لديها. وقد رشح الأستاذ خليل الله ويردى لجائزة نوبل، واهتمت هذه المؤسسة بهذا العمل الجليل، ووعدت بالالتفات الذي يستحقه عمله، وهي ترى أن ترجمة الكتاب إلى اللغة الإنجليزية أو الفرنسية يسهل عمل المحكمين. وحبذا لو تصدى أحد الأدباء للترجمة وخابر الأستاذ خليل المؤلف في هذا الشأن واتفق معه على الترجمة. ولا ريب أن ترشيح(982/11)
اليونسكو للمؤلف لدى منظمة نوبل هي خطوة شريفة قد تؤدي إلى الحصول على الجائزة التي ليست مقصودة بالذات من عرض الكتاب على المؤسسة؛ بل المقصود هو الحصول على هذا الشرف الكبير الذي سيتمتع به العالم العربي كله
الموسيقى العالمية
بحث الأستاذ خليل الله ويردى في الموسيقى عند جميع الأمم الغربية والشرقية الدنيا والشرقية القصوى. وطرق الموضوع من جميع أبوابه ولم يترك فيه شاردة ولا واردة. وأسهب جداً في السلالم الموسيقية على اختلاف أنواعها وأوطانها، لأن السلالم هي نوى الموسيقات وهي ينبوع الألحان وروح التطريب والطرب
السلم الموسيقي (أو الموسيقية) ليست غريزة طبيعية في أصل هذا الفن البديع الجميل، بل هي نزعة وطنية أو إقليمية. وليست من حتميات الطبيعة، إلا أن للسلم طرفين: قراراً وجواباً، وكل منهما صدى الآخر. هذا ومن سنن الطبيعة أن يكون بين القرار والجواب تجاوب أو اتفاق في الاهتزازات الهوائية الصوتية بحيث يكون الثاني مضاعف الأول في عدد الاهتزازات، بين الطرفين سلم يتدرج في نغمات يسميها بعض الموسيقيين مقامات. ويمكن أن يصعد السلم من جواب لجواب أعلى فيصبح الجواب الأول قراراً للجواب الأعلى وهكذا دواليك. فيرتقي السلم إلى سلالم متوالية كل منها جواب لما تحته وقرار لما فوقه. وقد ينتج من هذا الارتقاء سبع سلالم على الأقل كما هو الأمر في البيانو الاعتيادي
وتختلف النغمات أو المقامات باختلاف ذبذبات الوتر أو
اهتزازاته، أو اهتزازات عمود الهواء المنفوخ في القصبة أو
أية أنبوبة موسيقية حين تعزف أو تنقر. والشيء الطبيعي في
درجات السلالم هو أن ذبذبات أية درجة هي مضاعف ذبذبات
الدرجة التي تقابلها في السلم الذي تحته. وفي جميع الموسيقات
المعروفة في الغرب والشرق السلم ذو السبع درجات الأصلية،(982/12)
وقد يترفع منها أجزاء درجات كأصناف وأرباع وأثمان 116
كما سيأتي بيانه. وللغناء عند القبائل الهمجية سلالم بسيطة جداً
قد لا تبلغ سبع درجات حتى ولا أربع درجات. والله أعلم
ولا أدري إن كان تقسيم السلم إلى سبع درجات تقسيماً طبيعياً. ولعله طبيعي لأن للنور سلالم موجية على مثال السلالم الموسيقية، وكل سلم نوراني هو جواب لما تحته وقرار لما فوقه إذا شبهت هذا بذاك. لأن في الطبيعة إشعاعاً كهرطيسيا أأااااأأا
ذا تموجات مختلفة الطول والعدد في الوقت. وهي تموجات أثيرية على حد تموجات الهواء الصوتية. والموجات الكهرطيسية طبقات؛ وكل طبقة هي مضاعف الطبقة التي تحتها في الموجات
ولنا أن نسمي كل طبقة كهرطيسية سلماً كالسلم الموسيقي. وفي الطبيعة ستون سلماً كهرطيسياً. ولكننا لا نرى منها إلا سلما واحداً هو سلم النور إلا بألوانه الرئيسية السبعة من الأحمر (وهو الأسفل) والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي (وهو الأعلى)، وموجاته هي ضعفا موجات الأحمر، ولكن طول موجة الأحمر هي مضاعف طول موجة البنفسج، ولهذا يسيران معا في وقت واحد. على أننا لا نراهما إلا لونا واحداً هو الأبيض، ولا نراه إلا منحلا إلى ألوانه السبعة إذا نفذ في زجاجة الموشور أو في قطرات قوس قزح. هذه الألوان السبعة ليست في الموجات الأثيرية بل هي في خليات أدمغتنا البصيرة، فالخلية التي تنفعل من ذبذبة إحدى الموجات تصدر اللون المطابق لها. ولا نرى ما فوق البنفسجي وما تحت الأحمر إلا بواسطة آلات بصرية، كالنور الذي فوق البنفسجي، والنور الذي تحت الأحمر. وكذلك الأشعة السيني (أشعة رنتجن). فبين الصوت والكهرطيسية تشابه غريب في عدد الدرجات السبع. في كليهما هذا العدد 7 هو شيء طبيعي على الرغم من أن بين الدرجات سواء في الصوت أو في النور أجزاء درجات أخرى لا تحصى، وهي سر تعدد الألوان كما هي سر تعدد الألحان، ويظهر أن هذا الذين اتفقوا على السبع درجات في سلم صوتي أو نوراني رأوا أن هذا الرقم مقدس، لأن الله خلق فيه العالم واستراح في اليوم السابع(982/13)
الأنصاف والأرباع
المعروف في جميع الموسيقات الغربية والشرقية أن للسلم سبع
درجات يعتبرونها أصلية، ويتفرع منها على قولهم أنصاف،
وفي الموسيقى العربية أرباع، وربما أثمان أيضا، وفي
اليونانية 116. والحقيقة أن الدرجات ليست درجات متساوية
ولا أنصافها حقيقية والأرباع كذلك. وإليك البيان:
اهتزازات الأصناف
51 57 لا نصف لها 68 76 82 لا نصف هنا
دو ري مي فا صول لا سي دو
اهتزازات السلم الأدنى 24 27 30 32 36 40 45 48
((الأعلى 48 54 60 64 72 80 90 96
الفروق بين الدرجات الأصلية والأصناف
6 6 8 10 6
في الفلسفة الطبيعية أو اهتزازات درجات السلم الأصلية منحطة إلى أسفل سلم الاهتزازات في الثانية، تتراوح الفروق بينها بين 2، 5 كما رأيت فيما تقدم. وهو أمر يدلك على أن الدرجات غير متساوية في الارتفاع والانخفاض وليست هي أنصافاً كما يزعمون. هذا السلم مدون في جميع كتب الطبيعيات لأنه هو بعينه في كتابين لمؤلفين أمريكيين مختلفين في الناحية. ولا أظن كتب الطبيعيات في أوربا تختلف عنهما من هذا القبيل
هذا السلم هو أوطأ سلم يمكن أن يسع. ولا أدري إن كان ذا وقع موسيقي في الأذن إذا عزف. ولكي نرى نصف الدرجة عدداً صحيحاً نزلنا إلى السلم الذي هو فوقه. . ومعلوم أن اهتزازات درجات السلم الأعلى مضاعف اهتزازات درجات السلم الأوطأ كما رأيت في الجدول هكذا ترى في البيانو مثلا ليس بين (مي) و (فا) إصبع أسود، وأما بين بقية الأصابع الأخرى البيضاء أصابع سوداء وهي ما يسمونه أنصاف درجات وما هي(982/14)
أنصاف، كما ترى أن الفروق بين الدرجات الأصلية البيضاء ليست متساوية هي 6و4و8و8و10و6 في السلم كله، ولا أدري كيف يعتبرونها أنصافاً. على أن الذين يشدون أوتار البيانو أو يدوزنونها يعتمدون على السماع لأن أوتار أعصابهم السمعية تدو زنت على سلم البيانو أو السلم الإفرنجي
وكذلك الذين يدوزنون الآلات الوترية العربية، العود والكمنجة والقانون، يعتمدون على آذانهم كما يعتمدون عليها في العزف من غير اعتماد على علامات (نوتات)، وهي مهارة عجيبة مدهشة لأنهم يعزفون جميع الألحان من غير الاستعانة بنوتات. وجل ما يحتاجون إليه في ألد وزنة هو إما صفارة تصدر صوت نغم واحد يعتبرونه درجة (دو) ويجرون عليه في ضبط سائر الدرجات اعتماداً على آذانهم أو يعتمدون على أداة معدنية ذات شعبتين فينقرون الشعبتين فتصدران صوتاً يحسبونه درجة دو
وأما في ضبط أبعاد الدرجات بعضها عن بعض (وأعني ضبط اهتزازاتها) فقد اعتمد الموسيقيون العلماء على قياس الوتر المشدود بحسب طوله، فاعتبروا الوتر الذي طوله متر إذا عزف كان صوته دو. فإذا أمسك في وسطه تماماً كان صوت الذي يصدر من نصفه دو أخرى هي جواب لدو الأولى، ثم يقسم النصف إلى درجات حسب اصطلاحهم. وكان عند اليونان آلة لقياس الصوت تسمى مونو كورد أي ذات الوتر الواحد. ولا يخفى أن لمقدار الشد أن أحساباً لأن الوتر كلما اشتد ارتفع صوته، لذلك ترى أن السلالم غير متماثلة إلا في أن السلم الواحد هو قرار لما فوقه وجواب لما تحته على اعتبار أن اهتزازات الوتر في السلم الواحد مضاعف اهتزازات السلم الآخر أو أنصاف الاهتزازات التي فوق السلم الآخر كما تقدم البيان
ولاستخراج عدد الذبذبات أو الاهتزازات في كل درجة أو نصف درجة توجد آلة تسمى صونوميتر تسجل اهتزازات كل صوت. وقد استنبط الأستاذ وديع صبره (من بيروت) وكانت حرفته العزف على البيانو في باريس مدة طويلة صونوميترا يسجل به اهتزازات الأصوات الموسيقية في جميع درجاتها. وقد جاء به إلى مصر يوم كان المؤتمر الموسيقي منعقداً فيها. وكان غرضه أن يسجل به اهتزازات درجات السلالم العربية بجميع أنواعها وألحانها. ولا يخفى أن لكل لحن من الألحان العربية سلماً خاصاً، كالرست أو الحجاز كار(982/15)
أو الصبا أو النهاوند إلى آخره كما سيأتي بيانه. ولا أدري إن كان الأستاذ صبره قد نجح في هذا المشروع.
للكلام صلة
نقولا الحداد(982/16)
المجتمع التقدمي
للدكتور قسطنطين زريق
مدير الجامعة السورية وصاحب الوعي القومي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
من هنا نشأ الخلل وعدم التوازن في كيان المدينة الحديثة: عدم التوازن بين الوسائل والغايات، بين التقدم العلمي والتقدم الأدبي، بين السلطة على البيئة والسلطة على النفس. هنا أصل العلل التي تعانيها هذه المدينة. هنا منشأ الأزمات الاقتصادية والهزات السياسية والمنازعات والحروب والأخطار التي تهدد عالمنا الحاضر بالهلاك والدمار
وهذا كله يظهر أنه لقدر التقدم الصحيح لا بد من مقياس آخر غير المقياسين اللذين ذكرناهما: مقياس أهم وأشد خطورة وأصعب من سابقيه تحديداً وتعييناً. هو المقياس الخلقي الأدبي: هو مقدرة المجتمع عامة، ومقدرة الأفراد الذين يؤلفونه، على التغلب على الهوى والطمع والاستئثار، هو احترامهم لكرامة الفرد وشخصية الإنسان
هذا التقدم الأدبي يظهر بمظاهر عدة: منها توفر الحرية السياسية والاجتماعية والفكرية وضمان العدل في القضاء وتساوي الناس في الفرص وما إلى ذلك من المبادئ التي جاهدت الشعوب بالثورات حينا وبالعمل المستمر حينا آخر لتحقيقها. وكل مرحلة من مراحل تطور البشرية تتميز بالجهاد في سبيل أحد هذه المبادئ. أما المبدأ الذي يشغل مرحلتنا الحاضرة ويملأ أجواء عالمنا دوياً فهو العدل الاقتصادي فالاجتماعي: أي حسن توزيع الوسائل التي يهيئها لنا استثمار الطبيعة. لم تعد مشكلة البشرية عامة مشكلة الاستثمار بل مشكلة التوزيع. ولذا أصبح هذا المقياس الأدبي الذي نتحدث عنه أهم من حيث بقاء البشرية وتقدمها من المقياس الأول الذي بدأنا به
هذا العدل الاقتصادي والاجتماعي أصبح، من حيث المبدأ، أمراً مثبتاً، وإن اختلفت الشعوب في مقدار العزم على تحقيقه وفي اختيار الطريق المؤدية إليه. ولذلك غدا مفروضا علينا، في تقديرنا تقدم مجتمع ما، أن ننظر في الوسائل، وبالتالي في الفرص المؤدية إلى تقدمهم المادي والعقلي والروحي. ولكن هذا المقياس على أهميته، لا يصلح أن يؤخذ وحده؛(982/17)
بل يجب أن يضم إليه مقدار الحرية السياسية والفكرية التي يتمتع بها الفرد في المجتمع. والصراع القائم بين قوتي العالم الجبارتين اليوم إنما هو صراع بين أولوية هذين المبدأين: الحرية الفردية والعدل الاجتماعي. وبقاء المدينة الحديثة وازدهارها منوطان بمقدرتهما على التوفيق بينهما والمحافظة على القيم التي ينطوي عليها كل منهما
ولعلنا نستطيع أن نجعلهما وسواهما من المقاييس الأدبية في مقياس واحد شامل هو: مبلغ احترام الشخصية الإنسانية، أي الإقرار بأن لكل مواطن وكل إنسان شخصية لها حرمتها وكرامتها، وأن أي افتئات على هذه الشخصية يحرمانها من حق سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي هو إهانة لها ووصمة في جبين المجتمع
نستطيع هنا أن نفصل هذا المبدأ الأساسي فنتكلم عن مختلف الوجوه التي يتمثل بها. نتكلم عن حرية الفرد السياسية والاجتماعية والفكرية وعن استقلال القضاء وضمان العدل للجميع. نتكلم عن الفلاح وتحريره من نير العشائرية والإقطاعية، وعن العامل وضمانه من مساوئ الرأسمالية. يمكننا أن نوضح القضية النسائية ونبين العوائق التي يجب إزالتها من طريق المرأة والفرص التي يجب أن تفسح أمامها لتلعب دورها الخطير في حياة المجتمع. بوسعنا أن نلح على أهمية التعليم وضرورة نشره وعلى حماية الصحة العامة وتوفير الإمكانيات المادية والاجتماعية للمواطنين على السواء. كل قضية من هذه القضايا وأمثالها وجه من وجوه النهضة والتقدم، وهي إذا تحققت بمجموعها كونت المجتمع التقدمي المنشود، ولكنها كلها تنشأ من أصل واحد، إن لم يتكون ويثبت ويتم، كان الجهاد في سبيلها جهاداً متفرقاً متلاطماً. هذا الأصل هو احترام كرامة المواطن والإنسان وقدسية كيانه، والعزم الوطيد على محاربة كل تعد على هذه الكرامة أو أي ظلم لها، سياسياً كان أم اقتصادياً أم اجتماعياً أم فكرياً، من خارج المجتمع أو من داخله
إن المجتمع التقدمي مجتمع منسجم يتسامى فيه المواطنون في الفرص ولا يستأثر فيه فرد أو فريق بحكم ولادة أو إرث أو جنس أو أي فارق عرضي آخر لأنهم كلهم متساوون في الجوهر: في مواطنهم وفي إنسانيتهم
إلى أي حد تنشر هذه الفكرة في مجتمع ما؟ إلى أي عمق تنزل في نفوس أفراده؟ إلى أي مدى يسعون لتحقيقها عن طريق التعليم أو الجهد السياسي أو النشاط الاجتماعي أو العمل(982/18)
الثوري؟ إلى أي حد يعتبر المواطن أو الإنسان وسيلة الاستثمار، أو، بالعكس، غاية في ذاته وشخصية تفرض الاحترام وتستوجب التنمية والإغناء. هذا هو جوهر المقياس الأدبي، المقياس الأعم، خاصة في هذه المرحلة الحاضرة من تطور الإنسانية، نظرا للتقدم الذي حصل في ميدان الاستثمار وفي الميدان العلمي والذي يكاد ينقلب تأخراً، بل انحلالاً ودماراً، نظراً للتأخر الواقع في المضمار الأخير
إن هذا العنصر الأخير - العنصر الأدبي - يختلف عن العنصرين السابقين في أن تقدمه ليس حتمياً كما هو الحال فيهما، فقد تحدث نكسات في حياة الشعوب يخف فيها احترام الشخصية الإنسانية والإرادة لتوفير نموها وازدهارها. ولذا تحتاج هذه الشعوب إلى الالتفات إلى تاريخها لتتحسس مجدداً تلك الهزات النفسية التي سمت بها فجعلتها تعي هذه المبادئ وتجاهد في سبيلها. تلك الأدوار في حياتها التي كانت فيها حقاً تقدمية
وهنا تتجلى أمامنا مسألة طالما شغلت المفكرين والعاملين منا، وهي العلاقة بين النظرة التقدمية وبين التمسك بالكيان التاريخي والميراث القومي. والواقع أنه ليس ثمة تناقض أساسي بين الأمرين إذا ضبطا وفهما فهماً صحيحاً وكانت عند المختلفين حولهما الإرادة المكينة لرؤية الحق والسير على هداه، فالكيان التاريخي والإيجابي والميراث القومي الباقي هما نتيجة لنظرة كانت عند الأسلاف تقدمية. لقد كان العرب في إبان نهضتهم تقدميين، جابوا الآفاق البعيدة، وساروا إلى غاياتهم بلا خوف ولا وجل: اقتحموا البلاد فاتحين وتجاراً ورواداً ومصلحين، نظرهم ممدود أبداً إلى الأمام، فبنوا دولة شاسعة الأطراف وأنشئوا حكماً خلده التاريخ. وعندما اتصلوا بالمدنيات الأخرى وتفتحت لهم من خلالها آفاق واسعة لم يتأخروا عن ارتيادها؛ فأنتجوا في ميادين العلم والفلسفة آثاراً ليس هنا مجال تبيان ضخامتها وجلالها. وأهم من هذا وذاك وأبقى ارتيادهم للآفاق الروحية، وتطلعهم إلى القيم الخلقية والأدبية، وأثر هذا كله في حياتهم العلمية وإنتاجهم الحضاري؛ هذا الاقتحام للميادين الطبيعية والعقلية والروحية هو باعث إبداعهم ومصدر عزهم ومجدهم. فلما خبت جذوتهم ضاقت آفاقهم وتخلفوا في ميادين الإنتاج فغلبوا على أمرهم. أما تراثهم الباقي فهو نتيجة تلك الروح التقدمية التي ذكرنا. وإذا ما عدنا اليوم إليه فلنقتبس تلك الروح، فنبد كما أبدعوا، ونخلف لأنفسنا ذكراً كما خلفوا(982/19)
هذا النوع من الاستحياء التاريخي لا يتعارض والنظرة التقدمية الحاضرة خصوصاً إذا حققت هذه النظرة الشرط المتعلق بها، وهو أن نفهم التقدم بمعناه الواسع الشامل فلا تقف عند عناصره المادية والعلمية فحسب، بل نتناول أيضاً العناصر الأدبية والروحية، تلك العناصر التي قلنا إنها أساسية في تقدير التقدم الصحيح والتي كثيراً ما تهملها أو تقلل من أهميتها التقدمية الحديثة
ينتج من هذا أن المجتمع لتقدمي بالمعنى الشامل الصحيح لهذه الكلمة لا يحتاج لأن يقطع صلته بتراثه الباقي ما دام هذا التراث هو نفسه نتيجة لنظرة تقدمية وجهد تقدمي. بل بالعكس إن التقدمية الصحيحة والتاريخية الصحيحة نظرتان وسبيلان تتم الواحدة منهما الأخرى وتسندها وتقويها، وإنما الخلاف والتناقض بين التاريخية المتمسكة بما لم يكن في جوهره تقدمياً، والتقدمية الثائرة على الماضي بكامله المستخفة بالقيم الأدبية. وفي كليهما خلل وفساد. ولذا كان لا بد من أن يتنافراً ويتنازعاً. أما الحق فمن طبيعته أن يتصل بالحق ويبتهج بلقياه والانصهار فيه
ذكرت ثلاثة مقاييس رئيسية لتقدير تقدم مجتمع ما: سلطة المجتمع على الطبيعة، شيوع الروح العلمية، احترام الشخصية الإنسانية. هذه المقاييس قد تبدو في ظاهرها عامة بسيطة لكنها، فيما أرى، المقاييس الأصلية التي يفرع عنها كل مقياس آخر. ولا تخفنا بساطتها فالحق في جوهره في غاية البساطة
هذه المقاييس الثلاثة تحدد في النهاية في مقياس واحد شامل هو: الحرية. فاستثمار الطبيعة مؤداه تحرير المجتمع من سلطة المحيط الخارجي وبالتالي من الفقر والمرض. والتقدم العلمي جوهره تحرير المجتمع من الوهم والجهل. والتقدم الأدبي لا يتم إلا بالتحرير من الخوف والذل عند بعض طبقات المجتمع ومن الهوى والطمع عند الطبقات الأخرى. ولذا فالمقياس الشامل لتقدم مجتمع ما هو مقدار ما يوفر لأفراده من حرية: حرية من المحيط الطبيعي ومن المحيط البشري: الخارجي والداخلي. ومن الأمراض الداخلية: الوهم والجهل والهوى. والتقدم إنما يكون صحيحاً إذا تناول هذه الوجوه كلها لأن أي خلل أو أي فقدان للتوازن بينهما مدعاة للاضطراب ومجبلة للتدهور كما هو حال عالمنا اليوم
على أن الحرية لا تكون حقيقة ولا تؤدي مفهومها ما لم يصحبها عنصر متمم لها هو:(982/20)
الانتظام. فالجهد العلمي، سواء أكان علمياً تطبيقياً كاستثمار للطبيعة أو نظرياً مجرداً كاكتشاف للحقيقة، هو في الواقع انتظامي. ذلك أن العلم، كما ذكرنا، بناء متماسك في نتائجه وأسلوبه. وكذلك التقدم الأدبي: أنه يصدر عن انتظام النفس بضبط الأهواء والشهوات
ولما كان هذان المعنيان المتكاملان: الحرية والانتظام - شأن كل صفة عقلية أو نفسية - لا يقومان إلا في شخصية إنسانية فإن المقياس الأخير للمجتمع التقدمي هو مقدار ما يتوفر فيه من شخصيات حرة منتظمة، شخصيات قد تحررت من محيطها ومن نفسها وانتظمت قواها ومواهبها فكان في انتظامها هذا كمال حريتها
لقد وردنا في حديثنا لفظتي: التقدم، والتقدمية. ولعلنا لم نميزهما تمييزاً كافياً. فالتقدم شيء وموضوعي يقاس بالمقاييس العامة التي ذكرناها؛ وبمقاييس أخرى تفصيلية متفرعة عنها. التي تتضمنها هذه المقاييس. وهي تنطوي على عناصر الرغبة والعزم والإرادة. فإذا لخصنا مقاييس التقدم بما يتحلى به المجتمع عن طريق الشخصيات المكونة فيه، من تحرر وانتظام، أمكننا أن نقدر التقدمية فيه بمبلغ ما له من تحفز وعزم وإرادة لاكتساب هذه القيم وإنمائها. هذا التطلع والتحفز، هذا العزم والتصميم، هذه الإرادة الدافعة، هذه الهيئة النفسية المتجهة نحو القيم الإنسانية العليا التي يلخصها التحرر والانتظام: هذه هي جوهر التقدمية المنشودة
أرجو أن لا يفهم من قولي هذا أن التقدمية صفة زائدة على التحرر والانتظام وإنما هي نتيجة ملازمة لهما. فالشخصية التي حققت هذين المعنيين المتكاملين هي شخصية تقدمية حتماً. وكذلك المجتمع: إذ أن صفته - كما قلنا - هي خلاصة صفة الأفراد الذين يتألف منهم. وبعبارة أخرى أن هذه المعاني الثلاثة - في الأفراد والمجتمعات - هي واحدة في جوهرها. فالتحرر إذ تحقق فعلا كان هو نفسه انتظاماً فتقدمية
ويستنتج من هذا أن الشخصيات الحرة المنتظمة ليست هي نتيجة للتقدم ومقياساً له فحسب بل هي - بمعنى أهم - العامل المؤدي إليه. ولا شك في أنه من الصعب عند تشابك العناصر الاجتماعية وتفاعلها فيما بينها فصل النتائج عن الأسباب فصلاً تاماً حاسماً. فكأي من نتيجة كانت بذاتها أيضاً سبباً لسواها بحيث يعسر تحيد أية من هاتين الصفتين تغلب(982/21)
عليها. وهذا هو أصل الخلاف الذي ما زال قائماً بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع ومعللي التاريخ، والذي نجد صداه الصاخب عندنا في نظريات الباحثين وجهود العاملين
ولما كان لا بد لكل باحث في هذا الموضوع من أن يبدي رأيه الصريح في هذه القضية الأساسية، لأن منه تتفرع آراؤه في القضايا الاجتماعية عامة، فموقفي الخاص هو أن العوامل الشخصية الإنسانية هي العوامل الأصلية وما سواها هو إما عامل مساعد لها أو نتيجة عنها. لقد تكلمنا مثلا عن الآلة كسبب من أسباب التقدم لفعلها في استغلال الطبيعة وضبط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. ولكن الآلة هي نتيجة عمل العقل المتحرر المنتظم. نعم إنها تساعد في إزالة الموانع وتحطيم الحواجز القائمة في وجه تحرر العقل فهي من هذا القبيل عامل مساعد. ولكن العامل الأصيل هو العقل الإنساني ذاته بل الشخصية الإنسانية المكتملة بتحررها فانتظامها فتقدميتها
وفي نظري أن ما يحرزه العربي من تقدم متوقف - في الدرجة الأولى - على ما ينشأ ويعمل فيه من شخصيات متحررة منتظمة تقدمية في ذاتها. ولا عجب في هذا! ففاقد الشيء لا يعطيه. عبثاً ننتظر إشاعة الحرية ممن لم يتحرر في ذاته أولا. عبثاً نتطلع إلى من لم ينتظم عقله وتنسجم قوى نفسه لأن يكون باعث انسجام وانتظام في المجتمع. عبثاً نرجو ممن يخشى المغامرة واقتحام آفاق العمل والعقل والروح أن يدفع بمجتمعه إلى الأمام
ولذا كان أخطر واجب علينا وأجسم عبء ملقى على عاتقنا تكوين هذه الشخصيات التي تصبح في المجتمع مبعث قوة وحياة واندفاع. ولا نكران أن للقوة والحياة والاندفاع مصادرها الأخرى، ولكن هنا - في الشخصيات الحية الفاعلة، المتحررة المحررة، المنتظمة الناظمة - المصدر الأول والمبعث الرئيسي
وفي الواقع أن هذا الاعتقاد هو أساس إيماننا بأولية التعليم والجامعي منه بصفة خاصة؛ فإنما بذلك ننشد مداواة العلة في جذورها وتهيئة العامل الرئيسي للانبعاث والتقدم. وعلى هذا الشكل يجب أن تفهم مهمة الجامعة الأصلية. إن للجامعة مهمات عدة على درجات متصاعدة من الخطورة والجلال. عليها تدريب شباب الأمة وإعدادهم للمهن الحرة. وليس من يستخف بهذه المهمة خصوصاً في مجتمع كمجتمعنا يحتاج إلى إنشاء شامل وإلى عاملين أكفاء في شتى نواحي الإنتاج: في استثمار الطبيعة، في ضمان الصحة، في نشر(982/22)
التعليم. وقد بينا أثر هذه الأعمال كلها في تقدم المجتمع والضرورة الملحة لتدعيم تعليمنا الفتي وتوسيعه. وللجامعة فوق هذا مهمة المحافظة على التراث العلمي الإيجابي ودرسه بالبحث والتحري ونقله إلى الأجيال الصاعدة. وبهذا أيضاً تساهم في التقدم كحامية للعلم وخادمة للعقل. لكن مهمتها الكبرى، مهمتها الأصيلة، هي تكوين الشخصيات التي وصفنا؛ تلك الشخصيات التي يؤمن بها الجامعي بأنها العامل الأهم في التقدم والارتقاء
هذا كان لب الجامعات في التاريخ وهذا فعلها في نهضت الأمم؛ فإليه يجب أن نوجه جهودنا في جامعاتنا الوطنية
عن هذا السبيل - وعنه وحده - تبرر الجامعة وجودها في الوطن. عن هذا السبيل تساهم مساهمة أصيلة في تكوين المجتمع العربي المستثمر إمكانياته، القابض على جوهر العلم المتعلق بالقيم الأدبية والروحية، الصائن كرامة الوطن والإنسان، المجتمع العربي المتحرر، المنتظم، المجتمع العربي التقدمي الجامع بتقدميته هذه المعاني كلها.
قسطنطين زريق(982/23)
نظرات خاطفة
من الشعر السوداني الحديث
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
أكثر الأدباء اليوم المتأدبين والمتذوقين للأدب بصورة عامة منغمرون في السياسة، وتتبع الحوادث الدولية، وما يجري خلف كواليس الأمم الكبرى التي تريد أن تقرر مصير الشعوب والإنسانية بالحق والباطل، لذلك فهم بعيدون عن تتبع النشاط الفكري والحركات الأدبية في البلدان العربية والشرقية بصورة خاصة. ولعل لهم العذر، وقد يكون العذر واضحاً لعدم اطلاعهم على الصحف الأدبية التي تمثل النتاج الأدبي في تلك الأقطار من جهة؛ وانغماسهم في المادة وتفضيلهم صرف المال في سبيل البطن والكماليات من جهة أخرى. كأنما الكتابة ضرب من الجنون لا يجب على المتمدين مزاولته، فلهذه الأسباب أقول إن أكثر الأدباء والمتأدبين - إن لم أقل كلهم - لا يعرفون عن الأدب السوداني الحديث - وخصوصاً الشعر منه - شيئاً، كما أنهم لا يدرون من هم أبطال النهضة الشعرية وروادها في هذا العصر - وعلى سبيل المثال أقول إن الكثرة الغالبة من أدباء العراق لم يسمعوا بشاعر الشباب السوداني التيجاني رحمه الله وهم حتى الآن لم يعرفوا أن له ديوانا موسوماً بـ (إشراقة) طبع مرتين فكيف بالأحياء - لهذا ولما كنت من المتتبعين للنهضات الفكرية الحديثة في البلدان العربية وخصوصاً السودان المصري ولي مع أدبائهم وشعرائهم صلات أخوة كريمة وثيقة - أرجو أن لا تفصم عراها الأيام - أحببت أن أقدم في هذه العجالة الخاطفة نماذج من الشعر السوداني الحديث على أن أتبع هذه المقدمة بأحاديث أخرى في المستقبل القريب إن شاء الله. وعليه توكلنا ومنه القوة والعزم
وأولى هذه النماذج هي لزعيم الشعر الإيداعي المرحوم التيجاني يوسف بشير
ولد شاعرنا في أم دومان سنة 1912م وهو أحمد التيجاني ابن يوسف بن بشير بن محمد بن الإمام جزري الكتيابي والكتياب بيت مشهور من بيوت السودان ممتاز بين قبائل الجعليين الذين عرفوا بالإقدام والسماحة، ولقب بالتيجاني تيمنا بالطريقة المعروفة، دفع وهو صغير إلى خلوة عمه الشيخ محمد القاضي الكتيابي فحفظ القرآن ومشى بعد ذلك في طريقه المرسوم إلى المعهد العلمي في أم درمان حتى تخرج منه ثم اتصل بالصحافة بعد(982/24)
استيعاب كثير من كتب الأدب القديم وكتب الصوفية والفلسفة؛ فشغلته هذه الدراسات عن نفسه حتى دب إليه الوهن فتوفى سنة 1937م. هذا هو مختصر حياة التيجاني، ولكن الذي يقرأ شعره يدرك أن السنوات القصيرة التي عاشها الشعار ما ذهبت عبثاً - وإن كانت عمر الورد - لأنها تركت لنا أنغاماً عذبة يظل صداها يرن في سمع الكون مدى الزمان وإليكم اللحن الأول
النائم المسحور
أيها النائم في مهد أغاني ولحني ... هكذا يدفق يا ناعس في حسنك حسني
هكذا ينفذ سلطاني ويستهويك حزني ... هكذا يهبط في عينيك ما تدفع عيني
أنت يا واهب ألحاني ويا ملهم فني ... أنت فجرت لي اللحن ففيأنك أمني
إنما أصنع من كرمك صهبائي ودنى ... إنما أسحر عينيك بما تسحر م
يا أماني التي أعبدها من كل لون ... وأغاني التي ألهمها ملهم جن
والتي ذوبها الشاعر في الصوت الأغن ... كلما طار بها العود وقرأها المغني
خفقت ذات جناحين: مدو ومرن ... عبرت كل فؤاد وتغشت كل أذن
هكذا يدفق يا ناعس في حسنك حسني ... وكذا ينفذ سلطاني ويستهويك حزني
ومن هنا يدرك القارئ الكريم أن الناحية الغنائية هي التي تطفي على شعره وهي التي تقتصر على التغني بالحوالج النفسية والاحساسات الروحية الذاتية، وهو شعر جميل في حد ذاته وأكثره خالد؛ لأن النفس تميل إلى الإشادة بمن يشرح آلامها ويعبر عن انفعالاتها كما يقول الدكتور إبراهيم في خطبته التي لقاها في تأبينه، ولا نريد أن ندع التيجاني دون أن نقدم له قطعة موسيقية أخرى من شعره الغنائي الذي أعده من أخلد الشعر وإن اختلفنا أنا والأستاذ عباس خضر في هذا العدد. ولنسمعه في قصيدته المنشودة ص (20) من الديوان تحت عنوان:
جمال وقلوب. . .
وعبدناك يا جمال وضفنا ... لك أنفاسنا هياما وحبا
ووهبنا الحياة وفجر ... نا ينابيعها لعينك قربى(982/25)
وسمونا بكل ما فيك من ضعف جميل استفاض وأربى
وحبوناك ما يزيدك بالغز ... وضوحا وأنت تفتأ صعبا
وذهبنا بما يفسر معنا ... ك، بعيدا وأنت أكثر قربا
من ترى وزع المفاتن يا حسن ومن ذا أوحى لنا نحبا؟
من ترى علم القلوب هوى الحسن، وقال عبدي من السحر ربا؟
من ترى ألهم الجمال وقد أعطاه من جبرة الحوادث عضبا؟
أن يبث الهوى مفاتن في جفن بليغ، وأن يجود ويأبى؟
من ترى وثق العرى بين مسحورين، أسماها جمالا، وقلبا؟
إنه صانع القلوب التي تنصب ... في قالب المحاسن صبا
يا جمال الحياة في حيثما كا ... ن أمانا، وحيثما كان رعبا
وجمال الحياة في كل من أعمل ... شرقا وكل من سار غربا
أقس يا حسن ما تريد وتبغي ... أو فكن هينا على النفس رطبا
أنا وحدي دنيا هوى لك فيها ... كل كنز من المشاعر قربى
أي والله هذا هو السحر الحلال الذي يجري في لفظ موسيقي ولكنه عربي أصيل لا حوشي فيه ولا غريب، ورحم الله التيجاني بعد هذا حيث يهتف بلوعة المرحوم وهو يناجي حبيبه البعيد من قصيدته المنشورة في (ص 89) والمرسومة بـ
نعيم الحب. . .
إن لي من وراء عينيك هات ... ين مصلى وفيهما لي مخدع
فيهما لوعة القلوب ونعيما ... ها، وكم فيهما حديث موقع
ككم بجنبي من مفاتن ما تخفض عيناك من جلال وترفع
نفس هائم يصعده الحب ... نديا كأنما هو مدمع
مر بي عابرا فأوردته نفسا أصابت من سحر عينيك مشرع
فيه من لوعتي أحاديث يغلي ... في حواشيهما فؤاد مفزع
كل ركب منها رسول القلب المعنى إلى الملاك الممنع
أيهذا الحبيب ما بي إلا أن دنياي من نعيمك بلقع(982/26)
أنا أشقى بالحب من حيث ما ينعم قلب وكم ألذ وأمتع
والهوى نعمة الزمان، ونعمى الخلد أسمي من الحياة ولمرفع
الجمال الذي استفاد به الله وجودا صعب المقادة أروع
وإلى هذا نودع التيجاني شاعر الشباب لنقدم لكم شاعراً آخر وهو معروف لدى القراء؛ فقد سبق أن طالعوا شعره في مجلتي الرسالة والثقافة الزاهرتين وصحف السودان وخصوصاً (الصراحة) و (التلغراف) وغيرها من أمهات صحف الخرطوم وهو صديقنا الشاعر المبدع الشاب جعفر حامد البشير الذي نترك ترجمة حياته الآن إلى مقال مفصل عنه، ولكن حسبنا أن نورد عنه هذه النبذة التي كتبها عنه الدكتور محمد النويهي أستاذ الأدب الهربي بكلية الخرطوم الجامعية. . والتي نشرتها جريدة (الصراحة) الغراء وها هي:
(أكون لكم جد شاكر إذا تكرمتم بإبلاغ شكري الجزيل وامتناني الصادق للشاعر الموهوب الأستاذ جعفر حامد البشير لقصيدته الفائقة في تحية النهضة النسائية. وأود لأن أنتهز هذه الفرصة لأعبر عن إعجابي المخلص بكل ما قرأت له من شعر، ولست أغالي إذا قلت أنه بين جميع الشعراء والسودانيين منذ التيجاني أحسنهم جميعاً بين سلاسة التنغيم وصحة الأسلوب؛ وبين صدق العاطفة وإخلاص المشاركة للروح السودانية. .) للشاعر البشير قصائد ممتازة مبثوثة في خفايا الصحف والمجلات، وها نحن نورد للقراء المثال الأول منها وهي قطعة بعنوان (نفديك) قال
يا مشرقا وضياء الشمس يغمره ... لا زلت تمرح إشراقاً بإشراق
لفديك كيف تبيت الروح ظامئة ... والنبع عندك نبع الحسن يا ساقي
بل في جمالك أنهار مطهرة ... من كل عذب إلى الشطان دفاق
يا فاتني إن قلبي قد ظفرت به ... أضحى خلايا صبابات وأشواق
قد لا مني فيك أقوام وما علموا ... أني المدل بآدابي وأخلاقي
نزهت نفسي عن الفحشاء في زمن ... أهلوه معشر مجان وفساق
قالوا، وأرجف أقوام وما علموا ... أن العفاف دماء ملء أعراقي
يا سامح الله منهم، رغم ما اقترفوا ... إني عليهم لذو عطف وإشفاق
ويبدو البشير في قطعته هذه شاعراً متزهداً غارقاً في حلمه عابئاً على وشاته أراجيفهم،(982/27)
ورغم ذلك فهو سموح عطوف، وأظنه في شعره هذا متأثر بكتب الصوفية وطرائق شيوخها. على أن ذلك كله لم يؤثر على عاطفته فشعره سهل رقيق، وعاطفي عذب، وجرسه حلو فاتن، وللدلالة أكثر على هذه الناحية منه نسوق للقراء هذه الأبيات أيضاً من قصيدته (هوى يتجدد) قال:
وهوى أراه على المدى يتجدد ... ما زال يهبط في الفؤاد ويصعد
هو في الصباحات الرطاب نسائم ... نشوانة - ملء الفضاء - تعربد
ولدى الحوالك في العشايا شعلة ... ما أن تزال مشعة تتوقد
محراب قلبي. . كلما عاودته ... ألفيت فيه أخا هوى يتعبد
أنا للصبابة والغرام فإن أمت ... فأنا الشهيد بحبه المتعبد
ألم أقل لكم إن أخانا البشير شاعر صوفي؟ وهل أدل على صوفيته ورهبنته (فأنا الشهيد لأنني متعبد في محراب الحب والجمال)
قدست سرك يا جمال وأذعنت ... روحي وقلبي للمفاتن يسجد
يا حسن، يا نهر الحياة ونبعها ... قلبي - فديتك - في الهواجر فدفد
أظمأته دهراً فهل من رشفة ... تشفي لواعج أقسمت لا تبرد
أو قوله من قصيدة بعنوان (جمالك). .
جمالك لا غاضت ينابيع سحره ... سيبقى لصنع الله أروع شاهد
أرى، ما أرى؟ دراً نضيداً، وبسمة ... لها مثل إشعاع النجوم الفراقد
وهذا الجبين الحلو زان صفاءه ... وميض بهيج الضوء جم التطارد
فأنت الذي فتحت قلبي للهوى ... وألهت وجداني، فلست بجاحد
وأنت الذي وجهت للحسن خاطري ... وشعري، عمداً منك أو غير عامد
الآهات جدد من حياتي فإنني ... لأنكر من آثارها كل بائد
أعود إليك اليوم ولهان مدنفا ... فهل أنت من فعل الصبابات عائدي
أفكر فيك الليل والصبح هائما ... فألقاك والتفكير بعد معاودي
وما تمحى من خاطري لك صورة ... هي النبع في جدبي ودنيا فدافدي
ولا أحب أن أنتقل بالقراء إلى شاعر آخر دون أن أشير إلى الميزة الفذة التي يتمتع بها(982/28)
البشير والتي تكاد تطغى على شعره؛ هي هذه الموسيقى اللفظية الحلوة التي يزاوج بها معانيه وأخيلته
أما الشاعر الثالث فهو من الذين يتصفون بالرقة والنزوع إلى التجديد برغم كونه غير معروف للقراء، لأنه لا يميل لإذاعة شعره على الناس ولا نشره في الصحف. وكان هذا الصديق قد أرسل إلى مجموعة من شعره لأرى رأيي فيها فطالعتها بإمعان فوجدت فيها روحاً سامياً وشاعرية فذة لو تعهدها صاحبها بالصقل والمران لخلقت منه وتراً جديداً من أوتار الشعر في السودان؛ وهذا الشاعر هو الأستاذ جعفر عثمان موسى، وهذه أنغامه، قال من قصيدة له بعنوان (حياة خاوية) وسيرى القراء فيها مدى الحيرة التي تلازم الشاعر والألم الذي يعصف بحياته؛ قال
أطل على عالم بارد ... كأني أطل بوادي العدم
ظلام ويأس وصمت كئيب ... وكأس بها من عصير الألم
وفي كل ركن هموم ثقال ... وثغر بعض بنان الندم
وقلب تحطمه لوعة ... وخد خصيب بدمع ودم
فلا القلب نشوان من فرحة ... ولا الروح سابحة في القمم
وفي النفس طاف الأسى والبكا ... وسار المشيب ودب الهرم
فنفسي مبعثرة حيرة ... وغارقة في بحار السأم
ظلام بعيني ونفسي مشى ... وهم ثقيل بصدري جثم
ولي مظهر كلما داعيته ... يدي بث حولي فحيح السقم
كأني بصومعتي راهب ... أكب على ربه يستلم
ونام وأصبح صبح وقد ... تهدم معبده والصنم
حنانك ربي سئمت الحياة ... وضقت بنقلي علها القدم
وهاك نغمة أخرى، نغمة جديدة ثائرة متمردة على كل شيء حتى على الشاعر نفسه، ولنتركه يصف الحياة التي يتطلبها في قصيدته (القمم)
هناك في القمة العالية ... فضاء وحرية النجاح
ترامى الضياء على الرابيه ... وتزأر كالوحش هوج الرياح(982/29)
هناك لا الشمس مسودة ... ولا البدر مستتر بالسحاب
ولا الأنجم الزهر مربدة ... ولا الفجر يغفو وراء الضباب
هناك السباسب مخضرة ... وسفح الربى ورؤوس الهضاب
فالشاة من عيشها غدوة ... وللظبي حظ كما للذئاب
أيا كتلا كقطيع الشياه ... تساق إلى الموت بين الحديد
آلام تسيرون عمياً حفاه ... وتحيون كرها حياة العبيد
إلى القمة الحرة الساحرة ... إلى حيث شيدت قبور الجدود
إلى الشعلة الحية الباهرة ... إلى العيش تحت ظلال الخلود
ألم تسأموا من رقاد الثرى ... وإطباق هذا الظلام البغيض
ألا تبدءون صعود الذرى ... وتنضون عنكم هوان الحضيض
ألم تسأم العنق أغلالها ... ألم يسأم الجسم لذع السياط
أما مجت الظهر أحمالها ... أما ملت الأنف مس البساط
لقد آن أن تبعثوا من جديد ... وأن لنور الحياة الشروق
وآن لعهد طغى أن يبيد ... وأن تبدؤوا في اقتحام الطريق
وأخيراً ماذا أذكر بعدما قدمت للقراء هذه النماذج من الشعر السوداني الحديث. . أقول أنا عائب على أدباء السودان وشعراءه لأنني رغم مرور أكثر من ستة أشهر على الدعوة التي وجهتها لهم على صفحات جرائدهم في الخرطوم بواسطة زميلنا الأستاذ جعفر حامد البشير لم يردني منهم شيء أستطيع أن أصنع منه دراسة أدبية مفصلة ودسمة لنشرها على الناس، فهل أنا الملوم أم هم؟ وهل بعد كل هذا يحق لجريدة (النيل) أن تنعتنا بالخمول وعدم الكتابة عن الأدب السوداني؟ إن هذا العتاب نفسه أوجهه لأدباء السودان وشعرائهم وأساتذة كلياتهم ومدارسهم العالية، راجين منهم إرسال نماذج من أدبهم وشعرهم للاطلاع قبل أن تذهب صحفهم فتتهم البلاد العربية وخصوصا العراق بعدم التنويه بأدب السودان الحديث. أما الصحافة السودانية فمع الأسف أننا لا نعرف عنها شيئا البتة ما يرسله لنا بعض الإخوان عن طريق المراسلة، وليت الصحافة السودانية تتكرم فتزودنا بنسخ من صحفها. . هذا ولنا عودة للموضوع قريباً وكل آت قريب إن شاء الله.(982/30)
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري(982/31)
محمد إقبال
شاعر باكستان الأكبر
للأستاذ صلاح الدين خورشيد
يحتفل أهل باكستان في اليوم الحادي والعشرين من شهر أبريل كل عام بذكرى إقبال، الشاعر الفذ والفيلسوف الحكيم والزعيم المدره والسياسي النابغة، الذي يرجع إليه عظيم الفضل في إيقاظ وعي المسلمين في شبه جزيرة الهند، وشحذ قواهم وجمع كلمتهم، ثم وقوفهم كالبنيان المرصوص، هبوا للمطالبة بحقوقهم وضمان مصالحهم
فالواقع أن إقبالاً كان من أعظم رواد فكرة الباكستان، ومن أكبر العاملين على تحقيقها، غذ رأى - وهو ذو الرأي الصائب - أن المسلمين في شبه جزيرة الهند ليسوا بمجرد الفئة أو الطائفة، وإنما هم قوم لهم جميع ما للأقوام الأخرى من مقومات وخصائص، فلهم أسلوب للحياة يختلف عن نهج الطوائف الأخرى، لهم دينهم ولهم لغتهم ولهم تاريخهم ولهم أبطالهم. ولذلك رأى أن الحل الوحيد لمشاكل الهند الدستورية - كانت هذه المشاكل يكاد يستعصي حلها - هو أن يستقل المسلمون الأقسام التي يؤلفون فيها أغلبية السكان، يحكمون أنفسهم بأنفسهم ويسيرون سيرتهم التي يؤثرون
قال في خطاب سياسي ألقاه سنة ألف وتسعمائة وثلاثين في اجتماع حزب العصبة المسلمة ما معناه:
(أود أن أرى البنجاب وإقليم الحدود الشمالية الغربية والسند وبلوخستان دولة مستقلة قائمة بذاتها)، وفسر قوله هذا بأن:
(ليس من حل يؤدي إلى تكوين نظام دستوري مكين في الهند - حيث يتباين المناخ وتختلف العناصر وتتنوع اللغات وتتباين نظم الحياة - إلا في إقامة حكومات مستقلة تجمع بين سكانها وحدة اللغة والعنصر والتاريخ والدين وتقارب المصالح) ثم أوصى المسلمين في نفس الخطاب قائلاً:
(إنني لا أنصح المسلمين قط بقبول أي نظام لا يقر لهم بكيانهم السياسي المستقل)
لم يكن محمد إقبال - رحمه الله - لينطق عن الهوى عندما نصح بهذا لبني قومه، وإنما كان يعرب إعراباً صادقاً عما كان يخالج مشاعره - وهو الشاعر الفذ - من انفعالات(982/32)
ومؤثرات تلازم حياته وحياة المسلمين من حوله.
فلقد ولد محمد إقبال شاعراً، مرهف الحس حديد المشاعر بعيد البصائر، وكان أبوه يتعهد تعليمه أيام صباه ويوصيه بتلاوة القرآن الكريم والتأمل في معانيه، فكان يطلب إليه أن يسترسل في تلاوة القرآن الكريم بعد الفجر كل يوم، وكان كلما رآه بعد الفجر سأله عما يصنع فيجيب إقبال بأنه يتلو القرآن، ولما ألحف الأب بأسئلته وألح كل يوم قال الابن: (يا أبت إنك تراني أتلو القرآن الكريم. . . فلم تعيد هذا السؤال عليَ وأنت عليم بما أصنع) فقال الأب: (بلى! ولكنني يا بني أردت أن أقول لك: أتل القرآن وكأنه أنزل عليك)
كان إقبال يروي هذا الحوار ويقول: (ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأتفقه معانيه، فاقتبست من قبسه واستنرت بنوره)
بدأ محمد إقبال تعلمه بالقرآن الكريم شأن أكثر المسلمين، ثم تقلب في الدرس والمدارس حتى نال شهادته العالية من كلية الحكومة بمدينة لاهور، وفي سنة ألف وتسعمائة وخمس قصد إنكلترا لإتمام التحصيل العالي بها، ومنها سافر إلى ميونيخ حيث التحق بإحدى جامعتها ونال شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وكان خلال إقامته في أوربا يتلمس ما شاب الحضارة الغربية من نزعة مادية قوية، ومن عصبيات عنصرية ولونية، فأراد أن بفهم الغربيين ما في الإسلام من نعم وفضل على المسلمين وعلى البشرية جمعاء، فألقى عدة محاضرات عن الإسلام والحضارة الإسلامية، قاصداً إزالة ما في أذهان الربيين من انطباعات خاطئة في هذه الحضارة العتيدة وذلك الدين المجيد
ولد محمد إقبال شاعراً، مرهف الحس حديد المشاعر، بعيد البصائر، وقد وصفه أستاذنا الدكتور عبد الوهاب عزام بك بأنه (أكبر شعراء المسلمين في هذا العصر، وأبلغهم تصويراً للحضارة الإسلامية، وأعظمهم أثراً في نفوس المسلمين، وأصحهم إدراكا لمقاصد الإسلام ومعانيه).
فإقبال لم يتخذ من الشعر هواية، فلم يتغزل أو ينظم الشعر التمثيلي أو الرومانطيقي، وإن اتخذ من الشعر حكمة وموعظة وهداية، فكان شعره فلسفياً موضوعياً أكثره، ذلك لأنه لم يقل (بالفن - من أجل الفن -) بل كان يؤمن بأن الشعر فن من الفنون الرفيعة التي ينبغي استخدامها لأجل النهوض بالمجتمع إلى أعلى مراتب الرقي، حتى روى عنه أنه قال مرة:(982/33)
(إن وحياً صادراً من مصدر من مصادر التدهور والانحطاط، قد يكون أثره أشد فتكا من جميع جحافل جنكيز خان. . .)
وهو يرى أيضاً: (أن سلامة النفوس في أي شعب من الشعوب إنما تتوقف إلى حد كبير على نوع الإيحاء الذي يلقاه شعراؤه وفنانوه. . .)
ولذلك اتخذ إقبال من الشعر وسيلة لتحريك المشاعر بين بني قومه وشحذ همهم واستثارة عزائمهم، إذ أبان لهم ابلغ إبانة بأن لهم مجداً مؤثلاً وحضارة وتاريخاً مجيداً، واستحثهم على السعي والجهاد والتسامي بالمقاصد والغايات
وإليكم بعض الأمثلة من شعر إقبال كما يترجمها إلى العربية صاحب السعادة الدكتور عبد الوهاب عزام بك سفير مصر بالباكستان:
عليك السير لا ترغب مقيلا ... وسر كالشمس لا ترقب دليلا
وهب للآخرين متاع عقل ... ونار العشق فاحفظها بديلا
أثرت بنغمتي كل النوادي ... ومن سر الحياة جعلت زادي
أضاء القلب من عقلي ولكن ... جعلت عيار عقلي في فؤادي
أرى رمز الحياة بكل زهر ... مجاز فيه يا قلبي الحقيقة
بترب مظلم ينمو ولكن ... له عين إلى شمس الخليقة
وهذه نبذة من قصيدة ممتعة للشاعر محمد إقبال عنوانها وصية الصقر لفرخه وقد ترجمها الدكتور عبد الوهاب عزام بك أيضا:
متاع الحياة تعلم جهاد ... وصبر على محنة واجتهاد
يقول لفرخ عقاب عتيق: ... يريق الدماء يفوق العتيق
ولا تبغ سربا كسرب الغنم ... توحد كقومك منذ القدم
سمعت وصات الصقور العقاق ... بالا نقيم بظل وساق
فليس لنا رياض مجال ... فسيح الفيافي لنا والجبال
صلاح الدين خورشيد(982/34)
رسالة الأدب بين الأصفهاني والثعالبي
للأستاذ حامد حنفي داود
كثيراً ما تكون ذاتية الأديب سبباً في تضارب آرائه أو هدمها وخاصة حين يعمد إلى مقارنة كاتب بآخر من كتاب تاريخ الأدب العربي، فيحمله تعصبه للواضع أن يقدم آثاره على آثار غيره، أو يقدمه على أترابه من أجل سفر واحد من أسفاره
هذا ما لمسته حين أثار جماعة من الأدباء نقاشا حادا حول كتاب (الأغاني) الأصفهاني وكتاب (يتيمة الدهر) للثعالبي. وكانت المفاجأة عجيبة حقاً حين رأى ذلك الناقد الكريم أن كتاب الأغاني أدى إلى الرسالة الأدبية القدر الذي لم يؤده كتاب اليتيمة. ولعل ذلك الناقد هاله أن يقع كتاب الأغاني في واحد وعشرين جزءاً على حين يقع الآخر في أربعة أجزاء. وعلى هذا أصبح الأصفهاني - في نظره - أحق بالتقديم من صاحبه
هذه أحكام سريعة مليئة بالخطأ والعيوب. ولعله لم يحملنا على الوقوع فيها إلا في الأحكام السطحية التي نرسلها قبل الدراسة العميقة والآراء المحمصة
ولو أننا نستعرض حياة الأصفهاني في القرن الرابع والثعالبي في أوائل الخامس، ثم أخذنا نوازن بين آثارهما ومقوماتهما الأدبية لاستطعنا أن نجيل الحديث على غير هذا النحو، وأن نرسل أحكاماً دقيقة تقوم على الحجة والبرهان
كان الأصفهاني (356هـ) والثعالبي (429هـ) شيخي عصرنا في تاريخ الأدب ودراسته. وقد حملاً إلينا خلاصة الآثار الأدبية التي وصلت إلى علم هذين القرنين. ولكن شتان ما بين الرجلين في طريقة الأخذ وفي طريقة علاج النص الأدبي
ولعلنا نجد في حياة الرجلين وآثارهما وأسلوبهما ما يعيننا على تلمس ما بينهما من هوة واسعة في نقل (المادة الأدبية) إلينا وفي طريقة حملها وأدائها
عاش الأصفهاني في النصف الأول من القرن الرابع وهو عربي من نسل أمية، وولد بأصفهان يوم كانت موطن كثير من الأشراف النازحين والأمويين الهاربين خلال العصر العباسي الثاني. ولكنه انتقل إلى بغداد سريعاً حيث نشأ وتعلم. وهنالك جمع مادة كتابه الأغاني من الإخباريين وتلقفه من أفواه المؤرخين والمغنين ورواة الشعر، في الوقت الذي كانت فيه بغداد تموج بميادين الشعر، وتكاد تضيق بالشعراء والأدباء على اتساعها،(982/35)
وهؤلاء غير من كانوا يفدون عليها من الدول الإسلامية شرقاً وغرباً وخاصة دولة بني بوية السياسة والحضارة الإسلامية في القرن الرابع
أما الثعالبي فإنه ولد بنيسابور ونشأ في بلاد المشرق حين كانت مسرحا للدول الفارسية الناشئة في ذلك العصر، وفي هذه البقعة من الأرض خالف الثعالبي في نشأته أعيان عصره حيث أخذ الأدب عن رغبة ملحة وميل شديد، فلم يحمل نفسه عليه حملاً أو يكرهها على صناعته كرها، بل كان ملهماً بطبعه وفطرته. وقد وهب إلى جانب ذلك قريحة وقادة وسجية مواتية، يدلك على ذلك أنه كان في أول أمره فراء يبيع فراء الثعالب في الأسواق. ولو كان من صناع الأدب ومتكلفي الشعر الذين يكرهون أنفسهم ويحملونها على علاج هذه الصناعة لصعب عليه أن يغير مجرى حياته على هذا النحو العجيب. وهو إلى جانب هذه الطبيعة المواتية يحمل بين جنبيه نفسا محسة وقلبا نابضا يطوع له صناعة الأدب ويفتح أمامه طريقاً سهلاً ميسوراً فيجد نفسه مشاركاً لأدباء عصره في إحساسهم مرتبطاً بعواطفهم حافظاً لأشعارهم ورسائلهم. ثم يأبى علية هذا الطبع السمح إلا أن يقوده إلى الكتابة الأدبية المنظمة عن بيئته التي عاش فيها، فيجد نفسه مرة أخرى حيال نزعة ملحة إلى تأريخ الحياة الأدبية خلال القرن الرابع كله، فيضع كتابه (يتيمة الدهر). ويخرج الكتاب صورة صادقة لهذه النفس في سهولتها وهذه العقلية في نظامها وهذه الحافظة في وعيها وهذه الثقافة في اتساعها.
أما الأصفهاني فيضع كتابه السالف في واحد وعشرين جزءاً وهو أضعاف مضاعفة لكتاب صاحبنا، سواء في مادته وأخباره. تراه يجمع فيه مادة وافرة من الشعر والغناء وأخبار الشعراء حتى أنه - كما يحدثنا أبو محمد المهلبي - وضعه خمسين سنة وأنه لم يستطع أن يكتبه إلا مرة واحدة في عمره. ويكفيه فخراً أن الصاحب بن عباد زعيم الشيعة وعميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع - يمدحه ويثني عليه، لما رآه من استقصائه للأخبار وجمعه لحكايات الشعراء حتى قال فيه: (ولقد اشتملت خزانتي على مائة ألف وسبعة عشر ألف مجلد ما فيها سميري غيره. ولقد عنيت بامتحانه في أخبار العرب وغيرهم فوجدت جميع ما يعزب عن أسماع من قرفه بذلك قد أورده العلماء في كتبهم، ففاز بالسبق في جمعه وحسن وضعه وتأليفه.)(982/36)
وعلى الرغم مما أمتاز به الأصفهاني في جمع الأخبار واستقصائه إياها فإنه لم يأمن غائلة النقاد الذين جاءوا بعده: قال ياقوت. (وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به وطالعته مراراً وكتبت منه نسخة بخطي في عشر مجلدات ونقلت منه إلى كتابي الموسوم بأخبار الشعراء فأكثرت، وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشئ ولا يفي به غير موضوع منه) وضرب الأمثال لذلك بحديثه عن أبي العتاهية وأبي نواس والأصوات المائلة في الغناء
وهنا يحق لنا أن نتساءل هل كان الأصفهاني في كتابه هذا يصور نفسه ويرسم إحساسه ومشاعره التي تربطه بأدباء عصره - كما فعل الثعالبي -؟ الجواب: لا. لم يكن كذلك فئ شيء لأنه كان يؤرخ لا أكثر. كتب الأصفهاني كثيراً ولكنه لم يكتب غير التاريخ الأدبي الصامت. وملأ أسفاراً ولكنها لا تعدو أن تكون أخبار الأولين والمعاصيرن من الشعراء. فهو أخباري من الطراز الأول، ومحدث مستطرد أمين بكل ما في كلمة المحدث من معنى. ولكنه لم يرسل نفسه على سجية الأدبي، فيذكر رأيه أو يبدي لناقده فيمن يخبرنا عنهم
ولعلك حين تستعرض طريقة العرض عند الرجلين تقف على صدق ما ندعيه - فأنت ترى الأصفهاني يتحدث عن الشاعر يصدر حديثه عنه بسلسلة طويلة من نسبه، يستطرد فيها ما شاء له الاستطراد، وقد يأتي فيها بالفريد المقبول وما كان يلذه السامعون في ذلك العصر حين كانوا يعون بالأنساب ويتفاخرون بها. ولكن الاستطراد به عند هذا الحديث الذي يرسله في حلقات النسب، فيتجاوز النسب إلى ما رواءه وينتقل بك إلى الحديث عن شخص آخر قد لا يربطه بالسابق إلا محض الاستطراد. وهو رباط شكلي بحت - وهنا يذكر لك أشعاراً وقصصاً وروايات تتعلق بالشخص الذي أدار الحديث حوله. حتى إذا ما انتهى به المطاف عاد إلى صاحبه الأول الذي ترجم له، فيحدثك عما وقع له من أحداث، وقد تنتهي به هذه الأحداث الجزئية المتعلقة بصاحبه إلى الحديث عن تاريخ عصره وما كان فيه من عبر ومواقع. ثم يحدثك آخر ذلك كله عن شعر صاحبه والأصوات التي غنيت من هذا الشعر وما لم يغن وما لم يعتبر من الأصوات المائة التي ذكرها في سائر كتابه. ويذيل الترجمة وفاة صاحبه إن كان في الاستطراد ما يناسب ذلك
فأنت ترى أن عنصر الاستطراد هو المنهج الأصيل في كتاب الأغاني وهو عين المنهج الذي استنه شيوخ الأدب العربي من قبل أبي الفرج. فالجاحظ (255هـ) وابن قتيبة(982/37)
(176هـ) وأبو علي القالي (356هـ) وغيرهم من عيون الأدب العربي شرع واحد في هذا المنهج. وقد أثبت المنهج العلمي الحديث أن منهج الاستطراد كان شائعاً في كتابات القوم وأساليبهم منذ فجر الحياة الأدبية في الجاهلية والإسلام وظل حتى أواخر القرن الرابع الهجري
ثم جاء أبو منصور الثعالبي في أواخر القرن الرابع وخرج للناس بمنهج جديد لم يسبق إليه، حيث ترك صناعة الأدب على طريقة الاستطراد الذي شغف به القوم في حياتهم الأدبية. وأخذ يتحدث حديثا منظما عن تراجم الشعراء والكتاب، وهو لا يحدثك عن شعراء هذا العصر وكتابه ككل لا يتجزأ؛ وإنما يحدثك حديث العارف بالبيئة وآثارها في الأدب فيقسم بلاد المشرق إلى أقاليم مختلفة متباينة، ثم يحدثك عمن بهذا الإقليم من الشعراء والأدباء والكتاب
وهو حين يضع كتابه يتيمة الدهر يضرب أمامنا مثلا رائعا لم يسبق إليه في تأريخ الأدباء؛ مثلاً لا زلنا نحن معاشر المحدثين نعده متحررا طريفاً في بابه ولا سيما من الوجهة الفنية في تاريخ الأدب، فكتابه المذكور لا يعتبر كتاباً في تاريخ الأدب فحسب بل هو تاريخ أدبي إقليمي مستقل يتحدث صاحبه عن الحياة الأدبية ورجالها في الدول الإسلامية الشرقية في القرن الرابع
(للموضوع بقية)
حامد حنفي داود الجرجاوي
ماجستير في الأدب وأستاذ العربية وطرق التدريس بالمعلمين
الريفية(982/38)
شعراء من أشعارهم
عدي بن زيد العبادي
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
تتمة البحث
فأنت ترى عدياً في القصيدة السابقة قد ذكر الأكاسرة والقياصرة، وذكر قصة رب الحضر، وذكر قصة رب الخورنق، وهو يعرف أنهم جميعاً قد ذهبوا، وألوت بهم الأيام كما تلوي ريح الصبا وريح الدبور بالأوراق الجافة، وقد كانت زاهية يوما، يانعة يوماً، جميلة مبهجة للنفوس والقلوب يوما، وهذا هو ديدن الأيام، فمن يبقى على الدهر، ومن خلدته المنون؟
والحضر كان قصراً بين دجلة والفرات، وأخو الحضر الذي ذكره عدي هو الضيزن بن معاوية ملك تلك الناحية وسائر أرض الجزيرة حتى بلاد الشام. وقد أغار فأصاب أختا لسابور الجنود، وفتح المدن، وفتك بها. ثم إن سابور جمع له، وسار إليه، وأقام على الحضر أربع سنين لا يستغل منهم شيئاً، حتى دلته النضيرة بنت الضيزن - وكانت صبيحة الوجه جميلة، وأحبت سابور حين رأته وأحبها - وأعانته، ففتح المدين وقتل الضيزن يومئذ
والخورنق قصر النعمان بن الشقيقة. وسبب بنائه أن يزدجرد بن سابور كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مرئ صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة. وكان عامله في الحيرة على أرض العرب النعمان بن الشقيقة. فأمره أن يبني الخورنق مسكناً له ولا بته بهرام جور وينزله إياه معه. وكان الذي بنى الخورنق رجلاً يقال له (سنمار)، فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال لهم لو علمت أنكم توفوني أجرتي وتصنعون بي ما أستحقه، لبنيت بناء يدور مع الشمس حيثما دارت، فكرهوا منه تقصيره وأمروا به فطرح من أعلى الجوسق
وقد تناول الشعر قصة سنمار هذه، وضربه مثلا للرجل المجحود الفضل المنكر الجميل، فقال أبو الطمحان القيني:
جزاء سنمار جزوها، وربها ... وللات والعزى، جزاء المكفر(982/39)
وقال سليط بن سعد عن أبي الغيلان وبنيه حين جحدوه فضله وجميل فعله، وقد أخذ منه الكبر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزي سنمار
وقال آخر وقد جوزي بسوء، يدعو على من أساء إليه بعاقبة كعاقبة سنمار:
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار، وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجة ... يعلى عليه بالقراميد والكسب
ورب الخورنق أعجبه قصره حين أشرف من أعلاه يوما وسره ماله وكثرة ما يملك، والبحر يجري عريضاً من تحته، والفلاح، والملك، والنعمة؛ حين رأى كل ذلك وتبصر فيه ارعوى قلبه، وفكر في فنائه وفناء الإنسان. ويقال أنه نزل من الجوسق وانطلق إلى الصحراء ولم يعثر له على خبر
فعدي بن زيد كان يعرف الشيء الكثير. وكان يميل إلى أن يفلسف ما يعرفه ويستنبط منه القواعد العامة والنتائج المحتومة. فرأى الكبراء والعظماء والآثار تحور إلى وادي الفناء، ورأى أن الملك لا ينفعه ملكه، والحصن لا يحمي سيده، والقصر لا تدوم مسراته ونعماؤه، ورأى كل حي إلى الفناء يصير، ورأى أن الخاتمة هي الهلاك والانطفاء، ورأي أن المنون يترصد للناس، ورأى أن الزمان لا يبلغ الإنسان ما يشتهيه ويأمله، فانطوت نفسه على آماله ومطامعه بائسة محزونة، وعرض هذا كله في شعره
وقد أثرت حوادث الزمان في عدي بن زيد تأثيراً كبيراً. وكان هو ميالاً إلى استخلاص الحقائق الدائمة من هذه الحوادث العارضة. وهو في هذه الأبيات التالية يقدم لنا عصارة حياته وخبرته المستمرة بالحياة وأبنائها:
فنفسك فاحفظها عن الغي والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يقتدي
وإن كانت النماء عندك لامرئ ... فمثلاً بها فاجز المطالب وازدد
إذا ما امرؤ لم يرج منك هوادة ... فلا ترجها منه، ولا دفع مشهد
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا أنت فاكهت الرجال فلا تلع ... وقل مثل ما قالوا ولا تتزيد
إذا أنت طالبت الرجال نوالهم ... فعق ولا تأت بجهد فتنكد(982/40)
ستردك من ذي الفحش حقك كله ... بحلمك في رفق ولما تشدد
وبالعدل فإنطق إن نطقت ولا تلم ... وذا الذم فاذممه وذا الحمد فاحمد
ولا تلح إلا من ألام ولا تلم ... وبالبذل من شكوى صديقك فاقتد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن ييسر في غد
وللخلق إذلال لمن كان باخلا ... ضنينا، ومن يبخل يذل ويزهد
هذه الحكمة الرائعة إنما هي خلاصة تجارب عدي في حياته بعد أن بلا مر الناس ومر الأيام، وبعد أن لم تحقق له الأيام ما يصبو إليه، وبعد أن تبصر في مصير الناس - فقراء وأغنياء - بعد هذا كله، وبعد أم كون رأياً عاماً وفلسفة كاملة، لم ير خيرا من هذا الذي قدمه لنا في أبياته السابقة. وهي فلسفة تحنو على الضعيف، وتدعو إلى الرفق والحلم، وتعترف بتقلبات الأيام واختلاف الحظوظ، وترى أن أخذ الحياة بالجد والحيطة أتم وأرفق، وترى أن تكافئ الإحسان بالإحسان، وأن تؤدب نفسك، وتحفظها عن الغي والضلالة. والمعنى السارب في هذه الأبيات هو كف النفس وأخذها بالحكمة والحزم والحذر
وكان طواف عدي بالبلاد نعمة عليه ونقمة أيضاً. نعمة عليه لأنه اتسعت مداركه، وعرف كثيراً، وأحاط بكثير من أحوال الملوك والدول، وصقل نفسه وهذب عواطفه. ونقمة لأنه عرف كنه كثير من الأشياء، وعرف إختيان الناس بعضهم بعضا، وعرف كثيراً من الأحوال المشجية والمبكية، وهذا جعله يسئ الظن بالأيام والناس، فاصطبغت نظرته إليهما باليأس والقنوط. ونقمة لأن خلاطا بالناس، واختلافه إليهم واختلافهم إليه، وهم ذوو ألسنة متعددة ولغات متباينة وثقافات مختلفة، أثر في عربيته إلى حد دعا إلى الاحتراس منه. لأن طول العشرة ودوام المخالطة يدعوان الإنسان - رضا أو كرها - أن يأخذ عن مخالطيه ومعاشريه كثيراً، يأخذ من عاداتهم وآدابهم، ويتأثر بأذواقهم، وينحو منحاهم، ويميل إلى ما يميلون إليه، وقد يستعير منهم بعض ألفاظهم، ويصوغ أساليبهم، فتتأثر بذلك لغته، ويدخلها وهن لم تكن تعرفه من قبل
وهذا ما حدث لعدي بن زيد. وهو نفسه ما دعا ناقدي العرب إلى التنبيه إليه والاحتراس منه، فهم قد انتقصوه وحذروا من الاحتجاج بشعره، وذلك لخلطه بكثير من غير العرب من الفرش والروم(982/41)
فعدي (كان يسكن الحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه واحتمل عنه كثير جداً، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة)
وهو (شاعر فصيح من شعراء الجاهلية. وكان نصرانيا وكذلك كان أبوه وأمه وأهله. وليس ممن في الفحول. وهو قروي. وكانوا قد أخذوا عليه أشياء عيب فيها. وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان: عدي بن زيد في الشعراء، بمنزلة سهيل في النجوم، يعارضها ولا يجري معها مجراها)
ومما يعاب عليه من شعره قوله داعيا النعمان إلى الصفح عنه:
أجل نعمي ربها أولكم ... ودنوي كان منكم واصطهاري
يدعو النعمان إلى الصفح عنه من أجل نعمة قد تعهدها آباء النعمان، ومن أجل قربه منهم، ومن أجل مصاهرته إياهم. والمقصود من الاصطهار هنا المصاهرة. ولكن كتب اللغة لم تذكر لاصطهر معنى سوى ما جاء في قولهم: (اصطهر أي أذابه وأكله) ولو قال (وصهاري) لصح المعنى واتزن البيت
وذكر بعض الفارسي في شعره، وذلك حين وصف السحاب المتراكب، فوق رأس شيب، والبرق في السحاب يلمع لمعان السيوف، ويظهر صفحة الثوب المصون:
أرقت لمكفهر بات فيه ... بوارق يرتقين رؤوس شيب
تروح المشرفية في ذراه ... ويجلو صفح دخدار قشيب
والدخدار الثوب المصون وهو فارسي معرب، وأصله تحت دار
وهم يعدون من شعره أربع قصائد غرر:
الأولى يقول فيها:
أيها الشامت المعير بالده ... ر وأ أنت المبرأ الموفورظ
أم لديك العهد الوثيق من ال ... أيام؟ بل أنت جاهل مغرور؟
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير؟
وفي الثانية يقول:
أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أدنى ضحى الغد
ذريني فإني إنما لي ما مضى ... أمامي من مالي إذا خف عودي(982/42)
وحمت لميقاتي إلى منيتي ... وغودرت إن وسدت أو لم أوسد
وللوارث الباقي من المال فاتركي ... عتابي فإني مصلح غير مفسد
ومن الثالثة:
لم أر مثل الفتيان في غبن ال ... أيام ينسون ما عواقبها
ومن الرابعة:
طال ليلي أراقب التنويرا ... أرقب الليل بالصباح بصيرا
ومن المعاني معان مجدودة، تسير من مكان إلى مكان، وتتناقلها الألسنة، من هذه المعاني المجدودة المعنى الذي أورده عدي بن زيد في قوله:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
فقد ورد على لسان الأحنف بن قيس في قوله:
(من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء. ومن غص بالماء فلا مساغ له. ومن خانه ثقاته فقد أتي من مأمنه)
وقال العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عودي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
وقال آخر:
كنت من كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار!
وقال غيره:
إلى الماء يسعى من يغص بريقه ... فقل أين يسعى بغص بماء
محمود عبد العزيز محرم(982/43)
رسالة الشعر
في انتظار الصباح
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
في انتظار الصباح ... الربا والبطاح
والسهول الفساح ... والندى والأقاح
وثغور الملاح ... والوجوه الصباح
كلها في انتباه ... تستحث الحياة
هامسات الشفاه ... تحسب الفجر تاه
والدياجي فلاه ... أين منها النجاة؟
والليالي جراح ... نام عنها الأساة
في انتظار الصباح
ضاق ليلي وطال ... بالأسى والملال
أين طيف الخيال؟ ... في ضفاف الجمال
كسنا الفجر جال ... في شعاف الجبال
غردي يا طيور ... وأسمعي يا وكور
وارقصي يا زهور ... للندى والعبير
عند شط الغدير ... صاح فيه الخرير:
ذلك الفجر لاح ... من وراء الستور
في انتظار الصباح
أحمد أحمد العجمي(982/44)
يا شعر
للأديب كيلاني حسن سند
يا شعر، يا لحن القلوب، ويا نشيد الحائرين
يا نغمة جادت. . قيثارة الزمن الضنين
يا غنوة، طفحت بها. . كأس الصبابة. . والحنين
يا رعشة القلب الجريح، ويا صدى الروح الحزين
يا موجة غسلت جراحات الفؤاد من الأنين
يا وحي ليلي، والحياة يلفها حولي السكون
يا ابن الضلوع الحانيات على المواجع والشجون
يا دفقه الشوق الحبيس، وصرخة الأمل السجين
يا واحة بين الضلوع تنضرت فيها الغصون
آوى إليها - في الهجير - فأستريح وأستكين
يا من عصرتك من دمي لجنا فأنت له جنين
يا مشعلا بيدي يضئ لي الطريق فيستبين
لولاك يا شعري للذت من المواجع بالمنون
ولقت: ثوري يا رياح، وحطمي هذا السنين
عمري سواك نفاية في الأرض تحقرها العيون
الركب يضرب في الدجى وأنا مع المتخلفين
القانعين من الربيع، من الخمائل، بالدرين
الناظرين إلى المواكب وهي تستبق السنين
الناهلين من السراب، من الغواية، والمجون
الزارعين بوهمهم زهر الوساوس والظنون
العابدين رؤى الجمال، العازفين له اللحون
الساهرين وما غنوا. . حتى تقرحت الجفون
الراكضين مع النجوم، وهم على السفح المهين(982/45)
لكن لأجلك قد رضيت وقد قنعت بما يهون
وتركت دنياي الحبيبة الشباب. . الكادحين
وشللت كفي عن مناي وعشت في كهف الفنون
أبكي وأضحك عازفا لحن المسرة والأنين
كيلاني حسن سند(982/46)
البريد الأدبي
مأساة عربية:
هذه قصة من صميم الواقع أنقلها إلى القراء الكرام كما رواها لي صديق شاعر قد زار شرق الأردن وبض الأقسام العربية من فلسطين التي ضمت إلى الأردن مؤخرا، وليس لي فيها سوى الرواية. قال محدثي ونحن جلوس في (مقهى الزهاوي) ببغداد نتسمع إلى آخر الأنباء في السياسة الدولية: -
عند طوافي في شرق الأردن بصحبة زعيم فلسطين زرنا مدينة نابلس. وفي الطريق مررنا باللاجئين العرب الذين شردتهم السياسة اللعينة من ديارهم وكانوا يسكنون الخيام بمجموعتهم الغفيرة، وهم حفاة بألبستهم المهلهلة القذرة، وقد أردت أن أستفسر عن حالهم من صديقي الفلسطيني فأخبرني أنه يريد أن يريني صورة صادقة، ثم جذبني من يدي ودفع باب إحدى الخيام المبثوثة في طريقنا ودخل وأنا وراءه. وبعد السلام وإبداء التحية هتف صديقي، قومي يا (فلانة) لاستقبال صديقنا هو عربي عراقي جاء يستفسر منك لينقل إخواننا العرب في شتى الأقطار حالتكم. وما فرغ من كلامه حتى شرقت الفتاة بالدمع وهي تحتضن طفلا صغيرا بجانبها وكانت فتاة في أوج أنوثتها وشبابها، فلم أتمالك نفسي من التأثر، فأخرجت من جيبي بعض المال وسلمته إلى الطفل وخرجت وأنا ألعن الجامعة العربية وحكوماتنا على هذه السياسة اللعينة التي جلبت علينا العار والشنار، وفي الطريق روى صديقي الفلسطيني قصة هذه الفتاة قال:
- هذه (فلانة) بنت (فلان) وهو من كبار شخصيات فلسطين تخرجت من جامعات بريطانيا، كانت تملك من الأرض وبيارات الفواكه ما لا يحصر، استشهد أبوها وأخوها الأكبر في إحدى المواقع، أما أمها فقد ماتت كمدا، ولم بيق لها غير هذا الطفل وهو أخوها الصغير، وعندما استولى اليهود على فلسطين أصبحت هذه الآنسة الثرية لاجئة تعيش على الصدقات! فهل من مأساة أبشع وأفظع من مأساة هذه العربية؟! فقلت وأنا أشرق بدموعي: لتحل علينا اللعنة ما دامت عجلة الحياة تدور
هذه القصة انقلها إلى القراء، تاركا لهم التعليق وللجامعة الفخر والتبجح بالماضي المجيد
عبد القادر رشيد الناصري(982/47)
تصويب أخطاء
منذ يومي قرأنا في العدد 973 من مجلة (الرسالة) الغراء مقالاً للدكتور محمد بهجت تحت عنوان (امرأتان عظيمتان من دولة المغول). وقد وقع في هذا المقال القيم أخطاء من جهة نقل الأسماء لبعض الأعلام. وغالب الظن أن منشأ هذه الأخطاء عدم معرفة الدكتور الفاضل الفارسية، ولعله أخذ معلوماته من بعض ما قرأ من الكتب الإنكليزية. بلى نذكر ما جاء في هذا المقال من الأخطاء معقبين عليها بالتصحيح
1 - (نور جاهان) أصل الكلمة (نورجهان) ومعناها نور العامل، فإن كلمة (جهان) معناها العالم بالفارسية
2 - (على كولي) أصل الكلمة (على قلى)
3 - (شر أفغان) أصل الكلمة (شير أفكن) أي مصارع الأسد، فإن شير معناه الأسد وأفكن معناه المصارع
4 - (جاهان جير) أصل الكلمة (جهان كير) أي القابض على العالم، فإن (جهان) معناه
العالم (كير) معناه القابض. وما كانت كلمة (جهان كير) هذه منية للملك نور الدين وإنما كانت لقباً لقب بها نفسه عند اعتلائه عرش المملكة، شأن غيره من الملوك المغوليين في الهند
5 - (كرام) أصل الكلمة (خرم)
6 - (بارفر) أصل الكلمة (برويز)
7 - (دلكوشا) أصل الكلمة (دل كشا) أي فاتح القلب
8 - (شاه دارا) أصل الكلمة (شاهدره)
باكستان
محمد عاصم الحداد
لسان العرب بين ابن سينا وابن منظور
جاء في تحيتك للشيخ ابن سينا أنه ألف لسان العرب، والذي أعلمه أن الذي ألف لسان العرب هو (ابن منظور الأفريقي)(982/48)
عبد الله مرسي الطحان
(الرسالة) لسان العرب الذي ألفه ابن سينا غير لسان العرب الذي ألفه ابن منظور. نقل القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) عن عبيد الجوزجاني صاحب الشيخ الرئيس قوله: (صنف الشيخ في اللغة كتاباً سماه بلسان العرب لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى توفي، فبقى على مسودته لا يهتدي أحد إلى ترتيبه)
العيد الألفي للجامع الأزهر:
تلقت مشيخة الأزهر رغبة ملكية كريمة خاصة بالاحتفال بالعيد الألفي للجامع الأزهر، احتفالا يليق بمكانة هذه الجامعة العلمية الإسلامية التاريخية بين جامعات الأمم المتحضرة وبرسالتها الدينية الكبرى في مختلف الأزمنة والعصور
وقد تضمنت هذه الرغبة السامية أن يكون الاحتفال بهذا العيد عالميا تشترك فيه الشعوب الإسلامية، لأن رسالة الأزهر قد شملت هذه الشعوب جميعاً؛ ولا يزال الأزهر يستقبل من أبنائها من ينتهلون من معينه ليعودوا إلى بلادهم وأممهم رسل حضارة ودعاة هداية وإرشاد. وتشترك فيه كذلك الجامعات العلمية في مختلف الأمم بوصف كونه جامعة علمية ساهمت بالنصيب الموفور في تغذية العقل البشري برسالة المعرفة
وقد عطف فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، تنفيذا لهذه الرغبة الكريمة، على دراسة هذا الموضوع منذ بدايته حتى اليوم، وأمر بإعداد مذكرة تشتمل على بيان المقترحات التي سبق أن وضعت في صدد هذا الاحتفال في مختلف مراحل التفكير فيه، والإعداد له، وبخاصة تلك المقترحات التي وضعت في عهد المغفور له فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي يوم كان شيخاً للجامع الأزهر
وقد علمنا أن هناك اتجاهاً يرمي إلى وضع تاريخ مفصل لما درس من أمهات اكتب الإسلامية في الأزهر، في مختلف العصور، مع بيان الطريقة التي يمتاز بها كل عصر على حدة، في نظام الدرس والتدريس، ومع وضع دراسة خاصة للأعلام من الفقهاء والأئمة المسلمين الذين ألفوا هذه الكتب أو ساهموا في شرحها أو التعليق عليها، في مناسبة هذا الاحتفال التاريخي الكبير(982/49)
وكذلك يرمي هذا الاتجاه إلى وضع تاريخ شامل للمذاهب الإسلامية الأربعة، كل مذهب منها على حدة، مع بيان المسائل المشتركة بين هذه المذاهب والمسائل التي اختلف عليها، وتوضيح ظروف هذا الاختلاف
والغاية التي يهدف إليها هذا الاتجاه هي أن يكون هذا المهرجان الإسلامي التاريخي مقترناً ببيان حقيقة الغاية من رسالة الإسلام في مختلف النواحي والوجوه
وسترفع هذه المذكرة إلى فضيلة الأستاذ الأكبر ليتخذ فضيلته على ضوء ما فيها من البيانات الخطوة التنفيذية الأولى نحو تنفيذ هذا المشروع الكبير
ويقال إن هذه الخطوة التنفيذية ستكون في أن يؤلف فضيلة الأستاذ الأكبر لجنة عليا من بعض جماعة كبار العلماء وبعض كبار المشتغلين بالعلوم العربية والدينية في الجامعات المصرية وغيرها من مختلف المعاهد الأخرى، وسيكون لهذه اللجنة أن تؤلف لجانا لدراسة مختلف الموضوعات كما تشاء
لغة الشاشة
لاحظت أثناء عرض الجريدة الأخبارية على الشاشة البيضاء أن اللغة التي تصحب العرض لا تراعى فيها القواعد النحوية، فقد ينصب الفاعل أحيانا. . وقد يرفع المفعول به أحيانا أخرى. . وهذا نقص نوجه إليه عناية المسئولين، لأن هذه الجريدة الأخبارية تعرض في أكثر من بلد عربي. . فماذا عساهم يقولون عنا. . ونحن نأبى إلا أن نتبوأ الصدارة من أمم الضاد!. . . كثيراً ما طرأت هذه الأخطاء اللغوية أذني فآلمتني. . ولا شك أن الغيورين على اللغة يشاركوني رأي. . ويضمون أصواتهم إلى صوتي!. .
إن المخرجين يبذلون عناية كبرى في إخراج هذه الأفلام، ويولونها جانبا غير قليل من جهودهم. . فيا حبذا لو ظفرت لغة العرض بمثل هذه العناية والرعاية!. . .
عيسى متولي
كاف التشبيه:
يضع كثير من الأدباء حرف الكاف في غير موضعه فيقلب
المعنى إلى النقيض وهم لا يشعرون. من ذلك مثلا أن الأديبة(982/50)
بنت الشاطئ نشرت كلمة في أهرام 341952 وردت بها هذه
العبارة (تخرج الفتاة بشهادة تبيح لها احتراف التمريض
والتدليك كوسيلة للرزق) وتريد أن تنتقد اتخاذ هذا الفن وسيلة
للرزق فقط، مع أن التعبير لا يؤدي المعنى الذي ترمي إليه؛
إذ أن الكاتبة تعلم كل العلم أن التشبيه يقتضي أن يكون المشبه
غير المشبه به، ولا يمكن أن يستقيم المعنى مع هذا الوضع،
بل يستقيم تمام الاستقامة إذا قالت (وسيلة للرزق) أي بحذف
الكاف
إن فشو هذا الخطأ بين خاصة الأدباء اضطرني إلى أن أنبه إليه حتى وأنا بسبيل البحث في تيسير الكتابة، فلقد أشرت إليه في تقريري الذي رفعته منذ بضع سنين إلى المجمع اللغوي خاصا بتيسير الكتابة العربية، حتى لا يظن ظان أن إجازة الخطأ نوع من التيسير، وإلا كنا كمن ينصب جمع المؤنث السالم بالفتحة زاعماً أن فيه تيسيراً كبيراً، والواقع - كما قلت في تقريري هذا - أنه هدم لقواعد اللغة من أساسها ولا يمت إلى التيسير بصلة قريبة أو بعيدة
عبد الحميد عمر(982/51)
القصص
الباب المفتوح
للكاتب الإنجليزي الكبير (الساقي)
- ستحضر خالتي في الحال يا مستر (نتل)، ولكن يجب في الوقت نفسه أن تجتهد في إنهاء حديثك معي
بهذه الكلمات بادرت الفتاة ضيفها عند دعوتها إلى غرفة الاستقبال، حيث كانت قد تركته ريثما تذهب لإخبار خالتها بقدومه: وفتاتنا صبية رزينة لم تتجاوز الخامسة عشرة من سنيها وحاول فرامتون نتل أن يتخير الكلمات اللائقة التي يستطيع أن يرضي بها ابنة الأخت الماثلة أمامه دون أن يكون في هذه الكلمات ما لا يرضي بغير مقتضى، الحالة التي ستحضر بعد قليل، وقد شك الفتى بينه وبين نفسه أكثر مما شك في أي وقت مضى، فيما إذا كانت هذه الزيارات الرسمية التي يتقدم بها إلى سلسلة من العائلات التي لا تربطه بها أية رابطة على الإطلاق، سيكون لها أثر فعال في علاج مرض الأعصاب المفروض أنه مصاب به. . . فقد قالت له أخته وهو يتأهب لرحلته الريفية:
- أنا عالمة بما ستكون عليه رحلتك! فلسوف تدفن نفسك حيث لا تتحدث إلى مخلوق من الأحياء، وعندئذ تضاعف الكآبة مرض أعصابك؛ وها أنا أكتب في الحال خطابات توصية أقدمك بها إلى جميع الذين أعرفهم هناك، ولقد كان بعضهم، على ما أذكر، وديعاً ظريفاً
تذكرة فرامتون كلمات أخته وتساءل في نفسه: ترى مسز سابلتون التي سيتقدم إليها بعد لحظة بأحد خطابات التوصية التي يحملها، تدخل في نطاق هذا البعض الوديع الظريف
وإذ لاحظت الفتاة الرقيقة أن فترة السكوت قد طالت بينها وبين الزائر الغريب سألته:
- أتعرف كثيرين من أهل هذه الناحية؟
فأجاب:
- أكاد لا أعرف أحدا هنا. وقد كانت أختي كما تعلمين، مقيمة هنا في الأبرشية منذ حوالي الأربع السنوات، وقد أعطتني خطابات توصية لفريق من أهل هذه الناحية. . .
وصاغ الفتى كلماته الأخيرة في لهجة تنم عن الأسف فتابعت الفتاة الرزينة حديثها قائلة:
- إذن أنت تكاد لا تعرف شيئا إطلاقا من أمر خالتي؟(982/52)
فأجاب الفتى:
- لا أعرف غير اسمها وعنوانها
فهو لا يدري إذا كانت متزوجة أو أرملة. ولكن شيئاً في الغرفة لا يستطيع أن يتبينه على التدقيق كان يوحي إليه بأن في البيت رجالاً. . . على أن الصبية لم تلبث أن قالت:
- لقد نزلت بخالتي مأساتها الكبيرة في مثل هذا اليوم منذ ثلاث سنين كاملة، ويوافق ذلك الوقت الذي غادرت فيه أختك هذه الجهات
فسأل الفتى وهو لم يكن ليتصور أن المآسي تجد طريقها إلى مثل هذا المكان الهادئ المطمئن:
- تقولين مأساتها؟
فقالت الفتاة وهي تشير إلى أحد الأبواب المطلة على الشرفة وكان مفتوحا:
- قد يدهشك أن ترى هذا الباب مفتوحاً في مساء يوم من أيام أكتوبر كيومنا هذا؟
فأجاب فرامتون:
- إن الجو دافئ بالنسبة لهذا الفصل من السنة، ولكن هل لهذا الباب أي علاقة بالمأساة التي تشيرين إليها؟
فشرعت الفتاة تحكي القصة الآتية:
في مثل هذا اليوم منذ ثلاث سنوات خرج من هذا الباب زوج خالتي وأخواها الأصغر منها سنا ليصيدوا الطير على عادتهم اليومية، ولكنهم لم يعودوا من رحلتهم، لأنه عند اجتيازهم المستنقع للوصول إلى الميدان المفضل عندهم لصيد البكاشين ساخت أقدامهم في بقعة خادعة من الأرض اللينة، حدث في ذلك الصيف الذي كثرت أمطاره، على ما تعلم، حتى إن الأماكن التي كانت مأمونة في السنوات الأخرى لم تقو على الثبات فانهارت، وقد اختفت أجسامهم ولم يقف لها أحد على أثر، وهذا هو أفظع ما في المأساة
وما وصلت الفتاة إلى هذه النقطة من قصتها حتى فقد صوتها ما فيه من رنة الثبات وغلب عليه التأثر، ثم مضت تقول:
- مسكينة خالتي لا تنفك تتصور أنهم سيعودون يوماً ما ومعهم كلبهم الأسود الصغير الذي ساخ معهم أيضاً، وأنهم سيدخلون البيت من هذا الباب كما تعودوا أن يفعلوا كل يوم. وهذا(982/53)
هو السبب في تركه مفتوحاً كل مساء إلى أن يهبط الغسق. وما أتعس خالتي العزيزة، فلكم كررت على سمعي قصة خروجهم، إذ كان زوجها يحمل معطف المطر الأبيض على ساعده، بينما روني أخوها الأصغر ينشد أغنية: (لماذا نثب يا برتي)، كما كان يفعل دائماً ليغيظها فقد كانت تقول إن هذه الأغنية تهز أعصابها، ولا أخفي عليك يا سيدي، أنني في بعض الليالي الساكنة الهادئة مثل هذه الليلة، يتسرب إلى نفسي غالباً شعور خفي بأنهم جميعاً سيعودون إلينا من خلال هذا الباب. . .
ووقفت الفتاة فجأة عن الكلام مضطربة بعض الشيء، وأحس فرامتون بالفرح عندما دخلت الخالة الغرفة تسوق أمامها سلسلة من المعاذير لتأخرها في إصلاح زينتها وقالت:
- أرجو أن تكون (فيرا) قد سلتك بحديثها؟
فقال فرامتون:
- لقد كان حديثها جد شائق
وقالت مسز سابلتون في نشاط وخفة:
- أرجو أن لا يضايقك فتح هذا الباب، فإن زوجي وأخوتي على وشك أن يعودوا من الصيد، وقد تعودوا أن يدخلوا دائماً من هذا الباب، وقد خرجوا اليوم لصيد البكاشين في البرك، وما من شك في أنهم متى عادوا تركوا على سجاجيدي المسكينة آثار ما تحمل أقدامهم من أوحال، وهذا شأنكم أيها الرجال؛ فهل توافقني على ذلك؟
ومضت تتحدث في انشراح عن الصيد وعن ندرة الطيور، وبخاصة البط في فصل الشتاء، ولقد بدا هذا الحديث لفرامتون مزعجاً فظيعاً، فحال جاهداً أن يحوله إلى مجرى أقل فظاعة وهولاً، فلم ينجح في ذلك إلا بعض النجاح، وقد تبين أن مضيفته لا توليه من عنايتها إلا جزءاً جد يسير، ولكن نظراتها كانت تتخطاه إلى الباب المفتوح وإلى ما وراءه من حقول ومستنقعات. فما من شك في أن زيارته هذه الأسرة في مثل هذه الذكرى المؤلمة لم تكن إلا مصادفة جد سيئة
وصور الوهم لفرامتون أن القوم الغرباء الذين يجتمع بهم والذين هم معارف الصدفة، عطاش إلى تعرف أقل ما يمكن من التفصيل عن مرضه وعلته ووسائل شفائه فقال:
- لقد اتفق الأطباء في أمرهم لي بأن ألزم الراحة التامة وأن أتجنب الانفعالات النفسية،(982/54)
وأن أبتعد عن كل شيء يتصل بالمجهودالجسمي، ولكنهم غير متفقين اتفاقاً تاماً يتصل بمسألة الغذاء
فقالت مسز سابلتون:
- ألم يتفقوا؟
وكان صوتها في هذا السؤال صوت الذي جاهد التثاؤب في اللحظة الأخيرة. ثم لم تلبث أن ابتهجت فجأة وبدا عليها مظهر التنبه الشديد. . . غير أن هذا التنبه لم يكن لحديث فرامتون. ثم صاحت:
ها هم قد عادوا آخر الأمر في الوقت المناسب لشرب الشاي. ألا يبدو عليهم أن الأوحال تغطيهم إلى رؤوسهم؟
فارتجف الفتى ارتجافاً خفيفاً، ثم نظر إلى ابنة الأخت نظرة تحمل معنى الإشفاق. وكانت الطفلة تحدق من خلال الباب المفتوح، وفي عينيها معنى الرعب الخاطف: فدار فرامتون في مقعده وقد أحس بصدمة مرعشة من جراء خوف لا يدرك معناه ونظر إلى حيث تنظر الفتاة
فرأى خلال الغسق الهابط ثلاثة أشخاص يجتازون الحق إلى الباب المفتوح، وكانوا جميعاً يحملون البنادق على سواعدهم، وكان أحدهم يحمل ما عدا البندقية معطفاً أبيض من معاطف المطر ألقاه على كتفه، وكان يتعقب أقدامهم كلب صغير أسود تبدو عليه مظاهر التعب. واقترب هذا الجمع في سكون من البيت، وإذا بصوت فتى أجش يغني في الغسق:
(إني أسألك يا برثي لماذا تثب؟)
لم تكد عين فرامتون تقع على هذا المنظر حتى أمسك في عنف بعصاه وقبعته، وفي أسرع من لمح البصر كان قد اجتاز باب الردهة والممر المرصوف والباب الخارجي كأنه السهم المارق، حتى أن رجلاً مقبلاً على دراجة لم يتق التصادم به إلا في اللحظة الأخيرة منحرفاً فجأة إلى السور
ودخل القادمون من الباب المفتوح وقال حامل المعطف الأبيض:
- ها نحن يا عزيزتي قد عدنا ملوثين بالأوحال ولكن أكثرها جاف. ولكن من هو الرجل الذي اختفى لمجرد ظهورنا؟(982/55)
فقالت مسز سابلتون: هو رجل غريب الأطوار جداً اسمه مستر (نتل) لا يستطيع أن يتكلم إلا عن مرضه، ولم يكد يراكم حتى اندفع إلى الباب خارجاً دون أن يلقي بكلمة وداع أو عبارة اعتذار، حتى لكأنه قد رأى شبح عفريت مخيف
فقالت ابنة الأخت في هدوء:
- أظنه قد خاف الكلب، فقد خبرني أن بعض الكلاب الضالة هاجمته مرة وطاردته حتى ألزمته الهرب منها إلى مقبرة في ناحية على ضفة نهر الجنج، وقد اضطر أن يقضي الليل في قبر جديد لم يدفن فيه أحد بينما الكلاب من فوقه تنبح مكشرة عن أنيابها، وفي ذلك ما يكفي لهز أعصاب أي إنسان
لقد كان من خصائص فتاتنا الرزينة اختراع الروايات على البديهة!
ع. ح(982/56)
العدد 983 - بتاريخ: 05 - 05 - 1952(/)
هذا هو الطريق. .
للأستاذ سيد قطب
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وان الله لا يضيع اجر المؤمنين: الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسهم سوء، واتبعوا رضوا الله، والله ذو فضل عظيم. إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)
قران كريم
كلما رأيت المتوجسين عن الجهر بكلمة الله، وهم يزعمون الإيمان بالله. . كلما سمعتهم يجمجمون بهذه الكلمة ولا يصدعون خيفة أن يمسهم القرح، وان نسلط عليهم قوى الشر والطغيان. . كلما وجدتهم يلبسون هذا الضعف ثوب الكياسة واللباقة والمرونة والدهاء. .
كلما أبصرت هذا كله تمثلت لي تلك الآيات القدسية الكريمة ترسم الطريق. . الطريق الذي لا طريق غيره إلى النصر والعزة والمنعة والتوفيق. . وهتفت من أعماق ضميري: ألا إن هذا الدين لواحد، ألا وإنه لن يصلح آخره إلا بما صلح به أوله. . ألا وان هذا هو الطريق. . .!
(الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل) انهم لم يقولوا: نحن قله ضعيفة في كثرة باغية، فلنصبر على الذل، ولنرض بالهوان، ولنجامل الشر، ولنتق الطغيان. .
حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. . فالمؤمن يوقن: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وإن أمر الله إنما يتم بعبادة الذين ينفذون أمره، وان السماء لا تمطر على الناس عزاً ولا نصر إنما هم يصلون قلوبهم بجبار السماء فتهون عليهم قوى الأرض، وتهون معها حياة الأرض. وعندئذ ينقلبون بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. وعندئذ يمكن الله لهم في الأرض، لأنهم صدعوا بكلمة الله، ولم يخشوا غير الله.
ذكرت هذا كله وأنا احضر اجتماعاً يقول دعاته: انهم اجتمعوا لتجديد شباب الإسلام والعمل(983/1)
لنصرة الإسلام، وإعزاز العالم الإسلامي. . فلما أن جاء ذكر الحكم بالإسلام والعمل بشريعة الإسلام، انتفض منهم الكثيرون مذعورين، أن يثير عليهم هذا القول ثائرة الاستعمار وغير الاستعمار، وان يسبب لهم متاعب وعوائق ليس إلى اجتيازها من سبيل. وقال أوسطهم إنما نحن مؤمنون بان الإسلام عقيدة وشريعة ودستور ونظام، ولكننا نؤجل هذا إلى حينه، ونأخذ فيما هو اسلم واحكم!
قلت في نفسي: كيف ينتصر المنهزمون في ضميرهم منذ اللحظة الأولى؟ وكيف يكافح قوى الشر والطغيان من يفرق أن يجهر بالحق في كلمات على الورق، أو كلمات على اللسان؟
وعلم الله ما عجبت لشيء عجبي لدبلوماسية الأقزام التي يزاولها منا الرجال. لا في ميدان الدعوة الإسلامية وحدها، بل في ميدان الصراع القومي مع الاستعمار، والصراع الاجتماعي ضد الطغيان، والصراع الإنساني ضد الشر كله وهو ألوان. .
انهم يسترون الضعف دائماً بستار (العقل) ويسترون الهزيمة دائماً ستار (المناورة) ويسترون حب السلامة دائماً بستار (المصلحة العامة)
وإذا جاز لرجال السياسة العصرية الكاذبة الخادعة أن يعتذروا بتلك المعاذير، فإنها لكبيرة أن يستعيرها منهم الدعاة الإسلام. الإسلام الذي يقول ربه لرسوله (فاصدع بما تؤمر) ويئسه ن رضى مخالفيه عنه مهماً جامل وحاسن، لأنهم لن يرضوا عنه إلا إذا ترك دينه جملة وعقيدته: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)!
إن الذين نداورهم امهر منا في المداورة، والذين نحسبهم أنفسنا نخدعهم، اكثر منا يقظة واشد خداعاً. فلم يبق إلا ذلك الطريق الواضح الصريح النظيف: أن نقول كلمة الحق التي نريد، وان ندعها تقرع الأسماع والقلوب، وان نؤمن بالله الذي يقول: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور)
وبعد فإن الإسلام الذي ندعو إليه عقيدة ننبثق منها شريعة، ويقوم على هذه الشريعة نظام اجتماعي، ونظام دولي، ونظام إنساني. ولا سبيل فيه لفصل العقيدة عن الشريعة، ولا فصل الشريعة عن النظام الذي ننشئه وتحكمه. فهذه العقيدة لا تتم، بل لا توجد، إذا لم تنشأ معها(983/2)
آثارها الطبيعية التي لا فكاك منها. فليتحسس عقيدته وليفتقدها من يرى الشريعة غير الشريعة الإسلام تحكم، ثم لا يبذل جهده في رد الأمر إلى شريعة الإسلام؛ ومن يرى نظاما غير النظام الإسلامي يسود، ثم لا يعمل عملاً أو يقول قولاً، يصحح به الأوضاع، ويحقق به الصواب.
إن الإسلام لا يعيش في الظلام، فهو نور يعيش في النور. وإن الإسلام لا يخادع ولا يداور، فهو كلمة الحق التي تكره المداورة والخداع. وإن الإسلام حقيقة واقعة تعيش في الأرض، لا سراً ولا مؤامرة تتواري عن الأنظار.
نحن نريد عالماً إسلامياً. . فلندع إلى هذا العالم على أسسه الواضحة الصريحة: شريعة إسلامية، ومجتمع إسلامي. . ولقد مضى - والله الحمد - ذلك العهد الذي كانت الببغاوات تثرثر فيه بان الدين رجعية، وبان الإسلام تعصب. . فقد اعترفت مؤتمرات (الخواجات) الذين تقلدهم الببغاوات بان الشريعة الإسلامية مرجع هام للتشريع الدولي. ولقد أعجبني الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف ضرار مدير الأزهر، وهو يقول هذه الحقيقة منهكما على أحد ببغاواتنا (المثقفين)!
فمن قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فاصطكت أسنانهم، وارتجفت مفاصلهم، فلينظروا: أين هم من ذلك الطريق الذي رسمه الله، في كتاب الله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) فلينظروا أين يتجه بهم الطريق!.
إن أضواء النصر تلوح في أفق الفكرة الإسلامية فتجذب إليها الكثيرين. منهم من يبتغي وجه الله، ومنهم من يحسبها تجارة كاسبة. ولكن الطريق طويل، والعقبات كثيرة، والقرح والابتلاء ولاستشهاد ينتظر المجاهدين. وسيحق على بعضهم قول الله: (لو كان عرضاً قرياً وسفراً قاصداً لاتبعوك. ولكن بعدت عليهم الشقة) وسيق على الآخرين قوله الكريم:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا)
وأولئك هم الفائزون.
سيد قطب(983/3)
2 - حسن البنا الرجل القرآني
للأستاذ أتنور الجندي
هذه (حلقة) أخرى من تلك (الخطوط) التي دونها (روبي اكسون) في مذكراته واطلع عليها (صديقي) الذي يطلب العلم في (واشنطن). . والتي ينوي الكاتب الأمريكي تضمينها في رسالة له عن (الرائد الأول للإخوان المسلمين) أ. ج
. . . . انتهت الحرب، وقد تجمعت للرجل قوة، تجعله قادراً على أن يملي رأيه على كل حاكم. . ومن هنا بدا الخطر
خطر الرجل الفرد الأعزل، الذي يعيش في بيت صغير، ولا يملك إلا مرتباً ضئيلاً، والذي جرد نفسه لفكرته، وسحق مغريات الدنيا فلم تعد تقف أمام إيمانه، وهزأ بكل وسائل الأغراء، وأسبابه، حتى شهد المراقبون أن ليس وراء فكرته امرأة ولا هوى!
وكان مؤرخو الشرق يتنبئون للشرق برجل يجتمع حوله. . وكانوا يقولون أنه لو وجده لقامت الكتلة الإسلامية، ولتحرر الشرق. .
وكان زعماء الغرب يخشون أن يكون قد وجد هذا الرحل فعلاً. . قالوها لأول مرة، بعد أن ثبت لهم أن (حسن البنا) لا تؤثر فيه المغريات، وأنه لا يخضع ولا يحنى رأسه. .
وجاءت حرب فلسطين، فأعطتهم تلك الصورة المزعجة الخارقة، صورة الفدائية الإسلامية على شكل لم يعهد بعد بدر والقادسية وأجنادين. . .
وعجب الغرب كيف يمكن أن تقوم في الشرق (فئة) تقدم نفسها للموت على هذه الصورة العجيبة.
وكان جهاد الإخوان فيها آية الآيات. . . فقد يهروا كل من اتصل بهم. . ووقف الخصوم يقارنون. . . ويرسمون الخطط لمستقبل الشرق على ضوء هذه القوة الخارقة.
واخذوا يتربصون الدوائر. . ولم يتأخر عنهم القدر، فقد كان في صفهم هذه المرة. . . وسرعان ما أعطاهم (محفظة) سيارة الجيب
وتجمعت القوى الحاقدة، والمغلوبة، وترابطت الأهواء بالمطامع. . في محيط الأحزاب والجماعات. . . وأثير الغبار الكثيف. . وأعلنت الاتهامات والإرهاصات، على أوسع نطاق(983/4)
ووقف الرجل وسط النيران. . وقد خيل إليه أنه يستطيع أن يعمل شيئا وجرت معه اتصالات، متعددة، كان لها أثرها. .
وشاهد الرجل في أيامه الأخيرة، هذا البناء الضخم، وهو ينهار حجراً حجراً. . ينهار في عالم المادة، ويزداد قوة في عالم الروح. .
. . وقد أمد إيمان الرجل بفكرته، أنصاره بالقوة على احتمال كل ما أريد بهم، أمدها لأن تحتمل التعذيب الذي لقيه بل وخباب وعمار
أي إنسان كان هذا الرجل الذي صنع هذه النفوس المؤمنة الخالصة القوية الإيمان، التي احتملت هذا العذاب في صبر وثبات. . .
لقد جاء حسن البنا إجابة طبيعية لقول (غلادستون) حينما وقف في مجلس العموم البريطاني وهو يحمل (المصحف) ويقول: (مادام هذا الكتاب باقيا في الأرض فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين)
ودهش الناس يومئذ! ماذا يقصد (غلادستون)
كان الناس في الشرق قد طوتهم ظلامات القرون. وأفسدت عقائدهم، أقوال العلماء من صنائع السلطان، الذين أغلقوا
باب الاجتهاد، وأفتوا لصالح الحاكم الظالم. . فلم يكونوا يفهمون من القرآن إلا أنه كتاب الله. . يقرءونه على القبور وفي الصلاة. .
حتى جاء حسن البنا، على اثر نداء غلادستون، ليقول للناس، إن خطر هذا الكتاب الذي يخشاه المستعمرون، ليس لأنه آيات تقرأ في الصلاة أو ترددها الشفاه، وإنما لأنه كتاب تشريع وقيادة، وإمامة وحكم
وإنما يخشى الغرب روح الإسلام التي لو تبدت، دبت اليقظة في أوصاله فأفسدت ذلك على المستعمرين أغراضهم. . وقامت في الشرق أمة تحب الموت في سبيل الحرية والكرامة والعزة. .
وكان حسن البنا هو الرجل الذي أخرجه التاريخ ليكتب هذه الصفحة الجديدة في تاريخ الشرق الحديث
ولذلك نظروا أبنا منذ اليوم الأول نظرة الترقب والتوجس والخوف، وحاولوا أن المر(983/5)
سيكون اخطر مما يتصورون، وأن الشرق مقبل على فجر (صادق) يطوى الاستعمار طيا وأصروا على أن يطول الليل. . وان يذهب الفجر. . ولا يعود. . ترى هل استطاعوا؟
وقف الغرب يرقب في لهفة، ذلك الرجل الذي جاء ليجدد (دعوة) محمد بن عبد الله. ومضى يسير على نهجه في بساطة وأناة. . لا يسبق الحوادث، ولا يصدم نواميس الكون
الرجل الذي كان يعلم أن مهمته ضخمة. . وأنها أكبر من جهد الفرد. . ولكنه كان قوى العزيمة إلى الحد الذي يضفي الثقة على النفس. . فآمن بأنه سيصل
ومضى يعمل ويسهر ويكد ويجهد. . يقابل الناس، ويتحدث إليهم. . ويخطب فيهم. . ويكتب لهم
ومضى ينفق من صحته ومن أعصابه، حتى كان اليوم والليلة يضيقان بما يريد. . ومع هذا ظلت أعصابه قوية. . وكان يزداد مع الأيام تألقاً
لم يمرض يوماً، ولم ينم في فراش. . كأنما كان جسده محصن ضد المرض، وكان كثير الأسفار لا تجهده. . بل كان لقاءه لأعوانه، في كل مكان، يزيد روحه قوة، ويفيض على نفسه حماسة وإشراقاً
وكان موفقاً لا تقف عقبة في طريقة مهما عظمت
وكان لبقاً، فلم يلتق بإنسان مهما كان كبير، إلا استطاع أن يغلبه ويقنعه ويضفي عليه شعاعاً من روحه الوهاج
ولو كان في مصر يوم بدأت الأحداث لتلافاها، ولا استطاع أن يطفئ النار بل أن يزداد لهيبها. .
وعندما وقعت القرعة انصرف عن الرجل بعض الذين كانوا يلقونه من قبل بالإكبار من ذوى الرأي. . ودخلوا جحوره، وخشى كل منهم أن قف في وجه الطوفان الذي كانت تدفعه يده. . بل إن بعضهم انضم إلى خصومه ودارى معرفته السابقة له، بحرب عوان. .
. . توارى الذين كانوا يحرصون على أن يكسبوه أو يفيدوا منه. . وهذا شأن الشرق، يحنى رأسه للرجل الذي يتألق، فإذا انصرف عنه الجاه العريض، شيعه الناس بالسخرية والاستخفاف. . .
والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي. . ولأم المخطئ الهبل(983/6)
الكلام صلة
أنور الجندي(983/7)
الأصناف والحروف الإسلامية
للدكتور عبد العزيز الدوري
تقديم
إن الناحية الاقتصادية من تاريخ المسلمين ناحية جديرة بالعناية والبحث لفهم ذلك التاريخ وما خلفه لنا من تراث. وهى على خطورتها لم تلق الاهتمام الذي تستحقه، نتيجة حداثة هذا الفرع من فروع البحث التاريخي من جهة، ونتيجة اعتقاد الكثيرين - حتى في الغرب - بأن ليس لدى المسلمين ما يدرس في هذه الناحية
ومن الطريف نواحي الحياة الاقتصادية تنظيمات العامة وتوجيه العمل في الحرف ولأصناف، فهي دليل حيوية اجتماعية، وظاهرة للشعور بالكيان مع رغبة في التعاون وإعلاء مستوى الصناعة وشأن أصحابها
وليس لي إلا أن أقدم الخطوط الأساسية، عارضاً فيها ما توصلت إليه ببحثي - خاصة في نشأة الأصناف والنقابات، مستفيداً في نفس الوقت من البحوث من سلف
وخلاصة رأيي الذي أعرضه هو أن تنظيم العمل كان نتيجة لظروف المجتمع الإسلامي، وأن أثر الحضارات القديمة هو في التراث الاجتماعي العام، وأن أوليات تنظيم العمل جاءت في اتجاهين: اتجاه سلمي هادئ يتمثل في حركات العيارين والشطار التي وسمت نفسها بالفتوة. وتلى ذلك اتصال الاتجاهين بدعايات الصوفية والقرامطة وبتشكيلات الفتوه وتطور الكل في اتجاه شامل
هذا ومن أراد التوسع أمكنه الرجوع إلى بعض البحوث خاصة تلك التي أثبتها في آخر الحديث
إن تنظيم العمل سواء كان ذاتياً أم صادراً عن جهة خارجية وثيق الصلة بأهميته في المجتمع وبأتساع نطاقه وبالأوضاع العامة المحيطة به. اجتماعية واقتصادية وسياسية
ولقد كان تنظيم العمل لدى المسلمين ذاتيا قام به أصحاب الحرف ووجهوه في مصلحتهم، فبدءوا بالتكتل ثم كونوا الأصناف والنقابات وساروا بها خطوات بعيده. ولكن هذه الناحية من تاريخ المسلمين لا تزال في إطار الفرضيات لغموض أولياتها، ولورود المعلومات عنها بعد أن قطعت مراحلها الأولى(983/8)
ويبدأ اختلاف الرأي في نشأتها؛ فهناك من يرى أن النقابات الإسلامية هي استمرار للنقابات البيزنطية (أو الساسانية) القديمة، فقد كانت في الهلال الخصيب ومصر نقابات عند الفتح ولا ينتظر أن يقضى العرب عليها إذ أن سياستهم العامة كانت إبقاء التنظيمات القديمة في البدء على الأقل
وهذا رأى يصعب البت فيه لأننا ليست لدينا إشارات تذكر عن النقابات قبل القرن الرابع الهجري وهي في هذه الأخبار تختلف عن النقابات القديمة
ويرى الأستاذ ماسنيون في بحث له أن الحركة الإسماعيلية هي التي خلقت النقابات الإسلامية وأكسبتها صفاتها المميزة لها ويعتقد أن النقابات الإسلامية كانت قبل كل شيء سلاحاً شهرة الدعاة القرامطة في كفاحهم لضم الطبقات لعاملة في العالم الإسلامي لتكوين قوة تضرب نظام الخلافة فخم إذن أوجدوا النقابات وسيطروا عليها لاستغلال أصحاب الحرف. (أنظر كتابه عن الحلاج)
ويعطى ماسنيون رأياً أقرب للقبول في بحثه في دائرة معارف العلوم الاجتماعية، فيبين أن النقابات نشأت في البلاد الإسلامية في القرن التاسع الميلادي، وأنها لم تظهر نتيجة لمطالب الشريعة، بل كانت نمواً طبيعياً للتطور الاقتصادي العجيب الذي حصل في هذه الفترة في المدن الكبيرة: بغداد أولاً ثم البصرة وحلب ودمشق والإسكندرية والقاهرة والري. ويرى أن التطور الاقتصادي يتمثل في تمركز رأس المال نتيجة ظهور أصحاب المصارف (الذين كانوا يمدون الدولة بالنقد) وبتمركز العمل نتيجة اصطياد الرقيق الاستعمارية التي كان يمولها أصحاب المصارف ثم يبين أن الأصناف الإسلامية كانت لها مميزاتها منذ البدء ومع أنها كانت متأثرة بالنقابات المحلية القديمة ببيزنطية وساسانية إلا أنها لم تكن مجرد بعث لتلك؛ بل كانت بالأحرى مظهر رد فعل اجتماعي عنيف لجماعات العمال وأهل الحرف والفلاحين ضد الطبقة الحاكمة التي جمعتهم واستبعدتهم. وينتهي إلى أن تاريخ النقابات وثيق الصلة بالحركة القرمطية التي تمثل اجتماعية اقتصادية دينية سياسية زلزلت العالم الإسلامي بين القرن التاسع والقرن الثني عشر والتي تطورت ووسعت التنظيم النقابي
ويذهب الدكتور لويس إلى هيكل النقابات الإسلامية موروث من العالم اليوناني الروماني،(983/9)
مع أنه لا يستطيع تحديد أصول تشكيلات النقابات وفيما إذا كانت بيزنطية أم لا ثم يرى أن الحركة القرمطية لعبت دوراً كبيراً في تطور النقابات وتركت أثراً عميقاً في تشكيلاتها. يذهب الدكتور لويس إلى تأييد الملاحظة الأخيرة ببعض الشواهد. فهناك اهتمام الإسماعيلية الخاص بالحرف وتخصيص فصل كامل في رسائل إخوان الصفا التي يتمثل فيها الميل الإسماعيلي لموضوع العمل فتقول الرسائل إن بعض الناس، (لا يعمل ولا يتعلم لكله وثقل طبيعة عن الحركة ويرضى بالذل والهوان في طلب معاشه كالمجدين السؤال. وأما من استولى عليه القمر لا يعمل من أجل مهانته واسترخاء طبيعته وقلة فهمه مثل النساء وأمثالهن من الرجال) وهذا تمجيد واضح للعمل
ويذكر تأييدا آخر في رأيه وهو أن النقابات كانت مضطهدة ومقيدة بقيود لا تعد في الخلافة العباسية وخاضعة لمراقبة المحتسب الذي كانت مهمته الأساسية (في رأيه) قتل أية محاولة للعمل المستقل فيها في بثها بينما كانت النقابات مرفهة وتتمتع برخاء عظيم ولها كيان حسن وامتيازات كبيرة عند الفاطميين
ويعتقد لويس بوجود آثار إسماعيلية في تنظيم الأصناف مثل فكرة المهدى المنتظر وفكرة التنشئة المتدرجة وضم أفراد من طوائف مختلفة في النقابات الواحدة.
ولكن التدقيق في بحوث من ذكرنا يشير إلى أن الأوليات لم تبحث كما يجب ولا بد من توضيح الجذور قبل بحث التنظيم
لقد كان في المجتمع الإسلامي صنفان من العمال: الأحرار والرقيق. أما الأحرار فهم أصحاب الصناعات في المدن ويلحق بهم أهل الحرف البسيطة كالزياتين وهؤلاء يكونون جمهور الطبقة العاملة
وكان مورد العمال بسيطا آنئذ ويصف حالهم أبو الفضل الدمشقي (وأما الصنائع العملية وهى المهن فقد قيل قديما: الصناعة في الكف أمان من الفقر وأمان من الغنى. وذلك أن الصانع بيده لا يكاد كسنه يقصر عن إقامة ما لابد له منه ولا يكاد كسبه يتسع لإقامة ضيعة أو عقد نعمة.) ويقول (وأيضا فإنه مع ذلك إذا ميز الناس دخل في أدون طبقاتهم)
أما طبقة العبيد فهي أوطأ طبقة وهي تشتغل في الحقول أو البيوت وأحياناً في الجيش.
وليس قلة مورد العمال بالأمر الجديد ولكن تطورات اقتصادية حصلت؛ فالمجتمع انتقل من(983/10)
طور زراعي إقطاعي في العصر الأموي الأول طور تجاري زراعي في العصر العباسي. وقد أدى توسع التجارة الأول تضخم رؤوس الأموال والى الزراعة الكثيفة والى توسع الصناعة وإنشاء المعامل الكبيرة.
ولذا نشهد ظهور طبقة رأسمالية تضم كبار التجار وأصحاب المعمل وكبار الموظفين. وزاد في قوة هذه الطبقة وتوسع فعالياتها ظهور طبقة من أصحاب المصارف الذين هم تجار في الأصل أخذوا يتاجرون بالنقود
ثم نلحظ بسبب توسع المعامل وتكتلهم أكثر من فبل حتى صرنا نرى الألوف يشتغلون في محل واحد أو بقعة واحدة وهذا قوى الشعور بالمصلحة المشتركة وبالأهمية بقعة واحدة ز وهذا قوى الشعور بالمصلحة المشتركة والأهمية والقوة. ولابد أن نشير هنا الأول فكرة وضع الحرف والأصناف في أماكن معينة لكل سوقها وهذه واضحة في تخطيط بغداد عند بنائها وفي تنظيم القيروان وفي بناء سامراء. وهذه الفكرة الطبقية هي فكرة موروثة وأن كان المجتمع القديم قبل الأزهر من اثر فهو في تخليد هذه الفكرة. وهناك ما يشير الأول حصول ارتفاع في المستوى المعيشة وغلاء في الأسعار في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري دون حصول ارتفاع مقابل في الأجور. يضاف الأجور ذلك الفوضى العامة التي أحدثتها سيطرة الجند التركي مما عرقل الأعمال الحرة واضر بأصحاب الحرف قبل غيرهم. فأثر ذلك في خلق البطالة وروح التمرد والنقمة خاصة على الطبقات الغنية والحاكمة وبعد ملاحة هذه الأسس نستطيع ملاحظة موقف الحرف وأصحاب المهن
وتشير البوادر الأولى إلى اتجاهين في التنظيم الأول: تنظيم داخلي سلمي فيه حاول العمال تنظيم أنفسهم فنرى لكل حرفة سوق ورئيس تختاره الحكومة. ونلاحظ وجود تدرج في الحرفة فترى طبقتين: الأستاذة والصناع. وهذا واضح منذ النصف الأول للقرن الثالث الهجري. ولا يوجد سامرا الاقتصادي اضطهاد الحكومة للعمل في هذه الفترة؛ بل أن الحكومة كانت تراقب حركات الأعراب الذين يرتادون الأسواق لأسباب سياسية. ويجدر بالذكر أن وظيفة المحتسب لم تظهر إلا بعد انتهاء الفترة الأولى للفوضى التركية. إذ أن أول إشارة لوظيفة المحتسب تعود لخلافة المعتضد (279 - 289). وان نظرنا الاقتصادي مناشير الحكومة في القرن الرابع الهجري (حتى بعد انتشار الدعاية القرمطية) نراها تجعل(983/11)
عمل المحتسب منع الغش في الصناعة والإنتاج منع الحيلة والتدليس في المعاملات والتأكد من صحة الموازين والمكاييل
ولكن يظهر أن الدعاية القرمطية أثرت في قسم من العمال خلال الفرن الخامس الهجري وأواخر الرابع الهجري وتوجد بوادر تشير الاقتصادي اتهام بعض فعالياتهم
والاتجاه الثاني كان اتجاهاً عنيفاً يدعو للثورة على أصحاب الأموال والخروج على السلطة وهذا يظهر في التكتلات العيارين والشطار. وأول إشارة وصلتنا الاقتصادي هذا التكتل وردت في التوخي وتعود للفرن الثالث وفيها يلاحظ شعائر الجماعة واضحة؛ فلهم ناد خاص سري يجتمعون فيه وشعارهم من الملابس نشر الأزرار على الكتف ولف المئزر في الوسط؛ كما أن الانتماء يتم بمراسيم أبرزها شد المئزر وشرب كأس من النبيذ. وكان أعضاء الجمعية يعملون ويسرقون أحيانا ويقتسمون الأرباح وعلاقتهم عدائية مع الحكومة. وكان هؤلاء يسمون أنفسهم الفتيان. ويجلب الانتباه أن العيارين والشطار كانوا يدعون أنفسهم بالفتيان
ظهر هذا التنظيم في مجتمع مادي ومما زاد قوة التكتل وشدته الدعايات الاجتماعية التي جاءت باسم الدين ولكنها ساعدت على تحسين الحال وتغير الأوضاع الاجتماعية. وتجلت في حركة الزنج وبصورة أقوى في حركة لإسماعيلية والقرامطة الذين تطرفوا في استغلال التذمر فقالوا بان الأنبياء والسلاطين أنزلوا العامة الاقتصادي مستوى العبودية الاجتماعية والشقاء المادي، وأعلنوا أنهم يريدون إرجاع العدل الاجتماعي وتحقيق الرفاه المادي. وهناك إخوان الصفا ووهم جمعية سرية إسماعيلية الميول اشتغلت ضد الخلافة وسعت لتهذيب العامة لتجعل ذلك وسيلة لأحداث ثورة سياسية دينية عامة.
ويظهر أن الطبقة العامة في العراق على الأقل لم تبق راكدة بل حاولت تحسين كيانها وتأثرت بالدعايات، فبعضهم انضم للحركة القرمطية ولحركة الزنج في ثورات عسكرية دامت نصف قرن، والبعض الآخر سعى بطرق علمية تعاونية لتحسين الوضع وكان لفوضى الجند التركي اثر مباشر في ذلك
ويظهر أيضاً أن حركة أصحاب الحرف التي ظهرت لدى العيارين والشطار والفتيان تأثرت بالاتجاهات الصوفية في القرن لخامس الهجري وأواخر اقرن الرابع الهجري، فنجد(983/12)
القشري يشير الاقتصادي خلق سام للفتوة فيه إطاعة للشريعة والرأفة بالناس والعفو عن المسيء والكرم حتى مع المشركين والأمانة والصدق والتواضع، ويفهم من القشري أن حركة الفتيان انتشرت في العراق والشام وإيران لها اتباع من الطبقة المتوسطة إضافة الاقتصادي الطبقة الفقيرة
ولا يخفي أن الصلة بالصوفية حصلت في دور لا تزال الدعاية الإسماعيلية فيه قائمة، وهذا يجعل من الصلابة بمكان فبول رأى لويس من أن النقابات تحرج وضعها بعد اختفاء الحركة القرمطية وأنها لذلك اتجهت نحو ميول دينية كالتصوف. فنشاط الصوفية كان موازيا للنشاط الإسماعيلي.
ويظهر أن الفتوة تأكدت لديها الناحية العسكرية تدريجياً. وقد انتشرت تشكيلات الفتوة في جميع البلاد أفق خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد. وصارت جمعية الفتوة وخاصة بعد أن تبناها الناصر لدين الله مجموعة فتيان يربطهم دستور ديني أخلاقي له واجبات وشعائر منظمة، وينتظر منهم التحلي ببعض الفضائل والقيام بخدمة عسكرية للإسلام
وبعد الفتح المغولي زادت صلة الفتوة العسكرية بالطرائق الصوفية وبنقابات الحرف. وقد بدأ ذلك في الأناضول وانتشرت في العالم الإسلامي حتى صارت كلمتا (نقابة) و (فتوة) تشيران الاقتصادي مدلول واحد، وقد لعب هذا الاتجاه دوراً خاصاً في تطور التاريخ الإسلامي العام
ولابد هنا من ذكر الآراء عن نشأة الفتوة؛ فالأستاذ تيشنر يرى ثلاثة أدوار للفتوة تمثل خطوات انحلال اجتماعي مطرد. فهو يرى أن الحركة الفتوة بدأت كحركة فروسية أرستقراطية؛ ثم تحولت فصارت حركة الطبقة المتوسطة في القرن الثالث عشر الميلادي وأخيراً هبطت في القرن الخامس عشر الاقتصادي أكثر من ذلك وأصبحت حركة العوام، وهكذا اندمج الفتيان بنقابات الحرف
ويرى تورنبخ أن الصوفية والنقابات لم يضموا جمعيات الفتوة بل قلدوها مقتبسين شعائرها ومثلها العليا وأخيراً اسمها
للكلام بقية(983/13)
عبد العزيز الدوري.(983/14)
زكي مبارك
الأديب الذي أحب العراق
للأستاذ نجدة فتحي صفوة
سيسأل قوم من زكى مبارك ... وجسمي مدفون بصحراء صماء
فان سألوا عنى ففي مصر مرقدي ... وفوق ثرى بغداد تمرح أهوائي
لم تكن خسارة الأدب العربي في وفاة الدكتور زكى مبارك - رحمه الله - هينة ولا بالتي يمكن أن تعوض
وقد قال الأستاذ الزيات في رثائه الرائع للمرحوم المازني (. . . . فإذا أضيف إلى ذلك أن المازني كان أحد الكتاب العشرة الذين يكتبون لغتهم عن علم، ويفهمون أدبها عن فقه، ويعالجونها بيانها عن الطبع؛ وان هؤلاء العشرة البررة متى خلت أمكنتهم في الأجل القريب أو البعيد، فلن يخلفهم في هذا الزمن الثائر الحائر العجلان، من يحمل عنهم أمانة البيان، ويبلغ بعدهم رسالة الأدب، أدركنا فداحة الخطب الذي نزل بالأمة العربية يوم توفى هذا الكاتب العظيم)
وهذا الكاتب آخر من أولئك (العشرة البررة) فقدته اللغة العربية يوم فقدت المجاور الأزهري، والناقد الألمعي، والباحث المتعمق، والشاعر المتغزل، ربيب سنتريس، وحبيب باريس وطبيب ليلى المريضة في العراق (الدكاترة) زكى مبارك
ولا ريب أن أدب زكى مبارك سينال ما يستحقه من دراسة الباحثين وعناية المؤرخين، ويحتل مكانه اللائق به بين أدباء جيله، واترك لأصدقاء زكي مبارك أن يرثوا الصديق الوفي، ولتلاميذه وعشاق أدبه أن يدرسوا الكاتب البليغ، ولزملائه ومعاصريه أن يترجموا للفلاح الذي دفعه جده وطموحه من القرية إلى الأزهر، ومن الأزهر إلى الجامعة، ومن القاهرة إلى الصف الأول بين أدباء هذا الجيل. . .
وإنما هذه تحية من عراقي إلى الأدب المصري الذي أحب العراق، فأحبه العراقيون، ومنح هذا البلد قطعة من قلبه، وجانباً من أدبه، فبادله أهله المحبة والإعجاب، وقابلوه بالرعاية والإكرام. . . .
تحية وفاء إلى تلك الروح اللطيفة المرفرفة فوق بغداد. . .(983/15)
ترجع صلة الدكتور زكى كبارك بالعراق إلى عهود دراسته الأولى يوم عنى بالأدب العباسي وشغل نفسه أعوام طويلة بأدباء العراق، فبث هذه الدراسة في محبة العراق، واسترعى تاريخه الحافل تفكيره وألهب خياله. وقد خاطب العراقيين ذات مرة في بعض محاضراته العامة قائلاً: (وأنا في الواقع تلميذ بغداد قبل أن أكون تلميذ في القاهرة أو باريس، فإن رأيتم صراحتي فلا تلوموني، فاللوم على أسلافكم الذين شرعوا مذاهب العقل والمنطق)
حتى إذا دعي - رحمه الله - إلى التعليم في دار المعلمين العالية ببغداد سنة 1937 رحب بذلك قائلاً: إن من العقل أن اعرف جوانب من الشرق بعد أن عرفت جوانب من الغرب. وصح عندي أن الهجرة إلى العراق قد تشرح دقائق الأدب في العصر العباسي، وليس من المقبول أن يصح لمثلى أن يصف باريس عن علم، ويصف بغداد عن جهل.
وشد رحاله إلى بغداد، فكان لمصر فيها سفير أدبياً ممتازاً، وأحدثت زيارته فيها حركة أدبية ونشاطاً فكرياً بما كان يبثه قلمه - على عادته أيان كان - في صحافة العراق ومجتمعاته وأنديته من حيوية وحركة. (وما هي إلا أشهر قلائل) كما يقول (حتى كنت على صلات بمختلف الطبقات في بغداد، وحتى صحت لنفسي أخطاء كثيرة في فهم الأدب والتاريخ)
قضى زكي مبارك في العراق تسعة أشهر حافلة بالعمل زاخرة بالإنتاج، ولم يقف نشاطه في حدود عمله الرسمي، أو دروسه في دار المعلمين العالية، وإنما تجاوزه إلى تأليف ستة مجلدات عن العراق وكتابة مئات المقالات، وإلقاء عشرات المحاضرات. وقد عنى - رحمه الله - بشئون العراق الفكرية والثقافية عناية عظيمة، فدرس الأدب العراقي عن فهم وروية، وكتب عن المرأة العراقية ونهضتها، وتبنى فكرة إنشاء الجامعة العراقية، وتحمس لها أكثر من العراقيين، ودعا إليها في كل مناسبة - وأحياناً بدون مناسبة أيضاً - ولعله كان أول من دعا لها ووجه إليها أنظار المسؤولين، وحملهم على التفكير الجدي فيها. وتطوع - رحمه الله - لتصحيح ما كان خاطئا من الآراء والمعلومات عن العراق في البلاد العربية، فكان على قوله (من صور العراق في مصر، ومن صور مصر في العراق) وكان رسول الأخوة العراقية المصرية، أدى بقلمه ما لا تؤديه سفارات ولا معاهدات، قال في المصريين - وهو شاهد من أهلها - (إن المصريين يفدون إلى العراق وليس في(983/16)
صدورهم ثروة غير الحب، ومن أجل هذا يحبهم العراقيين، فإن سمعتم أن مصرياً شقي في العراق فاعلموا أنه مصري مزيف)
كما قال في أهل العراق - وهو الخبير العارف بهم - (إن العراقيين يحبوننا اصدق الحب، فليعرفوا جيداً إننا نحبهم ونتمنى لهم كل الخير، وننظر إلى بلادهم نظر الأخوة الصادقة التي لا تضمر غير العطف والصدق).
وطلب إليه أن يلقى في بغداد محاضرات أدبية عامة، فاختار لموضوعها شاعراً عراقياً إكراماً ومجاملة لأهله، ولما رآه من شبه بين شخصية الشريف الرضى وشخصيته في تدفق الإحساس وكآبة العاطفة وغدر الزمان، فأدى بذلك خدمتين جليلتين، الأولى للأدب العربي، إذ أحيا ذكرى هذا الشاهر العظيم الذي لم ينل شعره ما يستحقه من عناية ودراسة. والثانية للعراق لما جره الحديث من ذكر العراق ووصفه وتاريخه. وكان - رحمه الله - بما عرف عنه من اندفاع الشعور وحدة العاطفة ورقة الطبع قد درس الشريف الرضى ودعا الناس إلى دراسته ودلهم على مواطن العبقرية والعظمة في شعره. ولكنه كان أول من صدق أقواله فيه، وزادته دراسته للشريف الرضى إعجاباً به، حتى قال عند تقديمه المحاضرات مجموعة في كتاب، على طريقته المعروفة: (إن الشريف الرضى في كتابي، اشعر من المتنبي في أي كتاب، ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم المؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب!)
وفي بغداد نظم قصيدة ألقاها في (نادى القلم العراقي) يقول إنها أعظم ما نظم في حياته عنوانها (من جحيم الظلم في القاهرة إلى سير الوجد في بغداد) ومطلعها
وفدت على بغداد والقلب موجع ... فهل فرجت كربى وهل أبرأت دائي؟
وقال - رحمه الله - في (وحي بغداد):
(وأخشى إلا اظفر بكلمة رثاء يوم يشمني الناس إلى قبري، فذاكرة بنى آدم ضعيفة جداً، وهم لا يذكرون إلا من يؤذيهم، أما الذي يخدمهم ويشقى في سبيلهم فلا يذكره أحد منهم بالخير إلا وفى كلامة نبرة تشير إلى أنه يتصدق بكلمة المعروف)
كلا يا صديق العراق ومحبه!
فلن ينساك العراقيون، وهم ذكروك لم يحسنوا إليك، وإنما احسنوا إلى أنفسهم، ولم يتصدقوا(983/17)
بكلمة المعروف، بل ردوا دينا لك في أعناقهم. وانك لم تعد الحق يوم قلت:
(وستمر أجيال وأجيال، ولا ينسى أهل بغداد، أن مدينتهم عاش فيها رجل أحبها أصدق الحب، اسمه زكى مبارك.)
القاهرة
نجدة فتحي صفوه.(983/18)
بحث في الموسيقى الشرقية
للأستاذ تقولا الحداد
بقية ما نشر في العدد الماضي
السلم العربي
ذكرت آنفاً أن لكل لحن من الألحان العربية سلما خاصا ولكن
لها سلماً عاماً أصيلاً تتفرغ منه درجات أنصاف ودرجات
أرباع وهذه الأنصاف والأرباع تستعار من الدرجات الأصلية
بالضغط على الوتر بالإصبع، أو باستعمال (البكلة) في القانون
التركي، أو باستعمال ضغط الإصبع، أو بدوزنة القانون
دوزنة خاصة حسب اللحن المراد. وهذا ما يجعل الموسيقى
العربية ممتازة على الموسيقى الغربية بحيث تصدر الألحان
المختلفة محاكية الانفعالات النفسانية. الأمر الذي ليس له
مشابه في الموسيقى الإفرنجية. وتشترك معها في هذه المزيه
الموسيقى التركية. وربما كانت الموسيقى اليونانية أميز منهما
في هذا القبيل لأن في سلمها 18 و116 من الدرجة علاوة
على النصف والربع كما يقال
والموسيقى العربية اقتبست كثيراً من الموسيقى التركية وهذه من اليونانية الأصلية المسماة (البيزنطية) وفي ألحاننا العربية كثيرا من الروح البيزنطية. ويقال إن المرحوم السيد درويش الملحن العظيم كان يختلف كثيراً إلى الكنائس الأرثودكسية لكي يسمع البصلطيكا(983/19)
اليونانية أي البيزنطية لكي يقتبس منها العبارات الموسيقية الجميلة أو المؤثرة أو الحنونة. وفى أدواره التي سجلها لنفسه في أقراص الفونغراف كثيراً من الروح البيزنطية
السلم العربي (والتركي أيضاً) أدق السلالم الموسيقية في كل العالم لما فبه من أنصاف الدرجات وأرباعها، ويقتبس منه العازف بدل درجاته وأرباعها، ويقتبس منه العازف بدل درجاته الأصلية حسب مقتضى اللحن الذي يعزفه
ولإيضاح ذلك نرسم السلم العربي في درجاته وفروعها (الأنصاف والأرباع) كما ورد في كتاب الأستاذ فرج الله وردى الذي نحن بصدده صفحة 153 مع مقارنته بالسلم الإفرنجي
اهتزازات
ذرات
دو
1200
1200
كردان
1150
1167
ماهور
سي
1100
1110
نم ماهور
1050
1086
أوج
1000
996(983/20)
عجم
9500
972
نم عجم
لا
900
906
حسيني
850
882
نك حصار
800
816
حصار
750
792
نم حصار
صول
700
702
نوى
650
678
تك حجاز
600(983/21)
612
حجاز
550
588
نم حجاز
فا
500
498
جهاركاه
450
474
بوسلك
مي
400
408
نم بوسلك
350
382
سيكاه
300
318
كردي
250
294
نم كردي(983/22)
رمي
200
204
دوكاه
150
180
تك زركوله
100
114
زركوله
50
90
نم زركوله
دو
الوتر المطلق
الوتر المطلق
رست أو رصد
ولا أفهم لماذا لا يكون عدد اهتزازات الدرجة الأولى من السلم الأعلى مضاعف اهتزازات الدرجة الأولى من السلم الأسفل. أعنى أن تكون اهتزازات (دو) العليا (كردان) مضاعف اهتزازات دو السفلى لأن تلك بداية السلم الأعلى وهى في الجدول ليست كذلك لأن العليا جواب للسفلي وهذه قرارها ولكن الأمر على خلاف ذلك بل هو بعيد جداً عن الظن
وفي كتاب الأستاذ الله وبردى ستون رسماً وجدولاً للسلالم الموسيقية الغربية والشرقية والقديمة والحديثة. وفيه تحقيق علمي للنسب المتصلة الموسيقية وعلاقتها بالأنغام وغيرها حتى إذا طالعتها دهشت لسعة اطلاع المؤلف وسعة تفكيره ودراسته وتحار في كيفية استيعابه لها، ولا تكاد تصدق أن عقلاً واحداُ حذق تلك العبارات المختلفة واستخرج تلك(983/23)
الأرقام حتى ليخيل لك أن الموسيقى ضرب من العلوم الرياضة. وإنها كذلك في دراسة هذا الكتاب الساحر.
الجمال الموسيقي:
ربما كان القسم الرابع من الكتاب أجذب الأقسام لنفس القارئ المحب للفن لأنه تبسط واسع في الجمال الموسيقى فأستأذن حضرة المؤلف بكلمة مختصرة أبسط بها ذلك التبسط
قلنا آنفاً إن مزية الموسيقى العربية (والتركية أيضاً) هي في أجزاء هذه الدرجات من أنصاف وأرباع لأن لكل لحن طريقة خاصة في استعمال هذه الأجزاء مثال ذلك أن العازف الذي يعزف لحن النهاوند يستعمل (راجع الجدول) نم الحجاز بدل جهاركاه، ويستعمل كردى بدل سيكاه، ثم دوكاه الأصلية إلى أن يستقر على الرست (وقد أكون مخطئاً في هذا الترتيب) وهكذا لكل لحن استعارات خاصة من الأجزاء. فإذا عزف العازف هكذا ثم عزف على الدرجات الأصلية جهاركاه سيكاه دوكاه رست شعرت حالا بالفرق في اللحن لأنه في هذه الحالة يكون اللحن لأنه في هذه الحالة يكون اللحن رستاً لا نهاوند. وهكذا بتنوع الألحان العربية يتنوع العزف على الأرباع والأنصاف بدل الدرجات الأصلية، وبواسطة هذه الاستعارات يتولد عند العرب عشرات الألحان وهي التي تحكي العواطف الروحية المختلفة. وليس في الموسيقى الإفرنجية إلا القليل من هذه التنوعات لاستعمال أنصاف الدرجات (أو ما يسمونه هكذا وما هو بأنصاف) كما رأيت، ولذلك تعتبر الموسيقى العربية أرقى وأجمل بكثرة التنوعات التي فيها. ولا بدع أن تكون كذلك لأن أقدميتها صقلتها وجعلت التفنن فيها بدائع فنية ككل تطور وارتقاء. والموسيقى الإفرنجية بنت الأمس، ويظن أصحابها أن الاقتصاد فيها على أشياء الأنصاف وتقييدها بالعلامات جعلها فنية راقية، وعندي أن هذا التقييد جعلها سخيفة في أذن الشرقي. الموسيقى روح لا مادة، فيجب أن توضع تحت أمر الأذن (العصب السمعي) كما يفعل العازفون العرب، فتكون أوقع في النفس وأكثر اندماجاً بالروح وأخلب للب أما اللذين يستحبون هذه دون تلك أو تلك دون هذه فأوتار أعصابهم السمعية قد تدوزنت على سلالم ألحانهم فصارت تهتز مع اهتزازات موسيقاهم وتنفر من اهتزازات الموسيقى الأجنبية.
فهؤلاء مخطئون في استهجان موسيقى غيرهم والعكس بالعكس. وإذا كان الشرقي أو(983/24)
الغربي لا يود أن يسمع إلا موسيقاه فلا تلمه إذا قال لك إن موسيقاه أطرب من تلك أو أن الموسيقى الأجنبية أطرب له من موسيقاه لأنه تعود سماع الموسيقى التي تطربه منذ صغره. فهناك أشخاص لا يتذوقون الفن ولا يفهمون أصوله ولا يطربون لأي موسيقى، فيقولون لك إن الموسيقى الإفرنجية ذات أصول وقواعد وفنون ولذلك يحبونها، والحقيقة أنهم لا يحبون شيئاً. ويقولون أيضاً أن الموسيقى العربية أو الغناء العربي عار من الأصول والقواعد والأغاني لأن الأغاني كلها فوضى. هؤلاء جهلاء أغبياء جداً وإنما هم يقولون هذا القول لكي يتمسحوا بالإفرنج ويقال عنهم انهم متمدنون. ولما كان السلم الإفرنجي لا يطابق السلم العربي حتى في درجاته الأصلية فيتعذر جداً على العزف أن يعزف لحناً حربياً على آلة إفرنجية مقيدة الدرجات كالبيانو والأرغن وأمثالهما. فإذا عزف عازف عليها لحنا عربيا ظهر ناشزا حتى انك لا تستطيع أن تسمعه إذا كنت قد ألفته على الآلة العربية كالعود والكمنجة والقانون. لا تستطيع أن تعزف أذان الصلاة على البيانو أو نحوه وتشمئز إذا سمعته؛ ولكن إذا سمعت الأذان من كمنجة الأستاذ سامي الشوا شعرت أنه ناطق بكلامه.
وكانت فتاة لبنانية تدرس موسيقى إيطاليا (حسب السلم الإفرنجي طبعاً) فغنت مرة سوريين أغنية بسيطة لبنانية على السلم الأفرنكى فلم يطق أحد سماعها لأنها كانت تغنى العربي على السلم الأفرنكى. وهنك أناس يستنكرون تكرار الكلام والتلحين بالغناء العربي. فهؤلاء محقون في استنكارهم وربما كان هذا التكرار هو العيب الوحيد في الغناء العربي المصري. والذنب فيه هو ذنب المغنين أنفسهم لا ذنب الملحنين. لأن الملحن قد يكرر عبارة ولكنه لا يكرر لحنها وإنما يلحن لتكرارها لحناً آخر. ومع ذلك لا نعذره كل العذر لأن الشعر عندنا سواء كان معرباً أو زجلاً غنى بالكلام فلا داعي لقضاء نصف ساعة أو أكثر في غناء أغنية كلامها معدود الألفاظ إلا إذا كان الكلام مكرر متنوع الألحان. سمعت مرة في الإذاعة المصرية مغنياً ينشد قصيدة (نالت على يدها ما لم تنله يدي) فقضى حصته في الإذاعة في إنشاد الأربعة الأبيات الأولى وكان يكرر كل بيت منها بكلامه ولحنه مراراً حتى زهقت وأعتقد أن جميع السامعين زهقوا أيضاً. أََيضاً. والقصيدة تشتمل على أكثر من عشرة أبيات فكان في وسعه أن ينشدها كلها وأن يتفنن في ألحانها أو أن يعتمد على ملحن(983/25)
خاص يلحنها له.
الموسيقى والشعر:
وربما كان الشعر العربي يمتاز على أشعار معظم الأمم الأخرى ولا سيما الإفرنجية لأنه موزون وذو مقاطع معدودة ومحدودة في كل بحر من بحوره. ووزن الشعر العربي يتفق مع الألحان الموسيقية اتفاقاً طبيعياً لأن الشعر موسيقى والموسيقى شعر. ولهذا أفرد الأستاذ الله ويردى قسماً من كتابه العجيب فصلاً خاصاً مطولاً للعروض. بحث فيه بحثاً فلسفياً ثم علمياً مستفيضاً وضبط جميع الأوزان العروضية وتفعيلاتها وشرح قواعدها شرحاً علمياً عجيباً. فننصح لمن يريدون درس العروض أن يطلعوا على الفصل السادس من الكتاب في التوزين والإيقاع بل أن يدرسوه درساً.
بقيت لي ملاحظة طفيلية أرجو أن يغتفرها لي حضرة الأستاذ المؤلف وهى أنه ورد في مباحث الكتاب بعض اصطلاحات خاصة بالموسيقى. مثل ذرة وكوماً وليما وبعد طبيعي وبعد طبيعي وجناحان إلى غير ذلك مما هو من خصائص العلم الموسيقي وهو غير مفسرة في الكتاب التفسير الذي يحتاج إليه الدارس. وكان جديرا بحضرة الأستاذ أن يضع لهذه الكلمات معجماً آخر الكتاب أو في أوله مستوفى الشرح يرجع إليه الدارس كلما وردت أمامه كلمة منها إلى أن يستوعبها تماماً. وحبذا لو كان يضع للموسيقى كتاباً تعليمياً مدرسياً يقلل فيه جداًول الأرقام للطلبة الذين يريدون أن يتعلموا الفن حسب الأصول والقواعد.
وأخيراً أني متعجب جداً من جَلد الأستاذ ومقدرته على إذكاء هذا الفن من الناحية العلمية ولا سيما النسب الرياضية وغيرها، ولا أظن أحداً غيره درس هذه الدراسة المستفيضة.
حقاً أنه يستحق جائزة نوبل إذا أمكن أعضاء لجنة نوبل الإطلاع على ترجمة هذا الكتاب.
نقولا الحداد(983/26)
3 - لغة المستقبل. .
للأستاذ محمد محمود زيتون
تحية علمية إلى البرلمان الفيلسوف أستاذي الدكتور إبراهيم بيومي مذكور بك عميد الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقاً، وعضو مجلس الشيوخ، وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية.
تبين لنا في المقال السابق أن المنهج الرياضي لا يتناول غير موضوعات الرياضة البحتة بفرعيها: الحساب والهندسة. وإلى هنا يقف المنهج الرياضي. وتقام السدود من دونه في سائر العلوم، ومن ثم يحل محله الروح الرياضي.
فالرياضي إذا اكتشف قانونا، لن تزل قدماه حتى يقنعنا بالصلة التامة بين قانونه الجديد وباقي البدهيات المسلم بها، أما الفيزيقي فأنا لا نطالبه - في حالة ما إذا سمح الله واكتشف قانوناً - بأكثر من أن يربطه بنظرية متعارف عليها، وإذن ما أثقل العبء الملقى على عاتق الرياضيين.
والفيزيقي - من جهة أخرى - ببحث عن المسائل جديدة يحدها بآلات معمله ويربطها ويعدلها حسب الحاجة، أما الرياضي فإنه يتحسس السبيل إلى بصيص من موهبة الإبداع ليصور مسائل جديدة يستطيع بمنهجه أن يتدخل فيها، هذه الموهبة انفرد بها كثير من المحدثين، وبلغت أقصاها عند (أرشميدس) كما يقول
كما أن (الرياضي والفيزيقي يستعملان القياس) هكذا يقول العلامة الفيلسوف (كلود برنارد وإذا كانت العمليات الحسابية تدخل في الميادين الأخرى، فإن هذه العلوم المطعمة بالرياضة، والعلوم التطبيقية أو الصناعات تختلف منهجاً لاختلافها موضوعا.
أما العلوم التي تتناول الوسط بين الفيزيقا والرياضة فإنها تستخدم منهجا هو مزاج من المنهج الرياضي والمنهج التجريبي. وذا كان مجرد الانتقال من الهندسة البحتة إلى الهندسة التحليلية كفيلاً بتغير المنهج الذي لا يعود بعد ذلك محتفظاً بخواصه البرهانية الحدسية الأولى - وكما يقول أستاذنا المرحوم المسيو (لالاند) فكيف إذا انتقلنا من ميدان إلى آخر.
فالعلوم تختلف موضوعاً ومنهجاً، وليس ذلك بمانع من أن يكون سير الاختراع في جميعها واحداً لا يتغير - كما يقول (تانرى(983/27)
وإذا كان للرياضة أن تنفرد من حيث الموضوع بمثاليتها التي تتعالى بها على العلوم الأخرى في واقعيتها، فإن لها أن تنفرد بالمنهج البرهاني في مقابل المنهج التجريبي الذي تسلكه الفيزيقاً.
في الفيزيقا نرى أكثر القوانين إن هي إلا معادلات جبرية فقد فسر (براون) الحرارة بتوزيع الذرات حسب متوالية هندسية عرفت في الوسط العلمي باسم (الحركة البراونية)، وكذلك قانون الضغط وقانون الطفو كلاهما معادلات جبرية، وكلاهما إدراك سليم للنسبة بين متغيرين، تلك النسبة التي أدركها العقل بالحدس لا بالتجربة.
ومع ذلك نرى العلماء يختلفون في تفسير الظاهرة الفيزيقية اختلافاً يذهب بأحدهم شرقاً وبالآخر غرباً، فهذه ظاهرة الضوء: يفسرها (نيونون) حسب النظرية الشيئية وبربط رأيه ببدهيات ينقضها (وبجانز) و (فرنل) إذ يفسران الضوء بالتداخل والاستقطاب، ثم يأتي من بعدهم من يفسره بالنظرية الأثيرية.
وفي الكيمياء، ظل العلماء ردحاً من الزمن يعتبرون العناصر عدداً يعد على الأصابع، وبتقدم البحث أوصلوها إلى أكثر من تسعين، وما كان لهم أن يصلوا إلى بمواصلة التحليل، فاستطاعوا أن يضعوا قوانين المزج والتركيب الكيميائي في صور معادلات جبرية وثيقة يعتمدها العقل.
وفي العلوم الكونية جميعا، تمكن العلماء من صوغ قوانينهم في أرقام حسابية أو أشكال هندسية، وسبيلها العام إلى ذلك هو الاستقرار والتجريب ما دامت الموضوعات قابلة للمقياس والمقدار.
وفي البيولوجيا خضعت ظواهرها لهذا المقياس. يقول (بيكار (إن البحوث البيولوجية لا تقفنا على دخائل الأجهزة الداخلية، ولا يمكن أن نكون منها معادلات لها دوال على الوجه الذي نراه في عالم الفيزيقا).
والواقع غير هذا، فقد تقدم علم البيولوجي تقدما ملحوظاً، وتمكن من قياس الظاهرات البيولوجية وتحليلها وتغيير ظروفها لمعرفة التغييرات الناشئة عن ذلك، وهو لم يصل إلى هذا إلا بأمرين هما: التشريح والاستدلال؛ وبهذا التحليل تمكن من معرفة تركيب الخلايا والغدد لمعرفة أثر الحياة الفيزيولوجية في الحياة السيكولوجية، وبهذا انتهى إلى معرفة(983/28)
خواص (الأدرينالين) ودوره الفسيولوجي، وانتهى إلى تأثيرات الجهاز العصبي بالجهاز التناسلي، وأثر الخلايا وتركيبها في السلوك العام، وانتهى إلى قوانين التنبيه الحسي العضلي، وسبيله إلى كل ذلك التجريب ثم التحليل والإحصاء والمقياس والرسم البياني والمعادلات الجبرية، وعلى ذلك يكون الروح الرياضي هو العون الوحيد على هذه المجاهدات البيولوجية.
أما في السيكولوجيا، فقد اعتبرت مظاهر السلوك وقائع تكشف عن طاقة كافة هي النفس، وبتحليل هذه الوقائع وقياسها، ورد المتشابه منها إلى أصل واحد، أمكن الوصول إلى بعض القوانين.
وفي العلوم الاجتماعية حاول المفكرون علاجها حسب المناهج الهندسية، دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة التعديل أي قانون بآخر، ومنهم من استخلص نتائج سياسية من الحكم السائرة والأمثال العامية فأخطئوا جميعاً، وسر هذا الخطأ هو محاولتهم علاج الفن على أنه علم، ومحاولتهم الحصول على فن قياسي غير معقول (مل
وحاول أفلاطون قديماً - وهو تلميذ الفيثاغورية الرياضية - أن يشيد المدنية اليونانية على اعتبار أن بني الإنسان أعداد، فلم تتحقق أحلامه، ولم يندفع به الخيال كما كان يهوى.
استطاع علماء الاجتماع المحدثون أن يتلافوا ما وقع فيه أفلاطون والفارابي وتوماس مور وكاميانيلا، فنظروا إلى أمور المجتمع على أنها (وقائع) في ذاتها ففسروها وجربوا عليها واتخذوا لها الإحصاءات، واستعانوا بالروح العلمية فاستبدلوا بالنسب الرياضية (روابط) سموها القوانين التي هي أشبه بالمعدن النفيس الذي كان نتيجة (انصهار) عدة عوامل في (بوتقة) المجتمع الذي وصل (مونتسكيو) إلى أغواره فألف (روح القوانين) وكما جمله (دوركيم) ميداناً للمجال الطبيعي فأنتهي إلى (الضمير العام وذلك بعد أن افترض فيه جانبية الكبيرين (لاستاتيكا) و (الديناميكا) شأنه في ذلك شأن المغناطيسية والكهربائية والميكانيكية والفلك سواء بسواء.
وبإنعام النظر في الميادين الاجتماعية، توصل علماء الاقتصاد إلى نتائج لها قيمتها، وذلك باكتشاف قوانين: العرض والطلب وقانون جريشام في النقد، وقانون ريكاردو في الإبراد العقاري، وقانون مالتوس في العلاقة بين زيادة السكان ومواد المعيشة، وقانون الغلة(983/29)
المتناقصة، وقانون الغلة المتزايدة. وكذلك ظهر في تاريخ الحضارة قانون القهقري الذي توصل إليه (فيكو وتقدمت النظريات الاجتماعية كثيراَ بالاستعانة بالإحصاء، وصدقت قوانينها العامة منذ اعتمدت على العناصر الثلاثة الآتية:
1 - معرفة طبيعة المجتمع معرفة مستقلة.
2 - اقتباس المنهج من صميم هذه الطبيعة الاجتماعية
3 - السماح للروح الرياضية والعلمية بتنظيم الموضوعية الاجتماعية والإشراف على وثاقه قوانينها.
وقد تبادر إلى الذهن أن هذه الروح الرياضية لن تتطاول إلى الفنون، ولكن الواقع غير هذا فالشعر والموسيقى يعتمدان على الانسجام أو التناسب بين الأنغام والتفاعل بين الأنغام والتفاعيل مقدراََ كل ذلك بأعداد. فالروح الرياضي سائد في أوزان الشعر وقوافيه، والفنون على اختلافها تستوعب جزءاََ كبيراََ من المنهج الرياضي من حيث: البداهة وموهبة الاختراع، والتقدير العددي والإلهام
ولا شك بعد هذا كله في أن المنهج الرياضي هو أوثق المناهج في استقرار النتائج. وكم ذا يود الفكر الخالص أن يحظى في شتى ميادينه بوثاقه الرياضة لولا القيود والسدود التي تعترضه وإن كان يجد ويسعى مخلصاً في التغلب عليها والوصول إلى هدفه السامي.
والرياضة إذن (قاسم مشترك أعظم) بين جميع المعارف. بل هي لغة مشتركة ووظيفتها الكبرى هي احتمال معاني الألفاظ الوجودية والتفكيرية معاً، والارتفاع بها عن المثقلات المادية، والأوشاب والأوضار التي طالما عوقت ركب المفكرين عن سعادة الدارين.
والأمل اليوم معقود على (التلباني) لتكون لغة الجميع حيث تصفو النفوس، وتخلص من فراشيها، وتتحقق أحلام فيثاغورس يوم قال (العالم عدد ونغم). وحل ينشد المحصلون إلا العدالة بين الناس ليكون في المساواة كالأعداد؟ وهل ينشد المربون إلا المحبة التي هي انسجام وتوافق كما هو الأنغام؟، وهل يكون هذا إلا بالتربية والاستقامة على نهجها، وليس بعزيز على الله أن تكون هذه (الأعداد والأنغام). . . لغة المستقبل.
(انتهى البحث)
محمد محمود وبتوق(983/30)
شخصية
للأستاذ حبيب الزحلاوي
يلتزم أكثر الناس، أثناء أحاديثهم، كلمة واحدة أو جملة تجري على ألسنتهم مجرى العادة فتسمى لازمة، وهذه اللازمة إما أن تكون خفيفة تنساب مع الحديث انسياب الكلمة الحشو في بيت من الشعر لا يلتفت إليها سوى الذواقة العارف بفنون القريض، أو تقع في غير موقعها فتصك السمع، وقل من الناس من سلم حديثة من لازمة واحدة أو أكثر
من هؤلاء (الالتزامين) صديق يختلف في لازمته عن جميع الناس لأنه شاعر، والمفروض في الشعراء أن تكون لازمتهم شعرية ذات معنى ورمز وجرس. لذلك نرى شاعرنا هذا يلتزم بيتاً واحداً من لامية أبن الوردي المشهورة يردده في كل مناسبة على خلاف الشعراء الذين يفترصون كل فرصة للاستشهاد ببيت لشاعر قديم أو مخضرم أو حديث يناسب الموضوع يدللون به على قوة حافظتهم، ومضاء ذاكرتهم، وسعة اطلاعهم، أما التزام هذا الشاعر بيتاً واحداً لا يتبدل، فله دلالة نفسية سينقشع عنها اللثام خلال الحديث.
ومن الظريف في شاعرنا أنه يبدأ في إنشاد الصدر من البيت: (لا تقل أصلي وفصلي أبداً) ويسكت هنيهة كأنه يحرض ذهن السامع على إتمامه، ولويل لمن يتلكأ في رد الصدر على العجز فيقول: (إنما أصل الفتى ما قد حصل) لأنه سيكون حتماً من البلداء
طاب لأحد الظرفاء من أصحاب الشاعر، وكنا نسميه (شاعر العرب والإسلام) أو (حصان الثورة) أن يكنيه كنية تطابق لازمته الوردية فكناه (حصل أفندي). ومن عجب أن فاض أسم الشاعر بنعوته واندثر، وانتشرت الكنية المستحدثة وذاع اللقب الجديد بين جميع المشتغلين بالقضية العربية من ساسة وثوار
شخصية (حصل أفندي) كما أراها اليوم، فريدة في بابها بل هو قريع دهره وواحد هذا العصر، يجمع بين جميع الصفات والمزايا، والغرائز والملكات وأضدادها كلها ولكن كفته إلى اليسار هي الراجحة دائماَ!
ترى البشاشة في محياة يعلوها إلا كفهرار والتجهم، إن هش ورحب بدأ نابه وظفره، وإن نظر وحدق اختلطت عليك معاني تلك النظرات ووجب عليك الاستعاذة بمن لا يستعاذ بسواه على أصحاب النظرة المختلطة. يصاحب كل الناس وفي صدره جمرة من كل(983/32)
الناس. مودته مدخولة، ظاهر الملق، مما حل مداور مخادع، يوهمك أنه يخزى، ولنه في الحقيقة لا يندى له الجبين، ولا يحمر له خد أو أذن، يلبس ثياب التقوى ومسموح الزهد، ولا يتورع من اقتحام بيوت الدنس واقتراف الإثم والرذيلة، يحلل المحرمات سراَ، ويتزندق ليقال أنه من زهرة أبناء العصر الحديث
يتحاكم كطفل، ويتواضع باستكانة، ويتعالى بحمق، ويتظرف بسماجة؛ ولنه داهية داهية، ولئيم لئيم
تراه في كل نادِِ ومجتمع وحزب، في الأفراح والمآتم، بصفق للخير ويطرب للشر، يغفر فاه لكل طعام من كل مائدة، ويكرع ما يتبقى في الأكواب، ولسانه كأضراسه لا يفتر عن اللوك والطحن والمضغ والبتلاع.
قد لا تعلم، مهما أوتيت من ذكاء وقوة استلماح، متى يتجافى الحق، ولا كيف يرتجل الزور. تعجزك ملامحه، وتخونك فراستك في وجهه الكثير القسمات الناتئة، والأخاديد الفائرة، وفي غموض في سحنته ومات لونها، وهو قدير على إدماج الجد بالهزل، والمزاج بالرصانة
يتغابى كأخرق، ويتبالد كأنه أعمى البصيرة، لا يتكدر ولا يغضب، ولا يرتج علية الكلام لأنه ذكي لامع الذكاء. وهو في مجمله خلط ملط كما يقول أصحاب الأمثال
يوهمك أنه كتوم للسر، صائن للخير، ولنه عقرب وشابة، وأفعوان سعاية، رسول سوء وفساد، وزارع عداوات وبغضاء
قلت أن شخصية (حصل أفندي) تجمع بين جميع الخلائق وأضدادها، وإليك لوجه المقابل للوجه الأول
عرفناه - منذ عرفناه - أنه من خاصة أوائل الرجال الذين بذروا بذرة الوطنية في صدور الأمة التي استكانت دهراً طويلاً لحكم الأتراك، وفي مقدمة الرجال العاملين في الأحزاب العربية التي كانت تضمهم غاية واحدة، وأن تظاهرهم آنذاك بالتفرق والتحزب والتشيع، يعمل هذا الحزب مع الفرنسيين، وذاك مع الألمان أو الإنجليز، لم يكن سوى خدعة ووسيلة للاستعانة بهؤلاء الأقوياء على الخلاص من حكم الأتراك الأقوياء الأشرار، ولكن غايتهم ومرمى سعيهم كان منصباً على نيل الاستقلال، وإعادة تأليف دولة عربية إسلامية تسير في(983/33)
مواكب الحياة مع الشعوب الحرة
ثم عرفناه يحار ب بقلمه السيال، ولسانه الطلق، وبيانه الواضح في كل ميدان من ميادين استنهاض الهمم، ونفض غبار الخمول، واستثارة النفوس، وإذكاء لنخوة العربية
ثم رأيناه يحبس لسانه عن الخطابة، وقلمه عن الكتابة، وقد استبدل بهما بندقية وراح مع الثوار في ميادين الحماة، وجبال حوران، ومع أشاوس الدروز وأبطال منطقة الفوطة يقتنص ضباط جيوش المحتلين، ولم يرم جندياَ من الجنود المرتزقة أو من أبناء المستعمرات إلا فيما ندر.
لقد كانت له مواقع مشهورة، وحكايات في البطولة، ومعلقات في المغامرات، وكان برغم نشاطه العجيب، ونفسه الغدارة، لا يختلف عن المجالس الساسة، ولا يني عن درس أمور الوطن وتطوراته، وإبداء الآراء السديدة، ووضع رسوم الخطط مع الزعماء، غير أنه لما انطفأت نيران الثورة الكبرى التي تأججت سنة 1925 من جراء اختصام الزعماء على الرياسة واقتتالهم على المال الذي تبرع به كرام المصريين والأسخياء من أبناء سورية ولبنان في المهجر إعانة لثوار، تحولت فوهات بنادق بعضهم إلى بعضهم الآخر بعد أن كان ت مسددة إلى صدور الأعداء. . أقول ما كادت تنطفئ نيران الثرة وتتفرق جماعات لثوار حتى انكفأ الزعماء والقادة متخاذلين، منهم من يمم دمشق في أعناقهم محارم الاستسلام للغاصب المحتل، ومنهم من لاذ بمصر موئل الأحرار وحصن المجاهدين، يضمدون جراحهم، ويلمون شبعهم، ويوحدون صفوفهم، ويوفقون بين أحزابهم التي كانت في الأصل حزباً واحداً، يستأنفون جهادهم. ومن عجب أن (حصل أفندي) لم يكن مع الجماعة التي لاذت بمصر. بل راح مع من راحوا إلى دمشق يجرع ذل الاحتلال ويغب من صلف الفرنسيين أتراك الغرب
التأمت جراحات العرب الأحرار اللائذين بمصر فعاد إليهم نشاطهم، وتوفزت حيويتهم، وعلا صوتهم يدوي في المجامع والصحف، وما عتم أن أرهف العالم أذنه من جديد يسمع شكاوى هذا الشعب العربي العحيب المتوافرة فيه خصائص العظمة والسؤدد من ناحية؛ وعناصر الاستسلام والخضوع للأمر الواقع من ناحية أخرى. شكاوى فيها ترانيم للحياة، وأناشيد للحرية، وطالبة بالحق المغتصب، وزغردة للثورة، وتهديد بغسل وتطهير الأمة(983/34)
التي تلوثت بالاحتلال بدماء المحتلين، ومن عجب، بل من سخرية القدر أننا كنا نسمع أصواتاً منبعثة من دمشق بتعب أصحابها كغراب البين يندبون العرب والعروبة. يلتصقون بهم ما هم منه براء، وينادون بالاستسلام للأمر الواقع، والطاعة الشرعية لولى الأمر والخضوع له وإن كان دخيلاً. وقد صار لزاماً على الأحرار المقيمين بمصر أن يحاربوا في ميدانين، ويقاتلوا عدوين، الأول مغتصب عات هو الفرنسي المستمر، والثاني سوري من أبناء الوطن ضالع مع المحتل الذي أفسد الأخلاق والضمائر، وأستبعد الأقلام والألسنة بالمال والشهوات.
في هذه الفترة من القلق والاضطراب، في هذه الآونة الحرجة في حياة أمة رامت النجاة من براثن الذئب فوقعت في مخالب لبؤة جائعة جشعة، في هذه الحقبة التي هي في حكم الضائع من أعمار الأمم، في هذه الفترة برز شخص (حصل أفندي) في مصر كنيته شيطان أو كفطر شق أرضاً رواها الندى ودفعها التعفن!!!
ومن عجب أن الذهن الشامي المفطور على الذكاء اللامع والسذاجة الصافية، أنطمس ذكاؤه وانطفأ نوره وبدت فيه السذاجة بأجلى مظاهرها فرحب بـ (حصل أفندي) (الذي كان ضالاَ فوجد) وغفل أو نسى أنه تخلف عمداً عن ركب أقرانه الأحرار وقد يمم الشام وفي عنقه منديل الاستسلام والعبودية
بل الأعجب والأنقى أن جميع أبواب السياسة فتحت له، وأن أكثر طوايا الصدور نشرت له بغير ما ظن أو شك أو توجس
لقد كنت واحداَ من أولئك الذين خدعتهم أعذار ذلك الداهية اللسن، وانطلت عليه تلفيقا ته البارعة وتمويهه المتقن. . . لقد خفيت حقيقة (حصل أفندي) عن جميع إخوانه وأصدقائه، وأخذ كل منهم ينظر إلى الآخر نظرة فيها معاني النفر المستترة، والصمت على مضض، وما لبثا أن أصبح كل منا يتجنب أصدقاءه الذين وحد بينهم الاعتقال وميادين القتال، وتدبير المؤامرات، ووحدة الغاية الوطنية.
في صدر كل منا حفيظة، وتوجس، وخوف لا شك أن هناك شيطاناً يوسوس، ولأفعى تنفث سمها، وامرأة خداعه! ولكن أين هي المرأة والحية والشيطان؟ وراء أي ناع وتحت أي طلسان أو عمامة يستترون؟(983/35)
مقتلة المحتلين واجب وطني وشرع مقدس، ومحاربة المواطنين الذين خنعوا للأمر الواقع ونكصوا عن الجهاد في سبيل الحرية ليست بالحرب الشعواء، ولكن حرب الشيطان، حرب الطابور الخامس، حرب دود الخل، حرب قتل المعنويات بعقاقير محلية، حرب صدم شعور الشباب بنصائح شيوخ رحماء) إنما هي حرب أكثر فتكا من القنابل الذرية، وأشد وبالاً من الجراثيم لأنها تصيب النفوس فترديها، وتفتك بالأرواح فتميتها.
البقية في العدد القادم
حبيب زحلاوي(983/36)
ديوان مجد الإسلام
نظم المرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
من حق القراء الأعزاء وقد راسلني منهم كثيرون لا تربطني بهم غير رابطة الفكر، وتفضل بزيارتي غيرهم سائلين عن الديوان الذي انتظروه أكثر من ستة أعوام، وأنتظره الإسلام والمسلمون أربعة عشر قرناً - ومن حق ناظمة على أن أقدم له بمزاياه، ومنزلته الأدبية، وصورة واضحة للملحمة الإسلامية ومكانتها من الملاحم الغربية، ولمن تفصيل هذه المقدمة طويل، وأنا أحرص ما أكون على الحيز الذي تكرم به الأستاذ الزيات بك على الديوان وناظمه، فحسبي أن أذكر اليوم في تقديم الديوان أن (محرماً) قد عمد إلى أروع الحوادث في تاريخ غزوات الرسول وإلى أشهر البطال، من وجهة نظرته الشعرية وسجل في شعره الرصين مالهم من مواقف مجيدة وأعمال خالدة.
وقد خالف شعراء الملحمة العربية، فكانت تغلبه عاطفته فيترجم عن شعوره بطرقة مكنته من أن يطيل الوقوف على حوادث هينة، وأن ينفذ إلى صميم المعاني وستقصى التفصيلات وبصورة الأبطال صوراَ كاملة.
وإلى أن تسنح الفرصة التي نعود فيها على بدء، أرجو أن يطالع القراء ديوان مجد الإسلام أو الإلياذة الإسلامية على هذا الضوء؟
مطلع النور الأول
من أفق الدعوة الإسلامية
أملأ الأرض (يا محمد) نوراَ ... وأغمر الناس والدهورا
حجبتك الغيوب سراَ تجلى ... يكشف الحجب كلها والستورا
عب سيل الفساد في كل واد ... فتدفق عليه حتى يغورا
جئت ترمي عبابه بعباب ... راح يطوي سيوله والبحورا
ينقذ العالم الغريق ويحمى ... أمم الأرض أن تذوق الثبورا
زاخر يشمل البسيطة مدى ... ويعمم الأرض أن تذوق الثبورا(983/37)
زاخر يشمل البسيطة مدى ... ويعم السبع الطباق هديرا
أنت معنى الوجود بل أنت سر ... جهل الناس قبله (الإكسيرا)
أنت أنشأت للنفوس حياة ... غيرت كل كائن نغييرا
أنجب الدهر في ظلالك عصرا ... نابه الذكر في العصور شهيرا
كيف تجزى جميل صنعك دنيا ... كنت بعثا لها وكنت نشوراَ
ولدتك الكواكب الزهر فجراً ... هاشمي السنا، وصبحا منيرا
يصدعه الغيب المجلل بالوحي ... الملقى ويكشف الديجورا
منطق القدرة التي تزهق القا ... درعجزا، والعبقري قصورا
كل ذمر رمى النفوس بوتر ... من خطاياه رده موتورا
خرت العرب من مشارقها الع ... يا توالى هويها والحدورا
بات فيها ملك البيان حريبا ... يسلم الجند والحمى والثغورا
أنكر الناس ربهم وتولوا ... يحسبون الحياة إفكا وزورا
أين من شرعة الحياة أناس ... جعلوا البغي شرعة والفجورا
تلك أربابهم: أتملك أن تن ... فع مثقال ذرة أو تضيرا؟
قهروها صناعة أعجب الأر ... باب ما كان عاجزا مقهوراَ
مالدى (اللات) أو (مناة) أو (العز ... ى) غناء لمن يقيس الأمورا
جاء دين الهدى وهب رسول الل ... هـ يحمى لواءه المنشورا
ضرب الكفر ضربة زلزلته ... فتداعى وكان خطباَ عسيرا
جثمت حوله الحصون وظن ال ... قوم ظن الغرور أن لن تطيرا
هدها ذو الجلال حصنا فحصنا ... بالحصون العلي وسورا فسورا
بالرسول الهادي، ولصفوة الأم ... جاد يقضون حقه الموفورا
يهرقون النفوس تلقى الردى المه ... راف مثل الغدير يلقى الغديرا
إن في قتل للشعوب حياة ... وارفا ظلها، وخيرا كثيرا
ليس من يركب الدنية يخشى ... مركب الموت بالحياة جديراَ
أمن الحق ن تصد (قريش) ... عن (فتاها) وأن تطيل النكيرا؟(983/38)
سل (أبا جهلها) وقوما دعاها ... فاستجابوا جهالة وغرورا
أولعوا بالأذى، فألفوا رسول الل ... هـ جلدا على البلاء صبورا
كلما أحدثوا الذنوب كبارا ... وجدوه لكل ذنب غفورا
ما به نفسه فيغضب يرض ... يها وترضيه ناعما مسرورا
إن الًله، لا سواه، ودين ... ملك النفس، واسترق الشعورا
يجد الناس والمقادير فيه ... ويرى ما عداه شيئاَ يسيرا
ما زكا سابق من الرسل إلا ... هو أزكى نفساَ وأصفى ضميرا
جاره (عمه) يقول أترضى ... أن يقيموك سيداَ أو أميرا
ويصبوا عليك من صفوة الما ... ل حيا ماطرا، وغيثا غزيرا
قال: يا عم ما بعثت لدنيا ... أبتغيها، وما خلقت حصورا
لو أتوني (بالنيرين) لأعر ... ت أريهم مطالبي والشقورا
إنه يشيروا بما علمت، فإني ... لأدع الهوى وأعصي المشيرا
دون هذا دمي يراق ونفسي ... تطعم الحتف رائعا محذورا
المطعم بن عدي
ما رأينا كالمطعم بن عدي ... جانبا واصلا، هيوبا جسورا
آثر الكفر ملة وأجار الد ... ين مستضعفا يدور شطيرا
رام (بالطائف) المقام فأعيا ... فأتثنى يطلب الأمان حسيرا
وكل اللًه بالنبوة منه ... أسدا يملأ الفضاء زئيرا
قائما في السلاح يجمع حولي ... هـ شبولا تحمى الحمى ونمورا
يمنع القوم أن يصدوا رسول الل ... هـ عن بيته ويأبى الخفورا
نقض الحلف من قريش فأمسى ... أسلمته العرى وكان مريرا
عجبا للغوى يعطيك منه ... عملاَ صالحاَ ورأيا فطيرا
ما رأينا من ظن بالزرع شراَ ... فحمى أرضه وصان البذورا
لو جزى الله كافرا أجرما أح ... سن يوما لخلته مأجورا
في غار حراء(983/39)
ظل مستخفيا (بغار حراء) ... يعبد الله عائذا مستجيرا
يسمو القوم في الضلال ويمسي ... للذي أطلع النجوم سميرا
راكعا سادا يسبح مولا ... هـ ويزجى التهليل والتكبيرا
تهتف الكائنات يأخذها الصو ... ت، وتحبى مكانه المهجورا
نال منها محلة لم ينلها ... صوت (داود) حين يتلو (الزبورا)
نبرات قدسية تتوالى ... نغما رائعا وتمضي زفيرا
رب طال الخفاء، والدين جهر ... رب فأجعل مدى الخفاء قصرا
ماجت الأرض حوله، وتجلى الل ... هـ ينهي بركانها أن يفورا
أوذى الدين في الشعاب وردت ... يد (سعد) عدوه مدحورا
رقمت في الكتاب أول سطر ... وأتم الدم المراق السطورا
أدبر القوم مختفين فلولا الل ... هـ كادت رحى الوغى أن تدورا
أزمع (الضيف) أن يؤم سواه ... منزلا، كان صالحا مبرورا
حله الوحي روضة شاع فيها ... رونقا ساطعا، وفاح عبيرا(983/40)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأزهر قبل (بريل):
زارت مصر أخيراً الكاتبة الأمريكية الصماء العمياء البكماء (هيلين كلير) وقد نقل الصحفيون، وتحدثت في نوادي القاهرة، عن كفاحها السياج الكثيف الذي ضرب بين حواسها الثلاث وبين الإدراك، فإذا نجاحها معجزة ومفخرة، وإذا بصيرتها تستشف - بواسطة اللمس - من الحقائق وفنون المعرفة ما يقصر دونه إدراك ملايين من ذوي الحواس الخمس. .
وقد عنيت (هيلين كيلر) الإنسانة العظيمة بموضوع العناية بذوي العاهات في مصر، فوقفت على القدر اليسير الذي تبذله الحكومة المصرية في هذا السبيل، فاستشعرت لطف حسها واصطنعت اللباقة في الثناء على ذلك (الجهد) وفي الحث على المزيد منه، ومما لاحظته أن المعاهد والدور التي تعنى بذوي العاهات عندنا لا تؤوى أكثر من خمسهم في البلاد. . . .
وتحية هذا القلم لهذه الضيفة الكبيرة - وهي تحية تليق بأمثالها من عظماء النفوس - أن أقدم لها (الأزهر!) فإنه لم يبد إلى الآن أنها ستلتفت أو أن أحدا سيلفتها إلى ذلك المعهد العريق الذي عنى ولا يزال يعنى بالمكفوفين، يعلمهم، ويتيح لهم فرص النبوغ وإظهار كفاياتهم العلمية، وييسر لهم بذلك التغلب على أهم ما يجر إليه حرمان البصر من صعاب في الحياة وهو احتلال مكانة راقية بين أبناء المجتمع بما يؤدون فيه من عمل يؤهلهم لها
وأخشى أن تنتهي زيارة (هيلين) لمصر وليس في ذهنها من العناية بذوي العاهات فيها إلا ما عرفته من ذلك الجهد الضئيل، فلا تعلم أن مصر سبقت العالم هذا المضمار منذ ألف سنة، فوجد فيها الأزهر قبل طريقة (بريل) بمئات السنين
وبعد فليت الأزهر يهتم بإدخال الطرق الحديثة إلى المناهج الدراسة للمكفوفين فيه، فيبنى جديدا على قديم ويضيف طارفاً إلى تليد. والأمل أن يكون ذلك على يد قائد الأزهر في وثبته الجديدة شيخة الحالي فضيلة الأستاذ الأكبر عبد المجيد سليم
ذكرى إقبال:(983/41)
احتفلت سفارة الباكستان في مصر بذكرى الشاعر الفيلسوف الدكتور محمد إقبال يوم الجمعة الماضي بدار نقابة الصحفيين، وقد خطب في الحفل الأستاذ صلاح الدين خورشيد الملحق الصحفي بالسفارة ومحمد علي علوية باشا والدكتور حسن إبراهيم حسن بك والدكتور عثمان أمين، وألقى قصائد الشيخ الصاوي شعلان والأستاذ خالد الجرنوسي والأستاذ محمود جبر
والسفارة الباكستانية في القاهرة تبدي دائما نشاطا ملحوظاََ في الاحتفال بالمناسبات الباكستانية والإسلامية، وتكون هذه الحفلات فرصاً طيبة لتبادل الشعور بين المصريين ورجال الباكستان في القاهرة؛ وقد جرت السفرة على الاحتفال بذكرى إقبال كل عام منذ قيام هذه الدولة الفتية، وهو اهتمام تغبط عليه، وينبغي لنا - نحن المقصرين إزاء ذكريات أعلامنا - أن تأنسي بها في ذلك، وخاصة أن الذين يقولون في الذكريات الباكستانية عادة هم جميعاً - ماعدا الملحق الصحفي الباكستاني - مصريون أعتقد أنه من الممكن أن يقولوا أيضاً في الذكريات شوقي وحافظ وغيرهم من أدبائنا الراحلين الذين لا يذكرهم غير أهليهم الأقربين. .
والملاحظ في الاحتفالات السنوية لذكرى إقبال أن ما يقال في سنة يكرر في أخرى، فكلهم يقولون إن إقبال شاعر إسلامي استمد فلسفته من ثقافة الإسلام، وانه استحث قومه على الجهاد والتقدم، حتى تكونت الباكستان نتيجة لدعوته وثمرة لغرسه، ويذكرون تاريخ ميلاده ووفاته والجامعات التي التحق بها، ولا يفوت قائلهم أن يذكر أن إقبال لم يستطع العمل في الحكومة لأنه سقط في الكشف الطبي. . . . إلى آخر هذا الذي سمعناه في هذا العام كما سمعناه في الأعوام السابقة، ولا يكادون يخرجون عنه. .
وكم نود أن نسمع أستاذاً باكستانياً يحاضرنا في (إقبال) باللغة العربية التي لا يعرفها من رجال الباكستان في القاهرة إلا الملحق الصحفي. . . حتى العلماء الباكستان الذين يفدون إلى مصر، إذ نراهم لا يتحدثون باللغة العربية، ويتكلمون ويخطبون فينا باللغة الإنجليزية، ومن عجب أنهم يدعون بهذه اللغة إلى مؤتمرات من أعراضها جعل اللغة العربية لغة رسمية عامة لبلاد الإسلام والذين توجه إليهم الدعوة هم أهل البلاد العربية الإسلامية الذين يتخذون العربية فعلا لغة رسمية لهم وغير رسمية.(983/42)
وأنا أعتقد أنه لا يتم التوحد والتفاهم بين شعوب مختلفة اللغات، وقد نزل الإسلام بالعربية، وارتضيناه دينا، فلا بد - لتقاربنا وتعاوننا - من التفاهم باللغة التي جاء بها وحملته إلى الناس
وأعود إلى ذكرى إقبال فأقول فأقول إن خير ما صنعته الباكستان لهذه الذكرى في مصر هو ترجمة أشعار صاجبها إلى اللغة العربية ونشرها بين الناطقين بالضاد. وقد قام بجهد مشكور في ذلك الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام بك سفير مصر في الباكستان والأستاذ الصاوي شعلان، وقد كان خير ما في الحفل شعر إقبال الذي أنشده الأستاذ الصاوي بعد ترجمته إلى العربية.
الطفولة في الأدباء:
في حياة بعض الأدباء والشعراء، أو في كثير منهم، وقد يمون في جميعهم، جوانب تبدو تافهة وذات دلالة لا تتفق وعظمة ما ينتجون من أدب وشعر، ولا شك أن المتأميلن في الحقائق في هذا المضمار يهتمون بتتبع تلك الجوانب ودراستها، وكثيراً ما يستضيء بها النقاد المحدثون فيما يتناولون بالنقد والتحليل من حياة الأدباء وآثارهم
ويحدثنا تاريخ الأدب عن كثير من ذلك، وإن كان منثوراً غير منظوم في دراسات ذات مقدمات ونتائج.
أقصد بذلك التمهيد لسياقه أطراف مما عرفناه في بعض أدباء المعصرين الراحلين:
كان الأستاذ كامل كيلاني يلتقي بأمير الشعراء أحمد شوقي بك في أصائل أيام المصيف بالإسكندرية، ومرة رآه مكتئباً مقطباً، فسأله في ذلك، فقال شوقي: سكرتيري مريض - شفاه الله، أليس تحت عناية الطبيب؟
- ما إلى هذا قصدت. .
- ماذا إذن؟
- أشار على الطبيب أن أمشي كل يوم مسافة قدرها ما بين خمس شجرات في صيف واحد على هذا الطريق، وأنا أمشي حتى أبلغ الشجرة الرابعة، فأشعر بالتعب، فأتوقف، فيقول لي (السكرتير): من أجل خاطري أمشي إلى الشجرة الخامسة! فأنا اليوم سأمشي إلى الرابعة فقط. .(983/43)
- المسالة هينة. أعيرك سكرتيري يقول لك. . .
وحلت العقدة، ولم يقطع أمير الشعراء مشيه إلى الشجرة الخامسة، وشكر (الجميل) للسكرتير المعار. .
وكان المرحوم الأستاذ صادق عنبر - في فترة من حياته - موظفاَ في وزارة المعارف بمرتب لا يلائم مكانته الأدبية، وتولى هذه الوزارة رجل ممن يقدرون الأدباء. فرأى أديب كبير من الأصدقاء صادق عنبر - وهو أيضاً صديق للوزير - أن يلفت نظره إلى الأديب المغبون في رزقه بالوزارة، فحادث الوزير في الأمر، فوعد بزيادة مرتبه خمسة جنيهات في الشهر. واستقبل الوزير الأديبين الكبيرين في داره، وكان الموقف يتطلب من الأستاذ صادق عنبر أن يقبل على الوزير بحديث يكسب به مودته وإعجابه، ولكنه لمح بيد صديقة علبة كبريت أشعل لفافته ووضعها أمامه على النضد وكان الأستاذ صادق (مولعاً) بالكبريت! فوجه همه إلى العلبة. . . وجعل يخالس صاحبه ليأخذ من عيدانها ويملأ علبته! فسارع الصديق يدس العلبتين في جيبه، ليطمئن ويوجه انتباهه إلى الموضوع الذي أتيا من اجله. . . ولولا ذلك لضحى أديبنا الفقيد بخمسة جنيهات في الشهر لقاء عيدان من الكبريت لا تساوي خمسة مليمات. . . .
وكان فقيد الأدب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، إذا أراد أن يسري عن نفسه مما يهمه، يقوم إلى المرآة فينظر فيها إلى صورته ويخرج لسانه. . . وكان يعلل ذلك بأنه يريد أن يضحك نفسه ليذهب عنه ما ألم به. . . وهو تعليل مقبول ولكنه يدل على ما وراءه مما يتصل بموضوعنا.
ولعل تلك المشاعر، والتصرفات التي تمليها، من بقايا الطفولة في نفوس الأدباء، ولعل لكل واحد منهم طريقة خاصة به في (طفولته)، للازمة، وقد يأتيها في العلن متماجنا، وقد يصنعها في خلوته. . . .
ويرى الأستاذ توفيق الحكيم أن أعمال الأدب من امتداد طفولته وأنه يحاول أن يتخلص من مكافحة المجتمع لهذه الذخيرة (الطفولية) التي هي من ألزم الأمور للأديب وذلك كما جاء في الفصل الأول من كتابه الجديد (فن الأدب) وقد قرأت هذا الفصل بعد كتابة ما تقدم كما يقول الزملاء الصحفيون. . . .(983/44)
عباس خضر.(983/45)
الكتب
الإنسان بين المادية والسلام
تأليف الأستاذ محمد قطب
عرض وتعليق
للأستاذ حسين عبد الفتاح سويفي
لن يصدق القارئ بعد أن يفرغ من قراءة هذا الكتاب، أن مؤلفه شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، فلو أن كاتباً أفنى عمره الطويل في البحث والاطلاع لينتج مثل هذا الكتاب لضمن لنفسه الامتياز والتفوق. إنه يسحرك ويستهويك من أول جملة في المقدمة إلى آخر جملة في النهاية، أنه يرضي ذوق الأدب، وروح الشاعر، وعقل العالم، ومنطق الفيلسوف
هو بحث سيكلوجي، يعرض عليك النفس، في ثوب تحليلي رائع، وتعبير أدبي موسيقي بديع، وإنك لتجد فيه رشاقة الأسلوب وقوة التعبير والتحليل، وسلاسة المنطق وسلامته، والمعرفة بأسرار النفس وخفاياها، وطبيعة تكوينها، ورأى العلماء والأديان فيها، ومدى ارتباطها بالحياة، وارتباط الحياة بها.
وهو يضع الإنسان بين المادية والروحية، وبين المذاهب الاجتماعية المختلفة والأديان السماوية، ويسلط عليه هذه الإشعاعات، ليقنعك فتقتنع معه بأن الإسلام دين فطرة، دين الحياة والأحياء.
نه يقول في المقدمة: (بينما يتطرف فرويد، في إطلاق النفس من عقالها، ورفع الكبت عن الغرائز المحبوسة، وتتطرف المسيحية من الجانب الآخر في فرض الكبت على الطاقة الحيوية للإنسان. يقف الإسلام بينهما موقفاً وسطاً، ولا يطلق الإنسان من عقاله، إلى الحد الذي يرده حيواناَ ويلقى ما تعبت الإنسانية من الوصول إليه في جهادها الطويل، من ضوابط لنزعات الحيوان)
هكذا في إيجاز بسيط يعرض عليك موضوع الكتاب موجزاً في بضع جمل، ثم يفصله لك تفصيلاً، يقنعك كل ما فيه بصدق ما يقول
وإنه ليفجؤك بالرأي أحياناَ، فيترك في نفسك مجالاَ للتساؤل والحيرة، ثم لا يلبث أن يعيد(983/46)
إليك أمنك وطمأنينتك ويردك إلى نفسك، ويرد نفسك إليك، فعند ما يقرأ الفصل الأول من الكتاب (نظرة المسيحية) وتطالع أولى فقراته:
(المسيحية دعوة مخالفة لطبيعة الحياة والأحياء، دعوة ترتفع بالإنسان عن نفسه، وتصل به إلى الآفاق العليا التي تسمو عن الجسد والمادة، الآفاق الطليقة من قيود الأرض. ومن نوازع الشهوات) (إنها قصيدة رومانتيكية ساحرة، وحلم جميل لشاعر نبيل - ولكنها مع ذلك مخالفة لطبيعة الحياة والحياء -)
لا شك أن سؤالاَ يقوم نفسك؟! كيف تكون المسيحية مخالفة لطبيعة الحياة لا يتركك في هذه الحيرة طويلاً فيجيبك الإجابة المقنعة البسيطة الصحيحة.
(المسيحية حقنة مضادة للمادية اليهودية والرومانية التي كانت شائعة يوم بعث المسيح، فلزم إذن أن تكون كلها روحانية متسامية، لتتعادل مع تلك المادية، لعلها تصلح النفوس، ولكنها ليست نظاماً طبيعياً للحياة الدائمة في كل الأجيال وفي كل الشعوب) ثم يضرب لك الأمثال.
وحينما يتحدث عن فرويد، يعترف أنه عبقرية فذة، ولكنه لم يكن على صواب دائماَ فيما يبديه من الآراء. أنه ينكر عليه (نظرته إلى الإنسان على أنه كائن أرضي بحت، لايرتفع بمشاعره وعواطفه عن عالم الأرض إلا في حالات الشذوذ)
وينكر عليه وعلى دارون وعلى الغربيين عامة (هذه الروح المادية المتنكرة لكل قوة خارجة عن حدود الأرض، ولا نؤمن إلا بميدان العلم التجريبي) ثم يناقش هذا الرأي فيقول:
(إن العلم ما يزال في طفولته، وما يزال كل يوم يصل إلى آفاق جديدة، فيلغي إلغاء تاما معلومات كان ينظر إليها على أنها حقائق نهائية لا تقبل الجدل، ولا تحتمل التأويل)
إنه يريد من هؤلاء جميعاَ أن يقولوا قولاً غير هذا، يتمشى مع العقل والواقع أنه يريد من قائلهم أن يقول:
(إنني توصلت بالشواهد الثابتة، والتجارب المؤكدة، إلى إثبات كذا وكذا من الأمور، ولكن أمورا أخرى فاتتني ولم أستطع إدراكها، ومنها سر نشوء الحياة على ظهر الأرض والسر الذي يجعل الأحياء تتشبث بالحياة، وتتطور تبعاَ لذلك لمواجهة ما يحيط بها من ظروف، ثم(983/47)
السر الخفي في قدرتها على هذا التطور العجيب، ولا يمكنني في الوقت الحضر أن أقول: إلا أنها من أسرار خالق الحياة التي لم يكشف عنها بعد الأحياء)
ولا يفوته حين يقول ذلك للغربيين، أن يأخذ علينا نحن الشرقيين (إيماننا الأعمى بكل ما يأتي به الغرب على أنه صواب لا خطأ فيه، ولماذا لا نعيد النظر في هذه الآراء والنظريات فنأخذ منها الصواب ونتجنب الخطأ، ولنا عقيدتنا الخاصة التي نعترف بالعلم كما نعترف بالدين، ونضع الإنسان في وضعه السوي)
وإنك لتحس الثورة العاتية في نفسه، على هذا العالم المادي الثقيل المتخلي عن إنسانيته حينما يختتم هذا الفصل بقوله: (ألا إنها المغلطة الكبرى لكل حقائق الحياة، والنفس البشرية هي التي أدت العالم، إلى الحيوانية المتجردة، التي أر تكس فيها بغير عذر الحيوان، وبغير حصافة الحياة التي رسمت للحيوان حدوداً معينة، تقف عندها غرائزه. . أما الإنسان الذي كرمه خالقه ورفعه، وجعل في يده أمر نفسه، فإنه ينتكس اليوم إلى حمأة يتعفف عنها بعض أنواع الحيوان.
ثم استمع إليه، واسخر معه كما سخر من التجريبيين، أولئك الذين يخضعون كل شيء للمعمل والتجريب، والتجريب العلمي (يؤمن الغربيون بكل ما يحمل خاتم التجريب، ويأخذونه قضية مسلمة، لا تحتمل الشك والتأويل، أما ما لا يخضع للمعمل فهو خرافة، أو على الأقل شيء ساقط من الحساب، ولما كان الله - مثلاً - لا يدخل المعمل، ولا يخضع للتجريب، فقد استغنوا عن خدماته، وأعلنوا أنه غير موجود)!
على أنه مع ذلك لا ينكر خدمات العلم التجريبي، التي أداها للبشرية، ولمنه ينكر، وينكر القارئ معه، إخضاع كل شيء للمعمل والتجريب، فهناك الجوانب الروحية التي لا يمكن أن تنكر لأننا نجهل جانباً منها
(قد يستطيع الباحثون ذات يوم أن يصلوا إلى نتيجة نهائية قاطعة، في المظاهر المادية لهذا الكون، أما النفس الإنسانية فهي عالم واسع غير محدود، ومازالت البشرية منذ مولدها إلى هذه اللحظة. تتحدث عنها، وتحاول الوصول إلى كنهها في آدابها، وفنونها، وفلسفتها، وأديانها، واجتماعياتها، فلا ينتهي الحديث، ولا ينقطع عنه نقطة معينة، وإنما يتقبل البحث كل مما قيل، وكل ما سيقال، ويبقى بعد ذلك الباب مفتوحاً للمزيد)(983/48)
هذا حديث عقلية واعية صاحبة مرتبة، تعرف كيف تعبر وتدمغ الحجة بالحجة، وتقرع الرأي بالرأي، وتأتي بعد ذلك بفصل الخطابب، وهو يؤيد العلماء النظريين الذين يقولون (إن هناك نزوعاً، أو انفعالاً نفسياًيؤثر في الجسد، فينتج عنه حركة جثمانية تهدف إلى تحقيق هذا النزوع، أو إرضاء الانفعال، وينكر على التجريبيين قولهم: (إن الجسد هو الذي يتصرف في النفس)
يقول قائلهم (أي التجريبيون - إنني سمعت خبرا محزنا فبكيت، فنشأت من ذلك عاطفة الحزن! فالحزن نشأ من البكاء أي من الحركة الجسدية. وليس العكس، أن الإنسان يحزن فتنهمر دموعه - كما يقول العقلاء من عباد الله).
(ويقولون إنني رأيت الأسد فجريت، فنشأ من ذلك الخوف، لا أنني خفت فجريت)
أن المؤلف يؤمن بأن الجسد أداة منفذة لرغبات النفس، وينكر على فرويد إيمانه بالجبرية الشعورية التي تقول؛ إن الحياة النفسية مصدرها الجسد، والجسد إفرازات كيمياوية، ونشاط كهربي، لا سلطان لأحد عليه، لأنه يعمل بطريقة غير إرادية فقد انتفت إرادة الإنسان التي يكون بموجبها مسئولا عما يفعل).
وهل هناك دليل على تأصل المادة في حياة فرويد، وعلى عدم اعترافه بالأديان، والجوانب الروحية، أقوى من هذا القول لأن الأديان جميعاً تقول: بأن الإنسان محاسب على أعماله، لأنها تصدر عن إرادته، ولا تعفيه عن المسئولية حينما يرتكب خطيئة في حياته الدنيا، حنى القوانين الوضعية، تأخذ المجرم بالعقاب، لأنه مسئول عما يفعل، وإلا فلم يعاقب المجرم؟ ولم وضعت القوانين؟.
وليتصور القارئ أي فوضى كانت تسود البشرية، لو ترك الناس أحراراً فيما يفعلون، باعتبار أنهم غير مسئولين عما يفعلون! وأي فرق بينهم وبين الوحوش في الغابات والهوام في مسارب الأرض.
إنه حين يقول ذلك (ليسقط المسئولية الخلقية، ويسقط معها الإنسان).
وعندما يتعرض للشيوعيين يكشف زيف مذهبهم، حين يقولون:
(- إن الإنسان هو القوة الفعالة في هذا الوجود - وتلك جملة براقة قد توحي بأن أنصار هذا المذهب، يؤمنون بالإنسان وبالإنسانية في صورها الرفيعة النبيلة، الإنسان في(983/49)
مجموعة، بما فيه من جسد وعقل وروح) فأنظر كيف يكشفهم ويفضح مذهبهم حين يقول: (إنهم لا يؤمنون بالإنسان، ليرفعوا من شأنه، ولكن لينفوا فقط تدخل الإله في شؤون الخلق، أما إيمانهم بالإنسان فعلى أساس أنه مادة، ولكن إذا سألنا ما هو الفكر؛ وما هو الشعور؟ ومن أين ينبعثان؟ يتضح لنا أنهما نتاج الدماغ البشري. . . وهذا الدماغ ليس إلا مادة. . .
وهنا تظهر طبيعة المؤلف الصاحية الواعية: فيقول:
(إذا كان العقل مادة، فإن الفكرة في ذاتها ليست مادة، لأنها لا تتحدد بحدود الزمان والمكان)
وهكذا يردهم إلى صوابهم حين لا يجدون الإجابة المعقولة
ثم يبين لك خطل الرأي الشيوعي في أن المادة هي أساس النظم الاجتماعية الصالحة، كانت الجوانب الروحية هي الأسس الأصيلة، التي أقام عليها نظاماً اجتماعياً صالحاً في مدى سنوات معدودات.
(إن الإسلام قد انتشر بسرعة مثالية، ما تزال فريدة حتى اليوم، ففي أقل من عشر سنوات، أيام عمر بن الخطاب، كان قد غمر فارس والعراق والشام ومصر والنوبة. . . لم يكن ثمة بارود، ولا اختراع حربي - مادي - يتفوق به حفنة من العرب الذين انطلقوا من الجزيرة، يبشرون بالإسلام، على قوى الإمبراطوريتين العريقتين، في فارس وبلاد الروم. . شيء واد هو الذي تغير، هو إحساس هؤلاء العرب بالحياة والكون، وبالحق والعدل الأزليين.
لقد كانت العقيدة الجديدة، هي القوة الدافعة في هذا البناء الجديد)
وعندما ينتهي المؤلف إلى (نظرة الإسلام) يتحدث عن الفرد من خلال عدسة الإسلام، فلا يترك جزءاً من جزيئات جسمه، ولا مسرباً من مسارب نفسه، ولا هاتفاً من هواتف رغباته، ولا غريزة من غرائزه إلا وبحثها تحت ضوء هذه العدسة. ثم يبين مقدار صلة الفرد بالسماء، ومدى سموه وصعوده، وعلاقته بالأرض ومدى انجذابه إليها - على حسب نظرة الإسلام - ثم يأخذ له صوراً متلاحقة لنزعات عقله وجسمه وروحه. . وكيف أن الإنسان يساير هذه النزعات، أو يحد من قوتها بالقدر الذي يضمن للفرد والحياة، اضطراً النمو، ودوام الأرقاء.
وإنه ليعرض عليك النظريات الإسلامية، في فلم منسق، يرضي روحك وعقلك، ويرد بك مناهل المعرفة الإسلامية. كل ذلك في أسلوب يكاد من الرقة يطير، ومن القوة يلتهب.(983/50)
وهو مع ذلك كله، لم يأت بجديد على حسب (نظرة الإسلام) ولكنه ارتاد فعرف كيف يكتشف، واطلع فعرف كيف يفهم ويفهم، فارجع إلى هذا الفصل من الكتاب لأنه أضخم من التلخيص.
وفي باب الفرد والمجتمع يعرض عليك الآراء النظرية، والتطبيقات العلمية المختلفة للحكومات، ويبنين لك خطأ أولئك الذين يغلون في احترام الفرد على حساب المجتمع، والمجتمع على حساب الفرد فيقول (كلتا النظريتين مبالغ فيها إلى حد الإسراف المعيب) (فالفرد الذي يبلغ إحساسه بنفسه وذاتيته أن ينسى وجود الآخرين، والمجتمع الذي لا يفرض للفرد، أي وجود مستقل، كلاهما يتجاهل طبائع الأشياء، ويغفل عن حقيقة نفسية مهمة)
وقد كان من الممكن أن يكتفي بهذا القول ففيه وحده الإقناع، ولكنه دائماَ يأخذ في كثير من التفصيل والتعليل، لتزداد اقتناعاً على اقتناع
حسين عبد الفتاح(983/51)
البريد الأدبي
فتش عن الرجل
. . نعم. . فتش عن الرجل. . فهو المسؤول الأول عن كل فرد من أفراد الأسرة التي ترعى شؤونها. . مسؤول عن زوجة وأبنائه وبناته. . . بحكم ما خصه الله به من نفوذ، فجعله قواما على زوجة، ولياَ على أبنائه، وكيلاً عن بناته، راعياً لشؤون الأسرة، شأنه شأن القبطان الذي توكل إليه مهمة القيادة، فيتجنب مواطن الزلل والأخطاء، ليسير بالركب قدماً إلى شاطئ السلامة والاستقرار. . وهذا يتطلب منه - إلى جانب حسن القيادة - اليقظة الحذر، والتبصر بالعواقب، ليحيط رعيته بسياج منيع يحميها، ويقيها الأحداث.
وإذا تهاون الرجل في القيام برسالته، فإن البيت لا يلبث أن يختل نظامه ويضطرب كيانه، وتهدده عوامل الشقاق التي تعصف به وتقوض صروحه!.
فإذا رأينا زوجة ضلت الطريق السوي، فأعلم أن هناك رجلاً لم يعرف كيف يهديها سواء السبيل، ويوجهها الوجهة القويمة، أو أنه ترك لها الحبل على الغارب، فأفلت من يده الزمام!
وإذا رأينا زوجة خرجت عن حدود الكرامة، وغشيت المجالس والأندية التي لا يليق بها أن تغشاها، تراقص الرجال وتحتسي الشراب، فأعلم أن هناك رجلاً مستهتراَ، أباح لها الخروج على هذه الصورة المزرية، وعلمها كيف تتناول الكأس. . وكيف تناوله!.
وإذا رأينا فتى جرفه تيار الغواية، وصرفته شياطين الإنس عن مثل الكرامة، فأعلم أن هنالك أبا أغمض عينيه وغفل عن رعايته وتوجيهه، فانتهى به الأمر إلى هذا المصير المظلم.
وإذا رأيت فتاة خدعتها المظاهر، وبهرتها الأضواء الزائفة، فأعلم أن هنالك أباً تهاون في الرقابة، فجنى على رعيته.
وهذه المآسي الاجتماعية التي نشهدها بين وقت وآخر، والتي تثير في نفوسنا اللوعة والأسى لما تتمخض عنه من تشرد الأبناء وانفصام العرى وانهيار البيوت؛ لو درسنا العوامل التي أفضت إليها، لوجدنا أن للرجل الإصبع الأولى فيها، فهذه الطفولة المشردة التي نشكو آثارها البغيضة، إنما هي ثمرة من ثمار الرجولة المشردة، وهذه الأنوثة التي(983/52)
تودي بضحاياها إلى حياة الظلام إنما هي ثمرة الرجولة المشردة، لأن هذا الرجل الذي تصرفه عن بيته الشواغل، فلا يعود إلى بيته إلا في الهزيع الأخير من الليل لا يمكن أن يحقق رسالته كزوج ووالد؛ أنه يعود إلى البيت بعد أن يأوى الأبناء إلى فراشهم، وقد يغادر الأبناء البيت في الصباح المبكر قبل أن يراهم الأب، ويناقشهم في مختلف الشؤون التي يجب أن يحاسبهم عليها، فكيف ينتظم البيت وهو على هذه الحال من الفوضى والتفكك؟ فلتق اللًه هؤلاء الرجال في زوجاتهم، وفي أبنائهم، وفي بناتهم وليؤدوا رسالتهم على وجه الله، ويرضاه المجتمع
عيسى متولي
إلى القاضي الفاضل
أستحلفك بالله ألا تنفذ ما أوعدت به نقد بني أمية بالحق فقد أفضوا إلى ما قدموا؛ وهذا الإمام الشعراني نراه يعقد فصلا في بيان وجوب الكف عما شجر بين الصحابة ووجود اعتقاد أنهم مأجورون بقوله: (وذلك لأنهم كلهم عدول باتفاق أهل السنة سواء من لابس الفتن ومن لم يلابسها، كفتنة عثمان ومعاوية ووقعة الجمل، وكل ذلك وجوباً لإحسان الظن بهم وحملاً لهم في ذلك على الاجتهاد، فإن تلك أمور مبناها عليه، وكل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور، بل مأجور، قال ابن الأنبا ري: وليس المراد بعد التهم ثبوت العصمة لهم واستحالة العصمة منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم لنا أحكام ديننا من غير تكلف ببحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، ولم يثبت لنا إلى وقتنا هذا شيء يقدح في عدالتهم ولله الحمد، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن الرسول عليه السلام حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره بعض أهل السير، فإن ذلك لا يصح، وإ صح فله تأويل صحيح، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: تلك دماء طهر الًه منها سيوفنا فلا تخضب بها ألسنتنا)
هذا وقد زاد قدر الأستاذين الطنطاوي وشاكر وعات مكانتهما في القلوب ولنا أن نباهي بهما!
شطانوف(983/53)
محمد منصور خضر(983/54)
القصص
الشيطان
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
كانت المرأة العجوز مسجاة على فراشها وهي تعالج سكرات الموت، وترقب من بين أهدابها المرهقة أبنها وهو منتصب أمام طبيب القرية وتحاول بكل ما أوتيت من قوة وإحساس أن تتبين ماهية الهمس الذي كان يدور بينهما. كانت هادئة ساكنة رغم ثقتها من أنها ستموت عن قريب. . . ولكنها كانت مستسلمة للواقع الملموس. . . فهي قد أكملت الثانية والتسعين من عمرها. . . وهذا يعني أنها قد أتمت رسالتها في الحياة.
وتخللت شمس يوليو النافذة. . . وغمرت أشعتها الملتهبة أرض الغرفة وارتفع صوت الطبيب قائلاً بشدة:
- إنك لا تستطيع أن تترك أمك وحيدة يا (أونوريه) وخصوصاً وهي في مثل تلك الحالة فهي قد تموت بين آن وآخر وأجاب أونوريه بقلة اكتراث:
- مهما يكن المر. . . يجب على أن أذهب لحصاد الحنطة. . . وهاهو ذا الجو الملائم لذلك. . . ماذا تقولين في ذلك يا أماه؟
وبرغم شعور المرأة برعشة الموت وهي تسري في جسدها. . . فقد شارت إلى أبنها بالموافقة وهي تحت تأثير جشعها وعبادتها للمال.
وضرب الطبيب الأرض بقدمه محنقاً وهو يهتف:
- ما أنت إلا وحش غليظ القلب. . . ولكنني لا أسمح لك أن تفعل ذلك. . هل فهمت؟ أن كان عليك حقاً أن تحصد حقل الحنطة فلا أقل من استدعاء المرأة (رايت) للعناية بأمك وأنا أصر على ذلك. . أما إذا لم تفعل ما أشرت عليك به. . فسأتركك تموت وحيداَ كالكلب الأجرب إذا ما افترسك المرض بأنيابه وحانت منيتك. . فتذكر ذلك.
أي أحاسيس وجلة خالجت مخيلة أونوريه في تلك اللحظة؟
لقد كان يخاف الطبيب الوحيد في القرية، ولكنه إلى جانب ذلك كان يعبد المال ويقدسه؛ وتردد قليلا قبل أن يسأل الطبيب في النهاية قائلاً بارتياب:
- وكم تطلب المرأة رابت أجراََ للعناية بأمي؟(983/55)
وتمتم الطبيب:
وأني لي أن أعلم. . إنها تتقاضى أجرها بالنسبة للزمن الذي تعمل فيه. . . فما عليك إلا أن نتفق معها شخصياً. . . وإنني أنذرك أنني أريد أن أراها هنا قبيل مرور ساعة واحدة
- حسن. . يمكنك أن تطمئن أبها الطبيب. هأ نذا ذاهب إليها.
وغادر الطبيب الغرفة بعد أن قال للشاب بلهجة تهديدية متوعدة:
- مرة أخرى. . . إنني لست هازلا في تحذيري لك إياك
وحين انفرد الشاب بأمه التفت إليها قائلاً بلهجة المغلوب:
إنني ذاهب لاستدعاء الأم (رابت) كما أصر على ذلك هذا الغر. . فكوني هادئة حتى أعود، ودون أن ينتظر إجابتها غادر الغرفة.
كانت الأم (رابت) امرأة عجوزاًتشتغل بكي الملابس وتنظيفها. . . وإلى جانب ذلك تعمل كممرضة لقاء أجر معلوم، وكان وجهها مجعداً كتفاحة معمرة. . . وهي حقود حسود. . . ذات طبع حاد لا يمكن أن يمت للرحمة البشرية بصلة.
وحين استقبلت أونوريه في منزلها. . . كانت منهمكة في مزج بعض الألوان لصبغ ثياب بعض فتيات القرية فبادرها قائلاً:
- كيف حالك أيتها الأم رابت؟ هل الأمور في طريقها العادي؟
والتفتت إليه المرأة مجيبة:
- نعم , نعم. . شكراً. . كيف حالك أنت؟
- على أحسن حال. . إنها أمي التي تشكو
- أمك؟!
- نعم أمي
- وما خطبها؟
- إنها في طريقها نحو الأبدية وهذا كل ما هنالك
- هل بلغ بها سوء الحال هذا الحد؟
- لقد قال الطبيب إنها لن تعيش حتى الضحى
- إذاً ربد أن تكون انتهت الآن؟(983/56)
- وتلعثم أونوريه قليلاً. . فكانت المرأة أشد منه دهاءً. . فلم يجد من مفاتحتها مباشرة بقوله:
- كم تأخذين للعناية بأمي حتى النهاية؟ إننا يائسون من التحسن كما تعلمين. . لقد كانت تعمل كفتاة في العاشرة رغم بلوغها الثانية والتسعين.
وأجابت الأم رابت في اقتضاب وتحفظ:
- إنني أتقاضى سعرين. . فللأغنياء. . فرنكان لليوم وثلاثة لليل. . . أما الفقراء. . ففرنك واحد لليوم واثنان لليل. . وسأعاملك كالفريق الثاني: واحد واثنان.
وراح أونوريه يفكر. . أنه يعرف أمه تماماََ. . ويعرف مقدار مقاومتها للمرض،. فلربما عاشت أسبوعا آخر رغم زعم الطبيب بموتها العجل، فأجاب المرأة قائلاً:
- كلا. . إنني أريد أن أكافئك إجمالياً لإتمام المهمة. . أنه نوع من المقامرة. . فلقد أكد الطبيب أنها ستموت حالاً. . فلو تم ذلك فسيكون ذلك أقل ربحاً لك وأقل خسارة لي.
ونظرت إليه الأم رابت بدهشة. . فلم سبق لها أن عاملت محتظراً بعقد. . وترددت لحظة. . وفجأة راودتها فكرة الخداع فأسرعت قائلة:
- لا يمكنني الموافقة على ذلك حتى أرى أمك
- إذن. . هيا بنا لرؤيتها
وجففت المرأة يديها م تبعته صامتة طوال الماشية وهي ترعى الكلأ، فتمتم أونوريه: اطمئنوا. . فستأكلون القمح الجديد عن قريب.
ولم تكن المرأة العجوز قد ماتت بعد. . بل كانت مستلقية على ظهرها، وقد امتدت يداها فوق غطاء الفراش الملون وقد بدا عليها الضعف والهزال. واتجهت الأم رابت نحو الفراش ثم حدقت في المرأة المحتضرة وتحسست بنفسها ثم مرت بيدها على صدرها وهي تصغي لصوت تنفسها الخافت الذي يشبه النزع، وألقت عليها بضع أسئلة حتى تتأكد من ضعف صوتها؛ ثم غادرت الغرفة بعد ذلك الامتحان يتبعها أونوريه. كان رأيها الشخصي أن المرأة لا يمكن أن تستمر على قيد الحياة حتى المساء
وسألها أونوريه بلهفة: والآن؟
وأجابته المرأة بخبث:(983/57)
- ستعيش يومين وربما ثلاثة أيام. . وسأتقاضى منك ستة فرنكات.
وردد أونوريه قولها: ستة فرنكات؟ الله. . ست فرنكات كاملة؟ هل جننت أيتها المرأة؟ سوف لا تعيش إلا خمس أو ست ساعات على الأكثر.
واشتد الجدل بين الرجل والمرأة. . وأصرت المرأة على الرحيل. . فتخيل أونوريه حنطته في انتظار الحصاد، فلم يجد بداً من الخضوع وتمتم مستسلماً: سأعطيك المبلغ على أن ينتنهي الأمر كلية مهما طال أمده.
وأوسع خطاه نحو الحقل. . في حين رجعت الأم رابت إلى حجرة المريضة وهمست قائلة لها: لاشك انك تريدين الاعتراف يا مدام بونتمبس؟
وأشارت مدام بونتمبس برأسها إيجاباً. . فنهضت الأم رابت بسرور ونشاط وهي تهتف يا إله السماوات. . سأذهب لإحضار القس
وأسرعت المرأة في طريقها نحو القس. . وعادت معه وهي تضطره إلى الإسراع غير عابئة بدهشة الرجال الذين ينظرون إليهما باستغراب، ولا بنظرات النساء اللاتي كن يرسمن علامة الصليب على صدورهن. ورآهن أونوريه عن بعد. . فتساءل عن سبب إسراع القس، وما كان أسرع جاره في الإجابة عليه قائلاً: أنه سيتلقى اعتراف أمك دون شك.
ولم يساور أونوريه العجب لذلك. . بل واصل الحصاد في هدوء
وتلقى القس اعتراف مدام بونتمبس. ثم غادر المكان. . ومرة أخرى أصبحت المرأتان على انفراد وابتدأت الأم رابت تفقد صبرها وهي تعجب كيف أن المرأة لم تمت حتى الآن.
وشحب لون النهار. . وازدادت برودة الجو. وراحت فراشات الليل تحوم حول النافذة تحاول التحرر من أسرها كروج المرأة العجوز التي كانت راقدة دون حراك وعيناها محملقتان وكأنها في انتظار رؤية شبح الموت. . بينما أنفاسها تتدافع من صدرها بطيئة ذات صفير خافت أليم.
وعاد أونوريه. . فوجد أمه مازالت على قيد الحياة. . فتساءل دهشاََ عن كيفية إمكان ذلك. . ثم ودع الأم رابت بعد أن أوصاها أن تعود في تمام الخامسة مكن صباح اليوم التالي. . وفعلاَ عادت المرأة قبل انبثاق الفجر وأسرعت بسؤال أونوريه قائلة: ألم تمت أمك بعد؟(983/58)
وأجابها وهو يسير نحو الحقل: كلا وأظنها أحسن حالاً
وضاقت الأم (رابت) ذرعاََ، فتوجهت توا إلى حجرة المرأة المحتضرة فوجدتها كما كانت بالأمس تماماً. . هادئة ساكنة مفتوحة العينين، ويداها ممدودتان فوق غطاء الفراش الملون. . يبدو عليها الضعف والهزال؛ ورأت الأم رابت أن المرأة يمكن أن تظل هكذا يومين أو أربعة. . بل عاشت أسبوعاً آخر. . فأحست بانقباض يسود نفسها. . وبحقد هائل نحو ذلك الذي خدعها بأمه التي لا تريد أن تموت. وظلت عيناها محدقتين بمدام بونتمبس طيلة هذا الصباح حتى ى عاد أونوريه للغداء. ثم رجع إلى حقله لإكمال حصاد حنطته.
وكادت الأم رابت تفقد شعورها. فقد خيل إليها أن كل دقيقة تمر إنما هي زمن مسروق منها ومن حقها أن تتقاضى عليه أجراً.
وأحست برغبة قوية. رغبة مجنونة في أن تضغط على ذلك العنق الهزيل فتخمد أنفاس المرأة التي كانت تسلبها وقتها المقدس ولكنها حينئذ استطاعت أن تتصور بشاعة جريمتها.
وراودتها فكرة أخرى. واقتربت من المرأة المحتضرة، وهمست تسألها: ألم ترى الشيطان بعد؟
فأجابتها مدام بونتمبس هامسة: كلا.
وابتدأت الممرضة تلقى على مسامعها بعض القصص الخرافية المخيفة. فقالت إن: الشيطان يظهر عادة لهؤلاء الذين على وشك الموت قبل موتهم بدقائق معدودات، ثم راحت تصف لها شكل الشيطان، فادعت أنه يحمل في يده محصداً كبير وعلى رأسه قدر مملوءة بسائل يغلي مسمر به ثلاثة قرون. واستمرت في حديثها الرهيب، فعددت لها أسماء من زعمت أن الشيطان قد ظهر لهم قبل موتهم. وفعل ذلك الحديث فعل السحر في مدام بونتمبس؛ فبدت مضطرة حائرة، لا يستقر رأسها على الوسادة في مكان واحد.
واختفت الأم رابت حينئذ وراء الستار بجانب الفراش. وتناولت من صندوق بالقرب منها ملاءة بيضاء ألقتها فوق رأسها فحجبتها من قمة رأسها إلى أخمص القدم. ثم وضعت على رأسها قدراً بدت أرجلها الحديدية كثلاثة قرون مدببة. ثم أمسكت بيدها مكنسة مستطيلة. وما كادت تنتهي من كل ذلك حتى صعدت فوق مقعد مرتفع.
وفجأة رفعت الستار وبدت بهيئتها أمام المريضة.(983/59)
ومرت لحظة فزع ورعب. . وحاولت المرأة المسكينة بكل قواها أن تهرب من الشيطان. شيطان الموت الرهيب، ولكنها ما كادت تتحرك حتى خانتها قواها وارتمت على الفراش مرة أخرى وانتهى كل شيء.
وبكل هدوء ودعة. أعادت الأم رابت بضاعتها إلى أماكنها، ثم أغلقت عين المرأة الميتة، العينين الفزعتين المحدقتين في خوف وفزع، ثم جثت على ركبتيها جانب الفراش وابتدأت تصلي على الراحلة بحكم العادة.
وحين عاد أونوريه من الحقل عند الغروب، وجد الأم رابت جاثية على ركبتيها تصلي، فتأكد أن روح أمه قد فاضت وابتدأ يفكر
لقد استمرت المرأة ف ي خدمة أمه ثلاثة أيام وليلة، أي أن أجرها كان يجب أن يكون خمس فرنكات، ولكن، يجب عليه الآن أن يفع ستة.
وغمغم قائلاً بغضب:
- يا للحظ السئ، لقد خسرت فرنكا
ع. ج(983/60)
العدد 984 - بتاريخ: 12 - 05 - 1952(/)
وا حسرتا على عزيز!
أشهد لقد أصابني ما يصيب الحي من فجائع الموت، فحزنت حزن المفجوع، وبكيت بكاء الموجوع؛ ولكن فجيعتين بعد فجيعتي في ولدي أشعرتاني لوعة من الحزن لم أجدها في فجيعة من قبل: فجيعة الأمس في علي طه، وفجيعة اليوم في عزيز فهمي!
لا أستطيع أن أصف لك هذا اللون من الحزن على وجه الدقة؛ لأنه
نادر الحدوث في القلب فهو غريب؛ ولأنه عميق الأثر في النفس فهو
غامض. أنه ذهول يتخلله وعي، وأسف تخالطه حسرة، وحرقة يغالبها
دمع، وذكرى يساورها قنوط، وسخط يكفكفه إيمان.
جاءني على غير انتظار ولا توقع أن زين الشباب عزيزا أدركه الموت الأسود وهو في طريقه إلى نصرة الحق وخدمة العدالة، فأخذني أول الأمر وجوم كوجوم المبهوت، فيه الدهش والشك والتبلد والحيرة. ثم تكرر النبأ الفاجع في صيغ شتى، فانجلى البهت رويدا رويدا، حتى تمثل لعيني الخطب الجلل على أبشع صوره وأفظع معانيه. تمثل لي مصاب نفسي في الخلق الرضي والطبع الحيي والفؤاد الذكي والإخاء المواسي والوفاء المضحي، فجزعت جزع الإنسان يرى قوة من الخلال الكريمة تفنى ولا تُخلف. وتمثل لي مصاب وطني في المحامي الوثيق الحجة، والخطيب الحافل الذهن، والنائب الشجاع القلب، والشاعر السمح القريحة، فجزعت جزع المواطن يرى ثروة من المواهب العظيمة تفقد ولا تعوض.
جزعت للإنسانية لأني أكاد لا أعرف من هذا الناس إلا آحادا من طراز عزيز قد برهنوا بالفعل على أن الإنسان الذي يسفل فيكون شرا من شيطان، يستطيع أن يعلو فيكون خيرا من مَلك. وجزعت للوطنية لأن هذا البلد البائس الذي يكابد سوء الأخلاق في داخله، ويجاهد شر الدول في خارجه، يفتقر في محنته إلى أمثال عزيز ليرفعوا قيمة الفضيلة في التعامل، ويعظموا قدر الكفاية في العمل.
عرفت عزيز فهمس في بغداد سنة 1932، وكان قد قدمها في رحلة جامعية. لم أعرف بالطبع جميع أعضاء الرحلة، وإنما عرفت عزيزا وحده، لأنه بارز في شخصيته، متميز في خلقه. لم يكد يعرفني حتى ارتاح إلى بأنسه، وأخذ يسمعني من شعره، ويحدثني عن(984/1)
أمانيه. ثم توثقت بيني وبينه أسباب المودة فآثرني بحبه، وآزر (الرسالة) بأدبه. ثم أنفق في سبيل العلم والمجد زهرة عمره ونضوة شبابه، حتى أصبح أديبا له أسلوب، وفقيها له رأي، ومحاميا له سلطان، ونائبا له صولة، وسياسيا له صوت، واجتماعيا له رسالة. وفي لحظة من لحظات الشؤم تنبه فيها قدر، وغفل سائق، وطاشت سيارة، ذهب هذا كله كما يذهب الحلم، وتبدد هذا كله كما يتبدد الشعاع!
أحمد حسن الزيات(984/2)
3 - حسن البنا الرجل القرآني
بقلم روبير جاكسون
للأستاذ أنور الجندي
. . . في الأزقة الضيقة، في أحشاء القاهرة، في حارة الروم، وسوق السلاح وعطفة نافع، وحارة الشماشرجي. . بدأ الرجل يعمل، وتجمع حوله نفر قليل؛ وكان حسن البنا الداعية الأول في الشرق، الذي قدم للناس برنامجا مدروسا كاملا، لم يفعل ذلك أحد قبله؛ لم يفعله جمال الدين ولا محمد عبده، ولم يفعله زعماء الأحزاب والجماعات التي لمعت أسماؤهم بعد الحرب العالمية الأولى. .
. . وأستطيع بناء على دراساتي الواسعة أن أقول إن حياة الرجل وتصرفاته كانت تطبيقا صادقا للمبادئ التي نادى بها.
وقد منحه (الإسلام) كما كان يفهمه، ويدعو إليه، حلة متألقة، قوية الأثر في النفوس، لم تتح لزعماء السياسة ولا لرجال الدين!
لم يكن من الذين يشترون النجاح بثمن بخس، ولو بجعل الواسطة مبررة للغاية، كما يفعل رجال السياسة، ولذلك كان طريقه مليئا بالأشواك، وكانت آية متاعبه أنه يعمل في مجرى تراكمت فيه الجنادل والصخور، وكان هذا مما يدعوه إلى أن يدفع أتباعه إلى التسامي ويدفعهم إلى التغلب على مغريات عصرهم، والاستعلاء على الشهوات التي ترتطم بسفن النجاة فتحول دون الوصول إلى البر.
كان يريد أن يصل إلى الحل الأمثل، مهما طال طريقه، ولذلك رفض المساومة، ولغي من برنامجه أنصاف الحلول، وداوم في إلحاح القول بأنه لا تجزئة في الحق المقدس في الحرية والوطنية والسيادة. . وكان هذا مما سبب له المتاعب والأذى.
واستدعى بعض من حوله الثمرة، وعجزت أعصابهم عن أن تقاوم البريق، فسقطوا في منتصف الطريق ومضى الركب خفيفا.
كان يؤمن بالواقعية ويفهم الأشياء على حقيقتها، مجردة من الأوهام، وكان يبدو - حين تلقاه - هادئا غاية الهدوء وفي قلبه مرجل يغلي، ولهيب يضطرم؛ فقد كان الرجل غيورا على الوطن الإسلامي، يتحرق كلما سمع بأن جزءاً منه قد أصابه سوء أو ألم به أذى، ولكنه لم(984/3)
يكن يصرف غضبته - كبعض الزعماء - في مصارف الكلام أو الضجيج أو الصياح، ولا ينفس على نفسه بالأوهام، وإنما يوجه هذه الطاقة القوية إلى العمل والإنشاء والاستعداد لليوم الذي يمكن أن تتحقق فيه آمال الشعوب.
وكان في عقله مرونة، وفي تفكيره تحرر، وفي روحه إشراق، وفي أعماقه إيمان قوي جارف.
وكان متواضعا تواضع من يعرف قدره، متفائلا، عف اللسان، عف القلم، يجل نفسه عن أن يجري مجرى أصحاب الألسنة الحداد.
كان مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن نزعت منها؛ بعد أن قيل إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان.
وكان يريد أن يكذب قول تليران (إن اللغة لا تستخدم إلا لإخفاء آرائنا الحقيقية) فقد كان ينكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه، أو أمته.
وكان يعمل على أن يسمو بالجماهير، ورجل الشارع، فوق خداع السياسة، وتضليل رجال الأحزاب.
ولأول مرة خاطب الجماهير زعيم بما يفتح العيون على الحقائق، ووضع دعوته على المشرحة، وقبل أن يسأل عن أدق الأشياء فيها وفي حياته الخاصة، فقد كانت توجه إليه عقب (أحاديث) الثلاثاء قصاصات، فيها أسئلة غاية في الإحراج، ولكنه كان يجيب عنها في منتهى البساطة والوضوح.
وكأنما أراد أن ينشئ للشرق روحا جديدة من المثل العليا، هذه المادة الضائعة، التي هزم بها الشرق الدنيا وفتح باب أطراف الأرض، كان يريد أن ينشئ القوة التي تصمد في وجه الخطرين الداهمين اللذين يهددان العالم وهما: الإلحاد والاستعباد.
كان يريد أن يجعل من الإسلام قوة تدفع الشيوعية الضالة، والرأسمالية الزائغة، وكان يطمع في أن يرفع الإسلام ويسمو به عن أن يكون خادما للاستعمار باسم الديمقراطية، أو للشيوعية باسم الاشتراكية، وإنما كان يرى الإسلام نظاما كاملا فوق الشيوعية والديكتاتورية والرأسمالية جميعا.
وقد استطاع الرجل - برغم كل ما دبر لوضع حد لدعوته أو حياته - أن يعمل، وأن يضع(984/4)
في الأرض البذرة الجديدة، بذرة المصحف، البذرة التي لا تموت بعد أن ذوت شجرتها القديمة، ولم يمت الرجل إلا بعد أن ارتفعت الشجرة في الفضاء واستقرت.
ولن يستطيع مصلح من بعد، أن ينكر أن الرجل رفع من طريقه الكثير من العقبات والأشواك والصخور.
وكل حركة إصلاحية أو استقلالية تظهر في الشرق من بعد، سواء في مصر أو في المغرب أو في إندونيسيا، يجب أن يلحظ فيها ذلك الخيط الدقيق الذي يربطها بالرجل القرآني، الذي حمل المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث الذين كانوا يسخرون من ثلاث كلمات: (شرق، وإسلام، وقرآن).
كان الرجل يريد أن يقول آن للشرق أن يمحص أفكار الغرب قبل أن يعتنقها، بعد أن غدت الحضارة في نظر أصحابها لا توفي بما يطلب منها، كان يقول علينا أن نوزن هذه القيم، وأن نثق بأنفسنا، وأن نعتقد أن ما عندنا لا يقل عما عند الغرب أو على الأقل لا يستحق الإهمال.
وأن على الشرق أن ينشئ للدنيا حضارة جديدة، تكون أصلح من حضارة الغرب، قوامها امتزاج الروح بالمادة واتصال السماء بالأرض.
وما كنت تعرض لأمر من أمور الحضارة الغربية، إلا رده إلى مصادره الأولى في الحضارة الإسلامية، أو في القرآن والسنة والتاريخ.
كان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية قائمة في ضمير الشرق، وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي تمكن له في الأرض وتتيح له الزحف إلى قواعده واستخلاص حقوقه وحرياته.
كان يؤمن بأن الشرق وحدة قائمة كاملة، لو تخلص من مناورات الساسة ومن خلاف الطامعين، لقاوم وصارع.
للبحث صلة
أنور الجندي(984/5)
الأصناف والحرف الإسلامية
للدكتور عبد العزيز الدوري
بقية ما نشر في العدد الماضي
أما كوردلفسكي وكوبرولو فيرون أن اندماج الفتوة بالنقابات حصل في القرن الثالث عشر في نظام (أخيان روم) وأن الأخية ظهروا في الأناضول بعد الفتح المغولي مباشرة في فترة فوضى واضطراب بعد أن دمر المغول الإدارة السلجوقية دون تعويض فظهر الأخية كمؤسسة قوية واسعة لها الرغبة والقدرة على التنظيم، وانتشروا بسرعة في الأرياف والمدن، وجعلوا (التكتل والكرم) دستورهم وطبقة أصحاب الحرف أساسهم الاجتماعي (وقتل الطغاة وصنائعهم) من واجباتهم.
ويلاحظ أن أعضاء كل جمعية من جمعيات الأخية كانوا أصحاب حرفة واحدة. ولكن حركتهم لم تكن مجرد تنظيم لأصحاب حرفة واحدة، بل جعلوا واجبهم حفظ العدل ومنع الظلم وإيقاف الظالم عند حده واتباع قانون ديني وأخلاقي وتنفيذ واجبات عسكرية إن دعت الحاجة للدفاع عن حقوقهم. وكانت العضوية مفتوحة للمسلمين ولغيرهم وهكذا تحقق في حركة الأخية (حسب هذا الرأي) اتحاد النقابة والفتوة والطريقة الصوفية.
ولكني أود أن أبين أن هذه افتراضات تحتاج إلى بحوث جديدة. فنظرية تيشنر معكوسة. فالتكتل الذي أدى للفتوة بدأ لدى العيارين والشطار أسلاف فتيان الناصر لدين الله. وكان بين الطبقة العامة وعلى صلة سيئة بالحكومة من قبل جماعة متهمة في مهنها وفي سلوكها. ثم تطورت الحركة بعد أن تأثرت بوضوح بالصوفية وصار لها قانون أخلاقي حسن. ولم تعترف بها الحكومة إلا في خلافة الناصر حين أكد على الناحية العسكرية فيها. وهذه الناحية تكونت نتيجة اضطراب الإدارة وسيطرة الأجانب في العراق. وصارت الحركة أرستقراطية في خلافة الناصر ثم صارت حركة العامة بعد الفتح المغولي. كما أن الفوضى مسؤولة عن تكتل الحرف وعن اهتمامها بحماية نفسها.
وكان الجهاد في الأناضول والحرب على الحدود الإسلامية البيزنطية خير دافع لامتزاج تقاليد الفتوة بالمبادئ الروحية الصوفية وبتقاليد الحرفة.
ثم إن ظهور بعض البدع والتساهل في المبادئ الدينية كان واضحا في الأناضول(984/6)
للضرورات الثقافية والعسكرية على الحدود. ومع أن ظهور العثمانية أفقد الأخية كثيرا من سلطتهم ونفوذهم وأدى إلى تخليهم عن فعاليتهم السياسية والعسكرية إلا أنهم حافظوا على التعاليم الروحية والأخلاقية إلى الأخير.
ولا بد هنا من تسجيل ملاحظات المعلم جودت لقيمتها ولأنها تلقي ضوءاً على رأينا إذ يقول: (فأما الفتوة فهي عمدة إسلامية ومدنية عامة لجميع المسالك الصناعية والعسكرية والتصوفية والأدبية والتعليمية ليست مختصة بمسلك أو طريقة) وهو هنا يتحدث عن المفهوم الأخير الذي أشرت إليه.
ويذكر في محل آخر أن الفتوة (تفيد معنى السماحة الصناعية) ويبين أن: احتياج الصناع إلى الاتحاد محافظة لحقوقهم وأموالهم ضد الجبابرة والأقوياء من بواعث تأسيس هذه الهيئات. وأخيرا ينفي أية صلة للفتوة بالباطنية والإسماعيلية ويأتي بشواهد تنفيها.
ويستطرد إلى (أن الفتيان المذكورين في صحائف التاريخ والأشعار وفي الاستعمال الجاري ليسوا كلهم من هذا الصنف بل بعضهم. فبعض الرجال المتصفين بالفتوة العسكرية والشجاعة والرجولية محرومون من سمة الجود والكرم) وهم العيارون والشطار بالعربية) وهو بذلك يؤيد افتراضنا الأول. وهكذا نتوصل إلى شكل النقابة المستقرة بشعائرها المنظمة. فلكل نقابة دستور فيه عاداتها وشعائرها وقد وصلت بعض هذه الدساتير من القرن الرابع عشر الميلادي وما يليه. وقبل الدخول في التفاصيل هذه نبين أن هذه الشعائر فيها طابع الاستمرار والمحافظة. فالملابس التي ذكرنا مع إحلال السروال محل المئزر أحيانا، والماء بالملح محل النبيذ، والتعاون المطلق، وفتح الباب لغير المسلمين، ومكافحة التعدي والظلم بقيت، كما أننا نرى في بعض الحالات عيدا عاما للحرف تظهر فيه روائع بضائعها كما كان يحصل في بغداد في أواخر أيام العباسيين، حيث كانت الأصناف تتقدم في موكب حافل، كل حرفة تحتفي بنموذج لصناعتها في موكب يستمر طول اليوم.
وإن دققنا في دساتير النقابات نجدها تتكون عادة من ثلاثة أقسام - الأول يتصل بأصل الحرفة ومغامرات شيخها المؤسس وتعطى سلسلة تنشئة - مثلا - الله علم جبريل - جبريل علم محمد - محمد علم علي - علي علم سلمان الفارسي - سلمان علم الأبيار وهم حماة أهل الحرف - الأبيار علموا الفروع وهم الحماة الثانويون للشعب المختلفة في الحرفة(984/7)
الواحدة - الفروع علموا بدورهم رؤساء الأصناف.
القسم الثاني - يحوي عادة قائمة بأسماء الأبيار والفروع لمختلف الحرف. وهم عادة أبطال من القرآن والتوراة والتاريخ الإسلامي - مثلا - آدم حامي الفلاحين والخبازين - شيث حامي الحياك والخياطين - نوح حامي النجارين - وداود حامي الحدادين والصياغ - وإبراهيم حامي الطباخين - وإسماعيل حامي صناع الأسلحة.
القسم الثالث - يحوي التعاليم لتثقيف المبتدئين وأسئلة وأجوبتها. ومع اختلاف التفاصيل الجزئية في تنظيم النقابات إلا أن الأسس واحدة.
تتكون كل نقابة من الأساتذة (مفرد أوسطة أو معلم) وهم يشكلون القسم الرئيسي من النقابات ويليه (الخليفة أو المتعلم) ثم (الصانع) ثم (المبتدئ) وفي بعض النقابات يغفل دور الصانع ودور الخليفة، ويكون الانتقال من مبتدئ إلى أوسطى. ويرأس النقابة (الشيخ) وهو موجود في جميع الأصناف. وقد يكون له مساعد يدعى (النقيب) منزلته منزلة الوزير من السلطان.
ولا يكون الانتقال من مبتدئ إلى الدرجة التالية في وقت محدود بل يعتمد ذلك على الأستاذ. وتختلف الحالات في تطبيق دستور النقابة، فمرة ينسب ذلك إلى الشيخ ومرة ينسب إليه بمساعدة هيئة المسنين من الأساتذة أو الاختيارية.
وتلعب حفلة الانتماء أو الترقية في الحرفة دورا مهما، وتتميز بارتداء بعض الملابس كالسروال والشد (أو شد الحزام) والمئزر أو الصدرية.
ولدينا بعض الأوصاف للنقابات الإسلامية. منها وصف السائح ابن بطوطة لحركة الأخية والفتيان في الأناضول. يقول (والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضا. وهم (الأخية والفتيان بجميع البلاد التركية الرومانية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعامهم الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر. ويبني (الأخي) زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج).
ويقول (الفتيان الأخية كلهم بالأسلحة ولأهل كل صناعة (الأعلام) والبوقات و (الطبول) و (الأنفار) وبعضهم يفاخر بعضا ويباهيه في حسن الهيئة وكمال الشكة).(984/8)
ويقول (ومن عوائد هذه البلاد أنه ما كان منها ليس به سلطان فالأخي هو الحاكم وهو يركب الوارد ويكسوه ويحسن إليه على قدره، وترتيبه في أمره ونهيه وركوبه ترتيب الملوك).
وننتقل بعد ابن بطوطة إلى سائح تركي هو (أوليا جلبي) الذي تحدث عن الأصناف بناء على طلب السلطان في أوائل القرن السابع عشر. ووصفه أول وصف كامل لنقابات مدينة إسلامية.
فبعد أن يصف (فتوت تامة) - كتاب الفتوة بتعاليمه وأساطيره، يذكر تركيب الحرفة من (الشيخ) (النقيب) والجاويش والأوسطة (الأستاذ) ثم (الشاكرد) أو (المبتدئ) أما الصانع فلا ذكر له.
ثم يعدد جميع الأصناف وحوانيتهم وشيوخهم. ولا مجال لوصف الأصناف وهي (1001) مصنف ويذكر أن الأصناف تنظم عرضا عاما (بهيئة استعراض) مرة واحدة سنويا. ويبدأ الموكب وقت الفجر ويستمر في سيره طول النهار حتى الغروب. وتمر الأصناف ببيت قاضي اسطنبول لأنه صاحب السلطة لتفتيش جميع الأوزان والمقاييس والأصناف، ومن التقاليد أن تهدي الأصناف إلى القاضي نماذجهم التي عرضوها ولكن بعضها كان يخفي ذلك. ثم تسير الأصناف إلى محلاتها وأسواقها وتتوقف كل تجارة وحرفة لثلاثة أيام بمناسبة الاستعراض. وكانت تعلق أهمية على الأقدمية في السير، ويصف (أوليا جلبي) نزاعا وقع بين القصابين وتجار مصر حول الأسبقية حتى صدر الحكم من جانب السلطان في جانب التجار.
ولدينا وصف آخر لتشكيلات الصناعة في سيروز (روميلي سنة 1250 هـ) فيذكر ابن قاضي البلدة أن لكل صنف سوقا مختصة ولكل حرفة رئيسا يسمى (أخي بابا) أو (كهيا) أو (متولي). وإدارة شؤون الحرف بيد الرؤساء أو الأخية تعاونهم هيئة إدارة (أهل اللونجة) من خمسة أعضاء ينتخبون من أساتذة الحرفة. ويندرج المنتمون إلى الحرفة من (يماق) المبتدئ وسنه أقل من عشر سنين، وبعد سنتين يتقدم ويصبح (جراق) وبعد ثلاث سنين يصبح (خليفة) وبعد ثلاث أخرى يصبح (أوسطة). ويوجد مجلس أعلى لكل الحرف يمثل الحرف برؤسائها وهؤلاء ينتخبون رئيسا عاما (كهيالرباش).(984/9)
ويشرف الأخي على شؤون الحرفة الإدارية والمالية ويحل المنازعات ويرأس هيئة الإدارة ويجري المراسيم المخصوصة للأستاذ والخليفة والجراق ويرأس الحفلات ويقوم بالنظارة الدائمة على أحوال الأصناف، أما المجلس الكبير فيقوم بالإشراف على المتولين كافة ويفصل النزاع بين أهل الحرف ويحسم المشكلات التي لم يقدر المتولون على حلها ويسوي المصالح دون مداخلة الحكومة ويعرض لدى الحكومة ما يمس حقوق أهل الصناعات ويرعى حقوق أهل الصناعة.
ولكل حرفة صندوق وارداته من بدل الإيجارات وأرباح الأموال الموقوفة والوصايا ورسوم الانتماء والتبرعات من أهل الخير أو رجال الحرف. وينفق وارداته على التعميرات والرسوم ومعاونة فقراء أهل الحرفة وتقديم المعونة للعلماء والجهات العلمية. وكمثل يوضح ذلك نذكر قائمة مصاريف الحلاجين سنة 1290، بسيرزو وفيها ما يلي: -
فحم لفقراء البلدة وأهل الصناعة (680 قرشا). خبز للغذاء في رمضان (1200). أجرة تداوي فقراء أهل الحرف وعائلاتهم (350). للتجهيز والتكفين (170). للصدقات اليومية (1800). لمعلمي مكاتب الصبيان (1800). القحم والحصر للمكاتب (500) معاونة لحسن أغا المحترق دكانه (350). لقراءة البخاري الشريف والشفاء (350). أجرة الحاكم للنظارة بأمور الحلاجين (250). أجرة المتولية (رئاسة اللونجة 1200) كما يصرف من صندوق الحرفة على العجزة من أهلها المعلولين.
والمصدر الثالث بحث إلياس قدسي وهو مسيحي سوري قدمه إلى مؤتمر المستشرقين 1883 (الجلسة السادسة) عن نقابات دمشق سنة 1882. يخبرنا قدسي أن كافة حرف المدينة لها رئيس أعظم وهو (شيخ المشايخ) وأن منصبه وراثي في عائلة (العجلاني) وأنه لا يمكن إقالته أو استبداله. ويذكر أن أسلافه كانت تعين المشايخ لأكثر من مئتي حرفة وتأمر وتنهى وتقاص وتفصل في كل مسألة وتحسم كل مشكلة ولديهم يتقاضى الجميع. وكانت سلطته تمتد إلى حق الحكم بالموت. وعلى كل فقد بقيت لديه سلطة سجن رجال النقابة أو جلدهم لوقت طويل.
ويعتمد شيخ المشايخ على وقف وراثي ولكن سلطاته أنقصت بعد التنظيمات من زمن السلطان عبد المجيد (فقال تسلط شيخ المشايخ إلى حد غير متناه حتى يسوغ القول أنه غدا(984/10)
محصورا بالتصديق على شيخ حرفة من الحرف بعد أن ينتخبه معلموها) وحتى في هذه الحالة كان تصديق الحكومة ضروريا فكان البعض خصوصا غير المسلمين يكتفي بهذا دون الرجوع إليه. وكان هذا الشيخ عالما في زمن قدسي ولكنه يجهل شؤون الأصناف.
ونظرا لكثرة واجبات شيخ المشايخ لم يكن باستطاعته تنفيذ كافة أعماله العامة، فكان يعين موظفا يدعى النقيب وهو يمثل شيخ المشايخ في الاجتماعات العمومية للحرف أو في حفلات الترقية، وكان له عدة نقباء عندما كانت وظيفته مهمة ولكن في زمن قدسي اكتفى بواحد وكان عارفا بشؤون الحرف بصورة طيبة.
ولكل حرفة شيخ ينتخبه شيوخ الكار ممن اشتهر بحسن الأخلاق والطوية وامتاز بمعرفة أصول الحرفة، ولا يشترط فيه كونه أكبرهم سنا أو كونه من الشيوخ بل يكفي أن يكون ماهرا محترما يستطيع تمثيل النقابة أمام السلطات. ومع أن المشيخة كانت تنتقل بالإرث في بعض الحرف إلا أن ذلك يستلزم موافقة شيوخ الكار وهذا يبقي صفة الانتخاب. ويبقى في منصبه مدى الحياة ما لم يصدر منه ما يوجب إبداله بسواه.
ويلاحظ قدسي أن الانتخاب يجري من قبل الأساتذة المتقدمين يجتمعون ويتذاكرون، فإن اتفقوا على شخص انتخب (وإلا عين شيخ المشايخ شيخا) ثم يصادق شيخ المشايخ عليه في حفلة خاصة.
أما واجبات الشيخ فتتلخص في: أن يعقد مجالس لمصالح الحرفة يترأسها ويسهر على حفظ ارتباط (الكار)، ويقاص من أتى بإخلال في حق الصنعة. وكثيرا ما يكون مكلفا بإيجاد شغل للفعلة. فيوصي بهم (المعلمين) وله وحده أن (يشد) بالكار (المبتدئين الماهرين) فيصيرون (صناعا) أو (معلمين) ومعه تكون (مخابرة الحكومة) فيما يتعلق بحرفته.
ويساعد كل شيخ في الحرفة (شاويش) يقوم مقام النقيب للشيخ ولكنه ينتخب من قبل الكار. ولم تكن له سلطة خاصة. بل كان رسول الشيخ يبلغ أوامره ويمثله وهذا المنصب قديم.
يخبرنا قدسي أن (المبتدئ) أو الأجير - وهو الولد الحديث السن الداخل إلى الحرفة - يشتغل عدة سنين دون معاش أو أجرة، ولكن البعض كان يستلم أجرا أسبوعيا زهيدا يسمى جمعية. وعندما يبدع المبتدئ في مهنته يرقى إلى مرتبة صانع وأحيانا إلى مرتبة أستاذ في نفس الوقت.(984/11)
وكان الصناع في زمن قدسي يشكلون العمود الفقري للنقابة وهم يحفظون مستوى الصناعة وأسرارها.
ويصف قدسي بتفصيل حفلات الإجازة، أو الشد. وكانت تجري بحضور شيخ الحرفة وأساتذتها ونقيب الحرف والشاويش ويتولى الشاويش والنقيب عملية الشد.
وتؤخذ العهود على العضو بالمحافظة على أسرار الحرفة والصنع الجيد وأن لا يخون الكار ولا يغش الصنعة بشيء. ثم يتساءل قدسي في الأخير عن التشابه بين مراسيم الحرف وبين الماسونية الحرة في أوربا وعن سببه.
ونضيف بعض ملاحظات عن نقابات مصر في نفس الفترة. فهنا نجد الحرف تحت إشراف رئيس البوليس ويدعى رئيس الحرفة (شيخ الطائفة) وله مجلس من المختارين يدعوه بمثابة محكمة للنقابة. ويرفع المبتدئ إلى درجة أوسطة رأسا دون وجود مرتبة صانع. وهناك نوع من التأمين ضد البطالة والمرض يتعاون في تحقيقه أعضاء الحرفة. ولن أتطرق هنا إلى (النقابات الوضعية) للنشالين واللصوص وقطاع الطرق؛ وهذه وإن لم تكن جزءا من نقابات الحرف إلا أنها أثرت في الحط من سمعتها.
لقد تزعزعت هذه التشكيلات أمام الهزة الأوربية وزالت أو تضاءلت أمام الموجة الجديدة والتنظيمات العمالة الحديثة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ومما مر نستخلص ما يلي: -
1 - أن النقابات الإسلامية نشأت من الشعب وكانت استجابة لحاجات العمال أنفسهم وكان موقفها أحيانا غير ودي أو عدائي للحكم. 2 - ثم نلاحظ أن أصحاب العمل من أستاذ وصانع ومبتدئ يكونون طبقة اجتماعية واحدة فيها مجال التقدم لكل فرد دون تناحر ودون الانقسام الذي ولدته رأسمالية أوربا. وهذا تطور طبيعي لظروف المجتمع الإسلامي الاقتصادية والاجتماعية.
3 - تضم النقابات الإسلامية أفرادا من مختلف الطوائف في جو من التسامح الاجتماعي والفكري عكس ما حصل في الغرب.
4 - للنقابات الإسلامية حياة روحية ومثل خلقية فهي قوة تهذيبية مهنية في نفس الوقت ولم(984/12)
تقتصر على المهنة.
وهذه ناحية مهمة لا نراها في النقابات الأوربية. ولكن النقابات الإسلامية لم تصل إلى الأهمية السياسية للنقابات في الغرب وإن كانت لها أدوار هامة أحيانا.
وأخيرا يجب أن نذكر أن روح التكتل والانسجام في المؤسسات العلمية الراقية أو المدارس جعل الطلبة والأساتذة يكونون نقابة. ولهم بعض المراسيم المشتركة مع النقابات مثل اللباس الخاص (الروب) والإجازة. وتشابه الدرجات من تلميذ إلى معيد إلى مدرس إلى أستاذ.
هذا ما أمكن عرضه بإيجاز.
عبد العزيز الدوري.(984/13)
5 - الباكستان
الحياة الاقتصادية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
الوضع الجغرافي:
أرى لزاماً علي قبل أن أتحدث عن الحياة الاقتصادية أن أتناول في كثير من الإيجاز الوضع الجغرافي للباكستان. ذلك أن الحياة الاقتصادية هي أولا وقبل كل شيء من إملاء الجغرافيا، فالعوامل الجغرافية تحتم على قوم أن يكونوا زراعاً وتحتم على آخرين أن يكونوا صناعاً أو تجارا أو رعاة. من أجل هذا أرى من الواجب علي أن أتحدث عن الطبيعة الجغرافية للباكستان حتى نستطيع فهم حياتها الاقتصادية.
تتكون الباكستان من وحدتين جغرافيتين: باكستان الشرقية وباكستان الغربية، والإقليمان منفصلان يبعدان عن بعضهما بنحو ألف ميل تقريباً.
فأما الباكستان الشرقية فتقع بين خطي عرض 20 , 45 درجة شمالا و26 , 30 درجة شمالا وبين خطي طول 88 درجة شرقاً و92 , 30 درجة شرقاً وتبلغ مساحتها 53 , 920 ميلا مربعاً وعدد سكانها 42 , 120 , 000 نسمة.
وتشمل الباكستان الشرقية قسما من السهل الذي ينساب فيه نهرا براهما بترا والكنج وتضم القسم الأكبر من دلتا الكنج، ويوجد في شمالها الشرقي بعض بقاع جبلية هي أجزاء من شرق جبال الهملايا التي تقع في شمال الهند.
أما مناخها فموسمي حار في الصيف إذ تبلغ درجة الحرارة نحو 83 درجة فهرنهيت ويسقط المطر غزيرا في الفترة من منتصف مارس إلى نهاية أكتوبر وذلك بتأثير الرياح الموسمية الجنوبية الغربية، وأما الشتاء فدفئ إذ تبلغ الحرارة نحو 64 درجة فهرنهيت ولكنه جاف لأن الرياح التي تهب في هذا الفصل تكون الرياح الموسمية الشمالية الشرقية. وهي رياح جافة لأنها تهب من داخل القارة.
أما باكستان الغربية فتقع بين خطي عرض 24 درجة شمالا و37 شمالا وبين خطي طول 61 درجة شرقاً و75 شرقاً وتبلغ مساحتها 310 , 298 ميلا مربعاً وعدد سكانها 33 ,(984/14)
570 , 000 نسمة.
ولكن أراضي الباكستان الغربية ليست سهولا منبسطة مثل أراضي الباكستان الشرقية بل إن طبيعتها تتباين تبايناً كبيرا، فنجد القسم الشمالي وإقليم بلوخستان جبليا مرتفعا بينما نجد إقليم البنجاب وإقليم السند والإقليم الصحراوي أرضاً سهلة منبسطة.
والمناخ في الباكستان الغربية متباين أيضاً والتباين واضح جدا في توزيع المطر. فالمطر يسقط غزيرا في المنطقة الشمالية صيفا وسببه الرياح الموسمية، ويقل نوعا في إقليم البنجاب ولكنه يندر في الإقليم الصحراوي وفي بلوخستان. وأما الشتاء فيغلب فيه الجفاف ولكن تسقط بعض الأمطار في إقليم البنجاب شتاء بسبب وصول أعاصير الرياح العكسية إلى هناك.
وأما من حيث الحرارة فالمناخ متطرف: فدرجة الحرارة في يناير تصل نهارا إلى 75 درجة ف ولكنها تهبط ليلا إلى درجة التجمد، وأما في الصيف فتتراوح نهارا بين 90ف، 120ف ولكنها تقل عن ذلك كثيرا أثناء الليل.
وتوزيع المطر هام جدا، ذلك لأن حياة النبات تتوقف على الماء فإذا غزر المطر كثف النبات، وإذا انعدم المطر انعدم الإنبات.
والباكستان الشرقية غنية بأمطارها وأنهارها، فمتوسط سقوط المطر من 70 بوصة إلى 400 بوصة ويجري بها نهر الكنج وفروع دلتاه المتعددة ورافده البرهمابترا.
وأما باكستان الغربية فيجري بها نهر السند وفروعه الخمسة، ونظرا لجفاف المناطق الدنيا من حوض السند كانت لمشروعات الري في تلك المنطقة أهمية عظيمة إذ أنه يتوقف عليها تقدم هذه المنطقة إلى حد كبير.
ويجدر بي قبل أن أنتهي من هذه المقدمة الجغرافية أن أشير إلى أن الباكستان قد ظلمت تماما في تنفيذ مشروع التقسيم فقد أخذت منها كلكتا وهي أكبر ميناء في مصب الكنج، وقد أخذت منها دلهي لأنها اتخذت عاصمة للهندستان، وكذلك أعطيت بمباي للهندستان فأصبحت العاصمة والموانئ الرئيسية في حوزتها. وأكثر من هذا لقد رفضت الهندستان أن يسلم للباكستان نصيبها من الأموال المضروبة حتى تعجز عن دفع مرتبات موظفيها ويعمها الاضطراب والفوضى فتختنق الدولة الوليدة. ومع هذا كله رضي المسلمون. ألم يصبح(984/15)
لهم وطن مستقل يعيشون فيه أحرارا، أجل أنه وطن فقير ولكن الله أغناه من فضله.
الزراعة:
الباكستان دولة زراعية وتعتبر الزراعة المهنة الرئيسية لسكانها؛ إذ أن 80 % من السكان يشتغلون بالزراعة.
وتقدر مساحة الأراضي الزراعية بحوالي 54 مليون فدان وهناك أرض بور يمكن إصلاحها تقدر مساحتها بحوالي 14 مليون فدان.
ولما كانت كمية المطر في باكستان الغربية لا تكفي حاجات الزراعة فقد أقامت الباكستان نظاما للري لا يضاهيه إلا نظام الري في الولايات المتحدة الأمريكية. إن نهر السند وفروعه تنبع جميعا من جبال همالايا ثم تنحدر جنوبا فوق السهول الفسيحة ثم تلتقي جميعا فتؤلف نهرا هائلا هو نهر السند الذي يجري جنوبا نحو ألفي ميل حتى يصب في البحر العربي. ومما لا يحتمل شكا أن هذا يلقي بكميات وافرة من مائه في البحر فعمد الباكستانيون إلى استغلال هذه المياه في ري جزء من الأراضي الواسعة الصالحة للزراعة في بلادهم، وتحقيقا لهذه الفكرة شقت قنوات حتى تصل المياه إلى الأراضي التي لم تكن لتبلغها وأقيمت السدود لحجز المياه للانتفاع بها في الري وفي توليد الكهرباء. ومن أكبر مشروعات الري في الباكستان الغربية سد سكر المقام على نهر السند قرب مدينة سكر في حوض السند الأدنى ويبلغ طوله حوالي الميل وهو أكبر سد في آسيا وتروى مياهه نحو ستة ملايين من الأفدنة، وتبلغ جملة الأراضي التي تروى بالقنوات نحو 23 مليون فدان؛ وهناك مشروعات لإحياء ستة ملايين فدان من الأراضي البور وجعلها صالحة للزراعة.
ويمكن تقسيم غلات الباكستان الزراعية إلى قسمين: غلات تستهلك في الداخل وغلات تصدر إلى الخارج، فأما غلات النوع الأول فأهمها الأرز والقمح وهما الطعام الأساسي للسكان؛ وتخصص مساحة ثلاثة أخماس مساحة الأراضي الزراعية لهذين المحصولين، ويزرع الأرز في باكستان الشرقية أما القمح فيزرع معظمه في باكستان الغربية.
وأهم الغلات بعد ذلك الشعير والذرة والقصب والسمسم والكتان.
وأما الغلات التجارية فأهمها:
الجوت:(984/16)
ويزرع في باكستان الشرقية وتنتج الباكستان منه 80 % من المحصول العالمي، ومعظم مصانع الجوت قائمة في كلكتا ولذلك فبعد التقسيم اضطرت الهندستان إلى استيراد الجوت من الباكستان، وتعمل الباكستان جاهدة على إقامة مصانع لصناعة الجوت في داخل بلادها، وتبلغ مساحة الأراضي التي تزرع الجوت مليوني فدان ويقدر المحصول بحوالي 6 , 800 , 000 بالة (البالة=400 رطل).
القطن:
يزرع معظمه في باكستان الغربية وتقدر مساحة الأراضي المزروعة قطنا بحوالي 2 , 704 , 000 فدان والمحصول بحوالي مليوني بالة، ونوع القطن جيد.
الشاي:
يعتبر إحدى السلع الهامة التي تصدرها باكستان الشرقية إذ تقدر الكمية التي تنتجها سنويا بحوالي 45 مليون رطل يصدر 70 % منها إلى الخارج.
التبغ:
ويزرع منه في باكستان 33 , 7 % من مجموع إنتاج الهند، وجملة الأراضي المزروعة في باكستان 308700 ومجموع الإنتاج 156300 طنا.
التجارة:
تعتبر الباكستان أهم دول العالم إنتاجا للجوت وتنتج 10 % من محصول القطن العالمي وكميات كبيرة من الصوف وتكون صادرات الباكستان من الجوت والقطن والصوف 90 % من صادراتها.
وتصدر الباكستان أيضاً كميات وافرة من الشاي وبذرة القطن والتبغ والجلود والسمك المجفف والملح الصخري وبعض المصنوعات مثل الأدوات الرياضية والآلات الجراحية.
وتنتج الباكستان كميات كبيرة من القمح تكفي حاجة سكانها وتفيض ويصدر الفائض وقدره نحو نصف مليون طن إلى الدول الأجنبية وخاصة إنجلترا.
أما أهم واردات الباكستان فهو الآلات الصناعية والمواد المصنوعة مثل المنسوجات(984/17)
القطنية والغزل والخيوط القطنية والآلات ومصانع الغزل والسيارات والمصنوعات الحديدية والمواد الكيماوية والأدوية والعقاقير والورق وتكون الآلات الصناعية والمواد المصنوعة 77 % من مجموع واردات الباكستان.
وبريطانيا أولى الدول تجارة مع الباكستان وتليها الولايات المتحدة والهندستان وجنوب أفريقيا وبلجيكا وإيطاليا وفرنسا واليابان وهولندا والاتحاد السوفيتي ومصر.
وقد صادفت التجارة صعاباً عند بدء الاستقلال بسبب هجرة التجار الهندوس إلى الهندستان ولكن التجار المسلمين سرعان ما ملئوا الفراغ فتنشطت التجارة وتضاعفت حركة التوريد والتصدير.
كراتشي:
أهم موانئ باكستان الغربية إذ أنها تقع عند مصب نهر السند ومن ثم كانت منفذه التجاري وهي عاصمة دولة الباكستان، وقد تقدمت بعد 1947 (تاريخ الاستقلال) تقدماً كبيرا. ويكفي لإثبات ذلك أن نذكر أن عدد سكانها كان 450 , 000 نسمة فبلغ الآن 1 , 118 , 000 نسمة.
وأما الباكستان الشرقية فقد حرمت من مينائها الطبيعي كلكتا، وأهم موانيها الآن شيتا جونج وهي تتقدم بسرعة لأن تجارة باكستان الشرقية تحولت إليها.
للبحث صلة
أبو الفتوح عطيفة.(984/18)
السيدة زبيدة
للأستاذ عبد الواحد باش أعيان
لينحن التاريخ برأسه إجلالا لكثير من النساء النوابغ اللواتي سجلن أعظم الأعمال والمفاخر في صحائفه، وللمرأة العربية نصيب كبير في مفاخر التاريخ وروائعه، فمنهن الملكات الحازمات اللائى رفعن ممالكهن للسؤود والرفعة، ومنهن المحاربات البواسل، ومنهن الشواعر والأديبات، ومنهن من سجلن أعمال الخير والإصلاح في كثير من مرافق الحياة.
من أشهر هؤلاء النساء النوابغ وأعظمهن أعمالا للخير واهتماما في الإصلاح والتعمير هي الملكة العباسية الهاشمية السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد وأم الأمين وبنت جعفر بن (أبي جعفر المنصور).
ولدت سنة 165 هجرية في أحضان العز ومهد الدلال، وترعاها قلوب بني العباس ويحيطها حبهم ورعايتهم ولا سيما جدها الخليفة الحازم أبو جعفر المنصور وكان يؤثرها بعنايته وحبه.
وهو الذي سماها زبيدة لما رأى من نعومتها وبياض بشرتها، وقد كانت تجمع إلى الجمال الباهر والأدب العباسي السامي عقلا كبيراً وذكاء نادراً وعلماً وأدباً كبيرين.
وفي خلافة عمها المهدي زفت إلى ابن عمها هارون الرشيد فكانت ليلة زفافها من الليالي المشهورة في بغداد يوم ذاك بالروعة والبهاء والفرح، وقد نثرت اللآلئ في جنبات طريقها على البسط الموشاة بأسلاك الذهب. وقد ألقى عليها من غالي الجواهر واللؤلؤ ما أثقلها وعاقها عن السير، فكانت عند زوجها وقد استأثرت بقلبه وخلص لها من دون جواربه وسراريه اللواتي يملأن قصره، وقد شغف بها الرشيد واطمأن إلى رأيها وتدبيرها وكمال عقلها حين أصبح خليفة، فأخذ يسترشد برأيها في حل المعضلات من أمور الدولة الإمبراطورية الإسلامية في ذلك العصر الذهبي، وأطلق يديها في بيت المال تنفق ما تشاء، وقد أنفقت أموالا عظيمة في الإصلاح والخيرات، تلك الأعمال التي خلدت اسمها بين أعظم نساء العالم كرماً وخلقاً وشرفاً، وسبقت من تقدمها من نساء الإسلام في الأعمال. ولقد قيل إنها أنفقت فيما ابتنت في طريق مكة من مساجد ومنازل ومشارب مليونا وسبعمائة ألف دينار زيادة على ما أنفقته (ويقدر بأكثر من مليون دينار) حين أوصلت الماء إلى مكة(984/19)
في الحجاز من العين المعروفة بعين زبيدة، فقد كان المكيون والحجاج ينقلون الماء من مسافات بعيدة مضنية لشربهم وريهم وسقي حيواناتهم، وكان يتكلفون بذلك ويجهدهم فلما حجت الملكة المصلحة السيدة زبيدة أمرت بإحضار المهندسين والعمال وأن يقدروا كلفة العمل وما يتطلبه من المال فبلغ مبلغاً كبيراً استثقله خازنها فقالت كلمتها الخالدة (اصرف ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً) فلم تزل حتى تم لها ما أرادت ووصل الماء إلى مكة من مسافة اثني عشر ميلا في أرض وعرة المسالك. ولا زال منذ عهدها إلى اليوم. ولها أعمال أخرى لا تقل عما تقدم فخراً ومنفعة؛ فقد ابتنت المساجد الكبيرة الواسعة في أطراف بغداد ليتعبد فيها المسلمون فابتنت مسجداً قبالة دار الخلافة يسمى مسجد زبيدة وآخر في أراضيها وأملاكها الخاصة المعروفة بقطيعة أم جعفر وثالث بين باب خراسان ودار الرقيق ورابعاً البيت الذي ولد فيه الرسول بمكة ويسمى دار ابن يوسف، وكانت إلى كل هذا توزع العطايا والهبات على الفقراء والمحتاجين والأيامى كما كانت لا تتردد في مساعدة ذوي الحاجة من كبار رجال الدولة والمملكة.
ولقد كانت أما رؤوما تحنو على ابنها الوحيد محمد الأمين وتعني به عناية كبرى وتحبه حبا جما، فمن ذلك ما رواه خلف الأحمر وكان قد دعاه الرشيد لتدريس ابنه الأمين يقول: جاءتني جارية يوماً برسالة من أم جعفر (زبيدة) تعزم علي بالكف عن معاملته بالشدة في تعليمه وتأديبه وأن أجعل له وقتاً لاستجمام بدنه فقلت: الأمير قد عظم قدره وبعد صيته. وموقعه من أمير المؤمنين ومكانه من ولاية العهد لا يحتملان التقصير ولا يقبل منه الخطل ولا يرضى منه الزلل في النطق والجهل بالشرائع والعمى عن الأمور التي فيها قوام السلطان وإحكام السياسة (فقالت صدقت غير أنها والدة لا تملك نفسها ولا تقدر على كف إشفاقها).
وعلى ذكر ابنها الأمين، فإنه لم يكن بين خلفاء الإسلام من كان أبوه وأمه من بني هاشم غير علي بن أبي طالب وابنه الحسن والأمين بن الرشيد وفي ذلك يقول أبو الهذيل الشاعر:
ملك أبوه وأمه من نبعة ... منها سراج الأمة الوهاج
شربت بمكة من ذرى بطحائها ... ماء النبوة ليس فيه مزاج(984/20)
ولقد ماتت للأمين بنت اسمها (أم موسى) كان شديد الكلف والحب لها فجزع عليها جزعاً شديداً فسمعت بذلك زبيدة فقدمت إليه وعزته ببلاغتها
نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف ... ففي بقائك ممن قد مضى خلف
عوضت موسى فهانت كل مرزئة ... ما بعد موسى على مفقودة أسف
وكان لها قصور عديدة جميلة تتناسب مع مكانة الملكة الشابة، منها قصر السلام وقصر القرار وغيرها في ضيعاتها وأملاكها الواسعة. وكانت على جانب كبير من الكرم والسخاء فيقول المسعودي (كتبت مرة تسأل أبا يوسف (رئيس القضاة في بغداد) تستفتيه في مسألة فأفتاها بما أوجبت الشريعة وكان يوافق مرادها فأكرمته بحق من فضة فيه ألوان من الطيب (الروائح) وجام ذهب فيه دراهم وجام فضة فيه دنانير وغلمان وتخت فيه ثياب وحمار وبغل. . . الخ).
وذكر بعض المؤرخين أن لزبيدة يدا كبرى في نكبة البرامكة، فقد كانت تخشى من جعفر البرمكي على ابنها الأمين وكان يقوم بأمر المأمون في ولاية العهد. ولكن في وصيتها التاريخية لقائد جيش الأمين علي بن عيسى حين خرج بجيشه يريد محاربة المأمون وأسره، ففي تلك الوصية الخالدة تظهر النفس الكبيرة التي تتنزه عن الدنايا والقسوة الأحقاد وقد قالت له (يا علي إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي فإنني على عبد الله (المأمون) مستعطفة مشفقة لما يحده عليه من مكروه وأذى وإنما ولدي ملك نافس أخاه في السلطان، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته، ولا تساوه في المسير ولا تركب قبله إذا ركب وإذا شتمك فاحتمل).
وكانت على جانب كبير من الآداب والأخلاق كما كانت أديبة بارعة وشاعرة حساسة، وإليك أبياتا رقيقة باكية ترثي بها ولدها الأمين حين سمعت بقتله:
أودى بألفين من لم يترك الناسا ... فامنح فؤادك عن مقتلك الباسا
لما رأيت المنايا قد قصدن له ... أصبن منه سواد القلب والراسا
فبت متكئاً أرعى النجوم له ... أخال سنته في الليل قرطاسا
والموت كان به، والهم قارنه ... حتى سقاه التي أودى بها الكاسا
رزئته حين باهيت الرجال به ... وقد بنيت به للدهر أساسا(984/21)
فليس من مات مردودا لنا أبدا ... حتى يرد علينا قبله ناسا
هذه لمحة من سلسلة أعمال جليلة خلدتها تلك الملكة العباسية الطاهرة، وتلمس منها تدبيرها وأخلاقها وأعمالها الجبارة الباقية على مدى الدهر.
ولقد انطوت حياة هذه الملكة الكريمة سنة 216 هـ في بغداد بعد حياة كلها خير وجلال وسؤدد.
البصرة - العراق
عبد الواحد باش أعيان العباسي(984/22)
شعراء الشباب
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
ظل الناس يتساءلون في جزع ولهفة وحيرة عن الشاعر الفرد الذي يخلف أمير الشعراء أو شاعر النيل بعد وفاة شوقي وحافظ بسنوات، وكانت هناك يومئذ أسماء لامعة تذكر في مجال التفضيل؛ ربما سر أحدهم أن يملأ فراغا شاغرا لسواه، وربما غضب بعضهم أن يكون بوقا لغيره ولو انعقد عليه الإجماع. . . من هذه الأسماء اللامعة: العقاد ومطران ومحرم والجارم.
وبينما كان الناس يختلفون فيما بينهم على هذه الأسماء وغيرها. كان هناك شبه إجماع على شاعر شاب، غنى الشباب بشعره الوجداني، فاتفقوا، أو اتفق أهل الفن منهم خاصة، على تسميته (شاعر الشباب).
أطلق لقب (شاعر الشباب) أول ما أطلق في مصر على الأستاذ أحمد رامي، وظل وحده يستمتع بهذا اللقب الجميل حينا من الدهر، ربما يربو على عشر سنين بكثير؛ حتى زحفت جموع الشعراء من كل صوب، وتعددت ألوان الشعر في كل مجال، وغمرت الصحف والمجلات والكتب والإذاعة موجة واسعة متدفقة جياشة بالشعر الجديد. فكان من العسير على شاعر غنائي واحد أن يثبت أمام هذه الجموع الزاحفة كالبنيان المرصوص.
وهال الناس هذا الموكب الضخم الفخم كأنه مهرجان رائع في ميدان فسيح يشق أجواز الفضاء بحناجر قوية وأوتار صاخبة وأبواق مدوية تكاد تصم الآذان؛ ولم يستطع الناس - أول الأمر - أن يميزوا بين هذه الوجوه المتلاحقة والصور المتتابعة في وسط الزحام؛ فسموهم جميعا (شعراء الشباب)!
في العشرين سنة الأخيرة أطلقت كلمة (شعراء الشباب) على أكثر من ثلاثين شاعرا، وما تزال تطلق على نحو عشرين شاعرا إلى الآن.
وإذا كان من العسير إحصاء أسماء جميع شعراء الشباب في مقال واحد - فمن السهل اليسير الإشارة إلى بعضهم على سبيل التمثيل؛ لا الحصر والتسجيل.
شاعران لا ثالث لهما اشرأبت إليهما الأعناق وتفردا بالشاعرية الخصبة والخيال الملهم والملكة الفنية التي تندر في كل زمان ومكان، بين أرباب البيان وأعلام الشعر الرفيع.(984/23)
شاعران اثنان لا ثالث لهما: علي محمود طه وإبراهيم ناجي. لكل من هذين الشاعرين جو فسيح يحلق فيه، وخيال مجنح يصل به إلى آفاق المجد والخلود.
كان هذان الشاعران في مقدمة الرعيل الأول من شعراء الشباب، منذ عشرين سنة، وتدفقت وفود الشعراء على الميدان الأدبي بعد ذاك، وظل علي محمود وإبراهيم ناجي قبلة الأنظار ومهوى الأفئدة وموضع الإعجاب!
وظهرت أسماء لامعة بدأت تشق طريقها بين الزحام، وبدأ إنتاج كل شاعر منهم يتسم بسمة خاصة إذا استسلمت حينا للتقليد فقد انطبعت فيما بعد بطابع التجديد. من هؤلاء الشعراء: سيد قطب ومحمود غنيم ومحمود حسن إسماعيل وعبد العزيز عتيق وعبد العزيز محمد خليل ومحمد عبد الغني حسن وعلي متولي صلاح. وبعد سنوات قلائل لاحت في الجو الأدبي نجوم جديدة من الشعراء في شعرهم قوة وفتوة وتدفق وتنوع والتماع، من هؤلاء الشعراء: أحمد مخيمر والعوضي الوكيل وطاهر أبو فاشا وأحمد عبد المجيد الغزالي ومحمد هارون الحلو وعلي الجمبلاطي وعبد العظيم بدوي.
وهنا لا بد أن أحيي (دار العلوم) تحية عاطرة بأريج الحمد والثناء، تلك المنارة الرفيعة للأدب العربي التي انبثقت منها كل هذه الأضواء؛ فجميع الشعراء السابقين - في الفترة الأخيرة - وغيرهم كثيرون. . . هدايا إلى الشعر من دار العلوم. . ودار العلوم أيام أن كانت (مدرسة) أما بعد أن صارت (كلية) جامعية فحسب المتخرج فيها أن يصيح أمام مفتش اللغة العربية: أنا من حملة الليسانس!!
وبعد فترة وجيزة من الزمن لاحت بشائر نهضة شعرية جديدة، بعد ما اتضحت مدارس الشعر أمام الشباب، وارتسمت الفوارق البعيدة بين الجديد والقديم، وتعددت المناهج المختلفة أمام الأنظار، فسلك سبيل القافلة الصاعدة على السماء، هؤلاء الشعراء: عبد الرحمن الخميسي ومحمود السيد شعبان ومصطفى علي عبد الرحمن وإبراهيم محمد نجا وفؤاد كامل وعثمان حلمي وحسين البشبيشي وعبد الغني سلامة ومحمد السيد شحاته (شاعر البراري) وعبد العليم عيسى.
وبعد وقت قصير لفتت الأنظار وجوه جديدة، وخاضت المعركة أقلام ناشئة، في إنتاجها الشعري حرارة الشباب، وفي نزعاتها الفنية وثبات الخيال، وإن كان بعضها لم يستقر بعد،(984/24)
وهذه الفرقة هي التي تحتل الآن أماكنها المناسبة في الصحف والمجلات، من هؤلاء الشعراء: كمال نشأت وكيلاني حسن سند ومحمد رجب البيومي ومحمد الصادق سعود وتوفيق عوضي أباظة وعبد العزيز السعدني ومحمد مفتاح الفيتوري ومحمد سلامة مصطفى ومحمد أحمد سالم وعمر عبد العزيز.
وليس من السهل - ولا من اللائق أيضا - أن نرتب هذه الجموع الزاخرة ترتيبا تنازليا - أو تصاعديا - كترتيب تلاميذ المدارس بحسب درجات الامتحان؛ فهذا عسير جد عسير، لتنوع المذاهب وتعدد الألوان.
ولكن من السهل النص على أن هؤلاء الشعراء جميعا من الممكن تقسيمهم إلى أربع طوائف متميزة: الطائفة الأولى جماعة الأحرار؛ لا يتبع الشاعر منهم أحدا بالذات، وليست له قدوة يحتذيها ولا إمام يأتم به ويسعى على هداه، وإنما لكل منهم نهجه الخاص وطريقه المعلوم وشخصيته المتفردة. وأما الطوائف الثلاث الأخرى، فطائفة تتبع شعر العقاد وطائفة تتبع نثر الزيات وطائفة تتبع زجل بيرم التونسي!
لست أمزح ولا أهزل حين أقول جادا: إن طائفة من شعراء الشباب المعروفين، ينحون في الشعر نحو بيرم التونسي في الزجل! وليس معنى هذا أنهم يخطئون السبيل، أو يرجعون القهقرى؛ فرب قصيدة واحدة من الزجل - الشعر الشعبي - خير من ديوان كامل من شعر فلان وفلان , وسيأتيك البيان!
وإن مما يؤسف له حقا أن يلتفت الناقد الأدبي إلى ميدان شعراء الشباب الآن فلا يرى إلا القليل. فينعم النظر ويمد البصر إلى هنا وهناك فلا يرى إلا أشباحا تجري في الظلام وراء تفاهات وحماقات لا تغني ولا تسمن من جوع.
لقد تفرق الجمع أيدي سبا. . وانصرفوا - أو كادوا ينصرفون عن الشعر الذي خلقوا له وارتفعوا به إلى القمة! ولكن يبدو أنها قمة الحضيض إن صح هذا التعبير.
بعض الشعراء استهوته الصحافة اليومية أو الأسبوعية فأدلى دلوه في الدلاء وعلى الشعراء العفاء. وبعضهم انخدع بالإذاعة فاستسلم لما يطلب منه من القصائد والتواشيح لقاء أجر معلوم، وبعضهم كل همه العلاوات والترقيات والاستثناءات في كل عهد وبأي ثمن. وبعضهم غارق لأذنيه في (شرب العرق ولعب الورق)، وبعضهم اتخذ الكتابة والتأليف(984/25)
حرفة مجدية. . . وأخيراً جدا اهتدى (بعضهم) إلى تقليعة ظريفة تريحه من كل هذا العناء. . افتتاح (دكان شعر) لبيع قصائد المناسبات.
مأساة متعددة الجوانب، مختلفة الأشكال، ولكن سببها واحد على كل حال. سببها أن الدولة لا تقدر الشعراء حق التقدير، فهم يبذلون كل جهودهم للحصول على المال من أيسر طريق، باسم الشعر في الظاهر.
حرام على هذه المواهب الفتية الجبارة أن تطأ الشعر بالنعال وأن تضعه هذا الموضع المهين؛ وإنه لشيء نفيس مقدس يصل بصاحبه إلى صميم الخلود، لا قشور المظاهر الجوفاء!
نريد الإخلاص للشعر، والعكوف على الشعر، والاهتمام بالشعر، يا شعراء الشباب! أما أن يضيع العمر على هذا النحو فرحم الله الشعر والشعراء!
قليل لدي العمر أقضيه في الشعر ... فمن لي بأعمار الكواكب والبدر!
ثلاثون عاماً من حياتي قضيتها ... ولم أقض حق الشعر مهما سما شعري
لدي من الأفكار دنيا رحيبة ... رحابة آفاق السماوات في فكري
يجيش بها صدري ويغلي بها دمي ... وألبث فيها كالمقيم على الجمر
أغوص وأطفو في بحور من الشعر ... وأسبح من بحر لبحر إلى بحر!
كان هذا منذ سبعة أعوام. . أما الآن، ففي الأسبوع القادم وفي الأسابيع التالية إن شاء الله، تفصيل ما أجملت وتقييد ما أرسلت في شعراء الشباب.
أحمد أحمد العجمي(984/26)
إسماعيل بن القاسم المعروف بأبي العتاهية
للأستاذ محمد الكفراوي
مقدمة:
يروي صاحب مسالك الأبصار أن أبا العلاء المعري كان يقول كلما أراد إنشاد شيء من شعر أبي العتاهية: قال الداهية أبو العتاهية. وتلك العبارة من أبي العلاء المعروف بدقته وعمقه ترينا مدى ما يتعرض له الباحث في حياة شاعرنا من صعوبات وما يواجهه من مشاكل، وذلك لأن من لوازم الدهاة من الناس الالتواء والغموض مما يجعل التعرف على مقاصدهم مما يفعلون ويقولون صعباً. والحق أن الناظر في حياة أبي العتاهية أو القارئ لشعره لا يكاد يفرغ مما يصادفه من مشاكل تريد حلولا، أو أسئلة غامضة تتطلب إجابة شافية.
وأهم تلك المشاكل وأشدها تعقيداً هو تحول الشاعر في سنة ثمانين ومائة للهجرة من شاعر حب وغناء إلى شاعر حزين متشائم لا عمل له إلا تزهيد الناس في الحياة وتنفيرهم من شهواتها، والإلحاح عليهم أن يتجهوا بقلوبهم وأعمالهم إلى ما هو خير منها وتلك هي الدار الآخرة. ولو أن الشاعر قد جعل من حياته الخاصة صورة صادقة لما يردده في شعره من دعوة إلى الزهد في الحياة، لقلنا مع القائلين أنه قد سئم الحياة بعد أن رفضت حبيبة نفسه عتبة الزواج منه، ومال إلى حياة الزهد والصالحين، وأسرف في ذلك الميل حتى لم يعد له ما يشغله إلا التحدث عنها والترويج لها في شعره. أما وإنه ما زال حريصاً على الدنيا أشد الحرص حتى بعد تحوله إلى ما يشبه حياة الزهاد، فلا وجه إذن لإدخاله فيهم. وهنا يعرض ذلك السؤال الذي لم يصادف جواباً مقنعاً في كتابة السابقين من مؤرخي الأدب العربي ألا وهو: أي شيء كان إذن سلوك أبي العتاهية إذا لم يكن زاهداً بالمعنى الذي نعرفه، وأي شيء كان يدفعه إلى ذلك السلوك المتناقض الغريب؟
لعل الإجابة عن هذا السؤال هي أهم وأبرز بحث في الدراسة التي نحن بصدد التقديم لها الآن، وقد استنفدت الكثير من وقت المؤلف ومجهوده، إذ وجد نفسه مضطراً أن يرجع إلى بيئة الشاعر وطفولته، لعله يجد فيها ما يلقي شيئاً من الضوء على ما اكتنف حياته من غموض واضطراب، وبعد دراسة طويلة مضنية أسفرت الحقيقة للباحث الذي تمكن من(984/27)
ربط الانقلابات الاضطرابات التي طرأت على الشاعر في مختلف مراحل حياته - ومن بينها تحوله الصوري إلى حياة الزهاد - بما صادفه أثناء طفولته من ألوان البؤس والشقاء، وما أصابه في ذلك الحين من أمراض نفسية، وقد كان أشد تلك الأمراض تأثيراً على حياته وأعظمها إيلاماً له مولده الوضيع الذي جر عليه كثيراً من الخزي، وملأ قلبه حقداً على ذوي الجاه واليسار من أهل عصره.
على أن عوامل أخرى قد انضمت إلى تلك التجارب القاسية والأمراض النفسية التي صادفت الشاعر في طفولته، فأحدثت مجتمعة ذلك الانفجار الذي طرأ على حياة الشاعر سنة ثمانين ومائة للهجرة، والذي كان يعتبر حتى كتابة هذه السطور نوعاً من الزهد في الحياة. وأهم تلك العوامل هو سخطه على هارون الرشيد لأسباب سنذكرها فيما بعد، واستغلال الفضل ابن الربيع وزبيدة زوج الرشيد لذلك السخط. فكل من الفضل وزبيدة كان ناقماً على الحياة الصاخبة العابثة التي كان يحياها هارون بين جواريه الحسان وبصحبة وزيره جعفر البرمكي، لما في تلك الحياة من صرف للخليفة عن زوجه من جهة؛ وإضعاف لقدر الفضل بن الربيع من جهة كما سيأتي تفصيل ذلك. وقد وجدا في أبي العتاهية ضالتهم المنشودة، فهو ساخط على الحياة والأحياء وعلى الخليفة وحاشيته بنوع خاص، ورأيا في شعره خير وسيلة للتشهير بالملاهي وروادها، وبالتالي خير وسيلة للحد من نشاط الرشيد في ذلك الاتجاه الذي لا يرغبان فيه.
وهكذا تحول الشاعر من القول في الحب والغزل إلى التزهيد في الحياة والتنفير منها ومن شهواتها وملاذها متحاملا أثناء ذلك على ذوي الجاه واليسار من بني عصره. ومع أن ذلك النوع من الشعر لم يكن في الكثير الغالب إلا تفريجاً عن نفس الشاعر الموتورة وتعبيراً عن عواطفه المكبوتة، ومن ثم لم يكن يستحق عليه كبير جزاء، إلا أن الفضل وزبيدة لم يبخلا على الشاعر بالتشجيع المادي والأدبي لما كان في شعره من خدمة لأغراضهما.
هذه سطور قلائل لم نقصد بها إلا أن نعرض صورة مصغرة لأحد الموضوعات التي تعرض لها بحثنا. وإنا لنأمل أن يجد القارئ لما كتبناه عن أبي العتاهية إجابة لكل ما يجول في نفسه من أسئلة أو خواطر.
هذا وقد قسمنا البحث إلى ستة أبواب(984/28)
الأول: يبحث في تأثر بيئته المضطربة ومنبته الوضيع على حياته.
الثاني: يتحدث عن حبه الفاشل وإلى أي حد كان سبباً في تحوله إلى ما عرف باسم الزهد.
الثالث: علاقته بالرشيد والفضل وزبيدة، واندماجه في السياسة.
الرابع: دراسة إنتاجه الشعري بعد سنة ثمانين ومائة، ومعرفة مدى تصويره لأفكاره.
الخامس: يبحث في عقيدة الشاعر.
السادس: فيه نقد أدبي لشعره.
طفولته وبيئته:
ولد أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم في الكوفة سنة ثمانين ومائة للهجرة، وكان أبوه القاسم يشتغل حجاما بها. أما هو فكان يبيع الجرار، ولكنه ما لبث أن اعتزل تلك المهنة واشتغل بقرض الشعر قاصدا التكسب به. وحين سطع نجمه وضاقت به الكوفة ذهب إلى بغداد وجاهد حتى وصل ذكره إلى سمع الخليفة المهدي الذي أذن له في إنشاد الشعر بين يديه وأجزل له العطاء. ولكن خلافا شديدا نشب بين الخليفة والشاعر بسبب حب الأخير لإحدى جواري الأول وذكره لها في شعره، مما جعل الخليفة يغضب عليه ويضطهده. وحين مات المهدي اتصل الشاعر بابنه الهادي ثم الرشيد، وبعد عشر سنوات قضاها في خدمة هارون كان أثناءها محل عطفه ورعايته، ترك الشعر الغنائي الذي كان يؤلفه للخليفة وهجر مجلسه، ولبس مسوح الزهاد، وأخذ يتحدث عن الموت والقبر ويضع من قدر الدنيا وأهلها، ويدعو الناس إلى الزهد فيها، والبعد عن ملاذها وملاهيها، وينصحهم بالعمل للآخرة ونعيمها. تلك فكرة يسيرة عن أبي العتاهية كما يصوره التاريخ ويتصوره الناس أحببنا أن نقدمها بين يدي بحثنا.
والآن نعود إلى إبداء رأينا في الشاعر. ولا بد لمن يريد أن يدرس حياة الشاعر ويفهم شعره حق الفهم، لا بد له من معرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك الانقلاب الخطير الذي طرأ على حياته سنة ثمانين ومائة للهجرة، والذي أشرنا إليه من قبل، وبدون الوقوف على ذلك الانقلاب وأسبابه لا يمكن لنا أن نفهم كل ما جاء بعده من أشعار مع أن معظم إنتاج الشاعر وكل ما يعرف باسم الزهديات، قد نظمه الشاعر بعد ذلك التاريخ؛ ولكننا لن نستطيع معرفة أسباب ذلك الانقلاب وأسراره حتى نعرف الكثير عن بيئة الشاعر وأسرته(984/29)
وطفولته لنتبين مدى تأثير كل ذلك على حياته.
والمعروف عن الفترة التي ولد فيها الشاعر ونشأ فيها، أنها كانت مليئة بالفتن والاضطرابات، إذ أنه ولد قبيل سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الكوفة التي ولد بها وتربى فيها كانت مركز نشاط مناهضي الحكم الأموي من عباسيين وعلويين، وكانت لذلك مسرحا لكثير من مناظر ذلك النضال المرير، كان معنى ذلك أن الشاعر قد رأى وسمع أثناء طفولته بكثير من تلك الحوادث الدامية. وجدير بمثله أن يضيق ذرعا بالحياة والأحياء، وأن ينظر دائما إلى المستقبل نظرة اليائس المتشائم. وإنه لمن المؤكد أن روح اليأس والقنوط التي يصادفها القارئ لشعر أبي العتاهية، قد تمكنت من نفس الشاعر منذ ذلك الحين المبكر ولا سيما إذا لاحظنا أن أباه كان حجاما وكان بطبيعة عمله من ألصق الناس بتلك المناظر الدامية.
وإذا كنا بالرجوع إلى بيئة الشاعر وطفولته قد استطعنا أن نهتدي إلى أحد تلك العوامل التي أدت إلى شيوع روح التشاؤم في شعر أبي العتاهية فليس بمعيينا أن نتلمس الأسباب التي دفعت به إلى الحقد الشديد على ذوي اليسار والجاه من بني عصره حقدا يظهر واضحا في إنتاجه الأدبي بعد سنة ثمانين ومائة للهجرة، كما سنذكره في حينه. وقد اتضح لنا من تلك الدراسة التمهيدية أن نقمته عليهم كانت أثرا من آثار الضعة والخمول اللذين أحاطا بنسبه. فقد كان آباؤه من التفاهة بحيث لم يكن لهم نسب معروف، فهو عربي في قول بعض الناس ومولى على رأي آخرين. ثم نراه يضطرب في ولاءه فيتولى مندلا وحبان العنزيين تارة، ومنصور بن يزيد خال الخليفة تارة أخرى. ولكن ذلك الغموض والخمول لم يكن كل ما يفسد على الشاعر حياته كلما ذكر آباؤه وأجداده، فهناك والده الذي كان يشتغل حجاما، وقد كان ازدراء الناس لتلك المهنة وأهلها شديدا، ولا أدل على ذلك من الفقهاء - برغم ما ينادي به الإسلام من مساواة بين جميع المسلمين - لم يجدوا بدا من الخضوع لتقاليد العصر والحكم بعدم جواز زواج ابن الحجام من طبقة غير طبقته إلا في حالات خاصة، كأن الخزي والعار الذي ألصق به شر مستطير يجب ألا يتعداه إلى سواه.
ولدينا من الأدلة ما يثبت أن أبا العتاهية كان وهو لا يزال صبيا يشعر بضآلة شأنه ويتألم لموقف مجتمعه منه ونظرته إليه. فالأغاني يحدثنا أن قصابا تشاجر مع أبي العتاهية وشج(984/30)
رأسه فأسال دمه ودعاه نبطيا، وذهب الصبي المسكين إلى مواليه يبكي وينتحب ويسألهم أن يمدوا إليه يد المعونة، وليست تلك المعونة هي وقف الدم الذي يسيل منه، ولكن محو ما أصابه من عار حين قال له القصاب (يا نبطي)، والسبيل إلى محو ذلك العار هو أن يعلن أولياؤه من عنزة أنه عنزي وقد كان. وما حادث القصاب إلا نموذج لحوادث أخرى كثيرة تكررت وجرت على الشاعر كثيرا من الخزي والشعور بالضعة.
ومن الحق أن يقال إن الشاعر كاد ينسى أو يتناسى ما مر به في تلك الفترة من تجارب قاسية، فقد استقامت أموره ولمع نجمه في سماء المجتمع حين صار شاعرا مجيدا بعد أن كان بائع خزف مهين، ولكن حدثا جللا قد عرض له فكدر عليه نشوة النجاح وأعاد إلى ذاكرته صورة الماضي البغيض وزاده إيمانا بأن الحياة ليست إلا موطنا للشقاء والألم، وأعطاه دليلاً جديدا على فساد نظام المجتمع، ذلك هو حبه لعتبة وهو ما سيكون موضوع حديثنا في المقال التالي إنشاء الله.
للكلام صلة
محمد الكفراوي(984/31)
شخصية
للأستاذ حبيب الزحلاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
طائف من الإلهام البصير طاف في ذهن كبير حكيم منا أن يدعونا إلى وليمة. . . وما كاد الجمع المدعو يلتف حول مائدة ذلك الرفيق الداعي، وهي تماثل في الشكل لا في النوع الموائد التي كانت تنشر وتطوى على عجل في ميادين القتال، حتى انبسطت أسارير كل نفس، وابتسم كل ثغر، وارتسم السرور على كل محيا، ونصع كل جبين، ولا أقول (اختفى) بل أقول (تبرقع) الاكفهرار والتجهم والتوجس؛ كأن حدسا لدنياً شاع في كل نفس يهمس أن خلف الصفاء في موسم الشتاء سحبا وبروقا ورعودا مقبلة، وقد بدت طلائع غيومها حين وقف رب الدعوة يرحب بالمدعوين ويقول:
الشام أيها الإخوان، بيت واحد تسكنه أسرة واحدة متفرعة كأغصان الشجرة، والفروع الكبيرة فيها إنما هي قواعد ثابتة لعرش عربي، وصولجان إسلامي، تبذل الأرواح من أجلهما والمحافظة عليهما.
لم تنطو المائدة على عجل كما كانت تنشر وتطوى في ميدان الجهاد، بل تجلت طبيعة الشامي على حقيقتها في المباسطة والمزاح والنكتة، وهي لا تختلف عما هو مفطور عليه من الرزانة والجد إلا في الإمعان بالعمق، والإمعان في المغالاة، والإمعان في الإيلام. ودارت أحاديث، وجرى عتاب، وانجلت أمور، واتضحت مسائل، وانقشعت من ظلمات الغيوم وقائع، وافتضح سر الدساس المنافق، وبرز وجه إبليس ببسمته المعهودة، وحركة التواء عنقه التقليدية، وكاد إبليس الرجيم - عليه اللعنة المؤبدة - يقول (خذوني).
نظرت إلى وجه (حصل أفندي) هذا الشاعر الذي طالما وقف في الناس منتصب القامة، وشامخ الأنف، رافع الرأس، ينشد القصيد فيطرب، يتلاعب بالعواطف، ويهز النفوس. لقد رأيته الليلة ذابل العين، كسيف النظر، منحني الرأس، كسير النفس، ذليل الروح، فتذكرت موقفا لشاعر معاصر وقف أمام إسماعيل صدقي ثم بين يدي مصطفى النحاس، فتخيلته (حصل أفندي) وقلت إن هذا هو ذاك بعجره وبجره، وعينه ومينه، بنفاقه وكذبه؛ فرثيت لحال الشاعرين. نظرت إلى وجوه الرفاق فإذا بهم يخرجون على توقرهم لرب الدار(984/32)
صاحب الدعوة، وعلى تقاليدهم في الترفع عن الضعيف المهين، والتعاظم على الذليل الحقير، وكادوا يفتكون بذلك الشاعر الآثم، وقدر رأيت (حصل أفندي) حسان الثورة، شاعر العرب والإسلام، ينكمش ويتململ ويلصق جسمه بمقعده وسرعان ما وقف صاحب الدعوة، ذلك الرجل الواسع الحيلة، الذي رسم خطته بحكمة وتدبر وقال: ليس فينا من لم يقم بنصيبه في قتال الأعداء، ولذلك أقترح تشكيل هيئة حاكمة منكم كالتي كما نشكلها في ميادين الثورة لمحاكمة من يخرجون عن مبادئها.
لم يطل النائب العام كلامه في بسط وقائع الجريمة لأن الخائن قد خانه دهاؤه وذكاؤه فاعترف بجريمته وعزا وقوعها إلى وسوسة الشيطان، وطلب بذل وضراعة أن يكون مستقبل أولاده رهينة عند إخوان عرفوه في حالتي قدرته على النفع وعلى الضرر.
اتجهت الأنظار صوب رئيس المحكمة، وتعلقت أنفاس اللئيم في شفتي هذا الحاكم الذي لا مرد لحكمه. . . وسرعان ما سمعناه يخاطب الجاني بقوله: ليس لي أن أدينك يا (حصل أفندي) بعد اعترافك. لقد كنت فيما مضى أستمد قوة حكمي من الخروج على القانون، أما الآن فكلنا خاضع لأحكام القانون وليس فينا، فيما أعتقد، من يرضى بإدانتك والحكم عليك، فلك وحدك أن تحكم على نفسك.
توهمت أن يد الشاعر امتدت إلى مسدسه تنتزعه من جرابه لتفرغ منه رصاصة في صدغه ولكن حصل أفندي كان في شبه ذهول أو غيبوبة.
علت الأصوات بالاحتجاج من كل جانب وقد أسكتها الرئيس بإشارة منه وقال: تعرفون أيها الإخوان أني أنا الذي أطلقت اسم (حصل أفندي) على صاحبنا هذا الذي كنتم تقولون أنه شاعر العرب والإسلام وإني حين كنيته تلك الكنية اعتباطا وارتجالا لم أكن أتوقع أن الحوادث وتطوراتها سترفع القناع عن داء دفين، وعلة لابدة في نفس هذا الذي كان دائما في مقدمة صفوف المجاهدين وقد انقلب فأضحى في طليعة أجراء المستعمرين.
ليس بيت ابن الوردي (لا تقل أصلي وفصلي) هو التخريفة الوحيدة في هذه القصيدة التي تدل على سذاجة نفس ناظمها وتفكيره الضحل، وهذا عيب شائع عند من يستشهدون بقول الشاعر اعتباطا وبدون روية.
لا أظن أن ابن الوردي كذاب منافق، إنما المنافق الكذاب حقا هو كارل ماركس واضع(984/33)
نظرية محو الطبقات وتلميذه ستالين منفذ تلك النظرية الخاطئة بالقوة لا بالإقناع، فالمساواة بين الطبقات إنما هي التضليل بعينه، والدعوة إلى إهمال الأصول وإنكارها والتمسك بما حصل عليه الإنسان أو بما وصل إليه إنما هو الكذب الصراح.
قد نجد شعراء ومجتهدين وعلماء وأغنياء وعظماء ومصلحين نبتوا نبتة شيطان من الطبقة الدنيا.
لم تكن نفوس المدعوين مهيأة إلى محاربة روح الشر بالتسامي أو بالإغضاء عن هفوة من مواطن في حق وطنه ومواطنيه. وسرعان ما نهض أحدنا وهو ربع القامة، عريض المنكبين، مفتول العضل. يكاد أن يكون رأسه قائما على كتفيه لقصر في عنقه، ذو عينين صغيرتين تنبعث منهما نظرة صارمة، حارب الألمان في صفوف الفرنسيين، وقاتل الفرنسيين في كل ميدان من ميادين الثورة عليهم، وقال بصوت بدأ هادئا ثم أخذت نبراته تشتد دون ارتفاع.
باسم الثورة لا باسم القانون أنقض حكم حضرة القاضي، لقد غدوت من غير الخاضعين لقوانين هذا البلد الذي حماني لأن مجلس وزرائه قرر اليوم إبعادي وسأكون قرب ظهر الغد في سفينة تنقلني إلى أوربا، وإنه ليطيب لي أن أزيل الغم عن صدوركم وأعيد الراحة إلى نفوسكم، بإصدار حكمي أنا على هذا المخادع الغشاش والداعية الأثيم للطاعة لولي الأمر ولو كان من المستعمرين والخضوع لقوانين الذل والعبودية. والتفت صوب المنكود (حصل أفندي) الذي كان قابعا في مقعده لا يندى له جبين ولا يحمر له وجه ولا يصغر وقال:
لقد كنت تسعى وتتجول وتنتقل من مكان آخر بقدمك هذه أني لأرى من العدل بل من الرحمة أن أعفيك من إتمام سعيك، وإبطاء تجوالك بكسر قدمك هذه. وانقض عليه انقضاض الرجل الغاضب لوطنه وكرامة عروبته يلوي مفصل قدم المنكود ليا عنيفا.
كان الرعديد يصرخ ويولول. لقد استجار بالله، وبرسله وأوليائه، لقد حلفنا بأولادنا وأعراضنا أن ننقذه من بلائه.
لقد كلت أيدينا، وعجزنا على كثرتنا عن تخليص قدم المسكين من قبضة صديقنا المنتقم، ولم يتركها إلا بعد أن خلع مفصلها.
إن أنس لا أنس صاحب الدعوة، وهو طبيب قتل اغتيالا كيف صير بيته مستشفى وقد(984/34)
أقامنا على خدمة من ضلله الشيطان.
لقد دار الزمان دورته ولا أحسب إلا أنه أتمها وهي على غير محورها الثابت. ومن سخرية القدر أن يصبح حصل أفندي نائبا عن الأمة يضطلع حتى اليوم في أحد مجالس نيابة دولة شقيقة.
حبيب الزحلاوي(984/35)
رسَالة الشِعر
ديوان مجد الإسلام
نظم المرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
في دار الأرقم ابن أبي الأرقم
ودعا (الأرقم) استجب تلك داري ... تسع الدين محرجاً محصورا
وافها، واجمع المصلين فيها ... عصبة، إن أردت أو جمهورا
وأتى (ابن الخطاب) يؤمن بالل ... هـ ويختار دينه المأثورا.
قال: كلا، لن يعبد الله سترا ... ويرى نور دينه مستورا
اخرجوا في حمى (الكتاب) أسودا ... واطلعوا في سنا (النبي) بدورا
ذلكم بيتكم، فصلوا، وطوفوا ... لا تخافن مشركا أو كفورا
إرادة قتل الرسول الكريم وهجرته
أجمعوا أمرهم وقالوا: هو القت ... ل يميط الأذى ويشفي الصدورا
كذبوا، ما دام الهزبر أماني ... مهاذير يكثرون الهريرا
لا وربي، فإنما طلب الكفار بسلاً وحاولوا محظورا
إن نفس الرسول أمنع جارا ... من طواغيتهم، وأقوى مجيرا
ما لهم؟ هل رمى النبي تراباً ... أم عمى في عيونهم مذرورا؟
ذهلوا مدة فلما أفاقوا ... أنكروها دهياء عزت نظيرا
ينفضون التراب: من مس منا ... كل وجه، فرده معفورا؟
أين كنا؟ ما بالنا لا نراه؟ ... ما لأوصالنا تحس الفتورا؟
أمن الحادثات ما يذهل العا ... قل عن نفسه ويعمى البصيرا؟
أين ولي؟ لقد رمانا بسحر ... فسكرنا، وما شربنا الخمورا
يا له مصعبا لو أنا أصبنا ... هـ على غرة لخر عقيرا(984/36)
راح في عبطة ورحنا نعاني ... أملا ضائعا، وجدا عثورا
خيبة تترك الجوانح حري ... يا لها حسرة تشب وتورى
رب آتيته على القوم نصرا ... فتباركت حافظا ونصيرا
أنت نجيته، فهاجر يقضي ال ... حق، لا خائفا ولا مذعورا
يوم ضجت جبال (مكة) ذعراً ... وتمنت هضابها أن تمورا
تتنزى أسى، وتمسكها تم ... نعها من ورائه أن تسيرا
هي لولاك لارتمت تقذف الصخ ... ر وتزجي هباءها المنثورا
هاجها من جوى الفراق وحر ال ... وجد ما هاج بيتك المعمورا
كاد يهفو فزدته منك روحا ... فانثنى راجح الجلال وقورا
يا لها من (محمد) نظرات ... زخرت رحمة، وجاشت سعيرا
نظرات شجية لا تعد ال ... أهل أهلا، ولا ترى الدور دورا
قال: ما في البلاد أكرم من مكة ... أرضا، ولا أحب عشيرا
فاسكني يا هموم نفسي، إن الل ... هـ أمضى قضاءه المقدورا
إنني قد نذرت لله نفسي ... والتقى الوفي يقضى النذورا
يقطع البيد بعد صحب كرام ... قطعوا غارب العباب عبورا
كم رشيد آذاه في الله غاو ... زاده طائف الهوى تخسيرا
ضرب الصحب في البلاد فأمسوا ... لا يصيبون صاحبا أو سجيرا
في ديار لدى (النجاشي) غبر ... ظل فيها سوادهم مغمورا
وتولى وللأمور مصير ... يشتري ربه، ويرجو المصيرا
يوم يمشي (الصديق) في نوره الزا ... هي يوالي رواحه أو البكورا
ينصر الحق ثائرا يمنع البا ... طل أن يستقر أو أن يثورا
لا يبالي غيظ القلوب ولا يح ... فل في الله لائما أو نذيرا
أقبل القوم يسألون أتحت الت ... رب، أم جاور الطريد النسورا؟
نفضوا الهضب والجبال وشقوا ال ... أرض طرا رمالها والصخورا
ويح (أسماء) إذ يجيء أبو ج ... هل على خدها المصون مغيرا(984/37)
صاح أسماء أين غاب أبو بك ... ر أجيبي، فقد سألنا الخبيرا
قالت العلم عنده ما عهدنا ... أجم الأسد تستشير الخدورا
فرماها بلطمة تعرض الأج ... يال عن ذكرها صوارف صورا
قذفت قرطها بعيدا ورضت ... من وجوه النبي وجها نضيرا
في الغار الأكبر، غار ثور
غار ثور أعطاك ربك ما لم ... يعط من روعة الجلال القصورا
أنت أطلعت للمالك دنيا ... ساطعا نورها ودينا خطيرا
صنته من ذخائر الله كنزا ... كان من قبل عنده مذخورا
مخفر الحق لاجئا يتوقى ... قام فيه (الروح الأمين) خفيرا
وقفت حوله الشعوب حيارى ... من وراء العصور، تدعو العصورا
يا حيارى الشعوب ويحك إن ال ... حق أعلى يدا وأقوى ظهيرا
لا تخافي فتلك دولته العظ ... مى تناديك أن أعدي السريرا
جاءك المنقذ المحرر لا يت ... رك قيداً، ولا يغادر نيرا
ورث المالكين والرسل الها ... دين بالحق أولا وأخيرا
الحكيم الذي يهد ويبني ... فيجيد البناء والتدميرا
والزعيم الذي يسن ويقضي ... لبني الدهر، غيباً وحضورا
تترامى الأجيال بين يديه ... تتلقى النظام والدستورا
ليس في الناس سادة وعبيد ... كبر العقل أن يظل أسيرا
خلق الكل في الحقوق سواء ... ما قضى الله أمره مبتورا
كذب الأفدياء ما ظلم الل ... هـ، وما كان مسرفا أو فتورا
دبر الملك للجميع، فسوى ال ... أمر فيه، وأحكم التدبيرا
يا (نصير الضعاف) حرر نفوساً ... تتمنى الفكاك والتحريرا
ضجت الكائنات: هل من سفير ... يتلافى الدنى؟ فكنت السفيرا
رب آتيتنا هداك، وأنزل ... ت علينا كتابك المسطورا
فلك الحمد وافرا مستمرا ... ولك الفضل باقيا مذكورا(984/38)
أبو بكر الصديق وحية الغار
صاحب القائم المتوج بالفر ... قان، بوركت صاحباً ووزيرا
أنت واليته، وعاديت فيه ... من توخى الأذى، وأبدى النفور
أو لم تتخذ أباك عدوا ... وتذقه الهوان كيما يحورا؟
إذ يقول (النبي) لا تضرب الشي ... خ، وإن سبني، ودعه قريرا
إنما نلت بالمساءة منه ... والدا مدبرا، وشيخاً ضريرا
ليت شعري: أصبت حية واد ... تنفث السم، أم أصبت حريرا؟
نفثت سمها، فما هز (رضوي) ... من وقار، ولا استخف (ثبيرا)
خفت أن توقظ (النبي) فما ير ... ضيك أن تضعف القوي أو تخورا
أكرم الله ركبتيك، لقد أع ... طاك سبحانه، فأعطى شكورا
أي رأس حملت يا حامل الإيم ... ان سمحا والبر صفراً طهورا؟
سراقة بن مالك يريد قتل النبي
إتق الله يا سراقة وانظر ... هل ترى الأمر هينا ميسورا
أم تظن الجواد تمسكه الأر ... ض وتلوي عنانه مسحورا؟
أم هو الله ذو الجلال رماه ... يمسك الشر راكضا مستطيرا؟
غرك القوم، فانطلقت ترجي ... هـ خسيسا من الجزاء حقيرا
وضح الحق، فاعتذرت وأولا ... ك الرسول الكريم فضلا كبيرا
فزت بالعهد فاغتنمته، وأبشر ... (بسواري كسرى) فديت البشيرا
قل لأهل النياق: أوتيت أجري ... حللا فابتغوا سواي أجيرا
ليس من رام رفعة أو سناء ... مثل رام ناقة أو بعيرا
يتبع(984/39)
الكُتبُ
الإنسان بين المادية والإسلام
تأليف الأستاذ محمد قطب
عرض وتعليق للأستاذ حسين عبد الفتاح سويفي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
(المجتمع حاجة نفسية، تنبعث من نفس الفرد، من رغبة ملحة في ألا يعيش وحده، وسواء كان الخوف، والشعور بالوحشة أمام الحيوانات المفترسة، وقوى الطبيعة المجهولة، أو كانت المصلحة حين وجد كل فرد أنه يستطيع أن يدرك بالاشتراك مع غيره، ما لا يستطيع أن يدركه وحده، أو كانت غريزة الجنس، أو نزعة القطيع، فالنتيجة الأخيرة واحدة، وهي أن نزعة لا تقهر، هي التي أنشأت المجتمع من ضمير الفرد. . . . .
(وقد كان أمراً طبيعيا أن يكون المجتمع الأول في أضيق نطاق ممكن، وأبسط صورة ممكنة: أسرة: زوج وزوجة وأبناء. فتلك أول مجموعة يمكن أن تتغلب فيها نزعة الاجتماع، على النزعات الفردية المستقلة، وتخضعها لسلطانها بأي طريق. ومنذ تلك اللحظة، صارت الأسرة، هي الوحدة بدلا من الفرد، ومع أن الفرد ظل محتفظاً بكيانه، كشخصية مستقلة، إلا أنه، قد اكتسب في الوقت ذاته صفته الأخرى، كعضو في جماعة، ولم يعد في طوقه أن يحس أو يفكر أو يعمل إلا بصفتيه في آن واحد) هذه صورة يعرض عليك فيها حاجة الفرد إلى المجتمع الذي يعيش فيه، ولا يمكن أن يكون مستقلا بذاته، غنيا بفرديته. تقابلها صورة أخرى حين يراد للفرد أن يخضع لنزعته الجماعية إلى آخر المدى، على حساب فرديته وذاتيته، في الدول الدكتاتورية أو الشيوعية.
(إن الإنسان في آفاقه العليا، كائن له إرادة حرة، وكيان مستقل، صحيح أن له إرادة يحدها الصالح العام، وكيانه المستقل، يخضع لقدر من الإشراف يتحقق به في النهاية صالح الفرد وذاته بتحقيق صالح المجموع، ولكن الفرد في المجتمع الحر له رأي في تكييف هذا الصالح العام، وفي طريقة تنفيذه. رأي حر يتشاور فيه الناس علانية، دون خوف من سلطان الدولة. . وتجسس الرقباء. . . . والفرد حر في مشاعره التي لا تؤذي غيره،(984/40)
يصوغها كما يشاء كيانه، وبنيته النفسية الخاصة، حر في فلسفته الشخصية التي ينظر بها إلى الحياة والكون في حدود الإطار الذي يتحرك فيه الجميع، متعاونين غير متصارعين، وحر في اختيار العمل الذي يناسبه ويشعر أنه ميسر له).
(وإن إنكار حق الفرد الممتاز في القيادة والتوجيه لجريمة مزدوجة، فهو أولا يبدد طاقة بشرية من نوع نادر ممتاز كان يمكن أن يستفيد بها المجموع لو أتيحت له الفرصة المناسبة، وهو كذلك يظلم هذا الفرد حين يعامله معاملة الأفراد العاديين، بدعوى المساواة المطلقة بين الجميع، فطالما أن الناس مختلفون في طاقاتهم الفردية، واستعداداتهم الجثمانية والفكرية والنفسية فدعوى المساواة المطلقة خرافة حمقاء)
وهذه صورة ثالثة للإنسان في وضعه السوي رسمها له الإسلام
(النظام الصالح هو الذي يوازن بين الفرد ومصالحه، وبين صفتيه المكونين له، كفرد مستقل، وعضو في جماعة، كما يوازن بين الجيل الواحد والأجيال المتعاقبة في نطاق الإنسانية الشاملة الرحيبة)
(إن مجرد الإسلام يعطي المسلم حصانة من الاعتداء على كرامته الإنسانية، وحقوقه البشرية، وأنه حين يكرم الفرد إنما يكرم المجتمع بأكمله)
وهل كان الفرد إلا ذرة في المجتمع الذي يعيش فيه؟
(لذلك يعني الإسلام عناية شديدة بكل فرد على حدة، لأنه الوحدة التي ينشأ المجتمع من اجتماعها بغيرها من الوحدات، واللبنة التي يقوم عليها البناء)
وحينما يتحدث عن الجريمة والعقاب، يقارن بين الأمم، التي تقدس حرية الفرد وتعتبر أن المجتمع هو المسئول عن جرائم أفراده، والأمم ذات النظم الجماعية (التي تبالغ في الحط من قيمة الفرد ولا تعترف له بكيان مستقل فتقسو تبعا لذلك في الحكم على جرائمه). والإسلام الذي يوائم بين الفرد والجماعة فلا يميل مع الفرد على حساب الجماعة. ولا مع الجماعة على حساب الفرد. وإليك قوله فيه
(أما الإسلام فله رأيه في الجريمة والعقاب، ينفرد به بين نظم الأرض، ويمسك فيه بميزان العدالة المطلقة بقدر ما يمكن أن يتحقق في دنيا البشر - فلا يسرف في تقديس حقوق الجماعة ولا يسرف في تقديس حقوق الفرد. . . . وذلك تبعا لنظريته المتوازنة التي ينظر(984/41)
بها إلى الناس، لا من واقعهم الأرضي المحدود ولا من زواياهم المتضاربة، بل ينظر إليهم من أعلى، من السماء، فيراهم كلهم في لحظة واحدة، بنظرة واحدة شاملة. . . فحينذاك لا يبدون فردا وجماعة منفصلين متقابلين، بل يبدون وشائج متصلة، وعلاقات متداخلة، لا يمكن فصل بعضها عن بعض)
(والإسلام لا ينظر للجريمة بعين الجماعة فحسب، بل يمسك الميزان من منتصفه، فينظر إليها كذلك وفي ذات الوقت بعين الفرد الذي تقع منه الجريمة.
فهو حين ينظر إليها بعين الجماعة فيقرر حقها، في حماية نفسها من الجريمة، ويفرض لذلك العقوبات، ينظر إليها كذلك بعين الفرد، فيرى مبرراته ودوافعه لارتكاب الجريمة، فيعترف بها، ويعطيها حقها الكامل من التقدير والرعاية، ويعمل على إزالة كل الدوافع المعقولة، قبل أن يفرض العقوبة)
وحينما يتعرض للمشكلة الجنسية، يتعرض تعرض الرجل الخبير بطبيعة الجسد؛ العليم بطبائع النفوس؛ فلا تفوته رغبة من رغبات الجسد، ولا نزعة من نزعات النفس، ولا رأي من الآراء إلا حلله ليأخذ منه الصواب؛ ويدع الخطأ أو يبدي رأيه المستقل حين لا يقنع برأي من الآراء. كل ذلك في أسلوب ساحر؛ وحساسية مرهفة، وشعور طلق رحيب، وعقل باحث منقب؛ يقتحم بك المادة فتشعر بحرارتها وثقلها؛ وينطلق بك طائراً في روحانية شفيفة، تجتاب الآفاق، وترتاد العوالم، فتسمع معه همس الحور في قصور النور، أو مناغاة الجنيات في عالمها المسحور.
استمع إليه حينما يبين العلاقات بين الجنسين في أسلوبه الشيق الطلي
(إن الرجل في حاجة إلى المرأة، والمرأة في حاجة إلى الرجل لشيء آخر غير ضرورة الجسد، ودفعة الغريزة، إن كلا منهما ليجد عند الآخر، وفي رحابه (مشاعر) نفسية. الألفة والحنان والود والتعاطف مشاعر لا يجدها في أي مكان آخر، لا يجدها الرجل كاملة عند الرجل، ولا المرأة عند المرأة.
(إن كلا من الجنسين في حاجة إلى فرد من الجنس الآخر، يلقي إليه نفسه كلها. مشاعرها، وأفكارها، وينكشف له عن كل أسراره الدفينة، ويتجاوب معه ويتعاطف، ويجد منه حافزا وعونا لمواجهة الحياة، وتبعاتها المختلفة.(984/42)
(وإن الدنيا كلها لتنفتح لقلبين متحابين متآلفين، ولا تنفتح لقلب واحد محروم من الحب والعطف، مقطوع من الألفة العذبة، ولو كان أكبر قلب لأعظم إنسان، بل هو لن يكون قلبا كبيرا، وهو محروم من غذائه الطبيعي، الذي لا تنقضي الحاجة إليه.
(وتلك وقائع قد يتفنن الشعر في تصويرها، في عالم المثل والأحلام، ولكنها بغير شعر ولا فن، وقائع علمية تشهد بصحتها الحياة كلها منذ فجرها إلى اليوم)
الله. ماذا يمكن أن يقول قائل أروع من هذا. وهل في الشعر أو النثر ما يعادل هذه الروعة، التي تأسر الألباب، وتأخذ بمجامع القلوب؟!
ثم استمع إليه وهو يتحدث عن شعور الحرمان، لتحس معه أنت أيضاً بشعور الرجل المحروم من الطفل، أو المرأة المحرومة منه، وكيف تقابل طبيعة كل منهما هذا الحرمان.
(وقد يجد الرجل أحيانا عملا، أو فكرة يغرق فيها نفسه ليسكت هذا الهاتف الملح، والحنين الملهوف للطفل، ولكن المرأة ما أقسى حياتها بغير طفل؛ إن الطفل جزء من المرأة حقا ومجازا، جزء من جسدها تحمله، وتغذيه من دمائها، ثم من لبنها وهو، خلاصة دمها، وجزء كذلك من كيانها النفسي، بحيث تشعر أنها معطلة، أو ناقصة، أو عاجزة، إذا لم تأت بنسل)
وحينما يتحدث عن الإحساس الجنسي، يبين لك ألوانه ودرجاته، ألوانه بريشة الفنان المبدع، ودرجاته بمقاييس العاطفة الدقيقة، فيشعرك بحرارة الجسد حينما تتخلله الرغبات العارمة الحارة، وانطلاقات الروح حينما تتخلص من قيود المادة، وتنطلق في عالم الصفاء واللطف.
(هناك الشهوة العارمة التي تتمثل في الجسد الهائج، والجوارح الظامئة، والعيون التي تطل منها الرغبة الهائجة المجنونة.
وهناك الشهوة الهادئة المتدبرة، التي تعد العدة في ترتيب وأناة، حتى تظفر بما تريد على مهل ودون استعجال.
وهناك الأشواق الحارة الملتهبة، التي تنبع من الجسد، ولكنها تمر في طريقها على القلب فيصفيها من بعض ما بها من (العكارة) أو يعطيها قسطا من العاطفة تمتزج بصيحة الجسد الملهوف.(984/43)
وهناك الأشواق الطائرة المرفرفة التي تنبعث من القلب، وقد تمر في طريقها على الجسد فيمنحها بعض لهيبه المحرق وقد يختلط بها بعض العكار ولكنها تظل محتفظة بكثير من الصفاء
وهناك إشراقة الروح الحالمة، وقد صفيت من العكار كله، وصارت صفاء مطلقا، لا يعرف الجسد، وإشعاعه لا تعرف القيود، تعشق الجمال خالصا حتى من الإطار الذي يصب فيه.
(وهناك ألوان أخرى لا تدركها الألفاظ، ولا يقدر عليها التعبير)
(وبين هذه الألوان المختلفة مئات من الأحاسيس، تشترك في الأصل ولكنها تختلف فيما بينها أشد الاختلاف.
فأي كسب للإنسانية في أن تقول مع القائلين (كله في النهاية جنس).
أرأيت كيف يتدرج بك من نيران الرغبة الملتهبة إلى أنوار الحب الطاهر الطائر البريء، وينقلك من لفح الجحيم، إلى نفح النعيم في خفة ورشاقة، وبراعة ولباقة، ودقة وأناقة.
وحينما يتحدث عن القيم العليا، ويسائل منكرا، أو يستفهم مستنكرا لما يقوله العلماء التجريبيون، يشعرك معه بالسخرية الحارة مما يقولون:
(هل القيم العليا كلها خرافة، والمشاعر النبيلة كلها أوهام؟!
(هل كانت عبثا كل دعوة الأنبياء والمصلحين، وكل محاولة لتهذيب الطبائع البشرية؟! وهؤلاء العظماء من كل لون وفي كل باب الذين ضحوا بمصالحهم لصالح الإنسانية، الذين استعصوا على دعاء الشيطان، واستمعوا لهاتف الضمير، الذين أقاموا أنفسهم مثلا رفيعة للعدل والنزاهة والرحمة والتعاطف، والاعتداد بالكرامة، والإيمان بالأفكار العليا والجهاد في سبيلها. هل كانوا كلهم خرافة؟!
أبو بكر، وعمر، وعلي، وأبو عبيدة، وأبو ذر، وعمر بن عبد العزيز. . . وأخناتون، وغاندي، وبوذا وغيرهم وغيرهم. . كلهم أوهام؟)
ثم انظر إليه بعد ذلك وهو يمزق تلك الصورة القذرة التي رسمها فرويد للإنسانية، ليلوث بها كل جميل في مشاعر البشر، ويهوى بالإنسانية إلى درك سحيق من الانحطاط والتردي، وكيف يرد عليه من نفس كلامه ويمسك بتلابيبه، ويضيق عليه الخناق حتى لا يستطيع جوابا.(984/44)
(قتلت الإنسانية أباها الأول ليستمتع الأولاد بأمهم في شهوة جنس دنس مسعور، ولكنهم ما كادوا يصنعون ذلك ويرون أباهم جثة هامدة، حتى اعتراهم الندم على فعلتهم الآثمة)
وهنا يأخذ الرجل من لسانه كما يقول:
(من أين يأتي الشعور بالندم لهذه الحيوانات الهائجة، التي تتصرف بدافع الحيوان؟ من الذي أوحى إليهم أن عملهم هذا خطأ لا يجوز؟ إننا هنا أمام شعور إنساني يفرق بين الإنسان والحيوان.
فهذا الندم على الجريمة، يؤكد وجود الحاسة التي تفرق بين ما ينبغي، وما لا ينبغي أن يعمل، وبين ما هو خير، وما هو شر، حاسة تقدر قيما ذاتية للأعمال، بصرف النظر عن الدافع الغريزي الذي يدفع إليها)
هذه واحدة
(ثم نظر الأبناء فيما بينهم، فوجدوا أن أحداً منهم لن يفور بأمه، إلا إذا قتل الآخرين، وإذن فستنشأ معركة عنيفة، لا تؤدي إلى تحقيق المصلحة المنشودة، فاتفقوا بينهم على أن يتركوا أمهم لا يمسها أحد منهم، وينصرفوا راشدين متآخين بدلا من أن يقتتلوا فينقلبوا خاسرين)
(وهذه هي الثانية
(شعور إنساني آخر. شعور التآخي على مصلحة عامة، بدل الأنانية القاتلة والصراع المرذول)
وإنما ساق هذا القول من أقوال فرويد، ليبين أن الإنسانية في أوضاعها الأولى، يوم كانت على فطرتها: لم تهذبها تعاليم الرسل، ولا آراء المصلحين، ولا عقول المفكرين. كان فيها استعداد فطري، لأن تندم على الإثم، وأن تعمل على تحقيق النفع المشترك، وأن تنفر من التنازع والخصام.
وقبل أن أنتهي من هذه الكلمة، أحب أن ألفت النظر إلى أسلوب المؤلف اللاذع الساخر، حينما يريد أن يسخر برأي من الآراء أو يفند قولا. ولكنها السخرية التي تجري فيها الحكمة، ويظهر فيها الاتزان. ومع ذلك فهو يرغمك على أن تضحك، وتغرق في الضحك، مع أنك مع كتاب جاد رصين.
فانظر إليه وتخيل معه حالة البشرية، لو أنها نفذت كلها تعاليم المسيحية، واعتزلت في(984/45)
الصوامع والأديرة.
(أي كارثة كانت تصيب الإنسانية، لو أن الناس كلهم قد اعتزلوا في الصوامع والأديرة، فانقطعت الحياة بانقطاع النسل ووقف التقدم البشري كله بانصراف الرغبة عن الحياة الدنيا، إطاعة لأوامر السماء)
ثم استمع إليه، وهو يصور لك حالة المسيحيين داخل حدود الكنيسة، وحالتهم وهم بمنأى عنها.
(إذا كانت المسيحية لأسباب سياسية وتاريخية، قد انتشرت في رقعة كبيرة من الأرض، فإنها مع ذلك لم تطبق تطبيقا عمليا، وإنما بقيت في حدود الكنيسة، لا تبسط من ظلها على الأحياء إلا وهم خاشعون في صلاتهم، يسمعون التراتيل الساحرة، والصلوات المؤثرة، فإذا انطلقوا بعد ذلك إلى أعمالهم انطلقوا إليها بشرا لا مسيحيين، لا يدير أحدهم خده الأيسر لمن لطمه على خده الأيمن، ولا يقلع أحدهم عينه، ويلقيها عنه لأنها تعثره، ولا يرضى بأن يهلك عضوا واحدا من أعضائه، تكفيرا عن إثم من الآثام)
ثم اسمع إليه وهو يسخر من الشيوعيين الذين لا يرون للأخلاق قيمة ذاتية - إنما هي أشياء ابتدعها الرأسماليون - ولا يرون في الجريمة الجنسانية جريمة، لأنهم مضطرون، إلى إطلاق القطيع على سجيته. وإذن فأين الجريمة؟
(الجريمة الكبرى في الدولة الشيوعية، الجريمة التي تنشق لها السماء، وتنهد الجبال هدا، هي انتقاد النظام الشيوعي أو التعرض للإله الأكبر (بابا ستالين) أو أحد من الآلهة السابقين وخاصة الإله - لنين - تقدست أرواحهم ولهم الأسماء الحسنى - عند ذلك ينقضون جميعا على هذا المجرم الأثيم - فيسرعون به إلى المشنقة إن أرادوا به الرحمة أو ينفونه في ثلوج سيبريا إذا أريد له العذاب، وعندئذ تخرج الصحف الروسية مفاخرة مباهية، بأن الدولة قد قامت بحركة تطهير، لحماية النظام).
وفي الكتاب من هذه اللذعات كثير!
وبعد - فهذا الكتاب رحلة شائقة إلى ينابيع الحقيقة، وسفرة ميمونة إلى مناهل المعرفة. صاحبه شاعر بارع علاوة على أنه كاتب محقق، وبأسلوب الشاعر وتحقيق الكاتب أخرج هذا الكتاب.(984/46)
حسين عبد الفتاح سويفي(984/47)
البَريد الأدبيَ
ليس في القرآن أساطير
يقول الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه الجديد (فن الأدب) الذي طبعته ونشرته مكتبة الآداب بالقاهرة ما نصه: -
(لقد أتى القرآن بجديد في فن الكتابة لا اللغة وحدها بل القصص والأساطير، لقد استخدم الفن القصصي في التعبير عن المرامي الدينية، ولكن المدهش أن الأدب العربي لم ير في القرآن إلا نموذجا لغويا. . ولم ير فيه النموذج الفني. فلم يخطر له استلهام قصصه، أو استغلال أساطيره استغلالا فنيا مستفيضا. . . الخ) (صفحة 24 من الكتاب المذكور).
ولست أدري على وجه التحقيق ماذا يريد أديبنا الكبير الأستاذ الحكيم بنسبة الأساطير للقرآن الكريم؟ وهل يحتوي كتاب الله المنزل على رسوله الصادق الأمين أساطير تستغل استغلالا فنيا أو غير فني؟ ومن هم الذين عناهم الله بقوله في (سورة الفرقان) آية 5 (وقالوا أساطير الأولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا).
وإذا كان يقصد بالأساطير القصص فإن الفارق واضح بين القصة والأسطورة. . والقرآن الكريم (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (سورة فصلت آية 42)
(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق) سورة هود
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) (سورة يوسف آية 3)
(كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) (سورة طه آية 99)
وبعد فلعل الأستاذ الحكيم يرمي إلى معنى آخر غير المعنى المفهوم من الأساطير. . . وأترك المجال لغيري من أهل البحث والتحقيق. والله ولي التوفيق.
سلامة خاطر
في الشعر العباسي:
تحت هذا العنوان نشرت مجلة الإذاعة المصرية في عددها الصادر بتاريخ 3 من مايو سنة(984/48)
1952 مقالا قيما للأستاذ محمد البهبيتي وقد جاء في آخره ما يلي: -
يقول شاعر الخوارج في قتل ابن ملجم لعلي كرم الله وجهه
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
فيأخذه شاعر الشيعة فيقلبه هذا القلب لاعنا قائله وهو عمران بن حطان
يا ضربة من غدور صار ضاربها ... أشقى البرية عند الله إنساناً
إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه ... وألعن الكلب عمران بن حطانا. . .)
وقد ذكر جمال الدين أبو بكر الخوارزمي في الباب الثامن من فتنة الخوارج من كتابه (مفيد العلوم) ما يأتي بعد أن ذكر خبر معاوية وعمرو: -
فقالت الخوارج: -
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
فأجابه عمران بن حطان: -
يا ضربة من لعين ما أراد بها ... إلا ليهدم للإسلام أركانا
أضحى غداة تعاطاها بضربته ... مما عليه من الإسلام عريانا
طوراً أقول ابن ملعونين ملتقطا ... من نسل إبليس بل قد كان شيطانا
والرواية التي ذكرها الخوارزمي تدل على أن عمران بن حطان كان شيعيا وقد يكون بأبياته قد عارض الخارجي في مدحه قاتل علي كرم الله وجهه؛ وكيف يلعن نفسه كما ذكر الأستاذ نجيب؟
فما رأي الأستاذ نجيب في هاتين الروايتين وأيهما أحق بالتصديق.
شطانوف
محمد منصور خضر(984/49)
القَصَصُ
هندي من الحمر
عن فرنز ميلر
للأستاذ كارنيك جورج ميناسيان
قال التلميذ عن نفسه وهو ينحني: روبرت سنو
لكنني كنت أعرفه من قبل، فهو أكبرنا سنا، وإن كنا أقدم منه عهداً في الدراسة. أنه يمتاز بلون برنزي، وعينين غائرتين تبرقان في الظلمة.
لم نلبث أن تعارفنا وأخذنا نتبادل التحايا والبسمات الصامتة، ثم جاء يسأل عن حجرة يسكن فيها، فأخبرته بوجود حجرة خالية إلى جانب الحجرة التي أقيم فيها، فوافقه ذلك. . أصبح جاري، فصار يزورني مساء، فأقدم إليه قدحاً من الشاي الساخن. . . حتى أوشك تحفظه أن يزول بتوطد الصلة بيننا، وسألته مرة:
- أتدري أني أغبطك؟
قال باسماً: - علام؟
- على لون طلعتك. . هذا الغريب الجذاب، الذي يذكرني بلون الهنود الحمر.
- لا غرابة في ذلك، فأنا هندي من الحمر!
وطفق يحدثني بأخباره الخاصة. . كان يحيا بين الغاب والبحيرات، فيجد في الغاب حيواناً يأنس إليه، كما يجد في البحيرات ماء يسبح فيه ويشرب منه. . فسألته:
- وما الذي دعاك إلى ترك عالمك الجميل واستبداله بعالم الدراسة.
فأجابني بقوله: - قال أحد العرافين لأبي أني ذكي وفطن، لا يجب تركي عابثاً عند بحيرة (هرنين)
- وبعد؟
- وبعد تركت عالمي وجئت إليكم.
فصمت، ولم ألبث أن سألته بكثير من الكياسة والتردد:
- ترى أرضيت عن ثقافتنا يا صاحبي؟(984/50)
قال: - خلت نفسي ثملا. . وأنا أرى الشوارع والدور. . . وآلاف الأعاجيب الأخرى. . فكنت أمر مذهولا شارداً، أتحسس ما أرى وما أشاهد كي أتأكد أنني لست أحلم!
إن أمواج بحيرة هرنين لم تكن لتريني كل هذه الأعاجيب!
إن العجيبة الأولى التي أذهلتني هي السفينة العظيمة التي حملتني، وعبرت بي المحيط!
لقد خلت نفسي وأنا أراها تسير بسرعة وثبات على سطح البحر الزاخر. . أني أمام عمل من أعمال الآلهة. وقد ركعت حينئذ وصليت من شدة رهبتي!
ثم صمت، وأنشأ يحرك الملعقة في كوب الشاي، فتحدث حركته رنيناً حزيناً، عاد بعد انقطاعه يتمم حديثه فيقول.
- لم تكن حياتي الماضية تشمل غير الواضح المألوف. لكنني كنت أعجب وأنا أقصد البحيرة أن أجد في طريقة ريشة طير ذات ألوان جذابة مفرحة. كانت تبدو لي كأنها تخصني بتحية الصباح، لقد كنت أتناولها فرحاً وأداعبها مسروراً. . فأمسحها بجبيني تارة وبوجهي أخرى، وإذا ما هبت الريح كنت أرفعها وأرميها عالياً مع مسرى الريح.
- يا لها من لذة!
-. . كانت أموركم ألذ بكثير
- ولماذا تقول كانت، أو ليست كذلك الآن؟
- أبداً. .! إن التعليل والتشريح والتبسيط حطمتها، وذهبت بروعتها ولذتها. . .
- لا أفهم ما تقول
لم يجيبني، بل نهض وفارقني بعد تحية سريعة.
بقيت تلك الليلة أفكر في قول صاحبي. . . حتى طار النوم من عيني!
وفي الغد كنت أجلس بجانبه في المختبر، وأمامنا بطاريات الزجاج مبعثرة على المنضدة، في حين كان مصباح بونش يشع نوراً أزرق، توشك العين ألا تراه! وما كان أستاذنا قد حضر بعد، فقال لي رفيقي:
- ألم تلاحظ وجه السبورة السوداء تلك؟
- لاحظتها كثيراً، فقد كتبت عليها مئات المعادلات
- لم تفهم قولي، قلت لك وجهها. .(984/51)
فحولت نظري إلى اللوحة، فلاحظت أن الأبخرة المتصاعدة من الأحماض قد تركت على سطحها أشكالا وخطوطاً غريبة، لو نظرها شخص بانتباه، لبدت له من تعاريج الخطوط رسم وجه لإنسان عبوس! فقلت لصاحبي:
- حقا أنه يبدو كوجه إنسان
- أتعلم وجه من هو؟. .
قلت ساخراً: - إنه. . وليد الاتفاق والمصادفة!
فقال مقاطعا - هذا هو وجه العلم! قد صورته مبتكرات العلم، فإذا هو وجه عنيد متجهم، لا تنبئ أساريره بأي معنى من معاني الرحمة!
وهنا دخل الأستاذ، فأنقطع كلامنا، لكني بقيت حائرا أستعيد رأي صاحبي ولا أدري أأصدقه أم أكذبه (وجه العلم العنيد المتجهم)؟ فأمضي بنظري إلى اللوحة، تاركا الأستاذ يشرح ويعلل، لأرى وجها عنيدا متجهما حقا!
لا ريب أن التبسيط يحطم اللذة والروعة، فلو بسطنا أسباب ظهور الوجه على سطح اللوحة فإننا لن نشعر بعد ذلك، بمثل ما يشعر هذا الهندي نحو ذلك الوجه الغريب!
. . وفي طريق عودتنا إلى غرفتينا قلت لصاحبي: -
- إني قادر على فهمك بعد الآن
قال - هيهات فأنت قد ولدت هنا في عالم العلوم، لا في عالم الطبيعة. . إنك لم تتمدد على العشب الأخضر، ولم تتفهم أسرار الحقول، فلا يمكنك أن تبثها أحزانك أو تشرح لها آلامك كما أفعل أنا! هذه لوحاتكم، ما رأيتم فيها غير المعادلات والمحاسبات. . والأحرف الكثيرة الجامدة! حين ثمة لوحات لنا عند بحيرة هرنين ترينا الطبيعة وكيف تحنو، والأيدي وكيف تتساند! حتى أنها ترينا الآلهة وهي ترتفع وتسمو عن. . .
وصمت فجأة! وكأنه استدرك ورأى أنه يقول ما لا ينبغي، فودعني ومضى عن طريقي. . لقد قدرت ألمه ولم أحنق عليه، وما كان المساء حتى طرق بابي وقال
- لقد كنت قاسيا معك
فكان جوابي أن قدمت إليه كوب الشاي.
وحين رفع الكوب إلى فمه، أخذ يبعث إلى بأنظاره من فوق حافة الكوب، فبدت لي عيناه(984/52)
عندئذ غائرتين أكثر من قبل! ثم واجهني وقال:
- كان الأجدر بي أن أتصف باسمي فأكون باردا كالثلج. . على الأقل معك أنت.
فلم أجب، فاستمر يقول:
- إن الهدوء والرزانة من صفاتي. . لكن التبسيط الذي يذهب بروعة الأشياء!
فسألته قائلا: لماذا تطلب العلم إذن؟
- كان المبشر قد أحسن إلى كثيرا، فحين زودني بالمال وحثني على طلب العلم لم أستطع الرفض.
- ولماذا تخصصت في العلوم؟
- أخبروني هنا أني أهل للعلوم! إنهم يريدون أن يجردوني من الخيال، من خيالي اللذيذ! لأفنى في المعادلات العقيمة، لكنني لن أفعل هذا. . لن أفعل!
فصمت قليلا في حين كانت عيناه تبرقان ثم عاد يقول:
إن أهل العلوم قد أفسدوا علي أحلامي وخيالي، قالوا لي إن هذا من هذا، وإن الماء هو الجمع بين ذرة من أكسجين مع ذرة من هيدروجين! وإن ورد الزنبق مؤلف من هيدرات الكاربوليك والنيتروجين! وإن ماكنة السفينة بسيطة، فالمحرك لا يدور بقدرة الإله كما كنت أعتقد، بل بقدرة. . البخار! لقد عللوا لي الأشياء، وبسطوها وشرحوها، حتى بدت لي عادية بسيطة تافهة لا روعة فيها أبدا.
قلت له: إننا لا نؤمن بوجود الإله في محرك السفينة لكننا نؤمن بوجوده في محل آخر.
- تعني الكنيسة؛ دخلتها مرة فشعرت بنفور أعمق من نفوري من المعادلات.
- ما قولك إذن في شعرائنا؟
- أولئك شعراء؟ إنهم لا يؤمنون بالله حين يدعون أبدا أنهم يؤمنون! لقد لاحظتهم وهم منفردون بأنفسهم يرتلون الشعر، فرأيت السخرية تبدو في وجوههم واضحة كلما جاء ذكر الإله!
وقلت وقد أزعجني كلامه - ألست معي في أن للعالم اسما مهيبا محترما؟
- أنا معك في أن له اسماً مهيباً محترما. . . فقط! لكنه هو نفسه خال من الصفتين! أنكم تقولون عن العلم أنه سام كالآلهة وأن له أغواراً عميقة ليس لها قرار! ثم أراكم تنزعون(984/53)
ثوب تلك الآلهة، المعبودة، وتتركونها عارية، ثم تجهزون عليها وتجردونها حتى من الخجل.
- الخجل، ما معنى الخجل يا سيدي؟
- ألم تسمع قول أستاذنا في الكيمياء؟ لقد قال إن ما ندعوها (بالحياة) مؤلفة من كذا أحماضا وكذا قلويات. . إلى آخر هذه الأشياء التي نسيتها.
فوجدت صاحبي يمضي إلى مذاهب متشعبة، وأن لا فائدة من معاندته ولا من تشجيعه على ما هو فيه، فقلت له:
- إذا نلت الدكتوراه فستغدو حرا، ولك ألا تنتبه إلى المحاضر ولا إلى المعادلات، ولك ألا تهتم إلا بعالمك الذي تحن إليه.
كل من قال الدكتوراه كان قد أجهده الاستذكار. . إلا الهندي سنو! فهو لم يراجع ولم يذاكر، فنال أجازة الدكتوراه من غير تعب أو إرهاق. وبدا لي أنه لم يعلق على الدكتوراه أملا من الآمال! إذ أن كثيرا ما رأيته وهو يسرح بأنظاره عبر الفضاء باحثا عن أحلام أخرى. غامضة، ما كنت أفهمها، ولعله هو نفسه أيضاً ما كان يفهمها، وبدا لي كأن وجهه قد تحجر وتجهم وأنه صار شبيهاً بوجه العلم الموسوم، على اللوحة السوداء.
احتفلنا بعد الامتحان، حيث خطب فينا العميد في قاعة الكيمياء، فلاحظت صديقي الهندي جالساً أمامي، وهو منصرف إلى تأمل ذبابة تطير عند النافذة! ولما قال العميد (علينا أن ندعو جيلنا بجيل العلم) ترك سنو ذبابته فتوجه إلى المحاضر فاستمر هذا يقول (ولكننا لسنا في المرحلة الأخيرة من مراحل العلم، فثمة معضلات أخرى كثيرة يجب أن نحاربها بالعلم). فلاحظت سنو يزداد انتباهاً. قال المحاضر (فنحن لن نرتاح حتى يسود العلم الأرض كلها، حتى نحطم العقائد البالية، حتى. .) وقاطعه بصوت عنيف (وماذا أبقيت للشياطين)؟ ووقف الصارخ فإذا هو سنو! فجعل يصرخ صراخاً كالعويل. . . لا ريب أن أهالي قريته يتسلحون به ضد الشياطين! ثم وثب على محبرة عامرة بالقرب منه، فألقاها على المحاضر. .! فتجنبها هذا. . ونزل من المنصة، فارتطمت المحبرة باللوحة السوداء؛ فتكسر زجاجها وسال مدادها على تعاريج وجه العلم، فتكالب على سنو من حوله، لكنه قاوم حتى نجح في أن يقذف بمحبرة أخرى في وجه. . العالم! فعلا الصخب والصراخ، حتى(984/54)
حملوا سنو إلى الخارج حملا.
. . ومضى عام!
وإذا أنا أستلم رسالة من كندا، كانت من سنو الهندي، وكانت فيها هذه الكلمات:
(. . بينما كنت أتوجه ذات صباح إلى بحيرة هونين، مثلما كنت أفعل قبل مغادرة وطني، وجدت أيضاً ريشة طائر، من النوع الذي كنت أجده دائما كما ذكرت لك، فتناولتها لأرى من من الآلهة قد بعثها لي. . ولأداعبها وألاعبها كما كنت أفعل! وإذا أنا أمام ريشة بسيطة عادية لطائر معروف، لا تولد في أية لذة. إنما هي ريشة تتألف من كالسيوم وكوبلت 3)!
كارنيك جورج ميناسيان(984/55)
العدد 985 - بتاريخ: 19 - 05 - 1952(/)
سام. .
للأستاذ سيد قطب
ذلك الذي تلمحه على وجوه الناس في هذه الأيام، وتلمسه في أحاديثهم في كل مكان. .
سأم من كل شيء، ومن كل فكرة، ومن كل عمل، ومن كل أحد، ومن كل اتجاه. .
سأم هو مزيج من ألم قد مات! ومن يأس من الأعمال والرجال، ومن (قرف) شامل، ومن استهتار.
يقلب الناس صفحات الصحف، ويمرون على العنوانات الضخمة بدون اكتراث، كأن لم يعد شيء يدعو إلى الاكتراث.
هذه الردود الذاهبة إلى لندن، الآيبة إلى القاهرة وبالعكس، إنها لا تعني أحدا. إن كل أحد يحس أنها ليست له، وليست من شأنه، وليست بشأنه، إنها أمور تعني أصحابها. تعني الذين يهمهم (قتل الوقت) هنا أو هناك!
كل أحد في هذا الشعب يعرف أن هذه الردود الذاهبة إلى لندن، الآيبة إلى القاهرة وبالعكس، ليست هي التي تخرج الإنجليز من الوادي. كل أحد يعرف أنه وقت ضائع ذلك الذي يصرف فيها. وأن الإنجليز يهمهم دائما أن يسوفوا انتظار لتحسن الظروف.
كل أحد في هذا الشعب يعرف أن الإنجليز يعرفون، أن هناك عشرين مليونا من البشر يعيشون خلف القضبان، وأن الذين يعيشون خلف القضبان لا حق لهم في الاستقلال!
ولكن أحدا لا يقول شيئا عن هذه المسألة، ولا يهم أن يفتح فمه عنها بحديث، ما فائدة أن يتكلم؟ ما جدوى أن يقول؟
سأم. سأم. سأم تموت منه الكلمات في الشفاه.
والأزمة الاقتصادية، إن بوادرها في الأفق تلوح. بل إنها لتجتاح الوادي. كل شيء في الريف يهوى: القطن، الإيجارات، المعاملات، بينما تكاليف المعيشة على حالها، والغلاء آخذ بالخناق.
ولكن أحدا لا يهم أن يصرخ، ولا يهم أن يستغيث، ولا يهم أن يشير بعلاج.
لقد سئم الناس تكرار الصراخ وتكرار الاستغاثة وتكرار الكتابة حول النقائص والعيوب. . كل كلام ذاهب كصرخة في واد، ليس لها من سميع.(985/1)
لذلك لم يعد أحد يشكو. أنه ما فائدة الشكوى؟ ما جدوى الألم؟
سأم. سأم. سأم تموت منه الكلمات في الشفاه.
وحكاية التطهير، لقد ألقى إليها الشعب سمعه في أول مرة. ثم سحب اللحاف على رأسه ونام!
إن كل أحد يعرف أن الأمور فيما يختص بالشعب تسير كما كانت دائما تسير. . . مصالح الجماهير في دواوين الدولة لا يشعر بها أصحاب الدواوين. . . ما من حاجة تقضى لأنها يجب أن تقضى؛ الموظفون في مكاتبهم لا للعمل، ولكن للاتفاق على العمل! حتى المدرسون، ورثة الأنبياء، مربو الجيل، كل جهدهم اليوم للدروس الخصوصية، ومجانية التعليم أمست سخرية، بل كارثة على رؤوس الآباء. لقد كانوا يؤدون المصروفات المحدودة فيتعلم أبناؤهم. أما اليوم فلا يتعلم إلا من يؤدي ضريبة الدروس الخصوصية. هنالك عصابات من (المربين)، عصابات تفرض ضرائب معينة على الآباء، وإلا فليستمتعوا هم وأبناؤهم بتعليم المجان!
ولكن أحدا في الشعب لا يتألم ولا يصرخ، كما أنه لا يحفل بحكاية التطهير. أنه يعرف ما هنالك. فلا داعي إلى الكلام!
سأم. سأم. سأم تموت منه الكلمات في الشفاه.
ومصر بلد مجنون والحمد لله! بلد يحاول أن يستنقذ من رمال الصحراء ومن ركام الأملاح أشبارا أو أمتارا من الأرض كل عام. وتنفق وزارة الأشغال، ومصلحة الأملاك، ووزارة الزراعة ما تنفق من جهد ومن ومال في استنقاذ هذه الأشبار والأمتار من فم الصحراء، وردها إلى الخصوبة والعمار، ولكن هذا البلد نفسه يطمر مئات الأفدنة كل عام بالرمال والأحجار، مئات الأفدنة من أخصب بقاع هذا الوادي، يطمرها تحت الرمال والأحجار كي يحولها إلى مساكن! وهاأنذا صباح مساء أبصر مئات من الرجال يكدون اليوم بطوله ليفرشوا مساحات من الأراضي الخصبة بين المعادي والبساتين. على خط حلوان. يفرشونها بالرمال، ويطمرون ما عليها من زرع أخضر حي. يدفنونه بلا شفقة ولا رحمة، لتتحول هذه الأرض الخصبة إلى مساكن لشركة المعادي!
ومن قبلها حدث مثل هذا في مدينة الأوقاف، وفي الدقي وفي طريق الهرم، لقد أكلت(985/2)
المباني هذه المساحات الشاسعة، بينما عشرات الألوف من الأفدنة، ومئات الملايين من الأمتار المربعة من الأراضي الرملية الجافة الجميلة الصالحة للسكنى بلا ردم ولا هدم تنتظر مشروعا واحد يحيلها عمارا، مشروع كهربة خط حلوان. .
ولكن مصر بلد مجنون والحمد لله. يجاهد جهاد المستميت لينقذ شبرا من عدم الصحراء، ويجاهد كذلك جهاد المستميت ليهب الصحراء فدانا يطمره بالرمال والأحجار.
أم إنني أنا المجنون؟ لأنني لا أفهم أن في مصر مصالح، وأن في مصر شركات؟
ثم مالي لا أصمت كما يصمت الشعب في هذه الأيام؟ ألا أحس ذلك السأم الذي يرين على الوجوه؟ ألا أشعر بذلك الهم الجاثم على الصدور؟
وفي هذا الوقت بالذات يطلع علينا الأستاذ أحمد العجمي في الرسالة بهتاف حار: أين الشعر أيها الشعراء؟
الشعر! الشعر يا سيدي هتاف حياة، ودعوة حياة، وتعبير حياة.
الشعر طاقة فائضة تريد لها متنفسا، وحيوية دافقة تبتغي لها مسيلا.
الشعر تعبير أحرار يملكون التعبير، لا جمجمة عبيد أو أسرى خلف القضبان.
الشعر انتفاضة قلب، وتحليق روح. لا وسوسة السلاسل ولا جرجرة الأغلال.
انظر يا سيدي حولك! أنظر إلى ذلك الذي تلمحه في الوجوه، وتراه في السمات.
إنه مزيج من ألم قد مات، ومن يأس من الأعمال والرجال، ومن (قرف) شامل، ومن استهتار.
إنه السأم. السأم الذي تموت منه الكلمات في الشفاه!
سيد قطب(985/3)
في سبيل الإصلاح
من أخلاقنا
للأستاذ علي الطنطاوي
أليس عجيبا أن صار اسم (الوعد الشرقي) علما على الوعود الكاذبة، واسم (الوعد الغربي) علما على الوعد الصادق؟
من علم الغربيين هذه الفضائل إلا نحن؟ من أين قبسوا هذه الأنوار التي سطعت بها حضارتهم؛ ألم يأخذوها منا؟
من هنا أيام الحروب الصليبية، ومن هناك، من الأندلس بعد ذلك، وهل في الدنيا دين إلا هذا الدين (الشرقي) يجعل للعبادات موعدا لا تصح العبادة إلا فيه، وإن أخلفه المتعبد دقيقة واحدة بطلت العبادة؟ إن الصوم شرع لتقوية البدن - وإذاقة الغني مرارة الجوع حتى يشفق على الفقير الجائع - وكل ذلك يتحقق في صوم اثنتي عشرة ساعة، واثنتي عشرة ساعة إلا خمس دقائق، فلماذا يبطل الصوم إن أفطر الصائم قبل المغرب بخمس دقائق؟ أليس لتعليمه الدقة والضبط والوفاء بالوعد؟ ولماذا تبطل الصلاة إن صليت قبل الوقت بخمس دقائق؟
والحج؟ لماذا يبطل الحج إن وصل الحاج إلى عرفات بعد يوم الوقفة، أليس لأن الحاج قد أخلف الموعد؟
أو لم يجعل الإسلام إخلاف الوعد من علامات النفاق، وجعل المخلف ثلث منافق؟ فكيف نرى بعد هذا كله كثيرين من المسلمين لا يكادون يفون بموعد، ولا يبالون بمن يخلف لهم وعدا، أو يتأخر عنه، حتى صار التقيد بالوعد، والتدقيق فيه والحرص عليه، نادرة يتحدث بها الناس، ويعجبون بصاحبها ويعجبون منه. . . وحتى صارت وعودنا مانحة مانعة لا تعرف الضبط ولا التحديد.
يقول لك الرجل (الموعد صباحا) صباحا؟ في أي ساعة من الصباح؟ في السادسة؟ في السابعة؟ في الثامنة؟ إنك مضطر إلى الانتظار هذه الساعات كلها. (الوعد بين الصلاتين) وبين الصلاتين أكثر من ساعتين. (الوعد بعد العشاء). أهذه مواعيد؟! هذه مهازل وسخريات، لقوم لا عمل لهم، ولا قيمة لأوقاتهم، ولا مبالاة لهم بكراماتهم!
هذه مواعيدنا في ولائمنا، وحفلاتنا، وفي اجتماعاتنا الفردية والعامة.(985/4)
دعيت مرة إلى وليمة عند صديق لي قد حدد لها ساعة معينة هي الساعة الأولى من بعد الظهر، فوصلت مع الموعد فوجدت المدعوين موجودين إلا واحدا له عند صاحب الدار منزلة. وتحدثنا وحلت ساعة الغداء وتوقعنا أن يدعونا المضيف إلى المائدة فلم يفعل، وجعل يشاغلنا بتافه الحديث، ورائحة الطعام من شواء وقلاء وحلواء، تملأ آنافنا، وتصل إلى معدنا الخاوية، فتوقد فيها نارا، حتى إذا اشتد بي الجوع قلت:
- هل عدلت عن الوليمة؟
فضحك ضحكة باردة وخالها نكتة، فقلت:
- يا أخي جاء في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة. . حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ونحن جماعة وهي واحدة، وهي قطة ونحن بشر!
فتغافل وتشاغل. ثم صرح فقال: حتى يجيء الشيخ فلان.
- قلت: إذا كان الشيخ فلان قد أخلف الموعد، أفنعاقب نحن بإخلافه؟ وهل يكون ذنبنا أنا كنا غير مخلفين؟
والحفلات مثل الولائم، يكتب في البطاقة أنها تبدأ في الساعة الرابعة، وتبدأ في نصف الخامسة. وأعمالنا كلها على هذا النمط، ركبت مرة الطيارة من مطار ألماظة في مصر فتأخرت عن القيام نصف ساعة انتظار راكب موصى به من أحد أصحاب المعالي. ولما ثرنا معشر الركاب وصخبنا طار بنا، فلم يسر والله ربع ساعة حتى عاد فهبط فارتعنا وفزعنا وحسبنا أن قد جرى شيء، وإذا العودة من أجل الراكب المدلل صديق صاحب المعالي، وقد كان تأخر لأنه لم يحب أن يسافر حتى يدخل الحمام، ويستريح بعد الخروج كيلا يلفحه (اسم الله عليه) الهواء البارد. وكنت عائدا من رحلة رسمية فلما وصلت إلى مطار المزة وجدت أكثر من مائتي إنسان بينهم مندوب وزير العدل، ينتظرون في الشمس منذ ساعة كاملة.
والسيارات مثل الطيارات، والدكاكين والدواوين، والمقاهي والملاهي، كل ذلك يقوم على تبديل المواعيد وإخلافها، حتى لم يبق لشيء موعد معروف. فيا أيها القراء خبروني سألتكم بالله، أي طبقة من الناس تفي بالموعد، وتحرص عليه وتصدق فيه، وتدقق في إنجازه؟ الموظفون؟ المشايخ؟ الأطباء؟ المحامون؟ الخياطون والحذاؤون؟ سائقو السيارات؟ من؟ من(985/5)
يا أيها القراء؟
يكون لك عند الموظف حاجة لا يحتمل قضاؤها خمس دقائق، فتجيئه وهو يشرب القهوة، أو يقرأ الجريدة، أو يشغل نفسه بما لا طائل تحته، فيصعد فيك بصره ويصوبه، ويقومك بعينه، فإن أنت لم تملأها، ولم تدفعه إلى مساعدتك رغبة فيك، أو رهبة منك، قال لك: ارجع غدا. فترجع غدا، فيرجئك إلى ما بعد غد. . . لا أعني موظفا بعينه، ولا عهدا بذاته، بل أصف داء قديما سرى فينا واستشرى، ودخل وتغلغل. .
ويكون لك موعد مع الشيخ، فيجيئك بعد نصف ساعة، ويعتذر لك، فيكون لاعتذاره متن وشرح وحاشية، فيضيع عليك في محاضرة الاعتذار نصف ساعة أخرى. وإن دعوته الساعة الثانية جاء في الثالثة. وإن كان مدرسا لم يأت درسه إلا متأخرا.
والطبيب يعلن أن العيادة في الساعة الثامنة ولا يخرج من داره إلى العاشرة، وتجيئه في الموعد فتجده قد وعد خمسة من المرضى مثل موعدك، واختلى بضيف يحدثه حديث السياسة والجو والكلام الفارغ، وتركهم على مثل الجمر، أو على رؤوس الإبر، ينتظرون فرج الله، حتى يملوا فيلعنوا الساعة التي وقفوا فيها على باب الطبيب، ويذهبون يفضلون آلام المرض على آلام الانتظار، ويؤثرون الموت العاجل المفاجئ على هذا الموت البطيء المضني.
أما الخياطون والخطاطون، والحذاؤون والبناؤون، وأرباب السيارات، وعامة أصحاب الصناعات، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنهم من أكذب خلق الله، وأخلفهم لوعد. الكذب لهم دين، والخلف عادة، ولطالما لقيت منهم، ولقوا مني، وما خطت قميصا ولا حلة، ولا صنعت حذاء، ولا سافرت في سيارة عامة سفرة، ولا بعثت ثوبا إلى مصبغة لكيه أو غسله أو تنظيفه، إلا كووا أعصابي بفعلهم، وشويتهم بلساني، وإن كان أكثرهم لا يبالي ولو هجاه الحطيئة أو جرير أو دعبل الخزاعي، بل إنهم ليفخرون بهذه البراعة في إخلاف المواعيد، والتلاعب بالناس، ويعدونها مهارة وحذقا.
فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف، ونعد وعد الصدق، وتقوم حياتنا فيه على التواصي بالحق لا يعد فيه المرشح وعدا إلا وفى به بعد أن يبلغ مقاعد البرلمان، ولا يقول الموظف لصاحب الحاجة إني سأقضيها لك إلا إذا كان عازما على قضائها، ولا يعد الصانع(985/6)
بإنجاز العمل إلا إذا كان قادرا على إنجازه، والموظفون يأتون من أول وقت الدوام ويذهبون من آخره، والأطباء لا يفارقون المكان ساعات العيادة، والخياط لا يتعهد بخياطة عشرة أثواب إن كان لا يستطيع أن يخيط إلا تسعا، وتمحى من قاموسنا هذه الأكاذيب. تقول لأجير الحلاق: أين معلمك؟ فيقول، أنه هنا سيحضر بعد دقيقة، ويكون نائما في الدار لا يحضر إلا بعد ساعتين.
ويقول لك الموظف، من فضلك لحظة واحدة. فتصير لحظته ساعة.
ومتى تقوم حياتنا على ضبط المواعيد وتحديدها تحديدا صادقا دقيقا، فلا يتأخر موعد افتتاح المدارس من يوم إلى يوم ويتكرر ذلك كل سنة، ولا يرجأ موعد اجتماع الدول العربية في الجامعة من شهر إلى شهر، ولا تعاد في تاريخنا مأساة فلسطين التي لم يكن سببها إلا إهمال ضبط المواعيد وإخلافها. ولو أنا حددنا بالضبط موعد القتال، وموعد الهدنة، وجئنا (أعني الدول العربية) على موعد واتفاق، لكان لنا في تاريخ فلسطين صفحة غير التي سيقرؤها الناس غدا عنا.
إن إخلاف الموعد الصغير، هو الذي جر إلى إخلاف هذا الموعد الكبير. فلنأخذ مما كان درسا؛ فإن المصيبة إذا أفادت كانت نعمة. ومتى صلحت أخلاقنا، وعاد لجوهرنا العربي صفاؤه وطهره، وغسلت عنه الأدران، استعدنا فلسطين، وأعدنا ملك الجدود.
فابدؤوا بإصلاح الأخلاق، فإنها أول الطريق.
علي الطنطاوي(985/7)
4 - حسن البنا الرجل القرآني
بقلم روبير جاكسون
للأستاذ أنور الجندي
. . . أعتقد أن حسن البنا كان أهلا للمكان المرموق، والزعامة الحقة التي وصل إليها. . فقد كان تركيبه الجسدي والفسيولوجي، وأخلاقه وشمائله، وعواطفه وأشواقه. . وذكاؤه وعبقريته، ودهاؤه وحيلته، وقدرته على مواجهة الظروف والأحداث.
كان الرجل يفهم دعوته التي يدعو إليها على أوسع نطاق، وكان يؤمن بها أصدق إيمان، وكان يراها وسيلة إلى تحقيق وحدة الشرق، وتحريره، وخلق جيل جديد، يكسر قيود الاستعمار ويحرر الأوطان، وينفذ في الأرض شريعة الحق. . .
كان الرجل علما على دعوته. . ذلك أنه ليس من اليسير أن ندرس فكرة منفصلة عن قائدها، بل إننا لا نعتقد أن هناك رسالة يمكن أن تنفصل عن الداعي إليها، أو تقوم بعده على الوجه الذي رسمه لها. . .
فهي جزء منه وهو جزء منها، أو هما شقان للحقيقة الخالدة القائمة التي تنتظم نفوس التابعين له، أو المنضوين تحت لوائه. . .
وليس شك أن الزعماء والقادة هم أوعية المبادئ والبرامج والمذاهب. . هذه المبادئ التي ليست إلا كلمات منثورة في بطون الكتب، ليست العبرة بنصوصها بقدر ما تكون العبرة بالقائمين عليها وتنفيذها.
وعلى قدر إخلاص الداعية لمبادئه، وتطبيقها على نفسه، وعلى قدر صلابة عزيمته في تنفيذها وتطبيقها يتوقف نجاحهم.
أنا أؤمن بأن مبادئ الإخوان مرتبطة إلى حد كبير بذلك الرائد الأول الذي رسم خطوطها، وأقام بناءها حجراً حجراً. . فإذا ما قضى فأنا لا أستطيع أن أحكم على مدى اتجاه هذه المبادئ إلا بعد وقت طويل. .
لم يكن الرجل القرآني، فيما علمت، يسعى إلى فتنة، أو يؤمن بالطفرة. . ولكنه كان يريد أن يقيم مجتمعا صالحاً قويا حرا، وينشئ جيلا فيه كل خصائص الأصالة الشرقية. .
لقد ظهرت حركات إصلاحية كثيرة خلال هذا القرن. . في الهند ومصر والسودان وشمال(985/8)
أفريقيا. وقد أحدثت هزات لا بأس بها ولكنها لم تنتج آثاراً إيجابية ثابتة.
وقد جاء هذا نتيجة لعجز بعض المصلحين عن ضبط أعصابهم عن مواجهة الأحداث واندفاعهم إلى الحد الذي وصل بهم إلى مرتبة الجرح قبل أن يتم البناء، كما جاء أثراً من آثار عزوفهم عن الاتصال بالشعب وتكوين رأي عام مثقف.
اختفت هذه الدعوات، وبقيت عبارات على الألسن، وكلمات في بطون الكتب، حتى قيض لها أن تبعث من جديد، وأن تستوفي شرائطها ومعالمها. . وأن تأخذ فترة الحضانة الكافية لنضوجها، وأفاد الرجل من تجارب من سبقوه، ومن تاريخ القادة والمفكرين والزعماء. . الذين حملوا لواء دعوة الإسلام، ولم يقنع بأن يكون مثلهم. . ولكنه ذهب إلى آخر الشوط، فأراد أن يستمد من عمر وخالد وأبي بكر. فأخذ من أبي بكر السماحة ومن عمر التقشف. . ومن خالد عبقرية التنظيم.
وربط خصومه بينه وبين الأحداث العالمية، فأتهم في حادث اليمن، ونسب إليه شيء من جهاد إندونيسيا. وكان له أثره في حوادث فلسطين.
وكان له موقف إزاء معاهدة صدقي بيفن، وموقف عندما اتجهت مصر إلى مجلس الأمن. .
كان حسن البنا لا ينام إلا بضع ساعات. . ثم ينفق وقته كله ساعة ساعة، ولحظة لحظة. . في العمل المتصل، وكان عقله مثلا رائعا للإعداد والابتكار والإنشاء. . الذي لا يقف ولا ينقطع، فهو إذا أصبح الصباح يكون قد أعد قائمة بالأفراد الذين يهمه الاتصال بهم. . ويحظر إلى مكاتب العمل قبل الموظفين. . ويظل يتنقل بين المركز والجريدة. . والشباب والمنزل، وفي كل مرحلة يؤدي عملا والتليفون يلاحقه. . وفي خلال ذلك يتحدث مع الناس، ويستمع إليهم، ويخطب، ويقرأ الصحف، وتعرض عليه عشرات الأوراق التي تتطلب رأيه، والخطابات التي ترد من أنصاره العديدين، في مختلف أنحاء العالم، وهي غالبا ما تكون مشفوعة بشيكات أو حوالات مالية. .
. . لقد رأيته وهو يقرأ خطابا من شاب من أتباعه، قد أرفق به نصف راتبه الشهري. . . وفجأة، تساقطت دموعه على الخطاب فبللته. . ورأيته وهو يودع بعض أنصاره المسافرين إلى خارج مصر، وهو يرسل نظراته الحادة في وجوههم المشرقة المحتفرة. .
وكان هذا العمل المجهد يزيده قوة. .، وكان لقاء أتباعه الذين يردون من مختلف أنحاء(985/9)
القطر يملأ نفسه بالرضا، ويزيد عزيمته مضاء. . كان كل منهم، يحمل له أنباء جديدة، سارة، عن اتساع نطاق الدعوة وانضواء الشباب. .
وكان يوم الثلاثاء. . يوما مشهوداً يتجمع فيه بضع مئات من أنحاء القاهرة، ليستمعوا إلى هذا الرجل الذي يصعد المنصة في جلبابه الأبيض وعباءته البيضاء وعمامته الجميلة فيجيل النظر في الحاضرين لحظة. . بينما تنطلق الحناجر بالهتاف. .
. . ولا تدهشك خطابته بقدر ما يدهشك إجابته على القصاصات. . كان بعض هذه يتصل بشخصيته وحياته وأسرته.
وقد سئل مرة بعد أن ترك عمله في الحكومة ورفض مرتب الجريدة الضخم الذي كان يبلغ مائة جنيه: مم يأكل. . فقال في بساطة: كان محمد يأكل من مال خديجة وأنا آكل من مال (أخ) خديجة، يقصد صهره. .
وكان أعجب ما في الرجل صبره على الرحلات في الصعيد. . هذه الرحلات التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف حيث تكون بلاد الوجه القبلي في حالة غليان. . وفي أحشائها يتنقل الرجل بالقطار والسيارة والدابة وفي القوارب وعلى الأقدام.
وهناك تراه، غاية في القوة واعتدال المزاج. . لا الشمس اللافحة، ولا متاعب الرحلة. . تؤثر فيه ولا هو يضيق بها. . تراه منطلقا كالسهم، منصوب القامة، يتحدث إلى من حوله، ويستمع، ويفصل في الأمور.
وقد أمدته هذه الرحلات، في خمسة عشر عاما، زار خلالها أكثر من ألفي قرية وزار كل قرية بضعة مرات، بفيض غزير من العلم والفهم للتاريخ القريب والبعيد، وللأسر والعائلات والبيوتات وأحداثها وأمجادها وما ارتفع منها وما انخفض. . . وألوانها السياسية وأثرها في قراها وبلادها ورضى الناس عنها أو بغضهم لها. . وما بين البلاد أفراداً وأحزابا وهيئات وطوائف من خلافات أو حزازات. . .
كان يزور أحيانا بلداً من البلاد بلغت فيها الخصومة بين عائلتين مبلغها، وكل عائلة تود أن تستأثر به لتنتصر على الأخرى، فيقصد إلى المسجد مباشرة، أو يغير طريق سفره فلا يستقبله أحد إلا بعد أن يكون قد قصد إلى دار عامل فقير في البلدة.
. . . وكنت إذا قلت له فلان. . الحسيني مثلا أو الحديدي أو الحمصاني قال لك. . إن هذا(985/10)
الاسم تحمله خمس أسر أو أربعة. . إحداهما في القاهرة والثانية في دمنهور والثالثة في الزقازيق. . والرابعة في. . . فأيها تقصد؟
وكانت هذه الزيارات المتوالية طوال هذه السنوات المتتالية، قد كونت له رأيا في الناس. . فقل أن تكون قرية في مصر لا يعرف الرجل شبابها وأعيانها ووزرائها ورجال الأحزاب والدين والمتصوفة فيها. . ولا يكون قد تحدث إليهم واستمع منهم. . وعرف آمالهم ورغباتهم، ومن هذه الأحاديث الواسعة المستفيضة كان الرجل يستكنه (الضمير) الشعبي المصري على صورة قل أن أتيحت لزعيم أو داعية من قبل، فإذا أضفت إلى هذا قراءاته الواسعة واطلاعه الضخم، والتهامه لكل ما كتب في العربية عن الشرق والغرب، ونظريات العلماء والفلاسفة، عجبت لهذه القوة الكبرى التي فقدها الشرق. . يوم غيب الثرى هذا الرجل. ولدهشت كيف يمكن أن يمكن أن يملأ هذا الفراغ أو يسد هذا النقص، وفي خلال هذه الزيارات. . كنت ترى الرجل بسيطا غاية البساطة، ينام في الأكواخ أحياناً، ويجلس على (المصاطب) ويأكل ما يقدم له. . لا يحرص إلا على شيء واحد، هو ألا يفهم الناس عنه أنه شيخ طريقة. . أو من الطامعين في المنفعة العاجلة. ولقد حدثني أنه كان يدخل بلدا من البلاد أحيانا لا يعرف فيه أحداً فيقصد إلى المسجد، فيصلي مع الناس، ثم يتحدث بعد الصلاة عن الإسلام. . وأحيانا ينصرف الناس عنه فينام على حصير المسجد وقد وضع حقيبته تحت رأسه. . والتف بعباءته.
ولا شك أن هذا الجهد الضخم، قد أتاح له أن يلتقي بعشرات الآلاف من الناس. . خصوما وأنصاراً، شيوخاً وشبانا، مثقفين وعوام. . وأنه قد استمع إليهم وقال لهم. . وأفاد منهم خبرة ضخمة واسعة، أضافها إلى علمه وثقافته.
وإنني على ثقة من أن حسن البنا رجل لا ضريب له في هذا العصر، وأنه قد مر في تاريخ مصر، مرور الطيف العابر. . الذي لا يتكرر. . ولقد طالما كان يردد كلمته المشهورة (الناس كإبل مائلة لا تجد فيها الراحة. .)
للبحث صلة
أنور الجندي(985/11)
الشرق الثائر
للأستاذ أبي الحسن علي الحسني الندوي
إن ما يرجع إليه الفضل في أهم الأحداث التي غيرت مجرى الأمور وفكت السلاسل وحطمت الأغلال وردت الأمر إلى نصابه والحق إلى أصحابه (غضبة) غضبها حق مهضوم، أو شعب مظلوم، أو حر يستعبد، أو دين يضطهد، أو كرامة تتهدد، أو كريم يتحدى.
إن الغضب - مهما قال فيه علماء الأخلاق وكيفما حلله المؤلفون في علم النفس - من علامات الحياة وسمات الرجولة، إذا حرمه فرد كان بالجماد أشبه منه بإنسان حي. وإذا تجردت منه أمة كانت قطيعاً من غنم أو لحماً على وضم، لا تستحق الحياة فضلا عن الاستقلال، ولا تستحق الاحترام فضلا عن الإكبار والإجلال.
إن الغضب هو حمة الفرد والجماعة التي يحميان بها نفسهما ويصونان بها حياتهما، وإن الله لم يحرم مخلوقا من سياج يحوطه ومن حامية تذب عنه، ولما منح الورد طبيعة الحرير، رزق الأشواك التي حوله طبيعة الحديد. . ولا بقاء لحرير إذا لم يكن دونه شديد أو حوله حديد.
إن الغضب قوة كامنة في النفس قد لا يعلمها صاحبها، فإذا أثيرت هذه القوة وانطلقت أتت بالمعجزات، وأظهرت الآيات البينات، وقربت البعيد، وأذابت الحديد، وأحالت اليأس رجاءً والممتنع ممكناً، وطوت المسافات البعيدة في لمح البصر أو أقرب.
إن للغضب في تاريخ الإنسان العام وفي تاريخ الإسلام أياماً مشهورة، وفضائل مأثورة؛ ومواقف مشكورة، وإن أروع هذه الأيام وأفخرها يوم غضبت الأمة وثارت الجماعة، وما أمثلة هذه الغضبات في تاريخ هذه الأمة بنادرة.
إن أشد ما نكب به هذا الشرق الإسلامي وإن أكبر ما جنى عليه في العهد الأخير أنه فقد طبيعة الغضب والتزم الحلم والأناة والرحمة والعفو والتنزل عن الحق في كل وقت ومع كل أحد، مع أنه لا حلم مع الضعف ولا رحمة مع العجز ولا عفو مع الإرهاق ولا تنزل مع القهر، إنما هي كلها أخلاق اضطرارية لا قيمة لها ولا فضل، وليس مصدرها إلا برودة الدم وموت الرجولة وانحطاط الإنسانية. . وقديماً وصف الشاعر العربي قبيلة أسرفت في(985/13)
السماحة والعفو
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحساناً
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهمو من جميع الناس إنسانا
لقد هجم الغرب على الشرق بدون داع ولا مبرر، لا دين ينشره، ولا رسالة يبلغها ولا فضيلة يحميها ولا عقيدة يدعو إليها. إنما هو الجشع الأرضي والشره الاقتصادي والاستغلال التجاري والاحتلال السياسي وبالإجمال طبيعة قابيل القديمة، هجم عليها بدافع الطمع والحرص فغزا عقوله ونفوسه وأسواقه وبيوته واتخذه ناقة ركوباً حلوباً يحلب ضرعها ويجز صوفها ويقتر عليها في مائها وعلفها، ويقسو عليها في استخدامها، واستأثر بموارد هذا الشرق، وخيراته وأصبح في بلاده الغنية التي تدر لبناً وعسلا كالأسفنج يمص الماء هنا ويصبه هناك، استأثر بمعادنه ومناجمه وبالذهب الأصفر والأسود، وأملى على شعوبه معاهدات وإيجارات جار فيها وغش وطفف الكيل وأخسر الميزان. . وضحك عليه كما يضحك على الأطفال وأقام عليه الحجر والوصاية كما تقام على السفهاء.
هجم عليه الغرب فاتخذه سوقاً مفتوحة لبضائعه وزبوناً دائماً لسلعه وعمالا مخلصين لمصانعه ووقوداً حاضراً لحروبه يسخر لأغراضه كيف شاء، ويسوقه إلى ميدان الحرب متى شاء ويجعله وقاية وجنة دون رجاله وبلاده , ويعيش في بلاده بفضل هذه الخيرات والأيدي العاملة والجيوش الحامية عيش الأحرار والملوك، ويدل بمستعمراته وأسواقه وعبيده في الشرق على جيرانه ومنافسيه في الغرب.
وكان أكبر مجرم تولى كبر هذا الاستعمار الغاشم، وتفرد بالقسط الأكبر في هدر الحريات والكرامات واستعباد الشعوب والأمم ونشر القلق والاضطراب في العالم، وكان أكبر عامل من عوامل الفساد الخلقي والأثرة الاجتماعية واختلال النظم الاقتصادية وأكبر معاداة للإسلام وكيدا لأهله هي بريطانيا (العظمى) التي سبقت جاراتها وشقيقاتها إلى غزو الشرق واحتلال أقطاره واستعباد شعوبه.
وكانت أكثر هذه الأقطار الشرقية التي احتلتها بريطانيا إسلامية بالطبع، فكانت الهند التي لا تزال بلدا إسلاميا تحكمها - ولو بضعف كبير - أسرة مغولية، وكانت مصر التي تحكمها الأسرة العلوية وسواحل الجزيرة العربية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، هي(985/14)
التي تكون الإمبراطورية البريطانية الجديدة، إذن فكانت بريطانيا هي المعتدية الغاصبة الظالمة. وكان الشرق الإسلامي هو المعتدى عليه.
ثم كانت بريطانيا هي التي ولدت المشاكل للشعوب الإسلامية وخلقت لها أزمات طريفة، فهي صاحبة الوحي وصاحبة الفكرة في دولة إسرائيل الجاثمة على صدر العالم العربي. وهي التي أبرزتها من العدم إلى الوجود، ومن التمنيات إلى عالم الواقع، وهي المسئولة عن جلاء العرب وضياع فلسطين العربية وشقاء أهلها والخطر الذي يهدد الحكومات العربية كلها.
ثم فاقت بريطانيا الحكومات المستعمرة كلها في النفاق والتزوير وأخلاق الثعالب والمكر والدهاء ونكران الجميل ونسيان الوعود، ونقض العهود، قد أثبت تاريخها أنه لا أيمان لها. . وأنها لا ترقب من مؤمن إلا ولا ذمة.
إن في تاريخ بريطانيا السياسي صفحات سوداء، لعلها لا توجد في تاريخ دولة مستعمرة أخرى، مع أن الاستعمار كله صحيفة سوداء. . فإذا اقتصرنا على تاريخ الاستعمار البريطاني في الهند وجدنا فظائع لا تزال وصمة عار في وجه الحكم الإنجليزي. ففي 13 من إبريل عام 1919م انعقدت - أيام حركة الاستقلال الوطنية في الهند - حفلة شعبية عظيمة في (جليان والاباغ) في مدينة أمرتسر حضرها عشرون ألفا من الجماهير، وكانت الحديقة التي احتفل الناس فيها محاطة بالأسوار من جوانبها الأربعة، وليس لها إلا منفذ واحد تخرج منه عربة واحدة، وحضر الجزار الإنجليزي المعروف بالجنرال (دائر) ومعه مائة وخمسون (150) جنديا، فأمر المحتفلين بالانفضاض وبعد دقيقتين - كما جاء في تقريره - أمر بإطلاق النار على هذا الجمع الحاشد الوديع، وأطلقت عليه ألف وستمائة طلقة (1600) مات منها - كما جاء في التقرير الرسمي - أربعمائة رجل مع أنه غير معقول ومخالف للبداهة أن يموت أربعمائة فقط بطلقات نارية يبلغ عددها إلى ألف وستمائة طلقة في مكان ضيق محصور على هذا الجمع الحاشد. أما عدد الجرحى فيتراوح كما قالت المصادر الرسمية بين ألف وألفين، وبات القتلى والجرحى طول الليل من غير ماء ولا إسعاف طبي.
وفي سنة 1943م كانت مجاعة بنغال الكبرى التي خلقتها الحكومة الإنجليزية في الهند(985/15)
وفرضتها على أهل بنغال فرضاً لمصالحها الاستعمارية والسياسية كما تحقق علمياً وتاريخياً، ويقدر أن الذين هلكوا فيها يبلغ عددهم إلى خمسة ملايين.
وفي سنة 1947م وقعت الاضطرابات الطائفية الهائلة التي هيأتها ومهدت لها الحكومة الإنجليزية وتغافل عنها وارتضاها ممثلها الرسمي اللورد (مونت بيتن) المجرم حاكم الهند العام حينئذ، وكان أكثر من نصف مليون نسمة فريسة هذه المجزرة الإنسانية.
إن طبيعة الأشياء وغريزة الإنسان وشريعة العدل كل ذلك كان يحكم بل يفرض أن يغضب الشرق - وبالأخص الشرق الإسلامي - ويثور وينتهز كل فرصة للانتقام من بريطانيا وتصفية الحساب معها.
ظل الشرق الإسلامي خاضعاً - ولا أقول راضياً - لهذه الأوضاع التي تثير غضب الحليم لا يحرك ساكنا ولا يبدي سخطا بل يتحيز بين حين وآخر إلى المعسكر المجرم الذي يسميه الحلفاء كذباً ومينا بالمعسكر الديمقراطي ويحارب بجانبه ويستميت في سبيل شرفه وكرامته ويصدقه في عهوده ويحترم معاهداته، فاسترسلت بريطانيا - وأخواتها على أثرها - في سياستها الجائرة وأمعنت في غلوائها فأضر ذلك بالسياسة الأوربية كلها لأنها أصبحت كالفيل الهائج، وفقدت السياسة الدولية الاتزان والتفكير، وأغرى سكوت الشرق وهدوءه الزائد واحتماله المسرف المستعمرين بالاستمرار في سياستهم الغاشمة والانتصار للمدرسة السياسية الغربية القديمة التي تفكر التفكير الاستعماري وتحلم بالإمبراطوريات والمستعمرات.
فكان لا بد أن يغضب الشرق غضبة ترد المستعمرين إلى صوابهم ورشدهم وترد إلى السياسة العالمية اتزانها وتعادلها وترد إلى شعوب الشرق شرفها وكرامتها وترد إلى العالم الأمن والسلام.
وما كان يدري أحد أن إيران ستكون السابقة إلى هذه الثورة العادلة والغضبة الموفقة، وستنتصر هذا الانتصار الباهر، وستهاجم الغرب المتغطرس هذه المهاجمة المفاجئة القوية وتصفع بريطانيا الكريمة هذه الصفعة المؤلمة المخجلة التي يحمر لها وجهها وينتكس لها رأسها، إنها لصفعة موجعة حقا، مخجلة حقا، تألم لها كل إنجليزي في كل ناحية من نواحي العالم بل تأثرت بها أرواح وبناة الإمبراطورية البريطانية ومؤسسو مجدها في السابق،(985/16)
وسيلتصق عارها بكل مولود يولد في بريطانيا إلى عهد بعيد.
لقد سر كل شرقي وكل مسلم بهذه الغضبة الفارسية، وكان يتمنى أن يغضب العالم العربي ويثور ويقوم قيام الثائر الموتور لأنه أحق بالغضب وأولى بالثورة من كل بلد وقطر، لأن بريطانيا (الصديقة للعرب) قد طوقته من كل جانب وتملكت جميع منافذه. . فهذا عدن العربي لا يزال مرفأ بريطانيا وقلعة بريطانيا الحصينة، والعقبة ومعان مما تحرص بريطانيا على الاحتفاظ بهما واحتلالهما، ولا تزال إمارات الخليج العربية خاضعة للنفوذ البريطاني، ولا يزال العراق مرتبطا بالعجلة البريطانية، ولا تزال فلسطين العربية تشكو بثها وحزنها وتئن من جراحاتها وآلامها، ولا تزال دولة إسرائيل برهانا ساطعا على صداقة بريطانيا للعرب ووفائها لهم، ولا تزال مصر محتلة بالجيوش البريطانية ولا يزال السودان المصري يرزح تحت أثقال الحكم البريطاني.
إذن فكانت غضبة العالم العربي - لو غضب - من أعدل ما شهد التاريخ من الغضبات، وكانت ثورته - لو ثار - من أشرف ما دون في الكتب من الثورات.
وكان لا بد من أن يغضب بلد عربي يتزعم العالم العربي ويقوده فكريا وثقافيا وسياسيا ويتمتع بمركز محترم ومكانة مرموقة ونفوذ ملحوظ حتى يسري هذا الغضب في جميع أقطار العالم العربي ويتردد صداه في جميع الشعوب العربية ويكون كما قال جرير الشاعر العربي
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
هنالك طلعت مصر وغضبت غضبة جاءت على قدر وأرضت جميع المنصفين في العالم، أما العرب فقد أنشدوا بلسان واحد
هذا الذي كانت الأيام تنتظر ... فليوف لله أقوام بما نذروا
حياك الله يا مصر العزيزة وبارك جهادك وقوى أبطالك وثبت مجاهديك. إن غضبتك سترضي أجيالك القادمة وتشرفها وستسجل لك فتحا عظيما في الشرق، فانظري في المستقبل وما يخطه لك القلم المؤرخ من سطور الثناء والإجلال، ولا تنظري في العقبات التي تعترضك فإنها زائلة وذائبة، وانظري إلى الثمار التي سيجنيها العالم العربي بالأخص والعالم الإسلامي بالأعم من جهادك فإنه يبث في العالم العربي الروح والحياة - وما أحوجه(985/17)
اليوم إلى الروح والحياة - ويحرك فيه الحمية والأنفة، ويوقظ فيه الشعور ويوجد فيه الوعي السياسي، وصدقي يا مصر أن العالم العربي قد بلغ من الجمود مبلغا لا تهزه فيه إلا ثورة جبارة مثل ما تقومين به اليوم، فليست ثورتك هي ثورة مصر المحلية إنما هي نفخة صور للعالم العربي وفاتحة عهد جديد إن شاء الله في تاريخ العرب السياسي - احتسبي جهادك يا مصر وقدسيه بنفسك فإنه جهاد يعلي كلمة الله ويشرف الإسلام والمسلمين ويرفع رأسهم عاليا أينما كانوا، وإنه جهاد يغيظ أعداء الإسلام فحيي أبناءك المرابطين وأبطالك المجاهدين (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)
اعلمي يا مصر العزيزة أن القوة الوحيدة التي يخضع لها العرب هي إرادة الشعب القوية والعزم الصادق الثابت والجبهة الموحدة؛ فاحرصي على قوة إرادتك حكومة وعلى وثبات العزم وتوحيد الصفوف وآمني بأن شعبا قد صدقت عزيمته وقويت إرادته وتوحدت صفوفه لا يمكن أن يجبر على ما لا يرضاه ويفرض عليه ما يأباه، فقوتك في الداخل لا في الخارج. قوتك في أبنائك ونفوسهم وعزمهم؛ فإذا أبوا إلا جلاء الجيوش الإنجليزية من منطقة القنال، ووحدة وادي النيل، فليست في العالم قوة تقف في سبيل هذا العزم، وإذا ألغوا معاهدة سنة 1936م في نفوسهم واستنكفت من استمرارها حتى فضلوا الموت على عودتها فاعلمي يقينا أنها قد ألغيت وليس لأمة في العالم أن تعيدها.
اعلمي يا مصر أن السياسة متقلبة بطبيعتها وأن الدين ثابت بطبيعته، وأن المصلحة متحركة بطبيعتها، فاستندي في جهادك إلى الإيمان والعقيدة أكثر مما تستندين فيه إلى السياسة والمصلحة، وأيقظي الروح الدينية وروح الجهاد في سبيل الله واعطفي عليها وعلى رجالها فإنها أمضى سلاحك وأقوى جنودك.
وأنت أيها العالم العربي فقم بواجبك وانتهز فرصة غضب مصر وثورتها واعلم أنها من الفرس السانحة التي لا تدوم ولا تعود، فاغضب غضبة واحدة وقم قومة رجل واحد، اغضب لنفسك إن لم تغضب لمصر - وهل هي إلا جزء من أحزانك وابن كريم من أبنائك، وانصح لنفسك إن لم تنصح لغيرك، فكرامتك اليوم منوطة بمصر فلا كرامة لك إن(985/18)
هدرت كرامة مصر. فاحرص على كرامة مصر حرصك على كرامتك وجاهد في سبيلها جهادك في سبيلك. . أستغفر الله بل جهادك في سبيل الله وفي سبيل الدين وفي سبيل الحق والعدل.
إنك مسئول أيها العالم العربي ومعاتب وملوم على كل تقصير في جنب هذا الجهاد المقدس، وإنه محسوب عليك كما هو محسوب على مصر.
إن العدو ماكر داهية وقد جرب منك سقطات وزلات في السابق، وإنه واثق بولائك ووفائك فلا يخدعنك عن نفسك وعقيدتك، ولا يحولن بينك وبين مصر، ولا يشترين دولة من دولك أو شعبا من شعوبك بأرفع ثمن فإنه نار في الآخرة وعار في التاريخ - ولا أنسى أن أخاطبك يا مستر (جون بول) فأنت صاحبنا القديم عرفناك في الهند وعرفتنا، وأعتذر إليك إن كنت آلمتك بذكر الهند التي فقدتها، أريد أن أسألك أيها الشيخ السياسي المحنك عن هذا الدفاع الذي تفرضه على الشرق الأدنى فرضا وترهق به مصر الإرهاق الذي ضاقت به وغضبت عليه، هل يصح أن يسمى دفاعا؟ وأي فرق بينه وبين الاحتلال؟ وهل يجدي هذا الدفاع إذا لم ينشط له هذا الشعب الذي تدعي أنك تدافع عنه ولم يتحمس ولم يعاونك عليه؟ وكيف بك لو احتلت جنود أمريكا الحليفة الصديقة الزميلة بلادك على رغم منك ورغم من المستر تشرشل بحجة الدفاع عنك لأنك ضعيف قد أنهكتك الحرب الماضية هل تقر هذا الاحتلال وتسكت عنه يا مستر جون بول؟
إني لا أجد لك يا (جون بول) ولمصر مثلا إلا مثل زنجي وطفل. . فقد زعموا أن زنجيا كان يحمل طفلا وكان الليل شديد الظلام ولم يكن الزنجي أقل سوادا من الليل وكان الطفل كلما رأى الزنجي ارتعب وفزع، وبكى وكان الزنجي كلما بكى الطفل وخاف ضمه إلى صدره وآنسه وقال له مرة لماذا تبكي يا بني وأنت في حجري وأنا لا أفارقك؟ فقال الطفل أنت أصل بلائي وشقائي ومنك أبكي وأرتعب فيا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين.
وهكذا أنت يا مستر جون بول تريد أن تدافع عن مصر وأنت بغيض ما ثقيل على مصر ولا أحب إليها من مفارقتك، واعلم أخيرا يا مستر جون بول أن عهد الاستعمار قد انتهى من غير رجعة فلا تتعب نفسك في استرداده، وقل للمستر تشرشل كان خيرا لك أن تبقى(985/19)
بطل الحرب الثانية وقاهر الألمان وأن تحتفظ بسمعتك: وعلى نفسك جنيت إذ رجعت إلى الحكومة. . وأخاف أن يكون مصيرك كمصير الإمبراطور البيزنطي هرقل الذي انتصر على الفرس وسجل لنفسه فتحا رائعا في التاريخ ثم صادم العرب فلم يمت حتى انهزم أمامهم فأحبط ماضيه وأساء إلى نفسه وكان كالساعي إلى حتفه بظلفه.
وكلمة أخيرة إلى الرئيس ترومان، ما هذا التعاون على الإثم والعدوان أيها الرئيس الجليل! وأين الديمقراطية التي تتزعمها وتزعم أنك تدافع عنها وتجاهد في سبيلها فلم نرك إلا مرددا لصدى بريطانيا، كأنك جبل لا تملك إلا الصدى، ولم نرك تقبض مرة على الظالم وتنصر المظلوم وتغضب للحق، ولم نرك انتصرت لشعب مستضعف ومنعت زميلتك بريطانيا من الظلم وحذرتها من عواقبه! بل بالعكس رأيناك تسابق بريطانيا وساويتها في جحد الحق والمكابرة وإرغام الشعوب على ما لا ترضاه ثقة بثروتك الضخمة ومواردك العظيمة. وما ننس فلا ننسى سياستك الغاشمة في قضية فلسطين وممالئتك السافرة لليهود وكيف احتضنت الصهيونية وتبنيت إسرائيل ولا تزال تحدب عليها كالأم الروم، أفليس من السذاجة، أو من الوقاحة - إذا سمحت - طمعك في صداقة العرب بعد ذلك.
ألا فليسمع مستر ترومان وليسمع الذي له أذنان أن سياسة الاستعمار قد فشلت، وأن الشرق قد بدأ يفهم الحقائق، وإن جرب الغرب بمعسكراته وجبهاته فلم ير إلا شرا ومرا وظلما وجورا ودعاوى فارغة وتبجحا وتنطعا وعبثا بالعقول. . وأن في الشرق الإسلامي عقولا لا تخدعها البهرجة والتزويق والوعود الخلابة. . وأن هنالك ضمائر وذمما لا يستطيع الدولار الأمريكي أن يشتريها ويتملكها. . فليرجع الغرب أدراجه وليشتغل بنفسه والدفاع عنه وليترك الشرق الإسلامي يقول كلمته ويدبر شؤونه ويدافع عن نفسه. . ومن المقرر أن الشرق الإسلامي والأقطار الإسلامية بعيدة عن كل هجوم وخطر إذا دفع المعسكر الغربي عنها حضانته وابتعد عنها.
أبو الحسين على الحسني الندوي(985/20)
مصطفى صادق الرافعي
بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة على وفاته
للأستاذ محمود أبو رية
ينقضي بانسلاخ اليوم التاسع من هذا الشهر (مايو) خمسة عشر عاماً على وفاة نابغة الأدب وحجة العرب السيد مصطفى صادق الرافعي، فقد انتقل رحمه الله إلى الرفيق الأعلى في فجر يوم الاثنين الموافق 10مايو سنة 1937، وانقطع من هذا اليوم وحي البيان العربي الذي كان يتنزل على قريحة هذا البليغ الكبير فتخرجه آيات من البيان العربي لا تكاد تتفق إلا للأفذاذ من البلغاء الملهمين.
وإذا كان قد جاء في الأثر أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للمسلمين دينهم، فإنه سبحانه يبعث بين الحين والحين من يجدد للغة العربية بلاغتها ويحيي في كل عصر معجزتها، ذلك أن حكمة الله لا تذر هذه المعجزة بغير أن يرسل لها من يحامي عنها، ويجدد فيها.
ولا يستريب أحد أن هذا النابغة قد بعثه الله في هذا العصر ليجدد من بلاغة البيان العربي، ويضيف من وحي قريحته إلى الميراث الأدبي.
وقد كان هو على يقين من أنه رسول بياني أرسل لتأييد بلاغة القرآن، ويحيي آدابه وأخلاقه التي هي حصون الإسلام، وأن عليه رسالة ثقيلة لا بد له أن يؤديها على وجهها، مهما ناله من العنت في سبيلها، وقد أجملها رحمه الله في قوله: -
(القبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة، ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا، ثم أنه يخيل إلى دائماً: أني رسول لغوي للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه)
وقد عاش ما عاش يجاهد في سبيل هذه الرسالة لا يمل ولا يلين، وناله في هذا الجهاد ما ينال الرسل من جهادهم من أذى، وأصابه ما يصيبهم من إرهاق حتى لقي ربه راضياً مرضيا.
وإذا كنا اليوم لا نستطيع إشباع نهم القول في نواحي هذه الرسالة لأن المقام لا يحتمل ذلك(985/21)
ولا يتسع له، وهذه الكلمة التي ننشئها لم تكن إلا من قبيل الذكرى في مناسبة عابرة، وكان لا بد لنا أن نعطر كلمتنا بشذا من أريج حياته، فإنا نأتي بذرة ومن جليل أعماله التي كان لها أثر خالد في الأدب العربي.
في أوائل هذا القرن ظهرت في مصر (بدعة لغوية) نادى بها ودعا إليها نفر من كتابنا، وكانت هذه البدعة تدعو إلى (تمصير اللغة العربية) بأن ندخل فيها من الألفاظ السوقية ونمزج تراكيبها بالمصطلحات العامية حتى تخرج لغة الكتابة في أسلوب يجمع كل اللهجات المصرية فيفهمها الناس جميعاً.
وكان يؤيد هذا الرأي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد باشا بما ينشره في (الجريدة) التي كان يتولى تحريرها.
وما لبثت هذه البدعة أن أنجبت مولوداً سموه (الجديد) ومعناه أن تكون لنا عربية جديدة لا نجري في بيانها على أساليب العرب الفصحاء، وأن لا نتقيد فيما نكتب بأصول البلاغة العربية وجعلوا الميراث الأدبي البليغ (قديماً) يجب أن يذهب بذهاب أهله، ولأن هؤلاء الدعاة لم يجدوا أمامهم من يذود عن هذا الميراث ويدافع عن لغة القرآن أقوى من الرافعي فقد نحلوه زعامة الأدب الذي أصبح في رأيهم (قديماً) ونشبت بينه وبينهم معارك طاحنة كان ينازلهم فيها وحده (تحت راية القرآن) في حين أنهم كانوا جمعاً كبيرا ذا قوة وجاه وسلطان، ولم يزل يكافحهم بشباة قلمه البليغ حتى قضى على تلك البدعة وما نحلت وكتب الله النصر للغة كتابه.
ومن عجيب الأمر أنك ترى اليوم بعض من كانوا يدعون إلى هذه البدع قد أصبحوا من أشد الناس تعصباً لأساليب العربية في بيانها ولغتها.
ومن مآثره التي سجلها له الأدب العربي في صحائف مفاخره أنه لما أنشئت الجامعة المصرية في سنة 1908 لم يكن من مناهجها دراسة آداب اللغة العربية فغضب غضبة مضرية وحمل حملة صادقة على إدارة الجامعة لكي تتدارك تفريطها العظيم في جنب الآداب العربية، وما لبثت هذه الإدارة أن عادت إلى الصواب وقررت تدريس آداب اللغة العربية، ولا تزال هذه الدراسة تنمى وتزدهر.
ولم يقف جهاده وفضله في هذا السبيل عند ذلك النصر؛ بل دفعه اعتزازه بلغته وتمكنه من(985/22)
آدابها إلى أن يخرج في هذه الآداب وتاريخها كتاباً بعد أن لم يكن لها كتاب شامل، فأظهر في سنة 1912 كتابه الخالد (تاريخ آداب العرب) ذلك الكتاب الذي لم يؤلف في موضوعه مثله؛ وبحسبك أن ترى شيح المجلات العربية (المقتطف) التي كانت تزن المؤلفات العربية بميزان دقيق قد عقدت له يوم صدوره فصلا ممتعا من إنشاء محررها العالم الجليل الدكتور يعقوب صروف تحدث فيه عن مزايا هذا الكتاب وفضائله ختمه بهذه العبارات الدقيقة:
(والكتاب حافل بالفوائد اللغوية والأدبية والنتائج الفلسفية، ولغته في المقام الأول من الفصاحة، وهو حقيق بأن يدعى كتاب الشهر الأول بل كتاب السنة، لأننا لا نتذكر أننا رأينا منذ سنة إلى الآن كتابا عربيا اقتضى جمعه وتبويبه واستنباط أدلته ما اقتضاه هذا الكتاب، وعسى أن يجد من إقبال القراء عليه ما هو أهل له)
ولم يكد الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد باشا يطالع هذا الكتاب حتى أنشأ من أجله مقالا ضافيا ملأ به صدر (الجريدة) نجتزئ منه بما يلي
قرأنا هذا الجزء فأما نحوه فعليه طابع الباكورة في بابه يدل على أن المؤلف قد ملك موضوعه ملكا تاما وأخذ بعد ذلك يتصرف فيه تصرفا حسناً. وليس من السهل أن تجتمع له الأغراض التي بسطها في هذا الجزء الأول إلا بعد درس طويل وتعب ممل.
وأما أسلوب الرافعي في كتابته فإنه سليم من الشوائب الأعجمية التي تقع لنا في كتاباتنا نحن العرب المتأخرين، فكأني وأنا أقرئه أقرأ من قلم المبرد في استعماله المساواة وإلباس المعاني ألفاظاً سابقة مفصلة عليها لا طويلة تتعثر فيها ولا قصيرة تؤدي بعض أجزائها، وإنا نكبر غرض الرافعي ونشكره على ما حققه)
أما أمير البيان شكيب أرسلان رحمه الله فقد جرد له مقالا بليغاً حلى به صدر جريدة (المؤيد)، مهد فيه بفذلكة نفيسة في دراسة الأدب العربي ثم استطرد إلى الإشارة بفضل هذا الكتاب وكان مما قاله:
(. . . كتب تاريخ الآداب العربية، ولم تكن الآداب وقائع تؤرخ ولا أدوارها عند العرب مما يسهل تتبعه وتبصر أعلامه على نصب من تآليف سابقة، بل هي أعلام طامسة ودروس دارسة، فرع لها ذلك الكاتب الضليع طنوب التحقيق حتى جمع من عظامها المبثوثة ورمامها المبعثرة هيكلا صحيحاً. وزاد بهجته ووفر شطر حسنه ما أوتيه من ملكة(985/23)
العربية الفصحى والتمكن من ناصية التعبير عن كل ما أراد، فلو كان هذا الكتاب خطا محجوبا في بيت حرام إخراجه منه لاستحق أن يحج إليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار لكان جديرا بأن يعكف عليه).
وقد صدر من هذا الكتاب جزء ثان في (إعجاز القرآن) نجتزي
في بيان قدره، بما وصفه سعد زغلول به، وهو شيخ زعماء
مصر، وأبلغ سياسي في هذا العصر، وهاك جملا من خطاب
طويل أرسله إلى الرافعي من مسجد وصيف مؤرخ
1111926
(. . . ولكن قوما ما أنكروا هذه البداهة (أي عجز أهل البيان عن الإتيان بمثل القرآن) وحاولوا سترها فجاء كتابكم (إعجاز القرآن) مصدقاً لآياتها، مكذبا لأفكارهم، وأيد بلاغة القرآن وإعجازها بأدلة مشتقة من أسرارها في بيان مستمد من روحها، كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم.
فلكم على الاجتهاد في وضعه والعناية بطبعه شكر المؤمنين وأجر العاملين والاحترام الفائق)
وهذا الخطاب لم يكتب مثله هذا الزعيم الكبير لأحد غير الرافعي، ولا جاء في التاريخ كله كلمة في وصف كتاب مثل هذه الكلمة البليغة.
ومما يملأ القلب حسرة والنفس أسى أن قضى الرافعي رحمه الله قبل أن يتم هذا الكتاب، ومما يزيد في الأسى ويضاعف في الحسرة أنا لم نجد من أدبائنا الكبار من يتقدم ليحمل هذا العبء ويقوم بأداء هذا الواجب الذي هو في الحقيقة دين في أعناقهم جمعياً لا تبرأ ذمتهم منه حتى يؤدوه كاملا، وهم غير معذورين، وبخاصة فإن الأمور الآن ممهدة والطرق معبدة، وللأدب العربي عديد من الكليات بالأزهر والجامعات.
والحسرة في مثل هذا الأمر لا يضارعها إلا حسرة أخرى على تفسير القرآن الحكيم الذي أخرجته قريحتا الإمامين الجليلين محمد عبده والسيد رشيد رضا رحمهما الله فإنما - وا(985/24)
أسفا - لم نجد (عالماً) من علمائنا (وهم ألوف) قد نهض لإتمام هذا التفسير، وكأن الأزهر (المعمور) قد عقمت أمه فلم تلد بعد الأستاذ الإمام محمد عبده أحداً. رحمه الله ورحم تلميذه النجيب السيد رشيد رضا.
ولقد كنا قرأنا منذ أكثر من ربع قرن في المقدمة التي أنشأها الدكتور طه حسين باشا لكتاب فجر الإسلام، أنه فرغ من وضع الجزء الأول من تاريخ الأدب العربي ففرحنا وانتظرنا أن تشرف علينا غرة هذا الجزء وما يليه، ولكن انتظارنا ذهب عبثاً.
ولقد كان للرافعي أسلوب في البلاغة خاص به بائن بنفسه لا يشاركه فيه أحد من الكتاب، يعرفه كل من وقف على أساليب الكتابة العربية حتى لو أخفاه عن الناس.
كنت مرة مع الأديب الكبير عبد الرحمن البرقوقي نجلس على أحد الأندية بالقاهرة في سنة 1921 ومر بنا بائع الصحف فتناول منه رحمه الله (جريدة الأخبار) وأخذ يقرؤها وإذا به يجد في صدرها كلمة أخذت نصف عمود عنوانها: (عجيبة لغوية - جنود سعد) ما كاد يقرؤها حتى دفع لي الصحيفة وقال: ترى لمن هذه الكلمة. ودفع لي الجريدة فقرأتها وقلت له: إن الظن الغالب أنها للرافعي ولم يكن قد وضع اسمه عليها. فقال هي له من غير شك ولا يستطيع غيره أن ينشئها.
وكان رحمه الله يعنى بتجويد عباراته ويبالغ في صقلها حتى تخرج في أروع صورة من البيان العربي، وكان لا يترخص في ذلك ولا يتسهل.
قلت له مرة بعد أن ظهر كتاب (حديث القمر) إن طائفة كبيرة من القراء لا تبلغ إفهامهم بعض عبارات هذا الكتاب، والرأي أن تنشئ كلاما لا يعلو على إفهام القراء! فغضب وقال: أتريدني على أن أنزل بأسلوبي إلى إفهام عامة القراء؟ إني أريد أن يرتفعوا هم إلى لا أن أهبط أنا إليهم، ولأن يكون لي ألفان من القراء الذين يفهمون أساليب العربية العالية خيرا لي من أن يكون لي عشرات الألوف من عوام القراء.
وجرى بيني وبينه مرة حديث عن أسلوب المغفور له الدكتور زكي مبارك فكان من قوله: إنك مهما قرأت له فإنك لا تكاد تجد من إنشائه عبارة بليغة يشرق منها نور البيان، وهو لا يعتبر شاعرا ولا ناثرا! فقلت له: وماذا يكون إذن بين كتاب البيان فقال (سمه نثرورا!) وهذه اللفظة التي استمرئها قد قاسها على لفظة شعرور. وقد كان مجتهدا في اللغة وله رأي(985/25)
في القياس اللغوي مبثوث في كتبه، وقد نشرناه في الرسالة على ما نذكر.
وإذا كان الدكتور زكي مبارك رحمه الله في رأي سيد البلغاء (نثرورا! فسترى ماذا تكون درجات أولئكم الذين يظنون أنفسهم أنهم من كبار الكتاب ويسودون الصحف كل يوم بما يكتبون؟؟
ومن عجيب أمر هذا الرجل أنه كان من عزة النفس وكبريائها بحيث لا يخض لإنسان ولا ينافق لمخلوق ولا يستعين بكبير ولا يستنصر بوزير كأنه الجبل الأشم الذي لا يستند إلى شيء، وأن مرد ذلك إلى قوة إيمانه وكما يقينه، ومن كان مثله في قوة الإيمان وخالص التوحيد فإنه لا يستعين إلا بالله ولا يخشى إلا الله ولا يتوكل إلا على الله الذي إليه يرجع الأمر كله.
هذا ما تيسر لنا اليوم من القول في هذا العظيم الذي خلا مكانه، لا ريب كما يقول العرب، وهذه الكلمة التي نرسلها اليوم في ذكرى وفاته إنما هي سطر نضعه على هامش تاريخه الحافل بالمآثر والمفاخر إلى أن يأذن الله بتدوين هذا التاريخ الذي لا نظن أن أحدا يستطيع أداءه إلا إذا كان في مثل بلاغته حتى يأتي به كاملا على حقيقته.
ولعلنا بهذه الكلمة الصغيرة نكون قد أدينا بعض ما يجب علينا في هذه المناسبة، وأن تكون آية وفاء لشيخنا الرافعي رحمه الله، وتحية طيبة تصعد إلى روحه الطاهرة في الملأ الأعلى يرضى هو بها ويرضى الله عنها.
محمود أبو رية(985/26)
6 - الباكستان
الحياة الاقتصادية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
التعدين:
باكستان غنية بثروتها المعدنية وإن كانت هذه الثروة لم تستغل الاستغلال الكافي حتى الآن.
فالبترول يوجد في باكستان الشرقية والغربية بكميات وافرة ويبلغ ما تنتجه حقول البترول في البنجاب وحدها 15مليون جالون في العام، ومن المنتظر أن يزيد الإنتاج كثيرا. ومما يدل على وفرة البترول في باكستان أنه عثر على بئر في غرب البنجاب 1948 بلغ إنتاجها في اليوم 10000 جالون.
وباكستان ثاني دول العالم غنى بالكروم ويوجد في بلوخستان وإقليم الحدود الشمالية الغربية وتقدر قيمة ما يستخرج منه سنويا بنحو 12000 طن.
ويوجد الفحم في إقليم غرب البنجاب وفي بلوخستان وفي إقليم الحدود الشمالية الغربية وفي باكستان الشرقية.
أما الحديد فيوجد في إقليم الحدود الشمالية الغربية وفي إقليم السند الأدنى.
ويوجد الكبريت والذهب والنحاس والملح وأملاح البوتاس وأملاح الصودا والصوديوم بوفرة في باكستان.
ونظرا لوجود الفحم والبترول والحديد فإنه من المنتظر أن تزدهر الصناعة في باكستان وخاصة بعد توليد الكهرباء من مساقط المياه. وتولي حكومة باكستان اهتماما خاصا بترقية مشاريع توليد القوى الكهربائية، ويدلنا على ذلك أن مؤتمر الصناعات الذي عقد في ديسمبر 1947 قرر إنشاء مشاريع يتسنى معها توليد 500000 كيلوات كما أوصى بإتمام أعمال مشروعين: أحدهما في غرب البنجاب يمكن بواسطته توليد 26000 كيلوات، والآخر في باكستان الشرقية يمكن بواسطته توليد 60000كيلوات، وكل هذه المشاريع تهدف إلى النهوض بالصناعة في باكستان.
الصناعة:(985/27)
تعتبر صناعة السكر من أهم صناعات الباكستان، وقد أسس منذ سنوات مصنع هائل للسكر يعتبر الأول من نوعه في آسيا كلها؛ إذ يبلغ إنتاجه السنوي نحو 50000 طنا، وتعمل الباكستان على مضاعفة إنتاجها ويساعدها على تحقيق ذلك صلاحية أرضها ومناخها لزراعة أنواع جيدة من قصب السكر.
صناعة الجوت
تنتج باكستان 80 % من الجوت العالمي. وقد كانت كلكتا مركز صناعته الرئيسية، ولكن في مشروع التقسيم أعطيت كلكتا للهندستان، وكان طبيعيا أن تعمل باكستان على إنشاء المصانع اللازمة لصناعة الجوت. وقد أخذت الباكستان فعلا في إنشاء المصانع واستوردت الآلات اللازمة لها.
صناعة الورق
المواد الخام اللازمة لصناعة الورق موفورة في باكستان وخاصة في باكستان الشرقية حيث تنمو الغابات بوفرة. ولهذا قررت حكومة الباكستان إنشاء مصنع لصناعة الورق في باكستان الشرقية.
صناعة المنسوجات
من الطبيعي أن تعني الباكستان بصناعة المنسوجات وخاصة القطنية والصوفية، وذلك بسبب حاجة السكان إليها وبسبب توافر القطن والصوف. ولهذا أنشأت الحكومة مصنعا للصوف ينتج يوميا 14000 رطل ومصانع أخرى لنسج القطن.
صناعة السفن
تقوم هذه الصناعة في الموانئ، وأهم مركز لها في كراتشي فيها عدة مؤسسات صناعية تصنع فيها القوارب والسفن الصغيرة وتصلح فيها السفن الكبيرة.
وفي باكستان الشرقية توجد عدة معامل لبناء القوارب وإصلاح السفن. وتهتم الحكومة المركزية بالنهوض بهذه الصناعة.
وإلى جانب هذه الصناعة تقوم صناعات أخرى هامة أهمها صناعة إنتاج الزيوت(985/28)
والمصابيح الكهربائية وصناعة الآلات الحديدية والصناعات الكيمياوية وصناعة الأسمنت.
وإن باكستان تحاول جاهدة تدعيم الإنتاج الصناعي بها حتى تستطيع أن تنتج ما تحتاج إليه.
مستقبلها
الباكستان دولة ناشئة، وحاضرها يبشر بخير كثير إن شاء الله، وعناصر قوتها موفورة: فهي دولة واسعة المساحة كثيرة السكان؛ غنية بمواردها الطبيعية.
ولكن أهم من هذا كله أن حياتها تتركز على دعامتين هما أساس قوة كل شعب ومصدر عظمة كل أمة: فالباكستانيون قوم مؤمنون بدينهم، وفي الدين من غير شك قوة تهدي إلى السبيل الأقوم، ومشكاة تنير سبيل الرشاد. ويتجلى هذا واضحا قويا في كلمات أبي الباكستان محمد علي جناح: (ليس الإسلام مجرد مجموعة طقوس وتقاليد وتعاليم روحية، إنما هو دستور حياة كل مسلم. . . دستور ينهج عليه في حياته وتصرفاته في جميع النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو دستور قائم على أسمى مبادئ العزة والنزاهة والعدالة.
إنما إلهكم إله واحد، وإن صفة الوحدانية من مبادئ الإسلام الأساسية، وليس في الإسلام ثمة فرق بين شخص وآخر، فمن مبادئه الأساسية المساواة والحرية والأخوة.
لا يستطيع شعب من الشعوب أن يتطور ويرتقي ما لم يكن متكافئا متآزرا، إننا كلنا مسلمون وكلنا باكستانيون، وعليكم بصفتكم أبناء الدولة أن تخدموها وتضحوا، بل وتموتوا من أجلها، لكي تجعلوها دولة سائدة).
وفي قول لياقت علي خان:
(. . . والباكستان لم تنشأ إلا لأن مسلمي شبه القارة أرادوا أن يتبعوا في حياتهم الطريق السوي الذي رسمه لهم الإسلام، وأن يتعاملوا حسب تعاليمه وتقاليده السمحاء، وإلا لأنهم أرادوا أن يبينوا للعالم أن الإسلام يستطيع أن يجد الدواء الناجع لتلك الأمراض والعلل التي تتفشى اليوم في كيانه وتسري في بنيانه.
. . . إننا كباكستانيين لا يعيبنا أننا مسلمون، لأننا نعتقد أننا باتباع ديننا القويم وتعاليمه السمحاء نستطيع أن نسهم بقسط كبير في رفاهية هذا العالم.(985/29)
ونحن - شعب باكستان - نعتقد بإخلاص ويقين كما نؤمن بشجاعة بأن كل قوة وكل سلطان يجب أن يتمشى مع تعاليم الإسلام).
وهكذا نجد في باكستان أمة مؤمنة قوية تعتمد على نصر الله (ولينصرن الله من ينصره).
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تلتمس الباكستان أسباب القوة المادية فتعمل جاهدة على أخذ أحسن ما في الحضارة الغربية من علم وفن. وإذا اجتمع العلم والإيمان فالنصر محقق بإذن الله.
وتحقيقا لهذه الغاية تعنى الباكستان بجيشها عناية كبرى وميزانيته تبلغ حوالي 40 % من ميزانيتها. وتعني أيضاً بنشر الثقافة والتعليم فلديها أربع جامعات، 98 كلية، 1700 مدرسة عليا، 5000 مدرسة ثانوية، 40000 مدرسة ابتدائية، 110 مدرسة فنية صناعية الخ.
وتقوم المرأة في حياة الباكستان بواجبها خير قيام، فهي شقيقة الرجال وأم الأبطال وطبيبة المرضى والجرحى. وقد قام نساء الباكستان بجهد مشكور في حل مشكلة اللاجئين الذين وفدوا إليها من الهندستان عراة معوزين تركوا أموالهم وديارهم وأملاكهم وفروا بدينهم إلى الباكستان. أثارت هذه الويلات نفوس الباكستانيات فقمن بنصيب موفور في التخفيف عن المعوزين ومواساة الجرحى والمنكوبين.
ولم يقف جهد المرأة عند هذا الحد، بل نزلت إلى ميدان الصناعة والتجارة والطب، بل وأكثر من هذا أن المرأة تقدمت فحملت السلاح للذود عن الوطن، ودخلت معترك السياسة دون ضجيج أو جلبة، وهي قبل كل شيء وبعد كل شيء قدوة للمرأة الصالحة.
يقول الدكتور عمر فروخ: لقد دخلت المرأة الباكستانية معترك الحياة: في التمريض والطب والتجارة والصناعة وفي الجيش والأسطول وفي المجالس التأسيسية ودوائر الحكومة. . .
أما المرأة العربية فقد بدأت الاختلاط من الجانب الآخر: بدأت بالسينما وحمامات البحر وبالنزه وحفلات الشاي والكوكتيل. . .
إن الوطن العربي لن يستطيع أن يحفظ أخلاقه ولا أن يهيئ الجو الصالح للمرأة لتستفيد من مواهبها إلا إذا أعد لها برنامجا جديدا للتربية والتعليم!!
وهكذا نجد أن المرأة الباكستانية تقوم بدورها في إعداد أمة صالحة خير قيام، ويا حبذا لو اتخذتها المرأة العربية قدوة لها.(985/30)
وأحب قبل أن أختم بحثي أن أذكر أن اللغة العربية منتشرة بين الباكستان، وإن كان معظم سكان باكستان الغربية يتكلم باللغة الأردية والبنغالية في باكستان الشرقية. ولكن الاتجاه الآن موجه إلى نشر اللغة العربية لأنها لغة القرآن.
وأخيرا: إن في جميع ما سبق ما يبشر بمستقبل عظيم للباكستان، ويكفي أن تكون أمة مؤمنة بربها قوية برجالها ونسائها، فإن هذا كله كفيل بتحقيق آمالها وآمالنا فيها إن شاء الله.
باكستان زنده باد
أبو الفتوح عطيفة(985/31)
أثر المدرسة المصرية في الثقافة
للأستاذ ثروت أباظة
التثقيف في اللغة التهذيب. . ويقول العرب ثقف القناة أي شذبها. ومن هذا المعنى وجدت كلمة الثقافة. غير أن العقل أخذ مكان القناة وتدرجت الكلمة في هذه المدارج وأخذت سمتها منذ أزمان غاية في البعد. هذا هو التثقيف في معناه اللغوي. . أما من هو مثقف فهذا ما لم يدره أحد حتى الآن، فقد كثرت التعاريف وتعارضت. وأغلب الظن أن كل واضع لتعريف كان ينظر إلى نفسه حين يضع تعريفه فيجعل شخصه هو المثقف ومن دونه ليسوا جديرين بهذا اللقب. ولا شك أن في مثل هذه الأحكام الذاتية الشخصية جنوحا عن الدقة وابتعادا عن الحق.
وإنني لأعجز أن أضع تعريفا للمثقف لأني أخشى أن أزل بي التعبير. . ولكنني أستطيع أن أتصوره شخصا بعيدا عن التفاهة رفيعا عن الصغار احتك بالتجارب وتعلم منها بعد أن استوعب الكتب وفهمها. وأستطيع أن أتصوره شخصا بعيد الأفق متسع التفكير يقبل ذهنه أن يتفهم ما يعرض عليه، لا يرى في جهله بأمر مسبة وهو يقر بالجهل ويسعى إلى العلم. وأستطيع أن أتصور شخصا قد بعد عن فترة الغرور. . ذلك الغرور الذي لا أعني به الثقة بالنفس فإن الفارق بينهما دقيق. والشخص الواثق بشخصيته إذا غلا بعض الشيء في هذا الوثوق أصبح مغرورا. . والمثقف كما أتصوره من استطاع أن يضع الحد الفاصل بين الغرور والثقة، أو هو ذلك المرء الذي دعا له النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: (رحم الله امرؤا عرف قدر نفسه فأراح واستراح) فذلك الشخص الذي يستطيع أن يصل إلى هذه المرحمة من الله عارفا قدر نفسه مريحا مستريحا. . الذي الشخص - إذا وجد - مثقف تهذبت نفسه؛ والنفس لا تهذب إلا إذا هذب العقل.
هذا هو الرجل المثقف كما أتصوره في مظهره الخارجي. . أما كيف يثقف المرء؟ ومتى يصل من الثقافة إلى المكان الذي يقال فيه إن الرجل قد تثقف. . أما هذا فما احسبني مستطيع الوصول إليه على وجه القطع، فالثقافات متعددة ومتشعبة، وقد يكون الشخص عالما بمادة ما كالكيمياء مثلا ثم هو لا يفقه شيئا في الأدب، أو قد يكون أديبا كبيرا وهو لا يعرف عن علم الإحصاء شيئا.(985/32)
فهل يحسب المرء أن يكون عالما في ناحية من نواحي الحياة الثقافية حتى يكو مثقفا، أم لزام عليه أن يكون ملما بكل فن - في هذا اختلفت الآراء. . فإن من الإنجليز من من يعلم كل شيء لا يجيد شيئا. وصاحب هذا الرأي يرى أن يثقف المرء نفسه في الناحية التي تلتقي بميل طبيعي فيه حتى يصل منها إلى المدى البعيد - وإنني - إذا جاز لي أن أبدي رأيي، أرى أن هذا النهج في الثقافة أمكن لمنتهجه وخاصة في هذا العصر الذي أصبح التخصص فيه هو الأساس العلمي.
أرى ذلك في بدء التكوين على الأقل؛ أما إذا كان الرجل قد بلغ في ناحية ما مبلغ الأساتذة الكبار فإنه لا جناح عليه إن ألم بالفنون الأخرى.
على أن منابع الثقافة تكاد تتحد مهما اختلفت الآراء في سنن الثقافة نفسها، فهناك الثقافة المدرسية وتلك سنتركها إلى الكلام عن المدرسة، وهناك الثقافة التجريبية وهي التي تكونها حادثات الزمن ومجرياته، وهناك الثقافة الحرة وهي أغزر الثقافات تدفقا، فما أحسب رجلا تثقف من المدرسة وحدها، ولا من الزمن وحده، بل لا بد له من تلك الثقافة الحرة التي لا تقيده بمنهج معين، بل هي ميل طبيعي في النفس يغذيه صاحبه بما يقع في يده متصلا بهذا الفن بسبب ما ولا ضابط عليه في الاختيار، إنما هو يقرأ الرائع الشامخ، والهزيل الضئيل، فتنموا إمكانيته قوية في الإنتاج بما اكتسبه من العمل الكبير، قوية في النقد بما أخذ على العمل الصغير. وإننا إذا أمررنا بأذهاننا أسماء الأئمة الكبار من كل فن وعلم وجدنا أن الجانب الأكبر من ثقافتهم قد تكون من تلك الثقافة الحرة.
وقد رأى بعض الكتاب الغربيين أن العقلية الثقافية لا تبلغ أوجها إلا بعد مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى. . ونستطيع أن نسميها مرحلة الكسب وهذه المرحلة هي التي تتجمع فيها لدى المرء المعلومات المتناثرة فتتجلى في خلال هذه الفترة الناحية التي تتألق فيها الملكة الكامنة في نفس صاحبها، ويأخذ من نثار هذه المعلومات ناحية معينة يميل إليها ببحثه فتأخذ عقليته المقفلة في التفتح وتندى من بعد جفاف.
أما المرحلة الثانية. . فهي تلك التي ينسق فيها المرء معلوماته ويهذبها، ويقول صاحب هذا الرأي: إن المرء في هذه المرحلة إذا نسق معلوماته تنسيقا صحيحا يكاد يصل إلى الخلق بحيث يدق على الرجل العادي أن يفرق بين منسق وخلق.(985/33)
أما المرحلة الثالثة. . فهي مرحلة الخلق ومن نتاجها الروائع الخالدات من كل فن وعلم. المفروض أن يكون هذا التقسيم منطقيا على العلوم والفنون، ولكن الواقع من الأمر أنه لا يكاد ينطبق إلا على دقة نادرة.
فإننا إذا ما شبناه أصبح حتما علينا أن نصدق أن كل ملتحق بكلية الحقوق يعرف من القانون ما جعله يميل إلى هذه الناحية، أو أن ملتحقا بكلية الهندسة بحث قبل أن يلتحق بها ودرس علوما عدة حتى اختار الهندسة بالذات. كما يجبرنا أن نفهم أن كل أديب درس قبل دراسته للأدب ضروبا أخرى من الفن كالرسم أو الموسيقى، ثم عزف عن كل هذا ليختار الأدب فنا - يجبرنا هذا التقسيم على هذا الفهم، ولكن الواقع من ناحية أخرى يجبرنا على عدم التصديق ولما كان الواقع دائما هو الغلاب المنتصر فإنه لا يسعنا إلا أن نحني له الهام، فلا نجاري التقسيم في مرحلته الأولى هذه، قائلين له إننا لا نستطيع أن نقرك، فإنه ليس حتما أن يقرأ المرء كل العلوم والفنون حتى يتمكن من اختيار علم أو فن؛ وإنما هي في أغلب الأحايين الصدفة أو البيئة. التقسيم إذن ليس شاملا فيما يختص بالاختيار.
أما فيما يختص بالمرحلة الثانية التي تنص على التنسيق والتقسيم فإنها تقصر هي أيضاً على الأدب مثلا فما رأينا أديبا ينسق معلوماته فيقول إن هذه الأبيات تنفعني في علم البديع، وهاته تفيدني في علم النحو، وهذه الكلمة حسنة أحفظها، وتلك قبيحة أنساها، وهذه بين وبين. إن أديبا ما لو فعل هذا لكان من أعظم جهلاء الأدب. والواقع مرة أخرى أن أحدا لا يفعل هذا، فالتقسيم قاصر، ولا شك أن الفارق بين تنسيق المعلومات وهو ما قصد إليه التقسيم وبين تنسيق العقلية وهو ما لم يقصد إليه التقسيم. . الفارق بين التنسيقين كبير. . فتنسيق المعلومات خطة استنها أحد الفلاسفة الغربيين ليصل بها إلى بعض الحقائق الفلسفية. فليس من الضروري إذن أن تكون هذه الطريقة ناجحة في كل علم، بل إن أغلب الفلاسفة لا يعترف بها في الفلسفة نفسها، أما تنسيق العقلية فهو أمر آخر ليس هنا مجال البحث فيه.
المرحلة الثالثة. . من هذا التقسيم ترتب الخلق على التنسيق أي أن صاحب هذا السؤال يرى أن من نسق معلوماته خلق، ومن لم ينسقها لن يخلق، وهو قول واضح العجب.
ترون أنه من الصعوبة بمكان أن نحدد الثقافة أو نحدد المثقف، وليس عجيبا أن نعجز(985/34)
نحن، فقد قال ديهاميل: (الثقافة كالإيمان الذي لا يكفي أن نطلبه لنناله فهي نتيجة لمجموعة من الملابسات التي لم يكشف لنا العلم بعد تكوينها الحقيقي، ومع ذلك فنحن نعرف على الأقل بعضا من عناصرها المكنونة)
وهذا القول يريكم كم يصعب الأمر على التعريف، ولكن هذا لن يمنعنا من البحث وراء تلك العناصر القليلة التي تدخل ضمن تكوين الثقافة. واعتقادي أن الاعتراف بالجهل هو أول هذه العناصر، فحين يعلم المرء أنه ما زال يجهل لا بد له أن يسعى ليمنع عن نفسه هذا الجهل، وقد ترجم هذا شعرا أحد شعرائنا المعاصرين إذ قال:
هل رأيت الراكض المجنون يعدو خلف ظله
جاهدا يسبقه الظل ويغريه بنوله
هو منه خطوة لكنها كالكون كله
هكذا الإنسان في الدنيا ضليلا خلف عقله
كلما ازداد علوما زاد إيقانا بجهله
البقية في العدد القادم
ثروت أباظة(985/35)
رسَالة الشِعر
ديوان مجد الإسلام
نظم المرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
بريدة بن الحصيب وأصحابه يأتون بعده
وأتى بعده (بريدة) يرجو ... أن ينال الغنى، وكان فقيرا
يركب الليل والنهار ويطوي ال ... بيد غبراً سهولها والوعورا
في رجال من صحبه زعموا ال ... إغراء نصحاً، واستحسنوا التغريرا
آثروا الله والرسول ففازوا ... وارتضوها تجارة لن تبورا
أسلموا، وارتأى (بريدة) رأياً ... ألمعيا، وكان حرا غيورا
قال: ما ينبغي لمثل رسول الل ... هـ أن يألو البلاد ظهورا
كيف تمشي بلا لواء وقد أو ... تيت من ربك المقام الأثيرا؟
ليس لي من عمامتي ومن الرم ... ح عذيرا إذا التمست عذيرا
أخفقي يا عمامتي واعل يا رمح ... ي فقد خفت أن تعود كسيرا
ومشى باللواء بين يديه ... يتلقى السنا البهي فخورا
في خيمة أم معبد
ما حديث لأم معبد تستسقيه ظمآ النفوس عذبا نميرا؟
سائل (الشاة) كيف درت وكانت ... كزة الضرع لا ترجى الدرورا
بركات (السمح المؤمل) يقري ... أمم الأرض زائراً أو مزورا
مظهر الحق للنبوة سبحا ... نك ربا فرد الجلال قديرا
في قباء
يا (حياة النفوس) جئت (قباء) ... جيئة الروح تبعث المقبورا
أرفع (المسجد المبارك) واصنع ... للبرايا صنيعك المشكورا(985/36)
معقل يعصم النفوس ويأبى ... أن يميل الهوى بها أو يجورا
أوصها بالصلاة فهي علاج ... أو سياج يذود عنها الشرورا
غرس الله دوحة الدين قدما ... وقضاها أرومة وجذورا
لو أردت النضار لم تحمل الأح ... جار، توهي القوي، وتحني الظهورا
أرأيت (ابن ياسر) كيف يبني؟ ... أرأيت المشيع الشميرا؟
أرأيت البناء يستبق القو ... م صعوداً، ويزدهيهم سؤورا
أرأيت الفحل الأبي جنيبا ... في يد الله، والهزبر الهصورا؟
ينصب النحر للحجارة والط ... ين، يغير الحلى، ويغري النحورا
ما بنى مثله على الدهر غر ... راح يبني (خورنقا) أو (سديرا)
يجد الحق في البناء حصونا ... ويرى الطير في البناء وكورا
حي بني عمرو بن عوف
(بورك الحي حيكم يا بني عم ... رو بن عوف، ولا يزل ممطورا)
كنت فيه الضيف الذي يغمز الأن ... فس والدور نعمة وحبورا
ما رأت مثلك الديار، ولا حي ... الك القوم في الضيوف نظيرا
كرهوا أن تبين عنهم، فقالوا ... إملالا أزمعت عنا المسيرا؟
قلت: بل (يثرب) انتويت وما أل ... فيت نفسي بغيرها مأمورا
قرية تأكل القرى وتريها ... كيف تلقى البلى، وتشكو الدثورا
طربت ناقتي إلى لا بتيها ... فدعوا رحلها، وخلوا الجريرا
رحمة الله والسلام عليكم ... (آل عوف) كبيركم، والصغيرا(985/37)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
جوائز فؤاد الأول الأدبية:
احتفل يوم 28 إبريل الماضي بتوزيع جوائز فؤاد الأول على الفائزين بها في هذا العام، وقد فاز بجائزة الأدب الأستاذان عزيز أباظة وفريد أبو حديد بك، على نحو ما أشرنا إليه في العدد الأسبق من (الرسالة)
وقد أجيز عزيز باشا على مسرحيته الشعرية (العباسة) وهي رواية إنسانية حلل فيها الشاعر موقف العباسة أخت الرشيد في زواجها السري بجعفر بن يحيى البرمكي، كسيدة من البيت المالك خفق قلبها بحب الزوج وحب الولد، وصور الصراع بين هذه العاطفة وبين الاعتبارات الأخرى التي جعلت الرشيد يعقد زواج وزيره بأخته سرا. وفي رأيي أن هذه المسرحية أحسن مسرحيات عزيز باشا كلها، وهي من الأعمال الأدبية الخالدة.
أما الأستاذ أبو حديد بك فقد أجيز على قصته (الوعاء المرمري) ولم يتح لي بعد قراءة هذه القصة، على أنني أعرف الأستاذ كما يعرفه الكثير قصاصا بارعا ظفرت ثروتنا الأدبية منه بطائفة من المؤلفات والقصص القيمة.
وبعد فلي ملاحظتان: إحداهما خاصة بتقسيم جائزة هذا العام، وتتعلق الأخرى بتكوين لجنة الجوائز الأدبية.
أعتقد أن الغرض من هذه الجوائز الملكية الكريمة - وهو تتويج عمل أدبي بارز - لا يتحقق كاملا إلا بمنح الجائزة كاملة لمؤلف واحد، وهي تماثل جائزة (نوبل) والذي نعرفه أن هذه الجائزة لم تمنح مجزأة للغرض السالف، لذلك لم يكن لجائزتنا هذا العام وقعها المأمول، إذ قسمت بين الفائزين الكبيرين.
تلك هي الملاحظة الأولى، أما الثانية فقد أثارها في خاطري أن الأستاذ فريد أبو حديد بك كان عضوا في لجنة الجوائز، فاعتذر عن عدم الاشتراك فيها هذا العام، فكان هذا فرصة طيبة لتقدير إنتاجه. ترى هل ننتظر اعتذارات أعضاء آخرين حتى يمكن تقدير آدابهم!
الرأي عندي أن يعاد تكوين اللجنة بحيث تشمل الأدباء الذين فازوا، حتى الآن، بالجائزة، وهم الدكتور طه حسين باشا والأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور أحمد أمين بك(985/38)
والدكتور محمد حسين هيكل باشا ومحمود تيمور بك وتوفيق الحكيم بك وعزيز أباظة باشا وفريد أبو حديد بك. ويتنحى عن عضوية اللجنة كل من له إنتاج تنطبق عليه الشروط.
احتفال الجامعة الشعبية بالربيع:
أعلنت الجامعة الشعبية أنها ستقيم (مهرجان الأدب والفن في عيد الربيع) ووصلتني دعوتها في يوم لا ربيع فيه. . فقد كان مغبرا حامي الأنفاس كأن هواءه ينبعث من أتون. . فشعرت بشيء من الغيظ لطفته المفارقة بين دعوة الجامعة والحال الواقعة، ثم داخل نفسي شيء من الخبث، إذ رجوت أن يأتي يوم المهرجان من هذه الأيام النكراء التي يتعاقب فيها الحر والبرد فيؤذي تقلبها الجسم ويقذي العين ويزكم الأنف ويسقم النفس، فأشمت بمن سيتغنون بالربيع وبهجته واعتدال جوه. . ولكن خاب رجائي، فقد كان ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه إلى نادي الصحفيين لمشاهدة المهرجان، من الأيام النادرة الخاطفة التي يطل فيها الربيع على بلادنا ثم لا يلبث أن يعدو.
فلنغض هنا عن أعاصير الربيع و (خماسينه) ولنستمع إلى خطباء المهرجان وشعرائه، فقد نجد في ربيع الأدب ما يعوضنا عن ربيع الطبيعة.
افتتح الحفل بكلمة للأستاذ الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا أثنى فيها على جهود الجامعة الشعبية في خدمة الفن والأدب، ثم قال إن العرب شغفوا بكل ما تزخر به الطبيعة من مباهج وفنون، وكان للربيع في الأدب العربي لمحات وإن كانت باهتة الأضواء إلا أنها تومئ إلى مدى تعلق النفس العربية بالجمال الكوني في شتى ألوانه ومرائيه، ومما يعجبني من وصف العرب للربيع قول ابن الرومي:
حبتك عنا شمال طاف طائفها ... بجنة فجرت روحا وريحانا
هبت سحيراً فناجى الغصن صاحبه ... سرا بها وتداعى الطير إعلانا
ورق تغنى على خصر مهدلة ... تسمو بها وتمس الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزه عطفيه نشوانا
ثم قال الأستاذ عزيز باشا: إن رأيي في الذي كتبه العرب عن الربيع أنه بصفة عامة بعيد عن الروح الشعرية التي نأمل أن نجدها في أدبنا الحديث، فأغلب الذين تحدثوا عن الربيع لم يتجاوزوا حدود الملموسات والمرئيات حتى كأن الحياة، وهي العنصر الجياش في تكوين(985/39)
الربيع، لا تمت إليه بصلة من الصلات.
وأنا لا أستريح إلى مثل هذه الأحكام المطلقة، فلا شك أن كل أدب يشتمل على الصادق والمزور والرائع والتافه. وأعلم أنه لا جدوى من المناقشة في هذه القضية، فلو استدل أحد الطرفين بأمثلة تتوافر فيها الروح الشعرية الصادقة، الطرف الثاني إنها من القليل، وإن أتى الثاني بما لا يصور الحياة الجياشة. . . فلن يعجز الأول عن أن ينسبه أيضاً إلى القلة. . . ومن لا يقتنع فليحص. . .
وألقى الأستاذ علي عزت الأنصاري كلمة عنوانها (الربيع في الأدب العربي) أشار إلى مثل ما قال به عزيز باشا. وقد أحسن بعرضه طائفة من الشعر العربي الذي قيل في الربيع مع شيء من التحليل لا بأس به.
وكانت كلمة الأستاذ محمد مصطفى حمام ظريفة كدأبه، وكان موضوعها (الربيع في الأدب الشعبي) وقد استرعى التفاتي قوله: أشهر أنواع الأدب الشعبي الزجل والشعر السهل الذي لا يعسر فهمه على العامة. فقد جعل الشعر السهل من الأدب الشعبي، ولست أدري هل فعل ذلك توطئة لقصيدته في الربيع التي أولها:
لي وللناس في الربيع معاني ... ولنا في الربيع أحلى الأماني
فربيع الحياة عصر صبانا ... وشباب الأرواح والأبدان
وربيع القلوب حب وقربى ... وتواصي برحمة وحنان
إلى أن تدفعه روح المرح والدعابة التي جبل عليها فيقول
وربيع الجيوب إحراز مال ... وامتلاء بالأصفر الرنان
وربيع الموظفين علاوات ... ورزق يأتي بغير أوان
وقد نال الإعجاب واشتد التصفيق له إذ قال:
وربيع المصري يوم خلاص ... وجلاء عن مصر والسودان
ولم ألتفت إلى ذلك لأخالفه في اعتبار الشعر السهل من الأدب الشعبي بل لأوافقه. . فالأدب ينسب إلى الشعب لأنه يعبر عنه ولأنه يفهمه، فإن كان جاهلا باللغة العربية لا يفهم ما يصاغ بها، فالأدب الشعبي هو العامي فقط، وإن تقدم في فهمها - كالواقع الآن - فكل ما يستسيغه من الأدب شعبي ولو كان بالفصحى.(985/40)
ومن طريف الزجل الذي أورده الأستاذ حمام للأستاذ محمود بيرم التونسي - وهو نسيج وحده في هذا الميدان - قوله:
يا ورد أستنظرك ... قبل الربيع بربيع=وأوهب لك العمر
وأجعل لأهل الملامة ... في هوا شفيع=أوراقك الحمر
أنت اللي خليتني ... وحدك عبد لك ومطيع=للبيض والسمر
وأوهب لك العمر ... ياللي عمرك أنت قصير=ويقصر الهم
أوراقك الحمر ... تشرب دم قلبي عصير=يا أغلى من الدم
للبيض والسمر ... تهدي وأنت حر أسير=تنباس وتنضم
عباس خضر(985/41)
الكُتُب
الديمقراطية في الإسلام
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
للأستاذ عبد الرازق عبد ربه
ظهرت في السنوات الأخيرة، مؤلفات عديدة في اللغة العربية تبحث في موضوعات إسلامية، ولم تكن تلك المؤلفات بأقلام الغربيين أو المستشرقين كما كان الأمر من قبل، وإنما كانت كلها بأقلام سادة من كبار الكتاب المصريين في هذا العصر الحديث؛ فالأستاذ سيد قطب بحث في العدالة الاجتماعية في الإسلام ثم خص الرأسمالية والإسلام بكتاب، وأستاذنا الدكتور أحمد أمين بك يصدر كتابا عن الإسلام بعنوان (يوم الإسلام) وها هو ذا أستاذنا الكبير العقاد الذي درس بطريقته المبتدعة الرصينة عظماء الإسلام في سلسلة العبقريات يصدر اليوم كتاب (الديمقراطية في الإسلام) بعد أن أصدر منذ خمس سنوات كتابه (الفلسفة القرآنية) ومن أحق من أستاذنا العقاد بالكتابة عن الديمقراطية؟ فهو كاتبها الأول المنافح عنها، الذائد عن حياضها حتى تعرض لما تعرض له من أقوال ذوي النظر القصير، وآراء ذوي العقل الكليل، ورمى بما لا يصح أن يرمى به الأستاذ العقاد.
فإذا كان الأستاذ العقاد يكتب اليوم عن الديمقراطية في الإسلام فقد كتب من قبل عن (الحكم المطلق) منددا به، ولعل حبه للديمقراطية وكراهيته للاستبداد حدا بأستاذنا الكبير أن يكتب عن هتلر في كتابه (هتلر في الميزان) وإن حيك حول هذا الكتاب من أباطيل لا تدل إلا على سخف في التفكير وفساد في الضمير.
وكتاب (الديمقراطية في الإسلام) يقع في ثمان وسبعين ومائة صفحة من القطع المتوسط، قامت بنشره دار المتعارف. والمسحة الغالبة في هذا الكتاب هي تلك المسحة التي يمتاز بها الأستاذ العقاد في كل ما يكتب، وأعني بها الثقة الواعية المتثبتة التي تدعوه أن يقرر ما يقرر في غير ما شك أو تردد. وشيء آخر يجده المتتبع لكتب العقاد أن أسلوبه مهما طال الكتاب أو قصر في مستوى واحد من البيان.
وما أجمل ما دفع الأستاذ الكبير إلى كتابة هذا البحث القيم (فإن الأمم الإسلامية في عصرنا(985/42)
تنهض وتتقدم، وأنها أحوج ما تكون في هذه المرحلة خاصة إلى الحرية والإيمان متفقين، لأن الحرية بغير إيمان حركة آلية حيوانية أقرب إلى الفوضى والهياج منها إلى الجهد الصالح، والعمل المسدد إلى غايته، ومن الخير أن تذكر الأمم الإسلامية على الدوام أن الحرية عندها إيمان صادق، وليست غاية الأمر فيها أنها مصلحة ونظام مستعار)
ثم ينتقل الأستاذ بالقارئ من فصل إلى فصل تنقل الخبير بالمسالك والدروب دون أن يشعر بيأس أو فتور، ولا يسع القارئ إلا أن يمضي قدما في القراءة حتى يصل إلى الخاتمة.
ولا يسعني في هذا المقال إلا أن أشير على أولئك الذين ينفثون سموم المبادئ الهدامة بين الطبقات الجاهلة، أولئك الببغاوات التي تنطق ولا تعرف ما تقول. . أن يقرءوا ويتدبروا الفصل القيم الخاص بالديمقراطية الاقتصادية؛ ومن الخير أن يقرأ أولئك المتعصبون على الإسلام والمسلمين ذلك الفصل النفيس (مع الأجانب) ليعرفوا مدى تسامح الإسلام والمسلمين مع الأجانب. . ولن يقرأ أولئك المتعصبون ذلك الفصل إلا إذا ترجم الكتاب إلى الأوربية، ولعل الحاذقين لهذه اللغات ينهضون بهذا العمل الجليل، ولن أنسى ذلك الفصل الممتع (أقوال المفكرين الإسلاميين) وفيه عرض واضح على الإمامة والسياسة في الإسلام، إلا أن لي ملاحظة واحدة، وهي أن أستاذنا الكبير أتى بجزء من وصية الإمام علي بن أبي طالب لمالك بن حارث الأشتر النخعي حين ولاه مصر، وهذه الوصية منسوبة إلى الإمام علي فيما نسب إليه. نعم، إن الوصية ليست من كلام الإمام علي، وإنما هي بكلام العباسيين أشبه، لأن الكتابة المطولة لم تكن معروفة في العصر الأول من الإسلام ولم تكن لدى الإمام علي سعة الوقت وهدوء البال ليكتب هذا العهد المسرف في الطول، وما كان أجدر أستاذنا الكبير أن يحقق هذه المسألة وهو على ذلك قدير إن أراد.
على أن مثل هذه المسألة التي تدل على وجهة نظر خاصة بي، لا يمكن أن تقلل من قيمة هذا الكتاب القيم على ما به من أخطاء مطبعية يقع اللوم كله فيها على عاتق دار المعارف التي عودتنا أن نرى مطبوعاتها في حلل قشيبة من الطبع الأنيق الصحيح.
ولن أضع القلم قبل أن أرفع إلى أستاذنا العقاد تحية ملؤها الإكبار والإجلال، داعيا الله أن ينسئ في عمره ليمد المكتبة العربية بنفائس الكتب وفرائد المؤلفات.
عبد الرزاق عبد ربه(985/43)
خواطر (في فن الأدب)
تأليف الدكتور توفيق الحكيم بك
للأستاذ إسماعيل كوكب
في الأمثلة الجارية: الكتاب يقرأ من عنوانه: يقال هذا في المقابلات وفي المعاملات وفي ظواهر الأشياء. . وعلى ضوئه احتلت الدعابات صدارة الحكم الابتدائي في المرئيات: وسار النظار والمحكمون والنقاد على سنن الدعابات حتى النهاية، فمن وجدها سراباً لعن الدعابات المعترضة وطالب بتغيير المسميات أو تعديلها، ومن وجدها نبعاً لا سراباً استنبط منها زاد المعرفة وأضاف إلى دعابة الأرض دعوة السماء (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
عندما بدأت في قراءة (كتاب فن الأدب) لاح أمامي عنوانه الدخيل على القدامى وقراء الأدب، وعادت بي الذكريات إلى المساجلات بين نقاد الحكيم وعشاقه، وتذكرت صديقي الذي جن بأسلوبه كما جن (قيس بحب ليلى).
وقد استقبلت هذا الكتاب بتلك الخواطر فما كدت أرى دقة معانية البارزة في ربط ماضي الأدب بحاضره ومستقبله، وقوة تعبيره في مزج غربيه بشرقيه وسلامة خياله في إدماج القصة بالتصوير، وسرعة الخاطر في مسايرة المسرح والإذاعة والسينما، حتى كون إرهاصاً في ربط مستحدثات الأدب بمناهل لغة الضاد بعد أن سبكها بالفارسية ومزجهما بتلبد الأدب في الجاهلية وبعد الفتوح الإسلامية تدرج من أدب القفرة إلى أدب الواحة إلى أدب المدينة، ومن أدب الغابة إلى أدب الحانة، ومن أدب الدف والمزمار إلى أدب النوتة والأوتار، بعد أن سار في أسواق عكاظ ونقل من محاسن باريس وبغداد خلاصة تأملاته بين المدائن والقفار.
بعد هذا كاد أن يدركني جنون صديقي في كتاب الحكيم الجديد وعجبت من التسمية التي لا تقرأ في عنوان الكتاب. . فإن الفن الذي يقصده بموازينه وأصوله التي تفرع منها المسميات الجديدة للسينما وغيرها ليست كافية وليست أصيلة في التسمية بعد أن جعله جامعة عامة لفن الأدب ولغير فنه، ولذلك فإني أخالفه في التسمية كما أخالفه في بعض(985/44)
الآراء والنظريات، تاركا الحكم فيها للمحكمين من الأدباء، وتقديرها للرأي العام بعد هذا.
أوجه الخلاف: في صفحة 8 تحليل دقيق للابتكار الأدبي استشهد فيه بشكسبير وما نقله عن بوكامنو وغيره من علماء الغرب: ولم أر استشهاداً لعالم شرقي (وما أكثرهم في هذا العصر) فهل عزت المفاضلة أم لم ينقل متقدم من متأخر ما يستحق التسجيل: أم شيء آخر؟ وفي صفحة 14 مزج للبلاغة والنقد لم أقنع بأسبابه، فإذا أجازه كان ما جاء بصفحة 17 لا يصلح دستوراً لنقده الجديد لأنه واحد في جميع العصور. . وفي صفحة 22 مراحل تنقلات الأدب الزمانية والمكانية واستشهادات عربية لم نر للأئمة الشرقيين المعاصرين من استشهادات أو عرض حتى للضروري من مستلزمات هذا التحول. وفي صفحة 24 قال (إن الأدب العربي لم ير في القرآن إلا نموذجاً لغويا ولم نر فيه النموذج الفني) فهل القرآن الذي لم يفرط في الكتاب من شيء قد أغفل هذا المستحدث الجديد. . أم عقلية معاصريه لم ترق في ذلك الحين إلى تذوق معانية ولم يتدارك أحد هذا النقص إلى اليوم: أم هناك تقصير من المعاصرين وهم الذين نزل بلغتهم القرآن اقتضته كراهيتهم لصاحب الرسالة في بدئها فأوجبت هذا الإهمال الجسيم الذي ظل عالقا إلى الآن: أم كما قال المؤلف (إن وحي الأدب العربي لم يرد أن يتحرك لا إلى أعلى ولا إلى أسفل لا نحو القرآن ولا نحو الشعب حتى تدارك الجاحظ هذا النقص فساير الشعب فاستحق اللوم لركاكة الأسلوب وعاميته (كما صور)
ولم يسعف هذا النقص مقامات الحريري وبديع الزمان من حيث اللغة والفن لسجعها وبلاغتها المصطنعة. وفي صفحة 119 مقارنات بين حقوق المرأة الغربية والشرقية وعدم تمتع الغربية بحقوقها السماوية وتمتعها ببعض الحقوق الوضعية التي لا فائدة فيها في غير المنظر، وتمتع الشرقية بواجبات تتمنى الغربية أن تصل إليها، وهاتان مشكلتان تتطلب كل واحدة منهما البحث والإفصاح وفي صفحة 112 عرض لكساد أسواق الشعر والأسباب وقد ذكر العلاج الإنجليزي لهذا التدهور ولم يأت بجديد في الأدب العربي. وفي صفحة 187 إشادة بأثر الشعر الرديء في السينما ولم نر الأراجيز المحلية والأغاني البلدية في غير أسواق بعض العوام، أما القيم المعنوية والفنية فأثرها شائع بين العامة والخاصة.
وبالنظر إلى كل باب من أبواب هذا السفر الجديد ترى فيه مدرسة قائمة في أسلوبها(985/45)
ومعانيها وتوجيهاتها، فإذا جاز للعربية في تحولها الأدبي والفني وفي مستقبلها أن تضع فوق هامتها كتاباً نسجله للأجيال القادمة في سجلات الخلود، فإن كتاب جامعة الأدب (لا فن الأدب) في نظري هو كتاب الجيل.
إسماعيل كوكب(985/46)
البرَيدُ الأدبيَ
تهاجي والشعراء
قرأت في العدد (981) من الرسالة الغراء مقالة المرحوم صديقنا الدكتور زكي مبارك (البلبل الذبيح) التي كتبها في رثاء زميله الشاعر الخالد المرحوم الأستاذ علي محمود طه، فاستوقفتني العبارات التالية منها:
كان الشاعر علي محمود طه يكره الشاعر محمد الهراوي، وكانت بينهما مهاجاة تذكر بالمهاجاة بين عبد اللطيف النشار وعثمان حلمي وهما شاعرا الإسكندرية.
إن المهاجاة كانت أيضاً تحصل بين المرحومين الرصافي والزهاوي، تحدث في بعض الأحايين حتى تصل إلى الخصومة والقطيعة، ومما حدث بينهما أنه بعد هجرة الرصافي إلى سورية ورجوعه إلى بغداد أقام له المعجبون بشاعريته حفلة تكريمية ألقى فيها قصيدته المشهورة ومطلعها
سر في حياتك سير نابه ... ولم الزمان ولا تحابه
ومنها هذه الأبيات الرائعة:
كم مدع وطنية ... من لم تكن مرت ببابه
فتراه ينفج لاعباً ... فيها وينفخ في جرابه
ليكون مكتسباً بها ... مالا تهالك في اكتسابه
فكأنما هو صائد ... وكأنما هي من كلابه
أما الزهاوي وكان أحد المشاركين في هذه الحفلة فاستقبل الرصافي بقصيدة ختمها بقوله:
(وهذا أخي (معروف) أشدد به أزري)
فقال الرصافي لم يشأ إلا أن جعل نفسه (موسى) وجعلني (هارون) ثم أخفاها في نفسه، حتى إذا ما قدم بغداد الزهاوي بعد مكوثه في مصر أقيمت له حفلة تكريمية استهلها الرصافي بأبيات في تكريم الزهاوي منها:
أرى بغداد من بعد اغبرار ... زهت بقدوم شاعرها الزهاوي
فعندما وصل إلى هذا البيت التفت الزهاوي إلى خاصة الرصافي وقال لهم:
هذا واجب عليه لأنني بحق شاعر بغداد وكأنما أنا أعنيه في قولي:(985/47)
قد تسقط النخلة العيطاء لي رطبا ... فقد رميت على عثكو لها حجرا
وعندما سمع الرصافي ذلك أجاب:
لقد أنصف الزهاوي نفسه، جعل نفسه طفلا وأنا سامق كالنخل (وكل إناء بالذي فيه ينضح)
ومن ذلك اليوم انقطع الزهاوي عن لقاء الرصافي والكلام معه. حتى فارقا الحياة، فبدد الموت ما علق بقلبيهما من أحقاد.
رواية بيت
في العدد 981 روت الأستاذة زينب الحكيم بيت أبي نواس على الوجه التالي عند تأبينها المرحوم الدكتور زكي مبارك
لا أذود الطير عن شجر ... ذقت طعم المر من ثمره
والذي أعرفه كما هو في الديوان على الصورة الآتية
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمره
إلى هنا ولعل (بلوت) أقرب لألفاظ التواسي من ذقت الطعم.
عبد القادر رشيد الناصري
إلى الأستاذ العجمي
قرأت بإعجاب - في العدد الأخير من مجلة الرسالة - البحث القيم الذي تؤرخ فيه لشعراء الشباب المعاصرين في مصر، وتزنهم بميزان النقد الفني الأدبي، وتضع فيه لكل مدرسة من مدارس الشعراء منهجا واضحا محددا، وتلك روح طيبة تتسم بالجرأة والصراحة في الحق لا أشك في أنها أساس يقوم عليها النقد الأدبي في كل جيل.
غير أني آخذ على الأستاذ بعد أن وقف موقف الحمد والثناء من دار العلوم لما أنجبت للنهضة الأدبية الشعرية من شعراء يوم أن كانت مدرسة، آخذ عليه أنه ألقى الكلام جزافا حين أنحى باللائمة على دار العلوم وخريجيها بعد أن أصبحت كلية يكفي المتخرج منها أن يصيح أمام مفتش اللغة العربية: (أنا من حملة الليسانس)!
ولا أكتب تعقيبي هذا لأني طالب في دار العلوم فحسب، أدافع عنها؛ ولكن لأن الواقع والحقيقة يقرران عكس ما ذهبتم إليه، إذ ليس السبب في أن دار العلوم خرجت من شعراء(985/48)
أفذاذ لأنها كانت مدرسة، وتخلفت عن الركب - كما تدعي - لأنها أصبحت كلية جامعية، فدار العلوم كانت وما تزال إلى اليوم تحمل لواء نهضة أدبية مستقلة متميزة في طابعها العام عن سواها.
ولا أحسب الأستاذ - وهو شاعر مجدد - يتناسى أن للشاعر وطنا خاصا يعيش فيه، ومصادر إلهام يستقي منها، بعيدة كل البعد عن المعهد أو المدرسة التي تلقى فيها العلم. ولا أحسبه إلا مؤمنا بأن السبب في شاعرية الشاعر ليس وقفا على أنه من دار العلوم أو من الآداب أو الأزهر، فذلك - على ما أعتقد - ما لا أثر فيه لشعر شاعر، وإلا فما هي الدراسات الأدبية التي تدرس في كلية الهندسة التي ينتسب إليها المرحوم الشاعر علي محمود طه؟ وهل تخرج شوقي أمير شعراء عصره من الأزهر أو دار العلوم أو الآداب؟
ولو أن الصحافة الأدبية أفسحت صدرها لكثير من طلبة دار العلوم وخريجيها في عهدها الحديث، لشهد الأستاذ أن في كلية دار العلوم نهضة أدبية لا تنكر، وشعراء مجددين يسيرون في الموكب جنبا إلى جنب مع طليعة شعراء مصر المعاصرين. هذا ولا يمنعني ذلك من إزجاء الشكر خالصا على بحثكم القيم.
محمود محمد سالم
استدراك
سقطت جملة من المقال المنشور في العدد السابق من الرسالة بعنوان (شخصية) جعلت الجملة مضطربة والمعنى غير واضح. وسأتدارك هذا البتر الذي أظن أنه كان مقصودا في كتابي المعد للطبع.
كذلك وردت كلمة (يضطلع في السطر الأخير من المقال وصحتها (يطلع) فتكون الجملة هكذا (ومن سخرية القدر أن يصبح حصل أفندي نائبا عن الأمة يطلع في أحد المجالس. . .
حبيب الزحلاوي
دعونا من هذه المهزلة
إني أعتبر مجرد الحديث عن المرأة وحقوقها السياسية مهزلة يجب أن يوضع لها حد، كما(985/49)
أعتبر محاولة شغل الرأي العام بهذه المهزلة جريمة لا تغتفر في حق وطننا المنكوب. . فهل انتهت مصر بعد من تحقيق أعز أمانيها: الجلاء الخالص والوحدة الصادقة، حتى نشغل أنفسنا بحقوق المرأة السياسية، وتفسح صحافتنا السيارة - باستثناء الرسالة المحترمة - صدرها لمبارزة الفريقين المؤيد والمناهض، فتشعل بذلك معركة صاخبة يتلاشى في صخبها أعز الأماني وأطيب الآمال؟
إن المستعمر الغاصب بخير ما دام الرأي العام في مصر مصروفا عما يزلزل أقدامه ويقلق كيانه، ومشغولا بالجدل الممل المتعب في سفساف الأمور، وصغار القضايا، وتوافه المسائل. .
إننا نريد أولا تحقيق الجلاء التام الناجز عن وادي النيل حتى تطهر أرضه من رجس الاحتلال البغيض، وتحقيق الوحدة لشعبه حتى تعتمد على دعائم من الحق والقوة، والحرية والأخوة، وبعد تحقيق هاتين الأمنيتين تحقيقا صادقا لا زيف فيه ولا التواء، يجوز لنا أن نبحث ونجادل في مسألة حقوق المرأة السياسية وغيرها ما دام في ذلك خير يعود على الوطن العزيز.
إن من الحزم والإخلاص لوطننا أن نترك هذه الأمور اليوم، حتى ننتهي مما هو أهم وأحق، ويجب أن نفهم أن الرأي العام العربي يسخر اليوم منا، لأننا نسخر هممنا في توافه الأمور التي يمكن أن نستغني عنها قليلا، تاركين المهام التي تصون عزتنا، وتحوط كرامتنا بالمهابة والإجلال، وتسبغ على وجودنا وكياننا جوا من العظمة والتقدير!
فمتى يفهم هذا جيدا أشياع الفريقين المتناضلين؟ متى يتقون الله في دينهم ووطنهم؟
نفيسة عبد اللطيف الشيخ(985/50)
القَصَصُ
ثروة لم تخطر على بال
للقصصي الإيطالي يوكانشو
لقد أجمعت الآراء على أن البلاد الواقعة على شاطئ البحر من ريجيو إلى جابتي هي أجمل البلاد موقعا في إيطاليا. وهناك على مقربة من سالرن عراء تطلق عليه الأهالي اسم شاطئ ملفي، به مدن صغيرة وحدائق، وكانت مدينة رافللو في ذاك العهد أبرزها رشاقة وازدهاراً، وكان بها رجل يسمى لاندولف من كبار الأغنياء ولكن نهم المال لا يشبع ولا يقنع، إذ أراد هذا الرجل أن ينمي ثروته فقضى طمعه على جميع ما ملكت يداه.
وبعد ما فكر في الأمر طويلا كعادة التجار اشترى سفينة عظيمة وشحنها بمختلف البضائع وسافر إلى قبرص. وحينما وصل إليها وجد كثيراً من السفن مشحونة بنفس البضائع التي جلبها فاضطر أن يبيع شحنته بأبخس الأثمان؛ فتملكه هم شديد لهذه الخسارة الفادحة التي ذهبت بغناه، وصمم على الانتحار أو الاستعاضة عما فقده بواسطة شخص آخر، فلا يرجع إلى بلده على تلك الحال بعد أن خرج منها غنيا محترماً. وباع سفينته واشترى بثمنها والمبلغ الضئيل الذي باع به بضائعه مركباً خفيفاً يصلح لأعمال القرصنة وسلحه جيداً واختار له بعض الرجال الأشداء وطفق يجوب البحار ويسطو على كل من يصيبه ولا سيما الأتراك حتى زادت ثروته وفاقت ما كان يملكه وقت ازدهار أمواله.
رأى أن غناه أصبح كافيا وأنه في حاجة إلى عيش شريف محبوب لا يحتاج إلى تعرض جديد للبؤس وتقلبات الأيام. وعزم على الرجوع إلى بلده والاكتفاء بما غنمه لأن ما حاق به من صروف الدهر جعله يخشى العودة إلى أعماله السابقة. فسافر إلى رافلو بهذا الموكب الخفيف، ولما ابتعد عن الشاطئ هبت رياح عنيفة فهاجت الأمواج ورأى لاندولف أن سفينته الصغيرة لا تستطيع مقاومة اللجج الهائجة فعزم على الالتجاء إلى جزيرة صغيرة، وبعد لحظة أقبلت سفينتان جنويتان لتحتميا في هذا الموضع من الجزيرة وكانتا آتيتين من الآستانة. وقد علم الركاب أن هذه السفينة الصغيرة يملكها لاندولف وكانوا يسمعون أنه من الأغنياء المولعين بالذهب والسطو على مال الغير، فاتفقوا على مهاجمته وسدوا عليه المسالك أولا ثم أنزلوا عددا من رجالهم إلى البر وبأيديهم وقسيهم وسهامهم وتخيروا لهم(985/51)
مكانا يمكنهم من إصابة كل من يخرج من السفينة. ثم هب الباقي إلى القوارب وذهبوا إلى سفينة لاندولف وأسروها بدون مقاومة ثم نهبوا جميع ما فيها وأغرقوها واعتقلوا لاندولف في قاع مركب من مراكبهم ولم يتركوا عليه غير بعض ثياب خلقة. وفي الصباح تحسن الجو فسافر الجنويون إلى بوتان وسارت مراكبهم بكل اطمئنان طول النهار. وحينما أقبل الليل هاجت رياح عنيفة، واضطرب اليم فانفصل المركبان بعضهما عن بعض وارتطم أحدهما الذي يقل لاندولف في صخور جزيرة سيفالوني فتحطم كالزجاجة وافترس اليم مختلف البضائع والصناديق وحطام السفن، وطفق الملاحون يسبحون ويجالدون اللجج الهائجة في الظلام الحالك ويتمسكون بكل ما يصادفهم لينجوا بأنفسهم.
وأما لاندولف التعس الذي كان بالأمس يتمنى الموت لفقد ثروته فقد تملكه الخوف حينما رأى نفسه مشرفا على الهلاك، ولحسن حظه صادف لوحاً من الخشب فتمسك به إلى أن ييسر الله له من ينتشله من الخطر.
ظلت الأمواج تتقاذفه ذات اليمين وذات اليسار إلى أن طلع النهار فنظر إلى ما حوله فرأى صندوقاً صغيرا عائماً فحاول الوصول إليه ولكن هبت زوبعة ضاعفت عنف الأمواج وقذفت الصندوق حتى اصطدم باللوح الذي بين يدي الغريق فأفلت من يده وغاص لاندولف من قوة الصدمة، ثم طفا وشاهد اللوح بعيداً عنه ولكنه لمح الصندوق على مقربة منه فسبح حتى أمسك به وامتد على غطائه، وطفق يستعمل ذراعيه بدلا من المجاذيف، وأخذت تطوح به اللجج في كل صوب دون طعام، وقضى نهاره وليله على تلك الحال المضنية دون أن يعرف إن كان قريبا أو بعيدا عن البر لأنه ما كان يرى غير الماء والسماء. . .
وفي الغد طوحت به الرياح أو على الأصح إرادة الله السامية إلى جزيرة جولف، وأصبح جسمه كالإسفنج وهو منكمش على الصندوق كما يفعل الغرقى عند إشرافهم على الهلاك.
وكانت في تلك الساعة امرأة فقيرة تغسل آنيتها على الشاطئ فذعرت لرؤيته على تلك الحال وصرخت صراخاً عنيفاً. وكان لاندولف منهوك القوى حتى أنه لم يستطع النطق بكلمة. ولما اقترب الصندوق من الشاطئ وتأملت فيه المرأة ميزت شكل الصندوق ولمحت وجه الغريق فتأثرت بعاطفة الشفقة والحنان ونزلت بقرب الشاطئ وكان البحر هادئا وأمسكت لاندولف من شعر رأسه وجرته هو والصندوق إلى الشاطئ ونزعت يديه(985/52)
المتشنجتين من الصندوق بقوة ثم وضعت الصندوق على رأس فتاة كانت معها ثم حملت لاندولف على ظهرها كالطفل وذهبت به إلى المدينة ثم أدخلته في حمام حار وغسلته ودلكته بالماء الساخن إلى أن أفاق وتحرك، وبعد إخراجه من الحمام سقته نبيذاً وأطعمته قليلا من المربى حتى انتعش وعاد إليه رشده. رأت هذه السيدة أن ترد إليه صندوقه وأن تشجعه على ما أصابه من المحن.
لم يفكر لاندولف قط في الصندوق إلا أنه ظن أن يجد فيه شيئا يستعين به على القوت بضعة أيام. ولما أراد أن يفتحه وجده خفيفا جدا فتملكه اليأس والقنوط، ثم فتحه بفارغ الصبر تطلعا لما يحتويه، وكانت السيدة قد غادرت بيتها لقضاء حاجاتها، فوجد فيه كمية من الأحجار الكريمة بعضها مصقول والآخر كما هو. ولسابق معرفته بالجواهر تحقق أنها ذات قيمة كبيرة، حمد ربه على هذه النعمة العظيمة ومجده، لأنه قد حرسه بعين عنايته وعوضه أضعاف ما فقد. وتشجع ونشط ونسى همومه، وعزم على أن يتصرف بكل رزانة وحكمة ليصل إلى بيته آمنا مطمئنا ولا يكون عرضة لمصاب جديد أو محنة غير منتظرة. ثم صر جواهره في قطعة من النسيج وعرض على السيدة أن تأخذ الصندوق مقابل كيس، فلبت طلبه ثم شكر لها حسن صنيعها ووضع كيسه على كتفه وسافر في مركب. ولما وصل إلى برنديزي انتقل إلى تراني وصادف هناك عدة رجال من بلده وكانوا من تجار القز والديباج فقص عليهم ما أصابه، ولكنه لم يبح لهم بالصندوق وما حواه فأعطوه حلة وأعاروه جواداً وبحثوا له عن رفقاء يصحبونه في سفره إلى رافللو.
ولما آب إلى بلده عاين جواهره فوجد فيها كثيرا من الماس الجيد بحيث أنها إذا بيعت بثمن معقول كانت قيمتها تساوي ضعف ثروته حينما فارق بلده. ثم أرسل مبلغا من المال إلى السيدة التي انتشلته من اليم في مدينة جولف وكافأ تجار الحرير الذين ساعدوه في تراني وعاش بقية عمره عيشة هنيئة شريفة.
م ح(985/53)
العدد 986 - بتاريخ: 26 - 05 - 1952(/)
رمضان
للأستاذ علي الطنطاوي
لما قعدت أكتب هذا الفصل، تقابلت في نفسي صورتان لرمضان:
رمضان المزعج الثقيل، الذي قدم يحمل الجوع في هذه الأيام الطوال، والعطش في هذا الحر المتوقد، يمشي في ركابه المسحر بنشيده الممل، وصوته الأجش، وطبلته التي يقرع بها رؤوس النائمين، من نصف الليل، من قبل السحور بساعتين، فترج أعصابهم رجاً، وتنفي النوم من عيونهم، والراحة عن أجسادهم. .
ورمضان الحلو الجميل، الذي يقوم فيه الناس من هدآت الأسحار، وسكنات الليالي، حين يرق الأفق، وتزهر النجوم، ويصفو الكون، ويتجلى الله على الوجود يقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا من سائل فأعطيه؟ ألا من تائب فأتوب عليه؟ يسمعون صوت المؤذن يمشي في جنبات الفضاء، مشي الشفاء في الأجسام، والطرب في القلوب، ينادي: يا أرحم الراحمين. فيسري الإيمان في كل جنان، ويجري التسبيح على كل لسان، وتنزل الرحمة في كل مكان.
رمضان الذي ينيب فيه الناس إلى الله ويؤمون بيوته، ففي كل بلد من بلاد الإسلام مساجد، حفل بالعباد والعلماء، ليس يخلو مجلس فيها من مصل أو ذاكر، ولا أسطوانة من تال أو قارئ، ولا عقد من مدرس أو واعظ، قد ألقوا عن عقولهم أحمال الإثم والمعصية، والغل والحسد، والشهوات والمطامع، ودخلوا بقلوب صفت للعبادة، وسمت للخير، قطعوا أسبابهم من عالم الأرض ليتصلوا بعالم السماء. تفرقوا في البلدان، واجتمعوا في الإيمان، وفي الحب، وفي هذه القبلة يتوجهون كلهم إليها، لا عبادة لها، ولا التجاء إليها، فما يعبد المؤمن إلا الله. وما الحجر الأسود إلا حجر لا يضر ولا ينفع، ولكن رمزاً إلى أن المسلمين مهما تناءت بهم الديار، وتباعدت الأقطار دائرة واحدة، محيطها الأرض كلها، ومركزها الكعبة البيت الحرام، رمضان الذي تتجلى فيه أجمل صفحات الوجود.
إن الحياة سفر في الزمان، وركب الحضارة الغربية يقطع أجمل مراحل الطريق: مرحلة السحر، وهم نيام، ولولا رمضان ما رأينا جمال السحر.
رمضان الذي تتحقق فيه الاشتراكية، وتكون المساواة، فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل(986/1)
يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، يفطرون جميعاً في لحظة واحدة، ويمسكون جميعاً في لحظة واحدة، كأن المسلمين كلهم طلاب مدرسة داخلية، يجتمعون على مائدة واحدة. تراهم في المساء مسرعين إلى بيوتهم، أو قائمين على مشارف دورهم، أو على أبواب منازلهم، فإذا سمعوا طلقة المدفع، أو رأوا ضياء المنارة، أو رن في آذانهم صوت المؤذن، صاح الأولاد بنغمة واحدة موزونة: أذن. . أذن. . وانطلقوا إلى دورهم طائرين كعصافير الروض.
فإذا فرغ الناس من طعامهم، أموا المساجد، فقاموا بين يدي الله صفاً واحداً، لا غني ولا فقير، ولا صغير ولا كبير، متراصة أقدامهم، ملتحمة أكتافهم، وجباههم جميعاً على الأرض، فأين في الوجود مساواة مثل هذه المساواة؟
رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم، وصحة الروح، وعظمة النفس، ورضا الله.
إن الصيام من سنن الرياضيين، وسلوا كتب الرياضة، وسلوا شيخها اليوم مكفارن، ولست طبيباً ولكني جربت بنفسي، ورب مجرب أوعى من طبيب.
فأنا أحد من أضنتهم الرثية والحصوات في الكلى، وثقوا أنني راجعت في علاجها ستة وثلاثين طبيباً، أي والله، وأحسبني جربت كل علاج، فلم أجد لها مثل الصيام إلا عن الماء والحليب وعصير البرتقال.
وهذه سنة من سنن الله في الكون: من أكل أقل أصابه السل، ومن أكثر ركبته الأملاح والرثيات والنقرس، ولولا ذلك لأكل الأغنياء أكل الفقراء. تقول لهم (الطبيعة) التي طبعهم الله عليها: قفوا! فالمرض بالمرصاد، لمن نقص في الأكل أو زاد.
هذه صورة رمضان الحلوة، أفلا تستحلي معها مرارة الصورة الأخرى؟
رمضان الذي تشيع فيه خلال الخير، ويعم الحب والوئام، فإذا أردتم أن تصوموا حقاً فصوموا عن الأحقاد، واذكروا ما في أعدائكم من خلال الخير، فأحبوهم لأجلها، واغفروا لهم، وادفعوا بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينكم وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وليس يخلو أحد من خلة خير، وليس في الدنيا شر مطلق، حتى الموت! فإنها قد تمر بنا ساعات نرتجي فيها الموت، حتى إبليس فإن له مزية الثبات والذكاء. وما أمدح إبليس؛ لعنة الله على إبليس، ولكن أضرب للناس الأمثال!(986/2)
وإذا جعتم هذا الجوع الاختياري، فاذكروا من يتجرع غصص الجوع الإجباري، واشكروا ربكم على نعمه. وليس الشكر أن ترددوا ألف مرة باللسان: الحمد لله! الحمد لله! ولكن شكر الغني البذل للفقراء، وشكر القوي إسعاد الضعفاء، وشكر السلطان إغاثة اللهفان.
وأعطوا من نفوسكم كما تعطون من أموالكم، فرب بسمة مع العطاء، تنعش السائل أكثر من العطاء، وكلمة خير لجار تحيي الجار، وبش في وجه ذي الحاجة والاعتذار عنها خير من قضائها مع الترفع عليه عند السؤال، والمن عليه بعد النوال.
واذكروا أن الله خلق الإنسان مركباً من ملك وشيطان وحيوان، فإذا هدأ الحيوان في رمضان بترك الطعام، وخنس الشيطان بردع الشهوة، بقي الملك، فتخلقوا بأخلاق الملائكة، فلقد كان المسلمون الأولون ملائكة الخير في الأرض، وكانوا يعيشون عيش الملائكة، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، قد فرغوا من شهوات البطن، فأجزأتهم تمرات في اليوم، وفرغوا من هم ما تحته، فلا تستهويهم شهوة، ولا يستعبدهم جمال، وعاشوا لهدف واحد، هو الواجب، فكان كل مسلم قطعة من هذه الآلة الضخمة الهائلة، التي أدارها الشرع، فأدارت الفلك.
كانوا يقومون لله، ويقعدون لله، ويأخذون لله، ويدعون لله. دعوا إلى البذل فأعطوا؛ جهز عثمان جيش العسرة من ماله، وأعطى عمر نصف ماله، وأعطى أبو بكر ماله كله، فقالوا ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.
ودعوا إلى الجهاد، فجادوا بنفوسهم في سبيل الله، وأتوا العجائب، وقحموا الأهوال، حتى فتحوا ثلث العالم في ثلث قرن، ودعوا إلى العلم فكانوا أساتذة العالم. كانوا جناً في النهار، ورهباناً في الليل، وكانوا أكبر من الدنيا، لا لأنهم ملكوا الدنيا، فالدنيا لا يملكها كلها أحد، بل لأنهم زهدوا في كنوزها، فصارت كنوزها هي والتراب عندهم سواء. وأنت إن كنت تملك قرشاً ولا تطلب غيره، أغنى ممن يملك المليون ويطلب مليونين، لأن ذلك ينقصه مليون، فهو يحن إليه، ويتحسر عليه، وأنت لا ينقصك شيء.
فجربوا هذه العظمة في رمضان، لا تفكروا في الطعام، لا تثركم موائد الملوك، ولا ما احتوت المطاعم، ولا تفكروا بالنساء، لا يثركم حور الجنان.
هذا رمضان يا أيها الأخوان، فخذوا منه الصحة لأجسامكم، والسمو لأرواحكم، والحب(986/3)
لقلوبكم، والعظمة لنفوسكم، والقوة والنبل، والبذل والفضل، وخذوا منه ذخراً للعالم كله يكن لكم ذخراً.
أعاده الله عليكم بالخير والنصر والإقبال.
علي الطنطاوي(986/4)
كيف وجدت العالم العربي؟
تقرير مرفوع إلى جزيرة العرب
للأستاذ أبي الحسن علي الحسني الندوي
لقد كتبت وأنا متوجه إلى مصر، وقد تحركت بنا الباخرة في ميناء جدة يوم السبت 12 ربيع الآخر سنة 1370هـ 20 يناير 1951م، (وداعاً أيتها الجزيرة العربية غير مهجورة ولا مملولة، فليست هذه الرحلة إلا في سبيلك وللاتصال بأسرتك العزيزة المنتشرة على ساحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، أبلغها تحياتك وأرى ما فعلت الأيام بها بعد انفصالها عنك، وما فعلت برسالتك التي حملتها عنك للعالم والأمانة التي تقلدتها، ثم أعود إليك إن شاء الله أحكي لك قصة هذه الأقطار الإسلامية العربية وما شاهدت في هذه البلاد من خير وشر، وما رأيت لأبنائك من وفاء لك وجفاء، بكل أمانة وصراحة، فالرائد لا يكذب أهله، ومن الكذب المهلك والخيانة المردية المجاملة في الأخبار والمبالغة في التفاؤل).
وهذا أوان إنجاز الوعد.
يسرني أن أقول لك أيتها الجزيرة العزيزة أن أسرتك العربية لا تزال تنتمي إلى الإسلام ولا تزال تعتز بعروبتها ولا تزال تنسب نفسها إليك وترد دينها ولغتها إلى منبعهما في ربوعك، ويبدأ تاريخ حياتها الجديدة بيوم أشرق فيه النور من غار حراء فكان الصبح الصادق للعالم، وقد احتضنت هذه البلاد تراثك الأدبي والثقافي وتبنت لغتك وضمتها إلى صدرها وزادت في ثروتها زيادة لا تخطر على بال منك ولا من شعراء جاهليتك، ولا يسعك عليها إلا الشكر والاعتراف بالجميل، وقد كانت هذه البلاد وفية للغتك، وفية لقوميتك، وفية لثقافتك وفية لتاريخك.
وأن أسرتك العربية لم تقطع صلتها في يوم من الأيام عن دينك الذي عاهدتها عليه وأوصيتها به يوم ودعتها وأرسلتها لتفتح العالم وتنقذه من الجاهلية. وكم حاول الحساد أن تقطع هذه الأسرة الكريمة صلتها عن الإسلام وترجع إلى جاهليتها الأولى أو تعتنق الجاهليات الحديثة. وكم زينوا لها الانسلاخ عن عقيدتها الإسلامية والانفصال عن الجامعة الإسلامية، وأن تدين بالقومية العربية والوطنية الضيقة، فلم تكن منها في كل عصر ومصر(986/5)
إلا أن ثارت روحها الإسلامية وهاجت غيرتها الدينية فازدادت إيماناً بهذا الدين وأحبطت مساعي المفسدين، ولا نعرف من بين الشعوب والأمم أسرة أكثر وفاء وأعظم أمانة وأشد تعلقاً بالماضي وغيرة على اللغة من هذه الأسرة العربية التي تسكن الشرق الأوسط الذي هو مجرى تيارات المدنية والغزوات السياسية، فقد تطور كل شيء وقد تطورت هي كذلك في ثقافتها وأدبها وحياتها تطوراً كبيراً ولكنها لا تزال متشبثة بدينها متعصبة للغتها، فليهنك أيتها الجزيرة من أبنائك هذا الوفاء وهذه الاستقامة.
إن في العالم العربي كثيراً مما يسرك ويسر جيلك الأول لو بعث، فلا يزال الأذان تدوي به الآفاق؛ ولا يزال التوحيد والرسالة المحمدية يعلن بهما على الشرفات، والصلوات تقام والقرآن يتلى بلحن عربي شجي لو سمعته أيتها الجزيرة لطربت له واعتقدت أنه لم يقرأ إلا في هذه البلاد، ولو سمعت العلماء يفسرونه ويتكلمون في موضوع ديني لتوهمت أنه لم يفهم إلا في هذا العصر، والعلم يخدم وينشر، وفي كل يوم يتدفق سيل من المطبوعات الدينية لا يقل في الفيضان عن الزيت الذي يتدفق من شرقك إلى غرب العالم.
هذا كله مما أشهد به وأهنئك عليه، فقري عيناً وطيبي نفساً يا أم العالم العربي؛ فمن أحق منك بالسرور على ذلك ومن الأجدر منك بالتهنئة؟
ولكني وعدتك وأنا أودعك على ميناء جدة أني لا أخفي عنك شيئاً وأني أحمل إليك في رجوعي كل حلو ومر، وأروي لك من رحلتي ما يسوء ويسر، وقديماً قلت: أنجز حرماً وعد.
لست أدري أيتها الجزيرة العزيزة كيف أعبر عن شعوري المزدوج المركب، وكيف أصف لك ما وجدته وما افتقدته في هذه الرحلة الطويلة، وكيف أصور المعاني المتناقضة وكيف أجمع لك بين آلام وآمال. إني أستعير أولاً كلمة لشاعر مؤمن من بلادي قد زار العالم العربي قبلي ورجع منه حزيناً يلخص رحلته في بيتين من شعر، ذلك الشاعر هو الدكتور محمد إقبال الذي يقول:
(لم أسمع في مصر ولا في فلسطين ذلك الآذان الذي ارتجفت له الجبال بالأمس. إن السجدة التي كانت تهتز لها روح الأرض لقد طال عهد المحراب بها واشتاق إليها المسجد كما تشتاق الأرض الجديبة الخاشعة إلى المطر).(986/6)
لا يخفى عليك أيتها الجزيرة أن مصدر هذا الآذان الذي كانت الجبال ترتجف له ارتجافاً وهذه السجدة التي كانت الأرض تهتز لها اهتزازاً، إنما هو القلب الفائض بالإيمان، الممتلئ بالحب والحنان، الجريء على الموت، الحريص على الشهادة، الزاهد في الدنيا، المستهين بالمادة، وقد ضعف هذا القلب من مدة طويلة وجنت عليه المادة الغربية والتعليم المادي فأفقدته كثيراً من حنانه وحرارته وخفقانه، وتأثرت بهذا التحول الحياة في كل ناحية من نواحيها ومظهر من مظاهرها وعم المسجد والمدرسة والمنزل والسوق، وشعر به كل من لم يفقد شعوره حتى قام بالأمس أمير الشعراء شوقي في دمشق يقول:
فلا الأذان أذان في منارته ... إذا تعالى ولا الآذان آذان.
لقد عاتبت هذه البلاد العزيزة على هذا التحول كثيراً وحدثتها حديث رجل لرجل، ولكنها قالت لي: إن الجزيرة العربية هي المسئولة عن هذا التحول، فقد كانت مصدر الحياة والقوة والإيمان والروح في العالم كله، وقد كانت توزع الدم الجديد إلى شرايين العالم الإسلامي وعروقه فضلاً عن العالم العربي فشغلت في العهد الأخير بتصدير البترول عن تصدير دم الحياة الإيمانية، واكتفت باستصدار البضائع الأجنبية عن توريد بضاعة الإيمان وغذاء الروح إلى العالم. وجادلت عنك أيتها الجزيرة العربية كثيراً ولقد أوتيت جدلاً ولكنها أفحمتني بالدلائل والأمر الواقع، فأقنعيها بما شئت وأدلي بحجتك فإنما هي أسرتك ومن أقرب الناس إليك.
وسواء كان منك التقصير أولاً، وكنت المسئولة عن هذا التحول المؤسف أم كان غيرك، فإني أبشرك أني شاهدت في العالم العربي طلائع نهضة إسلامية قوية شاملة، وتباشير صبح صادق، فقد بدأ الرأي العام يستيقظ، وبدأ القلق الشديد يساور النفوس، والتذمر من الأوضاع الفاسدة يكاد يكتسح البلاد. وقد بدت حركة رد فعل عنيفة ضد الحضارة الغربية وقيمتها، وظهرت آثار ثورة فكرية سياسية ضد سيادة الغرب والوصاية العالمية التي سلطها الغرب على العالم وفرضها على العالم العربي فرضاً، واستمر يتحكم في أمواله وكنوزه وخيراته، كأنه سفيه أو مجنون أو طفل لم يبلغ سن الرشد، فها هي الأقطار العربية قد بدأت تفهم الحقائق وبدأت تواجه الغرب المتغطرس كرجل كريم يؤمن بشرفه وإنسانيته ويشعر بشخصيته وكرامته، وكرجل حي يعرف الغضب كما يعرف الرضا ويملك حق(986/7)
الثورة إذا وجدت لها موجبات.
لقد بدأ العالم الربي يكفر بالغرب أحياناً بعد ما آمن به طويلاً وخضع له طويلاً وربط نفسه بعجلته فأصبح يرى نفسه مستقلاً؛ وعضواً كريماً في أسرة العالم، يعلم المفسد من المصلح ويميز بين الصديق والعدو ويحتفظ بحقه في الصلح والحرب والحلف والصداقة.
لقد بدأ بعض الأقطار العربية يرنو إلى التقدم الصحيح والاستقلال الصادق. قد بدأ يفهم أهمية الصناعات الوطنية والإنتاج والاكتفاء الذاتي والاستغناء عن البلاد الأجنبية في مرافق الحياة. وقد بدأ بعض هذه الأقطار يخطو نحو هذه الغاية وإن كانت هذه الخطوات بطيئة وقصيرة، خطوات رجل مثقل يئن من أثقال القديم، ولكنها بدأت تزحف كما يزحف الطفل بعد ما بقيت مدة طويلة تلهو بما كان الغرب يرمي إليها من ودعات، وبما يصدر إليها من بضائع وآلات. لقد بدأت الأقطار العربية تتعلم صناعة الموت بعد ما جهلتها طويلاً وهجرتها طويلاً، وأصبحت تعتقد أنه لا يعيش في العالم إلا من يستطيع أن يموت.
وأعظم ما يبعث الأمل في النفوس ويبشر بالمستقبل الإسلامي هو ظهور آثار الإيمان الجديد في العالم العربي، فإنك تعلمين أيتها الجزيرة العربية حق العلم أن أسرتك الكريمة ليست في حاجة - وكذلك العالم البشري كله - إلى دين جديد، فإن الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الخالد والرسالة الخالدة، وأنه لا يزال على جدته وقوته مهما تقادم الزمان، وانه يسع العالم كله والعصور كلها، ولكن أسرتك التي تدين بهذا الدين في حاجة ملحة اليوم إلى إيمان جديد بهذا الدين الخالد، دين كل عصر وجيل، فقد ضعف هذا الإيمان، وقد تجددت فتن، ونشطت دعوات متطرفة وقويت، وكثرت النكبات، ولا يمكن أن يواجه العالم العربي هذه الفتن، وهذه الدعوات وهذه النكبات بإيمان ضعيف بال، لا يستطيع أن يتحمل صدمة، أو يتغلب على شهوة، أو ينتصر على أنانية، أو يتحمل شدة، أو يقف في وجه دعوة، إنما هو إيمان منهار لا يستطيع أن يعيش ويتماسك في عصر قد جد فيه الجد.
ولكني رأيت في الأقطار التي مررت بها في هذه الرحلة بواكير إيمان جديد وطلائعه. لقد رأيت إيمانا فتياً وثاباً، لقد رأيت فتية وصفهم ربهم قديماً بقوله (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو(986/8)
من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) هؤلاء الفتية الأقوياء في إيمانهم - وإن كانوا كباراً في سنهم - الذين يعتزون بهذا الدين أكثر ما يعتزون بشيء، إنهم لا ينظرون إليه كتراث قديم وكأثر من الآثار العتيقة أو كشجرة قد انتهى نموها وانقطعت أثمارها، إنما ينظرون إليه كمنبع فياض يستمدون منه القوة والحياة، وكشمس ساطعة يقتبسون منها النور والحرارة في كل زمان ومكان، ولا قديم في الشمس ولا جديد، إنما هي حاجة الإنسان الدائمة ورسول النور والحياة في كل عصر ومصر، وبينما كان ينظر إلى الدين كقضية شخصية لا دخل لها في الحياة العامة، ولا رسالة لها للسياسة والاجتماع، ولا صلة لها بالحكم والتشريع، أصبح ينظر إليه كمنهج للحياة ومنهج للتفكير تتوقف عليه سعادة البشرية، وتنحل به عقد المدنية الحديثة. إن الإسلام لا يعيش على هامش حياتهم إنما يحل منهم محل القلب والعقل والروح. إنهم لا ينظرون إليه كدين من الأديان الكثيرة وكمنهج للحياة من مناهجها الجديدة، إنما ينظرون إليه كالدين الحق الوحيد الذي لا يبقى بعده إلا الضلال ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه. هؤلاء هم الذين قام بهم الإسلام في عصره الأول وسيقوم بهم في هذا العصر.
وأعجب ما رأيت هو قوة هذا الإيمان وجدته في الشباب المتعلم، فقد رأيت هذا الجيل الجديد يكاد يفوق الجيل القديم في قوة الإيمان والحماسة الدينية، رأيته يقبل على الدين كنعمة جليلة أو طرفة ثمينة، ويذكرنا بسروره وتقديره أولئك الرواد المغامرين الذين كانوا يخرجون لاكتشاف البحار والأقطار المجهولة ويتكبدون في سبيله من المصائب ما يشيب لهولها الولدان، فكان إذا نجح أحدهم في مهمته ملكه الفرح واعترته نشوة الانتصار ونسي ما لقي في طريقه من النصب والتعب واعتبر ما اكتشفه فتحاً جديداً في حياته وأعز من كل ما يملكه من قديم وما يعلم من قديم، رأيت في هذا الشباب من الشجاعة الأدبية ومن الثقة بالدين وتعاليمه والإعجاب بشخصياته التاريخية ومن التطلع إلى النظام الصالح ومن روح التضحية والإيثار والثورة على النظم الجائرة والأوضاع الفاسدة والتمرد على المادة ومكيائيلية المجتمع الزائفة ما يندر وجوده في الجيل القديم. لقد قرت بهم عيني وانشرحت لهم نفسي واجتمعت بهم وحادثتهم كثيراً في عواصم الشرق الأوسط، وقلت: هذا هو الجيل(986/9)
المنتظر الذي سينهض بالشرق ويرد إليه قوته، وزعامته إن شاء الله.
إن نهضة العالم الإسلامي ونهضة العالم العربي أمر واقع لا يقبل شكاً ولا جدلاً، ولكن الذي أخشى أن تسبقك هذه الأقطار وأن يتأخر دورك كثيراً وحقك أن تسبقيها وتتزعمي هذه النهضة المباركة فأنت مادة الإسلام والبلد الأمين.
أما بعد فإني لست يائساً من العالم العربي ولا منك أيتها الجزيرة العربية، وأقول في لفظ شاعر الإسلام (إن إقبال ليس يائساً من زرعه الكريم الذي عاث فيه الوحوش والسباع فإن تربته الكريمة تأتي بحاصل كبير إذا تندت قليلاً) ولك أيتها الجزيرة أن تسقي هذه التربة الكريمة بزمزم، وبما شئت من دمع ودم.
أبو الحسن علي الحسني الندوي(986/10)
وجهات النظر في مؤتمر موسكو الاقتصادي العالمي
للدكتور عمر حليق
يعتبر المؤتمر الاقتصادي العالمي الذي أشرفت الحركة الشيوعية العالمية على عقده في موسكو في أوائل شهر أبريل من أنجح خطوات الدعابة (لحملة السلم) التي أخذت الشيوعية العالمية تدعو إليها في حماس شديد في المدة الأخيرة.
فقد استعدت المحافل الشيوعية في موسكو وفي كثير من بقاع العالم استعداداً فائقاً في الدعوة للمؤتمر على أنه مجرد خطوة عملية لتشجيع التبادل التجاري الحر بين الدول الشيوعية من جهة، وبين دول العالم الأخرى سواء أكانت هذه الدول (محايدة) أو من خصوم النظام الشيوعي.
وقد حضر المؤتمر مئات من رجال الأعمال (من غير السياسيين) من شتى بقاع العالم بما فيها أمريكا وبريطانيا ومصر والهند والباكستان ولبنان وإيران وغيرها من الدول التي لها صبغة حيادية أو تلك التي تخاصم الشيوعية مخاصمة سافرة.
وقد توصل المؤتمرون إلى عقد صفقات تجارية واسعة مع أصحاب الأعمال الروس والبولنديين والتشيكوسلوفاكيين والشيوعيين الصين وغيرهم من الشعوب التي اتخذت الشيوعية لها عقيدة ونظاماً.
والذي أدى إلى نجاح هذه الصفقات التجارية الواسعة ما عرضه الروس والمندوبون الشيوعيون الآخرون من مغريات. فقد أعلنوا بأنهم على استعداد لتصدير الحبوب والأدوات الصناعية والمواد الكيماوية والأخشاب وغيرها من السلع والمنتجات إلى أوربا الغربية وأمريكا وآسيا مقابل الحصول على الأنسجة والمغزولات والمطاط والأدوات الكهربائية والسفن وقائمة طويلة عريضة من المواد التي لا تمت بصلة مباشرة إلى الاستعداد العسكري الذي يجتاح العالم هذه الأيام.
ولم يكتف المندوبون الشيوعيون في عروضهم الجارية على أساس المبادلة (مبادلة الاستيراد بالتصدير) مع الدول الغربية والآسيوية، وإنما أعلنوا استعدادهم كذلك لقبول أثمان ما تستورده البلدان الخارجية من محاصيل ومنتجات البلدان الشيوعية بالعملة المحلية للبلد المستورد.(986/11)
وهذا يعني بأن الروس وحلفاءهم راضون بالتعامل بالجنيه الإسترليني والروبية الهندية والباكستانية والعملة المصرية وغيرها من العملة المتبادلة خارج منطقة الدولار الأمريكي والفرنك السويسري والمارك السويدي وغير ذلك من أنواع العملة الصعبة.
ولهذا الأسلوب إغراؤه الشديد خصوصاً لدى بريطانيا ودول أوربا الغربية وشعوب آسيا وأمريكا اللاتينية التي تعاني أزمة في توفير العملة الصعبة لاستيراد ما هي في حاجة إليه من محاصيل وسلع ومنتجات صناعية لا تستطيع الحصول عليها إلا بالدولار - والدولار عزيز هذه الأيام في كثير من بقاع العالم خارج أمريكا الشمالية.
وثمة أمر آخر له أهميته الاقتصادية. فقد أدى اشتراك الصين الشيوعية في مؤتمر موسكو الذي نحن بصدده إلى سيل لعاب الدول التجارية الكبرى كبريطانيا مثلاً. فبريطانيا تعاني الآن ضائقة مالية لعينة مبعثها اختلال الميزان التجاري وقصور الصادرات البريطانية عن اللحاق بالواردات، وهذا وضع أرغم بريطانيا على أن تنفق على استيراد الطعام والمواد الأولية من الخارج بنسبة تفوق بكثير ما يدخل إلى الاقتصاد البريطاني من أثمان الصادرات البريطانية إلى الأسواق العالمية. والبريطانيون يدركون أن الصين الشيوعية سوق تجاري مغري يعيش فيه أكثر من 400 مليون نسمة. فإذا توفر لبريطانيا بيع منتجاتها وبضائعها في السوق الصيني فإنها لا ريب مفرجة عن كثير من أوجه ضائقتها الاقتصادية الحادة.
وقد عرض المندوبون الروس على المندوبين البريطانيين في مؤتمر موسكو الذي نحن بصدده أن تشتري روسيا من المنسوجات البريطانية ما يبلغ ثمنه 30 مليوناً من الجنيهات. فإذا تمت هذه الصفقة فإنها ستعيد الحياة إلى مصانع الغزل والنسيج البريطانية في منطقة (لانكشير) المشهورة بجودة إنتاجها والتي أخذت في المدة الأخيرة تعاني أزمة بطالة حادة سببها قلة التصدير إلى الخارج بعد أن استعادت المنسوجات اليابانية مركزها في أسواق الشرق الأقصى والهند؛ وبعد أن عادت الحياة الصناعية في ألمانيا إلى البروز بشكل سريع خلق للإنتاج البريطاني منافسة شديدة في كثير من أسواق العالم.
ولما كانت شؤون ألمانيا واليابان الاقتصادية لازالت الآن إلى حد بعيد في يد السلطات الأمريكية والحليفة، فإن هذه السلطات لم توفر بعد فرصة لليابانيين والألمان بالتعامل(986/12)
التجاري مع الصين الشيوعية، الأمر الذي يوفر لبريطانيا فرصة ذهبية لاكتساح السوق الصيني من جديد على نحو ما كانت تكتسحه قبل قيام النظام الشيوعي هناك.
وهذه الحقيقة الاقتصادية تنطبق على بريطانيا انطباقها على معظم بلدان أوربا الغربية. ولذلك وجدت عروض الشيوعيين في مؤتمر موسكو لدى الأوساط التجارية في أوربا الغربية قبولاً حسناً.
وقد سبق لخبراء الأمم المتحدة الاقتصاديين أن أوصوا في العامين الأخيرين بضرورة إعادة التبادل التجاري بين دول أوربا الشرقية وبين شعوب أوربا الغربية بعد أن كان هذا التبادل قد توقف أو كاد نتيجة لنجاح مشروع مارشال ومساعدات أمريكا المالية والعسكرية لدول الحلف الأطلنطي. ففي التقريرين الأخيرين اللذين وضعتهما لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوربا إصرار على ضرورة إعادة هذا التبادل على نطاق واسع إذا أريد لدول أوربا أن تكافح البطالة وسوء الأوضاع الاقتصادية المتفشية الآن في معظم القطاعات الأوربية.
وقد جاء في هذين التقريرين بعض الحقائق عن ضائقة أوربا الاقتصادية. فقد ارتفعت البطالة في إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبعض الدول الاسكندنافية ارتفاعاً بلغ في بعض هذه البلدان أعلى نسبة وصلت إليها البطالة منذ أن وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها.
ففي ألمانيا يبلغ عدد العمال العاطلين أكثر من عشرة ملايين، فانتعاش الصناعة الألمانية لم يصاحبه توسع في الأسواق الخارجية، وقد زاد الطين بلة ازدياد اللاجئين الألمان من المنطقة الشرقية (التي يسيطر عليها الروس) إلى المنطقة الغربية التي تشرف عليها سلطات الاحتلال الغربية.
وفي إيطاليا أصبحت البطالة مزمنة بسبب ازدياد عدد السكان وتوقف هجرة الطليان إلى العالم الجديد ورغبة الشعب في تحقيق مستوى من المعيشة عال لم تستطع الحكومات الإيطالية المتعاقبة أن تنميه بسبب فشل السياسة المالية وانتشار الأفكار الاشتراكية وعدم توفر المواد الخام للمصانع الإيطالية.
وقد ارتفعت أثمان هذه المواد الخام إلى درجة عالية بسبب منافسة الأمريكان والروس على شرائها من مصادرها الأصلية.(986/13)
وقد عرض المندوبون الشيوعيون في مؤتمر موسكو على المندوبين الطليان طلبات تجارية لبناء السفن في الأحواض الإيطالية بمبالغ ضخمة بحيث تعود الحياة إلى هذه الأحواض التي أصبحت تعاني أزمة بطالة حادة.
وفي بلجيكا وهولنده ودول اسكندنافيا توقفت بعض المصانع عن الإنتاج لعدم توفر الأسواق فجاءت عروض الدول الشيوعية على مندوبي هؤلاء الدول مغرية.
وجدير بالذكر أن النشاط الاقتصادي في دول أوربا الغربية وبريطانيا محصور الآن في الصناعة الثقيلة التي لها علاقة بالمجهود الحربي. أما صناعة النسيج والأحذية والمنتجات الكيماوية وغيرها من الصناعة الخفيفة السليمة فقد تعطل البعض الأكبر منه عن العمل. وحين يتوفر لها مثل هذه العروض التي قدمها الشيوعيون في مؤتمر موسكو الاقتصادي فإن من الصعب مقاومة الإغراء في إعادة التبادل التجاري بين شرقي أوربا وغربيها.
وهذا بالضبط ما دفع أوساط السياسة العالمية للاهتمام بهذه الخطوة الروسية في مؤتمر موسكو التي تركز الجهد في الناحية الاقتصادية البحتة من حرب الأعصاب.
وكان طبيعياً أن تدرك الأوساط الأمريكية وجه الخطورة الروسية الجديدة وما لها من أثر على مصالح أمريكا السياسية والعسكرية والاقتصادية وصميم علاقاتها مع دول الحلف الأطلنطي وبقية أقطار العالم.
ويعلل الأمريكان هذه الخطورة الروسية الجديدة بأنها جزء من حملة (السلم) التي أخذ الشيوعيون يعملون لها بنشاط فائق على أساس ما يقول الأمريكان بأنه مبدأ جديد في السياسة الروسية. وفلسفة هذا المبدأ تقول (لنربح عن طريق السلم ما نحتاج إليه في صراعنا المسلح). ويقول الأمريكان إن حركة السلم الروسية هذه تتناقض وبعض الحقائق السافرة التي تعيش عليها سياسة موسكو الخارجية والداخلية. ومن هذه الحقائق كون الميزانية الروسية الحكومية معقدة بشكل لا يستطيع معه الناس أن يقدروا تقديراً سليماً مبلغ حصص الاستعداد العسكري الروسي من ميزانية الدولة العامة. ومنها كذلك تركيز الإنتاج الصناعي الروسي في تنمية الصناعات الثقيلة التي تعزز الاستعداد الحربي وتخفيض إنتاج السلع التي تصلح للاستهلاك السلمي. ومن هذه الحقائق أيضاً هذا العدد الهائل من القوات العسكرية الروسية التي توجد الآن تحت السلاح أو في عداد القوات الاحتياطية.(986/14)
ويستشهد الأمريكان في معرض انتقادهم لحملة السلم الروسية بما يلمسه المراقبون في منطقة النفوذ السوفيتي من ازدياد السيطرة الروسية على مقدرات دول أوربا الشرقية والصين الشيوعية. وحين يحلل الساسة الأمريكان حملة السلم الروسية على هذا النحو فإنهم بالطبع واثقون من أن مؤتمر موسكو الاقتصادي لترويج التبادل التجاري بين الغرب والدول الشيوعية هو جزء من هذا التشويش السياسي الذي تهدف إليه روسيا في حملتها السلمية.
ورأى خبراء الشؤون الروسية في واشنطن أن مؤتمر موسكو يهدف إلى ثلاثة أمور رئيسية:
أولها - تشجيع الدول الأوربية الأسيوية ودول أمريكا اللاتينية التي تعاني أزمة اقتصادية بأن تقدم على المتاجرة مع الشعوب الشيوعية على أساس يضمن لهذه الدول التغلب على ضائقاتها الاقتصادية ومن ثم اتجاهها أكثر فأكثر نحو موسكو في السلوك التجاري والسياسي. فإذا استدرجت روسيا وحلفاؤها في بادئ الأمر هذه الدول الأوربية الأسيوية واللاتينية إلى المتاجرة الحرة فإن هذا الاستدراج كفيل بأن يربط عجلة الاقتصاد في هذه الدول التي ليست شيوعية إلى عجلة الاقتصاد السوفيتي بحيث تستطيع روسيا وحلفاؤها الشيوعيون معه الحصول على بعض المواد الحربية مع مضي الزمن.
ثانيها - تستطيع روسيا بخطوتها الأخيرة في مؤتمر موسكو أن تصرف ما تختزنه من بضائع ومنتجات لا يسري عليها الخطر الذي فرضه الأمريكان على حلفائهم في المعاملات التجارية مع منطقة النفوذ السوفيتي.
فالمعروف مثلاً أن محاصيل القمح والحبوب في روسيا تفوق حاجة الشعب الروسي. وللروس منفعة في تصريف هذه المحاصيل مقابل الحصول على سلع يستهلكها الشعب الروسي؛ وبذلك تتجه المصانع والأيدي الروسية العاملة التي تنتج الآن هذه السلع السلمية إلى إنتاج الصناعات الثقيلة النافعة للمجهود الحربي.
ثالثها - حين يزداد التبادل التجاري بين منطقة النفوذ السوفيتي والعالم الخارجي تزول بالتدريج من أفكار الناس المخاوف التي تحيط بنشاط الروس وعملائهم في سائر أقطار العالم. وهذا أسلوب يلغم النفوذ الواسع الذي بناه الأمريكان في أوربا الغربية وبقية بلدان(986/15)
آسيا وأمريكا اللاتينية وتصاب فكرة الحلف الأطلنطي ومشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط وعن المحيط الهادي بنكسات خطيرة.
هذا بعض ما أثاره مؤتمر موسكو الاقتصادي من تعليقات في صحف العالم وأنديته.
ولقد انفض المؤتمر الآن ونتائج أعماله رهينة بمدى حماس الأوساط التجارية في أوربا الغربية وآسيا وأمريكا الجنوبية إلى متابعة الاتصال بالأوساط التجارية الشيوعية التي كان عملاؤها يملئون قاعات الاجتماع وأروقته في مؤتمر موسكو. وقد عاد بعض رجال الأعمال الأوربيين والأسيويين إلى بلادهم يحملون عروضاً تجارية للتبادل التجاري مع الدول الشيوعية بمبالغ قدرت بحوالي 300مليون دولار.
إن هذه الخطوة الروسية الأخيرة دليل على أن العقلية الشيوعية مرنة تتلون حسب الحاجة وتتلاءم مع الظروف والمناسبات، وتستنبط من أساليب السلوك ما يلائم الأوضاع الطارئة وإن كانت هذه العقلية في قرارة النفس مقيدة بالهدف الجوهري لفلسفة ماركس ولينين وستالين.
عمر حليق(986/16)
5 - حسن البنا الرجل القرآني
بقلم روبير جاكسون
للأستاذ أنور الجندي
(. . . في هذا الفصل، والفصل الذي يليه، والذي تنشره الرسالة في العدد القادم، يتحدث (روبير جاكسون) عن الشهيد (حسن البنا)، حديث ما سمعه وما عرفه منه، وقد أطلق عليه عنوان (مولد العملاق). وتبقى بعد هذا خطوط (عريضة) لفصل مطول مسهب بعنوان (الإسلام عند حسن البنا). . . وقد بعث في طلبه من صاحبي صديق الكاتب الأمريكي وقد عولت على أن أجمع هذه الفصول مضافاً إليها فصل (الإسلام) في كتاب خاص. . أرجو أن يتاح له أن يرى النور قريباً. .
الجندي
كان لابد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ وحول مجرى الطريق شهيداً. . كما مات عمر وعلي والحسين، فقد كان الرجل يقتفي خطواتهم.
مات في عمر الزهر النضير، وفي نفس السن التي مات فيها كثير من العباقرة ورجال الفكر والفن. . وقضى وهو يسطع ويتألق.
وعاش الرجل كل لحظة من حياته، بعد أن عجزت كل وسائل الإغراء في تحويله عن (نقاء) الفكرة وسلامة الهدف. لم يحن رأسه ولم يتراجع ولم يتردد، أمام المثبطات ولا المهددات. . وكان الرجل قذى في عيون بعض الناس، وحاول الكثيرون أن يفيدوا من القوة التي يسيطر عليها، فقال لهم إن أنصاره ليسوا عصا في يد أحد، وإنهم لله وحده.
وحاول البعض أن يضموه إليهم أو يطووه، فكان أصلب عوداً من أن يخدع أو ينطوي. .
وكان على بساطته التي تظهر للمتحدث إليه، بعيد الغور إلى الدرجة التي لا تفلت متصلاً به أو متحدثاً إليه من أن يقع في شركه. . ويؤمن بالفكرة التي يدعو إليها. وكان لا يواجه إلا من يعترض طريق دعوته، وكان يستر من لم يكشف خصومته. .
وكان لا يهاجم عهداً مادام هذا العهد لا يحول دون الامتداد الطبيعي لدعوته. . وكان يدخر قوته للوطن، ويكبر نفسه ودعوته من أن يكونا أداة صراع داخلي. . وظن بعض الناس أن(986/17)
هذا ضعف ولين ومسايرة، وما كان كذلك، فالرجل بطبيعته لم يكن يحب الصراع في معركة جانبية، ولا يقبل توزيع قواه. . وإنما يؤمن بالتطور والانتقال من مرحلة إلى مرحلة ومن دور إلى دور على أساس النضوج والتكامل، وكان هذا يزعج خصوم الوطن الذي لم يعهد سياسته تعلو على المطامع الفردية، وتتعالى على المطامع الفردية، وتعالى على الأغراض الذاتية، وتنقي جوها من الدوافع الشخصية الخاصة.
وكان الرجل على قدرته الفائقة في ضبط أعصابه، كيساً في مواجهة الأمور، لبقاً في استقبال الأحداث والأزمات.
وإلى هذا كله كان غاية الاعتدال، فكان يعيش براتب لا يزيد على راتبه المدرسي المحدود، وبين يديه الأموال الضخمة المعروضة من أتباعه وحوله من العاملين معه، ما يصل إلى ضعف أو أضعاف ما يحصل عليه.
وكان في بيته مثال الزهادة، وفي ملبسه مثال البساطة، وكنت تلقاه في تلك الحجرة المتواضعة الفراش، ذات السجادة العتيقة والمكتبة الضخمة، فلا تراه يختلف عن أي لإنسان عادي، إلا ذلك الإشعاع القوي والبريق اللامع الذي تبعثه عيناه، والذي لا يقوى الكثيرون على مواجهته، فإذا تحدث سمعت من الكلمات القليلة المعدودة موجزاً واضحاً للقضايا المطولة التي تحتويها المجلدات، وكان إلى هذه الثقافة الواسعة الضخمة، قديراً على فهم الأشخاص، لا يفاجئك بالرأي المعارض، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك، وإنما يحتال عليك حتى يصل إلى قلبك ويتصل بك فيما يتفق معك عليه. . . ويعذرك فيما تختلفان فيه.
وهو واسع الأفق إلى أبعد حد، يفتح النوافذ للهواء الطلق، فلا يكره حرية الرأي، ولا يضيق بالرأي المعارض، وقد استطاع أن يحمل الرأي الجديد إلى الجماهير دون أن يصطدم بهم. . هذا الجديد الذي لو عرض بغير لباقة لوقفوا ضده وحاربوه. .
لقد نقلهم من وراثياتهم، وغير فهمهم للدين، وحول اتجاههم في الحياة، وأعطاهم الهدف، وملأ صدورهم بالأمل في الحرية والقوة. وكان له من صفات الزعماء، صوته الذي تتمثل فيه القوة والعاطفة، وبيانه الذي يصل إلى نفوس الجماهير، ولا تنبو عنه أذواق المثقفين. وتلك اللباقة والحنكة والمهارة في إدارة الحديث والإقناع.
وبهذه الصفات جميعها استطاع كسب هذه الطائفة الضخمة من الأنصار في هذا الوقت(986/18)
القصير من الزمن، فحول وجهات نظرها، ونقلها نقلة واسعة. . دون ارتطام أو صراع.
كان سمته البسيط ولحيته الخفيفة، وذلك المظهر الذي لا تجد فيه تكلف بعض العلماء، ولا عنجهية المتمسكين بالسنة، ولا سذاجة الصوفية. . قد أكسبه الوقار.
ولقد كانت شخصية حسن البنا جديدة على الناس. . عجب لها كل من رآها واتصل بها. .
كان فيه من الساسة دهاؤهم، ومن القادة قوتهم، ومن العلماء حججهم، ومن الصوفية إيمانهم، ومن الرياضيين حماسهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم، ومن الكتاب رصانتهم.
وكان كل جانب من هذه الجوانب يبرز كطابع خاص في الوقت المناسب، ولكل هذه الصفات التي نقرأها في كتب شمائل الصحابة والتابعين، لم يكن مقدراً أن يعيش طويلاً في الشرق. . وكان لابد أن يموت باكراً، فقد كان غريباً عن طبيعة المجتمع، يبدو كأنه الكلمة التي قد سبق وقتها، أو لم يأت بعد.
ولم يكن الغرب ليقف مكتوف اليدين، أمام مثل هذا الرجل. . الذي أعلى كلمة الإسلام على نحو جديد. . وكشف لرجل الشارع حقيقة وجوده ومصيره، وجمع الناس على كلمة الله. . وخفت بدعوته ريح التغريب والجنس، ونزعات القومية الضيقة، واعتدلت لهجات الكتاب، وبدأ بعضهم يجري في ركب (الريح الإسلامية. .).
للكلام صلة
أنور الجندي(986/19)
في تاريخ الأدب التركي
للأستاذ عطا الله ترزي باشي
تحدثت إلى القراء في أعداد الرسالة السابقة عن تاريخ الأدب التركي في عصوره المختلفة منذ النشأة حتى أوائل العهد العثماني بصورة مجملة.
وأعود اليوم إلى مواصلة البحث بدراسة الأدب العثماني دراسة عاجلة؛ على أن أترك أمر التفصيل والتمحيص فيها للقراء يراجعون المصادر التي استقيت منها مواد هذا المقال.
وأود قبل الخوض في مواد البحث أن أشير إلى أن الأدب التركي في هذا العهد لم يكن أدباً منحصراً في المناطق التي شملها الحكم العثماني فقط، وإنما كان نطاقه ممتداً إلى بلاد غير خاضعة للحكم العثماني، يقطنها الأتراك. فهناك الأدب الآذري، وهو فرع هام من فروع الأدب التركي المنتشر في أرجاء العجم وبلاد الأذربيجان. وقد نشأ بعد انقراض السلجوقيين وظهور المغول في تلك الأنحاء، ونما نمواً سريعاً حتى تغلغلت فروعه في الأدب العثماني، وعاش متأثراً به ومؤثراً فيه، محافظاً على صبغته الآذرية حتى اليوم. وقد آثرنا أن نتحدث - عند الكلام عن الأدب العثماني - عن هذا الأدب بإيجاز، وذلك وفق ما يتطلبه الحاجة ويهواه المقام.
وهناك بجانب الأدبين العثماني والآذري الجغتائي، وقد انتشر في مناطق (الخوارزم وآلتون أوردو). نبغ فيه أدباء مفكرون وشعراء معروفون؛ وقد انتقل إلينا كثير من الآثار التي ألفوها في مواضيع الدين والأخلاق والتصوف. ويعد (قطب) أول شاعر جغتائي نعرفه. له منظومة تركية قيمة بعنوان (خسووشيرين). وكذلك (خوارزمي) من شعراء الجغتائية المعروفين الذي اشتهر بكتابه المنظوم (محبتنامه) وغيره من الشعراء كثير، سواء عاشوا في بداية تأسس الحكم العثماني أو ظهروا في القرون التي تليها.
وهناك أدب المماليك، وظهر بين الأتراك الذين عاشوا في مصر زمناً وأسسوا لهم إمارات صغيرة هناك. وتميز هؤلاء بنشاطهم الأدبي الفعال وقدرتهم العظيمة على تنظيم الحركة الفكرية في البلاد. نشأ منهم عدد لا يحصى من العلماء والشعراء، وقد تركوا آثاراً فكرية كثيرة ومؤلفات أدبية قيمة. ويعد الشاعر (سيف سرائي) أشهرهم، وهو الذي ترجم كتاب (كلستان) للشاعر الإيراني (سعدي) إلى التركية نظماً.(986/20)
وهكذا فإن نظرة عاجلة في الأدب التركي تطلعنا على أن هذا الأدب كان متفرعاً عند ظهور العثمانيين إلى عدة فروع هامة، منها العثماني والآذري والجغتائي والمملوكي. . . ولقد امتد أثر الأدبين الجغتائي والآذري قروناً طويلة وذلك بامتداد الأدب العثماني، حتى فقد الأول منهما مميزاته الجوهرية الخاصة واندمج في غيره من الآداب (التركية). ولا يزال الأدب الآذري قائماً بنفسه، محافظاً على مقوماته الأساسية حتى اليوم. أما الأدب العثماني، وهو موضوع دراستنا، فقد انقرض تدريجياً بعد زوال الحكم العثماني وظهور الدولة التركية الحديثة، وغدا اليوم أدباً تاريخياً مقصوراً على بعض الأندية الأدبية ويمثله في الوقت الحاضر شعراء محصورون.
ولننتقل الآن إلى العهد العثماني، وقد رأينا أن نتبع في تقسيمه إلى الأدوار هذا الشكل:
(أولاً) صدور الدولة العثمانية (ثانياً) دور الدواوين (ثالثاً) دور التنظيمات (رابعاً) دور ثروة الفنون.
صدور الدولة العثمانية:
ويبتدئ هذا الدور، حسب ما نراه، من وقت تأسس الدولة العثمانية (سنة 1300م - 699 هـ) حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. ويتميز الشعر في هذا الدور بنقاوة اللغة وسلاسة الألفاظ ورقة الأسلوب وقلة التكلف. فكان الشعراء يتجنبون غالباً استعمال الكلمات الغريبة في أشعارهم وينفرون من التصنع والتلاعب بالألفاظ. ولذا فإن شعرهم يمثل باستثناء أشعار بعض المتأخرين من الشعراء أبدع ما نظمه الشعراء العثمانيون على الإطلاق.
وامتاز هذا الدور بشيوع (المثنوي) بين الشعراء شيوعاً هائلاً، إذ لا يخلو أثر من الآثار التي ألفها الشعراء في هذا الدور من شعر المثنوي.
والمثنوي لون من الشعر اشتهر به الفرس منذ القديم. فنظموا به الملاحم التاريخية الكبرى والقصص الخيالية الرائعة أمثال (الشاهنامه) للشاعر الفارسي العظيم (فردوسي). و (المثنوي) لمولانا جلال الدين الرومي. . وقصة (يوسف عليه السلام) وقصة (ليلى والمجنون) وغيرها كثير. . ويميز المثنوي عن غيره من الأشعار وجود القافية بين شطري كل بيت من أبيات المنظومة؛ ولا يشترط اتحاد الأبيات في القافية إذ يكفي أن يكون شطرا(986/21)
البيت مقفيين.
ولشعراء الأتراك آثار شعرية كثيرة جرت مجرى المثنوي. وقد امتاز شعراء هذا الدور بتعصبهم لنظم المثنوي. فلا نكاد نرى شاعراً إلا وشغل نفسه بهذا النوع من الشعر.
وأول من اشتهر منهم في نظم المثنوي (مصطفى شيخ أوغلو) صاحب المثنوي المعروف (خورشيد نامه) ومترجم كتاب (كليلة ودمنة) إلى اللغة التركية. وقد عاش هذا الشاعر في عصر السلطان يلدبرم بايزيد. وكذلك الشاعر المشهور (عاشق باشا) (سنة 1272 - 1333) وقد اشتهر بمؤلفه (غريبنامه) في التصوف والأخلاق. وهو كتاب قيم يقع في اثني عشر ألف بيت من الشعر، في أوله مقدمة فارسية تتبعها قصائد تركية في نعت الإله ومدح الرسول ووصف المشاهير من المسلمين ثم يليها أبواب الكتاب العشرة، وكل باب مقسم إلى عشرة فصول تتضمن ملاحم شعرية مختلفة في وصف الجنة والجحيم والدنيا والآخرة والسماء والأرض والعناصر الأربعة في تكوين الحياة. . . الخ
ومن شعراء هذا الدور، (كلشهري) وقيل إنه عاش قبل (عاشق باشا) بمدة. له منظومة مترجمة من كتاب (منطق الطير) للشاعر الفارسي (عطار).
احمدي:
ويعد زعيم الشعراء في عصره. ولد سنة 1224م في مدينة (كوتاهيه) أو في مدينة (كرميان) من ولاية (بروسه) وذلك في سنة 735 هـ حسب ما ذكره طاشكبري زاده، كما وأن لطيفي صاحب تذكرة الشعراء ذكر أن مسقط رأسه هو مدينة سيواس حيث درس فيها العلوم وارتحل بعد ذلك إلى القاهرة، وكان يتردد هناك على مواطنيه حاجي باشا الذي اشتهر في الطب ومولانا محمد شمس الدين الفناري. وعند عودته إلى وطنه الأصلي التحق بخدمة أمير كرميان.
وأدرك احمدي غزوة تيمورلنك في البلاد العثمانية وحظي عند هذا الطاغية وأصبح نديماً له. ويروي عنهما لطائف كثيرة، وقيل إنه لم يعجبه البقاء عند تيمورلنك فالتحق بخدمة الأمير سليمان من أبناء السلطان يلدبرم بايزيد، وظل يصاحبه حتى مات السلطان فعاد احمدي إلى أماسيه.
واحمدي شاعر مبدع، وأهم ما يمتاز به هو إدخاله المواضيع الدنيوية في الأدب التركي(986/22)
الغربي. ويعتبر كتابه (اسكندر نامه) أول مؤلف تركي قصصي بأسلوب الملاحم، فقد وصف فيه حروب الملك اسكندر المقدوني في (8250) بيتاً من الشعر ويتضمن هذا الكتاب آراء فلسفية طريفة وأبحاثاً في الطب قيمة. ولاحمدي ديوان نفيس ضم مجموعة من أشعاره في القصائد والغزل، وله منظومة بعنوان (جمشيد وخورشيد). وهي مثنو يحتوي خمسة آلاف بيت من الشعر. وقد عثر على هذا الكتاب قبل عشر سنوات وبضع سنين الأستاذ نهاد سامي وحققه مع كتاب آخر لاحمدي هو التاريخ العثماني فنشرهما في مجلد سنة 1939.
أدب السلاطين:
ويعد السلطان عثمان غازي مؤسس الدولة العثمانية أول من نظم الشعر بين السلاطين. له منظومات شعرية بديعة في الحماسة.
وهناك سلاطين كثيرة اشتغلوا في ساحة الأدب منهم السلطان بايزيد الثاني والسلطان مراد الثاني من شعراء هذا الدور، ويعد الأخير أول سلطان عثماني جمع أشعاره في ديوان خاص. ويعتبر السلطان محمد الفاتح أثقف سلطان عثماني على وجه الإطلاق. فقد كان هذا السلطان يجيد، بالإضافة إلى اللغة التركية، اللغات العربية والفارسية (وله فيهما أشعار) والعبرانية ولغة الصرب. وقيل إنه تعلم اللغتين اليونانية واللاطينية أيضاً، وهو شاعر مجيد، اختار له في الشعر اسم عوني مخلصاً.
وكان السلطان بايزيد الثاني، ابن السلطان محمد الفاتح، شاعراً وعالماً. وكذلك كان أخوه السلطان (جم) شاعراً مبدعاً له مكانة مرموقة في الأدب التركي. وأشعاره في غاية من الرصانة. . وكلها في الحزن. . فقد لاقى السلطان في حياته أنواعاً شتى من الهموم وألواناً مختلفة من العذاب بما لا يتحمله الإنسان. . لقد دب دبيب الفساد بينه وبين أخيه على السلطنة فأغواهما الشيطان حتى تقاتلا، وقدر له ولجيشه أن ينهزم. ففر إلى أوربه، ووقع بيد البابا الذي وعده خيراً، ولكنه لم يف. فلقي السلطان حتفه من كأس هيئت له وفيها سم مميت.
ووقائع هذا السلطان مشروحة في المصادر التاريخية بكل اهتمام. ولهذه الوقائع علاقة وطيدة بشعره، فهو يصف به آلامه ومصائبه بأسلوب عاطفي فياض يبعث في النفوس(986/23)
الألم، ويحدث في القلوب كلوماً لا تلتئم.
مميزات هذا الدور
ذكرنا أن هذا الدور كان قد امتاز بكثرة ما نظمه الشعراء من المثنوي ووفرة ما أنتجه رجال الفكر والأدب من الملاحم والقصص. ونضيف إلى ذلك بعض المميزات الأخرى. وأول ما يبدر إلى الذهن في هذا الخصوص هو ما نلحظه من الاهتمام الشديد بالأدب الشعبي والعناية البالغة به. وقد ظهر شعراء سلكوا مسلك الصوفي المعروف الشاعر الشعبي (يونس أمره)؛ منهم (سعيد أمره)؛ من منتسبي الطريقة البكتاشية. . و (تايغو سز آبدال) الذي عاش في دور السلطان مراد الثاني. . و (حاجي بايرام) مؤسس الطريقة البايرامية في الأناضول. . . و (أشرف أوغلو) المتوفى سنة 1469م وغيرهم من الشعراء الذين كانوا متأثرين بأدب (يونس أمره) وبأسلوبه في الشعر.
وإن من أهم ما يختص به الأدب الشعبي في هذا الدور نشوء القصص الحديثة. وقد ظهرت هذه القصص تحت عنوان (حكايات دره قورقوت). وهي تعتبر كنزاً ثميناً للأدب التركي، وقد كتبها أحد الشعراء بلغة تركية سليمة وبأسلوب ممتع جذاب، مصوراً الحياة الاجتماعية والأخلاقية عند الأتراك في العصور القديمة تصويراً بديعاً؛ فيحدثنا فيها عن الحياة العائلية وعن العلاقة الزوجية، وعن موقف الأولاد من الأسرة، وكذلك يبحث لنا عن النواحي الثقافية والأدبية بصورة عامة.
ويمتاز هذا الدور من تاريخ الأدب التركي بنمو الأدب الجغتائي وتكامله. ولقد سبق أن رأينا أن الأدب التركي كان قد تفرع إلى فروع رئيسية ثلاثة: العثماني والآذري والجغتائي. وكلها آداب متشابهة من حيث الروح والجوهر، وإن كانت مختلفة في الشكل والمظهر. فنجد أنها جميعاً تنتظم تحت قواعد معينة وقيود متشابهة. فالأشعار في هذه الآداب التركية الثلاثة بأوزانها وأساليبها ومقاييسها ومفاهيمها متجانسة ومتشابهة إلى حد بعيد، وإنما الاختلاف كان في الألفاظ والحروف وفي قواعد اللغة وتنوع اللهجات في البلاد.
وامتاز الأدب الجغتائي في هذا الدور بنمو الوعي القومي بين شعرائه. وكانت فكرة القومية عندهم تستند على أسس علمية قوية وعلى مبادئ أخلاقية متينة. ويعد الشاعر (علي شير نوائي) من أعاظم الشعراء الذين قاموا بتمثيل الأدوار الرئيسية لتلك الحركة. فقد سجله في(986/24)
كتابه الموسوم: (محاكمة اللغتين) ألفه في المفاضلة بين اللغتين التركية والفارسية، وترجيح الأولى بعد مقارنة دقيقة على الثانية. فنراه يذكر في هذا الكتاب على سبيل المثال مئات الألفاظ التركية التي يندر العثور على مرادفاتها في اللغة الفارسية. . بل ويتعذر على الفارسي أن يعبر عن معاني تلك الألفاظ من دون أن يلجأ إلى استعمال عدة كلمات مقابل لفظة تركية واحدة. . ونراه بعد ذلك يخلص لنفسه برأي خاص وهو أن اللغة التركية أوسع مادة من الفارسية وأغزر منها مورداً.
وعلي شير نوائي عالم وأديب وشاعر قدير. نظم الشعر في اللغتين، وكان فيهما مبدعاً مجيداً. ولقد ذهب البعض - على خلاف الأكثرية - إلى أن علي شير كان فارسياً. ولنا فيه رأي نبديه في عدد قادم من الرسالة.
وبقدر ما كانت فكرة الميل إلى اللغة التركية ظاهرة بين الشعراء الجغتائيين في ذلك الدور، فإننا نتلمس آثار هذه الفكرة في كلام الآخرين من الشعراء بوضوح. وفي كتاب (غريبنامه) وقد أشرنا إليه في أعلاه، أشعار يستدل منها على أن صاحبها كان متحمساً للأدب التركي واللغة التركية، حيث يبدي أسفه على وضع اللغة وحالة الترك بقوله:
تورك ديلنه كيمسنه باقماز أيدى
توركلره هركز كوكل آقماز أيدى. . . الخ المنظومة.
بمعنى أنه لم يكن هناك من يهتم باللغة التركية ويبالي بها. ولم يكن كذلك من يعطف على الأتراك ويبدي لهم الحنان.
شيخي ونجاتي
وهما من مشاهير الشعراء الذين عاشوا في نهاية هذا الدور. ويعتبران بحق من مؤسسي الشعر العثماني في القرن الخامس عشر الميلادي. لا يعرف تاريخ ولادتهما على وجه التحقيق. وقيل إن الأول، واسمه الحقيقي سنان، توفي سنة 1429م، والثاني، واسمه عيسى، توفي سنة 1508م. وكان شيخي متصوفاً سلك طريقة (حاجي بايرام ولي) وله مثنو منظوم بعنوان (خسرو شيرين) وآخر يدعى (خرنامه) ويتضمن نصائح وإرشادات على لسان الحيوانات. وله ديوان حققه الأستاذ (علي نهاد) ونشره في سنة 1934 - 1936. كما وقام مؤتمر اللغة التركية بطبعة في سنة 1942. ولنجاتي ديوان يضم أشعاره(986/25)
كلها، وليس له أثر غيره. وقد اشتهر هذا الشاعر بعد إسلامه إذ كان نصرانياً ووقع أسيراً بيد الأتراك فأسلم واقترب من السلاطين وحظي كثيراً عند بايزيد الثاني. وصاحب أحمد باشا وزير السلطان محمد الفاتح، وكان هذا الوزير من الشعراء البارزين.
وهناك غيرهم من الشعراء أمثال جمالي ونظامي وخليلي والشاعرة زينب خاتون والأديبة الفاضلة مهرى هانم، ممن عاشوا في القرن الخامس عشر الميلادي وتركوا آثاراً شعرية كثيرة.
أدب المولد
قلنا إن هذا الدور من الأدب التركي تميز بكثرة التآليف الدينية والمنظومات الأخلاقية، وقد أشرنا إلى البعض منها في هذا المقال. ولعل أهم حادث أدبي ظهر في نهاية هذا الدور هو ما استحدثه الشاعر الديني العظيم (سليمان جلبي) المتوفى سنة 1421م بتأليفه المنظومة المعروفة في مدح الرسول (ص) وسيرته المسماة بـ (مولد). وهي منظومة لها قيمتها الكبرى في الأدب التركي. لحنها أهل الفن وتغنوا بها زمناً. ولا يزال الأتراك يتغنون بها في ذكرى المولد النبوي من كل عام، ويرددونها في إقامة المناقب النبوية في بعض الأوقات والمناسبات. وقد امتازت هذه المنظومة النفيسة بروعة النظم وطراوة الموضوع. ويعتبر أسلوبها مثالاً واضحاً للأسلوب السهل الممتع. وهي بهذا الاعتبار تعد بمثابة قصيدة البردة للبوصيري. وقد ألفها صاحبها في سنة 1409م إثر واقعة أثارت في نفسه الغيظ فأبدع في النظم؛ فجاء أثراً رائعاً لا يضارعه فيه أحد. وقد قلده شعراء كثيرون لم يبلغ أحد شأوه حتى اليوم.
عطا الله ترزي باشي
-(986/26)
جوته
حياته وكتبه
للكاتب الألماني توماس مان
للأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
عندما دقت الساعة الثانية عشرة في الثامن والعشرين من أغسطس سنة 1749، ولد في بيت نبيل من نبلاء فرانكفورت طفل شاحب اللون تبدو عليه علائم الموت بعد شدة مضنية من أم تبلغ الثامنة عشرة. . . لم تمض بضع دقائق على ذلك حتى نادت الجدة التي كانت قابعة على الفراش. . (اليزابيث، إنه حي!).
كانت هذه الصرخة، صرخة امرأة إلى أخرى، وكان الصوت صوتاً رقيقاً فيه المرح والفرح وفيه البشرى والحبور. إن الطفل الذي اجتاز البوابة السوداء محتقناً ضعيفاً، كان مقدراً له أن يقضي حياة فيها جلالة الوجود وعظمته. مضى على ذلك ثلاث وثمانون سنة تقلبت عليه صفحات من التاريخ تحته ومنها حرب السبع سنوات، ونضال أمريكا في سبيل الاستقلال، والثورة الفرنسية، وقيام نابليون وسقوطه، وانحلال الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وانبثاق فجر العصر البرجوازي.
هذا الشيخ الذي تعاقبت عليه كل هذه الحوادث، يقف أمام منضدته برأسه الأشيب وثباته والحلقات الغريبة من عمره المديد تضفي ظلالاً على عيونه السنجابية وتكسبها معنى خاصاً وهو يكتب آخر رسالة إلى صديقه القديم، الفقيه والسياسي (ولهلم فون همبولدت) في برلين فيقول في سياق رسالته (العبقرية هي تلك الموهبة التي تتشرب كل شيء دون أن تسيء إلى مقدراتها الأصلية. . وبالممارسة والتعلم والنجاح والتأمل والفشل - وبالتأمل أكثر فأكثر - تمتلئ أعضاء الإنسان بحريتها الغريزية إلى أن توحد المكتسب بالكامل لتنتج وحدة منسجمة تدهش العالم. المخلص غوته. .) وما كادت تمضي على وفاة جوته أيام قليلة حتى كتب فون همبولدت صاحب الشخصية الوهاجة الصريحة. . كتب معلقاً بأن هذا الإنسان أثر تأثيراً لا شعورياً وبمجرد وجوده فقط وبدون مشقة بما يحيط به وقال (إن هذا التأثر منفصل كل الانفصال عن عمله الإبداعي كمفكر وككاتب، ومرجع ذلك إلى شخصيته(986/27)
العظيمة وعبقريته الفذة. إن شخصية كهذه هي التي تمكنت بقوتها الخاصة من جذب أنظار العالم إليها بصورة مدهشة، فكأن الطبيعة شاءت أن تظهر فيه سراً من أسرارها العجيبة). وقد عرض جوته يوماً من الأيام إلى ذلك بقوله (إن العوائل التي تستمر طويلاً في وجودها تبدع قبل انقراضها شخصاً يجمع كل ميزات أجداده بالإضافة إلى العواطف والمطامح الكامنة التي ظلت خافية عن الأنظار) ويعني هذا بمفهومنا العصري أن جوته لا يقصد من ذلك إلا نفسه. ولنا أن نتساءل وكيف حدث ذلك؟ وما يعني الاندماج في الحقيقة؟ إن جميع ذلك حدث - وما يزال يحدث - بصورة عفوية بسيطة، وكثيراً ما امتزجت عوائل وتزاوجت، وهذا التزاوج والتمازج يبدوان جليان فيما لو لاحظنا ما يحدث بين ممتهني الحرف المختلفة من كافة العوائل والطوائف والملل، ولنا في عائلة (لند هايمر) التي تصاهرت مع عائلة (تكستر)، مثال واضح لعائلة نزحت من فرانكفورت التي هي في جنوب ألمانيا، واتصلت بعائلتي غوته وتكستر، اللتين تسكنان في الشمال ما بين غابة ثورجينيا وجبال هارس. إنني أعتقد شخصياً أن عرق لند هايمر ينتسب بصلات قوية إلى الرومان - أي إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط - كما أن لها نسباً بالعروق البربرية التي امتزجت بها من زمن بعيد، وأن هذه العائلة كان لها التأثير الحاسم في تكوين طبيعة الشاعر العظيم، فقد ورث عن أمه - التي هي من هذه العائلة - والتي كانت قوية البنية، واضحة الملامح رقيقة المزاج، سمراء اللون، ورث منها - اعتماداً على الصور التي في حوزتنا - جبهته وشكل رأسه، واتجاهاته الفكرية الكلاسيكية، ورغبته في الأسلوب الجلي الواضح، وروحه المرحة، وسخريته، وجاذبيته، ونقداته، وكراهيته للطبيعة الألمانية، ومع ذلك فأن الطبيعة الألمانية كان لها تأثير غير منكور فيه يتبين ذلك من هدوئه ونقده الرائعين اللذين يمتاز بهما الألمان، أما من الناحية البايولوجية، فقد كان هذا الاتحاد العائلي مقدراً له أن ينتج هذه الظاهرة الملائكية. كان جده خياطاً يدعى فردريك جورج غوته، وكان فاشلاً في أعماله، تزوج مرتين ومات أكثر أولاده الأحد عشر في سن الطفولة إلا ثلاثة وأكبرهم كان مختل العقل، مات في سن الثالثة والأربعين مجنوناً لا رجاء فيه. أما والد الشاعر جوهان كاسبر، فقد كان العاشر لأبويه، وأصبح قاضياً يلقب بـ (المشاور الإمبراطوري) وكان هذا رجلاً شرساً مغضاباً يعيش في عزلة عن الناس، ولم يقم بواجب وظيفته مطلقاً،(986/28)
وأما زوجته (اليزابيث) فقد ولدت له ستة أطفال، عاد منهم أربعة إلى عالم الظلال مبكرين، وبقيت أخت (وولف كانغ)، فرناليا، وكانت تعسة كئيبة، وكان الأجدر بها أن تكون راهبة من أن تكون زوجة كما قال أخوها، ومع ذلك فقد تزوجت لكي تموت في أيام نفاسها، تلك الأيام التي كانت تنظر إليها بعين ملؤها المقت والكراهية. وهكذا عاش (وولف كانغ) وحيداً فريداً، وقد تمكن أن يعوض بحياته المديدة عن حياة الجميع، ولكن حياته الأولى كان يعوزها الصحة كما كان الحال مع الآخرين، فداهمه السل طوال حياته الجبارة، ذلك المرض الخبيث الذي كان كامناً من سنين كثيرة في أعماقه، على أن هذا المرض لم يمنعه من الدراسة ودليل ذلك التحاقه بمدرسة (لنبرغ). وقد تألم كثيراً من النزيف الذي كان يعاوده بين حين وآخر مما اضطره إلى العودة إلى بيته شاباً مهيض الجناح، فاشلاً في دروسه ليزيد في آلام والديه. ولكن ذلك لم يدم طويلاً، لأن قواه عادت إليه في (ستراسبورغ) ما بين سن العشرين والثالثة والعشرين، حيث أكمل دراسته الحقوقية وسط صعوبات هائلة، وبعد أن تراجع عن منهاجه الذي رسمه لنفسه، وأخيراً حصل على الليسانس من كلية (وتيسلر - آن - ديرلاهن).
اشتغل الشاعر مدة من الزمن في المحاكم الإمبراطورية بصورة رتيبة، وبدون أي رغبة، وهكذا نراه لم يعمل شيئاً يستحق الذكر، غير انهماكه في الحب والتألم والأحلام والكسل، وغير تركه لروحه لتنمو نمواً حراً بديعاً في عوالم الأحلام. لقد كان يجذب إلى نفسه، بأسلوبه الخاص في لباسه وعاداته وتقاليده، يجذب إليها سخرية الناس وضحكهم واستهزاءهم، إلا أن ذلك لم يكن يؤثر في جاذبيته المشعة، وشبابه النادي، وتباهيه وخيلائه، كما أن موهبته الإشعاعية التي كانت تظهر بصورة جلية، كانت تنز بالقوة الجبروتية والروح المتعالية الوحشية، على أن هذه الروح تأنست بسذاجته التي لا توصف، وطيبته الحلوة وشبابه الغض البهي. كان رائع الجمال، وصديقاً حميماً للأطفال وللناس العاديين، لا بل أنه كان صديقاً للطبيعة نفسها، وكان في نفس الوقت (يشبه العصفور في تنقلاته وتجواله) كما حدثنا بذلك الشاعر هردر (كان سيداً عالي الجناب، ولكن بأرجل ضعيفة كأرجل الديك). وقد كتب غوته يوماً عن نفسه قائلاً: (أنا لا أعرف ما هو نوع التأثير الذي يكمن في، والذي يجذب الناس إلي، إن أكثر الناس تحبني، ولا طاقة لي بمعرفة ذلك).(986/29)
ولابد أن هذا التعلق كان في أوجه عند بلوغ شاعرنا السادسة والعشرين، وخصوصاً لما أصبح مؤلفاً ذائع السيط، وناظماً لقصائد بارعة الجمال، ومن هذه المؤلفات كتابه (برلنكن) و (فرتر) وقطع شعرية أخرى من قصيدة (فاوست). إن جميع ذلك جعل من دخوله إلى (وايمر) نصراً رائعاً له، حيث ضمه إلى حاشيته دوقها الصغير، وكان غرضه من ذلك زيارة للمدينة ليس إلا. إن هذه الزيارة طالت حتى شملت كل حياته. وإذن فدخوله إلى (وايمر) والتحاقه بالوظيفة فيها كان مجرد صدفة، هذه الصدفة التي خدمت خطته النفسية، والتي أسماها (القيادة من أعلى).
اتصل جوته بالأمير (كارل أوغست) في (كارلز روهه)، يتوسط اثنين من الأرستقراطيين المعجبين به. وخطب هناك (ليلي شون مان) ابنة أحد نبلاء (فرانكفورت) ولكن خطوبته هذه لم تكن مستندة على حب أو افتنان، لأن الخاطب الصغير كان تعيساً جداً في أعماق قلبه، على ما حدث له من خبال كاد يمنع نفسه النقية من أن تقوم بواجبها، فاضطره ضجره إلى الهروب، فهرب إلى سويسرا بصحبة نبيلين متحمسين له، وكان قلبه يصرخ من أعماقه (يجب علي أن أذهب إلى العالم) وكان لصوته هذا صدى عميق في كتاباته، أما الصوت الذي تجلت فيه هذه الصرخة، فقد كان صوت عمله الحبيب، حياته التي كانت في أوج جاذبيتها وكمال نضجها، هذا الصوت الذي تكلل بالجمال والجلال، والعظمة الحقة، إنه صوت فاوست الذي أريد له أن يظهر في عالمنا هذا ذي الشئون والشجون، بصورة باهرة عذبة، جميلة رائعة فخمة.
وقع كارل أوغست في حبائل الحب مرتين، الأول تعلقه بالأميرة لويزا من (دار مستاد) والثانية مع الدكتور غوته نفسه، ولما تلاقيا كان كارل أوغست متزوجاً وأميراً ذا نفوذ وسطوة، فوضع كلاً منهما - أي لويزا وغوته - تحت رعايته وكانت عاصمته الصغيرة (مانيتز) ومن حولها القرى مسرحاً للصيد والفروسية، وقد بلغ بشاعرنا السرور غايته القصوى، إذ كان يتمتع بالجاه العريض والنفوذ الواسع، وبمصادقته وحبه للمتعلقين به كان يضفي عليهم شخصيته وشرفه وعظمته، حتى أصبح ذلك كله مدعاة لكراهيته!
يتبع
بعقوبة - العراق(986/30)
يوسف عبد المسيح ثروة(986/31)
إسماعيل بن القاسم
المعروف بأبي العتاهية
للأستاذ محمد الكفراوي
حبه الفاشل ومدى تأثيره على حياته
أوضحنا في المقال السابق مدى تأثير بيئة شاعرنا على شخصيته، وانتهينا إلى أنها قد غرست في نفس الشاعر عدة أمراض نفسية؛ أهمها التشاؤم والشعور بالضعة والنقمة على الأغنياء، ووعدنا أن نفصل القول اليوم في شأن ذلك الحب الفاشل الذي زاد حياة الشاعر تعقيداً وأدى إلى تمكن تلك الأمراض الاجتماعية من نفسه.
وقصة ذلك الحب تبدأ برحلة الشاعر إلى بغداد طالباً للشهرة، فقد كان يرجو أن يصل ذكره إلى سمع الخليفة المهدي عسى أن يعجب به ويستدعيه لإلقاء الشعر بين يديه. ولكن أنى له ذلك وهو شاعر ناشئ مغمور! لقد هداه شيطانه إلى أن يتغنى في إحدى جواري القصر، راجياً أن يدفعها الغرور وحب الظهور إلى ترديد ذلك الشعر في قصر الخلافة ولفت نظر المهدي إليه.
ونحن لا نشك في أن المصادفات لعبت دوراً خطيراً في حياة الشاعر فجمعت بينه وبين جارية ماكرة طموح من جواري الخليفة، وقد كانت في نفس الوقت تبحث عن مثل ذلك الشاعر الناشئ المغمور لحاجة في نفسها، تلك الحاجة هي التغني بجمالها وسحرها في شعره، وغايتها من ذلك لا تكاد تخفى على كل من له خبرة بشؤون ذلك العصر. فقد كانت الجواري إذ ذاك مطمح الأنظار، ويكفي لتأكيد تلك الدعوى أن نعرف أن الخيزران زوج الخليفة المهدي وأم الهادي والرشيد كانت من بين أولئك الجواري، ولم يقف بها سعد الطالع عند ذلك؛ بل استطاعت أن تجعل من بنات أخيها وأختها زوجات للهادي والرشيد. وليست الخيزران بفريدة في ذلك الشأن، فقد أقبل الخلفاء على الإماء إقبالاً شديداً حتى أن الرشيد قد أنجب من نحو عشرة منهن، وناهيك بمن لن ينجب منهن. والدرس الذي يمكن أن تتعلمه الجواري من مثل تلك الحال غير خفي، فلم يكن يعوز إحداهن لكي تصبح صفية أحد الخلفاء أو زوجة إلا أن تلفت نظره إليها بوسيلة من الوسائل. فما الذي يمنع عتبة والحال(986/32)
كذلك أن تتقبل بصدر رحب غناء أبي العتاهية وإشادته يذكرها. . وهل هناك وسيلة للفت الأنظار إليها أيسر من شعر الغناء؟
هكذا بدأت علاقة الشاعر بعتبة كل منهما يحاول استغلال صاحبه لمصلحته الخاصة. ولكن العلاقة بينهما لم تقف عند ذلك الحد المادي. فعتبة يسرها ويرضي كبرياءها أن يكون الهائم بها المشغوف بحبها ذا مظهر حسن حيث أن قدرها وخطرها يرتفعان بقدر ما يرتفع قدر المعذب في سبيلها. . على حين كان شاعرنا ما يزال فقيراً مغموراً. وقد كان علاج ذلك عندها أن خلت بالشاعر يوماً من الأيام وأبدت اهتمامها بشأنه وناولته بضع مئات من الدنانير كي يرفع بها مستواه؛ وذلك بشراء ملابس فاخرة وحمار وما إلى ذلك.
وقد كان هذا مبدأ تحول خطير في نظرة الشاعر إلى عتبة؛ فلم تعد صلته بها نوعاً من عبث الشباب أو وسيلة إلى تحقيق ربح عادي، ولكن حباً شريفاً عميقاً فهي في رأيه ذلك الملاك الرحيم الذي لا يبادله حباً بحب وإخلاصاً بإخلاص فقط، بل يشفق عليه ويفكر في أمره ويسعى إلى رفع مستواه المادي والأدبي. . فكيف لا يحبها إذن ويسرف في حبه لها. أما عتبة فلا تزال حيث بدأت ولا يزال طرفها متعلقاً بالخليفة أو أحد أمراء البيت المالك، ولا يزال أبو العتاهية في نظرها ذلك الشاعر المغمور الذي لا يجيد شيئاً ولا يصلح لشيء إلا التغني بجمالها والعذاب في سبيلها. وقد اتبعت معه سياسة ماكرة ملتوية المراد بها إطالة تعذيبه وهيامه، وذلك بأن تدنيه وتقربه وتعده وتمنيه كلما اشتد به اليأس منها وعزم على نفض يده من شأنها. . ثم تمهله وتتغافل عنه كلما اشتد هيامه بها وإلحاحه عليها. . وأشعاره تمثل لنا الحالين. وإذا شئت فاستمع إليه وقد طلبت صراحة أن يتغنى بحبها حتى يعرفه القاصي والداني:
أعلمت عتبة أنني ... منها على خدر مطل
وشكوت ما ألقي إليه ... اوالمدامع تستهل
حتى إذا برمت بما ... أشكو كما يشكو الأقل
قالت فأي الناس يع ... لم ما تقول فقلت كل
أو شئت فاستمع إليه إذ يشكو هجرها له:
بخلت علي بودها وصفائها ... ومنحتها ردي ومحض صفائي(986/33)
فتخالف الأهواء فيما بيننا ... والموت عند تخالف الأهواء
فإذا أضفنا إلى ذلك ما بدأت به من إعطائه قدراً عظيماً من المال مظهرة عنايتها به وما انتهت إليه من رفضها الزواج منه رفضاً باتاً رغم توسط الرشيد. . ازددنا يقيناً بصحة ما ذهبنا إليه من أنها لم تكن جادة ولا مخلصة في حبها له.
وقد كان من نتائج ذلك السلوك المضطرب أن ساءت العلاقة بين الشاعر والمهدي؛ فقد كان من الضروري لعتبة أن تقدم لأبي العتاهية سبباً معقولاً لترددها في أمر الزواج وأدبارها عنه كلما أقبل عليها. ولم يكن من العسير عليها أن تدعي أنها إنما تفعل ما تفعل خوفاً من إثارة غضب الخليفة وزوجه اللذين كانا يحرصان على بقائها في خدمتهما وانقطاعها إليهما. وازداد الطين بلة حينما أبرق الخليفة وأرعد على أثر سماعه شعراً لأبي العتاهية يعرض فيه بعتبة ويقحم الخليفة في أمره:
ألا إن ظبياً للخليفة صادني ... ومالي على ظبي الخليفة من عدوي
وما كان من الخليفة إلا أن جلده وسجنه ثم نفاه إلى الكوفة؛ بل كاد يقتله بتهمة الزندقة لولا أن تدخل يزيد بن منصور خال المهدي لمودة كانت بينه وبين الشاعر.
كان من الطبيعي أن ينقم الشاعر على المهدي الذي أيقظه من حلمه الجميل على صوت السياط وهي تلهب ظهره وتفري جلده. وهنا أخذت تجارب الشاعر في طفولته وبغضه للسادة والأمراء تستيقظ في نفسه، أليس الخليفة أحد أولئك الأمراء القساة الطغاة بل قائدهم وقدوتهم فيما يفعلون؟ ألم يتخذ من سلطانه أداة للعدوان على شاعر بائس طموح لا جريرة له إلا أن أحب فتاة وأحبته؟ ألم يلصق به ذلك اللقب البغيض الذي وجد فيه منافسوه من الشعراء مادة خصبة للعبث به ومن ذلك قول والبة ابن الحباب: -
كان فينا يكنى أبا اسحق ... وبها الركب سار في الآفاق
فتكنى معتوتها بعتاه ... يالها كنية أتت باتفاق
وإذن فلا سعادة ولا استقرار للشاعر ولا للضعفاء من أمثاله حتى تبيد تلك الطائفة الطاغية المفسدة التي تتمثل في الخليفة ومن حوله من سادة وأمراء وقواد.
وهكذا كان حبه الفاشل سبباً من أسباب تغلغل حقده على ذرى الجاه والنفوذ في عصره على نحو ما سنبينه بعد.(986/34)
وقد قضى الشاعر بقية أيام المهدي صامتاً عن عتبة لا يكاد يذكرها بشيء خوفاً من الخليفة. وما كاد الأخير يقضي نحبه حتى شعر أبو العتاهية بالأمن بعد الخوف والفرج بعد الضيق كما يصوره قوله: -
مات الخليفة أيها الثقلان ... فكأنني أفطرت في رمضان
وقد ذهب بعض النقاد إلى أن الشاعر إنما يعبر هنا عن أسفه لموت الخليفة وأنه إنما يشعر بما يشعر به كل من أفطر عمداً في رمضان. . ولكن هذا في نظرنا تأويل بعيد كما أنه يناقض تلك الأبيات المشهورة التي قالها أبو العتاهية في موت المهدي والتي تبدو فيها روح الشماتة الوضيعة. قال الشاعر مشيراً إلى جواري المهدي: -
رحن في الوشى وأصبحن ... عليهن المسوح
كل نطاح من الدهر ... له يوم نطوح
نح على نفسك يا مسكين ... إن كنت تنوح
لتموتن وإن عمر ... ت ما عمر نوح
يتبع
محمد الكفراوي(986/35)
أثر المدرسة المصرية في الثقافة
للأستاذ ثروت أباضة
- 2 -
ويعقب عنصر معرفة الجهل حب المرء للعلم أو الفن، وهذا الحب يكون وليد البيئة أو الصدفة، فكثيراً ما نرى شعراء لم يتلقوا في المدرسة علوماً، بل إن الشعراء الأقدمين جميعاً لم يعرفوا سبيلاً إلى المدرسة، وإنما هي الملكة والثقافة الحرة. وهكذا الشأن أيضاً مع القادة الأول الخالقين للنظريات العلمية الجليلة الأثر في الحياة العصرية، وأذكر منهم أديسون واستيفنسون.
يلي ذلك الصبر والمثابرة، إذ لابد للمثقف أن يقرأ ويكثر من القراءة، بل لابد أيضاً أن يصبر الإنسان نفسه فيقرأ ما لا يسيغه ليصل إلى ما يريد، فمن الأدباء مثلاً من لا يحبون النحو ولكن لا غنى عنه لاستكمال ثقافتهم الأدبية. ومن رجال القانون من لا يحبون علم المالية العامة مثلاً أو القانون الروماني، ولكن لابد لنا مما ليس منه بد، فهم يقرأونه بل ويدرسونه ليتموا ثقافتهم القانونية، هذا هو الصبر الذي أعنيه.
أهم العناصر جميعاً هو العقلية. . هناك عقليات حديدية مهما تثقفت بقيت جامدة، فإنك لتجد كثيراً من العلماء في القانون مثلاً أو الطب لا يعرفون عن غير علمهم في الحياة شيئاً، وإذا جلست إليهم وتحدثوا في غير ما يجيدون وجدتهم إلى العوام أقرب ما يكونون، وأشبه شيء بالقلم الرصاص يراه صاحبه من ناحية واحدة لا يكتب إلا منها فإن أدرته في يدك صار خشباً.
ليس حتماً على المثقف أن يعرف كل شيء، ولكن حتم على من يريد أن يقال عنه مثقف أن يفهم، والفهم من الله هبة إذا لم يعطها لإنسان فحسبه وحسبنا معه الله ونعم الوكيل.
بعد هذا العرض السريع للثقافة والتثقيف دعونا نتوكل على الله ونذهب إلى أبواب المدارس والجامعات المصرية لنرى ما تصيب الثقافة من هذه البيوت التي يقول عنها شوقي الخالد. .
بيوت منزهة كالعتيق ... وإن لم تستر ولم تحجب
يدانى ثراها ثرى مكة ... ويقرب في الطهر من يثرب(986/36)
إذا ما رأيتهمو حولها ... يموجون كالنحل عند الربى
رأيت الحضارة في حصنها ... هناك وفي جندها الأغلب
هكذا تصور أمير الشعراء المدرسة. . أتراه كان في هذه الأبيات شاعراً خيالياً أم شاعراً واصفاً. رحم الله شوقي لقد رسم المثل الأعلى للمدرسة وأرادها حصن حضارة وغاب جنود. . ترى هل مدارسنا المصرية هكذا؟ هل تعمل المدرسة المصرية على تثقيف تلاميذها والارتفاع بمستواهم العلمي والأدبي؟ وهل يتجه الجهد في هذه المدارس إلى العناية بهؤلاء التلاميذ حتى يصبحوا كما قال شاعرنا الخالد جند الحضارة الأغلب وحصنها المكين.
إنه مما يؤسف له حقاً أن الجواب (لا)، إن المدارس المصرية لا تعمل على هذا، وإذا كان لابد لنا من التفاؤل فلنقل إن أغلب المدارس المصرية لا تعمل على هذا حتى الآن.
فمدارسنا المصرية مازالت تسير على النظم القديمة في التربية وهي المعروفة باسم التربية التقليدية. وحسبكم أن تعرفوا أن طريقة وست لتدريس اللغة الإنجليزية هي أحد النظم التي أدخلت إلى المدارس المصرية، وطريقة وست هذه فيما وصل إلى علمي معمول بها منذ نصف قرن أو أقل قليلاً، أي أن أحدث تجديد حصل في طريقة التدريس بوزارة المعارف كان منذ خمسة وعشرين عاماً. وبعد هذه الحقبة الطويلة من السنين تألفت لجنة قائمة الآن تحاول أن تتحرر من هذه الطريقة مبقية على أجزاء يسيرة منها.
نظام التربية التقليدية إذن هو النظام السائد في المدارس المصرية، وهذا النظام من شأنه أن يتوجه بعنايته إلى المواد الدراسية، فنرى المدارس وقد أوسعتها تبجيلاً واحتراماً، ونرى التلاميذ ركعاً لهذه المواد سجداً يؤمهم في صلاتهم البوذية رائدوهم من الأساتذة والمربين، فالمادة العلمية هي السيد الذي لا يحفل بالميول الشخصية ولا يعبأ بالاستعداد الطبيعي، وإذا كانت المدارس في أصل نشأتها قد قامت ليستفيد منها التلاميذ بالمواد إلا أن المدارس نفسها قد رأت أن تستفيد المواد بالتلاميذ، ثم استقرت على رأيها فوجدت أن الأمر هكذا أهدى وأيسر سبيلاً. فليس من الضروري عندهم أن يتفهم التلميذ المادة ويفقهها، بل حتم عليه أن يجيب إذا سئل، وحق عليه العقاب إن سكت. بل لقد جرفهم هذا المذهب إلى ما هو أدهى من ذلك وأظلم، فالتلاميذ بناء على أوامر وزارة المعارف يطالبون فقط بما يلقى إليهم بين(986/37)
جدران المدارس، فإذا راق لتلميذ ما أن يدرس في خارج المدرسة متزايداً في علم يميل إليه فإنه يمتنع عليه كل الامتناع أن ينطق حرفاً مما تعلمه في الخارج. وإليكم مثلاً: لي صديق ظل يكتب في نقد الشعر مدة ثلاث سنوات في كبريات المجلات الأدبية ثم نقل إلى التوجيهية، وكان ضمن المنهج المقرر عليه فصل في نقد الشعر، ولكن صديقي بما يملك الشباب من غرور استكبر أن يذاكر هذا الباب، فحين امتحن أثناء العام في النقد، نقد الشعر الذي عرض عليه بغير الألفاظ التي ينقدها به النص مستحدثاً بذوق أدبي سليم فأبى عليه أستاذه هذا، وسقط في امتحان نصف العام. قد تقولون أنه مثل فردي يستثنى من القاعدة العامة والاستثناء لا قياس عليه ولا يتوسع فيه - ولكنه يؤسفني كل الأسف أن أقرر أن هذا الذي تعدونه استثناء، هو القاعدة التي يتوسع فيها ولا يقاس إلا عليها، وبحسبنا نظرة إلى كتاب من كتب النقد التي تدرس في المدارس حتى اليوم، فإننا نجد بيتين مثلاً يعقبهما النقد الذي يطلب إلى التلميذ أن يقوله، موضوعاً تحت الأبيات، يلزمه أن يقول إن في البيت إطناباً وحشواً، وركاكة في التعبير، وضعفاً في المعنى، أو يقول: إن في البيت جزالة في التعبير، وطرافة في المعنى، والنقد فيما نعلم، ذوق وتذوق، وليس ألفاظاً ونصوصاً، ولكنه في وزارة المعارف، هو هذه الكلمات التي أسمعها لكم الآن، بحيث يأتي الامتحان في آخر العام، والممتحن ملزم أن يسأل التلميذ في نص من هذه النصوص المقررة، والتلميذ ملزم أن يجيب بهذه الألفاظ المكررة، فإن رأى في الأبيات رأياً غير رأي واضع النصوص، فهو لاشك ساقط، وأقول لاشك لا استنتاجاً، وإنما عن علم، فهكذا درس لي النقد، وهكذا درس لمن أعرفه من زملائي وأخواني، وهكذا يدرس الأدب في المدرسة، فهو علم محفوظات، لا ماء فيه ولا استرواح، يمسك الذهن فلا يطلقه ويحده، وكان من شأنه أن يفسحه.
ذكرت الأدب مثلاً لأنه الفن الوحيد الذي يستطيع المدرس أن يجعل منه شيئاً جميلاً في أذهان الطلاب، فإن كان هذا الفن يسام هذا الخسف، فما الخطب بالجغرافيا والتاريخ والكيمياء والطبيعة. . كلها علوم جامدة مستعصية، ولكن الطريقة التي تتبع في المدارس اليوم تزيدها جموداً واستعصاء، وأيسر مثال لهذا أنني اليوم لا أفهم من الكيمياء كلها إلا أن الماء يتكون أكسوجين وأيدروجين فيه 1، 2 أيهما الواحد وأيهما الاثنان، نسيت. أما باقي(986/38)
المنهج الذي درسناه وهو ما يملأ كتاباً يقع في خمسمائة صفحة من القطع الكبيرة فأنا لا أعرف منه شيئاً، وأقول لا أعرف لا لا أذكر، ومع هذا فقد امتحنت في الكيمياء ونجحت لأنني - وأعترف - حفظتها على غير فهم، فما سلمت ورقة الإجابة إلى المراقب حتى سلمت معها كل ما كنت أحفظه. قد يكون غباء ما ألم به إزاء الكيمياء، غير أني أجد الكثيرين من الأذكياء يشاطرونني هذا الجهل.
العلوم أشياء جامدة ينفخ فيها المدرس من روحه فيهب فيها الحياة، ولا يهب الحياة إلا خالق، ولا يصل إلى مرتبة الخلق إلا من تكاملت مقوماته وتوثقت ثقافته، ولا يمكن لهذه المواهب أن تكتمل، ولا لهذه الثقافة أن تتوثق إلا لشخص اطمأنت له جوانب الحياة وارتاح في مجال حياته، وهدأ تفكيره فيما يرتزق منه. أما إذا أكبت عليه المطالب الدنيوية وعلا صراخ أطفاله في أذنيه وانسعرت من حوله الأيدي المطالبة، وانثنت عنه الأيادي الواهبة، فلا أمل لنا فيه وقد كان المدرس إلى عهد قريب لا ينال من العناية المادية ما يشجعه على المضي في أداء الرسالة الضخمة الملقاة على عاتقه، فإن كان قد أهمل أو تراخى فلا جناح عليه، وإذا كان قد قدر لواحد من هؤلاء المدرسين أن يتغلب على هذه المصاعب المادية بروح له سامية أو بمورد آخر يدر عليه شيئاً، إذا كان قد قدر له هذا فهو لابد قد اصطدم وما يزال يصطدم بشاهقة أخرى تمنعه أن يخرج بتلاميذه عما أمرت وزارة المعارف دون التلاميذ، وشروط الإرضاء سهلة ميسورة، فما عليه إذا أراد أن يرضي المفتش إلا أن يتبع أوامر الوزارة في إلقاء درسه بعد أن يجمل كراسة تحضيره، فإن نفذ هذا أصابه من الخير ما تتقاصر دونه شم الهمم، وما على المدرس إذا أراد أن يرضي الناظر إلا أن ينجح تلاميذه في امتحانات السنة الدراسية، فيصبح له المكان السامق الرفيع، أما إذا أراد أن يرضي ضميره، فهو سيغضب المفتش والناظر جميعاً، وما أظننا نقسو عليه فنطالبه بإرضاء ضميره المستخفي في أغوار نفسه، ليغاضب الرؤساء، ويغاضب بعضهم عيشه وحياته.
البقية في العدد القادم
ثروت أباظة(986/39)
رسالة الأدب بين الأصفهاني والثعالبي
للأستاذ حامد حفني داود
- 2 -
لعلك بعد هذا العرض المنهجي - الذي أوضحته لك في المقال السابق - توافقني على أن الثعالبي كان مؤرخاً فنياً وأديباً لوذعياً، على حين كان الأصفهاني مؤرخاً استطرادياً يقصر جهوده عند سوق الأخبار وهو يكيلها لك بغير حساب أو منهج يرتضيه عرف الحدثين اليوم.
ولعل المقارنة بين الرجلين لا تقف بنا عند هذا القدر. فهناك جانب خطير أول ما يستلفت الباحث فيه سعة الأفق التي نلحظها في مؤلفات الثعالبي حيث لم يكتف بما اكتفى به الأصفهاني من مؤلفات لا تتجاوز مادة الأدب. يدلك على ذلك أنك لا ترى علماً من علوم العربية إلا وله فيه إصبع ومشاركة وجولات واسعة تميزه عن غيره.
صحيح أن الأصفهاني يشارك صاحبه في تاريخ الأدب ولكنه خالفه في الطريقة حيث لم يتجاوز هذا التاريخ الاستطرادي الصامت الذي ذكرناه. ولا نكاد نستثني من ذلك إلا شذرات اعترف له بها المؤرخون في (تاريخ النقد الأدبي).
فقد عاش الأصفهاني في عصر كان مليئاً بالأصداء النقدية، رسم النقاد خلاله خطوطهم الأولى في حياة النقد الأدبي. وقد كان ذلك عقب المعارك الأدبية التي دارت حول أبي تمام (231هـ) والبحتري (248هـ) من ناحية، وحول أبي الطيب المتنبي (354هـ) شيخ شعراء ذلك العصر، والصاحب بن عباد (315هـ) زعيم نقدة الكلام وحامل لواء الكتابة والبيان في النصف الثاني من القرن الرابع - من ناحية أخرى).
هاتان المعركتان الأدبيتان وأمثالهما في القرن الرابع خلقت جيلاً عظيماً من النقاد الذين حملوا لواء النقد ووضعوا الأسس الأولى في حياته العلمية؛ فكان من بينهم: أبو بكر محمد بن يحيى الصولي (235هـ) صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) وأبو الفرج الأصفهاني (356هـ) والقاضي عبد العزيز الجرجاني (366هـ) صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) وأبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (371هـ) صاحب كتاب (الموازنة بين الطائيين) والصاحب بن عباد (385هـ) صاحب كتاب (الكشف عن مساوئ شعر(986/40)
المتنبي) وأبو منصور عبد الملك الثعالبي (429هـ) صاحب كتاب (أبو الطيب المتنبي: ماله وما عليه).
وأنت تستطيع من هذا الثبت التاريخي في حياة النقد الأدبي أن تستشف الخطوط الأولى في حياة النقد وأن تكشف اللثام عن معالمه الكبرى، ولعلك ترى معي أن الأصفهاني - رغم ما نسب إليه المؤرخون من مشاركة في (النقد الأدبي) - لم يترك لنا سفراً مخصصاً في حياة النقد كما فعل معاصروه الذين ذكرناهم لك. وأكثر من هذا ترى أن الصولي الذي كان أسبق منه في الزمن قد ترك لنا ما يصح أن نعتبره دستوراً قديماً في تاريخ النقد وهو كتاب (أخبار أبي تمام). ومن ذلك نعلم أن القول بمشاركة الأصفهاني في تدوين دعائم النقد الأدبي قول أجوف لا يستريح إليه الباحث المحقق، وعلى العكس من ذلك فإنك ترى الثعالبي - وهو آخر من ذكرتهمفي ثبت النقاد - ترك كتاباً خاصاً في النقد هو كتاب (أبو الطيب المتنبي: ماله وما عليه) ومع أن الكتاب في جملته كان صورة معادة لما جاء به سلفه الصاحب بن عباد، ولكنه على أي حال كتاب مفرد أورد فيه صاحبه كل ما ذكره الصاحب في نقد المتنبي وأضاف إليه شذرات في تاريخ الحياة النقدية وما دار بين المتنبي والصاحب من عصبية كان لها الفضل الأكبر في خلق شطرين من النقاد: شطر يتعصب للمتنبي وآخر يتعصب للصاحب.
وإذا تجاوزت معي دائرة تاريخ الأدب ودائرة النقد انكشف لك ما كان محجوباً عليك من أمر الثعالبي وشخصيته العجيبة، ورأيت كيف كان الرجل يمثل عدة أجيال في جيل، ويصور عدة مدارس في شخص واحد.
ولعل أول ما يلفت الباحث منزلة الرجل في تاريخ البلاغة، فقد انقضى القرنان: الثالث والرابع والبلاغة لا تتجاوز في مؤلفاتها الخطيرة كتاب (البديع) لأمير المؤمنين عبد الله بن المعتز، وكتاب (نقد الشعر) للكاتب قدامة بن جعفر و (كتاب الصناعتين) لأبي هلال العسكري. فلما أن كان أواخر القرن الرابع ومستهل القرن الخامس وكان الثعالبي استظلت البلاغة في ظل المدرسة الأدبية المتحررة التي أسسها ابن المعتز منذ قرن ونصف من الزمن، وكانت علومها وقتئذٍ تسمى (البديع). وقد نضج البديع عند الثعالبي نضوجاً ملموساً واتسعت أبوابه عما كان عليه. فأنواع البديع التي كانت لا تتجاوز سبعة عشر نوعاً في(986/41)
مدرسة ابن المعتز صارت في مدرسة الثعالبي خمسة وثلاثين نوعاً، شرحها الثعالبي في كتابه (روضة الفصاحة وبهجة البلاغة في علم البديع).
والثعالبي الذي أعتز بذاتيته في تاريخ الأدب لا ينساها حين يحدثك عن أنواع البديع، كما أنه لا ينسى أن يبدأ كتابه هذا بمقدمة فنية تناسب طبيعة المدرسة الأدبية التي كان يرأسها. وأنت تلمس ذلك حين يعرف لك الفصاحة والبلاغة، ويوضح الغرض منهما. وهو يسمى علم البديع - أو علوم البلاغة على حد تقسيمنا اليوم - علم الأدب. ويريد به الوسيلة التي تؤد بك إلى صناعة الأدب.
وهو لا يكاد يحقق هذه النهضة البلاغية التي شرحناها حتى يطالعنا بأخرى حين يضع كتباً مفردة في البديع، يجعل كل كتاب منها خاصاً بالحديث عن نوع معين من أنواع ذلك العلم.
من هذه الكتب كتاب (النهاية في الكناية) وكتاب (الإعجاز والإيجاز) وكتاب (المتشابه أو أجناس التجنيس). وتعتبر هذه الكتب في تاريخ البلاغة أول محاولة في الأبحاث البلاغية الخاصة أو المفردة في باب واحد من أبوابها. وأنت حين تقرأ الأخير منها تحس بروح النظام والمنهج الثابت الذي لا يعتريه الاضطراب والملل كما كنت تحس ذلك دائماً في (يتيمة الدهر) حين أرخ للشعراء والكتاب. وهكذا يفتح أمامنا فتحاً جديداً آخر.
ثم نتقدم خطوة رابعة فنرى أن الثعالبي الذي شارك في تاريخ الأدب والنقد وعلوم البلاغة - نراه - يرفع القواعد من المدرسة اللغوية كما رفعها من مدرسة البديع. وهنا يضع أمامنا كتابه (فقه اللغة وأسرار العربية) على نحو خاص يخالف فيه أصحاب المعجمات في وضعهم؛ حين يرتبون مفردات اللغة ترتيباً أبجدياً ثم يأخذون في تفسير معانيها. فالثعالبي لا يذهب في كتابه هذا مذهب ابن دريد (321هـ) في (الجمهرة) والأزهري (370هـ) (في التعذيب) والصاحب بن عباد (385هـ) في (المحيط) وابن فارس (395هـ) في (المجمل) والجوهري (398هـ) في (الصحاح) - مع ما بينهم من اختلاف جزئي. ولكنه يجعل المعاني محور منهجه وأساس بحثه، فيذكر لك المعنى ثم يسرد ما يدخل تحته من ألفاظ. وهو في ذلك يرتب الألفاظ ترتيباً زمنياً أو تصاعدياً أو تنازلياً أو نوعياً حسب جوهر المعنى الذي يذكره ومقتضاه.
وأرجح كثيراً أن ابن سيدة الأندلسي (458هـ) تأثر به حين وضع كتابه (المخصص) مع(986/42)
شيء من التوسع الذي نرجئ بيانه في مجال آخر.
ولم يقتصر الثعالبي على ما ذكرناه له من كتب في البلاغة واللغة، بل كان من النفر القليل الذين زودوا (المكتبة العربية) بكتب تزيد على الخمسة وعشرين كتاباً وليس للأصفهاني ما يقابلها.
وبعد فقد عرفت كيف كان أبو منصور الثعالبي مجدداً في تاريخ الأدب متزعماً لمدارس النقد والبلاغة واللغة في الوقت الذي كان فيه الأصفهاني لا يتجاوز دائرة التاريخ الاستطرادي الصامت فشتان ما بين الرجلين!
إن مثل الثعالبي فيما أداه للعربية من رسالة الأدب في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس مثل أبي عثمان الجاحظ في القرن الثالث. إلا أن أبا عثمان كان فيلسوفاً متفنناً في أسلوب العربية على حين كان أبو منصور مؤرخاً بارعاً للعربية، دارساً لعلومها وآدابها.
حامد حفني داود الجرجاوي(986/43)
رسَالَة الشِّعر
في الذكرى
15 مايو
للأستاذ كامل الدجاني
إذا الشعب استكان أمام خطب ... فعقباه التردي والبوار
وإن تهن الخطوب لديه يوماً ... فلا يقضى على الشعب العثارا
كذلك سنة الدنيا: غلاب ... وإيمان وعزم وانتصار
وذا شعب تصارعه الدواهي ... يطول به الشتات والانتظار
ودون الأفق بيت، عز دهراً ... ينيخ على مرابعه الإسار
وخلف السور يرصد مكر سوء ... وأطماع وأعداء شرار
وذا عام يمر وراء عام ... وذا ليل يكر وذا نهار
وليس ببارح خطر وضيم ... وليس بزائل رجس وعار!
بداراً، فالحوادث راصدات ... وفي ما كان درس واعتبار
وصبراً للشدائد فالعوادي ... يعين على تخطيها اصطبار
وتوطين النفوس على حياة ... جهاد الخالدين لها شعار
وسير الجد، فالمسرى طويل ... وما من دون غايته قرار
وذكراً للديار وللمغاني ... فأن الدار يدنيها ادكار
ونقشاً لاسمها في كل قلب ... يخط حروفه نور ونار
أقيموا في الجوانح من سناها ... منار هدى بذكراها ينار
وشبوا فيه ناراً من لظاها ... مقدسة يدوم لها استعار
يؤججها حنين مستديم ... ويقبسها مع اللبن الصغار
وحجوا بيتها الباقي وطوفوا ... حواليها، وإن شط المزار
وعوجوا نحوها حتى تطلوا ... ويظهر من معاهدها شعار
وتخفق عند رؤيتها قلوب ... ويخفق من معالمها منار(986/44)
هنالك كبروا سيما ولبوا ... يلب البر منها والبحار
هنالك جددوا عهداً لديها ... تجدد عهدها لكم الديار
وعودوا من مشاهدها بزاد ... يزوده الفؤاد المستطار
إلى يوم لها لا ريب فيه ... يفك به عن الدار الإسار
ويجتمع الشتات بها، ويلقى ... أليف إلفه، أهل ودار
ويرجع نازح، ويفك عان ... ويصدح فوق دوحته الهزار
وثأراً للكرامة في حماها ... إلى أن يمحى بالثأر عار
وثأراً للكرام من الضحايا ... إلى أن يرضى الشهداء ثار
وثأراً ترخص الأرواح فيه ... إلى أن تسترد به الديار
وثأراً تشتفي فيه نفوس ... بها من (دير ياسين) أوار
وما نبغي كبغيكم ولكن ... قصاص فيه عدل واعتبار
جيوش العرب أي أليم ذكرى ... تعاودنا، وأي أسى يثار
وأي عميق جرح ذي قروح ... بأعماق النفوس له قرار
لقد أجهزت حين أردت غوثاً ... وجئت لنجدة فإذا بوار
وسلمت البلاد بغير حرب ... وقصر عن عطاياك (القرار)
وعدت سليمة، وهوى شهيد ... وتم الدور وانسدل الستار!
إذا كان العنان رهين حبس ... فلا يرخى إذا ثار الغبار
ولا غوث لديك لمستغيث ... إذا دجت الخطوب ولا بدار
فما أغناك عن إعلان حرب ... ومالك في الطراد بها خيار
وما يغني أسير عن أسير ... إذا الأعداء في يوم أغاروا
لحسبك دمعة حري وعذر ... قصارى العجز دمع واعتذار
لما لك، شظ في عتب لساني ... وما لك ذا العتاب وذا الحوار
ولكن للأولى اتخذوك ستراً ... ليحجبهم فما حجب الستار
فمازال الجناة بكل أرض ... يجرون الذيول بحيث ساروا
وأنت رجاؤنا في كل حال ... تقوم عليك آمال كبار(986/45)
ليوم تشخص الأبصار فيه ... ويغسل عن جبين العرب عار
كامل الدجاني(986/46)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
سعودي بالولاء
وقع بالأسبوع الماضي حادث بالسيارة التي قادها أحد السعوديين إلى حتفه. وقد ذكرت الصحف اسمه (سعد البلوشي) وقالت إنه من خدم الأمير طلال، وقالت إحدى المجلات إنه سكرتير الأمير، وسمته مجلة أخرى: (سعد طلال).
والرجل ليس سعودياً إلا بالولاء، فقد كان العرب ينسبون بالولاء كما ينسبون بالقرابة، ومن ذلك بشار بن برد العقيلي، ولم يكن بشار من بني عقيل وإنما كان ولاؤه لهم.
وقد تعلمنا في قواعد اللغة العربية أن التوكيد بالنفس والعين لرفع الاحتمال، فإذا قلت: قدم الأمير، احتمل أن يكون القادم خادمه أو (سكرتيره) فإن أردت أن تقطع هذا الاحتمال قلت: قدم الأمير نفسه أو عينه.
وهكذا: تتحدث الصحف عن الحادث وما يدل عليه ونتحدث نحن عنه في باب الأدب والفن بمجلة (الرسالة) من حيث اللغة وقواعدها. . . ولكل طريقته.
مجلة الأزهر
من الحوادث الأدبية الهامة هذا الأسبوع صدور مجلة الأزهر، في شكل جديد، وتحرير جديد، بعد أن أسندت إدارتها ورئاسة تحريرها إلى الأستاذ صاحب الرسالة. وقد علمنا أنه حشد لها صفوة من أقطاب الفكر والثقافة، وأرباب الأدب والبلاغة، ووزع أقلامهم على الأبواب المختلفة لهذه المجلة، من فقه ولغة وأدب وتاريخ واجتماع وفلسفة وعلم وشعر وقصص وتراجم وطرائف وأخبار. ثم زيدت صفحاتها إلى 124 صفحة؛ فإذا اجتمع لهذه المجلة المادة والفن والقوة والاختصاص، وكان لها رسالة معينة وغاية ملموسة؛ كان لنا أن نرجو منها الشيء الكثير، ونتوقع لها الفوز المبين، ونعقد عليها الأمل الواسع. وسيصدر عدد رمضان من هذه المجلة في الموعد الذي تصدر فيه (الرسالة)، فلا يسعنا في هذا الأسبوع إلا أن نرحب بها، أما وصفها والحديث عنها فسيكون إن شاء الله في الأسبوع المقبل بعد أن نقرأها قراءة استيعاب وتعقيب.(986/47)
أيها الأدباء - اسرقوا الدولة
ماذا فعل أولئك الأدباء الذين كان لهم نفوذ في وزارة المعارف. . . ماذا فعلوا حتى استهدفوا لحملات صحفية ساقت بعض مثيريها إلى ساحة القضاء؟
كل ما فعلوه أن باعوا كميات من مؤلفاتهم لوزارة المعارف كي توزعها على الطلبة ليقرأوها. . .
ثم قال الحاسدون: أخذت الوزارة لهذا وتركت ذاك. . . وكان (ذاك) قد أخذت الوزارة له من قبل.
وسمع الدكتور طه حسين باشا كلاماً يقال وغباراً يثار، فآثر مذهب (ابن حنبل) ومنع كتبه عن التلاميذ. . ومع ذلك لم يسلم من التطاول والتجريح!
وليس في الأمر كله ما يستحق كل ذلك. . .
مئات من النسخ أو آلاف أخذتها الوزارة كأسلحة تغزو بها الجهل، وقد حوت من الأفكار ذخيرة غير فاسدة. . . وعادت على المؤلف بعشرات أو مئات من الجنيهات لقاء سهر الليالي وثمناً لعصير العقول وكد القرائح.
والدولة تقدر بطولة الأجسام وتهمل بطولة الأفكار، فقد نص قانون إلغاء الاستثناءات - مثلاً - على إبقاء ما منح لأبطال الرياضة، وتركت إدارات المستخدمين في وزارة المعارف وفي غيرها تهوي بالأدباء. . .
أيها المؤلفون - بيعوا للدولة ما استطعتم بيعه من كتبكم واستغلوا من نفوذكم في ذلك إن تيسر لكم نفوذ، وإذا عد ثمن هذه الكتب مالاً مسروقاً فأكثروا من هذه السرقة.
وإني أحرضكم على ذلك وأمري وأمركم إلى الله. . .
استقبال عضو جديد بمجمع فؤاد الأول
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي باستقبال عضو جديد هو الدكتور محمد كامل حسين مدير جامعة إبراهيم. وقد ألقى كلمة الاستقبال الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، فتحدث عن نشأة الدكتور كامل حسين، فقال إنه كان يكتب في إحدى الصحف الأسبوعية منذ ربع قرن مقالات يذيلها باسم مستعار هو (ابن سينا) وكان إذ ذاك طبيباً شاباً(986/48)
يستكمل دراسته في إنجلترا، وقد عاد إلى مصر سنة 1930 فاشتغل بالتدريس في كلية الطب، وقضى بها تسع سنوات أستاذاً لجراحة العظام، ثم اختير عند إنشاء جامعة إبراهيم مديراً لها.
وأشار الدكتور مدكور إلى النواحي المختلفة لشخصية الدكتور كامل حسين، ثم خص الناحيتين العلمية والأدبية بشيء من التفصيل. ومما قاله إن العالم الكبير يؤمن بالتجربة باعتبارها وسيلة المعرفة في العلم والحديث، ويؤمن بالعقل كوسيلة لاستخلاص القضايا العامة من التجارب الجزئية. ولما عرض للناحية الأدبية قال إن نشأته الأولى - من حيث حياته المدرسية - لم يكن فيها مجال أو باعث على الدراسة الأدبية، وإنما ساقه إلى الأدب حسه المرهف وقراءاته الشخصية، وقد دفعه كذلك إلى الأدب علمه، فهو يؤثر الفكرة الواضحة ويرى أن الحقائق العلمية تحتاج إلى التعبير الدقيق السليم، وقال إنه مزج العلم بالأدب، إذ عرض العلم عرضاً طلياً، ونحا في الأدب منحى العلم من حيث الدقة والتحليل والمقارنة، وأتى برأي له فيما وقع بشعر المتنبي من تعقيد إذ علله تعليلاً نفسياً بأن المتنبي طلب في حياته أموراً عزت عليه، فشعر بالإخفاق وتكونت عنده عقدة بسبب ذلك، فعمد إلى خلق صعوبات في شعره ليقنع نفسه بالتغلب عليها.
ثم ألقى الدكتور محمد كامل حسين كلمته، وقد تحدث فيها عن سلفه في عضوية المجمع المرحوم أحمد حافظ عوض بك، واستطرد إلى المحاضرة في الحياة الفكرية عندنا وموقفنا من المدنية الغربية.
والواقع أن الدكتور كامل حسين قدم نفسه بهذه المحاضرة تقديماً رائعاً، وقد دل بها على أنه أديب مطبوع ومفكر ممتاز، وقد تضمنت محاضرته آراء وخواطر قيمة ممتعة في الأدب واللغة والفكر والحياة. وأعد قراء (الرسالة) بخلاصتها في الأسبوع القادم إن شاء الله.
عباس خضر(986/49)
البَريدُ الأدَبي
حول خطوط
عقب الأديب السوري الفاضل الأستاذ عفيف الحسيني على قصيدتي (خطوط) بكلمة نقد رقيقة، وشاها بما شاء له أدبه من جميل الشعور وجمال التعبير، ولقد رأيت أن أعقب على تعقيبه، بذكر وجهة نظري فيما أخذه حضرته على البيت:
حصير تقادم حتى يكاد. . . يخضر، يرجع عشباً نضير.
أنا لا أخالف الأستاذ في أن الحصير المتقادم يسود إذا كان في مكان رطب، ولكن ألا يرى معي أننا لو وضعنا كلاً من كلمتي (يسود ويخضر) في كفتي الميزان الذوقي لكانت الأخيرة أرجح وأسمح؟
ومعروف للجميع أن العرب يتخذون (الفعلين) طريقاً إلى معنى واحد هو شدة الاخضرار، ونكتفي بإيراد مثال من أدب القرآن الكريم في هذا الصدد: (ومن دونهما جنتان. . مدهامتان)، حيث عبر القرآن عن الحضرة الشديدة بالدهمة، وهي السواد الشديد، جرياً على المألوف من استعمال كل من الكلمتين في مكان الأخرى. .
ويقول الأستاذ الناقد عن البيت الآخر:
ويهرق معوله في تراب لياليه. . محتفراً رمسه
إنني لا أستطيع أن أتصور إهراق المعول في التراب. . وهنا أيضاً لا أستطيع أن أخالفه في استحالة إهراق المعول إهراقاً جدياً، ولكن ألا يرى حضرته أن الحركة الفعلية التي تصاحب المعول، من ارتفاع إلى انثناء إلى انخفاض، حتى يغيب في التراب. هذه الحركة أليست شبيهة بكل ما من شأنه أن يهرق محتواه كالكوب مثلاً؟ ولقد كان في مقدوري أن أعبر ب (يضرب) أو (يهوي بمعوله) مع الاحتفاظ باستقامة الوزن، وأداء المعنى، بل واكتمال الصورة أيضاً. لولا ما خيل لي من أن في هذا التعبير بالذات شيئاً مما يتساءل عنه الباحثون عن التجديد في الشعر الحديث، أما هذه الصداقة التي أبى الأستاذ الحسيني إلا أن يتوجني بها رغم ما رسمته (خطوط) من غرابة الخلقة، وشذوذ التكوين، فأنا أعتز بها، وأحرص عليها، وأعدها من حسنات الزمان الضنين علي.
محمد مفتاح الفيتوري(986/50)
تصحيح في مقال فلسفة الموسيقى الشرقية
طالعت في عددي الرسالة 982، 983 مقالاً بقلم الأستاذ الفاضل السيد نقولا الحداد، فأشكر لكم اهتمامكم، وللكاتب المحترم فضله وجهده، ومع أن في المقال أخطاء لا تخفى على اللبيب، إلا أن هنالك ما يقتضي تصحيحه، فقد جاء بصفحة (498) في رأس جدول الأرقام الأولى كلمة (اهتزازات) والصواب (ذرات)، بمعنى أن العمود الأول هو الذرات الصوتية لدرجات السلم المعدل ذي الأربعة وعشرين ربعا، والعمود الثاني هو الذرات الصوتية لدرجات السلم التركي، التي توجد في عدادها درجات السلم العربي. وبناء على هذا التصحيح لا حاجة للعبارة التي وردت بعد الجدولين المذكورين مباشرة، إذ لا يخفى أن عدد اهتزازات أية درجة صوتية، هو ضعف اهتزازات قرارها، ونصف اهتزازات جوانبها.
دمشق
ميخائيل خليل الله ويردي
طريق شائك. . لا تفرشوه بالورود
من المآخذ التي نسجلها على كثير من صحفنا، اهتمامها البالغ بأنباء بعض الفنانات والراقصات، بنشر صورهن بأوضاع مختلفة، وكتابة الكثير عن أسفارهن، وتنقلاتهن من قطر إلى قطر، ووصف ما ترتديه كل منهن، من فاخر الثياب وما تقتنيه من حلي ومجوهرات، وما يهدى إليها في مختلف المناسبات من الهدايا القيمة. فهم بهذا يزينون لكثير من الفتيات الحياة التي تحياها هؤلاء الغانيات، وأخشى ما نخشاه أن تتأثر نفوس بعض الساذجات ممن تضيق بهن سبل العيش بما يقرأن ويشهدن، فيزين لهن الشيطان الفرار من الضيق إلى السعة، فتزل قدم بعد ثبوتها.
إننا نربأ بصحافتنا أن تهبط إلى هذا الدرك، والمفروض أن الصحافة رسالة سامية، لها أهداف نبيلة، هي توجيه النشء الوجهة القويمة، وتثقيفه الثقافة الصحيحة، وتلقينه المثل العليا، وتحبيب الفضائل إلى قلبه!
ونحن لا نحب أن تشيع هذه البدعة بين العذارى، فلا تزينوا لهن هذه الحياة، والطريق شائك محفوف بالأشواك. . فلا تفرشوه بالورود!(986/51)
عيسى متولي(986/52)
القَصَصُ
الحب فوق الجبل
عن الإنكليزية
كانت ماري تستطيع في يسر أن تسمع الحديث بين الشابين الجالسين على مقربة منها إلى منضدة في فندق بشارع (فليت ستريت) ولكنها لم تعر أحدهما التفاتاً خاصاً.
قال أكبرهما وهو أجملهما للآخر: (إذا كنت لم تذهب قبل الآن إلى اسكوتلاندا فاطلب إجازة واذهب إليها. وقد يشكو بعض المتقدمين في السن وضعاف الأبدان من شدة البرد فيها، ولكن هذا لا يمنع من وصف جوها بأنه جميل.
(وسأدلك على مكان بين الجبال ليس أطيب من هوائه ولا أروع من مناظره ولا أوفر من حاجياته مع يسر الثمن، ولا أجمع لأسباب الراحة والسرور، وقد طال تردادي عليه وآمل أن أذهب إليه أيضاً في الخريف).
ورأت ماري المستمع يشير بالموافقة ويقول: (لست أعرف هل أتمكن من الذهاب إليها أم لا، ولكني أريد أن أسألك عن بعض التفاصيل، وأنت تعرف أنني لا أحب النزول بالفنادق فهل من الممكن إقامة كوخ هناك خارج القرية؟).
فأجابه: (ذلك سهل. وسأدلك على نفس الكوخ الذي كنت أقيم به، وهو في جبهة برتشاير الغربية فاكتب إلى مسز (ماك بين) وقل لها إنك أخذت العنوان من جارفي بلير).
ولم يكن المستمع يعرف الجهة التي ذكرها جارفي بلير. ولكن ماري عرفتها وكتبت على ظهر مجلة كانت معها ذلك العنوان. ولم يخطر ببالها أنها أخطأت في ذلك لأنها كانت تريد الاصطياف أيضاً، وكانت اسكوتلاندا حلماً من أروع أحلامها ولكنها لم تكن تعرف أحداً هناك، وليس أجدر بإرشادها إليها من هذا الرجل الأسود الشعر والعينين الذي كانت تراه كل يوم على هذه المنضدة بالفندق وإن كانت إلى اليوم لم تبادله كلمة واحدة. . على أنهما كانا يتبادلان النظرات في كثير من الأحيان.
وفي تلك اللحظة كتبت ماري خطاباً رقيقاً إلى مسز (ماك بين) قالت فيه إنها سمعت اسمها وعنوانها مصادفة، وأنها ترجو أن تسمح لها بالإقامة في الكوخ مدة أسبوعين وتسألها عن شروطها في مقابل ذلك.(986/53)
وفي اليوم الثالث وصل إليها الرد وكان مرضياً وفيه تطلب مرسلته تحديد اليوم والساعة لترسل إليها العربة تنتظرها وأمتعتها عند أقرب محطة لتنقلها إلى الكوخ الذي يبعد عن المحطة ثلاثة أميال.
وتم كل ذلك. وفي ليلة هادئة الجو معطرة النسيم كانت ماري واقفة أمام الكوخ وصاحبته مارجريت ماك بين ترحب بها ترحاب الصديق بالصديق.
قالت مارجريت: (أخشى أن يكون هذا المكان موحشاً لشدة هدوئه وخلوه من الأنيس. ولكنه يوافق اشتراطك في خطابك، وليس عمل يمكن أن يعمل هنا إلا المشي على سطح الجبال المزدانة بأعواد الزهر).
فابتسمت ماري وقالت: (إنها تألف هذه المناظر وتحبها، فقد اعتادت الاصطياف في الريف، وإنها لا تنتظر أن تسبب لها هدأة الحياة شيئاً من السأم.
وكان من حسن حظها أن الجو اعتدل وراق في الأيام الأولى من زيارتها لهذا الصيف. وفي يوم من الأيام قالت (مارجريت ماك بين): إنه في المساء سيأتي مصطاف جديد وسيقيم في غرفة أخرى من ذلك الكوخ). وقالت: (فإذا راقك مجلسه بعد التعرف به قدمت لكما الطعام معاً وإلا فإني سأدبر لذلك وسيلة تريحك).
فلم تبد ماري أي اعتراض بل سرت من وجود زميل من أهل بلدتها في هذا المصيف. وفي أصيل ذلك اليوم خرجت لتتنزه على سفح الجبل في طريق المحطة وهي تعد نفسها بأن تكون نزهة الغد برفقة رجل هي إلى اليوم لم تصاحبه. وفيما هي تعلل النفس بوعد جميل زلت بها القدم عند محاولتها الصعود إلى مرتفع من سفح الجبل فهوت وجرحت ركبتاها واستحال عليها النهوض ورأت رجلاً يسلك الطريق بين المحطة وبين الكوخ.
ولما دنا عرفت فيه صاحبها أسود الشعر والعينين (جارفي بلير). ونظر إليها وكاد أن يمشي دون أن يتكلم لولا أنها استوقفته وأخبرته بالخبر، وطلبت إليه أن يبلغ صاحبة الكوخ رجاءها لترسل إليها عربة تقلها: فقال: إن الكوخ قريب فإذا شئت فلنذهب إليه مستندة إلى ذراعي، وفي بحمد الله من القوة فوق ما قد تظنين.
قبلت ماري على خجل ما طلبه إليها. وكان لابد لهما من التحدث في أثناء الطريق فاعترفت له بأنها عرفت المكان من حديثه مع صاحبه. وقال لها: إنه كان يريد أن يأتي في(986/54)
الخريف ولكن طرأ ما دعاه إلى التعجيل.
وقالت: (أرجو ألا يغضبك انتفاعي بعنوان كنت أنت تمليه على آخر) فقال: (كيف أغضب؟ لا بل يسرني كل السرور أن تشهدي صدق النصيحة التي قدمتها لصديقي، وأرجو ألا تضطرك الإصابة الحاضرة إلى لزوم الكوخ باقي مدة الاصطياف).
وفي اليوم التالي كانا واقفين أمام الغدير يتحادثان فقالت: (ما أجمل هذا المنظر!)
قال: (إنني لو أوتيت ثروة لحققت حلماً طالما كنت أنعش نفسي بتصوره، وهو أن أشتري كوخاً في مثل هذا المكان فأقضي فيه ستة أشهر من كل عام). قالت: (أهذا حلمك؟) فقال: (نعم ولي حلم مرتبط به). قالت: (أتخبرني ما هو؟). فقال: (منذ عام رأيت فتاة فأحببتها وأريدها زوجة ولكني لا أملك ما أسديه إليها غير حبي). فتشجعت الفتاة أكثر مما كانت وقالت: (ربما كانت الفتاة لا تطمع في غير الحب). ثم قالت: (هل أرشدتها إلى هذا المكان الذي أرشدت إليه صديقك؟) فابتسم وقال: (إنني لم أكن كلمتها على الرغم من أني كنت أراها كل يوم. وقد انتهزت جلوس صديق معي فرصة لأذكر المكان بصوت عال على مسمع منها. وكنت أعلم أنها تريد الاصطياف). فاحمر وجه ماري وقالت: (ربما كان عند صاحبتك مثل الذي عندك، وربما سبقتك إلى الكوخ طمعاً في لقائك).
وعادا إلى الكوخ. وبعد ذلك اليوم اشتد قلق (مارجريت ماك بين) بسبب التصاقهما لزاماً، ولكن قلقها عاد سروراً حين أعلناها أنهما يريدان البقاء بالكوخ شهراً آخر هو شهر العسل.
ع. ق(986/55)
العدد 987 - بتاريخ: 02 - 06 - 1952(/)
إن إلهكم لواحد. .
للأستاذ قطب
عجيب هذا القرآن! يقرؤه القارئ ويعيده، ويحفظه ويرتله، ويفسره ويفهمه، ويخيل إليه أنه قد استوعب معانيه، وأدرك مراميه، ويمر بالنصوص بعد هذا مرا عابرا، غير متوقع أن يجد فيها جديدا غير ما فهمه منها ووعاه.
وفجأة يتلو أو يستمع، فإذا إنبثاقات جديدة عجيبة للكلمة وللآية تلتمع في الذهن والحس والقلب، لم تخطر من قبل أبدا؛ وإذا آفاق من التأملات والمشاعر والتأثيرات تتفتح، لا يدري أين كانت مخبوءة في النص الواضح البسيط!
وهكذا يبدو أن رصيد هذا الكتاب العجيب الخالد لا يغني ولا ينتهي، وأن معين الإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض، وأن الدنيا ستظل تكتشف فيه آفاق، كلما استعدت طاقاتها لتلقي ما فيه من إيحاءات: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
تلك الآية البسيطة القصيرة التي عنونت بها هذه الكلمة (إن إلهكم لواحد). . كم من مرة تلوتها، وكم من مرة سمعتها، وكم من مرة ضمنتها. . ولكنني أنتفض فجأة على لمسة منها لروحي وحسي ومشاعري جميعا. لمسة لم أعهدها من قبل فيها، على طول صحبتي للقرآن، وعلى طول عيشي في ظلال القرآن. .
إن إلهكم لواحد. .
إنه مفرق الطريق في حياة البشرية. . أنه الانقلاب الأكبر في خط سيرها الطويل. . الانقلاب من العبودية إلى الحرية، من الخوف إلى الأمن، إلى الهدى والنور والنظام. أنه إعلان وجود الإنسان، الذي لا يستذل لإنسان مثله، كائنا من كان.
وإنني لأنظر إلى البشرية في تاريخها المتطاول، قبل أن توحد الإله، فأطلع على صحائف من الهوان، وعلى أودية من الحيرة، وعلى ألوان من القلق. . الأوهام تسحقها، والمخاوف ترهقها، والعبودية تطحنها. . وإن هي إلا جملة واحدة. جملة مشحونة بما يملأ صفحات وكتبا. بل بما يشغل أجيالا وقرونا. جملة واحدة تغير وجه التاريخ، وطبيعة الحياة، وضمائر الملايين، وعلاقات الأفراد والجماعات؛ وتلغي كتاب البشرية كله لتخط صفحة خالدة في كتابها الجديد. .(987/1)
إن إلهكم لواحد. .
هو وحده القادر، وهو وحده القاهر. . لو اجتمع أهل هذه الأرض على أن يضروا أحدا من خلقه بغير إرادة منه ما قدروا؛ ولو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوا من خلقه بغير إرادة منه لما استطاعوا: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنفذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب)
إن إلهكم لواحد. .
لا تعنو الحياة إلا له، ولا تتوجه القلوب إلا إليه، ولا تنحني الهامات إلا لجبروته. . فإذا عفرت له الجباه مرة فقد عزت أمام الجبابرة. وإذا ركع له الراكعون مرة فقد نصبوا هاماتهم أمام الطغاة، وإذا عبده العابدون فإن العزة لله ولرسول وللمؤمنين.
إن إلهكم لواحد. .
هو وحده والكل سواه نمال. هو وحده والكل دونه ضئال. هو وحده يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير)
إن إلهكم لواحد. .
عقيدة ما أحوج المكافحين إليها. . تشد من عزائمهم، وتمنحهم القوة التي لا تصمد لها قوة، وتصلهم بالواحد الأحد الذي يجير ولا يجار عليه.
ما أحوجنا إلى هذه العقيدة - ونحن نجتاز امتحاناً عسيراً، سقطت فيه رجولات كثيرة. رجولات زائفة مموهة، خدعت الكثيرين. حنى إذا جاء دور الامتحان تهاوت تحت مطارقه، وتساقطت ذابلة صفراء كأوراق الخريف.
ما أحوج الذين جبنوا بعد تشجع، وتخاذلوا بعد تماسك، وأحجموا بعد إقدام. . . ما أحوجهم جميعا أن يتدبروا تلك الآية القصيرة، وأن تلمس قلوبهم جذوتها المقدسة، فيرتد الجبناء شجعاناً، والمتخاذلون أقوياء، والمحجمون أجرياء،. ويستشعروا كرامة الإنسان التي تأبى ذل الإنسان.
ألا كم سقطت رجولات مزيفة في غمرة الامتحان. . سقط بعضها تحت مطارق الخوف، وبعضها تحت مطارق الطمع، وبعضها تحت مطارق الحرص، وبعضها تحت مطارق(987/2)
الجشع، وبعضها تحت مطارق الذل، وبعضها تحت مطارق الإرهاب. . . وكلها. . كلها ما كان أحوجها إلى لمسة من ذلك الروح، تنفض عنها الخوف والمطامع، وتطهرها من الحرص والجبن، فتتطلع إلى أعلى دون انحناء، وتعتز بالجبار القاهر فلا تعفو منها الجباه.
انتفضت كل هذه المعاني انتفاضة مفاجئة في نفسي، وأنا أمر مروراً عابراً بتلك الآية القصيرة الواضحة البسيطة. . فإذا جبابرة الأرض كلهم في عيني أقزام. . وإذا طغاة الأرض كلهم في حسي أوهام. . وارتسمت في نفسي بحروف من نور كلمات أخرى من ذلك القرآن.
(أأرباب متفرقون خير؟ أم الله الواحد القهار؟)
لا بل الله الواحد القهار، الله أحنى له الرأس مرة، ثم أنظر من عل إلى جميع الرؤوس. الله أسجد له مرة، ثم أنهض لأحتقر الجبارين، الله تستمسك يدي بعروته، ثم ليكن بعد ذلك ما يكون.
بعض من يختانون أنفسهم، ويخونون الإنسانية كلها معهم، يراودوننا على أن نفقد هذا الإله بعدما وجدناه! يراودوننا على أن نجرد نفوسنا من هذه القوة الكبرى. يراودوننا على أن نواجه قوة الشر والظلم دون سلاح.
إنهم يختانون أنفسهم، وإنها لخيانة للبشرية كلها في كفاحها الطويل، كفاحها ضد الظلم والشر، كفاحها ضد الحرص والجشع، كفاحها ضد الهوى والشهوة، كفاحها ضد الضعف والترهل، كفاحها ضد العبودية التي استبدت من قبل بالإنسان.
إنها معركة طويلة الأمد، فما أحوج الإنسان فيها إلى إله، إله واحد لا معبود للناس سواه.
سيد قطب(987/3)
فضل المدنية العربية على المدنية الغربية
للدكتور فيليب حثي
أستاذ التاريخ بجامعة برنجستون بالولايات المتحدة
خلاصة موجزة لسبع محاضرات ألقاها الأستاذ باللغة
الإنجليزية في جامعة سان باولو
1 - في الأدب
هنالك جسور ثلاثة اجتازت عليها المدنية العربية بعناصرها الأدبية والعلمية والفلسفية والفنية من الشرق العربي إلى الغرب الأوربي: وهي سورية في العهد الصليبي (1098 - حوالي 1300) وصقلية في عهد الأغلبيين (831 - 1091) ثم النور منديين، وإسبانيا في عهد الإسلام. والذي نعنيه بالأدب العربي ما أنتجته بالأكثر قرائح الشعوب السورية واللبنانية والعراقية والفارسية وتضمنته اللغة العربية. وأهم هذه الجسور إسبانيا التي أقام العرب فيها نحو ثمانية قرون (711 - 1492) ومن مدنها طليطلة التي أصبحت في القرن الثاني عشر مركزاً هاما للترجمة من العربية بفضل رئيس الأساقفة ريموند. وعقب طليطلة كاستيل وليون برعاية الملك ألفونسو الحكيم (1253 - 4) الذي أولع ولعاً خاصا بالأدب العربي. حتى بعد أن طرد الأسبان العرب من البلاد بقي المورسكو لمدة طويلة يكتبون الإسبانية بأحرف عربية وينشئون الأدب المعروف بالأب الأعجمي
أهم مادة في الأدب العربي إنما هي المادة الدينية. نعم إن القرآن الكريم ترجم إلى اللاتينية (1141) ومنها إلى الفرنسية ومن هذه إلى الإنكليزية (1649) ولكنه لم يكن له أثر بين في الأدب الغربي لما اتصف به أبناء الغرب من التعصب الديني ضد الإسلام. ولعل من أهم أثر هو قصة (المعراج والإسراء) المشار إليها في القرآن من طرف خفي (سور 1: 17) والتي توسع في شرحها والإضافة إليها القصاص وأصبحت مثلا تحداه الشاعر الإيطالي الخالد دانتي في ملحتمه (الكوميديا الإلهية). والظاهر أن دانتي تأثر بكتابات الشاعر الفيلسوف السوري المعري (توفي 1075) والشاعر العربي الصوفي الأسباني أبن عربي (توفي 1240).(987/4)
ولعل المقامات التي أنشأها بديع الزمان الهمداني (توفي 1008) وتبعه فيها الحريري وغيرها أغنى كنز أدبي بعد القرآن. وبفضل العرب الأسبان دخل هذا الطراز من الأساليب الأدبية الجديدة إلى أوربا الغربية فقلده الكتبة الأسبان والطليان ولا سيما في القصص المسماة فيجارو وكانت أول قصة إسبانية من هذا النوع وفيها ما يماثل القصص جحا.
أتخذ الشعر العربي في إسبانيا ميزة جديدة قوامها وصف الطبيعة والتغني بجمالها. ومن هذا القبيل بعض أشعار عبد الرحمن الداخل (755 - 88) وابن زيدون (توفي 1071)؟
ومن المواضيع الجديدة التي عنى بها الشعر العربي الأسباني الهوى العذري الذي يرافق المجتمع المتصف بانعزال الحريم وتحجب النساء. فنسج على منوال هذا الأسلوب الجديد شعراء مسيحيون في إسبانيا وفي أوائل القرن الحادي عشر انتقل هذا الأسلوب إلى جنوبي فرنسا وظهرت آثاره في أدب
وهناك ضرب من الشعر القومي أنشده الشعراء العاميون من مسلمي إسبانيا بداهة مما يذكرها بأناشيد القوالين اللبنانيين المعاصرين. وكان من أهم أنواعه الزجل والموشح اللذان نسج على منوالهما شعراء إسبانيا والبرتغال، ومن إيبيريا سار هذا الأسلوب إلى فرنسا. وكان المنشدون الجوالون المدعوون تروبادور من جملته. ومن أول شعراء الزجل وأعظمهم ابن قزمان القرطبي (توفي 1160). ومجموعة الأناشيد التي جمعها ألفونسو الحكيم تحت عنوان والمحسوبة من أطرف المجموعة الشعرية في القرون المتوسطة إنما أوزانها من نوعي الزجل والموشح. وكذلك الأغاني المسيحية المعروفة ب من هذا الطراز. وكان المستعربون من أهم نقلة هذا الشعر.
ومعظم الأدب العربي من النوع القصصي ومن أبكر أمثلته (كليلة ودمنة) المترجمة عن السنسكريتية. هذه المجموعة العربية ترجمها ألفونسو فكانت من أول الكتب النثرية بالأسبانية ومن أول الكتب القصصية في هذه اللغة، وبعد القرن الثالث عشر أخذ الكتبة الأسبان والبرتغاليون ينسجون على منوالها، وتبعهم الكتبة الفرنسيون. ومما حبب الأسلوب القصصي العربي إلى أبناء الغرب ألوانه الزاهية وخياله الفني وتضمنه أمثولات أخلاقية لمنفعة السامع والمطالع، ويدخل في هذا الباب (مختار الحكم) الذي وضعه الأمير السوري مبشر ابن فاتك زهاء حوالي 1053 والذي ترجم إلى الإسبانية بعنوان وطبع بالإنكليزية(987/5)
عام 1477 فكان أول كتاب طبع في هذه اللغة.
أما ألف ليلة وليلة وهي أهم مجموعة قصص عربية فجاءت متأخرة ولم تظهر بشكلها الحالي حتى القرن الخامس عشر، ولكن منها قصص كقصة السندباد البحري وصلت شفاها إلى الأسبان وترجمت إلى لغتهم. ومما لا ريب فيه أن بعض قصص شوصر بالإنكليزية وقصص بوكاشيو بالإيطالية ترجع إلى ألف ليلة وليلة الشفهية. يذهب المستشرقون إلى أن الرواية الحديثة على ما يعرفها أبناء الغرب ترجع إلى قصة ابن سراج بالأسبانية
أما الروائي الشاعر الأسباني العظيم سرفانتس فالمعروف عنه أنه بقي أسيراً في أيدي قرصان عرب من الجزائر نحو خمس سنوات وهو يدعي في مقدمة مؤلفه الرائع بأن كتابه من أصل عربي.
2 - في العلوم
لم يكن لأبناء الجزيرة العربية لدى ظهور الإسلام علم بالمعنى الاصطلاحي، ولكنهم بعد أن تغلبوا في القرن السابع على الهلال الخصيب. وفارس ومصر أخذوا عن الشعوب المغلوبة من سورية ولبنانية وعراقية وغيرها، العلوم الحقيقية، وكانت العلوم السورية مؤسسة على اليونانية والآرامية والسامية القديمة. أما عصر الترجمة من اليونانية إلى العربية فيتناول نحو قرن (750 - 850) وكان مركزه بغداد وقوامه العلماء السوريون الذين كانوا يتقنون اليونانية منذ فتوح الاسكندر في القرن الرابع قبل المسيح.
وفي هذا القرن جاءت من الهند مخطوطة في علم الفلك فترجمت إلى العربية في بغداد وأصبحت مصدراً للزيج الفلكي الذي نشره الخوارزمي (توفي نحو 850) وكذلك جاءت من الهند مخطوطة رياضية دخلت بفضلها الأرقام الهندية إلى العالم العربي بما فيها الصفر.
ومن الأدب الفارسي نقل ابن المقفع في بغداد قصص كليلة ودمنة كما نقل أبناء بختيشوع، الأسرة السورية المسيحية، مبادئ الطب الفارسي الذي كان قد تأثر بالطب اليوناني.
ولكن أهم مصدر وأعزره نقل عنه العرب في ذلك العهد إنما كان المصدر اليوناني وذلك كان بفضل نشاط علماء سورية المسيحيين وشيخهم حنين بن أسحق (توفي 873) الذي كان له ولتلاميذه اليد الطولى في نقل كتب جالينوس الطبية ومؤلفات أرسطو العلمية(987/6)
والفلسفية. وكانت عملية النقل من اليونانية إلى الآرامية أو السريانية لغة سورية يومئذ ومن هذه إلى العربية. أما السوريون غير المسيحيين وهم الصابئة عبدة النجوم في حران فإن اهتمامهم اقتصر على علمي الفلك والرياضيات؛ فنقلوا من اليونانية إلى العربية مؤلفات إقليدس وأرخميدس وكتاب بطليموس في الفلك والجغرافية وهو (المجسطي).
وعقب عصر الترجمة عن الهندية والفارسية والآرامية واليونانية عهد الإبداع. فلم يكتف العلماء العربيون بنقل تراق الأجيال السابقة؛ بل أضافوا إليه الكثير من نتائج تنقيباتهم وأبحاثهم وأغنوها من عندهم قبل أن يورثوها لخلفائهم.
ففي الطب نشاء الرازي (توفي 925) الذي كان أول من ميز بطريقة علمية بين الحصبة والجدري. وترجمت كتبه إلى اللاتينية في طيلطلة من أعمال إسبانيا بهمة جيرارد الكريموني توفي (1187) وبعد ذاك في صقلية. وأصبحت كتب التدريس. المعول عليها في كليات الطب الأولى في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. كذلك ترجم جيرارد كتاب (القانون) في الطب لابن سينا (توفي 1037) ولعله أول كتاب يقول بعدوى السل. أما الطبيب الدمشقي ابن النفيس (توفي 1288) فإنه وصف الدورة الدموية قبل سرفيتس البرتغالي المنسوب فضل هذا الاكتشاف إليه بنحو ثلاثة قرون.
وفي إسبانيا زها أبو القاسم الزهاوي القرطبي (توفي 1013) أعظم جراحي عصره. وكتابه في الجراحة ترجم إلى اللاتينية في طليطلة وأصبح الكتاب المعول عليه للتدريس في جامعات أوربا وبقي كذلك في جامعة أكسفورد حتى عام 1778. وزها بعده أبن رشد (توفي 1198) المشهور بفسلفته الأرسطالية الذي كان أول من لاحظ أن من مرض بالجدري لا يمرض بهذا الداء ثانية، والذي كان أول من فهم وظيفة شبكة العين. ومعاصر ابن رشد وصنوه في الفلسفة ابن ميمون اليهودي (توفي 1204) كان أيضاً طبيباً، ولعله أول من وصف الطعام النباتي للمصاب بالبواسير. أما ابن الخطيب (توفي 1350) المعروف بأدبه فإنه كان أحد الأطباء القليلين الذين أدركوا أن الطاعون المعروف بالموت الأسود الذي اجتاح أوربا يومئذ وكاد يتركها خلوا من السكان إنما كان ينتشر بالعدوى من المريض إلى السليم لا بأمر الله.
وهنالك علمان مساعدان للطب ورقاهما العرب إلى حد غير مسبوق: النبات والكيمياء. من(987/7)
هو أعظم عالم نباتي وصيدلي أنجبته القرون الوسطى في العالم المتمدن؟ هو بلا ريب أبن البيطار (توفي 1248) من مواليد ملقا بأسبانيا ودفين دمشق الشام. ففي كتابه (الأدوية المفردة) وصف ابن البيطار 1400 نبة منها 200 لم يسبقه أحد إلى وصفها. أما علم الكيمياء فيكفي القول أن هذه الكلمة دخلت اللغات الأوربية عن طريق العربية وأن ابا هذا العلم هو جابر بن حيان الذي زها في العراق حوالي 776.
وفي الكلمات العربية الكيماوية والطبية التي تسربت إلى اللغات الأوربية من العربية - كالإكسير والسودا والشراب والقلي والكحول والأئمد والأنبيق - دليل ساطع على ما هو مدين به العلم الغربي للعلماء العرب.
وفي علمي الرياضيات والفلك لمع العالمي الفارسي الأصل البغدادي الإقامة الخوارزمي (توفي حوالي 850). فهو أول من صنف كتابا في الرياضيات وعنونه (الجبر) ولما ترجم كتابه في توليدو في أواخر القرن الثاني عشر دخل هذا العلم إلى أوربا ودخل معه اسمه. وبفضل ترجمة هذا الكتاب دخلت (الأرقام العربي) بما فيها الصفر إلى اللغات الأوربية. وكلمة صفر في اللغات الأوربية الحديثة مأخوذة عن الكلمة العربية. والخوازمي هو أيضاً واضع الزيج الفكلي الذي نقله ألقونسو الحكيم ملك قشتالة وليون (توفي 1284) إلى الإسبانية وأصبح أساساً للزيج الفرنسي الموضوع بعدئذ في مرسيلية وانتشر شرقاً حتى الصين.
ويكفي للدلالة على فضل علماء العرب على أبناء الغرب أن عدداً من أسماء النجوم - كعقرب والجدي وذنب - لم تزل لليوم في اللغات الأوربية محتفظة بأسمائها العربية.
البقية في العدد القادم
فيليب حثي(987/8)
6 - حسن البنا الرجل القرآني
بقلم روبير جاكسون
للأستاذ أنور الجندي
(يروي روبير جاسكون في هذا الفصل قصة لقائه مع الشهيد
البنا)
في فبراير سنة 1946، كنت في زيارة للقاهرة. . وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتبت في النيويورك كرونيكل بالنص:
(زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخالمعارصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه، ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان. وقد صار الإخوان عاملا مهما في السياسة المصرية، ويقال إن جملة الإخوان 80 % من لجان العمال والطلبة الذين كانوا في طليعة الحوادث الصاخبة الأخيرة في مصر. ويقول الأستاذ البنا: إن حركة الإخوان فوق الأحزاب، وسبيلها هو العودة إلى القرآن، وغايتها جمع كلمة المسلمين في كل أرجاء الدنيا.
هذا ما كتبته منذ خمس سنوات، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مبكرا. . وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر، وأنا أفهم جيدا أن الشرق يطمح إلى مصلح يضم صفوفه، ويرد له كيانه، وطالما رجا الكتاب والمفكرون الغربيون اقتراب اليوم الذي يتحقق فيه هذا الأمل.
غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدنى، انتهت حياة الرجل على وضع غير مألوف. . وبطريقة شاذة!
هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده. .
. . لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة، عندما.
كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة بكرى من زعماء مصر ورؤساء الأحزاب فيها.
كان هذا الرجل خلاب المظهر، دقيق العبارة، بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية. لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة؛(987/9)
وأفاضوا في الحديث على صورة لم تقنعني.
وظل الرجل صامتا، حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي، قل لهم قولوا له شيئا واحدا: عل قرأت عن محمد؟ قلت نعم. قال: عل عرفت ما دعا إليه وصنعه؟ قلت نعم. قال هو ما نريده.
وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير مما حاول بعض أنصار البنا أن يقولوه لي
. . لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط، ومظهره العادي، وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته.
كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل على الزعامة الشعبية، لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله.
وسافرت من مصر بعد أم حصلت على تقارير وافية ضافية عن الرجل وتاريخه، وأهدافه وحياته، وقد قرأتها جميعا وأخذت أقارن بينه وبين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد أحمد المهدي، والسيد السنوسي، ومحمد عبد الوهاب، فوصل بي البحث إلى أن الرجل قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعا، وأخذ خير ما عندهم، وأمكنه أن يتفادى ما وقعوا فيه من أخطاء. ومن أمثلة ذلكم أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين، جرى على أحدهما الأفغاني، وارتضى الأخر محمد عبده.
. . كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية. . وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين معا، وأن يأخذ بهما جميعا، كما أنه وصل إلى ما لم يصلوا إليه، وهو جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلى مذهب موحد، وهدف محدد.
ثم أخذت أتتبع خطوات الرجل بعد أن عدت من أمريكا وأنا مشغول به حتى أثير حوله غبار الشبهات حينا، مما انتهى إلى اعتقال أنصاره، وهي مرحلة كان من الضروري أن يمر بها أتباعه، ثم استشهاده قبل أن يتم رسالته.
وبالرغم من أنني كنت أسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئا حتى الآن، وأنه لم يزد على جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله، غير أن معركة فلسطين، ومعركة التحرير(987/10)
الأخيرة في القنال، قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة. . قل أن تجد لها مثيلا، إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية.
وقد تقرر أن الرجل كان بعيد الأثر في كثير من الأحداث العالمية التي وقعت في الشرق، بل إن ما وقع في إيران كان خليقاً أن يقع في كل بلدان الشرق، لو طال عمر هذا الرجل. . وكان يمكن أن يتحقق لهذه البلاد الكثير لو اتفق حسن البنا وآية الله كاشاني على أن يزيلا الخلاف بين الشيعة وأهل السنة.
لقد التقى الرجلان في الحجاز سنة 1948، ويبدو أنهما تفاهما ووصلا إلى نقطة رئيسية لولا أن عوجل حسن البنا بالاغتيال.
كل ما أستطيع أن أقوله في هذه المقدمة، أن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه، وهي المغريات الثلاث التي سلطها المستعمر على المجاهدين، وقد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه.
وقد أعانه على ذلك صوفيته الصادقة، وزهده الطبيعي، فقد تزوج مبكرا، وعاش فقيرا، وجعل جاهه في ثقة أولئك الذي التفوا حوله، وأمضى حياته القصيرة المريضة مجانبا لميادين الشهرة الكاذبة، وأسباب الترف الرخيص.
وكان يترقب الأحداث في صبر ويلقاها في هدوء، ويتعرض لها في اطمئنان، ويواجهها في جرأة.
لقد شاءت الأقدار أن يرتبط تاريخ ولادته وتاريخ وفاته بحادثين من اضخم الأحداث في الشرق، فقد ولد عام 1906 وهو عام دنشواى، ومات عام 1949، وهو عام إسرائيل.
وكان الرجل عجيبا في معاملة خصومه وأنصاره على السواء، كان لا يهاجم خصومه ولا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم إلى صفة، وكان يرى أن الصراع بين هيئتين لا يأتي بالنتائج المرجوة.
وكان يؤمن بالخصومة الفكرية، ولا يحولها إلى خصومة شخصية، ولكنه مع ذلك لم سيلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه، فقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة. .
كان الرجل يقتفي خطوات عمر وعلي، ويصارع في مثل بيئة الحسين، فمات مثلهم شهيدا.
وإنني على أتم يقين من أن أي حركة وطنية يمكن أن تظهر في الشرق بعد ذلك يمكن(987/11)
إرجاعها إلى المقاييس التي وضعها هذا الرائد العملاق.
ولا يستبعد أن نؤرخ به الحوادث بعد قليل. .
لقد سمعت الكثير من خصومه، وكان هذا طبيعيا، بل كان من الضروري أن يختلف الناس في رجل استطاع أن يجمع حوله هذا الحشد الضخم من الناس بسحر حديثه وجمال منطقه، وقد انصرف هؤلاء من حول الأحزاب والجماعات والفرق الصوفية والقهوات ودور اللهو.
وكان لابد أن يصبح هذا مثار حقد بعض الناس الذين أدهشهم أن يستطيع هذا الرجل المتجرد الفقير أن يجمع إليه مثل هذا الشباب.
ومن الأمور التي لفتت نظري أنه أخذ من عمر خصلة من أبرز خصاله، تلك هي إبعاد الأهل عن مغانم الدعوة، فقد ظل عبد الرحمن ومحمد وعبد الباسط، وهم أخوته بعيدين عن كبريات المغاصب، ولطالما كان يحاسبهم، كما كان عمر يحاسب أهله ويضاعف لهم العقوبة إذا قصروا.
وقد أتيح لي أن ألقي بوالده الوقور، الشيخ عبد الرحمن البنا، وسمعته يتحدث مع بعض الإخوان. أنه كان يتمنى لو أن ابنه وضع الكتب في أمر الإسلام واكتفى بذلك؛ وقد رد عليه الأستاذ البنا بأنه منشرح الصدر لمعالجة الإسلام عن طريق إنشاء الجماعات وتأليف الرجال
للكلام صلة
أنور الجندي(987/12)
1 - إندونيسيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(إنها لسلاسل متصلة من الحدائق الغناء)
سمو الأمير محمد علي
(إندونيسيا هي جزر الجنة)
إنها قطع من الماس تزين خط الاستواء
ملتا تولي
بهذه الصفات وصف الكتاب والجغرافيون إندونيسيا. ونحن في هذه الأيام في أشد الحاجة إلى أن يعرف بعضنا بعضا مما يؤدي إلى مزيد من التعاون بيننا؛ فربما كان في ذلك خير لنا وللناس جميعا. وقد تحدثت إلى القراء الكرام عن الباكستان، وهاأنذا أحدثهم عن إندونيسيا.
هناك في جنوب شرق آسيا وبينها وبين أستراليا تنتشر مئات من الجزر الكبيرة والصغيرة تداعبها أمواج المحيطين الهادي والهندي منذ أقدم العصور. . هذه الجزر هي إندونيسيا.
ولفظ إندونيسيا مركب من كلمتين: (إندو) ومعناها الهند (ونيسيا) ومعناها جزر. فإندونيسيا معناها جزر الهند. وكانت هذه الجزائر تعرف فيما مضى باسم جزائر الهند الشرقية، وكان العرب يطلقون عليها اسم جاوة، مع أن جاوة اسم لجزية واحدة من تلك الجزر المتعددة. وقد حاول الهولنديون تسميتها بالهند الهولندية ولكن الوطنيين رفضوا، واضطرت الحكومة الهولندية إلى الاعتراف رسميا باسم إندونيسيا في 23 أغسطس 1940 تحقيقا لرغبة الوطنيين الإندونيسيين.
وفي 17 أغسطس 1945 أعلنت إندونيسيا استقلالها، وجاهدت في سبيله، وأرغمت هولندا على الاعتراف به.
تتكون إندونيسيا من مئات من الجزائر يبلغ تعدادها أربعة آلاف تقريبا، ولكن أهمها: جاوه وسومطره وبورنيو وغينيا الجديدة (تريان) وسلبيس.(987/13)
وتبلغ مساحتها 743. 340 ميلا مربعا، أي قدر مساحة أوربا تقريبا، وعدد سكانها 72 مليونا منهم 95 % مسلمون، 5 % مسيحيون وبوذيون.
وهنا ملاحظة جديرة بالذكر وهي أن إندونيسيا بمعناها السياسي تشمل الجزائر التي كانت خاضعة لحكم هولندا ثم استقلت عنها وهي التي ذكرناها سابقاً. أما إندونيسيا بمعناها الجغرافي فتشمل: جزائر الفلبين وكانت خاضعة للولايات المتحدة الأمريكية ثم استقلت عنها؛ وجزيرة فرموزا وهي مقر حكومة الصين الوطنية حاليا؛ وشبه جزيرة الملايو وهي تحت حكم بريطانيا؛ وجزيرة مدغشقر وهي تحت الحكم الفرنسي.
ويتكلم الإندونيسيون اللغة الإندونيسية وهي لغة دولتهم الرسمية، ولكن اللغة العربية منتشرة تؤدي بها الصلاة ويقرأ بها القرآن وتخطب الجمعة ثم تترجم إلى اللغة الإندونيسية.
ومناخ إندونيسيا استوائي، ذلك أن خط الاستواء يمر بوسطها، فهذه الجزائر تقع بين خطي 20 درجة شمالا و20 درجة جنوبا. ولكن يجب أن نذكر أن ارتفاع سطح هذه الجزائر وإحاطة البحر بها كان لهما تأثير كبير في المناخ، فقد خففا من حدة الحرارة وجعلا مناخ هذه الجزائر جميلا معتدلا وهواءها ورطبا نقيا. والدليل على ذلك أن درجة الحرارة في جاكارتا (بتافيا) تتراوح بين 20 ?، 25 ? ويبلغ متوسطها الشهري فبراير ويناير 25. 3 وفي شهري يولية وأغسطس 25. 8 وفي هذه الشهور تكون الشمس متعامدة على خط الاستواء.
وفي هذه المنطقة تنعدم الفصول فالحرارة دائمة ولكنها تزيد نوعا عنه تعامد الشمس على خط الاستواء في مارس وسبتمبر وتقل نوعا في يونيه وديسمبر لأن الشمس تتعامد في هذين الفصلين على مدار السرطان والجدي.
والمطر في هذه المنطقة كما هو الحال في الأقاليم الاستوائية دائم، ولكنه يزداد في فصلي تعامد الشمس على خط الاستواء ويقل نوعا عند تعامدها على المدارين.
ونظرا لوفرة المطر والحارة غزر الإنبات في إندونيسيا، وهي غنية بمناظرها الطبيعية الساحرة، وتكر فيها البراكين والجبال الخضراء كما تكثر فيها البحيرات والأنهار التي تروي تلك الأرض الواسعة المنبسطة المكسوة بالسندس الأخضر الذي يعطي منظرا فردوسيا جميلا ورونقا سحريا أصيلا، وقد قال سمو الأمير محمد علي حين زار إندونيسيا(987/14)
(إنها لسلاسل متصلة من الحدائق الغناء).
وهذه الجزائر غنية بالإنتاج الزراعي والمعدني، فهي تنتج المطاط وجوز الهند والسكر والشاي والبن والتبغ والسكينا والتوابل والخيزران والأخشاب والأرز والفواكه والبترول والفحم والقصدير والرصاص والذهب والحديد.
وتنتج إندونيسيا 43 المطاط العالمي و32 قصدير العالم.
دولة إسلامية
يتجنى كثير من المستشرقين على الإسلام ويقولون عنه أنه دين انتشر بحد السيف. وليس أقوى في الرد على هؤلاء المفترين من ذكر قصة انتشار الإسلام في إندونيسيا. ذلك أنه معروف بداهة أن العرب لم يرسلوا حملة أو حملات إلى إندونيسيا لفتحها أو لنشر الإسلام بها. . وإذن فكيف دخل الإندونيسيون في الإسلام؟
وللإجابة عن هذا السؤال أحب أن أتحدث عن كثير من الإيجاز عن تاريخ إندونيسيا.
يعتقد بعض الجغرافيين أن الإنسان الجاوي كان أقدم أنواع السلالات البشرية التي وجدت في العالم. ويؤمن هؤلاء بأن موقع جاوة المتوسط في العالم مما ساعد على انتشار الإنسان في الكرة الأرضية، فجاوة سهلة الاتصال بأستراليا وبآسيا ومنها إلى أوربا وأفريقيا وأمريكا، ولكن هذه النظرية ما تزال في حاجة قوية إلى براهين تؤكد صحتها، وإن كان الثابت أن الإنسان الجاوي كان من أقدم سلالات الإنسان، فقد وجدت بقايا جثمانية يقدر عمرها بأربعين ألف سنة.
ويرجع أصل الإندونيسيون الحاليين إلى الجنس المغولي الطوراني. وقد هاجروا إليها من وراء جبال همالايا ووصلوا إلى الساحل الهندي ومن هناك ركبوا البحر إلى الأرخبيل الإندونيسي. وهناك هجرات أخرى وصلت إلى إندونيسيا عن طريق جنوب شرق آسيا والصين والصين الهندية.
وفي 545 م تعرضت إندونيسيا لهجرات أخرى من الهند، وتتابعت تلك الهجرات، واستوطن الهنود وتناسلوا حتى أصبحوا من أهالي البلاد الحقيقيين، وأقاموا فيها ممالك ودولا واسعة الأرجاء مترامية الأطراف، وكانت لها مستعمرات وأساطيل تشق عباب(987/15)
البحار، ووصلت تجارتها إلى الصين وأستراليا الشمالية وأفريقيا والهند وبلاد الفرس، ومن هنا كانت البضائع تنقل بواسطة القوافل إلى البندقية بإيطاليا عن طريق آسيا الصغرى ومنها توزع في سائر أنحاء أوربا.
وفي هذا العصر انتشرت الديانة الهندوكية في إندونيسيا وشيدت كذلك المعابد والتماثيل للإله بوذا، وكذلك تشبع الإندونيسيون بالثقافة الهندية واصطبغ المجتمع الإندونيسي الصبغة الهندية فظهر نظام الطبقات المعروف عند البراهمة: طبقات الكهنة ورجال الدين وطبقة الأشراف والحكام وطبقة التجار والصناع وطبقة العمال والرقيق.
ويسمى هذا العصر بعصر الديانة الهندية.
دخول الإسلام
ليس من السهل تحديد مبدأ دخول الإسلام في إندونيسيا، ولكنا نستطيع أن نحدده بالتقريب على قدر الإمكان. فقد ورد في بعض كتب التاريخ أن التجار المسلمين من الهنود والفرس والعرب قد وصلوا في القرن التاسع الميلادي إلى شبه جزيرة الملايو. وليس معنى هذا أن الإسلام دخل تلك المنطقة في ذلك الوقت، ولكن معناه أن الاتصال بدأ بين المسلمين وبين سكان تلك البلاد في ذلك القوت على وجه التقريب.
وتروي كتب التاريخ بعد ذلك أن أحد الأمراء المسلمين من الهنود قد هاجر إلى سومطرا وعرض على سلطانها أو أميرها الإسلام فأسلم ولقب بالملك الصالح وقد توفي هذا الملك 1297م.
ويؤيد هذا الرواية ما ذكره الرحالة الإيطالي ماركو بولو الذي زار سومطرا 1292 حيث قال (إن سكان مجن هذه المملكة مسلمون).
وهكذا نستطيع أن نقول إن الإسلام قد دخل إندونيسيا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
على يد من دخل الإسلام إندونيسيا؟ ليس من السهل تبيان ذلك على وجه التحقيق. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن التجار العرب هم أول من أدخل الإسلام؛ ويقول فريق آخر إن الهنود أول من نشر الإسلام في تلك البلاد، ويذهب فريق ثالث إلى أن الإسلام قد دخل إندونيسيا على يد علماء من الفرس، ويؤيدون ذلك بوجود بعض كلمات إندونيسية مشتقة(987/16)
من أصل فارسي.
ويذهب فريق رابع إلى أن الإسلام دخل إندونيسيا بواسطة التجار الإندونيسيين الذين وصلوا بتجارتهم إلى الخليج الفارسي حتى بغداد وغيرها من المدن الإسلامية، ثم بواسطة الهنود والفرس والعرب بعد ذلك.
ومهما يكن الأمر فإن دخول الإسلام في إندونيسيا لم يتم بواسطة سيف أو رمح وإنما على يد التجار المسالمين الذين دعوا الإندونيسيين إلى الإسلام فاستجابوا لهم ودخلوا في دين الله أفواجا.
وقد كانت سومطرا أول الجزائر دخولا في الإسلام ومنها انتشر في سائر أنحاء إندونيسيا، وبهذا انكمش ظل البوذية وأصبح 95 % من الإندونيسيين مسلمين.
وقد كانت الدولة الإسلامية التي قامت في إندونيسيا عظيمة قوية، وظل المسلمون سادة إندونيسيا حتى بدأت النهضة الأوربية الحديثة، وكشف طريق رأس الرجاء الصالح وتكالبت الدول الأوربية على الاستعمار. هنا بدأ صراع رهيب بين الهولنديين الذي عملوا على استعمار إندونيسيا وبين الإندونيسيين، وقد انتهى النزال بسيادة هولندا على حكام تلك الجزائر. ولكن الشعب الإندونيسي ظل يقاوم. وقد تعرض دعاة النهوض من أبنائه لكثير من الأذى والاضطهاد، فقد سجن ونفي الكثيرون، وعذب وشرد آخرون، ولكن الإندونيسيين صبروا والعقبى للصابرين.
ذلك أنه في 1940 دخلت اليابان الحرب وبدأت تستولي على الممتلكات الأوربية في جنوب وشرق آسيا، فاستولت على الصين وعلى الصين الهندية وعلى إندونيسيا وطردت الهولنديين ووقفت على أبواب الهند.
وفي 1945 هزمت اليابان وسلمت. حاول الهولنديون أن يعودوا إلى حكم الإندونيسيين، ولكن الإندونيسيين أعلنوا استقلالهم في 17 أغسطس 1945. حاولت هولندا إرغام الإندونيسيين على عودة الحكم الهولندي، ولكن الإندونيسيين استبسلوا في الدفاع عن حريتهم وهزموا الهولنديين، واضطرت هولندا إلى الاعتراف باستقلال إندونيسيا في 17 أغسطس 1949. مرديكا.
للبحث صلة(987/17)
أبو الفتوح عطيفة(987/18)
أبو العتاهية
للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي
أبو العتاهية والرشيد:
ليس يعنينا من حياة الشاعر في عهد موسى الهادي إلا ما أظهره الأول من قصر النظر ونكران الجميل، فقد كان الشاعر أثناء حكم المهدي صنيعة من صنائع هارون الرشيد، وكان ذلك بالطبع بغضب الهادي للمنافسة التي كانت بين الأخوين. وم يكد الأخير يلي الحكم حتى أقبل عليه الشاعر إقبال المنقطع إليه، وأعرض عن هارون بل آذاه إيذاء مريراً لا ضرورة إليه ولا مبرر له. . انظر إليه كيف يعرض بهارون في أبيات قالها مهنئاً الهادي بمولود:
أكثر موسى غيظ حساده ... وزين الأرض بأولاده
وجاءنا من صلبه سيد ... أصيد في تقطيع أجداده
كأنني بعد قليل به ... بين مواليه وقواده
في محفل تخفق راياته ... قد طبق الأرض بأجناده
من ذلك الحاسد الذي أكثر موسى غيظه؟ أليس ذلك الحاسد هو الرشيد؟ إننا لا نشك في أن ذلك هو مراد الشاعر؛ إذ أن نزاعاً مريراً كان قائماً إذ ذاك بين الرشيد والهادي بسبب محاولة الأخير تولية ابنه جعفر العهد بدلا من هارون ولي العهد الشرعي.
فليس عجيباً والحال كذلك أن يبادر الرشيد بإرسال أبي العتاهية إلى السجن عقب تولية الخلافة عقاباً له على ما أظهره من نسيان للجميل وخروج على مقتضيات اللياقة. بل العجيب حقا أن يذكر صاحب الأغاني أن الرشيد إنما أرسل الشاعر إلى السجن لامتناع الأخير عن إنشاد شيء من الشعر له، وما امتنع فيما يرويه الأغاني إلا حفظاً لعهد الهادي وضنا بشعره أن ينشد لأحد من بعده، وكيف يصبر الرشيد على هذا العبث، بل كيف ينسى للشاعر تعريضه به في شعره وهو الذي قتل أبا عصمة رئيس حرس جعفر بن الهادي لقوله له يوماً وقد قابل جعفر على أحد جسور بغداد: - (انتظر حتى يمر ولي العهد).
ومهما يكن من أسباب تلك الجفوة القصيرة فقد عادت الحال بين الرشيد والشاعر إلى ما كانت عليه من قبل، ونسي الخليفة أو تناسى ما كان من سوء أدب الشاعر وقلة وفائه.(987/19)
والحق أن هارون كان مضطرا إلى مثل ذلك التغافل والتجاوز عن سيئات الشاعر إذ لم يكن له غنى عنه. فهارون مولع الفتيات الحسان يحادثهن ويختلط بهن ويسمع إليهن ينشدن الشعر ويغنينه أو يعزفن على نغماته، وما أكثر ما يجيش في صدر الخليفة من عواطف أو يعتلج بباله من خواطر نتيجة لاختلاطه بأولئك الجواري الحسان. وما أشواقه إلى أن يرى خواطره وقد ترجمت في شعر عذب وصارت أغاني وأناشيد تصدح بها جواريه الفاتنات. يروى لنا التاريخ - وما اقل ما يروي بجانب ما يهمل - أن الرشيد ربما أنشد البيت أو البيتين محاولا التعبير عن فَكرة أو خاطر خطر له ثم يكل ذهنه، وهناك يتلفت إلى من حوله من الشعراء علهم يسعفونه بإتمام ما بدأ. ويروي التاريخ أيضاً أنه ربما أعجب الرشيد بالبيت أو البيتين من الشعر وشرب عليهما وطرب وتمنى أن لو وجد من الشعراء من يلحق بهما بيتاً أو أكثر حتى يطول طربه وسروره، ومن أولى الناس بالجلوس إلى جانب الخليفة وإسعافه في مثل تلك الحال من أبي العتاهية الذي يقول فيه بشار بن برد وقد عجب من سرعة خاطره وسهولة قول الشعر عليه: (أشعر الناس مخنث أهل بغداد الذي يتناول شعره من كمه)
على أن شيئاً آخر كان يزيد في تعلق الرشيد بأبي العتاهية وشغفه بشعره وذلك هو حبه لعتبة، فقد خلق ذلك الحب بين الشاعر والخليفة نوعاً من المشاركة الوجدانية حيث كانا يجتمعان فيشكو كل منهما ما يلاقي في سبيل غرامه. ولعل الأبيات التالية تصور لنا أدق تصوير ما كان بينهما من علاقة في ذلك الشأن، وقد بلغ من تذوق الخليفة لتلك الأبيات وإحساسه بصدق معانيها أن أمر بإحضار الشاعر من سجنه وطلب إليه أن يعيد إنشادها على مسامعه ثم أمر له بخمسين ألف درهم على أثر سماعها، وإليك الأبيات: -
يا عتب سيدتي أمالك دين ... حتى متى قلبي لديك رهين
وأنا الذلول لكل ما حملتني ... وأنا الشقي البائس المسكين
وأنا الغداة لكل باك مسعد ... ولكل صب صاحب وخدين
لا بأس إن لذاك عندي راحة ... للصب أن يلقى الحزين حزين
أحس أبو العتاهية حاجة الرشيد الشديدة إليه فداخله شيء من الغرور والبطر، ولم يعد يكفيه أن صار جليس الخليفة وشاعره الأول، وفي ذلك ما فيه من تكريم، ولا أن يتناول كل عام(987/20)
خمسين ألف درهم عدا ما يتفضل به الخليفة من منح وعطايا في شتى المناسبات، بل أخذ يلح عليه في أن يزوجه من عتبة، ولم لا؟ لقد كانت عتبة فيما مضى تعتذر عن الزواج بأنها كانت تخشى غضب المهدي أو زوجه. . أما الآن وقد ماتا وأصبح أمها بيد هارون فما الذي يقف في سبيل زواجه منها؟ ولم يكن الرشيد متحمساً لذلك الزواج، ولعله كان يعرف من أمر عتبة الشيء الكثير، وبعلم مقدما أنها لن توافق عليه، ومن ثم أخذ يكسب الوقت بإعطائه ميعاداً إثر ميعاد، واستمرت الحال على ذلك عشر سنوات كاملة. عشر سنوات ملأت الشاعر نقمة على ذلك الخليفة الذي يشرب ويطرب على ما أنشده الشاعر في عتبة من أشعار أودعها ذوب قلبه وعصارة نفسه، ثم لا يتحرك لإنقاذه أو يخف لتخفيف آلامه. نعم يروى المؤرخون أن الرشيد زار عتبة يوما من الأيام وفاتحها في شأن الزواج من أبي العتاهية فرفضت، فعاد الخليفة أدراجه واعتبر الأمر منتهيا. وما كان الشاعر من السذاجة بحيث يعتقد أن هارون مع ما كان عليه من بطش وجبروت قد عجز عن أن يحمل عتبة على الزواج منه لو أنه أخذ الأمر بشيء من الحزم والجد. وهكذا وقر في نفس الشاعر أن عشر سنوات كاملة كلها إخلاص وتفان في خدمة الرشيد ما كانت لتوجب للشاعر عليه وقفة واحدة حازمة، وقفة لو أنها تمت لغيرت من حياة الشاعر وذهبت بكل ما كان يعانيه من بؤس وحرمان، وما يحسه من ضعة وهوان. ومن الحق أن يقال إن عتبة لن تكن في نظر الشاعر مجرد فتاة ينالها أو يفشل في الحصول عليها، وما كان أهون خطبها لو كانت كذلك، فما أكثر أولئك الذين يحبون ويفشلون ثم لا يغير ذلك الفشل من مجرى حياتهم أو يضع من أقدارهم أو يسئ علاقتهم بغيرهم، ولكن لشاعرنا ظروفا خاصة. فقد كان فشله في الزواج من عتبة الدليل الواقعي على صحة ما كان يهجس في نفسه وما يتحدث به أعداؤه ومنافسوه من أنه وضيع بحكم مولده ونشأته. . وأن أي نجاح أدبي أو ثراء مادي لن يغير من تلك الحقيقة شيئا. . ومكن ذلك المعنى في نفسه إشارة عتبة أثناء رفضها الزواج منه إلى نشأته المتواضعة. ومن ثم ود الشاعر لو بدد تلك الهواجس التي كانت تلاحقه واكتسب ثقة بنفسه عن طريق الزواج من عتبة.
ونعود إلى هارون فنرى الشاعر وقد مل مقامه عنده وغناءه له، وتمنى أن لو وجد بابا غير بابه يذهب إليه، وقد سنحت له الفرصة سنة ثمانين ومائة للهجرة، فقد تولى الفضل بن(987/21)
الربيع حجابة الرشيد في تلك السنة، وأخذ يضع الخطة لتقويض سلطة البرامكة، وسلاحه الأول في ذلك الدس والوقيعة، ذلك السلاح الفتاك الذي استعمله والده بنجاح ضد منافسه أبي عبيد الله وزير المهدي. ولكمن أنى له ذلك وهارون وجعفر البرمكي روحان في بدن واحد وجالس المنادمة والغناء تجمع بينهما من يوم لآخر، فإذا ما شربا وطربا تكاشفا حتى لا يكاد يخفي أحدهما عن أخيه شيئاً. فكيف يكون الحال لو كذب الفضل كذبة أو افترى فرية وألقى بها في أذن الرشيد فاكتشفها جعفر ولما تعمل عملها في نفسه بعد؟
لابد إذن لضمان نجاح خطة الفضل والتأكد من سريان سمومه في ذهن الرشيد ومن وضع حد لتلك المجالس الصاخبة التي تجمع بينهما، فلينتزع الفضل من مجلسهما إذن أبا العتاهية حتى لا يشيع البهجة والمرح فيه بما يمدهما به من شعر الغناء، بل ولتوحد الوسيلة للتشهير بتلك المجالس، وليذكر الناس بما فيها من مخالفة للدين، ولتوضع الأشعار للتنفير منها وممن يرتادها من الناس.
ومن أولى بأداء تلك المهمة من أبي العتاهية فهو ساخط على الرشيد بل ساخط على الحياة والأحياء جميعا، وهو رجل حريص يحب المال ويسعى إليه ولا يبالي يما يركبه من أهوال في سبيل الحصول عليه، وهو قبل كل ذلك شاعر مطبوع قادر على قول الشعر في كل فن وبكل مناسبة. فاتح الفضل أبا العتاهية في ذلك الأم، وأيأسه من هارون ومن عتبة ووعده الحماية من كل سوء أو مكروه يصيبه بسبب إعراضه عن الرشيد وهجره لمجالسه، ووعده إلى جانب ذلك مالاً كثيراً إن أنصت إليه واستجاب لرجائه. وانضمت زبيدة إلى الفضل، فهي حريصة على وضع حد لمجالس اللهو والطرب التي كان يجلسها الرشيد لأسباب لا تقل وجاهة عن تلك الأسباب التي حملت الفضل على بغضها والعمل على فضها، إذ أن تلك المجالس تجمع بين الرشيد والجواري الحسان من مغنيات وراقصات وعازفات، وفي ذلك ما فيه من استهواء للرشيد وشغل له عن زوجه وابنة عمه زبيدة.
وما إن سمع الشاعر ذلك العرض حتى قرر أن يقف من الرشيد موقفاً حازماً لا تردد فيه ولا هوادة، فأخبر الرشيد أنه لن يقول شعراً في الحب ما لم يخط خطوة عملية في شأن تزويجه من عتبة التي تلهمه ذلك الشعر.
وتعقد الموقف حين ثارت ثائرة الرشيد. . فأمر بإرسال أبي العتاهية إلى السجن وأقسم إلا(987/22)
يخرجه منه حتى يقول شعرا. وهنا أقسم الشاعر أيضاً أنه لن يتكلم سنة إلا بالقرآن أو. . . لا إله إلا الله، وتلك حيلة بارعة من الشاعر. . فهو يعطي الخليفة سنة كاملة كي يصحح موقفه فيها فإن رجع لصوابه وزوجه من عتبة عاد إلى حظيرته. . وإن أبى إلا إهمال الشاعر والاستهانة بشأنه انضم إلى معسكر الفضل وزبيدة غير آسف ولا متردد، ولم ينس الشاعر أن يكتب إلى الخليفة من سجنه بأشعار ذات مغزى واضح، أنظر إليه وهو يجادل الرشيد جدالا منطقياً ويعجب له كيف يطلب إليه أن يقول شعراً في الحب وقد حرمه من عتبة التي كانت تلهمه ذلك الشعر: -
وكلفتني ما حلت بيني وبينه ... وقلت سأبغي ما تحب وما ترضى
فلو كان لي قلبان كلفت واحداً ... هواك وكلفت الخلى لما يهوى
ثم انظر إليه وهو يذكر الرشيد بمواعيده التي لا تنتهي إلى غاية: -
يا رشيد الأمر أرشدني إلى ... وجه نجحي لا عدمت الرشدا
وابلائي من دعاوى أمل ... كلما قلت تدانى بعدا
وأمني بغد بعد غد ... ينفد العمر ولم ألق غدا
ومضت السنة ولم يستجب الرشيد أو قل لم تستجب عتبة لدعاء الشاعر الذي لم يجد بدا من الانضمام إلى المعسكر الآخر، متخذاً لنفسه أسلوباً جديداً في الحياة، يفي بأغراض زبيدة والفضل ويقضي حاجات في نفسه هو، وتلك الحاجات هي التنفيس عن عواطفه المكبوتة، والتعبير عما بكنه للحياة والأحياء من سخط ونقمة.
وبعد فقد بينا هنا ما كان للفضل وزبيدة من أثر في ذلك الانقلاب الذي طرأ على الشاعر سنة ثمانين ومائة للهجرة، وسنكشف في المقال التالي بعون الله تعالى عما لدينا من أدلة تثبت أن اتفاقاً كهذا قد تم بين الفضل وزبيدة من جهة وأبي العتاهية من جهة أخرى.
دكتور محمد الكفراوي(987/23)
تاريخ الحركة العلمية الحديثة في حضرموت
للأستاذ أحمد عوض باوزير
قبل خمسين عاما، أو أكثر كانت (حضرموت) تعيش في عزلة تامة عن تطورات الثقافة في الأقطار العربية. وكانت دور (الكتاتيب) التي عاشت إلى وقت متأخر جدا هي كل ما هناك من مظاهر الحياة العقلية والعلمية.
ويجوز أن تكون (حضرموت) قد عرفت من مظاهر الحياة العلمية والعقلية غير هذه (الكتاتيب). إلا أننا لا نستطيع أن نحدد، من الناحية التاريخية، معالم تلك الحياة، أو نتبين آثارها الأدبية. فإن دراسة تاريخ الحياة الأدبية، والسياسية، والعقلية في حضرموت ليس من المتعذر فحسب وإنما كذلك عمل شائك لا يخلو من المفارقات والملابسات.
ونحن لا نريد أن نتبع مذهب (ديكارت) في هذه الدراسة العلمية، أو مذهب (الشك) كما يسميه الدكتور (طه حسين)؛ لأننا في فجر هذه النهضة الحديثة نطمع في الظفر بمعلومات أوفى، عن مظاهر الحياة العقلية، والعلمية. ولقد سررنا كثيرا، للفتوحات الجديدة، في التأليف عن التاريخ العام لحضرموت، وهي الفتوحات التي بدأها الأستاذ (صلاح عبد القادر البكري) حين أخرج كتابه (تاريخ حضرموت السياسي) وهو تعريف موجز بالحكومات السياسية، التي تعاقبت على (حضرموت) منذ صدر الإسلام إلى أواخر عهد السلطنات القائمة.
أما بعد: فإن (الكتاتيب) التي أثبتنا أنها كل ما بقي لنا من مظاهر الحياة العقلية والعلمية، فيما قبل الخمسين عاما الماضية لا ينفي أن يكون هناك من (النوابغ) من كانت ظروف حياته المعاشية أو أحاول استعداده الفطري قد أعانته على التفوق في العلوم الدينية والعربية، غير أن هذه (الحالات) الفردية لا يصح أن تكون مرآة صادقة للحياة العقلية والأدبية.
والذي يمكن الاطمئنان إليه في معرفة نشأة الحياة العقلية، في (حضرموت) هو أن ظهور المدرسة القديمة، أو ما يسمونه (بالمجامع العلمية)، في أوائل القرن الرابع عشر الهجري كان بداية طبيعية لتلك الحياة. وهذه (المجامع) تشبه إلى حد ما في نظام دراستها، تلك الجوامع القديمة التي كانت منتشرة في حواضر الدولة العباسية.(987/24)
وأشتهر هذه (المجامع) التي نريد التنويه بفضلها هو (مجمع الشاطري) في سيئون، ومجمع (ابن سلم) في الفيل، ومجمع (مشهور) في الشحر. والمجمعين الأولين، أكثرهما تأثيرا في الحياة العقلية، وأبعدهما خطرا، في الحياة الاجتماعية. وإليهما ينتسب أغلبية (المتعلمين) من ذوي الكفاية النادرة، والإنتاج الرفيع. وقد كان يقوم بتدريس اللغة العربية، وأصول الشريعة الإسلامية فيهما أساتذة قديرون حذقوا تلك (الاختلافات) في المسائل الفرعية التي امتلأت بها كتب (الحواشي) المطولة و (الشروح) التقريرية.
ويكفي للتدليل على أهمية هذه (المجامع العلمية) أن يكون من خريجيها أمثال السيد (ابن هاشم العلوي) والمرحوم الشيخ (عبد الله محمد بن طاهر) والأديب المؤرخ (سعيد عوض با وزير) والسيد (محسن جعفر بوفمي). وغيرهم كثيرون.
وهذا لا يمنع أن يكون لدينا من الملاحظات عن هذه (المجامع العلمية) ما يفيد في تصوير الأحوال، داخل هذه (الجوامع). وهي ملاحظات استخلصناها أثناء مراجعاتنا للأنظمة التعليمية في المدة الحاضرة، وأولى هذه (الملاحظات) هو ما نسميه اليوم (بفوضى المناهج) فالطالب في هذه (المجامع) لا يمكن أن يتقيد (بالزمن) سواء أكان في التحاقه، أو في الأعوام الدراسية أو في مواعيد حضوره وغيابه.
وقد يبدو أن هذه (الملاحظة) ليست على شيء من الأهمية، أو الخطورة والعكس - في نظرنا - هو الصحيح. فإن هذه (الفوضى) تكون قد حرمت الكثير، الفرصة للاستفادة من (المواعيد) ولذلك تضطرهم إلى البقاء داخل هذه (الجوامع) أعواما أطول.
وثاني هذه (الملاحظات) أن هذه (الجوامع) تسرف كثيرا في مناقشة (الآراء) المتضاربة أو ما يسمونه بأقوال (الحواشي) وهي أقوال عديمة الفائدة، وتؤثر في نفسية (الطالب) تأثيرا خطيرا ينتهي به إلى (الفناء) وسط تلك (الحواشي) ويبعده عن الجوهر والعرض.
وهناك غيرهما من (الملاحظات). غير أننا لسنا بصدد الدراسة الخاصة. وفي هذا القدر الذي أثبتناه ما يكفي للتعريف بأحوال (المجامع) ونظام دراستها.
وظهرت في هذه الأثناء (المدرسة الحديثة) وهي تختلف تمام الاختلاف عن نظام الدراسة في تلك (المجامع العلمية). وأولى هذه المدارس هي مدرسة (الدباغ) في المكلا. وكان قد دعا إلى تأسيسها السيد (حسين آل الدباغ) وهو من الحجازيين الذين فروا على أثر الحملة(987/25)
النجدية الوهابية.
وأنشأت (مدرسة الدباغ) في المكلا فرقة للكشافة، كانت أول فرقة منظمة. كما قد أجازت تعليم (الجغرافيا) و (التاريخ) و (الأشياء) وهي العلوم التي كانت (العامة) تعتقد أنها تفسد الدين، وتؤذي (الأسلاف). .
وعلى أثر ارتقاء عظمة السلطان (صالح بن غالب القميطي) عرش السلطنة القميطية، تغيرت الحياة العلمية تغيرا كبيرا. واقترن عهده (الزاهر) بالنهضة الحديثة التي سنأتي على وصفها في النبذة التالية: -
وقبل الإفاضة في الحديث عن مقومات النهضة الحديثة نعود إلى ذكر الحكومات السياسية المعاصرة التي تحكم (حضرموت). وهي الحكومات التي ترتبط و (الدولة البريطانية) بمعاهدة التحالف والصداقة، وأكبر هذه الحكومات نفوذا، وأوسعها رقعة. هي الحكومة (القميطية). ويتولى عرش هذه الحكومة، عظمة السلطان (صالح بن غالب القميطي) وهو يحكم القطاع الساحلي، ومناطق أخرى في البلاد الداخلية؛ وأشهر مدنها (المكلا). وهي من الموانئ الهامة في جنوب الجزيرة العربية، وعاصمة الحكومة القائمة. و (الشحر) وهي المدينة التاريخية القديمة. و (الفيل) وهي من المناطق الزراعية، ومركز النهضة العلمية الحاضرة. و (شيام) وهي مدينة التجارة.
وثاني هذه (الحكومات) هي الدولة الكثيرية. وهي من الحكومات القديمة التي يعود تاريخها إلى أواخر القرن الثامن الهجري. ورئيس الحكومة الحالي هو السلطان (حسين بن علي بن منصور الكثيري) و (تريم) و (سيئون) وهما من المراكز العلمية والأدبية في تاريخ النهضة - يخضعان (للحكومة الكثيرية) والأولى من المدة التاريخية القديمة، والثانية عاصمة الحكومة الحاضرة، ومهبط الأدباء، والمؤرخين من المحدثين.
وهناك غيرهما من الحكومات. وهو ما نسيمه بالحكومة القبلية. ولكن هذه الحكومة آخذة في الزوال بفضل سياسة دار المستشار البريطاني المقيم التي دأبت على نشر الأمن العام والقضاء على العصاة، من الخارجين عن الحكومتين، الفعليتين.
ولعل من أبرز مقومات النهضة الحديثة، في بلدان السلطنة القعيطية، هو تلك الجهود الصادقة التي يبذلها عظمة السلطان لتشجيع الحركة العلمية والاقتصادية. فقد ظل يتغشاهما(987/26)
برعايته ويتعدهما بتوجيهه وإرشاده. وكان قد عهد إلى دار المستشار البريطاني المقيم في وضع تقرير شامل لإصلاح التعليم. ووضع هذا التقرير، عميد معهد التربية بالسودان المستر (قرفت) بدعوة من الحكومة القعيطية، ووكل المستر قرفث إلى الأستاذ (القدال) تنفيذ تلك المقترحات. وهو من المواطنين السودانيين.
والأستاذ القدال هو الذي تولى بعد ذلك، سكرتارية الدولة القعيطية. بعد أن أمضى عشر سنوات، في خدمة التعليم بحضرموت، وتم في العشر السنوات الماضية 1939 - 1951 توحيد المنهج العام وترميم المدرسة الوسطى. وإنشاء مدرسة المعلمين والثانوي الأصغر والمعهد الديني الجديد. ووسعت خزينته الدولة الإنفاق على هذه المشاريع العلمية، كما استجلبت عددا من الموظفين السودانيين للعمل على تنفيذ توصيات المستر قرفت بشأن تقدم التعليم.
وقد تم في السنوات الخمس الماضية إيفاد المبعوثين من خريجي التعليم الأوسط، إلى المدارس الثانوية في مصر، والسودان، وسرويا، والعراق. وقد عاد بعض هؤلاء إلى حضرموت والتحقوا بالمصالح الحكومية في الدولة.
ومن المآثر الطيبة التي خلدها عظمة السلطان، هو تأسيس المكتبة السلطانية بالمكلا، وهي من المكتبات الشهيرة، وتضم من المؤلفات القديمة والحديثة ما يربو على الثلاثة الآلاف في مختلف الفنون والعلوم.
وعلى الرغم من النقص المالي الذي تعانيه خزينة الدولة الكثيرية فإنها لم تقصر في العناية، بالشؤون التعليمية. فقد أنشأت المدرسة السلطانية في سيئون. وتولى إدارتها على التوالي، السيد محمد بن هاشم العلوي والسيد علي بن شيخ بلفقيه، وتدرس الحكومة الحاضرة مشروعا جديدا. لإنشاء نظارة للمعارف. وأعربت دار المستشار البريطاني عن استعدادها لتقديم الإعلانات المالية لهذا الغرض. ويقوم السيد علي بن شيخ بلفقيه في هذه الآونة بدراسة نظام التعليم الحالي في مدارس الدولة القعيطية، وهو من المتحمسين للفطرة والداعين إلى الوحدة.
وهناك غير هذه المدارس الرسمية في الحكومتين المدارس الأهلية، وهي تسير وفق مناهج خاصة، مقتبسة من مناهج التعليم في البلاد العربية، ولا يزال التعليم الأهلي يفتقر إلى(987/27)
الجهود الكثيرة، والإعانات المالية، ليؤدي رسالته العامة على الوجه الصحيح.
ويقترح الأستاذ صلاح عبد القادر البكري في كتابه الجديد عن رحلته في جنوب الجزيرة العربية، أن يقوم المسئولون، في نظارة المعارف على إجراء تعديل شامل، في المنهج السوداني ليتمشى والأحوال الطبيعية، والتربوية في حضرموت.
هذا هو تاريخ الحركة العلمية الحديث. في حضرموت. أجملناه في هذه الصفحات. وهو تعريف بأوجه النشاط العلمي والثقافي في الخمسين عاما الماضية من تاريخ حضرموت. نرجو أن يفيد في التعريف، بهذه البلاد العربية، التي تسعى حثيثا إلى النهضة والرقي.
أحمد عوض باوزير(987/28)
رسالة الشعر
ربيع الشاعر. .
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
من أي عهد عتقت نشواتي ... سكر الرحيق وعربدت كاساتي
ما الخلد، ما روضاته، ما السحر ما ... آياته. . من هذا الآيات
ما العود ما رناته، ما الناي ما ... حناته. . من هذه الحنات
ما الظل، ما أفياؤه، ما النور ما ... لماحه. . من هذه اللمحات
دنيا من الألق العلي تنزات ... من أفقها السامي لغور حياتي
فإذا الربيع يلفني بصفاته ... وألفه بمشاعري وصفاتي!
وإذا حياتي جنة. جل الذي ... قد صاغها من صحوة وسبات
ينساب فيض العطر بين زهورها ... كمشاعري تنساب منتشيات
كمشاعري رشفت سلاف ربيعها ... حسا، وكم سكرت من الرشفات
فهتفت من فرط لهيام وعربدت ... كأسي وجن الخمر من نشواتي
أنا من ربيعك يا وجود فلا تدع ... صنو الربيع يهم في ظلمات!
علمتني أن الحياة حقيقة ... ضحكت فهل علمتني ضحكاتي؟
هذا الربيع اليوم لست أحسه ... وهماً، ولكني أحس حياتي
قد كان يعبر بي كلمحة واهم ... اليوم أعبره وبي صبواتي
الكون هذا الكون بين مشاعري ... والغيب سر الغيب في خطراتي
إني أحسك يا ربيع بكل ما ... يبدو لعيني رائع القسمات
فإذا مضيت إلى التراب ولفني ... أصلي، وعدت إلى الظلام العاتي
وفقدت كل معالمي ومظاهري ... غير انطلاق الروح بعد مماتي
سأرى الحياة هدى وأدرك كنهها ... معنى. ويسعد صمتها سكناتي
وأعود في قبل الندى لزهوره ... لأرى الربيع الطلق في سبحاتي
وأسير في الدنيا ربيعاً خالداً ... سكب الذي ولى بكأس الآتي
من ذلك النشوان يخطر في الربى ... ثملا، فيسكرها صدى الخطوات(987/29)
تتفجر البيداء من خطواته ... ماء، وتنبت رائع الزهرات
من ذلك الفنان، بعثر روحه ... وفؤاده في السهل الربوات
فإذا السراب حقيقة وإذا الصدى ... لحن يفيض بأقدس النغمات
من ذلك الخلاق من أجرى الهوى ... والسحر من أحيا جديب حياتي
فإذا حياتي والربيع جديدة. . ... وإذا ربيعي بالحياة موات!!
من ذلك المستور راح يهزني ... هزا، ويغمر نشوة جنباتي
كحقيقة خفيت على ولم تزل ... أسرارها تنساب في خطراتي
وأكاد أدركها بقلبي صورة ... كملت، وإن عزت على نظراتي
كالله لست أراء، لكن كل ما ... يوحي به يهتز في جنباتي
ألقاه في حلمي وفي صحواتي ... وأراه في صمتي وفي سجداتي
هو خالق الجنات، إن صفاته ... سطعت ربيعا عاطر الجنات
وترى الحياة كأن روحاً طائرا ... يهفو بها نشوان في لهفات
تتخطر الأنسام بين رياضها ... كتخطر الأنغام في صدحات
وتذيبني وأذيبها وأكاد من ... وله القصيد أذوب في أبياتي
هذا ربيع الملهمين فغني ... شعرا ندي الروح واللفتات
أنا قد ولدت مع الربيع فلا تسل ... عني وسل إن شئت عنه حياتي
الشعر ألف بيننا بفنونه ... والحب صورنا من الصبوات
والشعر ذوب مهجتي بكؤوسه ... وأسال أكؤسه على طرقاتي!
فمفاتن الإلهام فوق عيونه ... وروائع الأشعار في خطواتي!
يا ومضة من عالم قد أشرقت ... جنباته نشوى من الومضات
يا قبلة تركت على ثغر الربى ... زهر الحنان وحنة الزهرات
يا مهبط الوحي الشرود تدفقت ... آياته بالوحي متنشيات
يا نبضة الحيوات في قلب الدنا ... قلبي بحبك واله النبضات
يا شاعرا بعث الوجود قصيدة ... سجد الوجود لها من اللهفات
يا مهجة طهرت ففاض نقاؤها ... سحراً يبث الطهر في المهجات(987/30)
الله صورنا نقاء طاهراً ... والله طهرنا من النزوات
وأسال في جنبيك خمر حنانه ... وأسال خمرك في منابع ذاتي!
فإذا كؤوسك روضة وإذا الطلى ... عطر يضوع بأقدس النفحات
وإذا حياتك فرحة تجتاح ما ... يجتاح نفسي من جوى وشكات
تأسو إذا جرح الشتاء وكم سرت ... لمسات كفك في الربى حبوات
عجبا يكاد الترب ينبت ألسنا ... تشدو الحياة وأعينا ألقات
كم مجدب فجرت ميت صخوره ... مهجا تراقص أغصنا ثملات
فغدا زماني حانة ندمانها ... أنا والربيع، فهات خمرك هات
حسين البشبيشي(987/31)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حول محاضرة عن شعر أبو الوفا:
دعينا يوم الخميس الماضي إلى سماع محاضرة للدكتور إبراهيم ناجي بك بجمعية الشبان المسيحية، عنوانها (سيكولوجية شعر محمود أبو الوفا).
والدكتور ناجي له جولات موفقة في التعليلات والتحليلات النفسية، والأستاذ محمود أبو الوفا شعره حبيب إلى النفس.
لذلك كنا نتوقع أن ينال شعر أبو الوفا عناية العالم النفسي والأديب الكبير إبراهيم ناجي، ولكنا سمعنا بحثا تسعة وتسعون في المائة منه كلام في تعريف الشاعر والفرق بينه وبين الناثر، والواحد الباقي من المائة في شعر محمود أبو الوفا. . قد وصل إليه من حيث قال إن الكلمات العادية الجارية على الألسن يتناولها الشاعر فيبعث فيها الحياة ويكسبها إشعاعات يبلغ بها عواطف الجماهير، وكذلك أبو الوفا.
وقام - بعد محاضرة الدكتور ناجي التي ألقاها نائب عنه إذ اعتذر هو من عدم الحضور - الأستاذ حليم ديمتري، فتحدث عن (عنوان النشيد) للأستاذ أبو الوفا حديثا خلط فيه قليلا من الكلام على هذا النشيد وكثيرا من الكلام الذي يقصد به الدلالة على غزارة العلم وسعة الاطلاع! ثم ألقى النشيد كله وهو نحو ثلاثمائة بيت، وقطعا أخرى للشاعر، حتى استغرق ذلك نجو ساعة أمل فيها كل الإملال، لا بالشعر نفسه بل بما صنع في إلقائه. . ويظهر أن الأستاذ ديمتري لم يمرن لسانه على النطق الفصيح وبخاصة نطق الشعر، وقد حطم الأوزان تحطيم الأصنام. .
والعجيب أن الأستاذ ديمتري طرق موضوع التحرر من الأديان التي يراها قيودا عائقة في الحياة. على أساس فهم غريب للأبيات الآتية، وهي من (عنوان النشيد) حيث قال أبو الوفا في حوار بينه وبين الروح التي يستلهمها.
قلت: قل لي يا أخا الروح الرفيعه
ما لزوم الدين أو أي شريفه
لنفوس الناس ما دامت رفيعه(987/32)
حين أن النفس مذ كانت ولوعه
بالتسامي والتعالي بالطبيعة؟
قال: لما لا ترى النفس الوضيعه
ثم، أخلوا الأرض من كل شريعة
إنما، والنفس ما زالت رضيعه
من أب سوء، ومن أم وضيعه
كيف ترك الدين أو نلغي الشريعه
إلى أن قال:
إنما الأديان آداب رفيعه
وهي تفسير جميل للطبيعه
فهم السيد ديمتري من هذه الأبيات ومن مثيلات لها في (عنوان النشيد) أن الشاعر يدعو إلى نبذ الأديان! وما كنت أظن أن مثله يحتاج إلى أن أقول له إن الشاعر يقول: إذا كنت لا ترى في هذه الدنيا نفسا وضيعة وكان إنسانها كاملا فلا مقتضى للدين والشريعة، ولكن الناس هم كما نراهم في ضعتهم ودناياهم، فكيف نستغني عن الأديان ذات الآداب الرفيعة وهي تفسير جميل للطبيعة. .؟
ولم يكن لائقا من السيد ديمتري أن يصول ويجول في ميدان (اللادين) وهو يتكلم في جمعية دينية!
وعلى رغم أن ديمتري قرأ (عنوان النشيد) كله، وفيه قول الشاعر بعد أن عرض حال العالم وما هي عليه من شر ونزاع:
ولئن تسألهم: فيم الخصام؟
لأجابوا هو من أجل السلام!
قل لهم: يا قومنا أي سلام!
ليس بين العقل والقلب انسجام
ذي هي العلة لا سوء النظام
على رغم ذلك قال ديمتري إن الشاعر يؤمن بأن العقل وحده هو الذي ينبغي أن يسود!!(987/33)
وقد عقب الأستاذ محمد قطب على ذلك، فاستدل بتلك الأبيات وبقول الشاعر أيضا:
لا أرى الإيمان تشريعا وكتبا
بل أرى الإيمان وجدانا وقلبا
على أن شاعرنا يؤمن بالقلب وبالعقل، فهو يرى أن الدول الكبيرة التي تتحكم بالعالم اليوم لا ينقصها العقل، ومع هذا نراها تحدث في العالم الشر والنكر والعقل لديها متوافر! فالشاعر يدعو إلى مشاعر إنسانية تطهر هذا العالم الذي يتخاصم من أجل السلام.
الحياة الفكرية في مصر الحديثة؛
أشرت في الأسبوع الماضي إلى المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمد كامل حسين في حفلة استقباله عصوا جديدا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية واعدا بخلاصتها في هذا الأسبوع، وهذه هي الخلاصة:
تحدث عن سلفه في عضوية المجمع أحمد حافظ عوض، فكان مما قاله: أنه نشأ في عصر لا يعد خير عصور الحياة الفكرية في مصر، وآثاره الأدبية لا تخلو من صفات ذلك العهد، ولا يعد هذا عيبا، فحسب المرء أن تكون آثاره في ميدان الفكر صورة صادقة واضحة للعصر الذي يعيش فيه، وكذلك كانت آثار سلفي، ففيها تخبط الذين يلتمسون أسلوبا جديدا وتعثر الذين يتحسسون منهجا غير مألوف، ولا أكتمكم أني أحب كثيرا من هذا التخبط وذلك التعثر، بل بعضه أحب إلى نفسي من الكمال الفني، وإن لأجد سقارة أحب إلى من وادي الملوك، وأقدم الشعر عندي خير من شعر أبي تمام، وإن كنا لا نعرف للشعر العربي دور تعثر ولا طور بداءة، كأنما هو قد انبعث من رمال الصحراء أتم ما يكون جمالا، كما خرجت (فينوس) من أمواج البحر، والصورة القديمة أشهى إلى النفس من روائع (روفائيل) كأن الكمال الفني يشعرني قرب النهاية وضعف الشيخوخة.
ثم تحدث عن الحياة الفكرية في مصر الحديثة فقال: إني ممن لا يزالون يؤمنون بالفكر المحض وأثره في الحياة العامة. وأكثر الناس على أن الحياة الحديثة شغلتنا عنه بما هو أقرب منالا وأسرع جزاء، وأن المحدثين يفضلون العمل على الفكر، وأن الغلبة اليوم لما سميناه الماديات. وأننا فقدنا الإيمان وهجرنا الأخلاق واختلط علينا الخير والشر، ولا أريد دفاعا عن المحدثين، ولكني أقول إن هذه آراء لا تصدق إلا على ظاهر الأمور، واصل(987/34)
الخطأ فيها ما طرأ من تغير على مكان الفكر من حياة الناس وعلى الصور التي تتمثل فيها الأخلاق. إلى أن قال: والناس في عصرنا هذا لم يفقدوا الإيمان وإنما شكوا فيما يؤمنون به، ولم ينكروا الأخلاق وإنما التمسوا لها وجوها غير التي اصطلح عليها القدماء، ولم يهجروا الكثير من الفضائل الفردية التي عكف عليها الأولون إلا ليستبدلوا بها فضائل اجتماعية ذهبوا إلى أنها لا تقل فضلا.
ثم عرض للاتجاه إلى المدنية الغربية، فقال إذا كانت المدنيات كلها قد وات وجهها شطر المدنية الغربية فإن ذلك ليس إعجابا بها أو خضوعا لقوتها، بل يرجع إلى أن طبيعة التفكير البشري في جوهرها واحدة، وأن كل ثقافة لا يقف بها النمو ستجد نفسها تسير على نهج يؤدي بها إلى ما يشبه المدنية الغربية.
ثم قال: وكان أول ما اتصلت الأسباب بيننا وبين التفكير الغربي تلك المؤلفات التي كتبت في خلال القرن التاسع عشر يسيرة هينة التفكير بسيطة الأسلوب رقيقة المعنى، فيها ظرف وإعجاب يشبه إعجاب المراهقين بالكبار، ثم تبين بعد قليل أن السير بطئ لن نبلع به ما نبغي بعد أن سبقنا الغربيون بقرون، فهرولنا وأخذنا بجرع من الحضارة الغربية جرعا قويا نروي به ظمأ شديدا، وأهل البدو - وهم أعلم الناس بالظمأ - يقولون: الجوع أروى والرشيف أنقع. ونحن لا نزال نفضل الري على النقع، ولا يزال فينا أثر الهرولة التي أغرمنا عليها إرغاما.
وذكر صفات للتفكير عندنا، فعد منها الهرولة وأتى ببعض مظاهرها، ثم قال: ومن تلك الصفات الكلاسيكية المبكرة، والكلاسيكية تعني في العادة المحافظة على أسلوب خاص من حيث لشكل وحده، ذلك أن كل تفكير صادق أو فن جديد ينشأ معه أسلوب في التعبير خاص به، ثم لا يزال ينمو حتى يبلغ درجة من الكمال يعترف بها الماس، حتى إذا نفد ما في هذا التفكير أو الفن من قوة في الشكل يرجى لذاته.
إلى أن قال: وعلينا أن نقتل الفصاحة فينا فهي شكل محض، وأن نتجاهل البلاغة فقد أصابنا منها شر كثير، وألا نضع للأسلوب قواعد الجملة فالقاعدة الوحيدة للجمال هي أن يكون الشيء جميلا. ثم قال: وأول ما يجب علينا عمله أن نترك وراءنا ظهريا كل ما حملنا عليه من هرولة وتمويه، ولنقلع عن المجاراة والاحتذاء، فقد بلغنا من الحياة الفكرية مبلغا(987/35)
يستحيل معه النكوص إذا تركنا أنفسنا على سجيتها. وأهم ما يجب أن نعنى به هو العلم بالعربية؛ فإن أحدا لا يستطيع أن يأتي بعمل ذي خطر إلا أن يكون ذلك بلغته. والذين لا يملكون ناصيتها يظلون حيارى لا يقدرون على شيء من الأدب الرفيع.
تعقيب:
وبعد فإن المتأمل في تلك المحاضرة القيمة يراها - على قيمتها وما حوته من آراء ناضجة وأفكار طريفة وعلى سياقها الجميل - لم تخل من (الهرولة) وهذا طبيعي، لأنها جزء من الإنتاج الفكري الحديث الذي قال الدكتور كامل حسين إن من صفاته الهرولة. .
وبيان ذلك في الأسبوع القادم إن شاء الله.
عباس خضر(987/36)
الكتب
مذكرات واعظ أسير
تأليف الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي
للأستاذ كامل السيد شاهين
ما كان لمحنة الإخوان المسلمين أن تمر بغير تسجيل، وما كان لهذا العسف الوبيل الذي نالهم أن يذهب دون أن يدفع هؤلاء الذين بطشوا بهم دفعاً بليغاً!.
وهذا الكتاب الذي أخرجه لنا الشيخ الشرباصي، وإن كان مذكرات؛ والمذكرات عادة تبرز فيها الذاتية، وتختفي الجماعية، إلا أنها ليست مذكرات في أيام طبيعية، بل في أيام عصيبة شاذة، مفرطة في الحلوكة والشذوذ - ومن ثم كانت تدور مع شخص كاتبها على الأحداث العامة والأوضاع المنحرفة، وكانت عين صاحبها يقظى لا يفوتها فائت، وكانت نفسه مرهفة لا يمر بها الحوادث دون أن تتردد فيها، وتمتزج بها، ثم تحكم عليها الحكم الذي ترتاح له.
لقد كان قلم الشرباصي في هذه المذكرات مصوراً. فهو يصور الحجز الكريه وما يجد المحجوز فيه من كرب عظام، وما تقاسى فيه الإنسانية من ذلة وامتهان، وما يسمع البرءاء فيه من دروس تخلق روح الإجرام وتغري بالفساد. وهو يصور جماعة (البوليس) فئة لا يعوذ بها البريء فتحميه، ويستجير بها الخائف فتجيره، ولكنها أداة صماء مسيرة يحركها الباطن كيفما يشاء. فئة لا تفهم من القانون إلا أنه الغطرسة الكذوب والاستعلاء المقيت والاستبداد بالمجرم والبريء على السواء. وفوق أنها مفتونة بمكانتها، مجنونة بطغواها - تجدها تتضامن للرشوة، وتباع ذمتها بالمال، وتلفق وتزور، وتداجى وتنافق. لقد حدثنا عنهم الأستاذ حديثاً منثوراً: حدثنا حديثهم في التفتيش، وحديثهم في القسم، وحديثهم في الطريق إلى المعتقل، وحديثهم في المعتقل نفسه. . فمن كان بخعاً نفسه أسفاً على شيء فعلى وضع هؤلاء وضع الصيانة والحفظ، والتحكم في مصائر الناس فليفعل!.
وهو يصور لنا الاضطهاد المرير الذي يلقاه المعتقلون: من تأخر الطعام، ومنع الزائرين، وتكويم الفضلات يفرح فيها الذباب الجسور، وأذى خاص للذين يكبرون ربهم، أو يؤذنون(987/37)
للصلاة، أو يعكفون على القرآن وكتب الحديث، أو يخطبون للجمعة، أو يوقظون إخوانهم ليجتمعوا على أداء حق ربهم!
وهو يصور لنا في سخرية أولئك المتطفلين من المستغلين الذين ينهرون الناس ليظهروا بمظهر الغيرة الدينية، أو يحاولون أن يثبتوا تدينهم بشتم الذين تقعد بهم أعذار قاهرة عن القيام الباكر لصلاة الفجر، وأولئك الذين يجلسون مجلس الفتيا وبضاعتهم كلمة من شيخ أو خطبة من واعظ أو فتوى من عالم. وما أكثر ما تجد هؤلاء، وما أكثر ما تجد منهم، وما أكثر ما يجنون على أنفسهم وعلى غيرهم وعلى دينهم أيضا.
وهو يصور لنا أفاعي اليهود، يتمتعون في معتقلاتهم ويسمرون ويشربون ويقيمون الحفلات راقصة معربدة، وهم في خفارة رجال الأمن، وربما أشركوهم معهم في الطرب والفجور. فأما الإخوان المسلمين، فتصادر حرياتهم، وتقطع على ظهورهم بطون السياط، ويذهب بهم إلى الطور صاغرين واجمعين، ويوقفون صفوفاً أمام شرطي صغير يأمرهم وينهاهم فلا يردون له أمراً، ولا يخالفون له نهياً، وترد إليهم معونات وإغاثات من أهليهم فلا يصل إليها أيديهم.
وأبشع ما يطالعك من هذه الصور هذا الذي يشيع في الكتاب كله، من فوضى القساوة التي يلاقيها المعتقلون، فكل أحد يستطيع أن يغيظهم وأن يسطو بهم وأن يتحكم فيهم: متعهد الطعام، ومندوب الصحة، وقومندان المعتقل، وحراس الأبواب، وكل من اتصل بهم بسبب قريب أو بعيد.
والعجيب أن يتمالأ هؤلاء جميعاً على النكاية بهذه الصفوة المختارة، فإن دل ذلك على شيء، فعلى تغلغل روح الفساد والانتهاز في طبقات الأمة دون استثناء. وأعجب من هذا أن تكون الأحكام العرفية - في بعض الأحيان - أداة لخلق الفتنة، ورد الأيدي في الأفواه، والجريمة الكبرى أن يدعي البطشة الفجرة أن بغيهم وعدوهم إنما هو استجابة لرغبة كريمة. فلعمري ذلك اللؤم المضاعف!
الصور لا تنتهي. . فأينما رميت ببصرك في هذا الكتاب طالعتك صورة معتمة مؤلمة. وأنت بين ذلك واجد صوراً مشرقة وضيئة في صور التعاون والتضامن الذي تخلقه المشاركة الوجدانية في المحن الرازئة، وصور الإبداع والاختراع الذي تظهره الحاجة(987/38)
الملحة، وصور الصفاء الروحي والمراقبة التي يدافع إليها العجز المطلق وضيق الحيلة والأمل في القوة الغالبة التي تعنو لها القوى جميعاً، وصور الحنين إلى الحرية التي يوحي بها الأسر الظالم والبطش الغاشم. وصوراً أخرى لا يبلغها الإحصاء وكلها واضحة ناطقة أبلغ النطق، صادقة أنصع الصدق، مؤثرة أبعد التأثير!
وفي الكتاب على ذلك مآخذ لولا أن الأستاذ صديق عاقل لأعفيناه من الخوض فيها. . مآخذ لا تشين الكتاب، ولو أنها تورث هذه الصور كلما من بعض الجوانب. . فالأستاذ حريص الحرص كله على أن يذكر دائماً بأنه رجل خطيب وأن له جهوداً ملحوظة في نشر الدعوة، وأن له أتباعا وأحباء. . وشهد الله أن ذلك صدق خالص، ولكن الكريه فيه أن يكون حديثا على لسان صاحبه وبقلمه، وقبيح بمثل الأستاذ أن يذكر بذلك ويكرره حتى يجد القارئ في نفسه استكراها وملالة من معاودته، وأخشى أن أقول أنه ربما أفضى به هذا الإلحاح العنيف إلى إصغار الكاتب والتهوين من أمره، ومثل هذا العيب جار في كتب كثيرة للأستاذ؛ نرجو أن يبرأ منه في كتاباته المقبلة إن شاء الله.
وأحسب أن من ذلك ما ذيل له كتابه من تقريظ مهما يقل فيه، فهو غال غلوا شديداً ليس من السداد إثباته، وليس هو بالأثر الأدبي حتى يغتفر للأستاذ وصله بكتابه النافع، فسائر هذه التقريظات غاية في الغثاثة والتفاهة، ومن ذا الذي يكتب كتاباً أو مذكرة ثم لا يجد من طلبته - وهم كثر - من يقرظه بمثل قول (الشاعر) فيما يقول الأستاذ للمؤلف: -
أالقلب فيك متيم لنضالكم ... وكفاحكم للحق والإخلاص
أهلا بمطلعك السعيد عزيزنا ... أهلا فضيلة (أحمد الشرباصي)!
لا أظن أنني أقف الأستاذ على جديد إن أنا زعمت له أن ذلك شين عائب لكتابه هذا. ولا أظن أنني أذكر منه ناصيا، إن أنا لفته إلى أن الكتاب حق القارئ، وليس حقا له حتى يشجع صغار تلاميذه على حساب القراء!
تلك هفوة. . وأخرى أن الأستاذ ربما ظن أنه وقف موقفا كريما بدفاعه عن الأزهر. وشر ما فعل بهذا الدفاع الذي لا يرعى الحق. فالإخوان يقومون بلب اللباب من رسالة الأزهر. ومجاد الأزهر كادت تلفها الالتفاف لولا هبة الإخوان. فإذا لم يرفع الأزهر صوتا بالاحتجاج، ولم يستطع إظهار غضبته من أن يكون التدين سبة وداعية للاضطهاد(987/39)
والعسف. . فإنه من الخسة والدينية أن يسخر الأزهر وعاظه في أن ينالوا من الإخوان ويحكموا قيود البطش. . ألا أنه قليل للأزهر أن يلام، وقليل لرجاله أن يتهموا بالخور والضعف والتدليس وحب الدنيا. . وإذا كانت فعلتهم في النكر ما هي، فإنه لأنكر منها أن يدافع عنها ويوقف إلى جانبها.
وآخره ما آخذه على الأستاذ هفوة أدبية - ولو أنها ليست في موضوع الكتاب إلا أنها جاءت متصلة بموضوعه:
فالأستاذ يرى أن المتنبي كان مرغما على مدح كافور الإخشيد. . ولست أدري ماذا أرغمه، ولم جاء إلى مصر إن لم يكن قصده المديح. . المتنبي رجل مداح لا أقل ولا أكثر. فإن ذهب إلى الشام فلمدح أمرائه قصد، وإن جاء إلى مصر فلمدح حاكهما أراد فيه أنه أرغم على مدح كافور؟. .
ويحدث عن كافور أنه كان عبدا بليدا. . فأما العبودية فليست مما يعاب به الإنسان كإنسان ولا يسب بها من ربى تربية بريئة من روح الجاهلية، وأما البلادة. . فالحكم بها على كافور أمر يدعو إلى الضحك الذي تمسك منه البطون، فأين وجدها الشرباصي، وكيف ألصقها بها الحاكم الذكي الداهية. . لقد هجا المتنبي كافورا بما لم يسمع بمثله فلم يقل قط أنه كان غبيا، وعندما تهيأ لمدحه لم يجد أفقاً أوسع للكلام من أفق ذكائه ودهائه:
مجربا فهما من قبل تجربه ... مهذبا كرما من غير تهذيب
حتى أصاب من الدنيا نهايتها ... وهمة في ابتداءات وتشبيب
يدبر الملك من مصر إلى عدن ... إلى العراق فأرض الشام فالنوب
ويقول الشرباصي إن الناس كانوا يسخرون منه عندما يلقبونه (مولانا الأستاذ)، والذي يظهر لي أن الأستاذ (أحمد لا كافور) لا يعلم أن كافور كان قبل توليته الملك، يدبر بيت الإخشيد. . وأن كلمة أستاذ كلمة فارسية من معانيها (المدبر). . فهذا لقبه؛ فهل - بعد ذلك - يكون من السخرية أن ينادي المرء بلقبه.
ويستدل الشيخ الشرباصي على غبائه وقلة فهمه بأن المتنبي كان يذمه ويهزأ به وهو لا يفهم، وآية ذلك عنده أمه قال فيه: -
وما طربي لما رأيتك بدعة ... لقد كنت أرجو أراك فأطرب(987/40)
والبيت - في الحق - محتمل للسخرية، محتمل للمدح، ولو سيق للمدح كان ضعيفا. . ورأيي أن المتنبي لم يقصد إلا المدح، وأن هذا من ضيق باعه لا من سوء قصيده، ودليلي عل ذلك عتيد. . دليلي من القصيدة نفسها، وشاهدي في سوابق هذا البيت ولواصفه. . قبل هذا البيت أبيات فيها رجاء ضارع، وخنوع ذليل، والتماس وضيع، وسؤال ملحف. أفيكون من المعقول أن يقف الإنسان موقفا يمرغ فيه حر وجهه في التراب ثم يكون ساخرات في الوقت نفسه؟ لا: أسمع إذن وتصور أبا الطيب: -
أبا المسك، هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغنى منذ حين وتشرب
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
أفهذأ قول ساخر؟ أيتفق أن يكون المتنبي في هذه الذلة الذليلة ثم يقول ساخرا من كافور إنني لما رأيتك شاع في نفسي السرور فأنت مما يتسلى ويتلهى به الناس؟ أما أنه لو جاء هذا البيت فريدا مسلوخا من سوابقه ولواحقه لكان سخرية خالصة! ولحق لابن جني أن يقول للمتنبي: ما زدت على أن جعلت الرجل (أبازنة) يعني قرداً!. وإن أحيل الأستاذ إلى ما كتبه الدكتور طه حسين في كتابه (مع المتنبي) عن هذه الأبيات ليرى إن كان المتنبي ساخر حقا. . وإن حاله كانت تستحق أحر الرثاء!
فأما قصيدته التي يزعم الأستاذ الشرباصي متابعة لمتأولة النحاة أنها جائية على التوجيه محتملة المديح والهجاء التي أولها:
عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
فإنما يذهب بها مذهب الاحتمال أو التحميل أولئك الذين يتحاذقون بقدرتهم على التأويل والتخريج، فأما أحرار الأدباء والنقاد فليسوا من هذه الدعوى في شيء. . فلا يتم للأستاذ ما زعم أنه كان يمدح كافورا بهذه الموجهات إلا إن كان من عشاق التأويلات العقيمة التي لا وزن لها في شرعة الأدب الصحيح!.
وأعجب مما رأيت أن يقول لنا الشيخ الشرباصي أن المتنبي في هذه النونية مدح شبيباً مدحاً بليغاً في حضرة عدوه وقاتله كافور، وهذا أمر نوافقه عليه، ثم قال إن هذا المدح البليغ كان من المتنبي استجابة لدواعي الرجولة والبطولة، وهذا ما نراه فيه قد سقط، وإليك(987/41)
أولا الأبيات:
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسى وأنت يمان
وما كان إلا النار في كل موضع ... تثير غبارا في مكان دخان
فنال حياة يشتهيها عدوه ... وموتا يشهي الموت كل جبان
وقد قتل الأعداء حتى قتلته ... بأضعف قرن في أذل مكان
أهتز الشيخ أحمد كما يقول اهتزازا عنيفا لهذا الموقف، ففيه - على ما يدعي - جرأة وشجاعة، وفيه صدع بكلمة الحق لوجه الحق، وهو - أي الشيخ أحمد - رجل مولع بعظائم الأعمال فيما قال أو كما قال!
يا لك من رجل طيب القلب، ماذا كنت تنتظر من المتنبي في مدح كافور بعد قتل شبيب؟ أكنت تنتظر أن يقول له: لقد قتلت شبيبا الجبان الحوار الذي كان يفرق من قتل دجاجة!. . لو قال ذلك لكان أجهل الناس بأسلوب المديح، ولكان قتل شبيب عملا تافها ساقطا لا وزن له، ولكان المتنبي لم يأت في مدح كافور بشيء. . ولكن المتنبي عمد إلى رفع شبيب وإعظام شأنه، والإشادة ببطولته، ونصب حوله هذه القلاع المحصنات فجعله صديقا للسيف، وأبرزه نارا مجتاحة لا تثير الدخان ولكنها تثير الرماد. . ثم تهيأ له بعد أن جعله أمنع من بيض الأنوق أن يقول إن كافورا صاده بأيسر صلاح وبأدبي جهد، فجعل كافورا بطلا أقوى وأعز وأمنع، وعاد بهذا اللباس الذي حاكه بد يا لشبيب، فألبسه لكافور (بعد أن عززه ومنعه) زاهيا سابقا! وبعد:
فقد قدمت أن هذا ليس من موضوع الكتاب، وأملي أن يسير المؤلفون من النقد الاجتماعي في هذا السير الحميد الذي سلكه الشرباصي. وإنني أعد هذا بدء الطريق للوصول إلى سلامة المجتمع ونظافته.
كامل السيد شاهين(987/42)
البريد الأدبي
سلسلة رسائل الإمام الغزالي
وقعت في يدي خلال الأيام القريبة السابقة رسالة صغيرة عنوانها (التوبة بعد الذنب للإمام الغزالي رضي الله عنه) وفي مقدمتها كتب الناشر أنه يقدم رسائل الإمام الغزالي التي تقع في حوالي ثلاثين رسالة، وأنه قد عثر على الأصل مخطوطا في مكتبة قرطجنة بإسبانيا بعد أن تحمل في الحصول عليها مشقة كبيرة. . .
وما إن قرأت هذا الكلام حتى أخذ مني العجب مأخذا، فما كنت أعتقد أن الاستخفاف بالأمانة العلمية يحدو بإنسان كائنا من كان أن يعبث بعلم رجل كالإمام الغزالي، ويقدم للناس منه زادا غثا، وقدرا ركيكا مضطربا، مدعيا أن هذا وذاك بضاعة الإمام الحجة، ومدعيا مرة أخرى أنه عثر عليها في مخطوطات بمكتبة قرطجنة في إسبانيا. بعد أن تحمل في سبيل الحصول عليها مشقة كبرى. .
ولست أدري ما الذي يحمله على أن يتحمل مشاق السفر إلى إسبانيا، ويتكبد النفقات الباهظة وغيرها، ورسالته الأولى هذه موجودة في الجزء الرابع من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وقد كان في استطاعته وهو في بيته أن ينقل منه رسالته المزعومة، دون أن يضطر الإبهام والتغرير إلى التحوير والتغيير والعبث بالمقدسات العلمية. .؟
أتخذ الناشر المصطنع عناوين لرسالته المزعومة، هي نفس العناوين الموجودة في الجزء الرابع من إحياء علوم الدين ومن كتاب التوبة وهو الأول من ربع المنجيات، مع التحوير والتبديل، فالعنوان الأول في رسالته هو (حقيقة التوبة) وفي كتاب الإحياء الطبعة العثمانية (بيان حقيقة التوبة وحدها) ص 3، وعنوان الرسالة الثاني (بيان وجوب التوبة وفضلها) وفي الإحياء نفس العنوان ص 4، وعنوان الرسالة الثالث (وجوب التوبة على الفور وعلى الدوام) وفي الأحياء (بيان أن وجوب التوبة على الفور) ص 7، وعنوان الرسالة الرابع (بيان أن التوبة الصحيحة مقبولة) وفي الإحياء (بيان أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهي مقبولة لا محالة) ص (11)، وعنوان الرسالة الخامس (بيان ما تكون عنه التوبة وهي الذنوب) وفي الإحياء (الركن الثاني فيما عنه التوبة وهي الذنوب صغائرها وكبائرها) ص 14، وعنوانها السادس (انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر) وفي الإحياء (بيان أقسام(987/43)
الذنوب بالإضافة إلى صفات العبد) ص 14. . . وهكذا. . .
ولم يستطع الناشر المصطنع أن يجعل رسالته خاصة بموضوع التوبة، فتراه قد ألحق به موضوعا آخر هو موضوع الصبر والشكر، وكما عاث فسادا في نقل باب التوبة عاث فسادا أيضاً في نقل باب الصبر والشكر، وكأنه يلهو في ميدان لا فرسان فيه، والغريب أن الناشر المصطنع لم يتحر ذرة من الأمانة في النقل مما جعل علم الإمام الحجة ركيكا مضطربا يسئ إلى قدره، ويظهر أن مهمته كانت قاصرة على التجارة الهزيلة ولو على حساب الأئمة من العلماء. . .
وبعد. . . فمتى توجد الرقابة القوية التي تعمل على صوت المقدسات العلمية، وتضرب بيد من حديد على أيدي اللهاة العابثين بها. . حتى يبقى للعلم جلاله وقدسيته؟!
محمد عبد الله السمان
حول معنى (الأساطير)
انشرح صدري ليقظة الأستاذ (سلامة خاطر) الناقدة حينما قرأت ما كتبه في عدد الرسالة (984 ص 542) نافيا عن القرآن الأساطير، راجيا أن يكون الأستاذ توفيق الحكيم في إثباتها للقرآن راميا إلى معنى آخر غير المعنى المفهوم من الأساطير.
والحق الذي ينصره البحث العلمي الدقيق في منهجه الحديث هو أن الكلمات والعبارات تختلف مدلولاتها باختلاف الزمن وتطوره، فإذا أراد أديب أن يكتب أو يبحث فليجعل في حسابه فرق الزمن في تطور مدلول العبارة أو الكلمة.
وهذا أمر تدعو الحكمة (الحكيم) في كتابه (فن لأدب) أن يلحظ قدسية القرآن، فينزهه عن الشبهة، بل هذا خطأ منهجي يغفره أن نلحظ ما عناه القرآن الكريم نفسه من كلمة (أساطير) وأن ننوه عن حياة هذه الكلمة في مدارج التاريخ.
إن القرآن يريد بالأساطير في جميع آياته التي حكي بها شبهة المنكرين الصادين عن سبيل الله - يريد بها: الخرافات والأباطيل، والكذب والأضاليل. وجل القرآن أن يوصف بشيء من ذلك فليس فيه أساطير، وإذا أراد كاتب أن يصف قصصه فلينزل عند اصطلاح القرآن حتى يكون صادقا في التعبير عنه، معطيا للحق المنهجي قسطه كاملا غير منقوص، مراعيا(987/44)
روح عصر التنزيل،. لقد سمى القرآن الأساطير لهو الحديث في سورة لقمان: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، ويتخذها هزوا).
وقد نهى الصحابة عن التعلق بها. . فقد ذكر المفسرون أن بعضهم كان يقرأ في (اسفنديار) فأنزل الله الآية: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن هو ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) (سورة العنكبوت)
فإذا تحدثنا عن الفهم الصحيح لأي كلمة فلنتبع الطريقة التاريخية في الدرس، وبذلك نرتفع في بحوثنا الأدبية والعلمية، فوق الشبهات. إن كلمة من الكلمات (الرأي - التحريم - الكراهة - القياس) قد تباين مدلولها على مر الزمن في تاريخ الحياة الفقهية، عرف ذلك من عرك ميادينها.
وإن كل كلمة من الكلمات (الإعراب - النحو - الرفع - النصب - الجزم. . .) قد اختلف مدلولها في مدارج الزمن في حياة (النحو العربي) سبر غوره من مرن على (فناقله).
وإن كل كلمة من الكلمات (أدب - علم - فن) قد تباعد مدلولها القديم عن مدلولها الحديث في حياة العلوم والفنون، وإنه لا يتسنى لباحث في أية مادة عليمة أو فنية أن يكون دقيقا إلا إذا رعى هذا التطور التاريخي لمدلول الكلمات فيما يكتب أو يحرر.
فإذا قصد (الحكيم) بالأساطير معناها الفني المعاصر أو يحرر معناها القديم الغابر، فإنه - عندي - على كل حال ملوم.
إن قصص القرآن حق: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) (سورة البقرة) - هو فكرة: (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (سورة الأعراف) - وهو عبرة: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). (آخر يوسف).
وهو بذلك تثبيت لأفئدة المؤمنين.
فكيف تلتقي قصصه - وتلك حالته - بالأساطير!. اللهم غفرا.
محمد إسماعيل الشلبي
دار. العلوم(987/45)
سرني دفاع الأديب اللبيب محمود محمد السالم عن دار العلوم مع أنها لم تكن متهمة ولا مظلومة في كلمتي عن شعراء الشباب بالعدد الأسبق من الرسالة، وأنا أقر الأديب على رأيه الصحيح في الشعر الشعراء، وأشكره على ثنائه العاطر، ولكن الشيء الوحيد الذي أخالفه فيه، هو أن في الاستطاعة أن يحصي الناقد خمسة عشر شاعرا من أبناء دار العلوم أيام أن كانت مدرسة، أما بعد أ، صارت كلية جامعية، فهل يستطيع أحد أن يحصي لنا شاعرا أو اثنين؟ مع الاعتراف الكامل بمستوى دار العلوم الأدبي الرفيع في كلا العهدين.
أحمد أحمد العجمي(987/46)
القصص
هيكل عظمي
لفيلسوف الهند وشاعرها رابندرانات
كان في الغرفة المجاورة لغرفة نوه الأطفال هيكل عظمي معلق يقرقع حينما تعبث به الريح وفي النهار كنا نسر بالاصطدام به.
وكان في هذا الوقت طالب من مدرسة الطب بكامببيل يعلمنا تشريح العظام لأن أوصياءنا كانوا يزعمون أنهم ينقشون في عقولنا العلم التام. ليت شعري لأي حد نجحوا؟ ولا جاحة لأن نقول ذلك لمن يعرفنا. والأفضل بلا شك أن نلتزم الصمت أمام من يجهلنا.
وقد كرت الأعوام واختفى الهيكل العظمي من الغرفة كما اختفى تشريح العظام من ذاكرتنا دون أن يترك أي أثر.
أزدحم منزلنا أخير بالمدعوين فاضطررت أن أقضي الليل في تلك الغرفة التي كان معلقا بها الهيكل العظمي والتي انقضى الزمن الذي كنت آلفها فيه. حاولت النوم بكل وسيلة فلم أستطع، أخذت أتقلب وأعد دقات ساعة الكنيسة طوال الليل. . . طفق مصباحي يختلج لحظة ثم انطفأ، وقد فقد أسرتنا بعض أعضائها حديثا، وهذا ما اقتاد فكري نحو الموت. .
ساءت نفسي ألا يشبه نور الصباح الذي يتيه في الظلمات من مسرح الحياة العظيم ضوء حياتنا الضئيلة الذي لا يلبث أن ينطفئ في كل ساعة من ساعات الليل أو النهار؟
ولتداعي الفكر عاودتني ذكر الهيكل العظمي، وبينما أنا أتصور شكل الجسم الذي كان يكسو تلك العظام، شعرت أن شخصا يدور حول سريري يسير متسكعا بجانب الحائط، ولقد شعرت بتنفسه السريع، وخيل إلى أنه يبحث عن شيء لا يجده، ويدور حول الغرفة بخطى سريعة.
ولقد خدعت في الحقيقة من شيء خلقه مخه المضطرب الذي حرم نومه، وظننت أو وقع الأقدام التي سمعتها ما هو إلا دقات شراييني في صدغي، ورغم ذلك شعرت بارتعاد مثلج. ولأطرد من مخيلتي هذا الهذيان صحت بأعلى صوتي: (من هناك؟) فأحسست بأن الخطى وقفت بجانب سريري وأجابني صوت (أنا الطارق وقد أقبلت لأختبر هيكلي العظمي).
ومن السخف أن يظهر الإنسان الهلع والخوف من خيال بسيط، ثم اكتفيت بأن أضغط على(987/47)
وسادتي وأصيح بلهجة مخالفة للأولى: (إن هذا الشاغل الذي اقتادك في مثل هذه الساعة من الليل لمضحك؟ وماذا يهمك هذا الهيكل العظمي).
ويظهر أن الجواب انبعث من كلمتي نفسها: (إن عظام هذا الهيكل قد أحاطت قلبي ورأت محاسن شبابي الخلابة في ربيعها السادس والعشرين! وكيف أقاوم الرغبة الملحة في رؤيتها ثانية؟).
فقلت له بدوري: (إنها لرغبة شرعية فتمم بحثك واتركني لشأني عساني أجد النوم)
فرد الصوت: (أخالك وحدك وأود أن أجالسك لحظة نتسامر فيها. لقد كان يسرني أن أسجل الناس الحديث ولكني علم ألق في هذه الخمسة والثلاثين سنة الأخيرة إلا الأنين فوق نيران الموت، وما أحيلي أن أحادث اليوم رجلا مثل العهد السابق).
وقد شعرت أن شخصا أقبل وجلس بجانب ستائري فاستسلمت واستعنت بتوددي قائلا:
- ما أعظم ابتهاجي وسروري للسمر ولنبحث سويا عن موضوع شائق نتحدث فيه. .
إني لا أجد موضوعاً مسلياً اعظم من قصتي الشخصية فهل تسمح لي بسردها؟
وقد دقت في هذه الآونة ساعة الكنيسة الثانية صباحاً.
قال الصوت: (حينما كنت في عنفوان شبابي وكنت أقطن بين الأحياء سبب لي أحد الناس فزعاً ورعباً يفوقان رعب الموت: ولم يكن ذاك غير زوجي. وإني لا أجد ما أقارن به شعوري غير السمك المعلق في سن الشص فكأن شخصاً أجنبيا علقني بشص عنيف وانتزعني من دار طفولتي السعيدة حتى كنت لا أستطيع أن أفكر في الخلاص، وقد مات زوجي بعد الزفاف بشهرين بينما كان أقاربي وأصدقائي يبكون بكاء مرا لحظي التعس المنكود. وفي ذات يوم قال حمى لحماتي بعد ما أطال النظر على وجهي: (ألا ترين أن زوج ابننا لها عين سوء صائبة حاسدة؟) هل أنت مصغ إلى؟ وهل يهمك حديثي؟
- يهمني جدا وإن أوله ليدل على أنه شائق مسل!
- أتمم إذن حديثي. ولقد عدت إلى بيت أبي بكل سرور. ولو أن البيئة التي كنت فيها ما كانت تشعر بشيء من محاسني. . . لكني كنت واثقة من أنني أحرز جمالا رائعا نادرا. فما رأيك؟
- هذا شيء معقول جدا، ولكن لا تنسي أنني لم أرك قط.(987/48)
- قط؟ وماذا تعمل بهيكلي العظمي؟ ها! ها! هذا لا يهم فإنني أمزح.
وكيف أجعلك تتصور أنه كان في هذين التجويفين اللذين تجردا من لحمهما عينان سوداوان يتلألأن بأنواع السحر والفتنة؟ أو أن الابتسام الذي كان يضئ هاتين الشفتين الورديتين لا يشبه في شيء هيئة الضحك العابس التي عرفتها، وعندما أذكر كل المحاسن والرشاقة ومتانة هاته الانحناءات التي كانت في شرخ الشباب تتفتح كالأزهار فوق هذه العظام النخرة لا أستطيع أن أكتم ابتسامي. وإني لأتألم من ذلك. وهل يستطيع مشاهير العلماء في زمن أن يفرضوا أن عظام جسم مثل هذا تخصص لدراسة تشريح العظام؟ وعلم أن طبيبا من الشبان المجاورين لنا شبهني بزهرة (الشمباك) الذهبية؟
حينما أمشي كنت أشعر بأن أقل حركاتي تفجر أمواجاً منسجمة تنبعث من كل وصب كلألاء الماس. كانت تمر على ساعات وأنا أشاهد في يدي اللتين كبلتا برشاقة الرجال الذين يتأجج فيهم نشاطهم.
ولكن هذا الهيكل العظمي قد أخفي عنك الحقيقة كشهادة الزور، ولك يكن في ميسوري أن أدحض تأكيداته الوقحة. أشعر أنني أحب أن أطرد النعاس من عينيك إلى الأبد بأن أستحضر أمامك الصورة الوردية الحية لجمالي بحث أمحو من أمامك كومة العظام المشؤومة التي تملأ ذهنك.
- كنت أستطيع أن أقسم بجسمك إذا كان لم يزل حيا، ولو أنه لم يترك منه أي أثر من العظام؟ لكن عقلي افتن بالصورة الوضاءة لجمال كامل يظهر بهاءه بقوة التضاد هذا الليل الفاحم الذي يحيط بها، وإني لا أقدر أن أقول أكثر من هذا.
- استمر الصوت في حديثه قائلا: لم تكن لي صاحبات لأن أخي الوحيد صمم على عدم الزواج. كنت وحدي في خدري وقد اعتدت أن أستلقي في الحديقة في ظل شجرة، وكانت الأحلام تستدرجني في يقظتي حتى خلت أن العالم كله قد شغفه حبي، وأن الدراري التي ما فتئت مستيقظة على الدوام لتثمل من نشوة بهائي. إن الصبا لتتنهد حينما تنتحل هلا عذراً لتتمسح بي يجناحها. وإن داست قدمي مرحاً فإن مجرد اللمس يفقده رشده. وإن فتيان العالم يظهرون أمامي كأنهم أعواد الكلأ تحت قدمي، ولا أدري لأي سبب يلازمني الحزن والكآبة.(987/49)
وحينما تخرج شيكهار صديق أخي من مدرسة الطب أصبح طبيب أسرتنا، وقد لمحته مرات مختبئاً وراء ستار، وكان أخر رجلا غريب الأطوار لا يهتم بالنظر إلى العالم الخارجي، وكان بوده ألا تكون الدنيا مقفرة ويبتعد بالتدريج إلى أن يقبع في ركن مظلم. كان شيكهارد صديقه الوحيد الذي أتاحت لي الفرص مقابلته، وفي بلاط المفتونين بحبي الذي كنت أتخيله في أوقات نزهني الليلة كان كل شاب مشتت الفكر عند قدمي يستعير وجه شيكهار. هل أنت مصغ إلي؟ وما قولك في قصتي هذه؟).
فأجبت وقد سبقت لساني زفرة:
(وددت لو كنت يشكهارا)؟
- انتظر قليلا وأصغ أولا لآخر الحديث، وفي ذات يوم مطير أصابتني الحمى فجاء الطبيب يعودني، وكانت هذه أول محادثة جرت بيننا. كنت راقدة أمام النافذة وقد لطف ضوء الشمس عند غروبها بيضا لوني، وحينما نظر إلى الطبيب وضعت نفسي مكانه وطفقت أنظر إليه مغرقة في التصوير والتأمل، وشاهدت وجهي الشاحب في ضوء الأصيل موضوعاً فوق الوسادة البيضاء كزهرة ذابلة، وحلقات شعري الحمقى تعبث بجبيني، بينما أجفاني مطرقة باستحياء ناشرة ظلا معبرا فوق سحنتي.
سأل الطبيب أخي والحياء يلعثم لسانه ويخفض من صوته: (أتسمح لي أن أجس نبضها؟)
(أخرجت من تحت الغطاء قبضة مستديرة مدنفة ولاحظت حينما تفرست فيها أنها عاطل من سواري الصغير!).
لم أر في حياتي أجهل من هذا الطبيب في جنس النبض. كانت أصابعه ترتعد حينما تمس ذراعي، فإن قاس درجة الحمى في جسمي فإني شعرت بدقات قلبه وقستها من أصابعه - هل وعيت حديثي؟
فقلت: بكل سهولة، إن دقات قلوبنا تعبر عن أفكارنا.
- وبعد عدة وعكات وكثير من الشفاء والعافية وجدت أن عدد المفتونين الذي يؤمون بلاط حبي الخيالي آخذ في النقص حتى انتهى إلى فرد واحد، وفي النهاية استحال عالمي الصغير إلى طبيب ودنفة.
وبمناسبة مقابلتي اعتدت أن البس سرا طيلساناً أصفر وكنت أعقد حول شعري عقداً أبيض(987/50)
من أزهار الياسمين، ثم أتناول مرآتي وأذهب إلى مكاني الذي ألفته تحت الأشجار.
إنك ترى بلا شك أنت مشاهدة جمالنا في المرآة يكون على ممر الزمن مملا؟ ولكن شيئا من ذلك لم يحصل لأني لا أنظر بعيني نفسها لأني كنت في الوقت نفسه أحد الشخصين، فكنت أختبر كما يختبر الطبيب، وكنت أطيل النظر وأفتتن وأشتعل بنار الحب. ورغما من انتباهي وحذري أغار أنين على فؤادي وسمع له صوت كنسيم الصبا في المساء.
ومن هذا العهد كففت عن الشعور بالوحدة، وفي أثناء نزهتي كنت أتتبع بنظراتي عبث أصابع رجلي الصغير بالرمل الناعمة، وكنت أسائل نفسي ماذا يكون شعور الدكتور لو كان حاضراً. كنت أمثل الشمس وقت الزوال مغيرة على الزرقاء بنورها الوهاج، ولم يعكر صفاء السكون غير صياح مقتطع المسر البعيد، وصوت وراء سياج الحديقة لبائع خواتم من البلور وهو ينادي نداء شجيا! فرشت على الكلأ ملاءة بيضاء لأستلقي عليها وأسندت رأسي إلى ذراعي وأرحت ذراعي الأخرى فوق الملاءة بشكل رشيق، وقد تخيلت أن شخصا يئن لاحظ وضع يدي الشائقة فشد عليها بين يديه ووضع في راحتي قبلة ذهبية وابتعد ببطيء. وأن وقفنا الحديث هنا فما رأيك؟
- (يكاد يكون ختاما مقبولا) وقد أجبتها بلهجة حالم. قالت: وستبقى الصور ناقصة قليلا ولكنني سأقضي بقية الليل في إصلاح هذا النقص.
- ولكنها تكون جافة. وكيف ندخل فيها الضحك؟ وكيف تصل إلى جعل الهيكل العظمي بضحك وينكر ملامحه؟
- دعني الآن أتمم الحديث. وما إن وجد الطبيب بعض المرضى حتى أخذ غرفة أرضية من منزلنا وأعدها لعيادته. وفي هذا الزمن كنت ألهو بسؤاله عن تأثير العقاقير والسموم والكمية الكافية لقتل رجل، فكانت هذه الأسئلة ملائمة لطبيعته فأجاب عنها بفصاحة ولباقة، وكان من نتيجة هذه المحادثات أن صارت عندي فكرة الموت عادية لا تثير أي أهتمام، وبذلك توطن الحب والموت عالمي الباطني. وإن حديثي قد قارب النهاية لأننا وصلنا إلى المرحلة الأخيرة.
- كما أننا وصلنا إلى المرحلة الأخيرة من الليل.
- وقدلاحظت بعد مدة من الزمن قلقا غريبا يساور الطبيب وظهر عليه كأنه يخجل من أمر(987/51)
يريد أن يخفيه عني، وقد حضر مرة بثياب فاخرة وهندام ظريف ليستعير عربة أخي.
(كنت فريسة لتطلع شديد فصممت على سؤال أخي؛ وبعد أن دار بيننا الحديث من الشرق إلى الغرب قلت له: خبرني بالحقيقة يا أخي، اين ذهب الطبيب الليلة في عربتك؟
فأجاب أخي باختصار: إلى الموت.
- خبرني بكل صراحة أين يذهب.
- (ذهب ليتزوج) وقد أجاب أخري بطريقة أكثر وضوحا.
- أحقا ما تقول؟ وقد نطقت هذه الكلمة مصحوبة بقهقهة طويلة.
وقد علمت في آخر الأمر أن الخطيبة كانت غنية ورثت ميراثا عظيما سيغدق على الطبيب ثروة طائلة. ولكن لم أهانني بإخفائه هذا المشروع؟ هلا سألته يوما أن لا يتزوج حتى لا يصمي فؤادي؟ ولكن الرجال لا يؤتمنون. لم أعرف في حياتي إلا رجل واحدا، ولكن لحظة واحدة كانت كافية لكشف الحقيقة.
ولما رجع الطبيب من عمله وتهيأ للرحيل قلت له والضحك يغالبني: (سنتزوج في هذا المساء أيها الطبيب؟)
- إن فرحي قد أربكه بل زاده غيظا وحنقا
- ماذا جرى فإني لا أرى الأوركسترا؟
- فأجاب بتأوه: هل الزواج حادث مفرج؟
(عاودني ضحك عنيف ثم قلت له لا! لا! فذاك من المستحيل أن يعلن زفاف دون أضواء وموسيقى!
ثم ضايقت أخي حتى أعد معدات العرس وجعله بهيجا سارا.
ولم أنقطع لحظة عن التندر بالخطيبة وعن الوقائع التي ستمر بها وعن حالتي تلقاء هذه الواردة الجديدة.
- خبرني أيها الطبيب، هل ستستمر في جس نبض مرضاك؟
بخ بخ! إن عمل العقل الباطن وإن كان غير منظور لا سيما عند الرجال فإني أستطيع أن أؤكد بأن قولي كان على فؤاد محدثي كالحراب الفولاذية.
إن الزواج سيشهر بعد قليل في الليل. وقبل الذهاب شرب الطبيب هو وأخي كأسا من(987/52)
النبيذ كعادتهما اليومية، وفي هذه الوقت طلع القمر.
(ثم تابعت حديثي قائلة والابتسام يعلو وجهي: هل نسيت زواجك؟ قد آن المسير).
وقد فاتني بعض التفصيل، فإني قبل هذه المدة قد هرولت إلى العيادة وأخذت مها مسحوقا ووضعته خفية في كأس الطبيب.
لقد شرب الطبيب كأسه بجرعة واحدة ثم قال لي بصوت متهدج من التأثر مصحوب بنظرة أخترقت فؤادي: (سأذهب) صدحت الموسيقى بأنغامها الشجية، ثم ذهبت إلى خدري ولبست ثوب الزفاف المنسوج من خيوط الذهب والفضة وتزينت بحلي ووضعت على شعري العلامة الحمراء التي تميز الزوجة وذهبت إلى الأشجار لأهيئ مضجعي.
وكان الليل جميلا وقد ذهبت رياح الجنوب المنعشة بمتاعب الدنيا؛ وقد تضوع شذا الياسمين والورد حتى غمر البستان البشر والفرح.
وكان أصوات الموسيقى تصل إلى سمعي أضعف مما كانت عليه، وطفق لألاء القمر آخذا في النقص، وانمحت من ذاكرتي الدنيا وصورة بيت الأسرة كأنها وهم تبدد ثم أغمضت عيني وأنا مبتسمة.
وقد تخيلت أن الذين سيقبلون لمشاهدة بسمتي الأخيرة المنطبعة على شفتي كأنها آثار نبيذ وردي، وأني سأدخل في مخدع زفافي الدائم ووجهي مضيء بنفس الابتسامة.
وا أسفاه على مخدع زفافي وثوب عرسي المنسوج المن الذهب واللجين! لأني حينما استيقظت من فرقعة العظام التي يخيل إلى أنها صادرة من هيكلي العظمي وجدتني في حضرة ثلاثة غلمان يتعلمون تشريح العظام في هيكلي. وفي هذا الصدر الذي كانت تخفق فيه أفراحي وأتراحي والذي تفتحت فيه وريقات زهرة صباي كان الأستاذ يبين بسبابته عظامي واحدة فواحدة، هلا وجدت أثرا من هذا الابتسام الذي درسته بكل عناية؟
وكيف وجدت قصتي؟
- إنها للذيذة محبوبة.
وفي هذه الفترة ابتدأ ينعق أول غراب.
ثم سألت: (هل أنت هنا؟)
فلم يرد عليّ أحد.(987/53)
واخترقت أشعة الصباح مخدعي فأضاءته.
م. ح(987/54)
العدد 988 - بتاريخ: 09 - 06 - 1952(/)
حديث رمضان
للأستاذ علي الطنطاوي
(أهديه إلى روح شاعر الروح، وأديب الشرق محمد إقبال)
علي
صدقوني أني لم أجد أشق على من هذا الحديث
كيف أشق بصوتي عجيج المعامل، وضجيج المصافق وصياح الملاهي والحانات؟
كيف أخاطب خطاب الروح من لا يعيش إلا للجسد، وأحدث حديث الآخرة من لا يؤمن إلا بالدنيا؟ كيف أنه جاء من التراب، وسيعود إلى التراب، من نقر الصخر، ونقل البحر، وخرق الأرض، وركب الهواء، وفجر الذرة، وأنطق الجماد، فامتلأ كبراً وغروراً، حتى نسى من خلقه، فقال: أنا ربكم الأعلى؟!
ومن جعل من الحديد والنحاس آلات لها لسان، فيه أجلى البيان، وأذنان تسمعان، ما لا تسمع الآذان، وعقل يحسب ما يعجز عن حسابه عقل الإنسان؟
نعم، إنكم تستطيعون أن تصنعوا من المادة تمثالا على صورة الحبيبة، له لونها ولينها، وله رائحتها وحرارتها، وأن تلمسوه بأيديكم، وتسمعوا معه صوتها من الراد، وتروا صورتها في الرائي، فتشغلوا حواسكم الثلاث بها، ولسانكم بمناجاتها، وعقلكم بتصورها، ولكن هل يغنيكم ذلك عن جسدها النابض بالحياة؟
هل تجدون في ذلك لذة الوصال؟
كلا. إنكم صنعتم الجسد، ولكنه كان جسداً بلا روح. وكذلك كانت حضارتكم
لقد ملكتم عالم المادة، ولكنكم خسرتم عالم الروح تقولون: ما عالم الروح؟
أما قمتم مرة في هدأة الليل، فتأملتم صفاء السماء ولمعة النجم، فأحسستم في قلوبكم بعظمة الكون؟
أما سمعتم مرة نغمة عذبة تسري في جنبات الليل سريان الصحة في الأجسام، فحلمتكم نبراتها إلى أودية الأحلام؟
أما قرأتم مرة قصة فوجدتهم لها ختمتموها أنكم فقدتم شيئا، وأحسستم في نفوسكم فراغاً، وأنكم هبطتم من الفضاء الواسع إلى أرض الواقع؟(988/1)
أما تركتم مرة زحمة الناس، وضجة الحياة، ودخلتم بيتاً من بيوت الله ساكنا، فشعرتم بهوان الدنيا، وصغر الأرض، في جنب الله الملك الجبار، ووجدتم حلاوة الإيمان ولذة الاستغراق في العبادة؟
هذه لمحات من عالم الروح
وما لمعات العبقرية المبدعة إلا لمحات أخرى: يد تستطيع أن تحرك الستار، فتبدو من خلاله خطفات من مشاهد ذلك العالم تظهر في اللحن الخالد أو القصة أو القصيدة أو في هجمة ذهن جبار على الشاطئ القريب من بحار المجهول
ولكنكم حبستم نفوسكم من كثافة المادة في غار مغلق فلا ترون من بياض النهار إلا هذه الومضات تلمع من شقوق الصخر ثم تختفي
إنكم غارقون في لج المادة، فمن أين يتنفس الغريق في البحر نسمات الأسحار؟
إنكم تركضون في حلقة مفرغة، تسيرون سير السواني، تفيقون فتسرعون إلى الطعام تبتلعونه ابتلاعا، والجريدة تلتهمونها التهاماً، فإذا لبستم ثيابكم أسرعتم إلى العمل فانغمستم فيه، فإذا كان الظهر عدتم مسرعين إلى الدار فأكلتم وأسرعتم إلى الخروج، ثم عدتم مسرعين إلى المنام
ثم بدأتم من غد من حيث انتهيتم اليوم! ركض أبداَ، وإسراع دائما، ولا تعرفون إلى أين المسير!
قد غفلتم عن جمال الطبيعة من حولكم، فأنتم تقطعون أجمل مراحل الطريق، مرحلة السحر وأنتم نيام، لا تقفون على الروض تجتلون جمال الروض، ولا ترفعون أبصاركم إلى السماء، تفكرون في عظمة السماء، وغفلتم عن نفوسكم، فلا تخلون بها سعة كل يوم، تسألونها، وتتعرفون أسرارها، وتغوصون على جواهرها
حياتكم كلها مسرعة وسباق! سباق في الخير والشر، إسراع إلى الشر والخير
تسابقتم في قطع المسافات، فصرنا نطير من دمشق إلى بغداد في ثلاث ساعات، وكنا نبلغها في ثلاثة أشهر، فهل ربحنا؟ ربحنا الزمن، ولكنا خسرنا العواطف والشعور. كان الطريق يثير في نفوسنا ألف عاطفة، ويبقي فيها ألف ذكرى، نعيش بها دهراً، فصرنا نقطعه في غمظة واحدة!(988/2)
وتسابقتم في العلم والفن، وفي القتل والتخريب، تهدمون في ساعة، ما تبنونه في سنين، فعل الأطفال والمجرمين والمجانين!
وها أنتم هؤلاء تتسابقون، أيكم أسرع إلى إهلاك البشر، بحرب شيطانية مدمرة لا تبقي ولا تذر. فمتى يستريح هذا الركب المجنون، الراكض المسرع، الذي يقفز كأنه يدوس على ظهور العقارب، ويجري كأن شياطين الجحيم جميعا تطارده
متى يسأل نفسه: ما الغاية، وما المصير؟
متى يقف لينظر إلى أين بلغ، وإلى أين المسير؟
أين يلقى المحطة في هذا السفر الطويل الذي لا غاية له، ولا أول ولا نهاية
في رمضان!
في رمضان يا أيها القارئ
هذه هي المحطة التي أقامها الإسلام في طريق البشرية لتقف عليها وقفة كل عام، تفرع فيها من هم البطن، وهم ما تحت البطن، ليسأل كل نفسه: من أنا؟ من أين جئت وإلى أين أصير؟
من أنا؟ أنا خط طويل، أقله في النور، وسائرة في الظلام، لقد كنت قبل أن اعرف نفسي، وسأبقى بعد ما يذهب عقلي وحسي، ولو حق لي أن أنكر مصيري بعد الموت لأني لا أراه، لحق لي أن أنكر ماضي قبل الولادة لأني ما رأيته.
وما أحوج أبناء هذه الحضارة اليوم إلى مثل هذه المحطة في طريق الحياة!
ما أحوجكم إلى من يذكركم بأن في الوجود ربا، وأن بعد الدنيا آخره، وأن الله ما خلق الناس عبثا، ولا تركهم سدى.
إنكم أغنى منا مالا، وأقوى قوة، وأكثر عمرانا، وأعرف منا بأسرار المادة وسنن الكون، ولكننا أغنى منكم بكنوز الروحيات، فتعالوا خذوا منا، فإن الإنسان قد عاش بلا علم ولا مال، ولكنه لا يعيش بلا روح.
ولقد جعل الإسلام الصلوات الخمس كل يوم، لتعود الروح في هذه اللحظات، إلى عالم الروح، وجعل الصيام شهراً في العام لينطلق الإنسان من إسار المادة شهراً في العام، ويحس اللذائذ العليا، ويتصل بالله(988/3)
لذلك كان رمضان
فيا من لهم رمضان! لا تظنوا رمضان شهر جوع وعطش! إن رمضان شهر صفاء وحب وتأمل، وترفع عن المادة وأوضارها، وعن شهوات النفس وأوزارها، وإعراض عن مشاهد الطريق، للتفكر في غاية الطريق
ويا من ليس لهم رمضان! اجعلوا لنفسكم رمضان مثلنا، تعودون فيه إلى نفوسكم التي نسيتموها، وإلى إنسانيتكم وإلى ربكم
ويا أيها القراء من إخواننا العرب في العالم الجديد، ترجموا هذا الكلام، لإخوانكم (الأمريكان) ليعرفوا ما هو رمضان
علي الطنطاوي(988/4)
الاستعمار البريطاني في الملايو
للأستاذ محمد جنيدي
أعاصير هائجة، ورياح عاصفة، تهب في الملايو لتقويض صرح الاستعمار البريطاني!. . .
أفكار ثائرة، ونفوس غاصبة. . . أبت الاستكانة لسيادة قوم فرضوا نفوذهم على شعوب ضعيفة بوسائل الخداع النفاق، والقوة والطغيان، فسلبوا حقوقها، ومحوا استقلالها، فعادت القهقري إلى حقب بعيدة. . . وقد دار الزمان دورته، وعادة الحياة إلى أجسام الشعوب المستعبدة، ودب النشاط فيها، فشرعت تكافح في سبيل استعادة حريتها المسلوبة، لتعيش على سطح هذا الكون حرة مستقلة، تشارك الشعوب الحرة في حفظ تراث الإنسانية، ودعن أسس السلام العالمي
وعندما وقفت أجهزة الحرب العالمية الثانية في الشرق الأقصى لتستريح من النصب الطويل الذي لاقته في سبيل استعباد الأمم الضعيفة، واستغلال خيرات أراضيها، ظهرت على مسرح السياسة الدولية أجهزة التحرير للشعوب الأسيوية تعمل في ضوء النهار، وفي حلك الليل، للقضاء على الاستعمار الغربي، لتقيم الدليل على حق الشعوب المستعبدة في تقرير مصيرها، كما نص عليه ميثاق الإطلانطيقي. . . الذي كان رمزاً لغاية الدول الكبرى لأعمالها بعد أن تضع الحرب العالمية الأخيرة أوزارها، كما كان شعلة وهاجة تشير بها للشعوب الضعيفة بالسير في موكبها لتنعم بالحياة الحرة الخالية من شوائب الفقر والخوف
لقد بدأت الشعوب الأسيوية المستعبدة تنتهج السبل الموصلة إلى تحقيق آمالها الوطنية، وتتخذ الوسائل الفعالة إلى التخلص من براثن الاستعمار الغربي، منتهزة الظروف القاسية التي أقعدت الدول الكبرى المهيضة الجناح عن المضي في مناهضة الحياة الحديثة الثائرة التي برزت في الشرق تطالب بنصيبها من الحرية
ففي الشرق الأقصى في إندونيسيا، أعلن الإندونيسيون استقلالهم وقيام حكومة جمهورية مستقلة في السابع عشر من شهر أغسطس عام 1945 (بعد مرور يومين على وقوف آلات الحرب والدمار في الشرق الأقصى) وأعدوا عدتهم لملاقاة كل الاحتمالات المتوقعة التي(988/5)
سوف تظهر من جانب الدول الكبرى الاستعمارية، محاولة منها القضاء على استقلال إندونيسيا، وإعادة سيادتها مرة ثانية عليها. . . فاتحدت القوات الاستعمارية - الإنكليزية والهولندية واليابانية - للقضاء على استقلال إندونيسيا، وهدرت أفواه مدافعها تصب نيرانها الحامية على الإندونيسيين الأحرار، وضحى الشعب الإندونيسي في سبيل حفظ حريته وتدعيم أساس جمهوريته كثيراً من النفوس الطاهرة التي قدمت نفسها رخيصة على مذابح الحرية. . .
هذا في إندونيسيا، البلد المجاور لملايو، وهناك على الجانب الآخر من الملايو بلد ثائر غاضب. . . هو (فيتنام) فقد أعلن الفيتناميون الأحرار استقلالهم وظهور جمهورية شعبية مستقلة تتولى إدارة البلاد، وذلك في شهر أغسطس عام 1945
ولم ينج الفيتناميون الأحرار من غضب المستعمرين الغربيين الذين لعبوا دورهم السياسي والعسكري في فيتنام. . . فجهزوا عليهم جيوشاً جرارة للقضاء على حكومة فيتنام الحرة، كما سلحوا أذنابهم من الفيتناميين أتباع الإمبراطور باوداي، وقد خلق المستعمرون في الهند الصينية قوة دولية للقضاء على حكومة فيتنام الحرة، وبذل الفيتناميون دماءهم وأرواحهم في سيبل حفظ حكومتهم الحرة، ولا يزالون يكافحون الجيوش الاستعمارية ويكبدونها الخسائر الفادحة حتى تعترف السلطات الاستعمارية بحريتهم واستقلالهم، وفي خضم هذه المعارك التحريرية الأسيوية في الشرق الأقصى تحرك الشعب الملايوي، والتف حول زعمائه الأحرار، فنظموا صفوفهم ووحدوا جهودهم، وأنشئوا الأحزاب السياسية، وأقاموا المنظمات الثقافية، لتتولى شؤون الحركات التحريرية التي تتطلب التضحية في المال والرجال، ليقيموا حياة جديدة حرة في وطنهم الذي يلاقي الأمرين من الاستعمار الإنكليزي
لقد نهض الشعب الملايوي بعد ما رأى المعارك الاستقلالية الدامية تدور حوله بين الأسيويين الأحرار والغربيين المستعمرين، فطالب السلطات البريطانية بحرية بلاده، مستندا في ذلك إلى حقه الطبيعي والشرعي في الحرية والاستقلال، وعلة ما جاء في ميثاق الأطلسي الذي ضمن للشعوب الضعيفة حق تقرير مصيرها
وهنا تقف إنكلترا حائرة في هذا الجو المضطرب، أو في هذا الخضم الثائر في الشرق الأقصى، فالحركات الاستقلالية تلفح نارها الهند الصينية التي يقاتل فيها الفرنسيون قتالا(988/6)
مريرا لإيقاف الزحف الشيوعي عن مناطق نفوذهم فيها، وتؤيد - إنكلترا فرنسا في حركتها العسكرية الضخمة في الهند الصينية لصد التيار الشيوعي عن المستعمرات الغربية في الشرق الأقصى فتشبثت إنكلترا بحقها الدولي في بقاء سيادتها على الملايو، وكان رد فعل لهذا أن غدت ملايا بركانا ثائرا، يشيع فيها الاضطرابات والثورات
إن الاستعمار الغربي في الملايو هو المسئول الأول عن الاضطرابات الحاضرة في جميع أنحاء ملايا، أو بعبارة - أوضح إن الاستعمار الغربي هو الذي أثار هذه الاضطرابات، وأشعل هذه الثورات، فالثورة الحاضرة في الملايو هي ضد الاستعمار البريطاني الذي رفض التسليم بحق الملايويين الشرعي في حرية بلادهم، وهي ثورة شعب على وضع يناهض تقدمه ويعرقل سيره. فلو أن السلطات الاستعمارية البريطانية قدرت مدى تغلغل الروح القومية في نفوس الشعب الملايوي كما قدرت مدى انتشار الروح الوطنية في الهند، لأفسحت المجال للشعب الملايوي ليسير في طريق الحرية والاستقلال، وليلحق الشعوب الأسيوية التي سبقته في هذه المضمار فغدت حرة مستقلة، ولكنها أغمضت عينيها عن هذه الروح الثائرة وعن هذه الحركات الهائجة، فأرسلت جيوشها الجرارة إلى الملايو لتخمد أنفاس الملايويين، وقد بلغ عدد الجنود التي - قذفتها بريطانيا إلى ملايا بعد الاضطرابات الحاضرة مائة وخمسة وعشرين ألف جندي، وتؤيدها مائة ألف جندي كانت موجودة في ملايا قبل الحوادث الأخيرة
يزعم الاستعمار الإنكليزي في الملايو بأن بقاءه فيها هو لحفظ النظام الديمقراطي والحقوق الإنسانية من داء الشيوعية التي تقضي على الحقوق الديمقراطية، وتقلب أوضاعها رأسا على عقب، وهذا الزعم ينهار تحت الحقائق الناصعة التي تثبت أن الشعب الملايوي شعب شرقي مسلم قد حماه دينه من العقائد الضارة والنظم الفاسدة التي تهدم كيان المجتمع
وهناك ادعاء آخر، وهو آخر ما في جعبة إنكلترا من الادعاءات التي تبرر بقاءها في الملايو، وحقها في استعمال الأسلحة ضد الثوار، وهو أن الثوار في ملايا ليسوا هم الوطنيين بل هم الصينيون الشيوعييون الذين يستمدون العون من الصين الشيوعية، وغايتهم القضاء على الاستعمار الإنكليزي في الشرق الأقصى. فهل هذا الادعاء قائم على دليل مستخرج من الحياة الملايوية الحديثة تستند عليه إنكلترا في حق قيامها بواجبها(988/7)
العسكري للقضاء على الحركات الشيوعية في الملايو؟ لا. . . إنه ادعاء لا يرتكز على دليل ملموس. وهو إدعاء باطل، أريد به تضليل العالم بأن الملايويين قانعون بحياتهم الحاضرة تحت ظل الحكم البريطاني. . . وهذا إفك وافتراء. . . فإن الشعب الملايوي قد أبى الخضوع للحكم البريطاني، ولا يريد إلا التحرر من نفوذه الذي عاقه عن الحركة والتقدم مدى قرون طويلة
وإذا درسنا الحياة الحديثة في ملايا دراسة صحيحة من الناحية السياسية والثقافية - وهما الناحيتان البارزتان - لمعرفة مستوى نضوج الشعب، نجد أن الشعب الملايوي كغيره من الشعوب الأسيوية التي كانت مستعبدة قد عرقل سيره الطبيعي الاستعمار البريطاني، فالحكم البريطاني قد أغلق أبواب العلم والمعرفة أمام الشعب الملايوي، وحصره في محيطه الضيق، وفي أفقه العادي، لا يرتشف من مناهل العلم، ولا يتصل بالعالم الخارجي، برغم أن هذا الشعب محب للعلم، تواق إلى المعرفة، فهو شعب مسلم، يحثه دينه على التسلح بسلاح العلم، والتزود بالفنون الحديثة، كما أن الاستعمار البريطاني قد حظر على الشعب الملايوي إنشاء الأحزاب السياسية، وإقامة المنظمات الثقافية، فمنذ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها لم تظهر في ملايا أحزاب سياسية أو منظمات ثقافية تدعو الشعب إلى التحرر من الاستعمار البريطاني؛ فالسلطات البريطانية أبعدت الشعب الملايوي عن ميادين الجهاد المقدس بعد الحرب العالمية الأولى كيلا تتقلص سيادتها عن ملايا، بينما كانت الأحزاب السياسية والمنظمات القومية قد برزت في إندونيسيا من 1908 وهي البلد المجاور لملايا
ومن المشكلات الصعبة التي تعانيها ملايا في حركاتها التحريرية اليوم، مشكلة الجاليات الأجنبية. فالزعماء - الملايويون يريدون التوفيق بين وجهات نظرهم ووجهات نظر الجاليات الأجنبية التي تكون عدداً مساوياً لعدد الوطنيين. . . ويبلغ عدد سكان ملايا خمسة ملايين ونصف مليون نسمة، ومن الطبيعي أن وجود هذا العدد الهائل من الأجانب في ملايا له تأثيره البارز في الحركات التحريرية الملايوية - نجاحا وفشلا، تقدما وتدهوراً
والتوفيق بين وجهات نظر الملايويين والأجانب هو كما يريده الملايويون الأحرار، اندماج الأجانب وهم يمثلون الصينيين في القومية الملايوية، بحيث يشعرون بما يشعر به(988/8)
الملايويون من الآلام والاحساسات إزاء مشكلتهم القومية الكبرى. وقد تشبث الصينيون بوجهة نظرهم وهي بقاؤهم متمسكين بقوميتهم الصينية، ووجوب انتقال سيادة ملايا إليهم، وظهر من هذا تباين تام في الآراء والأفكار، واختلاف في الشعور والإحساس بين الملايويين والصينيين، وهذه العوامل المعنوية لها تأثيرها الخطير في الحركات القومية الملايوية، ولا شك أن هذا التباين من أحد العوامل التي تعرقل سير الحركات التحريرية الملايوية اليوم. ويجد الشعب الملايوي نفسه أمام عاملين خطيرين يناهضان حركاته ومقاوماته ضد الحكم الأجنبي. فالعامل الأول هو الاستعمار البريطاني، والعامل الثاني هو العدد الهائل من الصينيين الذين يشعرون بشعور وطنهم، ويحسون بإحساس بلادهم، ويستغرب القارئ الكريمن من وجود هذا العدد الكبير من الصينيين في بلد صغير كملايا، ونحن نوضح له أسباب ذلك
إن الاستعمار الإنكليزي هو الذي فتح أبواب الهجرة أمام الصينيين في ملايا، منذ بدأ يبسط حكمه عليها، كي يجد الملايويون عنصراً أجنبياً يزاحمه ويقعده عن العمل، سواء كان في حقل الاقتصاد أو في ميدان السياسة. وقد نجحت السياسة الاستعمارية الإنكليزية في عملها نجاحا تاما، فاليوم يجد الملايويون الأحرار عقبة كأداء في سبيل حل قضيتهم الوطنية مع السلطات البريطانية، فالصينيون ويبلغ عددهم مليونين ونصف مليون يطالبون الحكومة البريطانية بالسيادة على ملايا، تاركين الشعب الملايوي صاحب البلاد وراءهم. وقد أنتج موقف بريطانيا الصلب العنيد تجاه مطالب الملايويين في الحرية والاستقلال أن قام الصينيون بأعمال التخريب والتدمير في الملايو مشوهين بذلك روعة الحركات التحريرية الملايوية التي شملت جميع أنحاء ملايا. ويدل سير الحركات التحريرية اليوم في الملايو على أن الشعب الملايوي سائر في طريقه المرسوم. . . لتحقيق حريته واستقلاله برغم العوامل المناهضة له؛ وتشرق على ربوع وطنه شمس الحرية، فيغدو شعبا حرا يشارك شعوب العالم في إقامة صرح حياة جديدة قائمة على أساس العدل والرخاء
وإتماما لهذا العرض الموجز عن الاستعمار الإنكليزي في الملايو أقدم للقارئ الكريم موجزاً عن الوضع الإداري الحاضر في ملايا، وعن مركزها الاستراتيجي، وعن النشاط الثقافي الذي سيكون له الأثر الكبير في نجاح الحركات التحريرية التي يستعر لهبها في ملايا(988/9)
تنقسم ملايا على بضع ولايات يتولى الحكم على كل منها حاكم يلقب بسلطان، تنتقل سلطته إلى ذريته من بعده. ولكل سلطنة مظاهر الدولة والحكومة، جيش وعلم وطوابع بريد وإدارات حكومية وقضائية ومالية، وبجانب السطان الوطني مستشار بريطاني يستمد سلطته من وزارة الخارجية البريطانية، وللحكومة البريطانية ممثل لها يلقب باسم (المندوب السامي) وهو الذي يشرف على سياسة ملايا الخارجية والمالية والعسكرية، وهناك بعض مقاطعات تحت الإشراف البريطاني المباشر، وتعدها بريطانيا ممتلكات لها
وتحتل ملايا مركزا هاما من الناحية الاستراتيجية لدول شرف جنوب آسيا، إذ تتسلط على مدخل الهند - وبورما وسيام والهند الصينية وإندونيسيا، وقد جعلت بريطانيا من جزيرة سنغافورة قاعدة حربية تتحكم في مياه المحيط الهندي
والحياة الثقافية الحاضرة في ملايا تبعث على الاطمئنان على مستقبلها، فقد فتح الأحرار الملايويون المدارس، وأنشئوا المنظمات الثقافية لتنوير أفكار الشعب، وتوجيهه إلى ما فيه نجاحه في حركاته التحريرية الحاضرة، ولنا عودة إلى البحث عن الحياة الحديثة في الملايو، لعلنا نوفق في إعطاء القارئ الكريم معلومات دقيقة عن ملايا الحديثة
محمد جنيدي(988/10)
خواطر مسجوعة
الصوم سمو بالإنسانية
للأستاذ حامد بدر
الصوم سمو بالإنسانية: وتحرر من الحيوانية؛ فإن الشبع يدني الآدميين من البهائم، ويقلل الفرق بينهم وبين السوائم؛ والصوم يبعد أولئك عن أولئك، ويدني الأناسي من الملائكة
والصوم تعذيب، لكنه تأديب وتعذيب؛ يقهر الطغاة، وينشر المساواة؛ فالمحروم فيك كالمالك، لا فرق بين هذا وذلك
والصوم حرمان، لكنه إذعان وإيمان؛ فلا يكون ظمأ وجوعاً، قبل أن يكون إنابة إلى الله ورجوعا
شرع ليألف الصائم الزهادة، ويفقه حقيقة الورع والعبادة، فيقنع بما يكفيه مختارا، بعد أن أقنع إجبارا. ويرحم الفقير والمسكين، ويقدم من أيام الدنيا ليوم الدين، تاركا ما فضل لغيره، مشركا المحروم في خيره. ذاكرا أن ما عنده إلى نفاد، وأن البر والتقوى هما خير الزاد
ولا صوم لمن أمسك فكيه عن الطحن، ولم يمسك ما بينهما عن الطعن؛ أو صام عن الزاد، ولم يصم عن إيذاء العباد، فتناثر عابه، وتكاثر سبابه، واشتد هجره، ونفد صبره
فإن من لم يتق راضيا، ولم يبلغ مرضاة ربه متفانيا، ذهب صومه ضحية ثورته، وتلاشى ربحه أمام خسارته، وسبقه الحيوان الذي يصوم الأيام في صبر ودعة، ويصل في صومه الليل والنهار من غير بعبعة. يطوي البيد طويا، ويطأ الرمضاء صاديا راضيا
والصوم سر بين العبد ومولاه، لا يطلع على حقيقته إلاه. تبيت ناويا، وتصبح طاويا، زاهدا في مطعمك ومشربك، من فجرك حتى مغربك، كلما ألح الظمأ والسف عليك، والزاد في متناول يديك، قال الضمير: أمسك، واحكم نفسك بنفسك، وأذقها الحرمان، من آن إلى آن؛ لا تخضع لها دهراً، وتحرر في العالم شهرا. وتب إلى الله نصوحا، واخشع له جسدا وروحا. فإن أعز أهل العزة ذليل بين يدي الله. وأذل أهل الذل ذليل بين يدي هواه!
حامد بدر(988/11)
فضل المدنية العربية على المدنية الغربية
للدكتور فيليب حتي
أستاذ التاريخ بجامعة برنجستون بالولايات المتحدة
خلاصة موجزة لسبع محاضرات ألقاها الأستاذ باللغة
الإنجليزية في جامعة سان باولو
3 - في الفلسفة
كان للعرب قبل الإسلام أمثال وأقوال حكيمة يتداولونها على الألسنة ويتناقلونها من جيل إلى جيل، وكان لابد من الانتظار إلى ما بعد الفتح كيما يحكموا الاتصال بالفلسفة اليونانية عن طريق الترجمة بواسطة العلماء السوريين واللبنانيين قبل أن تغتني اللغة العربية بنظام فلسفي
وكان حنين بن إسحق (توفي 873) السوري المسيحي شيخ المترجمين في أيام الخليفة العباسي المأمون في بغداد؛ وهو الذي نقل مع تلاميذه فلسفة أرسطو والأفلاطونيين الجديدين من اليونانية إلى الآرامية لغة البلاد السورية ومن هذه إلى العربية. وللحال أصبح أرسطو (المعلم الأول) في الإسلام، وكان لابد من التوفيق بين تعاليمه وتعاليم القرآن، وهو المشكل الذي شغل أفكار فلاسفة العرب الأولين
وأول فيلسوف عربي عنى بهذا الموضوع هو الكندي الذي زها في أواسط القرن التاسع. وكان الكندي فيلسوفا ورياضيا وموسيقيا. وتبعه الفارابي من مواليد تركستان ودفين دمشق (950) الذي أصبح (المعلم الثاني) بعد أرسطو ووضع كتابا بعنوان (المدينة الفاضلة) على منوال (جمهورية أفلاطون)
كذلك فلاسفة العرب في الغرب فإن جهودهم العقلية تتوجت بالتوفيق بين الإسلام وفلسفة اليونان. وكان نجاحهم موفورا لأن الإسلام لم يكن فيه من العقائد والأسرار ما في المسيحية، ولم يكن له رجال دين لهم رأس ونظام شامل. ومن المعلوم أن الفلسفة اليونانية هي أعظم تراث من الفكر الأوربي القديم، والإيمان بوحدة الله هو أعظم تراث من الفكر السامي القديم. وهذان المجريان الفكريان التقيا في إسبانيا المسلمة وسارا جنباً إلى جنب(988/12)
متسالمين متصافيين
إن مشاكل التوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية هو نفسه اعتراض العلماء السكولاستيكيين، ولكنهم لم يوقفوا إلى حله لما في العقائد المسيحية من التعقيد ولما في الكنيسة من الأنظمة الأكليركية
والفضل الأكبر في شرح أرسطو وجعله مقبولا لدى الإسلام أولا والمسيحية ثانياً يعود إلى ابن رشد القرطبي (توفي 1189) الذي ترجمت شروحه في طليطلة في أواخر القرن الثاني عشر إلى اللاتينية وترجمت أيضاً في صقلية إلى هذه اللغة، لغة العلم في تلك الأيام وما لبثت أن أصبحت كتب التدريس الفلسفية في جامعات إيطاليا ومنها نابولي، وإسبانيا ومنها قرطبة، وفرنسا ومنها باريس؛ وغيرها من البلدان الأوربية
وابن ميمون اليهودي (توفي 1204) معاصر ابن رشد قام في سبيل الفلسفة اليهودية بالخدمة التي قام بها ابن رشد في سبيل الفلسفة الإسلامية. وكانت طريقه في التوفيق تفسير بعض آيات الكتاب المقدس تفسيراً مجازيا استعاريا. ومن الواضح أن البيرت ماغنونس وسبينوزا وكانت وغيرهم من فلاسفة أوربا المتأخرين من مسيحيين ويهود تأثروا بأفكار ابن ميمون
ونشأ في غرناطة فيلسوف مسلم لم يسبق له مثيل في تاريخ الفلسفة وهو ابن طفيل (توفي 1185) الذي وضع رواية (حي ابن يقظان) حاول فيها إثبات أن المرء إذا ترك لنفسه ولم يتأثر بعوامل خارجية من تربوية أو غيرها يستطيع أن يدرك حقيقة الخالق وواجباته نحوه، وبذلك أزال الحائط الفاصل بين ما هو طبيعي وما هو فوق الطبيعة. وترجم هذا الكتاب البديع إلى اللاتينية أحد أساتذة أكسفرد عام 1671. ومما لا ريب أن (قصة روبنسون كروسو) الطريفة منسوجة على منواله
4 - في الفن
ذهب المسلمون إلى أن تمثيل الإنسان أو الحيوان بواسطة التصوير أو النحت أو الحفر إنما هو نوع من الخلق. والخلق هو ميزة إلهية فلا يجوز للإنسان أن يحاوله. وذلك كله نتيجة الاعتقاد بوحدة الله وأثر العبرانية القائلة بمنع عمل الأصنام
لذلك اقتضى أن يظهر الإسلام ميله الفني بوسائل جديدة من الزخرفة واستخدام الألوان(988/13)
الزاهية المتناسبة والأساليب الهندسية والنباتية
أما الفرس الذي كان لهم تقليد فني عريق فإنهم بعد دخولهم في الإسلام استنبطوا التصوير المصغر، وأول كتب ظهرت فيه هذه التصاوير هي (كليلة ودمنة) و (المقامات). وفي إسبانيا تأثر المسلمون بالتقليد المسيحي، فلم يتردد عبد الرحمن الثالث الذي أعلن نفسه خليفة عام 929 عن وضع تماثيل إحدى سراريه في قصر الزهراء الذي شاده على اسمها. كذلك أقام بنو نصر الذين بنو الحمراء تماثيل للأسود فيها
برع العرب في الشرق والغرب في الفنون الصناعية. فالقرميد الملون لم يزل في الإسبانية والبرتغالية معروفا باسمه العربي (الزيجي). وبفضل العرب أصبحت طليطلة وقرطبة ومالقة مراكز هامة للخزف. وأصبحت طليطلة مركزا للقواطع والسيوف كما كانت دمشق. ولم تزل صناديق عاجية كثيرة من صنع قرطبة معروضة في متاحف أوربا وأميركا للآن. واشتهرت بلنسيه بصناعة الزجاج التي امتازت بها سورية ولبنان من العهد الفينيقي، ومن إسبانيا انتقلت هذه الصناعة إلى فرنسا وغيرها فتمركزت صناعة الخزف في بواتيه وقلدها عملة أولئك حتى القرن الخامس عشر
ومن الفنون التي رقاها أبناء العرب فن الخط الذي تقلده الصنعة المسيحيون على الأواني دون أن يفهموا فحواه
وبلغت الأقمشة حدا من الانتشار لم تبلغه قبل الفتح الإسباني والحروب الصليبية. ومن الكلمات العربية التي أخذها الإفرنج من العربية (مصلن) من الموصل و (بلدكن) من بغداد و (ديوان)
وفي البناء أسلوب معروف يدعى الأسلوب المغربي الذي امتزجت فيه عناصر إسلامية وغوطية مسيحية. ومن مميزات هذا الأسلوب القنطرة المشابهة لنعل الحصان والتي كان ظهورها للمرة الأولى في المسجد الأموي بدمشق في أوائل القرن الثامن. وقصور طليطلة وإشبيلية وقرطبة هي من أهم الآثار البنائية العربية وأجمل أثر هو الحمراء. أما المسجد الذي بناه عبد الرحمن الأول (توفي 788) وفيه 1293 عموداً فإنه الآن كاتدرائية. والزهراء لم يبق منها أثر مذكور
والكلمات التي يستعملها البناء والنجار في الإسبانية والبرتغالية معظمها عربية الأصل.(988/14)
ومن أمثلة ذلك (الخزانة) و (القبة) و (الدعامة) و (الشطيحة) و (الطاقة)
ومن آثار الموسيقى كلمات عربية كثيرة لم تزل إلى يومنا الحاضر دارجة في اللغات الغربية. ومنها (العود) و (القيثارة) و (الصنوج) و (النفير) و (البوق)
البقية في العدد القادم
فيليب حتي(988/15)
براعم شعراء الشباب
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
في فصل الربيع من كل عام تأخذ الأرض زخرفها، وتلبس أجمل ملابسها المزركشة الملونة بأجمل الألوان، وتتجلى مفاتن الطبيعة في أبهج صورها البهية على ضفاف الترع والجداول وشواطئ والأنهار، بأفواف الأزهار والنوار والرياحين، وفي بطون الوديان وعلى ظهور الكثبان وبين جنبات الحقول والبساتين
وتبدأ الأشجار تروي قصة الخصب والري والنضارة، وتؤدي دورها الخالد المتجدد على مسرح الحياة، تكتسي بعد عرى، وترتوي بعد ظمأ، وتلين بعد جفاف طويل. كل يوم يمضي تبرز إلى الوجود براعم جديدة وليدة، تبدو على جوانب الأغصان، وتتفتح على أشعة الشمس، وتنعقد عليها أكاليل الندى كل صباح
هذه البراعم الجديدة الوليدة في الحدائق والبساتين هي براعم شعراء الشباب في حديقة الشعر والشعور
تظل براعم الأشجار تتجدد وتتعدد وتنمو في كل ربيع، بعضها يبلغ منتهاه ويصل إلى مداه في النمو الدائم عاماً بعد عام، وبعضها يدركه العطب أو يلحقه الجفاف فيذوي وهو غصن صغير
وهكذا براعم شعراء الشباب!
بعضهم تنمو قريحته وتزهو عبقريته عاماً بعد عام، فيتوالى إنتاجه ويتضح منهاجه وتصفو ملكته من الصنعة أو الزيف أو التقليد، وبعضهم يدركه العجز أو الوهن فيظل كالفاكهة الفجة، هي على الشجرة فاكهة بين الفواكه، ولكنها لا تروق ولا تشوق ولا تذاق!
في النصف قرن الأخير، شهدت مصر خاصة، وشهد العالم العربي عامة، بل شهد العالم في كل قطر ومصر - نهضة أدبية شاملة، في كل لون من ألوان الأدب، وفي كل عصر من عناصر الفن؛ كانت رد فعل طبيعي لما ران على العقول والمواهب والملكات، من ظلمات العصور الغابرة: عصور الظلم والنهب والاستبداد في الحكم، وعصور الجهل والجدب والتقليد في الآداب والعلوم والفنون
وكان حظ مصر عظيما موفورا في الحالين: كان حظها في عصر المماليك وقبله بقليل(988/16)
بضع محسنات لفظية سخيفة يسعى إليها الشاعر سعيا واضحا مكشوفا كاللص الأبله يسرق الناس في رائعة النهار! فإذا تجاوز المحسنات كان همه السطو على المعاني القديمة أو تقليد كبار الشعراء في عصور الحضارة السالفة، وكان حظ مصر عظيما في النهضة الأدبية الأخيرة المباركة في كل وجه من وجوه الثقافة، ولا سيما الشعر، فقد قطعت فيه شوطا بعيدا وأحرزت فيه قصب السبق في حلبة الفنون
في الخمسين سنة الأخيرة، منذ وفاة محمود سامي البارودي، أول طلائع النهضة الحديثة، إلى الآن - لمعت في سماء الشعر شموس وأقمار وكواكب متعددة، توشك أن تكون خمسين شاعراً، وهو عدد - بحمد الله - ليس بقليل!
ربما يخطر في بالك الآن، هذا المثل العامي الظريف: (العدد في الليمون. . .!) وربما تستغرق في الفكاهة، أو تسرف في التجني، فتقول: إن خمسة فقط من هؤلاء الخمسين هم الخالدون الذين يعتد بهم ويعول عليهم، وتحفظ أشعارهم على أنها نماذج رائعة للخيال المنتج والتعبير الجميل، ومناهج مبتكرة للشعور الصادق والفن الأصيل. وأن هؤلاء الخمسة كالصلوات المكتوبة. خمس في العدد، وخمسون في الأجر والثواب!
فدعني أسألك هذا السؤال: من هؤلاء الخمسة الشعراء؟ فتسرع بالجواب: البارودي وصبري وشوقي وحافظ ومطران، فأقول: هؤلاء جميعا في فراديس الجنان، فما بالك بالأحياء؟ فتقول: العقاد وناجي ورامي وعزيز أباظة وعبد الرحمن صدقي، فأستدرك قائلا: ولكن في الطائفة الأولى أعلاماً يجب أن تذكر بالحمد والثناء. حفني ناصف وولي الدين يكن ومحمد عبد المطلب وأحمد محرم وعلي الجارم وزكي مبارك وعلي محمود طه وعبد الحميد الديب وفخري أبو السعود، وفي الطائفة الأخيرة عبد الرحمن شكري ومحمد الأسمر وصالح جودت ومحمد مفيد الشوباشي وبعد اللطيف النشار. . فتصيح من فرط الغضب أو من فرط الدهشة، أو من ملل السرد على الأصح: آمنا وصدقنا يا أخي!! عشرون شاعراً أو ثلاثون. . .
كم شاعراً من هؤلاء جميعا يستحق الدراسة، ويحتاج إلى البحث والاستقصاء؟ - جميعهم بلا استثناء. .!
نعم جميع هؤلاء الشعراء في حاجة ماسة إلى دراسة جديدة تبتعد عن الغلو والملق(988/17)
والمجاملة، وعن التجني وسوء الظن والزراية. وقد كتبت فيهم جميعا كتابات أكثرها إن لم يكن جميعها لا يخلو من عيب من هذه العيوب
وليس هؤلاء الشعراء وحدهم في حاجة إلى أمثال هذه الأبحاث، بل إن هناك من هم أحق منهم بهذه الدراسات وأولى بالنظر والتعريف. . . هؤلاء هم شعراء الشباب
ما أحوج شعراء الشباب جميعا إلى دراسات منظمة وأبحاث مستفيضة في اتجاهاتهم الفنية ومذاهبهم الشعرية وألوانهم المختلفة في الشعور والتعبير، وما اشد حاجة هذه البراعم الغضة البضة في حديقة الشعر إلى من يتولاها بالري والتشذيب وينير لها السبل. في الصفوف الخلفية مواهب وقرائح وعبقريات ومبعثرة، أكثرها مع الأسف مدفون في التراب، لولا ما يتنفس به بعضهم حينا بعد حين، في الهواء الطلق والجو الفسيح ولو أتيحت الفرصة المناسبة لكثير من براعم شعراء الشباب لكان لنا طبقة جديدة وجبهة قوية تتجه بالشعر إلى أسمى المناهج الحديثة، وتصل بالفن إلى أعلى مراتب الخلود
وإذا كانت هذه البراعم الغضة في حاجة إلى النقد والتمحيص فلكي ننوه بها ونشد أزرها ونشجعها على السير الطويل في طريق الشعر بخطى راسخة وبجهاد لا يلين، بدقة وفطنة وإحكام؛ حتى لا تتكرر المأساة من جديد. . . مأساة التخبط والتقليد
لو أن إسماعيل صبري أخلص النصح لشوقي، وزين له في نشأته الأدبية اعتماده على نفسه، فنبت على ساقه وغاص إلى أعماقه، وعبر عن نفسه ورأيه وشعوره لكان لنا في شوقي (أمير الشعراء) غير الذي كان. . .!
ولو أن شوقي رسم الطريق أمام رامي، فحبب إليه الجزالة والرصانة والفحولة - لكان رامي شاعر الشباب الدائم ولو جاوز التسعين. . .!
ولو أن مصطفى علي عبد الرحمن، اغترف من بحر رامي، ونسج على منواله في الشعر الغنائي مع تعمق ورسوخ لرق شعره وراق!
ومن ناحية أخرى لولا أن العقاد آثر ابن الرومي كل هذا الإيثار، وأحب مذهبه الشعري كل هذا الحب - لما جنى ابن الرومي على شعر العقاد، وكاد يجعل بعضه سراديب عقلية وفكرية ينقصها نور العاطفة المشبوبة في شاعر كبير كالعقاد. .!
وكذلك ولولا أن سيد قطب وأحمد مخيمر والعوضي الوكيل هاموا زمناً طويلا بشعر العقاد(988/18)
وطريقة العقاد - لكان لإنتاجهم رونق أجمل ولشخصيتهم صور تختلف عن الأصل في بعض الملامح والسمات!
من هنا تبدو بوضوح جناية التقليد والاحتذاء، وتبدو من الجانب الآخر جناية السير على غير هدى ولا اقتداء. ومن هنا أيضاً تأتي مهمة الناقد الأمين الحريص على رسم الخطوط، وهداية الضال إلى الطريق القويم
ويخيل إلى أن نقد كبار الكتاب والشعراء والفنانين عامة ليس نقدا صحيحا صريحا؛ لأنه يغلب عيه الإعجاب والإكبار، وتبرير الأخطاء أحيانا، وأحيانا يغلب عليه التهجم والتنقص والتجريح لسبب من الأسباب
ويخيل إلي أيضاً أنه مضت فترة طويلة خلا فيها الجو الأدبي من النقد الصحيح في ميدان الشعر الحديث، وأن الحاجة ماسة إلى ناقد يكمل هذا النقص ويسد هذا الفراغ الموحش الرهيب. وسأحاول بقدرتي المحدودة وجهدي الضئيل، أن أحمل على عاتقي هذا العبء الثقيل
وأود قبل أن أتناول بعض الشعراء بالنقد والدراسة أن أشير إلى منهجي في البحث إشارة خاطفة: سأخص كل شاعر على انفراد بدراسة مجملة أنبه فيها إلى الخطوط الرئيسية في شعره، فأشيد بحسناته ومزاياه، وأشير إلى بعض العيوب رجاء اجتنابها والسعي الحثيث إلى الكمال، على أنني سأبدأ بدراسة (براعم شعراء الشباب)؛ لإمكان انتفاعهم بهذه الدراسة، وشحذ ملكتهم النفاذة إلى الأعماق. وسأتناول شعراء مصر وشعراء البلاد العربية؛ ففي كل بلد منها طائفة من شعراء الشباب النابهين؛ في الإغضاء عن الإعجاب بقدرتهم الفنية إثم كبير
وليس في استطاعة أحد أن يلم بكل هذا العدد الضخم من النابهين والمغمورين من الشعراء، وسأقتصر على اختيار بعض نماذج صالحة للعرض والتقديم، من المغمورين أولا ثم من المعروفين أخيراً ممن يناط بهم الرجاء. وقد أشرت إليهم إشارة موجزة في كلمتي السابقة، وفي الكلمات التالية إن شاء الله تفصيل هذا الإجمال. وإلى اللقاء مع الشعراء كل أسبوع
أحمد أحمد العجمي(988/19)
أبو العتاهية
للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي
أبو العتاهية مع الفضل بن الربيع وزبيدة
وعدنا في المقال السابق أن نورد الأدلة التي تثبت صحة ما ذهبنا إليه من أن الفضل بن الربيع وزبيدة قد شجعا أبا العتاهية على الإضراب عن إنشاد شيء من شعر الحب للرشيد ووعداه المال والحماية من كل سوء يتعرض له بسبب ذلك الإضراب. وقد حان اليوم موعد الوفاء بذلك الوعد، وسنبدأ بما يتعلق من ذلك بالفضل. ولعل أول ما يلفت نظر الباحث إلى وجود علاقة بين الشاعر وبينه هو انقطاع الشاعر عن مجالس الخليفة بعد شهور قلائل من تولي الفضل الحجابة للرشيد. والحق أن ذلك التقارب في الزمن بين الحدثين كان أول ما نبه أذهاننا إلى احتمال وجود علاقة بينهما. بل كان الشرارة الأولى التي انبعثت من أعماق ذلك الماضي البعيد لتفتح أعيننا على ما كان من انزلاق الشاعر إلى ميدان السياسة وتعاونه مع الفضل وزبيدة
وإن المرء ليعجز عن أن يجد مناسبة أخرى لتشدد الشاعر في مطالبة الرشيد بالتدخل السريع في أمر زواجه من عتبة، وإنا لنسأل أنفسنا لم اختار الشاعر ذلك الوقت بالذات؛ مع أن أنسب الأوقات لمثل ذلك الموقف الصلب كان عقب موت الخيزران، فقد كانت عتبة تعتذر عن الزواج باحتياج سيدتها إليها وعدم رغبتها في إغضابها؛ أما وقد توفيت الخيزران سنة ثلاث وسبعين ومائة للهجرة فإنا لنعجب لم انتظر الشاعر بعد سبع سنوات كاملة ليثور فجأة سنة ثمانين ومائة للهجرة؟. وما صمت في رأينا إلا لعجزه، وما ثار إلا لتقويه بما رأى من تشجيع الفضل وزبيدة
ويلفت النظر أيضاً ما أورده ابن الشاعر خاصا بإضراب أبيه عن قول الشعر في الحب: (. . . لما ذهب الرشيد إلى الرقة لبس أبي الصوف وتزهد وترك حضور المنادمة والقول في الغزل. . .) أليس للمرء أن يسأل لم أختار أبنه ذهاب الخليفة إلى الرقة ليؤرخ به لإضراب أبيه عن القول في الغزل؟ ألا يمكن أن يكون هناك علاقة بين الحدثين. يبدو لنا أن الرشيد إنما ذهب إلى الرقة فرارا من زبيدة التي كانت تدفعها غيرتها الشديدة التي التضييق على أأاتايي وتنغيصه كلما خلا إلى جارية من جواريه؟ فإذا صح هذا الافتراض(988/20)
كانت العلاقة بين الحدثين قوية، إذ يتصل كل منهما بالنزاع الذي كان قائما بين الخليفة وزوجه حول اتصاله بجواريه على حسابها
ولندع هذا الاستنباط جانبا؛ لنعط للشاعر للفرصة كي يتحدث لنا بصراحة عما كان بينه وبين الفضل من اتفاق في هذا الشأن: - يروي أبو الفرج في الأغاني أن الرشيد وجد وهو بالرقة على أبي العتاهية وهو بمدينة السلام؛ فكان أبو العتاهية يرجو أن يتكلم الفضل بن الربيع في أمره فأبطأ عليه بذلك فكتب إليه أبو العتاهية: -
أجفوتني فيمن جفاني ... وجعلت شأنك غير شأني
ولطالما أمنتني ... مما أرى كل الأمان
حتى إذا انقلب الزما ... ن علي صرت مع الزمان
فكلم الفضل فيه الرشيد فرضى عنه ورجع إلى حالته الأولى. ولعل القارئ يرى معنا صحة ما ذهبنا إليه من صراحة هذا النص فيما ندعيه من وجود اتفاق سابق بين الشاعر والفضل، وإلا فلم يتوقع أبو العتاهية أن يتكلم الفضل في أمره؟ ولم يسرع بتقريعه حين يتباطأ في ذلك التكلم؟ ثم انظر إلى الشاعر وهو يبدي دهشته وعجبه من أن يجفوه الفضل فيمن جفاه من الناس نتيجة لغضب الرشيد عليه كأن لم يكن هناك صلة بينهما، ثم يذكره في البيت الثاني بما كان من تشجيعه له على الثورة ضد الرشيد، مؤكدا له أنه لن يتعرض لمكروه ما بسبب تلك الثورة
ومن أدلة ذلك التفاهم والتعاون أيضاً ما كان يصيبه الشاعر من مال الخلفاء نتيجة لتوسط الفضل له، وأمثلة ذلك كثيرة، فمنها ما حدث به الأغاني من أن الرشيد قد حم يوما فذهب أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع برقعة فيها:
لو علم الناس كيف أنت لهم ... ماتوا إذا ما ألمت أجمعهم
خليفة الله أنت ترجح بالنا ... س إذا ما وزنت أنت وهم
قد علم الناس أن وجهك يسـ ... تغني إذا ما رآه معدمهم
فأنشدها الفضل بن ربيع الرشيد فأمر بإحضار أبي العتاهية فما زال يسامره ويحدثه حتى برئ ووصل إليه بذلك السبب مال جليل. ويذكر أبو الفرج أن خالد بن أبي الأزهر قال: بعث الرشيد بالمرجشي إلى ناحية الموصل فجبا له منها مالا كثيرا من بقايا الخراج، فوافى(988/21)
به باب الرشيد فأمر بصرف المال أجمع إلى بعض جواريه، فاستعظم الناس ذلك وتحدثوا به، فرأيت أبا العتاهية وقد أخذه شبه الجنون فقلت له: مالك ويحك؟ فقال لي: سبحان الله أيدفع هذا المال الجليل إلى امرأة ولا يتعلق كفي منه بشيء! ثم دخل إلى الرشيد بعد أيام فأنشده:
الله هون عندك الدنيا وبغضها إليكا
فأبيت إلا أن تصغر كل شيء في يديكا
ما هانت الدنيا علي. . . أحدكما هانت عليكا
فقال له الفضل بين الربيع يا أمير المؤمنين ما مدحت الخلفاء بأصدق من هذا المدح، فقال يا فضل: أعطه عشرين ألف درهم. ولم يقتصر هذا التعصب للشاعر والترويج له على عهد الرشيد. بل ظل الفضل على وفائه للشاعر حتى عهد الأمين. ومثال ذلك ما كان من الفضل حين ذهب إليه الشاعر بنعل مكتوب على شراكها:
نعل بعثت بها ليلبسها ... قرم بها يمشي إلى المجد
لو كان يصلح أن أشركها ... خدي جعلت شراكها خدي
فدخل بها الفضل إلى الأمين وأهداها إليه فاستخلص بها عشرة آلاف درهم للشاعر
أما تشيع الشاعر لزبيدة فقد بدا واضحا في أشعاره المختلفة التي كان يخدم قضيتها بها كما سنشرحه في حينه، ونقتصر الآن على مقطوعة واحدة أنشدها لأول خروجه من سجن الرشيد حين قرر أن ينظم إلى معسكر زبيدة والفضل
من لقلب متيم مشتاق ... شفه شوقه وطول الفراق
طال شوقي إلى قعيدة بيتي ... ليت شعري فهل لنا من تلاق
هي حظي قد اقتصرت عليها ... من ذوات العقود والأطواق
جمع الله عاجلا بي شملي ... عن قريب وفكني من وثاقي
لا يرى مؤرخو الأدب في هذه الأبيات إلا احتيالا من أبي العتاهية للخروج من سجن الرشيد الذي أقسم ألا يخرجه حتى يقول شعراً في الحب. وأما نحن فنرى فيها شيئا آخر إلى جانب ذلك بل وأهم من ذلك. نرى فيها مبادرة من الشاعر إلى البر بالعهد الذي قطعه على نفسه لزبيدة بأن يلتزم جانبها في كل ما يقوله للرشيد من أشعار. وها هو لم يعد ينشد(988/22)
الرشيد من أشعار الحب ما يغريه بالجواري كما كان يفعل من قبل، بل يضرب للرشيد المثل فيما يجب أن يفعله في حياته الخاصة من الاقتصار على امرأة واحدة، وما تلك إلا زوجه وابنة عمه زبيدة، وكأنه يقول للخليفة إن حياة الاستقامة والزهد التي يستقبلها لا تستقيم له إذا فكر في أخرى بجانب زوجه. ولا شك أن الترويج لمثل تلك الأفكار يسر زبيدة ويثلج صدرها، ألا ترى أنها قد أغرت بعض جواريها بأبي نواس يضربنه حتى أشرف على الموت حين استباح لنفسه أن يتحدث إلى الرشيد في جمال الجواري وعذوبتهن؛ ثم عادت فأجزلت له العطاء حينما علمت أنه انتفع بالدرس القاسي الذي ألقته عليه وأخذ ينفر الخليفة من أولئك الجواري وينصحه بالاقتصار على زهرة قريش، وما كان يعني إلا زوجه وابنة عمه زبيدة. أليس ذلك هو نفس ما فعله أبو العتاهية في أبياته سوى أنه كان لبقا في خطابه فبدأ وكأنه يتحدث إلى نفسه. . وإنما كان يتحدث إلى الخليفة
هذا بعض ما كان من مظاهر تشيع أبي العتاهية لزبيدة. أما ما كان من تعصبها له ومناصرتها إياه فقد كان معروفا غير مجهول. وقد تحدثت عنه كتب الأدب في غير موضع، ومثال ذلك ما كان من مناصرتها له حين اختلف مع القاسم بن الرشيد وأحد ولاة عهده. فقد وقف الشاعر إجلالا للقاسم حين مر به موكبه ولكن الأخير تجاهله ولم يلتفت إليه فأنشأ:
يتيه ابن آدم من جهله ... كأن رحا الموت لا تطحنه
وبلغ ذلك القاسم فأحضر الشاعر وضربه مائة ومقرعة وحبسه عنده، وما كان من أبي العتاهية إلا أن أرسل إلى زبيدة يشكو ما أصابه في أبيات لا تختلف في معناها عن البيت السابق، وما لبثت زبيدة أن كلمت الرشيد في أمره فاستدعاه إليه وكساه ولم يرض عن القاسم حتى بر الشاعر وأدناه واعتذر إليه
وليس القاسم هو الأمير الوحيد الذي يبسط فيه الشاعر لسانه غير هياب ولا وجل، بل نراه يغلو في إيذاء أمير آخر هو صالح المسكين عم الرشيد ويهدده بالقتل في أبيات غاية في الجرأة والتهور:
مددت لمعرض حبلا طويلا ... كأطول ما يكون من الحبال
حبال بالصريمة ليس تفنى ... موصلة على عدد الرمال(988/23)
فلا تنظر إلى ولا تردني ... ولا تقرب حبالك من حبالي
فليت الردم من يأجوج بيني ... وبينك مثبتا أخرى الليالي
فكرش إن أردت لنا كلاما ... ونقطع قحف رأسك بالقتال
ولم يكد ينجو من لسان الشاعر أحد من رجال الدول، وما حميد الطوسي وخازم بن حزيمة ويحي بن خاقان وعمرو بن مسعدة إلا بعض من شملهم الشاعر بإيذائه لأتفه الأسباب. نحن لا نشك في أن الشاعر كان مريضا مرضا نفسيا دفعه إلى بغض ذوي الجاه والنفوذ في عصره كما ذكرنا من قبل، ومع ذلك فنحن لا نشك في أنه ما كان ليسرف في هجومه ذلك الإسراف لو لم يكن له ركن شديد يأوي إليه كلما أوقعه لسانه في مأزق، وما حدث القاسم السالف الذكر إلا مثال واحد يبين لنا سر قوة الشاعر وإسرافه في عدوانه
ويظهر أن صلة الشاعر بزبيدة والفضل قد أكسبته جاها عريضا ومركزا رفيعا في الدولة، فأبو الفرج يروي أن منصور بين المهدي طلب إلى الشاعر أن يزوجه إحدى ابنتيه، وما كان منصور هذا بالضعيف ولا الخامل، وحسبك أن تعلم أن أهل بغداد قد عرضوا عليه الخلافة حينما اضطرب أمرها نتيجة للحروب التي كانت بين الأمين والمأمون. ويظهر أن منصورا كان حازما عاقلا إلى جانب نباهة شأنه وعلو قدره، وآية ذلك أنه رفض الخلافة وعمل في الوقت نفسه على تهدئة الفتنة وجمع كلمة الأمة
وقد ظلت صلة الشاعر بزبيدة وثيقة إلى آخر أيامها، فنراها تلجأ إليه حين قتل أبنها الأمين واحتاجت إلى أبيات من الشعر تستعطف بها المأمون، وقد أحسن الشاعر ترجمة شعورها فرضى المأمون عنها واكرمها، وسأل عن صاحب الأبيات وكافأه بمثل ما كافأته به زبيدة
وإنا لنراه لزاما علينا وقد تعرضنا لما كان لزبيدة من أثر في حياة شاعرنا نتيجة لغيرتها أن نذكر أمثلة لما كانت تثيره في نفسها من تلك الغيرة المريرة من عواطف وتدفعه إليها من أعمال. من تلك الأمثلة ما كان حين أحست تعلق الرشيد بجارية تدعى دنانير. وقد كانت دنانير هذه مملوكة ليحيى بن خالد البرمكي، وقد بلغ من افتنان الرشيد بها أن كان يزوها في بيت سيدها من وقت لآخر، وأهداها إلى جانب ذلك عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار. نسيت زبيدة كبرياءها وراحت تشكو الخليفة إلى أعمامه، وقد كان رده عليهم حين خاطبوه في شأن دنانير إنه إنما يعينه منها غناؤها فقط ولا يهتم بشيء وراء ذلك. ولم تجد زبيدة بدا(988/24)
من التظاهر بالرضا بذلك الوضع، بل ذهبت في مجاملتها إلى أبعد الحدود فأهدت الرشيد عشر جوار اعتذارا عما أبدته من غيره لا مبرر لها. هكذا يروي المؤرخين، ونحن لا نستبعد أن تكون زبيدة إنما أهدت إيه هؤلاء الجواري لتشغله عن دنانير التي أشعلت في نفسها أحر نيران الغيرة
ويقع الرشبد في حبال جارية أخرى فتهرع زبيدة لا إلى أعمام الخليفة كما فعلت من قبل، بل إلى أخته علية التي أقسمت لزبيدة لتجتذبن الخليفة إليها ثانية. وذات ليلة بينما كان الخليفة جالسا بفناء قصره أقبلت علية وزبيدة كل على رأس صف من جواريها وقد لبسن أفخر ثيابهن وأخذن يغنين:
منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل
يا قاطعي اليوم لمن ... نويت بعدي أن تصل
والحق أن المرء لا يكاد يتصور ذلك المنظر حتى يشعر بالرثاء لتلك الملكة التي دفعتها غيرتها الشديدة إلى مثل ذلك الموقف الذي لا تحسد عليه. ومع أن قصص زبيدة كثيرة إلا أننا نختتمها بالقصة التالية لما فيها من طرافة. وخلاصتها أن الرشيد هام يوما بجارية تسمى عنان، وكانت عنان هذه شاعرة من الطبقة الأولى، وكان الرشيد يعتذر عن تعلقه بها كلما خوطب في شأنها بأنه إنما يحبها لشاعريتها. وأوهت زبيدة إلى الأصمعي أن يحتال في تنفير الخليفة من عنان بوسيلة ما. . ووعدته على ذلك أجرا عظيما. وما زال الأصمعي يترقب فرصة للوثوب على فريسته حتى قال الخليفة يوما وقد ذكرت عنان في مجلسه: علم الله أنني لا أهتم بها إلا لشاعريتها. . فقال الأصمعي: هلا أحب أمير المؤمنين الفرزدق إن كان ما يعينه من عنان هو شاعريتها؟ وهنا ضحك الرشيد وضحك الحاضرون معه وهدأت فورة حبه لعنان ولو إلى حين
ويظهر أن زبيدة قد نفد صبرها ولم يعد لها قدرة على احتمال اللطمات المتوالية التي يكيلها لها هارون، فراحت تأثر منه بحيلة بارعة، وقد يكون من الخير أن نذكر تفاصيل تلك الحيلة كما يرويها المؤرخون ثم نذكر رأينا الشخصي فيها. يروي المؤرخون أن زبيدة كان لها قرد يسمى أبا خلف، وأنها كانت تعني به عناية زائدة، فكانت تقلده سيفا وخصصت له ثلاثين شخصا يقومون على خدمته ويسيرون بين يديه في شبه موكب كلما قام بجولة في(988/25)
المدينة. وأصدرت أمرها بأن يؤدي التحية لقردها كل من يدخل عليها، ولم تكن تقنع ممن يدخل عليها كبيرا كان أو صغيرا بأقل من تقبيل يد أبي خلف. وقد ظل أبو خلف موضع الحفاوة والتقدير حتى دخل يزيد ين مزيد على زبيدة في بعض الشؤون وطلبت إليه أن يقبل يد قردها، فما كان من ذلك القائد الصعب المراس إلا أن استل سيفه وشطر القرد نصفن. وحزنت زبيدة لموت قردها حزنا شديدا وعزاها فيه الناس واستدعي الرشيد يزيد وطلب منه تفسيرا لما فعل بأبي خلف فأجاب: ما كنت لأخدم القردة بعد خدمة الملوك يا أمير المؤمنين. وهكذا يبدو أن المؤرخين لا يرون في أمر أبي خلف إلا عبثا بريئا من زبيدة. ونحن لا نشاركهم هذا الرأي، وأول ما لفت نظرنا إلى ما يمكن خلف ذلك العبث الظاهري من معان هو الشبه بين اسم القرد (أبو خلف) ولقب الرشيد (الخليفة) وتأويل ذلك أن زبيدة وقد ضاقت ذرعا بالرشيد أرادت أن تسخر منه في شخص ذلك القرد الذي أقامته مقام الخليفة بما أحاطته به من مظاهر العظمة من سيف في وسطه وحرس من حوله. . وما من شك في أنها كانت توجه إلى ذلك القرد من النكات اللاذعة ما يشق عليها أن توجهه إلى الخليفة نفسه. ولعلها أرادت إلى جانب ذلك أن تخبر الرشيد بأنه إذا كان قد وجد عوضا عنها في الجواري يخلو إليهن ويسعد بلقائهن، فقد وجدت هي الأخرى عوضا منه في ذلك القرد الذي يضحكها بما يأتيه من حركات أو يرسله من نظرات، وما من شك في أن الرشيد قد عرف ما تهدف إليه زبيدة واستاء له أشد الاستياء. . فكلف يزيد بن مزيد بقتله. وما كان استجوابه له فيما بعد إلا خدعة أراد بها استرضاء زبيدة
أما وقد فرغنا من الحديث عن علاقة الشاعر بزبيدة والفضل ابن الربيع فواجبنا أن نتحدث عن علاقته بالبرامكة خصوم الفضل. . وهو ما سيكون موضوع حديثنا في المقال التالي إن شاء الله تعالى
يتبع
دكتور محمد الكفراوي(988/26)
2 - إندونيسيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(ما من قوة في الأرض - حتى القنبلة الذرية - تستطيع أن تقضي على إرادة شعبنا في أن يصبح أمة مستقلة)
(ليس في استطاعتي أن أتصور عالما نصفه من الأحرار ونصفه الآخر من العبيد)
(إن إندونيسيا قد أخذت على نفسها ميثاقا مقدسا بأن تحارب الاستعمار وتكافحه أينما كان)
(إن إندونيسيا تعلن تأييدها التام لمصر وإيران)
الرئيس سوكارتو
مرديكا:
كلمة إندونيسية معناها الحرية والاستقلال، فإذا قلنا إندونيسيا مرديكا فإنا نقصد بذلك إندونيسيا الحرة المستقلة. ومرديكا (الاستقلال) هي صيحة الإندونيسيين الوطنية
والإندونيسيون قوم يؤمنون بالحرية ويقدسونها، وليس في هذا ريب فما زالت سياط المستعمر وويلات الاستعمار الهولندي ماثلة في الأذهان
لقد ظلت هولندا جاثمة على صدر إندونيسيا قرونا طوالا ومع هذا لم يضعف إيمان الإندونيسيين بالحرية، وقد كان انتصار اليابانيين على الروس 1905 أول خيط في ثوب الحرية الأسيوية ضد الاستعمار الأوربي. فقد آمن سكان آسيا بأن حريتهم يمكن أن تتحقق ولابد يوما أن يصلوا إليها. ولم يأت منتصف القرن العشرين حتى تحقق استقلال كثير من الشعوب الأسيوية: الباكستان إندونيسيا الهندستان برما وغيرها
وكما زلزل انتصار اليابان 1905 أقدام الاستعمار الأوربي لآسيا. . زلزل انتصارهم واحتلالهم لإندونيسيا 1942 أقدام الاستعمار الهولندي. فقد طرد اليابانيون الهولنديين واحتلوا الأرخبيل الإندونيسي. ولم يرض الإندونيسيون بهذا فإنهم كانوا ينشدون الحرية ولا يريدون إبدال استعمار باستعمار، ومن ثم أخذوا يعدون أنفسهم للجهاد المقبل. وقد ساعد اليابانيون على تدريب الإندونيسيين مما أكسبهم قوة عظيمة
وفي 1945 سقطت القنابل الذرية على المدن اليابانية فكانت إيذانا بانتهاء الحرب العالمية الثانية، وباستقلال إندونيسيا. ذلك أنه ما أن سلمت اليابان حتى أعلن الإندونيسيون(988/27)
استقلالهم في 17 أغسطس 1945. وقد حاولت هولندا العودة إلى احتلال إندونيسيا ولكن الإندونيسيين قابلوا القوة بمثلها واضطرت هولندا إلى الأعراف باستقلال إندونيسيا في 27 ديسمبر 1949
وقد أعلن الدكتور سوكارتو في يوليه 1945 المبادئ الخمسة (البانتشا سيلا) التي قامت عليها الجمهورية الإندونيسية وهي: الإيمان بالله والمودة للإنسان والاعتزاز بالقومية والاعتراف بسيادة الأمة وتحقيق العدالة الاجتماعية
ووصف هذه المبادئ بأنها (أساس نفساني لإندونيسيا الحرة، فلسفة ذات تفكير عميق وروح ورغبات تامة يقوم عليها بناء إندونيسيا الحرة ثابتا مستقرا إلى الأبد.)
وقد زاد الرئيس سوكارتو هذه المبادئ إيضاحا وتفسيرا فقال: إننا قوم نؤمن بالقومية ويقصد بالقومية إقامة دولة إندونيسية تضم جميع الإندونيسيين تحت لوائهاويشعر جميع أبنائها بحاجتهم إلى أن يكونوا يدا واحدة وأمة متحدة ولا يمكن الفصل بين الإنسان والمكان، فوجود المكان شرط لقيام الدولة. والله قد خلق العالم وأقام فيه الوحدات الطبيعية: فجزائر إندونيسيا التي تتكون من جاوة وسومطرة وبورنيو وسبيس وغيرها تقف حاجزا بين المحيطين الهادي والهندي وعليها تتحطم أمواجهما. هذه الجزائر تكون وحدة طبيعية ويسكنها 75 مليونا من البشر فلم لا تكن دولة حرة مستقلة!
وإندونيسيا لا تريد أن تكون دولة حرة فحسب، وإنما تريد أن تكون دولة حرة في عالم حر. لقد ذاقت إندونيسيا ويلات الاستعمار فلتكن سياستها الجديدة مقاومة الاستعمار والوقوف في جانب الحرية
من أجل هذا وقفت إندونيسيا بجانب مصر وإيران في إبان صراعهما الأخير ضد الاستعمار البريطاني، وقد كانت إندونيسيا من اسبق الدول إلى الاعتراف بجلالة الملك فاروق ملكا لمصر والسودان وهو لقب جلالته الذي أقره البرلمان المصري بعد إلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر الماضي
ولم تكن مصر أقل حبا لإندونيسيا، فقد كانت مصر من أسبق الدول إلى الاعتراف بالجمهورية الإندونيسية الوطنية الحرة، وليس هذا بكثير بل إنا نطمع فيما هو أكثر في المستقبل القريب إن شاء الله. إننا نريد إقامة وحدة إسلامية حرة تعيش في عالم حر(988/28)
والمبدأ الثالث الذي تدين به إندونيسيا هو الديمقراطية بمعنى أن يكون الكل للكل والواحد للكل والكل للواحد: , وبمعنى آخر أن تقوم حكومة إندونيسية يتمتع جميع رعاياها من مسلمين ومسيحيين وبوذيين بكافة الحقوق والواجبات، ولينعموا بالسعادة والطمأنينة والرفاهية والرخاء
وأما المبدأ الرابع فهو إقامة دولة تنهض بإندونيسيا وتجعل منها شعبا قويا يتمتع جميع أفراده بالحياة الهانئة مما يحقق العدالة الاجتماعية
وأما المبدأ الخامس والأخير فهو أن تقوم في إندونيسيا حكومة تكفل للجميع حرية العبادة، تكفلها للمسلم وللمسيحي وللبوذي على السواء
ويختم الرئيس بيانه قائلا: إن الحرية والاستقلال لا يمكن أن ينالها شعب إلا إذا اشتعلت روحه بالعزم على الحصول عليهما أو الفناء في سبيلهما)
نظامها الحكومي:
إندونيسيا جمهورية وقد نص دستورها على أن السيادة فيها يجب أن تكون للشعب الذي سيباشر تلك السيادة بواسطة المؤتمر الشعبي الذي يتكون من أعضاء المجلس النيابي ومن مندوبي المناطق والطوائف
والرئيس يتولى السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وهو القائد الأعلى للجيش والبحرية والطيران. وله وكيل أو نائب وكلاهما يختار بالانتخاب ومدة ولايتهما خمس سنوات
وقبيل مباشرة الرئيس لسلطته يقسم اليمين التالي أمام المؤتمر الشعبي أو المجلس النيابي:
(إنني أحلف إنني سأقوم بواجبي كرئيس للجمهورية الإندونيسية بأمانة وإخلاص لصيانة الدستور وتنفيذ القوانين وتكريس نفسي لخدمة الدولة والشعب)
وللرئيس حق إعلان الحرب وعقد الصلح وإبرام المعاهدات بموافقة المجلس النيابي، وهو الذي يعلن الأحكام العرفية ويعين السفراء والوزراء المفوضين والقناصل
والسلطة التنفيذية في يد الوزراء الذين يعينهم ويقيلهم رئيس الجمهورية وهم مسئولون عن وزارتهم أمام الهيئات النيابية
وتنقسم إندونيسيا إلى وحدات إدارية تحتفظ كل منها باستقلالها الذاتي إلى حد كبير
وقد نصت المادة الرابعة والعشرين على أن السلطة القضائية يجب أن تكون في يد المحكمة(988/29)
العليا والمحاكم التابعة لها
ونصت المادة السابعة والعشرون على أن المواطنين يجب أن يكونوا كلهم في منزلة واحدة أمام القانون ويجب أن يكون لهم حق في العمل وفي توقع المستوى المعقول للمعيشة
ونصت المادة التاسعة والعشرون على أن الدولة تؤسس على الإيمان بالله رب العالمين وعلى أن الدولة تضمن حرية الشعب في إظهار الدين الذي يؤمن به وفي العمل به
وكذلك كفل الدستور لكل مواطن أن ينال حظه من التعليم ونص على أن تعد الدولة المعاهد اللازمة لذلك
وكذلك قرر الدستور أن الدولة يجب أن تعني بالرخاء الاجتماعي وبالفقراء والأطفال المشردين
هذا عن دستور إندونيسيا. أما عن مؤسساتها الدينية والسياسية فأهما: 1: مجلس شورى مسلمي إندونيسيا 2: حزب دار الإسلام 3: شركة إسلام 4: الجمعية المحمدية ولها فرع نسائي يسمى الجمعية العائشية. 5: جمعية نهضة العلماء 6: الاتحاد الإسلامي
وهذه الهيئات الإسلامية كانت تعمل على تحرير إندونيسيا فلما استقلت إندونيسيا أخذت تعمل على الاحتفاظ بهذا الاستقلال وصيانته وإعزاز كلمة الدين الإسلامي
وأهم الأحزاب بعد ذلك الحزب الوطني الإندونيسي وكان ينتمي إليه الرئيس سوكارتو قبل تولي رئاسة الجمهورية
أبو الفتح عطيفة(988/30)
أثر المدرسة المصرية في الثقافة
للأستاذ ثروت أباظة
(تتمة)
وهكذا يدخل المدرس إلى الفصل وقد كتب عناوين درسه باللون الأحمر والتاريخ باللون الأزرق. ثم هو يلقي ما تقرر عليه أن يلقيه، ثم هو يسأل فيثور ويغضب أو يسر فيمدح
لا يهمه فهم التلاميذ الدرس أو لم يفهموه. . فلقد أدى ما أرادت وزارة المعارف أن يكون واجبه، أما الفهم وعدمه فلا شأن له، فإنما يختص بهذا - في رأيه - عقلية التلميذ فيطمئن نفسه أن الذكي منهم سيفهم والغبي لن يستطيع أن يفهم وإن رزق صبر أيوب
وواضح أن هذا الرأي إنما هو مخادعة للنفس، فقد استقرت معظم الآراء على أن الغباء المطلق غير موجود أو يكاد ينعدم، فلو فهم الأستاذ هذا فحاول أن يتعرف الناحية الذكية في تلميذ فيعالجها، ولكن هذا مرة أخرى سيعود به إلى ضميره ليحاول أن يرضيه، ومرة أخرى سيغاضبه المفتش والناظر فيغاضب عيشه وحياته
والطامة الكبرى أن يشعر المدرس أن المادة التي يدرسها لا تتلاءم وميول بعض التلاميذ، ولا شك أنه في هذه الحالة سيدير بذهنه أن الأمر إذا استقر على عدم ميل التلاميذ إلى مادته ونفورهم قد يكون مجلبة للشر موجها إليه، فإن الإدارة لا تفهم معنى ملاءمة أو عدمها بالنسبة للتلاميذ. وإنما تفهم أن مدرسا ما قد أحسن. فأنجح تلاميذه أو أن آخر قد أساء فأسقط، وإنما تبعا لأوامر وزارة المعارف نعذره إذا غضب من هؤلاء التلاميذ. وتجلى غضبه في الثورة بهم والإساءة إليهم حتى لا يضطر التلاميذ الذي لا يميلون إلى هذه المواد إلى حفظها فهموها أو لم يفهموها. فإنما أمنياتهم لا تمتد إلى أكثر من رضاء المدرس عليهم. وإذا شاء سوء حظ تلميذ ما ألا يحفظ إلا ما يفهم. فمصيره لا شك أن يعبر بفشله من إخوانه الببغاوات وأستاذه الثائر. فتنعقد العقدة في نفسه. ويعتقد أنه شخص فاشل في الحياة وإن لم يتداركه الله برحمته. فمصيره الفشل في كل أمر يتولاه. ولو قد فهم الأستاذ كيف يعامل هذه العجينة اللدنة في يديه. وكيف يشكلها صحيحة مبرأة من العقد. ولو عرف الأستاذ كيف تنطمس ميول تلميذه حتى يعرفها. ثم يوجهها إلى الطريق القويم. ولو عرف الأستاذ لانبثق لنا جيل مقبل على عمله حتى وإن كان فاشلا في الدراسة. فما الدراسة بدليل(988/31)
النجاح في الحياة، وإنما هي فرع من فروع هذا النجاح، وليس حتما أن يفشل في الحياة كل كاره لناحية من نواحي هذه الحياة. وأن المستقرئ لحياة العظماء في الشرق والغرب يدرك كم نبغ في الفنون والعلم أناس فشلوا في المدرسة. ومن الناحية الأخرى ليس حتما أن ينجح في الحياة كل ناجح في المدرسة، وهذا قول ما أظنني في حاجة إلى التدليل عليه. فالشواهد أكثر ومن أن تعد. رحم الله شوقي الخالد حين يقول
وكم منجب في تلقي الدروس ... تلقي الحياة فلم ينجب
لا شك أن في أخذ التلاميذ بهذه الشدة في التدريس كبتاً لأرواحهم الحرة المرحة. فهم لا يشبعون رغباتهم من ناحية الميل الثقافي وهم لا ينطلقون إلى اللعب إلا وعلى أكتافهم واجبات من المدرسة، وفي آذانهم توجيه آبائهم، وسخرية أساتذهم. .
والضحك غريزة لابد يتنفس عنها المرء. وما دامت الحياة المدرسية لا تفسح له المتنفس مبرأ من الشوائب. فهم معذورون إذا شاكسوا الأستاذ في أثناء الدرس وعذرهم لا يبرر عملهم. إذ أنه أمر لا يجب السكوت عليه، لأنه يعودهم ألا يأخذوا من الحياة ناحية جدية، ولكن الطريقة التي يعاقبون بها تزيدهم إصراراً على الضلال، وما كان الضرب أو الطرد بوسيلة ناجحة في يوم من الأيام لأنها إذا أصلحت المظهر؛ فهي لم تصل مطلقا إلى الجوهر، وإن وصلت فبعقدة نفسية أخرى من الخوف فتزداد المشاكل، وتصبح نفسية الطالب أشبه شيء بشبكة الصياد لا تحل إلا إذا قطعت
وقد يظن البعض أنه وإن كانت المدرسة ملومة في هذا فالبيت ملوم معها؛ لأن أكثر الآباء يبنون معاملتهم لأولادهم على الشهادات التي تصل إليهم من مدارسهم. والشهادات كما بينت لا تدل على حقيقة عقلية التلميذ؛ وإنما هي في الأغلب تدل على أن هذا التلميذ يجيد الحفظ، وهذا الآخر لا يجيده. والأب إزاء ما يرى من شهادة ابنه لا يهتم مطلقا بمعرفة العلوم التي يميل إليها ولده. وتلك الأخرى التي لا يميل إليها فيعالج الأمر بما تقتضيه الأبوة الرحيمة وقواعد التربية الحديثة. بل هو يسارع فيسب ابنه إن لم يضربه؛ وإن غلا في العطف عليه أحضر له مدرسا خصوصيا يلقي إليه التلميذ بجهله راجيا منه أن يزيله. قد يظن البعض أن الآباء في هذه ملومون؛ ولكنني أعتقد أن لهم فيما يفعلون عذرا. فإنما أملهم أن يتسلح أولادهم بالشهادة يجابهون بها الزمان. فإن أحضروا المدرسين يقومون بهم(988/32)
ضعف أولادهم، وإن حاربوا سقوطهم بكل الوسائل التي تصل إليهم أيديهم فإنما هم آباء يزهيهم أن يقال عن أبنائهم أنهم نالوا الشهادة، ولا يهمهم من بعد تثقف هؤلاء الأبناء أم لم يتثقفوا، ولا بد لنا أيضاً أن نضع عقلية الآباء موضع تقدير؛ فإن الكثيرين منهم لم يتعلموا، فإن كنا نعذر المتعلمين منهم إذا هم أخذوا أبنائهم بالشدة دون النظر إلى ميولهم، فإنه من باب أولى حتم علينا ألا نأخذ على غير المتعلمين معاملتهم لأبنائهم
بين أوامر وزارة المعارف وبين تنفيذ المدرسين لها، وبين شدة الآباء أو جهلهم لا يمكن للطلاب أن ينالوا ثقافة من المدارس الابتدائية والثانوية. واعتقادي أن الميل إلى التثقيف إذا لم يتكون في هاتين المرحلتين فالأمل في تكوينه بعد ضعيف. ونظرية الضغط الذي يولد الانفجار قديمة معروفة، ولا شك أنكم قد لمستم مقدار الضغط في حياة التلاميذ في المدارس الابتدائية والثانوية، حيث يصبحون كالآلات تتحرك إذا تحركت تبعا لتلك الإرادات الثلاث من وزارة المعارف والمدرس والأب. وهي تيارات متعارضة. فوزارة المعارف تريد أوامرها أن تنفذ؛ والمدرس يريد أن ينتهي من المقرر أيا يكون ذلك الانتهاء؛ والوالد يريد لابنه أن ينجح أيا كان ذلك النجاح. وهكذا تتعارض الإرادات في اتجاهات لها شتى؛ ولكنها جميعا تلتئم على ألا ينال التلميذ ثقافة حقيقية وتتضافر على كبت ميوله الثقافية. وينعقد إجماعها على ألا يصيب التلميذ قسطا من الاسترواح النفسي؛ بل هو دائما بين عقاب وتوبيخ وسوء معاملة، وهو كالآلة أمام هذه الإرادات، تسيرها كل إرادة على حسب هواها، فيزيد الضغط. . فما ينفلت التلميذ من التوجيهية إلى الجامعة حتى يحدث الانفجار. . انفجار ضخم. . فينتقم من التلميذ من سنوات في حياته عكرة مظلمة. . أنه في الجامعة ولا رقابة، وخاصة إذا كان في إحدى الكليات النظرية فإنه هناك لا يرتبط بالجامعة في شيء إلا في أسمه يقيد بها. ثم في تلك المنضدة يجلس إليها في أوائل الصيف من كل عام حيث يؤدي امتحانه. والصلة بينه وبين أستاذه بعد ذلك مفقودة كالعدم، فإننا اليوم نلاقي أساتذتنا فنعرفهم ولا يعرفوننا. وهم معذورون ونحن معذورون. والنظام هو المسئول؛ إذ يستحيل على الأستاذ بالكلية أن يتعرف هذا العدد الهائل الذي يحشد له في المدرج، فقد بلغ عدد الطلاب الذين التحقوا بكليات الحقوق في سنة ما ألف طالب. فإذا أعطى الأستاذ لكل طالب دقيقة في اليوم أو دقيقة في الأسبوع فإنه يستحيل عليه أن يتعرفهم جميعا. فإذا كان التعرف(988/33)
يستحيل فكيف يتمكن الطالب من الاتصال بأستاذه صلة تقرب له مناهل التثقيف. والتعمق في المواد
الحال في الكلية إذن أن الطالب على نفسه رقيب، فالأب لا يعرف عن أبنه شيئا، والأستاذ لا يعرف عن تلميذه شيئا. والطالب لم يتعود الميل إلى الثقافة حتى يحاول أن يثقف نفسه. والمواد التي تدرس له يحفظها غصصا رغم أنفه في الشهرين الأخيرين من العام لينجح فقط. وإذا لم يتسع له الوقت فبحسبه أن يذاكر نصف المواد، ويترك النصف الآخر إلى الدور الثاني، وإن ازداد الوقت ضيقا فليذاكر الأجزاء المهمة من مواد الدور الأول، ويعتمد على الحظ من بعد الله، وهكذا لا يتاح للطالب الجامعي أن يدرس حتى المواد المقررة عليه جميعا، فهو قد أضاع العام في الانتقام من الأعوام الماضية ويكاد يكون من المقطوع به أن الطالب الجامعي حتى إذا درس هذه المواد فإنها لا تكفيه حتى يقال عنه مثقف
إنني آسف كل الأسف إذ أقرر أن الشهادة لا تعني مطلقا أن حاملها قد تثقف، بل أعتقد أن الشهادة قد تقف بالمرء عن التثقيف، لأن أغلب حامليها يمسهم الغرور فيعتقد المتخرج منهم أنه أصاب ما لم يصب الأولون والآخرون، فإن سعى إليه الحظ بوظيفة ما مهما كانت بعيدة عن المؤهلات العلمية اكتفى وحمد الله، وقبل راحتيه من ظهر لبطن، ثم نسى ما تعلم فيضيع منه ما كان يجوز أن يصبح أساسا لثقافة معينة إن هو حاولها
أجدني مضطرا لأن أعقد شبه مقارنة بين هذه الحال وبين الحال في الغرب حيث يهتم المربون هناك بالشخصية الأدبية منذ بدء تكوينها، فيرسون الأسس السليمة والطفل ما زال في الرياض، ولعلكم تدرون أن أساتذة رياض الأطفال هناك هم أعظم الأساتذة تثقيفا، وأخبرهم بالنفس وتكوينها، فهم الذين يخلقون العجينة الأولى ويهيئونها لتتداولها بعد ذلك أيدي صناع تتعرف عقليات الطلبة وتتمشى معها، فيجد الطالب نفسه محاطا بجو اجتماعي صالح لتكوين سليم في كل مراحل تعليمه، ومن حوله الأساتذة يهدفون دائما إلى أن يقيموا رجالا قد اكتملت شخصياتهم، بعيدة عن العقد النفسية، وإذا كان علماء النفس قد أقاموا تقسيمات ثلاثة من المعرفة والوجدان والنزوع، فإنهم في الغرب يولون هذه الأقسام جميعا عنايتهم دون أن تطغي واحدة منها على الأخرى، وفي حين نعني نحن بالمعرفة فحسب، لا نتمكن حتى من نوالها، وإنك لتجد التعليم هنا يرهب اسم الغرائز ولا يجرؤ على ذكرها،(988/34)
بينما نجدهم في الغرب يعترفون بها ثم يعلون السيء منها، ويهذبون ويتناولون النزاعات المختلفة فيوجهونها التوجيه الصحيح، بل إن بعض المدارس تعتبرها نقطة البدء في تكوين الشخصية، والأساتذة في كل الأدوار يشركون طلابهم في تثقيف أنفسهم، فلا يجعلونهم آلات استقبال فحسب. بل يتدربون معهم حتى يعرفوا ميولهم فيذكونها، ولا يمكن أن يصل الأستاذ إلى هذه المعرفة أو يعتقد أن هذا الجالس أمامه آدمي له عقل يفهم وينتج، وليس آلة تسجيل تلتقط لتحف
أنهم في الغرب يهتمون بالشخص ليخلقوا منه مثقفا فيخلقوه، ونهتم نحن بالمواد لتخلق منها أشخاصا فنقتلهم
جرت العادة عند كل مقارنة بيننا وبين الغرب أن نسب أنفسنا لنمدحهم وكم كنت أتوق لغير هذا، ولكنني أعتقد كما سبق أن قلت. . . أن أولي درجات الثقافة أن يعرف المرء بجهله حتى يسعى إلى العلم، فلابد لنا أن نعرف مكاننا حتى نسعى إلى ما هو أرفع منه، ونحمد الله، فقد علم القائمون بالأمر أين نحن ومدارسنا من الثقافة الحقيقية، فقاموا ويحاولون أن يقربوا بين الناحيتين المتناثرتين
فتألفت لجان تنعقد في هذه الأيام لتنظر في المقررات والمناهج وطرق التدريس؛ وتحاول أن تزيل عنها الأتربة المتكاثفة وتجلوها موائمة للتربية الحديثة، ومن بين هذه اللجان تألفت أخريات لوضع الكتب التي تتمشى مع النظم الجديدة المقترحة، وإلى جانب هذا أنشئت المدارس النموذجية محاولة للتحرر من قيود التقاليد العتيقة، فأصبح التعليم فيها يهدف إلى أن تطبق التلاميذ ما تعلمونه، وفي بعض العلوم الأخرى يجدهم يقدمون التطبيق على القاعدة العامة
وهكذا راحت هذه الأجنحة من التجديد تريش متحفزة للتحليق، والنية إن صدقت والعزم إن مضى سامقان بالتعليم المهيض إلى سماوات الثقافة الحقة فتصبح مع هذا الغرب العنيد في سماء واحدة، وإن أملنا إلى السماء أقرب بماض لنا عبقري وأمل لنا مرتقب، والله من فوقنا هو الهادي وهو المولى ونعم النصير. .)
ثروت أباظة(988/35)
رسالة الشعر
رحلة
للأستاذ أحمد محمود عرفة
ما للنسيم ترق لمسته ... فكأنه متودد غزل
أو طفلة عشقتك نظرتها ... فمشى إليك فؤادها الجذل
أو بعض أطياف النعيم أتت ... ممشوقة همت بها القبل
أردانها عطر، وأخيلة ... وتوهج، كالنار تشتعل
هذا الصباح مني محلقة ... أم غادة يجثو لها الأمل
أو دفقة الإبريق في ظمأ ... عات عليه يعذب العلل
ناداك مبتهجاً فقمت له ... والبشر في عينيك مكتمل
والروح أصفى في تألقها ... من ماسة ضحكت له المقل
ما زلت تمشي فوق أخيلة ... وندى الصباح عليه ينتقل
والكون كالمحراب أعينه ... مسدولة الأهداب تبتهل
والطير تسبيح على فنن ... أو رحلة بالأفق تحتمل
حتى شرقت من الجمال كما ... بالماء غص الشارب الثمل
ورجعت تضرب في الضحى أسفاً ... والناس حولك ضجة جلل
والدرب أشواك تمد إلى ... قدميك أنيابا هي الحبل
والتنفس في أكفان وحشتها ... ثكلى تذيع أنينها الكلل
والبيت قبر فاغر فمه ... والقبر بين أهله رحلوا
أحمد محمود عرفة
أطياف!
للأستاذ عبد المنعم عواد يوسف
لئن كنت قد غبت عن ناظري ... فما زلت كالحلم في خاطري
ترفرف مثل الشعاع الجميل ... وتبرق مثل السنا الغامر!(988/36)
ويبعث في النفس عذب الرجاء ... وتوحي الفنون إلى الشاعر
فمهما تناءيت عن أعيني ... ففي القلب ذكرك يا هاجري
لئن كنت قد غبت عن ناظري ... فما زلت كالحم في خاطري
أراك تصفق في أضلعي ... طروبا كتصفيقة الطائر
سعيدا بما ذقته في هواك ... من الحزن واليأس يا آسري
فآه قلبي من بائس ... وآه لقلبك من غادر
لئن كنت قد غبت عن ناظري ... فما زلت كالحم في خاطري
تفجر في القلب نبع الأسى ... فأنساب في هيئة الحائر!
أحدق في الأنجم الزهرات ... وأرنو إلى الكوكب الساهر
فأحظى بطيفك من بينها ... فأرجع في نشوة الظافر
لئن كنت قد غبت عن ناظري ... فما زلت كالحم في خاطري
تجدد في النفس ذكرى غرام ... طوته يد الزمن الجائر
وأحلام عهد مضى هاربا ... بأطياف ذلك الهوى الفائر
ولكن منى الروح هل من لقاء ... يهدئ من قلبي الثائر
لئن كنت قد غبت عن ناظري ... فما زلت كالحم في خاطري
أحسك تحيى هنا في دمي ... مطلا على جرحي الغائر!
وتنظر ما نالني من جفاك ... فتأخذ في ضحكة الساخر
فيالك من مستبد جحود ... ويالي من عاشق شاعر!
عبد المنعم عواد يوسف(988/37)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
هل نقتل الفصاحة فينا؟
أتيت في الأسبوع الماضي بفقرات من محاضرة الدكتور محمد كامل حسين التي ألقاها في حفلة استقباله بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، وفيها وصفه للإنتاج الفكري الحديث في مصر بالهرولة، وهو يعني أن أصحاب هذا الإنتاج لا يتأنون ولا يتمهلون للتمحيص والإجادة، فهم مسرعون كأنهم مسوقون
ومن تلك الفقرات قوله: (وعلينا أن نقتل الفصاحة فينا فهي شكل محض، وأن نتجاهل البلاغة فقد أصابنا منها شر كبير)
نريد أولا أن نعرف الفصاحة لنرى هل تستحق القتل، وننظر في أمر البلاغة كذلك ولماذا نتجاهلها
الفصاحة هي أن يخلو الكلام من عيوب ليكون واضحا بيننا عذبا، ومن هذه العيوب أن تكون الكلمة ثقيلة على اللسان أو مكروهة في السمع أو غريبة وحشية غير مألوفة الاستعمال، ومنها أن يقع في الكلام تعقيد، أو تتنافر ألفاظ التركيب، وقد مثلوا لذلك بأمثلة كثيرة، منها كلمة (الجرشي) في قول المتنبي:
مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشي شريف النسب
لأنها ممجوجة لا يستريح إليها السمع، ومنها الشطر الثاني من البيت الآتي:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب حرب قبر
لثقل تركيبه على اللسان، ومنها قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حتى أبوه يقاربه
لتعقيده الناشئ من خلل النظم
أما البلاغة في الكلام فقد عرفوها بأنها مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته
فماذا جنت الفصاحة ليطالب الدكتور كامل حسين بإعدامها. . .؟ هل يريد أن نفقدها لنكتب كلاما متنافرا غريبا معقدا فنقول مثلا (كريم الجرشي) بدلا من (كريم النفس)؟ وهل يريد أن نتجاهل البلاغة لنؤلف كلاما لا يلائم الأحوال؟(988/38)
أنا على يقين من أنه لا يريد ذلك، وإنما يريد عكسه، ولكنه (هرول) فسمى التشدق والتفاصح والإغراب وتكلف الإتيان بكلام يبهر الناس - فصاحة وبلاغة، ثم (هرول) مرة ثانية فدعا إلى خنق الفصاحة والإعراض عن البلاغة
ولو روي قليلا لتجنب الوقوع فيما عابه، ولبرئت محاضرته الرائعة من (الهرولة)، ولعلم - ومثله جدير بأن يعلم - أن ما يدعو إليه عن نفسه ما يرمي إلى إحيائه والعمل به
مجلة الأزهر
هذا أول عدد يصدره من مجلة الأزهر، الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات بك صاحب (الرسالة) وقد جعل فيه لمجلة الأزهر رسالة أوضحها في مقاله الافتتاحي (عهد جديد) فهي الناطقة بلسان الأزهر، (وليس الأزهر هذه البنايا ومن يعمرها من أساتذة وطلاب) إنما هو الإسلام، و (ليس الأزهر إذن جامعا للصلاة كجامع عمرو، ولا جامعة للعلم كجامعة فؤاد، وإنما هو فضلا عن التعبد فيه والتعلم به رسالة ودعوة) فالمجلة إذن (تدعو إلى الله بالدعاء البين، وتجادل عن دينه بالقول اللين، وترفع صوت الأزهر نديا فوق هذه الأصوات المنكرة التي تتخاطب بالحديد، وتتجاوب بالوعيد)
وهكذا جعل أستاذنا لمجلة الأزهر رسالة، فحق لنا أن نطلق عليه (صاحب الرسالتين)
والهدف البارز الذي ترمي إليه المجلة في زيها الجديد الذي خرجت به على الناس في غرة شهر رمضان، هو جلاء الثقافة الإسلامية وإبراز الفكر الإسلامي بصوره المختلفة من فقه وأدب واجتماع وفلسفة وتاريخ، يتمثل ذلك في هذه المقالات التي كتبها رجال أستطيع أن أو قول إنهم جميعا من الأزهر، وهم ثلاثة أنواع: أزهريون أقحاح كأصحاب الفضيلة الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد الرحمن حسن والشيخ محمد محمد المدني، وأزهريون نشئوا في الأزهر ثم فصلوا عنه وأخذوا بألوان أخرى من الثقافة والحياة، كالدكتور طه حسين باشا والأستاذ صاحب الرسالتين، وأزهريون اتصلوا بالثقافة الأزهرية عن طريق الاطلاع والأخذ عن شيوخه كما قال شوقي يخاطب الأزهر:
ما ضرني أن ليس أفقك مطلعي ... وعلى كواكبه تعلمت السرى
ومن هؤلاء الأستاذ العقاد والأستاذ فريد أبو حديد بك
ويحوي العدد إلى جانب مقالات أولئك الأقطاب أبواب يقتضيها الفن الصحفي مثل (الآداب(988/39)
والعلوم في شهر) و (أنباء العالم الإسلامي) و (النشاط الثقافي للأزهر)
وبعد فلي ملاحظات على هذا العدد من مجلة الأزهر، لا أرى مكاني من أستاذنا مانعا من إبدائها، وطالما فسح لنا في نقد الآخرين. .
ظهر هذا العدد في غرة شهر رمضان، وليس به شيء عن شهر رمضان، والعالم الآن يسمع من (صوت أمريكا) أحاديث عن الصوم وما يتصل به، ولا بد أن الأحاديث التي سجلت بالسفارة الأمريكية لخمسة من علماء الأزهر بمناسبة الصيام تلقى الآن في الولايات المتحدة، فلم يكن ينبغي أن تخلو مجلة الأزهر من شيء في هذه المناسبة
تبويب المجلة منوع منسق، ولكن الباب الأول (في الدين والفقه) كنت أفضل أن يكون (في فقه الدين). وقد نشرت مقالة الدكتور طه حسين باشا في باب (اللغة والأدب) وإنما هي تاريخ. وما نشر في باب (طرائف علمية وأدبية) لا يختلف في شيء عن موضوعات (العلوم والآداب في شهر). ويظهر أن بابي (ما يقال عن الإسلام) و (النشاط الثقافي الأزهري) كتبهما كاتب واحد، فهو مولع بالمقدمات وقد بدأ كلا منهما بـ (تمهيد) ممل كان أولى منه بالعناية الموضوعات نفسها
3 - أهمس لبعض الكتاب: أن جددوا ولا تكرروا قول ما قلتموه من قبل. والمجلة تجزيكم فلا بأس أن تحملوا أنفسكم على شيء من التعب
مثال من الأدباء المضيعين
(دخل حضرة محمد شوقي أمين أفندي خدمة مجمع فؤاد الأول للغة العربية منذ إنشائه في سنة 1934 بمكافأة شهرية بلغت الآن ثمانية جنيهات، وهو على جانب كبير من الثقافة الأدبية واللغوية، وله من سعة الاطلاع ما يقوم مقام الشهادات العلمية، وقد استطاع أن يقوم بأعمال فنية كالتحرير في مؤتمر المجمع ومجلته ولجانه بكفاية وإخلاص وجدارة وامتياز، مما يستوجب إنصافه وتشجيعه وحسن تقديره)
هذه فقرة من مذكرة رفعتها وزارة المعارف على مجلس الوزراء سنة 1946 لإنصاف أديب أقرت له بالكفاية والجدارة والامتياز، وطلبت لتشجيعه وحسن تقديره منحه الدرجة السابعة بأول (مربوطها) وهو عشرة جنيهات، ووافق مجلس الوزراء على ذلك
وفي خلال ثماني السنوات التي تلت ذلك التاريخ إلى الآن منح الدرجة السادسة ثم الخامسة(988/40)
فصار مرتبه خمسة وعشرين جنيها
ولم يكن ذلك القرار وما تلاه (استثناء)، وإنما كان لتسوية حالته وفقا للقواعد المقررة والأسس المالية لمعاملة الموظفين دون تخط أو زيادة، كما جاء في مذكرة معالي رئيس المجمع التي وضعها أخيرا طالبا فيها استدراك الخطأ الذي وقع
والذي وقع هو أن إدارة المستخدمين بوزارة المعارف رأت أنه ينطبق عليه قانون إلغاء الاستثناءات
الأستاذ شوقي أمين الأديب اللغوي الذي كان يشغل عالم الأدب واللغة من نحو ربع قرن بكتابته في المجلات والصحف أيام كانت الصحف تعنى بالأدب واللغة، والذي آثر في السنوات الأخيرة أن يعمل في خدمة اللغة والأدب جنديا مجهولا، وقد استهلكه مجمع اللغة ثمانية عشرا عاما، والذي هو على جانب كبير من الثقافة الأدبية. . الخ، ذلك الأديب تضيق الدولة به، لأنه لا يحمل شهادات عالية، فتنكبه في رزقه ورزق أسرته، وتعود به إلى الوراء منذ دخل المجمع موظفا على غير درجة بعشرة جنيهات في الشهر
وفي حملة الشهادات العالية من ليسوا على جانب كبير من الثقافة الأدبية واللغوية، ومن ليسوا على شيء من سعة الاطلاع
وفيمن أعفي من تطبيق إلغاء الاستثناءات من عبر (المانش)
أما من أنفق الشباب وسهر الليالي وآذى عينيه وأسقم جسمه في التحصيل والتثقيف فلا حساب له - في نظر دولتنا - مع هؤلاء ولا هؤلاء! ويجب أن نمنع القطرات التي قطرتها الدولة في فمه وفم عياله في مدى ثمانية عشر عاما
وهكذا وزن قيم الناس في هذا البلد
عباس خضر(988/41)
البريد الأدبي
يا حكومة اليمن ويا أمانة الجامعة
يسوءني علم الله أن أعلن لقراء الرسالة في شرق العالم العربي وغربه نبأ تلك المأساة التي يعانيها في مصر سبعون شابا من خيرة شباب اليمن، ولا أدري من المسئول عنها، ولو علمت طريقة أخرى غير طريقة النشر في الرسالة تضع حدا لهذه المأساة الأليمة لفعلت. ولكني لا أجد إلا هذه الوسيلة لأستصرخ حكومة اليمن ومفوضيتها في مصر، وأمانة الجامعة العربية وسائر من يهمهم أمر العرب والمسلمين وسمعتهم في كل مكان. .
وتتلخص المأساة في أن للحكومة اليمنية بعثة من الطلاب في شتى المعاهد المصرية، يجمعهم بيت في حلوان أو يجمع معظمهم. وتتولى حكومة اليمن الإنفاق عليهم في مصر وعددهم حوالي السبعين شابا، كلهم متعطش إلى العلم لا يضيع الفرصة التي أتاحتها له حكومته في الأيام الأخيرة
ومع أن هؤلاء الطلاب كانوا يعيشون معيشة الشظف، لأن مخصصاتهم في ذاتها ضئيلة. إلا أنهم كانوا صابرين لا يشكون، قانعين بالفرصة التي تتيح لهم لتزود العلم، مهما قاسوا من شظف
ثم حدث - ولا أدري كيف - أن قطعت عنهم مخصصاتهم فجأة، وتركوا يواجهون هذا المصير المفجع وهم - على كل حال - غرباء. ولما لم يكن بد أن يأكلوا، وأن يشربوا، وأن ينيروا دارهم التي يسكنونها في حلوان، فإن الديون قد تراكمت على البعثة. وهي ديون للجزار والبدال وبائع اللبن وبائع الخبز وإدارة التنظيم في حلوان نظير النور والماء
وصبر البدال والجزار وبائع اللبن وبائع الخبز شهراً فشهرا، ثم أخذت تقع حوادث مؤسفة لا تليق بكرامة بعثة، ولا كرامة دولة. وصار المار في الشارع الذي به بيت البعثة - وهو نفس الشارع الذي أسكنه في حلوان - بسمع مشادات متكررة بين الدائنين والطلاب على قارعة الطريق. يتدخل فيها الخيرون من سكان الحي لفض النزاع، ورجاء البدال أو القصاب أو بائع اللبن الزبادي) أن يمهل الطلاب بعض الوقت، حتى ترسل إليهم حكومتهم مخصصاتهم الشهرية. ثم يتوسط أهل الخير عند تنظيم حلوان كي لا يقطع عنهم الماء والنور. . ومتى هذا كله؟ في أيام الامتحان التي يجب أن يتفرغ الطلبة فيها للاستذكار!(988/42)
إنها مأساة في صورة مهزلة، تتعرض لها كرامة هؤلاء الشبان الكرام، الذين تركوا أهلهم ووطنهم في طلب العلم، ليعودوا فيكونوا النواة الأولى في الأداة الحكومية الحديثة المستنيرة في اليمن. وكل ملم بحالة هذا القطر العربي الشقيق يدرك مدى حاجته لعشرات من أضعاف هؤلاء الطلاب، كي يدخلوا النور إلى ذلك القطر، وكي ينقلوه إلى العالم الإنساني المتحضر
ولقد كان المنتظر أن توالي الحكومة اليمنية إرسال أفواج جدد من الطلاب بعد أفواج إلى البلاد الإسلامية المتحضرة، كي يتعلموا ثم يساهموا في إنشاء وطنهم، ولا أقول في تقدمه، فهو أولا في حاجة إلى الإنشاء!
إن الحكومة اليمنية جديرة بأن تحقق في هذه المأساة لترى من هو المسؤول عن إهانة كرامة طلاب البعثة وهم في غير وطنهم الأصيل. لا بل لترى من هو المسؤول عن إهانة كرامة الحكومة اليمنية ذاتها وسمعتها في العالم الإسلامي على ألسنة البدالين والقصابين وبائعي الخبز واللبن في حلوان!
وإلى أن تقوم الحكومة اليمنية بهذا التحقيق، فإنني أستصرخ أمانة جامعة الدول العربية هنا لتسرع بتقديم الإسعافات الضرورية لحفظ حياة سبعين طالبا مهددين بالجوع والعطش وقطع التيار الكهربائي، بل مهددين بالإيذاء من الدائنين الذي طال صبرهم في انتظار مخصصات الطلاب، وانطلق ألسنتهم بالسخرية والنكات اللاذعة، موجهة للطلاب المساكين!
إنها مأساة لا ترضاها دولة في القرن العشرين
سيد قطب
عتاب إلى أدباء السودان
على أثر المقال الذي نشرته في مجلة (الرسالة) الغراء بعددها 982، الصادر في 28 أبريل سنة 1952. والموسوم بـ (نماذج من الشعر السوداني الحديث)، حمل إلى بريد مصر والسودان طائفة من الرسائل يعبر بضعها عن حسن ظن مرسليها بأدب أخيهم الكاتب وحبه العروبة في أنحاء المعورة كافة؛ ويحمل البعض منها لونا طريفا من العتاب هو أشبه ما يكون بهمسة المحب على الحبيب، أو الصديق إلى الصديق، وها أنا أعرض ثم أعلق(988/43)
عليه حسب ما أرتئيه، على أن أترك المجال لأخواننا أدباء السودان للكلام حوله
يقول لي الصديق الفاضل الأستاذ الشاعر هدى الأمين في رسالته المؤرخة في 11 مايو، بعد التحية الرقيقة التي أقدم إليه أحسن منها
إني أوافقك على توجيه اللوم لنا نحن شعراء السودان وأدبائه لا إلى إخواننا في البلاد العربية الأخرى، ومرد هذا التقصير لسببين:
أولهما، فقدان الصحف الأدبية التي تصلح لنشر الشعر والأدب في السودان، وهذا يعزى إلى عدم توفر المادة الكافية لديها، وثانيهما تخجلنا وانكماشنا على نفوسنا، وهذا طابع ظاهر في الخلق السوداني لم تعمل الحضارة الحديثة على إزالته. أما أنت فقد بدأت في كشف وشاح الخجل عن عواطف شعرائنا. ون يقف قلمك الفياض قبل أن يقدم إلى قلوب أبناء لغة الضاد وعقولهم بعض ما يخفق به القلب السوداني وما يوحي به العقل. .
وأنا أقول للأستاذ الأمين - بعد شكره على ما أرسل إلى من شعره، الذي أرجو أن أكتب عنه بعد أن تجتمع لدي بعض النماذج الأخرى من إخوانه الشعراء - ترى ما هو السبب في خجل شعراء السودان وعدم تقديم ثمار عقولهم إلى القراء؟ أليس هو فقدان الثقة بالنفس؟ فهل بعد هذا الدليل سبب آخر؟ لذلك أرجو أن يكون الأدباء عندكم أكثر جرأة، ولديهم من الشجاعة ما يكفي إلى فرض أدبهم على القراء ما دام هناك صحف ذائعة تحمل كل ما هو جدير بالإعجاب والخلود. ثم يا صديقي ما السر في هذا التشاؤم الذي يسيطر على كل بيت من أبيات شعرك؟ أليس هذا من عدم الثقة بالنفس؟ إن الرجل يا صديقي لا ينظر إلى الحياة بمنظار أسود إلا بعد اليأس الشديد، فهل سمعت قبل الآن بشاعر يطلب الموت سواك
في القبر ملتجأ لمن ... قضى الحياة كميت
فلم التعلق بالحيا ... ة وغايتي هي غايتي
لماذا كل هذا اليأس يا صاحبي، وأنت لا تزال طري العود، ندي الإهاب؟ أرجو ألا أسمع منك بعد اليوم إلا كل لحن ينبض بالأمل والحب والشباب. .
ويكتب إلى الأديب الزبير علي، في رسالته المؤرخة في 8 مايو 52 فيقول:
(ليست لدينا صحيفة أدبية بالمعنى الصحيح. لأن أكثرها لا يعنى بالآداب، ولاهم لها إلا(988/44)
تسويد صفحاتها كل صباح بالمهاترات السخيفة)
أنا معك يا صديقي في هذه الناحية. . وهذا الأمر وهو السبب أيضاً في عدم اطلاع أدباء العربية على الأدب العراقي عدا ما ينشره بعض النابهين منا على صفحات مجلات مصر. . وأنا أرجو مخلصا من إخواننا السودانيين أن يفهموا أن الأدب فوق السياسة وأبقى من كل ما يسودون به من صفحات، مصيرها الفناء، فهل ترى يدرك أصحاب الصحف هذه الغاية؟
ويكتب إلى الأستاذ الشاعر جعفر عثمان موسى فيقول
(. . فكرت جدياً بعد كتابتك عني وإلحاح الأصدقاء في نشر شعري. .) وأنا أحب أن أهمس في أذنه مشجعا على النشر لأن إذاعة ثمار القرائح على الناس. . أثمن هدية يقدمها الفنان إلى بلده. . .
ويقول لي الأستاذ عبد الهادي مراد محمد في رسالته المؤرخة 15 مايو 1952 (. . وقد كتب لك من السودان - على ما أعتقد - جماعة أبانوا لك هل في السودان أدب بالمعنى الصحيح، بل لعلهم كانوا أصرح من ذلك فكشفوا لك العوامل التي حالت دون انتشار أدبنا. . .)
أما أنا فأجيبه بأنني عاتب على أدبائكم وعلى الصحافة السودانية أيضا. وسبب ذلك هو عدم الكتابة إلى عما طلبت. . كما أنني لست أدري ما السر في تهجم صحفكم الزاهرة علينا، وما أنا أنقل إلى قراء (الرسالة) ما نشرته صحيفة (النيل) في عددها الصادر يوم (15 مارس 1951) تعليقاً على النداء الذي نشره عن لساني الصديق الشاعر الأستاذ جعفر حامد البشير قالت
(. . . يجد القارئ في هذه الصحيفة دعوة كريمة وجهها الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري شاعر الشباب العراقي بواسطة صديقه الأستاذ جعفر حامد البشير الأديب المعروف لدى قراء (النيل)، والتي يدعو فيها أدباءنا وشعراءنا السودانيين بموافاته بمنتجاتهم في الأدب لإذاعتها ونشرها. .
هذا ما جاء في كلمة صديقنا الأستاذ البشير، ومن قبل ذلك وبسنوات طلب الأستاذ الدكتور زكي مبارك من أدبائنا أن يوافوه بمنتجاتهم الأدبية ليقدمها للعالم العربي. والذي يهمني في هذه المسألة هو لماذا يفكر إخواننا في البلاد العربية هذا التفكير العجيب، فالسودان قطر(988/45)
تسوده اليقظة، وله من أدبائه وشعرائه ما لا يقل عن أي بلاد أخرى. ولهم مؤلفاتهم وكتبهم الخاصة، وفي إمكان إخواننا في البلاد العربية أن يسعوا لاقتناء هذه الكتب والمؤلفات، ومنها ما يمكنهم أن يكونوا فكرة عن الأب والأدباء السودانيين
. . إن السعي الحثيث الذي يتكبده أبناء السودان في الحصول على المعلومات الأدبية والسياسية والاقتصادية من البلاد الأخرى لا يقابله أي مجهود من جانب الأدباء في البلاد العربية. وإني لأرجو أن يقرأ أبناء البلاد العربية صحافتنا ويبعثوا إلينا بنتاج أفكارهم ويفسحوا لنا المجال في صحافتهم. . الخ. .)
هذا بعض ما كتبت صحيفة (النيل) الزاهرة. . والذي أود أن أعرضه لإخواننا في السودان، هو إن الباطل إذا قلب حقاً في عرفهم فإنه باطل في عرف النقد والميزان الأدبي، لأننا لا نعرف قطراً من الأقطار العربية يهتم بتكوين رأي ناضج عن مدى تطور النهضات الفكرية والاجتماعية في البلاد الأخرى غير العراق. . والعراق بغير تبجج أكثر الأقطار العربية الأخرى استهلاكا للكتب. . أما عن تكاسلنا في أقتناء مؤلفات أدباء السودان فأقول أين هي؟ إنني أفتش يومياً في مكاتب بغداد فلا أجد ذكراً لكتاب سوداني، ترى ما هو السر؟ أما عن صحافة السودان فكيف تستطيع الحصول عليها إذا كانت لا ترد العراق؟ إذا كان أصحاب الصحف أشحاء حتى في إرسالها إلينا! أما عن التعريف بالأدب السوداني فالجواب أتركه لأخواني أدباء السودان؟ ألم أعمل جاهداً في سبيل هذه المعرفة بواسطة ما أنشره عنهم في صحف العراق وغيرها من صحف البلاد العربية؟ ألم أسع في نشر آثارهم على القراء؟ أبعد كل هذا الجهد والعمل الذي لا أرجو منه سوى التقارب بين البلاد العربية أهاجم وأطعن في الصميم؟ ماذا تريد منا صحيفة (النيل) بعد هذا؟ أتريد أن تسلب منا حتى شعور الوحدة؟ قلد حاربنا بعض الساسة والرجعيين والأدباء في العراق لجرأتنا وقولنا الحق وتفضيلنا شوقي على الرصافي ومناداتنا بزعامة مصر وإعجابنا بنهضة مصر الأدبية حتى كدنا أن نحطم القلم ونهجر قول الشعر لنترك للغربان النعيب، فهل تريد أسرة تحرير (النيل) أن تحذو حذو الجهلة في العراق؟ هذا ما اتركه لأبناء السودان، أننا نعرف جيدا أن من واجبنا تأدية الرسالة التي نضطلع بها، ولو ذقنا من أجلها الدمار. أما الشهرة الجوفاء والصيت الفارغ فنحن نتركه للمغرورين وحسبنا قوله عز وجل(988/46)
(فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. .) والسلام على من اتبع الهدى
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
بلاء!
لك أن تضحك بملء فيك، ولك أن تبكي حتى تستغرق في البكاء ولماذا لا يجوز لك أن تضحك وتبكي في آن واحد وأنت في مصر:
قبيل شهر رمضان المبارك ملأت شوارع القاهرة والإسكندرية إعلانات ضخمة تهلل وتكبر لقدوم رمضان لا أظن أن يدا واحدة سلمت من أن تنال منها، ولا عينا واحدة أيضاً برئت من أن تقع عليها لكثرتها وشدة الإلحاح في توزيعها
ولعلك قبل أن تعرف الحقيقة المرة تحسب أن وراء هذه الإعلانات خيرا سيعود على المجتمع في رمضان، أو برا سيخفف لوعة البائسين والمحرومين في هذا الشهر العظيم، أو فتحا جديدا في الصناعة المصرية سترقص له جنبات الوادي غبطة وفرحا، أو تهاونا في أسعار الضروريات بعثته رحمة رمضان في قلوب الذين لا يعرفون الرحمة حتى في شهر البركات والرحمات. . قد تحسب أن وراء هذه الإعلانات كل هذه أو شيئا منها، ولكنك حين تقف على الحقيقة المرة لا بد أن تنال الحسرة من نفسك والألم من قلبك، فلم تكن هذه الإعلانات إلا حملة من الدعاية الساخرة للفرق اللاهية العابثة الراقصة، التي أبت إلا أن تلهو وتعبث. . . ابتهاجا بشهر رمضان!
والغريب العجيب أنه ما من إعلان واحد إلا وكتب بالخط العريض البارز في أوله (ابتهاجا بشهر رمضان المعظم تحيي. .)
وكأن رمضان المعظم الذي يبتهج به عباد الله المؤمنين في الأرض، وملائكته الأبرار في السماء، تبتهج به الفرق المهرجة الراقصة في صالاتها! وكأن لياليه لم تكن لتجتمع خلالها قلوب العباد بالتزوار البرئ، ولتستمطر رحمات الرحمن بالفزع إليه في أسحارها، وإنما كانت لتقضي في حفلات من اللهو والفوضى والتهريج(988/47)
لو أن هذه الفرق التي لم نجد رادعا في مصر يردعها، ولا يدا من حديد تضرب عليها، ولا جرأة من الرأي العام تضع حد لها. . لو أنها أعلنت عن تهريجها دون أن تشير إلى أن استعدادها لم يكن إلا ابتهاجا برمضان لهان الأمر، ولكن لماذا نفعل والحياء قد ضاقت به أرض مصر، والخجل أوشك أن يهاجر منها، كما هاجر منها المتنبي من قبل وهو يردد قوله المأثور
وكم ذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا
رمل الإسكندرية
نفسية عبد اللطيف الشيخ
إنها لا تعمي الأبصار
بعثت السيدة هيلين كيللر كتاب شكر إلى وزارة الشؤون الاجتماعية تسجل فيه شكرها على حفاوة المصريين بها. . بمناسبة عودتها إلى وطنها. .
ولقد أثارت قصة هذه السيدة دهشة الكثيرين ممن قرءوها وعجبوا كيف استطاعت أن تشق طريقها نحو المجد فتنال درجة (الدكتوراه) وقد حرمتها الطبيعة ثلاث حواس لا يستغني الإنسان عن واحدة منها. . . وهل يستغني الإنسان عن قوة الإبصار يميز بها الألوان والأحجام. . أو قوة الكلام والإفصاح يعبر بها عما يجول بنفسه وخاطره. . أو قوة السمع التي تربطه بالمجتمع الذي يعيش فيه؟!
كم من الناس يتمتعون بحواسهم وقواهم كاملة، ولكنهم لا يحققون شيئا مما حققته هذه السيدة التي لم يقعدها عجزها عن السعي والدأب والمثابرة!
كم من الناس لهم أعين لا يبصرون بها. أعمتهم الجهالة عن الحقائق فعميت عليهم، وصرفت أبصارهم إلى ما يضرهم ولا ينفعهم!
وكم من الناس لهم آذان لا يسمعون بها. . يصمونها عن الاستماع، فلا تصل إليها صيحة مظلوم يطالب بحقه، أو مستغيث نزل البلاء بساحته. . أو مستجير يلتمس العون والغوث
كثيرون يتمتعون بحواسهم وقواهم كاملة ولكنهم يعيشون على هامش الحياة، لا يوجهون هذه الحواس الوجهة التي تحقق لهم بلوغ أهدافهم، لماذا؟ لأنهم حرموا قوة لا تقل قدرا عن(988/48)
قوى الحواس الخمس جميعا، وأعني قوة الإيمان، إيمانهم بالله، وإيمانهم بأنفسهم، وهذا الإيمان من مقومات النجاح في الحياة تعوض على الفرد النقص الذي يحسه بحرمانه من حواسه، وهذا هو المثل الناطق نراه أمامنا مجسما في حياة هذه السيدة التي استطاعت أن تثبت للعالم أجمع أن العمى لا يصيب العين، إنما يصيب القلب، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه المكنون (فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
أنار الله أبصارنا وبصائرنا، وهدانا سواء الصراط
عيسى متولي(988/49)
القصص
مبتور الساقين
للكاتب الفرنسي جي دي موبسان
جرت لي هذه الحادثة سنة 1882 وكنت مسافرا في القطار ومزمعا الانزواء بنفسي في إحدى مقاصيره، حين انفتح بابها وسمعت صوتا يقول لآخر:
- خذ حذرك من الزلل يا سيدي، فقد بلغنا ملتقى الخطوط (المقص) قم إن مرتقى القطار مرتفع
فأجابه صوت آخر:
- لا تخف يا لوران فسأعتمد على مقبض عكازي ثم ظهر لي رأس مستور بقبعة مستديرة ويدان تعلق بهما سيران من جلد، أخذتا تعتمدان وتستندان إلى جانبي باب القطار. ثم رفعتا بهوادة وبطئ جسما بديناً بعض الشيء سمعت لوقع أقدامه الخشبية نقرا على مرتقى القطار، وحين هم الرجل بالدخول إلى مقصورتي أبصرت نهاية بنطلونه المتراخي فبرزت لي من خلاله رجل خشبية سوداء لم تلبث أن لحقت بها أختها، فعلمت أن رفيقي مبتور الساقين ثم برز لي من ورائه رجل آخر راح يقول له:
- هل أنت مرتاح في جلستك يا سيدي؟
- نعم يا ولدي
- وإذن فهاك صررك وهذا عكازك، وهنا أبصرت خادما تبدو في سحنته معارف جندي قديم يصعد الى صاحبنا حاملا له بين ذراعيه كدسة من أشياء ملفوفة بأوراق، بعضها أسود وبعضها أصفر، حتى إذا وضعها في رف القطار الواحدة بجانب الأخرى، قال لسيده:
كل شيء معد لك يا سيدي: ففي هذه الصرر الخمسة أشياء:
السكر والملبس، والدمية، والطبل، والبندقية، وأخيرا الفطيرة الدسمة
- حسن جدا يا ولدي
- أتمنى لك سفرا ميمونا يا سيدي
- شكرا (يا لوران) وأنا أتمنى لك صحة موفورة، ثم غادر الخادم القطار بعد أن أغلق على سيده باب المقصورة(988/50)
كان رفيقي في السفر في الثالثة والثلاثين من عمره تقريباً، على رغم أن شعره وخط أكثره الشيب، وكان حسن البزة والشارة، غليظ الشارب تبدو عليه الفراهة والقوة واكتناز اللحم، فبعد أن استقر ومسح جبينه وراح ينفث في الهواء دخان سيجاره رمقني بنظرة هادئة ثم قال:
- لعل دخان سيجاري يزعجك يا سيدي؟
- فقلت له: كلا، ولكن ما كدت أنطق حتى دهشت، ذلك أن هاتين العينين وذلك الصوت وحتى هذه السحنة لم تكن غريبة عني، نعم كنت أعرفها ولكن أين. . ومتى؟ وفي الحق قلد بدا لي أني لاقيت هذا الشاب وكلمته وضغطت على يديه ولكن ذلك كان بعيدا حتى لقد ضاع في ضباب كثيف يخيل للفكر معه أن يتلمس ذكريات الماضي ويتبعها كأنها الأطياف العابرة الهاربة، كان هو أيضاً يحدجني بنظره ويتفرس في وجهي متعرفاً كأنما داخله من التشكك بمعرفتي مثل ما داخلني، وتضايق نظرانا من هذه الملاقاة الملحة فاعترقا، على أنه لم تمض إلا ثوان حتى عادا وتلاقيا ثانية بتأثير حب الكشف والاستطلاع، وابتدرته أنا قائلا:
- يا الله يا سيدي: ألا ترى أنه يحسن بنا بدلا من أن يسارق كل منا صاحبه النظر أن نبحث معا عن المكان والزمان اللذين تعارفنا فيهما أول مرة؟ فأجاب بلطف:
- إنك لمحق يا سيدي، وهنا سميت له نفسي قلت:
- إني أدعي القاضي هنري (بونكلير) فتردد برهة ثم قال بعين غائمة بضباب الذكرى وصوت من يحضر ذهنه كي يستذكر شيئاً عفى عليه الزمن:
- آه. . ذكرتك تماماً، فقد صادفتك في (بوانسل) وكان ذلك منذ اثني عشر عاما قبل الحرب المشئومة. . .
- نعم يا سيدي. . . أوه. . . وإذا فآنت اللوتنان غاليه؟
- نعم أنا بعيني، ثم أصبحت الكابتن (فاليه) قبيل اليوم الذي فقدت فيه ساقي الاثنتين بإصابة فظيعة من قنبلة حربية
وهنا حدق كل منا في صاحبه من جديد يعد هذا التعارف. وتمثل في خاطري هذه الساعة منظر ذلك الشاب الجميل اللطيف الذي كان ملء العين والفؤاد بلباقته وخفته وجماله. ولكن(988/51)
وراء هذه الصورة الغامضة الملفوفة بضباب النسيان، كانت تطفو على ذاكرتي قصة لهذا الشاب، كنت أعرفها وأنسيتها الآن، ولكني لم أنس أنها قصة جذابة الحوادث مغرية رغم قصرها لأن الحب لعب على مسرحها. ثم أخذت ظلال النسيان تنحسر عن ذاكراتي شيئاً فشيئاً؛ وإذا بها تتضوء وتستنير بها المسالك، فيطالعني من خلال سطورها الممحوة وجه فتاة مليحة، وإذا باسمها يرن في سمعي ويجري على لساني: الآنسة (ماندال). . لقد ذكرت كل شيء الآن. . وفي الحق لقد كانت قصة غرام تلك التي نسيتها أولا. كانت تلك الفتاة تحب هذا الرجل حين التقت به، وكان الناس يتحدثون عن زواجهما المنتظر القريب الذي كان يفجر ينابيع الفرح والسعادة في قلب صاحبنا الضابط
وهنا صوبت بصري إلى الصرر الموضوعة إلى الرف فوق رأس الضابط الكسيح. فإذا بها تهتز وتضطرب من حركة القطار، وإذا بي كأني أسمع الآن صوت الخادم يقول لسيده:
كل شيء معد لك يا سيدي. ففي هذه الصرر الخمسة أشياء: السكر، والملبس، والبندقية، والطبل وأخيرا الفطيرة الدسمة. وتألقت في لحظة بخاطري رواية لهذا الكسيح الذي أراه أمامي: رواية تشبه الشبه كله جميع ما كنت قرأته في القصص أو رأيته في المسارح؛ وذلك إما أن يتزوج الخطيب ذو العاهة خطيبته السليمة أو لا. وإذن فإن هذا الضابط المبتور الساقين قد وجد خطيبته بعد الحرب فوهبت نفسها له رغم مصيبته بساقيه. تمثلت كل هذا جيدا في بساطة، ثم عرض لي فجأة افتراض آخر أشبه بالحق وأقرب إلى الواقع المنتظر أيكون الرجل قد تزوج من فتاته قبل الحرب وقبل الفاجعة الأليمة بساقيه؟ أتكون الصبية المسكينة احتسبت الله في مصيبتها فيه وخضعت لمشيئة القدر القاسي، فهي تستقبل مكرهة هذا الكسيح الذي غادرها ملء العين ملاحة وسلامة قبل الحرب، وآب إليها بساقين خشبيتين وجسم ناقص لا يتحرك إلا على عكازين. أتراه سعيدا أو متألما؟! وقامت في نفسي رغبة لا تقاوم في الاستعلام عن قصة زواجه والاستفسار على الأقل عن النقطة المهمة التي أستطيع أن أبصر على ضوئها ما يود هو إخفاءه عني أو ما لا يمكنه الإفضاء به. ورحت أكلمه بأحاديث شتى، بينما عيناي مثبتتان على الصرر الملفوفة التي وضعها خادمة على رف القطار ثم استنتجت من محتوياتها أن له امرأة وطفلين: أما السكر والملبس فلامرأته، وأما الدمية فلطفلته، وأما الطبل والبندقية فلطفله، وأما الفطيرة الدسمة فله هو؛(988/52)
وفجأة قلت له:
- لعلك أب لعائلة يا سيدي.
- كلا
فشعرت بشيء من الخجل والربكة لهذا السؤال كأني ارتكبت ما لا يتفق وحسن العشرة. لهذا عقبت:
- معذرة يا سيدي لقد ظننت ذلك مما سبق إلى سمعي من قول خادمك وإشارته إلى هذه اللعب. وأنت تعلم أن المرء لا يملك إذنه حتى ولو لم يرد ذلك. فافتر ثغره عن بسمة راضية ثم قال:
- وما قولك أني لست متزوجاً؟
وهنا بدت على دلائل الاستذكار والتأمل؛ ثم قلت فجأة:
- أوه! إن ما تقوله الحق، فحين تعرفت بك كنت عاقداً خطبتك على الآنسة ماندال فيما أظن؟
- نعم يا سيدي إن ذكرتك جيدة جدا. فاجترأت وتابعت:
وأذكر أيضاً أني سمعت أن الآنسة ماندال خطيبتك تزوجت موسيو. . . موسيو. . فلفظ الضابط في سكون هذا الاسم:
- موسيو فلوريل، أليس كذلك؟
- نعم هو بعينه. وأذكر أيضاً أني سمعت في ذلك الحين قصة فاجعتك، ونظرت إليه من جانب عيني فإذا بالدم يتدفق في وجهه أحمر قانيا، ثم إذا به يجيبني في حمية ونشاط مثل من يدافع عن قضية ضاعت له سابقا وفرط في حقه فيها وهو يريد الآن تبرير موقفه فقال:
- لقد كان من أعظم الخطأ بل والألم أن يذكروا أمامي اسم خطيبتي (ماندال) بعد إذ أبت من الحرب بدون ساقين، ويا للأسف، لم يكن بوسعي أن أقبل دون ألم وتقريع ضمير أن تصبح (ماندال) امرأتي: أترى ذلك يكون ممكنا؟ حين يتزوج المرء يا صديقي لا يفعل ذلك كي يتباهى على الناس بامرأة جميلة فتانة! إنما يفعل كي يعيش بجانبها ويتصل بها طوال الأيام والساعات والدقائق والثواني. فإذا كان الزوج مثلي كتلة شوهاء مبتورة فإنه بزواجه من فتاة ريانة الشباب يكون قد حكم عليها بالألم الممض وقسرها على حياته الناقصة(988/53)
المحطمة حتى الموت، أنا أفهم وأقدر بل وأعجب بجميع التضحيات، ولكن حين يكون لها حدود تنتهي إليها، لهذا فأنا أستنكر من نفسي أن تحرم فتاة جميلة نفسها لأجلي من كل ما تهفو إليه جوارحها ونفسها من سعادة وملاذ وأحلام للصبا وللجسد أيضا، كل ذلك كي يقال عنها إنها عفيفة ظريفة كريمة، ثم كيف أطلب منها هذا وأنا نفسي حين أسمع على أرض الدار وقع عكازي وأنا أمشي وأحجل، أنا نفسي حسن أسمع هذا الصوت الذي يشبه وقع أقدام البغال يجيش في نفسي الحنق فأود خنق خادمي، وهل تظن أنه يمكن أن يقبل الزوج من امرأة أن تتسامح في شيء هو نفسه لا يغتفره لنفسه، ثم أتعتقد وتتصور أن ساقي الخشبيتين هاتين جميلتان في النظر فاتنتان للعين؟ وسكت وسكت فما عساي مجيبه؟ إن كلامه الصدق فهل بوسعي أن ألومه أو أخطئه، ثم سألته فجأة:
- هل لمدام فلوريل خطيبتك المتزوجة أولاد؟!
- نعم، طفلة وصبيان، ولهؤلاء الأطفال ما احمل من لعب في هذه الصرر كهدية، إنها وزوجها طيبان، وكان القطار في هذا الوقت يصعد ملتقى خطوط (سان جرمان) ثم يمضي تحت الأنفاق المتعاقبة في المحطة، ثم يقف، وعزمت على تقديم ذراعي تكأة للضابط الكسيح كي يستعين عليها في النزول من القطار لولا أن يدين امتدتا من باب القطار المغلق لمساعدته
- نهارك سعيد يا فاليه، فأجاب صاحبي الضابط
- سعد نهارك (يا فلوريل)، وقد كان خلف الرجل امرأته الجميلة تبتسم له أيضاً وهي ترسل التحيات الحارة المستورة بقفازين، وبجانبها طفلة صغيرة كانت تطفر من الفرح والابتهاج بلقاء صاحبي الضابط وبجانبها الآخر صبيان صغيران كانا يتناولان بشغف ونهم الطبل والبندقية وقد برزا من طرفي الصرر التي تسلمها أبوهما فلوريل
وحين هبط الضابط إلى إفريز المحطة أسرع إليه الأطفال فعانقوه في محبة وألفة وشوق؛ ثم اتخذت العائلة طريقها إلى المنزل، وفي أثناء الطريق أخذت الطفلة تسند بكفها اللينة الغضة مسند عكاز الضابط الكسيح وقد فاض وجهها بماء الابتهاج والطيبة والمحبة البريئة
ك. ح(988/54)
العدد 989 - بتاريخ: 16 - 06 - 1952(/)
ضريبة الذل. . .
للأستاذ سيد قطب
بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهضة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة، هربا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تختف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة!
هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة. يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون
وإنهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها قربى ذوي الجاه والسلطان حين يؤدون إليهم ضريبة الذل وهم صاغرون. ولكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء نبذ النواة، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله
كم من رجل باع رجولته، ومرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، وخنع وخضع، وضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية، وبكل الأمانات التي ناطها الله به أو ناطها الناس. . ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هين هين، حتى على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل؛ السادة الذي لهث في إثرهم، ووصوص بذنبه لهم، ومرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء!
كم من رجل كان يملك أن يكون شريفا، وأن يكون كريما، وأن يصون أمانة الله بين يديه، ويحافظ على كرامة الحق وكرامة الإنسانية، وكان في موقفه هذا مرهوب الجانب، لا يملك له أحد شيئا، حتى الذين لا يريدون له أن يرعى الأمانة، وأن يحرس الحق، وأن يستعز بالكرامة، فلما أن خان الأمانة، التي بين يديه، وضعف عن تكاليف الكرامة، وتجرد من عزة الحق، هان على الذين كانوا يهابونه، وذل عند من كانوا يرهبون الحق الذي هو حارسه، ورخص عند من كانوا يحاولون شراءه؛ ورخص حتى أعرضوا عن شرائه، ثم نبذ كما تنبذ الجيفة، وركلته الأقدام، أقدام الذين كانوا يعدونه ويمنونه، يوم كان له من الحق جاه، ومن الكرامة هيبة، ومن الأمانة ملاذ(989/1)
كثير هم الذين يهوون من القمة إلى السفح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد. ولا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في هووا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مهاوي الضلال
ومع تكاثر العظات والتجارب. فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية. ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة. ضحية تخون الله والناس، وتضحي بالأمانة وبالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، وتلهث في إثر المطامع والمطامح، وتلهث وراء الوعود والسراب. . ثم تهوي، وتنزوي هنالك في السفح خانعة مهينة، ينظر إليها الناس في شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار
لقد شاهدت في عمري المحدود - وما زلت أشاهد - عشرات من الرجال الكبار يحنون الرءوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل تبهظ كواهلهم، وتحني هاماته، وتلوي أعناقهم وتنكس رؤوسهم. . ثم يطردون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحسنيين: في الدنيا والآخرة، ويمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق لا يحس بهم أحد حتى الجلاد!
لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحراراً ولكنهم يختارون العبودية، وفي طاقتهم أنت يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل، وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة. . شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهما، وهم يؤدون للذل دينارا أو قنطارا. . شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه وهم يملكون أن يرهبهم ذوو الجاه والسلطان!
لا بل شاهدت شعوبا بأسرها تشفق من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات. خرائب لا تقاس إليها تكاليف الحرية. ولا تبلغ عشر معشارها. وقديما قالت يهود لنبيها: (يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها ما داموا فيها، فأذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون). . . فأدت ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة، أربعين سنة تتيه في الصحراء تأكلها الرمال، وتذلها الغربة، وتشردها المخاوف. . وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمنا للعز والنصر في عالم الرجال!
إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب. فإما أن تؤدي هذه(989/2)
الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدي للذلة والمهانة والعبودية! والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها ولا فكاك
فإلى الذين يفرقون من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرغون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، ويخونون كراماتهم، ويخونون إنسانيتهم، ويخونون التضحيات العظيمة التي بذاتها أمتهم، وبذلتها الإنسانية لتحرر وتتخلص
إلى هؤلاء جميعا أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ وفي عبر الواقع القريب، وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، وأن الذين لا يرهبون الجاه والسلطان يرهبهم الجاه والسلطان
ولدينا أمثلة كثيرة وقريبة على الأدلاء الذين باعوا الضمائر وخانوا الأمانات وخذلوا الحق وتمرغوا في التراب، ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين من الله! ملعونين من الناس. وأمثلة كذلك - ولو أنها قليلة - على الذين يأبون أن يذلوا، ويأبون أن يخونوا، ويأبون أن يبيعوا رجولتهم بيع السماح. وقد عاش من عاش منهم كريما، ومات من مات منهم كريما
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
سيد قطب(989/3)
من وحي القمة القاصية:
قطيع الصيف في باريس
للدكتور علي شرف الدين
في كل عام - وفي مستهل الصيف خاصة - يقبل على باريس هذا القطيع من أطراف أوربا. مختلفات الجنس واللغة، متباينات الأعمار والثقافة، في عيونهن غرارة، وخلف الأجفان مستقبل حافل بالدموع، ما عرفته ولا فكرن فيه، وفي إشارتهن براءة، وما تصيب الفواجع غالبا غير القلب البرئ، كأنما تحب السماء هذه القلوب، فهي تمتحنها بالآلام لتزيد في طهارتها قبل أن ترفع إليها
أطلقهن الرعاة من مراعيها الآمنة، وأبحن لهن - وهن الناشئات - أن يقبل عليهن المساء، وهن في غير مراح الحقل بعيدات عن سمع الراعي ونظره، وما بالع من أطلقهن في الثقة، ولا أسرف في حسن الظن، ففي قلوبهن من وحي الفطرة الأصيلة عصمة، وفي آذانهن من ترانيم الكنيسة صدى رائع يغلب كل الأصداء، ولكنها سنة الشباب والحب، جديدة في كل عصر، وإن أعادت نفس القصة في كل جيل
أقامت لهن باريس معارض الفن ومناهل للأدب، وحشدت لهذا أقوى ما يأسر النفس والعين. يمضي الصيف وهي مع الرعيل في الغدو والرواح، يهديها رسول الأمن في الجماعة، ويملأ عينيها نور الفرح بما ترى وتسمع، لا تلبي غير نداء المعرفة، ولا تغشى غير المواطن الآمنة، في صالات الموسيقى، وفي الكسمبور، وتحت قباب البانثيون. . .
فإذا تقدمت بهن الإقامة رأيت شيئا جديداً: رأيت أن القطيع قد استحال إلى أسراب، ثم استحال السرب أخيراً إلى (الغنمة القاصية)، ولكن في صحبة جديد، ولا تشك حين تراهما في أن ملاكا يحرس هذا الحب الجديد، فما تزال سمات القطرة في الوجوه تنادي بنبل العاطفة، وما يزال في العيون شعاع يكشف عن قلب برئ. ومن ذا الذي لا يبارك على حب تذكيه غرارة السن، ويرعاه من العاطفة ميل ساذج صريح؟
ويمضي الصيف فيبقى نصف القطيع قائما في باريس لا يريم. ويتقدم الزمن قليلا، فإذا جدة الحب قد أخذت تبلى، وإذا بهجة اليسار قد أخذت تنطفئ، ليأخذ مكانها ظلام الحاجة، وإذا هذه الغلائل البيضاء التي كانت ترف بالأمس على هياكل من النور كما يرف جناح(989/4)
الحمائم السابحة في صبح الربيع. . قد استطال الفقر في ذيولها، كما استطال الحزن والألم في هياكلها. بقية من جمال يغزوها الهم الناصب، والضنى الملح، في انتقال مفاجئ من حياة إلى حياة، ما أبعد كلا منهما عن الأخرى
هذه المدللة التي أكرمها الفلاح، وأقامها في الحقل (الآمن) تستملي حياة الدعة والسعادة، وتضفي على الحقل ربيعا أجمل من ربيع مروجه، قد أصبحت تعمل في حقل آخر، عمل الأجير لا المالك، ويهولك ما ترى حين ترى أن هذه المدللة التي لم تجاوز العشرين قد أخذت تؤجر في الحقول. . . لم تعد تصغي للموسيقى ولا تغشى محاضرة، ولا تحفل لهذا التاريخ الرابض في معالم باريس، ولكنها في مقاهي سان جرمان مع الغاضبات من الأهل، الساخطات على الحياة، وأخيراً في كهوف الليل الحمراء على ضفة السين. . .
إن لها شخصية كما يدعي صاحبها الذي أطلقها من المرعى (الآمن) فهو لا يسأل - ولا يحب أن يسأل - كيف تعيش؟ وهي (الحضرية) المدللة التي ما عرفت العمل، وما خلقت إلا لتضفي النور على ما حولها. . . إنها شخصية تمنحها إياها الحضارة في تمام العشرين، وقد نسيت الحضارة أن الزهرة هي الزهرة، في أول الربيع، وفي عنفوانه، وفي نهايته، وأن الطبيعة عرفت هذا فنثرت من حولها الشوك لترهب القلوب الطامحة، وتدفع الأيدي عن جناها. وتمر بك هذه الذابلة التي كنت تسعد بالنظر إليها، فتعاف أن تراها رحمة وإشفاقا، ولكأن هذا العربي قد أرادها في هذه الصورة القوية من شعره
كنت مشغوفا بكم إذ كنتم ... شجراً لا تبلغ الطير ذراها
لا تبيت الليل إلا حولها ... حرس ترشح بالموت ظباها
وإذا مدت إلى أغصانها ... كف جان قطعت دون جناها
فتراخى الأمر حتى أصبحت ... هملا يطمع فيها من يراها
ويح المسيحية وويح الشرق منك يا أوربا! ألا تذكرين حديث (الغنمة الضالة) في الإنجيل؟ ألم يطلب إلى الراعي أن يبحث عنها حتى ولو تعرض القطيع كله للضياع؟ أنه يعلمك كيف تكون القيم الإنسانية عندك خيراً من (المصلحة) وكيف تحرصين على الاستجابة لهواتف الروحية، وإن لم تدع إليها (المنفعة). إن القطيع من غير شك خير من الواحدة، ولكنها الساعة الرحيمة التي تكسر كل مقاييس الموازنة، وتحطم كل موازن المقارنة(989/5)
هي إذا (الشخصية) أو (الحرية) أو (سن الرشد) وغير هذا من الكلمات التي تزعجينها في بطون القواميس - تقيمين منها قانونا حين شعرت بالاستخذاء والظلم، سن الرشد!! المعروف أو سن الرشد الحقيقية تبتدئ منذ الميلاد، وتنتهي غالبا قبيل العشرين أو عندها، وعند العشرين تبتدئ سن الرعاية والملاحظة. . .
على أن لك في سنة الرشد رأيا غريبا - رأي يتغير حسب المصلحة والعصبية الشعوبية: تعطين سن الرشد للأفراد، وتحرمين منها الجماعات، تعطينها للغنمة القاصية وتمنعين منها الجامعة تستمد القوة والرشد من جماعتها وائتلافها. لكم تعمدن إلى القطيه تمزقين من وحدته حتى استحال إلى غنمات قاصية لا تكاد إحداها تسمع نداء الأخرى، ثم زعمت لنفسك عليها سلطانا في دعوى باطلة مزورة، تارة (برسالة الحضارة) وأخرى بأنها لم تبلع سن الرشد، وقد كان في اجتماعها وتآلفها الرشد كل الرشد، ولكنها المصلحة التي أنكرت فيها حقوق الإنسانية ويح المسيحية وويح الشرق منك يا أوروبا!
أسرفت في السرور حتى قتلت في نفوس أبنائك الإحساس بالسرور، وأقمت للوثنية هياكل مكذوبة، تقدمين لها قرابين دامية، هي أشلاء ضمير ممزق في معركة صرعت فيها (المنفعة) كل هواتف الروح، وما رضيت أن تشهدي وحدك هذه الأصنام بالأمس في قصر شابو، ولكنك تدعين معك فرائس السياسة، وغنائم القوة، ليشهد مضارع حقوقهم وأمانيهم. . .
حتى (الإنيسكو) هذا الرجل الوقور، سخرت منه أوربا و (ضحكت عليه) فغرزت في عمامته أعلام الشعوب ترفرف متساوية متكافئة، نعم نعم ترفرف متساوية متكافئة في (الهواء) تقولين له: (ما أحوجنا إلى رأيك في التربية والتعليم) ثم تسرين له في أذنه: (رسالتك شاقة، وإنك لتعرف ما بين السطور، فكن ماهر النفاذ، لطيف الأداء، فما أحوجك إلى (لكياسة) لتصل من التربية إلى (. . . .) فيبتسم هذا الرجل الوقور بينما ينكث أطراف لحيته المستعارة (إنني خبير (بالسجعة) المقصودة، وما أيسر أن تجمعهم هلي ضرب واحد من التسليم، ومنهج متحد من التربية، حتى تلتقي الأهواء، وتتآلف النزعات، وهناك تتم (السجعة المفقودة)، وقد نسيت أوروبا ونسي معها هذا الرجل شبه الوقور أن الشهوب لم تكن شعوبا لأن الأنهار تفصلها أو لأن الجبال تحد ما بين تخومها، ولكن الشعوب كانت(989/6)
شعوباً لأن لكل شعب أمنية يفيض بها قلبه، أمنية تستغل حياته وتأخذها من أقطارها لا تلبث أن تستحيل إلى مادة حية في أغنية خالدة مقدسة. ما لي أنسيت الحديث؟ لقيتها مرتين مواظبة على محاضرات (أحلام معتزل) لجان جاك روسو. إنها تلتمس عنده في ساعات عزلته، ما يسمح على جراح نفسها. إنها قد نسيت الماضي، الماضي البعيد والقريب، وما كانت تحب أن تثير هذه الذكرى، فإنها قد تجاوزت منطقة الألم، واستراحت إلى نسيان يوشك أن يسبغ الطمأنينة والهدوء على قلبها، وكانت نفسها صحيحة لم تكسر، مشرقة لم تنطفئ، وإن كان يسبح في جبينها الهادئ شعاع شاحب ترف على حواشيه ذكريات خافته، تدافعها بالصبر والأمل، وقوة الإيمان بحياة جديدة
وكان شأني يضيق بمعاونة تغنيها، ولم أجد غير سيدة تركية هي وزوجها مثل عال لحضارة الإسلام في باريس، قلت لها: إنها كما ترين حزينة كسيرة وما أحسبها تحسن الكثير من عمل المنزل، وما أحسبها إلا حملا عليك لن تضيقي به، ولها من ثقافتها في منزل شرقي ما يهيئ لها الحياة فيه، فطالعت السيدة أسارير وجهها، فلم تشهد تمردا، ولم تر أثرا لهذه النكسة التي تطبع على وجوه المغلوبين في حياتهم الساخطين عليها، فابتدرت قائلة (فإبنتي إليها منذ اليوم) ثم استدركت مستعجلة (معلمتها لا خادمتها) ثم التفتت إلى زوجها كمن تطمئنه على نهوضها بحياتها (وعندي لها من ستسعد يهن ويسعدن بها، وأن تضيق بحياتها من نشأت في سويسرا الفرنسية. . .)
مضت أيام لقيتهم بعدها، وكان السيد التركي كعادته يقضي الساعات في مكتبته، رأيته أشبه ما يكون بالمستغرق في حلم. فلم أشأ أن أقطع عليه تأمله، حتى انتبه متهلل الوجه سروراً (إنه شعر حسن جميل) قلت لمن؟ قال لشاعر تركيا عارف حكمت الهرسكي، ثم أقبل يقرأ، ولكن صوتا آخر قطع عليه قراءته، صوت أحسب أني سمعته قبل اليوم، فاتجهت نحوه فإذا في الحجرة القريبة منا قد جلست هيلين وإلى وجوارها طفلة في العاشرة من عمرها، ومن حولها ثلاثة من فتيات تركيا الحديثة، أقبلن للدراسة في باريس، ولا غنى لهن عن دراسة اللغة، سمعتها تملي عليهن قطعة لأندريه جيد، يصف فيها سمات الإدراك والفهم، تجري في أسارير طفلة بكماء قام على تربيتها قس سويسري، حتى أدركت الأصوات وفهمت الحديث يجري من حولها (. . . لقد نبضت سماتها بالحياة فجأة، وجرى في جبينها(989/7)
إشراق أشبه ما يكون بالشعاع الذي يسبق الفجر في أعالي الألب والذي ترف له القمة المتوجة بالثلوج. . لم يكن ابتساما، ولكنه لون من خواطر المتصوفة. . . لم يكن قط ما زادها في هذه اللحظة معرفة وإدراكا أكثر منه حبا وهياما. . .)
قلت للسيد (لست أدري أيهما خير من الآخر: الباستير السويسري مع جرتريد، أم السيد التركي مع هيلين؟) قال (الباستير من غير شك لأن جرتريد قد خرجي على يديه من الصمت إلى الإفصاح. . أما أنا فلم أصنع إلا ما يجب لها، وما هو من حقها في الحياة، وخير منهما جميعا الهرسكي الشاعر، ثم أعاد إلى يده ديوانه وأخذ يترجم عن التركية:
(ليس حتما أن تنتقل النفس من النور إلى الظلمة، لأن النور طبيعتها ففيم التحول وهي مستريحة إليه) (ومن الحتم أن تنتقل من الظلمة إلى النور ليس فقط لأنها تشعر بالغربة والإبحاش، ولكن لأن وطنها الأول يحمي هو الآخر رعاياه)
باريس
علي شرف الدين
دكتور في الأدب الفرنسي البحت من السوربون(989/8)
فضل المدنية العربية على المدنية الغربية
للدكتور فيليب حتي
أستاذ التاريخ بجامعة برنجستون بالولايات المتحدة
خلاصة موجزة لسبع محاضرات ألقاها الأستاذ باللغة
الإنجليزية في جامعة سان باولو
5 - نهوض الشعوب العربية الحديثة
العالم العربي قطعة متصلة تمتد من مراكش على الأتلنتيكي غرباً إلى العراق على خليج فارس شرقاً تجمعها اللغة والثقافة. وهي تتألف من وحدات أربع: أفريقية الشمالية، مصر، الجزيرة العربية، والهلال الخصيب
فأفريقيا الشمالية هي من حيث الجغرافية جزء من القارة الأفريقية، ومن حيث الثقافة والتاريخ جزء من الشرق الأدنى. وهي تتميز عن غيرها من الوحدات العربية بقربها من أوربا وبعدها عن قلب الإسلام وقلة الدم العربي في سكانها وكثرة المستعمرين الأوربيين المستوطنين فيها مما جعلها تسير في طريق لنفسها. وهذه الوحدة الإفريقية هي الأولى التي وقعت تحت النفوذ الأوربي السياسي وانفصلت عن جاراتها المسلمات. فالروح القومية العربية للآن لم تبلغ فيها حدا عالياً
وكانت الجزائر أول بقعة فيها احتلها الأوربيون وهم الفرنسيون وذلك عام 1830. وتبعها تونس التي احتلها الفرنسيون عام 1881. أما مراكش فتقاسمها الفرنسيون والأسبان في بداءة القرن العشرين؛ وبقيت طرابلس الغرب في حوزة الأتراك العثمانيين إلى عام 1912 عندما احتلها الطاليان وأطلقوا عليها الاسم الروماني القديم ليبيا. وستكون ليبيا أول بلاد من هذه الوحدة تتحرر وتستقل بفضل قرار من الأمم المتحدة يقضي بذلك في أول كانون الثاني من عام 1952
ومصر من حيث الجيولوجيا والجغرافيا جزء من أفريقية ومن حيث التاريخ والثقافة جزء من آسيا الغربية. فمصير مصر في كل أدوارها كان مرتبطا بالبلدان في شرقيها لا في غربيها. وهي باعتبار سكانها (20 , 000 , 000) وخصب أرضها وغنى أبنائها في(989/9)
مقدمة الدول العربية وتطمح إلى الزعامة بينها. وكان الإنكليز قد احتلوا مصر عام 1882 ولكنها نالت استقلالها الناجز سنة 1936
والجزيرة العربية تمتاز باحتوائها الأماكن المقدسة، مكة والمدينة. وهي بداعي تقاليدها الدينية وجغرافية أرضها تعيش عيشة منفردة انعزالية غير متأثرة بالعوامل الخارجية. لذلك انكسرت موجه التأثير الغربي الأوربي بما فيها من قومية وعلمانية ونزعات عصرية حديثة، على شواطئ الجزيرة دون أن تحدث بها هياجاً ملحوظاً. وفي أوائل الثلاثين من هذا القرن اكتشف الأمريكيون في شماليها - في البلاد السعودية - معادن غنية للزيت ولكن أثر الشركة الأمريكية يكاد يقتصر على بقعة محاذية للخليج الفارسي. وفيما سوى المملكة السعودية فهنالك مملكة اليمن المستقلة وهذه أيضاً متصفة بالمحافظة على القديم وعدم الإجابة لدواعي المدنية العصرية الحديثة
والهلال الخصيب يتألف من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق. ولقد كانت سورية ولبنان إلى نهاية الحرب العالمية الثانية تحت الانتداب الفرنسي ولكنهما اليوم جمهوريتان مستقلتان. وكانت فلسطين وما وراء الأردن والعراق تحت الانتداب الإنكليزي. ومقاومة الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان ونشط الروح القومية الوطنية، كما أن مقاومة الانتداب الإنكليزي في سائر بلدان الهلال الخصيب ومقاومة الصهيونية نشط الروح القومية فيها. ولقد كان تقدم العراق السياسي من الانتداب في عام 1918 إلى الملكية عام 1921 إلى الاستقلال والانضمام إلى جامعة الأمم عام 1932 أمراً مذكوراً. والعراق اليوم مثل مصر حكومته ملكية دستورية
وعليه نرى أن الأمم العربية في غربي آسيا التي كانت حتى الحرب العالمية الأولى خاضعة للحكم العثماني قد فازت بين الحربين العالميتين باستقلالها وأخذت تسير في قافلة الأمم العصرية الديمقراطية الناهضة
6 - أثر الغرب الحديث في البلدان العربية
ظلت البلدان العربية رازحة تحت الحكم العثماني أربعة قرون (1516 - 1918) كانت بمثابة القرون المظلمة في تاريخها الطويل. عاش أبناء العربية في هذه القرون محافظين على القديم مقيدين بالتقاليد لا يشعرون بشيء من التقدم الأوربي ولا يهتمون به. فكان(989/10)
الجمود أهم ميزة لمدنيتهم
وجاءت حملة نابليون على مصر عام 1797 بمثابة الهزة الأولى التي أيقظتهم من سباتهم. وكان نابليون قد جاء بمطبعة عربية من روما فأقامها في القاهرة وأنشأ معها أكاديمية للآداب والعلوم ومكتبة. فكانت هذه المطبعة أول مطبعة في وادي النيل. وعقب نابليون في حكم البلاد محمد علي فأرسل البعثات العلمية والحربية إلى البلدان الأوربية ولا سيما فرنسا وإيطاليا، ولم يكتف بذلك بل استدعى من أوربا إلى بلاده ضباطاً وأساتذة وأطباء ومهندسين، وأسس في القاهرة مدرسة طبية وأخرى هندسية. وكان يحلم محمد علي على بتشييد إمبراطورية عربية يكون هو على رأسها
وأثر الغرب الذي بدأ في مصر ما لبث أن امتد إلى سورية ولبنان وذلك في عهد إبراهيم باشا ابن محمد علي في العقد الرابع من القرن التاسع عشر (1831 - 40) فأخذت الرسالات التبشيرية من كاثوليكية وبروتستانتية تشيد المدارس والكنائس فالأمريكيون أسسوا في بيروت عام 1834 المطبعة التي لم تزل تعمل باسمهم. وفي عام 1866 بنوا الجامعة الأمريكية. وعلى الأثر شيد اليسوعيون الفرنسيون مطبعتهم التي لم تزل في مقدمة مطابع الشرق وجامعتهم المعروفة في بيروت. وما لبث أبناء لبنان وسورية أن أقاموا المطابع والمدارس والمكاتب والجمعيات العلمية والأدبية على منوال المنشآت الغربية. وعقب عصر الترجمة من الإنكليزية والفرنسية عصر الإبداع والاستنباط في الأدب والعلم والفن
وكان من نتائج النهضة الأدبية أن تولد الوعي القومي بين أبناء العربية وذلك بعد أن أدركوا بفضل هذه المدارس شيئاً من ماضيهم المجيد وتاريخهم المليء بالمفاخر. فاليقظة السياسية عقبت اليقظة الأدبية. وتولدت في أفكار القوم الروح القومية بما فيها من الرغبة في التخلص من الحكم التركي وتقرير المصير والاستقلال السياسي
وكان رواد هذه النهضة معظمهم من أبناء لبنان المسيحيين ومن خريجي المدارس الأميركية الذين وجدوا في مصر مجالا أوسع للعمل
فأساس النهضة العربية الحديثة إذن أدبي علمي. وعلى ذلك الأساس تشيدت دعائم الوطنية والقومية العربية. وكل ذلك بتأثير الموجة الغربية التي نقلت إلى الشرق أفكارا علمانية(989/11)
واقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة. وكان من أهم الأفكار السياسية فكرة الديمقراطية وتقرير المصير
ولم تكن الروح القومية العربية في بادئ أمرها من النوع الإقليمي بل من النوع الشامل. كان أساسها اللغة والثقافة لا الدين، وكانت ترمي إلى جمع المسلم والمسيحي المصري والسوري واللبناني على صعيد واحد هو الصعيد الأدبي
7 - نشوء القومية والفوز والاستقلال
كانت البلدان العربية الآسيوية حتى الحرب العالمية الأولى وحدة مفردة تخضع للحكم العثماني. على أن تلك الحرب كان من نتائجها تفكك عرى الإمبراطورية العثمانية وسلخ البلدان العربية وتجزئتها إلى وحدات متعددة مما آل إلى تجزؤ القومية العربية البدائية
فمصر بعد أن احتلها الإنكليز عام 1882 صار همها الأول التخلص من ذلك الاحتلال. فأصبح لها مشاكل خاص بها. وبفضل ذلك أخذت القومية فيها تصطبغ بصيغة محلية موضعية وانفصلت عن القومية العربية الشاملة. يومئذ اكتشف المصري أنه مصري واتخذ شعاره (مصر للمصريين) وفي عام 1931 نالت مصر استقلالها بعد أن أمضت مع إنكلترا معاهدة لعشرين سنة تخول الإنكليز حق استخدام المرافئ وطرق المواصلات المصرية في أيام الحرب وإبقاء حامية بريطانية على ترعة السويس
كذلك سورية ولبنان بفضل مقاومتها للانتداب الفرنسي الذي أصبح مشكلهما الخاص بهما افترقتا عن بقية البلدان العربية وتولدت فيهما روح إقليمية خاصة. وكان أبناء سورية ولبنان يشكون من عدم اعتبار فرنسا لقوميتهم ومن فرض اللغة الفرنسية عليهم ومن تقسيم البلاد السورية إلى ولايات والسماح لتركيا باحتلال سنجق هاتاي. فمقاومة الانتداب جاءت بمثابة مسن يشحذ عليه القوميون سيوف وطنيتهم إلى أن أعلن لبنان جمهورية مستقلة وكذلك سورية وذلك عام 1945. وكان لبنان في الكثير من أحقابه ولا سيما في العهد العثماني يتمتع بمقدار مختلف من الحكم الذاتي
أما مشكلة فلسطين التي وقعت تحت الانتداب الإنكليزي فما زاد عرقلته حشر الصهيونية فيه. وهي الحركة الأجنبية التي اعتبرها العرب بكليتهم حركة اعتداء وظلم. فالجهاد ضد بريطانيا والصهيونية نتج عنه روح فلسطينية محلية. وبعد أن ظهرت إسرائيل (1948)(989/12)
ضم الملك عبد الله ما تبقى من فلسطين إلى مملكته وبذلك زالت فلسطين من الوجود
وكان الملك عبد الله قد بدأ حياته السياسية الهامة أميراً على ما وراء الأردن وذلك عام 1922 بعد أن طرد الفرنسيون أخاه فيصل من عرش سورية المحدث
بيد أن سياسة الانتداب الإنكليزي في العراق جاءت من الطراز المستنير المتساهل، ففي عام 1921 بعد أن فشل الأمير فيصل في محاولته الملكية في دمشق نصبه الإنكليز ملكا على العراق. وفي عام 1930 تخلى الانتداب البريطاني عن كل حقوقه في هذه البلاد واعترف بالعراق بلاداً مستقلة. فالعراق سبقت شقيقتها سورية في ميدان التطور السياسي مع أن سورية كانت تسبقها في التقدم العمراني والثقافي
والمملكة العربية السعودية هي من صنع ملكها الحالي عبد العزيز بن سعود الذي شيد لنفسه مملكة جديدة منتشرة من الخليج الفارسي إلى البحر الأحمر ومنطوية على معظم الجزيرة العربية الشمالية والمتوسطة. وهو الذي طرد الملك حسين والد عبد الله وفصيل من الحجاز. وجاء اكتشاف الزيت بغزارة فائقة في صحاري هاته البلاد حادثاً تاريخيا هاما إذ بواسطته فتحت بعض أطراف البلاد أبوابها لقبول العوامل العمرانية الغربية الحديثة. ولشركة الزيت الأميركية التي نالت امتياز الاستثمار عام 1933 الفضل في جعل دخل المملكة العربية السعودية أعظم دخل لبلاد عربية في العالم
وفيما سوى هذه المملكة فهنالك مملكة اليمن في الجنوب التي لا تزال حكومتها ثيوقراطية وأبناؤها بعيدون عن المؤثرات الخارجية العصرية من علمية وفنية وعلمانية. فاليمن لا تزال محافظة على القديم بعيدة عن مجاري العمران التقدمي الحديث
إن كانت الحرب العالمية الأولى نتج عنها تقسيم البلدان العربية وتجزئتها وتوليد قوميات وطنية فيها فالحرب الثانية جاءت نتائجها عكس ذلك. شعر أبناء العربية أن مصلحتهم الاقتصادية والسياسية تقضي بجمع كلمتهم وتوحيد أهدافهم فمالوا إلى التعاضد والتعاون والوقوف المحد في وجه العدو الخارجي. وكان من نتيجة ذلك تأليف جامعة الدول العربية وقوامها مصر وسورية ولبنان والأردن والعراق والبلاد العربية السعودية واليمن. وللجامعة دستور يكفل لكل دولة فيها الاستقلال التام ويقضي بحل المشاكل بين الأعضاء إذا كان ثمة مشاكل بطرق سليمة ويفرض التضامن على دفع الاعتداء من الخارج. وللجامعة لجنة(989/13)
سياسية وثانية اقتصادية وثالثة ثقافية. ومع رغبة الجزائر ومراكش وتونس في الانضمام إلى عضويتها فالدستور لا يجيز ذلك إلى أن تحقق كل واحدة من هذه البلدان استقلالها الداخلي التام
ومع أن الجامعة نالها شيء من الكسوف بداعي المعضلة الصهيونية التي تولدت منها إسرائيل فهي الآن تحدد حياتها وتسعى للعمل الصالح الشامل. وعلى نسبة ازدياد شأن هذه المنظمة في الشؤون الدولية تزداد قسمة الأعضاء فيها
فيليب حتي(989/14)
الأمثال في حياة اللغة
للأستاذ حامد حفني داود
الأدب العربي بمعناه الخاص ينقسم إلى قسمين: شعر ونثر. النثر العربي صور شتى أهمها: الرسائل الأدبية بأنواعها الثلاثة: الديوانية والعامة والخاصة - ثم التأريخ الفني والقصص - ثم لحوار والمناظرات - ثم المقتضبات والتوقيعات - ثم الحكم والأمثال - ثم الملح والفكاهة
وقد آثرت في هذا المقال أن أتحدث عن (الحكم والأمثال) لما لاحظته فيها من تطور عجيب تخالف فيه فنون النثر العربي سواء في نشأتها وتأريخها
والحكمة في اللغة: القول الجليل ذو المعنى الشريف، والمثل: القول البليغ المقتضب يضرب لشرح أمر أو تفسير ظاهرة أو تأكيد معنى من المعاني. ولا تختلف الحكمة عن المثل كثيرا، وربما كان أخص ما تمتاز به أنها أقدم منه استعمالا وأشرف معنى وأعمق فكراً وأدل على المقصود وأبقى مع الزمن
أما نشأتهما فترجع إلى أحداث قديمة تتعلق بواضعي اللغة أو المتكلمين بها في أقدم عهودها؛ فأكثر الأمثال يعود بنا في نشأته وظهوره إلى العصر الجاهلي، يوم كانت اللغة في عنفوان شبابها، وكادت تنحصر في الجزيرة العربية، والعرب بعيدون عن الأعاجم تقريبا، وقبل أن يختلطوا بهم ويتفشى اللحن فيهم
ولكن من هؤلاء الذين أرسلوا هذه الأمثال؟ لا شك أن هذه الأمثال لم تنزل من السماء أو ينزل بها الوحي. ولو أننا استطعنا أن نصدق أن مفردات اللغة كانت (تلقينية توقيفية) كما يزعم الفقهاء استدلالا بقوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) فإننا نجزم أن أكثر الأمثال - إن لم يكن جميعها - (اصطلاحي)؛ لأنها - كما سنحقق - من صنيع العربي الصراح ووليدة تفاعله المستمر مع بيئته
وربما كان شعراء الجاهلية أسبق من خطبائها إلى هذا اللون من الفن النثري. وقد تعجب لذلك لأن أكثر الأمثال لون من ألوان النثر وليست من باب الشعر. ولكنك لا تلبث أن تقتنع إذا علمت أن العناصر الأدبية وهي: الفكرة والخيال والعاطفة والأسلوب. تتحقق في نفسية الشاعر قبل الناثر. ومن هنا كانت الأمثال أشبه بالشعر المنثور يرسله الشاعر قبل الناثر(989/15)
ولعلك تؤيد هذا الزعم الذي ذهبت إليه إذا علمت أن أكثر الأمثال العربية التي دونها لنا القدماء من مؤرخي الأدب العربي ترجع في وضعها إلى هؤلاء الشعراء الجاهليين
وقد كان شعراء الصعاليك - وهم الرعيل الأول من شعراء العصر الجاهلي - اعظم حظا وأوفر نصيبا من إخوانهم في هذا الباب. ولعل ذلك يرجع إلى استعدادهم الفطري البالغ وتفاعلهم الصريح بالبيئة العربية الصارخة التي أبدعت هذا اللون من الأدب النثري. واشتهر من بين هؤلاء جماعة كثيرون عرفوا بضربهم في فيافي الجزيرة وتصرفهم في مجاهلها. نذكر منهم على سبيل المثال: (تأبط شرا) و (أبا الطمحان القبني) و (السليك بن الملكة) و (والشنفري)
وقد كانت هذه الأمثال وليدة أحداث ووقائع اعترضت هؤلاء الشعراء في حياتهم. قيل: لما أسر أسيد بن جابر (الشنفري)، قال إخوان أسيد للشنفري: أنشدنا. فقال: (إنما النشيد على المسرة) فأرسلها مثلا. وحكوا أن (السليك: سار ليلة على رجليه رجاء أن يصيب شيئا ثم نام، وبينما هو نائم جثم عليه رجل وقال له: استأثر، فرفع السليك رأسه قائلا (الليل طويل وأنت مقمر) فذهبت مثلا حدث كل ذلك والعرب في بيئتهم، ونطقوا به منجما وفق أحداث الحياة ووقائعها، ولم يرثوه عن أجدادهم تلقينا وتوقيفا كما ورثوا مفردات اللغة وإنما تحكمت البيئة في الاصطلاح والتواضع عليه
ولم يكد يظهر الإسلام وينتشر في بقاع الأرض شرقا وغربا حتى نمت هذه الأمثال - كما نمى غيرها من آداب اللغة - إلى ألسنة المتأدبين والناطقين بالعربية من عرب وأعاجم. ولكن قافلة الأمثال لم نسلك الطريق الذي سلكته قافلة الرسائل وغيرها من صور النثر. أريد أن أقول: إن تاريخ الأمثال العربية يغاير في نشأته وتطوره تاريخ الكتابة والرسائل مغايرة تامة. ذلك لأن الأمة العربية لم تنشأ حاجتها إلى الكتابة المنظمة والرسائل المدونة التي نقرأها في كتب الأدب إلى حين تعقدت الحياة واتسعت رقعة الدولة واحتيج إلى العمال في الأقاليم لإحصاء أمور الإمبراطورية الإسلامية وتنظيم سياستها الداخلية والخارجية. أما الأمثال فإنها لم تتحدد بهذا الزمن أو تختنق في هذه الدائرة الضيقة أو تتوقف على هذه الأسباب لأنها من الحياة اليومية في الأسرة والمجتمع. وقد كانت ولا تزال في كل زمان ومكان من الرجل الساذج والعامي والجاهل ومحدود الثقافة في الوقت الذي كانت فيه ولا(989/16)
تزال من الكاتب الكبير والأديب المبتكر. بل ربما كانت عند الساذج والجاهل أوفر استعمالا من غيره
ومن هنا نستطيع أن نعلل كيف كانت الأمثال أسرع فنون النثر تطوراً، وكيف سلكت طريقها في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي وهي تنمو نمواً مطرداً. إنها لم تتأخر إلى هذا الحين الذي نشأت فيه الكتابة الديوانية؛ التي جودها عبد الحميد الكاتب وأستاذه سالم. بل سلكت طريقها صعداً إلى الأمام منذ مولدها على لسان العربي في بيئته الجاهلية، وتلونت بالحياة الاجتماعية في شتى أحوالها وأطوارها وصورها المختلفة في التاريخ؛ ذلك لأنهما - كما قدمت - كانت جزءا من لغة الحياة وزخرف القول الذي لابد للناس منه في كل يوم
وهنا لا نعجب إذا رأينا أن تطور الأمثال لم يقف أو يجمد في اليوم الذي وقفت فيه وجمدت حياة الكتابة الديوانية أواخر القرن السابع ولا شك أنك ترى معي أن هذا راجع إلى السبب الأول نفسه - وهو أن الأمثال من الأدب اليومي عند العامي والبليغ على السواء. فظاهر الاستعمال والتفاعل مع الحياة اليومية هي التي حفظت للأمثال رونقها وأبقت عليها حياتها
وثمة فارق آخر تتميز به الأمثال عن غيرها من فنون النثر، ذلك أن هذه الفنون الأخرى حين جمدت في أواخر القرن السابع صارت صوراً أدبية قديمة كلاسيكية لا وجود لها في واقع حياتنا اليومية، فلم يستطع أحد من الأدباء المتأخرين أن ينقلها إلى واقع الحياة، كما لم يستطع العامة أن ينقلوها إلى لغتهم الدارجة أو تأخذ مكانها من نفوسهم وحياتهم التي تتطور يوما بعد يوم. لقد عجزت هذه الفنون عن مواصلة حياتها لأنها جفت قبل أن تصل إلى أيدي العامة واستعمال سواد الناس لها، على حين تلونت الأمثال تولناً سريعاً بعاميتنا العربية وخاصة في العصرين: المملوكي والتركي. واستطاعت خلال هذه الحقبة الطويلة أن تخوض معركة العامية وأن نحرز النصر وأن تكسب جائزتي (التحرر) و (الخلود) معاً - دون أخواتها من فنون النثر. ومن ثم فرضت نفسها على الحياة كما فرضت العامية نفسها
ولعلك تعجب كثيرا حين ترى سبعة أعشار لغتنا العامية - اليوم - من هذه الأمثال. فلا تكاد تسمع أحداً ممن يتكلمون بالعامية الصرفة أو العامية المهذبة لا يستعمل هذه الأمثال(989/17)
بين الفينة والفينة. وهناك كثيرون من مفطوري العامة من يستطيعون أن يجعلوا حديثهم كله سلسلة عجيبة متتالية من الأمثال. ولم العجب وقد ولدت وتحورت في بيئتهم التي يعيشون فيها وورثوها عن آبائهم. فهي صنيعة وراثتهم وبيئتهم وعقليتهم وطوع ألسنتهم
وهل منا من ينكر ذلك ونحن نتحدث عن ظاهرة طبيعية واجتماعية. لغوية من مظاهر الطبع والسليقة. وإذا كنا نصدق أن من الصوفية من تحرز في كلامه المباح من أن ينطق بغير الآيات القرآنية في كل ما يسأل فيه أو يجيب عنه، وأن من الشعراء من حاول أن يجعل جميع كلامه من الشعر ولا فرق عنده بين أحاديث الأدب والأحاديث المباحة. وأن الكسائي قال: لو شئت أن أجعل جميع كلامي مما يقوله النحاة في اصطلاحاتهم لفعلت، وأن إنساناً سأله: ما حكم رجل سها في سجود السهو فأجابه باصطلاحات النحاة: (المصغر لا يصغر)
أفبعد ذلك كله نعجب - ونحن في معرض الطبع - من أن تمثل الأمثال السواد الأعظم من لغتنا العامية أو تصبح سبعة أعشار ما ينطبق به العامة في الشارع والمنزل ومكان العمل. إنها ليست سوى ظاهرة طبيعية لا عجب فيها
وإنما العجب الأكبر إن كان لابد من العجب أن تنطلق (الأمثال) وهي صورة من صور النثر الفني في هذا النماء السريع العجيب المطرد، وأن تتطور مع الحياة ويكتب لها الخلود في كل عصر كما تطورت (لغة الحديث) وكتب لها الخلود تماما. فتراهما تظهران في ثوبين من العامية الإقليمية في مصر أو غيرها من الأقطار العربية
ولعل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على ما بين (التراكيب المثلية) - إن صحت هذه النسبة - وبين لغة الحديث اليومية من قرابة جوهرية واضحة أصيلة لا نستطيع دفعها أو إنكارها
للكلام صلة
حامد حفني داود(989/18)
أبو العتاهية
للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي
علاقته بالبرامكة
ذكرنا فيما سبق أن أبا العتاهية كان يلتزم جانب الفضل ابن الربيع في النزاع الذي نشب بينه وبن البرامكة، وقد أقمنا الدليل على ذلك بما كان بين الشاعر والفضل من تواد وتعاطف. وسنحاول اليوم أن ننظر إلى المسألة من جانبها الآخر، فنرى مدى ما كان بين الشاعر والبرامكة من عداوة أو صداقة، فإن كانت الأولى فقد استقام لنا ما ذكرناه آنفا من أن التعاون بين الشاعر والفضل كان تعاونا سياسيا يهدف إلى مضادة البرامكة، وإن كانت الأخرى فقد التوى الحديث واضطرب
ومن حسن الحظ أن نرى الأدلة على ما كان بين البرامكة وأبي العتاهية من خلافات متعددة، بقدر ما كانت شواهد انسجامه مع الفضل متنوعة، ومن ذلك ما حدثنا به أبو الفرج من أن متحدثا ذكر في مجلس يحيى بن خالد البرمكي يوما أن أبا العتاهية قد نسك وجلس يحجم الناس للأجر تواضعا بذلك؛ فقال يحيى: أم يكن يبيع الجرار قبل ذلك؟ فقيل له نعم، فقال أما في بيع الجرار من الذل ما يكفيه ويستغني به عن الحجامة؟ فإذا عرفنا أن يحيى بن خالد كان على جانب عظيم من الحصافة والرزانة؛ أيقنا أنه ما كان ليفوه بتلك العبارة المنكرة لو لم يضمر للشاعر حقدا شديدا أنساه حلمه ووقاره. ومن ذلك ما روي أيضاً من أن الرشيد قال يوما للشاعر، وقد أعجبه ما رأى حوله من مظاهر ملكه: صف لنا ما تراه في مجلسنا من مباهج الحياة. فأنشد:
عش ما بدا لك آمنا ... في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهي ... ت لدى الرواح أو البكور
فإذا النفوس تقعقعت ... في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور
وما كاد الرشيد يسمع الأبيات حتى بكى بكاء مرا، فقال الفضل بن يحيى وكان بالمجلس: استدعاك أمير المؤمنين لتسره فسئته! فقال الرشيد: دعه وما يريد، لقد رآنا في عمى فأحب ألا يزيدنا منه. أرأيت كيف كان الفضل بين يحيى يضيق ذرعا بأبي العتاهية وبالطريقة(989/19)
التي يتبعها في بلبلة بال الرشيد وتنفيره من الحياة وزينتها، على حين كان الفضل بن الربيع يغريه بذلك ويثيبه عليه
وشيء آخر يزيدنا إيمانا بما ذهبنا إليه من انقطاع صلات المودة بين أبي العتاهية والبرامكة، وذلك هو أننا لا نجد له بيتا واحداً من الشعر في مدحهم. أليس ذلك عجيبا حقا في ضوء ما نعلمه من حرص أبي العتاهية الشديد على جمع المال، وما نعلمه إلى جانب ذلك من كرم البرامكة الذي كان مضرب الأمثال؟ فهل كان أبو العتاهية جالاه بأنباء ذلك الكرم والبرامكة منه قاب قوسين أو أدنى يغادونه ويراوحونه في بغداد؟ كلا لم يكن شاعرنا جاهلا بشيء من ذلك، ولكن صلته بالفضل بن الربيع ومناصرته له عليهم حرمته عطفهم، ما بيته وبينهم. وإذا أعوزك الدليل على ذلك، فاستمع إلى أبي الفرج إذ يقول: سأل أبو العتاهية صالحا الشهرزوري - وكان صديقا له - أن يكلم الفضل بن يحيى في حاجة له، فتردد صالح في ذلك وأبدى استعداده لأن يمنح الشاعر ما يشاء من ماله الخاص، ولكن الشاعر أبى إلا ما يريد، وأنب صالحا وقرعه في عدة مقطوعات شعرية، ولما وصل صالحا الأبيات التالية:
أهل التخلق لو يدوم تخلق ... لسكنت ظل جناح من يتخلق
ما الناس في الإمساك إلا واحد ... فبأيهم إن حصلوا أتعلق
هذا زمان قد تعود أهله ... تيه الملوك وفعل من يتصدق
لم يجد بدا من الذهاب كارها إلى الفضل ومعه الأبيات السالفة، وكلمه في شأن أبي العتاهية، فقال الفضل: لا والله ما شيء على الأرض أبغض إلى من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية، وقد قضيت حاجته لك
أرأيت كيف كان الفرق واضحا بيم معاملة الفضل بن الربيع للشاعر، ومعاملة الفضل بين يحيى له؟ فبينا نرى الأول لا يكتفي بما يسبغه على الشاعر من ماله الخاص، بل ينتزع له الأموال من الخلفاء، ويروج لأشعاره عندهم، إذ بنا نرى الشاعر لا يكاد يجرؤ على القرب من الفضل بن يحيى حينما تعرض له حاجة عنده، بل يطلب له الشفعاء والوسطاء
وإننا لنعتقد أن فهم ما كان بين الشاعر والبرامكة، وما كان بينهم وبين الفضل بين الربيع من خلاف على النحو الذي ذكرناه؛ هو الطريق السليم إلى تفسير حدث غامض في الأدب(989/20)
العربي، لا يكاد المرء يتدبره حتى يحس أن هناك فراغا في نفسه أو القصة يحتاج إلى ملء. فقد روى الصولي في أوراقه أن يحيى بن خالد البرمكي شعر بحاجة إلى حفظ كتاب كليلة ودمنة، ولكي يسهل ذلك الأمر على نفسه طلب إلى صنيعته أبان اللاحقي أن ينظمه له. ويشتد حرص يحيى على إنجاز نظم الكتاب في أقصر وقت، فيحبس أبانا في منزله إلى أن يفرغ منه، ثم يعطيه جائزة سنية عند انتهائه من الكتاب. ويذكر الصولي أن جعفراً البرمكي كان يحفظ الكتاب أيضا. ثم يذكر في مكان آخر أن يحيى قال لأبان: هلا قلت شيئا في الزهد، وأن أبانا نظم أشعارا كثيرة في الزكاة وغيرها من العبادات. ويروي أبو الفرج أنه نظم قصيدة شماها ذات الحلل، ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئا من المنطق، وينسبها بعض الماس إلى أبي العتاهية. والآن فلنناقش هذه الأخبار واحدة فواحدا. أما ما كان من رغبة يحيى وجعفراً في حفظ كليلة ودمنة فأمر يستوجي التساؤل: لم عني البرامكة بهذا الكتاب تلك العناية الشديدة، ولم حرصوا على حفظه أو حفظ شيء منه، ولم كانت العجلة في نظمه عجلة أدت إلى حبس ناظمه؟
والإجابة عن تلك الأسئلة تسهل علينا إذا نظرنا إلى موضوع الكتاب، فما هو إلا محاورات وضعت ألسنة الحيوانات، وتدور حول ما يدبره بعض الناس للبعض الآخر من مكائد، وما يبيتون لهم من شرور، وآية ذلك أن أولى قصصه وأهمها نصف حال شخصين متحابين متوادين دخل بينهما ثالث، وما زال يسعى بينهما بالسوء حتى أفسد ما كانا عليه من مودة ثم أهلكهما جميعا. ولعل القارئ الكريم قد رأى معي تمام الشبه بين موضوع الكتاب وما كان يمثل إذ ذاك على مسرح بغداد من روايات؛ أليس هذان المتحابان هما البرامكة أو قل جعفر البرمكي بالذات من جهة، وهارون الرشيد من جهة أخرى، كما أن الداخل الثالث بينهما هو الفضل بن الربيع. ألا يمكن أن يكون يحيى وابنه جعفر، إنما أرادا بحفظ ذلك الكتاب أن يجدا المادة حاضرة كلما عنت مناسبة لتبصرة الرشيد بما كان يدبره له ولهم الفضل بن الربيع من مكائد توشك أن تذهب بأكفأ وزرائه وأوفى أصدقائه، وكفى بذلك وبالا على الطرفين؛ نعم، قد يكون ذلك بعض ما قصدوا إليه من حفظ الكتاب. وليس ببعيد أن يكون البرامكة - وقد حاورا في أمرهم لكثرة ما يرميهم به الفضل من مكائد - قد عمدوا إلى حفظ ذلك الكتاب حتى يجدوا فيه جواباً شافيا لكل ما يعرض لهم من أسئلة،(989/21)
ومخرجا مما يقعون فيه من مآزق، وإرشادا لما يمكن أن يلتزموه من أساليب الحيطة والحذر. والحكمة حينئذ في وضع الكتاب في قالب شعري واضحة، فإن الشعر أيسر في الحفظ وأخف على اللسان؛ ولذلك كان مستودع المثل السائر والحكمة البالغة منذ القدم، ولا شك أن فنا كهذا شأنه أكثر ملاءمة لمجلس الخليفة من النثر
وأما ما كان من إيحاء يحيى بن خالد إلى أبان بأن يقول شيئا في الزهد، مع ما يعلمه من أن الزهد ينبعث من النفس ولا يفرض عليها، وما يعلمه أيضاً من أن أبانا كان رأسا من رؤوس الزنادقة في عصره، فأمر أريد به النيل من أبي العتاهية الذي كان يحتكر ذلك الفن الأدبي، ويبني عليه صرح عظمته الشعرية، ولا أدل على غيرته على ذلك الفن وحرصه على ألا يشاركه فيه أحد، من انزعاجه حين علم يوما أن أبا نواس قد بدأ يقول الشعر في الزهد، ثم ما كان من إرساله رسولا إلى أبي نواس يحذره أن يقول شيئا في الزهد؛ ويخبره أن ذلك فن اخترعه هو وسيحميه من كل مغير عليه أو مشارك فيه، ويظهر أن أبانا لم يستطع إقحام نفسه في عالم الزهاد، لما عف عنه جيدا من انتمائه إلى دنيا الزنادقة، ولما كان لابد له من الاستجابة لمولاه في صورة من الصور، فقد أخذ ينظم الأشعار في العبادات من زكاة وصلاة ونحوها، وكأن أبانا قد أراد أن يذكر أبا العتاهية بالأثر المشهور (ما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، وأن يخبره بأنه يجب على المرء أن يشعل نفسه بالعبادات، لا أن يطيل الحديث عن الموت والقبور وما تؤدي إليه من خراب العالم ودماره، مسميا ذلك زهدا وورعا
وأما ما أورده الصولي من أن أبانا قد أنشأ قصيدة سماها ذات الحلل، وقد أودعها شيئا من المنطق، وأن بعض الناس كان ينسبها إلى أبي العتاهية، فدليل جديد على أن أبانا كان يعارض أبا العتاهية في شعره، ويحاكيه محاكاة شديدة، حتى اختلط أمرهما على الناس، وصاروا ينسبون ما لأحدهما للآخر
والآن وقد عرفت رأينا في الدوافع المختلفة التي أفضت إلى ما حدث من تحول في حياة شاعرنا من مرج إلى كآبة، ومن تفاؤل إلى تشاؤم، لعلك متطلع إلى معرفة آراء السابقين في ذلك. ونحن حين نحاول الإشارة باختصار إلى تلك الآراء، نرجو من القارئ أن يتذكر ما قدمناه في صدر بحثنا من أن الشاعر كان ملتويا في التعبير عن آرائه، لما كانت(989/22)
تتضمنه أحياناً من مهاجمة الخلفاء والوزراء، ولذلك كان من الصعب أن يصل مؤرخو الأدب إلى أغراض الشاعر الحقيقية، إلا إذا توفروا على دراسته دراسة تحليلية، وأوتوا الزمن الكافي لمثل تلك الدراسة، وذلك ما لم يحظ به الشاعر من قبل، وهكذا عاش شاعرنا مجهولا حتى أمس القريب، لا يعرف عنه الناس إلا أنه كان زاهدا، وذلك نرجو أن ينتهي هذا البحث إلى نفيه عن الشاعر نفيا تاماً
ومع أننا قد اعتمدنا في تكوين رأينا عن الشاعر على دراسة بيئته وطفولته ثم أشعاره دراسة هادئة مطمئنة، فإننا نظلم القدماء إذا لم نذكر أنهم أيضاً قد أوردوا بعض لمحات يمكن أن يهتدي بها الساري في دياجي تلك الحياة المعقدة الغامضة، ونعني حياة شاعرنا. من ذلك ما أورده الأغاني من محاورات دارت مع الشاعر أو دارت حوله، أو أبيات شعرية قيلت فيه من أعدائه ومنافسيه، وكل ما يقال عن تلك الأخبار أنها كانت سلبية، ونعني بذلك أنها بما أكدته من بخل الشاعر الشديد وحرصه العظيم على جمع المال، فقد نفت أن يكون الشاعر قد نهج نهجه الجديد في الحياة، الذي يبدأ عام 180 هجرية تحت تأثير ميل حقيقي إلى الزهد كما نعرفه نحن، ولكنها تقف مكتوفة اليدين عند ذلك الحد، فلا تذكر لماذا إذن لبس ملابس الزهاد وأكثر القول في الزهد
ومن ذلك تلك المحاورة التي دارت بينه وبين ثمامة بن أشرس حينما قال الشاعر:
ألا إنما مالي الذي أنا منفق ... وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي ... يحق وإلا استهلكته مهالكه
فقال له ثمامة: إن كنت تؤمن بما تقول، فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك، لا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي، ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك؟ فقال يا أبا معن والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة. ومن ذلك أيضاً ما رواه صاحب الأغاني عن العباس بن عبيد الله قال: كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان وعنده أبو العتاهية ينشد في الزهد فقال قثم: يا عباس اطلب الساعة الجماز حيث كان ولك عندي سبق فطلبته، وحين حضر مجلس قثم وجد أبا العتاهية ما زال ينشده في الزهد، فأنشأ الجماز يقول:
ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا ... أضحى وأمسى بيته المسجد(989/23)
يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد
فلو علم قثم أن أبا العتاهية صادقا في التعبير عن شعوره حينما يقول في الزهد لما عبث به كل العبث؛ ولما أغرى الجماز به
ولكن إبراهيم بن المهدي يخطو خطوة إلى الأمام، فيذكر بعض ما كان يدفع الشاعر إلى القول في الزهد:
لا يعجبنك أن يقال مفوه ... حسن البلاغة أو عريض الجاه
إني رأيتك مظهرا لزهادة ... تحتاج منك لها إلى أشياه
فهو يبدي شكة الشديد في صدق الشاعر فيما يدعيه من زهد، ويعتقد أنه إنما يقول ما يقول كي يبني له جاها بين العامة الذين يستهويهم كل ما يدور حول الدين من أحاديث. أو لعله يشير على ما كان للشاعر من نفوذ وصولة نتيجة لاتصاله بالفضل بن الربيع وزبيدة
ولعل اكثر الناس معرفة بأسلوب أبي العتاهية في الحياة هو أبو العلاء المعري، وقد دون رأيه فيه في مقطوعتين من الشعر يقول في إحداهما:
الله يرفع من يشا ... ء رتبة من بعد رتبه
أظهر العتاهي نسكا ... وتاب عن حب عتبه
والخوف ألزم سفيا ... ن أن يحرق كتبه
فأنت ترى شك أبو العلاء في نسك أبي العتاهية وسخريته منه واضحة في البيتين الأولين، ويزيد البيت الثالث ذلك الشك تأكيدا بما يعتقده من مقارنة بين حال شاعرنا وحال سفيان الثوري الذي دفعه خوفه من الخليفة إلى تحريق كتبه. وكأن أبا العلاء يريد أن يشير إشارة لطيفة إلى أن أبا العتاهية إنما تظاهر بالزهد، وأكثر منه القول فيه ليستر ما كان يضمره للخليفة وأنه كان يعني الخليفة نفسه بكثير مما كان يقوله في ذلك الباب على نحو ما سنشرحه بعد
وفي المقطوعة الأخرى يقول أبو العلاء:
أرى ابن أبي إسحق أسحقه الردى ... وأدرك عمر الدهر نفس أبي عمرو
تباهوا بأمر صيروه مكاسبا ... فعاد عليهم بالخسيس من الأمر
بكسوة برد أو بإعطاء بلغة ... من العيش لا جم العطاء ولا غمر(989/24)
فلا يضع الله المساعي في التقى ... فمن يسع فيها لا يخف غبن الدهر
أما ما قاله الكوفي في الزهد مثل ما ... تغنى به البصري في ضفة الخمر
فأبو العلاء يدعو أهل العلم والأدب هنا أن يسعوا بأدبهم فوق حاجات بطونهم وأجسادهم، وأن يهدفوا فيما يقولون إلى أغراض أسمى وأنبل من أغراض هذه الحياة الفانية. وبيته الأخير ظاهر في تأييد ما ندعو إليه خاصا بزهد أبي العتاهية، إذ لا يرى فرقا كبيرا بين زهديات أبي العتاهية، وخمريات أبي نواس، حيث أن كلا منهما كان يجري بشعره وراء غرض مادي، وإن اختلفا في الطريقة والمذهب
أما المستشرون فهم في نفس الحيرة والاضطراب التي كان فيها الأوائل حول مقاصد الشاعر، ويقترب نيكلسون منا اقترابا شديدا، حين يشير إشارة خفيفة في هامش كتابه , , إلى أن أبا العتاهية ربما كان قد ترك مجلس الخليفة ومال إلى الزهد لكراهيته للحياة التي كان يحياها شعراء البلاط في ذلك الوقت
محمد عبد العزيز الكفراوي(989/25)
زعماء التاريخ:
مصطفى كمال أتاتورك
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
(لم يكن مصطفى كمال. رجلاً من رجال المصادفة والحظ.
يرفعه إلى البطولة خلو الميدان. ويدفعه إلى الزعامة غباء
الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم
الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل. والحيوية للشعب الذي
يأبى أن يموت. .)
(الزيات بك)
- 1 -
يقال إن التاريخ يخلق العظماء. . . إذ يتيح لهم فرص الزعامة. . . ويمهد لهم سبل العظمة. . . كما يقال إن الزعماء يخلقون التاريخ. . . لأنهم يغيرون اتجاهاته، ويؤثرون في أحداثه. . . ويعملون على تكوينه وخلقه بصورة جديدة. . .
والواقع أن للزعامة أسباباً عامة. . . متصلة بتاريخ الأمة. . . وأسباباً خاصة متصلة بحياة الزعيم، بحيث لا نستطيع أن نرجعها إلى تاريخ الأمة وحده، أو لظروف داخلية معينة. . . كما أن تاريخ الدول - قديمها وحديثها - متأثر بسياستها الداخلية. . . وظروفها الدولية. . . لهذا يتأثر التاريخ بحياة العظماء. . . ولكن العظماء ليسوا كل شيء في تاريخ الدول. . .
وزعماء التاريخ يظهرون في غالب الأحيان. . . حينما تشتد ببلادهم الأزمات. . . ويتعقد الموقف السياسي، ويختل الميزان الاجتماعي والاقتصادي. . . وتنحرف الأمور عن سيرها المستقيم. . . حينئذ يشعر الزعماء بآلام شعوبهم أكثر مما تشعر. . . ويدركون الأخطار المحيطة بهم أكثر مما تدرك. . . ويفكرون التفكير العميق في معرفة أسباب الداء. . . ووصف الدواء. . . ثم يأخذون بيد بلادهم. . . وينيرون أمامها السبيل. . . ويهدونها إلى(989/26)
الحق وإلى صراط مستقيم. . .
وتاريخ الشعوب في مختلف العصور والأزمان. . . حافل بكثير من الزعماء والقادة. . . سواء كانوا زعماء سياسة، أو قادة فكر، أو أبطال حرب. . . وهؤلاء جميعاً ساهموا بنصيب كبير، وقسط وافر في نهضة بلادهم. . .
ولقد ظهر في العصر الحديث - في الشرق والغرب على السواء - زعماء كثيرون. . اتصف معظمهم بالجرأة والحزم. . وسرعة البت في الأمور. . وكان لكل منهم أثره في تكوين الأمور. . وتشكيل الحوادث. . وتوجيه الأمم. . من بين هؤلاء مصطفى كمال في تركيا. . وهتلر في ألمانيا. . وموسوليني في إيطاليا. .
ظهر مصطفى كمال في تركيا بعد الحرب الأولى. . وق خرجت منها مهزومة ذليلة. . ولم تكن الهزيمة في تلك الحرب أول الكوارث التي لحقت بتركيا. . فقد انتزعت القوات البريطانية من الأتراك سوريا وفلسطين والعراق خلال الحرب. . كما سبقتها هزائم الحروب مع إيطاليا ودول البلقان. . كما سبقتها أزمات إنشاء الحكومة النيابية. . وقد زاد في حرج الحالة بعد انتهاء الحرب. . احتلال اليونانيين لكثير من الولايات التي كانت تابعة لتركيا، ونزولهم في أزمير. . .
كان العالم كله يتوقع أن الأتراك وهم على هذا الحال من الضعف. . لن تقوم لهم قائمة قبل عشرات السنين. وإذا بهم يخيبون ظن الدول. . ويعملون على إحياء تركيا وبعثها من جديد. . . وكان ذلك بفضل زعيمها العبقري (مصطفى كمال. . .)
رأى مصطفى كمال. . . أن من الواجب العمل على قيام حركة قومية نضالية. . . تهدف إلى الاستقلال والحرية والكرامة. . . وتعمل على توحيد قوى الأمة. . ومقاومة كل حركة أجنبية. . لذلك ترك القسطنطينية. . مركز الدول العثمانية. . ورفع علم القومية العثمانية في أنقرة. . بعيداً عن مرمى مدافع الحلفاء. . وهاجم جيوش اليونان. . فردهم على أعقابهم خاسرين. .
وكان مصطفى كمال يؤمن كل الإيمان بحيوية الأمة التركية. . واستعدادها للنضال في سبيل الحرية والكرامة والعزة. . وكان إيمانه بوطنه أكبر مشجع له على العمل. . وخير دافع له للنهوض ببلاده. . لذلك أثار حربا دامت ثلاث سنوات من سنة 1919 - 1922م.(989/27)
استطاع بعدها أن يملي شروطه على الدول الأوربية الكبرى. . فمزق معاهدة (سيفر) التي كانت الحكومة الشرعية قد قبلتها. . وأجلى اليونان عن الولايات التي كانت قد احتلتها، وأرغم الدول على التسليم باستقلال الوطن التركي في معاهدة (لوزان)، وبذلك كانت تركيا الدولة الوحيدة التي رفضت صلحا يملي عليها إملاء. . أو معاهدة تفرض عليها فرضا. . ولم يكن تخليص الوطن التركي من المستعمرين إلا مقدمة لسلسلة الإصلاحات الجريئة التي قام بها أتاتورك. . والتي أعطت لتركيا مظهر الدولة المتمدينة العصرية
- 2 -
ولد مصطفى كمال سنة 1881م. . . في مدينة سالونيك. . . وهي بلدة إغريقية الأصل، وكان أبوه (علي رضا) موظفا صغيراً في الجمارك. . وأمه (السيدة زبيدة) من أسرة محافظة تتمسك ما استطاعت بالتقاليد الموروثة، لذلك كانت أمنيتها الكبرى. . أن ترى وحيدها مصطفى في مدرسة دينية إسلامية حتى يصير شيخا من شيوخ الدين. . .
أما والده فكان يرغب في أن يثقف ولده ثقافة غربية. . وكان الفوز لأبيه في النهاية، فدخل المدرسة وعمره سبع سنوات وقد غادر أبوه بعد ذلك وظيفته. . استعدادا للحياة الجديدة، وما تتطلبه من نفقات - فاشتغل تاجر أخشاب. . . ولم يلبث إلا قليلا حتى مرض مرضه الأخير وما قبل أن يرى ولده في المدرسة العالية. . .
وجدت الأم نفسها وحيدة في (سالونيك) ولم يكن هناك من يرعى شؤونها، ويتولى أمورها. . بعد أن فقدت زوجها وعائلها. . وكان معها من هو أحق منها بالعناية والرعاية. . لذلك وجدت نفسها مرغمة - أمام قسوة الحياة - لأن تنتقل مع صغيرها. . إلى منزل أخيها. . وكان مزارعا في قرية قريبة من المدينة. .
وهناك في وسط الحقول. . نسى مصطفى المدرسة والعلم وأقبل على حياته الجديدة. وعاش كما يعيش صبيان القرية في أحضان الطبيعة. . ونعم بحرية لم ينعم بها من قبل في (سالونيك)
وظل هكذا عامين كاملين حتى بلغ من العمر إحدى عشرة سنة، أكتسب فيها خشونة الفلاحين في طباعه، كما أتكسبها في بنائه الجسمي، ولم يعد يرضخ لمشيئة أمه كما كان حاله من قبل(989/28)
وكان مصطفى على الرغم كم عناده وصلابته، شديد الذكاء قوي الملاحظة - وكانت أمه تنظر إلى حياته الجديدة، فتشعر بالأسف العميق لأنها لم تسطع أن تحقق الأمنية التي أرادها له أبوه، وهو أن يدخل المدرسة العالية، كما أنه - في نظرها - لم يخلق للقرى والحقول، والسير طولب حياته وراء الماشية، لذلك ظلت تبذل جهودها حتى التحق ولدها بالمدرسة من جديد. . .
وجعل مصطفى يتابع عمله في المدرسة بجد وعناية حتى أكمل تعليمه بها، فاقترح عمه أنه يلحقه بالمدرسة العسكرية في سالونيك، وكان مصطفى ميالا بطبيعته لحياة الجندية، يقول في مذكراته عن هذه الفترة (كان يسكن في البيت المجاور لنا - طالب بالكلية الحربية يدعى (أحمد)، وكنت أحسده كلما التقيت به، على هندامه الجميل، وكذلك كنت كلما التقيت في الطريق بضابط يسير مرتديا ثيابه الزاهية الخلابة، أقف مبهوتا؛ وأنا أتابعه بنظري، لذلك ما كدت أنتهي من دراستي الابتدائية حتى صممت على أن أدخل الكلية العسكرية لأصبح ضابطا أزين جسمي بالملابس العسكرية الجميلة. .)
التحق مصطفى بالمدرسة العسكرية، فأظهر نبوغاً وتفوقاً على أقرانه، مما جعل أساتذته يوصون بنقله إلى مدرسة حربية أخرى ولما أكمل علومه بالمدرسة الجديدة، التحق بمدرسة أركان الحرب في القسطنطينية حيث تخرج فيها برتبة (يوزباشي)
وكان مصطفى خلال هذه الفترة قد تطور تطوراً غريبا، فلم يعد ذلك الطفل الصغير الذي يلهو عابثاً في الحقول، أو يتشاحن مع أحد أقرانه لأمر تافه بسيط، فقد تعلم الفرنسية أثناء دراسته وقرأ كثيراً من الكتب الثورية مع صديق له يدعى (فتحي) قرأ فوتير وروسو، وهوبز، وجون سيتورات ميل، كما اشترك في جمعية (الوطن) وهي جمعية سرية تعمل على محاربة الاستبداد السياسي، وتحطيم القيود الأجنبية، وأخذ يكتب النشرات الحماسية ناقداً فيها سياسة السلطان ورجال الدين وداعياً إلى تحطيم القيوم، ومحاربة الظلم والاستبداد، على اختلاف صوره
كانت تركيا في ذلك الوقت تحت حكم السلطان (عبد الحميد) الذي وقف عقبة في سبيل الحركات الإصلاحية الكبرى، والذي ألغى مجلس النواب ليصيح الحاكم المطلق في تركيا - والذي فرض رقابة شديدة على الشعب، حتى ذكروا أنه ما من ثلاثة تكلموا معا في أمر(989/29)
من الأمور إلا وكان أحدهم جاسوساً للسلطان (بعد الحميد. . .)
ولذلك لم تمض فترة طويلة حتى استطاع جواسيس السلطان القبض على زعماء جمعية الوطن، وتقديمهم إلى المحاكمة، وبذلك أبعد مصطفى كمال عن القسطنطينية ونفي إلى بلاد الشام. . .
(للكلام بقية)
عبد الباسط محمد حسن(989/30)
من يسمع؟
مهداة إلى الأستاذ الحوماني
للأستاذ خليل رشيد
تفضل الأستاذ الحوماني قبل هنيهة من الزمن فأولاني ثقته لشرف المساهمة في كتابه من يسمع؟ وها أنا أجيب دعوة الأستاذ الحرماني شاكراً له ثقته الغالية؟ راجيا تفضله بالقبول:
من يسمع؟
من يسمع عنوانه جديد لكتاب جديد من مبدعات الأستاذ الحوماني وضعه بعد خروجه عن ألف فكرة لألف رجل في كتابه مع الناس. وللأستاذ الحوماني فكرة واحدة يعتز بها هي إيمانه بقول المنقذ الأعظم صلى الله على ذاته الزكية: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. .
والكتاب فكرة لم تولد بعد. . ولكنا نلمس روح الثورة والتمرد على المجتمع وعاداته المكبوتة في نفس الأستاذ التي ينبئ بها عنوان كتابه من يسمع؟ وأكاد أسمع بحة صوته وهو يبث شكاته وأذاته من صدى عنوان كتابه هذا. وأستطيع أن أرى سحنة وجهه وقد بدت عليها سورة الغضب. وثورة الأديب. وإني لأستشف قلبه وقد سيطر عليه كلمة من يسمع.
أي نعم يا أستاذ
أصرخ ملء فمك
أغضب ملء جمجمتك
تألم ملء قلبك
فليس هناك من يسمع. ولن تجد من يسمع. ولو أخرجت ألف كتاب وكتاب على غرار فلان
من يسمعك. . من يصغي لصرير قلبك. . من يسمع قلمك القاسي المرير وهو ينشد أنشودة الإصلاح. ويرعف باسم الحق الذبيح صابا وعلقما على صفحات فلان؟
من يسمعك. وأنت ترجع لحنا حزينا. وتنشد نشيدا مؤلما فيه عنف الموت وصرامته على قيثار فلان؟(989/31)
من يسمع هذا اللحن الحزين والكل ثمل بكأس حواء يتغنون بوحي الدموع والنهود والقبل؟
وقد جن الناس بالثمر المجنون. فهم بين لاه بالثمر وعابث بالعفاف. ليس هناك من يسمع، أو يصغي لحديث فلان، وأنشودة فلان وفيه صرامة الحق ومرارة الصراحة
من يسمع كلمة الحق وصرامة القول فيها. ومن يستسيغ مشرب كأس ملؤها صاب وعلقم. وأي مسمع لا ينبو النغم الشاكي الحزين؟
من يسمع كلمة المصلح وهو يدعو إلى بيع موت عاجل بحياة آجلة؟ من يصغي لحديث المرشد وهو يدعو إلى قتل اللذة المرذولة وموت العاطفة وكبح الشهوات. والانضمام تحت راية نفسه؟
ومن يسمع غرزة مبضع الجراح وهي تستأصل شأفة الداء. ولا تتقزز نفسه؟
من يسمع نداء الضمير وهو يصرخ من الأعماق بمواساة الضعيف وصلة الرحم ونصفه المظلوم. ونبذ العداوة والبغضاء ونزع ما في الصدور من غل؟
من يسمع كتاب الله وهو يدعو إلى ما فيه الخير والصلاح والنفع العميم للبشر؟
من يسمع دعوة الرسل والمبشرين لطريق الهدى والصلاح. ومن يسمع دعوة الأديب وهو يدعو إلى ارتقاء المثل العليا، والمثل العليا صعبة المرتقى؟
من يسمع دعاة العقل والفضيلة وفيها ما فيها من جهد وكفاح؟
نعم أيها الأستاذ؟
لن تجد من يسمع لضياع الموازين وفقدان المقاييس. وضيعة الأخلاق. .
لن تجد من يسمع. وليس هناك من يسمع ولن يسمع فلان. وليس هناك من يسمع فلان. . ما دام فلان. . لا يريد أن يسمع قول الحق. وكلمة الصراحة وكل الناس على شاكلة فلان حتى أنا وأنت:
وإن أبيت إلا أن تسمع هؤلاء الصم شكاتك. فاصرخ ملء فمك حتى تتمزق رئتاك وحنجرتك وردد
من يسمع؟
فلن تجد من يرد عليك غير صدى بعيد من أغوار الماضي وأعماق التاريخ
لقد أسمعت إذ ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي(989/32)
خليل رشيد(989/33)
مصادر التاريخ الحضرمي
للأستاذ أحمد عوض باوزير
تمهيد:
هناك حقيقة تاريخية ثابتة ينبغي مراجعتها، قبل البدء في الحديث عن (مصادر التاريخ الحضرمي). ومن المؤرخين المحدثين الذين فطنوا أهمية هذه الحقيقة، السيد علوي ظاهر الحداد، مؤلف كتاب (الشامل). فقد ورد في رسالة له أسماها (جنى المشاريخ) ما يفيد في تقرير هذه الحقيقة
وفحوى هذه الحقيقة التاريخية، هو أن التاريخ السياسي القديم، لحضرموت لا يمكن دراسته منفصلا عن تاريخ اليمن الكبير، أو عن تاريخ الإسلام في الجزيرة العربية حتى إلى ما بعد نشوء الدولة الكثيرية، في أواخر القرن الثاني الهجري. ويقال في تعليل قيام بعض الحكومات القبلية، واستقلالها أثناء هذه الفترة الزمنية، أن ذبك كان نتيجة لأحوال الضعف المادي والأدبي، في حكومات اليمن المتعاقبة، أو في عاصمة الخلافة الإسلامية
ومما يفيد في تقرير هذه الحقيقة كذلك أنشتار الفرق الدينية في حضرموت، فإن ذلك الانتشار يعني امتداد النفوذ السياسي والأداري، إلى هذه الرقعة من الجزيرة العربية. وأظهر هذه الفرق (الأباضية) ثم (القرمطية). وكان ظهزرها أيام أضطراب دول الزياديين في اليمن، في أواخر القرن الرابع الهجري و (الإسماعيلية)
ما هي مصادر التاريخ الحضرمي:
وإذا كنا قد أثبتنا هذه العلاقة بين تاريخ حضرموت، من جهة، وتاريخ اليمن أو الجزية العربية، من جهة ثانية. فيحسن بنا أن نتساءل. ما هي ماصدر التاريخ الحضرمي إذن؟ وما هي نوع العلاقة في هذه الوحدة السياسية والاقتصادية؟
والجواب على أولهما، وهو أن هناك كثير من المصادر التاريخية، بأقلام جمهرة من الحضرميين النابهين، غير أن أهمها قد ضاع، ولم يبق منها غير مقتطفات، أو شذرات متفرقة. ومن هذه المصادر تاريخ (بازرعة) وتاريخ (حنبل) وكتاب (الفرج بعد الشدة في إثبات فروح كندة) وتاريخ (الشبلي) و (شنبل) وغيرهم من المؤرخين. وحتى هذه المصادر(989/34)
لا يمكن أن تؤخذ على علاتها، دون الرجوع إلى الأحوال العامة، في تاريخ البلدان المجاورة التي يتصل تاريخها السياسي اتصالا وثيقا بسير الأحوال في البلاد الحضرمية
أما عن نوع العلاقة، في هذه الوحدة السياسية والاقتصادية بين حضرموت وغيرها من الدويلات في الجزيرة العربية فذلك يعني تفصيل الحكومات السياسية التي تعاقبت على اليمن منذ صدر الإسلام، إلى وقت انفصال حضرموت نهائيا عن حكومات اليمن في أواخر القرن الحادي عشر كما نذهب إليه
ومن العسير جدا على الباحث في تاريخ هذه الحكومات المتعاقبة، أن يهتدي إلى تحديد هذه العلاقة، تحديدا شاملا. فإن المجال لا يزال مفتوحا للدراسات التاريخية، وهذا النقص يكاد يكون ملحوظا للمعنيين بدراسة تاريخ الجزيرة العربية: ولذلك فإننا عاجزن حتى الآن عن تحيد تلك العلاقة؛ لأن ما لدينا من المباحث العلمية والمراجع التاريخية لا يكفي في تقرير هذه الحقائق تقريرا ضافيا ومفيدا
كيف ضاعت هذه المصادر:
ويذهب السيد الحداد برسالته (جني المشاريخ) في تعليل أسباب ضياع تلك المصادر التاريخية التي أشرنا إليه آنفا إلى انتشار البداوة والجهل بين سكان حضرموت؛ لأن انتقال تلك المؤلفات إلى أيدي أولئك النفر في الجهلة، معناه الإهمال والضياع
وربما كان هناك من يريد أن يسأل: كيف أمكن نبوغ تلك الفئة من المؤرخين، وسط تلك الجهالة المتفشية. ولا إخال أن (الحداد) كان ينتظر بداهة هذا السؤال، فقد أثبت في موضع آخر من رسالته السابقة (أن الذين قدر لهم الإقبال على العلم منهم في تلك الأزمة إنما تهيأت لهم أسباب خاصة، تيسر لهم معها التفرغ لذلك)
وأنا وإن كنت أوافق (الحداد) في بعض ما ذهب إليه في تعليل أسباب ضياع المصادر التاريخية، غير أني أعتقد أن هناك سببا أقوى، وهو أن المتأخرين من المتعصبة، قد رأوا في سيرة الأسلاف ما ينكرونه عليهم من المذاهب أو النحل. فعمدوا إلى أخفاء تلك المؤلفات وطمسها، في بعض الأحيان. وقد ذهب إلى مثل هذا الرأي بعص ذوي النظر والباحثين
محاولات في تاريخ الحضرمي:(989/35)
ظهرت في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، محاولات أولية في تدوين التاريخ الحضرمي القديم؛ وهي محاولات بدأت ضيقة، ثم أخذت تتسع تدريجا، فقد ظهر كتاب (الشامل) لمؤلفه السيد علوي الحداد. وكتاب (تاريخ حضرموت السياسي) للأستاذ صلاح البكري، وكتاب (تاريخ الدولة الكثيرية) للسيد محمد بن هاشم، وكنت قد اطلعت على نسخة خطية، بالمكتبة السلطانية بالمكلا من كتاب (التابوت) للسيد عبد الرحمن بن عبيد الله
وأستطيع أن أجزم أن هذه المؤلفات على الرغم من حداثتها لا تخرج عن سرد الحوادث سردا عاما دون تعميق أو توصيب. وقد إعترف السيد (ابن هاشم) في كتابه (تاريخ الدولة الكثيرية) بهذه الحقيقة، فقال في مقدمة الكتاب: (وبعد فقد التزمنا على أنفسنا في هذا الكتاب أن نكتب ما عثرنا عليه في كتب التاريخ من أخبار القوم مجردة من الملاحظات والانتقادات والأخذ والرد والتحليل والتركيب)
ويحاول السيد ابن هاشم أن يبرر هذا المسلك التاريخي بقوله (ولست أجد لي حقا في مؤاخذتي أشخاصا على سلوك سلكوه أناخت على علله وأسبابه السنون، ودفنت مبرراته ومسوغاته ظوال القرون)
ونحن لا نقر السيد (ابن هاشم) وهو الكاتب الأديب على هذا النحو من التفكير. وسواء أكانت المبررات التي زعهما صحيحة أم عير صحيحة فإننا كنا نتوقع أن يعمد إلى (المعول) لنبش الحقائق وغربلتها، وأن يبرأ من تلك الشفقة والرحمة، لأنها لا تجردي في منطق الوقائع التاريخية أو لا تفيد كثيرا
وأود في ختام هذا الحديث القصير أن أشيد بأسلوب (ابن هاشم) في الكتابة: ذلك الأسلوب الأدبي الرصين الذي يطالع القارئ من حين لآخر، في أكثر من مكان من الكتاب
هذه فذلكة عن (مصادر التاريخ الحضرمي) أقدمها في أنسب الأوقات وأصلحها، لعلها تفيد في إنارة السبيل للمعنين بدراسة التاريخ الحضرمي القديم وتعين على فهم الحقائق التاريخية الكبرى
غيل باوزير
أحمد عوض باوزير(989/36)
رد على نقد
حول (مذكرات واعظ أسير)
للأستاذ أحمد الشرباصي
شاء الكاتب الصديق الشيخ كانل السيد شاهين أن يملأ أكثر من ثلاث صفحات في (الرسالة) الغراء بالحديث عن كتابي الأخير: (مذكرات واعظ أسير). ومن حق القراء على الرسالة أن ينفسح صدرها لكلمة النقد كما ينفسح لكلمة التقدير؛ ولكن الواجب المسلم هو أن يكون الحديث ذابال، وأن يكون النقد ناهضا على أساس متين من الحق والصدق، حتى يسلم من الهوى والظنة، ويرتفع عن السباب والمهاترة
ولقد بسط الشيخ شاهين رداء الحديث في صدر كلامه مادحا مطريا، ثم جمع أطرافه على وحزات من النقد يحسبها في الموضوع، ونراها مصطنعة ليبدو الكاتب وكأنه يعادل بين التأييد والتنفيد، حتى يقال له: ما ابرعك مادحا وقادحا؛ وهيهات!. . .
وعلى الرغم من مقدمة الكانب العريضة المشعرة باستفادته من الكتاب وتأثره به، وعلى الرغم من أنه اعتراف بأن (المآخذ) التي سيذكرها (لا تشين الكاتب) ولا تتناول موضوعه وفصوله، ولا تروث صورا إلا (كلفا من بعض الجوانب) فقد شاء له حرصه على الإفاضة في القول أن يملأ صفحتين بالدوران حول خذخ الملاحظات التي لا تسين ولا تتصل بالموضوع
ويؤسفني أن أقرر أن أولى ملاحظاته ينقصها الصدق، فقد ادعى عليّ أنني أكثرت في كتابي من ذكر (أني خطيب، وأن لي جهوداً ملحوظة في نشر الدعوة، وأن لي أتباعا وأنصارا). . وأين ذلك في الكتاب أيها الصديق؟ لعل حديثا جرى عن طريق المؤلف في خطابته، وعن حرصه على وصل المنبر بالحياة الاجتماعية، وهذا لا ضير من تقريره، أنه رسم طريقة وتحديد توجيه؛ ولك امرئ إذا كتب (مذكرات) تحدث عن مثل هذا وأضعافه، ولا يعاب ذلك ولا يذم. . ولعل حديثا جرى على قلم صاحب (مذكرات واعظ أسير) عن رواد مسجد المنيرة - على أيامه أطيب التحيات - وهؤلاء الرواد كانوا من غير شك يؤلفون مدرسة إسلامية متواضعة تحدث الناس عنها هنا وهناك. . . أما وصف المؤلف نفسه بأنه خطيب وبأنه عظيم المجهود وبأن له أتباعا وأنصارا، فحديث مصنوع أو(989/38)
موضوع!
وآلم السيد شاهين ما جاء في خاتمة الكتاب من تحايا الشعراء والأدباء للمؤلف بمناسبة الإفراج عنه والفرحة بعودته إلى حياة الحرية والانطلاق، وشاء أن يعبر عن ألمه بهذا الحكم الصارم - أو الوارم -: (فسائر هذه التقريظات غاية في الغثاثة والتفاهة) ومن السهل على كل إنسان أن يصدؤ مثل هذه الأحكام العامة التي ينقصها الرشد والتبصر. ولعل الكاتب لم ينس أن العرب اختصروا الطريق في حكمهم على القرآن المجيد فقالوا أنه (أساطير الأولين)!. . . ومن المؤسف مرة أخرى أن أذكر الشيخ شاهين بأن هذه التحايا لم تكن تقريظات. ولم يستكتبها أستاذ من طلبته كما زعم متجنيا، بل هي صورة عواطف ومشاعر لإخوته كرام سبقوا بها قبل ظهور الكتاب بشهور ونشر أغلبها، واصحابها لهم مكانتهم الأدبية وماضيهم الشعري، ولذلك عنوت بعنوان (تحية وذكرى)، ومن الطريف - وليس مما يعاب كما توهمت - أن تسجل العواطف المتبادلة بين التلاميذ الأحياء والأساتذة الأوفياء - وعد النظر عن غير هؤلاء فهم كالهباء -. . . وهل يعد غاية في الغثاثة والتفاهة قول أحد المحيين:
عفواً إذا زل مما قلته قلمي ... برغم أن جنا زلاته الخطر
أوخذت ظلما وهذه رحمة سبقت ... من أن تؤاخذ عدلا أيها القمر
وهل يعد غاية في التفاهة والغثاثة قول الثاني:
لبيك لو قبل المعاند فدية ... أو لم يزعه ضميره المتغابي؟
إني لأدخر الثناء لعالم ... لاقى الصعاب بعزمة الوثاب
متدرعا بالصبر، لا متراجعا ... في الحق، أو مستهدفا لعتاب
لقد أبعدت أيها الصديق، وحملت هذه التحايا ما لا تطيق!
وكبرى الكبائر عندي أن يعتبر الشيخ شاهين دفاعي عن الأزهر الشريف المعمور (هفوة)! كبرت الكلمة منك أيها الصديق. . . الأزهر الذي رضعت لبانه وتمتعت بخيراته وسعدت بكنوزه وعلوت باسمه ينال منك هذا الجزاء؟. ثم أنت لا تقتصد في النقد، ولا تكتفي بالتوجيه، ولا تقنع باللوم، بل تجور وتجور، فتنال جبهة الأزهر الشماء بما تشاء، ثم تسرف فتقول وبئس ما تقول: (ألا أنه قليل للأزهر أيلام، وقليل لرجاله أن يتهموا(989/39)
بالضعف والتدليس وحب الدنيا، وإذا كانت فعلتهم في النكر ما هي، فإنه لأنكر منها أن يدافع عنها ويوقف إلى جانبها)!!
أهذا كلام يقال، ومن أزهري، ومن رجل يعمل تحت أسم الأزهر الشريف حتى اليوم؟. . . دون ذلك يا صاحبي وتفترق طريقانا. . . ثم إن هناك فرقا بين (الأزهر) و (الأزهريين) يا صاحبي، فالأزهر معنى وفكرة ورسالة وتايخ له جلاله وهيبته، والأزهريون قوم يجوز عليهم الخطأ، إذ ليسوا بمعصومين، وإذا كان فيهم من فرط، ففيهم أعلام جاهدوا ولا زالوا يجاهدون، ومن الكفران أو الطغيان تعميم الحكم على الجميع بهذه الصورة القاسية، وكدت أقول (الغلبية) ومعذرة إليك أيها الصديق، فقد فتحت الباب!
ومن الذي قال لك إنني (أيدت) الأزهريين جميعا وبلا استثناء وعلى طول الخط؟. . ألم أنتقد شيخ الأزهر الأسبق على موقفه من اعتقالي؟ (ص11) و (ص25). . ألم أسرد رأس شاب ثائر في علماء الأزهر وموقفهم من المحنة بعبارته الشديدة المكشوفة (ص 28)؟. . . وحتى في دافعي عن الأزهر والأزهريين قد أشرت إلى بعض العيوب الموجودة في البيئة الأزهرية وذكرت أسباب ذلك ودوافعه، ولما تطاول القول في ذم الأزهر بلا إبقاء قلت (ص 98): (إن هذا لا يليق، وليس من مصلحة أحد، وليس هذا أوان الطعن، والأزهر يجب أن يصان عن التحطيم والتهديم، وحبذنا لو تركنا أخطاء الأزهريين، ويجب أن نتذكر أننا لو جردنا الأزهر من كا حسناته لما فقد المعنى الإسلامي العظيم الذي يجعله حصنا يخيف المارقين)
ثم تأتي أعجوبة الأعاجيب، وهي أن يعتبر الشيخ شاهين تفسيري رثاء المتنبي لشبيب العقيلي بأنه (هفوة أدبية) ولست أدري أبنا الذي هفا، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين؛ والحكم هنا هم القراء، فليطالعوا كلامي في كتابي وكلامك في تهجمك. ليروا رأيهم. . إن تفسيري لرثاء المتنبي على الوجه الذي أوردته ليس (تأويل نحاة) ولكنه ذوق أديب وفن بصير وحديث تاريخ، فعد إلى دارسي المتنبي إن شئت لتفهم، واقرأ ما كتبه الجارم في (الشاعر الطموح) عن هذا الموقف بالذات لتعرف معنى الرثاء هنا على وجهه الذي أريد به
لقد فر المتنبي إلى مصر، والفار يركب الصعب من الأمور، وقد حسب المتنبي كافورا قبل(989/40)
أن يراه أشياء فلما رآه لم يجد شيئا، ولكنه أصبح في حماه وتحت سلطانه، فلير حسنا ما ليس بالحسن، وليمدح العبد المخصي الذي لا تعاب ذات عبوديته، ولكن يعاب تمليكه وهو عبد بين أحرار، وليسخر به كما يسخر الناس قائلين (يا مولانا الأستاذ). . يا سيدنا المدير، يا ولي نعمتنا، ولعنة الله على زمان يتولي السيادة فيه العبيد. . وشاهين يتخذ من مدح المتنبي لكافور شواهد على عظمة كاوفر، فما رأيه في أهاجيه التي خسف بها كافوراً إلى أسفل سافلين؟. . ما رأيه في هذه الأهاجي التي جعلت العبد المخصى أضحوكة في كل فم؟. . وهل بعد قول المتنبي هازئا: (لقد كنت ارجو أن أراك فاطرب)؟. . وماذا يقول الإنسان عن (الأضحوكة) من الناس أو الحيوان غير هذا يا شيخ؟. . . وهلا أدركت ملغ سخرية المتنبي في قوله لكافور:
عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
نعم ولو كان (القمران) من أعداء كافور لوصفا بالذم؟ وممن؟. . من كان لسان. . بإسلام بإسلام!. . أبعد هذه سخرية؟
وسقط الشيخ سقطته حين توهم أن المتنبي أطال المديح في شبيب بعد قتله لبري الناس أن كافورا كان ينازل خصما قويا وأنه كان أقوى به فتغلب عليه وقهره. . إنما يصح هذا في الأذهان يا فلان لو كان كافور نازل شبيبا في معركة، أو صاله مصاولة الأنداد، ولكن لعلك لا تعرف أن كافورا قضى عليه بأسلوب الخسة واللؤم، فدس عليه من سمه، وتلك خطة الجبناء، وذلك حيث يقول المتنبي:
وقد قتل الأعداء حتى قتلته ... بأضعف قرن في أذل مكان
وأرجو أن تتمهل حتى تدرك مبلغ التعريض بكافور في قول المتنبي عن شبيب:
وما كان إلا النار في كل موضع ... تثير غبارا في مكان دخان
فنال حياة يشتهيها عدوه ... وموتا يشهي الموت كل جبان
إن التعبير ينطق صارخاً: يا كافور، أيها الجبان، إنك لن تنال شرف الميتة التي متها عدوك، فأين أنت منه يا عدو البطل الراحل؟
ويصف الشيخ شاعر العربية المتنبي بأنه (مداح فقط) وما أثقل كلمة (فقط) هذه. . فأين حكمة المتنبي إذن، وأين خبرته بالنفوس، وأين تصويره للطبائع البشرية، وأين أحكامه(989/41)
الدقيقة العميقة على الحياة والأحياء؟. . وثالثة الأثافي أن يصف المتنبي بأنه (ضيق الباع)!. . ما شاء الله!. . رحم الله المتنبي يوم جلجل بصوته فردد أبياته التي اختتمها بقوله:
فيا موت زر، إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك هازل!
أما بعد، فللنقد أصوله وقواعده، إذا توافرت فيه وجب الخضوع له والرجوع إليه، وإذا عدمها كان تطاولا أو جهلا؛ ولست أدري مبلغ القواعد التي استند إليها أو نهض عليها نقد الكاتب الصديق. بعد ما قدمت من حديث وقل سلام!
أحمد الشرباصي(989/42)
رسالة الشعر
شعلة المجد
مرثية فقيد الوطن المرحوم الدكتور عزيز فهمي
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
خل العزاء فما يفيد عزاء ... ساد الظلام وغامت الأضواء
الشعلة انطفأت، وكان وراءها ... للمدلجين الحائرين رجاء
خل العزاء ودع لدمعك سيله ... متدفقا، فهنا يطيب بكاء
خل العزاء فلست تملك منطقا ... متماسكا إن هبت النكباء
الشعلة انطفأت، وأية شعلة ... كانت؟ تبارك نورها الوضاء!
صك النعي مسامعي فأحالني ... شبحا تطير بلبه الأنباء
مات العزيز، فمات جيل كامل ... للمجد تتبع خطوه العلياء
لهفي على الآمال يصدع ركنها ... قدر، ويهدم أسهن قضاء
يا راقداً في حفرة محصورة! ... كانت تضيق بروك الأرجاء
أي المواهب فيك أبكي إنها ... يعيا بحصر كمالها الإحصاء!
الشاعر الحي الشعور، نشيده ... من قلبه ذوب ومن إيمانه الإيحاء
والكاتب العذب البيان ترسلا ... يزهو بسحر بيانه الإنشاء
والمدرة الطلق اللسان مدافعا ... لا الجاه غابته ولا الإثراء
والنائب الحر العقيدة هاتفا ... بالحق لا ضعف ولا استخذاء
تخذ الصراحة مبدأ وعقيدة ... لم توحها حزبية عمياء
وطنية تسمو على أمثالها ... ويكل عن إدراكها القرناء
ومجاهد ثبت الفؤاد مكافح ... لم يثنه سجن ولا إيذاء
لهفي على تلك الخلال تضيعها ... في لحظة سيارة وعناء!
عوجلت والوطن الحزين بحاجة ... لمواهب لم تذكها الأهواء
شقت عليك جيوبهن حرائر ... وبكي لهول النكبة البؤساء(989/43)
كم أدمع كفكفتها، ومصائب ... واسيتها! والنبل فيك ثراء
تسعى إلى الخير العميم مطأطئا ... هاماً، فلا زهو ولا استعلاء
كنت الشباب مجملا برزانة ... والمكرمات يزينهن حياء
كنت الإخاء التبر أصفى جوهرا ... وأعز ما صدق الوفاء إخاء
حلو اللقاء سجية وطبيعة ... ما في خلالك صنعة ورياء
أدب كمؤتلق الضياء عرفته ... وشمائل علوية سمحاء
وإذا دعتك الحادثات تلقفت ... يدك الدعاء، فلا يخيب دعاء
متقدما للموت لا متهيباً ... والموت عندك صنعوه الإبطاء
ما زلت تسبقه إلى حوماته ... حتى طغت في الغفلة الهوجاء
فذهبت يا زين الشباب رواية ... للناس أروع ما روى الندماء
كانت حياتك نفحة علوية ... حسدت على النعمي بها الغبراء
ما طال عمرك في الحياة وإنما ... طال التحدث عنك والإصغاء
أو بعد أن لجت بنا الظلماء ... واستبهمت في الظلمة والحيناء
وتحطمت في الصخر كل سفينة ... وتناثرت في اللجة الأشلاء
وتألب الموج الغضوب فلا ترى ... إلا جبالا ساقها الدأماء
لا الشط وضاح المعالم مشرق ... أبداً، ولا تتكشف الأنواء
نجد العزاء! ونحن أعجب صورة ... لا نحن أموات ولا أحياء
الشعلة انطفأت، وأية شعلة ... تهب الضياء، وما هلا أكفاء!
خل العزاء فنحن في هول طغى! ... في كل أفق محنة وبلاء
نشكو الصبابة في هوى أوطاننا ... وقلوبنا عصفت بها البغضاء!
متنابذين وحولنا أشد الشرى ... قد حددت أنيابها الزرقاء!
متغافلين عن الخطوب وقد سعت ... أشباحها الجنية السوداء!
سبعون عاما لم يعظنا هولها ... أبداً، ولم يتنبه الحكماء
نحن الأسارى في القيود نظنها ... حليا فتأخذنا بها الخيلاء
ماذا كسبنا بعد طول جهادنا؟ ... الكسب غرم، والجهاد هباء!(989/44)
حرية الوادي رواية ساخر ... كل الفصول شبيهة وسواء!
يا مصر حظك في الرجال مرزأ ... لا كانت الأدواء والأرزاء
أو كلما قدمت خطوة ظافر ... عادت تقهقر خطوك الشحناء!
أو كلما استكملت عدة مؤمن ... بالحق قص جناحك الأعداء!
يا مصر حظك عاثر، وعثاره ... أن ينطوي أبناؤك الأمناء
كان (العزيز) بطوله مذخورة ... لغد، فمات به غد ورجاء
قل النظير له وما أقصى المدى ... حتى يلوح مع الغد النظراء!
يا أمتي! يا أمة الألم الذي ... بلغ المدى، لا مسك الضراء!
منذ اختلفنا في الجهاد طوائفا ... ما ضمنا في وحدة زعماء
حتى فقدت عزيزك الحر الهوى ... فتوحدت في النكبة الأنباء
يبكونه بدم القلوب موسداً ... نعيت به الحرية الشماء
كان الإباء مجسدا في رقة ... فثوي مع الخلق الرقيق إباء
كان الكفاح مبرأ ومنزلها ... فمضى المكافح والضمير براء
للحق عاش، وفي سبيل قيامه ... مات المنافح عنه وهو فداء!
أأبا شهيد الحق إن فجيعة ... نزلت بساحك خطبها مشاء
في كل عين دمعة مهراقة ... وبكل قلب لوعة ورثاء
طوت المنون ذخيرة أعددتها ... لم يرحم القلب اللهيف قضاء
للمجد أنت نذرته ووهبته ... والنذر عند الله فيه جزاء
والمجد جسر متاعب رقدت على ... جنباته الرواد والشهداء
أنجبت للوطن الكريم فتى له ... في المكرمات صحائف غراء
ورث الشجاعة عنك وهي عزيزة ... في الناس حين تجابه الآراء
ورث النزاهة عنك وهي يتيمة ... في الناس حين تفاضل الأسماء
يا باكيا من قلبه ذهب الأسى ... بالناس حين أصابك البأساء
قلبي يذوب أسى على الطود الذي ... هزت قواعد بأسه اللأواء
ترنو إلى الأفق البعيد وقد خبا ... في الأفق هذا الكوكب اللألاء(989/45)
وتجيب زفرتك الحزينة أمة ... محزونة فتعيدها الأصداء
حسن كامل الصيرفي(989/46)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حول محنة الأدب:
أثار الدكتور طه حسين باشا في (الأهرام) موضوع الركود الذي اعترى حياتنا الأدبية في السنوات الأخيرة، وذكر لهذا الركود ثلاث أسباب قال أنه يقصر الكلام عليها وإن كان هناك غيرها، أولها الظروف السياسية وما تأتي به من فرض الرقابة على النشر، وقد استغرقت هذه الرقابة أكثر من خمس عشرة سنة في أقل من ربع قرن، والحرية قوام الحياة الأدبية الخصبة فإذا ذهبت أجدب الأدب وعقم التفكير
أما السبب الثاني فيسأل عنه الأدباء والشيوخ أنفسهم ويسأل عنه الناشرون معهم، فكثير من الشباب يكتبون فلا يجدون قبولا من الناشرين ولا تشجيعا من شيوخ الأدب
وأما السبب الثالث فهو ضعف التعليم الأدبي في مصر، فالأدب يدرس في المدارس والمعاهد والجامعات على نحو يحزن أكثر مما يسر، وإنتاج الأساتذة ضعيف، والمتخرجون في أقسام اللغة العربية بالجامعات لا يعرف بعضهم كيف يبحثون في كتاب الأغاني لأنهم لم يسمعوا بفهرست الأغاني الذي وضعه جويدي
وعندي أن أهم الأسباب في محنة الأدب هذه الطبقة من رؤساء التحرير البعداء عن الأدب، فقد كان يشرف على تحرير الصحف في الأيام التي ترحم عليها العميد إذ كانت تتنافس فيها الصحف أيها يكون أشد عناية بالأدب - كان يشرف عليها أدباء أمثال أنطون الجميل وعبد القادر حمزة وحافظ عوض وأمين الرافعي، ثم خلف من بعدهم (شعيط ومعيط و. . .) ممن حرموا نعمة الطبع الأدبي وبعدوا كل البعد عن الثقافة الأدبية
وزعم هؤلاء أن القراء لا يريدون أدبا. . لأنهم أنفسهم لا يريدون أدبا. . والقراء مظلومون، ففيهم الأدباء والمتأدبون ومن يحبون القراءة الأدبية ولو لم يكونوا أدباء ولا متأدبين
وتقدم إلى أولئك المشرفين على الصحف صنف من الشباب الأدعياء ببضاعة أقلها تافه، وأكثرها قشور منزوعة من الآداب الأجنبية مع معالجتها بالتحوير والتشويه. . وهم يختارون لها العناوين المثيرة والصور المغرية، ويتقبل رؤساء التحرير هذه البضاعة(989/47)
ليجتذبوا بها القراء
وهم في ذلك كمنتجي الأفلام والقصص التي يقدمونها، بعضها كلام فارغ يؤلف هنا، وكثير منها ممسوخ مما هناك. والمنتجون كرؤساء التحرير يبهر البريق أبصارهم، وليس لهم بصائر ينفذون بها إلى جوهر الأدب والفن
ووراء كل ذلك أدب أصيل وملكات كامنة أشار إليها عميدنا في مقاله الثاني إذ استدل بما كتب الكاتبون تعقيبا على مقال الأول على أن في أدبنا حياة كامنة تريد أن تظهر وخصبا مستترا يريد أن يملأ الجو العقلي سعة ورخاء، مستشهدا بقول ابن الرومي:
وكمين الحريق في العود مخفي ... وكمين الرحيق في العنقود
ولا يحتاج ذلك الأدب المستتر إلا إلى من يبرزه ويثيب عليه وينظم العلاقات بين أصحابه وبين طلابه من القراء
(كتاب فن الأدب):
المؤلفات التي تتناول دراسة فن الأدب تستمد أصولها وقواعدها من أدبنا العربي الموروث في منثوره ومنظومه، وتتحدث عن بلاغته بما رسمه الجاحظ وعبد القاهر
فأما أدبنا الحديث، أدب القصة والمقالة وخطرات النفس في استجابتها للحياة، فما زلنا نستمد أصوله ونتعرف ملامحه فيما كتبه أدباء الغرب ونقاده، إذ نحن نقتبس تلك الألوان الأدبية من الفكر الغربي في نهضتنا الحاضرة، ونعالج تجربتها وتمثيلها في طابعنا الشرقي وأدبنا العربي
وقد تجلت تلك التجربة وذلك التمثيل في بضعة كتب ظهرت من قبل، منها (أصول الأدب) و (دفاع عن البلاغة) للأستاذ أحمد حسن الزيات بك، و (فن القصص) للأستاذ محمود تيمور بك، و (النقد الأدبي) للأستاذ سيد قطب، ولعل هذه الأربعة هي المؤلفات التي يعتد بها في هذا المجال، فما أعرف كذلك غيرها
وهذا هو الأستاذ توفيق الحكيم بك يخرج لنا اليوم كتاب (فن الأدب) حافلا بالآراء والأفكار والاتجاهات التي تصور لنا معالم فن الأدب، أو الأدب الفني، بوحي مزاولته الخاصة، وبطابعه الخاص
في هذا الكتاب أكثر من سبعين فصلا في اثني عشر بابا، مثل باب الأدب والفن، والأدب(989/48)
والدين، والأدب والمسرح، والأدب والصحافة، وهكذا إلى آخر الأبواب، ولعل المتتبعين بما يجري به قلم الحكيم يعرفون أن كثيرا من هذه الفصول سبق نشره، على أنها في هذا الكتاب الحافل ملتئمة الشمل، مستكملة الجوانب، منسقة تنسيق طاقات الأزاهير
وقد أجمل المؤلف رأيه في الفن والأدب، في تلك الكلمة التي صدر به كتابه إذ يقول: (الأدب هو الكاشف الحافظ للقيم الثابتة في الإنسان والأمة، الحامل الناقل لمفاتيح الوعي في شخصية الأمة والإنسان، تلك الشخصية التي تتصل فيها حلقات الماضي والحاضر والمستقبل. والفن هو المطية الحية القوية التي تحمل الأدب خلال الزمان والمكان. والأدب بغير فن رسول بغير جواد في رحلة الخلود، والفن بغير أدب مطية سائبة بغير حمل ولا هدف. ولقد كان همي دائما محاولة الجمع بين الرسول وجواده. ولقد رأيت دائما الأدب مع الفن، والفن مع الأدب، لهذا سميت هذا الكتاب: فن الأدب)
وهذا الكتاب يجلو لنا شخصية الأستاذ (توفيق الحكيم) وانعكاس نظرته على الأدب والفن، ولكن الميزة الكبرى فيه أن هذه الشخصية تعبير رائع عن روح شرقية صميمة في نظرتها إلى مشكلات الحياة وقضايا الفن والأدب. وهو بهذه الميزة يرتفع عن أن يكون تكراراً أو اقتباساً لتلك الدراسات الأدبية المقررة بين الكتاب والنقاد الغربيين وغير الغربيين. وكثير من فصول هذا الكتاب لو ترجم إلى أية لغة أجنبية لبقيت له طرافته وجدته، ولبقيت له دلالته على شخصية صاحبه (الحكيم) الأديب الشرقي الفنان
وقد حوى الكتاب - على ما فيه من جد كثير - فصولا هي إلى التفكيه والترفيه أقرب، ولكنها تطوي الحكمة والعبرة، ومن أجمل هذه الفصول ذاك الفصل الذي تمثل فيه الأستاذ (الحكيم) أن (شكسبير) ظهر في (مصر) اليوم، مصريا، لغته العربية، وتراثه الأدبي العربي، ثم أخذ يفرش طريقه بالعوائق والمثبطات التي تعترض طريق الكاتب المصري العربي الآن، وختم ذلك الخيال اللطيف بقوله: (حقا لو ظهر (شكسبير) اليوم لكان فكره تبلبل، وعقله تحير، ولكان عمله أعسر، وواجبه أكبر، وعقباته أضخم، ومجهوداته أضنى. من حسن حظه أنه ولد في (إنجلترا) في القرن السابع عشر. . .)
عباس خضر(989/49)
البريد الأدبي
1 - البيتان للمتنبي
كنت أطالع كتاب (نديم الخلفاء) عن حياة الحسين ابن الضحاك لمؤلفه الأستاذ عبد الستار أحمد فراج فلفت نظري في الصفحة 117 هذا البيتان اللذان نسبهما المؤلف للخليع
بأبي من وودته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولا فلما التقينا ... كان تسليمه على وداعا
فقد جاء في الصفحة (279) من الجزء الثاني من التبيان شرح ديوان أبي الطيب المتنبي لأبي البقاء العكبري أنهما للمتنبي وقد قالهما ارتجالا في صباه. .
وكذلك ورد في جميع دواوين المتنبي
فما هو قول الأستاذ فراج ومن أي المصادر استقى نسبة البيتين للخليع؟ هذا ما أرجو أن يشير إليه، ولا يفوتني أن أقدم يدي للأستاذ أهنئه على كتابه الممتع الطريف وبحثه الحلو الجديد مع إعجابي وتحياتي
2 - الموشح لابن الخطيب
نسب الأستاذ عمر الدسوقي الأستاذ بكلية دار العلوم في الصفحة (44) من الجزء الأول من كتابه (في الأدب الحديث) الطبعة الثانية الأبيات التالية من الموشح المشهور
جادك الغيث إذا الغيث هما ... يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما ... بالكرى أو خلسة المختلس
لابن سهل الإشبيلي عند كلامه عن المعلم بطرس كرامة وشعره، والحقيقة أن البيتين المذكورين هما من موشح للوزير (أبو عبد الله بن الخطيب) قاله معارضة لموشحة ابن سهل الأندلسي ومطلعها
هل دري ظبي الحمي أن قد حمى ... قلب صب حله عن مكنس
فهو في حر، وخفق مثلما ... لعبت ريح الصبا بالقبس
والموشحتان موجودتان بكاملهما في ديوان ابن سهل المطبوع في مصر سنة 1928 هذا ما لفت نظري وأحببت أن أذكر به الأستاذ وفقد الله في جمال العلم والتأليف
3 - إلى الأستاذ كامل كبلاني(989/50)
قرأت أمس مقالك القيم المنشور في الصفحة (1149) من مجلة (الهلال) في العدد الخامس الذي أصدرته عن (أبي نواس) وقد جاء في مقالك (بين شوقي وأبي نواس) ما يلي:
(قالوا: إن أمير مصر، أعجب بمعارضة شوقي للبوصيري في قصيدته التي أسماها (طراز البردة) بمناسبة حج الأمير إلى الأقطار الحجازية
وقد مر الأمير على دار شاعره - بعد عودته من الحج - فأعطب بما رآه من بديع الزينة التي افتن فيها شوقي ليظن احتفاءه بعودة سيده فقال الأمير:
(يا شوقي لقد أعجبتني قصيدتك، كما أعجبتني زينتك)
فقال شوقي الأبيات التالية
زين الملوك الصيد مر ببابي ... كرما، وباب الله طاف ببابي
يا ليلة القدر التي بلغتها ... ما فيك بعد اليوم من مرتاب
ما كنت أهلا للنوال وإنما ... نفحات أحمد فوق كل حساب
لما بلغت السؤل ليلة مدحه ... بعث الملوك يعظمون جنابي
بدران: بدر في السماء منور ... وأخوه فوق الأرض نور رحابي
ثم
هذا أين هاني نال ما قد نلت من ... حسب تدل به على الأحساب
قد كان يسعى للرشيد ببابه ... فسعى الرشيد إليه وهو ببابي
هذه الأبيات فقط هي التي ذكرتها من الشوقية الخالدة. . فهل لك يا سيدي وأنت المعجب بأميرنا الخالد أن تزف إلى عشاق شعره القصيدة بأكملها. . نحن ننتظر منك هذا الأثر القيم على صفحات الرسالة الزاهرة. . فهل نحن بالغون ما نريد
عبد القادر رشيد الناصري
التسول أمام بيوت الله
إن الذي لا ريب فيه أن التسول في مصر قد اصبح حرفة من الحرف الثابتة الدعائم، ومهنة من المهن التي لها قدرها وخطرها، فلا تكاد تسير في شارع من الشوارع، أو تخطو في ميدان من الميادين، أو تضع قدمك في مركبة من المركبات العامة حتى يفاجئك سيل لا(989/51)
ينقطع من المستولين والمتسولات، كل يدعي الحاجة أو يتصنع البؤس أو يزعم الفاقة
ولو أن قطعان التسول قد اقتصر نشاطها على الشوارع والميادين والمركبات العامة إذا لهان الأمر، ولكن هذه القطعان تأبى أن ترحم بيوت الله من بلائها، وقصر على أن تزاحم المصلين بمناكبها دون أن تتفضل لو بذرة واحدة من الحياء والخجل. .
إننا حين نمر بمسجد كمسجد الحسين أو مسجد السيد زينب أو مسجد الإمام الشافعي بالقاهرة مثلا، وحين نمر بمسجد أبي العباس والأباصيري بالإسكندرية، وغير هذه المساجد في المدن الكبرى، لابد أن تقع أعيننا على قطعان التسول وقد اتخذت عتبات هذه المساجد أوكارا تنفث منها سمومها على المصلين في كل وقت من ليل ونهار
وكأن المسئولين في مصر لا يكادون يفهمون أن هناك أجانب يزورون مصر؛ ويقصدون المساجد الكبيرة بالذات، ويعودون إلى بلادهم، وفي مخيلتهم صورة فظيعة لفوضى التسول في مصر، وإلا فلم يغضون الطرف عن هذه الوصمة التي تلطخ جبين الوطن بالعار! إننا نرى هذه المناظر المنكرة فنتميز من الغيظ، وتمتزج في صدورنا الآلام والحسرات، ولكنا لا نستطيع أن نفعل شيئا لأننا لا نملك من الأمر شيئا
إذا كان ولاة الأمور يعجزون عن أن يطهروا مصر بأسرها من وصمة التسول، فلا أقل من أن يصونوا بيوت الله منها ليحفظوا عليها جلالها ووقارها!
رمل الإسكندرية
نفسية عبد اللطيف الشيخ
عبيد الناس
بات كثير من الناس يخشون بعضهم كخشية الله أو أشد خشية، ويحرصون على إرضائهم وطاعتهم أكثر من حرصهم على إرضاء الله وطاعته. . ممال زعزع إيمانهم، وأوهن عقائدهم، فاعتقدوا أن مصيرهم مرتبط بمصير هؤلاء الذين يخشون. . وأن حياتهم رهن إرادتهم، إن شاءوا أسعدوهم ورفعوا درجاتهم، وإن شاءوا نبذوهم فطردوا من جنة الخلد التي يوعدون!. .
ما زال بيننا الكثيرون من عبدة الأصنام. . وأعتقد أنني أسيء إلى عبدة الأصنام إذا شبهت(989/52)
هؤلاء المارقين بهم. . يؤلهون الأشخاص، ويكادون يعبدونها من دون الله، ويخرون لها سجدا!. .
نسو الله فنسيهم، وأنساهم أنفسهم، ونضب معين التقوى من قلوبهم، وزلزل الخوف أوصالهم، يمشون في ركاب ذوي الجاه، يوقفون كل جوارحهم على طاعتهم، يزينون لهم القبيح ويقبحون لهم الطيب، مردوا على النفاق، تعرفهم بسيماهم، وبأساليبهم، يخادعون الله ويخادعون الناس، ويحسبون أنهم مهتدون!. .
يعبدون الله على حرف، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، ولو أنهم خشوا ربهم كخشيتهم أنفسهم لاستقامت أمورهم، وانصلح حالهم، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!.
عجباً لهم، أيخشون الناس والله أحق أن يخشوه!. .
أين هم من الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم والوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل، لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم. . .
عيسى متولي
بنك مصر القاهرة(989/53)
القصص
خمسة أعوام في عذاب
عن الإنكليزية
ليس في وسع إنسان مهما يكن شعوره بالفضل وبالترفع أن يفاخر بأنه
لا يعبأ بالمغريات وبدوافع الشر أو بأنه يحتقرها. فالإنسان لا يعرف
كم تتغير نفسه تحت أحكام المؤثرات
وإني لأروي على سبيل الاستشهاد على صدق هذه النظرية القضية الآتية التي سمعتها من أحد رجال البوليس السري في لوندرا
ماتت زوجة تاجر غني لم يكن له إلا ولد واحد، فتزوج من أرملة في منتصف العمر. وكان ابنه شابا فلم يرض عن هذه الزوجة. وكان يشتغل في غير المدينة التي فيها أبوه، فامتنع عن مراسلته بعد هذا الزواج. ولكن الأب كان راضيا بهذا الثمن، وهو غضب ابنه في مقابل تلذذه هو واستمتاعه مدة العام الذي بدأ بالزواج وانتهى بوفاته
ولأسباب لم تظهر قط كان الجزء الأخير من هذا العام كله ريبة وسوء ظن ودسائس في هذا البيت، لأن الخدم الثلاث كن يرتبن في مقاصد الزوجة. وكانت أقدمهن وقد قضت في خدمة المنزل بضعة أعوام تعد نفسها في موضع الجاسوس على أعمال الزوجة. وقد كانت تنصت فسمعت زوجها يتوعدها عدة مرات بأن يغير الوصية بحذف منها اسمها بتاتا. فكانت تجيبه بأنها تجد الفقر أخف عبئا من معاشرته على وفرة غناه
وكانت تلك الخادم تستدعي زميلتيها ليسمع ثلاثتهن مثل هذا الوعيد. وقد فهمن جميعا علة الخلاف بين الزوجين. فلما مات الرجل انتظرن أن تكشف الوصية لهن عن جلية أمر الخلاف
وقد كانت دهشتهن عظيمة عندما جاء المحقق وتبين أن الوصية تحرم ابنه من الميراث وتعطي الزوجة ألفي جنيه في كل عام وهي كل إيراده طول حياتها
وكان من الطبيعي أن تشعر الزوجة بالراحة والاطمئنان عند ما صارت مالكة لهذا الإيراد. وزالت الحزازة التي كانت تشعر بها أيام حياته. وبعد يومين من الوفاة جلست أمام مكتبها(989/54)
تكتب الردود على التعازي. . وقد فرغت سريعا من هذا الواجب ثم أخذت تقلب أوراق زوجها وهي لا تزال مبتسمة. ولكنها لم تكد تقرأ اثني عشر سطراً حتى قطبت جبينها وعرتها دهشة، لأن الذي كانت تقرؤه إنما هو النص الأخير لوصية زوجها؛ وهو يحرمها كل شيء ويهب تركته كلها لابنه. وكان تاريخ هذا النص قبل أسبوع واحد من الوفاة، وعلى والوصية توقيعات شهود من الأحياء. فجلست تفكر فيما سيؤول إليه أمرها لأن البقية الباقية من ذلك العمر ستكون حياة فقر مدقع. ولذلك كان الإغراء الذي تجد نفسها تحت تأثيره قويا جدا، فهو ليس بين الشرف وبين انعدامه، ولكن بين الغنى وبين الفقر. وكان عمرها إذ ذاك خمسين عاما وهي لا تستطيع التكسب بوجه من الوجوه. ورأت أنه إذا لم يكن أحد ليذيع أمر هذه الوصية فلماذا لا تلزم الصمت؟
وحملت الوصية في يدها ومشت إلى الموقد ولكنها وجدته خالياً. وكانت من قبل ذاهلة عن ذلك وعن أن الليل كان قد انتصف. وكادت تمزق الوصية ولكن الخادمة في هذه اللحظة دخلت ووقفت واجمة فسألتها: (ماذا تريدين؟)
ابتسمت الخادمة ولم تجبها فقالت: (ما الذي تعنين؟)
فحاولت المرأة أن تضحك ولكنها لم تستطع. وقبل أن تتحرك أية حركة كانت الخادمة قد اختطفت من يدها الورقة التي ستتركها في فقر مدقع فصرخت تلك صرخة يأس، وحاولت أن تسترد الوصية
وعلى الرغم من التفاوت في السن فإن الخادمة كانت أقوى المرأتين فاستطاعت التغلب على سيدتها. وتلت الوصية في هدأة ثم قالت بعد الفراغ من ذلك: (لقد فهمت الآن)
قالت الأرملة: (لقد وجدت هذه الورقة منذ دقيقة فقط وأردت أن. . .) فقالت الخادمة مقاطعة: (أردت أن تحرقيها لو كان في الموقد نار)
ثم مضت فترة صمت قالت بعدها الخادم: (من حسن حظك أن أكره المستر وليم ابن سيدي المرحوم، فإذا سلكت مسلكا حكيما فإنه لن يعلم أحد بأمر هذه الوصية)
سمعت المرأة هذه الكلمات فأثلجت صدرها لأنها كانت شديدة الخوف من الفقر، فاستدعت الخادمة وأجلستها بجانبها وعرضت عليها اقتسام الثروة بينهما وأن تدفع لها ألف جنيه مقدما(989/55)
فلما تم الاتفاق على ذلك قالت الأرملة: (والوصية؟ هل تمزقينها) فقالت الخادمة: (كلا بل ستبقى معي إلى الأبد)
ورأت الأرملة أن خادمتها لا تقبل المناقشة في الأمر فأذعنت. ومن ذلك اليوم أصبحت الخادمة هي السيدة الحقيقة في المنزل فبدأت بطرد سائر الخدم واختارت آخرين؛ وكان ثاني عمل أتته أن أحضرت ابنها إلى المنزل وأطلقت عليه لقب السكرتير لتلك الأرملة فكان يلازمها في الصباح وفي المساء
صارت الحياة مؤلمة في نظر السيدة لأنها أصبحت تشعر بعد إخفاء الوصية بأنها ارتكبت جريمة منكرة وبأنها باتفاقها مع الخادم قد وضعت نفسها في مركز ذليل، ولكنها احتملت حالتها خمسة أعوام في صمت؛ وفي بدء العام السادس ذهب الخدم ليقدموا الشاي إلى كبيرتهم التي يعرفونها أنها السيدة الحقيقية فعادوا يصرخون ويعلنون أنها ماتت
وظنت الأرملة أن الحظ عاد إلى الابتسام؛ ولكن سرعان ما أخفق أملها لما أمرت ابن تلك الخادم بأن يترك خدمتها فتنكر لها وهددها بإظهار الوصية
ولما رأت أن حالة الذل ستبقى كما هي بل ستزداد لأن خضوعها لهذا الرجل سيكون أشد إيلاما لنفسها من خضوعها لأمه - لما رأت ذلك ملكها اليأس وذهبت إلى إدارة البوليس، ولكن جهلها بالقانون جعل رجل البوليس يضحك منها لأن الوصية التي تخشى شرها قد بطل مفعولها بعد وفاة ابن زوجها عن غير وارث وأصبحت هي من تاريخ الوفاة مالكة للتركة
كانت إذن في الأعوام الثلاثة الأخيرة تقبل الذل خشية من ظهور وصية تجعلها هي المنفردة بمال
ع. أ(989/56)
العدد 990 - بتاريخ: 23 - 06 - 1952(/)
البعث الديني في الغرب
للدكتور عمر حليق
يتساءل الدكتور (راينهولد نايبور)، أحد أقطاب اللاهوت البروتستنتي في أمريكا، عما إذا كان المجتمع الغربي يمر الآن في بعث ديني كفيل بأن يتسرب إلى صميم السلوك السياسي والاقتصادي للشعوب المسيحية في الغرب، فيضع حدا لهذه الأخطاء الشنيعة التي تشوب سلوك الإنسانية، وتدون صحف التاريخ بأحرف النار والدمار.
وجواب هذا القطب البروتستنتي عن القسم الأول من هذا التساؤل، أن هناك اتجاهات واضحة في الإنتاج الفكري، وفي السلوك اليومي للشعوب الغربية، تدل بوضوح على أن هناك بعثا دينيا تزداد مظاهر جلاء يوما بعد يوم. ولكن صاحبنا يعترف بأن من الصعب عليه - وعلى أي كان من المراقبين المعاصرين لحاضر السلوك الديني في أمريكا وأوربا الغربية - أن يقدم البراهين القاطعة على هذا البعث الديني، براهين تستند إلى حركة جديدة ثابتة الأركان كتلك التي سجلها عن حركات البعث الديني، وحدد أزمانها ومعالمها وأقطابها وأهدافها ومبادئها. ويعترف هذا الزعيم البروتستانتي كذلك بأنه قد يكون مخطئا في تفسير لمظاهر هذا البعث الديني الجديد. فقد تكون هذه المظاهر ليست إلا سحابة صيف عابرة، لا تستطيع أن تحيي موات الأرض.
وقد عالج الدكتور نايبور هذه الناحية في حاضر الثقافة المسيحية في بحوث عديدة منها كتابه (الإيمان والتاريخ وفصول وكتب أخرى تدرس في أكبر معاهد الديانة البروتستانتية في أمريكا.
ويستشهد هذا العالم البروتستانتي للدلالة على أن الغرب يمر في فترة إحياء ديني بأمرين:
أولهما نجاح نفر من الوعاظ المسيحيين في أمريكا وبريطانيا برد الآلاف من الرعية إلى حظيرة الكنيسة، كما تدل على ذلك إحصاءات الهيئات الكنسية.
ثانيهما هذه الظاهرة القوية التي أخذت في السنوات الأخيرة تتسرب إلى الإنتاج الأدبي والفني في أوربا وأمريكا، ظاهرة تجد الخلاص في مشاكل النفس وأزمات الضمير في الإيمان والرجعة إلى الدين. ويشترك في هذه الرجعة نفي من الكتاب والشعراء في ثنايا المنظوم والمنثور من إنتاجهم الأدبي.(990/1)
وبعض هؤلاء الأدباء والمفكرين يدعو إلى الرجعة إلى الإيمان بأوسع معانيه، مسيحيا كان أم بوذيا أم كنفوشيا، وتتخذ هذه الرجعة إلى الدين لونا من التصوف العميق كما هو الحال عند الأديب البريطاني الشهير (آلدوس هسكلي) الذي نشأ في بيت خاصم العقيدة الدينية خصومة عنيفة، واشترك جده الأكبر مع (داروين) في مناقشة التفسير الديني بطبيعة الأشياء، وأصول النشوء والارتقاء. ولآلدوس هكسلي كتاب يعالج فلسفة التصوف في الشرق والغرب، في تحبب وإعجاب ولون من الإيمان العميق بها.
وجدير بالذكر أن الاتجاه نحو التوسع في نشر التعليم الديني قد عم معظم الأوساط الجامعية في أميركا الشمالية، كما أشار إلى مؤتمر رؤساء الجامعات الأمريكية، وهيئات الخريجين الذي انعقد مؤخرا في شيكاغو.
فإلى ما قبل سنوات قليلة كان التعليم الديني مقصورا على موضوع أو موضوعين، يعالجان التوراة والإنجيل (العهد القديم والعهد الجديد) من ناحية أدبية بحتة، تتعمد تربية الذوق الأدبي والثروة اللغوية أكثر مما تهدف إلى شرح التعاليم الدينية ودقائقها.
والشعب في أمريكا يتحدث الآن عن ذيول القرار الخطير الذي أصدرته منذ بضعة أسابيع فقط محكمة العدل العليا بواشنطون، وهي أهم مرجع قضائي في الولايات المتحدة الامريكية، وأقرت به الحق لطلبة المدارس الحكومية، الابتدائية والثانوية، في أن يختاروا حصة معينة من جدول الدراسة الأسبوعي، يتلقون خلالها دروساً دينية، كل حسب المذهب الذي ينتمي إليه ويختاره له أبواه أو أولياء أمره. وجدير بالذكر أن التعليم الديني في المدارس الحكومية في أِمريكا، لا وجود له مطلقا. وإذا علمنا أن حوالي 90 % من الطلبة الأمريكان يتلقون علومهم الابتدائية والثانوية في مدارس الدولة أدركنا خطورة هذا الوضع على الحياة الروحية بين الأحداث الأمريكان، والفضل في الإبقاء على الحياة الدينية يرجع إلى نظام (مدارس الأحد) التي أنشأتها الكنائس البروتستانتية، واقتبسته عنها الكاثوليك واليهود، ليتلقن الحدث فيها أمور دينه مرة كل أسبوع على يد القساوسة والحافظين للتعاليم الدينية من رواد الكنيسة وأتباعها.
وهذه القسوة في إبعاد التعليم الديني عن برامج المدارس الحكومية في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، يعود إلى السياسة التي تعمدت فصل الدين عن الدولة، وهي سياسة(990/2)
اتبعتها بعض الدول المسيحية لتتفادى الصراع الطائفي بين مواطنيها، فالبروتستانت والكاثوليك، يعيشون جنبا إلى جنب في الدول المسيحية، والصراع المذهبي بين الكاثوليكية والبروتستانتية كان ولا يزال على حدته المعهودة، فالبروتستانت تتهم الكاثوليك بالولاء لمركزية الفاتيكان وسلطة البابوية، وهي سلطة يعتقد البروتستانت بأنها تتعارض في بعض الحالات مع المبادئ الديمقراطية وحق الجماعات الدينية، بان تواجه مشاكلها الروحية المختلفة على ضوء الأوضاع والظروف الخاصة التي تتميز بها الجماعات، ولا موجب لأن يتقيد الناس بمركزية الفاتيكان وهي مركزية يعتقد البروتستانت بأنها صارمة.
وقد كان للنفوذ اليهودي القوي في دخيلة الولايات المتحدة اثر في تقرير الاتجاه بفصل الدين عن الدولة. فالتعاليم المسيحية بروتستانتية كانت أم كاثوليكية، تدين بصلب المسيح، وألوان المشادة والتعذيب والتآمر والتنكيل التي صاحبت نشوء المسيحية بين العبرانيين. وإذا جردت برامج التعليم في المدارس الحكومية من نشر هذه التعاليم المسيحية، أزيلت تدريجيا من أذهان الناشئة حقائق الصراع المذهبي بين المسيحية واليهودية من جهة، وبين الكاثوليك والبروتستانت من جهة أخرى. وقد نجح اليهود في توحيد جهودهم مع البروتستانت في أمريكا وجعلها جهدا مشتركا للوقوف في وجه الفاتيكان. فتم فصل الدين عن الدولة في مظاهر رسمية على الأقل، ومنها التعليم الحكومي. والواقع أن البروتستانت اكثر ميلا إلى التسامح مع اليهود منهم إلى مصافاة الكاثوليك. فالفاتيكان يدرك إدراكا تاما خفايا اليهودية العالمية ومطامعها وأهدافها، ولذلك فهناك صداقة مفقودة بين الفاتيكان وحكماء صهيون.
قلنا أن قرار محكمة العدل الأمريكية الأخير، قد تغلب على مشكلة التعليم الديني في مدارس الدولة، وذلك تلبية لحملة عنيفة شنها أولياء أمور الطلبة، وأشاروا فيها إلى أن خلو برامج التعليم من الدروس الدينية قد خلف أزمات روحية وأخلاقية لم تعد تقوى أساليب التعليم الحديث على معالجتها دون معونة الدين، وهذه الحملة من الأدلة التي يستشهد بها بعض زعماء الدين المسيحيين في معرض إشاراتهم إلى البعث الديني الذي يعتقدون أنه أخذ ينمو في حاضر الغرب.
ومما لا ريب فيه أن الثقافة الدينية تجد في أوربا - باستثناء منطقة النفوذ الشيوعي -(990/3)
مرتعا أكثر خصوبة، منه في العالم الجديد.
فللكاثوليك جذوع راسخة في ألمانيا وفرنسا، فمدارس الفكر العتيدة التي تمثلها: مجلة فرانكفورتر هافتي في ألمانيا، ويتزعمها في فرنسا جيلون وماريتان، هي من دعائم الفكر الكاثوليكي في حاضر الثقافة الفرنسية خاصة، والأوربية على وجه العموم.
ويراقب الفاتيكان هذا النشاط في إطار العقيدة الكاثوليكية مراقبة دقيقة، فبين رجال الكهنوت في الكنيسة الكاثوليكية - وعلى الأخص في فرقتها المثقفة كجماعة اليسوعيين والبندكتيين - جماعة تفرغوا لحاضر الأدب والفن والفلسفة، وساهموا في دراستها والتعقيب عليها، ووفروا لأنفسهم نفوذا بالغا، ساعدهم على تحقيق ما للفاتيكان من قوة في المواصلات الفكرية الحديثة، في دور النشر والصحف، وهيئات الإذاعة. وحين يلمس الفاتيكان شعوبية في التفكير بين المثقفين الكاثوليك من غير رجال الكهنوت، يلجأ البابا إلى هذه المنشورات البابوية التي تعبر في لغة دقيقة عميقة عن رأي الفاتيكان في شؤون الفكر والبحث العلمي. وقد أصدر البابا في 21 أغسطس عام 1950، واحدا من هذه المنشورات الهامة بعنوان (في الإنسانية) شرح فيه موقف العقيدة الكاثوليكية من البحث العلمي، الذي يعتمد أن يبرز المكتشفات الحديثة في علوم الطبيعة والذرة والفلك والتعليلات الفلسفية، على أساس المقارنة مع التراث الكاثوليكي في هذا النوع من النشاط العقلي. وقال البابا أن الكنيسة الكاثوليكية لا تقف موقفا معاديا للبحث العلمي، فبعض ألوان هذا البحث قد يكون متمما للقيم الدينية والأخلاقية التي تستند إليها الديانة المسيحية. ولكن الذي يخشاه الفاتيكان هو أن يتطور هذا النشاط العقلي، فيتحمس لتشريح العقيدة الدينية بمبضع البحث العلمي، فيفسد على النفوس اطمئنانها. وبعض حقائق هذا الإيمان لا يمكن أن تفسر تفسيرا علميا كما يفسر التفاعل الكيماوي والحركة الميكانيكية، فإذا كان القصد من تسليط أضواء البحث العلمي على العقيدة الدينية ليزداد قبولها بين الناس، فحري بالمتحمسين لهذا القصد أن يتريثوا قبل أن يشكل عليهم الأمر، ويدفعوا إلى الشك والإلحاد. فكما أن لمقدرة الإنسان حدودا وقيودا تجعله في بعض الحالات عاجزا عن تعليل الأسرار العلمية وخفاياها، فإن لمقدرة الفكر على تحليل الإيمان بالعقيدة الدينية، حدود وقيود كذلك. فالتطرف في كلتا الحالتين، يفسد على المرء إيمانه بالعلم وإيمانه بعقيدته الدينية.(990/4)
هذه الإشارات التي تصدر عن الفاتيكان بين آنة وأخرى هي وليدة دراسة دقيقة للاتجاهات الفكرية في الجماعات التي تؤلف المجتمع الكاثوليكي بأوسع معانيه. وهذه الإرشادات هي بمثابة فتاوى يشترك في وضعها أهل الاختصاص من الكرادلة والمتبحرين في علوم الكنيسة، والعاكفون من كهنوتها على متابعة الأدب والفن والتيارات الثقافية المعاصرة.
وليس للكنيسة البروتستانتية - بسبب تشعب فرقها - مركزية تشابه الفاتيكان. ولذلك فإن تسجيل الاتجاهات الدينية بين البروتستانت يكون بنوع من الدراسات الإحصائية التي يغرم بها الأمريكان، وهم اليوم عماد العالم البروتستانتي. وعلى كل فإن كلتا الطائفتين - البروتستانتية والكاثوليكية - تمر الآن في نوع من البعث الديني، سواء تعرف عليه البروتستانت بطرق الإحصاء، أم سجله الكاثوليك في الفاتيكان بأساليبهم الخاصة.
والمراقب للحياة الدينية في الغرب، لا يصح أن يعتمد في تسجيله لظواهر هذا البعث الديني على أقوال رجال الدين أنفسهم، فهم بحكم حماستهم وعلاقتهم المهنية بالدين، أميل إلى تجسيم الظواهر، منهم إلى معالجتها معالجة إيجابية.
ففي الغرب أناس من غير رجال الدين، يلمسون ظواهر هذا الإحياء الديني، ولكنهم يفسرونها تفسيرا خاصا.
فمنهم من يقول أن الرجعة إلى الكنيسة مبعثها (أزمة الأعصاب) التي تعتري الناس في أوربا وأمريكا، بعد أن أتت الحرب الأخيرة، والحرب الباردة الحالية على البقية الباقية من الاستقرار النفسي، الذي تركتها الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية الخانقة التي حلت بالغرب في فترة ما بين الحربين.
وبعضهم يدعي بان المجتمعات أميل إلى التعلق بلون من الإيمان الديني الثابت حين تداهمها ظروف حادة من الهستريا الشاملة التي تصاحب فترات القلق السياسي والاقتصادي، كهذه الفترة التي تمر بها المجتمعات في أوربا وأمريكا اليوم. فالرجعة إلى الكنيسة - في رأي هؤلاء البعض - مدفوعة بالرغبة في التخلص من المآزق النفسية والمادية التي هيمنت على ملايين الأنفس التي أخذت تكفر بالمبادئ الاقتصادية، بعد أن بليت بشرورها في الحرب الأخيرة وحرب كوريا، فرغبت في أن تتخذ لنفسها مخرجا في اختيار المبادئ الدينية.(990/5)
ومن الطريف أن طغيان العلم، وما خلفه من آلات الدمار الذري وقنابل الجراثيم، قد وفر لرجال الدين في أوربا وأمريكا فرصة حسنة للدعوة وترويج المبادئ الدينية، فالوعي الباطني للمجتمعات في أوربا وأمريكا يرتجف هلعا من القنابل الذرية، والبحوث والإرشادات للوقاية من ويلات هذه القنابل وملحقاتها لم تبعث في هذا المجتمعات أملا في النجاة والوقاية التامة، وإنما زادت خوفهم خوفا، وحين يتطرق الواعظ الديني في كنيسته - على سبيل المثال - إلى موضوع القنبلة الذرية وأهوالها، ويقول لسامعيه بأن ابن آدم يعبث بآلات علمية، ولا يدري إلا الله مدى شرورها وأهوالها، وان المخترعات الحديثة هي وليدة الصدفة، وليست وليدة العقل البشري الجبار، والدليل على ذلك عجز هذا العقل البشري عن استنباط الوقاية من هذه الشرور العلمية. حين يتحدث الواعظ بمثل هذا المنطق يجد لدى سامعيه آذانا صاغية، وهذه الآذان لا يهمها في أكثر الحالات أن تدرك عظمة الألوهية بقدر ما ترغب في الخلاص من مخاوفها وقلقها. فإذا عجز العلم عن إزالة هذه المخاوف وإبادة هذا القلق، فلا مفر من أن يجد المرء السلوى في القضاء والقدر والعناية الإلهية.
ومن هذه الظاهرة يلمس المراقب للحياة الدينية في الغرب الرغبة بين الأوساط الدينية البروتستانتية والكاثوليكية بإقحام الدين في الحياة السياسية والنشاط الاقتصادي، وهي محاولة لا تعلن صراحة عن رغبتها في إعادة وصل الدين بالدولة، فالفكر الغربي قد وطد في أسسه الجوهرية مبدأ فصل الدين عن الدولة، وإنما ترغب في أن يتسرب التفكير الديني إلى صميم السلوك السياسي والاقتصادي، ليحاول صياغة سياسة الحرب والسلم بلون من الإشعاع الديني، بعد أن سيطرت عليه القوة الماردة، قوة العلم وما خلفه من معاول للحرب والتوسع الاقتصادي.
وبين البروتستانت والكاثوليك خلاف على أساليب الوصول إلى هذا الهدف؛ فالفاتيكان، وان كان راغبا في توطيد السلم والإخاء، والحد من استعمال آلات الدمار الجهنمية التي استنبطها العلم؛ إلا أنه يفضل لو تم هذا السلام بعد القضاء على الشيوعية واقتلاع جذورها، ولو كانت الوسيلة إلى ذلك حربا عالمية جديدة، إلا أن البروتستانت - أو على الأقل طائفة من أبرز زعمائهم - يعتقدون بان الحرب الطاحنة، إذا حلت بهذا العالم فإنها لن تقضي على الشيوعية فقط، بل إنها ستقضي على معالم الحضارة المسيحية الغربية(990/6)
كذلك؛ ولذلك فبين أقطاب البروتستانت - كجماعة الكويكرز مثلا - من يعتقد بإمكانية العيش لجميع النظم السياسية والاقتصادية المعاصرة، إذا صفت النية، وساد جو العالم لون من الروحانية، والسلوك الديني القويم.
نيويورك
عمر حليق(990/7)
شخصية الشافعي على ضوء علم النفس الحديث
للأستاذ أنور الجندي
يتمثل لي الإمام الشافعي حين أدرس سيرته، عملاقا نحيلا، ضامر الجسد، مقبول الطلعة، على الرغم مما قيل عن ملامحه. . فليست الملامح في الحق هي كل شئ. . وقد تبدو غير متسقة، ولكن يبرز من ورائها (روح) صاحبها غاية في القبول والتقدير عند من يتصل به.
وأرى فيه مظهر الرجل الذي يصفه علم النفس الانطوائي. .، وكل الرجال الذين احتضنوا الأفكار والدعوات والمذاهب، كانوا من هذا الصنف
وقد عرف الشافعي بأنه يحب العزلة أحيانا، ويلجأ إلى الصمت أحيانا، وأنه يمكن لنفسه بذلك من التأمل والدرس والمراجعة وهي عدة الفقيه والداعية.
وأتاح له هذا الجسد النحيل، القدرة على السفر والرحلة واحتمال مشقة الانتقال بين العراق ومكة واليمن ومصر.
ولد في مكة، ورحل إلى المدينة، ثم سافر إلى اليمن، ثم حمل إلى بغداد، ثم عاد إلى مكة. . . وقصد إلى بغداد ثم إلى مصر، حيث أقام فيها بقية حياته. .، وقد أتاحت له هذه الرحلة، وهذا التنقل المتصل، خلال هذه المنطقة التي كانت تعد في ذلك الوقت قلب العالم الإسلامي، فرصة واسعة لدراسة طبائع الناس وأخلاقهم ومعرفة مصالحهم واتجاهاتهم، وفهم الحياة ومشاكلها وقضاياها.
وقد أنضجت الرحلة ذهن الشافعي وتفكيره، وأمدته بقوة سيكولوجية رائعة، وأتاح له ذكاؤه المتقد، وقدرته العقلية الجبارة، مرونة ولباقة جديرين بالتقدير. فهو قد غير مذهبه، الذي وضع أصوله في العراق، حين استقر في مصر، ووضع بدلا منه مذهبه (الجديد) الذي ضمه خلاصة تجاربه وملاحظاته ودراساته خلال تلك الفترة الطويلة التي قضاها متنقلا في الأقطار الإسلامية. .، وكانت تجارب الأئمة والفقهاء الذين التقى بهم، وقرأ لهم، قد تبلورت في نفسه، واستقرت، فاختار منها ما رآه صالحاً مع البيئة الجديدة التي أستقر فيها.
وإذا كان يقال أن أبا حنيفة قد شرع بروح العراق، وان مالكا قد شرع بروح الحجاز، فإن الشافعي قد شرع بروح مصر. ويكاد الشافعي إلى ذلك أن يكون رابطة العقد بين فقهاء عصره، فلقد ولد في العام الذي مات فيه أبو حنيفة، وتلقى العلم على مالك في المدينة،(990/8)
فبهره بجودة حفظه وألمعية ذكائه،. . ثم كان ابن حنبل من تلاميذه.
وقد التقى حين قدم العراق بأبي يوسف ووكيع، وبذلك يمكن القول أن الشافعي قد أحاط بالفقه الإسلامي في عهده واستوعبه استيعابا كان كفيلا بان يجعله عميد الفقهاء وإمامهم في عصره، فهو الإمام الذي وضع الموازين والمقاييس، وضبط الفقه، بعد أن جادل الفقهاء وانتصر عليهم.
فإذا تركنا الحديث في فقه الشافعي للفقهاء، وذهبنا نتقصى (شخصيته) الإنسانية وجدناها غاية في القوة والسمو والحيوية، وتعدد الجوانب وسعة الأفق، وذلك بالإفاضة إلى ما أثر عنه من براعة وذكاء.
يتحدث الذين عاصروه عنه، أنه كان محببا إلى نفوس عارفيه، وكان إشعاعه ولباقته وحسن حديثه يكسبه حب الناس وثقتهم. . مما كان يزيد عدد أتباعه ومريديه يوما بعد يوم.
وأنه قد توافرت له صفات الداعية، صاحب المذهب، هذه الصفات التي تتمثل فيما أثر عنه من طول أناة وحلم، وابتسام ثغر، وإشراق وجه وبعد عن الغضب، وتواضع وخفض جناح وسلامة صدر، وصفح عمن يسئ إليه. . وبعد عن التعصب، وإملاء الرأي. . فقد كان يعذر مخالفيه في الرأي ويقبل منهم.
ويرجع ذلك إلى الإصابة النفسية التي كونت (طابعه) طابع الزعامة، فقد كان (رياضيا) تعلم الرماية وأغرم بها وأجادها، وكان يرمي عشرة في عشرة وقال عن نفسه (كانت همتي في الرمي والعلم).
وقد نقل أسلوب الرياضيين، من ميدان الرمي، إلى حلبة الفقه، فكان واسع الصدر إزاء معارضيه.
وآية قدرته في الإقناع على طريقة الرياضيين، إقناعه الرشيد ببراءته وهو يخوض بحراً من الدماء، فقد صرع أمامه تسعة، استلت السيوف اللامعة أعناقهم، فلما جاء دوره أعطته عارضته القدرة على أن يناقش الرشيد ويقنعه وهو في هذا الجو العاصف، وإزاء هذه الشخصية الجبارة.
لقد أتهم بالعمل ضد الرشيد وحمل مقيداً من اليمن مع عشرة من أصحابه، فلما جئ بهم إلى الرشيد، وضع حدا لأجلهم، أما هو فقد أقنع الخليفة. . قال له وهو بين النطع والسيف. .(990/9)
(. . يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه والآخر يراني عبده. . أيهما أحب ألي؟ قال الذي يراك أخاه! قال: فذلك أنت يا أمير المؤمنين. فلما وضع يده على الخيط. . مضى يثبته بقوة، قال: إنكم ولد العباس وهم ولد علي، ونحن بنو عبد المطلب، فأنتم ولد العباس تروننا أخوتكم، وهم يرونا عبيدهم.
. . . ونجا
وقد بلغ به حب الرماية أن لم يكن جلال السن والإمامة بمانع إياه عن أن يرمي.
وقالوا عنه أنه كان يقصد في لباسه، ولم تعرف له صغيرة، وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل (القرآن) فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل (الحديث) يسألونه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا. . ثم تستوي الحلقة (للمناظرة) والمذاكرة، فإذا ارتفع النهار تفرقوا، ثم جاء أهل (العربية) والعروض والشعر والنحو حتى يأتي المساء. . والشافعي جالس في حلقته لا يضيق بالعلم ولا بالناس.
ولا عجب فقد كان الشافعي أديبا يتذوق الشعر، ويقول أجوده، ويقدر الجمال ويعجب به في مختلف صوره النفسية والحسية، بل لقد كاد أن يكون أديبا خالصا أو فنانا خالصا، لولا أن أتيحت له فرصة دراسة الفقه، فمضى فيه، حتى برز وبلغ القمة. .
وقد روى عن ذكائه وألمعيته وسرعة حفظه الكثير، مما زاد في قوة شخصيته أضف إلى ذلك ما روى من أنه إذا تكلم كان صوته أشبه بالصنج أو الجرس، وكان إذا قرأ القرآن التف حوله الناس، وعجوا بالبكاء. . قال بعض أتباعه (كنا أردنا أن نبكي قلنا قوموا إلى هذا الفتى المطلبي الذي يقرأ القرآن. . فإذا أتينا استفتح القرآن فتساقط الناس بين يديه وكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته)
ومن هنا جاءت قوته كداعية، يستطيع أن يجمع الناس حوله وأن يحببهم إليه، وتلك من الشمائل التي لا تتوافر للكثيرين.، وقديما كان الصوت الجميل وطلاقة اللسان من أدوات الداعية الفذ.
ويرجع السر في فصاحة (الشافعي) إلى أنه أقام بالبادية فلقن اللسان العربي.
وفي المدينة وصل إليه علم (مالك) كله، فقد لزمه حتى مات، وفي بغداد وصل إليه علم (أبو حنيفة) كله بعد أن حمله محمد بن الحسن. . ومن ثم اجتمع له علمان: علم أهل(990/10)
الرأي، وعلم أهل الحديث.
وقد وصل الشافعي بعلمه وثقافته إلى درجة المجتهدين، وارتفع عن أن يكون من أتباع (مالك)، أو تلامذته الذين يجرون في حدود مذهبه، فكان ذلك مصدر الخلاف بينه وبين المالكية في مصر، وقد لقي من ذلك عنتا شديدا.
وتوافرت للشافعي كل وسائل (العالم)، كما توافرت له كل وسائل (الداعية) فقد أثر عنه أنه كان يذهب إلى الصباغين يتساءل عن معاملاتهم، ويرتاد السوق يحدث أصحاب الحرف. .
وبلغت به الثقة أن كان يعرف أن أهل مصر فرقتان: فرقة مالت إلى قول مالك وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة، ولكنه كان يقول في حماسة ظاهرة (أرجو أن أقدم إلى مصر فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعا. .)
وقد حدث ما توقعه. . غير أن الخلاف لم يلبث أن نشب بين أتباعه وأتباع مالك فلقيه فتيان ابن أبي السمح المالكي ليلا فضربه أحدهم بمفتاح حديد فشجه. .، فلم يسعف بالعلاج فمات. .
. . وقد مات فقيرا، ولم يترك شيئا يذكر، وكان قد أجهد نفسه في الفترة التي قضاها في مصر إجهادا بلغ به غايته.
أنور الجندي(990/11)
2 - جوته
للأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
تابع ما نشر في العدد 986
غوته يعتزل الحياة السياسية
وأخيراً وصلوا إلى النتيجة المحتمة فقال: (كم أكون أحسن حالا وأهدأ بالاً إذا أنا نسيت المشاجرات السياسية ووجهت قواي للعلوم والآداب التي لأجلها ولدت. وكل من يجعل حياته للوظيفة - إلا إذا كان أميراً سيدا - فهو إما أن يكون سخيفاً أو مغتصباً أو مجنوناً). وبمرور الزمن أصابت غوته الهموم وهاجمته الغموم، فأصبح مريضاً مرة أخرى وأراد التخلص من هذا الوضع الذي تردد فيه فقرر الفرار ناجياً بأهابه. وكان سبب ذلك - على ما نعلم - حادث غرام سقط في شبكته وذلك بتعلقه بالآنسة (فون شتاين) تلك الفتاة الغامضة الخفية، التي لم تخص من الجمال ولا من العاطفة بشيء يذكر. وقد كان لهذه الحادثة تأثير بالغ في حياته مدى جيل. ولو لم يفر بجلده لتحطمت حياته آنذاك، وكانت إيطاليا في هذه المرة محط رحاله - تحت سماء بهيجة رائعة وفي وسط شعب جنوني، أما هذه المرحلة من حياته فقد جعلها للتأمل في الفنون العظيمة، وكانت بمثابة تجربة أغنى بمعانيها وألطف في مدلولها من حادثة غرام تظهر فيها الفروسية الكاذبة التي شاءت الصدف أن تفرض عليه فرضاً في (وايمر).
إن إدراك معنى هذه التجربة صعب جدا ليس علينا وحسب بل حتى على المؤرخين الأدباء ودارسي غوته، فهم لا يعرفون عنها شيئاً، وهم يعترفون بذلك صراحة. ومن العسير علينا أن نشعر بما كان يشعر به من عواطف هي عواطف السعادة والتحرر والانعتاق، والتي يعبر عنها بتعجب بأقواله (إنني ولدت ولادة ثانية، ولادة حقيقية في ألوم الذي وصلت فيه ورما) وأشعر (بشباب جديد، شباب ثان، إنسان جديد، حياة جديدة) و (أشعر بتغيير في نخاع عظامي). كل ذلك أظهره في رسائله التي بعث بها إلى (شارلوت فون شتاين) التي تركها بدون وداع
إن الشمول هو الغرض الأساسي الذي كان يسعى إليه جهد استطاعته؛ والكلمة التي كانت(990/12)
لا تفارق شفاهه باستمرار في ذلك الوقت، فالتاريخ الطبيعي والفن والأخلاق. . . الخ أصبحت جميعاً منسجمة بنفسه؛ وقد علق على ذلك بقوله (إني أشعر أن شمسي تسطع سطوعا باهرا). أجل أن شمسه سطعت في تأملاته التي كان يخص بها الفنون القديمة، وكان ينظر إليها لا بمنظار رجل يدري شيئاً بعيدا عن نفسه، بل كان ذلك طبيعة نامية فيه، فقال عن نفسه (إن الطفل المريض والضعيف سابقاً يمكن أن يتنفس الحرية بطلاقة مرة أخرى)
ماذا عنت إيطاليا بعبقريته
ليس في مكنتنا سوى تخمين العوامل التي أثرت في شخصيته. . ومن هذه العوامل علاقته بميزات البحر الأبيض المتوسط، التي كان لدمه بها صلة وكان لهذا العامل (إللاألماني) فوائد تحريرية عليه، فهي التي وسعت غريزته العظمة فيه، وهذه الغريزة مستمدة من الغريزة التاريخية. وقد وضعت إيطاليا الصبغة النهائية على قسمات وجهه، فأصبح الألماني المهذب ذا وجه ألماني بالنسبة إلى وطنه، ووجه ثان هو أقرب إلى وجوه الموظفين الخجولين والمتظاهرين بالحشمة، وفي الوقت نفسه تغير فيه كل شيء فأصبح متزنا كاملا مكتفياً بذاته، منطويا في قرارة ذاته على نفسه وغدا اتصاله بالناس صعبا جدا، ولم يبق من صلاته المصداقية القديمة شيء يذكر، فشعر كل واحد من أصدقائه بالبرودة المتجمدة التي كانت تظهر عليه.
وقد علق أحد أصدقائه بعد أن قضى معه ليلة من الليالي بما يلي: (وشعرنا وكأننا نعيش في محيط بارد جدا وكانت السآمة تخيم علينا بثقلها، وأضحت شهامته ملاطفة وحشمته ظاهرية. أما (شلر) الذي لم يكن يلحظه غوته في غضون إقامته في أول شتاء قضاه في (وايمر) فقد حدثنا عنه بقوله (كانت له موهبة تأسر الناس وتسحرهم سواء أمان ذلك في الأمور البسيطة أم الكبيرة، على أنه كان يحتفظ بنفسه فوقهم، وكان الناس يشعرون بوجوده بسرور بالغ، ولكن وجوده كان كوجود الآله لا يعطي من نفسه)
ولكن عملا منافيا أجترحه بعث الناس ذوو الأخلاق العالية والسلوك الحسن على الغضب عليه، وتتلخص هذه الفعلة بإيوائه فتاة إلى سريره، وكانت هذه الفتاة جميلة وجاهلة جدا، وكانت بائعة ورد واسمها (كريستيانا فولبيوس)، وكانت هذه العلاقة علاقة دعارة استفزازية(990/13)
صارخة، ومع ذلك فقد جعلها بعد عدة سنين علاقة شرعية، ولكن المجتمع لم يغفر له ولا لها، ولدت كريستيانا له عدة أطفال، ولم يبق منهم في قيد الحياة إلا أوغست الذي وصل إلى منتصف العمر وأصبح ثقلا مرهقا على والديه بسلوكه المتوحش وأخلاقه الفظه وعاداته الذميمة وعربدته الشائنة.
كان غوته يشبه في شبابه (أبولو) أو هرمز (اللهم إلا قصر ساقيه) يشبههما في رشاقته، ولكنه اكتسب سمنة عندما بلغ من الكبر عتيا، وكان ذلك في إيطاليا وفي بداية القرن الذي لازمه طويلا فأصبح وجهه بدينا كئيبا وخدوده متهدلة فتحول أبولو حتى غدا (جوبتر) بالذات، راس رائع وحاجبان بديعان بارزان يعلوهما شعر غزير ملفوف معتنى به، وعينان سوداوان يشعان بالروح مظللتان بظلال التعب والكلل، كما أن لباسه كان يميل بمظهره، إلى المحافظة، أما خشونته التي طالما كان يفخر بالتظاهر والتباهي بها في شبابه فقد اتخذت شكلا واقعيا في سيماء الرجل العجوز، وهكذا اجتمعت فيه خشونة شكلية وتظاهر رسمي وخيلاء خادعة، فحولت كلامه إلى حديث رجل متعلم عادي.
غوته يصبح أسطورة العظمة
تمتاز الفترة بين السبعين والثمانين من عمر غوته بأنها فترة العظمة الأسطورية، وبأنه أصبح الممثل الحقيقي للثقافة الغربية في أوسع معانيها، فشرع الناس يحجون إليه من جميع أنحاء العالم، وكان غوته يكره النظر خلال النظارات، ولذلك لم يكن يحظى لابسو النظارات بحفاوته! أما الزائرون الذين زاروا أماكن غريبة أو شاهدوا مناظر بديعة فقد كانوا محط حظوته والتفاته، وكانت أوامره إليهم تتخلص بـ (قف! دعنا نقتل هذا الموضوع بحثا). كانت فيه رغبة ملحة لمعرفة كل شيء، وإرادة للتصرف على جميع الحقائق التي يمتلكها الآخرون، وإذا ما أظهر أحد الزوار شيئا طريفا أو قدم معلومات ممتعة دعاه للعشاء معه، فيقدم له ما يشاء من المأكولات والمشروبات على طريقة الملوك، وربما سمح له بمشاهدة المجموعات النادرة من الزخارف النحاسية والأوسمة والآثار القديمة التي كان يحتفظ بها في قصره الفخم الذي أهداه إياه الدوق العظيم (قصر فراد بلات)؛ أن الاحترام الهائل الذي حظي به الرجل كان راجعا بالدرجة الأولى إلى جلال كتاباته المبدعة، وما من شك في أن أسلوب حياته وما كان يهواه من العلوم والهوايات أضفت ستارا شفافا(990/14)
ساحرا على شهرته كحكيم، ونسجت برودة من العظمة حول شخصه، بحيث أن كل ذلك كان يبدو جليا في الرسائل التي كانت تعنون إليه، فكان مراسلوه الفرنسيون يلقبونه بـ (السيد العظيم) وهو لقب الأمير، كما أن إنكليزيا كتب إليه بعنوان (إلى صاحب السمو العاطر الأمير غوته في (وايمر). وقد علق الرجل الشهم (غوته) على ذلك بقوله (لعل الناس عندما يخاطبونني بهذه اللهجة يقصدون الإمارة الشعرية)
ولما مضى الشاعر العظيم لحال سبيله كان الرجل الألماني العادي والذي لم يقرأ شيئا من كتبه يخاطب صاحبه بقوله (هل سمعت أن غوته العظيم مات؟) وكثيرا ما أوصلته الأمراض الشديدة إلى حافة القبر، ومن ذلك أنه في السنة الثانية والخمسين من عمره هوجم بمرض الحمرة البشرية ونوبة سعال شديدة، وبعد مرور أربع سنوات انقض عليه مرض النومينيا مع نوبات حادة، كما أن داء المفاصل ومرض الكلى هاجماه فاضطر إلى الرحيل إلى بوهيميا. وما أن أقبلت سنة 1823 - وقد بلغ سنة الرابعة والستين - حتى نجده واهن القوى روحيا وجسديا. كان ذلك بمثابة رجعة لوداع الحب في (ماري باد) وعلى الرغم من أن المرض الذي أعقب ذلك كان صعبا وصفه، ولكنه كان قتالا في تأثيره.
والخلاصة أن علاقته بالحياة أخذت تدريجيا تتعرض للخطر، ولشد ما كانت هذه العلاقة موضعا لإيثاره وحبه وغرامة، فحاول جهد ما استطاع أن يتظاهر بالخشونة كي يلعب دوره الذي قدر له، دور ابن الأرض القوي، دور ابن شجرة النبق، وكثيرا ما كان يباهي بذلك. أما أسلوب حياته فكان صحيا، ولكنه كان أكولا متحمسا، وكان يعير شهيته الشيء الكثير من التفاته مع كراهية للكعك والحلويات.
إن غوته يمكن أن يعتبر - بمقاييسنا الخاصة - مدمنا للخمر، لأنه كان يشرب قنينة كاملة من الشراب في العشاء علاوة على عدة أقداح من الشراب الحلو في وقت الغداء، وكانت عادته ذم الأشخاص الذين يفقدون حيويتهم بسرعة، وقد أشار على ذلك في حديث طويل مع أحد أصدقائه - وقد بلغ آنئذ الحادية والثمانين - في معرض كلامه عن وفاة سومرنغ) العالم الألماني الشهير في التشريح فقال: (وسمعت بأن سومرنغ توفي في الخامسة والسبعين من عمره التعس وحسب. أن الناس جبناء فهم لا يملكون القوة الكافية للاحتفاظ بعمر أطول من ذلك، وعليه فليس لي إلا أن أمدح صديقي (بنتام) الاقتصادي الإنكليزي،(990/15)
ذلك الراديكالي المجنون لأنه أكبر مني بأسابيع قليلة) وأضاف مشاركه في الحديث بقوله (يا صاحب الفخامة لو كنت ولدت في إنكلترة مثله لأصبحت راديكاليا مشابها له ولانتقدت معايب الحكومة كما فعل هو) فما كان من غوته، وكانت سحنته تشبه سحنة (ميفتوفيلبس) إلا أن يجيب (وماذا كنت تظن؟ لو إنني ولدت في إنكلترة لأصبحت دوقاً أو مطرانا دخله ثلاثون ألف جنيه استرليني) أن هذا هو التفاخر بعينه، والتبجح السافر، والشعور الراسخ بالتفوق، أنه كان يعتقد بصورة أسطورية بأنه لا يمكن له إلا أن يولد تحت احسن الظروف، وأن الانتقادات لا تصدر إلا من أناس ليسوا حائزين على امتيازات ومواهب خاصة.
جوته في أوج قوته
كان غوته معجبا بشعار خاص هو (الجزاء الكامن) في هذا التعبير الذي لم يكن يقف (يصمد) أمام المنطق، ولكنه كان بدهياً على شفتيه، ماذا يعني هذا التعبير؟ أن الجزاء ليس كامنا، أنه يحقق ويحصل عليه، وكل شيء كامن ليس فيه للإنسان فضل (اللهم إلا إذا فصلنا الكلمة من مضمونها الأخلاقي) وهذا ما يقصده هو بالذات. أن هذا التعبير تجن واضح على الأخلاق ولكل نضال واجتهاد. وقد اعتاد غوته أن يقول مفسراً بذلك نظريته (يجب أن يكون الإنسان كي ينتج شيئا) أو بكلمة أخرى أن ما كان يعنيه لا يخرج عن كون الفضل والكرم في الوجود حاصلا بصفته وجوداً لا بصفته عملا، وقد عبر عن عقيدته هذه بصورة متنوعة، ولكن الجملة التالية هي احسن ما أراد أن يقوله (كثيراً ما سمعت الناس يقولون: آه لو أن لتفكير لم يكن صعباً لهذه الدرجة، ولكن الشيء المزري، أن أية كمية من التفكير لا تساعد الإنسان على التفكير، بل يجب أن يكون تفكير الإنسان صحيحا بالطبيعة كي تقف جميع أفكارك الجيدة أمامك، كما يقف أبناء الله الأحرار فينا دونك بقولهم: نحن ها هنا). الطبيعة! لم يكن غوته - في قلبه - ابن أبيه مطلقا، ولو أنه لحد ما يعيد بعض الميزات الأبوية، ولكنه في الحقيقة ابن أمه، أبن (فراد أجا) - بنت اللندهمري - تلك الفتاة ذات المزاح الشفاف، وأكثر من ذلك كان في الحقيقة ابن الأم الكبيرة، ابن الطبيعة نفسها. أما فكرته عنها فكانت الكمال بعينه وضرورة الوجود الذي كان متعلقا به أشد التعلق، ومفهومه له كان لا يتعدى عالما حرا من الأسباب والتصاميم المتداخلة في عالم يعيش فيه(990/16)
الشر جنبا إلى جنب مع الخير، وقد بين ذلك بصورة جليلة بقوله (نحن نناضل في سبيل جعل الفن كاملا بذاته. أما هم (يعني الأخلاقيين) فيفكرون في التأثير الخارجي، هذا التفكير الذي لا يهم الفنان الحقيقي كما لا يهم الطبيعة نفسها، فهي عندما تبدع أسدا أو طيرا لا يهمها أن تلاحظ شيئا من ذلك). فموهبته المبدعة كانت هبة من الطبيعة التي تحتضن الشر والخير سواء بسواء. فكما أن تأليهه للطبيعة كان المنبع الرئيسي لطيبته، كذلك كان في نفس الوقت منبعا للا مبالاته وقلة حماسته وسخريته من الأفكار وكراهيته للتجديد، الذي كان يعتقد بأنه محطم لحياة نفسها. وهذه هي الأشياء الوحيدة التي كان ينتقد عليها. وعليه فليس غريبا أن ترى مقته للثورة الفرنسية مع أنه بشر بمبادئها ومهد لها بكتاباته، أما مؤلفه (الآم فرتر)، الذي أنتجه في عنفوان شبابه، والذي كانت فيه العاطفية واضحة بارزة، فقد هز أسس النظام الاجتماعي القديم هزا عنيفا. أن موقفه هذا تجاه الثورة الفرنسية يعيد إلى الذاكرة موقف أرازموس تجاه (الإصلاح الديني)، أرازموس ذلك الهولندي العظيم الذي عمل جهده للتمهيد للإصلاح، ولكنه تنكر له بتقزز وامتعاض. وقد جمع عوته نفسه هذين الحادثين (المقلقين) ببيته المشهور لا في هذه الأيام، أيام الاضطرابات، رفضت الفالسية الثقافة الهادئه، كما فعلت اللوثرية ذلك في عهدها). وهو كذلك، وكذلك فعل عندما رفض القبعة الكاردينالية التي قدمها البابا إلى (الإنساني العظيم) وقد اعتذر عن ذلك بأعذار رقيقة، فهو لم يرد أن يجعل من نفسه حليفا للنظام القديم الذي انهارت معظم قيمه، ولا نصيرا للنظام الجديد الذي اعتبره غير مهذب، ومع كل ذلك فسياسة غوته المحافظة كانت مزعزعة لا يركن إليها ولا يعتد بها. ولما أصدر (فريهر كاكدن) سنة 1794 بيانه المعروف الداعي إلى توحيد المثقفين الألمان كي يضعوا أقلامهم في خدمة (الصالح) - أي قضية المحافظين - ولكي نكون أكثر دقة، إنشاء اتحاد ألماني لتخليص البلاد من الفوضى، وقف غوته صديق كارل أوغست المخلص وشكر البارون لثقته به، ولكنه أعتذر بقوله (إنه من المتعذر ربط الأمراء والكتاب في قضية واحدة)، فانسحابه هذا، ومحاولته الابتعاد عن كلا الجانبين، ينطبقان تماما على إبرازموس أيضا، ولكن غوته كان إبرازموس ولوثر متقمصين شخصا واحدا؛ كان اتحاد لطيفا وشيطانيا في نفس الوقت، وكان وجوده يمتاز بكونه مثالا وقدوة لغيره. كان مثالا يحتذيه الألمان، وقد تمكن بنفسه من تحقيق المثالية(990/17)
الألمانية لا بل مثالية الإنسان، مع ذلك فقد وقف كثير من معاصريه وقد بلغ بهم الأذى والمرارة حدا جعلهم يكرهونه، وقد عبر عن ذلك بورن بقوله (إن قوته كانت قوة تخريبية بدلا من أن تكون قوة إنشائية، وقد كانت عائقا للتقدم وخصوصا جموده السياسي، وطبيعته الكارهة للفكرة الديمقراطية الوطنية التي كانت تمثل العصر، فكان يعارض حرية الصحافة وحرية التقدم والديمقراطية والقانون، وكان يعتقد بأن كل شيء معقول في ظل الأقلية). وكان يؤيد الوزير الذي كان يطبق خططه ضد رغبات الشعب، وكان يشعر شعورا عميقا بالغرور الإنساني، وقد اعترف يوما، بأن مجرد النظر إلى وجهه يكفي للتخلص من الكآبة، ولكنه لم يكن يؤمن إلا إيمانا ضئيلا بالإنسانية ومستقبلها الحسن، فلا يمكن تعليم الناس العقل والعدالة، ولا يمكن إنهاء الحروب وإراقة الدماء والتذبذب في الشؤون العامة
للكلام بقية
بعقوبة
يوسف عبد المسيح ثروت(990/18)
نساء عرفن في زمن النبي
للأستاذ ناصر سعد
هذه نبذة مختصرة عن نساء عرفن في زمن محمد (ص) منهن من اشتهرن بعمل خير أفدنه به فتركن لأنفسهن أحمد الأثر بنفسه فاثنى عليهن. . ومنهن من دعون لإيذائه ومحاربة دينه الحنيف الجديد فتركن لأنفسهن أسوأ الأثر بنفسه وغضب الله عليهن ورسوله؛ ولا ريب في أن الخيرات منهن اندفعن وراء إخلاصهن للرسول العظيم ووراء إيمانهن بدينه الجديد فأتين بما يبهر من الأعمال وخلدن أسماءهن فرقين مكانة عالية في الإسلام والتاريخ تحفز المرأة الحديثة إلى اقتفاء آثارهن والتحلي بصفاتهن الحميدة؛ وأما الأخريات اللواتي دعون لإيذائه ونبذ دينه فقد أندفعن وراء عصبيتهن لغشاوة كانت ترين على قلوبهن حتى تبين للبعض منهن الحق من الباطل فيما بعد، فتسرب الإيمان إلى قلوبهن وأسلمن وعدن يحمدن الإسلام مكفرات عما سلف من أعمالهن فعفا عنهن الرسول (ص). ومن أولئك النساء:
آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أم النبي (ص) حملت به فكان كل ما في الدنيا بهيجا بعينها، تبتسم لها الحياة فتبتسم لها، وليس يسعد المرأة أكثر من مولود تضعه بعد مشقة الحمل والولادة إذ يهون عيها كل ألم لابتسامة تنظرها من مولودها الذي تضع فتحنو عليه وتحبه، لأن بهذا الحب سر الوجود والحياة، وما زالت الحياة تبتسم لإبنة وهب حتى ذهب عنها شريك حياتها عبد الله بن عبد المطلب وهي ما زالت تحمل جنينها - على أصح الأخبار - فبدت في سماء حياتها سحابة سوداء أزالت عن ثغرها تلك الابتسامة والبهجة، وملأت قلبها عزماً وحزماً صممت بهما أن تربي مولودها المرتقب خير تربية ليمحو ما بقلبها من الحزن بدعابته وابتسامته، فولدته وعلى محياه سيماه النبوة، وأرضعته بلبان الشرف والسؤدد. ثم إنها أما لضعف اعترى صحتها أو لعادة كانت جارية آنذاك أرضعت وليدها من ثويبة مولاة أبي لهب التي أرضعت عمه حمزة (ض) ثم أرضعته أم كبشة حليمة بنت أبي ذويب السعدية التي أرضعت معه عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ولم تزل آمنة تجد بتربية ولدها بكفالة جده حتى ظهر من حسن خلقه وجمال طبعه - على صغر سنه - ما يدهش ويحير. فمن ذلك أنه لما كفاه عمه أبو طالب بعد وفاة(990/19)
أمه وجده، وعمره سبع سنوات، كان حين يجلس مع صبيان البيت يكف عن النهب وتمتنع يداه، على عكس لداته من الأطفال، مما اضطر عمه أن يعزل له طعامه، وليس لنا أن نقول أن ظهور هذا من محمد (ص) كان ليتمه وشعوره بالوحدة. . كلا فإنه تربى في هذا البيت وألف صبيانه. وإنما ذلك سر إلهي ونتيجة للتربية الصحيحة التي نهجتها آمنة بتربية ولدها لأن للمرأة الأثر المباشر في تربية وليدها وتنشئته، هذا هو أثر آمنة بنت وهب في حياة سيد البشر (ص)
ومنهن مرضعته حليمة السعدية التي مر ذكرها. . وهذه المرأة كانت على جانب عظيم من حسن الطبع وجمال الخلق ورقة القلب؛ فمرضعات بني سعد كن يأتين مكة ليرضعن أبناء أشرافها لضيق ذات أيديهن، ولم تجد حليمة غير يتيم عبد المطلب لترضعه فحركها العطف عليه وهي لا تنتظر من المال ما ينتظره صويحباتها اللواتي رافقنها إلى مكة لغرض الإرضاع؛ فهي لو لم تكن ذات شرف وخلق قويم وقلب رقيق لم يرضع عبد المطلب حفيديه محمدا وأبا سفيان. فهي بني أسد بن بكر بن هوازن تنتهي بقيس يلان. . بقي النبي (ص) عندها أربع سنوات ربته على المروءة والشهامة والصدق والأمانه ثم ردته إلى أهله وعمره خمس سنين وشهر واحد. وقد أحب النبي مرضعته حبا كثيراً حتى أنه لما أخبرته بعد فتح مكة إحدى نساء بني سعد بوفاتها ذرفت عيناه عليها ثم قالت له الناعية: - (أخوك وأختاك محتاجون) فأرسل إليهم ما يحتاجونه. فقالت له تلك الناعية: - (نعم والله المكفول كنت صغيراً، ونعم المرء كنت كبيراً عظيم البركة). . لا ريب في أن الذكريات تلك الساعة عادت برسول الله فتذاكر أيام طفولته وحنو مرضعته عليه وألفته مع إخوانه، إنها لساعة حلوة مرة اختلطت بها ذكريات الطفولة السعيدة وجلال الموت. هذه حليمة التي ذرف عليها دمع النبي (ص) تركت ولا شك أثراً عميقاً بقلبه الرقيق الحساس.
ومنهن أم أيمن (بفتح ميمها) بركة الحبشية مولاة عبد الله أبيه، حضنت محمداً بعد وفاة أمه. ولا ريب في أن هذه المرأة وقد احتواها بيت عبد المطلب وخدمت ابنه عبد الله كانت المرأة بارة بمحمد، تعترف بجميل جده وأبيه، وتقدر أثر اليتم بنفس ربيبها وشعوره به، فأحاطته بعطفها وحنانها، وخففت عنه ذلك الألم وهو الطفل المرهف الحس فاعتاض بها عن أمه، كان لها جميل الأثر في نفسه.(990/20)
ومنهن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ابن كلاب المرأة الحكيمة الموسرة كلمها أبو طالب في أن توكل محمداً على تجارتها وهو الصادق الأمين، فتأملت وهي المرأة الرشيدة فأنست خيراً ووكلت محمداً واشترطت له كل سفرتين بقلوصين، فصار يذهب بتجارتها ويقدم إليها الربح الجزيل بأمانة وإخلاص، فلما أعجبها إخلاصه وأمانته وصدقه عزمت على التزويج منه ولم تكن معه على صلة متيسرة بدليل وساطة نفسية بنت منية أو كما قيل بوساطة ميسرة مولاها بينهما. وكان أبوها خويلد يرغب عن تزويجها من محمد، فاحتالت بأن دعت قوماً من قريش فيهم أبوها وقدمت إليهم طعاماً وشراباً، فلما أكلوا وشربوا وثمل خويلد قالت له: - (إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه) فزوجها ورضي بذلك، فقامت إليه وألبسته وطيبته على عادة من يزوج ابنته آنذاك، ولما أفاق ورأى ما هو فيه سألها يقول: - (ما شأني؟) قالت: - (زوجتني من محمد بن عبد الله). قال:. . (أنا أزوج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري) قالت: - (ألا تستحي. . تريد أن تسفه نفسك عند قريش فتخبر الناس أنك كنت سكران؟) ثم رضي بعد إلحاح وتم الأمر، وعمرها أربعون سنة ولمحمد من العمر خمس وعشرون سنة. . أن هذه الرواية لخير دليل على تعلق خديجة بمحمد وحبها إياه لما اتصف به من الخلق الحميد، وإلا فلا يعز عليها الرجال وهي الشريفة الموسورة. . وليس فضل خديجة على الإسلام بمجهول ولا مداراتها للنبي بمنكورة، فلقد كان لها رضي الله عنها أطيب الأثر بحياة الرسول قبل النبوة وبعدها إذ كانت تزوده بما يكفيه من الطعام فيذهب لغار حراء يقيم فيه الأيام والليالي متعبداً مفكراً في أمر ربه. ولما جاءه الحق من ربه رجع لخديجة وهو يرتجف ويقول: - (قد خشيت على عقلي) فشجعته وقالت: - أبشر - ولله - لا يخزيك الله أبداً. . إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر) ثم صدقته وأسلمت؛ هذه سيدة قريش التي كان لها الأثر الفعال بحياة محمد (ص) والتي كانت أول أم للمؤمنين.
ومنهن أسماء بنت أبي بكر (ض) كانت ذكية الفؤاد شديدة الحرص والحساسية، بدليل تمكنها من نقل الزاد للنبي (ص) وأبيها (ض) وهما مختفيان في الغار. . فلم يطلع على سرها أحد من قريش. . إذ لولا يقظتها لتمكنوا من معرفة مكان النبي وألحقوا به الأذى. أن تاريخ هذه المرأة في الإسلام معروف، وإنما أوردنا عنها هذه النبذة لنتصور أثرها بقلب(990/21)
الرسول في تلك الساعات الحرجة الرهيبة التي هدر بها دمه مذ صمم أهل مكة على قتله.
ومنهن أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف الخزاعية، وهذه المرأة لما توجه النبي إلى المدينة وقد اقترب منها ونزل بيتها فقال عندها وظهر من آيات معجزاته ما أدهش أم معبد فقد مسح ضرع شاة لها فحلبت لبنا كثيراً وبقيت كذلك للسنة الثامنة عشرة بعد يوم الهجرة، ومن ذلك ظهور البركة في الطعام الذي قدمته أم معبد للنبي فأكل منه وتزود وكان قليلا بعينها. هذه عاتكة الخزاعية هي التي صارت فيما بعد داعية للنبي ودينه الجديد تبشر به لإعجابها بسمو أخلاق نبيها وآيات معجزاته.
ومنهن عائشة أم المؤمنين (ض) بنى بها النبي في المدينة بعد الهدرة بتسعة أشهر، وأثرها بحياة الرسول أشهر من أن نترجم له، فقد أحبها الرسول وصارت بعد وفاته ثقة برواية الحديث الشريف. وقد كانت من النساء اللواتي يعتنين بالمحاربين في الغزوات فتقدم إليهم الماء والطعام محمولا على ظهرها.
ومنهن عصماء بنت مروان الأموية كانت تكره النبي وتؤذيه وتحرض الناس وتؤلبهم عليه وتعيب دينه، فكان لهذه المرأة وهي على هذا الوصف أسوأ الأثر بقلب النبي (ص) ولذا رأيناه مجد من قتلها وفتك بها، وذلك أن عمير بن عدي وهو أعمى من رهطها وكان موالياً للنبي حلف ليقتلنها أن عاد النبي من بدر لأنها كانت تؤلب الأعداء عليه، فلما رجع ذهب إليها عمير ليلا فوجدها نائمة ولها رضيع يرضعها فأبعده عنها وغرس سيفه في صدرها فقتلها وخرج دون أن يعرف أحد بامره، فلما كان الصبح جاء عمير إلى المسجد ليصلي مع النبي، ولما صلى وانصرف نظر إليه النبي وقال: - (أقتلت ابنة مروان؟) قال: - (نعم يا رسول الله) قال: - (نصرت الله ورسوله) فقال عمير: - (هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟) فقال النبي: (لا ينتطح فيها عنزان). . هذه المرأة التي كانت تؤلب الأعداء على النبي وتدعو لإيذائه كانت ولا شك على وئام مع أعدائه الذين كان منهم اليهود فقبحها الله وقبح ما كانت تدعو له. .
ومنهن سلافة بنت سعد بن الشهيد زوج طلحة بن أبي طلحة؛ كانت من أعدى أعداء النبي ويكفي تبياناً لذلك تحريضها ذويها على المشاركة في الحرب ضده في غزوة أحد، وأنها وضعت مائة من الإبل جائزة لمن يأتيها به، وكان أن حمل زوجها طلحة راية المشركين(990/22)
بإحدى الحملات في أحد فقتل ثم حملها بعده أبنها أبو شيبه فقتله حمزة (ض) وحملها بعده حموها أبو سعد بن طلحة فقتله سعد بن أبي وقاص، فحملها بعده ابنها مسافع بن أبي طلحة فقتله، عاصم بن ثابت فحملها بعده أبنها الحارث فقتله عاصم أيضا، هذه المرأة التي جعلت بيتها بوتقة يغلي بها الحقد على رسول الله زاد هذا القتل في حقدها عليه وعلى المسلمين معه فحلفت لتشربن الخمر في قحف عاصم بن ثابت قاتل ولديها مسافع والحارث فأخذت تحث المشركين على الثبات وتدعو لحمل اللواء حتى تداول حمله كثيرون من قريش كان نصيبهم القتل، فحملت عمرة بنت علقمة الحارثية الراية بعدهم فتراجع المشركون يطلبون السلامة. . وفي ذلك يقول حسان بن ثابت (ض) معبراً إياهم
عمرة تحمل اللواء وطارت ... في رعاع من القنا مخزوم
لم تطق حمله الزعانف منهم ... إنما يحمل اللواء النجوم
ومنهن فاطمة الزهراء وأثرها بحياة النبي غير خاف على أحد فهي حبيبة أبيها وأوثق الناس صلة به وأشفقهم عليه. . خرجت مع نساء من المدينة وهي تلهف على أبيها. . فقد جرح بأُحد فلما رأت جراح وجهه احتضنته وعانقته وصارت تمسح الدم منه ثم أخذت ماء وغسلت وجهه. . ما أروعه من موقف خفق فيه قلب محمد بحب ابنته وحنوه عليها. . وكأني بالزهراء (ع) تلك الساعة يترقرق الدمع من مآقيها ويخفق قلبها بالحب والحنان. هذه الزهراء وما أنصح حبها لأبيها وما أحسن إسلامها. . خرجت هي وأربع عشرة امرأة منهن أم سليم بنت ملحان وعائشة أم المؤمنين (ض) فحملت الماء في قربة والزاد على ظهرها تطعم المؤمنين المحاربين وتسقيهم. . هذه الزهراء أم حفيدي الرسول تركت أجمل الأثر في قلب أبيها الحنون.
ومنهن هند بنت عمر بن حرام زوجة عمرو بن الجموح. . امتلأ قلبها بالإيمان وحب الدين الجديد، فلم تزل تحرض ذويها على قتال المشركين في أحد حتى استشهد زوجها وهو يقاتل رغم عرج كان به، واستشهد ابنها خلاد وأخوها عبد الله فحملتهم على بعيرها وأتت المدينة فرأتها أم المؤمنين عائشة (ض) بظاهرها وقد خرجت تستروح مع صويحبات لها. . فقالت لهند: - (عندك الخبر. . ما وراءك؟) قالت هند: - (أما رسول الله فصالح وكل مصيبة بعده جلل) قالت عائشة: - (من هؤلاء؟) قالت: - (أخي وابني خلاد وزوجي عمرو بن(990/23)
الجموح) قالت: - (فأين تذهبين بهم؟) قالت: - (إلى المدينة أقبرهم)! ما أكبر هذا القلب قلب هذه المرأة وما أعمره بالإيمان! وأي رجل يحمل مثل هذا القلب وأية امرأة. . يا للعجب امرأة تفقد زوجها وابنها وأخاها في يوم واحد فلا يرتجف لها قلب ولا تدمع لها عين! أنه حال مدهش والله. . ولكن لا عجب ولا دهشة فإن الإيمان بالله وحب الشهادة في سبيل الدين لا يجعلان منفذاً للحزن في القلب. . ما اعظم هذه الإمرة إذ قالت لرسول (ص) حين يذكر قتلاها: - (يا رسول الله أدع الله أن يجعلني معهم) إنها لم تقل هذا جزعاً من الحياة بعد ذويها، بل قالته حبا بالشهادة فلعلها تنالها مدافعة عن دينها الذي آمنت به وطهر قلبها من كل رجس.
البقية في العدد القادم
ناصر سعد(990/24)
مواكب القلوب
للأستاذ علي محمد السرطاوي
علمت الشجرة المثمرة، يا ألهي، أن تعلن عن نضوج الفاكهة التي تحملها أفنانها بين الأوراق الخضر، بمعان من الألوان، وكلمات من الأريج.
وكسوت الورود والرياحين الغلائل المصبغة بألوان الشفق والفجر وقوس السحاب، وجعلت لها ألسنة من العبير، تهمس بها الأنسام في أذن الفراشات الراقصة في عرس الطبيعة ومواكب الربيع
وألبست الروابي، والوهاد، والمروج، الحلل السندسية الخضر الموشاة بالألوان التي لا تحصى من الأزاهير؛ تطل من ورائها الأسرار المتوارية وراء لسان الطبيعة الأبكم، ونواميسها الأبدية الثابتة؛ فراحت الأجناس من كل ما يدب على هذا البساط الأخضر ويتحرك، مدفوعة نحو أجناسها، في جنون من العاطفة المشبوبة والحس المخدر، إلى حيث تدري أو لا تدري، فوق ألسنة من لهيب يحرق ولا يميت، ووراء الصوت المدوي في الأعماق، والجوع الذي لا تشبعه النظرات، والظمأ الذي لا يصل إليه الارتواء أبدا.
وجعلت لقلب المرأة لسانين فصيحين بارزين في أجمل مكان من صدرها؛ يصرخان في ظمأ قاتل، ويبحثان في جهد لا يلغه النصب عن طيف الحبيب المجهول؛ بمعان من كبرياء الجمال، وألفاظ من دلال الحسن، وتعابير من اهتزاز ساحر عنيف وراء الغلائل الشفافة التي تكبح جماحهما، كما تكبح اللجم الجياد، فيتراءى من خلفها جمال الربيع الدائم ومعانيه.
سبحانك يا إلهي! لقد أشعت في الطبيعة الجمال البكر الفاتن؛ يتجدد ولا يفنى؛ واختصرت هذا الجمال الأبدي البديع في أروع ما صنعت يداك؛ فخلقت المرأة وجعلتها الرمز الخالد لأسرار الطبيعة وجمالها، وجلالها، وجبروتها، وفتنتها، فكانت المعجزة السرمدية الأولى والأخيرة التي شاءت قدرتك أن تكون صورة مصغرة لأروع ما في الوجود؛ جعلت الظلام الحالك شعرها حينا، وذهب الأصيل حينا آخر، والنور المشرق وجهها، والبانة قوامها، وعبير الأزاهير أنفاسها، وحمرة الشفق وجنتها، واللؤلؤ ثناياها، وأوراق الورود شفتيها، ثم اختصرت كل هذا الجمال العبقري المركز لتصنع به عينيها؛ فتدافعت بالمناكب وراءهما أطياف مجنحة من الماضي والمستقبل ونواميس الطبيعة وأسرار الغيب وجمال الوجود.(990/25)
وحين ترسل المرأة رسالة الحب الأولى إلى القلب الظامئ الخلي من أطراف عينيها، إنما تبعث إليه بأطياف عابرة من سعادة السماء في جنات الخلود وفردوس النعيم.
وحين يحكم الحب القلب الإنساني وتجلس حواء على عرش الحب فيه، إنما تحمل إليه أقوى ما في الطبيعة من جبروت العواصف العاتية، والبراكين الثائرة، والأنواء المزمجرة، والبروق الخاطفة، والرعود المقهقهة، وتشيع فيه فتنة الربيع، وجمال الشفق، وسحر الفجر، وخرير الأمواه، وأغاريد الطيور.
لقد أوشكت حواء يا إلهي أن تنازعك السلطان في الأرض وتصرف عن حبك القلوب؛ عبدها البشر في طفولة الحياة الإنسانية، وشادوا لتلك العبادة الهياكل والمعابد، وما زالت عبر العصور معبودة القلوب؛ هياكل القصور الباذخة، والأكواخ المتواضعة، والخيام الساذجة؛ تركع الحياة ذليلة على أقدامها؛ تعز وتذل، وترفع وتخفض، وتهز الدنيا إذا شاءت بيسارها.
والمرأة كالمرآة الصافية الأديم؛ تظهر جوهر القلب الذي يحمل حبها، فيتراءى في ذلك الجوهر وراء الضباب الكثيف من الدم واللحم، صافيا نقيا. ولذلك كان الحب محك الصفات، وميزان السجايا، ومقياس الضمير؛ فلكم انخفضت نفوس وارتفعت أخرى حين أتصل بها حب المرأة في الحياة.
وكلما تحركت مواكب الربيع المعطار في أعراس الطبيعة؛ توقظ الحياة وتحركها في مواعيدها التي لا تتبدل، أقبلت مواكب القلوب الظامئة في زوارق الشباب، تعبر عباب الزمن إلى الضباب الكثيف وراء الأفق البعيد المجهول.
لم تكن الفنون الجميلة في حقيقتها إلا القرابين؛ قدمتها القلوب راكعة أمام طيف المرأة الساحر الجميل في عصور التاريخ: فالموسيقى، والشعر، والرسم، والنحت، والتمثيل، والغناء، ليست غير الأنين القاتل انبعث من حناجر القلوب، وهي ترفرف محترقة، حائمة، حول قلوب بنات حواء، اللائي قد أقمن حولها ألسنة محرقة من لهيب الجحيم.
شد ما يلقي القلب الذي تناديه المرأة للحب من عذاب في حبها؛ يراها في أحلامه، ويرتسم وجهها الجميل على كل ما تبصر عيناه، ويتردد اسمها مع الوجيب وراء ضلوعه؛ فكأنما استطاعت نظرتها الأولى أن تحمله إلى عالم قفر لا يرى غيرها فيه.(990/26)
وتبقى الحياة لغزا مبهما غامضا أمام القلب الإنساني حتى تشرق شمس الحب فيه من نظرة امرأة؛ فإذا الدنيا، وإذا الحياة غير الحياة، وإذا السماء تتلاقى مع الأرض لتملأ جوانبها بكل ما فيها من خير ونعيم.
لقد كان العباقرة والشعراء والفنانون من صنع المرأة، وكان المجرمون والمحتالون والأشرار من صنعها ايضاً؛ وكلما رأيت إنسانا قد رفعته الحياة على هامتها، فابحث عن اليد الناعمة التي رفعته إلى ذلك المكان؛ وإذا رأيت إنسانا آخر يهوي في الجحيم، ففتش عن القدم الناعمة التي سحقته تحتها، في غير ما رحمة إلى حيث لا يعود.
والمرأة كتلة محترقة من الإحساس الدقيق العنيف، متطرفة إلى أبعد غايات التطرف، لا تعرف الاعتدال ولا ترى إلا عند الطرفين المتناقضين. فإذا اضطرم قلبها بالحب ضحت بكل شيء وبحياتها في سبيل الحبيب، وإذا خفق ذلك القلب بالبغض وعاش الحقد فيه، انقلبت إلى عملاق لا يعرف الرحمة ولا يعرف الحدود في طريق الحقد والانتقام والأذى.
وحواء كالعاصفة لا تهدأ أبدا؛ تهز كل ما حولها هزا عنيفا، شأنها في ذلك شأن الإعصار المدمر العاتي، وهي كالنار تحرق نفسها، وتحرق كل شيء حولها.
وحين خلق الله وجه المرأة، كما يقول الرافعي، رضوان الله عليه، طوى أشعة القمر بعضها إلى بعض فكون منها ذلك الوجه المشرق الجميل، وانتزع من أعماق الشمس كتلة ملتهبة أودعها وراء قلبها، وغدت بالفطرة في سجيتها نورا ونار، نسمة وإعصار، بناء وتدميرا.
لقد نزل بالأمس القريب في سبيل المرأة ملك عن عرش الأرض ليجلس على عرش الحب في قلبها، ولكن العواصف التي هبت عليه من بين جوانحها، حالت بينه وبين الوصول إلى ذلك العرش الخالد، فعاد أدراجه، ينادي عليها في الفلوات بعد أن أدبرت عنه، ويجري في يأس قاتل وراء السراب في فيافي الحب وصحراء الخيبة.
أسعد إنسان في الوجود ذلك الذي تفتح له المرأة قلبها على مصراعيه ثم تغلقه بعد أن تجلسه على عرش الحب فيه. وحين تغلق المرأة قلبها على حبيب، لا تستطيع قوة في الوجود أن تخرجه منه، أو تضع إلى جانبه حبا جديدا.
لقد تكون الدر في أصدافه تحت أمواج البحر للمرأة، والذهب والأحجار الكريمة في طبقات الأرض للمرأة، وكل ما تنبت الأرض من ورود ورياحين وطيب للمرأة، وكل ما تنتجه(990/27)
العبقرية الفنية من صناعة ونسيج للمرأة، وكل ما يشاد من قصور المرمر للمرأة.
لقد شيدت قصور الحدائق المعلقة في بابل القديمة لامرأة، وتاج محل في الهند لامرأة، وقصر الحمراء في الأندلس لامرأة، وتهدمت يد لادي هاملتون فأزاحت الستر عن عبقرية الأميرال نلسون، ويد جوزفين عن نابليون، وبياتريس عن دانتي، وكليوبطرة عن يوليوسس قيصر، وليلى عن المجنون.
إن عين المرأة دائبة البحث في الحياة عن مجنون يهيم بحبها، ولكل امرأة في حياة قلبها مجنون يهيم بها وتهيم به في حب صحيح. والمرأة حين تبحث عن ذلك المجنون فلا تراه في حياتها، إنما يكون ذلك إيذانا بانهزامها من الحياة وفشلها، وحين تفشل المرأة في الحب، يقودها الفشل إلى طريق القبر الموحش الحزين، وتنطوي على نفسها في صمت كئيب قاتل طويل، يذهب ربيع الحب منه، ويقبل الخريف عليها فيه فتذوي معه كما تذوي أوراق الدوح في قبضة الأعاصير.
الحب حياة المرأة، وما أقسى تلك الحياة إذا لم تعثر المرأة فيها على الحبيب في مسالك الوجود! وما أشد تعاسة القلب، تجمعه روابط الزواج بامرأة، ويلاقيها في أجمل ليلة في الحياة، وهي كلزنبقة البيضاء العاطرة في ملابس عرسها، على غير أساس من الحب الصحيح المجرد عن معاني التراب.
الحب هبة السماء إلى الأرض، وصفو الحياة ونعيمها، وهو هبة القلب إلى القلب، ولا يستطيع الذهب والجوهر العثور عليه في الدنيا.
لقد ابتدأت الحياة بامرأة واستمرت بامرأة وستنتهي بامرأة حين تشاء القدرة أن يزول الوجود.
علي محمد سرطاوي(990/28)
زعماء التاريخ
مصطفى كمال أتاتورك
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
(لم يكن مصطفى كمال. رجلا من رجال المصادفة والحظ. يرفعه إلى البطولة خلو الميدان. ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل والحيوية للشعب الذي يأبى أن يموت. . .)
(الزيات بك)
- 3 -
انتقل مصطفى كمال إلى دمشق. . مبعدا عن القسطنطينية. وكان السلطان يظن بذلك أنه لن يستطيع أن يواصل عمله ونشاطه. . وأن صلته بأقرانه قد انقطعت. . وأن وجهوده قد توقفت - ولو إلى حين -!!
ولكن كيف تهدأ نفس (مصطفى) الثائرة، وتخبو آماله العريضة، وتسكن حركته المتدفقة!
لقد بدأ يواصل عمله ونشاطه في دمشق وبيروت. . واتصل (بمفيد لطفي) وهو أحد زملائه القدامى. . في المدرسة الحربية. . وأحد مؤسسي فروع الجمعية في بلاد الشام. . . كما اتصل بقائد ميناء (يافا) وكان مناصرا لأعضاء الجمعية وظل مصطفى يطوف بمختلف بلاد الشام. . داعيا إلى إصلاح الإمبراطورية العثمانية - مركز الخلافة الإسلامية.
ولكن أهل هذه البلاد من العرب. . لم يحفلوا بدعوته. . وكان معظمهم ثائرين. . لا من أجل حرية تركيا. . ولكن من أجل حرية بلادهم. . ومنذ ذلك الحين بدأ مصطفى كمال ينظر إلى وطنه مستقلا عن بقية أجزاء الإمبراطورية. . ووضع أساس سياسته الذي سار عليه طول حياته (تركيا. . للأتراك).
وفي الوقت الذي أبعد فيه مصطفى كمال عن القسطنطينية. . تكونت عدة جماعات وطنية منها (جمعية الاتحاد والترقي) التي كان هدفها الرئيسي وضع دستور للبلاد. . فلما سمحت له الظروف بالعودة إلى وطنه. . أراد أن يشترك في هذه الجمعية ولكنه لم يكن على وفاق مع زعمائها. . ولذلك فضل العمل بمفرده.(990/29)
وفي سنة 1908م. . قامت ثورة في تركيا الفتاة. . التي انتهت بالحصول على الدستور ولم يكن لمصطفى نصيب في هذه الثورة.
وحينما نشبت الحرب بين إيطاليا وطرابلس. . رأى أن يتطوع لمعاونة القوات الوطنية التي تحارب الغزاة الإيطاليين. . وقد استطاع الوصول إلى ميدان الحرب. . رغم معارضة الحكومة العثمانية. . وتضييق الرقابة الإنجليزية. . المسيطرة على مصر في ذلك الحين. . وظل يعمل في الميدان الجديد إلى أن نشبت الحرب البلقانية. . ضد تركيا سنة 1912م.
وحينما نشبت الحرب الكبرى. . انضمت تركيا إلى ألمانيا. فاشترك مصطفى كمال في هذه الحرب. . وقام بنصيب كبير في الدفاع مع بلاده حتى وصل إلى مرتبة الزعامة الحربية. . رغم معارضة وزراء الحربية له. ووقوفهم في وجهه. . وإبعاده في كثير من الأوقات عن ميادين القتال. . وقد حاول الإنجليز مرتين اقتحام الدردنيل. . ولكنه استطاع أن يردهم المرة تلو المرة. . حتى تراجعوا في 14 ديسمبر سنة 1915. . . ولذلك أطلق عليه اسم (منقذ الدردنيل)
وكان مصطفى كمال يحمل على الألمان حملة شعواء. . ويقول (إنه من الحمق والجنون أن نسمح للأجانب بالسيطرة على الجيش)، وهو عدة الحياة لنا. . يجب علينا نحن الأتراك. . أن ننهض بجيشنا. وإنها لإهانة للوطن كله أن ندعو ضباطا بروسيا ليتولى عنا تنظيم جيشنا. .)
وحينما انتهت الحرب. . خرجت تركيا مهزومة ذليلة. . وكانت النكبة الكبرى على الدولة العثمانية احتلال اليونان لمنطقة أزمير - فقد كان ذلك يبعث في نفوس الأتراك ألما وحسرة وقلقا. . ويدعو إلى التشاؤم. . والخوف من المستقبل.
خرجت تركيا من الحرب مهزومة ذليلة. . فأنتهز اليونانيون الفرصة. . وطلبوا من الحلفاء أن يسمحوا لهم باحتلال أزمير.
وفي الخامس عشر من شهر إبريل سنة 1919م. . بدأت الجيوش اليونانية تنزل أرض الأتراك - الذين كانوا بالأمس القريب سادة عليهم - وقد اقترن نزولهم في هذا الميناء بالوحشية والقسوة. . فاعتدوا على الأهالي المسالمين. . وقتلوا عددا كبيرا من الجنود الأتراك. . وقد رأت الكاتبة الفرنسية مدام جوليس ما حدث عند نزول اليونانيين في(990/30)
أزمير. . فتقول في مذكراتها:
(بدأ اليونانيون ينزلون إلى البر. . وقد انتظموا صفوفا يتقدمهم علم يوناني كبير. . وازدحمت على جانبي الطريق الخالي من الأتراك. جموع من الأروام. . وقفت تهتف للقائد اليوناني الكبير - فنزيلوس - وكانت وجهة المحتلين والمتظاهرين. . الثكنة العسكرية التركية. . التي آوى إليها جنود الحامية التركية مع عدد عظيم من الضباط. . والشبان القدمين للاقتراع. . وكان جنود الحامية قد سلموا أسلحتهم تنفيذاً للأوامر. . وما هي إلا فترات قصيرة حتى أحاط الجيش المحتل بالبناء. . ثم دوت طلقة من أحد المتظاهرين كانت إيذانا بحركة فاجعة. . فقد صوب المحتلون مدافعهم. . فطارت مصاريع النوافذ الزجاجية. . وامتلأ الفناء بجثث القتلى والجرحى. .
وحاول الأتراك المحاصرون أن يدافعوا عن أنفسهم. . فاخذ أحدهم قطعة قماش رفعها. . وسار صائحا في إخوانه. . كي يتبعوه، ولكن نيران المدافع كانت أقوى من بسالتهم، فمات منهم كثيرون)
يقول المؤرخ الإنجليزي الكبير هربرت فشر (قد يتحمل الأتراك احتلال أية دولة لأزمير، أما أن تخفق الراية اليونانية الحقيرة المزدراة فوق أي صقع من أصقاع آسيا الصغرى، فكان يعد من جانب كل تركي وطني صميم إهانة لا تغتفر ولا تطاق ولذا أثار نزول الجيش اليوناني في أزمير موجدة الترك، وأهاج حفيظتهم، وأذكى في نفوسهم تصميما على مقارعتهم، وأتاح لمصطفى كمال، منقذ الدردنيل وأنبغ قواد الجيش التركي، الفرصة لخلق دولة تركية مستقلة لخلق دولة مستقلة جديدة)
نظر مصطفى كمال إلى الحالة السيئة التي وصلت إليها بلاده. . فلقد أبعد الأتراك عن قناة السويس. . وطرد من العراق وسوريا وفلسطين. . وألقى الأسطول الإنجليزي مراسيه في مضيق الدردنيل. . . وغدا السلطان دمية في أيدي الساسة البريطانيين. . ولم يبق للأتراك سوى آسيا الصغرى التي أحتل اليونانيون جزءاً منها. . وبدأ مواطنوه يخضعون للحكم الأجنبي، ويفقدون الثقة في حاضرهم ومستقبلهم. . ولا يفكرون في وسائل الخلاص!!
ومع هذا الفساد في الحكم. . والتشاؤم من المستقبل المظلم. . بدأ مصطفى كمال يفكر تفكيرا جديا في تحرير وطنه. وتخليص بلاده. وبعث الشعور القومي من جديد.(990/31)
وكان برنامجه يقضي بالعمل على استقلال تركيا استقلالا كاملا. . ثم تنظيم الحياة القومية تنظيما مستمدا من أصول الحضارة الغربية.
أخذ مصطفى كمال يبث الدعوة إلى فكرته. ويجمع المخلصين حولها. . وكان مما حدث أن قابل السلطان - وحيد الدين - وحدثه عن آلامه. . وحاول أن يبث فيه الجرأة والصلابة. . ولكن السلطان خاف على مركزه ونفوذه. . وخشي أن يغضب الدول الكبرى. . ولذلك رفض مساعدة مصطفى كمال.
وحينما شعر المراقبون الأجانب، بهذه المساعي التي يبذلها، والجهود التي يقوم بها. خشوا أن يكون لحركاته أثر في القسطنطينية عاصمة الدولة. ومصدر توجيه الأمة. . ولذلك عملوا على محاربته (ومقاومة حركته) وذلك بإبعاده عن العاصمة. .
البقية في العدد القادم
عبد الباسط محمد حسن(990/32)
أبو العتاهية
للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي
انتهينا من بيان الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ما حدث من انقلاب في حياة شاعرنا سنة ثمانين ومائة للهجرة، وعرفنا أن أهمها هو شعوره بالضعة لما كان من وضاعة آبائه وأجداده، وما استتبع ذلك من حقد على ذوي الجاه والنفوذ في عصره، وسخط على الحياة والأحياء عامة. وثانيهما نقمته على هارون وبغضة له. وثالث تلك الأسباب هو تدخل الفضل بن الربيع وزبيدة وتشجيعهما للشاعر على الثورة ضد الخليفة.
واليوم تبدأ المرحلة الثانية في دراستنا وهي الثيام بجولة في شعره لنرى مدى انطباق ما قدمنه من نظريات على تلك الأشعار، ولنبدأ بما كان من شعر الشاعر خاصا بهارون. ولعل القارئ الكريم يتوقع مما ذكرناه آنفا أن يرى لأبي العتاهية في هارون نوعين مختلفين من الشعر: شعر ينبعث من نفس مليئة حقدا على الخليفة لما كان من تثاقله في أمر عتبة ثم ما كان من حبسه للشاعر في غير جريرة اللهم إلا استعماله لحقه الطبيعي من الامتناع عن الغزل. وشعر من نوع آخر لا ينفس به الشاعر عن نفس مغيظة أو عواطف مكبوتة، ولكن يحاول فيه أن يفي للفضل وزبيدة بما أخذه على نفسه من تسخير ملكته الشعرية لخدمتها.
وقد كان النوع الأول يتمثل في تأليب الناس على الخليفة أملا في تقويض ملكة وزوال سلطانه، ويتمثل أيضاً في تلك الأشعار الكثيرة التي كان يرجو فيها للخليفة موتا عاجلا يريحه ويريح منه، فمن ذلك تلك الأبيات التي أرسلها الشاعر إلى خزيمة بن خازم أحد قواد الرشيد الأكفاء والتي يقول فيها:
ألا أن تقوى الله أفضل نسبة ... تسامى بها عند الفخار كريم
إذا ما اجتنبت النفس إلا على التقى ... خرجت من الدنيا وأنت سليم
أراك أمرأ ترجو من الله عفوه ... وأنت على مالا يحب مقيم
تدل على التقوى وأنت مقصر ... أيا من يداوي الناس وهو سقيم
وأذللت نفسي اليوم كيما أعزها ... غدا حيث يبقى العز لي ويدوم
والأبيات كما هي الآن مجردة من تعليق الرواة لا توحي بان وراءها معنى خاصا، وما هي إلا كغيرها من القصائد الكثيرة التي يمر بها القارئ في ديوان أبي العتاهية ويأخذها على(990/33)
أنها نوع من الوعظ لم تقصد به شخص بذاته ولا يهدف إلى غرض بعينه حتى أن جامع الديوان قدم لها بقوله (وقال في تقوى الله وحسن منافعها وحميد عاقبتها) والآن انظر المناسبة التي قيلت فيها حتى تعرف بالتحديد قصد الشاعر بها: وإليك ما يرويه الأغاني في بيان تلك المناسبة: (حدث حبيب بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه قال: كنت في مجلس خزيمة فجرى حديث ما يسفك من الدماء فقال: والله عذر ولا حجة إلا رجاء عفوه ومغفرته. ولولا عز السلطان وكراهة الذلة وأن أصير بعد الرياسة سوقة وتابعا بعد ما كنت متبوعا ما كان في الأرض ازهد ولا أعبد مني. فإذا هو بالحاجب قد دخل برقعة من أبي العتاهية مكتوب فيها الأبيات السالفة فغضب خزيمة وقال: ولله ما المعروف عند هذا المعتوه الملحف من كنوز البر فيرغب فيه حر. فقيل له. وكيف ذلك؟ فقال: لأنه من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)
يظهر أن خزيمة كان يجلس إلى نفر من الشيعة أو غيرهم من الطوائف التي كانت تنقم من هارون ميله لسفك الدماء، ويظهر أنهم لاموا خزيمة في تعاونه مع هارون لما يرتكبه الأخير من مظالم. والأبيات واضحة في معناها وفيها يثبط الشاعر خزيمة عن مناصرة الرشيد ويذكره بآخرته ويبين له أن الفخر إنما هو في التقوى والعز الحقيقي إنما هو عز الآخرة لا الدنيا.
وإليك أبيات أخرى من قصيدة قالها الشاعر وهو في سجن الخليفة وفيها يقول.
أما والله أن الظلم لؤم ... وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غدا عند الإله من الملوم
سينقطع التروح عن أناس ... من الدنيا وتنقطع الغموم
تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نؤوم
تموت غدا وأنت قرير عين ... من الغفلات في لجج تعوم
ومع أن القصيدة تسعة عشر بيتاً فنحن نعتقد أن الشاعر إنما أرسل منها إلى الرشيد الأبيات الأخيرة فقط واحتفظ بالباقي لنفسه، لا كما يذكر الرواة من أنه أرسل القصيدة بتمامها إلى هارون، ولو أنه فعل لأستوجب سفك دمه. الأبيات الأخيرة التي أرسلها تروي هكذا:(990/34)
ألا يا أيها الملك المرجى ... عليه نواهض الدنيا تحوم
أقلني زلة لم أجر منها ... إلى لوم وما مثلي ملوم
وخلصني تخلص يوم بعث ... إذا للناس برزت الجحيم
وشبيه بذلك تلك الأبيات التي يقوم فيها الشاعر:
أراك لست بوقاف ولا حذر ... كالحاطب الخابط الأعواد في الغلس
أنى لك الصحو من سكر وأنت متى ... تصح من سكرة يغشاك في نكس
ما بال دينك ترضى أن تدنسه ... الدنيا وثوبك مغسول من الدنس
ويروي أبو الفرج أن أبا العتاهية أنشد الرشيد بعض أبيات هذه القصيدة حين قال به الأخير: عظني فقال الشاعر. أخافك فقال له أنت آمن فأنشد:
لا تأمن الموت في طرف ولا نفس ... إذا تسترت بالأبواب والحرس
واعلم بان سهام الموت قاصدة ... لكل مدرع منها ومترس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
ووجه الشبه بين القصيدتين أن كلا منهما تحتوي على أبيات فيها اعتدال، ولذا أمكن إنشادها للرشيد وأخرى لم ينشدها الشاعر لما فيها من المظاهر الحقد والضغينة ولكنها في الوقت نفسه تبين لنا رأي الشاعر في الخليفة وعواطفه نحوه، وإننا لنرجح أن الشاعر قد قال في هارون مقطوعات شعرية غير التي أسلفنا عبر فيها عن بغضه له وحقده عليه، ولكن الرواة لم يهتدوا إلى غرض الشاعر منها حيث أنها لم تقترن بما يميزها من ظروف وملابسات على نحو ما حدث في الأمثلة السابقة، فنحن مثلا لا نشك في أن أبا العتاهية كان يقصد الرشيد حين قال:
حتى متى تصبو ورأسك أشمط ... أحسبت أن الموت في اسمك يغلط
أم لست تحسبه عليك مسلطا ... وبلى وربك أنه لمسلط
ولقد رأيت الموت يضرس تارة ... جثث الملوك وتارة يتخبط
إلى آخر ما قاله في تلك المقطوعة، وإنما ذهبنا هذا المذهب لأن هارون الرشيد كان إذ ذاك الشخص الوحيد الذي له من السلطان والسطوة ما يمكن معه أن يشك في تسلط الموت عليه إن الحق لشخص ما أن يشك في تلك القضية، كما ذكر الملوك في البيت الثالث يرجح أنه(990/35)
كان يعني بما يقول واحداً منهم، على أن الشاعر يبدي لنا رأيه في الرشيد بصراحة وذلك في أبيات يبدؤها بقوله:
إن الملوك بلاء حيثما حلوا ... فلا يكن لك في عيش لهم ظل
ومما يحمل على الاعتقاد بان أبا العتاهية إنما كان يعني بما يقول هارون ما أخذه الشاعر على الملوك من الملل حين يتحدث إليهم متحدث، واتهامهم الناصح بالغش وذلك يمثل حال الشاعر مع الرشيد بالذات، لأنه الخليفة الوحيد الذي كانت علاقته بالشاعر تسمح بمسامحة أحدهما للآخر، ومن ثم تعطي فرصة لحديث معاد مملول أو نصيحة غير مقبولة.
والآن وقد وقف القارئ الكريم على طبيعة ما كان بين أبي العتاهية والرشيد من علاقة يسرنا أن نشركه معنا في تدبر القصة التالية: يروي أبو الفرج أن رسول ملك الروم قدم إلى الرشيد فسأل عن أبي العتاهية وأنشد شيئا من شعره وكان يحسن العربية، فمضى إلى ملك الروم وذكره له فكتب ملك الروم إليه ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية يأخذ فيه رهائن من أراد وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في أمر سفره فأباه، واتصل بالرشيد أن ملك الروم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه وباب مدينته وهما:
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
ألا لنقل السلطان عن ملك ... قد انقضى ملكه إلى ملك
ألا توافقنا على أن في هذه القصيدة شيئا من الغرابة؟ فإذا صح أن سفير الروم كان يعرف العربية وكان لذلك يتذوق شعر أبي العتاهية فما بال ملك الروم يتطلع إلى سماع شعر أبي العتاهية هو الآخر؟ فهل كان يعرف العربية أيضا؟
ومهما يكن من شيء فنحن نشك في أنه كان متحمسا لشعر أبي العتاهية تحمسا يدعوه إلى أن يلح في طلبه ذلك الإلحاح، وأكبر ظني أنه كان يريد استغلال الشاعر استغلالا سياسيا على نحو ما تفعل الدول اليوم من اجتذاب أحد أبناء الشعوب المشتبكة في حرب معها إليها، وتسخيره للدعاية ضد الحكومة القائمة في وطنه. فما من شك في أن جواسيس كثيرة كانت تعمل إذ ذاك لصالح الروم وكانت تتخذ من بغداد مركزا لنشاطها، وما من شك في أن الروم كانوا على علم تام بأساليب تلك الدعاية وآثارها، ألا ترى أنهم استغلوا رجلا آخر(990/36)
قبل أبي العتاهية وهو يونس بن أبي فروة الذي كتب لهم كتابا فيما أخذه الإسلام من معايب بزعمه. فما الذي يمنعهم حين علموا ما علموا عن بغض أبي العتاهية للرشيد من استقدامه إليهم وإعطائه فرصة كاملة لتسجيل ما كان يأخذه على الرشيد من ميل إلى اللهو وعكوف على الملذات واستهتار بالدين. وليس هناك أدنى شك فيما كان يمكن أن تحدثه تلك الأشعار من أثر شيء في روح جيش الرشيد المعنوية، فقد كان كثيرا من أولئك الجنود يذهبون إلى حرب الروم والحماسة الدينية تملأ صدورهم لما يعتقدونه من عدالة القضية التي يدافعون عنها، ولكن حين يتضح لهم أن حليفة المسلمين وحامي حمى الإسلام وقائد تلك الحملات ما هو ألا رجل خليع مستهتر وليس له من مظاهر الدين إلا احتراف الحروب ضد الروم فستخبو حماستهم وتضعف عزائمهم وتتفرق كلمتهم. ونحن لا نستبعد أن يكون ملك الروم إنما أعجب بالبيتين اللذين ذكرا فيما سبق لما يبشران به من موت الرشيد، ذلك الخصم العنيد الذي فشلت جيوش الروم في صد غاراته أو وقف حملاته. هذا ويذهب البروفيسور جيوم إلى أن ما أورده الأغاني خاصا بما كان بين ملك الروم وأبي العتاهية من مكاتبات وما كان من إعجاب الأول بشعر الأخير ليس إلا محض اختلاق أراد به مختلقة أن يبرهن على أنه كان من بين ملوك المسيحيين من هو أشد حرصا على سماع الموعظة الحسنة من ملوك الإسلام.
وإنا إذ نترك الكلمة الأخيرة في تلك المسالة إلى القارئ الكريم ليسرنا أن نعود معه إلى تلك القصائد والمقطوعات التي كان الشاعر يهدف فيها إلى تنفير الرشيد من اللهو والعبث وفاء بما قطعه على نفسه للفضل وزبيدة من عهود. وأول ما يلاحضه الباحث على تلك المقطوعات هو كثرتها وتنوعها، وقد أدى إلى كثرتها وتنوعها على تلك الصورة ما كان من ميل الشاعر الطبيعي إلى ذلك النوع من الشعر الوعظي، فقد كان ذلك اللون من الشعر يستهوي العامة فيجمعهم حول الشاعر ويزيد في حبهم واحترمهم له، وفي ذلك تعويض لما يحسه من ضعة نتيجة لضعة آبائه وأجداده.
وقد كانت طريقة الشاعر في وعظ الرشيد تختلف من وقت لآخر تبعا للمناسبات، فهو حينا ينهاه عن اللهو نهيا مباشرا وحينا يذكره بما أصابه من شيب وأحيانا يبصره بما لا بد أنه ملاقيه من موت. وهكذا تعتقد أن الشاعر كان يخاطب الرشيد بكثير من المقطوعات التي(990/37)
تنهي عن اللهو واللعب كتلك التي تبدأ:
أنلهو وأيامنا تذهب ... ونلعب والموت لا يلعب
أسلك بني مناهج السادات ... وتخلقن بأشراف العادات
على أنه إذا كان هينا لينا في المقطوعتين السابقتين فقد يصل أحيانا إلى حد الإزعاج كما في قوله:
أيامن بين باطيه ودن ... وعود في يدي غاو مغن
إذا لم تنه نفسك عن هواها ... وتحسن صوتها فإليك عني
فإن اللهو والملهي جنون ... ولست من الجنون وليس مني
وأي قبيح اقبح من لبيب ... يرى متطرباً في مثل سني
إذا ما لم يتب كهل لشيب ... فليس بتائب ما عاش ظني
ولعلنا لا نكون قد ذهبنا بعيدا إذا ادعينا أن بعض تلك المقطوعات كان ينشد بصورة جمعية، ومن يدري لعل زبيدة كان لديها من الجواري من يقوم بإنشاد تلك الأشعار في جانب من جوانب قصر الخلاقة لترد بذلك على ما كان ينشد في الجانب الآخر من أناشيد الحب والغزل، ألا توحي موسيقى المقطوعتين التاليتين أنهما إنما أنشئتا لذلك الغرض
أنظر لنفسك يا شقي ... حتى متى لا تتقي
أو ما ترى الأيام ... تختلس النفوس وتنتفي
خير الرجال رفيقها ... ونصيحها وشقيقها
والخير موعده الجنا ... ن وظلها ورحيقها
والشر موعده لظى ... وزفيرها وشهيقها
وليس ذلك بغريب على زبيدة، ألا ترى أنها عهدت إلى مائة من جواريها بقراءة القرآن في قصرها ليلا ونهارا، وما نظن أن ذلك العمل كان خالصا لوجه الله تعالى وإنما كان للغرض الذي أشرنا إليه في السطور السابقة.
وقد أعتمد الشاعر في تنفيره من الملاهي والملذات على مخالفتها للدين ومجانبتها للآداب العامة، وكان ينظر إليها في بعض الأوقات نظرته إلى ضرب من ضروب الجنون الذي لا يليق بالعقلاء من أمثاله! فكيف بخليفة رسول الله وابن عمه وولي أمر المسلمين من بعده.(990/38)
وأخيرا ينتهي عنها لما تعقبه من حسرات أو تصيب به من فساد وتحطيم.
أما شيب الرشيد المبكر فقد أعطى الشاعر فرصة كاملة لوعظه والإلحاح عليه في ذلك إلحاحا مملا. فاللهو في رأيه من شأن الشباب؛ أما الشيوخ فالوقار والتدين أولى بهم، ألم يجعل القرآن سن الأربعين الحد الفاصل بين حياة اللهو وحياة الجد إذ يقول (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه) ولم لا والشيب نذير الموت بل هو الموت بعينه:
الشيب إحدى الميتتين تقدمت ... إحداهما وتأخرت إحداهما
ويزعم الشاعر أن المرء بالذات في شيخوخته كما كان يشعر بها في شبابه، ففيم إذن يرتكب الآثام وينتهك الآداب:
وإذا كبرت فهل لنفسك لذة ... ما للكبير بلذة متمتع
ونحن لا نشك فيما كان يصيب هارون من ضيق وارتباك عند سماع تلك الأشعار؛ ألا ترى ما فعله بأحد المغنين حين غناه:
وأرى الغواني لا يواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا
وقد أمر الخليفة به فسحب على وجهه وأخرج من المجلس وقال له: يا ابن الفاعلة أتعرض بي في عنائك؟
وإنا إذ نختتم هذا المقال لنرجو أن نعود إلى استئناف الكتابة في هذا البحث بعد أسابيع قلائل أن شاء الله تعالى
محمد عبد العزيز الكفراوي(990/39)
رسالة الشعر
موكب العيد. .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
يا حبيبي أقبل العيد وضئ القسما
وتجلى مشرق الطلعة حلو البسمات
كسماء تتلألأ بالنجوم النيرات
أو كزهر ماج بالأشذاء فوق الربوات
فاستفق يا ناعس الطرف ويا حلو التثني
ومع الأطيار فوق الدوح هيا لنغني
يا حبيبي أي عيد طاف بالزوراء ضاح
عاطر الأنفاس كالبهجة منشور الجناح
أهو (الفطر) وذي ضجة أعراس الملاح
أم ترى موكب (آذار) تهادي في البطاح
هاتفاً بالفرحة الكبرى وباللحن المرن
صادحاً في كل قلب، هازجاً في كل أذن
يا (هنائي) أنت لي عبد مع العيد سعيد
حبك الملهم لي فجر على شعري جديد
أنت هذا الوتر الشادي بقلبي والنشيد
أنت هذا النغم المسحور والنور الوليد
أنت أنغامي وأحلامي وأقداحي ودني
أنت عطر عبق الشعر به بل كل فن
يا (هنائي) سئم الليل اصطباري واشتياقي
كم شربت السهد - والشوق معي - مر المذاق
ونديمي القمر الولهان، والسلوان ساقي
أتملاك على البعد، فأهفو للتلاقي(990/40)
وأغني يا منى نفسي ما هذا التجني؟!
أو ما يكفيك تسهيدي وتشريدي وسجني
أو ما تكفيك آمالي على كفيك تطوى؟
أو ما تشجيك أحلامي على النار تلوى؟
أو ما يرضيك وأزهاري على الأشواك تذوي؟
صرت من حبك مأساة على الأيام تروي
رددت أصداها الأطيار من غصن لغصن
وإذا بي دمعة مخنوقة في كل جفن
عني يا (دجلة) أنغام الصبايا الفرحات
وانشري الفتنة في الوادي، وفوق الربوات
شاركي (بغداد) بالأنس، وهاتي النغمات
نحن في عيد تحلى بالأماني النضرات
وتجلى فوق (بغداد) وضيئاً كالتمني
كيف لا يطرب سمع الكون من سحر التغني
هو عيد عم دنيا الشرق، والشرق وضئ
فتجلى فيه نور من هداه قدسي
وهو عيد مثل أنغامي وأوتاري شجي
عيد عزكم تمناه إلى الشرق الأبي
وكم اشتاقت إلى ضاحي سناه كل عين
فعمى يغمر وجه الشرق منه ومض حسن
عبد القادر رشيد الناصري(990/41)
الكتب
أسس الاصطلاح العالمي
تأليف الأستاذ محمد عبد الغني
للأستاذ منصور جاب الله
منذ أربعين عاماً أو تزيد، والأستاذ محمد عبد الغني يعمل منافحاً لنشر الدعوة الإسلامية على حقيقتها داعيا إلى الأخذ بتعاليم الإسلام في كل شأن من شؤون الحياة، مستصرخا الحكام وولاة الأمر أن يهبوا للإصلاح على أسس قويمة من الدين الحنيف والشريعة السمحة.
وعلم الله أننا ما بصرنا بالأستاذ محمد عبد الغني متوانيا ولا متخاذلا في نشر رسالته رغم المعوقات والمخذلات التي وضعت في طريقه، فهو على الدوام يخطب في المساجد والجوامع، أو يراسل أولي الشأن في المهم من الأمور، أو يحبر المقالات المطولة وينشرها في الصحف، أو يؤلف الكتب حسبة لوجه الله لا يبغي كسبا ماديا ولا ربحا ماليا.
ولقد قدمت لقراء (الرسالة) بعض مؤلفات الأستاذ محمد عبد الغني قبل سنوات ن وأبرزت النهج الفريد الذي اختطه المؤلف لنفسه، وألمحت إلى جرأته الشديدة في عرض وجهة نظره غير مبال بما قد يلحقه من أذى الحكام أو أوصاب الحياة.
واليوم يقدم لنا الأستاذ المجاهد أحدث مؤلفاته مختاراً له هذا العنوان (أسس الإصلاح العالمي على ضوء الهدى الإسلامي) ومن خلال العنوان يدرك القارئ الغرض السامي الذي يستهدفه مؤلفنا الفاضل، ولندع المؤلف يتحدث في مقدمته حيث يقول:
(أي إنسان ينظر إلى الإنسانية لا بالمنظار المركزي ولا بالمنظار الجنسي والمذهبي، بل بالمنظار العالمي الإنساني، يضع أمامه ذلك الاعتبار الذي وضعه الإسلام، واعتبار أن العالم كله على اختلاف ملله وأجناسه وأنواعه، وعلى تنائي دياره وأقطاره، يتصل بتلك الصلة الأولية العظيمة، صلة الأبوة والأمومة الأوليين، والذي يقدر تلك الوشائج الرحمية لا ينظر لأي أمة بالمنظار الأسود، منظار التحيز الممقوت، والتعصب الجنسي والوطني والإقليمي المرذول، بل ينظر إليها كأنها أمة شقيقة لأمته وكأن أفرادها إخوة له في(990/42)
الإنسانية وفي الفضائل والكمالات البشرية، وإذا تسامى عن التحيز والهوى تحاشى أن يندفع للأضرار بفرد مهما تكن تبعيته وملته وجنسيته ووطنيته، وإنه إن غفل عن تقدير هذا الشعور وتحامل على من يخالفه في الاعتبارات الشخصية والمركزية فقد تجرد عن القيم الروحية، تجرد عن الروح الإنسانية وانحدر إلى التعصب والى حضيض الوحشية)
بهذه الفكرة المتسامية بدأ المؤلف رسالته، ثم تحدث عن شقوة هذا العالم اللذي نعيش فيه وأورد بيانات إحصائية عن القتلى والجرحى والمنكوبين في الحربين العالميتين الماضيتين، وفي الحروب التي وقعت بينهما والتي تلتهما، واستطرد من خلال ذلك إلى أن ساسة العالم لو قد فاءوا إلى مثل روحية عليا لجنبوا الإنسانية كل هذه الموبقات.
ثم تحدث المؤلف عن حرب الموبقات والشهوات وما ينفقه كل شعب على شهواته المتلفة كالخمر والمخدر وما إلى ذلك، ثم عطف من ذلك الحديث إلى الحديث عن عظمة الإسلام وشهادة العلماء الأعلام من غير المسلمين بروحانية هذا الدين الحنيف، وكيف أنه الحصن الملاذ الذي يمكن أن يقي الناس جميعا من التردي في مهاوي التهلكة.
ثم تدرج من ذلك إلى تبيان أنواع العبادات في الإسلام وبسطها بسطا فلسفيا يدعو إلى الإعجاب، ووازن بينها وبين العبادات في الأديان الأخرى، وخلص من ذلك إلى أن الإسلام جماع الأديان كلها، انتظم فضائلها وجمع أشتاتها، فانصبت فيه الخلاصات الروحية بحسية آخر الرسالات السماوية.
وبعدئذ أنشأ المؤلف يسرد الأدواء التي حاقت بالإنسانية ويصف لكل داء ما يكفل شفاءه من آيات كتاب الله، ولقد أوفى الأستاذ عبد الغني من ذلك على الغاية حتى أنه استعان بكل ما في القرآن الكريم من الآيات البينات، وبدت تلك الكلمات القدسية كالوشي الصقيل على صفحة الخريدة الحسناء.
وأنحى المؤلف إنحاء شديداً على المدنية الغربية التي فرقت الناس شيعاً، ونشرت روح التعصب الديني والطائفي، ودعت إلى فض الخلافات بالقوة المسلحة، فأوغرت الصدور، وأرثت الحزازات، وإذا العالم يسير في طريق الفناء والدمار.
وعرج الكتاب بعد ذلك على مواقف السلف الصالح من أبناء الإسلام في تقويم المعوج، ونشر الإصلاح والنصح للخلفاء والعمال.(990/43)
وختم المؤلف كتابه بمقترحات توجه بها إلى ولاة الأمور، وأخص هذه المقترحات المطالبة بالرجوع إلى التشريع الإسلامي (فلو وفقنا للرجوع إلى الإسلام فقد وفقنا لإنقاذ الأمة مما تعانيه من الخطوب والكروب والويلات التي تستهدف معها لسخط الله وانصباب صواعق النقم على رؤوسنا) إلى آخر ما قال الكاتب بجرأته التي تسترعي الانتباه.
وفي مقدمة المقترحات التي عني بها صاحب (أسس الإصلاح) تأليف وزارة للشؤون الإسلامية تكون لها الولاية على إقامة الشعائر الدينية فتعاقب المسلم الذي يتوانى في أداء الفرائض من صلاة وزكاة وحج إن استطاع إليه سبيلا، وكذا تتولى القضاء على هذه البوائق التي ارتكس فيها المسلمون مندفعين وراء تيار المدنية الكاذبة، ويقوم على رأس هذه الوزارة - وزارة الشؤون الإسلامية - وزير يلقب بشيخ الإسلام - وهو غير شيخ الأزهر - (تكون له الهيمنة على شيوخ المعاهد وله السيطرة في الوزارة الإسلامية وعلى سائر الوزارات والهيئات فيما يتصل بالشؤون الدينية وتكون تحت إدارته قوة عسكرية لتنفيذ الأوامر الدينية) وبعد ذلك (يعين مجلس إسلامي أعلى تحت رياسة شيخ الإسلام لإعداد المؤلفات الدينية للرد على الطاعنين في الإسلام وعلى الطوائف الخارجة عنه) ثم اقترح (عقد مؤتمر إسلامي كل عام ينهض بالمسلمين) كما يرى حضرته (توسيع اختصاص المحاكم الشرعية على مثل الحكم الإسلامي في فجر الإسلام)
وبعد، فإن الأستاذ عبد الغني مستحق ولا شك كل إعجاب لهذا المجهود الذي بذل، وهذه الشجاعة الأدبية التي لم تتخل عنه في كل أطوار حياته، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين.
منصور جاب الله(990/44)
البريد الأدبي
بين أستاذين
جاءنا من الأستاذ كامل السيد شاهين رد على رد الأستاذ أحمد الشرباصي لا تلائم لهجته طبيعة الصداقة والزمالة بين الأستاذين الفاضلين، فرأينا أن نطويه معتذرين، إبقاء على المودة واكتفاء بما نشر
دعابة إلى الأستاذ علي الطنطاوي
ما يمنعك يا سيدي من أن ترحل على بعير، أو تقيم في خباء. . ما دمت تود مناجاة الرمال، ومرافقة الوحشة ثلاثة أشهر تنفقها في سخاء بين (دمشق) و (بغداد) فما الذي يقف حجاز بينك وبين ما تريد؟
لقد طوت المدينة الحديثة الأبعاد الفسيحة، كما تطوى اليد الكبيرة السفر الصغير، حتى جمعت العالم حول مائدة، وإذا كانت الدنيا اليوم بين فكي صداع، تلوكها أنياب التهديد والوعيد، فأن البشر لعلى أمل كبير في انتصار السلام، ما دامت دعوات (العلمية) تلقي النصير في (المواطن العالمي) ويذهب المؤمنون بالإنسان من المتفائلين - وهي خصلة نبوية، إلى أن زمانا ستبزغ شمسه، فيه تموت لغة الإقليم، وتحيي لغة (الإنسان) ولكنك - يا سيدي - تبغي رجعة إلى عهد طفل، تقطع رحلته بين بلدين متجاورين في شتاء أو صيف، وتتكلم فيه القبيلة بلغة، بينما تتحدث أختها في أرضها، وتحت شمسها يقول (البعد جفاء) ولا شك أن زمنا يقاس فيه الوقت بالصوت والنور؛ خير من زمن يرخص الوقت فيه حتى يقاس بالمبهم كالحين والدهر.
إن ما يدعو إلى العجب فيكم يا معشر الواعضين أن يقف الواحد منكم يغمره وهج (الكهرباء) وينشر كلمة على الناس (الميكرفون) ثم لا يعلو صوته إلا بصب اللعنات فوق رأس الحضارة الناهضة، كان الحضارة كثيب من ذر لا يلبث أن يطير من نفخ الهواء؛ أو كأن حكم العاطفة المرتجلة، والشعور المتقلب، افضل من سيادة العقل، وتجربة (المعمل)
بني سويف
بركات(990/45)
في جوار الله تلميذ من تلاميذ الرسالة
نشأ الوجيه علي مصطفى الزارع من أثرياء طما محبا للعلم والأدب، جعل من داره ندوة يسعى إليها كل شيخ وقور، وشاب مثقف، وطالب بحث في الأدب أو فقه في الدين، وكان أكثر الساعين إلى ندوته الموظفون الغرباء، فيجدون في رحابها كرما وجودا، وفي مكتبتها ثقافة وأدباء وفي جلساتها مرحا مهذبا يخفف عنهم لوعة الغربة وجفوة البعد.
وكان (للرسالة) الغراء لدى الوجيه الأديب مكانة محفوظة، وفي مكتبته الضخمة ركن ملحوظ، ولا أظن أن عددا واحدا من الرسالة ظهر دون أن يشتريه ويستوعبه حرفيا، ويناقش موضوعاته في ندوته، كما لا أظن أن كتابا واحدا ظهر لصاحب الرسالة دون أن يقتنيه مزينا به صدر مكتبته زافا بشراه إلى رواد ندوته - كان مشغوفا بالصحف على اختلاف ألوانها ومشاربها ومعنيا بها، ولكن شغفه بالرسالة وعنايته بها كانا يحملانه على الخروج من داره في يوم ظهورها ليستقبلها في نهاية الشارع أو في ميدان المحطة وقت مجيء القطار.
ومنذ أيام قرأت في الصحف نبأ انتقاله إلى جوار الله فريثته إلى نفسي ونعيته إلى قلبي، فقد كان نعم الصديق الذي لا يعرف غير صفاء العشرة، ونقاء الألفة، ووفاء الأخوة، وكرم الصحبة، ورثيت لحال أسر نكبها الدهر وتنكرت لها الحياة، كان لها معوانا، ولنوائبها ملجأ، ولآلامها مسكنا، ولدموعها مجففا
ولم يمض يوم واحد على نعيه في الصحف حتى تكشفت وفاته عن مأساة يرتجف لها القلم ألما، ويعتصر القلب دما، فقد ظهر أن الوفاة لم تكن طبيعية، وإنما كانت نتيجة اعتداء وحشي على الأديب الفقيد من أيد أثيمة لوثت بالجبن والنذالة، انتهزت فرصة عزلته وأنهت حياته متحدية غضب السماء وسطوة القضاء، غير آبهة بما ستخلفه المأساة من فجيعة في الأسر المنكوبة التي كان يعطف عليها، وفي الأصدقاء الذين كان يوفي إليهم حقوق الصداقة والأخوة، لقد تناقلت الصحف أن القتلة هم أخوته طمعا في الميراث الزائل لأن الفقيد لم يكتب عليه أن يؤذي إنسانا أو يسئ إلى أحد، كان يحب الخير للجميع، ويبذل الخير ما وسعه البذل للجميع، وكان إنسانا بكل ما في اللفظة من معنى، وما أعلم أن قلبا(990/46)
واحدا كان يضمر له ذرة من الكراهية لأن خلقه جعله جديرا بحب القلوب قاطبة، وكان أديبا شهما وكريما حفا، ولكن هذه الصفات كلها لم ترحمه من عدوان الأيدي الأثيمة النذلة. .!
لقد ذهب صديق الرسالة أو فقيدها إلى جوار ربه وهو أكثر ما يكون رضا عن ربه، وبقيت الأيدي الأثيمة تنتظر في الدنيا سخط الرأي العام ونكال العدالة. . . وفي الآخرة لعنة السماء. . .!
محمد عبد الله السمان
كن جميلا
قرأت بإعجاب مقال الأستاذ أحمد مصطفى حافظ بالعدد 978 من الرسالة الغراء ولكني فيما أعتقد لي مندوحة عن التسليم بكل ما عرضه الأستاذ على بساط البحث من آراء. . .
فلقد استدل الأستاذ على أصالة الشاعرية وطبيعة الانفعال الفني بأبيات من الشعر الكئيب الحزين. . وإني لأفهم من هذا مشاركة الأستاذ - وجدانيا على الأقل - لهذا اللون من الأدب. . ومن رأينا أن رسالة الفن ليست الكآبة واليأس. . وأن جمال الكون وبهاء الوجود ليسا من الهوان على الشاعر الفنان الحق حتى يدعها إلى الأفكار السوداء المتشائمة. . . وأن العقاد الفيلسوف ليقول: (. . . ما زلت أعتقد وأزداد مع الأيام اعتقاداً أن بغض الحياة أسهل من حب الحياة، وأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة أعم وأشيع وأقرب غورا من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى، فالفرح أعمق من الحزن في رأيي ولا مراء! وليس الحزن قدرة بل هو انهزام أمام قدرة. . . أما الفرح فهو القدرة والانتصار. . .) فنحن لا نستحسن - مثلا - قول (الأديب المسترسل) حين يقف بين أحضان الطبيعة البهيجة: (إني أرى الجبال هموما ثقيلة جاثمة فوق صدر الأرض. . بل نميل عن هذا الأديب لنسمع من الآخر قوله:
الزهر حيانا بثغر باسم ... والنهر قابلنا بقلب صافي
ثم نسمع من الزهاوي قوله:
الناس تحيى بالمنى ... فما لها عنها غنى(990/47)
لولا المنى ما عشت أن ... ت سالما ولا أنا
لا تدلهم أنفس ... لها من المنى سنا
ولا يرى ذو اليأس م ... اأمامه وإن رنا
اليأس نار تحرق الرو ... ح وتفني البدنا
ويجعل العمر قصير ... اويطيل الشجنا
أمل حياة كلها ... طيب هناك أو هنا
أسمعت يا أستاذ أحمد:
أمل حياة كلها ... طيب هناك أو هنا
حاول أن تتدبر جيدا يا أخي مغزى هذا البيت. . .
ثم اتل معي قول إيليا أبو ماضي:
أيها الشاكي وما بك داء ... كن جميلا تر الوجود جميلا
. . . وبعد فهذا هو الشعر الحي الممتلئ الأعطاف في الحقيقية، الذي لا يتجاوز حاجة المقام الأسنى. . وقد كان الأخلق بسيادتك أن تستدل به، وبمثله؛ وأخيرا هذه كلمة لوجه الحقيقة المجردة. . . والله!
حسين كامل عزمي
جوائز قراءة الأعداد المركبة من الشمال إلى اليمين:
أحال مجلس مجمع فؤاد الأول إلى لجنة الأصول ما طلبه حضرة العضو المحترم الأستاذ أحمد حسن الزيات بك من قراءة الأعداد المركبة مع المائة فصاعدا من الشمال إلى اليمين أسوة بقراءتها من اليمين إلى اليسار، وما أثير حول هذا الموضوع من نقاش في المجلس.
وقد رجعت اللجنة إلى كتب النحو للوقوف على ما كتبه النحاة في هذا الموضوع، فوجدت في شرح الكافية لنجم الأئمة محمد بن حسن الرضي المتوفى سنة 648؟ أو سنة 668 النص الآتي:
(. . . وتعطف المائة على ذلك العدد نحو أحد ومائة، واثنان ومائة، وثلاثة ومائة - أو تعطفه على المائة نحو: مائة وأحد. مائتان وأحد، ألف واثنان، في العلوم معدود وفي غير(990/48)
المعلوم مائة ورجل، ألف ورجلان، مائة وثلاثة رجال.
والأول أي عطف الأكثر على الأقل أكثر استعمالا ألا نرى أن العشرة المركبة مع النيف معطوفة عليه في التقدير، فثلاثة عشر في تقدير ثلاثة وعشرة وكذا ثلاثة وعشرون أكثر من عشرين وثلاثة الخ. . . .)
ومن الأمثلة التي ذكرها صاحب التصريح عند كلامه على العدد قوله: (كانوا تسعمائة وتسعين وتسعا فألفتهم.)
وقد انتهت اللجنة إلى جواز الأمرين على السواء. وأقرها مجلس المجمع على ما رأت.(990/49)
القصص
القاضي السعيد
للفيلسوف الروسي تولستوي
قام المليك ثملا من الرقص الفاتن على أنغام المزامير يرنو إلى جمال الراقصات الباسم. . ويصغي إلى أحاديث الندامى ترن في مسامعه مرجعة أنباء الساحر الرهيب، ذي القوة الخارقة والسحر العجيب، وأقاصيص ذلك القاضي السعيد الفياضة بالغرائب، المملوءة بالأعاجيب!
وأيقظه نسيم السحر المرتعش، فنادى غلامه وقال: سمعت في العشية من صحبتك أن في أقصى المملكة قاضياً واسع الحيلة، عظيم الذكاء، يعرف الكاذب إذا رآه من الصادق، وله في ذلك نكات حلوة وطرائف طلية. . ولقد هفت نفسي إلى رؤيته فهيأ يا غلام جوادي، وأحضر لي زادي، وائت لي بلباس لا يعرفني به أحد من رعيتي، كي أذهب فأرى صدقه من تدجيله.
وبعد ساعة. . انطلق الملك يسري. . بين شعف الجبال وأحضانها، وهو يحث السير ويغذه؛ حتى إذا ما وصل إلى بلد القاضي - وقد ارتفعت الشمس وقاظ النهار - لقيه رجل قد قطعت ساقاه وتهشم وجهه وجحظت عيناه، فاقترب منه، وهو يتكئ على عصوين أسندهما إلى إبطيه. . وأخذ يقبل أقدامه ويطلب إحسانه. فتصدق الملك عليه؛ وهمز حصانه وسار على مهل.
وفرح البائس إذ ضحكت له المنى ولكنه لحق بالمليك وأمسك بأثوابه لا يدعها، فغضب الملك وثار وقال له:
- ما شانك أيها الرجل، وماذا تريد؟ طلبت فأعطيناك. وشكوت فرحمناك. .!
قال الرجل بصوت يشيع فيه الحزن واللوعة:
أوصلني يا سيدي إلى ساحة المدينة، فأنا يائس عاجز وأخاف أن تطأني الجمال بأقدامها إذ تمشي مشيها الوئيد. . أوصلني إليها يا سيدي والله يجزيك أحسن الجزاء.
ورق قلب الملك وأشفق عليه. فحمله بين يديه وأردفه. ثم انطلقا حتى أتيا ساحة المدينة الكبرى. قال الملك آنذاك:(990/50)
- ها هي ذي ساحة المدينة أيها الرجل، فاهبط آمنا!
قال الرجل:
- وي! هذا حصاني فلم تريد اغتصابه مني؟ أهذا جزاء من يعطف عليك ويشفق؟ يا للوقاحة! ويل لك من العذاب الذي سيصيبك! هيا هيا دع الحصان وامض إلى سبيلك. وإن لم تفعل فخير لك ولي أن نذهب إلى القاضي السعيد فنسأله، وهناك يظهر الحق ويزهق الباطل!
وشده الملك وعجب من هذا المحتال البائس. ثم ثار وغضب، وأرغى وأزبد، والتف حوله أهل المدينة، فساقوهما إلى القاضي ليحكم بينهما.
وأتيا القاضي يجران وراءهما الناس، وقد جاءوا ليستمعوا إلى حكمه. واستوى القاضي على كرسي مزين بالذهب المتوهج، وبدأ ينادي المتخاصمين فرداً فرداً
وجيء بعالم أصلع الرأس، كث اللحية، حماري الأذنين وإلى جانبه قروي رث الهيئة، ممزق الأثواب، على وجهه إمارات الغباوة، كانا يختصمان على امرأة حسناء على وجهها سحر وطلاوة. . هذا يدعي أنها خليلته، وذاك يقول إنها حليلته. .
واستغرق القاضي في صمت عميق. . . ثم قال:
- دعا حسناءكما عندي وتعاليا إلي غدا
وتقدم جزار إلى جانب بدال. وكان الجزار يرتدي ثوبا مليئا دماً، وكان البدال يرتدي لباسا زين ببقع الزيت الحية.
قال الجزار:
- لقد اشتريت من هذا الرجل يا مولاي زيتاً ثم عمدت إلى قميصي فأخبأته تحت جيبه. ولكنه هجم علي، وانتزعه مني، فجئنا إليك يا مولاي، أنا أمسك بيدي دراهمي وهو يمسك بتلابيبي لئلا أفر، ولكن الدراهم لي، وما هو إلا سارق أثيم!
قال البدال:
- كذب ما قاله يا سيدي وبهتان. . لقد جاء إلي ليبتاع من زيتي، فملأت له وعاءه، فلما أراد الانصراف طلب مني أن أبدل له قطعة ذهبية بقطع فضية، فرحت أعطيه الدراهم. . . ولكنه فر بها يا مولاي، فلحقت به. . . وأحضرته إليك. .(990/51)
واستغرق القاضي في صمت عميق. ثم قال:
دعا الدراهم عندي وتعاليا إلي غداً. . .!
ونودي الملك والسائل. قال الملك:
- أنا تاجر يا سيدي، وهذا لقيني وأنا في طرف المدينة فرثيت له وأشفقت عليه، ثم أعطيته ما يخفف من ألمه ويزيد في فرحه. . فلما انطلقت إلى ما أنا ماض من أجله، لحق بي وطلب أن أوصله الساحة الكبرى. فأردفته. فلما كنا في الساحة الكبرى، طلبت إليه أن يتركني فأبى، وقال هذا حصاني جئت تنتزعه مني. فالتف حولنا الناس وساقونا إليك. هذه قصتي يا مولاي فاحكم بما تريد!. .
قال السائل:
- يا للكذب يا مولاي! لئن كذب وافترى، فما أنا إلا صادق أمين. . كنت أجتاز المدينة ومعي الحصان فرأيته في بعض الطريق. . . فطلب مني أن أوصله إلى الساحة الكبرى فقد أنهكه السير الطويل. فلما أتيت به الساحة قال هذا حصاني. . .
فاحكم يا مولاي أيدك الله وأطال بقاءك!
وفكر القاضي وقدر. . . ثم قال:
- سأعرف الكاذب من الصادق. . دعا الحصان لدي وارجعا إلي غداً
وتفرق الناس، ومضى كل إلى سبيله، وذهب الملك يفكر في هذا القاضي الذي سماه الناس (السعيد)
أقبل الليل، فجلس الملك يفكر في أمر ذلك البائس المسكين ويتذكره، فملأ صوته المضطرب سمعه وفؤاده، وهو يتساءل عن جزائه وكيف يكون. فلما أضناه التفكير أسلم نفسه للكرى. فنام نوماً عميقاً، رأى فيه من الأطياف ما لا يحصر، ومن الأشباح المرعبة ما لا يحد، وضحك النهار فاستيقظ الملك. . وأخذ يرتدي أثوابه، ثم مضى إلى المدينة ليطوف في أسواقها فلما أجاز ساحة الحي وجد غريمه يتدحرج نحو دار القاضي.
وكان الناس يأتون زرافات زرافات، فقد أعجبوا بالقاضي فغدت نفوسهم في شوق ملح لكل ما يقول. وجاء المتخاصمون فتقدم العالم والقروي. فنظر القاضي إليهما وقال:
- أيها العالم! إنها زوجتك فخذها وامض بها إلى دارك. . . أما أنت أيها القروي، فجزاؤك(990/52)
خمسون جلدة تنالها في الساحة الكبرى على ملأ من الناس!. . .
وانصرف العالم وزوجته، وأخذ القروي ليجلد
وجيء بالجزار وبائع الزيت، فقال القاضي:
- أيها الجزار! ها هي ذي دراهمك فخذها. أما أنت. . فجزاؤك خمسون جلدة تنالها في الساحة الكبرى على ملأ من الناس!. .
وأخذ الجزار دراهمه. ومضوا بالبدال ليجلدوه
وتقدم الملك والسائل. فقال القاضي للملك المتنكر:
هل تعرف حصانك جيدا؟
- نعم يا مولاي!
- وأنت أيها السائل؟
- وأنا أيضاً يا سيدي!
- اتبعاني إذن. . .
وانطلق القاضي بهما إلى الإسطبل وقد امتلأ بالجياد. فقال للملك: دلني على حصانك. . . فدله الملك، ثم أخرجه وأدخل السائل. . فدله عليه أيضا، فلما خرج القاضي قال: خذ حصانك أيها التاجر، فهو لك، أما أنت فستجلد خمسين جلدة في الساحة الكبرى
وهم القاضي بالانصراف. . . فتبعه الملك وقال له:
- أريد يا مولاي أن اعلم كيف استطعت أن تعرف أن المرأة كانت للعالم، وأن الدراهم كانت للجزار. . وأن الحصان كان لي فقد حار عقلي في فهم ذلك. .!
قال القاضي:
- أما المرأة، فقد أتيت بها إلى داري، وقلت لها ضعي في هذه المحبرة مداداً. فأخذت الدواة فنظفتها، ثم ملأتها مدادأ. فعلمت أنها تعلم ذلك من قبل، والدواة لا توجد إلا عند العالم. فحكمت أنها امرأة العالم وليست خليلة القروي. أما الدراهم فقد وضعتها في إناء مليء بالماء، وقلت لنفسي، أن كانت لبائع الزيت فلا بد أن تطفو على صفحة الماء قطرات من الزيت جاءت إليها من يديه. ولكن الماء بقى صافياً، فعلمت أن الدراهم ليست لبائع الزيت وإنما هي للجزار(990/53)
وصمت القاضي قليلا، فلما طال صمته قال الملك:
- والحصان يا سيدي؟
قال القاضي:
لقد قلبت الأمر بين يدي فلم أجد حيلة أنفع من أن تدلاني على الحصان، فعرفته أنت كما عرفه السائل، ولكني رأيت الحصان أدار وجهه نحوك، ورفع أذنيه عندما دنوت منه. فلما جاء السائل أرخى أذنيه ورفع إحدى رجليه يريد رفسه، فعلمت أن الحصان لك
فابتسم الملك ضاحكا، ثم تقدم من القاضي فقال له:
أيها القاضي! نعم العدل بك عيناً، لست بتاجر، ولكني الملك!
ودهش القاضي وارتجف رهبة ثم انحنى وقال:
- عفوا يا مولاي. . أنا عبدك
- قم أيها القاضي وسل. .
- إن ثنائك علي لمكافأة لي يامولاي، وانحنى ليقبل قدميه
- قم. . . قم أيها القاضي السعيد. . فلقد صدقت بك. . .
وآمنت. . . لقد صدقت وآمنت. . . ومنذ الغد ستكون لي وزيراً!
ص م(990/54)
العدد 991 - بتاريخ: 30 - 06 - 1952(/)
إسلام أمريكاني
للأستاذ سيد قطب
الأمريكان وحلفاؤهم مهتمون بالإسلام في هذه الأيام. إنهم في حاجة إليه ليكافح لهم الشيوعية في الشرق الأوسط، بعدما ظلوا هم يكافحونه تسعة قرون أو تزيد، منذ أيام الحروب الصليبية! إنهم في حاجة إليه كحاجتهم إلى الألمان واليابان والطليان الذين حطموهم في الحرب الماضية، ثم يحاولون اليوم يكل الوسائل أن يقيموهم على أقدامهم، كي يقفو لهم في وجه الغول الشيوعي. وقد يعودون غدا لتحطيمهم مرة أخرى إذا استطاعوا!
والإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفائهم في الشرق الأوسط، ليس هو الإسلام الذي يقوم الاستعمار، ليس هو الإسلام الذي يقوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقوم الشيوعية! إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم ولا يطيقون من الإسلام أن يحكم لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء، فكلاهما عدو وكلاهما اعتداء!
الأمريكان وحلفائهم إذن يريدون للشرق الأوسط إسلاما أمريكانيا، ومن ثم تنطلق موجة إسلام في كل مكان. . فالكلام عن الإسلام ينطلق في صحافة مصر هنا وهناك، والمناقشات الدينية تغرق صفحات بأكملها في صحف لم يعرف عنها في يوم ما حب الإسلام ولا معرفة الإسلام. ودور النشر - ومنها ما هو أمريكا ني معروف - تكتشف فجأة أن الإسلام. يجب أن يكون موضوع كتبها الشهرية. وكتاب معروفون ذوو ماض معروف في الدعاية للحلفاء، يعودون إلى الكتابة عن الإسلام، بعد ما اهتموا بهذا الإسلام في أيام الحرب الماضية ثم سكتوا عنه بعد انتصار الحلفاء! والمحترفون من رجال الدين يصبح لهم هيل وهيلمان، وجاه وسلطان، ولمسابقات عن الإسلام والشيوعية تخصص لها المكافآت الضخام.
أما الإسلام الذي يكافح الاستعمار - كما يكافح الشيوعية - فلا يجد أحدا يتحدث عنه من هؤلاء جميعا. وأما الإسلام الذي يحكم الحياة ويصرفها، فلا يشير إليه أحد من هؤلاء جميعا. .
إن الإسلام يجوز أن يستفتي في منع الحمل، ويجوز أن يستفتي في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يستفتي في أمر الصيام في المناطق القطبية؛ ويجوز أن يستفتي في نواقض(991/1)
الوضوء. ولكنه لا يستفتي أبدا في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي. ولا يستفتي أبدا في أوضاعنا السياسية والقومية، وفيما يربطنا بالاستعمار من صلات.
والديمقراطية في اللإسلام، والبرفي الإسلام، والعدل في الإسلام. . من الجائز أن يتناولها كتاب أو مقال. ولكن الحكم بالإسلام، والتشريع بالإسلام، والانتصار للإسلام. . لا يجوز أن يمسها قلم ولا حديث ولا استفتاء!
وبعد فقد حدث أن هذا الإسلام الأمريكاني قد عرف أن في الإسلام شيئا يقال له (الزكاة) وعرف أن هذه الزكاة قد تقاوم التيار الشيوعي لو أخذ بها في الشرق من جديد. . ومن هنا اهتمت (حلقة الدراسات الاجتماعية) التي عقدت في مصر في العام الماضي بدراسة حكاية (الزكاة) هذه، أو بدراسة مسألة (التكافل الاجتماعي في الإسلام).
ولما كانت أمريكا من وراء حلقة الدراسات الاجتماعية، فإن ذوي الشأن في مصر لم يروا أن يقفوا في وجه حكاية الزكاة؛ كما وقفوا في وجهها يوم فكر فيها عبد الحميد عبد الحق باشا وهو وزير للشؤون الاجتماعية! أن ذوي الشأن يستطيعون الوقوف في وجه الزكاة يوم يكون الآمر بها هو الله. أما يوم أن يكون الآمرون بها هم الأمريكان، فليس أمامهم إلا الخضوع والإذعان!
وعلى ذلك ألفت في مصر لجنة من بعض أساتذة الشريعة في الجامعة، وبعض رجال الأزهر، وبعض الباشوات، لدراسة مسألة (التكافل الاجتماعي في الإسلام) وبخاصة حكاية الزكاة، لا لوجه الله، ولا لحساب الوطن، ولكن لوجه الأمريكان، ولحساب حلقة الدراسات الاجتماعية.
وهنا بدا وجه الخطر. . أن الأمريكان لو عرفوا حقيقة التكافل الاجتماعي في الإسلام لفرضوه فرضا على الشرق الأوسط، لأنهم لن يجدوا سدا أقوى منه في وجه الشيوعية. والتكافل الاجتماعي في الإسلام يفرض على الأموال تكاليف، ويفرض عليها حقوقا، ويعترف للملايين بحق الحياة. ودون هذا وتتقطع الأعناق. .
وإذن فلا مفر من تخبئة الأمر على الأمريكان! ولا مفر من الاحتيال على النصوص؛ ولا مفر من تخفيف الأعباء التي يفرضها الإسلام على الأموال؛ ولا مفر من أن تخرج اللجنة من الزكاة نفسها بظل باهت لا يتناول إلا التافه، ولا يمس الأموال إلا بقفاز من حرير.(991/2)
إنه لو كان الأمر أمر الله والدين لهان، ولكنه أمر الأمريكان! أن ما تقرره الشريعة الإسلامية شيء، وما تقرره حلقة الدراسات الاجتماعية شيء آخر! أن حلقة الدراسات الاجتماعية لا يجوز أن تعرف سر الإسلام الذي لا تعرفه، وإلا فرضته على أهل الإسلام!
ولكن بعض أعضاء اللجنة من المعاندين المكابرين الذين لا يعرفون كيف يكتمون النصوص؛ ولا يعرفون كيف يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولا يعرفون كيف يشترون بآيات الله ثمنا قليلا.
هؤلاء الأعضاء ما يزالون متشبثين بان يطلعوا الأمريكان على السر الخطير، وما يزال الأعضاء الآخرون يلاقون من تشبثهم عنتا، ولا يدري إلا الله كيف تسير الأمور!
إنها مهزلة. بل إنها لمأساة. . ولكن العزاء عنها أن للإسلام أولياءه الذين يعملون له وحده، ويواجهون به الاستعمار والطغيان والشيوعية سواء، أولياءه الذين يعرفون أن الإسلام يجب أن يحكم كي يؤتي ثماره كاملة. أولياءه الذين لا تخدعهم صداقة الصليبين المخولة للإسلام، وقد كانوا حربا عليه تسعمائة عام.
إن أولياء الإسلام لا يطلبون باسمه برا وإحسانا، ولكن يطلبون باسمه عدالة اجتماعية شاملة كاملة؛ ولا يجعلون منه أداة لخدمة الاستعمار والطغيان، ولكن يريدون به عدلا وعزة وكرامة؛ ولا يتخذون منه ستارا للدعاية، ولكن يتخذونه درعا للكفاح في سبيل الحق والاستعلاء.
أما دور العلن الذي يعلن بالإسلام في هذه الأيام؛ وأما المتاجرون بالدين في ربوع الشرق الأوسط، وأما الذين يسترزقون من اللعب به على طريقة الحواة، أما هؤلاء جميعا فهم الزبد الذي يذهب جفاء عندما يأخذ المد طريقة، وسيأخذ المد طريقه سريعا، أسرع مما يظن الكثيرون، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا. (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفوا في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم. وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً. يعبدونني لا يشركون بي شيئا). . صدق الله العظيم
سيد قطب(991/3)
شخصية الرشيد
على ضوء علم النفس الحديث
للأستاذ أنور الجندي
يقف (هارون الرشيد) على رأس القمة التي بلغتها الدولة العباسية، بل التي بلغها تاريخ الإمبراطورية الإسلامية كلها. .، هذا المجد الذي لم يلبث طويلا بعد ذلك، والذي كان خلال عهد المأمون امتدادا للدفعة القوية التي بلغها الملك في عهد الرشيد. وحسبك بالخليفة الذي روى عنه أنه قال للسحابة المارة (أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك)
اختلف المؤرخون حول الرشيد اختلافا شديدا، فذهب بعضهم إلى أنه كان يصلي مائة ركعة كل يوم، وأنه كان يتصدق بمائة ألف درهم، وأنه كان يحج عاما وغزو عاما. وذهب البعض الآخر إلى القول بأن قصره كان صورة صحيحة لقصص (ألف ليلة)، وأنه كان مرحاً طروبا يقيم مجالس الغناء والأنس تنتظمها أكواب الراح، وأنه كان يقضي غالب وقته بين الغناء والموسيقى، والمغنيات والقيان.
على أنه ليس من الغريب أن يجمع الرشيد بين الصورتين المتباعدتين اللتين يجمعهما دلاله الشخصي القوي الحيوية، الدافق الشباب، البالغ الفتوة.
وليس على الرشيد من بأس على ضوء طبعه هذا من أن يعيش هاتين الحياتين معا، ويمتزجهما على نحو من الاعتدال فهما؛ قريبان جدا، يلتقيان دائما، إذا بعدت عنهما مبالغات القصاص وأحاجي الرواة.
وليس على الرشيد من ضير أن يعقد مجالسه فيستمع إلى السمر والغناء والموسيقى. .، ولا يمنعه ذلك من أن يصلي لله مائة ركعة، وان يمضي إلى الحج عاما والغزو عاما.
وكل وقائع حياة الرشيد الصحيحة التي بين أيدينا، تدل على أنه أمضى حياة جادة كل الجد فقد حفلت حياته القصيرة بالغزو والجهاد، فما كان ينتهي من غزاة حتى يفترع أخرى،. .
كذلك كان منذ شبابه الغض إلى اليوم الأخير من حياته.
وأبرز ظاهر حياته أنه رجل حرب وقتال، أشربت روحه بالجهاد وقيادة الجيوش ونضال العدو، وكانت أغلب غزواته في أرض الدولة البيزنطية، فلما ولي الملك نظم الشواتي والصوائف وحرض على إرسالها، ثم خرج بنفسه إلى قتال الروم بعد أن نقضوا المعاهدة،(991/4)
ومنعوا الجزية.
وقد كان حفيا بمغالبة الخصوم والأعداء، لا يهدأ ولا يستريح إلا لنصر يكسبه من وراء نصر، فلا يلبث أن ينتهي من صراع الأعداء على حدود الدولة البيزنطية حتى يعاود الصراع مع العلويين الذين يظهرون هنا أو هناك محاولين الفتنة أو منازعين على الملك،. . وهو في هذا كله صلب العزيمة، قوي العود، على غاية من البسالة والحيوية. .، وهي صفات لا تجعل صاحبها بحال في صف المنقطعين للهو أو العاكفين على الهوى. .
وفي هذا يقول الشاعر:
ومن يطلب لقاءك أو يرده ... ففي الحرمين أو أقصى الثغور
وقد بدت هذه النفسية المصارعة الجارفة. . على أوضح صورها وأقواها حين استبان له غدر البرامكة. . فصرعهم في ليلة واحدة، على أسلوب غاية في الجرأة والحسم والبتر، ولم يقبل فيهم شفاعة، حتى شفاعة ظئره التي أرضعته وربته. . وكانت عنده في مقدمة الشافعين المشفعين.
وليس شك في هذا التصرف الجريء بالنسبة للبرامكة. . بعد أن أطلق أيديهم في أمور الملك سبعة عشر عاما، حتى بلغوا مكانا عاليا، واستطار اسمهم، وعلا صيتهم. . وفي الوقت الذي كان يعلم انهم هم الذين أوصلوه إلى الملك ومكنوا له منه، لدليل أكيد على قوة نفسية الرشيد، قوة تزري بما عرف عن جده المنصور. .
وإن ظلت نفس الرشيد تحتفظ بطابعها الخالص من السماحة والرقة واللين والمراح والإشراق.
. . وآية ذلك الذي نذهب إليه في نفسية الرشيد، أنه في رحلته الأخيرة إلى خرا سان، حمل إليه أحد الخوارج، وكان في أشد حالات المرض، وفي سكرات الموت، فأمرهم بقتله أمامه، وظل يملأ نظره من دمه المهدر، وهو مسجى على وشك أن يبلغ الأجل من علته.
وكان الرشيد خلال حياته التي لم تتجاوز الخامسة والأربعين، حامل لواء الحضارة الإسلامية في الشرق - بالإضافة إلى منصبه كخليفة للإمبراطورية -، فقد احتضن الثقافة والفن، وشجع رجال الشعر والموسيقى والغناء. . وأفسح لهم وكنهم من الابتكار والتجديد والإبداع، وعنى بالتأليف، وأعان الفقهاء، وفتح لهم أبواب التحدث والقضاء، وعقد لهم(991/5)
مجالس البحث والمساجلة والمناقشة في مختلف المسائل.
. . واتصل بعميد الغرب في عهده، شارلمان ملك فرنسا وجرمانيا وإيطاليا. . وأرسل إليه وفداً. . وأهدى إليه مفاتيح بيت المقدس، علامة على الود بين الشرق والمغرب والشرق، وبين الإسلام والمسيحية.
ثلاث نجوم: كانت تدور في فلك الرشيد، أمه الخيزران، وزوجه زبيده، ووزيره جعفر.
أما الخيزران فقد كرهت الهادي، لأنه كان يصرفها عما تبغي من مظاهر السلطة والنفوذ، وأما الرشيد فقد أباح لها ما تشاء منه، وإليها يرجع بعض الفضل في أن يقفز إلى الخلافة، قبل أن يجيء دوره في ترتيب الوراثة وولاية العهد.
وأما زبيدة فزوجه الأولى، التي كان يؤثرها على كل زوجاته وسراريه وجواريه، وهي أم الأمين وكانت ذات رأي وتدبير، فكان الرشيد لا يرى بدا من أن يأخذ بمشورتها، وأن يطلق يدها في إنشاء القصور وتعمير المساجد وحفر العيون المعروفة باسمها. .
وأما جعفر فكان محببا إلى نفسه غاية الحب، حتى لقد روى بعض المؤرخين أنهما كانا يدخلان في ثوب واحد، وهو أن قيل على أنه ضرب من المجاز، يصور مدى ما كان بينهما من الحب الصادق والود الأكيد.
وروى أن جعفر تصرف باسم الرشيد في أمور غاية في الدقة فأقره الرشيد وقبل منه ورضى عنه، ولم يمنع هذا جعفراً من أن يقع به ما وقع عندما قضى فيه الرشيد بأمره.
وتلك شميلة من شمائل الرجل الفذ، تثبت في وضوح قوة عارضته؛ ولو كان كما روي عنه من الإسراف في الترف لما استطاع أن يحسم أمره بالقوة والبراعة والحكمة في الوقت المناسب.
فإذا أخذ عليه بعد ذلك أمر، فهو أنه بايع للأمين بولاية العهد وللمأمون بخراسان وللقاسم بولاية العهد بعد المأمون. .
في عقد واحد، وكان هذا الذي فعل الرشيد بعيد الأثر من بعده، وهذا خطأ من أخطاء العاطفة المتحمسة، والعقل الراغب في حسم الأمور، الذي يظن أنها تنقاد من بعده وفق سلطانه. . وإرادته.
وهو أشبه بما قيل عن رضائه عن صداقة جعفر والعباسة، وجمعهما في حضرته وإنفاذ(991/6)
أمره بزواجهما، دون أن يلتقيا كما يلتقي الأزواج. .
فإذا صح ما ذهبنا إليه من أمر الرشيد الذي عاش حياته مقسما بين الحرب والحج، ومغالبة الأعداء والخصوم من الروم، والعلويين البرامكة. .، فلا يمنع هذا العظيم المشبوب بالحماسة والقوة والحيوية، من أن يرد موارد المتاع بالسمر ومجالس الطرب، فذلك يتمشى مع طابعه ولا يتعارض معه بحال من الأحوال.
وقد أداه طبعه السياسي والواضح هذا إلى أن يرسم الخطط للأمور التي يمكن أن تقع بعد عهد طويل. . ولا بأس عليه من أن يخطئ. . خطأ المجتهد، في أن ينظم المملكة من بعده على صورة مبايعة طويلة المدى لأولاده، أو أن يقتل الخارجين، وهو على وشك الموت.
ولا شك أن تصرفه في كسب صداقة شارلمان، وإهدائه إياه مفاتيح بيت المقدس، هو من وعي السياسي النابه الذي يريد أن يحول بين عادية الصراع بين الشرق والغرب، وهو ما امتحنت به المملكة الإسلامية بعد ذلك.
وجملة القول في الرشيد أنه كان من أبرع ساسة الشرق، وخلفاءه الإسلام، وأنه لم يكن بالمترف اللين الناعم كما صوره صاحب الأغاني، أو كاتب ألف ليلة وليلة، ولكنه كان قاسيا جبارا، فيه روح المجاهد المحارب، وعاطفة الشباب الفوار، الذي لا يحب الهزيمة، والذي يتعقب خصومه ويفتك بهم، والذي يحب مجالس العلم، ومجالس الفن، ويلقاها مرحا مبتسما طلقا، وإن طوى النفس على عزيمة ماضية تبرز في قوة حين يتصل الأمر بشخصه أو سلطانه
أنور الجندي(991/7)
السلام العالمي والإسلام
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
الإسلام حرب والمسلمون متعصبون.
هذا هو الحبل الذي شنقنا به أنفسنا كثيرا. وشنقنا به المستعمرون كثيرا؛ ولا زلنا كل يوم نجده قريبا من أعناقنا للساعة التي نريد أن ننتقم من أنفسنا فيها أو ينتقم منا فيها غيرنا.
وإذا كان من صالح الدول الغربية الاستعمارية وغيرها، أن تباعد بيننا وبين ماضينا ومعتقداتنا، فإنه ليس من صالحنا نحن أن نباعد عنا هذا الماضي وهذه المعتقدات. والأمم الغربية كلها مردة على الإفلات من قبضة الدين حتى ما تستطيع الرجوع إلى حظيرته مرة أخرى، وهي تريدنا على أن نكون مثلها، فنخلع عنا هذه الروحانية العالية والتوجيه السامي والإرشاد المنير حتى تجد فينا مرتعا خصبا، تحقق فيه آمالها ورغائبها، لأنها تعلم حق العلم، أن ديننا - هذا الدين الإسلامي الحنيف - يقف دونها، ويحول بينها وبين ما تبغي، ولا يكاد يفسح لها طريق الاستغلال والاحتكار والإذلال والاستعمار.
وطالما سعت الأمم الغربية إلى هذه الغاية، والعصور الماضية لا زالت تتراءى لنا في صفحاتها بالعظات والأخبار الحروب الصليبية المتكررة، والهجمات المتتابعة من الغرب على الشرق في محاولات كثيرة لتشويه الدين الإسلامي، وتسفيه العقلية الإسلامية، والاستيلاء على بلاد الإسلام.
وقد اشتبك الغرب بالشرق - منذ الإسلام - اشتباكات كثيرة، كتب النصر في بعضها للشرق، وكتب النصر في بعضها للغرب. على أن نصر الشرق كان مرجعه في كل مرة إلى الاستمساك بعقائده الرفيعة، ومثله العالية، ودينه الرباني الحنيف. ويوم انتصر الغرب على الشرق، كان ذلك بعد أن تخلينا عن ديننا، وغلبنا على أنفسنا، وسعينا وراء رغائب الحياة الذليلة ومثلها الهابطة، نفني أعمارنا وقوانا، ونجعل منها سدا منيعا يحرمنا الاسترواح في ظل رسالتنا، وطرائقها الحيوية، وأهدافها.
لقد استعمر الغرب بلادنا، واستولى على مواردنا، واحتكر مجالات النشاط الاقتصادي، وساقنا إلى حروب لا شأن لنا بها! غير أن أعظم ما فعله خطرا، هو تلك الطائفة (المسلمة!) التي رباها ونشأها وأعدها لحكم البلاد، ووقف هو من وراء ستار يملي عليها(991/8)
ويدفعها إلى ما يريد.
هذه الطائفة (المسلمة!) تقتل الإسلام وتقتل المسلمين بأسلوب استعماري غير مباشر، بعد أن فرغ الاستعمار من كل ما يطيق في هذه السبيل بأسلوبه المباشر، واخترع لنا هؤلاء جميعا فكرتي السلطة الدينية والسلطة الزمنية اللتين اعترف بهما الغرب لتنحسر ظلال الدين عن مرافق الحياة، وحاولوا أن يوهمونا بان السياسة شيء والدين شيء آخر. وارتفعت أصواتهم المتخاذلة هنا وهناك لتنشر في الشعوب المستكينة هذا المبدأ الخبيث.
نحن في بلادنا، وقد انطلقت إلينا الدول الغربية من بلادها، فمزقت العالم الإسلامي مزقا، وعذبت المسلمين في كل قطر حلت به، وضربتهم بالذل والفقر والفساد، كلما بدت محاولة لإرجاعنا إلى مبادئنا الدينية حتى ننهج في الحياة نهجا صحيحا، أذاع المستعمرون بيننا بلسانهم أو بلسان عملائهم، أن الإسلام حرب وأن المسلمين متعصبون، وأنه لا دين مع سياسة، ولا سياسة مع دين.
لذلك تجدنا في حاجة إلى تصحيح هذه الأوضاع الخاطئة التي جرت عليها السنون أذيالها، والتي تبدو الآن لكثير من الناس حقيقة لا مفر منها، في حاجة إلى فهم ديننا إلى حقيقته، والرجوع به إلى مصادره الأولى؛ يوم كان سياسة عملية زاكية، تعمر ولا تخرب، وتهدي ولا تضل وتعدل ولا تظلم، وتحسن ولا تسيء، في حاجة إلى فهم أن ديننا سياسة وأن سياستنا دين، وأن حياتنا في أنفسنا ومع غيرنا لا بد أن تقوم على هذا الأساس. في حاجة إلى فهم قيمة عقيدتنا في الحياة، ومعرفة أسلوبها في فض مشاكل الناس ومشاكل الأمم، ودراسة أهدافها، ودراسة موضوعية صحيحة. في حاجة لأن نفهم هل الإسلام حقيقة دين حرب! وهل المسلمون بالتالي متعصبون!
في هذا كله أخرج الأستاذ قطب كتابه الرائع (السلام العالمي والإسلام) وهو من أول سطر فيه يسجل وظيفة العقيدة الدينية (فعمر الإنسان محدود، وأيامه على الأرض محدودة، وهو - بالقياس إلى هذا الكون الهائل الذي يعيش فيه - ذرة تائهة لا مستقر لها ولا قيمة، وعمره بالقياس إلى الزمن الهائل من الأزل إلى الأبد ومضة برق أو غمضه عين.
ولكن هذا الفرد الفاني. . يملك في لحظة أن يتصل بقوة الأزل والأبد، أن يمتد طولا وعرضا في ذلك الكون الهائل، أن يرتبط به في أعماقه وأمشاجه بوشائج من القربى لا(991/9)
تنفصم، أن يشعر أنه من تلك القوى الهائلة وإليها، أنه يملك أن يصنع أشياء كثيرة، وأن ينشئ أحداثا ضخمة، وان يؤثر في كل شيء ويتأثر. . . يملك أن يحسن الوجود في الماضي والاستقرار في الحاضر، والامتداد في الآتي، يملك أن يستمد قوته من تلك القوة الكبرى التي لا تنضب ولا تنحسر ولا تضعف، وإنه لقادر إذن على مواجهة الحياة والأحداث والأشياء بمثل قوتها، فما هو باللقى البضائع، ولا بالفرد العاجز، وهو يستند إلى قوة الأزل والأبد وإلى ما بينه وبينها من وشائج.
تلك وظيفة العقيدة الدينية، وذلك أثرها في النفس والحياة والعقيدة الإسلامية تنظر إلى الإنسان ككل، دون تفرقة بين سلوكه وأهدافه ونوازعه ودوافعه، ودون تفرقة بين روحه وعقله وجسده (فهي تشمل كل نشاط الإنسان في كل حقول الحياة، فلا تقصر مهمتها على حقل دون حقل، ولا على اتجاه دون اتجاه. إنها لا تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فما لقيصر وقيصر ذاته، في العقيدة الإسلامية - كله لله. وما لقيصر حق ليس للفرد من رعاياه، وإنها لا تتولاه روح الفرد وتهمل عقله وجسده، أو تتولى شعائره، وتهمل شرائعه، أو تتولى ضميره وتهمل سلوكه، وإنها لا تتولاه فردا وتهمله جماعة؛ ولا تتولاه في حياته الشخصية وتهمل نظام حكمه أو علاقات دولته.
(والإسلام يعد الحياة وحدة، وحدة من ناحية الزمن متماسكة الحلقات، متدرجة الخطوات، متضامنة الأجيال، متعاقبة الأطوار. وحدة من ناحية الفطرة؛ متماسكة النوازع والأشواق، ممتزجة المادة والروح، قابلة للارتفاع إذا حسن توجيهها وتزكيتها، مستعدة للهبوط إذا ساء التوجيه والقيادة (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها).
وإذا كان الإنسان ينظر إليه ككل، وإذا كانت الحياة ينظر إليها كوحدة، وإذا كانت الحياة قابلة للهبوط إذا ساء التوجيه، ومستعدة للارتفاع إذا حسنت التزكية، وإذا كان ذلك كذلك فإن الإسلام يرسم طريقة فذة لتربية هذا الكل الذي هو الإنسان، وللارتقاء بهذه الوحدة التي هي الحياة. فسلام الضمير، وسلام البيت، وسلام المجتمع - كل هذه أهداف سعى إليها الإسلام على طريق معبدة وبوسائل عملية مثمرة، حتى يطمئن الفرد فيطمئن البيت، وإذا ما أطمئن البيت أمن المجتمع. وبعد هذا كله تظلل الحياة والأحياء أعلام الأمن والسلام.(991/10)
أن الإسلام يرى أن سلام الأمم والجماعات إنما هو من ذات الفرد الذي يكون الأمم والجماعات، فالفرد هو اللبنة الأولى التي أن صلحت صلح البناء كله، وإن فسدت وكانت واهية ضعيفة انهدم البناء كله من أساسه. الفرد ذو قيمة، لأنه هو الذي يكون الأمم، وهو الذي ينشر المحبة والسلام، وهو الذي يسعى بما شب عليه إلى نظام في الحياة أمثل، ولذلك رعاه الإسلام حق الرعاية وهداه ووجهه وأرشده إليها. هذا وهو فرد، أما إذا كان في مجتمع صغير - مجتمع الأسرة -، فقد وضع له القوانين والنظم، وراعى في ذلك حياة فرد آخر أو أفراد آخرين، ليكونوا أداة عاملة في رقي الحياة. فشرع الرباط المقدس يربط بين الزوجين، وحرم الاختلاط والتبرج؛ وسن الحدود لحماية الأعراض. وأحل الطلاق وهو أبغض حلال إلى الله. وأباح تعدد الزوجات ليمكن مواجهة أحداث الزمن ونوازله. ثم جعل العائلة كلها متكافلة في السراء والضراء؛ في حال القدرة يفيض بعض أفرادها على بعض، وفي حال اليأس يعين القادر المحتاج.
وإذا خرج الفرد إلى المجتمع الأكبر لم يتركه الإسلام، بل يسن له من القوانين والمبادئ والنظم ما يكفل لهذا المجتمع حياة صحيحة، وما يدفع به في ثقة وأمن لتحقيق إرادة الله وكلمته، تلك الكلمة التي بها نزلت الشرائع من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسل جميعا في هذه الكلمة سواء: وهم مكلفون دعوة الناس إليها، وهم مكلفون هم ومن معهم الدفاع عنها والتضحية في سبيلها.
لم يغفل الإسلام في هذا المجتمع الأكبر الأدب الاجتماعي النفساني. ولم يقصر في بذر بذور الحب والرحمة، وفرصة التعاون والتضامن. وشرع أهدافا عليا يسعى إليها المجتمع السليم. ونظم الحكم، وضمن العدالة القانونية. وضمن الأمن والسلامة وضمن الحياة المعيشية. وعادل بين الطوائف والأفراد اجتماعيا. وقرر في المال أصولا قيمة تضمن سلامة المجتمع.
الله واحد. صدر عنه كون واحد. بكلمة منه واحدة. وهداه بشريعة واحدة. كل هذا ليأمرنا بالوحدة والمحبة والتعاون، وتحقيق كلمة الله التي أرادها على مر الأيام والدهور، من صدق وعطف ورفع ظلم، وإحسان وتعاون وإثمار، ووقوف في وجه الطغيان، ومحاربة الاستغلال الفردي والجماعي، والتزام الجادة، والنأي عن كل ما يحط الإنسان والإنسانية.(991/11)
هذه هي رسالة الله التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد. فلسنا نخرج على أمم الغرب ودوله بجديد حين ندعو إلى هذه الأهداف السامية، لأنها من صميم رسالتهم من قبل أن يحرفوا الكلم عن واضعه، ومن قبل أن يفصلوا الدين عن الدولة. ومع ذلك فهم يرونها شيئا غريبا، لأنهم مردوا على النفاق والاستغلال والشهوة، ومردوا على مقاطعة رسائل الوحي ومخاصمة الأنبياء، إذ في هذا الرسائل حد من طغيانهم وعبثهم ولهوهم واستغلال للأمم والشعوب.
الإسلام دين سلام لا دين حرب. وهو يقاوم الحروب في كل مظاهرها إلا فيما يتفق ورسالته العالمية؛ فهو لا يرضى الحرب العنصرية، ولا يرضى حرب الدينية كما يفهمها الأوربيون، ولا يرضى حرب الاستعمار والاستغلال، ولا يرضى حرب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، ولا حرب المغانم والأسلاب؛ إنما هي حرب واحدة يرضاها، ليقر السلم والعدل في الأرض، ولينعم الناس بالهدوء والأمن، ولينسموا أنسام الحرية والتقدير. وهي الحرب التي يعلنها على الظلم في جميع صوره وأشكاله، فلا يهادن قوة ظالمة على وجه الأرض، سواء تمثلت هذه القوة في صورة فرد يتجبر على الأفراد والجماعات، أو في صورة طبقة تستغل الطبقات، أو في صورة دولة تستغل الدول والشعوب. إنها كلها صورة واحدة في عرف الإسلام، صورة منافية لمبادئه الأساسية، وعليه أن يجاهدها ما أستطاع، وعليه ألا يهادنها إلا ريثما يتجمع لكفاحها، ولا يعاونها ولا يقف في صفها بحال من الأحوال (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
هل الدين الذي يسعى إلى هذه الغاية دين حرب؟ هل الدين الذي لا يفرض نفسه عقيدة على الناس دين قتال؟ هل الدين الذي يحرم الإكراه في العقيدة دين عسف؟ وهل المسلمون الممتثلون لهذه الغايات الشريفة متعصبون؟ نعم متعصبون! ونعم هو دين حرب! في رأي الدول الغربية التي رفضت الخضوع لدينها الصحيح! وفي رأي بعض (المسلمين) المحسوبين على الإسلام ظلما وعدوانا!
هذا الكتاب الجميل الرائع من صفحته الأولى إلى صفحته الأخيرة لتقرير السلم في رأي الإسلام. هذه السلم التي تتمثل في دفع الظلم وإقرار العدالة الاجتماعية وحسب. هذه السلم التي تبدأ من ضمير الفرد وتنتهي إلى هذا العالم الأوسع. وقد قدمت حقائق هذا الكتاب(991/12)
مؤيدة كلها بالأسانيد القرآنية والنبوية ومأثورات السلف الصالح.
وحين كنت أطالع هذا الكتاب، كان يقوم بنفسي اعتراض أو رأي أو حاجة، فما هي إلا بضعة سطور أو بضع صفحات حتى أجد ما أحب وأرجو، كأنما كنت معه على ميعاد غير منظور.
وإن السلام الذي ننشده بهذا الكتاب، وبدعوتنا الربانية المشرقة، ليحمنا على التدقيق في كل ما نكتب وما نقول. وإنه قد حاك بنفسي حائك من هذه العبارة (ويكسب الإسلام في النفس السكينة والأمن والسلام، بالركون إلى الله والاطمئنان إلى جواره، والثقة في رحمته ورعايته وحمايته. وهي خاصية العقيدة الدينية التي يشارك الإسلام فيها سائر العقائد السماوية. وإنما يتميز الإسلام بأن العلاقة فيه مباشرة بين الرب والعبد، لا يدخل فيها كاهن ولا قسيس، ولا تتعلق بإرادة مخلوق في الأرض ولا في السماء).
وأنا أحسب أن العلاقة المباشرة بين الرب والعبد ليست مقصورة على الإسلام، إنما هي في الديانات السماوية كلها، من آدم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد بن عبد الله، ولكن الوغول في هذه العلاقة حدث على أيدي المحترفين بالدين من الكهان والقسس الذين بدلوا في كلم الله، ولا شك عندي أن الأستاذ المؤلف يقصد بعض الديانات التي زورها أهلها وانحرفوا بها عن سياستها المرسومة.
ويقول الأستاذ المؤلف (حتى الجريمة لا يجوز إثباتها بتسور البيوت والتجسس على الناس في مأمنهم. وقد حدث أن مر عمر بن الخطاب في إحدى جولاته الليلة ببيت سمع فيه صوت رجل وامرأة لعله رابه، فتسور الحائط لينظر، فإذا رجل وامرأة ومعهما زق خمر. فقال عمر. يا عدو الله! أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصيته! فقال الرجل: يا أمير المؤمنين: أنا عيد الله في واحدة وأنت في ثلاث. فالله يقول (ولا تجسسوا) وأنت تجسست علينا. ولله يقول (وأتوا البيوت من أبوابها) وأنت صعدت من الجدار ونزلت منه والله يقول (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) وأنت لم تفعل.
وهكذا لم يجد عمر أنه يملك عقابه، فاستتابه!
وأحسب أن الإسلام يبيح التجسس فيما هو صالح الرعية والقيام على حياطة القوانين. وعمر رضي الله عنه ما خرج إلا متجسساً مستطلعاً. ويبدو لي أن هذه القصة وضعت(991/13)
وحملت على عمر. وإلا فإنها لكبيرة من هذا الفارغ الوقح أن يجابه عمر هذه المجابهة: رجل معه امرأة، ومعه زق خمر، وصوت الرجل والمرأة يدعو من يسمعه عرضا إلى الاسترابه به، فإذا ما استشرف أمير المؤمنين لينظر ما رابه يناظره هذا الفارغ الوقح في أصول الدين! أن عمر لم يعاقبه لو كانت القصة حقيقية، لا لأنه تجسس، ولا لأنه أتى البيت من غير بابه، ولا لأنه لم يستأنس ولم يسلم، ولا لأن حجة هذا الفارغ فلجت عمر، بل لأن شروط العقاب لم تتوفر، فلم يبق إلا التعزيز وهذا ما فعله عمر.
إن الكتاب كتاب إسلامي قرآني. وإني أراه يمتاز بمميزات ثلاثة: الأولى وحدة موضوعة. الثانية أنه سد نفوسنا حاجة ملحة في هذا الفترة من الزمن. الثالثة بيانه المشرق وتعبيره الرائق.
محمود عبد العزيز محرم(991/14)
جوته
للأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
تابع
حاجته للغضب والعنف:
طبيعي أن أقول جوته هذه هي عين التشاؤم، ولكنه أساساً كان راضيا بالوضع القائم؛ لأن روح المسالمة كانت بعيدة عنه. وعلى النقيض من ذلك كان يشعر شعوراً جارفاً بالقوة النضال (كي يتمكن الإنسان أن يتفوق على أخيه) وهذا يذكرنا بقول (فاكنر) عندما تتحرك القوة بدون خوف يعجبني المجلس الحربي كثيراً). زد على ذلك أنه كان يعترف بذلك جهاراً وهو القائل (أنني أشعر بالتعاسة عندما أكون متصالحاً مع الآخرين) وهناك شواهد كثيرة يمكن استنتاجها من قناعة وسروره بالعنف والعقاب واستعداده لإسكات الآخرين بالقوة الغاشمة (ونبذ إضراب هؤلاء الناس من المجتمع المتمدن)
إن الشيء التعس حقا والمزعج للوطنيين الذين كانوا يسعون لتثقيف ألمانيا وتحريرها سياسيا أن يكون الشاعر في طليعة لمناهضين لهم ولمقاومين لفكرتهم التحررية، وما أن واتاه الأجل المحتوم حتى شعر الناس براحة بالغة وتنفسوا الصعداء لخلاصهم من هذا الكابوس، وعلى الرغم من اعتقاده بان الحرية لا يمكن أن تعني شيئاً للأرقاء؛ فإنه سمح لنفسه بالمزيد منها بصورة لا محدودة ولا موصوفة ولا مدركة، حرية كاملة، حرية كانت تتشكل بجميع الأشكال وكانت تطالب بالاطلاع على كل شيء وان تدرك كل شيء، وعلينا أن نتذكر أنه لم يكن كتاباً بل إنسانا مفعماً بالتناقضات، إنسانا عظيماً ذا متناقضات هائلة وقد أحب أن يدعو نفسه (مناهضاً للمسيحية بعناد وتصميم). ولم يترك فرصة لا يظهر فيها بعاطفيته الشديدة ضد الأخلاق المسيحية، ولو أن ذلك لا يمنعنا من ملاحظة طبيعته الطيبة، وكذلك الحال مع غوته الذي ناصر الوثنية، وهذا الانتصار للوثنية لا يمكن أن يعارض حقيقة وجوده الروحي، والتي كانت تقر بالثورة الادراكية. ولعل خير دليل على ذلك قوله (أن كل نوع من الألم فيه عنصر إلهي). وطبيعي أن نقول أن الرجل بالرغم من أنه عارض ذلك مئات المرات وقال: (إن الإنخذال والتألم ليسا من طبيعته في شيء) وقد أعلن(991/15)
بلهجة شديدة قاسية ذات يوم (إن الإنسان له حرية في الحياة بأن يكون إما مطرقة أو سنداناً). . وقوله (يظهر لي أنه من الخير أن يكون الإنسان مطرقة من أن يكون سنداناً) وهو أمر مألوف منه، ولكن الذي يدعو إلى التمعن لرضاه (تحمل الضربات المتوالية الأبدية). والآن ننتقل إلى شعاره الجديد والمعروف ب (النفور) فقد ظل ملازماً لكتاباته كما كانت (الحرية) شعار (شلر) و (الفداء) شعار واكنر، وكل شيء يدعونا للتردد باعتبار هذا الشعار شعاراً وثنيا على الرغم من إيمانه بالقوة والنضال لأن قوله: (أن الحرب ف الحقيقة مرض عجز عن معالجته الأطباء وهي مخالفة للسنن الطبيعية) رد بليغ على إيمانه بالقوة. أما مسيحيته كعامل ذي أهمية كبرى في تكوين شخصيته فقد كانت فقد كانت تعود بالدرجة الأولى إلى تربيت البروتستانتية. . وقد أسترعي انتباهه بصورة جدية ترجمة لوثر للكتاب القدس فعلق على ذلك بقوله (أنني أتمكن أن أضيف على ترجمة لوثر ولكن بصورة أحسن) ولكن البروتستانتية لم تلبث أمام حدة نقده بل نراه ينبذ ذلك ويلتجئ مرة إلى مدح القوة البدنية أو يلتجئ إلى الكاثوليكية الموحدة للديمقراطية مرة أخرى فيقول (يجب أن يكون الإنسان كاثوليكيا كي يتمكن أن يشارك العامة في عيشه وأن يختلط بهم ويتعرف على مشاكلهم وأن يكون واحداً منهم يشاركهم في السراء والضراء.
سريان التناقض في جميع أعماله ومؤلفاته:
ضعه أينما شئت من طبقات التفكي أو الوجود - استناداً على الشواهد التي لا تقبل الجدل - فستجده حتما في الطبقة المناهضة المعارضة، وهذا من مميزاته حتى في مواقفه الخلقية مثلا، وموقفه فيما يتعلق بالزمن نفسه لا يختلف عن ذلك في شيء فتراه متباطئاً متكاسلا حيناً وتراه مراعيا جهده الوقت حيناً آخر تحت شعار المألوف (ما أغنى إرثي وما أروعه. أن الوقت هو ملكي وأرض حصادي). أما من الناحية الفنية فقد كانت مؤلفاته تناقضاً غريباً بحد ذاتها، فبينما نراه يمثل نفسه تمثيلا موضوعيا (أيوليا) في سخريته، نجده في الوقت ذاته غنائيا واعترافيا، يرسم بأغانيه صورة نفسه ويعبر عنها أحسن التعبير.
ولعلنا بوصفنا إياه كمعترف ومكفر عن ذنوبه نصيب كبد الحقيقة من أن نصفه بأية صفة أخرى، ولنا الآن أن نتصرف على ذلك بصورة إجمالية، كيف كان يشرح حياته ويبين الأهواء التي كانت تتنازعه؟ يمكننا الإجابة على هذا السؤال باطلاعنا على نقاط الضعف(991/16)
في حياته وكتبه: - فانتحار (فرتر) وخيانة (كلافيكو) وهسترية (تاسو) ودعارة (إدوارد) وخبث (فرناندو) في مؤلفه (استيلا) دلائل ناطقة على سلوكه
إن الإنسان عندما يلاحظ تهوره وسخريته من أدب (المستشفي) ورغبته في تغيير ذلك بأدب روحي سام عوضاً عنه. ومع ذلك فقد كان له (مستشفاه) الخاص، وفي (مستشفاه) هذا يجد اعترافه وضعفه الإنساني باديين بكل جلاء. حتى أن مؤلفيه (مايستر) و (فاوست) يبدوان وكأن الوهن قد أصابهما في جوهريهما وهما لا يعدان شيئا بالقياس إلى الرجولة المثالية التي امتلكت على الشاعر مشاعره.
وعلى الرغم من أن ميزة الرجولة لا تظهر بوضوح في كل هذا النتاج المتنوع كما هي الحال مع (شلر) إلا أن النزعة الروحية الإنسانية بادية في كل ما كتبه بصراحة تدعو إلى الإعجاب وبأمانة تفوق الوصف وبدقة لا متناهية، وفي كل ما كتبه يظهر طابع سحر سخصيته بصورة بارزة، بحيث يمكننا أن نقول وبحق أن الإبداع الأدبي جميعاً قديمه وحديثه لا يوازيه بقوته وسحره.
وكمثال على ذلك أحب استعرض تمثيليته (أكمونت). هذه التمثيلية التي كانت مثاراً للنقد من الناحية الدراماتيكية وحتى من الناحية الفنية المحضة. ومع خروج هذه التمثيلية على جميع نظم المسرح إلا أنها تتسم بجمال فتان، بأخلاق بطلها، ذلك البطل صاحب النزعة الأرستقراطية والشعبية معاً. وما من شك أن روح اللامبالاة الرقيقة التي تسري في مسارب هذه التمثيلية تظهر غوته على حقيقيته بجميع رغائبه وشخصيته، والتي هي في نظري أوج الكمال التي ارتقى إليه سحر غوته - نجد ذلك في أكثر مؤلفاته في علاقته اللاعاطفية مع (كلارجن)؛ تلك الفتاة الصغيرة التي كانت من عامة الشعب وأخت (كرجن) التي عرض لها نفسه بلباسه الملكي الأسباني وهو يحمل الميدالية الذهبية لمجرد غرامه بآهاتها وواهاتها. . وهنا نجد (نرجسيته) التي تتمثل في حبه للفتيات السذج اللائى كان يعتقد بأنهن يمثلن عالم الروح والحب، ولم يربط نفسه بهن إلا برباط الغرام المؤقت، هذا الرباط الذي لم يكن إلا طارئاً ينثره غبار الزمن فينحل وكأنه لم يكن. أما فكرة الزواج فكانت فكرة خيالية عابرة كحبه ,
حياته الغرامية:(991/17)
كانت حياة غوته في الحب فصلا غريبا، والمتتبع للثقافة العامة مجبر على التصرف بشؤونه الغرامية لكي يكون انطباعه عنها صحيحاً لا تشوبه شائبة، فألمانيا في الأيام - التي نحن بصددها - كانت مثاراً لهذه الحوادث، وليس لدارسي غوته إلا تعداد هذه الحوادث كما كان يفعل (زيوس). أن هذه الحوادث أضحت الآن تماثيلفي (كاتدرائية) الإنسانية، وأما ركوعه وخضوعه أمام (فردريكة) و (ومريانه) و (لوته) وتذلله أمام أقدامهن - وهن ما فيه عليه من سيطرة ونفوذ - فلم يدم طويلا لأنه رأى العواطف الهوج وخرج مما تورطه به مفعماً شهامة وبأساً، وربما كان في هذا الحوادث ما يعوض عن تناقضه الذي كان ينتابه وولاؤه الذي كان أبداً مائلا إلى الانهيار. لأن حبه - في الحقيقة - لم يكن إلا ضرورة ووسيلة لغاية، تلك الغاية التي تتمثل في عمله الأدبي.
كتب مرة على (لوته) قائلا. . . إنك لا تشعرين بفرتر كما يجب وإنما الذي تشعرين به هو أنا ونفسك. وإذا كان في إمكانك أن تشعري بواحد من ألف مما يعنيه فرتر إلى آلاف القلوب لقدرت المتاعب التي تحملتها في سبيل التعبير عنه)
وطبيعي ألا تفهمه النساء ولكنهن تحملن عبئه اضطرارا.
ونظم غوته الشعر منذ البداية على الطريقة الفرنسية والإيقاع اليوناني القديم، وكان شعره موهوبا منسجماً مع روح العصر، فيه خفة ورقة وعذوبة. وقد أصبح بتطور الزمن شاعراً يشار إليه بالبنان في دستراسبورغ، بتأثير هردر. وكان لاتصاله بهوميروس واسيان وشكسبير، وخصوصاً بالأخير الذي كان معجباً به أشد الإعجاب في جميع أدوار حياته، وولعه بالكتاب المقدس وبالغناء الشعبي أثر هائل في توجيه حياته الأدبية وتنمية روح الطلاقة والانطلاق والصفاء فيه. أصبح هردر بفضل تعلمه وعمق إدراكه وغريزته النقدية القائد الأدبي للثورة التي طفت على ألمانيا سنة 1770؛ ولكنه كان يعوزه سر العظمة الملهمة والسحر الأدبي واللطف الإنساني، التي كان تلميذه غوته يتمتع بها جميعا، وهذا هو الذي جعل الشاب اليافع يبز أستاذه ويتفوق عليه. وإني أعتقد أن هردر شعر بذلك ولم يتمكن من مغالبته المرارة التي أحدثتها تصاريف الأيام في نفسه. ليس في إمكاننا الآن أن نشعر بمقدار الاستفزاز الذي حدث في ربيع العبقرية، والعاصفة التي أثارتها قصيدته (مرحباً وإلى اللقاء) وكيف أن سياق القوافي وتيارها الجارف بعثر ما تبقى من رماد زيف(991/18)
الشاعر الواقعي هردر، كما أن قصيدته (غوتس فون بيرلنجن) كان لها الوقع نفسه، تلك القصة التي هزت المسرح بأسلوبها الشكسبيري وبعرضها الألماني القديم، وقد وصفها فردريك الكبير بقوله (إنها جنون لا شكل له) ونبذها، ولكنها مع ذلك حازت سمعة هائلة باستفزازها وتحديها لجميع النظم الشعرية وسخريتها بما تواطأ عليه الشعراء، فوصفها غوته نفسه بأنها أحدثت رضا شعبيا شاملا وذلك في كتابه (الشعر والحقيقة). ثم نأتي بعد ذلك إلى بعض المشاهد الأولى من (فاوست) فنجد أصدقاءه يصفقون والمداد لم يكد يجف، ويتحدثون بفرح متزايد (عن الشخص الذي ينمو بصورة منظورة)
أما (الآم فرتر) تلك القصة التي انطبعت بطابع الرسائل فلم تقتصر على أصدقائه والمقربين إليه أو مدرسته الخاصة ولا حتى بلاده ألمانيا، بل تعدتها إلى العالم فاحتضنها كما احتضنته هي. ولا ريب أن العاطفية الواهنة الخجلة التي أبدع في جلائها هذا الكتاب الصغير، هي التي جلبت إلى مؤلفه مقت الأخلاقيين بالرغم من إخلاصها الطبيعي، وأثارت في الوقت نفسه عاصفة من الاستحسان اللامحدود من قبل الشباب. إنها كانت كالشهاب الذي سقط في مستودع مفرقعات فأحدث انفجاراً للقوى الخطرة التي كانت متحفزة للانطلاق. ويبدو أن الرأي العام في جميع الأقطار كان ينتظر - وبصورة سرية - هذا الكتاب من شاب ألماني مغمور في المدينة الإمبراطورية. . ومن الغريب أن نابليون نفسه كان يحتفظ بالترجمة الفرنسية لهذا الكتاب في الحملة المصرية. لم يتمكن غوته أن يجرب نجاحاً عاصفاً كما جربه في هذا الكتاب، فإنتاجه الذي شغله طوال حياته لم يقابل بمثل الحماسة التي قوبل بها هذا الكتاب.
أما كتابه (ولهلم مايستر) فقد لاقى رواجا كبيرا وعد من وجهة النظر الفنية - أي من وجهة النظر الرومانسية - بمصاف الثورة الفرنسية ونظرية (فخته) في العلوم. وعلى أي حال فإن هذا التأثير يمتد إلى (سترفتر) و (كلر) و (الجبل السحري) ولكنه يعد الثاني بالنسبة إلى (فرتر) في مدى نجاحه، وهذا ينطبق بالفعل وبصورة أوسع على كتابه (القرابة المنتخبة) وأشخاص روايته هذه يمثلون رموزاً وبيادق في لعبة ثقافية تدعو إلى التفكير العميق. . أما كتابه (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) والذي احتوى على مالا يثمن من جواهر غوته فقد ظلت طبيعته الأولى في المكتبات مكدسة بدون أن تلقى رواج يذكر.(991/19)
أنهى غوته القسم الثاني من فاوست تجهد جهيد وتعب شديد، لأن قوته البدنية كانت في تدهور مستمر؛ وقال بخصوص ذلك ما يلي: (إن هذه الأوقات سخيفة جدا لدرجة أنها أقنعتني بان جميع مجهوداتي المضنية المخلصة سوف لا تجازى، بل سيرمى بها على ساحل البحر! وستحطم هناك إلى أن تتغطى برمال الشرف). .
تأثير فاوست العالمي
نشرت بعض القطع من القسم الثاني من فاوست في حياة غوته وخصوصاً ملحمته (هيلين) التي نشرت في جميع المجلات الفرنسية والأسوجية والروسية، وقد علق على ذلك غوته بقوله: (إن الأدب الوطني لم يعد له مكان يذكر في عصر الأدب العالمي، وإن كل شخص يجب أن يبذل جهده للإسراع بإيصال هذا العصر إلى ذروة قوته)
كيف أدمج العالم بذاته؟ وكيف أثر فيه؟ ماذا أعطته كل من إنكلترا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا والشرق الأقصى وأمريكا؟ وكيف أثر في الحياة الثقافية لهذه البلدان جميعا؟ كل ذلك وأكثر من ذلك يشرحه لنا المؤرخ الأدبي (فرتر سترخ) في كتابه (غوته والأدب العالمي) (والذي لا يزال أكبر مصدر في دراسة غوته.) وقد قال أمرسون بخصوص فاوست ما يلي: وإن الشيء البارز في هذا الكتاب هو الذكاء الهائل. أن ذكاء هذا الإنسان محلل جبار للعصور القديمة والحاضرة على السواء، بما فيها من الأديان والسياسة وأساليب التفكير؛ محلل لها إلى عناصرها وأفكارها المبسطة). فهذا الذكاء هائل وهذه الإحاطة الشاملة والتنظيم الدقيق والعقل الممتزج بالشاعرية، كانت تمثل فكره الجبار الذي كان ينبض بمشاعر المستقبل بشجاعة خارقة. ومن الغرابة أن نتصوره وقد تحدى الموت بإدراكه للمستقبل وبتوقه له، وهو لا يزال في دور الصيرورة والتكوين، وليس في الناحية الأخلاقية والظاهرية وحسب، بل حتى في الناحية العملية، هذا التوقع الذي كان واجب كل شخص الإسراع بإعداده والتهيؤ لاستقباله والعمل على برازه إلى حيز الوجود وفي الحقيقة فإن كتابه (رحلة ولهلم مايستر) الذي وضعه في أواخر أيامه - يتضمن فكرته الأساسية وهي (النفور). أما مثله الأعلى المتقمص في فكرة (الشخصية الكونية) فنراها تذبل تدريجياً حتى تسقط نهائيا من مؤلفاته الأخيرة فيحل محلها العصر الإجماعي، وأما ما نجده في هذا الكتاب فهو عدم أهلية الفرد للقيام بما يتطلبه المجتمع منه كفرد، ولذا فاجتماع الناس هو الذي يكون مفهوم(991/20)
الإنسانية، وعلى ذلك يصبح الإنسان بمثابة عمل وأهميته تبرز لكونه يقوم بدور فعال في سبيل الثقافة الاجتماعية، وكذلك يظهر مفهوم الجماعة بوضوح وجلاء عن طريق إحلال العلاقة الاجتماعية محل الفردية الضيقة.
وليس من شك في أن عمره الطويل - على وقاره - لم يتطرق إليه الجفاف ولا التصلب، فقد كان مفعما بالحساسية والدهشة والاستماع بالحياة ورفع شان الأفكار العصرية، وقد كان الحديث الدائر على مائدة سيد القرن الثامن عشر لا يتعدى نطاق الأفكار الطوبائية والمشاريع العمرانية، كحفر قنال لإيصال المحيط الهادي بخليج المكسيك وحفر قناة أخرى لإيصال البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر. وقد كان يؤكد دائماً ذلك بقوله: (وإن تحقيق هذه الأشياء يستحق مني العيش خمسين سنة أخرى). أما ثقته بالمستقبل فقد كانت تحتضن العالم كله، وأما حماسته فكانت نتيجة لشعوره بالقيمة العملية للحقائق العلمية وتأثيرها في نبذ الأفكار الغيبية التي كان العالم متأثراً بها ومريضا بسبها فسعى جهده لتخليصه منها. وقد نظم كل هذه المشاعر ببيته التالي (إي أمريكا! أن حياتك أحسن من حياتنا هنا في القارة، فأرضك لا تعوقها الصخور ولا القباب القديمة الخربة) وجميع هذه القباب هي من آثار (السخافة القديمة) التي يمقتها أشد المقت، وكان يصر على تهديمها كي يحب الإنسان الحياة على اعتبار هذه الآثار من الناحية المعنوية - كانت تمثل في نظره الرجعة العاطفية (السخافة) التي كانت تقف حجرة عثرة في سبيل التقدم البشري، وقد ناضل شاعرنا من فجر حياته لتحطيم أحزاب هذه السخافات لما لها من تأثير في العقول؛ يبدو ذلك من قوله في كتابه ولهلم ما يستر (إنهم لا يخافون شيئا كخوفهم من الفطرة السليمة، ولكن عليهم أن يخشوا السخافة التي هي الهول بعينه: ولكن الفطرة السليمة تعرقل مسعاهم لتحقيق مآربهم فعليها السلام ولتترك جانبا، ولتقدم السخافة ما يحلو لها وما عليك إلا أن تجلس وتنتظر)
ومع ذلك فجوته لم يحبس ولم ينتظر بل صمد (وقف) بشجاعته وبأسه ويجلد ويناضل في سبيل إبادة هذه السخافة، وفي سبيل أركان الفطرة السليمة. أليس اتجاه السخافة هذه بذاته يهدد الإنسانية اليوم؟
أجل أن ذلك لم يخف على بصيرة جوته فعرفها وشعر بها وهي تنمو؛ ولذا وجدناه بطلا(991/21)
مغموراً في مقارعته لها، وهذه القوة هي التي جالدها لا الثورة ولا الدستور ولا حرية الصحافة ولا الديمقراطية. ولقد قيل أن آخر كلمة صدرت من فمه قبل أن يغمض عينه الإغماضة الأخيرة (دعوا ضياء أكثر يدخل علي) ولكن هذا القول لا يمكن الاعتماد عليه بصورة قطعية، ولكن الشيء الذي قاله حقيقة في كلمته الأخيرة، والكلمة التي ناضل طول حياته في الدفاع عنها هي (وأخيراً أن الشيء المهم هو التقدم!)
بعقوبة
ترجمة - يوسف عبد المسيح تروت(991/22)
أقباس من الكتاب
المؤمنون الفائزون
للأستاذ نور الدين الواعظ المحامي
(قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون الذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأمانتهم وعدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)
قرآن كريم
أخي المؤمن:
إن مثل الإيمان في القلوب، كمثل النور في الظلام، فكما أنا النور ينير ديجور الظلام، ويبدد أشباحه، ويزيل مخاوفه، ويبعث الطمأنينة فيه، ويطرد أوهامه، فإن الإيمان ينير القلوب ويبعث الحياة فيها، ويكشف عنها أغطيتها الكثيفة، ويقذف الانشراح فيها. . فتصبح القلوب المؤمنة (كالربيع) في جمالها و (كالسماء) في صفاءها، فتنجلي أسرارها، وتنكشف خفاياها، فتبدو لماعة تسر الناظرين، ملهمة تبهر بصيرة المتدبرين. . يفيض الطهر ويتدفق منها الصدق والإخلاص. تلك هي القلوب التي تعي وتفقه، وتدرك وتبصر: وأن مثل المؤمن كمثل المصباح، فكما أن المصباح يزداد ضياء وشعاعاً بزيادة النور فيه، فكذلك المؤمن، يزداد طهراً، وصدقاً وإخلاصاً، بزيادة الإيمان في قلبه، ويزداد انصياعاً للحق، وانقياداً للحقيقة، بقوته فيه؛ لأن الإيمان إذا استقر في قلب، فإنه يغذيه بالمكارم، ويسقيه بالفضائل، ويمدد بالإعمال الصالحة. . فيكون صاحبه مؤمناً، كريماً، فاضلا، بعمل الصالحات، ويتواصى بالحق، ويتواصى بالصبر. ذلك هو الإيمان الحق. . وذلك هو المؤمن الصادق.
لكي تنمو شجرة ذلك (الإيمان) في قلب امرئ ما. . وتثمر. . لا بد من ارتباط القلب بقوة مبدعة عظيمة. . وانقياد لها في الحركة والسكون. . والمنشط والمكره، حتى يكتسب القلب(991/23)
(رهبة المراقبة) من تلك القوة المبدعة، السرمدية، الحكيمة الأزلية التي هي علة الوجود وسره الذي لا يدرك كنهه) وخير وسيلة لارتباط القلب بإرادة تلك القوة المبدعة هو (التمثيل) بين الواحد الأحد. . الذي لم يلد ولم يولد، في الصلاة بخشوع صادر من القلب، منبعث من جوانحه، لأن الصلاة هي معراج الروح إلى الملأ الأعلى. . بها تغرس بذرة الإيمان في القلب، وبالاستمرار فيها في شجرته، وبالإكثار منها تثمر. . (الذين هم في صلاتهم خاشعون (كما لا بد من إيتاء الزكاة تزكية للأموال من الدنس. وإيفاء لحقوق السائلين (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) لأن الحق يستلزم إيفاءه، والممتنع عن إيفائه عاص يجب محاربته وعقابه. إذ لا تهاون في الحق لسمو منزلته وعلو مكانته، وخطورته، لأن في ضياع الحقوق اختلال توازن العدالة، وتحكم الظلم في مصير الناس. ولا بقاء لملك مع الظلم، لأن العدالة أساس الملك. . ولا عدالة مع إنكار حقوق السائلين والمحرومين. (والذين هم للزكاة فاعلون). ولكي تستمر شجرة ذلك (الإيمان) في النمو والحياة. . لا بد من ترفع عن كل ما هو باطل وضلال، وفسق وفجور، وإعراض عن المعاصي وابتعاد عنها وسمو عن اللغو، وإغراق في حب الحكمة، وصيانة للوقت الذي هو كالحياة. . وترفعاً عما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال.
(والذين هم عن اللغو معرضون). كما لا بد من اجتناب الفحشاء والمنكر، صيانة للنسل، وحفظاً لحدود الرحمن تعظيماً له، وإكباراً لما امرنا به من التزام الخلق العظيم، لأن الإنسان مكرم لسيطرة العقل على شهواته، واعتداله بين ما تتطلبه الروح والجسم، لأن انطلاق الشهوات قتل للنفوس، وهدم لأسس الاجتماع، ونهاية الأمر وإباحية لا تبقي ولا تذر. وفي كبح جماحها تكريم للنفوس وحفظ لها، وبناء لأسس الاجتماع وتهذيب له. . . (والذين هم لفروجهم حافظون). ولكي تبقى شجرة ذلك الإيمان في حرز من الجفاف والذبول. . لا بد من إتصاف المؤمن بصفة الأمان، إذا أؤتمن لم يخن بل يؤدي الأمانات إلى أهلها، وإذا عاهد أو عاقد أوفى بعهده ولم يخالف. لأن الأمان والعهد والعقد والتزامات تترتب في الذمة يجب إيفاؤها، من دون إهمال، لأن في ذلك زعزعة لمبدأ (الثقة) ونقض لدستور الفطرة السليمة (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون). كما لا بد من صفة المواظبة على الصلاة في مواقيتها، لأنه سئل الرسول (ص) يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟(991/24)
قال الصلاة في وقتها. ثم أي؟ قال: بر الوالدين. ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله؛ لأن المواظبة على الصلاة في وقتها دليل على تعلق القلب بها ومحبته إياها. . حتى تنقلب إلى قرة العين كما يقول الرسول (ص). . وفي تعلق القلب بالصلاة ومحبته إياها. . امتزاج لطيف بمشاعر روحية سامية لا يدركها إلا العارفون (والذين هم على صلواتهم يحافظون).
أيها الأخ الحبيب. .
إن نداء يرن في أذني وينبئني (بأنك مشتاق لتكون من المؤمنين الفائزين في الدنيا والآخرة) لأن الفوز غذاء الروح وان الإنسان قد جبل على حب الفوز والفلاح، ولكنه كثيراً ما يجهل سبيل الفوز وطريق الفلاح. . فيصد عن السواء السبيل، فتعالى معي. . وقلوبنا متعانقة. . وأرواحنا ممتزجة، نتدبر آيات الذكر الحكيم ونتأمل فيها، كي ترسم لنا سبيل الفوز، وترشدنا إلى طريق الفلاح. . إنها تهمس في آذاننا، وتقول: يلزمكم كي تكونوا من المؤمنين: -
1 - إيمان طافح مع خشوع قلبين، في الصلاة. وحفظ لمواقيتها ومواظبة عليها
2 - إعراض عن اللغو، وترفع عنه، وحب للحق والحكمة
3 - أداء للزكاة، إيفاء لحقوق السائلين والمحرومين
4 - طهر كامل، واجتناب للفحشاء وصيانة للنسل. وحرص على الشرف.
5 - رعاية للعهد، والتزام للعقد، وحفظ للأمانات
هذه هي سبيل الفوز - أيها الأخ المؤمن - فهل أنت مستعد لإتباعها وسلوكها؟ (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)
نور الدين الواعظ المحامي
كركوك - عراق(991/25)
زعماء التاريخ:
مصطفى كمال أتاتورك
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
(لم يكن مصطفى كمال. رجلا من رجال المصادفة والحظ. يرفعه إلى البطولة خلو الميدان. ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل. . والحيوية للشعب الذي يأتي أن يموت. .)
(الزيات بك)
- 5 -
انتقل مصطفى كمال إلى الأناضول. . . مبعدا عن القسطنطينية، وكان عليه أن يعمل على تسريح جيش الأناضول، وحل جمعية الاتحاد والترقي، بناء على رغبة السلطان وحيد الدين.
وقد أشترط مصطفى كمال قبل انتقاله أن تكون له صفة رسمية، وان يكون تحت أمره فيلقان كبيران، يتبعهما أربع فرق، كما يكون له الحق في إصدار الأوامر والتعليمات للقرى المجاورة لمنطقته، ولو لم تدخل في دائرة تفتيشه، وكذلك الاتصال بجميع قوات وولاة الأناضول.
ومع أن هذه الشروط أثارت دهشة وزير الحربية، وجعلته يتردد في التوقيع، إلا أن فكرة إبعاد مصطفى كمال عن القسطنطينية، ونفيه إلى الأناضول كانت قوية ومستحكمة. . ولذلك وافق بعد تردد، ومنحه الامتيازات التي أرادها لنفسه
وصل مصطفى كمال الأناضول في اليوم التاسع عشر من شهر إبريل سنة 1919م، هو اليوم الذي يعتبره مؤرخو النهضة بداية للحركة الكمالية، ثم بداية للعهد التركي الحديث.
وكان مصطفى كمال قد حزم أمره على البقاء في الأناضول إلى أن تظفر الأمة باستقلالها، لذلك بادر بالاتصال بالقواد والولاة اتصالا برقيا، وأخذ يبث في نفوسهم روح الثورة، وعمل على تأليف مؤتمر وطني للنظر في أحوال الأمة التركية، ولكن السلطان لم يقبل تأليف مثل هذا المؤتمر، فقابل مصطفى كمال ذلك بالاستقالة من السلك العسكري، وحمل(991/26)
لواء الجهاد كزعيم قومي. .
وفي اليوم الثالث عشر من شهر سبتمبر سنة 1919م وقع ميثاقا يقضي بمواصلة الحرب إلى أن تتحرر أرض الوطن من العدو الدخيل، فانضوى تحت لواء كل من دبت في قلوبهم الحياة، وانبعثت من نفوسهم الحمية والغيرة على الوطن التركي الذليل!
وكانت أهم القرارات التي أصدرها المؤتمر الوطني. . (أن جميع أجزاء الوطن بحدوده القومية كل لا يتجزأ، وأن تكافح الأمة ضد أي احتلال أجنبي، وتستمر في كفاحها في حالة انحلال الدولة العثمانية، وأنه إذا عجزت الحكومة العثمانية عن الدفاع عن استقلال الوطن، فتؤسس حكومة مؤقتة في الأناضول لهذه الغاية، وهذه الحكومة تختار من قبل المؤتمر الوطني. . وإذا لم يكن منعقدا، فمن قبل هيئته التمثيلية. .)
ولذلك لم تمض فترة طويلة على قرارات المؤتمر، حتى أقام حكومة جديدة، واتخذ (أنقرة) عاصمة له، وأعلن انفصاله عن السلطان.
حينئذ أصبح مصطفى كمال - صاحب السلطة المطلقة، فهو رئيس الحكومة الجديدة، وقائد جيوش المقاومة، وعليه يتوقف استقلال البلاد.
وفي هذه اللحظات التي كانت البلاد أحوج ما تكون فيها إلى توحيد الجهود، وجمع الصفوف. . أخذ السلطان يقاوم مصطفى كمال مقاومة فعليه، فاستصدر فتوى أعلن فيها عصيانه وخيانته للسلطان. . وطبع منها آلاف النسخ، وألقى بها من الطائرات في جميع أنحاء الأناضول، وكان لهذه الفتوى أثران كبيران:
أحدهما من جانب الشعب الذي بدأ يتخلى عنه، والآخر من جانب اليونانيين الذين أرادوا أن يوسعوا منطقة احتلالهم، فأخذوا في التقدم والهجوم شرق ولاية أزمير. .
وكان الموقف في غاية الحرج، والبلاد تحيط بها الأخطار من كل جانب، لكن مصطفى كمال أظهر قوة وحزما وثباتا واستطاع في نهاية الأمر أن يوحد الأمة، ويستعد للنضال من جديد.
تقدم اليونانيون تقدما سريعا في بلاد الأناضول، فوقعت في أيديهم كوتاهية وأفيون قرة حصار، وأخذت جيوشهم تتقدم إسكي شهر الجيش التركي، وكانت خطتهم تقضي بمحاصرة الجيش ومحاولة إفنائه، حتى يستطيعوا الوصول إلى قلب الأناضول، والقضاء على حركة(991/27)
المقاومة في أنقرة ذاتها. .
وحينما شعر عصمت - قائد الجيش - بالخطر الذي يهدد البلاد، بادر بالاتصال بمصطفى كمال، ليتولى بنفسه قيادة الجيوش ومحاربة اليونانيين.
فلما وصل مصطفى كمال أخذ يدرس الموقف دراسة تامة، ثم أصدر أمره في النهاية بإخلاء إسكي شهر، والتراجع إلى الوراء ثلاثمائة كيلو متر والوقوف عند نهر سقاريا، وقد كان لهذه الأوامر صدى كبير في نفوس أفراد الشعب، فبدءوا يغادرون أنقرة خوفا من تقدم الجيوش اليونانية، كما لاقى مصطفى كمال معارضة شديدة من جانب نواب المؤتمر.
وبعد فترة قصيرة بدأت المعارك من جديد، واستمرت أربعة عشر يوما، أظهر فيها الأتراك قوة وثباتا، وكان يقال عن مصطفى كمال (إنه كان يعمل وكأنه صيغ من حديد؛ وكان ينام أقل الوقت. . كما كان يجلس أكثر وقته إلى مصوراته الجغرافية، وإلى ضباطه يعمل معهم في جلد لا ينفد)
وقد كان لجهوده الجبارة وخططه البارعة أثر كبير في ضعف قوى اليونانيين، وتراجعهم عن المدينة، مما جعل الناس في كل مكان يهتفون بحياة الزعيم، ويطلقون عليه منذ ذلك الحين لقب (الغازي)
ولم يكن هذا النصر ليكفي مصطفى كمال، لأنه عقد العزم منذ البداية على أن يخلص البلاد نهائيا من اليونانيين، ويشهد العالم والتاريخ على أن دولة الظلم لا تدوم، وإن طال الأمد
استمر مصطفى كمال يواصل عمله ونشاطه، فجند جميع الشبان القادرين على حمل السلاح، واتفق مع فرنسا وروسيا، حتى يضمن جانب الدول الكبرى. وفي ذلك الوقت حدثت سلسلة من الكوارث والاضطرابات في داخل اليونان، كان لها رد فعل في الجبهة الآسيوية، فلم يعودوا قادرين على الوقوف أمام الأتراك
وما كان للجيش اليوناني أن ينتظر عونا من الحلفاء، بعد أن خرجت الدول الكبرى من الحرب ضعيفة محطمة، وبعد أن اتفق الفرنسيون مع الأتراك.
ولهذا ترك اليونانيون بمفردهم يجابهون العاصفة، ويواجهون جيش المقاومة. وفي 17 أغسطس سنة 1932م، أقام الزعيم مباراة كبرى لكرة القدم، اشترك فيها رجال الجيش، وأعلن أنه ذاهب لحضور المباراة، وكان في الواقع ذاهبا لإصدار أوامره لقواده وضباطه.(991/28)
وعاد إلى أنقره، دون أن يثير الشبهات.
وفي اليوم الرابع والعشرين من أغسطس. . دعا رجال أنقره إلى حفاة راقصة. . استمرت طول الليل. . وأخبر ضيوفه أنه منهمك في عمل هام. . ثم خرج من البيت قاصدا ميدان القتال! وما هي إلا ساعات حتى اخترق الأتراك خطوط قوات الاحتلال. . وشطروها شطرين. . وكان مصطفى كمال يتنقل من فرقة إلى فرقة مشجعا الجنود وضاربا لهم أروع الأمثلة في الجهاد غير عابئ بسيل الرصاص ينهال حوله من كل جانب. . وفي النهاية انجلت المعركة وانتهت بهزيمة اليونانيين، وفرار البقية الباقية منهم إلى أزمير. . وقد أصدر مصطفى كمال أوامره إلى الأتراك قائلا لهم:
(أيها الجنود. . أن هدفكم هو البحر الأبيض. . فإلى الأمام واستمر يتتبع الجيش الهارب حتى قضى على معظمه. . وقد أنقذت سفن الحلفاء عددا كبيرا من المسيحيين الذين فروا أمام الجيش التركي المنتصر.
ومنذ ذلك الوقت لم يبق في تركيا كلها يوناني واحد، وأصبح الأتراك وجها لوجه أمام الحلفاء المرابطين في المضيقين، وتأهب العالم لرؤية ما سيكون، ولكن سادت روح التبصر والحكمة والاعتدال في اللحظة الأخيرة، ووقع الطرفان شروطا للصلح تقوم على أساس استقلال الوطن التركي، وتحلي الحلفاء عما تمسكوا به من منع الأتراك من استرداد حكمهم في أوربا
وهكذا استطاعت تركيا أن تحصل على استقلالها بفضل جهاد زعيمها العبقري (مصطفى كمال)
ولم يكتف الزعيم بذلك، بل ألغى السلطنة والخلافة، وأعلن الجمهورية، وقام بسلسلة من الإصلاحات الجريئة، التي أعطت لتركيا مظهر الدولة المتمدينة، والتي جعلت (مصطفى كمال) علما من أعلام الترك، وزعيما لنهضتها الحديثة
عبد الباسط محمد حسن(991/29)
نساء عرفن في زمن النبي
للأستاذ ناصر سعد
بقية ما نشر في العدد الماضي
ومن هؤلاء النسوة هذه المرأة الفذة أم عمارة نسبية بنت كعب العامر قلبها بالإيمان وحب الله ورسوله والدين الحنيف ذهبت هي وابناها عبد الله وحبيب من زيد بن عاصم وزوجها غزية بن عمرو فاشتركوا مع المسلمين في وقعة أحد وشدت نسيبة ثيابها على وسطها تسقي الجرحى. ولما انهزم المسلمون أتت النبي وصارت بين يديه تدافع هي وذووها عنه بالسيف والقوس، ولما جاء ابن قميئة المشرك يريد قتل النبي (ص) كانت أم عمارة مع من اعترضوه وردوه فضربها على عاتقها ضربة مبرحة - قيل وقد أصيبت أم عمارة هذه ذلك اليوم باثني عشر جرحاً سيف أو رمح أو سهم. ويكفيها فخرا أن الرسول أثنى عليها وقال: - (لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان، ما ألتفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني) وهكذا كانت المرأة المسلمة عامرا قلبها بالإيمان لا فرق بينها وبين الرجل أن سلما وإن حربا. وكم فضل النبي من أمثال نسيبة على الرجال عندما كان يتكلم السيف والرمح! فأين المسلمات اليوم من أخواتهن في ذلك العصر؟
وهذه رفيدة أو - كعيبة - بنت سعد بن سعد الأسلمية التي بنت خيمة في مسجد النبي في غزوة الخندق وعرفت الخيمة باسمها، كانت تأتي بالجرحى إلى خيمتها فتعالجهم وتخدمهم تصلح من شانهم. كانت كرئيسة ممرضات تدير مستشفاها ذاك. . فما أعظمها من امرأة بارة بإخوانها المسلمين المحاربين وما أرحمها بهم، تسهر وتنصب في توفير العلاج وتدبير الراحة لهم! ومثل هذه المرأة يجب أن تكون قدوة للمرأة الحديثة التي يجب أن تهزها الغيرة على الوطن والإيمان بحبه فتنخرط في سلك المتطوعات المرهفات عن الجنود في سوح الوغى، والمرأة الغربية وإن كانت قد غزت نساء العصر الحديث في هذا المضمار فالعربية قد سبقتها بأشواط وأشواط منذ أقدم الأزمان.
ومنهن بنانة امرأة الحكم القرطي كان زوجها اليهودي من ألد أعداء النبي (ص) فهو بعد العهود ولمواثيق التي أبرمت بين النبي واليهود في المدينة حرض امرأته تلك، إذ أشار عليها بان تلقي رحى من حصن الزبير بن طابا اليهودي على جماعة من المسلمين كانوا(991/30)
يستظلون بفيئه فشدخ رأس خلاد بن سويد فأمر النبي بقتلها وقتل كل من أنبت من ذكور اليهود، هذه المرأة كان عملها هذا من جملة ما أقلق بال النبي وأدى إعلانه الحرب على اليهود الذين نقضوا العهود فاستحقوا غضب الله ورسوله.
ومنهم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أسلمت بمكة وهي شابة لم تتزوج بعد، وكانت تخرج ببادية لها بها أهل ثم تعود لبيت أبيها، فلما اشتاقت إلى اللحاق بالمهاجرين في المدينة خرجت على عادتها كأنها تريد أهلها بالبادية فرأت راكبا حكت له أمرها وشوقها إلى معقل المسلمين فأركبها بعيره وسار بها حتى أوصلها المدينة فدخلت على أم سلمة زوج النبي (ص) فأخبرتها بما جرى لها خائفة من أن يردها النبي لقومها حسب شروطه وعهوده مع أهل مكة قبل الفتح وكانت قريش قد نقضتا مرارا فلما رآها النبي رحب فيها ثم نزل بها من القرآن آية الممتحنة (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) ولما جاءها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة لم يعطها النبي إياهما مستندا على نقض قريش العهود فبقيت أم كلثوم في مكة حتى تزوجها فيما بعد زيد بن حارثة.
ومنهن أميمة بنت بشر الأنصاري زوجة حسان بن الدحداح القرشي المشرك المعادي لرسول الله (ص) لما رأت أن عز الإسلام ارتفع وأن أهلها أسلموا بالمدينة وهي في مكة مع زوجها فرت منه وأتت المدينة مشتاقة إلى الإسلام فلما وصلت هم النبي بأن يردها إلى زوجها لولا نزول آية الممتحنة تلك التي نزلت بحق أم كلثوم بنت عقبة التي مر ذكرها فزوجها الرسول ابن حنيف فولدت له عبد الله بن سهل.
وهذه زينب ابنة الحارث أخت مرحب الفتاة اليهودية التي حفزها البغض والحقد والطلب بالثأر فعملت شاة وسمتها وأتت رحل النبي عندما كان بخيبر فلما جاء النبي رحله قدمت الشاة له وهو لا يعرفها فجلس هو وأصحابه ليأكلوا فمد يده الشريفة إلى ذراع الشاة فأخذها شيئا منه فلما مضغه وابتلعه وعرف ما به أمر من كانوا معه بالكف عن الأكل وقال: - (كفوا أيديكم فإن هذه ذراع تخبرني أنها مسمومة) ولما مات بشر بن البراء من السم أمر النبي بإحضار زينب وقال لها: - (سممت الشاة؟) قالت: - (من أخبرك؟) قال: - (الذراع) قالت: - (نعم) قال: - (فما حملك على ذلك؟) قالت: - (قتلت أبي وعمي وزوجتي ونلت(991/31)
من قومي ما نلت فقلت أن كان نبيا فستخبره الشاة وإن كان ملكا استرحنا منه) فقتلها النبي. قيل ولما مرض مرضه الأخير (ص) قال: - (ما زالت أكلة خيبر يصيبني منها عداد حتى كان أوان أن تقطع أبهري) وقبضه ربه إليه متأثرا من ذلك السم. كتبنا إليك هذا أيتها المرأة المسلمة كي تتخلقي بأخلاق الخيرات المسلمات اللواتي كن يغمر الإيمان قلوبهن فضحين لدينهن كل غال ورخيص.
ناصر سعد(991/32)
دراسة وتحليل
الجواهري شاعر العراق
للأستاذ محمد رجب البيومي
- 1 -
منذ عام نزل الشاعر العرقي الكبير الأستاذ محمد مهدي الجواهري ضيفا كريما على مصر، وقدمته الصحف المصرية إلى قرائها تقديما ينبئ عن مكانته الأدبية الممتازة في عالم الشعر، وكنت أقابل كثيرا من الأدباء والمثقفين في ربوع وادي النيل، فأجدهم لا يروون شيئا من قصائد الشاعر العراقي، ويتطلعون في لهفة وشوق إلى أثر من آثاره فلا يجدون، إذ أن الصحف المصرية لم تنشر له قبل ذلك ما يصله بالقراء والمتأدبين. وأذكر أني فتشت في كثير من مجلاتنا الأدبية فلم أعثر على شيء يذكر، إذا استثنيت ثلاث قصائد نشرت في آماد بعيدة متفرقة بأبولو والرسالة والكاتب المصري. وزاد الطين بلة أن الكاتب الفاضل الأستاذ عبد الخالق طف نشر بمجلة الثقافة الغراء (يونيه سنة 1951) مقالين كبيرين عن الشاعر العراقي، فأعطى القراء بمصر عنه فكرة غير تامة، إذ اعتمد في بحثه على ديوان الشاعر الصادر في أوائل سنة 1935 مع أن الجواهري لم يبرز في مضمار الإبداع إلا بما قاله بعد صدور هذا الديوان من قصائد عامرة ممتازة تحتل مكانها اللائق في الأدب والتاريخ. وكأن الكاتب قد أحس بتقصيره فوعد القراء أن يطالعهم ببحث جديد عن الشاعر في عهده الأخير، ومضى أكثر من عام دون أن يفي الأديب بما وعد؛ فرأيت لزاما على أن أقدم الشاعر للقراء من جديد.
وقد طرق الجواهري أبواب الشعر فنظم في الغزل والرثاء والوصف والسياسة والاجتماع، غير أنه تبوأ مكانته الأدبية بقصائده السياسية التي عبرت تعبيرا صادقا عن مشاعر العرب في شتى بقاع العربية. والحق أن الشعر السياسي قد أرتفع على يده إلى قمة عالية أعادت إليه سابق مجده في مطلع هذا القرن، حين كان حافظ ونسيم والمصري والكاشف ومحرم وعبد المطلب في مصر والزهاوي والرصافي والكاظمي في العراق، يهزون المشاعر هزا عنيفا بما يبدعونه في هذا المضمار، فلم تكن ثمر حادثة كبيرة أو صغيرة إلا رأيت لها(991/33)
صدى قويا يبعثه الشعر السياسي في النفوس، وقد نضطر إلى إيجاد فارق هام بين ما قاله شعراء العراق في الميدان السياسي وما قاله شعراء مصر، فأولئك كانوا قادة جماهير، وموجهي نفوس، بقصائدهم الحماسية، وهؤلاء كانوا صدى لما يتجاوب في الميدان السياسي فحسب، فهم ينظرون إلى اتجاه الشعب وميوله ثم يعبرون عن مشاعره، دون أن يسبقوه بإيقاظ وتوجيه، وقد بقي هذا الفارق إلى يومنا هذا، فلديك فرق شاسع بين ما يقوله الجواهري في قصائده السياسية، وبين ما نطالعه لشعرائنا المصريين في الأفق السياسي على قلته وندرته، بل أخشى أن أقول أن الشعر السياسي قد مات موتا على يد هؤلاء الهائمين في آفاق الخيال، ومتاهات الذهول. ولولا كارثة فلسطين وحوادث القنال الدامية لما سمعت لهم شيئا يذكر على الإطلاق. وسيجد القارئ لشاعرنا العراقي سبقا ظاهرا حين يستعرض خرائده الجياد، ونحن نجمل هنا الحديث عنه في أغراض محدودة، كيلا تتشعب بنا الدراسة إلى منادح شاسعة لا نستطيع أن نحيط بعوالمها الرحبة الفسيحة، ونبدأ بالحديث عن فلسطين الشهيدة! فمأساتها الفاجعة أحرى بكل تقديم.
لا جدال في أن فلسطين قد هزت عواطف العرب هزا عنيفا، فترقرقت دموعهم حارة ملتهبة، واتقدت جذوات الحزن والحسرة في جوانحهم المشتعلة وقام الشعراء في شتى الحواضر العربية بتخليد المأساة واستنهاض الهمم، وقد طالعت أكثر ما قيل في هذا الكارثة الدامية، فوجدت ما ينبئ عن صدق الشعور، ولوعة الإحساس، في طراز باهت لا يخرج عما قيل منذ قرون في مأساة الأندلس، وكأن الشعر قد رجع بأصحابه إلى الوراء فلم يتقدم خطوة واحدة، عما كان عليه منذ ضياع هذا الفردوس البهيج، فقصارى كل شاعر أن يسترجع ويولول دون أن يشرح البواعث الأصلية للنكبة، ويحلل الكوامن المقنعة من وراء الحجب والأستار، وقد ربأ الجواهري بأدبه أن يقف عند الصراخ والعويل، فاندفع ينقب عن الصلال الخبيثة التي نهشت هذا العظم الرميم، ونفثت سمها القاتل في الجسم الهامد فخر صريعا لا حراك به. ورد النكبة إلى ثلاث عوامل بارزة كانت السبب والحقيقي في وقوع المأساة، وأقوى هذه العوامل إنجلترا الغادرة! فقد لبست ثياب الدهاء فأظهرت الوقوف على الحياد حاشدة وراءها جيشا عنيفا من الحقد والنفاق والابتسام! مغلفة أسرارها الخبيثة عن الأغرار من القادة والزعماء، وقد وجدت أمامها - لسوء الحظ - فريقا يهيم بحبها في(991/34)
كل واد، وينزل على إرادتها في كل مطلب، يهادن إذ تطلب الهدنة، ويحارب حين تدفع به إلى الخراب والوبال، وقد مد له في الذهب اللامع، فملأ خزائنه، وضاعت فلسطين شهيدة على يده، وهذه حقيقة مرة يفصح عنها الشاعر في شجاعة ويقظة إذ يصيح
حماة الدار لولا سم غاو ... أساغ شرابه فرط التمادي
ولوغ في دم الخل المصافي ... فقل ما شئت في الجنف المصادي
ولباس على ختل وغدر ... ثياب الواقفين على الحياد
وخب لا يريك متى يواتي ... فتأمن شره ومتى يعادي
تطلع إذ تطلع في رخى ... وتقرع حين تقرع في جماد
ولولا نازلون على هواه ... سكارى في المحبة والوداد
نسوا إلا نفوسهم وهاموا ... غراماً حيث هام بكل واد
أجرهمو على ذهب فجروا ... فلسطين على شوك القتاد
وقادوها له كبش افتداء ... صنيع الهاربين من التفادي
لكنتم طب علتها، وكانت ... بكم تحدى على يد خير حاد
فإذا ترك إنجلترا الداهية وأذنابها الضعفاء، لجأ إلى العامل الثاني، فتسائل عن سر من أسرار النكبة في رأيه، وجهر بالحقيقة سافرة حين أعلن أن هذه المنكوبة لم تضع بددا بحيلة ساحر، أو غضبة قدر لا مرد له، ولكن لأنها - وأخواتها - مسترقة مستذلة قد خيم فوقها الثالوث الأشأم، فلم يبرحها الجهل والفقر والمرض، لحظة من اللحظات، وقد منيت جميعها بفريق من الطغاة، قضوا على المواهب العالية، وحاصروا العقائد المبادئ، ووضعوا الأبرياء في الأصفاد والأغلال، وقام في كل قطر شقيق حجاج طاغ يزيف إرادته، وزياد باطش يعصف بحميته، بينما يملأ يديه من الذهب السائل، ويرسل شهواته مطلقة الأعنة، فلا تذر من شيء عليه، ويفتح أبواب السجون لشهداء الرأي والوطنية والاستقلال، حتى خمدت النخوة العربية، وغرق الشرقي العربي في لجج الاستعباد والهوان. . ذلك ما يفصح عنه إذ يقول:
حماة الدار ما النكسات سر ... ولا شيء تلفف في بجاد
ولا لغز يحار العقل فيه ... فيجعل ما سداس من أحاد(991/35)
ولكن مثلما وضحت ذكاء ... ونور حاضر منها وباد
فما ذهبت فلسطين بسحر ... ولا كتب الفناء بلا مداد
وما كانت فلسطين لتبقى ... وجيرتها يصاح بها بداد
وست جهاتها أخذت بجموع ... وجهل واحتقار واضطهاد
شعوب تسترق فما يبقي ... على أثر لها ذل الصفاد
تساط بها المواهب والمزايا ... وتحتجز العقائد والمبادئ
وتطلع بين آونة وأخرى ... (بحجاج) يزيف أو (زياد)
فيذوي الخوف منها كل خاف ... ويصمي الجور منها كل باد
وتنتهب البلاد ومن بنيها ... يؤوب الناهبون إلى سناد
وتنطلق المطامع كاشرات ... تهدد ما تلاقى بازدراد
وتنطبق السجون مزمجرات ... على شبه وظن واجتهاد
والعامل الثالث في رأي الشاعر هو ما لدى اليهود من منعة وعتاد، فقد جذبوا الرأي العالمي والصحافة العربية بما توفر لديهم من حذق وإخلاص، وقد تربوا تربية صالحة قوية، فحذقوا العلوم والصناعات، وساهمت المرأة لديهم في البيت والمصنع والمعبد والقتال، فليس فيهم من فقير يستجدي الأكف، ولا ملقى بقارعة الطريق تحمله أمه في الكور بجهد جهيد، ولا زعيم خائن يغضب المال والجاه على حساب الضحايا والأبرياء، ولا مماسيخ مشوهون قد حطمهم السغب والكلال!! هؤلاء جميعا لا يوجد أحد منهم لدى الأعداء، مع أننا لا نجد غيرهم في جيوشنا الواهنة المتخاذلة!! فكيف تتعادل الكفتان!؟ ويتحقق المحال، هذا ما يصرح به الشاعر إذ يقول:
جيل تصرم مذ أبدى نواجذه ... وعد لبلفور في تهديدها قطعا
والساهرون عليه، كل منتخب ... بيني ويهدم أن أعطى وإن منعا
تهوى العروس على أقدامهم ضرعا ... وتحتمي سادة الدنيا بهم تبعا
مررت بالقوم (شذاذ) فما وقعت ... عيني على متمن غيره ضرعا
ولا بملقى وأهليه بقارعة=ولا بحاملة في الكور من رضعا
ولا بمن يحرس الناطور أرجلهم ... مهروءة سهلت للكلب منتزعا(991/36)
وعند سلعته تصغي البنون لنا ... نغلي - ونرخصها في الأزمة - السلعا
وجدتها عندهم زهوا منورة ... البيت والبحر والأسواق والبيعا
بينا تراقص بالأنغام صاحبها ... إذا بها توسع الألغام مزدعا
ونحن ما نحن! قطعان بمذأبة ... تساقطت في يدي رعيانها قطعا
في كل يوم زعيم لم نجد خبرا ... عنه ولم ندر كيف اختير واخترعا
أعطاهمو ربهم فيما أعد لهم ... من الولائم صفوا فوقها المتعا
كأسين، كأسا لهم بالشهد مترعة ... وللجماهير كأس سمها نقعا
قتالة، خوف ألا تستاغ لهم ... أوصاهمو أن يسقوهم بها جرعا
وينطلق الشاعر في الحديث عن هؤلاء المتزعمين! وكيف زودهم الاستعمار بوصاياه الخارقة، فصبوا على الشعوب كؤوس الصاب مترعة بالسم الناقع، وقد أدركوا بعض الحذق، فلم يصبوا الكأس مرة واحدة، فتقضي على الشعوب القضاء السريع، بل ساقطوا الجرع السامة نقطة نقطة، لتأخذ وقتا طويلا في التنويم والتخدير، بينما أعدت لهم كأس مترعة بالرحيق السلسال فتنهلوا منها وعلوا كما يشاءون، وليس الزعماء جميعا طراز واحدا، ففيهم من خلصت نبته وكان قصاراه أن تدمع عينه ثم يمسح دموعها بمنديله الرقيق!! وهو على إخلاصه لا يرضى الشاعر! إذ يريد المتحفز الوثوب الكاشر الصائل، وأنت تعجب له حين يدعو في مطلع قصيدته إلى اليأس، فيخلق له الحسنات المتتابعة، فهو ذو حد يقف لديه الأمل الحالم، وهو مصحر الأرجاء لا يمد الظل على اللصوص والأوشاب!! ولكن أي يأس ذاك؟! أنه اليأس من الوعود الكاذبة، والآمال المزعومة، أنه اليأس الذي طوح بالباستيل فاقتلعه من أغواره، وقذف بطارق إلى النصر بعد أن حطم سفينه، ووقف من وراء البحر، وأمام العدو، فكان لابد من النصر في تلك الحنادس الحالكات.
وإن من حسنات اليأس أن له ... حدا إذا كل حد غيره قطعا
وأنه مصحر الأرجاء، لا كنفا ... لمن يلص ولا ظلا لمن رتعا
اليأس أطعم بالأشلاء مقصلة ... عدلا وطوح بالباستيل فاقتلعا
وطارق منه أعطى النصر كوكبه ... نزرا وعدى إلى الأسبان فاندفعا(991/37)
ورغم الظلمة الداجية التي تكتنف الشاعر في حديثه عن المأساة، ورغم شعوره بالعلل الأصلية للنكبة، وإلمامه بالأوضاع الشائنة التي جلبت هذه الكارثة المروعة، رغم ذلك كله يتعلل بالنصر القريب - بعد أن يئس من الوعود البارقة - ويمد خيوط الأمل للشباب المتوثب، ويدعو إلى الممات في سبيل الحياة المرتقبة؛ ويفسح الصدور للرصاص، ويحذر من الخوف والخور والقنوط، كما ينتقل بريشته الملهمة إلى طبيعة فلسطين، فيصور الفجر المترقرق فوق الروابي الخضر كوشاح فضي لامع، ويحمل إلى القارئ أنفاس المروج العاطرة، ويسمعه ألحان الوحي في مهابطه المقدسة؛ وغناء داود مع الطيور في أورشليم الحالمة؛ ثم يدعو الشباب الفلسطيني المكافح إلى الاعتماد على نفسه؛ فالشعوب العربية لا تجيد غير العويل والبكاء؛ فهي تدق من الأسى راحا براح؛ ويدا بيد؛ ثم تقف عند ذاك!! فإن تجاوزته فإلى الخطب الرنانة والقصائد المسهبة؛ ولن تجد أوجع من الحقيقة المريرة يعلنها الشاعر صريحة سافرة فيقول عن قومه في يأس واكتئاب
أأم القدس والتاريخ دام ... ويومك مثل أمسك في الكفاح
فلا تتخبطي، فالليل داج ... وإن لم يبق بد من صباح
ولا تعني بنا إنا بكاة ... نمدك بالعويل وبالصياح
ولا تعني بنا، فالفعل جو ... مغيم عندنا والقول صاح
ولن تجدي كأيانا نصيرا ... يدق من الأسى راحا براح
ولا قوما يردون الدواهي ... وقد خرست بألسنة فصاح
يتبع
محمد رجب البيومي(991/38)
رسالة الشعر
موشح
اللؤلؤ المنحدر
للأستاذ محمد زكي الدباغ
زارني والليل في طرته
ومحيا البدر من غرته
يتجلى الحب في نظرته
قمت أستقبل عندي قمرا ... يزدري في برده بالقمر
خائفا لاذ بصدري ورنا
خلفه - من خشية الواشي بنا
خافق القلب اضطرابا وأنا
خافق القلب عليه حذرا ... وسرور باللقا والظفر
كلما البدر علينا طلعا
خبأ الوجه بصدري جزعا
وإذا تغريد طير سمعا
أتلع الجيد ومد البصرا ... متبعا أوهامه بالنظر
يحسب النجم عيونا تنظر
ونسيم الروض عينا يخطر
وإذا صبرته - لا يصبر
وهو أن يأنس قليلا نفرا ... وبكى باللؤلؤ المنحدر
خده المشرق حسنا وجمالا
شب جمر الوجد فيه فتلالا
كلما قبلته زاد اشتعالا
أتراه في فؤادي استعرا ... أم فؤادي منه في مستعر(991/39)
يا حبيبي ما الذي قد أفزعك
أنت في ثوب الحيا ما أبدعك
عادت الأفراح للروح معك
فابتسم لي فالهناء استتر ... في ثنايا الكوثري العطر
مل على صدري فالغصن يميل
ألصق الخد بخدي يا جميل
واسقني من مرشف كالسلسبيل
ذوب شهد فوق قلبي قطرا ... كالندى يقطر فوق الزهر
وإذا ما الثغر أتصل
هز أوتار فؤادي بالقبل
واستمع منه أغاريد الأمل
فهو قيثار غرام طهرا ... مطرب اللحن شجي الوتر
زال عنه خوفه فابتسما
وبدا في وجده ما كتما
فاغتنمناها وكانت نعما
قد حلت وردا وطابت صدرا ... لم يشبها غير بعض الحذر
محمد زكي الدباغ(991/40)
الكتب
السقامات
قصة طويلة ليوسف السباعي
للأستاذ كارنيك جورج ميناسيان
لعل الأستاذ السباعي من أكثر الأدباء المصريين إنتاجاً، فهو ينتج بمعدل أربعة كتب في العام الواحد عدا القصص القصيرة الأخرى التي يكتبها للصحف، ونحن لا نحاسب الكاتب على كثرة نتاجه أو قلته، وإنما نحاسبه عن النتاج نفسه، وعن قيمته الفنية والأدبية والاجتماعية.
لو تأملنا كتابات السباعي السابقة ثم تأملنا كتابه الأخير لوضعنا الكتب السابقة كلها في كفة، وكتاب السقامات في كفة أخرى.! فالكاتب في كتبه السابقة كان يتأرجح بين أساليب شتى. لا تربطه صفة واحدة، ولا يميز مؤلفاته أسلوب خاص! كان يكتب لمجرد الكتابة. كان بكتب كي يمد (مسامرات الجيب) بقصة كل أسبوع، ولا شك أن هذا (الروتين) في الإنتاج الأدبي قد يجعل الكاتب يغض النظر عن القيم الفنية بعض الشيء، فيحصر اهتمامه في إعداد قصة قبل الوقت المعين!
أما في (السقامات) فقد ظهر للقارئ بأسلوب مميز خاص. وبقلم الكاتب المتمكن المتعمق. فالكتاب يقع في أكثر من خمسمائة صفحة من القطع المتوسط. فليس تأليفه إذن من السهولة بمكان! فالشوط الطويل الذي قطعه السباعي قد تقصر دونه الأنفاس، وتكل الأيدي، وتجهد الأذهان؛ ولكن أنفاس السباعي لم تقصر، ويده لم تكل، وذهنه لم يجهد! فقد مضى بكل اعتداد، وبكل جرأة، وخطا الخطوة الأولى. حتى انتهى إلى الخطوة الأخيرة. ومن هذه الناحية أستحق كل إعجاب.
ونعود إلى الكتاب فنتأمله بعين فاحصة، فنراه يشمل قصة محلية، من الجو المصري القديم. قصة شبيهة بقصة (زقاق المدن) لنجيب محفوظ. من حيث البيئة وتعدد الأبطال، والفكرة المستترة وراء الحوادث. . وهي إعطاء صورة صادقة للجو المحلي القديم في مصر. فالقصة قصة بيئة. لا قصة أسرة. قصة جماعة من الناس جمعتها الحياة في صعيد واحد،(991/41)
ولونتها الحياة بلون واحد. فكل أفرادها من الطبقة الفقيرة التي تكدح طول النهار، ولا تكاد تظفر باللقمة التي تشبع!
لقد حاول الكاتب محاكاة نجيب محفوظ، كما هو واضح في رسم الشخصيات، ولكن محاولته لم تنجح مثل نجاح محفوظ. فهو في بداية قصته تطرق إلى شخصيات كثيرة، حشرها ضمن محور القصة، وجعلها من أبطالها الأولين، كما فعل محفوظ، لكنه لم يكد يخطو خطوات، حتى ترك أكثرها في حالها. . . واقتصر على قسم منها معدود! في حين نرى محفوظ لا يترك شخصية واحدة تفلت من نطاق قصته. . أنه يسيطر عليها سيطرة تامة، فيحصرها حصرا، ويجعلها في القصة ذات أثر فعال.
مجمل القصة: السقا شوشة يعيش مع ولده وأم زوجه المتوفاة، عيشة راضية، وهو إذ يتغدى ذات مرة، عند (الحاجة زمزم) المرأة المخيفة! يصادق (شحاته أفندي) الذي كان قد جاء إلى (مسمط زمزم) ليأكل على الحساب. . . بناء على دعوة من الحاجة اعتبرها دعوة حب. . وغرام! كان جيبه فارغا، لذا فقد كادت الحاجة زمزم تجرده من ثيابه بعد أن عجز عن دفع ثمن ما أكل. فتدخل شوشة في الموضوع ودفع الثمن منقذاً الأفندي من براثن الحاجة! ويعد ذلك نرى شحاته الذي يعمل في توديع الأموات إلى قبورها يعيش مع شوشة، كما نراه يأخذ شوشة إلى قهوته، ويعرفه بأصحابه ويبسط له مهنته.! حتى ينام شحاته أفندي ذات يوم على أمل أن يستيقظ فيذهب إلى موعد غرامي اشتراه بخمسين قرشا من (تاجر الأغراض) الذباح! ينام الرجل فلا يستيقظ أبدا. ولا يلبث المعلم شوشة أن يأخذ مكانه في المهنة، مستعملا نفس البدلة التي كان يستعملها المتوفى، لأنه يريد أن يتعرف إلى سر الموت! الموت الذي خطف منه زوجه، وتركه وحيدا محروما. وتقبل عليه الدنيا فيرتقي إلى رئيس للسقايين. يتحكم في توزيع المياه على الزبائن، ولكنه لا يترك مهنة المتوفى. حتى يفاتحه ولده بمخاوفه، طالباً إليه أن يكف عن توديع الموتى، فيعده الرجل، لكنه في اليوم التالي لا يغادر فراشه، فيحعل ولده محله في توزيع المياه! وما أن ينتهي من ذلك ويعود إلى أهله، حتى يجد البيت قد انهار وقضي على أبيه! فلا يلبث الابن أن يسرع فيرتدي بدلة شحاته أفندي، الخاصة بمودعي الأموات. . فيمضي أمام نفس أبيه ليودعه المقر الأخير، أنه أيضاً يريد أن يكشف عن الموت سره. .!(991/42)
وتنتهي القصة والابن قد أصبح أبا، وتربع على عرش المياه مكان أبيه، وقد وضع بالقرب منه لافتة فيها هذا الآية الكريمة (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)
والغريب أن الكتاب يبدأ الآية وينتهي بها، كما أنها تتردد في حوار القصة أربع مرات تقريباً دون أن يكون بينها وبين القصة صلة ما.! لعل المؤلف يريد أن يعزي أبطاله ويمسح على مصائبهم وهم في غير حاجة إلى ذلك. فالآية مفروضة فرضاً محشوة حشواً! فالصلة بعيدة بينها وبين مغزى القصة كما قلت، فأين الصابرون؛ بل أين الفواجع التي صبروا عليها؟ الحوادث كلها بسيطة عادية. لا تدعو إلى الصبر، لأنها توحي بالقناعة. وبالأضل من أناس مثل أولئك الفاسقين الراضين، وإن كان المؤلف قد افتعل موت الرجلين افتعالا، إذ حرمهما الموت الطبيعي وذلك لم يتمكن أن يجعل أبطاله من الصابرين المؤمنين، لأنه جعلهم يشعرون أن الموت جاء بالمصادفة وأن القدرة الخفية لا دخل لها فيه.
لقد فاجأنا المؤلف بموت شحاته أفندي في منتصف القصة وشحاته هو الوحيد الذي يسيطر على انتباه القارئ وجذب اهتمامه، لأنه الوحيد - حتى ذلك الوقت - الذي كان يسعى إلى هدف فيجعل للقصة مسحة من التشويق، فاجأنا بموته، وبذلك ماتت عقدة القصة، وتلاشى التشويق، وكأنما انتبه الكاتب إلى خطئه، فكشف للقارئ عن عقدة أخرى. . كانت مختفية عنه حتى ذلك الوقت، وبكل هذه العقدة شخصية شوشة. . الذي أخذ يسعى إلى كشف سر الموت واستجلاء أمده!
ولنا ملاحظة أخرى بشأن شحاته أفندي. فقد جعل له المؤلف شخصية ماجنة عابثة تتأثر حين ترى أمامها امرأة. فهو يتغزل حتى في الحاجة زمزم، الضخمة المخيفة.! ثم عاد - المؤلف - وأسكنه مع المعلم شوشة، ونحن نعلم أن هناك، في أعلى شقة هذا الأخير تقطن أسرة (علي الخشت) أن لهذه الأسرة فتاة ناضجة، تتردد على أسرة شوشة فتساعد الضريرة أم آمنة فإذا ما نزل شحاته عند شوشة لم تعد ترى أثراً للفتاة! وكان المتوقع أن يراها شحاته، وان تحدث بينهما أشياء. .! فما الذي جعل الفتاة تختفي عن مسرح الحوادث بمجرد ظهور شحاته؟
وهناك أمر آخر. فإن شوشة بعد موت شحاته أخذ مكانه وصار هو الآخر من (الأفندية)(991/43)
يودع الموتى إلى المقر الأخير في وقت أصبح فيه موظفاً في تصريف المياه. أي أنه يجب عليه أن يعمل طول النهار في وظيفته ثم يزاول مهنة شحاته بعد ذلك أي عند المساء. وهنا بعض التناقض. لأننا رأينا شحاته بعد قد تأخر قليلا ذات صباح فزجره الحانوتي الرئيس! فكيف لا يتأخر شوشة؟ وهو لا يزاول هذه المهنة إلا ليلا، مع العلم أن الموتى لا يدفنون إلا في النهار!
لقد اهتم المؤلف برسم شخصية (الحاجة زمزم) اهتماما كبيرا حتى جاء رسمه بليغا رائعا مثيرا؛ فحسبنا أن لها أثراً كبيرا في القصة أوانها هي البطلة الأولى فيها؛ ولكننا وجدناها تختفي تماما عن مسرح القصة، ثم تعود قبيل النهاية؛ عودة قصيرة؛ تخيب آمال القارئ وهي مع ذلك عودة مفتعلة! جاءت على إرسال الأب ابنه إليها ليطالبها بالريال المتبقي له عندها، لأنه لا يملك شيئا أبداً! وهنا الكثير من الضعف، لأن الأب قد أقبلت عليه الدنيا، وأصبح رئيسا للسقايين. كما أنه يعمل سرا في دفن الموتى، وان الموتى كثيرون كما قال المؤلف! وقد رأيناه في الليلة السابقة في الحمام مع أبنه يدفع المال بسخاء، فكيف بنا نجده في الصباح خالي الجيب تماما! كان الأوفق للكاتب ألا يكلف نفسه إعادة الحاجة زمزم؛ وأن يجعل له حيلة أخرى لإبعاد الابن عن أبيه كما ينهدم البيت وهو عنه بعيد!
وفي الكتاب بعض الأخطاء النحوية والإملائية التي لا أخالها إلا وليدة السرعة أو وليدة المطبعة. فقد جاء في (ص99) (. . وكان الثلاثة. . .) في حديثه عن ثلاث نساء! وقد تكرر هذا الخطأ في (ص101) وفي (ص102) (كانت النساء الثلاث في الفناء تتجاذبن الحديث) وفي (ص467) (لم تشعره جدته ولا أبيه)!
وهناك أخطاء طفيفة لا تؤثر في قيمة الكتاب. ويجب ألا أنسى أن السباعي قد أبدع في (ص290) حتى (ص300) في الكلام عن الموت على لسان شحاته أفندي، فقد جاء ذلك الكلام مطابقا شخصية شحاته كل المطابقة
والكاتب بعد هذا يتأرجح بين العامية والفصحى. وهذا ما يؤكد أن الكاتب عاجز عن التعبير الكامل بالفصحى، بالرغم من أنه يبرر مسلكه في المقدمة قائلا: (إن الغلبة - في الحوار - للعامية، لأنه من المستثقل الممجوج أن نحاول إنطاق أشخاص باللغة العربية في القصة، وهم لا يمكنهم في حياتهم الطبيعية أن ينطقوا بها). إنك يا أستاذ يجب أن تصور أولئك(991/44)
الأشخاص تصويرا فنيا، لا أن تنقل أقوالهم كما هي، فالفنان هو الذي يضيف على الحوادث العادية مسحة من الجمال والسمو، ولا يرضى أن ينقلها كما هي، ولا أن يصورها كما تصور آلة التصوير المناظر الطبيعية
كارنيك جورج ميناسيان(991/45)
البريد الأدبي
في مقال لعميد الأدب:
نشرت (الأهرام) الغراء في عددها الصادر في الخامس عشر من الشهر الجاري مقالا لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين باشا بعنوان (بين الأدب والصحافة) جاء فيه قوله (والغريب أنها - (ويعني الصحافة) - تقدم الكتب إلى القراء تقرظها حيناً وتنقدها حيناً آخر) وأقول: يقال في اللغة: نقد الدراهم وانتقدها: أخرج منها الزيوف، وماز بين الدرهم الزيف والدرهم الوازن غير المخلوط. وفي اللسان: النقد والتنقاد: تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها. أنشد سيبويه:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدنانير (تنقاد) الصيارف
ونقد الكتاب: إظهار عيوبه ومحاسنه، ومن ثم فلاو لقول عميد الأدب (تقرظها حينا) لأن النقد - كما سبق والقول - يشمل المحاسن العيوب. قال الشاعر:
والموت (نقاد) على كفه ... جواهر يختار منها الجياد
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فأذكر أن المؤلفات العربية التي تعنى بالنقود قليلة ولا نعرف منها إلا أربعة: الأول للبلاذري في آخر مصنفه (فتوح البلدان) والثاني (رسالة في النقود الإسلامية) للعلامة المقريزي عني بنشره فارس الشدياق في مطبعته الجوائب. والثالث: هو الجزء العشرون من (الخطط التوفيقية الجديدة) لعلي باشا مبارك. والرابع: رسالة مخطوطة أشار إليها الأب أنستاس ماري الكرملي في كتاب (النقود العربية وعلم النميات) للإمام العلامة المحدث المؤرخ تقي الدين أحمد بن عبد القادر المقريزي الشافعي، وهو مطبوع في المطبعة العصرية بالقاهرة سنة 1939
والنميات: علم يستدل به على أنواع النقود والرصائع التي ضربت في أزمنة مختلفة وبلاد شتى، وفي أيام ملوك وقياصرة وأباطرة متنوعة، واحدها النمى. القاموس: 0النمى: صنجة الميزان. . . والفلوس أو الدراهم التي فيها رصاص أو نحاس. . والجمع نمامي). والرصائع - في اللسان - زر عروة المصحف. والرصيعة: عقدة في اللجام عند المعذر كأنها فلس، وقد رصعه. والرصيعة: الحلقة المستديرة، وسيف مرصع: أي محلى بالرصائع وهي حلق يحلى بها. الواحد رصيعه(991/46)
قال الفرزدق:
وجئن بأولاد النصارى إليكمو ... حبالى وفي أعناقهن (المراصع)
وبعد: فأذكر أن عميد الأدب كان دعا الأدباء والكتاب في مقالة (محنة الأدب) إلى أن يشقوا على أنفسهم في الغوص على فرائد اللغة وأسرار البلاغة، وها نحن نستمع إلى نداء الأديب العميد فنكتب كلمتنا ملبين الدعوة منبهين إلى ما يحسن التنبيه إليه وقد سبق قلم. والسلام
عدنان
نسبة البيتين:
في العدد رقم 989 من الرسالة الغراء 16 يونيو سنة 1952 كتب حضرة الأستاذ الفاضل عبد القادر رشيد الناصري يطلب مني أن أشير إلى المصدر الذي استقيت منه نسبة ما يأتي للحسين الخليع في كتابي نديم الخلفاء
بأبي من وددته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولا فلما التقينا ... كان تسليمه علي وداعا
فقد جاء في شرح العكبري لديوان أبي الطيب المتنبي وفي جميع دواوين المتنبي نسبتها للمتنبي وقالهما ارتجالا في صباه
وقد تفضل حضرة الأستاذ الكريم عبد القادر الناصري فهنأني وحياني مبديا إعجابه بكتابي وإني أشكر لحضرة الأخ الفاضل هذا التقدير وأحيي فيه ذلك الشعور النبيل نحو المؤلفين. لا أنكر أن البيتين نسبا للمتنبي في المصادر السابقة وهي في حقيقتها مصدر واحد هو ديوان المتنبي، أما المصدر الذي نسبهما للحسين بن الضحاك فهو زهر الآداب ج3ص163. وعلى الرغم مما راجعته من مصادر لم أجد ما يرجح نسبة البيتين لأحد منهما، وقد اعتمدت نسبتهما للخليع لأنه أولا أسبق، والغالب أن ينسب للاحق ما هو للسابق ثانيا، أنهما لرقتهما للخليع أقرب، وثالثا لأن شعر الحسين بن الضحاك ضاع أكثره ونسب إلى غيره من شعره كثير. ومشكلة تنازع الأبيات في الكتب الأدبية تحتاج إلى دراسة طولية وجهود ضخمة وعلى الأخص كل ما فيه (قال الشاعر، وقال آخر، وقال غيره ويقول القائل. . الخ) ومن أمثلة التنازع هذه الأبيات:(991/47)
لا وحبيك لا أصافح بالدمع مدمعا
من بكى شجوة استراح وإن كان موجعا
كبدي في هواك أسقم من أن تقطعا
لم تدع سورة الضنى في للسقم موضعا
نسبت في الأغاني ومعجم الأدباء وابن خلكان ومسالك الأبصار للحسين بن الضحاك، ونسبت في مصارع العشاق ص425 لأعرابي ونسبت في زهر الآداب ج1 ص250 إلى محمد بن يزيد الأموي
وكنت أحسب أن وجود البيت أو الأبيات في ديوان يقطع بصحة بنسبتها إلى صاحبه، ولكني وجدت مثلا هذا البيت
فلو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
نسبت في الأغاني ج13 ص35 إلى عبد الله بن الزبير الأسدي وهو شاعر أموي، وفي شرح ديوان زهير بن أبي سلمى أن نسخته انفردت بنسبته إلى زهير وهو أقدم من سابقه، ونسب لبكر بن النطاح في شرح ديوان أبي الطيب للواحدي ص198 ودلائل الإعجاز ص387 والإبانة عن سرقات المتنبي ص46 والوافي بالوفيات المجلد الأول من الجزء الثالث وفوات الوفيات ترجمة بكر بن النطاح، ونسب في كتاب التحف والأنوار ص79لدعبل. . أما في شرح المضنون ص156 ومسالك الأبصار ج9 وديوان أبي تمام فقد نسب لأبي تمام قبل دعبل وولد بعده وهم جميعا عباسيون. وهناك من أمثلة كثير ولا يخفى ذلك على الأستاذ الفاضل عبد القادر الناصري. وأكرر شكري له وتحياتي وتقديري
عبد الستار أحمد
خطأ نحوي
نشرت جريدة (الراية) الموصلية الغراء قصيدة مزدوجة القوافي للسيد زكي الجادر في العدد (29) من سنتها الأولى منها هذان البيتان
إيه يا زهرة الحياة مضى الأ ... مس فكنا من بعده عشاق
جئتك اليوم في فؤادي حنين ... وبعيني لهفة واشتياق(991/48)
فقافية البيت الأول منصوبة لأنها خبر كان، وقافية البيت الثاني مرفوعة معطوفة على لهفة وهي مرفوعة. وهذا مثل من التجديد في الشعر العراقي الذي تدعو إليه الجريدة التي تشرف على تحريرها السيد شاذل طاقة أستاذ الأدب العربي في مدارس الموصل. . .
عبد القادر رشيد الناصري(991/49)
القصص
السكيرة
القصصي الفرنسي جي دي موباسان
وقفت العربة ذات الحصان الواحد أمام مزرعة الأم (ماكلوار) تحمل المعلم (شيكو) خمار (دي به فيل) وهو رجل في العقد الرابع خشن المعارف هائل الخلقة أحمر الوجه بطين سمين، على وجهه سيما الخبث المكر
هبط الرجل سلم العربة، ثم ربط حصانها بخشبة معترضة ومشى على ساحة الدار
كانت الأم (ماكلوار) تمتلك أرضاً تجاوز مزرعته، طالما تشوقت نفسه إلى ابتياعها منها، وضمها إلى أرضه لولا أن كان يصده عن هذه الرغبة تعصب من العجوز عنيد وتصلب شديد. وكانت تقول:
- إني ولدت في هذه الأرض، وستجنني تربتها. . .
ففي هذا الصباح ألفي العجوز، وهي دردبيس في الثانية والسبعين من عمرها، أمام منزلها معنية بتقشير (البطاطس) كانت منكمشة الجلد، جافة اللحم، منضوخة الوجه. وبرغم ذلك كانت دائبة على عملها وكأنها في ربيع العمر تقدم منها المعلم (شيكو) وربت على كتفها في دعابة ثم قال
- وصحتك أيتها الأم، هل هي جيدة وأبداً جيدة؟
- أحمد الله، وأنت أيها المعلم؟
- بخير، ولولا قليل من الألم لكنت هانئاً راضياً
- جد مليح. ثم لاذت بالصمت وأخذت تقشر البطاطس وتديرها في حذق ومهارة، بين أصابع يابسة عقداء معروقة، تشبه أرجل السراطين، وفي يدها اليمنى سكين عتيقة منثلمة لا تكاد تقطع الجبن
وحين فرغت من البطاطس، وأضحت لماعة صفراء، ألقت بها في قدر مملوءة ماء. فإذا دجيجات وأفراخ تسعى إليها ناقة مقوقئة، ثم تختلس ما تبقى في حجرها من قشور البطاطس، وتتراكض في خبث عنها وفي منقار كل منها ما غنمت من قشور
كان المعلم (شيكو) يرقب هذا المنظر في سأم وضيق وفي نفسه أمر، وعلى لسانه كلام(991/50)
يجتهد في انتزاعه، وأخيرا وفق فقال
- ألا خبرتني أيتها الأم (ماكلوار)
- وما عساي مخبرتك به؟
- ألا زلت ترفضين بيعي مزرعتك؟
- هذا أمر قد فرغت منه أيها المعلم (شيكو) فلم إقلاقي به مطلع كل صباح ومهبط كل ليل؟
- ولكني يا سيدتي وجدت حلا للمسألة أن رضيت به خرج كلانا راضياً بصفقته غير أسف ولا مغبون
- وما هو هذا الحل؟
تبيعينني أرضك ثم تحتفظين بحق استثمارها ما بقيت على قيد الأحياء، أفلا يرضيك هذا أيضا؟
فشغلت العجوز عن تقشير البطاطس، وراحت ترمي الرجل بنظر حاد عنيف تحت جفنين أجعدين. ثم قال الرجل مفسراً:
- إنك أن ترضي بهذه الصفقة تتسلمي في منتهى كل شهر مائة وخمسين فرنكا أحملها إليك في عربتي. أتتدبرين قولي؟ أتفقهين حديثي؟ مائة وخمسون فرنكا ثم لا تتبدل لك حال، ولا تتغير حياة؛ فستظلين في حقلك آمنة السرب رافهة العيش لا يدينك أحد، ولا تعملين أمراً، ولا تنصبين نفسك لعمل. إلا أن يكون استلام مائة وخمسون فرنكا، مطلع كل شهر، عملا شاقا يكد وينضب. قال هذا وطفق ينظر إليها فرحاً مستبشراً وعلى وجهه الطيبة والصلاح والمسكنة. . والعجوز تلحظه حذرة متيقظة. وقد كبر في وهمها أنه خادع لها وناصب لاصطياد مزرعتها أحبولة من ألفاظ منمقة مزورة. على أنها سألته في خبث:
إنك لتؤكد لي أن المزرعة ستظل في حوزتي فهل بلغ من أريحيتك أن تتبرع لامرأة عجوز بهذا الراتب الضخم دون فائدة تعود عليك؟ قال المعلم شيكو وقد أدرك ما تنطوي عليه غمزة العجوز.
لا أثقل عليك يا سيدتي في شأن الأرض، فلسوف تغلين خيراتها وتنتفعين بثمراتها ما مد الله في حياتك العزيزة. غير أني أرجوك أن تكتبي لي صكا شرعيا، يخولني حق امتلاكها(991/51)
بعد عمرك الطويل أن شاء الله. ولبثت المرأة وهي تصغي لقول المعلم مأخوذة دهشة حائرة لا تملك لرأيها إبراما ولا نقضا، ولا لموقفها من الرجل إجابة ولا رفضاً، وأخيرا قالت:
إنه لا يسعني رفض اقتراحك، فلو أنظرتني أسبوعا آخر أتبصر أمري وأروي رأيي. فأطاع المعلم (شيكو) ثم غادر الأم فرحاً فخوراً، كأنه الملك الجبار، استولى على بلد عدوه بالحديد والنار. . أما الأم (ماكلوار) فقد مضت أيامها ساهمة حالمة، لا يستقر جنبها على مضجع، ولا يزور جفنها سنة من نوم. ثم استشرت بها حميا التردد وعصفت نار الحيرة فكادت توطن نفسها على الرفض التام، لولا أن ذكرى المائة والخمسون فرنكا الطنانة البراقة، التي توشك أن تتدحرج في حجرها مطلع كل شهر، كانت تلهب رغبتها الخامدة وتذكي أطماعها الهامدة.
وأرادت أن تضع لترددها حدا، فمضت إلى الموثق الشرعي تنفض له جملة حالها وتستنصحه في أمرها. فأشار إليها بالاطمئنان ونصح لها بالرضا بحل المعلم (شيكو)، ولكنه اشترط عليها لذلك، أن يضاعف لها الراتب فيجعله ثلاثمائة بدلا من مائة وخمسين فرنكا لأن مزرعتها تساوي في أقل ثمن 160 ألف فرنك، ثم قال لها في أضعاف حديثه:
- لئن عمرت خمسة عشر عاما، فلن ترزئي صاحبك أكثر من أربعين ألف فرنك - فاستقلت جسم العجوز هزة من الطمع حين ذكرت الثلاثمائة فرنك التي سوف تحضى بها رأس كل شهر ولكنها على ذلك ظلت حذرة مبلبلة الخاطر، تنوشها الهواجس، وتتوزعها الوساوس فهي تتوقع حيناً مفاجأة مفجعة وآنا مكيدة مستورة، لا تبصرها ولكنها تحسها، ولبثت حتى المساء تناقش المسألة بكل حل، وتواجه المقترح من كل جهة. ثم. ثم لم تستقر على عزم ولم تتوجه جهة من الرأي
وجاءها المعلم شيكو يستطلع رأيها ويستعلم غرضها الأخير فأنهت إليه قرارها النهائي، بلزوم رفع مرتبها الشهري، وحين رأت هزة الإخفاق تركب أوصاله، ونار الغيظ تحتدم في عينيه، وبوادر الرفض تتوافد على لسانه، أظهرته على قائمة السنين التي يمكن أن تعيشها بعد هذه الصفقة فقالت:
- إني من الوهن ورقة العظم واشتعال الشيب بحيث لا أستطيع الانتقال إلى سريري إلا مستندة إلى الأذرع، أو محمولة على الظهور(991/52)
ومهما يمتد بي خيط الهرم، فإنه كخيط العنكبوت وشيك الانبتات سريع الانقطاع. وهل بعد الثلاثة والسبعين عاماً التي توقر كاهلي حياة ترجى أو عيش ينتظر؟ وقاطعها المعلم مغيظا فقال.
- إنها لمحاولة فاشلة منك يا سيدتي أن تصطنعي العجز وتتظاهري بانقطاع المنة. ثقي أن منجل الموت لا يعرف سبيله إلى شجرتك قبل أربعين سنة في أقل تقدير، وإني أراهن على أنك أنت التي ستتولين دفني، فما هذا الخوف والفزع من الموت؟
وتصرم عمر النهار في الجدل والنقاش والأخذ والرد، وجهد المعلم (شيكو) الجهد كله ليقنع العجوز بالنزول عن طلبها الجائر المرهق فما عاد بطائل. وحين لم يجد مندوحة من إجابتها رضي مكرهاً بدفع الثلاثمائة فرنك. . . وغيرت سنين ثلاث وصاحبتنا العجوز كالسروة العتيقة لا يزيدها المزق إلا صلابة وجلداً على الأيام، حتى يئس المعلم من موتها وخيل إليه أنه مرغم على دفع مرتبها الضخم نصف قرن أو يزيد، وان صفقته كانت هي الخاسرة المغبونة، وأنه لا بد موف على الخراب صائر إلى الإفلاس أن ظلت معاهدة الصداقة والود بين العجوز وعزرائيل متينة العرى.
كان يتردد على المرأة الفينة بعد الفينة بحجة السؤال عن نضوج الحنطة، أو الاستفسار عن موعد الحصاد؛ فكانت تستقبله في خبث، وفي قلبها الشماتة والتشفي، وفي معارف وجهها صورة الافتخار والزهو للدور المضحك المسلي الذي لعبته على مسرح بلاهته وغفلته. فكان يرتد سريعاً إلى عربته ويجمجم:
- وإذن فليس في نية هذه البهيمة أن تموت؟ فلم يكن يعرف لمشكله حلا ولا لعقدة أزمته فكاكا. فكانت تمر به ساعات يود فيها لو أهوى على عنق العجوز فخنقه، وروحها فأزهقه، مما في نفسه من الغيظ والحنق والموجدة، وظل زمناً يلتمس وجهة الحيلة للخلاص من طلعة العجوز المشؤومة. وأخيرا ظفر بما يرجو؛ فغدا عليها يوماً يطفر من البشر والسعادة، ويصفق بيديه من الفرح والمرح، وبعد أن ناقلها برهة حديث المجاملة والود قال:
- ألا قولي لي أيتها الأم ماكلوار فيم امتناعك عن زيارة منزلي حين مرورك على حانة (إيدي فيل)؟ أن الحديث فيه ليلذ ويمتع، وأنا هناك يا للأسف مقطوع الصلة من الصديق، منبت الوشيجة من القريب، لا يؤنس وحشتي زائر، ولا يمر علي عابر. فزوريني أن(991/53)
تكرمت وكلي ما طاب لك فلست مرزئك مالا ولا مكلفك دفع طعام أو شراب. زوريني ففي زيارتك تشيع البهجة في قلبي وينتشر السرور في داري
وفي الغد لم تكلفه الأم إعادة الاستزارة، فراحت إليه في عربتها، والشمس لم تغادر خدها الوردي، وحين بلغت الحانة ربطت حصان العربة في الاصطبل، ثم دخلت عليه طالبة الغداء الموعود.
لم يكد يصدق عينيه المعلم شيكو، وراح ينشط في خدمتها ويجتهد في مرضاتها، كأن أمامه سيدة نبيلة لا قروية بخيلة، ثم أخذ يفتن في تقديم فاخر الأطعمة والآكال وغريض اللحم من الطير المبهر، والدجاج المحمر، ولحم الخنزير المشوي، وأصناف من الخضار والفواكه والتوابل، ولكنها لم تصب من هذه الآكال الدسمة إلا ما يوافق معدتها العجوز التي اعتادت الاكتفاء بحساء اللحم الرقيق، أو قطع الخبز المغموسة بالزبد، وألح الرجل وعزم عليها. ولكنها لم تأكل مضغة ولم تشرب جرعة حتى القهوة امتنعت من تناولها. وأخيراً قال لها وهو يناولها قدحاً من (الكونياك):
- أو ترفضين أيضاً هذا القدح؟
- أما هذا فأقبله دون أن أقول لا. فرجت أركان الحانة بصوت المعلم يقول:
- (روزالي) أيتها العزيزة. احملي لنا كل فاخر معتق من الكونياك. وظهرت الخادمة تضم إلى صدرها زجاجة طويلة ممشوقة ازدانت فوهتها بطابع الكونياك الفاخر. فتناولها المعلم شيكو وأفرغ منها قدحين، ثم عاطى العجوز أحدهما قائلا:
- إنه لكنياك لذيذ شهير، أفلا تتذوقينه يا سيدتي؟
فتناولته الأم (ماكلوار) شاكرة وطفقت تتحساه جرعات صغيرات، وما أن فرغت من القدح الأول حتى أفرغ لها المعلم قدحاً ثانيا، فأعرضت عنه أولا ثم أكرها المضيف بالقول اللطيف والتجمل الظريف والنكتة المستملحة. وكان عازما على إردافه بثالث ورابع لولا أن عالنته برفضها وامتناعها
- ولكن هذا يا سيدتي ليس خمراً؛ أن هذا إلا حليب مصفى، أبتلع عشرة أقداح منه دون أن يتعتعني السكر أو تذهب بوقاري النشوة، لا يكاد يستقر في الجوف كالسكر المذاب حتى يتبخر في الجسم دون أني يجد طريقة إلى الرأس. وليس كمثله شيء لصحة الجسم(991/54)
وابتعاث النشاط. فدعا ذلك العجوز إلى أن اجترعت نصف الكأس الثالثة، ولم تجرؤ على استنفادها لأنها شعرت بفعل المسكر بأطرافها، وتلعاب الخمر بأعطافها. فأهرعت إلى عربتها ومضت. . وغدا عليها صاحبنا في عربته ذات الحصان الواحد وحين استقر بهما المجلس أخرج من جوف العربة برميلا صغيرا، فيه خمر الأمس، ثم جلسا يعيدان سيرة البارحة، ولما استقر في جوف كل منهما ثلاثة أقداح، غادرها المعلم قائلا:
- ما أراني بحاجة لأقول لك أن الخمر التي أبقيتها لك تكفيك مدة، فإذا فرغت منها فعندي لك اللذيذ المعتق لا أبخل عليك به، وكلما ألححت في الطلب ألح على السرور وطبت نفساً. .
وآب إليها بعد أيام أربعة، فألقاها على الباب معنية بتقطيع الخبز الذي تعده للحساء، فاقترب منها أنفاً لأنف وبدرها بتحية الصباح، فنفحته منها رائحة (الكحول) وملأت خياشيمه، هنالك أضاء وجهه بنور البشر والفوز ثم قال:
- ألا تقدمين إلي قدحا من الكونياك. .؟ وجلس الاثنان يعاقران الخمر ويشرب كل منهما نخب صاحبه. . ولم يطل الأمر بالأم (ماكلوار) حتى شاع عنها أنها تعاقر الخمرة متخيلة لنفسها وفي الحق كان الجيران يلقونها إما مستلقية أمام مطبخها أو ساحة دارها لا تعي، أو منطرحة في الطرق والشوارع لا تحس، فيحملونها إلى بيتها جثة لا حراك فيها ولا وعي. .
ولم يعد المعلم شيكو يتردد على بيتها، فكان يقول للجيرة راثيا:
- إنه لما يبعث الأسى أن تدمن هذه العجوز الشراب وهي في أرذل العمر، مع أن الخمر تعجل خطواتها إلى القبر
وفي الحق لقد وجدها أهل القرية ميتة على بساط الثلج صباح عيد الميلاد عقب سكرة إنكليزية أبلت فيها البلاء الحسن وورث المعلم (شيكو) أرضها كما خوله الصك، فكان يقول:
- لو لم تتلف العجوز البلهاء صحتها بسموم الخمر، لعاشت عشر سنين أخر!
ك. ح(991/55)
العدد 992 - بتاريخ: 07 - 07 - 1952(/)
الإمبراطورية ذات سبعة الأرواح
للدكتور عمر حليق
حرب مستمرة في الهند الصينية الفرنسية، وثورات عنيفة في تونس، وغضبة تحمل في ثنياها الدم والنار في مراكش والجزائر، وتيارات قومية تجتاح مدغشقر وممتلكات فرنسا الأفريقية، وأعباء عسكرية ترهق كاهل الميزانية الفرنسية الآن، وقد جاء البعث الألماني بظله المخيف على حدود فرنسا، وضائقات اقتصادية زعزعت كيان (الفرنك) وأخلت بميزان فرنسا التجاري والنقدي، فزادت من حدة التوتر الداخلي بين هذه الأحزاب السياسية الكثيرة التي تؤلف البرلمان الفرنسي وتجعل الوزارة الفرنسية أضحوكة الأندية والمحافل السياسية. ويعجبني هذا العنوان الفكه الذي صدرت به إحدى الجرائد الدنمركية أنباء القلاقل في تونس في الآنه التي سقطة بها الوزارة الفرنسية سقطات متتابعة خلال بضعة أسابيع، فقد كان العنوان على النحو التالي:
تونس تشتكي من أن الحالة الداخلية في فرنسا متوترة
هذه المشكلات والأزمات والضائقات التي تواجه فرنسا اليوم، تدفع المرء إلى أن يتساءل: هل الإمبراطورية الفرنسية في طريق الزوال؟
لقد استمع الناس إلى المسيو شومان وزير خارجية فرنسا، يستجمع كل ما لديه من ظرف ولباقة فرنسية ويناشد الجمعية العامة لهيئة الأمم في جلسة باريس، بأن تتريث قليلاً قبل أن تدين فرنسا بالعبث بحقوق المراكشيين. ففي جعبة فرنسا خطوط جديدة لسياسة مثالية، لا لمراكش فحسب، بل لجميع هذه الشعوب التي تعيش في ظل العلم الفرنسي.
ثم أستمع الناس مؤخراً إلى مندوب فرنسا في مجلس الأمن يعد العرب والآسيويين الذين تبنوا قضية تونس في مجلس الأمن، بأن في حافظة وزارة الخارجية الفرنسية مشروعات مثالية لحل المشكلة التونسية. وكل ما تطلبه فرنسا فترة معقولة من الزمن، تعد فيه الأمر وتنشر على الناس ما أعدته من أسس جديدة لعلاقة فرنسا بالشعوب الآسيوية والأفريقية الخاضعة لها
وقد كان كاتب هذه السطور في إحدى جلسات مجلس الأمن الأخيرة الخاصة بتونس، يتحدث إلى صديق من أحد وفود أمريكا اللاتينية (وهي منطقة تربطها بفرنسا روابط(992/1)
روحية وثقافية متينة) وذلك خلال الدفاع البليغ الذي كان مندوب الباكستان في مجلس الآمن السيد أحمد بخاري يفند فيه مزاعم فرنسا وتأويلاتها عن القضية التونسية، قال الدبلوماسي اللاتيني وقد تأثر من بلاغة البخاري: (أنتم أيها العرب والآسيويون على حق في مؤازرة تونس، ولكن لما لا تعطون فرنسا الفرصةالكافية لإصلاح ما أفسده استعمارها القديم على ضوء ما وضعته اليوم من سياسة تقدمية تثبت علاقات فرنسا مع مستعمراتها على أساس جديد نبراسه التعاون الصادق والشركة الأمينة في إطار (الاتحاد الفرنسي) على نحو ما انتهجته بريطانيا في (الكومنويلث) وحلت به أزماتها مع الهند والباكستان والمناطق الأخرى التي كانت ملكاً للتاج البريطاني؟ ويبدو أن (لاتينية) صديقي الدبلوماسي كانت أشد من نظرته السياسية، فقد ساررني محذرا: لا تخطئوا في قوة الإمبراطورية الفرنسية برغم ما أثخنت به من جراح. فهذه الإمبراطورية الفرنسية كالقطط لها سبعة أرواح.
والواقع أن قسماً من الرأي في أوربا وأمريكا يشاطر هذا الدبلوماسي رأيه في هذه الأرواح المتعددة التي تكمن في الإمبراطورية الفرنسية! وليس من الصعب أن ندرك سر هذه النظرة إلى حاضر فرنسا. فصناع السياسة الفرنسيين يجندون كل ما توفره لهم ثقافتهم من ظرف ولباقة ومرونة لغوية ومنطقية، لإقناع الناس بأن في جعبة وزارة الخارجية الفرنسية حلا جديداً لهذه الأزمات والضائقات التي تعانيها فرنسا في آسيا وأفريقيا، في ما تنشره في الملأ العالمي من تفاصيل (الاتحاد الفرنسي) الذي تطمح فرنسا بواسطته أن توازي في الحقوق والواجبات بين سكان فرنسا وسكان المستعمرات والمحميات الخاضعة للفرنسيين.
ترى ما مبلغ الصدق في هذا الادعاء وما حظ هذا (الحل) الفرنسي من النجاح؟ وهل حقاً أن الإمبراطورية الفرنسية ذات السبعة أرواح، أم أنها تمر الآن في مثل ما مرت به الإمبراطوريات في التاريخ القديم والحديث من رقي وانحطاط
وحقيقة الأمر أن نعرف اليوم أنها أكبر إمبراطورية معاصرة بعد أن تضاءلت ممتلكات بريطانيا في عالم ما بعد الحرب. فلفرنسا اليوم سيطرة مباشرة على حوالي 77 مليونا من البشر يعيشون في فسحة من الأرض مساحتها تزيد على 4 ملايين ميل مربع ونصف ميل، موزعة على القارات الخمس، بحيث لا تغيب الشمس عنها. وهذه المساحات الشاسعة مرتبطة بفرنسا بخطوط أصبحت من الوهن بحيث لا يدعمها اليوم إلا الحديد النار، سواء(992/2)
في الهند الصينية الفرنسية أم في شمال أفريقيا العربية. وفرنسا اليوم برغم لباقتها في إقناع الناس بأن التحاد الفرنسي في صيغته النهائية سيحل محل الحديدوالنار، كدعامة للروابط الودية بين فرنسا ومستعمراتها ومحمياتها، إلا أن خبراء الشؤون الفرنسية لا يؤمنون بذلك، ويصرون على أن جوهر سياسة فرنسا الاستعمارية اليوم، يهدف إلى التخلص والتملص من المستعمرات في آسيا والمحيط الباسفيكي، وتركيز الجهد في شمالي أفريقيا العربية، وجعلها (امتداد) جغرافياً للوطن الفرنسي، وتحويل هذه المنطقة العربية إلى حصن منيع للثقافة والحضارة الغربية، تحي فرنسا فيه موات ثقافتها اللاتينية في أمن ورخاء لا توفرها لها اليوم الأرض الفرنسية وما يحيط بها من أخطار الهجوم الألماني والسيطرة الشيوعية) على حد قول كاتب أمريكي خبير بالشؤون الفرنسية في العدد الأخير من مجلة (عالم الأمم المتحدة).
ولعل هذا ما يفسر لنا سر هذا التعنت الشديد، والتحرش الصاخب الذي تعالج به فرنسا مشكلة تونس والجزائر ومراكش، والقسوة الدبلوماسية العنيفة التي لجأت إليها فرنسا في مواجهة الدول العربية والآسيوية التي تبنت قضية شمالي أفريقيا أمام الأمم المتحدة.
إذن فخرافة (الحل) الفرنسي وفكرة (الاتحاد الفرنسي) وأسطورة الإمبراطورية ذات السبعة أرواح، ليس إلا رماداً تذره فرنسا في عيون الناس، لتعميهم عن حقيقة الهدف الذي تطمح فرنسا في أن تعالج به مآزقها الإمبراطورية، وهو هدف واقعي يعترف بأن الإمبراطورية الفرنسية لن تستطيع العيش حتى بسبعة أرواح، وأنها اختارت أن تقصر قبضتها الشديدة القاسية على أقرب المناطق لها، وهي شمالي أفريقيا العربية.
وإذن فالإمبراطورية الفرنسية في تفكك وانحلال. وعلماء النفس يقولون لك أن المرء حين يعتريه نوع من التفكك والانحلال يميل إلى العنف والقسوة في أغلب الحالات. ولعل هذا يفسر هذه القسوة العنيفة الشريرة التي تمارسها فرنسا ضد إخواننا المغاربة، قسوة لا حدود لها، فقد أهلكت الحراب الفرنسية في الجزائر منذ سنوات قليلة 40 ألف شخص من الرجال والنساء والأطفال، في حملة (تأديب) واحدة. وحوادث تونس اليوم مثل واضح على هذه القسوة الفرنسية. ألوف من الفرنسيين، قادة ورعاعا قابعون في غياهب السجن وقيود الاعتقال، وحراب سنغالية سوداء تفتك بالنساء والأطفال والرجال، وكأنما تشهد بذلك(992/3)
حوادث (كاب بون) الأخيرة، واضطهاد مرير يعانيه المراكشيون، اضطهاد ومذلة تشهد بها مواخير منطقة (القصبة) في الدار البيضاء، حيث يعمرها بنات السادة والأشراف اللاتي شردهن الفرنسيون من جبال الأطلس والمدن المراكشية بعد ثورة الريف والثورات العديدة التي أتت في أعقابها ولا تزال.
ويحب كاتب هذه السطور أن يروي على سبيل المثال حادثة واحدة تشهد على (فضائل) الحضارة الغربية التي تنوي فرنسا أن تجعل أفريقيا العربية حصناً منيعاً لها. فقد زرت مدريد منذ بضعة أشهر، وأثار تطفلي أحد خدم فندق (ريتز) الذي كنت أقيم فيه؛ فقد كان شيخاً وقوراً محني الظهر، في عينيه مذلة وانكسار تبعث في النفس الحنان له والرغبة في مؤاساته. ولم يكن يعرف أنني عربي، ولم أكن أعلم أنه من سادة قبيلة جليلة القدر في جبال الأطلس المراكشية. ولما تم تعارفنا وأنفقنا الساعات يسرد على فيها مأساته السياسية، وقسوة المنفى والتشرد على كرامته وشيخوخته، لمحت أنه يخفي سراً لم أستطع استدراجه إلى الحديث عنه في جلستنا الأولى، فقد كانت كرامة الرجل وطيب محتده أعظم وأرفع من أن يعترف بسره الدامي إلى صديق عابر.
سر وأي سر! سيد في قومه يوثق بالقيود، ويشاهد الضباط الفرنسيين يفتكون بعرض بنته الصغرى، ويتناولونها الواحد بعد الأخر، ثم يرمونها كما لو كانت قطعة من العظم إلى الجنود السنغاليين، الذين كانوا يفتكون بامرأته في حظيرة الدار. وقد وجد الرجل في (مدريد) مصدراً للعيش، ولكنه عيش ذليل، يزداد مذلة كلما تذكر الرجل أن ابنته الآن عاهر في ماخور ملحق بمعسكر فرنسي في الساحل المراكشي. ولولا أن الانتحار محرم على المسلمين لما فضل هذا السيد الوقور الحياة يوماً واحداً.
ومع ذلك فدعوة فرنسا إلى جعل أفريقيا الشمالية حصناً منيعاً للحضارة الغربية تجد - مع الأسف المرير - في أوربا وأمريكا بعض الآذان الصاغية.
ٍوعلى قدر هذه الشناعة الفرنسية يتأجج حماس المغاربة العرب في تحقيق السيادة القومية والتخلص من الاستعمار الفرنسي. ولذلك فإن كل ما يعترض هذه الحركات الوطنية في تونس ومراكش والجزائر من عقبات ومصاعب، لن تقوى على جعلهم حصناً للحضارة الغربية، فالمسألة ليست مقصورة على كف أعزل يلاطم حربة حادة الرأس، فجوهر(992/4)
الصراع في المغرب العربي يستند إلى أعمق ما في المبادئ من معتقدات خلقية ودينية بالإضافة إلى المبادئ السياسية والاقتصادية. ويبدو أن الإمبراطورية الفرنسية قد أخطأت اختيار المكان والزمان لتحويل هذه المنطقة العربية الإسلامية إلى حصن منيع للحضارة الغربية. . فليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها العروبة والإسلام هذا النوع من الصراع الخلقي والديني.
وما دامت العروبة والإسلام راسخين في بلاد المغرب، ومادام الزمن يخدم الآن الشعوب العربية والإسلامية في المعترك الدولي، ومادامت دعائم (الحضارة الغربية) قد طوحت أو كادت تطوح بالوطن الفرنسي نفسه. . فإن زوال الإمبراطورية الفرنسية أمر لا مفر منه حتى لو كان لهذه الإمبراطورية سبعة أرواح. فروح واحدة شريفة المبدأ. . صقلتها الآلام والتجارب. . كفيلة بأن تعمر وتشهد هلاك هذه الأرواح السبعة.
بقي أن يشارك العرب والمسلمون إخوانهم المغاربة في هذا النوع من الصراع (الإمبراطوري) اللعين مشاركة جدية.
نيويورك
عمر حليق(992/5)
3 - إندونيسيا
للأستاذ أبو الفتوح عطية
جنة المأوى:
الله في حسناء ذات عذار ... (جاوا) وربك جنة الأبرار
هذى الطبيعة قد بدت في قاعها ... للقلب فاتنة وللأنظار
جمعت فأوعت من بدائع آيها ... سورا مفصلة وغير قصار
الله أكبر كم وراء جمالها ... أفق من السحر الحلال الساري
الله أكبر أنها من جنة ال - خلد التي وعد العباد الباري
هذه أبيات من قصيدة يتغنى فيها أحد الشعراء بجمال جاوة وسحرها، وفيما يلي وصف لأشهر الجزائر الإندونيسية.
جاوة أكثر الجزائر الإندونيسية عمراناً وسكاناً وان لم تكن أكبر مساحة. على أنه ليس معنى ذلك أنها جزيرة صغيرة جدا إذ تبلغ مساحتها 132 , 000 كيلو متراً مربعاً، ويبلغ عدد سكانها 50 , 000 , 000خمسين مليوناً من الأنفس وهو عدد ليس بالقليل.
فسكان مصر عشرون مليوناً، وسكان بريطانيا بأسرها أقل من عدد سكان جاوة وحدها.
ويلاحظ أن هذا العدد من السكان جعل جاوة من أكثر جهات العالم ازدحاماً بالسكان، فإن نسبتهم تقدر بنحو ألف شخص في الميل المربع. وأنا أريد أن أصل إلى شيء آخر، ذلك الشيء هو أن جاوة جزيرة غنية وفيرة الموارد كثيرة الخيرات. . وإلا ما استطاع هذا العدد الضخم من السكان أن يعيشوا فيها، ذلك لأن الإنسان لا يعيش إلا حيث تتوافر له سبل الحياة من مسكن وغذاء. . وهي جميعاً موفرة في جاوة.
وجاوة جزيرة مستطيلة تقع عند خط الاستواء، وتتوسطها سلاسل من الجبال، وتمتد على سواحلها الشمالية والجنوبية سهول خصبة يجري بها عدد كبير من الأنهار، يتجه بعضها إلى الجنوب حيث يصب في المحيط الهندي، ويتجه بعضها إلى شمالاً حيث يصب في بحر جاوة.
والجبال في جاوة جبال بركانية مما جعل تربتها غنية خصبة، وقد ساعدت خصوبة التربة وغزارة الأمطار على وفرة الإنبات مما جعل جاوة من أغنى مناطق الإنتاج الزراعي في(992/6)
العالم.
ومناخ جاوة والجزائر الإندونيسية لطيف معتدل برغم وقوعها عند خط الاستواء، ويرجع السبب في ذلك إلى ارتفاع سطح الجزائر والى إحاطة البحر بها. . فقد خفف هذان العاملان من حدة الحرارة وجعلا المناخ لطيفاً معتدلاً.
وجاكرتا عاصمة الجمهورية الإندونيسية وعاصمة جاوة، ويمكن أن تسمى قاهرة الشرق الأقصى،
فهي تشبه القاهرة إلى حد بعيد؛ فكلتاهما تأخذ بأسباب المدينة الحديثة: عمارات شاهقة، وسيارات فاخرة، وشوارع مزدحمة، ومحال تجارية كبيرة، ورجال ونساء يأخذون بأسباب المدينة الحديثة في حياتهم وأزيائهم.
وقد نمت جاكرتا كثيرا بعد الاستقلال وتزايد عدد سكانها واتسعت رقعتها، وتعتبر مركزاً هاماً للطيران، وهي سهلة الاتصال بباقي أنحاء جاوة وبباقي جزائر الإندونيسية والعالم، سواء بطريق البحر أم بطريق الجو.
وفي جاكرتا فنادق ودور سينما ومطاعم من الدرجة الأولى، وفيها حديقة للحيوان وأحواض لأنواع السمك المختلفة وأماكن للألعاب الرياضية على اختلاف أنواعها.
وفي جاكرتا مدارس ابتدائية وثانوية وعالية وعدة كليات للجامعة الإندونيسية، منها كلية الطب والحقوق، وفيها متحف ومرصد يعتبر من أقدم المؤسسات العلمية في جنوب شرق آسيا إذ يرجع تأريخ تأسيسه إلى 1858.
ومحطة الإذاعة بجاكرتا تمتلك أقوى أجهزة للإرسال والاستقبال في جنوب شرق آسيا، وتذيع يومياً بسبع لغات ويبلغ عدد سكان جاكرتا مليونين من الأنفس.
سومطرا:
إحدى الجزر الكبرى. . ويفصلها عن شبه جزيرة الملايو مضيق ملقا. وتبلغ مساحتها 473659 كيلو متراً مربعاً وسطحها جبلي، وفيها بحيرات وأنهار كبيرة تصلح للملاحة، وبها مزارع كبيرة للمطاط والتبغ والشاي، وبها معمل لتجفيف الشاي بعد أكبر معامل الشاي في العالم على
الإطلاق.(992/7)
ويبلغ عدد سكانها عشرة ملايين نسمة، وعاصمتها ميدان دين وقد كانت هذه الجزيرة أول مهد الإسلام في إندونيسيا.
بورنيو:
أكبر الجزائر الإندونيسية بعد غينيا الجديدة، إذ تبلغ مساحتها 539460 كيلو متراً مربعاً، ويتبع ثلثها الشمالي لبريطانيا، أما الثلثان الباقيان فقد كانا تابعين لهولندا، وبعد الاستقلال أصبحا جزءاً من الجمهورية الإندونيسية. ويبلغ عدد سكانها حوالي مليونين ونصف تقريباً ويشتغلون بالتجارة والزراعة والصناعة وصيد السمك، وعاصمتها بانجارماسين.
جزيرة بالي:
وتقع شرق جاوة ويفصلها عنها بوغاز بالي، وهي جزيرة صغيرة، إذ تبلغ مساحتها 5400 كيلو متر مربعاً، ويبلغ عدد سكانها 1 , 362 , 250 نسمة ومعظمهم وثنيون.
وهذه الجزيرة مشهورة بطبيعتها الجميلة وفنونها وآثارها التي تجذب السياح إليها من جميع بقاع الأرض، وممن زارها شارلي شابلن وبرنارد شو وويلز.
ويعنى أهلها بالرقص بنوع خاص، إذ يعتبر الرقص في نظر سكانها جزءاً ضرورياً لحياتهم ولا عجب في ذلك، إذ أنهم يعتبرونه طقساً من الطقوس الدينية. والقرية التي لا تمتلك جوقة موسيقية أو فرقة راقصة تفقد احترامها وقيمتها في عين السكان فيبادرون إلى تلافي هذا النقص ورفع هذا العار.
هذا وصف مختصر للجزر الإندونيسية الهامة
إندونيسية رابا:
قامت في السنوات الأخيرة محاولات لإقامة إندونيسيا العظمى، وهي تهدف إلى جمع جميع الجزائر الإندونيسية تحت راية واحدة، أو بعبارة أخرى أن تكون الملايو والفليبين والجزر الإندونيسية الحالية دولة واحدة، وبهذا التوحيد تبلغ مساحة إندونيسيا رايا 910. 562 ميلا مربعا، وعدد سكانها
93. 780. 833 نسمة، 90 % منهم مسلمون. حقق الله الآمال.
الحيلة الاجتماعية:(992/8)
تمتاز الحياة الاجتماعية في إندونيسيا بأنها حياة شرقية إسلامية، فالعلاقة بين أفراد الأسرة متينة، والتعاون بين السكان سواء في القرية أو المدينة قائم. هذا وحياة إندونيسيا الاجتماعية مصبوغة بالصبغة الإسلامية إلى حد بعيد، فالأخلاق الإسلامية تتغلغل في نفوس الإندونيسيين تغلغلاً عميقاً، فتراهم يكرهون الرياء والتظاهر، ويتمسكون بلدين تماماً.
وفي أوائل القرن العشرين كانت الحياة العامة في إندونيسيا من فكرية واجتماعية وسياسية في حالة خمول وركود، وما لبث الإندونيسيون إلى حقيقة مركزهم، فتكونت الجمعيات التي تهدف إلى الإصلاح، وكان في مقدمتها الجمعية المحمدية وقسمها الخاص بالنساء المسمى بالعائشية، وكان شعارها (قليل الكلام كثير العمل) وكانت ترفض الاعتراف بفرع لها إلا إذا قام بعمل اجتماعي ملموس مثل إنشاء جامع أو مسجد إلى الخ.
وبفضل نشاط المصلحين والجمعيات تنبه الوعي القومي في إندونيسيا حتى حقق الله لها الاستقلال.
والمرأة الإندونيسية لم تعرف الحجاب ولكنها كذلك لم تعرف الابتذال ولا الاختلاط المزري، فلم تدخل حماماً مختلطا ولا مرقصاً، ولم يستطيع المستعمرون أن يفتحوا ماخورا واحد في البلاد!!
من اجل هذا أقبل الإندونيسيون على أفلام مصر السينمائية أول الأمر لأنهم يحبون مصر، ولكن لما وجدوا في الأفلام المصرية من ابتذال انصرفوا عنها وقاطعوها. وهكذا أضر مخرجو السينما بسمعة مصر وبمركزها!!
وقد قامت المرأة الإندونيسية بنصيبها في ميدان النشاط الاجتماعي، وكانت ما تزال مثلا كريما للمرأة الكريمة. ومن أعظم نساء إندونيسيا المرحومة رادين كارتيني، فقد تزعمت حركة الإصلاح الاجتماعي ورسمت في رسائلها (من الظلمات إلى النور) الخطة المثلى التي تسير عليها المرأة الإندونيسية في جهادها الإصلاحي. وبفضل تعاون الإندونيسيين رجالا ونساء تحقق
استقلالهم
للكلام صلة(992/9)
أبو الفتوح عطيفة(992/10)
حول قبر الاسكندر
للأستاذ عبد المنعم مختار
(يقول المعاصرون بأن قبر الاسكندر نفس مسجد النبي دانيال نفسه أن لم يكن تحته والذي كان يدعى منذ القرن السابع عشر باسم مسجد سيدي الاسكندر)
رأي القدماء
أن المصادر القديمة تحدثنا بأن الاسكندر أوصى قبل وفاته بأن يدفن بواحة الإله آمون (سيوة) ولكن بطليموس سوتير عمل على دفنه بمدينة ممفيس حسب عادة المقدونيين في الدفن. وجاء بطليموس الثاني الفيلادلفي بعد والده ونقل الجثة إلى الإسكندرية، وأخبرنا بوزنياس عن ثورة الرأي العام عليه واعتبر نقله إلى الإسكندرية إجراما وشناعة أكثر مما فعله بتزوجه بأخته أرسنيوي - لإقلاقه راحة البطل العظيم في مضجعه الأخير - وكذلك لم يلق من بلاطه وأعوانه أي استحسان لهذا النقل لجدث ملك عظيم اعتبر في مصاف الآلهة. وابتنى له قبراً في غاية الفخامة والإبداع، وكان الضريح داخل الأرض، أما البناء الذي أقيم فوقه فكان يشتمل على سلم الدخول كعادة المدافن والمعابد الإغريقية، ثم فناء مربع هو الناووس (اوبيستودوم) ثم ممر طويل يصل إلى الضريح الموجود به النعش وقد ألحق به معبداً للكهنة القائمين بأجراء الطقوس الدينية. ثم تطوق المعبد أروقة دائرية شيدت في عصور متأخرة ولما كان الاسكندر مؤسس الدولة الإغريقية فقد اتخذ الملوك مدافنهم حول قبره بعد حرق جثثهم كما حدثنا بوليب بالتفصيل، وقد شيد فيلادلفيوس مدفناً لوالده سوتير، ولنفسه ولزوجته. ويحدثنا كوريمون عضو متحف الإسكندرية في سنة 80 بعد الميلاد عن القبر بمخطوطه الذي نشره الدكتور بوتي. . . أما قبره هناك فكان مزيناً بالرخام وهو مضجع في ناووس محفور اسمه على غطائه، وحول نعشه قبور من الحجر السماقي أقل فخامة من قبره هي قبور الملوك السبعة وزعيمهم بطليموس سوتير. . .
ونخرج بنتيجة هامة حققها ودرسها كل من الدكتور بوتي والأب لويس ملحمة في أن القبركان في منطقة صارت مدفنا ملكياً بوسط المدينة.
الآراء الحديثة(992/11)
وجاءت الآراء الحديثة بجديد عن قبر الاسكندر كذب البعض دفنه بالإسكندرية والبقية التي حبذتها انقسمت على أنفسها إلى ثلاث فرق: الأولى في أن القبر تحت مسجد النبي دانيال وهذا ما سأناقشه تفصيلا، والآخر في منطقة المقبرة الشرقية، ورأي أخر بعيد الاحتمال بالمقبرة الغربية.
وإني أتقدم برأيي المتواضع وقد يكون على خطأ وقد يكون صائباً. . وان كان فيه مسحة من الصواب فإنه ليقارب الآراء الأخرى البعيدة الاحتمال والتصديق.
قيل بأن قبر الاسكندر كان فيمنطقة طريق السيما المتقاطع مع شارع كانوب (النبي دانبال وفؤاد الأول) وهو يمتد من بحيرة مريوط جنوبنا إلى شاطئ البحر الأبيض شمالا بالقرب من شبه جزيرة معزل تيمونيوم والمكتبة ودار الحكم والسوق والجمنازيوم. . وقد ورد بأشعار هيرونداس وآراء الدكتور برتشيا بأن معبد الزاربوم ومسلات كليوباترة الشهيرة كانت بأول الطريق، وان بنهايته يوجد منتزه بيوم. وإذا فقبر الاسكندر أن وجد فمن البداهة أن يطل على الميدان والمنتزه لكي تظهر روعته، وان كان على الميدان فهل هو عن يمين أو يسار الشارع؟ يقول أسترابون لوصفه القبر بأنه كان عن يمينه عند دخول الإسكندرية. فهل دخل الإسكندرية عن طريق شارع السيما من جهة البحر؟ أم عن طريق الميناء الداخلي بمريوط؟ أنه قد دخل بطبيعة الحال عن طريق السيما ومنه فإن القبر عن يمينه أي يمين الشارع. والذي أراه عند تطبيق مبادئ هندسة تخطيط المدن القديمة والرجوع إلى تخطيطالمدن القديمة كمدينة صور مثلا نجد أن القبر يوجد على الجهة اليمنى لوجود كثير من المخلفات، منها مخلفات معبد على الطراز الدوري وأعمدة كورنثية بالجهة اليمنى من الشارع، ولما توسع الملوك بنوا مقابرهم حول هذا الضريح كما يجزم الأستاذ زكي علي ببحث له بمجلة كلية الآداب بجامعة فاروق الأول المجلد الثاني، والدليل على ذلك وجود أعمدة بجوار مسجد سيدي عبد الرزاق في نفس الشارع وهي لاشك معابد تكميلية لقبر الاسكندر أو المعبد ذو الأروقة الدائرية التي بجوار القبر. والذي يرجح هذا الرأي وجود بقايا مقابر ملكية اكتشفتها البعثة الفرنسية بالقرب من ذلك المكان (مسجد العطارين - وشارع محطة مصر القديمة) والعثور على ناووس ينسب إلى الاسكندر والذي أدى إلى رأي الأستاذ ألن ويسالمشهور عن تمصر الاسكندر ودفنه في تابوت نقل من قبر أمير(992/12)
فرعوني من الأسرة الثلاثين.
القرن السادس عشر
ذكر الرحالة مارمول بأن قبر الملك اسكندر يقع علىبعد 300 متر من كنيسة القديس مرقص الموجود بشارع النبي دانيال، وعند التطبيق نجد أنه لا ينطبق قياسيا على مسجد النبي دانيال، ثم أن المقياس أن عين مكانا وكان صحيحا في تعينه مكان القبر فهو لم يذكر هل المكان يوجد عن يمين أو يسار المكان المتخذ مبدأ للقياس. واستناداً على رأي الدكتور بوتي في أن القبر يوجد بالجهة اليمنى وبوسط المدينة، ومن الحفريات التي أجراها الأستاذ حسن عبد الوهاب بمنطقة المسجد، وبالرجوع إلى أبحاث كل من الأستاذ أرثرلين أمين متحف فيكتوريا ولبرت الدكتور ألن ويس المنشورة بنفس المجلة يتضح بأن منطقة القبر والمسجد والقبر هي من بقايا العصور العربية القديمة. . وقد فصل الأستاذ حسن عبد الوهاب في المسألة بأن القبر ليس موجوداً بتاتاً في هذا المكان وخرج إلى التأكيد بأن منطقة كوم الديماس (كوم الدكة الحالية) كانت مقبرة إسلامية منذ القرن الثالث الميلادي.
هل كان قبر الاسكندر معروفا في العصور القديمة؟
إن يد التخريب قد أحدثت بهذا الهيكل كثيراً من الآثار، فقد سلب بطليموس الحادي عشر تابوت الاسكندر الذهبي وبدله بآخر من مادة زجاجية (وقيا من نوع من الرخام الشفاف جداً) كما زادت كليوباترة الأخيرة على فعل سلفها بأن سلبت المقبرة كل ما هو ثمين. ولم يقتصر الغزو الأجنبي على فتح وتدمير البلاد، بل عمل على سلب محتويات المقابر. وفي القرن الثالث انقادت الثورات بالحروب الدينية ضد الوثنية والحرب العامة لتفكك الإمبراطورية الرومانية فنالت الإسكندرية منه الأهوال ومنها المقابر الملكية التي أصبحت أثرا بعد حين (لما هو معروف عن تعصب المسيحيين الأوائل ضد كل ما هو وثني) حتى لنجد القديس يوحنا في خطبة ألقاها في ختام القرن الرابع يتساءل (خبروني أين يوجد قبر الاسكندر).
وهناك مصدر آخر هام وهو كتاب جغرافية مصر لأميلينو يقول. . . إنهم عندما كانوا ينزعون الأنقاض من المكان المسمى بكوم الديماش (كوم الدكة) عثروا على أدوات من(992/13)
الذهب يرتقى عهدها إلى عهد الاسكندر وذلك عند بناء كنيسة هناك باسم النبي إيليا ويوحنا في زمن توفيل بطريق الإسكندرية في القرن الرابع. . . ومن قوله يتضح بأن بقايا القبر كانت موجودة بكوم
الديماس، فهل نزعت تلك الأنقاض من تحت التل - الذي نشأ في عصور تلت بناء المقبرة فغطاها - لبناء تلك الكنيسة وهي التي تكبد مجهوداً جباراً في إزالة الأتربة للوصول إلى تلك الأنقاض في مستوى المدينة القديمة.
ومن هذا نخرج بنتيجة هامة وهي أن المؤرخ لم يكن له قصد معين في تعيين مكان رفع الأنقاض والتي ولا شك انتزعت من المكان القريب جداً، والذي يكاد يقارب بناء الكنيسة الموجودة على التل والتي بنيت عليه ثم قام على أسسها على مر الزمان مسجد يعرف باسم النبي والملك إسكندر، ولقربه من قبر الاسكندر سمي بهذا الاسم.
هل القبر تحت مسجد النبي دانيال؟
اتضح من البحث أنه لا اصل لتسمية المسجد باسم النبي دانيال لأن هذا النبي الكريم دفن ببلاد العيلام بمدينة السويس كما هو وارد في الكتب المقدسة وطبقاً لتحقيقات كثيرة نفي ذلك، منها رأى فضيلة الأستاذ بشير الشندي المسهب. وهذا المسجد لم يظهر للوجود إلا في خلال القرن السادس عشر تقريباً ولم يذكره أحد من المؤرخين والرحالة من العرب قبل ذلك التاريخ علماً وهم معرفون بذكر التفاصيل والإطناب وذكر الروايات المتعددة والمصادر المتضادة. فلم يتعرضوا لهذا المسجد ولو بإشارة بسيطة مما يدل على عدم وجوده في تلك الفترة من الزمن - فالحافظ السلفي وصف كوم الديماس بأنه مقبرة إسلامية، وجاء البلوى في القرن السادس الهجري فوصف المدينة وآثارها والفنار ولم يتعرض لذكر المسجد. ثم تلاه ابن جبير والبغدادي اللذان وصفا كل آثار الإسكندرية عدا المسجد وكان يستحق بعض عنايتهم أن وجد، ثم جاء بعدهم مؤرخو القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلادي مثلا ياقوت والمقريزي والسخاوي وغيرهم وكانت أخبارهم سلبية عن المسجد. حتى أن الرحالة الأجانب في تلك الفترة الذين وصفوا دقائق المدينة وخباياها لم يتعرضوا بأي إشارة عن المسجد والقبر مثل سبرياك دي إنكوناه، وليون الأفريقي. ثم جاء الرحالة مارمول في منصف القرن السادس عشر فذكر أن قبر النبي إسكندر كان في وسط المدينة(992/14)
بين الخرائب قريباً من الكنيسة المرقصية المجاورة لمسجد النبي دانيال والمسافة بينهما 300 متر أي أن القبر هناك قبر الملك والنبي إسكندر وقبر النبي دانيال. وهذا دليل على أن القبر ليس بمسجد النبي دانيال.
ومن الوقائع السالفة نخرج بنتيجة هامة جد وهي أن القبر زال من الوجود منذ القرن الرابع الميلادي.
ثم أن المؤرخين العرب لم يتعرضوا لشيء غير موجود حتى ظهر أخيراً بعد أحد عشر قرناً بإسم النبي إسكندر في عصر المماليك. فليس من المعقول أن كان المسجد موجوداً أن يتجاهله القوم أحد عشر قرناً من الزمان لم يتعرض له في خلالها أي مؤرخ.
في العصر الحديث:
وفي القرن الماضي أدى أحد تراجمة القنصلية الروسية أنه وجد سرداباً تحت مسجد النبي دانيال ومنه شاهد ناووس الملك الزجاجي وحوله قراطيس وكتب من البردي. والظاهر أنه قد قرأ قول أسترابون في وصف المقبرة، حتى أن محمود الفلكي باشا عندما عين المكان وجد أنه مملوء بالحجارة وقطع الرخام علاوة على الرطوبة التي تتلف الكتب (وهذا المكان هو قباب وصهاريج ماء رومانية) ثم أن هناك رأياً أخر في أن التابوت من مادة رخامية شفافة جداً وليس بزجاج فكيف أدعى الترجمان بأنه من الزجاج؟ جاء الأستاذ حسن عبد الوهاب وأجرى حفرياته عند ترميم المسجد فوجد صهريج ماء ملاصقاً للإيوان العربي للمسجد وأجرى فيه وفي منطقة حفريات (الصهريج وطابقيه ومسارب مائه الثلاثة) فظهر بأن تلك المنطقة مقامه على مقبرة إسلامية ثم وصل إلى مستوى المدينة القديمة فلم يجد أي دليل على وجود ما ينم عن وجود مباني إغريقية حتى ولا بقايا كنيسة النبي إيليا التي بنيت بالقرن الرابع في نفس المكان. والظاهر بأن هذا الترجمان قد وجد ممراً ولكنه غير قبر الإسكندر وربما كان إحدى هذه الصهاريج المنتشرة بهذا المكان.
ويتضح بأن قبر الإسكندر موجود بمنطقة السيما ولكنه ليس تحت المسجد لأن المسجد وأساسه وطراز مبانيه إسلامية، وبرغم أن شكل المقبرة والمسجد غريب عن الطراز الإسلامي فالدكتور بريشيا يرجع أصل المسجد إلى تلك الكنيسة الرومانية القديمة، ولذا كانت مؤثرات المسجد المعمارية غريبة عن الفن الإسلامي.(992/15)
أين مكان القبر الآن بالضبط؟
بالرجوع إلى أصول تخطيط مدينة الإسكندرية الذي أجراه دينوكرات والمقارنة بآراء المهندس هيبوداموس في ذلك الفن ومن التطبيقات والآراء التي بحثها الأثريون عن احتمال وجود المقبرة في مركز المدينة - نجد أن الأسكندر دفن في منتصف المربع الذي يطل على منتزه بيبوم من الجهة اليمنى - ومكان القبر حالياً المربع الذي تدخل فيه الحديقة الصغيرة التي بأخر شارع النبي دانيال وجزء من الشارع وشارع كنج عثمان حتى مباني مصلحة التليفونات ثم منطقة شارع عبد المنعم وما ورائها. ومن الاستناد إلى الآثار وبقايا المباني التي عثر عليها عند تخطيط ميدان المحطة والميدان والباقي جزء منها - بقايا أعمدة تحت تلك الحديقة - يتضح بأن واجهة المعبد كانت منتزه وميدان محطة مصر التي هي متنزه بيبوم. أما مجموعة الأعمدة التي بجوار مسجد سيدي عبد القادر فإنها تكون (أوبيستودوم) الذي كان يقام به الطقوس الدينية، ومن المحتمل أن تكون جزءاً من البهو والأروقة الدائرية التي كانت حول المقبرة. (والتي كان يقوم بها الكهنة الذين يخدمون المقابر الملكية) والبقايا الموجودة على يمين المقبرة بالعطارين وشارع محطة مصر القديمة وشريف على بقايا مقابر الملوك السبعة.
ومن وصف المقبرة الذي أوضحه استرابون يتضح بأن الضريح والمعبد يقارب طراز معبد البارثينون من حيث الفناء المربع وأن السلم المرتفع الذي يتبعه البهو مباشرةً يشابه معبد في طرزه.
هذا هو رأيي وقد يكون على خطأ ولكن فيه أجزاء كثيرة على صورة صحيحة.
وهناك رأي اه وجاهته اضطررت إلى التحقق من مناهج بحثه ودراسته ويقدمه المهندس السكندري جان نيقولابيدس. وهو (أن قبر الاسكندر ليس في منطقة السيما إذ ليس من المعقول وجود مقابر الملوك في حي الأعمال بالقرب من التياترو والسوق والمكتبة والجمنازيوم بل هو في حي الدلتا (حي الدلتا) الشرقي بالقرب من الباب الكانوبي حيث معابد إيزيس وضريح متلارنيوتيس وتميزيس حيث المقبرة الشرقية المشهورة بالقرب من قبر كيلوباترة وأنطونيس كما يذكرنا به ديوكاسيوس) وقد استند المهندس على أدلة في تاريخ هندسته من تاريخ تخطيط المدن القديمة بعد دراسة عشرين عاما وقد استعان بقول(992/16)
أسترابون السالف الذكر (أن قبر الاسكندر على يميني عند دخولي المدينة) والذي يعضد رأيه أن المصادر التي استعان بها تذكر لنا أن القبر بالقرب من قبري كيلوباترة وأنطونيوس القريبة من معبد إيزيس الموجود برأس لوكياس (السلسلة حالياً) حيث مقابر ضاحية اليوسيس والحي الملوكي وحيث مقابر الأكابر والعظماء. فهل من المعقول دفن الإسكندر في منطقة السيما البعيدة في داخل البلاد بالقرب من السوق؟ أم بالقرب من مدخل المدينة ألا وهو الساحل.
وإن رأيه في قول أسترابون يمكن تطبيقه على مكان القبر بالقرب من مدخل المدينة من الجهة اليمنى أن دخل عن طريق البر، والمعروف عنه أنه دخل عن طريق البحر لاستعماله في الوصف. . البحر جداً شمالياً لها. وقد عين المهندس مكان المقبرة بالشارع الذي يفصل مقابر الكاثوليك عن الأروام بالشاطئ.
وإن العثور على صديق للإسكندر وقائد من قواده بتلك المنطقة والعثور على مقابر في سنة 1866 بالقرب من الباب الكانوبي الملاصق لسور المدينة المقدوني في الشمال الشرقي حيث معابد ديميتر الذي بناها بطليموس الثاني والتي تخص المبعوثين الدينين واكتشاف مقابر لأكابر الجند في نفس المنطقة محفورة في الصخور ومكتشفها هو مارت دينيسيون 1894 والكونت دي زغيب 1892 تؤيد قول الأستاذ نيقولا بيدس - وإن كان لم يعتمد على تلك المراجع - من أن المقبرة الشرقية جزء من مدافن العظماء لأنها المكان القانوني للدفن حسب الطقوس والتقاليد اليونانية.
وهذه الآراء تؤيد رأيه نظرياً ولكنها ليست أدلة يقينية واضحة بل نظريات هندسية أستنتاجية، فإن كانت تتطابق في مدن أخرى. فإن ظروف مدينة الإسكندرية من حيث الظواهر الطبيعية تخالف ذلك. فأرض المدينة رملية - فأنقى للبناءين القدماء حفر تلك المقابر العظيمة في باطن الأرض والذي أصبحت من الشروط الأساسية في طقوس الدفن عند البطالسة والرومان
وهناك رأي أخر لا أجد بداً من سرده، هو أن المستر ألن رو مدير متحف البلدية سابقاً يرى أن الإسكندر دفن بالمقبرة الغربية حيث المدينة الرومانية، وقد أخبرنا أسترابون بأن تلك المنطقة كانت مروجاً ترعى فيها القطعان. وأظن أنه ليس هناك أدلة منطقية تعضد هذا(992/17)
الرأي. والأمر الطريف أن الأستاذ ألن ويس يقول أن الإسكندر دفن في منطقة مسجد العطارين واستشهد (بالعثور على تابوت منهوب) ولم أجد عبارة أخرى مخففة (أقدمها للقارئ) ومسروق من إحدى مقابر ملوك الأسرى الثلاثين ودفن به فكأن الإسكندر ذلك الغازي الجبار أفتقر إلى تابوت من الحجر فما بالك بتابوت من الذهب.
هذا هو مجمل الآراء التي قدمتها ومن ضمنها رأيي. وعساي أن أكون قد وفقت بالمساهمة في كشف النقاب عن قصة قبر الإسكندر، تلك الألغاز المجهولة لمؤسس مدينتنا المحبوبة الإسكندرية. ثم هذه هي مشكلة قبره الذي أبى علينا الزمان التشرف بمعرفة أخباره فما بالك برؤيته.
عبد المنعم مختار(992/18)
هلن كلر
العمياء الصماء البكماء
للأستاذ نيقولا الحداد
حقاً أن هلن كلرن الدكتورة في العلم والفلسفة أعجوبة أمريكية تفوق جميع عجائب أمريكا التي هي مجموعة عجائب العالم في هذا العصر.
هذه مرأة مرضت في النصف الأول من عامها الثاني ففقدت جهازي عصبها البصري والسمعي فأصبحت عمياء صماء بكماء. بكماء لأن الإنسان لا يمكن أن يتكلم إذا لم يسمع، يعني أنها فقدت الحاستين الرئيستين من حواسها الخمس، فلم يبقى لها إلا الذوق وهو حاسة يندر أن تستفيد منها في التفاهم، وحاسة الشم وقد تستفيد منها جزءاً يسيراً من الفهم والتفاهم، وحاسة اللمس أو حاسة التحسس في أناملها وكفها وظاهر جسمها. ولذلك انتقلت حاستا البصر والسمع إلى أناملها وكفها وسائر بشرتها ثم إلى جميع بدنها فأصبح التحسس هو الشعور الرئيسي عندها، وإنما كان لها من قوة العقل وشدة الذكاء ما يمكنها أن تقرأ وتكتب (بقلم الرصاص)، وأن تقرأ في كتب العميان بلمس الحروف الناتئة، وأن تقرأ نقراً من أصابع معلمتها وسائر أهلها وذويها، وتخاطبهم بحركات أناملها على أكفهم. وأخيراً تعلمت أن تلفظ الكلمات التي يفهمها الذين يلازمونها ويعاشرونها هذا ما يدهش له الناس في الغرب والشرق ويعجب به الأمريكان وهم منشئو أمريكا الحديثة أم العجائب، فلا بدع إذن أن ندهش نحن إذ نرى هذه المرأة وهي تخاطبنا عن يد سكرتيرتها وأن لا يصدق بعضنا أنها عمياء صماء، وأن يضنوا أنها ألعوبة أمريكية للدعاية، وليس في الدنيا فكرة أسخف من هذه الفكرة.
أجل هي أعجوبة الزمان. وربما كان أعجب منها أو مثلها عجباً معلمتها السيدة سوليفان التي لازمتها 16 سنة إلى أن أخذت درجاتها العلمية العالية.
مس سوليفان مولودة في سبرنفيلد من ولاية كاستشوتس التي فيها مدينة بوسطن المشتملة على جامعة هرفود المشهورة. وهذه السيدة في أول عمرها أصيبت بمرض أفقدها بصرها، ولكنها لم تدخل معهد العميان إلا في الرابعة عشرة من عمرها. وبعد حين عاد إليها بعض بصرها، وبقيت في المعهد إلى أن أتمت علومها وبدا منها ذكاء حاد باهر، وقدرة فائقة على(992/19)
التعلم والتعليم، وبعد نهاية دراستها اتفق أن طلب الكبتن أرثر كلر أبو هلن إلى الأستاذ أجنوس رئيس هذا المعهد يرجو منه أن يرشده إلى معلمة لابنته، فأرشده إلى مس سوليفان هذه.
والكبتن أرثر كلر من قرية توسكوميبا من ولاية آلاباما وله هناك أملاك واسعة يستغلها. وله غير هلن ابن يدعى تجايميس وابنة صغرى تدعى ميلرد. وزوجة تدعى كايت أدمس وقد تزوجها أرملا وهو أكبر منها سنا.
ورحبت أسرة كلر بسوليفا ترحاباً حاراً. وكانت هلن بين الخامسة والسادسة من عمرها، فرأتها مس سوليفا طفلة مملوءة حياة وعافية، جميلة الطلعة مشرقة المحيا، ولها عينان كأنهما نرجستان، ليس فيها عيب (لأن العيب في المركز البصري في الدماغ) ورأت أنها كثيرة الحركة تجري من مكان إلى مكان بلا انقطاع. وتلمس كل شيء ولا يندر أن تكسر الآنية التي تعبث بها أو تتلف المتاع الذي تمسكه.
في أول الأمر تهيبت مس سوليفان تربية هذه الطفلة وتعليمها. ولكن لما لها من دراية بهذا الصنف من الناس الناقص الحواس وما لها من الحذق في تربيته، وما استشفته من الذكاء في هلن عزمت على أن تجعل منها إنساناً فائق الخواص والصفات، وقد جعلت رأت أنها صعبة المراس جداً شديدة القدرة بالغة النشاط، وأنها ما دامت بين أهلها يصعب ترويضها وتدميثها، فإنتقلت بها إلى منزل صغير لأهلها في أرض لهم لا تبعد أكثر من ميلين عن توسكوميبا، وأقامتا وحدهما هناك، وكان الطعام يرسل إليهما من البيت كل يوم، ولكنهما ما لبثتا هناك أكثر من أسبوعين فعادتا إلى البيت.
ورأت سولفيان أن تطويعها بالقوة والعنت يزيدها شكاسة وعناداً وشراسة فقررت أن تملكها بالمحبة، فكانت تهبها كل يوم ما توده من كعك وفاكهة ولعب أطفال، وكان أهلها يتفاهمون معها بإشارات تعودوها، فتحسنت عشرتها قليلاً. وقررت المعلمة أن تعلمها الحروف الأبجدية بكتابتها على كفها بأصابعها، وأول كلمة أدخلتها في عقلها بالكتابة كلمة لعبة إذ رسمت الحروف على كفها ثم أعطتها اللعبة. ثم أخذت اللعبة منها وجعلتها تطلبها بكتابة الحروف على كفها (كف المعلمة) ثم كتبت المعلمة بأصابعها على كف هلن كلمة (كعك) وأعطتها كعكة، وهكذا فعلت في إعطائها اللبن ووعاء اللبن الخ.(992/20)
وكان لهلن ذكاء عجيب فما علمت كلمة إلا حفظتها حالاً ولا تنساها، الأمر الذي سهل على المعلمة مهمتها جداً. وبدأت هلن تفهم أن لكل شيء اسماً يرسم على كفها. ثم شرعت تعلمها الأفعال مثلاً: شرب، أكل، جاء، راح، فكانت إذا جاعت ترسم على كف معلمتها كلمتي: (لبن. هلن) فتصحح المعلمة الجملة هكذا: (هلن تريد لبناً) ثم (هلن تريد أن تشرب لبناً) على هذا النحو نجحت المعلمة في تعليمها في شهر واحد مائة كلمة، وما وجدت صعوبة إلا في تعليمها الأسماء المجردة عن المادة كالحب أو الشر أو الطيب أو السرور. وفي آخر السنة كان رأس مالها تسعمائة كلمة، وهو قدر كافي للتفاهم والتدرج في كسب كلمات أخرى.
وعلمتها في خلال ذلك قراءة كتب العميان الابتدائية ثم الكتب الأخرى فنجحت بسرعة فائقة حتى صارت تقرأ الكتب الراقية. ثم علمتها أن تكتب حروف العميان بواسطة الآلة الكاتبة للعميان فبرعت عاجلاً وصارت تكتب بها ما تريد أن تقوله وماذا يمنع أن تستعمل الآلة الكاتبة التي يستعملها المبصرون، فما لبثت أن صارت تكتب بها ما كانت تكتبه على الكف، صار هذا بعد أن دخلت معهد بركنز للعميان.
أما كيف صارت تكتب بيدها بقلم الرصاص الكتابة التي يكتبها الناس فانقل رسالتها بهذا الصدد إلى مجلة سنت نيكولاس في يونيو سنة 1892 وكان عمرها حينئذ 12 سنة
(عزيزي محرر مجلة سنت نيكولاس
(يسرني جداً أن أرسل إليك خط يدي لأني أود أن يعرف الصبيان والبنات المبصرون الذين يقرئون مجلة سنت نيكولاس كيف يكتب العميان. وأظن أن بعضهم يستغربون كيف نكتب السطر معتدلاً لا اعوجاج فيه. عندنا لوحة مسطرة سطوراً منخفضة قليلاً نضعها بين الصفحات حين نكتب. فالخطوط المتوازية في اللوحة تجري عليها السطور. فحين نضغط بقلم الرصاص على السطر المنخفض يبقى السطر معتدلاً. فنرسم الأحرف الصغرى في القلم المنخفض والأخرى المرتفعة ترتفع إلى فوق القلم والأخرى ذات الذيول إلى تحت القلم. نمسك القلم باليد اليمنى ونرشدها بإبهام اليد اليسرى لكي نعلم أننا نرسم الحروف في مواقعها بلا ضلال. في بادئ الأمر تصعب الكتابة جداً على هذا النحو، ولكن بالممارسة والمواظبة تصير سهلة جداً، وحينئذ يمكننا أن نكتب رسائلنا إلى ذوينا وأصحابنا. إن الذين(992/21)
يزوروننا يودون أن يرو الطلبة العمي كيف يكتبون)
وقد نشرت مجلة آخر ساعة نموذجاً من خط هلن فكان آية من الإتقان والجمال واعتدال السطر.
ولم تدع المعلمة سوليفان وسيلة للتفاهم إلا علمتها إياها. ومن ذلك أنها علمتها نطق الكلمات وإن كانت لم تسمعها، وطريقتها أنها تضع أصابعها على فم المتكلم وإبهامها على حنجرته وتجتهد بعد ذلك أن تقلد حركات فمه وحجرته فتصدر اللفظ مشابهاً لصوت المتكلم ولكن ليس بوضوح تام. وهذا يستلزم أن تعرف كل كلمة صوتية تقابل الكلمة المخطوطة بحروف العميان أو المنقورة على كفها بأصابع معلمتها، ولا يخفى ما في هذا من العنت والصعوبة، ولكنه يقضي حاجة أحياناً. فأحيانا تتكلم هلن جملة لا يفهمها السامعون ولكن معلمتها أو سكرتيرتها تفهمها وتقولها للسامعين. وقد تعلمت هنا في مصر أن تلفظ جملة (السلام عليكم).
قرأت كتابها (قصة حياتي)، وهو يشتمل على ثلاثة أقسام: -
الأول تاريخ حياتها، والثاني معظم رسائلها التي أرسلتها لأساتذتها وصواحبها وذويها بخط يدها بالحروف المعروفة على الطريقة المشروحة آنفاً. والقسم الثالث تقارير المعلمة مس سوليفان التي كانت ترسلها كل حين بعد آخر إلى مس صوفيا هوبكنز الموظفة في معهد العميان ومنها تتصل بالأستاذ أنا كنوز مدير المعهد. وهذا القسم هو اقصر الأقسام الثلاثة ولكنه أهمها؛ لأنه تبسيط لكيفية تعليم هلن ووصف لسلوكها وأعمالها.
ولما نجحت مس سوليفان في التفاهم معها بالأصابع وبالكتابة وبالضرب على الآلة الكاتبة للعميان أدخلتها إلى معهد بركنز للعميان. وبقيت تلازمها حتى انتهت من العلم هناك. وإذا كانت تضرب الكلام على آلة العميان الكاتبة فلا مانع من أن تضرب الكلام بالكتابة العادية على التيب ريتر الذي نستعمله نحن.
نعم أن هلن محرومة حاسة السمع ولكن جسمها يحس باهتزازات الأصوات وبارتجاجات الدوي فهي من هذا القبيل أرهف إحساساً من السامعين والمبصرين.
في ذات يوم حضرت سباق كرة قدم بين جامعتي هرفرد وبابيل، وتقول في إحدى رسائلها أنه كان في ذلك المكان نحو 25 ألف نفس. وكانت تحس بدوي التصفيق الهائل. قالت كدنا(992/22)
نخرج من جلدنا لشدة وقع الدوي علينا. وكنا نظن أننا في ساحة حرب.
وفي يوم أحد كانت هلن ومعلمتها في نيويورك وحضرنا الصلاة في كنيسة القديس برتولومبيوس. وكان الواعظ دكتور جريز يتكلم ببطيء وكانت سوليفان تنقل إليها كل كلمة تقريباً. وبعد نهاية الصلة طلب هذا الواعظ إلى المستر ورن الذي يعزف على الأرغن أن يعزف شيئاً لأجل خاطر هلن. ووقفت هلن في وسط الكنيسة تماماً حيث تكون ارتجاجات ذلك الأرغن العظيم قوية. تقول هلن: وكنت أحس أمواج صوت الأرغن تصدمني كما تصدم أمواج البحر السفينة.
ويوم كان أهل هلن ينتظرون المعلمة سوليفان كانت هلن تشعر بحركة غير اعتيادية في البيت وأن هذه الحركة لاستقبل شخص. وإذا كان أبوها قادماً في عربته تشعر بقدومه. كان إحساسها البدني يفوق إحساس البشر. وهنا في مصر كانت تعرف حين يصورها المصورون لأنها كانت تشعر بصدمات النور اللامع لوجهها وبدنها. . . وسئلت مرة كيف تشعر بالتصفيق الشديد فقالت أحس الأرض تميل تحت قدمي.
وفي معهد بركنز استعدت هلن للدخول في كلية ريد كليف لكي تدرس بكالوريوس علوم، فكتبت إلى رئيس الكلية أن يسمح بحضور مس سوليفان معلمتها معها لكي تنقل إليها الكلام والأسئلة. وهي تقدم الأجوبة مكتوبة على الآلة الكاتبة. فسمح، ولكن لما كانت تتقدم للامتحان لم يسمحوا لمس سوليفان أن تترجم لها. . بل كانوا يقدمون لها الأسئلة مكتوبة بلغة العميان على الآلة احترازا من أن تدس مس سوليفان لها بعض ملاحظات. ما دخلت هلن امتحان ألا خرجت فائزة.
البقية في العدد القادم
نقولا الحداد(992/23)