ومشترين وموردين للبضائع وسكان أصليين. وكان يتولى أمرها جمهورية أرستقراطية عليها سمة (دينية) فقد كان سكانها يختارون لها جماعة من عشرة رجال، من إحدى القبائل ليكونوا حكامها وحراسا للكعبة وسدنتها، وكانت هذه لا شك طريقة غير سليمة. وقد انتهى هذا الأمر في أواخر الأيام السابقة لظهور النبي إلى قبيلة قريش التي منها أسرة محمد إذ أنها كانت هي التي تسكن مكة. أما بقية القبائل الأخرى، فكانت متفرقة في أنحاء الصحراء تفصلها الواحدة عن الأخرى مسافات بعيدة من البيد والقفار، وكانت كل قبيلة تختار لها أميرا وربما كان هذا الأمير راعيا، بل وكثيراً ما يكون لا عمل له إلا قطع الطريق والإغارة على القبائل الأخرى المجاورة. وكثيراً ما كانت الحرب تستمر سجالا بين القبائل عدة سنوات، ولكنهم على رغم تباعدهم وشتات شملهم وما بينهم من عداوة وبغضاء، كانوا يلتقون حول الكعبة فيجتمعون رغم اختلاف عقائدهم، على مذهب واحد، وهو تقديس الكعبة وتعظيمها. على أنه كان هناك شيء يجب علينا ألا ننساه وهو أنه كان العرب رابطة قوية، ألا وهي رابطة الدم واللغة التي تفوق كل الروابط والتي توحد المشاعر وتسهل التفاهم وتشعر بالتقارب.
على هذا المنوال عاش العرب قرونا عديدة خاملي الشأن لا أر لهم في الحياة ولا ذكر لهم في العالم؛ فقد وصل بهم الاضمحلال والسقوط، أن كان يستخدمهم الفرس والرومان في محاربة بعضهم البعض في الدفاع عن مصالح تلك الأمم. غير أنه في أواخر أيامهم حدثت بينهم دواعي اختلاط، أخذت تربطهم وتقرب بينهم، ثم أخذت تتسرب إليهم أبناء عن أكبر حادثة وقعت في ذلك الوقت على وجه البسيطة - وأقصد بها حياة المسيح ودعوته - فأحدثت هذه الدعوة تأثيرا ًملموسا في الأمة العربية وجمعت بين كثير من قبائلها، وكأنما أراد الله أن يكون هذا العمال إرهاصا للدعوة الكبرى واليوم المشهود الذي ينتظره هؤلاء العرب ليعلو ذكرهم ويرتفع في الآفاق شأنهم.
ما أعجب أمر الكعبة وأعظم شأنها! فهي التي جمعت بين شتات العرب ووحدت بين مشاربهم، وكما هي في هذه الآونة قائمة على قواعدها عليها الكسوة الشريفة التي يرسلها لها السلطان كل عام والتي توقد فيها المصابيح في ليلة الهجرة لتشرف تحت النجوم المشرقة، هي أجل أثر من آثار الماضي وخير ميراث من الغابر.(968/12)
هذه هي الكعبة التي يولى شطرها ملايين عديدة من المسلمين وجوههم من أقاصي الغرب من دلهي إلى مراكش، كل يوم خمس مرات. تهفوا إليها قلوبهم وتشخص أبصارهم. إنها والله لمن أجل مراكز المعمورة وأشرف أركانها.
الإسلام:
ما هو الإسلام؟ كثيرون هم الذين لا يعرفون ما هو الإسلام، أو يتساءلون مستهزئين هذا السؤال. أما الأولون فهم معذورون وأما الآخرون فهم حاقدون. ولهؤلاء وأولئك أقول.
الإسلام هو أن نذعن للأمر الله ونسلم الأمر له ونتوكل عليه، ونعلم أن القوة كل هي في الخضوع لحكمة والاستنامة لحكمته والرضا بما قسمه لنا في الدنيا والآخرة. ومهما يصيبنا من شيء، فلنعلم أنه من الله ويجب علينا أن نتقبله بنفس راضية ووجه باش ونعلم أنه الخير ولولا ذلك لما اختاره الله لنا. (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنين) وقد قال شاعر ألمانيا (جونة) عندما عرف أن هذا الإسلام: (إذا كان هذا هو الإسلام وهذه تعاليمه فكلنا إذن مسلمون) نعم هذا قول حق لأن كل من كان شريفاً فاضلاً كريم الخلق قوي اليقين فهو مسلم. وقد قيل: (أن منتهى العقل والحكمة ليس في مجرد الإذعان للضرورة، لأن الضرورة تجعل المرء يخضع لها رغم أنفه، فلا يكون له فضل فيما يأتيه، وكيف يكون للإنسان فضل فيما يفعله مكرها! ولكن منتهى العقل وعين الحكمة هي اليقين بأن ما ينزل بالإنسان من حوادث الزمن هي الخير له، وأن لله في ذلك حكمة تلطف عن إفهامنا نحن البشر وتدق عن عقولنا، وأنه من الخطأ والسخف أن يعتقد الإنسان في نفسه القوة ويجعل من عقله الضئيل ميزانا للعالم وما يجري فيه من أعمال، فيضع الأشياء في غير مواضعها الحقيقية، بل يجب عليه أن يعتقد أن للكون قانونا عادلاً وإن غاب عن إدراكه وعجز عن فهمه، وأن الخير هو أساس الكون، والنفع هو روح الوجود، والصلاح لباب الحياة، عليه أن يعرف هذا ويعتقده ويتبعه في سكون وتقوى حتى لا يضل الطريق إلى الله. وهذا هو الإسلام.
إن الإنسان يكون مصيباً وظافراً، سائراً على الطريق الأقوم والخطة المثلى والمذهب الأشرف الأطهر، ما دام معتصما بحبل الله متمسكاً بقانون الطبيعة الأكبر، غير مبال بالقوانين الوضعية السطحية والظاهرات الوقتية. إن المؤمن هو الذي يتبع القانون(968/13)
الجوهري الكبير، ذلك القانون السماوي الذي يعتبر قطب الرحى ومحور النظام في الكون.
وأول وسيلة يجب على من يريد أن يسير على منهج القانون الأعظم إتباعها، الاعتقاد بوجوده وبأنه أصلح القوانين للحياة بوجوده وبأنه أصلح القوانين للحياة ولا قانون غيره يصلح لتنظيم الكون وقيادة العالم إلى الأمن والسلام مما يضعه البشر لأنهم قاصرون عاجزون. هذا هو جوهر الإسلام وروحه. وهو أيضاً كان روح النصرانية من قبل، يوم أن كان أهلها يعتقدون هذا الاعتقاد.
الإسلام والنصرانية دينان سماويان. ويجب علينا أن نفهم أن الأديان السماوية تأمرنا بالتوكل على الله فبل كل شيء وأن نعظمه بقدر عظمة الكون الذي خلقه، وتبعاً لذلك يجب أن نزجر النفس عن الشهوات ونهي القلب عن الهوى والزيغ، وأن نتعود الصبر على الأذى وأن نرضى بما قسم الله وكل ما يأتنا به الله إن هو إلا يد بيضاء من الله علينا ونعمة غراء من نعمة على الكون التي يجب أن نحمدها ونخر لله ساجدين شكراً، نحمده على كل حال ولو كان ضررا يلحق بنا فقد يكون فيه شفاء لنفوسنا وتطهير لقلوبنا مما بها من الشوائب والأدران (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شراً لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
علينا أن نعرف موقنين أن عقولنا قاصرة عن معرفة شيء من أسرار هذا الكون الواسع، وتبارك الله ذو الفضل والجلال، وما أحرانا أن نقول دائماً: (إننا بقسمة الله راضون ولو ما قسم لنا المنون).
لو تأملنا سرعة انتشار الإسلام ودخوله إلى القلوب وشدة امتزاجه بالنفوس واختلاطه بالدماء في العروق، وتجردنا من عصبيتنا البغيضة، لتحققنا من أنه خير من النصرانية وأفضل تلك التي كانت منتشرة وقت ظهور الإسلام في كثير من بلاد العالم كالشام واليونان وغيرها، تلك النصرانية التي كانت تصدع الرأس ويحول بطلانها بين قلوب معتنقيها قفراً ببابا من المعاني السامية والروحية القوية التي يمتاز بها الإسلام. لقد كان في النصرانية عنصر من الحق، غير أنه كان ضئيلاً جداً وهذا هو السبب الذي جعل الناس يؤمنون بها، لأن الناس مهما كانوا فهم يريدون الحق ويسعون إليه ولكن ما إن وجد الإسلام حتى أصبحت النصرانية على حالها هذا كالدعي بجانب الأصيل.(968/14)
فقد جاء الإسلام والنصارى فرق وشيع يقيمون أسواق الجدال، يخطئ كل فريق منهم الآخر بالحجج الجائزة والبراهين المصطنعة الباطلة. فكانوا بهذا يطعنون دينهم بأنفسهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون حبا في شهوة النصر كمن يقال فيهم (يخربون بيوتهم بأيديهم) جاء الإسلام على الملل الباطلة والنحل الكاذبة والعبادات الضالة فسحقها، وحق له أن يسحقها لأنها باطل وهو حقيقة خارجة من قلب الطبيعة الصادقة إن الإسلام ما كاد يظهر حتى زالت وثنيات العرب واختفت من الوجود واحترقت جدليات النصرانية وذهب كل ما لم يكن حقا، وصار حطباً التهمته نار الإسلام فحولته رمادا ذهب والنار لم تذهب على مر العصور.
نظر محمد ببصره النافذ إلى ما وراء معبودات العرب الكاذبة ومذهبهم التي لا تقوم على أساس صحيح، ونظراً إلى اليهود ورواياتهم وبراهينهم ومزاعمهم وقضاياهم وإلى النصرانية وجدلياتها. نظر إلى هذا وغيره بعينه الثاقبة وقلبه البصير الصادق وفكره المتوقد إلى جوهر الأمر وصميمه، فقال في نفسه: ما هذه الأصنام التي تصقل بالزيت وتدهن فيقع عليها الذباب فلا تستطيع رده، إنها خشب مسندة لا تضر ولا تنفع، إنها باطل ومنكر فظيع وإغراق في الكفر بالله خالق الكون ومسيره، ولكن الحق هو الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الذي خلقنا وهو الذي يحيينا ويميتنا ثم يميتنا ثم يحيينا، ويطعمنا ويسقينا، وهو أرأف بنا منا أنه هو الرؤوف الرحيم، الذي خلق لنا ما في الأرض جميعاً لننتفع به ونشهد على أنه هو الواحد القادر الذي يجب أن يعبد، لا إله غيره.
لقد آمن العرب بالإسلام ودخلوا فيه أفواجاً راغبين غير مكرهين، وإن دينا آمن به أولئك العرب الوثنيون وأمسكوا بقلوبهم وعضوا عليه بنواجذهم لجدير بأن يكون حقاً وأن يصدق به لأنه حق لا مراء فيه.
لقد اشتمل الإسلام على مبادئ عظيمة وقواعد جليلة، وإن الشيء الوحيد الذي يجب على الإنسان أن يلحظه في الإسلام، هو اشتماله على روح الأديان جميعاً، هذه الروح التي تلبس أثواباً مختلفة وتتشكل بأشكال متعددة، ولكنها في الحقيقة شيء واحد.
وباتباع قواعد الإسلام والتمسك بروحه يصبح الإنسان إمامنا كبيراً لهذا المعبد الأكبر (الكون). على الإنسان إذا أراد الهداية، أن يسير على قواعد الخالق تابعاً لقوانينه لا يحاول(968/15)
أن يقاومها أو يدفعها أو يعبث بها لأنه سيبوء بالفشل لا محاولة لأن الله هو الذي يحفظنا (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ولم أجد قط تعريفاً للواجب خيراً من هذا.
ولا يكون الإنسان مصيباً إلا إذا سار على منهاج الإسلام وهو الدين القويم، لأن الفلاح في اتباعه (إذا كان منهاج الدنيا طريق الفلاح).
إن من فضائل الإسلام التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، وهذا لا شك أعظم وأشرف ما نزل من السماء على بني البشر الله، إن الإسلام نور الله قد ظهر في روح مجمد ذلك الرجل العظيم، فأنار الدنيا وبدد ظلماتها، تلك الظلمات التي كانت تنذر بالهلاك والخسران المبين.
وقد جاء به من عند الله ملك عظيم سماء (محمد) وحيا، وقد صدق إذ سماء هذا الاسم، فمن منا يستطيع أن يسميه اسما آخر، ألم يجيء في الإنجيل (أن وحي الله يهبنا الفهم والإدراك) ولا شك أن العلم ببواطن الأمور والنفاذ إلى جوهر الأشياء لسر غامض وأمر خطير لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره، وقد قال نوفاليس: أليس الإيمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله به).
إن شعور النبي محمد الذي ضاءت روحه بنور الحقيقة الساطعة بأن هذه الحقيقة أهم ما يجب على الناس أن يعلموه ويؤمنوا به، لم يكن إلا أمرا بديهياً. وما دام الله تعالى قد اختصه بها وكشفها له ونجاه من الهلاك والتردي في الباطل فهو مضطر إلى نشرها بين الناس وإظهارها للعالم أجمع، وهذا كله معنى كلمة (محمد رسول الله) وهذا هو الجلي والصدق المبين وهو روح الإسلام وجوهره.
فهل بعد هذا يستطيع المكابرون أن ينكروا فضله ويجحدون مزاياه ثم يقولون ما هو الإسلام.
عبد الموجود عبد الحافظ(968/16)
فدوى طوقان
شاعرة الوجد والحنين
للسيدة وداد سكاكيني
عند كلامي على شاعرتنا المعاصرات تطوف بالخواطر ترانيم شاعرة الإغريق سافوا التي أنبتها لسيبوس بلدة الفن والأدب. ولقد كانت حياتها وآثارها نغما شرودا ولحنا غريبا. ويقتحم الفكر بعدها اسم الخنساء الذي شاع في دنيا العرب قديما، فقد ظهرت هذه النابغة الكريمة شاعرة عز مثلها في الرجال. ولما فجمها الموت في أخيها صخر، وكان يؤثرها بحنانه وإحساسه سكبت دمعها رثاء له وحزنا عليه حتى تركت ديوانها مثل عين فياضة بالدموع.
ولست أدري حين أقرأ الشاعرة المعاصرة فدوى طوقان كيف آخذ لها الوصف من هاتين الشاعرتين المختلفتين طبيعة ومزاجا، ففي شعرها من الأولى ألحان وتناغيم، ومن الثانية صور اللوعة والفجيعة، فأعجب لتشابه النصيب والمصيبة.
لقد فجر بالحزن قريحة الخنساء وحسها فبكت أخاها بشعر يموج فيه النوح والعويل، وطال وجدها وأساها، فهي تبكي أخاها وترثيه لطلوع الشمس وغروبها. وكأنما تحرق شعورها واستبدت بها الحرقة فراحت تنفس عنها هذه المراثي الندبة التي طبعت شعرها بطابع عرفت به ودل عليها.
أما فدوى طوقان الفتاة الحضرية الأصيلة التي تثقفت في بيت عريق المجد والجاه في مدينة نابلس بفلسطين حيث يشرف جبل النار على هذا الحمى المنكوب فقد تعهد أدبها وثقافتها أخوها (إبراهيم) وإبراهيم كان حلما من أحلام عبقر، وعلما من أعلام الشباب الوطني رف طيفه وطاف شعره منذ عشرين عاما في آفاق الشام والعراق، وكان بشرى التجدد والإبداع في الشعر العربي المعاصر، ولكن سرعان ما غيب الموت هذا الشاعر فأسف أشد الأسف شقيقته فدوى، وكانت قد أوتيت مثل أخيها موهبة الشعر فراحت تبكيه وترثيه بقصد أعاد إلى الخواطر ذكرى الخنساء. وما أكثر ما قالت فدوى في وجدها ولوعتها وكأنما كان فيه عندليب يبكي عندليبا، فمنه قولها:
واشقيقاه ما أجل مصابي ... كيف أودى الردى بزين الشباب(968/17)
واشقيقاه مات في عمر الورد ... غضير الصبي نضير الإهاب
أين منى أخي؟ فلي الله ما ... خلاه عني ما عاقه عن جوابي
حر قلبي (لجعفر وغريب) ... وهما يرقبان يوم الإياب
كلما استشعروا إليك حنينا ... هاج في الصدر من طويل الغياب
هتفا باسمك الحبيب وباتا ... رهن هم ووحشة واغتراب
ويدعوا الشاعرة فقد أخيها إلى أن تسأل القدر عما وراء الغيب وعن عالم صار إليه أخوها. وقد سأل قبلها الشعراء عن هذا المصير فما أجابهم إلا صدى يرن في ظلمات العدم فتقول:
ليت شعري ما عالم صرت فيه ... عن عيون الأحياء خلف حجاب
أهو شط الأمان للنفس بعد الخوض ... في مزيدات طامى العباب
ويمر عام تزداد فيه هواجس الشاعرة وتستبد فيها شجونها فتقول:
لا كان عام ظللت يا سكني ... فيه وراء الحياة والزمن
مستوحشا في الضريح منفردا ... مرتهنا بالتراب والكفن
لو أنني قمت بالوفاء أخي ... ما ظل روحي يجول في بدني
لقد بكر الحزن في فدوى وطغى، فقالت فيه أكثر شعرها قبل أن يكون منها شعر من ضرب آخر، بل كان هذا الحزن مثيرا لآلامها وهمومها التي لونت حسها وخيالها بتلاوين الوحشة والكآبة وجعلتها تقول الشعر عن نفسها وتصويرا لهواجسها، فكانت مراثيها شجوا ودمعا، ثم ظهرت قصيدتها (خريف ومساء) مواجة بالحيرة والزهادة.
ويمسح الزمن بعد حين بيده السحرية على وجوم فدوى ووجدها وتتصدى لها رسالة الشعر فتناغيها وتناجيها، وتهدد مواجها بالرجاء والعزاء، وتستجيب لها الشاعرة فتحاول الخروج من هيكلها القائم الذي طال وقوفها فيه بين الحسرات والزفرات.
كان صنع الشاعرة الطوقانية وهي تنفلت من شجوها كصنع الناسك القديس الذي يترك محرابه للتطوف في حديقة أو رحبة ناسيا ركعاته الطوال أمام المذبح، أو كما فعل الناسك الذي صوره اندريه جيد في السمفونية الرعائية. والشاعرة السادرة في تفلتها حينا بعد حين من حزنها تتخفف من السواد الذي كان عالقا بألفاظها ومعانيها، فتؤثر التأمل وتلتمس الفلسفة في الشعر الذي سارت به على غرار الأوائل. وكنت أتمنى لو انفردت فدوى(968/18)
بلمعات خاصة كالتي ظهرت في شعرها الأخير حين رمت بطرفها على شاطئ الوجود.
أما أنوثة الشاعرة فأمر لا ينبغي أن يغيب في دراسة الأدب المعاصر، وفي هذه المرحلة من التحليل النفسي الحديث، الذي يتناوله نقاد الأدب في الغرب على نحو من التصريح لا التلميح، ولم يتهيب الكلام نقادنا القدامى حين حللوا شعر النساء وأولوا لفظه ومعناه. فكأي من شاعرة أو مغنية في العصرين العباسي والأندلسي كانت تعرب عن شكواها وجواها ولا ترى حرجا في أن تتدله أو تتغزل. ولا أدري ما يحول بين ناقد الأدب المعاصر وبين تحليله شعر المرأة والمضي وراء مراميها إلى حيث ترف أجنحتها الشعرية في آفاقها البعيدة؟
على أن السائد من تقاليدنا ما يزال يجعلنا متحفظين متحرزين في التعبير عن حقيقة إحساسنا ومنازعنا، فلا الشاعرة ولا الأدبية تستطيع مع هذا التحرج أن تصور هواجسها وخلجات قلبها، ولا الناقد يستطيع النفوذ إلى ما وراء الكلام، ولهذا فإني حين نظرت إلى طائفة من شعر فدوى قالت أكثره في التعبير العاطفي والشوق المقيد والقلق المستمد عزوته إلى هذا التحفظ النسوي. غير أن فدوى إذا قيست بشاعراتنا المعاصرات كانت أصدقهن تمثيلا للعاطفة الصحيحة والشعور الذي يخامر الأنثى. وليس معنى هذا أن شعرها مقصور على الوجد والحنين فإن لها تأملات روحية وصورا حسية منوعة دلت على تتبعها وتعمقها في فهم الكون والحياة والمضي مع تيارات الفكر الحديث. والشعر عند فدوى فن يرفده حس مرهف وقريحة مثقفة لم تقنع من الفطرة بالوحي والإلهام. وقارئ قصيدتها آية كانت يشعر أن وراء هذا الشعر من تقوله وقد ملكت مواهبه وأسبابه.
ولعل الشاعرة الطوقانية قد تأثرت بتعاليم المعري والخيام، فتوقانها إلى الانعتاق من الحياة ولا سيما انطلاق الروح من الجسم فكرة علائية أكثر المعري من ذكرها في لزومياته، وحنينها إلى الينبوع الإلهي نزعة صوفية. أما أملها في أن تبعث من ترتبها زيتونة مثمرة فهذه لمعة خيامية تلوح في قولها:
يا رب إما حان حين الردى ... وانعتقت روحي من هيكلي
وأعنقت نحوك مشتاقة ... تهفو إلى ينبوعها الأول
وبات هذا الجسم رهن الثرى ... لقى على أيدي البلى الجائره(968/19)
فلتبعث القدرة من تربتي ... زيتونة ملهمة شاعرة
حتى إذا يا خالقي أفعمت ... عناصري أعصابها والجذور
انتفضت نهتز أوراقها ... من وقدة الحس ووهج الشعور
ويطغي على فدوى حس مبهم مجنح يعاود مثله الشعراء الذين ينطلقون وراء المثل العليا أو يلوبون على حقائق يتوهونها وينشدونها، إنهم في عالمهم الخاص يبدعون شخوصا وأشياء ثم يضفون عليها من ألوان الوجود، فإذا هم يناجون ويهتفون وليس بين أيديهم إلا هذه المثل الهائمة المدومة في آفاقها البعيدة. وهذا سر تفوقهم في متع الخيال وتهاويل الباطن! والشاعرة الطوقانية لم تنحرف عن سنة هؤلاء؛ ففي شعرها الذي قالته بعد الرثاء لمحات ظمأ وحنين، ونفحات فن وإحساس عنيف، فيها حمل لها على الانفلات من قيود عزلتها ووحشتها، وقد عبرت عنها بالشوق إلى المجهول.
ولا يحسبن بعض الملمين بشعر فدوى أن هذا المجهول الذي تمضي وراءه متلهفة حيرى هو المحبوب أو الزوج أو الولد، إن هذا لمن أتفه ما يصبو إليه الشعر. وإنما تغذ الشاعرة تأملاتها وشحطات شوقها وراء الغيوب، في السديم المثالي لعالم الشعر الذي لا يفنى. وقد أحس هذا الإحساس كثير من الشعراء والشاعرات وكانوا متزوجين ولهم أولاد وحفدة، وما نسينا تحليق شيخ الشعراء بفرنسا (فيكتور هوغو) حين نشر جناحيه في سموات هذا المجهول الشارد بأكثر قصائده التي وضعها بديوانه المسمى (كيف يصير المرء جدا) ومرد ذلك عندي إلى الألم العميق، فإن هوغو فقد بنته وزوجها غرقاً فبقى محزوناً عليهما، وقال ذلك الشعر الذي يهفو إلى المجهول بسائق من هذا الأسى المقيم. وكذلك أرد شعر فدوى في هذا الصدد، فلولا أخيها الذي ضعضعها، وهذه الهواجس التي ألمت بنفسها لما سمت روحها نحو هذه المثل البعيدة.
وإذا كان لقولي هذا ختام على إيجازه في الشاعرة الطوقانية فأجمل ما ينبغي أن يكون الكلام فيه على شعرها الوطني. وهل ذهب ذاهب إلى أن فدوى التي هزها الأسى على أخيها إبراهيم لم تكن ذات شعر وطني؟ هيهات هيهات! فإن جبل النار الذي يغلى حمية وحرية هو الذي تحدرت من قمة فدوى، وطبعها على هذا الشعر الذي رددته وكأنه أغاريد بطولة وجرس سلاح.(968/20)
إن لفدوى طوقان في فلسطين المنكوبة المغصوبة شعراً لم يقل مثله الرجال. وسيظهر هذا الشعر في ديوانها ملتهباً بالدم مشبوباً بالشمم، فمن قولها فيه:
يا هذه الأقدار لا ترحمي ... فرائس الضعف بقايا الرمم
ستنجلي الغمرة يا موطني ... ويمسح الفجر غواشي الظلم
لن يقعد الأحرار عن ثأرهم ... وفي دم الأحرار تغلى النقم
وإذا كانت تلوح اليوم في الآفاق العربية بشائر الشعر النسوي الحديث كما كانت تلوح في هبات التألق الأدبي الذي كان في العصريين الأموي والعباسي، وفي الأندلس، فإن طائفا من الإلهام الإلهي والفن المطبوع قد تخير فدوى لتحمل رسالة هذا الشعر في جيلنا المعاصر؛ يمكنها من ذلك تضلعها من الفصحى وتمرسها بالبيان. وإنها لتجود بالشعر من نفسها وحسها غير منسحبة على التكلف والتقليد، ولا مرددة لشعر مصنوع تفوح منه الترجمة والاقتباس، وإن لها لأمداً بعيداً هي منطلقة نحوه وقد انشق أمامها الطريق.
القاهرة
وداد سكاكيني(968/21)
مسيو بتلان
بقلم الأديب عبد الغني الأنباري
مسيو بتلان بطل مسرحية فرنسية ظهرت في القرن الخامس عشر، وقد لاقت نجاحاً منقطع النظير، ولا زالت تلاقي إقبالاً عند تمثيلها. وأما مؤلفها فقد تضاربت الآراء في معرفته. ومسيو بتلان بطل مسرحية محام ولكنه يمثل الشخص الخبيث الماكر الذي يوجه ذكاءه ونشاطه لخدمة مآربه الشخصية. ويطلق الفرنسيون اسم بتلان على كل إنسان يتصف بهذه الصفة. والعرض الذي أقدمه للمسرحية هو عن اللغة الإنكليزية.
نحن الآن في فصل الأول من المسرحية حيث نرى ميسو بتلان بطلها وقد التزم داره، آنسة إنسان مغرور يظهر على سيماه الخبث والمخادعة، وهو كسول في نفس الوقت، لا يريد أن يكلف نفسه مشقة الخروج للبحث عن مورد أو دعوى يتوكل فيها. وقد أزعجت حالته هذه زوجته (جيميت) - ولعلها أخبث منه - فآلمها ما يبدو من زوجها من التراخي والكسل إذ لا يبدو عليه أي اهتمام بحلول العيد وما يتطلب من ملابس جديدة. فتأخذ في انتهاره وإيذائه بقارص الكلم وتوجه إليه لوما وتقريعاً قائلة له: ما الفائدة في أن يكون محاميا عظيماً كما يدعى، بينما هو يعجز عن تدبير المال الكافي لشراء ملابس العيد؟ وكأنها بهذا الكلام أي بوصفها إياه. . . محامياً عظيماً - قد مست فيه الوتر الحساس من نفسه المغرورة. فهتف بها أنه نعم لا تزال ذلك القانوني والمحامي ذو الاسم اللامع في عالم القضاء، وسيريها إلى أي حد سيوفق في يومه هذا.
ثم يأخذ نفسه بالحزم والشدة فيلبس ملابسه. إلى أين؟ لا يدري. وأخذ يقدح فكرة طوال الطريق. من أين يدبر المال اللازم وأين السبيل إلى ذلك؟ أين يجد ذلك المخلوق الأبله الذي يرضى أن يوكله في قضية، وهو ذلك المحامي الذي عرف بالخسة وضعه النفس فضلا عن أنه محام فاشل.
وما زال بأفكاره هذه حتى باغ السوق. وانتهى بتفكيره على أن رغبة زوجته تنحصر في الحصول على الملابس فقط. ولا يهمها إن كان محاميا عظيما أو فاشلا، كما لا يهمها مطلقا المصدر الذي يحصل به على القماش المطلوب.
إذن فالمسالة هينة إلى بعيد. هداه تفكيره إلى رأى عزم على تنفيذه، إذ كان قد وصل إلى(968/22)
حانوت بائع للأقمشة اسمه (جيوم جوكوم). أما جيوم هذا فقد عرف عنه أنه رجل حريص شديد البخل. فاقترب منه بتلان وقد افتر ثغره عن ابتسامة عريضة ملؤها الثقة بخبيثة، فسلم على جيوم وحياه وأخذ يصافحه بشدة وإخلاص، متظاهر بأنه صديق مخلص له عزيز عليه. فأخذ جيوم بهذه المفاجأة ودهش إذ أن هذا السيد يدعى أنه يعرفه ويدعي أكثر من هذا أنه صديق عزيز عليه، فيبعد جيوم قليلا من حذره الذي عوده إياه بخلة الشديد وسوء ظنه بالناس، وتتفتح نفسه رويدا لهذا الإخلاص العميق الذي يبديه بتلام ولا يزال به بتلان هاتفاً هاشاً باشاً حتى يضطر جيوم إلى دعوته إلى الجلوس، فيتحدث بتلان عن الصحة والمزاج والأحوال ثم ينتقل إلى الحديث عن العائلة وعن المرحوم الوالد العزيز الذي ٍكان صديقا مخلصا له، ثم أخذ يتحدث عن علاقته بالراحل الكريم وكيف أن جيوم كان لا يزال صغيراً عندما كان هو يزورهم، ثم يزيد مؤكداً كيف أنه - أي جيوم - يشبه أباه في حركاته وفي ملامحه وفي رقة أخلاقه أيضاً. وما زال كذلك حتى يتحول الحديث فجأة إلى القماش قائلاً: ياله من قماش بديع وجميل! ولكنه في هذا لا يظهر أنه جاد في حديثه عن القماش فينتقل ثانية سائلا عن عائلة جيوم ويقول: إن وزوجتي يسرها جدا أن تزورنا بل أن تتفضل بالغذاء معنا. ولكن جيوم وقد تحركت فيه نفسية التاجر فيعود بالحديث عن القماش مطنباً ومادحا لهذا القماش الثمين فيؤيده بتلان في ذلك وإن كان قد أظهر عدم المبالاة، ومع هذا فإنه يقول أنه سيرى نفسه مضطرا أن ينزل عن عشرين جنيها ثمنا لما سيشتريه اليوم من صديقه العزيز. ثم يعود للحديث عن الوليمة التي ستقيمها زوجته لصديقه جيوم، وفي هذه الأثناء يمد يده إلى قطعة أخرى ويختبرها ويقول: كيف أن القماش الفاخر يجتذب الزبائن اجتذابا، وكيف يستولي على النقود فيسلبها من أصحابها راضين بذلك. ولكنه يقول يا للأسف لقد نسيت محفظة النقود في البيت. ولكن هذا لا يهم وإن كان الخير في ذلك، لأن جيوم سيستلم أثمان القماش عند حضوره للغداء، ويتفقان على القماش. وعندها يعاود جيوم حذره وحرصه على النقود فيطلب أن يأتي هو بالقماش معه عندما يحضر للغداء، ولكن صديقه الكريم بتلان لا يرضى بهذا العناء إذ كيف يكلف صديقه العزيز جداً يحمل ما يخصه؟ وما يزال به حتى يرضخ جيوم للأمر ممنيا نفسه بغداء دسم مع استلام النقود.(968/23)
ونرى بتلان في الفصل الثاني وقد عاد إلى بيته متأبطاً القماش الفاخر فتفرح بذلك زوجته فيحدثها عن القصة وعن كيفية الحصول على القماش، ثم يطلب منها أن تتكفل بالباقي فقد جاء دورها، إذ أن جيوم سيحضر مطالباً بثمن القماش عند الغداء. وهنا يظهر خبث الزوجة فإذا هي أبرع من زوجها كأنهما شن وطبقة، فيتفقان على أن يتظاهر بتلان بالمرض وتدعي هي أنه مريض منذ أيام ولم يخرج أبداً، ويبدأن بتنفيذ الخطة فيخلع بتلان ملابسه ويستلقي على السرير. وعندها يطرق الباب فيعلمان أنه جيوم بائع الأقمشة والضيف الكريم، فتذهب جيميت إلى باب الدار وقد أخذت تسير على أطراف أصابعها متصنعة الاهتمام فتفتح الباب وتبدأ مهمتها فترحب بجيوم على أنه الطبيب وتدعوه للدخول وهي تشغله بالحديث عن المريض وكيف أنه يتألم وكيف أنه لا يدعها تذوق طعم الراحة.
فيدهش جيوم قائلاً إن بتلان كان معه قبيل نصف ساعة، وأنه اشترى منه قماشاً وأنه مدعو للغداء، فتصرخ فيه جيميت: أي قماش وأي غداء؟ هو إذن هو ليس بالطبيب المنتظر وإنما شخص غريب جاء يدعى أن زوجها المسكين قد خرج واشترى وعاد. ما هذا الهراء؟ ولكن جيوم يؤكد لها أن مسيو بتلان كان في دكانه قبل مدة وجيزة، وأنه جاء يريد ثمن القماش، فصاحت به أن يمتنع عن هذا الهذيان وعن هذا الاتهام وليلزم الصمت لكي لا يقلق راحة المريض، ثم يصلان إلى غرفة بتلان فإذا هو يتقلب على فراشه متألماً. ويحدث جيوم على اعتبار أنه الطبيب ويشكو إليه حاله وما يصيبه من الآلام، فيتوسل إليه جيوم أن يتذكره ويتوسل إليه أن يعطيه ثمن القماش، ولكن جيميت تصيح به وتدفعه بعيداً عن المريض. فيعرف أخيراً أنه وقع ضحية محتالين، فيخرج مسرعاً إلى دكانه ليتأكد من طول القماش، فيقيسه فيجد أنه حقيقة قد قطع منه بضعة أمتار، فيعود مسرعاً مرة أخرى إلى دار مسيو بتلان ويدخل مؤكداً صدق مطلبه وملحاً أن يأخذ ثمن القماش أو يستعيده. ولكن بتلان لا يجيبه إلا بالتأوهات، وعندها تعود جيميت إلى انتهازه واتهامه باقلاق راحة المريض، فيخرج جيوم متوعداً أن سيشكوهم إلى القضاء.
وفي الفصل الثالث نرى التاجر جيوم وقد خرج متوعداً، ويتفق أن يلاقي الراعي توما. أما توما هذا فإنه يشتغل راعياً لأغنام المسيو جيوم، ويعرف توما بالأبله ولكنه خبيث أيضاً وماكر، استغل أمانة سيده لأغنامه فأخذ يبيع بعضها ويتصرف بثمنها فشكاه جيوم إلى(968/24)
القضاء، ونرى توما الراعي قادماً إلى دار المحامي بتلان لكي يوكله عنه.
وهنا يظهر خبث المحامي بتلان على أروع صورة فيتفق مع الراعي توما أن يدعى أنه أخرس ولا يجيب على أسئلة القاضي إلا ب (آآ آ) أي مثل أصوات الغنم.
والمنظر الآن في المحكمة حيث الفصل الأخير وقد ظهر القاضي والتاجر جيوم. وعندها ينادي الحاجب الراعي توما فيتقدم هذا إلى القاضي فيسأله عن أسمه فلا يجيب إلا (آآ آ) فيمتلك جيوم الغيظ والغضب وينكر أن يكون توما الراعي أخرس. وعندها يطلب القاضي بمناداة وكيله ومحاميه فينادي الحاجب (المحامي بتلان) فيستغرب جيوم أن يكون بتلان حاضراً إذ قد تركه منذ وقت ليس بالبعيد مريضاً أو متمارضاً على الأصح. ولكنه يفاجأ بل يكاد يصعق عندما يرى الباب يفتح ويدخل مسيو بتلان، فيثور ويترك مسألة الغنم والراعي توما ويشكو بتلان إلى القاضي متهما إياه بالسرقة فيدهش القاضي؛ ولكن جيوم يقول إن المحامي بتلان محتال ومخادع وماكر كان قد أخذ منه قماشاً عند الصباح وعندما جاء ليأخذ ثمنه في البيت أنكره عليه وكان يدعى المرض بل كان مستلقياً على الفراش وأنه قد اتفق مع الراعي توما على انتهاك حرمه ماله. ثم يعود فيشكو الراعي توما إلى القاضي وكيف أنه سرق أغنامه وتصرف بها كما يشاء؛ ثم ينتقل إلى الكلام عن بتلان وما زال ينتقل من بتلان إلى توما ومن الأغنام إلى القماش حتى ضجر القاضي وطلب إليه السكوت. وهنا تظهر براعة المحامي بتلان ويظهر خبثه ومكره ويستند إلى حالة جيوم النفسية وما ظهر عليه من اضطراب ويتأسف بأن تسمع المحكمة الموقرة إلى مثل هذا المجنون الذي يخلط في كلامه ويتهم الناس الأشراف. فيحتد جيوم ويصرخ مطالباً بقماشه ومطالباً بأغنامه ويظهر اضطرابه في كلامه، فينتهره القاضي ويطلب إليه بل يأمر بإخراجه من قاعة المحكمة فقد سقطت دعواه لسخافته.
وهنا ينتصر المحامي بتلان وتبرئ المحكمة ساحة الراعي توما ويخرج الظافران. ثم يأخذ المحامي بتلان الراعي توما ناحية ويطلب إليه أن يسلمه ثمن أتعابه، فيقهقه الراعي توما ويجيبه كما أجاب القاضي مقلداً صوت الأغنام (آآ آ) فيجن بتلان من الغيظ ويحتد مزمجراً ويطلب ثمن الأتعاب فلا يجاوبه الراعي الخبيث إلا ب (آآ آ).
عبد الغني الأنباري(968/25)
جامعة فؤاد الأول كلية الآداب(968/26)
بمناسبة المولد النبوي
تطور البديعيات في مدح الرسول
للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي
كان للقرآن في صدر الإسلام معجزته الكبرى حين نشأت علوم اللغة والأدب لتفسر وجوه إعجازه وتوضح بلاغة آياته وسوره. وبسبب هذه الأجواء العلمية - التي حاكها حولها ونسج خيوطها بين يديه في بلاغته الساخرة وآياته الباهرة - كان الغاية الكبرى التي تنتهي إليها هذه العلوم وتدرس من أجلها هذه الفنون؛ وقد كانت الوسائل القوية والوشائج المتينة التي تصل بالدارس إلى معاني القرآن وفهم أسراره وكشف مقاصده، فاللغة والنحو والصرف والبلاغة وغيرها من علوم الأدب - مضافاً إليها علوم الشريعة وعلوم الحقيقة - وجدت من هذه الغاية الكبرى مبدأ لتكوينها وسبباً قوياً لنشأتها، كما أنها جميعاً وجدت من تطور الدراسات القرآنية خطوطاً أولية تمثل تطور حياتها وترسم طريق مستقبلها.
ولم يكد القرآن ينتهي من أداء هذه الرسالة الإعجازية حتى تضافرت معه قوة جديدة تصور نفسه الغاية هي (المدائح النبوية) فقد كان لهذه الأخيرة صداها منذ القرن الأول حين نظم كعب ابن زهير (26هـ) قصيدة (البردة) بين يدي الرسول الأعظم، فكانت قصيدته أول قصيدة كلاسيكية تقليدية في مدح الرسول. ثم جاءت على إثرها قصائد الشعراء في القرون المتعاقبة.
وفي القرن الثامن اشتقت المدائح النبوية طريقاً خاصاً بها حيث اصطبغت بالصناعة اللفظية وعنى واضعوها بوجوه المحسنات البديعية. ومن هنا حملت المدائح النبوية الرسالة العلمية التي حمل مثلها القرآن في علوم الأدب منذ سبعة قرون مضت. وبينما كانت (رسالة القرآن) رسالة عامة انتفعنا من ورائها في إحياء علوم الدين وعلوم الأدب كانت (رسالة المدائح النبوية) رسالة خاصة انتفعنا بها في تطور علوم البلاغة وفيما أحدثه الشعراء من ضروب البديع التي اصطنعوها في مدائحهم.
في هذه الحقبة من القرن الثامن أخذ القوم يخرجون مدائحهم النبوية في قالب خاص من علوم البديع حتى سميت (البديعيات). وكانت هذه البديعيات أشبه بكتب مفردة سجلت فيها فنون البديع وأنواعه ومصطلحاته، وظلت هذه البديعيات دستور البديع وديوان فنونه(968/27)
وسجل مصطلحاته في سائر القرون التي تلت القرن الثامن حتى وصلت إلى عصرنا هذا.
وأول بديعية وصل إليها تحقيقنا في القرن الثامن هي التي نظمها صفي الدين الحلي المتوفى سنة 750هـ، شرحها صاحبها في كتاب خاص سماه (النتائج الإلهية في شرح الكافية البديعية). قال ابن حجر العسقلاني: (. . . وبديعيته مشهورة وكذا شرحها، وذكر فيه أنه استمدها من مائة وأربعين كتاباً) وبدأ الحلي بديعيته مستلهماً ما جاء ببردة (البوصيري) من ذكر الأماكن الحجازية كذي سلم وسلع والعلم فقال:
إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... واقر السلام على عرب بذي سلم
وذلك تقليد قديم احتذاه الشعراء من قبل صفي الدين الحلي ثم أصبح نظاماً تقليدياً استنه الشعراء لأنفسهم من بعده. وفي هذا البيت يشير الشاعر إلى براعة المطلع والتجنيس المركب والمطلق. ثم ينتقل بك إلى تجنيس التلفيق في البيت الثاني:
فقد ضمنت وجود الدمع من عدم ... لهم ولم أستطيع من ذاك من دم.
ويستمر صفي الدين في هذا النحو حتى ينتهي من بديعيته في مائة وخمسة وأربعين بيتا، يذكر فيها سائر فنون البدع التي عرفت في زمنه: كالمذيل والملاحق، والمتام والمطرف، والمصحف والمحرف، واللفظي والمقلوب، والمعنوي، والطباق، والاستطراد، والتوشيح، والمقابلة، واللف والنشر، والتبديل، والالتفاف، والهزل الذي يراد فيه الجد، وعتاب المرء نفسه، ورد العجز على الصدر. . . وهكذا يسير في بديعيته المشهورة حتى يذكر لنا مائة وخمسة وأربعين فناً من الفنون البديع، فيخص كل بيت منها بفن من هذه الفنون. ويختم بديعيته ببراعة الختام فيقول في البيت الأخير منها:
فإن سعدت فمدحي فيك موجبة ... وإن شقيت فذنبي موجب النقم
ومن ذلك نعلم أن المذابح النبوية خدمت علوم البلاغة فكانت حافزاً على نمائها وتطورها إلى هذا العدد الذي ذكره الحلي في بديعيته. وقد كانت الحلي مدرسة تبعة فيها تلاميذه في تذبيح البديعيات كالصلاح الصفدي (764هـ) وابن جابر الأندلسي (780هـ) الذي وضع بديعيته في مائة وسبعة وسبعين بيتا وعز الدين الموصلي (789هـ) الذي وضع بديعيته في مائة وخمسة وثلاثين بيتاً.
وفي القرن التاسع كان لابن حجة الحموي المتوفى سنة 837هـ من الشأن ما كان لسلفه(968/28)
الحلي في القرن الثامن، فكلاهما كان زعيم حلبة الشعراء الناهلين من بحور البديع، وكلاهما كان ذا خطوة في الأدب واطلاع واسع في فنون البلاغة؛ إلا أن ابن حجة كان كما يحدثنا: ابن العماد الحنبلي والأستاذ بروكلمان - مزريا بغيره من الشعراء، ينظر إلى شعراء عصره كأحد تلامذته. ولقد كان لديوانه (ثمرات الأوراق) شأن كبير. وتسمى بديعيته (بديعية ابن حجة الحموي أو تقديم أبي بكر) سار فيها على طريقة الحلي، وتقع في مائة وعشرين بيتاً. ثم شرحها في كتاب آخر سماه (خزانة الأدب وغاية الأدب).
ونحا هذا النحو شرف الدين ابن المقرئ (837هـ) الذي وضع بديعية أخرى تقع في مائة واثنين وأربعين بيتاً، شرحها في كتاب سماه (شرح الفريدة الجامعة للمعاني الرائعة).
ثم كان من نتيجة دراسة المدائح الدينية في هذه الصورة التي لمسناها خلال القرنين الثامن والتاسع أن تعمق القوم في دراسة البديع في القرن العاشر خطوة تحليلية خاصة. وبذلك كانت دراسة البديع في القرن العاشر خطوة واسعة تمثل تطور البديعيات في ذلك القرن. فظهرت (الطريقة التحليلية) في دراستها في شخصية عظيمة عرفت بالأبحاث الخاصة والمؤلفات المفردة بالفنون المختلفة - هي شخصية جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ.
وقد بدأ السيوطي بديعيته على عادة الشعراء ببراعة الاستهلال فقال:
من العقيق ومن تذكار ذي سلم ... براعة العين في استهلالها بدم
واختتمها بقوله:
واكتب مد الدهر في الدنيا لنا حسنا ... حتى أرى عند موتي حسن مختتمي
هي بديعية رصينة تقع في مائة وثلاثة وثلاثين بيتاً عارض فيها بديعية ابن حجة الحموي المسماة (تقديم أبي بكر) ويلمس قارئها صوراً من طريقته التحليلية. وأنت تحس كثيراً من إعجابه بنفسه حين تقرأ له شرح البيت الأول: (وما أحسن التورية الواقعة في التسمية حيث جعلت براعة العين في استهلالها البكاء بالدم بدل الدمع مع إكثار ذكرت للعقيق وبكائها حتى غلبت الحمرة على الدمع مجانسة للعميق ثم قال: وأنظر بذوقك ما الفرق بينه وبين قول ابن حجة. . .
وجاء بعد السيوطي جماعة كثيرون تأثروا بروحه التحليلية واشربوا طريقته فعكفوا على(968/29)
التأليف وأحيوا صناعة التصنيف في علوم البلاغة. فعائشة الباعونية (923هـ) وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (927هـ) وابن كمال باشا الحنفي (940هـ) يعدون جميعاً في نظر (المنهج العلمي) تلاميذ السيوطي - حكما - وإن لم يحظوا بالجلوس في حلقته والحضور عليه. ولكنهم تأثروا بالأصداء العلمية التي تركها السيوطي في عصره ولمحناها في شخصيته.
وليس أدل على ذلك من أن عائشة الباعونية التي كانت معاصرة للسيوطي سافرت من دمشق إلى القاهرة لتغترف من بحار العلوم والمعارف حتى أجيزت بالإفتاء والتدريس. ووضعت على الطريقة التحليلية التي استنها أستاذها السيوطي بديعيتها التي تسمى) الباعونية (في مائة وثلاثين بيتاً سارت فيها على طريقة السيوطي. كما وضعت أخرى تسمى (الفتح المبين في مدح الأمين) في مائة وسبعة وأربعين بيتاً، منتهجة طريقة السيوطي في الإكثار من البديعيات والعناية بتحليلها وشرحها. وهكذا كان السيوطي وتلاميذه يعنون في بديعياتهم بالتكثر والمقارنة وضرب الشواهد والشرح لكل ما يذكرونه من فنون البديع.
البقية في العدد القادم
حامد حقي داود الجرجاوي(968/30)
رسالة الشعر
الجبابرة
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
أسد القناة اليوم! مر ... حي بالبطولة عن قريب!
أسد القناة! وإنها ... سخرية القدر العجيب
تتربصون بكل أع ... زل مطمئن في الدروب
تتشجعون على الطفو ... لة وهي في الحلم الرطيب
وعلى الشيوخ المرهقي ... ن المحصنات عن الغريب
هذى البطولة أين كا ... نت في الشدائد والخطوب!
كنتم جبابرة الهرو ... ب أمام جبار الحروب
كنتم نعاجا سائمي ... ن أمام راعية غضوب
متنقلين من المدا ... ئن، للصحارى، للسهوب
مستقبلين مع الشرو ... ق هزيمة، ومع الغروب
مستسلمين إلى الكهو ... ف ليالي الشر العصيب
مستنجدين بكل مغ ... قول الذراع فتى صليب
وتحاربون مدرعي ... ن وراء أحرار الشعوب!
أنسيتم عهد الدمو ... ع أمام محراب الصليب
وصياح ذلكم العجو ... ز بكل ميثاق خلوب؟
أنسيتم (دنكرك) ذا ... ت الهول في اليوم القطوب
ونسيتم الرعب المجس ... م فوق ظلكم الكئيب
سابقم الأمواج في ... ها في التقهقر والهروب
في (طبرق) الحمراء كن ... تم شر منهزم سليب
تتراجعون إلى الورا ... ء على نشيدكم الحبيب:
(في خطة مرسومة) ... بأنامل البطل النحيب
وتركتمو فيها الهنو ... د لكل منطلق مصيب(968/31)
لولا الكتائب من شعو ... ب الأرض خافقة القلوب
تتقدم المتأخري ... ن إلى الخطوب بلا لغوب
ما كنتم إلا روا ... ية: (كان في الزمن القريب. .)!
حمر الوجوه المضرما ... ت من امتصاص دم الشعوب!
سود الصحائف - منذ كا ... ن لكم صحائف - من ذنوب!
كانت شكاواكم تجو ... ب الأرض مشيحة النحيب
صورتمو فيها العدو ... بكل تصوير معيب
والله يعلم أن ما ... صورتمو دعوى كذوب
لم يخطف الألمان وال ... طليان ساعات الجيوب. .!
لطختمو شرف الجيو ... ش بكل ألوان العيوب!. .
مهلا (أرسكين) العظي ... م، وقائد الظبي الربيب
الغار بات أقل ما ... يهدى إلى البطل الطروب
المنتشى يوم الشهي ... د بكف رعديد نحيب
ومزلزل (الكفر) العتي ... د بجيشه اللجب الرهيب
المستبد بأمره ... في غفلة الزمن الجديب
أنت المظفر في السلا ... م رفلت في الثوب القشيب!
لم ندرٍ موضعك العظي ... م زمان كنتم في الكروب
قل لي بربك، والحدي ... ث يطيب في المجد الحسيب:
من أي ميدان جمع ... ت كتائب الجيش الوثوب
الهاجمين على الخضا ... ر، الساقطين على الحليب!
بدأتم الأسد الهصو ... ر على شعاركم الخضيب
ذئباً يغير مع الظلا ... م على النيام أحط ذيب!
مهلا (أرسكين) العظي ... م، وما لفنك من ضريب
هذي الشجاعة نلتها ... من أي داهية أريب
ترغى وتزبد في القنا ... ة كعاصف اليم الغضوب(968/32)
قل للجنود الدارعي ... ن الكاشفي زرق النيوب
يترقبون خطى الطري ... ق ويجزعون من الدبيب:
ويفاجئون الآمني ... ن بطعنة اللص المريب:
هلا انتقلتم بالعتا ... د الضخم في وسط اللهيب!
هلا دفعتم للحلي ... فة بعض دينكم القريب!
ميدان (كوريا) فيه متس ... ع لأبطال الحروب!. . .
حسن كامل الصيرفي
(قصة الحرية)
للأستاذ محمد فوزي العنيتل
في الظلام الرهيب. . في غفلة الدهر. . في يقظة الدم المخمور
في انتفاض الغصون. . في عاصف الريح، في فورة اللظى المسجور
رن لحن مخضب يتنزى. . في جنون مستكبر. . مقهور. .
في صدور الأمواج يطفر. . مشبوبا. . ويرتج كالصدى المذعور. .
حملته الرياح للأفق الغاضب، لبحر، للذرى، للنسور
فكأني أحس دمدمة الماضي وصوت الأجيال تحت الصخور
تحطم القيد في جنون وتمضي خافقات الجناح فوق الأثير
إنها قصة الحياة لشعب أبدى الخلود مثل الدهور. .
قصة الدمع والدم. . قصة البعث والخلود
قصة الأمة التي حطمت صخرة القيود
طلع الفجر فاروها للربا وأعزف النشيد
أنفس حرة. . تصفق للموت. . وتنهار في اللظى المجتاح
وقلوب تدق. . في موكب النصر. . وتحنو على الدم النضاح
حطمت هيكل الظلام. . وطارت. . مطلقات جناحها للصباح
حطمت قيدها العتى. . وهيت. . تنشر الهول في الربى والبطاح(968/33)
فإذا البحر مارج من دماء. . ظامئات إلى اللقاء المتاح
وعلى الأفق روضه من ورود. . قانيات. . ترف فوق الجراح
وكأن السحاب شب حريقا. . يتهاوى على عزيف الرياح
إنها قصة الكفاح لشعب. . . باركته السماء يوم الكفاح
عاصف جن فارتمى في شعاب الردى الكئيب
أشعل الحق روحه فتأبى على الخطوب
ومضى ينسج اللظى وانثنى يغزل اللهيب
. . . ومضى الركب. . . والحتوف حواليه. . . جحيم يطبر في أجوائه
وهتاف الأحرار في مسمع الكون. . . نشيد مخصب بدمائه
ولهيب المنون يزحف في الشاطئ. . . ظمآن كالحريق التائه. . .
وقف الدهر ضارعاً لأسى طفل شهيد ملفع بنقائه
في اللظي المشرئب. . . عانقة الصبح. . . فذابت أشواقه في ضيائه
هجر الروض. . . والعصافير. . . والنهر. . . وحلما يرف في أحنائه
ومضى والنهار. . . وهم بعينية. . . كطيف الغروب عند انطفائه
ظامئ القلب للمنى. . . لأغاريده. . . لعرسه
حن للزهر. . . والزبى. . . فسقاه الردى بكأسه
أطلق الموت أسره. . . وغدا يومه كأمسه
لست طفلاً. . فأنت طيف جميل. . عبر الأفق عازفاً أنغامه
لست طفلا. . فأنت روح نبي. . غادر الأرض. . حاملاً آلامه
صفقت روحه الطروبة للموت. . . وضجت أفراحه المستهامة
وبعينيه للصباح. . . حنين كرفيف الأزاهر البسامة
وربيع الخلود في قلبه الضاحك. . . روض. . . وجدول. . . وغمامة. . .
في ظلال الغصون. . نامت لياليه. . وغطت أوراقها أيامه. .
صافح الشاطئ الحبيب. . وأغفى. . وعلى ثغره خيال ابتسامه
وغدا. . . قصة الدموع ستروى: للإله العظيم. . . يوم القيامة(968/34)
اومضا الركب طاويا. . . شاطئ الدمع. . . والنواح. . .
بين قلب ممزق. . . ذاب في ثورة الرماح. . .
ويد تحجب الردى. . . ويد تغسل الجراح
عبر الشاطئ الجريح فرنت. . . صدحات البلابل المحزونة
وتمطى النسيم في مئزر الروض. . . وهبت عطوره المفتوحه
واستطار النشيد، كالتفت النهر. . . وثارت أشواقه المحنونه
وانحنى فوق زهرة عانقته. . . وتهاوت أوراقها مستكينة
إنها الزهرة الشهيدة تروي. . . قصة الروض للضفاف الحزينة
نسجت عطرها الخفي جناحا. . . أطلقته على ضباب السكينة
أيُها النهر بين جنبيك قلب. . . مستهام الرؤى يذيب أنينه
إنها الزهرة الشهيدة فأنضح قلبها بالندي. . . وأطفئ شجونه
ذاب في عطرها الأسى. . . مات في روحها الأنين
عبرت شاطئ الردى. . . سوف يبقى على السنين
هي رمز مقدس. . . سوف يبقى على السنين
سمها ما نشاء لست أراها. . . في فنون الأسماء. . . والأوصاف
هي معنى في خاطري للبطولات. . . وللمجد. . . والخلود الضافي
هي إن شئت ابنة النيل. . . شبت. . . في الرياض العذراء فوق الضفاف
في رفيف الضياء. . . أنبتها الفجر. . . على شاطئ الغدير الصافي
وسقاها النبع الإلهي. . . خمرا. . . من عبير الخمائل الرفاف
فسرى لحنها المعطر. . . روحا. . . ذاب في خفقة النسيم الغافي
زهرة النيل. . . وابنة الشاطئين. . . ونجوى الحمام للصفصاف
وهيت عمرها. . . لمجدك يا مصر. . . لمجد الأجيال. . . والأسلاف
ودنا الفجر فاحتمى. . . شبح الليل بالغصون
وسرت نفحة الريا. . . في رؤى الشاطئ الحزين
ومضى الراكب سابحاً. . . في رؤى الشاطئ الحزين(968/35)
أشرق الفجر بالضياء. . . وطيف الليل يحبو على الضفاف الحبيبة
وتهادى النشيد. . . في مزهر الأفق ... في هدأة الليالي الرهيبة
عانق النهر. . . والخمائل. . . وهنا ... فتغنت به المروج القشيبة
ودنا موكب الصباح. . . وهبت ... نسمات. . . مرنحات. . . رطيبه
بعد أن ذابت النفوس حنينا ... واستبدت بها الظنون المريبه
أيُها الحائر المحموم. . ز صفق ... بجناحيك. . . للدماء السكيبه. . .
حان الخلاص فابسط ذراعيك ... للأفق. . . للسماء الرحيبة
إن هذى الدماء. . . معبر شعب. . . ... يسترد الحرية المغصوبة
محمد فوزي العنيتل(968/36)
المسرح والسينما
المسرح استثارة الواقع. . وليس الواقع. .
للأستاذ زكي طليمات
إنه موضع نظر، ما ذكره الأستاذ الدوياتي وتفضل بالتعقيب عليه محبذا الأستاذ أنور المعداوي، وذلك بشأن مرسم من مراسم العرض التمثيلي، وهو رفع الستار بعد هبوطه في نهاية كل فصل من فصول المسرحية، إذ يقف الممثلون يحيون الجمهور المصفق ويردون تحية إعجابه بما يناسبها من إبداء علامات الشكر والامتنان، هذا المرسم الذي وصفه كل من الأستاذين بأنه خروج على الواقع وأنه يعمل على هدم التجاوب الشعوري الذي يسود الممثل والمشاهد.
حق أن هذا الموضع نظر، بل إنها لمسألة شائكة يتجدد فيها القول ويطول، كلما حلا لنا أن نغلو في مهمة المسرح من حيث النقلة التي ينقل إليها الجمهور المشاهد بوساطته، فنأبى إلا أن نطالب المسرح بأن يقدم لنا صورة من الواقع تتجسد في الإطار المادي للمسرحية وفي شخوصها.
تقليد مسرحي سائد:
أما عن هذا المرسم، وإن شئت فقل هذه الحالة الشكلية التي يتخذها ممثلو المسرحية استجابة لتصفيق الجمهور، فأقول أنه لا حيلة للمسرح المصري في الأخذ بها، لأنها وليدة تقليد مسرحي صاحب العرض التمثيلي منذ أن أقام الرومان - وليس الإغريق - ذلك الستار الذي يفصل بين المسرح ومكان النظارة، والذي يهبط بانتهاء كل فصول المسرحية، وقد ساير هذا التقليد العرض التمثيلي في جميع مراحل نموه وتطويره حتى اليوم.
فإذا صح أن نطلق على هذا التقليد اسم (تقليعة) لنبوه عن المعقول، كما يذهب الأستاذ المعداوي - والمعقول مسألة نسبية تتفاوت درجات وتتباين مقاديره بتباين وجهات النظر إلى الشيء الواحد - إذا صح هذا لدى بعض النقاد الذين ينشدون الكمال المطلق ولا يبالون بتحميل الأشياء أكثر مما قدر لها أن تحمل وهذا جميل على كل حال لأنه وجهة نظر مثالية - فلن يجعل بنا - نحن رجال المسرح - أن نراه كذلك لأننا أدرى الناس بأن المسرح(968/37)
ليس الواقع بحذافيره وإنما هو استثارة للواقع.
أقول إن هذا التقليد، جاء إلينا من الغرب، إذا أننا في مسرحنا. . . ولا سيما في هذه المرحلة، مرحلة النقل والاستساغة واستخلاص الكيان الذاتي لمسرحنا الناش - مازلنا نتبع المسرحي الغربي، وخاصة المسرح اللاتيني. وما أظن أن الأستاذ المعداوي ينكر أن هذا (للتقليد) أو (التقليعة) يجري كل ليلة بأكثر مسارح العالم، وفي دار الأوبرا الملكية حيث تقدم الفرق الغربية الكبرى أعيان المسرحيات في أبرع عرض تمثيلي.
بيد أن واجب إنزال الأمور منازلها الصحيحة يقضى بأن نقرر أن هذا التقليد، قد مظاهر تطبيقية تبعاً للمزاج العام الذي عليه كل أمة، وإن كان لا مفر من الأخذ به.
فأكثر الفرق الإنجليزية من أن يحيي الممثلون الجمهور عقب كل فصل المسرحية، يكتفي بإتيان هذا الأمر مرة واحدة، وذلك في نهاية المسرحية، فنرى جميع ممثلي الرواية كبيرهم وصغيرهم، وقد انتظموا صفاً واحداً، يحيون الجمهور بما يتناسب وحرارة إعجابه وتأثره.
هذا لدى الشعوب الشمالية وهي شعوب تتسم بالمستوى الذهني الرفيع، وبالرزانة العاطفية وبالاعتدال في التعبير. . . ولا أقول (بالبرود).
وإني أميل إلى الأخذ بهذا أجدر بالممثلين وأكرم للجمهور وأحفظ لرواء الفن وليس لأي سبب آخر مما يتصل بهدم الواقع أو سواه، بل لقد أخذت به فعلا في النادر من المسرحيات التي قدمتها في أول عهدي بالإخراج المسرحي، ولكنني لم أوفق إلى إرضاء الجمهور والممثلين، فأقلعت عما أخذت به والأسباب معلومة معرفة. . . ولأعجب. . . فنحن شعب يستخفنا الطرب أيما استخفاف، وتطير بلبنا الهزة لأننا فطرنا على الاستجابة السريعة للبادرة التي يبطنها طبع صاحب حاد.
هذا ما يحضرني قوله في هذا التقليد، وهو تقليد أراه يرتفع إلى مرتبة المراسم، لأنه مستمد من طبيعة فن المثل ومن مزاج الجمهور المشاهد.
فالممثل، وهو عراض ماهر لمختلف المشاعر الإنسانية عن طريق المحاكاة ومحاولة الفناء في شخصية الدور الذي يؤديه يستهويه أن يرى أثر ما يعرضه على الجمهور الجالس أمامه والشاخص إليه بكل جوارحه، بل إن الممثل ليستهوي في أكثر مواقف دوره بهذا الأثر الذي يبديه الجمهور ليتابع أسلوبه في الأداء، أو ليبدل فيه أو ليطرق أسلوباً آخر.(968/38)
والجمهور بدوره، وقد حضر التمثيل، مغري بأن يستجيب إلى الأثر ينسجه الممثلون عليه، مدفوع إلى أن يبدي إعجابه وعجبه بمن يرى، فكأننا والحالة هذه أمام استجابة حارة متبادلة بين الممثلين والنظارة، فلا حيلة - والأمر ههنا وههنا ما قررنا - أن نغير من طبيعة الممثل والجمهور. وإن صح لنا أن نضع لهذا ولذاك معالم وحدودها بحديث لا يجفوها منطق العرض التمثيلي ولا (معقولية) المرنة السمحة. وقد وضع الأقدمون من فقهاء المسرح هذا العالم والحدود، فجاء هذا التقليد الذي أسلفنا ذكره وأوضحنا مظاهره المختلفة لدى (اللاتينيين) ولدى أهل الشمال.
وأنه ليطيب لي بعد هذا أن أسأل الأستاذ المعداوي، وأن أسأله مخلصاً - لأنني أحب دائماً أن نعلم - أسأله ما الذي يقترحه في هذا الصدد. هذا مع اعترافي بأنني لم ولم أسمع أن هناك تقليدا مسرحيا يقضي بأن لا يرفع الستار عقب انتهاء أحد فصول المسرحية أو في نهاية فصولها ليستجيب فيه الممثلون إلى تصفيق الجمهور وهتافة فيظهرون أمامه وقد نحوا عنهم مسرح الأدوار التي كانوا يتقمصونها وأخذوا يردون التحية بما يناسبها.
المسرح استثارة الواقع:
قلت أنه يحلو لنا أحياناً أن نرى فيما يقدمه المسر أحياء كاملة من الواقع. . . ولا سيما في مصر، وذلك لأن العرض التمثيلي فيها، جاءها في العقد الثامن من القرن الماضي، متأثرا بالمدرسة الرومانسية وهي المدرسة التي كانت تسود عالم الأدب والفن في فرنسا. ثم تلا ذلك تأثير المدرسة الواقعية التي اشتط أصحابها في مهمة المسرح فحاولوا أن يجعلوا منه (قطعة من الحياة)، ولكن هذه وتلك، مدرستان لم يبق لهما في الأدب والفن كبير أثره ولا سيما بعد أن أخذت مكانها اتجاهات أدبية وفنية جديدة.
هل المسرح هو الواقع؟ هل المسرح هو الحياة؟ ولكن أي واقع وأية حياة؟ ومتى كان الفن لهذا قادرا ومقدرا! هذا ما لا يعلمه أكثر الجمهور، ولكن الذي أعلمه أن النقد المسرحي في مصر يجري حسابه تبعا لهذا الشعار. . . ومن هنا يأتي نقد الأستاذ الدوياتي، وهو نقد يتلخص في أن رفع الستار مرة أخرى بعد إسداله عقب انتهاء كل فصل يؤدي إلى (الانفعالية المفاجئة لدى النظارة، مما يحول نيتهم وبين التعاطف والاندماج في اللحظة التي أوشك أن يتم فيها التعاطف والاندماج).(968/39)
فالأستاذ الودياتي قد أقتعد مكانه في الصالة وهو موقن بأنه سيرى الحياة منقولة فوق المسرح نقلا كاملا، فإذا تأثر بما يرى فلا يصح أن يقطع عليه تأثره تصفيق من الجمهور ولا ستار يرفع بعد أن يسدل ليظهر الممثلون بعد ذلك يحيون الجمهور. فإذا رقع هذا جاءت نقلته عليه مزاجه. . . وكان له أن يحتج، وفي الحق أنه غير ملوم في شعوره هذا.
غير أنني أعتقد أنه كان يرى هذا شيئاً عاديا لو أنه اتخذ مكانه في الصالة وهو موقن أنه سيشاهد (تمثيلا) أي مظهر من مظاهر فن التمثيل، وعرف أن فن التمثيل، وشأنه شأن سائر الفنون، لا يقدم (الطبيعة) وإنما يقدم مظاهر (الوجود)، وأن كل فن التمثيل، يتخذ من الحياة ركازا، ولكنه لا يعطى حقيقة الحياة كما هي. . . وأن الفن إذا أحيا الواقع على المسرح، فإنما يكون هذا بطريق الاستثارة لا النقل، ولو أراد الفنان أن ينسخ الواقع نسخاً دقيقاً لأعجزته الوسائل. وإذا افترضنا أن واتته تلك الوسائل فإن نتاجه يكون غير رفيع لأن كل عمل فني إنما يقوم على التركيز والتركيز ليس من الواقع، وكل عمل فني يخضع لقيم ومعايير، إن استلهمت من الطبيعة فإنها ليست الطبيعة منقولة منسوخة بعينها. ومما لا شك فيه أن العمل الفني لو جاء صورة فوتوغرافية من الواقع، لزهد الناس من مطالعته، ولاستغنوا عنه بالواقع المبذول أمامهم.
وواقية المسرح، وهي مناط القول في هذا، خاضعة بسورها لما تقدم ذكره، ويزيد عليها أن إمكانيات المسرح في نقل الواقع قاصرة محدودة، فالمسرح مناظره من القماش أو الورق المصور، وهذا غير الواقع، وهذا غير حقيقة الأشياء كما هي في الحياة.
وممثل دور (هملت) قد يكون مصرياً أو إنجليزياً، ويلعب دوره باللغة التي يتكلمها، هذا في حين أن (هملت) دانمركي المولد والنشأة ولا يتكلم غير اللغة الدنمراكية.
وفوق هذا، فإن المسرحية نفسها لا يتتابع فيها الحوار ولا ينعقد كما يتتابع في الحياة، إذ ليس من الحياة الواقعية أن تنتظم مشاهد الرواية كما أوردها مؤلفها بعد أن أخذ بالتركيز والإجمال، والتقديم والتأخير، والحذف والإثبات، ابتغاء الوصول إلى هدفه في الحدود التي ترسمها شروط فن كتابة المسرحية.
وعليه يمكننا أن نقرر أن كل ما فوق المسرح إنما هو مظاهر لعناصر مستلهمة من الحياة والواقع تشابكت لإحياء صورة من الوجود وتعاونت لاستثارة الواقع وليس لنقله ونسخه،(968/40)
وهي في كل هذا تنسخ تأثيرها علينا بطريق التمويه أو الإبهام
والتمويه يشعرك بوجود الشيء ولكن بطريق عرض مظاهر وجوده، وليس بعرضه على حقيقته وواقعيته في الحياة.
وما دمنا أمام المسرح، نعيش في عالم الاستثارة والتمويه، فلن يعلن ارتفاع الستار بعد سدله في نهاية كل فصل من فصول الرواية وظهور الممثلين يحيون المشاهدين، لن يعمل هذا على قطع التعاطف والاندماج بيننا وبين المثلين، لأن هذا وذاك قائم فينا منذ بداية الرواية.
ولو صح هذا المسرح، وأردنا تطبيقه على فن التصوير، لكان علينا أن نعلق اللوحات المصورة في الهواء وبلا إطار، بدعوى أن رؤية الحائط الذي علقت عليه الصورة، وأن مطالعة الإطار الخشبي الذي يحوطها، يقطعان علينا تيار الانفعال الذي يكون قد سرى فينا، إذا اندمجنا بكليتنا فيما أجرته ريشة المصور.
وأعود إلى المسرح فأتساءل من الذي جعل الستار يرتفع بعد هبوطه ودفع بالممثلين إلى مقدمة المسرح يحيون الجمهور؟
أليس هو الجمهور نفسه وقد أخذ يصفق ويهتف مطالبا برؤيتهم؟ ولماذا فعل هذا؟
فعل هذا لأن الممثلين استطاعوا أن يموهوا عليه بتسجيل مظاهر الحياة والوجود للشخصيات التي يلعبونها، لأنهم قدروا أن يؤثروا فيه بأدائهم المتقن، فأعجب بمقدرتهم بعد أن سرت إليه الهزة التي أحسوها وهم متقمصون شخصيات أدوارهم. فعل هذا لأنه، على تأثيره بما رأى، يعلم أنه يشاهد تمثيلا، لا واقع حياة، وإلا لما ألهب يديه بالتصفيق، أننا في الحياة الواقعية لا نصفق لما ننفعل به.
ويسعدني أن أزيد على ما تقدم، أن المسرح في تطوره الأخير ولا سيما بعد أن قامت السينما تنازعه البقاء وتم لها الفوز في أن تنقل الحياة نقلا فوتوغرافيا في أشرطتها، أصبح المسرح يلوذ بمصادره الأولى القائمة على الرمز والإبحاء والتركيز المبالغ فيه، ثم إشعار المشاهد بأن ما يشاهده إنما هو مسرح وليس (الواقع) حتى ينفرد المسرح بطابع لا يستطيع أن ينزعه منه الفن السينمائي.
ففي روسيا - ومنها تأتي أحدث الاتجاهات في الإخراج المسرحي - تجد أعيان المخرجين أمثال (تايروف) و (فاجتنجوف) يعمدون إلى وسائل جديدة في سبيل هذا وإلى القارئ(968/41)
صورة من العرض التمثيلي في (المسرح الأكاديمي بموسكو) وهو المسرح الرسمي.
المسرح عار من الستار. . . أي الستار الذي في المقدمة كما هو الحال عندنا، والظلام يغمر هذا المسرح بحيث لا يرى المشاهد شيئاً مما يحتويه، فإذا جاء ميعاد التمثيل أضئ المسرح تدريجا فإذا بنا نرى عمال المسرح يقيمون المنظر، وينظمون الأثاث الخ، فإذا انتهوا، ظهر جميع ممثلي الرواية وهم ينظمون ثيابهم ويثبتون شعورهم المستعارة، وقد يوجهون إلى الجمهور حديثا عن الرواية، ثم يسود الظلام المسرح مرة ثانية، وبمعاودة إضاءته يبدأ تمثيل الراوية.
قد تعجب من هذا لأننا أرقاء الواقع، إذ خفيت عنا مصادر العرض التمثيلي في المرحلة السابقة، قبل أن تأتي هذه المدرسة الواقعية التي أصبحت الآن لا تتحكم بمؤثراتها القاصرة إلا في البلاد التي عرفت التمثيل في أواخر القرن الماضي.
وبعد، فأرجوا أن أكون وقفت بعض الشيء في أن أجملت ما يحتاج الإسهاب فيه إلى مقالات طويلة.
وشكري مزدوج للأستاذ المعداوي إذ أتاح لي فرصة الحديث في هذا، وإذ خصني بشارة من ثقته التي سأعتز بها دائماً. وارجوا أن يكون للمسرح المصري نصيب من المنصف ومن لفتاته البارعة.
زكي طليمات(968/42)
المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية
إلى الأستاذ زكي طليمات
للأستاذ علي متولي صلاح
آفتان خطيرتان من آفات النقد يبدوان في الأغلب الأعم مما يكتب عندنا: أولاهما الانحراف بالنقد إلى الناحية الشخصية والجنوح به نحو التهكم والتجريح. وأخرهما تحميل الكلام ما لا يحمل والذهاب به إلى أبعد مما يقصد الكاتب ثم مؤاخذته على هذا المدى البعيد الذي أنشأه المؤاخذ نفسه من نسج خياله!
هاتان الآفتان ركبهما معي الأستاذ الجليل زكي طليمات في تعقيبه على الكلمة البريئة التي كتبها في العدد الأسبق من (الرسالة) أحدد فيها مدى إسهام مسرحيتي (مسمار جحا) و (دنشواي الحديثة) في خدمة العقيدة الوطنية.
أما ما كتبه الأستاذ عن شخصي وما تفضل به من نقص وهوى وجور وإسقاط وما إلى ذلك فسأسقطه من حسابي فشخصي أهون شيء علي، وللأستاذ الفاضل أن يرعى منه في كلأ مباح!.
وأما ما كتبه في الموضوع مناقشاً به الرأي الذي ذهبت إليه في مدى تعبير هاتين المسرحيتين عن العقيدة الوطنية، وفي مدى قيام مذهب (الفن للفن) , , في حياتنا الراهنة اليوم، فذلك ما سأقصر الحديث عليه في إنجاز:
1 - يأبى الأستاذ إلا أن يقرر أن مذهب (الفن للفن) ما زال موجودا في الحياة، وأن الحرب ما زالت قائمة بينه وبين مذهب (الفن للحياة) ويؤكد أنا الغلبة لم تكتب لأحدها حتى الآن. . . ولا أفهم معنى لهذا التشبث بذلك الرأي وقد انقضى مذهب الفن للفن) بانقضاء القرن التاسع عشر، وصار مفهوماً - كما قلت في كلمتي السابقة - أن الفن (الخالص) مرادف تماماً للفن (الفارغ)! والشواهد قائمة من حولنا في كل ما يكتب الكتاب المعاصرون فقد أوغلوا في الحياة يتناولون مشكلاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من كافة نواحيها، وانتهى تماماً عهد الأدب الذي لا يقوم إلا على الزينة اللفظية والمواكب البلاغية، وصارت هذه الأشياء بمثابة المحفوظات التي نراها في المتاحف ودور الآثار! ونزل السادة الأدباء من أبراجهم العاجية وانهارت هذه الأبراج وغشوا الأسواق وجابوا الطرقات(968/43)
يلتمسون الإنسان في صورته العادية النابضة بالحياة. ولا أدري أين هم الكتاب (الذين ما برحوا يعالجون الآداب من أبراجهم العاجية) كما يقول الأستاذ الجليل؟ أين هم؟ وما آثارهم تلك؟ إننا - وفوق كل ذي علم عليم - لا نعرف واحد فردا له احترامه أو مكانته في عالم الأدب اليوم من هذا النوع العاجي الذي لم يهبط الأرض ولم يمس ثراها بقدميه الناعمتين! ويذهب الأستاذ الجليل إلى أن هذين المذهبين يعالجان (أسلوبين من أساليب التعبير في جوهره) والذي أعلمه أن الفرق بين هذين المذهبين ليس في الأسلوب والتعبير، وأن كلا منهما لا يقوم على طريقة على طريقه خاصة في الكتابة، بل أنه لا علاقة لهما بتاتاً بالأسلوب والتعبير ولكنهما يقومان على طريقة في التفكير والموضوع: فأولهما يقوم على فكرة أن الفن لا علاقة له بالأخلاق وأنه لا يجوز أن يوضع الفن في خدمة المجتمع لأن الفن في ذاته غاية لا وسيلة، وأن واجب الفنان (هو البحث عن الجمال وحبس هذا الجمال في إطار) كما يقول أوسكار وايلد.
وثانيهما يقوم على أن الفن وسيلة كبرى من وسائل إصلاح الحياة وعلى أن رجال الفن والأدب مسئولون عن كل ما في الحياة من نقص وظلم وفساد، وأن عليهم تقع - أول ما تقع - تبعة ذلك جميعه وأن الفن الذي لا يعالج أدران الحياة هو فن فارغ لا معنى له ولا نفع فيه.
فأين الأسلوب والتعبير من هذا؟
2 - ولا أدري لماذا لا يختار الأستاذ في حديثه عن (الوجودية) إلا ما قاله أشد الناس عداوة لها؟ ولماذا يرميها بأنها (نظريات فلسفية قاتمة ولفتت اجتماعية لا تخلو من الشذوذ لأنها قامت على أنقاض انهيار نفسي نزل بالواعية الاجتماعية الأوربية بتأثير الحرب الكبرى الماضية). . . وهي ليست من كل ذلك في شيء؟ لماذا يقف منها الموقف وهو العليم بعناصرها الطيبة الكريمة وبقواعدها السليمة الصحيحة؟ أيكون ذلك من الأستاذ الجليل لمجرد أن يكون لسانه عليها وقلبه معها! إن الأستاذ يعلم دون شك أن الوجودية تقوم على الحرية العريضة لبني البشر، وتحميل الإنسان - ما دامت له هذه الحرية - المسئولية كاملة غير منقوصة، وأنها تقوم على الرجولة والصراحة ونبذ النفاق والضعف. . . وإن زعيمها (جان بول سارتر) ليسعى جاهداً لتكون الفلسفة والأدب (خير معين أبني البشر(968/44)
على رسم صورة العالم الذي يسعدون بالعيش فيه. . . وعلى توجيه نشاطهم وتسديد خطاهم نحو نوع الحياة التي يرضاها لهم ويرضونها لأنفسهم).
ليست (الوجودية) شذوذنا وانحرافاً كما يرميها بذلك أعداؤنا الألداء الذين أعيذ الأستاذ الكبير أن يكون منهم؛
وإن شرح ما في هذا المذهب من المزايا الجليلة يطول. ولو تفضل الأستاذ فقرأ كلمتين كتبتهما عن هذا المذهب في العدديين 939، 943 من (الرسالة) لعدل من رأيه كثيراً ولآمن بأنه مذهب ينبغي الالتفات إليه ودراسته.
ثم إن (الوجودية) لم تقم (على أنقاض انهيار نفسي نزل بالواعية الاجتماعية بعد الحرب الكبرى الماضية) ولعل الأستاذ يقصد (السريالية) لا (الوجودية) فهي التي قامت على أنقاض هذه الحرب الكبرى منذ سنة 1918 إلى سنة 1939م تقريباً. . . قامت على أنقاضها وبسببها وفي ذلك يقول (أندريه بريتون) وهو من زعمائها الأولين (قامت الحركة السريالية على فكرة تبغيض الحرب وتثبيط همم الرجال عن القيام بها إن دفع بهم المجتمع يوماً إلى خوض غمارها).
3 - أما ما قرره الأستاذ الجليل من أن كلامي (ينصب ظاهرة على المسرح المصري عامة ويهدف باطنة إلى النيل من فرقة المسرح الحديث) فالحق أن هذه تهمة خطيرة كنت ود أن يقف الأستاذ طويلا قبل أن يرميني بها هكذا في يسر وسهولة استجابة منه لوشاية حقيرة صغيرة. ولو أني كنت ذا هوى لكان هواي هذه الفرقة لا عليها، فلي من الصلات ما يعلم أمره الأستاذ الجليل، وما أراني إلا عضوا في أسرتها، ولبنة في صراحتها الذي أرجو أن يسمق ويطول.
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وليعلم الأستاذ الجليل أنني لست ممن تشتري نفوسهم وأقلامهم، ولست من الذين إن أعطوا منها رضوا وأن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون!.
ولعل كاتباً لم يكتب في الإشادة الفرقة مثل الذي كتب عنها. وليس أقطع في ذلك من أن أحيل الأستاذ الجليل على ما كتب في (الرسالة) بعددها الرقيم 938 الصادر في 25 يونيوا الماضي عند مسرحية (حورية من المريخ) فقد قلت محييا هذه الفرقة ما نصه: -(968/45)
(تحية طيبة نبعث بها إلى الفرقة الناشئة الشابة المتوثبة من فوق منبر (الرسالة) ونعني بها فرقة (المسرح الحديث) التي ظهرت خلال هذا الموسم كما تظهر بواكير الندى وكما تتفتح براعم الورود فتجلوا كامن الحسن وخفي الجمال.
أخذ الناس إشفاق على تلك الفرقة يوم رأوها تنظم عصافير ناعمة بضة حسبوها تزقزق على خشبة المسرح فلا تبين، وتهتز الخشبة من تحتها فلا تثبت، وقالوا من أين لزغب القطا أن تقوي على ما تنبهر أمامه أنفاس النسور، ومن أين للظبي الأغن أن ينهض بما يعيا به الأسد الهصور.
ولكن هؤلاء المشفقين انقلبوا مشدوهين معجبين عندنا رأوا هذه الفرقة تنهض بالروائع لكبار المؤلفين من أمثال: موليير وتشيخوف وتيمور. وتنهض بها نهضة يرى الناس فيها بحق أن الأمر لو كان بالسن لكان في الأمة من هو أحق أمير المؤمنين بمجلسة كما قال الغلام العربي القديم.
وتنهض بها نهضة يبدوا فيها - أظهر وأبين ما يبدوا - معنى التضامن وفناء الفرد في سبيل المجموع ومعنى نكران الذات، فما رأينا واحدا منهم حاول في موقف له أن يسطع على حساب زملائه أو أن يسلب أخاه مجدا يراه حقا له. ولعل مرد ذلك فيهم إلى ما لقنوه من ثقافة ومعرفة حرمتها الكثير من رجال المسرح الأقدمين.
فهل من الأنصاف أن يقال عن رجل يصدر عنه هذا الكلام أنه يريد النيل من هذه الفرقة؟
على أن الأستاذ الجليل يستطرد فيتهكم بي ويغمرني غمرة يحسبها تنال مني إذ يقول (إن هذه أول مرة يطالع لي كلاما عن المسرح)! وليس عجيبا ألا يقرأ الأستاذ شيئا مما أكتب من فصول في الأدب والنقد والشعر منذ سنوات بعيدة، ولكن العجب كل العجب ألا يقرأ - على الأقل - هذا الكلام الذي قدمت وهو يمسه فرقته مسا مباشر.
ولولا أني أمقت أن أتحدث عن نفسي لدللت الأستاذ على مئات ومئات من الكلمات التي كتبت هنا وهناك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ولكن هذا انحدار بقدري لا أرضاه لنفسي.
ويزيد الأستاذ فيأخذ على أنني لم أحاسب الفرقة الأخرى التي لم تقدم شيئاً يتجاوب مع ما يستبد بنفوس الجمهور، وهو يعني بها فرقة الأستاذ يوسف وهبي وهذا كلام له خبيئ! فأرجو أن يعلم الأستاذ أنني لا تربطني بواحد فرد من أعضاء هذه الفرقة أقل رابطة، ولو(968/46)
أن هذه الفرقة ادعت أنها قامت بشيء في سبيل خدمة العقيدة الوطنية لكان حسابنا لها عسيرا، ولكنها لم تفعل، وليس في وسعنا أن نأخذ الناس بغير ما يأخذون به أنفسهم. على أنها في ذلك مقصرة مسرفة في التقصير دون شك.
4 - ونعود بع هذا إلى موضوع المسرحيتين اللتين يذكر الأستاذ عنهما إنهما (من أقلام مصرية حاذقة أحست النبض الذي يدق في قلب كل مصري فجاءت كل مسرحية منهما تعكس في مشاهدها صورا ورؤى مما يعمر رؤوسنا في هذه الفترة العصبية من حياة مصر) ولست أعيد هنا ما قلته في كلمتي الأولى من أن كلتيهما لا تعبر تعبيرا صادقا تاما عن هذه المعاني؛ ولكني أزيد فأقرر بأنني عندما أعلنت رأيي هذا للصديق الكريم مؤلف (مسمار جحا) ذكر لي أنه لم يؤلف مسرحيته في هذه الأيام ولكنه ألفها منذ عام، وأنها بين يدي الفرقة منذ ألفها، وأنه لم يكن يقدر عند تأليفها أن الأمور ستجري في مصر على هذا النحو الذي جرت عليه من إلغاء المعاهدة وما تبعه، بل أنه لآسف أن يقع تمثيلها بعد إلغاء المعاهدة وهو إنما أراد بها أن تمثل قبل إلغائها! وتفضل فاستمع لرأي هذا في قبول حسن. فهل حقا كانت بين يدي الفرقة في هذا الوقت الذي يقرر مؤلفها الفاضل أم أنه أراد بها أن يعكس ما يعمر رءوسنا في هذه الفترة العصبية؟
وأما الثانية فقد أخبرني مؤلفها الفاضل بأنها ليست جديدة ولكنها كانت تمثيلية إذاعية، فطلب إليه الأستاذ الجليل زكي طليمات أن يجعلها مسرحية للتمثيل وحدد لها مدى لا يعدوه وجعله خمسة عشر يوما فقط! وذكر لي الأستاذ المؤلف عندما تفضل فدعاني لشهودها في (اللوج) الخاص به في أول ليلة قدمت فيها، قال لي على ملأ الناس ما يكاد يكون نصه: إنك ماض الليلة لتراني في أسوأ حالاتي! فهل كنت متجنبا ظالماً في هذا الرأي الهادئ الذي أعلنته عن المسرحيتين في لطف وعدم إسراف؟.
ولم أشأ أن أقول يا سيدي الأستاذ عن هذه المسرحية - مثلا - إنها تصور المرأة تصويرا سيئا إذ تجعلها تكف ولدها عن النضال وتمنعه من الاشتراك في كتائب التحرير وتصرخ وتولول عندما يأذن له أبوه بذلك!.
لم أشأ أن أقول هذه أو غيره وهو كثير أشار إلى بعضه صديقنا الأستاذ عبد الفتاح البارودي، ولكن الأستاذ الجليل زكي طليمات يرميني بأنني أعتسف النقد أعتسافاً وذلك في(968/47)
الحق منه تجن كبير، اللهم إلا إذا صح ما يقول البعض من أن الأستاذ قد أجرى فيها من التعديل والتغيير ما جعله يحس - بينه وبين نفسه - أن تأليفها معزو إليه، فهو إذن يدافع عن نفسه لا عن المؤلف الذي يعرف الناس انهاله.
ومعاذ الحق أن نجمع بين هاتين الروايتين إلا في المعنى الذي قدمت، أما دون ذلك فبينهما فرق بعيد.
فالأولى. . . وأعني بها مسمار جحا - فن وأصالة وأناة.
والثانية - وأعني دنشواى الحديثة - عرض وسرد وحكاية وزجل لطيف ونقل (فوتوغرافي) كما وصفها بحق صديقنا البارودي.
وأغلب الظن أن المؤلف الثانية انتفع كثيرا بالأولى في بعض الحوادث والأشخاص، فالباحث المدقق يلمح ذلك جيدا وللأستاذ عذره في هذا فقد ألزم زمنا غير فسيح.
يا سيدي الأستاذ الجليل:
أرجو أن أخلص من هذه الكلمة وقد استقر لديك أنني لا أنطوي إلا على الحب لك، وأنني أصلب عودا من أن أستتر وأستخفي وأهرب من تبعة ما أقول، وأنني لست من هؤلاء الذين يستذلهم الغض فيكتبون بعين وينظرون بالعين الأخرى إلى بريق الوهاج.
والسلام عليكم ورحمة الله.
علي متولي صلاح(968/48)
رسالة النقد
في ميزان النقد
أرض الخطايا
تأليف الأستاذ أمين يوسف غراب
للأستاذ ثروت أباظة
هي مجموعة أقاصيص للقصاص الفنان الأستاذ أمين يوسف غراب. والأستاذ أمين عريق في فن الأقصوصة خبير بأهدافها ذو قلم قوى. . . قادر دائماً على أن يظهر الملامح الرئيسية التي يريد لها الأستاذ أن تظهر. وتمتاز المجموعة أن أغلب أقاصيصها تهدف كل منها إلى فكرة اجتماعية معينة، والقصاص ذو الفكرة الاجتماعية جرئ، والقصاص الذي يستطيع أن يصل إلى هده بقصته دون أن يعلن هذا الهدف بالتصريح بل هو يعلنه بالقصة نفسها وبحوادثها وبالحوار فيها، هذا القصاص قدير. . . والأستاذ أمين صاحب فكرة اجتماعية، والأستاذ أمين يستطيع أن يصل إلى هدفه بقصته حيث يريدها غير مقيم من نفسه خطيباً اجتماعياً هو قصاص ذو فكرة إذن.
لن أستطيع أن ألم بأقاصيصه جميعاً فهي كثيرة لا تستطيع هذه الكلمات الإحاطة بها، ولكنني سأتناول بعضاً من الأقاصيص الهادفة إلى فكرة. وقبل هذا التناول لابد لي أن أذكر أن الأستاذ أمين من الذين يضعون القدر فوق كل شيء، ويلقون إليه بكل مسئولية؛ وهو بعد هذا يهاجمه أشد هجوم. ولقد ساق لنا من الأقاصيص ما يجعلنا نجزع من هول ما يصنع هذا القدر. فلقد قتل الأستاذ أمين أمامنا أرواحاً بريئة، نعلم براءتها. وقتل دون أن يهدف بقتلها إلى فكرة اجتماعية، إلا إن القدر غلاب. وأعتقد أن الإصرار على هذا يقعد بنا قعوداً كاملاً عن محاولة الإصلاح، فماذا بيدنا نحن المخلوقات الضعيفة أمام القدر الباطش السفاك؟ ما الإصلاح الذي يريده الأستاذ أمين بأقصوصته (الدم الأبيض) مثلاً. . . وما الإصلاح الذي يريده (براعي الغنم)؟ أنا لا أطلب إليه أن يجعل أقاصيصه كلها هادفة إلى غرض اجتماعي معين، ولكنني أطلب إليه وأصر أن لا يعرض علينا هذه الصور الموغلة في السواد، فالقصاص على أتم حرية أن لا يهدف إلى لإصلاح اجتماعي، ولكنه لا يملك(968/49)
مطلقاً الحرية في أن يلقي على أيامنا السواد. وليس على شيء من الحرية في أن يهتف بنا كلما رام أحدنا إصلاحاً: أن قفوا بالقدر من ورائكم هادم ما تريدون إقامته، مذل منكم الأعناق، أنا لا أطلب إليه أن يجعل أقاصيصه ذات هدف اجتماعي إصلاحي ولكنني أطلب إليه ألا يذكرنا بهذا القدر فتقعد همة تحاول أن تهب، وتحوز عزيمة توشك أن تثب.
وللأستاذ أمين أقاصيص بلغت من الكمال مكاناً وهي مع ذلك لم تهدف إلى إصلاح إلا أن تطمئن النفس العاملة أن لها أجرها، وإلا أن تبشر من بلاه الله بتشويه في خلقته، أن جمال الروح أثمن من جمال الوجه كما في أقصوصة (حكمة القدر) التي لابد لقارئها حينما ينتهي منها أن يشعر بأن القدر الغاشم الصلب قد يكون رءوفاً كرماً. هي أقصوصة قدرية ولكنها لا تشوه أمامنا القدر ولا تقعد بذي الهمة ولا تخير صاحب العزيمة:
لابد لي بعد هذا أن أتناول بعضاً من تلك الأقاصيص التي هدف فيها الأستاذ أمين إلى فكرة معينة. وإني لأشايعه في بعض من هذه الأفكار وأعارضه في بعض منها آخر؛ ولكنني عجبت من أربعة مواضع تعارض فيها مع نفسه تعارضاً واضحاً؛ فهو في أقصوصة (وفار التنور) يذكر مقدار الحاجة الملحة للمال وكيف دفعت هذه الحاجة الخباز حارس الفرن أن يلتهم ديكا كان يعد لأحد الباشوات ثم حرق نفسه بعد أكلته. . هو في هذه الأقصوصة جعل الرجل يدفع حياته كلها في سبيل أكلة. . الفكرة غريبة بعض الشيء لأن الجوع كان من نفسه سيؤدي بالرجل إلى الموت، كما أنني أعتقد أن سرقة ديك لا يعاقب عليها بالإعدام الذي حكم به الرجل على نفسه. على أية حال كان الرجل معدماً في أشد الحاجة إلى المال ليأكل، فسرق وأكل وانتحر. . في هذه الأقصوصة أظهر لنا عظمة المال وجبروته ولكنه في قصة أخرى هي (آفة السعادة) جعل آفة السعادة هي المال نفسه. والحياة بين اثنين، إما وجود المال أو عدمه، فإن كان وجوده تعاسة وإعدامه موتاً. فماذا يرى الأستاذ؟
أما الموضعان الآخران فهما أشد غرابة في تعارضهما؛ فهو في أغلب أقاصيصه كان يهدف - كما قلت - إلى فكرة اجتماعية جليلة، ومعنى هذا أنه يرى أن الفن أداة للإصلاح الاجتماعي، بل هو يذهب إلى أبعد من هذا فيعمل بفنه في سبيل الإصلاح الاجتماعي ولا يمكن أن يكون مصلحاً اجتماعياً إلا إذا كان إنساناً يأكل ويشرب ويتزوج. هو إذن من أنصار النظرية السائدة اليوم أن الفن للمجتمع وليس للفن، وأن الفنان من المجتمع وإلى(968/50)
المجتمع، ولكننا بعد هذا ثراه في أقصوصة (ثورة الآلهة) وهي أقصوصة رمزية عن فنانة إنسانة. نرى الأستاذ يوسف يحرمها الزواج ويرفعها إلى مصاف الآلهة، ويريدها فنانة للفن، وللفن فقط مثلاً في المجتمع. وهكذا التوت القصة على نفسها فهي إن كانت تعيش للمجتمع فلابد أن تحس به لتنتقل؛ وإن كانت تعيش للفن فلابد أن تنقطع عن المجتمع وتستلهم الوحي وحده - إن وجد - وهكذا أيضاً تتعارض الأقصوصة مع روح الأستاذ أمين.
وقد يقول الأستاذ أمين أنه قصاص ينقل ولا شأن له المجتمع وهذا الكلام معقول لو لم تتجه أغلب أقاصيصه إلى ناحية اجتماعية معينة. وهذا القول بطبيعة الحال لا ينطبق مطلقاً على الأقصوصة الرمزية، لأن القصة الرمزية في أصلها فكرة مجردة في ذهن القصاص، وأراد أن يعبر فعبر عنها بقصة فهو يرمز، وهي بخلاف الأقصوصة الواقعية التي هي في الأصل صورة من الحياة تنقل نقلاً، أو صورة ترسم رسماً لتشابه صور الحياة.
وبعد فالمجموعة تضم أقاصيص بلغت غاية الروعة. ولا ينقص المجموعة هذه المآخذ الهينة التي أحاول أن آخذها على الأستاذ أمين غراب، فأقصوصة (المذياع الحكيم) و (مائة دجاجة وديك) و (الفناجين الحمر) وغيرها، كلها أقاصيص تؤكد أن الاسم الذي يتمتع به الأستاذ أمين يوسف غراب إنما يدل على أن صاحبه يستحقه، ويستحق معه كل إكبار وتجلة.
ثروت أباظة(968/51)
البريد الأدبي
لغويات
كثيراً ما يجري عن الأقلام، ويتردد على الألسن، ويقع في الأسماع والأبصار كلمات لا تنهج نهج أصول اللغة، ويلهج بها اللاهجون، وينقلها الخلف عن السلف في غير ما تحقيق وهو منهم قاب قوسين أو أدنى:
1 - قيد:
جاء في كتاب (نشوء اللغة العربية) تأليف الأب أنستاس ماري الكرملي ص 2 قوله (وممن قال به ولم يحد عنه (قيد) شعره) بالفتح وصوابه الكسر تقول (قيد) شعرة - بالكسر - أي قدر شعرة، كما تقول (غلوة رمح (أي مقدار رمح، وهي كلها من ألفاظ القياس المكاني. وأما (القيد) بالفتح فبمعنى (رهن). قال الشاعر. (. . قيد الأوابد هيكل) وهي أيضاً واحد القيود من تقييد الدابة أي عقلها؛ وفي الحديث (اعقلها وتوكل).
2 - جف الماء:
تعبير خاطئ يقع فيه فطاحل الكتاب ولا يلتفتون إلى موضع الخطأ فيه؛ يقال (جف العود أو الغصن) أي صار من الليونة والمرونة إلى الخشونة والصلابة والجفاف. واستعمال (جف الماء) بمعنى نشف أو تبخر وزال بلله استعمال خاطئ لا تسمح به اللغة، وإنما يجوز أن يفهم على معنى صيرورته من المائية إلى الصلابة بصورة (جليد) لن هذا الأخير هو الماء - أي صلب - فصار جليداً متماسكاً.
والصواب في استعمال (الجفاف) أن يقال (جف الثوب أو الإناء) أي ذهبت نداوته وأثر الماء فيه. ويقال (جف النهر) إذا زال عن قاعه وجانبيه البلل و (غاض) فيه الماء أي نقص أو زال.
3 - قناة وقنال:
هذان اللفظان يستعمل كل في معناه المقصود منه، فأحياناً يقولون ويكتبون (قناة السويس) وأحياناً أخرى (قنال السويس). والأصوب لغة (قنال) باللام وهي لام التعريف في المضاف إليه في قولهم (قنا البحر أو قنا الماء) أي مجراه، ومن لفظ المضاف ولام المضاف إليه(968/52)
نحتت لفظة (قنال).
أما (القناة) فقد تستعمل بمعنى القنال وإن كانت هذه أصح منها. وهي بمعنى الغصن أو الرمح. قال المتنبي وما أصدق ما قال:
وإذا أنبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا
4 - الغث والسمين:
هذان اللفظان توأمان إذا قيل الأول تبعه الثاني في أغلب الأحيان كأنه له الظل. والغث لغة الرديء والمهزول وضده السمين من السمن وهو الاكتزاز الحما والتطبيق شحما. . ويخطئ المخطئون فيقولون (الغث والثمين) بالثاء في الثانية، وهذا قد يصح استعماله على وجه ويجوز، ولكن الاستعمال الأول (السمين) بالسين أصح وأصوب لرجحان الضدية والتوأمية فيه وهو المستعمل من قديم.
قال تعالى في كتابه العزيز (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين) وهو ضد الغث وهو المهزول الضاري.
وقال الشاعر العربي:
فإما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي من سميني
أي الردى من الحسن. .
5 - نقد ونقد:
يخطئ الكبير والصغير في استعمال هذين اللفظيين ويخلطون بينهما الخلط الذريع وتشاركهم المطبعة العربية - تصحيفا - في هذا الخلط. فالفعل بالمهملة بمعنى انتهى وفني. قال تعالى (قل لو كان البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا). وقال الشاعر:
أرى العيش كنزاً ناقصا كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد
ومنه قولهم (فلان خصم منافذ) وهو الذي يستفرغ جهده في الخصومة واللدد. وفي الحديث (إن نافذتهم نافذوك).
أما الفعل بالمجمة فبمعنى شق (لج من هنا ليخرج من هناك كقولهم) (نفد السهم من(968/53)
الرمية). قال تعالى (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فأنفذوا إلا بسلطان).
وقال الشاعر العربي:
حتى استكانوا وهم مني على مضض ... والقول ينفد ما لا تنفد الإبر
وكذلك يخلط الكتاب بين (الشذر والشزر) وبين (النذر والنزر) وبين كل متشابهين متجانسين يجوز فيهما التصحيف ولا أقول التحريف.
وبعد: فتلكم هنوات لغوية عرضت لها عابرا رغبة في التذكير - والدهر ينسي - وذكر فإن الذكرى تنفع اللغويين كما تنفع المؤمنين وهم مؤمنون. والسلام
(الزيتون)
عدنان
سهو
نحن طلبة الإرتريين نأسف كل الأسف لعدم ذكر إرتريا المسلمة في المقال المنشور بعنوان (الكتلة الإسلامية والسلام العالمي) بقلم الأستاذ القدير أبو الفتوح عطيفة في العدد الخاص بمناسبة العام الجديد لمجلة الرسالة الغراء.
كيف ينسى هذا القطر المسلم الذي يطلع إلى الحرية والاستقلال، لقد أرسل مندوبين عنه ليمثلاه في المؤتمر الإسلامي في إحدى جلساته بكر تشي.
فالرجاء منكم إخطار الأستاذ بذلك مشكورين
عن الطلبة الإرتريين
عبد الله خيار(968/54)
القصص
البائعة الصغيرة
للكاتب الدانمركي هانز أندرسون
كان البرد يشتد، والثلج ينهمل، والظلام يحلو لك، والليل يسدف لينبلج عن صبح عام جديد. وكانت تضرب في بهمة الليل وصبارة القر فتاة حاسرة الرأس عارية القدمين: كانت تنتعل خفين عندما غادرت منزلها، ولكنهما كانتا واسعتين فقد كانتا قبل لأمها، وبينما هي تعبر الطريق أمام عربتين مسرعتين أضاعت خفيها. فأما الأولى فلم تجد لها أثراً، وأما الأخرى فقد خطفها طفل وجرى. فراحت الطفلة تجوب الطرقات وقد تعرت قدماها، واحمرتا من برد وازرقتا. وكانت تحمل في جيب ثوبها العتيق حزماً من الثقاب، وفي يسراها حزماً، وقد أدبر النهار وما باعت منها شيئاً، ولا حصلت ليومها فلساً.
كانت تقضقض من البرد وترتعد من الجوع، وتسير متحاملة على نفسها تجر قدميها جرا. . . كانت صورة من التعاسة تلك الفتاة المسكينة! وقد تغطي بالثلج شعرها الأصفر المسترسل الجميل، وتدلت منه خصلات ناست على جيدها الأبيض الناصع. ولكن تلك الفكرة لم تكن لتطيف بذهنها إذ ذاك؛ فقد كان النور يشع من النوافذ، ورائحة الإوز المشوي تفوح في الفضاء مؤذنة بميلاد عام جديد. فانتبذت ركناً منزوياً فجئت على ركبتيها، وتقبعت في مكانها، والبرد يسري في أعضائها قارساً لذاعاً. ولكنها لم تكن لتجرؤ على الذهاب إلى منزلها، وما باعت من ثقابها شيئاً، فعصا الأب نترقب، وسقف البيت مهدم خاو تعبث به الريح، ويصفر فيه الهواء.
كان البرد يخدر يديها الصغيرتين، فتفكر في عود من الثقاب تأخذه من الحزمة، فتشعله في الحائط، فتدفئ يديها على لهبه وما تمالكت أن فعلت فأضاء العود بلهب ساطع كنور الشمعة، فخيل للفتاة أنها جالسة إزاء موقد ذي ألوان، له قاعدة من نحاس وغطاء من نحاس لامع. ما أجمل النار تبعث الدفء في الأطراف، والطمأنينة في النفس! ولكن اللهب الضئيل لم يلبث إلا قليلاً حتى خبا، فتبخر في الهوى موقدها النحاسي اللامع، ولم يبق بيدها سوى رماد العود المحترق. فأشعلت عوداً ثانياً، فالتهب فوقع نوره على الحائط، فصيره كقناع شف استطاعت أن ترى الحجرة من خلاله. رأت مائدة بسط عليها قماش(968/55)
أبيض صفت عليه آنية العشاء، وتوسطته إوزه مشوية يفوح منها بخار له نكهة وطيب، ويملأ جوفها تفاح وبرقوق مجفف. ثم يا للعجب! لقد قفزت الإوزة من الطبق وتهادت على أرض الحجرة ثم أقبلت على الطفلة وفي صدرها شوكة وسكين! ثم انطفأ العود فلم تبصر الفتاة إلا حائطاً رطباً سميكاً بارداً، فأشعلت عوداً ثالثاً فإذا هي جالسة تحت شجرة جميلة من أشجار عيد الميلاد تشتعل على أوراقها آلاف من الشموع، فتغمر بنورها صوراً ملونة جذابة كتلك التي كانت تراها في المكتبات، فمدت الفتاة يديها نحوها فانطفأ العود، وارتفعت أنوار عيد العام، فرأتها الفتاة نجوما في السماء، سقط أحدها فرسم خطاً طويلاً من النار، ففكرت الفتاة الصغيرة: الآن يموت أحد. فكذاك علمتها جدتها العجوز التي درجت إلى القبر وما كان للطفلة غيرها يحبها ويرعاها. وأشعلت الفتاة عوداً رابعاً، فسطع النور مرة أخرى، فتمثلت لها جدتها تشع نوراً وحناناً. فصاحت الطفلة: (جدتاه، خذيني معك، سوف تذهبين إذا ما خبا نور الثقاب، ويزول طيفك الحبيب مثلما ذوت النار الدافئة، والإوزة الشهية، وشجرة عيد الميلاد)، وأقبلت على الثقاب تشعله كيلا تذهب جدتها، فتلهب بنور أسطع من الشمس وضحاها، وتتمثل لها جدتها أبهى مما كانت وأجل. ثم أقبلت الجدة على الطفلة فاحتضنتها، وطارت بها في عالم البهاء والسرور، وحلقت بها في السماوات العلى، وحملتها من الأرض حيث لا برد ولا جوع.
غير أن الطفلة كانت تجلس في ركنها، مستندة إلى الحائط واحمرت وجنتاها، وانفجرت شفتاها عن ابتسامة سعيدة. هناك كانت ترقد أيبسها القر، وقد احترقت علبة من ثقابها، فقال الناس: (لقد أرادت أن تدفئ نفسها) وما علم الناس أي جمال رأت، ولا بأي احتفال حملت إلى السماء ليلة العيد. . .
ش. ع(968/56)
العدد 969 - بتاريخ: 28 - 01 - 1952(/)
فدائيون وأنانيون. . .
ما أشبه بني آدم بنبات الأرض! يتفق في التربة والغذاء والجو، ويختلف في اللون والطعم والمزية. في الحقل الواحد تجد الطيب والخبيث، الحلو والمر، والنافع والضار، والصلب والهش، والمستقيم والمعوج، والمثمر والعقيم، وهذا الاتفاق وذلك الاختلاف تجدهما في بني الإنسان على أوضح صورة. ها نحن أولاء، طينتنا من ثرى الوادي، وغذاؤنا من خير النيل، وهواؤنا من جو مصر؛ ولكن فينا من يؤلم ولا يلذ كالعوسج، ومن يروق ولا يثمر كالصفصاف، ومن يضر ولا ينفع كالهالوك، ومن يرتفع ولا يستحق كالعليق. أما المصطفون الأخيار فهم كالفواكه والرياحين قلة قليلة. . منا العيون التي تتجسس للعدو، والأيدي التي تعمل مع العدو، والألسن التي تدعو إلى العدو. ومنا الأوغاد الذين يقضون أيامهم اللاهية عكَّفا على الفحش يتفقون أموالهم التي استقروها من عرق الفلاح ودمه، في الخمر والقمر والنساء، وأبناؤنا الشباب يقاتلون العدو وجها لوجه وهم جياع! ومنا الأنذال الذين كسبوا المال وخسروا الشرف، وشروا الجاه وباعوا الضمير، فظلموا بيننا تماثيل للؤم والبلادة، يسمعون عن فظائع الإنجليز في القنال، وعن فجائع الفدائيين في القتال، وكأن القنال ليس من أرض الوطن، وكأن الفدائيين ليسوا من شباب الأمة! أما البررة الأطهار فهم صفوة الخير المغلوب بين هذا الشر الغالب! هم أولئك الشباب الجامعيون الذين نذروا دماءهم الزكية لله ولمصر. يقتلون مستبسلين، ويقتلون مستشهدين، لا يبغون عَرض الحياة لأنهم يستقبلون وجه الموت، ولا يطمعون في جزاء الدنيا لأنهم يقنعون بثواب الآخرة.
هم أولئك المترفون الذين ربأوا بوطنهم أن يحتل، وبشعبهم أن يذل، فزهدوا في نعيم العيش، ورغبوا عن سلام الأمن، وعاشوا مع الفلاحين في قرى القنال، يطعمون أغلظ الطعام، ويشربوا أكدر الشراب، ويفرشون أخشن الفراش، ويستعيضون عن العطور والدهن بالشحم يطلون به أجسادهم المرهفة ليقيها برد الماء وقر الشتاء، ثم يكمنون للعدو الباغي عراة في قنوات الحقول وأخاديد الأرض؛ حتى إذا شاء القدر أن يسخر من الإمبراطورية العجوز، ساق قطيعها من أغنامها الحمر إلى المجزرة الفدائية الجائعة، فيلقى الإيمان والكفر، والشجاعة والجبن والفداء والأثرة؛ وتغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بأذن الله، فيفزع (أرسكين)، وبجزع (تشرشل)، وتسيل شوارع المدن ومسالك القرى بالدبابات والمصفحات والجنود؛ ثم تكون عاقبة هذا الجيش العرمرم والعتاد الضخم هزيمة مخزية(969/1)
تشبه الصفعة على القفا العريض، أو البصقة على الوجه الصفيق!.
هؤلاء المجاهدون الأبطال الذين اقضوا مضجع إنجلترا وأيدوا حق مصر، لا يرجون من قومهم غير السلاح! فهل يستجيب أغنياؤها الطافحون لهذا الرجاء؟ إنك لا تحيي الموتى ولا تُسمع الصَّم الدعاء!
أحمد حسن الزيات(969/2)
نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:
السيد جمال الدين الأفغاني
للأستاذ حمدي الحسيني
- 1 -
كنت في مجلس من أصحابي الشباب وكنت أتحدث إليهم عن السيد جمال الدين الأفغاني فأعجبوا بروحه القوية المتدفقة نحو الحياة والحرية. وكيف لا يعجب شباب العرب بروح جمال الدين وهم يتحفزون للوثبة الكبرى وراء الحياة والحرية؟ وكيف لا يتخذون من روحه القوية المتدفقة الوثابة حافزا لهم في جهادهم العظيم للحرية والاستقلال والوحدة. فطلب مني بعض أولئك الشباب أن أكتب كلمة عن هذا الرجل العظيم في مجلة الرسالة الغراء ليتعرف عليه أكبر عدد ممكن من شباب العرب. وهاأنذا أحقق رغبتهم راجياً أن أوفق إلى تصوير روح جمال الدين تصويراً يجعل منها نوراً يستضيء به الشباب العربي في جهادهم القومي، وناراً تأكل هذا الاستعمار الغاشم فتقوض دعائمه وتذهب بكيانه وعيانه.
يقسم علماء النفس الشعور الإنساني إلى ثلاثة أقسام، المعرفة والوجدان والنزوع. وهذه الأقسام الثلاثة للشعور الإنساني مترابطة متداخلة كتيار الماء الذي يدور على نفسه. ترى الوردة الجميلة مثلاً متفتحة الوجنات على غصنها الرطيب (هذه هي المعرفة) فتروقك تلك الوردة الجميلة ويلذك منظرها ورائحتها (وهذا هو الوجدان) فتقبل عليها فتقطفها لتستمتع بها لما وشما (وهذا هو النزوع). وتلمس يدك النار وهذه معرفة؛ فتتألم من حرها وهذا وجدان فتزيح يدك عنها أو تزيحها عن يدك وهذا نزوع. تعرف الشيء فتلتذ به أو تتألم منه فتنزع نحوه أو عنه جلبا للذة أو دفعاً للألم؛ وهذا هو الشعور الإنساني نوعاً، وأما كما فليس الشعور الإنساني بمتساو في أقسامه. وهذا الاختلاف في الكم هو الفارق بين أفراد البشر خيراً وشراً، كمالاً ونقصاً، قوة وضعفاً. والبشر بهذا الاختلاف في كمية أجزاء الشعور ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، قسم قويت فيهم المعرفة وضعف الوجدان والنزوع كالعلماء. وقسم قوى فيهم الوجدان وقلت المعرفة وضعف النزوع كالفنانين. وقسم قوى فيهم النزوع(969/3)
وقلت المعرفة وضعف الوجدان كالقادة والطغاة. والعجب في أمر السيد جمال الدين الأفغاني أنه مكتمل جوانب الشعور كيفية وكمية؛ فبينما نراه من ناحية المعرفة نابغة عصره وباقعة زمانه نراه قوى الوجدان مرهف العواطف يحس بالألم مع الإنسانية كافة أفرادا وجماعات، ويشمل السرور جوارحه إذا ما رأى الخير شاملا لبنى الإنسان. وبينما كذلك من كثرة المعرفة وقوة الوجدان في النزوع إلى العمل والتوجه إلى الهدف كالصاعقة المنقضة والشهاب الثاقب والسهم المنطلق والأسد الكرار، ينصب على هدفه انصبابا قويا عنيفا حازما لا يعوقه كل ما في الحياة من صعوبات ومتاعب، يقتحم ولا يبالي ما يعترضه من صعوبات وأخطار، أجيال حديد أم جبال نار.
أما تفاعل جمال الدين مع بيئة وأثر ذلك التفاعل مع تلك البيئة فهو ما أتحدث عنه الآن.
اختلف مؤرخو حياة جمال الدين في تعيين موطنه الأصلي هل هو إيران أو أفغانستان؛ فبعضهم قال أنه إيراني الأصل أفغاني النشأة، وبعضهم جزم بأنه أفغاني الأصل والنشأة، ولكنهم اتفقوا اتفاقا تاما على أنه ولد في مدينة أسد آباد أو أسعد آباد من أعمال كنر في الأفغان وذلك سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة وألف ميلادية أي في أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر. وأن أباه يدعى السيد صفتر أو صفدر ومعناه بالفارسية الشجاع المقتحم، وأن عائلته ذات حول وطوال ونفوذ وسلطان في مقاطعة كنر خصوصا وبلاد الأفغان عموماً لانتسابها إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور الذي يتصل نسبه بالحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ولد السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني وأهله وعشيرته في ذروة العز وسامت المجد فقضى ثماني سنين يتقلب بين أعطاف العز والمجد ويرتع في أحضان العظمة والسلطان. حتى امتدت إليها يد الأمير دست محمد خان آل إليه الأمر في الأفغان بعد انقسامات وحروب طويلة وعريضة، فسلب من تلك العائلة الكريمة ملكها وسلطانها وأجلاها عن أرضها وموضع عزها ونقلها إلى مدينة كابول عاصمة الملك لتظل تحت سمعه وبصره فيأمن انتفاضها ويضمن خروجها عليه ومزاحمتها له. قضى جمال الدين الطفل في مدينة كابل عشر سنين تلقى فيها العلوم العربية: التاريخ والشريعة والتفسير والحديث والمنطق والتصوف والرياضيات والفلك والطب وغيرها من العلوم النظرية العلمية. ثم عرض له(969/4)
أن يذهب إلى الهند لاستكمال علومه على الطريقة العصرية فذهب إليها وقضى فيها ردحا من الزمن عبء فيه من العلم ما وسعه عقله الكبير وهمته العالية. فهل يرجع إلى كابول وفي نفسه منها حزازات وجروح:
واحتمال الأذى ورؤية جانبه ... غذاء تضوي به الأجسام
أم يذهب لأداء فريضة الحج، يؤدي فرضاً لله عليه ويسري عن نفسه الكبيرة ما تحس من الألم لما أصاب عائلته من تغريب، ووطنه من فوضى واضطراب؟ ذهب إلى الحج ولكن بعد أن رسم لنفسه خطة سفر تمكنه من زيارة أنحاء الجزيرة العربية لدراسة بلاد العرب دراسة علو ودراسة سياسية. درس جزيرة العرب وأدى فريضة الحج فهفت به نفسه قائلة: لابد مما ليس منه بد. لابد من العودة إلى الأفغان. عاد إلى الأفغان وشاء الله له أن يصبح في سلك رجال حكومة دوست محمد خان، وما لبث أن نال إعجاب الأمير واحترامه وأصبح أشد لزوماً له من الهواء والماء، فصحبه في حروبه وغزواته كما صحب شاعر القوة أبو الطيب المتنبي سيف الدولة في حروبه وغزواته مع الفرق بين صحبة الرجلين لصاحبيهما، فأبو الطيب صحب سيف الدولة لأوقات الفراغ وساعات التسلية. وأما جمال الدين فصحب دوست محمد لأوقات الشدة وساعات الخطر. سار دوست محمد إلى مدينة هراة ليفتحها وسار معه جمال الدين فحضر المدينة وضيق عليها ابتغاء فتحها، وكان جمال الدين العقل المدير لدوست محمد واليد الحازمة له في عمله الحربي؛ ولكن شاء الله أن يموت الأمير قبل فتح المدينة ففتحت على يد جمال الدين. وهناك ولى الإمارة بشير علي خان أصغر أولاد دوست محمد فأشار عليه وزير من وزراء السوء أن يقبض على أخوته ويعتقلهم خوفاً من مزاحمتهم له، وكان من أولئك الإخوان في جيش هراة الفاتح ثلاثة وهم محمد أعظم ومحمد أسلم ومحمد أمين. فأنتصر جمال الدين لمحمد أعظم ودافع عنه عند الأمير فلم يفلح، فعلم الأخوة بما يبيته لهم أخوهم فذهب كل واحد منهم إلى ولايته التي كان يلها من قبل واعتصم بها فاندلعت نار الفتنة في البلاد واشتدت وطأة الحروب بين الأخوة المتقاتلين حتى آل الأمر إلى محمد أعظم فارتفعت منزلة جمال الدين عنده فأحله محل الوزير الأول وعظمت ثقة الأمير به حتى أصبح لا يورد ولا يصدر إلا عن رأيه. ولكن هيهات أن يستتب أمن في بلاد يجاورها الإنكليز. فقد أخذ الإنكليز يمدون أصابعهم إلى هذه(969/5)
البلاد فاتفقوا مع (بشير علي) ضد أخيه محمد أعظم لقاء منافع لهم فنثروا الذهب في البلاد يمنة ويسرة شأنهم في كل حال تشبه هذه الحال، فبيعت أمانات، ونقضت عهود، وتجددت خيانات. وبعد حروب هائلة تغلب بشير علي بذهب الإنكليز ودسائسهم على محمد أعظم، ففر محمد أعظم إلى بلاد إيران ضحية من ضحايا الاستعمار الإنكليزي الغاشم.
للكلام بقية
حمدي الحسيني(969/6)
عالم الذباب
بقلم المرحوم الأستاذ معروف الرصافي
في سنة 1943 أصدر الدكتور العراقي فائق شاكر كتاباً عنوانه (عالم الذباب) تعرض فيه لحديث الذباب بالشرح والتأييد، وانبرى له المرحوم الأستاذ معروف الرصافي شاعر العراق بالجرح والتفنيد. وقد تجدد اليوم هذا الخلاف بين مجلة لواء الإسلام ومجلة الدكتور فرأينا من المفيد أن ننشر مقال الأستاذ الرصافي وقد أرسله إلينا في حينه فلم ينشر لبعض الأسباب.
الحديث النبوي
نذكر لك أولاً نص عبارة الحديث الذي ذكره الدكتور في رسالته عن أبي هريرة (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء).
وفي روايتي النسائي وأبن ماجه. (إن أحد جناحي الذباب سم، والآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام فامقلوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء).
هذا ما ذكره الدكتور في رسالته. ونذكر نحن الروايات الآنية نقلاً عن شرح البخاري للعيني).
(إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، فإن في إحدى جناحيه داء، والأخرى شفاء) الجزء السابع الصفحة 302.
ونقلاً عن شرح البخاري أيضاً للعيني:
(إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في إحدى جناحيه شفاء وفي الأخر داء). الجزء العاشر ص 217
ونقلاً عن الجامع الصغير للسيوطي هكذا.
إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فأن فيه إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء). رواه البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة.
وقبل كل شيء نطلب انتباه القارئ إلى اختلاف هذه الروايات في عبارة الحديث اختلافاً لفظياً ناشئاً على ما نرى من أنهم كانوا في الأكثر يروون الأحاديث بالمعنى فيتصرفون في(969/7)
ألفاظها كل بحسب رأيه في معناها كما تراه في رواية هذا الحديث، فبعضهم قال إذا وقع في الشراب، وبعضهم في الطعام وبعضهم في الإناء، ومنهم من عير بالغمس، وبعضهم بالمقل وهو بمعنى الغمس، وبعضهم عبر بالنزع والآخر بالطرح والمراد من كليهما واحد، ومنهم من اقتصر على الغمس ولم يذكر النزع ولا الطرح، ومنهم من قال فليغمسه كله ومنهم من أسقط كلمة كله، ومنهم من قال في إحدى جناحي داء ومنهم من قال سم، وبعضهم قال يتقيأ والآخر قال يقدم.
ولكن الروايات كلها اتفقت في أن الداء أو السم هو في أحد الجناحين وأن الشفاء في الجناح الآخر، وكذلك اتفقت أيضاً في بيان سبب الأمر بالغمس، وهو أن الذباب عند وقوعه في الشراب يتقى بالجناح الذي فيه الداء، أو يقدم الجناح الذي فيه السم ويؤخر الآخر كما جاء في الرواية الأخرى.
فالأمر بالغمس إنما جاء لكي يدخل في الشراب الجناح الآخر الذي فيه الشفاء. إن هذا الاختلاف اللفظي الذي جاء في هذه الروايات لا يقدح في صحة الحديث إن كان صحيحاً ما دام المعنى المراد فيها كلها واحداً. ولكن على فرض صحة الحديث يستعبد أن يكون رسول الله تكلم بهذه الألفاظ المختلفة كلها، وإنما عبر بواحدة منها، والرواة التزموا جانب المعنى فعبروا عنها بما يوافقها أو يقاربها، سواء كان ذلك منهم عن قصد لمراعاة المعنى، أم عن نسيانهم وذهولهم عن الألفاظ، فإن المعنى قد يرسخ في ذهن الراوي وتشذ عنه الألفاظ، فإذا أراد بيانه عبر عنه بألفاظ من عنده. وكل من قرأ في كتب التاريخ شيئاً عن حياة الواقدي أحد مشاهير الرواة في القرن الثاني عرف كيف تكون الرواية بالمعنى، فإن هذا الرجل كان من أعجز الناس عن حفظ الألفاظ حتى إن المأمون الخليفة العباسي أراد مرة أن يحفظه سورة الجمعة من القرآن فما استطاع. ثم وكل به من يحفظه إياها فما استطاع وكان الموكل به إذا حفظه آية ثم أنتقل به إلى ثانية نسى الأولى، وإذا عاد إلى تحفيظه الأولى نسى الثانية. وكان يقرأ ما نسبه بالمعنى فيبدل الألفاظ. وأمثاله في الرواة كثيرون.
لا يتسع المقام لنقد الرواية بالمعنى، وبيان ما ينتج ما ينتج عنها من مضار، فنترك ذلك لفرصة أخرى؛ غير أنا نقول لجوهر المعنى ارتباطا كليا بجوهر اللفظ؛ فكل تغيير في اللفظ لا يخلو من تغيير في المعنى، قل أو كثر، حتى أننا لو وزنا الألفاظ المترادفة(969/8)
بقسطاس مستقيم من الفهم والإدراك لما قلنا بأنها مترادفة؛ فتبديل الألفاظ بما يرادفها أو يقاربها في المعنى فيه خطر عظيم على المعنى خصوصاً في النصوص التي لا مستند لفهمها فهما صحيحا سوى الألفاظ. ولا مرية في أن تبديل الكلمات بما يرادفها أو يقاربها في النصوص قد يغير وجه الحكم المستنبط منها، كما أنه قد يبعد بها عن المعنى المراد بعدا شاسعا، لأن المترجم مهما برع وأجاد في نقل المعنى بوضوح ألفاظ من اللغة التي يترجم إليها، تؤدي معنى الألفاظ من اللغة التي يترجم منها فإنه لن يستطيع أن يوفي المعنى حقه بتمامه، بل لا بد أن يخون المعنى بعض الشيء في ناحية من نواحيه. فالمترجم لا يتخلص من الخيانة وإن كانت خيانة اضطرابية غير اختيارية.
ولهذا امتنعت الإصابة والإجادة في ترجمة الشعر من لغة إلى لغة أخرى؛ لأن محاسن الشعر لا تقوم بالمعنى وحده بل بانتقاء ألفاظه وحسن سبكة وانسجام تراكيبه أيضاً، ولا ريب أن محاسن الكلام في كل لغة تختلف كل الاختلاف؛ فالذي يترجم الشعر لا بد له أن يتصرف فيه مراعاة لمحاسن الكلام في اللغة التي يترجم إليها وإلا جاءت الترجمة تافهة وخرج الشعر عن كونه شعرا، وبهذا التصرف الذي لا بد منه يقع البعد بين المترجم منه وبين المترجم إليه.
ولهذا أيضاً امتنعت ترجمة القرآن من العربية إلى غيرها من اللغات، فإن ترجمته مع المحافظة على ما فيه من روعة وطلاوة تكاد تكون مستحيلة. وقد ترجمه الترك في أيامهم الأخيرة عدة ترجمات فلم يفلحوا، بل جاءت ترجماتهم شيئاً مضحكاً. وقد ترجمه إلى لغاتهم أهل أوربا أيضاً؛ وقد ذكرني أحد معارفي ممن يحسنون اللغات الغربية أنه قرأ في إحدى ترجماتهم قوله تعالى (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وتخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) مترجما بما معناه إن أن كل إنسان في بوم القيامة يكون في ركبته عصفور معلق، وهذا شيء مضحك أيضاً. إن الكلام عن الرواية بالمعنى قد أخرجنا عن الصدد فلنعد إلى ما نحن فيه فنقول:
لا كلام لنا على اختلاف الرواة في عبارة الحديث، لأن المعنى المراد فيها كلها واحد، وإنما نريد أن نتكلم عن المقصود من الحديث فنثبته للقارئ واضحا صريحا، ثم نرى هل ينطبق على ما يقوله الدكتور فائق شاكر ويدعيه.(969/9)
إن المفهوم بصراحة من الروايات كلها، هو أن الداء أو السم، لا يكون إلا في أحد جناحي الذباب لا في كليها؛ وإن الذباب عند وقوعه في الشراب أو في الطعام يتقي صدمة الوقوع بالجناح الذي فيه الداء، فيغمس ذلك الجناح في الشراب، ويبقى الجناح الآخر فوق غير منغمس، وكأن عبارة إحدى الروايات القائلة بأنه (يقدم السم ويؤخر الشفاء) قد جاءت تفسيراً لعبارة الرواية الأخرى القائلة بأنه (يتقى بجناحه الذي فيه الداء).
وإذا علمنا هذا فقد علمنا لماذا جاء الحديث يأمر بالغمس، ذلك لأن الجناح الذي فيه الداء قد انغمس في الشراب فتلوث الشراب بدائه فإذا انغمس الجناح الآخر بطل حكم الداء الذي حصل من الجناح الأول وسلم الشراب.
هذا هو المعنى الواضح الصريح الذي تؤديه عبارة الحديث في جميع الروايات على اختلافها في التعبير. وبعد هذا فلننظر فيما يقوله الدكتور حفظه الله، ليتبين لنا أين وجه الصواب.
أين محل البكتريوفاج من الذباب؟
نستخلص الجواب على هذا السؤال من كلام الدكتور نفسه فنقول: يدعى الدكتور بأن المراد من الشفاء المذكور في الحديث هو ما اكتشفه العلم في هذا العصر من (البكتريوفاج) التي فسرها بمفترسات الجراثيم، وإذا كان المراد بالشفاء هو هذا فلننظر أين يوجد البكتريوفاج من الذباب؛ أهو في أحد الجناحين أم في كليهما، أم في جسم الذبابة كلها، أم في قناتها الهضمية، أم في ذراعيها ورجليها؟
قال حفظه الله في الفصل التاسع والصفحة (52) (إن الذباب المعروف بذباب البيوت، يقع على البراز، والمواد القذرة، وكل هذه مملوءة بالجراثيم المولدة للأمراض، فاختيار الذباب لها، يدل على أنه يأكل الجراثيم والبكتريوفاج معاً؛ فبأكله الجراثيم اجتمع فيه الداء، وبحصول البكتريوفاج اجتمع فيه الشفاء).
إن المفهوم بصراحة من عبارة الدكتور هذه أن البكتريوفاج يوجد في جسم الذبابة، ولم يخص به عضواً دون آخر، ولما كان الجسم يشمل الجناحين، جاز أن يقال بأنه موجود في الجناحين أيضاً (ولا تنسى أن عبارة الحديث تخص بأحد الجناحين دون الآخر).
ويفهم أيضاً ضمنا من عبارة الدكتور أن البكتريوفاج يوجد في القناة الهضمية من الذبابة(969/10)
لأنه قال بأنها تأكل مع الجراثيم المضرة أيضاً. وتتضمن عبارته أيضاً أن البكتريوفاج يوجد في رجلي الذبابة وفي يديها لأنه قال تقع في البراز.
ولاشك أن يديها ورجليها ترتطمان في البراز فتعلق بهما الجراثيم المضرة والبكتريوفاج معاً فمن هذه العبارة نفهم صراحة وضمنا أن البكتريوفاج يوجد في جسم الذبابة كله حتى الجناحين.
ولنا على هذا اعتراض، وهو أن الذبابة بوقوعها على البراز قد تلوثت به يدها ورجلاها، أي تلوثت بالجراثيم المضرة والبكتريوفاج معا، وأنها بأكلها البراز قد حصل البكتريوفاج في قناتها الهضمية أيضاً. ونتوسع أكثر من هذا فنقول إن البكتريوفاج يوجد في صدرها أيضاً وفي بطنها، لأنهما يلينان البراز الذي وقعت عليه، ولكن كيف تلوث جناحاها بالبراز فوجد فيهما البكتريوفاج وهما في القسم الأعلى من جسمها، لا مساس لهما بالبراز (سنذكر كلاماً للدكتور يكون جواباً لهذا ثم نجيب عليه) وقال أيضاً في الصفحة (53) (وبنقله (أي الذباب) الجراثيم والبكتريوفاج المهيأ في براز الناقهين مباشرة، اجتمع في الذباب الداء والشفاء). قال (فهذا هو معنى ما ورد في عجز الحديث الشريف (قال في أحد جناحيه داه وفي الآخر شفاء).
إن الدكتور يرمي الكلام على عواهنه رمياً، وإلا فكيف يكون هذا هو معنى ما ود في الحديث. لاشك أن الذباب بوقوعه على براز الناقهين وأخذه منه الجراثيم، يكون قد اجتمع فيه كلا النوعين من الجراثيم المضرة والنافعة بلا ريب. فاجتماع كلا النوعين في الذباب أي في جسمه لا مرية فيه، ولكن كيف يكون ذلك هو المعنى المقصود مما ورد في الحديث الذي يخص كل واحد من النوعين بواحد من الجناحين، ولولا وجود المضر في جناح والنافع آخر لبطلت حكمة الأمر بغمس الذباب في الشراب، إذ لاشك أن الأمر بالغمس مسبب عن وجود الشفاء في جناح واحد، وعن كون الذباب يتقى عند وقوعه بالجناح الذي فيه الداء، فالجناح الذي يتقى به ينغمس في الشراب ويبقى الجناح الذي فيه الشفاء خارجاً غير منغمس، فلذا أمر بخمس الجناح الثاني أو بغمس الذبابة كلها كما جاء في بعض الروايات، لكي ينغمس الجناح الآخر الذي فيه الشفاء، فيبطل حكم الداء.
ولو كانت الجراثيم النافعة موجودة في كلا الجناحين أو في جسم الذبابة كله لما أمر(969/11)
بالغمس، بل كان الأمر بالغمس عبثاً لأن الذبابة بوقوعها في الشراب قد ارتطمت فيه أرجلها وأيديها وبطنها وصدرها وأحد جناحيها، وفي هذه الأعضاء يوجد النافع والضار كما يقول الدكتور. وقد حصل البكتريوفاج في الشراب وبطل حكم الجراثيم المضرة. أفليس من العبث بعد هذا أن نغمس الذبابة في الشراب؟ وخلاصة القول أن الحديث إن صح فإنما ورد لبيان أمرين لا ثالث لهما، أحدهما غمس الذباب عند وقوعه في الشراب؛ والثاني بيان سبب الغمس وحكمته. وعليه فالجدال بيننا وبين الدكتور ينحصر في نقطة واحدة هي الغمس لا غير. ولذا نقول إن كان الشفاء لا يوجد إلاّ في أحد الجناحين كما يقول الحديث أيضا كان الغمس واجباً، وكان الأمر به معقولاً ومقبولاً، لكي يتم دخول الشفاء في الشراب مع الداء. وإن كان الشفاء أو البكتريوفاج موجوداً في جسم الذبابة كله كما يقول الدكتور كان الغمس عبثاً وكان الأمر به غير معقول ولا مقبول، لأن الذبابة بوقوعها في الشراب قد انغمس فيه أكثر جسمها، ولم يبق منها إلا جناح واحد، وقد دخل منها في الشراب كلا النوعين النافع والمضر من الجراثيم فأي حاجة تبقى إلى الغمس؟
ثم أن الدكتور بعد ما فسر عجز الحديث على هذا الوجه وأخذ يتكلم عن صدره فقال: (وأما ما ورد في صدر الحديث الشريف: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) فالغمس هو لأجل أن يدخل البكتريوفاج للشراب).
أما نحن فنقول: أما أن الغمس هو لأجل أن يدخل الشفاء والبكتريوفاج في الشراب فصحيح لا مرية ولكن ذلك لا يتجه إلا بأن يكون البكتريوفاج في أحد الجناحين دون الآخر كما بيناه آنفاً، وإلا لم تبق حاجة إلى الغمس لأن البكتريوفاج موجودة في ذراعي الذبابة وفي رجليها وقد انغمستا في الشراب، كما أنه موجود في الجناح الآخر (على ما يقول الدكتور) وقد انغمس في الشراب، ودخل البكتريوفاج فيه، فلماذا يأمر بالغمس والبكتريوفاج داخل قبل الغمس؟
وقال أيضاً في الصفة (53) (غالفن قد أثبت وجود البكتريوفاج في جسم الذبابة، سواء بحصوله من بلعها الجراثيم المرضية في أنبوبتها الهضمية أو بنقلها من براز الناقهين).
وقال أيضاً في الصفحة نفسها: (وحيث ورد في نص الحديث فليغمسه أي فليغمس الذبابة كلها فقد دخل في الغمس جسمها مع جناحيها. ولم يرد في الحديث غمس الجناحين فقط، مما(969/12)
دل على أن الداء والشفاء في الجناحين أمر اعتيادي لا يفيد التخصيص، والأمر بغمسها يؤيد ذلك. وهو لأجل تطهير الشراب من الجراثيم بإدخال البكتريوفاج للشراب من جسم الذبابة).
هذه هي عبارته بعينها ومينها وقد جاءت بالأعاجيب فلننظر فيها بشيء من التحليل والتحميص ليظهر ما يرمي إليه الدكتور فيها.
يقول (قد دخل في الغمس جسمها مع جناحيها) فنقول: إذا وقعت الذبابة في الشراب، فقد انغمس فيه جسمها لا محالة، أما الجناحان فيجوز أن يكونا منغمسين أيضاً تبعاً للجسم، ويجوز أن يكونا غير منغمسين لرقتهما، ولكونهما من الفروع العليا في جسم الذبابة، وبناء على هذا كان ينبغي للدكتور أن يقول فقد دخل في الغمس جناحا الذبابة مع جسمها، ولكنه عكس العبارة لكي يجر الحديث إلى ما يريده هو. ولما كان من الجائز انغماس الجسم دون الجناحين، أو دون أحدهما ورد الأمر في الحديث بغمس الذبابة كلها لكي ينغمس جناحاها أيضاً مع جسمها. لا جسمها مع جناحيها كما يقول الدكتور، وهنا نعود فنقول إن حكمة الأمر بالغمس تبطل إذا كان الشفاء أو البكتريوفاج موجوداً في جسم الذبابة كله كما يقول الدكتور، لا في أحد جناحيها كما يقول الحديث.
ويقول في عبارته هذه أيضاً: (ولم يرد في الحديث غمس الجناحين فقط)، أي أراد غمس الجسم أيضاً مع الجناحين، هذا هو تفسير مراده من هذه العبارة، فنقول يا سبحان الله! إن عبارة الحديث بمنطوقها وبمفهومها تدل على أن جسم الذبابة عند وقوعها في الشراب يكون منغمساً فيه وكذلك أحد جناحيها فلذلك أمر بغمسها كلها لكي ينغمس الجناح الآخر الذي فيه الشفاء، وعليه كيف يريد غمس الجناحين فقط حتى يحتاج الدكتور إلى نفيه؟ وقال في الصفحة (53) ولو كان للأجنحة فقط خصوصية الداء والشفاء لأمر عليه الصلاة والسلام بغمسها وحدها).
البقية في العدد القادم
معروف الرصافي(969/13)
الإسلام في أوربا الشرقية في أمسية الغزو المنغولي
(1016م - 1223م)
للأستاذ المؤرخ أرسلان يوهد انووكز
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
(يعرف التاريخ أن كثيراً من البوذيين أو المسيحيين قد اعتنقوا الدين الإسلامي، ولكن هذا التاريخ لا يعرف أن المسلمين قد اعتنقوا البوذية أو النصرانية).
الأستاذ و. بارتولد - جامعة بطرس برج
الذين يعنون بدراسة أوربا الشرقية يعرفون أن الدين الإسلامي قد بدأ يتغلغل في مملكة الخزر (وهي المنطقة الواقعة بين مصب نهر الفولجا والدون) من القرن الثامن الميلادي؛ وفي بداية القرن الحادي عشر أصبح له أتباع كثيرون، ولعله أصبح - وإن لم يكن صاحب النفوذ السياسي - الدين الذي يعتنقه أكبر عدد من الناس. ويعرفون أيضاً أن الإسلام في مملكة الفولجا البلغارية (جمهورية التتار السوفيتية في الوقت الحاضر)، قد أخذ ينتشر في نهاية القرن التاسع، وفي النصف الأول من القرن العاشر، حتى أصبح وطيد الأركان، شامخ البنيان.
وعلى ضوء ما تقدم، ويطيب لنا أن ندرس مصير الإسلام في هذين البلدين أثناء القرنين السابقين للغزو المنغولي، وذلك بين سنة 1016م، وهي السنة التي انهارت فيها مملكة الخزر بصورة نهائية، وسنة 1223م، وهي السنة التي ابتدأ بها الغزو المنغولي الأول.
والأمر على جانب عظيم من الخطورة؛ وذلك لأن أراضي هاتين المملكتين قد أصبحت المركز الرئيسي للدين والسياسة لحياة عصر هؤلاء البرابرة الذهبي؛ هذا القسم من الإمبراطورية المنغولية الذي أخضع لحكمه روسيا حتى نهاية القرن الخامس عشر، والذي غدا فيه الإسلام - في وقت قصير - الدين العام لهذه الإمبراطورية.
مصير الإسلام في المملكة البلغارية على الفولجا
لا توجد صعوبة تتعلق بمصير المملكة البلغارية على نهر الفولجا أثناء الفترة التي نتحدث(969/14)
عنها؛ إذ بقيت هذه المملكة حتى الغزو المنغولي، والدين الإسلامي غير منتشر بين الطبقة الحاكمة من الأتراك والبلغاريين فحسب، وإنما بين القبائل الفينية التي يتألف من أفرادها السود الأعظم من السكان. وعلى الرغم من ذلك، فإننا لا نعرف بالضبط المستوى الذي وصلت إليه الثقافة الإسلامية بين بلغاري الفولجا في الفترة نفسها.
وغنى عن البيان أن نشير إلى أن تضعضع المملكة الكيفيانية التي كانت تقع إلى الشمال الشرقي من روسيا الحديثة، والتي كانت تعرف باسم سوزادلي في محاذاة المملكة البلغارية، قد جعل الأخيرة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، المركز الرئيسي للحياة الروسية السياسية. وفي بداية أمسية الغزو المنغولي، أخذت روسيا تمد سلطانها على حساب المملكة البلغارية، حتى استولت عام 1221م على مصب نهر أوكا (أحد الروافد الرئيسية لنهر الفولجا)، وفي السنة نفسها بينت مدينة نجنى نفجورد
وتنحصر المشكلة، تحت وطأة هذه الظروف، في تتبع مصير الإسلام في أوربا الشرقية، في أمسية الغزو المنغولي، في مملكة الخزر.
زالت مملكة الخزر من سجل الوجود عام 1016م، حين هاجمتها القوات البيزنطية والروسية المتحالفة، فهزمت تلك القوات مجتمعة، آخر ملوك الخزر، وتقع أسيراً في أيديها. ومصير الإسلام في أراضي مملكة الخزر السابقة، بعد سقوطها في أيدي أعدائها، لم يدرس الدراسة التي يستحقها، ولم يعن به أحد، كما أعرف، حتى اليوم.
ومرد ذلك إلى قلة المصادر، ليست المكتوبة منها فحسب، وإنما الآثار الإسلامية نفسها، فإنها مشوهة وقليلة جداً. ولكي نفهم هذا الأمر فهماً دقيقاً، علينا أن نذكر أن أراضي مملكة الخزر السابقة قد صارت مسرحاً لحروب دامية ومدمرة، كانت تمحو من الوجود مدناً بأسرها، وتتركها أنقاضاً، وتنشأ فوقها في كثير من الأحيان، مدن حديثة.
ومن المحقق أن هذه الأنقاض تؤلف مصدراً خصباً للآثار الإسلامية، وأن عمليات التنقيب، لأسباب لا يتسع المجال لذكرها، لم تتجاوز في أحسن أوقاتها، المراحل الأولى، وفي كثير من الأماكن المهمة لم نبدأ أبداً. ونذكر على سبيل المثال أن موقع عاصمة مملكة الخزر أتيل لما يكتشف.
ولما كانت المدن التي بناها هؤلاء البرابرة في عهدهم الذهبي، قد قامت على أنقاض مدن(969/15)
مملكة الخزر التي هدموها، لذلك كثيراً ما كانت نتيجة التنقيب، لا تتجاوز الطبقات التي تتصل بعهد أولئك البرابرة الذهبي. أما الطبقات التي بحثها، والتي تقص حكاية مصير الإسلام في ثناياها، في الفترة التي نتحدث عنها (1016م - 1223م) قلما تصل إليها أيدي المنقبين.
غير أن النقص في هذه المقدمات التي تعين على الدراسة هذه المشكلة التاريخية، ينبغي أن لا يبقى عقبة تبرز إهمال هذه الدراسة. وعلى النقيض من ذلك يجب أن تحفز هذه الحقيقة رغبتنا، وتبعث فينا حب الكشف عن المجهول، وتدفعنا إلى التفتيش عن مصادر لم نفتش عنها قبل اليوم. ومن تحصيل الحاصل أن نقوم أنه ينبغي، بادئ ذي بدء، قبل الحصول على معلومات وافية عن طريق التنقيب، أن نلخص ما هو معروف من حقائق التاريخ، لنستطيع رؤية النتائج التي يمكن أن تنشأ عن مقدمات من هذا النوع. وهذا ما حفزني إلى محاولة الكشف عن هذه الحقائق الغامضة، التي ليس في استطاعتي قول الكلمة الفاصلة في شأنها، ولكن إذا قدر لي أن أوضح خطوط المشكلة الرئيسية بعض التوضيح، فقد يصيب محاولتي ما أرجوه لها من توفيق.
وسأستعين، بكل ما يتصل بالمصير السياسي لسكان مملكة الخزر السابقة، بنظرية المستشرق الروسي العظيم ف. جريجوريف الذي يعتقد أن أولئك السكان قد اندمجوا بالقبشاك وهم قوم رحل من دم تركي، تطلق عليهم المصادر الأوربية أسم كومانز والمصادر الروسية أسم بولوفرسيس ولسوء الحظ، لم يحاول البروفسور جريجوريف، كما أعرف، دعم آرائه بمصادر يمكن الرجوع إليها، ولذلك لا معنى لنا من إيضاح بعض الغموض الذي يكتنف هذا الموضوع.
أما مصير الإسلام في مملكة الخزر السابقة، فسأحاول أن أوضح أن خضوع هذه المملكة للقبشاك، قد تبعه اعتناق العناصر التي استقرت من بداوتها، عن هؤلاء الناس، الدين الإسلامي الحنيف.
وتحت هذه الظروف، فسأحاول تقسيم هذا المقال إلى قسمين:
(1) اندماج الخزر في القبشاك. (2) اعتناق العناصر التي تحضرت من القبشاك الإسلام في مملكة الخزر السابقة.(969/16)
1 - اندماج الخزر في القبشاك:
نظر للدور المهم الذي مثله القبشاك في القسم الشرقي من أوربا، والقسم الغربي من آسيا، نرى قبل المضي في الحديث عن هذا القسم، أن نشير إشارة عابرة إلى أهميتهم السياسية في التاريخ.
إن القبشاك هم آخر الجماعات الرحل التي وصلت إلى أوربا من أواسط آسيا، قبل المنغول، بأعداد كبيرة جداً. وحين نتحدث عن أهميتهم السياسية يكفي أن نعرف أن هجرتهم قد شملت مساحات هائلة، امتدت من منابع الأرتشي في سيبريا عبر سهوب الكازاخستان إلى جنوب روسيا حتى مصب نهر الدانوب، وعلى الرغم من أن القبشاك لم يتمكنوا من تكوين وحدة اجتماعية، وعاشوا حتى الغزو المنغولي، قبائل متفرقة، بسبب عددهم الهائل، والمساحة المتسعة التي شملتها هجرتهم، إلا أنهم لعبوا دوراً عظيماً في تاريخ البلدان المجاورة، وبصورة خاصة في خوريزم، وجورجيا، وروسيا، وهنغاريا، وبيزنطيا. ومن الضروري أن نشير إلى أن مصر كانت تستمد مماليكها من منتصف القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر من هؤلاء القبشاك بصورة رئيسية؛ ذلك لأن تجار الرقيق من الإيطاليين، كانوا يجلبون من موانئ شبه جزيرة القرم، الرقيق من القبشاك، ويبيعونه بعد ذلك في ميناء الإسكندرية. وكما هو معروف في التاريخ، أن السلطان بيبرس (توفى سنة 1277م) أحد أعاظم المماليك كان من القبشاك، وأخيراً أصبح القبشاك يؤلفون الكثرة المطلقة من سكان عصر المغول الذهبي.
أما المستوى الثقافي لأولئك القبشاك فقد كان يتباين كثيراً؛ إذ كان يعتمد، إلى حد بعيد، على قدر اتصالهم بالبلدان المتمدينة من قريب أو من بعيد ومن المحقق أن أولئك الذين عاشوا مجاورين للخورزم، وعددهم كبير جداً، قد تأثروا بالإسلام تأثراً قوياً عميقاً. والسؤال الذي بقى يدور في خواطرنا في هذه المرحلة، أن نبين المصير الذيالإليه الخزر بعد سقوط دولتهم.
لقد اجتاح القبشاك أراضي مملكة الخزر السابقة، فتلاشى بالتدريج أسمهم من التاريخ، ولم يعد لهم إلا بعض الذكر في المدن. وقلما تمر بدراستنا بفترة تتصل بأراضي مملكة الخزر السابقة؛ ولا نجد ذكر القبشاك يملأها، وإلى جانبهم، بصورة محدودة ذكر الآلان وهم شعب(969/17)
من أصل إيراني كونوا أقلية كان لها خطرها في مملكة الخزر السابقة. والذين لا يزال أحفادهم، حتى اليوم، يعيشون في شمال القفقاس ويعرفون بالأساتسة ولهذا السبب نجد أن رشيد الدين، مؤرخ إمبراطورية المنغول المشهور، حين يتحدث عن وصول المنغول في الهجرة الأولى، للإمبراطورية الشرقية عام 1223م يصف كيف أتوا من إيران عن طريق القسم الشرقي من القفقاس، واضطروا في الشمال إلى كسر شوكة المقاومة القبشاكية والألانية: ومن البديهي أنه لو بقى للخزر سلطان سياسي، للعبوا دوراً مهماً في مقاومة المنغول، ولكان لهم ذكر في تاريخ رشيد الدين. ونجد الحقيقة نفسها، في استيلاء المنغول بصورة نهائية على أراضي مملكة الخزر السابقة في ابتداء السنة الثلاثين في القرن الثاني عشر الميلادي، فلقد كان القبشاك الذين قاوموا المنغول والشعوب الأخرى لا ذكر لها، ومن بينهم الخزر.
والمصادر الفارسية تتحدث من جهة أخرى عن استيلاء القبشاك في شبه جزيرة كرش في أمسية الغزو المنغولي، والتي كانت تحت حكم الخزر.
ومن غير المعقول أن أمة قوية كالغستاف، يمكن أن تترك وراءها أمة محاربة كالخزر دون أن تخضعها أولاً.
وأحسب أننا في غير حاجة إلى الدخول في تفاصيل أخرى بعد ما تقدم لتؤكد أن القبشاك، قلعوا الخزر في المنطقة حتى مصب الفولجا، تلك المنطقة التي كانت المركز السياسي لدولة الخزر، التي ذابت فيهم بالتدريج، والتي ازدهر فيها الإسلام قبل وصول هؤلاء الغزاة الذين سارعوا لاعتناقه.
وسنحاول الآن تبيان أن اندماج الخزر بالقبشاك قد تبعه اعتناق العناصر التي استقرت من هؤلاء الغزاة، مبادئ الدين الإسلامي الحنيف بالتدريج.
2 - اعتناق القبائل القبشاكية التي استقرت في مملكة الخزر الإسلام: -
يعتبر المستشرق الروسي العظيم ف. بارنولد الذي توفى عام 1930 حجة في سعة الاطلاع على مصادر التاريخ الإسلامي في مملكة الخزر السابقة. والذي أعرفه أنه لم يحاول مطلقاً، دراسة مصير الإسلام في هذه المملكة دراسة جدية، وكثيراً ما يجد الإنسان بعض الأحيان تناقضاً فيما كتبه عن هذا الموضوع ولكن ما ذكره بصورة عامة عن(969/18)
جبروت الإسلام، وسحره، وما أسهب فيه من الدعاية لذلك الدين بين العناصر التركية، يسند إلى حد بعيد الرأي الذي بسطناه في هذا الموضوع عن اعتناق هؤلاء القبشاك الدين الإسلامي ولا يتناقض معه أبداً وقد رأيت أن أقتبس بالحرف الواحد ما ذكره المستشرق العظيم بارنولد عن هذا الموضوع:
قال بارنولد: (إن المعجزة العظيمة للإسلام، إذا ما قورن بالديانات الأخرى، تتركز في أن العالم الإسلامي كان في تلك الفترة، في مستوى رفيع من الطاقة الثقافية، والرخاء الاقتصادي بين الشعوب المتمدنة. وكان هؤلاء الرحل في حاجة مستمرة إلى البضائع المصنوعة في تلك الأقطار المتمدنة. وبصورة خاصة إلى الأقمشة. وكان الاتجار مع هؤلاء الرحل، في الوقت نفسه، عظيم النفع لتلك الشعوب المتحضرة. لكن هذه التجارة كانت ضرورية لهؤلاء الرحل الذين كانوا يطلبونها من الأقطار الغربية المتمدنة، ولما أصبحت البضائع التي يشترونها من البلدان الإسلامية من ضروريات حياتهم تأثروا بالإسلام، لا عن طريق الدين فحسب بل عن طريق الحضارة الرائعة التي كان يتسم بها ذلك الدين. ولم يكن أمامهم غير اعتناق الإسلام ليجعل صلاتهم الروحية والمادية متينة مع تلك البلدان والشعوب الإسلامية.
(ولقد أظهر الإسلام صفة أخرى يمتاز بها عن سائر الديانات المعروفة، أثناء الدعاية له بين الترك؛ ذلك أنه على الرغم من قلة عدد اتباعه بالقياس إلى الديانة البوذية والمسيحية، فإنه يمكن لنفسه في قلوب البشر كدين عام للإنسانية، بأوسع ما تحويه هذه الكلمة من معنى، لأنه لا يقصر نفسه على جماعة أو جنس من بني الإنسان. إن النجاح الذي صادفته الديانات الأخرى كان في بعض الأحيان أكثر مما وصل إليه الإسلام؛ غير أن ذلك النجاح لم يعمر طويلاً. فلقد عرف تاريخ الديانات فيما عرف الديانة المانيكية التي امتد ظلها فوق الأرض وكان لها أتباع ينتشرون من جنوب فرنسا إلى بلاد الصين، غير أن هذا الانتشار لم يكفل لها الحياة فذهبت إلى غير رجعة، ومحيت من سجل الوجود. والديانة البوذية ابتدأت بنشاط عالمي، وراحت تنتشر في بلاد الغرب محمولة على أجنحة دعاية قوية، ولكنها انكمشت على نفسها لتصبح ديانة البلدان الراقدة في شرق آسيا. وقبل انتشار الإسلام كان للنصرانية أتباع بين الترك أنفسهم؛ وفي الوقت الذي أوصدت الأبواب من منغوليا أمام(969/19)
الدعاية الإسلامية، اعتنق الديانة المسيحية عدد كبير من الناس الذين كانوا يعيشون في الأجزاء الجنوبية والشرقية والغربية من هذه البلاد، غير أن هذا النجاح ليس لم يكن غير سحابة صيف. وفي الوقت الحاضر يبدو أن النصرانية هي ديانة العالم الأوربي؛ غير أن المسيحيين وراء حدود هذا العالم الأوربي، من الناحية العددية والسمو العقلي ليست لهم قيمة في الأمرين بالقياس إلى المسيحيين في أوربا. أما الإسلام فلقد أصبح عن طريق ما فيه من صدق، دين الشعوب المتمدنة في أوساط آسيا وشرقها، ويزيد عدد اتباعه وخاصة في الهند، وفي الأرخبيل الأندنوسي عن عددهم في غرب آسيا. ويؤلف المسلمون في الصين عنصراً مستقلاً بثقافته الدينية التي تقوم بالتعبير عنها لغتهم الأصلية دون الشعور بالحاجة إلى مساعدات خارجية، على حين أن محاولة الديانة المسيحية التمكين لنفسها في الصين قد باءت بفشل ذريع وخيبة مخجلة. وفي أفريقيا صادفت النصرانية نجاحاً ضئيلاً بالقياس إلى الدين الإسلامي وبين الأحباش، الشعب الأفريقي الوحيد الذي استطاعت الكنيسة أن تجد لها مكاناً فيه. امتدت الدعاية الإسلامية إلى المكان نفسه، وصادفت نجاحاً حتى في القسم الأخير من القرن التاسع عشر. وخلاصة القول أن التاريخ يعرف أن كثيراً من الشعوب البوذية أو المسيحية قد اعتنقت الإسلام، ولكنه لا يعرف أية جماعة إسلامية اعتنقت البوذية أو المسيحية).
للكلام صلة
علي محمد سرطاوي(969/20)
من وحي التاريخ
عمر بن عبد العزيز
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
سأل الاسكندر حكيماً: من يصلح للملك؟ فقال له. . إما ملك حكيم أو ملك ملتمس للحكمة. . والحكمة في هذا المقام معناها الفلسفة. . وقد قرن هذا الحكيم السياسة بالفلسفة واعتبرها أداة من أدوات الحكم ووسيلة من وسائل العدل. . واشترط على الحاكم أن يكون فيلسوفاً أو ملتمساً للفلسفة ليعم الأمن وينتشر السلام وتستقيم الأمور وتصلح الأحوال، وكثيراً ما كتب الحكماء في نظم عامة ابتدعها أخيلتهم وزعموها توفر على الناس في هذه الدنيا اللذة والسعادة وتنفى عنهم الألم والشقاوة. فعل ذلك أفلاطون في الجمهورية والفارابي في أهل المدينة الفاضلة وتوماس مور في أو طوبيا كما فعله كثير غير هؤلاء ممن ترسم آثار أفلاطون ونسج على منواله. . ومن كتاب هذا العصر الذين تناولوا هذه الناحية كاتب اسمه (موروا) وله كتاب اسمه فن الحياة. . من فصول هذا الكتاب فصل في فن الحكم يتكلم فيه المؤلف عل أخلاق الرؤساء الذين يسوسون أمور الناس. والرئيس الكبير في نظره هو صاحب الخلق الكبير. . ومهما قال الحكماء أو تحدث الكتاب، ومهما اختلفت الآراء وتباينت وجهات النظر. . فإن السياسة تعتمد اعتماداً كبيراً على الأخلاق. . لأن السياسة التي خلق لها إنما هي سياسة لا تلبث أن تتلاشى كما يتلاشى الدخان في الفضاء وما نجحت سياسة بعض رجال العرب في الماضي إلا لأن أصحابها كانوا على خلق عظيم. . من بين هؤلاء الخليفة العربي المسلم عمر بن عبد العزيز الذي ألقت إليه المقادير بزمام الحكم بعد موت سليمان بن عبد الملك دون أن يكون له طمع في خلافة أو رغبة في حكم. . وقد نهج في حكمه نهج جده العظيم عمر الفاروق واحتذى مثاله وسار بالناس في طريق الخير حتى كان عهده من أحسن عهود التاريخ وأعظمها مكانة وأوفرها خيراً وبركة. . وستظل سيرة عمر بن عبد العزيز قصيدة شعرية رائعة يقرأها الناس في كل مكان وزمان ليتمتعوا بما فيها من روعة وجمال، وعظمة وجلال؛ فالأثر العميق الذي تركه عهد عمر في تاريخ الإسلام برغم أن مدة حكمه لم تزد على العامين يدل على أن الخليفة كان ذا صفات عالية. . دقيق الحسن في إدراك الحقائق الواقعة.(969/21)
ولد عمر بن عبد العزيز بالمدينة سنة 61هـ. . وقيل سنة 63هـ ولا يغيب عن بال أحد أن المدينة كان لها أعظم الفضل في تاريخ الإسلام والمسلمين. . وبها كان أكثر التشريع الإسلامي؛ وكانت منبعاً لأكثر الأحداث التاريخية في صدر الإسلام؛ وبها حدث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثه. وكانت مركز الخلافة في أهم عصر من عصور الإسلام أيام أبي بكر وعمر وعثمان وبها كان كثير من أكابر الصحابة قد شاهدوا ما فعل النبي وسمعوا ما قال وكانوا شركاء في بعض ما وقع من غزوات وفتوح؛ فهم يحدثون بما سمعوا وشاهدوا. . وكانت مكة والمدينة من أهم مراكز الحياة العلمية في ذلك العصر يقصدهما طلاب الحديث وطلاب التاريخ وقد فاقت المدينة مكة في ذلك؛ لأن أشهر من أسلم من أهل مكة هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وكان من يسلم بعد الهجرة من أهل مكة يهاجر كذلك خصوصاً إذا كان من رجالات قريش وعقلائها. . وكان طلبة العلم يبعثون إلى المدينة ويرسلون إليها لينهلوا من علومها ويغترفوا من آدابها ويأخذون عن علمائها. وقد نشأ عمر وشب وترعرع في هذه البيئة العلمية الزاكية. . ونثقف على أساتذتها وروى الحديث ونلقى الفقه عن جماعة من الصحابة - فشغف بالعلم وعلمائه وبالحديث ومحدثيه ونشأت بينه وبين وبينهم صلة طيبة وعلاقة قوية متينة حتى أنه كان يقول (لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إليَّ من الدنيا وما فيها) والمقصود بذلك هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المتوفى سنة 99هـ والذي يقول فيه أيضاً (ما رويت عن عبد الله بن عتبة أكثر مما رويت عن جميع الناس). كما كانت المدينة تزخرف تلك الحقبة بالحياة الأدبية فأخذ عمر بحظه من الثقافة الأدبية. وقد قال عن نفسه (لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلاماً من الغلمان ثم تاقت نفسي إلى العلم بالعربية والشعر فأصبت منه حاجتي). وقد أثرت هذه البيئة العلمية في تكوين شخصية عمر. . فحذق العلوم حتى صار فيها إماماً ضليعاً. . ولذلك يقول فيه ميمون بن مهران المتوفى سنة 117هـ (ما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلاميذ). . وهناك عامل آخر أثر في تكوين شخصية عمر، غير عامل البيئة. . ذلك هو عامل الوراثة. . فأبوه عبد العزيز بن مروان كان والياً على مصر وأقام بها عشرين عاماً منذ سنة 65هـ إلى أن مات سنة 85هـ وجده مروان بن الحكم الذي ولي الخلافة من سنة 64 - 65هـ. وأما نسبه لأمه فأمه ليلى أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن(969/22)
الخطاب وقد ورث كثيراً من صفات عمر وأخلاقه كما كان يحاول التشبه بخاله. . ويروى أنه وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر لمكان أمه منه ثم يرجع إلى أمه فيقول. . يا أمه أنا أحب أن أكون مثل خالي)!
يقول فيه جرير عندما كان واليا على المدينة
إليك رحلت يا عمر بن ليلى ... على ثقة أزورك واعتمادا
إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى ... ومروان الذي رفع العمادا
تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا
وأنت ابن الخضارم من قريش ... هم نصروا النبوة والجهادا
وكان يقال له (أشج بني أمية) وكان قد رمحته دابة من دواب أبيه فشجته وهو غلام فدخل على أمه فضمته إليها وعذلت أباه ولامته؛ إذ لم يجعل معه حاضنا؛ فقال لها عبد العزيز (اسكتي يا أم عاصم فطوبى لك أن كان أشج بني أمية) وقيل كان ابن عمر يقول (يا ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً)؟
ولى المدينة سمة 87هـ. . ثم إن الخليفة الوليد بن عبد الملك ضم إليه بعد ذلك مكة والطائف فأصبح عمر بذلك أميراً على الحجاز كله. . وولى الخلافة سنة 99هـ إلى سنة 101هـ.
على أن عمر في عنفوان شبابه لم ينس نصيبه من حياة الترف في حدود الاستمتاع الحلال المشروع حتى إذا حمل أعباء الخلافة نفض يده من الدنيا جملة. . تقول كتب التاريخ في هذا الصدد (ذكروا أن عمر كان أعظم أموي ترفها. فلا يمر في طريق ولا يجلس في مكان إلا عرف برائحته. وكان يمشي مشية تسمى العمرية كان الجواري يتعلمنها من حسنها وتبختره فيها. وقد ترك كل شيء كان فيه لما استخلف غير مشيته فإنه لم يستطع تركها. . قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر أعوده فإذا عليه قميص وسخ فقلت لامرأته فاطمة وكانت أخت مسلمة (اغسلوا ثياب أمير المسلمين، فقالت نفعل؛ ثم عدت فإذا القميص على حاله فقلت ألم آمركم أن تغسلوا قميصه؟ فقالت: والله ما له غيره!
كل هذا يصور لنا بجلاء أنه لم ينس نصيبه من الدنيا في شرخ صباه فلما أن أولى الخلافة خرج عن جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع.
وناحية أخرى تميز بها عمر عن باقي خلفاء بني أمية. . فما إن تولى خلافة المسلمين حتى(969/23)
جد في تنفيذ برنامجه الإصلاحي. . ولقد كان له من زهده ومناصرة العلماء له ومواتاة أهل بيته: زوجه فاطمة وابنه عبد الملك وأخيه سهل ومولاه مزاحم أقوى عون على ما أراد. . بدأ بمنصب الخلافة ممثلاً فيه فجرده من كل مظاهر الأبهة ورده إلى بساطته القديمة. . قم أنه أمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها. . فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يد سليمان وفي يد أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة. . وكان يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة الفاطمة؛ وكان يكتفي باليسير فإذا عرف وجه مظلمة ردها عليه ولم يكلفه تحقيق البينة لما يعرف من ظلم الولاة قبله للناس. . فلما بلغت الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل. يقول ابن الأثير: ولما رجع عمر من جنازة سليمان بن عبد الملك رآه مولى له مغتماً فسأله: فقال. ليس أحد من أمة محمد في شرق الأرض ولا غربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه من غير طلب منه. . وقالت فاطمة امرأته: دخلت عليه وهو في مصلاه ودموعه تجرى على لحيته فقلت أحدث شيء؟ فقال: إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير وذوي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض فعلمت أني ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، فخشيت أن لا نثبت حجتي عند الخصومة فرحمت نفسي فبكيت. . وقال عبد الملك لأبيه عمر: يا أمير المؤمنين ما تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقا لم تحيه وباطلاً لم تمته؟ فقال يا بني: إن أجدادك قد دعوا الناس عن الحق. . فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها. . ولكن أليس حسناً وجميلاً أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقاً وأمت فيه باطلاً إلا نفسه وأهله، فلم ير ولي قوم أعف عن ما لم منه، ولم ير أهل بيت أصبر على الطعام الخشن والثوب المرقوع والبيت المتهدم منه ومن أهل بيته. ولقد أراح عمر الناس ولكنه أتعب نفسه، فكان حركة دائمة يعمل ليل نهار حتى ذهبت نضرته واحترق جسمه. . توفى عمر بعد ذلك في رجب سنة إحدى ومائة، وكانت حياة قصيرة حافلة بجلائل الأعمال وعظائم الأمور. . ولما مرض قيل له لو تداويت! قال لو كان دوائي في مسح أدنى ما مسحتها. نعم المذهوب إليه ربي! قال ميمون بن مهران قال عمر بن عبد العزيز. . لما وضعت الوليد في حفرته نظرت فإذا وجهه قد أسود؛ فإذا مت ودفنت فاكشف عن وجهي.(969/24)
ففعلت فرأيته أحسن مما كان أيام تنعمه. .
رحم الله عمر! ورحم فيه صفاته النبيلة التي ستظل ساطعة على جبين الدهر. . محفوظة في سجل الزمن.
رحم الله عمر. . ورحم فيه ورعه وتقواه. . وعدله وهداه. .
لقد عاش عمر. . ومات عمر. . ولكن أسمه سيظل حيا في مماته كما كان حيا في حياته.
عبد الباسط محمد حسن(969/25)
تطور البديعيات في مدح الرسول
للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
وفي القرن الحادي عشر نرى (البديعيات تحتضن التراث الأدبي) وذلك حين أخذت تسلك دوراً خطيراً في حياة الدراسة الأدبية عامة وحياة البلاغة بصفة خاصة. وهنا نرى أن المدائح النبوية التي حملت مشعل علوم البلاغة وأسهمت في تطور فنون البديع وأخذت في صورة أخرى تحتضن آثار المدرسة الأدبية حتى أصبحت هذه المدائح صناعة المتأدبين وطريقة السالكين لمذاهب الشعر. ومن هنا صارت تلك المدائح موضوعاً للأدب ومحطاً للأدباء وميداناً فسيحاً لجولاتهم وطريقاً ممهداً لمنافساتهم في العصر التركي الذي ضاع فيه ثلثا التراث الأدبي. فكانت المدائح النبوية في القرن الحادي عشر أشبه تماماً بالقيم الذي حافظ على تراثنا الأدبي والحصن الذي وجد فيه الأدب العربي حمى لزماره وموئلاً لآثاره. كما قامت بدورها الخطير في المحافظة في الذوق الأدبي: حافظت عليه حين كانت اللغة العربية تترك، وحافظت عليه من التصنيع والتصنيع اللذين ظهرا في كثير من أغراض الشعر والنثر؛ حتى كادا يوديان يقيمهما الفنية ولا سيما في عصر ركدت فيه سوق الأدب وضعفت فيه عناية القوم بالفن والقريض. . . ولولا هذه المدائح النبوية لتفاقم الخطب في التراث الأدبي أكثر مما كان، ولما وصل إلينا من أدب ذلك العصر التركي إلا كل مرذول ممجوج.
ولقد عاون على تنافس القوم فيها وتفننهم في نظمها - إذ ذاك - زهدهم الشديد في التقرب إلى الحكام والأمراء الذين كانوا لا يحسنون فهم الشعر ولا يجيدون قيمة المديح أو يكافئون عليه بشيء، فأنقلب الشعراء يمدحون النبي الأعظم وقصروا مدحهم عليه فعالجوا ضروب البديعيات وضاعفوا اهتمامهم بتحبيرها وتذبيحها. ومن ثم كانت هذه المحاولة مظهراً من مظاهر نضوج البديع في ذلك العصر. فوضع شهاب الدين الحميدي المتوفى سنة 1005هـ بديعية (تلميح البديع بمدح الشفيع) في مائة وسبعة وعشرين بيتاً كما وضع أبو الوفا العرضي المتوفى سنة 1034هـ بديعية (الطراز البديع في مدح الشفيع) في مائة وثلاثة وثلاثين بيتاً.(969/26)
ولما كانت للبديعيات أثرها الخطير ومكانتها الأدبية الملحوظة في المدرسة الأدبية كان من البديهي أن يتناولها القوم بالتعليق والشرح، فظهرت فكرة (شروح البديعيات) في القرن الثاني عشر، كما ظهرت فكرة التشطير والتربيع والتخميس والتسبيع وغير ذلك من أنواع التشطير. فوضع صدر الدين الحسيني (1120هـ) بديعية (أنوار البديع في أنواع البديع) في مائة وثمانية وأربعين بيتاً. وكان الناظم كلما وضع بيتاً من أبيات بديعيته أتبعه بما قاله السلف قبله مبتدئاً بصفي الدين.
وعلى هذا المنوال نسيج الشيخ عبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1134هـ في بديعيته المسماة (نفحات الأزهار على نسمات الأسحار، في مدح النبي المختار (وهي بديعية طويلة تقع في مائة وخمسين بيتاً. كما وضع أخرى تقع في مائة وواحد وخمسين بيتاً تسمى (مليح البديع في مدح الشفيع).
وتلاهما قاسم البكره جي (1148هـ) في بديعية تقع في مائة وثلاثة وخمسين بيتاً تسمى (حلية العقد البديع في مدح النبي الشفيع)، وعلي بن محمد القلعي (1158هـ) في بديعيته المسماة (مفتاح الفرج في مدح عالي الدرج).
وفي القرن الثالث عشر ظهرت (بوادر التحول) والانتقال في حياة البديع، وقد كان للنشاط السياسي في مستهل ذلك القرن - وهو فجر النهضة - أثره القوي في الحياة الفكرية. . . فظهر جماعة من شعراء النهضة عالجوا البديعيات في دواوينهم علاجات تجلت فيها روح إنسان يحاول أن يميز بين يومه وأمسه. . . ونجح بعض الشعراء الذين آمنوا بما كان يخالجهم من ضرورة إلى التجديد، منهم محمود صفوت الساعاتي (1298هـ) إذ نظم بديعيته سنة 1275هـ في مائة واثنين وأربعين بيتاً معارضاً بها بديعية ابن حجة الحموي، وعنى بشرحها المرحوم عبد الله باشا فكري ناظر المعارف العمومية في ذلك الوقت.
وفي أوائل القرن الرابع عشر تبلبلت ألسنة المتأدبين بين (التقليد والتحرر) بين المذهب التقليدي الذي ورثوه ومذهب التحرر الذي نودي به في عصر النهضة.
فمن البديعيين جماعة غلبت على أنفسهم الروح التقليدية فنظموا البديعيات على الطريقة التي نظم عليها من سبقوهم وذكوا كل ما وصل إليه توليد القدماء والمتأخرين والمحدثين من فنون البديع. ومن هؤلاء محمد أمين العمري المتوفى سنة 1311هـ ومحمد بدر الدين(969/27)
الرافعي المتوفى سنة 1312هـ. وقد انتهى تطور البديعيات عند هذا الأخير فبلغ مجموع ما أورده من فنون البديع مائتين وستة ذكرها في مثلها من الأبيات.
ومنهم من تخلص من ريقة التقليد ومضى في ركاب المتحررين، فظهرت آثار التجديد فيما نظمه من بديعيات، ومن هؤلاء حسن حسني الطويراني التركي (1315هـ) وطه الجزائري (3141هـ) وأمير الشعراء أحمد شوقي بك المصري (1351هـ).
وقد كان طريق هؤلاء الشعراء وعراً محاطاً بالصعاب؛ ذلك لأن التحرر من التقليد الموروث لم يكن بالشيء اليسير في الحياة الأدبية، فيصعب على النفس زواله سريعاً. لذلك كان علاجه أمراً صعباً، وكان شأن المتحررين شأن من يسلك طريقاً لا يعرف كنهه أو يحيط بمعالمه، فهو يهتدي تارة ويضل أخرى. ولعلك حين تقرأ قصيدة (نهج البردة) لشوقي بك - وهو آخر هؤلاء المتحررين - تلمس عن كثب مبلغ ما وصل إليه شعراء النهضة من تبلبل بين (المذهب التقليدي القديم) و (المذهب التحرري الحديث). ولعلك وقد أوتيت حظاً من نفاذ الفكر وبسطة من الذوق تلمس - وأنت تقرأ قصيدة نهج البردة - معالم ما وصلت إليه البديعيات من تطور، نلمس كل ذلك من ثنايا هذه القصيدة:
(1) فهو حين يلتزم بحر البسيط وقافية الميم - وهما قدر مشترك في سائر البديعيات - ترى فيه شخصية المقلد الذي لم يستطع أن يتخلص من ربقة التقليد.
(2) وهو حين يرسل الفنون البديعية بغير قصد ملموس أو تكلف ممقوت يستند عليه في إيرادها ويزمع فيه إلى سردها - تلمس فيه شخصية المتحرر الصادق في تحرره.
هكذا كان ناظمو البديعيات في القرن الرابع عشر، كانوا يسيرون على قدمين من التقليد والتحرر. وقد يبدو لك في ذلك بعض التناقض وليس من التناقض في شئ. وإنما هو مرحلة التطور والانتقال إلى الحديث. كان لا بد للبديعيات من أن تمر بها في عصرنا هذا، حين تم فيه امتزاج العنصر القديم بالعنصر الحديث. فلم يستطع الناظمون بعد أن يتخلصوا من القديم كله، كما لم يستطيعوا أن ينهضوا بكل ما ينبغي عليهم من تحرر. لذلك بقيت معالم التقليد في بحر البسيط وقافيه الميم كما هي - وهي الحدود التي لم يستطع أحد من الشعراء أن يخرج عنها - وظهرت معالم التحرر في طريقة العرض والاختيار وعدم التقليد بسرد معينة من البديع.(969/28)
وقد أدراك المويلحي شيئاً من هذا الذي حيث قال: (ولقد وفق بحمد الله شاعرنا أحمد شوقي إلى سلوك هذا السبيل في شعره فلم يقتصر على قرض القريض فيما يجري عليه الأحوال في عصرنا الحاضر بل سار على نهج المتقدمين وانتحى مناحيهم في فنون الشعر واقتدى بهم هذه في هذه القصيدة بما يسمونه بالبديعيات في مدح رسول الله عليه وسلم.
وبعد فهذه مراحل تطور البديعيات النبوية التي تحدعت عن نشأتها في العام الماضي أوضحت لك فيها ما أفدناه من تطور فنون البديع حتى أصبحت مائتين وستة من الفنون. ولكننا لم نجد بعد أمير الشعراء شاعراً آخر يعود بنا إلى هذا التقليد الكريم في شعره. وإنا لمنتظرون ما يعز بعد ذلك من تطور.
حامد حفني داود الجرجاوي(969/29)
11 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
من 15 - 29 ديسمبر 1951:
لا تزال معركة التحرير على أشدها الحرب سجالاً بين المصريين والإنجليز، وقد أقضت أعمال الفدائيين الباسلة مضاجع الإنجليز، وأصبحت قواتهم خائفة تترقب الموت في كل حين وفي كل لحظة.
وفي 18 ديسمبر 1951 اجتمع محمد صلاح الدين باشا وزير خارجية مصر بمستر إيدن وزير خارجية بريطانيا في باريس لحل المسألة المصرية ولكن الاجتماع لم يسفر عن أي نجاح. وقد طلب إيدن إلى صلاح الدين باشا أن تتخذ الحكومة المصرية فوراً إجراءات لوقف حوادث القتال وتهيئة الجد للدخول في مفاوضات، فأجابه وزير الخارجية المصرية قائلاً إن جلاء القوات الإنجليزية هو الأجراء الوحيد الذي يكفل الهدوء والسلام في منطقة القنال والطريقة الوحيدة لتحسين العلاقات بين البلدان.
وسأل إيدن صلاح الدين باشا: هل لدى الحكومة المصرية مقترحات جديدة، فقال له وزير المصري (إن مطالب مصر تتركز في الجلاء الشامل الناجز ووحدة وادي النيل تحت التاج المصري) وأعلن أنه (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء).
ولم يوافق إيدن صلاح الدين وهكذا فشل الاجتماع وعاد إيدن أدراجه إلى لندن.
وقد واصل الإنجليز عدوانهم في منطقة القنال، وقد واصلت قوات الفدائيين نضالها ضدهم فنسفوا قطاراً حربياً بريطانيا قرب السويس وآخر عند أبي سلطان وقد دمروا الخط الحديدي من ميناء الأدبية إلى معسكرات أكثر من مرة وكذلك نسفوا أنابيب المياه في كفر عبده وهي التي خرب الإنجليز هذا الحي من أجلها.
أسوأ عيد ميلاد
أقبل عيد الميلاد عبد السلام كما هو مفروض، ولكنه أقبل في هذا العام على الجنود الإنجليز في منطقة القتال وهم يقتلون ويقتلون. وقد أفزع نشاط الفدائيين المصريين الإنجليز مما أضطر قائدهم أرسكين إلى أن يذيع على القوات البريطانية نداء بمناسبة عيد(969/30)
الميلاد استحثهم فيه ألا يشغلهم العيد عن مباشرة أعمالهم والقيام بما يضطلعون به من أعباء والمحافظة على سمعة بريطانيا (؟؟) والحذر من أعمال الفدائيين.
وجاء في النداء أن بريطانيا نجتاز الآن أزمة عصيبة غير أنها ترجو أن تمر بسلام وأن تصل إلى حل سليم لتسوية الخلافات بين الحكومتين المصرية والبريطانية.
وجاء عيد الميلاد فكان أسود عيد في حياة الجند الإنجليز في منطقة القنال، فقد اشتد نشاط الفدائيين في جميع أنحاء تلك المنطقة ونسفوا محطة الكهرباء في الفردان وأنابيب المياه في البلاح وقطعوا خطوط التليفون في أكثر من موضع وهاجموا الإنجليز في أكثر من مكان. وهكذا كان عيد السلام في هذا العام أسوأ عيد على المغتصبين البريطانيين.
كلم اللسان:
في يوم 13 ديسمبر 1951 استقبل معالي عبد الفتاح حسن باشا وزير الشئون الاجتماعية سعادة عبد السلام الشاذلي باشا وجرت بينهما مناقشة حول استيلاء الحكومة على نادي الجزيرة ودافع الوزير عن وجهة نظر الحكومة.
قال عبد السلام باشا للوزير: كان يجب عليك أن ترجع لوزراء الشئون السابقين لتستشيرهم قبل أن تقدم مثل هذا الاقتراح فإننا نعرف هذا النادي (الإنجليزي) ويظهر أنك لا تعرفه ولعلك لم تزره.
فقال عبد الفتاح باشا: لقد استشرت ضميري وراعيت في الاقتراح ما يقتضيه صالح بلادي دون أي اعتبار.
واحتدت المنافسة وقال الشاذلي باشا: إن قرار مجلس الوزراء بتخصيص أراضي نادي الجزيرة للمنفعة العامة هو جريمة.
وهكذا سقط الرجل: ورد عبد الفتاح باشا على الشاذلي باشا قائلاً: (أنا لا أسمح لك بهذا الكلام فإن إلغاء ناد إنجليزي ليس الجريمة وإنما الجريمة ما ترتكبه أنت الآن من دفاع عن هذا النادي الإنجليزي).
دولة جديدة:
في الساعة العاشرة والنصف من صباح 24 ديسمبر 1951 أعلن استقلال ليبيا واعتلاء(969/31)
الملك إدريس السنوسي عرش الدولة الاتحادية الجديدة التي تتألف من برقة وطرابلس وفزان.
ونحن نهنئ الدولة الجديدة باستقلالها ونهنئ العالم الإسلامي بها، ونرجو أن نتمكن في القريب العاجل من تحطيم قيود استقلالها والانضمام إلى الكتلة الإسلامية الحرة لأن هذه الكتلة هي التي ستبعث الأمن والسلام إلى هذا العالم المضطرب.
26 ديسمبر
قام الفدائيين بأعنف هجوم على المعسكرات البريطانية، فدمروا شبكة الخطوط البريطانية بلغم زنته 72 كيلو جراماً ونسفوا أنابيب محطة المياه والطريق الحربي الممتد من ميناء الأدبية إلى معسكرات. وقد انتابت أرسكين موجات من الفزع والهلع فهدد بحشد جميع القوات التي تحت إمرته لسحق كتائب الفدائيين في القنال.
وقد شاهدت القاهرة والإسكندرية مظاهرات قام بها الطلبة واستخدم البوليس في قمعها الرش والقنابل المسيلة للدموع وأغلقت الجامعات الثلاث والمدارس الثانوية.
وقبل أن أختم كلمتي هذه عن معركة التحرير الحالية أحب أن أقول لمواطني: احذروا الفرقة والانقسام فإن عدونا يتربص بنا، وما دامت كلمتنا متحدة متفقة فسيضطر العدو إلى الاستجابة لمطالبنا. أما إن تفرقنا فستذهب ريحنا ونضيع جهودنا. والله أسأل أن يوفقنا إلى ما فيه خير بلادنا.
أبريل 9191
في 7 أبريل أعلن المندوب السامي الإفراج عن سعد وصحبه فامتلأت قلوب المصريين فرحاً وعمتهم الغبطة وقامت المظاهرات في القاهرة والأقاليم تعلن ابتهاج مصر وفرحها. واشترك في هذه المظاهرات ألوف من المصريين من جميع الطبقات؛ وكانت دار سعد وجهة الجميع.
وقد شارك النشالون الأمة في شعورها فأعلنوا تأمينا للناس على جيوبهم امتناعهم عن العمل ثلاثة أيام سويا!!
وقد قامت في 8 إبريل مظاهرة كبرى اشترك فيها العلماء والقسس والطلبة والضباط(969/32)
المصريون وأعضاء الجمعية التشريعية ومشايخ العربان والتجار والأعيان والقضاة والأطباء والموظفون والعمال، وكان يعقب مواكب هذه الطوائف مركبات تحمل سيدات من أرقى العائلات.
ولكن الإنجليز لم يتركوا الأمة في فرحها بل تحرش الجند بالمتظاهرين وأطلقوا عليهم الرصاص فسقط منهم أربعة شهداء.
وقد أعترف المندوب السامي بخروج الإنجليز عن حدهم وأعلن أسفه لما حدث منهم.
وفي 9 إبريل أقيم احتفالاً عظيم بتشييع جنازات الشهداء اشترك فيه ألوف من جميع الطبقات وكان هتافهم (لتحيى ضحايا الحرية).
واستمر عدوان الإنجليز قائماً وكان لهم في كل يوم ضحايا وشهداء.
وزارة رشدي باشا
ظلت مصر وزارة منذ ديسمبر 1918 وفي 9 إبريل 1919 شكلت وزارة رشدي باشا الثانية واشترك فيها عدلي يكن باشا وعبد الخالق ثروت باشا ويوسف وهبه باشا.
وقد طلب ضباط البوليس والجيش المصري أن يعهد إليهم بالمحافظة على الأمن والنظام ولكن لم يلب الطلب.
تأليف الوفد الرسمي
في 10 إبريل اعتز الوفد ماليا إذ تبرع له بدراوي عاشور باشا بمبلغ عشرة آلاف جنيه والأمير يوسف كمال بألفين وانهالت عليه التبرعات من جميع الطبقات والطوائف وجمعت له الأموال الطائلة.
وفي 11 إبريل تألف الوفد الرسمي من: سعد زغلول. علي شعراوي. إسماعيل صدقي. حمد الباسل. محمد محمود. عبد العزيز فهمي. أحمد لطفي السيد. مصطفى النحاس. حافظ عفيفي. حسين واصف. محمود أبو النصر. محمد عبد الخالق مدكور.
وفي 11 إبريل سافر باقي أعضاء الوفد وهم الذين كانوا بمصر إلى باريس لينضموا إلى سعد وزملائه الذين كانوا في المنفى، ومرة أخرى خرجت مصر بأسرها لتودع أبناءها المسافرين للدفاع عن قضيتها، نعم خرجت مصر لتعبر عن شعورها وعن آمالها فكان(969/33)
أروع توديع.
وفي 12 إبريل ألفت اللجنة المركزية للوفد بمصر، وكان لهذه اللجنة شأنها وخطرها فقد تولت قيادة الثورة بمصر وكانت تمد أعضاء الوفد بباريس بما يحتاجونه إليه من معلومات.
استمر الإنجليز في طغيانهم ومن أمثلة ذلك ما حدث في صفط الملوك بمديرية البحيرة في مساء 12 إبريل. وكانت دورية بريطانية تمر بالقرية فزعمت أنها سمعت طلقاً نارياً أطلق عليها. وكان رد الإنجليز محاصرة القرية وإخراج جميع رجالها ثم اقتادوهم تحت جنح الظلام إلى المحطة. وهناك جردوا من ملابسهم إلا ما يستر العورة وأخذوا واحداً بعد الآخر إلى كشك المحطة. كان الواحد يؤمر بإدخال رأسه في شباك صرف التذاكر، ويقبض بعض الجند على رأس الرجل من الداخل بينما يلهب آخرون ظهر الرجل بالكرباج من الخارج.
وفي قنا ألقى قائد الجيش أمراً يقضي بإلزام جميع المصريين بتحية كل ضابط بريطاني يمر بالشوارع وقوفاً والتسليم عليه سلاماً عسكرياً، ولكن رفض القضاء وأعضاء النيابة الأمر وأبلغوا العدل أنهم سيلزمون منازلهم حتى لا يؤدوا مثل هذه التحية إلى الضباط الإنجليز. وقد كان موقفهم مدعاة لإلغاء هذا الأمر.
وفي 10 إبريل شكل الموظفون لجنة للنظر في الموقف وقررت الإضراب حتى تجاب المطالب الآتية:
1: أن تصرح الوزارة بصفة الوفد الرسمية.
2: أن تشكيل الوزارة لا يفيد الاعتراف بالحماية.
3: إلغاء الأحكام العرفية وسحب الجنود الإنجليز من الشارع، وقد قبلت الحكومة أكثر الطلبات ولكن المندوب السامي لم يوافق.
ولما لم تجب المطالب الموظفون، وقد حاول رشدي باشا تسكين ثائرة الأمة فأصدر منشوراً يدعوها إلى الهدوء والسكينة ويطلب إلى الموظفين العودة إلى أعمالهم حتى تسير دفة الحكم.
ولكن المنشور لم يشر بتاتاً إلى مطالب الأمة ولذلك لم ينفذه الموظفون وواصلوا إضرابهم. وقد هددهم رشدي باشا في منشور آخر بتاريخ 15 إبريل ولكنهم لم يأبهوا لتهديده.
وقد ادعت الصحف الأجنبية أن هذه الحركة تقوم بها قلة من المصريين هم طائفة(969/34)
الموظفين وكان الرد على ذلك اجتماع أكثر من 80 ألفاً من جميع طبقات الأمة في الأزهر برياسة الشيخ الأكبر محمد بخيت وفيه تقررت مشاركة جميع الطوائف للموظفين في الامتناع عن العمل حتى تجاب المطالب.
وقد أضربت جميع الطوائف في اليوم التالي فأصبحت المدينة وكأن ليس بها أحد. وقد اشترك الكناسون في الإضراب فامتلأت القاهرة بالقاذورات.
وقد قرر الطلبة تأليف بوليس وطني ولكن الحكومة قررت منعه، وكانت لجنة الوفد المركزية تواصل أعمالها بهمة ونشاط وتجمع التبرعات التي أقبل الناس عليها إقبالاً عظيماً ولكن هذا العمل لم يرق في عين الإنجليز فأصدر المندوب السامي أمراً حظر فيه جميع هذه التبرعات.
وفي 20 إبريل جاء عيد الفصح فتجلت الوحدة المصرية قوية رائعة فقد توجه المسلمون إلى دور إخوانهم الأقباط مهنئين بالعيد ورد الأقباط الزيارة لإخوانهم في المساجد.
ولم تستطع وزارة رشدي تسير دفة الأمور في مصر وظلت الأحوال مضطربة والأمة ثائرة. واضطر رشدي باشا إزاء ذلك إلى الاستقالة 21 إبريل.
وكان عمر وزارته تلك اثني عشر يوماً.
أبو الفتوح عطيفة(969/35)
رسالة الشعر
من وحي النار والدخان
للأستاذ علي الصياد
أشعلوها جنهما تسحق العا ... دي وتصليه في لظاها النارا
أشعلوها وحطموا صنم الظلم ... وعيشوا في أرضكم أحرارا
واغسلوا بالدماء أرض الفراعين ... من العار وامتطوا الأخطارا
إنما انتموا زبانية الحق ... فمن رامكم يلاقي الدمارا
يا ذئاب التاميز إنا أباة ... قد صحونا نبيد الاستعمارا
وشينا على جناح المنايا ... وبليل الخطوب صرنا نهارا
مصر حواؤنا الرءوم فمن ... يرضى لحوائه الأذى والعارا
نحن في حومة الكفاح سمير ... يتحدى المستعمر الغدارا
كل قلب دماؤه ثورة ... ألهما الله بطشه القهارا
حسبنا أننا إذا ما طغى ... الأعداء أمامهم أقدارا
يا خفافيش الغرب مهلا ففجر ... النيل أضحى يفجر الأنوارا
إنه فجرنا الطليق أبى قيد ... الليالي فشع يطوي الإسارا
ومضى في الوجود يجتاح آفاق ... الدياجي مظفرا جبارا
أينما طرتمو رأيتم له بين ... الورى برقا يخطف الأبصارا
أيها المستبد في أوطان ... مصر مهما طغيت للسودان
وحده الله بيننا وسقانا ... سلسل الود والهوى والحنان
وعلى قمة الزمان بني ... أوج علانا موطد الأركان
وإذا شيد الإله بناء ... عجزت دونه قوى الإنسان
أيُها المستبد نحن لدات ... لم نحل بيننا يد الحدثان
سائل المشرقين عنا فأنا ... أمة لن تلين للطغيان
جدفت بالأرواح في لجج الموت وصارت مجنونة الأيمان
تتخطى اللجات باطشة بطش المقادير بين عصف الهون(969/36)
هما في مجازر الدم أن تقتات بالخلد في حمى الرحمن
هذه ثورة القنال أَذاقتك المآسي كئيبة الألوان
قد مشينا فيها على النار نختال وكنا كالماء في النيران
وعلى صفحة الزمان رسمنا ... باللهيب الفخار رغم الزمان
كيف ننسى الطفل النبيل الذي جن فأسقاك علقم الخسران
حين شق الدجى وبين يديه آماله العذب الحسان
إن يكن مات فهو بين سموات العلا خالد خلود المعاني
إنما مصر جنة العلياء ... قد سقاها الأسلاف أغلى الدماء
فْما المجد في رباها وريفا ... تتشهى مداه شهب السماء
وعلى أرضها الندية أدواح المعالي فواحة الأشذاء
نحن رعيانها العماليق لن نرشف النوم في جناز الضياء
سنبيع الأرواح بالذود عنه ... ونرويها من دم الشهداء
أنت يا مصر في دجى محراب نصلي صلاة الفداء
نشتري بالفناء في ساحة الحرب خلود الخلود في كبرياء
النهايات في الفخار بدايات ... لنا في معارك الهيجاء
والبطولات كلها في دمانا ... عزمات مسعرات المضاء
كيف نخشى العدا ونحن قوى الحق وما الحق غير سيف القضاء
قوة الحق قوة الله في الأرض قبشر أعدانا بالفناء
شعراء الكفاح يا أمل النيل ويا مشرق المنى والرجاء
أطلقوا في الوغى شياطينكم تلهب بالشعر أنفس البسلاء
إن ما في بلادكم من جحيم الجور يذكي مصاهر الشعراء
رب جيش يقوده شاعر يبنى صروح العلا على الأشلاء
علي الصياد
من ليبيا إلى مصر(969/37)
لشاعر ليبيا الأستاذ أحمد رفيق المهدوي
يا مصر هذا أوان المجد فاتحدى ... وجاهدي في سبيل واجتهدي
يا مصر ما ظهر الإسلام منتصرا ... إلا بما كان في بدر وفي أحد
الحق بنصره صبر وتضحية ... لا خوف من قلة الأعداد والعدد
والله لو صدقت في الذود عزمتكم ... لما افتقرتم إلى عون ولا مدد
إن صح عزمكم فالكون يقهره ... فرد، ولم يعتمد يوما على أحد
أما لكم أسوة في نهج قائدكم ... (محمد) حينما جاءوه بالفند
إذ قال للقوم لا والله لو هلكت ... في مطلب الحق روحي عنه لم أحد
وليس عنكم بخاف إن ذكرت لكم ... (عندي) وتصميمه تصميم معتقد
وعندكم بين أيديكم (مصدق) إذ ... امضى إرادته في جرأة الأسد
ولست أحتاج للأمثال أضربها ... فإنكم فوق من يدعى إلى رشد
أنتم بنو العرب الأمجاد ينصركم ... بنو الفراعين فاشتدوا يدا بيد
أنتم بنو مصر والسودان ضمكما ... جسم وأنتم له كالقلب والكبد
ذودوا عن النيل ولتجر (القناة) دما ... كالسيل يدفع بالغثاء والزبد
(لكم عزائم رأي لو رميت بها ... عند الهياج نجوم الليل لم تقد)
يا أهل مصر وأنتم أهلنا ولنا ... عن القرابة ما للأم والولد
نحن الفداء لكم، والله يشهد ما ... بتنا بما نابكم إلا على كمد
وحبنا مصر كالإيمان موضعه ... من القلوب مكان النبض والورد
قلب العروبة يشكو ما ألم به ... فكيف لا يتأذى سائر الجسد
عار على دول في الشرق يجمعها ... دين، وتشقى برأي غير متحد
أما كفى ما لقينا من تخاذلنا ... أمام شرذمة من سفلة فسد
ألم تعظنا فلسطين التي ذهبت ... ضحية الخلف والتسويف واللدد
ألم نزل من خداع (الحيزبون) على ... جهل نؤمل في إنصافها لغد
عدوة الشرق والإسلام ما فتئت ... تفت بالدس والتفريق في العضد(969/38)
كم من مفاوضة أفضت إلى فشل ... وكم معاهدة خابت ولم تفد
ما خلفهم غير خلف للوعود ولا ... ميثاقهم غير نفث الغش في العقد
لا تؤمنوا بدفاع قيل مشترك ... فإنه شرك (من ينخدع يصد)
يا أمة الشرق إن الغرب ليس له ... هم سوى وضعنا بالقهر في رمد
وما لنا عندهم في (الكتلتين) سوى ... شر على أيد الأيام مطرد
شر (الشيوعية) الحمراء إن حكمت ... كشر حكم (الديمقراطية) النكد
مذاهب محدثات كلها بدع ... فيها من الضعف أهداف لمنتقد
كل المذاهب (والإسلام يكسفها) ... لم تخل نظرتها لنا منهم من رمد
فما لنا من صديق غير أنفسنا ... ولا اعتماد لنا منهم على أحد
ولا معاهدة إلا إذا كتبت ... بنودها بمداد الصارم الفرد
فأرثوها عن الباغي مسعرة ... بكل أروع في ساح الوغى تجد
كنانة الله من أشبالها نثلت ... سهما أصاب عدو الله في الكبد
تقوضت دولة المستعمرين وقد ... (أخنى عليها الذي أخنى على ليد)
قد صورت أسدا رمزا لسطويتها ... فعاد رمزا على جدي من النقد
فلا يهولنكم من شحمه ورم ... (فإنه الهر يحكي صولة الأسد)
الشك في النصر كفر سوف يتبعه ... يأس هو الموت من جبن إلى الأبد
لاشك في النصر إن صح التآزر من ... شعب على الحق بعد الله معتمد
بنغازي - ليبيا
أحمد رفيق المهدوي(969/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حول اللغة الأجنبية الأولى:
أجبت الأستاذ اليماني أحمد السكري الذي سألني في العدد الأسبق من (الرسالة) عن قرار معالي الدكتور طه حسين باشا الخاص بتعليم اللغات الأجنبية في المدارس المصرية والذي ينص على أن تختار اللغة الأولى من اثنين: الفرنسية والإنجليزية: هل يكفل للشعب الحرية المطلقة في اختيار اللغة الأجنبية الأولى التي يريد أن يتعلمها؟. . أجبت عن ذلك بأننا نجني من هذا القرار زحزحة اللغة الإنجليزية عن مكانها الذي اتخذته لدينا بقوة أهلها الاستعمارية، وهذا كسب كبير لأنه تحرر من أثر استعماري من هذه الآثار التي يكافح الشعب في هذه الآونة للتخلص منها.
ولم يخف على أن السؤال يلف في طياته أمراً آخر أو سؤالاً آخر وجه إلى فعلا من آخرين، وهو لماذا قصر اختيار اللغة الأجنبية الأولى على الفرنسية والإنجليزية ولم يشمل اللغتين الأخريين اللتين تقرر تعليمهما وهما الألمانية والإيطالية؟
ويراعي إلى جانب ذلك أن رأي معالي الدكتور طه حسين باشا في تعليم اللغات الأجنبية يتلخص في عدم التقيد بلغة أو لغتين ووجوب التنويع في ذلك بين المثقفين لتستمد ثقافتنا العربية الحديثة من المنابع المختلفة، وقد بسط ذلك في كتابه (مستقبل الثقافة).
إذن لماذا قصر معاليه أمر اختيار اللغة الأجنبية الأولى على لغتين فقط؟
الجواب عن ذلك أن وزارة المعارف ليس لديها الآن مدرسون مصريون تستطيع أن تواجه بهم الحاجة إلى تدريس الألمانية أو الإيطالية أو غيرهما من اللغات الجديدة على التعليم المصري إذا ما اتخذت لغة أصلية، فلابد من التدرج ومراعاة الإمكان حتى بلغ الأمر الذي تتوافر وسائله.
وقد أعد معالي الوزير للأمر عدته فبعث مشروع (مدرسة الألسن) الذي يهدف إلى إعداد مدرسين مصريين لتدريس اللغات الأجنبية، وقد افتتحت المدرسة فعلا هذا العام وبدأت تستقبل الطلبة الذين تقدموا إليها من قسم اللغة الإنجليزية وقسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب. وعندما يوجد طلبة يعرفون لغات أخرى تفتح لهم المدرسة أبواب التعليم فيها، حتى تستكمل(969/40)
ما يهيئها لتأدية رسالتها على الوجه الأكمل.
فالوزير يبدأ بإنشاء مجالات جديدة، ويعمل على سد نقص ناشئ من التقصير في الماضي. ولاشك أن الغايات تحتاج إلى وسائل لابد من توافرها. ولو أخذ برأيه من وقت أن نادى به لأصبح لدينا الآن متعلمون يعرفون مختلف اللغات الحية ولأمكن الآن مواجهة التوسع المطلوب وإتاحة الحرية الكاملة المنشودة.
رسالة الشعر في الكفاح الشعبي
هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها الأستاذ عزيز أباظة باشا يوم السبت الماضي بجمعية الشبان المسلمين بدأها بمقدمة عن كفاح الشعوب قائلاً إن هذا الكفاح يهدف إلى أمرين، الأول الحضارة وهي الرقي الفكري والعلمي والاجتماعي، والثاني الحرية ومقاومة المعتدين عليها من أبناء الشعب نفسه أو من المقتحمين المحتلين. ثم قال إن أهم وسائل الكفاح ما يبعث الشعور ويتصل بالعاطفة، وهو الفنون عامة والشعر خاصة. وقال إن شعر الحماسة هو أقوى أبواب الشعر، ولذلك غلبه أبو تمام على سائر الأبواب إذ سمى كتابه (الحماسة) وساق عدة أمثلة من الشعر العربي مبيناً أثرها في بعث الهمم وإثارة المشاعر.
ثم انتقل الأستاذ بعد ذلك إلى التفات بارع إذ قال إن الشعر أخلد حينا إلى الأرستقراطية واعتزل الشعوب والجماعات، ولكن لم يكن كذلك الشعر وحده، بل كان الناس أيضاً متخلفين عن أهدافهم ضالين في حياتهم، فكما ساروا في ركاب الملوك والأمراء سار الشعر مثلهم وتخلف تخلفهم. ثم أحس الشعراء بحاجتهم إلى التعبير الصادق فاستحدثوا الابتداعية (الرومانسية) ولكن هذه كان عيبها أنها تعبر عن الفرد ولا تهتم بالجماعة. ثم اهتدى الشعراء إلى الابتداعية الحديثة وهي مشاركة الشعر للناس في حياتهم والتعبير عن آلامهم وآمالهم، ووصف الأستاذ المحاضر هذه الابتداعية الحديثة بأنها هي الفن الصحيح.
ومما قاله عزيز باشا في هذه المحاضرة القيمة أن الشعر اكتملت أداته الوطنية في العصر الحديث، فكان الشعراء هم الداعين إلى كل إصلاح والسابقين إلى كل دعوة، فقد مهدوا لثورات الشعوب في فرنسا وروسيا وبولندا، ولم يقصر شعراء العرب في هذا المضمار، فكان في العراق الزهاوي والرصافي لم يزل فيه الجواهري والشبيبي. وجال شعراء الشام في ميادين أوسع لغربتهم في المهجر فاكتسب شعرهم ألواناً جديدة وسرى فيه روح القوى.(969/41)
وكان في المغرب أبو القاسم الشابي شاعر الحرية الخالد، أما في مصر فقد ابتدأ كفاح الشعر بالبارودي في الثورة العرابية ثم زكا بشوقي وصاحبيه حافظ ومطران.
ولما وصل باشا إلى الحال الحاضرة ارتفع جرسه وحمى صوته وراح يتحدث عن عدوان جيش الاحتلال على المواطنين وعن كفاح الشباب المجاهد في سبيل الحرية. وكان رفيقاً بالشعراء بل محابيا لهم حين ذكر أنهم يبعثون حركة الكفاح الوطني الراهن ويذكون أوارها بأشعارهم، فالواقع أن الشعر يحاول اللحاق بالركب في وناء وإعياء ولم يكن له أي فضل في إشعال قشة. . .
وقد ألقى الأستاذ محمود جبر قصيدة وطنية تناول فيها بعض الأحداث الجارية تناولاً أثار الحماسة والإعجاب، فكانت هذه القصيدة بمثابة تطبيق للمحاضرة.
ثم وقف الأستاذ محمد سعيد العريان وعقب على المحاضرة فوصف عزيز باشا بأنه شاعر نزل إلى المعركة ليقود للشعراء وسماه (قائد الشعراء) وقال إننا نتطلع بعد ذلك إلى أن يخرج الشعراء من مرحلة (التسجيل) إلى طور القوة الدافعة. نريد أن يدعوا (كان وكان) ويقولوا افعلوا واعملوا. . . وخلص من ذلك إلى دعوة الشعراء إلى التطبيق العلمي، وأعرب عن انتظار الجامعة الشعبية التي تنظم هذه المحاضرة، ما يقول الشعراء ليقدمه إلى الناس في القريب إنتاجاً عملياً. وأذكر بهذه المناسبة أن الأستاذ العريان يتولى الآن منصب المدير العام المساعد للجامعة الشعبية.
شعر المناسبات الشعبية الحديثة:
كدت أنسى القسم الثاني من رسالة الشاعر العراقي الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري التي نشرت قسمها الأول وعلقت عليه تحت عنوان (الشعر الغنائي) في عدد مضى من (الرسالة) وقد ذكرتنيه محاضرة الأستاذ عزيز أباظة باشا التي سبقت خلاصتها. يقول الأستاذ الناصري في رسالته إلى:
(. . . ثم تقول إن الشعبية هي أن تجاري المجتمع في آلامه كما فعل على طه حين نزل إلى الشعب وتغنى بإحساسه في أروع قصائده كالقصيدة التي خلد بها أبطال الفلوجة وقصيدة (أخي أيُها العرب) التي غناها عبد الوهاب. وأنا أقول لك: هذا شعر يسمى شعر المناسبات فإذا كان المرحوم نظم في مأساة فلسطين قصيدة أو قصيدتين فأنا - ولا فخر -(969/42)
قد ألهمتني تلك المأساة المؤلمة ديوانا أسمتيه (صوت فلسطين) ورغم ذلك فأنا لا أعتبر هذا الشعر فنا خالدا لأنه مناسبات وأنا من ألد أعداء المناسبات مهما كان نوع المناسبة، لأنني أعرف أن الحياة عندنا تمر وأن التاريخ عندنا يطوي صفحاته يأتي ما قبل في المناسبات السياسية بمؤخرة القول، لذا أن شعر الوجدان والعاطفة يخلد أكثر من خلود باقي الشعر، بديل أن حوادث كثيرة مرت بإنجلترا وفرنسا وألمانيا ولكن لم يخلد ما قيل فيها يقدر ما خلد شعر بيرون وشلي وكينس ولامرتين وهوجر ودي موسيه. ولو فتشنا في تاريخ العرب الأدبي لوجدنا أن كثيرا من الأحداث السياسية قد مرت ومر ما قيل فيها ولم يخلد إلا شعر أمثال الأعشى والأخطل وابن أبي ربيعة وأبي نؤاس وابن الأجنف والبحتري وابن الرومي وصريع الغواني، وحتى في العصر الحديث نجد جل الشعراء كشوقي وحافظ والبارودي ومطران لم يعرفوا بشعر السياسة والمناسبة بقدر ما عرفوا بشعر الوجدان. فهل بعد هذا تقيم وزنا لشعر المناسبات الذي لا يصدر إلا عن دافع رسمي أو واجب ولي بدافع عاطفي صرف؟)
وأنا حقاً لا أقيم وزناً لشعر المناسبات الذي يصدر عن دافع من خارج النفس، ولكن ليس هذا الشعر هو الذي ندعو أليه، وما أظن ما قاله الناصري في (صوت فلسطين) من هذا القبيل وأعتقد أن قصائد المرحوم علي طه ليست منه أيضاً. فإذا كان المقصود بشعر المناسبات ما يقال للمجاملة أو الملق وما يتخذ أحبولة لصيد المنافع أو للاستجداء فإننا لا نعد هذا من الأدب (المحترم) في شيء. أما ما تنفعل به نفس الشاعر إزاء أحداث الجماعة ومسائلها ويفيض به خاطره شعرا أو نثرا فهو أدب خالد ما في ذلك شك. وهو لا يخرج عن نطاق العاطفة والوجدان بل أن العاطفة هنا أرقى من العاطفة الفردية. وليس الخلود مقصورا على العواطف الفردية، بل إن التعبير الصادق عن عواطف الجماعة أحق بالخلود وأجدر بالاعتبار لما فيه من اندماج الشاعر أو الكاتب في بيئته وإحساسه بها. وليس ما قاله الأستاذ الناصري عن الشعراء الذين سماهم مسلما به، وليس ما قاله الأستاذ الناصري عن الشعراء الذين سماهم مسلما به، فكثير منهم قال في أحداث الجماعة أروع شعره وأخلده. على أنني أعتقد أن مدار الأمر على صدق الانفعال، فل الأدب الصادق لا ينظر هل هذا اللون من القول خالد فيقول فيه وهذا غير خالد فيتجنيه، وإنما هو يقول ما يمليه خاطره،(969/43)
وليسلكه من شاء فيما يشاء.
على أن الأدب الصادق الأصيل الذي يصور روح العصر. وعصرنا الحالي هو الشعوب والجماعات التي تكافح الطغيان الفردي لتأخذ حقها في الحياة، والأدب من أسلحة هذه المكافحة أو هو أهمها، ولست أوافق الأستاذ الناصري على ما ختم به رسالته إلى من ازدراء الشعب، أي شعب، لأنه ذليل خانع، وقد ضربت صفحا عن العبارات إبقاء على ما بين الشاعر ومواطنيه.
إن الشعوب التي ران عليها الظلم والاستعباد والإهمال أحقابا طوالا فتركت بها آثارها أفسدتها - هذه الشعوب أحق بخدمات الأدباء من أبنائها للدعوة إلى تنظيفها وترقيتها، وإلى هذا المجال يدعي الأدب الجديد.
عباس خضر(969/44)
البريد الأدبي
رحم الله الدكتور زكي مبارك
في مساء يوم الأربعاء الماضي انتقل إلى رحمة الله الدكتور زكي مبارك. أدركته المنية على أثر كبوة شديدة شجت رأسه ورجت مخه، ففقد كاتبا من كتاب الطليعة له جهاده الطويل وأسلوبه الجميل وأثره الباقي، كان رحمه الله من الأدباء القلائل الذين شقوا طريقهم في الصخر بالعمل الدائب والدرس المتصل والتحصيل المستمر. ثم قضى زهرة عمره في التعليم والتأليف والكتابة على خير ما يكون العامل الصادق من المثابرة والجد. فلو أنه انتهى كما ابتدأ لكان له في تاريخ الأدب والفكر شأن غير هذا الشأن. ولكن عوائق من طبيعته اعترضت طريقة الوعر فلم يبلغ الغاية التي هيأه لها اجتهاده واستعداده. هذه العوائق نفسها هي التي جعلته آخر الأمر يعفي طبعه ويوفر جهده، فلا يكتب إلا عفو الساعة وفيض الذاكرة. على أن له من المؤلفات القيمة والمقالات الممتعة ما يثبت اسمه في سجل الخالدين.
وكان رحمه الله من المخضرمين المخلصين الذين ربطوا الجديد بالقديم، ووصلوا الشرق بالغرب. وكان لهذه الطبقة الفضل العظيم على النهضة الأدبية بما وطدوا من أساس وأقاموا من قواعد وحققوا من توازن. وبهذه الميزة كان للفقيد الكريم نصيب في بناء مجد الرسالة حينا من الدهر.
جزاه الله على ما قدم أحسن الجزاء، وعزى عنه أهله وصحبه خير العزاء.
في كتاب الديارات للشابشني
نشر الأستاذ كوركيس عواد كتاب الديارات للشابشني وطبع أخير في سنة 1951 ميلادية ببغداد. والكتاب في غنى عن التعريف، وكذلك ناشره الفاضل الذي طالما أمتعنا ببحوثه الأدبية على صفحات الرسالة. ولكن على الرغم من الجهد الذي بذله في التحقيق وقع في أوهام كنت أود تنزيهه عنها، وهذه بعض الأمثلة:
1 - في ص 57 جعل قافية البيت الأول من بيتي أبي العيناء (بالدال المهملة وشرح الكلمة بأنها (أد الأمر أثقله وعظم عليه) وهذا من أعجب ما رأيت من الأوهام، فالكلمة بالذال المعجمة من الأذان، وذلك كما جاء في ص 127 من ديوان علي ابن الجهم طبع المجمع(969/45)
العلمي بدمشق سنة 1369 إذ قال من قصيدة (الله أكبر الخ. .) وفي الهامش أن مروان بن أبي الجنوب قال لما ابتدأ على قصيدة بهذا المطلع - ثم ذكر البيتين اللذين نستهما الشابشني إلى أبي العيناء. ولو تأمل الأستاذ كوركيس لرأي البيت الثاني يذكر الإقامة والطهر وهما مستلزمات الأذان. ومطلع الأذان الله أكبر وهو مطلع قصيدة علي ابن الجهم؛ فالكلمة إذن (فأذنا) بتشديد الذال المعجمة وليست بالمهملة وهم الأستاذ الناشر.
2 - ذكر في ص 29 الحاشية 10 أن يوم الشك هو اليوم الثلاثون من شعبان إذا غم الهلال بعد تسعة وعشرين يوماً من شعبان ولو كان اليوم المذكور أول يوم من رمضان لما كان هناك أدنى شك ولوجب صومه.
3 - في ص 24 الحاشية - 2 ذكر أن الحد تأديب المذنب، وذلك عند الكلام على معنى (فجلدها حدا) مع أن المراد هو حد القذف وهو أحد الحدود الستة التي نص القرآن الكريم على بيان عقوبتها وأنها ثمانون جلدة. وهناك فرق كبير بين الحد في القذف وبين التعزير الذي يقصد منه تأديب المذنب.
هذا بعض قليل مما في الكتاب - وإذا اتسعت لنا صفحات الرسالة نفذناه إن شاء الله نقداً وافياً يستوعب أوهامه وأخطاءه المطبعية مع الإشارة إلى كثير من الأبيات التي وردت مختلة الوزن وغير ذلك - على أن كل هذا لا يمنع من تقدير الأستاذ الناشر على مجهوده الرائع الذي بذله في تحقيق هذا الكتاب وطبعه لأول مرة وإضافة هذه الدرة إلى عقد المطبوعات العربية الخالدة.
عبد السلام النجار
هنات عروضية
في الظلام الرهيب. . في غفلة الدهر. . في يقظة الدم المخمور في انتفاض الغصون في عاصف الريح، في فورة اللظى المسجور زهرة النيل. . وابنة الشاطئين. . ونجوى الحمام للصفصاف وتهادي النشيد. . في مزهر الأفق في هدأة الليالي الرهيبة حان يوم الخلاص فابسط ذراعيك للأفق للسماء الرحيبة في الأبيات السالفة من قصيدة (قصة الحرية) للأستاذ محمد فوزي العنتيل هنات عروضية تحتاج إلى تصويب طفيف، كما تحسن مبنى كما(969/46)
حسنت معنى.
صارو
من عيوب القافية:
حتى إذا بلغت به أقصى المدى ... وإنجاب عنه ركامها المتلبد
. . هذا بيت ورد في قصيدة الأستاذ عثمان حلمي بالعدد (955) من الرسالة، وحركة رؤية الضمة مخالفا بذلك سائر أبيات القصيدة إذ هي مكسورة الروى، واختلاف (المجرى) بالضم والكسر - كما هنا - عيب من عيوب القافية يسمى (الإقواء). . . فهل يجد الأستاذ حلمي مقيلا من هذا العيب في البيت؟ وهل له أن يصلح هذا الشطر:
. . (يجري وما تدري النهى المقصد). في القصيدة نفسها!
يصمد ليست بمعنى يثبت
شاع التعبير بهذه الكلمة (يصمد) في الدلالة على معنى الثبات. وهذا هو الأستاذ قطب في العدد (966) يقول: (أمكن أن تصمد للاستعمار) وسياق حديثه يشعر بإرادته للمعنى المذكور، ولكني أقرر أن (يصمد) بمعنى يقصد والصمد بسكون الميم القصد، ومن معانيه الضرب والنصب كما في القاموس المحيط، والصمد والصمد بفتح الميم السيد لأنه يقصد، وفي تفسير الكشاف المزخشري: (الصمد) فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده، هو المصمود إليه في الحوائج. .
هل التلاشي بمعنى الضياع؟:
إنني أسائل فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت، هل وردت كلمة (التلاشي) في اللغة العربية بمعنى الضياع، إذ قد وردت في مقالة بالعدد (966) مرادا بها هذا المعنى! وهي كثيرة الذيوع على ألسنة المعبرين، وأقلام الكاتبين، وقد رأيت في القاموس المحيط: (لشا) خس بعد رفعة، فهل يمكن صوغها من الفعل؟ وهل لها وجود في بعض الأحاديث النبوية، والشواهد العربية؟.
محمد محمد الأبشيهي(969/47)
(الرسالة) فعل لا شيء صاغه المولدون من (لا شيء) وهي صياغة لا تقرها أصول اللغة.
التصحيف والتحريف:
سألني سائل في رسالة خاصة: (لقد جاء في كلمتك الأخيرة في رسالة الزاهدة قولك (التصحيف ولا أقول التحريف). فهل ثم فرق بين التصحيف والتحريف)؟
وإني إذ أشكر للسائل الفاضل سؤاله واهتمامه بلسان العرب ولغة القرآن أرجو أن يتفضل فيعلم أن (التصحيف غير التحريف) وإن كان بعض الكاتبين بجمع بينهما على معنى. .
فالتصحيف مصدر صحف أي أخطأ في الكلمة - كتابة أو قراءة أو الرواية - لتشابه وتجانس في صورة كلمتين واختلاف في النقط. ولقد رقع التصحيف منذ قديم في كلام بلغاء العرب ورجال الأدب وأشعار القدامى وسائر الأمثال حتى أن أبا عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني وضع في ذلك كتابا سماه (التنبيه على حدوث التصحيف).
وأمثلة التصحيف بالنقط أكثر من أن تحصى، ومن أطرف التصحيفات التي تذكرها التواليف ما قيل من أن جماعة من المخنثين كانوا في المدينة في خلافة سليمان بن عبد الملك الأموي فأرادوا أن ينفيهم منها فكتب إلى عامله فيها - وكان وقتذاك أبا بكر عمر بن حزم - أن (أحص) من عندك من المخنثين. وصادف أن نقطة من السطر الأعلى من كتاب الخليفة وقفت أو وقعت فوق الحاء من لفظة (إحص) المهملة فصارت (إحص) بالمعجمة، فما كان من أبي بكر إلا أن خصاهم أجمعين.
وكذلك يقع التصحيف من تشابه رسم الحروف وهو من آفات العربية. وفي ذلك يقول البيروني في كتابه (الصيدنة) (ولكتابة العربية آفة عظيمة هي تشابه صور الحروف المزدوجة فيها! واضطرها في التمايز إلى نقط المعجم، وعلامات الإعراب التي إذا تركت استبهم المفهوم منها. .) الخ.
جاء في لسان ابن منظور في مادة (سوف). السواف بفتح السين: الفناء وفي القاموس السواف كسحاب: القثاة فأين الفناء من القثاء؟ ولكنه التصحيف يقع فيه القاموس ويسلم منه اللسان لينقلب الفناء قثاء كما انقلب المخنثون خصيانا!.
ومما أذكر في هذا الباب ما جاء في تعقيب لي على كلمة لإمام العربية المحقق المدقق(969/48)
المرحوم إسعاف النشاشيبي قس تحقيقه لكتاب (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وتصحيحه لفظة (الأدب) من (والأدب من ذي الغيبة) إلى (الغنم) ثم تعقيبي (والأدب من ذي الغيبة) بالواو وهو الأصل الذي صحف عنه (الأدب) واستحسانه - رحمة الله - التعقيب والتصويب شاكراً ومقدورا في قوله: (لا ريب في أن أصل (والأدب من ذي الغيبة) والدليل على ما ذهب إليه أنت قريب وإن تباعد مني، فإن الناسخ القديم البارع (سامحة الله) استبدل بالواو دالا ثم جاء الطابع فطبع)
وأما التحريف فهو وقوع اختلاف في الحركة أو السكون مع تشابه أحرف الكلمة في النوع والشكل والعدد والترتيب.
فلفظة (الحب) مثلاً تأتي الكسر على معنى المحبوب والمحب، وبالفتح البزر المعروف، بالضم الجرة الضخمة. فاختلاف الحركة - كما ترى - نتج عنه اختلاف المعنى اختلافا واضحا ووقوع القارئ أو الكاتب أو الراوي في مثل هذا الاختلاف هو المقصود بالتحريف حركة أو سكونا. . .
وقد يجتمع التصحيف والتحريف معا في الكلمة الواحدة فيزيد الكشف سوء كيلة، والطين بلة، والداء علة. مثال ذلك ما ورد في القاموس في مادة (برقش) (أبو براقش طائر صغير يرى (كالقنفذ) والخطأ بالتصحيف ظاهر في لفظة التشبيه لا يحتاج إلى تنبيه. والصواب (كالقنبر) ذلك لأن القنفذ ليس بطائر باثنين حتى يشبه طائر به، وإنما هو دابة تدب على أربع. (راجع المقتطف39: 488 في أبي براقش)
وبعد: فمجمل القول في التصحيف والتحريف أن التصحيف يكون أكثر ما يكون باختلاف الحرف واختلاط النقط إهمالا وإعجاما، وأن التحريف يكون باختلاف الحركة أو السكون في الكلمة قراءة أو كتابة أو رواية. وقى الله لسان العرب وأصحاب القلم من الخلط ومصحفاً ومحرفا والسلام.
الزيتون
عدنان
1 - خطأ قديم(969/49)
كتب الكاتب القدير الأستاذ أحمد محمد بربري مقالا قيما بجريدة الأساس تحت عنوان (خطأ مشهور) أجرى فيه الحوار بينه وبين شيخه على طريقته المعهودة. وقد جاء على لسانه: (ويأتي بهذا النص الذي تقول أنه منعدم)؛ فأتى باسم الفاعل من (انعدام) الذي أقول أنه معدوم. وهذا خطأ قديم وقع في كلام كثير من الكتاب والفقهاء والمتكلمين.
وأغلب الظن أن هذه هفوة من الأستاذ بربري، وإلا فكيف غاب عن شيخه وعنه أن صيغة (انفعل) لا تؤخذ من (العدم) لأنها مختصة بما هو علاجي محس، وواضح أن العدم لا يلمس ولا يحس. وزيادة في الإيضاح ولأن الأستاذ بربري لا يؤمن إلا بما نقل عن العرب وورد فيه نص صريح فإني أحيله إلى قول (المنجد): (ولا يبنى انفعل إلا مما فيه علاج وتأثير، ولهذا لا يقال علمت المسألة فإنعلمت، ولا ظننت الأمر فأنظن لأن العلم والظن مما يتعلق بالباطن وأثرها ليس محسوساً)، وإلى (محيط المحيط) ففيه: (يقول المتكلمون والفقهاء وجد فأنعدم والصواب وجد فعدم لأن الانفعال للعلاج والتأثير، وليس العدم والإعدام في شيء من ذلك كما لا يقال علم فإنعلم).
فكان الواجب عليه أن يقول: (ويأتي بهذا النص الذي نقول أنه معدوم).
2 - خطأ نحوي
جاء في مقال بالهلال (عدد يناير) للدكتورة الفاضلة (بنت الشاطئ) تحت عنوان (الثائرة): (ولم تك النميمة سوى رصاصة. .)، وفي هذا التعبير مجال للقول والنقد؛ لأن من القواعد المتقررة أنه لا يصح حذف النون من (يكن) إذا وقع بعدها ساكن؛ ولهذا ثبتت في قوله تعالى: (لم يكن الله ليغفر لهم)، وقوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)، وأما قول الشاعر:
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
أحمد مختار عمر(969/50)
القصص
خاتمة المطاف. .!!
للأستاذ محمد رشدي
- كثيرة حقا يا صديقي أطايب الحياة وملذاتها. . ولكني لن أترسم خطوط بعد الآن، فاستمتع أنت بأطايبها كيف تشاء، واقتنص من لذائذها كما يحلو لك، وثق أنك ستدفع الثمن في يوما ما. . .
- سحقا لك ولتفكيرك السقيم. . ماذا ترى في صيد ساقه لنا الشيطان، هل ترانا نرتكب جريمة بذهابنا إليها. . لقد رأيتها بعيني رأسك، أنوثة مبكرة، وجسدا ناضجا غضا، وجمالا آسرا خلابا. . تخيل أنك تعصرها عصرا بين ذراعيك، وتضغط صدرها الناهد. . لتتحطم مقاومتك التي لا أجد مبررا لها ويستقيم تفكيرك، فتجد أنك مخطئ في مخاوفك التي ذهبت إليها. . هيا بنا، ولا تكن جبانا رعديدا تخاف أشياء لا وجود لها. إنها تقطن وحدها. . وهي التي دعتني إلى منزلها. . وأنا بدوري أدعوك لمرافقتي. . إن الساعة المرتقبة توشك أن نحين، فهيا. . فالشوق يكاد يقتلني. . .
- وفر عليك مشقة إغرائي. . فلم يعد معسول قولك، وتشويقي، ليفيدا معي. . فإليك عني. . واذهب وحدك، فقد عاد إلى صوابي، وثبت إلى رشدي. . فدعني أكفر عن آثامي التي اقترفتها بسببك. . ليتني دققت عنقك منذ عرفتك. .
- ها. . ها. . ها. . إنك وايم الحق تدهشني كثيراً. . فقد أصبحت عنيدا صعب المراس. . ثق أنك لن تجد الفرصة التي تكفر فيها عن آثامك. سأذهب إذن وحدي، وأتركك لأفكارك، وهي كفيلة بالقضاء على عنادك وإصرارك. . إن اقتناص اللذة أصبح من مستلزمات حياتينا، أنا، وأنت. . فلا تحاول الاستنجاد بإدارة حطمتها عشرون عاماً، قضيتها غارقا لأذنك في الإثم والرذيلة. . .
- وأنت. . . ألا تذكر؟
فتمهل قليلا كأنما يستجمع شوارد ذهنه. . ثم قال. . .
- أجل. . . أذكر. . . أن صورة باهتة لها ما زالت عالقة بذهني. . . لم تكن كهؤلاء اللائى عرفتهن. . قد باعت جسدها لمن سبقني ودفع الثمن. . . كانت نقية طاهرة الذيل(969/51)
إلى أن عرفتني. . .
- إنك معدوم الضمير. . . لقد دقعتها إلى التخلص من ثمرة فعلتك المنكرة ثم قضيت عليها بقسوتك وإعراضك. .!!
- نعم. أخبرتني بذلك. ولكن ما شأني بذكريات أدراجها تعاقب السنين في لفائف العدم، وتراكم عليها غبار تسعة عشر عاما انقضت. لقد مات الماضي يا صديقي، فدعنا منه. . وإلى اللقاء عند (سلوى) الراقصة الحسناء. .
- لتذهب إلى الشيطان، فلن نلتقيا ثانية. . لقد عقدت العزم على الرحيل بعيدا عنك. .
- كما يحلو لك. . آه. . . نسيت أن أترك لك العنوان.
وانتزع من مفكرته ورقة قذف بها إلى صديقه وهو يتابع في برود وعدم اكتراث:
- هاك العنوان. . وحذار أن تتأخر كثيراً، فسنكون في انتظارك. . .
وغادره وصدى ضحكاته الساخرة يرن في أذنيه. . .
وصاح (جلال) به يستمهله. . ولكن صوته لم يصل إلى سمعه. . فاختطف معطفه وغادر المنزل بدوره.
. . . وهناك على الفراش. . كانت الفتاة مستلقية في استرخاء، وقد ارتدت غلالة رقيقة، يشع من تحتها بريق الفتنة الطاغية، وسحر الجسد البديع التكوين، وعبق جو الحجرة برائحة عطر نفاذه تدبر الرؤوس، وتخدر الأعصاب. . وعلى قيد خطوة من الفراش، وقف (كمال) بقوامه الفارع، وجسمه الرشيق الفتى. . برغم أنه يحمل كاهله عبء أربعين عاماً سلخها من حياته. .
ونهضت الفتاة في استرخاء محبب، ولم تلبث أن قفزت من الفراش في رشاقة وخفة، وطبعت على شفتيه قبلة خاطفة، وأسرعت بالابتعاد قبل أن تنطبق عليها ذراعاه، ويهصر عودها الرطب بين أحضانه. . وراحت تنثني وتنفرد أشبه بحية تتلوى وهي تدور في الحجرة راقصة منتشية، وقد لمعت عيناها ببريق عجيب. . .
وفارق (كمال) ثباته، وثارت مشاعره، واستيقظت غرائزه البهيمية فراح يضيق عليها الخناق حتى تمكن من الإمساك بها. . . وجذبها إليه في عنف، ورغبة جامحة. . فكاد يحطم عظامها. ولكنه ما عتم أن تراخت ذراعيه، وتخلى عن الجسد الغض الطري الذي(969/52)
كان يدفئ أحضانه. . واستقرت نظراته الملتهبة على تلك الدميمة الجميلة التي ابتدعت على عجل، ولاذت بالحائط ترتعد كريشة في مهب ريح صرصر عاتية. وتمالك واستجمع أشتات أنفاسه. . واقترب منها مترنحاً أشبه بسكير شرب حتى طفح وقد امتدت ذراعاه المتخاذلتان، محاولا أن ينال عنقها، فيزهق روحها الخبيثة. ولكن قواه خانته، وتخلت عنه، فهوى يتلوى من الألم وقد ندت عنه صرخة قهر وكمد.
ودبت الحركة في جسد الفتاة الجامدة. . فاندفعت إلى الأمام تصرخ في صوت مختنق متحشرج، وقد أذهلتها رؤية الدماء. . فتلقفتها ذراعان خارج الحجرة، وعادت بها إلى الداخل. . وارتفع صوت (جلال) يسأل في عجب: ماذا حدث يا. . .؟! بيد أن الكلمات ماتت على شفتيه، واتسعت حدقتاه فزعا وهو يرى صديقه منكفئا على وجهه وقد غاص بين كتفيه خنجر حتى مقبضه. .
وتهافت (سلوى) على الفراش مضعضعة الحواس، خائرة القوى ودفنت وجهها بين راحتيها، وقد شملت بدنها رعدة عنيفة. . وراحت تهذي كالمحمومة:
- لقد قتلته. . أجل قتلته يا أماه. . فلعلك الآن راضية في مثواك الأخير. . كانت رغبتك أن أنتقم لك، وها قد انتقمت. . فأنهضي لترى أي منقلب ذلك الفاسق. . . لقد غرر بك، وتركك تنوئين بعبء العار والفضيحة تسعة عشر عاما، قضيتها في عذاب مر أليم. . . لقد ظلت صورته منطبعة في ذاكرتي من خمس سنين مضت منذ آخر لقاء كان بينكما، حين انهال عليك ضربا في قسوة ووحشية وغادرك، مقسما أنك لو عدت إليه ليقتلنك شر قتلة، ولكنك لم تكوني في حاجة إلى العودة إليه، فقد فاضت روحك في تلك الليلة، وتركني فتاة لم تتجاوز الخامسة عشر بعد. . لا يعرف ذلك العربيد عنها شيئا، ولا يعلم بوجودها. . . فأقسمت أن أنتقم لك منه، ولو كرست حياتي كلها لذلك. . . ولقد فعلت. . . فليرحمني الله. . .!!
وزاد ارتعاد جسدها، وعلا صوت نحيها المؤلم، ونشيجها المكتوم. وانبعث صوت واهن، كأنه آت من أغوار سحيقة، فيه مرارة وفيه تساؤل وعجب:
- سلوى. . . ابنتي
ولكن القضاء لم يمهله، ولم يتريث به ليقول شيئا آخر. . . فسكنت حركته إلى الأبد.(969/53)
ورددت جنبات الحجرة دقات حزينة منتظمة، كانت أشبه بأجراس قوية تدق في ذلك المكان الرهيب. . . تعلن بأن الليل قد انتصف.
واقترب (جلال) من الجثة المسجاة. . . وانحنى على الجسد العاني فحمله بين ذراعيه، وتريث قليلا ينظر إلى الفتاة، وقد انحدرت على خده دمعة كبيرة. . . وقال في صوت متهدج برج به الثأر:
- لقد انتهى. . مات صديقي. . . ولكنه منحني الفرصة التي أكفر فيها عن آثامي. . فأنا ذاهب، أجل ذاهب لأنال الجزاء. . فما احقني به منك.
وتنفس عميقا، وكأنما أزيج عن عبء ثقيل. . . ثم دار على غادر الحجرة بحمله الثمين. .!!
دمنهور
محمد رشدي(969/54)
العدد 970 - بتاريخ: 04 - 02 - 1952(/)
بداية النهاية
للأستاذ سيد قطب
أيا كانت الظروف والأحوال، فإن الاستعمار الغربي قد بدأ نهايته. بدأها في كل مكان، وبخاصة في العالم العربي الإسلامي الذي يصطدم بالاستعمار اليوم في جبهات متفرقة، ولكنها كانت متصلة. . يصطدم به اصطداما ظاهراً واضحاً في مصر، وفي تونس، وفي مراكش، وفي إيران، كما يصطدم بهد اصطداما خفياً في العراق وفي سورية. وحركة الجزائر ما تزال مستمرة، وفي هذه الأيام يقع اصطدام جديد على حدود اليمن. . وكلها حركة واحدة للخلاص. . وكلها تشير إلى النهاية المحتومة رغم جميع الظروف والأحوال.
ولقد كانت فرنسا تصطدم بالشعب التونسي وتسلط عليه الحديد والنار، وفي الوقت الذي تصطدم فيه إنجلترا بشعب الوادي وتسلط عليه الحديد والنار. . . نفس الوسائل، ونفس الأهداف، ونفس العقلية: عقلية الاستعمار، وعقلية المكافحين ضد الاستعمار.
إنها لم تعد حركات وقتية متقطعة محلية، تخمدها هجمة هنا وهجمة هناك. . إن الشعوب بأسرها تندمج في هذه الحركات التحررية. وبذلك تصبح هذه الحركات قوة تمثل اتجاه الزمن، وتشير إلى إرادة الله في الأرض، وتستمد الوقود من الشعوب لا من الأفراد. . وهيهات هيهات أن تقف القوة ضد اتجاه الزمن، وضد إرادة الله. .
ولقد كان الاستعمار يلجأ دائماً إلى الهيئات الحاكمة في كل بلد مستعمر، فيستعين بها الشعوب بها على الشعوب؛ ولكن الهيئات الحاكمة لم تعد تملك أن تقف في معزل عن حركة الشعوب. . وها نحن أولاء نرى مصداق هذا القول في مصر وفي تونس على السواء.
ففي مصر كانت حركة إلغاء المعاهدة تلبية مباشرة لضغط الشعب. . ولقد تغيرت الوزارة وجاءت وزارة سواها، فكان أول تصريح لرئيس الوزارة الجديدة هو السير في نفس الطريق التي رسمها الشعب، وإعلان الأهداف ذاتها بلا تلثم ولا تردد؟ لأن إرادة الشعب الواضحة لا يمكن أن يتجاهلها متجاهل، مهما تغيرت الوزارات.
وكان الحال كذلك في تونس. فالوزارة هي التي تصطدم بالاستعمار هناك، مع الشعب خطوة بخطوة. ورئيس الدولة الأعلى هو الذي في وجه العاصفة، فيعرض قصره للحصار،(970/1)
ويعرض عرشه نفسه للهلاك. . ولكنها إرادة الشعب القاهرة، التي تمثل حركة الزمن، والتي تمثل إرادة الله. ولله غالب على أمره. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وما من شك أن النصر في معركة الحركة سواء وقفت الهيئات الحاكمة مع الاستعمار أو ضد الاستعمار. ولكن وقوف هذه الهيئات الحاكمة في كل مكان بجانب الأهداف الشعبية سواء كان ذلك اختيار أم اضطرارا، هو أمر له دلالته وله معناه. . ومعناه الواضح الصريح: أن حركة التحرير. وأن قوة الشعوب، قد بلغت المرحلة التي تجرف معها خصومها وأنصارها على السواء، والتي تتحكم في الوقوف، وتملى على الهيئات الحاكمة ما تشاء.
ولم يكن إلا هذه الظاهرة ومدها لكفى بها دليلا على قرب النهاية، لتقلص ظل الاستعمار البغيض، الذي دام أكثر مما ينبغي، وعاش أكثر مما تقتضي طبيعته أن يعيش. . ولكن هذه ليست الظاهرة الوحيدة في معركة التحرير. . فالظاهرة الأخرى في المعسكر الآخر هي ظاهرة الضيق والتبرم العنيف بالحركات التحريرية، ظاهرة هياج الأعصاب، وفقدان الصبر، والفزع والقلق والاضطراب. . ولهذه الظاهرة دلالتها على الضعف الذي ينشأ عنه الزعر والهلع. فدولتا الاستعمار الغربي: إنجلترا وفرنسا كلتاهما تعاني حالة من الإفلاس المالي والضعف العسكري، تشير إلى بداية النهاية كذلك. وليست واحدة منهما أو كلتاهما بقادرة على خوض معركة طويلة الأمد مع الشعوب التي لا تفنى. لا مواردهما المالية ولا مواردهما العسكرية تسمح لها بخوض مثل هذه المعركة، في أرض خارجية تفصلها عنهما مئات الأميال؛ لذلك تريدان أن تضربا حركات التحرير ضربة قاضية، سريعة، قبل أن ينكشف ضعفهما، لعل هذه الضربة أن تخلصهما من التكتل الشعبي الذي تصطدمان به كل مكان.
ولكن هيهات هيهات! لقد مضى الزمن الذي كانت الحركات الشعبية فيه لا تزيد على أن تكون فورات وقتية، تطفئها ضربة قوية، أو انقلاب سياسي، أو مناورة دبلوماسية. . لقد استحالت الحركات الشعبية تصميماً شعبياً لا يتزحزح - مهما تغيرت الأحوال - وإرادة واعية تستمد وقودها من رجل الشارع، لا من المفكرين والمتحمسين والزعماء.
ولا أحسب أن إنجلترا أو فرنسا تشك لحظة في النهاية المحتومة! فإن تجارب البشرية كلها(970/2)
معروضة أمامهما؛ وهذه التجارب كلها تؤكد أنه ما من فكرة اعتنقها جمهور الشعب، حتى صارت فكرته الخاصة، أمكن أن تقف في طريقها قوة من القوى، في أي زمان أو مكان. . ولكن الاستعمار إنما يتشبث بمواقع أقدامه ليحصل على بعض الامتيازات الأخيرة في مقابل الجلاء. وحتى هذه الامتيازات قد أدركها الوعي الشعبي، واحتاط لها، وما عاد يسمح بشيء منها على أي شكل من الأشكال.
لقد حرق الاستعمار مراكبه مع الشعوب، بما ارتكب معها من حماقات. وبخاصة في هذه الحركات الأخيرة. ولقد استحال الصراع بينه وبين الشعوب. ثارات مقدسة، وأحقادا عميقة. فما عاد يمكن أن تستجيب الشعوب لأي صوت يدعوها إلى الارتباط بعجلة الاستعمار على أي وضع من الأوضاع.
وكل من يتصور أن الشعوب سترجع القهقري عن موقفها الذي انتهت إليه، تحت أي ظرف، وتحت أية مناورة. . إنما يخطئ في فهم طبيعة الحركات الشعبية، وينسى عبر التاريخ وشواهده. . إن كل خطوة يكسبها الشعب لا يمكن أن يتخلى عنها، لأن حركة الشعب هي حركة الزمن. والزمن لا يرجع القهقري، ولا يتحرك مرة إلى الوراء.
ولقد يخفت صوت الشعوب أحياناً، وتتوارى حركتها. . ولكن هذا ليس إلا ستاراً ظاهرياً لحركات خفية إلى الأمام. حركات تتم في ضمير الشعب، وتنضح في أعماقه، ثم تبدو في صورة فورة جديدة، وقفزة واسعة، يخيل إلى بعض الناس أنها مفاجئة. وليست في حقيقتها إلا امتداداً طبيعياً لم تظهر خطواته، لأنها كانت تتم في صمت، في أثناء فترة السكون.
إنها بداية النهاية، فعلى بركة الله فلتسر مصر، ولتسر تونس، وليسر كل بلد يشتبك اليوم في معركة التحرير الخالدة التي أوقدها الله.
سيد قطب(970/3)
بين الفصحى ولهجاتها
لمعالي الدكتور محمد رضا الشبيبي
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
اجتاز الشرق القريب في الفترة الواقعة بين الحربين الكونيتين الأولى والثانية مرحلة حافلة بالأحداث، اتسعت بنمو الحركة الفكرية؛ ويصح أن تدعى فترة الوعي واليقظة.
امتازت هذه المرحلة بإثارة كثير من الموضوعات حمى فيها الوطيس، وتعددت فيها المعارك، ومنها معركة القديم والجديد في مختلف نواحي الحياة، من سياسية إلى اجتماعية واقتصادية، ثارت بين المجددين والمحافظين أينما وجدوا، وفي مقدمتها معركة اللغة والكتابة العربية واللهجات، إذ ظهرت دعوة ترمي إلى اصطناع هذه اللهجات الإقليمية المحرفة عن الفصحى في بعض أقطار الشرق القريب. وحاول المحاولون أن يثيروا حرباً عوانا على اللغة، ووضعوا في هذا الباب ما وضعوه من كتب ورسائل ومقالات.
يهول بعض المعنيين في هذا الشأن بعنف الصراع القائم بين الفصحى واللهجات المحلية، ويشيرون إلى قيام ضرب من تنازع البقاء بين الجانبين، ويضربون الأمثال من اللغة اللاتينية ولهجاتها، بل من اللغة العربية وأخواتها الساميات على اعتبار أنها لهجات تفرعت من أصل سامي بائد، ثم يسرفون في التكهنات والاحتمالات.
ظن فريق من هؤلاء الباحثين أنهم أول من طرق باب البحث عن اللهجات على هذا الشكل الحديث، وانه لم يحم حول هذا الموضوع أحد من قبل، مع أن غير واحد من أعلام الأدب واللغة وأئمة القراءات أشاروا إلى فساد اللسان، وإلى اضطراب اللهجات اللغوية المحكية، وشذوذها في عصورهم. ولهؤلاء اللغويين القدماء عناية فائقة بالبحث عن اللهجات، ومن هذا القبيل تلك الرسائل والكتب التي جردت فيما تلحن فيه العامة أو الخاصة. وكم من معركة أثيرت بين اللغويين في هذا الباب مرماها انتقاد اللهجات وإصلاح ما اعتراها من فساد، وهي كتب كثيرة، وجلها متداول معروف. ولما استفحل شأن اللهجات في العصور الأخيرة، وطغى على اللغة سيل جارف من الكلمات الدخيلة، وفطن المعنيون بذلك إلى الخطر الذي يتهدد العربية من الناحية، بادر اللغويون المحدثون إلى العناية بالبحث عن أصول الكلمات العامية وردها إلى الفصحى، وأوجدوا أوضاعاً لغوية، ومصطلحات عربية،(970/4)
تقابل الأوضاع والمصطلحات الدخيلة، واختاروا أسماء لمسميات هجمت بها علينا هذه الحضارة الحديثة، وقد وضعت في ذلك معجمات ورسائل لغوية كثيرة.
من ذلك يتضح لنا لن البحث عن اللهجات قد اتخذ أطوارا شتى يعرفها من ألم بتاريخ آداب اللغة العربية في مختلف العصور. وهذا ابن خلدون عالج موضوع اللهجات المتفرقة عن لغة مضر على وجه يفهم منه أنها كانت متميزة في عصره وهو يسميها (لغة الجيل) ويقولون بينها وبين (اللغة المصرية) وقد أفرد في مقدمته المشهورة فصولا للبحث في هذا الشأن. منها فصل عنوانه (لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير) وآخر عنوانه (لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر) إلى فصول أخرى، يشير ابن خلدون في بعضها إلى مميزات لهجة عصره أو لغة جيله كما يقول، ومن تلك المميزات زوال الأعراب، وظهور الوقف في آخر الكلمات.
من ذلك نعلم أن اللهجات بمعنى من المعاني قديمة قدم اللغة. ومن هذا القبيل لهجات القبائل اللغوية في الجاهلية وصدر الإسلام، وهي لهجات استند إليها القراء في تخريج القراءات، وأشار إليها المؤلفون في هذا الفن. وتعتبر هذه اللهجات كلها فصيحة مع أن بعضها شاذ مهجور. ثم تفرع عن الفصحى نوع آخر من هذه اللهجات المحلية نشأ فيه التحريف وفسد النطق، فأصبح للكتابة لغتها، وللكلام لهجته، وذلك في الأقطار التي استقر بها العرب والمسلمون الفاتحون في أولى عصور الدول الإسلامية بعد عصر الراشدين.
ما من شك في أن الشقة تباعدت، ولم تزل، بين اللغة الأصلية وفروعها، وأن الجفاء والشذوذ تفاقم بمرور الأيام حتى زعم من أن بين هذه اللهجات المتعددة من جهة أخرى، صراعا مريراً، وأن نتيجة هذا الصراع تغلب إحدى هذه اللهجات واندماج سائرها في لهجة بعينها، ثم تصبح لغة مستقلة نصطنعها في الكتابة والكلام سواء بسواء. ومن المحال في زعم هؤلاء الزاعمين أن تبقى الفصحى محتفظة بوحدتها الأولى زمنا طويلا ًمع هذه الفوارق. وهم يتوقعون أن تتحول هذه اللهجات يوما ما إلى لغات مستقلة قائمة بنفسها، غير مفهومة آل للمتكلمين بها، كما أن الفصحى ستكون لغة غير مفهومة للمتكلمين بهذه اللهجات بالمرة، وهو فيما نرى - إسراف في التكهن والرجم بالغيب. ويزيد بعضهم على ذلك قائلاً: أن لهجة القاهرة الشائعة هي لغة المصر بين في المستقبل. ولماذا لا يقال في لغة المجتمع(970/5)
المصري هذه أنها هي لغة الطبقة المثقفة المتعلمة بعينها، وهي هذه الفصحى السليمة الموحدة من حيث النطق، وخارج الحروف، وأن كانت عارية من الاعراب، لا تلك اللهجات الشاذة.
يغالي أنصار اللهجات بآرائهم قائلين: إن هناك صراعا بين الأم وفروعها، أو بين الفصحى ولهجتها، ونحن نقول لهم: لماذا لا يسفر هذا الصراع أو تنازع البقاء عن نتيجة حاسمة يصح فيها الصحيح، ويبقى الأصلح نزولاً على حكم مذهب النشوء والارتقاء.
أو يدوم صراع لغوي مدة تشارف الألف والثلاثمائة سنة؟ والحق أنه ليس هناك صراع بل هناك شذوذ وجفاء، وهنك ازورار وانحراف في هذه اللهجات الملية، من مصرية وعراقية وشامية ومغربية، فما هذه اللهجات سوى اللغة العربية محرفة عن أصلها. كانت الفصحى معرية فحل الوقف محل الأعراب، وكان التلفظ والنطق موحدا فطرأ ما طرأ عليها من الاضطراب والفساد والتحريف والتشويه بسبب هجرة المسلمين والعرب الفاتحين إلى شتى الأقطار البعيدة عن الجزيرة العربية.
ليس من الإنصاف ولا من الصواب أن ندعو ما نحن بصدده صراعا بين الأصول والفروع، بل هو ضرب من الشذوذ والانحراف لا بد أن ينتهي إلى صلح ووئام. ومن الخطأ قياس من يقيس ما حدث للفصحى بما حدث للاتينية، أو السامية البائدة، ثم يسرفون في التكهن، والاحتمالات البعيدة، ويتوقعون أن تتخلى الفصحى عن مكانها لتدخل في ذمة التاريخ في الأقطار المأهولة بالشعوب اللاتينية وقد تكلفت بحفظ الفصحى وحياطتها وخلودها معجزة القرآن؛ فلولا إعجاز القرآن لجاز أن يحدث لهذه اللغة ما حدث من قبل للغة اللاتينية.
تجتاز هذه الأقطار المأهولة بالناطقين بالضاد عصبية، وهذه الشعوب الآن أحوج ما تكون إلى التفاهم والتعاون، ووحدة اللغة. ولو اصطنعنا هذه اللهجات الفاسدة لاستحال تحقيق الوحدة اللغوية، ولتعسر التفاهم أو التخاطب أو التخاطب بين الشعوب المذكورة.
ما أكثر عيوب هذه اللهجات ومساوئها، وفي مقدمتها أنها عاجزة عن تكوين تلك الوحدة؛ فلكل قطر لهجته ومميزاتها التي تجعل منها أداة غير صالحة للتفاهم في أمة تسعى وحدتها اللغوية.(970/6)
ولنا أن نقول في مساوئ اللهجات أكثر من ذلك، فإنها في القطر الواحد يسرع إليها الانحلال، فهي عرضة للاضطراب والفساد فها نحن أولاء نجد لكل إقليم عندنا في العراق، بل لكثير من الحواضر أحيانا لهجة خاصة؛ فأهل الموصل في الشمال لهم لهجتهم، وهي لهجة لا يستسيغها أهل بغداد وأواسط العراق لاختلاطها عن المألوفة. وأهل الصرة في الجنوب، يعرفون بلهجة تختلف بعض الاختلاف عن لهجة بغداد. وعلى كل فإن لهجة أهل الريف عندنا تختلف عن لهجة أهل الحواضر اختلافا ظاهرا. ومثل ذلك الاختلاف بين لهجات الريفيين القاطنين في البطائح والبحيرات ولهجات القبائل الراحل في العراق. وفي وسعك أن تعرف بلد المتكلم أو قطره من لهجته. وليس هذا الأمر فيما نرى خاصا بالعراق؛ فمصر وسورية وأقطار الغرب لا نختلف عن العراق من هذه الناحية. والمعروف هنا أن لأهل الصعيد لهجة خاصة، وتشبهها فيما قيل لي لهجة أهل الشرقية والبحيرة. ويبدو لي على ما أكد لي غير واحد من أدباء مصر أن لهجة أهل الصعيد أقرب إلى لهجات أهل البادية في بعض أقطار الشرق العربي كالعراق والشام، فإن الحروف التي أصبحت أثرا بعد عين في منطق أهل القاهرة والإسكندرية وما إلى هذه الجهات مثل القاف والتاء المثلثة، والجيم الفصيحة، لا تزال باقية على حالها في منطق أهل الصعيد، وهي كذلك في لهجة أهل العراق. فنحن بأمس الحاجة والحالة هذه إلى لهجة موحدة، ولا عنى لنا إذا أردنا التفاهم عن تكوين هذه الوحدة. وقد اعترف غير واحد من الأساتذة المصرين الذين زاولوا مهنة التدريس في مدارس العراق بأثر الفصحى في تكوين الوحدة اللغوية المنشودة.
لماذا يعنى أبناء الشرق العربي، بل شعوب الشرق الإسلامي باقتناء المؤلفات المصرية الحديثة، بل باقتناء المطبوعات المصرية مهما كانت؟ ولماذا هذا الإقبال العجيب على مؤلفات أعلام المصرين المعاصرين؟ ولماذا يعجب بترسلهم؟ ولماذا يؤخذ من يؤخذ بسحر بيانهم في أقطار الشرق والغرب المأهولة بمن ينطق الضاد.
قد تعجبون إذا قلت لكم إن مرد ذلك لا معالجة الأبحاث العلمية أو الموضوعات الأدبية في حد ذاتها، وإنما لسبك تلك الموضوعات وأدائها بأساليب لغوية أصيلة البيان مشرقة الديباجة. فهذه الطبقة من الكتاب والمؤلفين المصريين طرست على آثار الطبقة الأولى من المترسلين في الفصحى، وحذت حذو الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب والصابئ،(970/7)
وغيرهم من أئمة المرسلين، ونهجت منهجهم في البيان والبلاغة. فشعوب العرب ولإسلام وقد أصبحت شعوبا واعية يقظة في عصرنا يقظة في عصرنا هذا تغنى العناية كلها يبعث الأساليب العربية الأصيلة، وتعتز بإقالة الفصحى من عثرتها بعد كبوة طويلة. فعصرنا هذا يمتاز بنمو العاطفة القومية، والشعور الصادق، والاعتزاز بالأدب القيم، والتطلع إلى بعث تراثه القديم.
ولو أن هؤلاء الأعلام المصريين استجابوا لدعوة الدعاة إلى اصطناع اللهجات فيما يكتبون وينشئون لأغراض الناس في الشرق كله من عرب ومسلمين عن اقتناء ما يدر إليهم من مطبوعات هذه البلاد. ولا نبالغ إذا قلت لكم إننا نعتبر هذه الدعوة خطرا على اطراد على ونمو الشعور. ونحن واثقون أنها دعوة ضعيفة لا تستطيع الصمود في طريق هذا الوعي المطرد إلا كما بصمد الهشيم في سبيل السيول الجارفة. فهذا الوقوف في طريق اليقظة الراهنة مخالف لطبيعة الأشياء، وهو إذا جاء عن طريق التساهل في الوحدة اللغوية أدهى وأمر.
لا غنى لشعوب الشرق العربي وفي طليعتها العراق والشام، ولا غنى لشعوب الغرب الغربي وفي طليعتها مصر وأفريقية في الفصحى دون غيرها من اللهجات.
نعم إن الصعوبة في الفصحى تأتي من ناحية الإعراب، وقد زال هذا الإعراب، وقد زال هذا الإعراب لأنه لم يعد عملياً في عصرنا الحاضر على الأقل، فلنحافظ على سلامة لغتنا الفصحى وتوحيد لهجاتها، وتقوم النطق بها، ولو بالتخلي عن الإعراب إلى حين إلا في التلاوة وما إليها، على أن ينظر في حل المشكلة الإعراب، وأن يعهد بذلك إلى المتخصصين المنقطعين لهذه الإعراب. وقد يعلل زوال الحركات أو الإعراب عن أواخر الكلمات بأن العرب كانوا في الجاهلية، وفي صدر الإسلام مطبوعين على الحركة واحتمال المشاق في حلهم وترحالهم وفي مغازيهم، فما كانوا يجدون جهداً أو كلفة في تحريك أواخر الكلمات. فلما خلدوا إلى الترف، وسكنوا إلى النعيم في المدن الزاخرة مالوا إلى الوقف والسكون. ولا يخفى أن الإعراب أو تحريك أواخر الكلمات يقتضي جهداً لا يقتضيه الوقف والإسكان، ويمثل ذلك بعلل تسهيل بعض الحروف أو زوالها من النطق بتاتاً في هذه اللهجات حيث يتطلب النطق بها بذل بعض الجهد والطاقة.(970/8)
يجب أن تنظم هذه الأقطار رابطة وثيقة من الوحدة اللغوية أو الوحدة الأدبية، ولا يمنع ذلك قطرا من هذه الأقطار أن يستقل سياسيا عن سواه. وهكذا نحن نرى رابطة الشعوب البريطانية تعززها رابطة وثيقة من الوحدة اللغوية. وكم نوه قادة هذه الشعوب، وكم أشادوا بذكر هذه الرابطة، لأن في تعزيز هذا النوع من الوحدة ضمانا أكيد لكثير من مصالح الشعوب المذكورة معنوية ومادية، ومدعاة لتعاونها وتضافرها، واتحادها في الملمات.
يروي فيما يروي عن بسمارك بطل الوحدة الألمانية أنه قال: أهم حقيقة يمكن تسجيلها في القرن التاسع عشر هي الوحدة اللغوية بين بريطانيا وأمريكيا. والظاهر أن هذا الداهية الألمانية كان يحسب حساب هذه الوحدة، وخطرها البالغ على الشعوب الألمانية. وقد قال تشرشل منذ أسبوع فقط أي في اليوم السابع عشر من هذا الشهر، وهو يخطب الأمريكيين بواشنطون ما هذا نصه: يجب أن نعمل في القرن العشرين على تحقيق ما قاله بسمارك في القرن التاسع عشر) هذا ما قاله تشرشل وهو يعني تعزيز رابطة اللغة الإنجليزية في بريطانيا وأمريكا. وقد عملت الأمتان - والحق يقال - كل شيء في سبيل تعزيز هذه الرابطة حتى قادها ذلك إلى الظفر الحاسم في الحروب الأخيرة.
إذا أرادت مصر أن يدري صوتها في المجامع الدولية، بل إذا أرادت أن تكون مرهوبة الجانب فعليها أن تستند إلى تعزيز رابطتها معنويا وماديا بشعوب الشرق، غير عابثة أن بهذه النعرات الإقليمية الهدامة، واللهجات المضرة بتلك الجامعة اللغوية.
أدى تشعب اللهجات واضطرابات من ناحية الاختلاف البعيد في المنطق، وفي إخراج الحروف وما يترتب على فساد النطق بها من الانسجام إلى تكون مشكلة من المشكلات الاجتماعية، بيد أن حلها ليس بمعتذر، وهو يتوقف على إزالة هذه الفوارق بين لهجاتنا، وتوحيد النطق والتلفظ، وضبط الكتابة بموجب قواعد عامة توضع لهذا الغرض. وليس ذلك بمستحيل على العاملين المجتهدين. ولنأخذ مثلا كلمة (يصفق) إذ نجدها في اللهجة المصرية: (يسأف)، وهي كلمة مستحيلة اجتمع فيها القلب والإبدال، وما اجتمع الداء أن إلا ليقتلا. وفي سوريا يقولون (يصفأ) بقلب القاف همزة، وفي العراق يقولون (يصفج) تنطق القاف كافا فارسية في العراق. ومثل ذلك في كلمة (أول) التي تلفظ بفتح الواو في العراق، بينما يقال في اللهجة المصرية: (أول) بكسر الواو. وفي كلمة (اضرب) كما تلفظ في(970/9)
العراق بكسر الواو. في كلمة (اضرب) بفتح الراء مع قلب الضاد دالا، إلى ضروب أخرى من اضطراب المنطق وفساده في هذه اللهجة المختلفة باختلاف الأقطار. وعلى هذا لا مناص لنا من إصلاح المنطق، وتقويم الألسنة، الحل الوحيد لهذه المشكلة، وفيه المحرج من هذا المأزق.
إنا نقرهم على أن الإعراب في اللغة المحلية لم يعد علمياً وليس من السهل الالتزام به، ولكن التخلي عن الإعراب في المنطق شئ، والتخلي عن سلامة المنطق وتقويم اللسان وفتح الباب على مصراعيه للكلمات الدخيلة أو العامية الفاسدة شتى آخر. وفي وسع الدول التي تعتز الآن بالفصحى وتنص في دساتيرها الأساسية على ذلك، وهي الدول العربية، وفي وسع الجهات المعنية بشئون الثقافة في الدول المذكورة أن تعمل كثيرا في هذا الشأن.
فما المانع الذي يمنعها من العناية بتوحيد المصطلحات في معاهد العلم وفي غيرها من سائر مصالح الدولة؟ وما المانع الذي يمنعها من السعي إلى إصلاح المنطق وتوحيد اللفظ في اللهجات المختلفة على وجه يسهل التفاهم بها في المجتمع وبين الطبقات؟ وما المانع الذي يمنعها من توحيد مناهجها في تعليم اللغة العربية؟
لا نبالغ إذا قلنا إن المصري في لهجته إلا بعناء. ولا يعد تغاير الكلمات، والتعابير المولدة خطراً كبيراً في حد ذاته على اللغة، الذي الكلمات عربي الأصل والمادة، ولكن الخطر الذي يتهدد الفصحى كامن في واضطراب واختلاف النبرات وتباين اللفظ، ليخشى أن تصطنع اللهجة الفاسدة المولدة في بعض الأقطار مع الأيام، وتنسى الأم التي ولدت منها. ولولا الثقافة الإسلامية التي تقوم على أساس متين من مدارس الكتاب وتفسيره، ورواية الحديث وحفظه، لوقع ما كنا نخشاه.
لقد آن للمجامع اللغوية، وفي طليعتها هذا المجمع المعنى بشئون الفصحى، وجعلها وافية بمطالب الحياة والحضارة في هذا العصر، أن تعني بهذه الناحية، وبالبحث عن طريقة لضبط النطق واللفظ في الأقطار، وتخليص لهجاتها من هذا الاضطراب. ولا يستحيل ذلك في عصر تعددت فيه وسائل التفهيم والتلقين. والمجمع بحكم وظيفته مطالب بالكف من غلواء دعاة اللهجات وتغليبها، خصوصا إذا علمنا بأن هذا الجفاء القديم بين الأم وبناتها الناشزات يسير إلى غاية تلك التي انتهت إليها اللغة اللاتينية مع فروعها، إذ سينتهي(970/10)
الخلاف فيما نحن فيه إلى وئام، وهو وئام تمهد له الآن صحافتنا العاملة في سائر الأقطار العربية، ولهذه الصحافة الراقية، ولدور النشر أثرها المحمود في هذا الشأن. ولا ينكر أثر الصحافة المصرية في لهجة المجتمع أو الشعب، الآن أدنى إلى الفصحى مما كانت عليه قبل جيل. ومرد ذلك إلى انتشار الصحافة المصرية الراقية، وتكاثر يوما بعد آخر، وازدياد عدد المتعلمين. وكما تقلصت الأمية، وكوفحت في مصر، وفي أقطار الشرق العربي - وهي تتقلص وتكافح الآن في كل مكان - تضاءل خطر اللهجات على الوحدة اللغوية، ومرنت الألسن على المنطق السليم.
محمد رضا الشبيبي(970/11)
إليَّ الشعب المصري
للأستاذ علي الطنطاوي
يا أهل مصر، اثبتوا على جهادكم، فإنا جميعاً معكم. قضيتكم قضيتنا، وعدوكم عدونا. ما ضرنا أن تفرق بيننا الحدود على الأرض، والألوان على المصور، ما دام يجمعنا الإسلام، وتوحد بيننا العروبة، وتربطنا الآلام والآمال، وذكر الماضي، وأماني المستقبل. فنحن الاخوة، تعددت بيننا المنازل؛ ولكن الدم بجمع الاخوة جميعاً، والجب والمنشأ والمصير. ومصر أختنا الكبرى، فلئن خذلنا مصر، إنا إذن لشر أخوة في الدنيا.
وما نسينا، والله يا أهل مصر، وموقفكم منا يوم عدا العادون من بني السين، دعاة الحرية. . وأحفاد من نادوا بحقوق الإنسان. . على جمهوريتنا وبرلماننا، وحريتنا في أوطاننا، أفتروننا نقعد عن نصرتكم وقد عدا عليكم العادون من أبناء التايمس، أدعياء الديمقراطية. وأبناء من (ابتدعوا) البرلمان!
فأين إذن، حقوق الأخوة، وأين واجبات الوفاء؟
أننام على فرش الأمن، وننعم بالدعة والخفض، ونشرب العذب من يردى، ونؤم الضاحي من سفوح قاسيون، نلهو ونتمتع، وإخواننا على حفا في النيل، وجوانب القناة، يخوضون اللهب، ويقحمون الحديد؟ وإخواننا هناك تهد بيوتهم، ويصرع فتيانهم، ويعتدي عليهم في أوطانهم؟
لا والله، ولكن تألم إن ألموا، ونجزع إن جرعوا، ونخوضها حمراء عابسة الوجه، يرقص فيها الموت، إن دعتنا إلى خوضها الأخوة، ونادانا الجذم والدين والسان، ولا منة لنا ولا فضل.
ولن نعيد مأساة فلسطين!
لن نعيدها. حلفنا وأيدينا مغموسة بدماء شهدائنا الذين أرادتهم المعركة مع اليهود، ونسائنا اللاتي بقرب بطونهن أكف يعود، وأطفالنا الذين ذبحهم أيدي يهودا!.
حلفنالنثأرن لهم، ولن ندع مأساة كمأساة فلسطين تمثل في ديارنا، بتخاذلنا وانقسامنا، واستسلامنا لخدع أعدائنا: الإنكليز وأحلاف الإنكليز.
نهضنا لنصر مصر على قدم واحدة، اجتمعنا على ذلك على اختلاف الأحزاب والمذهب(970/12)
والآراء. وتعالوا انظروا، تروا الشباب في الطريق، والشيوخ في الأسواق، والطلاب في المدارس والنساء في البيوت، وحول كل راد، وأمام كل بائع جريدة، على ألسنتهم جميعا حديث مصر، وفي قلوبهم جميعا حب مصر، وفي عروقهم تغلي الدماء لمصر، وشوقا إلى السفر لمصر، للجهاد مع أهل مصر.
الشعب هنا كله معكم، والحكومة معكم، كلهم مع الحق الذي هو معكم، وعلى الباطل الذي هو مع عدوكم.
وسيكون الظفر والله معكم.
أن هذا المصائب امتحان للشعوب، لصبرها ولرجولتها. وإن هذا الشعب العربي قد جاز آلاف المحن، وخرج منها فائزا مجليا.
أي أرض فوق الأرض، وأي مكان تحت النجم، لم يوار فيه هذا الشعب شهيدا من شهدائه، ولم يبلغه رائد من رواده، ولم يرفع علمه يوما عليه، ولم يشهد ظفرا له، ولم يسمع العسكري، يهتف به الجندي المسلم، فيرتج منه كل واد، ويرتجف كل جبل، وتميد كل فلاة: (الله أكبر).
(الله أكبر) هذا هو نشيدنا في حزبنا، وهتافا لصلاتنا، لأن (الله أكبر) من إنكلترا، ومن يشد أزرها. (الله أكبر) من مدافع الإنكليز، ودباباتهم، وطياراتهم، وأسطولهم.
فلا تخافوا سلاحهم فإن أجدادنا ما حاربوا الأبيض والأسود، ولا فتحوا الشرق والغرب، ولا ملكوا ثلثي العالم المتمدن في الثلث قرن، لأن سلاحهم أمضى، أو لأن عددهم أكثر ما انتصروا إلا بالإيمان.
الإيمان مكن للفئة منهم أن تغلب الجيش الكبير من أعدائهم. الإيمان جعل السيوف الملفوفة بالخرق، أمضى في أيديهم من المهندات المذهبات في أيدي خصومهم. الإيمان أظفر الأمة البدوية الجاهلة المتفرقة، وإمبراطوريتي الزمان: فارس والروم، ففتحت بلادهما، ووزنت أرضعتها، ثم أنشأت حضارة خيرا من حضارتهما، ومدينة أزهى وانتفع من مدنيتها.
الإيمان بالله، والإيمان بأن الحق معهم.
فإذا كنتم مؤمنين بأنكم تدافعون عن حقكم، فلن يغلبكم أحد، لا الإنكليز ولا حلفاء الإنكليز.
ولقد حاربت جماعات من أهل الشام فرنسا، يوم كانت فرنسا أقوى دول أوربة في البر، في(970/13)
أعقاب الحرب العالمية الأولى وما كان لهم سلاح إلا الذي يأخذون من جنود فرنسا؛ ومع ذلك فقد وقفت فرنسا بدباباتها ومدافعها سنتين أمام مئات من الثوار، يقودهم خفير عامي من دمشق اسمه حسن الخراط.
فكيف ومصر الدولة العربية الكبرى، وفي مصر العدد والعدد والمال، ومع مصر كل قطر عربي، وكل بلد مسلم!
إنه ليس على ظهر الأرض شعب كهذا الشعب الذي صب محمد البطولة في أعصابه، حتى لا يكون المرء عربياً ولا يكون مسلماً حتى يكون بطلاً.
أما ترون العربي إذا دعى باسم العرض، أو دعى باسم الأرض، أو دعى باسم الدين، كيف تغلى دماؤه في عروقه فيحس حرها في قحف رأسه؟ وكيف تشتد أعصابه، وتفور عزيمته، حتى ليقحم النار، ويركب الأخطار؟
أما ضرب هذا الشعب على بطولته ونخوته الآلاف الأمثلة في الماضي وفي هذه الأيام؟
أما حارب عبد القادر فرنسا سبع عشرة سنة؟ أما نازل عبد الكريم فرنسا وأسبانيا معاً؟ أما قاتل العراقيون الإنكليز في الرميثة؟ أما فعل الفلسطينيون سنة 1936 الأفاعيل؟
أما كان لمصر سنة 1919 الأيام الغر المحجلات في مواكب الزمان؟
فإن مضى سعد، فكلكم يا أهل مصر سعد تسعد به مصر.
فإلى السلاح جميعاً، وإلى الحرب. وإن فقدتم السلاح فحاربوا بالعصي، وحاربوا بأيديكم، واطلبوا الموت يعجزوا عنكم، لأنهم لا يستطيعون أن يقتلوا عشرين مليوناً تريد الموت.
وقبل حرب الميدان، حاربوهم بالعلم، وبالأخلاق، وبالدستور الاقتصادي الصحيح، وأعدوا لهم كل أنواع القوى: قوة الجسم وقوة العقل وقوة القلب وقوة المال وقوة الجيش.
ونحن جميعاً معكم:
هذي يدي عن بنى (قومي) تصافحكم ... فصافحوها تصافح نفسها العرب
دمشق
علي الطنطاوي
قاضي دمشق(970/14)
جلاء. . . وجلاء
صفحة من الكفاح المصري منذ 150
للأستاذ محمد محمود زيتون
ابتليت كنانة الله في أرضه بالاحتلال الفرنسي، والأمراء المماليك يسومون أهلها سوء العذاب، وسلطان العثمانيين يتقلص ظله من حيث لا يشعرون. ثم إن هذه الفترة قد سجلت صراعاً محتدماً بين إنجلترا وفرنسا من جانب، وبين تركيا والمماليك من جانب آخر.
زعم نابليون أن مصر ستنقاد له بمجرد إذاعة المنشورات التي أعدها وهو لا يزال يمخر عباب البحر، ولم يكن يدري أن المصريين يستعدون للمقاومة الشعبية منذ ترامت إليهم أبناء تحرك سفن الحملة من جزيرة مالطة في طريقها إلى الإسكندرية.
وفي الحق أن الحملة كان مقضياً عليها بالفشل، منذ ألقت مراسيها بالإسكندرية في 20 يوليو سنة 1798 لأن المتاعب التي ستواجهها ستزيد على الحصر. وإذا كان في الإمكان ضرب عدو بآخر للتخلص منهما معاً مما لا يحتاج في العرف السياسي إلى غير الحنكة والدهاء، فإن اليقظة الشعبية كانت بمثابة الصخرة الغليظة في حلق الاحتلال.
ومنذ الساعة الأولى بدأت قوات الاحتلال تطارد المماليك حتى تشتت شملهم في أقاصيالصعيد، وخذلوا الشعب الذي لم يريدا من الدفاع عن شرفه ولو لم يكن لديه من سلاح إلا الحجارة والقلاع وأبواب الحارات والسلاسل والمتاريس.
وبينما كان الفرنسيون يتوغلون في البلاد كانت الأنباء تترامى شرقاً وغرباً. أما تركيا فكانت مشغولة ببلواها عن بلوى غيرها؛ وحسبها قلاقلها الداخلية ومشاكلها الخارجية. وعز على إنجلترا - وهي سيدة البحار وأم الاستعمار - أن تنافسها فرنسا في مصر وهي مفتاحها إذا هي أرادت الإبقاء على أكبر جوهرة في تاجها الإمبراطوري الذي لا تغيب عنه الشمس.
ولم يكد شهر يمضى على المحتلين حتى كانوا مضرب المثل في الإجرام: سفكوا دماء الأبرياء، وأعدموا زعماء الوطن رميا بالرصاص، وملئوا السجون والمعتقلات بعلماء الدين، فما وقروا شيبتهم، ولا رحموا ضعفهم، ومضوا بعد ذلك إلى المدن والقرى ينهبون ويسلبون، وهتكوا الأعراض في غير رحمة، وانتهكوا حرمات بيوت الله والناس، وتجردوا(970/16)
تماماً من العاطفة الإنسانية أو ما يشبهها، وتفننوا في التنكيل بالشعب من كل لون. فأحرقوا الدور بعد انتهاب ما فيها، وأشعلوا النيران في محاصيل الفلاحين، وبعثروا أقواتهم واستاقوا مواشيهم، وأثقلوا كواهلهم بالضرائب والغرامات والفروض، فلم ير المواطنون يدا من الهجرة على غير هدى تاركين ديارهم خرابا يبابا ليس بها ديار ولا نافخ نار. وأما الذين لم يهاجروا فقد أرغمتهم السلطة الغاشمة على دفع الغرامة عنهم وعن جيرانهم المهاجرين.
وفي أول أغسطس أوقع الأسطول الإنجليزي بالأسطول الفرنسي هزيمة منكرة في مياه أبو قير، وعلى أثرها غير نابليون سياسته العنيفة فأقام الحفلات بمناسبة المولد النبوي تمليقاً للعاطفة الدينية عند المسلمين وهم السواد الأعظم، ومع ذلك فإنه ما وجد منهم غير الإعراض التام. حتى إذا جاء يوم 22 سبتمبر وحلت الذكرى الأولى لعيد الجمهورية الفرنسية، دعا نابليون علماء مصر وأعيانها إلى حفل كبير بالأزبكية توسطه عمود ضخم يرمز إلى شجرة الحرية التي يزعمون أن الثورة الفرنسية قد تمخضت عنها، وما أرى المصريون فيها إلا رمزاً على الاستعباد فسموها (خازوق الاحتلال).
اغتاظ نابليون من هذا الموقف السلبي، وأسرها في نفسه وعاودته غريزة الذئب الغادر، فقسا ليزدجروا، وزاد تنكيلا ليرجعوا، وأصدر بذلك أوامره المشددة إلى حكام الأقاليم، كتب إلى قومندان المنوفية يقول (يجب أن تعاملوا الترك (الأهالي) بمنتهى القسوة، وإني هنا (في القاهرة) أقتل كل يوم ثلاثة وآمر بأن يطاف برءوسهم في شوارع القاهرة. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإخضاع هؤلاء الناس، وعليكم أن توجهوا عنايتكم لتجريد الشعب قاطبة من السلاح).
وكتب إلى الجنرال مينو قومندان رشيد بأنه يأمر بقتل خمسة أو ستة يومياً ثم يقول له (لقد كنا نتفادى التعرض لهم حتى نزيل عن سمعتنا وصمة الإرهاب تلك التهمة التي كانت تسبقنا إلى أذهان الناس) وصدق المثل: رمتني بدائها وانسلت، ولكن هيهات هيهات أن ينفذ شعاع من رحمة إلى قلوب المتوحشين الذين جاءوا من أوربا الجائعة ليشبعوا جوعتهم من دماء الوادعين في بلادهم.
وإذ ذاك كانت (لجنة الثورة) تنعقد بالجامع الأزهر، وقد استنفذ والحكماء كل السبل لحقن الدماء واستتباب الأمن؛ فكان لابد أن تنفجر مراجل الصدور بهذه المظالم الفادحة والمجازر(970/17)
البشرية.
وفي 21 أكتوبر انطلقت الأنفاس المحبوسة، واندفعت القاهرة اندفاع الصاعقة، ولم يعد بالديار داع أو مجيب. وتجسمت ثورة القاهرة سخطاً وحنقاً على الغاصبين، واغتيل القائد الفرنسي (ديبوي) واحتمى الثوار بالأزهر بعد أن أقاموا جميع الاستحكامات على المنافذ المؤدية إليه.
وذهل الفرنسيون أمام هذه اللعنة المنصبة عليهم من كل جانب، فأصدر الجنرال بون أمر في 23 أكتوبر (يهدم الجامع الأزهر ليلا إذا أمكن، وترفع الحواجز والبوابات التي كانت تسد الشوارع).
وأطلق الفرنسيون مدافعهم الثقيلة على الثوار، فكانت ضحايا المصريين أكثر من أربعة آلاف حسب تقدير الجنرال (بليار). ولنترك للجبرتي مؤرخ العصر يصف لنا هذا المشد الأليم إذ يقول (ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر، وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة، والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها. .).
وفي هذه الغمرة يفتح نابليون صدره العريض لإحدى نوافذ قصر الألفي وما يلبث أن يعود إلى مكتبه فيصدر الأمر الكريم (. . يقطع رءوس جميع المسجونين الذين أخذوا ومعهم الأسلحة، وعليكم إرسال الجثث في هذه الليلة إلى شاطئ النيل فيما بين بولاق ومصر القديمة وإغراقها في النهر).
ولم يكن خافيا على فطنة العلماء أن للمماليك يدا في تحريض الأهالي ضد الفرنسيين مما زاد النار اشتعالا، فأذاعوا البينات في الناس بغية التزام السكينة والتذرع بالصبر (فلا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد، وارجعوا إلى مالك الملك وخالق العباد؛ وذهب وفد العلماء إلى نابليون يتشفعون في جلاء خيوله عن الأزهر، فأجابهم إلى طلبهم. ثم أحصى المحرضين على الثورة من العلماء فسرعان ما ألقى القبض عليهم، وعجلان ما حوكموا سرا وأعدموا رميا بالرصاص. وضاعف الفرنسيون من تحصين القاهرة وإقامة المعاقل في(970/18)
أهم شوارعها استعدادا لكل ما عساه يجد من أحدث.
ومن وسائل الاحتياطات التي اتخذها نابليون أن أرسل المحصلين لجباية الغرامات من الأهلين، وهم الذين كادوا يهلكون جوعا وعريا أن هام أكثرهم على وجوههم في القرى، وبعد أن أصبحت البيوت لا عائل لها يدبر أمرها، تلك البيوت التي اقتلع المهندسون الفرنسيون أبوابها وأبواب الحارات التي تضمها ونبشوا القبور ونقضوا البيوت ليتخذوا من الحجارة والأخشاب تحصينات للقلعة، مما كان سببا قويا لاستفزاز الأهالي، وانقضاضهم على كل من يلقونه في وجوههم فكانت الضحايا من المهندسين فوق الحصر.
وسرت الثورة في كل مكان سريان الغار في الهشيم حتى عمت الدلتا والصعيد. فاتسع الخرق على الراقع، وضاق بونابرت ذرعا العدو الذي ما من صداقته بد، والذي استعصى على الترويض، والذي أنزل برجاله هذه الخسائر وهو الذي لا مدفع معه ولا رصاص.
واعتزم نابليون أن يخضد شوكة المصرين ويزعزع يقينهم بالكفاح المرير في سبيل الحرية والاستقلال، فأنفذ حمله الشام التي لم تأت بالثمرة المشتهاة، فلا هو فتح الشام ولا هو أذل مصر.
فاشتعلت الثورة من جديد في الشرقية بينما كان جيشه يرتد مهزوما أمام عكا الحصينة ومعه الجرحى والقتلى ممن لا عداد لهم.
واضطربت الأحوال في فرنسا حينذاك، فاستطاعت حكومة الدكتور قائد الحملة علة مصر، ولكن الأسطول الإنجليزي المتربص لفرنسيين في البحر حال دون وصول الرسالة إلى مصر. ومع ذلك تمكن الماكر الداهية من الإفلات فغادر الإسكندرية في ليلة 23 أغسطس بعد أن أناب عنه كليبر وزوده بالتعليمات الكافية، يضمن ثقة الشعب المصري) ورأى نابليون قبل مغادرته مصر أن تركيا قد بدأت تحالف الإنجليز ضد فرنسا على حساب مصر، ففوض كليبر في عقد الصلح مع تركيا ولو كان ثمن ذلك جلاء الفرنسيين عن مصر نهائيا.
أحاطت المشاكل بكليبر من كل جانب، فالفرنسيين قد انهارت روحهم المعنوية، وتفشت الأمراض فيهم، وقضت الثورات على مهندسيهم، ونهب الثورات آلانهم الفنية النادرة، ولم يسلم القواد أنفسهم من الإصابات والجروح حنى نابليون نفسه، ونقص الإيراد وضعف(970/19)
الإنتاج وتراكمت الإتاوات والغرامات وتربص الإنجليزي والترك للفرنسيين على الشواطئ، وقطع الحصار البحري على الحملة الإرهابية كل سبيل، وكتب المسيو بوسليج في تقريره إلى حكومة الدير كتوار يقول (. . إن اختلاف العادات - وأهم منه اختلاف اللغة وخاصة اختلاف الدين - كل ذلك من العقبات التي لا يمكن تذليلها والتي تحول دون؟ إيجاد صلات الود بيننا وبين المصريين. إنهم يمقتون حكم المماليك، ويرهبون نير الآستانة، ولا يحبون حكمها، ولكنهم لا يطيقون حكمنا ولا يصبرون عليه إلا بأمل التخلص منه).
وظل كليبر يماطل في الجلاء كلما تغلب على المحاولات البحرية العثمانية التي دأبت على مناوشته على شواطئ مصر، فلما تمت معاهدة العريش المعروفة في24 يناير سنة 1800 بين فرنسا وتركيا قبل القائد الفرنسي الجلاء عن رغبة منه حد قوله في (وضع حد لسفك الدماء، وإنها النزاع القائم بين الجمهورية الفرنسية والباب العالي).
وفي غضون الأشهر الثلاثة المقررة للجلاء نزلت القوات التركية تدريجيا بالأراضي المصرية وأمعنت تعسفات غاشمة من التهب والسلب والإرهاب وابتزاز الأموال بحجة الحاجة إلى مصاريف إبعاد الفرنسيين، فجمعوا الغلال، واحتكروا المؤونة وشاركوا المواطنين في الحرف ونافسوا في أرزاقهم مما أثار السخط العام على الأتراك والفرنسيين من قبلهم.
وتأججت نيران الثورة من جديد لعدم اعتراف إنجلترا بمعاهدة العريش تلك، وألبث المصريين على كليبر، فلم يجد بدا من التفريق بين فلول المماليك وبين المصريين من جهة وبين هؤلاء وبين العثمانيين من جهة أخرى، فاتفق مع مراد بك على أن يطلق يده في الصعيد نظير دفاعية وأموال وغلال. فلما شبت ثورة القاهرة في 20 مارس سنة 1800 أشار مراد بك على كليبر بإضرام النار في العاصمة.
وبعد شهر من هذا التاريخ استطاع كليبر أن يخمد الثورة، ويطرد العثمانيين، فوطد مركزه، وأبعد من حسابه فكرة الجلاء. فلما فاوضه الإنجليز والعثمانيون في تنفيذ معاهدة العريش أبى ولج في الطغيان، حتى لقي حتفه بطعنة من خنجر سليمان الحلبي في 14 يونيو وخلفه مينو الذي ورث عن سلفه أفدح الأعباء قائد متخاذل مثل مينو.(970/20)
أتقن مينو دوره الاستعماري أيما إتقان، فأعلن إسلامه ونزوج أرملة مسلمة من رشيد، وخالط الناس في المساجد والحافل، وأظهر الورع حتى صلى معهم التراويح، وتظاهر بمقته لكليبر حتى لقد سمى ابنة باسم قاتل خصمه، ولكنه ما لبثأن قلب للمصرين ظهر المجن، وبرح خفاؤه، حين اتهم الأزهر بتدبير اغتيال سلفة فأمر بتفتيش وإرهاب علمائه، وحاول أن يقف على شيء يدل طائل، واقترح العلماء غلق الأندر بدلا من أن تشن عليه الحملات الإرهابية وحقنا لدماء المواطنين، وإبراء لذمتهم من دم كليبر.
ومع ذلك ظل مينو سادرا في غلوائه وغطرسته، فلم يكف عن سياسة سابقة. ومما زاد في تعزبز مركزه تلك العدة التي أنفذها إليه نابيلون من فرنسا، واستطاع أن يهربا فأفلتت من الرقابة الإنجليزية المنبثة في أرجاء البحر. غير أن الأمل لم يطل مداه حينما ترادفت قوات الإنجليز والأتراك على مصر عند كانوب في الأسبوع الأخير من مارس، وسقطت المن المصرية صرعى احتلال جديد بينما كان الطاعون لا يزال يفتك بالمواطنين والأجانب فتكا ذريعا.
نكص الفرنسيون على أعقابهم إلى القاهرة وطلبوا المدد من حليفهم مراد بك فعالجه الطاعون في سوهاج وهو في الطريق إليهم، فأدركوا حرج موقفهم، في جلاء الفرنسيين أنفسهم، ولقي ذلك هوى. وفعلا عقد بليار اتفاقية الجلاء في 27 يونيو دون علم مينو، ولم تستطع المعدات الجديدة أن تصل إلى مصر فعادت أدراجها إلى طولون. وكادت تنتهي الخمسون يوما المحددة للجلاء برا وبحرا، ولكن الفرنسيين أخذوا يماطلون حتى حاصرهم الإنجليز حصارا كاد يؤدي بهم، فعقد مينو مجلسا عسكريا من رجاله، فأجمعوا الرأي على الجلاء.
وهنا أملي الإنجليز شروطا أقسى من ذي قبل حتى لقد أوجبت على العلماء الفرنسيين أن يسلموا بحوثهم وأدواتهم وحتمت عيهم هذه الشروط أن يتم الجلاء في مدى عشرة أيام، وأن يسلموا سفنهم بما عليها من عتاد، وبمن عيها من جنود. وبدأ الفرنسيون يسلمون القلاع والذخائر في 2 سبتمبر، غير أن العلماء تذمرهم لحرمانهم من ثمرات فرائهم، وفاضوا هتشنسون في ذلك فأبى عليهم حمل الآثار المصرية معهم، وسمح لهم بما دون ذلك.
وفي هذه الأثناء كان قد انتهى من مفاوضة مع إنجلترا بما يسمى (مقدمات لندن) في أول(970/21)
أكتوبر سنة 1801 وبمقتضاها يكون الاتفاق على جلاء الطرفين معا عن مصر.
ولم تكد شمس يوم 18 أكتوبر تغرب حتى كانت قوات الاحتلال الفرنسي - وعدتها وقتئذ ثلاثة عشر ألفا - قد أخذت طريقها في البحر تجرر أذيال الخيبة، وفي مؤخرتها عبد الله جاك مينو. وبذلك اليوم انطوت صفحة من تاريخ مصر لطخها الاستعمار بالظلم والإرهاب. وأثقل المحتلون فيها كاهل مصر بالسخط والتذمر على أوربا الغادرة.
وظن الإنجليز أن الجو قد خلالهم فأفسحوا صدرهم للمماليك ليضربوا بهم الأتراك عن يمين والمصرين عن شمال. وظلموا يتلكئون في الجلاء حتى استعجلهم نابليون فتركوا البلاد لأهلها في 16 مارس سنة 1830، ومعهم صنيعهم محمد بك الألفي، وبين يديه البقية مما نهبه من الصعيد، وقد طوى جوانحه على أمل أن يعيده السادة الإنجليز قريبا جدا ليكون ملك المنتظر.
وهكذا قضت مصر هذه الحقبة من تاريخ تحت كابوس الاحتلال الفرنسي ذاقت في خلالها ما بعدها من مرارة. وحسبها أنها اعتمدت على إرادة شعبها الأبي الحر فواجهت الظلم المسلح وهي عزلاء من كل سلاح، اللهم إلا الأيمان بالحق المغتصب، والكفاح في سبيل الشرف الرفيع. ولم يعرف التاريخ أمة غير مصر تداعت عليها القوة الغاشمة مجتمعة فكافحها جميعاً في آن واحد غير معتمدة إلا على الأيمان والوحدة والمصابرة، وبذلك قضت على إنجلترا وفرنسا وتركيا والمماليك والطاعون جميعاً.
وما كان المصريون لينسوا منذ اللحظة الأولى للاحتلال الفرنسي مبلغ ما تنطوى عليه عبارة نابليون في منشورة الأول من مغالطة وقحة إذ يقول أن (الديوان) المشكل إنما يقصد به (تدبير الأمور والنظر في راحة الرعية وإجراء الشريعة).
كما أنهم لم ينسوا كيف نابليون حرم العمال المصريين من العمل في المصانع التي شيدها في مصر ظل الاحتلال حتى لا يطمعوا لذة العيش، وحتى لا يتعلموا صناعة جديدة تعود اقتصادياً على البلاد بالنفع العميم، ولكنه الاحتلال وكفى.
وحسب المصريين أنهم تعلموا منذ 150 سنة أن كفاح الشعوب إنما هو سبيل حريتها واستقلالها، وأن (الطرق السليمة المشروعة) أصبحت غير ذات موضوع. وصدق نبي الجهاد (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا).(970/22)
محمد محمود زيتون(970/23)
نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:
السيد جمال الدين الأفغاني
للأستاذ حمدي الحسيني
- 2 -
أما جمال الدين فظل في كابل لم يمسه الأمير بسوء احتراماً لشخصيته الكبيرة وعشيرته القوية مؤجلاً الفتك به إلى فرصة مناسبة. فرأي جمال الدين أن يغادر البلاد، وللحر عن دار القلي متحول. فعزم على الذهاب إلى الهند والنزول فيها على أحد أصدقائه التجار البسطاء. وكم كانت دهشته عظيمة عندما رأي على الحدود استقبالاً فخماً رسمياً تستقبله به حكومة الهند وليس له من الصفة الرسمية ما يستوجب هذا الاستقبال العظيم فقال: مأرب والله لا حفارة كريم. وأول سؤال ألقى على جمال الدين من الحكومة الهندية ما هو الزمن الذي تريد أن تقضيه في الهند؟ قال لا أكثر من شهرين. قبلت الحكومة ذلك منه ولكنها أحاطته بجيش جرار من الجواسيس والعيون تحصى عليه أنفاسه وتعد عليه حركاته وسكناته؛ ولكن هذه المراقبة الشديدة الدقيقة لم تمنع الهنود من الإقبال عليه والإجماع به والاستماع له فأصبح كعبة يحج إليها الهنود على اختلاف طبقاتهم وتباعد ديارهم، فضاقت الحكومة الهندية ذرعاً وكشفت نقاب الحياء عن وجهها وأرسلت لجمال الدين وهو في مجلس حافل برجالات الهند أحد رجالها ليبلغه بأن حالة البلاد لا تساعد على بقائه في الهند أكثر من المدة التي قضاها. فتأثر الهنود الحاضرون من هذا الأمر وأرادوا أن يحتجوا فكفهم جمال الدين عن هذا والتفت إلى رجل الحكومة فقال له: إن تخوف حكومة بريطانيا من زائر أعزل يسجل عليها وهن عزيمتها وضعف شوكتها وقلة عدلها وعدم أمنها في حكمها، وأنها في حقيقة حكمها لهذه الأقطار أضعف بكثير من شعوبها. ثم التفت إلى زائريه من الهنود وقال: يا أهل الهند وعزة الحق وسر العدل لو كنتم وأنتم تعدون بمئات الملايين ذباباً لكان طنينكم يصم آذان بريطانيا العظمى. ولو كنتم وأنتم مئات الملايين وقد مسخكم الله فجعل كلا منكم سلحفاة وخضتم البحر واحطتم بجزيرة بريطانيا العظمى لجررتموها إلى القمر وعدتم إلى وطنكم أحرارا. فما كاد يتم جمال الدين كلامه حتى أذرف الحاضرون(970/24)
الدموع فقال لهم حينذاك بصوت داو كالرعد: أعلموا أن البكاء للنساء. والسلطان محمود الغزنوي ما أتي إلى الهند باكياً بل أتى شاكياً للسلاح. ولا حياة لقوم لا يستقبلون الموت في سبيل الاستقلال بثغر باسم: ثم نهض مسرعاً إلى رجل الحكومة لكي يذهب معه حيث شاء فقال له: مهلاً فالسفر غداً. فقال جمال الدين: إلى أين تريدون أن أذهب؟ قال الرجل: إلى حيث تشاء بعد أن تبرج الهند. وفي الصباح سيرته الحكومة إلى السويس ومنها إلى مصر فمكث فيها نحواً من أربعين يوماً تردد خلالها على الأزهر وتعرف إلى الصفوة المختارة من رجال العلم والثقافة، فأحبهم وأحبوه وطلبوا منه أن يقرأ لهم شرح الإظهار فقرأ لهم جانباً منه في بيته. ثم سافر إلى الآستانة فالتقى بالصدر الأعظم علي باشا فعرف له الصدر فضله وأحله محلا لم يسبق لمثله أن حل فيه. وبعد ستة شهور من إقامته في الآستانة عين عضواً في مجلس المعارف فأدى حق النصح لتعميم التعليم بطرق لم يوافقه عليها رفقاؤه في المجلس ومنها ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي لأنها كانت تمس شيئاً من رزقه فأضمر له الشر حتى كلفه مدير كلية دار الفنون أن يلقى خطاباً يحث به على الصناعات. فألقى ضافياً في هذا الموضوع فشبه المعيشة الإنسانية بالبدن وأن كل صناعة منزلة العضو من ذلك البدن، أما روح ذلك البدن فهي إما النبوة أو الحكمة فاصطنع شيخ الإسلام الحاقد من هذا القول وسيلة للنيل من جمال الدين بحجة أن جمال الدين يزعم أن النبوة حرفة من الحرف، فدافع جمال الدين عن نفسه وطلب محاكمة شيخ الإسلام على هذه القرية، ولكن الصدر الأعظم المعجب بجمال الدين من جهة والمسئول عن الحكومة من الجهة الأخرى رأي أن يغادر جمال الدين الآستانة كحل لهذه المشكلة، فغارها إلى مصر. فكانت فرصة سعيدة لمصر والعالم العربي والإسلامي فقضى جمال الدين فيها ثماني سنين كان خلالها قطب رحا الحركة العلمية والأدبية ومحور دائرة السياسة العربية والإسلامية ليس في مصر فحسب بل في العالمين العربي والإسلامي قاطبة. هبط جمال الدين مصر في عهد إسماعيل وعهد إسماعيل عهد التقى فيه النقيضان، أفراح الإمارة وأفراح الشعب. واختلطت فيه رنات الضحك في قصور الأمراء بأنات الأسى والحزن في كل بيت من بيوت الشعب المصري وذلك بسبب ما كان عليه إسماعيل من التبذير في النفقات مما أضطره أن يقسو في فرض الضرائب على الشعب ويستدين فوق ذلك من الأجانب ما أثقل(970/25)
به كاهل الحكومة، هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى كان الجمود شاملاً جميع نواحي الحياة الدينية والأدبية والاجتماعية والسياسية. حكم مطلق في يد ضعيفة مرتعشة، وقوانين ضائع معها العدل، وأنظمة مفقود في ظلها الخير. هال جمال الدين ما رأى وما سمع وهو الذي وقف حياته على محاربة الظلم والجهل، وشق عليه أن تكون مصر وهي قلب العروبة والإسلام النابض مباءة لكل هذه الشرور التي تبيض وتفرخ فتطاير إلى جميع البلاد العربية والإسلامية فتهددها بالخراب والدمار. فصمم وهو القوي الحازم على خوض المعركة ضد ذينك العدوين اللدودين الظلم والجهل. فجرد عليهما لسانا ذريا في مجالسه الخاصة وحلقات تدريسه العامة فالتف حوله شباب العرب من المصريين والسوريين والعراقيين والحجازيين وغيرهم ممن كانوا في مصر لطلب العلم، فأفرغ السيد جمال الدين في نفوسهم ما في نفسه الكبيرة من قوة، ومس أرواحهم بما في روحه العظيمة من حرارة وحماسة، فداروا حوله مستمدين القوة والعون بعد الله منه، وأخذوا يعملون في محاربة الظلم والجهل مع أستاذهم الأكبر وأمامهم الأعظم فجردوا ألسنتهم وأقلامهم في حرب طاحنة تجاوبت أصداؤها أجواء الشرق والغرب وامتد لهيبها إلى أيدي الظالمين فأحرقتها وإلى عقول الجاهلين فصهرت عنها الجمود والخمود. ولكن كيف يكون كل هذا ولا يتحرك في القلوب المريضة حسد له ولا يتململ في النفوس الصغيرة حقد عليه؟ فاتخذ الحاسدون الحاقدون سبيلهم للطعن عليه والنيل منه. وبينما كان الرجل في هذه المعركة من البناء والهدم إذ بالخديوي توفيق يتولى الحكم فيسر جمال الدين به وأنه شعر بأنه قد العهد أكثر قدرة على خدمة مصر من ذي قبل، فأندفع في مقاومة الاستعمار الإنكليزي وما يحوكه هذا الاستعمار من دسائس لمصر، وأطلق ما في نفسه الكبيرة من قوة تأثير على الأفراد والجماعات لدفعها في مقاومة الاستعمار ودسائسه وتحريك الشعب المصري للمطالبة بحقه في حكم نفسه بنفسه بالطرق الدستورية. وقد جره هذا النشاط السياسي الجبار إلى الاصطدام بالحفل الماسوني الاسكتلندي الذي كان منتسبا إليه وعازما على اتخاذه وسيلة لتحقيق أغراضه السياسية النبيلة، فحمل على المحفل حملة شعواء ندد فيها بما ينطوي عليه المحفل من الضعف والخور في خدمة الشعب المصري الخدمة التي تأخذ بيده إلى الحرية والسعادة. وعندنا اعتقد بأن لا فائدة ترجى من إصلاح هذا المحفل انسحب منه وأنشأ محفلا(970/26)
وطنيا تابعا للشرق الفرنسي، فأقبل على هذا المحل مئات من أصدقائه وتلاميذه وهم النخبة الطيبة والفئة القوية المؤمنة في مصر. وأول ما صمم عمله في محفل الجديد الدعوة لإصلاح جهاز الحكم كوسيلة لإعداد الشعب المصري ليحكم نفسه بنفسه بالطرق الدستورية. فألف داخل المحفل عدة لجان لتحقيق هذه الأغراض والاتصال برجال الحكومة (النظار) ومطالبتهم بالإصلاح على اختلاف أنواعه بأسلوب حازم ولهجة قوية ترددت أصداؤها في قصر عابدين، فأستزار الخديوي جمال الدين ليراه بعينيه ويسمع عنه بأذنيه، فكانت الزيارة. ورأى الخديوي من شخصية جمال الدين الكبيرة ما بهره ومن دفاعه عن الشعب المصري وحقوقه ما أخافه؛ فأمر بإخراجه من القطر المصري فذهب جمال الدين إلى السويس ليسافر منها إلى الهند فأتاه بعض مريديه من التجار يحملون مبلغا من المال عرضوه عليه فرفضه في أباء وشتم وقال لهم: انتم إلى هذا المال أحوج، والليث لا يعدم فريسة حيث ذهب.
للكلام بقية
حمدي الحسيني(970/27)
2 - الإسلام في أوربا الشرقية في أمسية الغزو
المنغولي
للأستاذ المؤرخ أرسلان يوهدانووكز
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
ويثني بار تولد ثناء عاطرا على الدور المهم الذي قامت به الصوفية الإسلامية إن الصوفيين الذين ذهبوا لنشر مبادئ الدين الإسلامي بين الأتراك في سهول الاستبس، قد لاقوا من النجاح أكثر مما لاقاه أولئك الذين ذهبوا للمكان نفسه يبشرون بالأرثوذكسية المسيحية. ومع أن دعاة من الديانات الأخرى، كالبوذية والمانكية، والمسيحية، قد جربوا القيام بدعايات واسعة قبل مجيء المسلمين، إلا لن الدعاية الإسلامية قد لاقت نجاحا واسعا، وخاصة بين الشعوب التي كانت قد عرفت الشي الكثير عن الديانات الأخرى).
ويضيف المستشرق العظيم إلى ما سبق في موضوع آخر من كتابه قوله: (وبسبب سيطرة الثقافة الإسلامية على تاريخ هذه الفترة، فإن كل اتصال بين تعاليم الإسلام، وتعاليم الديانات الأخرى: لم تنشأ عنه غير نتيجة واحدة، هي امتداد ظل الإسلام والتمكين لنفسه في آفاق جديدة. حتى في الزمن الذي تسلط فيه القراقتيون - أولئك المتعصبون الذين كانت الثقافة الصينية عميقة الجذور وبعيدة الغور في نفوسهم، والذين حاربوا الإسلام ولم يعتنقوه، أخذت المناعة التي لديهم ضد الذين تضعف كلما امتد ظلهم على المسلمين، وراح الإسلام يمكن لنفسه في سلطانهم ونفوسهم؛ وهو وإن لم يكن انتشاره على نطاق واسع، كما كان في الفترة المنغولية، إلا أن مجرد الانتشار بين أولئك المتعصبين، يعتبر من معجزات هذا الدين).
رأي بار تولد حول إسلام الكبشاك:
يبدو لنا أن النتيجة المنطقية لآراء بار تولد عن قوة الأغراء العجيبة الكامنة في مبادئ الدين الإسلامي، والتي لعبت دوراً هاماً في إسلام الأتراك، يمكن أن نكون كما يأتي، إن اعتناق عدد لا يستهان به من الخزر لمبادئ الإسلام، قد أبعد بالتدريج كل صلة لهم بالديانات الأخرى بعد خضوعهم للكبشاك، ثم اندماج هؤلاء المسلمين مع الغزاة بعد ذلك قد كانت نتيجته المباشرة عزل المنطقة التي حول مصب الفولجا عن جميع الديانات الأخرى(970/28)
كالمسيحية والبوذية، ما عدا الديانة الإسلامية. ووجد الإسلام نفسه في هذه المنطقة دون منافس من ديانات أخرى مدة قرنين، فكان هذا الوقت، كافيا لصنع المعجزة في نفوس هؤلاء الكباش الوثنية الذين عرفوا بعض الشيء عن هذا الدين عن طريق صلاتهم السابقة مع الخورزيين ومن تحصيل الحاصل أن يعتنق الكباش الإسلام في مثل ظروف من هذا النوع والتاريخ يعرف أمثلة كثيرة لشعوب رحل، أخضعت شعوبا لسلطاتها شعوبا مستقرة أكثر حضارة منها، ثم اعتنقت بعد ذلك ديانة المغلوبين.
فنرى من ذلك أن تولد لا ينكر الدور المهم الذي لعبه الإسلام بين الخرز، وهو يرى أنه لم يصبح الدين الذي يعتنقه معظم الناس.
أما مصير الإسلام بعد سقوط هذه الدولة، فقد مر عليه في ذلك الكتاب مر الكرام، ولم يفكر فيه. أما ما يتعلق بإسلام الكبشاك بصورة عامة، فيجد في كتابه المذكور الشيء الكثير من التناقض.
وأول ذلك التناقض قوله: (إن قسما من الأوغاز (وهم أقوام من الترك سبقوا الكباش إلى أوربا الشرقية) الذين استقروا في مجرى نهر الفولجا الأسفل، قد اعتنقوا الإسلام أثناء أيضاً، ولكن ذلك لم ينفذ إلى قلوبهم وإنما كان طلاء وزيفا، وبقى عدد كبير منهم يمارس المعتقدات الشامانية. ولا شيء يثير الدهشة إليه من سطحية إسلام هؤلاء الكبشاك، لأن الشعوب التي تعتنق ديانة جديدة ولا سيما الرحل منها، تظل بحكم العادة أقرب في معتقداتها إلى الديانة القديمة منها إلى الديانة الجديدة. وعلى سبيل المثال، فقد كان ذلك، كما هو معروف في التاريخ، شأن قسم من القبائل الروسية حتى القرن عشر الميلادي، وربما بعد هذا التاريخ. ولكن الذي الدهشة، أن يجد المرء في نفس الوجه من كتاب بار تولد الذي نتحدث عنه زعمين متناقضين؛ فهو برغم من جهة (أن المنطقة الواسعة التي استقر فيها الكبشاك، كانت في ذلك الوقت، خارج منطقة النفوذ الإسلامي، وفي القفقاس اشترك الكبشاك في القرن الثالث عشر الميلادي، في الهجوم على البلاد الإسلامية) وبعد اسطر غير قليلة يقول: (والمصادر الإسلامية تدلنا بصورة لا تقبل الشك، أن الكبشاك والقانجلوس (من الشعوب التركية ولعلهم من أبناء عمومة الكبشاك) قد اعتنقوا الإسلام في القرن الثاني عشر عن طريق صلاتهم مع الخورزبين).(970/29)
وفي صفحات سابغة من الكتاب نفسه يقول البر فسور بار تولد: (كان لا يزال في الشمال الغربي من آسيا عدد كبير من القبائل التركية الرحل، الذين على الرغم من اتصالهم بالحضارة الإسلامية، كانوا يحملون العداء للدين الإسلامي. ونجح الكبشاك في القرن الحادي شر في توسيع مدى هجرتهم إلى عشر في توسيع مدى هجرتهم حتى وصلوا في تلك الهجرة إلى تخوم البلدان الإسلامية في الجنوب، وأصبحوا جيران الخورزبين.
كيف يمكن تعليل هذا التناقض؟.
ليس من اليسير على، ولا من المبهج لنفسي، أن أخالف الرأي علامة من طراز بار تولد النادر، وأشعر وأنا أفعل ذلك بالشيء الكثير من عدم السرور. والذي يشفع لي في تلك المخالفة ويجرؤني على انتقاد آرائه، أن النتائج التي يصل إليها علامة عظيم، إذا لم تدعمها المصادر التي لا مفر من الاستناد إليها (كالتي نحن بصدها)، فإن فقدان تلك المصادر، يولد حالة تنحرف بالحقائق عن مجراها الصحيح، وندفع الآخرين إلى ذلك الطريق الممهد، مهملين التعمق في دراسة المشاكل التي لا يعرف عنها إلا القليل.
والذي أراه أن رأي بار تولد في الأمر، ينبغي أن يفسر كما يأتي: وقبل كل شيء ينبغي أن تعرف أولاً، أنه كان معنياً أشد العناية بتاريخ أواسط آسيا، وحينما امتدتالحوادث إلى القسم الغربي من الفولجا، لم يكن دقيقاً في الإحاطة بها. وثانياً فيما يتصل بالقبائل الكبشاكية التي احتلت مملكة الخزر القديمة، فيجب أن نفرق بين الجماعات الرحل وغير الرحل منهم، فإن أولئك الذين امتزجوا بالخرز واستقروا إلى جانبهم، راحوا يعتنقون الإسلام بالتدريج. وأولئك الذين بقوا على عهدهم الأول من البداوة، استمروا على وثنيتهم الأولى، أو كان الإسلام عند الذين اعتنقوه منهم، ليس غير طلاء خارجي لم ينفذ إلى مواطن الإيمان من نفوسهم.
ومما يجعل طريقة إسلام الكبشاك غامضة نوعا ما، أن المؤرخين من الروس لم يهتموا بهم كثيراً ولا قليلاً. وبهذه المناسبة يجدر بنا أن نذكر أن الأستاذ (ن. بارسوف صاحب المؤلف الرائع (الجغرافيا التاريخية لروسيا القديمة) كان قد أشار منذ مدة طويلة إلى أن مؤرخي الروس كانوا يكرهون التحدث عن الإسلام اشد الكره، وانهم كثيراً ما كانوا - بدافع من بغضهم المتأصل للإسلام - يخلطون بين المسلمين والوثنيين. ومن الجديد بالذكر(970/30)
أن بعض القبائل الكبشاكية التي اتصلت بالروس غالبا ما كانت تعتنق المذهب الارتوذكسي. وهذا الكلام يصدق فقط على الكبشاك الرحل، أما أولئك الذين سكنوا المجاري السفلى لنهر الفلجا فلا اعتقد أنهم اتصلوا أدنى اتصال بالروس.
ومن حسن الحظ أن أجد تأييداً لما ذهب إليه من مؤرخ روسي آخر يدعى أ. يا كويوفسكي في كتابة عن عصر هؤلاء البرابرة الذهبي نقتطف منه ما يأتي: (أن الغالبية العظمى من الكبشاك عاشت معيشة ارتحالية، غير أن قسما منهم اخذ يستبدل بهذه الحياة الزراعية المستقر تدريجياً. (واستولى الكبشاك على الممتلكات الواسعة التي خلفتها المملكة السابقة، وكان الخزر إذ ذاك يحيون على ضفاف الفولجا حياة زراعية بحتة، واعتاد هؤلاء الغزاة هذه الحياة، ولكنهم راحوا يفقدون لغتهم ومميزاتهم العنصرية. على الرغم من احترافهم الزراعة، وتحضرهم).
ويذكر يا كويوفكسي أن غزو الكبشاك، لم يوفق التجارة بين حوض الفولجا الأسفل والأقطار الإسلامية، تلك التجارة التي كانت منتعشة قبل مجيئهم. وبعد ذلك يمضى في تأييد ما ذهب إليه عن كيفية إسلام الكبشاك حين يقول: (وفي نفس الوقت الذي كانت التجارة آتية من الشرق، كان الإسلام يسير معها، مخترقا مدن الفولجا شيئاً فشيئاً. (وأن اعتناق سكان مدن الفولجا الإسلام، وخاصة المراكز المهمة، مثل بلغار وإتل (عاصمة مملكة الخزر السابقة)، كان نتيجة للأعمال التبشيرية التي قام بها التجار والصناع).
وما أشرت إليه في هذا المقال عن إسلام كبشاك حوض نهر الفولجا الأسفل، يتفق وما جاء في كتاب بار تولد عن إسلام برابرة العصر الذهبي. يقول بار تولد: (لقد كان لثقافة العالم الإسلامي العالمية في ذلك الوقت اثر كبير على إسلام رؤساء الأقوام الذين كانت العقائد المسيحية متغلغلة بينهم، أكثر من تغلغل الديانة الإسلامية بين الكبشاك. أما الأليانين (أو الأوسيتين اليوم فقد كان يصفهم المؤرخون بأنهم مسيحيون. إلا أن ابن بطوطة الرحالة الإسلامي الشهير قابل في سراي (وهي عاصمة مملكة البرابرة)، وتقع في مجرى الفالجا الأسفل، قسيما من الألينين الذين اعتنقوا الدين الإسلامي).
ويصف بعد ذلك بار تولد إسلام ببرك خان شقيق مانوخان (مؤسس عصر البرابرة الذهبي). والذي حكم من 1254 - 1266، واشتهر بتعلقه الشديد بالدين الإسلامي، يقول(970/31)
بار تولد: (ولم يكن الخان مسلماً فحسب، بل كانت زوجاته من واتباعه مسلمين أيضاً. لقد كان لكل أمير، ولكن زوجة زوجاته مؤذن وإمام خاص، وكانت هنالك مدارس لتعليم الصبيان القران الكريم).
ولقد تم عمل من هذا النوع في مدى عشرين سنة من استيلاء المنغول على حوض نهر الفالجا الأسفل. ولم يكن مثل هذا العمل ممكناً، لو لم يكن الإسلام منتشرا في تلك الأماكن قبل مجيء هؤلاء الغواة الوثنيين.
غرفة التجارة: بغداد
علي محمد سرطاوي(970/32)
2 - عالم الذباب
بقلم المرحوم الأستاذ معروف الرصافي
يريد الدكتور بهذا الكلام أن الأمر بغمس الذبابة كلها يدل على أن الداء والشفاء موجودان في الجسم كله لا في الجناحين فقط، وإلا لزم أن يأمر بغمس الجناحين فقط، فنقول أن الأمر بغمس الذبابة كلها صحيح، ولكنه لم يأمر بذلك إلا لأجل أن يغمس الجناح الذي فيه الشفاء لأن الجناح الثاني والجسم منغمسان في الشراب وهل من المعقول أن يأمر بغمس المغموس؟
كيف يمكن غمس الأجنحة وحدها حتى يأمر به الرسول؟ أن غمس الجناحين فقط لا يمكن إلا يمكن إلا بصورة واحدة، وهي أن نلقى على ظهرها، ونمسكها بالمنقاش من يدها ورجلها، ثم نضعها وتأن على شراب حتى ينغمس فيه جناحاها فقط دون سائر جسمها، ولا ريب أن هذا متعذر بالنسبة إلى سائر الناس، فكيف يأمر بغمس الأجنحة وحدهما كما يقول الدكتور؟
ويقول في عبارته المتقدمة: (مما يدل على أن الداء والشفاء في الجناحين أمر اعتيادي لا يفيد التخصيص والأمر يغمسها يؤيد ذلك، وهل لأجل تطهير الشراب من الجراثيم وذلك بإدخال البكتريوفاج من جسم الذبابة).
يريد الدكتور بعبارته هذه المضطربة أن يفهمنا أن الجناحين إنما ذكرا في الحديث جريا على العادة، لأن العادة تقضي بوجود الجراثيم المضرة والنافعة في الجناحين أيضاً، توجد في جسم الذبابة؛ فعبارة الحديث لا تفيد تخصيص الجناحين بالجراثيم، بل جاء ذكرهما اعتياديا. هذا هو مراد الدكتور من عبارته هذه فنقول:
قد تقدم ما يفيد بطلان هذا، ولكنا نكرره لمزيد الإيضاح. إن عبارة الحديث تنص على أحد الجناحين بالداء، والآخر بالشفاء. وبيان ذلك أن الحديث أمر أولا بغمس الذبابة كلها ثم بين سبب الغمس وحكمته بقوله أن في أحد الجناحين داء وفي الآخر شفاء، وبين أيضاً أن الذباب عند وقوعه يتقى بالجناح الذي فيه الداء أي يقدم الجناح الذي فيه الداء فيكون منغمسا في الشراب ويبقى الجناح الثاني الذي فبه الشفاء خارجا غير منغمس. فإذا غمس الذبابة كلها، الحاصلة من انغماس الجناح الأول ولولا تخصيص أحد بالشفاء ولآخر بالداء(970/33)
لكان الأمر بغمس الذبابة عبثا لأن جسم الذبابة مع أحد جناحيها قد انغمس في الشراب فلو كان الشقاء في الجسم كله لم تبق حاجة إلى الأمر بالغمس.
إن هذا المعنى في عبارته الحديث واضح جلي يفهمه كل من سمع الحديث ولو كان أعجميا، ولكن الدكتور حفظه الله يقول إن عبارته الحديث لا تفيد التخصيص إنما جاء ذكر الجناحين اعتياديا جريا على العادة التي تقضى بوجود الجراثيم في الجناحين كوجودهما في الجسم، مع أن العادة تقضي خلاف ذلك، لأن الجناحين يكونان بحكم العادة وبحكم الضرورة أبعد أعضاء الذبابة عن الجراثيم لأنهما لا يباشران المواد التي تقع عليها الذبابة بل يكونان في أعلى الذبابة بعيدين عنها.
ولا شك أن أول شيء من الذبابة يباشر المواد التي تقع عليها هو يداها ورجلاها، ثم بطنها وصدرها، ثم سائر جسمها، ثم جناحاها إذا كلت المادة التي تقع عليها من السوائل، ولكن الحديث يقول إن يقدم الجناح الذي فيه الداء فيه الداء ويؤخر الجناح الذي فيه الشفاء، فينغمس الأول ويبقى الآخر غير منغمس، فلذا أمر بغمس الذبابة كلها لكي يغمس الجناح الذي فيه الشفاء أيضاً.
إن عبارة الحديث لا يغرب معناها عن فطانة الدكتور، ولكنه اخذ يتحمل في التوجيه ويتعسف في التفسير لكي يقربها من المعنى الذي يريده هو. إلا أنه رغم هذه التحملات، بقي فلق الخاطر، غير مطمئن الضمير، لأنه يعلم حتى يجعلها مقراً للجراثيم أكثر من سائر الأعضاء؟
والظاهر أنه فكر طويلا حتى وجد طريقا إلى حل هذا المشكل فقال: (وبما أن الذبابة تمسح دائماً رجليها بأجنحتها كانت الأجنحة لذلك مقرا للبكتريايوفاج وللجراثيم أكثر من غيرها من أعضاء الذبابة. فلله دره ما أقدره على قلب الحقيقة بالكلام المجرد. بقول إن الذبابة تمسح رجليها بأجنحتها، إن الباء في هذه العبارة مثلها في قولهم كتبت بالقلم أي هي للاستعانة، فالمسموح الرجل. والماسح الذبابة، والجناح هو لآلة، المسح والظاهر أن المسح يكون بظهر الجناح لا ببطنه، لأن الذبابة إذا خفضت جناحيها وأنزلتها إلى ما تحت رجليها، كان ظهر الجناح الرجل بالطبع، إذ لا تستطيع الذبابة في هذه الحالة أن تقلب جناحيها إلى حيث يكون باطنها إلى الأعلى، وظاهرا إلى الأسفل. ومهما يكن فجناح الذبابة على هذا أصبح(970/34)
منديلا لها تمسح به رجلها.
إن الدكتور قد أثبت للذبابة بهذا القول طبيعة لا يعرفها الناس، ولم يستند في إثباتها إلى قوله علمي من أقوال علماء الحشرات الذين درسوا حياتها وعرفوا طبائعها وأحوالها، وقد تكلم هو في الفصل الخامس من رسالته عن خواص الذباب وطباعه، فلم يذكر فيه شيئا من ذلك.
لا يقال إن في عبارة الدكتور قلبا، و ' ن أصلها هكذا: إن الذباب وهما في اتجاههما إلى الأسفل معقوفتان إلى الأمام، وليس في استطاعتها أن ترفع رجلها إلى ما فوق جناحها فتمسحه بها، ولا أن تخفض جناحيها إلى ما تحت رجلها فتمسحها به إذ ليس ذلك من طبيعة الذبابة، فمن المحال عادة وطبعا أن يمسح الذباب أجنحة بأرجله أو أرجله بأجنحته، وإنما المعروف من طبيعة الذباب من قديم الزمان هو أنه يحك إحدى ذراعيه بالأخرى كما ذكره عنترة في معلقته، ولم يشاهده أحد يحك إحدى رجليه بالأخرى؛ ولا يحك بجناحيه رجليه، وقد شاهدته أنا في بعض الأحيان يمسح وجه بذراعيه ويمر بهما على رأسه. فمن أين اخذ الدكتور هذا القول عن طبيعة الذباب وكيف تكون أجنحته مقر للجراثيم أكثر من الأرجل والأيدي التي هي متصلة مباشرة بالمواد التي يقع عليها الذباب.
والمشهور عن الذباب أنه ينقل الجراثيم بأرجله وبأيديه، لا بأجنحته، والدكتور نفسه قد ذكر ذلك في رسالته فقال الصفحة (44): (وعلاوة على ذلك تنقل الذبابة الجراثيم برجلها ويديها المكسوة بالشعر) ثم قال: (ومما يجدر بيانه هو أن قدمي الذبابة وكيفتها تشبهان خف البعير، عليهما شيء يشبه الشعر أو الوبر، وهذه تفرز إفرازات لزجة فتلتصق الجراثيم عليها وتستطيع الذبابة بهذه المادة اللزجة وبفضل هذا الخف، أن تقف على السقوف والجدران بأي وضع شاءت).
وعليه فإذا كانت أيدي الذبابة وأرجله كما يقول الدكتور تفرز مادة لزجة؛ وعليها شيء يشبه الشعر أو الوبر، كانت بلا ريب مقر للجراثيم أكثر من سائر أعضائها، لذلك، ولأنها أول ما يباشر الأقذار التي عليها الذباب فكيف تكون الأجنحة مقرا للجراثيم أكثر من أيديها وأرجلها؟ سؤالان، هل البكتريافاج موجود في الذباب دائماً وأبدا؟ وهل هو شاف لجميع الأمراض؟(970/35)
نريد أن نجيب على هذين السؤالين بما علمناه وفهمناه من كلام الدكتور في رسالته لأننا لسنا من أهل هذا الفن، ورحم الله امرأ عرف قدره ولم يتعد طوره، فلذا نرجو من القارئ أن يقرأ أولاً ما كتبه الدكتور في هذا الباب خاصة في الفصل الحادي عشر من رسالته ثم ينظر فيما نقوله هنا، ويحكم بما شاء.
للكلام بقية
معروف الرصافي(970/36)
رسالة الشعر
صلاة جنازة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
هذي صلاة جنازة: الله أكبر ... فتياننا قتلوا وهل يبقي المعمر
سبق المقدم منهمو والله أكبر ... ومش على آثاره من سبق المؤخر
الله أكبر
الله أكبر ما الطغاة بمدركي ... قتل الجميع. وهبهمو فالله أكبر
لن يخضع المصري بعد لبغيهم ... فليأخذوها بلقعا والله أكبر
الله أكبر
وعزاؤنا أن العدى نكبوا بأكثر ... ورجاؤنا أنا بإذن الله نثأر
شهداؤنا سنوا لنا ما ينبغي ... لمجاهد والعمر في قدر مقدر
والله أكبر
جيش من الأعداء دبر ثم قدر ... واختار خطته التي تخزي المدبر
فرمى العدو جنازة تسعى إلى ... قبر ولولا أمنه منها تقهقر
الله أكبر
أمن العواقب فانبرى يعوي ويزائر ... فانسل منا كل قسورة غضنفر
جملوا العدو على الفرار مغادرا ... قتلي ولكن بين ضباط وعسكر
الله أكبر
لم يدفنوا من شيعوه ميتا: ... من قبله دفن العدى حيا تنمر
والموت يخفى نفسه حينا ويظهر ... والموت بعلن نفسه وسط المعسكر
الله أكبر
بين الضحايا من بنى مصر فتى ... دون البلوغ فعمره تسع وأشهر
شق الصفوف إلى العدو مقاتلا ... فأصاب ضعفي بطولة فيهم وأكثر
الله أكبر
ترك النعوش حماتها وتدفعوا ... كالسيل في ثغرات جيشهم المظفر(970/37)
فإذا جنود المعتدين تفرقوا ... ومشيعو الموتى على النكبات أصبر
الله أكبر
ومجلبب طفل رمى جلبابه ... بالنقط وحي التو لا أمرا مدبر
ماذا تحاول يا (نبيل) فلم يجب ... أيجيبني من جسمه لهب مستعر؟
الله أكبر
وتلقفت منه خيام عدونا ... مثل الشرارة في لظى نارتزمجر
فحما غدا أعداؤنا متضرما ... وغدت خيامهمو بمقلبهم تذكر
الله أكبر
يا رب لا تغفر ولا ترحم ولا ... ترسل على الدنيا سوى اللهب المدمر
كاد الحليف حليفه في عالم ... معروفه هذا وفي المعروف منكر
الله أكبر
عبد اللطيف النشار
في موكب الشهداء. . .
للأستاذ محمد علي جمعة الشايب
قلوب دهاها الحزن فهي تذوب ... ودمع، ولكن جمرة ولهيب
أرى النيل يسعى باكيا ملء جفنه ... وللموج لطم موجع ونحيب
وتلك المروج الخضر تبدو كأنها ... مواكب موتى في البلاد تجوب
فلا الزهر بسام يميل صبابة ... ولا تطير نشوان الجناج طروب
أعيني مالي أبصر الطير شاديا ... ولكنه في مسمعي تعيب
طوى الروض من أحزانه ثوب عرسه ... وران على وجه النهار شحوب
سل الوادي الولهان ماذا أصابه ... يرد أسيفا والدموع نجيب:
بواكير من زهر الشباب تساقطت ... وصوح دوح للبلاد رطيب
أسود سعوا نحو الخلود بهمة ... لها بين أنياب الحتوف وثوب
مضوا شهبا تحيي الأمان بنورها ... وتهوى إلى قلب العدا فتصيب(970/38)
بأي ذنوب قد أراقوا دماءهم ... وليس لهم إلا الفداء ذنوب
لئن كان حب النيل ذنبا يرونه ... فلسنا ورب النيل منه نتوب
ألا إن شعبا قد أناموه قد صحا ... ولابد من بعد المنام هبوب
محمد علي جمعة الشايب
الينابيع الجديدة
للشاعر محمد الفيتوري
أتخمت قيثاري بهذا الحب، هذا الضعف، هذي اللعنة السوداء
واليوم يوم المحرقين دماءهم ... في مذبح الحرية الحمراء
لا تلهمينيه غناء. . مائعا ... متناوحا متماوت الأصداء
لكن أعاصير ممردة الذرى ... وحرائقا ممتدة الأرجاء
فالويل كل الويل للشادين بين مآتم الأموات والأحياء
الراقصين على الطريق، مشيدا بجماجم التعساء والبؤساء
والويل للمتوشحين بنورهم ... وربيعهم في ظلمة الفقراء
الباسمين إلى الحياة وحولهم ... أمواج نهر الأدمع الخرساء
والويل للمتوحشين صباحهم ... ومسائهم في حيرة الضعفاء
الراقدين على الحرير وغيرهم ... متوسدين سواعد الظلماء
لا تلهمينيه غناء مائعا ... متناوحا متماوت الأصداء
فالويل للفن الذي لم يستجب لموجع البشرية الصفراء
والويل للنسيم الذي لم يحترق ... ليعود عاصفة من الأنواه
والويل للنهر الوديع المستحم بضعفه من قوة الدأماء
والويل للسفح المجلل بالدجى ... من سخريات القمة الشماء
والويل للميت الذي لم ينتفض ... في قبره ليعود في الأحياء
يا أيها الشعب العظيم وإنما ... أدعو ألوهة روحك المتمرد
القيد قيدك أنت نار حديده ... لا صنع جبار ولا مستعبد(970/39)
فإذا تشاء سحقته فتلقفت ... ذراته ريح العتاد الأسود
وإذا تشاء غصصت أفواه الردى برمائم المعبود والمتعبد
فاهتف بأشواق الحياة تجبك أصوات الحياة بقلبها المتوقد
وازحف على ظلمات يومك ينبثق ... نور الغد القدسي من قبل المتوقد
تلك النباتات المدنسة التي ... كم عانقتك بشوكها المتجرد
لست الذي يثنيه شوك جذوعها لا كنت إن لم تقتلعها باليد
أنا لن أنوح عليك لن أبكي على ... نيران المستغرقات الهمد
لا زلت المح في رمادك قوة ... إن تنطلق تطفئ صباح المعتدى
وأحس في معنى سكونك رعدة ... ياويح أحلامي إذا لم ترعد
يا رعشة الأشواق أشواق إلى ... جيشان أرضك بالدم المتسعر
ولو ائك المخضوب يخفق شامخا ... كجناح نسر في الأصائل مبحر
والأوجه السمراء في جبهاتها ... وعيونها إبماضة المتجبر
والأزرع المتجمدات وقد ... تعرقها انتقام المارد المتحرر
حقل من النيران والدم صارخ ... بزوال مجد الغاصب المستعمر
وبناء إنسانية لم تحتقر ... ضعف الضعيف ولا أنين المعسر
لم تبن جنتها الجميلة بين ... آلام الأجير وضحكة المستأجر
لم تبتدع يوما رسوم سقوفها ... فرشاة مصدور ولا متكدر
لم تجر أنهرها وخلف سياجها ... تفني الألوف من الهجير الأكبر
لم تزه كرمتها ويحن نخيلها ... والجوع يعصف بالجسوم الضمر
فهناك يا شعبي ستنبت فرحتي ... في مهجتي وتعود رقة مزهرى
ويعود بلبلك الجميل معطرا ... بغنائه قلب الربيع الأخضر
محمد مفتاح القيتوري
جارتي
للأستاذ عثمان حلمي(970/40)
كان لي جارة بلوت أذاها ... ساء ني صبحها وساء مساها
تسبق الطير في الصباح بصوت ... صاخب يسلب العيون كراها
صخب ما له حدود فقد قص ... ر فيه أضرابها عن مداها
كل يوم لها عراك جديد ... ورضاء وما يطول رضاها
وإذا ما انتهى العراك فما نس ... مع إلا عويلها وبكاها
وعلا صوتها على كل مذيا ... ع ودوى فما سمعت سواها
كلبها وابنها إذا هي صاحت ... صيحة الشر يحكيان صداها
ولها طفلة أجارك منها الل ... هـ إن أعملت على الصبح فاها
ولها خادم لها كل يوم ... وقعة بالجوار من جراها
وكأني بديكها حينما يص ... رخ يحكي من النداء نداها
كل تلك الأصوات مجتمعات ... توفر النفس أو تزيد شقاها
ولقد حرت مثلما حار جيرا ... ني فيها وكلهم من عداها
إن ضحكنا من حادث أزعجتنا ... بطريف في أي كرب تناهي
وظللنا ندعو الذي خلق الخل ... ق جميعاً أن لا يطيل بقاها
بيديه الخلاص إن شاء منها ... وإذا شاء ردها لهداها
وتفقدت جارتي ذات يوم ... وسألت الجيران ماذا عراها
فاصطخابات جارتي لا تدري ... لا ولا رجع الفضاء صداها
وتساءلت ما دهاها فلم أل ... ق مجيبا يجيبني ما دهاها
غير أني أسفت لما رأت عي ... ني في دارها عجوزا سواها
فهي قد سافرت إلى غير رجعي ... غير ما يستعاد من ذكراها
وأكيد فراقها وأكيد ... أنني قد حرمت من ضوضاها
وكذا ساءني نواها كأن ال ... نفس من بعدها يعز عزاها
عادة المرء في الحقيقة جزء ... منه حتى في الشر لا ينساها
عثمان حلمي(970/41)
المسرح والسينما
مسرحية (70سنة)
للأستاذ علي متولي صلاح
بدأ السباق يدق بين الفرقتين اللتين تنهضان بفن التمثيل في مصر، وأعني بهما (فرقة المسرح المصرح الحديث) و (الفرقة المصرية) في تقدم المسرحيات التي تتجاوب مع الموقف الوطني الجليل الرائع الذي تقفه البلاد هذه الأيام. وتتفق مع ما يجري في النفوس ويسري في العروق من لهفة حارة تستبد بالمصريين إلى التحرير والجلاء الناجز ووحدة الوادي بلا إبطال ولا إهمال.
أخذت الفرقتان تتسابقان في هذا، واغلب الظن أن ذلك التسابق سيستمر سجالا بينهما حتى تنجلي الغمة ويتحقق الرجاء، فلن تستطيع النفوس التي تتقد بالوطنية وتمتلئ بها أن نجد فضلة منها لقبول شيء دون ذلك!. . . وكان فضل السبق في هذا المضمار للفرقة الأولى دون شك، فقد تركت ما كانت أعدته للموسم من مسرحيات أخرى وأسرعت تلتمس ما يؤدي المعاني الوطنية التي فارت بها مشاعر الناس وملكت عليهم أمرهم وسواء أوفقت في ذلك أم جانبها التوفيق فلن يسلبها هذا فضل السابقين الأولين من المجاهدين!. . . قدمت - فيما قدمته - مسرحية تصور حادثة من حوادث التاريخ المصري الحديث، فقدمت الفرقة الثانية تصويراً للتاريخ المصري الحديث كله، وكأنها في ذلك تقول للفرقة أولى: أن كنت ريحا فقد لاقيت إعصاراً!!
ونسيت الفرقة المصرية أن الأمر في المسرح ليس أمر زحمة في الحوادث، وليس أمر قدرة على حشد اكبر عدد منها، فذلك مطلب يسير هين، وهو - فوق ذلك - ليس من الفن المسرحي في شيء! فرب لمحة خاطفة يصورها المسرح فيحس تصويرها، أدل على المعنى وابعد في النفوس أثراً من احتشاد الحوادث وتعاقبها وكثرتها!
قدمت هذه الفرقة مسرحية (70) فسردت فيها تاريخ الحركة الوطنية المصرية منذ سنة 1882من التاريخ الميلادي حتى يومنا هذا سردا متصلا متلاحقا انهرت معه أنفاس المؤلف وتكاثرت عليه الحوادث وتزاحمت من حوله الشخصيات، وكان هو حريصا على أن يعرض الحوادث والأشخاص جميعاً دون سهو أو نسيان - كما يقولون في عالم التجارة -(970/43)
فاصبح لا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع. واستعان الله على هذا كله، ومزج المسرح بالسينما وبالكلام الطويل في الميكروفون، فجاءت المسرحية مسخا شائها عجيباً. وأنا استغفر الله من تسميتها باسم (مسرحية) فلا أجد ما اسميها به غير ذلك مع علمي بأن ليس لها من هذا الاسم نصيب.
نعم. إنه ليس من الفن المسرحي في شيء أن تساق الحوادث سوقها كأنها مطي تحت بالسياط فلا يربط بينها رابط، ولا توحدها حادثة أساسية متصلة تجذب انتباه المشاهد، وتؤجج شوقه إلى نهايته وفك عقدتها، مما تحتمه شرائط المسرحية الصحيحة كما عرفت منذ التاريخ القديم. . . وليس من الفن المسرحي في شيء أن يرى المشاهد حوادث التاريخ تترى كأنها موكب من مواكب الاستعراض لا اكبر ولا أقل! ويراها المشاهد مرة على صورة مسرحية متحركة ينهض بها ممثلون يتحركون على الخشبة ويلعبون أدوارهم أمام الناس، ثم مرة ثانية على شريط سينمائي يعرض أمام انتظارهم لتكمل به الحوادث، ثم مرة ثالثة يسمع الميكرفون وهو يتمتم ما عجز التمثيل والسينما معا عن أن ينهضا به من الحوادث التي ينوء بها العصبة أولو القوة، فيصل ما يوشك أن ينقطع على المشاهدين من الحوادث المتلاحقة!!
ونسى المؤلف الفاضل أن لكل واحد من هذه العناصر الثلاثة غرضا خاصا به واتجاها يتفرد به دون العناصرين الآخرين، ويختلف فيه عنهما اختلافا بينا، وأن الجمع بين هذه العناصر الثلاثة في صعيد واحد إنما هو استغاثة واستعانة من المسرحية الضعيفة التي عجزت عن القيام بمهمتها منفردة مستقلة معتمدة على نفسها فأخذت تطلب النجدة من هنا وهناك!!
ولعل المؤلف الفاضل يعلم أن محاولات قامت في أوربا للجميع بين الفن المسرحي والفن السينمائي معا على خشبة المسرح تمكينا له من أيراد عدد اكبر واضخم من المناظر، وتقريبا له من القدرة الكبيرة التي تتمتع بها السينما دونه، وأن تحويرات وتعديلات أدخلت على تركيب المسارح لتمكينها من ذلك أيضاً، ولكن ذلك جمعية باء بالفشل وخلص المسرح للتركيز في الأسلوب والحوار، وللإيحاء والخيال البديع، والإشارة دون الإفصاح الواضح. وخلص المسرح إلى قيم ومعالم ليس للسينما - وهي واقعية النزعة - أن تجارية فيها.(970/44)
وتفرد المسرح بالأجمال وترك الحواشي وما إلى ذلك مما يجعل كلا من الفن المسرحي والفن السينمائي يختلفان فيما بينهما تمام الاختلاف، واصبح الرأي السائد الآن في احدث المذاهب أن الجميع بينهما إنما هو جمع بين الأضداد والمتناقضات. .
ولا ادري ما تهدف إليه هذه المسرحية وهي لم تزد على سرد التاريخ سردا خاليا من أي اثر للفن أو أي تجنيح للواقع؟؟ اللهم أن كانت تهدف إلى مجرد ذكر التاريخ الواقع المبذول بين أيدي الناس ففي الكتب المدرسية التي يقرؤها التلاميذ ما يربى عليها وما يفوقها دقة وأمانة وتفصيلا! وأن كانت تهدف إلى استثارة الناس بعرض التاريخ الذي يعرفونه عليهم فإن ملاك أمر في ذلك للفن قدمنا أنها خلت منه خلوا تاما! وأن كانت تهدف إلى أن تشارك في تقدم ما يتفق والشعور الوطني الحاضر على أية صورة - فيجب أن تعلم أن عليها أن تفعل ذلك في حدود المراسم والفن المسرحي الذي تتسم به وتقوم عليه. .
هذا - واجب أن اهمس في إذن المؤلف الفاضل بهذه الملاحظات اليسير ابتغاء أن يتدبرها: -
1 - لماذا أغرم المؤلف بإبراز وفاة الكثير من أبطال المسرحية أمام الناس حتى جعل من المسرحية جنازات متلاحقة مع أن وفاتهم جميعاً لم تكن تحمل معنى خاصا، فكلهم مات على فراشه وكان في حياتهم الكثيرة من المواقف الوطنية، اللهم إلا إذا كان المؤلف قد أراد بإبراز موت السابق ترشيحا لحياة اللاحق، وهكذا دواليك! فالموت - هو الخيط وهو الرابطة التي تربط أجزاء المسرحية!؟
2 - كيف يستسيغ المؤلف أن يبعث الوطنية في نفس ابنة الباشا المقيمة معه في منفاه بإهدائها كتابا عن (جاك دارك) ثم يزيد فيشرح قصتها، وهي - كما يرى القارئ - استعارة غير مستحسنة من البطولة الأجنبية؟ وهل خلا التاريخ المصري أو التاريخ العربي من كل صور البطولة في النساء والرجال جميعا حتى يضطر المؤلف إلى استيراد بطولة من الخارج؟؟.
3 - كيف يتفق أن يخطئ محمود سامي البارودي - وهو أحمد علام - في نطق أبيات قام هو بتأليفه! فيقول مثلا (أجفئ وأجتنب) بيننا الثاني للمعلوم والصواب أن ينطقه مبنيا للمجهول؟ ويقول (النشب) بكسر الشين والصواب بفتحها وتلك أخطاء لا تجوز على(970/45)
التلاميذ المبتدئين بله محمود سامي البارودي!!.
4 - كيف يتف أن يرشح مصطفى - وهو يحتضر - محمد فريد للزعامة بعده ويوصى إخوانه وزملاءه بذلك علانية، ثميستدعيه ويجلسه أمامه مجلس التلميذ ويلقي عليه سيلا من الأسئلة عن وطنيته وهدفه ومبدئه وشعاره وعما هو الاحتلال! وغير ذلك من الأسئلة التي لا نراها تلقي إلا على تلاميذ المدارس حتى حسبناه سيستطرد إلى سؤاله عن اسمه وأسم أبيه وسنه وعنوانه وما إلى ذلك! وهي إلى ذلك أسئلة وأجوبة لا تنطوي على معنى غير مفهوم لعامة الناس ولا تزيد على معلوماتهم العادية، وهي إلى ذلك أيضاً تلقي على زعيم أعلن ترشيحه للزعامة!.
5 - لماذا - وقد كان كل غرض المسرحية استيعاب الحوادث جميعا - أقول لماذا أغفلت الكثير من الحوادث الكبيرة كيوم13 نوفمبر وهو الشرارة الكبرى التي انبعثت عنها نيران الجهاد والكفاح؟ وأغفلت الكثير من الزعماء الذين كان لهم تأثير كبير في مجرى الحوادث بمصر مثل: عدلي يكن وعبد الخالق ثروت ومحمد وإسماعيل صدقي وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وسواهم؟ اللهم إلا إذا أريد بذلك مما لأة الحكومة القائمة وهو أمر إن جاز في عالم السياسة فلا يجوز في عالم الفن.
6 - يعلم المؤلف أن المسرح للناس جميعا فكيف يجبر استعمال اللغة الإنجليزية في بعض المواقف وهو يدري أن بعض الناس يجهلها؟ وإذا كنا نعيب اللغة العربية نفسها على المسرح إذا جنحت إلى المبالغة في الفصاحة والجزالة لأن المشاهد العادي يعيا بفهمها فكيف نسمع للغة الإنجليزية بالظهور فوق المسرح؟ إلا إذا كان ذلك تمشيا مع المسرفة التي التزمها المؤلف في المسرحية جميعا، ناسيا أن المسرح ليس (الواقع) ولكنه كما قال الأستاذ زكي طليمات بحق في كلمته الجامعة (استثارة الواقع)!!
علي متولي صلاح(970/46)
البريد الأدبي
أخوة الأم لا يرثون:
نشرت منبر الشرق بالعدد 675 في باب الإفتاء فتوى لصاحب الفضيلة المفتي السابق رداً على سؤال تضمنته (أن متوفاة تركت بعدها أماً وبنتاً لأب وأخوة لأم ذكورا وإناثاً فما نصيب كل واحد منهم) فأجاب فضيلته.
(إذا كان الأمر كما ذكر بالسؤال فللأم السدس فرضاً لوجود الفرع الوارث، وكذا جمع من الأخوة، وللبنت النصف فرضا، وللأخت لأب السدس تكملة للثلثين، وللأخوة للأم الثلث يشتركون فيه بالسوية. فالمسألة من ستة وعالت إلى سبعة. فقسم التركة سبعة أسهم للأم سهم ثلاثة وللأخت لأب سهم وللأخوة للأم سهمان).
وهذا خطأ في التوريث وصحته في هذه المسالة علي النحو الآتي للأم السدس ووللبنت النصف وللأخت للأب الباقي تعصيباً وهو الثلث ولا شيء للأخوة من الأم لأنهم لا يرثون مع الفرع لأبن عابدين (ويسقط بنو الأخياف وهم الأخوةوالأخوات لأم بالولد وولد الابن وإن سفل، وبالأب والجد بالإجماع (وزاد صاحب - والمختار عند قول المصنف بالولد وولد الابن: (ولو أنثى فيسقطون بستة بالابن والبنت وابن الابن وبنت الابن والأب والجد، ويجمعهم كذلك الفرع الوارث والأصول الذكور) وفي شرح الشريف على السراجية صفحة 94 إلى صفحة 97 (وما لأولاد الأم فأحوال ثلاث: السدس للواحد والثلث للاثنين فصاعدا، ويسقطون بالولد وولد الابن وأن سفل، والأب والجد بالاتفاق) وإذا كان أولاد الأم لا يرثون مطلقاً مع الفرع الوارث فتقسم تركة الموفاة المشار إليها آنفا على النحو الآتي:
للام السدس فرضا الفرع الوارث وعدد من الأخوة، وللبنت النصف فرضا، وللأخت لأب الباقي تعصيبا؛ لأن الأخوات مع البنات عصبة، وتكون المسالة من ستة: للام سهم وللبنت ثلاثة وللأخت لأب سهمان ولا شيء من التركة للأخوة من الأم. ولا داعي للعول وزيادة السهام لأنه لا موجب لذلك إذ أن الأخوة لأم لا يرثون مطلقاً. وأرجو إلا رحب الرسالة عن نشر هذه الكلمة لوجه الحق.
الأقصر
علي إبراهيم القنديلي(970/47)
لمن كتاب الاعتصام؟
جاء في مقال الأستاذ أحمد أحمد بدوي الذي نشر في عدد الرسالة الممتاز عن الشاطئ القراء هذه الفقرة (وللشاطئ كذلك كتاب الاعتصام، وهو في الفقه) وبهذا خلط الأستاذ الفاضل بين عالمين جليلين لقب كليهما بالشاطئ. أحدهما الشاطي القراء الذي كتب عنه الأستاذ يدوي. والثاني هو الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير بالشاطي. والمتوفى في القرن الثامن من الهجرة، وهو صاحب كتاب الاعتصام الذي نسبه الأستاذ الفاضل إلى الشاطي القراء المتوفى في القرن السادس من الهجرة.
ثم إن كتاب الاعتصام ليس في الفقه، بل في الحوادث والبدع الدخيلة على الإسلام، وهو كتاب جليل في بابه، وقد طبع في مصر مرتين.
عبد الرحمن الوكيل
تصحيح رواية حديث نبوي:
بدأ الأستاذ محرر (شموع تحترق) كلمته في جريدة المصري
بتاريخ 2311952 بقوله:
(قرأت في كتب الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في طريقه بمعلم يقسو على تلاميذه فقال له: رفقا أنجشة بالقوارير) أو شيئاً حول هذا.
والقوارير هم فلذات أكبادنا من صغار النشء رقاق النفس دقاق العظم صغار الأحلام لا يحسنون التقدير ولا يجيدون التدبير. . .).
وحرصاً على قداسة الحديث النبوي الشريف يطيب لي أن أذكر أصل الحديث ليظهر المعنى واضحاً كما أراده الرسول الكريم.
روى البخاري عن أنس قال: كانت أم سليم في الثقل وأنجشة غلام النبي عليه السلام يسوق بهن، فقال النبي عليه السلام: يا أنجش رويدك سوقك بالقوارير).
وكنى الرسول الطاهر عن النساء بالقوارير من لزجاج لضعف بنيتهن ورقتهن. والمراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت فأزعجت الراكب ولم يؤمن على(970/48)
النساء من السقوط، فأفادت الكناية من الحض على الرفق بهن ما لم تفده الحقيقة لو قال أرفق بالنساء يا أنجشة. فأنظر يا أخي إلى بلاغة الرسول الأديب الأعظم عليه أفضل الصلاة!
ومن ذلك يتضح أن أنجشة ليس بمعلم يقسو على تلاميذه كما قال الأستاذ المحرر، وإنما كان حاديا وراء الإبل وهي من عادات العرب تؤدي بأصوات طيبة وألحان رائعة!
ولعل الأستاذ رأي في رحلاته أو في قريته حادياً من الجمالين يحدو وراء إبله بغنوة جميلة متى كان في صوته رخامة ليقطع الطريق في راحة ويسر!
شطانوف
محمد منصور خضر
جمع ظفر
جاء في المقال القيم الذي دبجته يراعة الأستاذ الفاضل أحمد قاسم أحمد في عدد الرسالة الماضي بعنوان (الشعب المقلم) هذا التعبير (نشأ جيلا له الأصابع وليست له الأظافر) وقد لفت نظري جمعه لكلمة (ظفر) على (أظافر) مع أن الذي أعلمه من كتب اللغة أن الجمع الصحيح هو أظفار جمع ظفر وأظافير جمع أظفور ولا شيء سواهما، وهذان الجمعان وحدهما هما اللذان ورداً في الصحاح للجوهري وفي القاموس المحيط للفيروز ابادي، فهل لدى الأستاذ الفاضل دليل آخر من كتب اللغة يثبت صحة هذا الجمع أن أنه سها عن الجمع الصحيح وطمأن إلى الخطأ الشائع؟ إن كانت الأولى فإنني أرجوه - شاكراً له الفضل - أن يتكرم فيدلنا على المرجع الذي منه أستقاه؛ وإن كانت الثانية فلا ضير عليه، فإنها كبوة الجواد، وله الفضل على كل حال.
عبد المؤمن محمد النقاش
آداب النقد
في الأدبي بالعد 967 من الرسالة الغراء تعقيب للأديب الفاضل صلاح الدين حسن على ما ورد في مقال (القوة في نظر الإسلام) للأستاذ كامل السوافيري، المنشور في العدد 965(970/49)
من الرسالة. . . فجعل عليه لأنه حرف الآيات الكريمة التي أستشهد بها.
1 - قال الأديب الفاضل: إن آية البقرة هي. . كتب عليكم القتال. . الخ) بدون (يا أيها الذين آمنوا. وهذا صحيح. . ومع ذلك فالكاتب لا يستحق كل هذا اللوم (المؤدب) الذي ختم به الأديب تعقيبه؛ لأنه من المعلوم أن سورة البقرة مدنية، وتوجيه الخطاب للذين آمنوا من سمات السور المدنية. وشيء آخر هو أن هذه السورة ورد فيها ما يدعو إلى التشابه والتداعي من مثل: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص. الآية، يا أيها آمنوا كتب عليكم الصيام. . الخ والقرآن غالب لا يغلب.
2 - ذكر الأديب أن الكاتب (استشهد بالآية 28 من سورة محمد. وصحتها محمد رسول الله والذين لآمنوا. . الخ).
وإذا كان الكاتب قد أخطأ المعقب. . الحصيف مرتين.
أولا: - أن الصواب هو: (محمد رسول الله معه أشداء. . الخ).
ثانيا: - أن الآية ليست من سورة (محمد) وإنما هي خاتمة سورة الفتح!
ويبقى بعد ذلك الفرق بين من لم يستعن بالمصحف فأخطأ، وبين من استعان بالمصحف وخطأ، فأخطأ. . .!
ويبقى بعد ذلك الفرق بين من لم يستعن بالصحف فأخطأ، وبين من استعان بالمصحف وخطأ، فأخطأ. .!
وأما اللوم والتأنيب الذي أفاض فيه المصحح فنتركه، أملين أن يحاسب نفسه، قبل يحاسب الناس، ولأن يستعين بالمصحف لينتقل إلينا الآيات لا زيادة فيها ولا نقصان كما وردت في كتاب الله). . كما يقول. .!
محمد فوزي العنقيل
عزل بضم فسكون
تتردد على الألسنة في هذه الأيام، وحتى من رجال الإذاعة المثقفين ثقافة عالية عبارة (اعتدى البريطانيون على العزل الآمنين) فينطقون العزل بتشديد الزاي؛ وهو مخالف للصواب والأساليب العربية الصحيحة. وبالرجوع إلى قواعد اللغة نراها تقول:(970/50)
إن أفعل فعلاء ومؤنثة بجمع على فعل بضم الفاء وتسكين العين، مثل حمر - بضم فسكون - جمع أحمر حمراء، ونقول رجل أعزل، ومرأة عزلاء، وهؤلاء الرجال عزل بتسكين الزاي - والنساء عزل كذلك. فالواجب إذن أن ننطق العبارة نطقا سليما صحيحا هكذا. . اعتدى البريطانيون على العزل - بإسكان الزاي - الآمنين).
محمد عبد المنعم أبو سيف
رسالة
أستاذنا محرر الرسالة
أرجوك نشر هذه المقالة
لمجد شعب يأخذ استقلاله
بالعزم والقوة والبسالة
مناضل مستعذب نضاله
وثائر محطم أغلاله
مستضحك للموت إن بداله
والموت في الحق هو النبالة
ياحبذا
(مهداة إلى الكاتب الفاضل الأستاذ أحمد الشرباصي)
يا حبذا هذا الجها ... د، وقل معي يا حبذا
قد قالها شعب إذا ... ما قال قولا نفذا
شعب عليه كل شع ... ب في الوجود تتلمذا
شعب سمت آثاره ... وعلى الخلود استحوذا
يحمي الحقيقة كلما ... لج الزمان وشعوذا
ويرى الكرامة أن يمو ... ت مناضلا مستنقذا
فشعاره: لا يعلم الشرف الرفيع من الأذى
توفيق عوضي(970/51)
القصص
الجنية العاشقة
للكاتب الفرنسي أميل زولا
أرهفي أذنك يا نينون! إن مطر ديسمبر يلطم الزجاج، والهواء يرسل أنينه، ويردد شكواه. . إنها أمسية من الأماسي الباردة، التي يقضقض البائس فيها من القر، أمام قصر الغني الغارق في اللذائذ تحت توهج الذهب!. . . اخلعي حذاءك هناك. . . وضعي حليتك الثمينة هنا. . وتعالي إلى أحضاني، فسأروى لك قصة من أروع قصص الجان.
نينون! هناك على ذروة الجبل قصر عتيق ساد الظلام فيه وجثم الحزن فوقه. . ما ترين إلا أبراجاً صاعدة نحو السماء، وأسوار منيعة شماء، وجسوراً متحركة جهزت بالسلاسل، وملئت برجال أولى بأس شديد، لبؤسهم الحديد، يسهرون الليل والنهار على الشرفات، ولا يجدون راحة أو سلوة إلا بجانب سيد الحصن الجبار، الكونت أنكيرون.
لو كنت رأيت ذلك الكونت يا نينون، وهو يتنزه في مماشي القصر الضيقة، وسمعت قرقعة صوته بندر بالوعيد، إذن لأصابك الجزع، واضطربت كما تضطرب أوديت أبنة أخيه؛ تلك الحسناء الرعبيب التي تفتحت أنوثتها بين فرسان قساة، كما تتفتح زهرة الأقاح، إذا تنفس الصبح، تحت قبلات الشمس الضحوك بين أشواك الجبال.
كانت وهي طفلة، إذا أبصرت عمها الشيخ، وقد ضمت إلى صدرها الدمى زرت، عيناها وهبت مذعورة. تذرف الدمع. أما الآن فهي في ربيع الحياة. إن ثدييها يا فتاتي يبثان الشكوى ويرسلان الآهات. وما يزال الخوف يستولي على نفسها كلما طلع أمامها هذا المحارب القديم. . .
وكانت تأتي إلى برج بعيد، تتلهى فيه بحياكة أعلام ورايات فإذا أعياها هذا العمل الموئس لجأت إلى الله تبثه حزنها وتدعوه، أو قلبت طرفها في السماء الضاحكة وسرحت بصرها في المروج الحادرة. . . وكم من المرات، يا نينون، كانت تقوم من مهجعها وقد سجا الليل وهف النسيم لتنظر إلى النجوم. . . وكم من المرات كان قلبها يخفق لهذا المشهد الساحر، ويحن إلى تلك المروج المتوائبة نحو الأفق البعيد، ثم تسائل الكواكب عن ذاك الشيء الذي يتلاعب بروحها ويثير شجونها. . .(970/53)
ودت بعد تلك الليالي التي ساهرت فيها النجم وبعد ذلك الحنين اللاهف للحب لو أنها ضربت يوما عنق هذا الفارس الهرم فوقصتها ولكن، وأسفاه! ما كان لها حول ولا قوة. . . إن كلامه جاف يرعب، وإن نظراته جامدة تفزع. . . فكانت تأخذ الإبرة مضطربة الحواس واجفة القلب وتعود إلى وشيها الشاق!
إنك تأسفين، يا نينون، يا نينون، لتلك الحسناء، إنها كالزهرة الريانة ذات العبير الطيب والأريج الشذي التي يصدف الناس عن رائحتها ويلهون عن جمالها. . .!
كانت ترنو يوما بعينين حالمتين إلى قمريتين تريدان الهرب من الحصن، فسمعت صوتاً عذباً يتعالى عند باب القصر، فانحنت من الكوة، وإذا شاب حلو القسمات وسيم المنظر، تأنس العين لمرآه، يطلب المبيت، مرسلا أنشودة بصوت رخيم ما فهمت لها معنى ولكن خفق لها قلبها. ورأرأ الدمع في عينيها، ثم فاض. . . فساقطت دراً من نرجس، وبللت غصنا من المارجولين كان بين يديها. .
وساد سكون عميق، وبقيت الأبواب مغلقة. ونادى فارس من أعلى الأبراج قائلاً.
أذهب وشأنك أيها الغريب، فليس هنا سوى فرسان محاربين. .
وهم الطارق أن يذهب. ولكن أوديت، التي علق بصرها به، فما يطرف أو يتحول، تركت الغصن رطباً بالدمع، يفلت منها، ليقع تحت أقدامه ورفع الشاب رأسه، فإذا وجه صبوح بطل عليه. . . والتقط الغصن ليشبعه لثماً وتقبيلا. ثم ابتعد عن القصر، وهو ينظر كل لحظة إلى الفتاة.
فلما غيبة الطريق المنحدر قامت أودية تدعوا الله وتصلي له، ثم شكرت للسماء وأحست السعادة فرقصت فرحاً وهي لا تدري لكل ذلك سبباً. . .!
فلما كان الغسق جلست إلى رابة تصلحها، وهي تفكر في ذلك الفتى، ثم داعب النعاس أجفانها فأذبلها وارتمت على فراشها. . . واستسلمت لنوم غرق مضطرب، ورأت حلما. . . إنه حلم ساحر يا نينون! خيل إليها أنها ترى غصن المارجولين الذي أفلت من يديها، وإذا بجنية، ما رأت العين أجمل منها تخرج من زهرة تتفتح بين أوراق الغصن المرتعشة. ولها أجنحة من اللهب، وتاج من الأزهار، تتدثر برداء أزرق، لونه رمز الأمل، وتناديها بصوت حلو النبرات:(970/54)
أوديت! أنا الجنية العاشقة! أنا التي أرسلت إليك لويس هذا الصباح ذاك الفتى ذا الصوت الحنون. . . أنا التي، وقد رأيتك تذرفين الدمع، جئت لأجففه. . أضرب في الأرض، وأؤلف بين قلوب العاشقين!. . . أزور الكوخ، كما أزور القصر، وأجمع عصا الراعي إلى صولجان الملك. أنا التي أزرع الورد تحت أقدام المحبين. .! ثم أربط بينهم ببنتين تختلج القلوب لهم فرحاً. أعيش بين الأعشاب، وفي جذوة الموقد المتآكلة، وتحت رفارف أسرة الأزواج. .! وحيث أضع قدمي فهناك يقوم حديث الغزل، ويكون همس القبل! لا تبكي أوديت، فقد أتيت لأجفف دموعك. . .
وعادت الجنية إلى الزهرة التي خرجت منها، واختفت هناك. .
أنت تعرفين يا نينونأن جنيتنا في الوجود. . انظري إليها ترقص في الموقد، وتألمي لمن لا يفكر بها.
واستيقظت أوديت وأشعة الشمس تنير غرفتها والعصافير تصدح بالأغاني والنسيم الصافي يداعب شعرها المغدودن الأشقر، وقد حمل عبير القبلة الأولى التي سرقها من الأزهار على عجل. فنهضت والنفس مفعمة بالفرح، وقضت يومها تغني تارة وتنفض الحقول أخرى، وترسل ابتسامة رقيقة لكل عصفور يحلق، والأماني تغريها فتقفز هنا وترقص هناك، ثم تضرب كفيها الصغيرتين بعضهما إلى بعض بقوة وسرور. . .
فلما كان الطفل تركت مخدعها، وهبطت إلى ردهة القصر الكبرى فوجدت فارسا يصغي إلى حديث عمها الكونت، فعمدت إلى مغزلها وانتبذت مكانا إلى جانب الموقد تسمع إلى صرصر يغني.
ونظرت إلى الشاب، فإذا غصن المارجولين بين يديه، يا الله! إنه لوئيس. . . وعلت وجنتيها حمرة ونضرة، وكادت ترسل صرخة، تدوي في فضاء الردهة، ولكنها انحنت على الموقد تؤرث النار فيسمع لها حسيس كأنه بث الأحزان، ويتمايل اللهب، ويفور الموقد، وتهيج النار. وفجأة ينجس من الموقد نور شديد وتظهر الجنية العاشقة، وقد افتر منها الثغر، ومال منها الجيد. . . فتجمع ثوبها الأزرق بين يديها، وتنطلق في الغرفة دون أن يراها أحد إلا أوديت. . .
أما الكونت فكان مسترسلا في حديثه بقص نبأ معركة هائلة وقعت مع الكفار، ويقول:(970/55)
فتحابوا يا أولادي. . ودعوا أشباح الشيخوخة الزاهدة. أبقوا لها الأقاصيص بجانب النار المشتعلة، ولا تجمعوا الآن إلى زفير النار سوى وسوسة القبل. .! سيكون لكم يا أولادي من ذكرى هذه الساعات التي ذقتم بها اللذة ما يخيف أحزانكم وهمومكم فيها بعد. . . والمرء عندما يحب وهو في السادسة عشرة من عمره، فالكلام لا يجديه آنئذ نفعا. إن نظرة واحدة خير من خطاب طويل. تحابوا يا أولادي وتركوا الشيخوخة تتكلم. . .
وأظلت الجنية العاشقين بأجنحتها، فغدا الكونت لويس الحبيب، وهو يطبع قلبته الأولى على جبين أوديت الحبيبة المرتعشة!
نينون! يجب أن أتكلم لك على أجنحة جنيتي. . لقد كانت شفافة كالبلور، دقيقة كأجنحة الذباب، ولكنها أيضاً كانت تنقلب إلى ظلام دامس كثيف فلا يتجاوزها عندئذ رنين القبلات ووجيب الأفئدة. . . ليكون العاشقان بنجوة من العيون! وهكذا. . . وبينما الشيخ غارق في حديثه عن معركة المؤمنين والكفار، كانت معركة القبل قائمة بين لويس وأوديت. . .!
لقد حضن الجسم الريان، وقبل الخد الأسيل، ودغدغ النهد الناعم، وتمتع بالطرف الوسنان. . . والشيخ في حديثه غارق مسترسل. . .!
ليت شعري ما تلك الأجنحة. . .؟ إن الفتيات ليجدنهن أحياناً - كما قيل - فيأمن الأبوين ويتمعن بالحبيب، أحقاً ما يقال يا نينون. . .!
واختفت الجنية العاشقة، وقد أنهى الكونت قصته، وذهب لوئيس شاكراً لمضيفة الكونت. . . ونامت الفتاة تحفها السعادة، والأماني حولها حومترفرف، والعين قريرة والبال هادئ.
أما هذه الليلة، فقد رأت جبالا كلها أزاهير، زينت بالوف من الكواكب المصابيح نور كل منها أشد وضاءت من نور الشمس. . . .
وأصبح الغد، فلما متع النهار نزلت إلى حديقة القصر والتقت ثم بفارس حياها فردت له التحية، ولما ابتعد عنها نظرت إليه، فأذا غصن المارجولين معه رطب بالدمع. وها هي ذي أوديت تلتقي بالحبيب مرة أخرى. . . لقد عاد إلى القصر بعد أن تنكر بزي فارس. أواه يا نينون! لشد ما يكون السرور عظيما عندما تلقى الحبيبة بفتاها في وضح النهار. . .!
وأجلسها على مقعد مخضوضر من العشب تحت ظلال السنديان، واللسان صامت والعقل(970/56)
شارد، وراحت العيون تتناجى. . . والأفئدة تصغي. . .
لن أقول لك يا فالتي ما تحدثت به شجيرات السنديان عندما رأت الحبيبين. إن في سماع الحبيبة وهي بين يدي الحبيب لذة، لقد جاءت الطير كلها تستمع إلى لحن الحب، وتبنى أعشاشها فوق تلك الشجرات. . .
وسمعت الفتاة على حين بغتة وقع أقدام الكونت وهو يمشي في الممر الطويل. ز فأصابتها الرجفة وانتظرت شرا مستطيرا. ولكن إن الينبوع لا يزال يرسل خريره الحلو الشجي، وها هي ذي جنيتنا الحسناء تأتي فتظلل العاشقين بأجنحتها والهواء رخي، ويختفيان عن الأبصار، ويعاودان حديث القبلات. . ويقترب الكونت، فيأخذ العجب! إنه ليسمع أصواتا ولا يرى أناسا!.
وانبرات الجنية الحسناء تقول:
- أنا حامية الحب، أضرب على من لا يجب غشاوة فما يسمع أو يرى! لا تخافا بعد اليوم أمرا، أيُها العاشقان الجميلان. . بل أجيبا داعي الحب في وضح النهار، والجو صاف وفي الليل والنسيم يرف، وبجانب الينابيع والأوراق تحف. أرسلني الرب لأصرف عنكم أذى الرجال، هؤلاء الساخرين من كل فضيلة، وحباني بأجنحة من الحب وقال: (اذهبي ولتتحاب القلوب! فيا بشركم. إني هنا أحمي الحب وأرعاه. . .
ثم ذهب تلتقط الندى غذاءها الوحيد تاركة وراءها الحبيبين، وقد علق فم بفم، واشتبكت كف بكف. .
وبقيا حتى الليل؛ فلما دنت ساعة الفراق ظهر الأسى في نظراتهما، فأسرت الجنية إليهما بقول يخيل أنه راقهما، فانبسطت أسارير، ولمست به جبيني العاشقين.
وفجأة. . . أوه! يا نينون. ما لك دهشت.
هكذا. انتظري سأتمم قصتي. . وفجأة انقلب لوئيس مع أوديت إلى غصنين من أغصان المارجولين! نعم من المارجولين الغض الزاهي. نبتا جنبا إلى جنب، ولا مست أوراق الأول أوراق الثاني، واشتبكا. هنا يا فتاتي. تتفتح أزهار لن يمد الذبول إليها يده، بل تبقى. . ويبقى أريجها متضوعا إلى الأبد.
والآن يا نينون، عندما نعود عند المروج الخضراء سنبحث عن أغصان المارجولين(970/57)
وسنسألها في أية الزهرات تختبئ الجنية الحسناء. إن لقصتي يا صديقتي مغرى، وما كنت لأقصها عليك إلا لأنسيك مطر ديسمبر الذي يلطم الزجاج وأبعث فيك هذ1 المساء شيئاً من الحب. . . نحوي. . . أنا!
ص م(970/58)
العدد 971 - بتاريخ: 11 - 02 - 1952(/)
بين سبت وسبت
قال بعضنا لبعض بعد يوم السبت الذي خرب العامر وقوض السامر وأطفأ المضيء: ليس لنا من سبيل إلا أن نلوذ بالريف ريثما تعيد الوزارة الجديدة الأمن إلى النفوس والأنس إلى العاصمة.
وفي صباح يوم السبت الذي وليه كنا في الطريق إلى القرية؛ وكان الجو سافرا والنسيم فاترا والحقول بهيجة؛ ولكننا لم نكد نقطع بعض الطريق حتى برد الهواء وأضبَّت السماء وأنهمل المطر. وظل أنهمال المطر أربع ساعات متواليات تركت بعدها الطريق ترعة متصلة الماء بالسماء تجري فيها السيارة كما يجري الزورق البخاري في النهر. ثم كانت عاقبة هذا الغيث الهتون أن تخلص الجو من الغبار، وتطهر الشجر من الأقذار، وتألقت القرى والحقول بالجمال والنضرة. فقلنا: يا لله! ما أبعد الفرق بين سبت وسبت! ذلك سبت كان فيه النار والدمار واليأس نهاية مرحلة، وهذا سبت كان فيه الماء والنماء والأمل بداية مرحلة!
ودخلنا القرية والتأم شمل الأهل وانتظم عقد المجلس، وأقبل شيوخ الفلاحين ممن يقرءون الصحف أو يسمعون الإذاعة يتناقلون أحاديث القنال وأحداث القاهرة وتغيير الوزارة. وقد لاحظت من مناقلة الرأي أن القرويين لم يعودوا يزنون أعمال الحاكمين بميزان المواد الخسيسة كتخفيض (المال) وإسقاط (الخفر) ورفع (السخرة)؛ وإنما أصبحوا يزنونها بميزان المعاني الكريمة كالدراية الواسعة، والكفاية الممتازة، والسياسة الرشيدة، والإرادة القوية، والإدارة النزيهة، والغاية الشريفة. وهذا الفضل كله إنما كانوا يعتقدونه في وزيرين اثنين كانت صلتهما بالجمهور صلة معنوية تتمثل في تعليم الشعب واستقلال الوطن، هما طه حسين وصلاح الدين! فإذا أسف الناس على أحد من أعضاء الوزارة المعفاة من الحكم فإنما يأسفون على هذين الرجلين اللذين سَموا بالمنصب على الشهوات، وربآ بالحكم عن الشبهات، وكانا للأمة بين ذوي الآراء المرتجلة والأهواء العابثة، العوض من الخسارة والعزاء عن المصيبة. فلو أنهما خرجا على نظام الحزبية ودخلا في الوزارة الماهرية لكانت الوزارة الجديدة فوزا كاملا وفرحة خالصة.
أما رأيهم في علي ماهر فهو رأي الغريق في مِنطقة النجاة! لم يعرفوا عنه إلا أنه عدو الإنجليز وعدو الفوضى وعدو المحاباة وعدو الروتين وعدو التلكؤ، فهو رجل الساعة(971/1)
وبطل الموقف. هو رجل الساعة لأن الحرج الخارجي الذي دُفِعنا إليه يحتاج إلى حزمه. وهو بطل الموقف لأن الهرج الداخلي الذي وقعنا فيه يفتقر إلى عزمه. وهو فوق أولئك كله صديق العامل وصديق الصانع وصديق الفلاح وصديق الفقير ورئيس (جبهة مصر).
ذلك مجمل الرأي القروي في سياسة الوقت وساسته؛ وهو رأيي، ولعله رأي جميع الناس.
ريف المنصورة
أحمد حسن الزيات(971/2)
اللغة الإنجليزية في مصر
للأستاذ محمد محمود زيتون
اللغة الإنجليزية في مصر - أو على حد تعبير وزارة المعارف - (اللغة الأوروبية الأولى) - قد أصبحت غير ذات موضوع لأنها استنفدت جميع أغراضها، وفقدت صلاحياتها، فلا مناص من إلغائها، لأنها أول معقل للاستعمار في بلادنا سبق إلى الانهيار.
وإذا كانت الظروف اليوم قد أتاحت لقادة الرأي في مصر أن تعمل جاهدة على المطالبة بإلغاء وتحرير العقلية المصرية منها على أثر إلغاء معاهدة الذل والاحتلال، واتفاقيتي القهر والاستعمار، فإن لصاحب هذا القلم شرف السبق إلى الكتابة في هذا الموضوع في وقت كان الجهر فيه بهذا يعد ضربا من المجازفة.
وكان ذلك في 3يوليو سنة 1948 يوم كانت جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية ترفع لواء الحرية، في هذا المعترك الصاخب من الأفكار، قلت يومئذ بالحرف الواحد:
(إن هذه اللغة قد دخلت مصر وستخرج منها وكأن لم تكن، لأنها لم تهدف إلى التثقيف وتبادل روائع الأفكار وبدائع العرفان وإنما كان هدفها الحقيقي هو إشاعة الذعر والخوف والفزع والهلع والذل والانكسار إلى غير ذلك من مترادفات (تحطيم الأعصاب) في بلد لا يزال بخير وعافية كمصر.
ونظرا لما حق لدينا من دراسة العلوم الاجتماعية ومن بينها (علم اللغة) وما لكل من تطورات وانحرافات ولهجات تبنت قوانينها الصارمة، فإننا بالقياس إلى هذه القوانين نرى أن اللغة الإنجليزية قد أريد بها أن تشذ شذوذ أهلها عن قوانين اللغة فلبست مسوح العلماء وقفافيز الساسة، (إمعانا في إحكام القيود والأغلال على الشعوب المستضعفة جميعا وفي آن واحد، وتسويدا للهمجية في بعضها على المدنية في البعض الآخر، فقد ظلت هذه اللغة تدرس في مصر أكثر من نصف قرن منذ بدء الاحتلال وكانت لغة التدريس في جميع المواد ما عدا اللغة العربية وما يتصل بها)
ولقد فطنت الجمعية العمومية إلى أساليب الاستعمار الإنجليزي منذ فجر الحركة القومية، فطالبت الحكومة في مارس سنة 1907 بجعل التعليم في المدارس بالعربية، وعلى ذلك الرأي اجتمعت الأمة الناهضة؛ ولكن مما يؤسف له أن قام أحد أذناب الاستعمار فقال فيما(971/3)
قال:
(إن الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الأجنبية لمحض رغبتها أو اتباعا لشهوتها، ولكنها فعلت ذلك مراعاة لمصلحة الأمة. .)
واستطرد يقول - وهو سامحه الله ممن وكل إليه زعامة هذه الأمة - (وإذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية وشرعنا فيه فعلا فإننا نكون قد أسأنا إلى بلادنا وإلى أنفسنا إساءة كبرى لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك والبوسطة والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة)
على أن الأمة الممثلة يومئذ في الجمعية العمومية قد خذلت هذا الاعتراض بإجماع رائع هز أركان التاريخ وتبوأ مكانة من الحركة القومية.
وعلى الرغم من هذا فإن هذه اللغة الاستعمارية قد مضت في طريقها في غفلة من سدنة القومية فاعتبروها (اللغة الأجنبية الأساسية) حتى كانت سنة 1935 حيث ابتدع (ميخائيل وست) طريقته الأمريكية اليهودية التي بها وحد النطق على أسس خاصة. وذلك لتتحقق المساواة في الاستعمار والاستذلال والاستغلال ولتكون العدالة شاملة في الظلم عملا بالقاعدة المشهورة (إذا عم الظلم كان عدلا)
وما لبث الإنجليز - بفضل هذه البدعة الأمريكية - أن قذفوا بملايين الكتب المدرسية الإنجليزية إلى مصر والسودان وفلسطين والحبشة وجنوب أفريقية وأوغندة وكينيا وأستراليا والهند، وبذلك ألغيت كل الحواجز الجمركية أمام هذه البضاعة الإنجليزية الموحدة في هذه الأقطار، فإذا نحن منذ ذلك التاريخ أمام تيار جارف من خرافات وأساطير وخزعبلات فرضوا علينا أن نحشرها حشرا في أدمغة الناشئين الأبرياء.
يسأل التلميذ أستاذه: هل من المعقول أن (جاك) إذا قتل الدب وأخذ قلبه ورمى به في النار تخرج حبيبته منها!. . وهل صحيح أن (كاليبان) و (أريل) عفريتان من عفاريت (الجزيرة المسحورة) كما جاء في رواية (العاصفة) التي دبجتها براعة (شكسبير)؟. .
يا بني. . هذا كلام إنجليز؛ وليس عليك إلا أن تتعلم اللغة ودعك من خرافاتهم. وهنا يريد المدرس الفيلسوف أن يشرح لتلميذ السنة الأولى (فلسفة التناسخ والحلول) الشائعة في عقائد البرهمانيين والبوذيين. ولكن كيف يستطيع مدرس أن يشرح هذا اللغز الغامض لذلك(971/4)
الناشئ البريء!. . وهنا يغضي كلاهما على حسرة ملحة، وألم صارخ، والأمر بينهما لله وحده.
وهكذا أراد الإنجليز أن يغلفوا قلوبنا بطبقة من القطران الأسود المصنوع من خرافات الهمجية الأولى، وبذلك تموت الروح الدينية. وعقيدة التوحيد في جوانح أبناء الأمة فيشب الواحد منهم كافرا بالله والرسل والأنبياء والملائكة واليوم الآخر، كافرا بالمروءات والمثل العليا ومكارم الأخلاق متأثرا بدروس الكفر البواح التي يتلقاها في مدارس الدولة.
وليت هذا الناشئ المسكين يتعلم هذا الكفر في كتاب واحد أو اثنين، ولكن الدولة القيمة على العقل والروح والبدن تأبى إلا أن تغمر تلميذ السنة الأولى الابتدائية بفيض من الكتب الإنجليزية بعضها رئيسي والبعض الآخر إضافي.
وأذكر أن الوزارة كانت توزع على تلاميذ السنة الثانية سبعة كتب إنجليزية منها ثلاثة للعمل بها في المدرسة، والباقي للاطلاع الخارجي بالمنزل، ويعلم الله أن هذا الاطلاع المزعوم ما كان له من وجود إلا في خيال (ميخائيل وست) ومن يدورون في فلكه من صنائع الاستعمار الثقافي.
والنتيجة الطبيعية أن التلميذ لم يفتح كتب (العفاريت) إلى آخر العام حتى إذا بدأت العطلة صفى حسابه مع هذه الكتب وباعها مقابل عدة أقراص من النعناع والحلوى. وأما الدولة فهي التي دفعت لتجار الكفر وسماسرة الاستعمار دماء الفلاحين ثمنا لبضاعة كلها غش وزيف.
وأساليب الاستعمار - على العهد - بها أعقد من حيل الثعالب وأضيق من شراك الصيد على فريستها، فهي تصيد العقول والقلوب؛ وتمتص الدماء وتستنزف الأموال، وتقتل الأرواح وتشل النشاط وتخدر الأعصاب، وتستأصل الحمية من الأنوف إلى غير ذلك من ضروب النصب والاحتيال.
وليس أدل على ذلك من طريقة الامتحانات المتبعة في مراحل التعليم: ففي المرحلة الابتدائية يسهل على التلميذ اجتياز الامتحان لأن طرق وضع الأسئلة مرسومة محدودة، ويكفي أن يحفظ التلميذ مفرداته المقررة عليه، وأن يعرف كلمات الاستفهام وقواعد الزمن ليكون من الناجحين.(971/5)
وهذا التسهيل المفتعل ليس إلا خطة موضوعة تتبعها في المرحلة الثانوية أسلاك شائكة وألغام فاتكة: ففي بدئها يرغم التلميذ على كتابة موضوعات إنشائية - ولم يتعلم قبلا تكوين جملة - ويرغم أيضاً على الإجابة على أسئلة الأجرومية المعقدة - وكان محظورا عليه أن يعلم شيئا مطلقا من المصطلحات. فهو يتجرعها في مدى أشهر معدودات وتكثر ضحايا الامتحان في بداية هذه المعركة، وتعود أساليب الاستعمار إلى قواعدها سالمة حسب الخطة المرسومة.
وإذا جاز هذه المرحلة والتحق بالجامعة، فإن صدمة عنيفة تجبهه عندما يحاول متابعة أستاذه في شرحه بهذه اللغة فيسقط في يده ولا يجد ما يستعين به على الدراسة التي تخصص لها إلا بعد مشقة وعناء.
مراحل كلها صخور وأشواك ملقاة في الطريق وعلى الجانبين لتوهم الناشئ بالضعف والغباء، وتقذف في نفسه الرعب والذل والانكسار فتتحطم أعصابه، ويتبلد ذهنه.
وتعمد الوزارة كل سنة إلى تغيير الكتب الإنجليزية التي تدرس فيها طلبة الثقافة والتوجيهية. فما الحكمة من ذلك؟ اللهم أنه ابتزاز أموال الدولة سنويا باسم العلم. وإلا فأي ضرر عقلي أو تربوي إذا استمر تدريس كتاب واحد بعينه لعدة سنوات؟ وهل كتب المطالعة العربية المقررة أساءت إلى عقلية التلميذ لمجرد استمرار تدريسها لسنوات عديدة؟
أراد المستعمرون أن يؤخروا مصر إلى عصر ما قبل التاريخ حيث الهمجية الروحية والفكرية، وهذا هو الوضع الذي جاز على مصر ولم تتنبه إلى خطورته، ولولا بقية من إيمان، وشعاع من عقل (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)
وفي إبان الحرب الماضية كان الأساتذة الإنجليز أنفسهم رسل دعاية للاستعمار في مصر، فهذا مستر سكيف رئيس قسم الأدب الإنجليزي يبشر تلامذته من طلبة الآداب بأحسن وأروع ما كتب في هذا الأدب قديمه وحديثه، ذلك هو (خطاب من طيار لأمه) وقد تطوع بترجمته إلى العربية سعادة هيكل باشا ونشره الاتحاد الإنجليزي المصري.
وكان مقررا على طلبة التوجيهية منذ سنوات مقالات عن (مشروع بيفردج) و (التأمين الاجتماعي) و (الخدمات العامة) ولم يتكلف أحد من قادة الفكر وسادة الرأي عناء الاطلاع على ما يدرس للشباب وتبيان مدى ما ترمي إليه هذه الأفكار الوافدة، ولم يعن أحدهم يوما(971/6)
بنقد ما يراد منه فتنتنا عما لدينا من تراث اجتماعي نستطيع به أن نجابه هذه الأفكار السطحية وندفعها بالحق. وهل الزكاة التي افترضها الإسلام عاجزة - إذا أحسن أداؤها - عن تعديل الأوضاع الاقتصادية وكفالة الأمن والسلام.
وليس غلوا منا إذ نقول إن اللغة الإنجليزية وآدابها لا تصلح لأن تكون عاملا من عوامل التثقيف أو التهذيب في مصر لأنها تقوم على مبادئ هدامة نذكر منها: فرق تسد - تمسكنت فتمكنت - المصلحة أولا - اعمل بما أقول لا كما أفعل - حتى أنت يا بروتس. -
كل ذلك وما إليه إنما ينطوي على الدس والخبث والنفاق والمادية والأنانية واللولبية الأفعوانية، وقد سبق لي أن قلت في مقال (عصابة روتشيلد) بأن الإنجليز هم الورثة الذين تبنوا اليهودية التي فككت أوصال أوربا في القرن الثامن عشر كما سبق أن قلت إن هذه اليهودية تتمثل في النزعة المادية وهي خاصية من خصائص لغة الإنجليز كما وضحنا ذلك في مقالنا عن (اللغة والفكر) حيث يقول الإنجليز: أي ادفع انتباها ويقولون: أي ادفع زيارة، كأن الانتباه والزيارة نقود تدفع.
ولو قدر لهذه اللغة البقاء في بلادنا أكثر من ذلك بهذا الوضع وبتلك المكانة فإنها تسيء إلى نفسها أكثر مما تحسن إليها، لأنها لغة أشاعت الذعر في النفوس، سدت مسالك التفكير، وضيقت من آفاق العقيدة، وزعزعت من أركان الآداب السامية والأخلاق الفاضلة، واستعبدت المدرسين حتى صاروا كالآلات الصماء حتى لقد استعاضت عنهم بالفوتوغراف.
وليس أمامنا الآن إلا خطوة عملية واحدة لرد اعتبارنا وحفظ كرامتنا كأمة ذات سيادة، وهذه الخطوة هي ألا نجعل لهذه اللغة في بلادنا أكثر من الوضع الذي صارت إليه بلادها، فقد أصبحت إنجلترا أفقر الدول بعد أن كانت أغناها، وأصبحت ذيلا بعد رأس، وصار لها في بلادنا (سفير) بعد أن كان لها (مندوب سام) وأصبحت في نظر العالم كله وباء، وبلاء، فلا أقل من أن تكون لغتها في بلادنا كذلك شر بلاء وأخبث وباء.
ومن العار أن يكون عدد حصص هذه اللغة أكثر من عدد حصص اللغة القومية. ومن العار أيضاً أن نطالب بجلاء الجيوش الاستعمارية بينما أكبر أصنام الاستعمار في مصر لا يزال حيا يعبد. ومن العار أن يتعطش شبابنا إلى معرفة مواطن البطولة في تاريخنا المجيد، فلا(971/7)
يجدون ما يرى غليلهم بينما نجرعهم غصص لغة لا يستسيغون لها طعما ولا لونا ولا رائحة.
ومن موجبات حمد الله وشكره أن هذه اللغة لم تتمكن من جوهر حياتنا ولم تنجح في أن تكون لغة تخاطب ولا لغة كتابة. .)
هذا ما قلناه بالحرف الواحد منذ شرعنا هذا القلم لهدم هذا الصنم الغليظ، ولعل الحكومة المجاهدة تستطيع اليوم أن ترفع معولها وتهوى به دفعة واحدة للقضاء على هذا الخبث بعد أن فتح الله علينا وهدانا إلى الصراط القويم بإلغائنا روابط الذل وحبائل الاحتلال. ولتكن بعد ذلك مادة اختيارية من بدئها إلى ختامها، فمن شاء دراستها فعليه أن يتخذ لنفسه الوسيلة، ومع ذلك فالدين النصيحة، فليعلم من لا يعلم أن هذه اللغة إنما هي لغة الأنانية بكل ما في هذه الصفة من أوضار. ألا يرى معي القارئ كيف يجعلون ضمير أنا هو الضمير الوحيد الذي يكتبونه بحرف كبير؟ فما هو السر في هذا إن لم تكن الأنانية.
ونقولها صريحة لأبناء العراق الشقيق: إننا كما يقول أمير الشعراء (كلنا في الهم شرق) ولكننا كما نحصي على أنفسنا أخطاءنا، لا نضن عليهم بالنصح لوجه الله والعروبة، فليعملوا فورا على تخلص لهجتهم ولافتاتهم ومكتوباتهم من الألفاظ الإنجليزية الدخيلة واستبدال الألفاظ العربية بها مثل (السائق) و (الكوب) و (القنينة) ولا داعي مطلقا لأن نقول التي شاعت في العراق وتسيء إلى القومية العربية التي نعمل على تدعيمها وأنف المستعمرين في الرغام.
محمد محمود زيتون(971/8)
بين مجزرة (دير ياسين) ومشنقة (الباب المعظم):
الجمل اليهودي وسم الخياط
للأستاذ على حيدر الركابي
عثرت البشرية خلال تاريخها الطويل على مبادئ خلقية سامية اتفقت عليها وجعلتها معالم بارزة في مجرى حياتها فإذا ما اقتربت منها أمة من الأمم وتمسكت بعراها كانت في أوج تقدمها وإذا ما أهملتها وابتعدت عنها كانت في أسفل دركات انحطاطها لا فرق في ذلك بين أمة شرقية أو غربية ولا بين أمة حديثة أو قديمة.
وتشذ أمة يهود عن ركب البشرية في ذلك فتقرر لنفسها مقاييس خلقية خاصة وتبالغ في هذا التخصص حتى تحتكر الخالق، وبهذه الطريقة اليهودية الفذة تصبح العدالة شيئا نسبيا ومثلها الصدق والشرف إلى آخر ما تضمه الأخلاق من صفات معروفة وغير محصورة.
وبالاستناد إلى هذا المذهب اليهودي الخاص في الأخلاق ينقلب الكذب اليهودي صدقا والنذالة اليهودية شرفا والظلم اليهودي عدلا رائعا!. . بينما ينقلب صدق غير اليهود كذبا وشرفهم نذالة وعدلهم ظلما إذا كان في ذلك ما يمس مصلحة يهودية كبرت أو صغرت.
لقد طالبوا بتقسيم فلسطين وأصروا عليه وجندوا الدنيا لإقراره. فلما حققوه أعلنت أبواقهم في كل مكان أنه الحل العادل الوحيد للمشكلة الفلسطينية لأنه يستند إلى حق اليهود التاريخي في أرض الميعاد. أما أن تكون فلسطين مأهولة بأكثرية ساحقة عربية، أما أن تكون هذه الأكثرية مالكة لمعظم أراضي فلسطين منذ قرون، فأمر لا يؤبه له وحق العرب المستند إلى تلك الأكثرية ليس بحق. لماذا؟ لأنه ليس حقا يعود ليهودي!
وطالب العرب بتدويل القدس على الأقل، فقامت قيامة اليهود وأرغوا وأزبدوا. لماذا؟ لأن أكثرية سكان القدس يهودية، وهذه الأكثرية لا تريد تدويل القدس فيجب احترام رأي الأكثرية. .
عجيب والله أمر يهود! تفرض إسرائيل فرضا ضد رغبة الأكثرية من السكان ثم ترفض تدويل القدس احتراما لرأي الأكثرية. . مثال رائع للعدالة النسبية التي تتعشقها يهود!
وينظم اليهود مذابح وحشية لكي يحملوا العرب على ترك ديارهم ويعترف بذلك كبير زعمائهم الإرهابيين - مناحيم بيكن - ويسجل اعترافه في منشورات إنكليزية أشار فيها(971/9)
إلى مذبحة دير ياسين وأنه تولى بنفسه تنظيمها والإشراف عليها لكي يضمن تحقيق التنكيل المتقن بالعرب، ثم يزور بيكن أمريكة فيستقبل في نيويورك ومدنها اليهودية الأخرى استقبال الأبطال الفاتحين. ويمعن اليهود في اضطهاد العرب ومصادرة أملاكهم حتى بعد قيام إسرائيل. يفعلون ذلك دون تردد وبضمير هادئ لأنهم يهود وأعمالهم الوحشية موجهة ضد غير اليهود؛ وإذن فهي في نظرهم تمثل منتهى العدالة، وإذن فهي تمثل منتهى الأخلاق!
وينظم اليهود إرهابا يهوديا منقطع النظير خارج حدود إسرائيل: في دولة عربية؛ ويصبون في هذه الدولة سيلا متدفقا من الجواسيس يتآمرون على سلامتها. وهذا عمل صالح لا غبار عليه لمجرد أنه عمل يهودي موجه ضد غير اليهود! أما أن تفطن تلك الدولة العربية إلى نوايا اليهود نحوها، وأما أن تقوم بإلقاء القبض على أولئك الجواسيس والإرهابيين من يهود، وأما أن تحيلهم إلى المحاكمة العلنية، وأما أن تصدر الهيئة القضائية المختصة حكمها بإعدام بعض وسجن بعض فهي جرأة عجيبة لا تغتفر وهي الظلم بعينه! لماذا؟ لأن الدولة غير يهودية والمحكمة غير يهودية والمتهمين يهود. . . وتحب أمة يهود أن تتجاهل أن التحقيق كان أصوليا وشاملا وأن المحاكمات كانت علنية وأن محامين من غير اليهود تولوا الدفاع عن المتهمين وأن الحكم صدر ببراءة بعضهم. تتجاهل أمة يهود ذلك كله وتكذب لأن كذب اليهود لمصلحة يهودية هو الصدق بعينه.
هذه هي المقاييس الخلقية المقلوبة عند اليهود!. .
من حق (موشي شاريت) أن يعلن حزنه العميق أمام زملاءه أعضاء (الكنيست) اليهودي، ومن حق هؤلاء أن يوقفوا الجلسة حدادا، ومن حق (أوبري إيبان) أن يمتنع عن حضور جلسات هيئة الأمم لشدة حزنه، ومن حق (راديو إسرائيل) أن يبدل برامجه ليذيع الكئيب من موسيقاه اليهودية البغيضة: من حق أمة يهود أن تفعل هذا وأكثر لتعرب عن شعورها لإعدام يهوديين في بغداد وسجن آخرين. ولكن ليس من حقها مطلقا أن تختلق وتغالط وتكذب وتحتال لكي تتهجم على الشرطة العراقية والقضاء العراقي والعدالة العراقية بأسرها وتوجه لها الشنيع من التهم بالبذيء من الألفاظ.
عفوا! قلت ليس من حقها ونسيت أن الحق اليهودي في عروقها له مفهوم يهودي خاص(971/10)
وهو حق ثابت لأنه حق يهودي. ولهذا أعود فأقول: إن من حقها اليهودي أن تفعل ذلك وأكثر، ومن حقها اليهودي أن تستجير بالضمير الإنساني ليثور على حكم قانوني قضى بإعدام يهوديين، بعد أن سخرت كل ما تملك من وسائل جهنمية لتحول دون ثورة ذلك الضمير الإنساني بعينه ضد فظائع فلسطين ومذبحة دير ياسين!
ولا أحب أن أعتقد أن الضمير الإنساني قد ماع إلى هذا الحد الذي يصبح معه أداة طيعة في أيدي اليهود: يثيرونه أو يخمدونه حسب مقتضيات المصلحة اليهودية وإن كان حقا أن الضمير الإنساني قد تدنى إلى هذا الحد في يوم الناس هذا فلا حول لنا ولا طول إلا أن نستجير بالله من يهود!
ولكن الضمير الإنساني في حقيقته السامية لا يمكن أن يصبح يهوديا لأن هناك تناقضا ثابتا بين الإنسانية في معانيها السامية وبين اليهودية. وعليه فلا بد للضمير الإنساني من يوم قريب بإذن الله يثور فيه على اليهودية العالمية وعلى طغيانها في هذا العصر.
وما ذلك على الله بعزيز. . .
بغداد
علي حيدر الركابي(971/11)
الخوف
للكاتب الفرنسي جان جاك روسو أحد زعماء الثورة الفرنسية
للأديب محمود البكري محمد
. . . كنت في الريف ملقيا رحلي عند راهب بروتستانتي أسمه السيد (لامبير سيه)، واصطنعت من أبن عمي (برنار) صديقا لي. . ولكنه كان جبانا إلى حد يثير الدهشة، ولا سيما حين يجن الليل! وكنت أسخر من خوفه دائما حتى ضاق (لامبير سييه) ذرعا فأراد أن يضع شجاعتي تحت التجربة. . .
وفي ليلة داجية من ليالي الخريف دفع إلي بمفتاح المعبد. . ودعاني إلى أن أذهب إلى المنبر، لأبحث عن الإنجيل الذي كان قد تركه هناك. وحتى يثير في حب الذات أضاف كلمات لم أستطع معها أن أتراجع. . .
وانطلقت بلا ضوء. . وربما كان شرا أن يكون معي. . وكان لزاما أن أمر بالمقبرة، فعبرتها في تسرع، لأني حين أجدني في الهواء الطلق تنطلق تهاويل الدياجي من مشاعري. . .
. . وعندما كنت أعالج فتح الباب سمعت أصداء تنبعث من القبة خيل إلي أنها أصوات. . وبدأ ثباتي (الروماني) يتزعزع وانفتح الباب، وهممت بالدخول، ولكني لم أكد أخطو بضع خطوات حتى توقفت، أخذت أتأمل الظلام المطبق في هذا المكان الفسيح. . . ورأيتني مشدودا برعب قف منه شعري، فعدت أدراجي، وخرجت ألتف في خوفي. وفي الردهة بصرت بكلب صغير كان يسمى (سيلتان). لاطفني فرد إلى بعض الطمأنينة. . .
واستحيت من رعبي. . فعدت من جديد. . وتمنيت لو صحبني (سيلتان). . ولكنه أبى أن يتبعني!
اجتزت الباب مسرعا. . ودخلت الكنيسة. . ولم أكد أدخل حتى ملأني الفزع، وطار صوابي! ومع أن المنبر كان على يميني وكنت أعرف ذلك حق المعرفة، فكنت أدور بلا وعي، وأبحث عنه كثيرا في الشمال، وأتخبط حائرا بين المقاعد، وما عدت أعرف أين أنا، وما عاد في مقدوري أن أعثر لا على المنبر ولا على الباب، ووقعت في قلق حائر لا يصفه تعبير!(971/12)
وفي النهاية لمحت الباب، فاندفعت إليه، ومرقت منه - كما دخلته - في سرعة، مصمما على ألا أدخله إلا في ضوء النهار. . .
ورجعت على عقبي إلى المنزل. . وهممت بالدخول، ولكن صوت السيد (لامبير سييه) رن في عاصفة من الضحك. . وحسبت أن هذه الضحكات مني، وخشية أن يفتضح أمري ترددت في فتح الباب. . . وفي هذه اللحظة سمعت ابنة (لامبير سييه) تبدي قلقها علي. . وتأمر الخادمة أن تأخذ المصباح - بينما يعارض الراهب - وتصحب معها ابن عمي الشجاع، الذي لن يقصر أحد في تهنئته بهذا الشرف! وفي تلك اللحظة، تلاشت كل مخاوفي، إلا خوفي من أن أصبح مثار الدهشة من رعبي، فجريت وطرت إلى المعبد، لا خائفا ولا ضالا. . ووصلت إلى المنبر، وصعدته، وتناولت الإنجيل. . ثم هبطت في سرعة، وفي قفزات ثلاث كنت خارج المعبد الذي نسيت أن أقفل بابه، ودخلت مثواي لاهثا، ورميت بالإنجيل على المنضدة مكدودا، إلا أنني كنت مفعم القلب بالسرور لأنني سبقت النجدة التي كانت قد أعدت للبحث عني.
محمود البكري محمد(971/13)
نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:
السيد جمال الدين الأفغاني
للأستاذ حمدي الحسيني
- 3 -
أقام السيد جمال الدين في الهند فترة من الزمن وضع خلالها رسالته في الرد على الدهريين. وما أن حدثت ثورة عرابي في مصر حتى أسرعت حكومة الهند فوضعته في نطاق من الرقابة الشديدة خشية أن تهب نسمة من روحه القوية على تلك الحركة الثورية فتزيد في اشتعالها وتؤجج من نيرانها فتقطع على الاستعمار الإنكليزي طريقه إلى مصر واحتلال مصر. ومنذ اطمأن الإنكليز على خطتهم في مصر سمحوا له بمغادرة الهند فغادرها إلى باريس حيث التقى بصديقه الأستاذ العلامة الشيخ محمد عبده رحمه الله فأصدر جريدة العروة الوثقى لدعوة المسلمين إلى الوحدة الإسلامية تحت لواء الخلافة العظمى حتى اشتدت مقاومة الاستعمار الإنكليزي لها فأغلق دونها أبواب الهند ومصر فتوقفت عن الصدور، وكان قد وصل في ذلك الوقت صدى تلك المقالات القوية التي نشرتها العروة الوثقى عن الاستعمار الإنكليزي في البلاد العربية والإسلامية إلى لندن، وكانت حركة المهدي لا تزال في السودان مندلعة النار فيتخذ الاستعمار الإنكليزي من الحجة في إخمادها وسيلة للسيطرة على مصر والتدخل في شئونها. فاستدعى سالسبري رئيس وزراء إنكلترا في ذلك الوقت السيد جمال بحجة استطلاع رأيه في المهدي وظهوره وقصده الحقيقي أن يحك هذه النفس الكبيرة بما عنده من جاه وسلطان ظنا منه أن مثل هذه النفس تلين بمثل هذا الإغراء الرخيص الذي كان الاستعمار يستعين به على كم أفواه الرجال فذهب جمال الدين إلى لندن واجتمع بسالسبري اجتماعا عرض سالسبري فيه على السيد جمال الدين أن يعينه سلطانا على السودان ليستأصل جذور فتنة المهدي ويمهد السبيل لإصلاحات بريطانيا فيه: (تكليف غريب وسفه في السياسة ما بعده سفه) بهذا أجاب السيد جمال الدين رئيس وزراء بريطانيا العظمى ثم قال له: هل تملكون السودان حتى تريدون أن تبعثوا إليه بسلطان؟ مصر للمصريين والسودان جزء متم لها. وصاحب الحق الخليفة الأعظم حي(971/14)
يرزق ولديه من الجيش المادي والمعنوي ما يتذلل معهما كل صعب وفتنة في الكون الإسلامي وأجزاء ممالكه. قال هذا وخرج ثم عاد إلى باريز فالتقى بالفيلسوف الفرنسي - رينان - وجرى بينهما حديث في العلم والإسلام وحقيقة القرآن والعمران (فشهد له رينان بصحة العلم وقوة الحجة ورجع عن كثير من آرائه في أن الإسلام والقرآن مانعان للحضارة والعمران).
قضى السيد جمال الدين ما يزيد على الثلاث سنوات في باريز بذل خلالها من الجهود العظيمة الموفقة في مكافحة الاستعمار الأوربي الطامع في البلاد العربية والإسلامية ما جعل هذا الاستعمار يشعر بالقلق والاضطراب في حركاته وسكناته والخوف والذعر في آماله وغاياته. وبينما كان هذا النسر المحلق في سماء مجده يهم برحلة واسعة شاملة في البلاد العربية إذ بشاه إيران يستقدمه إلى طهران فآثر تلبية الدعوة وذهب إلى طهران فاستقبله الشاه بالإكرام والإعظام واسند إليه وزارة الحربية في حكومته وجعله فوق مستشاره الخاص، فحمل أعباء عمليه العظيمين في الدولة وراح يرشد الشعب الفارسي إلى ما له من حقوق وما عليه من واجبات فالتفت حوله أمراء البلاد وعلماؤها وأقسموا له أن يصدعوا بما يأمرهم به فأوجس الشاه خيفة فتنكر له، فرأى أن يستأذن الشاه بمغادرة البلاد فغادرها إلى روسيا وكانت شهرته قد سبقته إليها فاستقبل فيها بالإجلال والاحترام. ودعاه القيصر واجتمع به وسمع حديثه عن أسباب الخلاف بينه بين شاه إيران، فقال له القيصر إني أرى الحق في جانب الشاه إذ كيف يرضى ملك أن يحكم فيه فلاحو مملكته. فقال له جمال الدين أعتقد يا جلالة القيصر إن عرش الملك إذا كانت ملايين الرعية أصدقاء له خيرا من أن تكون أعداءَ يترقبون الفرص ويكنون في الصدور سموم الحقد ونيران الانتقام. فغضب القيصر وأوعز إلى رجال بلاطه بأن يخرجوه من بلاده بأقصى حدود السرعة. فخرج منها إلى أوربا وأخذ يتنقل في عواصمها حتى التقى في ميونيخ بصاحبه شاه إيران ثانية فاعتذر له الشاه عما فرط منه نحوه، ودعاه لمرافقته إلى طهران فقبل جمال الدين الدعوة وسار معه إلى بلاد فارس. ولم تكد رجلاه تطاءان أرض فارس حتى عاد الناس فالتفوا حوله كما فعلوا في المرة الماضية وقد كلفه الشاه هذه المرة أن يضع ما يراه مناسبا للمصلحة العامة من القوانين، فسن قانونا أساسيا للمملكة يقضي بأن تكون الحكومة(971/15)
ملكية شورية (دستورية) ولكن ما كاد الشاه يطلع على ذلك حتى طار صوابه. فقال للسيد جمال الدين: أيصح يا حضرة السيد أن أكون وأنا ملك ملوك الفرس كأحد أفراد الفلاحين؛ فقال له جمال الدين اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك ستكون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأثبت مما هي الآن. فنفر منه الشاه وأعرض عنه فأحس بهذا النفور فأستأذن بالذهاب إلى بلدة (شاه عبد العظيم) فأذن له. فذهب إليها وتبعه عدد كبير من الزعماء وقادة الرأي في البلاد فخاف الشاه عاقبة ذلك فأمر بالقبض عليه فأنتزع من فراشه وهو محموم وأوصل إلى حدود العراق، فذهب إلى البصرة وأقام فيها حتى عادت إليه صحته فغادرها إلى لندن. وهناك جاءته من عبد الحميد دعوة إلى الآستانة فذهب إليها وكان في استقباله ياور السلطان فسأله أين الصناديق أيها السيد؟ فقال له: ليس معي غير صناديق الثياب وصناديق الكتب. فقال الياور أين هي؟ فقال جمال الدين أما صناديق الكتب فها هي، وأشار إلى صدره، وأما صناديق الثياب فهذه وأشار إلى جبته. ذهب السيد جمال الدين لمقابلة السلطان فاستقبله أحسن استقبال وأرسله إلى قصر كان قد أمر بإعداده له. وما أن خرج من حضرة السلطان حتى قال له كبير الياوران في شيء من الاستغراب والعتاب: إن إجلال السلطان لحضرتك لم يسبق له مثيل. واليوم رأيناك تخاطبه بلهجة غريبة وأنت تلعب بالمسبحة في حضرته. فقال له جمال الدين: سبحان الله! إن جلالة السلطان يلعب بمقدرات الملايين من الأمة على هواه ولا يعترضه منهم أحد؛ أفلا يكون لجمال الدين حق أن يلعب بمسبحته كيف يشاء؟!
أما إكرام السلطان لجمال الدين واحتفاؤه به وإقباله عليه فكان عظيما جدا. وأما إعجاب جمال الدين بالسلطان فكان إعجابا آخذا عليه جوانب نفسه؛ ولكن إعجابه هذا بالسلطان لم يمنعه من أن يقول له في صراحة ووضوح وفي شجاعة وعزم: خذ بعزم جدك محمود، وأقص الخائنين من خاصتك، واظهر للملأ ظهورا يقطع من الخائنين الظهور، واعتقد أن نعم الحارس الأجل. مما جعل السلطان يتنفس الصعداء ويعتذر له عما دعاه إليه بما في بيئته من الفساد، ويعده أن يفعل ما دعاه إليه في المستقبل.
قد عرض السلطان على جمال الدين مشيخة الإسلام ليصلحها فأبى ذلك وطلب من السلطان أن يعمل عملا يتغير معه شكل الحكم تغييرا أساسيا وهو يعني بهذا الرجوع إلى الشورى(971/16)
في الحكم، كما عرض عليه أضخم الوظائف وأعلى الرتب وأسمى النياشين فرفضها كلها قائلا: إن وظيفة العالم ليست بمنصب ذي راتب بل بصحيح الإرشاد والتعليم، ورتبته ما يحسن من العلوم مع حسن العمل بالعلم.
قضى جمال الدين في الآستانة أربع سنين ضيفا على السلطان كان خلالها حركة خير دائمة، بوعظه وإرشاده حتى دهمه داء السرطان فمات رحمه الله سنة 1897 ميلادية.
رمى السرطان الليث والليث خادر ... ورب ضعيف نافذ الرميات
حمدي الحسيني(971/17)
ثورة الشرق
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
في مصر ثورة
وفي إيران ثورة
وفي تونس ثورة
وفي مراكش ثورة
جميع هذه الثورات تهدف إلى غرض واحد هو تحرير الشرق من سيطرة الغرب وسيادته.
فمصر قد قامت تناضل وتكافح من أجل حريتها واستقلالها ووحدة واديها، وقد أقسم أبناؤها ألا يهدأ لهم بال، أو يغمض لهم جفن، إلا إذا حققوا لوطنهم أهدافه المشروعة ولن يعبئوا بما يبذلون من تضحيات ودماء.
ولكن إنجلترا ترفض أن تسلم بحق مصر المشروع ويمعن جنودها في تحديهم لمصر وأبنائها، بل أكثر من هذا لقد خرج الإنجليز على كل المبادئ الإنسانية والقوانين الأخلاقية فارتكبوا من الجرائم الوحشية ما يخجل من ارتكابه أحط الشعوب وأقلها حظا من المدنية. لقد اعتدوا على الشيوخ الضعفاء في صلواتهم وهاجموا الأطفال والنساء وانتهكوا حرمات المنازل فطردوا أهلها منهم، وشردوا عائلاتهم في الطرقات والشوارع تحت وابل من رصاص مدافعهم ودباباتهم وطائراتهم، وارتكبوا ما لا يحصى ولا يعد من حوادث السلب والنهب. ثم عمدوا أخيرا إلى نسيان جميع القوانين الدولية، فعذبوا الأسرى وأطلقوا عليهم الوحوش الضارية فنهشت لحومهم وهم أحياء ثم أعدموهم رميا برصاص دمدم. حتى بيوت الله من مساجد وكنائس بل والمقابر لم تسلم من عدوانهم وإجرامهم. ويدعي الإنجليز بعد ذلك أنهم متحضرون على أكبر جانب من الحضارة والمدنية!
ولسنا نعرف بعد أي قانون أباح لإنجلترا وأبنائها أن ينزلوا في بلاد غير بلادهم على غير إرادة أهله وأن يقيموا كرها بغير رضى أصحاب البلاد ثم يقترفوا في هذه البلاد أشنع الإثم وأفظع الجرم إذا ما طولبوا بمغادرتها! أهو قانون عصبة الأمم البائدة، أم قانون هيئة الأمم المحتضرة؟
فليمعن الإنجليز في ضلالهم فإن هذا يقرب نهايتهم ويدني أجلهم.(971/18)
وفي إيران ثورة على القراصنة الإنجليز. لقد هال الإيرانيين ما تربحه شركة البترول الإنجليزية من أموال طائلة فقد بلغت أرباح الشركة عام 1950 ما يزيد على مائة مليون من الجنيهات، ومن ثم قررت إيران تأميم البترول في بلادها، وطردت الإنجليز من ديارها. وطأطأت إنجلترا رأسها وانسحب أبناؤها الشجعان تحت جنح الظلام من إيران. لماذا؟ لأن إنجلترا خافت أن تصبح إيران (كوريا) أخرى تأكل الإنجليز الشجعان. والسر في ذلك أن روسيا جارة لإيران، وأن إيران تستطيع في سهولة ويسر استيراد الأسلحة من روسيا، ومن هنا جبنت إنجلترا (الشجاعة) في إيران واستأسدت في مصر. لكن أبناء النيل سيذيقون أبناء التايمز أشد ألوان العذاب والهوان.
وفي الأسبوع الماضي أمرت إيران إنجلترا بإغلاق قنصليتها في ديارها. ومرة أخرى طأطأت إنجلترا رأسها ورفعت إيران هامتها. وهكذا تقلص النفوذ البريطاني من إيران وذهب إلى غير رجعة.
الضمير الأمريكي
في 19 يناير الماضي انتابت إنجلترا وجنودها نوبة من الجنون، فأخذ الجنود الإنجليز يصلون مدينة الإسماعيلية نارا حامية وكانوا يطلقون نيرانهم على غير هدى وفي وحشية منقطعة النظير. وقد أصابت إحدى رصاصاتهم قلب راهبة أمريكية فخرت صريعة. وبرغم هذه الحقيقة راحت إنجلترا أكذب أهل الأرض جميعا تذيع أن الراهبة قتلت برصاص أطلقه الفدائيون المصريون، وكانت ترمي بهذا إلى كسب عطف الرأي العام الأمريكي وإثارته ضد مصر. وإنجلترا كما عرفناها دائما لا تتعفف في الوصول إلى غايتها عن استخدام أحط الطرق وأدنى الوسائل من كذب ونفاق وغدر وخيانة.
وقد ثارت أمريكا وكلف السفير الأمريكي في القاهرة ببحث الحقيقة، وقد قام القنصل الأمريكي ببور سعيد بعمل التحقيق وأعلن السفير أن التحقيق لم يثبت إدانة المصريين.
إلى هنا انتهت مسألة الراهبة، ولكني أحب أن أتساءل:
لقد ثار الأمريكان لمقتل راهبة واحدة فلم لا يثورون ضد إنجلترا وهي تقتل وتشرد كل يوم آلاف الأبرياء من المصريين لا لذنب جنوه ولكن لأنهم آمنوا بوطنهم وطالبوا إنجلترا بالخروج منه؟ أين الضمير الأمريكي؟(971/19)
ولكنا قد عرفنا الأمريكان وغيرهم من أهل الغرب. ألم يشردوا مليونا من العرب وطردوهم خارج ديارهم! واليوم تشرد إنجلترا سكان منطقة القنال! ولكن مهلا! إن نصر الله قريب.
وتونس
في 1830 احتلت فرنسا الجزائر، وفي 1881 ادعت فرنسا أن القبائل التونسية تهدد سلام الحدود الجزائرية، ثم أرسلت قواتها فاحتلت تونس بعد نضال مرير، وأرغمت (الباي) على توقيع معاهدة تعهد فيها أن تسير حكومته وفقا لرغبات فرنسا، وكان معنى هذا انتقال إدارة تونس إلى يد الفرنسيين.
وقد قام التونسيون منذ قليل يعلنون أنهم قد بلغوا سن الرشد وأن من حقهم أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. ولكن فرنسا لم تقبل هذا وانطلق أبناؤها يقتلون إخواننا الأبرياء من التونسيين، وفي كل يوم يسقط منهم جرحى وشهداء.
وهكذا يتآمر أهل الغرب ضد الشرق وحرياته وتقف دوله وخاصة إنجلترا وفرنسا في وجه الأماني المشروعة لأهل الشرق، وترتكب الدولتان في سبيل إبقاء سيادتهما أشنع الإثم وأفظع الجرم، ولكن الحركات القومية في الشرق لن يخمد أوارها حتى يعود للشرق مجده وكرامته وحريته واستقلاله.
يا بغاة الغرب
أكثروا من ظلمكم وبغيكم فإن فيهما مصرعكم، واعلموا أنكم كلما أمعنتم في الطغيان سفك الدماء قربنا من حرياتنا وأهدافنا.
أبو الفتوح عطيفة(971/20)
3 - دعوة محمد
لتوماس كارليل
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
دين القوة والعدل
لقد اتهم كثيرون الدين الإسلامي بالشهوانية والدعوة إلى الاستكانة والخلود إلى الكسل، ولكني أرى أن كل ما كتب في هذا الموضوع وكل ما قيل فيه إنما هو جور وظلم لا يقبلهما منصف ولا يقرهما عاقل، فإن ما أباحه الإسلام مما تحرمه النصرانية، لم يكن من عند محمد وإنما كان متبعا لدى العرب جاريا عندهم من قديم الزمان. وكل ما عمله الإسلام أنه أراد أن يقلل من عادات العرب المستهجنة جهد استطاعته، وجعل عليها من الحدود والأحكام مما جعل الدين الإسلامي ليس سهلا هينا كما يدعي أولئك الحاقدون.
وكيف يكون الإسلام دينا هينا وفيه من القواعد الصعبة التي تربي المسلمين على الطاعة والنظام والنظافة والأخذ بأسباب القوة والمتعة؟ إن دينا فيه الوضوء وإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم والصوم شهرا كاملا كل سنة، وتحريم الخمر والميسر والزنا وأكل أموال اليتامى وغير ذلك، لا يكون إلا دينا يعمل لخير البشرية جمعاء. وإن دخول الناس في الإسلام أفواجا، وإقبالهم عليه، لم يكن كما يدعون، لسهولته ويسره وقلة تكاليفه، لأنه من أفحش الطعن على بني البشر والقدح في عقولهم وذم أعمالهم، أن يتهموا بأن السبب في محاولتهم القيام بجلائل الأعمال والإتيان بعظائم الأمور، هو الراحة والدعة والإخلاد إلى الهدوء، والتماس الجانب اللذيذ من الحياة الدنيا والتمتع بما في الآخرة بأيسر السبل، فإن أي آدمي لا يخلو من العظمة ومحاولة الوصول إلى جلائل الأعمال.
فنحن نجد الرجل المقاتل الذي يؤجر روحه ويمينه بأبخس الأجر، يتمسك بالشرف والرفعة ولا ينفك يقول: لأفعلن ذلك وشرفي. ولن نجد آدميا مهما كان وضيعا يقبل أن يكون كل همه من الحياة ملء جوفه بالطعام، ولكنا نجده يحاول دائما أن يأتي بأعمال شريفة يذكر بها ليثبت للناس أنه يستحق الحياة، وأنه ليس أقل من سواه من بني البشر. وما أشد تعس الذين يرمون الإنسان بأنه ميال بفطرته إلى الراحة والدعة وأنه يحب الترف ويستكين إلى(971/21)
اللذة، وفاتهم أن الذي يجذب الإنسان ويستهويه إنما هي الأهوال والصعاب والقتل والاستشهاد. ومن أراد دليلا على قولي هذا، فليعمد إلى أبلد إنسان ويرشده إلى سبيل المكرمات والمحامد، فإنه لا يلبث أن يراه وقد اتقدت نفسه غيرة وتأجج قلبه حماسة، بل وإنه سيصبح بطلا عظيما. وما علينا إلا أن نقدح ما بنفس المرء من زناد الفضل فإنه لا بد وأن تشتعل نفسه نارا تحرق ما فيه من أوشاب ونقائص.
فمن الخطأ الفاحش أن نعتقد أن اعتناق الناس لدين من الأديان، عما يجدون فيه من يسر ودعة ومتاع ولذة، ولكنهم يدخلونه لما يثير في قلوبهم من عوامل الشرف والعظمة، ولما يبعث في نفوسهم من دواعي المجد والبطولة، والإسلام على الخصوص، ليس كما يتهمه خصومه دين راحة ودعة واستكانة ورضى بأي الحياة تكون، ولكنه دين عزة ومتعة ودين تربية وقوة، ودين شرف وفضيلة. وليس أدل على ذلك من سرعة انتشاره في أكثر بقاع الأرض في أقل من قرن من الزمان، صار العرب فيه سادة العالم وأساتذته.
وهذا ما للإسلام من مزايا وخلال عظيمة لا توجد - كما قلت - في دين غيره. وإن أشرف هذه المزايا وأجلها هي مساواته بين الناس، وهذه أكبر دليل على صواب الرأي وصدق النظر فالناس في الإسلام سواء لا يفضل أحدهم غيره إلا بالتقوى والعمل النافع (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)، (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلا بالتقوى والعمل).
ومن خلاله الحميدة، أنه لا يقتصر على جعل الصدقة سنة محبوبة بل جعلها فرضا على كل مسلم، وأنها إحدى قواعد الإسلام الخمس وقرنها بالصلاة (وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) وجعلها جزءا مقدرا من مال المسلم الذي يستطيع إخراجها، توزع على الفقراء والمساكين وغيرهم ممن هم في حاجة إلى العون والمساعدة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم).
ما هذا؟ أنه صوت الإنسانية الطاهرة الكبيرة. أنه نداء الرحمة والإخاء والمساواة يخرج من ذلك القلب الكبير قلب ابن الصحراء، يحث الناس أن يواسي أغنياؤهم فقراءهم ويقول لهم(971/22)
إن ما ستنفقونه سيرد إليكم أضعافا مضاعفة. (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)، (مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل) ثم يحذرهم ويخوفهم عاقبة شحهم وكنزهم المال وعدم إنفاقه على من يستحقونه (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)
وأي دليل أقوى على تبرئة الإسلام من الميل إلى الملاذ والشهوات، من صيام شهر كامل كل سنة تزجر فيه النفس عن مطالبها وتحبس عن غاياتها، وتلجم فيه الشهوات، ويحال بينها وبين مآربها؟ وليس بالمهم أن يباشر المرء اللذات، وإنما المنكر هو أن تذل النفس وتخضع ضارعة لجبار الشهوات وتنقاد ذليلة خانعة لرغبات الشيطان، فإذا استطاع المرء أن يكون له على نفسه سلطان يكبح جماحها ويسلسل قيادها فإنه بذلك يكون قد بلغ أشرف المكارم وأمجد الخصال. وبهذا يستطيع أن يجعل من نفسه هاديا إلى الرشاد والخير، ومن لذائذه بدل أن تكون سلاسل وأغلالا تعييه وترهقه، يجعلها حليا وزخارف تزينه وتشرفه. وهذا هو المقصود من صوم شهر رمضان كل عام. وسواء أكان مقصودا من محمد لمسايرة ما كان عليه العرب قبل الإسلام أو كان من وحي الله له فهو والله نعم الأمر (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)
القرآن
أما القرآن فهو الكتاب الذي جاء به محمد من عند ربه، وضمنه تعاليم الإسلام وقواعده التي يجب على المسلمين اتباعها، وقد ضم بين دفتيه أحكاما لو اتبعها العالم لكان خيرا مما هو عليه الآن. وقد أعجب المسلمون به وحفظه أكثرهم عن ظهر قلب. وإن إعجابهم به وقولهم بإعجازه لأقوى دليل على اختلاف الأذواق في الأمم.
وقد ادعى كثير من الأوربيين أنه كتاب خال من الجمال والروعة، وفاتهم أن الترجمة هي التي تفقده روعته وتذهب بكثير من حسن صياغته وجمال صنعته. فإذا وجد غير العربي عناء ومشقة في فهمه ومعرفة وأسراره وأنه يخيل إليه وهو يقرأه أنه يقرأ صحيفة لا شيء فيها ويحمل نفسه المشاق والتعب ويحمل على ذهنه جبالا وهضابا من الكلم لا يجد بينها(971/23)
كلمة لها معنى في نفسه؛ ذلك لأنه قد ذهبت روعة المعاني وجمال الألفاظ بالترجمة التي لا يمكن أن تكون كالأصل.
أما العربي فإنه يرى القرآن على عكس ما يراه غيره؛ لأن هناك صلة قوية بين لغة القرآن وبين لغة العربي، بل أنه نزل بها وهي اللغة الفصيحة المحببة إليه (إنا أنزلناه قرآناً عربياً غير ذي عوج) (بلسان عربي مبين) ولما بينه وبين الذوق العربي من الملاءمة والاتصال، ولذلك عرف العرب قدره وعظموه وأعطوه من التبجيل والاحترام، ما لم ينل بعضه الإنجيل من أتقى النصارى، بل إنهم عدوه معجزة خارقة. وكيف لا يكون كذلك وقد عجزوا وهم البلغاء والفصحاء على أن يأتوا بسورة من مثله (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين).
إنه الوحي المنزل من عند الله هدى للناس وتبصرة وسراجا منيرا يوضح لهم سبل العيش ويهديهم صراطا مستقيما، ومنذ أن نزل القرآن وهو قاعدة التشريع والعمل والقانون المتبع في شؤون الحياة ومسائلها، وما برح في كل زمان ومكان مصدر أحكام القضاة ومرشدهم يستنيرون به ويهتدون بهديه، ومن تعظيم العرب له أنهم جعلوه درسا واجبا على كل مسلم حفظه ودرسه والاسترشاد به في أمور الحياة ومشكلاتها. وفي البلاد الإسلامية مساجد يرتل فيها القرآن صباح مساء وفي بعضها يتلى القرآن جميعه كل يوم مرة، يقوم بهذا العمل نحو ثلاثين قارئا.
إن هذا الكتاب ما يزال رغم انقضاء اثني عشر قرنا على نزوله، يرن صوته في آذان آلاف من المسلمين وفي قلوبهم تتجاوب أصداؤه جنبات كثير من بقاع الأرض في كل يوم وساعة ولحظة. وقد قيل إن بعض الفقهاء قد قرأه أكثر من سبعين مرة.
وما أبعد الفرق بين القرآن والكتب الأخرى إذ أن تلك الكتب قد أصبحت كلمات لا صلة لها بالله الذي نزلها، بعد أن شوهها أهلها بالتحريف والتزوير لتناسب أغراضهم وتقضي حوائجهم. أما القرآن الذي بقى كما هو فإنه لا يزال يتخذ المكان الأول من قلوب المسلمين، بل أنه كثيرا ما يستولي على أفئدة السامعين من غير المسلمين، فإن الكلام إذا خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان أما إذا خرج من القلب فإنه ينفذ إلى قلب سامعه، وهذا هو حال المسلمين مع القرآن إذ أنهم يخرجونه من قلوبهم بعد أن طهرها من كل رجس ونقاها من(971/24)
كل غل وبغض.
لقد اتهم بعض الحاقدين محمدا، بأنه هو الذي وضع القرآن، وأن القرآن ليس إلا بعض الخدع والحيل البلاغية لفقها محمد ليشغل بها الناس عما يرتكب ويلهيهم عما يقترف ولتكون له أعذاراً وذرائع ليبلغ بها ما تصبو إليه نفسه من مطامع وأهواء وغايات. وهؤلاء قد أعماهم التعصب البغيض عن التمييز بين الحق والباطل. وقد آن لنا أن نرد لهؤلاء أقوالهم في نحورهم، ليعلموا أنهم قصيرو النظر وأن الحق لا بد منتصر يوما وواجد أعوانا ومدافعين. إن هؤلاء شديدو البغض للحق بعيدون عن الصراحة. ولولا ما استولى على نفوس هؤلاء من حقد على محمد والإسلام لوضعوا الحق في نصابه ولكانت الصراحة رائدهم، فإن من كان صادق الحس ثاقب النظر، لن يرى في القرآن ذلك الرأي الباطل الذي لا يصدر عن عاقل يقدر الأمور ويضعها في مواضعها.
إني والله لأمقت كل من يحاول أن ينال من محمد ويرميه بمثل هذه الاتهامات والأكاذيب. فالقرآن لو تدبرتموه وعرفتموه لوجدتموه جمرات ذاكيات من الحق والصدق والخير والهدى والرشاد. . . التي يحتاجها العالم وبغيرها يهوى إلى قرار سحيق. إنها جمرات قذفت بها في نفس محمد الكبير، القوة القاهرة، بعد أن أذكت هذه النفس وأوقدتها الأفكار الطوال في الخلوات الصامتات. إننا لو عرفنا سيرة محمد لوجدنا أن تدفق الحوادث وتدافع الخطوب يحول بينه وبين تنسيق الكلام والروية في القول. ويالها من خطوب كانت تحدق به من كل جانب وتحيط به من كل مكان، فقد قضى الثلاث والعشرين سنة التي أخذ يدعو الناس فيها إلى الإسلام قطبا لرحى حوادث ومصادمات وحروب طاحنة مع قريش ومن ألبتهم عليه من العرب، ومصادمات مع أطراف الدول الأخرى المتاخمة لجزيرة العرب، وغير ذلك من عالم كله هرج وفتن ومحن قاسية، كل ذلك جعله في عناء دائم ونصب مستمر بعد تكليفه بتبليغ الرسالة التي أوحيت إليه، فلم تذق نفسه الراحة والهدوء من ذلك الوقت، فمن الخطأ أن نقول: أنه هو الذي وضع هذا الكتاب البليغ الأسلوب المنمق العبارة، الشامل لمسائل الحياة، الدنيا والآخرة والذي أعجز بلغاء العرب عن الإتيان بمثله. إن من أكبر العار على العالم أن يتهم محمدا بهذا الاتهام الباطل الجائر.
وإني لأتخيل محمدا ذا الروح الوثابة والقلب الكبير وهو يتململ ليله ساهرا، فإذا ظهرت له(971/25)
بارقة نور استبشر وفرح بنزول الخير من عند الله.
إن هذا القلب الكبير، محال أن يكون قلب محتال أفاك. وإن هذه النفس الصافية التي تفور بالوجد وتتأجج بالخير لا يمكن أن تكون نفس مشعوذ دجال، كما يزعم الجهلة الأفاكون. كلا ثم كلا، فلقد كانت الحياة في نظره حقا، وكذلك الكون في نظره حقيقة كبرى تدل على قدر صانعها الذي أحسن كل شيء خلقه.
عبد الموجود عبد الحافظ(971/26)
3 - عالم الذباب
بقلم المرحوم الأستاذ معروف الرصافي
(تتمة)
تكلم الدكتور في الفصل المذكور عن دوريل مكتشف البكتريوفاج. وقال أنه أثبت أن البكتريوفاج هو العامل الوحيد على إطفاء جائحات الهيضة المسماة بالهواء الأصفر أو الكوليرا، وإنه موجود في براز من هم في دور النقاهة من المرض المذكور، وإن الذباب يأخذه وينقله من براز هؤلاء، وإنه متى ظهر وانتشر الذباب الحامل للبكتريوفاج بكثرة في البلاد انطفأت جذوة الهواء الأصفر، وانقطع دابره بسرعة.
فيفهم من هذا، أن البكتريوفاج لا يوجد إلا في أيام الهيضة، لأن الذباب إنما يأخذه من براز الناقهين من هذا المرض، فإذا انقطعت الهيضة لم يبق للبكتريوفاج وجود. ولم يذكر لنا الدكتور في كتابه لا صراحة ولا ضمنا أن البكتريوفاج موجود في كل براز من براز الإنسان والحيوان لأنه إذا كان موجودا في كل براز لزم أن يكون موجودا في الذباب دائما وأبدا فأينما وجد الذباب وجد معه البكتريوفاج وإلا فلا.
ثم تكلم الدكتور في الفصل المذكور، فبين كيف كان دوريل يعمل على تكثير البكتويوفاج بازدراعه، وكيف كان يداوي به المريض بمرض الهيضة، وقال ثم أخرجت تجارب عديدة في الهند فأتت بنتائج باهرة فيما يختص بباسيل الدوز نطاريا الحادة، إلى أن قال فحصلوا على نتائج باهرة. وكان البكتريوفاج العامل في شفاء الكوليرا والدوزنطاريا الحادة. وقال ثم جاءت مجلة التجارب الطبية في عددها (54) الصادر في عام 1927 بمقال عنوانه البكتريوفاج في ذباب البيوت، قالت فيه لقد أطعم الذباب الذي يألف البيوت زرع الجراثيم المرضية، وبعد حين اختفى أثر هذه الجراثيم في الذباب فماتت كلها وتولد في الذباب مادة قاتلة تسمى البكتريوفاج. ويدعي الكاتب أنها خلاصة من الذباب، ومن محلول ملحي فسيولوجي، وأن هذه الخلاصة تحتوي على مادة البكتريوفاجين القوية المضادة لأربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض، أو أنها تحتوي على مادة نافعة أخرى ليست من نوع البكتريوفاج، ولكنها من حيث الجوهر تفيد الدفاع العضوي عند مقاومته أربعة أنواع من الجراثيم المرضية. هذا آخر ما قاله الدكتور في الفصل المذكور.(971/27)
فيفهم من هذا فهما جليا، أن البكتريوفاج لا يشفي من جميع الأمراض وإنما يشفي من مرض الهيضة والدوزنطاريا لأن هذين المرضين يشتركان في أنهما اختلال في الأمعاء. ويفهم أيضاً أن البكتريوفاج لا يضاد جميع الجراثيم المضادة التي ينقل الذباب بواسطتها الأمراض إلى الناس، وتكلم الدكتور عنها وعددها في الفصل الثاني من رسالته، فذكر منها السل والدراخوما والتيفوئيد والزحار والطاعون والحمرة والجمرة الخبيثة والكوليرا والجذام والتيفوس والرمد بأنواعه.
وبهذا يتضح أن الذباب لا يأخذ البكتريوفاج إلا من براز الناقهين من مرض الهيضة، وهذا لا يوجد في كل زمان ومكان. وأما الخلاصة التي ذكرها عن مجلة التجارب الطبية والتي تحتوي على المادة البكتريوفاجية، فالبكتريوفاج فيها حاصل بالتطعيم ولم يأخذه الذباب من الخارج، إلا أنها تدل على أن الذباب فيه خاصية توليد المادة البكتريوفاجية المضادة لأربعة أنواع من الأمراض لا للأمراض كلها، وهذا لا يلزم منه أن يكون الذباب مطهرا بالبكتريوفاج من جميع الأدواء، ولا شافيا من جميع الأمراض، كما أنه لا يستوجب غمس الذباب في الشراب على الإطلاق. أما الحديث فإنه يطلق الأمر بغمس الذباب ولم يقيده بشيء.
هذا ما نستخلصه من كلام الدكتور للجواب على السؤالين المذكورين في صدر المقال ثم نقول
إن البكتريوفاج لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون موجودا في الذباب دائما وأبدا وشافيا من جميع الأمراض، وإما أن لا يكون كذلك. فعلى التقدير الأول يلزم أن نتخذ الذباب في حياتنا واقياً لنا من جميع الأمراض، وأن نعني كل العناية به وبتنميته وبتكثيره في بيوتنا وألا نتحاشاه، بل نضعه في أطعمتنا وأشربتنا لنأمن به من عاديات الأسقام وجائحات الأمراض.
وإذا كان هذا حقا فلماذا نرى الدكتور في رسالته يصيح بالناس صيحة النذير العريان، فيحذرهم من أخطاره وينذرهم بأضراره، ويستحثهم على محوه واستئصاله، كما أطال الكلام بذلك في الباب السادس والسابع والثامن من رسالته.
وأما على التقدير الثاني، وهو أن البكتريوفاج لا يوجد في الذباب دائما وأبدا، وإنما يوجد(971/28)
فيه عند حدوث أحوال وظروف خاصة، وأنه لا يشفي من جميع الأمراض ولا يضاد جميع الجراثيم، وإنما يشفي من أمراض خاصة، ويضاد أربعة من الجراثيم المضرة، فنقول فيه أنه يلزم حينئذ أن يكون الأمر بغمس الذباب في الشراب مقيدا بتلك الظروف والأحوال، لا مطلقا. ولا يخفى أن الحديث الذي جعله الدكتور من معجزات الرسول يطلق الأمر بالغمس ولم يقيده بشيء، كما أنه يخص بالشفاء أحد الجناحين دون الآخر.
أما أنا فلا أشك في أن الحديث موضوع لا أصل له كما ذكرت ذلك وبينته في كتابي (الشخصية المحمدية) عند الكلام على الرواية عند العرب. ومن العبث أن نفتش عن معجزات رسول الله في مثل هذه الأمور التي يكتشفها الناس ويصلون إلى معرفتها بالطرق العلمية والوسائط الفنية، ولو كانت معجزة لما قدروا على اكتشافها. ولو جاز أن نثبت معجزة من هذا النوع لجاز أن نثبتها للمتنبي شاعر العرب فإنه قبل عشرة قرون قال:
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل
انتقد المتنبي على هذا وقيل له هذا من قول الطبيب أو الحكيم كما تفي رسالة الحاتمي أو غيره، فأنظر إليها فقد قال هذا في الأيام التي كان التطعيم فيها بجراثيم الأمراض غير معلوم، وفي البكترويولوجيا غير موجود، فأين هذا وأين المعجزات؟
إن الله لم يرسل رسوله إلى الناس لتعليمهم العلم وإنما أرسله إليهم ليصلحهم ويأخذهم بالطاعة وبالأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، ذلك لأن السعادة الإنسانية لا تتحقق إلا في مجتمع، وإن المجتمع لا يتم بناؤه إلا بالتعاون المخلص، والخلق المستقيم الصادق وبالعمل الصالح كما ذهب إليه ابن رشد وغيره من فلاسفة الإسلام، فليس غرض الشارع تلقين العلم، بل غرضه كما قلنا أخذ الناس بالطاعة وبالأعمال الصالحة.
أما المعجزة فهي كل ما خرج عن مقدور البشر عادة، فلا بد للمعجزة من خرق العادة، ولذلك قالوا (لله خرق العادات) وأما هذه الأمور المجهولة فهي داخلة في مقدور الناس عادة. لأنهم يتوصلون إلى اكتشافها ومعرفتها بالتجريب أو بالبحث والتنقيب أو بغير ذلك من الطرق العلمية.
ونحن إذا أردنا أن نعرف معجزة المعجزات فلننظر إلى رسول الله محمد بن عبد الله يتيم مكة وفقيرها كيف قام بالدعوة إلى الإسلام في أيام كان العرب فيها محتربين متعادين(971/29)
متناكرين، يأكل بعضهم بعضا كالنار تأكل بعضها إن لم تجد من تأكله، وكيف قاومته العرب حتى عشيرته الأقربون، وكيف استمر على الدعوة بنفسه الكبيرة وعزمه العظيم الجبار متحملا في سبيل ذلك من المصائب والمتاعب ما فوق طاقة كل إنسان، حتى جمع أشتات العرب ووحد كلمتهم! وأحدث بهم نهضة كبرى، عربية المبدأ، عالمية المنتهى، فسارت بهم أعلامهم إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب خافقة بالنصر ومرفوفة بالعدل والإحسان، وكان كل ذلك في مدة لا تزيد على عشرين سنة بعد وفاته.
ولو أن سائحا في ذلك الزمان الذي لا واسطة فيه أسرع من البعير، أراد أن يسيح سياحة متفرج لا فاتح في البلاد التي نشروا فيها لواء العدل والتوحيد لما استطاع أن يتم سياحته في أقل من هذه المدة. فهذه معجزة المعجزات التي أظهرها الله على يد محمد، والتي لم يسبق ولن يكون لها نظير في تاريخ البشر.
بغداد 1943
معروف الرصافي(971/30)
شعراء من شعراءهم
عدي بن زيد العبادي
- 1 -
نشأته. . . ثقافته. . . دخوله في خدمة كسرى. . . سفارته بين كسرى وقيصر. . . أبوه زيد وملك الحيرة. . . الصلة بين زيد والمنذر أبي النعمان. . . إجلال المنذر لعدي، تربية عدي النعمان الأصغر. . . العلاقات بين بيتي عدي والنعمان الأصغر.
تزوج حماد بن زيد بن أيوب بن محروف من امرأة من طيء، فأولدها ولدا أسماه زيدا. وكان حماد هذا كاتبا للملك النعمان الأكبر. وكان له صديق من الدهاقين المرازبة العظماء يقال له (فروخ ماهان) وكان الدهقان محسا إلى حماد؛ فلما حضرت حماد الوفاة أوصى بابنه زيد إلى الدهقان، فضمه الدهقان إليه مع ولده. وكان زيد حذق الكتابة العربية قبل أن يضمه الدهقان إليه، ثم علمه الدهقان الفارسية فلقنها، ثم أشار الدهقان على كسرى أن يجعل زيدا على البريد في حوائجه ومهامه، فمكث زيد يتولى ذلك لكسرى زمانا.
ثم أن النعمان الأكبر، وهو والي كسرى على الحيرة، هلك فاختلف أهل الحيرة فيمن يملكونه عليهم حتى يختار كسرى الملك الذي يريد أن يعقد له. فأشار عليهم الدهقان أن يختاروا زيد بن حماد. فكان ملكهم إلى أن عقد كسرى للمنذر بن ماء السماء: المنذر بن النعمان.
وقد تزوج زيد بن حماد نعمة بنت ثعلبة العدوية، فولدت له عديا. وولد للدهقان ولد سماه (شاهان مرد) فلما تحرك عدي وأيفع، طرحه أبوه زيد في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله الدهقان مع أبنه إلى كتاب الفارسية، فكان يختلف إليه ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية حتى خرج من أفهم الناس بها، وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر، وتعلم الرمي بالنشاب، فكان من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصولجان، وغيرها.
وحين ألحق الدهقان ابنه (شاهان مرد) بالخدمة لدى كسرى، سعى ليلحق عديا بخدمة كسرى أيضا، ووصفه بأنه (أفصح الناس، وأكتبهم بالعربية والفارسية، والملك محتاج إلى مثله) فرغب كسرى فيه، وكان جميل الوجه فائق الحسن وكانت الفرس تتبرك بالجميل الوجه، فلما كلمه وجده أظرف الناس وأحضرهم جوابا، فأثبته مع ولد الدهقان.(971/31)
وعدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى. وقد كان كسرى يأذن له في الخاصة، وكان معجبا به قريبا منه. وكان عدي إذا دخل على المنذر، والى كسرى على الحيرة، قام جميع من عنده حتى يقعد عدي، فعلا له بذاك صيت عظيم، ورغب إليه أهل الحيرة ورهبوه.
وقد سفر عدي لكسرى بعض السفارات، فأرسله إلى ملك الروم بهدية من أطرف ما عنده، فلما أتى عدي ملك الروم أكرمه، وطاف به في أطراف بلاده ليريه سعة أرضه وعظيم ملكه. ومن البلاد التي طاف بها بلاد الشام. ويبدو أنه مكث بدمشق زمانا. وقد قال وهو في الشام يتشوق إلى الحيرة، ويذكر أيامه فيها، ويفضلها على دمشق:
رب دار بأسفل الجزع من دو ... مة أشهى إلي من جيرون
وندامي لا يفرحون بما نا ... لوا، ولا يرهبون صرف المنون
قد سقيت الشمول في دار بشر ... قهوة مزة بماء سخين
ودومة هذا هي الحيرة - وجيرون بناء عند باب دمشق وقام قوم هي دمشق نفسها.
ولما كان عدي بدمشق فسد أمر الحيرة، لأن أهلها أرادوا قتل المنذر، لأنه كان لا يعدل فيهم، وكان يأخذ من أموالهم ما يعجبه. ولما علم بذلك المنذر بعث إلى زيد بن حماد، أبي عدي، وكان قبله على الحيرة كما سبق، وحدثه فيما بلغه من أنباء تبرم أهل الحيرة به وعزمهم قتله، فمحضه النصح وأخلص له، وأرضى أهل الحيرة، وأصلح بينهم وبين ملكهم المنذر، وجعل له اسم الملك والغزو والقتال، وما دون ذلك فهو لزيد. وقد شكر المنذر هذه النعمة وأقسم أن يحفظها له.
وبعد مدة قدم عدي المدائن على كسرى بهدية قيصر، فصادف أباه زيدا والدهقان المرزبان قد هلكا جميعا، فأستأذن كسرى في الإلمام بالحيرة فأذن له، فتوجه إليها. وبلغ المنذر أن عديا قادم إلى الحيرة، فخرج وتلقاه في الناس، ورجع معه.
ولثقة المنذر بعدي، ولما عليه عدي من خلق أعجب به المنذر، ولتطواف عدي في بلاد كثيرة، ولخلطته الدانية به وبالكبراء في معية كسرى، ولمنزلته الرفيعة بين الناس، ولمعرفته بالفارسية والعربية، لكل هذا جعل المنذر عديا مربيا ومؤدبا لابنه النعمان الأصغر، هذا الذي سيكون ملك الحيرة بعد أبيه المنذر، وهذا الذي ستشتد الخصومة بينه وبين عدي حتى يتناكرا، ولا يتعارفا، إلى آخر الزمان.(971/32)
وقد كان لعدي مكانة عالية ومنزلة رفيعة في أنفس أهل الحيرة؛ إذ هو كاتب كسرى، وهو سفيره إلى قيصر، وهو ابن زيد ملكهم من قبل، وهو المكرم لدى المنذر، ثم هو الرجل العارف بلسان العرب ولسان الفرس والطائف ببلاد الروم - وقد أهل هذا كله عديا ليكون أنبل أهل الحيرة في أنفسهم، ولو أراد أن يملكوه لملكوه، ولكنه كان يؤثر الصيد واللهو واللعب على الملك، وكان يؤثر فراغ البال والارتحال.
ولعلك قد علمت بهذا أن عديا قد تربى في أحضان النعمة، وأنه لم يكن باديا جافيا، وأنه قد استنار بما اطلع عليه من أحوال في ديواني كسرى وقيصر، وأنه قد ثقف وتهذب وسمع بكثير من الأخبار والأحداث، ورأى ما لم يره غيره، وعرف عن الروم كثيرا وعن الفرس أكثر. ولعلك قد عرفت أيضاً أنه لم يكن رجلا كالناس، بل كان أنبل وأعرق من كثير منهم، وكان له فضل منزلة عندهم. وإن كان عدي قد سعى إلى مثل هذه المنزلة العارفة الكريمة، فإنه يجب ألا نغفل فضل أبيه عليه، وتمهيده لهذه المنزلة التي سما إليها ابنه؛ فقد كان الأب ملكا على الحيرة حتى يعقد كسرى لمن أراد، وكان مرجع أهلها فيما ينوبهم من حدث وحال؛ فكأنه كان رجلا نزيها عفا، يلجأ إليه حين تتحرك الشهوات من عقالها فما يتشهى ولا يسعى لخير نفسه، ولكنه يسعى لعامة الناس وجدواهم. وهذه خلة تضفي على الرجل كرامة، وتضفي على من يتصلون به كرامة، فما بالك لو كان المتصلون به أهلا وأولادا كعدي شاعرنا. ولعلك بهذا قد عرفت العلاقات الوثيقة التي توثق بين بيتي عدي والنعمان الأصغر؛ فقد تعارف أبواهما من قبل، وتصادقا، وتعاونا، وكاد يكون ملك الحيرة مراوحا بينهما، وكان أهل البيتين جميعا من المقربين إلى كسرى، وكان عدي أستاذ النعمان ومربيه ومؤدبه ومقومه - هو وأهل بيته.
وهذه منزلة تؤهل الناس لحسد الناس. وهي إن جعلت من الأصدقاء كثيرين فهي تجعل من الأعداء الشانئين كثيرين أيضا. ويجب هنا أن نعرف شيئا، وهو أن أصدقاء الرجل النبيل الخدوم إنما يكونون من العامة وأمثالهم - هؤلاء الذين يرجع عليهم فضله ويهب لهم قواه، أما الرؤساء أمثاله والسادة أمثاله، فهم يشنأونه لمنزلته ومكانته وكرامته، ويسعون جاهدين كائدين حتى يخلو لهم الجو وتعبد السبيل.
وقد كان لعدي بن زيد أخوان، أحدهما اسمه عمار ولقبه أبي، والآخر اسمه عمره ولقبه(971/33)
سمي. وكان لهم أخ من أمهم يقال له عدي بن حنظلة من طىء. وقد كان لهؤلاء الاخوة منزلة عند الأكاسرة، وكان لهم معهم أكل وناحية، يقطعونهم القطائع، ويجزلون صلاتهم، ويقربونهم ويعطفون عليهم.
فكأن الأكاسرة قد رعتهم جميعا: رعت حمادا وابنه زيدا وحفيده عديا واخوته، ورعت المنذر والنعمان. وكأن الأكاسرة كانوا يستعينون بهم جميعا في وظائف شتى، وقد قدم هؤلاء من ناحيتهم ما استطاعوا أن يقدموه لمن رعوهم وأحسنوا إليهم؛ فلقد كان ملك الحيرة في بيت النعمان، ومعروف أن ملك الحيرة كان في معناه إخضاعا لطائفة من العرب لحكم الفرس. وأما حماد فكان كاتب النعمان الأكبر وكان زيد كاتبا لكسرى زمانا، وملكا على الحيرة زمانا، ومعينا للمنذر زمانا. وكان عدي كاتبا لكسرى وسفيرا له لدى قيصر، ومؤدبا ومربيا للنعمان الأصغر.
للبحث صلة
محمود عبد العزيز محرم(971/34)
بين محمد وأصحابه
للأستاذ أحمد الشرباصي
حينما ندرس شخصية محمد صلوات الله عليه من جوانبها المختلفة، نعلم أنه المثل الأعلى الذي يتجلى لكل طامح إلى المفاخر، أو طامع في معالي الأمور؛ وما نريد حين نجلي ملامح هذه العظمة المحمدية أن نضيف إلى صاحبها شرفا جديدا، فليس بعد تكريم الله تكريم، ولكنها أنفسنا نحن التي نبحث لها عن الخير، ونطلب لها المزيد من التربية والتهذيب، وليس كالقدوة الحسنة في الإغراء على التشبه والمضاء. . . وما نريد أن نغلو في شأن رسولنا كما غلا سوانا، فإننا لنعلم أولا أن الله أعلى وأكبر، وأن محمدا بشر، قيل له من قبل: (إنك ميت وإنهم ميتون). وقيل عنه: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين).
ولو أن هذه العظمة اقتصرت على شخص صاحبها، فلم يستفض نورها هنا وهناك، ولم تلق ظلالها الطيبة على هذا وذاك، لما شغلت التاريخ بهذه الصورة، ولما بقيت لها هذه الروعة الدائمة وذلك البهاء الموصول، ولقال القائل: وما نفع كنز عظيم لا ينال الناس منه خيرا؟ وما قيمة محيط واسع لا يجد الراغبون إليه سبيلا؟. . . ولكن محمدا هو الذي هتف: (ما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط). ولذلك كانت عظمته لغيره قبل أن تكون لنفسه. وكأنما خلق الله رسوله على عينه، وجمع له أطراف المحامد والمكارم، ليظهر فيه سر النبوة وسمو الرسالة، ثم أتاح لصفيه وحبيبه بعد ذلك أن يفيض من هذا النبع الذي لا يغيض، على من حوله ومن يأخذون عنه، والرسول حينئذ لا يستطيع أن يخلق من هؤلاء الأتباع صورا مطابقة كل المطابقة لشخصه وذاته، وإلا لصار هؤلاء الأتباع رسلا مثله؛ فليس له إلا أن يهيئ لكل واحد منهم ما يناسبه ويلائمه، فيغترف من حوض الرسول ما استطاع. ومن هنا رأينا العظمة المتجمعة في شخص محمد صلوات الله عليه تتفرق في أشخاص أصحابه، وفي خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين بوجه خاص؛ فهذا أبو بكر مثلا يرث من رسوله نور اليقين والإيمان، ويقوى عنده هذا النور حتى يسطع فيبهر، فيصفه بالصادق المصدوق قائلا: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح إيمان(971/35)
أبي بكر على إيمان هذه الأمة)!. . .
وهذا عمر يرث عن رسوله حسن التدبير وعمق التفكير وصواب النظر وأصالة الرأي، حتى ليقول فيه المصطفى: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه). وحتى يستطيع عمر إبان خلافته أن يسوس دولة ما ساسها قيصر من قبل أو شاه، وأن يجتهد في أمور الدين والدنيا، فيهديه ربه إلى فض مشكلات وحل معضلات ما كان يقتدر عليها لولا أنه تخرج من مدرسة النبوة التي تفيض بالهدى والرشاد. . .
وهذا عثمان يرث عن رسوله رقة الطباع ودماثة الأخلاق وشدة الحياء، حتى يستحي من نفسه وهو منفرد متجرد لاغتساله، وحتى يقول فيه الرسول: (أصدق أمتي حياء عثمان). وإنه ليدخل على الرسول فيستحي الرسول منه، فتسأله عائشة عن سبب ذلك، فيقول: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)؟
وهذا علي يرث عن رسوله زهده وتقشفه، حتى تهون في نظره أعراض الحياة وأغراض العيش ولذائذ الدنيا، فيصرخ في وجه الدنيا قائلا: (يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت؟ هيهات، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيهن. آه من طول الطريق، وقلة الزاد ووحشة السفر)
وهناك ناحية أخرى. . . إن القائد يجب ألا ينفرد بالسلطان والمجد، وألا يستأثر بالرأي يستحوذ عليه، أو الثناء يستبد به. وكم من أناس هيأت لهم الأقدار أن يبلغوا مناصب القيادة والرياسة، فخيل إليهم أنهم قد صاروا في الكون آلهة، وما من إله إلا إله واحد، فلا يقضى أمر إلا بكلمتهم، ولا يوجه مدح إلا إلى ذاتهم، ولا يسبح مسبح إلا بحمدهم وشكرانهم، وإن قلوبهم الحاقدة الحاسدة لتتميز من الغيظ وتتقطع من الغل إذا رأوا شخصا غيرهم فعل مكرمة أو استحق تمجيدا، أو بدأ نجمه في الظهور والسطوع. وإنهم ليبذلون كل شيء لكي يقضوا على كل نابغ أو ناهض، ليضمنوا البقاء لأنفسهم، وليرضوا شهوة الأنانية المتعمقة في جذور طباعهم. وأف لزمان تفنى الجماعة فيه ليعيش القائد، وتذل الأمة ليعز فرد على أنقاض أبنائها!.
وعلى العكس من ذلك كان رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام. لقد بعث محمد عظمته في صحابته، وشاركهم فيما منحه الله من صفات وبركات، فحفظ للصغير حقه قبل الكبير،(971/36)
وشاور قومه في الجليل والقليل، وأعطى كلا منهم نصيبه في التحية والإكرام، وأظهر تقدير كل عامل، وأعلن شكران كل فاضل، وما من مكرمة جرت على يد صحابي إلا فرح لها الرسول، كأنها جرت على يديه، وهكذا يكون القائد الرحيب الأفق المتفتح القلب النقي الضمير الطاهر الشعور. . .
وها هو ذا يمجد أصحابه عامة فيقول: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه). ويقول أيضاً: (أصحاب كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
ثم ها هو ذا يمجد أصحابه فرادى، فيصف كل واحد منهم بوصف له جماله وبهاؤه، فأبو بكر هو الصديق، وعمر هو الفاروق، وعثمان ذو النورين، وعلي مدينة العلم، وأبن الزبير حمامة المسجد، وسعد بن أبي وقاص مجاب الدعوات، وطلحة بن عبيد الله الشهيد الذي يمشي على الأرض، وأبو عبيدة عامر بن الجراح أمين هذه الأمة، وخالد بن الوليد سيف الله المسلول، وحنظلة غسيل الملائكة، وجعفر بن أبي طالب هو الطيار في الجنة ذو الجناحين؛ إلى غير ذلك من جميل الصفات ورائع النعوت.
نستفيد من هذا أن الأمة يجب أن تهتدي بهدى قائدها وراعيها، حتى تتجلى مواهبه في أفرادها ونواحيها، فيصبح كل إنسان عظيما في ناحية أو عدة نواح، فتكثر الأيدي القوية العاملة؛ وأن القائد يجب ألا يكون أنانياً يستحوذ على الفضل والخير كله، بل يقدر العاملين، ويهيئ فرص النبوغ للنابغين، حتى تتبارى الكفايات وتظهر العبقريات (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)!
وليس بعد أمة محمد أمة، لأنها خير أمة أخرجت للناس، وليس مثل محمد قائد أو زعيم، لأنه رحمة الله للعاملين، فلم يبق إلا المسير، فمتى يكون؟. . .
أحمد الشرباصي(971/37)
رسالة الشعر
إلى الميدان
أرى الميدان - يا أماه - نحو المجد يدعوني
فلا تبكي إذا أسرعت. . في كفي سكيني
لأقتل كل صعلوك وأذبح كل ملعون
وأغسل بالدم المسفوح كل جراحي الجون
وألقي في مياه النيل - ذئب الذل والهون
فترفع مصر رايتها. . وترجع عهد آمون
وتحيا حرة أبدا. . فلا تعنو لمجنون
أرى الميدان - يا أماه - يزخر فيه إخواني
فكل فتى سليل النيل مني بعض أركاني
وأمي مصر - يا أماه - من دلتا لسودان
سقتني من رحيق النيل أعذب من طلي ألحان
سقتني الحب في مهدي وقالت: لست تنساني
إذا ألفيتني يوما أطارد أي ثعبان
فحطم رأسه المسموم في صبر وإيمان
وها هو ذلك الثعبان فوق قنالها الأسمى
يحرك رأسه الملعون - أخشى ينفث السما
فيقتل مصر - يا أمي - أخاف يقسم الأما
ويفعل كل ما يصبو إليه، وينفذ السهما
أراه. . أراه. . يا أمي. . على ضفاتنا. . يرمي
وها هم نسل فرعون أحاطوا حوله جهما
وفي أجفانهم قلق يكاد يمزق الظلما
دعيني أقطع الخطوات نحو المجد لهفانا
وفي كفي سكين تصب الموت ألوانا(971/38)
توشي الأرض من دمهم وتروى منه ظمآنا
فمصر تصيح أنقذني، فإن لدي ثعبانا
يسمم عذب أمواهي، فأدرك كيده الآنا
فماء النيل لا يروي على الأيام كسلانا
وحاشا مصر، ما ولدت من الأبناء خوانا
دعيني إنني غاد أشق السهل والوعرا
وأمشي حافيا عريان، لا أستصعب الحرا
أبيع ثيابي اللاتي تقيني البرد والقرا
وكتب العلم أدفعها لشار يدفع الأجرا
لأحمل بعد سكينا، وأذهب أقطع القفرا
إلى الميدان أحملها، وأحمل بينها الذعرا
لأدفع كيد مغتصب، وأصرع ذلك الشرا
إذا ما مت في الميدان لا تبكي ولا تهني
فبنت النيل ما خلقت لسفح الدمع والشجن
روحي واسألي الجيران يا أماه عن وطني
وماذا فيه يفرحنا عن الأعداء من محن
فإن أخبرت ما يسلي فؤاد الميت الحزن
فعودي وانثري زهرا على المطمور من بدني
وغني غنوة التحرير أو أنشودة الزمن
شاعر
ترنيمة الشهيد
للأستاذ كامل أمين أيوب
(إنه الصوت الأخير الذي يردده قلب الشهيد في لحظاته الأخيرة. . . أنه صوتي عندما أحظى بشرف الاستشهاد بعد أن أقف أمام الأعداء موقف المصري الجريء الحر. .)(971/39)
الآن باسم كرامتي وإبائي ... أفنى لتخلد أمتي بفنائي
الآن أثبت للكنانة مجدها ... وأخط صفحة عزها بدمائي
الآن أصعد للسماء بجوهري ... فليفرح الأوغاد بالأشلاء
والله ما قتلوا القتيل وإنما ... أحيوا عليهم ثورة الأحياء
فليرقبوا نار القلوب تشب في ... نير الطغاة سريعة الإفضاء
وليعلموا أن الكنانة قد أبت ... ضيم اللئام وخسة الدخلاء
قد بيتوا الداء العياء لرمينا ... فلينظروا فيمن سموم الداء
ما راح منا واحد إلا وقد ... ثأرت ظباه لذاهب ولجائي
الموت مفخرة الكرام لدى الوغى ... ومن الردى في الحرب خير رداء
إن مت قبل النصر لست بنادم ... فلقد تركت لنيله زملائي
ما دام صوت الحق ملء صدورهم ... فالله ناصرهم على الأعداء
أماه لا تبكي علي ويا أبي ... جفف دموعك وابتهج بقضائي
ما مت وحدي بل مع الأحرار في ... يوم الجهاد وساحة الشهداء
جند بقية اخوتي فلعلهم ... يبلون في الميدان خير بلاء
لا بد في سبل العلا من فدية ... لم لا ننال مكانة الفداء
ما مات من عرف الجهاد، ونافق ... من حي في الأغلال دون حياء
يا مصر فيك من الأسود كواشر ... تمضي لبغيتها بكل مضاء
أسد إذا ما أنشبت أظافرها ... ظفرت بكل محالة غدقاء
لا ترهب النيران أو ضوضاءها ... وتسير في النيران والضوضاء
يا مصر أقضي الآن غير مخوف ... ما دمت خلفت الأسود ورائي
الله أكبر. . منك كنت وما أنا ... إلا صنيعة أرضك الخضراء
واليوم ألقى الموت باسمك فاخلدي ... يا مصر. . عالية على الجوزاء
كامل أمين أيوب
ذكرى حبيب(971/40)
للأستاذ محمد فوزي العنتيل
. . . ذكريات محترقة بذلك اللهيب المقدس، الذي يضيء أرواحنا، (ذكرى حب بغير أمل. . كما كانت تقول. .!!)
تهب على واديك أنسام حبنا. . ... تذكرك العهد الذي كنت ناسيا
تذكرك الماضي، وقد كان جنة ... وشفنا مع اللذات فيها الأمانيا
وتشرق في دنياك أيامنا التي ... تولت وأبقت نارها في دمائيا
سمت بك روحي للسماء، وقادني ... إليك حنيني في هواك، وما بيا.!
عشقتك روحا خالدا، وحقيقة ... تعالت على وصفي؛ فأعيت لسانيا
وقدست فيك الحزن، والحسن، والهوى ... وأحببت منك الحب كأسا، وساقياً
وخلدتني روحا، وإن كنت سائرا ... إلى الشاطئ المجهول أفني بقائيا
وألهمتني معنى الجمال فسبحت. . ... بحسنك أشواقي، وقلبي، وذاتيا. .!!
ذكرتك والليل البهيم مطوف. . ... إلى روحك المحبوب حن فؤاديا
ذكرتك والأزهار تبسم للندى ... فيشبعها لثما، ويرتد باكيا. .!!
ذكرتك والأمواج ينساب لحنها ... يفسر للشطئان سر عذابيا. .!!
جثوت وأرسلت الدموع سوافحا. . ... وغمغمت بالنجوى، وطال دعائيا. .
تضرعت والأكوان حولي خشع. . ... وهرتني الشكوى؛ وألقت ردائيا
أغاريد من ذكراك في الفجر رفرفت ... على الشاطئ المحبوب أحيت رجائيا. .!
تنسمت منها العطر، والشوق، والمنى. . ... وعدت إلى الماضي، وكان ورائيا. .!
وهاجت شجوني؛ فانطلقت مغردا ... على غصنك المياد أزجي الأغانيا
وراح نسيم الفجر - والنهر خاشع - ... يقبل أزهار الربى، والروابيا.!!
عطفت على روح حزين معذب. . ... ورويت قلباً كان قبلك صاديا. .
وفجرت لي نبعا من الشوق دافقا ... رشفت به من سلسل الحب صافيا.!!
أيا ليتنا كنا مزجنا فلم نعد ... حبيبين ذابا لوعة. . وتنائيا
وكنت أنا الجسم الذي يحمل الهوى. . ... وكنت حياتي، ثم كنت فنائيا. .!(971/41)
ونؤخذ في ذنب، وإن كنت جئته ... وننعم في قرب، وإن كنت عاصيا
بلى!. . إنني أرضى، وإن كنت طائعا ... أعذب وحدي كي تنعم راضيا
فإن أك قد أخطأت فاغفر خطيئتي ... وإلا فأدركني. . فأنت رجائيا. .!!
محمد فوزي العنتيل(971/42)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
الدكتور زكي مبارك:
. . . وأخيرا مات زكي مبارك. . . مات بعد حياة طويلة بعض الطول ولكنها عريضة كل العرض، حياة تتلخص في كلمة واحدة جامعة هي (الصراع). . . كان يصارع في معترك العيش، وكان يصارع في ميدان الأدب، وقد ظل يصارع حتى نال منه الجهد في السنوات الأخيرة من حياته الحافلة فأدمته أشواك كان يبدي لها الجلد، فيضمد جراحه ويحاول أن يمضي في كفاحه، ولكن كان يغلبه الترنح الذي أسلمه إلى التفكك. وكان الناس ينظرون إليه في هذه الحقبة الأخيرة على خلاف في الرأي والمزاج، كان بعضهم يأسف لانتهائه قبل وفاته، وكان قراؤه يلقفون ما يكتب على علاته ويتناولون ثمرات قلمه غير عابئين بما عليها من غبار وما يختلط بها من حشف. وكان أشد ما يجذب القراء إليه ما ظل يشعشع كتابته من روح نابض وظل خفيف.
كان زكي مبارك يمثل في صراعه الفلاح المصري أتم تمثيل، كان فلاحا خارج القرية، شق بقلمه طريقه إلى الجامعة المصرية وإلى السربون وإلى الصدارة في عالم الأدب العربي الحديث، كما يشق الفلاح بفأسه الأرض لاستنباط رزقه. وكان زكي مبارك يحرث حقله في الأدب ليقيم خطوطه، والويل لمن يعترض طريقه، فإذا استوى زرعه وآتى أكله تولى حراسته ووقف بالمرصاد لمن يقترب منه. ولم يفته طبع الفلاح في الجور على حدود جاره وقتاله إذا استدعى الأمر، ويتجلى هذا في صياله مع الأدباء، ذلك الصيال الذي كان يحمل فيه القلم كما يحمل الفلاح (النبوت).
نشأ زكي مبارك في الأزهر، ولكنه لم يكن كسائر الأزهريين , فلم يكن من المقبلين على (علم) الأزهر العاكفين على طرائقه المأثورة، بل كان من الفئة القليلة التي خرجت من بين تلك الجدران تتلمس الأدب هنا وهناك، وجده أولا في الأزهر على يد أستاذه وأستاذ غيره من تلك الفئة القليلة الشيخ سيد المرصفي الذي كان يقرأ لهم كتب الأدب القديمة ويدني كنوزها من قرائحهم وأذواقهم المتطلعة.
ولم يكن زكي مبارك في الأزهر بالطالب الخامل، فإن فاته الظهور في الدراسة الأزهرية(971/43)
المأثورة فلن يفوته مجال الشعر والأدب فكان خطيب المحافل وشاعر المجامع، وقد خاض غمار الثورة في فجر النهضة الوطنية وقذف نفسه في أتونها المستعر وعانى الأهوال في السجون والمعاقل.
واتجه صوب الجامعة المصرية القديمة فوجد فيها أفقا أرحب ومرودا أعذب , فجال فيها ونهل. وبعزيمة الفلاح وقدرته على التقشف رحل إلى طلب العلم في باريس، فقد كان يعيش هناك على النذر اليسير الذي يظفر به أجرا لمقالاته في بعض الصحف المصرية. ثم عاد إلى مصر بعد أن حصل على درجة (الدكتوراه) فتلقفته الجامعة وضمته إلى أحضانها، فاشتغل بالتدريس فيها ردحا من الزمن. على أنه كان متشعب الجهود يعمل في كثير من النواحي ويتنقل بين التدريس والصحافة والتأليف أو يجمع بينهما جميعا.
كان زكي مبارك واضح الشخصية متميز السمات في حياتنا الأدبية، كان فياضا في ثقافته وفي كتابته، حرا في إبداء رأيه، عنيفا في معاركه، وكان لا ينتظر حتى يثني عليه غيره، فيتطوع هو بالثناء على نفسه، ولعله كان يذهب هذا المذهب لاعتقاده الجحود في الناس فيعوض بنفسه ما ينقصه منهم. وكان يلطف عنفه ويسوغ استعلاءه روح خفيف ودعابة مستملحة.
كان زكي مبارك - من غير شك - علما من أعلام الأدب في عصرنا هذا، وقد أكسب الحياة الأدبية أضعاف ما كسب هو إن كان قد كسب شيئا. . وقد قضى بعد أن ترك للأدب ثروة كبيرة من مؤلفاته ومن آثاره في عقول تلاميذه وقرائه. وقد كان كثير الترديد لكلمة (الخلود) فيما يكتب، فإن كان فاته ما أدركه سواه من عرض الدنيا فقد نال ما تغنى به حياته من الخلود.
لغة المجتمع
ألقى الأستاذ محمود تيمور بك محاضرة موضوعها (لغة المجتمع) في الدورة الحالية لمؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية، تحدث فيها عن النزاع بين طوائف من اللغويين وجماعات من الكتاب والباحثين حول الألفاظ والعبارات من حيث وقوف الأولين بالقياس عند الحدود التي رسمها أئمة اللغة في العصور الأولى وبالسماع عند العهد الذي اختلط فيه العرب الخلص بغيرهم من الأمم، واتجاه الآخرين إلى الخروج عن هذا الجمود الذي يسلم اللغة(971/44)
إلى موت محتوم.
وقد فند الأستاذ تيمور بك ما يتمسك به اللغويون المحافظون فقال إن اللغة ظاهرة من ظواهر الحياة وقانون من قوانين المجتمع، وهذه الظواهر والقوانين تتبدل وتتطور وفقا لما تقتضي به ضرورات الاجتماع. والصواب في اللغة مناطه الشيوع، فمتى ساغت الكلمة في الأفواه فقد ظفرت بحجتها في الاعتداد بها وأصبح لها في الحياة حق معلوم، وإن غلبة اللفظ في الاستعمال أسطع برهان على صلاحيته وأقوم دليل على صدق الحاجة إليه، بل إن غلبة استعمال اللفظ وثيقة تثبت أنه خلية حية في بنية اللغة خليقة بالتقدير والاعتبار.
ثم عرض للمثل القائل (خطأ مشهور خير من صواب مهجور) فقال: ما أصدق انطباقه على اللغة لولا أنه يسمي المشهور خطأ ويسمي المهجور صوابا، فهذه التسمية لا تصح إلا من باب التجوز والتسمح، فليت شعري - أي خطأ في لفظ شهر، وأي صواب في لفظ هجر؟ سواء على القارئ أو السامع أن تروعه بلفظ عربي نافر لا يجد له في نفسه مدلوله الذي نبغيه منه وأن نفجأه بلفظ أجنبي مغلق ليس بعربي الأصل، فاللفظان عنده سواء في الإبهام.
ولكن على من نعول في توثيق الجديد من الألفاظ؟ يجيب الأستاذ عن هذا قائلا: لسنا بمستطيعين أن نعول في ذلك على جمهورنا الأمي العام خشية أن تذوب الفصحى في محيط اللهجات العامية التي لا ضابط لها ولا نظام , ولكنا نستطيع أن نعول كل التعويل على الجمهور المثقف الخاص الذي تعلم الفصحى وأشرب ذوقها، فهذا الجمهور الضارب في كل علم وفن هو مرآة اللغة المجلوة وقوامها الركين، والويل للغة إن بقيت وقفا على علماء اللغة وفقهائها الذين لا يبيحون لها السير مع الزمن والتجدد مع الأيام. على أن ذلك الجمهور المثقف يتجلى في هذا الفترة من حياة مجتمعنا الحاضر معتزا بالعربية جانحا إلى الإفصاح، مما يدل على أن هنالك وعيا لغويا قويا يجري تياره بين المثقفين جميعا ويبدو أثره في المرافق الاجتماعية على وجه عام.
ثم قال الأستاذ المحاضر: إن أهل صناعة الكتابة هم الذين يحملون القسط الأوفر من أعباء التخالف بين لغة الجمهور العام ولغة الجمهور الخاص ومن أثقال التنازع بين الأصيل والدخيل من الكلام، فالكتابة هي فن الأدب، والأدب هو أرفع مقامات التعبير في اللغة،(971/45)
وهو المعرض الجميل لنقاء الألفاظ وجودة الأسلوب. والكاتب إذا عرضت المسميات التي لا يجد لها فصيحا شائعا من الأسماء استشعر الحرج والضيق وتعذر على قلمه أن يجري الكلمات العامية أو الدخيلة في تضاعيف بيانه. وبعد أن أشار إلى الصعوبات التي يلاقيها الكاتب من جراء غلبة الألفاظ الأجنبية والعامية على الشؤون العامة وحيرته بين هذه الألفاظ وبين ما تيسر له من الكلمات العربية المهجورة - وقال: لكن الكاتب على أية حال مضطر أن يصف ما في البيت وما في السوق وأن يتناول ما يدور من أسباب العيش، فهو يبذل جهده ويعالج أمره، حينا يصطنع الكلمة الفصيحة على حذر، وآنا يقبل من الكلمات العامية ما ليس منه بد، وساعة يتخذ له اصطلاحا يرشحه للاستعمال.
ثم عرض لما صنعه المجمع في ذلك من أوضاع وما وضعه من أسماء عربية لمسميات في الشؤون العامة وما قوبلت به من سخرية الأقوام والأقلام قائلا بأن مهمة المجمع تقتضيه أن يمضي في طريقه، والحكم الأول والأخير في ذلك هو الجمهور المثقف فما يرتضيه يكتب له الشيوع والبقاء وما لا يستسيغه يسحب عليه ذيل العفاء.
عباس خضر(971/46)
البريد الأدبي
الموسيقى العراقية
في العراق رجال كرسوا حياتهم لخدمة العلم والأدب، وضحوا في سبيل هذه الخدمات كل رخيص وغال، فدرسوا وحققوا ودققوا ونشروا ما كتبوه، وألفوا الرسائل والكتب وطبعوها على نفقاتهم الخاصة، ولكن ويا للأسف لم يجدوا تشجيعا يكفل لهم ولو جزءا قليلا مما يبذلونه بسخاء في هذا السبيل، وأن من أولئك الأفذاذ الأستاذ المحامي عباس العزاوي الذي أخرج لنا مؤخرا من نتاج عمله المضني المستمر كتابا في الموسيقى العراقية في عهد المغول والتركمان 1258هـ 1534م تناول فيهما التطورات التي طرأت على الموسيقى العربية قبل الإسلام، والموسيقى العربية في عهد المغول والتركمان، ثم تطرق من هذه الرسالة إلى من اشتهر في الموسيقى من نوابغ وترجم لهم وذكر ما صنفوه في هذا الفن من رسائل وكتب، وذكر الموسيقاريين والمغنين، وتناول الآلات الموسيقية وأسماءها وأسباب تسميتها، وما اندثر منها وما بقي حتى الآن، وفصل المصطلحات الموسيقية سابقا وقارنها في العهد الحاضر، وختم رسالته هذه بأن نشر للأمة رسائل منها كتاب الملاهي وأسماءها لمؤلفه أبي طالب المفضل بن مسلمة النحوي، اللغوي، المتوفى سنة 290هـ. والذي تناول فيه إثبات معرفة العرب (للعود) والآلات الموسيقية الأخرى وساق الأدلة القوية والبراهين الثابتة على ذلك. والرسالة الثانية نبذة من اللهو والملاهي لابن خرداذبة المتوفى سنة 300هـ نقلها من تاريخ مروج الذهب للمسعودي تناول فيها أيضاً إثبات كون العرب تعرف العود وبقية الآلات الموسيقية.
والرسالة الثالثة، أرجوزة الأنغام لبدر الدين محمد بن علي الخطيب الأربلي، المتوفى سنة 768هـ، وقد نظمها سنة 1328م وفيها ذكر معرفة أصول الأنغام، والمناسبة بين الأصول والأركان والأخلاط، وأبحر الأنغام الأصولية الأربعة والأبحر الثمانية المتفرعة عن الأصول الأربعة وكيفية ترتيب الأنغام الأثنى عشر، وذكر الأوزان الستة والشواذ، والأنغام الزوائد وتأثير الأنغام في الأمزجة من الأخلاق، وبيان الضروب السبعة ووجوب مراعاتها.
والحاصل أن الأستاذ العزاوي - وفقه الله - قد قام بهذه الخدمة الجليلة للأمة العربية، إضافة إلى خدماته الكثيرة التي سبقت له في التحقيق والتنقيب والتأليف والنشر. وسنفرد(971/47)
لترجمة الأستاذ العزاوي بحثا مستفيضا نقدمه للقراء في فرصة أخرى.
إبراهيم الواعظ
إلى المعقبين
لعل من أخص ما تمتاز به (الرسالة) على زميلاتها الأخريات وأوضح مظاهر قوتها هو هذه الكتيبة المسلحة المرعبة المؤلفة من حضرات المعقبين على شتى مذاهبهم وألوانهم، وإن إعجابي بهذه الكتيبة المسلحة المتيقظة لبالغ حد التعصب لها؛ ولكن هذا الإعجاب لا يمنعني من التصريح بما يدور في خاطري وما يتردد في ذهني من حين إلى آخر بشأنها. فمثلا ألاحظ أن بعض حضراتهم يجهد نفسه في تحقيق بعض كلمات لغوية قد شاعت وأصبح إحلال الكلمة القياسية محلها عسير الهضم على أفكار الأدباء والكتاب، لأن الكلمة قد أخذت مدلولها بين المتكلمين بيد أن تصحيحها لا يضفي عليها معنى جديدا أو زيادة مستحدثة، ولأن عملهم هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنهم لا يقرؤون للفهم والاستفادة بل للبحث عن هفوة لغوية أو سقطة نحوية وبذلك يضيعون على أنفسهم - كما قال الأستاذ عبد الحميد جودة السحار - زبدة البحث وعصارة المقال. ومما يدل على صحة هذه النتيجة أنهم إنما يقرؤون لا لوجه الكاتب أو الشاعر بل للقنص والصيد، أن بعض التراكيب قد يكتبها الكاتب لتؤدي معنى بعينه فإذا بها تؤدي عكس الذي قصده الكاتب ثم تمر على إفهامهم فلا تحرك لهم ذهنا أو تثير لهم خاطرا؛ فمثلا جاء في مقال للدكتور محمد يوسف موسى في عدد الرسالة الممتاز - وكنت أنتظر أن يعقب على ما كتبه أحد منهم فلم يحصل -. . وقد ختم الله رسالاته ورسله ولكنه ترك لنا بعد هذا ما إن تركناه لن نضل وهو القرآن العظيم. . ولكي يكون المعنى الذي قصده الدكتور مستقيما يجب أن يقال ولكنه ترك لنا بعد هذا ما إن تمسكنا به لن نضل (ولكن هذا ذهب في غمار فسح وأفسح ومهيب ومهاب. بقي شيء آخر أحب أن ألفت نظر حضرات المعقبين إليه ألا وهو أدب الخطاب في التعقيب، فقد قرأت في العدد 964 تعقيبا للأستاذ الأبشيهي ختمه بقوله. . فإن كان قد ألقى الحديث على عواهنه فقد علم القاعدة منذ اليوم (فهل في هذه الجملة ما يشعر بالاحترام؟ وإلا فأي كاتب هذا الذي يلقي الحديث على عواهنه؟ وقرأت في العدد 967(971/48)
تصحيحا لبعض الآيات بصدد الاستشهاد بها في مقالة للأستاذ السوافيري. . ولا أدري أكان الأستاذ حافظا فخانته ملكته أم مستشهدا بآيات سمعها عفوا فذكرها محرفة الخ) إن دل هذا على شيء فإنما يدل على تحامل لا موجب له وتعصب لا خير منه. والأعجب من هذا أن حضرة الحافظ المتثبت جاء ليصحح فأخطأ؛ فليست الآية (محمد رسول الله والذين آمنوا معه) من سورة (محمد) بل هي من سورة (الفتح) فتح الله علينا وهدانا سواء السبيل.
هارون المنيقي
تصويب أخطاء
جاء في مقال (دعوة محمد) بالعدد 967 من الرسالة، بعض الأخطاء نتيجة لتحريف بعض الحروف أو لسقوط بعض الكلمات فرأيت أن أصحح الخطأ ليستقيم المعنى.
فقد جاء في ص51 س3 من العمود الأول (فهناك شبه غريب) والصواب (فهناك شبه قريب).
وجاء في ص51 س6 من العمود الثاني (فقد شاركوهم مرارة الحد) والصواب (مرارة الجد).
وجاء في ص53 س25 من العمود الأول (وأرى أنك تخصها بالحب أكثر) والصواب (وأرى أنك تخصني بالحب أكثر مما كنت تخصها).
وجاء في ص54 س4 من العمود الأول (وتتهدده الخلوف) والصواب (وتتهدده الحتوف).
وجاء في ص54 س19 من العمود الأول (امتشق الحسام الذي يزيل. . .) والصواب (امتشق الحسام ليغل به عوابس الخطوب ويزيل بحده)
وجاء في ص54 س3 من العمود الثاني (بينه وبينهم المهند) والصواب (بينه وبينهم الحسام المهند والوشيج المقوم).
وجاء من نفس الصفحة ونفس العمود س5 (حتى تلين قناتهم عزين) والصواب (حتى تلين قناتهم ويأتوا صاغرين).
كما جاء من نفس الصفحة ونفس العمود س31 (وحسب هؤلاء الطاغين) والصواب (وحسب هؤلاء الطاعنين).(971/49)
هذه هي الكلمات التي رأيت أن أردها إلى صوابها وإن كان هناك شيء فإنه لا يخفى على فطنة القارئ الكريم والسلام عليكم ورحمة الله.
عبد الموجود عبد الحافظ(971/50)
القصص
الصقر
للقصصي الإيطالي يوكانشو
كان بفلورنسا شاب من النبلاء الأغنياء يدعى فريديريك ألبيريني من أسرة عريقة في المجد، قد هذبه الفن والطبيعة وجعلا منه فتى كاملا كيسا لا نظير له بين أبناء النبلاء الثوسكانيين. وقد وقع في حبائل الحب كما جرت العادة بين أترابه ممن هم في صفه من السراة، فهام بسيدة من الأعيان تدعى جان كانت تعتبر من أجمل وأحب نساء فلورنسا، ولم يدع وسيلة لاستمالتها إلا نفذها، من ولائم فاخرة، وألعاب فروسية باهرة، وهدايا عظيمة. كانت هذه السيدة متمسكة بالتقوى والفضيلة ولم تحفل كثيرا بهذه النفقات الجنونية، ولكنها لم تحتقر قط هذا الشاب الظريف. ولم يتطرق اليأس ولا الملل إلى فريديريك واستمر في طريقه وإسرافه حتى أضاع ثروته ولم يبقى لديه إلا شيء قليل يعيش به في حالة بؤس لم يدخر من ماضيه الفخم غير بازي مدرب على الصيد. ولقد أصبح أشد تعلقا بحبيبته رغم فقره المدقع الذي أوقعه فيه، ورأى أنه لا يستطيع أن يعيش عيشة تليق به في المدينة، فصمم على الاعتكاف في البقية الصغيرة الباقية من أملاكه في الريف، فكان يصطاد في أغلب الأحيان بصقره ليسري عن همومه وليكفيه مؤونة السؤال. واستمر على ذلك الحال ردحا من الزمن مرض في أثنائه زوج حبيبته ثم مات، وقد أوصى بثروته العظيمة إلى الصغير، وبموته دون أن يعقب ينتقل الميراث إلى أمه التي كان يحبها زوجها حبا يقرب من العبادة.
أقبل الصيف فذهبت الأرملة كعادتها لتصطاف في أملاكها في الريف وكان بيتها قريبا من بيت فريديريك. وبمناسبة هذا الجوار تعرف ابنها بفريديريك وكان يتردد عليه ويلهو بكلاب صيده وطيوره، وشاهد البازي الذي تحدث الناس عن مهارته ففتن به، ولم يستطع أن يطلبه منه لأنه كان يعرف شدة تعلق فريديريك به. ولما علم أنه يستحيل عليه أن يحوزه ساوره الهم والقلق حتى مرض، ثم عرف والدته بسبب مصابه قائلا: (أماه، لو كنت تتمكنين من الحصول على بازي فريديريك لعاجلني الشفاء وعاودتني الصحة) وصمتت الأم هنيهة وسبحت في أحلامها وتأملاتها؛ فماذا تعمل مع من أحبها طويلا وبدد ثروته(971/51)
لإسعادها وهناءتها، فكانت تقابل منه هذا العطف بالفتور؟ وكيف تستطيع أن تطلب منه أعز شيء لديه وما به يعيش ويحصل على قوته من الصيد به، وهل يحسن أن تحرم نبيلا من أنفس شيء لديه؟ احتارت في أمرها ولم تدر ماذا تجيب ابنها والتزمت الصمت، ولكن الطفل ما فتئ مهموما ملحا في طلبه، وفي نهاية الأمر تغلب الحب البنوي على كل اعتبار وعزمت على إرضاء ولدها بأي ثمن كان وصممت أن تعرفه بأنه سينال البازي وستذهب في طلبه، قالت له: (لا تحزن يا بني وفكر في شفائك وصحتك، وأول شيء سأعمله في الصباح هو الذهاب لإحضار الصقر. فسر الولد لهذا الوعد وتحسنت صحته في المساء.
وفي الصباح ذهبت أمه هي وإحدى السيدات إلى فريديريك، ولما دخلت وجدته في الحديقة ينظمها لأن هذا اليوم لم يكن مناسبا للصيد بالبازي، وقالت للخادم أن يعلمه مجيئها لتحدثه في شأن من الشؤون. تصور أيها القارئ دهش فريديريك ومفاجأته بهذا الخبر السار، فطار من الفرح عدوا لاستقبالها، وسلم عليها بكل احترام من بعيد، فتقدمت إليه مدام جان وحيته بكل لطف وأدب. وبعد تبادل التحية قالت له: (لقد أقبلت يا سيد فريديريك لأكافئك على العناية التي بذلتها حينما أحببتني حبا يزيد على المعقول، والمكافأة هي حضوري أنا والسيدة لنتناول الغداء معك) فأجابها بكل لطف وتواضع (إنني لم أخسر شيئا قط لأجلك، بل بالعكس فإنك أعددتني لكثير من المزايا. ولئن عرفت بشيء منها فالفضل راجع إلى العواطف التي نفحتني بها. وهذه المكرمة التي نفحتنيها اليوم لجليلة جدا، وقد أثلجت صدري وشرحت فؤادي. ومع إنني فقير فإنني لا أريد أن أبيع هذه المنة بثروتي التي فقدتها) وبعد هذه المجاملة اللطيفة صحبها إلى الحديقة وترك بصحبتها البستانية وصاحبتها التي أقبلت معها، وذهب ليهيئ الطعام. وهذا النبيل الشريف لم يشعر في حياته بقسوة وطأة الفقر مثل ما شعر بها في هذا اليوم الذي أقبلت فيه أعز الناس لديه، وكان بوده أن يهيئ لها وليمة فاخرة، فما باله إذا لم يجد شيئا لديه في هذه اللحظة الحرجة؟ فاستشاط غضبا ولعن ثروته الضائعة وأخذ يهرول في أنحاء البيت. والأدهى أنه لم يكن عنده درهم ولا شيء يقوم بقيمة حتى يرهنه. ولما اقتربت ساعة الغداء حار في أمره فوقع نظره بغتة على البازي الذي كان مطمئنا في قفصه فصمم على تضحيته ليقدم شيئا مناسبا للأيم التي شرفته بزيارته. ثم لوى عنقه ونتف ريشه ثم وضعه في النار ولما نضج الطعام ذهب إلى الحديقة(971/52)
ليدعو السيدة وصاحبتها للطعام؛ وبعد انتهاء الغداء دار حديث لطيف ثم رأت مدام جان أن تطلع فريديريك على سر زيارتها قائلة: (أتذكر أيها السيد كل ما صنعته من صنوف العناية وحيائي الشديد الذي جعلك تظن أنني متوحشة. ولا شك في أنك تدهش حينما تعلم السبب الحقيقي الذي قادني إليك، ولو كان لك أولاد لكنت تعرف قوة الحنو الأمي، وإني واثقة أنك ستعذرني، ولكنك لا أولاد لك، ولي ولد واحد، ولا أستطيع أن أهرب من القوانين العامة للأمهات. وهذا الذي يضطرني أن أتعدى المعقول وأخالف إرادتي وأطلب منك شيئا أعلم أنك تعزه كثيرا، لأنه أصبح لك العزاء الوحيد لضياع ثروتك، وما هو إلا بازيك الذي أطلبه. إن ابني مريض وهو تواق للحصول على الصقر وأخشى إن لم أحضره له أن يقتله الحزن؛ ولذلك أتوسل إليك لا بحق الصداقة فلست مدينا لي فيها بشيء، بل أتوسل إليك بطيبة قلبك وحبك للخير العام الذي لم يكذب فيه الظن قط، والذي يميزك عن جميع الناس. وسيكون لك ابني مدينا بصحته وربما بحياته، وستتملك بهذا الصنيع قلبه وقلبي مدى الحياة)
ولما رأى فريديريك أنه لا يستطيع إرضاء هذه السيدة لأنه أطعمها ما تطلبه خنقته العبرات قبل أن يفوه برد، فظنت السيدة أنه يبكي حزنا على فقد بازيه وكادت تغير رأيها فيه وفضلت أن تسكت إلى أن يجيب فقال لها: (إنني منذ فتنت للمرة الأولى بمحاسنك تيقنت أن الثروة كانت تناوئني في كثير من الأمور، وكنت أشكو من شدة ما تفرضه علي، ولكن كل ما مر علي من بؤس وآلام لم يك شيئا بجانب بلية اليوم، وستترك في قرارة نفسي مرارة لا تفارقني. هل تستطيع المصائب أن تسدد إلى طعنة أفظع من صدمة اليوم حينما أرى أنك تفضلت بزيارتي في هذا البيت الحقير مع أنك لم تتنازلي بزيارتي حينما كنت غنيا ثم تطلبين مني شيئا لا أستطيع أن أحضره لك. ما أقساك أيها الحظ العاثر الذي ما فتئ يضطهدني! لقد تحملت بصبر جميل أصناف الرزايا والمحن، ولكنني رزحت تحت هذه الصدمة إذ ليس عندي الآن بازي , وبمجرد ما شرفتني وأظهرت رغبتك في تشريفي بالغداء معي فكرت أن أحضر غداء أرقى مما اعتاده الناس فذبحت الصقر دون تردد لمهارته العظيمة في الصيد؛ ومن سوء حظي لم أوفق لأن أقدمه إليك حيا. وبعد هذا الحديث رأى أن يقنعها بأن أحضر الرأس والريش والمخلبين.(971/53)
دهشت مدام جان ولامته لوما شديدا لذبحه صقرا ثمينا ولكنها ارتاحت لهذا المثال العظيم في الكرم الحاتمي الذي لم يؤثر فيه الفقر والبؤس وقالت له: (إنني لا أنسى مدى حياتي هذه التضحية مهما كان تصرف الآلهة في ولدي). ثم استأذنت من فريديريك وانصرفت شاكرة له شرفه وحسن نواياه، وذهبت إلى ابنها حيرى حزينة لا تدري بماذا تجيبه، وقد اشتدت وطأة المرض عليه ومات بعد بضعة أيام وهي لا تدري إن كان الموت نشأ من شدة حزنه على البازي أو كان المرض بطبيعته قاتلا.
وقد آلمها مرض ابنها ووفاته وطفقت تبكيه عدة أيام. ثم توسل إليها اخوتها أن تتزوج لأنها فتية وغنية جدا. فلم تجد عندها رغبة في الزواج، ولكن أقاربها وأصدقاءها طفقوا يلحون عليها ويحثونها، فعاودتها الذكرى وفكرت في مكارم أخلاق فريديريك من شرف وثبات وكرم، وكيف قدم لها صقرا ثمينا للغداء. ثم قالت لأقاربها: إني أستطيع أن أبقى أيما سعيدة إن كان هذا يرضيكم، ولكن احتراما لرغبتكم لا أقبل زوجا غير فريديريك البيريني. فصاح اخوتها بلهجة التهكم. (هل أنت جادة في قولك؟ إننا لا نستطيع أن نتصور ذلك. هل تجهلين أن هذا النبيل أصبح في فقر مدقع؟)
- إنني أعلم ذلك ولكني أفضل رجلا محتاجا إلى المال على ثروة محتاجة إلى رجل. ولما رأى اخوتها أنها مصممة ألا تتزوج غير فريديريك وأنهم لا يستطيعون أن يغالطوا أنفسهم أنه شريف كيس صادقوا على زواجهما وأقاموا عرسا في منتهى الفخامة.
لقد صير البؤس الزوج الجديد حكيما بصيرا بعواقب الأمور فأصبح مقتصدا يدير شؤون الثروة الحديثة بحكمة وفطنة وعاش مع زوجته التي أحبها عيشة سعيدة هنيئة متمتعا بعطفها وحنانها.
م. ح(971/54)
العدد 972 - بتاريخ: 18 - 02 - 1952(/)
طريق وحيد
للأستاذ سيد قطب
يوماً بعد يوم يتبين أن هنالك طريقاً معيناً للشعوب الإسلامية كلها في هذه الأرض، يمكن أن يؤدي بها إلى العزة القومية، وإلى العدالة الاجتماعية، وإلى التخلص من عقابيل الاستعمار والطغيان والفساد. . طريقاً وحيداً لا ثاني له، ولا شك فيه، ولا مناص منه. . طريق الإسلام، وطريق التكتل على أساسه.
إن أحداث العالم، وملابسات الظروف، وموقف الشعوب الإسلامية. . كلها تشير إلى هذا الطريق الوحيد، الذي لا تمليه عاطفة دينية، ولا تحتمه نزعة وجدانية. إنما تمليه الحقائق والوقائع، ويمليه الموقف الدولي، ويمليه حب البقاء، وتلتقي عليه العاطفة والمصلحة، ويتصل فيه الماضي بالحاضر، وتشير إليه خطوات الزمن، ومقتضيات الحياة.
لقد أكلنا الاستعمار الغربي فرادى، ومزقنا قطعاً ومزقاً يسهل ازدرادها، وأرث بيننا الأحقاد والمنافسات لحسابه لا لحسابنا، وجعل له في كل بلد إسلامي طابوراً خامساً، ممن ترتبط مصالحهم بمصالحه، وممن يرون أنفسهم أقرب إلى هذا الاستعمار منهم إلى شعوبهم وأوطانهم؛ وأقام أوضاعاً معينة في كل بلد إسلامي تسمح له بالتدخل، وتملي له في البقاء، وتضمن له أنصاراً وأذناباً في كل مكان.
فإلى أين نتجه لنكافح الاستعمار وأذنابه وأوضاعه؟ إن أناساً من المخدوعين والمغرضين، يدعوننا أن نتجه إلى الكتلة الشرقية. الكتلة الشرقية التي تمحو الإسلام والمسلمين محواً منظما ثابتاً في أرضها، منذ أن استقرت فيها الشيوعية، والتي تتخذ مع المسلمين في أرضها من وسائل الإفناء المنظم ما لم يعرفه التتار ولا الصليبيون في أشد عصورهم قسوة وفظاعة.
لقد كان عدد السكان المسلمين في الأرض الروسية اثنين وأربعين مليوناً عند ابتداء الحركة الشيوعية، فتناقص عددهم تحت مطارق الإفناء المنظم، والقتل والتجويع والنفي إلى سيبريا حتى وصلوا في خلال ثلاثين عاماً فقط إلى ستة وعشرين مليوناً. . ستة عشر مليوناً من المسلمين في الأرض الروسية وحدها قد أبيدوا. . أما في الصين الشيوعية فالمأساة تتكرر الآن في تركستان الشرقية، بنفس الوسائل ونفس الشناعة. . وفي يوغوسلافيا تتم حركة(972/1)
التطهير من العنصر الإسلامي. . وفي ألبانيا كذلك. . كل أرض مستها الشيوعية قد نزلت فيها النقمة على رؤوس المسلمين بشكل وحشي يروي الفارون منه أخباره وتفصيلاته، كما تروى أساطير الهمجية الأولى.
ولقد ذاق المسلمون من قبل على يد القيصرية الروسية ما ذاقوا باسم العصبية الدينية. . فأما اليوم فهم يذوقون الويل نفسه، بل أشد وأشنع ولكن باسم العصبية الشيوعية. . وهي في حقيقتها روح واحدة: الروح الصليبية التي لا تنساها أوربا أبداً، مهما تبدلت فيها النظم. . الروح الصليبية التي نطق باسمها المارشال (ألنبي) وهو يدخل بيت المقدس في الحرب العظمى الماضية فيقول: (الآن انتهت الحروب الصليبية) والتي ينطق باسمها الجنرال كاترو في دمشق سنة 1941 فيقول: (نحن أحفاد الصليبين، فمن لم يعجبه حكمنا فليرحل!) وينطق باسمها زميل له في الجزائر سنة 1945 بنفس الألفاظ والمعاني. . إنها هي هي في أوربا كما هي في أمريكا، وكما هي في البلاد الشيوعية. . كلها تنضح من إناء واحد: إناء الحقد على الإسلام، والتعصب الصليبي الذميم. يضاف إليه تعصب الشيوعية ضد الأديان جميعاً. وضد الإسلام على وجه الخصوص.
ويتشدق أقوام هنا بالحرية الدينية في الكتلة الغربية، كما يموه أقوام بالحرية الدينية في الكتلة الشرقية. . وكلهم خادع أو مخدوع، والحوادث والوقائع تنطق بأن المسلمين غير مرحومين عند الغرب أو عند الشرق. . فكلاهما عدو غير راحم! إن الغرب الذي يمتص دماء المسلمين بالاستعمار القذر اللئيم. وإن الشرق لهو الذي يبيدهم إبادة منظمة تتولاها الدولة تحت شتى العناوين!
ويعرض علينا المخدوعون أو الخادعون أحياناً نصوص الدستور السوفييتي، ومادة فيه تنص على حرية الاعتقاد. . نعم لك حرية الاعتقاد في الاتحاد السوفييتي، على ألا تسلم لك بطاقة للتموين - وليس هنالك وسيلة غير هذه البطاقة لتحصل على الطعام والشراب والكساء - ولك أن تعبد الله إذن كما تحب، ولكن ليس لك أن تأكل من مخازن الدولة! وأنت وما تشاء: الموت جوعاً مع الله! أو الحياة الحيوانية مع ستالين!
إنه ليس الطريق أن ننضم إلى كتلة الغرب أو كتلة الشرق كلتاهما لنا عدو، وكلتاهما كارثة على البشرية، وعلى الروح الإنسانية. . لقد تكون الشيوعية في أرضها نعمة على أهلها،(972/2)
ولقد تكون الديمقراطية في أرضها نعمة على أهلها. . ولكن هذه وتلك بلاء ونقمة على الشعوب الإسلامية. الاستعمار بلاء واقع يجب كفاحه وإجلاؤه. والشيوعية بلاء واقع كذلك على ملايين المسلمين الواقعين في براثنه. والوطن الإسلامي كله وحدة، ومن اعتدى على مسلم واحد، فقد اعتدى على المسلمين أجمعين.
إنه ليس الطريق أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة هنا أو هناك؛ فلقد حارب الاستعمار الغربي كل مقوم حقيقي من مقومات الإسلام، وإن تظاهر بالإبقاء على المظاهر المموهة التي لا تقاومه ولا تكافحه. . وحينما اجتمع مؤتمر جميع المبشرين في جبل الزيتون بفلسطين عام 1909 وقف مقرر المؤتمر ليقول: إن جهود التبشير الغربية في خلال مائة عام قد فشلت فشلا ذريعاً في العالم الإسلامي لأنه لم ينتقل من الإسلام إلى المسيحية إلا واحد من اثنين: إما قاصر خضع بوسائل الإغراء بالإكراه، وإما معدم تقطعت به أسباب الرزق فجاءنا مكرهاً ليعيش. وهنا وقف القس زويمر المعروف للمصريين ليقول: كلا! إن هذا الكلام يدل على أن المبشرين لا يعرفون حقيقة مهمتهم في العالم الإسلامي. أنه ليس من مهمتنا أن نخرج المسلمين من الإسلام إلى المسيحية. كلا! إنما كل مهمتنا أن نخرجهم من الإسلام فحسب، وأن نجعلهم ذلولين لتعاليمنا ونفوذنا وأفكارنا. ولقد نجحنا في هذا نجاحا كاملا؛ فكل من تخرج من مدارسنا، لا مدراس الإرساليات فحسب، ولكن المدارس الحكومية والأهلية التي تتبع المناهج التي وضعناها بأيدينا وأيدي من ربيناهم من رجال التعليم. . كل من تخرج في هذه المدارس خرج من الإسلام بالفعل وإن لم يخرج بالاسم. وأصبح عوناً لنا في سياستنا دون أن يشعر، أو أصبح مأموناً علينا ولا خطر علينا منه!. . لقد نجحنا نجاحا منقطع النظير. .
هذا موقف الكتلة الغربية. فأما الكتلة الشرقية، فقد اختارت الإفناء المنظم، والإبادة الوحشية بمعرفة الدولة، وما تزال ماضية في طريقها لمحو الإسلام والمسلمين!
إن طريقنا واضح. طريقنا الوحيد أن نمضي في تكتل إسلامي، هو وحده الذي يضمن لنا البقاء، ويضمن لنا الكرامة، ويضمن لنا الخلاص من الاستعمار وأذنابه وأوضاعه، كما يضمن لنا أن نقف سدا في وجه التيار الشيوعي المهلك المبيد.
والتكتل الإسلامي لا يعني التعصب في أي معنى من معانيه. . إن الإسلام هو الضمانة(972/3)
الوحيدة في هذا العالم اليوم لوقف حركة التعصب ضد المخالفين له في العقيدة. فهو وحده الذي يعترف بحرية العقيدة ويرعاها، في عالم الواقع لا في عالم النصوص. وهو وحده الذي يمكنه أن يضمن السلام للبشرية كلها في ظلاله، سواء من يعتنقونه ومن لا يعتنقونه. . أنه لا يستعمر استعمار الغرب الآثم الفاجر، ولا يبيد مخالفيه إبادة الشيوعية الكافرة الجاحدة. . أنه النظام العالمي الوحيد، الذي تستطيع جميع الأجناس، وجميع العقائد، أن تعيش في ظله في أمن وسلام.
وطريقنا إذن أن نرفض كل ارتباط يشدنا إلى عجلة الاستعمار - تحت أي أسم وأي عنوان - وأن نرفض في الوقت ذاته كل دعاية تدفعنا إلى فكي ذلك الغول الشرقي، الذي يبيد العنصر الإسلامي في أرضه بقسوة وشناعة، لا يقرها الهمج في أحلك عصور التاريخ.
إنه طريق وحيد. طريق الكرامة. وطريق المصلحة. وطريق الدنيا. وطريق الآخرة: أنه الطريق إلى الله في السماء والى الخير في الأرض. والى النصر والعزة والاستعلاء: أنه هو الطريق!
سيد قطب(972/4)
بنات العرب في إسرائيل
للأستاذ علي الطنطاوي
هذه قصة واقعية قرأتها ملخصة في سطور في كتاب (من اثر النكبة) للأستاذ نمر الخطيب، بطلها رجل من فلسطين يحسن الإنكليزية كان له صديق من أعضاء اللجنة الدولية، سأله أن يأخذه إلى تل أبيب ليجدد ببلاده عهدا، فأجابه إلى ما سأل وألبسه لباس أعضاء اللجنة حتى غدا كأنه واحد منها.
ووصلوا تل أبيب، فأنزلهم اليهود في فندق عظيم، وأولوهم أجمل العناية وأكبر الرعاية، حتى لقد أخبروهم أن إدارة الفندق ستبعث إلى غرفة كل واحد منهم فتاة بارعة الجمال، لتكون رفيقته تلك الليلة. قال:
ولما أويت إلى غرفتي، تمثلت لي الفتاة التي وعدت بها، فملأت صورتها نفسي وهاجت فيها أدنأ غرائزها، وأحط شهواتها، ونسيت أني في بلد العدو، وأن علي التوقي والحذر، وارتقبت ليلة (كما يقولون) حمراء، تلتهب فيها الأعصاب بنار الشهوة الجامحة، وخيل إلى منطق الغريزة أني إن نلت امرأة من يهود فقد غزوت يهود في ديارها. وثقلت علي الساعات الباقية دون الليل، وطالت دقائقها، وجثم وقت الانتظار على صدري فتقارب نفسي، وازداد خفقان قلبي، وأحسست بركبتي تصطكان، وكنت أقعد فلا أطيق القعود، فأقوم فلا أرتاح إلى القيام. وحاولت القراءة فكانت الكلمات تتراقص أمام بصري، ثم تستحيل إلى صور صبايا عاريات، وتضيع المعاني فلا أدرك إلا المعنى الواحد الذي هو في ذهني.
وكذلك تصرمت ساعات، ما أظن أنه مر علي في عمري أثقل منها. وما أظن لذائذ الوصال لو جمع لي ما يلقاه الناس كلهم منها، تعدل آلام هذه الساعات.
. . . وجاء النادل (الكارسون) يقدم إلي فتاة، جرفتها ببصري في لمحة واحدة، وجردتها بخيالي من ثيابها في ثانية، فرأيتها عارية أمامي، وجمحت بي الغريزة حتى لا أقدر على الصبر عن عناقها دقيقة، وعن ضمها إلي، وعن أن أشد يدي عليها، ثم آكلها عضا.
وكانت شقراء لها شعر ما علمت قبل اليوم كيف يكون الشعر كأسلاك الذهب، يتموج ويسترسل على كتفين مستديرتين كأنهما. . . ولكن مالي وهذا الولع بالتشبيهات، وبماذا أشبه كتفي فتاة عبلة في السابعة عشرة؟(972/5)
وكان يبدو من جيب ثوبها الفاضح خط ما بين نهديها، كأنه خيط يسحب القلب من صدر رائيه، وأنف أشم كأنف صبي من ولد الإغريق الأولين، وفم كأنه زر ورد أحمر.
وكان ثوبها ينحسر عن ساقين ممتلئتين مستديرتين، يقطر الصبا منهما والجمال، ولم تكن فتاة ولكنها كانت فتنة في ثوب امرأة. وكان الحب الذي غنى له الشعراء، وسبحوا بحمده مصورا فتاة. كذلك كنت لما ثبت النظر أخيرا على عينيها.
لقد كانت لها عينان، لا يستطيع السمو إلى وصفهما البيان؛
عينان فيهما شيء لا أدري ما هو، ولكني أحلف أني ما مكنت بصري منهما حتى أحسست بأن أعصابي المشدودة قد استرخت، وأن دمي الفائر بالشهوة قد برد، وأن قد طارت من رأسي كل فكرة جنسية، وامتلأ قلبي عطفا وحنانا، كأن أمامي قطة صغيرة وديعة حلوة الوجه، ناعمة الشعر. هذا ما شعرت به وأن أعتذر من غرابة هذا الشعور، وتوهمتها من طهر عينيها زنبقة من زنابق الجبل، بيضاء كالثلج، نقية كالندى، لم يمسسها إلا نسيم الأصيل، ولم تقبلها إلا أشعة الشمس، ولم تبصر عريها إلا عين الشتاء.
وعجبت أنا من نفسي، مما عراني، قبل أن يعجب القارئ مما أروي.
عجبت كيف تكون لي هذه العاطفة على بغي!
أو ليست بغيا هذه التي يقدم جسدها اليهود قرى لضيوفهم كما يقدمون لحوم الخراف وشحوم الخنازير؟ وعدت أنعم النظر إليها، فأرى صبية في ثياب الغواني، ولكن في عينيها حياء العذارى، وأرى فيها ملامح رقة وتهذيب كأنها ملامح طالبة من طالبات المدرسة، لا فتاة من فتيات الليل، فرحت أحاول أن أوحي إلى نفسي أنه دل البغايا حين يسرقن نظرات الأبكار.
ووقفت ووقفت وساد الصمت والسكون، فلا حركة ولا كلام.
وعجبت هي مني أكثر من عجبي من نفسي، كأنها ما تعودت من قبل إلا لقاء وحوش في ثياب بشر، لا يرون فيها إلا ما يراه الذئب في جسم النعجة، لا يعنيه منه لونه في نظره، ولا ريحه في أنفه، ولا لينه في كفه، ولكن طعمه تحت أنيابه، وإن كان جسد النعجة ينال مرة فتموت وتستريح، وهذه (نعجة) يتعاورها الذئاب كل يوم، فهي تموت كل يوم ميتة جديدة.(972/6)
وقفت متململة تحاول الابتسام فلا يلوح على شفتيها إلا بقايا ابتسامة ماتت من زمن طويل. وثقل الموقف ولم يفتح علي بكلمة، فأرادت الخلاص فأشارت إشارة المحكوم عليه إلى الجلاد ليعجل عليه بالإنقاذ ويخلصه من الانتظار الذي هو شر من الإنقاذ.
أشارت بيد إلى الفراش. كأنها تقول: تريد؟ وبالأخرى إلى ثيابها كأنها تقول: أنزع؟ وعاودت أعصابي هياجها، ولكني نظرت إلى عينيها فرأيتهما تقولان لقلبي شيئا غير ما تقول اليدان، فأجبت برأسي أن لا!
ودعوتها فقعدت إلى جنبي، وهمت بأن تلقي بذراعها على كتفي، وبصرها تائه في الأفق البعيد، كأنها تتحرك وهي منومة، فمنعتها برفق، وكلمتها بالإنكليزية، فأومأت بأنها لا تفهمها، فكلمتها الكلمات القليلة التي أحفظها من العبرية، فعلت وجهها سحابة سوداء من الألم، وغامت عيناها لحظة، ثم أومأت بأنها لا تفهمها، فكلمتها بالفرنسية فلم تفهم.
ففكرت هل أخاطر وأكلمها بالعربية، وكنت أعلم ما في ذلك من الأذى لي والضر بي، ولكني أقدمت وقلت لها: هل أنت عربية؟
فانتفضت انتفاضة لو كانت بصخرة لصبت فيها الروح، ولانبجست فيها الحياة. وأضاء ذلك الوجه الجميل، الذي كان عليه نقابان: نقاب من التبذل الظاهر، ونقاب من الألم المخفي، وأشرق بنور سماوي وحدقت في بعينيها العجيبتين، وفيهما لمعة الفرح، وفيهما حملقة الذعر، وقالت:
- هل أنت عربي؟
فترددت ما بين خوفي منها، وبين عطفي عليها، فخفت أن تكون يهودية فتشي بي، وأشفقت أن تكون عربية تحتاج إلى، ثم غلبت ثقتي بها، فقلت لها:
- نعم
- قالت: وأنا عربية، من أسرة (كذا) من بلدة (كذا) ومعي خمس وثمانون من بنات العرب. . . فأحسست كأن خنجراً مسموما قد أوقد عليه وغرز في قلبي، وكأن الأرض تدور بي، ولكني تثبت ولم أحب أن أفجع المسكينة بهذا الحلم البهي الذي رأيت ظلاله على وجهها، لقد حسبت من خلال الفرحة الطارئة أنها من يافا العربية، وأنها قد عادت إلى طفولتها المدللة، وعادت لها طهارة تلك الطفولة، وأنها لا تزال العذراء البكر تعيش بين أهليها(972/7)
وذويها في حمى الأبطال العرب الذين كانوا يحرسون أرض الوطن، وعرض بنات الوطن، وحمى الجيوش العربية التي كانت أعلامها تلوح على الآفاق الأربعة البعيدة، من وادي النيل، وجنبات الأردن، وخمائل الغوطة، وسهول العراق، وبطاح نجد، فتبعث في نفوس عذارى فلسطين الدعة والأمن، وفي قلوب شبابه الزهو والكبر، وتمنعها أن تطيف بها رهبة من يهود.
ولكن هذه الإشراقة ما لبثت أن بدت حتى اختفت. إن الصبح الذي حسبته قد انبلج بعد ما طال منها ارتقابه لا يزال بعيدا، والشاطئ الذي ظنته دنا بعد ما اشتد إليه حنينها لا يزال ضائعا في الضباب، ولا يزال مكتوبا عليها أن تقاسي الذل آماداً أخرى - لا يزال في الكأس المريرة بقايا عليها أن تتجرعها.
خبت إشراقة النور التي وقدت على جبينها. وانطفأ البريق الذي لمع في عينيها، وهيض الجناح فهبطت من سماء الأحلام إلى أرض الحقيقة التي قيدتها بها قيود اليهود. وصحت من سكرة الفرح فإذا هي حيث كانت، لا الحرية عادت ولا الأهل، ولا الليالي الماضيات تعود.
وفاضت النفس رحمة بها وحنانا عليها، فطوقتها بيدي فانكمشت والتصقت بي، كما تفعل القطة الوديعة، وأخفت وجهها في صدري، وهي تنشج نشيجا خافتا، تمنيت معه لو أستطيع أن أشتري سعادتها التي فقدتها بحياتي لأردها عليها، وأحسست أني أحبها منذ الأزل، وأني لم أعش يوما منفردا عنها، ولا أعيش يوما بعد فراقها، وأن قد امتزج منا الجسمان، واتحد الروحان، واختصر الزمان حتى كان هذه اللحظة وحدها، كما يختصر شعاع الشمس في عدسة الزجاج في نقطة واحدة، وفي هذه النقطة الأشعة كلها، فلا ماض مضى ولا آت يجيء. . .
وهتفت بي ووجهها خلال ثيابي، وأنا أحس خفق قلبها فوق صدري، كأنه حديث من قلبها إلى قلبي:
- لن أعود إلى حمأة الرذيلة. لن أعود. خذني معك، إلى الشام، إلى الأردن، إلى الصحراء، إلى أي بلد عربي لا حكم فيه لليهود. خذني أكن خادما لك، أكن أمة، أو فأعني على الموت، فإني لا أجرؤ وحدي عليه، حتى لا أهين بجسدي الملوث الأرض التي احتوت(972/8)
رفات الجدود.
لقد رأت في المسكينة شعاعة تخلفت من نهارها، وزهرة بقيت من روضها، فحسبت أن النهار الذي ولى وغربت شمسه يعود، وأن الروض الذي جف وصوح نبته يرجع. وهيهات هيهات! لقد فقد العرب كبرياء العرب، وأضاعوا عزة العرب، وشهامة العرب.
لقد هتفت أسرة عربية في قديم الدهر، باسم ملك العرب المعتصم فنحى الكأس وقد دعا بها ليشربها، ووثب من فوره يجيبها
(أجابها) معلنا بالسيف منصلتا ... ولو (أجاب) بغير السيف لم يجب
حتى اقتحم من أجلها جيش هرقل صاحب البرين والبحرين ونازل الروم من كانوا يوما سادة الأرض، وعاد بالمرأة وعاد بالنصر الذي طبق خبره الأرض، وطاول مجده السماء.
فهل من ينقذ اليوم آلاف النساء، نساء العرب، من سبي أذل الأمم: اليهود؟ هيهات! لقد فقد العرب كبرياء، العرب، وعزة العرب!
وعادت تقول وهي مخفية وجهها خجلا:
إن ترني اليوم ماشية في طريق الفجور، فلقد كنت يوما بعيدة عنه، جاهلة به، وكان لي أبوان شريفان وكانت لي أخت، وكانت. . .
وشهقت شهقة أليمة
. . . فهل يعلم أحد أين هي أختي؟
لقد أراد لي والدي الحياة الماجدة الكريمة - فربياني على الدين والخلق - وعلماني حتى نلت الشهادة المتوسطة، وتهيأت للبكالوريا، وأطلعني أبي على روائع الأدب، وكنوز المعرفة، وكان يرجو لي مستقبلا فكان مستقبلي. . كان. . . كان. . .
وشرقت بدمعها
لقد قتلوا أمي يوم الواقعة، أفتدري كيف قتلوها؟ إنهم وضعوا البندقية في. . . كيف أقول؟ في مكان العفاف منها، فوقعت أمامي تتخبط بدمها، أما أبي فهرب بي وبأختي وانطلق يعدو حتى لحقوه، فجعلوا يضربونه بأعقاب البنادق وبأيديهم وبأرجلهم حتى سقط. واستاقونا. . .
ورحت أتلفت وأنا أكاد أجن من الذعر، أنادي: أبي! أبي!
أحسب أن أبي يسمع ندائي بعد الذي نزل به أو يقدر على حراك. ولكن أبي قد سمع(972/9)
وشدت روح الأبوة، وسلائق العروبة من عزمه، فنهض يسعى لينقذني وكلما ونى ذكر أن ابنته التي رباها بدمه وغذاها من روحه ورجا لها المستقبل البارع ستغدو أمة لليهود، فتعاوده القوة حتى استنفد آخر قطرة من قواه، فسقط مرة ثانية قبل أن يدركنا.
تمر على الإنسان المصائب الثقال فينساها. يمرض حتى يتمنى الموت ثم يدركه الشفاء فينسى أيام المرض. ويموت أليفه فيألم حتى يعاف العيش ثم ينسى موت الحبيب، ولكن مصيبة الفتاة بعفافها لا تنسى حتى ترد ذكراها معها الموت.
لقد كانت هذي الساعة بداية آلامي التي سأحملها معي إلى القبر. فقدت الأب والأم، ثم فقدت العفاف وغدوت مثل البغايا، فأين عينا أبي ترياني؟ أين أبي؟ هل هو حي معذب مثلي أم قد مات واستراح؟
إني لأرجو أن يكون قد مات. أفرأيت ابنة تتمنى الموت لأبيها؟ نعم. حتى لا يرى ما حل ببنته فيجد ما هو أشد عليه من الموت.
ولما غدوت وحيدة في أيديهم، وعرفت أنه لا معين لي بعد أن فقدت أبي، تنبهت في القوى الكامنة، وأمدني اليأس بالعزم، وشعرت بأني كبرت فجأة حتى أصبحت بجنب أختي الصغيرة أما لها بعد أمها، وأبا بعد أبيها، وأن علي أن أحميها. وقلت لنفسي: إذا كانت الدجاجة تدفع عن فراخها هجمة النسر، والقطة إن ضويقت واستيأست تقاتل الذئب؟ فلم اعجز عن حماية هذه الطفلة؟ وقد كانت طفلة حقا، كانت في الثالثة عشرة تبكي بكاء، ما رأيت قط مثله، وترتجف كل عضلة من جسمها كما ترتجف كل ورقة في الشجرة هبت عليها رياح الخريف.
وتنمرت واستبسلت دونها ولكنه غلبوني وأخذوها مني ثم وضعوني في سيارة جيب مع ثلاثة من جنود يهود.
وطفقت أدافع بيدي ورجلي، وأعض بأسناني حتى عجز عني أنا البنت الضعيفة ثلاثة الرجال. فلو أن كل عربي من أهل فلسطين وكل امرأة وكل ولد، كان قاتل بسلاحه وقاتل بعصاه إن لم يجد السلاح، وبحجارة أرض الوطن وبيديه وأسنانه لما استطاع اليهود. . .
ولما ذكرت اليهود ارتجفت من الخوف. وتلفت حولها تخشى أن تسرق همسها آذان خفية في الجدار فتنقله إلى جلاديها قالت:(972/10)
وصب في الخوف على أختي قوة لم أكن أتصور أنها تكون لأحد، فاغتنمت لحظة غفلة ممن معي ووثبت من السيارة فوقعت على ركبتي.
وكشفت عن ركبتيها وقالت: أنظر، ثم عاودها حياء العذراء التي كانتها يوما والتي تقص قصتها فأسرعت فسترتهما.
قالت:
وجعلت أعدو حافية وقد سقط الحذاء من رجلي على التراب والشوك حتى لحقوا بي وأعادوني.
ورجعت أدافع، فأحسست غرز إبرة في يدي، ثم لم أعد أشعر بشيء.
وسكتت لحظة وكادت من الحياء يدخل بعضها في بعض. وصار وجهها بلون الحمرة ثم تكلمت بصوت خافت كأنه آهات مكتومة لم أتبينها حتى دنوت منها ولفحت أنفاسها الحري وجهي.
قالت:
ولما صحوت وجدتني ملقاة على أرض السيارة، مكشوفة. . . وعلى فخذي آثار دم!!
وعادت تنشج ذلك النشيج الذي يفتت القلب.
لقد أراقت دم عفافها لأن رجال قومها لم يريقوا دماء أجسادهم في سبيل الأرض وفي سبيل العرض. لقد خدروها بهذه الإبرة كما خدروا زعماء العرب بالوعود وبالخدع وبحطام من الدنيا قليل.
قالت:
وصرنا ننتقل من يد إلى يد أنا وبنات قومي العرب، كالإماء في سوق الرقيق لم تهدر كرامتنا وحدها ولم تضع أعراضنا فقط، بل لقد فقدنا صفات الإنسانية. غدونا (أشياء) تباع وتشرى، ويساوم عليها، صارت لحومنا قرى لضيوف اليهود!
إن البائس ليلقى في مغارات اللصوص، وفي سراديب السحرة قلبا طيبا يحنو عليه، ويخفف بؤسه. . ولكنا لم نلق هنا رحمة من أحد.
لقد قرأت مرة في قصة كان دفعها إلى أبي مترجمة عن الكاتبة الأمريكية أ. بيشرستو، أنه كان من أحلى أماني الرقيق أن يباع معه قريبه وألا يفصل الرق الأم عن بنتها والولد عن(972/11)
أخته، فكنت أعجب من تلك العصور وهوان الإنسانية فيها، فأي حقيقة مروعة مرعبة رأيت؟ بنات العرب صرن رقيقا لليهود لا للعمل ولا للخدمة بل للخزي والفجور. . . وهأنذى مثل ذلك الرقيق: كل ما أتمناه أن يجمع الرق الأبيض بيني وبين أختي!
هذا ما تتمناه بنت الأسرة العربية الشريفة بعد نكبة فلسطين. أما حنان الأب، أما حب الأم، أما عزة العفاف وكرامة العروبة، وتلك الأيام التي كانت ترتع فيها في روض الطفولة فلم يبق من ذلك كله إلا صور باهتة في أعماق الذاكرة، لا تجرؤ هي أن تحدق فيها. . كلا إنها لا تستطيع أن تسمو إلى بعث هذه الذكريات. . إن الرأس الذي أحنته وصمة العار لا يقدر أن يرتفع بنظره إلى السماء.
ولكن الوصمة يا أختي - يا أختي على ما أنت عليه، الوصمة ليست على جبينك أنت، إنها على جبين كل عربي يرضى لك هذا الذي أنت عليه.
وكانت ليلة ليلاء، ما عرفت فيها إلا لذع الآلام.
لقد كان من المستحيل أن نفكر بالغاية التي بعثوا بها من أجلها، ذلك لأن الشهوة لا تنام على فراش حشي بأشواك الذعر، وغريزة الجنس لا تسكن قلبا ملأته بالآلام نكبات الوطن.
لقد صيرتها جوامع الأحزان، أختي. ولا يستطيع الشيطان أن يدخل بين أخوين جمعتهما في ظلمة الليل أوجاع القلب الجريح.
وانتهت الليلة وجاء النادل في الصباح ليقدم الفطور قوت الصباح، ويحمل الفتاة قوت الليل، فاضطرمت في رأسي نار النخوة لما أبصرته، ولكنها كانت (يا للعار) نار القش لا تضطرم فلا تجد الحطب الجزل فتنطفئ.
وودعتني بنظرة. . . بنظرة لا يمكن أن يعبر عن وصفها ومعناها لسان بشري.
وجاءت السيارات تحملنا لنعود من حيث أتينا، نعود ونترك بناتنا يفتك بأعراضهن اليهود؛ ومررنا بيافا، ونظرت إلى هذه المنازل التي كانت بالأمس لنا فصارت لغيرنا، خرجنا منها في ساعة واحدة انحطت علينا فيها النكبة كما تنحط الصاعقة، الأثاث الذي نضدناه قعد عليه غيرنا، والطعام الذي طبخناه أكله غيرنا، والفراش الذي مهدناه، آه. هل أستطيع أن أنطق بالحقيقة المرعبة؟
ولكنها حقيقة، إن الفرش التي مهدناها، هتك اليهود عليه عفاف بناتنا!(972/12)
ويبقى إلى ظهر الأرض عربي لا ينقع وجهه حياء، ولا يواري وجهه خجلا، خجلا من أمجاد الأجداد، خجلا من سلائق العروبة، خجلا من عزة الإسلام!
يا رجال العرب إن لم تحموا أعراض نسائكم فلستم برجال.
يا جنود العرب، إن لم تدفعوا الأذى عن وطن العروبة وعن أعراض بناتها، فاخلعوا عنكم ثياب الجنود يا من أضاعوا فلسطين، عليكم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
واختفت يافا، وغابت وراء الأفق وأنا لا أزال أرى تلك النظرة التي ودعتني بها. لن أنساها أبداً، ولن أنسى أني تركتهم يأخذونها وأنا حي، وأني كنت جبانا، وكنت نذلا كالآخرين!
علي الطنطاوي(972/13)
ذكرى وفاة الشيخ مصطفى عبد الرازق
للأستاذ محمود الشرقاوي
في 15 فبراير الحالي تتم سنوات خمس على وفاة المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق. وقد أحببت، في هذه المناسبة، أن أبعث (للرسالة) بهذه الكلمة، لا عن مصطفى عبد الرازق الأستاذ في الجامعة، أو الوزير، أو السياسي، أو شيخ الأزهر. وإنما عن مصطفى عبد الرازق. فمصطفى عبد الرازق، بصفاته، وخصائصه، ومميزاته، هو الذي أريد أن أكتب فيه هذه الكلمة.
كانت أبرز صفات مصطفى عبد الرازق: رقة العاطفة، والتواضع، وحب الخير، والاعتداد بالنفس.
تحدث بعض تلاميذه - وقد تولى منصبا جليلا في القضاء - فقال: كان الشيخ مصطفى يدرس لنا في الأزهر مادة (الإنشاء) فوجد واحدا من طلبته زري الهندام، ولاحظ بعض إخوانه يكاد يعيره بذلك، وظن طلبة الشيخ أنه غير منتبه لما يجري بين هذا الطالب وإخوانه. ولكنه في أثناء الدرس، تطرق إلى موضوع القيمة الذاتية للفرد، وأنها لا تخضع لمقياس الثروة والجاه، وأن المال والثياب لا تجعل الرجل عظيما، وإنما قيمة الرجل وعظمته في فضائله وعلمه وآدابه.
وكان ليقظة الشيخ، ولطف توجيهه لأبنائه، وعدم إشارته أي إشارة للطالب الفقير، أكبر الأثر في تقويم تلاميذه وإدراكهم لما يقصد، واستقامة نفوسهم بعد ذلك، وصدق مودتهم بعضهم لبعض.
وقص تلميذ الشيخ فقال: وشكا واحد من طلبة الشيخ مصطفى إلى صديق له قلة ماله، وأنه يخشى أن تقطعه الحاجة عن طلب العلم، واستشاره، فقال له صاحبه، بعد تفكير، ليس لك إلا أستاذنا الشيخ مصطفى عبد الرازق. فقصد الطالب المحتاج بعد تردد، بيت شيخه، وكان لا يزوره، فلما أقبل على الشيخ وفي مجلسه جمع كبير من العظماء وأهل المكانة، قام الشيخ لاستقباله مرحبا، وقدمه لضيوفه مادحا له، ذاكرا نبوغه في الطلب وحسن استعداده وذكاءه، ثم أدرك الشيخ بعد قليل، من حياء تلميذه وتهيبه، أنه يعالج في نفسه شيئا، فأستأذن ضيوفه واختلى بتلميذه، فلما سمع منه قصته قال له: أمهلني أسبوعا ولا تجزع، وعد إلي(972/14)
بعده.
وبعد أسبوع مر الطالب على شيخه فوجده قد وفق لتعيينه في وظيفة أعانته على مداومة الطلب. وأبلغه ذلك وكأنه يعتذر عن تقصيره.
وكثيرون من أبناء الشيخ وخاصته يعرفون عشرات من مثل هذه الحادثة.
وعندما عاد الشيخ مصطفى عبد الرازق من فرنسا في سنة 1914 وكان شقيقه المرحوم حسن باشا وكيلا للديوان الخديوي اختير سكرتيرا لمجلس الأزهر الأعلى. وحدث في إحدى الجلسات أن اشترك في مناقشة المسائل المعروضة، وتأثر بعض أعضاء المجلس من مناقشته، أو من أسلوبها، فقال له المرحوم حسن باشا جلال، وكان عضوا بالمجلس: يا شيخ مصطفى، أنت سكرتير، ولست عضوا معنا. أنت تكتب ما نقول ولكنك لا تشترك في المناقشة. فسكت الشيخ قليلا، ثم قام، ولم يتكلم فأخذ ورقة، وأقفل درج مكتبه، وذهب إلى بيته ولم يعد للأزهر. فلما عرف شقيقه حسن باشا ما حدث، اتصل بحسن باشا جلال معاتبا، فقال له: إن مصطفى ابني، وقد أردت توجهيه وإفادته. وزار جلال باشا بيت عبد الرازق، ثم عاد الشيخ مصطفى سكرتيرا للمجلس.
وقد قص علي هذه القصة من كان يحضر مجلس الأزهر الأعلى في ذلك الوقت.
وقص علي الشيخ، يرحمه الله، هذه الواقعة، قال:
كان أبي رحمه الله، وأنا أطلب العلم في فرنسا، يرسل إلى في أول كل شهر نفقاتي وكانت تصلني في موعد لا يتخلف. وفي شهر من الشهور ترقبتها في موعدها ولم ترد، وبقيت أنتظر يوما بعد يوم، حتى قل ما بيدي من المال قلة شديدة. وكنت شديد الحرص ألا يعلم إنسان ما أنا فيه. فلما خشيت أن يعلم أمري قصدت متسللا إلى السوق أبحث عن أرخص طعام في ذلك الوقت أشتريه بما بقي معي من فضلة مال، فكان أرخص الأشياء الموز، فابتعت منه كمية كبيرة بمال قليل، ووضعتها في حجرتي، وجعلت أنفرد فيها وقت الطعام لآكل منه ثم أدركت بعد ذلك أني تركت مسكني إلى آخر ولم أبلغ البنك ذلك. فلما ذهبت إلى البنك وجدت نفقاتي فيه في موعدها، ولكنه لا يستطيع إبلاغي وحمدت الله أن سترني ولم يعرف أحد كيف قضيت أيامي تلك.
وفي سنة 1936 - على ما أرجح - اختير رحمه الله ممثلا لمصر في مؤتمر المستشرقين.(972/15)
وقبل سفره بأيام، قصدت إليه عن جريدة (البلاغ) أتحدث إليه في سفره ومهمته، وموضوع بحثه. فلما تحدث إلى في ذلك بما كفاني طلبت منه صورته لأنشرها مع حديثه، فعند ذلك رأيت وجهه قد كسته حمرة وقال: وهل أنا رجل كبير حتى تنشر صورتي في الصحف. . .؟ ومع أني حاورته في ذلك محاورة شديدة وألححت عليه إلحاحا شديدا فإنه غلبني بقوله: أرجوك أن تقدر رغبتي وتعفيني من هذا الطلب. فأعفيته وقد زاد إعجابي به وحبي له.
ولكن هذه الصفات نفسها، من الحياء، والتواضع، ورقة العاطفة، وحب الخير، وهي كلها فضائل، كانت سببا في متاعب عاتية وقع فيها وهو شيخ للأزهر. وتعبيري بكلمة (متاعب) فيه كثير من التساهل، وعندما يكتب تاريخ هذه الفترة، التي قضاها الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر، سيعرف الناس أي ظلم، وأي مضض، لقيه الشيخ في مشيخة الأزهر، لبعد، أو تناقض ما بين طبيعته وبيئته إذ ذاك.
ذهبت إليه، بعد عودته من الحجاز، وكان أمير الحج في سنة 1946 وقبل أن يؤوب إلى مكتبه، وكان في نفسي كثير من الضيق، بسبب أشياء ظالمة كتبها عنه رجال من شيوخ الأزهر، فأخبرته بها وقلت له: إن هذا الذي أحدثك به، كتبه القوم بأسمائهم وأعلنوه على الناس، وهو متداول بينهم مشهور. ولولا ذلك ما حدثتك به. فغضب رحمه الله حتى اضطرب، وفارقه أنسه، وظهر عليه الضيق حتى أشفقت عليه. ثم قال بإصرار وحزم: لن أسكت على ذلك.
وبعد أيام رجع إلى مكتبه، وجاء إليه الشيوخ الذين كتبوا فيه ما كتبوا، وكان قد قرأه، فاستقبلهم مرحباً، وآنسهم، واستبقاهم، وودعهم إلى باب حجرته شاكراً، مكرراً شكره.
وقد عرفني الشيخ، وعرفته دهراً طويلا، وأحببته، وكيف لا أحبه؟ ثم وقعت في نفسه نحوي جفوة لم أدرك أسبابها إلا بعد موته. فعسى أن يغفرها الله لي، وأن يغفرها لي الشيخ أيضاً؛ فقد كان يغفر، حتى لظالميه.
هكذا كان الشيخ مصطفى عبد الرازق في شبابه، وهكذا كان في كهولته وشيخوخته.
رجل وهبه الله أجل هباته من الجاه، والمال، والمجد. ووهبه أجمل هباته من الخلق الطيب والحياء الجميل، الذي يزيد صاحبه رفعة، ومهابة، ومحبة. وجعل حياته كلها مثلا كريما للعمل الخير الدؤوب الذي يصدق أن يقال في صاحبه إن يسراه لا تعرف ما تقدمه يمينه.(972/16)
من أجل ذلك كان فقده موجعاً أليماً، ومحبته باقية في قلوب الذين عرفوه فأحبوه، وأيقنوا أنه من طراز قل أن يوجد في الرجال.
محمود الشرقاوي(972/17)
النجم الذي هوى
زكي مبارك
بقلم تلميذه وصديقه الأستاذ محمد رجب البيومي
قابل المتأدبون في العالم العربي نعي الدكتور زكي مبارك بمرارة لاذعة، فقد سمعوا قلمه البليغ منذ أربعين عاما يرن في مختلف الصحف، فيثير العواصف الهوج ناقدا مصاولا، ويرسل النغم العذب شاعراً ملهما، ويتابع الأحداث الأدبية والاجتماعية مؤرخاً فاحصاً، ويدبج الأبحاث العلمية والفكرية مؤلفا باحثا، ثم شاءت طبيعته أن يترك جهاده الدائب في دنيا الأدب والفكر، ويستريح بعض السنوات مما كابده في نضاله الذهني، حتى أدركه الموت في زلة قدم شجت رأسه ومزقت أعصابه، فطارت روحه إلى السماء تاركة وراءها عبرات تترقرق في محاجر الأدباء، وزفرات تتصاعد من صدور تلاميذه وزملائه على السواء.
ولقد بدأ الدكتور حياته - كأكثر أدباء عصره - طالبا بالأزهر الشريف، وكانت لديه حافظة قوية ساعدته على استيعاب كثير من روائع الشعر العربي في سن مبكرة , ووجد الأستاذ المرصفي مولعا بالأدب والشعر بين أساتذة الأزهر فلازمه دروسه، ونقل أبحاثه في أوراقه، وصاحبه في سمره ولهوه وجده وشغله، وجعل يعرض عليه ما تجود به قريحته الناشئة من نظم ساذج فيفسح له مجال التجويد والإبداع بما يلقنه من توجيه وتثقيف، وقد بدأ الطالب الأزهري يتصل بالصحف، وينشر إلى جانب قصائده التقليدية فصولا إنشائية يبذل في تسطيرها ما يملك من جهد وإتقان، ودفعه طموحه إلى دراسة اللغة الفرنسية في فترات يختلها من حياته الأزهرية، ثم دفعته عزيمته إلى الجامعة المصرية سنة 1916 فأصبح طالبا يتميز بين طلابها بالنشاط والكفاح، ووجد بين أساتذتها شيخا يشبه أستاذه المرصفي في تعلقه بالأدب وكلفه بالنقد، فأخذ يستمع إلى محاضراته، ويدون في صحائفه جميع ما يصله من أستاذه الكبير محمد المهدي، وقد عكف في هذا الطور من حياته على مختارات البارودي، فحفظ أكثر ما بها من قصائد، ومالت به عواطفه إلى الغزل والنسيب فاستظهر رقائق العباس بن الأحنف، وحجازيات الشريف، وروائع مهيار وجميع ما نقله البارودي عن الشريف وابن سنان والتهامي، وقد خرج من ذلك كله بثروة طائلة في الذوق(972/18)
والشاعرية والأسلوب، وأخذ يجد الغذاء الدسم الذي يوجهه إلى عشاق الأدب في صحيفة الأفكار، فتطلعت الأنظار إلى الأديب الناشئ وعرفت فيه بوادر الألمعية والإبداع.
وحين اشتعلت الثورة المصرية الأولى سنة 1919 جرفت في
تيارها زكيا مباركا، فساهم بقلمه في إذكاء العاطفة الوطنية،
وخطب مع الأستاذ القاياتي في أول احتفال وطني بعيد الجهاد،
ومضى إلى الأزهر الشريف، فجعل من منبره مذياعا قويا
ينشر على الملأ حماسته واندفاعه، وكان الأستاذ أبو العيون
ينتدبه للخطابة بالفرنسية حين يحضر إلى الأزهر بعض
الأجانب من الفرنسيين، وقد أدى ذلك إلى غضب السلطة
الإنجليزية فزجت به في غياهب الاعتقال، وقالت عنه جريدة
الأهرام بعد أن نشرت نبأ اعتقاله بتاريخ 111920 (إنه شيخ
معروف بذلافة اللسان والنظم الرشيق وله في كل مجتمع كلمة
يلقيها أو قصيدة يتلوها، وأصبح في معتقله بالإسكندرية زميلا
للقاياتي ودراز وأبي العيون وغيرهم من خطباء الثورة
الأحرار).
وقد تقدم إلى نيل إجازة الدكتوراه في الآداب سنة 1924 بعد أن نال إجازة الليسانس، فكتب رسالة عن أخلاق الغزالي وكان الشاب الجامعي معتزا بمواهبه فهاجم حجة الإسلام مهاجمة قاسية، وتكشفت أثناء المناقشة جوانب خطيرة أثارت كثيرا من الحاضرين عليه، فتقدم الأستاذ اللبان لمناقشته، واحتدم الحوار احتداما أثار الضجة واللجاج، وأعلن رئيس(972/19)
اللجنة الدكتور منصور فهمي أن الرسالة الجامعية محاولة عقلية يخطئ فيها الطالب ويصيب، وذلك لا يمنع من نجاحه بدرجة مشرفة. ثم انتقل صدى الرسالة إلى الصحف، فأندفع الدكتور مبارك يناظر الأستاذين الشيخ يوسف الدجوي والشيخ أحمد مكي وغيرهما من كبار العلماء مناظرة حادة، مهدت له طريق الشهرة والذيوع، وإن عادت على عقيدته ببعض الأوهام.
والحق أن الدكتور مبارك كان يحرص على مخاصمة الجمهور فيما يكتب ويذيع، فهو يتعمد مزالق الزيغ تعمدا، كأن له حظا في الثورة والضجيج. ألف في هذا الدور كتابيه (حب ابن أبي ربيعة) (ومدامع العشاق) فقذف بنفسه في مطارح مخيفة، إذ أسهب في الحديث عن النبوة والعشق، ومنزلة الهيام من الدين، مما يثير عليه النوازع، وإن جذب بذلك كثيرا من الشباب إلى رياض الأدب العربي، فهاموا بالشعر الجيد، والنظم البليغ، وعرفوا الكثير عن عمر وكثير وجميل!! وقد انتفع الدكتور بمختارات البارودي في فصول كتابه (مدامع العشاق) فنقل باقات عبقة من زهورها اليانعة وقدم إلى القراء كثيرا من رقائق أبن رزيق والطغرائي وابن نباتة السعدي وأبن الخياط، بعد أن كانت الكثرة الغالبة من الشباب لا يتجاوزون البحتري والمتنبي وأبا تمام!!
وقد عين سنة 1925 معيدا بكلية الآداب، وكان يشرح لطلابه كتاب (مغني اللبيب) في النحو بتكليف من الدكتور طه حسين. وأكد صلته في هذه الفترة بجريدة البلاغ فكان يكتب الصحيفة الأدبية بها دون انقطاع. ولم يعش في ماضي الأدب القديم، بل أخذ يتابع الحركة الفكرية في مصر ويتعهدها بالنقد والجدل العنيف. وقد كتب فصولا طويلة عن شوقي ومعارضاته للشعراء، وهي مجموعة في كتابه (الموازنة بين الشعراء) مع أخوات لها تشابهها في التحليل والاستنتاج، وقد لاحظت وأنا أطالع هذه الموازنات تعصبا ملموسا لشوقي من زكي فهو يفضله دائما على من يزنه به، وكنت أعجب حين أجد المبارك لا يستر ميوله الشخصية عن القراء، وأحار في تعليل ذلك، حتى عرفت من بعض ما كتبه الدكتور، أنه أخذ مبلغا كبيرا من ذهب أمير الشعراء، فرفعه إلى السماء. ولست أريد أن أخفض من قيمة المعارضات الشوقية، فهي تحتل مكانها في التاريخ الأدبي دون نزاع، ولكني أعلن أن الدكتور قد خلع عليها من الإطراء ذيولا ضافيات.(972/20)
ولم يقنع مبارك بدرجته العلمية التي نالها من الجامعة المصرية، فسافر إلى باريس، واتفق مع جريدة البلاغ أن يمدها بمقالاته وأبحاثه نظير ما تمنحه من أجر يذلل به صعوبة الاغتراب، وأخذ يوالي البلاغ بآثاره العلمية تارة، وبمشاهداته وخطراته عن باريس تارة أخرى، فوق ما يضطلع به من تحضير رسالة علمية لنيل الدكتوراه من السوربون، وتجمع له من ذلك كتابه المعروف عن ذكريات باريس!! ثم وفقه الله فوضع رسالته عن النثر الفني في القرن الرابع الهجري، وهو كما يعلم القراء أخصب عهود العصر العباسي وأحفلها بالإنتاج الفكري، والشخصيات اللامعة من ذوي النقد والصيال. وقد نال برسالته القيمة إجازة الدكتوراه في الآداب من السوربون. وأقيمت له ثلاث حفلات تكريمية بباريس والقاهرة والإسكندرية. ويخيل إلى أن كتاب زهر الآداب للحصري قد أوحى إليه باختيار موضوع رسالته، فهو سجل حافل بالآثار الفنية لأعيان البيان، وقد شرحه الدكتور وحققه، ووضع فهارسه وعرف بأعلامه، فأتاح له ذخيرة ثمينة تستحق العرض والتحليل، فأندفع إلى تسطير رسالته العظيمة، التي يعدها الأستاذ أحمد أمين أعظم آثار الدكتور وأجدرها بالاهتمام.
ولكتاب النثر الفني - على رغم مكانته المحترمة - نقدات توجه إليه، وقد اعترف بها المؤلف، ولعل أبرزها ما نلاحظه في أسلوب الدكتور عامة من سيطرة عواطفه وأخيلته على يراعه، في الأبحاث الفكرية الدقيقة، فقد ارتضى لنفسه أن يكون شاعرا في تحقيقاته العلمية أو يستمد وقودها من القلب والعقل والخيال. وقد قال زكي عن ذلك (وهذا عيب في التأليف ولكنه عيب جميل يقع من المؤلفات العلمية موقع الخال من خد الحسناء)
وحين عاد الدكتور من باريس لم يركن إلى الدعة والراحة، بل واصل حملاته الأدبية في مختلف الصحف، وكان له مع أكثر أدباء العصر الحاضر صيال وملاحاة، فهو يقرأ القصيدة أو المقالة أو الكتاب لغيره من الأدباء، فتنفسح أمامه طرق واسعة للاختلاف والنقاش ويثيرها معركة عنيفة، ينتشر غبارها في الأفق ويكثر حولها الضجيج والخصام، وقد حاولت أن أحصر جميع من ساجلهم الدكتور مبارك فأدركني العجز الذريع!! ومرت أمامي أسماء كثيرة لهؤلاء المتحاورين مع الدكتور في حومة النقاش، وفي طليعتهم أحمد زكي باشا وعبد الله عفيفي ويوسف الدجوي وسلامة موسى، وحسن القاياتي، ومحمد عبد(972/21)
المطلب، والسباعي بيومي، ومحمد مسعود، وغيرهم. . . ومع هؤلاء أناس ناقشهم الدكتور وآثروا الراحة فلم يعتركوا معه في الميدان كطه حسين وعبد العزيز البشري وأحمد أمين وفريق من أعلام الأدب في الشام والعراق.
ولقد كان زكي فخورا بمعاركه الأدبية، وطالما تحدث عنها في كثير من التيه والإعجاب، وقد قال عن نفسه (أنا لا أرى الحياة إلا في حومة القتال، وليس الأدب عندي مزاحا أتلهى به في الأسمار والأحاديث وإنما هو عراك في ميادين الفكر والخيال) كما نقل في آخر الموازنة بين الشعراء قول بعض أصدقائه عنه (إن مباركا رجل ثائر لا تروقه الحياة، ولا يستطيب العيش إلا بالغزوات العلمية، ولو جاز وصف المساجلة كمعركة حربية، وتشبيه الأدباء بالجيش لتمثلت مباركا ضابطا من الضباط يزدان صدره بالأوسمة والنياشين لكثرة ما نازل من الأقران)
وقد كان مبارك يعتقد أنه طالب علم مدى الحياة، فهو لا يعرف للإجازات العلمية حدا تقف عنده، بل يحب أن يجلس دائما أمام الأساتذة، مهما امتدت به السن، ونال الدرجات، ليجد أمامه فرصة متاحة للصيال والنقاش. وقد تقدم بكتاب ضخم عن التصوف الإسلامي وأثره في الأدب والأخلاق لينال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة فؤاد، وتألفت لجنة من كبار أساتذة الجامعة لمناقشته وحسابه، فمنحته إجازة الدكتوراه في الفلسفة بمرتبة الشرف، وكتاب التصوف مشهور متداول، ومزيته الصحيحة - كما قال المرحوم جاد المولى بك (أنه لم يؤلف للدعوة إلى التصوف أو الهجوم عليه، وإنما ألفه مبارك في نقد التصوف فبين ما فيه من محاسن وعيوب، وكشف عما يتضمنه من قوة وضعف، في صراحة رائعة وأسلوب متين) وأجدني مضطرا إلى أن أذكر أن الروح الأدبية قد جمحت بالدكتور في بعض مواضيع الكتاب، فلم تحدد بعض حقائقه العلمية تحديدا يتكشف للقارئ من أقرب طريق. وقد أجهدت نفسي كثيرا لأفهم ما قاله الدكتور عن وحدة الوجود، فلم أخرج بطائل مع أنه ملأ الدنيا تشدقا بما كتبه عنها في التصوف. وقد أكون ذا عقل واهن لم يستطيع السير في هذا المنعرج الدقيق.
وكان الدكتور قد خصص جانبا من كتابه للبحث عن المدائح النبوية، وأطال القول في صلتها بالتشيع، كما تعرض إلى الكميت ودعبل والشريف وغيرهم من شعراء البيت(972/22)
الهاشمي، واتجه إلى البردة ومعارضاتها، وما تمخضت عنه البديعيات النبوية من مباحث أدبية هامة، ولكن اللجنة المؤلفة لبحث الكتاب قد أشارت بحذف هذا الجانب من القول لبعده عن مدلول التصوف، فظهرت المدائح النبوية بعد ذلك في كتاب خاص، ولعله أول بحث مفصل يعنى بتاريخ هذا الباب، وقد مزج فيه المؤلف بين العرض والتحليل والتاريخ والاستنتاج في طراز موفق شفاف.
وقد كان انتداب زكي مبارك إلى التدريس بدار المعلمين العالية في بغداد ذا أثر هام في حياته الأدبية، إذ أن الفترة القصيرة التي مكثها بالعراق قد ألهبت قريحته وأذكت نشاطه فسطر مئات الصحف في الدعوة إلى العروبة، وتوثيق الصلات بين القاهرة وبغداد، واتصل برجال الفكر والسياسة في القطر الشقيق فنزل بينهم نزلا كريما، وقد وصف الآثار العربية، بحاضرة العراق وصفا بديعا، كما نقل للقراء في شتى بقاع العربية، صورا خلابة عن غابات النخيل في البصرة، وسجع الحمائم في الموصل، وبقايا السحر في بابل، ورسم تألق القباب العلوية في النجف والكرخ، وألقى عدة محاضرات بنادي القلم العراقي، وقاعة كلية الحقوق، ونادي المثنى , والإذاعة العراقية، حول الثقافة العربية، وجمع كتاب ليلى المريضة بأجزائه الثلاثة كثيرا من آرائه التي تحدد صلة مصر بالأمم العربية، كما شرح معضلات الشباب في مصر والعراق موضحا ما يراه من الحلول والأدواء. . ونحن نحمد للدكتور هيامه بالوحدة العربية، وكفاحه من أجلها أطيب كفاح، وللقارئ أن يستعرض عناوين مقالاته في كتاب وحي بغداد ليعلم أي جهد قام به الدكتور في توثيق الصلة بين القطرين، فقد تكلم عن العروبة في مصر تارة، وعن المذاهب الأدبية المصرية طورا، وعن الجامعة العراقية وما يجب أن يبذل في سبيل إنشائها من مشاق،. . . وحين رجع إلى مصر، تحدث عن الفن المصري في العراق، وعن الأندية الأدبية في حاضرة الرشيد، وعن نهضة التعليم في دار المأمون، وأطنب في ذكرياته عن دجلة والفرات والرصافة والجسر وليلى وظمياء، وفي كتابه (ملامح المجتمع العراقي) أحاديث طيبة عن رجال العراق وقد نشرت أكثر فصوله وفصول ليلى المريضة بمجلة الرسالة الغراء. . .
وقد رجع الدكتور إلى مصر، ومعه فوق ما تقدم من كتبه، مؤلفه عن عبقرية الشريف الرضي، وهو مجموعة محاضرات أدبية ألقاها المؤلف في قاعة كلية الحقوق ببغداد، فكان(972/23)
أول باحث خص الشريف بجزء ين كبيرين، وقد استمع إليها كثير من الأساتذة والطلاب، وصرح الدكتور أنه وقف من الشاعر موقف الصديق، فتحدث كثيرا عن محاسنه وأشار إلى عيوبه برفق ولين، وقد قسم مواضيع الكتاب تقسيما نسبيا لم تتضح معالمه ورسومه، إذ لاحظت أن ما كتبه عن غراميات الشريف يصلح أن يكون بين ما كتبه عن حجازيات الشاعر، وما كتبه عن غرائب الوفاء يصلح أن يندرج فيما يليه من الأبواب دون التباس، وقد أدت سرعة المؤلف وعجلته إلى ذلك، ولست أجد ما أقوله غير أنه سطر أبحاثه بروح الشاعر الذي لا ينسى التحليق والطيران هذا وقد عين الدكتور مبارك بعد عودته من العراق مفتشا للغة العربية بالمدارس الأجنبية، وكان عمله الرسمي لا يكلفه جهدا كبيرا، فتفرغ للنشاط الأدبي، واتخذ من مجلة الرسالة الغراء ميدانا للصيال والحوار، وكانت هذه الفترة من حياته ألمع عهوده الزاهرة، حيث اعتبره المتأدبون في العالم العربي قائدا يتولى توجيه الشباب في صحيفة ممتازة، وأخذوا يتابعون أبحاثه وقصائده ومعاركه في اهتمام، وكان يسأل فيجيب، ويرشد فيطاع.
وقد حلل على صفحات الرسالة كثيراً من الكتب الأدبية التي تقررها الوزارة لأعلام الأدباء في مسابقة التوجيهية، كفيض الخاطر، ووحي الرسالة، ومطالعات في الكتب، والمختار، وإبراهيم الكاتب، وحديث عيسى بن هشام، والمنتخبات، وتحرير المرأة، والشوقيات، وديوان صبري وحافظ، وغيرها من أشهر المؤلفات. وكان يبدأ مقاله بمقدمة عن الكاتب، مشيراً إلى طريقته في التصوير والعرض. ثم يحلل أبواب الكتاب موجهاً الأنظار إلى نقطه الرئيسية وعناصره الهامة، ويختم بحثه بإرشادات للطلاب تهديهم إلى طريقة الانتفاع بالكتاب، وهو بذلك يفتح أمام الناشئة طرق البحث والاستيعاب، وقد كثرت خواطره الطريفة التي كتبها تحت عنوان (الحديث ذو شجون) ورأى فيها الناس فنا صادقاً يعرض خوالج الكاتب ونوازعه في صور مشرقة آخاذة، وينتقل بالعقول من موضوع إلى موضوع كما ينتقل الطائر من غصن إلى غصن، دون أن يجد القراء أثراً للسآمة والتكلف، بل كانوا ينعشون بنسيم هادئ يحمل عبير الرياض، ولو استمر الكاتب بموضعه في الرسالة لأسعد القراء بلطائفه الرقاق، ولكنه هجرها بعد سبعة أعوام، وكنت أسأل عن سبب هذه القطيعة بإلحاح، حتى وجدت الإجابة في ديوان (ألحان الخلود) إذ أعلن الدكتور أنه تضايق كثيراً(972/24)
حين سمح الأستاذ الزيات للأستاذ الغمراوي بنقد الدكتور في بعض أبحاثه بالنثر الفني!! فكان ذلك مدعاة القطيعة والحرمان!! وليت شعري كيف يضيق المبارك بالنقد وقد شب في ميدانه، وصال في حلبته راكباً جواده، وشاهراً سيفه؟ ثم هل يستطيع صاحب الرسالة أن يمنع إنساناً ما من النقد في حدود المنهج العلمي الصريح؟ إني لأذكر أن الأستاذ الزيات قد كتب مقالا عن إصلاح الأزهر بالرسالة فرد عليه أستاذنا المغفور له الشيخ محمود الغمراوي ردا صاخباً، وأبى الزيات أن يحذف حرفاً واحداً مما كتب الناقد العنيف، فكيف يجزع الدكتور من نقد علمي بريء؟!
هذا ما كان!!
وقد التحق الدكتور بتحرير البلاغ بعد الرسالة، وواصل نشر أحاديثه ذوات الشجون، ويؤسفني أن أذكر أنه حاد كثيراً عن النهج الذي سلكه بالرسالة، فبعد أن كان يذكر طرائف الأدباء وينقد آثارهم الأدبية وحدها، أخذ ينقد السلوك الشخصي ويتتبع ما يصله من الهنات صدقاً أو كذباً، وقد يختلق - غفر الله له - المثالب اختلاقاً ويلصقها بالناس. وقد هاجم وزير المعارف إذ ذاك مهاجمة أدت إلى فصله من الوزارة، فتعرض للبؤس تعرضاً مؤلماً. . . ثم تداركه الأستاذ علي أيوب فألحقه بالقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، ومكث عدة أشهر لا يقبض مليما واحداً، فتشعبت همومه، وعيل صبره، واستسلم إلى السكر والتبذل والاستخفاف!! وكأنه حن إلى الإنتاج الأدبي فجمع أشعاره الكثيرة في ديوان شامل أسماه (ألحان الخلود).
ولن أتعرض إلى منزلته الشعرية الآن ففي نيتي أن أكتب عنها بحثا مستقلا بعد حين، ولكن أذكر أن الدكتور قد مهد لأكثر قصائده بمقدمات مؤلمة كان الأفضل ألا يكتب منها حرفا واحدا، فهي - في أكثرها - تجريح شنيع لأناس أفاضل يحتلون منازل كريمة في عوالم السياسة والأدب والاجتماع. والعجيب أن مؤلفات الدكتور السالفة تحفل بالثناء عليهم وتعدد مآثرهم البيض في شتى ميادين الحياة!! كما لم يدخر وسعا في التحدث عن نزواته ولحظات ضعفه، كأنه مولع بفضيحته والتشهير بنفسه على رءوس الأشهاد. وأنا حين أعلل ما انحدر إليه الدكتور في خريف حياته من إسفاف، أحيل ذلك إلى ما وقر في ذهنه من أن الأدب لا يبلغ ذروته إلا إذا كشف عن النزوات البشرية وجلا للقراء ما يكمن في أعماق(972/25)
الكاتب من رواسب هابطة، وشهوات مسفة!! وذلك مذهب محرج لاحت بوادره - بصورة خافتة - قبل ذلك في بعض مؤلفات الدكتور، ثم اشتعلت على صفحات البلاغ وفي ديوانه ألحان الخلود بنوع خاص!!
وقد كان الدكتور ذا صلات كبيرة بأعلام عصره في الأزهر والجامعة ودار العلوم والصحافة والجمعيات العلمية، فسجل عن تاريخهم الشيء الكثير في مؤلفاته، حتى لتصلح أن تكون مرجعا للحركة الفكرية في العصر الحديث! وفي كتاب الأسمار والأحاديث تشريح هام لآراء المفكرين من أدباء وشعراء، وقد أجرى الدكتور على ألسنتهم كثيرا من المعاني التي يحتمل أن تصدر عنهم، إن لم يكن بعضها صورة حقيقية لما قالوه. وقد اختص المدرسة الاتباعية في الشعر بحوار كبير، ونقل كثيرا من آراء الهراوي والأسمر والجارم والزين وعبد الجواد رمضان والقاياتي وعبد الله عفيفي، وكلها تدور حول الشعر والشعراء في نسق مؤتلق وضيء. ومهما يكن من شيء فسيظل القراء يذكرون لمبارك أسلوبه الجميل الرقراق، ويشهدون أنه قد نقل الغزل الرقيق من ميدان الشعر إلى ميدان النثر، فوصف في مقالاته العواطف الثائرة، وشرح الأحاسيس الملتهبة، ونقل للقراء زفرات مبثوثة من الوجد الصارخ، إذ تحدث عن مسارح لهوه وملاعب صباه في سنتريس وأسيوط وباريس ومصر الجديدة وبغداد وحلوان، وأحسن القول في صدود الحسان، ومعاقرة الكؤوس، ونزق الصبا، ومفاتن الشباب، في طراز فاتن يأخذ بالألباب.
لقد كان الدكتور مبارك - رحمه الله - حركة دائبة مؤثرة في الأفق الأدبي، ولو قدر له أن يجتاز الأعوام الثمانية التي مرت عليه في خريفه كما اجتاز عمره السالف بين الصحف والأوراق لكان ذا شأن عظيم، ولكن القدر شاء أن يأسف عليه الأدباء مرتين، فهم يأسفون لما غمره في أخريات أيامه من القلق والاضطراب، كما يأسفون لرحيله الصامت الساكن بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، فجف الغدير المترقرق، وصوح الزهر الناضر، وطار البلبل الصداح
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أبو تيج
محمد رجب البيومي(972/26)
صور إسلامية رائعة. . .
للأستاذ عيسى متولي
كان النبي صلى الله عليه وسلم، يتأهب لإحدى الغزوات، وأخذ يعبئ الشباب للميدان، فإذا بغلام - هو رافع بن خديج - يندس بين الصفوف، ويتطاول على أطراف قدميه، ليبدو للرسول الكريم في طول من هم أكبر منه سنا. . فيضمه إلى من يختارهم للميدان!. .
فأين من هذا الغلام أولئك الشبان، الذين يتهربون من الجندية، ولو كلفهم ذلك بتر أيديهم، ليظهروا بمظهر العجزة. . وأولئك الذين يشيعهم أهلهم بالبكاء والنحيب. . كأنما يساقون إلى الموت!. .
لما علم عمر بن عبد العزيز أن ابنه اشترى خاتما بعشرة آلاف درهم أمر بمصادرته. . وأنبه بقوله: هلا بعته وأطعمت بثمنه عشرة آلاف جائع!. .
ونحن لا نطالب من آتاهم الله بسطة في المال بأكثر من أداء الزكاة. . التي فرضها الله عليهم. فيكون في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم!. .
أصيب أحد الصحابة بعلة استدعت بتر جزء من جسمه، فسألوه عن الوقت الذي يراه مناسبا لهذه العملية، فاقترح البعض أن تجري له عملية البتر أثناء نومه، فلا يشعر بألم. . ولكن الرجل المؤمن قال: لا. . ابتروا ما تشاءون من جسمي. . وأنا أصلي بين يدي الله؟!. . ومعنى ذلك أنه في صلاته ينصرف بكل حواسه ومشاعره إلى الله!.
فأين من هذا الصحابي هؤلاء الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى. . وإذا صلوا ملأت صدورهم الوساوس. . ومشاغل الحياة. . . لاهية قلوبهم!. .
ويروي لنا القرآن الكريم قصة (سليمان) عليه السلام، إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. . ففاتته صلاة العصر وهو يستعرض الجياد. . . فأمر أن يردها إليه، هذه الجياد التي شغلته عن الصلاة، وطفق مسحا بالسوق والأعناق. . . حتى قضى عليها. . تكفيرا لذنبه!. .
فأين من هذا العبد الأواب، أولئك الذين تصرفهم مشاغل الحياة من المحراب. . ويشرون الحياة الدنيا بالآخرة. . فتمتلئ بهم المقاهي، ودور اللهو، وهم عن ذكر ربهم غافلون!. .
هذه صور رائعة، مما يزخر به تاريخنا الإسلامي، أسلط عليها أنوار (الرسالة) الوضاءة. .(972/28)
ليتدبرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. .
والسلام على من اتبع الهدى!. .
عيسى متولي(972/29)
دفاع عن العباسة بنت المهدي
للأستاذ عبد الواحد باش أعيان العباسي
- 1 -
كلما كشف الكتاب والباحثون النقاب عن وجوه العصر الذهبي للدولة العباسية، وخاصة في عهد الخليفة هارون الرشيد، تقودهم تتمة البحث أن يتطرقوا إلى البرامكة وأعمالهم ومآثرهم في الدولة. ثم استئصال نفوذهم والتنكيل بهم على يد الخليفة الرشيد. ولقد أضحى هؤلاء الكتاب مرغمين أن يذكروا العباسة بنت الخليفة المهدي وأخت الخليفة الرشيد كلما بحثوا في تلك النكبة وعواملها، لأن بعض كتب التاريخ العربي، ذكرت في اقتضاب، وبعضها قد أسهب في وصف العلاقة بين العباسة وجعفر البرمكي وزير الرشيد وعضده في إدارة أمور الدولة العباسية.
وتلك الروايات وإن تباينت في السرد، تتفق في هذا المعنى: وهو أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر ومنادمته في مجالسه الخاصة، وكذلك ما كان يصبر عن أخته العباسة في الوقت نفسه، لذلك ابتدع أمرا فريدا، وهو أن عقد لجعفر على العباسة ليحل له النظر إليها، واشترط - عليها طبعا - أن لا يكون اجتماعهما إلا بحضرته، وأن لا يتعدى - هذا الزواج - الحديث والنظر. . . وبعد هذا كانت العباسة تحضر مجالس الرشيد مع جعفر فتقضي ساعات في هذا السمر البريء. .
ثم يستمر الرواة في تنظيم خيوط الرواية ونسجها لتظهر النتيجة المتوقعة من اجتماع شباب جميل، بفتاة رائعة الحسن وضاءة المحيا.
فقد ذكروا أن قد حدث اتصال سري (وتفنن بعض الرواة في كيفية هذا الاتصال) بين جعفر والعباسة، فأنتج (أطفالا).
ولما كانت قصور الخلفاء والملوك لا تخلو من عيون ودسائس لذلك انكشف للرشيد أمر هذه العلافة (الآثمة) بين جعفر البرمكي وأخته العباسة، فثار غيظا، وانفجر غضبه بنكبة مروعة فقتل جعفر، وحبس أباه وبقية اخوته وصادر أموالهم، واشتط في الفتك بمن كان يمدحهم، أو يقف باكيا على قبورهم، أو يومئ إلى رزيئتهم. . .
افترق المؤرخون والكتاب - قديما وحديثا - عند هذه الرواية التاريخية بين منكر لحدوثها،(972/30)
مشمئز من هذه الفرية الباطلة والتشنيع المدبر للحط من مروءة الرشيد وغيرته، وبين مصدق لها، وغير مستبعد أن تكون واقعة لا محالة، وقد اقتنع البعض بأنها كانت السبب الأول في نكبة البرامكة، وتساهل البعض الآخر فجعل تلك العلاقة من أسباب نكبتهم. . . وقد جاهر بهذا الرأي الأخير الدكتور أحمد أمين بك في كتاب الهلال الذي أصدره عن هارون الرشيد. فقد عدد ثلاثة أسباب للنكبة: (أولها) غيرة الرشيد من سلطانهم و (ثانيا) عطفهم على العلويين و (ثالثا) علاقة جعفر بالعباسة. ولتوطيد صحة السبب الثالث أبدى الدكتور رأيا فريدا لم يسبقه إليه باحث إذ قال:
على أنه ما يدرينا، لعل الرشيد نشر في الناس علاقة جعفر البرمكي بأخته، ليستثير كره الناس ويستخرج غضبهم ومقتهم. . .
وقد استغربت مع كثيرين أن يطرح الدكتور هذا الرأي بعد أن اعترف للرشيد (بكبر العقل، وعلو الهمة، وكرم النفس. . . وحدة المزاج) فكيف يتفق من كان في هذه السجايا أن يذيع في الناس خبرا يمس عرضه ويحط من كرامة بني هاشم! وما الذي يهم سواد الناس من تلك الرواية سوى التشنيع بها على الخليفة وأهله. وإن كان ما قال الدكتور حقا فليس في الأمر حكمة أو بعد نظر من الرشيد إن يحط من شأن أخته لدعاية لا تثير نقمة، وإنما تبعث على الاشمئزاز والتندر.
ثم نظرة أخرى في أمر - هذه الدعاية - فإنها لو كانت أذيعت في الناس قبل نكبة البرامكة فما من أحد كان يستطيع أن يجهر بالكره والعداء ما دام الخليفة يظهر مودته لهم وحدبه عليهم حتى اللحظة الأخيرة.
لذلك فإننا نستبعد أن يكون لهذا الرأي صلة بالسبب الذي ظهرت تلك الرواية من أجله. ونعتقد اعتقادا جازما بأن هذا الخبر عن علاقة جعفر بالعباسة , كان فرية مغرضة، ليس لها ظل من الحقيقة ولا أساس من الواقع، ونرجح أن يكون قد أذيع قبل أيام النكبة، ومصدره آل برمك أنفسهم إن لم يكن جعفر البرمكي ذاته؛ لغرضين اثنين:
أولا - كسب عطف الناس وتمكين سلطة جعفر من نفوسهم، وليرسخ تمثال الهيبة لوزير الدولة وصهر الخليفة في القلوب
الثاني - أن تجعل الخليفة العباسي، أمام مأزق ضيق فالأمر يمس عرضه وشرف أسرته،(972/31)
فإن فعل ما يضر بجعفر لا يدرك الناس سببا سوى تلك العلاقة بين جعفر وأخت الخليفة عندئذ يهان الخليفة في عرضه ومروءته. وقد تحقق هذا الغرض بعد مقتل جعفر، وما زال حتى اليوم من صدق تلك الفرية الدنيئة.
وفي ثنايا كتب التاريخ ما يشير إلى أن ذلك الخبر كان فاشيا في الناس آنذاك وكان عامتهم ترجح وقوعه، فقد ذكر الجهشياري في كتابه الوزراء والكتاب في الصفحة (204)
(قال عبد الله بن يحيى بن خاقان: سألت مسرورا الكبير - في أيام المتوكل وكان قد عمر إليها ومات فيها - عن سبب قتل الرشيد لجعفر وإيقاعه بالبرامكة فقال - كأنك تريد ما يقوله العامة، فيما ادعوه من أمر المرأة وأمر المجامر التي اتخذها للبخور في الكعبة؟ فقلت له ما أردت غيره، فقال: لا والله ما لشيء من هذا أصل.! ولكنه من ملل موالينا وحسدهم)
إن صحت هذه الرواية للجهشياري - وهي كذلك - فيكون تأكيد مسرور القول الفصل في تفنيد تلك المزاعم وهدمها، لأنه كان أقرب الناس من الرشيد وأعلمهم بخفايا القصر ودسائس الحاشية المقربين! ولتحدث بها (إن كانت حقا) غير هياب ولا وجل.
- 2 -
لقد بحث بعض المؤرخين الأقدمين والمحدثين الذين تبصروا في ظروف وقعة البرامكة في العوامل الجوهرية التي دفعت بالخليفة الرشيد للقضاء عليهم وتعرضوا لخبر علاقة العباسة بجعفر فأنكرته نفوسهم، ولما لم تستسغه عقولهم أن يكون سبباً من أسباب نكبة البرامكة هدموا الخبر وأنكروا أن يكون له ظل في الواقع، كما توصل لذلك ابن خلدون - من الأقدمين - فقد لخص في مقدمته صفحة 15 رواية النكاح والاتصال أولا ثم فندها من ناحية الاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية التي تتمتع بها العباسة عن مواليها آل برمك حيث قال: (. . وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها، وأبويها، وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس وليس بينها وبينه إلا أربعة رجال، هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده. والعباسة بنت محمد المهدي بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد بن علي أبي الخلفاء بن عبد الله ترجمان القرآن بن العباس عم النبي (ص). ابنة خليفة أخت خليفة، محفوفة بالملك العزيز، والخلافة النبوية، وصحبة الرسول وعمومته، وإقامة الملة ونور الوحي ومهبط الملائكة، من سائر جهاتها، قريبة عهد ببداوة العروبة وسذاجة الدين، بعيدة(972/32)
عن عوائد الترف ومراتع الفواحش فأين يطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها؟ أو أين توجد الطهارة والذكاء إذا فقد من بيتها. . (حتى يقول) وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته وعظم إبائه؟)
ومن مؤرخي العصر الحديث الذين لم يقتنعوا بذلك الخبر المختلق ولم يعتبروه أساساً لنكبة البرامكة أو طرفا منها. المرحوم جورجي بك زيدان، في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي فقد ذكر أن: (الرشيد فتك بالبرامكة لأنه خافهم على سلطانه) وهو الوجه الصحيح لتفسير سبب النكبة.
وكذلك توصل الأستاذ محمد فريد وجدي بنتيجة البحث الدقيق والتحليل المنطقي أن علاقة العباسة بجعفر البرمكي، إنما كان خبراً مختلقا للحط من كرامة الرشيد ومروءته، فقد ذكر في بحثه عن (جعفر بن يحيى البرمكي، لماذا قتله هارون الرشيد) بالعدد العاشر من مجلة الهلال التي صدرت في أول أغسطس سنة 1940؛ أن من جملة الروايات في سبب النكبة:
أولا - أن الرشيد كان له أخت تدعى (ميمونة) يحب أن تكون في مجلسه مع جعفر، فرأى أن يعقد لهما زواجا صوريا ليحل لجعفر أن يراها دون أن تكون له زوجة فبلغ الرشيد أنها ولدت منه ثلاثة أولاد وهي حبلى في الرابع، فاستشاط من ذلك غيظا، وأمر بقتل جعفر والتنكيل بأسرته.
ثم فند الأستاذ فريد وجدي هذه الرواية بلباقة ودقة تفنيداً يقرب من وجهة نظر ابن خلدون في الأمر - فقال: (ليس بمعقول، فإن الرشيد لم يصل من قلة التبصر وعدم النخوة إلى حد أن يعرض أخته لأجنبي في مجالس لهو وشرب وغناء وهما في ميعة الصبا. لو كان السبب هو هذا لما كان هنالك من حاجة إلى إحاطته بهذه الأسوار من الكتمان، بل ولعرف ولم يحصل فيه خلاف، فإن مجرد قتل ميمونة أخته وأولادها، كان يفضح الخبر إلى حد بعيد، ولما كانت تضطر (علية) أخته أن تقول - كما حكاه ابن بدرون:
(يا سيدي. . . ما رأيت لك يوم سرور تام منذ قتلت جعفر. فلأي شيء قتلته؟) فأجابها هارون بقوله: (يا حياتي لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك لمزقته.) فهل كان يخفى على مثل (علية) وهي من أعظم نساء الأسرة المالكة ما حل بأختها ميمونة وأولادها؟ الناس مغرمون بسماع الغرائب وروايتها، وهذا مجال يجد فيه الخراصون مكانا رحبا(972/33)
لإشباع نهمتهم في الاختلاف، فأفرغوا ما في جعابهم حول هذه المسألة وأنتهبه الناس انتهابا وزادوا عليه ما شاءوا)
دحض هؤلاء المؤرخون الثقات تلك الرواية التاريخية المدسوسة عن علاقة العباسة بجعفر بقياس للعاطفة فيه نصيب وافر، وإننا نجد، بالإضافة لذلك أن في استقراء الحوادث والاستنتاج من الوقائع والروايات التاريخية ما يكشف عن بطلان تلك العلاقة ويؤيد الرأي الذي ألمعنا إليه في صدر هذا المقال بأن هذا الخبر قد خلق وأذيع لغرض مقصود.
فلو تعقبنا الخبر في صفحات كتب التاريخ القديم نصطدم لأول وهلة في اضطراب وتباين في تعيين اسم الأميرة العباسية التي كانت لها علاقة أو (زواج صوري) مع جعفر البرمكي، فبعض المؤرخين ذكر اسمها (العباسة) وغيرهم ذكر أنها (ميمونة) وهذا الاختلاف في تعيين اسم بطلة حادثة مروعة - في حينها - هزت الدولة العباسية من شرقيها إلى غربيها لا يصح أن يختلف في معرفة اسمها سواد الناس بل خاصتهم، لذلك فلا حرج أن يرتاب ذوو الرأي بصحة وقوع تلك الرواية.
ومما تزيد فينا الريبة والشك بتلك الوصمة التي ألصقت بالعباسة أن كتب التاريخ والأدب لم تتحدث عن مزايا خاصة للعباسة ترفعها مقاما عن سائر نساء القصر والأسرة المالكة لا في الرأي ولا في الأدب والشعر أو أي شيء آخر، فلم كان الخليفة يصبر عن زوجته زبيدة، أو أخته (علية) التي كانت تجيد أكثر من فن من فنون الشعر والأدب والغناء، أو عن جواريه وإمائه مثل ذات الخال ودنانير، وخاصة في ذلك المجلس الذي كان يعقده للشرب واللهو والسمر مع وزيره جعفر. فإن كان ذلك المجلس - كما ذكر - للشرب واللهو ففي جواريه وإمائه غنى عن حضور أخته العباسة، وإن كان للرأي والمشورة، فالدليل واضح بأن الرشيد قد أبعد النساء عن التدخل في أمور السياسة وشؤون الدولة.
وقد يتبادر هذا السؤال للذهن بأنه: لم كانت العباسة، ولم تكن أختها علية ضحية تلك الدسيسة؟ بلا ريب أن الخبر كان يقبر في مهده آنذاك لشهرة علية ومنزلتها، ولأن العباسة لم تتمتع بشهرة واسعة أو ميزة نادرة بين نساء القصر. فالخبر يوصم العباسة يكون أضمن انتشارا بين العامة وسواد الناس. وآخر ما نستطيع تقديمه لنقض ذلك الخبر المختلق ما ذكره البستاني في دائرة المعارف المجلد 11 صفحة 488 حيث قال: (وعاشت العباسة(972/34)
خمسين سنة، وتوفيت سنة 210 وقيل 209 هجرية، وصلى عليها المأمون ابن أخيها، وقيل كان سبب وفاتها، أن المأمون ضمها إليه وجعل يقبل رأسها وكان وجهها مغطى، فشرقت من ذلك وسعلت، ثم حمت أياما يسيرة وماتت.) إن صحة هذا الخبر هدم تلك الرواية التراجيدية - الخيالية - التي ابتدعها الأقدمون - لغرض خاص - وتفنن فيها كتاب العصر الحاضر فنظموا فصولا رائعة لقلبين عاشقين وحب وارف جميل، واستخرجوا هذا الخيال الجذاب بالسياسة والتناحر للسيادة والسلطة والنفوذ، وابتدعوا لها نهاية مروعة من بكاء ودماء. .
وبعد هذا كله لو صحت تلك العلاقة (الآثمة) بين العباسة وجعفر لكان الرشيد قد أوردها حتفها - كما استنتجت كتب التاريخ القديمة - ولما تركها تعيش أمام سمعه وبصره رمزا للعار والفضيحة والنكبة.
ولكن العباسة عاشت إلى ما بعد حياته، لأنها كانت عفيفة نقية طاهرة.
البصرة - عراق
عبد الواحد باش أعيان العباسي(972/35)
رسالة الشعر
الصخرة
للآنسة فدوى طوقان
انظر هنا! الصخرة السوداء شدت فوق صدري
بسلاسل القدر العتي
بسلاسل الدنيا البغي
أنظر إليها كيف تطحن تحتها ثمري وزهري
نحتت مع الأيام ذاتي
سحقت مع الدنيا حياتي
دعني فلن تقوى عليها. لن تفك قيود أسري
سأظل وحدي في انطواء
ما دام سجاني القضاء
دعني سأبقى هكذا، لا نور، لا غد، لا رجاء
الصخرة السوداء، ما من مهرب، ما من مفر
عبثا أزحزح ثقلها عني بنسياني لنفسي
كم خضت في قلب الحياة
وضربت في كل اتجاه
ألهو، أغني، في ينابيع الشباب أغط كأسي
وأعب في نهم شديد
حتى أغيب عن الوجود
دنيا المباهج كم خدعت بحضنها ألمي وبؤسي
فهربت من دنيا شعوري
ورقصت في نزق الطيور
وأنا أقهقه في جنون، ثم من أعماق يأسي
يرتج في روحي نداء(972/36)
ويظل يرعد في الخفاء:
لن تهربي. إني هنا. لن تهربي. ما من مفر
ويهيب طيف الصخرة السوداء ممسوخ الصور
عبثا أزحزحها، سدى ألغي الهروب فلا مفر
كم جست في أرض الشقاء
أشتف إكسير العزاء
من شقوة السجناء أمثالي ومن أسرى القدر
فولجت بين الجموع
حيث المآسي والدموع
حيث السياط تؤز، تهوي فوق قطعان البشر
فوق الظهور العاريه
فوق الرقاب العانيه
حيث العبيد مسخرون تدافعوا زمرا زمر
من كل منسحق غرق
بالدمع، بالدم، بالعرق
وبقيت التمس العزاء من الشقاء. . ولا مفر
فالصخرة السوداء لعنه
ولدت معي لتظل محنه
بكماء، تلحقني، يتابع ظلها خطوات عمري
أنظر هنا كيف استقرت في عتو فوق صدري
دعني. فلن تقوى عليها. لن تفك قيود أسري
ستظل روحي في انقفال
سأظل وحدي في نضال
وحدي مع الألم الكبير. مع الزمان. مع القدر
وحدي وهذي الصخرة البكماء تطحن. . لا مفر!(972/37)
فدوى طوقان
بني مصر
للأستاذ أحمد محمود
بني مصر خلوا القول للسيف والقنا ... فليس بغير السيف يكتسب الحق
ولا تخدعنكم في الكفاح وساطة ... ظاهرها نصح بواطنها رق
وكونوا تجاه الغرب صفا موحدا ... متين الحواشي جلمدا ليس ينشق
وثوروا على جونبول ثورة عارف ... بما سيبت للكون أنيابه الزرق
هم الإنجليز المجرمون نفوسهم ... رذائلها لم يحص تعدادها خلق
زنادقة سادوا العباد بظلمهم ... قراصنة يأباهم الأصل والعرق
يظنون أن الشرق ما زال غافلا ... وما علموا أن سوف يفنيهم الشرق
بنوا ليهود اللؤم في عقر دارنا ... كيان ضلال أسه الفحش والفسق
يريدون أن يحموه خزيا أصابهم ... بإيران لكن سوف يبقى ولن يبقوا
كما شردونا من فلسطين شردوا ... ورغم اتساع الأرض ضاقت بهم طرق
لقد خرقوا الميثاق والعهد وادعوا ... بأن بلاد العرب شيمتها الخرق
فلا عجب أن يرفض العرب ... كلهم دفاعا ذميما ليس في متنه صدق
خبرناهمو أيام ثارت جحافل ... من العرب ضد الترك يدفعها عتق
فما نالنا منهم سوى الغدر سافرا ... فكيف نجاريهم وليس بنا حمق
بني مصر هذا اليوم يوم تحرر ... فلا يأخذنكم في عدو العلا رفق
قفوا وقفة شعب البوير سما بها ... وقد منعت عنه الموارد والرزق
ولا تيئسوا فالله جل جلاله ... سينصركم والليل يعقبه فرق
كتائب تحرير البلاد تقدموا ... فمن خلفكم شعب تحفزه صعق
فدى مصر والسودان كل حشاشة ... لها بهما من بعد رب السما عشق
ويا رب أهلك كل مستعمر بغى ... فينتصر الإخلاص والأمن والخلق
أحمد محمود(972/38)
وداع الريف
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
يا ظلال النخيل يا نفحات الز ... هر يا شاطئ الغدير وداعا!
يا خدود الورود تحت شفاه الط ... ل م للندى يذوب التياعا؟!
يا عشاش الطيور في كل روض ... يا نسيم الأصيل هب وضاعا
لم أكن أحسب الفراق جحيما ... والنوى حرقة وحظا مضاعا
أين مني ظلال صفو رطيب ... يغمر القلب بهجة ومتاعا؟
وحياة تمتد في كنف الري ... ف امتداداً ترى به الدهر ساعا
كحياة الخلود في جنة الفر ... دوس تمضي بها الليالي سراعا
في سبيل الغد الجميل المرجى ... شاب رأسي وضاع أمسي ضياعا
أعلى النازحين للمجد والعل ... ياء أن يقطعوا الحياة صراعا؟!
على الخانعين في قبضة الرا ... حة أن ينعموا بها استمتاعا؟
فكأن العزيز يحيا ذليلا ... وكأن الجبان يحيا شجاعا!
وبرغمي فارقت أهلي وأحبا ... بي وأرسلت زورقي والشراعا
يا قلوبا تحنو علي وترعا ... ني وتهوى قياثري واليراعا
لك في القلب ذكريات وضاء ... سطعت كالسنا وأصفى شعاعا
لم أزل بالخمائل الخضر مغرى ... مولعا بالظلال أطوي البقاعا
إن نسيت الصفصاف ذكرني الزي ... تون صفو الحياة ظلا مشاعا!
وإذا عقني الصديق فما زل ... ت وفيا وسره لن يذاعا
حينما تمزج الضغينة بالحق ... د يطول اللسان بالعيب باعا!
والذي يحسب الصديق عدوا ... كالذي يحسب النقاء خداعا
أيها المنذري بشر حناني ... ك ترى الشر حولك الآن شاعا
لن تجوع الأشبال في كنف اللي ... ث وتحيا الكلاب ظمأى جياعا
وأنا النازح المقيم على العه ... د ولن تصبح الطيور سباعا(972/39)
التمس بهجة الحياة من الده - ر فإن ضن فأنتزعها انتزاعا
أحمد أحمد العجمي(972/40)
الكُتُب
محمد رسول الله
تأليف مولاي محمد علي
تعريب مصطفى فهمي وعبد الحميد جودة السحار
للأستاذ محمد محمود زيتون
الكاتبون في السيرة النبوية في العصر الحديث على ثلاث فرق: فريق خصوم الإسلام من الغربيين، وفريقان من المسلمين أحدهما مقلد والآخر مجدد.
أما الخصوم فقد أخذتهم روعة السيرة فعكفوا على دراستها يبتغون إحصاء المآخذ على الإسلام وترويجها في أوساطهم، وقلما يعترف أحدهم بمواطن العزة والفخار في تراثنا، لأنهم يخشون انهيار ما يستمسكون به من مبادئ واهية، إذا هي قيست بالصروح العالية التي أقامها الإسلام.
وهؤلاء - على خصومتهم الظاهرة - لم يكن بمكنة بعضهم أن يغمط الحق - لأنهم وهم المبشرون بحرية البحث، والمنهج الموضوعي، يخشون أن يتناقضوا مع أنفسهم حين تزل أقلامهم إلى مزالق التعصب الوخيم، ومع ذلك فهم طالما يلبسون الحق بالباطل ابتغاء الفتنة.
وهذا الفريق كان - ولا يزال - خطراً على الدعوة للإسلام في الغرب. حتى لقد وقع فلاسفة القانون ومنهم منتسيكو في أخطاء جسيمة، نتيجة للاستقراء العاجز، الذي قدمه لهم شركاؤهم في الإفك والتضليل.
والفريق الثاني من كتاب السيرة هم أصحاب المدرسة التقليدية أو بتعبير آخر هم الذين يؤمنون إيمان العجائز يصدقون كل ما ورد في السير، فلا يفرقون بين الغث والسمين، أو بين الأصيل والدخيل، فجاءوا بموجزات لا يكلفون أنفسهم فيها عناء التمييز، ولا يسعون إلى البحث وفق منهج خاص، وهؤلاء لا قيامة لهم في موازين النقد، ولا سيما في انحدارهم وراء المتواتر من الأنباء غير ملتفتين إلى الإسرائيليات المدسوسة في السير، والإسلام منها بريء.(972/41)
والفريق الأخير هو المدرسة التجديدية التي أصحابها من المسلمين المثقفين الآخذين من الطريف والتليد على السواء، وهؤلاء هم طلائع الأغيار على تراثنا المجيد الذين سارعوا إلى رد المضللين إلى جادة الصواب في رفق المؤمن وتؤدة العالم. وهذا الفريق هو الذي يعور كتيبة الثقافة الإسلامية التي جندت رجالا يحجزون الفتنة في أقماع السمسم كلما أطلت بقرنيها.
وهم - لاختلاف مشاريعهم الثقافية - يختلفون منهاجا وأسلوبا، ومن هنا تكون الطاقة الثقافية مميزة للواحد منهم عن الآخر، ومن وراء ذلك كله تتوفر لدى القارئ ذخيرة قيمة من المعلومات فضلا عن الأثر الموصول بين المؤلف والمطلع.
وفي الرعيل الأول من هذا الفريق مولاي محمد علي رئيس الرابطة الأحمدية لإشاعة الإسلام بلاهور مؤلف كتاب (محمد رسول الله) الذي اضطلع بنقله عن الإنجليزية الأستاذان مصطفى فهمي وعبد الحميد السحار.
ونحن إذ نقدم هذا الكتاب القيم إلى القراء على صفحات الرسالة الغراء يلزمنا التنويه بفضل المؤلف والمترجمين جمعيا.
وليس من شك في أن علماء الباكستان يعلون علوا كبيرا في مباحثهم الإسلامية التي يطلعون بها على العالم بين الفينة والفينة، وهذا مولاي محمد علي يسير في كتابه هذا في فلك فريد سواء في طاقته العلمية أو المنهجية، فهو - على خلاف المؤلفين في السيرة - يصدر عن ذخيرة وفيرة من الاطلاعات والبراهين، فجاء كتابه هذا ثمرة طيبة لمجهود عميق دقيق على سعة في الأفق، وتسلسل في الاستدلال، واعتزاز في الرأي في غير اغترار، وبشخصية عاملة ناقدة.
ويبلغ به الحرص على دفع فرية إلى حد الاستباق إلى تكذيب واقعة تاريخية أجمع عليها المؤلفون الأولون في السيرة، فيتهجم على الواقعة، ويمضي في الإلحاح على زحزحتها بكافة البراهين المنطقية والأسانيد الصحيحة حتى يخرج من المعركة ظافرا، فيشعر القارئ البريء بأنه قد نجا من فتنة ووهم وضلال، ما كان لينجو منها لولا هذا الصراع الفكري العنيف الذي قام به المؤلف البطل.
تابعت المؤلف في جميع فصول الكتاب، فوجدته قد نأى بقلمه عن الاستدراكات(972/42)
والاستطرادات التي تعوق عن الهدف، وتشتت الذهن، وبذلك لم يكن من طائفة المقلدين الذين يقعون في أخطاء المؤلفين القدامى.
ومما حرص عليه مولاي محمد علي تجنب كثرة الردود على الخصوم في ثنايا الفصول، ولكنه اضطر في أكثر من مناسبة إلى إزهاق باطل شائع في أذهان الأوروبيين وهو أن الإسلام لم ينتصر إلا بالسيف، فكان لا بد من تحين كل فرصة لدحض هذه الدعوى وإبطالها بالحكمة والموعظة الحسنة، ويمتاز أيضاً بسعة اطلاع جعلته يعقد مقارنات بين ما ورد في التوراة والإنجيل وبين ما تحقق منهما من نبوءات بمحمد الرسول الغازي، ولذا فهو يعمل على تجميع الخطوط الرئيسية حول حادث ما.
ولقد تجلت مزاياه الثقافية، وحججه البارعة في (غزوات النبي) و (دعوى المثلة الكاذبة) و (مميزات النبي الصالح). ففي هذه الفصول بنوع خاص، ارتفع مولاي محمد علي من المستوى العادي في تحليل الجهاد في الإسلام، ونفى نفيا حاسما حوادث اغتيال قيل إن النبي هو الآمر بها، وأجمعت عليها روايات الثقات، كما استبعد فكرة (العزل) عن نساء السبي، وفي هذا كله يصدر عن (ذوق إسلامي) مرهف مؤيد بالمنطق الثابت والسند الصحيح؛ تبرئة للنبي مما قد يعلق بالوهم من شبهة، لو تركت قد تنقلب مع التبرير إلى شريعة.
وفي الحق أن الأستاذ السحار وزميله قد خدما الثقافة الإسلامية أجل خدمة بترجمتهما هذا الكتاب القيم الذي سد نقصا كبيرا في المكتبة العربية المعاصرة، وذلك لاختيارهما في هذه الترجمة أسلوبا سهلا يتمشى مع سهولة الأداء التي حالفت المؤلف في هذا الكتاب.
ومن دواعي التوفيق إلى هذه الترجمة الدقيقة الرشيقة أن الأستاذ السحار أديب إسلامي مطبوع؛ فهو مؤلف ومترجم ومؤرخ وناقد وقاص. وله في كل مجال من ذلك مكان مرموق وهو - بالاشتراك مع محمد فرج - مترجم كتاب (الرسول) لمؤلفه بودلي الذي يعد من الفريق الأول، ثم أن الأستاذ السحار هو مؤلف هذا الكتاب القيم (المسيح عيسى بن مريم) الذي نأمل أن نقدمه للقراء قريبا.
لقد أفاد السحار حقا من اطلاعه على أمهات كتب السيرة فكان تعاونه مع زميله صادقا ودقيقا في ترجمتهما كتاب (محمد رسول الله) ومما يجدر بنا التنويه عنه قول النبي يعاتب(972/43)
الأنصار بعد غزوة حنين (أوجدتم يا معشر الأنصار في العلالة من الدنيا. . . ص166 وصحتها لعاعة (بفتح اللام والعينين) وذاك كما ورد في سيرة ابن هشام وسيرة السهيلي، وهو يفسرها بأنها بقلة خضراء ناعمة. وقد شبه بها زهرة الدنيا وزينتها.
على كل حال فإن الاطلاع على الأصول العربية قد مكن من تفادي مواطن الإعراب والتورط فجاءت الترجمة سهلة مستساغة تستحق التهنئة الصادقة، أما لجنة النشر للجامعيين فقد استفتحت بهذا الكتاب عهدا جديدا من دارها الجديدة (دار مصر للطباعة) فجاء الكتاب في حجم مقبول اجتمعت فيه عوامل الذوق من طبع وبساطة وإتقان مع هنات مطبعية لا تذكر.
محمد محمود زيتون
القطر الجزائري
للأستاذ كمال دسوقي
لا أعرف كتابا مصورا ظهر في العصر الحديث للدعاية لقضية وطنية أجمل ولا أبلغ في الدلالة على هذه الدعاية الطيبة من كتاب (القطر الجزائري) الذي أصدره مكتب الاستعلامات والوثائق بديوان الحاكم العام الجزائري؛ والذي أطرف ما فيه صدوره عن دار بابا علي الجزائرية وطبعه بالمطابع الباكونية الجزائرية أيضا.
فهذا الكتاب صور حية ناطقة بل هاتفة وصارخة بجمال هذه البلاد وروعة معالمها وآثارها الطبيعية والفنية بما لا يحتاج معه القارئ في غمرة إعجابه ودهشته إلى بيان من البيانات المكتوبة معها باللغات الفرنسية والعربية والإنجليزية والإسبانية؛ فحيوية الصور ودقة اختيارها وعرضها تغني عن بيانها وتسترعي النظر والانتباه قبل أن تثير اللغات المكتوبة فضول القراءة.
أقول ذلك وقد سبق لي أن زرت أقطارا أوربية كثيرة فطوفت بأشهر مدنها وألممت بصور دعاياتها التي توزعها متفرقة أو في كتالوجات ونشرات؛ مجانا وبالثمن. . . فحتى فرنسا ذاتها - التي هي أكثر الدول الأوربية اهتماما باستخراج صور جذابة لمعالم القرى والربوع المختلفة فيها لا أستطيع أن أقول إني عثرت فيها على مجلد كهذا. . على أنه لا غرو أن(972/44)
تبز الجزائر هذه الدولة في إتقان الدعاية لنفسها! فإنها تحتاج من هذه الناحية لما قد لا تحتاجه تلك الدول التي تدعو لقضية استقلال بل تدعو للسياحة! وإليك البيان:
الكتاب مقسم إلى فصول تتصدرها عنواناتها بالفرنسية، وتعلو هذه العنوانات رسوم تخطيطية بارعة ترمز لمدلول محتوياتها، وهذه الفصول مرتبة ترتيبا منطقيا بحيث تتناول أولا: البلدة بمعالمها الجغرافية: شواطئها وصخورها، وسهولها ووديانها، جبالها ووهادها وكثبانها، وجناتها الزراعية وحيوانها. . .
ثم يأتي القسم الثاني في أهل البلاد وسكانها؛ وهنا تدرس بالصور كثرة سكان مدينة الجزائر البالغين 450 ألف نسمة كما تدرس أزياؤهم شيوخاً وشباناً - أطفالا، ونساء؛ وموظفين وأجانب، أعرابا ورعاة وغير ذلك من جنود وراقصين وموسيقيين وحراس ورجال دين. . . لوحات رائعة معظمها من المتحف الوطني للفنون الجميلة بالجزائر.
أما حياة السكان فلها قسم خاص بعد ذلك. وهنا مقارنة طريفة بين الجزائر القديمة والجزائر الحديثة بعمائرها الشاهقة وشوارعها الكبيرة وأحيائها الجديدة وفيلاتها الحديثة والعربية الطراز والميناء والمحطة التجارية. . . ومدن قسطنطينة وسكيكدة وغرداية. . . فأهم منشآت المدينة الجزائرية من مساكن للعمال إلى مستشفيات ودور إسعاف ومراكز نقل الدم - إلى مدارس ومراكز للحياة الإدارية (دار الحكومة) والنيابة (المجلس الجزائري) فمساجد وكنائس وأضرحة ومقاهي. . . مظاهر تدعو للإعجاب بحضارة هذه البلاد المادية ورقيها وتقدمها.
وتقوم اقتصاديات هذه البلاد وأعمال أهلها في المقام الأول على الزراعة؛ زراعة الحبوب فالكروم والموالح والتمر (النخيل) والتين (الذي هو ثالث صادرات البلاد في الأهمية) والزيتون
. . . التي يتقدم إنتاجها بفعل الآلات الحديثة وتقوم عليها صناعات العصير والتجفيف لما يتبقى من الاستهلاك والتصدير.
وفي البلاد جهود لتحسين القروي والتدريب الزراعي واختزان الحبوب للاحتياط بواسطة هيئات وجمعيات ومصالح تعمل على مغالبة الطبيعة والانتفاع بمواردها من تربة وخزانات ومساقط (متحدرات) ومصبات وآبار لري النخيل حيث لا يوجد الماء. كما تقوم بها(972/45)
مشروعات للطاقة الكهربائية وتوليدها والطاقة الذرية مما يضاعف في تقدم البلاد الصناعي - إذ توجد فعلا مصانع هائلة للخزف والسيلولوز والزجاج ومصانع النسيج اليدوية والميكانيكية وعصير البرتقال والفواكه المجففة. . . كما أن من الثروات الاقتصادية الهامة عدا صيد الأسماك الحديد والفحم والفوسفات التي يتقدم استخراجها تقدماً كبيراً. . . عدا صناعات محلية ويدوية مختلفة يحترفها الأهلون.
وميناء الجزائر أهم مرافئ التبادل التجاري الجزائري. وإلى جانبية يوجد مواني وهران وعنابة (بوك) وسكيكدة (فيلييفل) وأرزيو بأرصفتها ومراسيها واستعدادات التفريغ والشحن والتصدير والاستيراد الهائلة. أما في الداخل فتوجد شبكة من السكك الحديدية للقطارات السريعة ذات القاطرات الكهربائية التي تشق البلاد بين المدن والقرى وعبر الجسور الحديثة الفولاذية فوق الوديان؛ كما توجد مطارات أهمها الميزون بلانش والمطار الصحراوي بورقلة ?.
والبلاد غنية بآثارها الرومانية والفينيقية والإسلامية في مختلف القرى القائمة أو المهجورة، ولذا نجد متحف الإتنوجرافيا وما قبل التاريخ يعرض في روعته ومحتوياته نماذج كثيرة من هذه الفنون إلى جانب ما يعرضه المتحف الوطني للفنون الجميلة من اللوحات الحديثة لرسامين عالميين وفرنسيين ورد كثير منها في الكتاب بلونه شاهداً على عظمة الفن الجزائري لدى المواطنين والأجانب الذين يفدون إليها مصورين ورسامين ونحاتين وسينمائيين في ضيافة العبد اللطيف مثلا أو لتصوير أفلامهم في هذه الطبيعة الجميلة.
والنهضة التعليمية سائرة في طريق التقدم. فثمة مدارس قروية وبدوية بسيطة إلى جانب مدارس الأطفال والابتدائي والزراعي والصناعي والليسيه الثانوية داخلية وخارجية للبنين والبنات - كما توجد جامعة الجزائر التي تستقبل خمسة آلاف طالب موزعين على مختلف الكليات بين صالات ومعامل وحدائق ومكتبات. .
وبعد هذا لا يلزمك أن أحدثك عن الفصل الأخير من هذا المجلد القيم عن (السياحة) فإن بعض ما ذكرت كفيل بتشويقي وتشويقك لزيارة هذه البلاد.
وعليك بعد هذا الإعجاب أن تقف وتفكر غير طويل لتدرك أن الفرنسيين حكام هذه البلاد قد تفننوا في إخراج هذا المجلد ليثبتوا به أمام الأمم المتحدة وقبل أن تتقدم الجزائر بدورها(972/46)
بطلب الاستقلال والتحرر - يثبتون به نهضتهم بهذه البلاد - التي قد تكون نهضة حقيقة ولكنها لا تعفيهم من أنهم محتلون غاصبون. . . فهي تقدم هذا الدليل المادي لعصابة الأمم المتحدة حتى لا يؤاخذ عليها ما أخذ على غيرها في استعمارها لدول أخرى من أنها لا تعمل على النهوض بها ورفاهية شعبها.
هذه هي الفكرة التي يجب ألا تغيب عن ذهن أي معجب بهذا الكتاب.
كمال دسوقي(972/47)
البَريدُ الأدبيّ
تحية للرسالة من العراق
إلى صاحب الرسالة
واكبتك منذ خمسة عشر عاماً أو تزيد. وأنا في ركب رسالتك، أرشف معين أدبك، وفيض خواطرك، وبي ظمأ أدبي. لا يبله غير رشيح قلمك ووحي رسالتك. لذا جئت منتهزاً فرصة التسعة عشر عاماً التي اجتازتها الرسالة، لأرفع بين الإعجاب والإكبار تحية أدبية هي منك وإليك. فتقبل شيخ أدباء الجيل تحيتي، أكن ممتنا وشاكراً هذا القبول:
حديث الرسالة:
لا شك أن الحديث عن الرسالة متعب، ومتعب جدا. ولا شك وأن المتحدث عن صاحب الرسالة متعب مكدود. قد يجهد هذا المتحدث فكره، ويكد ذهنه، بقضاء ساعات طوال بين صفحات الرسالة، متصفحاً ما تركته من أدب حي خالد خلال رواسب هذه السنين المواضي. يخرج وقد عقد الإعجاب لسانه. لا يدري ما يقول، فيضطره هذا الإعجاب، إلى التقهقر والتراجع، أمام هذا الصرح الأدبي الجبار الذي سيطاول الزمن ولا شك، ويقارع الجهل أنى كان، وحيثما وجد، بأقلام عرفت بطيب المغرس والمنبت. تستقي الوحي من أفكار خصبة وقادة، وقرائح لا تعرف الجدب والمحول؛ فهي دائماً وأبدأ، تطالعنا بكل طريف جديد، ولاذ ظريف. وفي الطليعة صاحبها. يقودها قيادة مدبر حكيم، بسهر متواصل، وحراسة حدب عليها، رفيق بها. بعزيمة أشد صلابة من الصلابة نفسها، وهمة لا تعرف الخور والتراجع فيما هي سائرة نحوه وإليه له قلم طيع يسيره أنى أراد وحيث شاء. هو قاس شديد حين يريد منه القسوة والشدة، ولين مرن حين يريد منه المرونة واللين، وساخر هازل إن أراد منه السخرية والهزل. وجاد حين يريد منه الجد:
هو قاس عنيف، حين يصخب من الحياة ومآسيها، ومن الوضع وشذوذه. فإذا رعف بمأساة من مآسي الحياة تجده جذوة ملتهبة وبركاناً يقذف حمماً وشواظاً من نار. وإذا هدأت نفسه واستقرت يعطيك صوراً من الحياة باسمة ينتزعها قطعاً من قلبه، فينفثها قلمه سحراً حلالا. وفاكهة طيبة ناضجة.
وإذا سخر من الحياة وهزئ بالوضع تجدك أمام المعري في سخريته اللاذعة وتهكمه(972/48)
المرير. وإن جد ففي جده العبر والعظات، والحكم والأمثال. هو ذو قلم سحري عجيب، يعطيك ألوانا من الحياة، وصورا من الواقع لمختلف الأوضاع والصور فمرة تراه ساخراً هازلا. ومرة جادا، ومرة قاسياً بمنتهى العنف والقسوة. ومرة طيعا لينا بأجمل ما تكون فيه الرقة واللين. وهذه هبة قلما أوتيها أديب.
فإلى ركب الحضارة وموكب المدنية وقافلة الأدب ومنهل الثقافة أزف تحية أديب متواضع طالما ارتشف معين الرسالة، رسالة الجيل الجديد، ومنبر الفكر الحر، ومشعل الثقافة، ومنار الأدب، ومثال الاستقامة والخلق العربي الكريم.
إليك صاحب الرسالة، وإلى صحبك الكرام، أزف هذه التحية المتواضعة، وقديما قيل: الهدية على قدر مهديها.
العمارة - العراق
خليل رشيد
ومن الحجاز
تحية ولا كتحية، ولكنها الحب الخالص يتغلغل في النفس والود الصادق الذي لم تستطع الأيام أن تحد من سورته أو أن يهد البعد من أركانه. حب لم يزل ولن يزال ناميا مع الأيام.
أستاذي! يكتب إليك ابن تربى في أحضان البلاد المقدسة، البلاد التي شعت في آفاقها أنوار الرسالة الإسلامية، ورددت جبالها أصداء القرآن الكريم، وشهدت رمالها الصامتة مذابح الوثنية وتحكيم الرجعية البالية ومحق الأنانية الصارخة.
يكتب إلى أستاذه ابن الكنانة وربيب قاهرة العصور وآية الزمن مصر المحبوبة.
يكتب إلى أستاذه وهو يصغي إلى قول الحق وجعجعة الباطل، يعلو في الفضاء لينتهي.
يكتب إلى أستاذه: ونداء الحق يسري في نبضات القلوب بعد أن طوى الإعصار واخترق حواجز السنين: صوت مصر وهي تحطم القيود الفولاذية بأيد فولاذية أقوى، وتصوب إلى الأحمق الغاصب نظرات المؤمن بحقه الصادق في جهاده المستميت في سبيل حريته واستقلاله.(972/49)
نظرات فيها القوة المتناهية والشعور بالعظمة الحقيقية قوة الحرية والشعور بالحرية.
يكتب إلى أستاذه: معترفا بحقوق الأبوة الروحية مترجما في هذه الأسطر كلمات مقتضبة - عن خلجات النفس الإنسانية عندما يزاح عنها كابوس الظلام وتغيب في قراراتها أشعة الرحمة، ويسطع في أفقها شفق الهداية. فترى الطريق القويم والصراط المستقيم عندما تستجيب لنداء الحق. يوم يقف الحق وحده في صحراء الحياة.
وعندما يرتفع صوت الباطل محاولا عكس الأوضاع وإضاعة القواعد. تلك يا والدي - قصة مشعل النور: وأعني به الرسالة الغراء التي فتحت صدرها للحق وأنصاره فكانت منبراً رفيعا يعلوه قواد مشعل الثقافة الإسلامية مرددين هتافات الحق بين غابات الباطل وتحت سراديب الغطرسة الاستعمارية.
لقد كانت الرسالة حقلا طيب البذرة طيب الرعاية فأثمر.
ولقد كنت تترك لقلمك (المعجز) وبيانك (الساحر) حق الدفاع عن الحق والحقيقة عن الحر والحرية.
لقد وقفت منذ عشرين عاما على مفترق الطرق تشير بيد الإيمان الصادقة إلى تلك الأمم الحائرة، والشعوب المحتشدة على ضفاف الحياة لترشدها إلى طريق السعادة والسيادة. . إلى طريق الحرية. وإن أريق في سبيل اقتحامه أطهر الدماء وأزهقت أنفس الأرواح.
ولأن من مبدئك ومبدأ رسالتك أن لا ترى الحياة جديرة بالشراء والبقاء إلا إذا قارنتها الحرية الكاملة. . حرية الرأي والقول والفعل العقلي والمادي.
والآن وبعد أن طوى التاريخ تلك الصفحات السود من حياة مصر والمصريين بل ومن حياة الشرق العربي الكريم. وعاد الشرق يبتسم للحياة ابتسامة العز بعد أن قوي فيه الوعي القومي. وثارت فيه روح الدفاع وتربت فيه ملكة الجهر بالحق ولو غضب المستعمرون.
يستقبل الشرق والشرقيون والعرب والإسلام لحظات الكفاح مشاركين مصر العربية في شعورها. . مؤمنين على صوتها حين ينبعث من (بوق) العدل والكرامة، مبتهلين إلى الله بقلوب ملؤها الإيمان أن يشد عضدها وأن يحقق لها آمالها حتى نرى المعركة الدامية التي يخوضها أبناء مصر وأحفاد بناة الهرم وقد تجلت عن حرية كاملة واستقلال غير منقوص.
المخلص لكم وللرسالة: عبد الله الحصين(972/50)
دار التوحيد - الحجاز - الطائف
وعزل أيضاً
كتب الأستاذ محمد عبد المنعم أبو سيف في البريد الأدبي للعدد970 يقول: إن أعزل لا يجمع على عزل بتشديد الزاي وإنما يجمع على عزل بتسكينها كما هو القياس في جمع أفعل وفعلاء ولكن القاموس أورد هذا الجمع فقال: (والأعزل من لا سلاح له كالعزل بضمتين وجمعهما عزل بضم فسكون وأعزال وعزل كركع) وإذن فقد سمع عن العرب ذلك الجمع، ولا تثريب على المثقفين وغيرهم لو استعملوه ما دامت العرب قد نطقت به. وللأستاذ تحية خالصة.
أبوه حمد حسب الله(972/51)
القصص
ماريوتو
للكاتب الإيطالي ماسوشبو سالر نيتانو
أحبها ماريوتو ماجنانللي من أعماق قلبه، وجعلها أغنية روحه، ومزج غرامها بدمه، وجعل اسمها الحبيب إنجيله المقدس الذي يردده ويهتف به في يقظته وفي منامه. ثم راح ينشدها في أنفاس الصباح ونسمات الأصيل، ويتخيلها في لآلاء النجوم وصفحة البدر. . وكلما لقيها فوق سيف البحر أرسل عليها حبه وآلامه تتوسل له تحت قدميها الجميلتين وتطلب له الشفاعة حتى عرفت أنه يحبها.
وآنست فيه الفتاة طهارة ونقاء وصدقا فرقت له ومالت إليه وجزته على دموعه وحرقه بابتسامة بريئة ماد لها قلبه، وازلزل من شدة أسرها كيانه، وفتحت له أبواب السماء يطلع منها على عالم من الحب السرمدي، لأنه من صنع اللطيف البارئ. . سبحانه وباركت قلبيهما يد الله، وأخذا يلتقيان خفية ليتعاهدا على الحب وليروياه بدموعهما، وليقطفا من ثمره إذا أينع. . قبلة أو قبلتين. . ثم ليأخذا في حديث ألذ من قطع الروض، وأبهى من وشيه يرف على شفاههما رفيف النسيم، ويتدهدى من أعينهما الظامئة كأنه رقى السحر.
وكان ماريوتو من أسرة متوسطة من أهل سينا وكانت الفتاة من أسرة ساراسيني التي هي في الذؤابة من أهل المدينة فكان هذا التفاوت بين الأسرتين سبب عذابهما ونبع مأساتهما والهوة السحيقة التي تحول بين أطماعهما في الصلة المقدسة التي تقرب ما بين الجسمين كما قرب الحب بين الروحين.
ولا ريب أن القبلة هي أشهى ثمار الحب وأطيب جناه، لكنها كما يقول الشعراء تلهبه ولا تطفئه. . ومن الشعراء من يدعوها رسول الأبالسة، لأنها أول الغيث. .
من أجل ذلك لم يستطع الحبيبان على هذا الهوى العذري اصطبارا، ومن أجل ذلك صمما أن يكونا زوجين برغم ما بين الأسرتين.
وكان لهما صديق راهب أوغسطي، ما كادا يشكوان له حالهما حتى انبجست الرحمة في قلبه والدموع في عينيه، وانطلق بهما إلى الكنيسة فعقد لهما واستعان على إنجاز ذلك بالكتمان، وهكذا ظل ما بينهما سرهما وسر الراهب. وهكذا تم لهما ما أبته التقاليد(972/52)
والطبقات. فقطفا من ثمار الجنة على غفلة من الأفعى حتى استيقظت، فذهبت تسعى بينهما وبين الناس لتخرجهما من فردوسها الجميل.
ذلك أنه كان بين ماريوتو وبين أحد النبلاء من سادة سينا عداوة، فاستطاع الشيطان المغيظ أن يؤجج جذوتها بالوقيعة بين الخصمين. . ولم يلبث الجدال أن صار نضالا. . ثم تماسكا. . ثم وكزه ماريوتو فقضى عليه.
وكان عليه بعد هذا أن يفر من الدولة أو يدفع رأسه ثمنا لجريمته، فلبث حيناً مستخفيا عن أعين الناس، فلما ضاعت جهود رجال الشرطة سدى في البحث عنه صدر الحكم عليه بالنفي المؤبد.
وقد تكلمت الدموع ساعة الوداع، وضم الحبيب حبيبته يتنفس في صدره، ويتزود لفراق طويل لا تنتهي مرارته، وليس معروفا مداه!
يا لقسوة المقادير توقظ المحبين من سبات عميق كله أحلام!
لقد راح كل منهما يرنو في عيني صاحبه المغروقتين بالدموع، وكلما هما بالفراق انجذب بعضهما إلى بعض في لوعة وفي شجن فترف الشفاه المعذبة على الخدود المحترقة، هائمة حائرة تلتمس العزاء ولا عزاء، وتنشد السلوان ولا سلوان.
ولقد كان صدر أحدهما يكلم صدر صاحبه بدقات القلب وخطرات النفس ووجيب الروح، حتى سكتت القبل، لأنها لا تغني في ذلك الحال شيئاً، وصمتت الأعين. . . لأن الفراق الذي لم يكن منه بد قد حم.
وطمأنها ماريوتو، فذكر لها أنه نازح إلى الإسكندرية ليقيم عند عمه المثري الغني، وأنه سيكتب إليها من هناك ليتصل القلبان على ذلك البعد، ثم أكد لها أنه لا بد عائد إلى إيطاليا الجميلة وواصل وإياها حبه، ولو كلفه ذلك حياته.
وفي غمرة من الحزن، وثورة من الأسى والفجيعة، افترق الحبيبان، وفي نفسيهما مرارة، وفي حشاهما هم ووجد وألم.
وانطلق ماريوتو إلى شقيق له فكشف له عن سره، وبثه شكواه، وتوسل إليه أن ينشر ظل حمايته على زوجته، وأن يكتب له عن أحوالها، وأن يكون حارسها بالنيابة عنه. . . حتى يعود.(972/53)
وركب البحر إلى الإسكندرية، فتلقاه عمه بالبشر والبشاشة ووجد فيه مؤنسا له في دار الغربة. . ولما باح له ماريوتو بسره، لم يشأ الرجل النبيل أن يثرب عليه أو أن يعزله، بل أذهب عنه الحزن بكلمات طيبات، وغلا فمناه بصلاح الحال وتلافي ما وقع بينه وبين أسرة القتيل من خصومة وعداء. . ولم يكن ذلك من الجد في شيء، لكنه كان مبالغة في إكرام مثوى الفتى، الذي استطاع أن يخلب لب عمه بأسلوبه الغرامي الحزين الحنون.
وعهد إليه عمه ببعض مهامه التجارية لتشغله قليلا عن أحزانه، ثم أشركه معه في منزله الجميل على شاطئ البحر الأبيض فكان ماريوتو كلما فرغ من عمل النهار، خلا إلى نفسه في الليل ففتح النافذة المطلة على البحر العتيد، وراح يتنسم أنفاسه، ويستروح صباه، ويقرأ من حبيبته أو يكتب إليها، ويغسل ذلك كله بدموعه الحرار الطاهرات، فكانت هذه اللحظات على ما فيها من ألم وما بطنت به من عذاب وهم، أسعد لحظات حياته، لأنها شعر الماضي وأحلامه، تطفو على سطح الحاضر وتعلل بالآمال ظلام المستقبل.
وتحالفت الهموم على جيانوزا فزادتها جمالا، وهام بها شباب المدينة هياماً جعلهم يترامون على قدميها في كل طريق كما يترامى الفراش في اللهب. وذهب كثير منهم إلى أبيها يخطبونها على أنفسهم، ويمهرونها بكل ما يملكون، وكان الوالد كلما كلمها في أحدهم تعللت وانتحلت المعاذير، فكان الأب الحائر يترفق بها ويتلطف، ثم ينزل عند مشيئتها بغير ما حجة ولا برهان مبين، ثم يصرف شباب المدينة في حدب وفي استحياء.
وهكذا ظل السر الرهيب دفيناً في صدر الفتاة يعذبها ولكنه مع ذلك كان مصدر سعادتها الباكية، ولذتها الحزينة، والنبع ذا الخرير الذي تختلط فيه آلام الماضي وآلام الحاضر لتثمر مخاوف المستقبل.
وضاقت بها أفانين المعاذير فلم تعد تدري ماذا تلفق منها وماذا تدع، فلما أحست أن الشكوك أخذت تساور أباها من جراء هذا التمنع، وأنه يلح في معرفة سرها، قلق قلبها الخفاق، وسدرت نفسها المستهامة. . ثم ذكرت الراهب الصغير الذي في وسعه أن يصنع كل شيء. . فانسرقت إليه وذكرت له ما كان من فرار ماريوتو إلى الإسكندرية وما كان من إلحاح أبيها عليها بالزواج، وما حرصت عليه من كتمان زواجها على أبويها، وكرهها أن تبوح به خشية ما يجر إليه من عواقب. . ثم سكبت عبراتها بين يدي القس ونثرتها على قدميه،(972/54)
وتوسلت إليه أن يخلصها مما هي فيه بجرعة من السم المقدس تريحها من هموم الحياة، وتحول بين الفضيحة وبين سرها وحبها.
وقد تردد الراهب أول الأمر، لكنه سرعان أن رق للفتاة، ولان قلبه للحبيب النازح، فتناول كأسا روية من الخمر وجرع ما فيها. . وكأنما شرب منها شجاعة، وعب حماسة وإقداما. . فتهلل وجهه، وربت على كتف جيانوزا، ثم وعدها عدة جميلة، وأمرها أن تنطلق إلى ذويها فتسلس لهم فتلقاها القياد وترضى بمن يختاره أبوها بعلاً لها. .
وسجدت الفتاة وشكرت له، وانطلقت إلى دارها فتلقاها أبوها بمثل ما كان يتلقاها به كل يوم وكل ساعة، وما كاد يكرر عرضه عليها حتى قبلته، فطفر قلبه من الفرح، وطبع على رأسها قبلة العطف والحنان.
وذهبت في الموعد الذي حدده لها القس، فأعطاها زجاجة صغيرة تحوي الجرعة السحرية الهائلة، ثم ذكر لها أنه لم يصنع لها السم الذي رغبت فيه، بل صنع منوماً يدع شاربه في حالة تشبه الموت لمدة ثلاثة أيام. . (فإذا حسوت هذه الجرعة وتغشاك النعاس، وظن أهلوك أنك ميتة، حملوك إلى قبونا لتدفني فيه، وسأزورك في اليوم الثالث وأتولى إيقاظك بنفسي، وبهذا يكون ما بينك وبينهم قد انقطع، فتستطيعين السفر إلى الإسكندرية حيث تلقين زوجك، وحين تكلأكما عين السعادة. .)
واغرورقت عينا جيانوزا بدموع علوية، ثم قبلت يد القس وانطلقت إلى بيتها تحلم أحلاماً رائعة جميلة.
وجلست تكتب كل ذلك إلى حبيبها ماريوتو. فلما فرغت أهوت على الخطاب تلثم اسمه الحبيب في كل سطر، وخرجت لتدفع بالخطاب إلى من يوصله إلى السفينة الشرقية، فلما عادت، فتحت النافذة، وصلت صلاة قصيرة، وتمتمت باسم ماريوتو، ثم شربت الجرعة الثمينة، وانطرحت في سريرها وأغمضت عينيها.
ودخل الخدم في الصباح بالورد والبنفسج، ورياحين الربيع لمولاتهن، فلشد ما ذعرت قلوبهم وجفلت نفوسهن لأن سيدتهن لم تستيقظ.
وأهرع أبوها وبعض ضيفه فوقفوا فوقها مسبوهين مأخوذين، ثم استدعوا أطباء سينا فما نفع طبهم ولا أفلحت حيلهم، بل ذهبت جميعاً أدراج الرياح.(972/55)
وقر رأيهم على أن يتركوها حتى اليوم التالي، (فقد تكون نائمة بتأثير شلل في المعدة لا يزول إلا في هذا الميعاد!) لكن الميعاد فات ولم تستيقظ جيانوزا، فلم يعد بد من دفنها، لأنها ميتة ما في ذلك شك.
وخرجت جميع عذارى سينا يتهادين وراء الأران، ويحملن أفنان الزهر إلى مقابر سانت أوجستين. . ثم عاد الجميع وكل قلوبهم حرق، وملء نفوسهم أشجان وأحزان.
وخشي الراهب أن تستيقظ جيانوزا في ظلام الليل البهيم فتذعر، ولا يكون لموتها من هذا السبب من بد، فمضى إلى القبو هو ورفيق له، ونقلا التابوت الحي إلى غرفته الخاصة.
وحانت الساعة الموعودة، واستيقظت جيانوزا من سباتها العميق بين أيدي الراهب المفزوع، وأخذت في الاستعداد للرحلة، الرحلة المنشودة إلى فردوسها المفقود. . إلى ماريوتو. . إلى الزوج العزيز الذي اقتحمت في سبيله أصرم العقبات.
وقد دبر لها القس ثياب راهبة. وبعد أن دعا لها بخير، انطلقت إلى ميناء بيزا، حيث ركبت في سفينة متجهة إلى الإسكندرية مع كثير غيرها.
وقد لعب البحر بهذه الحفنة من السفن شهورا طويلة، وكأنما كان ذلك لتمام المأساة. وذاك أنه لما علم جارجانو - شقيق ماريوتو - بما كان من وفاة الفتاة، فإنه أرسل إلى أخيه كتابا طويلا ينعيها إليه، ويطلب له الصبر والسلوان. وقد وصل الخطاب قبل أن تصل جيانوزا، وقبل أن يصل خطابها الذي سطرته إليه قبيل تحسيها الجرعة. . فواهاً للمحبين إذا عثر بهم الحظ. . وإذا لج بهم العثار. .
مسكين ماريوتو! لقد فض خطاب أخيه بيدين مرتجفتين ومتمناه أن يتلو فيه خبراً يسره. . فماذا قرأ؟
(جيانوزا. . لقد ماتت جيانوزا يا أخي. . فتجلد، وهذه غاية كل حي
(لقد كنت أؤثر ألا أبعث إليك بهذا النبأ، لكني اضطررت أن أفجأك بالحق ليهدأ قلبك، وتستريح نفسك)
ولم تنحدر عبرة واحدة من عيني ماريوتو، وأنى له أن يبكي، وليس أعصى من الدمع في هذه المآسي التي تزلزل النفس ولا تنبجس لها العين.
وشاع في نفسه الحزن الصامت الذي ليس أنكى منه مرارة ولا أحر وجدا.(972/56)
وعبثا حاول عمه أن يواسيه. . وصمم الزوج الحزين أن يبحر من فوره إلى إيطاليا، ليقف على ثرى حبيبته، وليسقيه بدموعه ولينشق هذا الهواء المريض الذي نشقته قبيل موتها من أجله، وفنائها بسبيله. . ولأنه لا يليق به أن يخشى شيئا في سينا بعد أن قضت حبيبته، وتحملت الأذى والهوان من أجله.
وأرست السفينة في نابلي، وانطلق ماريوتو في ثياب حاج إلى سينا، واشترى آلات رأى أنها لا بد منها لينقب بها حائط القبو، حتى يتيسر له الدخول إلى حيث تقر رفات معبودته، فيجزيها حزنا بحزن ووفاء بوفاء، ثم لينام جنبها إلى الأبد، لأنه لا يطيق البقاء بعدها.
واختبأ في الكنيسة إلى أن جنه الليل، حتى إذا نام الجميع وأمن أن يعثر به أحد، أخذ في نقب جدار القبو، وقبل أن يفرغ من هذا شعر به حارس المقابر، فنفخ في صوره، وظل ينفخ فيه حتى استيقظ الرهبان، واجتمعوا عليه، لكنه كان قد فرغ من عمله، وانفتل داخل القبو، وفي ظل شمعتين صفراوين شاحبتين، وقف على رمس ظنه رمس حبيبته.
وكانت التقارير السرية قد انتشرت في أيدي الجواسيس تعلن وصوله , فلما قبض عليه وسيق إلى قضاته؛ باح لهم باعتراف جامع ناجع وساعدته دموعه التي كان ينضح بها كلماته، فهاج شجون النظارة وفجر في قلوبهم شآبيب الحنان، حتى إن كثيراً من النساء وبعض أصدقائه، عرضوا على المحكمة أن تسمح لهم بمشاركته في جريرته، أو إلقائها كلها على كواهلهم، إذا كان ذلك شافعا لإطلاق سراحه، ولكن هيهات! لقد زمجر كبير القضاة، وتهدد الحضور إن تدخلوا في إجراءات العدالة، أو اعترضوا سبيلها، فصمتوا. وانتهت المحاكمة، وصدر حكم الظالمين القساة بالإعدام.
ووصلت جيانوزا بعد لأي إلى الإسكندرية، وانطلقت من فورها إلى بيت العم العزيز الذي تلقاها كابنته، وأعز الناس عليه.
ولم يشأ أول الأمر أن يفاجئها بسفر ماريوتو، بل تركها تسرد عليه قصة موتها المدعى، حتى إذا فرغت منها تبسم الرجل الخير، ثم ذكر لها أن ماريوتو قد تسلم رسالة من شقيقه ينعيها له فيها وأنه منذ ذلك اليوم لم يعد إلى البيت، وأن أكبر ظنه أنه رحل إلى الوطن.
يا آخر الأنباء السود ما أشأمك! أبعد طول النضال في البر والبحر، وبدلا من أن تضم إلى صدرها المعذب حبيبها المشوق تحضر إلى الإسكندرية فيبدهها هذا النبأ.(972/57)
وأخذ الشيخ يواسي جيانوزا، ثم عرض عليها أن يرحل معها إلى نابولي ثم إلى سينا ليلقيا ماريوتو حيا أو ميتا، فاستخرطت جيانوزا في البكاء وشكرت للعم ما غمرها به من عطف ولطف.
وتنكرت جيانوزا من جديد في مسوح الرهبان ويممت شطر الشاطئ التوسكاني، حيث أرست عند بيومبينو، وحلت الفتاة ضيفة عزيزة على السر نيقولا، نيقولا الغني صاحب فيلا نيقولا. . عم ماريوتو، التاجر الإسكندري، وهي فيلا جميلة قريبة من سينا.
وكانت نهاية الفجيعة أن ماريوتو المسكين قد نفذ فيه حكم الإعدام قبل وصول زوجته وعمه بثلاثة أيام.
أوه لقد سكب العم الطيب مواساته في دموعه بين يدي جيانوزا، فماذا صنعت هي.
وقبلت أن تقضي البقية الباقية من حياتها في كسر دير!
ولم تستطع أخواتها الراهبات أن يواسينها فذبلت جيانوزا.
ولم تزل تذبل وتذوي كل يوم، ولم تفتأ تصهر قلبها ودموعها بالبكاء على ماريوتو حتى لفظت نفسها الأخير!
د0س(972/58)
العدد 973 - بتاريخ: 25 - 02 - 1952(/)
من مذكراتي اليومية
رسالة وصورة. . .
يحلو لي أحيانا الهروب من زمني الحاضر لإثقاله أو إملاله، فارجع إلى ذكرياتي اجتر منها ما ألذ، أو إلى مذكراتي اقرأ منها ما احب.
وفي هذه الساعة التي اكتب فيها للرسالة شعرت بضيق في الصدر أو الفكر، فألقيت بالقلم وقلت لنفسي: دعي الكتابة اليوم وتعالي نتفرج من هذا الهم برجعة إلى دنيا الماضي، فلعل في أصدائها الباقية ما يؤنس هذه الوحشة. وتذكرت أن شهر يناير قد عودني الجميل في ما مضى من عمري، فقد سجلت فيه اكثر ضحكات القلب، وحسبي منها ميلاد ولدي: رجاء والرسالة. فتحت مذكراتي عن صفحات هذا الشهر، فوجدتني قد كتبت في يومه العاشر من عام 1950 هذه السطور:
(ألقى البريد الجوي إلي في صباح هذا اليوم غلافا من العراق على ورقة طابع الذوق، وعلى خطه سمة الظرف. فلما فضضته وجدت فيه رسالة وصورة. قرأت الرسالة والإمضاء، ثم تأملت الصورة والإهداء، فإذا هما لآنسة من أوانس بغداد المثقفات، قد أولعت بالأدب وأغرمت بأهله. ثم عدت اقرأ، وعدت أتأمل. وطال تردد البصر والفؤاد بين الصورة وهي رسالة الجسم الجميل، وبين الرسالة وهي صورة الروح النبيل، حتى غاب حسي في سكرة من سكرات الأحلام، تراءت لي في خلالها أطياف في تعاجيب الهوى والشباب، تتراقص نشوى في أزقة (الوزيرية) و (رأس القرية) من مغاني بغداد العزيزة وكلما عاد الحس أو كاد، نضرت إلى الفم الحلو الذي يريد أن يبتسم، وإلى الطرف الأحور الذي يهم بان يقول، والى الشعر المغدودن الفاحم الذي يسيل على الأذنين وأطراف الخدين فيجعل الوجه كله صورة من الفتنة، فتعود إلى الغفوة، أعود أنا إلى الحلم!
وأخيرا تخلصت قليلا من سحر الصورة لأرى صاحبتها الأديبة تقول أول ما تقول: (اعتذر إليك من الكتابة والإهداء على غير تعارف. .) ولم يخل اعتذارها الصريح من احتجاج ضمني على العرف الذي يفرق في مثل هذا الصنيع بين الرجل والمرأة. فلو أنها كانت فتى كما تقول لما وجدت في الكتابة إلى مثل ما يعتذر منه. ثم تحدثت طويلا عن صلتها بالرسالة وحرصها على أن تقرأ كل ما أكتب؛ وخصت بالذكر رثائي للمرحوم محمد علي(973/1)
طه، وخرجت من ذلك إلى الكلام عن شاعريته وعبقريته. ثم طلبت إلى آخر الأمر أن اخصص لتأبينه عددا من (الرسالة) اكتب أكثره! كل أولئك في أسلوب رقيق دقيق يوحي اكثر مما يعبر، ويمتع اكثر مما يقنع. ولم أكد أستوعب الرسالة بفكري، وأناقش موضوعها في سري، حتى تناولت القلم وفتحت الألبوم وأجبت عن الرسالة برسالة، ورددت على الصورة بصورة! ولكن هيهات وا أسفاه! لن تجيب رسالة عقل عن رسالة قلب، ولن ترد صورة قبيحة على صورة (مليحة)
ما أيسر السعادة على ابن آدم لو يدري أو لو يريد! أن كلمة قلب مفتوح، أو بسمة من شفة بريئة، أو نظرة من عين حبيبة، أو فقرة من رسالة شاعرة، أو قسمة من صورة فاتنة، لتستطيع أن تنير ما أظلم قلبه، وان تفرج ما اشتد من كربه! إن السعادة فتات وفترات، فلا تكون في واحد صحيح، ولا تدوم في زمن متصل!
احمد حسن الزيات(973/2)
امرأتان عظيمتان من دولة المغول
للدكتور محمد بهجت
عندما يطوف السائح بمدن لاهور وأكرا ودلهي بشمال الهند تتفتح أمامه صحف عديدة من تاريخ المغول العظيم، حافلة بجلائل الأعمال وضروب البطولة، ويلمح في ثنايا تلك الصحف بعض السطور البارزة التي خطتها أنامل بعض نساء المغول في تاريخ تلك البلاد المجيدة. ومن ابرز نساء تلك الدولة سيدتان عظيمتا الخطر، ربطتهما وشيجة الرحم وعاشتا في عصر واحد. كانت كلتاهما زوجة لإمبراطور، رائعتي الجمال، راجحتي العقل تلكم المرأتان هما (نور جاهان) و (ممتاز محل).
أما نور جاهان فمن اصل فارسي، ضاقت سبل العيش في وجه أبيها - (مرزا غياث) - فأزمع الهجرة من طهران إلى الهند عسى الحظ يبسم له هناك. وفي الطريق ولدت له ابنة سماها (مهر النساء). وكان مسافرا معه في القافلة تاجر ثري رقيق القلب اسمه (مالك مسعود) أخذته به وبعائلته البائسة شفقة فتولاهم بعنايته ومعونته طول الطريق حتى بلغوا دلهي بسلام. وهناك أراد (مسعود) ان يسدي يدا أخرى لصديقه المسكين فقدمه للإمبراطور (أكبر) العظيم الذي ألحقه بخدمته كما الحق زوجه وبناته بالقصر مع حريمه. وبعدما أبدى كفاءة وإخلاصا في عمله احبه الإمبراطور وأدناه ورقاه.
وفي أثناء ذلك نشأت (مهر النساء) وترعرعت بين نعيم القصر وأبهته، والفت حياة البذخ والترف. وما أن بلغت السابعة عشرة حتى تزوجت من ضابط باسل بجيش الإمبراطور اسمه (علي كولي) وكان هو الآخر فارسيا وسيم الطلعة، قوي البنية، خدم في أول الأمر الشيخ إسماعيل الثاني - شاه الفرس - بان كان نادلا يقدم له صحائف الطعام، وسرعان ما جذبته الهند واستهوته مغامراتها فهاجر إليها والتحق بخدمة اكبر. وهناك برزت مواهبه فألحقه بأركان حرب أبنه الأمير (سليم) عندما خرج على رأس جيش كبير لإخضاع ولاية (ميوار) فأبدى من ضروب البسالة والشجاعة ما حبب الأمير فيه وقربه إليه، واجزل له العطايا والمنح، وسماه (شر أفغان) أي قاتل النمر لأنه أردى نمرا متوحشا أمامه، واصبحا علما له فيما بعد. وبعد انتهاء الحملة، ولأمر ما، شق الأمير عصا الطاعة على أبيه ومليكه فأنفض اكثر الضباط المخلصين من حوله ومن بينهم (شر أفغان) ولما كان من عادة الجنود(973/3)
المغول استصحاب نسائهم في الحروب فربما عرضت للأمير فرصة لمح فيها زوجة صديقه الشابة الفاتنة. ويقول بعض الكتاب أنه رآها عدة مرات ترتع في حدائق القصر وردهاته فأسرت فؤاده وسكن طيفها قلبه حتى آخر عمره.
وسارت الأحداث سيرها إلى أن توفى (أكبر) واعتلى (سليم) عرش أبيه بعد حوادث دامية في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر عام 1605 وصار يعرف باسم نور الدين محمد وبكنيته (جاهان جير) أي القابض على ناصية العالم. وفي يوم ما تذكر صديقه القديم فاستدعاه وصفح عنه واسند إليه منصبا كبيرا بعيدا ببنغالة. وهنا تختلف رواية المؤرخين، فبعضهم يقول إن حب (مهر النساء) استبد به وعصف بقلبه فأرسل إليها رسولا خاصا يغريها بهجر زوجها والالتحاق بالإمبراطور المتيم بها، فأبت كل الإباء، وغضبت لهذه المساومة الدنيئة وكذلك ثار زوجها لشرفه، فأوعز الرسول إلى الحاكم أن يغتاله، فاغتيل مدافعا عن كرامته وعرضه، ثم حملت زوجه وأبنتها الطفلة إلى العاصمة وألحقتا بجناح الملكة (سليمة). والبعض الآخر من المؤرخين ينفي هذه الرواية بل يستنكرها بقوة قائلا ببراءة الإمبراطور من هذه التهمة القذرة، ويفسر ما حدث بأن الأخبار ترامت إلى الإمبراطور بأن (شر أفغان) ثائر عليه باستدعائه إلى العاصمة ليشرح موقفه منه، وليمتحن إخلاصه له، فأبى. وعند ذلك أراد (قطب الدين كولا) حاكم بنغالة أن يقبض عليه فعلاه (شر أفغان) بسيفه وأصابه بجراح بالغة، وعند ذلك انقض عليه حرسه وقطعوه بسيوفهم إربا. وهكذا فصل الموت بين ذينك القلبين المتحابين بعد ستة عشر عاما من زواج سعيد موفق.
وفي شهر مايو من عام 1611 أي بعد ست سنوات من اعتلاء (جاهان جير) العرش وبعد أربع سنوات من مقتل (شر أفغان) أعلن الإمبراطور زواجه من (مهر النساء) بالغا من العمر اثنين وأربعين سنة، أما هي فكانت تصغره بتسع سنوات. وهكذا أصبحت الطفلة التي ولدت من أب رقيق الحال، والفتاة التي أوردها الحظ موارد النعيم، والأرملة الشابة الفاتنة التي بكت زوجها الحبيب أربع سنوات، إمبراطورة لدولة عظيمة، وهكذا بدت هذه المرأة الفذة تملي والتاريخ يكتب.
نحن لا نعلم على وجه التحقيق كيف رضيت أن تتزوج من الإمبراطور بعد طول إباء،(973/4)
واغلب الضن أنها توسمت فيه أداة المجد والشهرة، ووسيلة لتحقيق مطامعها الواسعة. ولكن دلت كل الدلائل فيما بعد أنها أحبته وأخلصت له مثلما أحبت زوجها الأول وأخلصت له. أما هو فقد هام بها هياما شديدا وأخذ يغمرها بأجزل العطايا الثمينة، ويغدق عليها اكثر ما يمكن أن يغدقه إمبراطور عظيم على آسرة روحه، ومصدر سعادته، ثم أنه اشتط فأمر بنقش اسمها بجوار اسمه على النقود الشيء الذي ليس له نظير في التاريخ الإسلامي. وكان يدللها بأعذب الألفاظ وارقها فسماها أولا (نور محل) غير أنه استقل ذلك فعدله إلى (نور جاهان) أي نور العالم، وهو الاسم الذي عرفت به حتى الآن. وإذا علمنا أن (جاهان جير) كان رجلا فظا غليظ القلب، سريع البادرة، صريع الخمر، لدهشنا كيف استطاعت هذه المرأة القديرة أن تسيطر عليه وتجعله طوع بنانها. فإذا ما انتابته نوبة من نوبات الغضب الجارف لم يجرؤ أحد أن يدنو منه سوى زوجته الحبيبة، فتطفئ تلك النار الخبيثة التي تأكل روحه بلمسة رقيقة أو بسمة مشرقة أو كلمة عذبة، فينقلب رادعا مستسلما، فكانت بحق مروضته الوحيدة.
ومن أهم مزاياها التي أسرت بها القلوب واستعبدت الرعية، الكرم الحاتمي والعطف على الفقير الذي كانت له بمثابة الغيث ينزل على الأرض الجديبة فيحييها. لم ترد طالبا رفد، أو تخيب أمل قاصد. وكانت راعية الفتيات الفقيرات تزوجهن وتمهرهن وتيسر لهن العيش الكريم. وكم من ضعيف حمته ومن مظلوم أنصفته وانتصفت وانتصرت له. ثم إنها شملت أقاربها بسامي رعاياها، فجمعتهم حولها وأسندت لهم المناصب العالية، فاصبح والدها رئيسا للوزراء مع لقب اعتماد الدولة أيضا، كما أصبح من اعظم رجال الدولة مالا وجاها.
وفضلا عن جمالها الساحر وأنوثتها الجارفة كانت (نور جاهان) شاعرة مجيدة، مرهفة الحس، واسعة الأفق والخيال، مصقولة الذوق، عالية الثقافة، ملمة بالآداب الفارسية والعربية، فكانت تهدهد الإمبراطور بشعرها العاطفي الرقيق، وبمقطوعاتها العذبة المسكرة. وكانت تضع جميل الرسوم للمنسوجات، وتبتكر الأزياء في الملابس والحلي بذوق رفيع نادر لم يعهد من قبل في بلاط الإمبراطور.
ومن عجب أن امرأة هذه بعض صفاتها تكون قوية البنية، صلبة الخيزرانة، مولعة بالألعاب الرياضية، بل وفارسة من الطراز الأول، تمتطي صهوات الجياد، وتخوض(973/5)
المعارك بشجاعة نادرة وثبات عجيب، فلا يطرف لها جفن، أو يتزلزل لها جنان في أخطر المواقف وأخطر الملمات. وكثيرا ما وافقت زوجها في حفلات صيده وقتلت بعض النمور المفترسة أمام الإمبراطور المعجب، الذي لم يسعه مرة إلا أن يهدي إليها سوارين من الماس النادر، وأن يأمر بتوزيع ألف كساء على الفقراء، إعرابا عن فرط سروره ببطولة زوجته. وسوف تقف على المزيد من ضروب شجاعتها بعد قليل.
وبجانب هذا كله استطاعت (نور جاهان) أن تدير شؤون الملك بيد حازمة، وعقل راجح، وعين يقضة ثاقبة، تنفذ بها إلى بواطن الأمور، وأعماق السرائر، فلم تفتها شاردة ولا واردة من شؤون الدولة، وأحاطت بجميع المسائل السياسية والعسكرية إحاطة تامة، حتى تهيبها رجال السيف والقلم، الذين لم يكونوا أندادا لمناقشتها، فكانوا يأتمرون بأمرها راكعين. أما أكابر البلاد وسراتها، فكانوا يقدمون لها فروض الطاعة، ويبتغون مرضاتها، علما منهم بان سعادتهم أو شقاءهم رهن بكلمة تخرج من شفتيها، أو بإشارة عابرة من يدها، حتى لقد قال عنها بعض المؤرخين: (إنها قوة من وراء العرش)
ولو إن الأمور اقتصرت على ذلك لختمت هذه المرأة حياتها خاتمة سعيدة ولتمت لها حياة راضية هنيئة لم تتم لامرأة أخرى. فقد كانت إيثارها لأفراد أسرتها ومحاسبيها، وخصهم بأرفع المناصب عاملا من العوامل التي أوغرت عليها بعض الصدور، وبابا تسربت منه عوامل الفساد والرشوة واستغلال النفوذ.
ثم إن مطامعها أملت عليها أن تضمن العرش لابنتها من زوجها الأول، فكيف دبرت ذلك.
كان للإمبراطور أربعة أبناء هم خسرو وكرام وبارفز وشهريار. فأيهم تختار؟ كان خسرو ثائرا على أبيه، واشتبك في عدة معارك دموية مع جيوش الإمبراطورية، ولكنه هزم في آخر الأمر، وسملت عيناه وأودع السجن. ومع ذلك فقد كان محبوبا وله أنصار كثر. وأما كرام فقد فكرت فيه كثيرا، وراقبته طويلا، وأيدته إلى حين غير إنها عدلت عنه لما تبين لها من قوة شكيمته، وشدة مراسه، فضلا عن إن أخاه (أصف خان) سبقها إليه وزوجها من ابنته. وأما بارفز، الوارث الشرعي للعرش، فكان تافه الشخصية، احتضنه (مهابت خان)، القائد الكبير الذي ناصب (نور جاهان) العداء، (واخذ ينصب حولها شباك المؤامرات. إذا لم يبق أمامها سوى (شهريار) الذي زوجته ابنتها في عام 1622 وسندته بقوة، وأخذت(973/6)
تدفعه قدما نحو العرش. ولننظر الآن كيف انتهى ذلك الصراع بين تلك المعسكرات الثلاثة.
رق قلب الإمبراطور لابنه السجين (خسرو) فأطلق سراحه، ولما خافت (نور جاهان) مغبة ذلك أفسدت العلاقة بينه وبين أبيه الذي أمر بوضعه تحت يد قائده (مهابت خان) ليرى فيه رأيا، ولكن الأخير سلمه بدوره إلى أخيه الأمير (كرام) الذي أمر بقتله فوضع بذلك حدا لآلامه، ولتاريخه المحزن، وتخلص من مزاحم له على العرش.
ثم حدث أن استولى شاه الفرس (عباس) على قندهار، فأمر الإمبراطور ابنه البطل (كرام) (شاه جاهان) بالتوجه إليها واستردادها. ولكنه تردد بعد أن أبصر يد (نور جاهان) تقصيه عن طريق العرش وتمدها إلى (شهريار) الذي طلبت من الإمبراطور إسناد القيادة إليه، كما طلبت منه أن يأمر (شاه جاهان) بإعادة القوات التي تحت إمرته إلى العاصمة. وبعد ما حاول عبثا أن يصلح ما بينه وبين أبيه، وان يخلصه من نفوذ زوجته الذي يوشك أن يقوض أركان الإمبراطورية، ثار عليه وهاجم أكرا عام 1623 م ولكن هزمته جيوش أبيه تحت إشراف (نور جاهان) وبمساعدة أنصارها من الضباط القدماء ففر جنوبا إلى الدكن. - وبعد محاولات عديدة فاشلة لاستثارة حكام الولايات ضد والده، وبعد عدة مغامرات تبادله فيها الحض والنحس، وبعد معارك شديدة مع جيوش الإمبراطورية التي كانت تطارده حيثما ذهب، هزم في معركة فاصلة على يد أخيه الأمير (بارفز) (ومهابت خان) واستسلم لهما بعد أن هجره كثير من ضباطه وإنحازوا إلى جانب قوات أبيه -، ونزل عن كل ما كان في قبضته من ضباطه وانحازوا إلى جانب قوات أبيه، ونزل عن كل ما كان في قبضته من أراض وقلاع وحصون، واضطر إلى كتابة خطاب لأبيه - يعتذر عما فرط منه، ويستعطفه، ويطلب منه الصفح والغفران. وتأكيدا لحسن نواياه أرسل ابنيه (دارا) و (اورانك زيب) - إلى دلهي رهينة، كما أرسل لوالده هدايا ثمينة تقدر بنحو مائة ألف روبية. فصفح عنه والده بناء على نصيحة (نور جاهان) التي أوجست خيفة من تحالف الأمير (بافز) (ومهابت خان) ثم اعتكف مع زوجه وأبن له يسمى (مراد) في بلدة ناسك الصغيرة، مرتقبا الفرص.
بعد ذلك وقفت (نور جاهان) وجها لوجه مع (مهابت خان) فاتهمته بالاختلاس واستغلال النفوذ ونشر الفساد وجرد صهره من ثروته، ووجها بالسؤال: من أين لك هذا؟ ثم صدر(973/7)
أمر الإمبراطور له بالتخلي عن القيادة العليا للجيش، وبتولي حكومة ولاية بنغالة. فأبدى الأمير (بافز) استيائه العظيم واحتج عبثا على سوء معاملة القائد الأكبر الذي عيل صبره واشتم رائحة الغدر، فاعتزم أمرا خطيرا وهرب في خمسة آلاف مقاتل من الراجبوت الاشداء، وأخذ يقتفي أثر الإمبراطور فشاهده يعبر قنطرة على نهر (جهيلم)، بعيدا عن حرسه، فأطبق عليه وأسره. وكانت مفاجأة مؤلمة لمعسكر (جاهان جير) ووقع عليه اضطراب عظيم، وهربت (نور جاهان) مع أخيها (آصف خان) الذي كان معها. ولكن عز عليها أن تتخلى عن زوجها في محنته، فدبت فيها النخوة والحمية والنجدة فكرت راجعة وحضت قائد الجيش (فدائي خان) الذي قام بهجوم عنيف لم يكتب له النجاح لفرار الضباط والجند، ولحالة الفوضى التي كانت سائدة. وعندئذ تجلت شجاعة هذه المرأة العظيمة، فامتطت ظهر فيلها الهائل، وتقدمت به على من تبعها من الجند الذين دهشوا لجرأتها، فهجمت على الأعداء هجمة صادقة وهي تمطرهم بوابل من السهام، وحاولت في تقدمها عبور النهر، ولكن أسرع جنود (مهابت خان) إلى إشعال النار في القنطرة، فلم يثن ذلك عزمها واستطاعت أن تصل إلى الشاطئ في وجه مقاومة عنيفة، تتطاير السهام من حولها، وتتفجر الكرات النارية حول هودجها. وهنا بلغ الروع أشده والفزع غايته، وأخت الخيل والأفيال والفرسان تتساقط في النهر وتداس وتعرك. ثم قتل سائق فيلها فجمح فيها الفيل وغاص في ماء النهر، ولكنه بلغ بها الشاطئ مرة أخرى فأندفع بها النسوة يعولن، والمخلصين من الجند والحاشية يدرءون عنها السهام والرماح بأجسامهم، ويفدونها بأرواحهم. أما هي فجلست هادئة، مخضوبة بالدم، تنزع سهما أصيبت به حفيدتها من شهريار، وتضمد جراحها هي. ولما رأت إن لا جدوى من المقاومة، رضيت بالسر مع زوجها، عساها تستطيع إنقاذه. أما أخوها فأرتد بالثلاثة آلاف مقاتل الذين كانوا معهم واعتصموا بحصن قريب. وفي الأسر استخدمت أسلحة أخرى فعلت ما لم تفعله أسلحة الحرب. استعانت بذكائها ودهائها وجمالها. . . فاستمالت إليها ضباط (مهابت خان) ثم استولت على كنوزه. . . ولما رأى ذلك نجا بنفسه وبنفر قليل من أنصاره وفر إلى الدكن حيث وافى (شاه جاهان) وتحالف معه على (نور جاهان) واستعجل القدر خاتمة الرواية فمات الأمير (بار فز) عام 1626 م. أما الإمبراطور المسن فقد تابع سيره إلى كإبل ثم عاد(973/8)
منها إلى كشمير لقضاء فصل الصيف. وفي أواخر عام 1627م. حيثما كان عائدا من مصيفه بكشمير مرض مرضا شديدا ومات في الطريق ببلدة (بهمبار) ومنها نقل جثمانه إلى حديقة (نور جاهان) المعروفة باسم حديقة (دلكوشا) بشاه دارا إحدى ضواحي مدينة لاهور. وهناك كانت (نور جاهان) بجانب نعش زوجها تبكيه بدموع غزار إلى أن ووري التراب، وأمرت بإقامة ضريح فخم له. وبعد أن تمت مراسيم الدفن أعلن الأمير (شهريار) نفسه إمبراطورا في لاهور، تؤيده حماته، وفي نفس الوقت طير (آصف خان) نبأ موت الإمبراطور إلى صهره (شاه جهان) الذي كان بالدكن فأسرع نحو الشمال برفقة (مهابت خان) على رأس جيش كبير ليفوز بالعرش. وشغلا للعرش الشاغر بأكرا نصب (آصف خان) ابن خسر (دوار بخش) إمبراطورا إلى حين وصول (شاه جاهان) ثم تقدم على رأس جيش قوي إلى لاهور. وهناك حاولت (نور جاهان) أن تتصل بأخيها لتستميله إلى جانبها ولكنه أعرض عنها وانقض على جيش شهريار وهزمه هزيمة ونكرة وأسر (شهريار) وسملت عيناه ثم قتل بعد ذلك. ولما وصل (شاه جاهان) أعلن آصف خان الإمبراطور المؤقت على الهرب؛ أما أتباعه واتباع شهريار ونور جاهان فقتلوا شر قتلة، وكان الإسراف في القتل شديدا لدرجة ألجأت بعض نساء القصر إلى الانتحار. وهكذا سار شاه جاهان إلى العرش في طريق مخضب بالدم مرصوف بالجماجم. وكان ذلك في السادس من شهر فبراير عام 1628 م.
أما (نور جاهان) فلم تمس بسوء، أو تمتهن كرامتها، بل لقيت كريم الصفح، وعظيم الاحترام والعطف، وأجرى عليها الإمبراطور الحليم معاشا سنويا ضخما يضمن لها حياة كريمة. ولما رأت يديها خالية من زوجها الحبيب، وصرح آمالها منهارا أمامها، والدنيا عنها مدبرة، لبست الثياب البيضاء حدادا على زوجها، واعتزلت الحياة العامة، وزهدت في مظاهر البذخ والأبهة، وعاشت مع حفيدتها أرملة (شهريار) عيشة بسيطة إلى جانب قبر زوجها في لاهور إلى أن ماتت في الثامن من شهر ديسمبر عام 1645.
طافت برأسي قصة هذه المرأة العظيمة وأنا واقف بحديقتها بشا هدارا بعد أن متعت نفسي بمشاهدة ضريح زوجها الرائع الذي قست عليه يد الإهمال، وشوهت الكثير ممن محاسنه، وسألت رائدنا عن ضريحها الذي توقعت أن يكون في عظمة باقي آثار المغول. فأشار بيده(973/9)
إلى مكان قريب وقال أنه لا يستحق الزيارة لأنه من البساطة بحيث لا يلفت النظر أو يثير الاهتمام. وقد أوصت أن يكتب على قبرها شعر بالفارسية من نظمها معناه:
لا يكون على قبري مصابيح أو أزهار، حتى لا تحرق الفراشات أجنحتها، وحتى لا تأتي البلابل لتغني على الأزهار.
للكلام بقية
محمد بهجت(973/10)
اللغة الفرنسية في مصر
للأستاذ محمد زيتون
اللغة الفرنسية أو اللغة الأوربية الإضافية في مصر هي العامل المساعد للاستعمار الإنكليزي في الشرق! فمنذ داعبت نابليون أحلام الإمبراطورية الفرنسية، شرع في احتلال مصر وهي (تاج العلاء في مفرق الشرق) كما يقول شاعر النيل.
وتعاقدت إنكلترا وفرنسا سنة 1890 على اقتسام مناطق الاستعمار فيما بينهما بحيث تطلق إحداهما يد الأخرى في الأمم المستضعفة تفعل بها ما تشاء، فلما أعلنت إنكلترا الحماية على مصر سنة 1914 لم تشأ إلا أن تترك لفرنسا دورا ثانويا في مصر، إذ جعلت لغتها إضافية إلى جانب الإنجليزية العتيدة بينما خلا لفرنسا الجو في سوريا ولبنان وتونس والجزائر ومراكش والمستعمرات الأفريقية.
ومنذ يومئذ واللغة الفرنسية تؤدي دورها في الحدود المرسومة، حتى تمكنت من جعل الزعماء أداة طيعة للاستعمار يستسيغونه في يسر ويجترونه في غير عناء، وما كان ذلك ليكون لو إن الزعامة قائمة على رصيد شعبي.
ومن الألاعيب الإنجليزية الفاجرة توزيع الاستعمار الثقافي بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية بغية الفتنة، ورجاء تحويل الأنظار عن التراث العربي والمجد الإسلامي، وكأنما كتب على المصريين أن يتعلموا هاتين اللغتين ولا مفر من ذلك؛ كما لا مفر من القضاء والقدر.
غير إن القومية المصرية كانت قد تبلورت تماما، فلما اصطرعت مع الاستعمار الفرنسي صمدت له، وردته في قوة وإباء. وكان نابليون أول من فطن إلى هذه الحقيقة؛ إذ كتب في تعليماته للقائد كليبر (إن من يكسب ثقة كبار المشايخ في القاهرة يضمن ثقة الشعب المصري) وكذلك بوسيلج في تقريره إلى الحكومة الفرنسية إذ يقول فيه (إن اختلاف العادات - وأهم منه اختلاف اللغة وخاصة اختلاف الدين - كل ذلك من العقبات التي لا يمكن تذليلها والتي تحول دون إيجاد صلات الود بيننا وبين المصريين. .)
فالدين واللغة والعادات في مصر هي الأثافي الثلاث التي لم يستقر عليها قدر الاستعمار الفرنسي، فأنهار ولم يعد له قرار، ولا سيما بعد إفلاس الحملة من كسب ثقة الشعب ممثلا(973/11)
في (كبار المشايخ) وهم حماة الدين، ودعاة اللغة، ورعاة العادات، وسدنة المقدرات القومية.
وسجل التاريخ للشعب المصري كفاحه ضد الاستعمار الإنكليزي في المحافل الأوربية التي هزها الشاب المجاهد مصطفى كامل، خطابة وكتابة، فكان له (اللواء) الأعلى في الدفاع عن القومية المصرية.
أما (السعي بكافة الطرق السلمية المشروعة في سبيل الاستقلال - كما أراد سعد زغلول - فإنه لم يدفع بالقضية إلى الأمام كما كان منتظرا بعد مصطفى كامل، بل أصيبت بنكسة مزمنة باضت جراثيمها وأفرخت في أدمغة أذهلها الفراغ الفكري عن حدود (الوكالة) التي أجمعت عليها الأمة (الطيبة القلب) من أصحاب الجلابيب الزرقاء)
وفي سنة 1919 نهض زغلول فرفع مذكرة الوفد المصري إلى الميسو فريسنييه رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي يستصرخه في التحرر من الحماية الإنجليزية وجاء في هذه المذكرة المعروفة:
(. . هل مصلحة فرنسا العامة يمكن أن تلزم حكومة الجمهورية بأن تتخلى كلية عن الشعب مدينته الحديثة ظاهرا عليها الروح الفرنسية، عن شعب تربيته ونظامه الإداري والقضائي يحمل الطابع الفرنسي، عن شعب تشغل الآداب الفرنسية عنده المحل الأول كما يظهر ذلك لكل من يلاحظ ذوق الخاصة، ومن يطلع على الآداب الوطنية.
مهما يكن من أمر تلك المصالح التي تدفع حكومة الجمهورية للتنازل عما لفرنسا من السيادة إليها في مصر، يستحيل معها - حتى ولو كان ذلك من مصلحة الديمقراطية الفرنسية - أن تنكر فرنسا تعهداتها التي ارتبطت بها نحو الأمم الصغيرة. .)
ماذا؟ أهو دفاع عن استقلال أم اعتراف بانحلال؟. . وهل في سبيل المجاملة العرجاء، تزل قدم المحامي حتى يوقع موكله في ورطة مزرية،؟. . ومن أين لفرنسا هذه (السيادة الأدبية في مصر) وذئابها الفاتكة حتى يئست منها فعادت إلى بلادها جائعة تتلوى؟
وليس أمعن في الانحلال من الشعور بصعوبة التخلص منه والندم على الاستعمار كلما تقلص ظله، فليتأمل كل مواطن بصير هذا الخطاب الذي وجهه زغلول مصر إلى المسيو موريس لونج مقرر اللجنة البرلمانية الفرنسية، ومقرر المسألة المصرية لدى لجنة الصلح:
(. . أنه ليشق علينا أن نصدق أن الفرنسيون يقبلون عن طيب خاطر أن ذلك الطابع(973/12)
المطبوعة به تربيتنا المدنية والعسكرية من قرن مضى تعفو آثاره عفاء تاما، يشق علينا أن نصدق أنهم يقبلون القوانين الفرنسية التي استمدت قوانيننا نصوصها منها، وباتت متأصلة في نفوس المصريين وعوائد هم حتى أصبحت اليوم جزءا من راس مالنا الاجتماعي، ولا يكون لها أثر في الأساس الذي تستند عليه مدينتنا المصرية - وإن اللغة الفرنسية الجميلة المنتشرة في مصر أكثر من أي بلد أجنبي آخر، والتي بات لزومها في طبقاتنا المستنيرة لزوم لغتنا الخاصة نستعملها في معيشتنا العائلية اليومية بالسهولة التي نستعملها في حياتنا إليها يكون مصيرها إلى الزوال، وإن دور التعليم المتنوعة الأشكال والتي أنشأتها فرنسا في مصر والتي استوجبت منها بسببها عظيم الحمد وجزيل الشكر توصد أبوابها، وإن الإرساليات التي نبعث بها إلى فرنسا ليرشف أبناؤها من منابعها الفياضة لبان المعارف والعلوم والفنون ينصرف حبلها.
وصفوة القول أنه يعز علينا أن يرضى الفرنسيون بأن يوقف تيار النمو وهو بالغ منتهى سرعته في الشركات الفرنسية والبيوت التجارية والبنوك وغيرها بين ظهراني أمة تحب فرنسا وتفضل كل ما هو فرنسي على جميع ما عداه.
لا شك أن الشعب الفرنسي - وهو أكثر الشعوب تمسكا بالكماليات وأحرصهم على صون مهمته التاريخية في العالم - لا يمكن أن يغض الطرف بسهولة عن الامتيازات التي يضمنها له في وادي النيل ماض مفعم بأحسن العلاقات وداً، وأكثر المصالح انتشارا. .)
هذه هي الجناية على القومية المصرية باسم المطالبة برفع الحماية، وإن المواطن اليقضان ليعجب كل العجب كيف أفلتت هذه الصفقة السياسية من الحراسة الشعبية، وكيف جازت على المصريين حتى أسلمتهم (اليد الأمينة) إلى تجار الرقيق، وسماسرة الاستعمار، ولم يعد لهم من الحرية ما يمكنهم من نزع هذا النير الغليظ من أعناقهم الكليلة.
وإن هذا الاستجداء هو الذي أطمع فرنسا في استعمار مصر ثقافيا، بعد عن عجزت عن احتلالها، فلا أقل من أن تسير وفق الخطة الإنجليزية وهي استفراغ العقلية المصرية من مواهبها ومآثر تراثها، فتوسلت بذلك باللغة الفرنسية، التي بلغ بها التواضع إلى أن قبلت السير في الركاب الاستعماري الأعزل، وتظاهرت بالتساهل والتقرب إلى الناشئة في الوقت الذي يشيع فيه الذعر والهلع من (البعبع) الأساسي، وجعل للغة في باريس ثلاثون(973/13)
درجة بحد أدنى قدره تسع درجات، بينما جعل للغة التايمز خمسون بحد أدنى قدره عشرون.
وبين يدي مجموعة وافية من امتحانات الثقافة العامة في مدى عشر سنوات، والى القارئ أسوق هذه الملاحظات عليها:
1 - خلو الامتحان في بعض السنين خلوا تاما من دروس القواعد، مما أدى إلى الاستهانة بها أثناء الدراسة باعتبار إن التلميذ - كما هو الواقع - لا يدرس إلا من أجل الامتحان فقط.
2 - تحول الامتحان من اختبار المعلومات إلى اختبار في الأرقام، فقد جاء في أحد الامتحانات سؤال: ما ارتفاع برج إيفل؟ ومعنى ذلك أنه يجب حفظ رقم ثم التعبير عنه كتابة فهو امتحان لامتحان.
3 - الإيحاء بالبلادة الذهنية: وذلك بابتداع (الأرتوجراف) وخصم درجة عن كل ثلاثة أخطاء، غي حين يخصص للإنشاء 15 درجة، ويحرص التلميذ عادة على حفظ نموذج له فينجح من غير تعب.
4 - تجاهل حدود المنهج أحيانا ووضع أسئلة خارجة مقررة على السنوات الأعلى، وعدم مراعاة ذلك عند التصحيح.
5 - عدم تنويع الأسئلة، والاكتفاء بجزء من المقرر، للخط في اجتيازه دور كبير، وكان الأولى أن يستوعب الامتحان معظم الدروس المعطاة.
وبالجملة فإن طريقة الامتحانات في اللغة الفرنسية على هذا الوجه تعمل على احتقار عملية الناشئ، وإهمال قواعد التربية، وتحويل الامتحان إلى (ورقة يانصيب)
ودعائم التربية ثلاث: المعلم والمتعلم والعلم. أما المعلم فهو الوسيط بين طرفين، وليس في الإمكان إهمال مهمته أو التغاضي من خطرها، فلنتساءل: ما مؤهلات مرسي هذه اللغة؟
الواقع إن مدرس الفرنسية في مصر لا يخلو أن يكون أحد ثلاثة: أجنبي - أو مصري متخصص عضو بعثة - أو غير متخصص أو غير مؤهل. وهذا الصنف الأخير هو الغالبية الساحقة، فإن الأجانب والمصريين الفنيين قلة لا تكفي، فاستعين بالجامعيين من دارسي الفلسفة غالبا، والكثرة كلها ممن لا يحملون مؤهلات دراسية، ولا سبق لهم(973/14)
التدريس، مما اضطر وزارة المعارف - إزاء نقص عدد المدرسين وكثرة عدد الفصول - إلى تعيين كتبة في المحاكم المختلطة، وصيادلة، وعمال شيكوريل وهانو وعمر أفندي، وكثيرا ما حدث صدام بين طالب ومدرس لمجرد الشعور بفارق الشخصية والطريقة.
ولست أخشى هذه الخطورة على اللغة الفرنسية بقدر خشيتي على الكرامة الفكرية للتلميذ وهو وديعة لدى الدولة، فلماذا نفرض تدريس لغة ليس عندنا من يحسن أداءها ولا من يكفي لأدائها؟ ولماذا تصر على تدريسها وزارة المعارف وفي مدارس الأقاليم فصل بحصتين اثنتين فلا تجد مدرسا فيحال تدريسهما على أحد مدرسي اللغة الإنجليزية بالمدرسة أو يندب لهما مدرس من أقصى المدينة؟
وقامت الوزارة باستفتاء أولياء أمور التلاميذ في اختيار الإنجليزية أو الفرنسية في بدء الثالثة الابتدائية. ولكن الوزارة لم تستجب للرغبات. وتعثرت بين سياستين متضاربتين بين الإلغاء والبقاء، فألغيت اللغة الفرنسية من الأولى الثانوية ثم من الثانية ثم أعيدت ثم ألغيت ثم تقررت على الثانية الثانوية والزراعية وخصص لها حصتان بعد أربع، وزيدت في الثالثة إلى خمس، وألغيت نهائيا بعد الثانية زراعة.
وقد أبيح في سنة ما دخول امتحان الدور الثاني ثم عدل عنه وأعتبر الراسب في الفرنسية ناجحا، ولم يعمل بذلك في الامتحانات الرسمية عند النزول بالمنهج إلى المستوى الأدنى، فكانت الضحايا بالمئات حيث أعيدت الدراسة بسبب الرسوب في الفرنسية فقط فاضطر الطالب إلى اجترار كل المواد التي نجح فيها وإذا بالمنهج الفرنسي الجديد كان قد نجح فيه منذ عامين.
وأدهى من ذلك إن بعض الفصول بمدارس البنات تشتمل على فقرتين في دراسة اللغة الفرنسية: أحدهما يدرسها أساسيا والآخر إضافيا. وقد يكون عدد طالبات الأساسية تلميذة واحدة تستنفد من وقت المدرسة سبع ساعات في الأسبوع لها وحدها، وقد ننتدب لهذه التلميذة معلمة فرنسية بماهية مضاعفة في حين تشكو من قلة المدرسين والمدرسات للكثرة المتزايدة من التلاميذ والتلميذات.
ونحن إذ نبني البيت (بالباع والذراع)، وندعي أن لبيت قائم في حين إن البناء الذي سيقيمه لم يوجد بعد، ولم نحظر المواد اللازمة له يوم يوجد، والسكان الذين سيشغلون البيت لم(973/15)
نرسم لهم خط المستقبل حتى نضمن رغبتهم في سكني البيت أو التحول إلى غيرة.
وليس يخفى عن أحد هذا الفارق الشاسع بين الدراسة الثانوية والدراسة الجامعية عند الشعور بالضعف الشديد في اللغة الفرنسية وهي من الزم ما يلزم الطالب في الآداب والحقوق والتجارة مع الاستغناء عنها تماما في العلوم والطب والزراعة.
ولغة الفرنسية - حقا وصدقا - مكانتها الرفيعة في الثقافة العامة، دليل ذلك أثرها الواضح في نفوس المثقفين، ولكن هذا التشتت الذي نضحي الناشئ بسببه هو حائر بين الإنجليزية والفرنسية أدى إلى نتيجة لازمة حاتمة وهي ضياع الوقت سدى في دراستهما معا، وعدم جدوى هذه الدراسة عليه في مستقبل ثقافته وتكوين شخصيته. وما ذلك إلا لأنه ليس للتعليم سياسة واضحة الأهداف، مرسومة الوسائل، مصطلح على وضعها، وهذا ما سبق لنا القول فيه في مقال (سياسة التعليم)
أما وقد مضينا بخطوات سريعة نحو الوعي القومي، أرى الاقتصار على لغة أوربية واحدة يترك حق اختيارها للمدرسة وولى أمر التلميذ، وسيترتب على ذلك أولا إتقان هذه اللغة والاستزادة من آدابها وفنونها وعلومها في أقرب وقت ممكن، ولن يجدي ذلك إلا إذا سرحت الوزارة هذا الجيش العرمرم من غير الفنيين، وإلا إذا رجعت إلى أصول التربية في التدريس والامتحانات، وعندئذ فقط يكتمل شعور المواطن الناشئ بكرامته القومية والفكرية، ويتحقق لديه أمل التزود من ثقافة الغرب. حتى إذا طلب المزيد، فالوسائل الخاصة لا تعوزه ولا تعجزه.
محمد محمود زيتون(973/16)
نصيب السودان في ثقافتنا المدرسية
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
لا أود أن أعتب في هذه الكلمة على الماضي؛ فقد انقضى بخيره وشره، ولكني أنبه إلى حاضر يختلف في طبيعته واتجاهاته، وأشير إلى مستقبل قريب يتطلب منا العمل الحاسم السريع. أما الحاضر الذي اختلف، فمرد اختلافه إلى أننا قد نظرنا الآن إلى السودان نظرة جد وحزم، أوضحت أمامنا المسالك، بعد أن التوت علينا أزمانا. وأما المستقبل القريب ففيه الأمانة التي ارتهنت بها مصر لشباب الوادي جميعا، وهي تهدف من ورائها أن يرتبط الشعبان، وان يلتقيا معا على الفهم الواضح الصحيح، والمعرفة الوثيقة؛ ليعيشا معا في ظل الخاء والوئام. ولا احسبنا واصلين إلى ما نبتغي، إلا إذا سعينا إلى هذا المستقبل على علم صحيح بما في الجنوب من معالم وأحداث، وثقافة وعادات؛ ولهذا فقد رأيت عند أوبتي من السودان في ديسيمبر الماضي أن أذكر وزارة المعارف بهذه الحقيقة؛ لتأخذ الأهبة، وتتحفز للعمل، فبعثت إليها بتقرير، أوضحت فيه ما يجب أن تعمل حيال الاتجاه الجديد؛ ولكني عدت فخشيت أن تطوي الوزارة هذا التقرير فلا تفيد منه، فيظل شباب الوادي في حيرة لا تنتهي، ونظل كذلك بعيدين عن واقع الحياة الحاضرة وبوادر الحياة المستقبلة؛ فرأيت أن أنشر على صفحات الرسالة الغراء بعضا من هذا التقرير؛ لأنه - على ما اعتقد - ضرورة يجب الأخذ بها في سرعة واهتمام:
أولا:
لا يزال الطلبة في مدارسنا المصرية يجهلون الضروري من أحوال السودان؛ فهم لا يعرفون من تاريخه إلا القليل، ولا يدركون عن طبيعته وتياراته السياسية، وحياته الاجتماعية إلا صورا ضئيلة باهتة لا تغني ولا تفيد
هذا هو منهج الجغرافيا، لا يلقي على السودان ضوءا واضحا، يبصر التلاميذ بما فيها، وإنما هو إيجاز مخل، لا يكاد الزمن يمضي عليه، حتى يذهب من الأذهان، لضآلة أثره وقلة غنائه، لا يتناول من أحداث السودان إلا القليل مما يأتي عرضا، على حين يعني المنهج بدراسة الحوادث في بعض الممالك الأجنبية دراسة تفصيلية. وهذه هي النصوص إليها لا تلم في أية مرحلة من مراحلها بأبيات لشاعر سوداني، وفي هذا ما فيه من غمط(973/17)
لحقوق شعراء طالما رددوا صوتهم عاليا بحب مصر والمصريين.
لقد حان إذا أن تحقق المعارف رغبة كريمة، طالما جاشت في صدور الكثير من المصريين والسودانيين، فتولي الدراسات السودانية بالمدارس المصرية العناية اللائقة بها؛ حتى يعرف الطالب المصري عن جنوب الوادي ما يدركه عن شماله، وعندئذ فقط تتأكد الروابط، وتشتد الصلات، ونبلغ الغاية التي نصبو إليها من التئام الشعب، وتوثيق العرى.
من الخير أن ننظر الآن في مناهج الجغرافيا والتاريخ والتربية الوطنية نظرة جديدة، قوامها العناية بما في الجنوب من تراث وثقافة ونظم وشؤون. ومن الخير كذلك أن تنتظم النصوص إليها طرفا من الشعر التيجاني يوسف بشير، والعباسي، واحمد صالح، وعبد اله عبد الرحمن وغيرهم؛ فقد جاهد الكثير منهم بإنتاجهم القيم في سبيل الإنسانية والعروبة الوطنية، واصبح من حقهم علينا أن نعتني بأشعارهم اعترافا منا بهذا الجميل.
ثانيا:
مما لا شك فيه أن الصحف مرآة تنعكس عليها صور الحياة الحاضرة، فهي التي تحمل للقراء الآراء والاتجاهات، وتوضح ما يجري في البلاد من أحداث. ومن المؤسف حقا أن القراء في الشمال قد تجاهلوا الصحف التي تصدر في الجنوب، فخفي عليهم بعض أحواله الراهنة، وكان من الطبيعي أن يجهل الشبان المتعلمون بعض أخبار الجنوب وأحداثه. أقول ذلك وأنا اعلم أن صحف السودان لم تكتمل بعد نهضتها، ولا تزال تجاهد في سبيل الرقي المنشود، ولكنها على أي حال تلقي الكثير من الأضواء على الحياة السودانية الحاضرة. ومن الواجب - إذا أردنا أن نبصر التلاميذ بما يجري في الجنوب - أن تشترك كل مدرسة ثانوية في صحيفتين على الأقل من صحف السودان؛ إحداهما معتدلة، والأخرى من الجرائد الاتحادية؛ ليطلع عليهما الطلبة، أو تقوم الجماعة الأدبية في المدرسة بتخليص الأخبار المهمة، وتسجيلها في مجلة حائط؛ لتكون قراءتها في متناول الجميع.
ثالثا:
لا يجهل السودانيون أن طائفة من علماء مصر وأدبائها، قد عنوا بشؤون السودان؛ فألفوا في بعض نواحيها كتب قيمة، ولا يجهلون كذلك أن بعض السودانيين قد طرقوا هذا الباب،(973/18)
فاصدروا بعض الكتب في السياسة، واللغة السودانية العامية، والتاريخ والأدب. ومن الواجب في وقتنا الحاضر أن تتولى إحدى اللجان دراسة الكتب جميعا؛ لتزود بالمصالح منها مكتبات المدارس، وستجد - ولا شك - من كتب إخواننا السودانيين طائفة تصلح للاطلاع الحر في المدارس الثانوية، ستجد كفاح جيل، وديوان إشرافه، وديوان العباسي، والعربية في السودان، وتاريخ مكي شبيكة، وشعراء السودان، والطريق إلى البرلمان، وغيرها من الكتب.
رابعا:
لست أريد الانتهاء من هذه الكلمة الموجزة قبل الإشارة إلى ناحية مهمة تتصل بالروابط الثقافية بين الشمال والجنوب؛ فقد درجت المعارف في العهد الأخير على إيفاد طائفة صالحة من العلماء والأدباء يلقون المحاضرات في جنوب الوادي، وهي سنة محمودة، وخطة حكيمة تستحق التقدير؛ فقد شهد الناس هناك ألوانا ممتازة من معالجة الموضوعات على اختلاف أنواعها فقابلوها بالشكران والتقدير، وتأكدت بينهم وبين إخوانهم المحاضرين الصلات الثقافية والروحية.
حدث هذا فعلا في الخرطوم وأم درمان، فأفاد منه أهل هاتين المدينتين، ولكن سكان المدن الأخرى لم يسمعوا إلا تلخيصا لعدد ظئيل من المحاضرات في الإذاعة، فكان إسماعهم لهذا التلخيص جانبان: جانب أسف؛ لأنهم لم يجدوا من العناية ما وجده سكان المدينتين الكبيرتين، ففاتهم الكثير من الفوائد. وجانب استبشار؛ لأنهم أدركوا في هذا التلخيص من الفوائد ما لم يدركوه من قبل، وودوا جميعا لو طوف هؤلاء المحاضرون في المدن الكبيرة الأخرى كمدنى وكسلا والأبيض وعطيرة، يحملون إلى الناس هذه الثقافة العالية الممتازة. ودوا ذلك ويودون مستقبلا أن تتحقق رغبتهم؛ لتعم الفائدة ويصيب منها القريب والبعيد.
وبعد فهذا رأي أدلي به، موقنا أن الحاجة ماسة إليه في وقتا آمنا فيه وآمن الناس أن الشعب الذي يعيش على ضفاف النيل من منبعه إلى مصبه شعب واحد يجب أن يلتقي تحت تاجه، ويتحد في سياسته وثقافته، وارجوا أن تبذل المعارف جهدها لتسهم - كما أسهمت من قبل - في تحقيق ما تبقى لها نحو غايتها الكريمة.
أحمد أبو بكر إبراهيم(973/19)
الحسن البصري
رئيس المدرسة الفلسفية الأولى في الإسلام
للأستاذ حسين علي الداقوقي
لم تمض على تأسيس مدينة البصرة حقبة طويلة من الزمن حتى تسنى لها مناهضة مدينة الأبلة القديمة والتغلب عليها من جميع النواحي المدينة حين نسى الكتاب ذكر ما في تلك المدينة من أحوال الحضارة ومعالم العمران. كما حدث على تلك الشاكلة تغلب الكوفة على تلك الحضارة طيسفون والسيطرة عليها.
غدت البصرة ثغر العراق المزدهر، وميناءه المتطور الزاخر بصناعتها وزراعتها ونشاط تجارتها. وبضروب فعالياتها الفكرية. فقد أنجبت المشاهير من مشاهير الفكر الإسلامي، وقامت فيها المدارس العلمية والأدبية التي ضمت إليها هؤلاء المشاهير. نشأت فيها مدرسة النحو يوجهها الخليل بن أحمد، وظهرت فيها ألوان من الأدب تمثلت في كتابات أبن المقفع والجاحظ. وفي بيئة البصرة تثقف أبن الهيثم، وبشر واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظام بمذهب الاعتزال. وألف إخوان الصفا جمعيتهم الفلسفية وفي هذه البيئة أيضاً وضع أسس الصوفية كبار أعلامها مثل رابعة العدوية والحسن البصري وغيرهما من نبغوا في مجالات الفكر. ليست لدينا - ويا للأسف - وثائق تاريخية وصفية جمعها أنصار الحسن البصري وطلابه لنبين منها تفاصيل سيرة الرجل، سوى نتف من ملاحظات، أو شتيت من المذكرات دونها عنه أعوانه أمثال قتادة وأبن عون ويونس وأيوب، ومنتثرات من المعلومات تلقاها في كتب المحدثين مثل أبن سعد، وفي مصنفات المؤرخين والمفسرين كابن قتيبة والطبري، وفي كتابات المتكلمين كأبي عمرو الجاحظ وفي كتب المترجمين كأبي نعيم وغيرهما من المصنفات.
نشأته
ولد أبو سعيد الحسن بن يسار البصري بالمدينة عام 521 وكان أبوه يسار في الأصل من سكان مدينة ميسان قرب البصرة. وقد سبي خلال عام 12هـ إبان حملة خالد على العراق فنقل مع من نقل من ميسان إلى المدينة حاضرة العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وغدا هناك(973/21)
مولي لزيد بن ثابت الصحابي وكانت أمة خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي (ص) نشا الحسن بوادي القرى وشب في كنف علي بن أبي طالب وعمر وتتلمذ على أنس بن مالك، ولقي سبعين من البدريين، كما أخذ عن حذيفة بن اليمان وعمر بن أبي حصين الخزاعي وعاصر عددا كبيرا من الصحابة فأرسل الحديث عن بعضهم وسمع من بعضهم، وكان قد أظهر ذكاء لامعا منذ صغره، فقد حفظ حفظ القرآن وهو دون سن الأربع عشرة سنة ثم كبر ولازم الجهاد ولازم العلم والعمل.
أستقر الحسن في الأبلة، فالبصرة حيث كان المركز الثقافي الإسلامي خلال العهد الأموي. وفي عام 35هـ شد إلى رجال المدينة، وعند ما عاد إلى البصرة في غضون سني 37 - 41 هـ تعقب المناقشات التي احتدمت بين أصحاب الرسول وأحتكم فيها. وأشترك في الجهاد فحارب في جبهة كابل، وبعد ما رجع من الجهاد عارض خلافة يزيد، وأجتلب نحوه الأنظار بما أوتي من حدة الذكاء وحسن البيان، ومهابة وجمال في خلقه وخلقه، فوقع من أنفسهم أسنى مقام وأجل موقع.
أشتغل الحسن موظفا عند الأمويين؛ فكتب للربيع بن زياد والى خرا سان في عهد معاوية. وتقلد منصب القضاء في البصرة مدة من الزمن إبان خلافة عمر الثاني، ثم استقال منها ولم يأخذ على قضائه أجرا. وأعتكف في أحد مساجد البصرة يقوم بالوعظ والإرشاد والتدريس والتوجيه، ويشارك غيره في كثير من الفعاليات الأخرى كما سوف نرى.
حياته السياسية:
يبدو للإنسان إن القدرية كانت أول مدرسة فلسفية في الإسلام، وإنها كانت قد اقترنت (أكثر مما انطبعت) بفلسفة سياسة ذلك العصر. بحيث إنها بدأت تعدو عن كونها فلسفة مجردة، مطلقة، غاية لنفسها، وأخذت تهدف إلى ارتياد العقل، وتحرير الفكر وإعطاءه قيمته الحقة، وبالتالي مقاومة السلطة الحكومية آنذاك. فحمل ذلك الأمويين على التنكيل بأنصارها والفتك بمروجيها، فذهب عدد غير يسير من نوابغ ذلك العصر ضحايا هذا الاضطهاد السياسي. أذكر منهم عمر المقصوص أستاذ الخليفة معاوية الثاني حين وثب عليه بنو أمية وقالوا: أنت أفسدته وعلمته، فطمروه ودفنوه حيا) كذلك انصبت نقمة الاضطهاد على نابغة آخر من معاشري الحسن البصري وهو معبد الجهني، على أنه جاهر بالقدر في مدينة البصرة،(973/22)
فأذاقه الحجاج الوالي الأموي من العذاب ثم قتله بطلب من عبد الملك بن مروان. وكان معبد من السابقين في القول بالقدر، يذكر عنه الذهبي بأنه كان قدريا وتابعيا صدوقا قتله الحجاج عندما أشترك في ثورة عبد الرحمن بن الأشعث. وقد كان كذلك غيلان الدمشقي قدريا وخطيبا مصقعا وصلب على باب دمشق.
وهناك نصوص تاريخية كثيرة تثبت قدرية الحسن. فيقول المقربزي: إن معبد الجهني وعطاء بن يسار سألا الحسن البصري (إن هؤلاء - يريدان الأمويين - يسفكون الدماء ويقولون إنما نجري أعمالنا على قدر الله) فقال الحسن (كذب أعداء الله) فإنهم الحسن بهذا ومثله لم يكن الحسن يحمل العقيدة مجردة عن العمل، ولم يأل جهدا في الدفاع عن مبدأه والإفصاح عن آراءه بشجاعة، وقد أمضى حياته يصارع مشاكل شتى دون أن يكترث لها مع أنه كان بمقدوره، أن ينال العز والجاه والرغد والرفاه. فالمتصفح لكتاب أبي نعيم (حلية الأولياء 2ج) يجد أنه قد ترتفع عن هبات الأمويين، وأبدى شجاعة منقطعة النظير في رد المظالم، تارة بتبيان وخامة العاقبة وطورا بالتنديد بالروادع الدينية، ولم يستهدف من ذلك غير الإصلاح الاجتماعي العام، فرفعه ذلك إلى موضع التقدير والإجلال لدى أغلبية الجماهير.
ذكر الشهرستاني وكثير غيره بأن الحسن إنهم بالقول في القدر، والحقيقة أنه كان كذلك، بل أنه كان رئيس القدرية، ورأس حرية الإدارة، والأكثر من ذلك أنه جهر بمخالفة استخلاف يزيد بن معاوية من دون أن يتخوف عاقبة الأمر، على حين أن الشعبي وأبن سيرين لم يجرموا على إبداء رأيهما بصراحة. وكان من أهم أسس عقيدته السياسية إتباع الأصول الإسلامية الأولى، ومعارضته الخلافة الأموية الوراثية، والاعتقاد بمبدأ الانتخاب للخلافة، بيد أنه لأسباب لم نتحقق منها تماما، رفض الاشتراك بثورة أبن الأشعث عام 81 - 82هـ، بالرغم من المظالم التي كان يقترفها الحجاج، وبالرغم من اشتراك زملائه بها كعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، ولعل ذلك كان بسبب اعتقاده الجازم بعدم نجاح الثورة، أو أنه ما كان يسوغ الحرب وسفك الدماء بين الإسلام مهما كانت أسبابها الموجبة، وذلك للصلة الوثيقة بين تصوفه وآراءه السياسية، إذ لم تكن أي حركة من حركاته أو فعالية من فعالياته من قبيل الصدفة والعرض. ومع العلم أنه كان ضد سياسة الحجاج إلا أنه لم يقم(973/23)
بأية حركة ثورية أو عصيان مسلح ضده؛ لأن الإسلام عند الحسن واحد ووحدة، وإن هذه الوحدة لتستند إلى وحدة الحق والإيمان، وإن كل حركة ينجم عنها التصدع في هذه الوحدة، وإن كان مبعثها الحق فهي ليست بأسلوب صحيح يركن إليه ويتوسل به.
والمعروف عن الحسن البصري أنه غدا بين86 - 95هـ موضع ريبة موظفي الحجاج الذين صاروا يتحرون دقائق أعماله ويترقبون تصرفاته؛ حتى أضطر إلى الاختفاء والتواري عن الأنظار. وفي عام 99هـ تقلد منصب القضاء في عهد عمر الثاني ثم استقال منه. وفي 101هـ أنتقد بلهجة لاذعة في إحدى مواعظه الشهيرة حركة أبن الملهب التي قامت ضد الأمويين غير أنه لم يسلم في سلوكه هذا من التهجم عليه خلال حيلته، فذكر عنه أنه كان يلقي الناس بما يهورع ويتصنع الرياسة. وروي عن تلميذه أبن أبي العرجاء أنه لما قيل له لم تركت صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ قال إن صاحبي كان مخلطا، كما يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر، وما أعله أعتقد مذهبا دام عليه ويقول عنه تلميذه أبوب السختيالي إن انفصال الحسن من القدرية كان خوفا من السلطة الحاكمة، وإن عدم اشتراكه مع ابن الأشعث في الثورة كان خوفا من أن تذهب عنه وظيفته الموجهة إليه. كذلك انتقده ابن سيرين لأنه يريد الكبيرة ولا يريد الخلود في النار أبدا.
هذا ولم يكن الحسن في عقيدته السياسية مكافحا من نوع صاحب الزنج في الثورة على النظام الاجتماعي، ولا مثل جان دارك في الدفاع عن استقلال الوطن، إنما كان أقرب مثيل إلى البابا بيوس التاسع في بعض جوانب تصرفاته، وبأبي العلاء المعري في جوانب أخرى. وكان في عصره من هذه الناحية نسيج وحدة. ويرجح أن كفاحه كان محددا بحدود صوفية معينة، وباعتبارات دينية واجتماعية أخرى تمسك بأهدابها، وجهد في السير على مقتضاها، وقد أوصى ابنه عبد الله أن يحرق كتبه ففعل ما أوصاه به والده، لذلك لم يرد لنا منه إلا النزر اليسير الذي ذكرناه فأشكل على الباحث تحقيق أمره، ولم يوف في التدقيق عن حقه، فنستميح القارئ الكريم عما يبدو من المقال من سطحية وضآلة مادة، فعسى أن نكون به حافزين. وداعين إلى دراسة طرف من أطراف التراث الإسلامي أو شخصية من شخصياته، لم تتكشف حقائقه مفصلة سافرة على ضوء المباحث القائمة على المنهج التاريخي العلمي الحديث.(973/24)
للبحث صلة
حسين علي الداقوقي(973/25)
بين شاكر وقطب:
لا تسبوا أصحابي
للأستاذ محمد رجب البيومي
للأستاذ محمود محمد شاكر منزلة كبيرة لدي، فأنا أعهده كاتبا قوي الأسلوب، رصين العبارة، وأعرفه أبيا مخلصا يتدفق غيره على الإسلام، وتعصبا لأفذاذه الأبطال، لذلك أقبل على قراءة ما يدبجه يراعه المؤمن في شوق واهتمام. وقد طالعت أخيرا ما كتبته مجلة (المسلمون - العدد الثالث ص 38 جمادي الأولى سنة1371) تحت عنوان لا تسبوا أصحابي، فوجدت المجال واسعا للخلاف بيني وبينه، ولم أشأ أن أطوي ما دار بخلدي عن القراء، فرأيت أن أناقش الكاتب الكبير فيما سطره راجيا أن يحق الله الحق بكلمته، فالحق وحده هدف الكرام الكاتبين، وفي طليعتهم الأستاذ الجليل.
ولعل من الأوفق أن أبدأ بتلخيص الفكرة التي يدور حولها مقال الأستاذ شاكر، فأعلن أن الكاتب الفاضل ينحي بالأئمة على المجاهد الداعية الأستاذ سيد قطب - وإن لم يصرح باسمه - إذ تعرض في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) إلى أناس عدهم الأستاذ شاكر من أفاضل الصحابة، وقد خصهم صاحب الكتاب بما لا يليق في مذهب الأستاذ شاكر من النقد والتجريح، وهو بذلك يخالف ما أجتمع عليه الرأي السائد من تقديس أصحاب الرسول (إذ لا سبيل لأحد من أهل الأرض ماضيهم وحاضرهم أن يلحق أقل أصحاب محمد، مهما جهد في عبادته ومهما تورع في دينه، ومهما أخلص قلبه من خواطر السوء في سرة وعلانيته، كما قال الأستاذ الجليل.
وقد بدأ الأستاذ شاكر مقاله بحديث الرسول (لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) واندفع في سياق منبري يسرد الأدلة الخطابية، ويستثير النوازع العاطفية، ويستشهد بقول الرسول (خير الناس قرني ثم الذين بلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم بيمينه، وبيمينه شهادته) كما ذكر حديثا يدور حول هذا المعنى، محاولا أن يؤيد بذلك كله دعواه الخطيرة إلى تقديس أناس بعدوا عن الحق فيما سجله التاريخ عليهم من أعمال. ومما نحمد الله عليه أن الحق - في هذه الناحية - واضح أبلج لا يحتاج إلى برهان.(973/26)
وقبل أن نعرض ما ذكره الأستاذ قطب في شأن معاوية وأصحابه، نذكر أن الأستاذ شاكر قد أثار هذه العاصفة وحجته الوحيدة، أن كل صحابي رأى الرسول وسمع عنه قد أكتسب مكانة تحترم على كل إنسان أن ينتقد أخطاءه أو يظهر أغلاطه، (فإذا أخطأ أحدهم فليس يحل لهم ولا لأحد ممن بعدهم أن يجعل الخطأ ذريعة إلى الطعن عليهم) كما ذكر الكاتب.
وحسماً للنزاع من أقرب طرقه، نبدأ بتحديد معنى الصحابي، وهو - في أبسط حدوده - يطلق على كل إنسان حصلت له رؤية الرسول أو مجالسته، فجميع من سعدوا بمشاهدته صلى الله عليه وسلم في حياته بعد الإسلام صحابة يشرفون بهذه الصفة المباركة، حتى عبد الله بن أبي رأس النفاق بالمدينة، فقد قال الرسول لمن هم بقتله: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)، فعبد الله من أصحاب محمد كما ينطق الحديث، فليت شعري أينطبق الحديث القائل لا تسبوا أصحابي على جميع من سعد بالصحبة، أم يخص من باعوا أرواحهم وأموالهم لله من المؤمنين الصادقين؟ لابد أن تكون الطائفة الأخيرة هي المقصودة دون أدنى تردد أو نزاع، فكل من تمسك بأخلاق الإسلام من أصحاب الرسول وشهد تاريخه بمروءته وصدقه فهو موضع التجلة والتبجيل، ولا يجوز لمسلم بدين الإسلام أن ينتقصه في شيء، وكل من حامت به الشبهات فوق تاريخه فهو موضع الملامة والنقد لأن الناس سواسية أمام الإسلام، ولا فضل لعربي على أعجمي بغير بتقواه، والإسلام لا يقدس غير البررة المخلصين.
ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا من الدين والجهاد بمنزلة واحدة، ففيهم من أسلم في فجر الدعوة منذ أعلنها الرسول وقطعت السنوات المتتابعة في الجهاد والجلاد، وفيهم من أسلم قبيل الفتح أو بعده والسيف مصلت على رأسه، وفيهم من بذل الكثير من الدم والمال وأدخر القليل، وفيهم من تقاعس ولم يبذل شيئا من دمه وماله، ومن الظلم البين أن نرتفع بهؤلاء جميعا إلى منزلة واحدة، بل على التاريخ أن يهيئ لكل إنسان منزلته وفق ما أسلف من أعمال (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) 95 النساء.
وإذا كان الأستاذ شاكر يرى أنه لا يجوز لأحد من الناس أو من الصحابة أن يجعل الخطأ(973/27)
ذريعة إلى الطعن في المخطئين، فماذا يفعل في الصحابة إذ أحلوا لأنفسهم ما حرمه عليهم الآن، فخطأ بعضهم بعضا، وطعن فريق منهم على فريق آخر يناوئه، أفيكونون بذلك قد خالفوا الحديث النبوي كما فهمه الأستاذ شاكر. . . أم عرفوا أن الصحبة وحدها لا تعصم من النقد والملام؟
لقد أتضح بجلاء أن الحديث الذي عنون به الأستاذ مقاله لا يتدرج على جميع من سعد بالصحبة، بل يختص الطائفة المناضلة التي لم تترك أخلاق القرآن في موقف، أو تنبذ روح النبوة في صنيع، وجميع من سار على النهج القويم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبن مسعود موضع القدرة والاحتذاء من المسلمين، وحرام على كل مؤمن أن يحوم على أحد منهم بطعن أو تجريح، أما الذين تأخر بهم الركب عن اللحاق بالإسلام في مشرق شمسه، فيجب أن ننظر إلى صحف أعمالهم ومواقفهم في الحياة ثم نحكم عليها في ضوء القرآن والنبوة، وهذا ما فعله الأستاذ سيد قطب، فقد نظر إلى أعمال معاوية وطائفة من بني أمية نظرة إسلامية صادقة، فوجد خليفة المسلمين قد بعد عن روح الإسلام في أكثر أعماله، وساعده في هذا السبيل فريق باع آخرته بدنياه، فرأى أن يقول كلمة الحق في أناس تجاوزوا حدود الله في أعمالهم، والأستاذ قطب لم يرد بكتابته أن يكون مؤرخا راويا، فالرسالة التي يضطلع بها الآن أعظم من أن تنحصر في حدود التاريخ، ولكنه ينادي بالرجوع إلى أحكام القرآن، وهدى النبوة، وتعاليم الإسلام، وقد عرف أن الخلافة الإسلامية قد فقدت معناها الديني بعد مصرع علي، وجاء من الخلفاء من أحالها إلى ملك عضوض، تبعد عنه روح الإسلام في أكثر نواحيه، وقد ظن كثير من الناس أن هؤلاء الخلفاء الرسميين من لدن معاوية يمثلون الخلافة الدينية التي تتقيد بالقرآن وتهتدي بالسماء، ورأوا من جرائرهم الخلقية، وترفهم المقيت، ولهوهم الماجن ما يبغضهم في الخلافة والإسلام، فقام الأستاذ السيد قطب بدافع عن دينه، ويبين أن الإسلام لا يعترف بخلافة بعد علي، وقد نطق بالحق المؤيد بالتاريخ حين أعلن أن معاوية أول خليفة تحلل من قيود الإسلام، أفنقول له بعد ذلك لقد تهجمت على أصحاب الرسول وخالفت هدى النبوة، أم يريد الأستاذ شاكر أن يفهم الناس أن معاوية وأشياعه يمثلون الإسلام بما ارتكبوه من رشوة وخداع وممالأة؟ لو أن الأمر كذلك لبعد الناس عن الإسلام، ولبرئ المسلمون من دين يبيح لخلفائه(973/28)
الخديعة والمكر والإرهاب وإقامة القصور واحتكار الأموال والضياع؟
ولقد كان الأحرى بالأستاذ شاكر أن ينقد ما ذكره الأستاذ قطب عن معاوية نقدا تاريخيا فيبين أن الواقع التي ذكرها في كتابه الخالد غير صحيحة، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك، إذ أن الأستاذ قطب قد نقل وقائمه عن كتب التاريخ ولم يخترعها من عنده اختراعا، وهي - رغم ثورة الأستاذ شاكر - معروفة لدى الكبير والصغير.
فمن ذا الذي ينكر أن معاوية حين صير الخلافة ملكا عضوضا في بني أمية لم يكن ذلك من وحي الإسلام إنما كان من وحي الجاهلية.
ومن الذي ينكر أن أمية بصفة عامة لم يعمر الأيمان قلوبها! وما كان الإسلام لها إلا رداء تلبسه وتخلعه حسب المصالح والملابسات!! وهذا باستثناء عمر بن عبد العزيز الذي أحاطه الأستاذ قطب في كتابه بسياج من المحبة والإجلال، وجعل عهده بقية من عهود الخلافة الراشدة، وإشاعة مضيئة تنير الطريق، وقد بسط الكلام عن هذا الخليفة العظيم في أربع صفحات طوال!!
ومن الذي ينكر أن يزيد بن معاوية قد فرضه أبوه على المسلمين مدفوعا إلى ذلك بدافع لا يعرفه الإسلام؟
ومن الذي ينكر أن معاوية قد أقصى العنصر الأخلاقي في صراعه مع علي وفي سيرته في الحكم بعد ذلك أقصاه كاملا، لأول مرة في تاريخ الإسلام، وقد سار في سياسة المال سيرة غير عادلة، فجعله للرشوة واللهي وشراء الضمائر في البيعة ليزيد بجانب مطالب الدولة والفتوح بطبيعة الحال.
هذه وأمثالها أمور مسلمة في تاريخ لا يستطيع الأستاذ شاكر أن ينكرها بحال. ونحن نعجب كثيرا في حين نجده في مقاله يلبس مسوح الوعظ والإرشاد فيقول: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن أن بعض الظن إثم. يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا. أفبهذه الآيات وأمثالها يستطيع الأستاذ شاكر أن يسكت لسان التاريخ.
كنا ننتظر من الأستاذ أن ينتقد هذه الحوادث التاريخية نقدا موضوعيا يحدد على ضوئه موقف معاوية من تاريخ الإسلام! ولكن الأستاذ لا يستطيع أن يأتي لمعاوية بتأريخ جديد(973/29)
فذهب بدافع عنه من باب آخر، فنقل عدة روايات تدل على أنه حسن الصلاة!! وأنه أوتر بواحدة! فقال أبن عباس أنه فقيه!! وأن الرسول قد قال: اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب!! وسار في هذا المضمار خطوات أتعبته كثيرا. والعجب أنه يجعل ما ذكره الأستاذ قطب من تاريخ معاوية روايات متلقفة من أطراف الكتب! وهي جميع ما تنطق به كتب التاريخ، أما ما ذكره الآن من فضائل معاوية فليس من الروايات المصنوعة، وإن اصطيد من مجمع الزوائد وأمثاله من مراجع الأستاذ، أفهذا منطق يقنع الباحثين!
وقد تعجب كثيرا وأنا أقرأ قول الأستاذ شاكر عن قطب (أن كان يعلم أنه أحسن نظرا ومعرفة بقريش من أبي بكر حين ولي يزيد بن أبي سفيان وهو من بني أمية، وأنه أنفذ بصرا من عمر حين ولي معاوية فهو ما علم!) كأن تولية عمر لمعاوية كافية لأن تمحو أخطاءه فلا يأخذ مؤرخ بملام! ونحن نقرأ أن معاوية كان حسن السيرة على عهد عمر فولاه أعمال دمشق، ولكنه قلب المجن للتعاليم الإسلامية بعد مصرع عثمان فلم تنفعه تزكية الفاروق في شيء، وعمر رضي الله عنه لا يعلم الغيب حتى تكون تزكية لإنسان ما في عهده ممتدة إلى جميع أعماله مدى الحياة!
هذا هو معاوية، أما أبو سفيان وهند زوجه وعمرو أبن العاص فلا أعلم أن الأستاذ قطب قد تجاوز الحق فيما كتب عنهم من تاريخ!! فجميع المسلمين يعرفون أن أبا سفيان حارب الإسلام حربا لا هوادة فيها، ولم يدخل في حظيرته إلا بعد أن تقررت غلبة الإسلام! وأن زوجه هند قد ولغت في الدم حين أخذت كبد حمزة بين فكيها، ولاكتها لتأكلها فلم تستطع، وإنها قالت عن زوجها حين أسلم: اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه، قبح من طليعة قوم، هلا قاتلتم ودافعتم عن أموالكم ثم أسلمت بعد ذلك أيضا!! وإن أبن العاص قد عاون معاوية في خصامه مع علي جريا وراء مآرب يدخرها لنفسه دون نظر إلى صالح الإسلام والمسلمين!! هذا كله ما ذكرته كتب التاريخ، أفيلام الأستاذ قطب إذا ذكره في معرض الدفاع عن الإسلام وتبرئته من آثام المذنبين أم يريد الأستاذ شاكر أن يؤخذ الإسلام بجرم أبنائه ومدعيه، حين يحتضن أناسا لم يتمسكوا بأهدابه وقواعده، ما يكون لنا أن نتكلم بهذا في ذلك الشأن.
ولقد تعمدت أن أكون واضحا صريحا حين تكلمت عن المراد (بالصحابي) فتحدثت عما(973/30)
يفهم من مادة الكلمة دون نظر إلى ما دار حولها من اختلاف لدى الأصوليين، إذ هم يذكرون عدو تعاريف تتقارب وتتباعد دون أن تلتقي في ناحية واحدة، ولو تمسك كل إنسان بتعريف معين لتضارب القول، واتسعت شقة الخلاف! على أن الصحبة بمدلولها اللغوي تدل على الملازمة، فصاحبك هو الذي يطيل المكث معك أكثر من سواه، وصحابة الرسول بالمعنى الشرعي واللغوي معا هم أكثر الناس ملازمة له، وليس منهم معاوية وأبوه وأمه ونجله على أي حال، ولن أطيل هذا القول فيما ذكر المحدثون في قول الرسول خير الناس قرني ثم الذين يلونهم - وقد سبق في صدر هذا المقال - إذ أن مفسري الحديث قد أجمعوا على أن العبرة بالمجموع لا بالجميع، فقد يوجد في القرن عشرين من هم أفضل بكثير من بعض من عاصروا الرسول العظيم وإذن فليس للأستاذ شاكر أن يتمسك - بهذا وأمثاله - كدليل يستند إليه في دعواه وهو من البداهة بمكان لا يحتمل الترديد والإسهاب.
إن من القسوة العنيفة أن يقول قائل عن الأستاذ سيد قطب أنه قد بعد في كتابه عن منهج الإسلام، وهو الداعية البصير الذي تشرب روح الإسلام، وفهم دقائق التشريع، ورسم خطوطا واضحة يترسمها الشاب المتوثب للنهوض والعزة في ضلال الدين الحنيف، وكان بجهاده الميمون رائد جيل، ومنقذ نفوس، وداعية إصلاح.
أعلمت أشرف أو أجل من الذي ... يبني وينشئ أنفسا وعقولا
محمد رجب البيومي(973/31)
رسالة شعر
اللحن الثائر
للشاعر السوداني محي الدين فارس
إلى أخي في الشمال. .!
إلى أخي في الجنوب. .!
إلى كل وطني حر آمن بالنور. . وكفر بالظلام. .!
إلى موكب الحرية الحمراء أزجي هذا اللحن الثائر.
يا شرق. يا محراب آمالي، وأحلامي وفني. .
في ليلك الباكي نسجت ملاحمي وملأت دني. .
وسكبت خمري للظلماء هناك في الليل الدجني
الغازلين من الدموع غلائل القصر الأغن!
الكادحين هناك في الليل المحجب بالغيوم
الشاربين مرارة الأيام في السجن المقيم
الفأس في يدهم نشيد هز أسماع النجوم
غرسوا النعيم. . وما جنوا منه سوى خمر الجحيم!
يا شرق يا مهد الحضارة والثقافة والفنون
يا حانة الأرواح تجري كوثر الخلد الرزين
عبرتك شتى الفلسفات وأنت مثواها الأمي
تسمو على مر الدهور فمثل تاجك لا يهون
إن فاخروا بشريعة الغابات في جنح الليالي
وهناك في السودان. في الوادي المقدس في القنال
سنعب من دمهم ونحملهم على نعش الزوال
ونطهر الوادي من الأصنام، من عبث الظلال
سنظل نشدوا محاريب الهوى لحن الإخاء
سنظل نعلي بالكفاح الحر ألوية السماء(973/32)
سنظل نعصف كالرياح الهوج في ركب العداء
حتى يؤوب إلى دجى الأدغال في ذل الإماء
يا أمس يا دنيا المواجع والشقاوة والسأم
يا مسرح الزمن الخؤون المنتشى بدم الرمم!
وليت ملعون الخطى وغفوت في حضن السدم
وغدت نهيل عليك ليل الموت أجنحة العدم
الوعي يقظان وقافلة الحياة على الدروب
هتكت حجاب الليل بالنور المجنح في القلوب
فبدا لها الهدف البعيد يرف كالشط القريب
فهفت إليه. . كالفراش. . إلى ينابيع الطيوب
قد آن للفجر المجنح أن يضوي للنسور
قد آن للفجر الموشح بالوضاءة والزهور
أن يملا الوادي بألحان الخلود وبالحبور
بمواكب البشرى تهز مسامع الأبد الكبير
محي الدين فارس(973/33)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
عميد الأدباء في الهواء الطلق
قضى في الوزارة عامين قدم فيهما العلم إلى جيل بأكمله من الناشئين، ويسر مصاعب الحياة لجمع كبير من خيار المواطنين هم الأساتذة والمربون، ولقي هو في سبيل ذلك من المتاعب والعناء ما لا ثمن له عند مثله إلا انتعاش النفس لما ينال المجموع من خير.
كان طه حسين قبل أن يلي الوزارة كاتبا بيدي الرأي ويدعو إلى العمل، ثم ولى الوزارة فأشفقنا عليه مما كتب، إذ خشينا أن يكون من العوامين على البر، وإذا هو في البحر يضرب أمواجه بذراعي جبار. . كان طه حسين الكاتب الناقد رقيبا على طه حسين الوزير العامل. . ويخيل إلى أن الوزير كان يخشى في نفسه الكاتب ويفرق منه أشد الفرق حين أوغل في القسوة على نفسه ومنع تقرير كتبه في المدارس وكان كثيرا منها مقرراً من قبل.
يكتب طه حسين ويحاضر فينفع الناس، ويتولى المناصب فينفع الناس، حتى حين يقصد إلى شيء من الترويح عن نفسه بالسفر إلى الخارج نراه ويراه العالم سفير مصر الأدبي ونديد الأساطين في إشعاع الفكر فينفع الناس.
قال لي مرة وقد أقبلت عليه لأتزود منه بحديث لقراء (الرسالة): أتريد حديثا يطرف القراء أم تريد كلام جد؟ قلت له أريد حديثا يطرف القراء! فابتسم، ثم تحدث إلى فلم يكن في حديثه غير الصدق وغير الإمتاع. . فحين قلت له ما قلت كنت أعلم أن كل ما يقوله طه حسين طريف لا يخرج عن الجدو والصدق، وكل ما يجد فيه من القول لا يتجرد من الطرفة والإمتاع.
إن من خصائص عميدنا الاندماج الكلي فيما يتعرض له، وقد اندمج هذين العاملين في التيسير على المتعلمين والمعلمين، ولم يعبا بقلة (الأوكسجين) في هواء الوزارة، ثم ترك الوزارة فأحس بهبوب الهواء الطلق على نفسه، وسندعه يشبع رئتيه من هذا الهواء، ندعه قليلا لنتوقع منه بعد ذلك الكثير. . .
الثقافة تنتقل إلى المتخلفين:(973/34)
أنشئت الجامعة الشعبية كي تنتج الفرص لمن تخلفوا عن قطار التعليم في إحدى المحطات. . ومدت يدها إليهم تعينهم على السير واللحاق بالركب. ومضت بهم قليلا وهم فرحون بانتسابهم إلى الجامعة ثم هب عليهم غبار من نوع معوقاتهم الأولى. إذ قيل: جامعة! وما الفرق إذن بين الجامعيين وبين الشعبيين؟ حتى الاسم استكثروه عليهم. . فليكن أسمها (مؤسسة الثقافة الشعبية) كما أطلق عليها منذ سنوات.
لا يهم الاسم ما دامت القافلة تسير، وقطعت القافلة أشواطا وأخيرا تلفتت. . قطعت أشواطا بمن جاءوا إليها، ولكن هل هؤلاء كل من فاتهم القطار؟ تلفتت تنظر فإذا محطات التخلف لا تزال عامرة، فما كل من فيها يستطيع أن يقصد إلى المراكز الثقافية، وقد يستطيع ولكن يتكاسل. فكرت المؤسسة بأمر هذه الآلاف المتخلفة القاعدة، فرأت أن تنتقل هي إليهم في قراهم بالأقاليم وفي أحيائهم بالمدن. فوضعت مشروعا لذلك يعتمد على وسيلتين:
الأولى مكتبات متنقلة تحملها سيارات تعد أعدادا خاصا بحيث تصبح - بفتح بابها حيثما وقفت - مكتبة مفتوحة، فيستعير منها من يشاء لقاء (تأمين) زهيد لا يبلغ نصف ثمن الكتاب، وقد تغري المستعير قلة ما يدفعه ويروق في عينه الكتاب وليكن، وتحتمل المؤسسة الفرق بين الثمن والتأمين في سبيل تأدية الرسالة الثقافية. .
وتستمد المكتبات الطوافة من المكتبات مركزية تقام في قواعد تختار لها، وتؤدي هي أيضاً رسالتها كمكتبة عامة في مكانها، وتحتمل المكتبات الطوافة إلى كل جهة ما يناسبها من الكتب، وتصحبها آلت للعرض السينمائي الثقافي لتكون وسيلة اجتذاب الجمهور، إلى جانب الغرض الأساسي من موضوعها.
أما الوسيلة الثانية فهي كتب دورية (شهرية أو أسبوعية أو غير ذلك قدر الإمكان) تعهد المؤسسة في تأليفها إلى مؤلفين من غير موظفيها تكلفهم بتأليفها في موضوعات حيوية على أن يقصد بهذه الموضوعات أما تنمية المعلومات الثقافية العامة، أو الإرشاد والتوجيه في ناحية من نواحي الحياة العملية، وتوزع هذه الكتب على من يطلبها بثمن أسمى يغري بطلبها.
ذلك هو مشروع مؤسسة الثقافة الشعبية التي تريد أن تنقل به الثقافة إلى الناس في بيوتهم وفي مقار أعمالهم والذي يشتغل الآن بوضع خططه الأستاذ علي عزت الأنصاري بك(973/35)
المدير العام للمؤسسة.
إلى رفعت علي ماهر باشا
وأريد أن أسوق الحديث بعد ذلك عن الموضوع السابق إلى حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس الوزراء:
قرأنا ما أدليتم به إلى الصحف في الماضي من إنكم توجهون اهتماما كبيرا إلى مسألة التربية الشعبية، التي هي القاعدة الرئيسية للعمل المنتج والصالح لخير البلد وأهله، والتي تبعث في كل شخص روح الكبرياء القومي. . . إلى أن قلتم إنكم أصدرتم إلى محطة الإذاعة اللاسلكية المصرية تعليمات مشددة بأن تساهم بنصيب كبير في تربية الذوق السليم وإنماء الروح المعنوية القومية.
ليس هذا جديدا علينا منكم يا رفعة الباشا، فنحن نذكر جهودكم في إنماء الثقافة في مختلف العهود التي توليتم فيها الوزارة، نذكر من تلك الجهود ما قمتم به في سنة 937 - على ما أذكر - من تنظيم المسابقات للنشيد القومي، وللكتابة في موضوعات أدبية فكرية كرسالة الجامعة والأزهر وغيرهما في القرن العشرين.
فنحن إذن نعلم إنكم مؤمنون كل الإيمان بأثر الثقافة في التربية الشعبية، ولعلكم ترون الموضوع الذي عرضته قبل هذا، وخاصة ما تقترحه مؤسسة الثقافة الشعبية من إصدار كتب دورية يمكن اتخاذه وسيلة إلى التربية الشعبية التي توجهون إليها عنايتكم، فلا تكون المسألة قاصرة على الإذاعة، بل تتناول هذه المؤلفات التي تفكر المؤسسة بموضوعها، فتولونها عنايتكم وإرشادكم لكي تقوم بنصيبها في تحقيق هذا الغرض.
الإعداد للمؤتمر الثقافي الثالث
كان المؤتمر الثقافي العربي الثاني الذي انعقد بالإسكندرية في صيف سنة 950 - قد قرر أن تؤلف لجنة برئاسة معالي الدكتور طه حسين باشا. . . بصفته الشخصية. . . للإعداد للمؤتمر الثقافي العربي الثالث، وكان معاليه قد تحدث في ختام ذلك المؤتمر إلى الوفود العربية محييا لهم معتذراً من تقصير مصر في إكرامهم، معربا عن رغبته في أن يكون اجتماع المؤتمر الثالث بمصر أيضاً كي تستطيع أن تقوم بما ينبغي عليها نحو أبناء(973/36)
الشقيقات.
ومنذ أسابيع أخذ معالي الدكتور طه حسين باسا في العمل وإعداد ما ينبغي لتنظيم المؤتمر الثالث، ثم استقالت الوزارة السالفة وجاءت الوزارة الحالية التي ولي فيها وزارة المعارف معالي الأستاذ محمد عبد الخالق حسونة باشا، فكتب إلى معالي الدكتور طه حسين باشا ليمضي في الإعداد للمؤتمر.
وأستأنف العميد العمل في هذا السبيل، فدعا اللجنة التي ألفت للإعداد للمؤتمر إلى الاجتماع، فاجتمعت يوم السبت بدار مجمع فؤاد الأول للغة العربية برآسة معاليه، وحضرها مندوبو مصر وباقي الدول العربية، وهم الأستاذ محمد سعيد العريان والدكتور سلمان حزين بك (عن مصر) والدكتور بديع شريف (عن العراق) والدكتور مدحت جمعة بك (عن المملكة الأردنية) والأستاذ مدحت فتفت (عن لبنان) والدكتور زكي المحاسني (عن سوريا) والسيد علي الآنسي (عن اليمن)، ولم يحضر مندوب المملكة العربية السعودية، ومثل الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية الأستاذان سعيد فهيم وعلي عبدة.
ونظرت اللجنة في الزمان والمكان الذي يجتمع فيهما المؤتمر، وتناول البحث الوقت الصالح لمجيء الوفود إلى مصر من حيث ملاءمة الجو، فتقرر أن ينعقد المؤتمر بدار الجمعية الجغرافية في القاهرة في الأسبوع الثالث من شهر ديسمبر سنة1952، وهو وقت ملائم من عدة وجوه، منها أنه أوان العمل والنشاط في المعاهد والهيئات الثقافية وغيرها، ويستطيع الضيوف أن يطلعوا على مختلف النواحي وتنظم لهم الرحلات إلى هنا وهناك فيطالعوا أوجه النشاط المختلفة في أحسن أحوالها.
ونظرت اللجنة بعد ذلك في الموضوعات التي قرر المؤتمر الثاني أن تكون موضع دراسة المؤتمر الثالث، وهي - بعد أن نظمتها وصفتها اللجنة الثقافية التي عقدت في الصيف الماضي بالإسكندرية: -
1 - طبع التعليم في مختلف البلاد العربية بالطابع القومي الذي يقوم على خصائص الثقافة العربية وخير ما في الثقافات الغربية. وقد تقرر تكوين لجنة من الأستاذة سعيد العريان وبديع شريف ومدحت فتفت والملحق الثقافي بمفوضية المملكة الأردنية - لبحث مناهج التعليم والكتب الدراسية المقررة في الدول الأعضاء لمواد اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا(973/37)
والتربية الوطنية لبيان مدى ملاءمتها لتحقيق الغرض من هذا الموضوع وهو طبع التعليم بالطابع القومي. . الخ، وبيان صلة ذلك بما قرر المؤتمر الثقافي العربي الأول من القدر المشترك الواجب تدريسه لكل تلميذ من تلاميذ البلاد العربية في هذه المواد. ولوحظ في أثناء بحث هذا الموضوع إن مصر في الوقت الحاضر بصدد وضع مناهج جديدة تطبيقا لقوانين التعليم الأخيرة، وفي ضوء ما يسفر عنه تقرير اللجنة بعد استيفاء وسائل الاتصال بوزارات المعارف يكون بحث المؤتمر في هذه المسألة.
2 - تحقيق الوحدة اللغوية في المجتمع العربي حتى تصبح اللغة الفصحى لغة العلم والحياة معا، ورؤى أن هذا الموضوع يستحق أن يلقي فيه بعض الأعضاء بحثا يتتبع فيه مدى رقي الفصحى في البلاد العربية وتطورها تبعا لانتشار التعليم، مع القصد إلى بحث موضوع تيسير تعليم العربية في ضوء المشروع الذي أعده مجمع فؤاد الأول للغة العربية من نحو عشر سنوات لتيسير تعليم قواعد العربية.
3 - نشر الثقافة بين الكبار. تألفت لجنة هذا الموضوع من الأساتذة سعيد العريان وبديع شريف وزكي المحاسني، واقترح معالي الرئيس أن ينظم إليها الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك باعتبار تخصصه وتجربته في هذا الموضوع.
4 - تعميم التعليم الأساسي كوسيلة من وسائل مكافحة الأمية وقد رؤى أرجاء النظر في هذا الموضوع إلى أن تتبين نتائج التجارب المختلفة التي تجريها فيه (اليونسكو) بمصر.
5 - بحث موضوع الكتاب المدرسي: يدخل بعض هذا الموضوع في نطاق البحث الذي تقوم به اللجنة المؤلفة للموضوع الأول
6 - النظر في مدى تنفيذ ما اتخذ في المؤتمرين السابقين من قرارات، وسيدلي كل وفد من وفود الدول الأعضاء بموقف وزارة المعارف في بلاده من هذه القرارات.
وستوالي اللجان التي ألفت لبحث بعض موضوعات المؤتمر اجتماعاتها على أن تفرغ من عملها قبل أول مايو القادم، ثم تجتمع اللجنة الإعدادية للنظر في أعمال اللجان الفرعية.
عباس خضر(973/38)
الكتب
السنوسية دين ودولة
تأليف الدكتور محمد فؤاد شكري
للأستاذ محمد محمود زيتون
(درج الكتاب من الإفرنج على اعتبار السنوسية إحدى الطرائق الصوفية فحسب، وانبرى الطليان من سنوات مضت يعملون لتعزيز هذا الاعتقاد بكل الوسائل، يحدوهم إلى ذلك الأمل في صرف أذهان سواد الناس عن التفكير في أصول السنوسية الحقة والتسليم بأنه ما دامت السنوسية طريقة من الطرق الصوفية فهي بعيدة كل البعد عن العناية بغير شؤون الدين، بل ولا يحق لها أن تعمل لمطالب الحياة والدنيا، ووجه الخطر في هذا الاعتقاد - إذا رسخ في الأذهان - ظاهر واضح، ذلك بأنه يحرم السنوسية - كنتيجة منطقية في النهاية - من التطلع إلى الحكم وتشييد صرح الدولة الإسلامية العتيدة، تلك الدولة التي جاهد الليبيون سنوات طويلة من أجل إرساء قواعدها في ليبيا، ومع ذلك فقد فات الطليان ومن حذا حذوهم أن الإسلام لا يعرف تفرقة بين شؤون الدين والدنيا، ولا يفصل بين العقيدة والدولة. وما كانت السنوسية في أدوار تاريخها الحافل (طريقة) تقصر اهتمامها على شؤون العبادة من غير نظر في أحوال الشعوب التي أخذ (الإخوان) السنوسيون على عاتقهم إرشادها حتى تتحرر من قيود الجهالة وتنعم بهدى المعرفة).
بهذه الفقرة يفتتح المؤلف تصديره لكتابه الذي نقدمه للقراء في هذه الفترة التي تلفت الأنظار إلى المملكة الليبية الناهضة كثمرة الدعوة السنوسية في هذا القطر الشقيق.
وتقديم هذا الكتاب إنما هو تعريف بتاريخ النضال الذي اضطلع به هذا الشعب المسلم المجاهد الذي طرح عن كاهله نير العبودية في قوة وجلد، فما أوهنت عزائمه تقلبات العثمانيين، ولا فتت من أعضاده فضائح الطليان ودسائس الألمان ومخازي الفرنسيين والإنجليز.
وثمة ميزة أخرى لتقديم هذا السفر للقارئين في هذا الوقت: ألا وهي التنويه بحلقة من سلسلة الجهاد في سبيل (الجامعة الإسلامية) التي شغلت ولا تزال تشغل قادة الفكر(973/39)
الإسلامي في العصر الحديث، وانطوت صحائف، وما يزال هؤلاء القادة في مكان الصدارة من التاريخ المجيد، فضلا عن اعتزاز بلادهم بمآثرهم الإسلامية التي لا تنسى.
أما ليبيا التي نعتز اليوم بنهضتها فإنها خضبت تراب بلادها بدماء الشهداء لا من أهلها فحسب؛ بل من المتطوعين من شتى الأقطار الإسلامية، كما أن كثيرا من المصريين بصفة خاصة كان لهم سهم وافر في هذا الجهاد الصادق، وما يزال الليبيون على ذكر من الأعمال التي قام بها عبد الرحمن عزام، وصالح حرب، وعزيز المصري، وعبد المنصف محمود، والمرحوم محمود لبيب، الذين خاضوا غمار المعارك الدموية، مؤمنين باليقظة الإسلامية، والوحدة العربية، والحرية والاستقلال، تحت ظلال السيوف، كما أن الأمير عمر طوسون - عليه رحمة الله - كان جم النشاط في جمع المال اللازم لحركة الجيران المناضلين عن دينهم وشرف الوطن.
والدعوة السنوسية امتداد مستقيم للدعوة المحمدية التي جوهرها تنوير الأذهان وتحرير الأوطان، وقد اقتضت الظروف التي حاقت بالدول الإسلامية في القرن الماضي يقظة فكرية شاملة، ترسم أصحابها خطى النبي المصلح، فلما صدق العزم، تبين الرشد من الغي، واتضحت السبل والأساليب، ذلك بأن الإسلام مصحف ومنبر، سيف وكتاب، عبادة وقيادة، عقيدة وشريعة، رهبانية وإرهاب، وبالجملة دين ودولة، لهذا كانت السنوسية طريقة ودعوة وغزوة، وما زالت تمضي في سبيلها المرسوم من نظام اجتماعي إلى جمهورية فإمارة ثم ملكية.
ولد زعيم السنوسية الأول السيد محمد بن علي السنوسي بالجزائر سنة 1787ونشأ في بيئة علم وفضل، وتنقل في الأقطار الإسلامية مقتبسا من مناهل العلماء مناقشا وفاحصا وقد صقل التصوف من عنفوان شبابه ولكنه لم يحد من نزعته الصادقة إلى (إحياء الملة الإسلامية وتوحيد الصفوف في العالم الإسلامي للنهوض بالدين الحنيف نهضة صحيحة قوية) وأخذ يتزود من العلم ويمنحه للطالبين في يسر ومضاء حتى ذاع صيته وأوجست منه خيفة شتى العناصر الجامدة في فاس والقاهرة وصار (خطرا على الأمن العام) وألصقت به التهمة المأثورة (محاولة قلب نظام الحكم) فأصابه أذى كبير من الولاة والمشايخ، وبانتقال الداعية الإسلامي الكبير إلى برقة بدأ (الإخوان) ينشئون الزوايا بمثابة(973/40)
المركز العام لهذا النشاط الذي دوخ الاستعمار.
على أن السنوسية لم تكن دعوة لتطهير الدين من البدع والخرافات فحسب، بل تعدت هذا النطاق إلى تحرير الرقيق من أهل (واداي) فكان سلطانها محمد شريف يشتري هؤلاء الأرقاء ويعلمهم في الزوايا ثم يعتقهم ويبعث بهم إلى أهليهم لينشروا الإسلام في الزنوج والوثنيين.
وليبيا الواقعة حينذاك في نطاق الخلافة العثمانية لم تنس حقيقة هذا الدين المتين فتمسكت بأهدابه، وعندئذ رأى العثمانيون في السنوسية عاملا من عوامل الدعاية لهم، فاستعانوا بالسنوسي الكبير على بث روح الألفة بين الناس، ونشر السلام بين ربوع البلاد، وسار ولاتهم في ركابه كلما انتقل في البلاد إلا أنهم ما لبثوا أن قلبوا له ظهر المجن عندما بدأت السلطات العثمانية (تخشى من سلطان السيد في الجهات التي أنشئت فيها الزوايا وكثر بها الإخوان والأتباع والمريدون) وعملوا على زعزعة مكانته في نظر المسلمين حتى ناهضته العناصر الرجعية بالأزهر، فلم يثنها ذلك عن المضي قدما.
ولما توفي السنوسي الكبير سنة 1859انتقت الإمارة إلى ولده المهدي الذي أخذ على عاتقه إتمام ما بدأه أبوه فزاد عدد الزوايا وتوغل في الصحراء الكبرى، وأوجد بها مراكز لتعليم الرماية، فاتهمته فرنسا وتركيا وإيطاليا بتعطيل مصالح الاستعمار والتعصب ضد المسيحية واغتيال المكتشفين للصحاري. وتوفي المهدي في أول يونيو سنة 1902وخلفه الشاب السيد أحمد الشريف حفيد السنوسي الكبير فواصل الجهاد ضد الفرنسيين وصمد لهم على الرغم من تخلي العثمانيين عنه حتى أسلم القيادة إلى ابن أخيه الراشد إدريس.
وفي سبتمبر سنة 1911قطعت إيطاليا علاقتها بتركيا، فأغار الطليان على برقة وطرابلس. فبدأت السنوسية صفحة عريضة من نضالها الشعبي الذي دام ثلاثين عاما، وتحققت الجامعة الإسلامية بصفة عملية في تدفق المؤن والذخائر والمال والرجال على ليبيا من مصر والسودان والعراق والشام وتركيا، وقام صالح حرب بدور جريء إذ انقلب على الإنجليز ودافع عن مقدسات الشعب الليبي، كما أبلى البطل الشهيد عمر المختار أحسن البلاء حتى وقع أسيرا في أيدي الطليان الذين حاكموه صوريا وأعدموه رميا بالرصاص.
وما إن اندلعت شرارة الحرب العالمية الثانية حتى تقدم الجيش (الإنجلو نوسي) لطرد(973/41)
الألمان والطليان من ليبيا وتأمين الجناح الأيسر لمصر، وقد سجل الأمير إدريس السنوسي في هذه الخطوة لنفسه ولبلاده شرف المجاهد والسياسي العامل على تحقيق استقلال بلاده.
وإذ وضعت الحرب أوزارها دأب السنوسي على ضم الصفوف فبويع بالإمارة على الأقطار الليبية: برقة وطرابلس وفزان، حتى نودي به ملكا على مملكة مستقلة لم يكف عزام عن سرد قضيتها على الرأي العام والسعي في انضمامها إلى هيئة الأمم المتحدة وبالتالي إلى جاراتها أعضاء جامعة الدول العربية.
هذه هي قصة السنوسية كما عرضها الدكتور محمد فؤاد شكري في كتابه القيم (السنوسية دين ودولة) الذي بذل فيه جهودا جبارة في سبيل التحقيق العلمي، فجاء عمله مثلا طيبا للمنهج التاريخي الذي وضع دعائمه الأولي ابن خلدون. فقد تجنب السرد المضل. وعمد إلى التحليل والاستقراء، وليس أدل على ذلك من فصل (الإمارة السنوسية) الذي خصصه لتفصيل دعائم هذه الدعوة وهي أصول دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية.
ومما يجدر بنا الإشارة إليه - كآخر أصل سياسي للإمارة السنوسية - (تلك الوصية التي تركها السيد رحمه الله بإسناد رئاسة الطريقة السنوسية إلى الأكبر الأرشد من الأسرة السنوسية. ثم نظامك البيعة) وما نعلم مطلقا أن للبيعة في الإسلام كتلك المراسيم التي ننكرها على الطقوسيين، فهل من الإسلام أن البيعة تستتبع تقليد المبايع سيفا ومنحه كتابا وإلباسه جردا، وإعطاءه مسبحة، وإقامة صلاة ومصافحة (فكانت هذه الصلاة وهذه المصافحة بمثابة المبايعة له بالإمارة من بعده؛ وأجمع الإخوان وكبار السنوسية وشيوخها على قبول هذه الإمارة في حياة والده ثم بعد وفاته، وعلى ذلك فكأنما جمعت السنوسية في نظام الحكم بين مبدأ الوراثة والصلبية والعمل بمبدأ الشورى وحققت في هذا النظام بعض شروط الإمارة). وينزع المؤلف إلى منطق التبرير الذي نراه يباعد بينه وبين منطقه المنهجي إذ يقول (ومن المعروف أن الشورى كانت ركنا من أركانها، والواقع أنه لم يكن هناك مناص من هذه (البيعة) الإسلامية باعتبارها أصلا من الأصول التي قام عليها (بيت) شريف ينتهي في نسبه القرشي إلى الرسول الكريم). . . كذا. .
هذا ولا ننكر على المؤلف هذه الطاقة العلمية التي جعلته - في سبيل التحقيق والتحليل - يعتمد على أوثق المصادر، ولا سيما الإيطالية بعد أن ترجمها له أصدقاؤه من الليبيين(973/42)
أنفسهم فذللوا أمامه كل عسير، ثم هو يعتمد على رواية المعاصرين ممن أسهموا في النهضة الليبية بأوفر سهم، وصدق الشاعر (فما راء كمن سمعا). والكتاب من منشورات دار الفكر العربي، تلك الدار التي لا تفتأ تزود المكتبة العربية بالمؤلفات القيمة، وترمي دواما إلى هدف رفيع، وغاية نبيلة، خدمة للقضايا العربية والإسلامية متخير لذلك العقول الكبيرة والأقلام الرفيعة، فصدر الكتاب في 424صفحة من القطع الكبير والطبع الأنيق وثمنه خمسون قرشا.
وإنه ليحق لكل درس قومي أن يفخر باقتناء هذا السفر، وإلى مثل هذا الجهاد التأليفي ندعو الباحثين في قومياتنا ونهضاتنا آملين الظفر - في آخر الأمر - بمؤلفات عريقة، ودراسات دقيقة كهذا الكتاب
محمد محمود زيتون
توجيهات نبوية
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
للسيدة وداد سكاكيني
كانت هذه التوجيهات آخر ما نشر الأستاذ الجليل عبد المتعال الصعيدي من علماء الأزهر المجددين وقد ضمنها أربعين حديثا محمديا صحيحة السند موثوقة المتن والنقل، اختارها المؤلف ملائمة لروح العصر وتوجيه أهله في الدين والعلم والاجتماع. ولعلنا أحوج ما نكون في محنة الأيام إلى هذا التوجيه المحمدي الذي دعا إليه الرسول أو قام به ليكون قدوة تحتذي وسنة تتبع، ففي كل عصر من العصور غمرة فساد وموجة طغيان ينهض لصد شرها ودرء عواقبها أهل الصلاح والإصلاح ممن آتاهم الله علما وفضلا.
وهل كان شيء أجدى على الإنسانية الحيرى وأهدى في ردها إلى سواء السبيل من أحاديث الرسول وتوجيهاته التي كان يبصر بها الناس ويقيهم الانحراف والعثار، وقد جعلها لهم دستورا رافدا لتعاليم القرآن ونيرا للأمم في حياتها الاجتماعية ولقد قسم المؤلف هذه الأحاديث الأربعين إلى فصول صغار شرح فيها الكلمات شرحا لغويا وإعرابيا، ثم بسط الغاية منها بسطا وافيا، فكأنه يلقيها من على منبره في كلية الأزهر التي أسندت إليه(973/43)
تدريس الحديث في جملة عمله الجامعي.
والأستاذ الصعيدي ذو دأب وتجديد في التأليف بالأدب والدين، لا لطلابه فحسب، بل لجمهور المثقفين بمصر وبلاد العرب، فهو إذا عرض دراساته إليها لم نجد كفايته وإتقانه مقصورين على هذه الدراسة، إذ نراهما يتناولان جذور البحوث الدينية فتجيء مشبعة بالتحليل والاستقراء.
ففي كتابه توجيهات نبوية أو محمدية يبلغ المدى في فهم الحديث على الوجه الذي فهمه الصحابة فيه، ويقرر خلال الدرس والبحث نواحي المقارنة والمطابقة دون استطراد ينحرف بالقارئ أو تفصيل يضيق به كما اتفق لكثير من الشروح الدينية في زماننا. وأطرف ما وجدت في هذه الأحاديث تحليل المؤلف لحديث النهي عن سبب الدهر، ولعل الدهر لم يتحمل سبايا مثلما تحمل في زماننا، فالأفراد يلومونه ويرمونه بالجور والعدوان، والجماعات تعزو إليه أسباب الفشل في الحياة، ولو جمعنا شعر العرب من امرئ أتقيس إلى شوقي لأتينا على شعر لا يحصى في سب الدهر وملامته، ناهيك ما عند المعري من ذلك.
والنادرة الجميلة في هذا الحديث - إن صح أن يكون في الأحاديث نوادر - ما أورده المؤلف حفظه الله من تعليل لهذا الحديث وهو حث الإنسان على الرضى بما يصيبه في الدهر وعلى عدم الشكوى فيه من الدهر.
وقد علل وجود الشكوى باعثا على اليأس، نعم إننا قد نيأس لأن اليأس مخلوق في غرائزنا وشعورنا، فالطفل الرضيع يمارس اليأس دون فكر، والكبير يمارسه بفكر أو بفلسفة، ولا مناص منه للإنسان ليجد الرجاء ويفتح باب الأمل بمحاربة القنوط، غير أن العلة في النهي عن سب الدهر كالعلة في النهي عن اليأس. ولليأس درجات أنكرها وأقصاها ما نهى عنه القرآن.
كذلك نجد في هذه التوجيهات المحمدية ضروبا من الأحاديث الملائمة لعصرنا وأهله، فيها أدب وثقافة، وفيها هداية ووقاية، وقد فقد المؤلف باختيارها وشرحها إذ وضعها في قنديله، فشعت بنورها الجميل.
وداد سكاكيني(973/44)
البريد الأدبي
بريد الرسالة الأدبي:
تنظر طائفة من الناس إلى (البريد الأدبي) للرسالة على أنه هامش لا يجدر بهذا الاحتفال الذي يتمثل في التعقيبات المختلفة ما بين نحوية وصرفية ولغوية إلى تصحيح رأي، ونقد فكرة، والواقع الذي لا مرية فيه أنه باب حافل خليق بكل عناية، فأقل ما يقال عنه أنه حرب على الأخطاء الشائعة التي يخشى منها ومن مثيلاتها على اللغة العربية الفصحى التي نسعى جاهدين في صيانتها والحفاظ عليها، ولا أعتقد أن واحدا من المعقبين يقصد إلى التشهير بالمخطئ، أو الزراية باللاحن، ولا تعنيه (زبدة البحث وعصارة المقال) بمقدار ما يستهويه تسقط اللحن، وتعقب الأخطاء.
الرسالة مدرسة خالدة رصدت نفسها منذ نشأتها إلى الذود عن لغتنا الحبيبة، والدفاع عنها في شتى النواحي والأبحاث. واللغة العربية في محيطها مجموعة من الألفاظ السلمية القويمة، ونحن نريد أن نقيم الحواجز بينها وبين الدخيل الذي يحسب منها وهو شوكة في جنبها، لا يفتأ يخزها في مقال الكاتب، وخطبة الخطيب، وعلى لسان المتحدث. وإن تعجب فعجب أن نرى الأستاذ المنيفي في العدد (971) من الرسالة يخذل عن هذه المهمة، لأن تصويب الأخطاء الشائعة الشائهة (كما يقول) (عسير الهضم على أفكار الأدباء والكتاب، لأن الكلمة قد أخذت مدلولها بين المتكلمين، بيد أن تصحيحها لا يضفي عليها معنى جديدا، أو زيادة مستحدثة). وأعتقد أن عسر الهضم، ومشقة الإساغة وضيق الصدر، كل أولئك يهون في سبيل الحرص على سلامة اللغة وصونها من العبث. كان أولى أن يحمد للباحثين في المعاجم صنعهم، فهم يقدمون له ولغيره البيان الشافي فيما يرتاب فيه، وليس ضئيلا أن يضيف إلى معلوماته في كل عدد طائفة أخرى من الألفاظ المنخولة المنقاة. . إننا نخشى أن تفتح الثغرة للدعي من الكلمات، فلا يحجزه إلا أن يبارك الله (البريد الأدبي) وينسأ في أجل (الرسالة) الحبيبة، ويزايل الغضب من النقد البريء صدور الناس، فلا يضيق كاتب بتوجيه، ولا ينكل قارئ عن بيان، ولا يستنكف أستاذ عن تعلم، وتلك هي أهداف الرسالة التي تجمع على الحق قلوب الأدباء، وتشيد على المحبة صرح المجتمع، وتدفع في صراحة وقوة عن مجد العروبة.(973/46)
محمد محمد الأبشبهي
اعتذار وشكر:
نشر بالعدد الماضي تحيتان للرسالة بمناسبة عامها الجديد إحداهما من الحجاز والأخرى من العراق وقد اشتملتا على قدر عظيم من جميل الرأي وحسن الظن في الرسالة وصاحبها. وقد لعودنا في الماضي الطويل ألا ننشر شيئا مما يشبه ذلك. ولو أننا سنناه لكان من موجبات الذوق أن ننشر عشرات الرسائل التي تفضل بها علينا كرام القراء في هذا الموضوع. لذلك نعتذر من نشر ما نشر ومن طي ما لم ينشر، شاكرين للسادة الكتاب والشعراء حسن تقديرهم وفضل تشجيعهم.
لمن هذا الشعر
جاء في (نديم الخلفاء) من سلسلة اقرأ الصادر في فبراير سنة 1952للأستاذ عبد الستار أحمد فراج قوله: شرب الحسين ابن الضحاك يوما عند إبراهيم بن المهدي فجرت بينهما ملاحاة في أمر الدين والمذهب فدعا له إبراهيم بن المهدي بنطع وسيف وقد أخذ منه الشراب فأنصرف وهو غضبان فكتب إليه إبراهيم يعتذر ويسأله أن يجيئه فكتب إليه الحسن: -
نديمي غير منسوب ... إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشر ... ب فعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكأس ... دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الخمر ... مع التنين في الصيف
وأقول: قد قرأت كثيرا في كتب التصوف وفيها هذه الأبيات بنصها منسوبة إلى الحسين بن منصور الحلاج الصوفي الشهير، وفي ترجمته في الطبقات الكبرى للإمام الشعراني: -
قال أبو العباس الرازي كان أخي خادما للحسين بن منصور قال فسمعته يقول لما كان الليلة التي وعد من الغد بقتله قلت يا سيدي أوصني قال: عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك. . . فلما كان من الند وأخرج للقتل قال: حسب الواحد إفراد الواحد له ثم خرج يتبختر في قيده يقول:(973/47)
نديمي غير منسوب ... إلى شيء من الحيف
ثم قال: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) ثم ما نطق بعد ذلك بشيء حتى فعل به ما فعل!
تباين عجيب وفرق شاسع بين صاحب همزية في وصف الخمر وهذا العالم الرباني الفريد.
وإلى أن يبين لنا الأستاذ عبد الستار فراج مرجع روايته نرجى الكلام في هذا الموضوع.
محمد منصور خضر
استفهام
في العدد الممتاز من الرسالة (966) لسنتها العشرين، وفي مقال الأستاذ عبد القادر المغربي (من مشاهد الهجرة ما فيه روعة وعبرة) وفي الصفحة التاسعة، وفي السطر الخامس والعشرين من العمود الأول. يذكر لنا فضيلة الأستاذ الجليل أن سن الرسول كان عند دخوله المدينة المنورة نحو الخمسين. إذ يقول (فإذا لحيته الشريفة سوداء ليس فيها شيب. مع أنه أكبر من أبي بكر بثلاث سنوات وكان النبي في نحو الخمسين من عمره).
وأنا أعلم أن الكثرة الساحقة من الرايات تنص على أن الوحي تنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، وسنه أربعون، وأنه أسر بالدعوة ثلاثا، وجهر بها في مكة عشرا ثم هاجر بعد ذلك، فما الحكمة في أن يذهب الأستاذ الجليل في مقاله الرائع القيم هذا المذهب؟
عبد الحافظ عبد المجيد كسبة(973/48)
القصص
انتقام الأميرال
للقصصي الفرنسي أرنست دوويه
كان القصر العتيق يجثم كالحصن الجبار فوق صخرة عظيمة هائلة على سيف البحر. وكانت الشمس حينذاك تضيف للغروب وتنحدر رويدا من شارف السماء، إلى ما بين الأفق والماء. وقد سالت حولها أباطح الدم، وارتسم على جبينها الكلال والابن. ويشرف القصر أيضاً على الطرق الممتد إلى (برست) وعلى قارعة هذا الطريق تقع الميناء وقد أطلت من وزرائها سواري السفن ومداخنها مصبوغة بألوان الشفق الزاهي الجميل. . . ومن نوافذ القصر الضيقة بان البحر كأنه بساط من سندس وإستبرق تجري عليه السفن بقلاعها التي يهددها نسيم الأصيل فتتموج، وتداعبها الرياح الخفيفة فتترجرج. . . وتعلو من القصر المنيف قباب وأبراج شامخة في الفضاء تتحدى الزوابع العاتية والعواصف الهوجاء. . وتحف أغصان الأشجار اللفاء الوارقة بجدران تحركها الرياح العواتي فتبدو كضفائر جافة خشنة لطيف امرأة تضرب فزعا في الليل المدلهم. . . وعندما غسق الليل وأجن الكون في مسوحه الطاخي الأسحم، أترعت السماء سحاب ثقال منشئات تحركها العواصف الهوج في شدة وعنف. وعب عباب الرياح فهاجت الأمواج الصاخبة المزبدة فراحت تصطدم بصخرة القصر الهائلة وتنحسر عنها فيسمع لها زئير كزئير الأسد وهزيم كهزيم الرعد.
في تلك الأثناء كان الأميرال المركيز (دي بك هيلوين) جالسا إلى عضد صغير وضع عليه بضع رسائل عفى على لونها الزمن فاصفر وخال، وبضع زهور ذاوية ونوط قلادة وشريط من الحرير الأزرق، وبجوار هذه الأشياء صندوق صغير مفتوح من خشب الأبنوس المطعم بالعاج، كان ولا ريب يضم تلك الآثار الغرامية المتناثرة على النضد وتجلت إمارات الحزن على وجه الأميرال بينا لمعت عيناه فجأة ببريق الغضب المسحور.
وكان الأميرال رجلا رقيق البدن واهن العظم له وجه مغضن بارز العضام، وعينان غائرتان قد أنطفأ فيهما التألق والبريق، ويدان معروقتان عاريتا الأشاجع. وعلى الجملة كان بدنه المنهوك قد ذبل بفعل المرض الذي يفتك به فتكا ذريعا. ولقد فقد أميرال البحر العظيم قوة العزم التي كانت تسبح ثائرة في دمعه وتشع من عينيه، وخفت فيه ذلك الصوت(973/49)
الجهوري المليء الذي كان يمزق العواصف ويطغي عليها. ولم تبق فيه ذرة من القوة التي طالما أعجب بها رجال أسطوله وبحارته من قبل. وأبت الجرأة والبسالة أن تسكنا ذلك الجسم المهدم الفاني ففارقتاه بعد إذ كانتا تفوران فيه فورانا حينما كان يزخر بقوة الشباب ويموج بفتوة الرجولة واشتد به السقام حتى صيره هزيلا ناحلا. ولم يبق عليه المرض الجاثم فوق صدره ألا ليعالج هذه الجريمة النكراء التي اكتشف الآن فقط دليلها الحاسم، وليرى مدى قدرته على الثأر وهو من الموت قاب قوسين أو أدنى.
لقد تسلم صباح اليوم رسالة من (نيس) حيث أعتاد أن يقضي فصل الشتاء من كل سنة، يقول فيها كاتبها: (لقد خلت أربع عشرة سنة وزوجك ممعنة في خيانتك، دائبة على العبث بشرفك؛ ولعلك وحدك الشخص الذي لا يعلم شيئا عن علاقتها الآثمة بمساعدك السابق الكابتن (فوشيرون). وإذا أردت على ما أقول شاهدا ودليلا فاذهب إلى مخدع المركيزة، فهناك من ناحية رأس السرير ترى تحت إحدى الصور المعلقة خزانة في الحائط، بها صندوق صغير. افتح هذا الصندوق واقرأ ما فيه، فستنقشع الغشاوة عن عينيك، وتتبين بوضوح ما غاب عن بصيرتك كل تلك السنين المواضي).
وعزا المركيز هذه السعاية إلى خادم مطرود. لذلك قضى سريعا على ما أثاره الخطاب في نفسه من شكوك وأوهام، وفرك الرسالة في يمناه وهم بتمزيقها لولا أن حاك الشك في صدره فأرجع الكتاب يتلوه مرة أخرى. . . وللمرة الأولى في كل حياته مع زوجته تساوره الظنون والريب. وتحامل على نفسه وغادر مضجعه، ثم راح يجر نفسه جرا، وفي الحرز المعين في الكتاب ألفى أدلة الاتهام السود.
وراح يتمثل ويعجب كيف مرت عليه هذه السنون الطوال وهو غارق في لجج هذا الوحل دون أن يدري. . . ها هو ذا يمضي إلى مثواه الأخير تكتنفه قرائن الجريمة الدنسة التي اكتشفها اليوم فقط هازئة ساخرة. . . فكيف إذن يتسنى له الثأر لنفسه من هذين المجرمين قبل أن ينطفئ سراج حياته الخافت الضئيل.
يا للخيانة والغدر! أزوجه الذي شملها بحبه ووهب لها كل قلبه؟! ومرؤوسه الذي أمطره بوابل من عنايته، وغمره بفيض من صداقته. . يا للعار ويا لدرن! أنسى هذا السافل الخؤون، هذا الجاحد الكنود. . . أنسى كيف كان يرعاه كابنه وزيادة؟ وهذه الشقية زوجه؟(973/50)
لا نكران أنه اقترن بها والفرق بين عمريهما جد كبير. إذ كانت في العشرين وهو في الخمسين. . . بيد أنه ليس ثمة من ينكر أيضاً أنه انتشلها من وهدات اليتم والمسبغة، وأضفى عليها لقبه المجيد التالد وقلبها في ثرائه الواسع وضمن لها الحماية والرعاية في حياته، وسيخلع عليها من تراثه درعا يقيها من بعده عدوان الناس وغدرات الزمن. أبدا. . ما أرغمها امرؤ على الزواج منه، بل كان هذا على اختيار منها ورغبة. . . ولم يكن يوما ليني عن تلبية رغبة لها مهما صعبت وشقت. فالصيف في الريف الجميل الساحر، والشتاء في أرفع فنادق باريس الفواخر. أو إذا شاءت في قصره العظيم في (نيس). في كل حفل كانت تبدو زينة الأتراب والصواحب، وفي كل جمع كان يعلو بها اسم زوجها إلى أرفع مكان وأسمى منزلة بين سائر الفتيات والعقائل. وبينا كان يثق في وفائها وإخلاصها ويعجب بجمالها وفتنتها ويتيه لسحرها وأنوثتها، إذا هي تخونه وهو لا يدري.
لقد خدم بلاده أربعين سنة سويا. حارب في أفريقيا وفي المكسيك، وحاز أرفع القلائد والأوسمة، وجلب المجد والفخار لأبنه. . . ثم ماذا بعد كل تلك الحياة الحافلة بجلائل الأعمال وطيب المآثر؟ عار تجلبه عليه هذه المخلوقة الشقية وهو من الموت على شفا جرف هار.
وليت الأمر قاصر على هذا فحسب، بل جرته إلى شك مظلم يتخبط فيه حتى ليكاد يذهب عقله فيمضي إلى رمسه مخبولا. ابنه (باتريك) زهرة آماله وعمره الثاني. . . ابنه هو، أم ابن غريمه فوشيرون؟ باتريك. لقد شب ونما في قصره العتيد حيث تقضي أمه كل شتاء وحيث كان يذهب هو ليعانقه ويتملى من رؤيته. أنه يبدو قويا كغصن شامخ فتي، ويتجلى الزهو والكبرياء في نظراته، ويبدو الصلف والخيلاء في لفتته، وتنطلق ملامح وجهه بقوة العزم وشدة المراس. يا له من إله صغير من آلهة القوة والجمال! خير خلف لأشرف سلف. ومما زاد الرجل تعلقا بابنه وحبا له أنه ورث عنه قوة العزم وصلابة الرأي وثبات الجنان.
والآن تقضي هذه الجريمة التي اقترفتها زوجه على كل تلك الذكريات السامية حول ابنه وذلك الإعجاب الذي يجنه الرجل لوحيده.
وأمسك الرجل التعس رأسه الثائر بين كفيه كأنه يمنعه من الانفجار، وسرت حمى الغضب في دمه فغمغم وهو في تلك الحال من اليأس والضعف والمرض.(973/51)
- سأنتقم لنفسي. . . سوف أثأر لشرفي. . .
ولكن كيف؟ أيقتل ذينك اللذين لوثا اسمه ولطخا شرفه وكيف السبيل إليهما وهذه الفراسخ العديدة تفصلهما عنه، فلا هو بمستطيع أن يبلغهما، ولا هما ببالغيه قبل أن يموت. . . وأوغل في سبل الانتقام الكثيرة المتشعبة. . . وأغطش الليل ولما يهتد فكره إلى سبيل يبلغه طيته فيشفي غليله. . . واستلقى على الفراش بقلب ممزق وأضلع تكتنز نارا تكاد تأتي على بقايا جسمه المحطم.
وعندما انصدع عامود الفجر أقبل طبيب الطوافة (العتيد) التي اعتلاها علم الأميرال طويلا، ليعود رئيسه العليل؛ وذعر لدى رؤيته وجه رئيسه الشاحب الممتقع، ودهش لتقدم المرض السريع في يوم وليلة. . . ونم وجهه عن ذعره ودهشته فقال الأميرال:
- قل إني انتهيت يا دكتور.
لم يضع الأمل بعد يا سيدي. . . إنك في حال سيئة ولكن. . .
- لا تراوغني. لقد صمدت للموت مرارا، ولا أود أن يأخذني هذه المرة على حين غرة. قل الحق إني آمرك. . .
فظل الطبيب صامتا لا ينبس دقيقتين قال بعدهما:
- سيختارك الله هذا المساء على الأكثر يا سيدي إن لم تحدث معجزة وتلقى الأميرال الصدمة بكل ثبات. . . قال:
- حسن. . . وستعودني طبعا مرة أخرى. . . أليس كذلك؟
- بالتأكيد يا سيدي الأميرال. ألا تحب أن تخطر سيدتي المركيزة؟
- وأي جدوى في ذلك وهي في نيس. ثم إني لا أود أن أحملها الحزن فجأة. إنها تعلم أني مريض، وستعرف على كل حال أنها ترملت، ولكن يجب أن يكون هذا بعد أن أموت.
فانسحب الطبيب
وقابله باتريك لدى الباب فقال له:
كيف أبي؟
فلم ينبس الطبيب بل أجابت عنه عيناه، فأسرع الصبي نحو أبيه بقلب جزوع. فنهض الأميرال بجهد جهيد على مرفقه وقال:(973/52)
- أدن مني يا بني. إن لي حديثا معك. . . إنك في الثانية عشرة من عمرك يا باتريك، ولكني مضطر أن أحدثك كما أحدث رجلا.
ولم يأخذ منهما الحديث طويلا. ولكن حينما انتهى ومضت عينا الصبي ببريق من نار، وتثلج بدنه حتى كأنما انتقلت برودة الاحتضار من بدن أبيه إلى بدنه. وفي أثناء هذا الوقت القصير انتقل فجأة من طور الطفولة إلى طور الرجولة، وما تحمل من متاعب وأعباء.
وفي السنة التي تلت ذلك، أي بعد موت الأميرال بعشرة أشهر أو تقل راح الناس يلغطون بقرب زواج أرملته من الشاب الوسيم القسيم فوشيرون. تناقلوا ذلك فيما بينهم في غمز ولمز كأنما كان ذلك عين ما يتوقعون. ويبدو أن العاشقين قد آثرا بعد علاقتهما الدنسة الآثمة أن يرتبطا بعلاقة يقرها العرف والدين.
ووصل الكابتن فوشيرون ذات صباح إلى القصر العتيد حيث تنتظره المركيزة مع ابنها بعد إذ قضى زوجها نحبه.
وعندما متع النهار وارتفعت الشمس دخل باتريك على أمه يحمل من الأعباء ما ينوه به عمره الصغير. قال لها:
- أحقا أنك تعدين العدة للزواج من الكابتن فوشيرون يا أماه؟
فأجابته بصوت مضطرب.
- من أبلغك هذا؟
لم ينبس الغلام. فاستطردت المرأة
- على كل يجب ألا يستجوب الغلام أمه.
- إني لا أقبل مهما يكن الأمر أن يشغل الكابتن فوشيرون مكان أبي.
لا تقبل! ماذا تقصد بهذا الهراء؟ ثم أشارت إلى الباب ماضية واستأنفت.
- أخرج من هنا حالا يا سيدي.
فانصرف من لدنها إلى غرفته، ثم غادرها بعد بضع دقائق إلى غرفة فوشيرون واقتحمها دون استئذان واضعا إحدى يديه فغي جيب بنطلونه.
وكان فوشيرون يحلق لحيته أمام مرآة، فاستدار نحو باتريك وقال:!
- إن اللياقة تقضي بدق الباب قبل الدخول.(973/53)
أنه بيتي يا سيدي، ومن حقي أن أدخل أية غرفة فيه بدون دق ولا استئذان، ثم أن لي حديثا معك.
- لك حديث معي؟ تكلم
- إني أعلم سبب وجودك هنا. وإن ما تبغيه لا يمكن أن يتم. ويجب أن ترحل الليلة على ألا تعود أبدا. إنني أمنعك من الزواج بأمي.
- إنك مجنون ولا ريب أيها الطفل.
- من الخير لك أن تطيعني.
- فشحب وجه فوشيرون من شدة الغضب. وومضت عيناه من فرط الغيظ. وقال:
- أخرج أيها الغرير وإلا عركت أذنيك. واتجه نحو باتريك رافعا يده فتراجع الغلام عنه ثمة وأخرج من جيبه شيئا كان يخفيه، مسدسا ورفع به يده. ضغط الزناد، فأنطلق.
فأنشق صدر فوشيرون عن صرخة هائلة دوت في سكون القصر العميق. وترنح ثم سقط جثة هامدة وقد اخترقت الرصاصة جبينه. . .
وأقبلت الماركيزة على عجل ورأت كل شيء. . . ثم صرخت تقول بعد أن ألقت بنفسها على ابنها وجردته منة سلاحه.
- ماذا فعلت أيها الشقي؟
وتركها باتريك تأخذ منه السلاح ثم قال: وقد رآها ترتمي على الجثة تبكيها وتندبها!
- لقد أنبأني أبي قبيل وفاته أن هذا الرجل عدو لي وعدو لك، وأوصاني بحمايتك من شره وغدره حتى ولو أدت الحال إلى قتله. وقد نفذت وصية أبي.
ثم أشيع بين الناس أن الكابتن قوشيرون مات منتحرا
م. ع(973/54)
العدد 974 - بتاريخ: 03 - 03 - 1952(/)
فقاقيع
للأستاذ سيد قطب
الذين يدعوننا إلى الخلاص والحرية والعدالة الاجتماعية باسم القومية الضيقة التي تحد بالبحر الأبيض شمالا، وبالبحر الأحمر شرقا، وبصحراء ليبيا غربا، وبخط الاستواء جنوبا. . أو دون ذلك.
والذين يدعوننا إلى الخلاص والحرية والعدالة الاجتماعية باسم الشيوعية أو غير الشيوعية من المذاهب المادية التي نشأت وعاشت في بيئات غريبة عنا، لا تربطنا بها صلة روحية ولا تاريخية. . .
هؤلاء وهؤلاء يخطئون فهم طبيعة هذا الشعب، وقوة العوامل الكامنة في ضميره، والرواسب الشعورية التي تحركه، وطريقة تفكيره ونظرته إلى الحياة.
لهذا يفشل هؤلاء وهؤلاء فشلا ذريعا، وتبدو حركاتهم كالفقاقيع التي تعلو وجه الماء فترة، ثم تفتأ وتتوارى!
هذا الفشل منشؤه كما قلت: جهل هؤلاء وهؤلاء بطبيعة هذا الشعب، وطرقة تفكيره ونظرته إلى الحياة. يضاف إليه عدم فهمهم لحقيقة هذا الشعب في العالم، وللعوامل الدولية التي تجعل الشعوب تختار طريقا دون طريق.
إن دعوة القومية الضيقة، التي تنزوي داخل حدود صناعية أو تخوم جغرافية. . دعوة تنافي الاتجاه العالمي إلى الاندماج في وحدات ضخمة، تمهيدا للحلم البشري الكبير. . حلم الوحدة العالمية الكبرى. . وهي تخالف فكرة الإسلام الذي تدين به غالبية هذا الشعب. . فالوطن الإسلامي هو كل أرض يظللها لواء الإسلام. ومن ثم فهو يزيح الحواجز الصناعية والتخوم الجغرافية، ويحل محلها فكرة، تندمج في ظلها كتلة بشرية ضخمة، تحاول دائما أن تضم إليها بقية البشر، تحقيقا للهدف الإسلامي الأكبر، هدف الوحدة العالمية الكبرى.
ومن هذا الاستعراض السريع للاتجاه العالمي اليوم؛ والاتجاه الإسلامي منذ مولد الإسلام، يتبين مدى نظرة الإسلام التقدمية في الماضي وفي الحاضر على السواء. ويتكشف أن الفكرة الإسلامية كانت سابقة لتطورات الفكر البشري قرونا وقرونا. وما تزال فكرة قائدة هادية، ذات مجال فسيح في بناء مستقبل البشرية. . كما يتكشف مدى الضيق والانعزال(974/1)
والتأخر في دعوات القومية الضيقة التي عمت أوربا في القرون الماضية، وسرت إلينا عدواها في غيبة الروح الإسلامية الراقية السمحة التقدمية، وفتنت بما فيها من تعصب ضيق، بعض صغار العقول والنفوس، ملبية دسيسة الاستعمار في تمزيق أوصال المجتمع الإسلامي الضخم، والوطن الإسلامي الكبير، ليسهل على الاستعمار ازدراد أشلائه الممزقة باسم القوميات الضيقة الهزيلة، وتحت العنوانات الشتى المتفرقة!
ومن هنا كانت تلك الفقاقيع التي تحمل شتى العنوانات في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وكانت تلك الزعامات الصغيرة التي تهتف باسم القومية، وتدعو إلى العزلة عن مشكلات العالم الإسلامي، وتسخر ممن يدعون إلى وطنية الإسلام الضخمة، وإلى التكتل الإسلامي الكبير.
ولقد كانت تلك الزعامة البائسة التي قادة ثورة سنة 1919 في مصر مثلا من أمثلة ضيق الأفق، والانعزال عن الفكرة الإسلامية والهدى الإسلامي، والانعزال تبعا لذلك عن الاتجاه العالمي في التكتل، والنظرة التقدمية لمستقبل البشرية.
ومن هذا الضيق والانعزال عن الهدى الإسلامي، جاءت الكوارث كلها، وطال أمد الصراع مع الاستعمار، ووقع ذلك الانحلال الخلقي، والانهيار الاجتماعي، وذلك الفساد الذي تعانيه البلاد، ويفتت كيانها تفتيتا. .
لقد كانت تلك الزعامة فقاعة صغيرة، في زبد الوثبة المصرية الكبرى. ولكنها مع الأسف حولت تلك الوثبة كلها إلى زبد ذهب كله جفاء. .
وما تزال مصر، وما تزال الشعوب الإسلامية تصارع ذلك الخبث الذي دسه الاستعمار في تفكيرها. خبث القومية الضيقة الهزيلة، التي تخدم الاستعمار ولا تخدم الشعوب. . ما تزال تصارع ذلك التمزق في جسم الوطن الإسلامي الكبير، في ضوء الفكرة الإسلامية التي انبثقت هنا وهناك، وتتجمع تحت الراية الإسلامية الخالة، أو تتنادى إلى هذه الراية الكلية الواحدة. التي تحول الوطن الإسلامي كله وحدة تتفق مع الاتجاه العالمي السائر إلى التكتل والاندماج، وحدات كبرى تجمع بينها نظم وأفكار، لا حدود جغرافية، ولا قوميات جنسية أو لغوية.
إنهم يفيئون شيئا فشيئا إلى النور الذي انبثق منذ أربعة عشر قرنا، سابقا لتفكير البشرية(974/2)
كله، فلم تدركه إلا في القرن العشرين. وما يزال هذا النور سابقا لما وصلت إليه البشرية في التفكير.
فأما دعوة الشعوب الإسلامية إلى الشيوعية أو غيرها من المذاهب المادية الأخرى، فهي دعوة مضحكة تثير الهزء والاستخفاف بتلك الفقاقيع الآدمية التي تدعونا إليها؟
إذن ما الذي يدعو شعوبا بأسرها، يتجاوز تعدادها ثلاثمائة مليون مسلم، في شعاب هذه الأرض إلى التخلي عن فكرة أو عقيدة عاشت في ظلها أربعة عشر قرنا؟. .
فكرة سبقت الشيوعية سبقا بعيدا في التفكير الإنشائي المنظم لقيام وحدة عالمية، مقوماتها فكرة ونظام، لا حدود جغرافية، ولا أجناس بشرية، ولا ألوان ولا لغات. وبذلك كانت وما تزال فكرة تقدمية سابقة لقيادة البشرية كلها في طريق المستقبل؛ حافلة بالإمكانيات العملية المنظمة لتحقيق هذه القيادة الرشيدة؟
فكرة سبقت الشيوعية سبقا بعيدا - لا من ناحية الزمن وحده ولكن من ناحية طبيعة الفكرة وإمكانياتها - في تحقيق أساس صالح للوحدة العالمية، بريء من التعصب والقهر والكبت لأنها تسمح لكل عقيدة دينية أخرى أن تعيش في ظل هذه الوحدة، متمتعة بالحماية والرعاية والمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية، فلا تفرض نفسها على الناس، ولا تحرم مخالفيها حق الحياة والنشاط، كما تحرمهم الشيوعية؛ ولا تفرض عليهم دكتاتورية رجل ولا دكتاتورية نظام كما تفرض الشيوعية في القرن العشرين!
وأخيرا فهي سابقة في تحقيق عدالة اجتماعية كاملة، لا تصدم بالفطرة البشرية. . ولا تقيد النشاط الفردي. في ذات الوقت الذي تقف كل نشاط فردي دون المساس بالمصلحة العامة. وتجعل نتاجه كله ملكا للجماعة التي تعيش فيها.
إن دعوة شعوب تملك مثل هذه الفكرة إلى نبذها لاعتناق الشيوعية أو سواها تبدو دعوة مضحكة، لا يحاولها إنسان يحترم نفسه، إنما تصلح فقاعة هزيلة، ينادي بها بعض الشواذ، الذين يعانون عقدا نفسية مرضية، يجدون في الدعوة إلى الشيوعية تنفيسا عنها وراحة!
إن الدعوة الإسلامية تكتسح وتجرف كل هذه الفقاقيع في هذه الأيام. تكتسح فقاقيع القومية الضيقة الهزيلة في العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه. وتكتسح فقاقيع المباديء المادية على اختلاف مسمياتها. . وهذا الاكتساح هو الذي يتفق مع طبائع الأشياء. ويتفق(974/3)
مع طبيعة هذا الشعب وتفكيره. ويتفق في ذات الوقت مع الاتجاه العالمي المقبل: الاتجاه إلى تأليف كتل ضخمة تخضع لنظام وفكرة. في الطريق إلى تحقيق الحلم البشري الكبير. . حلم الوحدة الإنسانية الكبرى. . .
(فأما الزبد فيذهب جفاء. وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
سيد قطب(974/4)
المرأة المسلمة
للأستاذ علي الطنطاوي
أنا أغتاظ وأتألم كلما سمعت الناس يضربون الأمثال بنساء اليهود: بقتالهن في الحروب وعملهن في المعامل والحقول، لأني أجد في ذلك جهالة بتاريخنا، وبسلائقنا، وبما كانت عليه المرأة منا.
إنكم تحسبون أن نساء العرب كن - مذكن - كأكثر من نرى من النساء، جاهلات خاملات، يثرن المشكلات، وينغصن عيش الرجال، أو مترفات مدللات همهن صبغ الوجوه، وتلوين الأظفار، وإنفاق الأموال، فتعالوا أخبركم كيف كانت المرأة على عهد الرسول، صلوات الله عليه، كيف عملت في بناء هذا الصرح العظيم، وشاركت في إقامة الدولة الإسلامية، وكيف سعى نساء من النساء في كل مجال كان يسعى فيه الرجال، في مجال الدين والتقوى، ومجال العلم والأدب، ومجال المعارك والحروب.
وكيف كان منهن (المرأة العاقلة) الحكيمة كخديجة التي وضعت ثاني حجر في صرح الدعوة، وكانت ركنا قويا للإسلام في فجر الإسلام، والتي أخذت بيد النبي صلى الله عليه وأيدته بمالها الكثير، وقلبها الكبير.
و (المرأة العالمة) المعلمة كعائشة التي كانت أستاذة عصرها، وكان فحول العلماء تلاميذ لها، وكانت أعجوبة في سعة روايتها، وحدة تفكيرها، وبلاغة لسانها، وقوة جنانها، حتى دفع بها نشاطها إلى ما ليس من شأنها، فاقتحمت ميدان السياسة وما خلقت له وما خلق لها، لا بالسان والرأي بل بالنار والحديد، فكان من ذلك ما كان.
و (المرأة الأديبة) التي خدمت بالدعاية اللسانية، وبالشعر يوم كان الشعر هو الصحافة وهو الإذاعة وهو سبيل الدعاية لا سبيل غيرها، كصفية، ونعم بنت سعيد، وهند بنت أثاثة.
لما انتهت معركة أحد على غير ما يبغي المسلمون، بمخالفة من خالف منهم الرسول، وقامت هند بنت عتبة على صخرة تقول.
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
انبرت لها بنت أثاثة ترد عليها. تقول لها:
خزيت في بدر وبعد بدر ... يا بنت وقاع عظيم الكفر(974/5)
صبحك الله غداة الفجر ... ملها شميين الطوال الزهر
و (العاملة في المصالح العامة) كأسماء بنت الصديق، يوم الهجرة، حين كانت تحرس منافذ الأخبار إلى قريش، وتحمل الطعام إلى المهاجرين العظيمين وتصبر على عدوان قريش عليها. ولطم الخاسر أبي جهل خديها لتخبره أين رسول الله، فلا تخبره، وحين قدت نطاقها، فربطت بشقة السفرة وانتطقت بالآخر فدعيت من ذاك بذات النطاقين.
وأنتم تعرفون موقفها العظيم، العظيم، يوم قتل ابنها أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، ذلك الموقف الذي لم يكد يروي التاريخ موقفا مثله لأخرى من بنات حواء.
و (المرأة في الدفاع السلبي) بل الدفاع الحربي، كما صنعت صفية لما كانت في الحصن مع النساء وكان الصبيان والرجال في الجبهة، فرأت يهوديا يطيف بالحصن فخافته على النساء والصبيان أن يؤذيهم أو يدل العدو عليهم، فشدت وسطها ونزلت إليه بالعمود، فضربته حتى قتلته.
كان نسانا يقتلن أبطالا. . فيهود، فصار نساء اليهود، بفضل سلطتنا وأمرائنا. . يقتلن رجالنا!
وكان منهن (الممرضة المواسية) كرفيدة التي جعلت من خيمتها مستشفى سيارا، تداوي فيه الجرحى، وتحبس نفسها على خدمتهم، والترفيه عنهم، ترفيه الحق لا ترفيه الفسوق والفجور. . . ولما أصاب البطل الخالد سعد بن معاذ السهم يوم الخندق قال رسول الله: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب.
وكان النساء يخرجن مع الرسول، وشهد خيبر منهن جماعة أعطاهن من الفيء، لا يخرجن للجهاد بأعراضهن وفتنة المجاهدين بجمالهن، بل للعمل في (الوحدات الصحية) والحراسة والتحميس والاشتراك في القتال أن دعت الضرورة إلى القتال.
والقائمات بمثل أعمال (الكمندس) في هذه الحرب. . .
أغار عيينة بن حصن على لقاح رسول الله صلى الله عليه في (الغابة) فاستاقها، وكان فيها رجلا من بني عقار وامرأته فقتلوا الرجل، وسبوا المرأة، فلم تجزع ولم تفزع، ولم تبك ولم تولول، بل قاومتهم مقاومة اللبؤة حتى أفلتت منهم على ناقة من إبل الرسول فوردت بها عليه، فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحرها إن نجاني الله عليها، فتبسم رسول الله(974/6)
وقال: (ليعلم المسلمين): بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها، ونجاك بها، إنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين.
وكان منهن (المرأة الصابرة) على ما يعجز عنه الصبر، ويضيق عن احتماله الصدر. لقد أصبت حمنة بنت جحش يوم أحد بأخيها عبد الله، وخالها حمزة سيد الشهداء، وزوجها مصعب رائد الإسلام، فثبتت كيلا يرى وهنها المشركون، وفي قلبها مثل حز المواسي.
وهذه امرأة من بني دينار، قتل زوجها وأخوها وأبوها في الوقعة، فلما خبت بهم، بلغ بها عظم الإيمان أن سألت: ما حال رسول الله؟ فلما قالوا لها: هو حي، قالت: كل مصيبة بعده هينة.
ومنهن (المرأة المقاتلة) التي تأتي بالبطولات.
هذه أم عمارة - نسيبة المازنية - خرجت لترى ما يصنع الناس، ومعها سقاء ماء لتسقي العطاش من الجند، وكانت الدولة والصولة للمسلمين أول النهار، فلما أنهزم المسلمون، وداخلتهم الدهشة لما كان من هبوط الرماة عن أحد، وكرة فرسان المشركين، كانت هذه المرأة أثبت من الرجال قلبا، وأجر أيدا، فلم تهزم ولم يجرفها التيار، بل أخذت سيفا من ساحة المعركة، وجعلت تدافع مع الرسول، حتى أثخنتها جراحها.
قالت أم سعد رواية الخبر: وكشفت لي (أي أم عمارة) عن عاتقها بعد سنين طويلة، وإذا جرح غائر أجوف، قلت: من أصابك بهذا يا خالة؟ قالت: أبن قمئة أقمأه الله لما ولى الناس، أقبل يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، فاعترضت له.
يا أيها القراء، أرجو أن تقفوا لتتصوروا الموقف: الجيش منهزم، وهذا الفارس يهجم بسلاحه وجبروته كالثور الهائج، والرجال تنتحي عن طريقه، وهذه المرأة العربية المسلمة، تعترض له، وتثب في وجهه تعترض طريقه إلى محمد، فيضربها فلا تزيح بل تضربه بسيفها، فلا ينجيه إلا أنه بدرعين!
قالت: فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته مع ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان!
وهذه أم سليم تثبت في هوازن في الموقف المهول الذي انصدعت فيه أفئدة عشرة آلاف بطل، فانهزموا إلا رسول الله وصحابته الأدنين، فالتفت فرأى أم سليم، مع زوجها أبي(974/7)
طلحة، وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنها لحامل! وتمسك جملها وقد أدخلت يدها في حزامه، قال:
- أم سليم؟
- قالت، نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين يفرون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل.
قال: أو يكفي الله يا أم سليم؟
ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة:
- ما هذا الخنجر معك؟
- قالت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به.
قال أبو طلحة، مفتخرا بها، مداعبا إياها:
- ألا تسمع يا رسول الله، ما تقول أم سليم الرميصاء؟ وهي حامل يا ناس! وهي حامل!!
أما معاملته صلى الله عليه النساء، فكانت أروع مثل يضربه السيد المهذب، والبطل النبيل، والأب الحاني، والصديق الوفي، ولا يتصور الوهم أرق منها معاملة ولا عطف ولا أنبل ولا أشرف، ولا أحب أن ألخص لكم هذا النص التاريخي، فاسمعوه بالحرف، من فم فتاة صغيرة من آل غفار، متطوعة في الجيش، قالت:
أتيت رسول الله في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول الله؛ قد أردنا أن نسير معك إلى وجهك هذا (وكان متوجها إلى خيبر) فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: على بركة الله.
فخرجنا معه، وكنت جارية حدثة (أي صبية صغيرة) ولم يكن لي ما أركبه، فأردفني رسول الله وراءه على حقيبة رحله وإذا بها دم مني، وكانت أول حيضة حضتها، فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى الرسول ما بي ورأى الدم قال:
- مالك؟ لعلك نفست؟
- قلت: نعم
- قال: أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا فاغسلي به ما أصاب الحقيبة، ثم عودي لمركبك.(974/8)
وأمر رسول الله بعد هوازن بالقبض على مجرم يقال له بجاد من بني سعد بن بكر فساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث فنعفوا عليها في السياق، فقالت:
- تعلموا (أي أعلموا) أني أخت صاحبكم من الرضاع فلم يصدقوها، فلما انتهوا إلى رسول الله قالت:
- يا رسول الله. إني أختك من الرضاع.
قال: ما علامة ذلك؟
- قالت: عضة، عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك فعرف العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه، وقال:
- إن أحببت فعندي محبته مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك.
فاختارت الرجوع إلى قومها.
ولعلكم تقولون: كيف كان هذا الاختلاط؟ كان على التصون والحجاب الشرعي، وعلى غض البصر، وامتلاء القلوب بالخوف من الله، وبالغاية التي تشغل عن شهوات النفس، ومع ذلك فإن الله علمهم درسا عظيما في ضرر خلوة رجل بامرأة ليس معهما ثالث، اتهمت فيه أشرف امرأة في الناس، وكاد الناس يصدقون التهمة، حتى أنزل الله براءتها من سبع سماوات.
هكذا كانت المرأة العربية المسلمة، جمعت أطراف الفضائل، وحازت خلال الخير، وكانت للدين والدنيا، للعلم وللأدب، للدار والحياة، كان هديها القرآن، ودليلها الشرع، وغايتها رضا الله، والنجاة في الآخرة.
فأين نساؤنا اليوم؟
علي الطنطاوي(974/9)
ذو العقل يشقى. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
لولا أني أكره خلائق السوء، لما حملت هذا القلم لأرد به على هذا الذي تكلف مؤونة الجدال عن صاحبه، ولولا أنه كتب ما كتب في الرسالة، وهي مألف قديم يحن إليه هذا القلم، لما غلبني على ما أدبت به نفسي من هجر صغائر الأمور. ومن خلائق السوء عندي أن يجهد كاتب قلمه في نقد ما أكتب، ثم أغفل رده إلى الحق إن أخطأ، أو متابعته على الصواب إذا أصاب. ومهما يكن رأيي فيما كتب الأستاذ، فإني أجد الحق يلزمني أن أعود إليه بالتذكير والإبانة، غير متلجلج في استنقاذه مما تورط فيه، ولا مستنكف أن يكون في بعض كلامي هذا تكرار لما قلت، مما أرجو أن يكون إنما غفل عنه غير متعمد أن شاء الله. وأنا أقدم بين يدي الأستاذ الفاضل، معذرتي في أن أسامحه فيما وصف به ما كتبت، وما وقر في نفسه وأبان عنه بقوله إني اندفعت في سياق منبرتي، أسرد الأدلة الخطابية، وأستثير النوازع العاطفية. وكان خليقا به قبل أن يقول ما قال، أن يعرف أسلوبي فيما أكتب، ثم ينظر إلي بعيني مبصر متحقق: أصحيح أني ألجأ إلى الخطب المنبرية، والأدلة الخطابية، والنوازع العاطفية، أم الحق أني أتحرى أمرا أنا مسؤول عنه بين يديه سبحانه؟! وإذا كان كثير من الناس قد نسوا أنهم محاسبون يوم القيامة، فإني لم أنس بعد، وأسأل الله أن يعينني على أن لا أنسى، وإن عد الأستاذ الفاضل هذا الكلام أيضا خطبة منبرية، أو استثارة عاطفية!
ولعل قراء الرسالة، لم يقرؤوا ما كتبت في مجلة (المسلمون) ولست أحب أن أعيد عليهم ما كتبت هناك، ولكني أحب أن أبين لهم عن أصل هذا النزاع الذي نازعنيه الأستاذ الفاضل. وذلك أني رأيت كاتبا بسط لسانه بسطا عريضا في دين جماعة صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم: معاوية بن أبي سفيان، وأبوه أبو سفيان، وأمه هند بنت عتبة، وعمرو بن العاص. ثم أدخل معهم سائر بني أمية. وزعمت في هذه المقالة أيضا أني لن أناقش منهجه التاريخي: (لأن كل مدع يستطيع أن يقول: هذا منهجي، وهذه دراستي) وقلت: (وأيضا فإني لن أحقق في هذه الكلمة فساد ما بني عليه الحكم التاريخي العجيب، الذي استحدثه لنا هذا الكاتب، بل أدعه إلى حينه) وقلت: (بل غاية ما أنا فاعل: أن أنظر كيف(974/10)
كان أهل هذا الدين، ينظرون إلى هؤلاء الأربعة بأعيانهم، وكيف كانوا - هؤلاء الأربعة - عند من عاصرهم ومن جاء بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم).
وأظن أني بهذه الكلمات قد حددت كل التحديد غايتي فيما أكتب. أظن ذلك، وأظن أيضا أن لكل كاتب بعض الحرية!! في أن يحدد ما يريد لنفسه في سياق ما يريد أن يكتب. وبخاصة إذا كان يريد أن يعرف الناس بشيء هم قد غفلوا عنه، وبخاصة في زمن أصبح العلم فيه لجاجات تكتب كما تكتب مقالات الصحف اليومية في المنازعات الحزبية! وبخاصة في نذير شديد من الله سبحانه! وبخاصة إذا كان هذا الكاتب يؤمن بأن الإنسان مسئول بين يدي ربه عن كل ما يقول وكل ما يكتب وكل ما يفعل!
بيد أن الأستاذ الفاضل ظن أنه كان يجب على أولا غير هذا. إذ ظن أن صاحبه نقد معاوية نقدا تاريخيا، فطالبني أن أبين أن الوقائع التي ذكرها في كتابه غير صحيحة، ثم زاد شيئا آخر عجل إليه فزعم أني لا أستطيع أن أفعل شيئا من ذلك، لأن صاحبه نقلها من كتب التاريخ ولم يخترعها اختراعا، ولأنها معروفة لدى الصغير والكبير؟! فأظن أنا أيضا أني بينت عن طريقي في الكلمات التي نقلتها آنفا، وأني سوف أترك هذا إلى حينه، فلست أدري لم يعجل الأستاذ الفاضل كل هذه العجلة على امرئ مثلي، فيضربه بالعجز عن ذلك قبل أن يبين عن حجته؟ فهذه العجلة هي هي التي أنكرها على صاحبه، وأنكر أن تكون أدبا يتأدب به العالم أو المتعلم، ومن الحق على كل عاقل أن ينهي نفسه عنها، وأن ينهي من يرتكبها، لأنها مخالفة لكل أصل من أصول العلم والتعلم، ولأنها تورث مرتكبها نفس الداء الذي أتى منه صاحبه الذي تهجم على ضمائر خلق الله، فكاد يقطع قطعا جازما بنفاق معاوية وأبي سفيان وهند وعمرو بن العاص وسائر بني أمية! من أين يعلم أني عجزت أو أني سوف أعجز؟ لا أدري!
ومثل هذا في الجرأة ما أتبعه من أسئلة إذ يقول:
(من الذي ينكر أن معاوية حين صير الخلافة ملكا عضوضا لم يكن ذلك من وحي الإسلام، إنما كان من وحي الجاهلية؟
(ومن الذي ينكر أن أمية بصفة عامة لم يعمر الإيمان قلوبها، وما كان الإسلام لها إلا رداء تلبسه وتخلعه حسب المصالح والملابسات؟. . .(974/11)
(ومن الذي ينكر أن يزيد بن معاوية قد فرضه أبوه على المسلمين مدفوعا إلى ذلك بدافع لا يعرفه الإسلام؟
(ومن الذي ينكر أن معاوية قد أقصى العنصر الأخلاقي في صراعه مع علي، وفي سيرته في الحكم بعد ذلك إقصاء كاملا لأول مرة في تاريخ الإسلام، وقد سار في سياسة المال سيرة غير عادلة، فجعله للرشوة واللهي وشراء الضمائر في البيعة ليزيد؟
(هذه وأمثالها أمور مسلمة في التاريخ، لا يستطيع الأستاذ شاكر أن ينكرها بحال. ونحن نعجب كثيرا حين نجده في مقاله يلبس مسوح الوعظ والإرشاد. . .)
نعم يا سيدي الشيخ! نعم! فإني لمحدثك عمن ينكرها: أنا أنكر هذا كله وينكره المؤمنون من قبلي. وإذا كنت أنت وصاحبك تسلمان بها، فأنا لا أستطيع أن أسلم بها. وتقول: هذه دعوة ليس عليها بينة! فأقول: نعم، هي في هذا السياق ليس عليها بينة، إلا أن آتيك بالدليل على بطلان ما ذهب إليه صاحبك الذي توليت الدفاع عنه. بيد أنك أسأت حين عجلت إلى شيء لم تعرف ماذا أقول فيه، وكيف أستطيع أن أتناوله بالنقد والتمحيص. ولو أنت صبرت حتى تعرف لأتاك البيان عما أنكرت وما عرفت من أخبار صاحبك، التي وصفتها بأنها متلقفة من أطراف الكتب، لا أقول بلا تمحيص وحسب، بل أقول أيضا بالحرص الشديد على تتبع المثالب القبيحة، وبالحرص المتلهف على اجتناب المناقب الفاضلة، وبالغو الأرعن في سياق المثالب وفي تفسيرها، وفي تحليلها، وفي استخراج النتائج من مقدمات لا تنتجها، كما يقول أصحاب المنطق.
وأنا أحب أن أخلع معك مسوح الوعظ والإرشاد خلعا لا رجعة بعده! فتعال أيها الشيخ إلى غير واعظ ولا مرشد! تعال حدثني وأحدثك، ودعني ودعك من: (قال الله تعالى) و (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) فإنهما في زماننا هذا - من مسوح المتدينين بلا دين! دعنا نعرف الكتب التي بين أيدينا لا نرفع بعضا ولا نضع بعضا، لأن هذه كتب تاريخ لا يوثق بها، ولأن هذه كتب أصحاب دين ووعظ وأرشاد يوثق بها! ثم ننظر بعدئذ بالعقل المجرد ماذا يكون؟!
ودعني أيها السيد أعيد عليك ما قلت في مقالك: (ونحن نقر أن معاوية كان حسن السيرة على عهد عمر، فولاه أعمال دمشق، ولكنه قلب المجن للتعاليم الإسلامية بعد مصرع(974/12)
عثمان. . .) ولا أسألك من أين علمت أنه كان حسن السيرة على عهد عمر؟ ولكني أسألك: ألست تعلم أنه قد نشب الخلاف بينه وبين علي؟ فتقول: نعم، ولا بد. ثم أسألك: ألست تعلم أنه كان لهذا شيعة ولذاك شيعة؟ فنقول: نعم، ولابد. فأسألك: ألست تعلم أن كل شيعة قد غلت في صاحبها وتعصبت له؟ فتقول نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أن الخلاف بين الشيعتين ظل مستعراً مدة بقاء معاوية ومن بعده؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك ألست تعلم أن الحسين بن علي قتل في عهد يزيد بن معاوية؟ فتقول نعم ولا بد فأسألك ألست تعلم أن مقتل الحسين وما تبعه من الحوادث في عهد يزيد بن معاوية قد أوقد نار العداوة بين شيعة علي وشيعة معاوية؟ فتقول. نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أن شيعة كل منهما قد انتشرت في الناس بما بينهما من العداوة؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أن كل عالم أو جاهل كان يحدث عن خبر شيعته وخبر شيعة عدوه؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك ألست تعلم أن هذه الأخبار ربما كان فيها الصحيح والسقيم والصادق والمكذوب كما يكون في كل شيعتين متنابزتين؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أن الأمر سار على ذلك إلى ما بعد انقضاه دولة بني أمية فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أنها استمرت أذن على ذلك منذ سنة 40 من الهجرة إلى وقت تدوين الكتب، أي في أواخر القرن الأول؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أنه في أيدي الناس كتاب مكتوب قبل ذلك العهد؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك ألست تعلم أن طريق القوم كان هو الرواية فحسب؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم عندئذ أن العقل يوجب أن تعرف راوي كل خبر حتى تتبين من أي الشيعتين هو؟ فتقول: نعم ولا بد. فأسألك: ألست تعلم أنه ظلم قبيح أن تأخذ الخبر لا تدري من رواه، فتطعن به في أحد الرجلين، معاوية أو علي وأنت لا تأمن أن يكون كذبا صرفا؟ فتقول: نعم ولا بد.
فإذا صح كل هذا عندك ولم تشغب علي فيه، فإني أراك رجلا صالحا، فهل تظن، ولا أقول هل تحقق عندك، أن هذا الطعان في معاوية وأهله، قد ميز هذا كله قبل أن يكتب ما كتب؟ فإن كان قد صح لك، فأنا أحب أن أعلم كيف صح لك، حتى أتبعك على الحق. وإن لم يكن صح عندك، وهو لم يصح عندي بعد، فدعني عند قولي لك: أنا أنكر هذا كله وينكره المؤمنون من قبلي، واذكرني دائما بأني لا أعد أمثال هذه الروايات المجردة من رواتها،(974/13)
وفي مثل هذا الموضع المشتبه من العداوات، شيئا يمكن أن أسلم به. فإني لا أحب أن أستهلك عقلي في العبث والجهالات. واعلم أني لا أنقاد لما لا بينة عليه، وان للعقل شرفا لا يرضي معه بالتدهور في مواطئ الغفلة وسوء الأدب. ولو أنت لم تعجل لكان البيان آتيك بعد قليل عن الذي أستطيعه من ذلك وما لا أستطيعه، غفر الله لك، أقولها خالصة من قلبي، بلا مسوح وعظ أو إرشاد!
وأنا أخذتك من أهون المآخذ في طريق العقل، فهناك طرق أخرى أشق وأصعب في تمييز هذا العبث لم أدفعك إليها، وأرجو أن تصبر حتى تعرفها يوما، أو أن تحاول أنت أن تصل إليها بما أوتيت من حسن العقل، فإن المحاولة خليقة أن تفضي بك إليها. ولكن شرطها أن تدع العصبية لآراء الرجال، وبخاصة إذا كان هؤلاء الرجال ممن يبينون أقوالهم على الغلو والتسرع وسوء الفهم، وقبح المقصد، ومعاندة الحق لهوى في النفوس يعلمه الله وحده، ولكن يدل مطلعه على أنه هوى. فإذا فعلت استطعت أن توفر على نفسك مطالبتي بنقد الحوادث التاريخية التي رواها صاحبك (نقدا موضوعيا)! ومع ذلك فسأفعل حيث كتبت كلامي ما يرضيك. ولكن على شرط أن أجد عندك ما أحب لك من حسن الظن فيك: أن تعرف أن النقد الموضوعي الذي زعمت، ينبغي أن يسبقه التحقق من صحة هذه الحوادث تحققا ينفي كل ظنة. وأستطيع أن أظن أني قدمت لك في هذه الكلمة ما يجعلك تقف من هذه الروايات التاريخية! موقف المتردد على الأقل، أنفة لعقلك وأدبك أن يزلا حيث زل من دافعت عنه.
أما الموضوع الذي نصبت له كلامي في مجلة (المسلمون) فهو سب الصحابة، وأظن أن الأستاذ يوافقني على أن كلام صاحبك خرج أولا عن أن يكون تخطئة لمعاوية، ثم خرج عن أن يكون طعنا فيه، ثم خرج عن أن يكون سبا. خرج من هذه المراتب الثلاث إلى مرتبة رابعة، هي أن معاوية إليها من الإسلام، والإسلام إليها منه. فأدنى مراتب هذا القول أن يكون منافقا، وآخرها أن يكون كافرا بما جاء به الرجل الذي آمن به المسلمون وأمروا أن يسموه (رسول الله صلى الله عليه وسلم)
ومن العسير أن أكتب في هذا الموضوع الآن دون أن أتوشح بذيل من ذيول (مسوح الوعظ والإرشاد)، فليأذن لي الأستاذ قليلا أن أرد فضلة من الثوب الذي خلعت حتى أستطيع أن أوضح له:(974/14)
زعمت يا سيدي أن لي رأيا، فقلت إني أثرت هذه العاصفة وحجتي الوحيدة: (أن كل صحابي رأى الرسول وسمع عنه قد اكتسب مكانة تحرم على كل إنسان أن ينقد أخطاءه أو يظهر أغلاطه). ويلك! نسبت إلي شيئا لم أقله قط كما ستعلم بعد. فلا تنس إذن أن مثل هذا جائز أيضا أن يكون وقع من مثلك قديما، فنسب إلى معاوية شيئا لم يقله كما نسبت أنت إلى شيئا لم أقله. ولكني كنت أحسن حظا من معاوية رضي الله عنه، فإن كلامي مكتوب منشور، أما معاوية، فقد روى الناس عنه شيئا ذهب أصله، لأنه لم يكتبه كما كتبت. صدقني، فلست أدري من أين فهمت هذا الكلام الذي ترجمته؟ ولكن عذرك باد ظاهر، فإن دفاعك عن صاحبك دليل على أنك على الأقل تفكر كما يفكر، وهذه الطريقة هي نفسها طريقته التي أدعوك إلى فراقها حتى لا عقلك فيما لا يجدي. والذي قلته بعد الخطبة المنبرية التي زعمتها، والتي بدأتها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أصحابي. . .) هذا نصه: (وليس معنى هذا أن أصحاب محمد رسول الله معصومون عصمة الأنبياء، ولا أنهم لم يخطئوا قط ولم يسيئوا، فهم لم يدعوا هذا، وليس يدعيه أحد لهم. فهم يخطئون ويصيبون، ولكن الله فضلهم بصحبة رسوله، فتأدبوا بما أدبهم به، وكانوا بعد توابين أوابين كما وصفهم في محكم كتابه. فإذا أخطأ أحدهم، فليس يحل لهم، ولا لأحد ممن بعدهم، أن يجعل الخطأ ذريعة إلى سبهم والطعن عليهم. هذا مجمل ما أدبنا به الله ورسوله. بيد أن هذا المجمل أصبح مجهولا مطروحا عند أكثر من يتصدى لكتابة تاريخ الإيلام من أهل زماننا، فإذا قرأ أحدهم شيئا فيه مطعن على رجل من أصحاب رسول الله سارع إلى التوغل في الطعن والسب بلا تقوى ولا ورع كلا بل تراهم ينسون ما تقضي به الفطرة من التثبت من الأخبار المروية، على كثرة ما يحيط بها من الريب والشكوك، ومن الأسباب الداعية إلى الكذب في الأخبار، ومن العلل الدافعة إلى وضع الأحاديث المكذوبة على هؤلاء الصحابة (مجلة المسلمون عدد 3 ص247).
وأنا أكره أن أنقل كلاما لي من مكان إلى مكان، ولكنك استكرهتني على نقله، حتى لا يقع في عقل أحد من قراء الرسالة، أني مستطيع أن أقول هذه القائلة المنكرة القبيحة بكل مسلم: أن للصحابة مكانة تحرم على كل إنسان أن ينقد أخطاءهم أو يظهر أغلاطهم. هذه يا سيدي كلمة قبيحة جدا، وأقبح منها أن تجعلها ترجمة لكلام مكتوب باللغة العربية التي تكتب بها(974/15)
وتقرأ فيما أظن، ثم تنسبها إلى امرئ يعرف حق الكلام ويلتزم مقاطعه ومطالعه وحدوده، وما يوجبه اللفظ منالمعاني، وما يتناوله من دقيق الاستنباط. وأنا أشهد كل قارئ أني لم أقل ما قولتنيه، وأدع له حق الحكم بيني وبينك أن يكون في كلامي حرف واحد يدل على أني أردت بعض هذا المعنى الذي ترجمته كما ترجم صاحبك تاريخ معاوية ومن معه من الصحابة وتاريخ سائر بني أمية. أفتظن أن قولي إنه لا يحل لأحد أن يجعل (خطأهم) ذريعة إلى سبهم والطعن فيهم معناه أنهم لا يخطئون، أو أن أخطائهم لا تنقد؟ وأين ذهب عمري إذن، إذا كنت لا أعلم أن الصحابة أخطئوا، وأن علمائنا رضي الله عنهم، قد بينوا أخطائهم حتى فيما هو من أمور دينهم؟ ولكن فرق كبير بين أن تذكر عمل الصحابي أو قوله، وتأتي بالبرهان على أنه مما أخطأ فيه، وبين أن تجاوز ذلك إلى الطعن فيه، ثم إلى سبه، ثم إلى إخراجه عن الدين، كما فعل صاحبك. وهذا فرق ليس بالخفي فيما أظن؛ ولا أظنك إلا تورطت فيه من شدة أثر صاحبك عليك، حتى خدعك عما أنت خليق أن تكون من أهله. هذه واحدة أرجو أن تكون راجعا عنها منتفيا من سوء أثر صاحبك عليك فيها.
وأخرى تبين فيها سوء أثر صاحبك عليك: وهي تحديدك، فيما تزعم، لمعنى (الصحابي) واستدلالك بالكلمة التي جاءت في الخبر عن عبد الله بن أبي (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه). فهذه كلمة ذكرها، يخشى أن تدور على ألسنة المشركين الذين لا يميزون مؤمنا عن منافق، وكلهم عندهم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لا أن رسول الله يسمى المنافقين أصحابا له!! وكيف وقد نزل عليه من ربه نفاقهم وكفرهم، ونهاه أن يصلي عليهم، وبينهم له بأعيانهم، فمعاذ الله أن يسمي رسول الله أحدا من المنافقينالذين يعلمهم (صاحبا). فمن سوء الأدب أن يقول مسلم: (فعبد الله بن أبي من أصحاب محمد كما ينطق الحديث)؛ ومن قلة المعرفة بالعربية أن يقولها قائل، ومن التسرع البغيض أن يلجأ إليها باحث، ومن ضعف المنطق والفهم أن يحتج بها محتج. فهي حكاية قول يخشى أن يقولوه، لا تسمية له باسم الصحبة. أعوذ بالله من الخطل! ورحم الله العرب ولسانهم!
أما ما حاول الأستاذ أن يجعله تحديدا لمعنى الصحابي، وهو ثلاثة أرباع مقاله، فأظنني لم أفهمه، ولم أدر ماذا كان يريد أن يقول ثم أخطئه. وأظن أنه أراد أن يقول في كل ما كتب: أن الصحابي هو الذي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه وآمن به ولازمه ومات(974/16)
على إيمانه، ولم يرتد. ولم يشهد له رسول الله بنفاق أو لم يذكر فيه حكم خاص من رسول الله. وهذا حق، إلا أن الأستاذ أدخل شرط الملازمة، وهو باطل من وجوه كثيرة، لا أطيل بذكرها. ومع ذلك فأني أؤكد أن معاوية ممن صاحب رسول الله منذ رمضان سنة ثمان من الهجرة إلى أن توفي بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول من السنة الثانية عشرة من مهاجره إلى المدينة. وأما أبوه أيو سفيان فقد ولاه صلى الله عليه وسلم نجران وصدقات الطائف، ورسول الله لا يولي منافقا!! وأما عمر بن العاص، فلا أظن الأستاذ يستطيع أن ينكر هجرته ومصاحبته وبلاءه في الإسلام، وأما هند فأسلمت يوم أسلم زوجها أو بعده بيوم في سنة ثمان من الهجرة. وهجران الأستاذ لمعرفة تاريخ هؤلاء الأربعة، عادة أكتسبها من الكتب التي يقرؤها، كتب تكتب بلا بينة ولا حذر ولا معرفة.
ولا أظن أني قرأت كلاما لم أفهمه، كالذي قرأته في مسألة الصحابة، وإن كان الأستاذ بالطبع يظن بكلامه غير ما أظن، ولكني أنصحه مرة أخرى أن يلتمس العلم في كتب من يلتمس عندهم العلم. وإذا كان يخشى على دينه - ومعذرة ارتداء مسوح الوعظ والإرشاد - فليأخذ أمر دينه عن ثقة في تمييز الصحيح من الزيف، والحق من الباطل، وليدع أصحاب الأهواء حيث رضوا لأنفسهم منازلهم من مزالق الهوى. وليستغفر ربه من الكلمة الكبيرة التي قالها حمية لصاحبه وغضبا أنه (قد يوجد في القرن العشرين من هم أفضل بكثير من بعض من عاصروا الرسول العظيم). والظاهر أن الأستاذ لا يعيش في هذا القرن العشرين عيشة العارف البصير. والظاهر أيضا أنه محتاج إلى معرفة كثير مما خفي عليه من شؤون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أمر دين الله الذي أكمله للمؤمنين، وأتم عليهم نعمته، ورضيه لهم ولنا دينا، ونصيحة أخرى إلى الأستاذ أن يضع عن يده عبء القلم، فإنه ثقيل ثقيل. ولولا الحياء من أن أترك كلامه ومنطقه في الكتابة، بلا مجيب، لخفت عنه ثقل الكتابة، وثقل الفكر، وثقل الفلم جميعا، بالصمت عما جاء به ودهوره في أمور قلت معرفته بها، ويعجز فكره عن معاناتها والسلام.
محمود محمد شاكر(974/17)
شعراء من أشعارهم:
عدي بن زيد العبادي
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
- 2 -
حين مات المنذر كان عدي رجلا شديدا ثقة يستعان به في جلائل الأمور وعظائمها، وكان يعمل في ديوان كسرى، وكان على صلة بالحيرة وما يجري فيها، وقد خلف المنذر أبناء يرفعهم بعض الرواة إلى عشرة، ويرفعهم آخرون إلى ثلاثة عشر، ولكن السيدين المنظور إليهما فيهم جميعا هما: النعمان والأسود. وقد قدمت لك أن المنذر دفع بالنعمان إلى حجر عدي بن زيد وأهل بيته لتربيته وتقويمه. وأما الأسود فقد تولاه، وأرضعه، ورباه، قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا، كانوا أشرافا. وكان أولاد المنذر جميعا يقال لهم الأشاهب من جمالهم وبياض وجوههم. وقد قال فيهم أعشى قيس بن ثعلبة:
وبنو المنذر الأشاهب في الحي ... رة يمشون غدوة كالسيوف
ولما أحتضر المنذر وخلف أولاده حار كسرى فيمن يعقد له أمر الحيرة، وأراد أن يختبر أبناء المنذر ليرى أيهم أحق بهذا الفضل، فبعث في طلبهم بمشورة عدي، ولما خلا بهم عدي - كما تروي كتب الأدب - أوصى كلا منهم بوصية مغشوشة مدخولة، إلا النعمان فقد محضه القول وأخلص له النصح. ولما دخلوا جميعا على كسرى يأكلون، كان النعمان في ثياب السفر ومتقلدا سيفه، وعظم اللقم، وأسرع المضغ والبلع، وزاد في الأكل، تبعا لوصية عدي، على غير ما فعل أخوته؛ فقد تباطئوا في الأكل، وصغروا اللقم، ونزروا. فأعجب كسرى بما فعل النعمان وولاه الحيرة.
وأنت ترى من هذا، ومما سبق، أن فضل عدي بن زيد على النعمان بن المنذر سابغ. ولذلك لم يكن من العجيب أن كان صديق الملك النعمان، وجليسه، ونديمه، في كل يوم لقية وخطاب، يخرجان للصيد معا، ويرجعان معا. وارتفعت أسهم عدي؛ فقد أحتال للنعمان وولاه، وغدا النعمان ملك الحيرة، ورثها بعد أبيه المنذر. ولم يكن بنوا مرينا ليرضوا عن النعمان، فإنهم أرادوا ربيبهم ورضيعهم الأسود ملكا للحيرة، ولكن تدبير عدي قرب النعمان(974/18)
من كسرى وأبعد الأسود.
ويذكر للرواة أن النعمان كان قد خرج يتنزه بظهر الحيرة ومعه عدي بن زيد، فمرا على المقابر من ظهر الحيرة ونهرها؛ فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا. ما تقول؟ فأخبر عدي أنها تقول:
أيها الركب المخبو ... ن على الأرض المجدون
كما أنتمو كنا ... وكما نحن تكونون
فانصرف النعمان وقد دخلته رقة، فمكث بعد ذلك يسيرا، ثم خرج خرجة أخرى فمر على تلك المقابر ومعه عدي، فقال عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ إنها تقول:
من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال
وصروف الدهر لا يبقي لها ... ولما تأتي به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها فدم ... وجياد الخيل تردى في الجلال
عمروا دهرا بعيش حسن ... آمني دهرهمو غير عجال
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر يودي بالرجال
وكذلك الدهر يرمي بالفتى ... في طلاب العيش حالا بعد حال
فرجع النعمان وتنصر وكان من قبل يعبد الأوثان. وليس بعيدا أن يؤثر عدي في النعمان هذا التأثير؛ فقد مضى بيان ما بينهما من صلات وثيقة، وما قدم عدي للملك من جميل، وكان عدي أكبر سنا وأعلم، وكان له في نفس النعمان منزلة الوالد، ولذا فليس من البعيد أن يتنصر على يد عدي. وقد تنصر أبناء بيته أيضا، وبنوا البيع والصوامع، وبنت هند بنت النعمان بن المنذر ديرا بظهر الكوفة، يقال له دير هند.
وقد أحب عدي بن زيد هند بنت النعمان على فرق ما بينهما في السن؛ فقد كان عدي أكبر من أبيها النعمان، ومن شعره فيها
علق الأحشاء من هند علق ... مستسر فيه نصب وأرق
وفيها أيضا يقول:
يا خليلي يسرا التعسيرا ... ثم روحا فهجرا تهجيرا(974/19)
عرجا بي على ديار لهند ... ليس أن عجتما المطي كبيرا
ويقول.
من لقب دنف أو معتمد ... قد عصى كل نصيح ومفد
ليس أن سلمى نأتني دارها ... سامعا فيها إلى قول أحد
ويذكر أنه يصبي ظباء مترفات، يرفلن في الدمقس، ويكفين شؤونهن، وهن بنات كرام، مطيبات بالعبير:
بنات كرام لم يربن بضرة ... دمى شرقات بالعبير روادعا
يسارقن من الأستار طرفا مفترا ... ويبرزن من فتق الخدور الأصابعا
ومن المقبول أن يكون قد سار حب عدي عند هند، وعرفه الناس، وتحدثوا به، وبلغ النعمان شيء من هذا. ويحدثنا عدي أن سلمى (هند) مهما نأت دارها، ومهما نهاه عن التعلق بها الناصحون أو اللائمون، فهو لن يسمع إلى قول أحد. ثم هو كان يدخل بيت النعمان، فكان يرى بنات كرام ممتلئات مطيبات بالعبير، وحين يدخلن كن يسارقن النظر بطرف مفتر، ويبرزن أصابعهن من فتق الخدور - ذلك لأنه كان يصبى الضباء النواعم المنشآت في الدمقس والحرير.
والنعمان رجل عربي، يحفظه أن يتعرض أحد لفتاته بذكر، أو أن يقول فيها شعرا. وعدي قد تعرض وقد قال الشعر. ولا يبعد أن يكون النعمان قد عرف هوية عدي، وسمع شعره، بطريقة أو بأخرى.
وقد أجمعت الروايات على أن عديا صاهر النعمان. وأكثرها على أنه تزوج بنته هند. وقد دفع عديا حبه هند أن يتلمس الزواج بها. وقد تزوج بها، وهي يومئذ جارية، حين بلغت أو كادت. وقد طلبها إلى النعمان بطريقة خادعة، وهي أنه صنع طعاما واحتفل فيه، ثم أتى إلى النعمان وسأله أن يتغدى عنده هو وأصحابه، ففعل، وسقاه عدي، فلما أخذ منه الشراب خطبها إليه، فأجابه النعمان وزوجه، وضمها إليه بعد ثلاثة أيام.
ولم يكن هذا الزواج موفقاً فيما يظهر؛ إذ كان فارق السن بين الزوجين كبيرا، فقد كان عدي أكبر من النعمان، وهو قد قومه ورباه، ومعنى هذا أنه كان في سن تجوز له أن يكون أستاذا كاملا جديرا بتهذيب وتقويم أولاد الملوك - ثم كبر النعمان، وتزوج، وأنجب. وبعد(974/20)
هذا كله جاء عدي يخطب إلى العمان أبنته هند، وهي جارية، حين بلغت أو كادت. وجاء يخطبها بطريقة لا تليق بخطبة بنات الملوك، فقد أسكر النعمان حتى أخذ منه الشراب، وحتى أصبح لا يستطيع الاختيار ولا التعرف بمحض رغبته وملء إرادته، ثم طلب إليه أبنته.
وقد كان عدي شبب بهند، وقال فيها الشعر، وأعلن حبه، وعصى الناصحين فيها، فكأن الناس علموا بهذا الحب، فمنهم الناصح، ومنهم اللائم، ومنهم الدساس المتربص.
فكل الظروف التي أحاطت بهذا الزواج لا تهدي إلى التوفيق، فالتشبيب بالفتاة في العرف العربي - والنعمان عربي - سبب يمنع زواجها ممن شبب بها وتغزل فيها، ثم الطريقة لا تسوغ في عرف الملوك ولا غيرهم، ثم فارق السن لا يستهان به وبأثره في الزواج الموفق.
وقد يكون النعمان حين صحا من سكرته بداله غير الذي عقد، وبداله أن الزواج غير متكافئ وغير جائز، ولكنه قد ألزم نفسه بما قطعه عليها من قبول عدي زوجا لابنته هند، وهو قبول خير منه الرفض، وبشاشة خير منها العبوسة والاكتئاب.
وفي مثل هذه الظروف القائمة صحت الفتنة، أو هي تحركت، فقد كانت متيقظة من بعيد، يوم انحاز عدي في ديوان كسرى إلى النعمان، وفضله على سائر أخوته وبخاصة الأسود، وعمل على أن يكون ملك الحيرة بعد المنذر، ونجح فيما أراد وأختار، وأصبح النعمان ملكا، وأصبح هو صديق الملك ورفيقه في التنزه بظهر الحيرة في طريقهما المقابر، غاديين رائحين.
للبحث صلة
محمود عبد العزيز محرم(974/21)
الفوضوية الفردية أو الوجودية!
للأستاذ شاكر السكري
الفردية مفهوم من مفاهيم الرجعية، ومخالفة من المخالفات الانحلال، وعامل من عوامل الهدم، وهدف من أهداف التفسخ للشعوب، وفوضية مجنونة ترعاها عقليات (هستيرية)!
كل ذلك مضمون واحد تجمعه تلك الفردية الانعزالية التي من شأنها أن تقوض الأسس التي تبنى عليها المجتمعات وتقوم عليها قوى الشعوب. . .
إن الأهواء الذاتية التي تدفع هذه الزمرة البشرية (الشرهة) لكي تتخذ من هذه المذاهب الجنسية مبررا يتيح لها بمقتضاه العمل على التخلص من المسؤوليات الأدبية، والتحلل من الأهداف الأساسية للتكوين العام الذي يلم شعث العالم وينظمه كأسرة واحدة تجمعها روابط الأخوة والإنسانية ويسترعي انتباهها الاتحاد التام والعمل الوثيق من أجل بناء كيان يحفظ للشعوب المتحررة حرياتها وحقوقها وينمي قابلياتها، ويحترم سيادتها، ويصون اقتصادياتها، كل ذلك والفردية الانهزامية تتجاهل العناصر التي قومت فرديتها الهزيلة وجعلتها ذات (صفات خاصة). . إن استخدام الأساليب الإباحية لضمان العواطف الفردية على حساب المجتمعات الجماهيرية تدفعنا للتفكير في الواقع الذي يرى أن هذه المذاهب ليست إلا غرضا من الأغراض التي بدأت تستخدمها السياسة وتسخرها في كثير من الشعوب المسيطر عليها. . والتي تخضع لنفوذ استعمارها لكي تشغل بها الأفكار، مستغلة بذلك إعطاء المجال للعواطف الجنسية الجامحة! أن تأخذ كامل حريتها في تمثيل ما تهواه من التفكك والانحلال! لتفقد بذلك السيطرة على نفسها والتفكير في مصيرها وشؤون بلادها، كما أنها تدعو لانعدام المسؤولية في مختلف تطوراتها، وهذا ما فطن إليه الاستعمار أخيرا وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وبصورة خاصة في البلدان الأوربية. . التي بدأت أذهان مواطنيها تتفتح للتفكير في مصيرها ومستقبلها وضمان حرياتها ودعم كيانها واقتصادياتها، على الأسس التي تكفل لها الرخاء والتقدم. .
وقد وجد إلى الاستعمار الأمريكي والإنكليزي المجال الواسع في كثير من دول أوربا الغربية، تلك الدول التي أخذت تتجه اتجاها معاكسا للسياسة الاستعمارية. ولهذا الغرض وحده بذل الاستعمار الإنكليزي والأمريكي نشاطه لمعاكسة ذلك الاتجاه ومعاونة المذاهب(974/22)
الانحلالية والعمل على ازدهارها. . . ومثال ذلك المذهب الوجودي الذي تبناه الاستعمار في فرنسا لشل الحركة الوطنية، ليتمكن من تفريق القوى الجماهيرية. . وصرفها عن التكلف والاتحاد للتعاون على توحيد الجهود والعمل الحثيث على رفع مستوى البلاد للمحافظة على استقلالها السياسي والاقتصادي، ولغرض طعن الحركات الشعبية. إن الاستعمار ليرقص طربا عندما يشاهد الأكثرية المتهوسة مدفوعة بمثل هذه (العقائد الفاسدة!) ليخلو له الجو لبث شباكه وربط البلاد بواسطة حكومات رجعية ضعيفة لتعمل بوحيه لتحقيق أمنيته، كما هو الحال الآن في فرنسا وكثير من الدول الشرقية خاصة منها البلاد العربية!
ولو نظرنا بإمعان إلى هاتيك المذاهب وأخص بالذكر المذهب الوجودي، لرأينا أن الغاية المنشودة، لا تعد وانعدام المسؤولية في كل ناحية من نواحي المجتمع! وجعل ذاك المجتمع أو تلك المجتمعات تتخبط بفوضى غاية في الفضاضة والبشاعة! لقتل النشاط الفكري ووأد القابليات الإنسانية، ومحو الذهنية الواعية وتوجيهها توجيها منافيا للقواعد الاجتماعية السليمة!
هذا هو المذهب الوجودي، وتلك هي الغايات الخبيثة من ورائه، أما أن هناك مذاهب فلسفية تعنى بفلسفة خاصة وتهدف إلى التعمق لمعرفة ما لا يمكن معرفته، فهذا أمر بات غير ميسور في جو مثل هذا الجو العالمي الذي لوثت السياسة آدابه ومعارفه، وأضحت حتى الفلسفات فيه غاية تسخر في خدمة السياسة وما تنشده من مطامع خسيسة!
ولست أعدو الحق إذا قلت أننا في عالم أنعدم فيه الضمير وأصبح لا يعرف غير كسب مغانمه مهما كلف ذلك من ثمن! على حساب الشعوب وملايين من البشر. . .
ولسنا ممن يروم نصب العداء وعرقلة أعمال العقل البشري ما دام يسعى لتحقيق غرض أمثل وعمل أسمى.
أما أن هذا العقل يسعى لأغراض لا تمت إلى الإنسانية والخير بعلة فمعناه أن العقل مجرم أو أنه مريض غارق في شذوذه وأفكاره الكسيحة التي كتب لها الموت قبل أن تكون الحياة رائدها.
كما أننا لا نتهاون في أي وقت من الأوقات لمحاسبة (الأنا) الهاربة من الميدان، أمام تأثير(974/23)
النزعة المكبوتة التي لم تجد لها طريقا في الحياة الشعورية، والحقيقة أن علم التحليل النفسي الحديث قد أثبت مبلغ ما تؤثره هذه التصرفات وتخلفه من أمراض خطيرة تدفع المصابين بها إلى نهاية غاية في التعاسة والشقاء!
وقبل أن أختم هذه الكلمة أود أن ألفت نظر قراء (الرسالة) الغراء إلى كلمتي القادمة بعنوان (الوجودية في نظر التحليل النفسي!)
بغداد
شاكر السكري(974/24)
امرأتان عظيمتان من دولة المغول
للدكتور محمد بهجت
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وأما (ممتاز الزمان) أو (ممتاز محل)، وأسمها الأصلي أرجومان بانو بيجم ففارسية الأصل أيضا. ولدت عام 1594م أبوها عبد الحسن بن اعتماد الدولة الذي عرف فيما بعد باسم (آصف خان). التحق في صباه بخدمة (أكبر) وبلغ مركزا في عهد أبنه (جاهان جير) ثم أرفع مركز وهو رئيس وزراء الإمبراطورية، ومستشار الإمبراطور، ومندوبه في مفاوضاته الدبلوماتية، وحامل لقب يمين الدولة - في عهد (شاه جاهان) وقد رأينا فيما سبق كيف ساعد هذا الرجل (شاه جاهان) على اعتلاء العرش، وكيف أصبحت أبنته (ممتاز محل) إمبراطورة من بعد عمتها (نور جاهان)
تزوجت ممتاز الأمير (كرام) عام 1612م وعمرها إذ ذاك ثمانية عشر عاما. أما هو فكان يكبرها بأربع سنوات. فأحب كل منهما الآخر حبا عميقا، صادقا قويا لم ير التاريخ مثله رافقته في جميع غزواته، وقاسمته التشريد والحرمان، وذاقت معه حلاوة النصر ومرارة الهزيمة ولا سيما في أواخر عهد أبيه، فكانت بحق الزوجة المثالية، وكانت نعم الصديق والمرشد.
كانت ملكة جمال عصرها حتى لقد سماها بعض المؤرخين فينوس الشرق. ويظهر أن جمالها كانة ينطوي على رقة متناهية وأنوثة جارفة، وروح عذبة وادعة، وسريرة صافية نقية، وطبع هادئ وخلق رزين، وبذلك بزت عمتها التي اتسمت بالمكر والدهاء، وبالفروسية وغيرها مما يغلب في طبائع الرجال. ومع هذا الجمال الهادئ الوادع حباها الله عقلا راجحا، ورأيا صائبا، وقريحة وقادة، وذكاء نادرا في غير خبث أو دهاء. وما كان زوجها الإمبراطور يبت في شأن من شؤون الدولة الهامة إلا بعد أن يستشيرها، ولا يقدم على أمر جسيم إلا بعد الاستئناس برأيها وظلت حاملة لخاتم الملك مدة طويلة إلى أن نزلت عن تلك الوظيفة لأبيها، ومع ذلك فإن الدور الذي لعبته في سياسة ومصاير الإمبراطور لم يكن بارزا قويا ضخما مثل دور (نور جهان).
وكانت مثل عمتها سخية كريمة إلى أبعد حدود السخاء والكرم، لم تبغ من وراء ذلك شهرة(974/25)
أو كسب أنصار وأعوان، بل فاقتها في الحدب على الفقير، ولأخذ بناصر المسكين والضعيف، حتى لكان قلبها الرقيق يتقطع حزنا وأسى لمجرد مشاهدة الفقراء والبؤساء، وتبادر لتوها بمسح جراحات نفوسهم ببلسم رحمتها، وندى كفها، ورفيع إنسانيتها، مما جعلها سيدة عصرها. وكم من مرة أنقذت أرواحا أمر الإمبراطور بإزهاقها في ساعة غضبه، وردتها على أصحابها سعيدة شاكرة.
ولا غرو إذا أحبها الإمبراطور ذلك الحب الجارف الفذ، وعندما اعتلى العرش زادت مظاهر حبه لها بما كان يغدقه عليها من الأموال والجواهر، وما كان يبديه لها من وافر المحبة والاحترام في الحفلات الخاصة والعامة. ويظهر أن شدة رغبته في إسعادها جعلته ينفق بسخاء. بل ويبذر تبذيرا شنيعا أثر في خزينة الإمبراطور أسوأ تأثير. ففي احتفاله الأول بعيد النيروز (عام 1628 م) أمر بعرشه الثمين فنصب في حديقة القصر اليانعة التي غصت بالزينة والتهاويل، وحفت به زوجته وأولاده والأمراء والأميرات وكبار الحاشية وسط مظاهر الترف والعظمة التي لم تشهد مثلها دول المغول، والتي كان يحرص عليها (شاه جاهان) كل الحرص، وأراد أن يبلغ بها النهاية. وعندئذ تعطف وأطلق يده بالعطاء فخص زوجته بنصف مليون ربية، وكل أبن من أبنائه الأربعة بمائتي ألف، وأبنته الكبرى (جاهان آرا) بمثلها، وابنته الصغرى (روشان آرا) بخمسين ألف ربية، هذا عدا ما أغدقه على حميه (آصف خان) وعلى بقية الحاشية.
ثم إنه اندفع في إنشاء عدد وافر من الأبنية العظيمة التي تعد من أجمل وأروع ما بنى في الهند، بل وفي العالم أجمع. ويظهر أنه حاول بذوقه الرفيع وموارد الإمبراطورية الواسعة أن يأتي بما لم تأته الأوائل، وأن تكون له قصور فخمة تتفق وعيشة الترف التي انتهجها وحرص على التوسع فيها لأبعد حدود التوسع. وكان من نتيجة ذلك، أنه أخلد إلى الدعة ولذا ذات العيش والرفاهية، ولم يعد يفكر في الغزوات وفي خوض غمار الحروب وإخضاع الثورات كما كان في صدر شبابه. أحب السلم والبناء وكرس لها كل وقته وجهوده وترك شؤون الإمبراطورية لوزرائه وأبنائه. ويظهر أن بعض المؤرخين ظلمه بقوله إنه كانت له القاجارية لم يكتف بهن بل راح يبحث عن خليلات أخر بين نساء أمرائه وحاشيته. ولكن يصعب تصديق مثل هذه الرواية إذا عرفنا مقدار حبه لزوجته(974/26)
الجميلة المخلصة الوفية التي لم يقو على فراقها يوما واحدا، والتي لم يتزوج غيرها من بعد وفاتها. ثم إنه لم تشب سعادتهما الزوجية شائبة فكانا زوجين مثاليين.
وفي عهده تطلع البرتغاليون إلى اقتطاع بعض أملاك الإمبراطورية المغولية في شيء من القحة والجرأة، وقامت سفنهم بأعمال القرصنة ضد السفن الإسلامية، فضاق الإمبراطور بهم ذرعا. ازداد سخطه عليهم عندما احتجزوا جاريتين من جواري (ممتاز محل)، فأمر بطردهم من جميع أنحاء البلاد وتم له ذلك في وقت قصير بعد معارك طاحنة دمرت فيها جميع ممتلكاتهم.
ومع أن حياتهما الزوجية لم تزد على ثمانية عشر عاما فقد أنجبت منه (ممتاز) أربعة عشر ابنا وابنة. وفي عام 1630م بينما كان (شاه جاهان) منشغلا بإخضاع حاكم قوي يسمى (خان جاهان لودي) خرج عليه، ماتت (ممتاز محل) في مدينة برهان بور في ريعان شبابها وهي تضع مولودها الرابع عشر. وبموتها ماتت أحلام الإمبراطور العظيم، وتحطم صرح هنائه، وبدأت نقطة تحول خطيرة في حياته فلم يعد يعبأ بنعيم الحياة ولذاذاتها، حتى ولا بشؤون الإمبراطورية، وأصابه ذهول ووجوم لازماه إلى آخر أيام حياته. كان لا يفكر إلا في شريكة روحه، ومنية فؤاده يذكر طلوع الشمس (ممتازا) ويذكرها لكل غروب شمس، على حد قول الخنساء. وأخيرا فكر في أن يبني لها ضريحا يضم رفاتها المقدسة، ويعبر عن مقدار وفائه لها، بل كعبة يتجه إليها بقلبه وبصره، يطوف بها وهو يناجي بعض نفسه التي دفنت تحت أطباق الثرى، فحمل رفاتها بعد ستة أشهر من موتها إلى مدينة أكبر آباد حيث أقام لها جنازة ملكية فخمة ومأتما عظيما حافلا، وبعد ذلك نقلت إلى أكرا حيث دفنت في (تاج محل). ألهم الحزن والحب والوفاء الإمبراطور أن يخرج إلى الوجود تلك التحفة الفنية الرائعة التي تقص على العالم قصة حبه. أختار لها الخام الأبيض الصافي صفاء قلبها وروحها، وأضفى عليها من جمال الهندسة والزخرفة ما يتناسب مع جمال وجهها وجسدها. ثم بث في كل ذرة من ذراته كل ما أراد أن يقوله أو يعبر عنه، أو أحس به. ولذا لم يظهر ذلك البناء بديعا فحسب. . بل كان يهمس بشتى المعاني السلمية، وبمزيج من الأحاسيس الدقيقة العميقة. ومما زاد روعه قيامه وسط تلك الحديقة البديعة الرشيقة التي ما زالت على شكلها ورسمها الأصلي. لو أطلعت عليه في الضحى أو في ضوء القمر(974/27)
لخلت أنك ترى ممتازا نفسها، بجمال جسمها وروحها مغلفة في غلالة من نور، باسمة حزينة. إنه تمجيد لجمال المرأة، ولكل ما فيها من صفات سامية.
اختار له الشاه موقعا جميلا على نهر جمنة الذي يخترق مدينة أكرا، وحشد له الصفوة من المهندسين والخطاطين والنحاتين والمزخرفين والصياغ، وكان أكثر هؤلاء من الأتراك والفرس، بل ومن الإيطاليين أيضا. وبعد دراسات واسعة أمر بالبدء في العمل عام 1631م. ثم فتح باب خزانته على مصراعيها وأخذ ينفق على إخراجه ببذخ عظيم. اشتغل فيه عشرون ألف عامل لمدة سبعة عشر عاما على حد قول بعض المؤرخين، ولكن يظهر أن الانتهاء من بعض الزخارف والمحسنات كان بعد ذلك التاريخ بدليل العبارة التالية التي نقرؤها على أحد أبوابه (كتبه الفقير الحقير أمانت خان الشيرازي عام 1613م - 1635 حيث انتهى منه).
لا يمكن لإنسان أن يدرك جمال هذا الضريح على حقيقته إلا إذا رآه عيانا ووقع تحت سحره المتجدد، وحين أن أذكر هنا أن الإمبراطور أصر على أن يكون أنفس تحفة، وأثمن أثر. . فكان باب المقصورة من الفضة، والستار الذي بداخلها من الذهب الخالص، تحليها أبدع النقوش، كما كان باب المقبرة نفسها من الفضة أيضا. وكان على القبر ستر من الحرير المرصع بصحائف اللؤلؤ، كما كانت تعلوه الماسة اليتيمة المعروفة باسم (كوهينور) وكال ذلك نهبه (الجات) عندما فتحوا أكرا.
جاء هذا الضريح أبدع ما أخرجه (شاه جاهان) من أبنية عظيمة لا نظير لها في العالم، وبعدما أتمه كان يجلس على الضفة الأخرى من النهر ساعات طويلة يتأمله في خشوع وحزن. ثم إنه فكر في أن يقيم لنفسه ضريحا في نفس المكان الذي أعتاد أن يجلس فيه، وشرع فعلا في البناء , ويرى أساسه قائما على ضفة النهر تماما، وكان يزمع أن يبنيه من الرخام الأسود. وليته عاش حتى أتم هذا العمل الجميل الذي لا يستطيعه إلا (شاه جاهان) وفيما هو منصرف إلى البناء ثار عليه أبنه (علم جير) المعروف باسم (اورنك ذائب) الذي استولى على أكرا وأسر أباه الشيخ الوقور الحزين وحبسه في قصره الفاخر لا يخرج منه لمدة ثماني سنوات مات بعدها (1666م) والمعتقد أن الابن هاله ما رآه من إسراف والده، وانصرافه عن شؤون الإمبراطورية التي كانت على شفا جرف هار ففعل ما فعل ولكنه(974/28)
كان يعامل أباه بكل ما هو جدير به من عطف واحترام. ولم يضمن عليه بكل ما كانت تصبو إليه نفسه.
وقفت طويلا أتأمل في أسى ذلك المكان البديع من العصر الذي قضى فيه الإمبراطور العظيم ثمانية أعوام في الأسر، تشرف عليه وترعاه ابنته المخلصة (روشان آرا) ثم خرجنا إلى شرفة تطل على النهر يرى منها التاج بعيدا إلى اليمين، ويتوسطها برج من الرخام الجميل، رائع الصنع ككل شيء في القصر، بل وكل شيء بناه (شاه جاهان) وبينما أنا ذاهل من روعة البناء والذكرى أشار الدليل بإصبعه إلى قطعة صغيرة من حجر كريم لونها أحمر داكن، لا يتجاوز طولها ثلاثة سنتمترات وعرضها سنتيمترا واحدا، مطعمة في جدار البرج، وطلب مني أن أنظر فيها ففعلت، وإذا بي أرى صورة التاج منعكسة عليها كاملة من ذلك البعد العظيم!!! وفي تلك اللحظة شعرت بقلبي ينقبض شفقة على ذلك الملك البائس الحزين الذي قضى ثماني سنوات يتطلع إلى قبر محبوبته من الشرفة ومن تلك القطعة الصغيرة!! بعد أن باعدوا بينه وبينها. . فياله من حب عظيم، ووفاءه نادر!! ومن يدري؟ فربما كان يتزود المسكين بآخر نظرة منه وهو يسلم روحه إلى بارئها.
دفنوه في قبر فخم إلى جانب قبرها تحت قبة التاج. . مع أنه لم يرد ذلك بدليل الضريح الذي وضع أساسه قبالة ضريحها على الضفة الأخرى للنهر. وكأنه لم يشأ أن يدنس هذا الهيكل المقدس جثمان آخر، حتى ولو كان جثمانه هو.
أثرت (ممتاز محل) بعقلها في تسيير دفة الإمبراطورية وأشرق جمال جسمها وروحها على العالم فترة قصيرة إشراقة الورد النظير، فكانت المثل الأعلى للمرأة والزوجة. وأخيرا أثر موتها الباكر في زوجها فخلد ذكرها بتحفة قلما يجود الزمان بمثلها، وأهدى إلى العالم أعظم وأجمل رمز للحب والوفاء والإخلاص.
محمد بهجت
مصلحة البساتين(974/29)
2 - دعوة محمد
لتوماسي كارليل
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
إعجاز القرآن:
إن الذي حبب القرآن إلى قلب العربي، وجعله يترك دينه وما وجد عليه آباءه، وما ورثه من قديم الزمان من تقاليد وعادات، هي فضائله وأولاها فضيلة الإخلاص المحض الصراح، فهذه الفضيلة تعتبر منشأ كثير غيرها من الفضائل، لأن الإخلاص هو أساس النجاح في كل شيء. كما أن فيه نظرات نافذات إلى شؤون الحياة. وإنني أرى في القرآن ميزة خاصة وهي قدرته العظيمة على أن يوقع في أذهاننا كل ما جاء فيه ويجعلنا نؤخذ به، وهذا لا شك مرجعه إلى أن ما جاء به لا يقصد منه إلا إصلاح أمورنا والأخذ بأيدينا إلى الصراط السوي.
أنا لا أهتم كثيرا بما جاء به القرآن من الصلوات والتمجيد والتحميد، لأني أرى ما يقاربها في الإنجيل، ولكني لا أملك نفسي من شدة الإعجاب بما جاء به من نظر ينفذ إلى أسرار الكون ويواطن الأمور التي تهمنا جميعا، وخاصة فيما يحيط بنا من أسرار الكون العجيب الذي لا نهاية له. ذلك الكون الذي كان محمد إذا سئل أن يأتي بمعجزة قال. حسبكم بالكون معجزة عظمى (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) انظروا إلى السماوات وكيف بناها وزينها بالنجوم والكواكب وما لها من فروج. . وإلى الأرض التي خلقها لكم وبسطها وجعل لكم فيها سبلا تسلكون في مناكبها وتأكلون من نباتها وتتمتعون بخيراتها (والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا)، (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)، (أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي)، (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج)، (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد.(974/30)
رزقا للعباد. وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج)، (أن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
وهذا السحاب المسخر بين السماء والأرض يسير في الآفاق ثم ينزل مطرا فيحيي الأرض بعد موتها ويخرج منها أعنابا ونخيلا ونباتا مختلفا أكله. . أليس كل هذا آية دالة على وجود الله وقدرته. وأن القرآن من الله لا من صنع البشر. (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)، (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كثفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون)، (وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها).
وهذه السفن وكثيرا ما يذكر السفن كأنها الجبال العظيمة المتحركة تمخر عباب البخار وتسير في موج كالجبال تنشر أجنحتها وتنتقل من مكان إلى مكان بما ينفع الناس (والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس)، (والفلك تجري في البحر بأمره)، (وسخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)، (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه) وهذه الأنعام المختلفة الأصناف خلقها لكم ترعى الكلأ، ثم تخرج لكم من بيبن الفرث والدم لبنا خالصا سائغا للشاربين. (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين)، (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين)، (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون).
وأنتم يا أبناء آدم يا من تدلون بقوتكم وتفاخرون بقدرتكم ماذا كنتم؟ إنكم لم تكونوا شيئا مذكورا، ثم خلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، ثم جعل لكم جمالا وقوة وعقلا، ثم(974/31)
تهرمون وتضعفونوتهن عظامكم وتموتون، فإذا جاء يوم القيامة عدتم إلى حياة أخرى، أعادكم الرحمن الذي وهبكم الحياة الأولى. (. . . فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى. ثم تخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا)، (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) أليست كل هذه وغيرها آيات ناصعات دالة على قدرة الله وعلى أن هذا الكتاب من عند إله قوي قدير مدبر للكون، يعلم السر والظاهر ويدبر شؤون المخلوقات؟ إنه لا ينكر هذا إلا جاهل متعصب.
الجنة والنار في القرآن:
الجنة والنار من الموضوعات التي كثر ذكرها في القرآن وهما رمز لحقيقة أبدية، لم تصادف من حسن الذكر والعناية بالشأن كما صادفت في القرآن. لقد ذكر القرآن الجنة وملاذها ونعيمها، ومن هم الذين سيدخلونها (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا)، (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا)، (إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم. كلوا وأشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين. . . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون. يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم. ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون)، (في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين)، (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم).
وذكر النار وشدة بأسها وعذابها تنكيلا بأهلها، ثم ذكر من هم الذين سيدخلونها. جهنم(974/32)
المتغطية التي لا تشبع أبدا التي وقودها الناس والحجارة. (إذا القوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ)، (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا)، (إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى)، (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد).
وأما أصحابها فهم الأخسرون أعمالا) الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا).
وأنت ترى في أماكن كثيرة مقارنة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار وما يلقاه كل منها جزاء ما عمل (هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع). (وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية. لا تسمع فيها لاغية. فيها عين جارية. فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة)، (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم. خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم. إن هذا ما كنت به تمترون)، (إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين، كذلك وزوجناهم بحور عين، يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم).
ثم يصور قيام الساعة ويوم الحشر إذ يجتمع الناس ليأخذ كل منهم كتابه الذي أحصيت فيه أعماله (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول - فرحا مغتبطا بما نال من حسن الجزاء على ما قدمت يداه في الدنيا - هاؤم أقرءوا كتابيه)، (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول - حزينا مهموما قد فقد أمله في النجاة وعلم أنه حقت عليه كلمة العذاب - يا ليتني لم أوت كتابيه).
هذا اليوم الذي فيه تذهل الأم عن رضيعها والأب عن ابنه والزوج عن زوجته، بل يتمنى الإنسان الذي أخذ كتابه بشماله أن يفتدي نفسه بأمه وأبيه وصاحبته وأخيه وكل من له صلة به (يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)، (يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن. ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم يوم المجرد لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته(974/33)
وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه)، (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه).
ماذا نرى من هذه الصور الواضحة والتصويرات القوية؟ وما المقصود من هذا الإسهاب في ذكر هذه الأشياء؟ إن شيئا واحدا هو المقصود بكل هذا التصوير العظيم للحقيقة الروحانية الكبرى أم الحقائق التي بنى عليها نظام المجتمع وحياة العالم. أعنى بها الواجب وجسامة أمره، لأنه أمر خطير جسيم والحياة بغير واجب شيء لا قيمة له ولا شأن إن كل هذه الأشياء التي ذكرت تبين لنا قيمة الإنسان في هذه الحياة وأنه لم يخلق هملا حقيرا - وهذه القيمة نأخذها من جسامة ما القي على عاتقه من واجبات هو مطالب بها محاسب عليها - بل إن لكل مهما حقر، عمل إنساني له خطره وقيمته، وله على هذا الجزاء والأجر (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما)، (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) ويتجلى لنا هذا القول ظاهرا قويا في بعض أقوال محمد التي منها (إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى). فمن كان عمله سيئا فله من السوء نتيجة أبدية - ألا وهي جهنم التي وصفت - ومن كان عمله صالحا فله ثمرة صلاحه السرمدية - وهي الجنة التي وعد المتقون. .
إن الإنسان قد يصل بأعماله إلى أعلى عليين فيصبح رفيقا للملائكة والصديقين والشهداء والصالحين. وقد يهبط بأعماله إلى الدرك الأسفل من الحياة، فيصير ممن طردهم الله من رحمته وحرم عليه نعيم جنته التي وعد بها أصحاب الأعمال الصالحة.
لقد كانت روح محمد ذلك الرجل الذي عاش في الصحراء، تلتهب بكل هذه الخواطر التي أوحى بها إليه ربه، بل إنها نقشت على قلبه هي وبقية أجزاء القرآن الأخرى بأحرف من نور فصهرت نفسه الآدمية وأحالتها إلى روحانية صافية سمت إلى درجات العلى. . . لم يكن محمد بالأناني ولا بالمستأثر بالخير دون سواه، فقد حاول أن يجعل من أصحابه صورة منه، ومن تابعيه قوما صالحين ليضمن لهم التلذذ في الدنيا والآخرة. فحاول مخلصا كل الإخلاص جادا كل الجد أن يصور ما يجول في نفسه من خير للناس ويوضح لهم حقائقه، فقدمه لهم في تلكم الصور الباهرة التي منها صورة الجنة والنار، بل واستطاع أن يبين لهم أي ثوب لبسته تلك الصور من الحقيقة، وأي قالب صبت فيه حتى جعل هذه الصور كلها(974/34)
مقدسة عند المسلمين مصدقة عند عامتهم وخاصتهم لا يقبلون فيها جدلا ولا يرغبون في غيرها بديلا.
يأخذ البعض على الصورة التي رسمها القرآن للجنة والنار، تغلب الحسية والمادية ويقولون إن هذه الحسية قد أفقدت هذه الصور بهجتها وحدت من خيال السامع لأوصافها. ولكن فات هؤلاء أن الصور التي رسمها القرآن ليست حسية مادية - كما يقولون - ولكن القرآن روحاني سماوي فقد أقل جدا من إسناد الماديات والحسيات إلى ما صوره من صور وأن كل ما جاء فيه خاصا بهذه الصور وخاصة الجنة والنار إنما هو إيحاء وتلميح.
لكن العيب على هذا كله يقع على الشراح والمفسرين الذين قاموا بتفسير ما جاء في الكتاب المبين , فهم الذين لم يتركوا متعة شهوية ولا لذة حسية إلا حاولوا أن يلحقوها بالجنة ظنا منهم أن هذا يجذب الناس إلى الأعمال الصالحة التي تؤدي إليها. كما لم يتركوا عذابا بدنيا ولا ألما حسيا إلا حاولوا إسناده إلى النار ظنا منهم أن هذا هو أشد رادع عن إتيان المنكرات.
إن القرآن جعل أكبر متع الجنة روحانية إذ قال: (وسيق الذين أتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) فأي شيء أحب إلى نفس الإنسان من الأمن والسلام، إنهما في نظر كل عاقل غاية ما يتمنى وأقصى ما يسعى إليه، ثم يقول في مكان آخر (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) فأي رذيلة وأي عمل أشد خبثا من الغل والحسد اللذين هما مصدر المصائب والمحن والآفات والنقم. إنهما أساس ما يصيب العالم من الكوارث والمهلكات والحروب الطاحنة فإذا نزع ما في الصدور من الغل والحسد، صارت الحياة أهنأ وألذ كأنما هي الجنة التي أرادها الله بل إن الجنة لا تفضلها في شيء.
إن السلام والأمن والتصافي كل هذه الأشياء حفل بها هذا الكتاب الذي جاء من لدن حكيم خبير.
عبد الموجود عبد الحافظ(974/35)
التعليم في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
لا بد للباحث في حالة الإصلاح في بلدنا هذا من أن يقف بين يديه آن وآن برهة من الزمن ليراجع فيها الماضي وليدقق النظر في الحاضر تعرفا لما كان، وتلمسا لما يكون، لعله يتمكن بذكريات الماضي وعبر الحاضر من رسم خطة سليمة للمستقبل. والتعليم في مصر وهو من أهم أسباب نهضتها وأعظم عوامل الإصلاح فيها من الأمور التي يجب على المسئولين أن يراجعوا أنفسهم فيه بين فترة وأخرى حتى يتبينوا عيوبه في الماضي ليتخلصوا منها في الحاضر وفي المستقبل في سبيل تنشئة جيل جديد يستطيع النهوض بالبلاد النهوض المأمول.
إن السياسة العامة التي عليها الحكومات المتعاقبة من زمن بعيد تعنى عنايتها الكبرى بنشر التعليم والإكثار من المدارس والمعاهد أكثر من عنايتها بأي شيء آخر، حتى لقد تضاعف في السنوات العشر الأخيرة عدد المدارس، كما أصبحت لنا فعلا ثلاث جامعات تضم الآلاف من الطلاب. وهناك جامعة رابعة ينتظر أن تنهض بالعمل في العام القادم بعد أن كانت لدينا جامعة واحدة. ولا شك أن نشر العلم بين الناس عمل جليل مشكور بشرط أن يكون ذلك على أساس سليم مثمر، في نظام يؤدي إلى التكوين الصحيح الذي يعرف به كل متعلم واجبه نحو نفسه ونحو معهده ونحو مواطنيه ونحو بلاده. فهل عرف متعلمونا اليوم واجبهم الحق وأدوه بعض الأداء؟ الرد على ذلك فيما أذاعه وزير المعارف السابق في بيانه عن حالة المدارس الراهنة مما ملأ قلبه وقلب المصريين حسرة على ما أصاب معاهد التعليم من انتكاس وتدهور وفوضى يؤسف لها كل الأسف. وعندي أن الأمر في ذلك راجع إلى شيء واحد طالما نبهنا إليه في مقالاتنا في مجلة الرسالة الغراء التي لا تدخر وسعا في العمل للنهوض بأبناء هذه الأمة. . وفي تقاريرنا التي شرفنا برفعها إلى وزير المعارف منذ أكثر من ربع قرن من الزمان من سنة 1923 إلى اليوم. . بل وفي مؤلفنا (التعليم والمتطلعون في مصر) الذي سبق أن أصدرناه منذ ثلاثة عشر عاما والذي ذكرنا فيه في صراحة وجلاء في صفحات متعددة منه أن المدرسة المصرية أهملت وأجبها في تربية تلاميذها وتكوينهم تكوينا خلقيا صحيحا. . وأن واجبها يقتضيها أن توجه عنايتها الخاصة(974/36)
إلى ذلك، لأن التكوين الخلقي هو الدعامة الحقيقية للتنشئة، وهو الذي ترعاه رعاية تامة كل الأمم في تكوين أبنائها، وهو الذي وجهنا إليه الله تبارك وتعالى في وصف نبيه الكريم بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم) وهو الذي عنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
نبهت مرارا وتكررا في أكثر من ربع قرن من الزمان إلى ضرورة العناية بالتكوين الخلقي في المدارس، ورفعت التقرير تلو التقرير إلى المسئولين ناصحا ومنبها ومنذرا، ولكن الجميع كانوا يبحثون مندفعين وراء المناهج ووراء العلم فقد دون الأخلاق. ولقد جاء في تقريري المرفوع سنة 28 إلى وزير المعارف لما بعث يسأل كبار رجال التعليم عن المناهج ما يأتي:
يا صاحب المعالي: مشكلة التعليم في مصر مشكلة معقدة يهتم لها الشعب وتهتم لها الحكومة اهتمامها بأهم أمور الدولة؛ لأنها أساس من الأسس العامة في بناء النهضة، وفي نظري أن مسألة المناهج ليست أهم شعب تلك المشكلة؛ فهناك نظم التعليم وما فيها من عيوب، وهناك المدرسون وكفايتهم، وهناك التعليم في مجالس المديريات، وهناك الارتباط بين التعليميين الأولى والابتدائي، وهناك مسألة تشجيع الكفاءات الخ الخ). وجاء في هذا التقرير (لا أراني مغاليا إذا قلت إن روح المنهج الجديد هي هي بعينها روح المنهج القديم، فالمدرسة الابتدائية وكذا الثانوية لا زالت منفصلة تماما عن البيئة المحيطة بها. . ونظرية حشد الأدمغة بالمعلومات البعيدة عن الحياة لا زالت متجسمة في منهجها الجديد، ولا زال كثير من التلاميذ يبغضون المدرسة وذكرها وكل ما له مساس بها، ولم يعمل المنهج الجديد شيئا في سبيل تحويل وجهة نظر التلاميذ والأهلين عن الوظائف والتوظف الخ الخ)
وجاء في مؤلفي سابق الذكر صفحة 193تحت عنوان عيوب التعليم الحاضر ما يأتي:
(هذا والمعلم القديم الذي باشر العمل في المدارس المصرية منذ عشرين سنة ولا يزال يباشره إلى اليوم يشعر بالأسف العميق أيضا؛ إذ يحس أن روح الجد والعمل من ناحية التلاميذ قد انقلبت إلى روح استهتار وقلة اكتراث وكسل يصحبها ميل شديد إلى الأخذ بأكبر نصيب من المتعة واللذة وحياة الطراوة والهزل، حتى حار فيهم المربون وضاقوا بهم ذرعا واستولى اليأس من إصلاحهم على قلوب الكثيرين، وأصبحت الحالة لا تطاق بين(974/37)
جدران المدارس بسبب ما يوجد من الاستهتار والرعونة والخروج على المبادئ الأساسية المرعية بين التلميذ ومعلمه - وأن الفوضى التي تنتاب المدارس أحيانا من خروج على النظام والآداب وإتلاف لبعض أثاث المدرسة مما يتناول كرامتها وكرامة أساتذتها لما تحزن له النفس ويهلع له القلب، وهذه حالة ستؤدي حتما إلى تدهور خلقي أشنع مما تقاسيه البلاد الآن إذا لم تجد اليد القوية الحازمة الرادعة التي تضع الأمور في نصابها فتعيد إلى المدرسة كرامتها وتجعل أساس المعاملة بين التلميذ وأستاذه ومدرسته الاحترام الحقيقي المشوب بالعطف الأبوي. . يقابله في الوقت نفسه حب بنوي) هذا إنذار قدمته منذ ثلاثة عشر عاما للمسئولين فلم يستمع له أحد، وقد تحقق اليوم مع الأسف الشديد ما تنبأت به. وعلاوة على ذلك فقد أفردت الباب الرابع كله في مؤلفي السابق الذكر لموضوع تكوين الأخلاق بالذات، وأبنت فيه كثيرا ما لتربية الأخلاق من قيم ونتائج، كما رسمت فيه خطة للإصلاح الخلقي.
وإني لا زلت أقرر - والحزن الذي ملأ قلب معالي وزير المعارف السابق وقلوبنا اليوم يملأ قلبي من سنين عديدة - أن الحالة المحزنة التي وصلت إليها المدرسة المصرية اليوم ترجع إلى إهمال العوامل النفسية والخلقية التي تؤثر أعظم التأثير في تكوين الناشئين. تلك العوامل التي نبهت إليها من زمن بعيد فلم يأبه لنصيحتي أحد فأصبحنا نقاسي اليوم نتائجها السيئة المريرة حائرين منزعجين مستفسرين متسائلين.
أمرتهمو أمري بمنعرج اللوا ... فلم يستبينوا الشد إلا ضحى الغد
لقد أصبحنا اليوم على أبواب بحث جديد في حالة التعليم تجربة معالي حسونه باشا وزير المعارف وهو الرجل الذي يقدر الأخلاق الفاضلة حق قدرها، ويشرف عليه ذلك الرجل النابغة الذي كرس حياته لبناء مجد الوطن رفعة علي ماهر باشا الذي تفخر به مصر كلها والذي أفخر شخصيا بأنه من بين مئات الكبراء المفكرين الذي أهديت إليهم مؤلفي سابق الذكر (التعليم والمتعطلون في مصر) كان الرجل الوحيد الذي تكرم فقرأه بعناية وأثنى عليه الثناء الجميل فكان ذلك مما شجعني على أن أعاود الكرة في الكتابة اليوم في هذا الموضوع الجليل. وفقه الله ووفق جميع العاملين لما فيه خير هذه الأمة إنه سميع مجيب.
للبحث صلة(974/38)
عبد الحميد فهمي مطر(974/39)
رسالة الشعر
تكريم صيدح بدمشق
(زار دمشق في خريف عام 1951 شاعر المهجر الكبير الأستاذ جورج صيدح فأقام له - النادي العربي بدمشق - حفلة (تكريمية) كبرى جمعت العدد الأكبر من شعراء دمشق وأدبائها وشبابها المثقف، وها هي ذي قصيدة الأستاذ أنور العطار التي حيا بها صديقه الشاعر الأستاذ جورج صيدح باسم دمشق، تتلوها قصيدة المحتفى به في حفلة تكريمه)
دارة العرب
فلسطين! يا دنيا المجادة والحب ... ويا مهبط الإلهام والحلم العذب
عليك سلام العرب يندى مواجعا ... ويشرب دمع العين غربا إلى غرب
تطوف بك الذكرى ويهفو لك الهوى ... كأني فيك الجسم خلوا من القلب
بنفسي وأهلي أرضها وسماءها ... ويا لهفي للسهل منها وللهضب
حننا إليها وهي ملء ضلوعنا ... كأن رؤاها حائمات على قرب
فديتك لم أمعنت في الهجر والقلى ... وعشت على صدر وأسرفت في العتب
ولم رحت لا تلوين إلا على النوى ... أمن أمل رحب إلى أمل نهب!
ديار الهوى لا زلت مخضرة المنى ... ترف على مغناك فينانة العشب
أراك بعين الحب طيفا مجسدا ... يقاسمني كربي ويغفر لي ذنبي
فهل لفنا الماضي خيالا على المدى ... وألفنا كالهدب يعلق بالهدب
أيا روضة الأحباب لولاك ما ارتوت ... جفوني، ولا روتك بالهاطل الصب
ولا طاف بي التذكار حلوا كأنما ... أعيش به في عالم مونق رحب
خيالك في عيني وذكراك في فمي ... وبي منك ما يغري المحب وما يصبي
لأنت هوى قلبي الذي مضه الهوى ... وعلله بالوصل كالعاشق الصب
وما غبت عن طرفي وإن بعد المدى ... ولكننا في الحب جنبا إلى جنب
وما ذكرتك النفس إلا تولهت ... وهيمها برح فباتت بلالب
وإن بتذكار الديار علالة ... تروح عنها ما تعاني من اللهب
يهيج جواها الشوق والشوق عاصف ... كأن على أنفاسه زفرة النحب(974/40)
فيا لك ذكرى ملؤها الوجد والأسى ... مضرجة الأعطاف بالنوح والندب
دهتك من الدنيا كوارث جمة ... وألقت بك الويلات في مزلق صعب
وما غير الأيام مهما تفاقمت ... بأعظم مما ذقت من فادح الخطب
أيغدو مطاف المجد نهبا مقسما ... ولا تغضب العرباء للنهب والسلب
وكانت إذا نابت ديارا أذلة ... تفجرت الأرواح بالسمر والقضب
حنانيك ربي ما ليعرب لم تفق ... وما خلقت إلا من الشب والهب
فما بالها إن هاجها البغي لم تهج ... وإن قرعت بالسب نامت على السب
أحقا توانت عن منازلة العدا ... أصدقا، وليت الصدق ضربا من الكذب
وهل غضب العادي ديار أحبتي ... وقرت نفوس العرب طوعا على الغضب
فصبرا على البلوى وإن جل أمرها ... وصبرا على الآلام والنوب الغلب
فقد ينجلي الليل الطويل عن السنا ... وتزدهر الأعواد في المهمه الجدب
ويمرع قفر عمه المحل والبلى ... كأنك منه في نماء وفي خصب
ويرجع وجه السلم جذلان ناظرا ... بحرب تلف الأرض بالطعن والضرب
إذا لم يكن في السلم خير ونعمة ... فما الخير إلا في ممارسة الحرب
فبعدا لمن قد عاش في الضعف والونى ... وتبا لعان لا يفيق من الرعب
إذا دهمته الداهمات تلجلجت ... به النفس وانهارت تقول له حسبي
ويا فوز من أسقى العدا أكؤس الردى ... ولم يعي بالأيام نكبا على نكب
يظل شديد البأس بالحق جاهرا ... ويختال في وشي المخيلة والعجب
يا حاديا إما تيممت أرضها ... فعرج عليها وانثر الزهر في الدرب
أمل أصحابي إذا مر ركبهم ... يرون بنثر الزهر ما يزدهي صحبي
وطوف رباع الخلد تطواف عاشق ... حسير الأماني وابك بالمدمع السكب
وغن الحمى حتى يروق لك الحمى ... وينصت مشتاقا إلى نغم الركب
أطل وقفة في الدار ولثم ترابها ... فمن حقها أن تلصق الخد بالترب
وناج دماء أهرقت في رحابها ... وسلسل لها وجدي وصور لها حبي
وقل يا دارا مضها لاعج الأسى ... وأسلمها الباغي إلى الهم والكرب(974/41)
أيا طول شجوى إن خلصت إلى العدا ... ولم ترجعي يا دارة العرب للعرب
ويا (صيدحا) أهدى فلسطين قلبه ... ورد الأذى عنها بمرقمه العضب
وقدم أغلى الشعر مهرا لنصرها ... وما شعره إلا من اللؤلؤ الرطب
إليك أودي بعض ما تستحقه ... رفيفا من التحنان والنغم العذب
وأنت جدير بالدراري فليتني ... أصوغ بياني من سنا الأنجم الشهب
ألست الذي ناجى الخلود بشعره ... ورفرف صداحا على الشرق والغرب
وعيتك في أذني نشيدا محببا ... تغلغل حلوا في السويداء من قلبي
أنور العطار(974/42)
يا مهد الصبا أين الصدي
أم النسور، تفرسي وتأملي ... أعرفت وجه القادم المتهلل؟
هذا فتاك إلى متى نكرانه ... أو ليس في لبد سمات الأجدل
ما عابه الجسم المهيض تبدلت ... قسماته والقلب لم يتبدل
هو من بزاة العرب جشمه السرى ... وأحاله صرف الزمان الحول
شرع القوادم للجهاد أسنة ... عشرا، فإن يجهل عليه يجهل
ولوى الجناح على الخوافي عله ... يخفي ضآلة ريشه المتهدل
الله يا مهد الصبا، أين الصدى ... يحكى متى أعيت لهاة البلبل؟
غيري ذكرت وقوفه وبكاءه ... يا ليتني بين الدخول فحومل!
أغشى الحدائق أستميل غصونها ... فتميل عني كالرعيل المجفل
وأخالس الأزهار بعض طيورها ... فتصدني وتبنها في الشمأل
ذهلت عن الصب الذي رضع الهوى ... من ثديها، والصب لما يذهل
أعرضت عنها ثم جئت فأعرضت ... حاشاك يا وطني ترد السهم لي!
وأنا الذي قربت روحي للحمى ... وسجدت في محرابه والهيكل
بدم الشباب خضبت ورد رياضه ... ورجعت أغسلها بدمعي المسبل
ما زلت أستجديه حتى رق لي ... (بردى) ومد ذراعه في الجدول
غنى وثنى شاديا ومرحبا ... أيكون من خطباء هذا المحفل
لولاك يا نادي العروبة لم أقم ... من عثرة الآمال جد مؤمل
حييت فيك أحبتي فأجازني ... نثر (المقفع) بعد شعر (الأخطل)
فكأنني أبصرت وجه (أمية) ... وسمعت (معبد) منشدا و (الموصلي)
لامست في الأدب المخدر يقظة ... فتحت نواظره على المستقبل
بشرى لعشاق البيان أزفها ... نفض التراب عن التراث المهمل
وتحفزت (لغة الكتاب) لوثبة ... هدفت إلى النهج الجديد الأفضل
قد يصلح (العطار) من شعرائكم ... ما أفسدته سياسة المستعمل
ويقوم من علمائكم من يلتقي ... وهو الأخير في زمانه بالأول
إني دخلت على عكاظ تطفلا ... لولا قيام العذر لم أتطفل(974/43)
شق التغرب في الفصاحة شقة ... بيني وبين الناطقين المثل
فإذا أردت الشعر يجمع بيننا ... أرسلته عيا فلم أسترسل
أمضي وقلبي في دمشق رهينة ... أودعتها قلب الثرى والجندل
لغفرت للأم الجراح لو أنها ... شفعت بأختي من قضاء منزل
في جيرة الشهداء حلت منزلا ... وأظنها أخذت تهيئ منزلي
جورج صيدح(974/44)
الكتب
الأفق الأعلى في دراسة الهواء الجوي
تأليف الأستاذ عمر كامل الوكيل بك
ناظر مدرسة التعاون الإنساني الثانوية بدمنهور 206 صفحة من القطع الكبير. . الثمن 50 قرشا.
للأستاذ عبد القادر حميدة
قبل أن أتناول الحديث عن هذا المؤلف الذي بين يدي. . يجدر بي أن أتحدث قليلا عن البلد لا بنى يقدم بين الفينة والفينة شاعرا عبقريا. . أو ناثرا فذا. . أو عالما جليلا. . أو رساما راسخا. . أو زجالا بارعا. . منهم من أتيحت له الفرصة فخرج بفنه على الناس. . ومنهم من تصدت له يد القدر فحجبت إنتاجه عن أعين الناظرين. .
وذلك البلد أعني به دمنهور. . دمنهور التي أهدت إلى دولة الشعر - بالأمس القريب - زعيما من أقدر زعمائه. . وقائدا من أبر قادته. . أهدت المرحوم أحمد محرم. . إلى قراءة العربية عامة. . ومتذوقي الشعر خاصة. . فوثب وثبته. . وصال صولته. . فاتجهت نحوه الأبصار. . وكانت بمثابة الأشعة النفاذة. . كشفت خبايا نفسه. . وأظهرت معالم أعماقه. . فبدت إنسانيته الرائعة تتجلى بها فرائد نظمه. . وليس لدي ما أقوله عنه أبلغ مما قاله هو في نفسه من قصيدة يخاطب فيها أمه التي كانت تحاول أن تصرفه عن النظم.
أماه لولا الشعر أنظم دره ... ما كان لي هذا الثناء الطيب
سارت قصائده فأشرق مشرق ... بسنا كواكبه وأغرب مغرب
هذا لساني ما يفل حسامه ... إن فل في الروع الحسام الأشطب
كم شاعر ذرب المقالة غالب ... غادرته في القوم وهو مغلب
تلك هي سطور في أحمد محرم. . أو أحمد محرم في سطور. . وسأتناول البحث والاستقصاء عنه في مقال خاص منفرد - في القريب - على صفحات الرسالة الزاهرة. . رحمه الله وحيا دمنهور التي أنجبته. . وأهدت غيره من الشعراء أمثال: محمد محمود زيتون، إبراهيم محمد نجا - أبو النصر عبد الرحمن (شاعر الزعيم) - علي قضيب.(974/45)
دمنهور التي اقتحمت في ميدان القصة الفنية القصيرة المركزة حشدا من الأقلام. . فملأت بطون الصحف اليومية والأسبوعية بالنادر من الأفكار. . وبالسلس من الأسلوب. . أذكر من أصحاب هذه الأقلام على سبيل المثال لا الحصر: محمد محمود زيتون، إسماعيل الحبروك - محمد محمود دوارة - أمين يوسف غراب - عبد المعطي المسيري - محمد علي الليثي. . ودونهم كثير.
دمنهور التي قدمت في العام الماضي رسامها العبقري. . بهاء الدين الصاوي. . بلوحاته الرائعة. . ومعرضه الفريد. . الذي يشهد بروعته وإبداعه كل من شاهده في دار الأوبرا الملكية. . وتشهد عليه المداليات التي نالها.
دمنهور التي قدمت كل هؤلاء - والتي تحفل بكثيرين دونهم ضربوا في شتى نواحي الفن. . وساهموا بنصيب وافر في نهضته - تقدم لنا اليوم. . الأستاذ عمر كامل الوكيل بك تقدمه لنا في كتابه (الأفق الأعلى في دراسة الهواء الجوي) والكتاب كما ينم عنه عنوانه. . مؤلف علمي يبحث في الكون. . بيد أن القارئ لهذا السفر يمكنه أن يأتي بتعبير آخر فيقول (إنه مؤلف علمي أدبي) ذلك لأنه جمع بين غزارة المادة. . ورقة الأسلوب. . على غير ما تعودنا من مؤلفي الكتب العلمية حيث يتقيدون بأمانة النقل والإصلاحات الموروثة. . فتغدو مؤلفاتهم وقد افتقرت إلى أهم العناصر أثرا في إرغام الطالب المطلع على المتابعة والتقصي. . ذلك لأنها خلت من عنصر التشويق. . وهو القوة الممغنطة المتبادلة بين القارئ والمقروء. . والتي ما من شك في أن - أي القارئ - سيقع تحت تأثيرها فيجذب إليه - قسرا - والتأثير سابق للجذب - ليأتي على محتوياته. ويلتهم كل ما يحويه بين دفتيه دراسة وتحميصا. .!! ومؤلف هذا الكتاب - كما بدا لي خلال مناقشة أثرناها معا حول هذا المؤلف - ممن شعروا بهذا النقص فجاء كتابه فقيرا منه. . متخما باللفتات السريعة المشوقة. . غنيا بالعبارة الرصينة الدسمة. . وقد حرص على أن يمهد للشيء قبل أن يقدمه. . فاستطاع بذلك أن يشق به الطريق معبدا إلى العقول والإفهام.
أقرأ له (ص) حين أراد أن يقدم دراسة عن السماء: (تلك هي السماء قبلة الدعاء. وباب الرجاء. . وملهمة الفلاسفة والشعراء. . ومستقر الملائكة ومعراج الأنبياء. . هبط منها الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهو في حالة بالغة حد الحيرة والقلق ليقول(974/46)
له مطمئنا ومعلما (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق) ويقول في فقرة أخرى. (وللسماء يتطلع المظلوم شاكيا. . والمريض راجيا. . والظالم مستغفرا تائبا. . فماذا أنت أيتها السماء؟ القوى والعاجز والصحيح والعليل. . والشاعر والعاشق. . والعابد الزاهد والمجرم الأثيم. . كلهم يحنون إليك ويتقسمون في رحابك. . ويلتمسون العطف والرحمة عند بابك. . ولعمري أن لهم فيك جميل التسلية والعزاء. . حيث وجدوا لديك كنزا من المعرفة ومتسعا من الرحمة والحنان. . وخلاصا من الشدة والبلاء. . فليس بعجيب أن يولي الناس وجوههم صوب السماء ابتغاء الدعاء. . أو طالبين المتعة الروحية أو المزيد من العلم والعرفان. ولكن العجيب أن يسير بعض الناس مكبا على وجهه مغمض العينين (وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون).
هذا أيها القارئ من ناحية الأسلوب والتمهيد. . وهما كما ترى هاملان أساسيان شيد على قاعدتيهما صرح ذلك البناء الكامل. . وإني لا أعدو الحقيقة إذا قلت إنهما الحافزان القويان على إيقاظ الشعور في نفس القارئ. . ودفعه دفعا إلى الاستزادة من تلك المتعة الفكرية ليخلق في عالم فسيح أطباقه وأغواره أدب. . .!
أما فيما يتعلق بموضوعات الكتاب فيكفيك أن تعرف أن مؤلفه صرف وقتا طويلا يدرس ويبحث ثم يستقرئ ويستنتج. . وقلما أغفل شاردة أو واردة إلا وتناولها بالفحص على ضوء معلوماته ودراساته. . وبهذا جاء الكتاب ناضجا من كل وجه. وقد استعان في تأليفه بشذرات قليلة من أقوال ونظريات واقتراحات كتبها بعض علماء الطبيعة وفلاسفتها من أمثال: نبيولا - سير جيمس جينز صاحب كتاب (الكون الغامض) - هن رسل , - ليتلون - ج. مللر - ب. م. بك , - ملتون. وقد عقب على نظرياتهم واقتراحاتهم بآراء زادتها وضوحا وجلاء وقربتها إلى المدارك سهلة مستساغة. وفي الكتاب فصول كثيرة ممتعة طرقها المؤلف خليقة بأن يجد القارئ فيها لذة وفكرا ومعرفة. . وحسبي أن أذكر منها: الكون - السماء - المجموعة الشمسية - الأرض - الشمس - القمر - المادة وتركيبها - الهواء - مولد الهواء - مكونات الهواء - ارتياد مناطق الجو - مناطق الجو - الحركة الموجية - النيازك أو الشهب - اللاسلكي - الصواريخ. . الخ. . . وقد وفق الكاتب في تناولها توفيقا يدعو إلى الإعجاب. . أما بعد: فهذا كتاب يعتبر في(974/47)
مجموعة موسوعة علمية. . وقد كان بودي أن أوفيه حقه من الثناء لولا حرصي على ألا تخرج كلمتي من حيز (التقديم) إلى نطاق (الدعاية). . وإني لأدعو كل قارئ يدفعه النهم العلمي إلى التنقيب عن الجديد من الكتب. . أدعوه إلى مطالعته لما في محتوياته أكثر من سبب يدعو إلى ذلك. . وإني لأشعر بكثير من الفخر والغبطة إذ أقدم هذا المؤلف إلى من يريد أن يقرأه. . وإذا أعرفهم بعالم من دمنهور ينبغي أن يعرفوه ويقرءوا له. . كما أناشد الأستاذ الكبير عمر بك. أن يعجل بمولد (الجزء الثاني) من تلك السلسلة الطبيعية ليتسنى لكثير من الناس الإفادة منه في فهم المسائل التي فاتهم تفهمها في موسوعات العلوم لكثرة ما استغلق على القارئين فهمه من مسائلها
دمنهور
عبد القادر حميدة(974/48)
البريد الآبي
كلمة - سائر - وما يحيط فيها
اطلعت على ما نشر في العددين 960 و967 من مجلة الرسالة الغراء حول كلمة سائر فأقول:
1 - جاء في الصفحة 64 من كتاب (فروق حقي) أن (السائر بمعنى الباقي. قال الشيخ تقي الدين لفظ سائر بمعنى الجميع مردود عند أهل اللغة معدود من غلطة العامة وأشباههم من الخاصة. . والالتفات إلى قول الجوهري صاحب اللغة سائر الناس جميعهم فإنه لا يقبل ما ينفرد به. والحق أن كلا من المعنيين أي الجميع والباقي ثابت لغة كما ذهب إليه الجم الغفير من الأذكياء. والجمع الكثير من الفضلاء هو السؤر بالهمز وهي بقية الشراب وغيره.
2 - وورد في الصفحة 23 من كتاب البحاثة اللغوي - محمد
عبد الجواد ما نصه: سائر (أطالت درة الغواص وشرحها في
هذه الكلمة ولم يخرجا نتيجة واضحة. وقد وقفت على كلمة
موجزة للبغدادي في ذيل الفصيح ص 4 أثبتها هنا لوضوحها
وجليل فائدتها وهي: جاء سائر القوم أي بقيتهم مأخوذ من
سؤر الإناء وقال الجوهري سائر القوم معناه جميعهم وذكره
في باب الياء. أقول أن الصحيح أن سائر بمعنى جميع ولا
يبعد أن يستعمل بمعنى جميع البقية ويكون من ذوات الواو
مأخوذا من السور لإحاطته. 1هـ والثمرة أن سائرا يستعمل
أحيانا بمعنى الجميع وأحيانا بمعنى البقية كلها. . والمقام كفيل
بإظهار المراد فتخطئة أحد الاستعمالين خطأ).(974/49)
3 - وذكر في هامش الصفحة 160 من شرح السيد الشريف
علي السراجية مع حاشية العلامة محمد شاه الفناري نقلا عن
تهذيب اللغات للإمام النوري وتهذيب اللغة لأبي منصور
الأزهري وشرح أدب الكتاب لأبي منصور الجواليقي ما أعيد
نقله بالحرف الواحد (قال الإمام النوري في تهذيب اللغات قال
الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى: استعمال سائر بمعنى
الجميع مردود عند أهل اللغة معدود في غلط العامة وأشباههم
من الخاصة. قال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة: أهل
اللغة اتفقوا على أن معنى سائر الباقي قال الشيخ ولا التفات
إلى قول الجوهري صاحب اللغة سائر الناس جميعهم فإنه ممن
لا يقبل ما ينفرد به وقد حكم عليه بالغلط في هذا من وجهين:
أحدهما في تفسير ذلك بالجميع، والثاني في أنه ذكره في فصل
(سر) وحقه أن يذكر في فصل (سائر) لأته من السؤر بالهمزة
وهو بقية الشرب وغيره - إلى هنا كلامه. فعلى هذا التقرير
لا يناسب أن يقول عن سائر ما عداه بهذا المقام لأن المتبادر
منه على تقدير كون السائر بمعنى الباقي نفس الشيء بل
المناسب أن يقول عما عداه كما لا يخفى لكن استعمال السائر(974/50)
بمعنى الجميع سائغ ذائع، والغزالي استعمل السائر بمعنى
الجميع في مواضع كثيرة ولم ينفرد بها الجوهري بل وافقه
عليه الإمام أبو منصور الجواليقي في أول كتاب شرح أدب
الكتاب والشارح المحقق قدس سره تبعهما واستعمل السائر
بمعنى الجميع ههنا ومعنى قوله عن سائر ما عداه عن جميع
ما عداه).
هذا ولا أريد الآن أن أستقصي أكثر من ذلك.
أحمد الظاهر
خطآن لا يغتفران
وقعت الأهرام في خطأين اثنين لا يحسن السكوت عليهما وإن كان بعض كبار الكتاب ينساق انسياقا إليهما:
فأما الخطأ الأول فقد وقع في عنوان مقالها المنشور في 12 - 2 - 1952 وهو (معنى الكبرياء القومي) أي بتذكير كلمة (الكبرياء) مع أنها مؤنثة. وبما أنه لم يشر إلى تصحيح هذا الخطأ أحد من حضرات من نصبوا أنفسهم لهذا الغرض النبيل فإني أستاذهم في التنبيه إليه مشيرا إلى قول التنزيل الحكيم (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) فقد أنث الكبرياء حتى مع وجود فاصل.
وأما الخطأ الآخر الذي كان حافزا لي على تصحيح الخطأ الأول فقد وقع في مقال الأهرام المنشور في يوم 23 - 2 - 1952 إذ وردت بهذه العبارة (إن حكومة المحافظين لا تكاد تنقل قدما إلا وتؤخر قدما). وهذا التعبير خاطئ لا يفيد معنى التردد الذي تعنيه الأهرام بل هو يفيد العكس تماما فتقديم قدم وتأخير القدم الأخرى يفيد لإقدام لا التردد. . . لأن السير الطبيعي يقتضي حتما تقديم رجل وتأخير الرجل الأخرى، فكيف يستعار هذا السير(974/51)
الطبيعي للتردد؟ لعل الأهرام ظنت أن كلمة (أخرى) الواردة بالمثل المعروف (أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى) نعت لكلمة (رجلا) المحذوفة، وهذا الظن أيضا يجانب الصواب، والصحيح أن كلمة (أخرى) نعت لكلمة (تارة) المحذوفة، والتقدير (أراك تقدم رجلا تارة وتؤخرها تارة أخرى). وكان حريا بالأهرام إذن أن تقول (لا تكاد تنقل قدما إلا وتؤخرها) وأذكر أني نبهت إلى هذا الخطأ الذي وقع في كلمة نشرتها الأهرام لكاتب ألمعي بها منذ أكثر من عام. وإني وإن كنت من أنصار التيسير لا يمكن أن أستسيغ هذا الخطأ الكبير.
عبد الحميد عمر
لمن هذا الشعر؟
كتب الأستاذ محمد منصور خضر في الرسالة الغراء في العدد 973 يسأل عن قائل هذا الشعر
نديمي غير منسوب ... إلي شيء من الحيف
ويذكر أنه وجد في كتب التصوف ومنها طبقات الشعراني منسوبا إلى الحلاج في حين أني نسبته إلى الحسين الضحاك في كتابي (نديم الخلفاء) سلسلة أقرأ عدد فبراير سنة 1952 ويطالبني بأن أذكر روايتي له.
وإني أشكر للأستاذ محمد منصور هذا الاهتمام وتلك العناية بالبحث والاستقصاء، وقبل أن أشير إلى المصادر التي اعتمدت عليها أذكر أنني قلت في أحد فصول الكتاب عن مجموع شعره أن كثيرا من شعر الحسين بن الضحاك نسب إلى غيره.
وليس هذا الشعر الذي ذكره الأستاذ محمد منصور هو وحده المتنازع فيه ففي الكتاب أيضا شعر وقع فيه التنازع.
وأول مصدر رويت فيه الأبيات - التي يسأل عنها - للحسين بن الضحاك هو كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني في ترجمته في الجزء السادس طبعة دار الكتب. والمصدر الثاني محاضرات الراغب الأصفهاني ج1 ص333. والمصدر الثالث ديوان أبي نواس رواية حمزة بن الحسين الأصفهاني المطبوع في ص7 ولم يذكر إلا البيت الأول وقال عنه: مما أضيف إلى أبي نواس من شعر العراقيين قول الحسين بن الضحاك الخليع. . الخ(974/52)
والمصدر الرابع هو كتاب أخبار أبي نواس لأبن منظور ج1 ص218 وفيه نسب الأبيات لأبي نواس ثم قال: وتروى هذه الأبيات للحسين بن الضحاك الخليع.
هذا من ناحية الرواية والمصادر - أما من ناحية التحقيق فإن الحسين بن الضحاك توفي سنة 250هـ وأبا الفرج صاحب الأغاني ولد سنة 284هـ والحلاج قتل سنة 309 فأبو الفرج إذن كانت سنة خمسة وعشرين عاما يوم مقتل الحلاج فهو معاصر له. وما يسمونها فتنة الحلاج كانت مشهورة لا تخفى على أبي الفرج لأنه كان متصلا برجال الدولة ومولعا برواية الشعر والأخبار.
وللتوفيق بين ما ذكره الشعراني في طبقاته وكتب التصوف وبين ما ذكرته كتب الأدب أقول إن الحلاج كان يحفظ هذه الأبيات فتمثل بها حينما خرج يتبختر في قيده، وذلك منه ومن غير كان كثير الحدوث. وظاهر أن الأبيات وقصتها هي لصاحب الهمزية في وصف الخمر ألصق وبنسبتها إليه أولى وعلى كل حال هناك جملة لا تحصى من الشعر العربي متنازعة. . وعندي من أمثلتها مئات النماذج. ويجد الأستاذ محمد خضر مثلها مئات.
عبد الستار أحمد فراج(974/53)
القصص
انتحار
للكاتب الفرنسي جورج مورفير
سان رومانو! كم هو بلد جميل رائع! فيه يدرك الإنسان المعنى الذي تنطوي عليه كلمات فلوبير: هناك بقاع في العالم يود المرء لجمالها وروعتها لو يضمها إلى صدره ضمة الوجد الحنين. . .
بيد أن سان رومانو وا أسفاه تشبه أيضا ثمرة لذة فواحة لا يجسر امرؤ على تذوقها مخافة الموت الذي يقطر من عصيرها.
ولسوء الحظ لا تستطيع مناظرها الساحرة الخلابة أن تدخل السرور والبهجة على قلوب الناس. . . ففي جنبات المدينة تقابلك الوجوه الذاهلة والملامح اليائسة والعيون الحيرى الآسفة. . . وفي كل مكان منها تطالعك كلمات السخط والتبرم: ألا ليتني وضعت على رقم 7!. . . آه من هذا الأحمر الملعون، لقد كسب عشر مرات متوالية، وبالرغم من ذلك وضعت على الأسود.
ولم يكن في البلد كله من يلقى أدنى التفاتة إلى المناظر الساحرة الأخاذة التي تنبث فيه. كانت الأرض عندهم (روليت) ضخمة، والسماء صفحة كتب عليها أرقام 30 و40و50
وقد كنت أنا أيضا ضحية هذا البلد الخطير؛ إذ خسرت مبلغا لم يكن جد كبير، غير أنه كان كل ما أملك. وأفقت من نومي ذات صباح كيلا أجد معي سوى اثني عشر فرنك؛ ولذلك اختبرت مسدسي فألفيته يزخر بست رصاصات قواتل كانت في ظني كافية لتمزيق رأس فارغ كرأسي.
وفتحت نافذتي. كان (صباحي الأخير) رائعا جميعا. . فالسماء زرقاء صافية، والأمواج خضراء هادئة، والنسيم يعبق بشذى زهر البرتقال والبنفسج.
وغادرت المنزل إلى الشاطئ لأملأ صدري المنفعل بهذا النسيم النقي الفواح. . . بيد أني كررت عائدا بعد أن سرت قليلا، إذ أحسست جوعا شديدا، وفي أثناء عودتي ابتعت صحيفة سان رومانو المحلية، وهي صحيفة مثيرة، مجللة بالسواد كأنها رسالة حزينة.
ورحت أقلب صفحاتها أثناء الطعام فاسترعى نظري عنوان (انتحارات الأسبوع) فجال(974/54)
بخاطري دون أدنى انفعال: (هنا سيعلن خبر موتي أنا الآخر بعد أيام قلائل) بل وددت لو أشكر سلفا هذا الباب الذي سيعلن نعي في هذه الصحيفة وعلقت عيناي بخبر انفراد بعلامة الصليب في صدره فقرأت فيه (وجدت بالأمس جثة جوسو جاكوبسن - أمريكي الجنس معلقة في إحدى شجرات النخيل الذي ينمو على الشرفة وقد وجد في جيبه مبلغ ثلاثة آلاف فرنك طبعا).
جوسو جاكوبسن؟ أني أعرفه. بل لقد خسرنا كل نقودنا جنبا إلى جنب. وبالأمس القريب حينما خسر آخر فلس معه رأيته يتنهد في عنف وحسرة، ثم أمسك بيدي وهزها بحرارة ونظر إلي بحزن ثم ابتسم وقال بصوت خفيض (لقد دمرت. . . دمرت تماما. . . وداعا يا صديقي). . . ومن ثم ذهب فشنق نفسه.
إذن، كيف أمكن أن يعثروا في جيبه على ثلاثة آلاف فرنك وماذا تعني بحق الشيطان هذه الكلمة (طبعا).
ولاح لي قبس كشف لي الأمر وأبان الطريق. . يالي من غبي! كيف لم أفطن إلى ذلك من قبل. . . لقد دس - ولا ريب - أصحاب الكازينو هذا المال في جيبه لتظليل الناس وحملهم على الاعتقاد أن انتحاره لا يرجع ألبته إلى خسارته بل إلى أسباب شخصية ودوافع نفسية.
وعلى ضوء هذا الاكتشاف الفجائي رحت أفكر! كم يا ترى يدسون في جيبي إذا حزمت أمري وانتحرت على مقربة من الكازينو؟ لقد خسرت بقدر ما خسر جاكوبسن. . . وسربت إلى رأسي فكرة بأسرع مما كان مقدرا أن تسرب الرصاصة.
ثم واصلت تناول الطعام بقلب ثابت أو يكاد يكون ثابتا؛ وذهبت بعدئذ إلى صاحب الفندق وأكدت له أني سأدفع له حسابه في المساء ثم أضفت:
هذا إذا بقيت حيا. .
- إنا نثق فيك كل الثقة يا سيدي.
- إذن فأقرضني مائة فرنك حتى المساء. . . إني أنتظر وصول مال من باريس.
- بكل سرور يا سيدي
وقضيت سحابة النهار على الشاطئ حيث وضعت - بروية وإمعان - خطة انتحار يعود(974/55)
علي بربح وفير.
وفي مساء هذا اليوم بعينه ذهبت إلى الكازينو مرتديا أجمل أثوابي وقد أبنت للملأ أني جئت أجازف بآخر ما بقي لي. . . وأني سأموت هما وغما إن لم أريح.
وطارت المائة فرنك. . . فبدا علي الانزعاج في بادئ الأمر. . . ثم انقلبت أتململ غاضبا حنقا. . . وأخيرا بدأت كالذاهل المأخوذ.
ورثي لحالي شاب قامت بيني وبينه معرفة، وسألني ما الخبر فأنبأته بنبرات حزين يائسة أني أفلست، فأخذ يواسيني ويخفف عني ثم قال:
- لا تيئس فما زلت تملك نفقات السفر إلى وطنك. إن الكازينو - في هذه الحال - يتطوع بـ. . . فقاطعته ببأس قائلا:
إن السفر الذي أزمعه لا يحتاج إلى (تذكرة) فنظر إلي مشدوها وقال:
لا أحسبك جادا في هذا القول. . . آمل ألا تكون قد جننت.
فظللت صامتا، ثم أدرت له ظهري ورحت أجيل بصري ذاهلا في أرجاء المكان بضع دقائق. . وقد لمحت أصحاب (الكازينو) يراقبونني من طرف خفي وانفرط عقد اللاعبين في الساعة الحادية عشرة، فقفوت أثر الخارجين بوجه يحمل علائم الذهول واليأس والتفكير.
وكانت الليلة رائعة جميلة والقمر بدراً يلقي بأشعته الفضية الناعمة على الأرض الشجراء والبحر الأزرق الساكن. وبلغ سمعي أصوات كمان حنون ينوح نوح عاشقة يائسة وجعلت وجهتي - وقد أجمعت أمري - حرجا قريبا من الكازينو، بقعة هادئة تعد بحق أصلح مكان لتمثيل الدور الذي أزمعته؛ وكان ثمة تمثال من الرخام لغانية من غواني البحر بدا كأنه يبتسم وأنا أوشك أن أقوم بدوري.
ودوت فجأة طلقتان ناريتان، وسقطت على أحد المقاعد في وضع مهمل وانتظرت. واقتربت مني أصوات وسقطت عيني المسبلتين ظلال المقبلين.
- يا الهي! إنه هو. . .
- يا للمسكين! لقد قضى على نفسه برصاصتين معا وسمعت بعد ذلك أحد أصحاب الكازينو يقول:(974/56)
- هلم. . . أسرع قبل أن يرانا أحد. تبا له من شيطان! أما وجد غير هذا المكان!
ثم انحنى فوقي فشعرت كأنما أندس شيء في جيبي.
هنالك ارتعدت قليلا. . . وتأوهت مرتين، ثم فتحت عيني ببطيء شديد، ونهضت من مضجعي بعناية وحرص ناظرا في تساؤل وعجب إلى الجمع الحاشد حولي. وفي عدم اكتراث محنق أخذت قبعتي والمسدس الذي كان ما يزال يلفظ الدخان من فوهته وانتصبت واقفا.
وكان المحتشدون ينظرون إلي كأني حيوان غريب الخلقة وقد امتزجت نظراتهم بالعجب والاستفهام. . . وقلت في غضب:
- عجبا لكم يا قوم! ألا يستطيع المرء قتل نفسه بعيدا عن فضول الناس؟ لم نسمع بمثل هذا والله
واقترب مني أحد أصحاب الكازينو ينتفض من شدة الغضب وقال في تلعثم واضطراب:
- سيدي الفاضل. . . أرجو. . . هل. . . إذا. . . ماذا تقصد بهذه المهزلة؟ سأقودك إلى البوليس لتعكيرك الأمن.
- لتعكيري الأمن؟ قول ظريف سيغدو ولا مراء حديث الموسم.
قلت ذلك ثم أوليت المجمع ظهري واتخذت سبيلي ضاحكا من هؤلاء الناس الذين اجتمعوا بدافع الفضول وحب الاستطلاع.
وعدت إلى الفندق فسددت ديوني من الآلاف الثلاثة التي أخذتها مقابل قيامي بدور الانتحار. وقد بذلت إدارة الكازينو أقصى الجهود لاستعادة المال، ولكني لم أكن قد فكرت قط في إعادته إذ اعتبرت أن هذا المال من حقي، وأيقنت فضلا عن ذلك أن ثلاثة آلاف فرنك لا تبدو ثمنا كبيرا لانتحاري.
وقد عمدت إلى إغاظتهم ببقائي في سان رومانو بضعة أيام أخر أعيش عيشة الترف والبذخ ثم رحلت بعدها إلى باريس. وقد سمعت أن المبلغ الذي دس في جيبي قد رد إلى الكازينو أضعافا مضاعفة.
م. ع(974/57)
العدد 975 - بتاريخ: 10 - 03 - 1952(/)
لا تخافوا (الأخوان) لأنهم يخافون الله
أحمد حسن الزيات
الفكر واللغة
للأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
اللغة ابتكار من إبداع ما وصل إليه الإنسان، وأداة تمتاز بكثير من الإتقان والأحكام، ووسيلة ناجحة من وسائل الترابط والتفاهم بين الأفراد والجماعات. وهي ظاهرة متشعبة النواحي والأطراف قد أثارت ألواناً شتى من البحث والدراسة. وإذا تركنا جانباً ما يتصل بها من دراسات أدبية ونحوية وصرفية، فإنها وجهت إلى بحوث أخرى متعددة.
فعرض لها علماء وظائف الأعضاء ليعرفوا كيف تؤدى، ويبينوا أعضاء النطق والصوت، ويوسعوا في اختصار الجهاز العضوي للغة. وعالجها علماء النفس لما رأوا من صلة وثيقة بين العمل الذهني والدلالات اللغوية. وعنى بها علماء الإجتماع مبينين نشأنها وتطورها، ومقارنين بين اللغات البدائية واللغات المتحضرة، ومعلنين أن اللغة ظاهرة إجتماعية تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية من عوامل ومؤثرات، ونظر إلى اللغة أخيراً على أنها جزء من التأريخ يسجل الماضي، ويحكى الأحداث، بل هي نفسها قطعة تاريخية متحركة يجب دراستها وبحث معالمها.
ودون أن نعرض لهذه النواحي المتعددة، نود فقط أن نوجه النظر إلى ما بين الفكر واللغة من صلة. وفي هذه الصلة ما يلقي كثيراً من الضوء على مناقشاتنا وعملنا المجمعي، وخاصة فيما يتصل بالمصطلحات ووضعها، والمترادفات وقيمتها، وألفاظ الحضارة وتجددها، والتعبيرات المبتكرة ومدى الحاجة إليها.
ولا شك في أن المعنى وثيق الصلة باللفظ الذي يؤديه، لأنه ثوبه ووعاؤه، وبدونه يضل ويصبح كأن لا وجود له. فلا يمكن تبادله بين الأفراد، بل ولا استحضاره في ذهن الفرد الواحد. وقديما قالوا: التفكير حديث نفسي. ومن هنا ارتبط التفكير باللغة، وبالأخص في صوره السامية كالحكم والاستدلال.(975/1)
وإذا تأملنا الفكر واللغة وجدنا أن كل واحد منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به. فاللغة في نشأتها تخضع إلى مدى بعيد للنشاط الذهني والميول والاتجاهات النفسية. وما لغة الأطفال إلا حركات وإشارات تبعث عليها غرائز واستعدادات، يدفع الطفل يده إلى الأمام مشيراً إلى التقدم إلى الخلف، أو مشيراً إلى التراجع، وكل تلك حركات تعبر عن انفعالات داخلية. ولا تلبث هذه الحركات أن تتحول إلى إشارات، والإشارات إلى أصوات، والأصوات إلى ألفاظ وجمل. وبذا تنشأ في تدرجها الطبيعي، وتقوم على أساس سيكولوجي.
لم يؤثر الفكر في نشأة اللغة فحسب، بل ساهم أيضاً بنصيب ملحوظ في حفظها والإبقاء عليها. ذلك لأن تعلم اللغة بين أبناء الجيل الواحد يعتمد على السماع والحفظ، وتبادلها بين الأجيال المتلاحقة لا سبيل إليه إلا بالنقل والرواية. ودعامة ذلك كله الذاكرة والحافظة، ولولا الذاكرة ما كانت لغة كما يقولون. وقد يكون في الكتابة ما يرفع عن كاهلنا اليوم بعض عبء الاحتفاظ باللغة، ولكن كم من جماعات عرفت لها لغات تداولتها وتوراثتها دون أن يكون للكتابة فيها أثر ملحوظ، وإنما عولت على الذاكرة وحدها. وكلنا يعلم أن قوة التذكر أوضح في حياة البداوة منها في حياة الحضر، لأن المتحضرين في اعتمادهم على القلم والقرطاس يضعفون الذاكرة ويقللون استخدامها. على أن الكتابة نفسها لا يمكن أن تتعلم وتكتسب إلا بقسط ضروري من الحفظ والتذكر.
وللحياة الفكرية أثر آخر في نهضة اللغة ونموها، إذ لولا تجدد المعاني وتباينها ما تجددث الألفاظ، ولا تنوعت التراكيب. ولولا عمق الفكرة وتحددها ما كانت دقة اللفظ وتخيره. وكم يشعر المتكلم أو الكاتب أن اللفظ أو التعبير الذي استعمله لا يؤدي تماماً المعنى الذي يريده، فيحاول البحث عن غيره ليكون أكثر ملاءمة. وثروة اللغات تتفاوت فيما بينها تبعاً لنشاط الحياة الفكرية وتقدم العلوم والفنون. ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى أن عصر ازدهار اليونانية قد اقترن بتلك النهضة الفلسفية والفنية التي عرفتها أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وقد لوحظ أيضاً أن أسماء الذوات تغلب أسماء المعاني في اللغات البدائية، لأن البدائيين لا يلجئون كثيراً إلى التعميم والتجريد. وتساهم فكرة الزمن بنصيب أوضح في لغة المتحضرين منها في لغة الشعوب الهمجية. وتبادل العلوم والفنون بين الأمم لا يقتصر على تبادل الأفكار، بل يصاحبه أيضاً تبادل بعض الألفاظ والأساليب الدالة(975/2)
عليها، وكثيراً ما كشفت هذه عن أصل تلك.
وللغة بدورها أثر قوى في التفكير، فهي إلى مدى بعيد مادته ودعامته؛ ذلك لأن الدال والمدلول متلازمان، وقل أن يستحضر أحدهما في الذهن بدون الآخر. وقد سبق لأرسطوا أن قال تلك الجملة المشهورة التي قدر لها أن تحيا مع الزمن، وهي: ليس ثمة تفكير بدون صور ذهنية. وفي مقدمة هذه الصور تجيء طبعا الرموز اللغوية. ولم يحاول أحد نقض هذه القضية إلا في القرن التاسع عشر، يوم أن جاءت مدرسة فورتسبورج، وذهبت إلى أن هناك ضرباً من التفكير مجرداً من تلك الصور الذهنية، كتفكير الأطفال الذي تمليه طائفة من الميول والغرائز، أو كتلك اللمحات والخواطر التي تمر بالذهن عابرة وكأنها معنى مجرد من كل كساء.
ودون أن نقف طويلا إزاء هذين الرأيين المتقابلين، نود أن نلاحظ فقط أن الحدس ليس إلا ضرباً من التفكير. وهناك ضروب أخرى ذات حلقات لا يمكن ربط بعضها ببعض إلا بواسطة الرموز اللغوية.
على أن الحدس نفسه قد يستصحب لفظاً أو ألفاظاً، ولذا قالوا إن المرء يفكر في كلامه قبل أن يتكلم عن تفكيره إن المرء يفكر في كلامه قبل أن يتكلم عن تفكيره.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فالتفكير السامي أو التفكير المنطقي الذي هو سلسلة من الحكم والاستدلال لا غنى له عن اللفظ والعبارة.
والألفاظ فوق هذا هي الوسيلة لتحديد الأفكار وتميز بعضها من البعض. وإذا كانت المدلولات متنوعة، فأن اللازم أن تتنوع الدوال تبعاً لها. ولا شك في أن الأفكار متفاوتة معنى ومدلولا، عموماً وخصوصاً، جنساً ونوعاً. ولولا الألفاظ ما أمكن تقسيمها وتصنيفها، ولا تحليلها وتركيبها. وآية الفكر الدقيق تعبير دقيق يؤديه. والعبارة المحكمة تؤدي عادة إلى تفكير محكم، وبذا تنوعت العلوم، وتحددت موضوعاتها، وامتاز كل منها بمصطلحاته. وما العلم إلا لغة أحكم وضعها.
واللغة أخيراً سبيل تداول الأفكار وتبادلها، فهي التي تنقلها من فرد إلى فرد، ومن جماعة إلى جماعة، وإلا بقيت وقفاً على أصحابها ومحبوسة في أذهانهم. وإذا كان التفكير الفردي(975/3)
يخضع للمجتمع ويتأثر به، فإن للغة دخلاً كبيراً في هذا الخضوع والتأثير. ومن أهم مزايا اللغة قدرتها على أداء المعاني وتيسير تبادلها، وفضل لغة على أخرى يرجع في قسط كبير إلى اتساع تداولها وكثرة المتخاطبين بها.
في وسعنا أن نقرر إذن أنه إذا كانت اللغة ثمرة للتفكير، فإنها هي أيضاً شرط أساسي لوجوده وتحققه على وجه كامل. هذه هي صلة الفكر باللغة، وهي فيما يبدو صلة تفاعل وتلازم، وقد ترتبت عليها آثار عدة، يعنينا أن نشير إلى اثنين منها فقط. أولهما أنه يمكن أن تدرس الحياة العقلية في ضوء الحياة اللغوية. فمثلاً ضعف النطق أو بطؤه يؤذن بضعف ذهني. والأطفال لا يعبرون عن أحكامهم عادة بجملة، وإنما يكتفون بكلمة أو بعض كلمة. ومن هنا نشأ علم النفس اللغوي الذي يرمي إلى تفسير بعض الظواهر النفسية في ضوء الدراسات اللغوية. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما حاوله (دي شوسير) بالنسبة للغة الكبار، و (بيابجيه) بالنسبة للغة الأطفال، و (ليفي بريل) بالنسبة للجماعات البدائية. وإذا كانت الدراسات السيكولوجية قد أفادت كثيراً في الخمسين سنة الأخيرة من تقدم البيولوجيا والفسيولوجيا والباثولوجيا، فإنها استمدت أيضاً في هذه الفترة مادة لا بأس بها من الدراسات اللغوية.
وفي تاريخ الأدب ظواهر لها دلالتها السيكولوجية، فيلاحظ أن أزدهار الآداب يقترن دائماً بازدهار العلم والحياة العقلية، وأنه حين يعتدي على الحرية الفكرية ويعم الظلم والطغيان ينتشر الغموض والرمز في الألفاظ والأساليب. ولتلك الحرية الفكرية التي نعم بها الأثينيون القدامى شأن في وضوح لغتهم وصفائها.
وإذا كانت المترادفات تُعد ثروة لغوية في بعض العصور، فإنها في عصور أخرى تعتبر سرفاً لا محل له ولا داعي إليه.
ومن جهة أخرى شغلت علاقة الفكر باللغة المناطقة منذ أن وضع علم المنطق إلى اليوم. ونحن نعرف أن منطق أرسطو نبت في جو البيان والجدل السقسطائي، وكان ذا صلة بالنحو اليوناني، بل والعربي. ولأمر ما نطلق كلمة (لوجوس) اليونانية على العقل واللغة على السواء. وقد درج المناطقة منذ أرسطو على أن يعتبروا دراسة الألفاظ والقضايا مقدمة ضرورية لدراسة البرهنة والاستدلال. ولم يقنع المناطقة المحدثون بهذا، بل شاءوا أن(975/4)
يحصروا المعاني كلها، ويجمعوا (ألف وباء) الفكر الإنساني، ويضعوا لكل معنى رمزاً خاصاً به، وبذا تتكون اللغة العلمية العالمية.
قال بذلك (ليبنتز)، فتنبأ بالمنطق الرياضي، وسبق عصره بنحو قرنين، وأثار لأول مرة فكرة اللغة العالمية. ولا غرابة فقد كانت اللاتينية لغة العلم والعلماء لعهده. هذا إلى أنه كان عالمي النزعة إن في العلم أو في السياسة. وفي هذه اللغة المنشودة ما يقرب المسافة بين بني الإنسان، وما يحول دون أخطاء كثيرة؛ لأن الخطأ في الحكم والاستدلال كثيراً ما ينشأ عن خلاف لفظي أو غموض في التعبير؛ ويوم يتوفر لكل معنى رمز خاص به نستطيع أن نقول: لنحسب، بدل أن نقول: لنبرهن.
وقد عادت فكرة اللغة العالمية إلى الظهور مرة أخرى قوية متحفزة في أول هذا القرن؛ وكان من أكبر مناصريها رياضي وفيلسوف فرنسي بارع انتزع فجأة في الحرب الكبرى الأولى، وهو (كونورا) الذي كان يرمي إلى تهذيب الاسبرنتو وتكوين (الإبدو) تلك اللغة الدولية التي تفرض نفسها على جميع العقول وجميع الشعوب. وقد وضع في ذلك معجماً خاصاً، أخذ عنه كثيراً الأستاذ لالاند في معجمه الفلسفي المشهور.
والرياضة أقل العلوم حاجة إلى الألفاظ والتراكيب، لأنها أبعدها مدى في العموم والتجريد. فإذا ما حصرت حقائقها، واختير لكل حقيقة رمز معين أمكن تكوين لغة رياضية كاملة. وعلى غرار هذه اللغة الرياضية يمكن وضع اللغة العالمية. وقد كان كونورا فوق تخصصه في المنطق والرياضة ملماً بأطراف الدراسات اللغوية المقارنة، فأخذ يبحث عن وصول عامة يمكن أن تتخذ أساساً للغة الدولية، وحاول فعلاً أن يكوّن هذه اللغة ويعد لها نحوها الخاص.
ولم تلبث محاولته هذه أن تثير ثائرة علماء الاجتماع الفرنسيين، وعلى رأسهم دركايم. فلم يرتضوا ذلك المنطق الإنساني الذي يقود إلى لغة عالمية، وقرروا أن هناك أسرا لغوية بقدر ما هناك من مجتمعات إنسانية. وسواء أصبحت الأسس التي بني عليها كونورا مقترحه أم لم تصح، فإن فكرة اللغة الدولية قد ازدادت في ربع القرن الأخيرة قوة ووضوحا. ولعل في سرعة الاتصال العالمي اليوم ما ييسر سبلها. ويتيح لها الفرصة لتخرج من دائرة الرغبة والأمل إلى عالم الحقيقة والوجود(975/5)
في هذا العرض السريع ما يلقى بعض الضوء على عملنا المجمعي ومنه نستخلص دروسا نافعة. وفي مقدمتها أن الأصل في المصطلح العلمي أن يؤدي بلفظ واحد، كي يتوفر لكل معنى رمزه اللغوي الخاص به. فلنتحاش إذن الدوال المتعددة للمدلول الواحد منعا لتكرار لا داعي إليه، وربما أدى إلى شيء من اللبس. والمصطلح المجمع عليه وإن لم يؤد المعنى المراد تماما سينتهي بأن يستقر ويستحضر مدلوله كلما ذكر.
ونحن أحرص ما نكون على أن نؤدي المعنى العلمي الجديد بلفظ عربي، فإن تعذر ذلك فلا ضير في التعريب، لا سيما إذا كانت الكلمة المعربة ذات صبغة عالمية، وهذا هو المنحى العلمي في مختلف اللغات. ومن ذا الذي يذكر مذهب ليبتنز مثلا ولا يذكر معه كلمة مناد إنا نراها في اللغات الأوربية على اختلافها دون تغيير أو تبديل.
وما يقال عن الألفاظ يمكن أن يقال عن الأساليب. فإذا كانت المعاني المفردة تجدد فإن المعاني المركبة التي تعتمد على الرابطة والإسناد تتجدد أيضاً. وإذا كنا نحس بحاجة إلى ألفاظ جديدة، فأنا في حاجة أيضاً إلى أساليب جديدة. قد تصادف هذه الأساليب من الرفض والمعارضة ما تصادفه الألفاظ المبتكرة، فتستنكر حينا وترد حينا آخر. بيد أنا إذا كنا في حل من ابتكار اللفظ فلا غضاضة علينا في ابتكار الأسلوب، ما دام يلتقي مع الأوضاع العربية. والفكر، في خلقه وابتكاره، في حركته وتنوعه، يتطلب دون انقطاع من الألفاظ والأساليب ما يؤدي المعاني المختلفة والمتنوعة.
وأخيراً إنا نعيش في عصر من أخص خصائصه محاولة الاقتصاد في المجهود الجسمي والذهني وذلك لتزاحم الأعمال وضيق الوقت، وكلنا يود أن ينتج أكبر كمية ممكنة في أقصر وقت ممكن. وأنفع الحقائق ما يمكن توصيله عن ايسر السبل وأقربها. وإذا كان العلم قد اتسع صدره قديما للدراسات الطويلة والمجلدات الضخمة، فإنه يعنى اليوم بإحكام المعنى والمبنى. وإذا كان الأدب يباهى فيما مضى بالسجع والترادف والكناية والمجاز، فإنه أضحى يحرص الحرص كله على السهولة والجزالة والدقة والوضوح
هذه هي روح العصر، وتلك هي مقتضياته، ولا سبيل للخروج عليها
إبراهيم بيومي مدكور
-(975/6)
2 - التعليم في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
من المسلم به أن المجتمع لا يستقيم أمره ولا يحيا الحياة الهادئة المطمئنة ولا يرقى الرقي المنشود إلا إذا سادت بين أفراده فضائل معينة؛ حددتها الأديان السماوية واجتمع عليها علماء الأخلاق. . كفضائل الصدق والأمانة والشجاعة والاستقامة ورعاية حقوق الغير والإيثار والتضحية الخ. وفي مثل هذا المجتمع الفاضل يقدر الأشخاص بأعمالهم، فيعرف لكل ذي فضل فضله وينال المعتدي جزاء عدوانه، وتتجلى فيه الرحمة فيعطف القوى على الضعيف ويبر الغني الفقير ويرحم الكبير الصغير ويوقر الصغير الكبير. وكلما ازداد الناس إيماناً بهذه النواحي ازدادت المودة بينهم وازداد التعاون وقلت البغضاء وزال التشاحن، وبذا تشيع المحبة والأخوة العامة بين الناس وتسود بينهم الطمأنينة وينتشر الأمن والسلام وهو أشرف ما تصبو إليه البشرية جميعها.
ولقد أصبح هذا المجتمع الفاضل حلماً من الأحلام في هذه الأيام؛ إذ لم يعد الناس في مجتمعنا الحالي يقدرون تلك الفضائل بعد أن غمرتهم موجة المادية الجائحة المصحوبة بالأثرة وحب الذات والمتعة التي رمتنا بها المدنية الغريبة، فاستوى في الأنانية والحرص على المادة ومجافاة الخير الكبير والصغير والغني والفقير، وأصبحنا نسمع أموراً كثيرة مستهجنة عن متعلمينا وخريجي جامعاتنا ومدارسنا لم يكن لنا بها عهد في الماضي، ولم يعرفها آباؤنا ولا أجدادنا منذ نصف قرن من الزمان. فلكم سمعنا في السنين الأخيرة عن طبيب يعمل جاداً لاستنزاف أموال مرضاه فقراء أو أغنياء قبل أن يعمل على استئصال أمراضهم، والمريض المسكين الذي يرتمي في أحضان طبيبه لينقذه مما يعانيه لابد له أن يثق بهذا الطبيب وأن يصدق كل ما يقرره له؛ باذلاً كل ما في وسعه لإرضائه عله ينال الشفاء على يديه، وكم تكون الصدمة قوية مدمرة إذا عرف أن طبيبه يطب لجيبه قبل أن يطب لإراحة هذا المسكين من علته! وكم سمعنا عن محام احتال للحصول على المال بمختلف الحيل الشيطانية التي لا تقع طائلة عقوبات قوانيننا الوضعية الناقصة. ناهيك بما يعمله لإغراء المتقاضين بعضهم ببعض، وبث الفتنة خصوصاً بين المتشاحنين من أفراد الأسرة الواحدة للدخول بهم في قضايا يبتز فيها أموالهم. وكم سمعنا عن مهندس أو موظف(975/8)
كبير يأخذ الرشوة جهاراً نهاراً ليغلب عطاء شركة على أخرى أو ليعمل عملاً في تغليب باطل على حق. وكم قرأنا في الصحف والمجلات عن نكبات نزلت بالناس أو خسارات فادحة أصابت موارد الحكومة بسبب التزوير والاختلاسات! ثم إن هذه النكبات الكثيرة التي تقع على رأس الشعب والحكومة نفسها لم تعد تقع من أفراد معدودين غير متعلمين كما كان الحال منذ نصف قرن من الزمان قبل تغلغل روح الفساد الغربي في صفوفنا. . ولكنها مع الأسف تعددت وتكررت من كثيرين من متعلمي مدارسنا وجامعاتنا حتى أصبحت لا نطاق ولا تحتمل وأصبح العلاج عسيراً. ثم هو يزداد كل يوم عسراً على عسر كلما تراخينا في وضع الخطة السلمية لإيقاف هذا التيار المزعج المدمر لحياة الأمة وكيانها. فبالله عليك كيف يطمئن الشعب على حقوقه وهذه حال متعلميه أو حاكميه! وبالله عليك هل تجدي القوانين التي تقننها الدولة وتنشرها حبراً على ورق كل يوم لحفظ الحقوق بين الناس وصون العهود واحترام العقود ما دام الكثيرون من المشرفين على تنفيذ تلك القوانين لا يأبهون بها.
ولا يرعونها إلا بقدر ما يملأون به بطونهم ويحشون به جيوبهم؟ وكيف يستطيع والحالة هذه معلم مهما كان قديرا أن يؤدي واجبه في هذا المجتمع الفاسد؟ سيضطره مثل هذا المجتمع إلى أن يجاريه ليعيش فيصبح مثلاً سيئاً لتلاميذه مخالفة أعماله لأقواله، ومهما ألقى على تلاميذه من تعاليم ونصائح ومهما ذكر لهم من عظات وأمثال ومهما ذكرهم بقول العرب (تجوع الحرة ولا تأكل بثديها) فإنهم سيتشككون في تلك الأقوال والأمثال ولا يؤمنون بها ويستحلون لأنفسهم ما ينافيها، وسيضطر مثل هذا المجتمع المعلم إلى أن ينسى أو يتناسى كل ما حفظه في كتبه وتلقاه على أساتذته عن نبذ الرذائل والتحلي بالفضائل، وسيعمل كما يعمل غيره مكرها أو راضياً وسط زوابع الغلاء المرير للحصول على المال الذي يقوم بأوده هو وأسرته من غير وجهه المشروع. وستكون تعاليمه لتلاميذه تعاليم فارغة تافهة لا روح فيها ولا جدية لأنها تصدر منه عن قلب غير مؤمن بها؛ فإذا طالبهم بالصدق في القول والأمانة في العمل شعر في صميم قلبه بالرياء الذي قد يحز في قلبه بادئ ذي بدء؛ ثم يصيره التكرار مع الأسف عادة فيه. وإذا طالبهم بالصراحة والشجاعة والمثابرة على العمل وإتقانه في سبيل النجاح ناقص نفسه لأنه لم يعد يؤمن بأن هذه(975/9)
الفضائل توصل إلى النجاح، لأنه يرى بعيني رأسه ويسمع بأذنه كل يوم أن للنجاح في الحياة سبيلا آخر غير السبيل التحلي بهذه الفضائل، ويحس التلاميذ الأبناء وهم مرهفو الحس أن أستاذهم رجل متناقض ويملأ الشك فيه نفوسهم، وهم إذ يحسون بذلك لا يفيدونمنه ولا يجدون جدوى في الاستماع إليه. ثم هم بعد ذلك يدخلون إلى الامتحان جهلاء خاوي الوفاض من كل شيء إلا من سلاح واحد مرن عليه الكثيرون وهو سلاح الغش الذي استشرى الآن بعد أن بدأ منذ سنين همساً في الامتحانات العامة والخاصة فلم يعد يقاومه الآن من الممتحنين إلا القليلون الذين يعرضون أنفسهم من جراء ذلك للنكبات. وكيف يبقى للأساتذة في نفوس تلاميذهم بعد ذلك أية مكانه عرفوا أنهم من جهة لا يفيدون منهم في تلقي العلم إلا قليلا، وأن لديهم من جهة أخرى طرقا غير مشروعة تقودهم إلى النجاح المطلوب في الامتحانات وسائر أمور الحياة! إنهم بعد هذا كله لا يستشعرون احتراما لمعاهدهم ولا لأساتذتهم! أليس هذا هو الحال في معظم مدارسنا؟ أليس هذا هو الحال الذي يشكوه كل أستاذ وكل ناظر وكل عميد! يالها من غمرة ترتجف له الأبدان وتنفطر لها القلوب؟ إنها غمرة الصلف والأنانية والمادية التي رمانا بها الغرب فكسحت أمامها كل فضيلة وأماتت الضمائر وأبادت كل خير! ثم ماذا يجدي تغيير نظم الامتحانات وجعل نقل التلاميذ من فرقة أخرى في ذمة المعلم بعد أن وضح أمامنا ما آل إليه المجتمع من فساد في الذمم حتى كاد يكون من المستحيل على العلم أن يجعل الذمة أساسا لحكمة على هؤلاء الأبناء المساكين! لقد دعونا إلى هذا التغبير في نظم الامتحانات من زمن بعيد وفي مؤلفنا (التعليم والمتعطلون في مصر) الذي صدر منذ ثلاثة عشر عاما؛ ولكن الحال الخلقية وقتذاك لم تكن تدهورت هذا التدهور، وكان هناك نوع من الحياء ومحاسبة الضمير. أما اليوم والحال أصبح كما وصفنا فإن الأمر لا يصبح أن يقتصر على قوانين فقط تكتب على الورق ليكون تنفيذها هباء بل ليكون ضارا. . ولكن الأمر يتطلب علاجا حاسماً ذا وجهين: وجه سريع يتعلق بالتلاميذ فيحال بينهم وبين الحزبية والمخربين وموظفي الدولة والرجال العاملين فيها فتنظف أداة الحكم ويحاسب كل منهم حسابا دقيقا على ما ارتكبوا وعلى ما جنوا على الأخلاق وبخاصة أولئك الذين مصوا دم الشعب وأثروا طفرة على حسابه. وفي تطبيق قانون الكسب غير المشروع الجزاء الأوفى إذا طبق تطبيقا(975/10)
عادلا نزيها - أما الوجه الثاني من العلاج فهو الذي تعتمد عليه الأمم في تكوينها لأبنائها وناشئتها، وهو علاوة على ما يتطلبه من خطة حازمة وطيدة يتطلب كذلك أن يؤمن به الجميع وأن يتعاون عليه الجميع خصوصاً بعد أن رأينا بأعيننا وسمعنا بآذاننا ما حل بنا. . وأن تتذرع به الحكومة وجميع الأحزاب والجماعات في الإصلاح، وأن يراعي فيه وجه الله والوطن والمصلحة الآجلة قبل المصلحة العاجلة. ذلك هو تربية الناشئة تربية يجعلها تؤمن بالله وتخافه وتراقبه في كل عمل من الأعمال، فيحاسب كل نفسه دائماً واضعا نصب عينيه إرضاء وجه الحق والعدل والقانون دون أن يكون عليه رقيب غير الضمير الحي. هذه الخطة تحتاج إلى اقتناع وإيمان وإلى فترة طويلة من الزمن وإلى انتحاء القادة والزعماء ناحية جديدة مستمدة من علوم الأخلاق؛ بل من وحي السماء بل من رب السموات والأرض الذي يعلم ما يصلح المجتمع وما يفسده (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) هذه الخطة التي تربى القلوب تربية تؤمن بربها وتخشاه كفيلة بأن تكون من ناشئتنا الأخلاق الفاضلة التي تسمو بنا عن كل الصغائر، وتدفع بنا سريعاً نحو السمو ونحو المجد ونحو العزة؛ وهي لا شك ترضي ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا - ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
عبد الحميد فهمي مطر(975/11)
المسلمون بين الشرق والغرب
عند ظهور الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
ظهر الإسلام والعالم منقسم إلى كتلتين كما ينقسم الآن، كتلة شرقية تقودها دولة الفرس من الأكاسرة، وكتلة غربية تقودها دولة الروم من القياصرة، والتاريخيعيد نفسه، وقد وقع العرب بين هاتين الكتلتين فيما يقع فيه الآن أهلالشرق الأدنى بينالكتلة الشرقية بقيادة روسيا الشيوعية، والكتلة الغربية بقيادة أمريكا وإنجلترا، وكان كل من الكتلتين يقود فريقا من العرب إلى ما بينهما من حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل كانوا هم الذين يغرمون دائماً من أنفسهم وبلادهم، وكان الغنم لصاحب النصر من الفرس أو الروم.
وكانت السياسة الخادعة المفرقة قد قسمت العرب إلى قسمين وأقلمت فيهم دولتين: تقوم إحداهما بجانب الفرس، وهي دولة المناذرة بالعراق، وتقوم الثانية بجانب الروم، وهي دولة الغساسنة بالشام، وكان الفرس هم الذين يوجهون سياسة الدولة الأولى، كما كان الروم يوجهون سياسة الدولة الثانية، فإذا قامت حرب بين الفرس والروم كان المناذرة بجانب الفرس، وكان الغساسنة بجانب الروم، وقام فريق من القبائل العربية بجانب المناذرة، وقام فريقآخر منها بجانب الغساسنة، وقد انقسم العرب بهذا على أنفسهم، وقامت به حروب كثيرة بين المناذرة والغساسنة، بين القبائل العربية بعضها وبعض، حتى ضعف شأن العرب بهذه الحروب، وكانت بلادهم تقع فريسة في أيدي الطامعين فيها بلدا بعد آخر.
وكانت ببلاد العرب دولة كبيرة يتلف العرب جميعا حولها، وهي الدولة الحميرية باليمن، وكان كل من دولتي الفرس والروم لا يرتاح إلى وجودها ببلاد العرب، لأنها كانت تأبى أن تقف منهما موقف دولتي المناذرة والغساسنة، فيعمل كل من الروم والفرس على إضعافها والاستيلاء على بلادها، وكان أن سلط الروم دولة الحبشة على هذه الدولة، فاستولت عليها قبيل ظهور الإسلام. وحكمتها نحوا من سبعين سنة، حاولت خلالها أن تستولي على بلاد الحجاز وغيرها من البلاد العرب، ولما رأت أن الكعبة هي الرمز الديني الذي يجمعهم،(975/12)
قصدت مكة لتخريبها في وقعة الفيل المعرفة، وقد انتهت هذه الوقعة بهزيمتها على ما هو معروف في التاريخ، ثم كان أن قام سيف بن ذي يزن من بقايا الحميريين يحاول استعادة دولتهم، ولم ير وسيلة إلى هذا إلا أن يستعين بالفرس أعداء الحبشة والروم، فأمدوه بجيش أمكنه أن يخرج الحبشة من اليمن، وأن يقيم سيف بن ذي يزن ملكا على دولة آبائه، وكان لذلك رنه فرح في الحجاز وغيره من بلاد العرب، فأتت الوفود من هنا وهناك لتهنئته باستعادة ملك الحميريين وكان منها وفد الحجاز على رأسه عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بين رجاله أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر، فهنأه بقوله:
لا يطلب الثأر إلا كابن ذي يزن ... في البحر خيم للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شاِلت نعامته ... فلم يجد عنده النصر الذي سالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
إلى أن قال:
فالقط من المسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك أشبالا
وأشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ولكن كسرى الفرس لم يقدم هذه المساعدة لسيف بن ذي يزن خالصة لوجه الله تعالى، بل كانت في نظير خراج من اليمن يؤدي إليه كل سنة، فكان سيف بن ذي يزن يؤديه إليه، وكان جيش كسرى الذي أعاد إليه ملك اليمن يشاركه في حكمه، فلما توفي ضم الفرس إليهم ملك اليمن، وصار الذي يتولى أمره واحد منهم، ولم يستفد أهله من حركة سيف بن ذي يزن إلا أن استبدلوا ملك الفرس بملك الحبشة.
فلما أتى الإسلام لم يرض أن يقف كما وقف العرب ذلك الموقف المعيب من تينك الكتلتين، لأنه لا يليق أولاً بالعرب كأمه يجب أن ترعى كرامتها ومصلحتها قبل غيرها، ولا يصح أن تجعل فريقاً منها ذيلاً لدولة الروم، وفريقاً آخر ذيلاً لدولة الفرس فينقسم بعضهم على بعض في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ثم لا يليق ثانياً بدين أتى للسلام والتعارف وهداية الناس كافة أن يشترك في هذه الحروب المفرقة الآثمة، لأنها لم تكن قائمة لغرض(975/13)
شريف، وإنما كان يقصد منها توسيع السلطان، وبسط سيادة الأقوياء على الضعفاء، ليعظم الخراج الذي يجبونه منهم، ويتوسعوا في الترف الذي ينفق فيه ذلك الخراج، فيزداد الأقوياء غنى وطغياناً، ويزداد الفقراء فقرا ومذلة.
فآثر الإسلام أن يقف موقف الحياد من تينك الكتلتين، لا يهمه إلا غايته الشريفة التي يسعى إليها، ولا ينظر إليهما إلا في حدود هذه الغاية، وفي حدودها كان حياده فيه شيء من العطف نحو دولة الروم، لأنها لم تكن حينئذ تملك إلا قليلاً من بلاد العرب، وكانت بلاد الشام التي تقوم فيها دولة الغساسنة لا تعد من بلاد العرب في ذلك الوقت إلا على نحو التجوز، أما دولة الفرس فإنها كانت متسلطة على كثير من بلاد العرب، ولم يكن خالصاً من سلطتها إلا بلاد الحجاز ونجد، وكان الإسلام يرى أنه سيقوم أولاً على أكتاف العرب، لنشأته بينهم، فلم يرتح لاستيلاء الفرس على هذه البلاد التي يعدها وطنه الأول، وهذا إلى أن الروم كانوا أهل كتاب، فكانوا أقرب في العقيدة إلى الإسلام من الفرس.
وكان من مظاهر عطف الإسلام على دولة الروم أن حزن المسلمون وهم بمكة قبل الهجرة على غلبة الفرس لهم، حتى نزل في هذا قرآن يعدهم بنصر الروم على الفرس، وذلك قوله تعالى في أول سورة الروم.
(ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، بنصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).
وقد مكن ذلك موقف الإسلام من تينك الكتلتين إلى أن صار له شيء من القوة بالمدينة، ورأى أن يدعو رؤساء تينك الكتلتين إلى أمر تجتمع عليه كلمتهم، وتبطل به هذه الحروب بينهم، فيسود السلام بين الشعوب البشرية، وتقوم بينهم علائق الصفاء والمودة، ولا يكون هناك أقوياء يتحكمون في الضعفاء ولا أغنياء مترفون، وفقراء مدقعون، بل يعيش الضعفاء بجانب الأقوياء ولهم مثل حقوقهم، ويعيش الفقراء بجانب الأغنياء قريباً من عيشهم، حتى لا يكون هناك فارق كبير بين هذه الطبقات، ولا يعيش الأقوياء والأغنياء في نعيم وترف، والضعفاء والفقراء في حرمان وبؤس.
وقد وقف الإسلام بهذا موقفاً كريماً بين تينك الكتلتين، ولكنه لم ينل منهما ما يليق به من(975/14)
التقدير، فأغضبت كسرى الدعوة التي وجهت إليه، وبعث إلى عامله باليمن بأمره بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان شأن الدعوة التي أرسلت إلى رؤساء الكتلة الرومية، ثم كان أن جر كل من الكتلتين الإسلام إلى حروب لم يكن يريدها مع أن الظفر كان فيها له؛ وكان من خير الإنسانية أن يجيباه إلى إبطال هذه الحروب، ولو أنهما أجاباه إلى هذا لكان للعالم اليوم شأن عظيم غير هذا الشأن.
للكلام صلة
عبد المتعال الصعيدي(975/15)
رد على رد:
أجل. . ذو العقل يشقى!
للأستاذ محمد رجب البيومي
حين يكتب القارئ نقداً لمقال قرأه، يود من أعماق نفسه أن يصل إلى الحقيقة على ضوء ما يعقب المقال من حوار وحديث، وواجب المنقود أن يواجه الحقائق سافرة واضحة، ثم يجيب عنها واحدة واحدة، إذ أن القراء يتتبعون النقاش فقرة فقرة، ويوازنون بين الطيب والخبيث في دقة بالغة، ويصدرون الرأي عن ثقة واقتناع.
وقد ناقشت الأستاذ شاكر بما لا أستطيع أن أحيد عنه من الأدب والذوق، راجياً أن أجد لديه الإجابة الشافية المقنعة، فماذا وجدت؟! وجدت أن الأستاذ المهذب قد خصني بكثير من الزراية والجهل، وقلة المعرفة، وضعف المنطق، وسوء الأدب، وليته وقف عندي بشتائمه وسبابه، بل انتقل إلى الأستاذ الكبير سيد قطب، فرماه ظالماً بسوء الفهم، وولج إلى ضميره، فاتهمه بقبح المقصد، وخبث الطوية، ومعانة الحق لهوى في النفوس يعلمه الله، وبالحرص على تتبع المثالب القبيحة، واجتناب المناقب الفاضلة، وبالغلو الأرعن في سياق المثالب وتفسيرها، ثم ينضح إناؤه بهذه التهم الجاحدة ملقياً بها في عنف وحدة، إلى قراء الرسالة، وهم جميعاً يعرفون فضائل قطب فأين ذهبت عنه الحصافة والاتزان؟
وقد حاولت أن أجد لدي الأستاذ في رده الطويل العريض شيئاً يقنع المنصفين، فما وجدت غير التنقص والسباب!! وقد دعوته في مقالي السالف إلى هجر الوعظ والإرشاد في الجدل العلمي، فصاح يقول على رؤوس الأشهاد (من العسير أن أكتب في هذا الموضوع دون أن أتوشح بذيل من ذيول الوعظ والإرشاد)، واندفع مع ذيوله الضافية إلى أبعد مدى وأقصاه، وهكذا ضاعت الحقائق التاريخية لدى كاتب يزهي بنفسه، فيقول إنه (يعرف حق الكلام، ويلتزم مقاطعه ومطالعه وحدوده، وإن للعقل شرفاً لا يرضى معه بالتدهور في مواطئ الغفلة وسوء الأدب والخوض في العبث والجهالات).
ولا أريد أن أكيل للأستاذ صاعا بصاع، ضنًا بكرامتي، ولكني أحاول أن أجمع من مقالة العريض فقرات مبعثرة مضطربة في أنحائه، ساقها مساقاً مهلهلاً لا يعرف الدقة والحدود! لأستطيع دحضها بالرأي الموجز الصريح، جزعاً على الحقيقة العلمية من الغرق في(975/16)
إطناب المنابر وإسهاب الخطباء.
لقد سطر الكاتب خمسين سطراً من مقالة تبدأ من قوله (دعني أيها السيد أعيد عليك، إلى قوله من قلبي بلا مسوح وعظ وإرشاد)! سطر هذه السطور ليقول (إن أخبار معاوية وعلي جاءت عن طريق الرواية فحسب، ولكلا الرجلين شيعته التي تنسج الحوادث وتلفق الأخبار) وقد كنت أقرأ سطوره الطويلة وأنا أسأل نفسي أذلك نقاش أم مجرد كلام؟ ولو كانت النتيجة التي وصل إليها الكاتب صحيحة لعذرناهوسكتنا عنه، ولكنها باطلة كل البطلان، ولو جاز لإنسان أن يأخذ بها في شيء لمزقنا جميع صحف التاريخ الإسلامي من أول عام في حياته إلى مائة عام أنت عليه، فلا نتكلم عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية ويزيد والحسين وعمر بن عبد العزيز!! حتى يعرف الأستاذ شاكر، اسم الراوي وأباه وأمه، ولحسن الحظ أن كتاب التاريخ ورواته لم يستمعوا لهذه الضجة، وقدموا إلينا مدداً وفيراً من الأحداث التاريخية!! ولم تسجل حوادث معاوية وإضرابه عند مؤرخ واحد حتى يتهمه الأستاذ بالافتراء والهوى، ولكنها أنباء متواترة، رواها جميع المؤرخين دون استثناء، ولو أن شيعة على وحدهم الذين اختلقوا مثالب معاوية، لسكت عنها بعض المؤرخين؛ ولكن هيهات هيهات!.
فهل وجد من المؤرخين من أنكر أن معاوية قد أحال الخلافة إلى ملك عضوض مخالفاً بذلك تعاليم الإسلام؟ وهل وجد من المؤرخين من أنكر أن يزيد بن معاوية قد فرضه أبوه مدفوعاً إلى ذلك بدافع لا يعرفه الإسلام؟ وهل وجد من المؤرخين من أنكر أن معاوية قد جعل جزءاً من بيت المال للرشوة وشراء الضمائر في بيعة يزيد).
لم يوجد من أنكر ذلك من المؤرخين، ولكن الأستاذ شاكر ينكره ويدعي أن المؤمنين قبله قد أنكروه، وهو بحمد الله لم يكن مؤرخا، ولا نعلم أنه خط كتابا في التاريخ، فلم ينسب نفسه إلى قوم ليس منهم؟.
ويدعى الأستاذ أنه لم يفهم شيئاً مما كتبته في تحديد معنى الصحابي، فإذا وجدني أستدل بحديث الرسول عن عبد الله بن أبي لجأ إلى مخرج ينقذه مما واجهته به فذكر أن الرسول قال معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، خشية أن تدور على ألسنة المشركين الذين لا يميزون مؤمنا عن منافق، وكلهم عندهم من أصحاب محمد صلى الله(975/17)
عليه وسلم!! وأنا أقول للأستاذ إن المشركين كانوا يميزون المؤمن عن المنافق، ويعرفون نفاق ابن أبي كما يعرفه المؤمنون سواء بسواء، بل إنه تعاهد معهم على التنكيل بالدعوة المحمدية ولمسوا من نفاقه ما شجعهم على التعاون معه، وكان إذا خلا إليهم يقول (إنا معكم إنما نحن مستهزئون) فليس هناك مشركون لا يميزون مؤمنا عن النفاق، وعلى الأستاذ أن يبحث له عن مخرج آخر، لو يستطيع!!.
وإذا كان الأستاذ بصمني بالجهل وسوء الفهم وقلة المعرفة، ثم ينقل فقرات طويلة من مقالة ليبين لقراء الرسالة حقيقة ما قال، ومن هذه الفقرات قوله (فإذا أخطأ أحدهم فليس يحل لهم ولا لأحد من بعدهم أن يجعل الخطأ ذريعة إلى سبهم والطعن عليهم) إذا كان الأستاذ ينقل ذلك، فلم لميجب عما وجهته إليه بشأن هذه الفقرة، فقد قلت إن الصحابة قد طعن بعضهم واستباحوا ما حرمه عليهم، أفيكونون بذلك قد خرجوا عن منهج الإسلام، أم أن الأستاذ شاكر يرسل كلامه في الهواء فإذا ناقشه كاتب متواضع مثلي لجأ إلى الشتائم والسباب!!.
ولقد دعوت الأستاذ إلى النقد الموضوعي فقال في الرد فقال في الرد على ذلك (إن النقد الموضوعي ينبغي أن يسبقه التحقق من صحة هذه الحوادث تحققا ينفي كل ظنه) وأنا أقول له ما دمت تنكر هذه الأحداث المتواترة لدى المؤرخين، فلن تقدم للقارئ ما يقنعه ويشفيه، وأنا أعلم أن الطعن في رواية الآثار الفردية سائغ ومقبول، أما الوقوف في وجه التاريخ وتفنيد ما أجمع عليه المؤرخين بلا دليل، فلم يجد من يصغي إليه في كثير أو قليل.
ولقد نصحني الأستاذ شاكر أن أضع عن يدي عبء القلم، فإنه ثقيل ثقيل، وذكر أن الحياء يمنعه أن يترك كلامي بلا مجيب!! وأنا أعجب للحياء الذي يمنع صاحبه من الصمت المريح، ثم يدفعه إلى السب المقذع والطعن الجارح في كاتب كبير كالأستاذ سيد قطب!! فضلا عما وجهه إلي من قذائف ظالمة، ثم ما الفرق بيني وبينه حتى يطلب إلى أن أكف عن الكتابة، وما هي مؤلفاته التي تبيح له أن يتقدم إلي بمثل هذا الأمر، لأحفظ له حقه في الإرشاد والتوجيه؟! أخشى أن يكون استياؤه المفزع من نشاط الأستاذ قطب وإنتاجه قد دفعه إلى الهجوم علي بألفاظه الحداد!! وإني لأستغفر الله له رغم ما أصابني من كلوم!!.
(أبو تيج)
محمد رجب بيومي(975/18)
دفاع عن العباسة
للأستاذ ثروت أباظة
كتب الأستاذ باش أعيان مقالاً قيماً في الدفاع عن العباسة بنت المهدي، ولقد أثار مقاله هذا في نفسي فكرة كانت ما تزال تردد بها، وكنت ما أزال أفكر في الكتابة عنها حتى قرأت هذا المقال، فوجدت الفرصة قد دعتني إلى الكتابة. فالأستاذ باش أعيان نقل إلينا مجملاً من أقوال المؤرخين عن سبب نكبة البرامكة، ونقل إلينا أيضاً مجملاً من آرائهم في مسألة زواج جعفر من العباسة، وهناك أمران في هذا الشأن لابد من تقريرهما.
فإن المؤرخين قد أجمعوا على اختلاف في أسباب نكبة البرامكة والاختلاف بينهم دليل قاطع على الجهل بحقيقة نكبة البرامكة، والذي نستطيع أن نخلص به من هذا الاختلاف هو أن نكبة البرامكة التي حدثت إنما هي الحركة الظاهرة مما كان يعتمل في نفس الرشيد. . . فكل حركة تحدث من الإنسان كبيرة كانت أو صغيرة تشتمل في الواقع على عاملين: العامل الظاهر وهو الذي يظهر إلى النور، ويكون الواقعة، والعامل النفسي وهو المختفي في أغوار النفس لا يظهر. ولقد أراح الأستاذ باش أعيان نفسه وأراحنا حينما ذكر لنا ذلك الحديث بين الرشيد وأخته علية وهو يقول لها إن قميصه الذي يرتديه لم علم السبب في قتل جعفر لمزقه.
فليكن جعفر إذاً أخا الرشيد في الرضاعة، وليكن رفيقه في الملعب، وليكن صديقه في الشباب، وليكن وزيره في الملك. ليكن أيا من هذه الصفات، أو ليكن جميعها؛ إنما الواقع من الأمر أنه قتله. . . لماذا قتله. .؟! لا يستطيع أحد أن يعرف، بل إنني لأشك كثيراً فيما إذا كان الرشيد نفسه يعرف. . فلكم تخادع نفسها نفسه، ولعل الرشيد أوجد سبباً في نفسه يطمئنها به إليَّ عدله إن هو قتل جعفر. . لعله أوجد هذا السبب في ظاهر نفسه، بينما أوغل السبب الحقيقي في الاستخفاء بين أطواء النفس بعيداً عن كل مظنة. . بعيداً عن تفكير الرشيد ذاته، فلو أن الله جل وعلا بعث الحياة اليوم في الرشيد، ونفض عنه غبار القبر والسنين، واستطعنا نحن أن نسأله السبب فقاله. . لو حدث هذا فإننا نستطيع على رغم كل ما حدث أن نتشكك فيما يقول. وإن هذا الاختلاف بين المؤرخين أمر عجيب في ذاته، فإن أسبابهم جميعاً لا تعارض بينها، فإذا وجد واحد منهم، فهو لا يمنع وجود الأسباب(975/20)
الأخرى. . فما ضر لو كانت هذه الأسباب مجتمعة هي الأصل في نكبة البرامكة بجانب السبب الحقيقي في نفس الرشيد. . وما ضر أيضاً لو كانت هي مجتمعة سبب النكبة، وليس هناك سبب آخر إلى جانبها.
من هذه الأسباب في قول بعض المؤرخين أن الرشيد أبى على جعفر أن يتزوج العباسة زواجاً كاملاً، وأحل له بعقد الزواج النظر وحده، دون ما يستتبع العقد من صلات. . ويقول هؤلاء المؤرخون إن العباسة لم تعبأ بما نص عليه عقد الرشيد وأكملت مقتضيات العقد مع زوجها، فكان ثمرة هذا الإكمال هو بضع بنين لهم.
وقد رأى الأستاذ باش أعيان أن في هذه الرواية تعدياً على مقام العباسة بنت المهدي، المتصلة بأسباب غاية في القوة إلى العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأنا لا أدري علام يدافع؟ وما الذي فعلته حتى تتهم؟ إن العقد الذي أراد أخوها أن يكون عقد نظر فحسب غير موجود بين عقود الشريعة الغراء، وإنما هو عقد زواج، ومعروف شرعاً أن الشرط الفاسد في عقد الزواج لا يفسد العقد، بمعنى أن الشرط يبطل ويصح العقد، فإذا تزوجت إحداهن واشترطت في عقد الزواج ألا تقيم مع زوجها إلا إذا أقام ببغداد مثلاً أو البصرة، فإن عقد الزواج صحيح والشرط باطل، فإذا انتقل الزوج إلى القاهرة تعين على الزوجة أن ترافقه إليها، وتعيش معه فيها. وتعاشر زوجة بعقد صحيح، ولا قيمة للشرط الذي اشترطته بل هو باطل غير موجود، فإذا اشترط الرشيد على جعفر في عقد النكاح ألا يدخل بزوجة العباسة بطل الشرط وصح العقد. والعباسة لابد تعلم هذه الحقيقة، وهي على الأقل لن تعدم من يخبرها بها. فإن هي أبطلت الشرط فإنما تسير على خطى الدين الحنيف، غير مجانبة الخلق القويم الذي يجب أن تكون عليه بنت قريش، ولا ضير عليها إن هي أغضبت الرشيد لترضى الله.
وبعد فالعباسة غير متهمة لتحتاج إلى دفاع، بل لقد كانت في موقف لا بأس بها فيه، وهي تأبى على أخيها الرشيد أن يحرم ما أحل الله أو يحل ما حرمه.
تلك هي العباسة على رواية المؤرخين الذين يقولون بوجود العقد، أما هؤلاء القلة الذين يقولون بعدم وجود العقد فقولهم مردود هزيل، فما كان أيسر انعقاد العقد في هاته الأيام بحيث يصبح عدم العقد ضرباً من الجنون الذي لم يعرفه أحد عن جعفر أو العباسة، ما كان(975/21)
أيسر على العباسة أن تشهد اثنين من المخلصين لها أو لجعفر على أنها زوجته نفسها، فترتفع بذلك عما يريد هؤلاء المؤرخون أن يرموها به.
فإذا كانت المسألة كلها مختلفة، ولا صلة للعباسة بنكبة البرامكة فهي - من باب أولى - في غنى عن كل هذا الكلام.
بقى أمر أحب أن أتحدث عنه قليلاً في هذه المناسبة. فقد ذكر الأستاذ باش أعيان أن بعض المؤلفين المعاصرين قد أنشئوا الفصول الرائعة عن حب جعفر للعباسة، واتخذوه موضوعاً لرواياتهم، وإنني لست أرى بأساً من ذلك أبداً، فإن المؤلف الفنان غير مقيد مطلقاً بالتاريخ، وإنما شأنه وشأن التاريخ بشأن المهندس والمولد الكهربائي، فالمهندس يستنبط القوة الكهربائية ثم هو بعد ذلك على أتم الحرية. . يضيء بها أو يحرك الآلات، أو يفعل ما شاء له هواه دون أن يقطعها.
والفنان إزاء التاريخ مستلهم منه الوحي، كأنه الشرارة من المولد الكهربائي، ثم هو يحور قصته أو روايته، ويوجهها إلى حيث يرضي فنه، دون أن يخل بالحوادث الجوهرية، التي تقوي على الإهمال أو التحريف.
فلتكن رواية العقد بين جعفر والعباسة مختلفة، أو لتكن منحرفة، أو لتكن كما تشاء، فالفنان قد رأى فيها موضوعاً يصلح لأن ينشئ منه فناً فأنشأ ولا جناح عليه.
وإذا أراد المتزمتون من المؤرخين ألا يعترفوا بهذا فعليهم أن ينظروا إلى العمل الفني على أنه عمل فني فحسب، اختير لأسماء أبطاله أسماء كان لهم في التاريخ شأن.
وبعد فإلى الأستاذ باش أعيان خالص الشكر أن أتاح لي هذه الفرصة، وإليه في حاضرة الإسلام المزدهر خالص التحية.
ثروت أباظة(975/22)
دعوة مُحمّد
لتوماس كارليل
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
الإخلاص والصدق في دعوة مُحمّد
إن البغض والحسد والحقد والموجدة طبيعة من طبائع البشر، وخاصة إذا غزاها التعصب الأعمى، فإذا قام إنسان ما بعمل جليل، عمت فائدته على بعض الناس وشملت من حوله، كثر حساده وشانئوه، فنراهم يهبون والحقد يملأ نفوسهم والبغض يكاد يمزق صدورهم، محاولين الانتقاص من قدر عمل هذا العظيم، هذا بالنسبة لمن يقوم بعمل نافع في حدود بيئته، فما بالك برجل، كمحمد جاء بما فيه خير البشرية جمعاء وصلاح الكون كله، وقد بلغ من المرتبة والرفعة في نفوس مئات الملايين من الناس ما لم يبلغه أي إنسان مهما كانت أعماله. فليس عجباً أن نرى الكثيرين ممن أعمالهم التعصب وملأهم الحقد، يحاولون النيل من محمد ومما جاء به، ولو عقلوا لأراحوا أنفسهم وأراحوا غيرهم من جعجعتهم وصخبهم، لأنهم كالرجل الذي ينطح الصخرة محاولا تحطيمها فإنه سيرتد وقد أدميت قرونه.
فالمتعصبون من النصارى والملحدون. يسيئهم أن يعرف الناس حقيقة دعوة محمد. فيذيعون أن محمداً لم يكن يبغي من قيامه بهذه الدعوة إلا الشهرة والمنفعة الشخصية والمفاخرة بالجاه والسلطان وإشباع نزعة حب السيطرة الذي يملأ نفسه، وقد وغلوا في عرض هذا الرجل ودعوته بما لا يصدقه عقل، ويستحي أحط الناس قدراً أن يذكروه على ألسنتهم. وهم يعلمون أنهم كاذبون مدعون.
إن محمداً لم يكن يريد مفاخر الجاه والسلطان والشهرة والسيطرة، كلا وايم الله، فلقد كان في قلب ذلك الرجل العظيم ذي النفس الممتلئة خيراً ورحمة وبراً وحناناً، ذي العقل المتميز بالحكمة والإربة والنهى والحجى، أفكار أسمى من الطمع الدنيوي الذي يستوي بنو البشر الآخرين في الدرجة سعياً له، ونوايا أشرف من السعي في طلب السلطة والجاه. . .، لم يفكر يوماً أن يكون كما يتمنى كل إنسان، ولو أنه أراد الملك لناله، ولو سعى وراء المال لملأ منه خزائن كثيرة، ولو ابتغى السيادة لكان ما أسهلها عليه، ولو أراد أن يجمع بين كل(975/23)
هؤلاء جميعاً لما استعصى عليه الأمر. ولكن كيف يكون ذلك وهو ذو النفس الكبيرة التي كل همها إسعاد البشرية وإنقاذها مما هي فيه، إننا لا يمكن أن نتهمه بعدم الإخلاص لدعوته، لأنه من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين فيما يعملون، ولولا ذلك لما نجحت دعوته، لأن الإخلاص هو أساس كل نجاح. فبينما نرى الآخرين الذين يبتغون عرض الحياة الدنيا يرضون بالإصلاحات الكاذبة ويسيرون خلف الاعتبارات الباطلة، ترى محمداً يأبى أن يستعين بمألوف الأكاذيب ويتوشح بما كان متبعاً في زمن من الخرافات والأباطيل، فقد كان منفرداً بنفسه العظيمة مقتنعاً بحائق الأمور، متفكراً في أسرار الكائنات، بل كان سر الوجود يسطع لعينه - كما قلت - بمخاوفه وأهوائه ومباهجه وزخارفه، فلم يستطيع شيء من الأباطيل أن يحجب عنه كل ذلك، وكأني بلسان ذلك السر الهائل يناجيه في خلوته (ها أنذا) إن هذا الإخلاص في الدعوة والتفاني في القيام بها لا يخلو من معنى إلهي مقدس، وما كلمات محمد التي كان ينطق بها، إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة وصميم الواقع، كان إذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب خاشعة واعية، وكل كلام بعد ذلك غير كلامه هباء، وكل قول سوى قوله جفاء.
لقد ظل منذ أيام أسفاره ورحلاته إلى بلاد الشام، تجول بخاطره آلاف من الأفكار التي لا يمكن أن تأتي إلا لكل ذي عقل راجح ونظر ثاقب. من أنا؟ وماذا أكون؟ ما هي الحياة وما قيمتها؟ وما هو الموت وماذا سيكون بعده، وماذا أعتقد وماذا أفعل؟ وما هو أعبد ما يعبد هؤلاء القوم من أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر؟. كل هذه الأسلة والخواطر كانت تجول بفكرة في خلوته، فهل أجابته عنها صخور جبل حراء أو ما يحيط به من الفلوات والقفار، أو ما كان يمر به من شماريخ طود الطور. كلا لم يجبه شيء من ذلك حتى ولا قبة الفلك الدوار، أو تعاقب الليل والنهار، ولا النجوم الزاهرة، ولا الكواكب الظاهرة، ولا الأنواء الماطرة. لم يتلق جواباً من كل هذه الأشياء ولا من واحد منها. ولكن سرعان ما جاءه الجواب شافياً مبيناً منقذاً له من حيرته واضطرابه، في خطاب الله العلي القدير لنبيه موسى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى، إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى. فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فترى). إنه جواب لا لبس فيه ولا غموض، وإنه السر الذي أروعه الله روح محمد، فنزل برداً وسلاماً(975/24)
على روحه.
والذي يجب على كل إنسان أن يسأل نفسه عنه ما كان يجول بخاطر محمد، وما أحسه في نفسه ذلك الرجل القفري. إن هذه هي المسألة الكبرى والأمر الأهم - الذي يجب على كل إنسان أن يضعه في الرتبة الأولى من تفكيره إذ أن كل شيء بجانبها عديم الأهمية.
إن هذه المسألة لو بحثنا عنها في فرق اليونان الجدلية أو نقبنا عنها في روايات اليهود المبهمة أو فتشنا عنها في نظام وثنية العرب الفاسدة فإننا لن نجد لها جواباً شافياً. وأما فيما جاء به محمد فإن الجواب يطالعنا في كل مكان سواء في القرآن أو في أقوال محمد نفسه الذي لا ينطق عن الهوى، وهذا دليل على أهميتها وخطرها.
لقد سبق لي أن قلت إن أهم ما يميز الباطل وأولى خصائصه، هي نظره خلال ظواهر الأمور إلى بواطنها، وأنه يقيس الباطن على الظاهر. أما الاعتبارات والإصلاحات والعادات والاستعمالات فإنه لا ينظر إليها سواء أكانت جيدة أم رديئة، حقة كانت أم باطلة. لقد كان محمد ينظر إلى الأوثان التي يعبدها قومه ويقول في نفسه: إن هذه المعبودات لا بد أن يكون وراءها شيء. وما هي إلا رمز وإشارة لمعبود أعظم، ولكن القوم ضلوا السبيل إليه وإلا كانت زوراً وباطلاً وقطعاً من الخشب لا تضر ولا تنفع، وهذا أكبر شاهد على إخلاص محمد لقومه فهو يريد أن ينقذهم مما هم فيه من ظلمة واضطراب، ولكنهم لجوا في بادئ أمرهم وعتوا عتوا كبيراً.
لو كان محمد يريد الجاه والسلطان لما استطاع أن ينقذ هؤلاء العرب الجفاة ولا قدر على تحطيم معبوداتهم. لقد اتهموه بأبشع التهم ولصقوا به أحط الصفات. فقالوا إنه ساحر كذاب (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا ساحر كذاب. أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا الشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) وقالوا إنه شاعر مجنون (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا أله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) ثم دعوه إلى عبادتها وترك دعوته مرغبين، ثم مغرين، ثم حرموه وأهله وعشيرته مصاهرتهم والعمل معهم، وحرموا على العرب التقرب منهم حتى كادوا يهملون، ثم هددوه بالقتل إن هو لم يثب إلى رشده ويرجع عما هو فيه من تحقير آلهتهم والنيل من معبوداتهم. . .(975/25)
ولكن ما لمحمد وهذه المعبودات، وأنى تؤثر في نفسه هذه الأوثان ولو أنها رصعت بالشهب لا بالذهب، وكيف يسيغ له عقله أن يعبد هذه الأصنام ولو عبدها الحجاج من عدنان والأقيال من حمير، وأي خير يرجوه منها ولو عبدها الناس جميعاً؟
لقد عاش محمد حياته الأولى بين قومه رائحاً غادياً ولكنه كان في الحقيقة يعيش في واد من التفكير المنظم والنظر الثاقب، وقومه كلهم في واديهم يعمهون وفي ضلالاتهم سادرون وعن الحق مبتعدون، عاش مائلاً بين يدي ربه، سابحة أفكاره في ملكوت السموات والأرض، فلما سطعت لعينه الحقيقة الكبرى وجاءه الناموس الأعظم وانشرح صدره وزالت كربة نفسه. ما كان له إلا أن يجيبها، وإلا فقد حبط سعيه وضاع جهده وأصبح هو وقومه سواء بسواء.
فقال لنفسه: فلتجبها يا محمد، أجب وإلا كنت من الخاسرين. . أجب فقد وجدت الجواب الذي حيرك طوال هذه الأعوام. .
أفبعد هذا يزعم الكاذبون الحاسدون أن الذي أقام محمداً وأثاره هو الطمع وحب الدنيا والرغبة في الجاه والسلطان، حمق وايم الله وهوس وسخافة، وظلم بين إجحاف للحق وتضليل للحقائق. ليقل لي هؤلاء الطاعنون، أي فائدة لرجل مثل محمد في جميع بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، وأي خير له في تاج كسرى وصولجان قيصر. بل أي قيمة عنده لجميع ما بالأرض من تيجان وعروش؟! لأنه يعرف المصير الأخير لجميع الممالك والتيجان. . وأين تصير الدولة جميعها بعد حين من الزمان (كل من عليها فانِ). أيطمع في مشيخة مكة وقضيبها ذا الطرف المفضض. . أم في ملك كسرى وتاجه ذي الذؤابة الذهبية. . أم في صولجان قيصر وعزة ملكه؟ وهل في كل هذا منجاة للمرء من هول يوم الحساب إن لم يكن له من عمله منجاة ومظفرة. كلا. إذن ما علينا إلا أن نضرب برأي هؤلاء الجائرين القائلين إن محمداً كاذب لا يبغي من دعوته إلا السلطان والجاه، عرض الحائط، فإن مذهبهم عار وسبة على البشرية فلقد أصبح من أكبر العار على أي إنسان متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يشاع من أقوال مفتراة وأكاذيب ملفقة عن دين الإسلام وأنه كذب، وأن محمداً رجل خداع مزور شهواني فاسد. بل أصبح من أوجب الواجبات علينا أن نحارب كل من يحاول أن يلصق هذه التهم وأمثالها بمحمد(975/26)
ودعوته إن كنا نريد للحق أن ينتصر وللعالم أن يسير نحو سلام دائم وحياة لا اضطراب فيها ولا فتن، لقد آن أن نقول لهؤلاء الذين يشيعون مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، إنكم أنتم الكاذبون الخداعون. إنكم أنتم الذين تريدون أن تشيعوا في العالم الفوضى والاضطراب وتحاولوا الوصول إلى الجاه والسلطان عن طريق الطعن في الحق وأصحابه والجور في القصد، لا عن طريق هداية العالم إلى الخير والسلام كما فعل محمد، ولكن ما أبعد الفرق بينه وبينكم فإن الرسالة التي جاء بها محمد ما زالت السراج الوهاج والطريق السوي لمن أراد أن يصل إلى نعيم الحياة ويفوز بجنات عرضها السموات والأرض، وما زالت قبلة الأنظار مدة أثني عشر قرناً لأكثر من مائتي مليون من الناس أمثالنا خلقهم الله الذي خلقنا وجعل لهم عقولاً كما جعل لنا، وفيهم من بلغ أسمى درجات الرقي الفكري الذي تدعون أنكم وصلتم إليه، فلا تستحون من قولكم، إن هذه الرسالة التي آمن بها ومات عليها كل هؤلاء الملايين الفائقة الحصر، خدعة وكذب. فوا أسفاه ما أحقر هذا الزعم الباطل وأسوأ هذا القول السخيف، وما أضعف عقول أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة، لأنهم ظنوا أن جميع الناس مجانين مثلهم. أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ولا أسكت عن قائليه، ولو أنى أرى أن الغش والكذب ينتشران بشكل مريع بين الناس ويروجان رواجاً كبيراً ويصادفان كثيراً من التصديق والقبول.
إن الحق إذا لم يجد له نصيراً يدفع عنه سخف القول ويذود عن حوضه المفتريات لضاع بين أمثال هؤلاء الذين لا يرعون فيه إلا ولا ذمة. ولو أن الحق عدم أنصاره لأصبحت الحياة سخفاً وعبثاً، وكان الأولى بها ألا تخلق. وأي حق أحق منا بالذود والدفاع عنه من دعوة محمد التي تدعو إلى السلام والمحبة. وهما اللذان جاء بهما جميع الأنبياء لأنهما ظل الله في الأرض وما الله إلا محبة وسلام.
إن من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات، يجب عليه ألا ينظر إلى شيء مما يقوله أولئك السفهاء، وألا يصدق كلمة واحدة من أقوالهم، لأنها أفكار سقيمة وأقوال جيل كفر بالله. . ونتاج عصر جحد بالإنسانية وقيمتها، وهي أبلغ دليل على خبث قلوب هؤلاء وموت أرواحهم وفساد ضمائرهم. وإذا فسدت الضمائر وخبثت القلوب وماتت الأرواح في الأبدان، فإن لصاحبها أن يفعل ما يشاء لأنه أصبح كالأنعام بل أضل.(975/27)
ولعل العالم لم ير قط رأياً الأم من هذا الرأي ولم يسمع قولاً أكفر من هذا القول، فهل يعقل أن رجلاً كاذباً خداعاً يستطيع أن ينشر ديناً بين الناس وأن يوجد العجب من القوانين والأحكام التي كانت مدار الأحكام والتي أصبحت محور القوانين جميعاً رغم كل ما يقال. والله إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يقيم بيتاً من الطوب، لأنه يدعى أنه عليم بخصائص الجير والجص ومواد البناء وهو لا يعرف منها شيئاً. فإن يبنيه إنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد، لا يستطيع أن يثبت اثنتي عشرة ساعة إذا هبت عليه ريح عاصف، لا أن يقف كالطود الشامخ أمام مختلف الأعاصير والأنواء اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس، لا يمر عليهم وقت إلا وهم في ازدياد مستمر ونمو مطرد. أفبعد هذا يقال إن محمداً كاذب خداع.
وليعلم من لم يكن يعلم أن على المرء أن يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة لا يخالفها، وإلا استعصى عليه الأمر وأبت هي أن تجيب طلبته وتعطيه ما يشاء ويبتغي.
كذب وافتراء والله ما يذيعه أولئك الكفار، ولابد أنهم سيعودون في النهاية مهزومين وإن زخرفوا أقوالهم حتى تخيلها بعض الناس حقاً.
باطل وزور والله ما يدعون إليه وإن زينوه حتى أوهموا السذج أنه صدق. ومحنة والله ومصاب ما بعده مصاب أن ينخدع الناس بهذه الأباطيل، ويجد الكذب له بين الأمم والشعوب آذاناً صاغية.
ولكن مهما كان الأمر فإن الناس سيأتي عليهم اليوم الذي يدركون فيه كذب هؤلاء؛ إنه كما ذكرت لكم قبيل الأوراق المالية المزيفة، يبذل لها صاحبها غاية الجهد، ليتخلص منها ويخرجها من كفه القذرة الأثيمة، ليقع في ضررها غيره ويحيق مصابها بسواه، ولكن لا يلبث زيفها أن يظهر للناس، فيلقون بها في سلات المهملات وهم يصيحون بملء أفواههم (هذه أوراق مزيفة).
إننا لو قارنا بين دعوة محمد وصدقه فيما أتى به، وبين دعوة زعماء الثورة الفرنسية - لا على سبيل المساواة في القيمة الروحية ولكن على سبيل المثل فقط؛ إذ من الظلم البين أن نقرن الثانية بالأولى - وما حاول أولئك الزعماء نشره، لوجدنا أن الأولى قد جاءت من قبل مجيء الثورة الفرنسية بعدة قرون وبقيت بعدها وستظل ثابتة إلى أن يرث الله الأرض(975/28)
ومن عليها.
أما الثانية فقد ذهبت بذهاب دعابتها، بل إنهم هم أنفسهم لم يأخذوا بها لم يسيروا على ما كانوا يدعون إليه، وهذه أكبر شاهد على أن محمد لم يكن أخا شهوة كما يتهمه أولئك الضالون، ظلماً وعدواناً.
والله لشد ما نتعدى حدود الجور والخطأ، إذا اتهمنا محمداً بأنه رجل شهواني لا هم له إلا إشباع نفسه من الملاذ وقضاء مآربه من الشهوات. فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ والشهوات، بل لقد كان زاهداً في حياته كلها متقشفاً في مأكله وملبسه ومسكنه، وجميع أحواله، فقد كان طعامه عادة لا يزيد على الخبز والماء، وكثيراً ما كانت الشهور تمضي ولا يوقد بداره ناراً تحت قدر، وإنهم ليذكرون. . . ونعم ما يذكرون - أنه كان يقوم بأعماله بنفسه، يرفو ثوبه ويخصف نعليه بيديه، فهل بعد هذا تواضع ومفخرة؟ وهل هذه هي صفات الرجل الذي يسعى إلى الجاه والسلطان والملك والصولجان!
حبذا محمداً من رجل خشن الطعام مرقع الثياب مجتهد في الله ساهر ليله يذكر ربه وينصت لوحيه جاهداً في نشر دينه، لا يطلب رتبة ولا يطمع في دولة أو سلطان أو غير ذلك مما يتطلع إليه أصاغر الرجال.
والله لو لم يكن محمد صادقاً في دعوته مخلصاً في تأدية رسالته لما لقى من أولئك العرب الغلاظ الأكباد توقيراً ولا احتراماً ولا تعظيماً ولا إكباراً، وما كان مستطيعاً معاشرتهم أكثر أوقاته بعد أن قام بدعوته ثلاثاً وعشرين حجة. وما كان مقدوره أن يقودهم إلى ميادين القتال لا يهابون الموت، يلتفون حوله ويقاتلون بين يديه ويجاهدون في سبيل دعوته، يلقون مصارعهم آمنين مطمئنين إلى المصير الذين وعدهم الله إياه (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم وذلك هو الفوز العظيم).
لقد كان في هؤلاء العرب غلظة وجفاء وكبر وعجرفة، وكانوا حماة الأنوف أباة الضيم صعاب الشكيمة وعر المقادة ليسوا بالمنساقين وراء كل ناعب، فمن استطاع تذليل جانبهم وقدر على رياضتهم، حتى رضخوا له وساروا وراءه مسلمين له القياد، فلولا ما أبصروا(975/29)
فيه من آيات النبل والصدق والإخلاص، لما خضعوا له ولا أذعنوا لأمره. وإني أعتقد أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد، قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه، لما لقى من طاعتهم واحترامهم بعض ما لقيه في ثوبه المرقع بيده. وهذا أكبر دليل على عظم محمد وصدقه في دعوته وإخلاصه لربه.
عبد الموجود عبد الحافظ(975/30)
رسالة الشعر
النهر الملول!. . .
عن أندريه موروا
للأستاذ أنور العطار
(يرى (موروا) حياة الإنسان نهرا ملولا، ويرى الموت بحراً، ولقد تضجره الحياة والأحياء، وتسئمه الأماني والآمال فيهيب بنهر حياته الملول أن انسكب في خضم الردى وغب في بحر الفناء)
قد نجونا من الحياة ... ومن سحرها العجب
ومن المأمل الشهي ... ومن كالح الرهب
خالق الموت والحياة ... ويا خير من وهب
لك شكراننا العميم ... على الدهر قد وجب
ولك الحمد أن قطع ... ت من العيشة السبب
أنت أوردتنا الردى ... والردى السؤل والطلب
فسلمنا من الأذى ... واسترحنا من النصب
لو ملكنا عرا البقاء ... لما شاقنا أرب
ولأودى بنا الحنين ... إلى الهلك والعطب
كل من ذاقه استراح ... من الهم والتعب
ماله الدهر رجعة ... أو معاد ومنقلب
فلقد تسأم الحياة ... وقد يجتوى الرغب
رب نهر معذب ... مل من طول ما سرب
وتناهى به المطاف ... إلى بحر فاحتجب
أنور العطار(975/31)
من الشعر الفكاهي
من وحي الكأس
للأستاذ محمود غنيم
علي بك شخصية لا تكاد تفارق الكأس شفتيه، كان موظفا كبيرا ثم أحيل إلى التقاعد من سنوات، وقد أقام له السيخ المحترم سعد بك اللبان بقصد الدعاية حفلة تكريم ألقى فيها الشاعر هذه القصيدة.
صاغوا لك الشعر من زهور ونوار ... وصغته لك من حانوت خمار
ما (الروم) إن قلت شعرا يا علي وما ... زينب (زوتس) أو (كونياك أو تار)
حطم كؤوسك وأشرب يا أبا حسن ... سلافة عصرت من كرم أشعاري
لله درك شيخاً ليس يشبعه ... نهر من الخمر في الخمر في أحشائه جار
حمراء سحنته بيضاء لحيته ... لكن صفحته سوداء كالقار
إن الشيوخ تقوم الليل في حرم ... لكن على يقوم الليل في (بار)
يمشي على فلا يدري إلى جبل ... تقوده قدماه أم إلى الدار؟
يضل عن بيته والشمس طالعة ... وليس ببعد عنه غير أشبار
وربما دق باب الجار من خبل ... وربما ضربته زوجة الجار
يعد (يني) عليه الكأس أربعة ... أو خمسة وهو لا واع ولا دار
ويحسب الفار إذ يبدو له جملا ... يعدو عليه فيجرى خشية الفار
ويطلب اللحم من دكان فاكهة ... ويشتري الموز من حانوت جزار
وربما خدعته العين في رجل ... يمشي فقال: مساء الفل يا ماري
وربما قابل (المترو) فقبله ... في وجنتيه وحياه (بسيجار)
وربما أطلق المسكين (قنبلة) ... وراح يحسبها رنات أوتار
على عذرا إذا أسرفت في هذري ... فأنت ذو منزل عندي ومقدار
حييت يا صاح فيك النبل أجمعه ... حييت فيك لساناً غير معثار
حييت فيك حديثا خف مسمعه ... وكم حديث يحاكي رجم أحجار
ظل خفيف وأخلاق معطرة ... لو نسقت أصبحت باقات أزهار(975/32)
يكفيك نجلان يزدان الحمى بهما ... كلاهما لامع كالكواكب الساري
وندوة الشيخ (سعد) أنت بهجتها ... لله درك بدرا بين أقمار
لا عيب فيك سوى كأس تضاجعها ... في النوم تغنيك عن زوج وأصهار
وكل ما أنجبت مصر وما ولدت ... (باريس) من خردعون وأبكار
الدهر أفسد شيئا أنت تعرفه ... ما عاد ينفعه إصلاح عطار
بالأقدمية عش في البيت منزويا ... وأخف نفسك فيه خلف أستار
لا تغضبن على فول ولا عدس ... ولو أتوك بسم ناقع هار
عش يا على ملياً عمرك في ... كأس وكأس وفي لهو وأسمار
وخل من شاء يبكي الحظ منتحبا ... ويقطع العمر في هم وأفكار
اترع كؤوسك واشرب كيف شئت وقل ... يا نفس لا تقنطي من رحمة الباري
ما العار إلا الأذى بالناس تلحقه ... ما في المدام ولا في الكأس من عار
قد يغفر الله للسكير من كرم ... ويخلد الراهب الذكير في النار
على هذا قريض كنت تطلبه ... فأد في كل بيت ألف دينار
الشعر غال ولكني أجود به ... عليك. إنك مثلي جائع عار
محمود غنيم(975/33)
أخي
محمود البكري محمد
أخي!. . قد غالني الجوع، وهدّ الفقر بنياني
ودب الضعف في جسدي، وهز الشر إيماني
وطال الليل، وامتدت على الأيام أحزاني
فكفكف دمعي الهامي، وأطفئ نار حرماني
أخي!. . قد أقبل الليل. . وشاع الصمت في الوادي
وفي عشي قد ارتعشت بنياني. . وأولادي
يهيج أنينهم قلبي. .، ويذكي نار أحقادي
وما في العش من دفء، وما في العش من زاد
أخي! قد عربد الشر، وما جت بالأسى نفس
ونام الخير، وانبعثت دواعي الثأر في رأسي
وجن البؤس فانتفضت بكفي بغتة فأسى
أروني الظالم العاتي ليلقي المر من بأسي
أخي احفر لي - على عجل - بفأسي هذه قبري
وألحدنى!. . فما بقيت سوى الأوهام من عمري
سئمت مآسي الدنيا، وضقت بقسوة الدهر
سقاني الكأس حنظلة، وقلبني على الجمر!. .
محمود البكري محمد(975/34)
الأدب والفن في أسبوع
حملة إنجليزية على الدكتور طه حسين باشا:
شن بعض المدرسين الإنجليزية الذين فصلوا من المدارس المصرية حملة هوجاء في جريدة (الإجبشيان جازيت) ضد سعادة الدكتور طه حسين، تحت عنوان (الصم الذي هوى) وهو عنوان يدل على مقدار (أدب المربين) الإنجليز:
وقد أدعى أولئك الكاتبون (المهذبون) أن وزير المعارف السابق عاملهم معاملة غير كريمة وغير عادلة لأنه فصلهم من وظائفهم. . ويظهر أنهم لم يجدوا في قضيتهم الأساسية ما يناقشون فيه على أساس المنطق المعقول، فلجئوا إلى الهجوم الشخصي. ومن أعجب ما جاء في كتابتهم أن الدكتور طه حسين باشا سقطت مكانته بعد الخروج من الوزارة!!.
وأنا أسأل الأساتذة الذين يفترض فيهم أنهم من المثقفين. . هل هم يعيشون في مصر أو في إنجلترا؟ إذا كانوا قد عاشوا في مصر بعقولهم كما عاشوا فيها بأجسامهم فكيف يخفى عنهم أن طه حسين رجل له مكانته في هذه البلاد باعتباره أستاذ النهضة الفكرية المعاصرة، وباعتباره كاتباً أجمع المواطنون على سبقه من الناحيتين الفنية والإصلاحية؟ فالوزارة لم تضعف إليه شيئاً من مجد أو مال حتى يهوى بالخروج منها، ومثل طه حسين هو في الوزارة أو في خارجها.
وإذا كانوا يعيشون في إنجلترا فهل جاءتهم أنباء الحفاوة التي قوبل به الدكتور طه حسين باشا من نحو عامين في الجامعات الإنجليزية حيث أشار الأساتذة هناك بعبقرية وأثاره في ميادين الفكر والثقافة والتعليم، ومنحته الجامعات (دكتوراه) فخرية؟ ففي أي مكان هوى ذلك النجم؟ أفي مصر أم في إنجلترا أم في عقول أولئك المدرسين الخاوية. .؟
وقد تصدى للرد على تلك المقالات الأستاذ إسماعيل كامل في نفس الصحيفة (الإجبشان جازيت) وفند أقوالهم تنفيذا لقى ارتياح العقلاء من قراء هذه الجريدة.
ثم كتب العميد نفسه مقالا في الصحيفة ذاتها رد به على تلك الغارة العشواء، قال فيه: أود قبل كل شيء أن أسأل لماذا انتظر هؤلاء هذه المدة الطويلة ليشكوا مما حدث منذ أكثر من شهرين بل في التاسع من ديسمبر بالذات؟ ولماذا آثروا الصمت حينما كنت عضوا في الحكومة المصرية؟ إنه ليسرى عني أن أتبين أن الشجاعة كانت تنقصهم، مع أنه لم تكن(975/35)
هناك أية رقابة إذ ذاك.
ثم قال سعادته: على أن مسئولية فصل أولئك المدرسين لا تقع على وزير المعارف، أو على مجلس الوزراء المصري، ولكنها تقع على العسكريين البريطانيين في منطقة القنال، الذين سلكوا سلوكاً لا يمكن قبوله في القرن العشرين.
وأوضح في المقال ما صنعه معهم إذ أراد أن يحميهم من الهجوم الذي قد يتعرضون له في المدارس وفي الجامعات، فطلب إليهم أن يبقوا في منازلهم ليدفع عنهم غضب أبناء الشعب من طلبة المدارس والجامعات.
وقال سعادة العميد: وإذا ما رغب هؤلاء الأساتذة في الشكوى فإني أنصح لهم، عندما يعودون إلى إنجلترا، أن يرسلوا احتجاجات إلى مستر تشرشل مثلا أو إلى أي شخص آخر مسئول عما حدث، لا لهم فحسب، ولكن وقبل كل شيء عما حدث للشعب المصري كله منذ أكتوبر سنة 1951 ما دام إحساسهم بالعدالة عظيما إلى هذا الحد!.
وقد قرر مجلس الدولة أنه ليس لهؤلاء المدرسين حتى في الحصول على أي تعويض، ولكن الحكومة قررت - بناء على طلب وزارة المعارف - منحهم مراتب ثلاثة شهور ونفقات سفرهم.
فأية عدالة يطلب بعد ذلك؟ وأيهما يعد أكرم: موقف الوزير منهم، أو موقفهم منه وهم يتطاولون ويتقولون عليه بعد خروجه من الوزارة. .؟
حقيقة المسألة - على ما هو طبيعي - أن الدكتور طه حسين باشا كان مصريا فغضب الإنجليزية.
فساد الإذاعة:
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: اضرب لي مثلا للخادم يحتاج إلى أن ينبه في كل أمر ولا يستخلص مما يؤمر به خطة يلزمها ونهجاً يسير عليه. قال بيدبا: مثل ذلك - أيها الملك السعيد - الإذاعة المصرية، شكا الناس منذ سنوات من أغنية (حمودة ياني) إذ استنكرها ذوو الحياء والغيرة وألحوا في استنكارها، فلم يسع الإذاعة إلا منعها. وشكوا من أمثال لها وحملوا عليها فرضخت وامتنعت عن المنكر. وكان حريا بها أن تدرك أن المسألة مسألة خطة يحب أن تكون مرسومة، وأن ما استنكر ليس إلا مثلا يجب القياس عليه. . ولكن(975/36)
ظهر أنها تحتاج في كل مرة إلى استنكار جديد من مخدومها الشعب. . فقد لاحظ هذا السيد (الشعب) أن خادمة (الإذاعة) تذيع في هذه الآونة التي تتطلب العمل المجد مثل أغنية (الدنيا سيجارة وكأس) وأن هذا لا يتفق مع التبعات الجسام التي يعد لها جيل الشباب، فهناك أشياء أهم من السيجارة والكأس. . ومثل الأغنية التي يقول فيها المغني (تعالى بين أحضاني) - لاحظ السيد ذلك من خادمة العجيب الذي كان أن يدرك من تلقاء نفسه أن ذلك لا يليق، فغضب عليه و (شخط فيه) فاضطر إلى أن يقول (حاضر يا سيدي!)
قال دبشليم الملك: حسن ما جئت به من مثل! ولكن كيف تستعمل الدولة المصرية هذا الخادم الساذج في عصر التقدم الذي يوجد به خدم مدربون أذكياء؟
قال الفيلسوف: أيها الملك السعيد، ليست المسألة بهذه المثابة، ولكن (إذا حسنت أخلاق المخدوم ساءت أخلاق الخادم)
قال دبشليم الملك: زدني إيضاحا.
قال بيدبا الفيلسوف: إن من في الإذاعة قد لا ينقصهم الذكاء وربما كان لبعضهم دربة. ولكنهم (محاسيب) لذوي النفوذ، جيء بهم ليغدق عليهم ثم لا بد من الإغضاء عنهم. .
قال دبشليم الملك: وما رأيك في قولة رئيس الوزارة الجديد أحمد نجيب الهلالي باشا: (لن نوادع الفساد)
قال الفيلسوف: إنا لمنتظروا
حق القارئ على الكاتب:
تلقيت الرسالة الآتية من الأديب عبد اللطيف الطالب بمعهد القاهرة الثانوي، وقد حرص على أن يبعث بها إلى - كما قال في هامشها - ليجنبها على أستاذنا الكبير الزيات بك. وقد رأيت أن أنشرها في هذا الباب لأني أشارك صاحبها ما تضمنته من رأى وجاء، وأعلم أن (شعب الرسالة) يرى ذلك ويرجوه، ونحن الآن في عصر الشعوب واحترام إرادتها، وهذا هو نص الرسالة:
(أما بعد التحية: فللأستاذ الزيات في قلوب القارئين مكانة تجل عن الوصف وتنبو عن مواطن الشبهات، وذلك لما اتصف به من العمق العميق في البحث، والإحاطة الشاملة في الدراسة، والأمانة الدقيقة في الترجمة والأخلاق العالية في التجميل والتزين، مما حدا(975/37)
بأساتذتنا أن يقولوا لنا في فصول الدراسة (اقرءوا الزيات من خلال كلماته فإن كلماته تشف عن الرفعة والنبل والجمال.
وبيننا - معشر قراء الرسالة - وبين أستاذنا الزيات مشكلة نرجو لها حلا، أستغفر الله بل لنا رجاء - حتى أكون مؤدبا - نضعه بين يديه
إن الأستاذ الزيات يضن علينا بمقال كامل يشغل صحيفة وبعض الصحيفة في كل أسبوع يتوج به مجلتنا الحبيبة التي تتلقفها أيدينا في نهم كما تتلقف أفواه الجياع أرغفة الخبز
أفلا يتفضل ويغمرنا بهذا المقال كلما خرج إلى الوجود عدد جديد من الرسالة الغراء؟!
وهذا رجاء يعتمل في نفس كل قارئ للرسالة، وأعتقد أن هذا من حق القارئ على الكاتب الذي ينزله من قلبه منزلة رفيعة. وعلينا لأستاذنا الزيات أن نفهم ما يكتب وأن نتدبر ما يقول. .
وقد عبرت عن بعض ذلك الآنسة العراقية صاحبة (رسالة الجسم الجميل وصورة الروح النبيل) لكنها غلب عليها حياء العذارى حين طلبت من أستاذنا الزيات أن يخصص عددا من الرسالة لتأبين المرحوم (على محمود طه) يكتب هو أكثره، ولم تطلب منه أن يضع لنا كتابا يتناول فيه بالتحليل والدراسة شخصية وشعر (شاعر الحب والجمال) الخالد
إن حقق رجاءنا أستاذنا فقد أضاف إلى فضائله الكثيرة فضلا وإن لم. . . فسأضع هذا الأمر بين يدي قراء الرسالة على صورة استفتاء!
وحينئذ لا مفر من النزول على رغبة القراء وتفضلوا بقبول فائق الاحترام)
عباس خضر(975/38)
الكتب
رياح وشموع
شعر: كمال نشأت
للأستاذ محمد محمود زيتون
هذه مجموعة رقيقة من شعر الشباب، ضمت أصدق الأحاسيس، التي اهتزت لها مشاعر الأستاذ الشاعر كمال نشأت، وقد ملك الربيع عليه سمعه وبصره، فغفا عن صخب الناس، ومضى إلى الطبيعة يستجليها، فواتاه الإلهام وساعفه النغم.
ولا عجب، فهو من شباب الإسكندرية، أمسى وأضحى بين عينيها، فافتن بالأنسام، واحتفل بالأمواج، واختلى بالأسحار والأصائل، فتصيد لقيثارته الشادية أوتار الربيع، فامتزج النغم الناعم بالموج العتى، وخفقت (الشموع) في رعونة (الرياح) العواصف؛ والربيع في حناياه دوى لا يبلى مع الخريف الحائل، والهجران الموحش.
يستهل الشاعر مجموعة (رياح وشموع) بالقطعة الجميلة التي عنوانها (ربيعي) وهنا نضع بين يدي القارئ مفتاح الشاعرية الذي يهدى إلى أسرار نفسه: فليس الربيع خضرة وزهرة. أو جدولاً وبلبلاً. . أو بعضاً من تلك المفاتن التي تجتمع عليها الحواس المشتركة هذه الدنيا، ولكن الربيع عند الشاعر معان مجردة له أن يمنحها ما يشاء من الأصباغ، وله أن ينغمها بحيث ينفرد هو بتوقيعها على قيثارته في محاريب الفن.
لهذا، كان ربيع شاعرنا معنى جديداً له معالمه ومعارفه، فالحياة في تقلباتها (ربيع خالد لا ينهي) بحيث لا يغفو مع الخريف، ولا يعسو مع الظلام، فليتأمل القارئ هذين البيتين وبينهما سبعة أبيات رقاق:
وبمهجتي أجد الربيع مجدداً ... أبداً نضيراً في الشعور الناضر
أنا في الخريف أرى ربيعاً غافيا ... وأكاد ألمسه صنيعة ساحر
ويسبح بعد ذلك في الآفاق الفساح، دافعاً بجناحيه الذهبي هذا السحاب، متنقلا على بساط سليمان من الروض إلى الميناء إلى محطة الرمل إلى التزام إلى تريانوه إلى العيون النواعس إلى الشاطئ، والربيع من حوله: هالة مشعة أو بسمة دافقة،(975/39)
يقول:
هو في دمي خلد وبين أضالعي ... فجر أوائله بها كأواخر
لي خافق يجد الربيع منوعا ... في كل مرأى يستبين لناظري
لي خافق يجد الربيع بكل ما ... يلقاه من ماض لدى وحاضر
في البحر، في القفر الجديب، وفي لظى ... بين الجوانح، في ظلام مغاور
في بسمة الطفل الصغير تكشفت ... عن طهره في روعة لعباقر
في غنوة العصفور في ألق الضحى ... في ضجة الموج العتي الهادر
وإذا عاد ربيع الناس، ترنم شاعرنا بهذا النشيد العذب
(نداء الربيع) فيقول:
عاد الربيع ومهجتي ... فيها ربيع ناضر
شعر، وأحلام، وأنغام، وشوق زاخر
عاد الربيع فعدت أسمع بين أحنائي خطاه
همس يدب مجددا ... في القلب أفراح الحياه
ولئن تملك الربيع شاعرنا الملهم، فلا أقل من أن يمتزج بتهاويله فتراه - وهو على ضفاف (بحيرة البجع) - يتمنى أن يكون عطراً أو ريشة أو ظلاما أو صباحاً أو سكوناً أو ظلاما، ولكنه قلب أسير في يد الحقيقة، فيناجي البجعات السابحات الفاتنات:
آه لو كنت في رحابك عطراً ... في زهور على غصون وريقة
آه لو كنت ريشة في جناح=لطيور منعمات رشيقة
آه لو كنت في مياهك ظلا ... غائصاً يرتقي الزهور العريقة
كم تمنيت أن أكون صباحاً ... ناعساً حالماً رغيباً شروقه
كم تمنيت أن أكون سكوناً ... في كهوف بين الجبال سحيقة
كم تمنيت أن أكون ظلاماً ... ناشراً ستره محبا سموقه
كم تمنيت أن أكون، وما كنت سوى مهجة بأسر الحقيقة
وتراه يزف (نسمة الفجر) إلى دنيا الناس فيقول:
هبي على القفر الجديب، على السهول، على البحور(975/40)
روحاً تعانق كل ما تلقاه، طاهرة الضمير
وتوحد الكون الكبير، بحبها العف الكبير
وتثير في القلب فرحة الطفل الغرير
دوري بأحلام الربيع، وعطره بالأفق دوري
وتناثري فرحاً، وأحلاماً ... على الروض الشجير
إنه لا شك شاعر هيمان، له قلب أخذ يرق ويروق حنى صار فلذة من الطبيعة الحافلة بالجمال، فهو يقول:
فوق هذي الظلال سرنا ظلالا ... ضاحكات على الظريق الوديع
ويبدو هذا المزاج الشاعري في نغماته الموزعة بين (الليل الربيعي) و (البرعم الشفقي) و (همسة الصبح الخجول) ولا يعبأ بعد ذلك بالعواصف الهوج و (الضياء المقرور) والشموع الخوافق، فلأمل يحدو له بنشيد (الصباح العطوف)
إن قسا الليل ظلمة ورياحاً ... فالصباح العطوف في أحنائي
والسكون العميق بين ذراعينا ... ودفء الدماء في الأعضاء
أطفئي خافق الشموع، وخلينا ظلاماً إلى مجيء الضياء هذه بعض الرؤى الباسمة. والظلام الخفاف، التي تسابقت إلى خيال الشاعر كمال نشأت، فاهتزت لها ريشته الصناع، ما كدت أفرغ من ترتيلها حتى رأيتني صادق الرغبة في إشراك قراء الرسالة معي في الإعجاب بها، والتقدير له، فله مني أخلص التهنئة على براعته في التقاط الهمسات والبسمات والنسمات التي صاغها مع الربيع في (رياح وشموع)
محمد محمود زيتون
-(975/41)
البريد الأدبي
تحية إلى مؤلف (محاضرات الثلاثاء:
أرسل حضرة العزة الأستاذ محمود تيمور بك إلى الأستاذ الشرباصي الخطاب التالي، بتاريخ 30 يناير سنة 1952 م.
(عزيزي الفاضل الأستاذ أحمد الشرباصي
أبعث لفضيلتكم بأسمى التحية شاكرا لكم هديتكم الطريفة (محاضرات الثلاثاء) وإني إذ أكتب لكم عن رأيي في هذا الكتاب. فإنا أكتبه عن يقين وإخلاص. . .
ولا أكتمكم سروري الكبير الذي شملني على إثر مطالعتي لهذا السفر الطريف، الذي دل على روحكم العالية، ونزعتكم في الإصلاح، متخذين الدين كأساس لهذا الغرض، في مرونة تساير المجتمع، دون خروج على مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة الغراء.
كل ذلك يجري في معالجة طريفة أخاذة، وعرض رفيع رائع وأسلوب سام رصين فأهنئ فضيلتكم تهنئة صادقة وأؤمل أن تواصلوا هذا النشاط الاجتماعي الديني المشكور في همتكم المعروفة، فيستهدي بها ويستضيء وتحياتي الخالصة إليكم مشفوعة بتقديري واحترامي)
المخلص محمود تيمور(975/42)
مدافن الأدب في وزارة المعارف:
ما أضيع الأدب في وزارة المعارف، وما أسرع النسيان إلينا حين يمضي النهار بالأدباء الراحلين ممن خدموا الثقافة القومية، ودعموا أركانها. أقول هذا حين أذكر تلك النهضة التأليفية التي بزغت سنة 1938، فنظمت الوزارة مسابقات أدبية رفيعة أكرمت فيها الفائزين ماليا، ووعدت بطبع مؤلفاتهم التي فازوا بها: ولكن مضت الأيام والسنون، وتقلبت العهود، وما تزال هذه الكتب كالأطياف الباهتة في بقايا ذاكرة وفية.
حقا، لقد مضى أصحابها إلى دار البقاء، وخجل أهلوهم من الانتصاف للأموات من الأحياء، وقد طوتهم الأيام بأرزائها، ولكنا نتساءل: إلى متى تسير الوزارة، وزارة العلم الأدب، على ظهر سلحفاة، كلما اتصل الموضوع بالشؤون العلمية والأدبية؟ ولماذا يجازي المرحوم فخري أبو السعود بوأد كتابيه القيمين عن (الخلافة) (والبارودي)؟ وما جريرة الأدب المعاصر إذا حرم من رجاله السابقين؟
فلتحمل الرسالة الغراء هذه الصرخة إلى وزارة المعارف، لعلها تعمل على أحياء ذكرى النابغين الراحلين، وتفي بما وعدت من طبع تراثهم الممتاز، فهذا حقهم الشرعي عليها، تؤاخذ على التفريط فيه أمام محكمة التاريخ، وتنال الحمد والثناء على أدائه، وذلك لا سواه هو التقدير الباقي، والتخليد الكريم لأهل الأدب أحياء وأمواتا، أما إذا تذرعت بمعاذير رسمية، فلن يعفيها من التبعة الأدبية يواقظ، ولا أقل من تسليم هذه الكتب إلى إحدى دور النشر لإذاعتها والانتفاع بها، وهذا هو العمل الإيجابي الحاسم الذي نطالب به وزارة المعارف اليوم بعد الذي مضى، وإلا فإنه يحق لأهل الثقافة أن يتقدموا باستجواب محرج بشأن هذه الكتب التي لا ندري إن كانت موجودة فنبعثها أو موءودة فنحتسبها.
ونرجو مخلصين ألا يكون قد أهيل عليها تراب النسيان في زحمة الأحداث فذهبت مع الريح، ورحم الله فخري أبو السعود: نعوا إليه في حياته فلذتين من كبده، حين ابتلع البحر المحيط ولديه الصغيرين وهما في الباخرة الهاوية بأطفال الإنجليز إلى أمريكا، فمن ينعى إليه في مماته فلذتين من عقله، وقد شيع الجحود والإهمال كتابيه الكريمين إلى مدافن الأدب في وزارة المعارف. . عظم الله أجركم أيها الأدباء.
محمد محمود زيتون(975/43)
ملاحظات أسبوعية:
1 - قرأت رباعيات الخيام مترجمة إلى العربية بقلم الشاعر: محمد السباعي. والمقطع الأول منها هو:
غرد الطير فنبه من نعس ... وأدر كأسك فلعيش خلس
سل سيف الفجر غمد الفلس ... وانبرى بالشرق رام أرسلا
أسهم الأضواء في هام القلاع
واستوقفني ص 154 في الجزء الثاني من (معاهد التنصيص) لعبد الرحيم العباسي ما أذكر (وبديع أيضاً قول ابن وكيع من الرمل. . .).
غرد الطير فنبه من نعس ... وأدر كأسك فلعيش خلس
سل سيف الفجر غمد الدجى ... وتعرى الصبح من ثوب الغلس
وانجلى عن حلل قضية ... نالها من ظلم الليل دنس
وأترك لكل قارئ التعليق على الشاعر السباعي
2 - وقرأت ص 95 من العدد الثالث من مجلة (المسلمون) قصيدة بعنوان (الفدائيون) مهداة إلى أرواح الشهداء الخالدين مطلعها. والقصيدة للأستاذ محمود حسن إسماعيل.
نفخ الصور فانتبه من سباتك ... أيها الشعب تلك أولى حياتك
ووقفت عند البيت 34
كل هذا وأنت في دورة الأيا ... م مستفشياً في سباتك
القصيدة من بحر الخفيف. وأستوقفني البيت لكسر فيه حيث إن التفعيلة الثانية من الفجر ناقصة وتدا مجموعاً. ولست أدري لمن أعزو السبب في غيبة هذا الوتد القلم الشاعر، أم الجهاز المطبعة؟
وإلى اللقاء معشر القراء والسلام
محمد محمد أحمد التاجي
ميراث الأخوة لأم
قرأت في العدد 970 من الرسالة الغراء في البريد الأدبي تعليقاً للأستاذ علي إبراهيم(975/44)
القنديلي على فتوى صاحب الفضيلة المفتى السابق بخصوص ميراث الأخوة لأم.
وقد كتب الأستاذ المعلق أن الأخوة لأم لا يرثون لوجود الفرع الوارث. . وقد استشهد على ذلك بما جاء في كتاب الفرائض من الجزء الخامس لابن عابدين وكذلك بما ورد في شرح الشريف على السراجية صفحة 94 إلى صفحة 97.
وأنا أضيف إلى هذين الدليلين دليلين آخرين: -
الأول: - هو قول تعالى بخصوص ميراث أولاد الأم وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) والكلالة من لم يخلف والدا وولدا، فمعنى يورث كلالة أي يورث من جهة القرابة الكليلة أي الضعيفة وهي قرابة غير الأصول والفروع.
الثاني: - هو نص المادة 26 من قانون المواريث رقم 77 لسنة 1943 وهي تنص على ما يأتي: - يحجب أولاد الأم كل من الأب والجد الصحيح وإن علا، والولد وولد الابن وإن نزل).
والمقصود بالولد هنا الابن أو البنت على السواء.
محمد كامل عزب
يصمد بمعنى يثبت صحيح
جاء في العدد الأخير من مجلة الرسالة الغراء تعقيب ينكر فيه كاتبه على الأستاذ الكبير سيد قطب استعماله يصمد بمعنى يثبت، مستدلاً على ذلك بما جاء في القاموس من أن الصمد بمعنى القصد والصمد بمعنى السيد وليس من معنى المادة الثبوت.
ولو أن الكاتب الفاضل تدبر قليلاً في هذه المادة لوجدها تدل أصالة على معنى الثبوت ثم تدل بعد ذلك على معنى القصد والسيد وغيرهما تبعاً، يدل على ذلك ما جاء في القاموس نفسه من أن من معاني الصمد الدوام: والصماد الجلاد والصمدة الصخرة الراسية، والمصمد الشيء الصلب ما فيه خور، وناقة مصماد باقية على القر والجذب دائمة الرسل. ولا يخفى ما في هذا كله من معنى الثبوت والدوام ثم تفرغ عن هذا المعنى الأصل في المادة الصمد بمعنى القصد للثبوت عليه والصمد بمعنى السيد لكونه لا يحول عن المكارم.(975/45)
ولعل ما ذكرته هو الذي يتسق مع المنهج الحديث في دراسات على اللغة العام. وأما تفسير الكشاف للفظة الصمد من قوله تعالى (الله الصمد) بالمقصود فليس بمستقيم، والأحق أن يكون معناها الدائم الباقي لأن السورة قد جاءت لتثبت لله صفتي الوحدانية والبقاء، ولا يخفى انساق هذا المعنى الأخير مع قوله تعالى (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) والله أعلم.
وللكاتب تحيات المخلص
عبد البصير عبد الله حسين(975/46)
القصص
الابن
للكاتب الفرنسي بول بورجيه
استيقظت مدام (ليجيه) في صبيحة هذا اليوم قلقة بادية الهموم والتفكير. فقد كان عليها أن تضع حدا لحياتها كأرملة في مقتبل العمر، ولحياتها كأم ذات بنين ثلاثة. فلقد مضى على وفاة زوجها وهي إذ ذاك في الثالثة والثلاثين عامان كاملان. وكانت وفاته بعلة ذات الجنب التي غالته وشيكا من دائرة عمله كمحام له شهرة مستفيضة ومحل من قلوب الناس. ومنذ ستة أسابيع سلفت قبل هذا الصباح الذي تستفيق فيه مدام (ليجيه) حائرة مفكرة، اجترأ (جورج كولت) صديق بعلها المرحوم ومحام مثله أمضى معه سني الجامعة ثم لزم زوجها في دائرته لزوم الشريك وفي بيته لزوم الصاحب، اجترأ هذا الزميل على أن يقول للأرملة الصبية منذ ستة أسابيع:
- إني لأحمل لك أيتها السيدة منذ طويل عاطفة لم أستطع استكناهها ولا فهم طبيعتها إلا منذ اليوم الذي غادرنا فيه صديقي العزيز زوجك، فأصبحت بوفاته حرة التصرف مالكة لزمام أمرك. وأظنك كنت تستشعرين مني هذا الصمت الناطق وتحسين احترامي المراحل الفقيد وتقدرين رعايتي لك. فبسببك يا سيدتي (ومعذرة من اعترافي بهذه الحقيقة) قطعت كل صلة ترابطني بامرأة أخرى في هذه الحياة، وأنت كامرأة في ريق شبابها واكتمال أنوثتها، لك الحق بل يجب عليك أن تستأنفي حياة الزوجية السعيدة من جديد. وإذن فهل أستطيع أن آمل يا سيدتي أن تعتبريني الزوج المخلص الذي سيكون من أشهى أحلامه أن يضحي راحته وحياته لأجلك. . . إني أحبك. . . يا سيدتي، ولعلها المرة الأولى التي أسمح فيها لنفسي بنطق هذه الكلمة الجريئة على مسمع منك. . . أما أنت يا سيدتي فليس عندك إلا كلمة واحدة تقولينها في هذه اللحظة ستكون هي الأولى والأخيرة. ولكن بحقك لا تلفظيها إلا بعد تأمل في عاقبتها، فإن ما أجن لك من هوى دفين لأمر من الأهمية والخطورة بحيث لا تكفيه كلمة أو جواب يقال على استعجال واقتضاب. قالت مدام (ليجيه) وصوتها راجف وطرفها خاشع:
- أتطلب مني استئنافاً لحياتي الزوجية معك؟ ثم جمد لسانها عند هذه الكلمة فلم تأت (بلا)(975/47)
أو (بنعم) وأخيراً جسرت فقالت:
ولكن حياتي لا يمكن ترميمها ولا استئنافها. إنك تتكلم عن الحق والواجب وأنا لا أعرف إلا حقاً واحداً: هو السهر على أولادي، ولا أفهم إلا واجباً فرداً: هو واجبي نحو أبنائي الثلاثة. . قال الصديق الخاطب:
- أولاً تشعرين أني أحبهم هم أيضاً وأعزهم وأحنو عليهم كأبيهم صديقي الراحل. . .؟! ومن لعمري سيحل محل الأب الراحل إن لم يحله صديق أبيهم وصفيه؟ وهل غيري يعرف ميول صديقه وذوقه ومشربه في التربية والمسلك؟ وإذن فهل تسمحين يا سيدتي أن أشغل مكان الأب الراحل؟ أترضين أن تكوني امرأتي أمام الله والناس.
قالت الأرملة في حسرة وتلدد:
خلني الآن لشأني. . . هلا جنبتني الكلام في هذا الموضوع.؟! إنه ليؤلمني البحث فيه ويسبب لي كثيراً من الشجن والشجو.
لا أعرف شيئاً. ولا أفهم شيئاً. لست بمستطيعة أن ألمح في قرارة نفسي المظلمة عاطفة أستطيع منها إجابتك على سؤالك لأني أجهل نفسي. . . ولكني أعدك أن جوابي سيكون بعد قليل من الزمن. . . أما الآن فلا أستطيع، أجل لا أستطيع. . فأجاب جورج فوكولت:
- سأنتظر كلمتك كما تشائين وأنى تشائين: إنك إلا تقولي (لا) هذه اللحظة فبحسبي، لأن ذلك معناه أنك قد تتبصرين خلال سجوف المستقبل الكلمة الحبيبة إلى قلبي وهي (نعم). إن التردد والتحير مؤلمان للقلب مزهقان للروح إذا لم يكن القلب المنتظر في شرخ شبابه. قال ذلك وأبان لها عن طرف لمته وقد طرزتها سنوه الأربعون بأسلاك الشيب البيضاء. فأحست المرأة الأرملة وهي تتأمل وخطات الشيب في رأسه، وتنظر إلى أثر التأنيب الصامت من عينيه السوداوين: أن موسيو جورج إنما يقيس سعادته في هذه الدنيا بمقياس ما بقى له من سنين فيها، وكأن نظرته كانت تقول لها، إن ما يطويه الشباب اللاهي من متع ومباهج لا ينشرها كفن المشيب مهما يمتد ويضف ثوبه. ثم يستأنف حديثه ويقول:
- إنه إحسان منك على أي حال أن تحددي لقلبي الشهيد موعداً للجواب كي أغادرك وأنا أقول لنفسي من يوم لآخر ستوافيني نعمة جوابها في يوم كذا. . (كاترين)، أيتها العزيزة، اختاري بنفسك اليوم الموعود وعيني تاريخه، وليكن القرب والبعد على ما يوافق رغبتك(975/48)
وهواك. . . أما أنا فسأعاهدك الآن عهداً لا أحنث فيه ولا أنحرف ألا أخوض في ذكر هذا الموضوع الذي سيكون برغم هذا هو شغلي الشاغل وهمي الناصب. . فحددي بعيشك موعد جوابك. وهنا تمتمت مدام (ليجيه) بصوت محتبس ولهجة ضارعة: سيكون ذلك حين ينتهي أجل حدادي على زوجي الراحل. وبما أنك تدعي حبي فأرجوك التمسك بوعدك منذ الآن كما أتمسك بوعدي أنا. والآن أرجو ألا تلح علي في هذا الشأن فقد كفاني ما كفاني. . .
ثم يقول لها، وهو يود أن يوضح بالوقت المعين كل شك وغموض يمكن أن يعتور موعده المرجى: وإذن فسيكون جوابك بعد أسابيع في الرابع عشر من نيسان؟! فأجابت على هذا بإيماءة من رأسها ثم انعقد بينهما جو من الصمت. . .
لقد غالت يد الموت زوجها الحبيب في الرابع عشر من إبريل أي منذ اثنتين وعشرين شهراً سلفت قبل هذا اليوم الذي يجالس فيه مدام (ليجيه) خطيبها المسيو جورج. كل ذلك جال بذهن (مدام ليجيه) وظن الخاطب الصديق الذي شعر بثقل كلماته على نفس الزوجة بعد أن عين لها الموعد المضروب. . .
أن يستأنف المرء حياته دون أن يعوج بذكرى أحبته الراحلين عن الدنيا ففي ذلك ويا للحسرة إساءة إلى ذكراهم الغابرة وعهودهم الماضية، وإذن فمن يغب عن الوجود تمت معه ذكراه وتنعدم ثم تبتلعه هوة العدم إلى غير رجعة، والهفتاء.
ومرت على هذا اليوم ستة الأسابيع المضروبة دون أن يلم خلالها طيف الزوج الراحل ودون أن تتردد ذكراه على رأس الخاطب ومدام (ليجيه) فتفسد عليهما خلوتهما اللذيذة وجلساتهما اليومية المتعاقبة. . .
ويجد المسيو جورج من اللطف والأدب ألا يعرض لذكر الموعد المرتقب خلال هذه الأسابيع الستة. ثم يرى من الظرف والكياسة أن يغادر (باريس) حين اقترب اليوم المضروب يوم 16 نيسان. أما مدام (ليجيه) فقد أخذت تتهيأ لهذا اليوم وهو ذكرى يوم وفاة زوجها. وقد أحيت هذه الذكرى في ذلك اليوم في شيء من البرود وعدم المبالاة لم تمتزج بهما إثارة من حنان ولا بقية من فجيعة وحسرة. وفي اليوم الثالث عشر من نيسان تسلمت من جورج خاطبها خطاباً ينبئها فيه بزيارته من الغد عند الظهر، فأقبلت على الرسالة(975/49)
تقرأها مرة ومرتين ثم بدرت منها بادرة غريبة عجبت لها هي نفسها. . وذلك حين رفعت رسالته إلى فمها وقبلت سطورها وفي ظنها أنها إنما تقبل حياة تفيض بالسعادة واللذة خلال هذه السطور. . وأخذت تردد: نعم. . نعم. . سيكون جوابي. . نعم. وإذن ففيم استيقاظها صبيحة هذا اليوم مضطربة حيرى كما أسلفنا؟. . ما الذي حدث خلال هذه الفترة القصيرة بين تقبيلها رسالة جورج نهار الأمس فرحة نشوى وبين الساعة التي ترتفق فيها وسادة سريرها الوثير يبدو عليها سهوم وتفكير؟ ما الذي طرأ عليها يا ترى فبدل عزمها؟!. . وأقبلت الخادم في هذه اللحظة فهصرت أستار الغرفة عن النوافذ والشبابيك فطغت على جوها موجة من نور لآلاء ضاحك غمر المكان كله؛ وكان المكان في شارع (فانو) تشرف نوافذه وشرفاته على بستان القنصلية النمساوية الظليل. ولمعت زرقة السماء من خلال النوافذ ونفذ تغريد العصافير إلى المسامع شجياً موسيقياً شعرت معه مدام (ليجيه) أن ثوب الجدة الذي تضفيه الطبيعة على جسمها يتفق والموقف الجديد الذي تقفه هي من حياتها الجديدة هذا اليوم. . حتى أن الثوب المزركش الذي حملته الخادم منذ لحظة كان يغريها بأخيلة وخطرات حافلة باللذة والسعادة. . ومع ذلك فلم يتقطب جبينها ويربد وجهها كلما نظرت إلى عقرب الساعة ينتقل من مكانه. مالها تقف حالمة ساهمة بدل أن تنشط وتفرح؟. . أتراها تتخوف مما عساه يحمله لها هذا اليوم من خوف مجهول؟
حين تكلمت مدام ليجيه عن واجباتها نحو أولادها لم تقل كل شيء للصديق الخاطب، لم تعترف له أن ولدها البكر (شارل) ما فتئ منذ شهور مدعاة تخوفها. أبداً لم تبادل الابن مع أمه كلمة عن (جورج فوكولت) خاطبها الرغيب، وكان هذا الأخير لا يميز هذا الغلام اليافع في المخاطبة والحوار عن أخيه الصغير (رنيه) وأخته الصغيرة (هيلين) اللذين كان يكلمهما بصيغة الإفراد دون كلمة. ولكن إذا شفعت سنو الطفل (رينه) الخمس وأعوام الطفلة (هيلين) العشرة - لهذه الصيغة الافرادية يبدي فيها صديق أبيهما حبه وتدليله لهما، فإن الستة عشر عاماً التي يجتازها الغلام المراهق (شارل) كانت تقيم بينه وبين (جورج) الخاطب جواً مختلفاً عن جو أخويه فيه بدل الألفة والعطف وعدم الكلفة الانقباض والنفرة. ومع هذا فقد كان الخاطب الواغليغضي عن هذا ويتجاهل، بل لقد أخذ في الآونة الأخيرة يضاعف عطفه على الغلام ويبتغي الوسيلة إلى قلبه النافر ووجهه العابس الصامت.(975/50)
وتلاحظ مدام (ليجيه) ذلك السلوك المحبب الجذاب الذي يعامل به الخاطب ولدها البكر فتغتبط به وتنشرح له.
ولكن رغم كل هذا كانت تترقب من ابنها رفضاً وثورة أخذت تحسب حسابهما وتتهيأ لهما منذ أيام.
من هنا كانت حيرتها وقلقها في هذه الصبيحة الباسمة من نيسان التي كان عليها فيها أن تقول كلمتها الأخيرة في رفض يد (جورج) أو قبولها. ولهذا وحده هي تدير في ذهنها الصورة المستحبة الملائمة التي يمكنها بها أن تفاجأ ولدها دون أن تؤذيه أو تسوئه في عزة نفسه، فكانت تردد:
- كان علي أن أنبئه بذلك وأسبر غور رضاه أو رفضه منذ ستة أسابيع. . غير أني لم أستطع ذلك لأني اجدني أمامه مرتبكة مشلولة الإدارة كأني بحضرة أبيه الراحل. فيا لله كم يشبهه حتى كأنه صورته الثانية! وعلى كل حال فإن جورج أحسن في تحببه إليه وترضيه. . وذكر أسم جورج هكذا مراراً، ودل المرأة على أنها تنطوي له على حب وميل. .
نعم يلوح لها أنها تحبه بأنصاف من العواطف والميول غير متكاملة ولا متكونة. ويكن ذلك ويا للأسف كان يزيد ألمها ويضاعف شجوها. . أجل إن جورج محق في قوله. فواجب على معاودة حياتي الزوجية، وأنا بهذا لا أنال شيئاً من زوجي الميت ولا أسوئه في كرامته. كذلك لا أفتات على أولادي الأحبة الذين تركني لهم، لأن جورج سيحبهم وسيحنو عليهم. والصغيران يحسان بهذا وبقدراته في سذاجة وطهارة. أما شارل ولدي الحبيب فسوف يقدره كذلك إن تفكر وتدبر. آه لشد ما يحب إياه هذا الصغير! إنه لينمو ويتفتح للحياة يوما بعد يوم كأنما نتعهد نماءه معجزة من السماء.
هون الأول في فصله في مدرسة (سان لويس) وإنه يترقى بين رفقائه وزملائه بصورة غريبة سريعة كأنما وكن نفسه على أن يسد الفراغ الذي تركه أبوه من بعده، إن لم يكن قد قام في نفسه أكثر من هذا: أن يكون خليفة أبيه في البيت ورب الأسرة التي كان يحلم أن يكون حاميها وراعيها. فيا للقسوة والنكران! وكيف تجرؤ هذه الأم أن تسلم أمور البيت إلى راع آخر وحام غريب؟!(975/51)
ومضى الوقت وكادت الساعة تبلغ العاشرة وأفكار المرأة ما زالت تضطرب في ساحة ذهنها جيئة وذهوبا. وفيما هي منصرفة إلى زينتها وترجيل شعرها وتعليق حليها وأقراطها، إذا طرقات على باب الغرفة تنفذ إلى أذنيها فيجب لها قلبها وترتعش نفسها أمامه كمجرم أمام قاضيه. وفي الحق لقد كان الداخل (شارل) الذي توقف على الباب لحظة كالمأخوذ بدل أن يدخل عليها لتوه. قالت له الأم مضطربة قلقة وقد شاهدت تأثرا فجائيا يطبع وجهه بطابع الألم؛ مالك يابني؟ فأجابها الغلام: لا شيء لا شيء، إني مشدوه متعجب فقط. . . لقد ألفت أن أراك دائماً في ثياب الحداد. ولكن ولكن. . . أصحيح أن حدادنا على أبي قد انتهى؟ فألقت (مدام ليجيه) على المرآة الكبيرة أمامها نظرة غير عامدة فإذا بها تبصر ملامح وجهها الرائق تنسجم أبدع انسجام مع خصلات شعرها الذهبي، ولكن يناقض ذلك كل المناقصة زي ولدها المدرسي الأسود الغارق كله في حلة من حداد، ويرتجف صوت الأم حين تهم بإجابة ولدها ثم تنجدها لباقتها فتغير مجرى الحديث وتقول:
- ولكن. . . قل لي. . . لعلك مسرور من أستاذك هذا الصباح؟ ثم. . . ثم كيف حال كتابتك في الإنشاء، أظنها أعجبته؟! ثم ناجت نفسها:
- سألبث لحظة قبل الاعتراف له بالحقيقة خصوصاً وهو متأثر ومفاجأ بهذا اللباس والوقت متسع للغداء وللإفضاء إليه بالأمر. . .
على رغم من أن المحامي المتوفى موسيو (ليجيه) قد خلف لعائلته بفضل مركزه الخطير ونجاحه الكثير ثروة لا بأس بها، فإن مدام (ليجيه) لم تخالف شيئاً مما ألفته سابقا من تدبير واقتصاد في الإنفاق على المنزل. ولما كانت مدام ليجيه لا تستقبل في مفتتح عهدها بالترمل إلا أقرباء يمتون إلى الزوج بصلات القربى والمودة، فإن الإعداد لذكرى الميت لم يكن يحملهم جهدا أو مشقة، ولكن أنى لها بملء كرسي زوجها بشخص خاطبها جورج في حفلة الغد؟ أي عذر ستعتذر به لولدها؟ كيف تخل بهذه العادة التي يقدسها ابنها ويمجدها، والتي باتت تهبط روحها وتثقل على قلبها لأن صورة الخاطب أخذت تحتل مكانها يوما بعد يوم من قلبها.
وفي صباح هذا اليوم في وثبة طافرة من وثبات الإرادة الغريزية أمرت مدام ليجيه الخادم فقالت:(975/52)
- لويس، لا تضعي في هذا الغداء مقعد المرحوم زوجي على المائدة، بل عليك أن تضعي مكانه مقعدا لجورج فوكولت. . .
وحان وقت الغداء واتخذت العائلة أمكنتها حول المائدة، ولكن (شارل) الصغير ما كاد يرى المائدة والكرسي الجديد بدل كرسي أبيه المتوفى حتى حملق في وجه أمه وقد امتقع وجهه وانتسف لونه أولا ثم احمر واشتعل بالدم الملتهب. ونظرت إليه الأم برعب وهيبة، ثم صبغ وجهها الاحمرار هي أيضاً. ولكن في تلك اللحظة الرهيبة الحرجة جرى أمر زاد أمر زاد في اضطراب مدام ليجيه وارتباكها ثم حيرها، ولكنه في الوقت نفسه أجرى المسألة في مجرى حسن لم تكن تتوقعه مدام (ليجيه). فبينما كانت تتناول بيدها مسند مقعد كي تجلس إلى المائدة إذا (بشارل) ولدها يلقي عليها نظرة تفيض بالحنان والشكر ثم تخضل عيناه بالدمع الذي لم يكن منبعه الحنق عليها ولا الغضب منها وإنما هو الامتنان منها والشكر لها. . . ولكن عن أي شيء صدر هذا الامتنان؟! نجم مما صوره له وهمه دون أن يتظننبالحقيقة الواقعة فلم يلاحظ الولد الطيب صورة المفاجأة والدهشة التي بدت على وجه أمه، ولا نظرات الارتباك المتبادلة بينها وبين الخادم، فقر في ذهنه أن أمه قد تبرعت له بمكان أبيه مراعاة له وتبديد لظنونه السابقة في وفائها لأبيه، لهذا أحتل مقعد أبيه أو الكرسي الذي وضع للخاطب (جورج فوكولت) محل كرسي أبيه، وقلبه يخفق من الفرح والشكر وحلقه غاص من الذكرى والحنين. . . وانتهى الغداء وخلا المكان (بشارل) وبأمه فضم (شارل) أمه إلى صدره بشوق وشكران وراح يقول لها وقد أرخى لعبراته العنان حتى بللت وجه الأم المسكينة الحائرة.
- آه، شكراً لك ألف مرة يا أماه. فقالت أمه في حيرة:
- ولكن لم هذا الشكر يابني؟! فقاطعها دون أن يترك لها الفرصة لمتابعة حديثها:
- أشكرك لأنك أحللتني محل أبي على مائدة الطعام في اليوم الذي تخلعين عنك فيه ثوب الحداد. إنك لا تدرين أي جميل أسديته إليَّ وملأ به قلبي الحزين. . . آه. . . ولكن يجب أن أعترف لك بصراحة. لقد كنت منذ زمن أشك، بل أخاف من تصرفاتك فاغفري لي الآن هذه الشكوك والظنون. . . نعم كنت أخشى أن تسنح لك في يوم ما فكرة الزواج لأنك ما تزالين صبية. ولقد أبصرت ثلاث أمهات من أمهات رفقائي في المدرسة يتزوجن ويسلمن(975/53)
أبناءهن لأب ثانِ غريب عنهم. ولكنك أجلستني تجاهك منذ لحظة على مقعد أبي المرحوم فأدركت أنك تريدين أن تقولي لي: املأ محل أبيك يابني فقد آن لك أن تشغله وتواجه أختك وأخاك العزيزين وأمك التي تحبك، ولكن إن شغل مكان أبي ذلك الأب الذكي الطيب، فذلك ما ليس في وسعى ولكن أعاهدك أن أبذل له جهدي. وهنا تمثل لمدام (ليجيه) أنها كانت ستحطم قلب أبنها النبيل لو أنها انقادت لهواها الذي بدأت تشعر به نحو (شارل).
وفي هذه اللحظة وبينما (مدام ليجيه) تضطرب بين الماضي والحاضر، وتترجح بين تيارين طاغيين. تيار جارف عنيف من حب امرأة صبية حسناء، وآخر هادئ عميق من عطف أم رؤوم، إذا برنين الجرس ينتزعها من ذراعي ابنها الذي كانت تحتضنه وتضمه إلى صدرها بحرارة وشوق. .
لم تكن مخدوعة فقد جاءها الخادم بعد ثوان يطلب الإذن لموسيو جورج الخاطب الجديد، فأبدى ابنها (شارل) حركة مفاجئة أراد معها الانسحاب من قاعة الاستقبال ولكن الأم فهمت منه هذه الحركة فقالت في كبرياء ممزوجة بألم:
إبق مكانك يا (شارل) ثم التفتت إلى الخادم وتقول:
- قل لموسيو (جورج فوكولت) إنه من المستحيل على مواجهته هذه الساعة وسأكتب له جوابي كتابة. . .
وحين انفردت بابنها راحت تعانقه في لهفة وابتهاج ثم قالت: أبداً لن أتزوج يا شارل العزيز. أبداً لن أثقل عليك بأب يؤلم نفسك ويجرح قلبك. لن أرضى أن تتألم أنت كي أسعد أنا. إنك حسبي من دنياي يا بني وأظن أني حسبك أيضاً.(975/54)
العدد 976 - بتاريخ: 17 - 03 - 1952(/)
الطريق إلى الكتلة الثالثة
للأستاذ سيد قطب
يسألني الكثيرون منذ دعوت إلى قيام الكتلة الثالثة: ما الطريق إلى قيام الكتلة الثالثة؟ وحينما كنت أحاضر عن هذا الموضوع في دار اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني منذ أسبوعين، استوقفني بعض الشباب بعد نهاية المحاضرة ليبدي لي مخاوفه أن تكون العقبات التي في الطريق أكبر من الإمكانيات. . ثم أرسل إلى بعضهم يسألني تفصيل ما أجملت في هذه المحاضرة.
من بين هذه الرسائل رسالة للشاب الأديب (أحمد محمد أبو بكر الطالب السوداني بمعهد القاهرة) وقد جاء فيها:
(. . . إنه لمن حسن الطالع أن نستمع إلى محاضرتك القيمة بنادي اللجنة العليا للحزب الوطني وقد استطعنا أن نقف على أسباب تفرقة العالم الإسلامي، وأن نقف كذلك على حقيقة ما تضمره لنا كل من الكتلتين الشرقية والغربية من سوء. ولكننا مع ذلك كله لا نزال نطلب منك أن تبين لنا على صفحات الرسالة الغراء ما يستطيع المسلمون على ضوئه أن يوحدوا صفوفهم ويجمعوا كلمتهم لكي يكونوا كتلة ثالثة. . . الخ).
هذه الرسالة وأمثالها كثير تدل على استعداد معين عند الكثيرين من الشبان للاستماع إلى مثل هذه الفكرة والاقتناع بها، بل تدل على أكثر م هذا. . تدل على اللهفة الحقيقية لتحقيق هذا التكتل الإسلامي الذي آن له الأوان.
ولقد كنت أعرف عندما دعوة هذه الدعوة أن العقبات في طريقها شتى. ولكني كنت أومن كذلك أنها دعوة طبيعية، تنبع قوتها من تلبيتها لطبائع الأشياء، ولحاجة العصر، ولاتجاه المستقبل. وأن دوافعها أكبر من معوقاتها، مهما بدت هذه المعوقات من الضخامة والمناعة. . إن كل دعوة تتفق مع طبائع الأشياء، وتنبع من حاجة العصر، وتسير مع اتجاه المستقبل، هي دعوة ناجحة غالبة مهما يقم في طريقها من عقبات.
هذا المعنى أحب أن أؤكد أولا لشبابنا المتلهف على تحقيق هذه الفكرة، المشفق في الوقت ذاته من ضخامة العقبات، ومن موحيات اليأس، ومن عقابيل الماضي. . ومتى ثبت في الضمائر إيمان معين بالفكرة، فكل شيء بعد ذلك هين، وكل عقدة حلها ميسور.(976/1)
والذين عاشوا مثلي في ربع القرن الأخير، قد تلوح لهم بشائر الأمل أقوى وأضخم من الشباب اليافع الذي لم يشهد ذلك الماضي. . إن هذا الشباب بطبيعته عجول لأنالطاقة الكامنة في كيانه تريد لها متصرفا سريعا. وهو ينظر فيرى عقبات جمة، ولكنه لا يعرف أن العقبات في الماضي كانت أضعاف ما هي اليوم، فتذاوبت شيئاً فشيئاً، بحيث لا تقاس اليوم إلى ما كانت عليه منذ ربع قرن فقط. أما الذين عاصروا تلك الفترة الماضية مثلي، فيعلمون أننا قطعنا شوطا بعيدا جداً في ذلك الزمن الوجيز.
إن أقصى ما تلاقيه فكرة التكتل الإسلامي اليوم من سوء استقبال، هو أن يتشكك بعض الناس في إمكان تحقيقها في فترة قصيرة، ويروا الكثير من العقبات في طريقها، ويشفقوا من ضخامة هذه العقبات. . أما قبل ربع قرن فقط فقد كان التفكير - لا في قيام كتلة إسلامية ضخمة بل في قيام كتلة عربية صغيرة - مدعاة للسخرية، بل مدعاة للتشكك في عقول من ينادون بها، واعتبارهم جماعة ممن في عقولهم مس، فهم يعيشون في الماضي، ولا أمل فيهم لأنهم مخرفون!.
لا بل إن قيام (رابطة شرقية) لا إسلامية كان يلقي مثل هذا الهزء ومثل هذه السخرية إلى عهد جد قريب. . فها هو ذا رجل واسع الأفق مثل الدكتور طه حسين باشا يؤلف كتابه: (مستقبل الثقافة) في سنة 1936 فيسخر فيه من تلك الفكرة سخرية مريرة، ولا يكاد عجبه ينقضي من تلك الجماعة التي كانت تسمى نفسها (الرابطة الشرقية) لأن مصر قطعة من حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا علاقة لها بذلك الشرق البعيد مسلما كان أو غير مسلم. . فالإسلام وغير الإسلام لا يملك أن يقيم رابطة بين مصر وهذه الشعوب!.
كان هذا منذ خمسة عشر عاماً فقط. . فإذا نحن قسنا تلك الوثبة الفكرية والشعورية الهائلة التي تملي علينا أن نتحدث عن الكتلة الإسلامية، أو عن الكتلة الشرقية، فلا يسخر بنا أحد، ولا يضحك منا أحد. بل تنبعث ملايين القلوب تخفق للفكرة، وتنبعث عشرات الأقلام تكتب عنها في كل مكان. وتنبعث مئات الأكف وألوفها تصفق للخطباء. ولا يتحدث متحدث إلا بالسؤال عن الطريق. . إذا تم هذا في خلال خمسة عشر عاماً فقط فهو النصر إذن وهو التوفيق.
ولماذا؟ إن هذا النصر لا ينبع من بلاغة الأقلام التي تكتب، ولا من فصاحة الألسنة التي(976/2)
تخطب. . إنما ينبع أولا وقبل كل شيء من تلبية الفكرة لطبائع الأشياء، ومن مسايرتها لحاجة العصر، ومن تمشيها مع إرادة المستقبل. . وذلك هو الضمان الأكيد.
ستسير الفكرة إذن في طريق التحقيق منذ اليوم، حتى ولو لم يدع إليها قلم متحمس أو لسان متدفق. ستسير لأن الشعوب الإسلامية مضطرة اضطراراً لأن تعمل على تحقيقها كوسيلة من وسائل الخلاص من الاستعمار، ولإنقاذ العالم من حرب ثالثة قريبة في ذات الأوان.
وستسير الفكرة لأنها تلبية للاتجاه العالمي للتكتل. لا باسم القوميات والجنسيات، بل باسم المبادئ والعقائد. والعالم كله يسير في هذا الاتجاه الآن شرقاً وغرباً. فاتجاه المسلمين إذن إلى التكتل تحت عنوان فكرة ومبدأ هو الاتجاه الطبيعي للعالم كله، ومن ثم فهو الاتجاه الطبيعي في هذه الظروف.
إنني أعرف: أن الاستعمار سيقف في الطريق. وأعرف أن الكتلة الشرقية ستقف لنا في الطريق. وأعرف أن الحكام في كثير من أمم العالم الإسلامي سيقفون في الطريق. ولكني أعلم كذلك أن هذه القوى كلها مصطنعة، فهي لا تملك أن تقف طويلا أمام فكرة طبيعية، تستمد قوتها من طبائع الأشياء، ومن حاجة العصر، ومن نداء المستقبل في العالم كله، لا في بقعة منه محدودة.
ومن الظواهر العجيبة أن الفكرة التي تنبع من حاجة العصر واتجاه المستقبل يضطر خصومها - بحكم مصالحهم القريبة وتحت ضغط الضرورات الذاتية - إلى مساعدتها وتقويتها كالذي بربى أسداً يعرف أنه سيفترسه في النهاية، ولكنه يضطر مع هذا إلى تربيته لأنه يتقي به نمرا فاغرا فاه!.
لقد كان الخلفاء هم الذين هزموا ألمانيا في الحرب العظمى الأولى. وكانوا هم الذين ساعدوا على النهوض، وساعدوا معها إيطاليا، وساعدوا معها اليابان أيضاً. . لم يكن شيء من هذا حبا في عيون أحد من هؤلاء. . ولكنها كانت ضرورات المصلحة العاجلة لوقف التيار الشيوعي في العالم.
ثم حطموا هذه الدول الثلاث في الحرب العظمى الثانية. وفي سبيل تحطيمها اضطروا اضطراراً لتقوية روسيا ومساعدتها على الصمود في وجه الغول الجرماني. . وهم على يقين أن عدوهم الأول هو روسيا. ولكنهم ما كادوا يملكون أن يفعلوا غير هذا. . ثم ها هم(976/3)
أولاء مرة أخرى. وبعد التجربة العالمية الأولى. يمدون أيدهم مرغمين لإنهاض ألمانيا واليابان. وهم على يقين أن الطاقة الكامنة في هذين الشعبين لن تتركهم في راحة، ولكنهم لا يملكون أن يفعلوا غير هذا. . إن خط سير الحياة ليس في يد أحد من البشر مهما تكن قوته. فالحياة تسير، وطبائع الأشياء تملى خط سيرها. والقوى الكامنة الناهضة لا سبيل للقضاء عليها. لأنها قوة من قوى الحياة، وقوة الحياة من الله. (والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
إن فكرة الكتلة الإسلامية تسير في طريقها. وإني لأكاد أراها رأى العين حقيقة واقعة. فليؤمن من شباب العالم الإسلامي بهذا. . والزمن كفيل باكتساح العقبات التي تبدو لهم ضخمة في الطريق.
ليؤمن من شباب العالم الإسلامي كله أن الاتجاه إلى راية الإسلام هو العمل الوحيد الذي يخلصهم من برائن الاستعمار، ويخلصهم من كيد الشيوعية التي لا تكاد تطيق مسلما يدب على الأرض.
فإذا آمن الشباب بهذه الفكرة اندفع يضغط على ساسة بلاده، الذين يسيرهم الاستعمار في ركابه، ويملى عليهم رغبته في التكتل الإسلامي. ولتكن كلمته الشباب دائماً: لا ارتباط بكتلة شرقية أو كتلة غريبة. فهذه الأرض أرضنا. ونحن نريد أن نقف تحت راية الإسلام وحدها، محايدين، نجاهد فقط من يعتدي علينا، ونمد بدينا حينئذ إلى الكتلة التي تنصرنا على المعتدين.
وواجب على كل شاب واع أن ينشر هذه الفكرة حيثما وجد. الطال في معهده، والموظف في مكتبه. والسياسي في محيطه. والعامل في مصنعه. والرجل في بيته وأولاده. . وعندما تصبح هذه الفكرة هي فكرة الشعب. فإن قوة على ظهر هذه الأرض لن تقف له في الطريق. .
لن أقول لهذا الشاب الأديب صاحب تلك الرسالة، ولا لأحد من إخوانه الذين كتبوا إلى كثيرا في موضوع شيئا عن الوسائل السياسية أو الدبلوماسية أو العسكرية. . إنني لا أومن بشيء من هذا كله. لست أومن إلا بالقلب الإنساني والعزيمة البشرية. إنني أومن بالعقيدة التي تزلزل الجبال، وتجرف الصخور. أو بالوعي الشعبي الذي يفرض إرادته. وأومن(976/4)
بالغد وإشارته. وأومن بعقرب الساعة الذي يشير إلى هذا الاتجاه وحده. وأومن قبل كل شيء بالله الذي نفخ الروح مرة أخرى في هذا العالم الإسلامي الذي حسب الكثيرون أنه قد مات. فإذا هو يتمطى وينبعث، ليؤدي دوره في الأرض من جديد.
سيد قطب(976/5)
عمر الخيام بين الحقيقة والأسطورة
للأستاذ السيد أحمد مصطفى الخطيب
صحبتي للخيام طويلة مديدة، وقد عرفته ضمن من عرفتهم من الشعراء الفرس الكبار وأدبائهم العظام منذ عشرين سنة تقريباً. . . أما هو فقد كان على الدوام أقرب إلى نفسي وأحب إلى قلبي. . . أما هم فقد كانوا أشغل لفكري وأدنى إلى إثارة اهتمامي بشعرهم منه. والخيام عاطفة وروح، وللعاطفة والروح سحرهما الذي لا يدفع، وسلطانهما الذي لا يقهر على العواطف والأرواح، فلهذا إن كنت قد عرفت الفردوسي عن طريق الشاه نامة، والسعدي عن طريق كلستان وبوستان، وحافظاً الشيرازي عن طريق ديوانه الرائع، ومولانا جلال الدين الرومي عن طريق المثنوى، والنظامي عن طريق هفت بيكر، وعرفت غير هؤلاء أيضاً عن طريق بعض ما كتبوا أو بعض ما كتب عنهم، فقد عرفت الخيام عن طريق رباعياته نفسها ثم عن طريق وديع البستاني، وحسين دانش، وعبد الله جودت، وحسين رفعت، ومحمد السباعي، وأحمد حامد الصراف، وأحمد الصافي النجفي، والزهاوي، وفيتز جرالد وغير فيتز جرالد من الغربيين، وأخيراً الفيلسوف رضا توفيق.
لهذا، عندما استقر رأيي على إعداد هذه الكلمة تملكتني الحيرة في بادئ الأمر أي الجوانب أفصح عنها؟ وأي النواحي أهملها؟ وكل جانب من جوانب حياة الخيام لذيذ شائق، وكل ناحية من نواحي أدبه الرفيع فاتنة مغرية، تستمرئها النفوس وتشتاقها الأرواح، حتى انتهيت بعد لأي إلى أن يقتصر كلامي على ناحية واحدة فقط من حياته، وهي ناحية عدد من الأساطير والخرافات التي تحيط بسيرة هذا الشاعر الإنساني العظيم. . .
الأسطورة الأولى
أعتقد أنه ليس بين الذين لفتت مكانة الخيام العلمية أنظارهم، أو أثارت رباعياته اهتمامهم؛ من لم يسمع شيئاً قليلا أو كثيرا عن تلك القصة الشائقة التي ذاعت وشاعت وتناقلها الألسن في كل مكان عن نشأة الخيام، وعن حياة تلمذته الأولى في نيسابور المدينة التي فتح فيها شاعرنا عينيه للحياة لأول مرة في هذا الوجود، وهي قصة شيقة لذيذة يغلب عليها عنصر الخيال الجامح، فيجعلها ضوء للروايات السينمائية التي تمثل أدوارها على الشاشة اليوم
نحن في مدرسة نيسابور الشهيرة. . . الزمن القرن الخامس الهجري؛. . نستمع إلى(976/6)
العلامة الجليل الأستاذ الإمام الشيخ موفق النيسابورى رحمة الله عليه وهو يلقي درسه على طلابه الذين أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، وهناك في ركن قصي من الأركان جلس ثلاثة من هؤلاء التلاميذ واتجهوا بكليتهم نحو أستاذهم الأكبر، يشع في عيونهم بريق الذكاء الحاد، وتبدو على سيماهم علائم الجد والعزم، هؤلاء هم الأصدقاء الثلاثة الأوفياء: عمر الخيام، نظام الملك، حسن الصباح زعيم الحشاشين فيما بعد. . .
قال حسن الصباح ذات يوم لصديقيه إنه لأمر مستحيل أن نخيب نحن الثلاثة تلاميذه الإمام المبارك في الحياة، قد يلاحق أحدنا، أو حتى كلينا الإخفاق، أما أن يلاحقنا هو كلنا. . فلا! فلنعاهد أنفسنا منذ الآن أمام الله على أن يهرع أي منا لنجدة زميليه إن قدر له الفوز ولم يكتب لهم النجاح فيوافقه الآخران على رأيه فتوقع بذلك الوثيقة التاريخية بين الثلاثة جميعاً.
تدور عجلة الزمان، وإذا بنظام الملك وزير لألب أرسلان السلجوقي، ورجل الدولة الأوحد لابنه ملك شاه من بعده، ثم إذا به أيضاً لا ينسى ما قطعه على نفسه من وعد في صباه فيبعث في طلب كل من حسن الصباح والخيام ويعرض عليهما أن يشاركاه فيما غاز به من نعمة وحصل عليه من سلطان. أما الخيام فيختار إيراداً سنوياً ثابتاً والتدريس في مدرسة نيسابور والانصراف إلى رياضياته وفلكياته، أما حسن الصباح فيؤثر منصباً مهماً في البلاط.
وهكذا تستمر القصة حتى تبلغ نهايتها المحتومة، بمؤامرة دنيئة ينسج خيوطها حسن الماكر لاغتيال صديقه الوفي الكريم نظام الملك ظلما وعدوانا لكي يستخلفه في جاهه وسلطانه، فيفتضح أمرها في اللحظة الأخيرة، ويضطر حسن الصباح إلى الهرب واللجوء إلى جبل قلعة الموت، وهنالك يؤسس لأول مرة في التاريخ المذهب الإسماعيلي المعروف حتى اليوم، وينظم فرقة الفدائيين الذين يبعث بهم من هناك لاغتيال عظماء الإسلام آنذاك. ويشاء الدر الساخر أن يكون بين هؤلاء الذين تمتد إليهم يد الغدر والخيانة نظام الملك نفسه! ذلك الشيخ الوقور والداهية العظيم الذي يذهب ضحية باردة لخنجر مسموم يغمده في صدره أحد هؤلاء المجانين وهو في طريقه إلى نهاوند بمعية الملك ملك شاه.
هذه هي الأسطورة الأولى الذائعة الشائعة المستقرة في الأذهان عن منشأ الخيام وعن أيام(976/7)
حداثته، وهي قصة أثبت المستشرقون استنادا إلى تحقيقاتهم الدقيقة التي لا مجال لذكرها هنا إثباتا قاطعا أنها مختلفة من أساسها؛ ملفقة في جملتها وتفصيلها، ولا ظل لها من الحقيقة أبداً، وأن مخترعها مؤرخ يدعى ميرخوند من مؤرخي القرن التاسع الهجري
الأسطورة الثانية
يوم مشرق جميل، جو عابق بأنفاس الرياحين والورود؛ هدوء شامل وصمت مطبق لا يتخللهما سوى خرير الماء وتغريد البلابل. . والخيام قرير العين جذلان، جالس في دعة وسكون وأمامه ديوان شعر مفتوح وبجانبه زجاجة وكؤوس تأتلق بين جنباتها الأضواء وتتراقص على حواشيها الظلال
ومقامي غصن مظل بقفر
ورغيفان مع زجاجة خمر
كل زادي والأهل ديوان شعر
وحبيب يهواه قلبي المعنى
بشجي يذيبني يتغنى
هكذا أسكن القفار نعيما
وأرى هذه القصور خرابا. . .
(السباعية للبستاني)
وعلى حين فجأة تنكشف الطبيعة الوادعة الهانئة عن ثورة جامحة، وغضب مكتوم، فتزمجر الرعود، وتنقض الصواعق، وتكتسح الرياح الهوج كل شيء أمامها فتتحطم الزجاجة وتتناثر قطع الكؤوس هنا وهناك وتصبغ الخمرة وجه الأديم بلونها اللازوردي، فتثور نفس الخيام، وتهيجه النازلة، ويلهبه اليأس فينشد وهو في شبه غيبوبة من أثر الصدمة الغير المرتقبة، ويقول:
ابرين مي مراشكستي ربي ... كسرت زجاجة خمري يا ربي
برمن ورعيش رايبستي ربي ... أوصدت في وجهي باب الطرب يا ربي
برخاك فكندى من كلكون مرا ... سكبت خمرتي الوردية على الثرى(976/8)
خاكه م بدهن مكر تومستى ربي ... التراب بفمي! فهل أنت سكران يا ربي
وهنا تحدث المعجزة التي لم يكن يتوقعها أحد حتى الشاعر نفسه، فيحمل غضب الباري سبحانه وتعالى وتنصب نقمته على هذا العبد المارق الملحد فيسود وجهه بغتة وكأنه فحمة الليل، وتتشنج عضلاته وتتقلص أطرافه حتى ليكاد الموت يخطفه من بين يدي الحياة.
فيدرك الشاعر عندئذ الإثم الكبير الذي ارتكبه فيسرع إلى التوبة ويعجل بالاستغفار فينشد ويقول:
ناكرده كناه درجهان كيست بكو ... بي جرم كناه جون توان زيست بكو
من يد كنم توبد مكافآت كتى ... بس فرق ميان من توجيست بكو
- الترجمة للزهاوي -
من الذي لم يجن قط ذنبا ... كيف عاش الذي زكا وتوقى
إن تكافئ سوئي بسوء فقل لي ... أي فرق بيني وبينك يبقى
وعلى أثر ذلك تدركه العناية الإلهية، وتقبل توبته، فيعود إلى وجهه إشراقه السابق والى سائر أعضائه حالتها الطبيعية، فسيجد الخيام آنذاك سجدة الشكر والامتنان.
هذه ثانية الأساطير التي تنسب إلى الخيام وعمر بن إبراهيم منها يراء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وإذا كانت التحقيقات العلمية لم تكشف لنا بعد عن اسم المختلق الكذاب واضع هذه القرية الشائنة، إلا أننا لا نحتاج كما أعتقد إلى كبير جهد لندرك أن الأفاك الأشر كان ولا بد على حظ موفور من الوقاحة وسعة الخيال
البقية في العدد القادم
السيد أحمد مصطفى الخطيب
مفتش معارف أربل بالعراق(976/9)
بعد عشرين قرناً
حضارة عربية تنكشف عنها الرمال
للأستاذ وندل فيلبس
رئيس البعثة الأثرية الأمريكية
كانت ليلتنا الأولى بين عرب وادي بيجان في عدن تبدو في ظاهرها كأنما انتزعت مباشرة من دنيا ألف ليلة وليلة. فما كانت هوليود ذاتها مستطيعة أن تفعل خيرا مما فعله مضيفنا الشريف حسين بن أحمد حاكم بيجان. لقد جلسنا متربعين في باحة القصر نشاهد الرقصات الغجريات اللواتي خلبن ألبانيا بحركاتهن الرتيبة المثيرة في أضواء الشموع المرتعشة، بينما كانت الطبول تملأ الظلمة بأصدائها الخافتة، وأنغام الناي تنساب حلوة ناعمة.
وكان يهيمن علينا جو من أجواء الأساطير. فأنت تحس فيه بنكهة الخيال، وطعم الخطر، فقد قام على مقربة منا مائتان من الحرس القبليين اليقظين، كالحي الوجوه، يحملون جنبياتهم (خناجرهم) الكبيرة في مناطقهم المنتفخة بالرصاص، ويتنكبون بنادقهم المهشمة تسندها سواعدهم المعروفة التي كانت تبدو واضحة من بين أسمالهم الصحراوية الممزقة.
كنا نعرف ما يتصف به بدو الجنوب في الجزيرة العربية من الخطر، وما هم عليه من كره شديد، يذكيه ما في الإسلام من حماسة وحمية، لكل من يتطفل على بلادهم من الأجانب. كما كنا نعرف عن المحاولات التي سبق وقوعها على حياة الشريف حسين. ولكن هؤلاء الحراس، مع استعدادهم لكل ما قد تنشق عنه الصحراء من الأخطار، كانوا يتابعون الراقصات بأبصارهم. وقد استطعت وأنا أتطلع حولي دهشا لذلك المنظر، أن أشاهد أسنانهم البراقة وهم يبسمون لبعضهم، ويكز بعضهم بعضا، عندما تمر إحداهن على مقربة منهم.
وكان الشريف حسين، وهو من أطول وأجمل من رأيت من العرب، يبتسم هو أيضاً، ويلوح لي بيده، إشارة على انه يود الحديث معي بوصفي قائدا للبعثة، كان يجلس في مقابلتي موليا ظهره للفتيات اللواتي طالما رقصن من قبل لتسليته، وكان الدكتور أثريي البعثة ومترجمها بجانبي، وهو يتكلم خمسا وعشرين لغة، فوكزته، فأومأ إلى الشريف(976/10)
حسين، فردا هذا مرحبا بقوله: (أهلا وسهلا) وكأنما لم يقلها لنا من قبل، مع أني أصبحت أعرف بأن معناها: (مرحبا بكم وطاب مرعاكم) فرد عليه العلامة أولبرايت تحيته.
كان الشريف حسين، الأريحي المرح، الذي بهرته قافلتنا الميكانيكية، قد أبدى لنا منتهى الكرم، كأنما كنا الرئيس ترومان ووزراءه. إن وصولنا ذات مساء إلى وادي بيجان، بعد رحلة طويلة مضنية، من خليج عدن، حدث من الأحداث الكبرى في تاريخ وادي بيجان الحديث. فقد كنا أول جماعة من الأميركان تقع عليهم أعين البيحانيين. لقد جئنا، نحن الخمسة عشر، لإزاحة الغطاء عن حضارة تعرف بالقطبان، قامت على عبادة القمر، ثم انقرضت قبل 2000سنة، بعد كارثة لا بد وأن تكون قد هزت العالم العربي القديم من أساسه.
تلك الكارثة هي خراب (تمنا)، عاصمة القطبان القديمة. فمنذ ذلك الحين أسدل الصمت ستار كثيفا من النسيان على تاريخ الوادي، حتى أن سكانه المعاصرين، ليست لديهم أية فكرة عن أسلافهم المدهشين، الذين عملوا علىإشادة طريق البهارات في أيام التوراة، وعلى تحويل هذه الأراضي القاحلة إلى ما يشبه الدوريدو الأعصر الغابرة.
لم أتأثر قط في سني التسع والعشرين، كما تأثرت هذه المرة، فإن زيارة وادي بيحان النائي الذي يكاد يكون مجهولا جهلا تاما، كانت هدفي منذ سنين. ولكني كنت وأنا أقابل ابتسامة الشريف حسين بمثلها، أحس بالسعادة تغمر كياني لوجودي في وادي بيحان، كما أحس بالألم للحالة السيئة التي تدهور إليها بيحانيون. لقد عاشت ملكة سبأ على مقربة من هذا المكان يوما ما، فلا بد وأنها مرت بهذه الرمال مرارا عندما كانت حقولا نضرة غنية بالمياه.
لقد أعادني التفكير في الملكة التي أمطرت الملك سليمان بالهدايا - كما تقول التوراة - والتي يشك بعض العلماء في وجودها، إلى حاضري أمام الراقصات الغجريات. لابد أنها كانت تبدو مثلهن، فقد جاءت كما جئن من مكان يسمى سبأ، وهو جزء يقع اليوم في اليمن. إن هؤلاء الغجريات، سمر البشرة، متناسقات الأعضاء، مشجرات المآزر والقمصان، وإن يكن تفصليها غير متقن في أذواقنا.
كانت كل منهن تتحلى ب 50 رطلا من الحلي الفضية حول رقبتها، ومعصميها، وساقيها.(976/11)
ولا أدرى كيف استطعن تحمل ذلك كله، ولكن رقصهن استمر متزنا زهاء ساعتين.
كان الرقص في بادئ الأمر رائعا، فأيديهن رشيقة، وحركات أردافهن تستلفت الأنظار، وقد صفقنا لهن مرارا. ثم أخذن في الاقتراب منا شيئا فشيئا. أثناء انسيابهن في باحة القصر. وإني لأتذكر كيف مال جورج فرير مساعدي، البالغ من العمر التاسعة عشر بجسمه نحوي ثم أخذ يصفر في هدوء.
ثم بدأ اهتمامي يزول. ولعل مرد ذلك عائد لاطراد الرقص على نسق واحد رتيب، أو للإعياء الذي انتابني، ولكن السبب الرئيسي هو أن إحدى الفتيات انحنت أمامي حتى شممت شعرها.
إن البدويات يستعملن بول الإبل لتجعيد غدائرهن، فتأكدت أن هؤلاء الغجريات لا يخرجن علة تلك القاعدة. لذلك تلاشى تأثيرهن، وما انتهى العرض حتى لم يبق مما يثير الإعجاب سوى جلد الراقصات - وجلدنا.
كانت أعمار الراقصات الأربع تتراوح ما بين الثانية عشر والثلاثين تقريباً. وقد قال لي الشريف حسين إنهن غادرن اليمن لأن الحكومة تأبى عليهن الرقص مع الرجال، وتعارض في ممارستهن بعض المهن الأخرى التي يقمن بها بغية الكسب. أن مثلهن كمثل المومسات في الصحراء في تهافتهن على المال - قل أم كثر.
إن البون شاسع بين بول الأبل، وبين اللبان والمر اللذين كانا يبثان في سماء بيحان جوا السحر. لقد سجل ديونيسوس الكاتب اليوناني، ثناءه على البلاد حوالي عام 90 بعد الميلاد، في الوقت الذي كان يكتب فيه إنجيل يوحنا. فقال (إنك لا تتنفس في (العربية السعيدة) غير أريج اللبان أو المر من البهارات العطرة. وإن لأهلها قطعانا عظيمة من الضأن تتغذى بما في مراعيها من العشب والكلأ، وإن الطير تهوى إليها من الجزائر النائية تحمل إليها أوراق القرفة.).
قامت اقتصاديات أربع من الممالك الهامة على ما كانت تدره قوافل البخور في جنوب الجزيرة العربية من الثراء زهاء ألفين من السنين فقد كانت القوافل تنساب في مهل من غابة البخور في حضر موت، متجهة نحو الشمال على طول الجزيرة، وهي تقدم في طريقها الإتاوة، والحماية، لعدد لا بحصى من القبائل، ثم تعود محملة بالذهب، والفضة، من(976/12)
مصر واليونان وروما، كما ذهبت محملة بالبخور والبهارات. فقد كانت هذه البلدان تتبوأ المكان الأسمى بين بلدان سواحل البحر الأبيض المتوسط.
لقد أقلق تدفق الأموال من الإمبراطورية الرومانية رجال الاقتصاد فيها، فجأروا بالشكوى من أن (العربية السعيدة) لسوء الحظ، هي السبب في ارتفاع أسعار الذهب. وفي تدهور قيمة العملة المتداولة. وكانت قصص المدن الخرافية والأضرحة المليئة بالذهب في (العربية السعيدة) تدور على الألسنة. ولكن أحداً لم يجد في نفسه الجرأة الكافية على إثارة العرب وإغضابهم.
وقد حاول الإمبراطور أغسطس قيصر أن يتحقق من صدق القصص التي كانت تروي عن رعاة الإبل من العرب، فبعثإبليوس غالوس أحد قواده إلى (العربية السعيدة) فسار حتى مأرب، ولكن ضريبة الحر، والمرض، ومعارك الصحراء، كلفته جيشا تعداده 000 , 10 جندي، لم ينج من الهلاك منهم إلا قليلون.
كانت مأرب عاصمة سبأ أو شبأ، كما تسميها التوراة. وكانت سبأ إحدى ممالك البهار الأربع، أما الثلاث الأخرى فهي معين، وحضر موت، وقطبان. وكان هدف بعثتنا جغرافيا، هو الوصول إلى وادي بيحان، قلب القطبان وعاصمتها تمنا.
كانت سبأ ومعين تحتلان بقعة من الأرض هي الآن اليمن، وجزء من البلاد السعودية، والجزء الغربي من عدن
- وبوجه التقريب، وادي حضر موت العظيم. وعلينا للوصول إلى بحيان الذي يقع أشد جبال الزاوية الجنوبية الغربية من جزيرة العرب وعورة، أن نجتاز الجزء الشروق والغربي من وادي حضر موت - وسرعان ما عرفنا لماذا يسميه سفر التكوين في التوراة (بدار الموت.).
كنا نستمع، من حين إلى حين، إلى قصص الفتك بين العرب بينما كانت سياراتنا تقعقع فوق ما يسمى تجوزا بالطريق، وسط الحرارة المتقدة. لا أدري ما الذي حدا بي حدا بي إلى مغادرة أرصفة نيويورك، والمجيء إلى هذه الدنيا.
لقد جمعت في نيويورك. أمام مكاتب رجال الأعمال الضخمة، والمجالس المالية، القسم الأكبر من نفقات البعثة. وعن طريق التليفون والمراسلة جمعت رجالي وأرسلتهم بالباخرة(976/13)
أو الطائرة كانت البعثة مؤلفة من علماء أميركيين ومن بعض الطلاب، وكانوا جميعا مستعدين للعمل لقاء أجر زهيد، أو لقاء لا شيء بالمرة. وكان من ضمن أفرادها العلامة أولبرايت. رئيس مدرسة اللاهوت في جامعة هوبكنز. وهو في الستين من عمره. ويتميز بجرأة تكاد تبلغ حد التهور. ولاسمه بين البدو تأثير كبير، حتى أنه ليقطع وحده أميالا وأميالا في الصحراء كل يوم لمراقبة أعماله التي تتألف بالإضافة إلى العمل المتواصل دون كلل، من القفز فوق الجدران المتداعية، رغم الأفاعي والعناكب الخطرة. ومن أعضائها أيضاً وليم ترى، الذي اشتهر بصوره الفوتوغرافية أثناء الحرب العالمية الثانية. وشارلس إنج، رئيس الحفريات عند بدء البعثة بأعمالها ورئيس الآثار في عدن، الذي اقتنع العلامة أولبرايت بالشروع في الحفر في تمنا، بدلا من أماكن أخرى كان من المحتمل مباشرة الحفر فيها. والدكتور إسكندر هانيمان، أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة سان أندروز الاسكتلندية، والدكتور ألبرت جامي، أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة تونس. والدكتور فريزو هيبرويك الجيولوجي الهولندي، والدكتور رشارد لي بارون بووين، العالم الأثري من أهالي جزيرة رود، وكنيت براون من طلاب جامعة كاليفورنيا. والسيدة وليم ترى، المكتشفة العالمية الشهيرة. والدكتور لويس كراوس، والدكتور جيمس ماكنتيش، وكلاهما من جامعة ماريلاند، وقد قاما في بيحان بالأشراف على صيدليتنا التي نتألف بها قلوب الأهالي. وشارلس ما كلوم من كاليفورنيا، وهو رئيس مواصلاتنا وجورج فارير من كاليفورنيا وهو مساعدي. وأوكتاف روماني، من نيويورك، وهو مصورنا الفونغرافي.
يعود الفضل في إرسال هذه البعثة في الربيع الماضي إلى بيحان، ورحلتها التي تزمع القيام بها هذه السنة إلى مؤسسة جديدة، هي المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان، التي تم تأسيسها في العام الماضي بعد تفكير دقيق. لقد أسندت رئاستها إلى بينما تولى نيابة الرئاسة في أول الأمر العلامة أولبرايت. وتولى إدارتها كل من الأميرال شستر نيمتز، وصموئيل برابور، ولاول توماس وأمير اللواء ماكيزي، وبايارد كولجيت، وشارلس ناجر من أهالي نيويورك، وجيمس موفيت من سان فرانسسكو.
وكانت بعثتنا من غير شك مجهزة بالسيارات والمبردات والمحركات الكهربائية والسلاحوما أشبه تجهيزاً لم تنله أي بعثة أخرى. وقد قطعنا نصف الكرة الأرضية حتى ضربنا خيامنا(976/14)
في بيحان، واستأجرنا 200 عربي للقيام بأعمال الحفر وإزالة الرمال. وهنا وبينما كانت القطبان تترقب من يزيح عنها الستار، جاءني شارلس ماكلوم، رئيس مواصلاتنا يلقي إلي بالحقيقة المرة:
- لقد بحثت في كل مكان، ياوندل، فلم أجد شيئاً. فصرخت وقد أخذ الدم يتجمد في عروقي: لم تجد ماذا؟ فأجاب: لم أجد سخاخين. لم أجد فؤوساً لم أجد مقاطف.
ولكننا استطعنا الحصول على حاجاتنا من ذلك من مدينة عدن ومن القرى العربية المختلفة. وكان الحصول على المقاطف
أعرض ما واجهنا من المشاكل. فقد تحتم عملها.
وكان الحصول على بقية ما نحتاج إليه من المال أصعب من الحصول على حاجتنا من الأجهزة. لقد كانت سفينتنا في عرض البحر وعلى ظهرها جميع أفراد البعثة حينما خف إلى نجدتي والاس رشارد، رئيس أحد المتاحف في فبفضل جهوده وافق المتحف على منحنا معونة مالية، وعلى القيام بعرض مكتشفاتنا من الآثار العربية. وكذلك فإن رونالد هاريمان، وألن وسارة سكيف، وهـ. ج. هاينز الثاني، ولجنة الوصاية على وقف ا. و. ويلون الخيري والثقافي، وكثير غيرهم، قد منحونا مساعدات مالية جزيلة.
وأخيراً تسنى لي السفر جوا إلى عدن أنا وجلادس ترى مديرة أعمالنا. ولما وصلنا إلى لندن في طريقنا إلى عدن زارنا مندوبو الصحف، فانتزعت جلادس، الشقراء الفاتنة، الإعجاب. فقد نشرت لها الدبلي ميل صورة كبيرة، كتبت تحتها: (أربعة عشر رجلا وفتاة واحدة يبحثون عن ملكة سبأ) ثم استطردت تقول: (فتاة أمريكية في هيئة عارضات الأزياء (المانيكان)، وعزيمة المصارعين، تطير إلى دنيا سبأ الضائعة) ثم أردفت تنقل قولي: (لا يدري أحد ما الذي سنعثر عليه، فإننا لا نتوقع أن نكتشف بقايا ملكية سبأ وهي جالسة في حمامها ممسكة بيد الملك سليمان، لكننا نأمل أن نجد بقايا جثمانها)
لم يكن لدينا ما يدفعنا على الشك، كما يشك الكثيرون، في حقيقة وجودها. يل يجب أن يثبت البحث الأثري وجودها عاجلا، ونأمل أن يكون من البادئين بذلك. فلقد سبق لعلم الآثار أن أثبت أن الملك سليمان تولى الحكم من سنة 961 إلى سنة 922 قبل الميلاد.
ما أكثر ما حيك من الخرافات والأوهام حول هذه الملكة التي جاء ذكرها في سفر الملوك(976/15)
الأول من التوراة: لقد وردت على الملك سليمان، كما تقول التوراة، (وأعطت الملك مائة وعشرين وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة. لم يأت بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي أعطته ملكة سبأ الملك سليمان.)
إن رحلة ملكة سبأ إلى القدس حوالي سنة950 قبل الميلاد تتفق والتوسع العظيم في تجارة القوافل في التاريخ القديم وأغلب الظن أنها قامت بتلك الزيارة بوصفها رئيسة لأغنى وأقوى دولة في جنوب الجزيرة العربية للعمل على تعزيز طريق البهارات، كما قامت بها لرؤية الملك سليمان.
إن أغلب أشجار الطيب تنمو في الجنوب الشرق من حضر موت والعصارات التي تتساقط من جذوع المر واللبان على هيئة دموع متجمدة، تجمع وتحمل على ظهور الإبل إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط على بعد 2000 ميل تقريباً. كان طريق القوافل يتجه في العادة غرباً عبر الأراضي الحضرمية، ثم ينحرف نحو الشمال متاخما للساحل الشرقي من البحر الأحمر. وعلينا أن نسلك جانبا من ذلك الطريق، في طريقنا إلى وادي بيحان.
طرنا من لندن، أنا وجلادس، إلى عدن عاصمة المحمية. حيث منيت بموقف عصيب مع حاكمها السر ريجينالد شامبيون. لقد سبق لي القيام بزيارة تمهيدية إلى عدن قبل بضعة أشهر. عندما كنت أفتش عن موقع من المواقع الأثرية، فتحصلت في ذلك الحين من القائم بأعمال الحاكم، لغياب السر ريجينالد في إنكلترا، على إجازة بالذهاب إلى وادي بيحان. لقد كانت كلمت السر ريجينالد الأولى حينما رآني:
(لو كنت في عدن حينما جئتها مؤخراً أيها الشاب، لما سمحت للبعثة بالدخول إليها قطعاً. فهناك كثير من مشاكل السياسة والأمن تكتنف المنطقة التي تود اكتشافها) وتوقف عن الحديث. فهيأت للكلام، ولكنه أردف مبتسما:
(وعلى كل فما دمت وجماعتك قد وصلتم فعلى الرحب والسعة)
لم يكن السر ريجينالد متصلبا. فقد تعاون البريطانيون معنا جهد استطاعتهم فأمدونا بخمسة وعشرين عربيا من جنود الحكومة يقودهم أحد الأشداء في عدن، وجهزونا بكتاب لشيوخ العرب جميعهم في الداخل، يفيد بأن بعثتنا، ليست عسكرية ولا تجارية، ولكنها علمية بحتة
للكلام بقية(976/16)
(صوت البحرين)
ع. ت(976/17)
المسلمون بين الشرق والغرب عند ظهور الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
لقد حل الإسلام عند ظهوره ما كان بين الشرق والغرب من حروب أكرم حل، فلم يرض أن يكون ذيلا لكتلة من الكتلتين المتخاصمين عند ظهوره، بل وقف منهما موقفا كريماً، ودعا كلا منهما إلى ألفة جامعة، وسلام شامل، ليحل الوئام محل الخصام، وتهنأ البشرية بعهد صفاء وسلام، وما كان له أن ينضم إلى إحدى الكتلتين، لأن كلا منهما آثما في حربه، لأنه لم يكن يبغي به خيرا لبني الإنسان، وإنما كان يبغي به التحكم والسيادة على العالم، فلم يكن الفرس يبغون من حربهم إلا أن يسود الشعب الفارسي على غيره من الشعوب، ولم يكون الروم يبغون إلا أن يسودوا أيضاً على غيرهم، ولم تكن هذه الغاية في شيء مما يدعوا إليه الإسلام، لأنه أتى لخير الإنسانية عامة، ولم يكن يسعى في بسط سيادة العرب الذين ظهر أولا بينهم، وكان لهم فضل السبق إلى الإيمان به، وشرف الجهاد في سبيله.
وهاهو ذا التاريخ يعيد الآن نفسه، وتقوم فيه كتلتان تتنافسان في السيادة على العالم: كتلة شعوب أوربا الشرقية بزعامة روسيا، وكتلة أوربا الغربية بزعامة أمريكا وإنجلترا. وقد كانت ألمانيا قبل هذا تنازع إنجلترا وفرنسا سيادتهما على العالم، وكانت روسيا على عهد قياصرتها تحالف إنجلترا وفرنسا على ألمانيا، وقد قامت في هذا حربان عالميتان كانت ألمانيا تظهر فيهما على هذه الكتلة المتجمعة عليها، وكانت أمريكا حين ترى إنجلترا توشك أن تنهار تتعصب لها بحكم اتفاقهما في الجنسية؛ فتحارب ألمانيا بجانبها، وتنصرها عليها بما تملك من مال ورجال.
فلما ذهبت ألمانيا من الطريق انتقل الخلاف على السيادة على العالم بين الكتلتين السابقتين، وإذ كان خلافا على هذه السيادة فهو خلاف لا يراد منه خير للإنسانية في مجموعها، وإنما تنظر الكتلة التي تتزعمها روسيا فترى أن أميركا وإنجلترا وفرنسا قد بسطت سيادتها على العالم، واستولت على كل شيء فيه بسلطانها ورؤوس أموالها، فأخذت تعمل على زعزعة ذلك السلطان القوي، ليحل سلطانها محله، ويكون لها السيادة على العالم بدل أمريكا وإنجلترا وفرنسا، ولما نظرت الكتلة التي تتزعمها أمريكا وإنجلترا إلى ما تحاوله روسيا،(976/18)
قابلتها عداء بعداء، وصارت كل منهما تستعد لحرب الأخرى، وتحاول جر العالم إلى حرب لا يعلم عاقبتها إلا الله تعالى.
وكما يعيد التاريخ نفسه مع تينك الكتلتين يعيده أيضاً مع المسلمين، فإنهم يقعون الآن فيما وقع فيه العرب بين كتلتي الفرس والروم، تتنازعهم كل من تينك الكتلتين المتنازعتين، وتحاول استخدامهم في تلك الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولا يعود عليهم منها فائدة من الفوائد، وقد وقف المسلمون في الحربين العالميتين السابقتين موقف العرب بين كتلتي الفرس والروم، فحارب فريق منهم بجانب إنجلتراوحلفائها، وحارب فريق منهم بجانب ألمانيا وحلفائها، ولم يكن لهم مصلحة في تينك الحربين، بل كانوا فيها ذيولا لغيرهم، فلم يستفيدوا منهما شيئاً لأنفسهم، بل صارت حالتهم بعدهما إلى أسوأ مما كانوا عليه قبلها.
ولم يجن عليهم هذا إلا تفرقهم واختلاف كلمتهم، وإلا انقسامهم إلى فريقين يقف كل منهما موقف التابع الذي لا رأى له في الكتلة التي انضم إليها، فكانوا يساقون في كل من تينك الحربين سوق الأنعام، وكانت الحرب تأكل ما تأكل من أنفسهم وأموالهم، فإذا جاء وقت الصلح لم يدع أحد منهم ليجلس مع المصطلحين جنبا لجنب، كما كان يقف بينهم في الحرب جنبا لجنب، بل يتم الصلح على حسابهم، ويتفق المتحاربان على تقسيم بلادهم بينهم، ومن هان على نفسه هان على غيره، كما قال بعض الشعراء:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وحقك لم تكرم على أحد بعدى
فيجب أن ينظر المسلمون الآن إلى موقف الإسلام عند ظهوره بين كتلتي الفرس والروم، فيقفوا موقفا كريما بين كتلتي أوربا الغربية والشرقية، ويعيدوا موقفه النزيه بين الدولة الفارسية والدولة الرومية، ويعملوا على تجنيب العالم ويلات الحروب بعد تفاقمهما بكل ما في وسعهم، فيكون موقفهم بين الكتلتين موقف الداعي إلى السلام، والوسيط الذي يسعى في خير الفريقين، لينهى ما بينهما من نزاع بالوسائل السلمية، ويجمع كلمتهما على ما فيه الخير للإنسانية، فإن أمكنه ذلك رفع من شأن نفسه الفريقين، وكسب لبلاده مالا يكسبه بوقوفه ذيلا لهما، وبانقسامه إلى فريق يؤيد إحدى الكتلتين فيما تريده لنفسها، وفريق يؤيد الكتلة الثانية فيما تريده أيضاً، وينسى كل منهما في هذا مصلحة نفسه، ولا ما يجره هذا(976/19)
الموقف المزري من هوانه على غيره.
لقد جنى المسلمون من تفرقهم في عصرنا على أنفسهم جنايات لا حصر لها، وقد استفاد كل خصم لهم من تفرقهم ما لم يكن ليستفيده لو استعانوا عليه باتحادهم، وكان آخر ما جنوه بتفرقهم وأقساه ما حصل لهم في حرب فلسطين، فقد مكن تفرقهم لفئة قليلة من اليهود أن تنتصر وقد كان النصر منهم قاب قوسين أو أدنى، فانقلب النصر إلى هزيمة وصارت فلسطين لليهود دون من اختلف عليها من فريقي المسلمين، ولو أنها كانت لواحد منهم لكان هذا أكرم للإسلام، وأنفع للمسلمين، ولكن أين من ينظر إلى هذا منهم وما سيترتب على هذه الشوكة التي وضعت في جنبهم، ولا يدري إلا الله عواقبها على دولهم.
وأين هم من معاوية بن أبي سفيان، وقد طمع فيه قيصر الروم، وأراد أن يستغل فرصة الحرب التي وقعت بينه وبين علي ابن أبي طالب، فأرسل إليه يطلب منه أن يدفع جزية له، فلم يكن من معاوية إلا أن يرسل إليه أن يكف عنه، وإلا اتفق هو وابن عمه عليه، واجتمعا على حربه، فكف قيصر عنه، وكان لهذا الجواب الحازم أثره على نفسه
فقد رأى معاوية في هذا أن علياً أقرب إليه من قيصر، فإذا طمع قيصر فيه كان عليا على ما بينهما من العداوة أولى بأن يسلم الأمر إليه، وأحق من قيصر بأن يدخل في حكمه، لأن قيصر أجنبي: وعلي ابن عمه، ومن قريش قومه.
ولكن معاوية كان معاوية، ومن لنا اليوم بمثله في عقله وحصافته؟ ولقد وضع الأمر في نصابه حين وازن بين علي وقيصر، فأني به على حقيقته، ولم يتمسح فيه بما نتمسح به الآن من نزعة دينية، مع أنه كان أقرب إلى الدين منا، ولكنه رأى أن الأمر بينه وبين علي لا يعدو أن يكون نزاعاً على الحكم، ولا علاقة له بأمر الدين.
أما نحن فنتخبط اليوم في أمورنا خبط عشواء، فتحاربنا إنجلترا وفرنسا وغيرهما من أمم أوربا حرباً عنصرية لا دينية، يراد منها فرض سيادة الغرب على الشرق، ويجتمع أبناء الشرق من مسلمين ومسيحيين على مقابلة هذه الحرب العنصرية بمثلها، فيأبى بعضنا إلا أن يجعلها حرباً صليبية، ولا يبالي بما يحدث هذا في نفوس من يشاركنا في هذه الحرب من إخواننا المسيحيين، وهم الذين فهموها على حقيقتها، لأن أوربا طلقت المسيحية من يوم أن نهضت نهضتها، ففصلت بين السياسة والدين، وتوجهت إلى الشرق تستعمر أهله على(976/20)
اختلاف مللهم استعماراً سياسيا اقتصاديا، لا يهمها فيه مسيحية ولا غيرها من الديانات.
ومن مصلحة المسلمين أن تفهم حرب أوربا لنا على هذه الحقيقة، حتى يتفق على مقاومتها أهل الشرق من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، ولا نفتح باباً لأوربا تفرق فيه بيننا تفريقاً دينياً، وتحاول ضم المسيحيين منا إليها، لأن حربها لنا حرب صليبية، وبهذا نكيد لأنفسنا مالا تكيده أوربا لنا.
فليكن للمسلمين الآن قدوة في سلفهم حين وقعوا في مثل مشاكلهم، فوقفوا فيها كراماً، وكان لمواقفهم الكريم أثره في نجاحهم.
عبد المتعال الصعيدي(976/21)
أعتذر إليك. .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أكتب هذه الكلمة محزون النفس لشيء اجترمته، كان أولى بي أن أصبر حتى لا أزل عليه. وذلك أني قرأت كلمة في بعض المجلات يقول فيها كاتبها: (فإذا منع الفقير حقه، فله أن يقاتل عليه، لأن الله يأمر بقتال الباغين (وإن طائفتان من المؤمنين اقتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفي إلى أمر الله). ولا شك أن مانع الحق باغ) فاحتملتني العجلة وسوء الظن، أن أرى الكاتب قد استدل بالآية في غير مكان الاستدلال بها. فساء قولي في الرجل بين جماعات من الناس، إذ لم يقع لي إلا أن الآية في اقتتال طائفتين من المؤمنين ثم بغي إحدى الطائفتين على الأخرى. ولما سكن بني الليل أمس (السبت 12 جمادي الآخرة سنة1371) حاك في قلبي شيء لم أدر ما هو، وألح على أني اكتسبت في أيامي هذه إثما أخشى أن لا أفلت من عقابه. وارتفعت لعيني هذه الآية بختامها (إن الله يحب المقسطين)، فرأيت من العدل والقسط أن أرجع إلى تفسيرها، والى أقوال الأئمة في قتال أهل البغي، فعرفت ما لم أكن أعرف، أن بعضهم قد أستدل بها في مثل ما استدل عليه الكاتب الفاضل، وإن كان لطريقة الاستدلال عندهم نهج غير نهجه، وقيد فيما أطلقه. وإذا أنا قد ظلمته ظلما لا ينبغي. فلم أزل منذ تلك الساعة أستغفر الله لما فرط مني وما جرى من لساني من الكلم السيئ؛ واستغفرت له بما أسأت إليه بظهر الغيب.
فلما قرأت الرسالة في صباح ليلتي (الأحد 12 جمادي الآخرة) كنت أوشك أن لا أحمل القلم مرة أخرى للرد على الكاتب الفاضل في مقاله (أجل. . ذو العقل يشقى). ولكني وجدت السبيل قد تيسر لي أن أعتذر من سيئة اكتسبتها في الإساءة إلى رجل يظهر الغيب، لنفس الداء الذي نهيت الأستاذ عنه، وهو العجلة. وأنا لم أقصد نهيته إلا لما فيه خير له ولي إن شاء الله
وقد تبين لي بعد قراءة كلمته أني أخطأت أيضاً في الذي كتبت به إليه، فوقعت بما كتبت في نفس ما نهيته عنه. وما كان أغناني عن هذه الخصلة السيئة التي تجلب على غضب أستاذ فاضل، لم أسمع به ولم أعرفه، ولا أظنه يعرفني. والأستاذ الفاضل بلا ريب هو عندي أكبر مما ظن في نفسه، وإذا كان هو قادراً على أن يضن بكرامته، فالواجب على أنا(976/22)
من قبله أن أضن بكرامته. وإذا كانت كرامته تأبى أن تنزل منزلة يوجه إليه من أجلها شيء يقدح فيها، فأنا أيضاً أنزهه عما ظن في كلامي من (الشتائم والتنقص والسباب). وإذا كان كلامي الطويل العريض، كما وصف، ليس فيه يقنع المنصفين، وليس هو إلا فقرات مبعثرة مضطربة أسوقها مساقاً مهلهلا لا يعرف الدقة ولا الحدود، وإذا كان كل ما أقوله لا أبغي منه إلا إرسال الكلام في الهواء، وإذا كنت عنده لست مؤرخاً، ولم أخط كتابا في التاريخ، وأني أدخلت نفسي في قوم لست منهم، فأظن أن واجبه على الأقل أن يلغى كل ما أقول بمرة، فإن من الشقاء له أن يتعقب كلام كاتب هذا شأنه.
وأنا لا أستطيع صادقا أن أفهم الأستاذ الفاضل مما أقول، فقد عرفت هذا بالتجربة. وإذا كان مما يرضيه أن أقول له إني مخطئ في كل ما قلت قديما، وما أقوله الآن، وما سوف أقوله إلى أنيكف لساني وقلمي عن اللجاجة وإرسال الكلام، فأنا أقول له: إني أخطأت، وسوف أخطئ، ولن يسمع مني إلا ما أنا مقر نفسي بأنه خطأ محض. وأزيده أني عاجز كل العجز عن مقامة حجته، وعن دفع براهينه، وعن التصدي لما يحسنه من العلم. بيد أني أعود فأسأله أن يتغمد سوء أدبي بفضله، وإذا كان قد استخرج من كلامي سبابا وشتائم، فأنا أعيذه أن يكون غرضا لها، وأعتذر إليه، وأستغفر الله مما أزلفت إليه من إساءة، وله أحسن الأسوة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن بعض السفهاء لم يتورعوا قط عن سبهم والطعن فيهم، بأقبح اللفظ. فأين يقع مثلي من هؤلاء! فإني مهما ملكت من السباب والشتائم والبذاءة وسوء الأدب، فلن أبلغ بعض ما بلغوا من هؤلاء الصحابة، فلا عليه مني ومن سبابي وشتائمي. وليعلم الأستاذ الفاضل، إن كان لا يعلم، أن هؤلاء السفهاء في الدنيا كثير، فإذا كان يغضب لكل سفاهة من سفيه، فإن شقاءه سيطول بغضبه، فدع السفهاء وليقولوا ما شاؤا، وكن أنت ضنينا بكرامتك، فإنها أعز وأغلى من أن تبذل على الألسنة. وتقبل إن تفضلت عذري وشكري واحترامي وتقديري، وعجزي عن مخالفتك، وحبي لرضاك، وقد بلغت مني في مقالك ما شئت، وناصيتي بيدك، وفي المثل: (ملكت فأسجح). فافعل مؤيدا منصورا، والسلام
محمود محمد شاكر(976/23)
هل من سبيل إلى عودة العرب إلى مثل الإسلام
العليا؟
للأستاذ خليل الخوري
قرأت جميع المقالات التي نشرت في العدد الممتاز من مجلة (الرسالة) الغراء، الصادر في 7 يناير. وأعدت قراءتها المرة بعد المرة، فخرجت من دراستها والتأمل فيها بأمرين خطيرين: الأول: أن الإسلام هو الذي أضرم في قلوب العرب الجذوة المؤججة من نار الحماسة القومية والروحية، فبعثهم من صحرائهم واندفعوا في جميع الجهات وتمكنوا - وهم فئة قليلة - بما كان لهم من الأيمان الوطيد من تدويخ الإفطار والأمصار، ومن القضاء على الإمبراطوريتين العظيمتين الفارسية والرومانية اللتين كانت تسيطران على دنيا ذلك الزمان. ولما استكملوا الفتوحات واستتب لهم الأمر، أساور في سبيل الحضارة والعلوم، فقطعوا في مضمارها أشواطاً، بزوا فيها جميع الأولين. والثاني: أن العرب ما تخلفوا عن قافلة الحضارة إلا لما تخلوا - بل لما تخلى زعمائهم - عن المثل العليا التي فرضها لهم دينهم العظيم مبعث كل حق ومصدر كل عدل، فتكالبوا على الدنيا وحطامها.
ذانك الأمران حقيقيان لا ريب فيهما: الحقيقة الأولى: تبعث في نفوسنا شعور الفخر بأجدادنا الغطاريف، والأمل بأن تعود سيرتهم الأولى فنرد شيئاً من مجدنا الضائع. والحقيقة الثانية: تحدث لنا شجناً وحزناً بليغاً، بل يأساً من هذا التخاذل والزيغ الذي صرنا إليه بسبب هجرتنا لمبادئنا العليا، بل بسبب مروق زعمائنا وحكامنا من مهيع الهدى، وسيرهم في سبيل الضلال والأنانية والأثرة هذا هو داؤنا الوبيل، وكلنا نعرفه ونشكو منه، وكلنا العلماء والجهلاء يعرفون هذا الداء ويصفون الدواء أيضاً، فيناشدون الزعماء والحكماء بأن يعودوا إلى مثل الإسلام العليا، ويقتدوا ولو اليسير بأجدادنا العظماء في صدر الإسلام - كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب - ويروي التأريخ أن أبا بكر دعا ابنته عائشة وهو على فراش الموت وقال لها: (اعلمي يا بنيتي أني لم آخذ من أموال المسلمين وأفيائهم شيئاً، وإنما أكلت من جريش طعامهم وارتديت من خشن ثيابهم، وليس لي من أموالهم سوى هذه القطيفة وهذه البغلة وهذا العبد، فإذا مت فخذي هذا كله وسلميه إلى عمر). ثم توفى أبو بكر فأخذت ما أوصى به وسلمته إلى عمر، فأعتق عمر العبد وأرسل القطيفة إلى(976/24)
بيت المال، أما البغلة فقال: (إن ركبتيك يا عمر ينبغي أن تحملاك من بيتك إلى دار الحكم) وردها إلى بيت المال، هكذا كان يفعل حكامنا الأولون.
ما السبيل للعود إلى مثل الإسلام العليا؟ إن السبيل الوحيد هو تولى الصالحين الذين يتقون الله، المناصب العليا والصغرى في الدولة، وتمكينهم من الجلوس على مقاعد النيابة، فيكون ولاة الأمور وأصحاب البسط والقبض من العلماء والكتاب والفضلاء المعروفين بالتقوى والصلاح والزهد، والرغبة عن حشد المال وعن الإثراء باستغلال الوظائف.
إننا نعلم أن الأمة العربية لا تخلو من الأبرار الصالحين، والفضلاء المتدينين، على أن أمثال هؤلاء الأتقياء الشرفاء بعيدون عن الحكم، وإذا شاءوا الوصول إليه وحاولوه لفشلوا يقيناً لأنهم لا يملكون وسائله وإنما يملك تلك الوسائل أهل السياسة وأهل المال، وفي معظم الأقطار العربية لا يمكن أن يكون نائباً سوى الغني المثري الذي يستطيع أن يشتري مقعداً في البرلمان من الزعيم الذي يملك القرى وسكانها، فيأمرهم بإعطاء أصواتهم لذلك الغني المثري الذي دفع له الثمن الفادح.
من أجل هذا رأى أن الرجل الشريف التقي النقي مقصى عن دوائر الحكم، لا يستطيع إلا البكاء والتفجع لما يشهد في تلك الدوائر - في مقالات يدبجها وفي قصائد بنظمها - يناشد فيها أولئك الحكام أن يعودوا إلى مثل الإسلام العليا ويسلكوا في أعمالهم المحجة ويحملوا بأيديهم مصباح (ديوجنس) يبحثون بضوئه عن الصالحين المختبئين المنكمشين في الزوايا، وينتقونهم لولاية مصالح العباد. ومن سخرية الأقدار أننا نرى أولئك الحكام يشاركونه في دعوته وفي بكائه وفي شجب الشر والإثم وفي استنكار الخروج على الفضيلة، وهم ممعنون في اجتراح الحرب، لماذا لا يكون المثاليون المتحلون بمكارم الأخلاق من رجال الحكم، ولماذا لا نرى في الغالب الحاكمين وكبار أصحاب المناصب، حتى الصغار إلا من طمغات الانتهازيين والوصوليين، وإن وجد في دور الحكم المتنزهون عم المطامع، فهم نفر قليل.
يقول دعاة الشر والخبث إن هذا الجيل جيل فاسد، وأنه ينبغي لنا أن ننتظر الأجيال القادمة التي يؤمل منها الخير - ألا فقولوا إن هذا الكلام يراد منه التخدير وإلهاء الأمة عن الشرور التي ترتكب - فإن هذا الجيل كغيرة من الأجيال، فيه الصالح وفيه الطالح، ومن(976/25)
الواجب أن نسعى ونبذل الجهود في منع الطالحين من تولى مقاليد الأمور، وفي تمكين الصالحين من الوصول إلى الحكم.
ويخيل إلى ولا أراني بعيداً عن الخطل فيما أتخيل، أنه لو أتيح لأصحاب المثل العليا من الأنقياء الأتقياء أن يلوا الحكم في البلدان العربية، لكانوا نجوماً يقتدي بهم ويهتدي، ولكانوا ينتقون ذوي الصلاح والتقوى لتقلد الوظائف والمناصب في الدولة، ولكانوا اتفقوا على وحدة الأمة ولو اقتضت الوحدة خسران مناصبهم، ولما كانوا رضوا ببقاء هذه الدويلات الهزيلة السقيمة التي لا وزن لها بين الدول، والتي هي أقوى الحجج على انحطاط العرب وتخاذلهم في وجه الأخطار التي تحيق بهم من جميع الجوانب، ولكانوا انتزعوا السخائم من قلوب العرب، ولموا شعثهم وجعلوا منهم دولة واحدة موحدة، فتزول الحواجز والحدود المصطنعة، وتعطى الحرية لتنقل الأشخاص والأشياء في جميع أراضي الناطقين بالضاد.
ولكن كيف يكون ذلك وما السبيل إلى تمكين الانقياء الحقيقيين من ولاية الأمر في الدولة؟ وتعن لي ثلاثة تدابير ينبغي أن نتخذ لمحاولة الوصول إلى تلك الأمنية التي ننشدها:
التدبير الأول: إن معظم الناس يجهلون ما في الإسلام من المثل العليا، ويزدرون الدين ويستهترون - ولعل السبب الأكبر في ذلك هو أنهم لم يربوا التربية الدينية في طفولتهم، ولم يتعلموا تعليما دينيا صحيحاً في المدارس - ويا حبذا لو جعل التعليم الديني فرضاً في جميع المدارس العربية وفي جميع مراحل الدراسة حتى الجامعية، وينتقى لهذا التدريس كبار العلماء المثقفين الشرفاء، وبهذه الطريقة ترسخ مبادئ الدين العليا في قلوب النابتة من البنات والبنين، وتظل راسخة إذا ظلوا يتلقنون الدراسة في المعاهد العليا، وإلا محيت من النفوس، وينشأون على احترام دينهم وما فيه من أدب للدنيا والدين. ومثل هذه التربية قمينة على العموم أن تجعل الخير غالباً على الشر، وتخلق فتياناً ذوى تقي ينشرون الفضيلة والحق أينما علموا، أفي الحكومة أم في غيرها.
التدبير الثاني: هو تدبير ذو أثر عاجل، ومؤداه أن يعني كبار أصحاب المناصب في الدولة الذين هم من أصحاب المثل العليا، ووجدوا في دور الحكم من قبل القضاء والقدر الميمون، أقصى العناية لاستخدام الذين يخافون الله، والذين هم شجعان صناديد على الباطل، جبناء رعاديد على الحق، فإذا فعلوا ذلك خففوا من وطأة الشر المستفحل.(976/26)
التدبير الثالث: يكون في جعل الانتخابات للبرلمان حرة إلى أقصى الحدود. إن النظام البرلماني إنما هو بدعة غربية استوردنا غيرها من كثير البدع التي نشأت في أوربا منذ بضعة قرون، أخذناها بجميع عجرها وبجرها. وعندي إن صح أن يكون لي (عند) أنه يجب تعديل القوانين الانتخابية في الأقطار العربية، بحيث تشمل القواعد الآتية:
القاعدة الأولى: أن تقسم الدولة إلى دوائر انتخابية مستقلة ولا يرشح للانتخاب في الدائرة إلا أحد أبنائها، لأنه لا يعرف أدواءها وظلاماتها سوى أبنائها.
القاعدة الثانية: أن يلغي نظام القائمة المعمول به في بعض البلدان العربية، فانه نظام فاسد، ومحصله أن المرشح الذي يفوز في الانتخاب لا يمثل الدائرة أو الدوائر التي يشملها نفوذ القائمة، وإنما هو يمثل الزعيم نفسه، ويخدم في المجلس متى وصل إليه مصالح الزعيم ومطامعه، لا مصالح الأمة.
القاعدة الثالثة: أن يرشح الشخص مستقلا منفصلا عن الأحزاب والهيئات والحكومات.
القاعدة الرابعة: أن تلغى الدعاوات بشكلها الحاضر المخزي الفاضح، لأنها تجرد الناخبين من حريتهم في انتخاب من تلهمهم لانتخابه ضمائرهم، ولأنه لا يستطيعها سوى أصحاب الأموال الذين ينفقون عليها فاحش المبالغ من الأموال، فيحرم الشرفاء المخلصون الأتقياء الوصول إلى مقاعد النيابة، لأنه ضآلة أموالهم وأنفتهم وعزتهم تربأ بهم عن القيام بمثل تلك الدعاوات، وبذلك تحرم الأمة الانتفاع من أبنائها الأبرار، ويحكمها بهذه الطريقة الأغنياء التجار، ويسود نظام (البلوتارخية). تأمل أن في الدائرة الانتخابية مرشحين، أحدهما مثر والآخر لا مال له. الأول يقيم الحفلات والمهرجانات يوماً بعد يوم، يحشد إليها الناس ويغدق عليهم العطايا وأطايب الطعام والشراب والدخان، والثاني لا يستطيع من ذلك شيئاً (أولاً) لقلة ماله و (ثانياً) لأنه يراه شناراً وخزياً. وبمثل هذه الأساليب تصبح مؤهلات النائب الواقعية المال والثراء، لا العلم والإخلاص ومكارم الأخلاق، فيا وبلنا مما نحن فيه من الأوصاب التي لن تفضى بنا إلا إلى شر المآب.
القاعدة الخامسة: أن يكون عدد النواب أقل ما يمكن، ويجب أن ينقص النواب في كل قطر إلى نصف عددهم الحاضر، ولا يزاد ولو زاد السكان.
ويا حبذا لو أنعم كتاب (الرسالة) الغراء الروية في هذه الشجون التي يعانيها العرب(976/27)
أجمعون، لعلهم يهتدون إلى سبل قويمة لإصلاح النظام القائم إصلاحاً، يمكن أصحاب المثل العليا من أهل العلم ومكارم الأخلاق من تولى مقاليد الأمور، ومن الوصول إلى مقاعد النيابة التي هي مصدر السلطات كلها.
طرابلس الغرب
خليل الخوري
القاضي في طرابلس الغرب(976/28)
شعراء من أشعارهم
عدي بن زيد العبادي - 3
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
بين عدي بن زيد وعدى بن مر بنا - الأسباب التي أدت إلى وقيعة النعمان بعدي - شعر عدي بن زيد فيما قدم للنعمان من خير، والصلة بينهما، وأعدائه
وثمة شخص آخر لم أقدمه إليك، وهو عدي بن مرينا، من أشراف الحيرة، وأظنك تذكر أنني حدثتك أن المنذر قد دفع بابنه النعمان إلى عدي بن زيد، ودفع بابنه الأسود إلى بني مرينا.
وبنو مرينا هؤلاء منهم عدي. وعدي بن مرينا لم يعجبه ما فعل عدي بن زيد؛ فقد كان يرى الأسود أفضل وأوفق لأن يكون ملك الحيرة خلفاً لأبيه المنذر، ولكن عدي بن زيد كتبه وغلبه على أمره وتدبيره؛ فاختار كسرى النعمان ولم يختر الأسود.
ثم إن عدي بن زيد صنع طعاماً في بيعة، وأرسل إلى عدي ابن صنع طعاماً في بيعه، وأرسل إلى عدي ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت فإن لي حاجة، فأتى في ناس فتغدوا في البيعة؛ فقال عدي بن زيد لابن مرينا: يا عدي، إن أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه من كان مثلك، وإني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا لا أحب أن تحقد على شيئاً لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإن نصيبي في هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. وقام إلى البيعة، فحلف ألا يهجوه أبدأ، ولا يبغيه غائلة، ولا يزوي عنه خيراً ابدأ. فلما فرغ عدي بن زيد، قام عدي بن مرينا، فحلف مثل يمينه: ألا يزال يهجوه أبداً، ويبغيه الغوائل ما بقى. ثم قال:
ألا أبلغ عديا عن عدي ... فلا تجزع وإن رئت قوكا
هيا كلنا تبر لغير فقر ... لتحمد أو يتم بها غناكا
فإن تظفر فلم تظفر حميدا ... وإن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناك ما صنعت يداكا
وتقرب عدي بن مرينا من النعمان بالهدايا وغيرها، حتى أصبح من خاصته، وأصبح له(976/29)
بطانة يثق فيهم ويتشيعون له، وكلما عرض ذكر عدي بن زيد دسوا له قليلا أو كثير لدى الملك النعمان، وبلغ بهم أن يدسوا على عدي بن زيد أنه يقول إن الملك عامله وأنه هو الذي ولاه ما ولاه.
وحقيق بدسيسة كهذه أن تؤتى أكلها؛ فالنعمان ربيب عدي لا شك، وهو صنيعه لا شك، وبيت عدي مناوح لبيب النعمان لا شك؛ إذاً فعدى رجل يخاف ويخشى، وقد يقول مثل ما قال، وهي كلمة ثقيلة على أذن الملوك وإن كانوا يعرفون أنها حق لا مرية فيه.
وقد ذكر أن عدياً صنع ذات يوم طعاماً للنعمان، وسأله أن يركب إليه ويتغذى عنده هو وأصحابه، فركب النعمان إليه. فاعترضه عدي بن مرينا، فاحتبسه حتى تغدي عنده هو وأصحابه، وشربوا حتى ثملوا. ثم ركب النعمان إلى عدي بن زيد ولا فضل فيه، فأحفظ هذا عديا، وظهرت الكراهية في وجهه، فقام النعمان فركب ورجع إلى منزله؛ فقال عدي بن زيد في ذلك:
أحسبت مجلسنا وحسن حديثنا يودي بمالك
فالمال والأهلون مصرعة لأمرك أو نكالك
ما تأمرن فينا فأمرك في يمينك أو شمالك
وعلى هذا فعدي بن زيد هو الذي شبب بهند وتعزل فيها، وهو الذي تزوجها على غير رغبة أبيها، وهو يزعم أن الملك عاملة وأنه ولاه ما ولاه، ثم أخيراً يعتب على الملك ولا يرضى أن أحتبسه أحد رعيته وأخره عنه، حتى يرجع الملك من لدنه غاضبا.
وفي يوم شرب النعمان، فأرسل إلى عدي بن زيد فأبى أن يأتيه، ثم أعاد رسوله فأبى أن يأتيه، فغضب وأمر بعدي فسحب من منزله حتى انتهى به إليه، فحبسه في الصنين. ولج في حبسه.
قد مكث عدي في السجن مدة طويلة. وأرسل أشعاراً تصف ما يلاقيه في سجنه من أذى وضر، وأنه ما كان يليق مجازاته بمثل هذا، وأنه عومل معاملة الأعداء. مع إخلاصه للملك وتفانيه في خدمته، ومع أنه رمى عن الملك ونافح عنه. وذكر فيها مصاهرته الملك وزواجه من أهل بيته. وذكر فيها انه دبر له حتى فاز بالتاج وملك الحيرة. ولكن الأعداء قد غلبوه، وحلوا محلهم، وصرعوه.(976/30)
ليت شعري عن الهمام ويأتيك بخبر الأنباء عطف السؤال
أبن عنا إخطارنا المال والأنفس إذ ناهدوك يوم المحال
ونضالي في جنبك الناس يرمو ... ن وأرمى وكلنا غير آلي
فأصيب الذي تريد بلا غش وأربى عليهمو وأوالي
ليت أني أخذت حتفي بكفي ولم ألق ميتة الأقتال
محلوا محلهم لصرعتنا العا ... م فقد أوقعوا الرحا بالثفال
فهو في هذه الأبيات يذكر الملك بما قدمه له، وأنه عرض نفسه وماله للمخاطر حين نهض لرد كيد الأعداء، وأنه كان يناضل أعداء أقوياء، وأنه كان ظافراً بهم عليهم، ثم يتمنى أن لو كان أخذ حتفه بكفه بدل أن يموت ميتة الأعداء، ولكن هؤلاء الأعداء كادوا كيدهم ونجحوا فيه.
ثم ها هو ذا عدي يذكر للملك النعمان دخوله على كسرى يوم أراد أن يختبرهم ويعقد لأحدهم على الحيرة، وكيف أنه كان يعالن إخوته يقول ويبطن غيره، وكيف أنه لم ينكل ولم يحجم حين دخل النعمان على كسرى في هذا اليوم العصيب:
وكنت لزاز خصمك لم أعرد ... وقد سلكوك في يوم عصيب
أعالنهم وأبطن كل سر ... كما بين اللحاء إلى العسيب
ففزت عليهموا لما التقينا ... بتاجك فوزة القدح الأريب
وهذه أبيات يذكر فيها عدي النعمان بسعيه له وجهاده من أجله، ويحذره أن يكون كالذي يداوي نفسه، وبعد أن بريء، عاد فأوهن نفسه وأمرضها. ومعنى هذا أن للنعمان بعدي قوة، فلا يضغفن نفسه بحبس عدي أو قتله:
لا تكونن كآسى عظمه ... بأساً حتى إذا العظم جبر
عاد بعد الجبر يبغي وهنه ... ينحون المشي منه، فانكسر
واذكر النعمى التي لم أنسها ... لك في السعي، إذا العبد كفر
وما كان عدي يتوقع الشر من النعمان، صهره، وصديقه، وشريكه في السراء والضراء. وإذا كان الشر منه، فإنه لا يجد له دفعا، كالشرق بالماء، فإنه لا يجد ما يعتصر به، لأن الاعتصار يكون بالماء، فإذا شرق الإنسان به، فإنه يكون قد أتى من حيث يأمن ويرجو(976/31)
السلامة. وعدي صهر النعمان، وقد كان حماد كاتباً للنعمان الأكبر، وكان زيد ملكاً على الحيرة قبل المنذر:
أبلغ النعمان عنى مألكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ليت شعري عن دخيل يفتري ... حيثما أدراك ليلي ونهاري
قاعداً يكرب نفسي بثها ... وحراماً كان سجني واحتصاري
أجل نعمي ربها أولكم ... ودنوي كان منكم واصطهاري
نحن كنا - قد علمتم - قبلكم ... عمد البيت وأوتاد الإصار
وأنت قد عرفت ما بين عدي بن زيد وعدي بن مرينا من شنآن وبغضاء، وأن ابن مرينا ناصب ابن زيد العداوة وعالنه بها، وظل كذلك حتى أفلح في كيده وشيع خصمه إلى السجن، وعاش هو في رغد من العيش وعز وبحبوحة:
ألا من مبلغ النعمان عني ... فبينا المرء أغرب إذ أراحا
أطعت بني بقيلة في وثاقي ... وكنا في حلوقهم ذباحا
منحتهم الفرات وجانبيه ... وتسقينا الأواجن والملاحا
للبحث بقية
محمود عبد العزيز محرم(976/32)
شذرات في الحياة
(مهنة) الصداقة. .
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
إن ابتغاء صاحبي منصرف إلى ضرورة تصوير حقائق الحياة في ألفاظ، ومعان، وعبارات؛ فقد وقر في نفسه توقير البيان، وهمي على وقدة ثورته غيث الغوث مما يعاني من ضيق يشغل باله، وحزون مضايقات تعقد حزنه!
جاءني هذه المرء في تأفيف الضجر، وهو ينفخ في موقد غيظه؛ فحسبت أن أمرا عقيما التاث عليه عقمه، أو حادثاً مفاجئاً أذهب باتئاد صبره، ورأيت التثقيل عليه في المساءلة قد يدعوه إلى البرم بي؛ فخففت ولم استخف، وما زحته من دون أن أسف. ثم قلت: ماذا دار في فلك دولتك هذا اليوم؟
قال وقد لمعت في عينيه بوارق غضب: يحسبك الناس على انطوائك غير بصير لكنك تحب المشاغبة الساكنة، والإغاطة الساهية، وترسل القولة معربدة في حيائها، وهذا ما يجعلك معقدا في اعتقادي.
قلت: لا يعقد نفسه إلا (البسيط) وأحسبك تعلم أن حر النار قد يكون تحت رمادها، ولست على ما ترى، غير أن كثرة التعرف على الطبائع يعطي المرء حاسة الخبرة، ويوقفه على دقائق النفوس؛ فالبله أو التباله فيه شيء من الفطنة، كما أن مدعى الصمم يعرف رأى الناس فيه حينما يهمس الجبن في أذن النفاق، ويتكشف الواقع من بين صفاقه الإبهام!
قال: كأنك تقر اعتقادي في أنك داه بدهائك.؟
قلت: قبح ذو الدهاء المسخر عقلة للسخرية من الناس!.، وجمل ذو الفطنة الذي يفطن إلى الأمور من دون أن يفطن أليه أحد.
قال: أما قلت لك: إن تلاعبك باللفظ يستر ألاعيب نفسك؟
قلت: إن الحياة في عرف الحكماء ألعوبة، وعند اللاهين أرجوحة، ولدي القانعين دمية، وفي مرأى المخدوعين امرأة حسناء، وعند الشعراء رجاء مضيع، ولدي البخيل صديق ودود لا يخون عهده ولا يمنع رفده، ولا يقطع رده!
قال في سرور ساذج: لقد أتيت بما أردت؛ فقد دار في فلك دولتي كما تقول خاطر نحو(976/33)
الصديق، وقد قالوا: إنه مشتق من الصديق، وذهب الطيبون من الناس يستطيبون الحديث في شأنه ويصورونه صورا تخلب اللب، وتسترق القلب، حتى يحسب الإنسان أنه حقيقة من الحقائق التي يجب الإيمان بها، غير أني لست بمصدق شيئاً من ذلك؛ فالحياة لا تقرنا على ما ندعى ووقائع الأمور تنافي دعوانا في وجود هذا الشيء الذي أطلقوا عليه أربعة حروف يمكن الاستعاضة عنها بأربعة آخرها القاف أيضاً. . .!
قلت: ماذا؟. . ماذا. .؟، إنك تضرب في واد بعيد؛ فإن الرأي وليد المعرفة المستفادة من طبيعة الأمور؛ فما هي الألفاظ التي تريد استعاضتها حتى تصور حقيقة كلمة (صديق)!؟.
قال: لن يفلت زمام القول مني؛ لأعلمك مدى تعلقي بالحقائق، وعدم تحلقي بالأوهام.
قلت: قد يكون الوهم في بعض الأمور تصويرا لحقيقة عائبة لكني لا أريدك على ملازمة عقيدتي في تقدير طبائع الأشياء. . .
قال: على أية حال؛ سأعلمك أن الأحرف الأربعة لن تترك مدلولها في ذاتها لا تتعدى تركيبها إلى إنسان من لحم ودم؛ فلنقر بأن هناك صورة (لفظية) اسمها (صديق) لكن اللحم والدم مصوران في تصوير لشيء آخر مخيف، مفظع كئيب لا تود العين أن تقع عليه. . .
قلت: أعترف بأن بحثك مشوق، لكني لا أعلم قدر تسميتك لمن نطلق عليه اسم الصديق وهو موضع الأنس، وأصل الرجاء، وهتفة القلب!
قال - مستضحكا -: كلام شعر!، وكم جنى الشعراء على أمثالك؟
قلت: إنك لعنيف اليوم، فرقق ويرفق!
قال: لعلك بدعوتك إلى رقتي وترفقي تريد إنزالي منزلة ما تتوهم أنه (صديق)؟
قلت: ومن ذا أنت إذن؟
قال: أنا رجل أستطيب الحديث معك؛ فأحادثك أضيع وقتي في أمر ذي بال لأني لست عاشق لعبة النرد أو الورق أو (الشطرنج)!
قلت - معجبا -: تريد القول بأن تعرفك على مصدره (رغبة) في نفسك تريد الإفضاء إلى إحساس مشترك؟
قال. لقد قاربتني، وأدنيت شعورك مني؛ فلولا رغبتي في قضاء وقت ما أريتك وجهي.
قلت: أو تجابهني بهذا القول؟، أما نعلم أنه موضع إبجاعي؟(976/34)
قال: قلتهلأني لست في منزلة (صديق)!
قلت: وما الذي كنت تصوغه إذا أنزلت نفسك منزلته؟
قال - في تهكم -: أقول: جئت لأطالع طلعتك البهية!!
قلت: وبماذا تطلق على نفسك إذ ذاك؟
قال: أطلق أربعة أحرف كما قلت، وسيكون آخرها (القاف)!.
قلت - معجلا -: قل؟. . جعلت فداءك. .
قال: (نفاق)!!.
أليست كلمة أنيقة، رشيقة، دقيقة؟، أليس فيها وقع موسيقى على السمع؟ لكن ما أقسى وقعها على قلوب الأطهار!
قلت: لقد كان اليوم دورك في هذا البحث الشائق، لكني أزيد عليه بأن الصداقة غدت (مهنة)، تسير ركاب المنافع، وتنصرف إلى النفاق لتستقر في الأعماق!!.
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر(976/35)
رسالة الشعر
ربيع بلا أحبة!. .
للأستاذ أنور العطار
عاد الربيع وما عاد الأحباء ... لا الزهر زهر ولا الأنداء أنداء
يظل يسألني عنهم بلا سأم ... قلب يعيش بهم، والقلب أصباء
كانوا به أمس أشواقا مبرحة ... واليوم هم فيه أحلام وأصداء
مات الهوى فيه إلا همس هامسة ... لها الأضالع ساحات وأبهاء
فيا ربيع الهوى لا زلت مؤتلقا ... يرف فيك الشذا والزهر والماء
لقيت فيك أحبائي وظللني ... من سرحة الحب أطلال وأفياء
أبيت أرفل في بشر وفي دعة=ليست نزول، ودنيا الحب فيحاء
إذا الصباح تراءى في محفته ... أغنى صباحي من مرآك أضواء
وإن أطل مسائي واجما فرقا ... جلته منك يد للحسن بيضاء
فأنت لي فرحة الدنيا وزينتها ... ما عاود العين إصباح وإمساء
وأنت أنت أناشيدي وأخيلتي ... وذكرياتي، وأنت البرء والداء
أطوف بالروض لا عطر ولا نغم ... ولا فتون ولا حسن وإغراء
وأثني وفؤادي ما يفيق أسى ... كأنني دمعة في الخد حمراء
أطوي جواي وتطويني لوافحه ... ويقتل النفس أوجاع وأدواء
دنياي بعدك أسر مرهق ونوى ... ليست تطاق، ودنيا الصد جرداء
ما في جوانبها سحر ولا عبق ... وإنما هي أوصاف وأسماء
خلت من البشر لا الأرواح تؤنسها ... كأنها رمم غبر وأشلاء
يظل آدم في أرجائها قلقا ... يبكي سربا توارت فيه حواء
أغص بالدمع إما طاف طائفها ... كأنني حسرة الصدر خرساء
يا أيها الشعر خلد ذكر من رحلوا ... فهم ربيع وأفراح وأشذاء
وناجهم وارعهم في التراب ما قدموا ... ما غير الحب تفريق وإقصاء
لولاهم ما صبت نفس، ولا صدحت ... على أماليدها في الدوح ورقاء(976/36)
هم علموا القلب أن يحيا بذكرهم ... وماله يوم غابوا عنه أهواء
يا بؤس للقلب إن عاد الربيع ولم ... يعد من الغربة الكبرى الأحباء
أنور العطار(976/37)
انتظار
للأستاذ كمال نشأت
نام المساء. . وها أنا وجدي أسامر لهفتي
مترقبا في غرفتي أصداء خطو حبيبتي
ومشاعري نبع يقيده جمود الصخرة
وخواطري أرجوحة حيرى. . تعذب يقظتي
تهب الظنون فبنطفي نجم ينور مهجتي
ويلفني ليل. . وتغمرني كآبتي
وتعود من كهف الشعور. . من المهاوي. . غيري
تروي ملاحم حبنا المخضوب. . تروى قصتي
الليل. . للجدران. . للباب السئوم. . لقطتي
لمدامعي الخرساء. . للصمت الكئيب. . لوحدتي
أنا في دجى الأمل المعذب في انتظار الجنة
كاب تشردني الظنون. . ملفع بالحسرة
مترقب. . متوفز الأعصاب أشرب لوعتي
وأود لو كانت هنا. . في ساعدي. . وغرفت
أشكو لها فتهش حانية لتمسح دمعتي
أشكو لها فتجيل كفا محسنا في جبهتي
أشكو فراغا جائعا يقتات حلم شبيبتيّ
ودجى يجر على دمي أفراح فجر ميت
ورؤى - كأحزان العبيد - تنهدت بسريرتي
وتوثباً يحبو بقلبي باردا كالدمية
وتعلة كم صاغها قلب. . أسير تعلة
فتغربي عنه وساد من أفاعي وحشتي
يا أخت إحساسي. . ويا جرحي السعيد. . تلفتي(976/38)
أنا في انتظارك مهجة تهتز فوق الهوة. .!
كمال نشأت(976/39)
الكتب
في المحراب (ديوان)
تأليف الأستاذ محمد عثمان الصمدي
للأستاذ محمد رجب البيومي
منذ أكثر من خمس سنوات قرأت في مجلة (الكاتب المصري) قصيدة طويلة تحت عنوان (بين المثالية والطبائع البشرية) وقد راقني منها وضوح الفكرة، وقوة النسج، ودقة التحليل، فاضطررت إلى تكرارها مرات عديدة حتى علق بذهني كثير من أبياتها، وأخذت أفتش في مجلاتنا الأدبية، عن شعر آخر لكاتبها المبدع فلم أوفق إلى شيء، حتى وقع في يدي منذ أسبوع ديوان (في المحراب) مبدوءا بهذه القصيدة الفريدة فأخذت أطالعه في كثير من الشغف والإعجاب، وشاهدت بين قصائده نظائر عديدة للقصيدة الأولى، فعلمت أن الينبوع الذي ينحدر منه هذا الشعر الجيد، دافق جياش لا ينضب له معين، وأسفت حين علمت أن ديوان (في المحراب) قد صدر منذ عامين، وسكتت عنه المجلات الأدبية، فلم نقرأ له نقداً في صحيفة، لو تقريظاً في مجلة، مع أننا نطالع في كل يوم كلمات كثيرة تدور حول دواوين ميتة لا تشبع عقلاء ولا تحيي عاطفة، وهكذا يرسب الدر في قاع المحيط، بينما يتناثر على سطحه الأشلاء والعظام.
ومن الخير أن نكشف عن المميزات التي تظهر في شعر الأستاذ الصمدي واضحة بارزة، وقد يكون أهمها ما نلمسه لدى الشاعر من عمق في التحليل، وقوة في التحليق، وجزالة محكمة رصينة،!! وتلك هي الأركان الثلاثة التي ارتفعت بديوانه إلى منزلة سامقة تشرفه وتعلمه، ومما يزيد في قيمتها الأدبية أنها تطرد في سياق واحد، فلا تتخلف ميزة عن أختيها، في قصيدة من قصائد الديوان، بل تظهر ثلاثتها متجاورات متآخيات!!.
وإذا كان الشاعر في جميع قصائده متشائماً متضايقاً، برماً بما حوله من الناس والأحياء، فهذا مما يؤخذ عليه في شيء، لأن لكل إنسان آماله وأحلامه. ومهما أحث السير نحو أهدافه فلن يقرب من مثله وأشواقه، وهنا تكون الحسرة الموحية بالتشاؤم والقلق لدى أكثر الشعراء، وقد يكون الحظ التعس مولعاً ببعضهم فيقف له المرصاد، ينغص عيشه، ويكدر(976/40)
حياته، وينقله من الخفض الناعم، إلى الجدب الموحش ويجسم له أشجانه فتصبح أشباحا قاتمة، تطوف أمامه موترة بالسواد، وتظل طيلة ليلة عابرة أمام عينيه، تشرد نومه، وتهيج بلابله،!! وصاحب الديوان أحد هؤلاء الرازحين في ليل من البلابل والشجون، وتظهر ميزته الأولى في دقة التحليل وعمق الاستقصاء، حين يتحدث عن أشجانه ورزاياه!! فيصف لك البوم الذي ينعب في صدور مولولا، ويسمعك الصخب الهائج بين الضلوع في ظلمة الليل وقد سكنت حركة الأحياء والأشياء، ويربك الأشباح المتواكبة أمامه، وقد ملأت مسامعه بالزمام والرعود، وأسلمته إلى الذكريات البعيدة والقريبة فيعيدها ضعيف الجرس، حار الأنة، وقريبها صاخب ملحاح شديد اللوعة والغرام، والشاعر في حيرة مقلقة بين القريب والبعيد، ولن تقف هذه الحيرة أمام شاعريته، بل أفسحت له مجال الوصف والتحليل فاندفع يقول:
يلف الدجي مني مراح بلابل ... ومثوى شجون لا تريم جثوم
لها صخب خلف الضلوع مبعثر ... فمن ناعب يذكي الأسى ويغوم
كأني ناي في يد الليل جائش ... بما في الورى من رائع ودميم
إذا أذهب الليل الحياة أعادها ... قيامي على أعبائها ولزومي
ألا شد ما أوقرت نفسي بفادح ... أنوء به تحت الظلام جسيم
وأشباح ليل ما تني في هتافها ... أذنت لها من بعد طول وجوم
ففي الشرق منها هاتف بزمام ... وفي الغرب منها هاتف بهزيم
وطورا يشق الليل داع مرزأ ... بصوت من البعيد السحيق سقيم
له أنة حري على ضعف جرمها ... كأنه مصدوع الفؤاد كليم
وتصخب طورا حين أصغى لها معاً ... فأمسي كأني في مناحة يوم
من الطارق المحاح بأبي، وللكرى ... يد في الدجى ألوت بكل نؤوم
وكثير من الناس يسهرون الليل ساهمين محزونين يفكرون في حظوظهم العاثرة، وسيجدون صورة ما يعتادهم من الشجن والرعب في هذه الأبيات، ونظائرها من الديوان، وكم للنفس من خلوة رهيبة، تكنفها الوحشة، وترتعد لها الفرائص الصلاب، ولا فرق بين المسير في غابة رهيبة نائية، وبين التسرب في أعماق الشجون، وتذكر المصائب والويلات، والحزين(976/41)
من هواجسه في مأسدة عالية الزئير، مرتفعة الصياح، فليس عجباً أن يسمع الشاعر في وحدته الساكنة، ومناحة البوم، ورنين الأنات، ويرى تواثب الأشباح أسرابا خلف أسراب!.
وقد استعان الأستاذ الصمدي بخياله المجنح الطائر، فنظم ملحمة طويلة يصف بها يوم البعث كما ينطبع في مخيلته، ولم يشأ أن يصور حلقات سريعة لما يتخيله من الحوادث والوقائع فحسب، بل أراد أن يبرز فلسفته في الحياة والناس في جو من الإيحاء والإبهام، ولم يفارقه تشاؤمه المرير قيد لحظة، بل ظل يظفر بين سطوره من بيت إلى بيت دون أن يخلد إلى الراحة والأطمئنان، بل إن الملحمة تدور حوله رائحة غادية!! فحين نفخإسرافيل في الصور، ونهضت الرمم البالية من الأجداث، وهبت هبوب الذبا فوق المروج والأعشاب، ودبت الحياة على الأرض من جديد، حين كان ذلك، فزعت الملائكة في السماء، وجعلوا يتساءلون عن هذا البعث في قلق وإشفاق؟ كيف حان على غير أهبة؟ وما مصيره وعقباه؟ ولأي غاية كان؟!! ولجئوا إلى إسرافيل يستفسرون عما صنع من جليل الخطوب حين نقر في الناقور، وقد توجسوا الشر إذ أنذرهم ببعث الآدميين من جديد، وظنوا الأظانين بأبناء حواء، واندفعوا يقولون في حسرة وإشفاق.
رويدا ملاك الصور ماذا تقوله ... أهبوا على الطبع القديم المدابر
إذن سوف ينضون السلاح كعهدم ... غلابا على الأخرى غلاب المغاور
فلن يجنحوا للسلم والطبع قائد ... يجاذبهم حرص النفوس الغرائر
غرائز غشت تحتها مشرق الحجى ... ورانت على الأبصار فوق البصائر
وليس الحجى كالطبائع فيهم مؤصلا ... ولكنه للمرء إحدى المفاخر
مضى الناس طرا ما ألموا بقدسه ... سوى نفر منهم قلال عباقر
وسائرهم أسرى الغرائز خطهم ... عليهن من مأثوره - حظ تاجر
وهذه النظرة الجاحدة للإنسان تجد ما يبررها لدى الشاعر من واقع عيشه، وظروف حياته، فقد نازعه بعض الموسرين منازعة قضائية، واغتصبوا منه ظلماً ما لا يجوز أن يقربوه في شيء، والتبس الأمر على القضاء فأيدهم بسلطان القانون، ولم يجد الشاعر غير القريض ينفس به عن ذات صدره، ويبثه تباريحه ومواجعه، فامتلأ ديوانه بهذه القذائف الصائبات.
وقد وفق الأستاذ الصمدي في ملحمته هذه ملحمته هذه توفيقنا حميدا، فبرزت ميزته الثانية(976/42)
في التحليق مع الخيال إلى القمم والأجواز، فلم يبرز يوم البعث، دون مقدمة تمهد له وتؤذن به، فالأثير يدوي بأصداء خفاف عوابر، والأفق موحش يتجاوب فيه الصدى تجاوبا مرهوبا، والسكون الشامل يدفع الأحشاء إلى حركة تؤذن بالانفجار، والأثير يتجاوز الخفق - بعد قليل - إلى الزمجرة والقصف، والضباب يتدجى على الثرى في تكاتف والتحام، والدخان يتنقل مع الريح كالدخان المتصاعد من المباخر العاليات. . . والسحاب والسديم والبحار تأخذ في مرآة الشاعر صورا مهتاجة فزعة. . . تجد هذا كله حين تنصت إلى قوله في مقدمة ملحمته الجيدة.
أذنت إلى خفق الأثير وقد هفا ... يدوي بأصداء خفاف عوابر
وللأفق حولي وحشة أولت الصدى ... وضوح شهاب عابر في الدياجر
سكون تكاد النفس توجس خلفه ... حشاً مستفزا بانفجار مخامر
على صفحتيه ما ينى نبض منذر ... كنبض سراج في السموات ساهر
لآنست إرهاصاً لأمر مروع ... وراء أسارير الأثير الموائر
فلو أن مذياعا يبين ما انطوى ... عليه لأجلى موجه عن زماجر
وما هي إلا أن تدجى على الثرى ... ضباب إلى غيم على الأفق سائر
وصعدت الأرض الغبار كأنه ... على الريح مذرورا دخان المباخر
هنا السدم قد ذرت، هنا السحب بعثرت ... هنا طافر ينزو إلى جنب طافر
وتمضى القصيدة إلى نهايتها في هذا السياق الرصين!!
والقارئ يغتبط كثيراً التآخي الجزالة الرصينة مع الخيال السابح المحلق، في شعر الأستاذ الصمدي، إذ أن التزام الجزالة يصرف الشاعر غالبا عن سبحاته النائية، ومهامهه الشاسعة، ونحن نرى عشاق التحليق والطيران من الشعراء يسرعون إلى مطارحهم النائية، ويرتقون إلى أجوازهم العالية في أسلوب لا يرضى الرصانة والأسر، فالتعبير مفك غير متماسك، والتركيب مضطرب فاتر، واقرأ ما لدينا من الشعر الحديث في الملاحم والأساطير، فلن تجد للرصافة أثراً يرضيك، بل إنها في مذهب أصحاب الملاحم ضرب عتيق من التقليد المظلم الذي يتعذر.
أن يجد سوقه الرائجة في هذا الأفق الطليق، وقد دفعهم إلى هذا الاتهام القاسي ما يجدونه -(976/43)
غالباً. . . لدى أنصار الجزالة من ضيق الثقافة والخيال والتحليل، إذ أن قصائدهم - في الأكثر - تضطرب في نطاق ضئيل من المعاني المتوارثة الشائعة - وإذا جنحوا إلى الابتكار الشائق فلا يتجاوزون حدود الاستعارة والتشبيه، مما يتعلق بالبيت أو البيتين، لا أن يعم الابتكار فكرة القصيدة، وأغراضها وأوزانها، فتكون له الدقة والطرافة والتوثب، وقصيدة الشاعر عن يوم البعث محاولة طيبة لتقريب الشقة بين المذهبين المختلفين، وإن كنا ندعو الأستاذ الصمدي إلى التخلص قليلا من بهارجه اللغوية، التي تبرز بوضوح في صفحات ديوانه. فقارئ الشعر لا يصبر على مراجعة الهوامش كقارئ المنطق والفلسفة، ولكنه يريد فاكهة عذبة مريحة، يلمس في يديه نعومتها الشفافة، ويرىبعينيه صورتها الخلابة، ويذوق بفمه حلاوتها المشتهاة، وهذا ما تحول دونه ألفاظ المعاجم، في بعض الأحايين، ومعاذ الأدب أن يفهم القارئ من هذا الرأي أننا نتنكر للجزالة والأسر، بل نسير معهما إلى أبعد شوط وأقصاه، ولكننا لا نراهما في حاجة إلى الألفاظ الغريبة عن السمع والعين وللفؤاد، وأكثر ما لدينا من شعر الديوان سائغ رائق، قد خلص من الغرابة والإيحاش.
وقد لاحظت أن الشاعر - أقر أم لم يقر - متأثر في بعض قصائده بشاعرية الأستاذ العقاد، فقد اخذ عنه حبة للتعليل والتدقيق، ورغبته في جدله العقلي المترف الذي يندس إلى أغوار الحياة، فيجد فيها مادة للتفلسف والمقارنة، وهذا لا عيب الشعر في شيء - كما يرى السطحيون - ما دام ملموسا واضحا أمام الذهن البصير، بل يرفعه إلى مستوى شامخ تتوائب فيه العواطف والعقول، وقد ظهر في هذا التأثر في كثير من القصائد الديوان، كنجوى الأمل، وعلى رفات البشرية، والله والوجود، وإن لم يلحق الصمدي بأستاذه العقاد في الدقة والصدق والإقناع، بل وقف منه عن كثب يطارحه ويحاكيه، واقرأ دعوة الشاعر إلى خداع النفس، والهروب من الحقائق، ونتناسى الواقع، لتلمس الشواهد الدالة على ما ندعيه في مثل قوله:
قد ضقت بالحق الصراح ... لنفسي بالهراء
والعيش عبء فادح ... إن لم يموه بالطلاء
أحبب بآلك لامعا ... عندي وإن لم ألق ماء(976/44)
إن كنت لم تنقع صدى ... فسواك يغري بالظماء
حسبي بأنك مالئ ... عيني سحرا بالرواء
يا أيها الأمل المنمق ... من أفانين الغباء
أني لقيت بك السعا ... دة وهي حظ الأغبياء
لو أن لي لبا لما ... آنست في أفن هباء
أنا لو وثقت بظلها ... فعليك يا عاقل العفاء
هذا، وقد عاش الشاعر في الريف فخصه بكثير من خواطره فهو يصف طبيعته الفاتنة وسحبه وبروقه وغمائمه، ويشارك أهله ما يجدون من عواطف وأحاسيس، فيرثي أقطابه وذوى الوجاهة فيه، ويرسم ألواحا بديعة للجمال المشترك الموزع بين المروج والحسان والغدران، مما يزين جوانب الريف ويجلو حنادسه المتراكمات، وتعجبني نظراته الاجتماعية الصادقة، وخلجاته الإنسانية التي ألتمعت متوهجة في آخر قصيدة (من صور الريف) فهو يحدثك عن تعس العقل وشقائه، حين لا يجد بدأ من الخضوع للأوهام والأضاليل، بعد أن كابد الداء العضال وأعوزه الشفاء عن طريقه الطبيعي للعلاج، فيلجأ إلى التمائم والرقي والتعاويذ، على يد أناس جهلة مماسيخ!! راميا بآخر سهم في كنانته، وذلك قصارى ما يستطيع!!
وجاء شيوخ الحي والكل ناهض ... بإبلاله من دائه المتفاقم
وقالوا عليه باللحي لكأنها ... لبود ليوث ساء طب الضراغم
ومسوا بأيديهم يديه وأقبلوا ... يلوكون بالأفواه رجع الهماهم
وقال كبير القوم خذ هذه الرقي ... فنطها على اسم الله فوق الجماجم
ونطت بأعلاه، التمائم والرقي ... على سوء ظني في الرقي والتمائم
ورب فتى لم يعصم العلم نفسه ... فيلقى بها ضعفا إلى غير عاصم
ولهذه الوثبات الرائعة نظائر متناثرة في صفحات الديوان، وقد يجمح بنا اليراع إذا تناولناها ببعض التشخيص في هذا النطاق الضيق المحدود!!.
ولعلي بهذا العرض السريع، لأبرز عناصر الديوان، ألفت كثيرا من القراء إلى الإصلاح عليه وتقديره، وقد يكون إعجابي به دافعا إلى التغاضي عن بعض هناته الطفيفة، فعين(976/45)
الرضا عن كل عيب كليلة غضيضة، وحسبي أن أوجه القارئ إلى ديوان لم يسمع عنه، وقد حفل بكثير مما يلذ ويستطاب، راجياً أن يجد فيه ما وجدت من البراعة والطرافة، فيستشعر الأنس والمتعة والارتياح، وذلك شيء له حسابه الدقيق، وقدره الراجح الموزون!!
أبو تيج
محمود رجب البيومي(976/46)
البريد الأدبي
النطق بالضاد
قرأت مقال معالي الدكتور محمد رضا الشبيبي بعنوان (بين الفصحى ولهجتها) المنشور في العدد 970 من الرسالة، فلفت نظري ما ذكره عن حرف الضاد. فقد قال في نقده للهجات العامية، وكيف أنها لا تتبع النطق الفصيح ما نصه: -
(أما في اللهجة المصرية فبقولون: (اضرب) بفتح الراء مع قلب الضاد دالا). وذكر معاليه أن نوع من اضطراب المنطق وفساده (ص130. الأسطر الأخيرة من الحفل الأول).
والذي أعرفه أن اللفظ الفصيح لحرف الضاد هو كما يلفظه المصريون وليس كما ننطق به نحن العراقيين. أي أنه يلفظ مثل حرف الدال مضخماً. فقد جاء في محيط المحيط ما نصه: -
(الضاد هي الحرف الخامس عشر من حروف المباني ومخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ولا أخت لها عند سيبويه. وقال صاحب العين هي أحد الأحرف الشجرية. والظاء مخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا وهي أخت الذال والثاء بالاتفاق، وتسمى هذه الثلاثة الأحرف اللثوية لأن مبدأها من اللثة. وإتقان الفصل بينها واجب لأن الأئمة المتقنين على أن وضع إحداها موضع الأخرى مفسد للصلاة. قيل الضاد للعرب خاصة وليس له حرف يقابله في باقي لغات الساميين، ويقابله عند الإفرنج حرف الدال في بعض الأحوال فيلفظ كلفظه).
هذا ما جاء في محيط المحيط، ولولا ضيق المجال لذكرت شواهد أخرى من كتب اللغة تؤيد ما قلت.
بغداد
المحامي يوسف عجاج
هل يخطئون عامدين؟!
إذا كنا نسكت على مضض عن بعض الأخطاء التي ينزلق إليها المتحدثون المفروض فيهم أنهم غير متخصصين(976/47)
- ولا أقول أخصائيين - في اللغة العربية، فقل لي بربك كيف نستطيع السكوت عن أغاليط بعض الأدباء النابهين؟!.
إن أحد الكتاب الأفاضل يكتب تعليقاً على الأنباء ويذيعه قبيل الساعة التاسعة مساء مرة أو مرتين في كل أسبوع، وقد سمعته في المرة الأولى فكذبت سمعي، وفي المرة الثانية قلت لعل له عذراً وأنت تلوم، وفي المرة ظننت انه يخطئ عامداً لكثرة ما أذهلني من أخطاء، فهمت بالكتابة إلى الرسالة الغراء مستغيثاً بها، ولكن حبي لشخص الكبير كان يجعلني أقدم رجلا وأؤخر أخرى، حتى إذا نفد صبري وامتلأت الكأس استخرت الله وبعثت بهذه الصرخة محملا إياها ما علق بذهني من أخطاء وقعت في حديث قصير أذكرها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
فالخطأ الأول هو انه نطق بكلمة (يكسب) بفتح السين والصحيح الكسر (ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه). والثاني انه نطق كلمة (نضجت) بفتح الضاد مع أن كسرها هو الصحيح (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها). ولي أن أستطرد فأقول إن استعمال كلمة (نضوج) هو إستعمال خاطئ، والصحيح أن يقال نضج نضجاً على وزن تعب تعباً والاسم النضج على وزن قفل. والثالث انه قال (في صبر أبعد ما يكون. .) برفع كلمة (أبعد) والصحيح جرها.
والرابع انه قال (وما أصدق قول ماهر باشا) برفع كلمة قول مع أنها منصوبة.
ألست معذوراً - وهذه هي بعض الأخطاء - إذا ظننت أن هذا الأديب الكبير وأمثاله الأكرمين إنما يخطئون عامدين؟!.
إن مثل هذه الأخطاء لا يظهر في المكتوب، ولهذا فقلما كان يقع نظري على خطأ فيما كان يكتبه الكبير بالأهرام وفيما يكتبه الآن بصحيفة أخرى أسبوعية، أما وقد سمعته فأزعجتني كثرة أخطائه، ولا أميل - على الرغم من هذا - إلى وقف المذياع كما أفعل ذلك مضطرا في بعض الأحيان - فإن من حق أن أطالب حضرته بقراءة حديثه إذاعته مثنى وثلاث ورباع؛ إذ لولا خاص بفرض على فرضنا أن أحب شخصه الكريم حبا جماً أتأثر حبي وإعجابي؛ إلى حد كبير.
عبد الحميد عمر(976/48)
إلى الأستاذ أبو الفتوح عطيفة
مما لا ريب فيه الفترة الدقيقة التي تمر بدول العالم الإسلامي وشعوبه، تحتم على هذه الدول تتجه على هذه الدول أن تتجه نحو التكتل، بعد أن فشلت المنظمات الدولية جميعها في وقع كابوس الاستعمار الجاثم عليها.
فقد فشلت عصبة الأمم من قبل. كما نلمس اليوم فشل هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، في أن تضع حدا لهذا الاستعمار الغاشم الذي يأبى إلا التهام الشعوب الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة.
الكتلة الإسلامية القوية بجيشها المعد إعداداً كاملا هي التي تستطيع اليوم أن تصون كيان الدول الإسلامية المستضعفة، ولن نكون كتلتنا ضعيفة وفيها أمثال الباكستان، أندنوسيا وإيران ومصر وأفغانستان وتركيا، بشرط أن تكون لها هيبة الكتلتين: الغربية الديمقراطية. والشرقية الشيوعية. وألا تكون ذيلا لإحداهما. .
ومجلة الرسالة الغراء هي مجلة الأدب في العالم الإسلامي لا العربي، والأدب لا يكون بخير في دول لا عزة لها ولا حرية ولا استقلال. . .
فلتحمل زعيمة الأدب رسالة الكتلة الإسلامية إلى العالم الإسلامي، ولتبدأ رسالتها بتعريف القراء بالدول الإسلامية دولة دولة: حالتها السياسية والاقتصادية وحالة الأدب فيها. . .
فهي أجدر بالاهتمام من بريطانيا العظمى، الولايات المتحدة، ولا أعتقد أن زعيمة الأدب ستتوانى في تبليغ هذه الرسالة، لأنها جزء مهم من رسالتها. وها نحن أولاء منتظرين.
بهيجة المنشاوي
سكرتيرة المركز العام لجماعة السيدات المسلمات
مجلة الناشر المصري
كان الكاتب العربي في سوق الأدب حائرا لا يجد من يعرفه تعريفاً موضوعا منصفا، إلا بين الحين والحين في مثل مجلات (الثقافة) و (الهلال) و (المقتطف) و (الكتاب) و (الأديب) البيروتية، و (المجمع العلمي بدمشق) و (الرسالة). ولم يكن في العالم العربي كله(976/49)
مجلة خاصة بالكتب وحدها، تنقدها وتعرضها عرضا غير ذي غرض، وتقدمها إلى القارئ العربي أصدق تقديم. وقد لمس (الاتحاد المصري العام لدور النشر والمكتبات) حاجة القارئ العربي في كل قطر عربي إلى مجلة خاصة بعرض الكتب والتعريف بها والتقديم لها، فأصدر مجلة (الناشر المصري) وأسند رياسة تحريرها إلى الأستاذ محمد عبد الغني حسن. وقد ظهر العدد الأول من هذه المجلة التي ستصدر كل ثلاثة أشهر محتوياً على مقالات حول الكتب ودوائر المعارف والمخطوطات العربية، ومشتملا على تعريف دقيق لأكثر من 120 كتاباً في أبواب مختلفة من العلم والأدب والتأريخ والتراجم والقصة والفلسفة والاجتماع وغيرها.
كما أن فيه إحصاء دقيقاً شاملا للكتب العربية التي ظهرت خلال عام 1951 المنصرم مع بيان أسماء المؤلفين والناشرين وأثمان الكتب وعدد صفحاتها وقطعها.
فنرحب بالزميلة الجديدة، ونرجوا لها التوفيق في رسالتها الجليلة لخدمة العرب والقارئ العربي(976/50)
القصص
من الشارع
للأستاذ أحمد عبد القادر الصاوي
المواكب تمتد. الجماعات تتشابك. الطبول تدق. الغناء يعلو وأنا وحيد. . تتراقص في ذهنه أخيلة قاتمة، ورأيت أن أمضي إلى الجموع الحافلة أتصيد اللهو والمتعة. . .
وفي مدى دقيقتين توسطت حقل السلوى. وسافرت بين جوانحي تنهدة طويلة. وسال في وجداني شعور بالرضى. .
وسارت بي الخطا في زقاق غير بعيد، شاهدت كومة مهملة من الخرق ملقاة على الأرض غافلة عما حولها من الضجيج.
ومر الشرطي فركلها ليفحصها. وبلغت دهشتي غايتها، إذ تجمعت الكومة - رويدا. وارتفعت، وشاهدت هلاهيل داخلها إنسان. . أحد أبناء الطريق ممن ينتشرون فيها حائرين كاسدين. وسأله.
- أين أبوك؟
- لا أب لي؟
- وأمك؟
- لا أم لي
- أين تبيت؟
- هنا!!
ونجاه، وأنطلق متكبرا.
وتراجع الغلام إلى مكانه. وتراخى، وشمله نوم عميق. ووقفت حياله. وثورة من العواطف تجتاحني.
وعبست السماء، وتلبدت السحب، وأظلت غمامة، ودمعت ثم برحت. وأسرعت أوقظه، فلم يسمع لي. صحت فيه
- قم!
- ليس هذا مكان أحد. لن أقوم(976/51)
- المطر ينهمر!
- لينهمر! ليست هذه أول مرة
- قم!
- لا شأن لك بي
- اختطفته. فانزعج. فطمأنته
- لا بأس عليك
- رمقني بطرف ساج ثم تبعني
وخرجت معه عن دائرة الفوضى. وطلبت منه أن يصحبني فأطاع. .
وكنت أسكن وحدي. فأعددت له فرشا. ونام كما تنام الهرة مستكينة مستسلمة.
وأصبح الصباح واكتشفت أنه ألف وديع. وودعته وغدوت إلى عملي.
وعدت ظهرا. وتلألأت فرحة بين جنبي. . الحجرات تبتسم، والأثاث يشرق، وزجاج النوافذ يضئ. كان الأثاث قد رتبترتيبا ساذجا، أقرب إلى التنسيق والنظام.
وفركت عيني. وعادتا تتصفحان مرة ثانية قطع الدار. لقد أصبحت قشيبة.
وسرت البهجة إلى قلبي باردة ناعمة. . سأدخل حياة جديدة، جميع نواحيها هدوء واستقرار.
وواجهته والضحك يتزاحم على فمه. واستحالت الضحكات كلمات بليغة راقية.
ومدحت تصرفه، وسطت على فمه ابتسامة ردا على كلمات الإطراء التي أمطرته بها.
وتناولنا غداءنا وخرجت إلى بعض صحبي. وحملت إليه عند أوبتي ملابس من النوع الرخيص. وتهلل وذهب يستحم.
ألف الحياة التي تحيطه. وعامل أشخاصا من الحي تربطنا بهم الحاجة. وأثنوا عليه.
وأرسلته إلى الكواء. وعاد عابسا. وأظهر أكثر من العبوس، حين قدمت أليه أتعاب العامل ليؤديها إليه فقال:
- هذا كثير فهززت كتفي وقلت:
وما الحيلة؟
- أستطيع أن أحتال لك(976/52)
وكيف؟
- اشترى لي مكواة وسترى
- لا خبرة لك
- خبرتها هناك
- تهزل؟
- أجد
وأعجبت كثيرا حين وجدت الأقمصة والبدل، كأنها صقلها يد الكواء
ستون قرشا أو تزيد استقرت في جيبي آخر كل شهر. وعالج الغسيل، ورتق الجوارب، وطهو الطعام ونجح. وبلغ في نجاحه. وبلغ في نجاحه مدى بعيدا
ولقيته مرة حزينا فاستفسرت فقال:
- أحست معي!
أربعة قروش ومليمان صابون. وقرش وخمسة مليمات خبز. وقرش وثلاثة مليمات شاي، وقرش وسبعة مليمات زهرة وملح. . .
وكم مجموعها؟
- ثمانية قروش وسبعة مليمات
- فإذا كان معي عشرة قروش، فكم يتبقى؟
- قرش وثلاثة مليمات
- معي قرش
- لا عليك!
وتلعثم واكفهر
- سأتعلم الحساب
- من يعلمك؟
- أنت
وتبدو الوثبة الثانية، وأجد أن أحب شيء لدى حين أجلس لألقنه، وتشرب الاسفنجة الجافة ما ألقيته إليها. وعت ووعت، ولم تتشبع ولم تمتلئ.(976/53)
وفي غصون عام - أصبح في مستوى طالب الشهادة الابتدائية يكتب بطلانه وخعة أصيلتين.
وضبط الحساب وضغطه، فلم يفلت منه مليم، وتطلعت إلى المكث في بيتي. وارتاح صديقي الصغير إلى، واتخذني أخا ومرشدا. واستوى الحول، ووجدت يدي تتحكم في ثلاثين جنيها. مبلغ ضخم! يا لله!.
وازددت حدبا عليه، وأزداد كلفا بي، والأيام تعدو وتنطلق وفتاي ينمو نموا مطردا، ووجهه يتدفق جمالا، وقومه يتناسق ويرشق. ولم ألتفت إليه.
وحرك فضولي أن صوته كان يرق، وخشونته كانت ترهف، والأنوثة كانت تطل من أعضائه وملامحه. ويلاه!
وأخذت المفاجأة طريقها في سرعة.
ومضى شهر. وفي خلال الشهر الذي يليه كان يعلو صدره.
وفي الشهر الثالث برز له صدر فتاة؛ وهو إذ ذاك في الرابعة عشرة ولكنه يحث خطأه إلى النضوج الباكر العاجل. وينتقل من حال إلى نقيضه!
وأثار في كثرة ترددها على الحلاق ليقص لها كالفتيات. وأثارني أكثر إصرارها على ما هي عليه، وتمردها على أنوثتها
وتتساقط الأيام، ويدور الزمن فيصقلها دور انه ويهذبها. ولا يزال الصقل والتهذيب حتى يخلص إلى تمثال تتوهج الأنوثة الكامنة فيه.
ويكاد الحسن يضطرم على صفحة الوجه الناصع الصغير.
يا رحمة الله ساعديني!
واحتاجت إلى ملابس، فانتقيت لها مجموعة منمقة. إحدى التشكيلات التي تسر الفتيات وتبهجهن.
وجاءت فرحة لتفضها. وحدقت في الألوان الزاهية عينيها وفقدت مقاومتها، وانطلقت إلى الحجرة الأخرى. . تطعن بأظافرها الحشايا وتولول. وذهبت إليها وما دريت أن الكتمان الطويل الذي لفت نفسها به، سيهتك سريعا. ولكنها أنثى!.
ومرت الليالي. وخضعت لرغبة الطبيعة، فظلت الساعات أمام المرآة تتعطر وتتزين.(976/54)
لمن؟.
وكرهت مسكني، فقضيت أكثر وقتي خارجه إن وجودي فيه كان إحدى أماني الشيطان.
وتنتظرني بقلب واجف. . تتلقاني بالحساب العسير. وأنتحل الأسباب فلا تصدق. وتولي وهي تبكي. وتظرفت وتلطفت. وأقبلت. . تقول:
- كرهتني!
- أبدا
- ليتني فتى!
وتضحك خلال دموعها وتستأنف
- كنت أحببتني
- أحببتك في حالتيك
وتسوق بعض طرائفها في أسلوب هين رقيق
وعدت إلى المنزل يوما عقب عمل شاق. فوجدتنها ارتدت ثوبي واحتذت حذائي، وعقصت شعرها تحت طربوشي. واختطت شاربا، وواجهتني. ولم أتمالك أن تضاحكت. ورددت وضحكاتها ترف على وجهها، فتصبغه لونا زاهيا. . لون المرح والشباب
- أحببتني الساعة؟
- وكل ساعة
- ابق معي!
- أبقى؟
- أجل
- أنت في حجرة، وأنا في حجرة
وتعبس بعض الوقت
- ستكون أبعد منك خارجا
هذا شرطي - وتهمس
- خففه!
- قد خففت!(976/55)
وأتأفف. وتهز رأسها
- رضيت
وتعبث بأذني وأصابعي وتهمس
ألا زلت على قسوتك؟
وأضحك بعد العبوس
وكان دلالها الفطري، وحركتها الغريزية، وسهولتها المطلقة، أمورا جديدة على. . فمن حولي كلهم قد أخفتهم الصناعة خلف قناع كثيف
وأنا أقدس الحياة لا كلفة فيها
وانتهى الأمر بأن أحببتها!
وخرجنا معاً إلى عرض الطريق
وعلت الدهشة وجوه القوم. وتقولت جمهرتهم. ووشاعت الشائعات. ولم يكن هناك بد من قطع ألسنتها. . سأعقد عليها حالا.
وأسررت إليها برغبتي. واستخفها الطرب. وطارت إلى المرآة. وأقبلت، وكل جارحة في وجهها تبتسم
- أتراني لك أهلا؟
واحتواها ذراعاي
واستدعيت المأذون. فأقبل وتساءل
- أين العروس؟
وأقبلت ترتدي ثوبا بسيطا. وخيل إلى وهي في بساطتها أنها أبهى فتاة. وسبح قلبي في حيرة من السرور.
- كم سنك؟
- لا أعرف
ودارت بي الدنيا
- ما اسمك؟
وتعثرت كلماتها. ووقف قلم الشيخ(976/56)
- أين شهادة ميلادك؟
ماذا تقول؟ لا أفهم!
والتفت إلى الشيخ وقال:
- لا تعرف اسمها، ولا تعرف سنها. أمر خطير. .
وقام مهرولا لا يلوي على شيء
وظل التمثال الرشيق مبهوتاً، يرى فتتسع عيناه، وتتهدل شفتاه،
ويحول لونه، ويتصلب وجهه.
ودنوت منها لأواسيها، لا تتنبه. وأتوسل إليها، فلا تتكلم. .
لا تتكلم مطلقا
وانحدرت إلى صدري نقمة شديدة على نفسي. فلو أحسنت تصرفي قليلا لتم لي سعادة الروح والجسد. وقد أنشأت بجهلي فراغا هائلا بيني وبين من أحب! وسارت الأمور سيرا كسيحا
وأخذت الفتاة تذبل وتذوب، والفتنة تخبو وتنطفئ.
وأحزان الملاك الجميل تتجمع عليه فتثقله. ويهبط قليلا قليلا. يقترب جداً من الأرض.
وتراءت في أحزانها كالبنفسجة الغافية، بيد أنها فقدت الإغراء والغواية، لا الشذا ولا العطر
وأنا بشر! ولي عين ترى، وأنف تشم
وحدثتني نفسي بها، وتجلدت، ولكن رغبات الجسد تكتسحني، مرة أغلبها، ومرارا لا أستطيع
وتمنعت في إباء وشمخت في كبرياء
وضقت بنفسي وبها
واهتديت أخيراً إلى حل، دعوت الطبيب ليقدر سنها ثم سنستوفي الشكل فيما بعد ليتم قراني بها
وعدت معه إلى المنزل
وطرقت غرفتها، ولم أنتظر الإذن ودخلت
رباه!(976/57)
ليست هناك. وبحثت وتقصيت ولا جدوى وأحسست أن صدري لا يستطيع أن يحتفظ بقلبي، فيتهاوى، وصرخت والألم يتلقفني، والأسنة المسمومة تراشقني وتأكدت أنني فقدت فتاة لها مميزات لن تتوفر سواها
وهبطت على أحداث عصيبة. وسجل فلبي فترات دثرتها ملاءة سوداء. واشتعل الزمان حولي. وتطايرت الدقائق تتناثر كالشر.
وكان كل ما في المنزل يتسم بطابعها، فيوقظ في أعماقي أحداثا تومض وتبتسم ثم تتلاقى. كيف أنسى؟
وهجرت المنزل إلى غيره ولكن ذكراها كانت تلاحقني. إليها وتمايلت
وما زال الزمن يسير بها حتى بعدت. . واختفت وراء الزمان. وما زال توغل بين طياته حتى ذابت فيه. وانتهى الحلم وصحوت!
وتتابعت السنوات
وفي ليلة ذهبت إلى المسرح لقضاء السهرة. واحتشدت حول واجهته الأضواء. وأرسلت عيني تقرآن الموزعة على الجدران، وبينما كنت أقرأ استيقظت على صوت يستجدي. واستدرت رأيت فتاة رثة تستعطفني
وشعرت أن تماساً خفيفا يتصل بين الفتاة وذاكرتي فحدقت فيها. وما برحت أزيل أكوام الماضي حتى بدت لي في الذاكرة صورة واضحة جلية. . بدت لي في قرارتها صورة وديعة مزينة
تلك ضالتي!
وفوجئت الفتاة. . وهمت بالهرب. وأسرعت إليها. . وقبضت بيدي على ساعدها. فنزعته بقحة ورعونة وقالت
- ماذا تريد؟
- أريدك. بحثت كثيرا عنك
- الفارق بيننا كبير
- متقارب
- بل كبير(976/58)
- تعالي. لا حساب لهذا عندي
- سلبت ما ترجوه مني!
وبدت تشنجات وحشية على شفتيها. وأخذت تتقلص وتنفرج، فتكتسي هيئة ذئبة ضارية
- دعني. فأنا نشأت هنا. وسأبقى هنا!
وتراخت يدي. وفجأة نزعت ساعدها مني. وشردت
وانطلقت عيناي وراءها تتبعانها. . شاهدت بقايا حبي، وهي تتأرجح في الظلام، وتمضي طائشة بلا وجهة، ثم تحول وتتضاءل ثم تختفي
وكان درسا علمتنيه فتاة من الشارع. وكانت عظة، وكم عظات ملقاة على جانبيه!
سر هناك وتأمل. . ستراها مجسدة أينما سلكت، في الأزقة والمنعطفات. . في الطريق العام والميادين. في كل مكان
أحمد عبد القادر الصاوي(976/59)
العدد 977 - بتاريخ: 24 - 03 - 1952(/)
تحية للشيخ الرئيس
بمناسبة الاحتفال بذكراه الألفية
في هذا الأسبوع، وفي بغداد عاصمة العلم القديمة، يحتفل العالم الإسلامي بالذكرى الألفية لمولد الطبيب العالم الفيلسوف أبي الحسن بن سينا واحد فنه في الشرق والغرب، ونادرة عصره في الطب والحكمة، وأحد العباقرة العالميين الذين رفعوا قواعد العلم، ونهجوا سبل المعرفة، ووصلوا ما انقطع من تسلسل الفكر الإنساني بين الفلسفة الإغريقية القديمة، والفلسفة الأوربية الحديثة.
ولد أبو علي سنة 370هـ في قرية من قرى بخاري كان أبوه عاملاً عليها للأمير نوح بن منصور الساماني، ثم توفى سنة 428هـ بهمدان إحدى مدن إيران كان قد وفد إليها على الأمير علاء الدولة البويهي، فكان معظم حياته على هذه الأرض ثمانية وخمسين عاماً قضى أكثرها في الاضطراب والاغتراب والنفي والسجن والخوف والشهوة والمرض، ومع كل أولئك استطاع أن يكون يحر العلم الزاخر في وقته، وبدر العلماء الزاهر في جيله، فقرأ كل كتاب وانتفع منه، وحذق كل علم وزاد فيه، وألف مائة سفر في الطب والفلسفة والمنطق واللغة والموسيقى والرياضياتوالطبيعيات والإلهيات والأساطير؛ وكان أول عالم ظهرت في علمه الفلسفة الكلامية على أتم ما كانت من الدقة والسعة والوضوح. ثم كان هو والبيروني الغاية التي لم يكن وراءها مذهب الفكر في القرون الوسطى: هو بدقة نظامه وبراعة فهمه، والبيروني بقوة ملاحظته وسعة علمه.
ربي أبن سينا منذ الخامسة من عمره تربية علمية منظمة، فحفظ القرآن وثقف الأدب وشدا شيئاً من الحساب والفقه. ثم سمع في محاورة أبيه لأخيه وهما شيعيان كلاماً في النفس والعقل، وإشارة إلى الفلسفة والهندسة، فصبت نفسه إلى علم ذلك. وورد يومئذ بخاري أبو عبد الله الناقلي فأقرأه في المنطق إيساغوجي، وفي الرياضة المجسطي، فكان الأستاذ يقف عند المبادئ والظواهر، والتلميذ يغوص على المسائل فيستخرج الدقائق، ويمحص الحقائق، ويبصر المعلم بما لم يبصر. ثم رغب في علم الطب فتلقى أصوله على أبي سهل المسيحي، واستقصى فروعه وحده حتى انتهت إليه الزعامة فيه. كل ذلك وسنه على ما قال هو نفسه لم يتجاوز السادسة عشرة. ثم أبرأ الأمير نوح ابن منصور من مرض برح به،(977/1)
فقربه إليه وأذن له بالدخول إلى دار كتبه، وكانت عامرة بنوادر الأسفار في كل علم وزمن، فوعى ما فيها من كتب الطب والفلسفة وما بعد الطبيعة على ظهر قلبه. ثم أصابتها النار عمداً أو خطأً فلم تبقي منها على ورقة! فانفرد الشيخ المخبوءة في صدره، وكانت هذه النكبة العلمية من مزاياه على غيره!
ثم توفى أبوه وضعف شأن أميره فاضطربت به الأحوال، وتدفقت عليه الأهوال، فخرج وهو في الثانية والعشرين من عمره إلى قصبة خوارزم فأقام بها يسيراً في كنف أميرها علي بن مأمون، ثم غادرها إلى جرجان فثقف بعض الناس، وألف بعض الكتب. ثم انقلب إلى همذان فوزر لشمس الدولة بن بوية. فلما توفى هذا الأمير وخافه ابنه تاج الدولة صرفه عن عمله، ففرغ للبحث والتأليف، وصنف في هذه الفترة أعظم كتبه. ثم نشب الصراع بين أمير همذان وأمير أصبهان فأتهم بالدعاية إلى علاء الدولة، وطلبه تاج الدولة فاختبأ في حانوت صيدلي حتى وقعت العيون عليه فسجنه في إحدى القلاع. فأنشأ في ذلك قصيدة منها هذا البيت:
دخولي باليقين كما تراه ... وكل الشك في أمر الخروج
وظل في السجن أربعة أشهر حتى استطاع أن يفر متنكراً في زي الصوفية إلى علاء الدولة بأصبهان فأقام في حماه وادع النفس، يؤلف ويختصر، ويحاضر ويناظر، ويعترض ويجيب. واتفق ذات ليلة أن جرى في مجلس الأمير حديث في اللغة شارك فيه ابن سينا، وكان أبو منصور الجبان حاضراً، فأنكر عليه أن يتكلم في غير علمه، فانف الشيخ من هذا الإنكار وعكف على دراسة اللغة ثلاث سنين حتى بلغ منها موضعاً جليلاً أهلهلان يؤلف فيها كتاباً سماه لسان العرب لم يؤلف مثله قبله أحد! وهكذا انقضت تلك السنين الأربع والخمسون في عمل لا يفي، وسعي لا يني، وعذاب لا يرحم وصراع لا يهادن، وحظ لا يساعد، وولوع بالنساء لا يهدأ، ونزوع إلى الشراب لا يكف، حتى وهن الجسم القوي، ووهن العزم الشديد، ونزلت بالغطاسى العظيم علة نكل عنها تدبيره وطبه!
كان الشيخ الرئيس برد الله ثراه آية من آيات الله في لقانة الذهن وأصالة العقل وقوة الحافظة ونفاذ الهمة. اكثر علمه من اجتهاده، وأنجع طبه من تجاربه، واجل كتبه من حفظه. وكان على استبداد عقله بفكره، وطغيان علمه على فنه، صاغي القلب للدين، صافي(977/2)
النفس للشعر، سامي الخيال للقصص. كان إذا أعيت عليه مسألة ذهب إلى المسجد فتوضأ وصلى وابتهل إلى الله أن يجلو عليه ما غمض ويفك له ما أشكل. ثم كان له في الشعر العينية ومقطوعات أخرى من النمط الرفيع والنسق الفريد، وفي الأساطير (سلامان) و (حي بني يقظان) و (الطير)، وهي رموز لمعان سامية من الحكمة العالية والروحية الجميلة. وكان في الشيخ رحمه الله صوفية لا تجري على منهاج المتصوفة: صوفية هؤلاء وجدانية تقوم على الزهد والتقشف، وتقصد إلى تصفية القلب وتطهيره؛ وصوفيته هو عقلية تبيح النعيم واللهو وترمي إلى تقوية العقل وتنويره. وكان اعظم ما يميز الشيخ اليقين فيما يرى، والثقة فيما يقول، والإبانة فيما يكتب. كان لا يشك إذا علم، ولا يتردد إذا فهم، ولا يتحسس إذا استبان. وتلك طبيعة العالم لا الفيلسوف، والدارس لا يبحث، والمتبع لا المبتدع، والمؤلف لا المنشئ.
هذه إثارة من حياة حافلة، وإشارة إلى مجد باذخ، وعبارة من تاريخ ضخم. ذكرناها على هذا الإيجاز القاصر اكتفاء بما سيلقيه ذوو الاختصاص في حفلات مهرجانه من البحوث المفصلة في طبه، والخطب المطولة في فلسفته. وإنا لنحي خاشعين من وراء الستر ذكرى الشيخ الرئيس، ونسأل الله ضارعين أن ينعم روحه في الخلد، وان يطيب ذكره في الخلود.
أحمد حسن الزيات(977/3)
مع أبن سينا في عيده الألفي
ملوك وأمراء في حياة الرئيس أبن سينا
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لعل أوثق المصادر عن ابن سينا وحياته هو الشيخ الرئيس ابن نفسه في الترجمة التي كتبها مجيباً بها عن سؤال أحد تلاميذه إياه. وقد اكمل هذه الترجمة تلميذه وتابعه وصاحبه منذ أن اتصل به في إقليم جورجان إلى حين وفاته. وهذه الترجمة محفوظة بالمتحف البريطاني في نسخة لا تزال خطية. وقد استفاد منها ابن أبي أصيبعة فنقلها في كتابه (عيون الأنباء) كما نقل أكثرها المؤرخ القفطي المصري في كتابه (أخبار العلماء بأخبار الحكماء).
ولقد عاش ابن سينا في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري والثلث الأول من القرن الخامس، لأنه توفي في سنة 428هـ وهو عصر كثر فيه تقسيم الدولة العباسيةإلى دويلات صغيرة، فهناك الدولة البويهية التي وقع تحت سلطانها خلفاء بغداد، وخاصة الطائع والقادر والقائم الذين عاش ابن سينا في مدة خلافتهم. وهناك الدولة السامانية ببخارى في إقليم خراسان وما وراء النهر. وكان الأمير نوح بن منصور بن سامان هو الأمير الثامن من ملوك هذه الدولة، وهو الأمير الذي دعي ابن سينا لمداواته كما سيأتي بعد. وكان هناك دولة المأمونيين ولاة خوارزم الذين سميت دولتهم بالدولة الخوارز مشاهية. وهي دولة لا يعرف على وجه التحقيق اسم مؤسسها. ولكن اسمها يبدأ في الظهور منذ سنة 380هـ - أي بعد ميلاد ابن سينا بعشر سنين - وفي عهد أميرها الثاني على بن مأمون بن محمد بن خوارزم مشاه جاء بن سينا من بخاري إلى جرجانية وكان ملكها الأمير قابوس بن وشمكير الكاتب المترسل الأمير الذي قصده ابن سينا بعد خروجه من خراسان، ولكن اتفق في تلك الأثناء إن قبض على الأمير قابوس وحبس في بعض القلاع ومات هناك. وكان هناك من ملوك الديلم مجد الدولة بن فخر الدولة الديلمي. ومجد الدولة هذا هو أخو شمس الدولة من ملوك همذان. وكانت الأميرة (سيدة) والدة مجد الدولة الديلمي هي المرجع في تدبير الملك، وعن رأيها يصدر الأمراء والولاة في مباشرة الأعمال: وكان هناك دولة أصفهان وأميرها علاء الدولة بن كاكويه، وكان ملكاً على أصفهان وملحقاتها، وحكم من سنة 398هـ إلى سنة(977/4)
433هـ. وكان أبوه خال الأميرة (سيدة) والدة مجد الدولة بن بوية الديلمي، ولهذا سمي (كاكويه) لأن الخال في لغة الديلم يسمى (كاكو) أو (كاكويه) وعلاء الدولة هذا هو الذي اتصل به الشيخ الرئيس ابن سينا، وصار من أصحاب الحظوة عنده، وبقي في خدمته إلى آخر عمره، ولكنه لم يكن له وزيراً في يوم من الأيام. أما الوزارة فكانت من ابن سينا لشمس الدولة أخي مجد الدولة؛ فقد وزر له مرتين ما بين سنتي 405 هـ، 412 هـ.
وكان هناك - فوق ذلك - في عصر ابن سينا الدولة الغزنوية التي كان أول ملوكها (سبكتكين) سنة366 هـ. كما كان محمود الغزنوي - المعروف بيمين الدولة محمود بن سبكتكين - هو ثلث ملوكها. وهذا الفاتح العظيم قد أثار حروباً كثيرة في حياته وفي عصر ابن سينا بالذات. فهو فوق غزوه لبلاد الهند وفتحه لها قد حارب دولة خوارزم وملك خوارزم سنة407 هـ. وهي دولة اتصل ابن سينا بها وبأميرها علي بن المأمون كما أسلفنا. ولم يكتف محمود الغزنوي بهذا، بل استغل ما بين الأمراء والملوك حوله من خصومات ونزاع، فدخل جميعهم لمصلحة دولته الناشئة القوية. كما فعل في الحرب التي قامت بين سلطان الدولة البويهي وأخيه أبي الفوارس بن بهاء الدولة. وكأن محمود الغزنوي كان يستعد لافتراس هذه الدويلات المتقطعة المتناحرة دولة بعد دولة. وكان همه بالذات متجهاً إلى إمارات بني بويه، ففي سنة 420 هـ اتجه إلى إقليم الري، وكان عليه الأمير مجد الدولة بن فخر الدولة بن بوية فملكه محمود الغزنوي. كما ملك إقليم الجبل. وفي سنة421 هـ وجه مسعود ابن يمين الدولة الغزنوي جيشاً إلى إقليم همذان. أما علاء الدولة بن كاكويه - وهو الأمير الذي اتصل به ابن سينا في أصفهان - فلم يسلم من غارات الدولة الغزنوية التي دخلت جيوشها (الري) فنهزم علاء الدولة وجرح في رأسه وكتفه وهرب تاركاً إقليمه في يد السلطان مسعود الغزنوي بن محمود الغزنوي.
على إن هذه لم تكن آخر حروب السلطان مسعود الغزنوي ابن محمود الغزنوي ضد علاء الدولة بن كاكويه: ففي سنة425 هـ - أي قبل وفاة ابن سينا بثلاث سنوات - اتفق علاء الدولة مع ابن فرهادبن مرداوج على قتال عسكر السلطان مسعود الغزنوي. ولكن الحظ خان علاء الدولة حتى بعد احتمائه بالجبال الشاهقة بين أصبهان وملكها. وفي هذه المعركة نهبت خزائن علاء الدولة بن كاكويه أخذت أمواله الطائلة. وفي هذه المعركة بالذات كان(977/5)
الشيخ الرئيس ابن سينا في خدمة علاء الدولة - ولم يكن وزيراً له - فأخذت كتب الشيخ وحملت إلى غزنة - عاصمة الدولة الغزنوية - وجعلت في خزائن كتبها إلى إن أحرقت على يد عساكر الحسين الغوري.
لقد عاش ابن سينا في هذا العصر الزاخر بأحداث كثيرة ورأى بعينيه كيف يتقاتل الاخوة وأبناء العم على الملك والسلطان، كما حدث بين أفراد أسرة بني بوية في الري وأصفهان وهمذان وجرجان؛ بل اتنصل من قرب الأمير شمس الدولة بن فخر الدولة أمير همذان، وشاهد الأحداث التي جرتله مع أقاربه بني بوية من ناحية، ومع ملك الغزنويين من ناحية أخرى. واتصل ابن سينا اكثر من ذلك بالأمير علاء الدولة بن كاكويه؛ وهو يتصل ببني بوية أيضا - لان والدة (دشمنزيار) هو خال الأميرة (سيدة) والدة مجد الدولة بن فخر الدولة البويهي وشاهد ابن سينا في أثناء اتصاله بابن كاكويه كثيراً من الأمور الجسام، فلم تسلم مدينة من مدن العراق وفارس من ثورة أو غارة للعيارين النهابين، بل لم تسلم أصبهان نفسها من حوادث النهب والسلب على أثر استيلاء جند السلطان مسعود الغزنوي عليها. وفي غمار هذه المعركة نهبت كتب الشيخ الرئيس ونقلت إلى غزنة، إلى أن كتب عليها أنت تحرق على يد محارب آخر من رجال الدولة الغورية.
وقد لقي ابن سينا من ملوك الدولة القائمة في عصره الأمير نوح بن منصور الساماني، والامير علي بن مأمون الخوارزمشاهي، والامير شمس الدولة بن فخر الدولة البويهي الديلمي، ووزر له مرتين، والأمير علاء الدولة بن كاكويه أمير اصبهان، واتصل به وألف كتباً كثيرة، ونكب معه في غارة السلطان مسعود الغزنوي على أصبهان. أما الأمير شمس المعالي قابوس بن شمكير ملك جرجان فيظهر من كلام الشيخ ابن سينا نفسه إنه لم يقابله، وانه كان يقصده، فاتفق القبض على قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته. وهو نص لا يدل على لقاء الشيخ الرئيس لهذا الملك الأديب العظيم. . . إلا إن العروضي السمرقندي صاحب كتاب (جهار مقالة) يذكر حادثة طريفة بارعة عن ابن سينا واستخباره أحوال بعض العاشقين واسم معشوقته ومحلتها من نبض المريض. ويروي العروضي السمرقندي ان ابن سينا دعي إلى مداواة هذا العاشق النضو بأمر من الملك قابوس الذي دعا الشيخ الرئيس إليه ليعالج مريضه القريب. وعلى الرغم من طرافة هذه الحكاية فإن الأستاذ محمد(977/6)
بن عبد الوهاب القزويني يستنبط إن ابن سينا لم يخدم الملك قابوس بن شمكير لأنه حبس قبل بلوغ ابن سينا جرجان.
محمد عبد الغني حسن(977/7)
واحة سيوة
للأستاذ صبري حسن علوان
كانت الساعة السادسة صباحاً حين أخذنا عدتنا في (مرسى مطروح) مولين وجوهنا شطر سيوة؛ تلك الجنة المخصبة وسط الصحراء المجدبة، وكلنا أمل أن ندركها قبل أن نبيت ليلة أو أكثر في جوف الصحراء الغربية. ذلك إن الرمال قد جادها الغيث الهتون وقد احتفلت نواحيه، وأسفت أعجازه وهواديه، فشربت الصحراء بعد عطش، وامتلأت الآبار بعد خواء، وكونت التلاع الحادرة بحيرات كبيرة في المجتمع المنبسط الذي يصلح كطريق للسيارات!
وسرنا باسم الله، ونحن على وجل من أن يغوص أحد إطارات السيارة في الرمال الدقيقة المشبعة بماء المطر فتضطرنا الأحوال أن نبيت في العراء كما فعل قوم من قبلنا ظلوا في الطريق سبع عشرة ساعة. والمسافة بين (مرسى مطروح) وبين (واحة سيوة) ثلاثمائة كيلو متراً، وما يتبقى فليس له معالم متميزة فهو يختلط إلا على السائق الماهر الذي جاب الطريق اكثر من مرة، هذا عمداً يلاقيه المسافر من صعوبات جمة لكثرة المرتفعات والمنخفضات في عرض الصحراء التي تجعل المسافر بالسيارة لا يستقر على حال، مرة إلى أعلى وثانية يقع على جنبه الأيمن وأخرى يميل إلى يساره، وهو في ذلك يجد من الرهق مالا يحسه إلا المسافرون. إن السيارة تقطع المسافة الممهدة في ساعتين وتقطع الباقي في عشر ساعات. هنا يطيب أن نسأل لماذا لا تنشط الحكومة في تمهيد هذا الطريق الهام فتتمه في سنة أو سنتين أو ثلاث يدلاً من أن تمهد كل عام ثمانية كيلو مترات فقط، أي إنها تريد إن تتمه بعد اكثر من عشرين عاماً. . إن شاء الله!
إن واحة سيوة جزء من مصر؛ بل هي من الأجزاء المهمة من مصر كما سنرى، أم تريد اهل هذه الواحة أن يظلوا على اعتقادهم إنهم (سيوبون) قبل أن يكونوا (مصريين). أن رصف الطريق إلى سيوة هو من أول الواجبات التي يجب على الحكومة والتي يتحتم عليها الإسراع في أدائها.
وبعد ثلاثة عشر ساعة لاقينا فيها من المصاعب ما لاقينا وصلنا إلى سيوة، وبتنا ليلتنا أصبحنا فوجدناها جنة خضراء يرتفع في جوها النخيل نشوان، ويسكن في جنباتها(977/8)
الزيتون، لا يشربان من ماء النيل وإنما من ماء العيون. وبالواحة ما يقرب من مائة عين، كل عين تسيل في قنوات يخضر من مائها الحجر، ويينع الزهر ويستوي الثمر؛ ماء عذب صاف لا تخرجه آلة ولا يجود به سحاب وإنما ينبعث من جوف الحصى. . ينضح وجه الصحراء العبوس فيبتسم، وجبهتها المتقطبة فتنبسط، وطبيعتها القاسية فتلين. . يرزقها الظل وهي بنت الهجير، ويمنحها النسيم وهي أخت العواصف، ويسمها الجمال وهي من سماتها التجهم.
وتنخفض سيوة عن مستوى سطح البحر بستة عشر متراً، ويقترب منسوب الماء من سطح الأرض؛ فقد حفرت حفرة صغيرة عمقها خمسون سنتيمتراً في الجهة البحرية من الاستراحة الحكومية فتجمع الماء في قاع الحفرة، على حين ظهر الماء في ارض المطار الحربي الجديد على بعد اكثر من مترين. ويمكن الاستفادة بقرب مستوى منسوب الماء في زراعة بعض الفواكه مثل البطيخ حيث لا يحتاج الأمر إلى كثير جهد. ويغطي التربة في كثير من الأماكن طبقة قشرية ترتفع فيها نسبة الأملاح مما قد يحتاج إلى بعض الجهد في استصلاحها، إلا لن وجود العيون ومائها المنساب ييسران إلى حد كبير هذه المهمة.
وهناك عين جديدة يوجد حولها اكثر من مائتي فدان لا ينقصها إلا اليد العاملة والبذرة التي توضع في الأرض، ولكنك لو سألت، أتاك الخبر المحزن: كسل الأهالي وقلة الأيدي العاملة. إن الأهالي هناك تراهم بنية لا تستقيم. . ويداً لا تشتد، وهمة لا تطمح، فهم يعتمدون على ما يدره النخيل والزيتون. . أما النخيل فيبيعون ثمره على أنواعه ويصنعون من بعضه (العجوة). وأما الزيتون فهم يخللونه أو يعصرونه في معمل الوزارة الموجود هناك ليستخرجوا منه زيت الزيتون، أما بقية العام فهم يقعدون. . اللهم إلا قلة قليلة تزرع الشعير وهو يجود. وانك لتلاحظ الكسل من غير صعوبة لو انك طفت مرة واحدة بالكميات الضخمة من النخيل في الحدائق المختلفة، فلا نجد نخلة مشذبة منظمة، بل يتكاثف سعفها من عام إلى عام، ويحيط بها سنة بعد سنة، وهم يحجمون عن ان ينموا النجل بحجة تستند إلى خرافة.
ما السبب إذن في ذلك الكسل المخيم؟ إن لأسبابه جذوراً عميقة تمتد إلى اكثر من التواكل. يقولون إن الشذوذ الجنسي في الرجال شائع إلى درجة كبيرة جداً. . . ونحن لا يهمنا أن(977/9)
نصدق ما يقولون أو نكذبه. . وإن كان ما يقولون ينافي الفطرة، وخاصة وإنه - كما يزعمون اصبح من (المألوفات) فانه أيضا لا يهمنا أن نصدق هذا الزعم أو نكذبه، إنما الذي يهمنا هو هاتان الظاهرتان المخيفتان: انقراض النسل في خطوات ليست بالبطيئة، وانتشار الأمراض السرية إلى حوالي سبعين في المائة كما صرح بذلك بعض المسؤولين. إن عدد السكان كان منذ عشرين عاماً خمسة آلاف نسمةوهو اليوم دون ذلك بكثير! قد يكون التزاوج المحلي هو السبب، وقد يكون ما (يقولون) وما (يزعمون) هو السبب. . وقد يكون انتشار الأمراض السرية هو السبب، وقد يكون - أخيراً - هجرة الأهالي - على قلتها - هي السبب، إلا إن الذي لا شك فيه إن عدد السكان في تناقص مستمر. . وهذا شيء كفيل بان يتداركه المسؤولون، أن يتتبعوا الوشائج، وان يتعلقوا بالأسباب، وأن يعرفوا مركز الدائرة ثم أن يطبوا للداء! وعندي رأي لا أشك في فائدته: لماذا لا تعمل الحكومة - أياً كانت هذه الحكومة - على ترحيل عدد كبير من المعدمين والعاطلين إلى هذه الواحة، وهي لن تمدهم إلا بالضئيل من المعونة، حتى تندى الكف الجافة، وتشتغل اليد العاطلة، ولعل أن يكون في نشاط الوافدين إذكاء لهمة الأهالي القاعدين. وانك لتعجب إذا علمت أن المستشفى الذي يريد أن يعالج قوماً نسبة المرض بهم ما رأيت ليس به دواء ولا طبيب! ذلك إن أنوار القاهرة تغري. . وتغني. . وان الحكومة المصرية لم تستطع إلى الآن أن تجند الأطباء - وهم أساة البشرية - تجنيداً دورياً في الممتلكات المصرية التي لها في عنق مصر حق الرعاية. إنه يجب على كل طبيب موظف بحكومة أن يقضي عاماً أو نصف عام في الواحات وما شابهها حتى لا يحرم الناس اليد التي تأسو جراح المصابين.
ورسالة التعليم من أهم ما يرتقي بهذه الواحة الجميلة البائسة. إن هناك مدرسة ابتدائية واحدة بها ثلاثة فصول وثلاثة مدرسين، والصعوبة التي تواجه التعليم هناك هي اللغة، إذ إن للأهالي لغة محلية خاصة غريبة لا تتصل بالعربية من قريب أو بعيد، وهناك مدرسان خاصان بالمدرسة الأولية من أهالي الواحة ويعرفان العربية يتوليان هذه المهمة. . وهي جليلة، إلا انهما يشكوان من معاملة الوزارة لهما لأنهما ليسا من حاملي (الشهادات). . فتعطي أحدهما منذ سبعة عشر عاماً ثلاثة جنيهات في الشهر! ما هكذا يكون التعليم ولا تشجيعه! والذي لاحظته عندما زرت المدرسة هو فصاحة اللسان العربي بعدما يتعلمونه.(977/10)
ولكسل الأهالي ولعدم طموحهم، تقل الجرائم، وان طائرة خاصة تطير بالقاضي مرة كل شهر أو شهرين ليجلس في منصة القضاء ساعة أو ساعتين يفصل فيها بين الناس في قضايا معظمها جنح وغرامات مالية ضئيلة، وعلى ما يكلف القاضي الحكومة من الناحية المالية فإن هذه الزيارات المتباعدة قد تقلل من هيبة المفصل القضائي في نفوس الأهلين. أحد أمرين: أما إن يعين وكيل للنيابة في سيوة يشعر الناس بهيبة القضاء، وأما أن يترك تصريف هذه الجنح والغرامات إلى مأمور القسم وهو رجل عسكري من رجال الجيش، يتصرف فيها محلياً حتى يشعر الناس بسطوة القانون.
ولسيوة، فضلاً عن الناحية الاقتصادية التي يجب أن تستغل وتستثمر، والناحية الاجتماعية التي يجب أن يهتم بها وتستصلح، ناحية ثالثة لا تقل أهمية عن الناحيتين السابقتين: تلك هي الناحية (الاستراتيجية). . فهي بمائها العذب وتمرها الوافر تعد مركزاً عسكرياً تموينياً هاماً للجيوش مدافعة كانت أو مهاجمة، أن قربها من الحدود المصرية الغربية يحتم على المسؤولين أما أن يدربوا رجالها تدريباً عسكرياً حياً، أن يزيدوا حاميتها زيادة تليق بموقعها الهام لا أن تظل على ما هي عليه: ستة عشر جندياً ورئيسهم. ولن أكون كناقل التمر إلى هجر، فإنما يحدثك عن استراتيجيتها رجل عسكري له في الجهاد سابقات، ذلكم هو اللواء محمد صالح حرب باشا، فقد زرنا معه منطقة قريبة من سيوة اسمها (جربه) وقد استحضر الرجل العسكري ذكريات عزيزة كريمة عن المناوشات والمعارك الحربية التي قام بها الثوار الوطنيون في سنة 1914 وكان معه في ثورة الحرية السيد الشريف السنوسي (صاحب الجلالة ملك ليبيا الآن) وكيف إنه لما نفذ ماؤه وزادهم وقلة ناقلاتهم وركائبهم لم ينقذهم إلا الجمال والبلح والماء من واحة سيوة فانتصروا على الإنكليز يومها انتصاراً ستراتيجياً.
وأضننا لا ننسى إنها كانت هدفاً للألمان والطليان في الحرب الأخيرة أثناء زحفهم في الصحراء الغربية. نعم! إن الصحراء الغربية بجفافها واتساعها تعتبر حاجزاً طبيعياً ضد إغارة المغيرين على الوطن العزيز، ولكن هذا لا يكفي مطلقاً فانه يجب أن تحصن حدودنا الغربية تحصيناً كاملاً قوياً، وخاصة وان عدونا يعسكر في (كابتزو) بالقرب من حدودنا في دولة ليبيا الجديدة(977/11)
من هذه تتضح أهمية (واحة سيوة) كمنطقة هامة يحب ألا تنسى أو تهمل، وانه لو صحت العزائم لأمكن أن نستثمر الكثير وان نستصلح الكثير ولعلني أكون قد وفقت ان انقل ما إثارته في نفسي زيارة هذه الواحة التي لاح لي في صفحة جمالها إثارات من الأسى، وفي صفاء سماءها ألوان من السحاب. . وفي عيونها الجميلة، فنون من العتاب!
صبري حسن علوان(977/12)
عمر الخيام بين الحقيقة والأسطورة
للأستاذ السيد احمد مصطفى الخطيب
(بيقة ما نشر في العدد الماضي)
الأسطورة الثالثة
لو قال لنا أحد الذين يؤثرون جانب الجدل العقيم واللجاجة الممقوتة، ما بالكم قد ملأتم الدنيا ضجيجاً بتحدثكم عن الخيام ورباعياته؛ أنى لأتحداكم جميعاً. هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. إنني أنكر أن تكون للخيام رباعية واحدة لا رباعيات تبلغ الألف والمائتين عدداً، وارى كل ما تدعونه في هذا الخصوص ليس إلا محض وهم باطل لا يجاوز نطاق الحدس والتخمين، فالخيام لم يترك وراءه ديواناً بخط يده، ولم يشر إلى شعره في تآليفه العديدة، ولم يمل على أحد من تلامذته ما يسمى اليوم بالرباعيات، كما إن (جهار مقالة) اقدم سفر تاريخيي عثر عليه لمصنفه (نظامي عروضي سمر قندي) تلميذ الخيام المخلص لم يذكر ولا كلمة واحدة عن رباعيات أستاذه، برغم إنه زار قبره بعد وفاته ببضع سنوات فقط، وذكر أموراً في مؤلفه أقل أهمية وأضل شاناً بكثير من الرباعيات. .
إن جميع ما يدعى ويقال بهذا الصدد إن هو إلا أسطورة جيله وتفكير شعره بديع نسجها الوهم وزينها الخيال، فمنزلتها منزلة غيرها من الأساطير المصطنعة التي لم تقم لها قائمة إلا بعد إن مرت على موت الشاعر عدة قرون.
أجل! ماذا يكون جوابنا أن جابهنا هذا الجلي اللجوج يمثل هذا المنطق الساخر العابث، ثم ألح علينا في عناد وإصرار أن تثبت له إثباتاً لا يتطرق إليه أي شك ان للخيام رباعيات حقيقية ترضى عن نسبتها إليه أساليب التحقيق العلمي الدقيق في عصرنا الحديث هذا. .
في الحق إننا عاجزون تمام العجز عن أن نكيل لهذا المكابر الخبيث الصاع صاعين وعن توفيته حقه الكيل كيلين، وان نسخر منه بنفس الطريقة التي سخر بها هو منا، وان كنا نملك في الوقت نفسه ادله وبراهين لا تقبل الدحض، ونستطيع بعرضنا إياها عليه أن تجعله يخفف من غلوائه ويقلل من خيلائه ويرتد شيئاً فشيئاً إلى هدوء العقل واتزانه. .
فالثابت المؤكد حتى الآن - كما يدعي صاحبنا الجدلي - إن الخيام أهمل في حياته أن(977/13)
يكتب سيرة نفسه بقلمه، أو إنه كتبها ولم تصل إلينا لامتداد يد الضياع اليها، أو إنها لم تضع ولكنها في جهة مجهولة لم تتناولها يد المحققين بعد، غير إنه ثابت ثبوتاً قاطعاً أيضا إن الخيام لم يكتب في الفارسية من الشعر سوى الرباعيات وحدها؛ أما هل جمع كل ما كتبه من هذه الرباعيات وضمنها بين دفتي كتاب خاص بنفسه، أو أملاها على أحد من طلابه؛ فذلك ما نحن منه في ظلام دامس حتى الآن، وأظن إن الأمر سيبقى كذلك إلى الأبد إلا إذا عثر على دليل مادي يقلب المسألة رأساً على عقب ويغير مجرى البحث تغييراً تاماً في يوم من الأيام. .
إن اقدم نسخة للرباعيات بين أيدينا اليوم وهي الموسومة بـ (رسالة الرباعيات) يرجع تاريخ كتابها إلى نحو ثلاثمائة عام تقريباً بعد موت الشاعر، وقد عثر عليها في مكتبة بولدين باكسفورد وتسمى بنسخة السر أوسلي، وهي نسخة منقولة عن غيرها من النسخ وليست أصلاً. أما من هو النساخ الذي نقلها؟ وعن آية نسخة نقلها؟ وهل أن الرباعيات الواردة فيها والبالغ عددها 158 رباعية؛ كلها للخيام ذاته أم أن هناك بنها الدخيلات؟ والمنحولات؟ ثم كم عدد أولئك في حالة افتراضنا اندساسها بين الرباعيات الأصيلة. . كل هذه أسئلة وعلامات تدور في أذهان الباحثين والمدققين منذ أن عرف الغرب شاعر الشرق ولكن بدون جدوى، وبغير أن يعثر لها على جواب شاف يقطع الشك باليقين والحيرة بالاطمئنان. .
على إننا رغم كل هذا يجب أن نعلم في الوقت نفسه إن المعلومات السلبية الآنفة الذكر تمليها علينا طبيعة المنطق المجرد فحسب، وان ثمة أموراً كثيرة نعلمها عن حياة هذا الشاعر وشخصيته وأخلاقه وبيئته وآثاره ومؤلفاته، كما أن هناك مؤلفين معروفين، وعلماء مشهورين، وفقهاء ومتصوفين ذائعي الصيت مرموقي المقام تنالوا عدد غير قليل من رباعيات الخيام في كتبهم ومصنفاتهم وهم معاصروه بالتعليقات المتنوعة، وناقشوها مناقشة فيها اللين والهوادة تارة، والعنف والقسوة تارة أخرى، فإذا جاز لنا أن نشكك في صحة إسناد كل الرباعيات المتداولة إلى الخيام فانه لا يجوز لنا إطلاقا أن نتشكك في صحة نسبة بعضها إليه على الأقل. . ذلك البعض الذي يمثل آراء وأخلاق وشخصية وظروف بيئة الخيام التي نعرفه والتي يمكن اعتبارها في عداد الحقائق التاريخية التي لا تقبل أي جدل(977/14)
أو نقاش.
أذن يظهر أن الألف والمائتين رباعية التي تطارد الخيام اليوم هنا وهناك في الشرق والغرب وتثير حوله طوفاناً من الضجيج والصخب، وتجمع له الأنصار والاصدقاء، وتؤلب عليه الأعداء والناقمين؛ ليست سوى أسطورة ضخمة كغيرها من الاساطير، تقابلها حقيقة متواضعة تتمثل في عدد متواضع من الرباعيات معترف بها اعترافاً كاملاً ويبلغ الأربع والثمانين رباعية فقط، وذلك استناداً إلى اصدق واحدث البحوث العلمية في هذا الشأن حتى يومنا هذا. .
الأسطورة الرابعة
لم نسمع أن شاعراً أوذي في سمعته بعد موته كما أوذي الخيام أو أصابه من الاتهامات الكاذبة والافتراءات المدبرة ما أصاب هذا العبقري العظيم والأديب الفحل والنابغة الأوحد.
ولو سألنا أي واحد من هؤلاء الذين سمعوا عن الخيام ولم يحققوا، وقرءوا عنه ولم يتتبعوا، لن يصف لنا شاعر الرباعيات كما يتصوره أو كما يصوره له الوهم بالاحرى، لما تعدى تطاق وصفه إياه عن أن الخيام كان شاعراً عابثاً لاهياً، خليعاً فاجراً، يقضي وقته متنقلاً من حانة إلى أخرى، نديمه الكأس ليل نهار، لا يفيق من سكرة إلا ليستسلم إلى أخرى؛ ثم على ذلك هو ملحد جاحد أيعلن حرباً شعواء على الأديان كلها، وهاجم المتعبدين والزهاد، ورسالته في الحياة: لا نفارق الخمرة حتى نموت.
هذه هي الصورة الشوهاء المزيفة التي يتخيلها عدد كبير من الناس ويرسمونها على أنها صورة حقيقة للخيام.
لقد كان الخيام قبل كل شيء فيلسوفاً نزيهاً وأديباً عفيفاً، يزينه الوقار ويسم به جلال العلم على أقرانه من اهل زمانه. . وكان إلى ذلك ذكي الفؤاد متوقد القريحة، صاحب رأي؛ يجهر بالحق ويحارب الشعوذة أينما وجدت. . فلهذا جاهره بالخصومة فريق من دعاة الصوفية في زمانه، كانوا يتخذون الدين وسيلة لا غاية، فأطلقوا ألسنتهم عليه ودأبوا على نشر كل باطل عنه وإلصاق كل تهمة كاذبة به حتى لقد رموه بالكفر والإلحاد أيضاً، وكل ذلك كان يكشف عن ريائهم ونفاقهم، ويعان عن جهلهم وتعصبهم دون خوف ولا حذر.
قال عنه شمس الدين محمد بن محمود الشهرزوري في كتابه الموسوم ب (نزهة الأرواح(977/15)
وروضة الأرواح في تواريخ الحكماء المتقدمين والمتأخرين) الذي ألفه في القرن السادس الهجري ما يلي بحروفه:
(كان الخيام عالماً بالفقه واللغة والتواريخ. . دخل ذات يوم على الوزير عبد الرازق وكان عنده أمام القراء أبو الحسن الغزالي وكانا يتكلمان في اختلاف القراء في آية. . فقال الوزير: على الخبير سقطنا. ثم سأل الخيام فذكر اختلاف القراء وعلل كل واحد منها وذكر الشواذ وعللها وفضل وجهاً واحداً. فقال الغزالي: كثر الله أمثالك في العلماء فإني ما ظننت أن أحداً يحفظ ذلك من القراء فضلاً عن واحد من الحكماء.
ودخل عليه حجة الإسلام الغزالي يوماً وسأله مسألة فلكية فأطال عمر الخيام الإيضاح حتى أذن الظهر. . انتهى كلام الشهرزوري).
ومن بين مصنفات الخيام العديدة كتابه (رسالة في الجبر والمقالة) كتبها في اللغة العربية وترجمت إلى الفرنسية وطبعت في باريس 1851.
2 - كان الخيام ينزل في المرتبة الأولى من اهل زمانه، يتسابق إلى خطب وده الوزراء؛ وكان الملك سينجر يجلسه على العرش بجانبه توقيراً له، وكان متعبداً زاهداً منصرفاً إلى العلوم والتدريس، نافضاً يده من الأمور الدنيوية التي تتكالب عليها الأطماع وتصطرع دونها الأحقاد، وكان يلقب بحجة الحق الإمام عمر.
3 - لم يثبت إطلاقا وعلى أي وجه أن الخيام قد ذاق الخمرة طوال حياته ولو مرة واحدة.
4 - كان الخيام طبيباً بارعاً معروفاً له المحل الأول بين أطباء عصره المشهورين.
5 - كان مدرساً جليل القدر في نيسابور التي أنجبت عدداً كبيراً من عظماء الإسلام في العلم والأدب.
6 - كان يكتب رباعياته من حين إلى اخرفي مجالس سمره وحديثه بين خاصته، وكانت هذه الرباعيات تنتقل من يد إلى يد كباقة من الزهر تفوح بالعطر وتعبق بالشذا، فيدونها هذا وذاك من أصدقائه وتلامذته كتذكار أو كهدية نادرة من العالم الاكبر، في حواشي كتبهم وفي بطون كراريسهم.
7 - كان وصف الخمرة والإغراق في التغني بمزاياها (عادة) ذلك العصر بالنسبة للأدباء الفرس كما كان التغني ب (ليلى) و (ديار ليلى) التقليد العصري السائد في العهد الأموي(977/16)
بالنسبة للشعراء العرب.
وكفى الخيام دليلاً على علو منزلته وسامي مقامه، وجليل قدره هذه الأبيات التي وجهها إليه في مستهل إحدى رسائله الإمام أبو النصر ممد بن عبد الرحيم النسوي قاضي الديار الفارسية آنذاك وتلميذ الشيخ الرئيس أبى علي ابن سينا.
قال الإمام أبو نصر:
إن كنت ترعين يا ريح الصبا ذميي ... فأقرئ السلام على العلامة الخيمي
بوسي لديه تراب الأرض خاضعة ... خضوع من يجتدي جدوى من الحكم
فهو الحكيم الذي تسقى سحائبه ... ماء الحياة رفات الأعظم الرمم
هذا هو الخيام الحقيقي لا الأسطوري، الخيام المجرد عن تزاويق الباطل وبهارجه، العاري من ثوب البهتان وأصباغه.
نماذج من شعر الخيام
ليس شعر الخيام كله مقصوراً على الرباعيات وحدها، بل الثابت إنه كان يقرض الشعر في اللغة العربية أيضاً، وله في هذا المجال أبيات فريدة وصلت إلينا تدل على علو كتبه، وسعة إطلاعه ورسوخ قدمه في العربية وفنون بلاغتها، حتى ليستحق أن يعد بحق قرناً لأعظم الشعراء العرب في جميع العصور.
فلنستمع إليه الآن في هذه القطعة التي نظمها في الفخر على طريقة أبي العلا المعري في قصيدته المشهورة (ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل).
قال الخيام:
إذا قنعت نفسي بميسور بلغة ... يحصلها بالكد كفي وساعدي
أمنت تصاريف الحوادث كلها ... فكن يا زماني موعدي أو مواعدي
ولي فوق هام النيرين منازل ... وفوق مناط الفرقدين مصاعدي
أليس قضي الأفلاك في دورها بأن ... تعيد إلى نحس جميع المساعد
متى ما دنت دنياك كانت مصيبة ... فوا عجباً من ذا القريب المباعد
إذا كان محصول الحياة منية ... فسيان حالا كل ساع وقاعد
ويقول في قطعة أخرى:(977/17)
سبقت العالمين إلى المعالي ... بصائب فكرة وعلو همه
فلاح بحكمتي نور الهدى في ... ليال في الضلالة مدلهمه
يريد الجاحدون ليطفئوها ... ويأبى الله إلا أن يتمه
نكتفي بهذا القدر الآن من شعره العربي وننقل إلى رباعياته نفسها لنضع أمامك بعضاً منها تمثل الخيام أصدق تمثيل كما نعتقد في تفكيره وآرائه، وتعبر أدق تعبير عن نظراته التي كان ينظر بها إلى الحياة.
فها هو ذا الآن يتحسر على فوات الشباب وذهاب ربيع العمر في رباعيته هي الدرة اللامعة والجوهرة الثمينة في تاج الرباعيات الخيامية:
أفسوس كه نامه: جواني طي شد ... وبن تازة بهار شادماني طي شد
أن مرغ طرب كه نام أو بود شباب ... فرياد ندانم كه كي أمد كي شد
الترجمة للمازني عن الإنكليزية:
طوت يد الأقدار سفر الشباب ... وصوحت تلك الغصون الرطاب
وقد شدا طير الصبا وأختفي ... متى أتى؟ يا لهفي! أين غاب؟
وهنا نراه يطالب الباري وتعالى بحقه في دخول الجنة:
من بنده عاصم رضاي تو كجاست ... قاريك دلم نور صفاي تو كجاست
مارا توبهشت أكرا بطاءت بخشي ... آن بيع بود لطف عطاي تو كجاست
الترجمة للزهاوي عن الفارسية:
أنا عاص فأين منك الرضاء ... أنا داج فأين منك الضياء
إنما وقفك الجنان على الطاعة ... بيع فأين منك العطاء
وهنا يقف حائراً مشدوهاً أمام لغز الحياة وأسرارها السرمدية:
قومي متفكر ند در مذهب دين ... جمعي متحيرند درشك يقين
ناكآه منادى درآيد زكمين ... كي بيخبرمه داه نه آنت نه أين
الترجمة للزهاوي:
فئة في اليقين والشك هاموا ... وفريق بالدين راموا لواذاً
وإذا صائح يقول مشيراً ... ليس ذاكم هو الطريق ولاذا(977/18)
الترجمة للبستاني عن الفرنسية والإنكليزية:
وهنا تقلقه فكرة العذاب في يوم القيامة فيقول:
حين يا رب كنت تجبل طين ... عالماً كنت أنت علم اليقين
كل امرئ وكنه سري الدفين
كل ما جئته فمنك بحكم ... منك روحي ومنك لحمي وعظمي
فلماذا يوم القيامة في النار ... أعاني الآلام والأهوال
وهنا تتمثل ثورته على الظلم واحتقاره للمادة:
وأجبني ووافني لاعتزال ... وابتعاد عن محض قيل وقال
رب قفر من المظالم خال ... ليس فيه عبد ولا سلطان
هو عندي المكان نعم المكان
رب كهف تأويه نفس أبي ... فاق قصراً طالت ذراه السحابا
وهنا: نحن من التراب والى التراب:
وتغور الأزهار يا ذا الحبيب ... من ثغور سناؤها محجوب
لك قلب وفي الأديم قلوب
ضجة اللطف فوق هذا النبات ... فهو نام من أكبد النائمات
في مهود فيها السبات عميق ... لا مفيق منه بها أهابا
وهنا يخاطب جاره الخزاف:
أمس أبصرت جارنا الخزافا ... يجبل الطين كيف شاء أعتسافا
ويكيل المقدار منه جزافا
وكأني أسمعت بين يديه ... صوت ذات مظلومة تشتكيه
آه رفقا فأنت طين وماء ... أيها المرء لا تسمني العذابا
وهنا يودع الحياة بقلب دام ونفس تذوب حسرات:
يا نديمي قد آن موت النديم
فاذكرني ذكرى الصديق القديم
وابكيني بدمع بنت الكروم(977/19)
وبكأس الرحيق قف فوق قبري ... وأسكب الخمر فوق عشب وزهر
فرقاني إذ ذاك زهر وعشب ... وأنا الشيء كان كوناً وحالا
وأخيراً تراه لربه ويستغفر ويقول:
رب رحماك ما كسبت ثوابا ... لا ولا كنت مستحقاً عقابا
إنما قلت ما رأيت صوابا ... لم أعد في ديني الربابا
وكفاني التوحيد ذخراً فإني ... لم أعدد في ديني الأرباب
السيد أحمد مصطفى الخطيب(977/20)
2 - الحسن البصري
رئيس المدرسة الفلسفية الأولى في الإسلام
للأستاذ حسين علي الداقوقي
تصوفه
عرك الحسن البصري أزمات فكرية متعددة، فيقول عنه الأستاذ حلمي ضياء (إنه وافق القدريين، فغدا مثلهم قدرياً ورأى حرية الإرادة والاختيار، ثم عدل عن هؤلاء بعد نقاش وجدل طويلين، وشرع يتبع عبد الله بن عمر ويقفو أثره معارضاً الجبرية والقدرية معاً، فتكونت له شخصية متميزة خاصة به فأوجد مذهباً وسطاً بين المذهبين وسطاً ذلك هو مذهب الحرية الصوفية) إلا أن هذا الرأي ينبغي إلا يجرنا إلى القول بأنه لما عدل عن زمن القدريين معناه ترك مذهب الاختيار، لنه في الواقع ظل ينزع إلى المذهب نفسه ويفصح عنه بمناسبات عديدة، وذلك مما دعا المعتزلة أن يعتبروه منهم.
لم يبق من آثار الحسن البصري غير نصوص متفرقة في طيات الكتب، ورسائل تحملها كتب الاخرين، مع العلم إن مواعظه العامة كانت قد جمعها طلابه أيام حياته، ونشرت بعد وفاته من قبل حميد الطويل، وهو الأثر الذي تطرق إلى ذكره الجاحظ في عهده. كما نشرت من آثاره تعليقاته حول القرآن، ورتبت من قبل عمرو بن عبيد المعتزلي بشكل تفسير وان محاضراته المتعلقة بالأسس الأخلاقية في القرآن جمعت باسم (مسائل) جمعها صاحبه الأشعث الحمراني. أما محاضراته غير المدونة فقد رواها تلاميذه على شكل (روايات) تروى عنه.
كان الحسن ورعاً تقياً يعده الصوفية من أقطابهم ويتمثلون بحكمه وجمله، وإذا حللنا التصوف الإسلامي إلى عناصره التي تكون منها وجدنا الحسن خير مثال لعنصر الزهد والتقوى بصفتهما الإسلامية، كذلك إن جاز لنا أن نقول إن الصوفية الإسلامية اتخذت لها مدارس مختلفة في البلاد الإسلامية المختلفة كالبصرة وبغداد وخراسان وتركستان، فأصبح الحسن البصري دعامة مدرسة البصرة وداعية الزهد والتقوى فيها.
يقول ابن تيمية بصدد البحث عن نسبة الصوفية:(977/21)
(وقيل وهو المعروف، انه نسبة إلى لبس الصوف. فانه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنا دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن. وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر الأمصار، ولهذا كان يقال فقه كوفي وعبادة بصرية) (وإذا عرف إن منشأ التصوف كان من البصرة وإنه كان فيها من يسلك من طريق العبادة والزهد ما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ما له فيه اجتهاد، فهؤلاء نسبوا إلى اللبس الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيداً بلباس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ولكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال).
وللمستشرق المشهور دوزي رأي آخر حول نشأت الصوفية وعلاقة الحسن البصري بها. فيقول (كانت في البصرة امرأة زاهدة ورعة تقية تسمى (رابعة)، وهي التي اعتاد حجاج العصور الوسطى زيارة قبرها الكائن على رابية تشارف القدس، فكانت على رأي الصوفية الأوائل، تعتريها حالات الوجد والشعور الإشراقي، وكانت أعلى مقاماً من الحسن البصري. ولو جاز لنا الشك في اعتبار الحسن البصري من اهل السنة، لا ينكر إنه كان يجوز نقطة بدء التي عند المتصوفة. ففي الوقت الذي يعتبر الحسن البصري الشعور بالخوف جوهر التقوى، يرى الصوفية عكس ذلك، فيبدءون من نقطة المحبة ويخاصمون الذين يتخذون الخوف مسنداً لهم. وقد حدث أن سئل أحد الصوفية (من الذي يجب أن يعتبر لئيماً؟) فأجاب (الشخص الذي يتعبد خوفاً من العقاب ورجاء للثواب) فسئل (لماذا تعبد أنت؟) فقال (للمحبة فحسب).
بيد أن الظاهر - ولعله الحقيقة - يدل على إن التصوف الإسلامي أيام الحسن كان متمثلاً في الزهد والتقوى فقط، وهما العنصران الأساسيان في التصوف، أو بالأحرى هما الأساس له، إذا لم تكن العناصر الأخرى كالأفلاطونية الحديثة وغيرها قد دخلت فيه بعد. فالتصوف في هذا العهد كان في بداية نشأته وأوائل تأسيسه بشكل بسيط غير مشوب بالشوائب الأخرى التي اختلطت به فيما بعد. أما فيما يتعلق برابعة العدوية فلا يزال الشك يحوم حول صحة نسبة جميع الأقوال والأبيات الشعرية المنسوبة اليها فإن هذه الأقوال بحد ذاتها من حيث مبناها ومعناها تثير ريبة كل باحث ملم بثقافة ذلك العصر.(977/22)
إن هذا الرأي هو الآخر ليتضح للقارئ الكريم بكل جلاء في استعرضنا وتحليلنا مبادئ الحسن البصري الصوفية، في الفقرات التالية:
إن نقطة البداية عند الحسن في هذا الباب هي استصغار هذه الدنيا الفانية الزائلة التي استصغرها الله ورسوله. وتجد في رسالته التي بعثها إلى عمرو بن عبد العزيز يقول: (أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل) وكذلك يرى أن الله كلف المنزوين (أهل الانقطاع) أن تنتهجوا ثلاثة مسالك: الامل، والاجل، والسحر. ومعنى ذلك أن يكونوا في حالة الأمل، وأن يدور في خلدهم الأجل في كل آن، وان يقضوا السحر أو الليل بالفكر، يلك الخصال الحميدة التي تميزهم عن سواهم من الناس الذين يضيعون آمالهم، ويعتقدون بالأجل عند موافاة المنية لهم، والليالي التي يقتضي قضاءها بالتفكير فهم يقضونها من غير تفكير. إن قاعدة الحياة عند الحسن البصري ليست بمجرد الحمية والتجنب، ولا بمجرد الورع والتقوى والابتعاد عن المنكرات الحقوقية وما شاكلها، إنما هي قبل كل شيء عبارة عن الزهد والخشوع لله، والتفرد التام عن كل العالم، وعن كل ما هو فان، وهذا معناه أن يكون الإنسان تجاه نفسه في حالة حزن دائم. ويروى إنه لم يضحك، وكان في حزنه كما قال يونس بن عبيد الله الحسن: كان إذا اقبل كأنما أقبل من دفن حميمة، وإذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه. كان إذا ذكرت النار عنده فكأنها لم تخلق إلا له.
ومن أقواله التي يستشف منها اتجاهه في تصوفه: قال: إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون. ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون. قال عيسى بن عمر: سمعنا الحسن يقول: اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة، واعصوها فأنكم إن أطعتموها تنزح بكم إلى شر غاية، وحادثوها بالذكر فإنها سريعة الدثور.
وكان يقول: ذهبت المعارف فبقيت المناكر ومن بقى من المسلمين فهو مغموم ويقول: ما من وسواس نبذ فهو إبليس، وما كان فيه إلحاح فهو من النفس. فيستعان عليه بالصوم والصلاة والرياضة، وإذا أراد الله بعبد خيراً في الدنيا لم يشغله بعيد ولا ولد. . . ومن لبس الصوف تواضعاً لله عز وجل زاده نوراً في بصره وقلبه.
إن أساس الدين عند الحسن هو التقوى والحزن، ويليهما في ذلك الخوف. وقد لعبت فكرة الخوف دوراً هاماً في تصوف الحسن، فهي التي تيسر الفناء إزاء المطلق، والذوبان فيه،(977/23)
ولا شيء يطهر الإيمان كما يطهره الخوف. وقد ذكر في سياق رسالته إلى عمر عبد العزيز: أدمن الجوع، وشعاري الخوف. ولباسي الصوف، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلابتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما انبت الأرض للسباع والأنعام.
وكان يردد ما مفهومه: إن الخوف والرجاء دعامتان يستند إليهما المؤمن على ان يكون الخوف عنده أقوى من الرجاء، لان الرجاء عندما يغلب الخوف يفضي إلى إفساد القلب، وبواسطة الخوف ذاته يستطيع أن نتبين عجز المتناهي، والفناء في داخل اللامتناهي. ذلك أن الشعور بالعجز يكشف بتضاد جدلي (ديالكتيكي) عن ماهية القدرة، وبهذه الطريقة نفسها يمكن الإصغاء إلى كلام الله، وهذا هو ما يدعى بـ (الاستماع) وبعد ما يمر الإنسان بهذه الحالات الروحية يفهم القرآن. ومن هذه الناحية يكون الحسن البصري واضع أساس علم النفس الصوفي أي (علم القلوب). ومن ثم يدخل في تحليل الحالات الداخلية للإنسان، وان التعاريف التي أوردها بصدد محاسبة الطوية والضمير كأنها قد أعدت مفاهيم الحارث المحاسبي في هذا المجال. وقد دعا الإنسان إلى ان يوجه نظراته إلى داخل نفسه، ويتأمل، لأن التأمل هو مرآة تتجلى فيها للمرء ما في الإنسان من محاسن ومساوئ، وهو يسيطر على نفسه بالتأمل، وإن سعة روحه هي سعة تأمله - وهي عبارات يتذكرها الإنسان عندما يلاحظ علم النفس عند.
إن آثار هذه المواعظ لم تبق مقصورة على النطاق الأخلاقي والأدبي فحسب، إنما عملت على توسيع المفهوم الإسلامي والفلسفة في وقت واحد. فأصبحت شخصية الإنسان لا تفهم كمجرد شيء قائم على الأعضاء والملكات الروحية فقط - أي إن شخصية الإنسان تبعاً لهذا المفهوم ليست من اثر التركيب وحده، بل إنها تظهر قلباً كلياً نامياً متطوراً، وهذه هي بداية المذهب الروحي الإسلامي الذي توسع فيما بعد على أيدي المتصوفة الروحيين.
تطرق الحسن البصري إلى مسألة خلق الأفعال البشرية، ورأى إن الله فوض للإنسان أفعاله الحرة، وهذا يعني إن اللهو هب الإنسان الفيض والاستعداد لاستطاعته القيام بهذه الأفعال، وهذا هو منشأ مذهب الاتفاقية بينما يرى المعتزلة مقابل ذلك نظرية التولد، أي انهم يأخذون بالنظرية القائلة: ان الله يوجد الأفعال في الإنسان، ولكنه يوجد كل فعل على حده. لذلك كانت نظرية الحسن مغايرة لمفهوم الإرادة الجزئية عند المعتزلة، وهي في الوقت(977/24)
نفسه مغايرة للمذهب الجبري عند الجبريين، فنظرية الحسن والحالة هذه تقول بالحرية على أن تكون مرتبطة بيقين إلهي.
وختاماً لتصوف الحسن البصري ينبغي إلا يغرب عن البال إن أول اتصال بين الصوفية ونظام الفتوة تم في دائرة الحسن البصري؛ حيث كان الحسن نفسه يعرف بـ (الفتى) أحياناً وب (سيد الفتيان) أحياناً أخرى.
ثقافته العامة ومكانته الاجتماعية
كان الحسن أستاذ أهل البصرة، وبدرهم الطالع، يقول عنه ابن سعد: كان الحسن (جامعاً عالياً رفيعاً فقيهاً ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم، فصيحاً جميلاً وسيماً) قال ثابت ين قرة الصابئي (ما أحسد هذا الأمة العربية إلا على ثلاث أنفس: عمر بن الخطاب في سياسته، والحسن البصري في علمه، والجاحظ في فصاحته وبيانه. ويروى عن الربيع ابن أنس بأنه اختلف إلى الحسن عشر سنين أو ما شاء الله ما من يوم إلا يسمع منه ما لم يسمعه قبله.
لم يكن الحسن مختصاً بعلم من العلوم أو بفن من الفنون؛ إنما كان متضلعاً بثقافة عصره، تطرق إلى المعارف المختلفة التي أذنت بالازدهار في محيط الإسلام. فقد وجه تعاليمه إلى عقول سامية لا إلى خيالهم، وبذلك أسس في الإسلام طريقة للتفكير تتعلق مباشرة بأوليات الفلسفة بحيث يمكننا أن نقول إن أول مدرسة فلسفية نشأت في الإسلام كانت في البصرة برئاسة الحسن البصري. كذلك كانت مواعظه رائعة تعمل في تكوين العقيدة وعلم أصول الدين واللاهوت. ويذكر له ابن النديم مصنفاً في التفسير، وله أيضاً كتابات في الشروح القرآنية، وقراءاته القرآنية مشهورة. وله مكانته في تطور النحو وعلم الكلام وخاصة في الفقه. فقد دعا إلى التفقه بالدين، بقي له مصنف، لعله كان في الفقه باسم (الإخلاص) ورد ذكره في أخبار الحلاج المفكر الصوفي المشهور، ولا نكون مغالين إذا قلنا ان له فضلاً عظيماً في تقدم الفقه الإسلامي وتوسيع طاقته، فقد سئل انس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، وذكر عنه قتادة وقال: ما جالست فقيهاً إلا ورأيت فضل الحسن عليه، وقال أيضاً ما رأيت عيناي افقه من الحسن، وقال بكر بن عبد الله: الحسن افقه من رأينا ومناقبه كثيرة ومشهورة. ودرج أبو اسحق الشيرازي في طبقات الفقهاء عدداً يسيراً من(977/25)
تراجم أصحاب الحسن وطلابه الفقهاء. فلا عجب والحالة هذه إذا ما وصفه المستشرق المعروف براون في بحثه عن نشأت الاعتزال بالفقيه المشهور. أما في مجال البيان فكان يشبه برؤبة بن الحجاج، فقد كان الحسن حقاً أحد فضلاء الإسلام وبلغائه، وكان طلقاً لبقاً، يحذق الحديث وفن الخطاب، حسن البديهية والارتجال. وقيل للحجاج من اخطب الناس قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة يعني الحسن وقال الغزالي: كان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء وأقربهم هدياً من الصحابة. وكان قصاصاً يعد من افضل القصاص واصدقهم، يستخرج العظة مما يقع حوله من حوادث، يجلس في آخر المسجد وحوله حلقته، حيث كان نظام التدريس العالي آنذاك يجري على شكل حلقات المحاضرة والمناظرة.
لم يسلم الحسن البصري - كما مر بنا - من انتقادات وجهت إليه في أيام حياته، فقد تهجم عليه الشيعة الإماميون والخوارج لأنه وقف على الحياد من موقعة صفين، إلا إنه مع ذلك ظل يعتبر بين الناس رئيس الصوفية الكلاسيكية، ومربياً لعدد من المعتزلة الميالين إلى التصوف، كما تبعه بعض المحدثين من اهل السنة، وانتهت كل الحملات عليه بموته، وأثنى عليه الشيعة في بعض الأحيان وذكروا وآثره ومن ثم لا نستغرب من رواية ابن خلكان بان اهل البصرة كلهم تبعوا جنازته بحيث لم يبق في المسجد من يصلي صلاة العصر. وكانت وفاته 110هـ ودفن في البصرة القديمة، وقبره الآن بجانب قبر ابن سيرين مزار لمختلف الفرق الإسلامية.
حسين علي الداقوقي(977/26)
بعد عشرين قرناً
حضارة عربية تنكشف عنها الرمال
للأستاذ وندل فيلبس
رئيس البعثة الأثرية الأمريكية
كان الأمر على جانب من الخطورة، فالعربي في جنوب الجزيرة لا يتردد عن قتل من يسوق سيارة من سيارات النقل، إذا تصور أن تلك السيارة ستنتزع منه ومن بعيره رزقهما من نقل البضائع. لقد حذرونا قبل السفر بان يكون يقظين لأولئك الذين قد يتربصون لنا خلف الصخور.
إن اكتشاف الزيت في شمال الجزيرة العربية قد أزاح الإبل عن العمل في نقل البضائع إزاحة تامة. وهي بالنسبة لأصحاب الإبل نكبة اقتصادية فادحة. فليس في وسع القسم الأكبر من عرب جنوب الجزيرة شراء سيارات لنقل البضائع نظراً لفداحة اثمانها، دع عنك تكاليف صيانتها وحفظها، فالسيارات لا تستطيع العيش كما تعيش الإبل على الكلأ والأشواك، والسير يوماً بعد يوم من غير ماء. ولا أن تغدو طعاماً ووبراً للحياكة عندما ينتهي أمرها كحيوانات للنقل. ولذلك فإن النظام الجديد في عدن لا يستفيد منه سوى المقتدرين. أما أصحاب الإبل الذين لم يتأثروا بعد تأثراً يذكر بمزاحمة السيارات لهم فما زالوا مستعدين للكفاح في سبيل البقاء.
ولكن الخطر الأكبر في طريقنا كامن في الخلاف بين اليمن والإنكليز على الحدود، فقد جائني كتاب من المصادر اليمنية الرسمية قبل حين جاء فيه:
(يجب الالتفات إلى أن حوادث (العنف) التي تقع في المناطق الجنوبية من اليمن، قد أثارت الأهالي في تلك الناحية. بحيث قد يصبح السفر خطراً في بعض الأجزاء النائية منها).
وسرنا من عدن التي جئتها من لندن طائراً خلف سفينتنا، نغذ السير بمحاذاة ساحل حضر موت في القدم تبدو - كشأن الغجريات - جميلة على البعد. أما وقد اقتربنا منها، فإن الأبنية التي كانت تشرق في أشعة الشمس على حافة البحر الأزرق من بعيد، أخذت تبدو لنا الآن قائمة على القرب، والأبخرة العفنة المتصاعدة من أرجاء المدينة تزحم هواء البحر(977/27)
النقي برواحها الكريهة.
وانساب نحونا، في كسل، بعض السفن العربية الهبيطة تدفعها مجاديف نوتينها من العرب. فابتدأت من تلك الساعة همتنا الشاقة في الاحتفاظ بسياراتنا على ظهرها حتى نصل بها إلى الساحل. إن ثبات هذه السفن الشراعية على وجه الماء كثبات الزوارق المصنوعة من لحاء الشجر، حتى لقد كدنا نفقد إحدى سياراتنا، فقد اندفعت على حين غرة من جانب السفينة إلى الجانب الآخر فقطعت الأمراس التي كانت تشدها، وبدأت تميل بالسفينة لو لم يتداركها أحدهم بحبل ثم رفعناها بالآلة الرافعة. وكانت الحواجز التي تحتم على ذلك النهار إزالتها من الطريق في الجمرك ابلغ خطراً. فقد كانت السلطات العدنية تدرس مشروعاً لشق الطرق في البلاد، فطلبوا منا المساهمة في تمويل المشروع لقاء السماح لنا بالدخول.
قلت موجها حديثي لجيهان خان الهندي، سكرتير المالية لحكومة المكلا: (لا بأس! فكم تريدون؟)
فأجاب بلغة إنكليزية فصيحة: (أعتقد أن 16 , 200 جنيهاً إنجليزية كافية).
فنظرت إلى رفيقي شارلس انجي وقلت: (معنى ذلك 50 , 000 دولار أمريكي إننا لا نملك هذا المبلغ، فما يريد أن يفعل به؟ أيريد أن يوفد بعثة أخرى من قبله بذلك المبلغ كله؟)
فضحك انجي، وتوصلنا بعد سيوعات إلى حل مرض، فإن حكومة المكلا يرضيها أن نقدم لها هراسة بخارية أو ممهدة للطرق. ومع ذلك فلم يكن لدى أي واحد منها في ذلك الحين. فقنع جيهان خان بتعهد كتابي مني. ويسعدني القول إنني استطعت تحقيق ما جاء في هذا الفصل بفضل هذا التعهد. ثم تشرفنا بعد الظهر من ذلك اليوم، وكان يوم الاحد، بزيارة صاحب السمو السر صالح صالح بن غالب القعيطي. سلطان الشحر والمكلا، وأكبر زعماء الجانب الشرقي من المحمية، فدعانا للعشاء على مائدته تلك الليلة. ولن أنسى ما حييت، وقوفي إلى جانب سموه اقدم له أفراد البعثة. إن السلطان شديد الاهتمام بالأمور المالية، وه يتكلم الإنكليزية ويؤلف في الفلسفة، والعلم، والدين، ويحب الأدوات الحديثة، وقد جهز قصره بالنور الفلوريسيني. وبمسجل للأصوات. ولما كنت جالساً بجانب سموه على مائدة الطعام، كان سؤاله الأول موجهاً إلي، وقد نزل على رأسي، فقد أراد أن يعرف، من بين(977/28)
الأشياء جميعها، الثقل النوعي لأحدث معدن تصنع منه الطائرات النفاثة، فهتفت: (بترى) محيلاً عليه السؤال، فهو وحده من بيننا على علم بمثل بهذه الأمور.
وابتدأنا بالسفر غداة يوم الاثنين 20 فبراير مبكرين، وعند الظهر اندفعت قافلتنا من بوابة المدينة وبدأت تتسلق المرتفعات متغلغلة في داخل البلاد.
كان طريقنا يتجه نحو الشمال إلى وادي حضر موت فوق سلسة من النجود العالية تسمى (الجول) ومن هناك نسير محاذين لطرف الصحراء الجنوبي حتى رملة الصباطين ثم نتجه غرباً حتى نصل إلى الطرف الجنوبي من وادي بيحان.
مدن تحت رمال الصحراء
إن رملة الصباطين بحر مثلث مترامي الأطراف من الرمال الصريحة، وترعرعت على سواحله الصخرية يوماً ما، ثلاث من ممالك جنوب الجزيرة العربية الأربع - معين في الشمال، وحضر موت في الشرق، وسبأ وقطبان من الجنوب. وقد قامت مدينة مأرب عاصمة سبأ في الزاوية الشمالية الغربية من هذه الأرض التي ليس لأحد سلطان عليها، كما قامت (تمنا) في الزاوية الجنوبية الغربية منها. وكلتا المدينتين الآن تحت الرمال التي تذروها الرياح في كل ناحية وصوب في الجزيرة العربية المعاصرة القليلة المياه.
منذ نهاية العصور الرومانية حوالي عام 500 قبل الميلاد عندما جاء الأحباش المسيحيون إلى حضر موت، ثم تلاهم المسلمون المتحمسون للقضاء على الوثنية، حتى عام 1920، لم يتعد عدد من زار حضر موت من الأوربيين ستة أشخاص، ولم يقدر لبعثة أمريكية منظمة قبلنا أن ترى حضر موت أو وادي بيحان النائي.
تبلغ مساحة حضر موت حوالي 400 ميلاً طولاً، ويحدها عدد من النجود المكونة من الحجارة الكلسية التي تعلو في السماء البيضاء الصافية آلافاً من الأقدام. إن حضر موت شحيحة الامطار، وعندما تمطر السماء فيها، فأنها تفرغ نعمها فوق الجبال، فتتجمع المياه هناك أولا على هيئة غدران فجداول فتصبح في النهاية سيولاً جارفة، تتدفق من أعلى الهضاب مدوية من الوديان كاسحة أمامها ما يقع في طريقها.
وكنا خلال اجتيازنا الجول المرتفع القارس في منتهى الحذر خوفاً من أولئك العرب الذين يكرهون سيارات النقل اشد الكره. . فكان مبارك عبد الله ضابط حرس القافلة. . يرتب(977/29)
سياراتنا كل ليلة على هيئة مربع مجوف كما تفعل طلائع الجيوش بسياراتها ومدافعها الرشاشة المتحركة.
لقد حسبنا في اليوم الثالث إننا مشرفون على الوقوع في المشاكل، فطريق السيارات في الجول لا يتسع لأكثر من سيارة واحدة، وكانا جانبا من الطريق مليئين بالصخور الصلدة العظيمة. كنت أسوق سيارة القيادة، وهي من نوع السيارات التي تستعمل في الاستكشافات الحربية، فشاهدت إمامي سحابة من الغبار ثم انجلت بعد حين عن سيارتين من سيارات مكافحة الجراد الذي يكثر في الجزيرة العربية. إنه يتدلى من الشجيرات كالعناقيد فيلتقطه العرب منها كالتوت، ويدسونه في أفواههم وهو لا يزال حياً يرفس برجله.
ووقفت السيارتان امامي، وقفز منها أربعة من العرب يتنكبون بنادقهم. كان الأستاذ (اولبرايت) معي فأمرونا بواسطته أن نخلي الطريق لهم من سياراتنا. فقلت لهم لني لا أرى ما يبرر إخراج 16 سيارة من الطريق من الجل سيارتين. فرفع أحدهم بندقيته، ومرت لحظة من الزمن كنت أسائل نفسي فيها: (أهذه هي النهاية؟) ثم سمعت مبارك عبد الله يقول بصوت مرتفع، وهو يقفز من سيارته وكانت قد توقفت في تلك اللحظة خاف سيارتنا.
(نح تلك البندقية جانباً) فانزل الرجل بندقيته، وقال: (من أنتم؟)
فأجابه مبارك: (أنا الضابط مبارك عبد الله. وإذا لم تتنحوا عن الطريق ألهبت رؤوسكم بالرصاص). فأطاع الرجال وتنحوا لنا عن الطريق بخفة.
عندما قتل ضيفه
إن لمبارك شهرة واسعة في حضر موت. فقد أرسل ذات مرة ضيفاً إلى إحدى حفلات الزواج في حي عمه، فقتل الضيف. فلما بلغ النبأ مباركاً، اشترى بندقية جديدة، ومقدار من الرصاص، وتوجه ليثأر لشرفه طبقاً لما تخوله التقاليد القبلية من الحقوق. وبعد سنة كاملة استطاع أن يريح ضميره مرة أخرى بعد ان قتل ثلاثة من أفراد عائلته كانوا مسئولين عن إراقة دم ضيفه.
كان مبارك يركب دائماً بجانب (جلادس)، ومع إنها كانت رائدتنا فطالما توارت عن أنظارنا عند منعطفات الطرق أو فوق التلاع. ولكني ما كنت اقلق عليها لوثوقي من سلامتها ما داو مبارك بجانبها على قيد الحياة. فقد كان شديد الإعحاب بقيادتها للسيارة.(977/30)
فالعربي ينظر لمن يسوق سيارة أو يطير طيارة بالإعجاب والإكبار. و (جلادس) كانت هائلة سواء أمام عجلة السيارة أو قيادة الطائرة.
ففي غضون الرحلة التي قمت قبل سنتين منتدباً من جامعة كاليفورنيا كانت جلادس تقود سيارة من سيارات الحمل من القاهرة إلى مدينة الكلب وهي مسافة تقرب من 5000 ميل. وفي العامالمنصرم سجلت رقماً قياسياً في الشرق الأوسط بقيامها بست رحلات في غضون 10 أيام من القاهرة إلى جبل سينا. وقد رافقها (جيفرس كافري) السفير الأميركي في القاهرة في إحدى تلك الرحلات، فلم يستطع احتمالها، فإنها لتمرسها بالأسفار في الصحراء كانت تتغلب على ما يعترض سبيلها من العقبات، ومع ذلك فقد كانت عنايتها عظيمة بحيث لم ينفجر ولا إطار واحد من أطر السيارات أو ينكسر محور واحد في الطريق الصخرية إلى بيحان. وهي مهارة لم اكن أتوقعها.
كانت سيارتها تتقدم القافلة دائماً، بينما كنت انتقل في سيارة من سيارات الاستكشاف بين أضلاع الوديان ومتون الصخور، فقد كان تخصصي العلمي الأول هو الإحاثة فكانت تستهويني التشكيلات الجيولوجية الظاهرة العجيبة، وبعضها يعود إلى الزمن الذي لم تكن في الأرض سوى كرة صخرية جرداء تلفحها الرياح.
كنت في المقدمة عندما تراءت لنا (شيبام) مدينة الأبنية العالية والخصومات. فحينما بلغت سيارتي قمة إحدى الهضاب، وبدا منظر المدينة منبسطاً أمامي على حين غرة، كان الوقت ظاهراً والحرارة محرقة، حتى إن الإعياء كان قد اخذ مأخذه من حراسنا غلاظ الأجسام. كانت الصحراء ترقص أمام أنظارنا في بهر الشمس، وأبراج المدينة تبدو كأنها معلقة في الهواء العائم تشدها خيوط من الفضة فوق الرمال.
تسمى شيبام شيكاغو حضر موت، لا لسبب سوى إن ابنيتها أعلى ما في البلاد، فبعضها يعلو الأسوار التي تحيط بالمدينة وتحميها من هجمات قبائل الصحراء بـ9 أو 10 طبقات. والبلد قسمان: سكان المدن المستقرون، وسكان الصحراء المتنقلون.
وليس ما يمنع تلك الأبنية من المضي فبي الارتفاع سوى عدم سلامة الطين الذي يخلط بالقش (التبن) وبعر البعير، ويسلح بدعائم من الخشب. فإن العلو زيادة في الاحتراس وليس من الضروري لرخص مواد البناء في شيبان. فكلما عشت مرتفعاً بالمعنى المادي،(977/31)
سبقت في رؤية اقتراب الأعداء.
لقد سمعت قصصاً عن شيبام وهي من افظع ما شهدته بلاد العرب من الميادين الحربية الدامية، فقد كانت ميداناً للكفاح من اجل السيطرة استمر قرناً كاملاً بين قبلتين عربيتين كبيرتين هما القعيطيون الذين انتصروا في النهاية، والكثيرون الذين فقدوا السلطة هناك. وهذا طرف من تلك القصص:
لسبب لا نعرفه الآن أجاز السلطان منصور حاكم شيبام الكثيري سنة 1830 للقعيطيين شراء قسم كبير من أملاك المدينة، فلما استقر بهم المقام ساءت نية منصور واخذ ينظر إلى الطارئين الجدد كمعتدين، وبدأ يعمل فيهم السيف. هذه هي البداية. ثم ارتحل قسم من الكثيرين وعادوا بجيش اضطر معه منصور في النهاية إلى تقسيم شيبام بينه وبين الكثيرين.
واستمر الهدوء حيناً من الزمان حتى بدأ منصور، الحول القلب الذي لا يستقر على حال يتطلع للقتال، فسولت له نفسه أن يمكر بالقعيطيين فيدعو ثلاثمائة من كبارهم إلى العشاء. وكان البارود من ضمن الطعام. واكن الخدعة لم تنطل على أحد. فإن الثلاثمائة قعيطي الذين كان يرمي إلى استأصالهم، جاءوا مع عدد كبير من الأتباع اكبر مما كان يقدر. فعاد الكفاح سيرته الأولى من جديد. ودارت الدائرة في النهاية عليه، فشق حلقه من الأذن إلى الأذن، وابتدأ من ذلك الحين استئصال لما بقي من الكثيريين في المقاطعة في تعميم وروية، من غير رحمة أو شفقة، حتى كادوا يفنون عن بكرة أبيهم، إلى أن جاء ما يسمى بصلح أنغرام قبل بضع سنين فوضع الإنكليز به حداً للقتال المنظم. لم يكن المرء ليأمن على نفسه بأن يمشي أو يركب منفرداً في شيبام نهاراً. وكان بيت كل إنسان حصنه. وإذا كنت فقيراً فانك تقتل أعداءك بنفسك. أما إذا كنت غنياً فانك تستأجر من يتولى قتلهم عنك. وكان القتلة دائماً ينالون جزائهم أما مالاً أو قتلاً، وأحيانا مالاً وقتلاً. وعندما يصل إفناء عائلة من العائلات حداً بعيداً، فإن المغلوبين يحاولون عادةحسم الأمور بينهم وبين المنتصرين، فيهيئون وليمة كبيرة، وكجزء من الوليمة يحاولون الاتفاق على تأدية ديات القتلى، وبذلك تذوب في بعض الأحيان ثروات بعض العائلات قبل أن يتم تسديد الديات.
وبالرغم من وجود مبارك الذي يتولى حمايتنا أثناء رحلتنا إلى بيحان، فقد انتابني فزع(977/32)
شديد ذات يوم مرتين. الأولى بسبب جلادس، وبعد ذلك مباشرة بسبب البعثة كلها. كنا قد تجاوزنا شيبام، ووصلنا إلى قلعة منفردة في بئر عسكر. وكان علينا أن نقضي الليل هناك.
وبينما كنا نغادر سيارتنا، التف حول جلادس ما يقارب عشرين امرأة كن قد جئن بإبل القبيلة إلى بئر عسكر. فأخذن في شد مئزر جلادس الغريب الهيئة الأبيض الفضفاض، وهن يتدافعن للاقتراب منها. فأفزعني تدافعهن، ولكني عندما هرعت نحوها ارتحت لما لاحظت إنهن كن لطيفات، وان فضولهن كان ودياً بالرغم من خشونته. وكانت جلادس في أول الأمر تبدو مندهشة، ولكنها أخذت تضحك بعد ذلك، فأخذن في الابتعاد عنها نوعاً ما، وهن يؤلفن حولها حلقة متراصة، وتكز إحداهن الأخرى ويتطلعن اليها ويتهاتفن على ذات الشعر الذهبي.
ثم ارتفع على حين غرة صوت إطلاق الرصاص ناحية حضر موت الرملي. إنه العلامة المتوقعة للخطر الذي كنا في انتظاره منذ ان غادرنا المكلا، فتطلعت عجلا نحو مصدر الصوت ثم أسرعت إلى بندقيتي لأني استطعت إن أشاهدعلى البعد سحابة من الغبار وفي وسطها دون شك بعض الرجال الأشداء على ظهور إبلهم.
ع. ت
(الرسالة)
نقلت شركات البرق إن الأستاذ وندل فيلبس كاتب هذا المقال قد فر هو وبعثته من اليمن إلى عدن. وظل فرار هذه البعثة حديث الناس في كل مكان، يظنون فيه الظنون، ويتلمسون له الأسباب. وقد قال مكاتب (المصري) في عدن من رسالة بعث بها إلى جريدته في الخامس عشر من هذا الشهر: (قمت بتحري الأسباب التي حملت حكومة جلالة ملك اليمن على أبعاد هذه البعثة فعلمت ان ذلك يرجع إلى إن الحكومة اليمنية كانت قد سمحت لهذه البعثة الأمريكية بالتنقيب عن الآثار في منطقة مأرب وغيرها من البلاد اليمنية بموجب اتفاقية عقدت بين الطرفين أهم بنودها أن تكون جميع الآثار التي تعثر عليها البعثة ملكاً لحكومة اليمن التي ساهمت بمبالغ كبيرة في هذا المشروع العلمي الجليل. وقد بدأت البعثة عملها بعد أن وقعت على الاتفاقية بتاريخ 16 أبريل سنة 1951 ونجحت في العثور على(977/33)
آثار عظيمة. ولما أوشكت مدة الاتفاقية أن تنتهي طلب رئيس البعثة من الحكومة اليمنية أن يستمر في العمل واعداً بتلافي الأخطاء التي ارتكبها أعضاء بعثته لجهلهم بتقاليد أهل البلاد وعاداتهم. وفي الوقت الذي كان يفاوض فيه الحكومة اليمنية اعتقل البوليس اليمني عدداً من أفراد البعثة بعد منصف الليل وهم يهمون بمغادرة اليمن حاملين معهم كثيراً من التحف الأثرية والتماثيل، فقررت حكومة الأمام على أثر ذلك عدم تجديد الاتفاقية وأبعدت البعثة عن اليمن.
وقد اكتشفت أخيرا إن بعض إفراد البعثة قد نجحوا في سرقة تمثال بلقيس ملكة سبأ وهو يعتبر من التحف الأثرية النادرة.
وقد علمت إن الدوائر الرسمية في اليمن تعد تقريراً شاملاً لترفعه إلى حكومة الولايات المتحدة لإعادة هذه الأثر العظيم إلى موطنه الأصلي)(977/34)
رسالة الشعر
خطوط
للشاعر الشاب محمد عبد الفتاح الفيتوري
فقير، أجل. . ودميم دميم ... بلون الشتاء. . بلون الغيوم
يسير فتسخر منه الوجوه ... وتسخر حتى وجوه الهموم
فيحمل آلامه في جمود ... ويشرب أحزانه في وجوم
وكم تبعته أكف الصغار ... قاذفة بالحصى والرجوم
ولكنه أبداً حالم ... وفي قلبه يقظات النجوم
فقير. . وسادته ثوبه ... إذا ما غفا. . والفراش الحصير
حصير تقادم حتى يكاد ... يخضر. . يرجع عشباً نضير
وغرفته حفرة تتعالى ... بجدران قبر. . وباب قصير
ومائدة وقفت كالعجوز ... سيقانها خالدات الصرير
ومصباحه ميت. . ميت ... كقلب الغني. . ووجه الصغير
دميم. . فوجه كأني به ... دخان تكثف ثم التحم
وعينان في كأرجوحتين ... مثقلتين بريح الألم. .
وانف تحدّر ثم ارتمى ... فبان كمقبرة لم تنم. .
ومن تحتها شفة ضخمة ... بدائية. . قلما تبتسم
وقامته لصقت بالتراب ... وان هزئت روحه بالقمم
وقالوا: أحب. . ورددت الألس ... ن الساخرات. . أحب أحب!
وما ذكروا إنه مثلهم ... له بين جنبيه قلب يحب
وهل عرفوا الحب؟ هل عرفوه ... سوى إنه جسد يضطرب
وفاكهة تشتهيها العيون ... وكف تجوع. . وكف تهب
ولو سأله قبحه. . لأجابت ... كآبة عينيه ان لم يجب
أحب التي شربت كأسه ... وابصر في نفسها نفسه
وكم ظل يسأل عنها الوجوه ... ويطرق محتضناً يأسه(977/35)
ويهرق معوله في تراب ... لياليه. . محتفراً رمسه
إلى ان رآها. . رآها فغنى ... لحاضره. . وبكى أمسه
وعانق في مقليتها أساه ... وقدس في طهرها رجسه
وكان يخاف لقاء المنية ... قبل لقائهما. . قبلها
فأمسى يود خلود الحياة ... لتحيا له. . ويحيا لها
وما شهد الفجر أحلام عينيه ... إلا مصلية حولها
وما سمع الليل أشواق جنبيه ... إلا منورة ظلها
فلا تحسبوه يغني لكم ... ولكنه يتغنى لها
محمد مفتاح الفيتوري(977/36)
العودة. . .
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
عدت للحب والطلى والأغاني ... والليالي والفاتنات الحسان
عدت كالطير للرياض وكالان ... سام للدوح في الربيع الحاني
عدت للحب والجمال المفدى ... ناعماً بالخلود في الحاني
عجباً للزمان يفنى وللأك ... وان تفنى والحب ليس بفاني!
كيف يفنى حبي وتخمد أشو ... اقي وأنت الحياة ملء كياني!؟
زعموا إنني سلوت هواك ... ونسيت العهود بعد نؤاك
لا وعينيك والورود النضيرا ... ت على وجنتيك لا أنساك
ان يكن صمتي الطويل شجاك ... فبروحي أعيش في نجواك
اين صوت اللسان من شغف القلـ ... ب وصمت النسيان من ذكراك
يا فتاة الأحلام عودي فإني ... كنت في الصمت ناطقاً بهواك
عودة عودة إلى القبلات ... والعناق الشهي والصبوات
واللقاء النشوان بالصفو والبهـ ... جة والأغنيات والأمنيات
كلما أشرقت نجوم الدياجي ... طالعتنا بأوجه اللذات!
ومتى صفقت كؤوس الحميا ... رفعتنا الأحلام فوق الحياة!
مضت المعجزات إلا محيا ... ك فما زال أجلد المعجزات!!
أي سر يلوح في مقلتيك؟ أي سحر ينساب في عطفيك؟
زعموني سلوت عينيك اوهم ... ت ينبع ألذ من شفتيك
فسلي مقلتي عن سهر اللي ... ل وعن لهفة الحنين إليك!
واسمعي ادمعي وبث أنيني ... ونجوم الدجى شهودا لديك!
أنت بادرة الجمال الفريد ... أنت يا واحة الشريد الطريد
يا ابتسام الحياة يا فرحة المح ... زون يل طلعة المنى والسعود
يا ملاكاً تغلغل الحسن فيه ... هاتفاً: هاهنا يطيب خلودي
أستسر الجمال فيك إلى أن ... فضحته النهود بعد الخدود!(977/37)
فاكتسى حسنك الأنيق حياء ... وتهادى في غصنك الأملود!!
أين منك الرياض والأنداء؟ ... أين منك الأضواء والأفياء؟
أين منك الشموس والأنجم الزه ... ر جميعاً وأين منك السماء؟
بت أحصى محاسن الكون طراً ... فإذا أنت وحدك الحساء!!
فيك حرية الجمال وفي قل ... بي قيود الهوى فنحن سواء.!
فلم الهجر والنوى وجزاء ال ... حب ذاك الجمال والإغراء؟!
آه لو تعلمين هول شحوبي ... وعذابي ولوعتي ونحيبي
وحنيني إليك في النأي كالأم ... إلى طفلها الوحيد الغريب
وحنوي عليك كالدمية الوك ... فاء تحبو الربى بأوفى نصيب
واغني فيك كالجدول الرقـ ... راق يجري مضمخاً بالطيوب
يا حبيبي متى تعود الليالي ... مثلما عدت للهوى يا حبيبي!
سمع الطير غنوتي وهيامي ... فتغنى بصبوتي وغرامي
ورأى الشاعرون صمتي فاغرا ... هم بشعري فرددوا أنغامي
يا لصوص القريض عدت فعودوا ... لإنتهابي وشمروا لاغتنامي!
يا شداة الألحان هاكم اناش ... يدي فغنوا بها ودوسوا حطامي
هل على المجدبين ينتجعون ال ... خصب لوم، سعياً على الأقدام
إنني املك الكنوز جميعاً ... في فؤادي صبابة وولوعا
وهياماً بالحسن في كل وجه ... وانطلاقاً مع الأماني سريعا
وطموحاً وثورة وإباء ... وحياء وحيرة ودموعا
أنت رقرقها ينابيع في قل ... بي أطلقها خيالاً رفيعا
أنت مادمت أنت ملء فؤادي ... فمن العجز ان آخر صريعا!!
حسدوني على أماني فيك ... هل رأوا فتنة ابتسامة فيك!؟
ظلموني وأمعنوا في عذابي ... أنا راض بالظلم لو يرضيك؟
حبسوني في ظلمة الريف وحدي ... لينالوا العلى بغير شريك!
تشرق الشمس وحدها والمصابـ ... يح دياجير في النهار الضحوك(977/38)
عقد النصر للسلاحف والشا ... عر خلف القطيع كالصعلوك!
أحمد أحمد العجمي(977/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الاحتفال بالذكرى الألفية لابن سينا
كان مقرراً أن يقام هذا الاحتفال في أكتوبر سنة 1951، في بغداد أولا، ثم في طهران ولكن الحكومة الإيرانية طلبت أن يؤجل ريثما يتم بناء ضريح تقيمه لصاحب الذكرى في مدينة (همدان) فقررت اللجنة المؤلفة في الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية للاحتفال بهذه الذكرى - بالاتفاق مع ممثل إيران - أن يقام الاحتفال ببغداد في النصف الثاني من شهر مارس سنة 1952، وبطهران في النصف الأول من أبريل.
وجاء شهر مارس (الحالي) فأنبأت الحكومة الإيرانية ان الضريح لم يتم بناؤه حتى الآن، وأنها قررت تأجيل احتفالها إلى موعد قريب سيعلن عنه وسيدعى إليه وفود من الدول العربية وعلماء مستشرقون من مختلف أنحاء العالم.
ومضت العراق في إعداد العدة لاحتفالها في الموعد المقرر، وقد عين يوم 20 مارس الحالي لبدئه، وستمر حتى اليوم الثمن والعشرين منه.
الوفود المصرية
وعينت الدول العربية وفودها إلى الاحتفال، ونذكر فيما يلي الوفود التي تقرر إيفادها من مصر:
يمثل الجامعة العربية في هذا الاحتفال بهذه الذكرى، الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية والدكتور احمد فؤاد الأهواني والأب قنواتي والدكتور مختار الوكيل، وقد أعطى الدكتور احمد أمين بك واعد كلمة في هذه المناسبة يلقيها الدكتور مختار الوكيل في حفل الافتتاح.
ويمثل مجمع فؤاد الأول للغة العربية الدكتور إبراهيم بيومي مدكور (وهو رئيس وفد مصر)، ويمثل وزارة المعارف المصرية الأستاذ محمود الخضيري، ويمثل جامعة فؤاد الأول الدكتور مصطفى عمر بك الأستاذ بكلية الطب، ويمثل جامعة إبراهيم الدكتور عبد الحمن بدوي الأستاذ بكلية الاداب، ويمثل جامعة فاروق الأول الدكتور محمد ثابت الفندي، ويمثل الأزهر الدكتور محمد البهي.(977/40)
ويمثل المعهد الفرنسي بالقاهرة البروفسير شاؤل كوبنر ويحضر الاحتفال الأستاذ عادل الغضبان مندوباً من مجلة (الكتاب)، ويحضره أيضا من رجال الآثار المصريين الأستاذان عباس بدر وحسن عبد الوهاب والدكتور محمد مصطفى.
المدعوون الشخصيون
وقد وجهت الحكومة العراقية دعوات خاصة إلى طائفة من العلماء في مختلف البلاد الشرقية والغربية ليشاركوا في الاحتفال وينزلوا في ضيافتها، وهم - بطبيعة الحال - غير المندوبين الرسميين، وإنما دعوا بصفاتهم الشخصية.
فدعت أربعة من إنكلترا، وأربعة من أمريكا، واثنين من فرنسا، وواحدا من كندا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والسويد والد نمارك وهولندا وكوبنهاكن والهند والباكستان وإيران وإندونيسيا وتونس والجزائر ومراكض. وقد عرفت أسماء المدعويين الإنكليز والفرنسيين، فالإنكليز هم الأستاذة جيب ومينورسكي وآربري وسيدني سميث، والفرنسيون هم الأستاذ ما سينيون وبلاشير.
دعي مصري واحد واعتذر:
ودعت من المصريين واحداً هو معالي الأستاذ احمد لطفيالسد باشا وقد اعتذر. كما دعت ثلاثة يقيمون بمصر أحدهم إنكليزي وهو المستر كريزول أستاذ الآثار الإسلامية بمعهد الآثار بجامعة فؤاد الأول، والآخران هما الأستاذ العلامة ساطع الحصري بك والبروفسير شارل كوبنز مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة وهو عضو في لجنة الاحتفال بالإدارة الثقافية، وما يذكر أن الأستاذ كوبنز بذل جهوداً قيم في معاونية اللجنة، وقد نشر المعهد الفرنسي بعض الأبحاث التي كتبها بعض أضاء اللجنة في ذكرى ابن سينا.
بلاد (الدمنيون) في الاحتفال:
ويلاحظ أن الدعوات الشخصية وجهأكثرها إلى إنكلترا وأمريكا وبلاد (الدمنيون)، فقد ظفر (الأنجلو أمريكان) وحدهم بثماني دعوات، وثمة بلاد حافلة بكبار المستشرقين كألمانيا وهولندا ولم يدع إلا واحداً من كل منها. .
وإذا كان لنا ان نغضي عن مصر ومن فيها من الأعلام وأساتذة الأدب والفكر، وان ندع(977/41)
الحديث في إهمال دعواتهم لأننا مصريون، فلا أظن إنه يحسن السكوت عن عدم توجيه مثل تلك الدعوات إلى أحد من سائر البلاد العربية؟ أفلم تجد الحكومة العراقية في سوريا أو لبنان مثلاً من هو اهل لكرمها الذي كان (حتمياً) في الغرب و (مادريا) في الشرق. . أن صح أن ينسب الكرم إلى (مادر). .؟!
لجنة الاحتفال وأعمالها:
وتتكون لجنة الاحتفال المؤلفة بالإدارة الثقافية، من الدكتور احمد أمين بك (رئيساً) والدكاترة والأساتذة إبراهيم بيومي مدكور ومحمد البهي ومحمد يوسف موسى واحمد فؤاد الأهوائي ومحمود الخضيري والسيد محمد تقي القمي وشارل كوبنز مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة والمستشرق ماسينيون عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية والأب جورج شحاتة قنواتي.
وقد عملت هذه اللجنة في الإعداد للاحتفال بذكرى ابن سينا منذ سنتين ونصف سنة. عقدت في خلالها اثنتين وعشرين جلسة. واهم ما أنجزتهفي هذا السبيل تحقيق جزء المنطق من كتاب (الشفاء) للرئيس ابن سينا، قامت به لجنة فرعية برئاسة الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، وطبعت الكتاب وزارة المعارف المصرية، وكلفت اللجنة الأب قنواتي بالكتابة عن مؤلفات الشيخ الرئيس، فقام بذلك في مؤلف صدر في العام الماضي عنوانه (مؤلفات ابن سينا). وقام أعضاء اللجنة، كل منهم في مجال اختصاصه، بعمل بحث سيلقى في الاحتفال. وقد نشر المعهد الفرنسي عدة أبحاث في ذكرى ابن سينا لبعض أعضاء اللجنة، منها بحث الدكتور محمد يوسف موسى في الناحية الاجتماعية والسياسية من فلسفة ابن سينا، وبحث للدكتور احمد فؤاد الأهوائي في الناحية النفسية من هذه الفلسفة. كما قام المعهد بنشر بحث آخر للأستاذ لوي جارديه المستشرق الفرنسي في المقدمات الفلسفية للتصوف السينوي.
واستكتبت اللجنة بعض العلماء والكتاب والمستشرقين مقالات وأبحاثا تتناول مختلف الموضوعات التي كانت ميادين لإنتاج ابن سينا، وقد وصلها طائفة من الموضوعات أعدها بعض المستشرقين ستلقى في الاحتفال.
معرض المخطوطات والصور(977/42)
وسيقام في أثناء الاحتفال معرض تعرض فيه المخطوطات النادرة لابن سينا، وقد قام بتصويرها قسم التصوير بمعهد المخطوطات في الإدارة الثقافية، كما يعرض فيه معظم الكتب المطبوعة من مؤلفات الشيخ الرئيس والكتب المؤلفة فيه، قديماً وحديثاً، باللغة العربية وبغيرها من اللغات الحية.
وتعرض في هذا المعرض أيضا صور متخيلة لابن سينا صورت في العراق وفي إيران أو جلبت من دور الكتب العامة والخاصة في استنبول وفي أوربا، وصور لتوقيعه وبعض خطة، وطوابع بريد تذكاريه وضعت في إيران، مجموعة من مخطوطات ابن سينا النادرة ستهديها الإدارة الثقافية إلى الدول العربية.
عباس خضر(977/43)
البريد الأدبي
إلى أخي الأستاذ رجب البيومي
السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فإنني لم أرد أن ادخل بينك وبين الأستاذ شاكر فيما شجر بينكما من خلاف، حتى ينتهي إلى غايته كما ينتهي. . ذلك إنني كنت حريصاً على ان ادعك ورأيك، وإلا أبدأ تعافي بك في زحمة الجدل. وان أظن أخونا شاكر إن بيننا صحبة وثيقة هي التي تدفعك إلى رد تهجمه أو تقحمه، حتى لقد أنذرنا معاً عداوة يوم القيامة: (الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو)، لان مألوف الناس قد جرى في هذا الزمن الصغير، على إن الحق وحده، أو الرأي وحده، لا يكفي لان يدفع كاتباً فيكتب، دون هوى من صداقة أو علاقة!
ولو كانت معرفة بيننا سابقة، ولو استشرتني قبل أن تدخل مع صاحبنا في جدل؛ حول ما أثاره من صخب، وما نفضه من غبار، لأشرت عليك إلا تدخل، ولآثرت لك ما آثرته لنفسي من إغفال وإغضاء. . ذلك إنني لم استثمر في هذا الضخب الصاخب أثراً منصفاء نية ولا رغبة في تجلية حقيقية. ولو استثمرت شيئاً من هذا ما تركت صاحبي دون أن أجيبه - على الأقل من باب الأدب واللياقة - ولكنني اطلعت على أشياء، ما كان يسرني والله أن اطلع عليها في نفس رجل ربطتني به مودة أصفيتها له في نفسي، بعد ما كان بيننا من جدل قديم يعرفه قراء الرسالة عام 1938، وما أزال أرجو أن أكون مخطئاً فيما أحسست به، وان تبقى لي عقيدتي في ضمائر الناس، وفي الخير الذي تحتويه فطرتهم.
ولو كانت الحقائق هي المقصودة، لما احتاج الكاتب الفاضل إلى استطاع مثل هذا الأسلوب الصاخب المقرقع؛ ولما لجأ منذ مقاله الأول في (المسلمون) إلى الشتم والسب والاتهام بسوء النية وسوء الخلق والنفاق والافتراء والسفاهة والرهونة. . إلى آخر ما خاضه - ويغفر الله له فيه - فدون هذا وتعالج أمور النقد العلمي، وبغير هذا الأسلوب يمكن تمحيص الحقائق.
إنه لا معاوية، ولا يزيد، ولا أحد من ملوك بني أمية قد اغتصب مال آبي أو جدي، أو قدم إلى شخصي مساءة ولا إلى أحد من عشيرتي الأقربين أو الأبعدين. . فإذا أنا سلكت في بيان خطة معاوية في سياسة الحكم وسياسة المال، وخطة الملوك من بعده (فيما عدا الخليفة(977/44)
الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه) مسلكاً غير الذي سلكته ف بيان خطة أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم جميعاً - فليس أول ما يتبادر إلى الذهن المستقيم، والنية السليمة، ان ما بي هو سب صحابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا عن خطأ ولكن عن رغبة قاصدة في إفساد الإسلام، وسوء نية في تدنيس المسلمين!!!
وكتاب العدالة الاجتماعية مطبوع متداول منذ أربع سنوات، وطبعته الثالثة في المطبعة، والصخب حوله الآن فقط، قد يشي بشيء لا إرضاء للصديق. وقد قراه الناس في إنحاء العالم الاسلامي، فلم يستشر من موضوعه ولا من سياقة، إن النية السيئة المبيتة لهذا الإسلام وأهله هي التي تعمر سطوره!
إنما أحس الألوف الذين قرءوه - أو على الأقل المئات الذين ابدوا رأيهم فيه - ان كل ما كان يعنيني هو إن أبرئ الإسلام من تهمة يلصقها به أعداؤه، وشبه في الحكم وسياستهم في المال، تحسب على الإسلام، والإسلام برئ من هذا الاتهام.
روى سعيد بن جمهان عن سفينة - مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الخلفة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك. ثم قال سفينة: امسك خلافة أبى بكر وعمر وعثمان وعلي. . فوجدناها ثلاثين سنة. . قال سعيد: قلت له: إن بني أمية يزعمون ان الخلافة فيهم. قال: كذبوا بني الزرقاء! بل هم ملوك من شر الملوك - رواه أصحاب السنن بسند حسن.
وأحسب لقد كان بنفسي - وأنا اعرض النظام الاجتماعي في الإسلام - أن أقول شيئاً كالذي قاله مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - لا عداء شخصياً لبني امية، ولكن تبرئة للإسلام من أن تحسب عليه سياسة لا يعرفها، لا في الحكم ولا في المال. والإسلام منها بريء، فيجب أن يعرف الناس براءته، وأن يعرض عليهم في صورته التي عرفتها الخلافة السمحة، وان ينفي عنه ما لحقه في عهود الظلام والاستبداد.
وما كان لي بعد هذا، وأنا مالك زمام اعصابي، مطمئن إلى الحق الذي أحاوله، أن القي بالاً إلى صخب مفتعل، وتشنج مصطنع. . وما كان لي إلا أن ادعوا الله لصديقنا شاكر بالشفاء والعافية، والراحة مما يعاني، والله لطيف بعباده الأشقياء.
أما أنا فما احب أن يكون لي مع قوم خرجوا على خليفة رسول الله، وقتلوا ابن بنت رسول(977/45)
الله، ورموا وحرقوا بيت الله، وساءوا في سياسة الحكم وفي سياسة المال على غير هدي الله. . أدب ارفع من أدب مولى رسول الله، الذي أدبه ورباه!!!
سيد قطب
كمال الدين جودت
نعت الصحف منذ أيام المغفور له الأستاذ كمال الدين جودت المهندس، والد صديقنا الأستاذ الشاعر صالح جودت، وشقيق الأستاذ القانوني صالح جودت بك المحامي، والذي يعني (الرسالة) الكشف عنه ناحية أدبيةفي حياة الفقيد لا نحسب أن أحداً يقف عليها أو يذكرها اليوم.
فقد كان المرحوم كمال الدين جودت مهندساً بحكم تعليمه وثقافته، ولكنه كلن إلى جانب هذا أديباً فناناً بدافع طبيعته ومواهبه، فقد عني في مطلع حياته بالكتابة على أسلوب المقامات، ثم انصرف عن ذلك إلى الزجل أو الشعر العصري كما كان يسميه، وكانت له في هذا السبيل محاولة طيبة، إذ أراد أن يستخدم الزجل في تقريب العلم وتحبيبه إلى النفوس بين الناشئين والعامة، فمن ذلك إنه نظم جغرافية القطر المصري بالزجل في كتاب سماه (قلائد الدر في جغرافية مصر) طبعه عام 1903م وهو بهذا الصنيع يقابل صنيع العلماء في نظم العلوم شعراً كما صنعوا في النحو والقراءات والفلسفة والمنطق والحساب وتقويم البلدان، ولا شك أن أسلوب الزجل في هذا يكون اقرب وأحب إلى نفوس الناشئة والعامة لقرب مأخذه وقلة المعانات في فهمه.
وأسلوب المرحوم كمال جودت في الزجل لطيف خفيف، فهو يفتتح كتابه في جغرافية مصر قائلاً:
باسم الكريم افتح زجلي ... في علم تقويم البلدان
إياك على الله أبلغ أملي ... وانفع به أبناء الأوطان
العلم ده اسمه جغرافية ... كمان وتقويم البلدان
كله فوائد عال كافية ... طبعاً لتثقيف الأذهان
وهو بهذا الأسلوب يأخذ بالحديث عن هذا العلم وتقسيماته ووصف هيئة الأرض وأقسامها،(977/46)
ثم يأخذ في وصف القطر المصري ومدنه وأقاليمه، فنجده يتحدث مثلاً عن مديرية الشرقية وتقسيمها الإداري فيقول:
عندي مديرية سنية ... بحثت عنها بالتدقيق
حلوة تسمى الشرقية ... خصبة وبندرها الزقازيق
عدد مراكز الشرقية ... ستة بدت بالبنجبات
ناقوس وبلبيس مع ههيسا ... وكفر صقر مع القنيات
وكماني مركز منيا القمح ... مركز لطيف خالص وجميل
وفي وصفهم يحتاجون شرح ... وقصدنا عدم التطويل
أما وقد وصف - رضوان الله عليه - بلدتي منيا القمح بأنها (مركز لطيف خالص وجميل) ليقتضيني وقد انتقل إلى جوار ربه أن أراد له هذا الجميل.
محمد فهمي عبد اللطيف
تحقيق لغوي
يذهب بعض الباحثين إلى وجوب تجريد الفعل الماضي التالي للنفي والاستثناء من الواو، ولست معهم فيما ذهبوا إليه، والسماع خير شاهد، واليك الأدلة:
1 - قال الأصمعي: (يستحب من المهاوي أن نقصر أذنابها، وقل ما ترى مهرباً إلا - ورأيت - ذنبه المصل كأنه أفعى) أوهام شعراء العرب لأحمد تيمور باشا ص43 نقلاً عن التبريزي في شرح المعلقات.
2 - قال دعبل: (مضى علي ستون عاماً ما تصرم منها يوم إلا - وقلت فيه شعراً -) عن مجلة الرسالة الغراء السنة الخامسة ص1587، وفي الصفحة التالية من المرجع نفسه يقول لأحد أصدقائه. (ما كانت لامرئ عندي من منة إلا - وتمنيت موته -).
3 - وقال البديع في المقامة الناجمية: (وما سكنت حرب إلا - وكنت فيها سفيراً -)
4 - ومن أبيات الشواهد:
نعم امرأ هرم لم تعر نائبه ... إلا - وكان - لمرتاع بها زورا
5 - وقال عنترة:(977/47)
أنا الشجاع الذي ما رمت منزلة ... إلا - وأدركها - سعدي وإقبالي
6 - وقال أبو فراس:
وما اشتورت إلا - واصبح - شيخها ... ولا احتربت إلا - وكان - فتاها
7 - وقال المبرد يشرح بيت الفرزدق:
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت
وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويله لم يشيموا لم يغمدوا ولم تكثر القتلى: أي لم يغمدوا سيوفهم إلا - وقد كثرت - القتلى حين سلت. اهـ بلفظه نقلاً عن تهذيب الكامل للأستاذ السباعي جـ 1 ص312.
فقد أني مع الواو بقد وورد مثل هذا شعراً ونثراً.
أقول: والذي هداني إليه البحث وتنبع الأساليب العربية، إن تجريد الفعل من الواو في مثل هذا اكثر، وهو مع كثرته لغة القرآن الكريم، ودخول الواو على الفعل وحدها أو مع قد مسموع في الفصيح شعراً ونثراُ؛ ولسنا في حاجة إلى صرف هذه الشواهد إلى الضرورة أو الشذوذ أو لأن بعضها لا يحتج بقائله، وليسع أدباؤنا المعاصرون الذين يشيع على ألسنتهم، وفي كتاباتهم هذا التعبير ما وسع هؤلاء الأفاضل، فليس من الخطأ على كل حال، وان كان التجرد اكثر على ما يظهر.
رياض عباس(977/48)
القصص
المارد الذي يحب نفسه
للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد
كان الأطفال قد اعتادوا دخول بستان المارد واللعب فيه حين يعودون من المدرسة عصر كل يوم. وكان بستاناً واسعاً، رقيق الحواشي، قد اكتست أرضه بالعشي الخضر الطري، وانتثرت في أرجاءه الأزهار الجميلة كأنها النجوم. وكانت فيه اثنتا عشرة شجرة من أشجار الخوخ التي تتفتق في الربيع عن أزهار رقيقة زاهية الألوان كأنها اللآلي، تتحول في الصيف إلى ثمار يانعة سائغة. وكانت الأطيار فيه تعتلي غصون الشجر وتغرد في عذوبة تصرف الأطفال عن ألعابهم وتستوقفهم ماخوذين، فلا يملكون أن يعبروا عن نشوتهم بغير هذا القول:
- ألا ما أسعدنا في هذا المكان!
غبر إن المارد عاد يوماً من زيارة أحد أصدقائه الغيلان، بعد أن لبث معه سبع سنين، أنهى في خلالها كل ما أراد أن يحدثه به - فإن محادثته كانت محدودة تنتهي ولا شك - عاد العملاق إلى قصره فرأى الصغار يلعبون ويمرحون في البستان! فصرخ فيهم بصوت خشن غليظ قائلاً:
- ماذا تصنعون هنا؟
فانطلق الأطفال من فورهم هاربين! ثم استأنف المارد صراخه قائلاً:
- إنما هذا البستان ملكي، وذلك ما يستطيع إدراكه كل إنسان، ولست اسمح لا أحد غيري باللعب فيه أبداً:
ثم قام فصنع جداراً رفيعاً سور به بستانه، ورفع لوحة كتب عليها هذا الإعلان:
سيجزى المخالفون شر الجزاء.
فياله من مارد لا يؤثر أحداً بالحب سواه!
ولم يبق حينذاك للأطفال المساكين ملعب يرتعون فيه. لقد حاولوا أن يتخذوا لهم من الشارع ملعباً، ولكنهم زهدوا فيه حين وجدوه مليئاً بالأتربة والأشجار، وظلوا كذلك يحومون حول الجدر الرفيعة - حين ينتهون من دروسهم - لاهجين بحمال ذلك البستان الذي وراء تلك(977/49)
الأسوار، وبأيام سعادتهم التي انتهت، يقولون:
- ألا ما كان أسعدنا هناك!
ثم قدم الربيع وانتشرت بمقدمه الأزهار والأطيار في كل ناحية على الأرض غير بستان هذا المارد اللئيم الذي لم يبرحه الشتاء. أن الأطيار لم يعنها أن تغرد فيه حين غاب عنه الأطفال؛ وإن الأشجار قد نسيت أن تورق أو تزهر. . . ولقد أخرجت إحدى الأزهار الجميلة مرة رأسها من بين الأعشاب فهالها أحزنها أن ترى لوحة الإعلان تمنع الصغار من غشيان البستان، وانسلت هاربة لتستأنف نومها العميق الذي كانت مستغرقة فيه. ولم يكن في العالم أحد قد استولى السرور عليه غير (الثلج) و (الجليد) اللذين قالا في نفسيهما:
إن الربيع قد نسى هذا البستان، ولذلك فإننا سنحيا هنا طول العام!
وكذلك طغى (الثلج) على الإعشاب وأسبل عليها طرف ردائه السابغ، وانتشر (الجليد) على الأشجار فكساها حلة من الفضة ازدانت بها، ثم انهما أمراً ريح الشمال أن تبقى معهما فلبت أمرهما، وجاءت ملتفة بالفراء تصفر طوال النهار خلال البستان والمداخن، فرحة بهذا المكان البهيج.
ثم انهم قرروا دعوت (البرد) فنزل وأنشأ يتحدر كل يوم ثلاث ساعات بشدة حتى يكسر بلاط القصر، فإذا تم منه هذا أمعن هرباً حول البستان يطوف بأقصى ما أوتي من سرعة! لقد كان برداً عجيباً أغبر، وكانت أنفاسه بيضاء كالثلج!
وقد جلس المارد اللئيم ذات يوم في الشباك المطل على البستان الأجرد الشاتي، وقال يحاور نفسه.
- ما أقدر أن أفهم سبب تأخر الشتاء حتى الآن أو ما أظن إلا إن تغيراً قد طرأ على الجو.
ولكن الشتاء لم يأت، ولا جاء بعده صيف ولا خريف، بل إن الخريف نفسه جاء وانضج الثمار في كل بستان إلا في بستان المارد الذي كلن يعرفه الخريف لئيماً لا يحب أحداً غير نفسه!
إن المارد لمضطجع ذات صباح في فراشه فسمع أنغاماً شجية تطرق أذنيه خيل إليه لعذوبتها إنها من فرقة موسيقى الملك حين كانت تجتاز الطريق، ولم تكن تلك الأنغامالشجية غير صدح طائر صغير كان يشدو على بعد من نافذته. لأنه ما سمع من أمد بعيد شدو(977/50)
طائر، فظن إن ما طرق أذنيه أعذب ما في العالم من ضروب الألحان!
ثم إن البرد وقف تهتانه من حوله، وريح الشمال قطعت صفيرها، وهبت على المارد من النافذة نفحة من أريج عبق جميل. فقال المارد في نفسه:
- ما أحسب أن الربيع قد جاء أخيراً. وقفز من فراشه، فماذا رأى!
إنه لمنظر جد جميل!
أولئك هم الأطفال الصغار، قد دخلوا البستان من خلال ثقب صغير وجدوه في أحد الجدر واعتلوا الأغصان وبقوا هناك جالسين. وقد ابتهج الشجر بمقدمهم فأورق، وماس على رؤوسهم في حب وحنان، وكانت الطير تشدو حيناً وتطير حيناً في جذل وابتهاج، والزهر يرنو إلى ذلك بسام الثغور من بين الأعشاب.
- إنه حقاً لمنظر بهيج!
ولكن الشتاء لما يبرح تلك الزاوية القصية التي وقف فيها أصغر الأطفال يعول طيراً، ويطوف بما حوله طوراً آخر، والشجرة المسكينة بقربه ما تزال شاتية. . إن ذلك الطفل لم يتمكن من الوصول إلى الغصن لصغره؛ وكانت الريح الشمالية تعصف حوله، والشجرة تنحني له ما استطاعت وتدعوه قائلة:
- تسلق أيها الطفل الصغير. . . ولكنه لي يقدر على شيء من هذا!!
. . . وأدركت المارد عليه الشفقة حين رآه فقال:
- ألا ما كان اشد إيثاري لنفسي! لقد عرفت الآن سبب انقطاع الربيع من المجيء إلى هنا. . . سأذهب إلى ذلك الطفل فأضعه على الشجرة، ثم أنثنى على الجدار فاهدمه واجعل من بستاني هذا ملعباً وقفاً على الأطفال حتى الأبد. . . واشتد اسفه على ما اكن بدر منه.
ثم إن المارد نزل وفتح بابه في هدوء وسار في بستانه؛ ولكن ما أن رآه الأطفال حتى هربوا، وعاد الشتاء إلى البستان من جديد! ولكن صبياً واحداً منهم لم يهرب، ذلك هو الصغير الذي ملأت عينيه الدموع لما رأى المارد قادماً إليه.
وتسلل المارد إلى الطفل ورفعه بلطف فأجلسه على الشجرة فما كان أسرعها حين أورقت وأزهرت، وما كان أسرع الأطيار حين تساقطت عليها مغردة حائمة حول الصبي الصغير الذي كان يحولها عنه إلى عنق المارد مسروراً، ثم انحنى الطفل على المارد فقبله، فلما(977/51)
رأى أصحابه ذلك أمنوا المارد وعادوا وعاد معهم الربيع، فقال المارد يخاطبهم:
- إنه بستانكم أيها الصغار الآن. ثم تناول معولاً كبيراً فهدم به الجدر القائمة حول البستان. فكان الناس إذا مروا به في طريقهم إلى السوق في منتصف النهار رأوا المارد يلاعب الأطفال في اجمل بستان تقع العين عليه!
وظل داب الأطفال كذلك، يلعبون طوال النهار، حتى إذا أمسى المساء وخيم الليل، جاءوا إلى المارد فحيوه وانصرفوا
وقد سألهم المارد مرة عن صديقهم الصغير الذي كان قد رفعه على الشجرة، فأجابوه، بأنهم لم يروه من قبل، ولا رأوه من بعد، ولا يعرفون أين يسكن. لشد ما حزن المارد على ذلك الطفل الصغير الذي قبله!
بقي الأطفال على هذا: يختلفون إلى البستان عصر كل يوم بعد انتهاء دروسهم، فيلعبون مع صديقهم المارد. . . غير أن الطفل الصغير وحده كان المتخلف من بينهم أبداً. ولكم كان المارد يشتاقه ويحبه، ويتحدث عنه ويتمنى أن لو يراه.
ومضت عللا ذلك السنون تتبعها السنون، فشاخ المارد وعجز عن مشاركة صغاره اللعب. فكان يجلس على مقعد وثير ليتفرج عليهم هانئاً مغتبطاً. وكان يقول في نفسه:
- إن في هذا البستان لكثيرا من الأزهار الجميلة. ولكن اجمل منها في نظري هؤلاء الصغار.
وفي صباح يوم شات - وقد اصبح الشتاء الآن لا يفزع المارد، وإنما هو إغفاءة قصيرة لا يلبث الربيع بعدها أن ينهض بإزهاره وتهاويله - في صباح ذلك اليوم، بينما كان المارد يرتدي ثيابه إذ بصر بشيء هاله. فكذب نظره وكذب نفسه. . . إنه منظر مدهش عجيب! أفي الإمكان هذا؟ شجرة حالية بالنوار الجميل في تلك الزاوية القصية وتحتها طفله الصغير الذي احبه واقفاً؟
هرول المارد نازلاً يستخفه الفرح، وجاز إرجاء الحديقة مسرعاً حتى جاء إلى الطفل، وما كاد يقترب منه ويراه حتى طما غضبه واربد وجهه، وسأله قائلاً حين بصر بآثار مسمارين على يديه ومثلهما على رجليه:
- من ذا الذي تجرأ فجرحك؟ قل من ذا الذي تجرأ عليك ففعل؟(977/52)
فأجابه الطفل الصغير:
- كلا. . . ما هذه جروح حقيقة، إنها جروح الحب! وهنا استولت على قلب المارد الرهبة والخشوع فخر ساجداً أمام قدمي طفله وسأله قائلاً:
- من أنت إذاً؟
فأجابه الطفل باسماً: أنا الصبي الذي سمحت لي مرة باللعب في بستانك هذا؛ جئت لآخذك معي إلى بستاني الذي هو الفردوس.
وحينما عاد الأطفال عصر ذلك اليوم كعادتهم، وجدوا المارد ميتاً في مكانه تحت الشجرة، وقد نثرت على جثمانه الأزهار والنور الأبيض الجميل.
ف. س(977/53)
العدد 978 - بتاريخ: 31 - 03 - 1952(/)
لا تخافوا (الإخوان)
لأنهم يخافون الله
قال لي صديق من أدباء الأقباط أعرف فيه رزانة العقل ورزانة الطبع، وقد جرنا الحديثإلى ما يكابده هذا البلد المسكين من شهوات أبطلت الحق، ونزعات قلقلت الأمن، ونزعات بلبلت العقيدة: (ألم يكن من الخير لمصر ألا يكون فيها إلا إخوان مصريون لا مسيحيون ولا مسلمون لتدوم الوحدة وتزيد الألفة؟ لقد نقمنا من المبشرين أنهم أنبتوا في القاهرة فرعاً (لجمعية الشبان المسيحيين) وكنا نود ألا يجاريهم في مثل ذلك الذين أنشئوا (جمعية الشبان المسلمين) فإن الأمر لا بد أن يجري في الجمعيتين على حكم العصبية الدينية، وفي هذه العصبية توهين للصلات الطبيعية التي تصل المواطن بالمواطن، وإن كان هذا التوهين لا يزال ضعيف الأثر لغلبة العوامل الرياضية والثقافية على نفوس الأعضاء في هاتين الجماعتين. ولكني أصارحك ولا أداجيك أن ما نخشاه من (الإخوان المسلمين) أبعد في الأثر وأقربإلى الخطر مما نخشاه من أي حزب ومن أي جماعة ذلك لأن الإخوان ميدانهم أوسع ودعوتهم أسرع ووسائلهم أنقذ وغايتهم أبعد. إنهم يريدون حكماً غير الحكم، ودستوراً غير الدستور ونظاماً غير النظام. ولا أدري كيف نكون نحن إذا غلب دين واحد على دنيا مشتركة، وطبق دستور معين على حياة مختلفة؟)
فقلت له وقد وافقته على ما رأى من قوة الإخوان ونفاذ دعايتهم وبعد غايتهم: أنا أدري كيف تكونون. تكونون إذا ما أراد الله لحزبه أن يغلب، ولشرعه أن يحكم، ولنوره أن يتم، كما كنتم في عهد الخليفة عمر: لكم ما للمسلمين من حق، وعليكم ما عليهم من واجب. أما إذا كان قد وقع في عهود بعض الواغلين على الوادي حماقات أورثتكم هذه الوساوس، فإنما كان وقوعها ضلالاً في العقل لغيبة الهادي وشططاً في الحكم لعطلة الدستور. وما كان الهادي الذي أغفلوه غير دين الله، ولا كان الدستور الذي عطلوه غير كتابه والعقيدة يومئذ كانت في أكثر الناس إيمانا بالاسم وكفراناً بالفعل. وأنتم اليوم أقرب إلينا وأعز علينا مما كنتم أيام الوالي عمرو؛ لأن العلاقة بينكم وبين المسلمين كانت في القرن السابع علاقة فتح وجزية، فأصبحت في القرن العشرين علاقة وطن وجنس ولغة وأدب وثقافة وتاريخ. وما أظنك تماري في أن أكثر المصريين أقباط أسلموا وأنت لا تخشى صاحب الدين ما دام(978/1)
يستشعره ويستظهره ويعمل به؛ فإن الأديان جميعاً تتفرع من أصل إلهي واحد، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنما تخشى من يعتقد أن إلهه في السماء وليس معه على الأرض، ومن يحسب أن غاية دينه كلمات وحركات تؤدى في كل فرض! والإخوان المسلمون قوم تآخوا في الله وتواصوا بالحق وتوافوا على المحاجة وتعاونوا على البر واستبطنوا حقيقة الدين. دستورهم القرآن وهو بين، وحكمهم الشريعة وهي سمحة ونظامهم المحبة وهي أجمع، وغايتهم الإنسانية وهي أشمل. والإسلام أنزله اللطيف الخبير الذي يعلم من خلق، ليكون سلاما لكل نفس، وقواما لكل عمل، ونظاما لكل جماعة. ودنياه العامة التي يحكمها وينظمها لابد أن يكون فيها العربي والأعجمي والذمي والوثني، فلا جرم أن الله يدبر بحكمته الأمر على أن يعيش هؤلاء جميعا سعداء في ظله. وماذا تخاف من (الإخوان) وهم يتلون كل يوم قوله تعالى:
(إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من أمن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم آجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون)؟
فقال صديقي وقد نقع ما قلت نفسه:
إذا كان رأي الإسلام في المخالفين هذا الرأي، وكان (الإخوان) مسلمين بهذا المعنى، فآنا لنرجو أن يكون أساس المصريين جميعا في البناء هذا الأساس: إيمانا خالص بالله وعمل صالح للناس!
أحمد حسن الزيات(978/2)
في تاريخ الأدب التركي
للأستاذ عطا الله ترزي باشا المحامي
في وسعنا أن نقسم تاريخ الأدب التركي إلى عصريين أساسيين: جاهلي وإسلامي، وأن نقسم كذلك كلا من هذين العصريين إلى أدوار مختلفة. .
ورأينا أن نتحدث في هذا المقال عن تاريخ الأدب التركي منذ نشأته حتى تأسيس الدولة العثمانية بإيجاز
يتكون العصر الجاهلي من دورين هامين:
(أولا) دور الأدب المظلم، ولا نعرف عنه أكثر مما يرويه لنا المؤرخون من (مناقب الترك) المعرفة ب (الدساتين) وهي تتضمن بعض القصص والروايات التاريخية عن نشأة الأتراك وقيامهم بتأسيس الدويلات. وتحتوى كذلك على تراجم بعض الملوك والأمراء والقواد. وأشهر هذه الدساستين دستان (أوغوز خان) ودستان (بوزقورت) ودستان (شو) وغيرها. . . ولم يعرف الترك في هذا الدور الكتابة وإنما انتقلت إلينا هذه الدساتين من بعض الآثار التاريخية القديمة
(ثانيا) دور الأدب المكتوب: وشاع في هذا الدور استعمال الكتابة بين الترك. والكتابة الأولى التي عثرت عليها في التاريخ هي التي اكتشفها العلماء بالقرب من مدينه (طورفان) في الشمال الشرقي من (منغوليا) على ضفة نهر (اورخون). فقد وجدت في هذه النواحي ألواح من الرخام مثبتة في الأرض نقشت عليها بعض الكتابات. وكان أهمها ثلاث كتابات تعرف ب (تونيو قوق) و (كول تكين) و (بيلكه قاغا). ويرجع تاريخ الكتابة الأولىإلى سنة 720م والثانيةإلى سنة 732م والثالثة إلى سنة 735م. وقد ثبتت هذه الألواح التي تبحث عن حروب الترك مع الصينيين في جانب زعماء تولوا عرش الدولة التركية المسماة ب (كوك تورك)
ويعتبر (بيلكه تو نيوقوق) أول أديب عرف في تاريخ الأدب التركي على الإطلاق
ولقد أشار إلى وجود هذه الكتابات في أول الأمر المؤرخ الإيلخاني المعروف (جوبني) وذلك في القرن الميلادي الثالث عشر. وذكرها أيضا الدكتور الألماني دانيل مسرشميد حين رآها (سنة 1721م) أثناء قيامه برحلات في هذه الأنحاء وسماها بالكتابات الطلسمية(978/3)
ويعود الفضل في أمر اكتشافهاإلى العالم الدانيماركي طومسن
فقد وفق لأول مرة في 25111893 إلى قراءة كلمات (ترك،
ننكري، كول تكين). وتمكن هذا المستشرق بعد ذلك من حل
رموز الكتابة وقراءتها بكاملها. وكذلك استطاع من بعده العالم
الألماني الشهير رودلف أن يترجمها ترجمة صحيحة
وفي القرن التاسع من الميلاد أراد الأتراك، وقد هجروا استعمال هذه الكتابة، أن يتعلموا لونا جديدا من الكتابة تسمى بالكتابة الأويغورية. وقد انتقل إلينا كثير من الكتب التركية القديمة المدونة بهذه الكتابة، كانت موضع دراسة العلماء والباحثين، منها كتاب , وقد حققه العالمان بنج وفون جربيان ومنها كتاب (المتون ألمانية التركية) نشره فون لكك كتاب جمع بين دفتيه كثيرا من العقائد والأدعية في المذهب وهو ألماني الذي انتشر بين الترك في ذلك العصر. ومنها كتب نشرت من قبل أكاديمية العلوم النمساوية بعنوان وأخرى ذات قيمة أدبية عثرت عليها في مدينة (طورفان)
وهنا ينتهي العصر الجاهلي من الأدب التركي وبانتهائه تضمحل الكتابات القديمة شيئا فشيئاً حتى تنقرض وتحل محلها الكتابة الإسلامية بالتدريج
العصر الإسلامي:
إن هذا العصر في الأدب التركي يتكون من أدوار مختلفة تتبع في تقسيمها ما يلي:
صدر الإسلام: وجد الأتراك، حين احتكوا بالمسلمين في القرن الميلادي الثامن، أن هذا الدين يقوم على نظام اجتماعي متين، ويستند على أسس أخلاقية تتشابه مع قواعد العرب والعادات السائدة بينهم. فاعتنقوه على عجل. وقد انتشر الدين الإسلامي بين الأتراك انتشارا عظيما حتى أسلمت الأقوام التركية الساكنة في البلاد المتاخمة لحدود الصين جماعات ووحدانا. ولم يبق منهم غير أفراد قلائل لم يسعدهم الحظ في الاتصال بالمسلمين
ولقد أفاد الترك من الإسلام إفادة جلى. فنظموا حياتهم الاجتماعية وفقا لاعتبارات هذا الدين الجديد. فانتقلوا من طور البداوةإلى طور الحضارة، فبدءوا يسكنون المدن وقد اعتزلوا(978/4)
الحياة القبلية إذ رحلوا بعد الإسلامإلى الديار القريبة من مراكز الخلافة الإسلامية
ولم يؤثر في الحياة الأدبية عند الأتراك دين من الأديان التي اعتنقوها قبلا بقدر ما أثر فيها الدين الإسلامي الحنيف. ويتطلب دراسة هذا التأثير بنوعيه الإيجابي والسلبي تفصيلا وتمحيصا، وقد أجزناها الآن في سطور عسى أن نجد فرصة أخرى نعالج فيها هذا الموضوع بالشرح والتمحيص
لقد كان أثر الإسلام في الأدب التركي أعظم من أثره في الأدب العربي كما تبين ذلك من الآتي:
غير الإسلام من غير شك مجرى الحياة الأدبية عند الأتراك تغييرا عظيما. فأخرج الأدب التركي من عزلته الجاهلية وأدخله في قائمة الآداب الشرقية الحية. فنرى منذ ذلك اليوم ازدهاراً كبيرا ونمواً متزايداً في النتاج الأدبي عند الترك. ويندر أن نجد آثارا خلفها الترك من عصر جاهليتهم، إذ أن غالب الآثار التي أنتجها رجال الفكر التركي منشؤها هذا الدين القيم الذي مهد السبيل أمام المفكرين وأنار لهم الطريق، طريق الرقي في مدرج العلم والثقافة
وقد كان من آثار هذا الدين اقتباس الترك الأفكار الأدبية من خزائن الآداب الإسلامية الأخرى أضافتهاإلى ثروتهم
وكان الأدب التركي في الجاهلية أدبا فرديا غير متسم بطابع الأدب الجماعي، ونعني بالأول ذلك اللون من الأدب المشتت شمله والمجهول عوالمه، الصادر عن عقلية ضعيفة غير متكاملة. فما كان من الإسلام إلا أن وجد اتجاه الأدباء في أساسه توحيدا كاملاً
ولا ينكر ما لهذا الدين من تأثير سلبي في الأدب التركي من بعض الوجوه، كاللغة. وقد كانت اللغة التركية خالصة في أصلها، خالية من الألفاظ الأجنبية. وبعد نشوء العلاقة الدينية بين الأتراك وبين غيرهم من الأقوام بدأت الألفاظ الغريبة من فارسية وعربية تتسربإلى هذه اللغة بالتدريج حتى شاع بين الأتراك استعمال بعض القواعد الأجنبية في الكتابة استعمالا أذهب عن اللغة التركية روعتها
وقد تأثر الكتاب الأتراك بلغة القرآن تأثراً بليغاً حتى حدا بعضهمإلى استعمال اللغة العربية في الكتابة عوضا عن لغته الأصلية. وقد أنتجوا كثيرا من المؤلفات القيمة في هذه اللغة من(978/5)
بينهم فلاسفة عظام ومفكرون مشهورون. أمثال الفارابي وأبن سينا والزمخشري - صاحب الكشاف ومؤلف كتاب مقدمة الأدب - كما وأن آخرين منهم انساقوا بسبب الملابسات والظروفإلى استعمال الكتابة الفارسية بدلا من التركية أمثال جلال الدين الرومي صاحب المثنوي المعروف وغيره من المفكرين
التصوف في الأدب التركي:
ليس من شأننا الآن أن نتحدث عن تاريخ التصوف الإسلامي في عصوره المختلفة، وإنما وددنا أن نتطرق بإيجازإلى النواحي الأدبية منه بقدر ما يتعلق بالموضوع
إن آثار التصوف بدأت تظهر شيئا فشيئا في الأدب التركي منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وذلك حينما استخدم العالم المعروف الشيخ محيي الدين بن العربي نظريته المعروفة (وحدة الوجود) التي كان لها الأثر البالغ في الأدب التركي طوال العصور
وقد تأثر شعراء الترك كذلك بفلسفة الجاذبية الإلهية التي كان أصحابها يوقنون بتمثيل القدرة الإلهية في النفس البشرية عن طريق الإيمان بذاته إيمانا يطرد الشرور الكامنة في النفس، فيتجسم النور الإلهي في القلوب تجسما يحيه المؤمن في كل حين. . وكان هؤلاء الرجال يعشقون جمال الله عشقا خالصا لا يخامرهم فيه شك ولا يأخذهم منه ريب، ولم يكن هذا العشقالإلهي في نظرهم كالحب المجازي الذي يشعر به الإنسان تجاه الآخرين، بل كانوا يعتبرونه مودة صافية ناشئة من فرط ميلهم للوجود المطلق
ومن استطاع في رأيهم أن يتغلب على النفس الأمارة بالسوء بدافع غلاب لا يحمله إلا القليلون، واندمج في الوجود المطلق، فقد بلغ الغاية القصوى ونال الدرجة العليا في سلك التصوف فحاز رتبة (الفناء في الله)
ولقد تظاهر كثير من شعراء الفلسفة زمنا غير قليل، نذكر منهم الشاعر المعروف (نسيمي) من شعراء القرن الرابع عشر ميلادي الذي ألف ديوانا ضخما في الشعر التصوفي، وقد اشتمل هذا الديوان على قصائد جياد في تحبيذ ما ذهب إليه الصوفي الإسلامي الكبير (الحلاج المنصور) وكان نسيمي قد سلك مسلك الحلاج في قوله (أنا الحق) مما أثار ضجيج العلماء في عصره، فاغتاظ منه رجال الدين وأمروا بقتله فكشطوا جلده حيا فهلك
ومنهم الشاعر الإنساني العظيم (يونس أمره) وهو أحق أن نفرد له مقالا خاصاً في الرسالة(978/6)
ليتبين القارئ مدى قيمته الأدبية ومنزلته الممتازة بين الشعراء الصوفيين. ونكتفي اليوم بإيراد منظومة مترجمة من قصيدة مطلعها:
برساقيدن ايجدم شراب عرشدن بوجه ميخانه سي
يقول:
تناولنا الخمر من ساق كانت خمارته فوق العرش فأصبنا بالخمارة السكر، ففدينا الأرواح
حبذا هذا المجلس الذي تشوى فبه الأكباد على نار شمع وهاج تدور حوله الشمس كما تطير الفراشة حول النار
وفي هذا المجلس تنطلق صيحات (أنا الحق) من أفواه المخمورين الذين يعد أفقرهم في التصوف، في مستوى الحلاج المنصور ثم ينهي الشاعر منظومته بخطاب يوجه إلى نفسه قائلا:
حذار من مخاطبة الجاهلين بهذا الكلام الفياض
فإنك تعلم كيف يقضي هؤلاء الوقت. . .
ويلاحظ في هذه القصيدة أن الشاعر كنى عن الإله بالساقي. وعبر بالخمر عن العشق الإلهي. كما أنه روى حرقة كبده في حب الإله بشي الكباب في مجلس الشراب
وقد انتشرت هذه الألوان من المصطلحات الصوفية بين الشعراء حتى شاع استعمال كثير من تعابير اللهو والطرب في موضوع التغني بذكر الله. . .
البقية في العدد القادم
عطا الله ترزي باشى المحامي
ببغداد(978/7)
3 - التعليم في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
كل من استمع إلى بيان سعادة الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف الأسبق في الإذاعة. أو أطلع عليه في الصحف، عن عبث الطلبة في المدارس، واستخفافهم بجميع القيم الخلقية والآداب المرعية، وما تبع ذلك من إغلاق جميع المعاهد التعليمية في البلاد، مما لم يعهد له مثيل من قبل، يعتقد بأن المدرسة المصرية أصبحت في مسيس الحاجةإلى إصلاح شامل، لا يقتصر على مناهجها، بل يتجاوز ذلكإلى نظمها بل إلى روحها، حتى لا تنتهيإلى الفشل في مهمتها. ولقد أصبح واجبا وطنيا على جميع كبار المربين، وعلى رأسهم الأستاذ الكبير معالي رفعت باشا وزير المعارف العمومية، بل وعلى جميع القادة والمفكرين أن يبحثوا وأن يفكروا تفكيرا عميقا في علاج هذه الحال الآسفة المؤلمة، التي تهدد الأخلاق بالبوار، وحياة الأمة كلها - لا قدر الله - بالدمار، والتي أتينا على وصف الكثير منها في مقالينا السابقين بمجلة الرسالة الغراء، ذات الأثر الفعال في العمل على إنهاض هذه الأمة
إن الواجبيقضي علينا أن نذكر زعماءنا وقادتنا بما نحسه من عيوب وعقبات في طريق نهضتنا، لنتعاون جميعا على إصلاح أنفسنا، وواجبنا أن لا نستصغر ما في هذا الأمر الجلل من خطورة، وأن نكون صرحاء فلا نداري ولا نماري لنأخذ الأمر بما يستحقه من جد، وأن لا يكون مثلنا مثل النعامة تغمض عينيها وتخفي رأسها في الرمال، ظنا منها أنها ستفلت بذلك من الصياد، فإذا به يداهمها ويقضي عليها
لقد كان حال مدارسنا قبل ثورة 1919، أي منذ ثلث قرن من الزمان غير حالها اليوم، كان حالها يملأ نفوس طلابها احتراما لها وتقديسا، وكانت نفوس الفتية تمتلئ تقديرا للأساتذة وتقدير للمسؤوليات الملقاة عليهم، ولكن تلك النفوس الفتية كانت كذلك تمتلئ رهبا من النظار وكثير من الأساتذة، فكنا نأخذ على المدرسة ما فيها من شدة وقسوة ورهبة، كما كنا نأخذ عليها ما فيها من بعد عن الحياة الطبيعية في روحها وفي نظامها، ولكن الجد والاحترام والتقديس كانت أسساً تقوم عليها الحياة المدرسية كما هو الحال اليوم حياة المدارس الأجنبية التي بين ظهرانينا، فماذا جد في مدارسنا في السنين الأخيرة، حتى بعد أبناؤها عن الجد والوقار، وركنوا إلى العنت والاستهتار، مما اضطر الكثيرين من الزعماء(978/8)
والكبراءإلى أبعاد أبنائهم عنها، والإلقاء بهم في أحضان المدارس الأجنبية، التي لا شك في أنها تضعف القومية، ويوهن بعضها في نفوس أبنائنا العقيدة الوطنية والدينية، فكيف نغفل طوال السنين عن الفارق الكبير بين مدارسنا وبين تلك المدارس الأجنبية، ذلك الفارق الذي جعل منها مدارس ممتازة يفضلها الآباء الموسرون، ويحبها ويؤثرها على غيرها الأبناء المدللون. إن هذا الفارق واضح في نظمها وبين فيروحها التي تشيع المحبة والتعاطف والتعاون بين أساتذتها وطلابها، فهلا درسنا ذلك وتأملناه وعملنا له في مدارسنا وكلياتنا؟
إن المدارس الأجنبية تستخدم العصي أحيانا في تأديب التلاميذ الذين عز عليها علاجهم، ومدارسنا منعت فيها عصى التأديب من زمن بعيد، ومع ذلك ترى الناشئ في المدرسة الأجنبية التي تهوي بعصاها عليه أحيانا يحترمه ويقدسها، أما عندنا ف. . . . . . .، ولم يبق لدينا اليوم غير كلية واحدةأو كليتين، ومدرسة ثانويةأو مدرستين هي التي حافظت على كيانها ولم تتأثر كثيرا ما جرى في مختلف الكليات والمدارس، فحفظت توازنها واحترام طلابها لها. أعتقد أن كلية الطب من بين الكليات، والمدارسة الثانوية النموذجية هي من بين المدارس الثانوية التي لازال الجد والوقار يحف بهما في عملهما، ولما يتسرب إليهما الفساد الذي سرى في غيرهما، وأسأل الله أن يحفظهما من هذا العبث. فهلا تعرفنا الأسباب الحقيقية لذلك علنا نرسم الخطة المثلى للعودة بالمدرسة المصرية إلى جدها ووقارها!
إن الجفوة بين الطالب وكليته وبين التلميذ ومدرسته، كما وأن الجفوة بين المدرسة المصرية والبيئة المحيطة بها، هاتان الجفوتان اللتان تميزت بهما مدارسنا جفوتان قديمتان، نبهنا إلى علاجهما من زمن بعيد في تقاريرنا وفي مقالتنا وفي كتابنا (التعليم والمتعطلون في مصر) الذي أصدرناه منذ ثلاثة عشر عاما، وقد جاء في مقدمته: (عملت بين جدران المدارس زمانا طويلا، كنت أحس فيه أن المدرسة التي عملت فيها تلميذا، والتي عملت فيها مدرسا، والتي عملت فيها ناظرا، لم ينلها شيء محسوس من التغيير، ولم يتطرقإلى روحها شيء من التجديد، فهي لا زالت تسير على نفس الوتيرة القديمة، مليئة بنفس الروح القديمة، يحس تلميذها إذا ما دخلها بانقطاعه عن العالم وما فيه، إلى شبه سجن غير محبوب إذ لم يوصف بأنه مكروه، ولكنالجميع ظلوا يكتبون عواطفهم إزاءها، لما تجلبه من(978/9)
خير الوظيفةإلى طلابها بعد نيل شهادتها، ظلت المغريات القديمة تدفع الناس دفعاً للسعي إليها)
وجاء في تقرير رفعته إلى معالي وزير المعارف في مارس سنة 1928 ما يأتي: (فالمدرسة الابتدائية وكذا الثانوية لا زالت منفصلة تماما عن البيئة المحيطة بها، يدخلها التلميذ فيتصور أنه في عالم أخر غير عالمه الذي يعيش فيه، ونظرية حشو الأدمغة بالمعلومات البعيدة عن الحياة العملية لا زالت متجسمة في المنهج الجديد تجسمها في القديم، ولا زال كثير من التلاميذ يبغضون المدرسة وذكرها وكل ماله مساس بها)
وجاء في صفحة 18 من مؤلفي السابق الذكر في الكلام عن المستر دنلوب الذي ظل مستشارا للمعارف اكثر من ربع قرن من الزمان في بدء الاحتلال ما يأتي: (بهذه الطريقة أوجد دنلوب بين جدران المدارس نظاما عسكريا جافا شديد، إذ اصبح خير نظار المدارس ذلك الذي يقلده في كبريائه وشدته، فاجتهد كل ناظر إن يقسو القسوة كلها على مرءوسيه وتلاميذه، وحاول المدرس بدوره إن يعامل أبناءه بمنتهى الشدة والجفاء، وأن يبتعد عنهمويتكبر عليهم ما أمكنه الابتعاد والكبرياء، حتى أصبحت العلاقة بين المدرس وتلميذه علاقة عداوة وشحناه، لا عطف فيها ولا مودة ولا هوادة، كل يتربص بصاحبه الدوائر ويحاول إيذاءه بمختلف الوسائل. . . الخ)
ولقد ظل الحال كذلك والمستعمر ينفث سمومه في التعليم، حتى افسد جوه ونجح في تبغيض الأبناء في المدرسة وكل ما فيها، لكن هذا الشعور ظل مكبوتا زمنا حتى ثارت البلاد ثورتها سنة 1919 تطلب حريتها، فبدأ التلاميذ يتمردون على المدرسة، وبدأ شعور الكراهية يظهر شيئا فشيئا ويزداد ظهورا كلما ضغط المستعمر على البلاد، وحاول إخضاعها للحديد والنار، وجاء دور الحزبية التي شجعها المستعمر فلعبت بعقول التلاميذ والطلاب، وزادت نار الحقد والكراهية أوارا حتى صاروا في شبه ثورة جامحة على المدرسة ونظمها وتقاليدها وكل ما فيها، وفقد الأساتذةسلطانهم الروحي والعلمي عليهم، خصوصا بعد أن اضطرتنا ظروف نشر التعليم المفاجئة السريعة أخيراإلى الالتجاء إلى كثير من المدرسين الحديثين، الضعاف في مادتهم والضعاف في أساليبهم وسلطانهم الروحي العلمي.(978/10)
ولو أن المدرسة كانت محببة إلى أبنائها، ولو إنها كانت متصلة اتصالا وثيقا ببيئتها متفاعلة معها، وكان أساتذتها ذوي سلطان علمي قوي على تلاميذها، ووجد فيها التلاميذ الغذاء العلمي والروحي الذي يطمئنهم ويرضي نفوسهم كما هو الحال في المدارس الأجنبية وفي كلية الطب وفي المدارس الثانوية النموذجية ما فعل الطلبة بمدارسهم هذه الأفاعيل، لما استباحوا أنفسهم حرمانها وعبثوا بمقدساتها، ولو أن المدارس الأجنبية في مصر والمدارس الثانوية النموذجية وكليات الطب كانت غير محببة لدى أبنائها، غير عابئة كغيرها بالاتصال بالحياة المحيطة بها، ذلك الاتصال الذي يجعل منها قطعة من الحياة، لما حرص عليها طلابها، ولفعلوا بها كل فعل غيرهم من الأبناء، فالكل مصريون والكل شعورهم واحد وبيئتهم واحدة
لهذا كله أدعو مجالس الكليات كما أدعو كبار المسئولين عن التعليمإلى دراسة أحوال الكليات والمدارس دراسة عميقة لجعل الحب والتشويق والاتصال المباشر بالحياة العاملة، والتعاون بين الأساتذة والطلاب أسسا حقيقية في حياة المعاهد التعليمية جميعها، وإلى العناية بالغذاء الروحي المقوم للنفوس والقلوب، والكفيل بتقويم الضمائر، ودفعها لحماية جميع المقدسات والحرمات، مع الحيلولة بين الطلاب والحزبية الممقوتة في سبيل القضاء على الفوضى والفساد والترهات، كما أدعو كبار المسؤولين من رجال المعارف إلى البحت والتمحيص في التقاء نظار المدارس والناظرات ممن حسنتسمعتهم وترفعوا عن الدنايا والموبقات، بل ممن ارتفعت شخصياتهم عن كل الشبهات، فهؤلاء خاصة يمكن أن يوجه الأساتذة التوجيه الصحيح، الكفيل بإصلاح حال الأبناء. والله أسأل أن يهدينا صراطه المستقيم، وان يوفقنا إلى استقامة حياتنا واستعادة مجدنا إنه نعم المولى ونعم النصير
عبد الحميد فهمي مطر(978/11)
علي مشرفة باشا
(بمناسبة ذكرى وفاته)
للأستاذ أحمد علي الشحات
عالم من خيرة علماء مصر، ونابغة من النوابغ الذين ظهروا في هذا العصر، وأول عميد مصري لكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول - ظهر نبوغه منذ فجر الشباب، فنراه يتخرج في مدرسة المعلمين العليا عام 1917 وهو إذ ذاك في التاسعة عشر من عمره، وتوفده الحكومة للخارج، فيحصل على درجة البكالوريوس في العلوم عام 1920، وعلى درجة دكتوراه الفلسفة عام 1923، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، يرجع إلى بلده العزيز مصر ليعين أستاذا للرياضيات في المعهد الذي تخرج فيه وهو المعلمين العليا، لكن نفسه التواقة تشغف بالتطلع إلى أعلى درجة جامعية في العام ويرى أن بلده لم ينل فخر الحصول عليها بعد وهي دكتوراه العلوم؛ فيتصدى مشرفة لها ويطلب من وزارة المعارف أن تعطيه الفرصة ليحصل عليها من أجل مصر، لأنه كان يؤمن أن مجد البلاد إنما يقوم على العلم، وأن الأمم العظيمة هي التي اهتمت بالعلم وبالعلماء فاخرجوا لها الاكتشافات والاختراعات، ولقد صدق شوقي رحمه الله حين قال
كل يوم آية دلت على ... أن للعلم القوى والغلبا
لو بنوا فوق السها مملكة ... لوجدت العلم فيها الطنبا
سلم الناس إلى المجد إذا ... طلبوا سلمه والسببا
ولكن أني لمشرفة أن يعطى الفرصة لهذا المجد والذين بيدهم السلطة في ذلك الوقت كانوا الإنجليز، وأنه ليس مما يسر خاطرهم أن يظهر النبوغ المصري أمام العلماء في الخارج، فيعقدوا الأمور له. وأخيرا يتحدونه بشكل مستتر فيوافقون على سفره على شرط أن يحصل على هذه الدرجة التي لا يتطلع إليها في العالم إلا القلائل ممن وهبهم الله ملكه عالية في الرياضيات أن يحصل عليها في فترة الإجازة الصيفية. ويقبل مشرفة التحدي، وبنصره الله نصرا عزيزا وتحدوه المعجزة، ويمنح هذه الدرجة العليا من بلاد الإنجليز ومن جامعة لندن وهو في السادسة والعشرين
ويرجع مشرفة إلى مصر ليجد أن عاهل مصر العظيم المغفور له فؤاد الأول ينشئ الجامعة(978/12)
المصرية من كليات الآداب والطب والحقوق وكلية رابعة لم يكن لمصر بها عهد من قبل وهي كلية العلوم، ويطلب مشرفة أن يعين أستاذا في هذه الكلية فترفض الجامعة مع اعترافها بأنه حائز لأرقى درجة جامعية في العالم، ولكن هناك مانع قانوني يقف في سبيله؛ هذا المانع هو أن سنه صغيرة ويجب في نظر الجامعة ألا يقل سن الأستاذ عن الثلاثين عاما، وترضى الجامعة أن تعينه أستاذا مساعد فقط، وتثار هذه المسألة - الأولى من نوعها - في البرلمان ويتدخل الزعيم الراحل سعد زغلول باشا ليقنع الجامعة بأن صغر سن مشرفة يجب أن يقابل بالتقدير، وأنه هو دليل النبوغ. وأخذت الجامعة بوجهة نظر الزعيم ويرقى مشرفة إلى درجة أستاذ بالجامعة 1926 وتمضي سنوات عشر فإذا به ينتخب عميدا لهذه الكلية وهو دون الأربعينمن عمره، إذ كان في الثامنة والثلاثين آنئذ. وقد حصل على رتبة البكوية في هذا الوقت. ويتابع مشرفة نشاطه العلمي وبحوثه الرياضية وتنتشر في الخارج في أمهات المجلات العلمية
ويزداد تقدير العلماء له فيدعوه انيشتين ذو الشهرة العالمية في الرياضيات وصاحب نظرية النسبية وأحد أقطاب القنبلة الذرية أن يحاضر كأستاذ زائر في جامعة برنستون عام 1947، وأن ينزل ضيفا على الحكومة الأمريكية؛ وتوافق الجامعة على طلب العلامة الأمريكي، ولكن تجد ظروف خاصة تمنع مشرفة من الذهاب ويبقى في مصر
وكان مشرفة من المؤمنين بأن العالم يجب ألا يبقى في برجه بين جدران معامله، بل يجب أن يساهم في بناء المجتمع وفي نشاطه وفي تبسيط العلم لجمهرة من الناس، فنراه يلبي دعوة الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية ويلقي سلسلة من الأحاديث عن الذرة والقنبلة الذرية وعن (العلم والدين) (والعلم والمال) (والعلم والسياسة) (والعلم والصناعة) (والعلم والأخلاق) وغيرها. كما لم تخل صحيفة يومية أو مجلة ثقافية من مقالاته وآرائه، وفي مقدمتها مجلة الرسالة الغراء
واتسع نشاطه فنراه يخرج للناس عدة كتب علمية منها النظرية النسبية الخاصة
- ومطالعات علمية - والذرة والقنبلة الذرية - ونحن والعلم - والعلم والحياة - ويهتم بدراسة علماء العرب فيساهم في إخراج كتاب الجبر والمقابلة لمحمد بن موسى الخوارزمي، ويؤلف عدة كتب في الميكانيكا والهندسة والرياضيات لوزارة المعارف(978/13)
العمومية، كما عهدت إليه الوزارة في ترجمة بعض المؤلفات العلمية الأجنبية
ويساهم في إنشاء الهيئات المختلفة من علمية أو اجتماعية، فنراه بالمجمع المصري للثقافة العلمية، وبالأكاديمية المصرية للعلوم وباللجنة الأهلية للرياضة البدنية، وبمجلس فؤاد الأول الأهلي للبحوث، وبالجمعية المصرية للثقافة العلمية، وبالجمعية المصرية لهواة الموسيقة، وبجمعية القرش للصناعات المصرية، وجماعة إنقاذ الطفولة المشردة والمجلس الأعلى لشؤون الموسيقى بوزارة المعارف
وفي عام 1946 انتخب وكيلا لجامعة فؤاد الأول وحظي بعطف الملك وتقديره فانعم عليه برتبة الباشوية، وأخيرا كان على مشرفة أن يسير في الطريق التي لا بد أن يسير فيها كل كائن حي حين يستوفي أجله
جاء إلى هذه الدنيا في يونيه 1868 وتركها في يناير سنة 1950 وبين هذين التاريخيين أظهر من آيات النبوغ ورجحان العقل ما يجعل ذكراه تخلد على الدهر
أحمد علي الشحات(978/14)
الباكستان
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
دولة طاهرة نقية أنقذها الله من براثن الرجس والوثنية، أولى الدول الإسلامية إذ أنها أكثرها سكانا وأوسعها مساحة لعلها أكثرها رقيا وتقدما
وخامسة دول العالم كله؛ فترتيبها من حيث تعداد السكان كما يلي: الصين، والهندستان، الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، الباكستان
دولة الغد المأمول والأمل المشرق، ولدت فكان ميلادها أمنا وسلاما لإخواننا المسلمين من أبناء القارة الهندية. دولة خلقت لتعيش وستعيش بإذن الله
تلك هي دولة الباكستان، وقد كان من طبعي أن أبدأ الكتابة عنها تحقيقاً للرغبة الكريمة التي أبدتها الأديبة الفاضلة بهيجة المنشاوي والتي نشرت في العدد 976 من مجلة الرسالة الغراء حاملة لواء الفكرة الإسلامية
وقد كان من جميل المصادفات أنني حين أردت الكتابة عن الباكستان تناولت كتابا من أحدث ما كتب عنها وكانت صيغة الإهداء فيه هي ما يلي:
إلى الفتاة العربية
التي ينتظر الغد منها أن تحمل التبعة في سبيل تنشئة جيل جديد قوي
يتذكر مجد الماضي فيمحو عار الحاضر ويحسن بناء المستقبل
فالمؤلف يهدي كتابه إلى الفتاة العربية وأنا اكتب تحقيقاً لرغبة الأديبة الفاضلة، وهدفنا جميعاً إقامة كتلة إسلامية قوية ينعم أبناؤها في ظلها بالكرامة والحرية، وتكون الميزان الدولي للسلام العالمي
الموقع:
الباكستان ثانية دولتين تقومان في شبه القارة الهندية التي تقع في جنوب آسيا وتطل على البحر العربي من الغرب وخليج البنغال من الشرق والمحيط الهندي من الجنوب، وفي شمالها تقع جبال الهمالايا والمرتفعات الوسطى بآسيا
وفي غرب الباكستان تقع أفغانستان وإيران. وتضم الباكستان الولايات الإسلامية من شبه القارة الهندية ولكنها لم تستطع أن تضم جميع مسلمي الهند إليها فما زال كثير منهم يقيم في(978/15)
أرض الهندستان. وتبلغ مساحتها 360 مليون كيلو متر مربع وعدد سكانها حوالي مائة مليون نسمة
وهي تنقسم إلى قسمين: الباكستان الشرقية وتتكون من إقليم البنغال الذي يتكون من المنطقة الواقعة عند مصب نهر الكنج
والباكستان الغربية وتتكون من حوض السند وبلوخستان
ويفصل بين القسمين مسافة لا تقل عن ألف ميل. وهناك منطقتان ما يزال النزاع قائما بين الباكستان والهندستان عليهما: الأولى مقاطعة حيدر آباد ومساحتها حوالي 82 مليون كيلو مترا مربعا وعدد سكنها 16 مليون نسمة، والثانية مقاطعة جمو وكشمير
وسنتحدث عن مشكلة المقاطعتين بالتفصيل فيما بعد
قصة الباكستان
وأحب قبل أن أتحدث عن الباكستان من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية أن احدث القراء عن قصة قيام الباكستان تلك الدولة التي نشأت منذ خمس سنوات فقط
دخلت بلاد السند وبلوخستان في دائرة العالم الإسلامي منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان. وفي أوائل القرن السابع عشر الميلادي كانت جميع بلاد الهند في يد المسلمين وكان يحكمها المغول
ولكن منذ عصر النهضة الحديثة وعصر الاستكشاف بدأت تنتاب الشعوب الأوربية حمى الاستعمار وبدأت إنجلترا تنسج شباكها حول الهند فأنشأت معها علاقات تجارية، ثم كان من الطبيعي أن يقوم النزاع بين شركات التجارة وبين حكومة الهند وانتهى الأمر باستيلاء إنجلترا على الهند. وفي 1763 طردت إنجلترا الفرنسيين من معظم المراكز التجارية التي كانت لهم الهند وأصبحت الهند الدرة اليتيمة في التاج البريطاني. ومنذ ذلك التاريخ والسياسة الإنجليزية تحرص تماما على سلامة الهند، والمقصود سلامة الهند معناه قطعا عدم خروج الهند من يد بريطانيا إلى يد دولة أخرى، ومعناه أيضا الوقوف في وجه الهند ومنعها من تحقيق استقلالها. وأكثر من هذا لقد كان الحرص على سلامة الهند محور السياسة الإنجليزية. استمع إلى قول وارن هستنجس حاكم الهند 1800 (منذ نزول الفرنسيين أرض مصر (1798) لم يغمض لي جفن)، وانظر إليه وهو يدفع حكومته دفعا(978/16)
حتى ترسل عدة حملات 1801 ساهمت في طرد الفرنسيين من أرض مصر وساعدت الأتراك والمصريين على إجلائهم عنها
لماذا كل هذا الاهتمام بالهند؟ يرجع السر في ذلك إلى عاملين خطيرين: 1: إن الهند مورد عظيم من المواد الخام والمواد الغذائية اللازمة للشعب الإنجليزي وللصناعة الإنجليزية
2: إن الهند سوق كبيرة لتصريف المصنوعات الإنجليزية هذا من ناحيةإنجلترا، أما من ناحية الهنود فقد حاولوا التخلص من نير الاستعمال الإنجليز وقامت ثورة كبيرة 1858 ولكنها لم تنجح. وبرغم هذا فقد تكون حزب المؤتمر 1885 وكان ينادي بأن تنال الهند استقلالا ذاتيا وتبقى ضمن دائرة مجموعة الشعوب البريطانية. وقد اشترك كثير من المسلمين البارزين في هذا الحزب الذي كان يرمي إلى تحرير الهند نوعا من الاستعباد البريطاني
ولكن المسلمين بدءوا يشعرون بأن إنجلترا والهندوكيين يأتمرون بهم ويبيتون لهم الغدر والشر، ولذلك قاموا في 1906 بتأسيس الرابطة الإسلامية
ومضى الزمن والهنود يجاهدون في سبيل حرياتهم، وجاءت الحرب العالمية الأولى فوقفوا مسلمين وهندوكيين بجانب بريطانيا وحلفائها حتى تحقق لهم النصر، ومات كثير من أبناء الهند في مختلف ميادين القتال. وانتهت الحرب واعتقد الهنود أن حريتهم ستكون مكافأتهم على تضحياتهم، ولكن إنجلترا خيبت أملهم واكتفت بالقيام ببعض إصلاحات لا قيمة لها
أدى موقف إنجلترا هذا من قضية الهند إلى قيام الثورة الهندية المعروفة بحركة العصيان المدني والتي تزعمها المهاتما غانديسنة 1921. وقد وقف المسلمون وكان يقودهم مولاناشوكت علي ومولانا محمد علي بجانب غاندي، وقاموا بنصيب موفور من الجهاد مما اغضب الإنجليز فاخذوا يسلطون عليهم سياط التعذيب من قتل وسجن، إلى سلب ونهب، فامتلأت بهم السجون والمعتقلات وتحملوا في سبيل الكفاح الكثير من الخسائر. ومع هذا تحمل المسلمون صابرين، وبدأ مركز إنجلترا يتزعزع
لجأت إنجلترا إلى سياستها التقليدية وهي إيقاع الفرقة في صفوف الآمة، فبدأت تتقرب من الهندوس وتتآمر معهم ضد المسلمين، وأخذ بعضهم يعلن ما بيتوا على رؤوس الأشهاد. قال سافاركان أحد قادتهم: إن الهند لن تستطيع أن تكون بلدا موحد ولا أمة موحدة، إن فيها(978/17)
أمتين: الهندوس والمسلمين
وفي عام 1925 نشر هارديال أحد كبار الصحافيين مقالا جاء فيه: (إنني أعلن أن مستقبل الجنس الهندوكي في الهندستان والبنجاب (إسلامية) يجب أن يقوم على أربعة أسس: الوحدة الهندوكية، الحكم الهندوكي، تمجيس المسلمين ثم احتلال الأفغان ومناطق الحدود الجبلية، وإلا كان مستقبل الأمة الهندوكية كلها في خطر)
وهكذا وضح للعيان أنه لا يمكن أن تقوم في الهند دولة موحدة، والواقع أن الخلاف بين المسلمين والهندوكيين كان كبير جدا: إن المسلمين يعبدون الله ولا يشركون به، وقد احل لهم أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم وأن ينحروا البقر، والبقرة حيوان مقدس لدى الهندوس بل هي إحدى معبوداتهم
من أجل هذا كنا نتوقع دائما عند قدوم عيد الأضحى أن نسمع عن مذابح الهند، فقد كان المسلمين ينحرون البقر وسرعان ما تقوم المعارك بينهم وبين الهندوس ويسقط فيها آلاف القتلى
ورب قائل يقول: لماذا عمد الهندوس إلى اقتراف تلك الجرائم في عهد الاستعمار؟ وأنا أذكره بأن المسلمين كانوا سادة الهند وحكامها قبل هذا العصر، فمن الطبيعي أن تكفل لهم سيادتهم وأمنهم وسلامتهم. أما وقد زال سلطانهم على يد الإنجليز وبدأت الهند تتحرر، فقد أخذ الهندوكيون بتحريض إنجلترا يرتكبون تلك الفظائع ويعملون على (تمجيس المسلمين) أو إهلاكهم
وقد أدى كل ذلك إلى اعتقاد مسلمي الهند بأنه لا نجاة لهم إلا إذ قامت لهم دولة مستقلة، وقد تزعم هذه الحركة المباركة القائد المخلص محمد علي جناح
وقد كان أول مؤتمر رسمي اشترك فيه المسلمون بصفتهم الرسمية هو مؤتمر المائدة المستديرة الذي انعقد في لندن 1932
وفي 1937 أعلن البانديت جواهر لال نهرو - رئيس وزراء الهند الحالي - أن هناك من الهند حزبين: الحكومة الإنجليزية وحزب المؤتمر. حينئذ اضطر محمد علي جناح أن يقول: بل إن ثمة حزبا ثالثا هو الأمة الإسلامية
وفي هذا الوقت كان قيام دولة إسلامية مستقلة طيفا يداعب خيال المسلمين، ولكن الله جلت(978/18)
قدرته قد حقق هذا الحلم بأسرع مما كانوا يظنون
ففي 1939 قامت الحرب العالمية الثانية وتحرج مركز إنجلترا وطلبت من الهنود الإخلاد إلى السكينة وترك قضية التقسيم جانبا حتى تنتهي الحرب، ولكن القائد الأعظم محمد علي جناح قال: إننا نوافق على الهدنة في كفاحنا السياسي إذا رضيت بريطانيا بشرطين:
1 - أن تعلن الحكومة البريطانية إعلاناً صريحاً بأنها لا تتبنى دستوراً لحكم الهند في زمن الحرب أو بعد الحرب من غير موافقة سابقة من جانب المسلمين
2 - أن يكون للمسلمين نصيب مساو لنصيب غيرهم من السيادة وفي مراقبة أمور الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية
وقد رضيت إنجلترا بذلك ووافقت عليه وأعلنت في 1940 أنها لن توجد في الهند شكلا من أشكال الحكم لا ترضى عنه عناصر كثيرة العدد قوية الأثر
قبل المسلمون هذا التصريح ولكن الهندوس رفضوه وقاموا بحركة عصيان ضد إنجلترا ولكنها فشلت لعدم اشتراك المسلمين فيها
وفي عام 1944 اجتمع غاندي بمحمد علي جناح في بومباي وحاول أن يتفق معه على عدم تقسيم الهند، ولكن محمد علي جناح رفض رأي غاندي لأنه كان ضد رغبة المسلمين. وربما يبدو هذا الموقف غير سليم أمام من ينتصرون للقومية، ولكن أمام هؤلاء أضع الحادث التالي على سبيل المثال: في عام 1947 كان يسكن بلدة أمتسار خمسمائة ألف نسمة منهم مائتا ألف مسلم وفي يومين أثنين قضى الهندوس على هذا العدد الضخم بالقتل والذبح والتشريد. كيف يمكن مع مثل هذا أن يطمئن المسلمون على أنفسهم؟ إن السبيل الوحيد هو إقامة دولة إسلامية مستقلة
وانتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945 وبدأت إنجلترا تعالج مشكلة الهند. وفي أوائل 1946 أجريت الانتخابات في الهند وقد نجح أعضاء حزب الرابطة الإسلامية في إحراز المقاعد الثلاثين المخصصة للمسلمين في المجلس التشريعي المركزي، وهؤلاء هم أنصار قضية الباكستان. وأصبح واضحا تماما أنه لا يمكن إغفال رغبات مائة مليون من السكان
واعترافا بالأمر الواقع قرر البرلمان البريطاني في 1947 ما يأتي:
(ابتداء من الخامس عشر من أغسطس عام 1947 يقوم في الهند حكومتان باسم الهند(978/19)
وباسم باكستان)
وهكذا تحقق حلم إخواننا المسلمين وقامت دولة الباكستان أكبر دولة إسلامية، تلك الدولة التي خلقت لتعيش وستعيش بإذن الله.
باكستان زنده باد!
للبحث صلة
أبو الفتوح عطيفة(978/20)
الطبيعية والصنعة في الفن
للأستاذ أحمد مصطفى حافظ
الفنانون: الشاعر، والأديب المترسل، والموسيقار، والمصور، والمطرب، والمثال،
والرسام. . أفراد في مجموع قبل كل شيء
والفرد في المجتمع يعطي ويأخذ ويؤثر ويتأثر. . .
وعلى قدر استعداد الفرد لتلقى تأثير المجتمع - من غير أن يشل هذا التأثير حيوية نزعة من نزعاته - يكون نجاحه المتكامل في الحياة الاجتماعية. والطراز الإنطوائي من الناس إذا وجد في الفن متنفسا طاقته المكنونة، كسائر (الرومانسيين، قد يصل تعبيره إلى أقصى ما يوصل إليه الأداء الفني من الروعة والإبداع. . . وهذا يتفق كثيراً لشاعرة كفدوى طوقان، التي تقو في قصيدتها الأخيرة (الصخرة) بالعدد 972 من الرسالة:
أنظر هنا! الصخرة السوداء شدت فوق صدري
بسلاسل القدر العتي
بسلاسل الدنيا البغي
أنظر إليها كيف تطحن تحتها ثمري وزهري
نحتت مع الأيام ذاتي
سحقت مع الدنيا حياتي
دعني فلن تقوى عليها. لن تفك قيود أسري
سأظل وحدي في انطواء
ما دام سجاني القضاء
إلى أن تقول:
ستظل روحي في أقفال
سأظل وحدي في نضال
وحدي مع الألم الكبير. مع الزمان. مع القدر
وحدي وهذي الصخرة البكماء تطحن. . لا مفر!
كما اتفق كثيرا لشاعر كالمرحوم فخري أبو السعود الذي يقول مناجيا الموت.(978/21)
لأنت بلاغ النفس حيرى مروعة ... بوادي شكوك جمة وهموم
وفيك ابتعاد عن جهالة جاهل ... وعن قول مأفون وفعل لئيم
وعندك نسيان وطول زهاد ... لكل مراد في الحياة عقيم
لعمري ما حي بأروح منزلا ... على الأرض من بال بها ورميم
ولو علم الجاني لما جاد عامداً ... على خصمه بالموت جود كريم
وتمحو يداك الحقد والخوف والأسى ... وكل بلاء في النفوس قديم
وأنت تريح الفكر من كل معضل ... يظل له في حيرة ووجوم
وتطوي عن الأجفان صفحة عالم ... ملئ بأنواع الشرور ذميم
وتطوي كتاب الأمس طيا وما مضى ... به من بغيض ذكره وأليم
. . . عزاء لبعض الناس أنك قادم ... وأن شقاء العيش غير مقيم
هذان الشاهدان اللذان سقناهما فيهما صدق وعمق فنيان، نتجا عن شعور صحيح، أجنحته أحزان الوحدة وصروف القدر. . . ولكن آفة الانطواء أن ينفعل الشاعر تحت تأثير القيم الاجتماعية انفعالا فنيا مصنوعا لا مطبوعا، فيكون تعبيره الفني واجبا ملتزما به، أو تقليداً منساقاً إليه. . لا أداء حرا صادرا عن فاعلية فائضة من النفس. . . فشاعر كبشار الضرير، حين يقول متغزلا:
يا منظرا حسنا رأيته ... من وجه جارية فديته
بعثت إي تسومني ... ثوب الشباب وقد طويته
لا يخفى ما يقوله هذا من بعد عن الصدق والواقعية، علاوة على ركاكة النسج وتكلف المعنى والقافية تكلفا ظاهرا. . وإلا فمن (هو) في ميدان الوسامة والغرام، حتى. . تسأله هي أن يغازلها؟ وإذا أردت دليلا قريبا على ذلك فلاحظ معي، إن شئت، الظروف الاجتماعية في عصر المرحوم أحمد شوقي بك، التي كانت تزين له أن يتصدر ندوة الشعر، تجد أن دولة الشعر كان عليها في هذا العصر واجبات، تقتضيها الضرورة السياسية ومن هنا كان نجاح شوقي غير متكامل في الحياة الاجتماعية. . فجاء شعره الوطني والاجتماعي دون وطنيات واجتماعيات شاعر الني الاجتماعي النزعة. . . ذلك لأن شوقي لم يكن اجتماعي النزعة كحافظ وليس هذا عيبا؛ وقد قدر أن يكون لكل فرد نوازعه(978/22)
النفسية. . فشوقي كان من الطراز الإنطوائي. . .
لو ترك العنان لشاعرية شوقي لفاضت فيضا ذاتيا لا أثر للأحداث السياسية والاجتماعية فيه، ولأخلص لناموس الطبيعة وحرية الفن؛ وإن كان هذا لا يمنعنا من الإقرار بروعة شعره الذي صدر - في غير الأغراض التي أشرت إليها - عن فاعلية فائضة من أعماق وجدانه. . .
وما أرق خمريات أبي نؤاس، الذي نراه يبلغ الذروة فيها لطبيعة انفعاله، اضطرم نتيجة هيام بالخمر معروف عنه، بلغ حد الهوس؟ فجعله يقول:
دع عنك لومي فان اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
رقت عن الماء حتى ما يلائمها ... لطافة، وجفا عن شكلها الماء
فلم مزجت بها نورا لمازجها ... حتى تولد أنوار وأضواء
دارت على فتية دان أزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاءوا
لتلك أبكي ولا ابكي لمنزلة ... كانت تحل بها هند وأسماء
وجعه يقول:
أئن على الخمر بآلائها ... وسمها احسن أسمائها
لا تجعل الماء لها قاهرا ... ولا تسلطها على مائها
كرخية قد عتقت حقبة ... حتى مضى أكثر أجزائها!
فلم يكد يدرك خمارها ... منها سوى آخر حوبائها
داريت فأحييت غير مذمومة ... نفوس حراها وأنضائها
والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدو بأكفانها!
ويقول:
قم يا غلام فقد بدا الفجر ... واسق النديم فما به سكر
من قهوة ما كنت أحسبها ... في الكأس. . لولا اللون والنشر
رقت. . فما تدري أبارقها ... أبها هواء، أم بها خمر!
وأخيراً، وليس أخراً، ليت أدباءنا - الذين يصرون على أن يكونوا شعراء على الرغم من(978/23)
افتعالهم وتعملهم وإمحالهم وضعف أداتهم الشعرية - يتأسون ويعتبرون بصدق أبن المقفع وصراحته، حين أجاب من سأله عن السبب في عدم قوله الشعر، بقوله: (الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيء لا أرضاه) ومن رأيي أن أبن المقفع أسوة حسنة، وقدوة صالحة. . .
فهل تنفع شيئا ليت؟ الحق أن يستجيب هؤلاء ويتفضلون بإراحة أنفسهم وإراحة الناس وإراحة الفن جميعاً؟
إنا لمنتظرون؛ ونخشى أن يطول انتظارنا إلى يوم يبعثون!!
السويس
أحمد مصطفى حافظ(978/24)
شعراء من أشعارهم
4 - عدي بن زيد العبادي
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
ولا تنسى أنني حدثتك عن أخوة عدي، وأنهم لدى كسرى ناعمون، وأنه أقطعهم الضياع واجزل لهم الصلات. وهذا هو عدي يحدثنا عنهم وعن أهله، ويأسى لأساهم، ويستعين بهم، ويصف لهم حاله وما هو فيه من قيد، ومن حديد مضاعف، ومن غلول، ومن ثياب أخلاق مرقعات. هو مع ذلك لا يفوته أن يبرئ ذمته مما أتهم به، ويؤكد إخلاصه للملك:
ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المسبح الخلاق
إن نكن آمنين، فاجأنا شر مصيب ذا الود والإشفاق
فبرئ صدري من الظلم للسرب وحنث بمعقد الميثاق
ولقد سأنيزيارة ذي قر ... بي حبيب لو دنا مشتاق
ساء ما بنا تبين في الأيدي وإشناقها إلى الأعناق
فاذهبي يا أميم غير بعيد ... لا يؤتى العناق من في الوثائق
واذهبي يا أميم إن يشأ الله ينفس من أزم هذا الخناق
أو تكن وجهة، فتلك سبيل الناس لا يمنع الحتوف الرواقي
وتقول العداة أودى عدي ... وبنوه قد أيقنوا بغلاق
يا أبا سهر فأبلغ رسولا ... أخوتي إن أتيت صحن العراق
أبلغا عامرا، وأبلغ أخاه ... أنني موثق شديد وثاقي
في حديد الفسطاس، يرقبني الحا ... رس، والمرء كل شيء يلاقي
في حديد مضاعف، وغلول ... وثياب منضحات خلاق
فاركبوا في الحرام فكوا أخاكم إن عيراً قد جهزت لانطلاق
ثم هو يتحدث عن أهله مرة ويصف ما يلاقيه، وما يختلج في نفوسهن من نوازع الحذر والإشفاق، فيقول:
وبيتي مقفر إلا نساء ... أرامل قد هلكن من النحيب
يبادرن الدموع على عدي ... كشن خانه خرز الربيب(978/25)
يحاذرون الوشاة على عدي ... وما اقترفوا عليه من الذنوب
وقد أرسل عدي رسالة من سجنه إلى أخيه أبي وهو مع كسرى، يستعطفه، ويستنجده، ويصف حاله:
أبلغ أبيا على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم
بأن أخاك شقيق الفؤا ... د كنت به واثقاً ما سلم
لدى ملك، موثق في الحديد، إما بحق وإما ظلم
فلا أعرفنك كذات الغلا ... م ما لم تجد عارماً تعترم
فأرضك، أرضك، إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم
وان كان عدى قد اخطأ فقد يخطي الصديق! وإن كان ظلم فهذا نصيبه! وهلا تستطيع أيها الملك أن تتدارك الأمر وتجنح إلى الرأي المصيب! وعلى كل، فقد وكل عدي أمره لله وهو رب قريب مستجيب:
فإن أخطأت، أو أوهمت أمرا ... فقد يهم المصافي بالحبيب
وإن أظلم، فقد عاقبتموني ... وإن أظلم، فذلك من نصيبي
وإن هلك تجد فقدي وتخذل إذا التقت العوالي في الحروب
فهل لك أن تدارك ما لدينا ... ولا تغلب على الرأي المصيب
فإني قد وكلت اليوم أمري ... إلى رب قريب مستجيب
هذا عدي: عدي البائس المحزون، والحبيس في سجن صديقه ومليكه النعمان. ولم يكن يتوقع يوما أن يكون في مثل حاله هذا، وإن ماضيه مع الملك، وماضي بيتيهما معا، لم يكن يوحي - لحظة من اللحظات - أن هذه المصافاة والإخلاص والود قد تنقلب آسى ما بعده آسى، وشر تصغر دونه الشرور
وقد استطاع عدي بكل ما أوتى من قدرة على البيان والتعبير، قدرة الفنان البائس المذكور، وأن يرسم لنا صورة له في السجن. ولأهله، وأن يحدثنا عما كان بينه وبين النعمان من مودة وصفاء، وأن يذكر النعمان بأياديه عليه، وأن يذكره بما كان لزيد أبي عدي من ملك الحيرة قبل المنذر آبي النعمان، ويذكره الصهر، ويضرع إليه ألا يشمت به الأعداء
وقد أكره النعمان عديا على إطلاق هند. وما كان ينتظر لهذا الزواج غير هذا، ففارق(978/26)
السن، والطريقة التي تم بها، وعدم مواءمة الزوجين كفاءة كما يرى النعمان، كل هذا كان يشير إلى أن الزواج قد لا يطول اجله، وأن الفراق ينتظر الزوجين بعد حين طويل أو قصير. ثم جاءت الأحداث تتابع، وأضحى هذا الزواج من أسباب النفر بين عدي والنعمان، ودخل الأعداء، وخشي النعمان عديا؛ فكان الحبس، وكان الطلاق
وقد ترهبت هند بعد ذلك في ديرها المعروف بدير هند، وقد بنته حين تنصرت بعد تنصر أبيها على يد عدي، وحبست نفسها فيه، وأعرضت عن الحياة الدنيا بزخارفها ومفاتنها، إلى حياة نبيلة طهور تطمح إليها آمال النصارى المخلصين
واختلفت الرواة، فمن قائل إنها ترهبت بعد طلاقها، ومن قائل ترهبت آسى على زرقاء اليمامة، ومن قائل ترهبت حين قتل كسرى أباها النعمان
وأنا لا أميل إلى القولين الأولين؛ لأنها ما كانت تحزن على زوجها عدي حزنا يفقدها الرغبة في الحياة، ويدعوها إلى الرهبانية، وأنت تعرف ما أحاط بهذا الزواج مما يجعله غير مرجو النجاح، ولأن قصة زرقاء اليمامة، وصلتها بهند، غير واضحة ولا مفهومة. وأما ترهبها لفقدها أباها، فقد يبدو مقبولا ومعقولا؛ لأنه عزها وفخرها؛ ولأنه يصعب على أبناء الملوك أن يعيشوا كالناس بعد جلال الملك وأبهة الملوك، فينزووا في ناحية من نواحي الأرض يعيشون فيها في تستر وخفاء. وكانت هند قريبة عهد بالنصرانية، والمثل السامق الأعلى لها هو الترهب، فلعل نشوة دينية بعد قتل أبيها ألجأتها إلى ديرها المعروف. فهي قد تكون ترهبت حين ألمت بالنعمان الخطوب فوق تأثرها بالمثل الأعلى للنصرانية
وكانت هند تعتز بأبيها، وتحفظ اسمه، وتغار عليه، حتى بعد أن أنزلها الدهر عن مكانتها. ويحدثنا الرواة أن المغيرة بن شعبة لما ولاه معاوية الكوفة مر بدير هند، فنزله ودخل عليها، بعد أن أستأذن عليها، فأذنت له وبسطت مسحاً فجلس عليه، ثم قالت له: ما جاء بك؟ قال: جئت خاطباً؛ قالت والصليب لو علمت أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم: ملكت مملكة النعمان بن المنذر، ونكحت ابنته، فبحق معبودك أهذا ما أردت؟ قال: إي والله؛ قالت: فلا سبيل إليه؛ فقام المغيرة وانصرف وقال فيها:(978/27)
أدركت ما منيت نفسي خالياً ... لله درك يا ابنة النعمان
فلقد رددت على المغيرة ذهنه ... إن الملوك نقية الأذهان
وقد أيأس أخوة عدي، وهم عند كسرى، ما نزل بأخيهم، فسعوا له، وعملوا على كسر قيده، وراسلوه في سجنه، فلقد كتب إليه أخوه أبي:
إن يكن قد خانك الزمان، فلا عاجز باع ولا ألف ضعيف ويمين الإله. . لو أن جاءوا طحوناً تضيء فيها السيوف ذات رز، مجتابة غمرة الموت، صحيح سربالها تلفوف كنت في حميها - لجئتك أسعى فاعلمن، لو سمعت، إذ تستضيف أو بمال سألت دونك لم يمنع تلاد لحاجة أو طريف
أو بأرض أستطيع آتيك فيها ... لم يهلني بعد بها أو مخوف
إن تفتني والله إلفاً فجوعاً ... لا يعقبك ما يصوب الخريف
في الأعادي، وأنت مني بعيد ... عز هذا الزمان والتعنيف
ولعمري لئن جزعت عليه ... لجزوع على الصديق أسوف
ولعمري لن ملكت عزائي ... لقليل شرواك فيما أطوف
ثم احتال للدخول على كسرى فأخبره، فكتب كسرى للنعمان يأمره بإطلاق عدي. غير أن الوشاة أسرعوا قبل فوات الفرصة، وحرضوا النعمان وخوفوه وأنذروه، أن أبقى على عدي، فبعث إليه أعداءه، فغموه حتى مات
للبحث بقية
محمود عبد العزيز محرم(978/28)
بين الحقيقة والخيال:
صديق.!
للأستاذ محمد محمد الأبشيهي
خلوت إلى نفسي أسائلها: (أين هو الصديق الذي يسكن إليه قلبي، وتهدأ خياله بنفسي، فيصفيني وده، ويمنعني مما يمنع منه نفسه؟ فقد بلوت من خير الناس وشرهم، ما يوشك أن يزهدني في عشرتهم، ويجنح بي إلى العزلة عن هذا المجتمع الصاخب، وحاولت أن اصطفي من الأصحاب من يفرج أمري، ويكشف لي وجه الصواب في هذه المشكلة العاصية، فإذا يداي تصفران، وإذا أنا اخلد إلى الراحة في ظلال اليأس، وإلى الهدوء على بساط الشوك. . وساءلت نفسي. . . ربما كانت النفسية الجامحة والمادية اللاهية، هما أس العناء، وأصل البلاء، حين ينظر الصديق من زاويتا إلى الصديق، فكلما تحدر إليه خيره هش له وبش، ولقيه باسم الثغر، مشرق المحيا، فهو صديق العمر، وشقيق الروح، وإلا أنكره، فغاضت الابتسامة، وفتر اللقاء وتقطع بينهما، وحال الأمر إلى عداوة، وأشباه هذا هم الكثرة الكاثرة فيمن يلاقونني، حتى الذين ينالهم رفدي، لا أحس لما يبدونه نحوي بحرارة، ولا لما ينسجونه حولي بصدق، وانظر يوما فإذا بي انشد:
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا
أتناول بيدي مصباح (ديوجين) أفتش به في ثنايا الزمن، عن بغيتي من الحياة، لكن. . هيهات!. . . ولبثت كذلك حينا من الدهر، يمر بي في طوافي أشتات من الناس تباينت طباعهم، وتلونت مذاهبهم، لا يحسون بي ولا أحس بهم، لبعد ما بيني وبينهم، فما جامعة تجمعنا، في الرأي والفكر والذوق، أراهم من غير جنس وإن كانوا بشرا، وألمح على معارفهم لؤم الطباع في ثنايا الإشراق، سعار الطمع في مخابل الرضى، فلويت عنقي، وأشحت بطرفي، وطويت عنهم كشحا، وفزت من الغنيمة بالإياب، بعد رحلة لاغبة، وجهاد واصب، و. . وشعرت بيد تربت على كتفي، وأنفاس حانية، ترف على قلبي، فأحسست برد الراحة يسري في أوصالي، وتمثلت النعيم يغمر جوانحي. قال - وقد مثل حيالي قائما - أنا إذا ضالتك المنشودة. وأملك المفقود، ولعلك أن تجد العوض في شخصي عن أحلامك الذاهبة. فأفثأ حاجتك، وانكأ جرحك، فتنأى بنفسك عن مواطن اليأس، وتعلم أنه ما زال في(978/29)
الدنيا صديق، وترتاح له، وتبلو من سجاياه ما تقر به عينك، ويثلج به صدرك ستقودني إلى حيث تريد، وستلقاني مطواعا ذلولا، لا أبعثك على غضب، واشرف بك على بأس. . فصدقته حين لمحت في حديثه دلائل الصدق، وشمت من لهجته علائم الجد، وأنست به وسكنت إليه، وجلت به في ميادين الحياة جولات موفقة، وعشت به زمنا ليس بالكثير، حدثت نفسي في خلاله أن اعفي كل اثر لحكمي السابق على الصديق ما دام في الناس أمثال هذا الذي فني في شخصي، وكان لي أطوع من بناني، والزم من ظلي، إذا فلقد تجنيت على الإنسانية، أجرمت في حق الإخاء، فهذا صديقي يهفو إلى الخير لوجه الخير، ويطرب بالوفاء لأجل الوفاء، وإذا فلتهدا بلابلي، ولتمضي الحياة قدما في كنف الصداقة الصادقة، وظل العيش الرغيد!. . . ورأيته يوما - على غير عادة - عابس الوجه، ترمي عيناه بالشرر، ومنتفخ الأوداج، يكاد يتميز من الغيظ، فابتدرته: (ما بالك). فأجاب - في غير تحفظ ولا استحياء - لقد خاب أملي فيك، وصوح عود الصلة بيني وبينك، فما أنا بالذي يستمسك بك، وقد نهشت عرضي، وجحدت فضلي، أذعت في الناس بأحاديث السوء عن خدنك الذي غره فيك حسن السمت، واصطناع الوقار، فقاطعته قائلا: (على رسلك يا صديقي، فلعلها أن تكون سعيا حاسد، أو زراية جاهل. وما حسن أن تجبهني بالثورة، وتطلع علي بالعنف، قبل أن تتبين) فأصم أذنيه، وولى مدبرا ولم يعقب وحمدت لنفسي أنني لم أتزحزح قيد أنملة عما رسب في أغوار نفسي عن الصداقة والأصدقاء. وإذا فالمشكلة مازالت قائمة، ولا أبرح أتلمس الصديق الصدوق. بين الحقيقة والخيال، فباليت شعري من يدلني عليه، فينقذني من ألم مرمض، وآسى لا يريم، إن بين اليأس والأمل صراعا، وفي النفس من هذا المجتمع المريض لوعة وحيرة
محمد محمد الابشيهي(978/30)
من وعي المقالة الصامتة
الصمتالبليغ
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
روي أن لقمان الحكيم جلس ذات يوم إلى نبي الله داود عليه السلام، وهو يعمل درعاً من حديد، فعجب من ذلك لقمان، واعتملت في نفسه عواطف مختلفة، وأحاسيس متباينة، لأنه لم ير درعاً قبل الآن يصنعها صانع ملهم، في براعة وإتقان، وحذق وافتتان. بيد إنه أثر الصمت، لأنه وجده أنسب من الكلام للمقام، إذ لم تبد على داود عليه الإسلام علائم إجابته عن الحقيقة ما يصنع إذا سأله، وكنه ما يعمل إذا طلب منه بيان شيء من أمره، وظل لقمان على هذه الحال سنة كاملة، تمت فيها الدرع، وقاسها داود على نفسه، وقال: درع حصينة ليوم قتال!
فقال لقمان: الصمت حكم، وقليل فاعله. .!
وهكذا يأخذ حديث الصمت بمجامع القلوب، كما يأخذ حديث القول بمجامع القلوب، حتى يكاد يراجع الإنسان نفسه فيما علم من بلاغة الكلام، وأنها مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، وأن ذلك إن جاز حيث يستباح القول، فلا يجوز الاقتصار على ذلك حيث يمتنع على الإنسان الكلام، أو بمعنى أدق حيث يمنع من الإبانة والإفصاح. .
والصمت في بعض الأحايين أبلغ من الكلام. ولا يضير القارئ أن يجد مقالا نالت منه يد بالاختصار أو الحذف والبتر، وحكمت عليه دون روية بالوأد والقتل، وقضت على جمهرة القارئين بالحرمان من أصفى مورد، في عصر التاثت فيه الضمائر، واشتركت الألباب. . أجل لا يضر القارئ المخلص الذي تعود أن ينال غذاءه الفكري الكامل من كاتب بعينه، وأديب بذاته - ليكفيه أنيقرأ العنوان فحسب، ليستخلص منه الفكرة، وأن ينظر إلى الصحيفة البيضاء، فتتحول إلى نور يضيء معالم النفس، ويملأ شغاف القلب، ثم ينطبع في ذهنه كل ما كان يجب أن يسطر عليها، ويسجل فيها، ويراد بها. .!!
ولقد يسهب الخطيب ويشقشق، ويطنب الكاتب ويتدفق، ويتلاعب القاص أو الباحث بالألفاظ ويشقق، ثم لا يعرف السامع أو القارئ ما يريد أن يرمي إليه أحد هؤلاء من غرض، أو يهدف إليه من غاية، ويظل حائرا بين آفاق من الفكر الشتيت، وركام من(978/31)
القضايا وللآراء لا تنعقد بينها صلة، ولا تجمع بين أطرافها آصرة. .
وقد يشير الأديب أو يصمت، فيفهم الناس عنه ما يريد أن يقول، ويتجلى لهم رأيه على أحسن ما تكون الآراء عرضاً وتحليا، ويكون هم من صمته أبلغ بيان، وأوضح مقال، وأفصح كلام. .!
إلا أنه إذا جاز أن بكم فم خطيب ناشئ، أو يعقل لسان كاتب أو شاعر شاد ممن يتصدون للإصلاح وقد سلمت نياتهم - لأن ما يقوله أحدهم ربما يخطئه التوفيق فيبعد به عن معناه، ويجانب الغرض مبناه، فيثير الفوضى والشغب، ويورث العناء والنصب - إذا جاز ذلك مع واحد من هؤلاء، فلا ينبغي أن يتبع مع من يترقب الشعب بأسره، بل العالم العربي والإسلامي جميعاً نتاج قرائحهم، وثمار أفكارهم، ليحظى الناس هنا وهناك بالفكرة الواضحة، والقولة الناصحة، والرأي السديد، يشرق على الناس إشراق الشمس الضاحية، فيبدد غياهب الجهالة، ويزيل غاشية العماية، ويخرج بالقلوب الضالة إلى وضح النهج، وبالأفئدة الحيرى إلى لاحب الطريق وسواه السبيل، ويقع من التهم الباطلة موقع الماء يغسل الأوساخ، ويزيل الأدران، والعدل يمحق الزور والبهتان، والحزم يقضي على الظلم والطغيان
يجب على الألسنة أن تنطلق لتفصح عما يكنه الجنان، ولا يفصح عنه غير البيان. . وعلى الأقلام أن تتحرر للتعبر عن خلجات العواطف. وومضات الأذهان فإن قلم الكاتب الكبير قبس من نور الإيمان. وسلاح من أسلحة الديان، وجدول رقراق من فيض النبوة لا يغيض. .
لا تكمموا الأفواه الطاهرة، فذلك يورث الكبتة الدامية، ويؤدي إلى النكسة القاضية، فتتهامس الشفاه، وينبعث دعاة الشر بالفساد في كل مكان، وتتسابق شائعات السوء على كل لسان، فيتكهرب الجو ويخنق الأنفاس. ثم لا يجد صواب الرأي بين كل أولئك طريقه إلى الوجود، وسبيله إلى النور، ويجد أعوان الباطل سانح الفرصة إلى الظهور، وايسر المناسبات إلى إذاعة الفجور، فيضيع الحق الواضح، ويقبر الخير بأيدي أعدائه وأحبائه على السواء. .
لا تعقلوا الألسنة المبينة، ولا تقيدوا الأقلام المفصحة، فذلك تحطيم لمصابيح الهدى، ومحو لصوى الرشاد، وتشجيع للخيال الشريد أن يذهب في تعليل ذلك مذاهب شتى، فقد لا تثير(978/32)
مقالة تنشر اهتمام جميع القارئين، فلا يقرأ الجميع لأديب، ولكنهم يقرءون بلا استثناء - بل ويقرأ معهم كذلك غير القارئ - المقالة المحذوفة، والرسالة المبتورة، وقد يفهمون منها اكثر مما تفهم، ويحملونها من المعاني والأعراض، والآراء والأهداف، أكثر مما تحمل، وهذا حق لا ريب فيه. . .
إن هذا الإجراء الجديد، يثير في النفوس عوامل شتى، ويراد منا - والحوادث جارية، ونحن وسط الخضم بين مختلف الأمواج العاتية - أن نصمت صابرين، ولكن من لنا بصمت الصابرين؟!
من لنا بصمت لقمان الحكيم؟!
عبد الحفيظ أبو السعود(978/33)
مصير الإنسانية في أيدي الشيوخ
عن مجلة (العلم والحياة) الفرنسية
كانوا قديما يتساءلون: ماذا نفعل بالشيوخ؟ أما اليوم فيجب أن نتساءل: ماذا عسى أن يفعل بنا الشيوخ؟
يؤخذ من الإحصاءات الرسمية أن متوسط الحياة البشرية في عصرنا أصبح يتراوح بين الخمسين والستين من الأعوام، وقد كان لبضعة عقود خلت نحو الخمسة والثلاثين. وهذه الزيادة ترجع إلى تقدم الطب وانتشار الوسائل الصحية وتحسين طرق المعيشة ونحوها. وقد لوحظ أيضا لعوامل ذاتها نقص كبير في وفيات الأطفال بجميع أنحاء العالم حتى في أكثر البلدان انحطاطا
والواقع أن مصير العالم هو اليوم في أيدي هؤلاء ألا شيوخ الذين يفرضون على الشعوب إرادتهم ويلبسونها الأثواب التي يفصلون. وهم ولا جدال أولياء الأمر يأمرون وينهون في الشؤون السياسية والحربية والفنية والأدبية والعلمية وغيرها. إنهم جاوزوا الستين من العمر فبلغوا حد الشيخوخة؛ غير أن هذا الحد سيمتد كلما ارتفع متوسط العمر البشري. فالمرأة في أوائل هذا القرن كانت تدعى عجوزا وهي بعد في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين؛ والرجل الخمسيني كان يعد شيخا، أما اليوم فلو دعونا امرأة خمسينية عجوزا ورجلا ستينيا شيخاً لغضبا وحقهما أن يغضبا؛ لأنهما لا يزالان يحتفظان برواء الشباب ونشاطه. أما اليوم فلو دعونا امرأة خمسينية عجوزا ورجلاً ستينيا لغضبا شيخاً وحقهما أن يغضبا؛ لأنهٍما لا يزالان يحتفضان برواء الشباب ونشاطه. أما القول بأن الحياة تبتدئ في الأربعين فسيخلفه بعد وقت قريب تحديد آخر فيقال إنها تبتدئ في الستين أو السبعين
إن هذا العصر الذي يدعى بحق العصر الذري لا بأس أن ندعوه أيضاً
عصر الشيوخ. وما الشيوخ إلا رجال يجمعون إلى الحزم والحنكة انشاط وصفاء الذهن. ولنا أمثلة عديدة في الذين يملكون زمام الأمر ويديرون شؤون الشعب، فالملك هاكون السابع، كان عمره فوق السبعين، وابن السعود هو اليوم في العقد السابع، والمرحوم عبد الله ملك شرقي الأردن كان عمره حين قتل 89 سنة، وستالين الذي يبسط سلطانه على بضع مئات من الملايين يحمل على كتفيه 72 حولا، ومستشاره للشؤون الخارجية أندره(978/34)
ويشنسكي بلغ الثامنة والستين، وتشرشل الذي قاد الحلفاء إلى النصر في الحرب الأخيرة دخل في السابعة والسبعين، ولكل من ويزمن رئيس إسرائيل وهربرت هوفر رئيس الولايات المتحدة سابقا سبعة وسبعون عاما، وكارلوس سفورزا وزير خارجية إيطاليا في الثامنة والسبعين، وأدوار هريو رئيس المجلس الفرنسي في التاسعة والسبعين، وكونراد أدنور مستشار ألمانيا الغربية في الخامسة والسبعين، وماك آرثر ومرشال القائدان الأميركيان في الواحدة والسبعين، ودي جسباري رئيس وزارة إيطاليا في السبعين، وكلامنت أتلي رئيس الوزارة السابق البريطانية أتم الثامنة والستين، ورئيس جمهورية فرنسا فنسان أوربول وهاري ترومان رئيس الولايات المتحدة وروبرت شومان في السادسة والستين، وبين قادة البشر يعد شان كاي شك أحدثهم سنا فعمره اليوم 64 سنة
فمن الشواهد المتقدمة يتضح لنا أن مقاليد الناس هي ولا جدال في أيدي شيوخهم
وفي الميدان العلمي تجد أبرز الوجوه وجوه الذين ندعوهم مسنين مما يبرهن على أن للعمل العقلي علاقة بطول العمر. ففي الأكاديمية الفرنسية عشرة أعضاء جاوزوا الثمانين منهم الأميرال لاكاز الذي تعدى حدود التسعين. وفي أكاديمية الفنون نذكر جان روي الذي بلغ الواحدة والتسعين. وفي أكاديمية العلوم والآداب والسياسة سبعة أعضاء قطعوا الثمانين أكبرهم الأستاذ تروشي وعمره 88. وللأستاذ هرتمن من جامعة الطب 92 سنة، ولجوستاف شربانتيه من مجمع الفنون الجميلة 91 سنة
وبين العلماء الطاعنين في السن نذكر مخترع السينما أوغست ليميار وهو الآن في التاسعة والثمانين، وأستاذ التشريح فلورنس سابان في الثمانين، والطبيعي شارل أبول في التاسعة والسبعين، والفلكي هنري روس في الرابعة والسبعين، وألبير أنشتين صاحب نظرية النسبية في الثانية والسبعين، والتوأمان بيكار وجان أوغست الطبيعيان المشهوران في السابعة والستين. ويحسن أن نذكر في هذا المجال بطل الصحة الأستاذ أميل مال من الأكاديمية الفرنسية الذي بلغ الثمانية والثمانين دون أن يمرض في حياته إلا مرة واحدة بالحمى التيفوئيدية وهو في سن الواحدة والعشرين. وفي رأي هذا الأستاذ أن العمل هو وحده الذي يحفظ الصحة ويطيل الحياة. وقد يظهر هذا الرأي لأول وهلة غريبا. أما الحقيقة فهي أن العمل ينشط القوى ويوقظ قبل كل شيء الرغبة في الحياة. ومن الطبيعي(978/35)
أن القوى الجسدية تتهدم كلما تقدم الإنسان في العمر؛ غير أن القوى العقلية تزداد نشاطا وصفاء بفضل التمرين والاختبارات الماضية. وعلى هذا فالإنسان الذي يزاول الأعمال اليدوية تنحط قواه العضلية عند بلوغه حدا من العمر بخلاف من يزاول الأعمال العقلية فإنه يشعر في ذلك الحد نفسه أنه أشد نشاطا وأصفى فكرا. وقد فرض نظام التقاعد على البالغين الثامنة والستين مع أنهم يكونون في هذا السن في أوج نشاطهم العقلي. ولو أن نظام التقاعد يراعي بحذافيره في كل البلدان لكان عدد كبير من الموهوبين مقعدا عن العمل. نذكر منهم في عالم الفنون الموسيقي المشهور جان سيبيوس وعمره اليوم 86 سنة، والمصور فرانك برانغوين 84 وتوسكانيني 84 وبول كارد 82 والمصور هنري ماتيس 82 واوغدن بتري 80 وبيكاسو 80 وكوربيزيه المهندس الشهير 74 والموسيقية راندا لندوسكا 74
وفي فن التمثيل السينمائي نقتصر على ذكر اتيل باريمور وعمره 74 وساشا غيتري 66 وبوريس كارلون 64 وموريس شفالييه63 وشارل شابلن 62 وكودرينس 62
ومن هذه الأمثلة التي سردناها لا يجرؤ أحد أن يسأل: ماذا نفعل بالشيوخ؟(978/36)
رسالة الشعر
على ضفاف الليالي
للأستاذ محمود محمد سالم
وقفت على الشاطئ أرقب عودة الملاح التائه في غياهب الحياة وأترقب الزورق الساري في أنهار الأبدية. . يحدوه الأمل. . في الوصول. . ولكن:)!!
على ضفاف الليالي ... وقفت حيران أشدو
ولا بن جنبي خفق ... وملء بردي وجد
وأدمعي حائرات ... واليأس بي مستبد
وحولي الليل بحر ... به من الصمت مد
كأنما أنا فيه طيف ... إلى الموت يغدو
أجري وراء الأماني ... والموت خلفي يعدو
حتى مضى بي قبل ... وسوف يلحق بعد
وسوف أفنى وتفنى ... مشاعر لا تحد
ويصبح الناس عندي ... سيان مولى وعبد
فلست أبغض خصمي ... ولا الحبيب أود
إذ سوف أغدو خيالا ... في الوهم أولا أعد.!
فيا ضفاف الليالي ... أما لبحرك حد!
وما لقلبي حزينا ... على ضفافك يشدو!
على ضفاف الليالي ... رأيت طفلا صغيرا
يلهو ويلعب حتى ... ليملأ الكون نورا
حياته سلسبيل ... جرى وفاض نميرا
لا الشوك يدمي يديه ... إذا أراد الزهورا
بل الزهور الحواني ... إليه تهدي العبيرا. .!
في أمه وأبيه ... يرى الفضاء الكبيرا
فما يحاول شيئا ... إلا أتاه يسيرا(978/37)
جرى الزمان سريعا ... به وحث المسيرا
فأظلم الدهر منه ... ما كان بالأمس نورا
وحول النور نارا ... وأصبح الطهر زورا
والضحك عاد بكاء ... والسهل أمسى عسيرا
واليوم يشكو ويبكي ... مستعبرا مستجيرا
على ضفاف الليالي ... يبكي بكاء مريرا
فيا ضفاف الليالي ... أما لبحرك حد؟!
وما لقلبي حزينا ... على ضفافك يشدو. .!
على ضفاف الليالي ... هتفت: أين شبابي. .؟
وأين مني حبيبي ... وأين عهد صحابي. .!
وأين مسرح حبي ... أبثه اليوم ما بي. .!
وأين أين دموعي ... ولهفتي واغترابي. .!
إني أحب دموعي ... إني أحب عذابي
ولهفتي قد تولى ... من كان ضوء شهاب. .!
وعاد حلما بعيدا ... لمحته في الضباب
وصار أمسي ذكرى ... تلوح لي كالسراب. .!
فكيف ولى حبيبي ... وكيف غاب صحابي
وكيف بالله ولوا ... وأسرفوا في الغياب
كانوا هنا فتولت ... سعادتي في الركاب. .!
فيا ضفاف الليالي ... أما لبحرك حد
وما لقلبي حزينا ... على ضفافك يشدو
على ضفاف الليالي ... بزورقي قد سريت
لمحت طيفا جميلا ... من المنى فجريت
ما زلت أزجي شراعي ... في اليم حتى مضيت
فما بلغت بعيداً ... في اليم حتى أنثنيت(978/38)
ولاح فجر الأماني ... لخاطري فانتشيت
وقلت قر شراعي ... من رحلتي ونجوت
وأترع الحب كأسي ... من خمره فاحتسيت
حتى أفقت عليلا ... من نشوتي وصحوت.!
واحزنا قد طواني ... ليل الأسى فانطويت
على ضفاف الليالي ... بكيت ثم بكيت
فما أفاد بكائي ... وما شفتني (ليت)
فيا ضفاف الليالي ... أما لبحرك حد!
وما لقلبي حزينا ... على ضفافك يشدو.!
محمد محمود سالم(978/39)
حين ينظم الشاعر
لشاعر اليمن الأستاذ محمد محمود الزبيري
أحس بريح كريح الجنان ... تهب بأعماق روحي هبوبا
وأشعر أن القوافي تدب ... كالنمل ملء دماغي دبيبا
فهذا يزوغ وهذا يزوغ ... وذلك يذعن لي مستجيبا
وذاك يفارقني يائسا ... وهذا يواعدني أن يؤوبا
ومنها أوزع للعالمين ... طهرا وأنشر في الأرض طيبا
أخلف منها لقاح النهى ... وأنجب للأرض منها شعوبا
حروف الروى بها نطفة ... ترعرع بيتا عريقا نسيبا
أسلم نفسي لها ذاهلا ... حريصا عليها بشوشا طروبا
وأصغي لها هادئا تارة ... وأصرخ حينا عبوسا غضوبا
ولولا اهتدائي لسر النبو ... غ وأعراضه لطلبت الطبيبا
محمد محمود الزبيري(978/40)
الكتب
عهد جديد
تأليف الأستاذ شاكر خصباك
منشورات لجنة النشر للجامعيين بالقاهرة
للأستاذ سليم عبد الجبار
على الرغم من أن الأستاذ شاكر خصباك لا يزال في مطلع حياته الأدبية، فالقارئ المدمن، يدرك أثناء قراءته ل (عهد جديد) أن الأستاذ شاكر، قد أشرف على الطريق القديم في كتابة الأقصوصة الفنية
فالشخصيات التي تترادف في هذا الكتاب، تتخذ مادتها من الحياة الواقعية المألوفة، ومن الطبقة الوسطى، على الأخص، ولكننا نلمس خلال قراءتنا، أن تلك الشخصيات، ليست بالشخصيات التي تتراءى لكل عابر سبيل، يرمقها بعينيه، فلا يتجاوز، بنظراته، هذه الأجسام المادية المحدودة الصورة، بل نراها، أثناء حركتها وسكناتها، وأثناء هدوئها واضطرابها، تتجاوز هذه الحدود، لتكشف لنا ما وراءها، ما وراء هذه الأجسام، من نفوس إنسانية متغايرة، متشابكة، تتجه كل منها، في سبيلها التي أريد لها، أو - على الأصح - نحو سبيل اختارته طبيعة نفسيتها، وما ابتغته تلك الطبيعة من انبثاقات خاصة
فغضب الأب في (عهد جديد) وهي الأقصوصة الأولى، يرينا بكل وضوح تلك النفسية القلقة الحمقاء (الطيبة رغم ذلك) التي تغضب للاشيء، وسرعان ما تفئ من غضبها، فإذا هي نادمة واجمة، يتراءى لنا من خلال دموع (زينب) ووجوم (فطيمة) ذلك الحنان الهادئ العميق، الذي جبلت عليه إخواننا
وغضب نجم، وتركه لأهله، هو الأخر، احتجاج، أكيد، صارخ، لما ينتاب النفوس الحساسة الأبية، من ظلم محيط متراكم، ليس لدفعه من سبيل، إلا بمثل هذا الاحتجاج
كما تصور لنا أقصوصة (الرهان) تلك التضحية، التي يقدم عليها الأباء، في سبيل مستقبل أبنائهم، في مجتمع يقوم كل ما فيه على الاستغلال، والعبث بمصائر البشر
فالتضحية التي قام بها (حمود) لكي يتيح لابنته مستقبلا آمناً، والتي كلفته التضحية حياته،(978/41)
كانت بالنسبة للآخرين مجرد لهو يلهون به
ومثلما صورت لنا هذه الأقصوصة، هذا الجو المظلم، التعس،
صورت لنا أقصوصتا (المنزل رقم 54) و (أعوام الرعب)
جوانب مظلمة، قاسية، من جوانب هذا المجتمع المنهار
فأقصوصة (المنزل رقم 54) أبرزت لنا من زاوية خاصة، أثر
المال في تثمين الحياة الإنسانية، فإعطائها قيمتها الآنية. فتحكم
صاحب الدار، وعدم اكتراثه بحالة ساكني داره رغم ابتزازه
منهم، الضريبة الشهرية، وخضوع هؤلاء لسطوته، وتلون
حياتهم البائسة، وفق ما تضطرهم إليه هذه الحالة، من جهة،
وموقف الشاب من ابنتهم، ومن أهله، من جهة أخرى، يحيطان
بأتعس ما يمر على الإنسان، من ذل مقيت، وخضوع ظالم،
تتحول بهما الحياة الإنسانية إلى ما يقارب الحياة الحيوانية،
يزيدها مرارة، وألماً، شعور الإنسان بكرامته، وحقه في عيش
أصلح
وما إن نصل إلى نهايتها حتى يدركنا جمود فكري صارم، مرده إلى تلك النهاية الأليمة التي تحرت أليها (العائلة) نتيجة لتهدم دارها، فإذا ما تعلق مصير الإنسان ببضع قطرات تسقط من السماء، فتكفي لانهياره، تحت التراب. فأي قيمة لمثل هذا الإنسان، وأي معنى للحياة التي يحياها؟!
أما (أعوام الرعب) فقد صورت لنا، بطريق حاد، شائك ما يعانيه الشعب العراقي اليوم، من(978/42)
مآس دامية، وما يجتاز من أهوال شداد، في سبيل تحقيق حريته، وإنسانيته، وما يلاقيه في سبيل هذا التحقيق من انتقام عات ظالم، كما صورت التباين الشاسع بين عقليتين، تلتفتان لأمور واحدة، عقلية مؤمنة صاعدة (الابن) وعقلية، أشرفت على المشيب والتدهور (الأب) فخضوع الأب، واستسلامه، الناجمان عن الجهل وأساطير، يقابلهما الوعي العلمي الذي يتحسسه الابن، وكفاحه الجبار، الأوحد المؤدي إلى النهاية التي لا ريب فيها. فهي تعطينا في فلتة نادرة، اعمق العواطف الإنسانية المحتشدة في الينبوع الآسن
ومثلما صورت لنا (أعوام الرعب) الوعي الإيجابي المتغلغلفي دماء (الابن) طورت لنا أقصوصة (صديقي عبد علي) الوعي السلبي لذي يراود القلوب الجاهلة، والذي تمثل في العطار (عبد علي). فاهتمامه بالانتصارات الألمانية، وتهليله له، وتتبعه للانتكاسات البريطانية، وتشفيه منها يلفتان نظر القارئ المخلص، إلى تلك الناحية الخفية (فعبد علي) مثال لتلكالشخصيات المتعصبة، التي رأيناها في فترة الحرب، ولم نفهمها يومذاك. فهي في تحسسها الخاطئ، باعتمادها على أجنبي أخر، لا تقصد إلا إنقاذ بلادها، مما هي عليه، من جوع واضطهاد، فظنها الخاطئ، وعقليتها المحدودة الثقافية، توحيان لها أن الألمان ما داموا أعداء للإنكليز، فهم أصدقاء لشعوب المبتلاة بسطو (البارون) ومحرريها
وأقصوصة (بدر بنت عمي) هي الأخرى تعطينا، جانبا مظلما، من جوانب هذا المجتمع، بما فيها من تحجر وعبودية، فحب العذراء لشخص غريب عنها، واغتنامها لبعض الأمسيات الوادعة، تقضيها في التطلع - على بعد - إلى حبيبها، جريمة لها جزاءها الرادع، عند ابن العم الغيور. وهل غير لقتل من جزاء
على أننا نلاحظ أن (لخاتم الماسي) أقل نجاحا من الأقاصيص السابقة، وسرها أنها فاقدة الحركة، وعقدتها - كما يعبر الاصطلاحين - ساذجة. فقد حاول الأستاذ شاكر أن يسرد لنا في أقصوصة هذه (الأفكار) التي راودت بطل القصة، عندما عرض عليه (أحدهم) أن يشتري خاتما ماسيا، ومهما تكن حقيقة هذه الأفكار، ومن تطرقها للعدالة المطلقة، وصلاحية العقاب الاجتماعي، فهي تظل كما قلنا، وما ذاك إلا لأن (الفكرة) يجب أن تتواري، في الأقصوصة وسائر الأعمال الفنية - بحيث تدرك أهدافها وانية، وبطيئة، فشخصيات الأقصوصة إذا ما أصبحت رموزا يلتقطها الكاتب إدارة أفكاره، تفقد قيمتها، ويبهت الإطار(978/43)
وكذلك (الأغلال) فهي إلى الخيال أقرب، ولعدم واقعيتها، نستبعدها، فما في كل يوم نلحظ حمالا (صبيا) يكتري بخبزه اليومي، دراجة ليتعقب خطوات حبيبته الأرستقراطية، المترفة، وما في كل ليلة نلحظ وقوف مثل هذا الحمال تحت شرفة حبيبته. على أننا نستثني نهايتها فهي يتفق والواقع
ولم يبق لدينا إلا أقصوصتان الأولى (الدخيل) ونراها ذات صبغة علمية بحت (تستند إلى مفاهيم علم النفس) فمن المستبعد أن يبلغ الإدراك في طفلة لم تتجاوز السادسة لمثل هذا الحد، فالغير لا تتبلور إلا في سن المراهقة!
والثانية (قلب كبير) فهي مريحة القراءة، موفقة في تحليل نفسية الفتاة الغربية المراهقة، ولعل أعمق ما فيها تصويرها لفتات الفتاة، ونظراتها إلى صاحبها أثناء التقائه (مصادفة) بصويحباته، العابرات
ونظرة موحدة إلى أسلوب الأستاذ شاكر تعطينا ما نريد، فقد سار بطريق عرض موحد، إذ ألقى في كافة الأقاصيص، مهمة (العرض) إلى أبطال الأقاصيص نفسها، فكل واحد منهم يقص (قصته) وهذه الطريقة لها ميزاتها الخاصة، وموفقة في التحليل النفسي، إذ توهم القارئ أن البطل (المتكلم) قريبا منه كأنه يسر إليه خاصة بهمومه، ولو حاول الكاتب أن (يتملص) في بعض أقاصيصه من هذه الطريقة لكان عندي أحسن، فللتنويع اهميتة، لئلا يتداخل الملل في نفس القارئ، ولئلا يلمس الرتابة في العرض
وجمل الأستاذ واضحة العبارة، مألوفة، فلا التواء في للتعبير ولا تعقيد في المعنى، ومحاولة الأستاذ في تفصيح العبارات العامية العراقية وإدخالها في أقاصيصه محاولة ناجحة، بارزة الإيماء، إذ أدخلت على الأقاصيص جوا واقعيا، نابضا، والحق أن أهم مشكلة تواجه القصاص، هو هذا التباين الصارم بين لغة الكتابة ولغة التخاطب، فإذا ما أراد الكاتب إدارة (حواره) باللغة العامية، تقلصت دائرة قراءتها، وأصبحت محلية، وإن يفقد بذلك أعز ما يتاح للأديب، اعني إبراز الروح الكامنة وراء الألفاظ، وفق ما يتداولها الناس، وإزاء ذلك، فمحاولة الأستاذ محاولة تنعش أدبنا المتكاسل وتزيده كمالا
ونود أن نشير إلى تلك اللوازم التي يلتزمها بعض أبطال الأقاصيص، ففي حياتنا كثيرا ما نشاهد مثل تلك اللوازم، تتكرر، بصورة لا إرادية أثناء الأحاديث، وقد تبلغ مرحلة من(978/44)
السيطرة بحيث يعجز صاحبها أن يسترسل في كلامه، إذا ما حاول إسقاط تلك اللوازم، وهي وإن وردت في بعض الأعمال الفنية العظيمة (مثل الشيء الصغير)، فهي جديدة على أقاصيصنا العربية، ولها دلالتها الخاصة في خلق جو حيوي ملائم
هذا وعهد جديد يمثل مرحلة انتقال في الأقاصيص العراقية فللمؤلف شكرنا
بغداد
سليم عبد الجبار(978/45)
البريد الأدبي
أنا مع سيد قطب
لما كانت المعركة الأولى (سنة 1938) كنت مع الأستاذ شاكر علي
الأستاذ قطب، فكيف أكون الآن مع قطب على شاكر؟ ذلك لأني دائماً
مع ما أرى أنه الحق. والأستاذ شاكر صديقي من ربع قرن، والأستاذ
قطب رفيقي على مقاعد الدرس في دار العلوم من ربع قرن، وليس بي
الآن مدح ولا هجاء، ولا إغضاب ولا إرضاء. ولكن بيان الحق الذي
أراه، ولعلي مخطئ فيما أرى
وأنا اعلم أن للصحابة منزلة لا يدنو منها أحد منا، وإننا مهما سعى الصالحون منا فإنهم لا يلحقون غبار أحدهم، فضللا عن أن يحاذون أو يسبقوه. وإن لبني أمية في نشر الإسلام وفي فتح الفتوح فضلا لا ينكره أحد، وأنه كان منهم عظماء حقا إن عد عظماء الرجال، ولكن هل كانت دولة بني أمية دولة إسلامية؟
لقد هدم معاوية أكبر ركن في صرح الدولة الإسلامية حين أبطل الانتخاب الصحيح، وجعله انتخاباً شكلياً مزيفا، وترك الشورى، وعطل الكفايات، وسن هذه السنة السيئة، بل هذه الجناية التي جرت أكثر البلايا، والطامات التي تملا تاريخنا السياسي، فهل نقول لمعاوية: أحسنت في هذا؟ بل إني لأسأل، هل يقول هذا محمد رسول الله صلى الله عله وسلم لو كان حيا؟ إن معاوية صحابي جليل، وله مناقبه وفضائله، ولكن حكم الدين على الجميع، ومقاييس الإسلام بها كل كبير، فهل كان معاوية في عمله هذا متبعا أحكام الإسلام؟
هذه واحدة وإن كانت بألف
وهذا الاستبداد، والحكم الفردي، الذي سار عليه ملوك بني أمية، وتحكيم آرائهم وشهواتهم في مصلحة الأمة، ودماء أفرادها وأموالهم، دون تقيد بكتاب أو سنة، أو رجوع إلى علم أو فقه هل هو من الإسلام؟
واختيارهم شر الولاة، من الطغاة الظالمين، وتحكيمهم في رقاب الناس، هل هو من الإسلام؟ هل يقر الإسلام تولية مثل الحجاج على رجوته وعظمة نفسه، وخالد لقسري،(978/46)
وأمثالهما من الجبارين؟
وإثارتهم العصابات والخلافات، بين القبائل وبين الشعراء وتمهيدهم سبيل اللهو والاستهتار، لأنفسهم وللناس، ولا سيما جيران بيت الله، وأهل مدينة رسول الله؟
وعدوانهم على الحريات، وعلى المقدسات، وقتلهم العلماء من أمثال الحسين وسعيد بن جبير، وإيذاؤهم سعيد بن المسيب، وضربهم الكعبة بالحجارة وبالنار، هل هو من الإسلام؟
إن هذه كلها أشياء ثابتة، لم يفترها عدو، ولم يضعها خصم، وهذه كلها تناقض الإسلام أشد التناقض، بل إن بعضها لم تأت بمثله الجاهلية الأولى
وما كان عليه العباسيون، ومن جاء بعدهم، من الطغيان والعدوان على الأنفس والأموال، واتباع غير سبيل الهدى، كل ذلك يسأل عنه بنو أمية، لأن من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ومن عمل بها إلى يوم القيامة
وأنا اكبر بني أمية. وامجد آثارهم، وارفع أقدارهم ولكن لا أستطيع أن أقول إن دولتهم كانت دولة إسلامية، لأني أكون قد مدحتهم بذم الإسلام، والإسلام أحب إلي واعز من بني أمية، وبني هاشم، وأهل الأرض جميعا
دمشق
علي طنطاوي
إبراهيم الواعظ
قرأت بإعجاب ما كتبه الأستاذ إبراهيم الواعظ في الرسالة بالعدد 971، فتذكرت ماله عندي من يد بيضاء يوم كنت أعمل بمدارس العراق الشقيق سنة 1942، وحق على بهذه المناسبة أن أقدم لقراء الرسالة فذة في مجال الفكرة الإسلامية
تعرفت عليه ببغداد، وكان من صفوة القلة الذين أنست إليهم في مختلف الأحاديث التي كنا نطرقها في ندوة كانت تضم حسن بك سامي وزير العدل السابق، فنتحدث فيما يهمنا من شؤون الثقافة
وعرفت الأستاذ الواعظ محاميا له بين قومه، مكانة مرموقة بما تميز من اطلاع واسع على التراث الإسلامي، وعناية فائقة بالقضية العربية(978/47)
واختير أخيرا ليكون مستشارا للجامعة العربية وهو اليوم مقيم بالقاهرة، ولقد صادف هذا الاختيار أهله
وفي الحق أن الجامعة العربية قد ضمت إلى كتيبتها العاملة رجلا لله قدم راسخة في شتى الميادين: فهو المحامي الشهير، والمحاضر الممتاز في الإذاعة العراقية وقاعة الملك فيصل، ثم هو شاعر، ومؤرخ ولغوي، وكاتب مسرحي، وله في عالم التأليف أثر محمود
قرأت له (مدرسة محمد) وهو مسلسلة من إذاعاته عن أعلام الإسلام، واذكر أنه قد أعلن عن مجموعة طبية من المؤلفات تحت الطبع منها (معاوية) و (قصة الغرأنيق) و (سورة الفيل) و (حديث القرطاس) و (المقتنى) كما أعلن عن مسرحيتين شعريتين هما (فتح مصر) و (الزباء)، وما أدري أن كان بعضها قد نشر أم لا
وعسى أن تحظى دور النشر في مصر بهذه النفائس لتذيعها في الناس لتعم فائدتها، لما عرف الأستاذ الواعظ من اقتنائه لأثمن الكتب العريقة، وصبره على التحليل والتدقيق، وبراعته في التبسيط والعرض، أرجو أن تسعىإليه الإذاعة المصرية، والجامعة الشعبية، والنوادي الثقافية، والجمعيات الدينية، والمجلات الأدبية لتنال حظها من علمه الغزير وأدبه الأصيل
محمد محمود زيتون
الأسوة الحسنة. . .
قال دولة رئيس مجلس الوزراء لبعض الصحفيين إنه سيعمل على تحقيق العدالة، وأنه لن يحابي أحدا، ولو أن ابنه خلاف القانون لذبحه!. . .
وهو بهذا يتأسى بالرسول الكريم، صلوات الله عليه وسلامه، يوم جاءه أسامة بن زيد (يتشفع للمخزومية، فقال له عليه الصلاة والسلام:
- أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟. . . ولله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها!. .
وبهذا وضع محمد عبد الله، عليه أفضل الصلاة والسلام، اللبنة الأولى في أساس العدالة الاجتماعية، ومبادئ الديمقراطية الإسلامية الصحيحة(978/48)
عيسى متولي
ليس هذا تجديدا
يحلو لكثير من أفذاذ الكتاب أن يستعملوا كلمة (آونة) على أنها لفظ مفرد ظانين أن هذا نوع من التجديد في اللغة العربية وما هو من التجديد في شيء. والواقع أنه خطأ كبير انزلقت إليه براعة الكاتبة الفضلى الدكتورة بنت الشاطئ في أحد تعليقاتها على الكتاب الجديد ولم أشأ أن أتعرض له في حينه، ولكن تكرر هذا الخطأ من الأستاذ الكبير الصاوي بك في أهرام 19 مارس سنة 1952 فلام أجد مناص عنالتنبيه إليه، أو على الأصح من تكرير التنبيه إليه، لأني كنت قد نشرت تصحيحا لهذا الخطأ منذ أكثر من عامين وقلت فيه أن كلمة (آونة) جمع مفرد أو أن مثل أزمنة وزمان لفظا ومعنى. وأني كرر هذا التصحيح ما دام التكرير في مثل هذا المقام يحلو(978/49)
القصص
البعث
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
- 1 -
لم يكن هناك في قرية (فيكامب) من يجهل تاريخ الأم (باتان) الحافل بألوان الشقاء. . . كما لم يكن يختلف اثنان في الحكم على قسوة معاملة زوجها لها طيلة حياته
اتخذها باتان زوجة له منذ عدة سنوات حين كانت في نضارة الصبا وقد حباها القدر بقسط وافر من الجمال والجاذبية. . . في حين كان هو بحاراً ماهراً عملاقاً اعتاد الذهاب إلى حانة العجوز (أوبان) لتناول أربع أو خمس كؤوس من الكحول. ولم يكن ذلك هو الحد الأعلى لملء فراغ معدته. . . بل كثيراً ما أرتفع ذلك الرقم إلى ثماني أو عشر كؤوس. . . ربما زادت على ذلك قليلا إذا ما كانت صفقة صيده رابحة. وكانت ابنة أوبان هي التي تشرف بنفسها على خدمة رواد الحانة الذين أسرتهم عيناها الحالكتا السواد، وامتلكت أفئدتهم بقوامها الرائع المشوق
ويوم جاء باتتا إلى تلك الحانة للمرة الأولى. . . واكتفى بإطالة النظر إلى الفتاة في شوق وحنين وهو يشير إليها من طرف خفي. وازدادت فتنتها في عينه حين ارتشف كأسه الأول. . فما كاد يأتي على الثانية حتى كان يلتهمها بعينيه في نشوة وشراهة. . واستقرت محتويات القدح الثالث في جوفه فتمتم قائلا دون أن يتم جملته (لو كان إمكانك فقط أيتها الآنسة ديزيري. . .)
ومع فراغ القدح الرابع كان باتان ممسكا بثوب الفتاة وهو يحاول تقبيلها
وتعددت الكؤوس. . واكتملت عشرا. . وحينئذ أرسل وبان العجوز أبنته إلى الخارج وراح هز بنفسه يشرف على خدمة البقية الباقية من زبائنه الساهرون. كان أوبان رجلا حاذقا لا تخفى عليه خافية. . . فكان يترك ابنته تنتقل برشاقتها لإغراء الزبائن حتى يستزيدوا من خمرة تاركها لها مطلق الحرية في توزيع ابتساماتها الرائعة وإرسال سهام عينيها إلى أفئدة المخمورين، وهو واثق منها كل الثقة دون أي محاولة من جانبه اكتشاف سر ذلك البريق(978/50)
الذي في أغوارهما كلما حاولت امتحان عواطفها إزاء رجل من زبائن الحانة
واصبح وجه ديزيريه مألوفا دى باتان من طول تردده على حانة أوبان. . فكان يراها ماثلة أمامه وهو في موكب صيده ناشرا شباكه في المياه الهادئة أو الصاخبة على حد سواء. . أو كان بتخيله تومئ إليه في حلكة الليل الساجي، أو تحت ضوء القمر الفضي الساهر. . فكان يطيل التفكير فيها. . وكم كان يهنا بذلك التفكير وهو جلسته عند مؤخرة المركب، ويده مستقرة على سكانه. . بينما ارتكزت رؤوس بحارته الأربعة على أيديهم وقد راحوا تحت تأثير نومة استسلام هادئ لذيذ بعد إجهادهم اليومي المرهق. . وفي كل تلك الحالات التي كان يتخيلها فيها. . كان يراها تبتسم إليه وهي ترفع يدها لتملأ كأسه بالرحيق الملون هامسة وهي تتأهب للابتعاد عنه:
أليس ذلك هو كل ما تطلب؟
أحس أخيرا أنها أصبحت تشغل حيز تفكيره كله. . فلم يستطيع كبت تلك الرغبة التي كانت تلح عليه في أن يتخذها حليلة له، وطلب يدها من أبيها
وأجيب باتان إلى مطلبه: فقد كان يمتلك مركباً وشباكا علاوة على منزل بالقرب من الميناء. . وفي حين كان أوبان العجوز لا يمتلك شيئا. . وتمت معدات الزفاف دون تأخير
انقضت ثلاثة أيام أستيقظ بعدها باتان من الحلم الذي كان يعيش فيه، وهو يعجب كيف أنه اعتقد يوما أن تلك الفتاة ديزيريه تختلف في شيء عن غيرها من النساء. وابتدأ ينعت نفسه بالجنون، ويعيب عليها ضعفا وخضوعها لذلك القيد الذي قيدت نفسها. . القيد الأبدي الذي استسلم إليه تحت تأثير الخمر. . . نعم؟ لقد كان الخمر هو السبب في ذلك الزواج. . . الخمر التي كان يعتقد اعتقاداً جازما أن الفتاة قد مزجتها ببعض العقاقير السحرية للإيقاع به
ولم يكف باتان عن سب نفسه طوال ذلك الوقت. . وما كاد يصلإلى ذلك الحد من التفكير حتى ألقى فضلات التبغ المتبقية في غليونه؛ وراح ينقل أسماكه الواحدة إثر الأخرى، وهو يغمغم غاضبا
وعندما بلغ منزله وجد زوجته - ابنة أوبان العجوز - قابعة هناك كعادتها. فلم يحيها بحرف. بل راح بكيل لها ألفاظ السباب الحادة. . فقابلتها الفتاة بأحد منها، إذ كانت طبيعة والدها الهمجية متأصلة فيها، وكان ذلك مما يزيد في غضب زوجها وإيلامه. ولكن تلك(978/51)
الآلام لم تبلغ الذروة إلا في تلك الليلة التي اعتدى عليها فيها بالضرب
وخلال السنوات العشر التي تعاقبت بعدئذ. . . لم يكن هناك من حديث يدور بين أهل الميناء إلا عن تلك المعاملة القاسية التي كان يتبعها بانان مع زوجته، لا لشيء إلا لأنه كان موهوبا بالسليقة بلهجة في سبابة لم يكن هناك في فيكامب من يضارعه فيها
وعاشت المرأة المسكينة في جو من الخوف والرعب عشر سنوات كاملة اعتادت أثناءها الوحدة والسكون، عشر سنوات كاملة فيها الكفاية لتجعل منها هزيلا يشبه هيكلسمكة صغيرة جافة
- 2 -
استيقظت امرأة فجأة ذات ليلة على صوت أنين أرياح وهمهمة ريا ح البحر. . فجلست على فراشها وراحت أفكارها تتجمع في نقطة واحدة حتى تركزت في ذكرى زوجها الغائب في مركبه وسط العاصفة، وقفزت من الفراش ثم هرولت نحو الميناء التي كانت قد امتلأت بجموع النساء وقد حملن في أيديهن المصابيح ينرن الطريق لرجال الذين هرعوا بدورهم إلى هناك لمحاولة نجدة من يحتاج إليهم من الصائدين. . وظلوا محدقين في المياه السوداء الممتدة في جلال وروعة وقد بدت أشباح مراكب الصيد الصغير وهي ترتفع وتنخفض فوق أمواج الصاخبة، ودامت العاصفة خمس عشرة ساعة
وكان من نتيجة ثورة الطبيعة أن أحد عشر صائدا قدر عليهم ألا يعودوا إلى منازلهم أبداً. وكان باتان من بينهم
وقذفت الأمواج بحطام سفينة باتان (أميلي الصفراء) إلى أحضان شاطئ (سان فاليري) ولكنها لم تظهر أي أثر لجسد باتان
كان من أمكن أن يكون قد أصبح طعاما للأسماك. . كما كان من الممكن أن يكون قد انتشل من المياه وأبحر مع منقذيه إلى حيث يقصدون
وعودت المرأة نفسها أن نجا حياة الأرملة. . ولكنها إلى جانب ذلك لم تكن تمتنع عن استقبال سائل أو مسافر أو بحار داخل مخدعها
وانقضت أربعة أعوام على اختفاء رجلها
ومالت الشمس إلى المغيب. . وهبت نسمات باردة تنذر اقتراب الليل. . فزعت الأطيار(978/52)
إلى أوكارها. . في حين كانت المرأة تسير في شارع (اليهود) وقد لفت نظرها منزل قبطان عجوز. . كان يقف ببابه (دلال) ينادي على أثاث المنزل لبيعه. . وفي تلكاللحظة كان الرجل ممسكا بقفص قد استقر فيه ببغاء وهو يهتف:
- ثلاثة فرنكات. . طائر يتكلم كرجل القانون. . فقط ثلاثة فرنكات
وتمتمت ديزيريه لصديق كان يتأبط ذراعها:
- يجب عليك شراؤه فسيكون لك نعم السمير. إنني واثقة من أن ذك الطائر يساوي ثلاثين فرنكا ثقتي من أنك تستطيع بيعه ثانية بعشرين أو خمسة وعشرين فرنكا
وارتفع صوت الدلال مرة أخرى قائلا:
هيا. . أربعة فرنكات أيها السادة. . أربعة فرنكات. . إنه يستطيع الترتيل، فياله من أعجوبة نادرة. وأخيرا. . ً. انتقلت ملكية الببغاء وقفصه لديزيريه بعد أن دفعت ثمنه لأربعة فرنكات وخمسين سنتما
وتمتمت المرأة بغضب لما رأت نقطة من الدماء تلوث يدها حين لامست رقبته وهي تضع له شيئا من الطعام في حجرتها
- يا الله. . لم اكن أعلم أنه جريح
وتوجهت إلى فراشها بعد أن وضعت للطائر شيئا من الطعام وإناء صغيرا مملوء بالماء
ولم تكن أنوار الفجر الوردية قد بدت بعد، حين تعالى إلى أذني مدام باتان صوت واضح جلي يقول:
- ألم تستيقظي بعد أيتها المنكودة؟
وقد رجع زوجها أخيرا. . فذلك الصوت صوته وتلك عادته في مناداتها إذا ما استيقظ في الصباح، وأحست برعشة تسري في عروقها فدفنت وجهها تحت الوسادة بينما راح جسدها يرتجف ارتجافا واضحا وهي تتمتم قائلة لنفسها:
- يا إله السموات. . لقد رجع ثانية وها هو إذ. . يالله ومرت بضع دقائق دون أن يعكر صفو السكون الشامل صوت. . فأخرجت رأسها من تحت الوسادة، كانت متأكدة من وجوده بالقرب منها يرقبها وهو على أتم استعداد للانهيال بالضرب كما كان في الماضي البعيد. . ولكنها لم تر شيئا غير أشعة الشمس التي ابتدأت تخترق زجاج النافذة، فهمست قائلة(978/53)
لنفسها:
- لابد أن يكون مختفيا في مكان ما
وظلت تنتظر. . وطال انتظارها فعودها هدوئها وغمغمت:
- إنني لم أره. . إذاً. . لابد أنني كنت أهيم في وادي الأحلام
أغمضت عينيها مرة أخرى في اللحظة التي ارتفع فيها صوت باتان كالرعد قائلا:
ألا زلت نائمة أيتها الملعونة؟
وقفزت من فراشها وقد انتابها فزع المرأة المطيعة التي ظلت أربعة أعوام كاملة وهي ترزح تحت عبء الذكرى الأليمة. . ذكرى العذاب الذي كان يسببه لها صوت ذلك الرجل الكريه. . هتفت:
- ها أنا ذي يا باتان. . ماذا تريد؟
ولم يكن هناك من جواب
وتلفتت حولها في دهشة. . ثم أخذت تبحث في كل مكان. . لكنها لم يجد أحدا. . وتهالكت على مقعد بالقرب منها وهي تحس بروح باتان ترفرف فوق رأسها. . وأخيرا تذكرت الحجرة الصغيرة الإضافية الواقعة فوق حجرة الطعام. . لابد أن يكون مختبئا هناك في انتظار مفاجأتها. . ثم. . ثم العودةإلى نفس الحياة القاسية التي كانت تحياها من قبل. . ونظرت إلى سقف الغرفة وهي تقول متسائلة
- هلل أنت فوق يا باتان؟
ولم يكن هناك من جواب
وتسللت إلى الخارج فأحضرت سلما تسلقته ونظرت في الحجرة الصغيرة لترى. . لتراه. . ولكنها لم تعثر عليه. . فجلست على الأرض وابتدأت تبكي وهي ترتعد. ومن أسفل جاءها صوت باتان يقول:
- أي جو وأي رياح. .؟ إنني لم أتناول وجبة الصباح بعد وصرخت المرأة من أعلى من أعلى قائلة:
- إنني هنا يا باتان. . ها أنا ذي في طريقي إليك لأعداد طعامك فلا تغضب. . ها أنا ذي آتية وهبطت السلم بسرعة فائقة ولكنها لم تجد أحد بانتظارها(978/54)
أحست بضعف مميت يغمرها من رأسها لأخمصي قدميها وفكرت في أن تهرع إلى الخارج مستغيثة حين ارتفع صوت باتان قائلا:
- إنني لم أتناول طعامي بعد أيتها ال. .
كان الببغاء في قفصه يتابع كلماته، وهو يحدق فيها بعينين كجمرتين
ونظرت إليه والدهشة تغمرها ثم تمتمت:
- إذا. . إنه أنت. وتكلم الببغاء ثانية وهو يحرك رأسه انتظري. . انتظري قليلا. . فسألقى عليك درسا لتكوني أشد كسلا منك الآن
أي أحاسيس شعرت بها المرأة في تلك اللحظة؟. لقد شعرت تماما أن الرجل الميت قد بعث مرة أخرى. . بعث حيا في هيئة ذلك الببغاء إذا. . سيعود مرة أخرى لإهانتها. . كما كان في الماضي وسوف لا يمر يوم بهدوء. . وجيرانها. . سيعودون حتما للهزء بها والسخرية منها
أسرعت المرأة نحو القفص ففتحته وأخرجت الطائر الذي راح يدافع عن نفسه بمخالبه فيدمي يديها. . ولكنها لم تعبأ به. . وتهالكت فوقه على أرض الغرفة. . وراحت بكل قواها تضغط على رقبته حتى سكنت حركته
لم يعد يتحرك، لم يعد يتكلم ولكنه كان مستكينا استكانة الأبد بين ذراعيها، وجمعت الريشات الخضراء المتناثرة هنا وهناك بيد مرتجفة ووضعتها مع الجسد المسجي على الأرض في لفافة صغيرة. . ثم هرولت إلى لخارج عارية وقذفت الحزمة الحاوية لل. . . للشيء الميت في مياه البحر الهادئة. . . فبدت كحزمة من البرسيم الأخضر طافيةفوق المياه الزرقاء
وعادت ألي حجرتها فركعت على ركبتيها أمام قفص الطائر الميت. . وراحت تبكي
كانت تشعرا أنها ارتكبت إثما. . وأثما هائلا كأكبر الجنايات وحشية. . فابتدأت تدعو لله أن يغفر لها!
ع. ج(978/55)
العدد 979 - بتاريخ: 07 - 04 - 1952(/)
الشعوب الإسلامية تزحف. . .
للأستاذ سيد قطب
أشد ما أفلح فيه الاستعمار في بلاد العالم الإسلامي، هو خلق تلك الطائفة من (الببغاوات) التي تردد أسطورة فصل الدولة عن الدين، وإبعاد الدين عن الوطنية!
لقد أمن الاستعمار واطمأن منذ أن أطلق هذه الأسطورة في أوساط المسلمين، وتركها تمزق وحدتهم، وتفرق كتلتهم، وتفقدهم الراية التي يفيئون إليها، فيحسون بتذاوب العنصريات وانمحاء الفوارق، والاندماج بعضهم في بعض، قوة واحدة تقف متكتلة في وجه الاستعمار
ولكن إفلاح الاستعمار في هذه الدسيسة لم يكن ليستمر طويلا؛ فلقد انبعثت روح الإسلام من جديد في كل مكان، تتفاوت قوة وضعفا حسب العوامل المحلية المختلفة في كل قطر من أقطار المسلمين. ومتى ما انبعثت روح الإسلام الحقيقية، فلابد أن تصاحبها الدعوة إلى التكتل الإسلامي، فهذا التكتل جزء أصيل من العقيدة الإسلامية، ودفعة طبيعية من دفعات الإسلام، ولا محيص إن عاجلا أو أجلا من أن تزحف الدعوات المتواكبة المتجاوبة، ليلتقي بعضها ببعض في صورة من الصور؛ ولا مفر من أن تنتهي إلى غايتها الطبيعية، فتبرز الكتلة الإسلامية، برغم المعوقات والصعاب، وبرغم الببغاوات التي خلقها الاستعمار في كل قطر، لتهتف بأسطورة الدولة والدين، والسياسة والدين، والوطنية والدين
وما يقلق بال الاستعمار دعوة على ظهر الأرض كما تقلقه مثل هذه الدعوة. وما تقض مضجعه صيحة كهذه الصيحة. فالاستعمار لا يعيش اليوم إلا في الوطن الإسلامي. لقد تقلص ظله في كل مكان، فلم يبقى إلا في عالم الإسلام. والدعوة إلى التكتل الإسلامي معناها الدعوة إلى طرد الاستعمار من الركن الباقي له في هذه الأرض. والهاتف باسم الإسلام معناه الصراخ في وجه الاستعمار والطغيان. ومعناه التحديد المطلق للاستعمار والطغيان
ودون هذا ويحرك الاستعمار أبواقه وببغاواته، ودون هذا ويبذر الاستعمار دسائسه ومؤامراته. ودون هذا وتنطلق صيحات الخطر في كل مكان، من خلط الدين بالسياسة، وخلط الوطنية بالدين!
نشرت جريدة المصري منذ أسبوعين تعقيبا لجريدة بومباي كرونكل الهندية جاء فيه:(979/1)
(بومباي في 14 - لمراسل المصري - عقبت جريدة (بومباي كرونكل) على الدعوة التي تأتي من باكستان بضم جميع الدول الإسلامية في الشرقين الأدنى والأوسط بما فيها أفغانستان وباكستان في نوع من الاتحاد الإسلامي العام، فقالت: إن هذه الحركة فشلت لأن الدول التي يهمها الأمر تشعر بإحساس عميق ورغبة أكيدة في الاحتفاظ بذاتها، مفضلة ذلك على الموافقة على السير في طريق ثانوي تابعة لغيرها
ومضت الجريدة تقول: وإن هذه الدول جميعا تحس بالخطر من خلط الوطنية بالدين، ولهذا السبب تتضح لنا الحقيقة البارزة في سياسات الشرق الأوسط من أن دولة رفضت فرادى وجماعات أن تسمح رياستها الكائنة في القاهرة بأن تصطبغ بصبغة دينية، وأصرت على تسميتها بجامعة الدول العربية، كما أنها كانت حكيمة برفضها فكرة الجامعة الإسلامية لأن نتائجها في غاية الخطورة حقا، فكل تكتل على أساس ديني كفيل بإثارة الحزازات الداخلية لاختلاف المشاعر الوطنية والعنصرية، وتنوع المصالح والآمال، أما في الخارج فسوف تخلق رد فعل مفعما بالشك والعداء مع بقية أنحاء العالم، قد يفضي إلى نتائج ضارة بالجامعة الإسلامية ذاتها
وقد أثنت الجريدة على سياسة تركيا العلمانية قائلة: إنها ذات قيمة كبرى لأنها تقدم دليلا لا ينقض على حكمة زعماء الهند الذين جعلوا بلادهم دولة علمانية، ومن جهة أخرى نرى أن تمسك تركيا بمثلها العليا العلمانية التي ارتضتها لنفسها، يعد ذا فائدة كبرى لدول الشرق الأوسط)
وما كان تعليق جريدة بومباي كرونكل ولن يكون إلا نموذجا من نماذج حركة التخويف التي يزاولها كل صاحب مصلحة في استعمار بضعة من الوطن الإسلامي والهند تزاول لونا من الاعتداء على كشمير، فتلتقي مصلحتها مع مصلحة الاستعمار في عزل باكستان عن العالم الإسلامي، وفي تخويف العالم الإسلامي من نتائج الدعوة الباكستانية إلى التكتل الإسلامي
إن أسطورة أن الدين شئ والوطنية أو السياسة شيء آخر، هي أسطورة نشأت في عوالم أخرى غير العالم الإسلامي. وإلا فالإسلام لا يعرف هذه التفرقة المصطنعة. الإسلام يعرف أنه عقيدة في الضمير وشريعة للحياة. شريعة للحياة بكل جوانبها السياسية والاجتماعية(979/2)
والاقتصادية والدولية. ليس هناك شئ يقال له الدين وشئ آخر يقال له السياسة، وشيء ثالث يقال له الحكم، وشيء رابع يقال له الاقتصاد، وشيء خامس يقال له الاجتماع
إن هذه التفرقة مضحكة في نظر الإسلام، ومضحكة في نظر المسلمين الذين يعرفون أبسط قواعد الدين
إما أن يكون الإنسان مسلما أو غير مسلم. فإما أن يكون مسلما فشريعة الإسلام هي التي تتحكم حياته إذا تفرد في عباداته ومعاملاته، وتحكم حياة الجماعة التي يعيش فيها من ناحية الحكم وناحية الاقتصاد وناحية الاجتماع، وتحكم حياة الدولة التي تخضع لها من ناحية علاقاتها الدولية، وصلاتها بالعالم الخارجي كله. . وإما أن يكون غير مسلم فيدع لأي قانون آخر غير الشريعة الإسلامية أن تصرف حياته في كل هذه النواحي. . وليس هناك حل وسط، فالإسلام لا يعرف أنصاف الحلول
ولجريدة بومباي كرونكل أن تتحدث عن الخطر من خلط الوطنية بالدين؛ فالدين يكون خطرا حقا على الحياة حينما يكون كالهندوكية التي تستبقي الملايين من البشر في مرتبة أقل من مرتبة الحيوان في صورة منبوذين، أو حينما يكون كاليهودية التي يعتقد أتباعها أنهم شعب الله المختار، وأن كل من عداهم من البشر لا حرمة له ولا حق في رعاية، وقالوا: (ليس علينا في الأميين سبيل) فلهم أن يسرقوا مال البشرية كلها، ولهم أن ينكلوا بالبشرية كلها، وضميرهم الديني مستريح!
فأما حين يكون الدين هو الإسلام، فلا شيء من الخطر بل هو الخير للبشرية جميعا، خير العدالة الاجتماعية التي يكفلها هذا الدين كما لم يكفلها نظام آخر من النظم التي تعرفها البشرية وخير التضامن العالمي، والسلام الدولي، كما لم يكفله قانون دولي ولا منظمة جماعية
لقد سبق الإسلام هيئة الأمم المتحدة أربعة عشر قرنا في إيجاد معاهدات دولية لسلام يجتمع إليها أصحاب الديانات جميعا في عهده، بل تضم إليها بعض المشركين!
ولقد سبق الإسلام الشيوعية بأربعة عشر قرنا في دعوته إلى الوطن الواحد الذي يقوم على نظام اجتماعي معين، وعلى فكرة إنسانية معينة، تذوب فيها القوميات والجنسيات جميعا
ولكن الاستعمار يفزع ويرجف من هذا التكتل الإسلامي، كذلك تخشاه الكتلة الشيوعية(979/3)
بدورها، لأنه يقف في وجهها سدا
فأما تركيا التي ضربتها جريدة بومباي كرونكل مثلا، فما أقدمت دولة على حماقة مؤذية كالتي أقدمت عليها تركيا. . لقد كانت في أضعف أيام الخلافة الوهمية الاسمية يحسب لها حساب. فأما اليوم فقد انتهت إلى أن تصبح ذيلا صغيرا حقيرا للكتلة الغربية، ترتجف فرقا وفزعا من الكتلة الشرقية، فلا هي كسبت الكرامة، ولا هي كسبت السلامة!
إن عجلة الزمن تسير، ولابد أن تطحن تلك العقبات التي يقيمها الاستعمار أو تقيمها الشيوعية في وجه الكتلة الإسلامية. وستذوب الأفكار المضادة، والشخصيات المضادة، والحكومات المضادة. وسيلتقي المسلمون يوما تحت راية الإسلام، لا مصري ولا سوري ولا لبناني ولا عراقي ولا حجازي ولا نجدي ولا أردني ولا يمني ولا مراكشي ولا جزائري، ولا طرابلسي ولا إيراني، ولا تركي، ولا أفغانستاني ولا باكستاني ولا أندنوسي. . ولكن المسلمون، ومسلمون فقط. . إن الشعوب الإسلامية تزحف، ولن تقف عقبة واحدة في الطريق، يوم يلتقي زحف هذه الشعوب
سيد قطب(979/4)
في تاريخ الأدب التركي
للأستاذ عطا الله ترزي باشي المحامي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
قلنا في سياق الكلام عن التصوف أن القرن الثالث عشر الميلادي يعد مطلع نبوغ المتصوفة الأتراك، وذلك لسببين: أحدهما الرغبة الشديدة التي كان السلاجقة الأتراك يبدونها للمتصوفين ورجال الدين، وثانيهما هجرة المتصوفين إلى بلاد الأناضول، وذلك من جراء الغزوات التي كانت تشنها المغول في الشرق. فسكن هؤلاء في الأناضول، وشرعوا يؤسسون الطرائق الدينية. وكان مؤسس الطريقة يدعى (بير) أو الشيخ، وهو يعد زعيم طريقته وحامل لوائها. ويخلفه من بعده شيخ آخر بإجازته. وأما الذين كانوا يسلكون تلك الطرائق ويتبعون الشيوخ فكانوا يُدعون بـ (الدراويش). والمكان الذي فيه يقيمون الشعائر الدينية الطقوس العبادات المختلفة، يسمى (التكية)، وتوسعت هذه التكايا بمر الأيام وكر الأعوام فتأسست لها فروع واجتمع حولها أهل التصوف ينقرون الدفوف ويضربون الطبول وينفخون في المزمار. فيطربهم النغمات المنطلقة من قلوب ملؤها الحب والهوى، فيرقصون برقصات الدروشة المعروفة ويتغنون بالأشعار الصوفية التي ينظمها شعراؤهم البارزون. ولهذا كنا نرى الشعراء يتبارون في نظم المقطعات الشعرية التي تلائم هذه الحياة الموسيقية، تلك المنظومات الموزونة بأوزان تركية خاصة وإن كان قد شاع بينهم العروض
ويلاحظ في هذا العصر إن الأدب التركي تأثر كثيراً بالأدب الفارسي، كما أن هذا الأخير تأثر بالأول من بعض الوجوه، وذلك بسبب الاختلاط الذي حدث حينذاك بين العناصر الإسلامية المختلفة. فنرى كثيراً من شعراء الترك، وبالأخص المتصوفة منهم، ينظمون الشعر باللغة الفارسية أو أنهم يقتبسون القواعد الشعرية الفارسية وأساليبها، أو يستعملون ألفاظا فارسية في أشعارهم. ولا ننس بعض الشعراء ممن نسبوا لغتهم الأصلية أو هجروها في الأدب. وكذلك نجد شعراء كثيرين من الفرس برعوا في التفنن بالأدب التركي. . وهكذا فإن الحياة الاجتماعية في ذلك العصر كانت حياة متداخلة امتزجت بها الشعوب الشرقية تحت لواء الدين، فنتج من اتحاد هذه العناصر عنصر أدبي متماسك في الروح(979/5)
والجوهر، وإن كان متبايناً في اللون والمظهر.
دور الأدب التركي فيما قبل العهد العثماني:
ويشمل هذا الدور عهد الدولة الغزنوية (سنة 962م - 1183م) والدولة القاراخانية (932 - 1212م) والدولة السلجوقية (من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي) وعهد المغول (من القرن الثالث عشر إلى القرن الرابع عشر الميلادي)
وتميزت هذه العهود بتحسن الوضع الاجتماعي للأتراك تحسناً كبيراً؛ فبسطوا سلطانهم في داخل البلاد الإسلامية وكونوا لهم مركزاً ممتازاً بين المسلمين. وقد زاد اتصالهم بالعرب في هذه العهود وقويت العلائق بينهم وبين الفرس والهنود، فنشأت علاقات ثقافية وثيقة كان لها من الأثر ما كان
إن الآثار الأدبية التي انتشرت في هذه العهود، والتي انتقلت إلينا على علاتها إنما مصدرها عهد الدولة الغزنوية. وقد تأسست هذه الدولة في بلاد الأفغان ومناطق البنجاب من الهند. وتوسعت شيئاً فشيئاً حتى بلغت أوج عظمتها في عهد السلطان محمود الغزنوي الذي كان يعطف على الشعراء والأدباء ويشجع الثقافة في البلاد
فقد ظهر في هذا العهد كتاب وعلماء مشهورون، وكان جل اهتمامهم بالفارسية وظهر كذلك في هذا العصر بعض الآثار العربية. أما الآثار التركية التي عنى بها رجال الفكر التركي فهي قليلة جدا. ولقد انتقلت إلينا من عهد القاراخانيين مؤلفات أدبية قيمة، وكذلك آثار نفيسة من عهد السلاجقة، يستدل منها على أن الأدب التركي في هذا الدور كان في عنفوان تكامله
ومن الآثار التي يصادف تاريخها هذه العهود كتاب (قوراتغويليك) الذي كتبه الأديب التركي (يوسف خاص حاجب) في سنة 462 هـ بمدينة كاشغر، وقدمه إلى الأمير القاراخاني (تابغاج قره بغراخان) فنصبه هذا حاجباً خاصاً في قصره، ومن هنا سمي بهذا اللقب. ويتضمن كتابه أشعاراً أخلاقية نظمها لغة تركية خالصة يندر فيها العثور على ألفاظ أعجمية. فهي هذا الاعتبار أشعار لها قيمتها العظيمة في الأدب واللغة التركية من حيث الإفادة في استعمال كثير من الكلمات التركية المهجورة في الكتابة الحديثة
ويوجد من هذا الأثر ثلاث نسخ خطية، وجد إحداها المؤرخ المعروف (هامر) في استنبول، وكانت مكتوبة بالخط التركي القديم (الأويغوري) فأرسلها إلى مكتبة فيانة حيث(979/6)
حققها المستشرقون هناك ونشروها مراراً. ويرجع تاريخ هذه النسخة إلى سنة 1439 م. أما الثانية فوجدت في مدينة (فرغانة) وكانت مدونة بالحروف التركية العربية. أما النسخة الثالثة فإنها محفوظة في دار الكتب المصرية بالقاهرة
وكتاب (عيبة الحقائق) الذي ألفه الشاعر أحمد بن محمود في القرن الثالث عشر الميلادي باللهجة التركية الكاشغرية وهو مجموعة منظومات في النصح والإرشاد. وقد وجد النسخة الخطية الأولى منها الأستاذ نجيب بك عاصم مدرس اللغات الشرقية في دار الفنون باستنبول، في مكتبة أيا صوفيا. وكانت مكتوبة بالحروف التركية القديمة (الأويغورية) وبالحروف التركية العثمانية (العربية). فتمكن من تحقيقها ونشرها في سنة 1918
وكتاب (ديوان لغات الترك) وهو يعد بمثابة معجم، كتبه محمود حسين الكاشغري سنة 470 هـ ببغداد ليكون مرشدا للمتعلمين، وكان هذا المؤلف يحذق اللغة العربية بقدر ما يجيد لغته التركية، وقد سكن في بغداد مدة خمس سنوات (بين سنة 1072م وسنة 1077م) في الوقت الذي كانت البلاد العراقية تحت حكم السلاجقة، فأهدى كتابه هذا إلى الخليفة العباسي المقتدي بالله وهو أثر قيم يماثل دوائر المعارف في هذا العصر، فقد اشتمل على خمسمائة وسبعة آلاف مادة في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافية، وهو يصور الحياة الاجتماعية والأدبية في ذلك العصر خير تصوير، وقد استفاد منه الأتراك في الوقت الحاضر استفادة كلية في استنباط الحقائق التاريخية والأدبية، واستخراج المواد اللغوية التي استعاضوا بها عن الألفاظ العربية والفارسية
وقد وجدت نسخته الخطية في استنبول فحققها المعلم رفعت الكليسي ونشرتها وزارة المعارف التركية في ثلاث مجدات، ثم قام بطبعها ثانية مؤتمر اللغة التركية بإشراف الأستاذ بسيم آتالاي
مشاهير الشعراء في هذا الدور:
وأول من يتبادر إلى الذهن الشاعر الصوفي الشهير (أحمد يسوي) مؤسس الطريقة اليسوية في تركستان، ولد في مدينة (سايرام) من بلاد تركستان، ودرس العلوم على الشيخ يوسف الهمداني في مدينة بخاري، ثم عاد إلى المدينة (يسه) حيث أسس أول تكية تركية في التاريخ هناك، وتوفى سنة 562هـ أما تاريخ مولده فغير معروف، ويذهب (مليورانسكي)(979/7)
إلى أنه توفى بالغاً من العمر ستة وثلاثين سنة مستدلا على ذلك من بعض أشعاره
لقد كان هذا الشاعر من عظماء المتصوفين في وقته، وأشتهر كزعيم ديني كبير ومرشد وولي كامل، فكانت الجماعات الغفيرة تلتف حوله يأملون منه اللطف وينالون الدعاء. . وكان لأدبه أثر عميق في النفوس. وعرف ديوانه الشعري بين الناس بديوان الحكمة لأنه كان يتضمن من الحكم البالغة والمواعظ الحسنة والأمثال
الخوجه دهاتي
وقد عرفه إلى عالم الأدب لأول مرة الأستاذ فؤاد كوبريلي، إذ كان هذا الشاعر غير معروف في الأوساط الأدبية حتى تمكن الأستاذ كوبريلي من العثور على بعض الوثائق التاريخية في جوانح المكتبات. وتمكن بعد ذلك من التعمق في البحث حتى حصل على كثير من المعلومات حوله، فنشرها في بعض المجلات التركية ويتضح من تلك الدراسات أنه كان خراساني المولد وأناضولي النشأة، حيث أدرك عصر الأمير علاء الدين كيقباد، وعاشر هذا الأمير مدة من الزمن، مدحه في بعض قصائده. وهو يعد أول شاعر تركي جمع ديواناً مرتباً على الحروف الهجائية، إذ لا نعرف شاعراً تركياً آخر سبقه في هذا الخصوص
جلال الدين الرومي:
ولد في 30أيلول1207 م (604 هـ) في مدينة (بلخ) وتوفى
سنة 672 هـ في ولاية (قونية) التركية. وكان والده (بهاء
الدين ولد) الملقب بسلطان العلماء؛ من خيرة رجال العلم
والأدب، وزعيم الطائفة المنورة في زمانه. رحل هذا العالم
ومعه أبنه جلال الدين إلى الديار الحجازية. . ومن ثم رجع
إلى مدينة (قونية) حيث أستقر فيها. ولقي أثناء إقامته هناك
حظوة عند الأمير السلجوقي علاء الدين كيقباد(979/8)
توفى الشيخ بهاء الدين سنة 628 هـ وكان قد لقن ولده العلوم الظاهرية. ورأى جلال الدين بعد وفاة أبيه أن يسعى لإكمال دراسته وإتمام ثقافته، فاتصل بالسيد برهان الدين الترمذي - من تلامذة والده - فدرس عليه العلوم الباطنية، وقد نال إعجابه. فما كان من السيد الترمذي إلا أن جعله (مريداً) له
وتعد سنة 1244م بداية عهد جديد في حياة جلال الدين الرومي، فقد التقى بالشيخ شمس الدين التبريزي المتصوف المعروف، فانصرف معه إلى الحياة التصوفية وبدأ منذ ذلك اليوم. ينظم القصائد الجياد في الشعر التصوفي حتى غدا شاعرا يشار إليه بالبنان، وقد خلف مؤلفات قيمة ترجمت إلى لغات كثيرة، نذكر منها (الديوان الكبير) الذي اشتمل على منظومات رباعية بديعة وأشعار رقيقة في الغزل. و (المثنوي) وقد حاز إعجاب الجمهور، ونال استحسان الأندية الثقافية. فأقدم العلماء على درسه وترجمته إلى لغات مختلفة. ويتضمن هذا الكتاب قصصاً وروايات رمزية، ونصائح وإرشادات دينية قيمة. ويحتوي كذلك على شرح المذهب الصوفي في محبة الله. . .
وقد جاء الكتاب بأسلوب قصصي بديع تجلى فيه الأدب الرفيع بأبهى جماله. وكان جلال الدين قد نظم أشعاره باللغة الفارسية باستثناء بعض المقطعات التركية وهو مع ذلك لا ينفي كونه تركيا خالصاً إذ يقول:
(أصلم توركست اكرجه هندو كويم)
بمعنى: أنني من الأصل التركي وإن اخترت الفارسية لغة
وهو يعد بحق مؤسس الطريقة الجلالية التي سميت فيما بعد بالطريقة المولوية. وتوسعت هذه الطريقة على يد ولده النجيب الموسوم ب (سلطان ولد) الذي تمكن من نشر لوائها فوق سماء البلاد النائية، فتفرعت الطريقة إلى فروع تغلغلت جذورها في داخل الأقطار العراقية والسورية والمصرية، وانتشرت مبادئها كذلك في بلاد أذربيجان الشمالية
ولهذه الطريقة أثر عظيم في سير الأدب التركي. فقد أخذ الشعراء الأتراك يتقربون إلى شيوخها ويعتنقون تقاليد الطريقة وشعائرها المعروفة، فظهر لون من الأدب ينبغي تسميته بالأدب المولوي الذي أصبح فيما بعد يسمى بأدب التكايا، وذلك نتيجة تنوع الطرائق الصوفية وانتشارها في طول البلاد وعرضها(979/9)
هذه نبذة مختصرة عن حياة الشاعر جلال الدين الرومي وعن أثره في الأدب التركي. وهناك شعراء كثيرون ممن عاشوا في هذه العهود أمثال الخوارزمي والجندي وسليمان باقر ومير حيدر ولطفي وأميري وحسين بايقرا وعلي شيرنوائي والقاضي وبرهان الدين وضرير الأرضرومي وحبيبي وخطائي وغيرهم من شعراء الترك، إن أردنا الاستفاضة في دراستهم في هذا المقام لطال بنا المقال. وخرج عما سميناه بالنظرات وإذا راعيتا جانب الاختصار وتجانبنا التفصيل. . .
وهنا نكون قد أعطينا للقارئ صورة مختصرة للأدوار التاريخية التي مر بها الأدب التركي منذ نشأته حتى أوائل العهد العثماني. وقد رأينا فيها أن الأدب التركي في هذه الفترات كان يكتنفه شئ من الغموض، بحيث يتعذر معه الوصول إلى كشف خفاياه وإظهار مجاهلة، وذلك لافتقارنا الشديد إلى المصادر التاريخية القديمة التي ترشدنا إلى معالم هذا الأدب في عصوره المظلمة.
ورأينا في هذا المقال أننا كلما تدرجنا في الموضوع تدرجاً زمنيا وجدنا أن الأدب التركي يزداد وضوحاً في العصور الأخيرة
وسنرى في دراساتنا القادمة، إن سمح لنا الوقت، أن الأدب التركي أصبح موضوعه أمرا ملموساً له حدود ثابتة وأدوار تاريخية معينة. .
كركوك (العراق)
عطا الله ترزي باشي(979/10)
كلمة تقال. . .!!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أخي الأستاذ علي الطنطاوي
سلام عليك. يقال في المثل: (كرها تركب الإبل السفر) وقد استطعت أنت أن تكره العلم إلى ما أردت أن أنزهه عنه. فلولا ما أضمرت من قديم المودة لك، ولولا ما عرفت من صدقك، ولولا أنني أجلك عن أن تكون عجولا إلى غير صواب، ولولا أني أكره أن تأخذ عني شيئا لم أقله بلساني، ولولا ذلك كله، لكان أبغض شيء إلى أن استكره نفسي على غير ما رأيت أنه أجمل بي وأصون. وإنك لتعلم، أيها الصديق القديم، أني اكره أن ازداد من الشر، وأن أتزود من لجاجة الباطل، والكتابة في زماننا هذا شر مستحكم، وباطل لجوج متوقح. وقد اقتحم وعرها من لا يحسن المشي في سهولها، وتشهاها من لو انصف نفسه لحال بينهما وبين ما تشتهي، واتخذها صناعة من لو عقل لأعفى نفسه من مزاولتها، ولكن هكذا كان، ورحم الله الطائي إذ يقول لمحمد بن عبد الملك الزيات:
أبا جعفر، إن الجهالة أمها ... ولود، وأم العلم جذاء حائل
أرى الحشو والدهماء أضحوا كأنهم ... شعوب تلاقت دوننا وقبائل
غدوا، وكأن الجهل يجمعهم به ... أب، ذوو الآداب فيهم نواقل
وأنت تعلم من انصب النصب، أن تتصدى لإفهام من لا يفهم عنك، فإذا بلغ الأمر أن تراه يتصعب لجدالك، فأذكر قول من قال: إذ أردت أن تفحم عالما فأحضره جاهلا. وقد لقيت أنا من شر ذلك ما لقيت، فآثرت أن أسلك سبيلي لا يشغلني عنه متعلق بأذيالي، إرادة أن يصرفني عن الوجه الذي أردت
ولقد قرأت كلمتك في الرسالة، فأسفت أشد الآسف، لأني عرفت منها أنك لم تقرأ ما كتبته في مجلة (المسلمون) وفي أربعة أعداد منها، ولو كنت قرأتها لما كتبت ما كتبت، لأني لا أشك في ذكائك وحسن فهمك. فأنا لم أتعرض في شيء منها لبني أمية أو بني العباس، ولا لحكمهم ولا سياستهم؛ فعجبت أشد العجب كيف يمكن أن تكون معي أو علي في أمر لم أقل فيه كلمة ولا يعلم أحد ممن كتب رأيي فيه، ولا كيف أقول إذا أنا تعرضت للبيان عنه؟ فمن اجل ذلك عجبت، لأنك لم تنصف على عادتك من الإنصاف(979/11)
وأنا محدثك باختصار عن هذا الذي كتبته. واصل ذلك كله أني رأيت من كتب من المحدثين في شأن تاريخ الماضين من أسلافنا، يكتب أو يتحدث بأسلوب أقل ما يقال فيه أنه مشوب بالحماقة الشديدة، مختلط بالجهالة المتراكبة، في معرفة أصول التاريخ، مغموس في حماة من الافتراء والتطاول، مستنقع في أهواء سيئة رديئة. وزعمت أن للناس أدباً وأسلوبا في كتابة التاريخ، وأن للمسلمين خاصة أدب وأسلوب في التاريخ ينبع من أصل دينهم، في العدل، وفي حسن النظر، وفي الأناة في طلب الحق، وفي كف اللسان عن التهجم بالقول السيئ على عباد الله بلا بينة، وفي التناهي عن اقتناء المرء ما ليس له به علم، وفي التثبت من الأخبار قبل تصديقها، وهو أدب كما تعلم كان قديما في كتبنا، ولكن حضارة هذا القرن قد نشرت وباء شديد الفتك، ذهب بأكثر هذا الأدب، وأخذت في طرقي أضرب المثل على هذا بكاتب رأيته لم يتورع عن سلب أناس دينهم، ولم يخشى الله في نفي الإسلام عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي تصوير أعمالهم بصورة أعمال المنافقين، وفي أخذ الروايات الباطلة وجعلها دليلا على الغميزة في إيمانهم، وفي رد الروايات الثابتة الصادقة بروايات كاذبة ادعاها مدع من الرافضة، إلى غير ذلك مما سأبينه فيما أكتب في مجلة (المسلمون) وزعمت أن هذا ليس ديدن هذا الكاتب وحده، بل صار ديدنا لأكثر من يكتب الآن في شيء من تاريخ هذه الأمة المسلمة، حتى صار الطعن في صحابة رسول الله أمرا مرتكبا بلا حذر
وما دمت لم أزد في كلامي على هذا، فلست أدري بعد ما الذي يحملك على أن تخذلني أو تنصرني في أمر لم أنطق بعد فيه بكلمة! نعم قد يكون رأيي فيما أبديت أنت فيه رأيك، مخالفا لك، ولكني لم أتكلم بعد فتعرف حجتي فيه. بل لعلي إذا كنت لك مخالفا، ثم عرضت عليك خلافي لك، أن تكون أسرع إلى موافقتي منك إلى الخلاف علي، حين ترى فيما أقول صوابا يرضيك. أليس هذا جائزاً، وممكنا أيضا؟ فإذا رأيتي بلغت في سياق مقالاتي في (المسلمون) إلى ذكر دول الإسلام، فعندئذ فقل؛ فأنا أقبل منك ما تقول، وأعلم أني لا أنف أن أصير إلى الحق إذا عرفته، ولقد عشت على هذه الأرض زمانا طويلا، واعتقدت منذ عقلت أراء كثيرة، ثم تبين لي أن الحق في خلافها، فرجعت عنها جملة، ولم أبال بما كنت أرى، ولعلك أنت خاصة تعلم من ذلك ما لا يعلمه غيرك(979/12)
وأنا أحب أن ترجع إلى ما كتبته في مجلة (المسلمون) ولا تأخذ كلام أهل اللجاجة، فإنهم أوهموك، فيما أظن، أني قلت شيئا والحقيقة أني لم أقل بعد فيما تناولته أنت شيئا، وأنا أعيذك أن تتورط في هذا الشر الذي نجاهد جميعا في دفع الناس عنه: وهو أخذ الأقوال بلا بينه، وبلا حجة، وبلا برهان. لك مني تحية كنت أحب أن تبلغك، على غير هذه الراحلة المكرهة على ارتكاب طريق دنسته الأقدام، والسلام
محمود محمد شاكر(979/13)
الكونيات والعلوم الحديثة في شعر الرصافي
بمناسبة الذكرى السابعة على وفاته
للأستاذ خالص عزمي
الرصافي - الذي نحيي ذكراه - ثورة من ثورات الفكر المجدد، وداعية من دعاة النهضة العلمية الحديثة، فضلا عن كونه أميرا من أمراء الشعر، أطلق لفكره العنان في مواضع التفكير الصائب، ذلك التفكير الذي تنطلق منه حينا تأملات الذهن الباحثة عن شتى العلوم والفنون
كان الرصافي - رحمه الله - يبعث بصره (في كثير من الأحيان) جوالا في السماء في ذلك الكون الشاسع، في ضياء الشمس نهارا، وإلى كواكب السماء، إلى البدر المنير ليلا، فيصور بريشة الإحساس المرهف، ريشة الفنان الملهم، صورا رفيعة المغزى، تقترب من الحقائق شيئا كثيرا، معتمدة على فكر ثاقب، وتطلع متزن، ثم على إجهاد في البحث، والتتبع المستمر لأراء كبار الكتاب والمفكرين، فيصل بكل ذلك إلى كبد الحقيقة، ولا ينتهي منها شيئا حتى يبدأ بسلسلة من الأفكار الجديدة، شأن كل شاعر حر ومفكر مبدع
يجلس الرصافي ليلته بأفكار مجنحة، ونفس هادئة، وفكر مستقر، يرسل بصره في تلك الصفحة التي تضيئها أنوار النجوم الزواهر، والمجموعات النورية، فتحولها قطعة كبيرة لا تدركها الأبصار، شاعرية التكوين والتشكي، لا يمكن وصفها على حقيقتها إلا من شاعر ملهم، كالرصافي. . . قلنا يجلس ليلته، فلا يكاد يستقر بصره حينا حتى تثور شاعريته فيقول ويستمر في القول حتى ينتهي به المطاف إلى تكوين قصيدة مسبوكة الحواشي يحار لتكوينها الفكر، كما حدث في قصيدته الرائعة (تجاه اللانهاية) حيث يقول: -
في فضاء لو سافر البرق فيه ... ألف قرن لما أتى مستقره
ولو الشمس ضوعفت ألف ضعف ... لم تكن في أثيره غير ذره
ولو الفكر غاص فيه مسغذا ... لم يكن بالغا يد الدهر قعره
سعة تحسب المجرة فيها ... حلقة ألقيت بصحراء قفره
إن تكن هذه المجرة نهرا ... مستفيضا فشمسنا منه قطره
إن تسائل عنا فنحن هباء ... ذر من صنعة القوى بمذره(979/14)
ثم أنك (يا قارئي الكريم) - لو ألقيت نظرة على قصيدته المشهورة - من أين والى أين - لرأيته ينفذ في مواضع كثيرة قول العلماء المشهور ونظريتهم المعروفة التي تتلخص في (إن الضياء حاصل من اهتزاز الأثير فيقول: -
من أين من أين يا ابتدائي ... ثم إلى أين يا انتهائي
أمن فناء إلى وجود ... ومن وجود إلى فناء
أمن وجود له اختفاء ... إلى وجود بلا اختفاء
لأي أمر ذه الليالي ... تأتي وتمضي على الولاء
أرى ضياء يروق عيني ... ولست أدري كنهه الضياء
وما اهتزاز الأثير إلا ... علالة نزرة الجلاء
وهنا يرى (القارئ) أن الشاعر الكبير قال في البيت الأخير ما معناه (أن العلماء فسروا ذلك التفسير المبهم لأنهم لا يدركون الحقيقة بل وجدوا ذلك الحل تخلصا في حلقة مفرغة لا يتصلون إلى نهايتها بتاتا)
ثم يصف تزاحم الذرات في الجسم وهو ما يسمى (عرك الإلكترونات) فيقول: -
فإن أجزاء كل الجسم ... مبتعدات بلا اتقاء
وفي دقاق الجماد عرك ... يتهم الحس بالخطاء
وينتقل بعد ذلك فيخاطب تلك القوة الخارقة المعروفة قوة الجذب فيقول: -
يا قوة الجذب أطلقيني ... من ثقلة أوجبت عنائي
ثم يتابع القول فيتجه نحو الكهرباء السماوي الذي ينبعث من النجوم والكواكب والأقمار فيقول
وأنت يا كهرباء سر ... بدا وما زال في غشاء
عجائب الكون وهي شتى ... فيك انطوت أيما انطواء
أضأت إن شئت كل داج ... لنا وأدنيت كل ناء
ففي هذه القصيدة لاحظ - القارئ الكريم - أن المرحوم الرصافي قال في أهم النظريات العلمية الحديثة، فقد قال في (تزاحم الإلكترونات) وجزيئات الجسم ثم في قانون الجذب العام ونظرية دارون في النشوء والارتقاء وفي الإشعاع الضوئي، هذه المواضيع كلها(979/15)
تصور لنا مدى تتبع الشاعر الكبير للنظريات العلمية، تفنيدها في مواضع ومجاراتها في مواضع أخرى
وتتبلور الفكرة التي نتحدث عنها في وضوح شامل في قصيدته ال (كن يا ضياء) ومعناها (كن إلى ذلك الشيء يا ضياء. . . أو توجه إليه) وبها ينتقد أكبر العلماء وأرقاهم مدارك في علوم الفلك والطبيعة: حيث يقول
أبيني ما وراءك يا دراري ... فنحن نخاله بعدا شطونا
قد أتسع الفضاء لك اتساعا ... فهل أبعاده بك ينتهينا
وترصدك الأنام وما أتانا ... بعلم كيانك المترصدونا
(فهدشل) ما شفا منا غليلا ... ولا (غاليل) أنبأنا اليقينا
و (كبلر) قد هدى أو كاد لما ... أبانك يا نجوم تجاذبينا
ومن كل ما تقدم يتبين للقارئ الكريم أن للرصافي عقلية استوعبت كثيرا من العلوم، وأدركت من الحقائق والمحسوسات ما جعلها ترتفع شيئا كبيرا عن المستوى الفكري السطحي لأكثر الشعراء
ونحن بهذه الكلمة البسيطة لا يمكننا تبيان ما نريده في مجال هذا الموضوع المتشعب، إذ لو أردنا تحقيق ذلك وإدراكه لاحتجنا إلى كثير من الصفحات، وكثير من الساعات بل الأيام لكي نسجل بها أو نشرح ما قاله شاعرنا الكبير في هذا الصدد
ولكن لا بأس من أن ننهى حديثنا هذا بما قاله العلامة الكبير (المغربي) في مقدمته للطبعة الثانية من ديوان (الرصافي) حيث كتب يقول في هذا الباب - باب الكونيات - ما يلي (. . . وقصائده (تجاه اللانهاية) و (من أين إلى أين) و (نحن على منطاد) و (الأرض) و (الكن يا ضياء) و (ومعترك الحياة) وغيرها لو حولت إلى نثر كانت من خير المقالات التي وصفت بها الكائنات وصفا منطقيا على أخر نظريات العلم الحديث. . ففيها بيان أو شرح لوحدة المادة، والجاذبية، والأثير الكهربائية، وأشعة (رنجتن) وأراء دارون في النشوء والارتقاء، ومذهب ديكارت في التوصل إلى اليقين عن طريق الشك، ومبادئ الاشتراكيين في أن تكون للعامل حصة من إنتاجه)
تركوا السعي والتكسب في الدنيا وعاشوا على الرعية عاله(979/16)
يأكلون اللباب من كد قوم ... أعوزتهم سخينة من نخالد
يتجلى النعيم فيهم فتبكي ... أعين السعي من نعيم البطالة
ليس هذا في مذهب الاشتراكية إلا من الأمور المحالة
بغداد
خالص عزمي(979/17)
2 - الباكستان
السياسة الخارجية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(إن وحدة العالم الإسلامي هي أحد الأركان الأساسية التي تقوم
عليها سياسة باكستان.)
محمد ظفر الله خان وزير الخارجية
كراتشي - القاهرة
في هاتين المدينتين تتركز السياسة الخارجية للدول الإسلامية ففي القاهرة تقوم الجامعة العربية وفي كراجي (كراتشي) تقوم حركة الجامعة الإسلامية
وقد كان من المفهوم أنه لا يوجد تضارب بين الفكرتين بل كان مفروضا أن تحول الجامعة العربية إلى وحدة إسلامية أمر سهل ميسور ولا غبار عليه، ولكن بعض التصريحات التي صدرت في القاهرة أخيرا أشعرتنا بأن هناك خلافا في وجهات النظر حول الفكرتين، فالجامعة العربية تقوم على أساس العنصرية وعلى أساس من المصالح المتبادلة بين الدول العربية، لا على أساس طائفي أو ديني، بهذا صرح سعادة الأمين العام وقال أنه يعارض فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية لأنها تكون مؤسسة دينية طائفية تقف في سبيلها كل الهيئات غير الإسلامية، كما أنها تغضب الهند والفلبين وهما تتعاونان مع الجامعة العربية
وأنا أرى أنه إن كان المقصود بالهيئات غير الإسلامية اليهود المقيمين بإسرائيل فإن هؤلاء سيغضبون حقا لقيام الوحدة الإسلامية، أما إن كان المقصود المسيحيين واليهود المقيمين بسائر الدول الإسلامية فهؤلاء لن يغضبوا لأنهم عاشوا آلاف السنين مع إخوانهم المسلمين جنبا إلى جنب، تظلهم راية الإسلام ويتمتعون في كنفه بالآمن والسلام، وتلك الحقوق التي كفلها لهم الإسلام
وأعترف بأنني قد حاولت جاهدا أن أفهم سر ما نزل بعرب فلسطين من بلاء وتشريد ونهب وسفك دماء وهتك أعراض، وقد تمخضت هذه الجرائم عن قيام دولة إسرائيل فلم(979/18)
أجد سببا لكل هذا التعصب الصهيونيين الديني
وإنني أضع أمام القراء صورة لما نزل بالمسلمين في القارة الهندية من أذى وبلاء مما دفعهم إلى الاستماتة في سبيل إقامة دولة ينعمون في ظلها بالآمن والطمأنينة والحرية، وقد كلل الله جهودهم بالنجاح. فأقاموا دولة الباكستان فكانت لهم دار آمن وسلام. ألم يكن الهندوكيون يعملون على تمجيس المسلمين أو إفنائهم؟
وهاأنذا أقص على حضرات القراء بعض ما وقع في الهند عند تنفيذ مشروع التقسيم:
في 1947 أعلن تقسم الهند إلى دولتين: الهندستان والباكستان، فماذا فعل الهندوس؟ انطلقوا يقتلون الأبرياء من المسلمين وكانت دلهي عاصمة الهند نفسها مسرحا لآلاف من الجرائم المروعة ذهب ضحيتها آلاف من المسلمين الأبرياء
وأشهد معي وقارن: لقد هاجر من الباكستان كثيرون من الهندوس والسيخ آمنين مطمئنين يحملون معهم أموالهم وأثاثهم ومتاعهم وكان عدد المهاجرين منهم ما يلي:
427 , 000 بالسيارات
1 , 362 , 000 بالسكك الحديد
849 , 000 بالعجلات التي تجرها الحيوانات
133 , 000 بالبواخر
27 , 500 بالطائرات
أما المهاجرين من المسلمون فكانت قصة هجرتهم إلى الباكستان مأساة: لقد أخرجوا من أرضهم وبيوتهم وأموالهم تحت وابل من الرصاص والنيران. وقد هاجر معظمهم سيرا على الأقدام فلم يصل إلا أقلهم، أما معظمهم فقد مات في أثناء الطريق من البرد والحر والجوع والإعياء وكثيرون اغتيلوا أو ماتوا غرقا في الأنهار
وقد ظن بعضهم أنهم محظوظون حينما أتيح لهم الانتقال بالسيارات والقطر الحديدية ولكن خاب ظنهم. لقد كانوا معرضين في كل محطة وقف بها القطار إلى هجمات السيخ والهندوس، ولقد كانت السيارات أو القطر تصل فعلا إلى حدود الباكستان ولكنها كانت تصل فارغة أو مملوءة بالجثث وبالمشوهين فقط!!!
واستمر المسلمون يهجرون الهندستان بالملايين، تاركين وراءهم أموالهم وأملاكهم هاربين(979/19)
بإيمانهم لا يبالون بما ينتظرهم في الطريق من المخاطر والعدوان وزادهم الله هدى وإيمانا، لقد كان أحدهم إذا بلغ حدود الدولة الإسلامية فقيرا مشوها عاجزا فما هو إلا أن تطأ قدماه أرض الوطن حتى يسجد لله شكرا. لقد اصبح للمسلمين دار أمان في أرض الهند!
لماذا نزل هذا البلاء بالباكستانيين؟ ألم يكن كل ذنبهم أنهم مسلمون؟
الجامعة الإسلامية قائمة سواء أراد الأعداء أم لم يريدوا قال محمد ظفر الله خان (ونحن المسلمين لا نحمل أي نيات عدائية ضد أي أمة أو أمم، ولسنا نرغب إلا أن نحيا حياة حرة كريمة، وأن تنهض في الاتجاه الذي نعتقد أنه الحق، وأن نستغل مواردنا الأدبية والمادية لخدمة شعوبنا ولخدمة الإنسانية بحيث نسهم بنصيبنا في إقرار السلام وإشاعة حسن النية في جميع ربوع العالم!)
المؤتمر الإسلامي
أنعقد هذا المؤتمر وهو يمثل الشعوب الإسلامية في كراتشي وكان يرأسه سماحة السيد محمد أمين الحسيني مفتى فلسطين وقد اتخذ المؤتمر القرارات آلاتية - وهي خاصة فلسطين: بما أن قضية فلسطين هي قضية إسلامية عامة لصلتها الوثيقة بمصالح المسلمين فإن مجلس المؤتمر يقرر ما يلي:
1: مطالبة جميع الدول والشعوب الإسلامية بتأييد قضية فلسطين ودفع الخطر المحدق بالمسجد الأقصى والعمل على إنقاذ هذه البلاد المقدسة من أيدي المعتدين
2: إعادة اللاجئين إلى أراضيهم وأملاكهم وفقا لقرار هيئة الأمم المتحدة
3: استعادة مئات من المساجد والمعابد التي استولى عليها اليهود والأوقاف الإسلامية والمقابر وسائر الأملاك، واحترام الملكية الشخصية وحفظها لأصحاب كما ينص على ذلك القانون الدولي
4: معارضة كل صلح أو تسوية مع اليهود
5: يدعو المؤتمر جميع المسلمين حكومات وشعوبا إلى مقاطعة ما يسمى (دولة إسرائيل) مقاطعة عامة شاملة في كل النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما يدعو إلى مقاطعة اليهود حيث كانوا في أقطار العالم، وتجنب التعامل معهم إلى أن يتحقق زوال خطرهم على فلسطين والبلاد الإسلامية كافة، وتكليف اللجنة التنفيذية بتشكيل مكتب خاص(979/20)
لتحقيق ذلك بالوسائل العملية
ونحن نرجو أن توضع هذه القرارات موضع التنفيذ فإن العبرة بذلك لا بكتابتها على الورق
مؤتمر كراتشي:
وجهت باكستان الدعوة إلى الدول الإسلامية للاشتراك في هذا المؤتمر الذي ينتظر عقده في النصف الثاني من شهر أبريل، ومهمته بحث المسائل الهامة المشتركة وإقامة نظام استشاري بين الدول الإسلامية مما يساعد على إقامة تعاون أوثق بينها الأمر الذي فيه مصلحتها
يتضح من كل ما سبق أن الباكستان تتجه في سياستها الخارجية إلى إقامة تعاون وثيق بينها وبين الدول العربية، وإلى هذا يشير معالي ظفر الله خان بقوله: أن وحدة العالم الإسلامي هي أحد أركان الأساسية التي يقوم عليها سياسة الباكستان
وفي الوقت ذاته تقوم روابط الصداقة بين الباكستان وبريطانيا. والواقع أن ظروف الباكستان الجغرافية هي التي أملت عليها هذه السياسة. فالباكستان تجاور الهند من ناحية، وهي قريبة من روسيا وأملاكها الآسيوية من ناحية أخرى. فقد كان عداء الهندوس للمسلمين من أبناء الباكستان مما دفع الباكستانيين إلى محاولة إيجاد الجامعة الإسلامية (والمؤمنون أخوة) بنص القرآن الكريم. كما إن الخطر الروسي أدى إلى قيام روابط الصداقة بينهم وبين بريطانيا، ولا تنس أن بريطانيا كانت تحكم الهند إلى وقت حد قريب، وأنها تزعم استقلال القارة الهندية ما تزال تسيطر على أسواقها التجارية، فإن بريطانيا حريصة تماما على تجارة الهند
حيدر آباد - كشمير
ولايتان من ولايات القارة الهندية قامت بسببهما مشكلتان بين الهندوستان والباكستان
وحيدر آباد مقاطعة في هضبة الركن؛ وهي أكبر إمارات الهند وأغناها، إذ تبلغ مساحتها 350 , 000 كيلو متر مربع، وعدد سكانها نحو سبعة عشر مليونا من الأنفس منهم نحو مليونين من المسلمين وهم أقلية. وكان يحكمها نظام حيدر آباد، وكان من أغنى أغنياء العالم(979/21)
ولما قامت دولتا الهندستان والباكستان اختار نظام حيدر آباد وهو مسلم أن تظل بلاده مستقلة، ولكن الهندستان لم تقنع بذلك. وفي 1948 ساقت الجيوش إلى الولاية واحتلتها بدعوى إن أغلبية السكان من الهندوس!!
وأما كشمير فهي مقاطعة جبلية في شمال الباكستان الغربية، وفيها توجد منابع السند، ومن ثم كانت أهميتها بالنسبة لباكستان كأهمية السودان بالنسبة إلى مصر. يضاف إلى ذلك 93 % من سكان مسلمون. وتجاورها من الشرق مقاطعة جمو، وهي كذلك مقاطعة إسلامية؛ إذ إن 62 % من سكانها مسلمون أيضا
وكان يحكم كشمير منذ 1846 أمير هندوسي اشتراها من شركة الهند الشرقية البريطانية. وتبلغ مساحتها نحو 84 , 000 ميل مربع، وعدد سكانها أربعة ملايين
وفي 1947 تم تقسيم القارة الهندية إلى دولتين: الهندستان والباكستان، وكان من الضروري أن تنظم كشمير إلى الباكستان لأن معظم سكانها من المسلمين (وقد رأينا إن الهندستان ضمت حيدر آباد بحجة أن أغلبية السكان من الهندوس)، ولكن الهندستان لجأت إلى سياسة العسف فعملت على دفع حاكم كشمير الهندوسي إلى إقامة حكم إرهابي عنيف مما يؤدي إلى إفناء المسلمين أو هجرتهم، وشجعت هجرة الهندوس إليها حتى تصبح الأغلبية، لهم وبدأت الحركة في جمو، ففي مقاطعة دوغرا قتل 237 , 000 من المسلمين على يد قوات المهراجا نفسه، وكان يساعدها جماعات منظمة من السيخ والهندوس. وقد أدت هذه الحوادث فعلا إلى إفناء ثلثي المسلمين في مقاطعة جمو مما بدل نسبة السكان والهندوس فيها
إزاء هذه الحوادث قام رجال القبائل في كشمير لنجدة إخوانهم وانتصروا على جيوش المهراجا، وأقاموا حكومة وطنية هي حكومة (كشمير الحرة) أو (أزاد كشمير)
استنجد المهراجا بالهندستان فبعثت إليه بجنودها ودباباتها وطياراتها، وتقدمت الباكستان تدافع عن أهل كشمير المسلمين، وبدأت مشكلة كشمير تهدد السلام العالمي، وتدخلت هيئة الأمم المتحدة لتحل القضية حلا (عادلا) فوقف القتال عند احتفاظ القوات الهندية بجزء كبير من مقاطعة جمو وسيطرة حكومة (كشمير الحرة) على سائر المقاطعة. وهكذا انتصر رجال القبائل الشجعان على جيشي المهراجا والهندستان. وما تزال القضية منظورة أمام هيئة(979/22)
الأمم المتحدة
وموقف الهندستان في هذه القضية عجيب. لقد ضمت حيدر آباد لأن معظم سكانها من الهندوس، وهي تعارض في ضم كشمير إلى الباكستان مع أن أغلب السكان من المسلمين. إن غايتها واضحة. إن استيلاءها على كشمير خطر دائم يهدد الباكستان
سهو
جاء في المقال الأول عن الباكستان أن مساحتها 360 مليون كيلو متر مربع، وصحتها 360 , 000 ميلاً مربعاً ولذا لزم التنويه
أبو الفتوح عطيفة(979/23)
ماذا قال العلماء في مؤتمر السرطان
السرطان والعلم
خلاصة وافية لآراء العلماء
عن مجلة (باريس متش) الفرنسية
السرطان في طليعة الأمراض التي لم يستطع العلم أن يتغلب عليها حتى اليوم
ففي سنة 1900 كان معدل الوفيات بالسرطان في الولايات المتحدة نحو أربعة في المائة من مجموع الوفيات، فبلغ في سنة 1946 نحو 14 في المائة. ويقول الخبراء إن هذه الزيادة ترجع إلى ارتفاع مستوى عمر الإنسان لأن السرطان مرض يصيب عامة الأشخاص الذين جاوزوا الأربعين، وعلى هذا فازدياد عدد الذين يجاوزون الأربعين بفضل تقدم الطب واكتشافاته يؤدي إلى ازدياد عدد مرضى السرطان
ومع أن السرطان يصيب الشبان والأطفال أحيانا فهو في شرع الطب من أمراض المسنين. في كل سنة يموت في الولايات المتحدة بالسرطان نحو 180 ألفاً وفي فرنسا نحو 75 ألفاً، ومع ذلك ففي كل يوم يشفى عدد كبير من حاملي هذا الداء بكل سهولة وبدون ألم، لأن تقدم الطب في السنوات الأخيرة والوسائل التي اكتشفتها لتشخيص السرطان جعلت هذا الداء من الأمراض السهلة الشفاء متى عولج في أول أمره، ولكنه يتحول إلى آفة مهلكة إذا أهمل وتفاقم
ماذا أدرك الطب من حقيقة السرطان؟ نجيب بكل أسف: لا شئ تقريباً. فكيف يرجى إذن شفاؤه وهو ما زال سرا مغلقاً؟ نقول بالطريقة ذاتها التي تشفي ذات الرئة بالبنسلين، أي دون أن نعرف كيف يتم هذا الشفاء، وبالطريقة نفسها التي يعالج داء السكر بالأنسولين دون أن نعرف حتى الآن العوامل السرية التي ينجم عنها الداء. وهكذا يعالجون فقر الدم المرهق بخلاصة الكبد مع أنهم يجهلون حقيقة هذا المرض
فالأمر لا يدعو إلى اليأس كما يظهر لأول وهلة. وإذا كان العلماء يتعقبون اليوم السرطان في ظلام حالك، فهذا لا يعني أنهم لن يتغلبوا عليه، فشفاء السرطان غير بعيد والعلم ماض في هذا السبيل بخطى واسعة(979/24)
إن سر السرطان كسر النمو بل هو سر الحياة نفسها، وإلى الآن لم يتمكن أحد من معرفة سر التفاعل الذي يحدث في قلب الخلية الحية، والمعروف من وظائف الخلية 1: أن تمثل المواد الغذائية غير الحية وتحولها إلى مواد حية، وهذه العملية تدعى بالاصطلاح العلمي (أنا بوليسم) وهي مأخوذة عن اليونانية ومعناها التركيب. 2: أن تحلل المواد المركبة الطبيعية الحية وتحولها إلى فضلات بسيطة، وهذه العملية تدعى (كاتا بوليسم) من لفظة يونانية معناها (التحليل) وهاتان الوظيفتان تؤلفان ما يدعونه (ميتا بوليسم)، وما الميتا بوليسم سوى تفاعل الحياة نفسه، محولا إلى شكله البسيط كما يراه الكيميائي
لا ينكر أن العلم قد تقدم في درس الميتا بوليسم، غير أن تقدمه ما يزال محدودا. لقد عرف كيف تحلل الخلية بعض العناصر المركبة وتحولها إلى عناصر بسيطة، ولكنه لا يعرف إلا شيئا ضئيلا عن الطريقة التي تحول بها الخلية العناصر البسيطة إلى عناصر مركبة ضرورية لنموها. ثم إن لدى العلماء اليوم معلومات عن الطريقة التي تحول بها الخلية العناصر الحية إلى عناصر ميتة، ولكنهم لا يعرفون شيئا عن كيفية تحويل العناصر الميتة إلى عناصر حية. إن مشكلة السرطان منوطة بهذا النوع الثاني من الميتا بوليسم، فهي إذن ومشكلة الحياة سواء
والسرطان ليس داء مختصا بالإنسان، بل يتناول الحيوان والنبات أيضا، فهو يصيب الفئران والقطط والكلاب وخنازير الهند والأرانب والخيل والغنم والمعز والضفادع والسمك والطيور وغيرها، كما يصيب أنواعاً شتى من النبات. وهو يختلف شكلا ونوعا، فما يسببه من الأعراض في حيوان لا يسببه في غيره، فإذا لقح أرنب من هافانا مثلا بنوع من الأورام، فقد ينمو كالسرطان، ولكن إذ لقح أرنب من حملايا بالنوع ذاته فانه ينمو بعض الوقت ثم يضؤل. وقد لاحظوا أن معالجة كيميائية قد تنفع في بعض الأورام السرطانية ولا تنفع في غيرها، وهذا مما يدل على وجود أنواع مختلفة من السرطان , أو أن هذا الذي يدعونه سرطانا ليس داء واحد بل أنواع متباينة وإن يكن تشخيصها الظاهرة واحداً. ولهذا يجب أيجاد معالجات تختلف باختلاف أنواع السرطان. أما والأمر ما ذكرنا فمن الحماقة أن يرتجي اكتشاف دواء واحد للسرطان كما يقال عن دواء وحيد لذات الرئة. والسرطان كغيره من الأمراض يفرض على الطبيب قضايا ثلاثاً: السبب، والتشخيص، والمعالجة(979/25)
وعلى هذه القضايا الثلاث مدار بحثنا التالي
فسبب السرطان هو أعقد المشاكل التي تعرض الطب في بحوثه السرطانية، وقد تشعبت فيه الآراء، وكلها نظريات لا يؤيدها إثبات مقنع، وفي مذهب الكيمائيين اليوم أن المباحث السرطانية يجب أن تبني على درس الحوامض الخلوية، فقد لاحظوا أن تجزؤ الخلية ينتج عن وجود بعض تلك الحوامض فيها، فإذا تمكن رجال العلم من تشخيص العوامل التي تنظم وظائف انقسام الخلية، فعندئذ نستطيع أن نقول إنهم حلوا معضلة السرطان
إن التجارب التي أجريت في الحوامض الخلوية الموجودة في الكروموزموم (الكروموزوم مادة توجد في نوايا الخلايا التي تتمركز فيها الصفات التناسلية) قد أسفرت عن نتائج مدهشة، فإن نفرا من الخبراء في معهد روكفلر توصل إلى تحويل نوع من الأعضاء الميكروسكوبية في بقة إلى نوع أخر. وهذا أمر لم يحلم به البيولوجيين من قبل. وقد دلت النتائج على أن من الممكن، على الأقل من البقة، تغيير أو تعديل نمو الأعضاء الميكروسكوبية. وليس بدعا أن تتم هذه العملية في الإنسان. ومتى تمت جاز لنا أن نعتقد أن في بعض الحالات غير الطبيعية كالسرطان مثلا يستطاع بوسائل اصطناعية - أي باستخدام عناصر كيميائية أو طبيعية - توقيف النمو غير الطبيعي وتوجيه الخلايا الفوضوية إلى المجرى الطبيعي. غير أن كل هذا لا يخرج الآن عن فرض وأمل، وقبل أن يبلغ العلم هذه الأمنية يقتضي له جهودا كبيرة وتجارب عديدة ومحاولات لا تحصى
وتتجه أنظار البيولوجيين اليوم إلى العوامل التي تسبب الفوضى في الخلايا السرطانية فتنمو بكثرة وبغير نظام، والمعروف عن الخلايا السرطانية أنها أشد نشاطا وأكبر حيوية من الخلايا العادية السليمة. والمبدأ الذي يعتمدون في أبحاثهم قائم على حكمهم بوجود اختلاف كبير في كيفية التغذية بين الخلايا السليمة والخلايا السرطانية ولا سيما الأغذية الكربوهيدراتية. ويرون أن للخلايا السرطانية طريقة خاصة في التغذية، ولكنهم حتى اليوم لم يهتدوا إليها أو بالأحرى لم يهتدوا إلى معالجة فعالة
وهناك نظرية أخرى تقول إن السرطان مسبب عن فيروس فيجب إذن أن يعد في جملة الأمراض الميكروبية. وما برحت هذه النظرية منذ خمسين سنة موضع اختلاف العلماء. وهي تبني اليوم على واقع أثبته الاختبار؛ وهو أن الفيروس سبب سرطان الدجاج وبعض(979/26)
الحيوانات الأخرى مما يحمل على الظن بأن هذا الفيروس نفسه سيكتشف يوما في سرطان الإنسان. وللعلماء في هذه القضية رأيان: إما أن الفيروس نظرية وهمية، وإما أنه لشدة صغره لم يهتد إليه حتى الآن في الأورام السرطانية. والحقيقة أن الفيروس متناه في الصغر حتى لا يدركه التصور، فلو صففنا 17 مليونا من هذا الميكروب لما جاوز طول الخط السنتمترين ونصف السنتمتر. والأمل معقود على الميكروسكوب الإلكتروني الذي يكبر الشيء مئات الألوف من المرات أن يرينا الفيروس، على فرض وجوده، داخل الخلية المريضة، وفي أثناء المؤتمر الأخير عرض عدة من الأطباء الاختصاصين بالسرطان صور هيئات ميكروسكوبية شبيهة بالفيروس، ولكنها لم تثبت نهائياً
وبحثت في المؤتمر مسألة الغذاء، فقال الدكتور البرتاننبوم من شيكاغو: لو أن عدد السمان في العالم أقل مما هو لكان السرطان أخف وطأة. وتؤيد قوله إحصاءات شركات التأمين التي تدل على أن السمان هم أكثر تعرضا للسرطان من سواهم، ولكن هذا لا يعني أن كل سمين مقدر له أن يكون فريسة للسرطان، بل ينبهنا إلى المحافظة على وزننا العادي. إن لغذائنا علاقة كبيرة بوزننا، فنحن نأكل كثيرا ونتغذى قليلا، أي أننا نستهلك كثيرا من الأصناف التي لا تتفق قيمتها الغذائية وكميتها. أما المواد الغذائية الصالحة فيجب أن تكون مؤلفة على الأكثر من البروتين الذي يوجد في اللحم والبيض واللبن والسمك والجبن والخضار. وعلى الأقل من النشويات كالبطاطس والحبوب والدهن ما إليها. وإذا كان العلماء لم يتمكنون حتى اليوم من نسبة السرطان إلى أسباب معينة فالبحوث الكيمائية في خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة استطاعت أن تنسب إلى عدد من المواد الغذائية بعض أسباب الداء
ومتى وجد لداء واحد علاجات عديدة فليس لأحد منا نفع أكيد. وهذا ما يقال في السرطان الذي يحارب بعدة من الأسلحة. لقد عدد الدكتور وكولم من كولمبيا بين العلاجات التي أستعملها الإنسان منذ القدم: حساء السراطين السهول، اللزوق، الفضة، الذهب، الزئبق، النحاس، الكبريت، الزرنيخ، البرد، ورق البنفسج، الكهرباء، الضفادع السامة، سم الحيات. وفي يومنا لا يقل عدد العلاجات التي تستعمل عن تلك ولكن ليس بينها واحد يمكننا أن نعزو إليه الأفضلية وبين العلاجات التي تعتمد اليوم نذكر بعض العناصر المشعة.(979/27)
والهرمونات أي خلاص إفرازات الغدد الصماء، مركبات مختلفة من الحامض الفوليك، وكلوريدات الميتيلامين، وكلها لا تضمن الشفاء فهي قد تلجم الداء مدة لكنها لا توقفه نهائيا. وهذا شأن (الخردل الآزوتي) الذي أكتشفه الفرنسيون قبل الحرب ثم أتخذ منه الألمان والأمريكان مركبا في خلالها
كان الأمريكان قبل الحرب الأخيرة ينظرون نظرة الواجف إلى بحوث الألمان في الغازات السامة لا سيما في نوع جديد منها يدعى (أبيريت) فعمدوا إلى درس عناصرها على أمل أن يكتشفوا، على الأقل، معاكسا لها يقيهم شرها. وقد استدرجتهم دروسهم إلى اكتشاف (الخردل النيتروجيني) وهو مادة ذات شأن كبير في مكافحة السرطان، غير أنه وأن يكن في رأس الأدوية التي تعتمد اليوم في معالجة السرطان فليس هو الدواء المنشود
أما الذي أجمع عليه علماء السرطان فهو أنه لا يوجد حتى الآن لمعالجة هذا الداء في أول أمره معالجة فعالة سوى طريقتين: مبضع الجراح، وأشعة الراديوم أو أشعة أكس (أو الاثنين معا) والحقيقة الراهنة أنهم يتمكنون اليوم بكل سهولة من قطع دابر السرطان ولكن في بدايته، وإن لم يكن في قدرة العلم اليوم أن يكتشف الدواء الذي يقضي على هذه الآفة، ففي مكنته أن يكتشف طريقة تشخيصها قبل استفحالها. وقد أدرك العلماء أن مشكلة السرطان لا تتوقف على إيجاد الدواء الناجح، بل على التشخيص الراهن، والتشخيص يؤلف أيضا مشكلة أخرى لأن السرطان هو أحد تلك الأمراض التي تكمن طويلا الجسم، ولا تظهر أعراضها إلا بعد استفحالها، فضلا عن أن أعراض السرطان تلتبس أحيانا كثيرة بأعراض غيره من الأمراض، غير أن الدلائل التي يمكننا أن نعزوها إلى عوارض سرطانية هي:
1 - كل مرض يطول شفاؤه وخصوصا في اللسان
2 - كل ورم لا يؤلم أو يزداد حجمه خصوصا في الصدر أو في الشفتين أو في اللسان
3 - كل نزيف دموي غير عادي من منافذ الجسم
4 - كل ثؤلول أو شامة يتغير لونها أو يزداد حجمها
5 - كل عسر هضم مستديم
6 - كل بحة مستديمة، أو سعال لا يعرف سببه، أو صعوبة في البلع(979/28)
7 - كل تغير في البراز
ولكن هذه العوارض لا تظهر لسوء الحظ إلا بعد إن يكون الداء قد تملك من ضحيته، ولهذا يعني العلماء باكتشاف طريقة تمكنهم من تشخيص المرض قبل ظهور أعراضه
إن المعدة هي أكثر أعضاء الجسم تعرضا للسرطان، وتدل الإحصاءات على أن نصف الإصابات السرطانية يتناول المعدة، والنصف الأخر بقية الأعضاء. وأعراض هذا السرطان أقل ظهورا وتشخيصها أكثر صعوبة، ولذلك يدعونه (السرطان الصامت)
وكان الأطباء وما يزالون يبنون تشخيصهم في الأورام السرطانية الداخلية على صور التي تلتقطها الأشعة، غير أن تلك الصور قد تضلل الطبيب أحياناً لغموضها فلا يمكنه الجزم في أمرها. وقد حل هذه المشكلة أخيرا العالم دجون كولتمان من مختبرات وستنهوس في بتسبورغ بصنعه جهازاً يوضح الصور خمسمائة مرة أكثر من الأشعة المجهولة
ومن المعلوم الآن أن الكهرباء موجودة في كل حي، وأن التيارات التي يصدرها أحد الأعضاء كالقلب أو المخ مثلا تختلف عن تيارات الأعضاء الأخرى. وقد عنى الدكتور بر بهذه القضية فعهد إلى الطبيعي سيسيل لاين في صنع جهاز يسجل التيارات الكهربائية الضعيفة. وما كاد يجربه بر حتى أدهشته النتيجة؛ إذ ظهر له أن تيارات الخلية المريضة تختلف بشكلها عن تيارات الخلية السليمة. وفي أثناء تجاربه العديدة خامره الشك في صحة آلته، إذ رسمت شكلا واحد للتيارات المنبعثة من الفئران المصابة بالسرطان ولغيرها من التي كان يحسبها سليمة. بيد أن آلته لم تخطئ وإنما كان هو الواهم، وكم كانت دهشته عظيمة يوم رأى بعد بضعة أسابيع أن كل الفئران - التي خرجت في اعتقاده على القاعدة - قد ظهرت فيها نوامى سرطانية. فتحقق عندئذ أن آلته لم تكذب، بل أنبأت بوجود البؤرالسرطانية في الفئران قبل ظهورها، وعندئذ بدأ بر يجرب جهازه في الأحياء البشرية، وقد أقتصر أولا في تجاربه على النساء فعمد إلى 75 امرأة لا شبهة في أنهن مصابات بالسرطان فلم تسجل الآلة نتيجة سلبية إلا لواحدة فقط. وفحص 616 امرأة فحكم الجهاز سلامتهن ثم فحصهن بطرق أخرى فلم يشتبه إلا بخمس منهن
وقد يكون اكتشاف الدكتور شارلس هينغس الجراح المشهور الكلمة الفاصلة في تشخيص السرطان قبل ظهور أعراضه، وقد قوبل في أميركا (كأمضى سلاح عرف حتى الآن(979/29)
لمحاربة السرطان)
كان الدكتور هينغس رئيس الجمعية الأميركية للأبحاث السرطانية وقد طالما جال في خاطره أن وجود ورم سرطاني في أي موضوع من الجسم يجب أن حدث تأثيرا في الدم. فاخذ يوما نقطتين من الدم: إحداهما من جسم سليم، والأخر من جسم مصاب بالسرطان، فوجدهما بعد التحليل والفحص الميكروسكوبي متشابهتين لا شيء يفرق بينهما، ولكنه لم يقتنع بهذه النتيجة فواصل تجاربه حتى أكتشف أن دم المصاب إذا اسخن ومزج بالحامض اليودواسيتيك لا يتخثر بسرعة دم السليم، فإذا أستغرق هذا لتخثره عشر دقائق مثلا أستغرق ذاك عشرين دقيقة. وقد امتحن اكتشافه في ثلاثمائة شخص فما أخطأت التجربة قط في أحد منهم. لذلك يمكننا أن نعلن للمرة الأولى دون تردد وحذر أن تشخص السرطان أصبح حقيقة ثابتة وأمرا واقعا، ونستطيع أن نصرح أيضا بأن العلم قد أحرز انتصاره الأول في معركة السرطان. على أن هيغنس نفسه، وهو العالم المدقق، لا يسرع في إذاعة انتصاره، وتقديم رأسه لإكليل المجد قبل أن يدعم اكتشافه بالامتحانات الطويلة والاختبارات العديدة التي يواصلها اليوم
وقد أعلنت الجمعية الأميركية للأبحاث السرطانية بعد أن تحققت اكتشاف رئيسها السابق أن اتقاء السرطان أصبح ميسورا، وأن على كل شخص أن يفحص نفسه مرة في السنة عند طبيبه الخاص أو في مختبر اختصاصي، حتى إذ دل الفحص على نمو سرطاني عالجه قبل فوات الوقت ونجا من شره القتال
إن العلم لم يهتد حتى الآن إلى الدواء الحقيقي الذي يتقي به غائلة السرطان، ولكنه ما وقف قط ولم يقف مكتوف اليدين أمام هذه الآفة الكبرى
ولسنا اليوم تجاه السرطان كالفريسة المقضي عليها التي تنتظر ساعتها الأخيرة، والمحكوم عليه بالإعدام الذي يتوقع الموت بين دقيقة وأخرى. وإذا كان من عادة السرطان أن يدخل فجأة دون أن يقرع الباب فلدينا الآن جرس الإنذار. وما علينا ألا أن نعتمده لكي ننجو من سالب الأرواح(979/30)
رسالة الشعر
من أغاني الربيع
موكب آذار
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
حبيبي آب آذار إلى الروضة هيمانا
فحيا موكب للزهر قد صفق جذلانا
وراح مع الشذى الساري يذيع الحب ألوانا
يغني فيغني البلبل المسحور جذلانا
وتحت الكرم نبع ماج بالأنغام سكرانا
جرى كالقيد رقراقا وكالأضواء فتانا
وحيا موكبا للحور مفتونا بأنغامي
طروبا بأغاريدي ومسحورا بأوهامي
ربيع الحب نشوان
وفجر الحب سهمان
وعطر الحب أشجان
تضوع فهو ألحان
فهيا ننهب الأفراح يا فردوس أحلامي
تعالي وحي أشعاري ويا نغمة قيثاري
وعودي مثلما عادت لنا أطياف آذار
فوشت كفه السمحة متن الربوة العاري
أما يغريك مرأى الدوح محفوفا بأزهار؟
أما يسبيك سحر الحسن في أجفان آذار؟
أما تغريك بالعودة يا شقراء أشعاري
تعالي. . قبلما تفنى على ثغري الأناشيد(979/31)
تعالي. . قبلما تذبل في الكرم العناقيد
ربيع الحب نشوان
وفجر الحب سهمان
وعطر الحب أشجان
تضوع فهو ألحان
وهيا نغنم اللذة ما عمرك مردود
بغداد(979/32)
الشاعر
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
خفيف خفة الظل ... إذا رف على الماء
كهمس الزهر للطل ... بأسرار الأحباء
رقيق رقة الفجر ... طروب كالأغاريد
مزيج من شذى العطر ... ومن خمر العناقيد
عجيب في سجاياه ... له كالزهر ألوان
كأن الله سواه ... ملاكا وهو شيطان
ملاك صيغ من نار ... وشيطان من النور
يضئ الليل للساري ... ويحيا في دياجير!
له قلبان لا قلب ... هما وقف على الحب
بقلب منهما يصبو ... وبالأخر كم يصبي!
إذا جال بعينيه ... رأى آماله العليا
فإن هم بكفيه ... فمحروم من الدنيا
وحيد نافذ الهمه ... كجيش همه الذود
بعيد الغور والقمه ... كبحر شطه طود!
يعيش العمر ظمأنا ... يرى دنياه أنهارا
ويحبو الكون أكوانا ... ولا يملك دينارا
فحينا هو موهوب ... وحيناً هو وهاب
وإن غنى فمحبوب ... إن أن فصخاب
إذا وفق واستعلى ... رأى في الحسن إحسانا
فإن أخفق أو ضلا ... رأى في الله شيطانا!
يحار الناس في فهمه ... فيهديهم إلى شعره
ونور الشمس في وهمه ... جمال شع من فكره
إذا ما عاش في السفح ... فبالأشعار في القمه(979/33)
وإن لم يسع للنجح ... ينله خامد الهمة
فإن شمر للجد ... فلا شئ سوى الكد
وإن حاد عن القصد ... أتاه الحظ بالمجد
عجيب أنت يا شاعر ... غريب كالمقادير
قضيت العمر كالطائر ... بلا عقل وتفكير
وإن تجنح إلى العقل ... تعش كالناس مجنونا
وإن عشت بلا مثل ... رآك الناس ملعونا
هي الدنيا كما تهوى ... لديها الخير كالشر
كأن قد خلقت سهوا ... بلا عقل ولا فكر
فما جدوى لياليها؟ ... وماذا يربح الخاسر؟
سيفنى كل ما فيها ... ويحيا الشعر والشاعر
من شعر المهجر(979/34)
نداء بعيد
للأستاذ شفيق معلوف
نداء تردد عبر الحقب ... فكان له في الأضالع رجع
ومن ثلج سنين شب لهب ... وفي الأرز حن إلى الصوت جذ
نداء لحيران أيام كان ... يسوق الأعاصير بالصولجان
نداء بعيد يهز السفوح ... فينزاح عن طلعة الفجر ليل
وتشهر صيدون سيف الفتوح ... وتنقل في البحر رجلا جبيل
ويزرع ملكار من قلب صور ... فجاج البحار وكور نسور
تلوى على الضفتين القصب ... يجوس المدى حالما بالطروس
وشد مغارزه في الترب ... وقر هامته للشموس
وقد لفظ البحر بعض نتف ... من الفجر ملء شفاه الصدف
فماجت معاطف بزفير صور ... مصبغة باحمرار الجلد
وشع على الأفق للحرف نور ... من الأزل المنتهي بالأبد
وغلت جذوع ببحر الظلم ... تدق على كل شط علم
فبغل غداة أدار القدح ... بخمر السماء انتشى القوم فخرا
وألووا بمنشار قوس قزح ... يعرون برا ويكسون بحرا
وما ضر لبنان أن يتعرى ... وقد كسى الكون برا وبحرا(979/35)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
احتفال المجمع بإعلان نتيجة المسابقة الأدبية:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الأحد الماضي بإعلان نتيجة المسابقات الأدبية لسنة 1951 - 1952، وقد افتتح جلسة الحفل معالي رئيس المجتمع الأستاذ لطفي السيد باشا، ثم وقف الأستاذ عباس محمود العقاد فألقى كلمته عن مسابقة الشعر، وقد بدأها بالإشارة إلى أزمة الشعر في الغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، وأورد تعليلات بعض النقاد الغربيين لهذه الظاهرة، ة أهمها أن القرن التاسع عشر تزعزعت فيه الدعائم التي كانت مستقرة، وتبلبلت فيه الأذهان التي كانت تتلاقى على أصول متفق عليها للتفاهم وتبادل الشعور، ولا محل للشعر الفخم، ولا للفن الرائع، حيث يبطل التفاهم بين الناس بالشعور، وينقطع التواصل بينهم بالذوق والخيال. وقال أن بعض النقاد يردون كساد الشعر - مع نظرتهم إلى المجتمع تلك النظرة - إلى عصر الصناعة، وضياع أنغام القصيد، وألحان الفن الجميل في ضجة الآلات وغمرتها
ومضى الأستاذ في ذلك إلى أن أستشهد بما قاله الأستاذ بنتو أستاذ اللغة الإنكليزية بجامعة نوتنجهام في الكتابة عن أزمة الشعر الإنكليزي من أن الفترة التي جاءت بعد الحرب العالمية الأولى بنحو عشر سنين كانت فترة لا يؤمن فيها الإنسان بما يستحق أن يحارب منأاجله أو يستحق أن يحاربه، وسواء فيها أن تناضل في هذا الميدان أو ذاك، فلا محل إذن للنضال
وخلص من ذلك إلى قيام مدارس (استفزازية) في الشعر وسائر الفنون، تقف موقف العاجز المتحدي المستقر، الذي لا يكلف نفسه شيئا ولا يسكت
ثم قال إننا لا نلحظ في مصر تلك النزعات لأن مجتمعاتنا تقوم على أسس غير أسس الاجتماع في البلاد الغربية، فنحن لم ننقطع عن الجادة، ولم تبلغ بنا الحيرة ذلك المبلغ، والشاهد على هذا الموقف هو الديوانان اللذان أجازهما المجمع هذا العام، وهما: ديوان (حياتي ظلال) للأستاذ إبراهيم محمد نجا، وديوان (اليواقيت) للأستاذ خالد الجرنوسي، وكلاهما يشتمل على الأماثل والقصص الذي تستفاد منه العظات، وما دامت هناك أمثولة(979/36)
فهناك قدوة مطلوبة وطريق مسلوك، وما دامت هناك عبرة فهناك معبر أو منهج معبور
واتى الأستاذ العقاد بأمثلة من شعر الديوانين مع شيء من التحليل الموصل إلى تلك النتيجة، ثم ختم كلمته بقوله عن الشاعرين: كان من مزاياهما أنهما يجمعان في عملهما بين القيمة الفنية والدلالة الاجتماعية، ومن أجل هذه المزايا خص المجمع أحدهما الأستاذ نجا بجائزة الشعر الأولى في هذا العام، وخص زميله الأستاذ الجرنوسي بجائزته الثانية
وأعقب ذلك الأستاذ محمود تيمور بك فألقى كلمته عن القصة، وقد تحدث عن القصة الفائزة (عبور الأعشى) للأستاذ محمود أحمد، حديثاً تحليلياً كشف فيه عن محاسن القصة وذكر بعض المآخذ فيها، ثم قال: ولعلي لا أذيع سرا مجمعيا حين أصارح بأن مجمعنا اللغوي تتردد فيه نزعتان: إحداهما تبغي تسجيل ما أشتهر من الألفاظ وذاع، والأخرى تريد أن ترشح للاستعمال جديداً من الألفاظ الفصيحة فيه غناء، وهاتان النزعتان تمثلتا دون قصد في عناية المجمع بالإنتاج الأدبي؛ فلقد أجاز من قبل أدباء ذوي أسماء معروفة، فكرم انتهاجهم وسجل اشتهارهم، وإنه اليوم ليزكي اسماً جديداً ينتظره الاشتهار ويستقبله الذيوع
وبعد ذلك تحدث الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف بك عن (الحسين بن أحمد المر صفي) موضوع البحث الفائز - وهو للأستاذ محمد عبد الجواد - فقال إنه أحد الأساتذة الذي كان لهم فضل في الدراسة الأدبية منذ بضع وثمانين سنة، ثم ماتوا وتركو آثارهم في الصدور، وقد أراد المجمع إحياء تاريخه عن طريق باحث من معاصريه قبل أن يعفى الزمن على سيرته، وقال أن الأستاذ محمد عبد الجواد صور هذه الشخصية وجلاها، وأبرز ما فعله بيان منهج الشيخ حسين المر صفي في الدراسة، إذ جمع بين العلم والأدب فكان يدرس الشواهد النحوية والبلاغية دراسة أدبية، قال الأستاذ عبد الوهاب خلاف بك ذلك ثم اقترح على صاحب البحث أن يهتم بهذه الناحية من دراسة الشيخ حسين المرصوفي. . وهي منهجه العلمي الأدبي الذي قال إنه أبرز ما في البحث. . فإذا كان هذا الاهتمام واقعاً فكيف يقترحه، وإذا لم يكن واقعاً فلم أشاد به. .؟
نتيجة المسابقات
ثم وقف الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي المراقب الإداري للمجمع، فأعلن نتيجة المسابقات، وهي كما يلي:(979/37)
1 - القصة: لم تجد اللجنة بين القصص المقدمة قصة تستحق الجائزة الأولى، ورأت أن خير القصص المقدمة قصة (عبور الأعشى) للأستاذ محمود أحمد، فمنحتها الجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه
2 - الشعر: قررت اللجنة أن يمنح الأستاذ إبراهيم محمد نجا الجائزة الأولى للشعر وقدرها 150 جنيه على ديوانه (حياتي ظلال) وأن يمنح الأستاذ الجرنوسي الجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه على ديوانه (اليواقيت)
3 - البحوث الأدبية: لم تجد اللجنة بين البحثين المقدمين ما يستحق الجائزة الأولى، وقررت أن يمنح الأستاذ محمد عبد الجواد الجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه على بحثه (الحسين أبن أحمد المرصفي)
4 - الكتب المحققة: رأت اللجنة أن الكتب المقدمة لم تستوف شروط منح الجائزة
بقية الجوائز لوزارة المالية
كان المقرر لجميع الجوائز ألف جنيه، منح منها الفائزون 540 جنيهاً، وذهب الباقي - وقدره 550 جنيها - إلى بيت المال (وزارة المالية) إذ منعت الجائزة الأولى في كل من القصة والبحوث الأدبية، ومنعت كذلك جائزة الكتب المحققة كما سبق. وفي رأيي أن أصحاب الإنتاج المقدم كانوا أولى من وزارة المالية التي لا تنتج أدبا تستحق التشجيع عليه!
الكوميديا الإلهية
كان الأستاذ كامل كيلاني قد لخص (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي (دنتي أليجييري) وألحقها بالطبعة الثالثة من شرحه لرسالة الغفران لأبي العلاء المعري، قاصدا بذلك أن يقرن بين العملين الأدبيين اللذين تشابها وكتبت البحوث المستفيضة في مدى ما بينهما من تماثل أو تخالف، وما قيل من تأثر دنتي بالمعري في الخيال الذي طاف بأرواح الخالدين في العالم الآخر
وقد رأى الأستاذ أخيرا أن يعد هذه القصة (الكوميديا الإلهية) إعدادا يناسب الشباب، فأفردها في طبعة جديدة، وتناولها بالدرس والشرح والتحليل في خلال السياق نفسه(979/38)
ولهذا العمل الذي يقوم به المربي الأدبي الكبير الأستاذ كامل كيلاني، ناحيتان لهما أكبر الأثر في التثقيف الأدبي وبخاصة في تنشئة الجيل وتخريجه وإعداده لتذوق الأدب الرفيع
الناحية الأولى هي قطف الثمرات الأدبية التي أخذت مكانها البارز على فروع شجرة الأدب العالية، ومعالجتها بما يدينها من إفهام الشباب وأذواق المعاصرين على العموم. وقد اختار من الأدب الغربي أربع قصص ذات صيت، أولاها (الكوميديا الإلهية) لشاعر الطليان، والثانية (جلفر) لسويفت الإنجليزي، والثالثة (روبنسون كروزو) لدانييل ديفو الإنجليزي أيضا، وقد ظهرت هذه القصص الثلاث، وبقيت القصة الرابعة التي لا تزال تحت الطبع وهي (دون كيشوت) لسر فنتيس الأسباني
ومما يذكر أن ثمت شبها بين قصتي (روبنسون كروزو) و (حي بن يقظان) لأبن طفيل، كما بين (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران) ويؤيد القول بأن صاحب (روبنسون كروزو) أستلهم (حي بن يقظان) أن هذه القصة العربية ترجمت إلى الإنجليزية سنة 1616م ثم ترجمت من الإنجليزية إلى عدة لغات، والفت (روبنسون كروزو) بعد ذلك بعشرات من السنين
الناحية الثانية، أو الثمرة الثانية، لذلك العمل المخصب، هي الصياغة العربية الجميلة التي يصوغ بها الأستاذ الكبير تلك الآثار الخالدة، هذه الصياغة التي يعطي فيها للناشئ محصولا شهيا من اللغة الملائمة له، وعمل الأستاذ كيلاني في هذا الحقل يشمل إنتاجه الوافر من بدئه مع الطفل في روضته حتى يبلغ بالشاب مستوى النضج. ونراه هنا في (الكوميديا الإلهية) يرتفع بفتاه إلى أسلوب يدنيه من أساليب البلغاء، ويسيغ له ما يراه جديدا عليه من كلمات بوضعها في سياق مبين أو بشرحها بين الأقواس، وهو يأتي بالكلمات المشروحة سائغة عذبة في تركيبها، ولم أجد فيها ما شذ عن ذلك إلا كلمتين ارتطمتا بذوقي وهما (حبيه) و (ودية) في العبارة التالية: (إن اسمي بيتريس وقد جئت إليك من دار النعيم، يدفعني حبيه (محبتي له) ويحفزني وديه (مودتي له). . .) وأنا لا أميل إلى اختيار الكلمات لمجرد إضافتها إلى المحصول اللغوي دون أن تكون خيرا من غيرها
وإني أورد هذه (الملاحظة) كرقية تقي سائر ما يتصف به أسلوب الكتاب من جمال - شر عين الحاسد. . .(979/39)
مظاهر أبهة وحقوق مضيعة:
قرأت في الأسبوع الماضي كلمة بتوقيع (احمد محمد مرزوق) في جريدة (اللواء الجديد) الأسبوعية، قارن فيها الكاتب بين مقابلتين وقعتا له: الأولى مع وكيل وزارة المعارف المصرية (وكان إذ ذاك حسن فائق باشا) والثانية مع وكيل وزارة المعارف بألمانيا. لاحظ في المقابلة الأولى فخامة المظهر من مكتب فاخر ومقاعد وثيرة. . . الخ وما يصحب ذلك من حجب وانتظار، وقارنه بما رأى في وزارة المعارف الألمانية من بساطة وسرعة استقبال، متمنياً أن نأخذ بمثل هذا ونوفر للدولة ما ينفق على تلك المظاهر وما تجر إليه من تعطيل مصالح الناس
الحقيقة التي لا شك فيها أن الواقع في الدواوين عندنا ينطبق على ما ذكره الكاتب الفاضل، بل هو أكثر منه، وكثير من الكتاب يعتقدون أمثال هذه المقارنات بين ما هنا وما هناك. وفي الموضوع زوايا قد تخفى على بعض الأنظار؛ وهي تتمثل في اختلاف الحال بيننا وبين من نتطلع إلي واقعهم الجميل. . وأود قبل الإنعام في هذه الزوايا، أن أسال: لم خص الكاتب حسن فائق باشا بالذكر؟ ويدعوني إلى هذا السؤال أن فائق باشا بالذات من أقل كبرائنا المصريين ميلا إلى هذه الأبهة والعزة بالسلطان، إلى ما عرف عنه من نظافة السيرة والتشبث بإحقاق الحق، ولا يذكره بغير الثناء إلا الذين منعهم بالحق ما أرادوه بالباطل. . فمثل هذا الرجل لا ينبغي أن يذكر مثلا لأمر عام هو أقل الناس انطباقا عليه
أما الموضوع عينه فأحب أن يكون في الاعتبار، عند النظر فيه، إمكانيات واقعنا، إنه لا يكفي أن نطالب ولاة الأمور بفتح أبوابهم للشاكين وأصحاب الحاجات دون أن ينظر في العوامل التي تكثر من أجلها الشكاوي والمطالب، فإنهم لو فعلوا لأضاعوا وقتهم ولم يستطيعوا أن ينجزوا أعمالهم. والذين يقصدونهم إما صاحب حق مضيع من جراء الفوضى وإهمال الموظفين، أو وصولي يسابق للظفر بما يرضي طعمه، أو جاهل أحمق جاء يطلب ما لا ينبغي أن يطلب، ومن أمثلة هذا النوع الأخير رجل ذهب إلى مكتب وزير المعارف يقول إن أبنه المتقدم لامتحان الشهادة الابتدائية سيسافر معه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج ويطلب أن يؤجل امتحانه حتى يرجع فيعقد له امتحان خاص. .
وكل هؤلاء الطالبين والمطالبين قد استقر في أذهانهم أن (كل شئ بالواسطة) فهم يريدون(979/40)
أن ينالوا بالوساطة كل شئ. . . والتبعة في كل ذلك تقع على ولاة الأمور الكبار في مجموعهم، فإهمال سواد الموظفين مصالح الناس لا يقع إلا من إغضائهم؟ وتسابق المتسابقين لنيل ما يبغون بالحق أو الباطل ناشئ مما يصنعه أولئك الكبار (المحسوبين) مما يعرفه الناس ويذكرونه محتجين به عندما ترد مطالبهم
فلو عولج كل ذلك لما أضطر الجمهور ولا تسابق الطالبون إلى الهجوم والضغط على ولاة الأمور، ولو وجد هؤلاء الأولياء أنفسهم في غير حاجة إلى الحجاب ومن يدفعون عنهم المحلفين، بل لوجدوا أنفسهم في غير حاجة أيضا إلى الحجرات الفسيحة والأثاث المنضود، لقلة القصاد، وانحسار ما يضفيه عليهم المتوددون والمتزلفون. وأن أكثر ما نراه من الاعتزاز بالمناصب إنما هو الحقوق المضيعة. . .
عباس خضر(979/41)
رسالة النقد
بطلة كربلاء
للدكتورة بنت الشاطئ
للأستاذ محمد رجب البيومي
حين علمت أن الدكتورة الفاضلة بنت الشاطئ قد أخرجت كتابا عن بطلة كربلاء، زينب بنت علي، أخذت أسأل نفسي عما يمكن أن يحويه الكتاب من مواد، وجعلت أتخيل ما يجوز أن تسطره الكاتبة القديرة، فلا يطوف بذهني غير الدور المحدود الذي مثلته البطلة الهاشمية على مسرح كربلاء!! وقد سارعت بقراءة الكتاب وفي ظني أن الدكتورة الفاضلة تعلم عن صاحبتها الكريمة ما لا أعلم، وستتيح لنا قراءة كتابها الجديد أنباء طريفة لم تجد من يهتم بتسطيرها للقراء، ولكن هذا الظن تبدد حين طالعت الكتاب من آلفه إلى يائه، دون أن أجد ما يغيب عني من أنباء السيدة الهاشمية، وبقيت منفردة بدورها الفريد الذي قامت به يوم كربلاء
فبأي حديث شغلت المؤلفة الفاضلة قراءها بضع ساعات؟! لقد بدئ الكتاب بحديث عن زينب بنت الرسول، وكيف تزوجت العاص بن وائل بمكة، ثم تركته إلى المدينة مهاجرة لدى والدها العظيم، كيف وقع الزوج أسيرا يوم بدر ثم افتدته زوجته الحبيبة وكيف أسلم بعد ذلك ثم تزوجها ثانية بعد أن زال المانع الديني!! كل ذلك قد شغل فراغا من الكتاب لتوافق السيدتين الهاشميتين في الاسم فقط! ولإيضاح السبب في تسمية زينب باسمها الكريم!! وكنا نتجاوز عن السيدة المؤلفة لو أسهبت في حديثها - بلا مناسبة ملحة - مرة أو مرتين أو ثلاثا، ولكنها تمضي في الكتاب على هذه الوتيرة فما تكاد تلم بموقعة أو حادثة حتى تسهب في تسجيلها وتسطيرها، لاهون سبب واضعف داع، مما جعلني أعتقد أن الدكتورة الجامعية قد ظلمت كتابها ظلما عنيفا، حين أسمته بطلة كربلاء، وماذا عليها لو استبدلت به عنوانا ينطبق على مدلوله فلا يصطدم القارئ بأنباء يعدها غريبة دخيلة!! أم أن السيدة الكاتبة تحب أن تتحدث في غير موضوع كما يقال
ولقد كان للمؤلفة الفاضلة عذرها في الاستطراد والإسهاب لو تحدثت عن بطل عاصر(979/42)
جميع الحوادث المسطورة في الكتاب كعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه مثلا، فهي بإسهابها ترسم صورة صادقة للجو الذي يحيط بعلي، والحوادث التي تقع من حوله، وتتناقل إليه فيستجيب لها، وتحول سلوكه، وتفسر أعماله، ولكنها تتحدث عن أمور لا صلة لها بسيدة جاء دورها التاريخي بعد ذلك بعشرات السنوات في كربلاء! فلم تكلف نفسها هذا العناء؟ وإذا كانت المؤلفة وهي أدبية ناقدة لا تجيز لكاتب يضع مؤلفا عن شوقي مثلا أن يكتب ثلاثة أرباع صحائفه عمن سبق أمير الشعراء من زمن محمد علي إلى البارودي. فيتحدث عن العطار والخشاب وشهاب واليازجي والليثي وأبى النصر والساعاتي ثم يخص شوقي بعد ذلك بفصل أو فصلين لا يشغلان غير اليسير الهين من الكتاب!! إذا كانت المؤلفة لا تجيز لمؤلف أن يفعل ذلك، فلم تصنع هذا الصنيع في كتاب تاريخي يكشف عن بطلة واحدة، ويوحي عنوانه شيء واحد لا ينتظر القارئ سواه، هذا ما لا أدركه بحال
وقد فطنت المؤلفة الفاضلة إلى ما يجره استطرادها المتواصل في الحديث من شطط وجموح، فاندفعت تقول في تبرير هذه الإسهاب (وقد تمر فترة طويلة تغيب زينب خلالها في غمرة الأحداث؛ بل قد نفقد أثرها أحياناً في ضجة الدوي الراعد الذي كان يصم الآذان، ويدير الرءوس، لكننا سنجدها أخيرا بعد أن تكون الأحداث العنيفة قد هيأت المسرح لظهور كربلاء!
(ومن هنا يبدو عذرنا إذ نطيل الحديث عن معارك سياسية قد يظن ظان أنها لا تلمس زينب من حيث صلتها بالقادة والأقطاب؛ على حين نرى في كل هذه المعارك مقدمات لها خطرها في توجيه حياة زينب وأثرها في إعدادها لدورها الرهيب!!) ونحن نرى الدكتورة بعد ذلك تختار حوادث خاصة تسهب في تسطيرها وتدوينها، وتترك حوادث أخرى لا تقل عنها أهمية وتأثيرا ونتيجة، دون أن نلحظ فائدة حقيقية لهذا الاختيار، فهي مثلا تطنب في وصف معركة الجمل فتتحدث في لجب عن عائشة وقد قدحت في عثمان أولا، ثم خرجت تطلب بثأره ثانيا، وتذكر النقاش الذي دار بين أم المؤمنين وفريق من المسلمين، بشأن موقفها من علي، وتعلل هذا الموقف ما يمكن أن يكون بين علي وعائشة قبل ذلك من خصام، والقارئ يلم من ذلك كله بحديث الجمل وأسبابه ونتائجه، ثم ينتظر بعد ذلك فلا يجد سطرا واحدا عن موقعة صفين أو النهروان، وهنا يسأل نفسه أكانت موقعة الجمل ذات(979/43)
أثر في نفس زينب يعظم عن أثر صفين؟ وهل لا تستحق الموقعة الأخيرة أن يكتب عنها سطر واحد، بجوار ما كتب عن الأولى من صفحات!! أم أن الكاتبة الجامعية تختار ما تتحدث عنه كما يتهيأ لها دون أن ترتبط بخطة ومنهاج!!
وندع الحديث عن الاستطراد الحائر في سطور الكتاب وفصوله نتحدث عن ظاهرة أخرى تلوح في مؤلف السيدة، وهي تتجه بنا إلى صميم بنائه وتجعلنا نتساءل عن حقيقته أهو تاريخي علمي في أسلوب سلس مشرق، أم قصة أدبية اتخذت أبطالها وحوادثها من التاريخ؟ إن المؤلفة تجيب عن هذا السؤال في أول سطر من المقدمة فتقول (هذا الكتاب ليس تاريخا بحتا، وإن أخذ مادته كلها من مراجع تاريخية أصلية، كما أنه ليس قصة خالصة، وإن اصطنع الأسلوب القصصي - غالبا في العرض والأداء) ثم تقول المؤلفة في نهاية المقدمة (وهذا الكتاب لا يعدو أن يكون صورة لحياة تلك السيدة رسمها المؤرخون الثقاة قبلي، ثم جاء المنقبون، فأضافوا إليها ظلالا شبه أسطورية، لها روعتها وعميق إيحائها، وقوة دلالتها، وقد حرصت ما استطعت على أصالة الألوان التاريخية دون أن أهدر هذه الظلال أو أهون من شأنها، لأنها - مهما يكن رأي العلم والتاريخ فيها - عنصر في صورة السيدة، كما تمثلها السابقون وكما رأوها، ولا أرى من حقي أن أسخر بأي ظل منها إلا إذا كان من حق الدارس النفسي أن يسخر بالأوهام والأحلام)
والقارئ حين يطالع هذه السطور يلمس تناقضا تاما ينكره ويأباه، فالدكتورة الفاضلة تعلن من جهة أنها حرصت على أصالة الألوان التاريخية كما رسمها المؤرخون الثقاة، وتعلن من جهة ثانية أنها لم تستطع أن تغفل الظلال الأسطورية أو تهون من شأنها، لما لها من الروعة والإيحاء، وأن الذي يحرص على أراء المؤرخين الثقاة لا ينبغي أن يلتفت إلى الأساطير والخرافات!! فإن فعل ذلك فقد ودع التاريخ والبحث العلمي، وانتقل إلى الفن الأدبي، يحلق في أخيلته، ويهيم بأوديته، فلا ينتظر من القارئ بعد ذلك أن يعتمد على نتائجه وأحكامه، بل ينتظر منه أن يعجب ببراعة اللوحة، ودقة التحليل، وأناقة التصوير. وهذا ما ينبغي أن يتوجه إليه ذهنه دون سواه!! لذلك كان من العجب أن تحدثك المؤلفة عن الأسطورة البلقاء، ثم تعقبها بذكر مصدرها التاريخي القديم، لتوهم القارئ أنها تتقيد بنصوص المؤرخين الثقاة!! ومن الصعب أن تجد من يؤمن بمصادرها الأسطورية من(979/44)
الناس!! وربما يتضح ما نعنيه من هذا المثال
لقد أرادت الدكتورة أن ترسم صورة للمهد الحزين الذي تقلبت فيه الوليدة الجديدة زينب حين استقبلت الحياة، فوفقت الكاتبة في شيء وخانها التوفيق في شيء آخر. . وفقت حين ذكرت أن الزهراء رضى الله عنها لم تكن أثناء الحمل مشرقة مطمئنة، فقد كانت تعتادها نوبات من القلق والاكتئاب، وأخذت تزداد بعد موت والدتها خديجة، ثم اشتدت حين حلت عائشة مكان الراحلة العزيزة، وهو المكان الذي ترك بضع سنين لفاطمة، ثم كان بين الابنة وزوجة الأب، ما يشبه الذي يكون بين مثيلاتهما من الناس، وفي هذا القلق المضطرب، والنزاع الحائر، ولدت الطفلة العلوية، فتأثرت بما يحيط بها من حيرة ونزاع، وأظل مهدها الوديع سحاب من الحزن والاكتئاب!!
هنا ندرك التوفيق لأن الكاتبة تنتزع فروضها ونتائجها من الواقع المشاهد، أو المحتمل أن يكون، ولكننا نتلمسه بعد ذلك في بقية الفصل فلا نجد ما يدل عليه، إذ أن المؤلفة تنزع إلى الأسطورة المكشوفة، لتكمل بها صورة رهيبة للمهد الحزين، فوالد الطفلة، ووالدتها خائفان متحسران إذ سمعا من الرسول ما ينبئ بمصرع الحسين في كر بلاء، فقد أعطى النبي زوجته أم سلمة زجاجة بها تراب حمله إليه أمين الوحي، وقال لها: إذا صار التراب دماً في القارورة فقد مات الحسين!! وهنا تحول بيت الزهراء جمرة موقدة من الحزن والهلع، وجاءت الوليدة لتتأثر بما يغمر البيت من لوعة واكتئاب
والدكتورة الفاضلة تضيف إلى خبر أم سلمة خبرا مثله عن زهير بن القين البجلي، ليتم لها صورة قاتمة للمهد الحزين، ثم تنقل شكوك المستشرقين في صحة هذين الخبرين، وما يجري معهما في مضمار واحد، وتعقب على ذلك بأنها - بنت الشاطئ - لا تحيل أن يكون شيئا من هذه الشائعات قد شاع!! وأن المؤرخين المسلمين لا يشك أكثرهم في أن هذه الروايات صادقة كلها!!! وليس الأقدمون وحدهم هم الذين نزهوا مثل هذه الروايات عن الشك، بل أن من كتاب العصر من لا يقل عنهم أيمانا بتلك الضلال!! كل ذلك ليكتمل للمؤلفة موضوعها الطريف الذي اختارت لعنوانه هذه العبارة الأنيقة (ظلال على المهد) ولا أدري لم جنحت المؤلفة إلى تسطيره وهو وحده يمل بالقراء إلى الشك في جميع فصول الكتاب!!(979/45)
إن هذه الأساطير - كما تقول الدكتورة - تصور زينب رضى الله عنها كما تمثلها السابقون من الرواة، ولكنها لن تجعل وحدها المهد المستقر الوادع حزينا قلقا يغشاه الاكتئاب، فإذا أرادت المؤلفة أن ترسم صورة لمكانة السيدة في النفوس، فلتعمد إلى هذه الأساطير مستمدة منها الظلال والأضواء، ولن يعارضها في ذلك ناقد يجهر برأيه للقراء، أما أن اتخذت منها الكاتبة مادة لإيقاد الحزن والكآبة في مهد الوليدة المسكينة فهذا ما لا تقبله العقول مهما امتلأت به الصفحات!!
ونحن نسخر بهذه الأساطير دون أن نبيح للدارس النفسي أن يسخر بالأوهام والأحلام، كما تقول الكاتبة الفاضلة. لأن المحلل النفسي يتخذ مادة أبحاثه من أحلام المريض وأوهامه، فهو لم يخرج عن النطاق في شيء، وهنا يجب ألا نسخر به، أما إذا لجأ إلى أحلام مريض آخر ليصل بها إلى تشخيص علاج حاسم لمريض الأول، فهنا يجب أن نوجه إليه النقد المخلص، وهذا ما فعلته الدكتورة المؤلفة، حيث استدلت بأساطير ملفقة وضعها القصاصون حول سيدة كريمة لا لتصور مكانتها لدى هؤلاء القصاص، بل لتتخذ منها دليلا على ما صادف المهد من لوعة واكتئاب، وكأن الكاتبة بذلك تمحو الشقة الواسعة بين الواقع والخيال، ودونهما المطارح النازحة والمهامه الشاسعات
هذا وقد كانت المؤلفة تخط كتابها عن بطلة كربلاء، وفي ذهنها أنه سيكون من بين كتب الشهر التي تصدر عن دار الهلال، ونحن لا نشير إلى ذلك عبثا، بل نعني أن الدكتورة كانت مقيدة بعدد معين من الصفحات يتحتم ألا تنقص عنه ليخرج الكتاب في حجمه المعتاد، ولعل هذا الوضع الحتمي قد قذف بها مضطرة إلى ما أخذناه عليها من الاستطراد الحائر المتذبذب، كما دفع بها إلى نوع من التحليل يقوم على الفرض البعيد، والتأويل المتكلف، وللقارئ أن يطالع حديث الكاتبة عن الصبا الحزين، فسيجدها تتحدث عن زينب وهي في الخامسة من عمرها، كما لو كانت تناهز العشرين، فتفرض أنها انعطفت إلى أبيها بعد موت الرسول، فسمعته يتحدث عن الحق المغتصب للأسرة في بخلافة، ويتألم للمكانة المجحودة، والقربى المهدرة، كما تنس الصغيرة ذات الخمس منظر عمر وقد اقتحم بيت الزهراء ليحمل عليا إلى البيعة!! وما تبع ذلك من نقاش بين الزهراء والصاحبين الراشدين، فليت شعري أبمكفى أن تكون هذه الأحداث ذات علاقة ماسة بالصغيرة الطفلة!!(979/46)
إننا نعلم ما يقرره علماء النفس من أن أحداث الطفولة ذات أثر هام يصحب المرء طيلة حياته، فلا يستطيع أن يتخلص من تأثيرها الساحر، مهما امتد الزمن وتطاولت الحياة!! ومن هنا كنت العناية بتنشئة الطفل مقدسة محتومة. ولكن أي الأحداث تنفرد بالتأثير والبقاء طيلة الحياة؟؟ من المؤكد أن ما يتعقله الطفل، ويلمسه بيده، ويخالط شعوره وإحساسه، هو ما ينطبع في مخيلته، ويصاحبه في مراحل عيشه، أما ما يحيط به دون أن يدرك مراميه واتجاهاته، فلا يأخذ مكانه من الشعور والإحساس، بل يمر مراً سريعا طائرا دون أن يخلد إلى ركون واستقرار، وما أرى أن بيعة المسلمين لأبى بكر دون علي قد خالطت شعور الطفلة الناشئة، أو جالت بخاطرها بضع لحظات، فلم نتخذ منها مقدمة لنتيجة لا تؤدي إليها بحال، وقد يكون ما ذكرته السيدة عن وفاء الزهراء، وزواج علي بأخريات بعد فاطمة، قد ترك أثره المحزن في نفس الطفلة، لأنها تحسه تمام الإحساس، أما حديث البيعة والنقاش بين فاطمة والصاحبين فما لا يقام له حساب في هذا الموضوع بالذات، إلا أن يكون الغرض تسويد الصفحات
هذه بعض ملاحظات عابرة لا تغض من قيمة الكتاب، وقد تحاشيت أن أناقش كثيرا من الجزئيات التاريخية، فاعرض لها بتأييد أو تفنيد، مكتفيا بالملاحظات الرئيسية التي تشمل الأساس والتصميم دون أن افحص أحجار البناء المتراصة، حيث كان الهش اللين منها محاطا بأعمدة صلبة تعوقه من التداعي السريع، ولا ننكر في النهاية ما بالكتاب من سلاسة مترقرقة تجذب القارئ إلى مطالعته في شوق وارتياح، وتحمل آلافا من الكسالى الخاملين على القراءة المثمرة والاطلاع المفيد؛ بدل أن يعكفوا على الروايات البوليسية، والقصص العاطفية، وما تزخر به الصحافة الماجنة من تبذل واستخفاف
(أبو تيج)
محمد رجب البيومي(979/47)
المسرح والسينما
فرقة المسرح المصري الحديث
في روايتي (كسبنا البريمو) و (طبيب رغم أنفه)
للأستاذ علي متولي صلاح
بدأت فرقة (المسرح المصري الحديث) موسمها الثاني بدار الأوبرا الملكية بتقديم مسرحيتين معا في ليلة واحدة، لأن واحدة منهما منفردة تقصر عن الوفاء بالليلة كلها، أولاهما (كسبنا البريمو) للسيدة الفاضلة صوفي عبد الله، وأخراهما (طبيب رغم انفه) لموليير
ونستطيع أن نلخص الأولى - في كلمات قصار - بأن عاملا أصيب بكسر في ذراعه اليمنى وهو يقوم بعمل إنساني نبيل، فأقعده ذلك عن العمل، وضاقت به الحال حتى اضطر إلى أن يبيع أوراق (اليانصيب) في الطرقات، وهو عمل لا يكاد يخلف عليه من الرزق ما يمسك أوده وأود زوجته وابنته. . وأخذت حياتهم تنحدر من سيئ إلى أسوء، وكانت الزوجة حاملا في شهرها السادس فراودت نفسها
- تحت تأثير ضرورات العيش الملحة القاسية - أن تجهض نفسها (كذا!!) وتتخلص من هذا العبء الجديد! ولكن الأمر لم ينته إلى ذلك، بل تحول إلى بيع الزوجة جنينها لقوم أثرياء ابتلاهم الله بالعقم، وهم يلتمسون الولد التماسا ليورثوه ما يملكون من مال وعقار. . ولكن ظرفا لم يكن منتظرا غير مجرى هذا التحول وأنقذ الوالدة والجنين وجلب لهم كذلك مبلغا طيبا من المال من حيث لا يحتسبون! وهكذا انتهت المسرحية. .
والموضوع - كما يرى القارئ - ضحل قريب المتناول، والافتعال يسري في جميع الحوادث، ولولاه ما نهضت حادثة واحدة من حوادث المسرحية كلها، ولانهارت عند أول مواقفها! وليس في الأمر موضوع ولا عقدة، وأغلب الظن أن المؤلفة الفاضلة لا تهدف إلا إلى أن تخاطب أعنف الغرائز في الإنسان، وأن تعرض عليه مجموعة من البشاعات التي يرتاح بعض ذوي العقول البسيطة لرؤيتها، وأن تمتع نظره
- لا عقله وقلبه - بمشاهد متتابعة من الفاقة والحرمان وضيق الحال وما إليها. وأنا أقول(979/48)
(المشاهد) وأنا أعني ما أقول، فليست هذه المسرحية - في الحق - إلا مجموعة من هذه المشاهد العنيفة الصارخة (ميلودراما) لا تحمل في طياتها شيئا غير صورها الظاهرية، فإذا انتهت هذه الصور انتهت معها كل عاطفة، وسكنت في المشاهدين كل ثائرة، وأصبحت المسرحية - بعد دقائق معدودة من شهودها - في ذمة التاريخ
هذا - إلى أن الرواية ملأ بعيوب يحسن بالمؤلفة الفاضلة أن تعنى بتلافيها، وأن تأخذ نفسها بكثير من الجد والصرامة حتى تخلص منها، فهي لم تستطيع أن تبث الحياة النابضة في شخصية واحدة من شخصياتها، اللهم إلا شخصية (الداية)، ولم نرى في العواطف المبذولة أمامنا تحولا أو تغيرا، وإنما هي صور متكررة متماثلة تقريبا، واضحة التفكك والتفرق، وبعض النكات التي أوردتها فيها انحراف ونبو عن الذوق يجمل ألا يعرض على الناس، كقولها للضابط الذي يسأل عن دورة المياه إنها (في وش حضرتك)! فهذا كلام لا يقال على خشبة المسرح التي يجب أن تكرم وتصان عن هذا الدرك الأسفل من المزاج. . أما الافتعال فقد سبق أن قلت إنه أساس هذه المسرحية، ويبدو هذا بأجل صورة من الخاتمة فهي افتعالات يجر بعضها بعضا، كاستدعاء البوليس لمجرد تأوه الزوجة الحامل! وتصادف حضور الطبيب بعد ذلك بدعوة من هذا البوليس! ثم تصادف حضور المرأة الثرية التي اشترت الجنين والطبيب موجود، فإذا به أبن أخي زوجها وأحد الذين تريد أن تحجب الميراث عنهم!! وهكذا تجد سلسلة عجيبة من الافتعالات التي تزهق روح المشاهد!!
ونصيحتي للسيدة الفاضلة أن تؤجل الكتابة للمسرح بضع سنوات تدرس فيها هذا الفن، وأن تعلم أن الأمر في المسرح ليس كالأمر في الأقصوصة القصيرة التي تنشر الكثير منها على الناس، وأن المسرح عسر لا يسر
وأما الرواية الثانية فهي رواية ذلك الرجل الذي أكرهته الظروف على أن يكون طبيبا رغم أنفه فكان؟ وعرضت عليه فتاة اعتقد أهلها أنها أصيبت بالبكم ليحل عقدة لسانها، فعرف السر الخلفي في هذا البكم، وأدرك أن الفتاة تدعيه تخلصا من زيجة يريد أهلها أن يكرهوها عليها وهي تعشق فتى آخر! فانحلت العقدة من لسانها ونهض الرجل قاطع الأخشاب بما لم ينهض به نطس الأطباء، وانتهى الأمر بانطلاق لسانها وبزواجها من عشيقها معا!!
وهي رواية ذات فصل واحد، إلا أنها في الذروة من كمال التأليف وحسن العرض وحبكة(979/49)
الموضوع وجمال النكات وعفتها وعدم ابتذالها، إلا أنهم أرادوا أن يصبغوا بعض هذه النكات بالصبغة المحلية فأوردوا الكلمة المشهورة (موت يا حمار لما يجيك العليق) فكانت وسط نكات موليير كالرقعة في الثوب الجميل الصقيل!! وأنا أسوق هذه على سبيل المثال، فقد ورد سواها ولكنه كان أخف وقعا من هذه الصخرة العاتية!
هذا - وقد نهض بإخراج هاتين الروايتين شاب مرموق كان باكورة ما قدمت لنا فرقة المسرح المصري الحديث من المخرجين، بعد أن غمرتنا بالممثلين والممثلات ممن ثبتوا على خشبة المسرح ثباتاً لا يرجى بعد اليوم له تزعزع أو انهيار، وقام بالإخراج قياماً نحمده له كثيرا، وإن كنت آخذ عليه أنه لم يحسن اختيار الأثاث في (طبيب رغم أنفه) فقد جاءنا بما لم يكن في هذا العصر من أثاث، وأورد من الكراسي والستائر ما لا يتفق مع ما كان قائماً في عصر لويس الرابع عشر، وعلى كل فأنا أرجو لهذا المخرج الشاب أن يمضي قدماً في فنه، وأهنئ الفرقة بهذه الباكورة الطيبة من شبابها المتوثب الناهض
أما الممثلون فقد بلغ بعضهم منزلة لم يبلغها - بعد - السابقون الأولون من رجال المسرح، فقد كان عبد الغني قمر (الطبيب) - مثلا - يمضي على المسرح في خفة ورشاقة، ويؤدي دوره في صورة طبيعية حاذقة فاهمة، كأنما هو يقرأ من كتاب مفتوح داخل جدران أربعة لا يراه فيها إنسان!! الحق أن الأستاذ عبد الغني قمر جدير في قيامه بدور هذا الطبيب بالإعجاب الذي لا حد له، وقد أغفلت الثناء على الآخرين لأني سأختار من كل رواية ممثلها الأكثر براعة وخفة وفهماً لدوره، على أن يكون واحداً فرداً في كل رواية دون نظر إلى نفس الدور الذي يقوم به كبر أم صغر، وقل أم كثر. . وقد نظرت إلى ذلك الواحد في هاتين الروايتين فكان (عبد الغني قمر). . .
علي متولي صلاح(979/50)
القصص
الشيطان والعجوز
عن الكاتب التشكوسلوفاكي جي راب
للأستاذ كارنيك جورج ميناسيان
جلست عجوز شمطاء إلى مائدة بين الأشجار، في حديقة الحانة، بعيدة عن البقعة التي يتحلق فيها الراقصون من فتيات وفتيان، يدورون وينقرون بأقدامهم على ألواح الخشب التي رصت على أرض الحديقة فغدت صالحة للرقص
ظلت العجوز تتأمل ما يجري أمامها دون أن يبدو عليها أنها تهتم بها، وقد كانت هي الوحيدة التي تجس وحدها منزوية في تلك الحانة! فبذلك لفتت انتباه إحدى الفتيات، فقالت لفتاها ساخرة:
- أنظر، تلك عجوز تتصبى، ما أمكر نظراتها. . ما لها لا ترقص وإيانا؟!
فتمتمت العجوز:
- أين الذي يراقصني. .؟ إنني مستعدة، حتى لو طلب إلي الشيطان أن أراقصه لما رفضت
عندئذ تقدم رجل غريب، أسمر اللون، يلبس قبعة خضراء واسعة، قامت عليها ريشة طويلة، فانحنى أمام العجوز قائلا:
- أتمنحينني شرف هذه الرقصة؟
. . فرقصا. . وبالرغم من برودة الجو ورطوبة المناخ استمرا يرقصان بنشاط غريب وبشكل عجيب! وكلما تلكأت الموسيقى وفترت قليلا رمى ذلك الرجل الغريب قطعا من النقود الذهبية إلى أفراد الفرقة الموسيقية وأمرهم بالاستمرار. .
أستمر الرقص حتى منتصف الليل! فتوقف الرجل الغريب ثم سحب زميلته العجوز مبتعدا بها عن ذلك المكان! بعدئذ صمتت الموسيقى فمسح العازفون جباههم. ولم يلبثوا أن فتحوا عيونهم دهشين ينظرون إلى الرجل الغريب والعجوز وهما يبتعدان متوغلين في الغابة القريبة!(979/51)
وحين هم الرجل بمفارقه زميلته العجوز تشبثت به قائلة:
- اسمح لي بمرافقتك حتى مسكنك
فقال لها - إن مسكني بعيد، بعيد جداً
فقالت - سأرافقك. لن أتركك ولو كان مسكنك في القطب الشمالي!
فقال - كما تريدين. ألقي نفسك على ظهري. وتعلقي برقبتي جيدا
فلما فعل ضرب الرجل بقدمه اليسرى فانشقت الأرض، ولمع ضوء كضوء البرق، كما دوى صوت كصوت الرعد! فهبط الاثنان إلى أعماق الأرض! كان ذلك الرجل الغريب شيطانا رجيما!
فلما وصل بالعجوز إلى الجحيم، أراد أن ينزلها من ظهره فأبت! فحاول ثانية فعصت! كانت تطوق عنقه بقوة حتى ظهرت عروق وجهه وجبهته زرقاء نافرة! لم تنجح محاولاته الكثيرة. . فطفق يتجول بحمله الثقيل في أشد محلات الجحيم سعيرا وأكثرها أهوالا! لكنها بقيت تطوق عنقه بشدة! حتى ضاق ذرعا فتوجه إلى ملك الجحيم يسأله حيلة يتخلص بها من حمله. فضحك ملك الجحيم من حاله وقال له:
- الطريقة الوحيدة للنجاة - أيها المجنون - هي أن تعود بها إلى الأرض، فتتركها حيثما وجدتها
رجع الشيطان إلى الأرض يصب كل اللعنات الجهنمية على عجوزه وعلى الساعة التي عرفها فيها. فسار في البرية يلهث من التعب، فصادف راعيا شابا يغطي جسده بجلد من جلود الأغنام وما إن رأى الشيطان لاهثا حتى قال له هازئا:
- يا لها من طريقة لحمل النساء الفاتنات!
فقال الشيطان كاتما حنقه - هذه هي الطريقة التي ترتاح إليها عند السفر
أجاب الراعي قائلا - لم اقصد هذا، إن حملك الجميل ثقيل جدا، بحيث جعلك تلهث تعبا، هل أستطيع مساعدتك؟
فلم يكد يسمع الشيطان هذا القول حتى تنفس الصعداء، وأسرع يجيب متوسلا وقد تقاطرت من عينيه الدموع:
- بربك أيها الصديق ارحمني، أشفق علي، فإني أكاد أختنق وأكاد أموت تعبا، إني بحاجة(979/52)
إلى الراحة، ولا أستطيع السير خطوة أخرى. .
حينئذ قرب الراعي رأسه إلى عنق الشيطان، فرأت العجوز في الراعي شابا قويا، له رداء فاخر، فوجدته خيرا من الشيطان، فأسرعت وتركت عنق الشيطان وطوقت عنق الراعي الشاب بقوة شديدة!
فلم يصدق الشيطان ذلك، لم يصدق أنه أصبح حراً، وأنه تخلص من تلك العجوز إلا بعد مرور وقت طويل. .! فشكر للراعي صنيعه، وتناول عصاه وأنشأ يقود القطيع تاركا إياه مع حمله. . خلفه
وبعد قليل رأى الشيطان صديقه الراعي يلحق به راكضا. . وحده! دون أن يرى للعجوز أثراً على ظهره. . ففرك الشيطان عينيه وأعاد النظر! فلم يصدق ما يرى. .! حتى أقترب الراعي وقال:
- لا تدهش فقد تخلصت منها ببساطة. قصدت بحيرة قريبة فنزعت ردائي وكانت العجوز متعلقة بطوقه، فألقيته في أعمق مكان من البحيرة. ولم يلبث الرداء أن طفا على سطح البحيرة تاركاً العجوز تحت الماء. . فأخذته وأسرعت إليك، إذ يجب أن أسرع في إعادة القطيع إلى الحظيرة
أجاب الشيطان مسرورا - إني عاجز عن شكرك، وأرى من الواجب علي أن أرد لك مثل هذا الجميل الذي قدمته لي. . سأتوجه إلى مدينة (براغ) فأحل في جسد ابنة الملك وسيحاول الملك طردي، مستعينا بكافة الوسائل، لكنني لن اترك الفتاة. فسيضطر إلى جعل مكافأة كبيرة لمن يخلص ابنته الوحيدة مني، وما عليك عندئذ إلا أن تأتى أنت، فتهمس في أذن الفتاة قائلا لي (أنا صاحبك الراعي) فأخرج بسرعة فتشقى الفتاة، وبذلك تنال أنت جزاء إحسانك إلي
وما أن أنتهى الشيطان من كلامه حتى واجه الريح، ناشرا ذراعيه، ثم أنطلق طائراً في الجو، وتوارى بعد لحظات
فقطع الراعي مسافات كبيرة متوجها إلى (براغ) حتى وصلها بعد أيام. فوجد السكان محتشدين في كل ركن من الشوارع يتهامسون ويتناقشون! في تلك المصيبة التي حلت بالأميرة ابنة الملك. وبعد قليل توسط الساحة العامة المنادي الرسمي وتلا البيان التالي(979/53)
الصادر من الملك:
(بما أن ابنتنا الأميرة المحبوبة مريضة، قد دخلها شيطان خبيث، فنحن نتألم لأجلها أشد الألم. ونتوقع أن يأتي من يخلصها من ذلك الشيطان. فليسمع جميع أفراد الرعية ويكن معلوما أن من يستطيع ذلك سيتزوج الأميرة في الحال، وسيكون وزيري الأول في إدارة المملكة)
فمضى الراعي ودخل القصر الملكي، فرأى هناك رجلين يضربان بالسياط، جزاء لهما على فشلهما في طرد الشيطان! فأدخل الراعي على الملك. فنظر إليه هذا كأنه يرتاب في صدق زعمه، بيد أنه أدخله حجرة أبنته، إذ كان مستعدا لتجربة كل علاج واتباع كل طريقة. فوجد الراعي الأميرة شاحبة الوجه، مستلقية في فراشها ناظرة إلى الأعلى بعيون شاردة كأنها لا ترى شيئا! فاستدار إلى الملك وطلب إليه أن يترك وحده، فأجيب إلى طلبه وعندما اختلى الراعي بالأميرة تقدم وهمس في أذنيها بما لقنه الشيطان، فأجابه الشيطان (وداعا، أنا راحل، ولكن أعلم أنها المرة الأولى والأخيرة التي أطيع فيها أمرك) وهنا لمع بريق خاطف صاحبه دوي عنيف، أحدثهما انطلاق الشيطان ومروقه من النافذة
فأصبح الراعي زوج الأميرة، كما أصبح الوزير الأول في المملكة، فقضى أياما مريحة هانئا
بعد أن غادر الشيطان جسد الأميرة حن ثانية إلى. . . أميرة أخرى. كأنه وجد لذة في أجساد الأميرات! فقد جاء إلى مدينة (براغ) رسول من المملكة المجاورة يلتمس من الوزير (الراعي) أن يتفضل لإشفاء ابنه الملك التي سقطت طريحة الفراش بعد أن داخلها الشيطان! فتذكر الوزير الراعي ما قال له الشيطان فاعتذر عن إجابة الملك المجاور، فأرسل هذا وفود كثيرة، وألح في الطلب، بيد أن الوزير كان يقول: إنه غير قادر على ذلك (حتى لم يطلق الملك الجار صبرا فأرسل يهدد الوزير بالحرب إذا هو رفض معالجة ابنته فلم يسع الوزير الراعي إلا أن ينزل عن رأيه، فودع زوجته وركب فرسه قاصدا المملكة المجاورة
وعندما أدخل على ابنة الملك سمع صوت الشيطان يصيح به من خلال جسد الفتاة (ماذا تريد؟ إني لن أطيعك هذه المرة أنسيت قولي، أنك فاشل، فأنا سأبقى هنا ولن أفارق الفتاة،(979/54)
فمن الخير لك أن تنسحب). لكن الوزير لم ينسحب، بل صمت مفكرا ثم تقدم وهمس في أذن المريضة مخاطبا الشيطان
- إنني أسف، فلا غاية لي من ذلك أبدا، إني أريد أن أخدمك أنت. ولك أن تبقي حيث أنت، لقد جئت أخبرك - أيها الصديق - أن تلك العجوز لم تغرق في البحيرة، لقد نجت وقد رأيتها تجد السير في طريقها إلى هذا المكان!
وهنا رأى الوزير ستائر النافذة تتمزق شر تمزيق؟ كما رأى العليلة تستوي جالسة، فقد غادر الشيطان. . . وغادر الغرفة بسرعة غريبة، بحيث لم تحدث صوتا ولا ضوء ولا حركة. . إلا أن الستائر تمزقت عند مروقه منها
ومنذ ذلك اليوم لم تعرف تلك البقعة من الأرض مصيبة أخرى من مصائب الشيطان؟
نزيل البحرين
كارنيك جورج ميناسبان(979/55)
البريد الأدبي
آن للأزهر أن ينهض
نشرت الصحف المحلية أخيرا أن إدارة الأزهر قررت عمل مسابقة علمية بين مختلف طلاب الأزهر وكلياته وأنها رصدت ألفي جنيه مكافأة للفائزين؛ وهذه خطوة مباركة جديرة بالإكبار والتمجيد طالما تمنيناها ودعونا لها وطالما تمناها المخلصون للأزهر ودعوا لها لأنها ذات أثر فعال لشحذ همم الطلاب واستغلال جهودهم وحيويتهم للاستزادة من العلم والتنافس في حلبته خصوصا ونحن الآن في زمن طغت المادة فيه على كل شيء وأصبحت هي الحافز الأول والأخير لصقل العزائم وتسخر القوى، وليس من الكياسة في شيء إغفال هذه النزعات أو الاستهانة بها والتهوين من قيمتها، وسيرون الناس كافة الآن الواضح لتلك الخطوة المباركة، وسيرون جميعا توثب طلاب الأزهر لنهضة علمية نافعة تظلل هاماتهم بالمجد والفخار وتعلي من شأن جامعتهم العتيقة التي نرجو أن تظل فتية مثمرة. وأمل بإذن الله تعالى أن تحافظ إدارة الأزهر على هذه السنة الميمونة، ويا حبذا لو ضوعفت قيمة المكافأة ليجعل نصفها للفائزين من بين الطلاب ويخصص نصفها الأخر للأساتذة والخريجين الذين ينتجون أحسن مؤلفات علمية في الدين والأدب واللغة والاجتماع، وارجوا للأزهر المزيد من هذه الخطوات النافعة لينفض عن نفسه غبار الكسل وسبة التقاعد حتى يشع ضوءه ويلمع سناه في جميع الأفاق
علي إبراهيم القنديل
الوتد الغائب
وقف الملاحظ الأسبوعي في العدد 975 من الرسالة عند بيت من الشعر في قصيدتي (الفدائيون) المنشورة في مجلة (المسلمون) وهذا هو نص البيت من أصل القصيدة (في خطاب الشعب): -
كل هذا. . وأنت في دورة الأيام تمشي مستغشياً في سباتك!
فلعله يطمئن الآن إلى أن (الوتد المجموع. .) ما زال حاضراً في التفعيلة الثانية من عجز البيت، وأن أختها الأولى هي التي ظلمها جهاز المطبعة بالعجلة التي وقانا الله شرها في(979/56)
هذا الزمان
محمود حسن إسماعيل
رأسا. . .
لاحظت أن شركة مصر الجديدة كتبت على وجهة مركباتها التي تقوم رأسا من مصر الجديدة إلى القاهرة كلمة (طوالي) بالخط العريض. . . فيا حبذا لو اختارت الشركة كلمة (رأسا) بدلا من كلمة (طوالي) فهي أصح لغة، وأرق تعبيرا. وتؤدي نفس المعنى المقصود
عيسى متولي(979/57)
العدد 980 - بتاريخ: 14 - 04 - 1952(/)
الكتلة الإسلامية
كتب إلى كثير من قراء الرسالة يسألونني عن رأيي في الكتلة الإسلامية التي تدعو إليها باكستان و (الإخوان)، ويستوحش من ناحيتها لبنان و (الشبان)، فلم أجد جواباً عما يسألون خيراً من كلمة كتبتها منذ خمس سنين في الرسالة جاء فيها:
إن الجامعة الإسلامية هي الغاية المحتومة التي ستتوافى عندها الأمم الإسلامية في يوم قريب أو بعيد. ذلك لأنها النظام السياسي الذي وضعه الله بقوله: (إنما المؤمنون أخوة)؛ ثم شرع له الحج مؤتمراً سنويا ليقوى، وجعل له الخلافة رباطاً أبدياً ليبقى. وهذا النظام الإلهي أجدر النظم بكرامة الإنسان؛ لأنه يقوم على الإخاء في الروح، والمساواة في الحق، والتعاون على الخير، فلا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين طبقة وطبقة.
وظلت الجامعة الإسلامية في ظلال إمارة المؤمنين وإمارة الحجيج قوية شاملة حتى خلافة المتوكل. ثم وهي السمط فأنفرط العقد؛ وأضطرب اللسان فتفرقت الكلمة. فلما تبوأ الترك عرش الخلافة استطاعوا أن يبرموا الخيط، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينظموا فيه الحب. فبقي المسلمون عباد يد لا يجمعهم نظام ولا تؤلف بينهم وحدة. ثم أدركت الشيخوخة دولة العثمانيين في أواخر القرن التاسع عشر فتعاونت على جسدها المنحل ذئاب الغرب، فلوح لهم عبد الحميد بالجامعة الإسلامية ذياداً عن ملكه فهروا هرير الكلاب المذعورة.
وصور لهم هذا الذعر أن الجامعة هي التعصب وسفك الدماء، فصدقوا وهمهم وكذبوا الواقع. وكان الاستعمار قد توقح وفجر، فنشأت العصبية الوطنية في الأقطار الإسلامية لدرء خطره أو تخفيف ضرره. والوطنية لا تعارض الجامعة، ولكنها تفارقها في الطريق لتلاقيها عند الغاية.
إن أوربا التي ممزقتها الأطماع وطحنتها الحروب سترحب اليوم بالجامعة الإسلامية، لأنها وحدها تملك غرس الوئام في النفوس وإقرار السلام في العالم. إنها تقوم على الإيمان المحض، وتنزل في خير مكان في الأرض، وتشمل مئات الملايين من الناس، وتهيمن على الموارد الأولى للاقتصاد، وتدين بالآداب السماوية المثلى للاجتماع، وتشرق أعمالها في الصفحات العظمى من التاريخ. فمن المحال أن تظل نهباً مقسماً بين فرنسا الحمقاء، وإنجلترا المتطفلة، وهولندة الأنثى!(980/1)
أما الشبهات التي تطير هنا وهناك حول الكتلة الإسلامية فقد طار أمثالها من قبل حول جامعة الدول العربية لأن (إيدن) أوحى بها، وحول الدولة الباكستانية لأن (مونتابتن) سعى لها؛ ثم جلا الزمن الشكوك، ومحص الوعي الحقائق، فذهب إيدن وبقيت جامعة العرب، واختفى مونتباتن وسطعت دولة الإسلام.
احمد حسن الزيات(980/2)
كلمات
للأستاذ علي الطنطاوي
1 - طفلان
حدثني صديق لي أديب قال:
رأيت البارحة موهناً وراء ديوان المحاسبات وقهوة الشارع وهاتيك القصور الشم والمنازل العوالي - رأيت مشهداً أقر بأني عاجز على وصفه لكم، فإن كان باقياً لا يزال، وكانت رحمة الإنسان باقية - لا تزال - فيكم، فأذهبوا لتروه بعيونكم. أذهبوا، وخذوا معكم قلوبكم فإنكم ستحتاجون إليها، واحملوا دموعكم لتريقوها أمام هذا المشهد الذي يرقق قلب الصخر، ويفجر بالدمع عيون الجلمود، ويملأ بالشفقة والحنان أقسى القلوب: قلوب الشياطين والجلادين والمحتكرين.
مشهد طفلين أحدهما في نحو التاسعة والآخر في الرابعة، ما عليهما إلا خرق ومزق وأسمال، نائمين على الأرض عند باب القهوة، متداخلين متعانقين، قد التصق الصغير بأخيه، وألقى برأسه على صدره العاري من اللحم، يحتمي به من البرد والخوف، وقسوة الحياة، وظلم الناس، ولفه الآخر بذراعه يريد أن يدفع عنه بهذه الذراع الهزيلة، شر هذا البشر، ويكون له أماً، ويكون له أباً. . وكان وجه الصغير واضحاً في شعاع القمر الشاحب، فيه الطهر، وفيه الألم، وعلى شفتيه المزمومتين بقايا كلام حسبتها من بعيد بقايا لعنة حامية رمى بها هذا المجتمع، فلما دنوت لم أجد إلا آثار شكاة خافتة مبهمة، رفعها هذا الفم الصغير الذي ما تعلم البيان، إلى الله المنتقم الجبار!
طفلان ينامان على الطريق، ما تحتهما إلا الأرض العارية، وما فوقهما إلا السماء العالية، والناس الخارجون من القهوة بعد السهرة الممتعة، والعائدون من الوليمة بعد الأكلة المتخمة، والرائحون إلى بيوتهم من التجار، بعد خلوة طويلة أعدوا فيها العدة لجناية جديدة قذرة على هذا الشعب المسكين، والغادرون إلى النوادي والملاهي ليبدءوا سهرة أخرى، يصبون فيها ما لهم على الموائد الحضر، ويذوبون صحتهم في كؤوس الخمر، ويضيعون دينهم في تلك الليالي الحمر، في الفسق والعهر، كل أولئك كانوا يمرون بالطفلين ولكن لا يلتفتون إليهما، ولا يحفلون بهما، وهل يحف أحد بالكلاب النائمة في الطريق؟(980/3)
من أين جاء هذان الطفلان؟ أين أبوهما؟ أين أمهما؟ كيف يعيشان؟ هل أبتسم لهما الحظ فوجدا (تنكة زبالة) لأحد الأكابر لينبشاها، فيستخرجا منها عشاءهما أم باتا على الطوى؟
لم يسأل أحد ولم يعلم أحد؟
ولا أنا. . . وهل أنا إلا واحد من (هؤلاء) الناس؟!
قال الراوي:
وأسرعت إلى أولادي، أحمل إليهم الحلويات الغالية، أعدها لهم بجنب السرير، حتى إذا أصبحوا وجدوها، وأغطيهم كي لا تصيبهم لفحة هواء في هذه الليلة العاصفة، حتى إذا أمنت عليهم وأرحت ضميري. . قعدت أكتب مقالة في محاربة الشيوعية، ومكافحة الإجرام، وتمجيد النظام الديمقراطي الذي يملأ الأرض حرية ومساواة وعدلاً وأمناً.
وخلا شارع بغداد إلا من الرياح العاتية، والكلاب الشاردة، وهذين الطفلين الذين ينامان على الأرض بلا وطاء ولا غطاء؛ ليس معهما إلا أشباح الظلام، وتهاويل الرعب، وآلام الجوع والبرد والحرمان!
2 - عواقب اللذات:
كنت أطالع إضبارة في محكمة الجنيات فوجدت صفحات في الفسوق تثير الشيخ، وتصبي الحليم، وتشعل النار في أعصاب الشاب القوي، حتى ما أظن أن في الدنيا قصة من قصص الأدب المكشوف، تفعل في إثارة الشهوة فعلها فتركت الإضبارة، وفكرت. . .
وقلت. . .
- هل تريد يا علي طنطاوي أن تكون مكان هذا الرجل تعيش هذا العيش اللذ بين الغيد والأنس، والعذارى الفاتنات؟ قل، وخل عنك هذا (الكذب الاجتماعي) الذي تعارفه الناس.
فسكت علي الطنطاوي، وتكلمت نفسه، فقالت: نعم
- قلت: وهل تريد أن تكون مكانه في السجن؟
- قلت: لا قلت: ولِم؟
- قالت: لأن اللذات قد ذهبت، وبقي عذاب السجن. . .
- قلت: فلماذا لا تذكر ذلك كلما دعاك الشيطان إلى لذة محرمة فملت إليها، وتقول لنفسك إنها ستذهب كما ذهبت اللذائذ الماضيات، ويبقى العذاب؟ ولماذا لا تذكره كلما دعاك العقل(980/4)
إلى خير فتكاسلت عنه لصعوبة البذل، ومشقة العمل، وتقول لنفسك إنها ستذهب هذه المشقة ويبقى الثواب؟
فكر فيما عملت من حسنات وخير؛ بذلت فيها من جهدك ومالك، وخالفن فيها هواك، ماذا بقي من الصعوبة التي وجدتها عند الحسنات؟ وماذا بقي من اللذة التي أصبتها عند المعاصي؟ لقد ذهبت آلام الطاعة وبقي ثوابها، وذهبت لذات المعصية وبقي عقابها، كالتلميذ يوم الامتحان إن كان قد جد وجد النجاح ونسي تعب المطالعة ونصب السهر، وإن كان قد لها ولعب فقد متعة اللهو وأنس اللعب؛ ولقي (السقوط).
فقس الآتي على الماضي، ولا تبع آجلاً خالداً بعاجل فان، ولا تغتر بحلاوة العسل إن كان فيه السم، ولا تخش مرارة الدواء إن كان فيه الشفاء. . .
وتصور أنك على فراش الموت، وقد باد الأمل وجاء الأجل. . ما الذي تحسه في تلك الساعة من حلاوة المعصية؟ ما الذي بقي لك من متع الجسد والقلب؟ هل بقي لك شيئاً منها؟ هيهات! لقد نسي الجسد لذات الجسد، وشغلت النفس عن مسرات النفس؛ وضاع المال فصار للورثة ما جمعت من مال، وتصرم الجاه فلا ينفع جاه، ولا شهرة ولا وظيفة ولا أدب ولا فن. . .
وتصور بعد ذلك القيامة وقد قامت، والصحف وقد نشرت، والحساب وقد أعلن؛ وكل ذرة من خير قد قيدت لك، وكل ذرة من شر قد سجلت عليك؛ أحصاه الله ونسيته، وعده وأغفلته، أين من نفسك يومئذ موقع هذه اللذاذات؟ وأين مكان هذه المتع؟ ما الذي استفدته منها؟ ما أفدت إلا الندم! وماذا استبقيت منها؟ ما استبقيت إلا الألم!
فأذكر هذا كل صباح وأنت غاد إلى عملك، وكل مساء وأنت مضطجع لمنامك. وكلما أغرتك بشر لذته، وكلما صدتك عن خير مشقته. . .
جرب هذه التجربة السهلة، وأنظر كيف تكون بعدها.
3 - المعلم الأديب
فتحت اليوم درجاً لي فيه أوراق لم أفتحه من نحو عشرين سنة، فوجدت صفحات رائعة من قصة كنت شرعت فيها ونفسي مترعة عاطفة، وقلبي متفتح للإلهام، ثم قطعتني عنها شواغل التعليم (وقد كنت يومئذ معلماً) وصرفتها من ذهني، حتى أني لأجدها الآن غريبة(980/5)
عني، كأنها لم تكن لي، ولم أكن كاتبها. . فجعلت أتلوها وجعلت صور أيامي الماضية تمر أمام عيني. . فأرى تلك الأيام التي أضعتها في التعليم، وتلك الأفكار والصور التي خسرتها ونكبت بها. . وليس المنكوب من ذهب ماله، أو احترقت داره، فإن الصحة ترد المال، والمال بعيد الدار، ولكن المنكوب من ثكل أفكاره؛ وأضاع ذكاءه؛ وعاش بائساً يائساً، ومات مغموراً منكراً؛ وقد كان أهلاً لأنيسعد حياً بذكائه؛ ويخلد ميتاً بآثاره.
إن المنكوب هو المعلم الأديب؛ الذي وهب له الأدب؛ وكتب عليه التعليم: إنه يكسب ثمرة حياته، وعصارة قلبه؛ الليالي الطوال التي أحياها ساهراً، عاكفاً على كتبه، مطفئاً نور عينيه، مذبلاً زهرة شبابه، يصبها كلها بين أيدي طلاب لا يكاد أكثرهم يحفظ لمعلم عهداً، ولا يذكر له رداً، يصبح المعلم الأديب وفي نفسه موضوع المقالة، وفيها صورها وأفكارها، ولكنه لا يستطيع أن يكتبها، إنه مشغول عنها بتصحيح وظائف التلاميذ، هذه الوظائف التي تحرمه لذة المنام، وأنس السمر، ومتعة المطالعة، وتأكل صحته ووقته، ثم إذا انتهى منها وحملها إلى التلاميذ مصححة لم يتنازل أحدهم إلى النظر فيها، وإنما يلقونها في أدراجهم لينظر فيها الشيطان، ثم يأتي الآذن فيجمعها ليوقد بها النار. . .
ويعد الدرس وينفق في إعداده من الجهد ما لا يعلمه إلا الله، والمخلصون من المعلمين، ويلقيه مندفعاً متحمساً. فلا يروعه (إن كان في الابتدائي) إلا تلميذ يخز رفيقه بمرفقه ليريه كيف اصطاد ذبابة. . . أو ليحدثه (إن كان في الثانوي) حديث رواية في سينما، أو مباراة على ملعب، أو تلميذ يقرأ قصة سخيفة من قصص الجيب، أو يصور على الورقة ثوراً له قرنان، أو يرسم الأستاذ المحترم. . . وإن كان (في الجامعة) رأى أمامه فلماً من أفلام الحب ناطقاً بلغة العيون. .
ثم يكبر الطلاب، فينكرون المعلم وينسونه، وربما أحتاج إلى أحدهم فأراه صنوف الحرمان، وربما صار أحدهم رئيسه فأذاقه ألوان الردى. . . مسكين والله المعلم!
4 - أجير الخباز
هذه صورة وصفية صادقة لحادث حدث من يومين، وكان النهار مصحياً دافئاً، وآلاف الشباب يتبخترون على طرفي شارع فؤاد، مرجلة شعورهم، مصقولة وجوههم، محبوكة ثيابهم، يختالون زهواً وإعجاباً، كسرب من الطواويس، أو كجماعة من ديكة الحبشة،(980/6)
منفوشاً ريشها، ومئات البنات، من كل جميلة صنعتها يد الله، وذات جمال من عمل الحلاق والخياط، وبائع الأصباغ وصانع العطور، يخطرن، ينثرن حولهن الفتنة، وينشرن الإغراء.
وشمس الأصيل تطل من خلال منافذ شارع الغربية، كما يطل الأمل من فرج اليأس؛ فتنقل هؤلاء الناس من أرض الحقيقة إلى سماء الأحلام، فيذهبون جميعاً إلى أعماق حلم ذهبي، تضيع فيه هذه الرؤوس المتعانقة، التي غرقت في نشوة الحب، وغابت في هذا الهمس الناعم، الذي تنسى معه الدنيا وما فيها، وهذه الرؤوس المفردة التي تتعلل بذكريات لذة ماضية، وخيالات لذة لم تأت، وتغوص في رؤى شيطانية فاجرة من عمل الحرمان.
ورأيت في وسط هذا العالم البهيج، السابح في غمرة النعيم، صورة من صور البؤس، ومظهراً من مظاهر هذا الظلم الاجتماعي. . رأيت صباً لا أظنه قد أكمل العاشرة، ضامر الوجنات من الهزال، بادي العظام، يمشي حافياً، بخطى واهنة متقاربة على ساقين كأنهما قصبتان من القنب، يلبس معطفاً واسعاً ممزق الظهر يتعثر فيه تعثراً، فوق قميص رقيق مخرق، يحمل على عنق دقيق مثل عنق الدجاجة (فرشاً) كبيراً عليه ركام من الخبز، يكاد الغلام ينسحق تحته.
وكان هؤلاء المنعمون الذين أثقلتهم التخمة. وأبطرهم الترف، يتحامونه ويبتعدون عنه، ويضمون أثيابهم أن تلامس ثيابه، كأنما هو مجذوم أو مجرم، أو كأنه وحش كاسر. . ولم يلتفت إليه واحد منهم. ولم يرحم هذه الطفولة المعذبة، ولم يقع عليه نظر، وإنما كانت الأنظار كلها منصبة على تلك العيون، التي يتدفق منها الفتون، وتلك القدود، التي تميس برقة، وتخطر بدلال. . .
وكانت السيارات تتسابق تحمل المدللين من أبناء الأمة: الموظفين الكبار الذين تهبط عليهم الخيرات بلا حساب، والمجدودين من الوارثين وأغنياء الحرب واللصوص المختبئين في ثياب الأشراف.
. . . ومرت سيارة أنيقة فخمة من سيارات الدولة فيها سيدة ملفوفة بالفرو، تكاد تنفزر مما نفخها البطر، وولد واقف على شباك السيارة، قد مد رأسه ينظر ويلتهي، وكأنه يسخر من هذا الشعب الذي دفع ثمن السيارة من عرق عامله، ودم فقيره، ليركب فيها هو وأمه، إلى(980/7)
الاستقبالات، والمخازن والسينمات.
ووقفت السيارة فجأة إلى جنب الغلام الذي يحمل (الفرش) ودفعه أحد السادة حتى لا يدنسه فمال على السيارة، فمس طرف رغيف مما في الفرش وجه الولد مساً رفيقاً، وقامت القيامة ووقف القسم الظالم من هذا الشعب، أمام القسم المظلوم، يمثل الأول ولد السيارة بقسوته وكبريائه، وأخذه ما ليس له واستطالته على من دونه، ويمثل الثاني غلام الخباز، بضعفه وبؤسه وكدحه وذلته، صرخ الولد وأعول، وهاجت الأم، ونزل السائق بقوته وبطشه على هذا الغلام، فضربه حتى كاد يحطمه، ورمى خبزه ودعسه بقدميه، وتم ذلك في لحظات، فما وصلت حتى كان كل شيء قد انتهى، والسيارة قد مرت كالعاصفة، لم تخلف وراءها إلا الغلام يبكي صامتاً، لا يرفع صوته ولا يستنصر أحداً، لأنه يئس من أن يجد في هؤلاء المفترقين إنساناً يصغي إليه.
وأسدل الستار على المأساة، وعاد الموكب الحالم يتابع طريقه يستمرئ حلمه الذهبي المترع بالنشوة والشهوة والفتون. . .
وكأن شيئا لم يقع، لم نقتل العدل، ولم نظلم الطفل، ولم نملأ هذا القلب الصغير حقداً على الحياة، حتى إذا كبر استحال هذا الحقد إجراماً فاتكاً مدمراً.
دمشق
علي الطنطاوي(980/8)
قرية الأدباء
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
في كل بلد من بلاد العالم بيئة أدبية تختلف قوة وضعفاً ورقياً وانحطاطاً تبعاً للعوامل المؤثرة في الاتجاهات الفنية حينا بعد حين. ولا تكاد تخلو مدينة أو قرية في كل قطر من فرد أو أفراد شاركوا في الحياة الأدبية بنصيب، وأثروا في النهضة الفنية أو تأثروا بها على أقل تقدير.
من هذه البلاد المصرية التي لها يمض الفضل في إيقاظ الحركة الأدبية في العصر الحديث، بلد ريفي جميل، يجمع بين مزايا المدن وسمات الريف الوريف، لحسن موقعه شرقي نهر النيل، ولكثرة مدارسه وذيوع أسماء كثير من أبنائه الأدباء، هذا البلد، أو هذه المدينة هي (كوم النور) إحدى بلاد إقليم الدقهلية الخصيب.
أول من أذكره من علمائها وأدبائها وشعرائها الأفذاذ المرحوم الشيخ سيد خليل؛ ولقد كان لهذا العالم المتصوف والأديب الشاعر الكبير الفضل الأول على أبناء كوم النور في نهضتها الأخيرة. كان يميل إلى طريقة عمر بن الفارض في الشعر، وإلى طريقة محي الدين بن عربي في التصوف وعلوم الدين، وله أشعار كثيرة مطبوعة وكتب دينية وأدبية مخطوطة أشهرها تفسيره القيم للقرآن الكريم. وكانت له مجلة شهرية أسمها (التذكرة) يصدرها ويحررها بمقالات عظيمة في الأدب والدين والاجتماع.
وقد كان للشيخ سيد (زاوية) يذكر فيها مع أتباعه ومريديه وما تزال إلى الآن؛ وقد آلت رئاستها إلى الأستاذ محمد محمد عبده من فضلاء أدباء كوم النور بعد وفاة رئيسها السابق الأستاذ محمد المتولي هاشم رحمه الله. هذه الزاوية هي الركن الركين لتلاميذ الشيخ سيد، تخرج عليه فيها، وعلى كتبه ودواوينه من بعده جم غفير، منهم أبنه الأستاذ فؤاد السيد خليل، وهو معروف للقراء بشعره ونثره الرصين. ومن شعراء هذه المدرسة الأستاذ عبد العزيز محمد خليل، أحد أفذاذ شعراء دار العلوم ورائد الرعيل الأول من أدباء كوم النور، وفي شعره العذب مزيج من تأثيره بطريقة الشيخ سيد خليل وميل إلى التجديد والتحرر من قيود القديم؛ وشعره يجمع بين الرقة والجزالة في أسلوب عربي متين.
ومنهم الأستاذ محمود عبد المعطي خليل تأثر بالشيخ سيد في الناحية الوصفية حتى غلبت(980/9)
عليه، وغطت النزعة الأدبية فيه، فترك الشعر بعد أن قطع فيه مرحلة واسعة والأستاذ محمد عبد الباري البدري خليفة الشيخ في الورع والتصوف والتبحر في علوم الدين.
ومن أعلام كوم النور وعلمائها البارزين المرحوم الشيخ محمد سليمان عنارة نائب المحكمة العليا الشرعية السابق، وهو كاتب عذب الأسلوب رقيق الحاشية، كتب وخطب وألف وصنف كثيراً من الكتب الأدبية والدينية. ولا ينسى الناس معارضته الشديدة الموفقة لترجمة القرآن الكريم، حتى ألف فيها كتابه القيم (حدث الأحداث ترجمة القرآن الكريم) وكانت له ندوة أدبية في منزله يغشاها الزعماء والوزراء وقادة الرأي يملك الشيخ فيها ناصية الحديث.
ومن علماء كوم النور الراسخين في العلم المرحوم الشيخ عبد العزيز عبد الفتاح خليل المدرس السابق بدار العلوم، كان أحد المتبحرين في علوم الدين، وكان متصوفاً يجنح إلى العزلة ويميل إلى الخشوع.
وفي طليعة علماء اللغة بكوم النور، المرحوم الشيخ عبد الخالق عمر بك. كان حجة في النحو والصرف، ضليعاً بالدقائق والمشكلات والبحوث اللغوية، تولى تدريس اللغة العربية بكثير من المعاهد العالية.
ومن الأعلام البارزة في كوم النور الأستاذ الكبير عبد الحميد السيد أحد كبار رجال التربية والتعليم في وزارة المعارف، وإلى ثقافته الواسعة وأياديه الجليلة على العلم والتعليم يرجع الفضل في شؤون اللغة العربية بالتعليم الثانوي والتعليم الابتدائي.
وإذا كان الشعر هو العنصر الأول في كل بيئة أدبية، فقد عرف به عدد كبير من أبناء كوم النور، منهم هؤلاء الشعراء الأساتذة: محمد سلامة مصطفى وهلال شتا وأحمد البدري وإبراهيم الزين وعباس مصطفى ومحمد هلال ومحمد عبد الخالق ندى وإبراهيم البدري والسيد يوسف جودة وعبد العزيز العجمي ومحمد زيادة ومحمد عمر هاشم وهلال الفيشاوي ومحمد شحاتة وأبو رجيلة وسليمان العزب ومحمود سعيد ندى.
ومن الطرائف اللطيفة أن الشاعر محمد سلامة مصطفى - هو معروف للقراء - كأنما ورث الشعر وراثة عجيبة عن أبيه وجده لأمه، فهم جميعاً شعراء، وقد قلت في ذلك:
وراثة الفن الرفيع الباهر(980/10)
معجزة تحققت للناظر
على يدي (سلامة) المغامر
الشاعر أبن الشاعر أبن الشاعر
ويمتاز الشاعر هلال شتا بكتابة القصص الطريفة، وله مجموعة قصصية مطبوعة منذ سنوات.
ومن الزجالين المعروفين بكرم النور، الأستاذ عبد الحي حمام، وهو ينشر أزجاله السياسية والاجتماعية في مجلة (الشباب) التي يصدرها صديقنا الأديب الكبير الأستاذ محمد مصطفى حمام، ومنهم الأستاذ عبد الفتاح العجمي والأستاذ العوضي جودة.
ومن الخطباء الممتازين بكوم النور الأستاذ محمد عبد الله أبو عيسى، وله قدرة عجيبة على الارتجال البليغ تستحق الثناء والإعجاب، والأستاذ محمد يوسف جودة وهو ينفذ إلى أعماق القلوب، والأستاذ مصطفى داود من كبار المربين.
ومن الصحفيين المعروفين بكوم النور الأستاذ علي عامر رحمه الله، أشتغل بالتحرير في كثير من الصحف والمجلات الراقية، وكانت له شهرة واسعة بالإجادة في كل ما يتصل بالأزهر والأزهريين؛ وقد أقيم له حفل تأبين كبير بدار الشبان المسلمين.
ومن الصحفيين النابهين الأستاذ أمين سلامة عضو نقابة الصحفيين، والأستاذ أحمد فتحي عبد العزيز خليل وهو يصدر صحيفة لطيفة صيفية بكوم النور.
وفي كوم النور عدد ضخم من المثقفين ثقافة ممتازة، كالدكتور الشاذلي محمد الشاذلي المتخرج في أرقى جامعات لندن، ويلقبه إخوانه الظرفاء: والدكتور إبراهيم عبد الشافي الشربيني والأساتذة محمد عبد المنعم سلامة المدرس بكلية التجارة وعصام محمد سليمان وهو كاتب ومؤلف معروف ومحمد المتوكل عبد الله وحامد عبد المجيد عويس وعبد المنعم شعيب أحد المبحرين في الأدب والدين والقانون وعلي خليل وحامد السيد خليل وتوفيق أحمد علي وعلي البداري جابر (مؤرخ كوم النور وحافظ شجرة الأنساب)!!
وقد تفضل بزيارة كوم النور كثير من الشعراء والأدباء منهم الأساتذة أحمد مخيمر وتوفيق عوضي أباظة ومحمد الصادق مسعود وعبد العزيز السعدني ومحمد رجب البيومي وأحمد نار ومحمد أحمد السنهوتي. وزارها من قبل الخديو عباس حلمي الثاني وقال فيها كلمته(980/11)
المشهورة (زرت قرى في أوربا قرية قرية، فلم أجد فيها مثل قرية كوم النور)
ومن أبناء كوم النور، كاتب هذه السطور:
أحمد أحمد العجمي(980/12)
لغة المستقبل:
للأستاذ محمد محمود زيتون
تحية علمية إلى البرلماني الفيلسوف أستاذي الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك عميد الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقاً، وعضو مجلس الشيوخ، وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية.
قرأت بمزيد من الإعجاب المحاضرة القيمة التي ألقاها أستاذنا الجليل الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك بمجمع فؤاد الأول للغة العربية وجعل موضوعها (الفكر واللغة) والتي نشرتها الرسالة في العدد 975.
ومما زادني إعجاباً بهذا البحث العميق ما انطوى عليه من سعة الأفق وعمق الطاقة، ولا سيما إذا قارنته ببحثي المتواضع الذي نشرته بالرسالة من قبل بعنوان (اللغة والفكر).
لقد وقفت متأملاً قول أستاذي الدكتور في محاضرته الجامعة (والرياضة أقل العلوم حاجة إلى الألفاظ والتراكيب، لأنها أبعدها مدى في العموم والتجريد، فإذا حصرت حقائقها، واختير لكل حقيقة رمز معين أمكن تكوين لغة رياضية كاملة، وعلى غرار هذه اللغة الرياضية يمكن وضع اللغة العالمية).
ولعل هذه العبارة المركزة أن تكون بعيدة عن مدارك العامة من المثقفين، وقد يستغلق على بعضهم فهم المكانة الفلسفية للعلوم الرياضية من المجموعة العلمية، لهذا نرى من حق الرسالة علينا أن نستسمح أستاذنا فنحاول في هذا المقال أن نبين للقارئ ما يجب علينا بيانه وتبيينه فيما يتعلق بالرياضيات.
يقول نافيل في كتابه (تصنيف العلوم) - (إن العلوم روابط خلقها العقل بينه وبين الأشياء). وإذا نحن طالعنا هذه العلوم اعترتنا حيرة: فبآيها نبدأ وبآيها ننتهي، ونخشى حين نصنف هذه العلوم أن نقع فريسة في أيدي المصنفين، ومهما يكن من خلاف بينهم. فالجميع متفقون على البدء من البسيط غاية التبسيط إلى المركب غاية التركيب.
والحق أن العقل الإنساني لا يطيق الفوضى، وإنما هو نزاع أيما إلى أبسط (عملة فكرية) يتعامل بها وهي (المعاني) حين تتجرد أقصى ما يكون التجريد. فلا بد من علم يجمع قوانين الفكر الأساسية هو (علم النواميس كما يسميه (نافيل) وهو (المنطق) عند(980/13)
المدرسين.
وسواء كان هذا المنطق علماً أو فناً أو مدخلاً أو أداة لسائر العلوم، فإنه أول مصدر لكل معرفة إنسانية مشروعة وأساس لكل تفكير، لأنه يتناول المعقولات الخالصة.
ويلي المنطق مباشرة (الرياضة) إذ تتناول المعقولات الكمية (كالنقطة الحسابية والنقطة الهندسية) وما بين هذه المعقولات من نسب (كالزيادة والنقصان والتساوي).
ويتلو الرياضة في بساطتها: الميكانيكا والفيزيقا والكيمياء، والبيولوجيا والسيكولوجية ثم علم الاجتماع.
ولم يكن من اليسير أن يطفر الفكر إلى المعاني. وذلك لأن (طبيعة الأشياء تأبى الطفرة)، فالحواس التي عرفتنا بما نحس، وحلل العقل ما أوتي منها، واستخلص من بين عناصرها البسيطة ما هو مشترك بينها وهو (الكلي). وبهذا الانتقال الذهني الخالص نصل من الأفراد إلى (الكلي المجرد) ومنه إلى (العام). وصدقت الحاجة إلى تثبيت المعاني المجردة والعامة واستحضارها وترتيبها، وإقامة صلات بينها دون اللجوء في كل مرة، إلى ما بدأنا به أول مرة، ولا يتم هذا إلا باستعمال الرموز التي تغني عن الجزئيات، إذ (الرمز إشارة إلى ما له صلة بغائب محجوب أو يستحيل إدراكه).
ولما كان العلم بالكلي - كما يقول أرسطو - فلا بد من أن تتسابق العلوم إلى هذه (الرمزية) النهائية، فكانت الرياضة منها في الطليعة.
وإذا كانت المعاني هي العملة الفكرية، وكانت اللغات إنما هي المعاني تحملها الألفاظ، فإن الرياضة هي أسمى لغة للتفاهم العقلي في أسمى درجاته، لذلك قال (كوندياك (كل علم ليس لغة مصنوعة بإتقان) أو كما يقول (فولتير) (إن العقل سينتهي إلى بعقل) أي ينتهي إلى قانون يعقل الوجود ويحكمه.
وعلوم الكون - على اختلاف مناحيها - تنزع إلى أن تكون كالرياضة، فعلم الفلك مدراه الجاذبية، لهذا لم يعتبر، (أوجست كونت) من الرياضة بل اعتبره من الفيزيقا البحتة، غير أن (أمبير) رأى في الفلك علماً رياضياً بسبب تقدمه العلمي، وبذا جعل الرياضيات علوماً للطبيعة المادية أي علوماً كونية وعرفها بأنها (العلوم التي لا تعتبر في الظواهر الطبيعية غير نسب الكمية).(980/14)
كل هذه المحاولات للتقرب من الرياضة لم تقض على ما بينها وما بين سائر العلوم من فوارق: فالرياضة لا تعني بما هو كائن، وإن كانت تضع مبدئياً شروط إمكانية الأشياء المادية، غير أنها تدع للفيزيقا العناية بإقامة الوقائع التي أعطيت لنا في هذا العالم.
والرياضة قبل كل شيء ذات موضوع متميز، ولها منهجها وروحها، وهذا ما نود أن نعرضه للقارئ في هذه العجالة بحيث تتأدى المقدمات إلى نتائجها من غير تعقيد.
والمعروف أن الرياضة فرعان هما: علم العدد، وعلم الهندسة
وعلم العدد هو الذي ينظر في معاني الكمية والعدد والنسبة دون أن يفترض فيها موضوعا خاصاً، ودون حاجة إلى نظريات الشكل والمقدار اللذين في الواقع؛ فهو كما يقول أبن خلدون (المعرفة بخواص الأعداد من حيث التأليف، إما على التوالي أو بالتضعيف) وهو كما يقول أيضا (أول فروع الرياضة (التعاليم) وأثبتها في البراهين الحسابية، عني به بعض العلماء فاستخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعل أبن البناء في كتابه (رفع الحجاب)).
وتنحصر فائدته في عدم تعينه في الأشياء المحسوسة التي يطابقها. فالعدد 5 يطابق 5 رجال و5 خيول و5 حواس و5 فضائل.
ومن فروع علم العدد (صناعة الحساب). وهي صناعة عملية في حساب الأعداد بالضم والتفريق.
ولما كان لعلم العدد صلة بالكميات المجردة، فقد وجب إنشاء فرع له هو (الجبر) لأننا بدلاً من اعتبار القيمة الفردية للأعداد نضع حروفاً تدل على عدد ما بدون أي تفرقة.
وقد اصطلح العرب على أن يسموا هذا العلم (الجبر والمقابلة) وهو (صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما صلة تقتضي ذلك) كما يقو أبن خلدون.
ودراسة الدوال هي الفرع الأعلى للرياضة البحتة لأنها تعني بالنسبة بين متغيرين دون الاشتغال بتقدير هذه النسبة؛ وهذا يؤدي إلى الرياضة العليا من حيث صلتها بالحساب والجبر وهما (الرياضة الأولى).
ولعلم العدد أيضا فرعان آخران هما: (المعاملات) وهو تصريف الحساب في معاملات(980/15)
المدن، و (الفرائض) وهو صناعة حسابية في تصحيح السهام (الأنصبة) لذوي الفروض في الوراثات وهو يعتمد على الفقه والحساب معاً، وهكذا يكون علم العدد بحتاً وتطبيقاً أي علماً وصناعة.
أما الهندسة فهي علم النظر في المقادير، إما المتصلة كالخط والسطح والحسم، وإما المنفصلة كالأعداد، وما يعرض لها من العوارض الذاتية. وموضوعها الامتداد كجزء من الفراغ، فهي تدرس خواص الامتداد وتسمى الهندسة الفراغية.
ومن فروع الهندسة: هندسة الأشكال، وهندسة المسافة، وعلم المناظر، ويجب ألا نغفل هندسة الوضع ظهرت في القرن السابع عشر على يد (ليبتز) وأغفلها (كونت).
وللهندسة - كعلم العدد - جانبان: العلمي البحت، والتطبيقي العملي. وهذا الجانب الأخير لا يقلل من قيمتها التجريدية، بل يؤكد وثاقتها بطريق عملي، يصبح أشبه (بالحدس الحسي)، وكما يقول (يجب أن نعرف لنقدر، ويجب أن نقدر على إعداد العمل النافع).
وسيرى القارئ - إن شاء الله - في العدد القادم كيف انفردت الرياضة بمنهج خاص، وما يستتبع ذلك من تكوين (الروح الرياضي) وأثر ذلك كله في شتى العلوم.
محمد محمود زيتون(980/16)
6 - دعوة محمد
لتوماس كارليل
تتمة البحث
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
عظمة محمد:
إني لأحب محمداً - وليس في مقدور أي إنسان منصف لعقله إلا أن يحب هذا الرجل - وذلك لبراءة طبعه من الرياء والتصنع. فلقد كان محمد هذا رجلاً مستقل الرأي، لا يعول إلا على نفسه ولا يدعي ما ليس فيه، لم يكن متكبراً ولكنه لم يكن خانعاً ذليلاً، فهو قائم في جلبابه المرقع كما أوجده ربه وكما أراد له أن يكون، يخاطب بقوله الحر المبين، أكاسر الفرس وأباطرة الروم، يدعوهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، ويرشدهم إلى ما يجب عليهم في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى. وكان يعرف لنفسه قدرها ويضعها في موضعها اللائق بها. فلا يتقدم حيث يجب التأخر، ولا يتأخر حيث يجب التقدم، ولا يقسو حين تستحب الرحمة، ولا يرحم حين تفيد الشدة، ولقد وقعت بينه وبين الأعراب حروب متعددة، لم تخل من مشاهد القسوة، ولكنها مع ذلك لم تخل من دلائل الرحمة وسعة الصدر وكرم الغفران. ومع ذلك فقد كان لا يعتذر من الأولى ولا يفخر بالثانية، فد كان يراها من أوامر شعوره ووحي وجدانه. ولم يكن شعوره لديه بالظنين ولا وجدانه عنده بالمتهم.
وكان محمد رجلاً ماضي العزم قوي الشكيمة لا يؤخر عمل اليوم إلى غده، فقد حدث في غزوة تبوك أن أمتنع المسلمون عن السير إلى ساحات القتال، متذرعين بأن الوقت وقت الحصيد، وبأن الحر شديد لافح، فنظر إليهم نظرة نفذت إلى قلوبهم ثم قال لهم: الحصيد؛ إنه لا يلبث إلا يوماً أو يومين، فماذا تتزودون لحصيد الآخرة، وأما الحر فإنه نعم حر شديد ولكن حر جهنم أشد حراً، فماذا انتم فاعلون هناك.
وقد كان في بعض الأحايين يخرج كلامه سخرية لاذعة وتهكماً مراً؛ من ذلك قوله للكفار، إنكم ستجزون يوم القيامة عن أعمالكم وأنه سيوزن لكم الجزاء، ثم لا تبخسون عن أعمالكم مثقال ذرة.(980/17)