فجلست؛ وفاجأني قائلا: - هل تعرف اسمي؟ اسمي شريف قد ورثته عن أبي الذي ورثه جدي. فقلت اسمك شريف؟ فهذه مصادفة جمعت بين اسمك وعملك - فعملك اللصوصية والسرقة واسمك شريف، فأنب إذن لص شريف؟ واسم المرأة أمك أو زوجتك مريم كل هذا. . . فقاطني قائلا - اعلم أنني سليل بيت عريق لم تقدر البشرية حسناته نحوها. واعلم انك أصبت بأنني (لص شريف) وستخلد الأيام اسمي كما اخلد ذكرى والدي وجدي العظيم. سترى صورته هنا في القاعة المجاورة وسترى مدى الشبه بيني وبينه، وإذا كنت أميل إلى الأخذ من الأغنياء لأعطي الفقراء - وهو ما كان يفعله جدي ووالدي - فإن أخوتي جميعا يميلون لمثل هذا العمل أيضا - إننا لصوص شرفاء أباً عن جد - ونحن مازلنا نواصل تأدية رسالة الجد الكبر؛ فنقوم المعوج، ونعدل ميزان المساواة في الثروة بين الناس. ولكن انتظرني قليلا فسآتيك بصورته.؟
خرج الشاب وتركني في القاعة - وما هي إلا بضع دقائق حتى سمعت حركة خفيفة عند الباب وإذا بسيدة لا اعرفها تدخل القاعة. فدهشت المرأة عندما رأتني وداخلها بعض الريب والخوف - فهدأت من روعها قائلا - لا تخشى من شيْ يا سيدتي مريم فأنا صديق أسرتك. . . جئت مع شريف إلى هنا منذ زمن قصير؟ فتمتمت السيدة بصوت خافت - شريف - أحد أفراد أسرتنا؟ فقلت - نعم شريف - زوجك أو ابنك لا ادري؟
- زوجي - ابني؟
- فقلت - هاهو في الغرفة المجاورة ذهب ليأتني بصورة جده شريف
- جده شريف!
فقالت - يا سيدي أنا لا أفهم شيئا مما تقول؛ فأنا غريبة عن هذا البيت ولست من سكانه. وزوجي ليس اسمه شريف ولا أنا اسمي مريم! أظنك مخطئ - قالت هذا وتراجعت للباب مذعورة فاستوقفتها - وقلت لها - بيت من هذا أذن يا سيدتي؟ قالت: هذا البيت للإيجار - جئت لأستأجره! ولكن من تكون أنت إذا لم تكن صاحب البيت ولا تعرف صاحبه؟
فخطر لي خاطر وقلت أنا يا سيدتي مستأجر مثلك جئت لأستأجر هذا البيت.
قالت - آه فهمت الآن؟
قلت - وأنا أيضا فهمت يا سيدتي! أستودعك الله. قلت هذا وخرجت مسرعا - أذن كل ما(955/52)
قاله الشاب كان سلسلة من الأكاذيب. البيت والأب والجد والأسرة والحرفة الشريفة، والأخذ من هذا وإعطاء ذاك. . . انه لص ولكنه غير شريف. . ووضعت يدي في جيبي فإذا بمحفظة نقودي قد اختفت. لقد سرقني اللص الشريف كما سرق غيري من قبل. وأسرعت راكضا نحو مركز الشرطة، وإذا بي المحه عن بعد. . لمحت الشاب وهو يركب سيارة ومعه امرأة لم تكن غير بائعة اللبن العجوز التي ألقى المحفظة في وعائها وهي تنظفه. وابتعدت السيارة ووقفت حائرا أتكون - المرأة شريكته في السرقة؟
لقد فهمت الآن كل شيء ورحت ضحية هذا اللص الشريف الذي عرف كيف يضحك مني ويضللني. هل أذهب إلى مركز الشرطة وأقص قصتي واطلب البحث عن الجاني؟ ولكن ما الفائدة؟ سيضحكون مما حدث لي - فخير لي أن اسكت وأن أواصل الدرس والبحث لأنني لا أزال مبتدئا في أدراك حيل اللصوص والنشالين الأذكياء. وعدت إلى بيتي مشيا على القدمين وأنا أفكر في خطة لإيقاع هذا اللص الشريف!
مصطفى أبو غربية(955/53)
العدد 956 - بتاريخ: 29 - 10 - 1951(/)
نهاية مأساة. .
وأخيراً أدركت مصر الرسمية بعد خمس عشرة سنة من سني المهانة والاستكانة أن (المعاهدة) و (الاتفاقية) اللتين تربطانها بإنجلترا في الشمال والجنوب إنما هي كلمتان من لغة سياسية حملهما الاستعمار ما حمل الديمقراطية والحرية والإنسانية والسلام والعدل من معاني المخادعة والمصانعة والمراءاة فجعلها من أسماء الأضداد في لغة الخلق! نعم، أدركت مصر الرسمية اليوم ذلك ووعته بعد أن كابدت ما كابدت من عناد القوم في الحق وصلابتهم في الباطل ومداهاتهم في الرأي، فألغت معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي سنة 1899. ولكن مصر الوطنية أدركت هدف إنجلترا منذ نصبته في ساحة عابدين سنة 1882 وظلت تسدد إليه أسهمها التي لا تطيش، من كنائنها التي لا تفرغ! وكان الرسميون يحاولون أن يستروا الضياء عن بصائر الوطنيين ليوهموهم أن هذه الأسهم صواريخ لهو وبهجة؛ وكان الوطنيون يجهدون أن يكشفوا الغطاء عن أبصار الرسميين ليفهموهم أن هذه الصواريخ قذائف دمار وهلكا! وظل الأمر بين الجبهتين على هذه الحال سبعين سنة، تفككت فيها العرى، وتمزقت القوى، وتفرقت السبل، وتباينت الوسائل، وتعارضت الغايات؛ واتخذ المحتل من هذا الخلاف الطويل الوبيل حقلاً مصرياً بذر فيه الفرقة وجنى منه السيادة! ولم تجمع القوتان الرسمية والوطنية على إحراج العدو وإخراجه إلا في اليوم الثامن من هذا الشهر! وهذا الإجماع وحده هو الذي سيقذف ببقايا (دنكرك) في عرض البحر. ولن تستطيع إنجلترا ولو كان معها ظهراؤها الثلاثة أن تثبت أقدامها الرخوة في ثرى النيل ما دامت مصر قد أجمعت على تطهيره منها. وليس للضآلة والقلة دخل في حساب النصر، فإن عشرين مليوناً من البراغيث والعزل جديرة بأن تقض مضاجع الجيش المسلح! فكيف إذا كنا عشرين مليوناً من الأنفس المؤمنة الصابرة التي لا تعرف في يوم الجهاد، إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الاستشهاد!
إنا نجود على وباء من الأوبئة بقرابة المليون من الأرواح العزيزة، فهل نضن بمليونين منها على الخلاص من وباء طال حتى أذل، وانتشر حتى أقل، واستشرى حتى برى الأجساد، وهد القوى، وأوهن العزائم، وقطع العلائق، وأفقر الأيدي؟
كان احتلال الإنجليز لوادي النيل مأساة بشرية من نوع عجيب في الطول والفصول والإخراج والتمثيل! كانت من نوع القراقوز المبكي، أخرجها الإنجليز المحتلون من وراء(956/1)
الكواليس، ومثلها المصريون الرسميون على المسرح! كانت الخيوط بيد العميد أو السفير يقلبها كيف يشاء، والدمى الخشبية المصرية على مرأى من الشهود وتتحرك ولا تعي، وتتكلم ولا تفهم!
لقد كانت مأساة مروعة دامية! شهد بدايتها الخديو توفيق فصفق لمخرجيها بيديه، وشهد نهايتها الملك فاروق فركلهم بقدميه! لم يبق بعد إضراب الممثلين وإنكار المتفرجين إلا أن نطرد الفرقة ونقوض الملعب!
أحمد حسن الزيات(956/2)
1 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
8 أكتوبر 1951:
إذا تلفتت مصر في غدها إلى أيامها الخالدة في تاريخها الحديث فسيكون يوم الاثنين 8 أكتوبر 1951 أعظمها شأناً وأسماها قدراً، ذلك لأنه اليوم الذي حطمت فيه أغلالها واستردت حريتها واستقلالها وحققت وحدة واديها، ووقفت مصر صفاً واحداً في وجه الغاصب الأجنبي، وأعلنت إلغاء معاهدة التحالف والصداقة مع بريطانيا التي وقعتها 1936 وكذلك ألغيت اتفاقيتا السودان الموقعتان سنة 1899.
ومما يدعو إلى الغبطة والرضا أن نذكر أن المصريين على اختلاف أحزابهم ونزعاتهم قد وقفوا جميعاً صفاً واحداً إزاء هذا الحادث التاريخي المجيد، وأحب أن أسجل هنا أقوال أبناء مصر الذين شهدوا جلسة البرلمان في مساء ذلك اليوم العظيم الذي ألقى فيه رفعة رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس باشا بيانه التاريخي:
(من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها) مصطفى النحاس.
(إن المعارضة تتقدم بالشكر للحكومة ممثلة في شخص الوطني العظيم مصطفى النحاس باشا إن مصر بجميع أحزابها ستكون وراءه فيما عقد العزم عليه ولا أحزاب بعد اليوم) حامد العلايلي بك (دستوري).
(إن أي مصري لا يستطيع إلا أن يقف خلف الحكومة مناصراً هذه الخطة الوطنية السليمة فقد استجابت لما طلبه الرأي العام منذ زمن طويل. إن الخطوة التي خطاها رفعة رئيس الوزراء هي حد فاصل بين سياستين، سياسة مهادنة الإنجليز، وسياسة مكافحتهم) دكتور نور الدين طراف (وطني).
وقال النائب الاشتراكي أن حزبه يؤيد الحكومة تأييداً كاملاً، وطالب بوضع تشريعات أخرى تنص على اعتبار من يعاون الإنجليز خائناً لبلاده لأنهم أعداء مصر، وقد كانوا دائماً أعداءها.
وقال النائب السعدي الأستاذ فوزي سيف (إن المعارضة مستعدة لبذل آخر نقطة من دماء(956/3)
رجالها لتحقيق ما قاله رفعة النحاس باشا).
وأخيراً وقف معالي المصري العظيم الدكتور محمد صلاح الدين باشا وقال: (إن هذه الأيدي التي مدت لمعاونة الحكومة هي الدليل الحق على أن المصريين يعرفون كيف يوحدون صفوفهم، وإذا وحدت الصفوف في البرلمان توحدت صفوف الأمة كلها).
هذا ما كان من الأمر في داخل مجلس النواب، ولم تكن حماسة الشيوخ ولا ابتهاجهم بتحرير مصر أقل من حماسة النواب وابتهاجهم.
أما في خارج البرلمان فقد هرع المصريون إلى المذياع ليستمعوا إلى بيان رئيس الحكومة، وقد هزهم البيان فعانق بعضهم بعضاً بعضا والتهبت أيديهم بالتصفيق وانطلقت ألسنتهم تهتف بالحياة الحرة للدولة المصرية السودانية، ولملكها المفدى فاروق، وقامت المظاهرات في مساء الاثنين وفي أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وانهالت برقيات التهاني على رفعة رئيس الحكومة من جميع الطوائف والهيئات.
ووقفت الدول العربية بجانب شقيقتها الكبرى وأعلنت تأييدها لها ومؤازرتها.
أما الدول الغربية: إنجلترا وأمريكا وفرنسا فقد وقفت تعترض على القرار واستهجنت خطة مصر، وهذا أمر طبيعي فإن الغاصب لن ينزل عما اغتصبه بمحض إرادته. إن الحقوق والحريات تؤخذ ولا تعطى، ومصر قد قدرت كل شيء. وأعدت عدتها للجهاد والنضال، ولن تستطيع قوة أن تحول بينها وبين حريتها ووحدة واديها، وهذه هي بداية الكفاح والجهاد.
الليلة والبارحة:
هذا هو يوم 8 أكتوبر 1951، وهذه هي مكانته في تاريخ مصر، وإن مصر إذا تلفتت إلى ماضيها القريب تبحث عن خير أيامها الخالدة لوجدته ماثلاً في يوم 13 نوفمبر 1918 فإن هذا اليوم كان بدءاً لثورتها الخالدة المعروفة بثورة سنة 1919.
وجدير بنا نحن المصريين أن نهتم اهتماماً كبيراً بدراسة هذه الثورة لأمور ثلاثة:
أولها: إن الواجب على كل أمة أن تعنى بتاريخها عناية كبرى إذا أرادت لنفسها بقاء ومجداً. وأعتقد أنه يحب عليها أن تعنى بدراسة تاريخها المعاصر عناية خاصة لأنه من غير شك يؤثر في حاضرها وفي مستقبلها، والثورة المصرية سنة 1919 هي من غير شك(956/4)
أبرز حادث في تاريخ مصر المعاصر.
وثانيهما: إن كثيرين من أبناء مصر المعاصرين قد ولدوا إبان الثورة أو بعدها ولم يشهدوها، ولهذا قصدت إلى أن أضع أمام أعينهم صورة رائعة لجهاد آبائهم في سبيل تحرير بلادهم وصفحة بيضاء مطهرة من صحف مصر المعاصرة، وإذا أردنا لمصر حياة حرة كريمة فعلينا أن نكون أمة مجاهدة وهذا هو جهاد الآباء، فليحمل الأبناء اللواء فإن هذا هو الطريق الوحيد اللائق بها بين الأمم.
وثالثها: إنني معجب حقاً لموقف مصر وبالمصريين في تلك الفترة من التاريخ، فقد وقفت مصر صفاً واحداً وكتلة واحدة تطلب استقلالها، وقد كان يتزعم تلك الحركة الوطنية المباركة رجال جدير بمصر أن تفخر بهم على مر الأيام وكر السنين وهم سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعدلي يكن وعبد الخالق ثروت وحسين رشدي وغيرهم، هؤلاء الرجال كتبوا بأعمالهم أسمائهم في سجل الخلد:
وليس الخلد مرتبة تلقى ... وتؤخذ من شفاه الجاهلينا
ولكن منتهى هم كبار ... إذا ذهبت مصادرها بقينا
وآثار الرجال إذا تناهت ... إلى التاريخ خير الحاكمينا
13 نوفمبر 1918:
في 14 سبتمبر 1882 احتلت بريطانيا مصر، ورغم أنها أعلنت منذ الساعة الأولى عزمها على الجلاء بمجرد استقرار الحالة في مصر فإنها حتى هذه الساعة لم تف بوعد من وعودها بالجلاء التي بلغ عددها خمسة وستين وعداً.
منذ ذلك التاريخ فقدت مصر استقلالها، وعانت بريطانيا في واديها إثماً وعدواناً وفساداً، وقد قاومت مصر هذا العدوان الآثم ما استطاعت ولم تقبله بتاتاً، وكان الزعيم الأول الذي رفع راية الجهاد مصطفى كامل باشا، وسقط مصطفى كامل شهيد الواجب في فجر الشباب فحمل الراية بعده الوطني الغيور محمد بك فريد.
ولم تأل إنجلترا جهداً منذ الساعة الأولى في تثبيت أقدام الاحتلال فاعتدت على سلطة خديو مصر الشاب الخديو عباس الثاني وأذلته أكثر من مرة، وأذاقت المصريين ألوان الهوان والعذاب، وما يوم دنشواي ببعيد عن الأذهان. ثم اضطهدت زعماء الجهاد الوطنيين(956/5)
الأحرار فنكلت بهم ونفي محمد فريد ومات شريداً طريداً بعيداً عن الوطن الذي أحب. مات يحتطب في ألمانيا.
وفي 1914 قامت الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لمصر ناقة فيها ولا جمل، فهي حرب قامت بين ألمانيا والنمسا وتركيا في جانب، وبين إنجلترا وفرنسا في الجانب الآخر، ولكن مصر ذاقت منها الكوارث والويلات، وتتابعت عليها المحن والكوارث فأعلنت الأحكام العرفية والعسكرية، وعزل الخديو عباس الثاني لميوله العدائية نحو بريطانيا، وأعلنت الحماية البريطانية على مصر. لقد كانت مصر ترجوا فكاكاً من الاحتلال فجاءها ما هو أدهى وأمر إذ ابتليت بالحماية. ثم سيق أبناء مصر قسراً باسم التطوع إلى ميادين القتال فاستشهد منهم كثيرون دون ذنب جنوه ودون أن تشترك بلادهم في الحرب، وأبيح للقوات البريطانية أن تباشر جميع حقوق الحزب في أرض مصر وموانيها. وعم الغلاء وانتشر الوباء نظراً لقدوم الجند من مختلف بلاد الإمبراطورية البريطانية.
وأكثر من هذا لجأت السلطة إلى الاستيلاء على الحبوب والأقوات من الأهالي بأثمان حددتها ولم تترك لهم ما يكفيهم من أقوات، وزادت فجمعت الدواب ووضعت يدها قسراً على الممتلكات. وبلغ عدد المتطوعين من أبناء مصر 000ر002ر1 جندي وأرغمت مصر على أن تقدم ثلاثة ملايين ونصف المليون جنيه كهدية.
وقد كانت مصر وكان رئيس وزرائها حسين رشدي باشا يتوق إلى أن تقف مصر على الحياد في هذا النزال، ولكنه لم يكن حراً في اختيار السياسة التي يتبعها فقد كانت الحراب البريطانية تهدده، ولذلك اضطر إلى التسليم بما طلبته بريطانيا في 5 أغسطس 1914.
وقد ارتاحت بريطانيا لموقف مصر هذا فإن مصر المعادية خطر يهدد بريطانيا.
وظلت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ. اشتد الغلاء وصودرت الحريات وكمت الأفواه ومنع المصريون من إبداء رأيهم في نوع حكومتهم. وقد كان أكبر أسباب استياء المصريين الحماية. لقد كانوا يعملون على التخلص من الاحتلال فإذا به ينقلب إلى حماية، وانتظر المصريون بفارغ الصبر نهاية الحرب ليعرفوا مصيرهم ومصير بلادهم.
وأخيراً في 1918 آذنت شمس الحرب بالمغيب وأعلن الرئيس ولسن - وكان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية - مبادئه وأهمها أن (لكل قوم الحق في تقرير مصيرهم).(956/6)
استبشر المصريون خيراً واعتقدوا أنه عندما تضع الحرب أوزارها سيطبق عليهم هذا المبدأ لأن مصر قد وقفت بجانب الحلفاء وضحت معهم بالمال والأبناء وإذن فلم لا تتمتع بحريتها كاملة ما دامت قد قامت بنصيبها من أعباء الحرب التي أعلن الحلفاء أنهم ما قاموا بها إلا نصرةً للحرية وللديمقراطية وحماية للشعوب الصغيرة من الشعوب الكبيرة!!
وفي شهري سبتمبر وأكتوبر من 1918 بدأ كبار المصريين ومفكروهم يتشاورون في موقف مصر وفي مصيرها، وكان من السباقين إلى هذا الأمير عمر طوسون وسعد زغلول باشا. وقد خاطب الأمير سعداً (لأنه رأى فيه جرأة وإقداماً وقدرة على المناقشة والجدال).
وفي 11 نوفمبر 1918 أعلنت الهدنة وتخلص العالم من الكابوس الذي كان يجثم على صدره.
وفي 13 نوفمبر 1918 قرع سعد ورفيقاه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي أبواب دار الحماية، وقابلهم السير ريجنالد ونجت وتحدثوا إليه وسألوه عما تعتزمه بريطانيا إزاء مصر، وذكروا له صراحة أنهم قد جاءوا يطلبون استقلال مصر.
قال شعراوي باشا: نريد أن نكون أصدقاء بريطانيا صداقة الند للند لا صداقة الحر للعبد.
فأجابه ونجت: إذن أنتم تطلبون الاستقلال!
فصاح به سعد: نعم ونحن له أهل.
لم يعد المعتمد البريطاني زعماء مصر بشيء وإن أظهر عطفاً على مطالبهم ووعداً بمخاطبة حكومته. والمهم أن نذكر أن سعداً ورفاقه قد طلبوا الاستقلال التام.
أخذ سعد هذا يعمل على تنظيم (الوفد) وتم له ذلك ووضع القانون الأساسي للوفد وأهم ما جاء فيه:
1: تألف وفد باسم (الوفد المصري) من حضرات: سعد زغلول. عبد العزيز فهمي. علي شعراوي محمد علي بك.
عبد اللطيف المكباني بك. محمد محمود. لطفي السيد. إسماعيل صدقي. سينوت حنا. حمد الباسل. جورج خياط. محمود أبو النصر بك. مصطفى النحاس. حافظ عفيفي.
2: مهمة هذا الوفد هي السعي بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر استقلالاً تاماً.(956/7)
3: الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون عنها رأساً أو بواسطة مندوبيهم.
4: لا يجوز للوفد أن يتصرف في المهمة التي انتدب لها.
وفي 13 يناير 1919 ألقى سعد خطبة في دار حمد الباسل باشا زاد فيها مبادئه وضوحاً فذكر أنه يطلب الاستقلال التام لمصر والسودان (لأن السودان ألزم لمصر من الإسكندرية).
للكلام صلة
أبو الفتوح عطيفة(956/8)
رحلة أبي الطيب المتنبي
من مصر إلى الكوفة
للأستاذ أحمد رمزي بك
ترك المتنبي الفسطاط في ليل عيد الأضحى سنة 350 ودخل الكوفة في ربيع الأول سنة 351 هجرية.
أحب أبا الطيب المتنبي وأتغنى بشعره، فنظمه لدى نشيد الإنشاد. إذا جال شعره في خاطري أو طرق أذني أحسست بأنني لست غريباً عن صاحبه، وكأنني قد تعرفت إليه وعاشرته في حياة أخرى قبل اليوم. إن شعر المتنبي كالدواء المنعش الذي يفرضه الطبيب على المريض في دور النقاهة لكي يقوى جسمه وتشتد نفسه، فإذا اعتاده المرء صعب عليه بعد الشفاء أن يتركه، وأصبح بحكم العادة جزءاً متمماً لمأكله ومشربه.
كذلك شعر أبي الطيب هو الدواء النفسي الذي لجأت إليه كثيراً لكي أقوي نفسي على مواجهة الملم من الأمور، ولكي أقدم على الصعب منها ولكي أحيا الحياة التي تلائمني.
كان رحمة الله عليه يحب المجد، ولا أنكر على القارئ أنني أحب المجد وممن يعشق العلا، وكان المتنبي خير شعراء العالم في وصف الحرب ومعاركها ومشاهدها، ولا أخفي على القارئ أنني أعتبر الأمم التي تحارب وتواجه الموت أقوى الأمم وأعزها وأحقها بالحياة - فالحياة إذا لم تقترن بالمخاطرة والإقدام في كل يوم فلا قيمة لها في نظري. وأنا ممن يفهم قوله:
ولا تحسبن المجد زقاً وقينه ... فما المجد إلا بالسيف والفاتكة البكر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
أنا لست أديباً ولا صناعتي الأدب، أقول هذا لأقرر حقيقة واقعة، ولكني أومن بأن الشعر والأدب ليسا وقفاً على الأدباء والشعراء، وإنما الأدب بضاعة يتذوقها الناس جميعاً، هي مثل الهواء والنور. وكنت أطمع في أن أكون أديباً ولكن عملي وكثرة مشاغلي حالت بيني وبين التفرغ للأدب، وإن كنت عودت نفسي أن أختلس الفرص لمجالسة أهل الأدب آخذ عنهم وأتحدث إليهم، وأرى أن كل دقيقة أقضها في صحبتهم هي متعة لي، ويرجع ذلك إلى ما ألمسه فيهم من رقة الإحساس. . . فهم برغم ما يشيعونه عن أنفسهم، مصابيح الظلام(956/9)
وسط هذا العالم المدلهم الذي وجدنا أنفسنا فيه، ونحن لا ندري من أين أتينا إليه، ولم يؤخذ رأينا حينما قذفت بنا الأقدار للعيش في ربوعه والخوض في غمرانه. .
فأرجو من القارئ حين يقرأ ما أكتب عن الأدب، ألا يتصور أنني قد درست المتنبي في ديوانه وتأملت أفكاره واطلعت على خفايا تاريخه، أو أنني انكببت أحفظ قصائده وأقرأ ما كتبه الناقدون عنه، أو أنني تتبعته في رحلاته وغزواته.
فهذه أمور ليس من السهل الإلمام بها، ولست أدعي أنني سأقوم في يوم من الأيام ببحثها ودراستها وتقصي أنباءها، إذ الباقي من العمر قليل، وما أكتبه ما هي إلا أماني ورغبات أرجو أن يقوم بها الغير إذا شاءوا. ولذلك يحق لي أن أصرح بأن المتنبي كشاعر عالي رج الدنيا ولا يزال شعره يرج النفوس ويهزها، لم يلق من رجال الأدب العربي ورعاة الشعر ما يستحق من عنايتهم، أقول هذا على رغم ما كتبه المعاصرون عنه، وبرغم ما ذكره المتقدمون من أن أكثر من ستين عالماً لغوياً قد تصدوا لديوانه بالنقد والتفسير والتفنيد. إن لا يزال في نظري مع عصره وحياته وفكره وشعره دنيا جديدة للبحث والتأمل والدرس والجمع والتبويب. إنه ليس بشاعر يدرسه طالب في رسالته أو أطروحته، ولا برجل يتقدم أديب واحد أو عالم واحد، كائناً ما كان علمه وفضله، فيكتب فيه كتاباً ويقول هاكم اقرءوا كتابيه، فقد قرأت المتنبي ودرسته وفهمته إن مثل هذا لا يقال عن أبي الطيب المتنبي وفيه ظلم لتاريخه وافتئات على عبقريته، لأن المتنبي ومعه غيره من فطاحل شعراء العرب في مختلف العصور، يحتاجون إلى جيل من الناس، ينكب على دراستهم بأسلوب علمي صحيح.
وليعذرني القارئ إذا قلت إن المتنبي يستحق أن ينصرف لديوانه وعصره مجموعة من علماء العرب: في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا والاجتماع وعلم النفس، لأن كل ناحية في المتنبي تحتاج إلى كشف جديد ودراسة وبحث وتدقيق وجمع وتبويب، وأن أسماء البلاد التي جاء ذكرها في شعره عن سيف الدولة هي المرجع الوحيد لنا للحروب التي قامت يوماً ما بين المسلمين والروم، وهي حروب ليس من السهل تقصي أجنادها. .
والصورة التي أعطيها للمتنبي في هذه الكلمة متواضعة، لأنها قاصرة على سفره من مصر وخروجه منها في ليل عيد الأضحى سنة 350 ووصوله الكوفة في 25 ربيع الأول سنة(956/10)
351، وإن حوت نظرة أولى عن مقامه بمصر وبعض أيامه بها.
الذي نعرفه هو أن المتنبي جاء مصر وعاش في كنف كافور الإخشيدي سنوات وقال الشعر: فأين كان مقامه وكيف عاش وكيف أقضي وقته ومن عاشر من الناس؟
كلها أمور تحتاج إلى بحث وتدقيق وتأمل، وليست موضع استنتاج أو رجم بالغيب كما يلجأ بعض المؤلفين المعاصرين، لأنها ليست بالسهولة التي يتصورونها عليها، فإذا لم تسعفنا النصوص والمراجع، وإلى أن تكتشف غوامضها، لا يسعنا أن نحكم حكماً متسرعاً، وإنما نكتفي بإيراد ما نعلمه عنها، وليس لدي شيء أقدمه سوى نظرة أولى عن بعض الأماكن التي ورد ذكرها في أيام إقامته بمصر.
ولم تكن القاهرة قد أنشئت بعد، فكانت الفسطاط هي مصر، وكانت حياة الشعب مركزة حول جامع عمرو، أي الجامع العتيق كما كان يطلق عليه وقتئذ، وكانت جزيرة الروضة أمام الفسطاط: يراها الجالس أمام الجامع ويرى في اتجاهها على الضفة الأخرى للنيل حصن الجيزة الذي أنشأه العرب عند الفتح، والذي تهدم بعد ذلك فعمره أحمد بن طولون مدة ولايته، كان هذا الحصن قائماً أيام المتنبي لأن كافوراً الإخشيدي جدد بناءه وعمره وحفر حوله خندقاً، أنه كان يخشى المغرب وأهله. . .
وكان الحصن ملاصقاً لمسجد همذان وهي إحدى القبائل التي نزلت بالجيزة أيام الفتح، وسكان الجيزة من خلاصة عرب اليمن ولا أعرف لهم نسباً آخر غير هذا.
فهذا كان المنظر الذي يواجه من يخرج من باب المسجد العتيق، ولا نعلم كما قلنا الأماكن التي نزل فيها المتنبي، وإن كان جاء ذكر دار أخلاها له كافور بالفسطاط وأنه وكل به من يخدمه ويسهر عليه، ولا أجزم بأنها كانت بعيدة عن مسجد عمرو.
وبدأ مدائحه في سنة 346 ولم يأت في شعره بشيء عن حياته التي كان يحياها ولا الأماكن التي ارتادها ولا عمن كان معه من الأهل والعبيد والخدم، وإنما جاء ذكر شعره، والجامع الأعلى ويقصد به مسجد ابن طولون، والدار التي بناها كافور وسكنها جاء ذكرها على مرتين في 346 و347 هجرية.
وبرغم الجهود التي بذلت أخيراً في الكشف عن تاريخ الدولة الإخشيدية، لا تزال هذه الحقبة من الزمن في حاجة إلى مراجع أوسع مما لدينا، لأن ما وصل إلينا عن حياة كافور(956/11)
الخاصة وما كان يسود البلاد المصرية من أحوال سياسية لا يزال موضع التساؤل، فإن احتفاظ مصر بموقفها الاستقلالي بين الدولة العباسية وقوة الفاطميين ودفاعها عن أملاكها من أرضي الشام، أمور غامضة إن دلت على شيء فإن هذا الشيء هو عبقرية كافور وحده. . . الذي استمر يسيطر على دولة إسلامية واسعة الأطراف بدليل قول أبي الطيب.
يدير الملك من مصر إلى عدن ... إلى العراق فأرض الروم فالنوب
وإذا نظرنا لشعر المتنبي وجدناه لا يتعرض لأي ناحية سياسية بالذات وإن جاء ذكر أبي شجاع فأنك أحد قواد الإخشيديين وما كان يؤمله فيه. ويظهر أن المتنبي كانت له رسالة خاصة في مصر كما سيظهر ذلك، ولذا تحاشى جهده أن يظهر في شعره بعض ما يمكنه من الاهتمام بها، واكتفى بالمدائح والشكوى ولإخفاء غرضه من المجيء إليها.
والذي أستخلصه من عصره هو أن الجامع الطولوني أنشئ على ربوة جبل يشكر، (كان يطل على بركة قارون التي كانت تتصل أيام الفيضان ببركة الفيل، وكان الواقف على جبل يشكر أو على مئذنة ابن طولون يكتشف الجيزة ويرى الأهرام وينظر إلى مباني الفسطاط ذات الطبقات العالية، وقد جاء في ديوانه ذكر الدار التي كان يسكن فيها كافور، أشار إليها بمناسبة خروج كافور هارباً منها، أو في أيام يسيرة مات له حول الخمسين غلاماً ففزع من الدار واستوحش منها، ويظهر أنه منذ أن سقطت دولة آل طولون لم يكن بمصر دار تصلح لسكنى الملوك، لأن دار الإمارة التي نزلها أحمد بن طولون ولها بقايا لم تكن جديرة به، ولذا أنشأ القصور الكبيرة التي هدمت بعد سقوط دولته، ولما جاء كافور أصلح داراً كانت لأحمد بن طولون وسكنها، فمدحه المتنبي في سنة 347 بقوله:
أحق دار بأن تدعى مباركة ... دار مباركة الملك الذي فيها
ويذكر الديوان أن أبا الطيب مدح كافوراً في عام 346 ما بنى بجوار المسجد الأعلى - أي مسجد ابن طولون - داراً فهنأه الناس بها، ولما تحول إليها قال:
نزلت إذ نزلتها الدار في أح - سن منها من السنا والسناء
حل في منبت الرياحين منها ... منبت المكرمات والآلاء
وليس من شك في أن الدار التي جاء ذكرها سنة 346 هي التي أنشأها كافور، وأن التي جاء ذكرها في 347 هي التي عمرها، وهناك إجماع على أنها لم تكن لأحمد بن طولون(956/12)
بل كانت لابنه خمارويه.
فقد ذكر ابن دقماق تحت (دار الفيل) أنها الدار التي على بركة قارون، وكان كافور أمير مصر قد اشتراها وبنى فيها داراً ذكر أنه أنفق عليها مائة ألف دينار وسكنها في رجب سنة 346 وقيل إنه سكنها إلى أن مات ودفن فيها ثم نقل بعد ذلك إلى الصحراء، وقيل إن سبب انتقاله من جنان بني مسكينبخار البركة، وقيل وباء وقع في غلمانه، وقيل ظهر له بها جان. . ابن دقماق صفحة 11 جزء4. . وفي صفحة 125 يقول (وقيل لم يقم بها غير أيام قلائل ثم أرسل إلى أبي جعفر مسلم الحسيني ليلاً، فقال امض بي إلى دارك، فمضى به قمر على دار المرصدي وأقام بها شهوراً ثم عمر دار خمارويه المعروفة بدار الحرم بسوق حبة وسكنها أول رجب سنة 347 هجرية وأقام بها عشر سنين إلى أن توفى في جمادى الأولى سنة 357 ودفن بها ثم نقل إلى الصحراء).
ويقول المقريزي (كانت دار الفيل قديماً هي الدار التي على بركة قارون وقد ذكر مثلاً مسكين أنها من حبس جدهم، وذكر ابن يونس أنها في جنان بني مسكين يعنى هذه الدار في غطتهم) وكان كافوراً أمير مصر قد بنى فيها داراً أنفق فيها مائة ألف دينار ثم سكنها سنة 346 وانتقل إليها وأدخل فيها عدة مساجد ومواضع اغتصبها من أهلها، ولم يقم بها غير أيام قلائل ثم أرسل إلى أبي جعفر مسلم الحسيني ليلاً فقال له امض إلى دارك فمضى به فمر على دار فقال لمن هذه الدار فقال لغلامك يعني دار المرصدي فدخلها وأقام بها شهوراً إلى أن عمر دار خمارويه المعروفة دار الحرم بسوق حبة وسكنها أول رجب سنة 347 وأقام بها إلى أن توفى).
ألا تشفق معي حينما تقرأ هذا على أولئك الذين يهدمون أمجاد القاهرة بإزالة قبور الصالحين أو تقيد الأسماء القديمة بأسماء المعاصرين في مدينة عاشت أكثر من 14 قرناً. . . إنهم مخطئون في حق بلادهم، لأن مفاتيح التاريخ القديم تنقطع صلته بنا حينما تغير الأسماء الموضوعة وتهدم القبور. . .
فلنعد إلى ما كنا فيه حيث يذكر المقريزي سبب خروج كافور من داره بقوله (أن وباء وقع في غلمانه وقيل ظهر له بها جان، وكان دار الحرم قد حبسها خمارويه - أي أوقفها على حرم والده - ثم إن الفيلة نقلت إلى الدار التي لهم الآن بالقرب من الجامع الطولوني على(956/13)
جبل بشكر قبل مناظر الكبش).
ألا ترى الصلة الآن بين شعر المتنبي وأماكن يعرفها أهل القاهرة واضحة سهلة أمامك في جهات مررت بها، ويظهر أن المقريزي وابن دقماق ينقلان من مصدر واحد، ولكن الأول يقرر في صفحة 129 من الخطط ما يأتي:
(قال القاضي أبو عبد الله بن محمد سلامة القضاعي في كتاب الخطط. . وأن دار الحرم بناها خمارويه لحرمه وكان أبوه اشتراها له فقام عليه الثمن وأجرة الصناع والبناء بسبعمائة ألف دينار).
إذن عرفنا المصدر لتحديد أماكن الفسطاط ومنازل آل طولون هو القضاعي ولكن أين خططه؟
ويظهر أمامنا أنه في عصر المتنبي بمصر كان الجزء الواقع بين جامع ابن طولون والقلعة - التي لم تكن قد أنشئت بعد - كانت تحتله بقايا قصور ابن طولون وكانت خراباً يشمل جزءاً كبيراً من الأرض في عهد كافور، بدليل قول المعز لدين الله الفاطمي حينما دعاه جوهر إلى مصر، إنها لا تحوي غير خرائب ابن طولون.
لقد كان المسجد الطولوني ومناظر الكبش تطل على البركتين. . بركة الفيل وبركة قارون، وكانت الدار التي سكنها كافور ومدحه المتنبي من أجلها لا تبعد كثيراً عن المسجد، أما بركة قارون، وموقعها خلف جامع ابن طولون على رأي المقريزي وتؤكده خرائط الحملة الفرنسية، فكانت تتصل ببركة الفيل وتكونان بركة واحدة أيام الفيضان.
وكان امتداد بركة الفيل من جامع ابن طولون إلى القاهرة - حيث تقوم الآن الأحياء الحديثة ومنها الحلمية -.
لقد أمضى المتنبي حياته بمصر في أحياء الفسطاط وفي القصور بين البركتين، وكان يذكر الجامع العتيق وجامع ابن طولون ودار كافور التي مدحه من أجلها المتنبي، ذكرها المقريزي بقوله (إن الجالس في دار الفيل التي سكنها كافور كان يرى جزيرة مصر التي تعرف بالروضة).
هل نقدر أن نضبط أحياء الفسطاط وخططها وأماكنها المشهورة؟
هل نستطيع أن نوجد خريطة عن مصر القديمة وقصور بني طولون؟(956/14)
ترى ماذا يكون الموقف لو لم يسعفنا المتنبي بشيء عن حياته الخاصة ومن كان يعاشرهم من الناس بمصر.
هل يستطيع عالم أن يقوم بهذا بالنصوص التي بين أيدينا؟
لا شك في أن جنان بني مسكين وسوق حبة من الممكن أن نحددهما وكذلك امتداد العمار السابق في الفسطاط ومصر وحول مدائن العسكر والقطائع ومن هنا تبعث مصر الإخشيدية: إنها في حاجة إلى من ينير لنا الطريق لكشفها وتحديدها.
وإن كان المقريزي ينير لنا السبيل إذ يقرر في صفحة 215 عند كلامه على خطط مصر خارج باب زويلة (إن الموضع المقابل لمشهد زين العابدين كانت كله تشغله بساتين شرقيها عند المشهد النفيسي وغربيها السبع شكايات ومنها بساتين عرفت بجنان بني مسكين وعندها بنى كافور الإخشيدي داره على البركة التي تجاه الكبش والتي تعرف اليوم ببركة قارون،
هذه لمحة لما كانت عليه صورة مصر حين عاش فيها المتنبي. .
ولا أشك في أن الفسطاط كانت مدينة لها مكانتها التاريخية وأثرها في حياتنا الأدبية والتاريخية والسياسية. إنها البوتقة الأولى التي انصهرت فيها القومية المصرية الإسلامية العربية ولذلك تغمرني الأحزان حينما أراها في الحالة التي هي عليها اليوم.
وتعود بي الذكريات إلى مدينة بومبي الأثرية الرومانية بجوار نابولي. لقد زرتها هذا العام - فدهشت حينما رأيت هذا التقدم في الكشف عن المدينة المطمورة وإعادة شوارعها ومبانيها وبعض منازلها وأسماءها إلى الحال التي كانت عليها حينما دهمتها ثورة البراكين، هذه المدينة القاتمة التي أخرجها العالم. .
نعم إن الأستاذ الإيطالي أميديو انيوري، الذي يشرف على أحيائها، واحدة من سلسلة طويلة من علماء العالم الذين كرسوا حياتهم وأفنوا أيامهم في سبيل بومبي.
فهل تجد الفسطاط عالماً أثرياً واحداً، يفني بعض السنوات في إحيائها وضبط معالمها وإعادتها إلى النور؟ إنها تستحق هذه العناية لأننا جزء مكمل لتاريخها، وما رأيت بلد تنكر لماضيه الحي غيرنا، إن بانيها عمرو بن العاص وهو أب للمصريين جميعاً. . على ما أعتقد.(956/15)
للكلام بقية
أحمد رمزي
المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي(956/16)
6 - أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
وتنطبق بوضوح نظرية التدرج من الماديات إلى المعنويات - فيما يتعلق بالمعالي - على يد الإسلام الحنيف، فقد نطق القرآن الكريم بآيات الله البينات عن الجبال الرواسي والأوتاد (وجعلنا فيها رواسي أن تميد بكم) (والجبال أوتادا) (والتين والزيتون وطور سينين) وكلها جبال معروفة و (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ومع ذكر السماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وكواكب (والنجم إذا هوى) والتذكير بأن الحياة حياتان: دنيا وأخرى. ولابد أن تكون هذه الدنيا مغايرة لتلك الأخرى، فلا بد أن تكون الحياة الأخرى هي العليا (وللآخرة خير لك من الأولى) (والآخرة لهي الحيوان) (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا).
فلنتأمل هذه الآيات الكريمة لنرى كيف تصدق نظرية المعالي هنا:
(سبح اسم ربك الأعلى) (يخافون ربهم من فوقهم) (إن الله كان علياً كبيرا) (هو العلي العظيم) (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (ولتعلن علوا كبيرا) (وقد أفلح اليوم من استعلى) (ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات) (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى) (والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب) (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) (وأنتم الأعلون) (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا) (وتعالى الله عما يقولون علواً كبيرا) (وإن فرعون علا في الأرض) (وإن فرعون لعالٍ في الأرض) (أأمنتم من في السماء) (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (الرحمن على العرش استوى) (في جنة عالية) (والسماوات العلا) و (كلا إن كتاب الأبرار لفي علين) أي في أعلى الأمكنة وهو في السماء السابعة إليه يصعد بأرواح المؤمنين، وفي الحديث (إن أهل الجنة ليتراءون أهل(956/17)
علين كما تراءون الكوكب الدري في أفق السماء) (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين) (شهاباً رصدا) و (ذو مرة فاستوى) والعرش هو أعلى المخلوقات) (عند سدرا المنتهى) والإسراء بالنبي والمعراج به من الأرض إلى السماء والرسالات كانت تهبط بالوحي من السماء على ألسنة الأنبياء والمرسلين، وآمنت بهم شعوب وقبائل وكفرت مدائن (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها).
قال عباس بن مرداس:
فمن مبلغ عن النبي محمداً ... وكل امرئ يجري بما قد تكلما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
وقال أيضاً:
رأيتك يا خير البرية كلها ... توسطت في القربى من المجد مالكا
سبقتهمو بالمجد والجود والعلا ... وبالغاية القصوى تفوت السنابكا
فأنت المصفى من قريش إذا سمت ... غلاصمها تبقى القروم الفواركا
وقال العباس في مدح النبي:
حتى سما بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق
ويقول شوقي في نهج البردة:
حتى بلغت سماء لا يطار ... لها على جناح ولا يسعى على قدم
وكانت المرأة تأتي رسول الله فيسألها: أين ربك؟ فتقول:
في السماء. فيقول: دعوها فإنها مؤمنة.
ولقد نشأ الأستاذ الأكبر لأصحاب المعالي في صحراء جرداء فصفت نفسه من شوائب المادة وخلصت إلى أسمى المعاني، وجال فكره بين الجبال والوهاد والشعاب والتلاع، والربى والقاع، وتطلع بنظره إلى السماء يتأمل ما فيها، وفي ذات يوم شرف بسمعه على حفل سامر بمكة، فإذا به ينام، ولا يسمع شيئا. لأن الله تعالى عصمه من الدنيا ورفعه إلى المعالي، من حيث أراد الإشراف من أعلى الجبل على زامر الحي، وطالما كان لجبل أحد مكان في دعوة الإسلام، لهذا أحبه النبي القائل (أحد جبل يحبنا ونحبه) وهذه عاطفة إنسانية تتجه نحو مادة ترابية، وما كان ذلك ليكون من حيث هو جبل من تراب ولكن لامتزاج هذا(956/18)
التراب بالدماء الغوالي التي سكبت عليه في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا.
وأريد محمد يوماً أن يكف عن هذا الدين الذي جاء به، فقال لسفير القوم عمه أبي طالب (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما تركته)، وفي هذا الجواب مزاج من العزة والطموح، إذ أن النبي إنما بهذا الدرس العالي على الأجيال المتعالية في سلم الترقي، وبين عينيه الشمس والقمر، وهما ما هما علواً وارتفاعاً ومع هذا يمتلئ قلب محمد بالعزة التي تكاد تفتت الشمس والقمر وتنزلهما من أعلى مكان ليكونا بين يديه.
ومن هذا الباب رؤيا يوسف عليه السلام (قال يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) والأحلام - في نظر السيكولوجيين - هي تنفيس عن رغبات مكبوتة، وهكذا يجتمع أنبياء الله في قمة المعالي، بما ملأ قلوبهم من الإيمان، فتهون حيلها ما في الأكوان من كواكب وجبال. وكثيراً ما يرى الطامحون في منامهم أنهم يطيرون، وأقرب تفسير لذلك أنهم من أصحاب المعالي.
وليس بمنكر أن يكون محمد زعيم أصحاب المعالي فهو القائل (علو الهمة من الإيمان) والقائل أيضاً (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) وجاء في الأثر (لا تصغرون هممكم).
ولقد كان أهل المدينة من الجهات العالية بها يسمون في العرب باسم (أهل العوالي) وقد جاء (عجوة العالية شفاء) (لا ينبغي لهم أن يعلونا) وفي ذلك اليوم غلب على وهم أبي سفيان أن أبطال المسلمين قد قتلوا، لهذا قال: (أنعمت فعال) أي فدعني، وقال أبو طالب:
- في نزوة حمقاء -: لا تعلوني! شيء
ويقال إن أرواح الأنبياء في الملأ الأعلى، كما أن النبي الكريم كان يقول وهو يقاسي سكرة الموت: بل الرفيق الأعلى، فتقول عائشة: إذن والله لا تختارنا.
وقف أبو سفيان يوم أحد مفاخراً برأس الأصنام (هبل) فيخاطبه: اعل هبل. وما يكون لصنم أو لعابد صنم أن يعلو أو يسود، لهذا أمر النبي أحد الصحابة ليجيب فقال: الله أعلى وأجل. وماذا يقول المنطق السليم في هذا الجواب السليم الصاعد بالتمجيد إلى الله الذي لا أكبر منه ولا أعلى، وهو سبحانه وتعالى يعلو ولا يعلى عليه.(956/19)
وكان مما قاله معبد الخزاعي عندما التقى النبي بحمراء الأسد بعد غزاة أحد (. . . ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك)
من أوضح الأدلة على الشعور بالدون عند أهل الدون قول رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول عندما قال:
متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل ... تذل ويعلوك الذي لا تصارع
وهل ينهض البازي بغير جناحه ... وإن قص يوماً ريشه فهو واقع
وذلك من غير شك تعبير عن هذا النقصان الناجم عن الحقد والضغن في نفس هذا المنافق الغليظ الذي لا يعلو، وما يكون له ولا لمثله ولا لأمثال أمثالهما أن يعلو. وخير منه في هذه الخصومة الوليد بن المغيرة في وصفه كتاب الله (وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق.)
ولما سئل نبي الله عن أي أنواع الجهاد في سبيل الله قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). وهو عليه السلام الدافع إلى علو النفس وإباء الضيم وارتفاع الكرامة إذ يقول (اليد العليا خير من اليد السفلى).
ومن مظاهر التشريف والتكريم أن ينزل الضيف في أعلى مكان بالبيت، لهذا عندما وصل النبي - لدى هجرته المباركة - إلى قباء نزل في علو المدينة بحي عمرو بن عوف، وفي بيت أبي أيوب الأنصاري، نزل النبي بالسفل وما كان أبو أيوب ليرضى أن يكون هو بالعلو والنبي بالسفل، ولكن تواضع نبي الإسلام أبى عليه أن يعلو مادياً، فارتفع روحاً ومعنى، وهو الذي سأل ربه: اللهم الرفيق الأعلى، اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى، أسأل الله الرفيق الأعلى.
وقبلا نادي نوفل بن خويلد يوم بدر فقال: يا معشر قريش: اليوم يوم الرفعة والعلي، فقال النبي: اللهم اكفني نوفل بن خويلد، فقام إليه علي فقتله، ومعنى ذلك أن صاحب المعالي علياً ابن أبي طالب كرم الله وجهه قتل نوفل بن خويلد الذي يدعي الرفعة والعلى، وهما منه براء، وهو منهما على غير شيء في كثير أو قليل. لهذا كثر ما كان المسلمون يعلون الكفار بالسيوف فتطيح رءوسهم إلى أسفل سافلين.
ولما دنا فراق النبي عليه السلام دنيا الناس جمع أصحاب المعالي الصحابة في بيت عائشة وقال لهم فيما قال (أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم وأحذركم الله، إني لكم نذير مبين(956/20)
ألا تعلوا على الله في بلاده وعباده، فإنه قال لي ولكم: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين).
وجاء فتى إلى رسول الله فقال: يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة لا نراك، فإنك في الجنة في الدرجات العلا، فنزلت: (ومن يطع الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) وقال النبي: أنت معي في الجنة.
وقد رأينا كيف أنشد النابغة أبو ليلى عبد الله بن قيس أمام النبي بيته العالي:
علونا السماء عفة وتكرما ... وأنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فغضب النبي فقال: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله فقال النبي: أجل إن شاء الله. وهذا يذكرنا بقول النبي لأم حارثة بن سراقة (وحارثة في الفردوس الأعلى فرجعت وهي تضحك وتقول وهي تضحك: بخ بخ لك يا حارثة.
والحق دائماً ينتسب إلى العلا بينما الباطل ينتمي إلى الدون، وهذا مصداق قول رسول الله لسعد بن معاذ إذ أصدر حكمه - بأمر النبي - في يهود بني قريظة (لقد حكمت فيهم بحكم الله - من فوق سبع سموات - وشأن هذا الحكم العلو والرفعة - قد طرقني بذلك الملك سحراً) فهذا الحكم العالي الذي تتضائل دونه أحكام الاستئناف العالي.
وقد تغلغلت روح المعالي في نفوس الصفوة المختارة من فلاسفة الإسلام وخلفائهم المثقفين، فهذا ابن سينا يقول في مطلع قصيدته في النفس:
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تدلل وترفع
وهذا المأمون يقول لرجل استأذن في تقبيل يده (إن قبلة اليد من المسلم ذله ومن الذمي خديعة، ولا حاجة بك أن تذل ولا بنا أن نخدع).
والجهاد في الإسلام رفعة النفس بينما النكوص على الأعقاب والقعود عن الجهاد هو الإخلاد إلى الأرض، والرضى بالدنيا، وشأن الكريم أن ينشد الحياة العالية، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل). والنبي يقول (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد). والسماء إشارة إلى السمو والرفعة لهذا(956/21)
يقول النبي (ألا تؤمنوني وأنا أمين في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء) وإليها تصعد دعوة المظلوم ففي الحديث (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) والملائكة تتحدث في عنان السماء. وما أجمل الخلق النبوي حين يقول محمد (لا تفضلوني على يونس بن متي). ذلك أن النظرة القاصرة تفرق بين إسراء محمد إلى سدرا المنتهى وهبوط الحوت بيونس إلى قعر البحار في أسفل الأرض، ولكن محمداً لا يرتضي هذه التفرقة لأنهما كان في القرب من الله سواء.
وجاء في الخبر (أربعة أملاك اجتمعوا في الهواء، أحدهم هبط من العلو، والآخر ارتفع من السفل، والآخر من المشرق، والآخر من المغرب، واحد منهم يقول:
(أقبلت من عند ربي، فسبحان الموجود في الكل مكانه، مشيئته ووجوده قدرته، والعرش والثرى وما بينهما هو حد الخلق الأسفل والأعلى بمنزلة خردلة في قبضته هو أعلى من ذلك بما لا يدركه العقل ولا يكيفه الوهم. ولا نهاية لعلوه ولا فوق لسموه ولا بعد في دنوه ولا حس في وجوده ولا مس في شهوده ولا إدراك لحضوره، ولا حيطة لحيطته).
محمد محمود زيتون(956/22)
خواطر مسموعة:
حلم ويقظة
للأستاذ حامد بدر
سئمت نفسي هذه الحال، فعللتها بالآمال، وسبحت فيما يسمونه الخيال، مفكراً في موقف القوم، بين الأمس واليوم، حتى غلبني النوم. ورأيت فيما يرى النائم جحفلاً من الشباب، يحكم الصعاب، بعزمات صلاب. فسألت أحدهم: إلى أين؟ فأجاب: لن تنام لنا عين، حتى نقضي هذا الدين. ولن يهدأ لنا بال، حتى ننال الآمال، فليس مع الطلب محال. وكلنا أبى ألا يذل، مجاهد لا يمل، مطالب بوطن مستقل. نحن بنو الحضارة، والعزمة الجبارة، والمفرط أولى بالخسارة!. .
ألا إن الجهاد ليس بهين، وقديماً قيل إن الطلب اللين، يضيع الحق البين! مصر لنا لا للغرباء، والدار ليست للنزلاء، والحق كل الحق في وجوب الوحدة والجلاء. فكرة قد اختمرت في الرءوس، آمن بها الرئيس والمرءوس، وغضبة فرعونية ضاقت بها النفوس. وهل يقدر شاذ أن يأخذ ويدع، فيما عليه الرأي قد اجتمع، والحق أحق أن يتبع؟
فقلت: شقوا طريقكم، في ظل مليككم، والله وليكم!
ولما كانت الدعوى صريحة، والحجة صحيحة، والقضية نزيهة، والمطالب وجيهة، فإن الحكم أقر، بأن لا مفر، من أن الغريب يفر، ولا يستقر. وعلى أثر الحكم تم الجلاء، وزال الغلاء، وذهب البلاء! وسمعت نشيداً يهز السامع. ويرن في المسامع، ويأخذ من القلوب بالمجامع. . وفجأة أفقت من السبات، ولم أحفظ من الأبيات، سوى ما هو آت:
زها العصر زها العصر ... وجاء الفوز والنصر
فلا ظلم ولا قسر ... عليك اليوم يا مصر
فعيشي وليعش سوداننا ومليكنا الحر
بلادي: لست للغربا ... ولست لغاصب غصبا
فبالجد اقهري النوبا ... وقولي: قضي الأمر
وعيشي وليعش سوداننا ومليكنا الحر
لنا السودان والنيل ... هما للملك إكليل(956/23)
يصون حماها جيل ... يذوب لعزمه الصخر
فردد يا شباب النيل: عاش مليكنا الحر
وأبدع أيها الشادي ... بلحن رائح غاد. .
يرن صداه في الوادي ... فيصغي البر والبحر
شباب النيل يفديه ... وعاش الملك الحر
هذا ما وعيت، وليتني أغفيت، حتى أتيت على آخر بيت. فاحتشاد الناس، واختلاط الأجراس، والتهاب الإحساس، كل ذلك كاف لطرد النعاس! وكم دهشت عندما رأيت تلك الأمة لا تزال تطالب، بأعز المطالب، فقلت: هذا واجب، ولا يضيع حق وراءه مطالب.
حامد بدر(956/24)
رسالة الشعر
ذكري شوقي
للأستاذ محمود غنيم
طواه الردى فتحدى العدم ... بشعر يدور على كل فم
لعمرك ما مات من شعره ... على صفحات الصدور ارتسم
وفي كل بيت له صورة ... تطل عليك بلحم ودم
تمر الليالي بشعر (ابن هاني) ... فتظهر من عتقه والكرم
قواف لها فعل بنت الدنان ... وكم زان بنت الدنان القدم
سلوا الشرق هل كان شعر (ابن هاني) ... سناه إذا ما الكلام ادلهم؟
وبلسمه من جراح الزمان ... وسلواه في كل خطب ألم؟
تغنى به في السرور الطروب ... فكان الكمان وكان النغم
وناح به في الخطوب الحزين ... فلامس منه مكان الألم
قواف سرت سريان البروق ... تجوب الوهاد وتطوي الأكم
شوارد طبقت الخافقين ... بها الشرق بعد الشتات التأم
أعز على الضاد من كل ما=حوته خزائنها من حكم
وأروى من النيل الظامئين ... وأخلد من لبنات الهرم
ثوى ربها في التراب ورفت ... بأفق البيان رفيف العلم
سلوا الضاد هل كان أحمد كنزاً ... حوته يداها؟ تجبكم: نعم
لقد منحته الطبيعة ملكاً ... عريضاً من الشعر فيه احتكم
وعرشاً كعرش ابن داود فيه ... تقوم الطيور مقام الخدم
يقولون شاد بقيثاره ... شجى العرب قلت: وهز العجم
أجاد القريض بعهد الشباب ... وأعجز حين اعتراه الهرم
وكم شاعر لم يمس الشعور ... فما قال شعراً ولكن نظم
لعمرك ما الناس دون الشعور ... ودون الأحاسيس إلا نعم
إذا الشعب لم يعر الشعراء ... مسامعه فهو شعب أصم(956/25)
وما قيمة الروض دون طيور ... تغني ودون زهور تشم؟
وما الكون إن أصبح الكون سوقاً ... لبيع القرى بالجياع ازدحم؟
لقد عبد المحدثون الحطام ... كما عبد الأقدمون الصنم
أرى عالماً كسدت روحه ... على فضلات الحطام اختصم
أراد الحياة بحد الحسام ... وشاد به ركنها فانهدم
فيا عابدي الزاد خلوا الحسام ... وسوسوا الأمور بسن القلم
وما الشعر إلا حياة الشعوب ... ورمز النهوض وحفز الهمم
إذا ساد في الأرض قل الفساد ... بها وأظل السلام الأمم
محمود غنيم(956/26)
أنشودة الغد. .
للأستاذ عبد اللطيف الشهابي
(إلى المشاعل التي تحترق!.)
يقول الغد:
وراء الغمام لنا موعد
وخلف السراب لنا مورد
وفوق السماء لنا معبد!
وراء الغمام
ترفين مثل المنى والوئام
كأنك آلهة للأنام
على نصب من رفيف السلام
وخلف السراب
تطلين مثل الأماني العذاب
على عالم زاخر بالرغاب
على بشر في طباع الذئاب
وفوق السماء
سيحنو علينا جناح الرجاء
وتغمرنا دفقه من ضياء!
فتسمح بالطهر تلك الدماء!
وكالحائر
تطوف هنا صرخة الثائر
ترددها مهجة الشاعر!
فتصرخ كالرعد بالغادر:
بأرض الجدود(956/27)
تحاربنا فئة من قرود
تعيث وتزري بقدس العهود
فتضرب بالسوط ظهر العبيد!!
أيا غالية
سنمشي على الشوك للداليه
لنعصرها خمرة صافيه
فتشربها طغمة عاتية!
ألم تعلمي؟!
لهيب يؤز اللظى في دمي
وسخط يجلجل ملء الفم
ويصرخ بالنفس: لا تحجمي
فهذا الأنين
صراخ الضحايا وراء السجون
يطوف علينا، فهل تسمعين؟!
سننفض عنا غبار السنين!!
ألا فاحمدوا
وراء الخلود لنا موعد
وخلف الصراع لنا مورد!
هلموا. . هلموا، بقول الغد
العراق - الحلة
عبد اللطيف الشهابي(956/28)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
مسرحية (مسمار جحا):
افتتحت فرقة المسرح المصري الحديث موسمها الثاني على مسرح الأوبرا الملكية يوم الخميس 18 أكتوبر، بمسرحية (مسمار جحا) تأليف الأستاذ علي أحمد باكثير وإخراج الأستاذ زكي طليمات.
من هو جحا؟ يقول لنا الأستاذ كامل كيلاني: جحا العربي - فهناك جحا التركي وغيره - هو أبو الغصن دجين بن ثابت، عاش بمدينة الكوفة في القرن الثاني من الهجرة. ويقول: أعجب الناس بما سمعوا من طرائفه وملحه، ثم تناقلوها جيلاً بعد جيل، فأضافوا إليها كثيراً من مخترعاتهم، وأسندوا إليه كل غريب من الملح، حتى تعذر التمييز بين الأصل والتقليد، وأصبح جحا علماً على فن بعينه من فنون القول، بعد أن كان علماً على شخص بعينه من أفذاذ الناس.
ورأى الأستاذ علي أحمد باكثير أن يتخذ من هذه الشخصية الحائرة بين الحقيقة والخيال موضوعاً لمسرحية يعالج بها قضية وادي النيل ويجري الصراع فيها بين الحرية والاحتلال.
لم يأخذ المؤلف جحا من التاريخ ليحقق وجوده التاريخي، وإنما أخذه من مجموعة النوادر التي تسند إليه، وأمضى شخصيته - كما تخيلها وأرادها - في الطريق الذي رسمه للوصول إلى الهدف. فهذه المسرحية إذن ليست مسرحية تاريخية، وإنما اتخذ المؤلف أشخاصها من سالف العصور، وأجرى بينهم أحداثاً ترمز إلى واقع عصرنا وتكاد تسفر عنه في بعض المواطن.
الشيخ جحا يعمل واعظاً في مسجد الكوفة، فيعظ الناس على طريقته الخاصة. . يمزج الجد بالهزل، ويعالج المسائل بمنطقه الساخر. وهو لا يلزم حده كموظف يحرص على استقرار عيشه واستمرار رزقه، فهو يبدو ومن أول الأمر صاحب رسالة اجتماعية وسياسية تحفزه على أن يطلق لسانه في الأغنياء والحكام، فيعزله الوالي من وظيفته. ويعود جحا إلى بيته حيث يلقى هناك زوجته (أم الغصن) الفظة السليطة، فتعنفه على طول لسانه الذي أدى إلى(956/29)
فصله من عمله، وتسائله عما سيصنع بعد للإنفاق عليهم، ويدخل (حماد) ابن أخيه، الشاب الفلاح الذي يحب (ميمونة) بنت عمه جحا. ويشير حماد على عمه أن يشتغلا معاً بالزراعة، فيقبل. وهنا تقول أم الغصن لزوجها جحا: إن اشتغلت بالزراعة فلابد أن يهجم الجراد على الزرع فيلحق شؤمك بجميع الفلاحين! ويهجم الجراد فعلاً. وتقع كارثة عامة.
وبذلك ينتهي الفصل الأول، فإذا كان الفصل الثاني رأينا جحا وزوجه في دار أنيقة وحال حسنة، ونعلم من حديثهما أن الشيخ جحا أصبح قاضي القضاة في بغداد. ويدخل (عبد القوي) كاتب الحاكم الأجنبي، ونفهم من حديثه مع جحا أن الجراد لما انتشر وأفسد الزرع ثار الزراع بتدبير جحا وقيادة حماد، ثم استطاع جحا بحكمته ولباقته أن يقنع الحاكم الأجنبي بالعمل لإنصافهم من ظالميهم الملاك حتى لا تتحول الثورة الاجتماعية إلى ثورة سياسية وبذلك قرب مكانه من الحاكم، فصار قاضي قضاة الدولة.
ويحدث جحا نفسه، ويحدث ابن أخيه حماد، عن ضيفه بمجاراة الدخيل المتحكم في البلاد، ويبدي رغبته في العمل لإثارة الشعب ضده، فيرى أن تدبر قضية تعرض عليه، تشبه قضية البلاد العامة، فيطيل النظر فيها بحيث تشغل الرأي العام، وتنبهه. . ويتفق الاثنان على أن يتنازل جحا لحماد عن داره، فيبيعها حماد لمن يشتريها، مشترطاً عليه أن تبقى له (للبائع) ملكية مسمار في أحد الجدران. . ويتم ذلك، ويقلق حماد راحة المشتري بالتردد الكثير على الدار لمشاهدة المسمار والاطمئنان عليه! وتعرض القضية، ويطول نظرها سبعين يوماً ويحدث ذلك أثره المنشود في الشعب.
ويرتفع الستار في الفصل الثالث عن منظر المحكمة، والقضاة وعلى رأسهم جحا ينظرون هذه القضية العجيبة، وقد امتلأ حرم المحكمة بجمهور من الشعب الحانق على صاحب المسمار الذي يتحكم في مالك الدار. . ونرى الحاكم قد أخذ مجلسه في المحكمة يرقب الحال ويستحث القضاة. . ويرد عليه جحا بأن العدل يجب أن يأخذ مجراه بعيداً عن التأثر بالحكام. ويأبى صاحب المسمار أن ينزل عن حقه في مسماره. . فيشغب عليه الشعب ويهيب به مردداً:
يا رب المسمار ... انزع مسمارك
من دار الأحرار ... إذ ليست دارك(956/30)
فيصيح بهم حماد: يا قوم، إنكم تهتمون بالمسمار الصغير وتغفلون عن المسمار الكبير! ويشير إلى الحاكم. ويقول جحا للحاكم: إنك تستكثر سبعين يوماً على نظر هذه القضية، وهناك قضية أهم منها لا تزال معلقة منذ سبعين عاماً. . ويغضب الحاكم ويأمر بالقبض على جحا وإيداعه السجن. ويأتي بعد ذلك منظر جحا في السجن وقدوم الحاكم عليه يفاوضه عساه أن يرجع إلى (صوابه) فيطلق سراحه، وهنا يدور بينهما حوار رائع يفند فيه جحا كل حجج المستعمر على طريقته الساخرة ومنطقة الجحوي المفحم.
ويثور الشعب ثورته الجائحة، ويندحر الدخلاء. ويرتفع الستار في المنظر الأخير عن منزل جحا حيث نرى ابنته ميمونة تزين استعداداً لعقد زواجها بعبد القوي كاتب الحاكم الذي كان يعمل في الخفاء مع الحركة الشعبية. وكان جحا قد وعد حماد بأن يزوجه ميمونة على رغم زوجته أم الغصن التي كانت تعارض ذلك وترغب في زواج ابنتها من عبد القوي. وتحدث المفاجأة بأن يعقد القران ويضع جحا يده في يد عبد القوي قائلاً: زوجت ابنتي ميمونة لموكلك حماد. .
عرض الأستاذ كثير في هذه المسرحية، القضية المصرية القائمة، عرضاً فنياً موحياً، يبعث المشاعر الوطنية ويحفز الهمم ويرسم الطريق، وقد سلط السخرية الجحوية النفاذة إلى غطرسة المستعمر وتبجحه فلم يدع له حجة إلا دحضها، وتمثيل ذلك في الحوار القوي الرائع الذي دار بين جحا وبين الحاكم الدخيل في السجن. وقد ساق كل ذلك مساقاً فنياً جميلاً ممتعاً خالياً من ثقل الوعظ وشوائب التهريج. وتضمنت المسرحية إشارات إلى الناحية الاجتماعية من حيث ترف الأغنياء وحرمان الفقراء، ولكن يلوح أن المؤلف كان يشعر بالقيود في هذه الناحية فلجأ إلى التوريات والتلميحات ولم يأخذ هنا حريته كاملة كما أخذها في الناحية السياسية.
وقد صاغ المؤلف - في براعة ولباقة - نوادر جحا في الحوار واستخدمها استخداماً حسناً في التسديد إلى الأهداف، وفي إشاعة الفكاهة، واتخذ من شخصيتي (أم الغصن) و (الغصن). مداراً للدعابة والمرح، واستعان بأم الغصن ومشاكساتها لزوجها جحا على إبراز الفلسفة الجحوية وأثرها في مجرى الحوادث.
وهذه ثاني مسرحية - بعد سر الحاكم - نراها على المسرح للأستاذ على أحمد باكثير، ولا(956/31)
شك أن المسرح يرحب بإنتاجه ويضعه في الصف الأول من كتابه، وأسجل له هنا - مع الغبطة والإعجاب - تلبيته لنداء المجتمع وأداء واجب الفن نحوه.
وقد أخرج المسرحية الأستاذ زكي طليمات، ولست أدري ماذا أقول في هذا الرجل الدائب على خدمة المسرح العربي بكل رقته وجهده وفنه، هذا الرجل الذي يربط بين المسرح الراقي والأدب الرفيع في الوقت الذي نرى فيه عوامل كثيرة تحاول أن توهن هذا الرابط وتميل بفن التمثيل نحو الإسفاف وصناعة التسلية الخاوية.
والحديث عن إخراج المسرحية يكاد يظلمه ضيق المقام، وقد جرى الأستاذ زكي طليمات على مذهبه الإيحائي بالمناظر والإضاءة والأصوات والمجموعات (الكومبارس) فكان موفقاً كدأبه في تصوير جو الرواية، سواء المشاهد منها وما يلمح وراء الأحداث، وهذا يقابل ما يسمى في فن الكتابة (ما بين السطور).
ثم أجمل ملاحظاتي على التأليف والإخراج فيما يلي:
المسرحية تهدف إلى معالجة القضية المصرية وقد حددت فيها ملامح هذه القضية وتحديدا ظاهرا، وروح الدعابة والملح مصري، ومع ذلك قيل إن جحا يعظ الناس في الكوفة ويتولى القضاء في بغداد، ولو أغفل ذكر هاتين المدينتين ما ضر ذلك شيئا.
2 - في المنظر الأول يقول جحا للناس وهو يعظهم: سبحوا الله واستغفروه. فيقولون: لا إله إلا الله: والتسبيح هو قول سبحان الله، والاستغفار: أستغفر الله. وقد مر ذلك بالمؤلف والمخرج والممثلين جميعا، ولم يلتفت إليه أحد منهم!
3 - أرى أن دخول أم الغصن على زوجها جحا في مجلس القضاء والمشادة التي حدثت بينهما و (ردح) الزوجة لزوجها لم يكن كل ذلك لائقاً، وكان مقحماً وحشوا
وقد أجاد الممثلون والممثلات في أداء أدوارهم، وخاصة سعيد أبو بكر (جحا) ونعيمة وصفي (أم الغصن) وعبد الرحيم الزرقاني (الحاكم الأجنبي) وصلاح سرحان (حماد) وعدلي كاسب (والي الكوفة) وسميحة أيوب (ميمونة) وظهر عبد الغني قمر في دور قصير هو دور عالم ينافس جحا، فكان موفقاً في أدائه، وأحب أن أقول لعبد الغني: ليس المهم أن يأخذ الممثل دوراً كبيراً في الرواية، بل أن يكون في دوره الملائم له. ومثل (الغصن) شاب جديد هو عبد المنعم إبراهيم فكان مثار المرح والفكاهة في الرواية كلها، وقد دل هذا الشاب(956/32)
على استعداد يبشر بمستقبل، وخاصة في الأدوار الهزلية.
وأهمس في أذن أبطال الفرقة: أخلفتم ما عهدناه فيكم من مراعاة الإعراب في هذه المرة، وأنتم تؤدون اللغة العربية أداء جميلا من حيث التمثيل والإلقاء، ولكن حذار من غضب سبويه! وأخص بالذكر سعيد أبو بكر ونعيمة وصفي، فحرام أن يشوبا كفايتهما الفنية العظيمة بهذا الخطأ. .
ماذا تغني أم كلثوم؟
أصدر رفعة رئيس الوزراء قراراً بإلغاء الحفلة الغنائية التي كان مقرراً أن تحيها الآنسة أم كلثوم بالنادي الأهلي مساء يوم الخميس الماضي، وذلك رعاية لشعور شهداء منطقة القنال. وقد صدر القرار على أثر برقيات أرسلت من مختلف بلاد القطر للمطالبة بإلغاء هذه الحفلة.
ولا شك أننا جميعاً نشعر بالأسى لفقد أولئك الضحايا، وليس للهو والمباهج مكان مع هذا الشعور. وقد صدر قرار رفعة رئيس الحكومة وصدرت تلك البرقيات، معبرة عما يخالج نفوس الجميع.
ولكن لي وقفة في هذا الموضوع إزاء فن الموسيقى والغناء وهل هو لهو كله لا يناسب إلا حال البهجة والمرح؟
ننظر أولاً في واقع الأمر. ماذا كانت ستغني أم كلثوم في هذه الحفلة؟ نشرت أبيات من شعر شوقي قيل إنها أغنية جديدة أعدتها أم كلثوم للغناء في حفلة الموسم الجديد، وهي من نوع التهويمات التي جرت مطربتنا الكبيرة على جمعها من شعر شوقي والخيام معرضة عن واقع الحياة الذي يجري حولنا. فكان المتوقع أن تغني هذه الأبيات، إلى أغنيات أخرى عن العشاق والذي (بصالح في روحه!)
وعلى ذلك لم ير الناس ولم تر الحكومة من اللائق أن تغني أم كلثوم على ذلك النحو المألوف في هذا الظرف. ولا يسوغ هذا الغناء ما قيل عن تبرعها بإيراد الحفلة لصالح أسر الشهداء، لأن الأساس العمل المناسب لا ما يجنى منه.
أقول ليس من اللائق أن يغني ذلك الغناء في هذا الظرف، ولكني لا أذهب مع القائلين بأنه لا يناسب الغناء. فالغناء والموسيقى يعبران عن كل حال ويناسبان كل ظرف، ولكن المدار(956/33)
على الطريقة والمادة التي تغنى. ومن البداهة أن هذا الفن - إذا أحسن استخدامه وتوجيهه - يقوي الأرواح ويغذي المشاعر الوطنية، فمن الإطالة المملة أن أفيض في هذا الأمر المفروغ منه، وحسبي أن أشير إلى ما كان يصنعه العرب من اصطحاب نسائهم في الحروب ينشدن للأبطال ويقوين عزائمهم، وأن أذكر أثر (شوبان) في بعث أمته بألحانه وبما كان يكسبه بعزفها من المال ويرسله إلى أحرار وطنه كي يستعينوا به في العمل على تحرير بلادهم.
ومالي أذهب بعيداً وأم كلثوم نفسها تعلم أن (دنانير) كانت تغني على أطلال البرامكة. .
فلو أن أم كلثوم اختارت قطعة لشاعر من وحي الحالة الحاضرة وأعدتها للغناء في هذه الحفلة وتبرعت بإيرادها كما قيل، لكان ذلك عملاً مشكوراً منها، ومشاركة من الفن في الجهاد الوطني. . وما أظن أن أحد كان يعترض عليها أو يحتج على الغناء.
عباس خضر(956/34)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
إلى الدكتور زكي نجيب محمود:
عندما فرغت من قراءة مقالك الثائر على كتابي الثائر، ذلك المقال الذي طلعت به على الناس منذ قريب على صفحات (الثقافة) ارتسمت على شفتي ابتسامة عابرة. . . أول معانيها أنني أحب أن أنصف الحقيقة مهما كان طعمها مر المذاق بالنسبة إلى الآخرين، وسأنصفك دائماً سواء لقيتك بالرفق والهوادة أم لقيتك بالعنف الذي لا يلين! وأرجو أن يتسع صدرك لثورتي كما اتسع صدري لثورتك، لأن المشكلة الكبرى التي تقوم بيننا ويجب أن ينفذ إلى أغوارها القراء، هي أن يعرفوا على التحقيق أي ثائر أنا وأي ثائر أنت!
أنت يا صديقي ثائر علي، وثائر على نفسك، وثائر على غيري وغيرك من شيوخ الأدب وشبابه، لا تكاد تعترف بأن لنا جميعاً في محيط الأدب والفن ذرة من الأصالة الخالقة. . ترى هل أنت هنا ثائر أصيل؟ لا أظن! بل إن ثورتك هذه لتجعلني أعبر الآماد والأبعاد، وأطوي السنين والأيام، وأرتد على جناح الخيال إلى ذلك الماضي البعيد، الماضي الذي يذكرني بطفولتي الثائرة. . لقد كنت في ذلك الحين طفلاً ساخطاً على كل أمر من الأمور، ساخطاً على كل وضع من الأوضاع، لا أكاد أرضى عن شيء، ولا أكاد أقبل على طعام، ولا أكاد أترك طفلاً من الأطفال بغير اعتداء! يقدمون إلي أبهى الثياب فأقول لهم ليس عندكم ما يلبس، ويعرضون علي أشهى الأطعمة فأقول لهم ليس عندكم ما يؤكل، ويقبل علي الأصدقاء الصغار فأصفع هذا وأركل ذاك، ومنطق التبرير لهذا العدوان العجيب أنهم (جميعاً) لا يستحقون مني أي اعتراف بالجميل. . كنت أفعل هذا كله وما هو أكثر منه فإذا اعترض علي معترض من الأهل ضربت الأرض بقدمي، ولوحت في الهواء بيدي، وبدأت عملية التحطيم في أرجاء البيت لا تبقي ولا تذر: كل ما في طريقي يجب أن يزول، وكل ما في طريقي يجب أن يدمر، ولا فرق في ثورة الطفولة مثلاً بين لوحة فنية وبين آنية زجاجية، لأن منطق الطفولة لا يعترف بقيم الأشياء، فهي في محيط إدراكه القاصر وأمام ناظريه سواء!!(956/35)
ودارت عجلة الزمن وأصبح الطفل شاباً. . شاباً ثائراً أيضاً! ولكن ثورة اليوم قد تغيرت عن ثورة الأمس: غيرها طول التجربة، واتساع الأفق، واكتمال الوعي، سواء في شؤون الأدب أو في أمور الحياة. . ويتذكر الشاب الثار طفولته الثائرة فلا يستطيع أن يمنع ابتسامة عابرة من أن ترتسم على شفتيه: أحقاً لم يكن في بيته ما يستحق أن يؤكل، ولا عند أهله ما يستحق أن يلبس، ولا بين أصدقائه الصغار من يستحق عطفه وحبه ورضاه؟! ويقتنع الشاب الثائر أن ثورة طفولته كانت عمياء لا تبصر، وغافلة لا تعي، وذاهلة لا تفرق. لقد كان في فوره غضبه يحطم (كل) الأشياء وكان (بعضها) يستحق البقاء، وكان في وقدا سخطه يعمد إلى تكدير (الجميع) وكان (بعضهم) يستحق التقدير، وقل مثل ذلك عن موقفه من أنواع الثياب وألوان الطعام!
وبمثل هذا الإدراك السليم نظر الشاب الثائر إلى أدبنا المصري وثار عليه. . ثار عليه في (أكثر) حالاته ولم يثر عليه في (كل) حالاته، لأنه أراد لثورته أن تكون عادلة لا ظالمة، ومنصفة لا مجحفة، ورزينة متأنية لا يفسد من رزانتها تهور ولا يشوه من أناتها اندفاع؛ حين آمن بعد طول التجربة واتساع الأفق واكتمال الوعي، أن هناك فارقاً كبيراً بين ثورة الرجولة وثورة الطفولة!!
إنك يا صديقي - وأرجو مرة أخرى أن يتسع لي صدرك - لا تزال تمثل تلك الثورة الطفلة التي عرفتها أنا في ذلك الماضي البعيد. . وإذا كان هناك فارق بيني وبينك، فهو أنني قد ودعت ذلك العهد الغابر وأنك لا تزال تعيش فيه، على الرغم من أنني قد تخطيت اليوم حدود الثلاثين وأنك قد تخطيت بالأمس حدود الأربعين. . إنني لا أريد أن أنال منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح، وإنما أريد صادقاً أن أقدم ثورتي وثورتك على حقيقتهما إلى الناس، ليعرفوا كما قلت لك أي ثائر أنا وأي ثائر أنت!
لقد قلت في مقدمة كتابي الثائر الذي تفضلت مشكوراً فكتبت عنه: (لقد نظرت إلى أدبنا فوجدته في أكثر حالاته أدب المحاكاة الناقلة لا أدب الأصالة الخالقة، أدب الترديد والتقليد لا أدب الإبداع والتجديد؛ ليس له طابع خاص وليست له شخصية مستقلة، وإنما ضاع طابعه واختفت شخصيته في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بغية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان. . إنني أتحدث هنا عن أدبنا المصري في نطاق الدراسة الأدبية والنقدية؛ الدراسة(956/36)
التي تضع تحت المجهر نظرية في الأدب أو مشكلة في الفن، أو شخصية كان لها في محيط الفكر الإنساني مكان ملحوظ)!
ولقد قلت أنت في مقالك الثائر معقباً على هذه الكلمات: (وهو يقول هذا الكلام الجميل مقصوراً على الأدب، وأقوله أنا مطلقاً بغير قيد؛ فليس في حياتنا الفكرية كلها ذرة من الأصالة الخالقة، فلا العالم يكشف كشفاً جديداً ولا الأديب يخلق خلقاً جديداً، وإني لأنظر إلى تاريخنا وأعجب كيف استحالت الرءوس عندنا إلى جماجم خاوية، تنفذ إلى أجوافها أصداء غامضة مما يقوله سوانا، فتتردد الأصداء في جنبات الجماجم لتخرج على الألسنة والأقلام هشيماً هو أقرب إلى فضلات النفاية)!
بماذا يخرج القراء من كلماتي وكلماتك؟ إنهم يخرجون من كلمات الثائر الأول بأنه لا يريد أن يحطم في طريقه كل شيء، ويخرجون من كلمات الثائر الآخر بأنه يريد أن يحطم في طريقه كل شيء، وشتان ما بين الثورتين من فروق. . عندي أنا أن في الأدب المصري أشياء (قليلة) يجب أن تبقى لأني أضن بها على التحطيم والتضمير، وعندك أنت أن هذا الأدب (كله) لا يستحق نعمة البقاء لأنه يفتقر إلى عنصر الخلق والتجديد. إن ثورتي تريد أن تفرق بين ما يجب أن نحتفظ به في أيدينا وما يجب أن يلقى به إلى عرض الطريق، ولكن ثورتك لا تريد أن تفرق بين هذا وذاك، وسيان في منطقها الساخط المتذمر إنتاج يشع منه النبض والحقوق، وإنتاج يشيع فيه الهمود والجمود. . أنت ثائر على أدب الشيوخ وأنا والله أكثر منك ثورة، ولكنني لا أحب لثورتك أن تذكرني بطفولتي الثائرة، يوم أن كنت أضرب الأرض بقدمي وألوح في الهواء بيدي، وأملأ أرجاء البيت صراخاً وأقول لأهله: ليس عندكم يا من تجهلون فنون الطهي شيء يؤكل على الإطلاق. . لا يا سيدي إنني إذا ثرت على أدب الشيوخ فلن أستطيع أن أقول لهم ليس عندكم ما يقرأ في مجال الخلق والتجديد سواءاً أكان الخلق متصلاً بفكرة من الأفكار أو بشخصية من الشخصيات، أم كان التجديد ممثلاً في منهج من مناهج البحث أو طريقة من طرائق الدراسة، لأن عند العقاد كتاب (ابن الرومي) في محيط الدراسة الأدبية والنقدية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى رجل كتوفيق الحكيم، لأن عنده (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) و (سليمان الحكيم) في محيط أدب القصة والمسرحية، وأستطيع أن أذكر هنا (الأيام) لطه حسين، وفي معرض(956/37)
أدب المقالة والبحث (أصول الأدب) للزيات، و (فن القول) لأمين الخولي في مجال البلاغة التجديدية، و (حياتي) لأحمد أمين في ميدان أدب التراجم الذاتية، و (صقر قريش) لعلي أدهم في نطاق الدراسة التي تمزج بين الأدب والتاريخ. . هذا عن الأحياء، أما عن الذاهبين فأستطيع أيضاً أن أذكر (إبراهيم الكاتب) للمازني، وأن أخفض قلمي لأحمد شوقي في كثير من أعماله الفنية!
وأنت ساخط على أدب الشباب وأنا والله أشد منك سخطاً، ولكن في أدب الشباب أشياء لا أستطيع (على قلتها) أن ألغيها كما ألغيتها أنت، خضوعاً لمنطق السخط العام أو لمبدأ الثورة العاصفة التي يطيب لها الهجوم وهي معصوبة العينين. . ترى هل قرأت في مجال الدراسة الأدبية والنقدية (نماذج فنية) لأنور المعداوي، و (التصوير الفني في القرآن) لسيد قطب، وفي مجال القصة الطويلة والقصيرة (بداية ونهاية) لنجيب محفوظ و (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي، وفي مجال الشعر الفني (أين المفر) لمحمود حسن إسماعيل، وفي المجال نفسه من إنتاج الذاهبين (الملاح التائه) و (الشوق العائد) و (أرواح وأشباح) لعلي محمود طه؟ أشك في أنك قد قرأت لهؤلاء، ولقد بدأت القائمة باسمي لغرض خاص. . هو أن أجعل كل قارئ يغرق في الضحك ويخبط كفاً بكف، حين أقول له إنك لم تقرأ كتابي مع أنك قد كتبت عنه افتتاحية (الثقافة)! ومرة ثالثة أو رابعة أرجو أن يتسع صدرك لثورتي كما اتسع صدري لثورتك، وأن تثق كل الثقة من أنني لا أقصد إلى النيل منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح!!
لقد أكدت لقرائك أنك قرأت كتابي حرفاً حرفاً، وأنا أؤكد لهم أنك لم تقرأ منه غير المقدمة ثم أعقبتها بمقال أو مقالين، ثم أكملت القراءة في (الفهرس) كما يفعل الكثيرون في هذه الأيام. . أتريد مني دليلاً على صدق ما أقول؟ إن الدليلالذي لا يدفع هو أنك لم تناقش فصوله نقاشاً (موضوعياً) كما كنت أنتظر من أستاذ في الجامعة! كل ما فعلته هو أنك هاجمت الكتاب وصاحبه هجوماً عنيفاً ختمته بهذه الكلمات: (لا، لا تصدقوا الأستاذ المعداوي في ثورته، إنه ليس بالثائر كما رجونا لشبابه الفتي الطموح أن يكون، إنه لا يزال يسير على النهج الذي لابد من الثورة الحقيقية على أسسه وأوضاعه؛ إنه لا (يخلق) جديداً على نحو ما يخلق الأدباء الفجول؛ إنه لا يزال - مثلنا - عبداً من العبيد الذين(956/38)
يقنعون بما يملى عليهم من خارج نفوسهم)!
لقد كنت أنتظر منك يا صديقي - وأنت الأستاذ الجامعي - أن تناقشني نقاشاً (موضوعياً) حتى يستقيم لك منطق النتائج في ضوء المقدمات. . كنت أنتظر منك مثلاً أن تقول لي: تعال يا أخي، لقد كتبت عن مشكلة الفن والقيود، وعن مشكلة الفن والحياة، وعن مشكلة الأداء النفسي في الشعر، وعن نشأة العقيدة الإلهية، وعن موقف العرب من التراجيديا الإغريقية، وعن الفن الإنساني، وعن أدب الاعترافات، وعن العبقرية والحرمان، وعن انحراف المواهب، وعن الواقعية في القصة؛ وعن أدب التراجم الذاتية، وعن برناردشو، ولورد بايرون، ولن بوتانج، وبلزاك، ودستويفسكي، ومرجريت ميتشل، وبيكاسو، وأبي العلاء، وتوفيق الحكيم، وعلي محمود طه، والمازني، وغير ذلك من المشكلات الفنية والشخصيات الأدبية. . فأين هو الجديد الذي أتيت به، وأين هو الخلق الذي انتهيت إليه، وأين هو خط الاتجاه الفكري الذي قلت لنا عنه إنه ينبذ الترديد والتقليد؟!
لقد كنت أنتظر منك أن تلقاني بمثل هذا التكذيب، وأن تواجهني بالدليل بعد الدليل، على أنني كنت في هذا كله ببغاء تردد؛ أو بوقاً ينقل، أو فكراً يعتمد في تحليقاته على أقوال الآخرين. . لم تستطع أن تقدم على مثل هذا الأمر الذي يخرج عن حدود طاقتك الفكرية والجدلية، وإنما استطعت أن تضرب الأرض بقدميك، وأن تلوح في الهواء بيديك، وأن تملأ صفحات (الثقافة) صراخاً لتقول لي: (اسمح لي يا صديقي أن أكذبك فيما تزعمه لنفسك من خلق ينبذ الترديد والتقليد؛ لأنني استعرضت فصول الكتاب بعد أن زال عني سحر أسلوبها، لأجدها - في أغلبها - تعليقاً على رجل أو كتاب، وهذا هو ما أسميه بفتات الموائد التي قنعنا بها قناعة الأذلاء)!
عيبك يا صديقي زكي، عيبك الخطير، هو أنك لا تؤمن بنفسك. . والرجل الذي لا يؤمن بنفسه لا يستطيع أن يؤمن بغيره، لأنه يضع منظاره (العاجز) على عينيه، ثم ينظر من وراء ضبابه إلى الآخرين، ثم لا يراهم إلا صوراً مكررة من شخصيته. . ولهذا، تشعر دائماً أنك عبد وأن كل من تراهم عبيد، وأنك ذليل وأن كل من تعرفهم أذلاء؛ ثم تثور عليهم جميعاً وتثور على نفسك، ثم تبدأ عملية التحطيم التي حدثتك عنها في طفولتي الثائرة! صدقني أنني مشفق عليك من هذه الثورة العاجزة التي ينقصها الإيمان بالنفس في(956/39)
كثير من الأحيان. . إنك تهاجم الشيوخ، وتتنكر لهم، ولا تكاد تعترف بوجودهم، ومع ذلك فما أكثر ما واجهت الجمهور القارئ مستنداً إلى ذراع أحدهم لتستطيع في ميدان الأدب أن تقف على قدميك، حتى لقد كنت تحرص كل الحرص على أن تضع اسمه على كتبك متبوعاً باسمك، لتضمن لتلك الكتب شيئاً من الذيوع والانتشار. . لو كنت ثائراً قادراً لواجهت جمهورك القارئ دائماً وعلى فمك هذه العبارة: هاأنذا وحدي! ولكنك كنت الثائر العاجز الذي طالما واجهت الجمهور قائلاً له: هاأنذا. . مع أحمد أمين! آه من هذه العبودية التي تسري في دمك وتتخيل أنها من صفات غيرك، وآه من تلك الذلة التي ترسب في أعماقك وتتوهم أنه من سمات الآخرين!
إنني يا صديقي لست مثلك عبداً من العبيد، لأنني أومن بنفسي إلى أبعد حدود الإيمان. وإن الحرية لتلهب مني دماء القلب وعصارة الفكر ومداد القلم! أومن بنفسي إلى الحد الذي أشعر معه بأن كل كلمة أكتبها ستشق طريقها إلى النفوس والعقول، وستأخذ نصيبها من رضا الأقلام وثقة القراء. . ولست من طرازك حين تقول لأحد قرائك في العدد (667) من الثقافة. (أما أنك لم تكن قد سمعت صوتي بعد، فذلك ما لا أعجب له، لأني لم أكتب سطراً واحداً منذ بدأت الكتابة وأنا على يقين من أنه سيلتقي بعيني قارئ، فإن صرير قلمي - كما قلت في مقدمة كتابي أدب المقالة - لا يكاد يبلغ سمع صاحبه)!
إنني لا أطيق أن أواجه قرائي بمثل هذه الكلمات، لأنني أشعر شعوراً عميقاً أن الإيمان بالنفس - ذلك الإيمان الذي لا يبلغ حد الغرور - هو أول دعامة من دعائم النجاح. . كيف تصفني يا صديقي بعد ذلك بأنني مثلكم جميعاً عبد من العبيد، أولئك الذين يقنعون بفتات الموائد قناعة الأذلاء؟! إنني لأتحداك أن تذكر لي اسماً واحداً من أسماء الشيوخ قد أخذ بيدي في دنيا الأدب أو قدمني يوماً إلى القراء، وإن كتابي ليتحداك أن تثبت للناس أن فصلاً من فصوله الباحثة أو الناقدة قد كتب دون أن يحمل بين طياته رأياً جديداً، أو فكرة مبتكرة، أو تصحيحاً لوضع من الأوضاع الزائفة في محيط الأدب والنقد هنا وهناك، أو أنه يقتفي خطوات غيره في منهج التفكير وطريقة التعبير. . وعليك أن تقبل التحدي إذا كنت جاداً في ذلك (الكلام) الذي طالعت به الناس على صفحات (الثقافة)، ومعذرة إذا قلت (الكلام) ولم أقل (النقد)، لأن بين النقد والكلام فروقاً يعرفها الأدباء!!(956/40)
ثم تقول عن كتابي إنه مجموعة مقالات، وإن المقالة في الأعم الأغلب حيلة العاجز، حيلة من لا يسعفه الخيال القوي والخلق البديع؟! صدقني إن الكلمات لا تستطيع أن تعبر عن أسفي حين أنظر إلى فهم الأستاذ (الجامعي) لحقيقة الأدب وجوهر الفن، فأراه وقد انتهى إلى مثل هذا الرأي العجيب! من قال لك إن الأدب الحق يقاس بالكم وإن الفن الأصيل يوزن بعدد الصفحات؟ أتريد أن تنكر أدب المقالة لأن الحيز الذي تشغله صغير، وألا تعترف بغير أدب البحث لأن الحيز الذي يشغله كبير؟ ما أحوجنا إذن إلى موازين التجار لنزن الأدب والفن بالرطل والقنطار. . إن المسألة يا سيدي ليست مسألة مقالة ولا مسألة كتاب، وإنما هي مسألة الفكرة المبتكرة التي تغير وضعاً من أوضاع الأدب أو تقيم الدراسة على أساس جديد، سواء أكانت تلك الفكرة موزعة على ثلاث صفحات تنتج المقالة، أم كانت موزعة على مائتي صفحة تنتج الكتاب، وزدها إلى الألف إذا شئت فلن تقدم أو تؤخر في حقيقة هذا التقدير!!
وتسألني ماذا كنت أكتب لو لم يخلق الله برناردشو، ولورد بايرون، ومدام ريكامبيه، وتوفيق الحكيم، والمازني، ولن بوتانج، وبيكاسو، وأوسكار وايلد؟! اسمح لي أن أقول لك إن هذا السؤال مضحك ومقلق. . ترى هل نسيت أن وظيفتي الفنية هي النقد، وأنني مسئول بحكم هذه الوظيفة أن أكتب عن هؤلاء؟ لقد بقي عليك أن تسأل الفلاح ماذا كان يفعل لو لم يخلق الله الأرض؟ فإذا أجابك بأنه سيعمل بحاراً سألته مرة أخرى وماذا كان يفعل لو لم يخلق الله البحر؟! نعم وهذا هو المنطق. . المنطق الذي يطالعنا به صاحب (المنطق الوضعي) في ثقة واطمئنان!!
إنني أخشى أن أقول لمنطقك في معرض الجواب: لو لم يخلق الله هؤلاء لقدمت إليك (مذهب الأداء النفسي) في نقد الفنون عامة ونقد الشعر على الأخص، وهو المذهب الذي سأسجل به أول محاولة مذهبية في الأدب المصري، في كتابي المقبل الذي سيكون (بحثاً) لا مجموعة مقالات. . أخشى أن أقول لمنطقك هذا فيقول لي منطقك: وماذا كنت تكتب لو لم يخلق الله الشعر وبقية الفنون؟!
صدقني مرة رابعة أو خامسة أنني لا أريد أن أنال منك بشيء من السخرية أو بشيء من التجريح، وإنما أردت أن أقول للقراء إن سؤالك هذا مضحك ومقلق. . مضحك لأنه أقرب(956/41)
إلى الهزل منه إلى الجد، ومقلق لأنني أخشى على هؤلاء (المساكين) الذين يتلقون عنك دروس المنطق في الجامعة، أخشى عليهم أن يواجهوا الحياة والناس بمثل هذا المنطق (السليم)!
أما أنك تخشى على القراء من كتابي لأنه على حد تعبيرك (سيشدهم في فهم الأدب إلى الوراء)، فأحب أن أطمئنك إلى أن عقول القراء بخير. . والدليل على ذلك أنهم قد قرأوا أكثر فصول هذا الكتاب من قبل على صفحات (الرسالة)، ومع ذلك فقد أقبلوا عليه إقبالاً أخجل القلم في يدي، القلم الذي ظلمهم يوماً حين نعتهم بأنهم لا يقرأون! إن كتابي لا يعلم (الإنشاء) لتلاميذ المدارس، ولكنه يفتح الآفاق للدارسين وينير الطريق للسالكين. . وحسبك أنني سأهدي إليك في الغد القريب نسخة أخرى من طبعته الثانية!!
أنور المعداوي(956/42)
الكتب
من وحي البلد الأمين
163 صفحة من القطع المتوسط - الناشر مكتبة الخانجي
تأليف الشيخ محمد الطيب النجار
للدكتور محمد يوسف موسى
هذا هو الكتاب الثاني الذي نقدمه في هذا المكان من الرسالة الغراء، رسالة الثقافة الرفيعة بين الناطقين بالضاد، ومؤلفه هو الأستاذ الشيخ محمد الطيب النجار، والكتاب الأول هو: (الموالي في العصر الأموي) وقد نال به درجة العالمية مع لقب أستاذ في التاريخ الإسلامي من قسم تخصص الأستاذية بالأزهر.
والأستاذ النجار من علماء الأزهر النابهين، وقد ضم إلى التواضع المطبوع الذي حببه إلى كل إخوانه وعار فيه، العلم الجم وحبه الدرس والتماس المزيد من العرفان، فكان بذا وذاك قدوة طيبة لإخوانه الشبان العاملين على نهضة الأزهر الحقة.
هذا، وللأزهر منذ سنوات مبعوثون إلى كثير من البلاد الإسلامية، يحملون إليها رسالته، ويفيضون فيها من علمه وثقافته تمام الإدراك أن رسالة المبعوث الأزهري إلى أي بلد إسلامي ليست فقط تدريس العلم الذي أوفد من أجله، بل هي قبل كل شيء عامل من عوامل الإحياء والبعث للعالم الإسلامي الذي طال نومه، حتى ليكاد يكون موتاً، وأن يدرس البلد الذي يحل به ويكتب عنه كتاباً يكون مرجعاً عنه في عامة أحواله كما يعمل الغربيون حين يتفرقون في بلاد الشرق باحثين منقبين دارسين.
ويسرنا أن نقرر هنا بأن الأستاذ الشيخ النجار قد فهم رسالته على هذا الوجه، وقد حقق جانباً كبيراً منها بكتابه هذا الكتاب الذي نقدمه الآن للقراء.
والكتاب مجموعة من الأحاديث والمقالات الاجتماعية التاريخية الإسلامية، وكلها تتسم بسعة النقد والتوجيه، وكلها يهدف إلى التمكين للإيمان في القلوب وتحبيب الفضيلة إلى النفوس وإصلاح المجتمع الإسلامي. ويلمس القارئ، وهو يتنقل في الكتاب من موضوع إلى موضوع، أن الكاتب يكتب من كل قلبه، فهو لذا ينفعل ويثور ثورة المصلح الصادق،(956/43)
حين يدعو الأمر إلى الانفعال والثورة.
ولنسمع له حين يتحدث (85 - 86) عن الذين يقومون بما أمر الله من شعائر لا تكلفهم شيئاً من المال، فإذا جاء من يطالبهم ببعض ما عليهم للفقير ولوا فرارا:
(وترى الرجل منهم وهو يمشي على الذهب، ويتبختر ويختال بين الحرير والفراش الوثير، ويبعثر الأموال لإشباع الشهوات الدنيا، ومع ذلك يضن بالمال اليسير على البائس الفقير؛ وإذا ما حاولت أن تستصرخ همته الوانية نحو إغاثة المعوزين، أجابك في تبجيح واستهتار (وما من دابة إلا على الله رزقها) وكأنما يظن أولئك السفهاء أن الله سينزل على الفقراء مائدة من السماء! فيا للعجب، ويا لله لهذا المنطق السقيم والطبع الخبيث اللئيم!).
ونرى الكاتب الثائر في أمثال هذا الموطن، يعود إلى طبعه من الأناة والتريث والهدوء حين يتناول موضوعاً من الموضوعات التاريخية، فيبحثه من أصوله بحث العالم العميق النظرة، ومن باب التمثيل لهذا، نذكر من حديثه عن توزيع العطاء بين المسلمين في عهد الرسول والخلفاء الراشدين (ص76 وما بعدها) إشارته إلى نظرية أبي بكر في التسوية بين المسلمين جميعاً، ورده على من كان يؤثر تفضيل أهل الفضل والسابقة في الإسلام بقوله:
(أما ما ذكرتم بين الفضل والسوابق والقدم، فما اعرفني بذلك، وغنما ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه. وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة)، ثم يعقب بنظرية الفاروق التي تقوم على تفضيل أهل السابقة في الإسلام، وفي هذا يقول قولته المأثورة: (لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه)، وقد سار على هذه النظرية عثمان وعلي بعد الفاروق رضوان الله عليهم أجمعين.
على أني بعد هذا كله، أختلف تماماً مع الأستاذ الكاتب في بعض ما ذكره في موضوع: بين العلماء والملوك ص91 وما بعدها، إنه يقرر أن علماء الدين ورجاله قائمون حق القيام بما عليهم، ما داموا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيما يكتبون ويتحدثون؛ وما داموا ليس لهم شيء من السلطان التشريعي والتنفيذي. لا، يا أخي!
يستطيع العلماء ورجال الدين أن يغيروا إلى حد كبير جداً مما نحن عليه من آثام دينية ومظالم اجتماعية؛ لو تجردوا من طلب الدنيا وآثروا ما عند الله على ما عند أولي الأمر وأصحاب الجاه من الدنيا وزينتها؛ ولنا فيما صنع ويصنع آية الله الكاشاني في إيران دليل(956/44)
أي دليل! بل لنا فيما صنع بعض أسلافنا من رجالات الأزهر الذين لم يبعد بهم الزمن، الدليل الحاسم على قوة أثر الدين ورجاله إن تجردوا حقاً لله وباعوا أنفسهم في سبيله ابتغاء رضوانه!
وبعد! فالكتاب أثر طيب للكاتب الفاضل؛ يحسب له عند الله وعند الأمة؛ وهو دليل على فهمه لرسالته وعلى عمله للخير والإصلاح، وهو مع هذا ينضح بالإخلاص وحب الخير والعمل له، ولا عجب فهو من وحي البلد الأمين!
نفع الله به وبكاتبه، وجزاه خير الجزاء.
محمد يوسف موسى
أستاذ المدرسة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول
الصلاة وطرق التقدم الثلاثة
تأليف: مولانا محمد علي - بلاهور - باكستان
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
إن الشرق في حاجة إلى موقظات روحية تدفعه إلى الانتباه من غفوته التي أذهلته عن وجوده؛ فعاش في كنف المستعمر، ورضى عن حياته المهينة، وقنع بالدون حتى آده الاستعمار، وأذاه الاستعباد، وكادت أن تئده الذلة!
وليس أجمل من الاتجاه إلى الروح في إصلاح ما أشكل من أمور الشرق حتى يعرف القوم مدى صلتهم بخالقهم، وهو المعز المذل القوي المتين.
ولقد حمل إلى البريد من بغداد رسالة صغيرة في مرأى العين، لكنها كبيرة قيمة في تبصر البصيرة، بعث بها مشكوراً (السيد تصدق حسين القادري)؛ فأثار انتباهي جمال وضعها، ودقة تحريرها، ومتانة تركيزها؛ فهي تعرض الصلاة - للعاصين - عرضاً جليلاً، فيه اجتذاب للقلوب النائية عن المصلحة الروحية بينهم وبين الخالق، لأن ثمة بدعة عجيبة ابتدعها المارقون في أن الاتصال القلبي ذو كفاء عن الصلاة بأقوالها وأفعالها، حتى انصرف من أوتوا ظاهراً من العلم وقد تبطنوا الجهالة، وساروا بطانة الشيطان!(956/45)
ومن المفيد أن نعرض إلى ما جاء في هذه الرسالة، فقد وردت في ثناياها قواعد في التربية الروحية يمكن أن تفيد أولئك المتكبرين على خالقهم، فقد قال المؤلف: (إن الصلاة تعتبر علاجاً شاملاً لكل شرور البشر) ويعلل هذا بقوله: (في الصلاة كل الفضائل والوسائل لبلوغ الغاية العالية حيث تمضي الأفعال والأقوال جنب جنب لمعاونة قوة الإيمان وللشعور بوجود الله). ويقول: (يستحيل تقدم الجماعة دون تقدم الفرد) وهذه قاعدة سليمة في الحكم على الشعوب المرباة تربية بعيدة عن التقليد، والاندفاع، وعدم احترام التقليد الأصيل في بناء الحياة، و (إن الإسلام يهتم بتقدم الذات الإنسانية الحقيقية).
ونرى المؤلف أن الخطوة الأولى في تقدم الإنسان الروحي (هي التجرد من أي فعل رديء) وتزكية النفس لا تكون إلا بإبعادها عن أدران الظلم، والقسوة، والكذب والمخادعة، وجماع ما يطارد هذه الأدران في (القتال المقدس ضد الشيطان) ويدفع الرقي الروحي إلى الذات العلية إحساس عميق في النفس الآمنة المؤمنة الأمينة، هذا الإحساس الذي يشعر المرء بأنه كلما زاد سجوده لربه زاد سمواً روحياً وخلقياً.
وفي الرسالة لمحات مشرقة رائعة على وجازة ألفاظها؛ فالمؤلف يقول: (إن العظمة المادية شيء سهل، ولكن الرفعة الروحية شيء شاق)، وترمز نهاية الصلاة إلى النجاح الفردي (رب اجعلني مقيم الصلاة)، كما ترمز إلى رجاء النجاح الجماعي (اللهم اغفر لي، ولوالدي، وللمؤمنين).
ويعرض مولانا المؤلف إلى قوله تعالى: (إياك نعبد)؛ ثم يعرض لعبادة المسلمين الآلية، ويعرض بالسلوك المتنافي مع أخذ العهد عند الوقوف بين يدي الخالق ويتساءل: (أيكفي أن تؤدى الفريضة في كل يوم؛ ثم نستتبع بما لا يتفق مع أوامر الله وناهيه؟).
وبعد أن يحقق طرق التقدم الفردي، والجماعي، يتجه إلى التقدم الثالث وهو (نشر الإسلام) ويرى أن التقدمين الأولين لا ينفعان إذا لم يؤديا إلى العمل على إذاعة العقيدة الصحيحة في مدلولها السليم.
هذه نظرة فيما جاء بتلك الرسالة الجديرة بالتقدير، ولا ننس التنويه بهذا الشعور الطيب البادي من السيد تصدق القادري؛ فقد دل على تقديره لمعنى التبادل الثقافي بين أبناء العروبة التي نرجو لها الحرية الكاملة في ظل الإسلام وتعاليمه القويمة!(956/46)
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
المدرس بالثانوية(956/47)
البريد الأدبي
مدينة بلا مكتبة.!
يقول الأخ الأستاذ الفاضل عباس خضر في كشكوله الأسبوعي في العدد الصادر في 15 أكتوبر سنة 1951 من الرسالة الغراء إن مجلس نقابة ممثلي المسرح والسينما قرر أخيراً إنشاء مكتبة للنقابة. . ثم يقول: (. . والغريب في هذا الخبر أن النقابة ليس لها مكتبة إلى الآن. .)
فإذا كان خلو نقابة ممثلي المسرح والسينما - وهي المنشأة في قلب القاهرة، العاصمة الكبيرة الزاخرة إلى جانب دار الكتب الحكومية العامرة بمختلف المخطوطات القديمة وآلاف المطبوعات المؤلفة بمختلف اللغات - قد أدهش الأخ الأستاذ الفاضل، فما قوله - دام فضله - في خلو مدينة عظيمة بأسرها كمدينة بور سعيد، ثالث مدن القطر وأهم واكبر مواني مصر على الإطلاق بعد الإسكندرية، من دار كتب أو مكتبة عامة.؟
إنني أرى - إذ يقف حضرته على هذه الحقيقة المرة، التي ربما لم يقف عليها من قبل - أنه أولى به أن ينتابه الدهش والاستغراب أكثر مما ينتابه من خلو دار نقابة من مكتبة خاصة ينحصر نفعها في أعضائها.!
إنه والله لمن العار حقاً أن تظل هذه المدينة العظيمة المرموقة التي تشرف على أكبر وأهم ممر بحري دولي في العالم، مفتقرة كأية قرية مهملة في قلب البلاد، إلى مكتبة أو شبه مكتبة أو دار كتب إلى الآن وفي هذا العصر الذري.!
نعم، إنه لمن العار على كبراء هذه المدينة المنكودة وأعيانها وأثريائها ومن بيدهم أمورها أن تفتقد الطوائف المثقفة فيها دار كتب وقاعة محاضرات تليقان بمقامها وبمركزها الدولي وشهرتها بين مواني العالم نتيجة للجهل المطبق المخيم على بعض العقول والإفهام. .
فمتى ينتبه من رقاد مهلك ... من قد أضر بعينه هجماتها!
محمد عثمان محمد
أصحاب المعالي:
قرأت في العدد الأخير من الرسالة الغراء بحثاً قيماً للأستاذ محمد محمود زيتون بعنوان(956/48)
(أصحاب المعالي) وقد أكبرت جهد الأستاذ في جمع الشواهد وشرحها والتعليق عليها مما يدل على طول باعه في الاستدلال وذوقه في الاختيار.
إلا أني وجدت بعض المآخذ فأردت التنبيه إليها.
جاء في مقال الأستاذ بيت من قصيدة معروفة لأبي تمام الطائي نسبها إلى أبي العتاهية والبيت في وصف القلم
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصل
إذا ارتكب الخمس اللطاف وأفرغت ... فيه شعاب الفكر وهي حوافل الخ
وقد ذكر في مقاله عن قصيدة أبي الحسن الأنباريفي رثاء الوزير المصلوب أبي طاهر محمد بن بقية أن الشاعر تمنى لو كان هو المصلوب ليرثي بالقصيدة المذكورة، والحقيقة أن السلطان عضد الدولة هو الذي تمنى ذلك حينما قرأ أو سمع القصيدة وقد ذكر الأستاذ زيتون أبياتاً مختلفة للإمام علي كرم الله وجهه والثابت أن الإمام لم ينظم الشعر ترفعاً عنه للآية الكريمة. . (والشعراء يتبعهم الغاوون الخ) كما لم يؤيد قول الإمام للشعر الأستاذ الزيات في مؤلفه العظيم (تاريخ الأدب العربي) وإن جاء في عبقرية الإمام للأستاذ العقاد أبيات في آل همدان لكنها لا تؤيد قول الإمام للشعر.
ومما لاحظته على الأستاذ الكريم إيراده لبيتين لولادة بنت المستكفي لا تنم عن المعالي وبعد الهمة بل تدل على الاستهتار وعدم الحشمة حين تعطي قبلها لمن يشتهيها، وقد يشتهيها عبدها، وشتان بين قولها
أمكن عاشقي من لثم ثغري ... وأعطي قبلتي من يشتهيها
وقول عائشة التيمورية
ما عاقني خجلي عن العليا ولا ... سدل الخمار بلمتي ونقابي
عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت ... صعب السباق مطامح الركاب
كركوك
عبد الهادي أحمد السامرائي
وسوسان أيضاً:(956/49)
للأستاذ الشاعر كيلاني حسن سند اعتراض على كلمة (سوسان) سجله على الشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري، ورد أديب من قراء الرسالة يصحح الكلمة في البريد الأدبي وأورد أبياتاً لأبي نواس تدعيماً لذلك.
ولقد لفت نظري هذا النقاش حول الكلمة لأن أستاذنا الكبير عباس العقاد أوردها كذلك في قصيدته النونية التي يعارض بها قصيدة ابن الرومي، فإذا رجعت إلى ديوانه ص37 قرأت:
بالغصن شبهه من ليس يعوفه ... وإنما هو للرائين بستان
وهل نما قط في غصن على شجر ... آس وورد ونسرين وسوسان
وللأستاذ العقاد مكانه - في مجمع فؤاد - الذي يطل منه ويشرف على مترادفات اللغة واشتقاقاتها. ولذا تكون الكلمة صحيحة.
السويس
محمد عبد الرحمن
1 - رد على تساؤل:
يسألني الأديب الفاضل عفيفي الحسيني هل يجوز وصف الله سبحانه وتعالى بالأزل والأبد بدون نسبة أي (الأزلي) و (الأبدي) وذلك في نقده لبيت من قصيدتي (النور الحائر) هو:
يا أيها الأزل المحجوب بالقدم ... يا أيها الأبد المستور بالعدم
وأنا أجيب حضرته بأنه لا مانع مطلقاً من ذلك. بل ربما كان أبلغ في الدلالة على المعنى المراد. فإنك حين تقول إن فلاناً (جمال) أو (كمال) أبلغ وأعمق مما لو قلت إنه (جمالي) أو (كمالي) ففي الصيغة الأولى جعلته هو (الكلي) بعينه بينما هو في الثانية جزء من (كل). ومما قالوه قديماً وأنشده سيبويه:
لست بليلي ولكني (نهر) ... لا أدلج الليل ولكن أبتكر
أما سؤال الأديب عن معنى الأزل المحجوب بالقدم مع ترادف اللفظين، أفلا يرى معي الأديب أن لله قدمه (المطلق). وأن الوجود له قدمه (النسبي). وأننا كلما دفعنا حب المعرفة إلى محاولة استجلاء ذاته المقدسة حجبه قدمه وقدم العالم عن مداركنا، ولا أحسب الأديب(956/50)
في حاجة إلى أن أهديه إلى معنى الأبد المستور بالعدم بعد هذا الذي ذكرت. ومن ثم يتضح له أن لا غموض ولا خطأ في البيت. وأن القافية مظلومة. ظلمها عدم الروية وقصور الأناة.
2 - بيتاق:
وددت لو لم يردا في قصيدة الأستاذ الشاعر عبد القادر الناصري (ميعاد) المنشورة بالعدد (947) حتى يظل لها مستواها الرفيع.
البيت الأول:
وظل يضرخ حتى ذاب من ألم ... فؤاده وجرى من ثغره مزقا
فالصورة المتخيلة هنا تمثل إنساناً يتقيأ قلبه قطعاً دامية من (ثغره) وهي صورة كما ترى يأباها الذوق الشعري الخالص. وأرجو أن لا يتعلق الشاعر بعنصر (الإثارة الشعورية) فطرق التعبير الشعوري السليم ميسورة للملهمين.
البيت الثاني:
أوليت خالق هذا الحسن من علق ... أحب يوما إذن ما ذل من عشقا
ونحن نسأل الشاعر من هو خالق هذا الحسن؟ أليس هو الله تعالى الذي يؤمن به ويقدسه كمسلم؟ إن الهبوط في هذا البيت جاء نتيجة ضعف ديني تتميز به طبقة أدبية معروفة. ما كنت أخال أن لها كل هذا التأثير في فطرة الشاعر. وبعد فعلى الشاعر المجيد سلام أخيه.
محمد مفتاح الفيتوري(956/51)
القصص
اعتراف
للكاتب التشكسلوفاكي كارك كابك
للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
تحدث الأب فوق قس سانت ماثيو قائلاً - (أما علاج النفس فأنتم تعرفون أنه علاج من أقدم ما مارسه البشر. بيد أن الكنيسة تطلق على هذا الضرب من العلاج اسم (اعتراف التطهر المقدس). فعندما تضطهد النفس، وحينما ينتابها ما يشينها فاذهب أيها الآثم إلى كرسي الاعتراف المقدس، وأطرح عن نفسك كل الأوشاب العالقة بها. إن ما يدعونه الاضطراب العصبي ليس إلا ما نسميه نحن وخز الضمير والندم على ارتكاب المعصية.
(منذ سنين مضت، في يوم من أيام الصيف، كنت متخذاً ركناً من أركان كنيستي، قابعاً فيه من عناء الحر، وقد هبت علي نسمات باردة تلطف من حدة ذلك الوهج الشديد، عندما أقبل خادم الكنيسة وأخبرني بأن هناك من يود الاعتراف.
(بطبيعة الحال، قمت فارتديت حلة الكهنوت البيضاء. ثم جلست داخل مقصورة الاعتراف. وأحضر الخادم طالب الاعتراف، فوقف أمامي خارج المقصورة التي تحجبني عنه. وأطللت عليه من نافذة المقصورة. كان رجلاً في خريف العمر يرتدي ملابس محترمة. وكان يبدو من هيئته أنه إما تاجر متجول أو وكيل شركة لبيع الأراضي. وكان شاحب الوجه، مفرط البدانة. وركع الرجل أمام المقصورة دون أن يفوه بكلمة.
وقلت أشجعه: هلم وردد معي: أنا الآثم التمس، اعترف إلى الله العظيم -
(فقاطعني الرجل قائلاً في صوت جهوري - كلا. فعندي كلام آخر أو د أن أفضي به. دعني أتحدث على طريقتي).
وفجأة، أخذ ذقنه يرتعش، وتصبب العرق من جبهته. وأخذت أنا الآخر، دون سبب ما، أشعر بإحساس غريب مخيف مقزز، لم يسبق من قبل أن انتابني مثله، إلا في ذات مرة عندما كنت حاضراً تشريح جثة، جثة كانت في حالة تامة من التعفن والانحلال. ولن أقص عليكم أيها السادة ما كانت عليه تلك الجثة.(956/52)
(وصمت في دهشة وانزعاج - ماذا بك بحق السماء؟
(فتلعثم الرجل قائلاً - لحظة واحدة. لحظة واحدة.
(ثم ندت شفتاه عن آهة عميقة، وتمخط بصوت جهوري وأخيراً قال - إني على ما يرام الآن. حسن. منذ اثنتي عشر عاماً.
(ولن أحدثكم بما أخبرني به، فإنه من أسرار الاعتراف، فضلاً عن أنه كان حديثاً عن أفعال وحشية مخيفة تشمئز منها النفوس. مهما يكن من الأمر فإني لا أستطيع إعادة ما قاله الرجل من تفاصيل مفزعة ليس لها مثيل حتى في عالم الخيال. ودار في خلدي أن أهرب من المقصورة، أو أصم أدني عن سماع أقواله، أو أفعل شيئاً من هذا القبيل. وحشوت فمي بجزء من حلتي الكهنوتية حتى أمنع صيحة من الرعب تكاد تخرج مني. وأخيراً قال الرجل وقد تمخط في رضا وارتياح - حسن. الآن وقد انجاب عن صدري ذلك الأمر أقدم لنيافتك عظيم شكري.
(فقلت في دهشة - انتظر قليلاً. إنك لم تكفر بعد.
(فقال في غير كلفة وهو يحدجني بنظرة من خلال النافذة الصغيرة القائمة بيني وبينه - ومن تحسبني أيها الأب؟ إني لا أومن بمثل ذلك. ما جئت هنا إلا لأريح شعوري. أنت تعرف أنه عندما تنقضي علي مدة دون أن أتحدث عما اقترفته، عندئذ يتراءى لي فلا أستطيع النوم، وأعجز عن إغماض عيني. وعندما أصل إلى هذه الحالة أراني مضطراً إلى الإفضاء بكل ما في قلبي. ولهذا السبب أتيت إلى هنا، لأن هذا من صميم عملك، ولأني أعلم أنك لا بد أن تحتفظ به في سريرتك. إنه سر الاعتراف. أما الغفران فإني لا أهتم به ولا قلامة ظفر. فهو لا يجدي إذا كنت عديم الإيمان. حسن. أرجو أن تتقبل شكري الجزيل واحترامي الزائد.
(وقبل أن أدرك ما الذي حدث كان الرجل قد خرج من الكنيسة يتهادى في رضاء.
(وبعد أن انصرم ما يقرب من عام عاد الرجل إلي مرة أخرى التقى به أمام الكنيسة وقد بدا شاحب الوجه، ذليلاً في مسكنه، وتلعثم وهو يقول - هل أستطيع أن أعترف لك يا صاحب النيافة؟
(قلت - اسمع. إنك لا تستطيع الاعتراف بلا غفران. إن هناك حداً لهذا. فإذا أنت لم(956/53)
ترغب في التكفير فإني لا أستطيع مطلقاً أن أفعل لك شيئا.
(فتنهد الرجل وقال وقد انحنى رأسه في ذله - يا إله السماوات. إن هذا نفس ما يقوله لي كل قس. ولا يوجد من أستطيع أن أعترف له، ولابد لي من الاعتراف. خبرني يا صاحب النيافة ماذا يهمك لو قلت لك مرة أخرى. . .
(وعندئذ أخذ يرتعد كما ارتعد من قبل. فصحت في دهشة وغضب.
- لماذا لا تفضي بما يجيش في صدرك إلى أي إنسان آخر؟
(فأجاب وقد قطب حاجبيه في اكتئاب - ويكون من جراء ذلك أن يشي بي.
(ثم صاح في غضب - فلتذهب إلى الجحيم.
(وغادرني وقد أفصح مظهره عن مقدار يأسه.
(ومنذ ذلك الوقت لم أره مطلقاً.
* * *
وقال الدكتور بادم المحامي: إن قصتك لم تنته بعد. ففي ذات يوم - وكان ذلك منذ بضع سنوات - حضر إلى مكتبي رجل شاحب الوجه، ناكس الرأس. وفي الواقع، لم أعر مظهره اهتماماً يذكر. وعندما طلبت منه الجلوس وسألته عن شأنه، أخذ يحدثني قائلاً - استمع إلي. إذا طلب منك أحد المترددين عليك استشارة سرية وأخبرك أنه قد ارتكب وزراً مثل. . .
فقاطعته قائلاً - إن طبيعة عملي تمنعني من استخدام سره في غير مصلحته.
فقال الرجل وقد ارتاح لحديثي: إذن فكل شيء على ما يرام. . هناك ما أود أن أفضي به إليك. منذ أربعة عشر عاماً. .
ولقد حدثني يا صاحب النيافة بمثل ما حدثك به، أخذ يفضي بمكنونات صدره وكأنه يكاد يختنق بها. وكان عرقه فياضاً، ووجهه قاتماً. وكانت عيناه مغمضتين. وبدا لي كما لو أنه قد غثيت نفسه، فصار يقذف من فمه بكل ما احتواه عقله من أسرار تقلق راحته. وأخيراً سمعته يتنهد ثم مسح شفتيه بمنديله.
وصحت قائلاً: يا إلهي! ليس في الوسع عمل أي شيء لك. . ولكن إذا أردت نصيحتي، نصيحة رجل يسديها إلى رجل مثله. .(956/54)
فقاطعني ذلك المخلوق العجيب قائلاً في صوت أجش: كلا. أنا لا أود أية نصيحة. إني ما جئت إلا لأخبرك بما أفضيت به إليك. ثم أضاف قائلاً في لهجة خشنة - ولكن تذكر أنك لا تستطيع أن تنتفع بما حدثتك به في غير صالحي.
ثم هب واقفاً وقال في صوت هادئ النبرات - حسن - ما مقدار ما أنا مدين لك به؟
فتمتمت قائلاً: خمسون كراونا.
فأخرج الرجل خمسين ورقة نقدية، ثم حياني وخرج. وكنت أود أن أعرف عدد المحامين الذين تردد عليهم ذلك الرجل لاستشارتهم. . على أية حال لم يعد لزيارتي بعد ذلك.
وتحدث الطبيب فيتاسك قال (ومع ذلك فليس ما قلته خاتمة هذه القصة. فمنذ سنوات مضت كنت أعمل كجراح في مستشفى، عندما فحصت مريضاً شاحب الوجه بدين الجسم متورم الساقين في شكل مفرط. وكانت تنتابه التشنجات، وتضطرب أنفاسه. وفي الحق، كان في حالة فريدة من مرض برايت (مرض البول الزلالي) وكان بطبيعة الحال بعيداً عن كل أمل في الشفاء. . وعندما أقبل الليل أنبأتني الممرضة أن المريض قد داهمته نوبة تشنجية. وعندما ذهبت إليه وفحصته وجدته يجاهد في سبيل التنفس وقد تصبب منه العرق مدراراً، وجحظت عيناه رعباً. وكانت كل هذه الدلائل المخيفة تشير إلى نزع الموت.
(وقلت له - حسن. أيها الرفيق. سأحقنك وستكون بعد ذلك على ما يرام.
(فهز المريض رأسه ولهث قليلاً - دكتور أنا. . عندي ما يجب أن أفضي به إليك. . ابعد هذه المرأة.
(وكنت أود أن أحقنه بالمخدر، ولكني عندما شاهدت ما لاح في عينيه بعثت بالممرضة بعيداً، ثم قلت له - والآن أفض إلي يا بني بما تود أن تحدثني به، على ان تنام بعد ذلك.
(فتأوه الرجل وقد لاح في عينيه ثمة رعب جنوني ثم قال - يا دكتور، يا دكتور، إني لا أستطيع. . فلا زلت أشاهد ما اقترفت. . لا أستطيع النوم - يجب أن أخبرك -
(ثم أفضى إلي بكل شيء وسط تشنجاته وحشرجته ولهثاته. ودعوني أقل لكم أني لم أسمع من قبل بمثل ما حدثني به.
وهنا سعل المحامي. فقال الطبيب فيتاسك (لا تخف. فلن أقص عليكم ما حدثني به. إنه سر الطبيب. لقد رقد بعد حديثه متهالكاً، مجهداً تماماً. ولم أستطع أن أمنحه فرصة للتفكير أو(956/55)
أن أزجي إليه أية نصيحة. بيد أني أعطيته بضعة مقادير من المورفين، وجعلت أعطيه غيرها كلما استيقظ من غيبوبته حتى نام أخيراً نومته الأبدية. لقد منحته كأس المساعدة ممزوجة بالانتقام.)
فقال الأب فوفر مفكراً: (جميل منك ما فعلت. فقد خلصته على الأقل من بؤسه وشقائه.)
محمد فتحي عبد الوهاب(956/56)
العدد 957 - بتاريخ: 05 - 11 - 1951(/)
أمريكا التي رأيت:
في ميزان القيم الإنسانية
للأستاذ سيد قطب
أميركا. . الدنيا الجديدة. . ذلك العالم المترامي الأطراف الذي يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم، أكثر مما تشغل من الأرض رقعته الفسيحة، وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم بالأوهام والأعاجيب، وتهوى إليه الأفئدة من كل فج، شتى الأجناس والألوان، شتى المسالك والغايات، شتى المذاهب والأهواء
أمريكا. . تلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطي والباسيفيكي. تلك الموارد التي لا تنضب من المواد والخامات، ومن القوى والرجال. تلك المصانع الضخمة التي لم تعرف لها الحضارة نظيراً. ذلك النتاج الهائل الذي يعيا به العدو الإحصاء، تلك المعاهد والمعامل والمتاحف المنثوثة في كل مكان. عبقرية الإدارة والتنظيم التي تثير العجب والإعجاب. ذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة. ذلك الجمال الساحر في الطبيعة والوجود والأجسام. تلك اللذائذ الحرة المطلقة من كل قيد أو عرف. تلك الأحلام المجسمة في حيز من الزمان والمكان. .
أمريكا هذه كلها. . ما الذي تساويه في ميزان القيم الإنسانية؟ وما الذي أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم، أو يبدو أنها ستضيفه إليه في نهاية المطاف؟
أخشى ألا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا، وعظمة (الإنسان) الذي ينشئ هذه الحضارة؛ وأخشى أن تمضي عجلة الحياة، ويطوى سجل الزمن، وأمريكا لم تضف شيئاً - أو لم تضف إلا اليسير الزهيد - إلى رصيد الإنسانية من تلك القيم، التي تميز بين الإنسان والشيء، ثم بين الإنسان والحيوان
إن كل حضارة من الحضارات التي مرت بها البشرية، لم تكن كل قيمتها فيما ابتدعه الإنسان من آلات، ولا فيماسخره من قوى، ولا فيما أخرجت يداه من نتاج. إنما كان معظم قيمتها فيما اهتدى إليه الإنسان من حقائق عن الكون، ومن صور وقيم للحياة؛ وما تركه هذا الاهتداء في شعوره من ارتقاء وفي ضميره من تهذيب، وفي تصورة لقيم الحياة من عمق، والحياة أنسا نية بوجه خاص، مما يزيد المسافة بعداً في حسابه وحساب الواقع، بينه وبين(957/1)
مدارج الحيوانية الأولى، في الشعور والسلوك، وفي تقويم الحياة وتقويم الأشياء
فأما ابتداع الآلات، أو تسخير القوى، أو صنع الأشياء، فليس له في ذاته وزن في ميزان القيم الإنسانية، إنما هو مجرد رمز لقيمة أساسية أخرى: هي مدى ارتفاع العنصر الإنساني في الإنسان، ومدى الخطوات التي يبعد بها عن عالم الأشياء، وعالم الحيوان. أي مدى ما أضاف إلى رصيده الإنساني من ثراء في فكرته عن الحياة، وفي شعوره بهذه الحياة
هذه القيمة الأساسية هي موضع المفاضلة والوازنة بين حضارة وحضارة، وبين فلسفة وفلسفة؛ كما أنها هي الرصيد الباقي وراء كل حضارة، المؤثر في الحضارات التالية، حين تتحطم الآلات وتفنى الأشياء؛ أو حين تنسخها آلات أجد وأشياء أجود، مما يقع بين لحظة وأخرى، في مشارق الأرض ومغاربها
وإنه ليبدو أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج، بحيث لم تبق فيها بقية تنتج شيئاً في حقل القيم الإنسانية الأخرى. ولقد بلغت في ذلك الحقل ما لم تبلغه أمة، وجاءت فيه بالمعجزات التي أحالت الحياة الواقعية إلى مستوى فوق التصور ووراء التصديق لمن لم يشهدها عيانا. ولكني (الإنسان) لم يحفظ توازنه أمام الآلة، حتى ليكاد هو ذاته يستحيل آله؛ ولم يستطع أن يحمل عبء العمل المنهك ثم يمضي قدماً في طريق الإنسانية، عندئذ أطلق للحيوان الكامن العنان؛ ضعفاً عن أن يحمل عبء العمل وعبء (الإنسان)!
وإن الباحث في حياة الشعب الأمريكي ليقف في أول الأمر حائراً أمام ظاهرة عجيبة، قد لا يراها في شعب من شعوب الأرض جميعاً: شعب يبلغ في عالم العلم والعمل، قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى؛ بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك!
ولكن هذه الحيرة تزول بعد النظرة الفاحصة في ماضي هذا الشعب وحاضره، وفي الأسباب التي جمعت فيه بين قمة الحضارة وسفح البدائية:
في العالم القديم آمن الإنسان بقوى الطبيعة المجهولة، وصاغ حولها الخرافات والأساطير؛ وآمن بالدين، وغمرت روحه أضواؤه ورؤاه؛ وآمن بالفن وتجمست أشواقه ألواناً وألحاناً وأوزاناً. . ثم آمن بالعلم أخيراً، بعد ما انقسمت نفسه لأنماط من الإيمان، وألوان من(957/2)
المشاعر، وأشكال من صور الحياة وتهاويل الخيال، بعدما تهذبت روحه بالدين، وتهذب حسه بالفن، وتهذب سلوكه بالاجتماع. بعدما صيغت مثله ومبادئه من واقعية التاريخ، ومن أشواقه الطليقة. وسواء تحققت هذه المبادئ والمثل أم لم تتحقق في الحياة اليومية، فقد لقيت على الأقل هواتف في الضمير، وحقائق في الشعور، مرجوة التحقق في يوم من الأيام، قرب أم بعد، لأن وجودها حتى في عالم المثال وحده، خطوة واسعة من خطوات البشرية في مدارج الإنسانية، وشعاع مضيء من الرجاء في تحقيقها يوماً من الأيام
أما في أمريكا فقد ولد الإنسان على مولد العلم، فآمن به وحده، بل آمن بنوع منه خاص، هو العلم التطبيقي؛ لأنه وهو يواجه الحياة الجديدة في القارة الجديدة؛ وهو يتسلم الطبيعة هنالك بكراً جامحة عتيدة؛ وهو يهم أن ينشئ ذلك الوطن الجديد الذي أنشأه بيده، ولم يكن له من قبل وجود؛ وهو يصارع ويناضل لبناء هذا الوطن الضخم. . . كان العلم التطبيقي هو خير عون له في ذلك الجهد والتنظيم والإنتاج
ولم يفرغ الأمريكي بعد من مرحلة البناء، فما تزال هنالك مساحات شاسعة لا تكاد تحد من الأراضي البكر التي لم تمسها يد؛ ومن الغابات البكر التي لم تطأها قدم، ومن المناجم البكر التي لم تفتح ولم تستغل، وما يزال ماضياً في عملية البناء الأولى، على الرغم من وصوله إلى القمة في التنظيم والإنتاج
ويحسن ألا ننسى الحالة النفسية التي وفد بها الأمريكي إلى هذه الأرض فوجاً بعد فوج، وجيلاً بعد جيل، فهي مزيج من السخط على الحياة في العالم القديم، والرغبة في تحرير من قيوده وتقاليده، ومن هذه القيود والتقاليد الثقيل الفاسد، والضروري السليم، ومن الرغبة الملحة في الثراء بأي جهد وبأية وسيلة؛ والحصول على أكبر قسط من المتاع تعويضاً عما يبذله من الجهد في الثراء
وبحسن ألا ننسى كذلك الحالة الاجتماعية والفكرية لغالبية هذه الأفواج الأولى التي تألفت منها نواة هذا الشعب الجديد. فهذه الأفواج هي مجموعات من المغامرين، ومجموعات من المجرمين؛ فالمغامرين جاءوا طلاب ثراء ومتاع ومغامرات؛ والمجرمون جئ بهم من بلاد الإمبراطورية الإنجليزية لتشغيلهم في البناء والإنتاج
ذلك المزيج من الملابسات، وهذا المزيج من الأفواج، من شأنه أن يستنهض وينمي(957/3)
الصفات البدائية في ذلك الشعب الجديد، وينيم أو يقاوم الصفات الراقية في نفسه أفراداً وجماعات؛ فتنشط الدافع الحيوية الأولية، كأنما يستعيد الإنسان خطواته الأولى؛ بفارق واحد أنه هنا مسلح بالعلم، الذي ولد مولده، وخطأ على خطواته. والعلم في ذاته - وبخاصة العلم التطبيقي - لا عمل له في حقل القيم الإنسانية، وفي عالم النفس والشعور. وبذلك ضاقت آفاقه، وضمرت نفسه، وتحددت مشاعره، وضؤل مكانه على المائدة العالمية الزاخرة بالأنماط والألوان
وقد يدهش الإنسان وهو يقرأ قصص الجماعات الأولى التي هاجرت إلى أمريكا في أيامها الأولى، ويتصور كفاحها الطويل العجيب، مع الطبيعة الجامحة في تلك الأصقاع المترامية، ومن قبل مع أنواء المحيط الرعيبة، وأمواجه الجبارة، في تلك القوارب الصفار الخفاف؛ حتى إذا رست على الصخور محطمة أو ناحية لقيت النازحين، مجاهل الغابات، ومتاهات الجبال، وحقول الجليد، وزعازع الأعاصير، ووحوش الغابات وأفاعيها وهوامها. . . لقد يدهش الإنسان كيف لم يترك هذا كله ظلاله على الروح الأمريكية إيماناً بعظمة الطبيعة وما وراء الطبيعة، ليفتح لها منافذ أوسع من المادة وعالم المادة
ولكن هذه الدهشة تزول حين يتذكر ذلك المزيج من الملابسات، وذلك المزيج من الأفواج. لقد قابلوا الطبيعية بسلاح العلم وقوة العضل، فلم تثر فيهم إلا قوة الذهن الجاف؛ وقوة الحس العارم، ولم تفتح لهم منافذ الروح والقلب والشعور، كما فتحتها في روح البشرية الأولى، التي احتفظت بالكثير منها في عصر العلم، وأضافت به إلى رصيدها من القيم الإنسانية الباقية على الزمان
وحين تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين؛ والإيمان بالقيم الروحية جميعاً؛ لا يبقى هنا لك متصرف لنشاطها إلا في العلم التطبيقي والعمل، وإلا في لذة الحس والمتاع. وهذا هو الذي انتهت إليه أمريكا بعد أربعمائة عام
للكلام بقية
سيد قطب(957/4)
الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
شهداء:
في يوم الاثنين 15 من أكتوبر 1951 أقر البرلمان المصري التشريعات التي قدمتها إليه حكومة جلالة ملك مصر والسودان وهي الخاصة بإلغاء اتفاقيتي السودان 1899 ومعاهدة 1936، وبذلك تخلصت مصر من القيود التي كانت تحد من سيادتها وحرياتها وتقف في سبيل وحدة الوادي
ولكن الغصب الأجنبي رفض أن يعترف بما قررته مصر، وأعلن تمسكه بالمعاهدة؛ بل زاد فأكثر من قواته البرية والجوية والبحرية
وهنا قام نضال بين مصر التي لا تبغي إثماً ولا عدواناً بين عصابة اللصوص من الدول الاستعمارية فانضمت أمريكا وفرنسا إلى إنجلترا وعملتا على تأييدها وشد أزرها
وكان من الطبيعي أن يظهر المصريون شعورهم وغبطتهم بتحررهم فقامت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد تعلن ابتهاج مصر بما قرره البرلمان. وساء الإنجليز ابتهاج المصرين بإلغاء المعاهدة فأطلقوا قواتهم في مدن القنال الهادئة ألوا دعة ثم اعتدوا على الشعب الأعزل بمدافعهم ونيرانهم فسالت دماء الأبرياء من الشهداء المصريين
وأكثر من هذا أنهم منعوا بالقوة تشييع جنازات شهداء مدينة الإسماغعليلية الذين استشهدوا في يوم الثلاثاء 16 أكتوبر وهكذا تعتدي إنجلترا - وهي التي تملقت مصر إبان محنتها أثناء الحرب العالمية الثانية - على الأبرياء من المصريين الذين أنقذوها في أخطر فترة مرت عليها في التاريخ، وكان في يدهم لو أرادوا خنقها وإراحة أنفسهم والعالم من بغيها، ولكنهم صدقوا وعودها وآمنوا بما قررته هي وشريكتها أمريكا في ميثاق الأطلنطي 1941 من احترامهم لحريات الأمم السياسية والفكرية والدينية. فلما انتهت الحرب تبخرت الوعود البريطانية وعادت بريطانيا تعلن ما أخفت وتماطل فيما وعدت وقلبت لمصر ظهر المجن فقتلت أبناءها واحتلت في غمرة بغيها وعدوانها مدينة الإسماعيلية ومكاتب الجمارك في السويس وبورسعيد كما احتلت بلوكات السكك الحديدية في محطة (فرز نفيشة) فليسجل التاريخ وليشهد العالم، وأما أنتم أيها الشهداء الأبرار فإلى جنة الخلد خالدين فيها أبداً(957/5)
أمس واليوم:
في وسط هذا الخضم المضطرب من الحوادث والعواطف ومن خلال هذه الثورة الوطنية أكتب إليك أيها الأخ المصري معيداً أمامك صورة جهاد آبائك ومسجلاً لك جهادك، فأنا أحدثك الآن عن مصر في ثورتين: الثورة الأولى1919 والثورة الثانية 1951
بدأت ثورة 1919 عقب الحرب الأوربية الأولى 1914 - 1918 فقصد زعماء مصر سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلى شعراوي إلى دار الحماية وطالبوا المعتمد البريطاني باستقلال مصر فأنكر عليهمطلبهم ووعدهم بمخاطبة حكومته انصرف الزعماء من دار الحماية وألفوا (الوفد المصري) ليعمل على تحقيق استقلال مصر والسودان استقلالاً تاماً
بدء العمل:
في 20 نوفمبر 1918 طلب سعد ورفاقه من المعتمد البريطاني أن يسمح لها بالسفر إلى أوربا لعرض مطالب مصر على مؤتمر الصلح المنعقد في باريس، فجاءهم الرد من السلطة بإرجاء الإذن (إلى أن تزول الصعوبات التي تمنع سفرهم في الوقت الحاضر)
احتج سعد ولم يفتر في العمل أو يتوان. أخذ يجمع التوكيلات من الأمة للمطالبة بحقوقها فأقبل الناس عليها بشغف. رأت السلطة في هذا الأمر خطر فقررت منعه وصادرت التوكيلات. احتج سعد على مصادرة التوكيلات وأخذ يواصل نشاطه فوجه نداء لمعتمدي الدول الأجنبية جاء فيه:
(إيماناً بالتصريحات المؤكدة التي أعلنها ساسة الخلفاء عند نشوب الحرب ولازالوا يجاهرون بها في انتصارهم للحق والحرية
واعتماداً على تلك الروح الجديدة التي تدفع أمم العالم وديمقراطيتها نحو ذلك المثل الأعلى مثل الحياة المطمئنة في كنف العدل وبحبوحة السلام
وثقة على الأخص بأن دخول الولايات المتحدة الفاصل في الممترك العالمي لم يكن لها فيه نقصد سوى صيانة حقوق الأمم الضعيفة واستفتاح عصر عدل مجرد عن الهوى تبور فيه إلى الأبد صفة من لا ينظر إلا إلى إرضاء مطامعه الشخصية ولا يهمه غير بسط على بني الإنسان اعتماداً على القوة والجبروت(957/6)
فمصر التي تعرف واجباتها وتهتم بمصالح نفسها رأت بمجرد عقد الهدنة الأخيرة أنها بعد أن لبثت طول مدة الحرب على أكمل حال من السكينة وحسن الوفاء، قد آن الأوان لتجهر - بما لها من حق في أن تحيا حياة حرة خالصة من القيود والأغلال)
واختتم الوفد النداء بالاحتجاج على الخطة التي اتخذت معه وعلى كل قرار بشأن مستقبل مصر لا يؤخذ رأي الأمة المصرية فيه
وفي نفس اليوم 6 ديسمبر 1918 أرسل إلى رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج برقية جاء فيها:
(تحدث في مصر أمور مخالفة لتقاليد الحرية والعدالة التي هي شعار دولة بريطانيا، وللسياسة الحرة التي لازلتم إماماً لها. . . هل تقبلون سعادتكم أن صوت أمة بأسرها يخفت بينما أرجاء العالم تدوي بأصوات الأمم المطالبة بمالها من الحقوق ومن حرية التصرف بمسقبلها؟. . . بالنيابة عن الوفد المصري أرفع هذه التصرفات لنظركم السامي.)
سعد زغلول
موقف الوزراء:
هذا ما قام بع سعد وزملاؤه. ولكنا من ناحية أخرى نجد أن رئيس وزراء مصر في ذلك الحين المغفور له حسين رشدي باشا وزميله عدلي يكن باشا غافلين وكانا يؤمنان تماماً بحقوق مصر، وكان رئيس وزراء مصر 1914 حين أعلنت عليها الحماية - وكان هو الذي قبل الحماية - فرأى أن الواجب يحتم عليه كمصري أولاً وكرئيس للوزراء ثانياً أن يعمل على تخليص مصر من الحماية. لهذا تقوم بدوره يطلب السماح له ولزميله عدلي بالسفر لمباحثة رجال الحكومة البريطانية في المسألة المصرية، فرفضت الحكومة البريطانية طلبهما فقدما استقالتهما في 4 ديسمبر فلم تقبل، فرفعا استقالة ثانية في 23 ديسمبر ولكنها رفضت أيضاً، فأتبعاها بثالثة في 30 ديسمبر 1918. رأت بريطانيا أن تصرح لهما بالسفر ولكن رشدي باشا علق سحب استقالته على التصريح للوفد بالسفر فرفض طلبه فاستقال
موقف رائع:(957/7)
استقال رشدي باشا واخذ الإنجليز يبحثون عن رئيس للوزارة يشغل مكانه وعن وزراء يتولون الحكم بدل الوزراء، ولكن ذهبت جهودهم أدراج الرياح ذلك أن المصريين على اختلاف ميولهم ومذاهبهم وقفوا صفاً واحداً منهم ليخون الوطن وليتعاون مع الغصب الأجنبي بقبوله الوزارة. وظلت مصر بلا وزارة في الفترة من ديسمبر 1918 إلى مارس 1919 وهكذا تجلت الوطنية المصرية رائعة قوية
هذا ما كان من أمر مصر في 1919. أجمعت الأمة على الوقوف صفاً واحداً في سبيل تحقيق مطالبها وصمدت للعدوان الآثم. وإن مصر 1951 ستكون إن شاء الله أكثر قوة وأشد وطنية، وستدافع عن حرياتها دفاع المناضل المستميت، ولن يخضعها اعتداء أو تهديد، ولن يثنيها وعد أو وعيد. وإلى اللقاء في العدد القادم إن شاء الله
قويسنا
أبو الفتوح عطيفه(957/8)
لياقات علي خان
للأستاذ صلاح الدين خورشيد
ألا رحم الله لياقت علي خان!
لقد عاش مجاهداً ومات شهيداً، عاش عيشة الأبرار المتقين، ومات ميتة الأبرار الصالحين. فلقد جاهد لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق ورفعة الإسلام وعز المسلمين، وكان لا يدخر في جهاده وسعا ولا يألو جهداً حتى أسلم الروح إلى بارئها يوم غالته أيدي الإثم والعدوان
كان رحمة الله مؤمناً تام الإيمان، صالحاً كامل الصلاح، تقياً ورعاً مخلصاً وفياً. وقد بلغ من سمو فضائله ورفعة أخلاقه أنه لم يعز إليه نقص من تلكم النواقص التي تلازم أكثرية رجال السياسة وأرباب الحكومات، بل وبلغ من حسن سيرته وسلامة سلوكه أنه استجلب الثناء حتى من أشد خصومة لجاجة. ألا رحم الله لياقت علي خان لقد امتدحه حتى خصومة وأعداؤه،
قالت قرينته واساها الله بمصابها وأنعم عليها الصبر والسلوان:
(لقد تمثلت في نفس قريني ما يكنه ثمانون مليون نسمة من عقيدة وعزم للنهوض بباكستان وجعلها دولة إسلامية مجيدة ناهضة، وكان حتى أن لفظ آخر أنفاسه يتمسك بهذه العقيدة ويختلج بها قلبه اختلاجاً. وكانت نفسه رحمة الله تشف عن روح إسلامية حقه ألا وهي الاستسلام التام لمشيئة الله. وكان ذا إيمان راسخ لا يتزعزع فسلك سبيل الواجب سلوكاً مستقيماً إلى أن أدركه الأجل فمات شهيداً. ولقد قال مراراً إنه لا يملك من حطام الدنيا شيئاً وأن ليس لديه إلا حياته وأنه يسخر حياته لخدمة الإسلام وباكستان على شفتيه فكان مثالاً يجدر بكل باكستاني أن يقتدي به
(وإنني لأفشي لأبناء بلادي الآن سراً إذ أقول انه قال لي قبل شروعه بسفر المشئوم إلى راولبندي
(إنه سيلقى أعظم خطاب في حياته. فسألته عم سيتناوله الخطاب فقال إنه يتناول تكوين سياسة البلاد ولكنه قبل أن يدلي بخطابه ضحى تضحيته الكبرى
وإنني بكوني شريكته في الحياة أعلم أن ليس من شئ أحب إليه من رسالة زعيمه القائد الأعظم ألا وهي النهوض بباكستان إلى أعلى ذرى المجد وتمكينها من تبوئ المقام السامي(957/9)
بين أمم العالم. ثم إنه كان يؤمن إيماناً راسخاً بمقدرة أمته للوصول إلى هذا الهدف بما يبذلونه من مساع حثيثة، وما يبدونه من صبر وأناة في مواجهة الخطوب وتقديم مصلحة الأمة على المصالح الشخصية، ولم تكن المصائب لتوهن عزمه الا الأخطار لتفت في عضده ولا المغريات لتصرفه عن نبيل غرضه)
هذا ما قالته عنه قرينته وأقرب الناس إليه، وبمثل هذا أبنه زملاؤه العالم أجمع، إذ لم يكن من بين قادة الدول وزعماء الأمم وساسة الشعوب من لم يفجع بمقتل لياقت علي خان ومن لم يعرب عن عميق حزنه وأسفه لهذا المصاب الجلل، إذ لم يكن لياقت علي خان ما جبل عليه من خلال حميدة وسجايا نبيلة مجرد أنسى يحيا ويموت وإنما كان أكثر من ذلك. كان رمزاً لأمة حية ناهضة ومثلاً لأخلاقها وسلوكها وعواطفها. لقد تمثلت فيه الأمة الباكستانية فمثلها أصدق تمثيل؛ فمن سجايا الأمة الباكستانية أنها تعتز بدينها الحنيف وتكلف بحضارتها الإسلامية العقيدة، وكذلك كان لياقت علي خان رحمة الله إذ كانت له مواقف مشهودة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين لا في ربوع الهند فحسب وإنما في جميع ربوع العالم، فقد نافح عن الإسلام ومبادئه العليا حتى في بلاد الغرب عندما زار أمريكا وكندا قبل نحو عامين. . فقد قال فيما قاله في هذا الصدد إنه إذا كان العالم يحسب اليوم الحساب لكتلتين متناحرتين شرقية وغربية فعليه بعد اليوم أن يحسب الحساب لكتلة ثالثة لا تقصد إلى التناحر أو إلى إثارة الحروب، ألا رحم الله لياقت على خان! كان مسلماً حقاً وكان مؤمناً بالغ الإيمان برسالة الإسلام
صلاح الدين خورشيد(957/10)
أندريه جيد
الأديب العالمي الكبير
للأستاذ خالص عزمي
إن فكري لا يتجه إلا إلى التنظيم، وإلى البناء. . . ولكنني لا أستطيع بناء أي شئ إذا لم أختبر المواد التي أبني بها الأفكار المعترف بصحتها. . . والمبادئ لا يقبلها فكري ما لم يعترف بصحتها. . . وأنا بعد أعلم أن أكثر الألفاظ رنيناً أكثرها فراغاً. . إنني أرتاب في الخطباء من ذوي الفكر الصحيح، من الرسل الأدعياء. ولا أنفك أهتك النقاب عن مضمون جعجعتهم
(أندرية جيد)
في ليلة الأربعاء العشرين من شهر شباط المنصرم: روع العالم واهتزت الأوساط الأدبية لوفاة الكاتب العالمي الكبير (أندرية جيد) وهو لا يزال جزيناً على موت الأديب الأرلندي الشهير (جورج برناردشو)
وفي هذا المقال نقدم كاتبنا الكبير في صورة صحيحة خالية من الرتوش، مستوحين تلك الصورة من عالمه الذي كان يعيش فيه، ومن مقالاته ومؤلفاته التي كان ينشرها على العالم
في عام 1869 ولد طفل يبدو على سيماء الذكاء وتبرق على جبينه العبقرية والدهاء. كان يعيش كما يعيش غيره من أبناء فرنسا في ذلك العهد: فترعرع في جو يسوده عدم الاستقرار وتطفي عليه أصوات الاضطرابات، ولم تكن الحال هكذا الجو الخانق والحياة المرتبكة راح (الطفل) أندرية يواصل دراسته حتى بذ جميع لأقرانه مما أوجب اهتمام المدرسين الذين كانوا يشرفون على سير دراسته!
وعندما التحق جيد بالمدرسة الثانوية لمواصلة دراسته ظهرت فكرة العبقرية التي كان يتحدث بها أساتذته أكثر وضوحاً وتركيزاً. فقد برزت علامات النبوغ ومخايل الذكاء عليه حتى أصبح مثلاً يضرب فيه!
وبقي جيد ينهل من العلوم المختلفة والآداب قديمها وحديثها ومن اللغات زمناً غير قصير، استوعب خلاله ثقافة واسعة شاملة كان بها عارفاً لفلسفة اليونان وفلسفة العصر، بالإضافة(957/11)
إلى ما ذكر من العلوم والآداب. ومن الطريف الذي يذكر عن (جيد) أنه هوى الشعر ردحاً من الزمن إذ راح يجول بخياله فيه؛ فنظم قصائد تعد من القصائد الجيدة في بابها
آراؤه:
يعتبر (أندريه جيد) من العباقرة الذين يمكن أن نطلق عليهم (العباقرة الشواذ): إذ لا تراه إلا قلق التفكير لايعرف الاستقرار ولا يطلب الهدوء، ولم تكن هذه الحال بقصيرة العمر عنده؛ بل كانت ملازمة له بالرغم عنه: ولهذا السبب نراه يتخذ من قوله الشهير دستوراً له في الحياة حيث كان ينادي دائماً:
(إن كل توكيد حتى لو صدر عني ينشئ في نفسي على الفور الجواب الذي أنكره) من قوله هذا يتبين أنه حتى على أقواله لايثبت، بل ينقضها متى شاءت إرادته
لقد طلعت آراء (أندريه) ومبادئه على العالم يوم نشر أول مؤلف له. . المؤلف الذي أحدث ضجة في وقته وقد كان عنوان ذلك الكتاب (مذكرات أندريه والتر) وذلك في عام ذ891 إذ ذاع صيته وسطع نجمه في عالم الأدب العالمي. . ثم والى (أندريه) بعد مؤلفه هذا النشر ولم يكن في هذه المرة كتاباً؛ بل كان يمطر الصحف بمقالات وقصص وقصائد تحمل مبادئه وآراءه. . وكان هدفه من ذلك أن يدفع الشباب نحو ما يطلق عليه (بالضمير العقلي والثقافي)!
وقد يكون قوله الشهير الذي سنذكره مبدأ مستقلاً بذاته وفيه يبرز (أندريه) اعتداده فيه أنه لا يكتب إلا إلى فئة قليلة هي التي تفهمه؛ وحتى تلك الفئة قد لا يتصورها جيد بتاتاً. . . إذا يا ترى لمن كان يكتب - جيد)
إنه يجيب على ذلك بقوله الذي تحدثنا عنه (إن الذين سيفهمونني لم يولدوا بعد، وإنني أكتب للأجيال القادمة)!
ومن معتقداته أنه يرى أن عمل هذا الشخص لا يدل إلا على طريقة فاشلة من طرق اغتنام الفرص. وهو يقول بأن مثل هذه الحالة هي الخطيئة بعينها، لأن الشخص سيخضع فكرة وآراءه للظروف التي تصطدم به ولا يحركها هو!!
ولهذا فقد كان (جيد) لا يحب الناس الذين تخلقهم الصدفة والمناسبة، بل كان يحب الذين يعيشون عظاماّ ويموتون عظاماً. . . لا لأن المناسبة قد أوجدت لهم تلك العظمة، بل لأنهم(957/12)
حقيقيون يعيشون للواقع، ولهذا كان يجل العالم الألماني الشهير (نيتشه) وكذلك الكاتب الروسي اللامع (دستوفسكي) حيث كان يعتقد فيهما أنهما من الأحرار الذين لا يقيدهم خوف أو شفقة أو حياء!!
لقد قلنا إن (جيد) كان شاذاً قلق الفكر لايستقر على مبدأ حتى يخرج إلى مبدأ آخر والدليل على ذلك. . أنه رفع البلشفية بوصفه لها بمقالات عدة نشرها على العالم، إلى طبقة الحرية المثالية أو النظام الأكمل. . .
ولكنه لما دعي لزيارة روسيا وعاد منها بعد زيارته لها ذمها ذماً شديداً وقذفها قذفاً قد يصل إلى أشنع الهجاء، وهذا يدل على عدم الاستقرار الفكري الذي تحدثنا عنه!
ثم هذا دليل آخر على قلق المبادئ عنده؛ وهو أنه مال إلى الرمزيين في إبان شبابه وبدأ يدعو الناس إلى اعتناق مبادئهم، ولكنه ما بين عشية وضحاها تركهم نهائياً لأنه رأى أن عنصر التشاؤم يتغلغل في نفوسهم ويكون عندهم حجاباً حالك الظلام يفصل بين أرواحهم وبين الأمل المنشود
كان جيد يكره التشاؤم ويعتقد فيه الضعف، وأن الشخص الذي يتشاءم من الحياة إنما هو إنسان ضعيف الإحساس حائر الفكر، لأنه يرى في التشاؤم محاربة للواقع واحتقاراً للحياة!
وكان يكره الرمزيين - أخيراً - لأنه وجد فيهم عدم توصلهم إلى مذهب ثابت حقيقي، أو عدم تملكهم الفكرة أو المبدأ الفلسفي الصحيح!
نعم قد يكون له هذا الحق لو كان ثابتاً على مبدئه. . ولكنه راح يناقض نفسه للمرة الثالثة حيث برز هذا التناقض في صورة حبه وتقديسه لمبدأ - شوبنهور - ولشخصه، بينما نحن نعرف أن شوبنهور كان أولئك المتشائمين في الحياة! إذن لماذا كان يقدسه (جيد)؟!
وكذلك نرى أنه كان يكره - هيجل - لأنه كان الشخص المفضل من قبل أصحاب المذهب الرمزي، وجلهم من الشعراء!
وقد تثبت هذه النظرة على (جيد) أكثر تركيزاً في ناحية بغضه للرمزيين وكتابته في الأدب الرمزي ونظمه في الشعر الرمزي. . .
وكذلك نحن نعرف أن - جيد - كان واقعياً بينما نجده في نفس الوقت يكتب في الفلسفة الخيالية. . إذن ما هو سر هذا التناقض؟(957/13)
أن سر التناقض عند (جيد) هو (العبقرية) ولا نضيف كثيراً على ذلك سوى أن تقول إن المبادئ التي دفعت (جيد) إلى الواقعيات في الأمور هي التي جعلته أقرب الأدباء العالميين إلى نفوس العرب وأكثرهم تحليلاً لمشاكلهم
أسلوبه وكتبه:
كان أسلوب (جيد) رائعاً جزلاً بشهادة الكثيرين، ولم يكن سبب ذلك أن جيد كان يجيد البيان في اللغة الفرنسية فحسب، بل لأنه كان يخلق التعابير الجديدة الرائعة فيصوغها بأسلوب جذاب دقيق
وهو يشبه كل الشبه في لغته وأسلوبه أسلوب معالي الدكتور طه حسين باشا عميد الأدب العربي. . ولذلك كانت نفسيته بالنسبة للأدب والأسلوب والمعنى والبيان مطابقة لنفسية جيد الأدبية ومدى تذوقها للبيان السلس والجذل بنفس الوقت
إن جيد كان يميل في أدبه إلى النثر أكثر من الشعر، وكان يعتقد فيه أنه خير من الشعر بكثير، وهذا ما أوضحه في مؤلفه المشهور (لو كانت بذرة لا تموت)
وأهم ما يوصف به أسلوب جيد ويتميز به أنه رفيع السبك، يحلل الشخصية تحليلاً دقيقاً، وبصور الجانب إنساني منها ثم يصور الحالات الأليمة أبرع تصوير
ولكنه مع كل هذا غامض مبهم لا يفهمه إلا من تعمق في آرائه ومعتقداته، ودرس كتبه ومقالاته درساً وافياً
ولقد كان (جيد) يميل إلى كتابة القصة القصيرة أكثر من ميله إلى القصة الطويلة، ولكنه مع هذا قد قدم إلينا أكثر من قصة طويلة ولو أنها كانت خارج استعداده وميوله (كما يقولون)!
إن أهم مؤلفات (جيد) هي ما كانت تدور حول النواحي القصصية والروائية: وقد تكون أشهر كتبه التي طلع بها على العالم هي:
1 - السمفونية الريفية
2 - الباب الضيق
3 - مذكرات أندريه والتر
4 - لو كانت بذرة لا تموت(957/14)
5 - أوديب وتسيوس
وقد فاز أندريه جيد بجائزة نوبل العالمية لفرع الآداب 1947، فاتحه إليه نظر الأدباء والمثقفين حيث راحوا يوالون درس مؤلفاته ومقالاته. . . حتى أن الدكتور طه باشا حسين وتوفيق بك الحكيم كتبا عنه مقالات شاملة بينا فيها مقدرة (جيد) الأدبية ومنزلته العلمية وعلمه الفريد
ولقد كتب عنه الأستاذ نزيه الحكيم وترجم له كتاب (الباب الضيق) فجاء تحفة نادرة سدت فراغاً في المكتبة العربية وجيد بعد كل هذا بيناه، صريح كل الصراحة. حتى أنه لا يعتر به الخجل وهو يسرد قصة حياته الخاصة عن طريق مؤلفاته، ذاكرا فيها كل شئ عما قام به من مغامرات شخصية وعلاقات دارت حوادثها مع الزمن في إبان شبابه، وبصورة واضحة مع فتيات باريس اللواتي كن ينظرن إليه نظرات الإعجاب والإكبار! أو كما يقول أحد الأدباء في وصف ما قاله جيد عن حياته الخاصة (يجمل بالشباب أن يتجنبوا قراءتها)!!
وجيد مع ذلك كان يكره الحب الجسدي ويعشق الروح لأنه أسمى عنده وأثبت، وشذوذه من هذه الناحية جنى عليه حتى حرمه من دخول الأكاديمية الفرنسية التي تضم أربعين شخصية خالدة
هذا هو أندريه جيد الكاتب الفرنسي الشهير الذي توفى ليلة الأربعاء في العشرين من شباط بعد أن بلغ الحادية والثمانين من العمر. . . قضاها في سبيل الرفع من قيم الإنسانية المعذبة
بغداد
خالص عزمي(957/15)
المرأة في شعر شوقي
بمناسبة ذكراه للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
تتمة ما نشر في العدد الأسبق
أما الصورة الثانية فترى فيها شوقي يساير روح الإصلاح المنبعثة من قلوب المستنيرين الآخذة في الازدياد. فجاء شعره خالياً من الصناعة الشعرية بعيداً عن التكلف، تظهر فيه روح معنوية صريحة تسمو بالغرض الشعري، فقد استجاب للصيحات التي يبعثها رجال الإصلاح
ونراه يخصص لمشكلة الحجاب والسفور - التي شغلت القوم - قصيدة طويلة تظهر فيها شاعريته القوية وثقافته العالية، ولكنه مع ذلك كان شديد الخشية والحذر من مكاشفة الجمهور برأي صريح، فاستغل خياله الخصب ومعانيه الرائعة فأضفي على القصيدة نوعاً من السحر، أخذ بألباب الناس، المحافظ منهم والمجدد، وصار الكل يتغنون بهذا الشعر الجميل
ففي قصيدته التي بعث بها إلى (مكنونة البادية) يدعوا فيها المرأة إلى نزول ميدان الحياة متسلحة بالأخلاق القويمة والمثل العالية، وأن تكون واضحة الحجة قوية الرهان، وأن تتذرع بالصبر على ما يصيبها في سبيل ما تريد أن تصل إليه، لأن المعالي لا تنال إلا بالجد والكفاح فيقول
صداح يا ملك الكنا ... ر ويا أمير البلبل
قد فزت منك (بمعبد) ... ورزقت قرب (الموصلي)
وأتيح لي (داود) مز ... مارا وحسن ترتل
يا طير والأمثال تض ... رب للبيب الأمثل
دنياك من عاداتها ... ألا تكون لأعزل
أو للغبي وإن تعل ... ل بالزمان المقبل
جعلت لحر يبتلى ... في ذي الحياة ويبتلى
يرمي ويرمي في جها ... د العيش غير مغفل
مستجمع كالليث إن ... يجهل عليه يجهل(957/16)
أسمعت بالحكمين في ال ... إسلام يوم (الجندل)
في الفتنة الكبرى ولو ... لا حكمة لم تشغل
رضى الصحابة يوم ذ ... لك بالكتاب المنزل
وهم المصابيح السرا ... ة عن النبي المرسل
رجعوا لظلم كالطبا ... ئع في النفوس مؤصل
نزلوا على حكم القو ... ى وعند رأى الأحيل
ففي هذه القصيدة والأبيات الأخيرة منها خاصة يبين أن الأمر للقوة مهما كان وضوح الحق ومهما كانت حجة قائليه، ولكنه كان ذا قوة وذا حيلة فاستطاع أن يظفر بما يريد في آخر الأمر، وهذا شأن الحياة كل شئ فيها يحتاج إلى القوة والحيلة
ثم يطرق موضوعاً أكثر خطورة من سابقه، فهو ينعى على الرجال تعسفهم مع نسائهم وتنكرهم لهن بزواجهم عليهن بعد أن قضين في أكنافهم زمن الصبا، وزبلت منهن زهرة الشباب. وحفظن لهم أعراضهم، وصبرن معهم على حلو الحياة ومرها، وبعد أن رزقن منهم بنين وبنات، فيقول:
ظلم الرجال نساءهم وتعسفوا ... هل للنساء بمصر من أنصار
يا معشر الكتاب: أين بلاؤكم ... أين البيان وصائب الأفكار
أيهمكم عبث وليس يهمكم ... بنيان أخلاق بغير جدار
عندي على ضيم الحرائر بينكم ... نبأ يثير ضمائر الأحرار
ومنها قوله:
كثرت على دار السعادة زمرة ... من مصر أهل مزارع ويسار
يتزوجون على نساء تحتهم ... لا صاحبات بغى ولا بشرار
شاطرنهم نعم الصبا وسقينهم ... دهراً بكأس للسرور عقار
الوالدات بنينهم وبناتهم ... الحافظات العرض كالأسوار
الصابرات لضرة ومضرة ... المحيبات الليل بالأذكار
من كل ذي سبعين يكتم شبيه ... والشيب في فوديه ضوء نهار
يأنى له في الشيب غير سفاهة ... قلب ضغير الهم والأوطار(957/17)
كم ناهد في اللاعبات صغيرة ... ألهته عن حقد بمصر صغار
يرشو عليها الوالدين: ثلاثة ... لم أدر أيهم الغليظ الضارى
المال حلل كل غير محلل ... حتى زواج الشيب بالأبكار
سحر القلوب فرب أم قلبها ... من سحره حجر من الأحجار
دفعت بنيتها لأشأم مضجع ... ورمت الصبا والحسن بالدينار
بعض الزواج مذمم، ما بالزنا ... والرق إن قيسا به من عار
فتشت لم أر في الزواج كفاءة ... ككفاءة الأزواج في الأعمار
أسفي على تلك المحاسن كلها ... نقلت من (البال) إلى الدوار
إن الحجاب على (فروق) جنة ... وحجاب مصر وريفها من نار
وعلى وجوه كالأهلة ورعت ... بعد السفور ببرقع وخمار
وعلى الذوائب وهي مسك خولطت ... عند العناق بمثل ذوب القار
وعلى الشفاء المحييات أماتها ... ربح الشيوخ تهب في الأسحار
في هذه القصيدة يسمعنا رأيه صريحاً، لا يهاب ولا يخشى، فيدعوا أصحاب الأقلام ليستلوها على هؤلاء العابثين الذين لاهم لهم إلا إشباع شهواتهم، وعلى الذين يتجردون من العواطف الإنسانية ويبيعون بناتهم بيع السائمة طمعاً في الأموال. . .
ثم يكون في قصيدة أخرى أبعد صراحة وأكثر تأييداً للمجددات من نساء مصر، ممجداً مقام المرأة، ضارباً الأمثال بالرسول الكريم في معاملته للنساء. وبأمهات المؤمنين في العزة والكرامة والعلم والمعرفة، وكيف أنهن حملن تراث الشريعة الإسلامية وشاركن الرجال في التجارة والحرب والسياسة، فيقول في قصيدته (مصر تجدد مجدها):
قم حي هذي النيرات ... حيى الحسان الخيرات
واخفض جبينك هيبة ... للخرد المتحفزات
زين المقاصر والحجا ... ل وزين محراب الصلاة
هذا مقام الأمها ... ت فهل قدرت الأمهات
خذ بالكتاب وبالحدي ... ث وسيرة السلف الثقات
وارجع إلى سنن الخلي ... قة واتبع نظم الحياة(957/18)
هذا رسول الله لم ... ينقص حقوق المؤمنات
العلم كان شريعة ... لنسائه المتفقهات
رضن التجارة والسيا ... سة والشؤون الأخريات
ومنها قوله:
أرع الرجال لينظروا ... كيف اتحاد الغانيات
والنفع كيف أخذن في ... أسبابه متعاونات
لما رأين ندى الرجا ... ل تفاخراً أو حب ذات
ورأين عندهمو الصنا ... ئع والفنون مضيعات
والبر عند الأغنيا ... ء من الشؤون المهملات
أقبلن يبنين المآ ... ثر للنجاح موفقات
مصر تجدد مجدها ... بنسائها المتجددات
النافرات من الجمو ... د كأنه شبح الممات
لما حضن لنا القض ... ية كن خير الحاضنات
غذينها في مهدها ... بلبانهن الطاهرات
وسبقن فيها المعلم ... ين إلى الكريهة معلمات
يهوين تقبيل المهن ... د أو معانقة القناة
وبرين حتى في الكرى ... قبل الرجال محرمات
قصيدة مامرة تنطق بأجل المعاني وأسمى الأغراض، لولا ضيق المقام لك لترى قدرة الشاعر واتساع ثقافته
وفي قصيدة (هلال والصليب الأحمران) لا يفرق فيها بين السافرات والمحجبات في الأعمال الإنسانية، والعمل على تخفيف آلام جرحى الحرب ومنكوبي الحوادث والأرزاء؛ ويشبههن بالمسلمات العربيات الخالصات في غصور الإسلام الزاهرة حيث كن يقمن بنصيب وافر مع الرجال في ميادين القتال يضمدن جراح المصابين ويخففن آلامهم، ويدفعن بالمحاربين إلى ساحة الوغى. . . فيقول:
جبريل أنت هدى السما ... ء وأنت برهان العناية(957/19)
أبسط جناحيك للذي ... ن هما الطهارة والهداية
إلى أن يقول:
ومحجبات هن أط ... هر عند نائبة كفاية
يسمعن ريا أو قوى ... كنساء طى في البداية
إن لم يكن ملائك الر ... حمن كن هو حكاية
يا أيها الباغون ركا ... ب الجهالة والعماية
الباعثون الحرب حبا ... للتوسع في الولاية
المدعون على الورى ... حق القيامة والوصاية
المتكلون الموتمون ... الهادمون بلا نهاية
كل الجراح لها التئا ... م من عزاء أو نسايه
إلا جراح الحق في ... عصر الحصافة والدارية
ستظل دامية إلى ... يوم الخصومة والشكاية
والأم هي المدرسة الأولى يتلقى فيها الابن عاومه ويتزود منها بالمعارف التي تعده للحياة، وفي استطاعتها أن تخلقه كما تشاء إن شاءت جعلته جبانا رعديداً،
وإن شاءت خلقته أسداً هصورا. وهي القديرة على أن تخلق منه رجلاً مثالياً كاملاً يمشي في الناس بالهدى والرشاد، أو تخلق منه شيطاناً رجيماً يبعث في الأرض الفساد. فيقول مخاطباً المرأة:
أنت شعاع من عل ... أنزله الله هدى
كم قد أضاء منزلاً ... وكم أنار مسجداً
وكم كسا الأسواق من ... حسن وزان البلدا
لولا التقى لقلت لم ... يخلق سواك الوالدا
إن شئت كان العير أو ... إن شئت كان الأسدا
وإن ترد غيا غوى ... أو تبغ رشداً رشدا
يأخذ ما عودنه ... والمرء ما تعودا
هذه نظرة سريعة لما حفل به ديوان شوقي عن المرأة غير ما تفرق في رواياته المتعددة(957/20)
التي تصور حياة المرأة النفسية والخلقية والعاطفية التي كان يلحظها شوقي، وفيها نرى كيف كان شوقي يعالج هذه الموضوعات بحكمة وتدبر، وأنه كان يستلهم بيئته الخاصة، العامرة بالعنصر النسوي المهذب الذي يدين بالحرية المقيدة بالقيود الخلقية والاجتماعية، وكيف أخذ على نفسه مناصرتها في الدعوة إلى التقدم الاجتماعي الذي كانت تسعى دائبة في الحصول عليه، وكيف كان يعمل على الأخذ بيدها في الحياة المنزلية والزوجية، والصلة بينها وبين الرجال
كما عرف مقدار خطوها في تربية أبنائها الذين تقدمهم للوطن رجالاً عاملين، يسعون إلى رفعة الوطن وترقيته ليساير أرقى الأمم في العالم
رحم الله شوقي وبلل ثراه، فقد ترك لنا تراثاً ضخماً قل أن يجود الزمان بمثله
أسبوط
عبد الموجود عبد الحافظ(957/21)
أحمد سامح الخالدي
للأستاذ نجاتي صدقي
هذا الموت الذي لا يرحم. . قد اختطف نفس مرب فلسطيني كبير، ومؤرخ يشار إليه بالبنان، وصاحب فضل عميم على الشبيبة الفلسطينية المثقفة، ألا وهو المرحوم أحمد سامح الخالدي
والأسرة الخالدية في فلسطين هي من الأسر العربية الحجازية العريقة، أسرة قضاء وعلم، أسرة أدب وشعر، أسرة تربية وتاريخ وطب
مارست القضاء على التوالي خلال ثمانمائة سنة، فرحل قسم منها إلى مصر واشتغل مناصب القضاء. وقبور الديرى الخالدي في القاهرة تشهد لي ذلك، ثم عادت إلى فلسطين لتمارس القضاء والعلوم على شتى أنواعها
ومن أعلامها الذين توفاهم الله العالم الكبير، والحجة الثقة المرحوم الشيخ خليل الخالدي مؤسس المكتبة الخالدية الموجودة في القدس حتى أيامنا هذه. وليس من متعلم فلسطيني إلا لجأ إلى هذه المكتبة العامرة طالباً مكتبة الأسرة تركها السلف إلى الخلف؛ ثم أصبحت مكتبة قومية لعرب فلسطين كافة
وعميد الأسرة الخالدية اليوم هو العالم المجتهد الشيخ راغب الخالدي، رجل هيبة ووقار، وحجة من البقية الصالحة وبالرغم من تخطية سن التسعين. . هو والد الدكتور حسن، والدكتور حسين، وأحمد سامح، وغالب، ويعقوب، وإسماعيل
ولد فقيدنا في القدس سنة 1896، وتلقى علومه الابتدائية في مدرسة الأمير كان، ثم في مدرسة المطران، ثم التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت حيث درس الصيدلة ونال شهادتها سنة 1916 وهو في العشرين من عمره، ولما أعلنت الهدنة عاد إلى فلسطين حيث عين مفتشاً للمعارف في يافا، وتابع في الوقت ذاته دراسته إلى أن تم له الحصول على درجة أستاذ في التربية
وتمر فترة من الزمن فيعين مساعداً لمدير معارف فلسطين، ويتبع ذلك تعيينه مديراً للكلية العربية في القدس سنة 1925 وظل في منصبه هذا إلى أن حلت النكبة بعرب فلسطين
ومن المشاريع الجليلة التي حققها المرحوم مشروع لجنة اليتيم العربي لأيتام الثورات(957/22)
العربية في فلسطين، فأنشأهم معهداً في دير عمرو. أذكر وقت أن دعاني الفقيد الغالي لزيارة هذا المعهد سنة 1946، فأقلتنا السيارة بين الوهاد والتلال إلى أن بلغنا قمة جبل، وقد انتصبت عليه أبنية حجرية جميلة. . . وراح رحمة الله يحدثني عما لاقاه من متاعب جمة لإقامة هذا المعهد للبنين، وعن عزمه على إقامة معهد آخر للبنات. فقلت له: وكم كلفكم بناء هذا المعهد؟. . قال: حوالي مائة وخمسين ألف جنيه فلسطيني، توليت تنظيم جمعها بنفسي
ولما بدأت الغيوم القائمة تتبلد في سماء فلسطين أسرع رحمه الله واستحصل من الحكومة المنتدبة على مبلغ مائة ألف جنيه لتتميم بناء مدرسة بيت حنينا وتجهيزها في قضاء بيت لحم، وتخصيصها للتلاميذ العرب في حالة تقسيم فلسطين، وقد عينت الحكومة لجنة أمناء لتحقيق هذا المشروع مؤلفة من الفقيد، والأستاذين نافذ الحسيني، وأنطون عطا الله، ثم أودعت اللجنة المبلغ مودعاً فيه
كانت مدرسة بيت حنيناً هذه تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الفقيد إبان إقامته في لبنان. كان يمنى النفس بالعودة إلى وطنه ليعيد للعلم صرحه، لكن الأوضاع العمة لم تسعفه فانتظر وطال انتظاره
وفي العشرين من شهر إبريل سنة 1948 لجأ رحمة الله مع قرينته الأديبة الفضلة السيدة عنبرة سلام الخالدي إلى وطنهما الثاني. . . وكأن إبان حياته في هذا البلد الشقيق عاملاً فعالاً من أجل تعليم أبناء اللاجتين، فأسس في جنوب لبنان مدرسة نموذجية قريبة الشبه بمعهد دير عمرو، وقد أعانه في تحقيق هذا المشروع ساكن الجنان رياض الصلح
لم يكف الفقيد لحظة واحدة عن الكتابة والتأليف عن لبنان، فكان يعقد الفصول في مجلتي (الأديب)، و (الرسالة) ونشر المقالات في جريدة (بيروت المساء) بعنوان - فلسطين في نصف قرن رأيتها تنهار -، وقد استخلص مقالاته هذه من كتابه الكبير الذي يحمل هذا الاسم والذي لم ينشر بعد
وأكب مؤخراً على وضع كتاب (التعليم عند العرب) وقد أنهاه وشرع في تنقيحه. . وورد ذكر هذا الكتاب في رسالته لقرينته التي كانت تقوم برحلة استجمام في ربوع إنكلترا مع شقيقها معالي صائب سلام، فقال فيها. (لقد بلغت يا عزيزي في تنقيح الكتاب حتى عهد(957/23)
المماليك. . . وإنني أتابع عملي دون انقطاع)
وضع فقيدنا أثنين وعشرين مؤلفاً، طبع منها ستة عشر، وستة منها هي مخطوطات فقط، وتعالج هذه المؤلفات مواضيع شتى في التربية، والتاريخ، وعلم النفس، وقد اشترك مع قرينته أديبتنا الكبيرة السيدة عنبرا في وضع كتاب (تأثير النساء في المدينة العربية) ولا يزال هذا الكتاب بين المخطوطات التي لم تطبع بعد
أما كتبه هذه فمنها ما قد تمكن من إخراجه من فلسطين، ومنها - وهو هام جداً - ظل في بيته في القدس، ومن حسن الطالع أن يقع البيت والكلية العربية تحت إشراف ممثلي هيئة الأمم المتحدة
وفي شهر يناير سنة 1951 تعين المربى الكبير في شركة (ألبان أمير كان للطيران) بمثابة مدير معاون لصائب بك سلام ولم يثنه عمله الإداري هذا لحظة واحدة عن تأدية رسالته التربوية التي كرس حياته من أجلها
كان المرحوم خصب الإنتاج طيلة حياته بالرغم من الصدمة الخاصة التي ألمت به بفقد قرينته الأولى أم الوليد؛ لكن الله قد أراد أن يهئ له السبيل إلى تأدية رسالته الكبرى فكافأه بالسيدة عنبرا سلام الخالدي وهي علم من أعلام السيدات العربيات في القرن العشرين
كانت السيدة عنبرا خير زوج ومعين للمرحوم، ولم يقعدها أمر الإشراف على بيتها وأولادها من تبادل الآراء مع قرينها في شتى المواضيع، ومن الانصراف إلى ترجمة (الإلياذة)، و (الأوديسى) إلى العربية وقد طبعا وأقرتهما حكومة فلسطين، ومن ترجمة (الأنياد) المعدة للطبع الآن
وأنجب فقيدنا ثلاثة بنين زابنتين، وهم: سلافة (27 سنة) تطلب العلم الآن في كمبردج وهي قرينة الأستاذ عاصم بك سلام المهندس المعماري، ووليد (26 سنة) وهو يسعى للحصول على الدكتوراه من أكسفورد وأطروحته فيها (البكرى الصديقى)، ومساعد المستشرق البروفسورجب في تحقيقاته، وأسامة (19 سنة) وهو يدرس الكيمياء في إنجلترا وقد نال درجة البكلوريا فيها، ويعمل للحصول على درجة أستاذ فيها أيضاً، ورندة (16 سنة)، وطريف (13 سنة)
كان الفقيد دائم التفكير بفلسطين، ومما ألت إليه أحوال الفلسطينيين، وقد تركت النكبة(957/24)
وأوضاع اللاجئين أثراً عميقاً في نفسه، ومضت الأيام دون أن يرى ثرى وطنه حراً مستقلاً، ودون أن يرى هؤلاء المشردين في كل صقع أحراراً كرماء في ديارهم، فلم يقو قلبه الكبير على احتمال الكارثة وسكت. . . بعد ظهر الخميس 27 أيلول سنة 1951 الموافق 25 ذي الحجة سنة 1370 وشيع جثمانه في يوم الجمعة إلى مقره الأخير في مقام الأوزاعي بالقرب من بيروت
كنا نتوقع إبان حياة الفقيد أن تستدعيه الحكومة الأردنية الهاشمية ليشغل المنصب الذي يستحقه. . . وكنا نتوقع أن يعمد أصدقاؤه ومحبوه وهم الآن وزراء، ونواب، وسفراء أن يثيروها حملة صاخبة لدعوة عميد المربين الفلسطينيين إلى مواصلة جهاده التربوي في القدس التي أحبها وأحبته. . . لكن شيئاً من ذلك ويا للآسف لم يحدث، فتوفاه الله وفي نفسه حسرة رحمك الله يا أبا الوليد، ونفعنا بعلمك وفضلك
نجاتي صدقي(957/25)
أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
هذا وقد نسب الشيعة إلى الإمام على أنه (كان يعرف السماء زقاقا زقاقا) فهل أريد بذلك الغلو في علم الأيام أم هل أريد به أن السماء لم تعد مجاهل فامتدت إليها يد الإصلاح بالتنظيم والتعمير حتى صارت بها الشوارع والأزقة والدروب؟.
ولا ينبغي أن نغفل شأن أهل السماء وروادها من أصحاب الفلك، الذين جعلوا علما ثابت القواعد مأمون المناهج معروف الغايات. . .
والتنجيم في جوهرة استجابة صادقة للنزاعات الطامحة في الأجيال إلى كشف مجاهل السماوات العلا، وإهمال هذا الجانب ليس إلا نقصاً في المعرفة الإنسانية الكاملة، لهذا كانت الدعوة الإسلامية حريصة على الحث عليها لما لها في تحرير العقل، وتعريفه بقدرة الله العلي الأعلى
والكواكب سيارة وثابتة. أما الأولى فهي السبع المشهورة: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، وهي مرتبة تنازلياً من السماء العليا إلى الدنيا، لهذا كان القمر أقرب السيارات منا، وزحل أبعدها، أما الثانية فكلها في السماء الدنيا
ويتناول علم النجوم أفلاك الكواكب ومنازلها بالبروج وأدوات الرصد وغير ذلك، مما يجعل الباحث فيه من أصحاب المعالي
وإذا تتبعنا نشأة التفكير الحر في الأوساط الإنسانية نرى أن الفلسفة اليونانية هي التي تمثل تطور الفكر من مهده إلى رشده، فقد بدأ الطبيعيون الأولون ينظرون إلى الوجود في حرية واستقلال بعد أن خلعوا عن كاهلهم نير الأساطير والتعاويذ، واتجهوا بأنظارهم إلى أصل الأشياء
وانتقل الفيثاغوريون بعدهم إلى الأعداد والأنغام غير ناظرين إلى المحسوسات وتخطاهم (بارمنيدس) إلى الوجود من حيث هو الوجود، واهتدى إلى (الله) واستنتج صفاته على نمو(957/26)
من التنزيه والتجريد لم نرلها مثيلاً من قبل
ولما شاعت الفوضى على يد السفسطائيين قام (سقواط) بحملة موفقة على موجة الادعاء والغرور، وطلب الحقيقة فوجدها كامنة في الكليات لا في الجزئيات، فاصطنع الاستقراء للوصول إلى غاية، وأخذ في توليد المعاني من النفوس كما كانت أمه تفعل في توليد الأجنة من البطون، وبالحوار السقراطي بلغ الفكر إلى حيث ينبغي أن يكون وجاء تلميذه (أفلاطون) فكان أحرص على تراث الفيلسوف الأثيني، فابتدع منهجاً فريداً هو الجدل وجعله صاعداً ونازلاً أي أنه ارتفع بالنظر من المحسوسات في عالم التغير إلى المقولات في عالم الثبات، وانتقل بالفكر الخالص من الأرض إلى السماء أي من الأشباح إلى الحقائق، من الموجودات إلى (المثل) حيث كانت النفس قديماً في صحبتها، وإذا بأفلاطون بعد هذا التحليق ينزل بجدله هذا إلى أمور الدنيا لتفسيرها وتعليلها، ومعه قبس من السماء كأنه كبير الآلهة (زوس) الذي هبط إلى الأرض وفي عقب عصاء جذوة العلم
ولم يقف أفلاطون عند فكرة طارئة، بل أوصل فكرته إلى غاياتها البعيدة بأن رسم الحدود العليا لكل من الفرد والمدينة في دقة وعلى نحو رفيع، ولا ننس مع ذلك أسطورة الكهف الأفلاطوني التي ترمز بالكهف إلى الانحطاط في المستوى الإنساني من حيث الرضى بالأشباح الزائفة التي لا تغنى عن الحقائق شيئاً
ولقد خلع أفلاطون على تلميذه النابغة (أر سطو) أرفع وسام إذ سماه باسم (العقل) أو (عقل المدرسة) وذلك لما كان يمتاز به من سمو في التفكير وتوخ لصوت العقل
أنزل أر سطو الفلسفة من السماء إلى الأرض ليبدأ من الأرض وينتهى إلى السماء فهو من أميز أصحاب المعالي في انتقاله من العدم إلى الكمال، وبينهما درجات تصاعدية على أساس من (العقل)، فالهيولى أو المادة الأولى عدم أو شبه عدم، ويليها تصاعدياً الجماد فالنبات فالحيوان فالإنسان ثم تعلوه الكواكب ومن فوقها جميعاً (الله) باعتباره (عقل العقل) والذي هو الكمال المطلق والمحرك الأول الذي يحرك ولا يتحرك. وتحريكه للعالم إنما يكون عن طريق الجذب، والموجودات كلها تتحرك نحوه بالعشق لأنه كمالها، والناقص يطمح دائماً إلى الكامل
وعنى أر سطو كذلك بالنفس وميز الأخلاق الرفيعة من الوضيعة، بأن جعل الفضيلة وسطاً(957/27)
عادلاً بين طرفين متنافرين هما التفريط والإفراط، ويسمى المعلم الأول: التهور شجاعة البهائم، وهو الذي ينسب إلى الله الحكمة الإلهية (بينما على المرء أن يتحلى بالحكمة الإنسانية). وعلى العموم فأن آفاق أر سطو كلها بعيدة الأقطار عالية الأبعاد رفيعة الأهداف، مما جعله ينفرد بالقمة دون السابقين واللاحقين من فلاسفة الشرق والغرب على السواء
وجاء من بعده عشاق اللذة وطلاب المنفعة، وتذرعوابمبدأ (ولك الساعة التي أنت فيها)، وما كان ذلك ليمنع من ظهور أصحاب الأخلاق العالية في شتى العصور، وقد أجمعوا على طلب (المثل الأعلى) والتسامي بالنفس عن سفاسف الأمور، وكان الإسلام كالمنارة بين الخير والشر في ظلمات الحياة، وذلك بقول العلي المتعال (ولله المثل الأعلى)
وقدم الأحيائيون لعلماء النفس ثمرات طيبة أفادت كثيراً في المجال السيكولوجي بل في الأخلاق. وأكثر من هذا كله في النظرة الكونية العامة، فإن أصحاب النشوء والارتقاء إنما يدعون إلى التفاؤل، ويحثون على التقدم
وبناء على نشوء الكائنات الحية وارتقائها في سلم الحياة نراها تهدف إلى تكامل الجهاز العصبي، وذلك لا يتم إلا إذا انتهى هذا الجهاز إلى المراكز العليا للمخ، ومقتض هذا التطور تترتب الكائنات من الدنيا إلى العليا
تأثر السيكولوجيون بهذه الروح التقدمية العامة ففرقوا بين الإدراك والوجدان والنزوع، كما وقفوا على خصائص الغريزة، وقالوا بأنها لا يمكن القضاء عليها، بل الباب مفتوح على مصراعيه للتقدم الإنساني تبعاً لإمكان إعلائها، وتعلية السلوك
ونرى هذه الروح العالية تسود بقية العلوم بما لها من مبادئ عليا، ففي المنطق يعتبر المحسوس سافلاً والمجرد عاليا، وفي المقولات ما هو عال ومنها ما هو سافل وفي علم الفيزيقا تمييز واضح للأشعة فوق البنفسجية. وهناك (ما بعد الطبيعية) وهي الفلسفة العليا، وفي الجغرافيا دراسة للطبقات العليا من الجو
وفي علوم الرياضة اصطلاحات خاصة مثل: الترتيب التصاعدي والتنازلي، والبسط والمقام، وأكبر وأصغر. وكان اليونان قديماً يعتبرون العدد عشرة أكمل الأعداد. على أن البساطة هي غاية الرياضة، لهذا فهي ارتفاع من الأعداد والأشكال إلى الرموز؛ أي من(957/28)
الحساب والهندسة إلى الجبر، ومن ثم إلى الهندسة التحليلية
والفن لن يكون خالداً إلا إذا تلمس معالي الأمور، وعندئذ يسمى (الفن الرفيع)، أليس من ذلك هذا لا لتمثال اليوناني الذي يصور نسراً قص جناحاه كرمز على المجد الذي لا يريدونه أن يغادر بلادهم، ولا شك أن تمثال نهضة مصر إنما يمثل قطعة من طموح مختار حتى لقد أقام أبا الهول على يديه، ونهض بمصر عالياً، إذ جعلها تشرف ببصرها ورأسها، وصدرها إلى العلا
وفي الحرب يعتبر المكان العالي مفتاح الغزو، ولذلك يرفع العلم في ذاره كرمز على النصر المبين. وبخفض كرمز على الذل المهين
وتنطبع هذه النزعة في شتى مواقف الحياة فيقال: المصادر العليا، والقيادة العليا، والرئاسة العليا، والمجلس الأعلى والرئيس الأعلى والقائد الأعلى والمركز العام. وكذلك في الألقاب: صاحب الجلالة، والسمو والمجد والفخامة والمقام الرفيع، وصاحب المعالي وصاحب العزة، وكذلك الباب العالي والجناب العالي والصدر الأعظم. وفي مصر نقول في الوظيفة: ترقية، رتبة، علاوة، وفي العراق يقولون ترفيعة
وإذاً صدق أر سطو في حث الإنسانية على التماس الشرف في التفكير إذ يقول (شرف العقل من شرف موضعه) فهذه دعوة رسول الإنسانية عليه السلام (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) وبهذا كان في الطليعة من (أصحاب المعالي)
ممنوع النقل والنشر والترجمة إلا بأذن من مجلة (الرسالة)
محمد محمود زيتون(957/29)
رسالة الشعر
حيران
للأستاذ صبحي محمود سعيد
(مهداة إلى الأستاذ أنور المعداوي)
حيران يا قلبي وأين ... النور في هذا الظلام
أين النجوم تضيئ لي ... مسرى أماني العظام
مهما سعيت فلا أرى ... ألا قتاما في قتام
ملأ الظلام سكينتي ... حتى ذعرت من الزحام
حيران لا خل يعين ... على الحياة ولا سلام
حيران أسأل عن وجودي ... أي معنى في وجودي
أخلقتني يا رب للأقدار ... كالهدف القعيد
تتضاحك الأقزام من ... وقع السهام على زنزدي
أين السبيل لقد ضلك ... وتهث في دنيا العبيد
أخلقتني للقيد يا ربي ... فقد صدئت قيودي
ألأنني أعتقت روحي ... من قيود الظالمين
ألأنني ألقيت جسمي ... للذئاب الجائعين
ألأنني أطلقت أفكاري ... صدى للناقمين
مكنت لي قيداً وغلاً ... في الشمال وفي اليمين
لكنني ما زلت حراً ... بالعقيدة واليقين
ظمآن في بيداء عمري ... للحقيقة والمنا
طال الطريق ولا أبالي ... بالمشقة والضنا
أجهدت نفسي في طريق ... من ضحيتها أنا
في الشوك سعيي ما سعيت ... ووجهتي ذاك السنا
أين المفر أخا العذاب ... وأنت من هذي الدنا
حيران بالطين الذي ... منه الخليقة والعباد(957/30)
والطين طين واحد ... من داف بالطين الفساد
من علم الطين التفاخر ... والتباهي والعناد
عجبي لمن خشى القتاد ... وراح يمشي بالقتاد
كالنار تأكل بعضها ... كي تستحيل إلى رما
حيران لا أدري لمن ... أعنو وأسجد في صلاتي
أأليك يا ربي فها ... أناذا أهمهم في شكاتي
وأسارق النظر الكليل ... إليك من خوف الوشاة
والقائمين على النخاسة ... والمتاجر في حياتي
وأنا مكب مائل ... بين الدعاية والدعاة
أنت الذي بينت أصل ... الخلق من طين وماء
كانوا تراباً آسنا ... لما جبلت على الهواء
أنزلتهم أرض الخصا ... صة واستوبت على السماء
تنهى وتأمر بالعباد ... كأنهم بعض الإماء
وإذا عصوك نسفتهم ... نسفاً هباء في هباء
من ذلك الخوف امتثلنا ... للعبودة صاغرين
فاستأسد الباغي القوي ... على الضعيف المستكين
هذا يدوي بالزئير ... وذاك يهمس بالأنين
من كان يؤمن بالقوى ... فأنا بذلك لا أدين
ديني السماحة والحجى ... والخلق من ماء وطين
كم مرة حطمت ... آمالي وحطمت المرايا
كي لا أرى أحلامي ... الثكلى شظايا في شظايا
كي لا أرى شبح النبوغ ... يطل من بين الضحايا
حطمت كل سجية ... أوراه من تلك السجايا
إلا بقايا حسرة ... أبقيتها خلف الحنايا
حيران في خلقي وخلقي ... واحتمالي للهوان(957/31)
لو كنت أعرف من أنا ... أأنا طليق أم مدان
إني أسير وما برحت ... أسير مبهور العنان
فإلى متى أمشي وأمشي ... والزمان هو الزمان
وإلى متى أنعى وجودي ... ثم يخذلني الأوان
ببيروت
صبحي محمود سعيد(957/32)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
اللغة الأجنبية الأولى: د
لا تزال اللغة الإنجليزية هي اللغة الأولى في بلادنا، نعلمها للناشئة من السنة الثالثة الابتدائية، وتوشك أن تفرض على جميع المصريين بعد تنفيذ قرار التعليم الإجباري في مرحلة أولى موحدة
لا شك أن ذلك من أثر الاستعمار الإنجليزي في مصر، وأعني بذلك جعل الإنجليزية هي اللغة الأجنبية الأولى في التعليم، ولولا ذلك الاستعمار لكانت لغة مثل الفرنسية هي الأولى، أو لكنا وزعنا اهتمامنا باللغات الأجنبية على عدد من اللغات الحية ولم تكن الإنجليزية على أي حال الأولى
ومن الواضح أن سواد المتعلمين حين تفرض عليهم لغة أجنبية بعينها من البدء يضطرون إلى توجيه عنايتهم إليها أكثر من غيرها، فيقل اهتمامهم باللغة الثانية - كما هو الواقع بالنسبة إلى الفرنسية النتيجة هي الاستعمار اللغوي، وما أبغض الاستعمار بجميع أنواعه! والسؤال الأول: هل هناك - غير الاستعمار الإنجليزي في مصر - ما يدعو إلى أن تكون الإنجليزية اللغة الأولى في المدارس والمعاهد والجامعات المصرية؟ ولا أحسب أن لدى أحد من أحرار العقول جواباً عن هذا السؤال
فلو قارنا بينها وبين اللغة الفرنسية لخرجنا من هذه المقارنة بأن اللغة الفرنسية أولى منها بهذه المنزلة. فاللغة الإنجليزية لا تنتشر إلا في إنجلترا ومستعمراتها، على خلاف الفرنسية التي يسود التفاهم بها في أكثر البلاد الأوربية إن لم يكن في جميعها حتى إنجلترا نفسها وكذلك في أمريكا، والفرنسية هي اللغة الأولى في المحافل والمجامع والهيئات الدولية، وهي العالمية للآداب والفنون، ما من أثر أدبي أو فني ذي قيمة في البلاد الأخرى إلا وهو مترجم إليها
والسؤال الثاني: ما الذي يحملنا إذا على الرضاء بذلك الاحتكار اللغوي الذي أصبح أهله أبغض الناس إلينا، ولماذا لا نزيح عنا هذا الكابوس في جملة ما نعتزمه؟
إن الإنجليز من غير شك - يحبون نشر لغتهم ويحرصون على إذاعتها، وقد تضمن(957/33)
الاتفاق بينهم وبين الباكستان أن يبقى تعليم الإنجليزية فيها إجباريا بجميع التلاميذ، ولم ننس بعد الدعوة التي وجهتها الحكومة الإنجليزية في العالم الماضي إلى الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف إلى زيارة إنجلترا0وجامعاتها وإلقاء محاضرات فيها، والحفاوة التي لقيها معالية هناك. نعم إن المكانة والصيت اللذين أحرزهما معالية في ميدان الفكر العالمي جديران بأن يحتفي به من أجلهما في أي مكان، ولكن لم يكن خافيا أن الإنجليز - وهو الإنجليز - كانوا يرمون من وراء ذلك إلى غرض آخر، هو كسب الوزير المصري الخطير، كي يرعى جانبهم ولو بعض الشيء في المجال الثقافي الفرنسية - أن تطفي على الإنجليزية في مصر
ونحن نعلم رأي معالي الدكتور طه حسين باشا في تعليم اللغات الأجنبية في مصر كوسيلة للمشاركة في الثقافة العالمية، فهو يرى عدم قصر الجهود على لغة واحدة، ويقول بوجوب التنويع في ذلك بين المواطنين، ليتاح للثقافة المصرية أن تقطف خير الثمار من مختلف الجهات
وعلى ذلك تحرير المسألة في أمرين، الأول أن الإنجليزية ليست خير اللغات حتى نجعلها اللغة الأجنبية الأولى في بلادنا، فيجب أن نستبدلها بغيرها ولتكن الفرنسية، والأمر الثاني أن الإنجليزية في وضعها الحالي بمصر من آثار الاستعمار الإنجليزي الكريهة، وأن الإنجليز يسوؤهم أن نزحزحها عن مكانتها، فيجب إذن أن نزيل ذلك الأثر المنتن. . وأن نسوء إنجليز في لغتهم كما نسوؤهم في غيرها
والوقت الحاضر هو أصلح وقت لهذه الضربة القاصمة، التي ترضى الشعور الوطني، وتنال من الأعداء، وتنفع البلاد
فهيا أيها الرجل العظيم، اضرب الضربة. .
حذار من الوعظ والتهريج:
تطور النزاع بيننا وبين الإنجليز تطروا خطيراً عقب إلغاء المعاهد وما تبعه من اعتداءاتهم المنكرة المتكررة، وصارت البلاد إلى حال تستوجب بذل جميع الجهود وتوجيه الكفايات المختلفة نحو معركة التحرير القائمة، ولا يد للأدب والعلم والفن أن تساهم في هذه الحركة إن لم تقدها. وقد نشر أن هيئة التدريس بجامعة فؤاد الأول اجتمعت بقاعة الاحتفالات في(957/34)
الجامعة ودار البحث في هذا الاجتماع حول أحسن الوسائل التي ينبغي اتخاذها لخدمة القضية الوطنية في الخارج والداخل، واستعرض المجتمعون بعض الوسائل التي تتخذ في هذا السبيل، ومنها الاتصال المباشر بهيئات التدريس في الجامعات الأجنبية، ومنها قيام الأساتذة بإلقاء محاضرات تذكى الحماسة الوطنية في المدرجات الجامعية وغيرها
ويقال إن محطة الإذاعة المصرية تعمل الآن على تغيير برامجها وإعداد برامج تناسب الحركة الوطنية الحاضرة وقد بدأنا فعلاً نسمع منها شيئاً من ذلك، أقله جديداً، وأكثره قديم، وكل ذلك حسن، ولكن الذي تخشاه أن ينقلب الأمر إلى وعظ ممجوج، وخطابة يذهب أثرها مع الريح، وتهريج مسف مبتذل
نريد أن تستغل المواهب الممتازة والعقليات الناضجة في تقديم إنتاج جيد، في محاضرات تقوم على الحقائق وتبصر بدقائق الأمور، وفي فن يستميل القلوب ويعرف الطريق إلى مداخل النفوس
إن هذا الحشد من الأناشيد التي تحفظه الإذاعة لتعيده على الأسماع في كل مناسبة، لم يعد صالحاً للعمل، لأنه سخيف في تأليفه وتلحينه وإلقائه وقد مجته الأسماع من كثرة التكرار والترديد، وقد بدأت الإذاعة تلقيه على رؤوسهم كالحجارة، ونرجو أن تسبدل بهذه البضاعة المملولة جديداً موفقاً
وكم أود أن أتعلق بالتفاؤل ورجاء الخير فيما ستقدمه الإذاعة من جديد، وإن كنا نرى فيما بدأت تذيعه بعض الإسفاف الذي رجونا أن نبتعد عنه، فقد سمعت في إحدى تمثيلياتها أخيراً، رجلا قروياً يقول لزوجته:
(وبعدين يا مبروكة في الجماعة الإنجليز أولاد الـ. . . . دول!)
الحرية في الأدب العربي:
ومن أحسن ما سمعته من الإذاعة في هذا الظرف، حديث للأستاذ محمد رفعت فتح الله عن (الحرية في الأدب العربي) بدأه قائلاً: (الحرية وما هيه؟ فتنة القرون الخالية، وطلبة النفوس العالمية، غذاء الطبائع، ومادة الشرائع، وأم الوسائل والذرائع، بنت العلم إذا عم، والخلق إذا تم، وربيبة الصبر الجميل والعمل الجم. . .)
وقد استرعى انتباهي هذا الأسلوب الأدبي المحتفل له، وأعجبني منه قوته مع سهولته،(957/35)
وكان نبر الأستاذ في الإلقاء يوضح مقاصده
وبعد تلك المقدمة ساق طائفة من أقوال العرب - شعراً ونثراً - في الحرية وتمجيدها، ثم ختمها هذا الختام الطريف:
(ولقد استطاب اللسان العربي هذه الحرية وتخيرها، واستعارها للشيء الفاخر المختار الخالص من الأقدار، فيقال (حر الفاكهة): للمختار منها، و (حر الشعر) للفاخر الرائق منه، و (الحر من الفعل): ما كان حسناً خالصاً، و (الحر من الأرض): الطيب الجيد، و (حرية القوم): أشرفهم. ومن الطريف في الأدب العربي أن (حرية المرأة) لها معنى في الأدب القديم. ومعنى آخر في العصر الحاضر، فحرية المرأة - بالمعنى القديم -: شرفها وكرامتها، فإذا قيل (المرأة الحرة) فالمراد الشريفة الخالصة من أغلال العار، وأما (حرية المرأة) في عصرنا فالمراد بها تخلصها من قيود اجتماعية كانت عليها من قبل
القاموس الجغرافي للبلاد المصرية:
هو كتاب وضع أصوله المرحوم محمد رمزي بك، وقضى في تحقيقاته زهاء أربعين سنة، معتمد على مشاهدته، وعلى مراجع تاريخية وجغرافية، وعلى وثائق في المصالح الحكومية، فجاء شاملاً لجميع البلدان المصرية من مدن وقرى، سواء القديم منها والمستحدث
وقد أشرت إلى هذا الكتاب في أوائل العام الحالي، وذكرت أن دار الكتب المصرية قد اشترت جزازات هذا القاموس وأصوله من ورثة المؤلف بعد وفاته، وتسلمتها في فبراير سنة 1949 على أن تطبع الكتاب في خلال سنة على الأكثر ولكن الدار تراخت في تنفيذ ذلك
وعلى أثر كتبناه إذ ذاك، اهتم ورثة المؤلف الفقيد حرصاً منهم على بقاء هذا الأثر الخالد وإخراجه للناس، واستحثوا دار الكتب في ذلك، فعنيت الدار بالأمر، وعهد الأستاذ توفيق الحكيم بك عقب تعيينه مديراً لها إلى وكيلها الأستاذ أحمد رامي في أن يشرف على إعداد هذا الكتاب للطبع وندب لمعاونته الأستاذ أحمد لطفي السيد الموظف بالقسم الأدبي في الدار، والذي زامل المرحوم رمزي بك زهاء خمسة عشر عاماً وفهم منه نظام العمل في هذا القاموس(957/36)
وفي خلال الشهور الماضية قام الأستاذ لطفي السيد بمراجعة بطاقات القاموس وتحقيقها وترتيبها وتهيئتها للمطبعة، وأصبح الكتاب الآن معداً للطبع، والمرجو أن يبدأ طبعه في أقرب وقت، وألا يلتفت إلى المعوقين الذين يريدون تعطيل هذا العمل النافع. . .
عباس خضر(957/37)
الكتب
الدين والتاريخ
تأليف الأستاذ عباس كرارة
للأستاذ منصور جاب الله
هذا واحد من الكتب التي يضعها الأستاذ عباس كرارة بين الفينة والفينة مصدرة بكلمة الدين، وله قبل هذا الكتاب مؤلفات دينية أخرى منها الدين والأدب، والدين والحرم، والدين والحج، والدين والصلاة، والدين والصحة إلى غير ذلك من الموسوعات التي يحتسبها المؤلف الورع لوجه الله تعالى ابتغاء مرضاته
وهو قد كسر مؤلفه الأخير على تبيان مراحل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدث عن مولده وبعثته وهجرته وغزواته ووفاته، وقسم الكتاب ثلاثة أقسام: اختص الأول منها بالدور الأول من حياة النبي الكريم ويبتدئ من ولادته وينتهي ببعثته وقدره أربعون سنة، واختص القسم الثاني ببعثة الرسول في مكة إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم
فالكتاب إذن من كتب السيرة النبوية العاطرة، وهو لا يعدو في جوهرة تلك الكتب التي وضعت في حياة الرسول، ولكن المتأمل في هذا السفر لا يتلبث إذ يمضي في المطالعة حتى يجد نفسه حيال مؤلف جديد لم يسبق أن وقع عليه، ذلك أن الأستاذ عباس كرارة لا يكتب لمجرد شغفه بالكتابة، فالذي يبدو أن الكتابة ليست هوايته المفضلة، ولا مهنته الأصلية، وإنما هزة لهذا القصد حبه لرسول الله وشغفه به وحبه لنفع المسلمين إذ يتدفق الإخلاص من بين تدفقاً، وهو يروي في مقدمة كتابه ما دعاء إلى إمساك القلم والتحدث إلى الناس عن هذا النبي العربي العظيم (هنالك تجردت الروح من الشواغل الدنيوية والأفكار المادية، وانصرفت عن المطامع، وخلصت من الأغيار، وجالت جولة في عالم الشهود، فتم التجلي والصفاء، وتوجهت إلى الله بقلب سليم، ودخلت الروضة بشوق عظيم، وفرح جسيم، فحالما تمت مواجهتي لصاحب الشريعة الإسلامية والملة الحيفية، نسبت نفسي وجلت في عوالم الصفاء، وتجردت عن الحس والمادة، فاغرورقت عيني من الفرح بالدموع، وخفق قلبي من السرور بين الضلوع) إلى آخر ما قال المؤلف المتصوف الورع(957/38)
في هذا المجال
فكتابة وليد تشوق ولهفة رجب لرسول الله وأهل بيته، ومن ثم ينهى مقدمة الكتاب بهذه الكلمات (كان الفراغ من تبييض هذا الكتاب بمكة المكرمة. وببيت الله الحرام بجوار الكعبة المعظمة)
ولا يقتصر الكاتب على ما نقله من كتب السيرة، فإنه أزجى في كتابه الفريد مقالات مما كتب المسلمون في الذكريات الإسلامية المجيدة، فوضع كل مقال في بابه، فجاء منسجماً كالعقد نضدت جواهره ولآلئه في سمط محبوك الأطراف، وإن كنا نأخذ على المؤلف الفاضل انه أسرف في الاقتباس بإيراد ومقالات الصحف السيارة، ولكنه يعزز ذلك بقوله (وإلى جانب ما قمت باختياره ووضعة، وتلخيصه وجمعه، اخترت بضع مقالات دبجتها يراعه بعض الكتاب الأفذاذ في العصر الحاضر، رأيتهم أخلصوا النية فيما كتبوه بأقلامهم وسطروه في صحفهم لله ولرسوله، واستجابوا فيها لوحي إيمان العميق، ونور الإسلام المشرق الوضاء، وجدتها مبعثرة هنا وهناك في الجرائد والمجلات، فجمعت شملها وألفت بين المتفرق منها ليعم الانتفاع بها)
فالرجل قد بذل جهداً في جمع الأشتات والتأليف بين النظائر، وانتقاء المحاسن، ولم يقصر مؤلفه على مجرد السرد والقصص واستخلاص العبرة من حياة خاتم المرسلين، ذلك لأنه أراد من مؤلفه وجه الله ولم يرد الكسب المادي كما سلف الكلام والكتاب فوق هذا وهذا تحفة فنية جميلة، إذ وشاه صاحبه بنقوش جميلة للآيات القرآنية الجميلة، مكتوبة بأيدي كبار الخطاطين، ورسوم للأماكن المقدسة لا تكاد تقع عليها العين حتى تفيض لما عرفت من الإيمان وبعد، فإن الحاج عباس كرارة يستحق تقدير كل مسلم لهذا الجهد الذي يبذل في خدمة الإسلام وتفقيه المسلمين بدينهم. وفقه الله وأثابه
منصور جاب الله(957/39)
فلسفة المعتزلة
تأليف الدكتور البير نصري نادر
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب ببغداد
للدكتور إبراهيم مدكور بك
كنت أومن دائماً بأن للمعتزلة مذهباً فلسفياً متصل الحلقات مكتمل المعالم، وإن بدت آراؤهم في صورة لمحات متفرقة لا تكاد تلحظ بينها صلة. وكنت أومن كذلك بأن في الإمكان تكون هذا المذهب قطعة قطعة وضم أجزائه بعضها إلى بعض، على الرغم من إبادة معظم ما خلقه هؤلاء المفكرين الأحرار
وازداد إيماني يقيناً يوم أن نشر كتاباً (مقالات الإسلاميين) و (نهاية الأقدام)؛ ولقد دعوت منذ عشرين سنة تقريباً في ' إلى تحقيق هذه المحاولة، ولبى دعوتي - وإن يكن في أفق محدد - أبو ريدة في كتابه عن (النظام)
وها هو الدكتور البير نصري تارد اليوم يعالج في مؤلفه القيم (فلسفة المعتزلة) الأمر عاجلاً في مشمل فيجمع من المتفرق وحدة، ويكون من الشعت انسجاماً، ويبرهن علماً على أن الاعتزال مذهب فلسفي في أدق ما يدل عليه هذا التعبير
وقد كلفه ذلك عملاً مطرداً؛ وجهداً متصلاً، واطلاعاً وقراءة مصادر قد يعز أحياناً استنفاذها والوقوف على كنهها - وكان نجاحه واضحاً في التعبير عنها وتقريب ما فيها للقارئ العادي؛ ولم تقنع بعرض أفكار المعتزلة زحدها بل شاء ردها إلى أصولها، فكان له في هذا اجتهاد ملحوظ
وقد يكون هذا الاجتهاد محل أخذ ورد أحياناً، ولكن من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر اجتهاده. وقد يعيب عليه بعض المستشرقين أنه لم يستوعب ما كتبوا، ولم يسر إلى ما ألفوه في هذه الناحية، وهو جد كثير. ويظهر أنه آثر المصادر الإسلامية على ما اتصل بها من مؤلفات أجنبية
فأني أهنئ حضرة المؤلف تهنئة خالصة على هذا البحث الرزين الهادئ. وأرجو أن يتابع هذه الناحية بحثاً وتفصيلاً
ابراهيم مدكور(957/40)
المسرح والسينما
نقد مسرحية
مسمار جحا
للأستاذ أنور فتح الله
افتتحت فرقة المسرح المصري الحديث موسمها التمثيلي هذا العام بمسرحية (مسمار جحا). واختيار هذه المسرحية يعد نقطة تحول في اتجاه هذه الفرقة، فقد بدأت تتجه نحو المسرحية التي تستجيب لواقع الحياة المصرية، فتعالج مشاكلها، وتصور آمالها وآلامها
فالمسرحية تدور حول قضية البلد الأولى. . . قضية الحرية والاستقلال. وقد اختار المؤلف جواً أسطورياً ليبرز فيه الموضوع، ولجأ إلى الرمز للقضية المصرية، بقضية (مسمار جحا) الساخرة ليعبر بلسانها عن آلام المجتمع وأمانيه، وليبين بمنطقها القوى الساخر وجه الحق ووجه الباطل في قضية الحمل والذئب
ولم يتخير المؤلف شخصية معينة لجحا. . بل اختار شخصية خيالية ليتحرر من النطاق التاريخي الضيق. ومع هذا فإن شخصية جحا التركي كانت أقوى الشخصيات الجحوية تأثير عليه
ويجدر بنا - قبل أن نعرض للمسرحية - أن نبادر فنسجل للأستاذ باكثير فضل السبق في إبراز شخصية جحا الساخرة في عمل فني. وكذلك نسجل له توفقيه في اختيار الموضوع الحي الذي تتحرك فيه هذه الشخصية، وبهذا توافر له ما لم يتوافر من عوامل النجاح، وهو الشخصية الروائية المحبوبة من الشعب، والموضوع الحي الذي يشغل الأذهان، وخاصة في هذه الأيام
والمسرحية تصور حياة جحا من جانبين: الجانب العام، والجانب الخاص
أما الجانب العام، فيصور الصراع بين جحا والشعب من ناحية، وبين المستعمر ممثلاً في الوالي والحاكم من ناحية أخرى. وأحداث المسرحية الرئيسية تسير في هذا الخط لتحقيق الغرض الأول الذي يهدف إليه المؤلف؛ وهو علاج القضية التي تتصل بصميم الواقع المصري(957/42)
أما الجانب الخاص، فيصور الصراع بين جحا وامرأته، ومن وراء جحا ابنته ميمونة، وابن أخيه حماد. وتسير أحداث هذا الخط لتحقيق الغرض الثاني من المسرحية، وهو تصوير الجانب الإنساني في حياة جحا. ويبدو لنا أن المؤلف قد اعتمد على هذا الجانب ليستغل هذه الشخصية المرحة الساخرة في أثار الضحك وسنستعرض المسرحية، ونتتبع المؤلف في هذين الخطين لنرى إلى أي حد وصل إلى تحقيق غرضه
. . . ففي مدينة الكوفة. . . نرى (جحا) يعظ الناس أمام أحد المساجد. . وعندما يتبين للوالي أنه يبصر الناس بما هم فيه من بؤس، يغزله من عمله. . ويعود جحا إلى داره خائفاً من زوجته السفيهة. . . السليطة اللسان. . فيقابله ابن أخيه حماد ويشير عليه بأن يعمل في زراعة الأرض، وعندما يوافق جحا على ذلك، يسمع دق الطبول. . . وإذا بالجراد قد سندت أرجاله الأفق. . . وأني على زرع البلاد!
. . . ويثور الفلاحون على الملاك، ويقود حماد الثورة، ويفاوض جحا الحاكم المستعمر، فيخلص الثوار من ظلم الملاك، ويعينه الحاكم قاضياً لقضاة بغداد. . ونرى زوجته (أم الغصن) وقد صارت أخلاقها أسوأ مما كانت، وأفسدها البطر، وقد جمعت الخاطبات لابنتها عن زوج ثرى. . . ويأتي حماد، فيخبره جحا بأنه قد عزم على أن يقوم بعمل خطير من شأنه أن يجلى المستعمر عن البلاد، وذلك بأن يهيئ السبيل لتعرض أمامه قضية تشبه قضية البلاد، فيشغل بها الرأي العام، ثم يفصل فيها بما يبطل حجة الغاصب الدخيل، ويتفقان على أن يهب جحا داره لحماد، فيبيع حماد الدار، ويشترط على مشتريها أن يبقى له حق التمتع بمسار في جدارها!. . . .
وتعرض على جحا قضية المسمار، ويشهد الحاكم الأجنبي المحاكمة. . . ويثور الشعب على صاحب المسمار، وينتصر لصاحب الدار فيصبح حماد في الناس قائلاً (ويلكم، ترون المسمار الصغير، ولا ترون المسمار الكبير!. هذا صاحبه فيكم، مروه بنزعه أو فانزعوه بأيديكم!.) وهنا، يأمر الحاكم بالقبض على حجا، ويفر حماد
. . . . ويذهب الحاكم إلى السجن، ليطلب من جحا إخماد الثورة، ودعوة الشعب إلى السكينة، فيطلب منه جحا أن يجلو وجنوده من البلاد، فيأتي الحاكم. . .
وتشتد ثورة الشعب، فيضطر المستعمر إلى الجلاء، ويخرج جحا من السجن، ويزوج ابنته(957/43)
من حماد، رغم أنف امرأته
هذا هو الخط الرئيسي للأحداث الذي يصور الصراع الأول في المسرحية
ويتتبع هذا الخط نرى أن المؤلف قد أذاع سر مؤامرة جحا وحماد قبل عرض قضية المسمار، وبهذا قضى على عنصر التشويق في أهم أحداث المسرحية. فأضاع الأثر القوي لهذا المشهد الذي يرمز لقضية البلاد
كذلك أخمد دخول امرأة جحا في مشهد القضية من حرارة الأثر النفسي، فأبطل فعل الأحداث السابقة لدخولها، وحول انتباه المشاهد عن قضية المسمار، وهي قضية، إلى شكوى أم الغصن من زوجها، فقضى المؤلف بهذا على التركيز الذي يجب أن يوجه انتباه المشاهد إلى القضية
ولقد كان مشهد مقابلة الحاكم لجحا في السجن طويلاً، فطال بذلك حديثهما عن الجلاء حتى أصبح الحوار مباشراً بعد أن كان رمزياً إلى النغمة الخطابية، فقد بذلك الضباب الذي يكسو العبارات الرمزية التي تلمح للواقع فتجذب انتباه المشاهد ليتبين نفسه من وراء هذا النقاب الخفيف
هذا. . وبخروج جحا من السجن، بعد أن جلا المستعمر عن البلاد، تنتهي الأحداث الرئيسية للمسرحية، وبذلك تنتهي المسرحية دراماتيكيا. ولهذا فلا تأثير للأحداث اللاحقة. وكان من الخير أن تنتهي المسرحية في نهاية المنظر الخامس، وذلك لأن الحركة في المنظر السادس بد بطيئة مملة لانعدام ما يشوق المشاهد أو يجذبه
. . . أما الخط الثاني، الذي يصور الصراع بين جحا وامرأته، والذي أراد المؤلف من ورائه أن يثير الضحك فيتلخص في إبراز سفاهة أم الغصن وشراستها في معاملة جحا، وكراهيتها لحماد، واستعانتها بالخاطبات ليبحثن لابنتها عن زوج ثري. وقد استنفذ إبراز هذه النواحي جزاءا كبيراً من المنظر الثاني، والثالث، والرابع، والمنظر السادس بأكمله تقريباً. وقد أدى هذا التكرار في تصوير اللون الواحد في هذه المناظر إلى ركود الحركة المسرحية، وانعدام التأثير على المشاهد، فبدت هذه الأجزاء مملة إلى حد الضيق. وقد خلا أغلب هذه الأجزاء من المفارقات الطبيعية التي تشيع المرح وتثير الضحك، وذلك لأن المؤلف اقتصر على تصوير الشجار بين جحا وامرأته، وتكرار هذا الشجار في صورة(957/44)
واحدة تقوم على الشتائم من ناحية أم الغصن، وردود جحا الفلسفية من الناحية الأخرى
أما شخصية ابن جحا (الغصن) فقد خلقها المؤلف ليثير الضحك أيضاً، وأورد على لسانها بعض نوادر جحا المعروفة، كترغيبه الخاطبات في أخته بقوله إنها حامل في شهرها السادس. . . وقد أبرزه المؤلف أبله في أقواله وأفعاله واقتصر على إبراز هذا اللون الواحد في كل مشهد ظهر فيه، فهو يبحث عن ديكه، ثم يتخيل أنه ذبح فيبكيه، وهو ينقلب ديكاً وبهذا، التكرار أبطل المؤلف الأثر الذي أراده لهذه الشخصية وهو إثارة الضحك
أما النوادر التي أوردها المؤلف على لسان جحا وابنه، والتي استعارها من نوادر جحا التركي. فقد وقف في وضع بعضها في الأحداث التي تجعل لها دلالة واقعية لقضية المسمار، وخطبة اليد، وحديثه عن الجمال، أما قصة القدور، وانقلاب الغصن ديكا، وغير ذلك من النوادر التي فقدت تأثيرها الضاحك لأنها أصبحت (قديمة) بالنسبة للشعب؛ فكنا نرجو أن يستبدلها المؤلف بنوادر أخرى من خلقة تتصل بالأحداث وتسخر من بعض أمراضنا الاجتماعية
وبعد. فقد دفعنا تقديرنا وإعجابنا بهذه المسرحية أن نعدد مآخذها وهي قليلة بالنسبة لمحاسنها. . . وأغلبها يقع في الخط الذي يصور الصراع الثانوي. . أما الخط الذي يصور الصراع الرئيسي فقد كان أغلبه كاملاً من حيث البناء، وإنا لنحمد للمؤلف اتجاهه القومي في عمله الفني. . . .
وقد قام بإخراج هذه المسرحية الأستاذ زكي طليمات. . . وسار في إخراجه على المذهب الإيحائي الذي اتجه إليه في السنوات الأخيرة. . . فكان موافقاً في خلق الإطار المادي. . . وبرزت رمزيته في منظر السجن القائم، الرهيب. . . وقد نجح في تحريك المجموعة، وأحسن استغلالها في إحياء الجو النفسي وخاصة في منظر المحكمة
. . . وقام الأستاذ سعيد أبو بكر بدور (جحا). . . فاستطاع بفهمه العميق لهذه الشخصي، وأدائه الطبيعي، أن يصور الألوان العاطفية المختلفة التي رسمها المؤلف. . . . وقام الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني بدور الحاكم المستعمر فأفصح بحركاته الهادئة الرصينة عن غطرسة الغاصب وتبلد إحساسه وموت ضميره. . . وعبر بعبارته القوية العميقة عن منطق الظالم الذي يصم أذنه عن سماع صوت الحق القوي. . . وقام الأستاذ عبد المنعم(957/45)
إبراهيم بدور (الغصن)، فبعث الحياة هذه الشخصية الخفيفة، واستطاع تجسيم خطوطها الدقيقة بأدائه الطبيعي
أنور فتح الله(957/46)
البريد الأدبي
هو سماع الحديث. لا سماع الغناء:
يعثر الإنسان أحياناُ أثناء مطالعاته على أشياء تستدعي النقد أو تستوجب التصحيح فيتجاوزها. ولا يعني بها لأنه إذا تولى نقد أو تصحيح كل ما يعثر عليه فإنه لا يجد من الوقت ما يسعه، ومن هدوء البال ما يعنيه. وقد ينشط أحياناً فينهض لبيان ما يجد من خطأ وبخاصة عندما يقف على أمر لا يصح السكوت عليه أو الإغفاء عنه
ومن ذلك أني كنت أقرأ في الجزء الثاني من كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الذي خرج بتحقيق وشرح الأستاذ الفاضل عبد السلام هارون فإذا بي أجد في الصفحة 322 من هذا الجزء: (وقال ابن عون: أدركت ثلاثة يتشددون في السماع، وثلاثة لا يتساهلون، فالحسن والشعبي والنخعي، وأما الذين يتشددون محمد بن سيرين والقاسم ابن محمد ورجاء بن حيوه)
وقد حسب الأستاذ هارون أن السماع في هذا الجزء هو سماع الأغاني! فآثر كلمة (المغاني) بالمعجمة التي وجدها في بعض نسخ الأصول؛ على لفظها بالمهملة التي جاءت بأصول أخرى، وأخذ يفسرها على ما ظن تفسيراً لا أدري إن كان يرضي أئمة اللغة أم يغضبهم!
فقال في شرح الكلمة (المغاني جمع مغنى مصدر ميمي من غنى يغني! ل والتيمورية. المعاني بالمهملة تحريف) أي أن هذه الكلمة قد جاءت في نسخة مكتبة كوبرلي والنسخة التيمورية بالمهملة والذي قال عنه الأستاذ أنه تخريف هو الصحيح، وأن صحة الكلمة المعاني بالمهملة كما جاءت بهاتين النسختين، والسماع هو السماع الحديث النبوي لا سماع الأغاني
وقد جاءت عبارة ابن عون هذه لأن نقل حديث رسول الله على حقيقة لفظه أو بمعناه كان موضع خلاف بين الصحابة ثم امتد هذا الخلاف إلى التابعين ومن بعدهم فكان من الصحابة الذين يجوزون رواية الحديث بالمعنى: على وابن عباس وأنس وجماعة معهم، وكان الذي يمنع ذلك ابن عمر، أما التابعون فكان الذين يتشددون في رواية الحديث على لفظه، محمد بن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة، والذين يتساهلون في ذلك الحسن والشعبي والنخفي، ومن هنا جاءت كلمة ابن عون التي رواها الجاحظ(957/47)
هذا وللأستاذ هارون خالص تقديري لعنايته بتراثنا الدبي ونشره، وبخاصة لنشره آثار شيخنا الجاحظ وعنايته بتحقيقها وشرحها
المنصورة
محمود أبو ريه
الأستاذ الناصري ولسان العرب:
نشرت الرسالة في العدد 955 ص 1215 من السنة التاسعة عشرة رداً للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري ارتكب فيه خطأين وفاته أمران
فالخطأ الأول أنه ذكر مؤلف لسان العرب باسم ابن منصور (بالصاد المهملة) الأندلسي، والصواب أنه ابن منظور بالظاء المعجمة، ولم ينسب إلى الأندلس ولكنه إفريقي الأصل مصري المولد والوفاة، ولذا ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة باسم محمد ابن مكرم الأنصاري الإفريقي ثم المصري
والخطأ الثاني أنه قال عن ابن منظور أنه أقدم مؤلفي المعاجم بعد ابن دريد المتوفى سنة321. مع أن ابن منظور نفسه ذكر في مقدمة مؤلفة لسان العرب في الجزء الأول ص 2، 3 أنه جمع مؤلفه لسان العرب من الأصول الآتية:
أ - تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري المتوفى سنة 370 والتهذيب لا يزال مخطوطاً
ب - المحكم لابن سيده - بكسر المهملة وسكون آخر الحروف وفتح الدال المهملة بهدها هاء ساكنة المتوفى سنة 458 - ولا يزال مخطوطاً - أما مؤلفة الآخر المخصص فطبع في بولاق في 17 سفرا بين سنة 1316 وسنة 1321
ج - صحاح الجوهري المتوفى سنة 393 - والصحاح طبع في بولاق سنة 1292 في جزء ين
ء - حواشي ابن برى المتوفى سنة 582
هـ - النهاية في غريب الحديث لابن الأثير المحدث المتوفى سنة 606 وهو شقيق المؤرخ المتوفى سنة 620. والنهاية طبعت في مصر سنة 1322 في أربعة أجزاء
هذا ما ذكره ابن منظور وفي ترجمته زيدت الجمهرة لابن دريد. والجمهرة طبعت في الهند(957/48)
في ثلاثة أجزاء والرابع للفهارس بين سنة 1344 وسنة 1352 - فالقول بأن مؤلف لسان العرب هو أقدم مؤلفي المعاجم بعد ابن دريد قول خاطئ يرده ابن منظور نفسه في صدر مؤلفه
وأول الأمرين - أنه قدم تاج العروس في الذكر على القاموس وذكرهما بطريقة توهم انفصالهما. وكان الأولى أن يقول: ذكر الفيروزبادي المتوفى سنة 817 في القاموس كذا وذكر الزبيدي في شرحه على القاموس المسمى تاج العروس كذا وكذا
والثني أنه ذكر عن مختار الصحاح ما يل على أنه فرع للسان العرب مع أن الرازي المتوفى سنة 760 اختاره من صحاح الجوهري الذي هو أحد أصول لسان العرب كما سلف الذكر وراعى في اختياره ألفاظ القرآن العزيز واجتناب عويص اللغة وعربيها، كما حرص على اختيار ألفاظ الأحاديث النبوية، فهو على صغره جليل الفائدة جزيل النفع ويعتبر تهذيباً لصحاح الجوهري. فالمختار من أصول اللغة وإن صغر حجمه. لذا أرجو تفضلكم بنشر هذا
عبد السلام النجار
كلام مردود:
يقول الأستاذ الناصري مخاطباً الأستاذ سيد قطب (قرأت تعقيبك على مقال السيد سامي أمين، فاستغربت من كاتب كبير له مكانة في العالم العربي أن يتصدى للرد على أديب لم نسمع به عدا هذه المرة) وهذا كلام مردو، إذ أن أدباءنا الكبار أساتذة مرشدون، ومن واجبهم أن يسعفوا القراء بالتوجيه والتصويب، ثم ما معنى قول الكاتب (لم نسمع به عدا هذه المرة!!) أفيعتقد أن النشر المطبعي أساس (أولى) للنقاش العلمي بين الأدباء!! أفلا يعلم أن كثيراً ممن ينشرون القصائد والمقالات، بالصحف والمجلات، يقابلون بالإعراض والاستخفاف؟! على أني سمعت بالسيد سامي أمين قبل ذلك بمجلة الثقافة الغراء، أفيكون هذا وحده شفيعه لدى الناصري فيبيح للأستاذ قطب ن يرد عليه بما شاء!!
هذا وفي تعقيب الناصري - على قصره - أخطاء نحوية وإملائية وذوقية نكشف عن بعضها للقراء(957/49)
1 - يقول الكاتب (لأنك أثبت أنك وأخوك!) والصواب وأخاك
2 - ويقول (وأرجو أن لا تكون في المستقبل إلا في المكان المرموق) وهو تركيب متهافت، ولا يستقيم إلا بحذف النفي والاستثناء، وبه خطأ إملائي، وصوابه إلا تكون
3 - ويقول (وأما عن آرائك في النقد فيكفي أن تكون صاحب كتاب العادلة الاجتماعية في القرآن) وكتاب العدالى الاجتماعية في الإسلام لا يمت إلى النقد الأدبي بسبب من الأسباب
(وبعد) فهل للأستاذ الناصري أن يصحح أخطاءه قبل أن يتعقب الكتاب
(الرمل)
محمد رجب البيومي
1 - إيضاح:
أخذ على الأستاذ الكريم أحمد عبد اللطيف بدر المدرس بثانوية بور سعيد، في العدد (951) من الرسالة بعض المآخذ، وأنا بعد شكري له على تنبيهي أود أن أذكره بأنني ما كنت أود عندما تكلمت عن بيت أبي نواس
عندها صاج حبيبي يا معلم، لا أعود أن أذكر البيت إلا من ناحية العروض، لذا فإن تنبيهه لي كان في محله من ناحية القاعدة النحوية، أما قوله عن أنني أخطأت في كتابة (إن شاء الله) على هذه الصورة (إنشاء) فأرجو أن يعلم أن اندماج الحرف بالفعل جاء بسبب الطبع والتبعة في ذلك تقع على عاتق مصحح (الروفات) وأنا أعتذر له. .
2 - اعتذار:
أشكر للشاعر الرقيق الأستاذ عبد الرحيم عثمان صارو حسن ظنه بأخيه وأعتذر له لأنني لم أقرأ كلمة (قطف) بالتضعيف في حينه، لذا فقوله
وأهاً لأزهاري التي (قطفتهن) لتفرحي سالم من كل عيب عروضي، وأخيراً يسرني أن تكون هذه الكلمة بدء صداقة بيننا وله مني خالص الود لإعجاب
3 - ديوان (العاصي):
المرحوم أحمد العاصي شاعر مات في ريعان شبابه منتحراً سنة 1930م وقد طبع ديوانه(957/50)
سنة 1926هـ وبما أنني في صدد كتابة بحث مفصل عنه وقد كتبت إلى كثير من مكتبات القاهرة قلم أوفق للحصول على نسخة منه؛ أرجو من إخواني في مصر ومن جميع قراء الرسالة ممن يعثرون على هذا الديوان أن يبعثوا لي بنسخة منه بعنوان المدون أدناه. . وأنا على استعداد لإرسال ما يطلبون من ثمن. . . وله خالص شكري
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري(957/51)
القصص
فراق
للكاتب الإنجليزي أيان تومسون
للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
كانا يسيران في شارع أوكسفورد، ثم توقفا عن السير. وقال جورج ويده على ذراعها (هذا هو المكان أحسب أنك ستجدين هنا ما تودوين الحصول عليه)
وأطرقت هيلين، بيد أن عينيها كانتا ترنوان إلى نافذة الحانوت. لقد كان هو الذي اقترح شراء القبعة
وأشار صوب النافذة قائلاً - ها هي ذي القبعة السوداء. ما رأيت قيها؟ إنها تناسب رداءك
وارتجفت شفتاها. إن أشد يحبها فيه هو اهتمامه الزائد بملابسها. . لطالما ولد لها ذلك شعوراً بدوام الشباب، ولو أنها تعرف من صميم فؤادها بأن شبابها قد ولى وراح
وأجابت قائلة وقد تجنبت أن تلتقي عيناها بعينيه، فقد كان في عينيها الكثير مما لا تود أن يلاحظه مطلقاً. (أجل. إنها مناسبة)
ودلفا إلى الحانوت. وبرزت أمامها إحدى العاملات فوصفت لها هيلين القبعة. وفي هذه اللحظة ودت لو لم تأت إلى الحانوت بيد أن جورج كان لحوحاً. فقد كان يود أن يهديها هدية ما، هدية فراق كما يقول
إنه يبتسم الآن، ابتسامة صادرة من عينيه الزرقاوين الصافيتين فأثار ذلك دهشتها. ومع ذلك، لماذا تدهش؟ وكانت تسأل نفسها هذا السؤال في الوقت الذي أخذت القبعة من يد العاملة ووضعتها فوق شعرها الذي تخلله الشيب. لقد كانت تفخر دائماً بأنها عصرية. إن من دواعي المدينة أن نواجه مثل هذه الحوادث في شجاعة عندما تقع، فإذا وقعت. . .
وعادت بها كرتها إلى الماضي. ورأت نفسها أمام المرآة ترفل في ثياب العرس، لا في رداء أسود كما هو حالها الآن. ولم تفكر في المستقبل إذ ذاك، ولم تهتم به مطلقاً، فقد كانت غارقة في منتهى السعادة
ومرت خمس دقائق قبل أن يخرجا من الحانوت ويسيراً تحت الشمس المشرقة. ثم اقترح جورج بعد أن ألقى بنظرة إلى ساعته أن يحتسيا الشاي، وقال وقد بدت في عينيه لهفة(957/52)
مكبوتة لم تستطع أن تسبر غورها (إني أعرف مقهى هناك. .
وجلسا في مقهى صغير عادي. وطلب جورج الشاي، ثم اتكأ على مقعده دون أن يتفوه بكلمة، ولكن يده أقبلت تعبر المائدة ثم أمسكت بيدها
وصاحت في أعماق نفسها - يا إلهي، لا تجعلني أبكي لا أود ذلك وهو معي - أقبل الشاي، واحتسى قدحه في سرعة، ثم أشعل لنفسه لفافة وأخيراً قال (أواثقة أنت أنك تودين الإقامة وحيدة في تلك الدار؟ أعني. . حسن، إني لأشعر بالضيق من جراء هذا الأمر، إذا كان هناك ما أستطيع أن أفعله. . .)
نعم كان هناك شئ واحد، ولكنه يعتبر ضعفاً لو اقترحته. وهزت رأسها بالنفي. إنها لا تود مطلقاً أن يشعر نحوها بشيء من وخز الضمير. حسبها أن كان لها طوال الأعوام المنصرمة
وقالت - كلا في الواقع سيكون كل شئ على ما يرام
ولكنه كان يبدو عليه أنه لا يزال متردداً في الأمر. ثم قال: هناك شئ واحد أود أن أشير إليه. إني لم أتحدث عنه من قبل لأني أعرف - حسن، أعرف أن شديد حساسيتك في مثل هذه الموضوعات -) ثم صمت لحظة استطرد بعدها يقول في سرعة وعينيه تتحاشيانها) إنها مسألة النقود. لقد اتفقت مع البنك -)
والتهبت وجنتاها. وتلمثمت قائلة - أوه. جورج. لا ينبغي لك أن - فقاطعها قائلاً في رنة يشوبها الغضب - ولم لا؟ إن هذا ما ورد أن أفعله. وساندرا -) وتردد قليلاً بعد أن أشار إلى اسم الفتاة ثم قال - إنها وافقتني على ذلك. فقد كنا نتحدث عنه ليلة أمس
ساندرا. . كنا. . . وجعلت هيلين تفكر في ألم، إنه يتحدث عنها في سهولة وبغير كلفة، مع أنه لم يلتق بها إلا منذ شهرين. شهران. . هل كانا في الواقع شهرين منذ أن ذهب إلى لندن بسبب أعماله؟
لقد أدركت بالطبع بعد أن عادت أن هناك شيئاً ما على الرغم من أنه لم يشر إليه بأنة كلمة. وأنباتها غريزتها النسائية أنه لم تعد لها كلمة بعد الآن. لقد شاركتها الأخرى فيه. شاركتها فتاة، شابة، نضرة، حسناء، وولدت لها الصورة التي تخيلتها شعوراً من الفلق والفزع. لقد استبدل عمله بعمل آخر في لندن. وذهب ليعيش هناك. ولم تره منذ شهر، ولم(957/53)
تلتق الفتاة مطلقاً
ساندرا. . لقد كانت ذكية جداً كما حدثها. ولكن هذا لا يهمها في شئ. فإذا كنت تحب بكل جارحة في قلبك فإنك لا تفكر في ذكاء تلك التي جعلتك تفقد من أحببت. هل هي لطيفة حقاً؟ وهل ستحاول إسعاده كما حاولت هي من قبل؟
ساندرا. . . كان للاسم رنين خاص في أذنيها. إنك لا تستطيع أن تتصور أي فرد يحمل ذلك الاسم - وانجذبت عينا هيلين إلى فتاة دلفت إلى المقهى وجعلت تتطلع حولها في تردد - حسن لعلها تحمل مثل هذا الاسم
واستدارت الفتاة. كانت باهرة الحسن. ساخرة، في حياء يجذب القلوب. وتأملتها هيلين بلا شعور. ثم اتسعت عيناها في دهشة مباغتة عندما هب جورج واقفاً وأسرعت الفتاة صوب مائدتهما
واستمعت إلى صوت في ذهول وهو يقول (إذن فقد استطعت المجيء يا عزيزتي)
ثم التفت إليها وقد أشرفت الابتسامة على وجهه وقال (مفاجأة صغيرة. هذه ساندرا يا أماه. . . عروس الغد السعيدة!
محمد فتحي عبد الوهاب(957/54)
العدد 958 - بتاريخ: 12 - 11 - 1951(/)
إلي أخي في الجنوب
للأستاذ أنور المعداوي
(يا أخي؛ يا أخي في الله والدين والوطن. . إن الأرض التي جمعت بين قلبي وقلبك لتجمع بين جراح وجراح، وإن النيل الذي ربط بين روحي وروحك ليربط بين كفاح وكفاح. . أنا هنا وأنت هناك؛ ويا بعد الشقة في منطق الظلم البغيض ويا قربها في منطق الحب المتغلغل بين طوايا الوجدان. . نحن يا أخي في ميدان الجهاد يد تمد إلى يد، وفي معرض التضحية قدم تسعى إلى قدم، وفي مجال الوفاء عاطفة تقبس من عاطفة!
من الحق أن ننعت بالإنجليز بأهم مثاليون في بلادهم؛ مثاليون في قيم النزاهة ومعايير الخلق وموازين الضمير. . ومن الحق أيضاً أن ننعتهم بأنهم مثاليون في غير بلادهم؛ مثاليون في الأنانية والجشع، وضيعة الضمير والخلق، وانحطاط الشعور والإنسانية، وانتفاء العدل والإنصاف. . وتلك هي العناوين الضخمة التي يسطر تحتها التاريخ كلماته الخالدة، حين يعرض للحكم البريطاني في كل أرض سكنها الأحرار في كل زمان ومكان!
يا أخي، يا أخي في الله والدين والوطن. . إن الأنشودة الرائعة التي بدأناها في شمال الوادي، أنشودة الجهاد التي انطلقت من قيثارة الأحرار، قد أذن الله أن ترسل أنغامها في جنوبه، وكل نغم إلى فناء، وكل نار إلى رماد، وكل ذكرى إلى نسيان. . ولكن أنغامنا ستظل إلى الأبد ترن في مسمع الزمن، ولكن نارنا ستظل إلى الأبد تضيء الطريق للحائرين، ولكن ذكرانا ستظل إلى الأبد قصة تروى وعطرا يفوح!
ولا علينا يا أخي من تلك القيود. . إن معدنها الرخيص سيذوب يوما تحت وهج النار المتأججة في حنايا الضلوع! ألا ليت الطغاة قد جعلوا شعار حكمهم هذه الكلمات التي انطلقت من أعماق بطل الحرية إبراهام لنكولن: (إن ضوء الشمس لا يفرق في يد الله بين أحرار وعبيد، فلم يفرق ضوء الحرية في أيدينا بين أنصار وخصوم)؟!
ومع ذلك فسنمضي اليوم وغدا جنبا إلى جنب، وقلبا إلى قلب، وعيوننا أبدا إلى الأفق البعيد)!
هذه كلمات وجهتها بالأمس على صفحات الرسالة، إلى كل سوادني كريم على نفسه وكريم على وطنه؛ كل سوداني أنزله من نفسي منزلة الود الخالص والأخوة المتسامية، الأخوة(958/1)
التي استروحت أنسام الأرض الطيبة على ضفاف نهر واحد وتحت سماء وطن واحد. . واليوم ومعاول الاستعمار تحاول أن تهدم صرح الوحدة المقدسة، يطيب لهذا القلم أن يقطف من روضة الشعور تلك الكلمات، أو تلك الزهرات التي يدعو الله مخلصا أن يتضرع منها العبير ويعبق الأرج؛ عبير الوطنية المتدفقة وأريج الوفاء الخالد، هناك في أقصى الجنوب حيث تخفق للدعاء قلوب وقلوب. .
إن الشمل لن يتفرق، وإن البناء لن يتصدع، ما دامت هذه القطرات الأبية من الدم المسفوك على ضفاف القناة وفوق ثرى الخرطوم، قد ألقت على الطغاة أروع الدروس في التضحَية والبذل والفداء، وأقلقت منهم المضاجع وهي سارية في العروق وهي جارية على الأرض، وهي في حركة الحياة الطليقة وهي في سكون العدم. . وحسبها من قداسة الوحدة أن يثيرها هناك عدو واحد، وأن يريقها هنا سلاح واحد، وأن ترتد في نهاية المطاف إلى موضعها من هذا الثرى الحبيب!
يا أخي في الجنوب، يا أخي في الله والدين والوطن. . بيننا وبينك هذه الكلمات، أو بيننا وبينك هذه الأبيات، إنها لشاعر لم يعرف في حياته غير الصدق والوفاء، حين يكون الصدق مترجما عن خفقة القلب، وحين يكون الوفاء معبرا عن يقظة الضمير. . ولقد أهداها إليك بالأمس وما أشبهه باليوم، حين مضت طلائع المرجفين تبذر بذور الفرقة بين الصفوف وتترك كلمة الله لتتبع خطوات الشيطان. . إن على محمود طه لا يزال يرفع صوته من وراء الأبد، ليقدم إليك لوعة الشعر في محنة الشعور:
أخي! إن وردت النيل قبل ورودي ... فحي ذمامي عنده وعهودي
وقبل ثرى فيه امتزاجنا أبوة ... ونسلمه لابن لنا وحفيد
أخي! إن أذان الفجر لبيت صوته ... سمعت لتكبيري ووقع سجودي
وما صغت قولا أو هتفت بآية ... خلا منطقي من لفظها وقصيدي
أخي! إن حواك الصبح ريان مشرقا ... أفقت على يوم أغر سعيد
أخي! إن طواك الليل سهمان سادرا ... نبا فيه جنبي واستحال رقودي
أخي! إن شربت الماء صفوا فقد زكت ... خمائل جناتي وطاب حصيدي
أخي! إن جفاك النهر أو جف نبعه ... مشى الموت في زهري وقصف عودي(958/2)
فكيف تلاحيني وألحاك. . إنني ... شهيدك في هذا. . وأنت شهيدي!
حياتك في الوادي حياتي، فإنما ... وجودك في هذي الحياة وجودي
أخي! إن نزلت الشاطئين فسلهما ... متى فصلا ما بيننا بحدود؟
رماني نذير السوء فيك بنبأة ... فجلل بالأحزان ليلة عيدي
وغامت سمائي بعد صفو وأخرست ... مزاهر أحلامي ومات نشيدي
غداة تمنى المستبد فراقنا ... على أرض آباء لنا وجدود
وزف لنا زيف الأماني علالة ... لعل بنا حب السيادة يودي
أخوتنا فوق الذي مان وادعى ... وما بيننا من سيد ومسود!
إذ قال (الاستقلال) فاحذره ناصبا ... فخاخ (احتلال) كالدهور أبيد
وكم قبل مناني على وفر ما جنى ... بحربين، من زرعي وضرع وليدي
فلما أتاه النصر هاجته شرة ... فهم بنكراني ورام جحودي
ألا سله، ماذا بعد سبعين حجة ... أأنجز موعودي؟ أفك قيودي؟
يبدلني قيدا بقيد كأنه ... مدى الدهر فيها مبدئي ومعيدي
أخي! وكلانا في الإسار مكبل ... نجر على الأشواك ثقل حديد
إذا لم تحررنا من الضيم وحدة ... ذهبنا بشمل في الحياة بديد
وما مصر والسودان إلا قضية ... موحدة في غاية وجهود
سئمنا هتاف الخادعين بعالم ... جديد، ولما يأتنا بجديد
وجفت حشاشات وعدن بمائه ... فلما دنا ألفت سراب وعود
وطال ارتقاب الساغبين لناره ... على عاصف يرمي الدجى بجليد
إذا يدنا لم تذك نار حياتنا ... فلا ترج دفئا من وميض رعود
إذا يدنا لم تحم نبع حياتنا ... سرى ربه سما بكل وريد
سيجربه ما شاءت مطامع قومه ... ويحبسه ما شاء خلف سدود
وكيف ينام المضعفون وحولهم ... ظماء نسور أو جياع أسود؟
أخي! هل شهدت النيل غضبان ثائرا ... يرج من الشطئان كل مشيد!
جرى من مصبيه شواظا لنبعه ... على نفثات من دم وصديد(958/3)
وجنات نخل واجمات كواسف ... وأسراب طير في الفلاة شريد
لدى نبأ قد ريع من حمله الصدى ... وضج له الموتى وراء لحود
جنوبك فيه والشمال تفزعا ... لتشتيت أهل وانقسام صعيد
أحال ضياء الصبح حولي ظلمة ... بها الحزن إلفى والهناء فقيدي
وسعر أنفاسي فأطلقت نارها ... على الظالم الجبار صوت وعيد
أرادك مفصوم العرى وأرادني ... بهدم إخاء كالجبال مشيد
ليأكلنا من بعد شلوا ممزقا ... كطير جريح في الشباك جهيد
يحايل شيطان الأساليب لم يدع ... مجالا لشيطان بهن مريد
على النيل يا ابن النيل أطلق شراعنا ... وقل للياليه الهنية عودي
وأرسل على الوادي حمائم أيكه ... برنة ولهي أو شكاة عميد
وقل يا عروس النبع هاتي من الجنى ... ودوري علينا بالرحيق وجودي
وهبي عذارى النخل فرعاء وارقصي ... بخضر أكاليل وخمر عقود
ألا يا أخي واملأ كؤوس محبة ... مقدسة موعودة بخلود
إذا هي هانت فانع للشمس نورها ... وللقمر الساري بروج سعود
وقل يا سماء النيل ويحك أقلعي ... ويا أرض بالشم الرواسخ ميدي
وغيضي عيون الماء أو فتفجري ... لظى، وإن اسطعت المزيد فزيدي!
يا رحمة الله للشاعر الخالد، أنه في معركة الحرية لا يزال يسمعنا صوته وهو في عالم الفناء. . واليوم حين تبلغ المعركة أوجها يتخلف عن الإنشاد شعراؤنا الأحياء!!
أنور المعداوي(958/4)
3 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
بين الماضي والحاضر:
في زحام هذه العواطف الوطنية المتأججة في وادي النيل من منبعه إلى مصبه. أكتب إليك أيها الأخ الكريم وأحاول أن أربط بين ماض مجيد وحاضر ليس أقل منه مجدا. ومما هو جدير بالتسجيل ذلك الوعي الكامل الذي يبديه شعب وادي النيل لقضيته وإيمانه بها وضبطه لأعصابه رغم ما تتفجر به نفس كل فرد من أفراده من العواطف الملتهبة. . وذلك إرضاء لحكومته وطوعا لمشيئتها.
وأحب أن أسجل أيضاً أن القوات البريطانية ما زالت مستمرة في عدوانها الوحشي على سكان منطقة القنال العزل، ففي كل يوم قتيل وشهيد وسلب ونهب واعتداء على الحريات واحتلال للأماكن والبلاد وتحكيم للقوة وعسف وظلم وجور؛ فليستمر البريطانيون في عدوانهم فإن ذلك كسب لمصر، وليعلموا أن كل دم يراق إنما يغذي شجرة الحرية في وادي النيل، وليعلموا تماما أن مقامهم في وادي النيل قد أصبح ضربا من المحال.
وقد انضمت فرنسا الفاجرة وأمريكا الآثمة إلى بريطانيا فأبدتا سياستها ووافقتا عليها فانتصرتا للاثم والعدوان، وهكذا أثبتت الدولتان ما لم يكن خافيا علينا نحن الشرقيين من أن هذه الدول لا تريد بنا خيراً، وإنما تريد علينا سيطرة واستعمار. إن هذه الأمم تدعى أنها نصيرة الحرية، ومع هذا تطعن الحرية في مصر والشرق كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً. فليعلم هؤلاء الطغاة أن نهايتهم أقرب مما يتصورون
وقد وقفت الأقطار العربية الشقيقة بجانب شقيقتهم الكبرى مصر مما هز أركان الاستعمار الإنجليزي وزلزل دعائم الاقتصاد الأمريكي
وفي يوم الثلاثاء 23 من أكتوبر 1951 وقفت مصر تحيي ذكرى شهدائها الذين أراق الطغاة دماءهم في يوم الثلاثاء 16 منه فقامت المظاهرات الوطنية في القاهرة والإسكندرية وشتى المدن والبلاد، وأضرب الطلاب عن تلقي دروسهم وأغلق التجار متاجرهم وامتنع المحامون عن مزاولة أعمالهم في جميع المحاكم، ولم يخل شبر في أرض الوطن العزيز من صوت يتقطع في صدر صاحبه. . هو صوت الحزن على ما أريق من دماء الشهداء.(958/5)
وقد تجلى في هذه المظاهرات جلال الوطنية وجلال الذكرى وإجماع الأمة وتأييدها لحكومتها
وفي السودان قامت المظاهرات تطالب بالحرية وتطرد المحتل الأجنبي والمستعمر الظالم حتى اضطر الحاكم العام الإنجليزي أن يطلب من قائد عام القوات المصرية التدخل لحفظ الأمن وإقرار النظام
لابد مما ليس منه بد:
لقد حاولت مصر أن تقيم علاقتها مع الدول الغربية على أساس الحرية والاحترام المتبادل، ولكن هذه الدول أمعنت في غيها، فلما طالت المفاوضات اضطرت مصر إلى إلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 التي تربطها ببريطانيا وبدأت معركة التحرير
وقد وقفت فرنسا وأمريكا بجانب إنجلترا، وهنا تقربت روسيا من مصر وطالبت أن تعقد اتفاقا تجاريا واسع النطاق معها على أن تكون لها الأولوية في شراء قطن مصر وعلى أن تعامل معاملة الدول الأكثر رعاية في مقابل أن تصدر إلى مصر ما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر وأخشاب وورق وقمح وبترول إلخ
وقد ذعرت أمريكا، فإن الاستعمار الأمريكي استعمار اقتصادي وتهتم أمريكا بفتح أسواق لتجارتها، ولعلنا جميعا نعلم مدى اهتمام أمريكا بمنطقة الشرق الأوسط إن ذلك يرجع إلى عاملين: أولا هذه المنطقة أغنى مناطق العالم بالبترول - ثانيا. هذه المناطق يمكن أن تصبح أسواقا هامة للتجارة الأمريكية
ولما كانت عداوة أمريكا وإنجلترا لمصر ستؤدي إلى انتشار التجارة الروسية في مصر والشرق الأوسط. فقد اضطرت أمريكا إلى أن تحاول القضاء على الفكرة، وعرضت على مصر وساطتها في حل الخلاف القائم بينها وبين إنجلترا في 24 أكتوبر 1951. ولسنا ندري كيف ينتهي أمر هذه الوساطة
الحماية والمعاهدة:
في سنة 1914 أعلنت إنجلترا الحماية على مصر ولم تكن مصر قد طلبت هذه الحماية، ولذا كانت الحماية باطلة من وقت إعلانها، ومنعا لثورة مصر في وقت كانت بريطانيا في(958/6)
حالة حرجة - إذ كانت الحرب قد قامت بينها وبين ألمانيا - أعلنت بريطانيا أن الحماية ضرورة حربية تنتهي بانتهاء الحرب. فلما انتهت الحرب وانتصرت طلب المصريون إنهاء الحماية وإعلان استقلال مصر، ولكن بريطانيا رفضت فثارت مصر تطلب استقلالها وحريتها ولم ترهب قوة إنجلترا التي خرجت ظافرة من الحروب العالمية الأولى، وانطلقت بريطانيا تعتدي على المصرين فأسالت دماء الأبرياء ونفت الزعماء، ولكن لم تضعف مصر بل صمدت وانتصرت في النهاية وستحقق جميع أمانيها إن شاء الله.
كانت الحماية إذن سبب ثورة 1919 الرئيسي، ويحاول المؤرخون أن يكثروا من أسباب الثورات. صحيح كانت هناك عدة أسباب أخرى أهمها المظالم التي عاناها الشعب من السلطة العسكرية ومن الأحكام العرفية، فمن استيلاء على الأقوات، ومن دفع المصريين قسرا إلى ميادين القتال باسم التطوع وتجنيد أكثر من مليون عامل وموت كثيرين منهم بعيدا عن الوطن، وإصابِة الآخرين بأمراض وعاهات إلى حجر على الحريات ورقابة على الصحف وحل الجمعية التشريعية ونفي الوطنيين الأحرار واعتقال المخلصين والزج بهم في السجون والمعتقلات، الخ
ويضاف إلى هذا الوعي القومي الذي أوضح للمصريين حقيقة نوايا بريطانيا، وذلك يرجع من غير شك إلى جهود الوطني الأول مصطفى كامل باشا وخليفته محمد فريد بك، وكذلك ما ارتكبته إنجلترا من فظائع في وادي النيل كان أشهرها من غير شك حادثة دنشواى 1906
وهنا أحب أن أذكر أن إنجلترا حين احتلت مصر قد لجأت إلى الحيلة والخداع: خدعت مصر إذ أعلنت منذ احتلالها مصر 1882 عزمها على الجلاء وأنها لن تقيم بمصر، وخدعت العرب جميعا حين ألبتهم على تركيا في أثناء الحرب الكبرى الأولى إذ وعدتهم بتحقيق استقلالهم إذا عاونوها، فثار العرب ضد الأتراك حلفاء الألمان، وكان لمصر وللعرب فضل كبير في كسب إنجلترا للحرب الأولى وكذلك انتصرت في الحرب العالمية الثانية بفضل مؤازرة مصر لها؛ ومع هذا لم تلق مصر والبلاد العربية إلا شر الجزاء من الإنجليز، فهم الذين مكنوا للصهيونيين من احتلال فلسطين وتشريد العرب وهم أصحاب البلاد الأصليين منذ آلاف السنين؛ وها هي ذي بريطانيا تسفك دماء المصريين ظلما(958/7)
وعدوانا وترفض الجلاء عن مصر وتقف عقبة أمام وحدة الوادي، وهي بهذا لا تبغي خيرا لنفسها ولا لمصر ولا للسودان ألا ساء ما تفعل!! ولو أن بريطانيا أعلنت حقيقة نياتها منذ الاحتلال وعزمها على البقاء والإقامة في وادي النيل للقيت عنتا شديدا وإرهاقا فظيعا
وقد عبر عن هذا المعنى معالي الدكتور محمد صلاح الدين
باشا في كلمته التي ألقاها في مؤتمر الميثاق الوطني الذي عقد
بالقاهرة في 24101951 أجمل تعبير حيث قال: (إننا خدعنا
طويلا، وجاء علينا الدور لنخدع من خدعنا، ونخضع من
أخضعنا، وأن تكون كلمتنا هي العليا.)
كانت الحماية إذن هي السبب الرئيس لقيام ثورة 1919، وقد أعلن زعماء مصر أنهم يطلبون استقلال بلادهم منذ الساعة الأولى. أعلنوه حين قابلوا المعتمد البريطاني في 13 نوفمبر 1918، وأعلنوه في النداء الذي وجهوه إلى معتمدي الدول الأجنبية في ديسمبر 1918 والذي جاء فيه:
(باسم الوفد المصري أعلن إلى كل أجنبي في مصر من ذوي المصالح أن هذا الوفد الذي يسعى بذمة أهل البلاد يقرن بسعيه للاستقلال احترام المصريين لحقوق الأجانب كل الاحترام)
وأتبع ذلك ببيان في 10 يناير 919 جاء فيه:
1: إن مصر تطلب استقلالها:
أ: لأن الاستقلال حق طبيعي للأمم.
ب: لأن مصر لم تهمل قط أمر المطالبة بهذا الاستقلال، بل هي قد سفكت في سبيله دماء أبنائها
ج: لأن مصر تعتبر نفسها الآن خالصة من آخر رباط كان يربطها بتركيا وهو رباط السيادة الاسمية
د: لأن مصر ترى أن الوقت قد حان لأن تعلن استقلالها التام الذي يؤيده مركزها الجغرافي(958/8)
وأحوالها المادية والأدبية
2 - تريد مصر أن تكون حكومتها دستورية
وفي 7 فبراير 1919 أعلن سعد زغلول باشا في خطبة له في دار جمعية الاقتصاد والتشريع بطلان الحماية قانونا حيث قال:
(إن بلادنا لها استقلال ذاتي ضمنته معاهدة لندن 1840 واعترفت به جميع المعاهدات الدولية الأخرى. . إنكم تعلمون أيها السادة وكل علماء القانون الدولي يقررون أن الحماية لا تنتج إلا من عقد بين أمتين، تطلب إحداهما أن تكون تحت رعاية الأخرى، وتقبل الأخرى تحمل أعباء هذه الحماية، فهي نتيجة عقد ذي طرفين موجب وقابل، ولم يحصل من مصر ولن يحصل منها أصلا
في 1914 أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها بدون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية، فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونا. بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها ولا يمكن أن تعيش بعد الحرب دقيقة واحدة.)
وهكذا كانت الحماية العامل الرئيسي في قيام ثورة 1919 وقد نجحت مصر في إلغائها 1922 وإعلان استقلالها ثم انتهى الأمر بقيام معاهدة 1936 بين مصر وإنجلترا. ربما كانت هناك ضرورات أدت إلى توقيع هذه المعاهدة 1936 ولكن الواقع أن هذه المعاهدة كانت كارثة على مصر فإنها لم تحقق للنيل وحدته بل أكثر من هذا أنها اعترفت بشرعية الاحتلال. وقد وقفت مصر بجانب بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية وانتهى الأمر بانتصار بريطانيا فعملت مصر على مفاوضة بريطانيا لتعديل هذه المعاهدة على أساس تحقيق أهداف مصر وهي الجلاء الناجز عن الوادي وتوحيد مصر والسودان تحت تاج واحد، ولكن ذهبت جهود المفاوضين المصريين عبثا، واضطرت مصر إلى إلغاء هذه المعاهدة وإلغاء اتفاقيتي السودان 1899 ثم وضع نظام دستوري لحكم السودان وقيام دولة اتحادية من مصر والسودان وأصبح جلالة الملك فاروق ملكا لهذه الدولة وأصبح لقبه ملك مصر والسودان
ومما يجدر ذكره أنه كما كانت الحماية باطلة قانونا فإن معاهدة 1936 بدورها باطلة قانونا، وقد سجل ذلك المستر أوبنهايم أستاذ القانون الدولي بجامعة كامبردج في مؤلفه العالمي عن(958/9)
ميثاق هيئة الأمم المتحدة فذكر أن معاهدة 1936 لا تتفق في شيء ما مع هذا الميثاق فهي باطلة من أساسها، إذ تنص المادة 103 من الميثاق على أنه: (إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقا لإحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المرتبة على هذا الميثاق)
قويسنا
للكلام بقية
أبو الفتوح عطيفة(958/10)
رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة
للأستاذ أحمد رمزي بك
القسم الثاني
تعد رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة من أروع الرحلات في القرن الرابع الهجري نظرا لما تضمنته من أسماء البلاد والمواقع. وقد كان أبو الطيب حريصا في شعره على أن يسجل الكثير مما رآه في هذه الرحلة، فقرن الأسماء بخياله الشعري، ووصل إلى درجة رائعة في القصيدة التي وضعها حينما دخل الكوفة والتي جاء فيها:
فلما أنخنا ركزنا الرماح ... فوق مكارمنا والعلى
وبتنا نقبل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعراق ... ومن بالعواصم أني الفتى
وهي أبيات قرأت ترجمتها بالفرنسية شعرا فوجدتها لم تفقد من قوة المتنبي شيئا، بل ظهرت شاعريته بلسان الفرنسيين
ولقد خرج أبو الطيب ليلة عيد النحر بعد أن تظاهر بالاستعداد للتضحية وكان قد اختار لنفسه أن يعلن عن عزمه بقصيدة مدح لزعيم من زعماء قيس النازلة في تلك الأيام بجوار بلبيس، وبالاطلاع على ديوانه نقرأ هذه القصيدة ونعلم شيئين:
الأول: كيف انتشرت قيس في إقليم الحوف الشرقي وكيف كانت لها السيادة في إقليم الشرقية
والمتتبع لتاريخ عروبة مصر يجد أن قبائل لخم وجذام وعاملة وذبيان لها منازل بالأراضي المصرية. ويرى كيف جاء بنو جزى وهم بطن من جزام، وبنو راشدة وهم بطن من لخم، وكيف انحدروا إلى أماكن عرفت بهم بين العريش ومصر، وكيف نزل من نزل منهم بالجزائر من أرض الحوف وهي الرمال البيضاء التي لم تكن تغمرها مياه الفيضان، وكيف هبط قوم منهم بالمناطق بين صان الحجر والزنكلوم وهي التي يطلق عليها اليوم (الزنكلون) فهذه المناطق أصلية في عروبتها، ثابتة في أرومتها؛ فإذا ذكر أبو الطيب قيس عيلان في بلبيس فهو يقصد بمديحه أن يلفت أنظار كافور إلى أن طريقه سيكون إلى الشمال مارا بمنازل عرب الحوف، فيأخذ كافور عليه الطرق والمسالك، ويقيم عليه الحرس(958/11)
ينقلون من أخباره
ولكن أبا الطيب كان قد اختار طريقا آخر؛ فبدلا من أن يرحل إلى الدلتا نجد أنه قد أخفى السلاح وروايا الماء في الرمال وركب أسرع الهجن البيجاوية وهبط من الفسطاط جنوبا إلى خليج السويس ثم اتجه من هناك إلى الجنوب مبتعدا عن طريق الحاج، فوجد أمامه واديا يسميه المعاصرون (وادي سدر) واسمه الصحيح (وادي الصدر) فإذا قطعه اتخذ سبيله إلى قلعة (نخل) القائمة للآن في شبه جزيرة سينا، قطع هذا على ظهور الهجن في مرحلة واحدة لا تتعدى يومين
فبينما كافور يستعد للاحتفال بعيد الأضحى إذا به يفاجأ بهرب المتنبي فيقيم الدنيا ويقعدها ويسأل الدلاة وقاصي الأثر، فلا جواب لديهم. .
وكان كافور يحكم مصر ويحكم الجزء الجنوبي من بلاد الشام ويسيطر على طرق المواصلات في سيناء، وله الحراس في كل مكان والعيون تنقل إليه أخبار الناس، فكيف فر أبو الطيب من قبضته؟ إن هذه الرحلة جديرة بالبحث وقد حاولت منذ سنتين أن أعرف مكان (نجع الطير) وهو نصف المرحلة الأولى من رحلته. ورجعت إلى كافة المراجع التي بين أيدينا فلم أوفق
وتتبعت هجرة بني إسرائيل من مصر لعلي أجد فيها ما يقنعني بتحقيق بعض الأسماء الواردة بين مصر وبلدة نخل في وسط سيناء، ومع صبري وتحملي الطويل لم يسعفني كل ذلك لنتيجة حاسمة ترضي رغبتي
ويصف أبو الطيب هذه الفترة من حياته بقوله عن الهجن البيجاوية:
ضربت بها التيه ضرب القمار ... إما لهذا وإما لذا
فمرت بنخل وفي ركبها ... عن العالمين وعنه غنى
ولهذه القصيدة - كما قلت - رنين موسيقي واعتداد بالنفس وسرور بالتغلب على مصاعب الأرض ومتاعب الطبيعة لا يمكن أن ينسى
أرددها ثم أنظر توارد الخواطر بين أبي الطيب ويوليوس قيصر في الشطر الأول: فهو يشبه أقدامه في قطع الفيافي في هذه السرعة في قوله:
ضربت بها التيه ضرب القمار: والتيه هو أرض سيناء والقمار هو مجازفة أمام الحياة(958/12)
الحرة وأمام الوقوع بين براثن كافور ومعناه الموت وضياع الأماني
ويذكرني هذا المعنى بما أورده يوليوس قيصر في كتابه عن حروب روما في بلاد الغاليين، حينما اشتبك في قتال معهم إذ قال أنه ألقى بآماله بين يدي الأقدار كما يلقي المقامر بالزهر بين يديه، فذهب قوله في اللاتينية مذهب الأمثال. فهل أطلع أبو الطيب على هذا؟ أو نقل إليه حديث قيصر؟ أو هو مجرد توارد خواطر
ومن المدهش أن قيام إسرائيل بين مصر والبلاد العربية قد أثار طائفة من المشاكل: أولها - كيف الوصول إلى فلسطين وأراضي الشام والحجاز؟
ولقد رأينا طول الحروب الصليبية بعض هذه المشاكل، وبعد المتنبي بقرنين من الزمن وثلاث وثلاثين سنه رأى صلاح الدين نفسه في الوقت الذي وقفه المتنبي. . كيف يصل إلى أرض الشام والصليبيون يقطعون الطريق ويحولون دون وصوله؟ لقد كان أبو الطيب يخشى كافورا وعيونه وحراسه، وكان صلاح الدين يخشى الإفرنج ومعاقلهم وحصونهم
والغريب أن صلاح الدين اختار أربعمائة من أشجع فرسان الأسدية من التركمان والأكراد وخيم في شمال القاهرة في بركة الحاج حيث تقوم الآن بلدة المرج. . واتجه إلى بلبيس، كما كتب أبو الطيب إلى زعيم بلبيس فلفت الأنظار إلى حركته في الشمال، ثم في ليلة واحدة قطع المرحلة من بلبيس إلى عجرود ونزل جنوبا بعيدا عن طريق الحاج واخترق وادي الصدر الذي أشرت إليه وعرف كيف يسلك (إلى نخل) ولم يكن صلاح الدين فارا فرار المتنبي. . ولذلك تنبه للمواقع فأنشأ على الرابية التي تطل على وادي سدر (الصدر) قلعة لا تزال آثارها قائمة إلى اليوم، وربط الطرق والمسالك بسلسلة من المعاقل اتقاء هجمات الإفرنج وتسللهم إلى هذه المناطق الحساسة من البلاد العربية
ألا ترى أن رحلة أبى الطيب لم نكن من الأمور التي تسير على غير هدى، بل كانت موضع درس وعناية، فلا تندهش إذن حينما تقرأ في خزانة الأدب للبغدادي صفحة 145 جزء ثان عن المتنبي لما كان في ضيافة عضد الدولة (وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة مأمورا بالاختلاف إلى المتنبي وحفظ المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرفها منه فقال: كنت حاضره وكان ابنه يلتمس أجرة الغسال فأخذ المتنبي إليه النظر بتحديق فقال: ما للصعلوك والغسال؟ يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء: يطبخ قدرة وينعل(958/13)
فرسه ويغسل ثيابه، ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة)
ويحدثنا الديوان بأن أبا جعفر أخذ شهرا من الزمن يحادث المتنبي في الطرق والمسالك ليأخذ عنه كيف خرج من الفسطاط وكيف وصل الكوفة في ربيع الأول سنة 531
وبينما أقلب كتاباً عن المتنبي بالفرنسية علمت أن مستشرقاً ألمانياً كرس جزءاً من حياته لدراسة رحلة المتنبي، وأنا الذي اقتطعت القليل من وقتي لكي أتعرف على بعض هذه الرحلة أجد غيري سبقني إليها فلم أقنط وقلت: قبل اطلاعي على ما كتب فلأخرجها كما تشاء نفسي:
وأمست تخيرنا بالنقاب ... وادي المياه ووادي القرى
للكلام بقية
أحمد رمزي(958/14)
الشخصية الرومانتيكية والحب الرومانتيكي
حول (رفائيل) للامرتين
للأستاذ محمد عبد الحليم محمود
كان القرن الثامن عشر في أوربا عامة، وفي فرنسا خاصة، عصر (العقل). . . عصر التفكير المنظم المنطقي سواء في العلوم وفي الآداب فلا محل في كتابات الأدباء ورسائل الفلاسفة للعواطف الجامحة والاحساسات الغامضة والمشاعر المختلجة والصبوات المضطربة التي تزخر بها النفس الإنسانية، والتي لا تخضع لمنطق ما. .
كل شيء في هذا العصر حاول المفكرون تقنينه وفلسفته لذلك ازدهرت فنون الأدب التي تحتاج قبل كل شيء إلى (العقل). . فنرى (القصة الفلسفية)، مثلاً، قد بلغت من الكمال حداً بعيداً على يد فولتير ومونتيسكيو وليساج وغيرهم وهذا الفن من القصص لا يحتاج إلى الانفعالات النفسية يصفها ويحللها، بل هو يعتمد قبل كل شيء على (النقد): نقد المجتمع المعاصر بعيوبه ومهازلها، ونقد الحالة الأدبية والدينية والسياسية للبلاد، في أسلوب من السخرية اللاذعة والتهكم الفلسفي الشيق وبسبب هذا الميل إلى التفلسف في القصة وقع المؤلفون، وإن كانوا من أئمة الكتاب، في شيء من الجفاء والإملال، وأبعدوا عن حقيقة الإنسان الحي ونفسه المضطربة العامرة بالمشاعر. .
فقصة (كانديد) للأديب الفيلسوف فولتيرن، وهي تعتبر خير قصة ألفت في القرن الثامن عشر على الإطلاق، لا يجد فيها القارئ سوى شخصيات فلسفية خيالية تمثل أفكاراً وتعبر عن مذاهب، وليس فيها من (الإنسانية) إلا الشيء القليل؛ فهي دمى وعرائس يحركها المؤلف لغرض في نفسه، غير حاسب حساب النفس البشرية بما تنطوي عليه من أسرار ومتناقضات وكان لا بد من رد فعل قوي لهذا النوع من (عبادة العقل) التي سيطرت على أغلب إنتاج القرن الثامن عشر. . . فالإنسان، لأنه إنسان، ليس عقلاً كله، ولا يستطيع أن يخضع القيم الذاتية لميزان المنطق وحساب الفكر الفلسفي المجرد وجاء رد الفعل في صورة المذهب الرومانتيكي
وكما غلا فلاسفة القرن الثامن عشر في تقدير العقل والمنطق والتفكير الفلسفي. . غلا الرومانتيكيون، أو إذا شئت فسمهم (الابتداعيين) في تقدير (الذاتية) والعاطفية، وفي تمجيد(958/15)
انفعالات النفس البشرية وأسرارها وسيطر هذا المذهب على سائر فنون الأدب زمنا طويلا ويهمنا هنا أن نتبين أثر الرومانتيكية في القصة فقد نشأت فنون جديدة من القصص أبعدت كل البعد عن التحليل الفلسفي الجاف، وراحت تبحث في أعماق الإنسان عن العواطف والاحساسات والمشاعر في شتى صورها واحتل (الحب) مكان الصدارة من هذه القصص لأنه أقوى وأجمل عاطفة في الإنسان واحتلت شخصية (العاشق العذري) المكان الأول من شخصيات القصة وإذا أردنا أن نشهد لهذا الحب الرومانتيكي، وأن نجتلي طلعة العاشق الرومانتيكي، فخير قصة ننظر فيها هي، في رأيي، قصة (رفائيل)، للشاعر لامارتين، التي ترجمها أستاذنا الكبير الزيات بك إلى العربية فهذه القصة تمثل أصدق تمثيل المذهب الرومانتيكي في الأدب. بطلها صورة دقيقة لما كان يرتسم في أذهان القراء والكتاب على السواء، إبان ذلك العصر، من ملامح العاشق الكامل. . والحب فيها هو مثال الحب العذري الصوفي الكامل الذي رأى فيه الرومانتيكيون مثلهم الأعلى. .
لذلك رأيتني، عندما أردت رسم الشخصية الرومنتيكية والحب الرومانتيكي مدفوعاً إلى اختيار رفائيل وحبه لجوليا في رواية ل مارتين الخالدة
وقد اعتمدت كثيراً، إلى جانب الأصل الفرنسي، على الترجمة العربية
رفائيل فتى من أسرة ريفية كريمة الأصل، وأن كانت فقيرة، خبت فيه وقدة القلب وهو في شرخ الشباب، وفقد ثقته بالناس، وملت نفسه عشرتهم وضاع أمله في السعادة، فراح يبحث عن العزلة في قرية آمنة، على شاطئ بحيرة جميلة، بين أحضان جبل شامخ. . وإذا به يلاقي هناك فتاة تحيي في نفسه موات الأمل، وتعيد إلى قلبه حرارة العاطفة، وتجعله يشعر من جديد بجمال الحياة
العزلة النفسية:
إن مثل هذه الشخصية تميل إلى التأمل في نفسها، وفي الطبيعة، وفي الوجود كله، فهي تحتاج من أجل ذلك إلى الهدوء والسكينة. ثم إن رفائيل ليست له أطماع أو أطماح في هذه الدنيا، بل هو يزدري المجتمع ويحتقر الجاه، ويشعر بقيمة نفسه وبسمو ذاته التي لا ترضى إلا بالعزلة النفسية التي تقضى على كل صلة بينه وبين المجتمع، لم تأت عليها عزلته المادية في قريته النائية بمقاطعة سفوا. .(958/16)
دور الطبيعة في الشخصية:
رفائيل يؤمن بأن الطبيعة يتصل سلكها بحبات القلب ومشاعره، فهي جزء من النفس والنفس جزء منها، وإن ما يجري في عناصر الطبيعة من الحياة هو نفسه ما يجري في عروق الإنسان منها، وهو لذلك يكتئب حينما تتلبد السماء بالغيوم؛ وينشرح قلبه عندما تشرق الشمس، وتهدأ العواصف: وتعود السكينة إلى الطبيعة فتعود أيضاًإلى نفسه. . . وأحب رياضة إليه التجول وسط الحقول، أو التنقل على صفحة البحيرة، أو صعود المرتفعات، أو اجتياز الإحراج؛ والطبيعة عنده، فوق كونها صديقة الإنسان الوفية يبثها آلامه وأفراحه، هي أجل مظهر من مظاهر قدرة الإله
رجل خير:
أنه يحب الخير لغيره، ويعمل جهده على مساعدة المحتاجين: فهو في وطنه يطعم الفقراء، ويعلم الصبيان، ويعين الفلاحين في أعمالهم. وهو عطوف حنون، يميل إلى الضعفاء ويحب كل كائن معذب شقي: وهو لذلك قد عطف على جارته في الفندق عندما علم أنها مريضة متألمة؛ وفي أيامه الأخيرة كان جل همه توفير الطعام لأسراب من طيور السند قد اتخذت منزله ملجأ وحمى
حساسية مرهفة:
هو رجل رقيق الطبع، شاعري المزاج، مثالي النزعة، قد تجرد من الأطماع والأغراض. فهو لذلك يمتاز بحساسية مرهفة، أو قل: إن هذه الحساسية المرهفة هي السبب في رقته وشاعريته ومثاليته وتجرده من الأطماع والأغراض، وهذا الشعور المرهف يجعله ينفعل لكل ظواهر الجمال في الدنيا: جمال الطبيعة وجمال الحب وجمال الآداب والفنون،، ثم بجمال القدرة الإلهية فوق كل جمال. .
أجل! فهو يؤمن بوجود إله خالق خير يهيمن على هذا الكون ويدبر أموره. وهو دائماً يذكر اللًه ويذكر السماء عند ذكر الحب والحبيبة، فهو يمزج بين الحب والدين، أو هو يجعل عبادة الجمال نوع من عبادة اللًه، لأن اللًه هو الجمال المطلق
دور الحب في الشخصية:(958/17)
كان قبل أن يحب يؤمن بان الحياة بما فيها من شقاء وملل لا تستحق أن يحياها إنسان. فلما أحب، وأيقظ الحب شعوره الراكد، وحرك حسه الجامد، ورفعه إلى أعلى مدارج السعادة الروحية، أصبح يرى أن الحياة، لفرط ما فيها من لذة سامية، يخشى عليها أن يعكر صفوها حدث من الحدثان في عالم الغيب، لذلك يريد أن يموت في أوج سعادته، قبل أن يفاجئه الغد المشئوم، ويفحمه في حبه. . .
رفائيل ولا مارتين:
الرومانتيكية تبحث قبل كل شيء عن (الذاتية). فإذا كتب كاتب فإنما يعبر عن دفين أسراره، وإذا رسم فنان فهو يعبر عن خلجات نفسه واضطرابات حسه. . . ولا مارتين، عندما صور بطل قصته، فقد صور فيه نفسه: نفسه التي تنزع إلى المثالية في العاطفة والزهد في الحياة والتصوف في العبادة. . . وعشق كل ما هو جميل في الكون
السأم، والتألم الهادئ:
الصفة الغالبة على كل شخصية رومانتيكية هي: السأم الفطري الذي لا سبب مباشر له، والتألم الهادئ الرقيق. . . ورفائيل مثلاً في مقتبل العمر وشرخ الصبا لم يصبه من الصدمات ما يبرر عزوفه عن العمل، ويأسه من كل شيء وابتعاده عن الناس في شيء من القسوة على نفسه والى أقرانه. . . ولكن هي الطبيعة الرومانتيكية تأبى إلا أن يكون صاحبها إنسانا يمتاز بالحزن الدائم والتشاؤم وفقدان كل أمل. . .
وليس الحزن الرومانتيكي بالحزن الصارخ القبيح، بل هو ضرب من الألم الوجداني الهادئ. . . ألم شاعري رقيق، يجلب العطف ويمسح على الشخصية صبغة مميزة جميلة. . . وأما الحب الذي ربط بين قلب رفائيل وقلب صاحبته (جوليا) التي هي صورة أخرى من الشخصية الرومانتيكية الممثلة في رفائيل، فقد كان حبا مثالياً اقرب إلى ما يسميه الإغريق بالحب الأفلاطوني، والعرب بالحب العذري
أهم صفات هذا الحب الرومانتيكي:
التفاني:(958/18)
هو مريض النفس، سئم الحياة ومل المجتمع وعاش وحيدا في دنياه. . . وهي مريضة الجسد تحب العزلة وتنطوي على نفسها في يأس ومرارة. . . (كلاهما طريد هم ووحيد غربة ونضو سقام وأليف وحشة). . . فأحبها لأنها تشبهه إلى حد بعيد. . . بل هو كان يحب فيها نفسه. . . وقد أصبحا فيما بعد، لفرط حبهما كأنهما شخص واحد: (وإنما أنا ظل بشخصك). . . لقد رآها فاحتواها في نفسه، ولم يعد في مقدوره أن ينتزعها من أعماقه، وهما إذ يلتقيان ليسا في حاجة إلى الكلام، لأن كليهما يفهم ما يدور بنفس الآخر، بل لأن روح كل منهما قد حل في روح الأخر: (فأتحول إليها، وتتحول إلي، حتى لا يستطيع الله نفسه. . . أن يفصل ما مزج الحب وأحالته معجزة الهوى)
العطف والاعتراف بالجميل:
لقد بدأ حب الفتى لصاحبته بنوع من الرثاء لحالها والتألم لمرضها. وقد لفته أول ما لفته إليها هزالها البادي وشحوبها، فأدركته لها رقة ورحمة وهي بدأت تحبه عندما شعرت بعطفه عليها، إذ كانت (محرومة نسب القلب وصلة الروح في ربيع شبابها) ثم أفاقت فجأة لتجد إلى جانبها عناية وإخلاصاً وحناناً، فلم تتمالك أن حركت لسانها بهذه الجملة المؤثرة. (لك الحمد يا رب لقد رزقتني أخاً). وقد زاد من حبه لها أنها أيقظت فيه الشعور بالحياة، وجلت لعينيه مسارح الخلود. . . نظرة واحدة منها كفلت له تجديد كيانه، وتغيير وجدانه، وبعثه من رقود، وإمتاعه بأيام سعادة لا مدى لها
العبادة واللانهائية:
المرأة التي يحبها في نظرة إله، أو على الأصح فالإله يتمثل فيها. لذلك فهو يقرن ذكرها بذكر اللًه، ويهم بالركوع أمامها إذا لقيها، ويصلي لها في حرارة وإيمان: (اتحد اللًه وهي في نفسي اتحاداً تاماً). . . (فكأن الهوى والعبادة يمتزجان فيها بمقدار واحد). . . لذلك فهو يقدس حبها ويؤمن بألوهيته، ويتعبد لتلك المرأة التي (جلت بحنانها عن أن تكون إلها، وسمت بقداستها عن أن تكون امرأة)
وما دامت الحبيبة شبه إله فالحب لا حد له: أنه حب أشبه (بسر بعيد الغور شاع في جوانب النفس بالإحساس لا بالكلام فهو نور من غير نار، وسكر من غير خمار، وهو(958/19)
كمال لا يقدر ولا يفصل، ووحدة لا تجزأ ولا تحلل، يفيض على النفس نشوة لا تجد، ويجلو للقلب عن أسمى المعاني، ويكشف للبصيرة عن وجود الله ذاته. . . والعاشقان يفهمان من الحب: (الخلود تستوعبه دقيقة، واللانهاية تستقصيها إحساسه رقيقة)، ثم هما يؤمنان بخلود النفس البشرية ولا نهائيتها لأنهما يشعران عند اللقاء بذلك الخلود وبتلك اللانهائية. . .
الطهارة:
مثل هذا الحب المقدس لا يمكن أن يكون حبا شهوانياً، إنما هو عشق روحين واتصال قلبين، ورباط بين شخصين مثاليين. إن الفتى لا يحب في صاحبته الجسد الزائل والجمال الفاني، لكنه يحب مثالاً في نفسه يتعشقه، وصورة عليا يصبو إليها وجدانه. . . أنه يحب فيها (طيفا من طيوف الغيب)، ويبحث لديها عن ذلك الشعور بالراحة (الذي يجده من ظفر بحاجة طالما نشدها فما وجدها، ويدركه القلب العابد القانت. . . حتى إذا أدركه علق به علوق الحديد بالمغناطيس، وفنى فيه فناء النفس في الهواء). وهو سواء على القرب منها والمشهد، أو على البعد والمغيب، يراها في نفسه، وما عداها لا يشغله ولا يعنيه. . والحب في نفسه تطهير وتصفية: أنه شعلة اللهب تحرق وتلذع الحس، ولكنها تضيء كوامن الوجدان وتنير للقلب عالم السماء. . . وقد هفا حس الفتى الحيواني في ساعة من ساعات النشوة فوق مياه البحيرة إلى جمال صاحبته الجسدي، ولكنها سرعان ما ردته، بإخلاصها وطهارة نياتها وتفانيها في حبه، إلى صوابه الضائع؛ قالت: (ألا تعتقد أن حبنا يكون أمتع وأرفع وأبقى وأنقى مادام مصونا في خدر العفاف، نازلا في مناحي الخلود، حيث لا يتقلب الحدثان ولا يعدو الموت؟؛)
الحب والحياة:
كان الحب عند بطلي الرواية مثيراً لظاهرتين متناقضتين في نفسيهما: الأولى بعث الحياة في الجسد، والثانية إثارة الرغبة في الموت في أعماق القلوب
فالفتاة عندما أحبت انتعشت نفسها وخفت أمراضها وشعرت بالقوة والحيوية تسريان في شرايينها، وإن كان ذلك إلى حين. والفتى أحس أن العبقرية إنما يستمدها الإنسان من(958/20)
الحب، ووجد في حبيبته (قصيدة إلهية رائعة) يستمد منها الإلهام، بل يستمد منها الحياة. . . ولكن الحب قد بلغ بهما منتهى ما تصبو إليه الروح من السعادة. . . وهما يخشيان بعد ذلك أن يوقظهما من حلمهما الجميل ما يحيط بهما من واقع أليم. . . وهما لذلك يصبوان إلى الموت قبل أن تحيق بهما الكوارث، ولكي يظلا متحدين اتحاداً روحيا تاماً في الآخرة كما كانا في الدنيا
الطبيعة:
الطبيعة تلعب دوراً خطيراً في مسارح الحب الرومانتيكي، فهي صديقة كل عاشق يبوح لها بعواطفه، ويبثها أشجانه، ويسر إليها بنحواه، ولا يجد الراحة والسلوى إلا بين أحضانها الزاهرة
محمد عبد الحليم محمود(958/21)
عن الظرفاء
محمد إمام العبد
للأستاذ محمد رجب البيومي
يدور حديث الأدباء عن إمام في خفوت وهمس، فآنت تجد من يذكر له النكتة الرائعة، أو البيت الجيد، أو الحادثة الغريبة، دون أن يتعدى ذلك في قليل أو كثير، فإذا أردت من يلم بدقائق أخباره، وينشد روائع أشعاره، ويحلل مواقفه الاجتماعية والأدبية أعوزك أن تهتدي إلى ضالتك المنشودة، وخيل إليك أن إماماً شاعر قديم نشأ منذ قرون بعيدة، وسكتت عنه المراجع التاريخية، فما جاء عليه أحد معاصريه بترجمة وافية تضمن لتاريخه البقاء، مع أن شاعرنا البائس أديب معاصر، لا يزال يوجد بين أدبائنا من سامروه وحفظوا عنه وتغدروا به، ولكن بؤسه الذي صحبه في حياته قد امتد إلى تاريخه، فكاد أن يأتي عليه. والبؤس طاغية جبار، يصاول الأحياء في عنف وطغيان، فإذا لفظوا أنفاسهم بين يديه، عدا على القبور، فمزق الأكفان وبعثر الأشلاء!
ولد إمام من عبدين رقيقين قد جلبا من السودان، وبيعا لبعض الأثرياء، فورث عنهما السواد والدمامة والبؤس، ونشأ في كنفهما يقتات بما يتساقط من فتات الموائد وبقايا الصحاف، وكأن القدر لم يشأ أن يحرمه كل شيء، فمنحه القوة في الجسم، والبلاغة في المنطق، والخفة في الروح، فكان رياضيا ممتازاً يصرع أقرانه لدى الصيال، وشاعراً مطبوعا يحتكم في القوافي والأوزان، وخطيباً تعرفه الحفلات السياسية، والأندية الاجتماعية، وسميراً يؤنس سامعيه بالملحة النادرة، والفكاهة العذبة، وقل أن يجتمع هذا كله لإنسان!!
وكان لونه الأسود موضع التندر بين زملائه وعارفيه، فقاسى من جرائه كثيراً من ألوان التهكم والاستخفاف، وهذا ليس بعجيب، فقد ابتلى كثير من الأدباء قبله ببلواه، فدافعوا عن أنفسهم أبلغ دفاع، وحفظ لنا الأدب قلائد فاتنة لنصيب وعنترة والجاحظ، يلجمون بها من ينتقصونهم في أمر لا يوجب النقيصة بل وجد فيهم من فضل السواد على البياض، ودبج في ذلك الفصول الطوال!!
وكان حافظ إبراهيم رحمه الله أقسى المتهكمين لهجة، وألذعهم سخرية، وكانت فكاهته معه تأخذ طريقها إلى الألسنة في سرعة فائقة، فما يكاد شاعر النيل يرسل تندره العابث(958/22)
بصاحبه، حتى يتقدم إماماً في كل مجلس يغشاه، وطالما وقعت بين الشاعرين جفوات متقطعة لما يلوكه حافظ من حديث إمام، ثم لا تلبث السحب أن تنقشع، لما بينهما من صلات جمع بينهما الشعر والبؤس والفكاهة وأكدها صفاء النفس، ونقاء الضمير، وقد اشتهر إمام بالشاعرية قبل صديقه، فكان حافظ في صباه يعرض عليه ما يفيض به خاطره من بيان، فيقوم إمام بصقله وتجويده وتزكيته، ثم مضت الأيام فإذا شاعر النيل يطير بشعره في آفاق الشرق العربي، وإمام البؤساء لا يجد من يروى قصائده غير حفنة يسيرة لا يمكن أن تلحق برواة حافظ،! وينظر العبد إلى مكانه من صاحبه، فيوسع عشاق حافظ لوماً وتسفها، كما يعلن أستاذيته له في كل ندوة يدور بها الحديث عن الشعر والشعراء، وحافظ يرد عليه بنكاته العابثة، وفكاهته الساخرة! فينتصر عليه أي انتصار!!
نظم إمام في الخمر أبياتاً رائعة صادفت هوى في الأسماع والقلوب، وأذاعتها الصحف مقرظة مادحة، وانتظر الشاعر من حافظ أن يوفيها قسطها من الإطراء والإعجاب، ولكن شاعر النيل يصيح في ندوة حافلة بالسمار والأدباء (إن مثل إمام في الشعر كمثل (بخيتة) في المطبخ، إذا هي أفلحت في تعمير (اللمبة) شاع عنها بين أهل الحي كله أنها سيدة الإماء، وكذلك يتلقى الناس أبيات إمام فيهللون له لأنه عمر (اللمبة) بنجاح)!!
والواقع أن حافظاً كان مريضاً بمعابثة إمام، فهو لا يرحمه بالسكوت عنه مهما بالغ في التودد إليه، وكان لا يقصر تندره على قصائده وأبياته، وهي أثمن ثروة يعتز بها الشاعر أي اعتزاز، بل ينتقل إلى ملبسه ومأكله وهيئته، فيوسعه سخرية وعبثا،!
لقيه ذات مرة يلبس (كرافته سوداء فصاح به: (أقف قميصك أيها العبد، فصدرك الأسود يضجر الناس!) ووجده مرة يكتب خطاباً، والمداد يتساقط من قلمه فقال (جفف عرقك يا إمام)!! وأمثال هذه المأثورات الحافظية متداولة مشهورة، وكان في طوق إمام أن يؤدب صاحبه ببأسه وصرامته، ولكنه كان في أكثر أحواله ينفق من جيبه، ويقاسمه قروشه ومليماته مما يدعو إلى التسامح والإغضاء!
ولم يكن حافظ وحده يستغل سواد إمام في تندره وسخريته، بل إن إماما نفسه قد اتخذ منه مادة دسمة للحديث عن نفسه، فهو لا يفتأ يردده في قصائده وأزجاله ويستلهمه كثيرا من المعاني الجياد، فإذا تحدث الشاعر عن بؤسه وفاقته دار حول سواده ودمامته، وإذا لفحه(958/23)
الحب تذكر سواده الفاحم، فأنتزع منه الخواطر المشجية. وهكذا يصبح السواد مركب النقص لديه، يشعر به في ألم ومرارة فيسلمه أزمة القوافي والأوزان
أقرأ إن شئت غزله المطبوع، تجده يدور في أكثر قصائده على ما منى به من حلوكة دلمسة، وهو في كل مقطوعة يبتكر ويجدد، فهو تارة يقع في حوار مع معشوقته البيضاء، فيسألها أن تسدل الليل البهيم على بدر الدجى الساطع، فترفض في إباء واستعلاء، وتتعجب من عبد أسود يطمع في غرام غانية عزت على الأحرار البيض، فيجيبها بما يثبت حريته واستقلاله، ويصور ذلك إذ يقول:
عذبي القلب كما شئت ولا ... تكثري اللوم فمثلي لا يلام
وأسدلي الليل على بدر الدجى ... فحديث الشوق يحلو في الظلام
همت بالوصل فقالت عجبا ... أيها الشاعر ما هذا الهيام
لم ينل منا الرضا حر وما ... رام منا سيد هذا المرام
أنت عبد والهوى أخبرني ... أن وصل العبد في الحب حرام
قلت يا هذي أنا عبد الهوى ... والهوى يحكم ما بين الأنام
وإذا ما كنت عبدا أسوداً ... فاعلمي أني فتى حر الكلام
وهو تارة يعلن أن لونه لم يكن مسوداً قبل غرامه، ولكن لهيب الشوق أحرقه في قسوة فأحاله من البياض إلى السواد، ولك أن تتصور الجسم الأبيض وقد اشتعلت فيه النار حتى تركته فحمة سوداء!! وهو تعليل طريف مستملح، ولكنه ادعاء باطل تضحك من الشاعر إذ يصيح به فيقول:
كتمت فأقصاني وبحت فلامني ... فهاج غرامي بين سري وإعلاني
وما كان لوني قبل حبك أسوداً ... ولكن لهيب الشوق أحرق جثماني
وكأن الشعر لم يتسع ببحوره الضافية لعواطفه (السوداء) فنظم كثيراً من الأزجال المرحة تحوم في مجموعها حول سواده ودمامته، وعشاق الزجل يعجبون ببراعته وإبداعه، ويشيدون بقصيدة (الزنجية الحسناء) وفيها يقول:
الناس لها مذهب في البيض ... ومذهبي حب السودان
مرجان متيم ببخيته ... وبخيته مجنونه بمرجان(958/24)
مين اللي قال الحب عذاب ... يا ناس وحق الله افتوني
الليل ومحبوبتي أصحاب ... إزاي عواذلي يشوفوني
ونلاحظ ونحن نطالع غزله المرح، أنه كان مشبوب العاطفة، صادق الصبوة، فهو يغمرك بفيض من الإحساس الصادق، ونحن لا ننتظر من شاعر مثله أن يثب مع الخيال إلى أجواء عالية، فقد كان في عهد يقتصر فيه الشعراء على التعبير الفطري، والإحساس الأولى؛ دون جنوح إلى التأمل والاستغراق، بل إن إماماً قد سلم مما ارتطم فيه معاصروه من الجناس المستكره، والبطاق الثقيل، واندفع إلى التعبير عن خواطره في سلاسة ونصوع، وحسبك منه أن يسكر لسانك بحلاوة اللفظ، ويطرب سمعك بعذوبة النغم، إذ يقول
أرى لوعة بين الجوانح لا تهدا ... أهذا الذي أسماه أهل الهوى وجدا
وما ذلك الواهي الخفوق بجانبي ... أهذا هو القلب الذي بحفظ العهدا
أو يقول:
كان هذا الغرام يجري ورائي ... في شبابي فصار يجري أمامي
إنما الحب كهرباء عيون ... لعيون تسري إلى الأجسام
ما خضعنا لدهرنا وهو ليث ... وخضعنا لنظرة الآرام
أو يقول:
أقام الهوى عشرين حولاً بمهجتي ... وسار، فمن أوحى له برجوع
كأن الهوى ما أكرمته ربوعها ... وصادف إكراماً له بربوعي
ورغم هذه المقطوعات الجياشة بالحنين إلى المرأة، المتشوقة إلى ظلالها الوارفة، وروضها البهيج، قد قضى الشاعر حياته عزباً لم يتزوج، ولسنا نحار في تعليل ذلك؛ فتكاليف الزواج مرهقة لا يحتملها شاعر معدم، تتلوى أمعاؤه في أكثر أوقاته جوعا وسغبا، ويتحرق إلى مسكن ضئيل يقيه برد الشتاء وحر الهجير، وقد كان الأدب مترددا على الأندية والمقاهي دون أن يجد من يدفع به إلى باب يرتزق منه، وكانت الصحف السياسية والأدبية من القلة بمنزلة لا تهيئ لها النهوض بحملة الأقلام، وبخاصة إذا كانوا من طراز إمام ممن يتهالكون على الشراب تهالكاً يستنفد جميع ما لديهم من المال! وتلك حالة جديرة بالرثاء والإشفاق!! وقد نظر إمام إلى الزواج ككارثة مروعة تؤجج اللوعة والحيرة، وصور للقراء ما يعقبه(958/25)
من تبعات ومصاعب، ونحن لا نؤيده في دعواه، ولكننا نعرض جانبا من أبياته، ليضيء ما يغشاه من اضطراب وقلق، وإن كنا نرجع باللائمة إلى سلوكه المضطرب، وتربيته العوجاء، وزمنه الجحود، اسمعه يقول:
أيها العاقل المهذب مهلاً ... هل رأيت الزواج في الدهر سهلا
كل عام يزاحم الطفل طفل ... ليتني عشت طول عمري طفلا
ذاك يحبو، وذاك يمشي، وهذي ... فوق صدر، وتلك تنشد بعلا
ضاق صدري من الزواج فمن لي ... بحياة الخصي قولا وفعلا
كان هذا الشقي جسما فلما ... أنهكته الهموم أصبح ظلا
وهكذا يئس الشاعر من الزواج فلم يطرق بابه، وقد ادعى في مقطوعة أخرى أن لديه مانعاً يحول دون زفافه، فهو كالليل الحالك، وكل حسناء شمس منيرة، واجتماع الليل والشمس من ضروب المحال، وهذا ادعاء خطابي، فلكل ساقطة لاقطة كما يقولون
وتسألني عما نظمه إمام البؤساء مصوراً فاقته وعدمه؟ والحق أنه أسهب في تبرمه وتوجعه لحالته، وكان يحز في كبده أن يجوع وتأكل الماشية، ويعرى وتكتسي الأضرحة، ولولا أنه كان يسري عن نفسه بمجالس السمر ومطارح الفكاهة، لاحتراق بما يشتمل في صدره من جحيم، وقد كان ككل أديب بائس - يظن لديه من الحصافة والمرونة ما يؤهل له العيش الرغد، والنعيم الهنيء فإذا صدمه الواقع المرير بالبؤس والمتربة ثار على الوضع الجائر، وندب الحظ العاثر، وتطلب المكانة التي يصورها له خياله، وإنها لبعيدة عنه أشد ابتعاد!! وقد كان من القسوة الغليظة أن يلقبه الناس بالعبد وهو الأديب الحر العيوف، وماذا يصنع في لقب ورثه عن أبيه، ولازمه كالظل فما ينفك عنه أبد الحياة، أنه ليقابله بالعتب المرير، ويصيح كالساخر العابث:
نسبوني إلى العبد مجازاً ... بعد فضلي واستشهدوا بسوادي
ضاع قدري فقمت أندب حظي ... فسوادي على ثوب حداد
وإذا كان السواد ثوب حداد على حظه الضائع، فإنه في موضع آخر حداد على قلمه الكاسد!! هذا الذي لا يجر نفعا لصاحبه، وهو أحرى أن يملأ يديه بالذهب النضار، لو عاش بين قوم يقدرون فضله، ويحترمون مواهبه، وقد تمنى الشاعر أن يكون قلمه سهما(958/26)
مسدداً إلى فؤاده، فيريحه مما يكابد من عناء!! وتلك أمنية ترمض الجوانح، وتدمي الجفون، ولكنها في رأيه سبيل الخلاص، ومرفأ النجاة، ها هو ذا يقول:
لبست لأجله ثوب الحداد ... ودرت مع الزمان بغير زاد
أمد يدي إلى قلمي افتقاراً ... فيدفعني إلى تلك الأيادي
فيا ليت اليراع يصير سهماً ... كما أبغي ويكتب في فؤادي
سئمت من الحياة بلا حياة ... وضقت من الرشاد بلا رشاد
وكيف يهيم بالدنيا أديب ... تسربل بالسواد على السواد
إذا أكل الطعام فمن تراب ... وإن شرب المياه فمن مداد
كأن الدهر يغضبه صلاحي ... فأفقرني ليرضيه فسادي
وأوجع من هذا أن يقول شاكياً فاقته نادبا مجتمعه الجائر
خلقت بين أناس لا خلاق لهم ... فباعني الفضل في الدنيا بلا ثمن
لولا بقية دين أمسكت خلقي ... لقلت إن إله العرش لم يرني
أو يقول:
وما قتلتني الحادثات وإنما ... حياة الفتى في غير موطنه قتل
وما أبقت الدنيا لنا من جسومنا ... على بأسنا ما يستقيم به الظل
وكأن الحظ قد سد أذنيه عن قلم إمام فلم يصغ لحظة واحدة، إلى صرخاته الفاجعة، وما زال يتقلب على أشواك الحرمان حتى دهمته العلة بعد خمسين عاماً من عمره الجديب، وأحس أنه قريب من الموت فلم يأسف من الحياة على شيء غير يراعه العجيب، بصريره فطالما نفث بمداده السحر، وشنف الأسماع، فطفق يودعه في حرقة وتلهف، وينشده الرثاء الباكي الذي ناح به على نفسه، وهو يكابد العلة القاتلة، ويصاول الداء الفتاك، ثم سبحت روحه إلى آفاقها الرحيبة، بعد أن ردد هذه الزفرات الأخيرة
يراعي، لقد حان الفراق وربما ... أراك على العهد المقدس باقيا
لبست عليك الليل حزناً وليتني ... لبست على نفسي الدجنة ثانيا
مضت بيميني الحادثات جهالة ... فلما رأت صبري مضت بشماليا
وكيف يطيب العيش والدهر مدبر ... وفي القلب ما يفري الحسام اليمانيا(958/27)
رمل الإسكندرية
محمد رجب البيومي(958/28)
رسالة المربي
أهمية العلوم - المدرسة والمجتمع - المجتمع العالمي ورسالة
المربي
للأستاذ كمال السيد درويش
يحتاج التوافق الاجتماعي إلى جانب الإعداد التربوي - الخلقي والبدني - إلى الإعداد العقلي أيضاً. وذلك عن طريق العلوم فقد كانت ولا تزال من أهم الوسائل التي يستعين بها الإنسان على إشباع حاجته إلى المعرفة وتوفير حاجته إلى الأمن. والعلوم من أهم الوسائل الإنسان في تذليل ما يصادفه من عقبات وبها يستطيع الحياة في جو مطمئن يساعده على الابتكار والتجديد والتقدم.
ولسنا الآن بسبيل سرد تلك العلوم ولا بسبيل الإشارة إلى أهمية كل منها على انفراد أو الحاجة الإنسانية إليها فذلك كله من الأمور البديهية، وما على الإنسان إلا أن يفكر قليلا ليدرك مدى الخدمات التي تؤديها مختلف العلوم والتي لولاها لما تقدمت الإنسانية في طريقها ولما خطت خطواتها السريعة في سبيل التقدم. وإنما الذي يهمنا الإشارة إليه هو كيفية تدريس هذه العلوم المختلفة بحيث تصبح فعلاً مفيدة للإنسان؛ أي بحيث يستطيع استغلالها واستخدامها كوسائل فعالة، حية، نامية، لا أن تصبح مجرد أدوات لا قيمة لها أو كجثث محنطة لا نفع فيها ولا حياة. وهنا نستطيع أن نتبين أهمية رسالة المربي. إنها تظهرنا على الموقف الذي يجب أن نقفه كمربين من تدريس العلوم على اختلافها؛ من كيفية تعلمها وكيفية تعليمها أيضاً. يجب أن يشعر المتعلم بفائدة العلوم التي يتعلمها؛ يجب أن يشعر أن العلوم وإن كانت قيوداً تزيد في ثروته العلمية وتعاونه على التآلف مع بيئته وتزيد في قدرته على التعامل معها. وما لم يحدث ذلك فعلاً كان المتعلم قد خسر كل شيء ولم يستفد سوى حشو ذهنه بالمعلومات الميتة فلا هو سينتفع من معرفتها ولا سيضره جهله بها، بل سينفعه تركها والتخلص منها
إن للعلوم جميعها أهمية كبرى في تحقيق رسالة المربي، ولعلم النفس من بينها أهمية خاصة لم نشعر بها بعد، لذلك يجب الإشارة إلى الأهمية خاصة لم نشعر بها بعد، لذلك(958/29)
يجب الإشارة إلى الأهمية الكبرى التي اكتسبها. لقد أصبح علم النفس ضرورة من ضرورات المجتمع الحديث، فبه يمكن حل الكثير من المشاكل الاجتماعية وعلى ضوئه يمكن تفسير السلوك الإنساني المعقد، وبدون ذلك لا يتيسر للإنسان الحياة في وئام. علم النفس الآن هو طبيب، الإنسانية بل خادمها الأول. وهو ينفع المعلم كما ينفع الطبيب وينفع صاحب المصنع كما ينفع العامل. هو علم الإنسان. بل علم النفس الإنسانية، ولذلك يجب علينا معشر الشرقيين أن نحله مكانه الممتاز بين سائر العلوم
ومن بين العلوم التي أخذت تحتل مكانها الممتاز إلى جانب علم النفس بفروعه المختلفة نجد علم الاقتصاد. إن المجتمع الناهض القوي يجب أن يبنى على أسس اقتصادية سليمة، وإلا ذهب الكلام عن إصلاحه وتقدمه أدراج الرياح، وهل يتيسر ذلك إلا بالسير وفق سياسة اقتصادية مرسومة وفق أحدث نظريات الاقتصاد؟! ألم يشترك الكتاب الاقتصاديون مع غيرهم في تقديم الوقود لإشعال نار الثورة الفرنسية وبناء مجتمع جديد على أنقاض الملكية المتهدمة؟!
والكلام عن علم الاقتصاد يقودنا إلى الكلام عن النظم الاقتصادية وما انبنى عليها من مذاهب سياسية يحاول كل منها تنظيم المجتمع أحسن تنظيم. ولقد طبقت هذه النظم في بعض الدول الأوربية مثل الروسيا أو ألمانيا أو إنجلترا حيث نجد الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية. ولهذه المذاهب - وإن كانت سياسية - مثلها التربوية وفلسفتها التعليمية. . ولذلك لا يمكننا إغفالها دون التحدث عن موقف رسالة المربي منها. إننا ننظر إليها جميعها كوسائل ضمن الوسائل التي نستفيد بها لتحقيق هدفنا التربوي، فإذا كانت عاملا من عوامل النمو الاجتماعي استخدمناها وإذا سلبتنا حريتنا وشخصيتنا ووقفت عائقا دون تقدمنا تركناها ونبذناها. فليست العبرة لدينا بالأسماء بقدر ما نهتم بحقائق الأشياء. ونحن نقول لأصحابها: (وهي إلا أسماء سميتموها.)
إن لكل مذهب سياسي ظروفه الخاصة التي أدت إلى ظهوره وانتشاره وبخاصة وله بيئته المحلية التي لا يترعرع إلا فيها ولا يزدهر إلا في أحضانها. ولكل بيئة تراثها التاريخي فكيف يصلح في مصر ما يصلح في إنجلترا أو الروسيا؟!
ولماذا لا تكون لنا رسالتنا الخاصة نستمدها من تراثنا القديم والوسيط والحديث، ومن(958/30)
خيراتنا وتجاربنا، فنحن أدرى بأحوالنا وبما يلزمنا؛ نقتبس من المذاهب شيوعية كانت أو ديمقراطية أحسن ما فيها مما يتمشى مع مقوماتنا ونخرج من ذلك كله بفلسفتنا الخاصة فتكون لنا أكبر البعث والحياة
وفي ميدان المدرسة يجب أن تتركز جهود المربى لتحقيق رسالته، ذلك لأن المدرسة تقوم بدور رئيسي في تربية أفراد المجتمع. وموضوع المدرسة وما يجب أن تكون عليه حتى تنجح في تحقيق رسالة المربي موضوع قد استحق التأليف فيه من كبار فلاسفة التربية في الغرب، وسوف نفرد له بحثا خاصا بإذن الله
وكما يجب أن تتجه همة المربي إلى المدرسة يجب أن تتجه إلى سائر الميادين الاجتماعية الأخرى. . إلى السينما والمسرح وإلى الصحافة والإذاعة، فكل ميدان من هذه الميادين يحتاج إلى نفس الإشراف والتوجيه الذي يكفل ضمان نمو الروح الاجتماعية التقدمية بين جميع أفراد المجتمع. يجب أن يقف المربي من إصلاح المجتمع موقفا إيجابيا بشتى الوسائل كإنشاء المراكز الاجتماعية حتى يشع كل منها الروح الاجتماعية فيمن حوله من السكان. حقا إن إنشاء المراكز الاجتماعية بخبرائها وأطبائها وميادينها وملاعبها ومسارحها وصالات محاضراتها كفيل بتوجيه المجتمع الوجهة الصحيحة التي يجب أن يتجه إليها. إن اهتمامنا لا يزال ينصب على المدارس فقط، وهذا خطأ كبير. حقيقة إن المدارس وإن كانت تعد الإنسان فترة كبيرة من حياته إلا أن ذلك ليس معناه الاعتماد عليها فقط، لأن الفرد قبل التحاقه بالمدرسة يكون إلى حد كبير صورة مصغرة للمجتمع المنزلي الذي عاش فيه، ثم هو بعد التحاقه بالمدرسة لا يقطع صلته أبدا سواء بالمنزل أو الشارع ويكون أثناء ذلك شأن كل صحيح البدن عرضة للإصابة بجراثيم الأمراض لاجتماعية المعدية. وهنا تتبين لنا أهمية رسالة المراكز الاجتماعية. عليها مهمة الوقاية والحماية والتأييد والتعضيد. هي الناصح المخلص والمرشد الأمين والطبيب الذي يأخذ بيد المصابين وقبل أن يزمن الداء يقدم إليهم الدواء فالشفاء
ولكن عن أي مجتمع نتحدث؟! إن المجتمع الذي نقصده ليس المجتمع المصري أو العراقي أو الشامي أو الإنجليزي، وإنما هو المجتمع العالمي. . أي المجتمع الذي يضم أفراد العالم جميعا. وما فائدة إصلاح مجتمع محلي مع إهمال سائر المجتمعات؟ أليس هذا هو سر(958/31)
التعارض بيد الأمم وبالتالي سبب قيام الحروب وانهيار كل دولة وتأخرها إلى الوراء. إن من بين الأسباب الرئيسية للحروب بين دول العالم هو اختلاف الإعداد التربوي في دولة، عنه في الأخرى، هو في التعصب القومي الأعمى البغيض، هو في اختلاف الاتجاهات العقلية والخلقية بين الدول، حقاً إن الإعداد الاجتماعي كفيل بإيجاد التقارب والتفاهم بين أفراد المجتمع العالمي. إن الأسر على ما بينها من اختلاف تعيش في وتام وسلام داخل حدود الدولة الواحدة، ذلك لأنها تخضع لإعداد اجتماعي واحد يهدف إلى تقوية عوامل الوحدة في الدولة، فلماذا لا ننظر إلى الدول على أنها أسر صغيرة في المجتمع العالمي، ونعمل على إيجاد روابط اجتماعية عالمية تؤدي إلى جعل التعاون العالمي حقيقة ملموسة لا حلما في الخيال؟ إن رسالة المربي تنظر إلى الوحدة العالمية كهدف قريب الوصول سهل التحقيق وهي تراها لازمة لها لزوم الروح للحياة. ورسالة المربى بهذا المعنى تحقق نمو المجتمع الإنساني ورقي العالم وبها يتحقق أكبر قسط ممكن من السعادة الذاتية للإنسان
وهذه النظرة العالمية تؤكد لنا حاجة أمم العالم إن التعاون فيما بينها شأنها في ذلك شأن الإنسان. فكما أن الإنسان مضطر إلى أن يحيا ضمن المجتمع، فكذلك الدول مضطرة هي الأخرى إلى أن تحيى ضمن المجتمع العالمي. وكما أن كل إنسان ينعزل عن المجتمع يكتب على نفسه الفناء والزوال، فكذلك كل أمة تبتعد بنفسها عن غيرها من الأمم تكتب على نفسها - بانعزالها وجمودها - الفناء والزوال. وكما يجب أن تسود الروح الاجتماعية بين أفراد المجتمع يجب أن تسود بين دول العالم جميعها.
وعلى ضوء هذه النظرة العالمية يجب أن تسود بين دول العالم جميعها، وعلى ضوء هذه النظرة العالمية يجب أن تتكيف التربية داخل المدرسة وخارجها فيكون هدفها هو العمل على إيجاد التوافق الاجتماعي بمعناه الخاص وبمعناه العام أيضاً. ولنضرب لذلك مثلاً تدريسنا لعلم التاريخ. هل غرضنا من تدريسه تقديم أداة فعاله تمكن المتعلم من الاندماج مع مجتمعه هو والعمل على رفع شأنه دون الاهتمام بغيره، والتعصف لوطنه والحط من شأن غيره من الأوطان؟! لو فعلنا ذلك لأغفلنا أهم جانب في رسالة المربي. إن التاريخ بهذه الصورة هو سر التعصب القومي. . . هو الزيت المصبوب على حطام العالم لتشتعل فيه الحروب من جديد حتى لا يخمد لها أوار. أما إذا قمنا بتدريس التاريخ على أنه توضيح لما(958/32)
بين الأفراد والمجتمعات من علاقات عدائية أحيانا وسلمية أحياناً أخرى وما كان لهذه وتلك من أثر في تقدم الإنسانية أو تأخرها؛ فإننا في الحقيقة نكون قد سرنا في الطريق التي توصلنا إلى تحقيق رسالة المربي
كمال السيد درويش
ليسانس الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي
مدرس بالرمل الثانوية(958/33)
4 - على ضفاف القناة:
زفة أللنبي
قد يلفت هذا العنوان نظر القارئ الكريم، ويوقعه في شيء من الحيرة والارتباك، والعجب والدهشة، فمن هو (أللنبي) هذا؟! وما قيمة (زفته) هذي حتى يفرد لها حديث خاص في الرسالة الغراء؟! ولكن سرعان ما يزول هذا الشعور المزيج من الحيرة والعجب والدهشة والارتباك عندما يعمل أن (أللمبي) هو المعتمد البريطاني الذي انزل البلاء بالمصرين عامة أيام الحرب العالمية الأولى. وإن (زفته) هي عادة أصيلة في بور سعيد والإسماعيلية، يدين بها أهل هاتين المدينتين، ويحرصون عليها كل عام حرصا شديدا
والزائر لإحدى هاتين المدينتين ابتداء من منتصف شهر فبراير، يرى نشاطاً عجيباً، ويلفت نظره تماثيل لم يكتمل خلقها بعد، معلقة على أبواب المنازل، أو فوق سطوح البيوت غير المرتفعة، في الأحياء الوطنية بخاصة، وفي الأحياء الأفرنجية كذلك حيث تسكن بعض الأسر المصرية. . تماثيل تكتمل خلقاً يوماً بعد يوم في نظام رتيب وعمل متصل بلا انقطاع. فوق كل بيت تمثال (خواجة) يبدأ جسمة أولاً غفلاً من التصوير، أي بدون رجلين ولا يدين ولا رأس، ولا تكاد تمضي أيام على تعليقه على الأبواب أو فوق سطوح الدور، حتى تصنع له الرأس، ثم تبدو اليدان، ثم الرجلان، ثم توضع القبعة فوق الرأس، ثم توضع في فمه الكبير (بببة) يمسكها بيده كأنما يدخن في نهم وشره، وصفاقة وبرود. . وكلما مر يوم ازداد هذا الخواجة أناقة ووضحت تقاطيع وجهه، وظهر فيه البرود السكسوني المقيت بأجلى صوره، وأوضح معانيه، وبعد مدة يصل الفن المصري (البلدي) إلى رجليه، فيلبسهما حذاء لامعاً، وقد سك في يده مذبة (منشة) وقد يكون واقفا مستندا إلى خشبة خلفه أو بجانبه لئلا يسقط هنا أو هناك، وقد يكون جالسا على كرسي يصنع خصيصاً لهذا الغرض، بحيث يضع رجلاً على رجل، فينبعج كرشه، ويصبح مثال الصلف الوقح، والبرود الحقير. .
وتكون هذه التماثيل في الغالب في حجم الإنسان الطبيعي الذي يميل إلى النحافة قليلاً، حتى إذا جاء يوم شم النسيم تكون هذه التماثيل قد اكتملت خلقاً وزينة، وظهرت معالمها، وبرزت خصائصها، لأن هناك مجالا واسعاً للتفاخر والتباهي بين الأهلين، فمن كان تمثاله أكبر(958/34)
وأضخم، وأدق وأفخم، وأظهر وأعظم، كان بالوطنية أجدر، وبطعن الأجنبي الغاصب أحق وأولى، واستحق بذلك تقدير زملائه وجيرانه، وتهنئة أهله وأحبابه وخلانه، ونال الشرف الذي ليس من السهل أن يناله إنسان، أو يحصل عليه مخلوق كائناً ما كان.!
أما من أي شيء تصنع تماثيل هؤلاء (الخواجات) فهذا موضع العجب والدهشة، أو بمعنى أدق هو الوطنية الحقة، الكامنة في نفوس هذا الشعب المصري العجيب الذي لا تزيده الحوادث مهما اشتدت، والخطوب مهما ادلهمت، إلا شدة وقوة، وصرامة ووطنية. . إن هذه التماثيل تصنع من القماش الرخيص أو الملابس القديمة. وتحشى بأقذار ما في البيوت من ثياب رثة. وملابس مهلهلة، وجمعي ما يستغني عنه الكبير والصغير من أحذية وغيرها، لتحمل معنى الإهانة الصارخة، والسخرية اللاذعة، والاحتقار الشائن، والثورة الحانقة. .
ولا يكاد ينبلج الضوء صبيحة يوم شم النسيم من كل عام، حتى تحمل هذه التماثيل على عربات صغيرة من عربات اليد، وتدفع إلى الأمام في إهانة بالغة، واحتقار كبير. . وبعض الأهليين يفتنون في ذلك، فيحملونها على (نعش) ويسيرون بها في هيئة جناز، إلا أنه غير صامت، بل صاخب ثائر، حيث يردد الكبير والصغير هذه العبارات التقليدية اللاذعة: (يا أللنبي يا بن حلنبوحة. .؟. . أمك، ملآنه ملوحة) ويصاحب ذلك الترديد تصفيق منتظم حاد، يشيع في الجو لوناً رهيباً من ألوان الثأر المكبوت، والعاطفة المكفوفة التي يفرج عنها هذا الهرج والصخب والتشفي، ولا تزال هذه الزفة الصاخبة الحادة، تخرج من كل بيت، وتتلاقى هنا وهناك، طائفة بالشوارع الكبيرة والصغيرة، حتى تصل إلى كل رجا من أرجاء المدينة، فإذا انتهى الأهلون من هذه الزفة، ألقوا بما يحملون من تماثيل، في إهانة صارخة، وثورة جامحة، وأشعلوا فيها النيران التي تندلع ألسنتها في وحشية وجبروت طاغ، يذهب بتماثيل الشر الماحق، ويمحو آثار الطغيان والضلال المبين إلى أعماق الجحيم. .!!
ومرجع هذه الزفة كما أعتقد إلى فكرة وطنية متمكنه، وعقيدة عدائية خالصة، نحو الإنجليز العدو الأول لمصر والمصريين. . ذلك أن اللورد أللمبي كان مندوباً سامياً في مصر أيام الحرب العالمية الأولى، وكان هذا الداهية سوط عذاب على المصريين جميعا، وبخاصة على العمال المصريين، وكان عنوان الصلف الإنجليزي، والطغيان المروع، وتجلي ذلك(958/35)
العداء الصارخ في وضوح وجلاء، حينما ساق العمال المصريين سوق الأنعام إلى بلاد الشام، حيث عاملهم كما تعامل السائمة، لقتال الترك والألمان.
والمصريون في ذلك الحين يحنون حنيناً كبيراً عجيباً إلى الأتراك، ومرجع ذلك الحنين البالغ إلى الصلة الدينية التي تجمع بينهما. . صلة الإسلام التي جمعت بينهما وأدت إلى المصاهرة، حتى لا يكاد يخلو حي من أحياء القاهرة، ولا مدينة من مدن القطر من أسر تركية، أو أسر مصرية تنحدر من أصل تركي، حيث كانت مصاهرة الأتراك في ذلك الوقت من دلائل العظمة، وعنوان التقدم والرقي، وعراقة الأصل، وطيب المحتد. وقد كان الترك كذلك إلى عهد قريب زعماء المسلمين، وقبلة الأنظار في يوم ما، فيهم الخلافة ظل الله في الأرض، وإليهم تتجه القلوب في أرجاء العالم الإسلامي بأسره، ونواحي الوجود بعامة. .
ثم هم - أعني المصريين - يحترمون الألمان، ويحبونهم بالغ الحب، ويرون فيهم مظهراً من مظاهر الرجولة الكاملة، والاستقامة الرائعة، والجد الصارم، والعزم الحازم، كما يرون فيهم صورة حية من صور العبقرية الملهمة، وأنهم أئمة العلم والاختراع في القرن العشرين بلا مراء، ويعتقدون أنهم في حربهم مع الإنجليز وحلفائهم، إنما يحاولون القضاء على الخطر الاستعماري الأكبر، رمز الظلم والعدوان، والغدر والغش، والبرود السكسوني اللعين، وكيف كانوا يستولون على بضاعة الألمان، ثم يضعون عليها علامات تجارية إنجليزية، ويبيعونها على أنها إنتاج إنجليزي بأغلى الأثمان وأفدح الأسعار، ولا يبالون بما يفتضح من أمرهم في السوق المصري بخاصة. .!
ولهذا كان من العسير على نفوس العمال من المصريين أن يساقوا سوق السائمة لحرب من يحبون، وقتال من إليهم يميلون، وإذا كانت الدعاية المارقة قد استغلت مظاهر الحزن والنقمة، حين يجند أبناء المصريين، وجعلت من هذا الحزن والصوت المتعالي دليلاً على عدم الوطنية المصرية، والفرار من ميادين القتال، وأن أمة هذا شأنها لا تستحق الحياة بين غيرها من الأمم عزيزة مرهوبة الجانب، بل تستحق حماية غيرها من الدول القادرة الناهضة، حتى تنهض على ساقين، وتفهم حقيقة الأمور كما يجب أن تفهم. . أقول إذا كانت الدعاية الإنجليزية المغرضة قد استغلت ذلك، فإنما هو استغلال سيئ لأغراض(958/36)
سافلة، والمصريون معذورون في نقمتهم على ذلك التجنيد الذي لم يكن في سبيل مصر والمصريين، وإنما كان لخير الإمبراطورية العجوز الشوهاء، التي تربط مصر والمصريين بعجلتها، وتدفع بالعمال والجنود المصريين إلى أتون الحرب المستعمرة، حيث تلتهمهم خطوط النار الأولى، وتقضي عليهم القضاء الأخير. .
وإن هؤلاء الإنجليز لا يجهلون وطنية المصريين، ولكنهم يتجاهلونها ويشيعون عنهم في المحافل الدولية غير الحق والواقع، ولو أنصف هؤلاء الطغاة لأنصفوا هذا الشعب الذي يقدر العاملين. .!!
هذا هو اللورد أللنبي الذي جند من المصريين جيشا يحارب على غير رغبته الأتراك والألمان، وكانت أكثر المناطق المصرية تضحية بأبنائها وبنيها هي مدن القناة دون ريب، ولطالما فجع أهلوها بفقد من ذهب إلى الميدان. . ومن الغريب أن الظروف ساعدت هذه الدولة العجوز، حيث قامت الثورات في ألمانيا فاضطر الألمان إلى الانسحاب، خشية تفاقم الخطر. . وقد انتهز أللنبي هذه الفرصة. فخرج على رأس جيش لقتال الألمان والأتراك في الشام، وادعى أنه هزمهم وطردهم وتعقبهم، بينما الظروف وحدها هي التي دفعتهم إلى العودة والرحيل. .!!
وإذا كان أللنبي قد فجع كل بيت مصري في عائلة أو أحد أفراده، فإنه هو الذي سيطر على الحياة السياسية المصرية حيناً من الزمن، ولا يجهل أي مصري أن أللنبي هو الذي منع الملك فؤاد عليه رحمة الله أن يلقب بملك مصر والسودان، ضناً باتحاد أبناء الوادي أن يتخذ له كيانا تترتب عليه نتائج لا يرضى عنها الإنجليز وحرصا على تفريق الكلمة، وتوزيع الجهود. .
وأما بعد: فقد آن الأوان لأن يحطم المصريون هؤلاء الإنجليز، ويقضوا عليهم القضاء الأخير، ويتخلصوا نهائياً من هذه التماثيل. . تماثيل الشر والفساد، ليتخلص الوطن من أعدى أعدائه، ويتنفس الجميع في جو من الحرية والاستقلال. .
عبد الحفيظ أبو السعود
المدرس بالمدارس الثانوية الأميرية(958/37)
الحرب الاقتصادية أضر
لندع الألسنة التي لا هي مصرية ولا عربية تدور في أشداقها تشيد
بقوة الإنجليز وضرورة بسط سلطانهم على هذا الشرق المنكوب
بالجهل والفقر والمرض
لندع أصحاب تلك الألسنة الذين لا هم مسلمون ولا شرقيون، يثرثرون في مجالسهم يجرحون الوعي القومي في هذا الشرق الناهض، ويلطخون أخلاق قومه بكل شائن مزري معيب
لندع الحكة الآكلة تنهش صدورهم، لأن في نهضة الشرق، ووعي قومه، وقيامتهم دفعة واحدة يدفعون عن عواتقهم أضرار الاستعمار وصلف المستعمرين وأذاهم تكذيباً صريحا للتقارير التي يرفعونها إلى سادتهم المستعمرين عن موات الشرقيين وسدورهم الملذات والشهوات وإنكارهم الوطن والوطنية
لندع جانباً أصحاب تلك الألسنة المأجورة والضمائر المسخرة لأنها صارت قاب قوسين أو أدنى من القبر، ولأنها الحالة الراسبة، والنفاية المرذولة، والبقية الباقية من جيل لا رده الله عاش بنوه في ذل الاستعمار، وفقدان الثقة بالنفس، وفي جماعة ليسوا من الإسلام والشرقية والعروبة في شيء، وإنما هم مخاليق ضمائرهم خربة، لا دين لهم إلا الجنيه ولا غاية لهم سوى الجنيه
لندع هذه الحفنة من الرجال الفانين ينفثون سمومهم في محيطهم الضيق، لأن الأمم في نهضاتها لا تستمع إلى حشرجات المرضى، ونزع الموتى، ولننظر فيما يجب علينا علمه إزاء موقفنا الراهن
صحيح أن الحكومة درست أو هي تدرس، ووضعت أو هي تضع خططاً لمحاربة أعدائنا ومحتلي بلادنا، ولكن الواجب يقضي بمعاونة الحكومة في إبداء الرأي الذي قد يكون غرب عن بالها، ولذلك أقترح أن نكون عمليين في حربنا أي نسعى إلى كسب كل معركة نخوضها بعد درس وتدبر
الاستعمار والانتداب والاحتلال إنما هي أسماء مترادفة لمعنى (الكسب المالي)؛ والإنجليز إنما هم تجار قبل كل شيء، وأن حكوماتهم وأساطيلهم وسلطانهم رهن خدمة التاجر(958/39)
صاحب المعمل أو المصنع، فما ضرنا لو صوبنا قذائفنا إلى صدر هذا التاجر الإنجليزي وعرقلنا دواليب مصنعه عن الدوران وعطلنا أيدي العمال عن الحركة؟
المسألة بسيطة جدا، وإن تنفيذها ليتوقف على معيار وطنية التاجر المصري، وعلى إيمانه بحق بلاده وقومه في الحياة المستقلة، وعلى رغبته الصادقة في محاربة الاستعمار والانتصار على المستعمر، فإذا توفرت الرغبة وجاش الإيمان والوطنية في صدر التاجر المصري، فما عليه إلا إبلاغ التاجر الإنجليزي أو الوسيط (القومسيونجي) إلغاء جميع ما طلب من بضائع وإيقاف تصديرها
وزيادة في الإيضاح أقول: إن التاجر المصري الذي يستورد بضاعته من إنجلترا واحد من أثنين:
الأول يستورد من صاحب المعمل رأساً بغير وسيط
والثاني يشتري أو يوصى على طلبه بواسطة (القومسيونجي)
معلوم أن معظم رجال القومسيون إما من الغربيين وقد أبدوا لرئيس الحكومة عطفهم على قضيتنا، وإما من المتمصرين وهؤلاء لا شك في معاونتهم إياها وشد أزرنا في حربنا، فما ضر هؤلاء أن يتحدوا مع التاجر المصري فيبلغوا التاجر أو صاحب المعمل الإنجليزي إلغاء جميع الطلبات وإبطال جميع الصفقات وإيقاف جميع التوصيات التي قامت بين التاجر المصري والتاجر الإنجليزي؟
لمثل هذا الاقتراح سوابق كثيرة في أسواق التجارة، ولا معنى مطلقاً للقول. بأن (التجارة حرة) في موقف مثل موقفنا من الإنجليز اليوم، ولا اعتراض ألبتة على الغرف التجارية إذا توسطت في إقناع الوسطاء (القومسيونجية) ليقفوا إلى جانب التاجر المصري المحارب في سوق الاقتصاد، ولا ملامة على وزارة التجارة إذا ضغطت على التجار والقومسيونجية وأجبرتهم إجباراً على إلغاء طلباتهم من البيوتات الإنجليزية
إن إلغاء طلباتنا من إنجلترا لا يصيب تجار التجارة الإنجليزية بخسارة تقدر بخمسين مليوناً من الجنيهات فقط، بل يكسب مصر ضجر التاجر الإنجليزي وصخبه وتحامله على حكومته لأنها أقفلت أبواب سوق من أسواقها الغنية في وجه تجارتها
ومعلوم أيضاً أن الإنجليزي في بلاده يقتر في معيشته كل التقتير، ويعيش على الكفاف(958/40)
تلبية لطلب حكومته الراغبة في استرداد مكانتها في سوق المال؛ فكيف يكون حاله إذا صفعته مصر بإلغاء طلبات تجارها وهي تقدر بعشرات الملايين؟ لا شك عندي في أن مصر ستجني من وراء هذه الخطورة الاقتصادية المشروعة تبرم التجار الإنجليز الذين يتململون من تعطل معاملهم وكساد تجارتهم والذين سيحدون ولا شك من جموح الرجال العسكريين ومن غطرسة رجال السياسة
إن معركة واحدة نربحها في سوق الاقتصاد لهي عند الإنجليز أشد وأنكى من خسارة موقعة كموقعة دنكرك. . ولي عودة إلى هذا الموضوع
تاجر(958/41)
رسَالة الشعر
من الشعر الرمزي:
أفعوان. . .!
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
(من وحي: هبي يا رياح الخريف هبي لشيخ الكتاب الأستاذ
أحمد حسن الزيات بك)
يلتوي والسم يسري في دمائه ... (أفعوان) داؤه يشفي بدائه!
يبعث الشر الذي فيه اصطلي ... كل خير، وانثني بعد اصطلائه
إنه الخداع. . يمشى. . معجباً ... في خداع منطو طي. . ردائه!
عاش يشقى قلبه من حقده ... ما شقاء القلب إلا في شقائه.
صار يمشي في ضلال غامض ... ليس في الدنيا سبيل لاهتدائه
أي أمر يرتجيه. . ذاهب ... حقده. . فيه مزيل. . لرجائه!
يحسب الأقدار. . في قدرته ... والقضاء الفصل آت من قضائه!
(أفعوان) (زاحف) تحت الثرى ... سوف يبقى فيه رمزا لفنائه
غادر لا ينثني عن غدره ... يلبس التعزيز ثوباً من ريائه!
أي شيء يبتغيه. . . عندنا ... غير بغي ينطوي تحت ابتغائه!؟
مخلف في وعده مستضعف ... مسرف عند (التقاضي) في جفائه
يدعي دعوى وفاء خالص ... وانتكاث العهد يحكي عن وفائه!
أحمد عبد اللطيف بدر(958/42)
تذكري
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
تذكري أن ربيع الهوى ... مر عليه من جفاك الخريف
وأن زهر الحب لما ذوى ... جعلت أرويه بدمعي الذريف
وأن عمري في هواك انطوي ... كما انطوي في القيظ ظل وريف
ولم يعد لي من غرامي سوى ... نار من الذكرى. . بقلب لهيف
تذكري أنك أنت التي ... دعوتني للحب يا ساحره
فجئت واللهفة في مهجتي ... وملء عيني الرؤى الباهره
حتى إذا أوشكت يا جنتي ... أستاف أزهار الهوى الناضره
غدرت بي! أواه من لوعتي ... وآه من غدرك. . يا غادره
تذكري قلبي، ربيب الألم ... وابن الأماني الخرد الرائعه
تذكري شعري، وشعري نغم ... أرسلته من روحي الضارعه
كم ناح بالأشعار قلبي، فلم ... ترحم أساه روحك الخادعه
لو عرفت روحك لذع الندم ... أعدت لي أحلامي الضائعه
لكن تمنيت الذي تشتهين ... من وقدة الحس، ونار الجسد
وحين حادت بهوانا السفين ... عن مرفأ النار التي تتقد
نأيت عن قلبي الوفي الأمين ... سعيا وراء اللهب المفتقد
هذا هو السر الخفي الدفين ... سر افتراقي عنك حتى الأبد
أردتني نارا، وحبي وقود ... فكنت نورا، وغرامي شعاع
وشئتني جسما أسير القيود ... فكنت روحا كالأثير المشاع
لو عشت بالروح وراء الحدود ... هناك إذ يخبو لهيب الصراع
إذن لنلنا في هوانا الخلود ... وما فقدنا فيه. . حتى الوداع!
مخدوعة أنت وسر الجمال ... فيما تريدين، وما تعشقين
لو أبصرت روحك سر الوصال ... وانكشف الغيب الذي تجهلين
رأيت شيئا قد كساه الخيال ... عز الأماني وهو شيء مهين!(958/43)
لو مزق النور رداء الظلال ... لبان ما لا ينبغي أن يبين
روحك ما زالت تريد الضياء ... لأنها من نبعه آتيه
فلا تروضيها على الانزواء ... في حجرة مغلقة داجيه
وأطلقيها في رحاب الفضاء ... تصعد إلى قمته العاليه
هناك تحيى في نعيم الصفاء ... وراء تلك اللذة الفانيه
تذكري أن ربيع الشباب ... غدا سيطويه خريف المشيب
فتهدأ النار هدوء العباب ... إذا تهادى فيه سحر المغيب
وتبحث الروح قبيل الذهاب ... عما لديها من ضياء حبيب
أطفأ نور الروح عصف التراب ... إذن فعيشي في الظلام الرهيب
تذكري أيتها الهاربة ... إنا غدا قد نلتقي في طريق
فتنزوي عن شمسك الغاربه ... شمسي التي ما زال فيها بريق
ويذكر القلب المنى الذاهبه ... مع الليالي في الزمان العميق
أحرقتها في نزوة صاخبه ... ولم أنل. . حتى رماد الحريق!
تذكري أنك قد تندمين ... يا من تناسيت الهوى والحنان
وحينما تكويك نار الحنين ... إلى زمان قد طواه الزمان
سوف تعودين وتسترحمين ... قلب الذي لم ينس طعم الهوان
فيهتف القلب: ألا تعلمين؟ ... لقد مضى الوقت، وفات الأوان!
إبراهيم محمد نجا(958/44)
سمراء
للأستاذ محمد محمود عماد
سمراء كالعصفور حيرى ... قد غازلتها الشمس جهرا
لما تعرت عن ضيا ... ء، للضياء، تريد بحرا
جاءت إلى كما يج ... يء الحلم في ساعات إسرا
أو كالمنى زفت الـ ... ي على جناح يوم بشرى
وسألتها: ما بال شق ... رائي بدت للعين سمرا
اللون غير اللون ل ... كن ما يزال السحر سحرا
خمرية الخدين إن ... ي منهما وفيت سكرا
سكوان بالعينين ما ... بالي إذا جرعت خمرا
وتعطفت فتركت فو ... ق ذراعها المكشوف سرا
وشوشته، فأسر لي: ... ما قد سمعتن فهات أخرى!
ماذا ترى أختار من ... لونيك إني حرت أمرا
كوني لي السمراء أو ... كوني إذا ما شئت شقرا
أغنيتني في حالتي ... ك عن الحسان الغيد طرا
محمد محمود عماد(958/45)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
رسالة من الهند:
أنا يا سيدي واحد من المعجبين بك، وإني لأخشى أن يخذلني القلم إذا ما حاولت أن أعبر عن هذا الإعجاب الذي أخذ يشتد على مر الزمن وينمو في نفسي ويترعرع. وهل في ذلك غرابة وأنت الذي تتحفنا على الرسالة بين حين وآخر بروائع من الأدب الحديث؟
وكيف نستطيع أن ننسى (التعقيبات) التي تشرف بها - كما أعتقد - من ربوة عالية على ما يستجد في الأدب العربي، وتزنه بموازين عادلة وتميز بين غثه وسمينه! إنني لأبارك فيك روحك الوثابه يا سيدي، وأسأل الله أن يكثر من أمثالك في هذا الجيل العربي الحديث!
إن (الرسالة) الغراء هي مدرستي الأولى التي استطعت بفضلها العميم أن أتفهم الأدب الخالد وأتذوق روائعه وأنا في هذا البلد الأجنبي. . وبفضل (الرسالة) استطعت أيضاً أن أكتب مقالات متنوعة وقصصاً قصيرة. ولما لم يكن لي حظ من التعليم العربي العالي ولم أتخرج على أيدي أساتذة عرب، فإني لم أجد في نفسي الشجاعة الكافية لكي أنشر تلك المقالات التي كتبتها، بل ظلت حبيسة في الأوراق المتناثرة بين ثنايا مكتبي هنا وهناك، حتى خطر لي أن أرسل شيئاً منها إليك لأعرف قيمته وأطلع على رأيك الحكيم فيه. وسوف تجد ضمن هذه الرسالة مقالاً تحت عنوان (العالم المرائي) فإذا رأيت أنه صالح للنشر على صفحات (الرسالة) فافعل، وإلا فأرجو أن تطلعني على رأيك في المقال وماذا ينقصه ليكون صالحاً للنشر!
وإنني إذا أختتم هذه الكلمة أتوسل إليك أن تسدي إلي من نصائحك الغالية على صفحات (الرسالة) ما يعينني على تحسين كتابتي لأنني لم أتخط العشرين، ولا يزال أمامي متسع من الوقت لكي أحاول إصلاح كتابتي وجعل موادها مقبولة لدى الأوساط الأدبية. . ولك مني خالص الشكر وأصدق التمنيات
(بومباي - الهند)
أحمد علي عوبس(958/46)
شاب لم يتخط العشرين من عمره، يعيش في بلد غريب، ويتلقى دروس الأدب والفن عن مدرسة (الرسالة). . ومن قال إن المدارس والجامعات تخرج الأدباء وتصنع المثقفين؟!
ما أكثر الأدباء الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم وما أكثر الذين استمدوا الثقافة من جهودهم الذاتية. . ومن هنا كان سروري الذي لا يحد وأنا أقرأ هذه الرسالة فألمح وثبات الطموح تطالع عيني من وراء السطور!
إن الطموح وحده كفيل بتحقيق الهدف وبلوغ الغاية في كل ميدان من ميادين النشاط الإنساني. . كفيل بأن يجعل من الخطوة المتعثرة وثبة بعيدة المدى على مر الزمن ومضي الأيام! ولهذا أحب أن أطمئن الأديب الفاضل على مستقبله الأدبي، مادام الطموح هو الرائد الأول الذي يأخذ بيده ويسدد خطاه ويهديه إلى معالم الطريق. . ولا يزال أمامه متسع من الوقت كما يقول، ليبلغ في ميدان الأدب هدفه المرجو وغايته المنشودة، وليحقق لنفسه ما يتطلع إليه أمثاله من الطامحين!
وإذا كان الأديب الفاضل يسألني شيئا من النصح أو شيئا من التوجيه، فإنني أحب له أن يكثر من القراءة في الأدب العربي قديمه وحديثه، وأن يتزود من الثقافة الغربية ما شاء له التزود والاطلاع. . أما الأدب العربي فجدير بأن يصقل من قلمه أداة التعبير، وأما الأدب الغربي فخليق بأن يلهب في نفسه شعلة التفكير، وكلا السلاحين من ألزم الأمور لكل أديب يريد أن يقتحم المعركة وهو ثابت القدم مطمئن إلى النهاية!
هذا هو ما أنصح به الأديب الفاضل على صفحات (الرسالة) أما بقية النصائح فسأبعث بها إليه في رسالة خاصة، بعد أن يطلعني على نماذج من آثاره القلمية في محيط أدب القصة القصيرة. . عندئذ أستطيع أن أوافيه برأيي حول ما ينقصه من وسائل الأداء الفني، حتى يستطيع مع الجهد والمثابرة أن يبلغ مرحلة النضج والأصالة، ويواجه مشكلة النشر وقد اكتملت بين يديه الأدوات، ولست بذلك أريد أن أثبط من عزيمته أو أحد من طموحه، وإنما أريد له أن يبدأ حياته الأدبية وهو واثق من نفسه مطمئن إلى مصيره، وإن مقاله الذي بعث به إلي ليضع البذرة الأولى في تربة الأمل المرجو إن شاء الله!
معالي وزير المعارف وقضية الأدباء:(958/47)
من حق وزير المعارف علي أن أشكره. . لقد تفضل معاليه فأمر بنقل الأستاذ السيد أحمد صقر من مدرسة كوم امبو الابتدائية بالصعيد، إلى مدرسة الأمير فاروق الثانوية بالقاهرة. ولقد صدر هذا الأمر عقب ظهور عدد (الرسالة) الذي أثرت على صفحاته مشكلة الأديب الصديق، فكان لذلك وقعه الجميل على نفسي ونفوس الأدباء! هذا حق، ومن الحق أيضاً أن أقول إن معالي الوزير قد حل مشكلة هذا الأديب حلاً جزئياً لا يرضي العدالة المطلقة التي أنتظرها من رجل مثله؛ رجل يفهم حق الفهم واجب الدولة نحو الأدب، ويدرك كل الإدراك أثر وضع الأدباء في أماكنهم ليقوموا بواجبهم نحو الدولة!
إننا نريد أن يوضع كل أديب في مكانه، حتى نتيح للمواهب أن تحلق في جوها الطبيعي وتعمل في ميدانها الأصيل. . وأنا أعرف أن معالي الدكتور طه حسين باشا يعطف كل العطف على التراث العربي القديم، وألمس أن نشر هذا التراث نشراً علمياً سليما يحفظ له هيبته من أثر المتطفلين عليه، جدير بأن يحتل من نفسه كل عناية وتقدير. . ولهذا طالبت ومازلت أطالب، بأن يأخذ الأستاذ صقر مكانه في تلك الإدارة التي أنشئت لهذا الغرض بوزارة المعارف، ثم أغلقت منها الأبواب في انتظار الطارقين! وإذا شاء وزير المعارف أن يقبل مني رجاء اليوم ورجاء الأمس، فإني أؤكد لمعاليه أن وزارة المعارف لن تخسر شيئاً حين يحذف اسم هذا الأديب من قوائم التعليم، لأنها ستكسب كثيراً حين تنتفع بجهوده في خدمة التراث العربي القديم!!
وليست المشكلة هي مشكلة الأستاذ صقر وحده، فلا يزال هناك أدباء ينتظرون عطف وزير المعارف على حقوقهم المهضومة. . وإنه ليسعدني أن يتفضل معاليه فيطلب إلي أن أقدم إليه أسماءهم وأن أقص عليه أنباءهم، لأنني لا أحب أن يكون هناك أديب واحد يشعر أنه مظلوم في عهد طه حسين!!
أنور المعداوي(958/48)
البريد الأدبي
أوهام الخاملين!
يرزأ السباق برزيئة المتخلفين، ويصاب اللامع بعتمة أوهام الخاملين؛ فيرى العجائب شاهدة على فساد الطوية، وسوء النية، وقبح السجية، لكنه ينصرف إلى أناة حلمه، وتؤدة حكمته، وزنة تجربته؛ ثم يحتمل الغضاضة بالإغضاء، ويقوي سخرية التجاهل بالكتمان وعدم الإفضاء!
إن الخاملين تعزيهم في نكبة التخلف والمحمول أوهام باطلة، يصور لهم ظلامها رعونة الحقد في مأتى المكيدة، وإعمال الحول الضعيف باستعمال أتضاع الحيلة!
ترى القمامة لا تقدير معه؛ فهو إما ذيل أو إمعة، إذا انفتحت الأفواه فتح فاه، وإذا أهل الأمر الأجل أعرض عنه وأعطى له عرض قفاه!
إن الخمول داء وبيل، يعرض مضناه بأساه، وحسرته، ولوعته إلى الحقد الأصيل
كم مجد لاحق بجده جده، حتى استوى أمره، وبلغ مجده؟
وكم خامل قعدت به همته؛ ثم نشطت حتى قوت غضبه وحقده؟
الحياة واد تضرب فيه نفوس الأحياء، وما يقر اضطرابها سوى قطنة الأريب الذي يطل من علياء حقيقته ليطارد أوهام الخاملين
لقد جاءني صاحبي بتهالك على إحساسه المرهف، وقد اكتنفت نفسه مشاعر السخط على من (وضعه) الزمن معهم في قرن واحد؛ فهو يرى شرارات الحقد تكاد تحرق أهداب العيون، والتفاهات تزيف كيانه في وهم الظنون
قلت: يا صاحبي. إن من يتحاشاك يرهبك، فهو يعرف قدرك في قرارة نفسه؛ ثم ينكرها بعماوة حسه؛ وكلما ألمت بك نكبة من نكبات العقوق عملت على تجاهلها لأنها صنيعة الخمول
كن حيث شئت، ليكون لك المجد حيث يشاء
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر(958/49)
من الأستاذ ميخائيل نعيمة إلى صاحب الأعماق:
سلام عليك، وبعد فقد كان أول عهدي بك يوم أطلعني أحدهم على الكلمة السخية التي توجت بها فصلا نقلته إلى المصري من كتابي (جبران خليل جبران)، وتكرر من بعدها وقوع اسمك في مسمعي من غير أن أعثر على شيء من نتاج قلمك، إلى أن جمعتني الظروف في أواخر هذا الصيف بصديقنا محيي الدين رضا وإذا به يسلمني النسخة التي تلطفت بإهدائها إلى من كتابك الأعماق، وإذا بي، وقد طالعت (أعماقك) أخرج منها بأكثر من درة، وأنفسها أنت
قيل من زمان - والقول حق - إن الكتاب ينم عن كاتبه، وقد تبينتك من فصول كتابك أديبا بالطبع لا بالتطبع، فرشاقة في العبارة، وصفاء في اللغة، وبراعة في وصف الظواهر، ودقة في تحليل البواطن، ونزعة قوية إلى الابتكار في الأسلوب والموضوع، وذوق لطيف في مزاوجة الأفكار، وتلوين الرسوم، وعرض المشاهد، وتوزيع النبرات، والسكنات والظلال والأنوار دون ما إسراف في المادة أو تبذل في المرمى
والذي استهواني في قصصك بنوع أخص هو روحك الإنساني المهيمن عليها، وحماستك للغاية التي من أجلها تكتب، وإيمانك بقدرة القلم على تقومي ما اعوج من مسالك الناس، ثم لباقتك في عرض ما بلى ورث من عاداتهم ومعتقداتهم عرضا لا يشتم منه القارئ لجاجة (المصلح) ولا ادعائه بأنه أشرف طينة من الذين يريد إصلاحهم فأنت تكتب لبيئتك لا تتنكر لها ولا تجلدها بالسياط، بل تماشيها كواحد منها؛ ولكنك إذ تماشيها تحاول الانحراف بها هن طرقها القديمة إلى طرق جديدة من غير أن تثير شكها وعنادها. أنت تكتب للناس حبا لهم لا سخطا عليهم، ولا شماتة بضعفهم
من كانت تلك عدته للكتابة كان لنفسه خير محاسب وموجه، وكان في غنى عن نقد الناقدين؛ وتوجيه الموجهين؛ ثم كان في مأمن من الآفة الكبرى التي تفتك بالكتابة في الكتاب الناشئين وهي الغرور. . . فسر يا أخي في طريقك، وليكن الحق هادياً لقلمك
ميخائيل نعيمة
توضيح:(958/50)
تحية من عند الله مباركة طيبة
وبعد فقد كنت أمليت على الأستاذ الصديق أحمد مصطفى حافظ مقالاً بعنوان (أدبنا القومي) ومقالا آخر بعنوان (مع شوقي الخالد)، وآخر بعنوان (أعلام السويس). .
وتفضلت (الرسالة) - مشكورة بنشر المقالين الأولين. . ولكني لسوء الحظ، لم يقدر لي الاطلاع على هذين المقالين، بعد نشرهما، إلا منذ يوم واحد فقط.! وذلك لأنني كنت، ولا زلت، مشغولا بالطب لمرض الانفصال الشبكي بعيني. . وإن الذي دفعني إلى الكتابة الآن يتلخص في أنني حين اطلاعي على مقالي (أدبنا القومي) استوقفني به شيء لم أرض عنه. . وذلك أن الأستاذ الصديق أحمد حافظ قد سمح لنفسه بأن ينسب إلى الشعر الذي ورد بهذا المقال، برغم أنه ليس من مقولي، بل من مقوله هو. . وبرغم أنني حين أمليته المقال أوردت الشعر منسوبا إليه هو. . إلا أنه صمم فيما بينه وبين نفسه على أن (يخرج) المقال بالصورة التي نشر بها. . وفي ذلك مجانبة للحق والصدق. . ومن ثم احتاج الأمر إلى توضيح وتصحيح. . وأستحلفكم بالله أن تنشروا هذه الكلمة، لتمكيني من القيام بواجبات الصدق والحق والأمانة العلمية. . وبخاصة وقد فعلها الأخ أحمد حافظ لكي يهرب من تبعة نشره مداعبة لصديقه الذي ألهمه قول هذا الشعر الظريف (على قفاي).! إذ يوهمه أنني قائل هذا الشعر في الحقيقة. . وليس هو. . بينما العكس هو الصحيح
السويس
حسين كامل عزمي
وقفة عند بيت شعر:
بينما كنت أتصفح مجلة الرسالة الغراء العدد (955) لفت نظري بيت شعر في مقال للأديب محمد محمود زيتون عنوانه (أصحاب المعالي) ذكر الكاتب أن البيت:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
قاله شاعر في رثاء الأحنف بن قيس والحقيقة - فيما أعلم - أن قائل هذا البيت الشاعر (عبده بن الطبيب) قاله في رثاء قيس بن عاصم المنقري وليس في رثاء الأحنف كما ذكر الأديب.(958/51)
ويشهد بهذا صدر البيت لأن فيه قيساً وليس الأحنف، ويرشد لذلك أيضاً بيتان قبل هذا البيت هما:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زاد عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وللأستاذ تحياتي وإكرامي
أم درمان: المعهد العلمي
محمد الأمين صبيه
الفيروز أباذي:
في كلمة الأستاذ النجار في عدد (الرسالة) 957 وردت نسبة (الفيروز أبادي) بالدال المهملة، والصواب بالذال المعجمة كما في معجم (اللباب في الأنساب لابن الأثير) المطبوع بمصر. وضبطها يقول: بكسر الفاء وسكون الياء وضم الراء وفتح الزاي وفي آخرها ذال معجمة
أبو الفضل محمد
إن شاء الله
مع تقديري للكاتب القدير السيد عبد القادر رشيد الناصري أقول: إن من يكتب (إنشاء الله - بإدماج الحرف في الفعل) إنما يقلد سيدنا عثمان (ض) وكذلك كتبها جمع من الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الفقه والنحو واللغة، في المصحف وفي غيره من كتب أصول الدين. . وإذن فلا تبعة على كاتبها ولا على (مصحح النماذج) ولا خوف على الفهم من اختلاف الرسم - وتحيتي للأستاذ الجليل
المصحح بدار الرسالة(958/52)
القَصصُ
الطفل. .
للقصصي الأمريكي: ف. باركوس
ترجمة الأستاذ عبد القادر حميدة
طرقت السكرتيرة الحسناء باب المكتب وقالت تخاطب المستر مارتان مدير الشركة. .
- بالباب سيدة تود - في إلحاح - مقابلتك
فرفع وجهه عن الأوراق المتراكمة أمامه وقال في صوت أجش تبدو فيه الصرامة والغلظة. .
- تود في إلحاح مقابلتي؟
- أجل وقد أبديت لها العذر في أن لديك أعمالا هامة تشغل كل وقتك. . وأنه يجب لكي تقابلك أن يكون هناك موعد سابق محدد. بيد أنها لم تزد إلا إصرارا وإلحافا.
وأخبرتني أنها آتية من بعيد وليس في استطاعتها أن ترجع مرة أخرى. .
فضرب مارتان بيده على المكتب في غضب وقال:
كان في مقدورك أن ترغميها على الانصراف بشيء من اللباقة
فأجابت السكرتيرة في عناد.
- لقد حاوت فلم أوفق فهي شديدة الرغبة في أن تقابلك. .
وإنه ليبدو لي من خلال صوتها أنها تستحق الشفقة والعطف. .
فقال مرتان هازئا:
- امرأة تدافع عن امرأة. . آه لو أن سكرتيري كان رجلا لعرف الآن كيف يحملها على الانصراف. وعلى أي حال. . هل أخبرتك عن اسمها؟
- لقد رفضت أن تذكره لي. .
- أئتيني بها. . وليكن ما يكون
وبعد برهة. . كانت تقف على عتبة الباب امرأة في العقد الثالث من عمرها. وقد رانت على معالم وجهها مسحة من الصمت الجامد وتنطق مشيتها بالكبرياء والاعتزاز.(958/53)
وبعد أن أغلقت السكرتيرة الباب. . رفع مارتان وجهه عن الأوراق مرة أخرى. . وأخذ يتأمل وجه الزائرة خلال منظاره المكبر. . برهة. . ثم بدا عليه أنه يعرفها فقد رفع حاجبيه في شيء من الدهشة وقال: (روث. .؟
بيد أن الدهشة التي صاحبته كانت تدل على أنه غير مرتاح إلى لقائها. . وانفرجت شفتا روث عن ابتسامة رقيقة وقالت:
- أجل، - أنا - روث
- لقد انقضى أمد طويل منذ التقينا لآخر مرة. . سنوات كثيرة. . سبع على ما أذكر. .
فأجابت في صوت هادئ وكأنها تحاول ألا تستعيد تلك الذكريات:
- نعم. . سبع سنوات كاملة. .
- لقد أسعدني لقاؤك كثيرا. . . ولكن. . كيف حالك اليوم أنت. . و. . روي.؟
فصمتت وقتا. . ثم قالت:
- لقد كان الحال على ما يرام. . ولقد منحنا القدر طفلا جميلا. . غير أن روي يعاني مرضا شديدا. . وقد أشار عليه الطبيب بأن يرحل إلى الخارج. فيقضي عاما لا يزاول فيه عملا من الأعمال. . ليتسى له استعادة صحته - وإلا. . .
وكفت روث عن الحديث فسألها مارتان في تحفز:
- وإلا ماذا؟
- وإلا كان مآله القبر
- فقال مارتان متسائلا:
- وطبعا أطاع روي استشارة الطبيب واعتزم السفر. .
- كلا!
- ولماذا؟
- إن السفر يتطلب نفقات. . وليس لدينا مال. . ولذلك زرتك اليوم أطلب منك أن ترد إلى روي الألفي جنيه اللتين سرقتهما منه. . منذ سبع سنوات. .
وكان صوتها جافا قاسيا. . فقال مارتان ثائرا:
- يا لك من حمقاء! كيف تجرئين على توجيه هذه الإهانة إليّ؟(958/54)
ولكن روث لم تتحرك من مقعدها. . وإنما قالت في هدوء)
- إهانة! هل تنكر أنك سرقته.؟
فكظم مارتان غيظه. . وقال:
- إن سلوكك هذا يدهشني. . لا شك أنك تعرفين أن زوجك قد استثمر آلفي جنيه في الشركة. فإذا أفلست الشركة. . وأخفقت الأعمال. . أتيت هنا ترمينني بالتهم. . وتزعمين أنني سرقت أموال زوجك.
- ولكنك يا صاحبي لا تجهل أن الشركة كانت على شفا الإفلاس. . بل كانت مفلسة فعلا. . في الوقت الذي ساهم زوجي فيها. . والأدهى من ذلك أنك دعوته إلى المساهمة وأنت مديرها. . وعالم بحالها. . والذي آسف له أنك لم تكتف بذلك. . بل ضاعفت من مرتبك ونفقاتك. . فلما أفلست الشركة. . غادرت البلدة. . واختفيت. خبرني. . في أي شريعة يحق لمدير شركة مفلسة أن يضاعف مرتبه ونفقاته. . وأنت الذي حرضتني على أن أدفع بزوجي ليشترك وإياك في الشركة المزعومة. .
فقال مارتان في دهاء:
- إذن كان لك عليه نفوذ كبير. .
- بلا شك. . إنني لا أجهل ما ترمي إليه من وراء هذا السؤال. . لقد كنت تعتقد يا مارتان أنني أعشقك ولكن الحقيقة أنها كانت أيام نزق وطيش. . ولو لم أكن طائشة لما اشتركت في تدبير المؤامرة التي سلبت بها زوجي ألفي جنيه. . والآن. أتريد أن تعيد إليّ ذلك المال.؟
- كلا بالطبع. . فإن الخسارة قد لحقتني كما لحقت زوجك. . بإفلاس الشركة. .
- هذا بهتان. .
فنهض مارتان واقفا وقال في ثورة جائحة:
- اغربي عن وجهي أيتها الماكرة. . إن هذه الإهانات لا أحتملها منك. . غادري مكتبي حالا. .
- حسنا. . سأغادر مكتبك الآن. . ولكن أرجو أن تفسح لي صدرك لأصارحك بشيء قبل أن أغرب عن وجهك يا مستر مارتان. إن الشيء الوحيد الذي يقض مضجع روي هو أن(958/55)
صحته تحول بينه وبين إعانتنا على السير في ركب الحياة. أي لا تمكنه من أن يعولنا. . أنا وابني. . وهو دائما شديد القلق علينا. . ولك الذي أخشاه أن يدفعه اليأس إلى التخلص من تلك الحياة. . ولكن الذي عزمت عليه هو أنني إذا عدت إلى البيت سأحدثه بشيء يصرفه عن الاهتمام بأمرينا. .
فقال مارتان يسألها:
- أفصحي فإن في كلامك غموضا
هذا الشيء الذي سأدلي به إلى زوجي. . هو أن الطفل الذي يظنه ابنه ليس في الواقع إلا ابنك أنت. وحين سمع مارتان هذه الكلمات امتقع وجهه. . وامتدت عليه ظلال من الأحاسيس والانفعالات. . واستطردت روث تقول:
- ماذا حدث يا عزيزي مارتان؟ إنني أراك شديد الاضطراب. . منذ سبع سنوات. . عقب ساعات الطيش التي عشنا فيها معا. . وعقب سلبك زوجي الألفي جنيه. . خرجت من المدينة. . والآن بعد شهور قليلة سيبلغ الطفل سبع سنوات. . فهل أدركت أنه ولدك؟
فأجابها مارتان في حدة:
إني لا أصدق حرفا مما تقولين. .
فهزت روث كتفيها بلا اكتراث وقالت:
- إن هذا لا يضيرني. . تصدق أو لا تصدق. . ولكن. . ثق تماما أن زوجي سيصدق هذا القول وسوف لا ينكر منه شيئا. . فليس من المعقول أن تعترف زوجة لزوجها زورا بأنها عبثت بشرفه وأن من يظنه ابنه ليس إلا ابن عشيقها. . ثم إن الطفل شديد الشبه بك. . وسأدل روي على مواضع الشبه بينكما. . وعندئذ سيعرف قطعا صدق حديثي
فقال مراتان محاولا أن يصرفها عن هذا الرأي:
- ولكنك بهذا سوف تثيرين حول نفسك الشبهات. . وستقضين على نفسك وعلى سمعتك
- نفسي وسمعتي؟. . ليكن!. لقد لوثت شرف روي. . وبددت أمواله وأغريته على أن يلقي بها إلى السارق. . والآن. . أرى صحته تتقهقر. . وأصبح مفلسا. . فهل تظن أن قيمة الدنيا ستأخذ حيزا من تفكيري بعد هذا؟. . أنه ليحزنني أن أراه دائم القلق والاضطراب لا يفكر في شيء سوى مصيري ومصير الطفل الذي هو طفلك. . ولا شك(958/56)
أنه حين يقف على حقيقة الأمر. . سوف لا يهتم بأمرينا. . نعم سيكرهني. . سيمقت الزوجة التي عبثت بشرفه. . وكذلك الطفل. . حين يدرك أنه ثمرة السفاح. .
وقال مارتان صائحا:
- يخيل إليّ أنك جننت. .
- جننت. .! لست على أي حال أعير قولك اهتماما. . لقد كان روي شهما وكريما معي. .
- إن زوجك مريض. . وفي أزمة مالية. . فهل تريدين أن تزيدي من همومه. . وتثقلي من آلامه بإفضائك إليه ذلك السر الخطير؟
- لقد قررت فيما بيني وبين نفسي الإدلاء إليه بهذه الحقيقة
فقال مارتان متهكما:
- يا لك من زوجة مخلصة. .! زوج متقاعد مريض. . فتأتي زوجته الوفية المشفقة فتضاعف أحزانه وهمومه!
- تهكم ما شئت. . فإنني على يقين من أن روي لا يألم من أجل نفسه. . وإنما يألم من أجلي أنا والطفل. . وأن الذي أنشده من وراء هذا التصريح. . هو هدوء ضميره. . وذلك هو السبيل الوحيد لإنقاذه. .
- السبيل الوحيد. . كيف؟؟
- أجل. . لقد أمن روي على حياته لقاء مبلغ كبير. . ولقد لاحظت عليه في الأيام الأخيرة اهتمامه في البحث عن مستندات التأمين. . وقرأت ما يجول في عينيه. . وإني لا أستبعد أنه ينوي الانتحار. .
فقال مارتان منفعلا:
- ولكن ألا تدركين يا حمقاء. . أن وقوفه على السر سيدفعه إلى التخلص مني لا محالة.؟
فقهقهت روث قهقهة صاخبة وقالت:
- وماذا يهمني من أمرك إذا هو قتلك.؟ إنني لم أعد أحفل بك أو أحبك
وجلس مارتان إلى مكتبه وتناول دفتر الشيكات وهو يتمتم:
- ولكنني لا أود أن أموت. .
وكتب لها شيكا بألفي جنيه. . وأخذته روث. . وانصرفت وفي طريقها قالت تحدث نفسها:(958/57)
- يا له من غبي أبله! لقد خدعته وقلت له إن الطفل ابنه وإنه يبلغ من العمر سبع سنوات. . ولن أنه أدرك الآن أن ابني الوحيد الذي رزقته عمره عام واحد لطار صوابه. . .
عبد القادر حميدة(958/58)
العدد 959 - بتاريخ: 19 - 11 - 1951(/)
أمريكا التي رأيت:
في ميزان القيم الإنسانية
للأستاذ سيد قطب
يبدو الأمريكي - على الرغم من العلم المتقدم والعمل المتقن - بدائيا في نظريته إلى الحياة، ومقوماتها الإنسانية الأخرى بشكل يدعو إلى الدهشة. ولعل لهذا التناقض الواضح أثره في ظهور الأمريكان بمظهر الشعب الغريب الأطوار في نظر الأجانب، الذين يراقبون حياة الشعب من بعيد؛ ويعجزهم التوفيق بين هذه الحضارة الصناعية الفائقة، وذلك النظام الدقيق في إدارة الأعمال، وادارة الحياة. . وبين هذه البدائية في الشعور والسلوك، تلك البدائية التي تذكر بعهود الغابات والكهوف!
يبدو الأمريكي بدائيا في الإعجاب بالقوى العضلية، والقوى المادية بوجه عام، بقدر ما يستهين بالمثل والمبادئ والأخلاق، في حياته الفردية، وفي حياته العائلية، وفي حياته الاجتماعية - فيما عدا دائرة العمل بأنواعه، وعلاقات الاقتصاد والمال - ومنظر الجماهير وهي تتبع مباريات كرة القدم، على الطريقة الأمريكية الخشنة التي ليس لها من اسمها (كرة القدم) أي نصيب، إذ أن (القدم) لا تشترك في اللعب، إنما يحاول لاعب أن يخطف الكرة بين يديه، ويجري بها ليقذف بها إلى الهدف، بينما يحاول لاعبو الفريق الآخر أن يعوقوه بكل وسيلة، بما في ذلك: الضرب في البطن، وتهشيم الأذرع والسيقان، بكل عنف وكل شراسة. . منظر الجماهير وهي تتبع هذه اللعبة، أو تشاهد حفلات الملاكمة والمصارعة الوهمية الدامية. . منظرها في هياجها الحيواني، المنبعث من إعجابها بالعنف القاسي، وعدم التفاتها إلى قواعد اللعب وأصوله، بقدر ما هي مأخوذة بالدم السائل والأوصال المهشمة، وصراخها هاتفة: كل يشجع فريقه: حطم رأسه. دق عنقه. هشم أضلاعه. اعجنه عجنا. . هذا النظر لا يدع مجالاً للشك في بدائية الشعور التي تفتن بالقوة العضلية وتهواها.
وبمثل هذه الروح يتابع الجمهور الأمريكي صراع الجماعات والطوائف، وصراع الأمم والشعوب. ولست ادري كيف راجت في العالم والطوائف، وصراع الأمم والشعوب. ولست ادري كيف راجت في العالم - وبخاصة في الشرق - تلك الخرافة العجيبة. خرافة أن(959/1)
الشعب الأمريكي شعب محب للسلام!
إن الأمريكي بفطرته محارب محب للصراع. وفكرة الحرب والصراع قوية في دمه، بارزة في سلوكه؛ وهذا هو الذي يتفق مع تاريخه كذلك. فقد خرجت الأفواج الأولى من أوطانها قاصدة إلى أمريكا بفكرة الاستعمار والمنافسة والصراع. قال بعضهم بعضا وهم جماعات وأفواج. ثم قاتلوا جميعاً سكان البلاد الأصليين (الهنود الحمر) وما يزالون يحاربون حرب إفناء حتى اللحظة الحاضرة. ثم قاتل العنصر الأنجلو سكسوني العنصر اللاتيني هناك، وطرده إلى الجنوب في أمريكا الوسطى والجنوبية، ثم حارب المتآمر كون أمهم الأولى إنجلترا في حرب التحرير بقيادة (جورج وشنطن) حتى نالوا استقلالهم عن التاريخ البريطاني. ثم حارب الشمال الجنوب بقيادة (ابراهام لنكولن) تلك الحرب التي اتسمت بسمة (تحرير العبيد) وإن كانت دوافعها الحقيقية هي المنافسة الاقتصادية. ذلك أن العبيد المستجلبين من أواسط أفريقية ليعملوا في الأرض رقيقاً، لم يستطيعوا مقاومة الطقس البارد في الشمال، فنزحوا إلى الجنوب. وكان معنى هذا أن يجد المستعمرون في الولايات الجنوبية الأيدي العاملة الرخيصة، على حين لا يجدها الشماليون، فيتم لهم التفوق الاقتصادي؛ لذلك أعلن الشماليين الحرب لتحرير العبيد!
وانقضت فترة العزلة، وانتهت سياستها، عندما دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى، ثم اضطلعت بالحرب العالمية الثانية. ثم ها هي تنهض بالحرب في كوريا، والحرب العالمية الثانية ليست بالبعيدة! ولست ادري كيف راجت تلك الخرافة العجيبة عن شعب هذا تاريخه في الحروب؟
إن الحيوية المادية عند الأمريكي مقدسة، والضعف - أيا كانت أسبابه - جريمة. جريمة لا يغتفرها شيء. أو كن ضعيفاً فل يسعفك مبدأ، ولا يكون لك مكان في مجال الحياة الفسيح. أما الذي يموت فيرتكب بالطبع جريمة الموت ويفقد كل حق له في الاهتمام أو الاحترام، ليس أنه قد مات؟
كنت في مستشفى (جوج واشنطن) في واشنطن العاصمة وكان الوقت مساء حينما غمرت جوه موجة من الاضطراب غير معهودة، وبدت فيه حركة غير عادية تستلفت النظر. وأخذ المرضى القادرون على الحركة يغادرون أسرتهم وحجراتهم إلى المماشي والأبهاء(959/2)
يستطلعون؛ ثم جعلوا يتحلقون متسائلين عن سر تلك الظاهرة في حياة المستشفى الهادئة. وعرفنا بعد فترة أن أحد موظفي المستشفى قد أصيب في حادث مصعد، وأنه في حالة خطيرة بل أنه في دور الاحتضار. وذهب أحد المرضى الأمريكان ليرى بنفسه، ثم عاد يقص على المتحلقين في الممشى ما رأى. . وحين يخيم شبح الموت على مكان، لا تكون له رهبة، ولا يكون للموت خشوعه كما يكون ذلك في مستشفى. . ولكن هذا الأمريكان أخذ يضحك ويقهقه، وهو يمثل هيئة المصاب المحتضر، وقد دق المصعد عنقه، وهشم رأسه، وتدلى لسانه من فمه على جانب وجهه! وانتظرت أن أسمع أو أرى علائم الامتعاض والاستنكار من المستمعين. ولكن كثرتهم الغالبة جعلت تضحك متفكهة، بهذا التمثيل البغيض!
لذلك لم اعجب وبعض أصدقائي يقص علي ما رأى وما سمع، حول الموت ووقعه في نفوس الأمريكان
قال لي زميل: إنه كان حاضر مأتم، حيثما عرضت جثة رب البيت محنطة في صندوق زجاجي - على العادة الأمريكية - كيما يرى أصدقاء الفقيد بجثمانه، ليودعوه الوداع الأخير، ويلقوا عليه النظرة النهائية، واحد بعد الآخر في صف طويل. حتى إذا انتهى المطاف وتجمعوا في حجرة الاستقبال؛ ما راعه إلا أن يأخذ القوم في دعابات وفكاهات، حول الفقيد العزيز وحول سواه، تشترك فيها زوجة اهله، وتعقبها الضحكات المجللة، في سكون الموت البارد، وحول الجسد المسجى في الأكفان!
وكان الأستاذ مدير البعثات المصرية بواشنطن مدعو هو والسيدة حرمه إلى إحدى الحفلات - وقبيل الموعد مرضت السيدة حرمه، فأمسك بالتلفون ليعتذر عن الحفلة بسبب هذا الطارئ. ولكن الداعين أجابوه بأنه لا ضرورة للاعتذار، فإنه يملك أن يحضر منفردا، وستكون هذه فرصة طيبة، ذلك أن إحدى المدعوات قد توفي زوجها فجأة قبيل الحفلة، وستكون وحيدة فيها، فمن حسن الحظ أن يكون لها رفيق!
ودخلت مرة بيت سيدة أمريكية كانت تساعدني في اللغة الإنجليزية في الفترة الأولى من وجودي في أمريكا؛ فوجدت عندها إحدى صديقاتها، وكانتا تتحدثان في موضوع لحقت أواخره، وهذه الصديقة تقول: (لقد كنت حستة الحظ، فقد كنت مؤمنة على حياته. حتى(959/3)
علاجه لم يكلفني إلا القليل لأننيكنت مؤمنة عليه في هيئة الصليب الأزرق) وابتسمت ضاحكة!
ثم استأذنت وخرجت، وبقيت مع ربة البيت. وأنا احسب أن صديقتها كانت تحدثها عن كلبها - وإن كنت قد دهشت لأنها لا تبدي أي تأثر لموته! - ولكن ما راعني إلا أن تقول لي - ولم أسأل! - (كانت تحدثني عن زوجها. لقد مات منذ ثلاثة أيام!)
ولما أبديت لها دهشتي أن تتحدث منذ ثلاثة أيام بمثل هذه البساطة، كان عذرها الذي لا يخالجها الشك في أنه مقنع ووجيه: (إنه كان مريضا! لقد مرض اكثر من ثلاثة اشهر قبل الوفاة!)
عادت بي الذاكرة إلى مشهد عميق الأثر في شعوري، وقد أثار في خاطري في حينه منذ سنوات. . . خاطرة لم تكتب بعنوان: (مأتم الطيور) ذلك مشهد جماعة من الفراخ كنا نربيها في دارنا، وقد وقفت متحلقة صامتة مبهورة مأخوذة، حول فرخ منها ذبيح، لقد كانت مفاجأة شعورية لكل من في البيت، مفاجأة غير منتظرة من طير غير كتقدم في سلم الرقي كالدجاج، بل كانت صدمة لم نجرؤ بعدها منذ ذلك الحين على ذبح فرخ واحد على مرأى من جماعة الطيور!
ومنظر الغربان حين يموت لها مائت، منظر مألوف شاهده الكثيرون. وهو منظر يصعب تفسيره بغير شعور (الحزن) أو (عاطفة) القرابة! فهذه الجموع من الغربان، المحلقة الصافة، الناعقة بشتى الأصوات والأنغام، الطائرة هنا وهناك، حتى تحتمل جثمان الميت وتطير. . . هذا كله يشي برجفة الموت في عالم الطيور. .!
وقداسة الموت تكاد تكون شعور فطريا. فليسست البدائية الشعورية هي التي تطمسها في النفس الأمريكية؛ ولكنه جفاف الحياة من التعاطف الوجداني، وقيامها على معادلات حسابية مادية، وعلى علاقات الجسد ودوافعه، واستخفافها عمدا بكل ما يشتهر أنه من مقدسات الناس في العالم القديم، والرغبة الملحة في مخالفة ما تواضع عليه الناس هناك، وإلا فما مزية الدنيا الجديدة على ذلك العالم القديم؟
وما يقال عن الشعور بالموت يقال عن الشعور بالدين
ليس اكثر من الأمريكان تشييداً للكنائس، حتى لقد أحصيت في بلدة واحدة لا يزيد سكانها(959/4)
على عشرة آلاف اكثر من عشرين كنيسة! وليس اكثر منهم ذهابا إلى الكنيسة في ليلات الأحد وأيامه، وفي الأعياد العامة وأعياد القديسين المحليين وهم اكثر من (الأولياء) عند عوام المسلمين!. . . وبعد ذلك كله ليس هناك من هو ابعد من الأمريكي عن الشعور بروحية الدين واحترامه وقداسته، وليس ابعد من الدين عن تفكير الأمريكي وشعوره وسلوكه!
وإذا كانت الكنيسة مكانا للعبادة في العالم المسيحي كله، فإنها في أمريكا مكان لكل شيء إلا العبادة. وإنه ليصعب عليه أن تفرق بينها وبين أي مكان آخر معد للهو والتسلية أو ما يسمونه بلغتهم ومعظم قصادها إنما يعدونها تقليداً اجتماعياً ضرورياً، ومكانا للقاء والأنس، ولتمضية وقت طيب، وليس هذا شعور الجمهور وحده، ولكنه كذلك شعور سدنة الكنيسة ورعاتها. .
ولمعظم الكنائس ناد يتألف من الجنسين، ويجتهد راعي كل كنيسة أن يلتحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن، وبخاصة هناك تنافسا كبيرا بين الكنائس المختلفة المذاهب. ولهذا تتسابق جميعا في الإعلان عن نفسها بالنشرات المكتوبة وبالأنوار الملونة على الأبواب والجدران للفت الأنظار، وبتقديم البرامج اللذيذة المشوقة لجلب الجماهير، بنفس الطريقة التي تتبعها المتاجر ودور العرض والتمثيل، وليس هناك من بأس في استخدام أجمل فتيات المدينة وأرشقهن، وأبرعهن في الغناء والرقص والترويج
وهذه مثلاً محتويات إعلان عن حفلة كنيسة كانت ملصقة في قاعة اجتماع الطلبة في إحدى الكليات:
(يوم الأحد أول أكتوبر - في الساعة السادسة مساء - عشاء خفيف. العاب سحرية. الغاز. تسلية. . .)
وليس في هذا أية غرابة، لأن راعي الكنيسة لا يحس أن عمله يختلف في شيء عن عمل مدير المسرح، أو مدير المتجر. النجاح أولا وقبل كل شيء - والوسيلة ليست بالمهمة - وهذا النجاح يعود عليه بنتائجه الطيبة: المال والجاه. فكلما كثر عدد الملتحقين بكنيسته وعظم دخله، وزاد كذلك احترامه ونفوذه في بلده، لأن الأمريكي بطبيعته يؤخذ بالفخامة في الحجم أو العدد، وهي مقياسه الأول في الشعور والتقدير.(959/5)
كنت ليلة في إحدى الكنائس ببلدة جبلى بولاية كولورادو - فقد كنت عضواً في عدة نواد كنيسة في كل جهة عشت فيها، إذ كانت هذه ناحية هامة من نواحي المجتمع تستحق الدراسة عن كثب ومن الداخل - وبعد أن انتهت الخدمة الدينية في الكنيسة، واشترك في الترايتل فتية وفتيات من الأعضاء، وأدى الآخرون الصلاة، دلفنا من باب جانبي إلى ساحة الرقص، الملاصقة إلى قاعة الصلاة، يصل بينهما الباب؛ وصعد (الأب) إلى مكتبته، وأخذ كل فتى بيد فتاة، وبينهم وبينهن أولئك الذين واللواتي، كانوا وكن، يقومون بالترتيل ويقمن!
وكانت ساحة القص مضاءة بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء، وبقليل من المصابيح البيض. وحمى الرقص على أنغام (الجراموفون) وسالت الساحة بالأقدام والسيقان الفاتنة، والتفت الأذرع بالخصور، والتقت الشفاه والصدور. . وكان الجو كله غراماًً حينما هبط (الأب) من مكتبه، وألقى نظرة فاحصة على المكان ومن المكان، وشجع الجالسين والجالس ممن لم يشتركوا في الحلبة على أن ينهضوا فيشاركوا، وكأنما لحظ أن المصابيح البيض تفسد ذلك الجو (الرومانتيكي) الحالم، فراح في رشاقة الأمريكان وخفته يطفئها واحداً واحداً، وهو يتحاشى أن يعطل حركة الرقص، أو يصدم زوجاً من الراقصين في الساحة، وبدا المكان بالفعل أكثر (رومانتيكية) وغراماً. ثم تقدم إلى (الجراموفون) ليختار أغنية تناسب ذلك الجو، وتشجع القاعدين والقاعدات على المشاركة فيه
وأختار. . أختار أغنية أمريكية مشهورة اسمها: (ولكنها يا صغيرتي باردة في الخارج) وهي تتضمن حوار بين فتى وفتاة عائدين من سهرتهما، وقد لحتجزها الفتى في داره، وهي تدعوه أن يطلق سراحها لتعود إلى دارها فقد أمسى الوقت، وأمها تنتظر. . وكلما تذرعت إليه بحجة أجابها بتلك اللازمة: (ولكنها يا صغيرتي باردة في الخارج!)
وانتظر الأب حتى رأى خطوات بناته وبنيه، على موسيقى تلك الأغنية المثيرة؛ وبدا راضياً مغتبطاً، وغادر ساحة الرقص إلى داره، تاركاً لهم ولهن إتمام هذه السهرة اللذيذة. . . البريئة!
وأب آخر يتحدث إلى صاحب لي عراقي، قد توثقت بينه وبينه عرى الصداقة، فيسأله عن (ماري) زميلته في الجامعة (لم لا تحضر ألن إلى الكنيسة؟ ويبدو أنه لا يعنيه أن تغيب الفتيات جميعاً وتحضر (ماري)! وحين يسأله الشاب عن سر هذه اللهفة يجيب: (إنها(959/6)
جذابة، وإن معظم الشبان إنما يحضرون وراءها!)
ويحدثني شاب من شياطين الشبان العرب الذين يدرسون في أمريكا، وكنا نطلق عليه اسم (أبو العتاهية) - وما أدري أن كان ذلك يغضب الشاعر القديم أو يرضيه! - فيقول لي عن فتاته - ولكل فتى فتاة في أمريكا - إنها كانت تنتزع نفسها من بين أحضانه أحياناً لأنها ذاهبة للترتيل في الكنيسة؛ وكانت إذا تأخرت لم تنج من إشارات (الأب) وتلميحاته إلى جريرة (أبي العتاهية) في تأخيرها عن حضور الصلاة! هذا إذا حضرت وحدها من دونه، فأما إذا استطاعت أن تجره وراءها، فلا لوم عليها ولا تثريب!
ويقول لك هؤلاء الآباء: إننا لا نستطيع أن نجتذب هذا الشباب إلا بهذه الوسائل!
ولكن أحد منهم لا يسأل نفسه: وما قيمة اجتذابهم إلى الكنيسة وهم يخوضون إليها مثل هذا الطريق، ويقضون ساعاتهم فيه؟ أهو الذهاب إلى الكنيسة هدف في ذاته، أم آثاره التهذيبية في الشعور والسلوك؟ من وجهة نظر (الآباء) التي أوضحتها فيما سلف، مجرد الذهاب هو الهدف. وهو وضع لمن يعيش في أمريكا مفهوم!
ولكني أعود إلى مصر، فأجد من يتحدث أو يكتب، عن الكنيسة في أمريكا - وهو لم ير أمريكا لحظة - وعند دورها في الإصلاح الاجتماعي، ونشاطها في تطهير القلب، وتهذيب الروح. . .
ولله في خلقه شؤون!
والأمريكي بدائي في حياته الجنسية، وفي علاقات الزواج في الأسرة. ولقد مررت في أثناء دراساتي للكتاب المقدس بتلك الآية الواردة في (العهد القديم) حكاية عن خلق الله للبشر أول مرة وهي تقول: (ذكراً أو أنثى خلقهم). . . مررت بهذه الآية كثيراً، فلم يتمثل لي معناها عارياً واضحا جاهراً، كما تمثل في أثناء حياتي بأمريكا
أن كل ما تعبت الحياة البشرية الطويلة في خلقه وصيانته من آداب الجنس، وكل ما صاغته حول هذه العلاقات من عواطف مشاعر، وكل ما جاهدت من غلاظة الحس، وحهامة الغريزة، لتطلقه إشاعات مرفوفة، وهالات مجنحة، وأشواق طليقة، وكل الروابط الوثيقة حول تلك العلاقات في شعور الفرد، وفي حياة الأسرة، وفي محيط الجماعة. . .
إن هذا كله قد تجردت منه الحياة في أمريكا مرة واحدة، وتجلت ريه عاطلة من كل تجمل.(959/7)
(ذكر أو أنثى) كما خلقهم أول مرة. جسداً لجسد، وأنثى لذكر. على أساس مطالب الجسد ودوافعه، تقوم العلاقات وتتحدد الصلات، ومنها تستمد قواعد السلوك، وآداب المجتمع، وروابط الأسر والأفراد
بفتنة الجسد وحدها، عارية من كل ستار، مجردة من كل حياء، تلقى الفتاة الفتى، ومن قوة الجسد وضلاعته يستمد الفتى إعجاب الفتاة. ويستمد الزوج حقوقه - هذه الحقوق التي تسقط جميعها في عرف الجميع، يوم يعجز الرجل عن الوفاء بها لسبب من الأسباب
والفتاة الأمريكية تعرف جيداً مواضع فتنتها الجسدية، تعرفها في الوجه: في العين الهاتفة والشفة الظامئة، وتعرفها في الجسم: في الصدر الناهد والردف الملئ وفي الفخذ الفاء والساق الملساء، - وهي تبدي هذا كله ولا تخفيه - وتعرفها في اللباس: في اللون الزاهي توقظ به الحس البدائي، وفي التفصيل الكاشف عن مفاتن الجسد - وهو بذاته في الأمريكية فتنة حية صاعقة في بعض الأحيان! - ثم تضيف إلى هذا كله الضحكة المثيرة، والنظرة الجاهرة، والحركة الجريئة، ولا تغفل عن ذلك كله ولا تنساه!
والفتى الأمريكي يعرف جيداً أن الصدر العريض، والعضل المفتول، هما الشفاعة التي لا ترد عند كل فتاة، وأن أحلامها لا ترف على أحد كما ترف على (رعاة البقر) وبصريح العبارة تقول لي فتاة ممرضة في مستشفى (لست أطلب في أحلامي إلا ذراعين قويتين يعصرني بهما عصراً. . . وقامت مجلة (لوك) باستفتاء عدد من الفتيات من مختلف الأعمار والثقافات والأوساط حول ما أسمته (عضل الثيران) فأبدت غالبية ساحقة إعجابها المطلق بالفتيان أصحاب عضل الثيران!
وما من شك أن لهذه الظاهرة دلالتها على حيوية هذا الشعب وقوة حسه. ولو هذبت هذه الطاقة وتسامت لاستحالت فناً يجمل جهامة الحياة، وأشواقاً تجعل لها في الحس الإنساني نكهة، وتربط بين الجنسين بروابط أعلى وأجمل من روابط الجسد الظامئ والحس الهائج، والجنس الصارخ في العيون، الهاتف في الجوارح، المتنزى في الحركات واللفتات، ولكن طبيعة الحياة في أمريكا، والملابسات التي سلفت في نشأة هذا الشعب، لا تساعد على شيء من هذا، بل تقاومه وتقصيه
وهكذا أصبحت كلمة حيى أو خجول من كلمات العيب والتحقير؛ وانطلقت العلاقات(959/8)
الجنسية من كل قيد على طريقة الغابة، وأصبح بعضهم يفلسفها فيقول كما قالت لي إحدى فتيات الجامعة مرة: (إن المسألة الجنسية ٍليست مسألة أخلاقية بحال. أنها مجرد مسألة بيولوجية: وحين ننظر إليها من هذه الزاوية نتبين أن استخدام كلمات الفضيلة والرذيلة. والخير والشر، إقحام لها في غير مواضعها، وهو يبدو لنا نحن الأمريكان غريباً، بل مضحكاً. . .) وبعضهم يبررها ويعتذر عنها كما قال لي طالب يشتغل للكدتوراه: (إننا هنا مشغولون بالعمل، ولا نريد أن يعوقنا عنه معوق، وليس لدينا وقت ننفقه في العواطف! ثم إن الكبت يتعب أعصابنا، فنحن نريد أن ننتهي من هذه (الشغلة!) لنفرغ إلى العمل بأعصاب مستريحة)
ولم أرد أن أعلق على هذا الحديث في وقته. فقد كان همي أن أعرف كيف يفكرون في هذه المسألة. وإلا فكل شيء في أمريكا لا يدل على أعصاب مستريحة، بالرغم من كل وسائل الحياة المريحة، وكل ضماناتها المطمئنة، وكل يسر وسهولة في إنفاق الطاقات الفائضة
وبعضهم يسمي هذا تحرراً من الرياء ومواجهة للحقائق. ولكن هناك فارقاً أساسياً بين التحرر من المقومات الإنسانية التي تفرق بين الإنسان والحيوان. والإنسانية في تأريخها الطويل لم تكن تجهل أن الميول الجنسية ميول طبيعية وحقيقية، ولكنها - عن وعي أو غير وعي - كانت تجاهد لتتحكم فيها، فرارا من العبودية لها، وبعداً عن مدارجها الأولى. إنها ضرورة نعم؛ ولكن لماذا تخجل الإنسانية من إبداء ضروراتها؟ لأنها تحس بالفطرة أن التحكم في هذه الضرورات هو شهادة الخلاص من الرق، وأولى مدارج الإنسانية في الطريق، وأن العودة إلى حرية الغابة عبودية مقنعة، ونكسة إلى مدارج البدائية الأولى
سيد قطب(959/9)
4 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
معركة التحرير:
أذاعت وزارة الداخلية في 30 أكتوبر 1951 بياناً باعتداءات الإنجليز في الفترة من 16 أكتوبر إلى 30 منه ويؤخذ منه أن البريطانيين قتلوا أربعة جنود مصريين كما قتلوا 13 رجلاً من المدنيين وامرأة وطفلاً. وبلغ عدد الجرحى من العسكريين والمدنيين 125، وبلغ عدد حوادث النهب والسلب 125 وعدد الجني علهم في هذه الحوادث 2 شخصاً كما بلغ عدد حوادث تعطيل المواصلات 48 حادثة، وحوادث الإتلاف ثمانية، وعدد من ضربوا أو قبض عليهم 38 شخصاً
هذا هو الإحصاء الرسمي الذي أذيع، ولكن هناك إحصاء آخر يعرفه الناس جميعاً: إن منطقة القتال بأسرها تعيش الآن وسط أتون من الضغط والإرهاب البريطاني، وليس هناك مصري واحد في هذه المنطقة آمن على نفسه أو على حريته. إنهم يعيشون تحت أسنة الحراب الإنجليزية، وبلادهم مسرح للعدوان البريطاني
وإني أحب أن أسجل بكل فخار ما قام به العمال الذين كانوا يعملون في المعسكرات البريطانية من عمل وطني رائع، وذلك بامتناعهم عن العمل في تلك المعسكرات، الأمر الذي أقلق الإنجليز وأضجع مضاجعهم؛ كما أخفض قلمي تحية لوطنية عمال شركة قنال السويس وذلك بامتناعهم عن تفريغ أو شحن السفن، مما يهدد بوقف الملاحة في القناة
كذلك يطيب لي أن احيي أولئك الوطنيين من التجار الذين امتنعوا عن توريد الأطعمة والفواكه إلى أعداء الوطن هذا في مصر؛ أما في السودان فقد عقد اجتماع وطني كبير شهد زعماء السودان المخلصون لوطنهم وفيه أعلنوا أن الجمعية التشريعية السودانية لا تعبر عن رأي السودانيين، كما أعلنوا عن عزم السودانيين على الكفاح لإخراج الإنجليز من وادي النيل وإقامة دولة النيل المتحدة تحت تاج الفاروق
إلى الماضي.
هذه صورة من كفاحنا الشعبي في معركة التحرير. . فلنعد إلى الماضي لنرى صورة من(959/10)
كفاح الآباء. . ولنعرف كيف وقفت مصر وشعبها الأعزل في وجه بريطانيا غداة خروجها ظافرة من الحرب العالمية الأولى. . وكيف اضطرت بريطانيا رغم جيشها وأسطوله إلى التسليم بمطالب مصر
طلب سعد ورفيقاه كما رأينا أن يسمح لهم بالسفر إلى أوربا لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح ولكن رفض طلبه؛ ورأينا كذلك كيف ألف سعد الوفد المصري؛ وفي الوقت نفسه طالب حسين رشدي باشا وزميله عدلي أن يسمح لهم بالسفر لمباحثة الحكومة البريطانية في المسألة المصرية، وقد رفض طلبهما أولاً ثم سمح لهما بالسفر؛ ولكنهما طلبا أن يصرح لرجال الوفد بالسفر أيضاً فرفض الطلب مما أدى إلى استقالتهما. وقد وقف المصريون صفاً واحداً فلم يقبل أحد منهم الوزارة، وظلت مصر بلا وزارة في الفترة من ديسمبر 918 إلى مارس 1919
لم ييأس سعد وظل يواصل جهاده، ففي 11 يناير 1919 أرسل إلى كليمنصور رئيس مؤتمر السلام المنعقد بباريس برقية جاء فبها (بأسم الحركة التي أنت نصيرها، وبأسم العدل المجرد عن الهوى، وبأسم الإنسانية التي تأبى أن تكره الأمم على أن تنتقل من يد كما تنتقل ملكية السلع، نناديك من وراء البحر أن لا تتخذ سكوتنا الإكراهي الذي هو نتيجة الطبيعة لحبسنا في حدود بلادنا دليلاً على رضانا بسيادة الغير، وألا تسمح بالحكم في مصيرنا من غير أن تسمع أقوالنا.)
وفي 13 يناير 1919 عقد اجتماع وطني رائع في منزل حمد الباسل باشا خطب سعد باشا فيه فقال:
. . ليست فكرة الاستقلال جديدة في مصر بل هي قديمة يتأجج في قلوب المصريين الشوق إلى تحقيقيها كلما بدت بارقة أمل. . وتخبو ناره كلما استطاعت القوة أن تخمد أنفاس الحق، ولقد كان الوقت الحاضر أنسب فرصة لتحقيق هذه الفكرة. . . إن الاحتلال الفعلي لا يجد فرصة أنسب من هذه الفرصة ليحقق رجاء اللورد سالسبوري الذي قال في 3 نوفمبر 1886 (نحن لا نبحث إلا عن الخروج من مصر بشرف)
قلب هذا الاحتلال الذي لم يكن له حق في البقاء إلى حماية من بادئ رأي الإنجليز ومن غير اتفاق مع مصر. . ولكنها هي أيضا أمر باطل بطلانا أصليا أمام القانون الدولي(959/11)
ومخالف للمبادئ الجديدة التي خرجت بها الإنسانية من هذه الحرب الهائلة. . فنحن أمام القانون الإنساني أصبحنا أحراراً من كل حكم أجنبي. . فلا ينقصنا إلا أن يعترف مؤتمر السلام بهذا الاستقلال فتزول العوائق التي تقف بيننا وبين التمتع به بالفعل. لهذا الغرض السامي المطابق لما في نفوس المصريينجميعا ألفت أنا وأصحابي الوفد المصري للسعي في الوصول إلى الاعتراف بهذا الاستقلال وتشرفنا بتوكيل الأمة إيانا. . .
إن إيماننا بقواعد الحق والعدل هو عدتنا وكفى به عدة، وإن إجماع أمتنا على الاستقلال حجة قائمة، وما ينقصنا إلا أن يسمع مؤتمر السلام صوت الأمة، ولكن سيصله ولو من بعيد، يصله على رغم ما يقال من أن مؤتمر السلام الذي يعقد اليوم أشبه ما يكون بما سبقه من المؤتمرات، هذا هو النحو الذي ننحوه في قضيتنا)
ثم أعلن أن مطالب الوفد تشمل السودان (وإن من الفضلة أن تقرر بأن كل ما نقوله عن مصر ينسحب على السودان لأن مصر والودان كل لا يقبل التجزئة، بل إن السودان كما قال المستشار المالي في تقريره 1914 (ألزم لمصر من الإسكندرية)
ويقول الجود وهو إنجليزي معاصر في كتابه (انتقال مصر) ما ترجمته:
(وفي خلال شهري ديسمبر ويناير كان قلق المعتمد البريطاني يتزايد يوما بعد يوم، فقد كان يشاهد بعيون متعبة العداوة للبريطانيين تنمو يوماً بعد يوم آخر. لم يكن زغلولاً خاملاً، كان أسمه على شفتي كل مصري وأنتخب زعيماً للوفد بإجماع الآراء. لم يكن في مصر إلا حزب واحد، وزعيم، ومنهج واحد)
وفي 21 يناير غادر السير ونجت الأراضي المصرية بناء على استدعاء من لندن
أستمر الوفد في نشاطه، وعزم على عقد اجتماع عام في بيت الأمة في 31 يناير، ولكن قائد القوات البريطانية منعه
مقدمات الثورة:
في أول مارس 1919 قبل السلطان أحمد فؤاد استقالة رشدي باشا التي ظل أمرها معلقا منذ شهر ديسمبر 1918، وطلب إليه الاستمرار في إدارة الأعمال إلى أن يتم تأليف الوزارة الجديدة
تحرجت الحال بقبول استقالة الوزارة وأوجس الوفد خيفة من محاولة تأليف وزارة جديدة،(959/12)
ذلك لأن رشدي باشا كان متعاوناً مع زعماء الوفد. وقد أدى ذلك إلى هياج قي الأفكار والى تحمس في النفوس، وأضطر الوفد إلى أن يلجأ إلى السلطان عاتبا عليه قبول استقالة الوزارة التي وقفت بجانب الأمة تطالب باستقلالها، وطالباً أن يكون السلطان العون الأول للبلاد على نيل استقلالها
وفي 4 مارس أرسل الوفد إلى معتمدي الدول الأجنبية احتجاجاً قوياً على السياسة الإنجليزية التي تمنعه من عرض قضية بلاده أمام مؤتمر الصلح بباريس وأهم ما جاء فيه:
جناب المعتمد:
قضى الأمر وبلغ العسف غايته، لم ينفع مصر أن كانت مشركاً لأقدم مدنية في العالم، ولا أنها ما زالت دائبة يوما بعد يوم من عهد محمد على الكبير إلى الآن على أن تستعيد المركز الذي لها حق الوجود فيه بين الأمم، لم ينفعها تقديمها لقضية الحلفاء أثناء الاقتتال أفيد أنواع المعونة تأثيراً، وقيامها بذلك في نفس الساعة التي افتتحت بريطانيا العظمى فيها الحرب بأشد ضروب التصرفات السياسية ظلماً وهو إعلانها الحماية، لم ينفعها مالها من وحدة العنصر، ونبوغ الطبقة الراقية فيها، وما عليه أهلها من الشغف بالنظام وتعشق الحرية والتسامح العظيم، تلك الخصائص التي تجعلها جديرة بالاستقلال
إذن فكل شيء يجب أن يتواري أمام مطامع الاستعماريين اللامتناهية! إن المصريين دون جميع الأمم التي غيرت الحرب مركزها السياسي هم وحدهم الذين بطشت بهم القوة. .
ها نحن أولاء محكوم علينا بالبكم، نعلك فيه شكيمة الغيظ، وبالحزن المبرح نلبس ثيابه حدادا على حريتنا المسلوبة.
إن الأدلة التي ما زالت تسومنا الخسف ما لبثت أن قررت نهائياً قطع الطريق علينا إلى المؤتمر ساخرة بوعودها. .
إن الوزارة التي اندفعت بوطنيتها إلى إتنهاج ما يوافق القضية المصرية قد اضطرت إلى الاستقالة. . ونحن نعتقد أنه لا يوجد مصري واحد جدير بأن يدعى مصرياً يستطيع أن يؤلف وزارة. . والذي نقصد الآن إنما هو أن نشهدكم على المعاملة الجائرة التي ترزأ بها مصر لكي تقولوا لحكومتكم إنه على رغم العهود التي التزمت بها إنجلترا على رؤوس الأشهاد، وعلى الرغم من المبادئ التي أقرها الحلفاء بالإجماع، لا زال في العالم أمة تتحكم(959/13)
فيها القوة الغاشمة لخدمة مصالح لا اتفاق لها من دواعي المدنية، وهي أقل اتفاقاً مع دواعي العدل والإنصاف
ولم تكن السلطة العسكرية تسمح بنشر هذه النداءات في الجرائد، فكان الوفد يقوم بطبعها وتوزيعها على الأهالي، فأحدثت هياجاً كبيراً في نفوس المصريين وأثارت حماسة وطنية عظيمة
فضاقت بريطانيا من حملات سعد ومن تشهيره بها، ومن نداءات الوفد إلى معتمدي الدول، ومن كتبه إلى السلطان، فقر رأيها على سياسة الشدة في قمع الحركة. وبعد ظهر يوم 6 مارس استدعى قائد القوات البريطانية رئيس الوفد المصري وأعضاءه ووجه إليهم الإنذار التالي:
(علمت أنكم تضعون مسألة الحماية موضع المناقشة، وأنكم تقيمون العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في منع تشكيل وزارة جديدة، وحيث أن البلاد تحت الأحكام العسكرية، لذلك يلزمني أن أنذركم أن أي عمل منكم يرمي إلى المعاملة الشديدة بموجب الأحكام العرفية)
وقد أراد أعضاء الوفد التعقيب على هذا الإنذار، ولكن القائد العام رفض سماع أي كلام قائلاً (لا مناقشة)!
أبو الفتوح عطيفة
بمناسبةالذكرىالثانية(959/14)
علي محمود طه في شرقياته
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
- 1 -
لا أريد أن أتحدث في هذا المقال عن شاعر مصر الكبير المرحوم علي محمود طه كسيد شعراء الغناء العربي منذ أمرؤ القيس حتى الآن، ولا أريد أن أُبين مواطن الجمال والإبداع في دواوينه النفيسة التي أصدرها والتي تضمنت الشيء الكثير عن شعره في وصف الطبيعة والمرأة، ولكنني أود أن أُقصر كلمتي هذه على شعره السياسي الذي قاله في مناسبات عديدة، والتي أوحت به إليه أحداث الشرق العربي المتطلع إلى الحرية والثائر على ظلم الظالمين، لأبدد تلك الفكرة التي تطغى على الأذهان وهي أن المرحوم شاعر الجندول لا يجيد غير وصف الطبيعة والغزل بدليل قوله:
حياتي قصة بدأت بكأس لها غنيت وأمرأة جميلة، وأنه لم يشارك الشعب آلامه وأحزانه، ولا العربية جمعاء في ثورتها التحرريةالكبرى، وأنه لم يكن في جمال هذه المشاركة كأميره شوقي بك الذي يقول:
كان شعري الغناء في فرح الشر - ق وكان البكاء في أحزانه
وأن ما قاله في هذا المضمار لا يتعدى الأبيات التي مجد بها مصر، أما الشرق فقد تركه وراء ظهره. .
هذا ما يقوله عندنا بعض المغرورين الجاهلين الذين لم يقرءوا للشاعر غير ديوان واحد أو ديوانين، ولو كانوا من المتتبعين لقراءة نفائس الشعر العربي الحديث لعلمواأن لصاحب (أرواح شاردة) ديواناً فخماً يضم طائفة صالحة مختارة من شعر الملاحم والحروب، والدم والثورة، والجهاد والاستقلال، وهو (شرق وغرب) الذي أصدره المرحومسنة 1947 إلى الوجود، وبصدوره أضاف إلى ذخيرة الشعر العربي الحديث ذخيرة أُخرى جديرة بالدراسة والحفظ والإعجاب.
يقع هذا الديوان في 182 ص ويقسم إلى قسمين: القسم الأول باسم (أصداء من الغرب) والقسم الآخر باسم (أصوات من الشرق) ونحن نترك الغرب لعشاق الغناء والمرأة والألحان، لنأخذ بالتحدث عن الشرقيات وخصوصاً في هذه الظروف التي يمر بها الشرق؛(959/15)
وبعد نكبة العرب بالديار المقدسة على رغم أنف الجامعة العربية ذلك المخلوق الكسيح الهزيل.
وأول قصيدةمن شرقيات شاعر زهر وخمر هي (إلى أبناء الشرق) ومطلها هذا
دعوها منى، وإتركوه خيالاًفما عرف الحق إلا النضالا
ينبيك بنصيحة الشاعر المخلصة المرجوة إلى أبناء الشرق الإسلامي الذين كانوا يتطلعون إلى قضية فلسطين تطلع الخائف، مرتقبين مصيرها في حذر وفرق، وهل يعرف الحق إلا الكفاح؛ إذن إلى حمل السلاح على لسان الشاعر
بني الشرق ماذا وراء الوعودتطل يميناً وترنو شمالا
وما حكمة الصمت في عالمتصيح المطامع فية إقتتالا
زمانكمو جارح لايعفرأيت الضعيف فيه لايوالى
ويمومكمو نهزة العاملينومضيعة الخاملين الكسالى
ولكن أبناء الشرق الذين فتحوا العالم، وأدبوا الغرب وكسروا شوكة الصلبيين؛ لايلبون النداء الحار، فيهتف الشاعر مذكراً
ألسنا بني الشرق من يعرب أصولاً سمت وجباهاً تعالى
أجئنا نسائل عطف الحليفونرقب منه الندى والنوالا؟
ولكن الشرقيين كما عهدناهم في هذا العصر لايغضبون لأن الحاكمين تحت إمرة الأجنبي علمهم الخنوع والكسل، ولكن الشاعر يذكرهم ويذكر الحلفاء
فلسطين مالي أرى جرحهايسيل ويأبى الغداة إندمالا
وأفريقيا ما لإسلامهايسام عبودية وإحتالا
على تونس وبمراكشتروح السيوف وتغدو إختيالا
ويسترسل الشاعر في وصفه حتى يختم تلك الملحمة الرائعة بهذا الدعاء المضطرم بالإخاء والإيمان
بني الشرق كونوا لأوطانكم قوى تتحدى الهوى والضلالا
أقيموا طدوركمو للخطوب فما شط طالب حق وغالى
وقد كان الشاعر في سرير مرضه عندما بدأ بإثارة شعور إخوانه العرب عامة والمصريين(959/16)
خاصة في سبيل طردهم المستعمر الغاشم ورد حقهم السليب، فقال في الختام
فزعت لكم من وراء السقام وقد جلل الشيب رأسي إشتعالا
وما أن بكيت الهوى والشبابولكن ذكرت العلى والرجالا
نعم لقد بكيت الرجال، وحق لك أن تبكي الرجال في مواطن خلت إلا من أشباه الرجال. .
وفي (يوم فلسطين) وهي القصيدة الثانية من الشرقيات؛ يصور الشاعر غضب الأمة العربية في إضرابها العام الذي صدر في اليوم الثاني من نوفمبر سنة1954 حداداًوإحتجاجاً على وعد بلفور المشئوم. ويكبر البطرلة والشجاعة في الفلسطينيين الأحرار الذين إستشهدوا في سبيل بلادهم وبمجد الشعب الفلسطيني المناضل، في جهاده الطويل وصبره على الشدائد، وإبائه وعدم خنوعه إلى الآجنبي طيلة أيام الثورة، فيهتف من صميم قلبه
فلسطين لاراعتك صيحة مغتالسلمت لأجيال، وعشت لأبطال
ولاعزك الجيل المفدى ولا خبتلقومك نار في ذوائب أجيال
صحت باديات الشرق تحت غيارهم على خلجات الروح من تربك الغالي
فوارس يستهدي أعنة خيلهمدم العرب الفادين والسؤدد العالي
ثم يتطرق إلى وصف الشرق صبيحة التقسيم بهذا الوصف الرائع
هو الشرق لم يهدأ بصيح ولم يطبرقاداً على ليل رماك زلزال
غداة أذاعوا أنك اليوم قسمةلكل غريب دائم التيه جوال
قضى عمره رجم المواطن - وإسمهمواطنها - مابين حل وترحال
وماحل داراً فيك يوماً. . ولاهفتعلى قلبه ذكراك من عهد إسرال
أي والله ياصاحب الملاح التائه!! إن النكبة التي مني بها العرب في فلسطين يوم سلط عليها الإنكليز والأمريكان شذاذ الآفاق، المناجيس الرعاديد، ستبقى مطبوعة في كل قلب حر ما دام للوطن العربي الكبير بقاء؟ وإن الأرض المقدسة التي حلها أوباش اليهود التائهين كي لاتتطهر إلا بظهور عظيم كبخت نصر؟ وبطل كصلاح الدين وفارس كإبن الوليد، لكي يعيد مجد فلسطين كما كانت في عهد عمر، ومعاوية، والرشيد.
ثم يختتم قصيدته مخاطباً الغرب بقوله
ويا أيها الغرب المواعد لاتزدكفى الشرق زاداً من وعود وأقوال(959/17)
شبعنا وجعنا من خيال منمقومنه إكتسينا، ثم عدنا بأسمال
فلاتعذب الضعفى وتغصب حقوقهم فتلك إذا كانت. . شريعة أدغال
وهل فات الشرق أن الغرب لايعرف إلا الظلم والدم والنار، وأن ماسفه من حقوق لايتعدى حبراً على ورق ولاتطبق عنده إلا شريعة الغاب. وقانون الرجل الأول؟!.
وفي مساء يوم الخميس المصادف 20 يونيه سنة 1946 تفاجأ مصر والعالم العربي قاطبة مفاجأة سارة بظهور مفتي الديار الفلسطينية السيد أمين الحسيني قي قصر عابدين العمر لاجئاً إلى ساحة البيت العلوي الكبير الكريم بعد خروجه خفية من باريس بنحو إسبوعين، وقد أمنه الفاروق العظيم على حياته وأكرم وفادته. ألخ) (1) فما كان من الشاعر الإ أن حياه بقصيدة رائعة تعد من عيون الشعر الحديث يفتتحها بهذا المطلع الجبار
حيتك في الشرق آمال وأحلام ... وقبلتك جراحات وآلام
الذي يصف به أجمل وصف شعور الشرق باستقبال المجاهد الكريم؛ وكذلك وصف الديار المصرية التي ترحب بكل طريد عربي. . يا ليتنا كنا أحد الذين يقضون البقية الباقية من حياتهم فيها وبين أهلها الأحباء الكرام. . فيقول
ديار (فاروق) من يلجأ لساحتها ... فقد حمته من الأحداث آجام
يطيب للعربي المستخير بها ... معاشة ويرق الماء والجام
ويحطم القلم العاني بحومتها ... أصفاده، وبفك القيد ضرغام
وحسب مصر، أن أرباب الفكر، وأصحاب العقائد، وحملة مشاعل الحرية والأدباء والشعراء لا يضطهدون أو يعذبون، وحسب الفارق شرفاً أنه أصل هذا الكرم العتيد والمجد الرفيع والبناء الضخم الموطد الأركان. . ولا أريد أن أسترسل في وصف هذه الأبيات الرائعة أو أثرها في النفس والشعور؛ وقيمتها في ميزان الشعر السياسي من ناحية الديباجة والإصالة والقوة، ولكنني أكتفي بأنها خير ما قلت في هذه المناسبة. وحسب الحسيني قول الشاعر
وأنت، يا أيها الفادي عروبته ... أسلم فديتك لا غبن ولا ذام
جهادك الحق مظلوما ومغترباص ... وحي لكل فتى حر و ' لهام
وحسب المرحوم الذي إختطفه يد الغادر الغاشم وهو في أوج نضوجه الفتى وحسب(959/18)
عبقريته المتفتحة عن أكمام الخلود والمعطرة بأريج البيان المشرق واللغة السليمة والعربية الكريمة والتراث الشرقي النبيل بما فيه العروبة والإسلام، وأنه كان من المدافعين عن حريته وسلامته من المؤمنين به وبحقوقه، وبحضارته العريقة ومجده الخالد التالد. وشبابه المنافح المكافح وشيوخه الحكماء
وحسب مصر الوادي المبارك أنه أطلع للعربية والشرق عملاقاً مثل شوقي. . ونسر أضخم الهيكل في الشرق كعلي محمود طه المهندس. . .
والبقية من هذا الحديث ستأتي في القريب إن شاء الله والى الغد المأمول
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
خواطر في كتاب الله(959/19)
النضال في سبيل الإستقرار
للأستاذ محمد عبد الله السمان
لا حياة لأمة من الأمم بغير إستقرار، ولا إستقرار لها بغير بغير نضال، فالنضال في حياتها دعامة قوية يرتكز عليها إستقرارها، والأمة التي تستعذب الركود، وتستجيب لدواعي الدعة والخمول، وتتذرع بأوهى الأسباب لتظل أمة ضالة في مجاهل النسيان، مودعة في زوايا الإهمال، أو متلاشية في مهاب الأعاصير، ضائعة في زوابغ الغوغاء - هذه الأمة لن يقدر لها التربع فوق هامة المجد، ولا وقوف بين صفوف الأمم الحية، ولا التمتع بحياة العزة والهدوء، ولا الظفر بعيشة الرضا والسلام
والإسلام في ظل تطوراته، كان حريصا على إيجاد أمة قوية مهيبة الجانب، مسموعة الكلمة، ذات مكانة يعتد بها، وكيان يعترف به، وجاه تعيش في ظله مرفوعة الرأس، مصونة الكرامة، ولما لم يهب الإستقرار لأتباع الإسلام، بين ربوع مكة في المرحلة الأولى، فرض عليهم أن يهاجروا منها، راغبين عن مسقط رؤوسهم، وديارهم وأموالهم، زاهدين في أرض لم تغدق عليهم غير الذلة والمسكنة، والنت والضطهاد، فكانت هذه الهجرة أول مرحلة من مراحل النضال، وأول لبنة في بناء الأستقرار، وحرم عليهم أن يسكنوا أرضا لم تكرم وجودهم، ويعيشوا فيها أذلاء مستضعفين، حتى يفلتوا من أسوأ جزاء، وأشد عقاب:
(إن الذين توفيهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)
والعدة الزم شيء للنضال، ولا يعتبر النضال نضالاً واقعياً الإ بها. والأمة التي ترغب في حياة حية ناهضة، يحتم عليها أن تكون على إستعداد للنضال في أية لحظة، فإن لحظات الغدر ليست ذات مواعيد محددة. والإسلام الذي أوجد أمة مجيدة من العدم، لم يقته أن يوجهها إلى إقتناء العدة، وإيجاد القوة، فهما حليفتا الأبطال في ميادين النضال. وخليقتان بأن تدفعاهم إلى كسب الشرف والفخر لأمتهم، وذود العار والبلاء عن وطنهم. والإسلام لم يفته أن يلفت أنظار المسلمين إلى الحديد، وأه مصدر من أهم مصادر العدة والقوة:
(واعدوا لهم ما أستطعتم من قوة، ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين(959/20)
من دونهم لا تعلمونهم. الله يعلمهم. وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف اليكم. وانتم لا تظلمون - وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله لقوي عزيز.)
والإسلام لم يحتضن النضال إلا وهو يهدف إلى إيجاد الإستقرار الذي لا غنى عنه لأمتهن وإيجاد السلام العالمي الذي تعيش الإنسانية والبشرية في كنفه وتحت رعايته آمنتين، ولم يكن من اللائق به - كدين صاحب أسمى دعوة - أن يحتم على أمته الركون والهدوء، وكتائب البغي والعدوان تأبى إلا النيل منها والكيد لعا، ولا أن يلزمها الصمت والسكون - وجحافل العناد تأبى إلى السطو عليها، والتخلص منها، والإسلام لم يقصد من إلزام أمته النضال وإعداد العدة له، بغيا أو بطرا أو عدوانا، ولكنه قصد منهما تهيئة حياة مستقرة لها، حتى تؤدي رسالتها التي من أجلها أوجدها الحق تبارك وتعالى
وقد أعتبر الإسلام بالنسبة لأمته دعامة قوية، يرتكز عيها كيانها، وتستقر حياتها، ولذلك حرضها عليه، وأعتبره جهادا في سبيل الله الذي يحق الحق ويبطل الباطل، ومن أجل حياة دائمة باقية، تنال فيها النفوس المجاهدة الصابرة أنعم ما أعده الله لأوليائه:
(فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما - فقاتل في سبيل الله. لا تكلف إل نقسك. وحرض المؤمنين. عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. والله أشد بأسا وأشد تنكيلا - إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيانا مرصوص - وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين - فإن إعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم السلم؛ فما جعل الله عليكم من سبيلا)
ولما كان النضال دائما في مسيس الحاجة إلى المادة، لإعداد الأسلحة وما اليها، وللانفاق على الجيوش المناضلة، فقد حرص الإسلام على الإنفاق في سبيل هذه الغية، واعتبر البخل والتقتير مما يدفع بالأمة إلى الهلاك بأيديها، وقد أخذ الله على نفسه ألا يضيع جزاء الباذل. بل يضاعف له أضعاف مضاعفة:
(وانفقوا في سبيل الله. ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. وأحسنوا إن الله لا يحب المحسنين - مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل. في كل سنبلة مئة حبة. والله(959/21)
يضاعف لمن يشاء. والله واسع عليم)
والجندي المناضل في نضاله دائما إلى نيل إحدى الحسنين: إما فوز يكسب أمته العزة والشرف والفخار، ويسبغ عليها نعمة العزة والحرية والمجد، وأما إستشهاد في سبيل الحق، يخلد في الحياة الدنيا ذكراه أجمل تخليدا، ويجعله في الحياة الأخرى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا:
(ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون - ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون. وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده من الله، فأستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم - والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم. ويدخلهم الجنة عرفها لهم.)
أما المتخلفون عن ميدان النضال، المتنكبون طريق الشهامة والمروءة والرجولة، فقد ندد بهم الإسلام كل التنديد، لأنهم رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، ولأنهم بخلوا بأنفسهم، وأدخروها لحياة فانية تعبث فيها وتلهو، وآثروا القبوع في مساكنهم على إدراك البطولة، وإرتداء تاج التضحية والتفاني، كانوا إذا دعوا إلى النضال تثاقلوا مزريا، وأنتحلوا أوهى الأعذار، ليقعدوا عن ركب المجد المزمع إلى الكفاح في سبيل أسمى الغاليات:
(ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم إنفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا مت الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا اليما، ويستبدل قوما غيركم، ولا تضروه شيئا، والله على كل شيء قدير - فرح المخلفون بمعقدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا بفقهون - فليضحكوا قليلاً، وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون - إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف. وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون. يعتذرون اليكم إذا رجعتم اليهم، قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم، قد نبأنا الله من أخباركم، وسيرى الله عملكم ورسوله، ثم تردون إلى(959/22)
عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. سيحلفون بالله لكم إذا إنقلبتم اليهم لتعرضوا عنهم، فأعرضوا عنهم، إنهم رجس، ومأويهم حهنم جزاء بما كانوا يكسبون - وقالوا: ربنا كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب. قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن أتقى، ولا تظلمون فتيلا)
وأما أولئك المثبطون للهمم، الذين كانت مهمتهم أن يضعوا الأشواك في طريق النضال، وأن يشنوا حرب الأعصاب على ضعفاء الإيمان، ويثيروا الروع والفزع في نفوسهم، فقد كشف الله نواياهم، وفضح مخازيهم، لأنهم خليقون بأن يحرموا قيم الرجولة، وتتبرأ منهم صفحات المروءة والبطولة، وما أكثرهم في أيامنا هذه، يعيشون كالجراثيم، وينفثون السموم في روع المناضلين، ويعز عليهم أن يناضل غيرهم، وهم لا يرغبون في النضال، وأن يكسب الشرف سواهم، وهم ليسوا جديرين به، ويتسلحون بمنطق أعرج، وأسلوب ملتو، وحجة واهية، ليبرروا مسلكهم، ويواروا صغارهم:
(. . يقولون لو كان لنا من الأمر شيئا ما قتلنا ها هنا، قل لو كنتم في بيوتكم ابرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، وليبتلي الله ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور - يا أيها الذين أمنوا لا تكونوا كالذين كفروا، وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانواعندنا ما ماتوا وما قتلوا، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، والله يحيي ويميت، والله بما تعملون بصير - وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لا تبعناكم، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان، يقولونبأفواههم ما ليس في قلوبهم، والله اعلم بما يكتمون، الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا، قل فأدرءوا عن أنفسكم إن كنتم صادقين)
محمد عبد الله السمان
في موكب الخالدين(959/23)
ذكرى الملامح التائهة
للأديب عبد الرحيم عثمان صارو
طاف بالدنيا. . كما طاف الربيع ... بحنايا الأرض بعثا مرسلاً
ساحر ينفث مل بين الضلوع ... لهب الحب شهى المصطلى
في يديه معزف الفن الرفيع ... يرسل اللحن طروباً مثملا
يزدهي الأرواح بالكأس البديع ... ريق الخمرة. . لماح الطلى
قد تزول الشهب أو تبلى الشموع ... وسناه فوق أطواق البلى
ما؟ له والكون نشوان الربوع ... يتساقاه رحيقا سلسلا؛
ونداماه احتشاد وولوع ... فارق الروض وولى معجلا
ما؟ له والكون يشدو بحلاه ... راقص النشوة فياض المرح؛
والليالي مفعمات بهواه ... مد للغيب جناحا. . ونزح؛
أهي الأيام قد آدت خطاه ... بالذي يحمل عن دنيا البرح؟
أهو (الأولمب) نادى بفتاه: ... أيها المتعب: آن المطرح؟
أهو الدهر الذي أترع فاه ... خمرة الشهد وصهباء الملح؟
طاش منه العقل واستلت نهاه ... غمرات من أفاريق الفرح؛
فتولى في تهاويل رؤاه ... ينهل الراح، ويلقى بالقدح
أيها النازح عن تلك الديار ... أيها الغائب: قد طال الغياب
ما عهدناك على رغم السفار ... ممنعا في هجر هاتيك الشعاب
ضفة النيل حنين وإدكار ... تمزج الأدمع بالوجد المذاب
طالعت بالشوق آفاق البحار ... تسأل الموج. . وتستهدي العباب
وتنادي الريح: هل حان المزار ... وحلا الوصل على جمر العتاب
ويحها! لم تحظ من طول إنتظار ... وإرتقاب مستهاب بجواب
يا نجوم الليل. . ياشمس النهار ... فتشي عندك عن ذال الشهاب
أيها التائه في بحر الحياة ... عد تأمل كيف بات الشاطئان
أيها التائه. . إلا عن حماه ... كيف أنسيت هوى تلك الجنان(959/24)
كيف تزوي السمع عن غالي نداه ... والجوى يزخر فيه والحنان
لم تطلب بعدك أقداح السقاه ... للندامى. . لا ولم تحل الدنان
يا حيارى الشوق: لا تلحوا هواه ... فهو لا يسلو هواكم حيث كان
لا تلوموه بهجر ما جناه ... وسكوت ما له فيه يدان
إنها الأقدار ألوت بخطاه ... وجهة المجهول من قبل الأوان
عبقري الفن. . رب الملهمين: ... هذه ذكراه حب وثناء
وتراث لك وهاج الزنين ... زامق الذروة مرفوع اللواء
وصلاة في محاريب الحنين ... جءت أقريها (على) الشعراء
إن عدتها نفحة الشعر الرصين ... لم يجزها لك مشبوب الولاء
أنا من ذكرك في غل ثمين ... أجمل الأغلال في الدنيا الوفاء
كيف أنساك؟ معاذ الخالدين ... وصبايا جوار في الدماء
خالد أنت على مر السنين ... في فم الأجيال في سفر البقاء
عبد الرحيم عثمان صارو(959/25)
الأدب والفن في إسبوع
للأستاذ عباس خضر
ساعة مع الحكيم:
أقبلت على الأستاذ توفيق الحكيم بك في غرفة مكتبه بدار الكتب المصرية، بعد أن فرغ من تصريف مسألة من مسائل الدار، وقد خرج الأستاذ الكبير عن مكتبه، وجلسنا على مقعدين متقابلين، فطالعت منه وجه الفنان، وأحسست إني في محراب من محاريب الفن، لا في حجرة من حجرات أصحاب المناصب الكبيرة
وقضيت معه ساعة تناولنا فيها بعض شئون الأدب والأدباء، وقد تحدث إلي منطلقا مستفيضا، وأصغيت إليه مستوعبا مستعذباً، ويرف أصدقاء أديبنا الكبير ما في حديثه من متعة وعمق، لأنه يمزج فيه الفكر بماء من الفن كما يصنع في كتابته
وكان يلقي إلي الحديث على طبيعته المرحة الهادئة الوادعة، وهو لا يعلم إني سأنقله إلى قراء الرسالة. . فلما علم بهذه النية ظهرت عليه البغتة وأبتدرني قائلاً: إذاً فأنت تريد أن تعمل حديثا وسكت وكأنما يقول في نفسه: الأمر لله
بدأ الحديث بالسؤال عن الأستاذ الزيات بك، ثم ذكر (الرسالة) لا سائلا عنها فهي لا تغيب عنه، إذ هي معه وهو معها كل ' سبوع، بل قال: الرسالة يتنسم منها الإنسان عبير الأدب في هذه الآونة التي قطعت الصحف والمجلات الأخرى علاقتها بلأدب ومسحت آثاره من صفحاتها. . حتى ما تنشره أحيانا من قصص تراه حكاية لحوادث لا فن فيها ولا تشعر بأن كاتب القصة يسوق إليك من خلال كتابته خواطر أديب
وتحدثنا في إنصراف أكثر الناس عن القراءة الأدبية، وقلت أن القصة باعتبارها فنا من الأدب تستطيع أن تنافس الكتابات غير الأدبية في إجتذاب جمهور القراء. قال: على شرط أن تكون أدباً. . فأن بعض من يكتبونها كما - قلت - يسوقون وقائع لم تعاشرها نفوسهم ولم تتمثلها خواطرهم، فالفن لا ينتج من وحي الساعة، بل لا بد أن يمضي على الأحداث من الأنظار وقت كاف لنضجها وهضمها. ولهذا أرى ألا يفرض على الأديب أن يكون لونا معينا من الأدب وإنما يترك لشعوره وإستجابته
وعدنا إلى حديث المجلات الأدبية وقلة الأقبال على قراءة الأدب، فقال الأستاذ الحكيم:(959/26)
الواقع أن المجلات الأدبية هي البقية الباقية. وما زلت أذكر الحديث الذي أدلى به إليك معالي الدكتور طه حسين باشا ونشر بالرسالة منذ شهور والذي أعرب فيه عن عمل وزارة المعارف، وإستعدادها للعمل، على تشجيع الأدباء والأخذ بكل ما يغذي الحركة الأدبية والثقافية في البلاد. إن وجود طه حسين على رأس وزارة المعارف فرصة ذهبية عظيمة ينبغي أن تنتهز لإحياء الأدب وإزدهاره عن طريق مساعدة الدولة وإثابتها للجهود الأدبية
ومال الحديث إلى الناحية العملية في الموضوع، فقال الأستاذ الحكيم:
إن وزارة المعارف بإعانها للمجلات الأدبية تسدي الصنيع، لا لهذه المجلات فحسب بل للأدب والأدباء بوجه عام، فإن ذلك سسيبعثها ةعلى الإجادة والإكثار من إستكتاب الأدباء المجيدين. ويا حبذا أن تخصص الوزارة لهذا الغرض مبلغا من الإعتماد المخصص لكتب المطالعة الإضافية، فالمجلات الأدبية نفسها تعتبر من هذه المطالعة
قلت: إن الدولة تتبع سياسة تعويض المنتج وتشجيعه على الإنتاج الذي لا يجزيه الجمهور جزاءه الحق، أو بتعبير إقتصادي، لا يغطي نفقاته، كما تصنع مثلا في الخبز والسكر، أفليس لغذاء العقول مكان؟
ثم جر الحديث لتكوين جمعية الأدباء، فقال الأستاذ الحكيم: أذا اراد الأنسان أن يلقى إخوانه الأدباء فأين يجدهم؟ أليس إجتماع الأدباء وتحدثهم مثلاً فيما يجد من الأفكار أو في كتاب جديد قيم وما ينشأ من إحتكاك الآراء من تنشيط العقول وإثارة القرائح - اليس ذلك خيراً وأبقى من أن يذهب الإنسان إلى قهوة يجد فيها موظفين يقتقلون الوقت بالحديث عن الدرجات والعلاوات؟
ثم قل لي: إذا جاء إلى مصر أديب من الخارج وأراد أن يلقى أدباء مصر فأين يلقاهم إذا لم يكن لهم ناد يقصد إليهم فيه؟
وختمت حديثي مع الأستاذ الكبير بسؤاله عن جهده الأدبي في الفترة الأخيرة أو ما يعتزمه من الإنتاج في مجال الأدب والفن، قال: إنه ينوي أن يخرج كتابا أدبيا ولكنه لم يعرف بعد إسمه ولا موعد ظهوره. لأنه يحلو له دائما أن يكون هو المفاجأ بظهور كتابه فبل أن يكون المفاجئ. .
لحن فصيح!(959/27)
كتب الأستاذ محمد أحمد بريري في جريدة الأساس
(3111951) مقالا عنوانه (خطأ مشهور) أجرى فيه الكلام -
على طريقته - حوارا بينه وبين (شيخه) نتاول فيه تعريب
إسم (هانس أنور) ثم شبك الكلام بمسألة أخرى هي التي تهمنا
ألآن
قال الأستاذ وهو ينقل مسألة تعريب ذلك الأسم إلى مسألتنا: (قلت إذا أردتم أن تغفلوا الحرف الأخير من الكلمة فتنادون. .
قال - صه. . فقد أقلقت سيبويه، رحمه الله حين قلت فتنادون. . قل فتنادوا. . أفنسيت فاء السببية.؟
قات - فما قولكم، دام الله فضلكم، في قول الحطيئة:
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا إرتقى الذي فيه لا يعلمه
زات به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه
بضم الميم في قوله (فيعجمه)
وفي قول الدكتور طه حسين عن بعض العابثين من الشباب: (يريدون أن يضحكوا من الصحف ورؤساء التحرير فيدخلون عليها فصولا نشرت على إنها لم تنتشر. . ألخ) دون حذف نون يدخلون
قال - أما عن شعر الحطيئة فالفاء ليست سببية. . وهذا واضح لأن إرادة الأعراب ليست علة الإعجام أو سببه. . فالشاعر لا يعجم الشعر بسبب إنه أراد إعرابه. . ومتى إنتفت فاء السببية إنتفى النصب
وأما كلام الدكتور طه حسين فالنصب فيه محقق. . فالسببية واضحة بين ضحك هؤلاء الشبان من الصحف ورؤساء تحريرها، وبين إدخال الفصول التي نشرت على إنها لم تنتشر. .
وإني لأنبه الدكتور طه حسين إلى إنه يلحن كثيرا في مثل هذا الحرف فيرفعه وحقه(959/28)
النصب
قلت - وغير الدكتور طه حسين من المؤلفين والكتاب ألا يلحنون في مثل هذا الحال.؟
قال - قلت لك إني لا أحصى لحن غير العلماء. . وإن شهرة الخطأ إنما تستمد من شهرة المخطئ بالدقة على المحافظة على سلامة اللغة. .
قلت - فما حاصل حديثنا اليوم.؟
قال حاصله أو حاصلاه إن شئت الدقة أننا عربنا السيد. (هانس أوتو) فقلنا (هنسوت) ثم رجونا إلى الدكتور طه حسين أن يعطف على فاء السببية فينصب المضارع بعدها متى تقدم مسوغ النصب. . والله الموفق إلى الصواب)
سبحان الله يا أستاذ! ويا عجبا لك ولشيخك!! كيف غاب عنكما أن فاء السببية التي ينصب المضارع بأن مضمورة بعدها هي التي تسبق بطلب أو نفي؟ وأين الأمثلة التي سقتها من ذلك. .؟
إن الفاء في هذه الأمثلة فاء العطف، أما عبارتك التي خطأك فيها الشيخ فما هي علينا! وأما قول الشاعر (يريد أن يعربه (فيعجمه) ففيه الفعل (يعجم) معطوف على (يريد) وكلاهما مرفوع، وأما كلام الدكتور طه حسين (يريدون أن يضحكوا. . . ألخ) ففيه الفعل (يدخلون) معطوف على (يريدون) وكلاهما مرفوع ايضا، وليس فيه نصب محقق أو غير محقق. . وإذا كان الدكتور طه حسين يلحن كثيرا في مثل ذلك. . فما أفصح هذا اللحن! وبعد فأرجو أن تكون هذه المسألة من الأستاذ بريري (هفوة عالم) ولعل خجلته منها تدعو إلى التبين والتحقق فيما بعد
رسالة الشباب في الكفاح:
ألقى الأستاذ كامل الشناوي بك يوم السبت الماضي بجمعية الشبان المسلمين، محاضرة قيمة موضوعها (رسالة الشباب في الكفاح الشعبي) تناول فيها الموضوع تناولا أثار الأعجاب والحماسة في نفوس المستمعين
حث الأستاذ الشباب على الغضب لكرامة الوطن، وقال: إن واجبكم أيها الشباب أن تحاربوا الرضا وأن تحاربوا القناعة ايضاً، فالقناعة في طلب المال غبى ولكنها في طلب الحق فقر وفاقة!(959/29)
وعرض للتحالف الذي يطلبه أعداؤنا. فقال: لماذا تنحالف ألنحارب أم لندافع؟ إننا لا نطمع في غزو ولا في إستعمار حتىنحارب. أما الدفاع فإن الشعوب تدافع عن حريتها، وحريتنا هم غاصبوها، فلن يكون دفاعنا إلا موجهاً أليهم. إنهم يخيفوننا بالخطر والروسي، فعلى أي شيء نخاف عليها. . ولكنا ستأخذها بأيدينا، وبعد ذلك نعرف من نعادي ومن نصادق، سنعادي الدولة التي تعتدي علينا ولو كانت روسيا القوية، وسنصادق الدولة التي ترعى حقنا ولو كانت تركيا الضعيفة!
وناقش الحلف الرباعي الذي رفضته مصر هكذا: تبت في أمريكا فكرة تدعو إلى نفض يد أمريكا من مساعدة بريطانيا من منطقة الشرق الأوسط. وفرنسا التي إستسلمت في الحرب الماضية من أول طلقة مدفع، ستسلم في الحرب القادمة عند أول صفارة إنذار. . وتركيا متاخمة لروسيا، لروسيا، فهل ستحمي نفسها أم ستحمينا. .؟ سنبقى إذن مع بريطانيا وحدها، وبريطانيا لم تعد إلا قوة ذهبت ولن تعود، فهل نتحالف مع الذكريات. .؟
وضرب الأستاذ الشناوي مثلا - لوجوب مواجهة العدو القوي ولو بقوة أقل من قوته - أبا أيوب الأنصاري، إذ خرج إلى القتال وهو شيخ هرم، فأراد أصحابه منعه، فقالوا له: إن الله تعالى يقول (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فقال لهم: لا تفسروا كتاب الله على هواكم. . إنما هذه الآية نزلت فينا معشر الأنصار لكي لا نقعد عن الجهاد فنهلك، فما التهلكة إلا القعود عن الجهاد. .
عباس خضر(959/30)
السلام العالمي والإسلام
للكاتب الداعية الأستاذ سيد قطب
للأستاذ محمد فياض
بينما تتصارع الشيوعية والديمقراطية من جهة، وبينما تتصارع شعوب تدين بالإسلام مع كلتا الكتلتين من جهة أخرى؛ يقفز من بين الشعوب الإسلامية دعاة إسلاميون وهيئات إسلامية، فيتقدمون الصفوف، ويمسكون بدفة التوجيه في محاولات جبارة ليحولوا وجهة الكفاح الشعبي في القعة الإسلامية، إلى كفاح إسلامي يستعصي على الفكرة الشيوعية، ويتمرد على دعاة الديمقراطية، ويتجه إلى الإسلام. . ليكون القوة الإسلامية الأولى، التي إنبعثت من بطن الصحراء، لتديل دولة الفرس الوثنية، وتزيل دولة الرومان الظالمة، فتبلغ رسالتها، وتؤمن رقعتها، وترفع الظلم عن كل إنسان
وفي غضون ذلك كله، ومن بين صفوف قادة الفكر، ودعاة الفكرة، ومن بين أبراج الأدباء والكتاب في بلادنا؛ رأينا صاحب قلم جريء، ينزل من بين الأبراج، ليبرز خلال الصفوف الشعبية، متجرداً، مخلصا، للكفاح. . الكفاح المرير بثمنه وقيوده، فيضرب هنا ويضرب هناك، ضربات متتالية، متواليات، في ميدان الفكرة الإسلامية، وفي ميدان الفكرة الإشتراكية. وفي ميدان الشعوب. . لتأكل. . لتلبس. . لتعي. . لتتحرر. لتعيش عيشة الإنسان!
وما نظننا بعد في حاجة إلى الإشارة لصاحب هذه الضربات الحرة السافرة، فنحن نعرف فيها الأستاذ سيد قطب، كما نعرفه بها والجدير بالإشارة: أن الفكرة الإسلامية تحت ذبابة قلمه بدت لنا مكبرة ضخمة، واضحة، في كلياتها وجزئياتها، في مباحثها وأقسامها؛ وهذه حالة جديدة، وظاهرة فريدة، في (الفهم الإجتماعي) للفكرة الإسلامية، منذ نشأت إلى الآن. . فكل ما كان من فهم لفكرة الإسلام، لم يعد تناول بعض جنباتها في شطحات مفككة، بين خطأ وصواب؛ أما سيد قطب فكان من الإسلام في عصرنا الحاضر، بمثابة العدسات المجمعة المكبرة. . المفرقة الموزعة، أو كان بمثابة المرآة الضخمة التي إنعكست لنا فيها الفكرة الإسلامية، واضحة ناطقة صافية معقولة، جذابة منطقية
ولعلني لا أعدو الواقع، حين أقول إن سيد قطب لو قدر له في إسلوبه، طبيعة السخرية(959/31)
والتورية، والإيماء والكناية؛ لفاق تأثيره تأثير (فولتير) في هزه للنفس البشرية، من داخل لا من خارج، وفي إشعاره لها بالكبت والضغط. . وإذن لأحتل سيد قطب في حيلته وفي عصره مكانة لا تقل عن مكانة (فولتير) في التاريخ. . ولدى المؤمنين بالحرية والإخاء والمساواة بعد مماته. ولكنني أعتقد أن سيد قطب ينأى بنفسه عن ذلك الجانب، ليوائم بين كتابه وحقيقة ما يكتبه عن الفكرة الإسلامية، التي لا تعرف الألغاز والمعميات، والتي لا تهرب من الضوء. وأعتقد أيضا أن الجامع مع ذلك بينه وبين (فولتير) هو أن كليهما في عصر ويلد مليء بالقلق، مليء بالتطلع، وأن كليهما خلص لفكرته، مؤمن بها في ميدنه، وأن كليهما متأثراً بعصره، شديد التأثر بزمانه وما بعد زمانه. . ورغم ما بينهما من تفاوت في المنهج والمنحى والطريقة، ورغم ما بين فكرتيهما من تباين في الأسس والأصول
وقد لا يقصر بي التعبير عن الواقع حين أقول: أن طبيعة الأستاذ سيد قطب ككاتب، طبعة مرنة لينة، تستجيب وتعي. . وتتأثر وتؤثر. في إسلوبه بساطة محببة أليفة، وسلاسة طبيعية غير كتكلفة، وفي إدائه دقة الكليات والجزئيات. . وفي تصويره براعة التناسق والتوازن، والتعادل والأنسجام. وإنك لا تكاد تقرأ الصفحة من كتابه، أو النهر من مقاله، حتى زتقسم بكل مقسم، أنك قد لمست من خلال السطور، رفرفة الروح، وحرارة العقيدة، وتظارة الفكرة، وأن سيد قطب يكتب حين يكتب، بكل جوارحه ومشاعره وأحاسيسه؛ وأنه يفنى فيما يكتب ويخلص لما يسطر، وأنه يتكلم من خلال السطور، في قسوة وفي رحمة. . بيديه ورجليه، وعقله وعاطفته
وهذه واحدة أخرى نذكرها في إجمال عن طبيعة مؤلفاته الإسلامية، وطريقة عرضها: بعد أن قدمنا طبيعته ككاتب، في إسلوبه، وفي تصويره، وفي إدائه:
قرأت للأستاذ سيد قطب في ميدان الفكرة الإسلامية، خمسة كتب: التصور الفني في القرآن. والعدالة الإجتماعية في الإسلام، ومشاهد القيامة في القرآن، ومعركة الإسلام والرأسمالية، وأخيرا هذا الكتاب الذي بين يدي (السلام العالمي والأسلام) وقد عرفت عن هذه المؤلفات عدة أشياء؛ تتركز في دقة التقسيم، وجودة العرض، والقدرة على الإستنباط والإستنتاج وعمق البحث وجدته؛ وتتمثل في بساطة وسهولة وسلاسة توائم سائر القراء من جميع الطبقات، رغم ما بها من تجنيح وتحليق، في تقسيماته واستنباطاته وإستنتاجاته؛ على(959/32)
جعبة مليئة بالعديد الدقيق من مألوف ألفاظ الإقتصاد والمنطق والطبيعة. كالسطح الساكن، وأخراهما متأججة ثائرة لا تلوي على شيء. . الطرف الأول في كتابه العدالة، والثاني في كتابه المعركة، وبن الكتابين وبين الطريقتين، أوساط عديدة تقف بين الوجه الهادي للنفس المتأججة، وبين الوجه الغاضب للنفس الثائرة، في مكان خاص بين الوجهين والطريقتين، وكتاب المؤلف الأخير أرب إلى الهدوء وإلى العدالة منه إلى المعركة، وإن كان الباب الأخير فيه، يميل إلى أن يكون وسطا متوازيا في عرضه وأدائه بين الكتابين، وبين الطريقتين
وقد كان بودي أن أتحدث عن كتبه كلها، ولما أكنه لها ولنتاجه وطريقته من تقدير وحب، لولا إنني في مجال الحديث عن كتابه الأخير، أو هذا هو ما فرضه علي الإعجاب والحب. ولا أعتبر أن ثمة إعتبارا من حبي وإعجابي يقف بيني وبين أن أقول للأستاذ سيد قطب على رؤوس الناس ما يود سائر القراء قوله له: لقد وضعت لبنات جديدة في (مكتبة القرآن) حتى كتابك (مشاهد القيامة في القرآن) رغم أن جودة العرض وحسن التقسيم قد هربا منه هروبا لم يخلف ورائه سوى مستنبطات ومستنتجات. . الحق إنها تستأهل الإعجاب والتقدير. والحق إنها تستأهل أن يكون بجوارها جودة العرض وحسن التقسيم، لتكون لها القيمة النشودة، والفائدة المرجوة
وعسير على الباحث، كما يقول المؤلف في كتابه (السلام العالمي والإسلام) - (البحث عن أي حقل من حقول الإسلام، دون الإلمام بفكرة اٌسلام الكلية عند الكون والحياة والإنسان. . فهذا الدين لا يعالج مشكلات الحياة أجزاء وتفاريق. . إنما هو يرجعها كلها إلى نقطة إرتكاز واحدة. . مردها إلى فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان) وفكرة السلام في الإسلام (تتصل إتصالاً وثيقاً بطبيعته وبفكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان) ومن أجل هذا يعقد المؤلف باباً خاصة بعنوان (طبيعة السلام في الإسلام) ويؤكد فيه أنه يجب أولاً وقبل كل شيء، ربط فكرة السلام بفكرة الإسلام الكلية عن الكون والحياة والإنسان رغم إنها ليست موضوع كتابه هذا كما لم تكن من موضوع العدالة. والؤلف يستهل ذلك الباب بقوله: (من هذا التناسق في طبيعة الكون، وفي ناموس الحياة وفي أصل الإنسان. تستمد طبيعة السلام في الإسلام. . فتيتند إلى أصل أصيل عميق، ويصبح السلام هو(959/33)
القاعدة الدائمة، والحرب هي الإستثناء). ولكن الإسلام (يستبعد الحروب التي تثيرها العصبية العنصرية) أو (العصبية الدينية بمعناها الضيق. . كراهية الأديان الأخرى) كما (يستبعد الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع: حروب اإستعمار والإستغلال والبحث عن الأسواق والخامات، وإسترقاق المرافق والرجال) ويستبعد أيضا تلك (الحروب التي يثيرها حب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، أو حب المغانم الشخصية والأسلاب). . فما هو ذلك النوع من الحرب، الذي يستثنيه الإسلام من قاعدته الدائمة: السلام؟
نترك ذلك للمؤلف في كتابه، كما نترك ما يطوف حول موضوع السلام والحرب في الإسلام من شبهات وظنون، ومخاوف وأقاويل
قد يسأل القارئ، لماذا وضع المؤلف ذلك الكتاب. .؟ ولمن يقدمه من الناس.؟ ونعتقد أن الجواب يدلي به المؤلف نفسه في أخريات الفصل المعقود بعنوان (العقيدة والحياة) الذي جعله مطلعا لكتابه، حيث يجيب في أخرياته من ثنايا قوله (ولقد كنا نتجنى على عقيدتنا الضخمة. . أنها لا تسعفنا بالحلول العملية امواجهة الحياة العصرية ومشكلاتها وبخاصة في الحقل الإجتماعي والحقل الدولي. فأما الحقل الإجتماعي فقد صدرت فيه عدة مؤلفات تكشف الحلول العملية التي يملك الإسلام أن يوجه بها الحياة. . وأما الحقل الدولي، فربما كان العمل فيه قليلاً، ولم تشرح هذه الناحية بعد شرحاً كافياً، وأمامنا اليوم مشكلة السلام العالمي التي تواجهها البشرية جميعاً. ونواجهها نحن ضمناً. فهل للإسلام فيها رأي؟ ولها عنده حل؟
هذا الكتاب كله هو الإجابة التفصيلية على هذا السؤال. . وفي سبيل هذه الإجابة، وفي سبيل تحديد (طبيعة السلام في الإسلام) وتفصيلها، يقيم المؤلف هذه الطبيعة، ويشيد ذلك السلام، ويبني كتابه على عمد أربعة (سلام الضمير، وسلام البيت، وسلام المجتمع، وسلام العالم) فبدون واحد من هذه العمد لا يتحقق اللام في نظر الإسلام، بل ولا يستقيم للآخر موقف، ولا يستقر له مكان (فالإسلام يبدأ محاولة السلام أولا في ضمير الفرد، ثم في محيط الأسرة. . ثم في وسط الجماعة. . وأخيرا. . يحاوله في الميدان الدولي بين الأمم والشعوب)
وفي سبيل (سلام الضمير) حيث (لا سلام لعالم ضمير الفرد فيه لا يستمتع بالسلام) وفي(959/34)
سبيل (سلام البيت) حيث أن (الفرد الذي لا يستمتع بالسلام في بيته) لن يعرف للسلام قيمة، ولن يتذوق له طعماً، ولن يكون عامل سلام، وفي أعصلبه معركة، وفي نفسه قلق، وفي روحه إضطراب) وفي سبيل (سلام المجتمع) حيث (تتشابك المصالح، وتتزاحم الدوافع، ويكثر الشد والجذب، والأخذ والعطاء) وفي سبيل (سلام العالم)
. . . في سبيل كل ذلك
يستعرض المؤلف الوسائل والأسباب، ويستكشف السبل المؤدية في الإسلام إلى (سلام الضمير، وإلى سلام البيت، وإلى سلام المجتمع، وإلى سلام العالم) على قيود النظر الإسلامية إلى الفرد والجماعة (فالفرد والجماعة في الإسلام ليساعدوين ولاندين، إما هما خلية واحدة في صورتين: الفرد فرداً، والفرد مشتركا في جماعة، وقد نشأت هذه الصورة من طبيعة الإسلام وإستمداد شريعته من الله لا من إنسان، فالفرد لا يشرع للجماعات في الإسلام، والجماعة لا تشرع للأفراد، إنما يخضع افرد، وتخضع الجماعة، لذلك القانون الألهي الذي يرعاهم جميعاً، وحينما يتقرر ذلك يصبح أمن الفرد الشخصي هو أمن الجماعة الكلي، وأمن الجماعة العام هو أمن الفرد الخاص، بلا تعارض بينهما ولا إنفصام
ثم يعقد المؤلف فصلاً آخر أو باباً ختامياً بعنوان (والآن. . .) يتساءل فيه عن طريقنا نحن الأمة المسلمة.؟ وكيف نواجه مسألة السلام العالمي بعقيدتنا اٌسلامية. وكيف نتصرف في المجال الدولي طبقاً لهذه العقيدة، وما واجبنا تجاه الحياة. . وتجاه الإنسانية. . . وتجاه أنفسنا؟ وقبل أن يجيب الأستاذ يأخذ في إستعراض الحالة الدولية، بما يقوم فيها من صراع، وبما يشتجر فيها من مذاهب، حتى يخلص بنا إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، وإلى (طريق الخلاص) الذي نترك كتابه يتحدث عنه في واقع منطقي يعلو على الشك وعلى الجدال
ذلك هو كتاب الكاتب الداعية الأستاذ سيد قطب، حاولت جاهداً أن أجمل فكرته للقراء في تلك السطور
وبعد فالكتاب يقع في 180 صفحة من القطع المتوسط، ويتمتع بكل الخصائص الممكنة لمؤلفه، أما ما حدث فيه من تكرار لبعض ما ورد فيه من كتابه العدالة، مما قد يؤدي إلى إذهاب بعض جدته، فلعل السبب هو التشابك والتماسك في كليات الفكرة الإسلامية وجزئياتها، تشابكا يرغم الباحث على التطرق لكل ما يجاور مبحثه المطروق. والكتاب(959/35)
أيضاً كتاب فريد في شموله وتكامله، وما نزال في إنتظار كتابه التالي (نحو مجتمع إسلامي) متحضر، لأنه (كمحاولة للقيام بدراسة وافية لمقومات المجتمع الأسلامي ودستوره كما يمكن أن تكون في القرن العشرين) يعد أقرب الخطوات الفكرية والكشفية لطريق العمل الجدي المنتج. وللوقت السانح للوحدة الإسلامية، فإلى ذلك الحين. . . وإلى ذلك الحين
محمد فياض(959/36)
مسمار جحا
تعقيب على نقد
للأستاذ علي أحمد باكثير
أطلعت في العدد الفائت من هذه المجلة الغراء على المقال القيم الذي كتبه الصديق الكريم الأستاذ أنور قتح الله في مسرحية (مسمار جحا) فرأيت من واجبي أن أعقب على بعض المآخذ التي أخذها على المسرحية، شاكراً للناقد الفاضل جميل عنايته وأهتمامه
المأخذ الأول: أن المؤلف قد أذاع سر مؤامرة جحا وحماد قبل عرض قضية المسمار، وبهذا قضى على عنصر التشويق في أهم أحداث المسرحية. ألخ. . .
وأنا أوافق حضرة الناقد على أن في الإمكان طي مدة المؤامرة وإخفاءها حتى تعرض القضية في الديوان، وإذا لكان عنصر التشويق إلى معرفة جوهر المؤامرة أقوى، ولكني أخالفه في زعمه أن هذا قد أضاع الأثر القوي لهذا المشهد الذي يرمز لقضية البلاد، وذلك لأن جوهر المؤامرة ليس هو الأمر المهم الذي يريد المؤلف أن يوجه إليه أنتباه المشاهد للمسرحية، فأهم من ذلك الكيفية التي تم بها تنفيذ هذه الخطة. ولا شك أن في هذا الأمر الأخير من الجدة والطرافة ما لا يؤثر معه إنكشاف جوهر الخطة في خطواتها الأولى. وحيث أن مشهد الديوان الذي عرفت فيه هذه القضية يكاد يكون رمزياً كله فلا بأس من التمهيد لذلك في الصورة التي تعرض بها المسرحية على خشبة التمثيل، حتى لا يكتنفه الغموض فيضيع بذلك من الأثر القوي لدى المشاهدين أكثر مما يضيعه هذا التمهيد، أما الصورة التي تطبع بها المسرحية في كتاب فسيرى الناقد أن المؤلف قد إقتصر في إبراز سر المؤامرة على بعض التلميحات بحيث يجلو الغموض ولا يجور على عنصر التشويق
المأخذ الثاني: يرى الناقد أن دخول إمرأة جحا في مشهد القضية قد أخمد من حرارة الأثر النفسي. . فأبطل فعل الأحداث السابقة لدخولها. . . ألخ. . .
للرد على هذا أقول إن دخول إمرأة جحا كان أساسيا، ولا غنى عنه لعدة أسباب
1 - أن أم الغصن طرف ثالث في هذا النزاع لا يمكن إغفاله؛ وإلا لتسائل المشاهد ما موقفها بعد خروجها من الدار، فضلاً عن إن ذلك يجلو جوانب شخصيتها، فهي لا تستحي أن تبرز إلى الناس وأن تسفه زوجها أمامهم، ولا تقيم وزناً للهدف القومي الذي يرمي إليه(959/37)
زوجها، والذي إهتم به الشعب كله؛ إذ ما كان يعنيها إستياؤها من إنتقالها من دار كبيرة إلى دار صغيرة، فهي هنا رمز لذلك الصنف من الناس الذين يؤثرون المغنم الصغير إذا كان خاصاً بهم؛ على المغنم الكبير إذا كان عاماً للوطن كله
2 - أن ذلك أيضاً يجلو جانباً من شخصية جحا، فهو أيضاً لا يستحي من شيء ولا يرى بأساً من أن يكشف دخائل بيته للناس، لثقته أن ذلك لا يغض من قيمته عند نفسه شيئاً ولأعتقاده في قرارة نفسه أنه هو وأهله وعياله ملك الشعب، وهذا عنصر هام في تكوين هذه الشخصية
3 - أن دخول أم الغصن قد خدم غرضاص هاماً في سير حوادث المسرحية، إذ تم من خلاله تحول غانم (صاحب الدار) من التشدد إلى التسامح البالغ لما رشاه الحاكم محاولاً بذلك أن يئد القضية في صورتها الواقعة، وأن يحولها لصالحه ويجعلها تؤيد حجتها في رمزها الكبير
4 - فلا ينبغي لهذا الحادث أذا أن يبطل فعل ألاحداث السابقة له كما زعم الناقد. وقصارى الأمر أنه يحبس الأثر مؤقتا عن صعوده في الخط الرأسي ليتسع ويتمدد في خط أفقي ثم يستأنف الصعود إلى الأوج في كتلة أعظم وأضخم
المأخذ الثالث: أن مشهد مقابلة الحاكم لجحا في السجن كان طويلاً حتى أصبح الحوار مباشراً بعد أن كان رمرزيا، ومال إلى النغمة الخطابية. . . ألخ. .
وردي على هذا أن الطول والقصر نسبيان، والطول لا يعاب إلا إذا لم يأت بجديد، وما أحسب المشاهد يمل تلك الصور المتنوعة من نكات جحا التي يجمعها - على إختلافها وتنوعها - سلك واحد أمكن من خلاله عرض الخطوط البارزة في في مراحل الصراع بين الحكم الدخيل والشعب، أما الرمزية فالواقع أنه لم يعد لها مكان في هذا المشهد بعدما صار الصراع بين جحا والحاكم صريحا مكشوفا، ومع ذلك فقد إحتفظ المؤلف بقدر كبير من رمزية التعبير بحيث تتسع العبارات لأكثر من الصورة الواحدة التي هي صورة الواقع، فكانت دلالتها بذلك أعم وأشمل، وأما النغمة الخطابية فلم تكن إلا في مواضع خاصة لا تصلح فيها غير هذه النغمة لتساوق الحالة النفسية التي عليها جحا أو الحاكم في تلك الحظات؛ وإلا كانت إفتعالاً غير سائغ ولا مقبول(959/38)
المأخذ الرابع: يرى الناقد أن تنتهي المسرحية في نهاية المنظر الخامس، إذ بخروج جحا من السجن وجلاء المستعمر عن البلاد تنتهي الأحداث الرئيسية للمسرحية
وهذه النقطة أختلفت فيها آراء النقاد. . فمنهم من ذهب مذهب الأستاذ أنور، ومنهم من خالفه، ومن هؤلء الأستاذ زكي طليمات مخرج المسرحية الذي يرى أن ختامها ختاماً قومياً سيكون أقل روعة - من الناحية الفنية - من ختامها الإنساني الذي يصور في بيت جحا أفراح الشعب بعد إنقشاع ظل الإحتلال البغيض، كما يصور كيف إنتهى الخط الثاني وهو الصراع بن جحا وإمرأته في مسألة زولج ميمونة
وخاصة إذا أستحضرنا في أذهاننا أن هذا الخط وإن أمكن إعتباره ثانوياً بالنسبة إلى خط الصراع بين السعب والمحتل الدخيل. . إلا أنه هو الخط المستمر في بداية المسرحية إلى نهايتها فهو - بهذا الأعتبار - الخط الرئيسي في بناء هيكلها ومن خلال حوادثها تولد خط الصراع الآخر. أما أنا فقد ترجحت زمنا بين هذين الرأيين إلى أن إستقر رأيي في النهاية على أنه لا باس في الصورة التي تعرض بها الرواية على المسرح من هذا الختام القومي الذي يقترحه الناقد، وذلك مراعاة للظروف الراهنة فقط
أما في صورتها كتاباً يخرج للناس فلا غنى عندي من المشهد السادس
المأخذ الخامس: أخذ الناقد على شخصية أم الغصن على إنها قليلة التطور وإنها على لون واحد. وجوابي على ذلك أن أم الغصن الشخصية المحورية في المسرحية. والشخصية المحورية تكون في الغلب مكتملة وناضجة في بدء الرواية، وقلما تتطور كما نص على ذلك صاحب كتاب وإني أخالف الناقد في قوله إن ذلك أدى إلى ركود في الحركة المسرحية. والذي خبرته بنفسي أن المشاهد بعدما عرف أم الغصن من المشهد الثاني كان دائما يستطيع أن يتنبأ بما ستتصرف به في مختلف المواقف والأحداث اللاحقة ولكن دون أن يفقد تشوقه إلى مشاهد ذلك. وتلك طبيعة الشخصية المحورية التي بغيرها لا يمكن أن توجد مسرحية على الإطلاق
المأخذ السادس: أن المؤلف أبرز أبن جحا (الغصن) أبله في أقواله وأفعاله، وأقتصر على إبراز هذا اللون الواحد في كل مشهد ظهر فيه، فهو يبحث عن ديكه ثم يتخيل أنه ذبح فيبكيه، وهو ينقلب ديكاً. وبهذا التكرار أبطل المؤلف الأثر الذي أراده لهذه الشخصية وهو(959/39)
إثارة الضحك
وردي على هذا المؤلف لم يخلق هذه الشخصية لمجرد إثارة الضحك، بل إنها تنطوي على سيكولوجية دقيقية تجعلها طرازا جديدا في الشخصيات، فهذا البله الذي يتصف به الغصن بله معقدا أشد التعقيد، فهو قد ورث عن أبيه خيالاً خصبا واسعا ولكنه لم يرث عنه عقله وحصاته، فلم يكن لخياله الجامح من شكيمة تكبحه وتجعله ينتفع به في معالجة شؤون الواقع، فكان ذلك المسخ العجيب الذي يجمع بين النقيضين من ذكاء وبلاهة. والأمثلة على ذلك كثيرة في الرواية. وهذا الأقتصار على اللون الواحد وهو إهتمامه بديكه الضائع (عرجون) أمر ضروري لمراحل التطور النفسي لهذه الشخصية العجيبة. ثم إن هذا اللون الواحد لم يلزم صورة واحدة، بل مر بأطوار سيكولوجية مختلفة. وبيان ذلك أن هذا الأبله المغفل - فيما يرى الناس - قد أحس - لا شك - مرارة السخرية ممن حوله، فلم يكن بدعا أن يألف ديكه عرجون ويعتبره حبيبه الوحيد في هذه الدنيا لأنه هو الوحيد الذي لا يسخر به. . هذا هو الطور الأول، ثم أتفق أن ضاع الديك فحزن عيه وتخيله ما أصابه من اللصوص الذين سرقوه. . من سلخ وذبح وطبخ وأكل كأنما يرى ذلك بعيني رأسه فبكاءه أشد البكاء وشغله همه بالديك عن كل ما يضطرب حوله من الأحداث الكبيرة كعزل أبيه من منصبه وكقدوم الجراد، وهذا هو الطور الثاني. ثم إنتقل أبوه إلى بغداد وصار قاضي القضاة فسلا الغصن ديكه بعض السلوان، غير أن حزنه على الديك العزيز ما برح مستكنا ً في أعماق نفسه ينتظر أي سبب ليثيره من جديد. وقد جاء هذا السبب لما خرج ليلعب مع رفاقه في الشارع؛ إذ جره هؤلاء الرفاق إلى دخول الحمام ليحتالوا عيه فيكلفوه دفع أجرة الحمام عنهم جميعاً، فأوهموه بتلك الحيلة الطريفة أنهم قد أنقلبوا دجاجاً. وهنا يحار الغصن ويقع في ورطة لأن أمه قد حذرته من إخراج الفلوس التي معه لأي سبب من الأسباب، وإذا خياله الجامح يسعفه بالمخرج إذ خيل إليه حين وقف إلى المرأة أنه أنقلب ديكاً فهو مثلهم لا يستطيع الآن أن يدفع الأجرة. ولا شك أن لعقدة الديك المستكنة في نفسه أثراً في ذلك. . فها هو ذا عرجون رجع إلى الحياة في شخصه هو فهو إذن سعيد. وهذا هو الطور الثالث طور الناقص الذي لم يدم طويلا إذ جاء حماد فحله
ثم يحبس أبوه فيحزن لذلك لأن أباه كان شديد العطف عليه، ولم يسخر منه قط، فأتحدت(959/40)
صورة أبيه في نفسه بصورة الديك. ومن ثم رأى تلك الرؤيا العجيبة التي قصها على أبيه في سجنه. إذ رأه كأنه أنقلب ديكا ً كبيراً وكأنه ضمه بين جناحيه وقال له: لا تخف يا غصن. أنا ديكك عرجون قد هبطت من الجنة لأراك، فهذا هو الطور الرابع
وبئس الغصن من عودة عرجون إلى الحياة: سواء في شخصه هو أو في شخص أبيه، فأوحى له خياله أنه يصنع تمثالاً ليجسده فيه. وهذا هو الطور الخامس والأخير الذي إنتهت عنده المسرحية. على أن الغصن بالرغم من هذا التعقيد قد أضحك الناس فيما أرى خلافاً لما زعمه الناقد
وفي الختام أشكر لصديقي الجليل أن أتاح لي الفرصة لكتابة هذا التعقيب
علي أحمد باكثير(959/41)
البريد الأدبي
اللغة الأجنبية في مرحلة التعليم العالي بمصر:
يجبنا دائما ما نقرئه للأستاذ (عباس خضر) بالرسالة الغراء في توجيهاته القيمة ونقداته الهادئة في كل إسبوع. . وقد كانت كلمة (اللغة الأجنبية الأولى) برسالة 29 نوفمبر سنة 951 موفقة كل التوفيق في غرضها وموضوعها - وحسبها تهايتها التي نصها: (. . إن الإنجليزية في وصفها الحالي بمصر من آثار الإستعمار الإنجليزي الكريهة. . وإن الإنجليز يسوءهم أن نزحزحها عن مكانتها فيجب إذن أن نزيل ذلك الأثر المنتن، وأن نسوء الإنجليز في لغتهم كما نسوءهم في غيرها. . والوقت الحاضر هو أصلح وقت لهذه الضربة القاصمة التي ترضى الشعور الوطني وتنال من الأعداء وتنفع من البلاد. . فهيا أيها الجل العظيم إضرب الضربة)!. .
ولقد عملنا نحن معلمي المرحلة الأولى للتعليم في مصر كل ما في استطاعتنا حتى تهيأ لوزارة المعارف أن توحد المنهج في التعليمين الأولى والأبتدائي سنة 1948 ما عدا اللغة الأجنبية البغيضة التي إنفرد بها الأخير!! - ثم أراد الله أن نضرب هذا التعليم الضربة القاصمة أو بالأحرى ندحر اللغة البغيضة بأبناء الفلاحين الحفاة العراة الذين لم تلوثهم رطانة الأعجمية بتفوقهم الباهر في إمتحان الإبتدائية سنة 1950 - فقد تفوق أطفالنا في بطون القرى وبين ثنايا الكفور على زملائهم في عواصم المدن وأقاصي الثغور!! مع الفارق الكبير بين إعداد هؤلاء وهؤلاء في جميع النواحي الفنية والإجتماعية. . والوطن واحد وامواطن واحد!!
ولقد آمن معالي الوزير الخطير طه حسين باشا بالمعلم الأول في مصر وأصدر منذ إسبوعين قراراً وزارياً بتسمية المدارس الأولية الحالية (مدارس إبتدائية) - ولكن القانون الجديد للمرحلة الأولى أبقى اللغة الأجنبية في تلك المدارس. . مع أننا قرأنا في معظم الدول المتمدنة لا يتعلم الطفل في المدارس الإبتدائية غير لغته الوطنية. . وأما تعليم لغة أجنبية فيبدأ عادة بالمدارس الثانوية، وذلك مراعاة لمدارك الطفل في سنيه الأولى وعدم ' رهاق ذهنه. .
فهل ستكون لكلمة الأستاذ (عباس خضر) لدى معالي الوزير الوطني صداها؟(959/42)
خورشيد عبد العزيز
إلى الشعراء:
إلى الأستاذ محمود غنيم، ومحمود حسن إسماعيل، ومحمد عبد الغني حسن، ومحمد الأسمر. إلى هؤلاء أولا ثم إلى بقية شعرائنا ثانياً. . إلى هؤلاء جميعاً أسوق هذه الكلمات لعلهم لم يسمعوا لأنهم يعيشون في المريخ، أو لعلهم قد سمعوا ولكنهم قد شغلوا عنا بروعة المناصب وسمر الليالي الملاح
يا شعراء النيل: إريقت في (القنال) دماء، وأزهقت في (الأسماعيلية) أرواح، وتمزقت في (بور سعيد) قلوب وأكباد، فثارت نفوس الشغب وفارت الدماء في عروقه وشرايينه، وسلت السيوف في أغمادها لحماية الأرواح الغالية والدفاع عن الحق المهضوم والعرض المنتهك، ونزل إلى ساحة الإستشهاد أبطال وأبطال، وهتف كل باللغة التي يعرفها، وتكلم الشعب بالمنطق الذي يجب أن يكون. . وفي غمار هذه الثورة المندلعة، والحماسة المتدفقة، والأصوات المجلجلة الرهيبة، أرهفنا آذاننا نريد أن نسمع صوت شاعر منكم. قد تجاوبت أصداء هذه المحنة في أنحاء نفسه وحنايا ضلوعه فهزت شاعريته بنشيد يردد أو قصيدة تغنى. . فما وجدنا غير الصمت والصمت العميق. .! إذن فأين تقال القصائد وفي أي مجال تلقى وتنشد؟. ياشعراء الوادي! إذا كان كفاح هذا الشعب في سبيل حريته غير كفيل بإثارة الشاعرية في نفوسكم وإلهاب عواطفكم ووجدانكم. فلا نطقت ألسن الشعراء في غير ذلك. .! ألا حيا الله صاحب (الرسالة). . لشد ما يرجع قلمه صدى صوت الجماهير الكادحة. والنفوس الأبية المكافحة. فيرسل كلمات صارخات تبض بالقوة وتفيض بالإيمان. . وبارك الله في أستاذنا (سيد قطب) مسعر هذه الثورة بقلمه، ومذكي أوارها بعزيمته وإخلاصه. . ورحم الله (علي محمود طه) ذلك الشاعر الخالد الذي إنبعث صوته في الأسبوع الماضي من العالم الآخر يبارك حهاد الأمة، ويمجد كفاح الشعب. . وصدق الأستاذ المعداوي حين قال: (واليوم حين تبلغ المعركة أوجها يتخلف عن الإنشاد شعراؤنا الأحياء. . ترى هل أنتم كما قال المعداوي!؟
هارون لمنيفي(959/43)
كيف نشأ إمام المعبد
بينما كنت أتجول في صفحات الرسالة الغراء في العدد 958 وقع نظري على مقال للأستاذ (محمد رجب البيومي) تحت عنوان (محمد إمام العبد) ولما كنت أعهد في الأستاذ الفاضل رونق العبارة، وسلاسة الأسلوب، جعلت أمتع نظري بين سطور المقال مستهاماً بنفثة قامه البارعة
ونحن نشكره على هذه النفثة الجليلة التي أحيا بها تاريخ هذا الشاعر الحزين، الذي أرخى الدهر عليه ستاراً من النسيان
ولكن فاته شيء كان لزاماً عليه أن يذكره، كان يجب عيه أن يذكر نشأته الأولية، وهل هو أكتسب الأدب من طريق التعليم؟ أو بطريق آخر؟ أو ألهم هذا الفن، أو هل هذا في عرف الأدباء ليس بالشيء. .؟
ولما كان (إمام العبد) يكاد يكون مجهولاً، كان الأولى أن يكون المقال حافلاً بتاريخه مبتدئاَ من نشأته إلى نهايته. ليكون القارئ ملماً بتاريخه وأدبه. . .
وللأستاذ الفاضل شكري وإعجابي
محمد فتحي الجعلي
شوقي والرصاقي أيضاً
تحت هذا العنوان وفي تعقيبات صديقنا المعداوي بعدد الرسالة (953) أدهنا مقارنة أدباء العراق بين شوقي والرصافي وتقديم الثني على الأول كما أورد ذلك صديقنا الناصري
أنجبت مصر شوقي وحافظ ومع أنهما شاعران مصرييان فقد كاد الإجماع يكون منعقداً في مصر والأقطار العربية كلها على تقديم شوقي على حافظ ولم يشذ عن ذلك إلا فئة قليلة في مصر
وعندما رثي الزيات صديقه الرصافي - برد الله ثراه - في الرسالة الغراء غداة منعاه؛ أذكر أنه أعتبر خامس خمسة تكونت منهم (قيثارة الشعراء العربي الحديث) وإذا خانتني الظروف فعز علي أن أ ' ثر على ذلك العدد من الرسالة فلن تخونني الذاكرة في إستذكار ما قرره الزيات آنذاك. . حيث شبه أولئك الشعراء الخمسة الراحلين بأوتار القيثارة. فقارب(959/44)
بين شوقي والزهاوي، وشابه بين حافظ والرصافي، وأفرد المطران، وتقسيم أستاذنا الزيات أدنى الأنصاف بحيث تكون المقارنة بين شوقي والزهاوي أكثر مناسبة منها بين شوقي والرصافي. نقول ذلك وإن منا لا نجد مبرراً لهذه المقارنة ولا مجال لها إلا لإذا وضعنا في الكفة المعادلة لكفة شوقي شاعراً كالمتنبي والمتنبي فقط، لا إبن الرومي ولا أبا تمام الذين زكاهما للمقارنة صديقنا المعداوي - مع تقديرنا لآرائه في النقد - ورحم الله شوقي القائل: -
ولي درر الأخلاق في المدح والهوى ... وللمتنبي درة وحصاة
ثم لماذا ينجح إخواننا العراقيون إلى هذه الإقليمية البغيضة ويتهمون الرسالة وعهدنا بها منذ أن عرفناها لا تفرق بين أوطان العروبة، بل بعكس ذلك، فإن كتابها ينادون دائماً بإزالة هذه الفوارق الوهمية القائمة في بعض الأذهان! حبذا لو اعتبر العراقيون شوقي شاعرهم وشاعر الأقطار الشقيقة الأخرى قبل أن يكون شاعر مصر. . لأن الشوقيات تغنت بأمجاد تلك الأقطار أكثر من تغنيها بمجد مصر. ولعله من القوق لشوقي الذي أنكر الإقليمية في وطنه العربي الكبير أن ننظر إليها من زاويتها الضيقة المظلمة
جعفر حامد البشير(959/45)
الدم القدس
للقصصي الشاب محمد أبو المعاطي أبو النجا
كان (صلاح) يستخفه الزهو أحياناً وهو يقطع الطريق من المدرسة إلى بيته، فيقفز في مرح طافر، أو يضرب بقدمه حجراً صغيراً في الطريق، أو يصفر بصوته اللين الغض لحن أغنية سمعها من (الراديو). . .
والواقع أن (صلاح) لم يشعر بالزهو مثلما شعر به اليوم. . لقد كان يتحرق شوقاً إلى مغادرة المدرسة منذ إنتهاء الحصة الأولى، أو بعبارة أدق منذ سجل الأستاذ في كراسته بقلمه الأحمر تلك العبارة الخالدة (حسن جداً). . . ولكنه لم يتمكن من الخروج. . ذلك أن عمي (متولي) البواب لا يسمح لأي تلميذ بالخروج قبل إنتهاء الحصة الأخيرة. . ولأن جسمه الغض اللين لا يساعده على تسلق سور المدرسة المرتفع. . . فكان عليه أن ينتظر ساعات وساعات حتى يدق الجرس الأخير. ولكن. . . ولكن جلبة تسمع في فناء المدرسة، وهتافات تخترق النوافذ المقفلة وتصل إلى إذنيه: يسقط الإستعمار الغاشم! يسقط الإنجليز الخونة. . . فيعرف بحكم العادة أنها مظاهرة. وبحكم العادة أيضاً يقفز فوق القماطر نحو باب الفصل الذي ضاق إذ ذاك بالتلاميذ المتزاحمين حياله. . . ثم يمضي في الفناء تجاه باب المدرسة المفتوح، ثم يلقي نظرة كلها تشف وشماتة إلى عمي (متولي) الذي لا يملك من أمر نفسه شيئاً أيام المظاهرات. . ثم يخرج إلى الشارع لا يلوي على شيء. . وما له هو وهؤلاء الطلبة المتجمهرون إزاء النصب التذكاري بالمدرسة؟ إته لا يكاد يفهم الكثير مما يقوله الطلبة الكبار وهم يخطبون، فهو لا يزال في الثانية الأبتدائية. . ثم ماذا يهمه من اإنجليز ما داموا لا يأخذون منه شيئاً ولا يحولون بينه وبين رغبة من رغباته، ولا بين أمنية من أمانيه؟
هو لا يفهم لماذا لا يفهم الطلبة بسقوطهم ما داموا لا يتعرضون لنا بالأذى؟ إنه يراهم يقطعون طرقات المدينة أحياناً في عرباتهم لا يكادون يتعرضون لأحد! ومهما يكن من شيء فهذا كله لا يهمه من قريب أو بعيد، حسبه أنه ألآن في الطريق إلى بيته. . وأنه ذاهب إلى أبيه. . وأنه سيقف أمامه مزهواً ويعرض عليه كراسته مشيرا ً في إعتزاز إلى تلك العبارة الحمراء التي تدفع به إلى صفوف التلاميذ النجباء. . وإذ ذاك يجد أن من حقه(959/46)
أن يطالب أباه ببذلة جديدة؛ فهذا (الشورت) الأصفر وذاك القميص (الكاكي) لا يصلحان مطلقاً لطلبة السنة الثانية الأبتدائية، ثم هذه الريشة. . شد ما يسره أن يجد مكانها قلما من الأبنوس، فهذا وحده هو الذي يلائم السترة الجديدة. . ثم هذه الحقيبة التي صنعتها أمه من القماش ليحمل فيها الكتب. . إنها تكاد تكون الوحيدة بين حقائب التلاميذ الجلدية الفاخرة!
يا له من يوم ذلك الذي يلبس فيه السترة الجديدة وقد ظهر من جيبها طرف القلم الأبنوس وهو يحمل في يده الحقيبة الجلدية الفاخرة ويسير في خطوات مدلة بين التلاميذ!
وأسرع في خطواته حين رأى في الطريق رجلاً يشبه أباه إلى حد كبير حتى لقد ظنه إياه. . وحين إقترب منه أدرك أنه ليس أباه. . وتأكد من الفارق بين هذه الرجل وبين أبيه. . إن أباه يتميز بتلك الأبتسامة الحنون المشرقة التي ترف على ثغره حين يرى وحيده (صلاح)، وبتلك النظرة الحانية الرفيقة التي تزف إلى قلب صلاح أبهج المشاعر وأنضر الأحاسيس. .!
وشعر بسعادة خفية تتسرب إلى وجدانه حين تذكر أباه. . وراح في شرود لذيذ يستعرض بعض الصور في كتاب الذكريات. .!
أنه يذكر أن أباه أخذ مرة إلى المصنع الذي يعمل به، وأن مدير المصنع إستدعاه يومذاك إلى مكتبه، وأنه إصطحبه إلى المكتب. وحين خرجا معاً من مكتب المدير بادر صلاح أباه:
- أرأيت مكتب المدير يا أبي؟ إنه جميل. أرأيت صورة الملك المعلقة على الحائط؟. إنها كبيرة وأنيقة. . .
ويذكر أن أباه رد على تساؤله في صوت حنون حالم. . . أرجو أن أعيش حتى أتمم تعليمك وأراك موظفاً كبيراً تجلس إلى مكتب كبير. . . ثم تابع وهو يربت على كتفه. . . وفوق رأسك صورة للمليك! وهل في مقدوره أن ينسى تلك السهرات الجميلة في مقهى الدنيا الجديدة في أمسيات الجمع. . . لقد كان أبوه يصطحبه في تلك الأمسيات ليسهر معه؛ وإذ ذاك يشتري له من أنواع الحلوى وطرائف اللعب ما يشيع في نفس صلاح الغبطة والمسرة. . . حقاً إن أباه يحبه وأنه سوف يسر كثيراً حين يقرأ تلك العبارة الحمراء التي يحس صلاح كأنها تاج غير منظور يتألق على جبينه. . . وأسرعت خطواته حين إقترب من البيت. . . وقرر في نشوة خفية أن يقرأ تلك العبارة الحمراء إذا كان أبوه لم يحضر(959/47)
بعد. . . لا شك هي الأخرى تسر ذلك. . . ولاشك أيضاً أنها سوف تكون عوناً له حين يطلب إلى أبيه ما يرغب من حاجات!
وأستغرقه شعور سعيد جعله يسير في هدوء كأنه يحلم. . . وأخيراً قدر له أن يستيقظ من حلمه. . . حلمه الجميل الذي حلق في سمواته بجناحي أبويه. . . كان ذلك حين تناهى إلى سمعه صوت صراخ وعويل. . . وحين تنتبه إلى أن هذا الصراخ والعويل إنما ينبعثان من داره. . . وحين أدرك في هذه الأصوات الجازعة صوت أمه!
جمدت قدماه فلم يستطيع أن يدرك ماذا حدث، ولا أن يفهم ماذا هناك!!
كانت هناك جموع حاشدة من الناس تهرع نحو الدار، وكان بين تلك الجموع رجال الإسعاف والبوليس، ومع ذلك فلم يستطيع صلاح أن بنقل قدميه خطوة واحدة تجاه البيت. . . كان بشعر بإعياء شديد يتسرب إلى حناياه وأوشكت جموع الناس المتزاحمة أن تلقي به إلى الأرض لولا أن يداً رفيقة تمتد إليه، ووجهها رحيماً يعطف عليه. . ويأخذ بيده من وسط الجموع المتدافعة. . . ولم ينظر إلى صاحب الوجه الرحيم حتى عرف فيه عم (فهمي) زميل أبيه في المصنع وجليسه في المقهى. . . لقد أنتحى به مكاناً خالياً وأنهى إليه في إشفاق بالغ أن أباه قد مات. . . قتله الإنجليز برصاصهم حين كان يهتف مع العمال المتظاهرين. . . ليسقط الإستعمار. . . لتسقط إنجلترا. . . وأنه كان معه حين لقى ربه. . . وأنه أوصاه عليه قبل أ، يلفظ النفس الأخير. . وراح يؤكد له وهو يجفف دموعه بمنديل أنه سيكون له مكان أبيه!
أما (صلاح) الصغير فقد لفه الصمت في غلائم الوجوم، وأنتابه ذهول غريب جعله لا يدرك الأشياء من حولهإلا
بالقدر الذي أدركها بها محموم أمضه المرض وأنهكه الألم، وقضى شهوراً طريح الفراش. . .!!
وظل هذا الذهول الحاد الذي كان له بمثابة المخدر الذي يحقن به المريض قبل إجراء جراحة له. . . ظل هذا الذهول مهيمناً عليه. . . إلى أن ترامى إلى مسمعه صوت مألوف لديه. . . صوت زملائه الطلبة وقد توافدت جموعهم نحو بيت الشهيد المصري الأول وهم يهتفون بصوت رهيب (إلى الجنة يا روح الشهيد الطاهرة. . وإلى الجحيم يا أوباش(959/48)
الأرض وحثالة الأمم)
ألم تكن محموماص يوماً وأفقت من هذيان الحمى حين لامست أنامل الطبيب الباردة جبينك المحرور. . . وكانت تلك هي حال صلاح حين أفاق من ذهوله الحاد وصوت زملائه الكبار يعلو كالزئير. . .! وبدأ يشعر بالأشياء كما هي. . أدرك أن أباه قد مات. . . وأنه كان يهتف لمصر حين إنطلقت رصاصة غادرة تحاول بصوتها البشع أن تسكت صوت أبيها الجميل. . .!
وبدأ قلبه الصغير يستقبل المشاعر والأحاسيس ظاهرة واضحة لا يكتنفها الذهول والغموض. . . أجل كانت ظاهرة واضحة كأنها النار. وكانت لاذعة حارة كأنها الشوك. . .
وبدأ جسمه الصغير يتلوى في قبضة المشاعر، والأحاسيس. .!. . . أوه. . . إنه الآن يشعر شعوراً مريراً بأن هؤلاء الأنجليز. . . وحوش قذرة. . . أجل لأنهم قتلوا أباه في حين إن الوحوش الأخرى الكثيرة التي تملأ الحقول والصحاري والكهوف لم تحاول أن تقتله! وبأنهم لصوص حقراء. . لأنهم سرقوا منه البذلة الجديدة والقلم الأبنوس والحقيبة الجلدية الفاخرة. . وسرقوا منه أيضاً. . السهرات الجميلة في مقهى الدنيا الجديدة، والأمل الحلو النضير الذي أنعشه أبوه في خياله. . الأمل الذي يرى فيه نفسه موظفا ً كبيراً يجلس إلى مكتب كبير
إن هؤلاء اللصوص لم يسرقوا منه كل ذلك فحسب؛ بل سرقوا شيئاً آخر. وهنا إرتجفت أنامله الصغيرة وإرتعش جسده الغض. . شيئاً آخر لا يدري كيف يعيش بدونه هو تلك الإبتسامة الحنون المشرقة التي كانت ترف على ثغر أبيه حين يلقاه، وتلك النظرة الحانية الرفيقة التي كانت تزف إلى قلبه أبهج المشاعر وأنضر الأحاسيس
أجل تلك الأبتسامة وتلك النظرة التي ألفها منذ أن كانت طفلاً في المهد. . ألفها حتى إقترن شكلها الخاص وطابعها المتميز بكل ما يحسه من ألوان الغبطة والسعادة. .!
أجل تلك الأبتسامة وتلك النظرة لا هذه البسمات ولاهاته النظرات التي يحاول عمي (فهمي) أن يخرجه بها عن أساه المرير. .!
وأحس (صلاح مع تلك المشاعر كلها بشعور آخر ليس بمقدوره أن يتجاهله. . بل ليس في(959/49)
مقدور مشاعره الأخرى أن تطغى عليه. . شعور بالخجل من نفسه ومن أفكاره التي صحبته بعض الطريق عن الإنجليز
وأخيراً تختلط تلك المشاعر كلها وتندمج وتستحيل إلى شعور آخر. شعور بالحقد المدمر والغيظ الخانق والكراهية الطاغية لتلك الوحوش القذرة واللصوص الحقراء الذين يسمونهم الإنجليز!
هذا الحقد الذي برق في عينيه الصغيرتين حاداً كأنه الشرر. . وتلك الكراهية التي أحالت ملامح وجهه الطفلة إلى غضون وشجون! وتمنى من أعماقه لو يكبر فجأة. . يصير رجلاً كهؤلاء الناس قوي الساعد مفتول العضل. . إذن لذهب من فوره وذبح الإنجليز واحداً واحداً كما تذبح الأرانب. .!
ومن جديد يضعف الجسد الصغير أمام المشاعر الثائرة التي عصفت به فيعتريه ذهول رهيب، ويلفه الصمت في غلائل الوجوم!!
وفي صباح اليوم التالي وفي فناء المدرسة يتجمهر الطلبة لدى النصب التذكاري ليقرروا الخطوات العملية التي يجب أن يخطوها تجاه المجد المنشود! وفجأة يغرق اللغط والضجيج في موجة الصمت التي إكتسحت فناء المدرسة حين فوجئ الطلبة بتلميذ صغير يقف حيث تعود خطباؤهم أن يقفوا. . وأرهفت الطلبة آذانهم حين إرتفع صوت صلاح. وقد إنبعث من عينيه ذلك البريق الحاد الذي يشبه الشرر، وشاعت في وجهه تلك الكراهية الطاغية التي تحيل ملامحه الطفلة إلى غضون وشجون. . حين إرتفع صوته بهذه الكلمات. . - إخواني. .: إن الإنجليز الوحوش قتلوا أبي. . قتلوه بالرصاص. . وأنا أريد اليوم أن تأتوا معي لنقتلهم كلهم. . . كلهم. . . وشرقت نبراته بالدموع ولم يعد في مقدوره أن يقول شيئاً. . وسالت دموعه لا على وجهه فحسب بل على مئات الوجوه التي كات تتطلع إليه في لهفة وجنون!!
وفجأة تجمدت تلك الدموع في العيون ولم تعد تنهمر. . وإنما إستحالت إلى حقد مدمرعنيف. . وتحد قوي صارخ. .!
ألم تذهب يوماً إلى حديقة الحيوان وترى (نمراً) ألح عليه أحد الزوار بما يستثير الغضب. .؟ لقد إستحال مئات الطلبة إلى نمور متوثبة تشع عيونهم بما يشبه الشرر. وتغي صدورهم(959/50)
بما يشبه النار. . وكان ذلك الشرر المدمر أو تلك النار المحرقة هي النبات الطيب الذي تفتحت عنه أرض مصر حين إرتوت من ذلك الدم الذي أريق بالأمس. . ذلك الدم المقدس. .!!
محمد أبو المعاطي أبو النجا(959/51)
العدد 960 - بتاريخ: 26 - 11 - 1951(/)
موقفنا من الاستعمار الثقافي
للأستاذ أنور المعداوي
ما هو موقفنا اليوم من الاستعمار الثقافي؟ سؤال يتردد في الأذهان ومن حقه أن يتردد، ويستقر على كل لسان ومن حقه
أن يستقر، ويوجه إلى معالي وزير المعارف ورجاء السائلين فيه أن يجيب!
إننا اليوم نخوض المعركة؛ معركة الحرية والاستقلال، أو معركة الشرف والكرامة. نخوضها ضد الغاضب المستعمر بكل سلاح من أسلحة الكفاح وكل وسيلة من وسائل النضال، وهدفنا المقدس هو أن نتخلص من كل قيد فرضه علينا الاستعمار وأرغمنا على قبوله، منذ أن وطئت أقدامه المجرمة أرض هذا الوطن. . هناك الاستعمار العسكري وقد وقفنا في وجهه حين ألغينا المعاهدة، وهناك الاستعمار الاقتصادي وقد حاربناه حين قررنا مقاطعة البضائع الإنجليزية، وبقى الاستعمار الثقافي جاثما على الصدور والعقول حيث قدر له أن (يحتل) مكانه (المقدس) في المدارس والجامعات!
هل نحن محتاجون إلى اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية؟ أشهد أن تلك اللغة ليست أشرف اللغات، وأن هذه الثقافة ليست أعمق الثقافات، ولكن منطق القوة وحده هو الذي أضفي عليهما من زيف الطلاء ما بهر العيون وطمأن الظنون، وأحلهما المحل الأول من قاعات الدرس وأفكار الطلاب في كل مرحلة من مراحل التعليم!!
إنها حقيقة لا تقبل الجدل حين نقول إن تلك اللغة قد فرضت علينا منذ أعوام تقرب من السبعين، وأن منطق القوة هو الذي فرضها علينا كما فرض علينا كل قيد من قيود الظلم والضيم والخضوع. . كان هذا بالأمس. أما اليوم وقد قررنا أن نحطم القيود والأصفاد، وأن نكفر بالعهود والوعود، وأن ننتقل من مرحلة العبيد إلى مرحلة الأحرار؛ أما اليوم وقد قررنا هذا كله فيجب أن نقرن القول بالعمل، وأن نهجر الخيال إلى الواقع، وأن نؤمن بأن الإقدام خير من الإحجام. وإننا لنستطيع. . نستطيع أن نفهم المستعمر أننا قادرون على طرد استعماره العسكري لأننا في غنى عن حمايته؛ وسحق استعماره الاقتصادي لأننا في غنى عن بضاعته، ونبذ استعماره الثقافي لأننا في غنى عن ثقافته. .
ماذا ينتظر معالي وزير المعارف بعد أن وقف معالي وزير الخارجية ليتحدث إلى العالم من(960/1)
فوق منبر الأمم المتحدة، ليتحدث عن دم المصريين الذي أراقته الحراب البريطانية، وعن حقوق المصريين التي هضمتها الهجمة البريطانية، وعن كرامة المصريين التي أهدرتها النذالة البرطانية؟ حسبنا منه هذه الكلمات أو هذه الصرخات وهو يقول: (عندما عقدت جمعيتنا العامة دورتها الخامسة في شهر سبتمبر من العام الماضين كانت أحلك الغيوم التي تلقي ظلها الكثيف على هذا العالم المضطرب هي حرب كوريا، أما في هذا العام فهنالك حربان، حرب في كوريا، وحرب في البلد الذي أتشرف الآن بأن أخاطبهم باسمه. . إنها حرب حقيقية تشنها على مصر دولة لا تزال تدعي بأنها حليف لمصر! لقد تدفقت الإمدادات البريطانية من برية وبحرية وجوية على منطقة قناة السويس لمضاعفة قوات الاحتلال. ولقد استولت هذه القوات على المنطقة بأكملها ووضعتها تحت الحكم العسكري وعزلتها عن سائر أجزاء المملكة ووضعت يدها على المرافق العامة، واعتدت على السلطة القضائية فمنع القضاة من مباشرة مهمتهم المقدسة في هذا الجزء من أرض الوطن، ومنهم من قبض عليه وحرم الطعام يومين كاملين. . ولم يقتصد جنود الاحتلال في إطلاق النار على رجال الجيش والبوليس فضلا عن المدنيين الآمنين، ولم يتورعوا عن قتل النساء ولأطفال!
(لقد أبدي مندوب الولايات المتحدة ووزير خارجيتها في خطابه البليغ عنايته بحقوق الإنسان، وخبرنا عن بعض الحوادث التي وقعت في المجر وتشيكوسلوفاكيا فوصفها بأنها سحق وحشي للحرية، وإني لأسائل نفسي أي وصف يمكن أن يطلقه على الفظائع التي يرتكبها في منطقة القتال أصدقاؤه وحفاؤه البريطانيون؟ أما أنا فلا أتردد في أن أدعوها عدوانا همجيا مخجلا من المملكة المتحدة، وخرقا صارخا للسلام العالمي والأمن الدولى، وامتهانا بالغا لمبادئ الميثاق وأهدافه السامية!!)
ماذا نقول لمعالي وزير المعارف بعد الذي قاله معالي وزير الخارجية؟ نقول إن اللغة التي تهين كرامتنا يجب أن تلغى، وإن الثقافة التي تشين قوميتنا يجب أن تلعن: في كل كتاب توجد، وفي كل مدرسة تلقن، وعلي كل لسان تنطق، وهذا هو أيسر الجزاء وأهون العزاء. . إن تلك اللغة كما قلنا ليست أشرف اللغات وإن هذه الثقافة ليست أعمق الثقافات، فلم لا تستبدل بهما لغة الألمان وثقافة الألمان، أو لغة الروس وثقافة الروس، أو لغة الفرنسيين(960/2)
وثقافة الفرنسيين؟ لم لانفعل والمعنى البعيد كامن وراء هذه الكلمات؟ المعنى البعيد الذي يتمثل في كرامتنا حين نكون (أحرارا) في اختيار لغة أخرى غير لغة الخصوم؛ وتفضيل ثقافة أخرى على ثقافة الأعداء!
هذا هو المعنى البعيد الذي نهدف أليه. . لقد عزمنا عل أن نكون أحرارا، أحرارا في كل شيء، أحرارا حين نأخذ وحين ندع، حين نقبل وحين نعرض، حين نسالم وحين نخاصم، حين نرفض وحين نختار. وما دمنا قد انتهينا إلى هذا الطريق وارتضينا أن نسير فيه، فلا معنى للتريث ولا مغزى للتردد ولا مبرر لإطالة التفكير، لأنها ستكون حرية مشوهه تلك التي تقضي على لونين من ألوان الاستعمار ثم تبقي على لونه الأخير، ونعني به ذلك الاستعمار الثقافي الجاثم على الصدور والعقول! إننا حين نجهر بهذه الكلمات لا نشك لحظة في وطنية معالي وزير المعارف، وإنما نهيب بوطنيته أن تعجل بالضربة القاصمة وأن تبادر بالخطوة الحاسمة، حتى يتحقق ذلك المعنى البعيد الذي رمينا إليه، والذي لا يغيب عن فطنة الخصوم. . وحول محور هذا المعنى نريد أن نقول: إن تلك اللغة التي فرضت بالأمس بقوة السلاح يجب أن ترفض اليوم بقوة الإرادة؛ وإذا خطر لنا أن نعيدها مرة أخرى في الغد البعيد فلا بأس علينا من ذلك ولا بأس على الكرامة المصرية، ولمن بعد أن يتطهر الوادي شماله وجنوبه من دنس المستعمر أو رجس الشيطان. . عندئذ (نتفضل) أحرارا يمنح هذه اللغة وتلك الثقافة جواز المرور، ويومئذ تزول عن كلتيها نزعة الغرور شأن كل قائد مدحور؛ كل قائد يأخذ مكانه المحدد في مؤخرة الصفوف!!
أنور المعداوى(960/3)
موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية
لحضرة صاحب العزة الدكتور أحمد زكي بك
دعاني الرجال الأكرمون إلى أن ألقي كلمة موضوعها (موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية) ولقد نظرت في هذا الموضوع فوجدت أنه لابد لي من أن أقف وقفة قصيرة عند الفكر العربي أتبين ما معناه، وأن أقف وقفة قصيرة، عند المدنية الغربية أتعرف ما مبناها
الفكر العربي:
أما عن الفكر العربي فإني أنظر إلى العرب والمستعربين جملة فأجدهم يسكنون رقعة من الأرض خطيرة، وهي على خطرها رقعة واسعة تمتد من الأطلسي إلى إيران، ومن تركيا إلى ما يقارب خط الاستواء. وأنظر إلى العرب فأجدهم أمما متباينة الخطوط من التقدم، مختلفة الأنصبة من الحضارة أيا كانت هذه، مختلفة قرونها التي تعيش فيها، فبعضها يعيش في القرن العشرين ويكاد يعيش فيمل بعده، وبعضها يعيش في القرن العاشر، بل في القرن الأول، بل فيما قبل القرون. وأنظر في هذه الأمم فرادى، فأجد في الكثير منها رأسا أطل على هذا العصر الحاضر يرى ما فيه، ويعلم ظواهره ويعلم خوافيه؛ أما سائر الجسم فلا عين له، فهو يتبع الرأس كما تتبع الأحسام، وقد سهل الأمر على الأجسام أ، تتبع لو أن الرأس رأس واحد يتجه إلى غاية واحدة، ولكنه رأس ذو شعب، رأس تشعب إلى رؤوس، منها ما ينظر إلى الوراء فلا يرى من الدنيا شيئاً خيرا من ورائها، ومنها ما ينظر إلى الأمام فلا يرى من الدنيا شيئا خيرا من أمامها، ومنها ما ينظر إلى الوراء ويفضل أن يقعد فوق السور يستمتع بموكب الزمان الجاري.
فأي رأس من هذه الرؤوس يتمثل فيه الفكر العربي الذي يراد لي أن أتحدث عنه.!
أم يراد لي أن أتحدث عن الفكر العربي متمثلا في كتابه؟ فهؤلاء على قلتهم، كأرؤس في أممهم، صنوف وأهواء. منهم المتأثر بالماضي غاية التأثر، ومنهم المتحرر من الماضي غاية التحرر، ومنهم أوساط بين هؤلاء وهؤلاء. وليس في التأثر بالماضي ما يعيب، لأن الماضي بعضنا، ولأنه بعض الحذر، ولأنه الحفاظ الذي فيه بعض الوفاء. والفكر في كل العصور أمزجة، منها المزاج المتحفظ. والفكر على إطلاقه لا يكاد يتحرر أبدا. أنه عمل العقل ولكن تتنازعه القلوب. إن الفكر لا يكاد يخلو من عاطفة، والعاطفة وليدة السنين(960/4)
الغوابر. كذلك ليس في التحرر غاية التحرر ما يعيب المتحررين. إنهم ضيقون بزمانهم، آسون لحال أممهم، ثائرون على ما يرون من بؤس وجهالة، فهم يريدون أن يقفزوا في الزمان قفزا ليعوضوا على أممهم ما فات
ففي أي هؤلاء الكتاب - وهم مختلفون - يتمثل الفكر العربي.!
وليس في الشرق فكر منظم. . ليس في الشرق جماعات من الناس لها أفكار ولها أهداف إلا في السياسة. وحتى جماعات السياسة لا تجمعها أهداف بينة، إن هي إلا غايات مبهمة كثيرا ما يوحي إلى شيطان بأن أوضح غاية فيها إبهاما. إن الشيء المبهم يجري وراءه الأشتات من الناس، وفي الإيضاح التفرقة. إنهم يطلبون بالإبهام الكثيرة، وتلك عندهم غاية الغايات
ولقد يتحدث الناس عن الفكر العربي الذي لم يتوحد بعد، فيقولون ويطنبون. ويأتون لك آخر الأمر بالشيء الجميل أو غير الجميل، فإذا بهذا الشيء من خلقهم، وإذا به، لا الفكر العربي، ولكن ما يجب أن يكون عليه الفكر العربي عندهم، وما يجب أن تكون في حسبانهم خطة الحياة
إن الفكر فكرهم، وهو عربي شرقي بمقدار ما هم عرب شرقيون. وفي غيبة الفكر العربي الموحد، وعلي تفرقه وتشتته لابد من قبول هذا الفكر، ولوا فكرا واحدا، وهو على الأقل فكر آحاد؛ وهو على الأقل بمثل منحى من المناحي الفكرية الكبيرة
فإنا إذا تحدثت إليكم اليوم عن الفكر العربي، فلا أدعي للذي أقول من التمثيل أكثر من أنه يشاركني في الذي أقول طائفة في الشرق العربي غير قليلة
وبعد فما يجوز أن ننسى أن الفكر انفعال؛ وأن فكر الفرد من صنع البيئة، وصنع النشأة، وصنع الزمان
الحضارة الغربية:
ثم ما الحضارة الغربية التي أبحث عن موقف الفكر العربي منها؟
لقد كان للإنسان حضارات بكل أرض وبكل زمان: حضارة مصرية، وحضارة آشورية وبابلية وفينيقية، حضارة إغريقية ورومانية، حضارة هندية وصينية، وحضارة عربية أثبتت وجودها وفرضت فروضها وشاركت في الحياة على هذه الأرض ألف عام. ولكل(960/5)
من هذه الحضارات فضل، ولكل منها شيء وأشياء تميزها. . وهي كلها مجهودات للإنسان حميدة في سبيل غاية لا يدريها. والإنسان وهذه المجهودات غير فانية، أو الكثير منها غير الفاني. وهي مجهودات خالدة بحسبانها أشكالا وأنماطاً وأساليب للعيش وقوالب للفكر تتوارث. كما أن الإنسان خالد بحسبانه نطفا تتوارث، ومظاهر الحضارات ومن إظهارها يفنيان جميعا كما قال المتنبي في شعره المعروف
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
إلا الفكر. . إلا الفكر الذي أنتجها، أو الفكر الذي أنتجته، فهذان يخلدان؛ لأن الفكرة لا تموت. ولقد بقي من الحضارات الماضيات أفكار ترقد في أوراق، لا تزال نجتليها ونسرح البصر البصيرة فيها
والمدينة الحاضرة إنما هي جماع تلك المدنيات جميعا. والمدنية الحاضرة تجد في تلك المدنيات الغابرات فكرة ترضاها فتنتفع منها، أو تجد فكرة لا ترضاها فتتجنب أذاها؛ فهي فكرة تهدي على كل حال حتى برفضها، كالطريق الذي لا تسلكه يدلك على الطريق الذي تسلكه
والمدنية الحاضرة تميزت بصفات وتألفت من عناصر سوف أجتهد في إخراج بعضها وإبرازه، صفة صفة، أو عنصر عنصرا، وأدلي بموقف الفكر العربي، كما أراه منها
الحضارة والعلم:
إن المدنية الحاضرة ميزتها الكبرى العلم. العلم الطبيعي. العلم التجريبي
والعلم ليس كالناس يولد في ساعة. أنه يولد على القرون فلا تكاد تعرف له ميلادا. وأنا إن ذكرت الميلاد، حلا لي دائما أن أتخذ من حياة (لافوازيه) للعلم ميلادا. وهو ولد عام 1743 ومات عام 1794، فحياته استغرقت النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ولافوازيه أبو الكيمياء الحديثة لأنه كشف الهواء وكشف عناصره. وما كانت مدينة مؤسسة على العلم الطبيعي لتكون والناس في جهالة من الهواء الذي منه يحيون، وفيه تحدث الأحداث للأشياء الأخرى والناس. أنه لولا أن تركيب الهواء اتضح، ما أمكن أن يكون علم ولا مدنية علمية. وإذن فإذا قلنا إن العلم، والمدنية العلمية، لم تقف على أرجلها إلا من نحو قرنين نعد(960/6)
الصواب. والعلم قبل ذلك لعله كان يحبو، ولعله طال حبوه وطال كثيرا
وصفة العلم هذه هي الغالبة أكثر الغلبة على المدنية الحاضرة، لأن الكثرة الكبرى من نتائج العلم مادية، وهي تتصل أكثر اتصال بما يرى الناس، ويسمع الناس، ويحس الناس، وبما يأكلون ويلبسون ويسكنون، وبوسائل بها ينتقلون على الأرض أو على الماء أو في السماء. وهي تتصل بضرورات الحياة ورفهها. ولو أن رجلا من مدينة غارة نشر ونفض عن نفسه التراب، وأخذ يمشي بيننا كما فعل عيسي بن هشام، لخفي عليه أول الأمر من مدينتنا كل شيء، إلا هذه الظواهر المادية الكثيرة، فهي ستبدهه، وهي ستدهشه، وهي ستدهشه. وهو سيؤخذ بها من أول يوم، أما مظاهر المدنية الأخفى فستتكشف له على الأشهر، ومنها مالا يكتشف إلا على السنين، لأنها لا تتكشف إلا بالدراسة الطويلة والممارسة وهنا نتسائل؟ ما موقف الفكر العربي من هذا الأصل الأول من أصول المدنية الحديثة
والجواب أنه المناصرة بغير شرط، وبغير حد، وفي غير احتياط. ذلك أن العلم وليد المنطق، والمنطق لا يرفضه ويرفض نتائجه ذو عقل. وأحسب أنا جميعا، أهل الشرق العربي،
من العقلاء وسبب آخر لمناصرة العلم، أنه سبب للرفاهية ورغد العيش ولينه، عظيم. وهو لتسهيل الحياة وتيسيرها، وليس بعقل كبير العقل من يريد الحياة خشنة، أو من يريدها عسيرة، في غير ضرورة
وسبب ثالث، أن العلم يجعل الحياة أكثر امتلاء، وهي بامتلائها زمانا، فهي أطول. والذي يعيش اليوم، في بيئة هذه الحضارة العلمية أربعين عاما، فقد عاش أربعين كثمانين من العصور الأخرى. إن سنوات العمر، كورق النقد، تعلو وترخص، ويصيبها التضخم على انحطاط قيمة، ويصيبها التقلص
وسبب رابع لمناصرة العلم، أن الناس، بسبب العلم، ولأسباب غير العلم، زادوا أعدادا، وزادوا فوق ما تسعهم الأرض، وفوق ما تكفيهم غذاء، وفوق ما تكفيهم كساء. وهذا الضيق يقوم بتفريجه العلم، فهو يفرض على الأرض أن تنتج الكفاية من الطعام، والكفاية من اللباس، والكفاية من ضرورات العيش
إن قوما يشكون الفقر قوم لا يأخذون بأسباب العلم. وكذلك قوم يشكون المرض. إن العلم(960/7)
أسرع ذهاب بالفقر، وأسرع ذهاب بالآلام. أنه ليجتث الآلام من أصولها، باجتثاث أسبابها، وعنده أن الوقاية خير من العلاج
وسبب خامس لمناصرة العلم، ذلك أنه لأسباب خارجة عن العلم، لا يزال الناس يأكل بعضهم بعضا، ويأكلونهم بالعلم، ولا أحسب أن أحدا من الشرق العربي يحب أن يؤكل، والعلم يمنعك من أن تأكلك الذئاب
لقد كدت أحس بشيء من في تعديد ما للعلم من منافع، ومن أسباب مناصرته. ذلك أن بعض السفه تعداد البدائه
والفكر العربي مناصر في كل ما ذكر من هذه الحقول المادية. وهو مناصر له في سائر الحقول، فعلى العلم وعلى نتائجه يجب أن تتأسس معاني الحياة، وعقائد الحياة وما بعد الحياة. إن العلم وحدة لا تتجزأ
وقد نضيق بالعلم وبنتائج العلم، فنطلب الترويح في غيبته، ونطالب للرفه بنفيه وإبعاده. وقديما نفي الناس العقول بالشراب ليتروحوا، ولكن إلى حين، يعودون بعده إلى ممارسة الحياة على العقل الواعي وعلى القلب الصاحي
ونحن نناصر العلم ونعلم أن من الناس من خلطوا بين أشياء أثبتها العلم فهي حقائق، وأشياء خالها العلم فهي ظنون، وأشياء لم يمسها العلم لا بالظن ولا باليقين، فهي من خلق أصحابها
ونحن نناصر العلم ونعلم قصوره وقصور أداته. إن أداة العلم لا تزال الوزن والقياس، ولكن قوماً يريدون أن يقحموه غصباً فيما لا يوزن ولا يقاس؛ لا طلبا لشيء قد يكون وقد لا يكون، ولكن إثباتا لشيء هو في أذهانهم كائن قائم وقد يكون قائما، وقد يكون كائنا، ولكن ليس هو مما يستطيع العلم أن يسير إليه بأداته الحاضرة
فهذا هو العلم، أظهره صفة من صفات المدنية الحاضرة
للكلام صلة
أحمد زكي(960/8)
5 - الثورة المصرية 1919
الأستاذ أبو الفتوح عطيفه
من1 - 8 نوفمبر 1951:
شهدت هذه الفترة عدة حوادث هامة: ففيها واصل الإنجليز عدوانهم على العزل من المصريين وزادوا فاعتدوا بالقبض والاعتقال على ضباط البوليس المصري بمنطقة القنال، وكذلك اعتدوا على رجال التعليم العائدين إلى أعمالهم بمنطقة القناة، فاعتقلوا بعض الأساتذة دون مبرر ثم أفرجوا عنهم والقوهم في الصحراء ليلا!! وكذلك تكون المدنية ويكون احترام الإنجليز للحرية!!
وفيها أيضاً اعتدى الإنجليز على رجال القضاء المصري الكرام وهم في طريقهم إلى عملهم بمنطقة القناة والعريش!! ثم عمدوا إلى تسخير العمال بالقوة. وبدأت كتائب التحرير المصري نشاطها وعمدت (الفرق الخفية) إلى تجريد الجند البريطانيين من سلاحهم وهو عمل يدل على شجاعة المصري التي لا تحتاج إلى دليل، ودب الذعر في صفوف الإنجليز إذ بلغت حوادث خطف الأسلحة نحو 20 حادثة واتهموا رجال البوليس المصري بالتقصير في منع هذه الحوادث، وهدد القائد العام للقوات البريطانية الجنرال أرسكين بإعلان الأحكام العرفية في منطقة القنال وتعيين حاكم عسكري لها. وهكذا وقف الرجل المسلح، يخشى عدوان الرجل الأعزل إن الحق هو الذي أعطي الأعزل قوته، وهو الذي نزع من الرجل المسلح سطوته وهيبته. إن الحق منتصر، وإن مصر لا تطلب إلا حريتها ووحدة الوادي، وهي بالغة إن شاء الله ما تصبو إليه
وتشرشل أيضا:
في 25 أكتوبر 1951 أجريت الانتخابات البريطانية وفاز حزب المحافظين وتولى رئيسه ونستَون تشرشل الحكم. ولم تكن مصر تهتم كبيرا بنتائج الانتخابات لأنها تعرف أن الإنجليز هم الإنجليز، سواء كان تشرشل يرأس حكومتهم أم كان أتلي؛ فالسياسة البريطانية لا تتغير بتغير الوزراء، وإنجلترا هي العدو الأول لمصر لأنها تحتل أراضيها بالقوة، وتمنع وحدة الوادي وتقف سدا حائلا بين سكان الشمال وسكان الجنوب، ألا ساء ما تفعل!(960/9)
وفي 6 نوفمبر بدأ مجلس العموم الجديد جلساته وألقى خطاب العرش الذي جاء فيه: (إن حكومتي تعد ما عمدت إليه الحكومة المصرية من إلغاء معاهدة التحالف المبرمة في عام1936 واتفاقيتي الحكم الثنائي في السودان المعقودين 1899 أمرا غير مشروع ولا يجيزه القانون) ولسنا ندري أي قانون أباح لإنجليز أن تحتل مصر؛ وأن تفصم الوحدة الطبيعية بيد مصر والسودان، وأن تحكم السودان على رغم إرادة أهله
وألمح إلى أن بريطانيا إذا دعا الأمر إلى ذلك للبقاء في منطقة القنال، وأشار إلى أنها (ستحفظ بموقفها في منطقة قناة السويس طبقا لنصوص معاهدة 1936 وتؤمن سلامة هذا الطريق الدولي دون أن تستخدم القوة أكثر من اللازم.) وبهذا يهدد تشرشل باستخدام القوة ضد مصر لأنها تطلب حريتها وإنهاء احتلال أراضيها، ولسنا ندري هل غاب عن تشرشل الماكر العجوز أن مصر قد فكرت قبل إلغاء المعاهدة وقدرت أنها مقبلة على فترة من فترات الجهاد الشاق والنضال العنيف!! وأنها ستتعرض لتهديد إنجلترا وربما لتهديد أمريكا وفرنسا أيضا!! وهل يعتقد تشرشل أن الإنجليز سيخرجون من مصر دون نضال ودون تضحية!! ليعلم تشرشل أن مصر قد فكرت وقدرت وأنها قد آثرت الجهاد والنضال في سبيل الحرية على الحياة والعبودية. . فليهدد كما يشاء فمصر قد وقفت صفا واحدا تدافع عن حريتها ووحدتها. . ولن يرهبها تهديده أو يخيفها وعيده
هيئة الأمم ومؤتمر السلام:
وفي 6 نوفمبر اجتمع أعضاء مجلس السلام في جميع أنحاء العالم في فينا عاصمة النمسا، وألقى كامل البنداوي باشا خطابا مستفيضا عن مصر وعن موقفها من الدول الاستعمارية استهله بقوله (إن مصر قد بدأت مرحلة جديدة في تاريخها. . ذلك أنها فرغت من عهد التوقيع والإمضاء وبدأت القتال والكفاح. إن الشعب الآن يريق دمه في سبيل الحرية غير متردد ولا يهاب، كل ذلك من أجل الحرية ومن أجل السلام العالمي.)
وقال: (إن هذه الحوادث الدامية التي تجري في مصر ستكون نقطة تحول في التاريخ) واختتم الخطاب قائلا: (سيكون لهذا الصراع ضد الإنجليز والانتصار عليهم نتائج بعيدة المدى) وقد خطبت السيدة سيزا نبراوي في المؤتمر. ونددت بالأعمال الوحشية التي تقوم بها بريطانيا في مصر. . وتحدثت عن أعمال البطولة التي يقوم بها عمال الموانئ الذين(960/10)
أضربوا عن التعاون مع الإنجليز وأعلنت أن وجود القوات البريطانية ضد إرادة الشعب المصري يهدد السلام العالمي
وتحدث مندوب الاتحاد السوفييتي فطالب بضرورة تأييد مصر واتخاذ قرارات إيجابية لشد أزر الشعب المصري في كفاحه ضد الاستعمار، وأن الاتحاد السوفييتي يؤيد مصر تمام التأييد في كفاحها ضد الغاصب وصراعها من أجل الحرية
وفي 7 نوفمبر أصدر المؤتمر قرارا يدعو بريطانيا إلى سحب قواتها من مصر والسودان فورا لكي يتسني تقرير مصيرهما بحرية تامة، وقرر إيفاد وفد لهيئة الأمم المتحدة لمطالبتها بتوحيد الاهتمام إلى ما يتعرض له المسلم من تهديد بسبب وجود قوات أجنبية في مصر والسودان
وفي باريس اجتمعت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في 6 نوفمبر وحضر الاجتماع وفد مصر برياسة الوطني العظيم الدكتور محمد صلاح الدين باشا، وكذلك حضر الوفد البريطاني برياسة المستر إيدن وزير خارجية بريطانيا، وبدأ صلاح الدين نشاطه فأرسل إلى السكرتير العام للأمم المتحدة مذكرة ندد فيها بالأعمال الوحشية التي تقوم بها القوات البريطانية في مصر، وأعلن ثقته من أن الضمير العالمي وشعوب الأمم المتحدة ستقف إلى جانب مصر وشعبها في كفاحها في سبيل الحق والحرية، وفي سبيل السلام العالمي. وهكذا بدأ النضال بين مصر وبريطانيا في أروقة هيئة الأمم
لا مناقشة:
لجأت بريطانيا إلى التهديد باستخدام العنف والقسوة إذا لم يكف زعماء مصر عن نشاطاتهم، وفي 6 مارس سنة 1919 استدعى قائد القوات البريطانية زعماء الوفد وأعضاءه وأنذرهم (أن أي عمل منكم يرمي إلى عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة إلى المعاملة الشديدة بمقتضى الأحكام العرفية)
لقد دار بخلد الإنجليز 1919 كما يدور بخلدهم الآن أن التهديد باستخدام القوة كفيل بالقضاء على الروح الوطنية في وادي النيل، وكفيل بإيقاع الرعب في قلوب المصريين مما يقضي على حركتهم وآمالهم، ولكن خاب أملهم، ففي 1919 واجهوا شعبا يقف صفا واحدا خلف زعمائه، فلما هددوا سعدا وزملاءه لم يجبن سعد ولم يجبن زملاءه وقابلوا الإنذار بعدم(960/11)
الاكتراث، ولم يعبئوا به بل زادوا تمسكا بمطالب الأمة، لقد كان القائد العام البريطاني مسنودا بالحراب والمدافع البرطانية، وأما سعد ورفاقه فقد كانت تحرسه قلوب شعب مصر الأعزل، ولكنه شعب مؤمن بحقه وعدالة قضيته
لم يعبأ سعد بالإنذار البريطاني ومضى في طريقه قدما، ففي نفس اليوم أبرق إلى رئيس الحكومة البريطانية يقول: (تعلمون ضرورة أن وزارة رشدي باشا لما علقت سحب استقالتها على سفر الوفد قبلت استقالتها نهائيا. وليس لذلك معنى إلا الحيلولة بيننا وبين عرض قضيتنا على مؤتمر السلام. وقد نتج فعلا من هذه السياسة أن أعظم رجال مصر. . . قد بدءوا يرفضون بتاتا تأليف وزارة تعارض مشيئة الأمة التي هي مجمعة على طلب الاستقلال. . .
إن السلطة العسكرية أنذرتنا اليوم نضع الحماية موضع البحث وتعرقل تأليف الوزارة الجديدة وتوعدتنا بأشد العقاب العسكري، على أنها لا تجهل أننا نطلب الاستقلال التام ونرى الحماية غير مشروعة كما تعلم بالضرورة أننا قد أخذنا لي عاتقنا واجبا وطنيا لا نتأخر عن أدائه بالطرق المشروعة مهما كلفنا ذلك. وحسبنا أن نذكر لكم هذا التصرف الجائر الذي يجر سخط العالم المتمدن حتى تفكروا في حل هذه الأزمة بسفر الوفد فيرتاح بال الشعب
القبض على زعماء الوفد:
اتخذت السلطة من رفع الوفد هذه الشكوى إلى رئيس الحكومة البريطانية مبررا لتنفيذ ما هددت به، ففي يوم 8 مارس قبضت على رئيس الوفد سعد زغلول وعلى ثلاثة من كبار صحبه وهم محمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي واعتقلتهم في ثكنة قصر النيل ثم نقلوا تحت الحراسة إلى بور سعيد ومنها أبحروا إلى مالطة حيث وضعوا قيد الاعتقال
اعتقد رجال الشرطة العسكرية أنهم بهذا العمل قد قضوا على الحركة الوطنية في مصر وأنهم قد استراحوا وأمنوا واطمأنوا، ولكن خاب ظنهم فإن هذا النبأ قد سرى في مصر كما تسري النار في الهشيم وكان بمثابة شرارة ألقيت على مستودع من البارود مما أدى إلى حدوث انفجار عظيم
بدء الثورة:(960/12)
نهض المصريون جميعا على بكرة أبيهم دفعة واحدة وفي يوم واحد لإعلان سخطهم وغضبهم على هذا العدوان الغاشم، وكانت للمصريين في احتقار الموت الذي كان يتحداهم في ثورتهم من أفواه مدافع العدو وبنادقه روعة وجلال
وأما رجال الوفد فقد بادروا في نفس اليوم إلى إرسال برقية احتجاج على اعتقال الزعماء إلى المستر لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية، وأعلنوا أنهم سيستمرون على الدفاع بكل الطرق المشروعة عن قضية البلاد العادلة
وكذلك أرسلوا برقيات احتجاج إلى معتمدي الدول الأجنبية
وفي 9 مارس وجه على شعراوي باشا بصفته وكيل الوفد كتابا إلى عظمة السلطان يشكو فيه من تصرف السلطة العسكرية مع رجال الوفد جاء فيه:
(. . استدعتنا السلطة العسكرية في 6 مارس. . وأنذرتنا بالعقاب العسكري الشديد إن أتينا عملا يرمي إلى تعطيل سير الوزارة ثم منعتنا من مناقشتها في هذا البلاغ. لم تصب السلطة في رأيها فإن هذه الحماية باطلة ولكل إنسان الحق المطلق في أن يضعها تحت البحث والمناقشة القانونية. .
لم يقف الأمر عند هذا الإنذار بل قبضت السلطة أمس على رئيسنا سعد زغلول باشا وزملائنا محمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا وزجوهم في قصر النيل ثم سيق بهم إلى بور سعيد فإلى حيث لا نعلم. وذنبنا في ذلك أننا نطلب حريتنا السياسية طبقا للمبادئ الشريفة التي اتخذت قاعدة للسياسة المالية الجديدة. . . وبينا أننا لم نتعد حدود القانون، فلم نهج في البلاد طائرا ولم نحرك ساكنا بل قبلنا توكيل الشعب إيانا أن نصدع بأمره ونسعى لتحقيق مشيئته. . .
على هذه الاعتبارات يصعب علينا يا مولاي أن نفهم مبررا لهذه الخطة القاسية التي جرت عليها السياسة الإنجليزية. .
إليكم يا صاحب العظمة وأنتم تتبوءون أكبر مقام في مصر وعليكم أكبر مسئولية فيها. نرفع باسم الأمة أمر هذا التصرف القاسي؛ فإن شعبكم الآن يحق له أن يعتبر هذه الطريقة باردة تخيفه على مستقبله كما يحق له أن يكرر الضراعة لديكم العلية أن تقفوا في صفه مدافعين عن قضيته العادلة)(960/13)
قويسنا
أبو الفتوح عطيفة(960/14)
أدب الثورة والكفاح
للأستاذ كامل السوافيري
في اليوم الثامن من أكتوبر من العام الحالي أعلنت مصر إلغاء معاهدة الظلم والاستعباد؛ وقالت كلمتها الخالدة مدوية في آفاق المعمورة فرددت الشعوب العربية والدول الإسلامية صرخة مصر، وقامت المظاهرات في دمشق وبغداد وبيروت وطهران والدار البيضاء تضامنها مع مصر المجاهدة، صارخة صرخة الحق في وجه المستعمر الغاصب بأن يجلو عن وادي النيل، ويعترف بحق مصر في الحرية والاستقلال
ثم صدمت مصر الاستعمار مرة ثانية حين أعلنت رفضها لما أسموه مقترحات الدول الأربع للدفاع عن الشرق الأوسط؛ فحطمت آمال المستعمرين وقلبت خططهم رأسا على عقب
ووقفت الشقيقات العربيات أيضاً من مصر المجاهدة موقف التأييد التام والتضامن الكامل ضد أقطاب الاستعمار، كما وقف العالم الإسلامي ينادي بحق مصر في سيادتها على القناة، وحقها في جلاء الجيوش المحتلة عن أراضيها، وحقها في الوحدة، وكان ذلك الموقف الرائع من العالمين العربي ولإسلامي دليلا واضحا على أن العرب والمسلمين قد أكتمل وعيهم، واستوى نضجهم السياسي ولم تعد تنطلي عليهم حيل الدول المستعمرة، بعد أن أخلصوا لها الود، وقدموا المعونة في حربين عالميين فقوبلوا بالتنكر لأمانيهم القومية. والاعتداء على حقوقهم السياسية
وليست الحرب بين الإسلام والاستعمار وليدة اليوم. وليس الصراع بين الشرق والغرب ابن عامة هذا، ولكنه صراع بدا بعد الحرب العالمية الأولى منذ انتصر الحلفاء، فقسموا الشرق العربي بينهم، وجزءوه إلى دويلات ضعيفة لا تستطيع النهوض حتى يتمكنوا بذلك من استعمارها أكبر مدة من الزمن. ولكن الصراع ليس صراعا سياسيا فحسب، بل هو صراع ديني واجتماعي قبل أن يكون صراعا سياسيا، أنه صراع المبادئ ولأفكار، وصراع النفوس والقلوب. ولابد أن تتضافر الجهود وتتعاون القوى ليخرج الشرق من هذا الصراع مرفوع الرأس وضاح الجبين
ولقد راعني أن يكون الأدب بمنأى عن هذا الصراع الحاد الذي يندلع لهيبه يوما بعد يوم.(960/15)
وكم أسفت حين تطلعت فرأيت الفن لا يسهم في هذه المعركة بين الشرق الإسلامي والغرب، أو بين المسلمين والمستعمرين، وللأدب نفوذه وسلطانه، وللفن عرشه وصولجانه، وللأدباء في الأمة المكانة السامية، والمنزلة العالية، هم النجوم التي ترشد السارين إذا كفهر الجو وأظلم الأفق، وهم المصابيح اللامعة التي تهدي الضالين إذا تشعبت السبل، وتعددت المسالك
إني لا أريد أن أتهم الأدباء بأنهم تنكروا لأمتهم، وتجافوا عن مجتمعهم، حين عاشوا منطوين على أنفسهم، في أبراجهم العاجية، لا يحسون بإحساس أمتهم، ولا يشاركون مجتمعهم آلامه وآماله، فكان إنتاجهم في الكثير الغالب مرآة انعكست عليها حياتهم الخاصة، مما دعا الأمة والمجتمع إلى الانصراف عن هذا الأدب الذي لم تجد شخصيتها، ولم يحس فيها المجتمع بوجوده
وكان الأدباء مسئولين عن هذه الجناية، لأنهم الذين أتاحوا للقراء الانصراف عن إنتاجهم إلى الأدب الرخيص الماجن الذي يغذي الجانب الهابط في النفس
وإلا فما بالنا لا نقرأ - والمحن تتوالى على العروبة، والضربات تتابع على أقطار الإسلام - إلا أدب الضعف والانحدار!! أدب التدهور والانحلال!! كأننا لسنا في صراع مع الاستعمار!!
ألم تكن مأساة فلسطين الدامية، وتشريد مليون من أبنائها من إخواننا وأبناء عمومتنا وهيامهم على وجوههم في المهامه والقفار، يفتك بهم البرد والجوع. . كافية في أن تهز منا القلوب، وتشعل الأفئدة، وتضرم الجوانح؟
لقد نظرت إلى الأدب قبل المأساة وبعدها فلم أجد تغيرا واضحا إلا عند قلة من الأدباء يعدون على أصابع اليد الواحدة
إن المعركة القائمة اليوم بين حق مصر وباطل بريطانيا ليست معركة مصر وحدها، وبريطانيا وحدها، ولكنها معركة الشرق العربي بأسره ضد الدول المستعمرة التي تظاهر بريطانيا في باطلها.
وتناصرها في عدوانها على الشعوب الضعيفة
إنها المعركة التي تغذي القرائح عند أدباء العرب والإسلام، فتدفعهم دفعا إلى المساهمة فيها(960/16)
قد يقال إن هذا أدب مناسب في كارثة لا يلبث أن يزول. أنه كغمامة صيف عما قليل تكشف. والإجابة عن ذلك أن هذا ليس أدب مناسبات، ولكنه أدب خالد فأدب القوة والكفاح أدب خالد. . لأن الأمة الضعيفة لا وجود لها في عالم تسوده الذئاب والأسود
إن كثيرا من الشعراء الأوربيين قد خلدوا بأسفارهم الوطنية التي أيقنت في نفوس أممهم روح التضحية، وأوقدت في قلوبهم النخوة والحمية، فهذا أرنت في ألمانيا في القرن التاسع عشر يقول لقومه بعد موقعة (يه نا)
(أعطوني وطنا حرا وأنا أرضي عندئذ أن أفقد كل شهرتي فيصبح اسمي منسيا لا يذكر في غير داري ودار جاري
أعطوني بقعة من أرض جرمانية يستطيع فيها العندليب أن يغرد دون أن يرمي بسهم فرنسي
أعطوني كوخا حقيرا يستطيع أن يصبح ديكي فوق حاجزه دون أن يقع فريسة يد فرنسي، وأنا أصيح عندئذ مثل الديك، وأغرد مثل العندليب بكل فرح وسرور، ولو أفقد كل ما ملكته يداي فلم يبق لي شيء يستر جسمي غير قميص بال)
نريد أدبا بعد وثبة مصر الجبارة يختلف عنه قبلها، نريد من أدباء وادي النيل وهم كثر والحمد لله ومن أدباء البلاد العربية أن يشنفوا آذاننا بالأغاني والأهازيج الحماسية الوطنية التي تبعث الثقة في النفوس وتملؤها قوة وبطولة
نريد من الشعراء المشهورين أن يطربونا بشعر القوة والعزة، ومن كتابنا وناثرينا أن يدبجوا لنا المقالات الطويلة عن الإيمان القومي، والوطنية الصادقة، والاستشهاد في سبيل الوطن. . . وبوجه عام نريد من الأدباء والشعراء والمؤلفين وكتاب القصة والمسرحية أن يتخذوا من أقلامهم سيوفا تسل في وجه الظلم، وحرابا تصوب إلى صدور الأعداء
ونريد منهم أن يثيروا أحقادنا الدفينة لدي الدول الاستعمارية، وأن يذكوا جذوة الوطنية في نفوس هذا الجيل والأجيال القادمة، ويشعلوها حربا مستعرة الأوار على الاستعمار الظالم في كل مكان
ولست أريد أن أمنعهم من الأدب الذاتي. . أدب العاطفة والوجدان، ولكني أرى أنه لابد لهم مع أدبهم في الدمعة والابتسامة، والهجر والوصل، والفراق واللقاء. . من الأدب الذي يمجد(960/17)
الوطن، ويؤجج الوطنية، وينفخ في الشباب روح الرجولة والقوة، والعزة والكرامة، والحرية والاستقلال، ولا نريد أن يقف الأمر عند أدب الوهم والخيال. . أدب الهمهمات والشطحات بل يضيفوا إليه أدب البطولة والمجد والرفعة والعلاء
هذه صرختي أوجهها إلى الأدباء، وأنا وطيد الأمل في أنها ستجد منهم آذانا صاغية. وأختتم هذه الكلمة بأبيات للشاعر المهجري ميخائيل نعيمة:
أخي ما الصبر؟ إن الصبر كفران وخذلان
أخي ما نحن بالأحرار لكن نحن عبدان
لقد ضاقت بنا الأوطان ما للعبد أوطان
أخي ما السجن هل في السجن آلام حرمان؟
وهل يجدي مع الأحرار قضبان وسجان؟
سوانا يرهب القضبان أو تثنيه جدران
إذا كنا شرارات فنحن اليوم بركان
كامل السوافيري(960/18)
4. على ضفاف القناة:
وجوه كالحة
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
مساكين أبناء مدن القناة الثلاث - بور سعيد والإسماعيلية والسويس - وبخاصة أبناء مدينة الإسماعيلية. . التي كتب الله على أبنائها أن يتجرعوا الغصص أليمة حادة، ذلك لأنهم يرون دائما وجوه أعدائهم الألداء، هذه الوجوه الكاحلة، التي سئم كل مصري النظر إليها، وضقنا بها وبأبنائها ذرعا، وكدنا نيأس حكومة وشعبا من معرفة طريق الخلاص والقضاء على هؤلاء الاستعماريين (الكلاب) - كما يدعوهم آية الله كاشاني - وأدركنا إلى أي حد يجحد هؤلاء الغاصبون حقوقنا، ويعبثون بمصالحنا وآمالنا، ويسخرون بأمانينا الوطنية التي يجب أن نبذل في سبيل تحقيقها، والحصول عليها، كل مرتخص وغال، فأينما سرت في هذه المدينة البائسة لا تجد غير هؤلاء الإنجليز، يروحون ويجيئون في كل وقت من الأوقات ليلا ونهارا، يتسكعون هنا وهناك في برود وصفاقة، وكأنهم يسيرون في أوطانهم، ويجوبون رحابها آمنين مطمئنين، هادئين وادعين. كأنه ليس بيننا وبينهم عداء مستحكم الحلقات، ولا قضية مطروحة في المحافل الدولية إلى الآن؟ ولست أدري لماذا يأمن الإنجليز جانب المصريين إلى هذا الحد العجيب، فنراهم يعيشون في أحيائهم الإفرنجية بالمدينة، ويشاركون المصريين في الأحياء الوطنية، ويسيرون بين المصريين كأنهم من أبناء جلدتهم؟ فهل معنى ذلك أنهم يعتقدون أننا هازلون في مطالبنا، غير جادين في قضيتنا وجهادنا؟!
إن منظر الجندي الإنجليزي يسير في مدينة الإسماعيلية بالذات يؤلمني إلى حد كبير، كما يؤلم كل وطني غيور، لأنه يحمل معني التحدي الجارح لكرامة المصري، وشعوره وعزته، فهو يسير مترفعا متعاليا، في صلف وكبرياء، مقيتة لعينة، شأنه في ذلك شأن العملاق المتغطرس الذي ينظر في ازدراء وضيع إلى أقزام هزيلة الجسوم، جائعة البطون؛ عارية الأبدان، وهو لهذا لا يأبه بمن أمامه من المصريين، ولا يبالي بما يأتي من جرائم، ويقتل من أرواح، فقلما يخلو يوم من حوادث السيارات الإنجليزية التي تجوب المدينة على الدوام، وبلا انقطاع، والتي تقف أمام دور السينما والمحلات العامة وفي الحدائق، وتزدحم(960/19)
بها الشوارع في كل مكان، والتي يذهب ضحية إهمال سائقيها المخمورين كثير من المصريين الأبرياء. . وماذا يضيره ما دام يخرج دائما هو وأمثاله المجرمون بسلام، ولا تنال منهم سطوة القانون المصري شيئا، لأن الإنجليزي لا يزال في هذه البلاد عنوان السيادة الذي يخضع له الجميع. . وقاتل الله الإنجليز فإنهم لا يزالون يعيشون في أواخر القرن العشرين بعقلية القرون الوسطى، ولا يزالون يؤمنون إيمانا عميقا بسياسة الدس والتفرقة بين مختلف الطوائف وقادة الشعوب، وزعماء البلاد، ولا يكاد يستجيب لهم، ويحقق أمانيهم غير المصريين من الذين لا يعيشون لبلادهم، وإنما يعيشون لتحقيق أغراضهم، ومصالحهم الذاتية. . ولكن الإنجليز في هذه المرة لن يصلوا إلى ما يصبون إليه، وسيفوت عليهم الوعي الجديد للشعب المصري أغراضهم السافلة، ويحطم آمالهم الاستعمارية الوضيعة، ويكشف حيلهم الدنيئة، ويسجل عليهم الفشل الذريع، والحظ المنكود. .!!
أجل فالوعي القومي بين طبقات الشعب قد ارتفع مستواه، ونأمل أن يؤتي ثماره اليانعة في القريب العاجل إن شاء الله. وإنه لمن الظلم أن تظل هذه الجنود تتمتع بالأحياء الجميلة النظيفة في المدينة وتستنفد خير الأطعمة. وتستولي على جميع ما تصل إليه من طيبات الرزق، بينما يحرم من هذا كله أهل المدينة والقاطنون فيها، فتتلظى نفوسهم غيظا، وتتميز كمدا وحقدا على هؤلاء الدخلاء الذين ينتزعون خير أقوالهم، وأطيب أرزاقهم، وغزوهم في مساكنهم، حيث استأثر الإنجليز بأحياء خاصة، ثم طغي منذ شهور سيلهم الجارف، وتدفقوا في منطقة القناة زرافات زرافات، حتى ضاقت بهم مناطقهم العسكرية في منطقة القناة، كما ضاقت بهم مدينتهم الكبيرة الجميلة المنسقة، التي بنتها لهم القيادة العامة على أحداث طراز إنجليزي، حتى لتتشابه البيوت إلى حد كبير، والتي تقع في الجنوب الغربي من الإسماعيلية. . أجل ضاقت بهم هذه الأماكن كلها فنزحوا إلى الأحياء الوطنية، وزحفوا عليها زحف العقارب الشائلة، والوحوش الضارية، وسكنوا في عمائرها الجديدة النظيفة، كما نزح إلى هذه الأحياء كثير من الأجانب من اليونانيين والأرمن، وغبر هؤلاء بقصد الربح والكسب، تاركين مساكنهم في الحي الأجنبي للإنجليز نظير مبالغ كبيرة من المال، إما بصفة (خلو رجل) أو عن طريق الإيجار من الباطن، فيترك الواحد منهم مسكنه(960/20)
النظيف الذي يسكن فيه نظير إيجار شهري قديم لا يزيد عن خمسة جنيهات لشقة متوسطة، مكونة من ثلاث حجرات مثلا، بعد أن يؤجرها للجنود الإنجليز نظير ثلاثين جنيها على الأقل بواقع عشرة جنيهات للغرفة الواحدة، ويؤجر هو في الحي العربي شقة تماثلها بعشرة جنيهات. فيكون ربحه من هذا كله خمسة عشر جنيها، دون أن يبذل في ذلك أي جهد، أو سعي له قدم. .!!
على هذا المنوال تسير الحياة في الإسماعيلية فتنكمش على الدوام مساكن المصريين الوطنيين، وتنمو مساكن الإنجليز باستمرار، حتى في هذه الأيام التي ارتفعت فيها العاطفة الوطنية، والتي استعدت فيها النفوس للثورة القومية، والجهاد النبيل، والتي كاد يخمده زعمائها بتعلقهم بالوعود البريطانية الخلابة، فلا يزالون يثقون بهؤلاء الخونة الأنذال، وكأنهم لا يزالون يجربون مع طول التجارب المريرة السابقة. .!!
وليس من الغريب أن ترى أسرة إنجليزية صغيرة تعيش في دكان صغير ليس فيه مياه، ولم يعد ليكون مسكنا لشخص أو عدة أشخاص. . إي والله لقد رأيت هذا المنظر الغريب العجيب في حي جميل من أحياء الإسماعيلية. . وليس من الغريب كذلك أن ترى الأسر الكثيرة تسكن بيوتا من الطين لا تختلف في قليل أو كثير عن بقية بيوت الفلاحين المصريين التي حولها. . وليس بعجيب أن تمتلئ الفنادق الإفرنجية في المدينة كلها بعائلات الجنود الإنجليز، تعيش العائلة في حجرة صغيرة أعدت في الأصل ليكون بها شخص واحد أو شخصان، كما أن بعض الفنادق المصرية قد اكتظ بهذا النوع من الوجوه الكاحلة، حتى أن من العسير أن يجد المسافر مكانا في الفندق يبيت فيه ليلة أو بضع ليل. .!!
أجل ليس من الغريب أن ترى هذه المناظر. ولكن كلمة الحق التي يجب أن نسجلها في هذا المكان، هي أن النظافة تشيع في كل مكان يقطن فيه هؤلاء، كما يسوده النظام والهدوء، حتى في تلك الأماكن المتناثرة في أنحاء الأحياء الوطنية، بحيث يخيل إلى أن المصريين لو انتقلوا جميعا إلى الأحياء الأجنبية النظيفة، وانتقل الأجانب إلى الأحياء الوطنية القذرة، لعمت الفوضى بعد أيام في الأحياء الأولى، ولساد النظام والنظافة والهدوء والسكينة في الأحياء الأخرى.!(960/21)
ومهما يكن من شيء فإن كل إسماعيلي يشعر من أعماق نفسه بكراهية عجيبة لهؤلاء الغاصبين. ويرى فيهم العدو اللدود لبلاده، سواء في ذلك الذين يستفيدون من الإنجليز بالعمل في معسكراتهم، أو الذين يتعاملون معهم بغير ذلك من أنواع المعاملات. وهي كثيرة في الإسماعيلية، حيث يوردون لهم اللحوم والخضر والفاكهة والألبان وغير ذلك، ويبنون لهم المساكن ويشيدون العمائر الضخمة الكبيرة، التي تضارع في ضخامتها وعظمتها عمائر القاهرة. .
وإن الأمل لكبير في أن تسيطر الوطنية المصرية على هؤلاء الإسماعيليين الذين تربطهم بالإنجليز صلات المادة، وتتغلب عليهم روح التضحية الخالصة، فيلبي كل منهم نداء الواجب المقدس، ويفصم ما بينه وبين هؤلاء من عري وثيقة، وصلات قوية، مهما بلغت أرباحه المادية
ولكن المخلص تتغلب عليه ناحية التشاؤم حينما يتصل من قريب بهؤلاء الذين يتعاملون مع الإنجليز من غير أبناء الإسماعيلية الخلص، وأعني أولئك الذين نزحوا من الصعيد لا يملكون شيئا، فأصبحوا بعد أعوام قلائل أثرياء أغنياء، لا تعرف كيف وصل إليهم المال، وأي الطرق سلكوا حتى أصبحوا يشار إليهم بالبنان في كل مكان. . أعني بهم هؤلاء الذين تغص بهم العربات الخاصة (البولمان) في قطر السكة الحديدية، وتضيق الشوارع في مدينة الإسماعيلية بسياراتهم الفارهة التي لا تكاد تسمع لها صوتا حينما تسير. . هؤلاء الذين يرتدون في الغالب الجاباب البلدي المصنوع من الصوف الجميل، و (الطاقية) الوبر الناعمة، الغالية الثمن، عليها (شال) ناصع البياض، وتتكون منها عمامة لا أثر للذوق فيها، ولا تصيب للوقار منها. . ويلفت نظرك خواتم كبيرة ذهبية في أصابع اليدين، منها الكبير والصغير، والفصوص الحمر والزرق، وتعجب لما بين ذلك كله من تنافر، مع ارتفاع قيمتها، وغلو ثمنها، ولكنه المال المزيف الذي يتدفق على هؤلاء من خزائن الإنجليز فيملأ منهم الجيوب، ويخرب الضمائر، ويفرغ العقول.!
إن قطع علاقاتنا بالإنجليز يوم أن يتم إلغاء المعاهدة اختيار للبطولة الوطنية، وامتحان للقومية المصرية، ويوم ذاك تبارك مصر كل من يفهم كنه هذا القرار، ويدرك حقيقة ذاك الاتجاه، وينفض يده من ذلك الوباء الماحق، والشر المبير، ويحاول سحق هذه القوة(960/22)
الغاشمة، والقدرة الضائلة الطاغية، التي نمدها نحن بمقومات حياتها. . وتبارك هذا النوع من أبنائها، وتلعن كل من أعرض عن نداء الواجب. ولم يصخ لصوت الضمير، ونداء الوطنية العادل. .
وإن في إمكاننا وحدنا أن نقطع شرايين الإنجليز ونحبسهم في حيز ضيق لا يستطيعون منه فكاكا، ونكرههم على الفرار من وادي النيل كله، وذلك حين نقطع ما بيننا وبينهم من صلات وعلاقات، فلا نطعمهم ولا نسقيهم ولا نتعاون معهم ولا نسكنهم ولا نشتري بضائعهم، وننظر إليهم نظرة احتقار وازدراء، ونعامل من يتعاون معهم معاملة الخائن لوطنه، ونضيق عليهم الحصار حيث يثقفون.!
ولقد علمتنا الحوادث أن الإنجليز لا يجدي معهم الأخذ والرد، والجدل والنقاش، والمباحثات والمعاهدات، فذلك باب أتقنوه، وبرعوا في سياسة اللف والدوران، وسياسة كسب الوقت. . وإنما تغلبهم القوة القاهرة، ويخضعهم العزم الصارم، ويذلهم التصميم الحازم، ولقد عرفت إيران كيف تصفع الإنجليز صفعة هزت كيانها، وزلزلت بنيانها، وحطمت أعصابها، وأكرهتها على الخضوع لرغبات الإيرانيين الأبطال. . فمتى نفهم هذه الحقائق ونعلم أن تحقيق الأمل، ونيل الأماني، هو بالكفاح والنضال، وندرك أنه لا قيمة لما ينتهجه الزعماء الآن من أقوال مجلجلة، وتصريحات جريئة، وخطب طنانة، وهتافات مدوية، وتصفيق جاد. . فمتى أدركنا ذلك أمكننا أن نقضي على هؤلاء الغاصبين، وأن نتخلص من شرهم، وأن تختفي من منطقة القناة هذه الوجوه الكالحة، كما اختفت من قبل من القاهرة والإسكندرية
عبد الحفيظ أبو السعود(960/23)
الدكتور لوتس
بمناسبة ذكراه:
1867 - 1931
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
كان الدكتور لوتس عالما من علماء التناسليات في المقام الأول، فقد كان عالما مجربا في عالم التناسليات والنباتات وانتقال الصفات من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر. وقد نظر الدكتور (لوتس) فرأى بثاقب فكره وبعد نظره، أن مصر ذات الجو الدافئ والسماء الصافية والشمس المشرقة، تحقق له ما يصبو إليه من بحث في التناسليات وتتيح له فرصا لا تتوفر له في غيرها من بلاد العالم. ولذلك كثيرا ما أبدى رغبة شديدة في إنشاء منصب أستاذ في كلية العلوم، لعلم التناسليات، وأنه يجب أن تلحق بعمل هذا المنصب حدائق للتجارب العلمية فقد قال: (إن إنشاء منصب أستاذ لعلم التناسليات في كلية العلوم لمن أعظم الأعمال في مصر البلد الزراعي، وذا خطر عظيم في تقدم مصر وتقدم العلم في العالم أجمع)
ولد جون بول لوتس سنة1867 من أسرة هولندية معروفة، ولما بلغ مبلغ الصبيان التحق بمدارسها، وكان في أثناء ذلك يبدي اهتماما زائدا بفصائل النباتات وأنواعها، ويحاول معرفة كل شيء عنها. فلما أتم دراسته ولي وجهه شطر ألمانيا ليشبع رغبته في دراسة علم النبات، وهناك في مدينة (ستراسبورج) توجه نحو أعظم أساتذة علماء النبات، للتتلمذ عليهم وعلي رأسهم العالمان (ولنباخ) و (لدوباري) وبعد دراسات طويلة وأبحاث كثيرة، رحل إلى جاوة ليتوفر هناك على درس النباتات الكثيرة؛ وخاصة نباتي (الجنيتيوم) والطفيلي المعروف (بلأنوفورا) في الدور الجنيني. حتى إذا انتهى من أبحاثه هناك عاد إلى هولندا، فيعين مدرسا لعلم النبات في جامعة ليدن، ونظرا لجهوده وأبحاثه عين سكرتيرا عاما لأكاديمية العلوم الهولندية
ولكنه في سنة 1911 استقال من منصبه، وأنشأ في بلدة (قلب) حديقة ومحطة الأبحاث والتجارب في علم تناسل النباتات، وكان غرضه إتمام أبحاث العالم (مندل) وتحقيقها، وما(960/24)
زال يواصل الليل بالنهار مجدا مكافحا في البحث والتنقيب حتى بلغ فيه مقاما علميا عاليا، وقد أنشأ لذلك مجلة سماها (جنتيكا) أي التناسليات
ولم يكتف بذلك بل دفعه حبه البحث والوصول إلى الجديد من الآراء إلى تحمل المشاق وتجشم الأسفار والاغتراب عن وطنه، فزار أفريقية الجنوبية وزيلندا الجديدة واستراليا، ليدرس الأحوال التي تنشأ فيها النباتات الهجنة في الطبيعة، ثم زار إيطاليا في ربيع سنة 1931 لإتمام بحثه عن نبات (مهجنات البرميولا) وهو من النباتات التي تنبت في الربيع، وهناك قضي نحو شهرين أتم فيهما عمله الذي بدأه قبل ذلك بسنوات في منطقة البحيرات الإيطالية
لقد كان الدكتور لوتس وافر النشاط خصب الإنتاج يسعى بجهد متواصل لا يكل ولا يسأم، لا تثنيه الصعاب ولا تعوقه العقبات في سبيل ما يسعى إليه وتحقيق ما يريد. فإذا تجاوزنا عن مؤلفاته العلمية والفنية جدنا له مؤلفات أخري ذات قيمة عظيمة في دراسة تناسل النباتات منها: (النشوء) وهو كتاب دون فيه آراءه الخاصة، و (تاريخ نشوء المملكة النباتية) وهو مؤلف عظيم اشتمل على دراسة تسلسلية للنباتات وتطورها، وكتاب (نظريات التسلسل) وقد ضم فيه محاضراته وغيرها. وقد كانت كتبه موضوعا للبحث والمناقشة؛ وذلك لأن العلماء كانوا يجدون فيها مجالا للبحث والإنتاج لما كان لصاحبها من ملكة نفاذة
وقد ظل عدة سنوات يحرر مجلة (سنترابلت) ويبسط فيها آراءه الخاصة ونتائج أبحاثه الكثيرة، وقد بلغ لوتس مقاما علميا عظيما فكان يدعي إلى كل المؤتمرات النباتية الدولية، وتهافتت على طلبه الجامعات الكبيرة في مختلف أنحاء البلاد، فسافر إلى الولايات المتحدة وزيلندا الجديدة واستراليا وجنوب أفريقيا ثم انتهى إلى مصر. . ومن خصائصه أنه كان لغويا بارعا ناضج الفكر، ومحدثا لبقاء حاضر البديهة. . يحفظ عددا من النوادر التي جمعها من رحلاته الكثيرة. وكان يروي ما شاهد في رحلاته بطريق شائقة جذابة يظهر فيها الظرف والسخرية من الحياة
وأضاف الدكتور لوتس إلى عالم التناسليات مذهبا يقول بأن أنواعا جديدة تنشأ من مناسلة الأشكال المعتمة، لأنها إذا تناسلت اجتمعت منها مجموعات مختلفة الصفات عن النسل(960/25)
الأول، وهذه المجموعات لا تلبث أن تنفصل وتبدو في أشكال جديدة مميزة، وعلى هذا الأساس تنوعت النباتات وغيرها في الزمن الماضي وفي الحاضر وستتنوع في المستقبل
وفي 17 نوفمبر سنة 1931 أذيع نبأ وفاته، فكان له وقع أليم في دوائر مصر العلمية. . لأنه كان إلى شهر إبريل من تلك السنة يقوم بعمله في جامعة فؤاد الأول كأستاذ زائر لعلم التناسليات على أحسن وجه وقد كان لكرم خلقه أثر كبير في إحكام أواصر الصداقة بينه وبين كثيرين من أبناء البلاد المهتمين بالتقدم العلمي؛ ورغم قصر المدة التي قضاها في مصر فإن اهتمامه بالمسائل النباتية الخاصة بمصر كان ذا أثر عظيم في هذا الميدان
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ(960/26)
رسالة الشعر
من صوت الشعراء:
على طلقات المدافع
للشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن
توجه أستاذ فاضل في العدد (959) من الرسالة الغراء بنداء إلى أربعة من الشعراء ذكر أسمائهم، وذكرني في عدادهم، وكان نداؤه قويا مجلجلا لأنه ظن - سامحه الله - أننا نحن الشعراء نعيش في المريخ. . فقد لا نسمع نداءه ما دمنا لم نسمع أصوات الشهداء في (القناة)
والحق أن الشعراء قد سمعوا أنباء القناة محبرة محررة. . حتى لقد كاد السأم من العبارات والخطب، والمقالات والكتب يزهدهم في قيمة الكلام. . فنحن اليوم إلى سلاح صوال، أحوج منا إلى لسان قوال. .
إن الشعراء يعيشون بينكم - أيها اللائمون - ويحسون بمثل ما تحسّون وبأكثر مما تحسون. . . ولكني أرجو أن تحمد في أمتنا الأفعال. . لا الأقوال
فمتى؟ متى يا رب نرى العمل الجدي قد بدأ؟ ونحن حينئذ نكون في طليعة الصفوف، وفي وسط الحتوف؟
أيها اللائم أسرفت الملاما! ... وتجنيت على الشعر اتهاما!
رب صمت ملأ النفس لظى ... ساعة الجد وأذكاها ضراما
قد شبعنا يا أخي فيكم نداء ... وشعبنا يا أخي فيكم كلاما. .
وحسبنا سئمتم خطبا ... وشبعتم بالعبارات هياما. .!
ما الذي يصنعه الشعر إذا ... لم يجد رمحا، ولم يلق حساما؟
هذه الأقوال لا تحمي شهيدا ... من ضحايا الحق، أو تشقى أواما
أطلقوا المدفع. . . لا حنجرة ... وارجعوا للسيف في الحق احتكاما
إننا نقدر أن نتحفكم ... بالقوافي نملأ الصحف ازدحاما!
إننا نقدر أن نتحفكم ... بالنشيد الحلو فردا، وتؤاما!(960/27)
أترى نقدر أن نسعفكم ... بصليل يملأ الجو اهتزاما؟
أترى نقدر أن نسعفكم ... بالذي يقطع أوصالا وهاما؟
خبرونا اليوم ما موقفنا ... أحروبا قد أردنا أم سلاما؟
كل يوم صفعة مخزية ... فعلام الصبر يا قومي علاما؟
لا يرد الشر إلا مثله ... فادفعوا الشر، وردوه كراما
لا تردوا عنكموا غدر الأعادي ... بالعبارات نثارا ونظاما. . .
الكلام اليوم لا يحمي حقوقا ... والبيان اليوم لا يرعى ذماما. .
أطلقوا المدفع من معقله ... واملئوا الجو دخانا وقتاما
(القناة) اليوم من روعها ... بالخطوب السود غدرا وانتقاما؟
أطلق الغاصب فيها طبعه ... كوحوش الغاب فرسا واهتضاما
ملئوا بالسلم أشداقهمو ... ثم راحو يستفزون السلاما
منطق تفضحه أفعالهم ... كشف الصدق عن الزور اللثاما
مهج الأحرار سالت أنهرا ... وعلى الصحراء قد طافت غماما
شهداء الحق في موكبه ... والبواكير إلى الله اختصاما
في (القناة) اليوم أجسامهم تهاوى ... وعلى الضفة فيها تترامى
صرعتها كف جبار تناسى ... أمسه المملوء خزيا وانهزاما. .
القناة اليوم صارت صفحة ... لمخازيكم، وللشعب وساما
إن صوت الحق قد أفقدكم ... جانب الإنسان وفقا واحتشاما
قد سمعنا وعدكم سبعين عاما ... فاسمعوا تصميمنا - يا قوم - عاما
محمد عبد الغني حسن
ذكرى 13 نوفمبر:
يوم الجهاد
للأستاذ على متولي صلاح
في صبحك الضاحى صحا الوسنان من طول السبات(960/28)
وتمرد العاني الأسير على الشكيمة والعصاة
وتأجج الحقد الدفين على القراصنة الغزاة
شبت ضرامات الجهاد فألهبت ظهر الطغاة
وتسعرت نار على الشطين تأكل كل عات
وغدت أناشيد الرعاة زئير آساد الغلاة
. . . فترنج العادي الأثيم وخر مغلول الشباة
بوركت يا يوم الجهاد المر. . . . . يا بدء الحياة
قيل للدخيل - وقد غدا يمشي على جمر الغضاة -:
ارحل لدارك واغتنمها فرصة قبل الفوات
اذهب وخلفك لعنة تنصب من كل الجهات
لا تتخذ لك منزلا فينا. . . . ودع شط القناة
لا تلتمس أمناً ولا ترفع قواعد للنجاة
لا ترس آساساً ولا تحلم بهذي الترهات!!
قسماً نزلزلها.:. وإن تك كالجبال الراسيات. .
علي متولي صلاح
إلى روح أمي:
الظل المنحسر
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
(الأم هي واهبة الحياة بعد الله؛ فإذا فقدها أصحاب الشعور أصبحت حياتهم أقباسا من وهج اللوعة، وفنونا من عبقرية الألم، وخريفا لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس. . كلمات تجد أصدق التعبير عنها في هذه الأبيات)
ذهب الظل الذي كان هنا ... نعمة من رحمة الله بنا
ذهب الظل وعمري لم يزل ... ظاعنا يشكو الصدى والوهنا
طاويا في كل يوم رحلة ... تنشر الغيب وتطوي الزمنا(960/29)
الوداع المر أسقاه بها ... وأنا أقتات منها الحزنا
كم عزيز في ثناياها مضى ... كان دمعي غسله والكفنا!
الصحاري الصفر حولي قصة ... أنا أدري منّهاها المحزنا
مد راويها مداها، ولقد ... أرهق النفس وأوهي الأذنا
ملها السمار حتى انتبهوا ... ونداء الفجر فيهم أعلنا. . .
ما مسيري في طريق عبرت ... تربة قبلي دهور ودنى!
فنيت من قبل أن تدركه ... وخبا في ليلها كل سنا
أنظر الأشباح فيه ذرة ... من هباء في فضاء شحنا
لست أجني من ثراه ثمرا ... غير كد وشجون وضنى!
رحلتي طالت، وطالت غربتي ... فمتي يا روح ألقي الوطنا؟!
كان لي ظل إذا اشتد اللظى ... آوت الروح إليه فحفا. . .
كان لي ظل إذا إمتد الدجى ... وجد القلب لديه المأمنا
كان لي ظل إذا عاصفة ... زمجرت أسمعني لحن المنى
كان لي ظل إذا اليأس طغى ... ردني بعد ضلالي مؤمنا
ذهب الظل فلا مأوي هنا ... لغريب ليس يدري السكنا
الهجير المستبد استعرت ... ناره تشوي وهبت ألسنا
وأنا تلفحني النار ولا ... أجد الظل الذي كان هنا
حائر الطرف، أداري حيرتي ... بالسكون الجهم حتى تسكنا
وأري موكب ليلي زاحفا ... أسود الجبهة يطوي الحزنا
قاسيا يقصف في خطوته ... كل عود كان مأمول الجنى
موحشا تزحف في ظلمته ... أرجل الوهم غلاضا خشنا
عابسا أوشك من سحنته ... أن أراه ناقماً مضطغنا
غارت الأنجم إلا خادعا ... حير العقل وأعشى الأعينا!
عبد الناس حياة ضلة ... وأنا أجحد هذا الوثنا
حيرت طالت على أصحابها ... كل من فيها ينادى: من أنا؟(960/30)
ذهب الأمل فيها يائسا ... وذوي المأمول فيها وانحنى
يهدم اليوم وفي سخرية ... ما أقام الأمس فيها وبنى!
ذهب الظل ولما أستريح ... من عناء السير إلا موهنا
ذهب الظل إلى بارئه ... فقضت أمي وودعت المنى
جنتي كانت. . ولكن ذهبت ... من أمامي مثلما يخبو السنا
لم تكن إلا جفوناُ أغمضت، ... ورؤى قرت، وروحاً سكنا. .
ثروة كانت. . وما اغبنني ... في تراب الأرض واريت الغنى!
لم يعد أثمن عندي من ثرى ... دفنت فيه أحبائي هنا. . .
حسن كامل الصيرفي(960/31)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
محنة الأخلاق في الجامعة:
(بين عينيك دفء عطره أريج الشهوة الفاغم، فمن لي باسترواحه!
أيامي مطيرة، والثلج الناصع يجلل الصنوبر ويزحف من القمم إلى مشارف الوادى، وليس ينمو غير الوحشة من حولي فأين مني الآن تلك الحرارة المشبوبة بين نهديك؟!
وحنايا عطفيك وردفيك، بين اختلاج اللمسة الحائرة وانكسار عينيك اللعوب، نفسي الفداء لمن يهبني رنوا إليها واستمتاعا بها!
أتلمس في الوردة المجلة بأنداء الفجر، خديك الناعمين يوم الوداع المشئوم ترف عليهما الدموع من نوافذ القطار، وفي الحسون المستضحي على أفنان الصفصاف الجاف، يدني المنهوك وقد ارتمي متناعسا على صدرك العامر متدثرا بشعورك الزاهية المسترسلة، أيّها الشقراء!
وفي الصرختين الذهبيتين النافرتين النانئتين في صدر اليم، نهديك المنطلقين بنداء الأنوثة الخالدة في صمت صارخ. ولقد قيل عن هاتين الصرختين إنهما تغريان العشق الخائب بالانفلات من طريق الحياة، وكم أتمنى أنا لو انتحرت بين نهديك!
طعم الحلال تعافه نفسي، وعلى شاطئ الحرام ألقيت مرساتي!
نعتوني بالحماقة، وفي الحماقة وجدت عقلي! وصفوني بالضلال، وفي الضلال تلمست هداى!
تناول الناس من قرباني، وأنا عند نفسي دنس الأدناس، فقدس الأقداس عند الناس هو عندي دنس الأدناس!
أنا موحد، وفي توحيدي حيوية الوثنية!
بل أنا وثنى، وفي وثنيتي صفاء التوحيد!
توحيدي حرية الخالق بازاء المخلوق، أما غيري فتوحيده عبودية المخلوق للخالق، والخالق والمخلوق سواء!
وثنيتي تقدس اللمس، وتفزع من طغيان البصر!(960/32)
وثنيتي تمجد الجسد، وتهزأ بدعوى الروح!
أجل، في كياني عصارة حياة لن أبتاع بها كوثر الأوهام!
هذه الكلمات (النظيفة) يوجهها أستاذ جامعي (فاضل) إلى حبيبته، أو إلى عشيقته. وأنقلها إليك من آخر كتاب أصدره الأستاذ (فاضل) الذي يشعل كرسي الأستاذية (الموقر) في جامعة إبراهيم، ويشرف بمثل هذه الأخلاق (العالية) على تربية جيل من الشبان والفتيات. . الفتيات آلائي دفع بهن الآباء إلى الجامعة، وتركوهن وديعة بين يدي الأستاذ (الجليل)!
إن القلم ليتعثر في يدي وأنا أنقل إليك مثل تلك الكلمات المخزية المخجلة، الداعرة الفاجرة، الهابطة الساقطة، التي تتمرغ في الوحل وتستقر في الحضيض. . وما كنت أحب والله أن ألطخ بمثل تلك الكلمات صفحات الرسالة ولكنه الحرص على سمعة الجامعة؛ ولهذا نقلت كلمات الأستاذ (فاضل) لأقدمها مع الأسى والأسف إلى معالي وزير المعارف، وإلى مدير جامعة إبراهيم، وإلى عميد كلية الآداب بتلك الجامعة، وإلى الآباء الذين تركوا فتياتهم كما قلت وديعة بين يدي هذا الأستاذ الذي يصور للناس طبيعة تكوينه الخلقي والنفسي في صفحات كتاب! إنني أقرأ مثل تلك الكلمات وما هو أكثر منها هبوطا ومع ذلك لا أعترض؛ على أصحابها لأنهم ليسوا أساتذة في الجامعة. . إن الأستاذ الجامعي بحكم منصبه وطبيعة مكانه مسئول عن تقويم الأخلاق وتهذيب المشاعر، قبل أن يكون مسئولا عن تثقيف العقول وتوجيه الأذهان. وهو بعد ذلك يجب أن يكون مثلا طيبا وقدوة حسنة لجيل يترسم الخطى ويقتفي الأثر وهو على أهبة الخروج إلى الحياة، خطى المشرفين عليه وأثر الموجهين له من الناحية الخلقية قبل الناحية العقلية!
ماذا يكون شعور جيل من الطلبة والطالبات نحو هذا الأستاذ الجامعي؟ وماذا تكون نظرته إليه وتأثيره به، إذا كان هذا الأستاذ ينسى واجبه ومسئوليته، ويتخلى عن حياته ووقاره، ويهبط في تصوير خواطره ومشاعره إلى مستوى السوقة أو مستوى الصبية المراهقين؟! وماذا يقول مدير جامعة إبراهيم وعميد كلية الآداب بتلك الجامعة، ماذا يقول كل منهما الآباء والقراء عن هذا الأستاذ (المراهق) الذي يريد أن يستمتع بالأعطاف والأرداف، ويحب أن يستروح أريج الشهوة الفاغم، ويود أن ينتحر بين النهود، وتعاف نفسه طعم الحلال وتشتهي طعم الحرام، ويرمي الناس بأن قيمهم المقدسة هي عنده قيم مدنسة، لأنه(960/33)
يستشعر الدنس في أعماق ذاته ويعترف به غير حياء، ثم ينتهي إلى أن الخالق والمخلوق في نظره سواء؟! إنني أود أن يتفضل أحدهم فيقنعني بأنه لا ضمير على الجامعة من أن يكون فيها أساتذة من هذا الطراز؛ يخرجون كتبا من هذا الطراز، ويشرفون على توجيه جيل يواجه الحياة بسلاح الخلق قبل أن يواجهها بسلاح العلم ليطمئن إلى المصير. .
أود أن يقنعني مدير جامعة إبراهيم أو عميد كلية الآداب بأن السمعة الخلقية للجامعة لا يمكن أن ينال منها أستاذ كالدكتور عبد الرحمن بدوي، وأن السمعة العلمية لا خوف عليها من كتاب ككتابه (الحور والنور)!. هذا إذا لم تكن هذه السمعة قد اهتزت بعد فضيحة (الإشارات الإلهية)!!
شعراء في الميزان:
لقد ظهر في عالم الأدب كتابك الأول يحمل بين دفتيه ألوانا من الفن، وأقباسا من العلم، وأفانين من الأدب اللباب. ولقد قرأت فاستمعت، وفكرت فاقتنعت، وأحسست فعشت بين النجوم لحظات. أعيدها كلما دفعني القلب، وأحسست يداي إلى عناق الكتاب، وطالما سرت معك في كتابك جنبا إلى جنب، ويدا في يد، وروح مع روح، غير أنك في نهاية الطريق تركتني لأسير وحدي في طريق آخر، وإن كنت ما أزال أراك!
هناك حيث تحدثت عن (وميض الأدب بين غيوم السيلسة) لإبراهيم دسوقي أباظة باشا، وهناك حيث امتد الحديث إلى الشاعر محمود غنيم. . لقد أنكرت شاعرية هذا الشاعر وأسرفت في الإنكار مما دفع بي لأن أقول لك: شيئا من الرفيق ليجمل النقد، وكثيرا من العدل ليستقيم الميزان! ترى هل يكون ذلك بعض الشرر من ثورتك المنادمة على (وميض الأدب)؟ أم هو عدم ارتياحك لشاعر يخالف مذهبك في (الأدباء النفسي)؟ إنني آمل أن تضع الشاعر في مكانه من شعراء، العصر، وإن تضع شعره في مكانه من موازين النقد
مصطفى محمود أحمد
مليج منوفية
أشكر للأديب الفاضل جميل رأيه في الكتاب وحسن ظنه بمؤلفه، وأشكره مرة أخرى أو أشكر القراء في شخصه لإقبالهم على كتابي الأول هذا الإقبال الذي قلت عنه مرة أنه(960/34)
أخجل القلم في يدي، القلم الذي ظلمهم يوما حين نعتهم بأنهم لا يقرئون. . بعد هذا أبادر فأقول له: إن رأيي في الشاعر محمود غنيم ليس بعض الشرر من ثورتي المندلعة على (وميض الأدب)، لأنه رأي قديم يسبق ظهور هذا الكتاب الذي هيأ له الفرصة لأطلع به على جمهرة القراء! وإذا كان هذا هو رأيي في شعر الأستاذ غنيم، فأود أن أؤكد للأديب الفاضل أنني لن أتحول عنه في يوم من الأيام إذا تحول هذا الشاعر عن فهمه لحقيقة الشعر: واستطاع على هدى هذا الفهم أن يسير في ركب الشعراء المحلقين. . ولقد كفاني الأديب صاحب الرسالة مشقة التفسير والتبرير، حين أصاب الهدف في الشق الأخير من سؤاله وأشار إلى مذهب الأداء النفسي تلك الإشارة التي تحمل بين طياتها الجواب!
وما دمنا ندور حول هذا الأداء في الشعر وننكر كل ما عداه، فمن الطبيعي أن نعترف بشعراء من طراز على محمود طه وإيليا أبي ماضي ومحمود حسن إسماعيل؛ وألا نقيم وزنا لغيرهم. . لأن ممن يرى أن الشعر كل (كلام) مقفى وموزون! هذا رأي أقدمه خالصا لوجه الله والفن، وإن القراء ليعرفون أنني لا أتحامل على الخصم ولا أجامل الصديق، بل ما أكثر الأصدقاء الذين أغضبهم رأيي في أدبهم فضنوا على بودهم وانتقلوا إلى معسكر الخصوم. . ومع ذلك فإنا كما قلت غير مرة لا أحب أن أتحكم في أذواق الناس، لأنه لا يدهشني أن يوجد مثلا من يفضل محمود غنيم على أمير الشعراء؛ بعد أن فضل عليه الرصافي فريق من الناس يجيد النكتة كما يجيدها بعض الظرفاء!
أنور المعداوي(960/35)
رسالة النقد
مسمار جحا
رد على تعقيب
للأستاذ أنور فتح الله
في العدد الماضي من الرسالة، تفضل الصديق الكريم الأستاذ علي أحمد باكثير بالتعقيب على نقدن لمسرحيه (مسمار جحا) المنشور في العدد رقم957
ونحن إذ نشكره على اهتمامه بالتعقيب على النقد، سنتناول التعقيب بالرد، لتوضيح رأينا في القضايا الفنية التي أثارها
. . . استهل المؤلف تعقيبه بالرد على المأخذ الأول، الخاص بإذاعة مؤامرة جحا وحماد قبل عرض قضية المسمار؛ فاتفق معنا على أن إخفاء المؤامرة يقوي عنصر التشويق. . وخالفنا في أن كشف المؤامرة قد أضاع الأثر القوي لهذا المشهد، لأنه يرى أن كيفية تنفيذ المؤامرة وما فيها من جدة وطرافة لا يؤثر معها انكشاف المؤامرة في خطوطها الأولى. . .
. . وجوابنا على ذلك أن هذا المنطق يستقيم لو أن المؤامرة أحبطت ولم تنفذ، إذن لما كان هناك قضاء على عنصر التشويق. أما والمؤامرة قد نفذت من خطوطها الرئيسية، فإن الكشف عنها قد قضى على التشويق في أهم أحداث المسرحية، وأضاع الأثر النفسي لهذا الحادث، ولا تغني الجدة والطرافة شيئاً في هذه الحالة ليست بذات أهمية بالنسبة لهذا الحادث الرئيسي. . بل إن في الكشف عن هذه المؤامرة قضاء على الرمزية في مشهد قضية المسمار، فأصبح مباشراً وفقد بذلك مضمونه الرمزي.
فبدلا من أن يترك المشاهد يتبين نفسه، ويلمس قضيته من خلال المشهد الرمزي، جاءه المؤلف بمرآة صريحة وقال له (أنظر في هذه المرآة لترى وجهك). وكنا نرجو أن يبدو مشهد المؤامرة على المسرح، في نفس الصورة المطبوعة من المسرحية، إذ لا فرق في البناء المسرحي بين المسرحية المعروضة والمسرحية المطبوعة، فعنصر التشويق يجب أن يتوفر في كل منهما
وقد رد المؤلف على المأخذ الثاني، الخاص بدخول امرأة جحا في مشهد القضية فقال. . إن(960/36)
دخولها كان أساسيا. . لأنها طرف ثالث في النزاع، وأنها لا يعنيها هدف زوجها القومي. . وأن ذلك يجلو جانبا من شخصيتي جحا وامرأته وهو عدم استحيائها من كشف دخائل بيتها. . وإن دخول أم الغصن قد تم في خلاله تحول غانم من التشدد إلى التسامح عندما رشاه الحاكم. . وسنحاول الرد على هذه الأسباب الأربعة.
أما السببان الأولان فلا ضرورة لهما لأن المؤلف أغنى المشاهد عن التساؤل عن موقف أم الغصن بعد خروجها من الدار. . وأبرزها في الصورة التي أرادها لها في نهاية المنظر الثالث عندما أرادت طرد حماد من الدار فأجابها بأنه لن يخرج من داره. . وكذلك في أول المنظر السادس عندما جعلها تلعن حمادا لأنه كان السبب في إخراجها من الدار. . أما من حيث جلاء ذلك الجانب من شخصيتي جحا وأم الغصن فكان في مقدور المؤلف إبراز ذلك في غير مشهد القضية. . ومن حيث تحول غانم بعد ما رشاه الحاكم فكان من السهل إبراز ذلك في صورة أوضح ودون الحاجة إلى دخول أم الغصن. . وذلك بأن ينتحي الحاكم بغانم في أحد جوانب المسرح ويسر إليه ببضع كلمات. . وإذن، فلم تكن هناك ضرورة لدخول أم الغصن في مشهد القضية. وليس من شك في أن دخولها لم يحبس الأثر النفسي مؤقتا عن صعوده - كما يقول المؤلف - بل أنه قضى عليه لتحول انتباه المشاهد ونفوره من هذه المرأة الثقيلة الظل
. . أما قول المؤلف بأن العرض على المسرحية قد جاء مصدقا لوجهة نظره؛ فجوابنا عليه، أننا إنما استقينا وجهة نظرنا هذه من العرض على المسرح، فسحلنا الأثر الذي انطبع في النفس؛ وأعتقد أن نظرة الناقد أكثر تجردا من نظرة المؤلف، لأنه إنما ينظر إلى عمله الفني كقطعة منه، عزيزة عليه!
. . . وفيما يخص بالمأخذ الثالث الخاص بمشهد السجن، وما أخذناه عليه من طول، وتحول في الحوار من الرمزية إلى المباشرة الخ. . فقد قال المؤلف أنه لم يعد للرمزية مكان فيه بعد ما صار الصراع بين جحا والحاكم صريحا، وإنه احتفظ بقدر كبير من رمزية التعبير. . ونحب أولا أن نلفت النظر إلى أننا نقصد الرمزية بين واقع المسرحية، والواقع الحاضر. . والذي نلاحظه أن المؤلف جعل الواقع المسرحي مطابقا للواقع الذي نعيش فيه، وبهذا مزج المشاهد من واقع المسرحية إلى واقعه الحي ولم يعد مندمجا في(960/37)
الحياة التي يراها على المسرح. . وكان على المؤلف أن يخالف الواقع في بعض الخطوط ليخدع المشاهد، ويجتذبه إلى المسرح. . أما القول بأن النغمة الخطابية كانت في مواضع خاصة لا تصلح فيها غير هذه النغمة لتساوق الحالة النفسية، فذلك ما تخالف فيه المؤلف، لأن الصدق في تصوير الحالة النفسية يؤدي إلى الطبيعة، أما النغمة الخطابية فتميل إلى المبالغة، وفي المبالغة افتعال وخروج على الطبيعة
وقد ورد المؤلف على المأخذ الرابع، الخاص بانتهاء المسرحية دراماتيكيا في نهاية المنظر الخامس، بأن هناك من يخالفني في هذا الرأي الخ. . وإيضاحاً لوجهة نظرنا نقول أنه وإن كان خط الصراع بين جحا وامرأته هو الخط الرئيسي في بناء هيكل المسرحية، إلا أن هذا الخط يعتبر خادماً لخط الصراع الرئيسي، ولما كانت وظيفة إبراز هذا الخط، فيجب أن ينتهي حيث ينتهي الصراع الرئيسي
. . ومن حيث المأخذ الخامس الخاص باقتصار المؤلف في تصويره لشخصية أم الغصن على إبراز اللون الواحد. . والشخصية المحورية تكون دائما مكتملة النضج من بدء الرواية. . نقرر أننا لا نعارض هذا الرأى، ولكنا نعارض ذلك التكرار في عرض اللون الواحد في كل منظر ظهرت فيه أم الغصن، وكان على المؤلف أن يوزع تصويره لجوانب هذه الشخصية على المناظر التي ظهرت فيها، لا أن يعرض الجوانب المختلفة لهذه الشخصية في كل منظر ظهرت فيه، وذلك دون مساس بموقفها من الصراع الذي تمثل أحد طرفيه
. . . أما شخصية الغصن، فقد عقب المؤلف على نقدنا لها بأنها تنطويع لى سيكلوجية دقيقة، وأن هذا البله شديد التعقيد، فهو واسع الخيال جامحه، وهو يجمع بين المتناقضات من ذكاء وبلاهة في وقت واحد، والاقتصار على اللون الواحد وهو الاهتمام بديكه أمر ضروري لبيان مراحل التطور النفسي لهذه الشخصية، ثم راح المؤلف يسرد علينا قصة التطورات النفسية. .
. . . وجوابنا على ذلك من ناحيتين. . الناحية السكلوجية. . والناحية الفنية. . أما عن الأولى. . فنلاحظ التناقص في تصوير شخصية الغصن لجمعها بين البله والذكاء وسعة الخيال. . فالبله كما هو معروف علميا درجة منخفضة من درجات الضعف العقلي. . ولا(960/38)
يمكن بحال أن يتصف صاحبه في نفس الوقت بالذكاء. . لأن الذكاء درجة مرتفعة من القوة العقلية. . وسعة الخيال تستلزم قدرة عقلية تسمو على درجة البله. والشخصية التي تجمع بين البله والذكاء وسعة الخيال غير موجودة أصلا في الحياة من الوجهة العلمية، وبهذا يكون التصوير السيكلوجي لهذه الشخصية متناقضا
. . . ومن الناحية الفنية، فإن تصوير هذه الشخصية كان قاصرا على إبراز البله في دائرة واحدة هي قصة حب عرجون لديكه، وهذه الدائرة تعاد وتكرر في لون واحد
وأخيراً. . فنحن نرى أن هذه الشخصية زائدة، ولا ارتباط بينها وبين أحداث المسرحية، ولو حذفناها لما تأثرت الأحداث
بذلك
وبعد. . لعلي أكون قد أخلصت في نقدي لمسرحية المؤلف الصديق، ليصل بفنه إلى الكمال الذي أرجوه له
أنور فتح الله(960/39)
الكتب
النيل
تأليف اميل لودويغ
ترجمة الأستاذ عادل زعيتر
الآن أنجزت قراءة كتاب ضخم! أنه كتاب النيل، وكفى به تعريفا أن نقول: ألفه أميل لودويغ وترجمه عادل زعيتر!
أنه يقع في (745) صفحة، أنيق الطبع، صقيل الورق، شأن ما تطبعه دار المعارف بمصر
هذا الكتاب العظيم، قضى لودويغ في تأليفه ست سنوات وقام من أجله بثلاث رحلات، درس في أثنائها جميع النيل الأبيض في أوغندة والسودان والنيل الأزرق في الحبشة حيث بلغ منابعه، وفي السودان. ومما يذكر أن المغفور له (الملك فؤاد) قد وضع باخرة تحت تصرف المؤلف تيسيراً لمهمته وعرفانا بأهميتها ولاح النيل للودويغ كعظماء الرجال فاستنبط من طبيعته تسلسل حوادث حياته، وأبان كيف أن الوليد وهو يتفلت من الغابة البكر ينمو مصارعا ثم تفتر همته ويكاد ينفد ثم يخرج ظافراً، والنيل في تمام رجولته يقاتل الإنسان فيقهر ويروض ويوجب سعادة الناس ولكنه قبل ختام جريته - يسبب من المآسي أكثر مما في شبابه، فقارئ الكتاب إذن إنما يقرأ وصف حياة، لا كتاب دليل، وإنما يقرأ مغامرات النيل لا مغامرات لودويغ
وأول ما يأخذك في الكتاب هذا الوصف الذي امتاز به لودويغ وتلك الملاحظة الدقيقة التي أثرت عنه، فيبهرك وصفه للطير وللبعير وللفيل، ويبهرك وصفه للتمساح والحوت والنعامة والزرافة والبقر الماء. . ويبهرك كذلك وصفه للشعوب وعاداتها وطبائعها، وهو ينقلك من أقزام الباكوا إلى الزنوج إلى أكلة لحوم البشر إلى شعب الباهيما في أوغندا إلى الحبشة ليعرفك بقساوستها وبشركك في أعيادهم وطقوسهم ويجمعك بمسلميها وبهودها ثم ينتقل بك إلى النوبيين
هذا الوصاف البارع والملاحظ النبيه لا ينتقل بك في وصفه انتقالا جغرافيا ليطلعك فيه على دقائق شعوب الوادي ونباتاته وحيواناته فقط، وإنما يطوي بك الزمن القهقري ليريك(960/40)
بعينيك حياة الفراعنة، ثم يعرض عليك رقا سينمائيا يريك فيه بسرعة الرق السينمائي. تتابع الأحداث في مصر، فترى الفرس والأغارقة، وترى إنشاء الإسكندرية - وهو أهم حادث في تاريخ مصر - وتجتلي طلعة كليوباترة التي عني المؤلف بسيرتها (وله كتاب مشهور)، وترى المسيحية تدخل مصر، وترى الإسلام، حتى إذا انتقل بك إلى الفاطميين والمماليك رأيت عجبا ورأيتك في زفة العرس أو في موكب الختان أو في صميم خناقات الأزهريين، وينتقل بك إلى العهد النابليوني فالعلوي ويجمعك بإسماعيل ويسرد لك قصة قناة السويس وينتهي بك إلى القول الفاصل الذي تردده اليوم في ثورتك الراهنة على الإنجليز؛ أنه يقول: (والحق أن العالم بأجمعه اسفاد من فتح البرزخ وإن مصر وحدها هي التي خسرت به. . . وكان إسماعيل رلغبا في إنشاء القناة من أجل مصر لا أن تكون مصر خادمة للقناة) ثم يهمس في أذنك: (إن الملك فؤادا قد أخبرني بأن إسماعيل كان عازما على التخلص من متبوعة الضعيف بأن يعلن في افتتاح القناة في خطبه مدوية استقلال مصر وينادي بنفسه ملكا، ولكن هذا المشروع قدمني بالإخفاق في الدقيقة الأخيرة لما كان من اعتراض دولة أجنبية)
وإذا ما وصل بك إلى عرابي وحركته أخذ عليه فقدانه حزمه في الساعة الحاسمة، ولكنه أنصفه، ونقل إليك قول الجنرال غوردون الإسكتلندي فيه: (ومهما يلعب به عرابي فإنه سيبعث قرونا في ذاكرة الشعب الذي لن يقول ثانية: خادم الخاضع) وقد يزدهيك قول لودويغ في الحديث عن ضرب الإسكندرية والغزو البريطاني: (إن الذي لا ريب فيه هو أن المصريين قاوموا ذلك الغزو الأجنبي في أسابيع بحمية لم يبدوا مثلها في ألوف السنين، كما أنهم أظهروا من العزم والشعور القومي ما لم يظهروا في تاريخهم الطويل) ويروي لودويغ أن يعرفك بكرومر على تقدير روحه العلمية ونزاهته وعطله من الزهو وإشعاره الفلاح المصري أنه مساو للباشا أمام الله والقانون، ولكنه يحملك كذلك على استنكار رعاية كرومر للامتيازات الأجنبية، ويثير فيك النقمة من سياسة التعليم في عهده، وأخيرا ينقلك إلى الثورة المصرية ويعرفك بسعد زغلول: (ويسأل مكدونالد رئيس الوزارة البريطانية زغلولا عن المكان الذي يود أن ترد إليه كتائب الإنجليز قائلا: إلى إنكلترا يا سيدي الوزير. . .)(960/41)
أما معاهدة سنة1936 فقد يروقك أن تعلم - وأنت الذي صفقت اليوم لإلغائها - أن لودويغ قال فيها: (إنها اتفاق لا يحقق جميع آمال المصريين لأن الإنجليز سيقضون سنين طويلة لإنشاء بضع ثكن، ولأن الجلاء عن القاهرة لا يؤدي إلى الجلاء عن قناة السويس. ومع ذلك تسير مصر لتستقل هي والسودان، ويتوقف كل شىء في السنوات الآتية القليلة على أحد البلدين يظهر فيه القطب السياسي الأعظم اقتدارا، وسيعرف هذا السياسي كيف ينتفع بالحرب القادمة لحل تلك المسألة) لقد قدمت للقارئ لودويغ وصافا مبدعا للحيوان والنبات، للشعوب والعادات، للأحداث والأحوال، ولكنني أحب أن أقول أنه وصف السدود - كسد أسوان - وقارن بينها وبين سدود العالم، ووصف الأقنية والري وحقا لا يستطيعه غير مهندس ري قدير. . .
وفي أثناء ذلك كله يحرص لودويع على استيفاء عنصر المقارنة والتشبيه، فيقارن بين محمد ونابليون مثلا، ويقارن بين زغلول وعرابي، ويحرص فيما يحرص على عنصر الحكاية الشائقة فيلذ لك أن تقرأ قصة بلقيس وملوك الحبشة، وتروقك حكاية الفرعون أمازيس الذي يعزل القضاة اللذين برءوه في فتائه لأنهم صدقوه مثبتا جهلهم. . . ويكافئ من حكموا عليه في شبابه لما أبدوه من فطنة. . . ويأمر بصب طشت من ذهب كان يغسل فيه رجليه وأن يصنع منه تمثال للرب. . . ويبجل الندماء هذا التمثال ويخبرهم أمازيس بأنه صنعه من الطشت الذي كان يبصق فيه. .) وتروقك حكاية النصرانية في مصر ودور القديسين بولس وأنطوان. . . وقد يدهشك أن تعلم أن ملك الحبشة عرض الزواج من الملكة فيكتوريا، وأن حربا نشبت على أثر الرفض، وأن تيودور ملك الحبشة لم يلبث حتى انتحر. . . وسيأتيك في الكتاب حديث النجاشي منليك في معركة عدوى، وحديث شامبليون الدءوب، وطرائف عن محمد علي في السودان ومقتل ابنه وما كان من أمر محمد المهدي والتعايشي ومقتل غوردون وحملة كتشنر ومقتل الخليفة ونبش قبر المهدي وقصة مارشان وفاشودة
وتروقك كثيرا وأنت تقرأ الكتاب لفتاة للودويغ بارعات وتعليقات طريفات وأحكام تشفي الصدور، فإذا تحدث عن الزنوج قال. (إنهم يجهلون أن الرجل في أوربة لايحق له أن يتزوج أكثر من امرأة واحدة ولكنه ينال زوج جاره بلا جزاء على حين يمكن الزنجي هنا(960/42)
أن ينكح عدة أزواج ولكن من غير أن يأخذ زوج الجار بلا عقاب)
وحين يكون منبع النيل في بلد آخر وتنافر الفريقان فصرف ساكن المجري الفوقاني منبع الماء وجهته عن خبث فإن الاشتراع الدولي في أمور الري لا ينفع (إنه اشتراع وهمي ككل حق دولي) وإذا تحدث عن الحكم الثنائي في السودان قال: (إن هذا النظام يثير الجميع لتوزيع الحقوق بين الفريقين توزيعا غير متساو يمكن أن يقال إن هذا قران شرقي تقدم به الزوج ما لها وتضع أولادها من غير أن تنال في مقابل ذلك غير حق الحياة، أي ماء النيل، وهي مع ذلك زوجة شرعية تمر في الأحوال العظيمة تحت أقواس نصر، راكبة حصانا بجانب بعلها، مغمورة بالحلي محجبة تماما. . .)
ولودويج إذا ما تحدث عن دخول مصر في الإسلام ووصف ما سبق ذلك من فوضى قال: (ولكن القضاء على تلك الفوضى كان يتطلب أمة جديدة لم يقدر على استعبادها الآشوريين والفرس والمصريون والبطالسة والرومان)، ولودويع يتحدث عن هوان المرأة لدي المسلمين وما رافق ذلك من عادات، ثم يقول: (ومن المحتمل أن تكون هذه العادات قد عاقت تقدم الإسلام الذي هو أكثر الأديان رجولة، ومن المحتمل أن يكون هوان المرأة قد أفقده العالم بعد أن كان في قبضته)
وسوف يعجبك قوله في محمد علي وما يراه من خير للبلد في ذبح المماليك وأنه قد قام بأول تجربة لاشتراكية حكومية؛ وأن حكمة نظام استبدادي في صلاح إداري وأنه أول من ضمن حرية الأديان وسلامة جميع طبقات المجتمع وأموالها
وإذا انتقل بك حديث الحشيش وأطرفك بأنبائه وقارن بينه وبين الغازات السامة قال لك كذلك (إن العدالة التي تحكم على متعاطي المخدرات بالسجن سنوات ولا تقضي بحبس تاجر المخدرات التركي غير بضعة أشهر لعدالة عرجاء)
ولعله من أبرز ما لحظه المؤلف تأثير الإقليم في الشعب المصري وقد سمي الشمس والنيل إلهي ذلك الإقليم. والشعب المصري مدين للشمس بالقناعة ومرح، الحياة ومدين للنيل بروح النظام والطاعة (وهنا قامت دولة فجعلت من فرعون إلاهاً وجعلت من العمل ضرورة ومن الري فنا ومن العقلي والجلي مبدأ. . . وفي هذا البلد يظهر أن الشمس خفضت إرادة التمرد بما فرضه من حساب، ومع ما كان من اختراع هذا الشعب أموراً(960/43)
كبيرة قبل الشعوب الأخرى بألوف السنين - حاشا ما تم في وادي الفرات - ومع ما كان من عظمة هذا الشعب بعلمه وآثاره التي تنطوي على حسابات بادية حتى في أقدم التماثيل، كان هذا الشعب العملي، المقدام. عاجزاً عن إيجاده لنفسه عالما علويا، فلم يكن العالم المنوع الذي تصوره عما بعد الموت غير صورة عن حياتهم في هذه الدنيا، فقد جعلهم خوفهم من العنصر، من النيل، أتقياء، اجتماعيين، محافظين)
وظاهرة الكتاب الأولي هذا العطف الذي يثيره في نفسك على الفلاح المصري، وذاك الرثاء البليغ لحاله والوصف الأليم لمعاشه وطرز حياته منذ أقدم العصور حتى اليوم، وتكاد صفحات الكتاب تدعو إلى تحريره وإلي النهوض به
وأما الجهد الذي بذله الأستاذ الجليل عادل زعيتر في التعريب فجبار. وأنت إذا لمست قدرته على إيجاد الأسماء العربية للمئات من النباتات والحيوانات، وأنت إذا أمعنت في تعريبه للمصطلحات العلمية وفي إشتقاقاته أنعمت أن جهده الفردي هو جهد مجمع علمي كامل الأدوات؛ وأيقنت أنه في وفرة نه في وفرة إنتاجه السنوي وفي صحة لغته وقوة بيانه مؤسسة قائمة بذاتها. وما تقول في من أتحف العربية بعشرين مجلداً ضخما من نفائس القرائح العالمية في بيان ناصع وأسلوب متين؟
وقارئ كتاب النيل وعيره من معربات عادل زعيتر يدرك أنه الرجل الذي أعلى راية اللغة العربية وذلل أمامها كل صعب وأخضع لشوكتها أرقى اللغات؛ وبرهن على أن اللغة التي وسعت آي الله بها كتاب العظيم لن تضيق عن كتاب في هذه الدنيا ما توفر على التعريب عالم نابغ، دءوب، ضليع كعادل زعيتر
هذا وقد تطغي على الأستاذ زعيتر أحيانا الناحية اللغوية فتظن أن الكتاب كتاب لغة، فتراه يطعم اللغة مقدارا من الكلمات الغير المألوفة، وتراه كثيرا ما يشكل الكلمات وكثيرا ما يؤثر غير الشائع على الشائع، وقد يكون هذا مأخذاً عليه في رأي البعض ولا سيما في كتب تكون في أصلها غامضة الفكر والتعبير ككتب لودويغ. وقد يكون في جنوحه إلى ذلك مقدارا في رأي البعض الآخر من رواد الفوائد اللغوية
ولعل من مبتكرات المعرب الموفقة اجتنابه تكرار النسبة في الكلمات المعربة خلافا لما اعتمده كتابنا فهو يقول: دبلمي وكلاسي وميكاني وبلجى. . بدلا من دبلماسي وكلاسيكي(960/44)
وميكانيكي وبلجيكي. . والمترجم حين يقدم لكتابه يرجو أن يكون قد قدم إلى إخوانه أبناء النيل هدية صغيرة ليعرب لهم بها عن مودته لوادي النيل، البلد الكريم الذي أحبه كثيرا
وفي الحق أن نقول للأستاذ زعيتر: إنها هدية كبيرة، ومن الحق أن نعيد القول:
هذا كتاب. . كفي به أن يكون عن النيل وأن يؤلفه أميل لودويغ وأن يعربه عادل زعيتر
القاهرة
مطالع(960/45)
البريد الأدبي
جمال الدين أباظة بك:
من هذا المكان يا عمي الذي طالما أحببت أن تقرأ لي فيه، والذي كنت تقرأ فيه ما سمعته قبل أن ينشر. .
من هذا المكان الذي رأيتني فيه منذ بدأت أكتب حتى اليوم. . من هذا المكان أحب أن أكتب. .
ولكن أتراني أستطيع؟ أحاول كلما فكرت في ذلك أن أنفي عنك فكرة الموت ولكنها تلاحقني فيك فأبعدها. . هي الحقيقة الثابتة. وأنا الجازع منها لا أستطيع أن أصدق. ولا أستطيع أن أكذب، فماذا أقول لك؟
أحقا انتهي الأمر؟ أحقا لم يعد في استطاعتي أن أذهب إلى الضاحية التي أشرقت بك حينا من الزمان، والتي بها لاقيت أو لاقينا نحن فيك المصاب؟ أحقا لن أخاطبك بعد الآن لأسألك رأيك وأطلب مشورتك؟ أحقا لن نلتقي في تلك الأماكن التي طالما التقينا بها؟ أحقا لن تراعيني بعد اليوم كما كنت تفعل. . أحقا لن تفرح بي كلما فرحت بنفسي وكلما فرح بي أبواي؟ وحقا لن تألم كلما ألمت لنفسي أو ألم لي أبواي؟ أحقا لن نذهب بعد اليوم في كل يوم سبت إلى الندوة المعهودة؟ أحقا لن تطلب مني أن أنتظرك في المقصف الملاسق لباب اللوق. . أحقا لن أقرأ عليك هذا الكلام. . أحقا خلت كل هذه الأماكن منك؟ أو لتخل هذه الأمكنة المادية. ولتقفر المناضد التي جلسنا إليها ولينضب الورد الذي نهلت منه. ولكن مكانك في النفس لن يخلو. . سأنظر إليه كلما أقدمت على أمر. . سأظل أنظر إليه ألتمس العون وأسأل المشورة. ولن يبخل. وهل بخلت أنت يوما. . وهل بخلت أنت بشيء. . كنت الصفاء في هذه الحياة العكرة. . كنا كلما فكرنا في شخصك تمثلت لنا القمة التي ترتقي إليها الإنسانية. بل تمثلت لنا الملائكة. كنت تثبت لنا بوجودك أن هذه المعاني السامية التي قد نسمع بها ولا نراها موجودة قائمة رائعة. سامية. جليلة. كانت إياك في تسامحك حتى لتنزل عن نفسك، وكانت إباك في رقتك حتى ليخجل محادثك من ماديته. ثم أنت لا تشعره بأرتفاعك. . وكانت إباك في تواضعك وترفعك. . في بساطتك وكبريائك. . وكانت إياك في كل خلقك. . وبعد. . عساه. . ماذا أقول. . أأقول ألمنا. .؟(960/46)
ما أهون! أأقول جزعنا. . لا يكفي. . أأقٌول فقدنا فيك إيمانا بالسمو مع التواضع والزهد مع العظمة. . أأقول فقدنا فيك إيمانا بإنسانية الإنسان. . لا. . إن شيئا من هذا لا يجرؤ أن يعبر عما فقدنا. كل ما نستطيع أن نقول إننا فقدنا جمال الدين أباظة بك. . فقدناه لراحته هو فنحن لم نفقده. . وإنما نفتقده ولا نجده. .
كنت هنا في الأرض تشيع حولك جوا ملائكيا، ساميا، طاهرا. رفيعا. وكنت تنعم بما تشيع وينعم به الجالسون إليك؛ ثم ما تلبث هذه الأرض النكدة أن تذكرك أنك ما زلت عليها ليشتبك الحديث في ماديات أنت أزهد الناس فيها. وإذا انتهت الجلسة وانصرف أصحابها واضطربوا مع الحياة أذلتهم وأذكرتهم بأنهم هنا. . هنا ما زالوا أبناءها وعبادها. وكنت وحدك تترفع عن عبادتها فلا تتجه بوجهك لغير الله. ولا تذكر في نفسك غير هذه الملائكية الرقيقة التي أنشأتها على الأرض. . أما الآن فاهدأ ولنجزع نحن. . اهدأ فقد أصبحت في المكان الذي طالما تمنيت أن تكون فيه، وها نحن أولاء ما زلنا ننظر إلى مكانك فترتفع معك بأفكارنا لنهدأ وترتاح جوانينا أن أصبحت أنت في أهنأ مقام ثم نهبط بأنفسنا إلى هنا. . إلى حيث نحن الآن، فتلتاع النفس حسرات وشوقا، ونريد أن نهرب من هذه الحياة إلى سمائك التي كنت تنشئها على الأرض فإذا هي قد ارتفعت إلى السماء التي أعد الله فيها جنات لك وللمتقين. . وهكذا نهرب من الحياة إلى الحزن عليك، ثم هي تحاول أن تلهينا ولكن عز فيك التلهي وجل فيك العزاء
وبعد فيا عماه. . ماذا أقول؟. أينتهي هكذا مجال القول فيك؟ أقسم أنه ما ضاق إلا لسعته وما عجزنا إلا لمصابنا. . فما أنت بالراحل الذي يكفي فيه البكاء؟ ولكنه من هذا المكان الذي أحببت أن تقرأ لي أحببت أنا أكتب إليك مما كنت تسمع وتقرأ. . ولكنني اليوم وا مصيبتاه. . لن أستطيع أن أسمعك. . فإذا قرأته فلن أعرف رأيك فيه. . وما أحتاج الرأي اليوم، فما هي إلا عبرات شاء بها القلم أن يجاري تلك العبرات المنهمرة من صاحبه. وكلانا العاجز الذي يعلم عجزه ولا يستطيع أن يواريه. بل هو يرى في الظهور به بعض التخفيف مما يلاقى. . وحسبنا الله ونعم الوكيل
ثروت أباظة
كيف نشأ إمام العبد؟(960/47)
سؤال طريف وجهه إلينا الأديب الفاضل الأستاذ محمد فتحي الجعلي بعد أن قرأ مقالنا السالف عن الشاعر المسكين. وقد لاحظت أن الإجابة عن أكثره تتضح من مقالنا عنه، فقد ألمعت إلى نشأته المضطربة، وتربيته العوجاء، لأحلل الدوافع النفسية التي أضرمت في شعره جذوات الأسف والاكتئاب. ولعل الناقد الفاضل ممن لا يقنعون بالتحليل الأدبي الذي يتخذ من تاريخ الأديب دعامة يستند إليها في فهم الدوافع والأسباب، فهو يريده تاريخيا محددا باليوم والشهر والمكان قبل كل شيء
ومن الإنصاف أن نقول إن سؤال الأديب عن الحياة إمام لتعليمة، يحتاج إلى إجابة لا توجد في المقال، وقد جاء في كتاب (تاريخ أدب الشعب) للأستاذين حسين مظلوم رياض ومحمد الصباحي: (أن إماما مكث في مدرسة ابتدائية مدة قصيرة، ثم انقطع فجأة عن التعليم دون أن يتم المرحلة الأولى) ولعله فعل ذلك ليلقي دراسته الواسعة في ساحة الحياة، بين صفحات الكتب، وفي الحلقات الأدبية التي كان يعقدها المتأدبون لعهده بالأندية والمقاهي الشعبية، وفيها تخرج أكثر أدباء العهد الماضي من كتاب وشعراء
وإني لأشكر الأديب الفاضل شكرا جزيلا، راجيا أن أكون عند ظنه الكريم
(الرمل)
محمد رجب البيومي
حول كلمة (سائر)
من الاطلاع على كثير من كتابات ومقالات الكتاب الذين يوردون كلمة (سائر) في كتاباتهم، روي أنهم يضعون هذه اللفظة للدلالة على (الكل والجميع) والحقيقة أنه لا يصح معنى هذه اللفظة إلا بمعنى (البعض أو البقية) فقد جاء في (القاموس المحيط) في مادة (السؤر): وفيه سؤرة، أي بقية شباب، وسؤرة من القرآن، لغة في سورة، والسائر الباقي لا الجميع. وضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية تطييبه، فقال بطني عطري وسائري ذرى. الخ. انتهى
وجاء أيضاً في (الشعر والشعراء) لابن قتيبة عند ذكر الشارح لبيت (الشنفرى) من قصية:
إذا حملوا رأسي وفي الرأس أكتري ... وغودر عند الملتقي ثم سائري(960/48)
سائري، أي باقي جسدي، وسائر كل شيء باقيه وليس جميعه، نبه عليه الحريري في درة الغواص
شرق الأردن
محمد سعيد الجنيدي العلوي
في كتاب (المهدي والمهدوية):
قرأت ما كتبه حضرة المفضال الدكتور أحمد أمين بك في سلسلة (اقرأ) تحت عنوان: (المهدي والمهدوية)، وهو بلا ريب في الذروة من الطرافة والفائدة، ككل ما يطلع به علينا الأستاذ من مقالات ومؤلفات في مختلف الموضوعات
وقد استوقف نظري أثناء المطالعة بيت من الشعر في أسفل الصفحة الرابعة والستين من الكتاب المذكور وهو:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن (جسمان) حللنا بدنا
وقد استعصى على ذهني معني الشطر الثاني، إذا الجسم والبدن مؤداهما واحد. والذي دعاني إلى كد الذهن في فهم هذا الشطر أنه من أقوال الصوفية، وللصوفية في تفسير الألفاظ مذاهب شتي ملتوية، وقد وقعت أخيرا على كتاب حديث يبحث في (الشعر الصوفي) للأستاذ نسيب الاختيار، فعثرت في الصفحة التاسعة والستين منه على هذه الأبيات مروية على هذا النحو:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن (روحان) حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
وهذه هي نزعة الحلاج الحولية والواحدة المطلقة التي يدين بها في حياته واضطهد من أجلها ومات في سبيلها، وهي تظهر أجلى ما يكون لفهم هذين البيتين على ضوء هذه الأبيات:
سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لا هوته الثقاب
ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... كخطة الحاجب بالحاجب(960/49)
وقد استعمل الأستاذ لفظه (كافة) مضافة إلى ما بعدها في الصفحة الثانية بعد المائة من هذا الكتاب وذلك:
(وأن من حق الصوفي أن يتخطى (كافة) النواميس الخلقية وأن يخرج على العرف الاجتماعي) - وإنما لفظه (كافة) كلفظه (قاطبة) تكون دائما ملازمة للنصب على الحالية لا تتغير بأي حال، وقد وردت هذه اللفظة بهذا الاستعمال في عدة مواطن من القرآن الكريم
هذا: ومن دواعي الغبطة وبواعث السرور أن يتفضل حضرة الدكتور الأستاذ الكبير أحمد أمين بك بقبول احترامي الفائق مقرونا بأطيب تحية، وإلى صاحب الرسالة اللامعة أرفع تحيتي الخالصة وتحيتي الباقية -
طرابلس المغرب
محمد مهدي أبو حامد(960/50)
القَصَصٌ
سلطان مصر الشهيد
الفصل السادس
في بركة الرطلي
للأستاذ محمود رزق سليم
كانت بركة الرطلي! إحدى منازه القاهرة، وكان الخليج المصري يجري حولها. ومنذ أن جرى حولها هذا الخليج، بني الناس فيها الدور والقصور، وامتلأت بالقطان. وزرع بعض نواحيها. فأنبتت نباتا حسنا. فاكتملت مباهجها بالزرع النضير والمياه والخرير، وأخذت الزوارق تغدو من حولها وتروح، تحمل المرتاضين وطلاب السلوة وعشاق السمر. وبخاصة عندما يحل الأصيل أو يقبل الليل. وعلى حفافيها أضواء منتشرة. ومحال للهو معدة، تستقبل الوافدين إليها ببشاشة وترحاب، وتودع الراحلين عنها على أمل وإياب. .
وعاش في هذه البركة، وارتادها، كثير من شياطين العبث وأبالسة الفساد، وعشاق المنكر، فالتاثت بذلك سمعتها حينا. وأتى عليها حين من الدهر آخر، ابتني حولها كثير من العلية بيوتهم، فعجت بالرؤساء منهم والأعيان، وطلب فيها لهم اللقاء الجميل، والتأم الشمل في المجلس الحافل. وتلاقي منهم الأحباء والخلصان. ونافست البركة في كل ذلك؛ الأزبكية وبساتينها. وقبة يشبك وحدائقها
وفي بعض ليالي عام 919 هـ كنت تشهد هذه البركة، وقد تحولت إلى قطعة من نور لكثرة ما أضىء بها من قناديل. فقد نادي محتسب القاهرة (الزيني بركات بن موسى) بين سكانها بأمر من السلطان، أن يقيموا ضروب الزينة ومعالم الأفراح على جبهات دورهم وصفحات محالهم، ابتهاجا بشفاء السلطان مما ألم بعينيه، وكان السلطان قد بارتخاء في جفنه، وحار في علاجه. ثم عكف عليه أطباؤه وكحالوه - أطباء العيون - حتى من الله عليه بالشفاء، وكان الناس خلال مرضه قد أرجفوا، ودبت بينهم الإشاعات عنه دبيبها المسموم، حتى قال قائلهم: إن السلطان قد عمى، وأصبح لا يصلح للسلطنة، وصاروا ما بين متوجع له، وبرم به، ولاه عنه، وقد داخل أمراءه ومماليكه الريب فيه وحدثتهم النفس(960/51)
بالخروج عليه والغدر به، ابتغاء سلطان جديد يسخو عليهم ويجود، بدل هذا الشحيح الضنين، وقد بلغت أبناؤهم مسامع السلطان فاضطر إلى جمعهم وتوبيخهم حتى أقسموا له يمين الولاء على المصحف العثماني. . . ومن ثم أخذ يسترضيهم بشتى ضروب الاسترضاء
فلما بريء السلطان من مرضه، أحب أن يشيع خبر برئه بين الناس حتى يعلم به القاصي والداني، ويهيئ لهم، رغم أنفسهم وقتا للهو، ويفتح بابا للتمتع والابتهاج، فرحا بشفائه. .
لي سكان القاهرة نداء محتسبها، وازدانت بركة الرطلي وبدت في أجمل حلة، وتوجهت الطيقان بقطع الأقمشة الحريرية الملونة الجميلة، وعلقت حمائل القناديل وأمشاطها، واجتمعت كل معدات الهو ودواعيه، من طعام شهي، وشراب طلى، وغناء جديد، وألعاب نارية يحرق فيها زيت النفط
ومادنا الليل حتى كان اللهو قد نادي ببوقه، واستوي على سوقه. وأخذت الزوارق تذهب وتؤوب في الخليج، مرة ينفرج عنها ظلام الليل البعيد، كأنها ابتسامات العبيد، ومرة تنساب عائدة إلى ظلالته، فيطوي عليها حفافي ملاءته. وهكذا لبثت البركة في تبرجها وزينتها ثلاثة أسابيع متوالية، وهي مراد اللاهي وروضة الحائر، ومراح المرتاض، وموعد العشاق، حتى قال فيها الشاعر:
إلي بركة الرطلي أني ميمم ... لأبرئ كبري أو أزيل سقامي
ففيها لمعمود الفؤاد لبانة ... يطب برياها من الأسقام
إذا ظمئت نفسي من الوجد والهوى ... ذهبت إليها كي أبل أو أوامي
وأهفو كما أهوى إليها كريمة ... بغير عتاب عندها وملام
بها الراح تسقي في الكؤوس وتارة ... تدار بلحظ مرة وكلام
بها متع للعين والسمع والنهى ... وليست لعشاق الهوى بحرام
ولم تكن البركة وحدها منفردة بهذا التبرج - حينذاك - بل كانت كذلك، القلعة والقاهرة وأسواقها، وهناك كانت مصر العتيقة، وبولاق وغيرها وتبارى الأمراء وكبار الموظفين والقضاة والأعيان والخليفة في إظهار سرورهم، وبالغوا في مشاركة سلطانهم فرحة بهذا الشفاء: فجعلوا دورهم بالأعلام والثريات والأقمشة النفسية، وكانت أنواع الموسيقا تعزف(960/52)
في مختلف النواحي، حتى لتحسب القاهرة وضواحيها قد لبست ثياب العيد وحدها دون سائر البلاد بهرت الزينة الأنظار، وخلت الأفئدة، وجذبت إلى البركة مئات من الرواد، كان من بينهم شاعرنا (شهاب الدين) فجاس خلالها، وأشبع نفسه من مباهجها، وملأ فجاج قلبه من مرائيها، وعذى عواطفه المهتاجة بالجميل الرائع من مفاتنها
وبينما كان يلج في رياضته إذ التقى عرضا بصديقه الفقيه (ولي الدين) فحياه، وفي تحيته شيء من الإنكار والعجب. وقال له: (ويحك أيها الصديق! ألا تزال في نفسك بقية من شباب؟ ما الذي جذبك إلى بركة الرطلي؟)
ولي الدين: ما أحوج الشيب إلى متعتها! إنها لتجري ماءه، وتحي دماءه، وتطلق حياءه. . .
شهاب الدين: ألا تتركها لنا معشر الشعراء. . . يلهينا انسجامها مع عواطفنا، واتساقها مع احساساتنا عن البحث وراء حلالها وحرامها؟
ولي الدين: معاذ الله أن يغرينا دنسها أو يقربنا نجسها. والله يا بني! إن الحق أن لي ذوق المؤرخ الذي يجب أن يعرف كل شيء ويدون في صفحة فكره عن كل واقعة سطوراً، ويرسم في رقعة ذهنه لكل حادثة صوراً. لا يعنيه منها غير تسجيلها، قبل البحث في حرامها وحلالها. ثم هو بعد ذلك لا يصيبه من حلالها قلامة، ولا يصيبه من حرامها ظلامة
شهاب الدين: أما تزال تتأول أيها الشيخ كعادتك، وتهيئ لنفسك من كل حرج مخرجاً حسناً؟ أليس خيراً لك من بركة الرطلي، جزيرة بولاق حيث يقام مولد سيدي إسماعيل الأنبابي؟. . . أين صديقنا علم الدين الخياط؟
ولي الدين: هو هنا في عقر حانوت، ومعه أصدقائنا، وأنا منهم على ميعاد
(يؤمان الحانوت ويقابلان الأصدقاء، ومنهم علم الدين والتاجر والمستوفي وغيرهم. ويجلسان بين ترحيب حافل وفرح شامل ثم تدار على الجميع طاسات السكر والليمون، ثم يدبرون أكواب الأحاديث)
علم الدين الخياط يوجه الحديث إلى الشاعر شهاب الدين، قائلا - وكان لم يره منذ حين -:
حمام الأيك ما ألهاك عنى ... ومنذ أبعد الأطيار مني
شهاب الدين:
ذهبت وراء آمالي أغنى ... وعلمني الغنا طول التمني(960/53)
وما أنا بالغ منها قليلا ... وإن أك تحت شرفها أغني
لقد شغلتني - أيها الصديق - مباهج القاهرة ومفاتنها. وهي جديرة بأن تلهي وتشغل. وقد قيل:
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت
لقد اعتاد القاهريون الترف، وأخذوا بأسباب الرفاهة منذ عم بينهم الرخاء وازداد الخير، ومنذ وجدوا في سلطانهم وعاداته وتنقلاته وأوامره ما يدعو إلى اللجاج في الترف والرفاهة، فلجوا وأترفوا ولو كارهين. . . فحضت في الذي خاضوا. . . ما دمن نرى في كل آونة موكبا وحفلا، وفي كل يوم انتقالا وسفرا، وفي كل التفاتة حشدا وركبا. . .
علم الدين الخياط: هل هذا هو ما شغلك عنا؟ وما نصيبك أنت من كل هذه البلهنية والنعيم؟ إذا لم يكن إلا نصيب المتفرج بهما المشاهد لهما فحسب، لا نصيب المتمتع اللاج في غمراتهما، فنحن إذن متساوون. .!
للقصة بقية
محمود رزق سليم(960/54)
العدد 961 - بتاريخ: 03 - 12 - 1951(/)
أمريكا التي رأيت:
في ميزان القيم الإنسانية
للأستاذ سيد قطب
- 3 -
الأمريكي بدائي في ذوقه الفني، سواء في ذلك تذوقه للفن، أو أعماله الفنية.
موسيقى (الجاز) هي موسيقاه المختارة. وهي تلك الموسيقى التي أبتدعها الزنوج لإرضاء ميولهم البدائية، ورغبتهم في الضجيج من ناحية، ولاستثارة النوازع الحيوية من ناحية أخرى. ولا تتم نشوة الأمريكي تمامها بموسيقى (الجاز) حتى يصاحبها غناء مثلها صارخ غليظ. وكلما علا ضجيج الآلات والأصوات، وطن في الآذان إلى درجة لا تطاق. . زاد هياج الجمهور، وعلت أصوات الاستحسان، وارتفعت الأكف بالتصفيق الحاد المتواصل، الذي يكاد يصم الآذان.
ولكن الجمهور الأمريكي مع هذا يقبل على الأوبرا، ويصغي إلى السيمفونيات، ويتزاحم على (البالية) ويشاهد الروايات التمثيلية (الكلاسيك) حتى لا تكاد تجد مقعداً خالياً، ويقع في بعض الأحيان ألا تجد مكاناً إذا أنت لم تحجز مقعدك قبلها بأيام، على غلاء الأسعار في هذه الحفلات.
ولقد خدعتني هذه الظاهرة في أول الأمر، بل لقد فرحت بها في داخل نفسي، فقد كنت دائم الشعور (باستخسار) هذا الشعب الذي يصنع المعجزات في عالم الصناعة والعلم والبحث، ألا يكون له رصيد من القيم الإنسانية الأخرى، وأنا شديد الإشفاق على الإنسانية أن تؤول قيادتها إلى هذا الشعب، وهو فقير من تلك القيم جميعا.
فرحت إذن حين شاهدت هذه الظاهرة، لأن الجمهور الذي يقبل على الفن الراقي غير ميئوس منه مهما تكن عيوبه، ومتى فتحت هذه النافذة في شعوره فالأمل كبير أن تطل منها أشعة أخرى كثيرة
وقد دفعني الاهتمام بهذه الظاهرة إلى أن أتقصى كل شيء عنها، في أوساط مختلفة، وفي مدن متعددة، ولكن تتبعي لسمات الوجوه، ومحادثاتي مع الكثيرين والكثيرات من رواد هذه(961/1)
الأماكن - من أعرف ومن لا أعرف قد كشفت لي - مع الأسف - عن أن الشقة ما تزال بعيدة بين روح هذا الفن الإنساني وروح الأمريكان. إن مشاعرهم عنها محجبة إلا في النادر، وإنهم إنما ينظرون إلى المسألة من زاوية اجتماعية بحتة. فالأمريكي المثقف لابد أن يكون شهد هذه الألوان وذهب إلى تلك الأماكن، حتى إذا دار الحديث عنها في مجتمع شارك في الحديث. فالعيب الأكبر في أمريكا ألا يشارك الإنسان في الحديث، وبخاصة بالنسبة إلى الفتيات، إذ المطلوب منهن أن يجدن دائما موضوعات جديدة إلى الموضوعات الأمريكية الخالدة وهى: مسابقات الكرة. وأسماء الأفلام. والممثلين والممثلات. وحوادث الطلاق والزواج. وماركات وأسعار السيارات.
وبهذه الروح ذاتها تفد الجموع على المتاحف الفنية، عابرة عبورا خاطفا بالقاعات وبالمعروضات، بطريقة لا تدل على تذوق أو ألفة لهذه الأعمال. كما يذهبون أفرادا وجماعات لمشاهدة مناظر الطبيعة خطفا، والمرور بأقصى سرعة السيارات بالأماكن والمناظر لجمع مادة للحديث، ولتلبية الميل الأمريكي الطبيعي إلى الجمع والإحصاء.
ولقد كنت أسمع في مبدأ وجودي بأمريكا أن أحدهم زار كذا وكذا من المدن والبلاد والمناظر والمشاهد، وقطع كذا ميلا في رحلاته السياحية، وهو يعرف كذا عددا من الأصدقاء، فأعجب بهذه المقدرة على صنع هذا كله، وأود لو أستطيع منه شيئا! ثم عرفت فيما بعد كيف تتم هذه المعجزات. . . يركب أحدهم سيارته وحده أو مع أسرته أو أصحابه في رحلة، فيعدو بها عدوا على آخر سرعتها، مخترقا بها المدن والمسافات، عابرا بالمناظر والمشاهد، وهو يقيد في مذكرته الأسماء والأميال. . ثم يعود فإذا هو شهد هذا كله وأصبح له الحق في الحديث عنه! أما الأصدقاء فيكفي أن يدعي إلى حفلات التعارف، وهناك يلتقي بالوجوه أول مرة، والقائم بالدعوة يعرفه بالحاضرين واحدا واحدا وواحدة وواحدة، وهو يستكتب من شاء منهم اسمه وعنوانه وكذلك هم يفعلون معه. وعلى الزمن تتضخم مذكرته بالأسماء والعنوانات. فإذا هو صاحب أكبر رقم من الأصدقاء والصديقات. وقد يفوز في مسابقة تقام لهذا الغرض. وما أكثر وما أغرب المسابقات هناك!
وهكذا يقاس علمك وثقافتك أحيانا بقدر ما قرأت وما شهدت وما سمعت. كما تحسب ثروتك المادية بعدد ومقدار ما تملك من مال وعقار سواء بسواء!(961/2)
وليست هذه عقلية الجماهير وحدها، ولكنها كثيرا ما تكون عقلية المفكرين والباحثين. فلقد خطر للمفكرين في أمريكا أنه لا يصح أن تكون دولتهم أغنى دول العالم، وشعبهم أكثر شعوب الأرض حضارة صناعية، وحضارة علمية، ثم لا يكون لهم من الثروة الفنية مثل ما لبعض الشعوب الفقيرة كالطليان والألمان.
ولديهم المال - والمال يصنع المعجزات - وإن هي إلا سنوات حتى كان لهم من متاحف الرسم والنحت أفخمها وأضخمها. وجمعت لها القطع الفنية من كل فج، وعمرت بالنادر والثمين من هذه القطع، التي لم يبخلوا على شرائها بالمال. وكلها قطع أجنبية إلا القليل؛ لأن القطع الأمريكية بدائية وساذجة إلى حد مضحك بجوار تلك الذخائر العالمية الرائعة.
وكذلك كان لهم من الفرق الموسيقية العازفة وفرق (الباليه) الراقصة، أكثرها مهارة وإتقانا، ومن مديري هذه الفرق أعظمهم عبقرية وإبداعا. . وكلهم من الأجانب إلا القليل.
ثم خرجت الإحصاءات الدقيقة تعلن عما تملك أمريكا من الثروات الفنية الضخمة، المشتراة بالمال، ولكن بقى أمر واحد بسيط: أن يكون للنفس الأمريكية نصيب في هذه الثروات؟ بل أن يكون لها مجرد التذوق الفني لهذا التراث الإنساني الثمين!
وخطر لي أن أمتحن هذه الأرقام في متاحف الفن، كما أمتحنها في دور الأوبرا وما إليها.
ذهبت للمرة العاشرة إلى متحف الفن في سان فرنسكو وجعلت مادة امتحاني إحدى قاعات الصور من الفن الفرنسي، ووزعت اهتمامي على ما فيها من الصور، ولكنني ركزته على صورة واحدة بارعة اسمها: (ثعلب في بيت دجاج) ولا تملك الألفاظ أن تنقل إلى القارئ روعة هذه الصورة العبقرية التي صور فيها الرسام جملة مشاعر عميقة مركبة في لوحة ليس فيها وجه إنسان يسهل على الرسام أن يصور هذه المشاعر فيه. . ثعلب في بيت الدجاج، والجو داكن خانق وقد هجم الثعلب أول ما هجم على دجاجة أم مفرخة، بدت مكروبة مجهدة، في مخالب الوحش المكشر؛ وقد فزع صغارها، وتناثر البيض الباقي تحتها؛ على حين تناثرت زميلاتها في فراغ اللوحة، ووقف الديك - رجل البيت - وقفة المغلوب على أمره، الحائر الذي لا يجد مخلصا لزوجه المكروبة وهو حاميها! أما الأخريات فواحدة جازعة مأخوذة، وأخرى قانطة مشمئزة أن يكون في الحياة كل هذه الشناعة، وثالثة حائرة متسائلة: كيف وقع هذا؟ والجو كله والألوان في اللوحة العبقرية(961/3)
تصور ما لا تدركه الألفاظ.
واسترحت إلى مقعد من المقاعد التي جهزت بها القاعات تجهيزا جميلا بديعا، ليستريح عليها الزائرون عند التعب من المشاهدة والطواف، ورحت أستعرض الملامح والسمات، وأنصت إلى الملاحظات والتعليقات.
وانقضت على في جلستي أربع ساعات كاملة، مربى في خلالها مائة وتسعة، فرادى وأزواجا وجماعات، معظمهم من الفتيات والفتيان الذين يتواعدون على قضاء بعض الوقت في حديقة المتحف، ثم في المتحف ذاته، لأنه ينبغي للفتاة الاجتماعية أن تشارك في الحديث، وأن تجد موضوعات للحديث.
كم من هؤلاء التسعة والمائة بدا عليه أن يحس شيئاً مما يرى؟ واحد فقط تلبث أمام الصورة المنتقاة نحو دقيقتين، وتلبث في القاعة كلها نحو خمس دقائق. . ثم طار.
وكررت التجربة في قاعات المتحف الأخرى، ثم كررته في متاحف أخرى في عدة مدن، ثم انتهيت إلى أن قلة نادرة من هذه الكثرة الكثيرة التي تتضمنها إحصاءات الزائرين تدرك شيئاً من هذه الثروة الفنية الهائلة، التي جمعها الدولار من كل بقاع الأرض، وبقي أن يخلق الحاسة الفنية، التي يبدو أنها لا تستجيب لسحر الدولار!
الفن الوحيد الذي يتقنه الأمريكان - وإن يكن سواهم لا يزال يفوقهم في الناحية الفنية فيه - هو فن السينما. وهذا طبيعي ومنطقي مع تلك الظاهرة التي ينفرد بها الأمريكي: ذروة الإتقان الصناعي، وبدائية الشعور الفني. وفي السينما تبدو هذه الظاهرة واضحة إلى حد كبير.
لا يرتفع الفن السينمائي بطبيعته إلى آفاق الفنون العليا: الموسيقى والرسم والنحت والشعر، ولا إلى فن المسرح كذلك، وإن كانت إمكانيات الصناعة الفنية وإمكانيات الإخراج في السينما أوسع بكثير. وأقصى ما يصل إليه فن الإخراج في السينما من إبداع. هو أقصى ما يبلغه فن التصوير الشمسي. ثم تظل المسافة بينه وبين المسرح مثلاً، كالمسافة بين التصوير الفوتوغرافي والتصوير بالريشة. هذا تتجلى فيه عبقرية الشعور، وذلك تتجلى فيه مهارة الصناعة.
والسينما فن الجماهير الشعبي، فهو فن المهارة والإتقان والتجسيم والتقريب، وهو بطبيعة(961/4)
اعتماده على المهارة أكثر من اعتماده على الروح الفنية. . يمكن أن تبدع فيه العبقرية الأمريكية. . ومع هذا فما يزال الفلم الإنجليزي والفرنسي والروسي والإيطالي أرقى من الفلم الأمريكي، وإن كان أقل صناعة ومهارة.
والكثرة الغالبة من الأفلام الأمريكية تتجلى فيها بدائية الموضوع، وبدائية الانفعالات، وهي في الغالب أفلام الجريمة البوليسية، وأفلام رعاة البقر. أما الأفلام العالية البارعة من أمثال: (ذهب مع الريح) و (مرتفعات وذرنج) و (ترتيل برنادوت) وما إليها فهي قليلة بالقياس إلى النتاج الأمريكي. وما يرد من الفيلم الأمريكي إلى مصر أو البلاد العربية لا يمثل هذه النسبة، لأن الكثير منه من أرقى الأفلام الأمريكية النادرة. والذين يزورون دور العرض في أمريكا هم الذين يدركون تلك النسبة الضئيلة من الأفلام القيمة.
هنالك فن آخر برع فيه الأمريكان، لأن ما فيه من المهارة في الصناعة والإنتاج، أكثر مما فيه من الفن العالي الأصيل. . ذلك هو فن تمثيل المناظر الطبيعية بالألوان، كأنها فوتوغرافية صادقة دقيقة. ويبدو هذا في متاحف الأحياء المائية والبرية، إذ تعرض هذه الأحياء أو أجسادها المحنطة في مثل مواطنها الطبيعية كأنها حقيقية، وتبرع ريشة الرسام، في تصوير هذه المواطن، مشتركة مع التصميم الفني للمنظر، وتبلغ حد الإبداع
ثم ندع تلك الآفاق العليا في الفن والشعور، لنهبط إلى ألوان الملابس وإلى مذاق الأطعمة.
إن بدائية الذوق لا تتجلى في شيء كما تتجلى في تلك الألوان الصارخة الزاهية، وفي تلك التقاسيم المبرقشة الكبيرة وبخاصة ملابس الرجال. . . ذلك السبع أو النمر الواثب على صدر الصدرية. . وذلك الفيل أو الثور الوحشي الجاثم على ظهورها. تلك الفتاة العارية الممددة على رباط العنق من أعلى إلى أسفل، أو تلك النخلة الصاعدة فيه من أسفل إلى أعلى. . .
لطالما تحدث المتحدثون عندنا عن (فستان العيد) في الريف، أو عن ثوب العروس في القرية، بألوان الزاعقة البدائية، التي لا تربط بينها رابطة، إلا أنها كلها فاقعة الألوان. . ليت هؤلاء يرون معي أقمصة الشبان في أمريكا لا ملابس الفتيات!
ولطالما تحدث المتحدثون عن (الوشم) عند الغجر، أو في أواسط أفريقية، ليتهم يرون الشبان الأمريكان وصدورهم وظهورهم، موشمة بالوشم الأخضر: ثعابين وحيات، وفتيات(961/5)
عاريات، وأشجار وغابات! في أمريكا المتحضرة. في الدنيا الجديدة. في العالم العجيب!
أما الطعوم فشأنها هو الآخر عجيب.
إنك تلفت النظر، وتثير الدهشة، حين تطلب قطعة أخرى من السكر لكوب الشاي أو القهوة تشربه في أمريكا. ذلك أن السكر محتفظ به للمخلل (والسلاطة)! كما أن الملح يا سيدي محتفظ به للتفاح والبطيخ!
وفي صفحة طعامك تجتمع قطعة اللحم المملحة، إلى كمية من الذرة المسلوقة، وكمية من البازلاء المسكرة وبعض المربى الحلوة. . وفوق ذلك كله المؤلف أحيانا من السمن والخل والدقيق ومرقة العجل والتفاح، والملح والفلفل والسكر. . والماء!
كنا على المائدة في مطعم ملحق بالجامعة حينما رأيت بعض الأمريكان يضعون الملح على البطيخ، وكنت قد اعتدت رؤية هذه (التقاليع) واعتدت كذلك أن أتفكه عليهم في بعض الأحيان. وقلت متجاهلا: أراكم ترشون الملح على البطيخ؟ قال أحدهم: أجل! ألا تصنعون ذلك في مصر؟ قلت: كلا! إنما نحن نرش الفلفل! قالت واحدة في دهشة واستفسار: أو يكون مستساغا؟ قلت: يمكنك أن تجربي! وجربت، وذاقت. وقالت في استحسان: كم هو لذيذ! وكذلك فعل الآخرون.
وفي يوم آخر جاء فيه البطيخ، ومعظم من يأكلون على المائدة هم، قلت: وبعضنا في مصر يستخدم السكر أحيانا لا الفلفل. وبدا أحدهم ففعل وقال: كم هو لذيذ! وكذلك الآخرون!
وباختصار فكل ما يحتاج إلى قسط من الذوق فالأمريكاني ليس فيه حتى الحلاقة! وما من مرة حلقت شعري هناك إلا وعدت إلى البيت لأسوى بيدي ما شعث الحلاق، وأصلح ما أفسده بذوقه الغليظ!
إن لأمريكا دورها الرئيسي في هذا العالم، في مجال العلم التطبيقي، وفي مجال البحوث العلمية، وفي مجال التنظيم والتحسين، والإنتاج والإدارة. . كل ما يحتاج إلى روح وشعور فهنا تبدو البدائية الساذجة.
وإن البشرية لتملك أن تنتفع بالعبقرية الأمريكية في مجالها فتضيف قوة ضخمة إلى قواها. ولكن هذه البشرية تخطئ أشنع الخطأ، وتعرض رصيدها من القيم الإنسانية للضياع، إذا هي جعلت المثل الأمريكية مثلها في الشعور والسلوك. .(961/6)
إن ذلك لا يعني أن الأمريكان شعب بلا فضائل، وإلا لما أمكنه أن يعيش، ولكنه يعني أن فضائله هي فضائل الإنتاج والنظام، لا فضائل القيادة الإنسانية والاجتماعية؛ فضائل الذهن واليد، لا فضائل الذوق والشعور.
سيد قطب(961/7)
موقف الفكر العربي من الحضارة العربية
لحضرة صاحب العزة الدكتور أحمد زكي بك
الفكر العربي والديمقراطية:
(تابع)
ثم إلى الديمقراطية، تلك الصفة الثانية من صفات هذه المدنية.
ونحن نعني بالديمقراطية هنا معناها الحرفي يدل عليه لفظها، وتدل اشتقاقاته، ذلك حكم الشعب بالشعب. إنها الديمقراطية السياسية.
إن العصور الغابرة لم تعرف الديمقراطية إلا حكمة في القول عابرة، وإلا نصيحة يأخذ بها من يأخذ ويدع من يدع، وإلا حثا للحكام على الشورى لم يبلغ حد الفرض، ولم يكن له أثر يطول.
ولقد عدوا أثينية البلد الديمقراطي الأول الذي عرفه التاريخ، وكانت أثينية مع هذا مدينة من مدائن الإغريق أكثر أهلها العبيد. كانت ديمقراطيتهم ديمقراطية للقلة فيها من الأحرار. وكانت ديمقراطية محدودة مشروطة. وهي ديمقراطية ضاقت بالذي قال سقراط، بالذي صرح به من آراء، فقضت عليه بالموت. وهي الديمقراطية التي قام فيها فيلسوفها الثاني أفلاطون يقول في جمهوريته بحصر الحكم في فئة من خيار الناس، هي وحدها الصالحة، وهي وحدها المسئولة، وسائر الناس لها تبع.
وجاء من بعد الإغريق الرومان فما عرفوا الديمقراطية في الحكم. كانت الديمقراطية بينهم اسما في عهود الجمهورية، ثم زال حتى اسمها في عهود الأباطرة. ولقد جهد الرواقيون الرومان في إبراز معنى المساواة بين الناس. سنكا وأضراب لهؤلاء. ولكن لم يكن لهذه الفئة من الخطباء والكتاب من أثر في أسلوب الحكم، إنما كان أثرها في القانون من حيث تخفيفه وترقيقه لا سيما على العبيد الأرقاء.
وجاءت المسيحية فحاولت ما حاولته الأديان من قبل ومن بعد، أن تجعل الناس سواسية. وحاولت أن ترفع حظ الفقير، وأن تجعل الثراء أمانة في عنق صاحبه يرعى فيه، وبه، صوالح الناس. ولكن لم تلبث المسيحية أن صارت دين الرومان، ولم تلبث الكنيسة أن(961/8)
صار لها وجود ذاتي، وصار لها استقلال وقوة، وصار لها ثروة، وصار حكم، وصاحب الحكم لا يزال عن حكمه طوعا ليقسمه بين الناس.
وجاء الإسلام فقال بالذي قالت به الأديان وزاد. وجعل الحكم شورى. والرق جعله كفارة لشتى الخطايا، تفريجا له وتكريها فيه. وقال سلمان منا آل البيت. وقال: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وجعل للفقير حظا في مال الغني. وفعل وفعل. . . ولكن لم يلبث الإسلام أن صار ملكا عضوضا، ولم يلبث الخلفاء أن صاروا حكاما مطلقين، يصلح منهم من يصلح، ويفسد منهم من يفسد، والناس تتلقف الخير وتتلقف الشر جزافا كما يأتي به الزمان.
وجرى الحال على هذا المثال في الأمم قرونا، لم يطمئن الناس فيها على ما في جيوبهم من مال، ولا على ما فوق أكتافهم من رؤوس حتى جاء القرن السادس عشر، وبدأت بوادر الديمقراطية بين أمم الأرض في أوربا. وبدأت بانشقاق الكنيسة على نفسها. ودافع المنشقون عن عقائدهم. والنقلة من الدفاع عن الحقوق الدينية إلى الدفاع عن الحقوق الدينية نقلة يسيرة. وجاء القرن السابع عشر فهب الإنجليز يوطدون دعائم السلطة في الشعب بالدفاع عن برلمانهم. فكانت الثورة. وكان أن طاحت الرأس الذي دار به خمر السلطان المطلق فأساءت حكما.
وجاء القرن الثامن عشر فقامت الثورة الفرنسية، مهد لها الكتاب الذين أسموهم بالفلاسفة، روسو.
وقبل الثورة الفرنسية بأعوام وقعت حرب استقلال أمريكا، وباستقلالها توطد الحكم الديمقراطي فيها.
وأنفسح المجال أمام الشعوب بعد ذلك لأن يتخذوا الديمقراطية عقيدة، وأن يتخذوها أسلوب حكم. وتعددت الأساليب إلى يومنا هذا، والغاية واحدة.
والفكر العربي يقف من الديمقراطية، من حكم الشعب بالشعب، موقف المناصر الشديد المناصرة. وهو يشتد في مناصرته لها بمقدار ما أعوزه منها وهو يناصرها ويعلم أنها لم تبلغ الغاية مما آمل الناس منها، ولكنه يناصر لأنها إلى اليوم خير ما ابتدع الإنسان من أسلوب. والفكر العربي يناصرها وهو يعلم أن حكم الشعب يقابله حكم الشعب بالشعب وهو جاهل، وخيم العواقب؛ ولكنه يناصر لأن حكم الطغاة، وهو أوخم عاقبة، وهو أعون على(961/9)
دوام الجهل ودوام العجز، ودوام الفقر ودوام الذل والمسكنة، وكثيرا ما يسول لي الشيطان أن أرى أن الطغاة يأتي منا وإلينا؛ أرحم منه الطغيان الذي يأتي من الأعاجم، لأنه مع طغيان الأعجمي في هذا العصر الذي قد يأتي العلم، وقد تأتي الحضارة، وقد تأتي نسائم للحرية لا تهب والأبواب مغلقة: والأجنبي الطاغية قد يكون أسهل إقالة، وأنت أجدر معه، إن قلت لهم، أن تستجيب لك القلوب، أو تستجيب الحناجر، وإن كنت حسن الظن فقد تستجيب السواعد.
العلم والديمقراطية:
فهذا هو العلم وهذه هي الديمقراطية، أظهر صفات هذه المدنية الحاضرة، وأضخم صفاتها. وقد جاءا الإنسانية معا. متواقتين كأنما كانا على ميعاد.
وإلى جانب هاتين الصفتين صفات أخرى، اتصفت بها المدنية الغربية، بعضها تقدم العلم في الزمن، وتقدم الديمقراطية، فكان من خوالقها. وبعضها تأخر في الزمن عن العلم وعن الديمقراطية، فكان من مخلوقاتها. وبعضها امتزج بها فلا تدري أهو خالق أم مخلوق وسأصيب من ذلك طرفا.
المدنية وحرية الفكر:
وأول هذه حرية الفكر، وهي صفة من صفات المدنية الحاضرة أصيلة. بدونها لا يكون علم ممكنا، وبدونها لا يكون حكم الشعب بالشعب ممكنا، وعلى بداهة هذا فقد ضاق بالحرية صدر الزمان. والعرب يستطيعون أن يفخروا بأنه جاءت عليهم حقبة من الدهر كانوا فيها من أكثر أهل الأرض رحابة صدر.
لقد كان من أسبق صنوف الحجر على حرية الرأي في الذي نعرف من التاريخ، الجحر على الرأي الديني المخالف أن يشيع. والعرب اختلف في أحكام دينها الغالب، وجعلته مذاهب استقرت على أربعة، يستحكم بينها الخلاف أحيانا إلى حد التناقض، ومع هذا تجمع بين أهل هذه المذاهب الصلاة وتجمعهم سائر الشعائر، ولا يخطر على بال أحد أنه ومن على يساره أو على يمينه مختلفان. واتسعت صدور الشرق لمثل هذا القرون التي ضاقت فيها صدور الغرب، فكان الاضطهاد من أجل الرأي في الدين، وكان الطرد من الكنيسة،(961/10)
وكانت محاكم التفتيش، وذلك في دين عيسى الذي إن أخذ عليه شيء في هذا الصدد فهو الزيادة في الرحابة، ومقابلة العداوة بالصداقة، والكراهية بالحب، والإساءة الزائدة بالإحسان الزائد.
ومع هذا فقد أساء العرب إلى حرية الفكر إساءة لا تغتفر أبدا، ذلك أنهم أغلقوا باب الاجتهاد في الدين، ليفرضوا رأى قرن على سائر القرون. فحجروا بذلك على العقول، وحجروا عليها لما كسبت على الزمان الرجحان، واتسع أفقها بالعلم، واجتمع عندها الكثير من الخبرة ومحاصيل الأجيال.
على أن الحرية الدينية أصبحت في أغلب أمم الأرض اليوم عادة تكاد أن تكون شائعة. وما كان ذلك عن رحابة، ولكن عن قلة خطر الأديان عند من بيدهم سلطان الحظر والإباحة. وقام مقام الحجر على الحرية الدينية الحجر على الحرية السياسية. وأخيرا جاء الحجر على الحرية الاقتصادية، فهي اليوم أشد أنواع الحريات كراهة إلى ذوى الحكومة والسلطان. ولقد تميز العصر الحديث بقيام دكتاتوريات من صنوف وأنواع، كان أول شيء خشيته فأهدرته، حرية الرأى، يجهر بها الفرد أو تجهر بها الصحافة، وهي اللسان الذي إذا استمعت له ألوف الألوف من الآذان.
والرأي العربي يقف من حرية الرأي موقف المظلوم الذي كلما قيل له الخير في السكوت. ومن أمم العرب اليوم، أمم لا يستطيع بها الرجل المواطن أن يقول إلا همسا. ومنها أمم أكثر مجالا في القول، ولكن بها السياسة احرص ما يكونون على حرية القول وهم في معارضة، فإذا ولوا الحكم فتلوا الحبل الذي يلتف على أعناقهم عندما يعودون فيعارضون.
إن حرية الرأي والجهر به، كسائر الحريات، لابد لها من تحديد وتنظيم، وإلا كان منها الجور من الفرد على الفرد. ولكن الجهر بالرأي فيما يمس حقوق الناس حق من حقوق الشعب لا مماراة فيه ولا مهادنة. وبهذا يأخذ الفكر العربي، فيعطى أكبر مجال، ولا يقف بها إلا حيث يختل الأمن وتهدر الأرواح.
المدنية والمساواة.
إن المعاني الإنسانية، مثل الناس، بينها أواصر وأرحام، والمعاني التي تتصل بالتحرير يولد بعضها بعضا، ويأخذ بعضها عند الذكر برقاب بعض. وكذلك المعاني التي تتصل(961/11)
بتقييد الحرية ونفي الإرادات الإنسانية، يولد بعضها بعضا، ويأخذ بعضها برقاب بعض.
والمساواة معنى نشأ مع الزمرة الصالحة من المعاني. فنشأ مع الديمقراطية، ونشأ مع الحرية الفكرية، إذا ما كان يعقل أن يكون حكم الشعب بالشعب ممكنا إلا أن تكون مساواة في الحقوق السياسية. وما كانت حرية الفكر ممكنة إلا أن تكون مساواة في الحرية الفكرية، ومن هذين هدفت فكرة المساواة بين الناس إلى كل شيء من شؤون الحياة.
وإذا نحن نظرنا إلى الوراء البعيد والوراء القريب، وجدنا أمما قام مجتمعها على الطبقات، أعاليها الأشراف، وأسا فلها الأنجاس أو أشباه الأنجاس، وأمما أخرى كانت المساواة فيها مساواة عند الله لا عند الناس، وأمما أخرى كانت المساواة فيها أملا تحقق أقله وأهدر أكثره، ثم ذهبت الأيام بالبقية الباقية منه. والمدنية الحاضرة لها معان في المساواة جميلة؛ إلا أنها لا تزيد جمالا على معاني القدماء، ولا عن معاني جليلة جاءت بها الأديان. ولكن الفرق واسع بين المعنى الجميل يسكن صدرك، والمعنى الجميل تجعل منه أسلوبا قائما من أساليب العيش.
وفضل المدنية الحاضرة على أكثر المدنيات الغابرة أنها فصلت ما كان قد أجمل، وأنها خلقت وابتكرت لتنفيذ معنى المساواة أساليب. وسأفصل بإيجاز هذا. ولكن لا ضرر من أن أسبق فأقول، إن المدنية الحاضرة لم تبلغ في المساواة بين الناس الغاية، ولا اقتربت منها، ولكن خطت إليها الكثير الواسع من الخطوات ,
المساواة أمام القانون.
وأول المساواة المساواة أمام القانون. وهي لا يمكن أن تكون في أمة والحكم فيها مطلق. ذلك أن الحكم المطلق يقوم به رجل له بطانة تسنده. والبطانة لها ثمن، والسند له ثمن. وهي بطانة وهو سند أكثر ما يكون للشيطان، فهو أفدح ثمنا. والقانون الذي يثغر مرة بثغر مرارا، ثم يكون كالثوب الذي تهلهل حتى ما تنفع فيه الرقع. والشعوب عانت في دفاعها عن القانون من نفوذ ذوي الإمرة وذوي المال عناءً كبيراً. وقد قضت المدنية، حيث توجد مزدهرة، على نفوذ ذوي الإمرة يقف رجل البوليس السيارة في الطريق وقد اندفعت بما لا يريد لها القانون من سرعة فيقضي، بغرامة صاحبها. فيحتج هذا بمكانة له أو جاه، فيبستم البوليس الصغير الفقير، وترتفع الغرامة ضعفاً أو أضعافاً. ولم يستطيع القانون بعد أن(961/12)
يقضي على نفوذ المال. ومن بعض أسباب ذلك إن استصراخ القانون نفسه يحتاج إلى المال.
والمساواة في العدالة تحتاج مع القانون إلى رجال ينفذونه وينقذونه. وهؤلاء أعز مطلباً. من أجل هذا كان الدفاع عن استقلال القضاة بضروب الحمايات، وكان الحق في رد القاضي إذا اتصلت به ريبة، وكان نظام المحلين زعما بأن الكثرة أعسر أن يتطرق إليها الفساد.
وما أحوج أمم الشرق إلى بعض ما وصلت إليه أمم الغرب من مساواة أمام القانون!
البقية في العدد القادم
أحمد زكي(961/13)
6 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
من 9 - 15 نوفمبر 1951:
مسجد وكنيسة:
فقد البريطانيون صوابهم وطاشت عقولهم، فأمعنوا في الإثم والعدوان. لم يكفهم قتل العزل الأبرياء من الرجال والأطفال والنساء؛ ولم يكفهم الاعتداء على المنازل والحرمات ومصادرة الأملاك والاستيلاء على أقوات الشعب. لم يكفهم هذا كله فضاقوا إثما ليس هناك أفضع منه، وجريمة ليس بعدها إجرام إذ اعتدوا على بيوت الله:
ففي 8 نوفمبر اقتحمت قوة مسلحة بريطانية مسجد نفيشة وجعلوا يطئون بنعالهم فرشة الطاهر المعد للصلاة ثم جمعوه وحملوه إلى قطارهم الحربي بعد ما ارتكبوا من الأعمال المنكرة ما تستنكروه أفحش النفوس إفحاشا في الإجرام والوحشية
وفي يوم الأحد 11 نوفمبر قامت قوة بريطانية مسلحة بمهاجمة الكنيسة المسيحية بشارع الإسكندرية أثناء الصلاة واعتدوا على من فيها، ولم يكتفوا بذلك بل تربصوا بالمصلين فلما خرجوا بعد صلاتهم انهالوا عليهم بالضرب وراحوا يطاردونهم في الشوارع.
وهكذا لم تبق هناك جريمة إلا ارتكبها الإنجليز في منطقة القنال.
عزبة فاروق وفايد:
وعزبة فاروق هذه منطقة من مدينة الإسماعيلية وقد طلب الإنجليز إخلاءها من سكانها لأنها مثار قلق نظرا إلى موقعها المواجه للمعسكرات البريطانية والخوف من أن تتخذها كتائب التحرير وكرا تثب على القوات البرطانية، ولكن السلطات المصرية رفضت إرغام الأهالي على إخلاء العزبة فقامت قوة بريطانية في 12 نوفمبر بمحاصرة العزبة وطرد سكانها منها. وهكذا يكون احترام البريطانيين للحريات وللملكيات.
وفي فايد قام الإنجليز بهدم أربعة آلاف منزل من منازل العمال المصريين. ولعلهم يحسبون أنهم بقيامهم بهذه الأعمال الإجرامية يطيلون بقاءهم بمصر. ألا فليعلموا أن كل جريمة يرتكبونها إنما هي مسمار في نعش الاحتلال.(961/14)
كتائب التحرير:
قوات قليلة العدد والعدد، ليست مزودة بالأسلحة، ولكنها مع هذا تقلق بال الإنجليز وتشغل أذهانهم. يرهبونها إذا أقبل الليل لأنهم إذا ناموا فإن (شياطين الليل) و (الفرق الخفيفة) لا تنام، وإذا أقبل النهار لم يستطع الاطمئنان أن يصل إلى قلوب الإنجليز المسلحين فإن رجال الكتائب لا يغفلون. إن كتائب التحرير مزودة بسلاح أقوى من جميع الأسلحة. أنه سلاح الإيمان!
وفي ليلة 13 نوفمبر هاجم ثلاثة من الفدائيين بعض المعسكرات المجاورة للسويس ونسفوا وابوراً للمياه فأطلق عليهم الإنجليز نيرانهم وسقط أحدهم شهيدا هو محمد إبراهيم جعفر، فإلى جنة الخلد:
لبيك يا مصر:
العرب أمة واحدة وجسم واحد، وإذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ومصر قلب العروبة النابض تناضل الممثل الأجنبي، والغاصب البريطاني، ويلقى أبناؤها من مسلمين ومسيحيين أذى وتعذيبا. وهم في كفاحهم صابرون، ولما يلقون من عنت مستعذبون، وقد وقف العرب جميعا بجانب مصر في محنتها:
ففي سوريا سقطت وزارة حسن الحكيم، أسقطها الشعب لأن رئيسها كان يريد أن يقبل مشروع الدفاع الذي عرضته عليه إنجلترا وأمريكا وفرنسا وتركيا، وقد بلغ من غضب الشعب السوري أن حسن الحكيم اضطر إلى حبس نفسه في داخل منزله خوفا على حياته.
وأما المملكة العربية السعودية فقد أعلنت أنها لا تستطيع دراسة أي مقترحات للدفاع عن الشرق الأوسط قبل أن تجاب مصر إلى مطالبها كاملة.
وأما لبنان فقد أرسلت حكومتها إلى مصر مذكرة تؤيد فيها موقف مصر إزاء بريطانيا، وقد اتخذ البرلمان اللبناني كذلك قرارا بتأييد مصر.
واليمن أرسلت مذكرات ثلاث إلى القاهرة تؤيد مصر تأييدا مطلقا.
وأما العراق فقد أرسل رئيس وزرائها إلى ممثلي حكومات إنجلترا وأمريكا وفرنسا وتركيا مذكرة هذا نصها:(961/15)
(إن الحالة الراهنة في مصر والقلق الذي يسود المصريين وارتقاب العرب في أقطارهم ما يجري في البلد الشقيق ومشاركتهم شعور إخوانهم سيؤدي إلى مشاكل في الشرق الأوسط ليست في مصلحة شعوبه ولا تحفظ الأمن والسلام الدولي في هذا الركن من العالم؛ فلابد من النظر في المطالب المصرية وحسم قضيتها بما يضمن حقوق مصر وسيادتها الكاملة، إذ سيتعذر في الجو الذي يسود البلاد العربية الآن البحث في المقترحات الخاصة بميثاق الدفاع عن الشرق الأوسط؛ فلابد من حل الأزمة المصرية البريطانية قبل ذلك. على أن البت في المقترحات يحتم التشاور مع البلاد العربية!!
وكذلك وقفت الهند والباكستان تؤيدان مصر فأعلنتا بلسان صحافتهما (أن استمرار وجود البريطانيين في منطقة قناة السويس وفي السودان هو في نظر المصريين اعتداء وأي اعتداء) وأن (بريطانيا باستخدامها قواها المسلحة قد ارتكبت خطأ فاحشاً قد يكلفها فقدان البقية الباقية من نفوذها المضعضع في الشرق)
13 نوفمبر 1951:
احتفلت مصر بعيد الجهاد الوطني من أقصاها إلى أقصاها: ففي الإسكندرية قامت مظاهرة صامتة اشتركت فيها جميع الهيئات والطبقات، وكان عدد المشتركين يزيدون عن ربع مليون نسمة من رجال وسيدات، وكان المتظاهرون يحملون لافتات تعبر عن مشاعرهم الوطنية وعزمهم الوطيد على الجهاد والتضحية في سبيل إخراج المحتلين الغاصبين من أرض وادي النيل.
وفي القاهرة احتفلت الأحزاب جميعا بعيد الجهاد: فأعلن الوفد المصري بلسان زعيمه مصطفى النحاس باشا استمساكه باستقلال وادي النيل وحريته وجلاء الغاصب عن أرض الوطن بجيشه المحتل، ووحدة الوادي تحت تاج الفاروق المفدى، وأن مصر قد أقدمت على إلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 وهي تعلم أن في وسع الإنجليز أن يعتدوا وأن يرتكبوا ما ارتكبوه من إثم ومناكر، ولكنا مؤمنون مع هذا بأن للحرية ثمنا يجب أن تدفعه وفدية لابد من تقديمها (ودعا الشعب إلى الكفاح) فالكفاح الكفاح، والجلاء الجلاء، والصبر الصبر، والمقاومة المقاومة، فلا تردد بعد اليوم ولا مسالمة، ولكن إقدام دون إحجام، إلى الأمام إلى الأمام)(961/16)
واحتفل مكرم عبيد باشا بعيد الثورة فألقى خطابا رائعا اختتمها بقوله (نحن إخوان بلادا، ولكن الأخوة الحقة هي التي تجمعنا اليوم جهادا، وقد تجمعنا غدا استشهادا، وإذا ذكرتم فاذكروا على الدوام الدرس الذي علمتنا إياه الثورة، وهو أن النار التي تحرق، هي النور الذي يشرق، فليزدهم الشيطان نارا وفجورا، ليزيدنا الله فوق نورنا نورا).
واحتفل الأحرار الدستوريون بعيد الجهاد، وأعلن رئيسهم الدكتور محمد حسين هيكل باشا تأييد للحكومة في موقفها قائلا: (فلنعاهد الله والوطن على الاستعانة بكل تضحية. . وأن الوزارة هي المسئولة فيجب أن ننفذ أوامرها جميعا لمصلحة البلاد)
وهكذا تجلت وحدة الشعب المصري في وقوفه أمام الغاصب الأجنبي، وأن الوحدة الرائعة ستكون العامل الأكبر في انتهاء الاحتلال وتحقيق وحدة وادي النيل إن شاء الله.
14 نوفمبر 1951:
إذا كان يوم نوفمبر هو عيد الجهاد فإن يوم14 نوفمبر هو عيد الشهداء، وقد احتفلت به مصر في هذا العام فكان احتفالها به أروع احتفال. لقد سجل التاريخ هذا اليوم من أيام مصر في أبرز صفحاته.
أرادت مصر أن تحيى ذكرى شهدائها الأبرار فقررت القيام بمظاهرة صامتة يشترك فيها المواطنون على اختلاف طبقاتهم وهيئاتهم وأحزابهم. ومنذ الصباح الباكر أخذ طوفان من البشر يتجمع في ميدان الإسماعيلية ليشترك في هذه المظاهرة، وقد بلغ عدد من سار في المظاهرة نحو مليون نسمة، ومن شهدها نحو مليون آخر، فكانت أكبر مظاهرة شهدتها مصر.
وقد كانت هذه المظاهرة استفتاء صادقا لشعب مصر؛ وواقعا ملموسا تراه العيون وتبصره وتلمسه وتحسه. وزاد في روعة المظاهرة اشتراك المصريين جميعا فيها، إن لم يكن بأجسامهم فبأرواحهم وقلوبهم، وكذلك اشتراك الزعماء ووقوفهم صفا واحدا: مصطفى النحاس. مكرم عبيد. محمد حسين هيكل، وغيرهم.
وكذلك كان سير شيخ الجامع الأزهر بجوار غبطة البطريرك والعلماء ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، دليلا ماديا على وحدة شعب وادي النيل.
وقد كانت المظاهرة صامتة ومع هذا فقد كان صمتها أقوى من قصف المدافع، وكانت(961/17)
اللافتات التي يحملها المتظاهرون تعبر في صدق عما تجيش به صدور شعب من معان وأماني، كان من بين هذه اللافتات ما يقول:
إرادة الشعب تسحق الاستعمار - ماء النيل حرام على الإنجليز - العرب أمة واحدة - الوادي صف واحد ضد الغاصب - النيل على رقاب الإنجليز، هذا في مصر؛ ولكني أحب أن أثبت أيضاً أن الأقطار الشقيقة قد احتفلت بيوم الشهداء احتفالا رائعا أيضا؛ فعطلت المتاجر وقامت المظاهرات في دمشق وفي بغداد وفي بيروت وفي سائر البلاد العربية، وكلها تعلن تأييدها لمصر. إن هذا اليوم لم يكن يوم مصر فقط؛ ولكنه كان يوم العروبة الصادقة.
حيا الله العرب!
9 مارس 1919:
اعتقل سعد وأصحابه في 8 مارس فسرى نبأ اعتقالهم في البلاد سريان البرق فشبت نيران الثورة المصرية 1919
بدأت الثورة بمظاهرات سلمية قامت في القاهرة نظمها بعض طلبة المدارس والأزهر الشريف، فأخذ يطوفون الأحياء وكانوا يسيرون بكل نظام تتقدمهم الأعلام المصرية منادين بحياة مصر والحرية، وبسقوط الحماية وطلب إعادة المنفيين.
وقد تصدى رجال البوليس للمظاهرة وفرقوا شملها وقبضوا على 300 طالب وحبسوهم بالمحافظة، ونقلوهم ليلا إلى القلعة.
كان يوم 9 مارس إذن بدء الثورة.
وفي 10 مارس أضرب جميع طلبة المدارس الثانوية والعالية وطلبة الأزهر عن تلقي دروسهم وأعلنوا الإضراب العام وألفوا مظاهرة كبرى وشاركهم فيها أفراد الشعب، وقد سار الجميع في روعة ومهابة ينتقلون من شارع إلى شارع، مارين بدور المعتمدين السياسيين، هاتفين بحياة مصر وحريتها واستقلالها ومنادين بسقوط الحماية.
وقد حدث من بعض المتظاهرين اعتداء على قطار الترام وعلى بعض المحلات المملوكة للأجانب وحطموا بعض مصابيح الشوارع. وقد أدى هذا إلى استياء الطلبة فأذاعوا على مواطنيهم نداء طلبوا منهم فيه الإقلاع عن هذا العدوان؛ وأبدوا أسفهم لما حدث.(961/18)
وقد سقط في هذا اليوم أول شهيد في الثورة. . سقط نتيجة لطلقات نارية أطلقها الجند الإنجليز على المتظاهرين.
وفي 11 مارس استمر إضراب الطلبة وأضرب عمال الترام وسائقو السيارات بل والحوذية، فتطلعت المواصلات في سائر أنحاء القاهرة، وأغلق التجار متاجرهم وتجددت المظاهرات وكثرت في جميع أنحاء المدينة.
وأصدر القائد العام للقوات البريطانية قرارا بمنع المظاهرات (وكل شخص يخالف هذا الأمر يحاكم بصفة مستعجلة.)
وتعقب الجند الإنجليز المتظاهرين وأطلقوا عليهم النار، وكان أول اصطدام بين الفريقين فوق جسر شبرا وفي شارع عماد الدين.
على أن هذا العدوان لم يزد المتظاهرين إلا ثباتا وحماسا، وكان أروع ما شوهد في هذه المصادمات أنه إذا سقط حامل العلم في مقدمة الموكب مضرجا بدمائه برصاص الإنجليز تقدم من خلفه طالب وتسلم العلم من يد القتيل مناديا بأعلى صوته: (ليحيى الوطن! لتحيى مصر! نموت وتحيا مصر!) فيردد إخوانه هذا النداء؛ وكان هتافهم يدوي في عنان السماء فتخر له القلوب سجدا وينهمر الدمع تأثرا.
وكان ثبات الطلبة وتضحياتهم في سبيل الوطن مثلا من أروع الأمثلة ودليلا من أقوى الأدلة على حب المصري لوطنه واستعذابه للتضحية في سبيله. كان آخر هتاف للشهداء (نموت وتحيا مصر.) كان الضحايا يسقطون ولكن المظاهرة تستمر في سيرها ولا تلقى بالاً إلى العدو ولا تهتم برصاصه، وهكذا يكون الثبات وتكون التضحية. وقد سقط في هذا اليوم ستة من الشهداء حسب بلاغ السلطة، وكان عدد المصابين واحدا وثلاثين منهم 22 إصابة بنيران البنادق.
وفي هذا اليوم 11 مارس أضرب المحامون عن مزاولة أعمالهم بناء على قرار أصدره مجلس نقابتهم.
ورغم إنذار السلطة ورغم استخدام القوة الغاشمة ضد المتظاهرين ظلت المظاهرات قائمة: فقامت مظاهرات في يومي 14 , 13 مارس في أنحاء القاهرة المختلفة: في الحلمية والغورية.(961/19)
وفي يوم الجمعة 14 مارس تجددت المظاهرات وتجدد اعتداء والظاهر وشبرا والأزهر.
الجنود الإنجليز على المتظاهرين، وكان أكبر العدوان فظاعة ما وقع في حي الحسين، فبينما كان المصلون خارجين من مسجد الحسين جاءت سيارتان مدرعتان وأطلقا النيران على المصلين من غير تحقيق أو إنذار، وبلغ عدد القتلى أثنى عشر قتيلا، وأما الجرحى فبلغ عددهم أربعا وعشرين.
ووقعت مظاهرتان أخريان في شارع الملكة وفي حي السيدة زينب، وقتل فيهما ثلاثة عشر قتيلا وجرح سبعة وعشرون وهكذا نجد قصة الاحتلال في مصر. عدوان في عدوان، وإثم في إثم، ودماء تسفك دون ذنب.
أبو الفتوح عطيفة(961/20)
المجد العلمي
كلمة حضرة صاحب المعالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف في الاحتفال الذي أقيم يوم الخميس 22 نوفمبر سنة 1951 بوزارة المعارف، لمنح الدكتوراه الفخرية في القانون لزعيم إيران الدكتور محمد مصدق من جامعة فؤاد الأول.
سيدي صاحب الدولة الرئيس
يسعدني أن أستقبلك في هذا المكان باسم جامعة فؤاد الأول ويسعدني أن أستقبلك عضوا في جامعتنا، فقد شرفت جامعتنا بانضمامك إليها. لأنك خليق أن تشرف كل هيئة تنضم إليها لأشياء كثيرة.
أولها أنك تمثل الشعب الإيراني العظيم، وللشعب الإيراني العظيم مكانته الممتازة بين الشعوب، فهو من هذه الشعوب القليلة جدا التي استطاعت أن تقهر الزمان وأن تقهر التاريخ. كان لها حظها من تشييد الحضارة حتى بلغت من ذلك أرفع درجات المجد. ثم كان لها حظها من مقاومة الخطوب حتى أصبحت مثلا يضرب للشعوب الحديثة. اختلفت عليها الخطوب الخطيرة الشديدة، وتعاقبت عليها المحن المهلكة المضنية، ولكنها صبرت وصابرت، وثبتت وقاومت وانتصرت آخر الأمر على كل خطب، وتغلبت آخر الأمر على كل صعوبة. وذلك آخر الأمر كل عقبة، واستردت سيادتها في قوة وعظمة ومجد خليقة بالفخر والإكبار.
هذه الشعوب التي قاومت وانتصرت وقهرت التاريخ قليلة؛ أذكر منها شعبك العظيم، وأذكر منها شعبنا هذا المصري الذي تشرفه بزيارتك في وقت من أشد أوقاته خطورة وصعوبة. فلو لم يكن بين شعبك وشعبنا إلا هذه الخصلة خصلة الصبر والاحتمال والمقاومة والظفر والانتصار آخر الأمر، لكنت خليقا أن تشرفنا بانضمامك إلى أسرتنا. ثم إنك تمثل هذا الشعب الإيراني العظيم الذي شارك بأعظم قسط ممكن في تشييد الحضارة حتى حار المؤرخون أي الشعبيين أعظم خطرا في تكوين هذه الحضارة. . أهو الشعب العربي الذي أهدي إلى العالم لغته العربية، وبشر العالم بالدين الإسلامي الحنيف؟ أم هو الشعب الإيراني الذي تلقى هذه الهدية فتقبلها راضيا مسرورا، ونماها مجاهدا في سبيل تنميتها والدفاع عنها، حتى كان هذان الشعبان العظيمان صاحبي الفضل الأول في تأسيس هذه الحضارة(961/21)
وبناء مجدها. فلو لم يكن لشعبك إلا هذا الفضل؛ فضل المشاركة الخطيرة في تشييد الحضارة الإسلامية وخدمة اللغة العربية ونشر هذه الحضارة والغة، لكان ممثله خليقا أن ينضم إلينا في أسرتنا الجامعية فيضيف إلينا شرفا ومجدا. ثم إن انضمامك إلينا يشرفنا لأن شخصك خليق أن يشرف كل من ينضم إليه، يمثل الجهاد في أروع صوره وأقوى مظاهره، يمثل الجهاد في سبيل مجد الوطن، وفي سبيل حريته واستكمال سيادته، ويمثل جهاد النفس في سبيل التغلب على المصاعب، وقهر المشقات، وتذليل العقبات، وتيسير ما لم يكن سبيل إلى تيسيره لولا هذه الإرادة القوية التي تستمد من إرادة الشعب الإيراني، والتي لا تعرف قهرا ولا خضوعا للخطوب. إنك يا سيدي الرئيس قد تعلمت في إيران ثم سافرت إلى أوربا فدرست في فرنسا، ثم عدت إلى إيران، ثم سافرت إلى أوروبا فتخرجت في سويسرا، ثم عدت إلى إيران، وفي كل هذه الرحلات كنت تقاوم الأعباء والجهد، وكنت تقاوم مصاعب الحياة. ثم إنك لم تطمئن إلى ما حصلت من علم، ولم تقنع بما أدركت من مجد، ولكنك تركت العمل الرسمي لاستئناف الدرس في بعض أوقات الشباب. ثم لم يكفك هذا كله ولكنك أبيت إلا أن تكون صورة ناطقة لشعب حر، فقاومت البغي والطغيان، وأبيت أن تذعن للاستبداد مهما يكن مظهره ومهما تكن صورته. واحتملت في ذلك آلام النفي كما احتملت في ذلك آلام السجن كما احتملت في ذلك العزلة القاسية المضنية. والشعب في أثناء ذلك ينظر إليك، محبا لك عطوفا عليك، مكبرا لجهادك ومقاومتك. وها أنت هذا الآن وقد ارتقيت إلى أرفع منصب من مناصب وطنك، وها أنت هذا الآن وقد ارتقيت إلى أرفع منصب من مناصب وطنك، تنطق باسم الوطن وترفع صوته عاليا يملأ الدنيا بكلمة واحدة هي التي تشرف بها الشعوب الحرة الأبية، وهي التي تفرض على الدنيا احترام هذه الشعوب الحرة الأبية، وهذه الكلمة هي كلمة (لا). قلتها للقوة الضخمة التي لم تتعود أن نسمع هذه الكلمة. . قلتها وأصررت عليها واضطرت القوة الضخمة لأن تسمع لها إذعانا. فنصرت شعبك الذي تعود النصر وأضفت إلى صفحاته الخالدة صفحة جديدة. فمن الحق أن نشرف بان نضمك إلى أسرتنا الجامعية من اجل هذا كله.
ولكننا قوم لا نتأثر بالمجد السياسي وحده، نحبه ونكبره ولكنا نحب قبل كل شيء شيئاً آخر هو هذا المجد العلمي. وأنت يا سيدي الرئيس عالم قبل أن تكون سياسياً. درست السياسة(961/22)
والفقه والحديث في أوربا، ودرست العلوم الحديثة المختلفة في وطنك، ولم تضع عزلتك ولا عملك في السياسة وحدها؛ ولكنك شاركت في العلم على اختلافه. . شاركت في العلم القديم وشاركت في العلم الحديث. الست قد الفت في اللغة الفرنسية كتابا عن الوصية على مذهب الشيعة؟ فقد الفت أذن كتابا في الفقه الإسلامي القديم. ثم انك قد الفت في الفقه الدستوري المقارن؛ قارنت بين الفقه الدستوري العربي في أوربا وبين الفقه الدستوري الحديث في إيران. ثم الفت في الفقه العالي فقارنت بين التشريع العالي الحديث في أوربا وبين التشريع العالي في إيران، ثم شاركت في الفقه القانوني عامة فالفت في تبعات الموظفين أثناء تأدية وظائفهم، والفت في الشركات المساهمة، والفت في مبدأ تسليم المجرمين السياسيين فأنت فقيه قديم، وأنت فقيه مدني، وأنت فقيه سياسي أداري. فإذا جمع شخص من الأشخاص علم الفقه على اختلاف عصوره ومعانيه ومذاهبه وأنواعه إلى هذا الجهد السياسي الضخم والى هذه المقاومة السياسية الهائلة. . . كانت جامعة فؤاد الأول التي أنشأها فؤاد العظيم لتضرب ارفع المثل لأبناء مصر فيما يرفع الحضارة ويعلي شأنها، وينشر الأخلاق ويحبها إلى الشعوب، ويجيب إلى الشباب البحث العلمي، كانت هذه الجامعة خليقة أن تشرف بضمك إليها. . . سعيدة بان تعدك اليوم أحد أعضاء أسرتها.
طه حسين(961/23)
الأدب وطلقات المدافع!
(إلى صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن)
للأستاذ علي متولي صلاح
من أبعد الأشياء عن الصواب أن نفهم الأدب على أنه كلام! وان نفهمه على أنه مواكب ألفاظ رنانة جميلة، ومعارض بلاغة تأخذ بالسمع وتخلب اللب، ويرقص لها الإنسان كما يرقص الزنوج - مثلا - على دقات الطبول!
ذلك فهم للأدب بعيد عن الصواب! كثر من البعد الذي بين المشرقين! وقد نسمعه من بعض الجاهلين فلا نلتفت إليه، أو نسمعه من غير رجال الأدب فنعده من باب الخطأ في فهم شيء لم تخذلوه ولم يدرسوه. أما نسمعه من رجال الأدب أنفسهم الذين قضوا في الأدب حياتهم، والذين نالوا حظاً من دراسة الأدب وفهمه، ومارسوا ممارسة عملية طوال حياتهم، فذلك خطر على الأدب شديد، وذلك انحراف للأدب عن منهجه الصحيح القويم، أو هي نكسة بالأدب إلى الوراء يوم كان سداه ولحمته اللفظ ولا شيء سوى اللفظ!
والذي يقرأ ما كتبه صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن في العدد الفائت من مجلة (الرسالة) عن المفاضلة بين (السلاح الصوال) وبين (اللسان القوال) لا يحسب مثل هذا الكلام يصدر إلا عن أحد اثنين: إما جاهل بطبيعة الأدب ووظيفته ومدى اتصاله بالحياة، وأنا أعيذ الأستاذ الصديق أن يكون ذلك الرجل. وأما عدو للأدب متحامل عليه ويحرف الكلم في وصفه عمدا لينال من مكانته، وليس الأستاذ الصديق ذلك الرجل بطبيعة الحال!
يقول الأستاذ (. . . ولكنني أرجو أن تحمد في امتنا الأفعال لا الأقوال) ويقول (فنحن اليوم إلى سلاح صوال، أحوج منا إلى لسان قوال)، ويقول:
هذه الأقوال لا تحمي شهيدا ... من ضحايا الحق، أو تشفي أواما
أطلقوا المدفع. . . لا حنجرة ... وارجعوا السيف في الحق احتكاما
ويقول:
لا تردوا عنكمو غدر الأعادي ... بالعبارات نثارا ونظاما. . .
الكلام اليوم لا يحمي حقوقا ... والبيان اليوم لا يرعى ذماما. . .
وهذه دعوى خطيرة جداً على الأدب، ويزيد خطورتها هنا أنها صادرة عن أديب!(961/24)
فالأدب ليس كلاما لا طائل وراءه ولا نفع فيه، لأنه لا يحمي شهيدا ولا يرد غدرا ولا يحمي حقوقا ولا يرعى ذماما، بل أن الأدب يصنع كل ذلك واكثر جدا من ذلك. والكلمات كما يقول هازلت: (إنما هي أفعال فإذا تكلمت فقد فعلت!) والكلمات - كما يقول جان بول سارتر زعيم الوجودية - هي (أسلحة نارية مشحونة بالقذائف، وان الإنسان إذا تكلم فقد أطلق!) وليست الكلمات - كما يقول سارتر أيضا - (نوعا من النسيم يتوهمه أصحاب نظرية الأسلوب البحث يجري على سطح الأشياء فيسميها خفيفا دون أن يغير شيئا فيها) وأنا أسأل الأستاذ لماذا يكتب الكاتب؟ أيكتب ليسجل خواطره الخاصة لنفسه حتى يمكنه استعادتها كلما عن له ذلك؟ لو كان الأمر كذلك لكفاه أن يخط بضع ملاحظات سريعة على الورقة يسترجع بها خواطره المستقرة في أعماق نفسه كلما شاء! لأنه سيذكر هذه الخواطر في يسر وسهولة كلما رجع إلى هذه الملاحظات السريعة، ولكن هذه الملاحظات السريعة ليست من الأدب في شيء، فلماذا أذن يكتب الأدباء؟
أن الأدباء يكتبون ليدعوا القراء - والقراء هم الحياة - إلى عمل من الاعمال، وليهيجوا في نفوسهم عاطفة من العواطف، وليؤججوا في قلوبهم الحقد والكراهية - مثلا - للأعداء، والحب والمودة للأصدقاء، والحقد والكراهية يؤديان بصاحبهما إلى عمل، والحب والمودة يؤديان بصاحبهما إلى عمل آخر! ألم تر إلى العرب الأقدمين كيف كانت القبيلة منهم تقيم الأفراح إذا ظهر فيها شاعر! لأن الشاعر في اعتبارهم هو حامي الذمار، والمدافع عن شرف القبيلة، والمتصدي بلسانه للاعداء؟ الم تر إلى الأوربيين كيف ماتت فيهم اليوم فكرة الفن للفن - مع أن الأدب عند أصحاب هذه النظرية ليس كلمات وألفاظا فقط؛ بل أنه ذلك وأشياء أخرى غير ذلك! - ماتت هذه الفكرة عند الأوربيين اليوم، وأصبحت كلمة (الفن للفن) عندهم - وهي ما يطلقون عليها (الفن الخالص) - مرادفة تماما لكلمة (الفن الفارغ)!!
أن الأدب يا سيدي هو كل شيء في الحياة الآن، أو على الأصح، هو كل شيء الآن، وعلى هذا الأساس يحمل مارنز الأدباء مسئولية ما يوجد في الحياة من رذيلة وقبيح واستعباد وظلم واستغلال وما إلى ذلك، ويجعلهم أول المسؤولين عن جميع هذه المفاسد قبل كل إنسان آخر؛ لأنهم الموجهون للدولة، والمرشدون للناس، والكاشفون للسوء، والدالون(961/25)
على الخير، والمنبهون إلى الشر، والفاضحون الأشرار، والمادحون الأخيار، والمنشطون عزائم الناس، والمستحثوهم على الذود عن الوطن، والمستفزون إلى الحرب والضرب والدفاع عن بلادهم. . .
يقول برناردشو: (كان الإنسان في الأزمان الغابرة سلاحه السيف، وظل هذا السيف يصغر ويصغر حتى ظهر القلم!)
أما الدعاية وقوة تأثيرها واعتبار الدول لها الآن في المحل الأول من الأهمية في الحرب والسلم على السواء، فعندي أن الحديث في ذلك معاد مكرور لأنه لا يخفى على إنسان.
أن الكلام يا سيدي ليس بهذا الهوان والضعف الذي وصفته به وأنت الأديب القوال! أنه شيء أحظى جدا من هذا وابعد اثر في الحياة من هذا!
وحيا الله الأستاذ العقاد حيث يقول هذا البيت الحكيم: -
ما دام في الكون شيء للحياة يرى ... ففي صحائفه للشعر ديوان
علي متولي صلاح(961/26)
شذرات في الحياة:
1 - عبقرية الكذب!. .
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
أقبل صاحبي وعلى وجهه تجهم الغضبة، وتكثر الوثبة؛ فقلت: حسبك!، ماذا دهاك؟
قال: أحسبك تعمق في التحليل كعادتك، حتى يكاد التكلف يلحق بتفكيرك
قلت أني أكلف بالمعرفة، وابغض التكلف، ويشفعني إحالة المظهر إلى المنطق، فإذا كنت مغيظا، ساكون دائما غائظك!
قال: مادمت تحلل نفسية الكاذب، فلا أجند حبيباً إلى قلبي سوى إغاظتك لي!
قلت: وما الإصر الذي اثقل نفسك حتى جعلك مثقلا بالهموم؟
قال: أن الكذوب يسخر مني، ويحسبني في غفلة!
قلت: في مقدورك أن تحيله إلى غفلته؛ فيكون هو المغفل!
قال: ها أنت ذا تعمد إلى الإيهام حتى تغمض عين أسلوبك!
قلت: ليس ثمة غموض ولا إغماض؛ فالأمر ايسر من أن تملأ به تفكيرك السليم؛ فالكذب (تعمية)، ولا يعمي الأمور بسوي الضعيف المتهافت على الخداع، لأنه يرى في أعماقه (غموضا)، ويخشى أن ينكشف هذا الغموض الذي يستقل به إحساسه. فما أشبهه بالمتلصص الذي يريد السرقة على ضوء مصباحه، لأنه يسرق نفسه، ويغش حسه، في حين يعتقد أنه موهم وهو واهم!
قال: أغريزة الكذب؟ أم خليقة مصنوعة؟
قلت: لقد قرأت عنه، لكن لم يرضني ما قرأت. وليس ذلك غروراً؛ فإن المنطق أساس المعرفة في عقدي، والكاتبون لم يطلوا إلا من نوافذ نفسية ضيقة محيلين الواقع إلى الافتراض، والتخيل، والوهم، مع أن الحقائق الإنسانية يمكن استقاؤها من أسلوب السلوك، والكذب مظهر من مظاهره؛ فلابد أن يكون هناك ارتباط بين حياة الكاذب وطبيعة إعداده، وتكوينه، وتنشئته، والحياة لم تمنح الأفراد منحها على غرار واحد؛ فنشأ (الحرمان) الذي يوجد في النفوس المحرومة ثغرات تتسع كلما تقدمت الأيام بهذه النفوس؛ والمنطق الطبعي يجعل سلوك المحرومين ذا شذوذ نؤاخذه عليهم في الوقت الذي نضني فيه ولا نؤاخذ أنفسنا(961/27)
عليه.
قال: أتظن (الكذب) قدراً مشتركا بين الأفراد؟
قلت: لا أقول مقولي على الإطلاق، وإنما أسوقه في مساق التحليل الإنساني كوحدة مرتبطة الأجزاء في كل نفس بشرية؛ فأنت قد تأخذك شهوة الكذب إلى التوريط في أمر لا تحبه؛ وقد يخلصك من مأزق تأزمت به نفسك!
قال: لكني أسألك عن الكذوب الذي يهوي الكذب لذاته.
قلت: أن التهافت على الرغبات منذ تحبو الغرائز في مصدر الإنسان لا تجد من يحد من حدتها، فتقود صاحبها إلى تحقيق هذه الرغبات في الواقع أو التوهم لإشباع التهافت، وتحقيق الكيان الوجودي!
وقلت: لا تحسب الكاذب يصطنع الحقائق، وإنما تصورها (أحلام يقظته) فيريد تحقيقها بحسب ما ترى هذه الأحلام، وهو يجد لذة عجيبة تعزيه عن الحرمان، وتدنيه من المتعات البعيدة. .!
قال: كأنك تحبذ الكذب، وتوجه الكذابين. . .
قلت: رويدك!. . . أما تعرف من نطلق عليهم أسم (الفشارين).؟
إني أتجه بتحليلي إلى هذا الصنف من الناس؛ فهم ظراف، لطاف، بحابيح يرفهون عنا بأكاذيبهم أعباء الحياة، ويحلقون بأجنحة أخيلتهم حتى يرتفعوا عن دنيا الحقائق المرة إلى الرؤى الحالمة، والمرئيات الوهمية، فهم يشبعون على مسغبة، ويبلون الريق على ظمأ، ويمتعون مع حرمان!
قال: لكنهم يضايقوننا في اصطناع ما ليس حقيقة.
قلت: أسائلك بحقك. ألم تأخذك (البحبحة) في بعض أمرك، فتترك نفسك على السجية، فتدعى أنك أكلت (الديك الرومي) وأمعاؤك تكذبك.
وتقول: لقد أغرقتنا في شراب العدس؟!
قال: ليس التفكه مقام بحثنا، فصور لي مدى سخرية الكاذب من سامعيه.
قلت: إن الكذب على الأسلوب الذي صورته لك هو القدر المشترك بين سائر الناس، والكذاب (العبقري) هو الذي يمكنه قيادة العقول إلى تصديق ما يقول، ولست محبذا خلقية(961/28)
الكذب على الإطلاق، لأنها قائدة كل رذيلة من الرذائل، ومدعاة إلى النفور، وعدم الثقة، وشناعة السمعة.
لكني أقول: إن الكاذب (المتعمد) في كذبه الذي يبغي الإضرار بالناس، والاستخفاف بهم، والنيل منهم، وإلغاء عقولهم، يجب أن تلطم أكاذيبه بالتسفيه، والزجر، والتحقير، والتزييف، وقد نعتوا الكذب قديما بأنه لا ذاكرة له، والصدق يتبع الأسلوب المنطقي في صحة نتائجه ومقدماته، والكذوب مضطرب القول يذكر الشيء ونقيضه في وقت واحد، لأن الزمن لا يسع السلب والإيجاب مرة واحدة، فالواقع أن الكذاب (مغفل كبير) لكنه يغفل كثيرا عما يسوق من حقائق ملفقة، وأحاديث موهومة، فيثبت آنا، وينفي ما أثبته آنا، وهو في الحالين مضطرب النفس، معذب الإحساس، يود في قرارته أن يفصح عن الحق، ولكن تمنعه (رغبته) في الكذب من الانحياز إلى الوقائع الصحيحة السليمة.
قال صاحبي: وكيف ننسبه إلى التغفيل؟
قلت: الأمر سهل! كر على قوله بالزيف، وذكر ذاكرته الغافلة عما يسوق من تخالف، وتباين، وتناف، فتسخر من سخريته وتريح نفسك؟
قال: كم أنا مغيظ من الكذاب الأشر!
قلت: هون عليك!. . . ثم قل لي: أليست حياتنا أكذوبة كبيرة؟!
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر(961/29)
رسالة الشعر
الشعور المكبوت
للأستاذ عبد اللطيف النشار
الشعور المكبوت في مصر ثارا ... فانفثي يا جوانب الأرض نارا
واقذفي بالطغاة في كل صوب ... واجعليهم حول اللهيب شرارا
دأب مصر من عهد نشأتها ... الأولى توالى سكينة وانفجارا
الشياطين والملائك منا ... واختيارا سلوكنا لا اضطرابا
أخرجوا الآن لا اصطبار عليكم ... وابتغوا غير هذه الدار دارا
أخرجوا الآن لا مكان بمصر ... لغير يسطو جهارا نهارا
مستخفا بكل ما قدس الناس ... خسيسا في فعله استهتارا
أخرجوا الآن ما دام الناس ماء ... حسبنا منكمو جنون السكارى
إن عهدا ما بيننا خنتموه ... ليس يحمي مخادعين حيارى
استندتم إليه من بعد أن ... أصبح ظلا وخلتموه جدارا
فهوى الظل والذي أتخ ... ذ الظل وقاء لظهره منهارا
وتحركتمو كأن حياة ... بقيت فيكمو تعاني احتضارا
رمق خافت بنفس الذي يقتل ... طفلا ولا يرى ذاك عارا
قتلت (أم صابر) بيد أضعف ... نفسا من أن تواجه نارا
أو يحمي القنال أمثال هذا؟ ... حسبكم ذلة ويكفي صغارا
خطر ما أثرتموه عظيم ... خطر أن تواجهوا الأخطارا
بنفوس تظن في قتلها المرأة ... فوزا لجيشها وانتصارا
ألجأتم إلى السكينة والمسجد ... خوفا من مثلها وفرارا
أرأيتم عجائزا في الطريق؟ ... هن أمثالكم فخوضوا الغمارا!
أم تبولون في المساجد ذعرا ... أم أردنا للأرذلين اعتذارا
أيها الحمر اوجها ستزيدون ... بما قد سفكتموه احمرارا
ضرجوا هذه الخدود بأرض ... قد قتلتم صبيانها والعذارى(961/30)
يا بني البحر في السفين نجاة ... لكمو اليوم من رمال الصحارى
وإلى حيث شئتمو من قرار ... فابتغوا غير رمل مصر قرارا
زعموا مصر جنة قلت كانت ... فانظروا الآن تبصروا وأمصر نارا
بالحديد المحمي نرمي ونرمي ... أتريدون للحديد انصهارا
صهرته عداوة هجتموها ... وعلى مستثيرها ما استثارا
ما البراكين تغتلي النار فيها ... كقلوب جرى تحاول ثارا
كان نورا ما أسفرت مصر عنه ... فكساه مقت الأراذل قارا
حمم فوق أرؤس القوم تهوي ... ليس تبقى من العدى ديارا
لعنة في ضمائر القوم أودت ... بعظيمين يصرعان انتحارا
رأيا مسلك اللصوص عجيبا ... فأثارا من الجوى ما أثارا
أبيا أن يكون قوتهما المسروق ... من مصر قوة واقتدارا
أبيا أن يطوف جيشهما الباسل ... في السوق خائفا يتوارى
ألهب القائدان رأسيهما يأسا فكانا ... عن الطغاة اعتذارا
ذهب اثنان من ربابنة ... الأسطول في أمة تسود البحارا
وتلا الهالكين منهما ثالث ... جن فهل رد عقله المستعارا
ليس يخلو من الضمائر شعب ... يشمل الصالحين والفجارا
جيش إنجلترا بمصر تخير ... إجلاء أردته أم بدارا
فيكمو الصالحون قد آثروا ... الموت وفيكم وقاحة لا تبارى
كل باق بمصر منكم فلص ... فليحاسب ضميره كيف صارا
قيل أخلاق لندن قلت مرحى! ... قد رأينا جيشا لها جرارا
يسرق الزاد تحت راية ملك ... كان فيما مضى يتيه افتخارا
خادع العالمين عصرا طويلا ... وأزاح الزمان عنه الستارا
يا بني مصر أن في مسلك ... الحمر ازدراء لشأننا واحتقارا
وبدأنا فلا رجوع فأنا ... قد ملأنا الأسماع والأبصار
ولغتنا العيون في الشرق والغرب ... إلينا فهل نطيق اعتذارا(961/31)
ابذلوا المال قبل أن تبذلوا النفس ... ففي المال فتنة لا تمارى
عبد اللطيف النشار
من الأعماق
للأستاذ عبد العزيز مطر
من الأعماق نبعثها غضابا ... مدوية نشق بها السحابا
عقدنا العزم أن نحيا كراما ... ولو ذقنا الشدائد والصعابا
ونحبي عهد أجداد أباة ... لنجدر بالفراعنة انتسابا
ونسطر في سجل الخلد أنا ... وثبنا الوثبة الكبرى خبابا
نلبي دعوة الوادي إذا ما ... أشار إلى الشبيبة أو أهابا
من الأعماق نبعثها تدوي ... سننزل بالقراصنة العقابا
ونطعمهم كراهية وبغضا ... ونسقيهم حميما بل عذابا
ونعطي (للعجوز) الغر درسا ... فنلزمه المحجة والصوابا
وما للغرب عتب لو فعلنا ... فان الحق لا يرضي العتابا
صبرنا صبر (أيوب) عليهم ... فأحصينا جرائمهم كتابا
رأينا الصبر لا يجدي فتيلا ... (ولكن تؤخذ الدنيا غلابا)
فألغى (مصطفى الوادي) صكوكا ... بها اغتصبت أراضينا اغتصابا
وصفقنا من الأعماق بشرا ... ونادينا نداء مستطابا
تحررنا من الأغلال فأنهض ... سليل المجد مرموقا مهابا
فلا حلف ثنائي أثيم ... يجر لنا المذلة والتبابا
ولا حلف رباعي بغيض ... يعود إلى الوراء بنا حقابا
ويربطنا بقرصان لصوص ... ويجعل ما بنيناه خرابا
هو الذل المقنع قدموه ... وسموه (مشاركة) كذابا
فهبوا فتية الوادي اسودا ... واجلوا عن عرينكم الذئابا
وكونوا حول عرشكم المفدى ... كما لا تهابون الحرابا(961/32)
عبد العزيز مطر
المحرر بمجمع فؤاد الأول للغة العربية
إلى روح صالح الشرنوبي
للأستاذ كامل أمين
صرت وحدي بغير كأس وساقي ... وخوت حانتي وبانت رفاقي
أيه يا جار والغبوق على الد ... ن كأن الطلى دموع الفراق
أرأيت الذي هنا كان بالأمس ... يريق الحياة غمر الزقاق
بعد أن كان ملء كأس الندامى ... اصبح اليوم ملء دمع المآقي
مر بالأرض كالغريب ليرثي ... رأيه الحر بين أهل النفاق
وجرى كالدم النبيل على الشو ... ك وفي قلبه شذى الورد باقي
أي قبر نزلت يا مسرب الخ ... ير وأنت الرباب وهو اليباب
أي قبر نزلت يا مطلع الفج ... ر وأنت الشعاع وهو التراب
أي قبر نزلت حتى أرى هل ... عزه الشعر أم رواه الشباب
أهنا نترك الأكاليل تذوي؟ ... ولمن؟ للذي حواشيه غاب
ينبت الزهر معانيه ما ينب ... ته الخلد لا الربى والشعاب
طالما قال لي تجلد وقلبي ... خلبه الهم غلفته الحراب
وثوى الصابر المصبر حقا ... إنما هذه الحياة سراب
ثم قربوا فلن ترى بعد هذا ال ... يوم نذلا ولن تلاقي لئيما
في التراب الذي نزلت ثوى الخل ... ق فضم الحصى وضم النجوما
عادل الموت لا يكرم في الح ... ق خبيثا ولا يذل يتيما
كل شيء به سيبعثه الل ... هـ كما كان سافلا أو كريما
بين ذكرى تفوح كالمندل الرط ... ب وذكرى تهب ريحا سموما
والذي صارع الخطوب عظيما ... ستواريه في ثراه عظيما
رب فجر كشعره ضاحك الس ... ن رطيب الندى صبوح القوافي(961/33)
لمست إصبع الحياة حواشي ... هـ فسالت دموعه كالسلاف
تستقي الطير منه وهي النشاوي ... وتغني به الشجا وهو خافي
كنت أرجو بان أريق قريضي ... لا ليرثيك بل ليوم الزفاف
آه يا من نهضت في الصخر كالور ... دويا من قطفت قبل القطاف
وتفجرت في الحجارة كالنبع ... طروب الحيا سخي الطواف
عشت ما عشت في العفاف وور ... يت فووريت في التقى والعفاف
طف بعرش الكريم واشك له ... الناس وقل ما لقيته في حياتك
لا تركت الضياع تورثها الغف ... ل ولا في شك يديمك حقد عداتك
بل فقير كما ولدت وإن ك ... نت غنيا بثروة من صفاتك
تحمل الحب والدموع على الأر ... ض كما تحمل الحياة لذاتك
أقفرت حولي الحياة فما لي ... لا أرى اليوم غير وجه نعاتك
يرسلون الأسى واقسم (يا صا ... لح) لم يرسلوا سوى عبراتك
كنت معني الوجود حتى إذا ما ... مت مات الوجود يوم مماتك
كامل أمين(961/34)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أنه لحن فصبح
كتبت في العدد الأسبق من الرسالة ردا على الأستاذ أحمد محمد بريري في تخطئته - بصحيفة الأساس - الدكتور طه حسين في قوله بأحد مؤلفاته (يريدون أن يضحكوا من الصحف ورؤساء التحرير فيدخلون عليها فصولا نشرت على أنها لم تنشر) إذ رأى الأستاذ أن الصواب (فيدخلوا) لا (فيدخلون) متوهما أن الفعل منصوب بعد فاء السببية. . وقلت ما مجمله أن الفعل مرفوع لا منصوب.
وقد تناول الأستاذ بريري هذا الرد، برد عليه في (الأساس) (21 - 11 - 1951) قال بعد أن أورد ما كتبته:
(ولقد علمني (شيخي) أن مسوغات النصب بعد فاء السببية هي: الأمر، والنهي، والدعاء بفعل أصيل، والاستفهام، والنفي، والعرض، والتحفيض، والتمني، والرجاء على خلاف، وغير عند الكوفيين، والتشبيه الواقع موقع النفي.
فما غاب عن شيخي أن النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية لابد له من مسوغ، وإنما غاب عن الأستاذ عباس خضر كثير من المسوغات. . فإن تعبيره غير جامع ولا مانع، لأن النفي والطلب - إذا روعيت الدقة - بعض من كل، في حين أن من يقرأ كلام الأستاذ يفهم أنهما كل شيء في هذا الباب، كما يفهم أن ثمة تضادا بين فاء العطف وبين فاء السببية. . فالفاء عنده إما أن تكون عاطفة، وإما أن تكون سببية. . والواقع أنه لا تضاد، وأن فاء السببية عاطفة في أكثر الصور، قاطعة في بعضها. . وأن بعض النحاة ليعيدها عاطفة دائما حتى إذا انتفت المشاكلة بين الجملتين. . ومع هذا لنعد عن هذا الأمر، فنحن متفقون على أنها في قول الدكتور طه حسين (يريدون أن يضحكوا من الصحف ورؤساء التحرير فيدخلون عليها فصولا على أنها لم تنشر. . الخ) عاطفة. . وإنما وجه الخلاف في المعطوف عليه. . فالأستاذ عباس خضر يرى أنه (يريدون) وبهذا يسلم قول الدكتور طه حسين من اللحن. . أو يصبح، على حد عبارة الأستاذ خضر، لحنا فصيحا. بينما يراه شيخي لحنا قبيحا، لأن الفاء عاطفة على (يضحكوا) لا على (يريدون) وأن الأستاذ عباس(961/35)
خضر يتحكم. ونحن نحتكم إلى القواعد العربية. . وأنها لتقرر أن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب على خلاف الواو. فأنت، إذ تقول جئت فسمعت فتكلمت. تعني أن هذه الأفعال وقعت متعاقبة كما رتبتها الفاء فإنها تربط ما قبلها بما بعدها ربطا مباشرا. . .
فإذا نظرنا في كلام الدكتور طه حسين مع مراعاة حكم القاعدة، تعين العطف على (يضحكوا). .
وأحب أن أقول للأستاذ عباس خضر إن بين النحاة من لم يرضه تعطيل الرفع في قول الحطيئة (يريد أن يعربه فيعجمه) لأن ابتغاء السببية لم ينف العطف بالفاء. . وهو بها إنما يكون على أقرب الفعلين كما تقضي قاعدة الترتيب والتعقيب. وما صح كلام الحطيئة إلا لأنهم تجوزوا وتوسعوا في الشعر، فرفعوا ما حقه أن ينصب، كما في رجز الحطيئة، ونصبوا ما حقه أن يرفع كما في قوله:
سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا
وإن كان بعضهم يرى جواز النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية دون اعتماد على نفي أو طلب أو غيرهما.
ورفعوا ما حقه أن يجزم كما في قوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
وقد يكون الأستاذ عباس خضر ممن يرون أن كلام الدكتور طه حسين كله شعر. . وأن من حقه في التجوز والتوسع هو هو حق الشعراء جميعا سواء أقبل النحاة، أم رفضوا. . وسواء أغمضوا أم رضوا.)
أقول مرة ثانية: سبحان الله يا أستاذ. . ويا عجبا لك ولشيخك! كيف غاب عنكما في هذه المرة أن (المسوغات) التي ذكرتها، من الأمر والنهي. . الخ، هي نفسها أنواع الطلب وليست شيئا مغايرا له. . كما غاب عنكما في المرة الأولى أن المضارع لا ينصب بعد فاء السببية إلا إذا سبقت الفاء بنفي أو طلب. . .؟ وإذا كنت تعتقد أن هذه (المسوغات) التي غابت عني أشياء أخرى غير الطلب فما هو الطلب إذن. .؟ هل أطمع أن تذكر لي مثلا من أمثلته؟ وكيف علمك (شيخك) أن هذه الأشياء التي تسبق فاء السببية فينصب الفعل بعدها اسمها (مسوغات) وما هي إلا شروط. .؟ ولعلك عرفت الآن أنه لا داعي لمراعاة(961/36)
(الدقة) في التعبير. . إلى آخر ما طلب لك في هذا المقام. .
وأنا يا سيدي الأستاذ لم أنف السببية عن الفاء العاطفة، فقد قلت إنها فاء العطف وأنا أقصد أنها ليست فاء السببية التي يعدها النحاة من الأدوات التي ينصب المضارع بعدها بأن مضمرة إذا سبقت بطلب أو نفي، فالذي يهمنا من الفاء في موضوعنا إنما هو أثرها في الإعراب.
ولنعد عن كل ذلك، على ما فيه. . لنصل إلى محور الموضوع، وهو نصب الفعل (يدخلون) في كلام الدكتور طه حسين على ما ترى، ورفعه. على ما أرى. إنك خطأت رفعه في مقالك الأول لأنه - كما توهمت - واقع بعد (فاء السببية) فلما عرفت أن فاء السببية لا ينصب بعدها الفعل إلا إذا سبقت بنفي أو طلب (بغض النظر عن فهمك للطلب من حيث أنه غير جامع لما ذكرت من الأمر والنهي. . الخ).
لما عرفت ذلك من ردى أو من شيخك بعد أن قرأت هذا الرد. . حورت المسألة إلى وضع آخر، إذ قلت إنك متفق معي على أن الفاء عاطفة وإنما الخلاف في المعطوف عليه ورجحت العطف على (يضحكوا). . فأنت إذن قد رجعت عما قلت أولا بعد أن عرفت خطأه وإن كنت لم تعترف بذلك. . ثم حاولت أن تتمادى في التخطئة على وجه آخر أو على (قفا) شيخك. . واحتكمت إلى أن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب وليكن، أليس إدخال الفصول على الصحف واقعا بعد الإرادة وعقبها؟ أما إذا جعلنا (يدخلون) معطوفا على (يضحكوا) فإنه لا يتصور الترتيب والتعقيب بينهما لأن الإدخال يسبق الضحك لا العكس.
ولا أكتم عنك يا سيدي الأستاذ شعوري بأنني أوضح أمورا واضحة، ولكن ما حيلتي؟ ونسبت يا سيدي الأستاذ إلى بعض النحاة مالا ينبغي أن ينسب إلى نحاة، إذ قلت إن هذا (البعض) لم يرضه تعليل الرفع في قول الحطيئة (يريد أن يعربه فيعجمه) لأن العطف يكون على أقرب الفعلين. . كأن هذا البعض يريد أن يعطف (يعجمه) على (يعربه) فيكون المعنى أو (اللا معنى) يريد إعرابه فإعجامه. . أي يريد الضدين معا! ومن أين أتيت يا سيدي بهذه القاعدة: (العطف يكون على أقرب الفعلين) وماذا تقول في هذا المثال: (يريد الكتاب أن يخطئ غيره فيخطئ هو) هل (يخطئ) معطوف على (يخطئ) فيكون المعنى(961/37)
يريد تخطئة غيره وخطأ نفسه. . أو معطوف على (يريد) مع السلامة التي لابد لها من التنازل عن قاعدة العطف على أقرب الفعلين؟
وأراد الأستاذ بريري أن يقحم أشياء أخرى غير ما تعرضت لمناقشته فيه، فقال:
(وقد أسلم للأستاذ عباس خضر هذا الذي يراه إن كان يراه. . ولكن ما رأيه في أن الدكتور طه حسين قد تجاوز في النثر ما أجيز في الشعر. .؟ فما علمنا شاعرا نفى الفعل المثبت (بقد) فقال (قد لا يكون) كما فعل الدكتور طه حسين، ولا نفي المسوف بسوف فقال (سوف لا يكون) ولا أكد بإضافة المؤكد إلى المؤكد فقال (نفس فلان) بدل (فلان نفسه) ولا استعمل كاد كما يستعملها الدكتور طه حسين حين يقول - مثلا - ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا، يعني (ما فعلت) أو (ما أن فعلت). . إلى آخر ما كتبنا، وغيره مما سنكتب في الأساس
وإذا سلمنا - جدلا - للأستاذ عباس خضر أن لحن الدكتور طه حسين فيصبح. . أو أنه لحن ما أفصحه في حكاية الضحك من الصحف ورؤساء التحرير، أفيراه كذلك لحن ما أفصحه في حكاية النفي بعد قد وغيره مما كتبناه، أم يسلم لنا أنه لحن ما أقبحه. .؟
هذا على أني ما أردت أن أنكر على الدكتور طه حسين مكانه في الأدب عامة، وفي اللغة العربية وأدبها خاصة، وهل في وسعين لو أردت، أن أقول. .؟
ولكن أحد تلاميذ الدكتور طه حسين روى عنه أنه قال: أنه ثالث ثلاثة لا يلحنون أو أنهم معصومون من الخطأ. . فرأيت أن أقيم الدليل على أنه كغيره من العلماء، قد يلحن. . وقد يخطئ. . وأن الخطأ لا ينقص من قدره، ولا يذهب بشيء من فضله. . فإن حظ بني آدم أن يخطئوا حينا. . وأن يصيبوا حينا. . وإذا شاء الأستاذ خضر أن ينكر على الدكتور طه حسين آدميته فما أحسبه يريدني على أن ألتزم معه الإنكار
وبعد، فإني أعتب على الأستاذ خضر أنه يحسبني أخجل من الخطأ. . فهل ادعيت العصمة فأستحي أن أرد إلى الصواب. .؟
كلا. . فأنا على أتم استعداد لتلقي الإرشاد من الأستاذ عباس خضر. . بل لعلي أحق بعونه من الدكتور طه حسين. .
وثمة شئ أخجل - حقا - لو شاء الله أن أقع فيه: ذلك أن أقول غير ما أعتقد في نحو اللغة العربية أو غيره من أنحاء الحياة).(961/38)
وإني أعتب على الأستاذ الفاضل، وأحيى فيه روح المجدين للوصول إلى الصواب، وأقول: إني لم أبذل عونا إلا للحق الذي قصدت أن أنفض عنه ما علق به من غبار، ولهذا أسأل الأستاذ بربري: لماذا حورت الموضوع من المناقشة في نقطة معينة إلى الكلام حول الدكتور طه حسين وما وهمته من أخطاء له. .؟ وأتى مع ذلك أجيبك إلى هذا الذي نقلتنا إليه.
(قد لا يكون) لم لا يكون؟ نعم قال بعضهم إن (قد) إنما تدخل على الفعل المثبت، ولكن أي (قد)؟ إنها تكون للتحقيق ولتقريب الفعل الماضي من الزمن الحالي، وهذا فيما أرى مرجع التعليل لجعل (قد) للإيجاب، فإن النفي لا يتفق مع التحقيق والتقريب، أما (قد) التي تدخل على المضارع للتقليل أو التوقع - كما في (قد لا يكون كذا) فلا تتعارض مع النفي، وهي في هذا تجري مجرى (ربما) وربما تدخل على المنفي والمثبت، فلا فرفق بينهما؛ وعلى ذلك أسأل: ما المانع من دخول قد التقليلية والتوقيعية على المنفي؟ وما هو تعليل هذا المنع إن قيل به؟
(سوف لا يكون) أسأل هنا أيضا: ما المانع من هذا التركيب؟ وإذا كنا نسوف في وقوع الفعل فلماذا لا نسوف في عدم وقوعه؟ وهل للكاتب الفاضل أن يأتي بنص صريح بمنع دخول سوف على المنفي؟
(نفس فلان) ليست (نفس) هنا للتوكيد المصطلح عليه عند النحويين، وإنما هي بمعنى (ذات) وإذا كنا نقول ذات فلان فلم لا نقول نفس فلان؟
(ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا) في هذه المسألة رأيان، فكاد معناها قارب ولم يفعل تفيد النفي، والمتقدمون يرون أنها تفيد الإثبات إذا دخل عليها النفي، طبقا للقاعدة المعروفة (نفي النفي إثبات) وعلى هذا يكون التعبير (ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا) سليما، وقد خطأ بعض العلماء - بناء على هذا الرأي - ذات الرمة الشاعر، فسلم لهم ذو الرمة بذلك. ولكن بعض المتأخرين ذهب إلى خلاف ذلك الرأي بأن نفي كاد نفى لمقاربة الفعل، وهذا هو الذي استند إليه الأستاذ بريري في تخطئة التركيب (ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا) ومن العجيب أن ينكر كاتب في هذا العصر رأيا للمتقدمين ليخطئ تركيبا على رأى للمتأخرين يخالفه.!(961/39)
هذا هو يا سيدي جواب ما قلت إنك كتبته في (الأساس) من أخطاء (موهومة) للدكتور طه حسين ولست أدري ما ستكتبه، وهل هو من هذا القبيل؟
إن الدكتور طه حسين كسائر البشر ليس معصوما من الخطأ، ولكن هات الخطأ. .
عباس خضر(961/40)
المسرح والسينما
المسرح المصري
في خدمة العقيدة الوطنية
للأستاذ زكي طليمات
يختلف شيوخ الأدب وأئمة الفن في رسالة الأدب والفنون فيما يجب أن تهدف إليه في جوهرها
فبينما يقرر بعضهم، أنه واجب أن تكون رسالة الأدب والفن طليقة حرة غير مفيدة بهدف معين أو غاية مرسومة. أي أن تكون رسالته لمجرد الأدب والفن، إشراقات تصفي الذوق وتصقل الروح. وتنمي حاسة إدراك الجمال. وسبحات في آفاق المعاني والخيال المشتهي. ولمعات ترقي بالنفس إلى أعلى مدارك النور. . .
بينما يقررون هذا، يهب بعضهم الآخر يدعو إلى أن رسالة الأدب لابد أن تكون أولا وأخيرا لمعالجة ما يشغل أذهان الناس تبعا لمشكلات حياتهم. ولتناول ما يعنيهم في كفاحهم مع العناصر التي تحيط بهم. ابتغاء تيسير أسباب الحياة الاجتماعية في ناحيتها الإيجابية، ومعاونة الشعوب على التقدم والارتقاء.
ثم هم يقررون فوق هذا، أن رسالة الأدب إذا انحرفت عن هذا فما أتفهها رسالة وما أقلها منفعة.
ولسنا في هذا المقام لنصرة فريق على الآخر. فللفريق الأول الذين يعيشون في (أبراج عاجية) إذا فرضت عليه القيود في مباعث إلهامه وفي مواطن وحيه، خرج نتاجه ضحلا قلقا قريب الغور، وقلما يكتب له البقاء والخلود، لارتباطه في جوهره بفكرة قد تتغير مع الزمن، أو بحالة ليس لها من البقاء إلا مدى حياة الأزياء المتقلبة والطقوس العابرة.
وللفريق الآخر بدوره ما يؤيد ما يذهب إليه، إذ لابد، لكي يكون الأدب حيا، أن يخاطب ما يعصف بأذهان الناس، وأن يعمل على معاونتهم في معترك الحياة الواقعية، وأن يشاركهم في نضالهم مع ما ينزل بهم من أحداث.
وفي نظرنا، أن الأدب أو الفن، إنما هو هزة وانفعال بتأثير ما يدخل على النفس، وأن(961/41)
الأديب الحق والفنان الأصيل، في النتاج رهينة بعمق امتلائه مما يهزه، وبمعالجة هذا معالجة إنسانية طريفة.
إلا أن هناك فترات في حياة الشعوب نرى لزاما على الأدب والفن أن يكونا خالصين متوفرين، لخدمة المجتمع في أهم ما يشغله، سواء كان هذا الشاغل عرضا إلى زوال، أو مبدأ قد يغير من جوهره على مر الأيام.
وأهم هذه الفترات - ولا شك - تلك الفترة التي يعبر بها شعب مرحلة تقرير المصير، واستخلاص كيانه الذاتي، وفرض إرادته لمسايرة ركب الحياة في دنيا الحرية والكرامة.
وما أظن أن هناك فترة في تاريخ مصر أدق وأخطر من تلك التي فيها الآن، فهي فترة النضال الحاسم من أجل الحرية، وساعة الكفاح الأخير في سبيل العزة والكرامة، فإن تخلف المسرح - وهو أدب وفن - عن مؤازرة الفكرة العاصفة السائدة، فكرة الكفاح، إذا لم يسخر المسرح المصري قواه لتغذية الوعي القومي، ومساندة عقيدة النضال، وذلك بتذكير الناس بما يجب أن يذكروه، وتبصيرهم بما يجب أن يكون مائلا في أذهانهم، إذا لم يؤد المسرح هذا الواجب فقد كتب على نفسه وبيده، أنه عالة على الحياة، وأنه مختلف عنها، وأنه غافل لا يحس نبض الواقع، والغافل والمتخلف غير جديرين بالحياة.
إن الحياة في مصر، والمسرح من عناصرها، تجري الآن متدفقة في مجرى واحد حفرة تاريخها المجيد وحاضرها الزاهر، وكرامتها وعزتها، فإذا لم تجند جميع عناصر هذه الحياة لهذه الغاية فما أقلنا جدارة بالحياة، وما أحرانا بأن نبقى نتطوح بين العبودية المقنعة وبين الذل السافر.
من أجل هذا، نقدم فخورين (مسرحية دنشواي الحمراء) دنشواي، الجرح الدامي في كرامة مصر منذ عام1906، نقدم هذه الصفحة القائمة من حياة مصر في ظل الاستعمار، ولا نبالي أن يقال عنا إننا تركنا (الأبراج العاجية) إلى أديم الأدب المكافح، أدب الساعة الراهنة، ما دام ما نقدمه يحمل من السلامة والطرافة ما يحمل.
نقبل هذا، إذا ادعاه المدعي، فه أحرى بنا وأكرم من أن نتخلف عن الصف وهو يسير بين السويس، والإسماعيلية، وبور سعيد متعثرا بأشلاء مواطنيه الشهداء، وكل واحد في الصف قد حمل قلبه على يده، ونسي يومه وغده.(961/42)
زكي طليحات
هوليود بين الخوف والأمل
بدأ التلفزيون يسير بخطى واسعة نحو الانتشار وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وأصبح تهديده عظيما للسينما. ولقد لاحظ المراقبون لشؤون الفن أن ثلاثة آلاف دار للسينما قد أغلقت أبوابها نظرا للمنافسة الشديدة للتلفزيون (في الثمانية عشر شهرا الأخيرة) ويقول هؤلاء المراقبون إن تكاليف الفيلم في التلفزيون يبلغ عشرين ألف دولار ويستمر عرضه ثلاثين دقيقة أي أن ثلاثة أفلام تكلف ستين دولارا لمدة ساعة ونصف، وهذا ما يعادل مدة الفلم السينمائي إلا أن تكاليف أرخص الأفلام التي تقدمها إحدى الشركات السبع الكبرى في أمريكا يبلغ مائة ألف دولار، والفلم المتوسط بين ستمائة ألف ومليون دولار.
ويقول المدافعون عن صناعة السينما إن السينما تعطي صورة حقيقية لحجم الأشياء وفي ذلك متعة للمتفرجين لا يمكن لهم أن يجدوها في التلفزيون، كما أن هناك من الأفلام مالا يجوز للنشء رؤيته، وهذا مالا يمكن منعه في حالة التلفزيون، وخاصة بعد أن أصبح في كل قهوة في نيويورك والمدن الكبرى في أمريكا آلة للتلفزيون. وقد بلغ عدد آلات التلفزيون خمسمائة ألف آلة، 137 محطة. . .
ولقد ظهر انتشار التلفزيون في تعدد حوادث الإجرام بين النشء حتى أن جماعة الأساتذة والآباء ف (لوس إنجلز) قد احتجت على البرامج التي يقدمها التلفزيون، ذاكرة أن في المدة بين 1 - 7 مايو سنة 1951 حوت برامجه:
227 حادثة قتل 357 شروع في قتل
46 سرقة 39 حوادث خطف
ورغم هذه الانتقادات فالتلفزيون آخذ في الأنتشار، وإن السنوات القادمة ستبرهن لنا عن مدى صلابة صناعة السينما أمام هذا المنافس الخطير. . بينما تمسك هوليود بلقبها بين الخوف والأمل. .
باريس
سالم عزام(961/43)
البريد الأدبي
على طلقات المدافع:
قرأت القصيدة الجميلة التي نشرها الأستاذ الألمعي محمد عبد الغني حسن بالعدد الأخير من مجلة الرسالة تحت عنوان (على طلقات المدافع) وقد أعجبت بإشراقها الناصع، ودفاعها البليغ عن صمت الشعراء، ولما كنت أعهد شاعرنا المبدع ناقدا دقيقا يعني بتصحيح الأوضاع الخاطئة، رأيت أن أوجه إليه هذا التعقيب البريء.
لقد لاحظت أن الشاعر لم يلتزم القواعد العروضية في شعره، إذ أنه
نوع العروض في السطور الأولى تنويعا مخلا، فجاء بها تارة على
وزن (فاعلا) وتارة على وزن (فاعلاتن) ومن المقرر أن العروض
تلزم واحدة إلا عند التصريع فتتبع الضرب، ولكن الشاعر لا يسير
على هذا الرأي فبينما هو يقول جاعلا العروض على وزن (فاعلا)
أطلقوا المدافع من معقله ... واملأوا الجو دخانا وقتاما
القناة اليوم من روعها ... بالخطوب السود غدرا وانتقاما
أطلق الغاصب فيها طبعه ... كوحوش الغاب فرسا واهتضاما
إذا هو يقول جاعلا العروض على وزن فاعلاتن
قد شبعنا يا أخي فيكم نداء ... وشعبنا ي أخي فيكم كلاما
هذه الأقوال لا تحمي شهيدا ... من ضحايا الحق أو تشفى أواما
الكلام اليوم لا يحمي حقوقا ... والبيان اليوم لا يرعي الذماما
وأمثال هذه الأبيات من النوعين كثير في القصيدة مما يؤدي إلى الانكسار وخروجها عن القواعد الصحيحة
فما رأى الشاعر المبدع والناقد الألمعي الدقيق؟
محمد رجب البيومي
حول الاستعمار الثقافي:(961/45)
في رأيي أنه لا استعمار في الثقافة كما ينادي بذلك الأستاذ المعداوي في حديثة عن (موقفنا من الاستعمار الثقافي) بالعدد (960) وكما نادى به الأستاذ عباس خضر في عدد سابق من الرسالة الزهراء، فلسنا في دراستنا للغات ومنها الإنجليزية مقهورين عل إرادتنا. ولا أفهم أن تتركها إلى حين ثم نعود إليها بعد (متفضلين) ثم لا أفهم للغة الألمانية أو الروسية أو الفرنسية فضلا على الإنجليزية، وكلها شعوب استعمارية لا خير من ورائها لشعوب الشرق،. هي ولا شك عاطفة وطنية يشكران عليها، ولكنها لا تمنعنا من التسلح ضد المستعمر الغاصب ومن ذلك حذق لغته لتكون مخلبا نزهق به روحه بجوار التسلح المادي والأدبي، ولا علينا من الظروف التي أملت علينا تعلمها. فالوعي قد نضج، واختلطت كراهية الإنجليز بدماء الشعب، وهب الجميع يمحون وصمة الاستعمار. . لم يأخذني العجب حين سمعت هذا النداء من تلاميذنا في المدارس الثانوية، فقد صدروا في ذلك عن عقيدة نفسية تخلفت عند أكثرهم من رسوبهم في امتحانها، لأنهم لم يكدوا ذهنا ولم يقرحوا جفنا في سبيل تحصيلها. . وإني أسائل الأستاذين الفاضلين هل سيبدأن فيمحوانها من صدريهما! أم أن هذه حماسة وطنية يشكران عليها. . . فقط
محمد محمد الأبشبهي
(نسبة أبيات)
أطلعت في العدد 960 من مجلة الرسالة الغراء على مقال للأستاذ كامل السوافيري تحت عنوان (أدب الثورة والكفاح) نسب فيه الأبيات الآتية إلى الأستاذ ميخائيل نعيمة:
أخي ما الصبر أن الصبر كفران وخذلان
أخي ما نحن بالأحرار لكن نحن عبدان
لقد ضاقت بنا الأوطان ما للعبد أوطان
أخي ما السجن هل في السجن ألام وحرمان
وهل يجري مع الأحرار قضبان وسجان
سوانا يرهب القضبان أو تثنيه جدران
إذا كنا شرارات فنحن اليوم بركان(961/46)
والحق أنها للشاعر كمال الحقوقي من قصيدته (إصرار) التي نشرها في أول عدد يناير من مجلة (أم درمان) سنة 1946
أما أبيات مخائيل نعيمة فهي:
أخي أن ضج بعد الحرب غربي بأعماله
وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله
فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن داتا
بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دام
لنبكي حظ موتانا الخ
هذه الأبيات تجدها في ديوان (همس الجفون) تحت عنوان (أخي) ومعذرة للأستاذ فإن وحدة الموسيقى والثورة في القصيدتين هي أوقعته في هذه الهفوة وللأستاذ إعجابي وتقديري.
أبوه حمد حسب الّله(961/47)
القصص
قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
الفصل السادس
في بركة الرطلي
للأستاذ محمود رزق سليم
بقية ما نشر في العدد الماضي
الشاعر: صدقت! ولكن الشعراء يعيشون بعواطفهم أكثر مما يعيشون بعقولهم، ويتأثرون بالحوادث أكثر مما يتأثر بها سواهم. هم يشاركون المؤرخين حب الاستطلاع، والوقوف على كنه الحوادث. ولكن المؤرخين يقيدونها فحسب، أما الشعراء فيتأثرون بها ويثورون لها. . وهذا هو الفارق بيني وبين فقيهنا الهمام مولانا ولى الدين. .
ولي الدين الفقيه: كيف لا يتأثر المؤرخون بالحوادث، إذا كانت تتصل بهم في الصميم؟ ومن ذا يرى بلاده يطغى عليها الشر فلا يحزن لها ويكافحه، أو يعمها الخير فلا يهنأ معها أو يأخذ من خيرها بنصب؟
التاجر فرس الدين: إذن! مولانا الشيخ معجب بما في البركة من زينة وملهى، ويدعونا إلى أن نقبس من لهوها بمقباس. . وقد قيل:
منذا يرى الغيد تهفوا ... برقة ودلال
ولا يميل إليها=ولا يلين بحال. . .
ولي الدين الفقيه: وقانا الله وإياكم شر المنكرات، إنما أقصد بالخير ما تشهده البلاد الآن من الرخاء. . وذلك يدعونا إلى أن نتحدث بنعمة الله، فقد قال تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث) وقال جل شأنه: (ولئن شكرتم لأزيدنكم) وها هو ذا النيل يفيض وبقى كعادته، وها ذى الأرض تبسم لنا عن زرعها النضير. وقد قيل:
النيل فاض وفي راحاته ذهب ... والأرض دون نداءكم تلبينا(961/48)
هذا يثير عليها التب آونة ... فتنفث التبر زهرا أو ريحانا
وهذا من حسن طالع سلطاننا، وفأل حسن لعهده. ومن العجيب أن النيل أبطأ مرة عند الوفاء فعجل السلطان إلى مقياس الروضة، وصلى لله هنا ودعا، وأمر القضاة الأربعة أن يبيتوا الليلة بالروضة ويقرءوا القرآن، فتأذن الله للنيل فوفى.
الشاعر: لقد كان في هذا الرخاء إغراء للسلطان، فأمعن في نعيمه وملاذه، وبالغ في إظهار عظمته ومجده. وشغل الناس بمواكبه وأسفاره. لست أنسى ما حييت من لياليه وأيامه، ليالي المقياس وأيام الأهرام. . كم من يوم فيه أرض الروضة وزار المقياس وأقام ردحا في قصره هناك. لكن كل ذلك لا يقاس بيومه في جمادى الآخرة من العام المنصرم، يوم انحدر إلى المقياس وطلع إلى قصره، ودعا إليه أمراء السلطنة على بكرة أبيهم، مع جم غفير من الجند، واستقدم قضاة الشرع الأربعة، وعددا من أعيان الدولة، وموظفيها، واجتمع بأمر منه، عشرات من القراء والوعاظ. فقرءوا لهم. - أما القصر فقد بدا شعلة من ضوء، انتشرت قناديل الزيت وضيئة مضيئة، وحمائل الشموع ألاقة براقة، بين حجرات وردهاته وشرفاته، ومن حوله. وأوقد مسجد المقياس ومنارته وأرسى (الغيليون) وعلى صواريه علقت أمشاط القناديل. - هذا في الروضة، أما الشاطئان تجاهها، وما قاربهما من دور، فقد فاضت فيهما الأنوار، حتى اتصل الضوء بالضوء، واختلط الشعاع بالشعاع. وعلى الشاطئ تجاه الجيزة ضربت قبب للأمراء، وخيام للجند، وبسط القاضي محمود بن أجا كاتب السر مأدبة حافلة للسلطان وأضيافه، أنفق في إعدادها سبعمائة دينار. وهناك في أرجاء الروضة وعلى مقربة من القصر، وبعد أن أدى السلطان صلاة العشاء جلس فوق سطح القصر، وانطلقت أسهم النفط في الفضاء، وبدأت ألعابها النارية الرائعة تملأ الجواء، - وكان النفط قد جئ به من القاهرة مزفوفا. . - كانت الليلة ليلة البدر، وشعاعه الفضي مشفق على قناديلنا وشموعنا لهذا التحدي. وكل ذلك تنعكس صورته في مرآة الماء فتتضاءف بهجته ورعته في العيون. ولا تسل عن الألوف الحاشدة من الجماهير على الضفتين. . . كانوا سطورا سطوراً على صفحيتهما، ونقطا نقطا بين أقواس الزوارق في رقعة اليم. .
أما أيام الأهرام فقد استطعت خلالها أن اندمج في عداد حاشية الأمير الكبير (طومان باي) الدوادار، وأن أصحبه أثناءها في رحتله مع السلطان، فشهدت عن كثب نزوله ورحيله.(961/49)
والأمير طومان باي بقية صالحة من خلاصة الأمراء الشجعان الذين شهدت البلاد منهم مواقف نبيلة جليلة. ألا رحم الله، ازدمر الدوا دار، وقرقماش الأنا بكي، وطرا باي رأس نوبة النوب، وبارك لنا في طومان باي الدوا دار الكبير، وسودون العجمي أتابكي الوقت. . . إنه رجل طيب كريم. .
المستوفي: أجل! إن سودون رجل طيب القلب كريم. . ولهذا استضعفه السلطان وأنقص من إقطاعه مائتي فدان. وقبل ذلك سلخ منه أراضي يقدر ثمنها بنحو عشرين ألف دينار. وكذلك صنع مع بعض الأمراء. . .
الشاعر: ربما. .! وقد أقمنا طيلة أيام الأهرام كأننا نسبح في أحلام. . في أواسط ذي القعدة نزل السلطان من القلعة في ركب حافل يتقدمه الأمير طوماي باي، وعدد كبير من الأجناد بخيولهم ذات السروج الذهبية، وكثير من الأمراء، منهم أقباي الأمير أخور الثاني، وكرتباي وإلى القاهرة الجديد، وجم غفير من الخاصكية والسلاحدارية. وغطى السلطان رأسه بتخفيفته الصغيرة. ولم يلبس التخفيفة الكبرى ذات القرون. واتجه ركبه إلى اطفياس مارا بالصليبة، ثم يمم شطر الأهرام فنصب له هناك وطاق فخم. وشمر الطهاة ومدت الموائد الحافلة، ثم غنى المغنون بأصوات تشيع الطرب في النفوس البائسة، ومعهم آلاتهم وأعوادهم، ومنهم محمد بن عوينة وجلال السنطيري والبوالقة وأبن الليموني.
كان الجو رائعاً والسماء صافية، والهواء جافاً معتدلاً لا يغري بالتمتع، وبعد يومين رحل السلطان إلى الفيوم لتفتيشها ولإصلاح جسورها، وبخاصة جسر اللاهون، وفرض على المقطعين بها ضرائب للإصلاح، واختار لمباشرة هذا العمل الأمير أرزمك الناشف. .
أما نحن فقد أقمنا في سفح الأهرام ريثما يعود السلطان وقد عاد محملاً بهدايا لا تحصى قدمها إليه مشايخ العربان واعيان البلاد منها آلاف الدنانير، ومئات من الضأن والخيل والبقر وأقفاص الدجاج والأوز، ولا قاه الخليفة المتوكل على الله، بدهشور لأنها بلدته وقدم إليه كثيراً من عتاق المهار، وسمين الغنام والأبقار والأطيار، وقدوراً من العسل وجراراً من اللبن. . .
ولما بلغ السلطان وطاقه خف إليه كثير من الأمراء والعلية والقضاة فاحتفوا بمقدمه، ومن ثم أخذ يعيد عهد الأندلس مرة أخرى. .(961/50)
ثم أذن بالعودة إلى القلعة، فمرر ركبتيه بالمقياس أولاً، ثم نظم هذا الركب نظاماً حافلاً لم يرزقه ملك سواه. مشى رءوس النوب، وجمع حاشد من الخاصكية. وعلى مقربة منهم الأمراء المقدمون وغيرهم، وأعيان المباشرين. وقاضي قضاة الحفية عبد البربن الشحنة. ركب هؤلاء جميعاً جياداً مطهمة مسرجة بالحرير مزدانة بالذهب، ومعهم بعض الضيوف من أمراء العثمانيين وغيرهم، وركب أربعة من الأمراء هجناً، وعلى جانبيهم أفيال كبيرة كانت قد أهديت إلى السلطان وعليها البركستوانات - السروج - المخملة الحمراء، وسار الركب تصحبه ألوان من الموسيقى، ناسلاً من شاطئ النيل عند مصر العتيقة إلى الصلببة، حتى بلغ القلعة. . والناس فيما بين هذا وذاك تخب في بحر من الأنس لا ساحل له، وتموج في يم من الفرح لا يعرف مداه، وهي تضج للسلطان بالدعاء. . .
في تلك الأيام ملأت عيني منه، وشاهدته بنفسي، طويل القامة غليظ الجسد ذو كرش كبير. . أبيض اللون مدور الوجه، مشحم العينين، ضخم الصوت مستدير اللحية، هيب أنيق الملبس يحب الطيب ويؤنس جليسه. . . ويقال إنه أهدى إلى أمرائه ومماليكه وأصدقائه أثر وصوله كثير من الهدايا.
التاجر: لقد كدت تصبح من حزب السلطان يا شهاب! لقد أغرتك منه تنقلاته اللاهية وفتنتك أسفاره الماجنة، ما بالك تقص قصته وأنت بها لهج، وعليها حدب، وبحديثها معجب تياه. . .؟ ألا إن صلات الأمراء وهبات العظماء لتعمى الوطني أحياناً عن أن يبصر آلام أمته. . .
الشاعر: إن أسفار سلطاننا إلى أطراف مملكته لتفتيشها أو تفقد أحوالها، وإصلاح مرافقها، سياسة رشيدة، ولعل الغوري أراد أن يبدو في ثوب من العظمة البالغة في سفره إلى الأهرام والفيوم، لأنه أول أسفاره، وذلك أيضاً لكي يبهر عيون الرعية ويكبر في قلوب الأعداء. .
أما أنا فأحب المتعة والأنس، فلا تستكثرهما مرة على رجل مثلى عاش طول حياته كليم القلب، معمور الفؤاد. .
التاجر: لا تنسى يا شهاب الدين أن ذلك المال الذي ينفقه السلطان على ملاذه، ويفرقه على أمرائه وأصدقائه، ويغدق منه على مماليكه، هو عرق الأمة المتصبب وتجمع تبرا وتجمد(961/51)
ذهباً. وهو نتيجة مصادارته الظالمة لأموال الناس. احتازه أعوانه منهم عنوة. . . وتركوهم صادين شاكين باكين يكتمون الشكوى في صدورهم، وتكتبون البكاء في مآقيهم. . . وإن يكن اللهو ضرورياً فبمقدار، وماذا يجدينا نزول السلطان إلى قبة يشبك، أو مواكبه في الميدان، أو سموه بالمقياس، أو لعبه الكرة على الخيل، أو تفرجه وبصراع الفيال ونطاح الثيران وسباق الكلاب ونهاش الصقور، وسماع البلابل، إذا كان العثمانيون والصفويون واقفين له والمصريين بالمرصاد. .؟
ألا تحفظ قول الشاعر:
ملك يعيش كحالم في نومه ... لاه بطيب العيش في أحلامه
والبؤس خيم في الرعية لا ترى ... فيها مكانا كف من آلامه
وغدا يرى أعداءه من حوله ... فيفيق رعباً بعد طول منامه
لهفان يبحث عن بقية حلمه ... ويد العدو تحول دون مرامه
لهفان يبحث ثمالة كأسه ... محطومة كرها على أكمامه
والملك يمحوه النعيم وإنما ... يبقيه هذا من صمصامه
الشاعر: صدقت! وقد خاطبتني من الناحية التي تهتاج قلبي؛ غير أني رأيت لسلطاننا الغوري محاسن أحببت أن تشاركوني فيها وفي تسجيلها، على طريقة شيخنا ولي الدين.
ولي الدين: الغوري سلطان كريم القلب جم المحاسن يميل إلى إحقاق الحق، حسن الإيمان، أديب عالم؛ يناقش العلماء والفقهاء. بر متواضع آمر بالمعروف ناه عن المنكر، يهش للعظة ألم تسمعوا بنزوله إلى قبر الأشرف قابتباي، والعادل طومان باي، وغيرهما، فقرأ الفاتحة وفرق الصدقات. .؟
علم الدين الخياط: وأين هذا يا مولانا من جلوسه بالميدان، وقد تفتح ورده الأبيض الجميل، فطفق يرمي كل أمير بوردة، فيلثمها ويقبل له الأرض. .؟
ولي الدين الفقيه: هكذا يا أخي تكون حياة السلاطين والعظماء. لابد فيها من هذا النبل في المعاملة، وهذا التعاطف السامي والأدب الرفيع، وإلا أصبحت هي وحياة السوقة سواء بسواء، حياة جافة جافة يابسة لا تشرف أمة ولا ترفع شعباً.
الخياط: ألا تشعر يا مولانا الشيخ أن مثل هذه الحوادث غفلة عن الزمان وتقلباته وبطأ عن(961/52)
الحيطة له؟
المستوفي: كثير من الناس يظنون في السلطان الغفلة، والواقع غير ذلك. فإننا نراه دائماً على علم بكل صغيرة وكبيرة يقظاً لكل ما يدبره الأمراء في الخفاء، محتالاً على الجنود وفتنهم. ويقال إن له عيونا خفية منبثة في كل مكان، تنهي إليه أخبار الحوادث، ومنهم محمد بن سعيد الذي حظي عنده وصار يجالسه على مرتبته ويلعب معه الشطرنج.
التاجر: لو بذل السلطان جهده في تهذيب جنوده، وتوحيد قلوب أمرائه، وتجديد آلات حربه، والاستعداد لكل طارئ لحمدنا له بذله ويقظته وكبنا ألسنة له لا عليه. لقد سمعت أن بعض الأحكام عطل تنفيذه لعدم توقيع السلطان عليها لعكوفه على اللهو واللعب.
ولي الدين الفقيه: أنا لا أمقت من أعدائنا إلا هؤلاء الفرنجة أما الصفويون أو العثمانيون فمهما يكن من شيء فهم مسلمون، وقلوبهم - يغير ريب - أدنى إلى الرحمة والعطف. أما الفرنجة الصليبيون فلا تجمعه بنا جامعة جنس ولا تجمعه بنا جامعة جنس ولا لغة ولا دين، فأحرى بالسلطان أن يوجه جهوده ضدهم.
الشاعر: يا مولانا الشيخ! العدو عدو، ولو كان مسلماً مثلك، ما دام معتديا على وطنك. يا مولانا! إن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. هذه أحاديث شريف هجر المسلمون اليوم العمل بتعاليمها ولهذا أصبح بعضهم لبعض عدواً، فسواء لدى أعز الصوفي البيرة أم أغار العثماني على حلب، أم عبث الفرنج بتجارتنا في بحر الهند. فكل هؤلاء أعداء الداء ينبغي أن يكافحهم السلطان، ما داموا يقتلون منا ويثخنون فينا ويطمعون في ديارنا.
المستوفي: لقد أرسل السلطان قريبه (محمد بيك) إلى ناحية (الجون) ليدبر أخشاباً لصناعة السفن ليمد بها تجريدة الهند، ومعه جماعة من الجنود، فوقعت بينه وبين الفرنجة هناك وقائع حالفه فيها النصر، وغنم ما كان لديهم من السفن. ولكنهم تربصوا به حتى قتلوه وأبادوا جنده وغنموا سفنه. وكانت ملأى بالذخيرة - أما تجريدة الهند فإن السلطان لا يفتأ يبعث إليها المدد تلو المدد، رغم ما تصاب به من هزائم، مستحثاً ملوك الهند وأمراءها على معونتها. وقد عاد (حسين) أمير الحملة وقص على السلطان أنباء الفرنجة وعبثهم، وما سواحل الحجاز وبلاد العرب والهند من قلاع وأبراج لتأمين السفن. وكان في صحبته قاصد(961/53)
من الملك المظفر شاه أبن الملك محمود شاه صاحب كنباية، فقدم إلى السلطان هدايا لا تعد ولا تحصى، وطلب إليه أن يكتب له الخليفة العباسي المتوكل على الله (تقليدا) بولاية سلطانه مكان أبيه، بعد وفاته.
الخياط: وإسماعيل الصوفي؟ ألم يبلغكم شيء من أخباره؟ لقد توالت قصاد هذا الماكي على بلادنا. ولا أخاله إلا يزداد قوة، وطمعا بعد طمع.
المستوفي: لقد أغار جنده مراراً على البيرة، وانتصر على (أزبك خان) ملك التتار، ثم أرسل رأس هذا الملك، إلى السلطان كأنه يهدده. واستعدى الفرنجة سراً على ممتلكات السلطان. ولما استيقن السلطان من سوء نيته، أخذ الحيطة لنفسه، ومنع قاصده مدة من الاختلال بالناس، وأخيراً جاءه من لدن قاصد جديد يخمل هدايا نفيسة، فلم يأذن له السلطان ولا سيما أنه قدم إليه رسالة من ملكه بها أحاديث لا توجه إلى السلاطين. وقد أغلظ له السلطان في الرد، ولبث يترقب الفرصة من بعد حتى وافته الأخبار بهزيمة. . منكرة، مني بها الصوفي على يد أعدائه من ملوك التتار.
الشاعر: من أعجب ما حدث بمناسبة الحديث عن الصوفي أن أرسل هذا الشاه إلى السلطان ومعه رأس أزبك فأن ومكاتبه فيها هذان البيتان:
السيف والخنجر ريحاننا ... أفِ على النرجس والآس
مدامنا من دم أعدائنا ... وكأسنا جمجمة الرأس
ففهم السلطان مغزاهما وما ينطوي تحتها من تهديد ووعيد ونشط كثير من شعراء مصر للرد عليه فقال الناصري محمد بن قانصوه بن صادق:
العلم والحلم لنا حلة ... حيكت مع القوة والباس
وسنة المختار طرز لها ... وذكرنا تاج على الرأس
وقال على الغزي من أبيات:
نحن أسود الحرب غابتها ... رماحنا للطعن والباس
وخيلنا تسرع في سوقها ... شدت لحرب المعتدي القاسي
وقال ناصر الدين بن الطعمان:
أسد الوغى فرساننا كم سقت ... كأس المنايا باغيا قاسى(961/54)
ومن يزغ عن أمرنا طاغياً ... نذقه مر الباس والكأس
وهكذا تبارى نحو مائتي شاعر في معارضته بيتي الصوفي، ويقال إن السلطان لم يعجبه شيء من شعرهم. فرد ببيتين للصفي الحلي، هما:
ولي فرس للخير بالخير ملجم ... ولي فرس للشر بالشر مسرج
فمن رام تقويمي فإن مقوم ... ومن رام تعويجي فأني نعوج
ولي الدين الفقيه: إن هذا السلطان الجركسي، غريب في بابه، فهو - فضلاً عن مميزاته - محب للآداب عربية وتركية وفارسية، على ما قيل. وينظم الشعر بالعربية، ومنذ أمد أمر بترجمة الشاهتامة الفارسية شعراً تركيا.
التاجر: غير أننا نلاحظ أنه، حتى اليوم، لم يخرج في غزاة. بخلاف ما اعتادته البلاد من سلاطينها السالفين.
الشاعر: وهل - إذا خرج السلطان الغوري في غزاة - تقدم إليه ما يحتاج إليه جنده من المعونة؟
التاجر: إن الرعية اليقظة تقدم لسلطانها في جهاده أعداء البلاد ما يحتاج إليه من معونة. وينبغي لها أن تؤدي ما يفرض عليها وقت خروجه إلى الجهاد، وحسبه وحسبها أن الأقدار ألقت إليه زمام الدفاع وعن حياتها، ومع هذا فلو قيض لي أن أكون جندياً في صفوف جيشه، لكان في ذلك بلوغ الآمال وإدراك المنى. . . وأنا الرجل العامي الذي لم يرزق مهارة الأتراك وفتك العربان. . ما أحبها إلى القلب فرصة وما أشهاها، تلك التي تتيح لي أن أذود عن حياض بلادي. . أي صديقي! أقرأ التاريخ وقلب صفحاته، فقد علمت مما تهادي إلى من أخباره أن هذا الشعب المصري الوديع المتغافل، وثار وهب، ووقف وقفات حاسمة مروعة بجانب سلاطينه. . .
الشاعر: لا أدري لماذا يحدثني قلبي بأننا سنساق في يوم قريب إلى قتال، وأنه سيكون بين المقاتلين موقف. .
المستوفي: أخشى ما نخشاه، هو هؤلاء العثمانيون، قوم خلقوا من المكر والدهاء، ورزقوا الحيلة وبعد النظر، وولى أمرهم منذ أمد قريب سلطانهم سليم، ويقال إنه أصغر أخوته، ولكنه عجول إلى الفتك، طموح إلى توسيع ملكه، شديد الحيلة محكم التدبير. وقد بدأت(961/55)
الوحشة بينه وبين الصوفي، ولكنه يصانع سلطاننا بالكثير من الهدايا القيمة، ولقد عاد من لدنه الرئيس حامد المغربي، وهو السلطان إليه، ومعه عدة مكاحل - مدافع - نحاسية، وكميات كبيرة من الحديث والخشب والحبال وغيرها لصناعة السفن. فبعث إليه سلطاننا الأمير أقباي الطويل ليهنئه بالملك وليدعم بينها أواصر المودة. . والعاقبة يعلمها الله.
الفقيه: وعلى ذكر المكاحل والسفن، بلغني أن السلطان مني بإنشاء جملة منها، وذهب مراراً إلى مدفن الملك العادل ليجرب هناك مكاحله الجديدة.
الشاعر: يعجبني منك يا مولانا ولي الدين، وأنت رجل فقيه اهتمامك بالشئون العليا، وهذه الروح الحماسية القوية الوثابة حتى لأخالك في سن العشرين. .! وكان أحرى بمثلك أن يعني بمجالس الفقه والحديث، ويتردد على المساجد ليسمع من شيوخ العلم أو يفيد طلابه أو يجمع أخبار العلماء، أو يلوذ بأبواب القضاة. . .!
ولى الدين: حق يا بني ما تقول. إلا أن امرأ يصحب قوما مثلكم، لجدير أن يكون على طرازي. ومع هذا فلا زلت أحقد أقعد بين طلاب العلم فأفيد وأستفيد. وأعود إلى مجالس العلماء ومحافل القضاة ومن على شاكلتهم، ولكن أشهى المجالس إلى نفسي مجلسكم، وأحلى الأحاديث إلى قلبي حديكم. .
الشاعر: وعلى ذكر القضاة. . هل جاءك نبأ ما حل بقضاتنا الأربعة، من جراء حادثة (المشالي) وما تم في هذه الحادثة؟
ولي الدين: لدى أخبار منها متقطعة، وأنباء يشيع فيها الكذب. فهل لديك منها نبأ صادق يا شهاب الدين؟
علم الدين الخياط: لقد كدت أعرف تفاصيل هذه المسألة أمس. لولا عارض عرض. . .
غرس الدين التاجر: لو أنصفت لأخبرتنا بدخائلها.
شهاب الدين الشاعر: إن الرواية لم تتم فصولاً. . وسأحدثكم عن أسرارها في لقائنا القادم، فقد طال بنا المقام، فيها. .
محمود رزق سليم(961/56)
العدد 962 - بتاريخ: 10 - 12 - 1951(/)
ماذا بعد هذا؟
الأمر بيننا وبين الإنجليز يجل عن الكلام والكتابة وما جدوى اللسان العربي في السمع الأعجم؟ وما غناء القلم الأجوف في الفؤاد المصمت؟ هذه دماؤنا تهرق، وأرواحنا تزهق، وأرزاقنا تنهب، وشوكتنا تستلان، وكرامتنا تمتهن، وعزتنا تستذل، وأرضنا تحتل، فهل يدفع عنا بعض أولئك أن تخطب حتى يجف الريق، وأن نكتب حتى ينفد المداد، وأن نحتج حتى تنقطع الحجج؟ إن الشعب الذي لا يقابل التعدي إلا بالاحتجاج، ولا يعارض التحدي إلا بالشكوى، ساقط من حساب هيئة الأمم المتحدة، لا تقيم له وزناً، ولا تقدر له قيمة
إن الإنجليز في تاريخهم المظلم المجرم لم يصيخوا إلى صوت الضمير، ولم يحفلوا بشرف الوفاء؛ إنما هم قوم نفسيون عمليون لا يقدمون غير المنفعة ولا يسلمون إلا بالواقع. فإذا وصفناهم بما ميزهم به الله من نذالة النفس وسفالة الطبع وبلادة الحس ولؤم السياسة وخبث النية، قالوا في صفاقة الخنزير ودناءة الكلب: ليس هذا في الموضوع! أجيبوا عن العمل بالعمل، وردوا على القوة بالقوة!
كنت في غلواء الشبيبة حين غضبت مصر غضبتها الأولى على هؤلاء البرابرة الحمر سنة 1919؛ وكنت يومئذ مدرساً بالمدرسة الإعدادية الثانوية؛ والإعدادية والحقوق كانتا أول المدارس التي أيقضت وعي الأمة، وأوقدت نار الثورة، وقادت كتائب الجهاد، ومنهما تألفت اللجنة التنفيذية للطلبة. وكانت الحال التي أجدَّنها الحماية المفروضة تقتضي الكلام والكتابة. كان السلطان والحكم والجيش والشرطة والصحافة في أيدي الإنجليز، فلم يكن لنا من سبيل بين الضغط والقهر والإرهاب إلا أن نجتمع في المساجد والمعاهد نقول في العلن ما لا ينشر، ونكتب في السر ما لا يقال. وكان نصيبي من الجهاد المقدس أن أحبر المنشورات السرية لمن يوزع؛ وأن أحرر الخطب العلنية لمن يلقى. ثم زادني الله نفساً في أجلي فأنا أشهد اليوم غضبتنا الثانية تتسعر في الشباب والشيب، وتتنمر في الشعب والحكومة، وتتوغر في المدن والريف، فلم أجد حاجة إلى أن أقول، ولا ضرورة إلى أن أكتب. وماذا يقول القائل والوعي يقظان والرأي جميع؟ وماذا يكتب الكاتب والشعور محتدم والعزم راسخ؟ كل يد تطلب السلاح، وكل نفس ترجوا التضحية! حتى أنا وقد نفيت على الستين أصبحت أجد القلم في يدي هناءة لا تنفع، والكلام على لساني هراء لا يفيد. إنما أود - وما تغني الودادة - لو أكتب بالسنان وأتكلم بالمدفع!(962/1)
إن اللغة التي يفهمها طغام الاستعمار، جعل الله حروفها من حديد وكلماتها من نار. فدعوا الشعب يا أولياء أمره، يعبر للعدو عن غضبه بهذه اللغة. وإياكم أن تقيموا السدود في وجه السيل، أو تضعوا القيود في رجلي الأسد، أو تلقوا الماء في فم البركان، فإن غضب الشعوب كغضب الطبيعة، إذا هاج لا يُقدع، وإذا وقع لا يدفع
لقد حملنا حتى فد حنا الحمل، وصبرنا حتى ملنا الصبر! والصبر في بعض الأحيان عبادة كصبر أيوب، ولكنه في بعضها الآخر بلادة كصبر الحمار!
أحمد حسن الزيات(962/2)
موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية
لحضرة صاحب العزة الدكتور أحمد زكي بك
(تتمة)
المساواة في الأصول:
ومن المساواة، المساواة في الأصول؛ أو المساواة رغم الأصول. والمساواة رغم الأصول صرخة في الناس قديمة؛ وهي صرخة في الشعوب العربية قديمة معروفة، بل هي لم تحتج في العرب إلى صراخ؛ ذلك أن هذه المساواة في طبعهم، وهي مستمدة من بدوهم، فالنبي: يا محمد، والخليفة: يا أبا بكر ويا عمر. لم يكن فيهم صاحب العزة أو صاحب النيافة أو صاحب الفضيلة. كانت العزة فيهم وكانت الفضيلة أصلا، فهي لا تحتاج إلى تنويه. وكانت مدارسهم مساجد مفتحة الأبواب لكل طالب، فلم تكن فيهم أكسفورد ولا كمبردج. وكان أصل المرء لا يقف به دون أن يصل إلى أسمى المراتب. فالمجوسي بل من كان أبوه مجوسيا يصل إلى أكبر مراكز الدولة؛ ومن ذلك البرامكة. وبائع الحرير يوجه همه إلى الشريعة فيبلغ بها عند الناس المكان الأرفع، فيحترمونه ويجلونه ويتبعونه، فذلك أبو حنيفة النعمان. والحياك يلد ولداً لا يجد سبيله إلى العيش إلا من سقى الماء يحمله في جامع عمرو، فيصله ذلك بالعلماء فيسمع منهم ويحفظ عنهم، فإذا به الشاعر الكبير الفحل: فذلك أبو تمام. والشعب العربي يألف كل هذا ولسان حاله يقول: الكل لآدم وآدم من تراب
ويبقى هذا الطبع في الشعوب العربية إلى عصرنا هذا، في البدو والريف، وفي أكثر أهل المدن، إلا جماعة من هؤلاء أخذوا عن عهود من الحكم لا يباركها الله، نعرة لا تأتلف والطبع الشرقي العربي أبداً. وإلا جماعة قليلة أخرى رفعها المال رفعاً، وحط بها الجهل، وهي تأبى أن تنحط؛ فاتخذت من الترفع ذريعة إلى الرفعة، وحاطت نفسها بزخرف من زخارف الحضارة كاذب، لعل في بهرة الظاهر ما يغني عن استجلاء الباطن
والشعوب العربية لم تضيق بغير العربي، فتبغ فيهم الكثير من الأعاجم. ولم يضيقوا بغير المسلم، فكان الأخطل من بين المقربين عند خلفائهم: خلفاء بني أمية، والدين جديد وقلوب المسلمين يقظة. واليهود وجدوا بين العرب ملجأ لما ضاقت بهم سبل الأرض. والسود! لم(962/3)
يضق أحد بالسود ولا بالصفر ولا بالحمر، ويلقى الأبيض الأسود إلى يومنا هذا فلا يكاد على اللسان العربي، أن يلحظ سواده
ففي المساواة بين الناس رغم حقارة الأصل، وعلى اختلاف المولد من الأرض، وعلى اختلاف لون الجلد، ليس في المدينة الحاضرة درس واحد تلقيه على الشرق، بل إن دروس الشرق للغرب في ذلك كثيرة نافعة
المساواة بين الرجل والمرأة
ونوع آخر من المساواة جاءت به المدينة الحاضرة، تلك المساواة بين الذكر والأنثى. وتلك المساواة على المجتمع الغربي طارئة. فحظ المرأة في شرق وغرب كان سواء. والرجل كان دائماً، في شرق وغرب قواماً على المرأة. والمرأة في المجتمع الغربي إلى اليوم، تتعهد عند الزواج على يد القس، بالطاعة لزوجها. ولكن معنى المساواة أخذ يتغلغل إلى كل شيء، فبلغ فيما بلغ علاقة ما بين الرجل والمرأة. وتعلمت المرأة الغربية فوجدت نفسها كفيئه للرجل فرفضت قيام الرجل على المرأة. ومنهن من رفضنه شكلا وانتهين. ومنهن من رفضنه موضوعاً. وخرجت المرأة تعمل كما يعمل الرجل، وتكسب ما يكسب، فأغراها استقلالها في الكسب بطلب استقلالها عند الزواج. والحق أن قومة الرجل على المرأة التي فرضتها الأديان ما كانت ترمي إلى ظلم ولا إجحاف، وما كانت تمنع من تعاون وتفاهم. ولكن البغي في الناس قديم. وقد عصم الحب المرأة من بغي الرجل ما دام، وعصمت الذرية الناتجة منها؛ وعصمت حاجة الأسرة إلى السلام وضيقها بالنزاع الدائم والقلق المتصل. ولكن كان من الرجال بغاة لم يكن للنساء منهم من عاصم. وإني، في هذا العصر الحاضر، وعلى الثقافة المنتشرة في الناس بين رجال ونساء، لا أكاد أتصور رجلاً مثقفاً، تأتيه زوجته، وهي امرأة مثقفة، تقول له بيني وبينك خلاف خطير، لا أرضي لك أن تكون فيه خصماً وحكماً، فأنا أطلب حكم الله فيه على أيدي قضاة الله، في محكمة من محاكم الله، لا أستطيع أن أتصور رجلاً تأتيه امرأة تقول له هذا ويقول: لا. وذلك أكبر ما تطلبه المرأة من مساواة
وتطلب المرأة المساواة السياسية، وتطلب أن يكون لها صوت كصوت أكثر نساء الغرب، فيقال لها إنك لا تفقهين في السياسة. وينسى القائلون أن السياسة سياسة دولة، فهي إلى(962/4)
جانب أنها سياسة حكم، هي سياسة مال، وسياسة مجتمع، وسياسة أسرة، وسياسة ضرائب أكثر من يشقى بها المرأة، فلابد أن تقول فيها وأن تقول سديدا. ثم كن من الرجال يفهم تلك السياسة التي يريدها القائلون بحرمان المرأة. إن حقوق الناس فيما يتصل بالسياسة على أوسع معانيها يجب أن يكون مناطها، لا أن هذا ذكر وتلك أنثى، ولكن إن هذا أو هذه يعقلان أو لا يعقلان، وكم حظهما من جهل ومن عرفان
وتطلب المرأة المساواة في العمل. وعمل المرأة لا شك في البيت. وهكذا هي الكثرة الكبرى من نساء الغرب. إن المرأة لا تستطيع أن تلد وتربي أطفالها وتكسب خبزهم في وقت واحد إلا أن تضطر الضرورات. والذي دفع بنساء العرب أن تعمل كما يعمل الرجل إنما هي الضرورة وقسوة العيش. إن المرأة العانس التي لا رزق لها إنما تأكل من عملها أو تأكل بثديها أو بغير ذلك، وليس من حق أحد أن يقول لها لا تعملي إلا أن يضمن لها رزق الحياة. والقول عندي أن تفتح أبواب العمل للنساء جميعاً، ليأخذ كل من الأعمال ما يصلح له، وعندئذ تعمل قوانين الحياة عملها فلا يكون منها إلا الخير. إن الذي يغري النساء يدق الأبواب، ودقها عنيفاً، أن الأبواب مغلقة. وللنساء في جبلتهن ما يكفي لرد الكثرة الكبرى منهن إلى وظائفهن الأولى التي تخصصن لها في الحياة، تلك إيجاد الحياة في ظل الحب ورعرعتها من بعد إيجاد، وإسكان هذه الأرض
وكان من مساواة الرجل بالمرأة في الغرب؛ وأن وجدت المرأة نفسها تهدر من الحرمات ما أهدر الرجل، وهي مساواة في سبيل الشيطان لا يرضاها إنسان، ولكن رضيها الغرب لشدة إحساسه بمعنى العدالة والمساواة حتى في القبيح الأقبح من الأمور؟
المساواة في فرص العيش
ومن المساواة: المساواة في قرص العيش وطلب الأرزاق، وقد نسمي هذه الديمقراطية بالاقتصادية. وللعدنية بالحاضرة فيها أساليب عدة منها الرأسمالية ومنها الاشتراكية وهي صنوف. ومنها الشيوعية. أما الشيوعية فلسنا ندريها، ومن أجل هذا ننحيها. وأما الرأسمالية فشر إذا ما تركت في أيدي فئات من رجال لا يحركهم بحكم الطبع إلا الأثرة وإلا الهوى. وإلا الرغبة في زيادة المال أضعافاً. وزيادة ما يأتي به من جبروت. ويصنع منهم موقفهم من مناهضة الشعب عصابة تقوم فيه، تبيع حقوقه وتشتري وهي بعيدة عن(962/5)
ريبة الشعب لأنها بعضه، وهي ترضى دائما أن تختفي وراء الحاكمين، ما بقيت في أيديها مقاليد الأمور. وهؤلاء إن كانوا شراً على أمنهم، فشرهم على علاقات ما بين الأمم أكبر.
ولكن الرأسمالية غير ذلك إذا كانت رأسمالية شعوب، وكان لكل فرد من أفراد الأمة فيها نصيب. يعملون جميعاً للإنتاج، ويقفون جميعاً صفاً واحداً عند التقسيم. فهذه هي الاشتراكية وإليها يجب أن يتجه الفكر العربي، وأن يتمسك بها مبدأ. أما إنفاذها فدونه الجهاد المر الطويل
المساواة في التعليم وفرصه
ومن المساواة التي ابتدعتها المدينة الحاضرة، المساواة في التعليم وفرصه. بل هي جعلت التعليم إجبارا لبضع سنين. وسمته إلزاميا، وسمته أوليا. والتعليم على الإجبار لا يكون إلا مجاناً، فجعلته مجاناً
وكان التعليم قبل ذلك في سائر الأمم، وفي سائر المدنيات وعلى القرون، مقصوراً على فئة قليلة من الناس. ثم أراد الله بهذه الفكرة الجديدة؛ فكرة نشر التعليم وتعميمه، أراد لها أن تنبت في الغرب من أوربا، عند انشقاق الكنيسة. رأى المنشقون - البروتستانت - أن خلاص الشعب الديني لا يكون إلا بالوصل المباشر بينهم وبين الله عن طريق إنجيله. وإذن لا بد من القراءة. وإذن لا بد من التعليم، فأخذوا ينشرون التعليم وعن طريقه يبشرون. وقام الكاثوليك يعارضون نشراً ينشر وتبشيراً بتبشير، وفتح المدارس بفتح المدارس. وتألف اليسوعيون جماعات كان لها في هذا الميدان بأس جديد. وجاءت الديمقراطية فرأت أن تنشر التعليم، كما رأت الكنيسة بشقيها، ولكن لغير تلك الأسباب. رأت الكنيسة نشر التعليم بين الشعوب ليكون سبيلهم إلى السماء أهدى؛ ورأت الديمقراطية نشر التعليم لتكون الهداية على هذه الأرض. وتنازع الطرفان أمر التعليم. تنازعته الكنيسة والدولة. وغلبت الدولة آخر الأمر
وجاء القرن التاسع عشر، واكتمل، فإذا التعليم قد عم في أكثر الأمم الناهضة
ولا أظن أن أحداً يريد أن يسألني ما موقف الفكر العربي من هذا الكسب الجديد من مكاسب المدينة الحاضرة
إنه ليس دليل على حاجة الشرق العربي إلى التعليم، يكون إلزامياً، ويكون عاماً، كمحاربة(962/6)
المستعمرين له في كل أمة يستعمرونها. ودليل آخر، محاربة الرجعيين له، والمستحوذين على السلطان من كل نوع، في الأمة الواحدة. إن ذوي السلطان إذا لم يعصمهم الله يخشون الشعوب، ويخشونها متعلمة. وهم يحاربون التعليم علانية، إن استطاعوا، ولكن أكثرهم يحاربونه خفية. وأنظر لبعض الأمم العربية لأرى كم بها من تعليم فلا أكاد أجد شيئاً. وأنظر لبعضها الآخر لأرى من أي وقت في التعليم بدأت، وإلى أي شيء قد انتهت، فأقف وأعجب. إن التعليم قد يتخذ في تخذله أحسن الدعوات، ومن هذه الدعوة إلى الروية، فإلى البطء، لأن يغيرهما لا يكون إحسان. إن شر ما يخشاه الرجعيون، وأهل السلطان، من التعليم، أن المتعلم يأبى الرجوع، ويأبى العرى، ويأبى العمل إلا مأجورا حسن الأجر. وتتفتح عينيه بالذي يصيبها من نور وتتفتح نفسه للطيبات
إن التعليم عندي مفتاح كل مغلق من مغاليق الحياة، في شرقنا هذا العربي. ولو أني خيرت بين أشياء كثيرة يعطوها العرب، ما اخترت المال، ولا اخترت الاستقلال، وأنما أختار التعليم يشمل ويعم، فهو الوسيلة إلى المال، وهو الوسيلة إلى الاستقلال، وهو الوسيلة إلى فتح كل باب مغلق يتدفق منه الخير كثيراً وفيراً
المدنية وشئون من الحياة أخرى:
بقيت أشياء أخرى من أشياء هذه المدنية الحاضرة، تتعلق بأسلوب العيش: أسلوب الغذاء، وأسلوب الكساء، وما شاكل ذلك. فهذه أشياء لا تقدم كثيراً، ولا تؤخر كثيرا، وللعربي أن يأخذ منها أو يوع. وأشياء أخرى تتعلق بالطباع والعادات وهذه ما لا تستطيع المدينة أن تفعل فيه شيئاً
معارضة المدنية الحاضرة:
هذه هي المدنية الحاضرة، وهذه أصولها. هذه هي المدنية التي أكره أن أسميها غربية، لأنها مدنية إنسانية، هدفت، لا إلى إسعاد غرب دون شرق، ولكن إلى إسعاد الإنسان أينما كان. وهدفت إلى تعريف حقوق الفرد والجماعات، وإلى تعيين الحقوق والواجبات، في أي قوم وبأي أرض. وهي مدنية، رغم يد نشأتها في الغرب، لم تصطبغ كثيراً بصبغة دينها الغالب. وأكثر مفكريها، السابقون فيها واللاحقون، وقفوا بعيدا عن الدين، تعمداً وقصدا،(962/7)
وهم يفكرون
والمدنية الحاضرة، ككل المدنيات، لها محاسن ومقبح. وقد تركزت على محاسنها، وتركت القبيح. لأن القبيح قبيح في كل فكر وكل عصر، وقد تتسم المدنية بقبيح لا ترضاه، ولكنه تعلق بأذيالها فحملته معها فيما تحمل من طبائع الناس
ومن أهل الشرق من يتصلب عوده تعصبا كلما سمع بالمدنية الغربية. وحق له أن يتعصب؛ لأن الشرق شقي بالغرب أكبر شقاء ولا يزال يشقى. وسوف يشقى
ولكن الشرق إن شقي بأهل الغرب، فهو لم يشق بمدنيتهم إنه شقي بالذي في طبائع أبناء آدم من أثرة من ظلم ومن إجحاف وأحياناً من سفه وغباء. وهو قد شقي بمثل هذه الطبائع في عقر داره، ومن أهله وعشيرته وأهل السلطان فيه، فكيف بالغرباء. والشرق ينسي أن هذه المدنية تجربة يمتحن بها أهلها كما يمتحن مقتبسوها، وأن أهل الغرب في محنة منها، بالذي تأتي به من ضائقات وأزمات، ومن حروب، لأنها مدنية لم تبلغ بعد الغاية منها، وبعض أهدافها قد تحقق، وسائر أهدافها ينتظر التحقيق
ومن أهل الشرق من تباغ به كراهية الغرب إلى حد أن يرى أن يقاوم الغرب، لا ظلمه وإجحافه، واستبداده واستعباده، ولكن أن يقاومه كذلك فكرة ومدنية. وهيهات. إن المدنيات القديمة أخذ بعضها من بعض، إذا تعادلا قوة، وقام بعضها على أنقاض بعض. ولم يكن في تلك الأزمان من تقارب الناس واتصالهم كما بين أهل الأرض اليوم من قرب اتصال. إن الطائرة وهي تطوف حول الأرض اليوم، تكاد تجارى الشمس سرعة التفاف حول الأرض فكيف يقاوم الشرق العربي، على ضعفه، مدنية عارمة واقعة تحت عينيه وعند سمعه، وأخبارها أسرع إليه من بعض أخبار قومه
وما لي أقول في هذا، والواقع يقول عني فيغني؟
أليست المدنية في وصلت إلى أبعد ما خال المرء أن تصل، إلى الصحراء. ألا يوجد في صحارى العرب اليوم بقاع نحلها، فتحسب أنك حللت بحلولها من المدنية في الصميم؟ وفي المدن، في بعضها، ألست تلقى المرأة محجبة من قمة رأسها إلى قدمها، تنظر إلى الدنيا من ثقوب، فإذا خلعت ذاك الحجاب تجلت تلك من تحته آخر أزياء باريس؟ وفي مدن الشرق العامة، هل تركت هذه المدن شيئاً من المدنية لم تأخذه عنها، من أسلوب بناء، إلى نظام(962/8)
مصارف، إلى برامج مدارس، إلى قوانين حكم؟
إن المدنية الحاضرة فيض غمر لا يقف في سبيله شيء إلا اقتلعه ولست أقول هذا عن تخاذل، ولا أقوله عن تسليم، ولكن أقوله لأنني أرى أن أية مقاومة مجهود ضائع، لا يكون منه إلا تأخير اليوم الذي ينتفع فيه الشرق بما أنتج الغرب، لا من مدنية غريبة، ولكن من مدنية إنسانية عالية أساسها تحرر الفكر الإنساني من قيوده، وغايتها ورفاهية الإنسان وإسعاده. وليس بها مالا يمكن تأليفه ومطالب الشرق ودينه وعاداته. والمقاومة يكون بديلا منها المساهمة. المساهمة في تخطيط طرق الحياة لأجيال من الناس مقبلة
أحمد زكي(962/9)
7 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
دماء ودماء:
اتسم طابع الاحتلال البريطاني منذ دخول الإنجليز مصر بميل البريطانيين إلى سفك دماء المصريين
ففي دنشواي 1906 أعدم المصريون شنقا في وسط قريتهم دنشواي
وفي عام 1919 جرت دماء المصريين أنهارا. لماذا؟ لإن المصريين طالبوا بإلغاء الحماية وإعلان استقلالهم
وفي 17، 18 نوفمبر الحالي سفك البريطانيون دماء المصريين في مجزرة الإسماعيلية، وإليك البيان:
ص15 - 22 نوفمبر 1951:
في 15 نوفمبر افتتح جلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان الدورة الثالثة للهيئة النيابية العاشرة، وألقى رفعة مصطفى النحاس باشا خطاب العرش الذي جاء فيه أن مصر قد أَلغت معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 بعد أن ضاقت ذرعا بالمفاوضات مع بريطانيا، وأن إنجلترا بدلاً من أن تسلم بالأمر الواقع (آثرت العنف والالتجاء إلى القوة الغاشمة، وقد صدمت الحكومة والشعب لهذا العدوان وان تتراجع حكومتي عن خطتها. . . ولن تلين لها قناة تحت أي ضغط أو إكراه.)
وقد تفضل جلالة الملك فوجه إلى أعضاء لجنة الاستقبال البرلمانية عند تشرفهم بالمقابلة الملكية النطق الملكي الكريم: (إن البلاد تمر الآن بمرحلة شبيهة بمرحلة 1919، إن لم تكن أشد منها وأكبر، وسنجتازها بأذن الله وتوفيقه بسلام
وإني لأهنئكم بهذا النضال، واعلموا أنه بالنضال وحده تنضج الأمم وتصل إلى المستوى اللائق بها
وإني أوصيكم بضم الصفوف، وتوحيد الجهود، وأضع يدي في يدكم أفراداً وجماعات، رأويد كل من يعمل لمصلحة الوطن. إننا نقف صفاً واحداً في بيوت الله فلا معنى لأن(962/10)
نتفرق خارجها
وفقكم الله لما فيه الخير، وأسبغ من رحمته على من استشهد من أبناء الوطن في هذا الكفاح، والجنة المستشهدين.)
وهكذا وقفت مصر ملكاً وشعباً تناضل في سبيل حريتها وهي لابد بالغة ما تريد إن شاء الله
وفي يوم الجمعة 16 نوفمبر وقف معالي الوطن العظيم الدكتور محمد صلاح الدين باشا يتحدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة ففضح سياسة الإنجليز في وادي النيل وكشف مناوراتهم الخبيثة لإطالة احتلالهم لمصر وفصل السودان عن مصر وندد بالوحشية والفظائع التي ارتكبها الإنجليز في منطقة القتال ووصفها قائلا إنها (عدوان همجي مخجل من المملكة المتحدة، وخرق صارخ للسلم العالمي والأمن الدولي، وامتهان بالغ لمبادئ الميثاق وأهدافه السامية.)
وانتقل إلى الحديث عن السودان وتحدى الإنجليز أن يخرج المصريون والإنجليز من السودان ثم يجري فيه استفتاء حر على يد هيئة الأمم المتحدة وأشار إلى مندوبهم كمن يقول (اقبلوا هذا التحدي إن كنتم مخلصين.)
وأسقط في يد الإنجليز فحاولوا منعه من الكلام فلم يستطيعوا كما لم يستطيعوا على بيانه تعقيباً
وفي يوم السبت 17 نوفمبر جاء الرد الإنجليزي على مصر ووزير خارجيتا: ففي الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم انتشرت فجأة عدة دوريات مسلحة في مختلف أرجاء مدينة الإسماعيلية ثم بدأت تطلق نيرانها في وقت واحد فقلبت أمن المدينة جحيماً مستعر النيران؛ ولم يميز الإنجليز في هذا بين المدنيين وبين رجال البوليس فسقط من الشهداء كثيرون
وفي يوم الأحد 18 نوفمبر عاود الإنجليز هجومهم الوحشي على المدينة وبالغوا في إجرامهم إلى أبعد مدى يستطيع العقل البشري أن يتصور فظاعته، فقد ظلوا يطلقون النيران على المدينة من الساعة الثالثة مساء حتى الساعة العاشرة
وفي هذه المجزرة استشهد عشر مواطنين: خمس من المدنيين وخمس من الجنود وجرح سبعة وعشرون
وقد فقد الإنجليز ضابطين وسبعة جنود وجرح أكثر من ثلاثين جندياً. ولكن أكثر من هذا:(962/11)
لقد اشتركت مدمرة بريانية في ضرب الإسماعيلية وشاء ربك أن تسقط القنابل في معسكر إنجليزي وتفتك بجنوده. ويتكتم الإنجليز أنباء عدد القتلى منهم ولكن في كل يوم يعثر على جثث طافية لهم في ترعة الإسماعيلية وفي بحيرة التمساح
وفي مساء الاثنين 19 نوفمبر وقف إيدن وزير خارجية بريطانيا يتحدث في مجلس العموم البريطاني فقال (إن القومية العدوانية أو التعصب الديني أو الاثنين معاً وحاولاً إثارة الحقد والكراهية والبغضاء بين فريقين كان ينبغي أن يكونا صديقين. نعم ينبغي أن تكون مصر صديقة لبريطانيا لأن بريطانيا تقتل كل يوم من المصريين من تستطيع وتهتك أعراض المصريين وتسلب أموالهم وحرياتهم وتعتدي على استغلالهم ووحدتهم. هذا هو منطق الإنجليز!! وقال (إن بريطانيا على استعداد الآن لإعادة النظر في معاهدة 1936 والاستعاضة عنها باتفاق مع الدول الأخرى لحماية قناة السويس. وكأنه يريد أن يقول إن سبع سنوات من المفاوضات لم تكن كافية لتعديل معاهدة 36 البائدة ويزيد فيريد أن يفرض حماية دولية على قناة السويس مع أن مصر قد ضاقت ذرعاً بإنجلترا وحدها
وقال (إذا أريد نجاح أية محادثات بين مصر وبريطانيا يجب الكف عن النشاط الإرهابي الموجه ضدنا في منطقة القناة. فالموقف هناك لا شك خطير.) وكأني به يريد أن يقول إن تبعة مجزرة الإسماعيلية تقع على عاتق المصريين إذ هي رد على الاعتداءات الفدائيين. لا يا مستر إيدن! إنها رد على صلاح الدين. ولكن اعلم أن مصر قد وقفت تناضل عن حريتها، ولن تضعف مهما ارتكبتم من إثم أو اقترفتم من جرم. إننا لا نريد احتلالا فاخرجوا من ديارنا وكفى
ووقف مستر موريسون وزير خارجية إنجلترا السابق يؤيد إيدن، إنجليزي يؤيد إنجليزياً! أمر معروف ولن نبأ بإيدن أو بموريسون
ويختم إيدن حديثه طالباً أن يعود ألمانيا وإيطاليا من جديد وأن تصبحا عضوين في هيئة الأمم. هذا هو جزاء الإنجليز للأعداء. أما مصر الصديقة فيقتل أبناؤها جزاء لها على صداقتها!
وإني أحب أن أبعث بالتحية إلى الفدائيين من إخواننا فقد أقلقوا مضاجع الإنجليز بأعمالهم الجريئة، وبشجاعتهم وحسن حيلهم من استخدام القطط المشتعلة إلى إطلاق الثعابين(962/12)
والأفاعي
وفي 20 نوفمبر 1951 قدم الدكتور مصدق رئيس وزراء إيران وبطل تحريرها إلى مصر فاستقبلته مصر استقبالا حماسيا رائعا. ولا عجب فمصر شقيقة إيران وكلتاهما تناضل العدو المشترك بريطانيا
مارس 1919:
رأينا كيف بدأت الثورة المصرية ثورة سلمية هدفها إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال، ولكن الإنجليز أبوا على المصريين حقهم المشروع في الحرية والاستقلال وانطلقت قواتهم الغاشمة تعتدي على العزل الأبرياء وتسفك دماء الشهداء، دون ذنب إلا إخلاصهم لوطنهم. وبلغ الجنون بالإنجليز أقصاه فانطلقوا يطلقون الرصاص على المصلين وهم خارجون من المشهد الحسيني بعد قضاء صلاة يوم الجمعة 14 مارس. وقد حسبوا أن تجمع المصلين مظاهرة، ولكنهم في عدوانهم هذا لم يميزوا أيضاً بين رجل وامرأة فقتلوا بعض النساء
إضراب المحامين:
في 11 مارس أضرب المحامون عن العمل احتجاجاً على موقف إنجلترا من مصر ومنعها للوفد من السفر والتجائها إلى سياسة الإرهاب والشدة إزاء المصريين وقبضها على زعماء مصر وطلبوا نقل أسمائهم إلى جدول غير المشتغلين
وقد وافق مجلس نقابة المحامين على قرار الإضراب ونفذ المحامون القرار في 11 مارس، وكان لهذا القرار أثر كبير في نجاح الثورة (فقد كان بمثابة دعوة عملية إلى طوائف الشعب للإضراب العام).
وفي 15 مارس انضم المحامون الشرعيون إلى زملائهم وقرروا الإضراب أيضاً. وقد اقتحم المتظاهرون المحكمة الشرعية العليا وطلبوا إلى رئيسها أن يسير على رأس مظاهرتهم فقبل. وركب عربة جاء بها المتظاهرون، ولكن البوليس هاجم المتظاهرين وأصيب منهم اثنا عشر غلاماً في أرجلهم
وفي هذا اليوم أيضاً أضرب عمال عنابر السكة الحديد ببولاق، وألفوا مظاهرة تأييد للطلبة فوقفت حركة السكة الحديدية(962/13)
وقد اضطرت الحكومة إزاء هذه الإضرابات أن تنشر جنودها في جميع أحياء القاهرة واضطرت إلى احتلال محطة القاهرة والعنابر والورش بحي السبتية
محاكم عسكرية:
أنشأت السلطة محاكم عسكرية في القاهرة أولا ثم في الإقليم لسرعة البت في قضايا المظاهرات والمتظاهرين. وقد قضت هذه المحاكم بأحكام مختلفة على كثير من المتظاهرين وكان من بين أحكامها: الحكم على حسن عبد الباقي النمرجي بجنيه غرامة أو السجن أحد عشر يوماً لأنه مزق منشوراً للسلطة العسكرية!
مظاهرة السيدات:
أبت المرأة المصرية أن تترك الرجل المصري ينفرد بشرف الجهاد، ولهذا الغرض اجتمع عدد كبير من فضليات السيدات والآنسات في يوم الأحد 16 مارس وخرجن في مظاهرة كبرى سارت في شوارع العاصمة تنادي بالحرية والاستقلال لمصر، وبسقوط الحماية والظلم والاستبداد، والاحتجاج على ما أصاب الأبرياء من القتل والتعذيب
وقد أخذت المتظاهرات يطفن في حشمة ووقار بدور معتمدي الدول الأجانب ويقدمن إليهم منشوراً:
(جناب المثتمد:
يرفع هذا لجنابكم السيدات المصريات أمهات وأخوات وزوجات من ذهبوا ضحية المطامع البريطانية، ويحتججن على الأعمال الوحشية التي قوبلت بها الأمة المصرية الهادئة لا لذنب ارتكبته سوى المطالبة بحرية البلاد واستقلالها تطبيقا للمبادئ التي فاه بها الدكتور ولسن وقبلتها جميع الدول محاربة كانت أو محايدة.
نقدم لجنابكم هذا ونرجوا أن ترفعوه لدولتكم المبجلة لأنها أخذت على عاتقها تنفيذ المبادئ المذكورة والعمل عليها؛ ونرجوكم إبلاغها ما رأيتموه وما شاهده رعاياكم المحترمون من أعمال الوحشية وإطلاق الرصاص على الأبناء والأطفال والأولاد والرجال العزل من السلاح لمجرد احتجاجهم بطريق المظاهرات السلمية على منع المصريين من السفر للخارج لعرض قضيتهم على مؤتمر السلام أسوة بباقي الأمم وتنفيذا للمبادئ التي اتخذت(962/14)
أساساً للصلح العام، ولأنهم يحتجون أيذا على اعتقال بعض رجالهم وتسفيرهم إلى جزيرة مالطة
لنا الأمل يا جناب المعتمد أن يحل طلبنا هذا نحن السيدات المصريات محل القبول ولا زلتم عونا لنصرة الحق مؤيدين لمبادئ الحرية والسلام.)
وقد أثار منظر السيدات والآنسات في المظاهرة الحماسية في النفوس ووقفت الناس على جوانب الطرق يحيون المتظاهرات وشاركتهن زميلاتهن بالزغاريد من داخل المنازل فأحفظ ذلك الإنجليز وأخذوا يتعرضون لهؤلاء السيدات. وحينما وصل الموكب إلى شارع سعد زغلول ووجهته (بيت الأمة) ضرب الإنجليز نطاقاً حول المتظاهرات ومنعوهن من مواصلة السير وصوبوا بنادقهم نحو صدورهن، ومع هذا فإن المتظاهرات لم يرهبن التهديد وتقدمت إحداهن وقالت لجندي شهر عليها بندقية: (نحن لا نهاب الموت، أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا في مصر مس كافل ثانية.)
قالت هذه العبارة بالفرنسية ففهمها الضابط فخجل وتنحى لهن عن الطريق بعد أن وقفن في حرارة الشمس أكثر من ساعتين
وقد كتب المتظاهرات احتجاجاً ثانياً على هذه المعاملة ورفعوا مع الاحتجاج الأول إلى معتمدي الدول الأجنبية. ولقد كان منظر الجند المدججين بالسلاح وهم يتعرضون للسيدات الكرام مدعاة إلى احتقارهم
وقد حيا شاعر النيل حافظ بك إبراهيم مظاهرة السيدات في قصيدة رائعة:
خرج الغواني يحتجج ... ن ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تخذن من ... سود الثياب شهارهنه
فطلعن مثل كواكب ... يسطعن في وسط الدجنه
وأخذن يجتزن الطريق ... ودار سعد قصدهنه
يمشين في كنف الوقا ... ر وقد أبن شعورهنه
وإذا بجيش مقبل ... والخيل مطلقة ألاعنه
وإذا الجنود سيوفها ... قد صوبت لنحورهنه
وإذا المدافع والبنا ... دق والصوارم والأسنة(962/15)
والخيل والفرسان قد ... ضربت نطاقا حولهنه
والورد والريحان في ... ذاك النهار سلاحنه
فتطاحن الجيشان سا ... عات تشيب لها الأجنه
فتضعضع النسوان والنس ... وانليس لهن منه
ثم انهزمن مشتات الشم ... ل نحو قصورهنه
فليهنأ الجيش الفخو ... ر بنصره وبكسرهنه
فكأنما الألمان قد ... لبسوا البراقع بينهنه
وأتوا بهندنبرج مخت ... فيا بمصر يقودهنه
فلذاك خافوا بأسهن ... وأشفقوا من كيدهنه
أبو الفتوح عطيفة(962/16)
موازنة وتحليل:
بين شوقي وولي الدين يكن
سقوط عبد الحميد
للأستاذ محمد رجب البيومي
بين شوقي وولي الدين مشابه كثيرة، فكلا الرجلين تركي الأصل، وكلاهما نشأ في ظلال الترف والنعمة، وذللت دونه طرق المجد والجاه، فاتصل بالأسرة الحاكمة، وتقلب في المناصب المرموقة. وكلاهما شاعر مبدع يصوغ القلائد الساحرة، ويصرف أعنة البيان حيث يريد. وكلاهما ينتقل به هواه فوق ضفاف البسفور، وعلى شواطئ النيل، فأنت تسمع لهما الروائع المبدعة في وصف الآستانة، كما تقرأ لهما الحنين الدائب إلى مطارح النيل، حيث قدر لهما أن ينزحا عن القاهرة مغتربين، ذاك إلى الأندلس، وهذا إلى سيواس، وفي غياهب المنفى السحيق تتأجج العاطفة، ويجيش الخاطر بالروعة والإبداع
ورغم هذه المشابه العديدة فقد افترق الشاعران في وجهة نظريهما إلى السلطان عبد الحميد افتراقاً شاسعاً، وقد وجد كلاهما من ظروف حياته، وطبيعة شخصيته، ما يدفع به إلى التمسك برأيه والدفاع عنه مما يملك من بيان. وقد كان لعبد الحميد في كثير من الأذهان صور متناقضة متضاربة، فهو - من ناحية - أمير المؤمنين الرسمي، وقائد الإسلام الرمزي، وظل الله في أرضه، وخليفته في تنفيذ أوامره وتحريم نواهيه! وهو - من ناحية ثانية - طاغية مستبدة، يعذب الأبرياء، ويغتال النصحاء، وينصب الدسائس والشباك، ويجمع الحور والغانيات في قصوره المترفة الناعمة، ويصل إلى أهوائه الجامحة في طريق من الأشلاء والدماء! وتلك أمور تدعو إلى الثورة وتدفع إلى العصيان، فانطلقت الألسنة بالعراق والشام ومصر تندد ببغيه وعدوانه، وقام الزهاوي والرصافي وولي الدين بتجريحه وهجوه، فأظهروا للملأ فضائحه ومثالبه. ومن المدهش الغريب أن يقوم إلى جانب هؤلاء الثائرين شعراء مبدعون بكيلون المدح كيلا للسلطان الجائر، ويرسلون القصائد الرزنة تلهج بالثناء عليه، وتحيل ظلماته الدامسة إلى نهار ضاح! وأنت تسأل عن سبب ذلك فنجد هؤلاء المادحين يهيمون بالوحدة الإسلامية، ويخافون أن تتصدع الخلافة بمهاجمة(962/17)
السلطان، فتتفرق كلمة المسلمين، ويصبحون طعاماً سائغاً للمتربصين من الأعداء. وخير عندهم أن يتغاضوا عن أفعال هذا الطاغية، من أن تدور الدوائر على الكلمة الجامعة والشمل المتماسك، فتنحدر الخلافة إلى المهوى السحيق! هذا ما كان يعتقده محرم والكاشف والرافعي وحافظ والقاياتي وغيرهم ممن أحالوا البساطل حقاً بمدائحهم المموهة، ووقفوا من ولي الدين وشيعته على طرفي نقيض!
وقد كان أمير الشعراء مدفوعاً إلى مدح السلطان الجائر بهذا الدافع من ناحية، وبدافع أقوى منه من ناحية أخرى، فهو شاعر القصر، وترجمان البلاط الخديوي، يأتمر بأمره، وينطق بلسانه. وكان النفور القائم بين الاحتلال الإنجليزي، والخديوي الشاب يدفع الباب العالي بالأستانة إلى العطف على عباس وتحييذه، كما يدفع الأمير الغيور إلى الاعتزاز بالسلطان والتطلع إليه. وطبيعي أن يعبر شوقي عن ذلك بمدائحه المسهبة في كل مناسبة تحين، وتمضي هذه القصائد إلى أسماع عبد الحميد فتأخذ مكتنها من نفسه، وتميل به إلى الشاعر المادح، فإذا زار شوقي الأستانة نزل ضيفا على السلطان، ونال من الحفاوة والتجلية ما يضاعف حبه وينعى إخلاصه، فيشدو بعظمة عبد الحميد، ويطلق لخياله العنان في تهنئته ومديحه! مع أن فظائعه الدامية لا تطاق بحال! هذا الوضع السياسي الذي جذب شوقياً إلى ساحة عبد الحميد، قد قابله وضع مضاد لولي الدين، حيث أتيح للشاعر أن يمكث مدة غير قصيرة بالأستانة. فرأى بعينه ما يسمعه الناس من فضائع السلطان، وشاهد الظلم والدسيسة والخيانة في أبشع صورها، فلم يطق صبراً على ما شاهد بعينه وليس بيده، فرجع إلى القاهرة وأنشأ جريدة الاستقامة، وأعلن الثورة على السلطان في جبروته، ورسم بقلمه المؤثر صوراً حزينة للضحايا الأبرياء الذين تجرعوا الغصص القاتلة بالأستانة، فأصبح من أعلام المعارضين للسياسة العثمانية. وقد حوربت جريدته محاربة شديدة، وتصدى لها الحكام والولاة تصدياً ماحقاً، حتى لم تعد تصل إلى قرائها في مختلف الأمصار. ورأى الشاعر من الحزم أن يقطع صدورها، ولكنه لم يغمد قلمه بل شهره في الصحف اليومية التي تميل إلى رأيه، وجعل من جريدتي المقطم والمشير منبراً يذيع حملاته من فوقه. وشاءت السياسة العثمانية أن ترشوه كغيره من المعارضين، فعين عضواً بمجلس المعارف الأعلى في الأستانة. وكان الظن به أن يقنع بمنصبه الساحر، ولكن واصل الهجوم العنيف(962/18)
دون مبالاة، فصدر الأمر بنفيه إلى سيواس! وقضى سبع سنوات في مكان موحش مقفر، لا يرى غير الغيوم والصخور والأمطار والهضاب. وكلما اشتعل الغيظ في صدره أرسل قر يضه مندوا هاجياً، ولم يذق طعم الراحة حتى صدر الدستور العثماني ثم عزل السلطان بعد ذلك فهوى إلى الحضيض!
هذه عجالة تاريخية توضح لنا البواعث التي حدت بشوقي وصاحبه إلى موقفهما المختلف من السياسة العثمانية. والباحث المنصف يعجب كل الإعجاب ببسالة ولي الدين وشجاعته، فهو لم يشأ أن يذعن للباطل في أمر مهما قبض الثمن غالياً، وكان يغيظه من شوقي أن يبالغ في مدائحه مبالغة تدعو إلى الدهشة والاستغراب، فهو يعلم تمام العلم ما يجري بالأستانة من محن ونكبات، ولكنه لا يقتصر على الثناء الرسمي والدعاء بالتوفيق والهداية كما يفعل مادحو السلطان، بل يزعم أنه أعاد سيرة الفاروق، وأنه كلل البائسين والأيتام بتاج من عطفه وإخلاصه، وأن الخصب والنماء والغمام هبات تتناثر من كفه، يا إن البيت العتيق ليشكر ربه من أجله، وعرفات يسعى هاتفا به، وأن الرسول يهنأ في قبره بحياته، فهي حياة الدين واليتامى والمساكين! إلى غير ذلك مما يراجعه القارئ في الشوقيات!
وبعد جهاد متواصل كادح من الشعب والجيش كان ما لا بد أن يكون، فقد حاق المكر السيئ بأهله؛ ودارت على الباغي الدوائر، وتقدمت الجيوش زاحفة إلى (يلدز) فسقط السلطان من عليائه، ونزل الجبار عن عرشه. وطار الخبر إلى ولي الدين فصفق شعره في خاطره، ونظم قصيدة شامتة يذكر فيها السعادة الذاهبة، والمجد البائد، ويتصور الأسير المهيض وقد كبل بالأغلال وتجرع غصص الحرمان متيقظا، فإذا أغفت عينه نغصته الأحلام بأطياف خاطفة لكلكه الزائل، وبدره الآفل! إنه ليقول في تشف ساخر وتهكم مرير:
عزاء أيها النافي الرعايا ... ولا تجزع فخالقهم نفاكا
حرمت كراك أعواما طوالا ... وليتك بعد ذا تلقى كراكا
تفارقك السعادة لا لعود ... وقد عاشت خطاها في خطاكا
فدع صرحا أقمت به زمانا ... وقل يا قصر لست لمن بناكا
نعم عبد الحميد ما ندب زمانا ... تولى ليس يحمده سواكا
تولى بين أبكار حسان ... تعلق في غدائرها نهاكا(962/19)
جعلت فدائها الدنيا جميعا ... ولو ملكتها جعلت فداكا
وطال سراك في ليل التصابي ... وقد أصبحت لم تحمد سراكا
ستحيا في سلانيك زمانا ... ستحسد فيه عن بعد أخاكا
وتعلم أن ملكا ترتضيه ... ولعت به، ولكن ما أرتضاكا
فإن زار الكرى عينيك ليلا ... وعادك تحت طيته أساكا
تمثل في المنام لديك ناس ... تخبر عن دمائهمو يداكا
رما هم بالأفول دجاك لما ... تبدوا كالكواكب في دجاكا
وتمضي القصيدة إلى قراء العربية ومعها أخوات قالها الأحرار من الشعراء في شتى بقاع الهالم الإسلامي، فتعبر عن السرور الدافق وتنطق بما تكن المشاعر الساخطة على الأسير المعزول. ويجرف التيار بطوفانه الجائش جميع الشعراء، فيستقبلون الخليفة الجديد مهنئين ويشيعون الراحل المستبد لائمين معيرين، ولكن شوقا وحده يظهر الأسف على سقوط السلطان واندحاره، ويفيض خاطره الحزين بقصيدته الشهيرة (سل يلدزا ذات القصور) غير مستطيع أن يكبت عواطفه الملتاعة، بل ينسى الشعور العام في العالم الإسلامي ويقول عن عبد الحميد:
خطب الإمام على النظيم ... يعز شرحا والنثير
شيخ الملوك وإن تضعضع ... في الفؤاد وفي الضمير
نستغفر الله له! ... والله يعفو عن كثير
ونراه عند مصابه ... أولى بباك أو عذير
ونصونه ونجله ... بين الشماتة والنكير
ولكن ولي الدين لا يرضيه هذا الإغضاء الخاطئ، ويخاف أن تجد قصيدة شوقي مكانها في النفوس، فتميل ببعض العواطف نحو السلطان الذاهب، وتطفئ ما سطع من بريق الفرحة والابتهاج، فيلجأ الشاعر إلى مناقضتها مناقضة حارة في قصيدته التي مطلعها:
هاجتك خالية القصور ... وشجتك آفة البدور
وقد وقف بها أمام شوقي وجها لوجه، فدحض حججه، وناقض أدلته، وأفسح لنا مجال الموازنة والتحليل، وكلتا القصيدتين بعد ذلك تعلن شعور قائلها واتجاهه، وتصور تفكيره(962/20)
وأسلوبه، وهاأنذا أفصح عنهما بعض الإفصاح
بدأ أمير الشعراء قصيدته كما يبتدئ قصائد الرثاء والتأبين، فهو يسأل يلدز عن نيراتها الثواقب، ويعلن عجزها عن الإجابة المقنعة، فقد أناخ عليها الدهر كما أناخ - في البعيد الغابر - على قصور النعمان بالحيرة، فأصبح الخورنق والسدير أطلالا دارسة، وكما أنماخ - في القريب المائل - على الجزيرة وقصر إسماعيل فغاب عنهما الأنس والبهاء! وروح الشاعر في مطلع قصيدته هامسة كئيبة تعلن عن ذاتها إذ تقول:
سل يلدزا ذات القصور ... هل جاءها نبأ البدور
لو تستطيع إجابة ... لبكتك بالدمع الغزير
أخفى عليها ما أنا ... خ على الخورنق والسدير
ودها الجزيرة بعد ... إسماعيل والقصر الكبير
ذهب الجميع فلا القصور ... ترى ولا أهل القصور
فلك يدور سعوده ... ونحوسه بيد المدير!!
أما ولي الدين فيعجب لشوقي كيف تهيجه القصور الخالية من الأنيس، وتشجيه البدور الآفلة بعد السطوع، وكيف يذكر أصحاب الترف والنعيم، وينسى المقابر المليئة بالضحايا، الآهلة بالأبرياء، وكيف يكسب الدمع الغزير على طاغيه طالما أثار المدامع وأبكى القلوب، ونهب الأموال، وبدد الضياع! ويعلن أن دثور يلدز غنيمة كبرى للشعب الجريح، فستأهل بعدها الدور الموحشة، وستضئ المنازل الخربة، ويحيا المعذبون أعزة سعداء! والقارئ يلمس صدق العاطفة، وسلامة المنطق إذ يسمع وليا يقول:
هاجتك خالية القصور ... وشجتك آفلة البدور
وذكرت سكان الحمى ... ونسيت سكان القبور
وبكيت بالدمع الغز ... ير لباعث الدمع الغزير
ولواهب المال الكثير ... وناهب المال الكثير
إن كان أخلى يلدزا ... مخلى الخورنق والسدير
سيتأهلن من بعدها ... الآف أطلال ودور
بعض النجوم ثواقب ... والبعض دائمة المسير(962/21)
وكما بدأ البحتري قصيدته في رثاء المتوكل بوصف قصره المنيف، وما منى به من ذله بعد عزة، ثم انتقل إلى أوانس القصر وظبائه، ومقاصره وستائره، فكذلك ابتدأ شوقي قصيدته يتحدث عن القصور في يلدز ثم ينتقل إلى غانياتها الساحرات، ولشوقي سلاسة وعذوبة حين يتحدث عن هؤلاء المترعات من النعيم العاثرات من الدلال، الناهيات الآمرات على الولاة، الطيبات الأريج، الذاهلات عن الرمان بما هن فيه من خفض ونعيم، المشرفات على الممالك، بين المشارف والرفارف والزخارف! الآمنات في مسكن فوق السماك بين المعاقل والخيول والرماح وفوق غارات المغير، أجل! إن لشوقي براعة في رسم هذه الصور الفاتنة الخلابة، وإنها لتتجلى لعينيك حين تسمعه يقول:
أين الأوانس في ذراها ... من ملائكة وحور
الترعات من النعيم ... الراويات من السرور
العاثرات من الدلا ... ل الناهضات من الغرور
الآمرات على الولا ... ة الناهيات على (الصدور)
الناعمات الطيبات ... العرف أمثال الزهور
الذاهلات عن الزما ... ن بنشوة العيش النضير
المشرفات وما انتقلن على ... المسالك والبحور
أمضى نفوذاً من (زبيدة) ... في الإمارة والأمير
بين الرفارف والمشارف ... والزخارف والحرير
والدر مؤتلق السنا ... والمسلك فواح العبير
في مسكن فوق السماك ... وفوق غارات المغير
بين المعاقل والقنا ... والخيل والجم الغفير
وهؤلاء الآمرات الناهيات لا يقام لهن وزن في منطق ولي الدين، بل إنهن في نكبة السلطان ومحنته، فقد صرفنه عن التعقل والتدبير، واستلبن أموال الدولة فيما يطلبن من لآلي وعقود وحلي! فعكف على أسرابهن الفاتنات يعتصر الخدود، ويهتصر الخصور، مستمدا من فتور عيونهن فتوراً في همته وانكسارا في عزيمته. . . كل ذلك وجيش الدولة ساغب جائع لا يحد ما يقيم أوده من العيش، فأجناده صفر الوجوه، خمص البطون، يشكون(962/22)
المتربة والفاقة، رغم ما يمهد للحسان من أسباب الترف والنعيم، فأي مغنم عاد على الدولة من هؤلاء الفاترات الناعسات؟ وأي متربة جلبنها على الرعية بما يستنزفن من أموال وثروات! إن ولي الدين ليعكس صورتهن الخلابة في مرآة شوقي فتنقلب من مرآته دميمة مقيتة ويصور جنايتهن الكبيرة إذ يقول
ضاءت عقود الملك ... ما بين الترائب والنحور
والشيخ بات فؤاده ... في أسر ولدان وحور
ما زال معتصر الخدود ... هوى ومهتصر الخصور
وإذا انقضت ليلاته ... وصلت بليلات الشعور
أهدى الفتور لقلبه ... مابا للواحظ من فتور
واستنفرته عن الرعا ... يا كل آنسة نفور
نختال من حلل الصبابة ... في الدمقس وفي الحرير
والجند عارية مناكبها ... مقصمة الظهور
خمص البطون من الطوى ... دقت فعادت كالسيور
إن الزمان يغر ثم ... يذيق عاقبة الغرور
ثم ينتقل شوقي إلى مناجاة السلطان الأسير، فيغمره بفيض من عطفه ومعذرته، وكأنه ينظر إلى أفضاله عليه، فيأبى أن يخصه بلوم أو تقريع، فهو أرفع من أن يشمت فيه شامت، وأولى أن تراق الدموع حزنا على سقوطه!! وإذا كان قد أسلف بعض الجرائر فالله يعفو عن كثير، فلا داعي أن نطيل حسابه في محنته العسيرة. وما كان عبد الحميد - في رأي شوقي - إلا خليفة كالمنصور أو الرشيد في سالف العصر، وهما قد حفظا جلال الملك، وأبهة الخلافة، وإن استبدا مثله بالأمر، ولم يخضعا لدستور أو مشورة، ثم لا يقتصر شوقي على ذلك بل يصف السلطان بالروية والأناة وحكمه العاقل الخبير، وأي حكمة تلك التي تبطش بالناس، ومصب الدسائس وتستلب الأموال! وبمعنى أمير الشعراء في وصف العظمة الغابرة، والسلطان السالف، كأنه يتعزى بذكراها عما أَصاب سيده من سقوط؛ فهو يقول
عبد الحميد حساب مثلك ... في يد الله القدير(962/23)
سدت الثلاثين الطوال ... ولسن بالحكم القصير
تنهى وتأمر ما بدا ... لك في الصغير وفي الكبير
لا تستشيروا في الحمى ... عدد الكواكب من مشير
كم سبحوا لك في الروا ... ج وألهوك لدى اليكور
خفضوا الرءوس ووتروا ... بالذل أقواس الظهور
ماذا دهاك من الأمو ... ر وأنت داهبة الأمور
أين الروية والأنا ... ة وحكمة الشيخ الخبير
دخلوا السرير عليك ... يحتكمون في رب السرير
أسد هصور أنشب ... الأظفار في أسد هصور
قالوا اعتزل قلتاعتز ... لت الحكم لله القدير
ظنوا بضائع حقهم ... وضننت بالدنيا الغرور
وهذا منطق لا يعجب ولي الدين في شيء، فهو يرى السلطان أهلا للوم والتفريغ ويجب أن ينال جزاء ما أسلف للناس من مَحن وأزراءَ، بل أنه ليذكره بالمجد البائد تهكما وتشفيا، ويعجب لغفلته وبلاهته، وكيف صم أذنيه عن النصيحة، وسدر في غوايته مع أن الشيب قد وحظ لحيته ورأسه وقضى من الزمن ما يتيح له العبرة والعظة، لو رزق قليلا من الحكمة والروية. ويصف المعركة الدامية التي انتهت بسقوطه وأسره، ويضحك منه إذ ضرع أمام الجند ذليلاً باكياً وأخذ يستجير بمن أعرض عنه، حتى ذاق عاقبة ختوره وغدره، فسقط من عليائه دامي القيد، منحني الظهر، إلى حيث يقضي أيامه الأخيرة في محبسه الذليل!! وللقارئ أن يلمس هذا كله من قول ولي الدين
وعظتك واعظة القتير ... ورأيت منقلب الدهور
وربيت في مجد الأمير ... ولم تمت موت الأمير
لما سلبت الحكم قلت ... الحكم لله القدير
ورآك جندك ضارعا ... لهمو ضراعات الأسير
لقد استجرت بمعشر ... ما كنت فيهم بالمجير
هي غارة لكنها ... دارت على رأس المغير(962/24)
من ذا استشرت لها ولم ... تك في الحياة بمستشير
لقد استطرت بشر ... يومك كل شر مستطير
وخترت يا عبد الحميد وما ... استحيت من الختور
من عاش يستحلي الشرور ... يموت من تلك الشرور
إن الثلاثين التي ... مرت بنا مر العصور
وهبتك تجربة الأمو ... ر فعشت في جهل الأمور
من كان يدعوك الخبير ... فلست عندي بالخبير
وقد كان مجال القول ضيقاً أمام شوقي فترك عبد الحميد في منتصف القصيدة، ولجأ إلى تهنئة الخليفة الجديد باسم الإسلام ومصر، وأسهب في مديح الجيش الذي أسقط السلطان منوها بأبطاله وكماته، وقد يحس القارئ شيئاً من التناقض بين الناحيتين، وذلك هين مقبول من شاعر مجامل يودع راحلاً أسيراً ببعض ما يجب في رأيه من الإغضاء والتسامح!! والمجاملة في بعض أحوالها توقع في الحيرة والتناقض دون معابة أو مؤاخذة. على أن ولي الدين يؤاخذ شوقا مؤاخذه عنيفة، فهو - في رأيه - يتحسر على المال المبذول، والخير الدرير. إذ يتحسر على عبد الحميد، وكان عليه أن يقدر فرحة العالم الإسلامي بسقوط الخليفة دون نظر إلى عواطفه الذاتية! وكأني بشوقي وقد حز في نفسه أن يعرض به ولي الدين أعنف تعريض إذ يقول
لما أدبل من السر ... ير بكاه عباد السرير
نذروا النذور لعوده ... هيهات يرجع بالنذور
أسفوا عليه وإنما ... أسفوا على المال الدرير
والبعض كان جريره ... فسمايتيه على جرير
طلبوا له عفو الغفور ... وشذ من عفو الغفور
وقد سكت شوقي عن هذا التعريض المرير. إذ كان يلزم الصمت إزاء ما يوجه له دائماً من تجريح، وقد يكون السكوت من ذهب في بعض الأحوال. . وأظنه كذلك الآن
ونحن بعد ما تقدم من العرض السريع نستطيع أن نحكم على القصيدتين معا بسلاسة الأسلوب، وغزارة المعاني، وتنوع الأغراض، واستقامة التعبير؛ إلا أننا نلمس بين(962/25)
القصيدتين فوارق متعددة من عدة نواح
1 - فقصيدة شوقي أشبه ما تكون بخطبة رسمية تلقى في حفل عام، فيها أولاً من الخليفة السابق، ومدح الجيش المنتصر ثانياً ثم هنأ السلطان الجديد بالخلافة ثالثاً، وأعلن اغتباط مصر والعالم الإسلامي به رابعاً! وليس ذلك بمستغرب من شاعر يعبر عن روح القصر الخديوي، ويتلقى وحيه الشاعري من الحاشية والبلاط. أما قصيدة ولي الدين فهي ترجمة أمنية لعواطفه، وتصوير شامل لابتهاج المخلصين، بزوال العهد الغاشم، دون أن يتقيد فيها بوجهة نظر خاصة، والشاعر الطليق يجد من اتساع المجال ما لا يحده المرهق بالقيود والأثقال. . .
2 - كان شوقي يسير على القتاد في قصيدته فهو يدعو إلى التسامح والإغضاء عن مستبد جارم لا يعقل أن يتسامح معه الناس ويلتمس الأعذار لطاغية سقطت أعذاره، وشاعت في الملأ مثالبه ومخالبه. وطبيعي ألا يجد من الحجج ما يسعفه ويقوي دفاعه، وعلى النقيض منه كان ولي الدين ممتلئ اليدين بأداته وبراهينه، هذا غير شعوره المبهج بانتظار آرائه، وتحقيق آماله وأشواقه
3 - بلغ شوقي القمة حسين تكلم عن الفانيات في قصر الخليفة، وما كان لهن من عظمة ودلال، وما أسدل فوقهن من بهجة وبهاء، ورسم ألواحاً بديعة للسرور الزائل والنعيم السالف، بينما بلغ ولي الدين القمة في ناحية مضادة، إذا استسلم لخواطره الحزينة فأسمعنا إحسانا مشجية تدمع على الضحايا الأبرياء، والصرعى الشهداء، وطاف بخياله على الأجساد الثاوية بين الجنادل والصخور، والزهور المضرجة بدماء شبيبتها الزاهرة، واليتامى البائسين من الصبية والأرامل. ولأنه ليستنزل الدموع الحبيسة من المآقي الشحيحة إذ يقول:
لله أجساد ثوت ... بين الجنادل والصخور
كانت زهور شبيبة ... لهفى على تلك الزهور
سقيت مياه دمائها ... والروض رقراق الغدير
كم خلقها من صبية ... يتمت ومن شيخ كبير
يترقبون مآبها ... إن المآب إلى النشور(962/26)
وممنعات في الخدو ... ر تموت حزناً في الخدور
ترجو زيارة حبها ... نبت الزيارة بالمزور
لم يجدها نصح القبيل ... ولا تسلت بالعشير
أودي الردى بنصيرها ... فقدت تعيش بلا نصير
لا بالعشي تضيق من بث ... ولا عند البكور
وأنا أجد لهذه الأبيات وأشباهها في قصيدة وأي الدين مربراً، ولذعاً دامياً، وجودة الشعر تتوقف على ما يثيره في النفس من كوامن الأحاسيس، وما يهيجه من حرق الوجدان (أما بعد) فاقد كان لهاتين القصيدتين الخالدتين دوى ورنين، عند نشرها لأول مرة في الصحف السيارة، إذ فويلنا بكثير من الاهتمام والاحتفال، وتطلقت إليهما عقول المثقفين من الأدباء. وقد رأيت أن ألفت إليهما الأنظار من جديد، فجلوت هذه الصفحة من تاريخ غير بعيد، ولله شوقي إذ يقول:
وإذا فانك التفات إلى ألما ... ضي فقد غاب عنك وجه التأسي
محمد رجب البيوسي المدرس بأبي تيج الثانوية(962/27)
الأدب وطلقات المدافع
(إلى الصديق الأستاذ علي متولي صلاح)
للشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن
ما كنت أحسب أن شهوة الكلام تبلغ عند صديقي الأديب الرقيق الأستاذ على متولي صلاح حداً يحرف به الكلم عن مواضعه ويؤول قصيدتي (على طلقات المدافع) تأويلاً يبعد بها عن المعنى الذي أريدت له وقصدت به
وأنا أشكر الأخ على هذا الدرس الذي ألقاه علي في عدد الرسالة الفائت ليدني على قيمة (الأدب) وخطره ورسالته في هذا الوجود العجيب الذي نشهد فيه بأعيننا ونسمع بأبصارنا على مدى قريب صوت القوة العارمة وهي تكتسح الحق في طريقها اكتسحاً. . . ثم لا تزال بعد ذلك نتملل بالألفاظ الفارغة، ونستند إلى العبارات الجوف، واهمين أو متوهمين أن ذلك هو طريق الكفاح لبلوغ الأهداف، وبلوغ المطاف
وأشكر الأخ مرة أخرى لأنه نقل إلي في كلمته الحماسية كلمات (هازلت) في وصف الكلمات بأنها (أفعال فإذا تكلمت فقد فعلت). ونقل إلي كلمات (سارتر) بأنها - أي كلمات - أسلحة نارية مشحونة بالقذائف، وأن الإنسان إذا تكلم فقد أطلق. . ونقا إلي - فوق ذلك - كلاماً لبرناردشو، ولغير برناردشو في الموازنة بين السيف والقلم. . .
وهي موازنة أخشى أن تكون موضوعاً إنشائياً جميلاً لطلاب المدارس، تصول فيه أقلامهم النحيلة الهزيلة، وتجول حين يحلق الخيال بعيداً بعيداً، مستسلماً إلى لذائذ الأحلام، الموشاة بتفويف الكلام. . .
وهي موازنة - فوق سحر الخيال فيها - قد قال فيها أنصار منطق القوة حين نادى أبو تمام - منذ أكثر من ألف عام - برأيه المشهور:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
ولا يعنيني هنا أن تكون الكتب هنا من تأليف الكرام الكاتبين، أو من وضع السادة المنجمين. . .
على أن أبا تمام لم يغفل شأن (القلم) الذي جاءنا الأستاذ على متولي صلاح بنصوص منقولة عن (هازلت) و (سارتر) و (برناردشو) ليدلنا على خطره وفتكه وشحنه بالقذائف.(962/28)
أو القنابل الصاروخية، أو القنابل الذرية أو الهيدروجينية أغير ذلك من آلات الدمار والهلاك. . نعم! لم يغفل الشاعر أبو تمام، خطر القلم والكلام حين قال:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... تصاب من الأمر الكلي والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجني اشتارته أيد عواسل
وأنا - شهد الله - لا أنكر خطر (كلمة) وفعلها في النفوس، وأثرها في العواطف، وخطرها في إثارة في العواطف، وخطرها في إثارة الانفعال، بل في زلزلة الجبال. .
أليست (الكلمة) هي التي أوحت إلى النحل أن تسلك سبل ربها ذللاً، فتأكل من كل الثمرات ثم تلفظها شهداً شهياً فيه شفاء للناس؟
فمن قال للصديق الكريم أنني هونت من شأن الكلام، أو أصغرت من قدر الأدب والبيان حين ضننت بالأدب أن يبتذل بالاستجلاب، أو يمتهن بالدعاء المجاب أو غير المجاب؟
إن الشعراء الصادقين - أيها الصديق - قد استجابوا لأصوات الشهداء في معركة (القتال) بالقدر الذي لا يخرج بشعورهم الغالي إلى رخص التمثيل، وهو أن التدجيل. . فقد نشر بعضهم في الصحف، وأذاع بعضهم في الإذاعة المصرية، ولم يشاءوا أن يجعلوا من (معركة التحرير) مناجاة حامية ترتفع فيها الأصوات الحارة يلب السلاح، وبالرغبة الخالصة في الكفاح، فيقال لهم: انتظروا حتى يتم الإشراف على الكتائب المحررة. . وما أشق الانتظار، على المجاهدين الأحرار!
ولعلك أيها الصديق قد أدركت معي الظروف التي أحاطت بي وأنا انظم قصيدتي (على طلقات المدافع) فهي ليست كفراً بالأدب، ولا جحوداً برسالته، ولا تهوينا من شأنه، ولا إغفالاً لخطره، ولا سوء فهم لوضيفته، ولا خروجاً به عن بيعته. . . وإذا كنت قد فهمت من قصيدتي ومن مقدمتها هذا الفهم، وعبت منها هذا القول الصحيح، فأنا أجل لأدبك وفهمك أن تكون الآفة فيهما. . ولكنك انسقت يا أخي وراء خلابة اللفظ، وشهوة الكلام فأحببت أن تتكلم، وأحببت أن تقيم دعابة عريضة (لرصف الألفاظ، وحشد العبارات). ونسيت أنني - أنا طرف لك في هذه الخصومة الأدبية - أكره الكلام في غير جدوى، وأمقت الألفاظ في غير طائل، وأضع الكلام موضعه حين أريد أن أتكلم، كما يضع الخبير الهناء مواضع النقب. .(962/29)
لا يا سيدي! لم تكن القصيدة التي نظمها كفراً بالأدب ولكنها في الحق كفر (بالخطب)، وكفر بالمقالات والكتب. . في وقت تمنت فيه سواعد الشباب والشيوخ لو أتيح لها أن تشعر، ولكن (رئي) أن تعطل السواعد، وأن تديج بدلاً منها الخطب والقصائد!
ألست معي بأن نفوس الشعراء أو نفوس بعض الشعراء كان يغشها ضباب هذه العوامل النفسية الخفية، فوقفوا يتفرجون في صمت، أينظرون في عجب، حتى يزاح الستار عن الأسرار. . وإلا فبربك لماذا سكت أنت عن أحداث القناة وما عهدتك إلا ناطقاً؟ ولماذا لم تشترك في معركة (قناة السويس) بقلمك وأدبك في لحظة كانت أرواح الشهداء ودماء الأبرياء تتطلع إلى مثل (عباراتك) من وراء الغيب، وتهفوا إلى صرير قلمك من خلف الفراديس؟
والآن وقد انجلى غبار معركة القنال عن بعض الشهداء الأعزاء أراك قد أمسكت (القلم) وامتطى في يدك الخمس اللطاف. . وأفرغت عليه شعاب فكرك لكي تذكرني بما قاله (هازلت) و (سارتر) و (جورج برناردشو) في القلم وقوته، والبيان وسطوته
لا، لا يا أخي! لقد قرأت من زمان طويل ما قاله (هازلت) فنازلا، و (سارتر) فصاعداً. . ولعلك خبير بتسلسل هذه العصور في فرنسا وإنجلترا. . ولكنني قرأت من أسابيع فقط ما كتبه الشاعر الإنجليزي المعاصر (ستيفن سبندر) في مجلة نيويورك تيمس بوك ريفو الأميركية
عن رسالة الشعراء في الحياة، وهل نستطيع أن نعيش بدونهم. . ولعلك يا أخي قرأت خلاصة لهذا المقال في عدد نوفمبر سنة 1951 من مجلة (الكتاب) الشهرية التي تصدرها دار المعارف بمصر. . ولعله قد لا يعنيك أن تعرف مترجم هذا المقال الذي يستحي أن يتحدث عن نفسه ولكني أؤكد لك أن قصيدتي (على طلقات المدافع لم تكن صرخة يأس ولا صيحة قنوط. . ولكنها كانت نذيراً، ونذيراً قوياً لقوم يجهلون قيمة (المدافع)، في عالم ملئ بالشهوات والمطامع
وسلام عليك أيها الصديق القديم، والخل الكريم
محمد عبد الغني حسن(962/30)
رسالة الشعر
الفدائي
للأستاذ عبد اللطيف النشار
. . . وعلى الله فاتكل يا فدائي ... فهو أعلى يداً من الأعداء
اشترى الله أنفساً نحن منها ... فهو أولى بها من الأولياء
إن حيينا فللكرامة والع ... زة، والموت غاية الأحياء
أو قضينا فاللذي مرجع ال ... كل إليه مستأراً بالبقاء
والمنايا على أختلاف صواها ... كلها دمن مصرع الشهداء
في سبيل الإله نطرد من مص ... ر عدوا مجاهراً بالعداء
لم يدع حرمة يقدسها الع ... الم إلا أصابها باعتداء
وصفيق دعواه في كل جرم ... أنه لم يزل من الحلفاء
آية الود عندهم ما جنوه ... والخيانات آية للوفاء
ليس في عالم الجرائم ذنب ... ما جنوه هنا على الأبرياء
احتلال لموطن فيه أهلو ... هـ وقتل لصبية ونساء
والمحاريب دنسوا وأهانوا ... حرمة العدل في رجال القضاء
واستباحوا الأموال نهباً وسلباً ... في ضياء النهار أو في المساء
بجنود مسلحين قطا ... ع طريق وطغمة جبناء
هؤلاء الأنذال خانوا المواثيق ... فماذا نرجوه من هؤلاء
بارك الله أيديا عالجتهم ... وسقتهم ذنوبهم في الدواء
أقحموا في مواطن العرب الغر ... دخيلا من أنجس الدخلاء
في فلسطين صورة لسواها ... إن تراخي أعداؤنا في الجلاء
صاحب الدار شردوا ليحلوا ... غيره في محله بالكراه
الجلاء الجلاء يا أبث ال ... ناس ضميرا وأسفه السفهاء
يا فدائي مرحبا بالفدائي ... أتؤدي في مصر فرض السماء
فيد الله فوق أيدي رماة ... أنقذونا من شر هذا البلاء(962/31)
ورمى الله إذ رمى مرسل الس ... هم إلى قلب جاهد النعماء
القناة التي يقولون أنا ... غير أهل لحفظها شبر ماء
وهمو العاجزون عن صوتها ... من ونفدي مكانها بالدماء
كمقام حسين كل مكان ... مستظل بالزاية الخضراء
يا قناة السويس يا زمزم الو ... ادي ورمز الأخوة السمحاء
قد حفرناك كي تكوني أداة ... لرجاء أكرم به من رجاء
صلة من أخوة الناس ... تزداد اتساعا في رقة وصفاء
للمودات لا العداوة والبغي ... وصلنا بالدمع ماء بماء
ومرجنا البحرين تقريب بعد ... بين دان من البلاد ونائى
زعموها لنصرهم. أو حقا؟ ... وعلينا. . .؟ يا أمة السفهاء
لو أردنا وماؤها الملح يحلو ... كل شئ يحلو إزاء العداء
لشربنا القناة في بعض يوم ... أكلنا أباكم في العشاء
لو أردنا فإنها حفرة ... تصلح قبرا لمعشر أشقياء
أو يحمى القناة من يخطف ... الأطفال منه السلاح دون عناء
ما رأينا ولا رأى الناس من ... قبل جيوشا مصفوعة الأقفاء
جيش مصر أعز حرب هذا ... فليؤديه بالعصي الفدائي
عبد اللطيف النشار(962/32)
الرماد المعذب
(مهداة إلى صديق الناقد الأستاذ أنور المعداوي)
للأستاذ علي الصياد
في عالم مكفن الضمير ... بعثت لا أعلم ما مصيري
معذب في زحمة الشرور ... وكل ذنبي رقة الشعور
مكحل بليله الضرير ... وفجر غيري نوره من نوري
أسقيته الحلال من عصيري ... ولم أجد منه سوى العسير
مشى بروضي مشية الأمير ... يقطف من وردي ومن زهوري
وينهل السلسال من غديري ... وينهب الألحان من طيوري
وفي ربا فردوسي النضير ... تعلم المنطق من خريري
ومن عجيب في تدميري ... وقد روي إحساسه غيري
مخدعه السندسي في القصور ... ومخدعي الشوك على الصخور
ويزدهي في الصوف والحرير ... وهيكلي ممزق الستور
سألته عن ماله الوفير ... من أين قال من دمي (المهدور)
سألته عن أصله الحقير ... أصدقني القول بلا تزوير
سألته عن ملكه الكبير ... أخالد قال إلى الثبور
سألته عن علمه الخطير ... قال كحفة من القشور
سألته عن دمعة الفقير ... قال كنجوى راهب في (الدير)
سألته حتى عن الحبور ... قال سراب خاطف العبور
فماله يختال في غرور ... واصله من الثرى الحقير
إني هنا في ليلى المنشور ... مبعثر المنى على الوعور
شيعت فيه مأتم السرور ... بين جلال الوحشة المثير
وصرت في ظلامه المضفور ... محترق الأنفاس والزفير
أبحث بالعينين عن سمير ... فلم أجد فيه سوى النسور
حاملة في بطشها المغير ... رسالة القهار للمقهور(962/33)
يا توأمي في البدء والنشور ... رفقا بروح شاعر مصهور
جدان في غياهب الديجور ... بفجره المفضض المنير
يغربل الأنام بالتفكير ... وكلهم نفاية القدور
أنا كتاب حالك السطور ... محجب البيان والتصوير
مزقه الناس بلا شعور ... في معبد من الأسى مهجور
وكفنوه في دجي التحقير ... وهو نتاج المبدع القدير
غدا يشع كالسنا الطهور ... مذهب الأسرار والتفسير
وسوف يبقى عبقري النور ... في ظلمة الأجيال والعصور
علي الصياد(962/34)
ألامس الضائع
للأستاذ حسن عبد الله القرشي
أفلت الأمس من يدي ... لم يهدهده موعدي
وغفا حاضري فوا ... لهف نفسي على غدي
كنت أشتاق للدمى ... والمساء المعربد
فأماني صبوة ... لحبيب مغرد
وحياتي مشارق ... لصباح منضد
وإذا القلب يحتوي ... فجأة كل فرقد
شاكه اليأس فانطوى ... رهن ماض مبدد
كنت أرتاح للقصي ... د كجاث بمعبد
يتصبانى القري ... ض بوحي مجدد
فأناجيه حالما ... ببيان مخلد
وأجاريه لا أنى ... كمحب مهد
وإذا بي أعافه ... بعد ما كان مقصدي
كنت أستقبل الصدي ... ق كشاد مردد
مغرقا في تلطفي ... ممعنا في توددي
أغزل الود من فؤا ... دي وأسقيه موردي
ثم إذ غالني الأسى ... والأسى خير مرشد
علمت والبين غالبي ... قاما بالتوحيد
كنت للمجد عاشقا ... كلفا بالتوحد
أتحرى طلابه ... رائحا ثم مفتدي
فيه مجلي سعادتي ... فيه ريى وسؤددي
ثم إذ شمته بري ... قا لجان محسد!
لم اعد بعد راضيا ... بالذي كنت أجتدي
أفلت الأمس من يدي ... لم يهدهده موعدي(962/35)
وغفا حاضري فوا ... لهف نفسي على غدي!
مكة
حسن عبد الله القرشي(962/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
رسالة الجنوب إلى الشمال:
يا أخي في الشمال، يا أخي في الله والدين والوطن. . باسم كل أخ لك في الجنوب؛ باسم كل سوداني كريم على نفسه وكريم على وطنه، يطيب لي أن أوجه إليك الحديث كما وجهته إلينا على صفحات الرسالة، حافلاً بصدق الوطنية، زاخراً بعمق الأخوة، ملتهباً الإيمان!
حقاً يا أخي إننا في (ميدان الجهاد يد تمد إلى يد، وفي معرض التضحية قدم تسعى إلى قدم، وفي مجال الوفاء عاطفة تقبس من عاطفة). . ولله ما كان أصدقك وأنت ترسل صرختك المدوية التي أيقظت كل ضمير وهزت كل شعور إن الشمل لن يتفرق، وإن البناء لن يتصدع، ما دامت هذه القطرات الأبية من الدم المسفوك على ضفاف القناة وفوق ثرى الخرطوم، قد ألفت على الطغاة أروع الدروس في التضحية والبذل والفداء، وأقاقت منهم المضاجع وهي سارية في العروق وهي جارية على الأرض، وهي في حركة الحياة الطليقة وهي في سكون العدم)!
أجل يا أخي ورددها إذا شئت، فقد رددناها معك باللسان وحفظناها في قرارة الوجدان، واتخذناها شعاراً للأخوة المقدسة التي (استروحت أنسام الأرض الطيبة على ضفاف نهر واحد وتحت سماء وطن واحد. . إنني لا أجد خيراً من كلماتك لأعيدها إليك، مضمخة بعطر الجنوب مدثرة بوشاح هواه، لأن (أنشودة الجهاد التي بدأتموها في شمال الوادي قد أذن الله أن ترسل أنغامها في جنوبه؛ وكل نغم إلى فناء، وكل نار إلى رماد، وكل ذكرى إلى نسيان. . ولكن أنغامنا وهي أنغامكم ستظل إلى الأبد ترن في مسمع الزمن. . ولكن نرنا وهي ناركم ستظل إلى الأبد تنير الطريق للحائرين، ولكن ذكرانا وهي ذكراً كم ستظل إلى الأبد قصة تروى وعطراً يفوح)!
إن معاول الاستعمار التي تحاول أن تهدم صرح الوحدة، وإن قوى الشر التي تحلم بأن تهيل عليها التراب، ستمني أخر الأمر بالخيبة وتبوء بالخذلان، لأن ما بنته يد الله لا يمكن أن تنال منه يد الشيطان. . إن هذه الوحدة الطبيعية يا أخي، هذه الأرض التي تجمعنا، هي(962/37)
إرادة العمل الرزين والتحرير الملهم. إننا هنا لتطربنا أصواتكم، أصوات المؤمنين بحق الشمال والجنوب في حياة حرة كريمة، قوامها الوفاء الخالص وعمادها الإباء الخالد. أما أصواتنا فهي تعانقكم في كل أفق، وتصافحكم في كل طريق، وتناجيكم على أوراق الصحف وأمواج الأثير. . ولن ننسى صوتك وصوت شاعركم الخالد وهو يقدم إلينا لوعة الشعر في محنة الشعور:
فكيف تلاحيني وألحاك إنني ... شهيدك في هذا وأنت شهيدي
حياتك في الوادي حياتي فإنما ... وجودك في هذي الحياة وجودي!
مرة أخرى يطيب لي أن أستعير من كلماتك ما أوجهه إلى كل أخ في الشمال: (ولا علينا يا أخي من تلك القيود، إن معدنها الرخيص سيذوب يوماً تحت وهج النار المتأججة في حنايا الضلوع. . وسنمضي اليوم وغداً إلى جنب، وقالباً إلى قلب، وعيوننا أبداً إلى الأفق البعيد)!
(دروديب - السودان)
أخوك في الجنوب
حسب الله الحاج يوسف
هذه الرسالة الكريمة لم تكن الوحيدة التي تلقيتها من أبناء الجنوب، وإنما تلقيت من أمثالها الكثير. . وأكتفي اليوم بنشرها لأنها نفحة شعور تعبر عن نفحات، وخفقا قلب تنوب عن خفقات، حين تغني الدلالة الموحية في مثل هذا المقام عن كل سرد وإحصاء!
إننا نعلم حق العلم أن أصواتنا تملأ أرجاء الجنوب وتتردد في حنايا الصدور، رغم الضجيج المنبعث من أبواق المرجفين. . إن صوت الحق لابد أن يرتفع فوق صوت الباطل، وإن منطق العدل الحبيب لابد أن يطغي على منطق الظلم البغيض، وإن نداء الحرية لابد أن يبلغ الأسماع وإن حالت بينه وبينها السدود والقيود!
إننا حين نتوجه بدعوتنا المخلصة إلى أبناء السودان، ندرك كل الإدراك ما تكنه لنا الكثرة الغالبة من إخاء يسمو على الترغيب ووفاء يعز على الترهيب؛ لأننا نعيش على ضفاف النيل ولا نعيش على ضفاف التاميز، وننطق بلغة القرآن ولا ننطق بلغة الطغيان، ونفخر(962/38)
بالوجوه السمر حين يفخر غيرنا بالوجوه الحمر. . الوجوه الصفيقة التي لم تعرف في تاريخها الطويل حمره الخجل من ضيعة الضمير وانحطاط الشعور بالإنسانية!!
إنهم، أصحاب الوجوه التي تصطبغ بكل حمرة غير حمرة الخجل، يؤكدون أن بقائها اليوم في السودان هو حمايته من الاستعمار المصري. . وهم، هم أنفسهم، أصحاب المنطق الذي يتحدث بكل لغة غير لغة الحياء، يؤكدون أيضاً أن سر بقائهم في مصر هو حمايتها من الاستعمار الروسي! وفي سبيل درء الخطر عنا، نحن (أصدقاءهم) في الجنوب و (حلفائهم) في الشمال، دوي ثرى الخرطوم. . ولم يكن الرصاص الذي أصاب السودانيين مصرياً أو الرصاص الذي أصاب المصريين روسيا على التحقيق، وإنما كان رصاصاً بريطانياً (صديقاً) وقفت من ورائه الوجوه (الحليفة)؛ الوجوه الحمر التي اكتسبت لونها على مر الزمن من دم الأحرار في كل مكان!
لقد وقف أندريه فيشنسكي فوق منبر الأمم المتحدة ليندد بصور الوحشية البريطانية في شمال الوادي، ووقف من قبله محمد صلاح الدين ليعدد مظاهر الهمجية البريطانية في جنوبه؛ والأول إذا لم تكن تعلم هو وزير خارجة روسيا الذي يتهمه الإنكليز بأنه يهدف إلى احتلال السودان. . ولا تعجب لمثل هذا الاتهام حين يصدر من منطق ذلك اللص الخالد، حين سمع وقع أقدام تقترب فرفع من صوته (الأبي) وكشف عن وجهه (الحي)، ليقول لرجل البوليس في غير تلمم ولا اضطراب: (مين ألي ماشي هناك)؟!
ماذا نقول لهذا المنطق؟ منطق قطاع الطرق حين يستخدمون لغة المحافظين على الأمن والساهرين على النظام؟! لقد تحديناهم من فوق منبر الأمم المتحدة على لسان صلاح الدين، تحديناهم أن يعرضوا على السودانيين استفتاء جرى بعيداً عن قوة البطش وسطوة الإرهاب، ليسمع العالم صوت الجنوب منبعثاً من أعماق القلوب. . تحديناهم فصمتوا صمت القبور، لأنهم يعلمون إذا قبلوا التحدي ماذا ينتظر حكمهم (العادل) من مصير! صمتوا ونطقت شركات الأنباء حين نقلت إلى صحف العالم وقصة الأيدي المصفقة لصلاح الدين؛ أيدي الأعضاء اللذين هزهم صوت الحق فحيوه وهم وقوف. . ومع ذلك فلم يحرك صوت الأيدي المصفقة صمت الوجوه الصفيقة، لأنها لا ترهب غير صوت الحديدوالنار!!
هذه العبارات الأخيرة هي التي نود أن يفهمها طلاب الحرية في الشمال والجنوب. . لقد(962/39)
فهمها الأمريكيون بالأمس البعيد فاستخلصوا من الذل كرامة، وفهمها الأيرلنديون بالأمس القريب فخلقوا من العدم حياة، وفهمها اليهود آخر الأمر فأقاموا من الوهم دولة! ولقد كانت اللغة الوحيدة التي خوطب بها البريطانيون هنا وهناك، كانت كما قلنا لغة النار والحديد. . وإنها في منطق الحرية لأشرف اللغات، في كل حاضر وآت!!
معالي وزير المعارف والاستعمار الثقافي:
في العدد الأسبق من (الرسالة) كتبت مقالاً عن موقفنا من الاستعمار الثقافي بدأته بهذه الكلمات: (ما هو موقفنا اليوم من الاستعمار الثقافي؟ سؤال يتردد في الأذهان ومن حقه أن يتردد، ويستقر كل لسان ومن حقه أن يستقر، ويوجه إلى معالي وزير المعارف ورجاء السائلين فيه أن يجيب)!
قلت هذا ثم أبديت رأيي فيما يجب أن يكون عليه موقفنا من اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية، بعد أن لقي المصريون من نذالة الإنجليز ما نطقت به الأقلام والأجسام، هذه بدمائها وتلك بمدادها في معرض الثورة على مظاهر الظلم والغدر والطغيان. . أبديت رأيي ملخصاً في هذه السطور: (هذه اللغة وتلك الثقافة كلتاهما تحتل مكانها المقدس في المدارس والجامعات، فلم لا نستبدل بهما لغة الألمان وثقافة الألمان، أو لغة الروس وثقافة الروس، لغة الفرنسيين وثقافة الفرنسيين؟ لما لا نفعل المعنى البعيد كامن وراء هذه الكلمات؟ المعنى البعيد الذي يتمثل في كرامتنا حين نكون (أحرار) في اختيار لغة أخرى غير لغة الخصوم، وتفضيل ثقافة أخرى على ثقافة الأعداء)؟!
كتبت هذه الكلمات كما سبق أن قلت، في عدد الرسالة الذي ظهر في اليوم السادس والعشرين من نوفمبر، وفي اليوم الثالث من ديسمبر، أي بعد ذلك بأسبوع واحد، طلعت جريدة (الأهرام) على القراء بهذا النبأ: (قرر معالي وزير المعارف أن تكون اللغة الأوربية التي تدرس في المدارس الثانوية طبقاً لقانون التعليم الثانوي الجديد هي: الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية، على أن تكون إحدى اللغتين الأوليين أصلية، وإحدى اللغتين الأخريين إضافية، وأن يبدأ تنفيذ هذا القرار بمدارس القرار والإسكندرية هذا العام، ثم يتم تعميمه تدريجياً. . وطلب معاليه إلى الهيئات الثقافية في السفارة الإيطالية والمفوضية السويسرية ترشيح مدرسين للغتين الإيطالية والألمانية)!(962/40)
هذ هو المنبأ الذي نقلته (الأهرام) إلى الجمهور القارئ منذ أيام. . ولقد كنت أود وقد تفضل معالي الوزير فحقق بعض الأمل الذي تطلع إليه هذا القلم في رغبته؛ كنت ألا يكون للغة الإنجليزية مثل هذا المقام (الأول) أو المكان (المحترم) بين غيرها من اللغات، وأن نجد اللغة الروسية مكانا إلى جانب اللغتين الجديدتين وأعنى بهما الألمانية والإيطالية! إني لا أستطيع أن أنكر هذه الخطوة الموفقة لمعالي وزير المعارف لأنها تحمل في أحشائها جنين تلك الفكرة التي جعلت منها المحور الأصيل لما كتبت، أعني بها فسح المجال للغات أجنبية أخرى تشعرنا بأننا (أحرار) في الاختيار، ولسنا مرغمين على قبول لغة بعينها خضوعاً لرغبة مستعمر عقدنا العزم على التخلص من آثار وأوزاره!
إن هذه الخطوة (تحمل) في أحشائها (جنين) تلك الفكرة؛ ولكنني كنت أرجو أن (تضع) لنا (مولوداً) مكتمل الخلقة واضح القسمات، مهما يكن من شئ فأن لمعالي وزير المعارف وجهة نظره التي أملت عليه مثل هذا القرار؛ ولكنني ما زلت أطالب بألا يكون للغة الإنجليزية مثل تلك (الأولوية) التي اكتسبها في رحاب هذا الوضع الجديد! وأود أن أقترح - ما دام معاليه يريد الإبقاء على تلك اللغة - منح الحرية للطلاب في اختيار لغتين من تلك اللغات الأربع، ولا بأس من أن تكون إحداهما أصلية والأخرى إضافية؛ أعني ألا يكون هناك (إرغام) على أن تكون لغة بالذات في المقام الأول. . ولعل الهدف الذي أرمي إليه واضح لا يحتاج إلى تفسير، حين ألخصه في كلمة واحدة هي (الحرية). . الحرية في اختيار اللغات والثقافات!
أما اللغة الروسية والثقافة الروسية فلنا إليهما عودة في المقال المقبل، حين تعرض لموقفنا من الاتحاد السوفيتي كدولة لا كنظام من نظم الحكم، تبعاً لموقفه من في هذه الأيام!
أسئلة من القراء:
سألني بعض القراء عن المعنى الذي رميت إليه من وراء هذا التعبير: (أشهد أن تلك اللغة ليست أشرف اللغات)، حين كنت أتحدث عن اللغة الإنجليزية وأطالب بإلغائها في المدارس والجامعات. . ثم انتقل بعضهم من هذا السؤال إلى سؤال آخر: ما هي ضوابط اللغة الشريفة في رأيكم؟!
ورداً على حضراتكم أقول: إنني ما عمدت إلى هذا التعبير إلا وأنا أرمي من ورائه إلى(962/41)
السخرية أو (التريفة). . ولعل المفتاح كامن هناك، في ذلك التعبير الآخر الذي يسبق هذا التعبير حين قات: إن اللغة الإنجليزية تحتل (المقدس) في المدارس والجامعات. . ومن هنا يكون هدف السخرية المقصودة هو لماذا تقدس هذه اللغة تقديس القيم الشريفة، وهي ليست من هذا المعنى الأخير في شئ؟!
أما بقية الأسئلة وهي لحضرات الأدباء: منير آل ياسين ببغداد حول (الشعر المرسل أو الشعر النثور)، ومحمد رفعت الدوياتي بالقاهرة حول (مسرحية دنشواي الحمراء)، ومحمود سلطان البدراوي بأسيوط حول (الأساليب الأدبية). واليماني أحمد السكري سفر الشيخ حول (الاستعمار الثقافي). . فإن موعدي مع الإجابة عنها في المقال إن شاء الله
أنور المعداوي(962/42)
الكتب
(ديوان رسالة المشرق) لمحمد إقبال
تعريب الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وديوان (اللمعات) للدكتور المعرب
للأستاذ عبد النعم خلاف
منذ أن عرفنا كفايات (الدكتور عبد الوهاب عزام) الأستاذ بكلية الآداب بجامعة فؤاد والعالم الباحث الأديب، ومن بينها كفايته الممتازة في حذق الفارسية والتركية والأوربية، وأنا أسائل نفسي والناس: لماذا لا تنتفع الدولة والهيئات الإسلامية والجهات الأدبية بجهد هذا الرجل وفضله في توثيق عرى الأخوة والصداقة بين الشعوب هذه اللغات وبين مصر خاصة والعرب عامة! إن ما يفعله مثل هذا العالم الأديب المدرك في توطد العلاقات بين هذه الأمر والشعوب أعظم وأفعل بكثير مما تفعله تلك العلاقات التقليدية الرسمية المحدودة القائمة على الدبلوماسية المصرية التي لا تجد مثل هذه الكفاية في أغلب المجالات، وإن وجدتها فأخلق بها أن نضيعها فيما تضيع من مواهب ومصالح ومعان. . .
حقاً كان السؤال يشغلني منذ عشرين سنة، وما كنت أظن أن ما أرجوه وأسأل عنه سيتحقق؛ لما كنت أراه من انصراف مصر الرسمية، إلى ما قبيل هذا العهد، عن التوجه للشرق الإسلامي وشعوبه وعلاقاته، واتجاها صوب الغرب لتكون منه ولو في موضع الذيل. . وكان يشرفها في نظر تلك الطبقة الممسوخة التي ضيعت كل شئ حتى نفسها.
ثم تداركنا الله بلطفه فأظلنا ذلك العهد الذي ابتدأنا نتحرر منه من نظرات الممسوخين المصروفين عن الخير الكامن في الشرق الإسلامي، وتدرك بعض الحقائق عن أنفسنا وعلاقاتها الأصلية بالأمم الإسلامية والسرقية، وكان الانتفاخ بمواهب الدكتور عبد الوهاب عزام بك في توطيد تلك العلاقات من مفاتح هذا الاتجاه، وأي انتفاع في السفارة بين الأمم أعظم من القيام بجانب السفارة الدبلوماسية الفكرية وتعريف كل من الطرفين بعقل الآخر وروحه ومزج العقلين والروحين عن طريق الترجمة والنقل للآثار الأدبية الموجهة للحياة؟!
لقد عرب الدكتور عبد الوهاب ديوان (نيام مشرق) أو رسالة المشرق للشاعر الفيلسوف(962/43)
محمد إقبال، الذي كان قيام دولة الباكستان لمحة من لمحات خاطره وشاعريته، أوحى بها إلى مسلمي الهند في خفقا من خفاقات الإلهام الذي يخلق الأحداث الجسام وبغير وجه التاريخ، فما لبثت أن تلقفها منه (رابطة مسلمي الهند) على يد البطل الحديدي رجل الكفاح والصبر (محمد علي جنه) الذي نفخ في عزم بني دينه حتى خلقت باكستان في لحظة من لحظات التاريخ الحاسمة المسعدة. .
ولقد عرفت روح الدكتور المترجم روح الشاعر الملهم من قبل أن نتعرف إلى أرضه ودياره ودولة أحلامه التي تحققت بعد وفاته بوقت قليل.
ولست بصدد تقديم الدكتور عزام بك بوصفه مترجماً أديباً عالماً أصيل اليباجة العربية عميق الإدراك مشرق الروح أمين الآراء فذلك مني جرأة لا تحمد، بعد أن عرفته العربية علما من أعلام الفكر والقلم واللسان. . ولست كذلك بصدد عرض ديواني رسالة المشرق واللمعات ونقدهما النقد اللائق بهما. . وإنما أنا الآن بصدد التنويه بظهور هذين الأثرين الفكرين في ثوب من الشعر العربي المبين.
في (رسالة المشرق) تحليق فكر ورفرفة روح؛ فإن إقبالاً من الشعراء الفلاسفة الصوفيين الذين تزدوج في نتاجهم العشق الصوفي بالعلم ازدواجاً ينتج تلك (الحلقة المفقودة) من الآداب الرفيعة التي يتمثل فيها جلال الإنسانية وسمتها ووفوفها في نصابها الأعلى. . وفيه كثير من الومضات التي يمتاز بها الشعر الصوفي، قد تظهر صوراً واضحة أو رموزاً مبهمة أو ضباباً
وفيه توجيهات عقلية ودينية في صور من الأمثال المضروبة على ألسنة الحيوان والنبات والجماد. وفيه تلك الخواطر الوجدانية المشتعلة ذات الجذوة الحمراء والمبتردة ذات الجذوة البيضاء. . .
وحسبي أن أذكر المذهب الذي سلكه إقبال وهو يتضح في تلك المحاورة التي أجراها بين العشق والعلم.
العلم:
أنا سر الكواكب والجهات ... وفي قيدي ثوى ماض وآت
وعيني حدقت فيما أمامي ... وما نظري وراء السابحات؟(962/44)
وكم نغمت في عودي وبوقي ... وأسراري عرضت بكل سوق
العشق:
بسحرك سجرت هذي البحار ... وملء الجو سمك والشرار
وكنت لي الصديق فكنت نورا ... ونورك مذ هجرت حماي نار
ولدت الأمس في حرم الرحيم ... وصرت اليوم في قيد الرجيم
هلم فرد روضا ذا اليبابا ... ورد مشيب دنيانا شبابا
حلم بذرة من نار قلبي ... أقم في الأرض فردوسا عجابا
كلانا الدهر خل لا يجور ... للحن واحد بم وزير. . .
ألست ترى في هذه الأبيات أمل الإنسانية المفقود الذي ما فتئت نفوس المخلصين نتطلع إليه وهو قيام حياة يعرف فيها للعلم مكانه؛ ولمنطق القلب وشفافيته ورحمته وعشقه للمجهول فكأنه؟ وألست ترى مشكلة العلم تتخلص في انه لا يزال يولد في نبضة من نبضات رحمة الله الرحيم بالإنسانية فما يلبث أن يتلقفه الشيطان الرجيم فيدمر به العامر، ويعدب به من يتطلع إلى الرحمات المرسلة؟
ثم ألست نراه يضع العلم والعشق حيث يجب أن يوضعا معاً في خلة صادقة لا تجوز ولا تطغى، كأنهما وتران في قيثارة يجب أن يتوازن التوقيع عليهما حتى ينغما نغماً فيه ذلك (الهرموني) والانسجام الموسيقي الذي يثير في النفس إطرابها وأشواقها؟!
وإقبال بهذا الاتجاه الصحيح المزدوج رائد من رواد الفكر الإسلامي الحديث، أنقذ به مسلمي الهند من آثار السلبية والانطلاق الشعري الصوفي اللذين يغلبان علي قلسلات الهنود، ويشل قوى العقل والعمل ويحرم الإنسان من الانتفاع بالقوى المادية، وأنقذ بذلك عدداً كبيراً من المسلمين الهنود الماديين المحدثين الذين لا يؤمنون بغير العقل المادي على الأسلوب الغربي الحديث الذي لا يؤمن بما وراء المادة فردهم إلى حظيرة الإسلام بعد أن علموا نظرته المزدوجة إلى الوجود.
وهو كغيره من الصوفية لا يعول على العقل وحده وإنما يكبره حينما يصحب العشق ويفنى فيه. والعقل عند الصوفية عاجز جبان لا يدرك الحقائق الكبرى ولكن يتصرف في الجزئيات.(962/45)
يقول إقبال:
العقل يحرق عالما ... في جلوا منه تغير
لكنه بالعشق يعرف ... كيف في الدنيا يسير
العشق في الأرواح يخلق ... كل لون أو يثير
بالعشق ترتاح القلوب ... وإنه فيها سمير
أنصت لقلبك ساعة ... فلعلما يدنو العسير
لقد قدم المترجم للديوان للديوان ولمؤلفه مقدمة وافية بالتعريف بالشاعر وفلسفته وعرانس شعره ومصادر ثقافته؛ وبين طريقة في الترجمة بما جعل هذه المقدمة من نماذج الدراسة الأدبية التي تدور حول الشاعر وعصره وعناصر تكوينه.
ألحق بديوان (بيام مشرق) (اللمعات) وهو خلاصة فلسفة الدكتور واتجاهاته وتوجيهاته وصدى لالتقاء هذين الروحيين الكبيرين اللذين جمعت بينهما الأذواق الصوفية والدراسات العميقة لآثار شعراء التصوف من الفرس والترك. والاتصال الوثيق بالدراسات الأوربية. والحضارة الغربية والفهم العميق للإسلام وروحه وعقائده
وقد أهدى المترجم هذه اللمعات إلى اعترافاً بفضله إذ شرع في نظمها عقب قراءته لمنظومتي إقبال (أسرار خودى) أي أسرار الذاتية و (رموز خودي)
و (اللمعات) لطيف الحجم ولكنه ملئ بالتأمل والهيام الصوفي وقضايا من العقل الواعي، وخلوص النفس من الشوائب والقيود، استنهاض القوى الذاتية ودفعها نحو الكمال والقوة والحرية وأشراف الأمور، والأحكام الصادقة على الأخلاق والأعمال، والتوجيهات الموفقة للشباب.
وحسبي أن أسرد عليك أبياتاً من بعض قصائده لترى الآفاق التي رادها: لقد افتتح الديوان بمطولة بدون عنوان سار فيها على درب الصوفية وحشد فيها كثيراً من الخواطر والصور والتوجيهات منها:
كثت سطراً لم يفسره أحد ... خطه في غيبه الله العمد
في ضميري كل معنى مبهم ... حرت في الإعراب عنه بالكلم
قد ثوى العالم في قلبي وما ... خط شئ فيه إلا الحرف ما(962/46)
فهو هنا صوفي رمزي أصيل تدفعه قوى العشق والاستغراق في التأمل
ثم يسير على درب القوم وكأنك تسمع إلى الشهرزوري في قصيدته الرائعة:
لمعت نارهم وقد عسمس الليل ومل الحادي وحار الدليل إذ يقول:
يا لبيني أوقدي، طال المدى ... أوقدي على النار هدى
أوقدي يا لبن قد حار الدليل ... أوقدي النار لأبناء السبيل
ارفعي النار وأذكى جمرها ... عل هذا الركب يعشو شطرها
شردي هذا الظلام الجاثما ... أرشدي هذا الفراش الحائمة
ثم يأخذه الهيام بنشوته فيصور انطلاقه من انطلاقات نفسه
رن في آفاقنا هذا النداء ... فأممنا البيت يحدونا الرجاء
قد غنينا عن مبيت ومقيل ... وعن الأمواء والظل الظليل
وعن الرغبة والخوف سوى ... خلع النعلان في وادي طوى
كل حر ضاق عنه الموطن ... وانطوى دون مناء الزمن
كل طيار على متن الفكر ... وعلى متن هيام لا يقر
ثم يعود بعد هيامه في عالم الرموز إلى عالم الصور الكبيرة للذاتية الإنسانية الكاملة في الإسلام
حبذا الصوت فمن هذا البشير ... ومن الهاتف بالقلب المبير
ومن المسعد في هذي الهموم ... ومن الباروق في هذي الغيوم
ومن الهابط في نور السما ... هاويا في الأرض جيلاً مظلماً
ومن الهادي إلى أرض الحبيب ... يعرف النهج وقد حار اللبيب
ومن السائق شطر الحرم ... وإلى الأصنام سير الأمم
ومن القارئ في بيت الصنم ... سورة الإخلاص في هذا النغم
ومن الحر الذي قد حطما ... من قيود الأسر هذا الأدهما
ومن الباعث في ميت الأمم ... ثورة العزة من هذي الهمم
ثم يمضي الدكتور الشاعر على هذا النهج الواضح المشرق في قصائد الديوان التوجيهية تحت أمثال العنوانات الآتية: (صغار الهمم) (العالم معبد) (لا رهبانية في الإسلام) (معنى(962/47)
التوكل) (الأمل) وفي هذه القصيدة الأخيرة معان ووصايا يجدر أن توضع دائماً أمام عيون قادة البعث الإسلامي لتجدد من عزمهم وتشحذ من هممهم ليواصلوا كفاحهم في ظل من روح الله الذي يطرد اليأس آفة الآفات لجهاد حياة الظلام
لا ترانا في جهاد نيأس ... ليس من أمتنا من يئسوا
أشعل الإيمان في كل دجي ... وأقدح العزم إذا الهول دجا
وصل القلب بخلاق الرجاء ... واخلقن في كل حين ما تشاء
إنما الإنسان فكر وعمل ... يصدع الظلماء في نور الأمل
أمل الإنسان في القلب ضياء ... وهو في الكف جهاد ومضاء
وقضاء الله عون الآملين ... وهو في عون الأباة العاملين
هذه عجلة من الدواوين، أخالصين للحق والقوة والجمال، الزاخرين بجواهر المعاني الإسلامية يقدمها الشاعران نماذج لما في القلب الإسلامي من مدخرات للإنسانية الضالة الخابطة المعذبة.
يجدر بوزارات المعارف في ديار الإسلام أن تضعها أمام عيون النشء كما تكثر من وضع آداب (الترف) العقلي وتمليق الغرائز، والتصوير المكشوف للآفاق المنحطة من حياة القطيع.
وقد نشر الديوانين (جماعة إقبال) في (كراتشي) بالباكستان في مجلد أنيق على ورق فاخر كأنه ورق الورد رونقاً وبهاء.
عبد النعم خلاف(962/48)
البريد الأدبي
مرحباً بطلائع المجد
أزعجت المستعمرين هذه اليقظة التي انتظمت الشعوب الإسلامية جميعاً، وها لهم أن يروا هزة الحياة تنطلق في ربوعها الممتدة ما بين قرني الدنيا، فتهب من رقادها كما تهب الأسود، لترحض عنها عار الذل، وتستعيد حياة العزة والكرامة.
وإن الشعوب الإسلامية حين تندفع في هذا السبيل المجيد لتستجيب في ذلك لنداء دينها المنبعث من أعماقها؛ ذلك الدين الذي جعل الإيمان والعزة حليفين لا يفترقان، وأضاء للمسلمين بنور تعاليمه فجاج الحياة ليتخذوا طريقهم إلى بعيد الغايات في ثقة وأمن وسلام. وإن جذوة الحياة لتكمن في أعماقنا. وإن طالعك منهم الخمود. إنها الروح التي الروح التي تصرح بها الآية الكريمة (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) فمظاهر الحياة الجديدة التي تبدو في الربوع الإسلامية اليوم تتصل أسلاكها بهذا المصدر القوي الذي يمدها بالقوة، ويرفدها بالحرارة، ويمنحها الدوام والخلود.
هذه المبادئ الخالدة، وتلك التعاليم السامية، وهذه التشريعات الحكيمة الرحيمة هي روح الحياة في المسلمين، وعنصر بقائهم، وسر قوتهم وتماسكهم، تصلهم بإمدادها، وتهديهم بإشراقها، وتدفعهم بتيارها، ولن يتوقف موكبهم عن المسير إلى غايته ما دام يستند إلى هذه القوة الروحية الخالدة، ويندفع بتلك الطاقة السماوية الجبارة. شهد بذلك التاريخ الماضي، ويشهد بذلك التاريخ المعاصر: فهذه باكستان وإندونيسيا وإيران وهذه مصر. . . وسترى ما سيفعله العراق وشرق الأردن والشمال الأفريقي.
أيها الأمم الساعية لمجدها المنطلقة لغايتها. . . لا تلتفتوا إلى الوراء، ولا تتوانوا في المسير، ولا تقفوا دون الغاية، ولا تخشوا سوءاً، ما دمتم تسيرون على هدى الله.
فرشوط
عبد الفتاح محمد حماد
هنة لغوية(962/49)
قرأت في العدد - 958 - من مجلة الرسالة المجيدة قصيدة بعنوان (تذكري) للأستاذ الشاعر إبراهيم محمد نجا استعمل في أحد أبياتها (ظل وريف) كما يأتي:
وإن عمري في هواك انطوى ... كما انطوى في القيظ ظل وريف
واستعمال (ظل وريف) استعمال شائع خطأ، والصواب ظل وارف. هذا ما أردت التنبيه إليه وعلى الأستاذ الشاعر الفاتحة وسلام.
كلية الحقوق - بغداد
عبد الحميد الرشودي
أعتاب لا عتاب:
جاء في الأدب والفن في الأسبوع الماضي ما يلي: (وإني أعتب على الأستاذ الفاضل (بصدد مناقشة الأستاذ أحمد محمد بريري. والجملة في الأصل الذي كتبته هكذا: (وإني أعتب الأستاذ الفاضل) ويظهر أن جامع الحروف بمطبعة الرسالة ظن أني تركت (على) سهواً، فأثبتها هو مشكوراً على حسن نيته.
والغرض من الجملة هو الإقرار بالحق في العتاب الذي وجهه إلى الأستاذ فيما يختص بالخجل من الخطأ، فقد جاء ذلك مخالفاً لما أجتهد أن أجري عليه من الاهتمام بموضوع المناقشة وتجنب ما يمس مناظري.
قرأت بعد كتابه ما نقدم رداً للأستاذ محمد فأر في الأساس (4 - 12 - 51) لم أجد فيه ما يستدعي معاودة الكتابة، فإذا كان لدي الأستاذ البربري نفسه شئ في هذا الموضوع فأنا في انتظاره. وله تحيتي واحترامي.
عباس خضر(962/50)
القصص
صائدة النمور
للكاتب الإنجليزي ساكي
كان من أقوى بواعث السرور إلى مسز باكلتيد ومن أشهى أمانيها أن تصطاد نمراً، لا لأن شهوة القتل قد استولت فجأة على نفسها، ولا لأنها شعرت بأنها تترك الهند - عند مغادرتها إياها - آمن واهنا مقاماً مما وجدتها عند قدومها إليها إذ هي أنقصت من عدد وحوشها الضاربة بنسبة جزء من وحش إلى مليون من السكان؛ إنما نشأت هذه الرغبة المفاجئة الملحقة في اقتفاء خطوات ذلك الوحش النمرود على أثر ما سمعته عن لوناً بمبرتون التي ركبت منذ عهد قريب طيارة مع أحد الطيارين الجزائريين قطعت بها في الجو أحد عشر ميلاً؛ ولم يكن للوناً من حديث غير حديث هذه الرحلة الجوية الجزئية. وهذا حادث لم يكن لمسز باكلتيد بد من أن تكفه بحادث من جانبها أشد منه جراة وادعي إلى الإعجاب بأن تصطاد نمراً تحمل جلدة معها عند عودتها، وبأن تنشر الصحف مجموعة من صورها الفوتوغرافية لمناسبة هذا الحديث العظيم
ورسمت مسز باكلتيد في رأسها بالفعل صورة لمأدبة غداء تأدبها في بيتها بشارع كرزون استريت لغاية ظاهرها تكريم لونا بمبرتون، وباطنها أن يرى المدعوون جلد النمر الذي اصطادته يغطي القسم الأكبر من أرض الغرفة، وأن يستغرق حديث هذا الصيد كل الوقت الذي يقضيه الضيوف في هذه الوليمة. كذلك رسمت هدية للونا بمبرتون في عيد ميلادها المقبل. وكانت مسز باكليد امرأة شاذة في عالم مفروض فيه انه واقع تحت تأثير الجوع والحب، فكانت تتأثر - إلى مدى بعيد - في أغراضها وحركاتها بكرهها للونا بمبرتون
وساعدت الظروف مسز باكليد، فقد عرضت أن تدفع ألف روبية لمن يهئ لها فرصة اصطياد نمر دون التعرض لخطر جدي ودون بذل مجهود شاق. وقد اتفق أن إحدى القرى المجاورة كان في مقدورها أن تفخر بأنها الملتقى المحبب إلى وحش محترم الأصل اضطره ضعف الشيخوخة أن ينصرف عن تحصيل قوته بافتراس حيوانات الغاب، وأن يعود معدته القناعة بالحيوانات الصغيرة الأليفة. فحركت الألف روبية الموعود بها غزيرة القروبين الرياضية التجارية، فرابطوا ليل نهار على الحدود الخارجية للغابة المحلية ليبقوا(962/51)
النمر داخل هذه الحدود ويحولوا بينه وبين الخروج منها سعياً وراء ميدان جديد للصيد. وأخذوا يتركون الأنواع الرخيصة من الغنم مهملة عن عمد في دائرة تجوله ليقنع بالبقاء في حدود هذه الدائرة. وكان أخوف ما يخافونه أن يموت ذلك الوحش بمرض الشيخوخة قيل حلول الأجل الذي حددته مسز باكلتيد لاصطياده. وكانت النسوة وهن عائدات من أعمالهن في الحقول يحملن أطفالهن على سواعدهن يكتمن غناءهن إذا مررن بالغابة حتى لا يقطع على سارق الغنم المحترم نومه الهادئ المريح
وأقبلت الليلة التي جعلت أجلاً للصيد. وكانت ليلة مقمرة صافية، وكان القرويون قد أعدوا مصطبة مريحة فوق إحدى الأشجار القائمة في نقطة تناسب عملية الصيد، وعلى هذه المصطبة قبعت مسز باكلتيد ورفيقتها المأجورة مس مبين، وكان القرويون قد عقلوا في المكان المناسب شاة وهبتها الطبيعة القدرة على الثغاء الذي لا ينقع حتى لو أن نمراً كان نصف أصم لسمعها دون شك في الليلة الهادئة. وانتظرت المرأة الرياضية صابرة صبر الكرام مجيء الصيد المشتهى، وكانت مزودة ببندقية مجهزة أدق تجهيز لأصابة المرمى، كما كانت تحمل معها رزمة من ورق اللعب لقطع الوقت في غير ملل
وقالت مس مبين:
(أتحسبنا معرضتين لشيء من الخطر؟)
ولم تكن مس مبين في الواقع قلقة من ناحية الوحش المفترس، ولكنها كانت ذات طبيعة تأتبي أن تؤدي ذرة من العمل فوق القدر الذي أجرت على أدائه
وقد أجابتها مسز باكلتيد:
(كلام فارغ! فهذا النمر عجوز جداً ولن يستطيع أن يثب إلينا هنا حتى لو أراد ذلك)
فقالت صاحبتها:
إن كان نمراً عجوزاً فمن رأيي أن تحصلي عليه بأرخص من هذا الثمن، فأن روبية مبلغ كبير)
وكانت مس لوبزا مبين متطبعة بطبع أخت لها كبرى شديدة الحرص فيما يتصل بمسائل المال على العموم دون نظر إلى الجنسية والدين. وكان تدخلها المستمر سبباً في اقتصاد عدد كبير من الروبيات فلا تبدد (بقشيشاً) في بعض فنادق موسكو كما كانت الفرنكات(962/52)
والسنتيمات تلتصق بأيديها التصاقاً طبيعياً في ظروف من شأنها أن تنتزعها دون تعب من أيد أقل من أيديها شفقة. وقطع عليها ملاحظتها على الثمن الذي تشتري به جثة النمر ووجوب تخفيض هذا الثمن ظهور النمر نفسه على المسرح. . . على أن ذلك الحيوان الشيخ المحترم لم يكد يقع نظره إلى الشاة المتعلقة حتى انبطح على الأرض هادئاً، لا رغبة في أن يحتاط على إخفاء نفسه عن نظرها، حتى لا تهرب منه، ولكن حرصاً على أن قليلاً قبل أن يبدأ حملته الهائلة على فريسته.
فقالت لويزا مبين في صوت عال باللغة الهندوستانية لتسمع رئيس القرية الذي كان على شجرة مجاورة:
(إني أعتقد أنه مريض)
فقالت مسز باكلتيد:
(صه!)
وفي اللحظة نفسها أخذ النمر يسير متخطراً إلى فريسته فقالت مس مبين في شئ من اللهفة:
(إذا كان النمر لا يمس الشاة فليس ما يدعوننا إلى أن ندفع ثمنها.)
وكان لهذه الشاة المعدة طعماً للنمر ثمن خاص. وهنا دوى في الجو صوت الطلق الناري مسبوقاً بوميض خاطف للأبصار، فوثب الوحش الكبير مائلاً على أحد جنبيه ورقد ساكناً سكون الموت. فلم تمض لحظة حتى احتشد حول الفريسة عدد كبير من الأهالي المتلهفين، ولم يلبث صياحهم أن حمل الخبر السار إلى القرية، فدفت الطبول دقة النصر، وكان لتهليل النصر وأغاني الابتهاج صداها الجميل في قلب مسز باكلتيد. وبدالها في الحال أن وليمة الغداء في شارع كرزون استربت ستكون أقرب مما قدرت
وكانت لويزا مبين هي التي لفتت الأنظار إلى أن الشاة المسكينة تعاني الآم الموت من أثر إصابتها بطلق ناري بينما لا يوجد في جسم النمر أي أثر للرصاصة التي لأطلقت من بندقية الصيادة الماهرة. فكان من الواضح أن الطلق الناري قد أصاب الحيوان غير المقصود، وان الوحش الضاري قد مات بهبوط القلب من اثر صوت الطلق المفاجئ، وقد ساعد على ذلك انحلال الشيخوخة. وقد ارتاعت مسز باكلتيد ارتياعاً ظاهراً من كشف هذه(962/53)
الحقيقة ولكنها على كل حال قد أصبحت مالكة نمراً ميتاً، أما القرويون الذين كان لعابهم يسيل على الألف روبية فلم يروا بأساً في أن يتغاضوا عن خرافة اصطياد الوحش. وأما مس مبين فكانت رفيقة مأجورة. وعلى ذلك واجهت مسز باكلتيد الآت التصوير طروبة القلب، وطار صيتها من صفحات جريدة (تكساس وسكلى اسنابشت) إلى ملحق يوم الاثنين المصور لجريدة (نوفوي فريميا)
أما فيما يتصل بلونا بمبرتون فقد بقيت عدة أسابيع آبية النظر إلى أية صحيفة مصورة. وكان الخطاب الذي بعثت به إلى مسز باكلتيد تشكر لها فيه إهداءها مشبكاً من مخلب النمر مثالاً للانفعالات المكتومة، وقد رفضت في نفسه حضور وليمة الغداء، فأن هناك حدوداً إذا تخطتها الانفعالات المكتومة كان ذلك هو الخطر المحقق
وانتقل جلد النمر من شارع كرزون استربت إلى (مانورهاوس) حيث فحصه رجال البلدية فحصاً قانونياً وأعجبوا به إعجاباً شديداً. ولقد كان من عوامل الزهو في نفس مسز باكلتيد ذهابها إلى حفلة تنكرية في مرقص البلدية في لباس ديانا إلهة الصيد. ولقد أبت مع ذلك أن نميل إلى اقتراح كلوفيس المغري عندما اقترح إقامة مرقص على طراز القصور القديمة يلبس فيها الراقصون جلود الحيوانات التي اصطادوها حديثاً. ولقد قال كلوفيس عندئذ:
(وسأكون في هذه الحال كالطفل الرضيع لا أجد ما ألبسه غير جلد أرنب أو أرنبين)
ثم قال وهو ينظر إلى تقاسيم وجه ديانا نظرة خبيثة:
(وإن قوامي ليشبه قوام ذلك الطفل الروسي الراقص)
وبعد أيام قليلة من ليلة المرقص قالت لويزا مبين تخاطب مسز باكلتيد:
(ما أبلغها فكاهةيعرف الجميع حقيقة ما حدث!)
فسألتها مسز باكلتيد مسرعة:
(ماذا تقصدين بذلك؟)
فأجابت مسز مبين وهي تبتسم ابتسامتها الممضة:
(أقصد أنهم لو عرفوا كيف أصبت الشاة خطأ وأمت النمر خوفاً)
فقالت مسز باكلتيد، وقد تقلبت الألوان على وجهها في سرعة مدهشة:
لن يصدق إنسان ذلك القول)(962/54)
فقالت مسز مبين:
(ولكن لوناً بمبرتون تصدقه في غير تردد)
فاخضر وجه مسز باكلتيد اخضراراً غريباً وقالت:
(أظنني على يقين أنك لن تخونيني؟)
فأجابت مسز مبين في لهجة ذات معنى:
(لقد رأيت على مقربة من دور كنج داراً خلوية لقضاة نهاية الأسبوع وإني لأحب أن أبتاعها، ولكنهم يطلبون ثمناً خالصاً لها ستمائة وثمانين جنيهاً وهو مبلغ مناسب لقيمة الدار ولكنني لا أملكه)
وأصبح الأصدقاء جميعاً معجبين بالدار الجميلة التي أطلقت عليها مسز مبين اسم (الأمواج) وهي دار صيفية جميلة تحيط بها حديقة غناء تحوي مجموعة من الأزهار البديعة.
وقد حكم الجميع بأن لويزا قد أبدعت الإبداع كله إعداد دارها وتجميلها.
وقررت مسو باكلتيد ألا تغامر في رياضة الصيد مرة أخرى وكانت تجيب أصدقائها إذا سألوها عن السبب في ذلك الأحجام بقولها:
(لأن الصيد يتطلب أكلافاً عرضية باهظة!)
ع. ح(962/55)
العدد 963 - بتاريخ: 17 - 12 - 1951(/)
من وحي مولد الرسول:
القوة الكامنة في الإسلام
للأستاذ سيد قطب
حينما وقف جلاد ستون في مجلس العموم البريطاني، وبيده المصحف؛ وقال قولته المشهورة: (ما دام هذا الكتاب في أيدي المسلمين فإنكم لن تسيطروا عليهم، ولن يلين لكم قيادهم). . . كأني أعرف بقوة الإسلام الكامنة من الكثيرين ممن يسمون أنفسهم مسلمين. لقد كان يدرك أن في هذا الدين من روح الاستعلاء، ومن قوة المقاومة، ومن عناصر الوحدة، ما يقف للرجل الأبيض بالمرصاد، وما يقاوم أسلحته ودسائسه وحضارته كلها جميعا.
ولكن المسلمين، أو من يقولون عن أنفسهم إنهم مسلمون، لم يدركوا ما أدركه الإنجليز المستعمر، فراحوا يبعثرون في سفه هذا الرصيد المكنون، ويستهينون في بلاهة بتلك القوة الكامنة، ويحسبون الذين رجعية، والعقيدة جهالة، والإيمان سذاجة، وأنهم لا يكونون مثقفين، ولا يكونون متحضرين، ولا يكونون قطعة من أوربا، حتى يتعروا من مقدساتهم، ويتخلوا عن عقيدتهم، ويتندروا بمن يحدثهم عن الإسلام كما لو كان يحدثهم عن الخرافات والأساطير.
ومن هذا الطريق تغلغل الاستعمار. ومن هذا الطريق طوقهم المستعمرون. ومن هذا الطريق ذابت دولهم وشخصياتهم ومقوما تهم واستقلالهم. ومن هذا الطريق طردوا إلى ذيل القافلة، وقد كانوا من قبل مأخذ الزمام.
ومكر الاستعمار، ومكر أذناب الاستعمار، بكل أثر للعقيدة، وبكل محاولة لاستنبات بذورها في الأرواح والضمائر. . في عالم القانون والقضاء نبذت شريعة الله، واستبدلت بها قوانين نابليون. . وفي عالم الوظائف والدواوين، نبذ أصحاب الثقافة الدينية، وأصبحت مراكز الحكم، ومراكز التوجيه كلها في الأيدي التي آمنت بالحضارة الغربية وكفرت بالدين. . وفي برامج التعليم ونظمه، أصبح الدين درسا إضافيا ميتا خارج الجدول، وحتى حين أدخل في الجدول، أدخل ميتا عقيما، والتاريخ الإسلامي انزوى في صفحات مشوهة ممزقة خبيثة.(963/1)
في كل ميدان، وفي كل حقل حورب هذا الإسلام. حورب في المجتمع، وحورب في الدولة، وحورب في المدرسة. وحورب في الضمير. . حورب حربا لئيمة متصلة واعية تملك كل وسائل التأثير والتدمير. . حورب بقوة السلاح، حين حاولت أوربا الصليبية أن تحطم دول الإسلام في ميادين القتال. وحورب بقوة العلم، في عالم التأليف، وفي دنيا التعليم. وحورب بقوة الفساد الذي كان عملاء الاستعمار ينشرونه في كل مكان تطؤه أقدامهم، ويحطمون به العقيدة وحدها، ولكن الضمير الذي تكمن فيه العقيدة.
لم تبق وسيلة، ولم تبق حيلة، لم يستخدمها الاستعمار الأوربى، ولم تستخدمها الصليبية الغربية في محاربة الإسلام. . . ولكن هذا الإسلام بقى بعد ذلك كله، ورغم ذلك كله، قوة كامنة في أرض الإسلام، وفي أهل الإسلام.
لقد خيل إلى الكثيرين في وقت ما أن هذه القوة قد ماتت إلى الأبد، وأن الدعوات التي ترتفع بين الحين والحين إن هي إلا سكرات الموت، أو هذيان الحمى في اللحظات الأخيرة. . ولكن هذا الإسلام قد أخذ يبدد هذه الظنون. إنه قوة حية. إنها انتفاضة الحياة لا سكرة الموت. إنه هتاف الحياة لا هذيان الحمى. إنها الحقيقة الواقعة الملموسة التي تجبر المستعمرين أنفسهم أن يتحدثوا عن (العالم الإسلامي)!
ذكرت كل هذه المعاني وأنا أحضر حفلا لجمعية العلماء في الجزائر، وأنا ألقى الزعيم الجزائري (مصالي الحاج). . . لقد كانت الجزائر هي آخر أرض إسلامية بتخيل متخيل أن تثب فيها روح الإسلام، بعد كل ما قاسته من كبت وخنق، ومن عذاب ونكال، تحت ضغط الحكم الفرنسي أشنع أنواع الاستعمار الصليبي المتعصب. وبعد كل هذه الجهود المتصلة خلال أجيال كثيرة. جهود المستعمرين، وجهود المبشرين، التي لم تكف عنها فرنسا لحظة واحدة في هذه الحقبة الطويلة.
الجزائر التي جرم فيها تدريس اللغة العربية والدين بالمدارس. والتي صبت الويلات على علمائها ورجال الدين فيها، والتي انتهكت حرماتها وأعراضها لإفساد الدم العربي، وتضييع النخوة العربية، وخلط الأنساب والدماء بالقوة كي تضيع معالم العروبة والإسلام، لا في الأفكار والضمائر فحسب، بل في الدماء والأجسام.
ولكن الإسلام كان أقوى من ذلك كله. كان قوة كامنة عميقة لا تجتث جذورها قوة السلاح،(963/2)
ولا قوة العلم، ولا قوة الدسيسة: كان قوة السماء لا تملك لها قوة الأرض دفعا.
والآن لقد انبعثت هذه القوة من جديد. لقد انبعثت في مشارق الأرض ومغاربها. لقد انبثقت ينابيعها في كل مكان. لقد كانت من قبل كامنة وراء كل حركة من حركات التحرير التي ظهرت في العالم الإسلامي. أما اليوم فقد أستعلنت وأعلنت عن نفسها. لقد أعلنت عن نفسها في الباكستان، وإندونيسيا. وإيران. وأعلنت عن نفسها في مراكش، وفي تونس، وفي الجزائر. وإنها لتهيأ وتتوثب في الملايو، وفي عدن، وفي بورما. . وإنها لتتجمع في مصر والعراق وباقي الأمة العربية. وإنها لتتنادى في مشارق الأرض ومغاربها إلى (كتلة ثالثة). . إلى (عالم إسلامي) وإن الغرب المستعمر ليسمع هذا التنادي، ويرى هذا البعث، ويشهد هذه المعجزة تتم من جديد. وإنه ليحاول أن يستميل إليه هذه القوة الناهضة بعد أن يئس أو كاد من محاولة القضاء عليها.
لقد أدرك الغرب - وهو أسرع إدراكا للحقائق الواقعة - أن العالم الإسلامي لو كان مقدرا له أن يموت لمات. وإذا كان كل هذا السم لم يقتله، فإنه إذن سيزيده قوة، كما تنطق بذلك حكمة أحد شعرائهم (جيته) الألماني!
ولم يبق كافرا بهذا العالم الإسلامي، شاكاً في وجوده وفي قوته، إلا ذلك الفتات الآدمي الذي خلفه الاستعمار الغربي، ممن يسمونهم (المثقفين). ذلك الحطام الذي استعمر الغرب ضميره وروحه وتفكيره. تلك المخلوقات المضحكة التي لا تؤمن بشيء لم يكتب عليه: (صنع في أوربا)!
عما قليل سيرد لهذه المخلوقات المضحكة شيء (صنع في أوربا) يقول لهم: إن العالم الإسلامي حقيقة (مادية) واقعة. . عندئذ سيؤمنون بوجود العالم الإسلامي. وعندئذ سيتحمسون لإقناع الآخرين بهذه الحقيقة (المادية) الواقعة. . ومن يدري. فلعلهم يومئذ سيحاولون إقناعنا نحن أيضا بهذه الحقيقة!
سيد قطب(963/3)
على هامش (الوجودية)
راعى الغنم في باريس
للدكتور على شرف الدين
كانت بقايا الشمس الغاربة ترف في جباه العمائر القائمة في ميدان سان جرمان، فيجرى ذائب نضارها في سواد عرانيها، كما يجرى الشاحب الحزين في لمة طافت بها الذكريات. وكان الليل قد أخذ ينشر ذوائبه الغبش على جبين النهار، ويغزو بسكونه الرهيب ضجة الحضارة الصاخبة. بينما كان راعى الغنم قد انتحى جانباً مستنداً إلى جذع شجرة هناك، ومن حوله أسرته الخالدة يؤلفها عنزاته الأربع، وكلبه القروي: أسرة هي رمز الوفاء في كتاب الأيام.
كانت صفارته ترسل أنغاماً واهنة لا تكاد تصل إلى السمع إلا بشيء من عمل النفس، ولكنها على هوادتها كانت تصعد في السماء رائعة لتستحيل إلى دعوات ضارعة في عالم اللانهاية والخلود.
كانت ألحانه لا تحتاج إلى خيال شاعر، ليرددها إلى عالم آخر غير عالمنا الذي نعيش فيه، ولقد ذكرت عندها قول أندريه جيد في السيمفوني باستورال، وهو يجري آراءه في الحياة والفن على لسان الباستير، انه يري (أن الموسيقى لا تصور العالم كما كان، ولكنها تصوره كما يمكن أن يكون لو خلا من الشرور والخطايا).
كان لألحان الراعي روعة في النفس يزيد منها إقبال الليل في سكونه، حتى كأنها دعوة السماء إلى القلب، فانعطفت قبالته وأحسست كأنما أنظر في باريس إلى أثر مقدس، يثنيني عن التقدم إليه جلال الزمن. وروعة الماضي. كان هو الراعي في كل شيء غير سراويلات لم يشهدها الشرق في رعاته، أوربي تغمره الضارة المادية، وتأخذ حياته من أقطارها ولكنه كان عنها بعيداً، وفيها زاهدا لقد ورث عن أبيه (الراعي الخالد) هذا الوجه الهادئ، الذي لفحته حرارة الصحراء، فتركت فيه هذا الرضا العميق، يكشف عن نفس يعمرها اليقين والأمل. ولقد كنت تقرأ في أسارير وجهه شيئا آخر أقوى من اليقين والثقة، كنت تقرأ فيها فلسفة العزلة التي تظهر فيها النفس الإنسانية أقوى ما تكون فهماً وإشراقاً. فيلسوف لم يأخذ فلسفته عن منهج ديكارت، ولكنه أخذها عن أستاذ لا يضل أبدا: عن(963/4)
الطبيعة التي لقنت أجداده أبلغ الحكمة. لقد عرف الأمل في الشروق، وعرف العراك والألم والصبر في رائعة النهار، كما عرف الهدوء والرضا في صفحة الغروب، وسمع خطيب الليل الصامت يلقى على الإنسانية فلسفة الجنوح والاستسلام إلى قوة غالبة، يجد في جوارها السلم والعافية، واستقام له من كل ما قرأ في كتاب الوجود فلسفة راسخة قوية، لا يغريها الأمل، ولا يوهنها اليأس، لأنها أقوى من إغراء الأمل، وأسمى من تخاذل اليأس. إنها فلسفة الرضا المقرون بإشراق الحقيقة، يطل منه على هذه الحضارة الصاخبة المجنونة.
لم تكن أنغاما تتألف من مقاطع، ولكنها صلوات القلب في محراب الطبيعة، تتألف من ضراعات الرهبان، ونسك العابدين، لست أدرى أهي حفيف ذكريات الزمن البعيد، أم أنها الترانيم الهامسة منذ الأزل في فضاء الوجود. أنها رسول السلام والأمن أقبل من السماء إلى الأرض ليغفر ما جرحت أيدي الحضارة وليبارك الضعاف الأقوياء الذين شرعوا أقوم المثل في الصبر والرضا، حتى إذا أقبل الليل وجدوا فيه متنفساً لآلامهم ودموعهم. .
قال لي تراعى في صفارته: (إن أمانينا ستظل رسول العذاب إلى قلوبنا، وستظل سبب شقوتنا في الحياة، حتى نغير النظرة بأخرى، وحتى نستبدل مقياس السعادة بآخر إلى النفس بصلة، وحتى ننصرف طوعا وترفعاً عن روعة لو اختبرناها لظهر زيفها وباطلها. . .)
(إن فلسفتي هي أقوم ما انتهت إليه الفلسفة المتحضرة: حياة ساذجة لا صنعة فيها، وعزوف عن الظاهر البراق لا زهداً ولا يأسا، ولا حتى تدينا، ولكن إيثارا للحقيقة، وإدراكا لجمالها، وتلبية لنداء النفس المطبوعة التي لا تخطيء في الدعاء. .)
(إن فلسفتي لا تعني بغير نشيد الكون في جملته، وما بحثت قطر عن مم يتألف النشيد، ولا حاولت أن تعرف مقاطع نغمه، وضروب إيقاعه. وإذا جهلت أنا شيئا من هذا فان ذلك لا يحرمني السرور بجمال الأنشودة في جملتها، وإن عناصر الكون الحافلة بالأسرار لتتجمع كلها في لحن واحد، ما أيسر أن تحس النفس جماله، وتنعم بإدراكه، فعلام إذاً أشقى في تحليل المقاطع، ومناقشة العناصر. .)
(إن الوجود في فلسفتنا معشر الرعاة ترنيمة تنفح بعبير السماء، تذيعها الطبيعة في لحنها صباح مساء. إنه النهر الجاري تصفق في جوانبه الجداول، وتنعم الطير على شاطئيه، ما(963/5)
سألت قط عن منبعه ولا مصبه، ولكنى أسير مع التيار شاديا مغردا، أسبح بهذا النعيم، وأشيد بجمال الحقيقة. .)
(وماذا يعنيني أن أبحث كما يبحث هذا الرجل المعذب (بالوجودية)، انه يشقى ويشقى الناس معه، ليثبت أن الوجود يسبق الجوهر، وان الإنسانية لهذا محكوم عليها بالألم الشقاء. إنه لا يفهم الإنسانية إلا على هذا النحو الأسود القاتم، ولا يراها غير فريسة للآلام، فراح يلتمس لنا في فلسفته، وقصصه؛ ومسرحياته كل جرح دام من جراح الإنسانية المعذبة، وسارت باريس في ركابه تحمل المناظر السوداء، لترى من خلالها هذا الوجود، حتى فترت صبوات القلوب العامرة باليقين والأمل. .)
(وإذا كان (عميد الوجودية) قد زحم مؤلفاته بالمآسي الإنسانية التي يدعم بها مذهبه فإنه نسى الكثير من مسرات الإنسانية. وما الخير في فلسفة لا تقوم إلا على تذكر الشرور والآلام، وتغفل عن مباهج الإنسانية الروحية؛ فقطعت عليه لحنه:
(أتنكر الألم في الوجود أيها الراعي؟ قال: (أفتنكر أنت أن أكثر من النصف في الوجود خير وبركة وجمال؟ رويدك فإن (الوجودية) تنكر المستقبل المسطور في السماء، وتلقى به بين يدي الإنسان ليصنعه بنفسه
قلت: فإنه يسرف في التعبير، ويستخدم من الألفاظ كفيلسوف ما يؤيد به مذهبه، وإنه ليريد أن ينسب (الاختيار) إلى الإنسان، وأن يعقد أمله بالأعمال فإن لها عنده قيمتها وأثرها قال: فسنعود إذاً إلى حديث الاختيار أو الحبر، وما أعرف أن الفلسفة العربية قد قصرت في مناقشتها، ففيم إذاً هذه الضجة؟
لقد كتب ابن سينا عن الجوهر والوجود، يعاونه في ذلك عقل الفيلسوف وخبرة الطبيب. كان فيلسوفا وطبيبا يدرك النفس، كما يدرك المنزل الذي تسكن فيه، فآخى بين الروح والمادة، وزاوج بين المجهول والمعروف، واستقام من ذلك منهج قويم. . سكت الراعي قليلا ثم أقبل في الحديث وقد جرى شعاع من النور في أسارير وجهه: (إن للشرق طريقة حسنة في فهم الوجود. ولقد حل المشكلة هذا الهندي المبارك، وضرب تاغور على الحياة بسرادق من الخير والجمال، وأنكر وجود الشر فيها، وإذا كان له وجود فإنه عدم في عالم الحقيقة، إنه كالخطأ في عملية حسابية له وجود على الأوراق، ولا وجود له في الحقيقة.(963/6)
إنه كمن يحضر حفلا خاصا، ولا يحمل معه بطاقة الدعوة ممن أقام الحفل. إنه موجود بين المدعوين ولكنه وجود لا تعتبره الحقيقة. . ثم نظر إلى قائلا: (أترى ما قال تاغور هو الشعر، وهبه شعرا! ولكنه حسن جميل. .)
(لا يا سيدي إن لي زوجة جميلة تنتظرني، وإنها من مباهج الحياة عندى، فلم أنقب وأحصى ما لقيت من ألم في النهار، وأنا أعرف أن سروري بها يعدل أضعاف ما لقيت من ألم في النهار! وإن لي أصدقاء من الرعاة نسمر معا، ونتحدث عن مملكتنا المسحورة ذات المروج والجداول والطير. .)
(إن الرومانتسم في أدبنا الفرنسي لم تطبع بهذا الطابع الشاحب ذي المزاج الحزين إلا أن أطلق الشعراء تأملهم العميق في الوجود، وغالوا في التحليق بنفوسهم وهم يتحدثون إلى الطبيعة، حتى عبروا منطقة الجمال إلى مجاهل الفلسفة، وانتهوا في تأملهم إلى السؤال: من أين؟ وإلى أين؟ ولم؟ فلما عجزت عقولهم طوى العجز نفوسهم على ذواتها، فتألموا، واختلطت أفانين الجمال في شعرهم بنبرات من الحزن، تكشف عن نفس معذبة قبل أن تكشف عن نفس متأثرة حساسة.
سكت قليلا بينما كانت تخفق في جبينه طيوف من الحلم والذكريات، ومسمعته يردد في صوت خافت عبارة جينز: (لم يعد عند العلم قول يلقيه. . . وربما كان من الخير أن تقول إن العلم قد عدل عن إلقاء الأقوال، لأن نهر المعرفة قد انعطف في سيره مرات كثيرة بحيث لم يعد في مقدرتنا أن نحكم بالناحية التي فيها مصب النهر) قلت: فما بالك أيها الراعي تخلط بين العلوم الطبيعية وبين فلسفة الوجود، وأين هذا مما نحن فيه؟ قال: فهي إذاً كما قال تاغور: (الحياة حق، وحب، وخير وجمال). ثم نهض الراعي يتبعه كلبه وعنزاته، قلت: فأنى أريد أن أراك مرة أخرى. قال: فموعدنا قهوة الفلور، فقد يكون لنا حديث. قلت: ولم قهوة الفلور؟ فأشار إليها بصفارته قائلا: أما تراه يجلس في شرفتها المطلة على الخارج؟ فنظرت. . . فإذا.
جان بول سارتر
باريس(963/7)
علي شرف الدين
دكتور من جامعة باريس(963/8)
8 - الثورة المصرية1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
كتلة إسلامية:
ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها 1945 حتى انقسم العالم إلى كتلتين: إحداهما شرقية وتتزعمها روسيا، والثانية غربية وتتزعمها أمريكا وإنجلترا. وقد ثار نضال وجدل: إلى آي الكتلتين تنضم مصر؟ أتنضم إلى الكتلة الشرقية أم الكتلة الغربية أم تقف على الحياد؟ وقد رد على هذه الأسئلة ردا صريحا واضحا فضيلة المرحوم الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين قائلا: إن مصر أن تنضم إلى الكتلة الغربية ولا إلى الكتلة الشرقية وإنما يجب أن تقدم كتلة ثالثة هي الكتلة الإسلامية وتضم الباكستان وإيران وأفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والمملكة العربية السعودية واليمن ومصر وليبيا وتونس والجزائر ومراكش.
وقد شهد يوم 23 نوفمبر 1951 مولد هذه الكتلة، فقد زار دولة الدكتور محمد مصدق رئيس وزراء إيران مصر. وفي يوم الخميس 22 نوفمبر 1951 أقام معالي الدكتور طه حسين باشا حفلة أهدت فيها جامعة فؤاد الدكتوراه الفخرية للزائر العظيم، وقد حياه ذلك: (إن شخص الدكتور مصدق يمثل الجهاد في أروع صوره) وذكر جهوده في تحصيل العلم بفرنسا وسويسرا وجهاده في سبيل تحرير وطنه وتقدير هذا الوطن له وإكباره لجهاده مما يشرف أسرة جامعة فؤاد الأول أن ينضم إليها، ثم ذكر الدكتور طه باشا أن الدكتور مصدق يجمع إلى جانب المجد السياسي المجد العلمي ونوره بمآثر مصدق العلمية.
وقد تحدث الدكتور مصدق في نهاية الحفل إلى المحتفلين به فقال: (أسأل الله سبحانه وتعالى أن يدعم الرابطة والأخوة بين مصر العزيزة وإيران أبدا. نحن مصممون على أن نحارب الاستعمار في السودان وفي عبدان مشتركين. إن الداء الذي تشكو منه إيران تشكو منه مصر والبلاد الإسلامية، داء واحد وداء مشترك.
فنحن نعرف العلة الأساسية لهذا المرض ونعرف أن الداء لهذا المرض هو الكفاح المشترك الذي يجب أن تقوم به البلاد الإسلامية جمعاء. .)
وهكذا بدأ قيام الكتلة الإسلامية. وفي نفس اليوم أعلن بيان مشترك وقعه رئيسا الوزارة(963/9)
المصرية والوزارة الإيرانية جاء فيه أن الرئيسين قد استقر رأيهما على ما يأتي.
أولا: الدخول في أقرب وقت في مفاوضات لتوسيع نطاق معاهدة الصداقة والإقامة المعقودة بين إيران ومصر والموقعة في طهران في 28 نوفمبر 1928
ثانيا: إبرام معاهدات بين البلدان في الشؤون الاقتصادية والثقافية وشئون التجارة والملاحة وكذلك معاهدة للتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية. ومن المفهوم أن هذه المعاهدات سوف تكون أساسا لاتفاقات متعددة الأطراف على مدى أشمل بحيث تسمح بانضمام البلاد العربية وبلاد الشرقين الأدنى والأوسط التي تربطها بإيران وبمصر في الوقت الحاضر علاقات ودية.)
هذا في مصر. أما في باريس فقد كان وراء الدول العربية يواصلون اجتماعاتهم للبحث في مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط وفي القضية المصرية وقد أجمعوا على تأييد القرارات التي اتخذتها الحكومة المصرية من إلغاء المعاهدة إلى رفض المقترحات الرباعية للدفاع عن الشرق الأوسط.
من 23 - 29 نوفمبر 1951:
ما تزال الحالة حرجة في منطقة القناة وما يزال الإنجليز يمنعون في إجرامهم. صحيح إن عدوانهم لم يبلغ ما وصل إليه في مجزرة الإسماعيلية في 17، 18 نوفمبر ولكنه عدوان وحتى لا يستطيع إنسان أن يبرره. أنظر إلى الجرائم التالية وتبين مدى وحشيتها:
1: كان الشيخ محمد بركات وهو في السبعين من عمره يؤدي الصلاة في منزله بعزبة أبو عسر في الصباح الباكر عندما اقتحمت المنزل قوة بريطانية مسلحة فتصدى لها نجله عبد الله مستفسرا عن سبب دخولها فزعم الجنود أنهم يبحثون عن الأسلحة.
وكان الشيخ قد ختم صلاته فجلس ممسكا بسبحته وراح يتلو الدعوات فاقترب منه الجنود وأمروه بالوقوف فلوح بسبحته للابتعاد عنه وهو يقول (الله اكبر. . الله اكبر)، واشتد حنق الإنجليز فأطلق أحدهم عليه رصاصة وطعنه الآخر بسونكي بندقيته في صدره ويده طعنه أطاحت بأحد أصابعه. وما لبثت روحه أن فاضت إلى بارئها تلعن الإنجليز وتضرع إلى الله أن ينقذ البلاد والعالم منهم!!
2: وفي يوم الثلاثاء 27 منه قام الإنجليز بمظاهرة عسكرية في مدينة السويس وألقت(963/10)
إحدى سياراتهم قنبلة يدوية شديدة الانفجار أصيب بشظاياها أربعة من الأهالي.
3: في يوم الأربعاء 28 منه قام البريطانيون بحملة إرهابية واسعة في منطقة الإسماعيلية وكان الأهلون هدفا لعدوانهم الوحشي فقد أطلقت قوة بريطانية النيران على أربعة من أهالي القصاصين وهم يسيرون في طريق العاهدة فاستشهد ثلاثة منهم. وأما الرابع فقد ألقى بنفسه في ترعة الإسماعيلية ونجا.
وكان خمسة من العمال عائدين إلى منازلهم في الإسماعيلية فأطلق الإنجليز عليهم نيرانهم فسقطوا مضرجين بدمائهم.
أيها الإنجليز: إن دماءنا لن تذهب عبثا واعلموا أنكم لن تثبتوا أقدامكم بآثامكم.
أما الفدائيون المصريون فقد وصلوا نشاطهم مشكورين مأجورين ولكن الذي يؤلم هو هذا الموقف الصامت الذي اتخذته حكومة مصر فإنها لم تحرك ساكنا ولم تهج طائرا!!
وفي يوم الاثنين 26 نوفمبر وصل وزير الحربية البريطانية إلى القنال واجتمع بالقواد الإنجليز وبالسفير البريطاني ثلاث ساعات متوالية لبحث الموقف.
وفي خلال هذه الفترة رحلت كثير من العائلات البريطانية من الإسماعيلية، وكان الإنجليز قد أعلنوا أنهم سيجلون عنها بمجرد جلاء العائلات الإنجليزية ولكنهم عادوا يتلكئون في تنفيذ وعدهم.
ثورة مصر بأثرها:
بدأت الثورة المصرية في 9 مارس 1919 في مدينة القاهرة وانتشر نبأها في سائر أنحاء مصر فهبت مصر بأجمعها من الإسكندرية إلى أسوان مدنا وقرى تستجيب لنداء الثورة:
ففي يوم الأربعاء 12 مارس ثارت الإسكندرية وقامت فيها مظاهرات كبيرة تضم طلبة المدارس والمعاهد الدينية وسارت من مسجد أبى العباس إلى دار المحافظة القديمة بشارع رأس التين، وقد حاول رجال الشرطة وعلى رأسهم الحكمدار جارفس بك تشتيت المتظاهرين ولكنه لم يستطع. وكان المتظاهرون يهتفون بالحرية والاستقلال.
وتجددت المظاهرات في الأيام التالية وفي 17 مارس سلط الإنجليز نيران مدافعهم على المتظاهرين فسقط منهم ستة عشر قتيلا، وأربعة وعشرون جريحا.
وفي 21 مارس ثارت بور سعيد وقتل الإنجليز سبعة شهداء وثارت دمنهور في 17 مارس(963/11)
وأهان إبراهيم حليم باشا مدير الإقليم المتظاهرين إذ تحداهم أن يكون بينهم رجل فضربوه بالنعال. وقد شتت الجند المتظاهرين وقتلوا منهم 12 شخصا.
وفي طنطا قامت مظاهرة كبيرة في 12 مارس وسار المتظاهرون في أنحاء المدينة حتى إذا وصلوا محطة السكة الحديدية، انهال عليهم الجند البريطانيون بنيران مدافعهم فسقط ستة عشر قتيلا.
وفي 16 مارس قتل أحد المارة بسبع طلقات من مدفع رشاش بريطاني وقتل الإنجليز غلاما ضربا بالسنج. وما أشبه الليلة بالبارحة!
وثارت شبين الكوم وكفر الشيخ وسمنود والمحلة والمنصورة وميت غمر والزقازيق. وعلى الجملة انتشرت الثورة في سائر أنحاء الوجه البحري مدنه وقراه.
ولم يكن الوجه القبلي أقل استجابة لنداء الوطن من الوجه البحري بل كانت الثورة أشد في الوجه القبلي؛ فقد قامت المظاهرات في الفيوم والمينا وأسيوط وقنا وأسوان وجرجا، وكان طابع الثورة العنف، وسقط في هذه المظاهرات كثير من الشهداء الأبرار. وقد بلغ عدد شهداء مصر حتى 15 مايو 1919 ألفا، وقد ذكر هذا الإحصاء المستر هار مسورث وكيل وزارة الخارجية البريطانية وعلق عليه قائل (إن هذا شيء فظيع هائل)!
ومع هذا لم تضعف مصر بل ظلت تقاوم وتبذل دماء أبنائها كريمة في سبيل حريتها واستقلالها.
قطع المواصلات:
كان أول ما اتجه إليه تفكير المتظاهرين الثائرين هو قطع طرق المواصلات حتى لا تستطيع القيادة البريطانية أن تبعث بقواتها إلى سائر أنحاء القطر للتنكيل بالأبرياء.
وكانت أول حادثة من هذا النوع هي قطع الطريق الحديدي بين تلا وطنطا وكان ذلك في 12 مارس وما لبثت الفكرة أن انتقلت إلى سائر أنحاء القطر فقطعت الخطوط الحديدية الرئيسية التي تربط القاهرة بالوجه القبلي وبالإسكندرية وبور سعيد. ولم يقتصر التخريب على السكك الحديدية ولكنه امتد إلى أسلاك البرق والتلفون. وفي 14 مارس أصدرت القيادة البريطانية الأمر التالي:
(جناب القائد العام للقوات في القطر المصري يحذر الجمهور أن كل من يتلف مواصلات(963/12)
سكك الحديد أو التلغراف أو التلفون أو يلحق بها آي عطل أو يعبث بها بأي وجه من الوجوه أو يحاول عمل أي شيء من هذه الأعمال يعرض نفسه للإعدام رميا بالرصاص بمقتضى الأحكام العرفية)
وكانت السلطة تعتقد أن مثل هذا الإنذار كفيل بقمع الفكرة وبالقضاء على الثورة ولكن المصريين كانوا قد أصبحوا لا تؤثر فيهم الإنذارات ولا التهديدات فانطلقوا يدمرون طرق المواصلات حتى يشلوا حركة المغتصب الأجنبي.
ففي 14 مارس وصل قطار الصعيد إلى الرقة بمديرية الجيزة ولم يستطع مواصلة السفر لقطع الخط في أكثر من موضع واضطر أن يعود إلى القاهرة وقد حطمت أكثر عرباته. وهكذا عزل الموظفون الإنجليز في الصعيد.
وفي قليوب خرب محطة السكة الحديدية وقطعوا الخط الحديدي وبذلك انقطعت مواصلات الوجه البحري.
وهكذا ثارت مصر بأسرها ريفا ومدنا وثغورا وموانئ رجالا وسيدات شيبا وشبانا وأصبحت مصر بأسرها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب قطرا ثائرا لحريته واستقلاله يبذل في سبيل ذلك دمه وماله.
زفتي تعلن الاستقلال:
ثارت زفتي كما ثارت باقي مدن مصر وقراها وتألفت بها لجنة للثورة كان رئيسها المرحوم الأستاذ يوسف الجندي ولم تلبث أن أعلنت اللجنة الاستقلال. وكان مأمور زفتي إذ ذاك المرحوم إسماعيل بك حمد وكان رجلا وطنيا فتعاون مع اللجنة، ولكن السلطة العسكرية أرسلت قوة من الأستراليين لقمع الثورة فقام الأهالي وحفروا الخنادق حول المدينة وخلعوا قضبان السكك الحديدية فاستعدت القوة لمواجهة المدينة وصوبت إليها المدافع ولكن إسماعيل بك توسط بين الأهليين وبين القوة ونصح الأهالي بالكف عن المقاومة إبقاء على المدينة فقبلوا نصيحته ودخل الجند وحاول الإنجليز معرفة أعضاء اللجنة ولكنهم لم يستطيعوا لأنهم لم يجدوا مرشدا ولا دليلا.
مذبحة ميت القرشي:(963/13)
في 23 مارس قامت مظاهرة سلمية في ميت القرشي. وبينما كان المتظاهرون يسيرون في طريقهم وصل قطار حربي فوقف القطار ونزل منه الجند وتعقبوا المتظاهرين وفرقوا شملهم وتعقبوهم وقتلوا منهم أكثر من مائة شهيد!
مظاهرة القاهرة الكبرى:
في 17 مارس 1919 وبتصريح من السلطة العسكرية قامت هذه المظاهرة وبدأت سيرها من الأزهر وانتظم فيها ألوف من المصريين على اختلاف هيئاتهم فسار العلماء والقضاة والمعلمين والمحامون والتجار وأرباب الأعمال والطلبة والعمال وسارت في أكمل نظام تهتف بالحرية والاستقلال وانقضت في سلام بعد طواف دام ثماني ساعات.
ولكن يبدو أن هذا لم يرض الإنجليز فعمدوا - وهذا طبعهم - إلى استخدام القوة وسقط كثير من الضحايا في القاهرة وفي الأقاليم برصاصهم.
وفي 19 مارس قابل شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي (بك) قائد القوات البريطانية واحتجا على استخدام القوة الغاشمة في قمع المظاهرات السلمية، فلم يلق إلى احتجاجهم إذنا واعية، واستمر الجند في عدوانهم، واستمر المصريون في كفاحهم، وقد اضطر القائد العام في مارس إلى إصدار إنذار عام بلغ فيه التعسف غايته.
إنذار عام:
(كل حادث جديد من حوادث تدمير محطات السكك الحديدية والمهمات الحديدية يعاقب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من سواها من مكان التدمير. وهذا آخر إنذار.)
وفي نفس اليوم جمع القائد العام الوزراء والكبراء والأعيان وطلب إليهم أن (يعملوا كل ما في وسعهم لتسكين الأهالي ومنعهم من إحداث القلاقل وإلا فأنى منفذ خطتي) (حرق القرى وتدمير القصور والعمائر وإحراق الدماء البريئة).
وأخذ القائد العام يرسل قواته إلى جهات القطر المختلفة بالطائرات وبالسفن فارتكبت في مصر أشنع الإثم واقترفت أفظع الجرائم.
وجدير بالذكر أن نقول إن المصريين مسلمين وأقباطا سالت دماؤهم معا فتآخى الجميع في الدم واتخذوا علما في وسطه هلال أبدت نجومه بصلبان، وكان القسيس يخطب فوق منبر(963/14)
المسجد والشيخ يخطب أمام مذبح الكنيسة: وكنت ترى في مقدمة المظاهرات شيخا وبيده قسيس، وقسيسا يعانق شيخا. وهكذا قضى على الفتنة التي حاول الإنجليز إثارتها ووقفت مصر يدا واحدة تطلب استقلالها وتؤمن بأن الدين لله والوطن للجميع.
أبو الفتوح عطيفة(963/15)
المستقبل وأسرار الوجود
للأستاذ عبد الجليل السيد حسن
المستقبل هو أمل من لا أمل له، وعزاء من لا عزاء له؛ هو رجاء اليائسين، واللقمة التي يعيش عليها الفاشلون والمحرومون. هو الحبل الذي يتشبث به الغرقى في بحار الحياة ويرونه سببا للنجاة بينما هم في اللجنة يغوصون، وإلى الهلاك يسرعون، فكل من لم ينل من الحياة مراده ولا رغائبه، واحتاطه اليأس وكفنه بالحزن والألم ليشيعه إلى القبر، كان شريان الحياة الذي ينبض فيه ويمزق له أكفانه: هو المستقبل. فيندفع إلى الحياة ليعيش على الأمل والتعلات، وينتظر استعادة ما فات، واستحضار ما ستدبر. فالمستقبل هو خيط الحياة الذي بانقطاعه تنقطع الحياة؛ فلو أن هذا الذي فانه ما يريد ويأمل، وهذا الذي صدمته الحياة في نفسه وماله وولده، لو أن هذا أو ذاك: تاه عنهما وجود المستقبل وغفلا عنه لبخع كلاهما نفسه، وقضى على حياته بيديه، ودلف بنفسه إلى القبر يحفره. ولكنه يرى بتعلل بالمستقبل، يحقق له أمله الضائع، ويشفى له مرضه المستعصي، ويعوضه عن ماله الذي فقد وولده الذي احتسب. ويتضح لك هذا إذا صورت لنفسك ما ستكون عليه حالة هذا الذي فقد الأمل في المستقبل لأن الأسباب قد تقطعت به، لاشك أنك ستراه بمنظارك أول الأمر حائرا يبحث متلهفا عن بصيص ينظر منه سببا وإن تفه يرجوه، وفرجة وإن ضيقة يطل منها على المستقبل، فإذا لم يقطع على بغيته، فلا أخالك إلا ملقيا بمنظارك لتجرى نحوه لتوقفه عن قتل نفسه.
المستقبل هو الوجود كله، والزمان كله. وليس هناك من شيء غير المستقبل. أليس الوجود امتدادا لا يعرف منتهاه ولا أوله، وما هو هذا الامتداد؟ إنه لا يخرج عن المستقبل فليس هناك شيء اسمه الماضي، ولا شيء اسمه الحاضر، بل هناك شيء واحد اسمه المستقبل، المستقبل فقط. وإذن فما هو الوجود.؟ أليس إلا مستقبلا قد نسج، ومستقبلا ينسج، ومستقبلا ينتظر النسج؟ أما المستقبل الذي نسج فهو ما نسميه الماضى، والمستقبل الذي ينسج فهو ما نسميه الحاضر. فالأمر لا يعدو قسمة لا حقيقة لها لهذا التيار الساري، تيار الوجود الذي يرتكز في المستقبل. فتيار الزمان هو المستقبل وهو النهر الذي قيه الوجود والكائنات. فالنقطة التي تسبح فيها هذه اللحظة، تسميها الحاضر، والنقطة التي تعدتها تسميها الماضى،(963/16)
والنقطة التي تنتظرها تسميها المستقبل. ويا لحمق هذه الكائنات التي تتناسى أن النقطة التي تسميها الماضي هي نفسها التي كانت تسميها المستقبل قبل أن تصل إليها، فليس الأمر سوى خداع أسماء، وكم لخداع الأسماء من ضحايا!
بين الماضي والمستقبل:
لتنظر معي رعاك الله إلى هذا الوجود، وتأمل فيه: متى وجد.؟. . . وأين كان قبل أن يوجد؟. . . خذ أي شيء وتأمله، وقف بالله عليك قبل أن تلتهم هذا العنقود من العنب، وفكر (من أين جيء به؟). . (من كرمته). . (حسنا، ومتى جيء به؟). . (حسنا، وأين كان قبل هذا الموسم؟) أين. . أين. . في العدم؟). . .
ولكن يا صاحبي كيف يأتي شيء من لا شيء؟ إنه كان لاشك في ضمير العنب، أي قبل هذا الموسم بشهور مثلا: كان في المستقبل. ولكن. . هل كان وجوده مشخصا حقيقيا في هذا الغيب؟
مثل هذه المشكلة حلها (أرسطو) بمفتاحه السحري: مفتاح (القوة والفعل) أو (الإمكان والواقع) فالشيء قبل أن يكون، لم يكن معدوما بل كان موجودا بالقوة، أي كان وجوده ممكنا وليس واقعا متحققا ظاهرا مشخصا، فأي شيء هو بالقوة قبل أن يوجد ويخرج من القوة إلى الفعل بتأثير مؤثر، فمثلا: البذرة الآن بذرة بالفعل وشجرة بالقوة، لأنها سوف تكون شجرة. والطفل الآن طفل بالفعل وفي الواقع ولكنه سيكون رجلا في المستقبل، فهو رجل بالقوة.
وقد قلنا إن الوجود هو المستقبل قد نسج وهو الماضى، ومستقبل ينسج وهو الحاضر، ومستقبل سينسج وهو الذي عرف وحده بالمستقبل، فكأن المستقبل هو الوجود بالقوة والماضي هو الوجود بالفعل. فالفرق بين الماضي والمستقبل: هو الفرق بين الإمكان والواقع. وليس الفرق بين الإمكان والواقع واسع الشقة مهول المسافة، بل لا يبدو ذلك إلا لذوى النظر الضيق، أما أصحاب النظر السليم فإنهم لا يرون كبير فرق بين الإمكان والفعل، لأن لهم من قوة بصرهم ما يربهم المستقبل حاضرا، والإمكان وقعا.
إن الزمان عبارة عن الحركة، أو أن الحركة هي جوهر الزمان، فمثلا: تصور أن الأرض ثابتة، وأن الشمس طالعة أبدا، وأنك وحدك على الأرض ثابت لا تريم. . هل تشعر(963/17)
بشيء؟ لا يمكن أن تشعر بشيء مطلقا، إذا لم يكن هناك حركة ولو أقلها تقرن نفسك بها، وتشعر بوجودك بالنسبة إليها، فأنت إذا كنت ترى صخرة أو شجرة مثلا، ولم يكن في طوقك الحركة حتى تبلغها، ولا في طوقها الحركة حتى تبلغك؛ فلن تشعر بوجودها، وقد لا تشعر بوجودك أيضا. أما الذي يجعلك تشعر بوجودك ووجودها فهو الحركة، فالشجرة مثلا بعيدة الآن، وهاأنذا تقترب منها، فأنت تشعر بوجودك ووجود الكون بناء على التغير أو النقلة، فشيء غير موجود الآن يجعله التغير والانتقال موجودا. فالشيء الذي يشعر الإنسان بذاته ووجوده هو المستقبل؛ لأن النقلة والتغير تصير إليه، ولو لم يكن هناك مستقبل لما كان هناك وجود ولا زمان ولا شعور للإنسان بذاته وبالكون. والنزوع إلى تحقيق ما هو غير محقق الآن، هو أدل شيء على شعور الإنسان بالوجود وبذاته، فالإرادة والشوق والأمل، هي علائم الوجود وشواهده التي لا تكذب، فيها يشعر الإنسان بأنه موجود حقا ولا يخالجه أدنى ريبة في وجود ذاته. وحينما تتعلق القدرة بالإرادة، ويستطيع الإنسان تحقيق رغبته في العالم الخارجي، فحينئذ يتأكد له وجود ذاته ووجود العالم الخارجي.
والمستقبل هو الذي يمنح الحياة ويبعد عنه الثبات الذي هو الموت، وكسبه التجدد والتغير، فليس شيء في الوجود ثابتا مطلقا. فلو فرضنا أن هناك موجودا جمادا أو حيا، وليكن هذا الشيء (1) فإن (م) الآن غير (1) بعد دقيقة مثلا؛ لأنها ستكون (1) زائدا دقيقة) ولا شك أن (1) فقط لا تساوى (1 زائد دقيقة). وهكذا، فإن كل شيء في الوجود في تغير أو حركة نتيجة لإضافة المستقبل إليه. فالمستقبل هو الذي يجعل الوجود حيا. ولو لاه لما كان وجود ولا حياة. وهنا نرى أننا قد وصلنا إلى شيء جديد هو أن كل ما في الوجود لا يمكن فهمه إلا باندماج الزمان فيه واندماجه في الزمان - وحينما نقول الزمان فإنما نعنى الصورة ذات الأوجه الثلاثة التي يبدو فيها المستقبل (من مستقبل (ماض) ومستقبل (حاضر) ومستقبل (مستقبل) - فكأن هناك حدا لا تفهم الموجودات إلا بنسبتها إليه وقياسها عليه وهو الزمان أو المستقبل حقيقة. وهذا وصول إلى الحد الرابع الذي تقول به النسبية ولكن من طريق آخر غير طريق النسبية، بل من طريق وجودي مستقبلي تحليلي، لا يعتمد إلا على تحليل الوجود ومحاولة فهم العناصر التي تكونه، وليس استخراجا لهذا الحد من قوانين الحركة الحديثة التي تقول باستحالة استخراج الحركة المطلقة للمتحرك، وبناء عليه باستحالة(963/18)
التواقت المطلق والزمن المطلق، وتقرر أن الزمن نسبى والتواقت نسبى بناء عليه بالنسبة للمتحرك، وهى تبنى نتائجها وتجرى تجاربها على الحركة وقوانينها. أما نحن، فإنما اندمج الزمان بالمكان بناء على الوجود المستقبلي والشعور بسريانه، فالشعور بسريان الاندماج أصل، والقول بالحركة فرع.
ونقول إن هناك صورتين من الزمان: الزمان المفهوم من الحركة، وهو (الزمان الخارجي) الذي نفهم الأشياء الخارجية به؛ والزمان الذي نشعر به في أعماق وعينا، وهو (الزمان الحقيقي) وبمقدار شعورنا بالزمان يكون وعينا، فكلما كان وعينا قويا كان شعورنا بالزمان قويا كذلك؛ فهنالك تناسب طردي بين الوعي وبالتالي نصيبنا من الوجود، وبين الشعور بالزمن. وقد قلنا إن الذي يجعل الزمن زمنا هو (المستقبل) بل إن المستقبل هو الذي يميز بين هذين النوعين من الزمان: الزمان الشعوري والزمان الحركي. فالزمان الشعوري يمثل المستقبل فيه أكثر من شيء واحد، والأمل، والإحساس بالحياة، والرجاء، والوجل، والخوف، والاطمئنان، والانتظار، والترقب، وكذلك (التغيير والتبدل) - والحرية أو الجبرية في هذا التغير - أما الزمان الحركي فهو لا يشمل ولا يمثل إلا (التغيير والتبدل) واحتمالها فقط. وهذا هو الفرق بين الوجود الحي والوجود الميت. والفرق بين الوجود الأول والوجود الثاني هو الفرق بين الوجود الفعال والوجود الخامد المنفعل.
ولكن هل تسير الأمور بقوانين ثابتة لا تتحول، وبمقتضى سنن موضوعة لا تتبدل؟ بمعنى أن ما حدث في الماضي عن العلة (1) لابد أن يتبعه المعلول (ب)، ولو علمنا هذه القوانين فهل في مقدورنا أن نتنبأ بما سيحدث في المستقبل؟ هذا موضوع آخر: موضوع السببية والمستقبل. . وسنقدم بمرضنا لمشكلة السببية إن شاء الله في مقال تال.
للكلام صلة
عبد الجليل السيد حسن(963/19)
بين العروض وطلقات المدافع
تحقيق في بحر الرمل
للشاعر الأستاذ محمد عبد الغنى حسن
قرأت - مع السرور والشكر - ملاحظة عروضية للأديب البارع الأستاذ محمد رجب البيومي تدور حول قصيدتي (على طلقات المدافع) التي نشرت بالرسالة الغراء في العدد (960). وإذا كان الأستاذ الفاضل قد أعجب (بإشراق القصيدة الناصع ودفاعها البليغ عن صمت الشعراء) أمام الحوادث المروعة في قناة السويس فإنه مشكور أجزل الشكر على هذه التحية الكريمة التي تعد أجمل عزاء عما نشره صديقنا الكريم الأستاذ على متولي صلاح في العدد (961) من الرسالة الغراء ناسبا إلى أنني هونت من شأن الأدب وأضعفت من قدر الكلام حينما على الإسراف في (القول) في ساعة تحمد فيها (الأفعال). . .
وقد تكون القضية التي يثيرها الأستاذ على متولي صلاح مثارا للدفاع في غير هذا المقام، لأنها اتهام لا يصح السكوت عليه، مثل اتهام الأستاذ رجب بيومي إياي بأنني (لم ألتزم القواعد العروضية في شعري)، وهى تهمة أعيذ الأديب الناقد أن يلقيها من غير برهان، أو من يرميها من غير إحاطة أو شاهد أو بيان. .
فمن قال إن العروض في بحر الرمل تلتزم؟ وإن العلة العروضية المعروفة وهي (الحذف) تلتزم في عروض هذا البحر إلا عند التصريع؟
لقد شرط علماء العروض في لزوم العلة أن تراد العلة لذاتها، فإذا لم ترد فلا لزوم هناك. ويقول العلامة الشيخ حسين المرصفي صاحب (الوسيلة الأدبية) في هذا المقام: (والعلة إذا أريدت لزمت في جميع الأبيات) ص 170. وفرق بين هذا القول وبين ما قاله المرحوم الأستاذ محمود مصطفى من أن العلة (إذا عرضت لزمت فلا يباح للشاعر أن يتخلى عنها في بقية القصيدة) فنحن أمام قولين وقف الشعراء أمامهما بالخيار منذ أن نطق بالعربية لسان، وهفا بالشعر العربي وجدان. وخاصة أن عدم لزوم العلة في هذا المقام لا يخل بقواعد العلماء، ولا يخدش الآذان باضطراب الأوزان.
وإذا كان الشاعر المرحوم أحمد شوقي بك قد ألزم العلة في عروض بحر الرمل فيما نظمه من قصائده، مثل قصيدة الكتاب التي مطلعها:(963/20)
أنا من بدل بالكتب الصحابا ... لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
وفي قصيدته (الطيارون الفرنسيون) التي مطلعها:
قم سليمان بساط الريح قاما ... ملك القوم من الجو الزماما
وفي مرئيته لسعد زغلول التي مطلعها:
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها ... وانحنى الشرق عليها فبكاها
إذا كان شوقي قد فعل ذلك في زماننا هذا فان شاعرا كبيرا من شعراء القرن الرابع وأوائل الخامس - هو مهيار الديلمي - قد فعل ما قرره العرضيون من عدم لزوم العلة في عروض بحر الرمل، ولم يقل أحد من الناس إنه لم يلتزم القواعد العروضية في شعره، ولم تشك آذان النقاد من فقدان الموسيقى في شعره العربي الرصين.
ألم يقل في قصيدته إلى الوزير أبى المعالي:
أنذرتني أم سعد أن سعدا ... دونها ينهد لي بالشر نهدا
غيرة أن تسمع الشرب تغنى ... باسمها في الشعر والإظعان تحدى
قلت: يا للحب من ظبي رخيم ... صدته فاهتجت ذؤبانا وأسدا
ما على قومك أن صار لهم ... أحد الأحرار من أجلك عبدا
فالمطلع مصرع وعروضه تامة غير محذوفة. والبيت الثاني كذلك، والثالث كذلك، والرابع عروضه تامة محذوفة. أي أن عروض الأول والثاني والثالث (فاعلاتن): وعروض الرابع (فاعلن). وهكذا يمضى الشاعر العباسي الفحل في القصيدة كلها غير ملتزم لعلة (الحذف).
لا عداك الغيث يا دار الوصال ... كل منهل العرى واهي العزالي
تختلف عليها علة (الحذف) وجودا وعدما في أبياتها التي تزيد على سبعين بيتا. فبينما يقول في (حذف):
حكمت في الحسن حتى ختمت ... سمة الرق على عنق الجمال
إذا به يقول بعد هذا مباشرة في (غير حذف):
غفلة للدهر كانت تحت ستر ... من سواد الشعر مسدول مذال
وقصيدته الميمية التي مدح بها الوزير زعيم الدين أبا الحسن والتي مطلعها:
بكر العارض تحدوه النعامي ... فسقاك الري يا دار (أماما)(963/21)
تختلف أبياتها كذلك بين وجود علة (الحذف) وعدمها في مواضع كثيرة من القصيدة يسهل الرجوع إليها في صفحة 328 من ديوانه (الأسطر 12، 16، 2، 3، 13)
ولم يكن معيار في الحق - حين فعل هذا كثيرا في شعره العربي المتين - لاجئا إلى ضرورة، ولا واقعا في عيب قبيح، ولا متكلفا لنبوة في الأذن، ولا جاهلا بقواعد العروض التي تبيح هذا إباحة واسعة في غير التجاء إلى مما حكة في أضعف الأقوال وأوهن الآراء.
ومن الحق أن نقول هنا، ونحن بسبيل تحقيق حول وزن الرمل - إن أغلب الشعر الذي روى في الجاهلية وصدر الإسلام من هذا البحر كان من الضرب الثاني من أضرب العروض الأولى - أعنى أن ضربه على وزن (فاعلن) لا (فاعلاتن) وبهذا كان العروض والضرب في أغلب هذا الشعر محذوفين، لأنه لما التزم (الحذف) في الضرب التزم في العروض طبعا. وذلك كما في القصائد الآتية:
قصيدة المرار بن منقذ التي يقول في مطلعها:
عجب خولة إذا تنكرني ... أم رأت خولة شيخا قد كبر
وقصيدة سويد بن أبي كاهل اليشكرى التي يقول في مطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا ... فوصلنا الحبل منها ما اتسع
وقصيدة المثقب العبدي التي يقول في مطلعها وفق رواية الأنباري:
لا تقولن إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء: نعم
وقصيدة جليلة بنت مرة أخت جساس، التي تقول فيها:
يا ابنة الأقوام إن شئت فلا ... تعجلي باللوم حتى تسألي
وقصيدة طرفة بن العبد التي يقول فيها واصفا حاله في سفره:
وبلاد زعل ظلمانها ... كالمخاض الجرب في اليوم الخدر
أما قصيدة الشاعر الجاهلي عدى زيد العبادي التي وعظ بها النعمان والتي يقول فيها:
من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال
وصروف الدهر لا يبقى لها ... ولما به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذلك الدهر حالا بعد حال(963/22)
هذه القصيدة من الضرب الأولى من أضرب العروض التامة المحذوفة من بحر الرمل. والضرب هنا (غير محذوف) أي أن وزنه (فاعلاتن) كما ذهب إلى ذلك محقق الجزء الثاني من (الأغاني) في طبعة دار الكتب المصرية، على حين أن صاحب كتاب (أهدى سبيل إلى علمي الخليل) رحمه الله قد عدها من الضرب الثالث (المقصور) الذي تصير فيه (فاعلاتن) إلى (فاعلات) وتحول إلى (فاعلان).
وعجيب أمر هذه الظاهرة في بحر الرمل من حيث استعمال العرب له. فانهم أكثروا من استعماله في العروض والضرب المحذوفين - أي اللذين - دخلهما (الحذف) فصارا على وزن (فاعلن). على حين أن (مهيار الديلمي) و (أحمد شوقي) أكثرا من استعماله في الضرب التام الصحيح والعروض التامة المحذوفة، مع الفرق الذي أشرنا إليه قبلا: وهو أن مهيارا لم يلتزم العلة في العروض بينما ألتزمها شوقي.
أما الشعراء الهذليون - وقد جمع ديوان شعرهم الضخم بعناية دار الكتب المصرية - فلم ينظموا من بحر الرمل ولم يلتجئوا إلى وزنه الموسيقى الجميل للتعبير عن أحاسيسهم ومشاعرهم؛ ولعلهم تركوا (التزام العلة) في هذا البحر واختلاف الأذن فيها طلبا للعافية وإيثارا للسلامة! ولكنني - وقد نظمت قصيدتي على طلقات المدافع من هذا البحر غير ملتزم علة الحذف - فأنني أرجو أن أكون قد بلغت من رضا المرحوم المرصفي في رأيه، ومن ثقة الشاعر الكبير مهيار في شعره م أحسب الأستاذ الأديب النابه محمد رجب البيومي يرضى به، لأنه حينئذ يرضى بالحق الذي ننشده وينشده كل منصف لنفسه ولغيره.
محمد عبد الغني حسن(963/23)
تعفن المذهب المادي
للأستاذ محمد فرحات عمر
دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع كثرة الكلام عن الإلحاد وضروبه وشيوعه بين الشباب ومدى أخذهم به واعتناقهم له. لذلك أزمعت الكتابة فيه؛ على أن تناولي إياه إنما سيكون من جهته الفلسفية الخالصة إلى جانب مناقشة تحت ضوء العلم الحديث.
وروح المذهب المادي الذي هو دعامة الإلحاد تتلخص في اعتبار المادة أساسا للموجود من حيث هو موجود، واعتبار قوانينها أساسا لأغراض الموجود؛ فإن سئل أصحاب هذا المذهب بأي اعتبار كانت قوانين المادة أساسا لأعراض الموجود؟ أجابوا. . باعتبار الاتفاق والضرورة معا. . الاتفاق في تصادم هذه القوانين، والضرورة في تفاعلها وصيرورتها؛ ومن ثم ظهور الموجود في حالة جديدة مغايرة للحالة الأولى من حيث الشكل.
ويلزم عن هذا كله أن يكون الوجود ميكانيكيا صرفا باعتبار نتيجة حتمية عن أسبابها، خالية من شوائب الشذوذ. هذه هي روح المذهب المادي بمنتهى الإيجاز والتركيز، ولم يبق أمامنا الآن أن نشاهد روح هذا المذهب تحت أشعة النقد.
أولا. . أنني في حدود معرفتي لا أملك المادة في ذاتها وإنما أملك صورة للمادة سواء أكلية كانت صورة جزئية أم صورة، وعلى ذلك فإقامة مذهب مادي محض باعتبار المادة في ذاتها على أساس تصوري هو من باب التناقض وهو خلف. فإن أرادوا تفادى هذا التناقض بالمطابقة بين الصورة والأصل معتمدين في هذا على مذهبهم التجريبي فأنهم في هذه الحالة سيطابقون بين صورة المادة وصورة المادة، وهذا تحصيل حاصل وفشل فاضح في الوصول إلى نتيجة حاسمة.
ثانيا. . المنهج الحسي هو أداة المعرفة عند المادية. ومما هو ذو مغزى أن المادية بهذا الوضع في حالة لا تحسد عليها. فالمعرفة الحسية أدنى مراتب اليقين إن لم تكن خارج حدود اليقين على الإطلاق. . ثم أنني الآن أمام مكتبي وهاأنذا أكتب هذا المقال وليس عندي أي شك في وجود مكتبي أمامي ووجود قلمي بين أصابعي، ولكن مع هذا فالمجنون أيضا يجزم لك أنه قابل النبي عليه السلام منذ هنيهة، وأنه الآن بجانب حبيبته. وعبثا تحاول أن ترده عن مثل هذه الترهات فإنه على يقين من ادعائه أنه يرى حبيبته الآن(963/24)
بجانبه. . ما العمل؟ أيكذب نظره. . هيهات ثم هيهات!
ثم ما رأي حضرات الحسيين الأفاضل في قطرة الدم التي أراها بعيني المجردة حمراء اللون فإذا رأيتها تحت المجهر لاحت لي في كرات بيضاء وكرات حمراء؟ إن الحواس لتتناقض في غاية السرعة لمجرد مضاعفتها. ومن يأتمنها بعد ذلك؟ أليس يجوز في العقل أننا لو وصلنا إلى مضاعفة قوة هذا المجهر لظهرت لنا كرات بيضاء وكرات حمراء وثالثة صفراء ورابعة خضراء. . . ابعد هذا تكون الحواس طريقا قويما إلى معرفة يقينية؟
ثالثا. . إذا سلمنا جدلا بأن المادة في ذاتها مبدأ وجودي فأننا لا نستطيع أن نعتبرها المبدأ الوجودي الوحيد، وذلك أننا إذا تأملنا الفرد الإنساني وجدنا تركيبه الكيماوي وقوامه البيلوجي في سن الطفولة غيره في الشيخوخة. وبرغم هذا نراه محتفظا بذاتيته من حيث هي مما يدل على أن الذاتية جوهر مغاير لجوهر المادة وأنه شيء له كيانه الوجودي غير المترتب دائما على الظروف المادية البحتة.
رابعا: لا يمكننا بأي حال من الأحوال قبول الميكانيكية ناموسا للكون، لأننا نجد في الإنسان من حيث هو إنسان شيئا يتعالى على الميكانيكية. . نعم. . الإنسان من حيث هو، ثم من حيث أنه عنصر من عناصر هذا الوجود لا نجده يندرج تحت الميكانيكية ألبتة. ويكفى للتدليل على دعوانا ما قرره فريق من علماء النفس أن الإرادة عنصر جوهري من عناصر النفس الإنسانية. ويجعل بالقارئ العزيز أن يدرك جيدا ما أقصده بمعنى الإرادة هنا؛ فأنني أعنى بها الإرادة السيكولوجية الخالصة التي يدركها كل منا بإحساسه العميق بها. إذ أنها تفرض نفسها فرضا، ومن ثم وجب عدم الخلط بين الإرادة في ذاتها ومدى أثرها في حيز الواقع العملي.
خامسا. . النظرية المادية القائلة بالصدفة نظرية واضحة البطلان من جهة أنها لا تقوم على أساس سليم. ولكي يتضح لنا هذا يجب أولا أن نوضح ماهية الصدفة وعلاقتها بالفعل الذي يخرج عنها. فالصدفة اتفاق أسباب ما للوصول إلى نتيجة ما بدون سابق قصد أو عمد أو إصرار. والقصد هو اتفاق أسباب ما للوصول إلى نتيجة ما مع سابق القصد والعمد والإصرار. فالفرق بين الصدفة والقصد إنما يتركز حول مبدأ الأسباب المعينة التي أدت إلى هذه النتيجة المعينة التي هي واحدة في كلتا الحالتين. وعلى ذلك لا يصح أن نستغل(963/25)
كدليل على حالة دون أخرى. لذلك يخطئ الماديون من حيث أرادوا أن يتخذوا من العالم وهو بطبيعة الحال نتيجة لأسباب مجهولة دليلا ليؤولوا به مبدأ الصدفة. ومثل من حاول هذه المحاولات كمثل رجل وجد في طريقه حافظة نقود فأراد أن يعلل وجوها. . هل كان هذا عن قصد من صاحبها أم هو مجرد أنفاق. والحقيقة أن أي جواب عن هذه المسألة سيكون من باب الترجيح لا من باب التوكيد الذي هو أساس العلم الثابت وفضلا عن هذا فإن الجواب عن هذه المسألة يمتاز بقياس الشاهد على الغائب على عكس موضوعنا الأصيل. فالعلم من حيث هو نتيجة لا يصح إلا أن يكون وسيلة لتفسير أسبابه من حيث هي أسباب في ذاتها ومعلق هو بها. أما أن يتخذ مصباحا للكشف عن مبدأ أسبابه فهذا فساد دونه أي فساد. فان قال الماديون إذا سلمنا أن هذا العالم وجد عن قصد فان العالم يضم بين دفتيه من الخلل ما يتنافى مع كمال القاصد. وعلى ذلك لم يعد هناك مبرر لعدم التسليم بأن العالم جاء عن اتفاق.
قلنا إن هذا القول عليه اعتراضات يطول شرحها؛ لذلك نركز أهمها في ثلاث نقاط:
أولا - هذا القول أن صح أنه دليل على الصدفة فهو دليل سلبي.
ثانيا - البحث في صفات القاصد الكامل هو خروج عن حدود طاقة العقل البشرى، فلا يجدر بأي باحث أن يتناول فكرة القاصد وهو الله على أساس البحث في صفاته، بل يجب تناول الموضوع على أساس آخر هو مبدأ الوجود ذاته ومدى قبول العقل له. من هذا يتضح أن نظرية الصدفة القائمة على تفي القاصد بالحط من شأنه نظرية غير على أساس منهجي سليم. فضلا عن هذا فان اعتراضهم على القاصد لا يؤدي بنا إلى نفى وجوده البتة، وإنما يؤدى إلى حد كماله. ومع ذلك فهو ليس بغريب على المتألهة المحدثين وخصوصا السير جون استيوارت مل.
ثالثا - أن إقرارهم بأن العالم يحوى خللا بين دفتيه. . تناقض واضح مع قولهم بالميكانيكية الصرفة التي تمتاز بعلوها عن شوائب الشذوذ. ثم من جهة أخرى نرى هذا القول على العكس يأتي في صف القائلين بالقاصد لأنه أن دل فإنما يدل على أن ثمت قاصد صاحب إرادة حرة يفعل وراء هذا الكون ما يشاء وهو قاصد ذلك.
والآن بعد أن تناولنا أهم دعائم هذا المذهب بالنقد ووضحنا مركز هذا المذهب في نظر(963/26)
الفلسفة حان الوقت لأن نتعرف على الصلة المزعومة بين هذا المذهب والعلم الحديث.
يدعي الطبيعيون انهم اعتمدوا على النظريات العلمية الحديثة فيما ذهبوا إليه، ومع هذا فأننا نجد العلم الحديث يتخلى عنهم في أخطر المواقف وأدقها.
(أ) المذهب المادي يدعى أن كل معرفة إنسانية إنما ترجع إلى حيز المحسوس، بينما علم الفسيولوجيا يقرر بأن اختصاص الجهاز العصبي لا يتعدى المعرفة المباشرة الميكانيكية؛ أما المعاني المجردة والمعاني الكلية فيترك أمرها معلقا في الهواء. وإذن فالقول بأن المعاني المجردة والمعاني الكلية ترجع أيضا إلى الحس هو قول من باب الترجيح بدون مرجحات؛ وقد أحالت ذلك بداهة العقل.
(ب) العلم الحديث لم يصل بعد إلى ماهية الكون، فهو يقرر بأن الكون مكون من أجسام وكل جسم يتألف من ذرات وكل ذرة من هذه الذرات تتألف من النواة والكهارب السالبة والكهارب الموجبة، ثم هذا كله إنما ينتهي إلى الإشعاع. . وما هو الإشعاع؟ هو تموجات. . ثم ما هي التموجات؟ هي ذبذبات، ثم يقف بك العلم الحديث عند هذا فلا يفسر لك ماهية الضوء تفسيرا مجديا اللهم إلا تفسيرات شكلية. وهكذا يعترف لك العلم الحديث أنه لا يدرى من هذا الأمر شيئا.
(جـ) يدعى أصحاب هذا المذهب المتداعي وهم في ادعائهم هذه قد صاروا من التهافت بمكان، وأصبحوا عرضة هم ومذهبهم في مهب الريح. . ريح النقد العاتية؛ أقول يدعى أصحابنا الطبيعيون أن نظرية التطور والارتقاء إنما دعامة أساسية من دعائم مذهبهم المحبوب المدلل. . وردنا عليهم في غاية السهولة نوجزه فيما يلي.
1 - نظرية التطور والارتقاء لا تبحث إلا فيما يعد أصل الحياة من نشوء بعض الأحياء من بعض على مر الزمان وتحت ظروف طبيعية معينة؛ أما البحث في أصل الحياة والقول بالتولد الذاتي وهو بيت القصيد عند المادية فليس من اختصاص التطور على الإطلاق وليس إحجام التطور عن تناول مثل هذا الموضوع ضربا من الإضراب عن العمل.
2 - الغريب حقا - وان كان لا يستغرب من الماديين أي عمل مهما كان مخالفا لطبائع الأشياء أنهم قالوا بالتولد الذاتي ولم يثبتوه بتجربة اللهم إلا فروضا ما أنزل الله بها من سلطان، بل لو وصل المادية فيما بعد إلى إثبات التولد الذاتي بالتجربة فان هذا لا يزعزع(963/27)
مبدأ العلة الأولى عندنا (خلق الإنسان من صلصال كالفخار)
3 - أن نظرية التطور لا تخالها في جانب الطبيعيين بتاتا. وخير دليل على ذلك ما نراه من إلحاح الكائنات في التطور والارتقاء وكأنه غاية يعقلونها، أو أن محركهم إلى التطور يعقلها تمام التعقل، ثم تناسق أعضاء الحي الواحد تناسقا إعجازيا يقوم برهانا واضحا على المنظم البصير بأعماله. وفضلا عن ذلك تعتقد بعض الحلقات تعقدا لا يجعلها نسلمك بأن الظروف الطبيعية وحدها علة ذلك كله، أو أن كل هذا كان محض اتفاق واعتباط. هذه هي الصلة بين المذهب الطبيعي والعلم الحديث وما أضعفها من صلة وما أهونها! ولكن هيهات أن يعترف بهذا أصحاب هذا المذهب الكسيح. لكن هناك نقطة هامة يجمل بنا إجمالها قبل أن ننهى هذا المقال، وهى تدور حول نظرية النسبية للعلامة ألبرت إينشتين؛ تلك النظرية التي أرجعت هذا الكون بما حمل إلى مجرد نسب زمانية ومكانية خالصة؛ وأثبت هذا على أسس رياضية سلم بها جميع الخالصة من أصحاب الرياضة. أقولها صراحة إن ظهور هذه النظرية كانت بمثابة لطمة صعق من جرائها المذهب المادي وخر صريعا وسط الميدان.
هذه خلاصة موجزة لأهم الاعتراضات التي تقوم على هذا المذهب المتعفن. ولا يظن القارئ الفاضل أننا هنا قد وفينا هذا الموضوع بل لو كان في نيتنا أن نوفيه حقه للزم ذلك المجلدات الضخام ولكننا هنا آثرنا أن نعرض أهم الاعتراضات العامة التي تنصب على قلب هذا المذهب المنهار فتكون كفيلة بالقضاء على بقاياه.
محمد فرحات عمر(963/28)
رسالة الشعر
السودان
للأستاذ عبد اللطيف النشار
أو تدرى ما المثنى المفرد؟ ... مصر والسودان شيء أحد
هي كف ركبت في ساعد ... تجمع الشطرين في الجسم يد
جفن عين دونه مقلتها ... تمم الأبيض منها الأسود
وجرى النيل حياة فيهما ... مصدر الروح به والمورد
تقسم الأرض: إذا اليوم أبى ... أن يرى كالأمس واليوم غد
أو يحد الأرض حد بارز ... ليت شعري أي حد وجدوا
هبة النيل التي لم ينفرد ... بسمات منذ أهدى - بلد
وحد الكل على منهجه ... منذ أن كان - وطال الأمد
وجرى الدهر على عادته: ... ما ارتضى الأقوام شيئاً وطدوا
ارتضى الوادي لسانا واحدا ... معبد الكثرة فيه المسجد
أمل الشقين فيه أن يرى ... أجنبي عن حماه يبعد
وعدو الكل من يظلمهم، ... شرط أهل الود لا يعتدوا
عدد الإجرام مستعمرهم ... ما لقطر حل فيه رغد
في فلسطين رأينا يده ... خرجت عامرة تلك اليد
لو بأمريكا استمروا لندت ... اتعس البلدان حتى يطردوا
جورج واشنطون فيهم قالها ... رد صداها الأبد
(سرطان بتره أولى به) ... أهل طاغيهم عليه شهدوا
كل أرض غادروها صلحت ... كل قطر دخلوه أفسدوا
شعلة النار التي أوقدها ... بفضهم في الهند ليست تخمد
دولة الحانات في الهند سمت ... وبنو القرصان لما يولدوا
ثم كان الأمر في الهند لهم ... فإذا الأمجاد فيها تفقد
وهوت في أفقه أنجمهم ... فعلا في الهند نجم أسعد(963/29)
سيرى الوادي بشطريه متى ... ذهب المحتل مالا يعهد
جنت الهند وأمريكا المنى ... عندما انزاح العدو المعبد
وسنجني نحن أضعاف المنى ... عندما يذهب هذا النكد
وحدة التاج ويجلو جندهم ... وغد يحلو لنا، نهم الغد
النيل
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
(في الشرفة المطلة على النيل، وفي ليلة من ليالي القاهرة الساحرة، كنت أتحدث إلى الناقد الكبير الأستاذ المعداوي وكان يتحدث إلى فأرادني أن أشارك بأشعاري في معركة التحرير. وكان النيل ينساب في ضوء القمر جميلا فاتنا، فأوحى إلى بهذه القصيدة التي أهديها إلى آخي العزيز، مع مودتي وإعجابي)
نجا
من عالم في الخبال ... في موكب من جمال
وعزة وجلال ... يروى حديث المعالي
أقبلت يا ابن الليالي
غنت لك الشطآن ... وذهرها الظمآن
والطير والأغصان ... حنت ليوم الوصال
يا نيل يا ابن الليالي
لما طلعت عليها ... آتى الربيع إليها
وأينعت في يديها ... أزاهر الآمال
يا نيل يا ابن الليالي
يا منبتا في الصحارى ... نضارة وازدهارا
وفتنة لا تبارى ... منسوجة من رمال!
يا نيل يا ابن الليالي
ويا ربيع الزمان ... في كل وقت وآن(963/30)
تسري بتلك المغاني ... كالنور أو كالظلام
يا نيل يا لبن الليالي
ويا ربيب الغيوم ... من عهد فتق السديم
ويا عشيق النجوم ... من العصور الأوالي
يا نيل يا ابن الليالي
أنت الهوى والأغاني ... وأنت لحن التداني
وأنت نبع الحنان ... يسرى كذوب الآلي
يا نيل يا ابن الليالي
وأنت سر الحياة ... وأنت روح النبات
ومنشئ الجنات ... على الضفاف الخوالي
يا نيل يا ابن الليالي
وأنت رمز الجهاد ... على مدى الآباد
وأنت روح البلاد ... جنوبها والشمال
يا نيل يا ابن الليالي
شهدت فجر الوجود ... مع الزمان البعيد
وكنت سر الخلود ... من أول الآزال
يا نيل يا ابن الليالي
وعشت دهرا ودهرا ... وأنت تنساب حرا
ومن تحداك. . . مرا ... وراح مثل الخيال
يا نيل يا ابن الليالي
والآن يبغي الأعادي ... على أولى الأمجاد
فلا عدتنا العوادي ... إن لم نطر للنضال
يا نيل يا ابن الليالي
وهل ترانا صبرنا ... على العدى وانتظرنا؟
إنا غضبنا وثرنا ... على جنود الضلال(963/31)
يا نيل يا ابن الليالي
فكن حميما ونارا ... وسابق الإعصارا
وحطم الأسوارا ... هناك عند القنال
يا نيل يا ابن الليالي
إنا سنحمى حمانا ... وسوف نفنى عدانا
وتستذل الزمانا ... سيوفنا والعوالي
يا نيل يا ابن الليالي
ونحن نسل العظام ... من كل نجد همام
ونحن يوم الصدام ... نطيح بالأبطال
يا نيل يا ابن الليالي
آباؤنا علمونا ... ألا نخاف المنونا
وأن ندك الحصونا على رءوس الرجال
يا نيل يا ابن الليالي
يا نيل دمت أمينا ... ودام خيرك فينا
وعشت تطوى السنينا ... إلى الذرا والأعالي
يا نيل يا ابن الليالي
لأجل شعب كريم ... ممجد من قديم
وللمليك العظيم ... المنتمى للمعالي
يا نيل يا ابن الليالي
سلمت في خير حال ... من الردى والزوال
والأسر والأغلال ... على مدى الأجيال
يا نيل يا ابن الليالي
إبراهيم محمد نجا(963/32)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أصبح الشعب حرا في اختيار اللغة الأجنبية الأولى:
كتبت بعدد (الرسالة) الصادر في 5 نوفمبر الماضي تحت عنوان (اللغة الأجنبية الأولى) أنه لم يعد يليق بنا أن نظل خاضعين لحكم الاستعمار في فرض لغته علينا - دون غيرها - لغة أجنبية أولى.
وقد ردد هذه الدعوة بعض الزملاء، وارتفع صوت أحد النواب في البرلمان يقول: لماذا تبقى اللغة الإنجليزية لغة أجنبية أولى في بلادنا؟
وفي الأسبوع الماضي نشرت الصحف قرار معالي وزير معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف، الذي يقضى بأن تدرس في المدارس اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإلمانية، على أن تكون إحدى اللغتين الأوليين أصلية وإحدى اللغات الأخرى إضافية. ومعنى هذا القرار أن يختار الطالب اللغة الأجنبية الأصلية التي يريد أن يدرسها من بين اثنتين: الفرنسية والإنجليزية، ثم تبقى واحدة منهما تضم إلى الإيطالية والألمانية على أن يختار الطالب واحدة من الثلاث لغة إضافة. والغرض من هذا أن يكون الشعب حرا في اختيار اللغة التي يتعلمها أصلية أو إضافية، فإذا أجمع على اختيار الفرنسية دون الإنجليزية لغة أصلية فقد حرر نفسه من ربقة الاستعمار اللغوي، وقد يجمع أيضا على نبذ الإنجليزية لغة إضافية، والمهم - على أي حال - هي أن تجلى لغة أعدائنا الذين يسفكون دماءنا عن المكانة التي احتلها في مصر باحتلالهم إياها.
وقد تسأل: لماذا لم يصدر الوزير قرارا يقضى نصه بإلغاء تعليم الإنجليزية كلغة أصلية؟ خطر لي هذا السؤال أول، ثم تأملت القرار الذي صدر وقارنت بينه وبين ما يرمى إليه السؤال،
فألقيت القرار يؤدى إلى النتيجة المطلوبة، ويمتاز بأنه يتيح الفرصة للشعب نفسه أن يكون حرا في اختيار ما يريد، وخاصة أن هناك من يجادلون في هذا الموضوع، فليكن الأمر إذن للشعب، يتعلم اللغة التي يريدها.
وأنا أتوكل على الله وأحرص على تجنب لغة المجرمين السفاكين الأدنياء.(963/33)
مسرحية (دنشواي الحمراء)
قدمت فرقة المسرح المصري الحديث هذه المسرحية الوطنية الجديدة على مسرح حديقة الأزبكية ابتداء من أول ديسمبر الحالي. وهى من تأليف الأستاذ خليل الرحمي وإخراج الأستاذ زكى طليمات.
تخيل كاتب المسرحية أسرة تعيش اليوم في الإسماعيلية وقد عاشتحيث نشأت بدنشواى منذ خمس وأربعين سنة حين ارتكب الإنجليز جريمتهم المنكرة سنة1906
تظهر الأسرة على المسرح في المنظر الأول بمدينة الإسماعيلية، الأب الموتور في دنشواى يشجع ابنه الفدائي بالإسماعيلية، والأم تجزع من مخاطرات ابنها وتلوم زوجها على تشجيعه، فيذكرها الزوج بما جرى لهما في دنشواى ومن فقداه من أهلهما تحت مشانق الإنجليز هناك. وتعود بنا المناظر التالية إلى دنشواى فتعرض الحادث الذي يلعن به التاريخ طغاة الإنجليز، وتنتهي هذه المناظر بفرار الشاب عبد الرزاق (الذي هو الآن أب في الإسماعيلية) من وجه (العدالة) البريطانية التي كانت تنصب المشانق في القرية قبل صدور الحكم في القضية! وتهرب معه رزقة (الأم) ثم يتزوجان في الإسماعيلية ويقيمان فيها. وتعود بنا المسرحية إلى (دنشواى الجديدة) حيث نرى الشاب الوعي الجديد ينتقم لأسلافه في دنشواى القديمة بنسف معسكرات الإنجليز والنيل منهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
والقصة خيالها طريف، وهى ترمى إلى عرض الفظائع الإنجليزية في مصر وتصوير الروح المصرية إزاءها وإبراز الجهود الوطنية ولإيحاء بكل ذلك إلى مواصلة الجهاد لتحرير البلاد. وقد نجحت في كل ذلك نجاحا أعتقد أن أكثر الفضل فيه يرجع إلى الإخراج، فقد تجلى المذهب الإيحائي الذي يجرى عليه الأستاذ زكى طليمات، وقد بدا ذلك في تنسيق التمثيل وفي المناظر وخاصة منظر المشنقة ولون حبلها الدموي وحلوكة قوائمها والجو المحيط بها.
وقد برع في التمثيل نعيمة وصفى التي مثلت دور الأم (رزقة) وبلغت القمة في موقفها على الباب الذي اختبأ بداخله عبد الرازق هربا من رجال الادارة، وهى تحمل فأسا تريد أن تنقض به. . كانت تمثل الجزع والشجاعة في آن واحد!(963/34)
وكانت زهرة العلا موفقة كل التوفيق في تمثيل خطيبة الشاب الفدائي بل في تمثيل الفتاة الفدائية.
أما عبد الغنى قمر فكان كعهدنا به في تصوير شخصيات معينة وإبراز سماتها في خفة وظرف، فقد مثل فقيها ضريرا في دنشواي فكان صورة حية لهذا الطراز في القرى.
ومثل عبد الرحيم الزرقاني عمدة دنشواى، وأشعر أن كلمة (مثل) هنا غير دقيقة فقد كان هو العمدة نفسه. وألاحظ أن للأستاذ الزرقاني عجيبة في الاندماج بدوره.
وأجاد عدلي كاسب في تمثيل المستشار الإنجليزي المحقق في دنشواي، فكان مثالا للغطرسة والبرود السكسوني البغيض.
وكان نبيل الألفي في دور الشاب الفدائي يحتاج إلى قوة تعبيرية أكثر مما بدا منه، وكذلك محمود عزمي في دور (عبد الرازق)، مع انهما بطلا الكفاح في المسرحية. وفي رأيي أن دور الشاب أليق بصلاح سرحان الذي عرفناه بالإجادة في أدوار الحماسة والحب.
الشعر الغنائي
على أثر ما كتبته منذ أسابيع تحت عنوان (الفن للفن) في مناقشة الصديق الكريم الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري، تلقيت منه رسالة ضافية عاود النقاش بها فيما تناولت هذه الكلمة. وتشتمل هذه الرسالة على موضوعين أعرض أحدهما في هذا العدد، وهو الغناء. في الشعر العربي، والموضوع الثاني خاص بالشعبية في الأدب. وقد أثار فيما أثاره (أدب المناسبات) وأراني مضطرا لأرجائه إلى فرصة مقبلة لطول الكلام عليه، كما يعبر مؤلفو الكتب الأزهرية القديمة.
يقول الأستاذ الناصري بعد التحية والأعراب عن عدم ضيقه بما كتبت والارتياح إلى تهيئة الفرصة للمناقشة (وها أنا أهتبل هذه الفرصة لأقدم لك الدليل على أنني لم أكن المجتنى ولكنك تسرعت فكتبت دون أن تفهم مرادي، وهاك ما أنا أبغيه: قلت في معرض الحديث عن الشعر الشعبي إنه لم يجد شاعر غنائيا منذ زمان امرئ القيس حتى الآن إلا المرحوم على محمود طه، فأجبتني بقولك: ما أبقيت إذن للشعر العربي؟ هل أنا في حاجة إلى أن أقول لك إن الشعر العربي في مجموعه غنائي من امرئ القيس إلى الناصري ماذا أقول لك يا سيدي؟ أتظن أن ما حواه كتاب الأغاني من الشعر المغنى يصلح للغناء؟ إذن لماذا لا(963/35)
يستطيع المغنون المبدعون الآن الشدو بما قاله الأولون؟ أليس هذا دليلا على أن أوزان الشعر الماضية لم تكن تصلح مادة للغناء حاليا؟ ولو أن شعراء الأندلس كانوا يعرفون أن الأوزان القديمة تصلح للغناء في زمانهم لما استنبطوا الموشحات، وأنت أدرى بلا شك بما وصل إليه شعراء الأندلس من التفنن في الأوزان والخروج عن قواعد العروض. فهل بعد هذا يجوز قولك أن الشعر العربي من امرئ القيس إلى الناصري غنائي؟ أنا أعيذك يا سيدي من هذه الطرقة. . مع العلم بأن الشعر العربي عرف كل ألوان الشعر الأشعر الملاحم والمسرحيات، غير أنه وقف حائرا أمام الغناء حتى جاء على محمود طه)
وأقول للأستاذ الصديق: أنني لم أفهم غير مراده، ولو أنني لم (أتسرع) ومكثت أتأمل كلامه إلى الآن لما خرجت منه إلا بأن الشعر العربي لم يعثر على شاعر عربي غنائي بعد امرئ القيس إلا على محمود طه. . فإذا كان هذا غير المراد فما هو المراد إذن. .؟
وأراد الأستاذ الناصري أن يدلل على ما قال، فتساءل عما حواه كتاب الأغاني من شعر مغنى: هل يصلح للغناء! وأقول نعم قد فعلا وإلا ما غنى. وهل ينفى صلاحه للغناء أن المغنين الحاليين لايغنونه؟! وهل هم لا يغنونه؟ ألم يسمع الأستاذ الأغانى المختارة من الشعر العربي - الذي عاش أصحابه بين امرئ القيس وعلى طه - يغنيها عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما ومن هذه الأغاني قصائد شوقي التي قيلت فيما بين امرئ القيس وعلى طه. .
ولست أدرى لماذا اختار الأستاذ امرأ القيس دون سائر الشعراء في عصره وما بعده! وماذا يجعل شعر امرئ القيس غنائيا وشعر بن أبي ربيعة مثلا غير غنائي. .؟
ويقول إن الأوزان الماضية لا تصلح للغناء الآن. وأنا أسأله: ألست تنظم على هذه الأوزان؟ وأنت باعترافك الشاعر الغنائي الثالث في الشعر العربي بعد امرئ القيس وعلى طه، بل (أنتم الثلاثة) شعركم على هذه الأوزان، فكيفتطيع الغناء في شعركم وتستعصي عليه في شعر غيركم. .؟
وكيف علمت أن شعراء الأندلس استحدثوا الموشحات لعدم مطاوعة الأوزان القديمة للغناء؟ أو لم يغن الأندلسيون شعرا على تلك الأوزان؟
ثم تقول - يا صديقي - أن الشعر العربي عرف كل ألوان الشعر إلا شعر الملاحم(963/36)
والمسرحيات وإلا الشعر الغنائي. . . فقل لي بالله: ما هي الألوان التي تعنى أن الشعر العربي عرفها إذا كانت كل هذه مستثنيات منها. .؟ نعم انه لم يعرف الملاحم والمسرحيات، أما الشعر الغنائي فإن شعراء العرب لم يعرفوا غيره. وقد جاريتك فيما سبق على اعتبار أن الشعر الغنائي هو ما غني فعلا أو ما يصلح للتلحين والتطريب، والآن حان لنا أن ننتقل إلى ما قرره علماء الأدب المحدثون، وهو أن الشعر إما قصصي أو تمثيلي أو غنائى، ويقصد بالنوع الثالث ما يقول الشعراء تعبيرا عن خوالج النفوس كأنهم يتغنون بها، والشعر العربي كله من هذا القبيل وعلى هذا المعنى سمى الأستاذ محمود حسن إسماعيل أحد دواوينه (هكذا أغنى) والله أعلم. .
قد لا يكون
تلقيت رسالة من الأديب الفطن أحمد مختار عمر الطالب بمعهد القاهرة الديني، عقب على ما كتبته في العدد الأسبق من الرسالة بعنوان (إنه لحن فصيح) فأعرب عن ارتياحه إليه، ثم أبدى الملاحظتين الآتيتين:
1 - ويعترض الأستاذ بربري على الدكتور طه حسين لإتيانه بـ (لا) بعد (قد). ومع أن ذلك المنع في (قد) تحقيقية كانت أم تقريبية أم تقليلية فأنى لا أجد وجها لهذا المنع مع (قد) التقليلية بعد قول ابن مالك:
ولا ضطرار أو تناسب صرف ... ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف
وبعد قول ابن هشام في كتابه المغنى: (يتعين مرادفة هل لقد إذا دخلت عليها الهمزة ولا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها بل قد تأتى لذلك. . وقد لا تأتى له.
2 - وأما إنكاره على الدكتور طه حسين قوله (سوف لا يكون) فالذي أفهمه أن الاعتراض - إن وجد - إنما يكون على الفصل بين سوف وفعلها لا على نفى المسوف بها، وحتى هذا لا أرى ما يبرره، كيف فصل الشاعر بينها وبين فعلها في قوله:
وما أدري وسوف إخال أدرى أقوم آل حصن أم نساء
عباس خضر(963/37)
الكتب
أناشيد المهزلة العربية
تأليف الأستاذ محمود الحوت
للأستاذ نجاتي صدقي
أصدر الشاعر الفلسطيني الموهوب الأستاذ محمود الحوت قصيدة مطولة تقع، في ستة وعشرين نشيدا. أطلق عليها اسم (المهزلة العربية - أناشيد عربي من فلسطين ضل في الآفاق) فقدمها:
إلى القائد الذي سيسترد أول شبر.
إلى الكتيبة التي ستغرس أول بند في تربة الفردوس المغتصب.
إلى أكل من سيلبي النفير العام.
إلى الشعب العربي الأكبر.
وقد عمد الشاعر في أناشيده هذه إلى استعراض النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني وما رافقها من أخطاء، فجاءت الأناشيد سياسية تتسم باتجاهمجازى، أي أن الشاعرلا يقصد في نقده للسياسة التي اتبعتها الدول العربية في فلسطين الإعراب عن وجهة نظر سياسية معينة، فلما يقول:
لو لم يقولوا احتضناها لما وقعت ... ولا تنافر عنها الأسد كالغنم
فلا يعنى أنه لا يريد تدخل الدول العربية في القضية الفلسطينية، ولكنه ساخط على النتائج
وحين يقول:
ليت العروبة في إبان وثبتها ... لم تشهر السيف بتارا ولم تثب
ليت العروبة ما زالت تهددهم ... من خلف عسكرها المستأسد اللجب
إذن لكان لها في قلبهم هلع ... وكان بعض الذي نبغيه من أرب
فهو هنا أيضا يعرب عن ألمه لعدم تمكن القوات العربية من إحراز الانتصار، وحثها في الوقت ذاته على الأخذ بالثأر، ويتضح لنا ذلك من كلمة الإهداء.
وهكذا يسير الشاعر في أناشيده من نقد إلى نقد، وهو يشنها حربا شعراء على من وعد(963/38)
ونكت وأقبل وأدبر.
وأكرر القول بأن الأستاذ الحوت لا يبغي من (هجومه) السياسي هذا إلا استثارة العواطف، وشحذ الهمم، وهو على حق فيما رمى إليه. لأنه يخشى أن تمتد يد السوء إلى الأقطار الشقيقة المجاورة وعندها تنتقل المسألة من نكبة صغرى إلى طامة كبرى.
لقد برهن شاعرنا في ملحمة هذه على أنه فنان قدير، يتقن اختيار الكلم، وحسن الوصف والتصور فيقول في نشيده الأول:
بئس الحياة التي هان الزمان بها ... فلم تعد غير خفق صامت بدم
أي أن الحياة هذه هي خفقان القلب لا أكثر. . وهذا لعمري أقصى ما يمكن أن يقال في التشاؤم
ويقول أيضا:
صلب العقيدة ما لانت عزائمه ... كأنه في صراع المشركين نبي
تشبيه جميل للشعب العربي الفلسطيني بأنه رسول حتى يحارب الوثنية الاستعمارية.
ثم يصف وصفا أليما خروج أهل يافا هائمين على أمواج البحر فيقول:
لئن نسينا فلن ننساه ذا شره ... جهم الضمير، عبوس الوجه مصطفقا
غضبان، يهدر فيه الغمر، مائجة ... جباله، زاحفات بالردى غرقا
والناس في عرضه حيرى زوارقهم ... كالريش في عصفات الريح منطلقا
مدوا على الأزرق العاتي بساطهم ... كي لا يروا حرم الأبطال مخترقا
وهو يرى في تشتيت عرب فلسطين (طريقة) سهلة للقضاء على الشعوب المستضعفة فيقول:
من شاء إفناء جيل فليكن حذرا ... من قتلهم بالسيوف البيض والنار
يكفي فناء بطيئا فرط عقدهم ... ونثرهم غرباء الحي والدار
وأجمل ما قيل في الكونت برنادوت وفي نهايته العجيبة:
شيخ وإن قيل قد طابت ظواهره ... فنحن لم ندر ما ضمت سرائره
رمت به في فم الجلي منظمة ... رعناء فاستلم القربان ناحره
ما مزق المجرمون الكونت بل نحروا ... ومزقوا أمما كانت تظاهره!. .(963/39)
وكفر الشاعر بالزعامات، ويأتي الاجتماع بها حتى في جنات النعيم فيقول:
فهل تخلد أصناما ترقصها ... شمطاء ما روضت إلا تغابينا
لو أن جنة خلد تحتنا فرشت ... وأنتم جيزة - وردا ونسرينا
لعفتها بعد أن أمسيت مرتحلا ... في الكون قد ضل لا دنيا ولا دينا
ونقم الشاعر على الشعب الذي لا تحركه النكبات، فيقول له هذا البيت البديع:
حتى الوفاة لها يا قوم يقظتها ... قبل الرحيل إلى الفردوس أو سقر!. .
ومستهل نشيده التاسع عشر بهذه الصرخة المدوية:
فما نسينا دماء ها هنا وهنا ... غصت بها الأرض من حاب ومنطرح
إن لا نعبئ قوى التاريخ أعنفها ... والحاضر الجهم والمستقبل السمح
ونتحد أمة تفنى بها أمم ... وتنفض النوم عنها صيحة الجرح
فلا فلسطين تبقى يا رفاق لنا ... ولا الشقيقات (من أدر) إلى (رفح)
هذه صرخة كل فلسطيني شردته العدالة الديمقراطية في نهاية النصف الأول من القرن العشرين. . بل ولا تزال تمعن في تشتيته وتشريده غير عابثة بأبسط حق من حقوقه العامة ليعيش في بيته ووطنه، وغير مكترثة بحق الملكيات الفردية التي تدافع عنها بإيمان وحرارة.
وما أن يذكر الشاعر المسكين مسقط رأسه يافا، البلد الذي نشأ فيه وترعرع، والذي بنى فيه مستقبله ومستقبل أولاده، حتى استحال إلى مجموعة من الأسى والألم، فسلم أمره إلى الله بعد أن يئس من عبيده وعبدانه، وقال:
يافا، لقد جف دمعي فانتحبت دما ... متى أراك، وهل في العمر من أمد
أمسى، وأصبح والذكرى مجددة ... محمولة في طوايا النفس للأبد
كيف الشقيقات، يا شوقي لها مدنا ... كأنها قطع من جنة الخلد
ما حالها اليوم يا يافا وهل نعمت ... من بعد أن سلمت أمسا يدا بيد
وكيف من قد تبقى في مرابعها ... وقد تركناه فيها ترك ملتحد
ما بال قلبي إذا ما سرت من بلد ... يصيع من وجده في الصدر: وابدي
مهما استقام به من عيشة رفد ... وجدته هازئا يا لعيشة الرعد(963/40)
تعبت لكنني ما زلت في تعبي ... أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحد
لقد اختار الشاعر اسم (المهزلة العربية) عنوانا لأناشيده، وهو اسم عنيف، مبالغ فيه، ومن الإنصاف أن نذكر أن عددا لا يستهان به من إخواننا العراقيين، والأردنيين، والمصريين، والسوريين، قد لاقوا حتفهم في فلسطين. . أما فشلهم في التغلب على الخصم فله أسباب عديدة لا مجال لبحثها في هذا المقال
(المهزلة العربية) أسم مشتق من (المهزلة الإلهية) لدانتي، فالشاعر الإيطالي يسخر من أناس خطاة يتقلبون بين طبقات الجحيم. وشاعرنا يحمل على أناس أكثر من خطاة وجلهم في نعيم الدنيا مقيم.
(المهزلة العربية) وثيقة اتهام شعرية، ورسالة أدانه عاطفية، طبعت في بغداد، وضعت إلى (مكتبة القضية الفلسطينية) في دمشق، ونرجو مع الشاعر إلا تضم إلى المكتبة الأندلسية.
نجاتي صدقي(963/41)
المسرح والسينما
المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية
للأستاذ على متولي صلاح
كتب الأستاذ زكى طليمات في العدد الفائت من (الرسالة) فصلا عقده على الموازنة بين نظريتين من النظريات التي توضح أهداف الأدب والفن وما ينبغي أن يتجها إليها، وموقف المسرح المصري الآن من هاتين النظريتين والأحداث تغمر البلاد، والنفوس تغلى بالثورة والغضبة الكبرى؛ إذا المسرح - كما لا يخفى - جماع الأدب والفن معا.
أما النظرية الأولى فهي أن يكون الأدب والفن (لمجرد الأدب والفن، إشراقات تصفى الذوق وتصقل الروح وتنمى حاسة إدراك الجمال. وسبحات في آفاق المعاني والخيال المشتهى ولمعات ترقى بالنفس إلى أعلى مدارك النور.) كما يقول الأستاذ.
وأما النظرية الثانية فهي أن الأدب والفن لابد أن يكون كل منهما (أولا وأخيرا لمعالجة ما يشغل أذهان الناس تبعا لمشكلات حياتهم، ولتناول ما يعنيهم في كفاحهم مع العناصر التي تحيط بهم؛ ابتغاء تيسير أسباب الحياة الاجتماعية في ناحيتها الإيجابية ومعاونة الشعوب على التقدم والارتقاء.)
أي أن الأستاذ وازن بين النظريتين المعروفتين من نظريات الأدب وهما: - نظرية (الفن للفن) التي ظهرت في القرن الماضي، والنظرية (الوجودية) التي ظهرت خلال هذا القرن بل خلال أيامنا هذه، والتي أخذت براعمها تتفتح هذه الأيام وأخذت فكرتها تنتشر هنا وهناك وتلقى القبول عند الكثير من الناس في مختلف البلاد ويوشك المستقبل أن يكون لها دون سواها من نظريات الأدب الأخرى.
ثم خلص الأستاذ بعد ذلك إلى ترجيح النظرية الثانية ولكن في فترات من حياة الشعوب يكون لزاما فيها على الأدب والفن أن يكونا (خالصين متوفرين لخدمة المجتمع في أهم ما يشغله سواء كان هذا الشاغل عرضا إلى زوال، أو مبدأ قد يغير من جوهره على مر الأيام)
وكان هذا منه تمهيدا للمسرحية التي يقدمها للناس في هذه الأيام باسم (دنشواي الحمراء) والتي يقدمها كما يقول (صفعة من جانب المسرح المصري في وجه الاستعمار)(963/42)
أما المقارنة والموازنة التي أقامها الأستاذ بين هاتين النظريتين فعندي أنه لم يبق محل لها وقد ماتت نهائيا نظرية (الفن للفن) وأصبح هذا الفن الخالص - كما قلنا في كلمة سابقة - مرادفا للفن الفارغ! وأصبحت هذه الأبراج العاجية التي يقولون عنها بمثابة رفوف أو دواليب أو متاحف أو معارض للزينة والفرجة!
وليس من الأدب في شيء مالا يعالج قضايا الحياة التي يحياها الناس، لا في فترة من الفترات كما يقول الأستاذ بل في جميع الفترات على السواء، ولا في العظيم الجليل من أمور الحياة بل في الصغير الضئيل من أمورها، فليس الأدب وليس الفن حلية وزينة وزخرفا وبراقش تأخذ بالأبصار وتبهر العيون، ثم تخبو فلا أثرلها، وتذهب فلا صدى وراءها اللهم إلا نشوة ساعة!
هذه دولة قامت للأدب يوما ثم دالت ولا تحسبها تعود يوما، فالأدب الآن أشد الأشياء التصاقا بالحياة، والأدباء الآن مثلنا تماما يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، بل إن من أهم واجباتهم أن يمشوا في هذه الأسواق!
فلننظر ماذا كان عليه موقف المسرح المصري - والمسرح كما قلنا قبل هو جماع الأدب والفن - وهل استطاع حقا أن ينهض (بتغذية الوعي القومي ومساندة عقيدة النضال بتذكير الناس بما يجب أن يذكروه وبتبصيرهم بما يجب أن يكون مائلا في أذهانهم)؟؟
لقد اختارت فرقة المسرح المصري الحديث من أجل هذه الأغراض الوطنية روايتي (مسمار جحا) التي افتتحت بها الفرقة موسمها بدار الأوبرا الملكية واستمر تمثيلها بها طول موسمها بهذه الدار، ورواية (دنشواي الحمراء) التي تقوم هذه الفرقة بتمثيلها الآن على مسرح حديقة الأزبكية. فهل استطاعت هاتان الروايتان أن تحققا هذه الأغراض التي ينوه بذكرها مدير الفرقة؟ أشهد أن الحق - وهو فوق كل اعتبار - يقتضي أن أقول (لا). فلو أريد بقضية (مسمار جحا) هو (قناة السويس) في قضية وطننا كما يذهب إلى ذلك الأستاذ زكى طليمات فيما يكتب وفيما يقول. . لو أريد بها ذلك لكان إضعافا للقضية الوطنية وتهوينا من شأنها وتوهينا لقوتها وعدالتها ووضوح حجتها! فالدار كانت ملكا حلالا لصاحبها فباعها بالثمن المقبوض وبالعقد الشرعي واشترط بقاء المسمار ليجعل منه ذريعة لغشيان الدار في إلحاح وإثقال، فهل كانت مصر ملكا حلالا للإنجليز فباعونا إياها بالثمن(963/43)
المقبوض وبالعقد الشرعي واشترطوا بقاء قناة السويس ليجعلوا منها ذريعة لاحتلال مصر؟ والغريب أن الأستاذ المؤلف لم يذهب هذا المذهب الذي ذهب إليه الأستاذ المخرج ولم يعقد هذا القياس بين القضيتين!
. . . أما مسرحية (دنشواي الحمراء) فالأمر فيها أدهى وأمر، فما دنشواي - في نظر الحق والصدق - إلا صفحة مخزية للخيانة الوطنية من كبار المصريين!! وهيهات أن يتجه الذهن عند ذكر دنشواي إلا هذه الخيانات العظمى التي ارتكبها فريق من المصريين والتي كانت المبرر لما ارتكبته الإنجليز من فظائع وويلات اقترحها عليهم المصريون بل قضى بها المصريون قضاء له صورة الحق وإطار العدالة!!
على أن المسرحية امتدت إلى تصوير ما يجرى الآن من حوادث في القنال على أنه (دنشواي الحديثة) فقصرت تقصيرا شديدا في إبراز جوانب الوطنية المصرية المتأججة في الصدور هذه الأيام، وليس أدل على ذلك من إنها أغفلت أهم مظهر وطني بل أهم حدث وطني رائع جليل وأعني به موقف العمال المصريين هناك!! هؤلاء العمال الذين كانوا أول مسمار في نعش الإنجليز؛ هؤلاء الذين طووا بطونهم على الجوع وتركوا موارد أرزاقهم وأبوا أن يكونوا مع الغاصبين والبلاد جميعها تنادى بنبذهم وطردهم!!
وأغفلت كذلك موقف الجنود المصريين وقد انقلبوا بين عشية وضحاها إلى صفوف الشعب وفي كتائب الشعب يرمون أعداءه ويحمون أبناءه، وقد كانوا من قبل سواعد الإنجليز فيما ينزلون بأبناء البلاد من عسف واضطهاد. .
وأغفلت كذلك موقف (الحكومة) وقد صارت إليها قيادة الثورة في البلاد! حتى أصبح الوزراء يقومون وهم في دست الحكم بما لم يكونوا يقومون به إلا يوم يعتزلون هذا الحكم ويمشون في ركاب الشعب كالجبان الذي إذا ما خلا بأرض طلب الطعن وحده والنزالا!
إن هذه المسرحية لم تستطيع أن تصور هذه الظواهر الجديدة الهامة، ولا أفهم أن تذكر حوادث القنال دون أن تذكر هذه الأشياء.
والذي يبدو، أنها كتبت على عجل، وأنه أريد لها أن تسبق إلى الظهور قبل أن تمتد إلى موضوعها يد أخرى! وما يمثل هذا يكون الفن، فالفن أناة ومهل وتأمل. والفن ليس سابقا في ميدان ينال فيه الفائز الأول الجائزة الكبرى!(963/44)
على متولي صلاح(963/45)
البَريدُ الأدَبَي
إلى صاحب الرسالة:
للرسالة تاريخ مجيد. تاريخ نهضة أدبية موفقة، كنت أنت يا صاحب
الرسالة لها مشعلا، وكان أقرانك الآخرون حماة. وكنت أنا - رعاك
الله - أحد المعجبين بها ولا أزال، لأنها حلقة (اتصال). . بين
المدرسة المخضرمة والمدرسة الحديثة.
كنت أقرأ لك المقالات البليغة فيسحرني رفيع معنى ودقة تعبير وسامي بيان. وأعيش الساعات بين صفحات (وحيك) فأنعم بخير أنيس. . وخير أنيس في الزمان كتاب.
والآن. . والشرق يجتاز أحرج الفترات في تاريخ نضاله ضد البربرية والهمجية. والشعوب المستعمرة تنفجر فيها براكين الثورة على غاصبي الحق، وسافكي الدماء، ولصوص البشرية. على البرابرة الذين نعتهم المعداوي (بأنهم مثاليون في الأنانية والجشع، وضيعة الضمير والخلق، وانحطاط الشعور والإنسانية، وانتقاء العدل والإنصاف، وتلك هي العناوين الضخمة التي يسطر تحتها كلماته الخالدة حين يعرض للحكم البريطاني في كل أرض سكنها الأحرار في كل زمان ومكان!)
نعم! في هذه الفترة القائمة. وبين دخان البارود المتكاثف في سماء القناة وميادين الخرطوم لا أسمع لصوتك نبأة ولا أرى لقلمك خطا!
أليس بكاف أن تكون أنت صاحب (الرسالة)! وهل رسالة الأديب سوى قيادة الجماهير إلى حياة حرة كريمة ومجتمع راق سعيد؟
يا صاحب الرسالة هذا صوت ينحدر إليك من أقاصي الجنوب، صوت كله ألم وحرارة، صوت يطلب منك أن تنزل من برجك العاجي إلى الشعب في معركته. . معركة الحرية والشرف والكرامة.
فهل أنت لندائي مجيب؟ وفي الختام أقدم إليك وأنت في الشمال تحية إخوان لك في الجنوب (إخوان لك في الله والدين والوطن). إليك يا صاحب الرسالة تحية كفاح صلب وإيمان عميق.(963/46)
نور سودان
حسين بارزعة
(الرسالة): أشكر الأخ الفاضل جميل رأيه وحسن ظنه. ولعل في افتتاحية العدد الماضي من الرسالة جواباً عن سؤاله.
حول اللحن الفصيح:
رعى الله الأديب اللامع الأستاذ (عباس خضر) حين أطلق هذه التسمية على مقول العالم الجليل معالي الدكتور طه حسين باشا: (يريدون أن يضحكوا من رؤساء التحرير والصحف (فيدخلون) عليها فصولا نشرت على أنها لم تنشر)
نقول: حياه الله، فقد أبدع في التسمية، ووفق في تحقيق المقام، ودل على سعة الأفق في الفهم، وكنت أعددت ردا على الأستاذ (بربري)، لكني آثرت المهلة لأرى محجة الأستاذ الأديب (خضر) حتى طالعت إلمامه الشاملة الجامعة بالعدد (691) من الرسالة الزهراء. .
لكن بقي في النفس شيء، أود تحقيقه توكيداً لفصاحة اللحن المزعوم، فإن العبارة (يريدون أن يضحكوا فيدخلون) برفع الفعل المعطوف سليمة من كل عيب، نابضة بالعروبة الأصيلة بحسب الذوق والتقعيد.
إن العلم يقول: (المفعول به قيد في الجملة)، والمصدر المؤول من أن والفعل في (أن يضحكوا) واقع موقع المفعول به، وتقدير الكلام: (يريدون الضحك) فالفعل المنصوب في واقع الأمر يؤدى مؤدى إكمال (يريدون؛ أما (فيدخلون) فأمر آخر، إذ يراد النص على حدثين (الإرادة والإدخال)، ومقتضى هذا أن يكون العطف المرتب لهما مستدعيا رفع الفعل المضارع المغلوط رفعه في الوهم! ذلك ما نراه ويراه - في اعتقادنا - العلم الصحيح، وتكون الدعوى المهولة من الأستاذ بربري لها مكان البطلان!
لقد سقنا هذا التحقيق من دون ارتجال، فالعلم المرتجل مصيره الزوال، لكنا اعتمدنا على قول ابن هشام في التوضيح: (وقينا الفاء بالسببية ليخرج ما كان منها للعطف على الفعل، أو الاستئناف نحو: ولا يؤذن لهم فيعتذرون)
وبعد، فما أجمل تسمية الأديب المبدع الأستاذ (خضر)! وما أجل العلم إذا بعد عن شهوة(963/47)
النفس، وتشهى الأغلوطة فيما هو أبلغ من الفصيح!
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
(وارف) و (ويرف):
كتب الأديب عبد الحميد الرشودي كلمة بالعدد (962) من الرسالة أنكر فيها على الأستاذ الشاعر إبراهيم محمد نجا قوله: (كما انطوى في القيظ ظل وريف). وذكر أن الصواب (. . ظل وارف)، وأن هذا الاستعمال خطأ شائع.
وقد أخطأ الأستاذ الرشودي في ذلك، فكلا التعبيرين صحيح لا شيء فيه؛ وذلك لأن (وريف) مصدر (ورف)، بفتح الفاء والعين، يقال: ورف الظل وريفا إذا اتسع وامتد. وقد ورد عن العرب كثيرا وصفهم بالمصدر فقالوا: هذا رجل عدل، ورضا، وزور، بفتح الفاء وسكون العين، وفطر، بكسر الفاء وسكون العين، وإلى ذلك يشير ابن مالك بقوله:
ونعتوا بمصدر كثيرا ... فالتزموا الإفراد والتذكيرا
وذلك إما على التأويل بالمشتق أي عادل، ومرضى، وزائر، ومفطر، وهذا هو رأى الكوفيين، وإما على تقدير مضاف أي ذو عدل، ورضا. . الخ، وهذا البصريين، وإما على إرادة المبالغة يجعل الموصوف هو نفس العدل، ونفس الرضا. . الخ. وكل هذا يقال هنا. ويكون المعنى حينئذ إما على تقدير مضاف أي ظل ذو وريف أي اتساع وانتشار، وإما على تأويله بالمشتق، وإما على إرادة المبالغة.
وإذن: فالتعبير صحيح لا غبار عليه. ولعل الشاعر تعمده ليؤدى ما يريده من المبالغة والتكثير.
أحمد مختار عمر
بالجامعة الأزهرية
(1) خطأ عروضي:
في قصيدة (الشعور المكبوت) بالعدد (961) من الرسالة الأثيرة وقفت عند هذا البيت:(963/48)
(وتلالها لكين منهما ثالث=جن فهل رد عقله المستعارا)
فهو من بحر الحفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) مرتين. . وقد تعثر وزنه فانكسر. . فهل للشاعر الأستاذ النشار أن يصلحه ليستقيم ميزانه. وتسلم القصيدة الفريدة في معناها ومبناها!
(2) مهيب لا مهاب:
لعل الأستاذ مطر حين قال في قصيدته (من الأعماق) بالعدد المذكور:
(تحررنا من الأغلال فانهض=سليل المجد مرموقا مهابا)
لعله قصد من كلمة (مهابا) إلى ما تؤديه كلمة (مهيب) يهاب فهو مهيب ومهوب، أما مهاب التي وردت في البيت فهي من (أهاب) به يهيب به إذا زجره عن الشيء فهو مهاب أي مزجور. فهي على المعنى المراد للشاعر في البيت خطأ صوابه (مهيب) بفتح الميم كما أوضحت الآن.
محمد محمد الأبشيهى
المدرس بنبروه الثانوية
جلال الدماء في القنال:
إن لهذه الدماء المصرية التي أريقت بغيا وظلما في ساحة القنال جلالا، يجب أن تقدره مصر حق قدره، ويجب أن لا يغيب عن مصري واحد، إن هذه الدماء عزيزة على نفسه عزة دمائه عليه، وأنه لن يستريح له بال ولن يهدأ له خاطر حتى يثأر لها من أعداء الإنسانية والمروءة والرحمة من قراصنة العالم، ومجرى الحروب، وقطاع الطرق. . . أحفاد بريطانيا.
وكأني بالقاهرة المدللة النشوى لم تستيقظ بعد، ولم يطن في أسماعها التي أصمها اللهو والصخب دوى الرصاص على قنال السويس، فهي لا تزل ساردة في عبثها ولهوها، ومجونها وصخبها، وكأن شيئا لم يحدث في بقعة من أعز بقاع مصر. . هي هي كما كانت من قبل ملاهيها وحاناتها وسهراتها، حتى الإذاعة المصرية (النابهة) لا تزال تفرض على الشعب المنكوب الأغاني الساقطة والموضوعات التافهة، والتمثيليات الهزيلة، والفكاهات(963/49)
المنكرة.
ألم تكن هذه الفترة الخطيرة المتأججة كفيلة بأن تحمل القاهرة على الحد من شرورها؟ والملاهي والمسارح والحانات والسهرات على الحد من غلوائها؟ والإذاعة البلهاء على الحد من سفسافها ومهازلها، إجلالا لهذه الدماء المصرية التي أهرقت في سبيل مصر؟
بهيجة المنشاوي
سكرتيرة جماعة السيدات المسلمات بالقاهرة(963/50)
القصص
من قيد إلى قيد
للشاعر الفيلسوف رابندرانات طاغور
(سرقة من خزانة الملك!)
ذهبت هذه الصيحة تطوي المدينة طيا. لابد أن يقبض على السارق حتى لا يصيب قائد الحرس أذى.
وكان فاجارسن قد هبط إلى الثغر غريبا عن أهله ليبيع جياداً في المدينة؛ فسقط عليه عصبة من اللصوص سلبته كل ما كسب، وألجأته إلى أطلال معبد خارج أسوار البلدة. فألقوا عليه التهمة، واقتادوه مغللا إلى السجن مجتازين به شوارع المدينة.
وكانت (شياما) المتجبرة ذات الجمال الفتان جالسة في شرفها تطل في تراخ على الجمع المار. فإذا هي ترتعد فجأة وتصيح بوصيفتها: (وا أسفا! من ذلك الشاب ذو الوجه النبيل والجمال النوراني؟ ذلك الذي يرسف في الأغلال كأنه لص؟ سلي رئيس الجند بأسمي يأت به إلى).
وجاء رئيس الحراس بالسجين وقال لشياما:
ليس في الوقت متسع لإجابتك يا سيدتي إلى ما ترغبين؛ فعلى أن أهرع إلى الملك إطاعة لأمره).
ورفع (فاجارسن) - سريعا - رأسه، وصاح:
(من أغراك يا امرأة بأن تأتى بي من الطريق لتسخري منى بفضولك العجيب؟
فقالت شياما:
(أسخر منك! إنه لحبيب إلى أن أنزع حلى فأضع مكانها أغلالك!)
ثم التفتت إلى رئيس الجند وقالت:
(إليك كل ما ملكت بيميني وأطلقه حرا)
فانحنى الرجل وقال:
(ليس الأمر في وسعى. لابد من ضحية نطفئ بها غضب الملك)
فتوسلت إليه شياما قائلة:(963/51)
(أنني لا أطلب للسجين غير مهلة يومين)
فابتسم رئيس الجند ووافق.
وفي نهاية الليلة الثانية من اعتقال فاجارسن رتل السجين صلواته، وجلس في اللحظة الأخيرة يكتب وإذا بالباب يفتح وبالمرأة تدخل حاملة في يدها مصباحاً. ثم أشارت فحل الحارس وثاق السجين، فقال الشاب:
(لقد جئت إلى بهذا المصباح - أيتها المرأة الرحيمة - كما يطلع الفجر بنجمة الصبح بعد ليلة حمى وهذيان)
وصاحت شياما:
(رحيمة حقا!) وانفجرت ضاحكة حتى سالت من عينيها الدموع، وصرخت قائلة:
(ليس بين أحجار هذا السجن ما هو أصلب من قلب هذه المرأة وأقسى.) وأمسكت بيد السجين فاقتادته خارج الأبواب.
أشرقت الشمس على ضفاف الفارونا، وكان زورق على المرسى، قالت شياما:
(تعال معي في هذا الزورق أيها الشاب النازح، وحسبك أن تعلم أنى قطعت كل أعلالك، وأنى معك في هذا القارب)
وانزلق القارب. في هينة ولين، وغردت الطيور في مرح وحبور، وقال فاجارسن
(خبريني يا غرامي! بأي ثروة اشتريت حريتي؟) فقالت شياما:
(هيه!. . . ليس الآن. . .)
تكبدت الشمس وعادت نساء القرية إلى دورهن وثيابهن تنز بعد الاستحمام، وجرارهن ممتلئة بالماء، وانفضت السوق فالتمتع بالشمس طريق القرية الخالي. . .
وهبت نفحات الظهر الدافئة فأزاحت النصيف عن وجه شياما، فهمس فاجارسن في أذنيها:
لقد أخرجتني من غل يزول إلى غل يدوم مدى الحياة. ذريني أعرف كيف فعلت؟
فأسبلت المرأة النصيف على وجهها وقالت: ليس الآن يا حبيبي. . .
وأعطش الليل، وراح النسيم الوانى، والتمع الهلال الليل على حواشي الماء ذي السواد الحديدي.
وجلست شياما في الظلام، وأراحت يدها على كتف الشاب، ونام شموها بين ذراعيه(963/52)
وهمست في خفوت!
لقد أتيت من أجلك أيها الحبيب أمرا إذا؛ بيد أن أخبارك به أشد وأقسى. لأكشفنه لك في كلمات قصار: لقد حمل عنك أغلالك بوتيجا، وهو فتى شفه الحب وأضناه الهوى؛ وادعى الجريمة وأهدى إلى حياته. . . في سبيل حبك اقترفت ما اجترمت يا أعز حبيب!
كانت تتكلم والهلال الشاحب يضوي ويزول، والطيور تأوي إلى أوكارها فتسلم الغابة لسكون عميق.
وانسل ذراع الشاب في هدوء من حول خصر المرأة وتصلد الصمت من حولها واستحجر في الآذان. .
وجثت المرأة فجأة عند أقدامه، وتعلقت بركبتيه صائحة: غفرانك أيها الحبيب غفرانك! دع العقاب لله؛ هو يجزيني على ما قدمت يداي!
وانتزع فاجارسن ساقيه بعيدا، وصاح في صوت أبح:
تشترين حياتي بثمن الخطيئة! لعنة الله على كل نفس من أنفاس حياتي!
وهب واقفا؛ وقفز إلى الشط من القارب، وغاص في ظلام الغابة، وظل يسير ويسير حتى انقطع به الطريق، واستوقفته الأدغال المتكاثفة والأشجار الملتفة.
وجلس على الأرض متعبا. . ولكن من هذا الذي تبعه في صمت طوال الطريق المظلم، والذي يقف الآن كالشبح وراءه!
وصاح فاجارسن: (هلا تركتني!)
وهوت عليه المرأة في لحظة، وأغرقته بدلها، وغطته بشعرها المتهدل، وأثوابها الجرارة، وأنفاسها المترددة، وصاحت في صوت خنقه العبرات المحتبسة:
لا. لا. لقد اجترمت لأجلك فاقتلني إذا شئت؛ دعني أموت بيديك!
وارتعش ظلام الغابة الراسخ لحظه؛ وسرى الرعب في جذور الأشجار المتغلغلة في جوف الأرض وارتفعت تحت جناح الليل آهة مكتومة، وأنفاس مضطربة، وسقط على الأوراق الذاوية جسد.
توهجت شمس الصباح على مسلة المعبد البعيد، وبرز فاجارسن من الغاب، وظل النهار بطوله يهيم بجوار النهر صاليا بحرارة الشمس لا يفتر لحظة.(963/53)
وفي الليل ارتد إلى القارب على غير هدى، فوجد على الفراش سوارا، فقبض عليه إلى قلبه حتى أدماه، وانبطح على الوشاح الأزرق المتكوم في الزاوية فأخفى وجهه بين طياته وأراد أن يجتر من نعومة جريره، وشذا عبيره ذكرى جسد حي حبيب. . .
وترنح الليل في صمت ثقيل راجف، واختفى القمر وراء الأشجار، ووقف فاجارسن مادا ذراعيه إلى الغاب مناديا: (تعالى إلى غرامي! تعالى إلى!)
وانبعثت من الظلام فجأة شبح وقف على شفير الماء. (تعالى إلى يا غرامي! تعالى إلى!)
(لقد جئت يا حبيبي، ولم تستطيع يداك العزيزتان إزهاق روحي، قدر على أن أعيش)
وجاءت شياما. . . ووقفت بازاء الشاب فنظر في وجهها، وتقدم خطوة ليضمها بين ذراعيه. ثم قذفها بكلتا يديه وصاح
(لماذا؟ آه! لماذا عدت؟)
وأغمض عينيه، وأشاح بوجهه، وقال
(أذهبي. . . أذهبي. . . دعيني)
ووقفت المرأة لحظة، ثم ركعت عند قدميه وانحنت كثيراً. وهبت ويممت نحو الشط وغابت في ظلام الغاب كحلم انبعث من نوم. وجلسفاجارسن في القارب صامتاً وحده، وقلبه يدمى
ش. ع(963/54)
العدد 964 - بتاريخ: 24 - 12 - 1951(/)
سبعون عاما!
نعم، سبعون عاما طوالا ثقالا لبثناها تحت نير الاحتلال، نحرث وهو يسوق، ونزرع وهو يحصد! ما كان أصبرنا على النار! وما كان أرضانا بالذل والصغار!
كنا نصبر لأن قلتنا كانت لضعفها لا تستطيع. وكنا نرضى لأن كثرتنا لجهلها لا تدري. والضعف منذ كان سبيل المستأسد إلى الافتراس. والجهل منذ كان دليل المستعمر إلى الفريسة. وهل تنكر طبيعة الحيوان أن يلتقم الحوت الشبوط، أو يلتهم الأفعوان الأرنب؟ أم تنكر مدنية الإنسان أن يستذل الأمريكان السود، أو يستغل الإنجليز الهنود؟ تلك سنة الله في الخلق، لا يبدلها دين ولا يعدّلها علم ولا يعطلها مدنية
سبعون عاما طوالا ثقالا قضيناها تحت سلطان الدخيل الباغي أن له ظلا كثيفا يحجب النور، وزفَرا خبيثا يضعف الشعور، وإشعاعا وبيئيا يسمم الحياة. فلما أراد الله لظله الثقيل أن يخف، ولزفره الوبيل أن يقل، ولإشعاعه المميت أن يتراجع، نفذ إلينا ضوء العلم فرأينا، ورف علينا روح الأمل فتقوينا، وأصبحنا نحن أبناء العرب الذين فتحوا الأرض، وحفدة الفراعين الذين مدنوا الناس، وجها لوجه أمام أبناء القراصين الذين لم يروعوا إلا التجار، وحفدة الصيادين الذين لم يفزعوا إلا الأسماك، نقارعهم بالحجة في مجالس الرأي فنقرعهم، ونصارعهم بالقوة على ضفاف القتال فنصرعهم. فإذا أقلقهم الخوف، وأرهقهم الجزع، وتخطفهم الموت، سلطوا آلات الدمار على البيوت الآلهة، وأطلقوا قذائف النار على الجموع الغافلة؛ حتى إذا نهض لإغاثة الأهلين رجال الشرطة، وعددهم لا يربى على المائتين، وسلاحهم لا يزيد على البنادق، زحف عليهم عشرة آلاف من آكلي البفتيك وشاربي الوسكي، تتقدمهم مئات من الدبابات والمصفحات، وتصحبهم آلاف من المدافع والرشاشات، وتعلوهم أسراب من النفاثات والقاذفات؛ ثم يعود الأبطال من المعركة (الشعراء) وقد امتقعت الوجوه الحمر، وانقطعت القلوب السود، تتقدمهم سيارات الصليب تنقل الجرحى، وتصحبهم ناقلات الجيش تحمل القتلى، وتعلوهم غبرات الخزي تغشى الجباه ويرجع رجال الشرطة إلى أقسامهم متهللين مختالين يقولون في عجب ودهش وسخرية: أهؤلاء هم الذين جثموا على صدر الوادي سبعين عاما جثوم الكابوس المهلك لا يتحلحل ولا يريم؟ الآن وقد رأيناهم عن عيان، وعلمناهم عن يقين، ندرك الحكمة في أنهم منعوا جيشنا السلاح والتدريب، وحرموا شعبنا العلم والتهذيب، فإنهم لا يسودون إلا في(964/1)
الجهل، ولا يستفيدون إلا من الضعف. فإذا ابتلاهم الله بأمة مؤمنة صابرة قوية مستعدة، تكشف سترهم، وتفضح سرهم، صاولوا عداوتها بالمعارضة، ثم حاولوا صداقتها بالمفاوضة، ثم هجموا عليها بالدهاء والرجاء والمصانعة؛ فإذا لم يغن عنهم كل أولئك سلموا لها بالأمر الواقع. فترضى العجوز الشوهاء أن تأكل من فضلات باكستان، وأن تريق ماء وجهها الدامي في سبيل حصة من زيت إيران!
أحمد حسن الزيات(964/2)
محنة مصر محنتنا
للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي
رئيس تحرير (البصائر) لسان جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين
تعاني مصر العزيزة هذه الأيام، ما يعانيه الحر الأبي أكره على الضيم، وأريد على ما لا يريد، وجرع السم مدوفا في الحنظل، وقطعت أوصاله وهو يشعر، واستبيحت محارمه وهو يسمع ويبصر حتى إذا استيأس من الإنصاف ونفذ صبره خطا الخطوة الفاصلة، وأقدم على تحطيم القيد بنفسه، وعلى تمزيق الصحيفة التي أملتها القوة على الضعف فقبلها مكرها كمختار؛ وكانت أهون الشرين، فأصبحت - بحكم الزمان - أثقل الخطبين.
سمعت مصر على حل العقدة التي عقدها السيف يوم التل الكبير، وأحكم المكر عقدها بعد ذلك في سلسلة من الأعوام بلغت السبعين، صاحبتها سلاسل من الأحداث والأسباب المصطنعة زادت العقدة تأربا واستحكاما، وسلاسل من الوعود المنومة تكررت فألفت وفقدت التأثير؛ وفتحت مصر عينيها على أفظع ما تفتح عليه العيون: تغرم ليغنم الإنجليز، وتجوع ليشبع الإنجليز، وتموت ليحيا الإنجليز، وينهدم مجدها ليبنى بأنقاضه مجد الإمبراطورية الإنجليزية، ويفرض عليها أن تعيش غريبة في وطنها، وأن تعاون على طمس حضارتها ومسخ عقليتها، والانسلاخ من شرقيتها، والنسيان لماضيها، وأن تنتبذ من أهلها مكانا غربيا. . . وأن تجفف النيل لتفهق به مشارع التاميز. . .
صممت مصر على إحدى الخطتين، فكانت التي فيها الشرف والكرامة، بعد أن استنفدت التجارب، وأستفرغت الجهود، وبعد أن استعرضت الماضي بعبره وشواهده، فرأت أن ساعة من العمل خير من ألف شهر في الكلام، وأنها تمارس خصما إن استنجزته الوعد طاول، وإن تقاصرت أمامه تطاول؛ فخطت هذه الخطوة واثقة مستبصرة، وتركت للأقدار ما وراءها، كما يفعل المظلوم المستيئس من إنصاف ظلمه، ومن نصر النظارة: يركب الحد الخشن، ويعتمد على نفسه، وينادي ربه: (أني مغلوب فأنتصر).
رأت مصر - كما رأينا وكما رأت الشعوب المستضعفة - أن السنة قد انعكست، فأصبحت(964/3)
أيام الحرب أكثر عددا من أيام السلم، وأن لصوص الاستعمار تشغلهم الحرب عن السلم، ولم تشغلهم السلم عن الحرب، فأصبحوا في حرب متصلة الحلقات
وعلمت مصر - كما علم غيرها - أن الشعار الكاذب لحرب 14 - 18 هو وعود المتحاربين للأمم الضعيفة بأن نهاية الحرب هي بداية تحريرهم فليسكتوا إلى حين، لأن السلاح خطيب يجب الإنصات له، ويحرم الكلام معه، فلما انتهت تلك الحرب أمعن اللصوص المنتصرون في استعباد المستضعفين، وصمت آذانهم عن سماع أصواتهم. وجاءت حرب 39 فتجددت تلك الوعود بألفاظها، وزيدت عليها نون التوكيد المشددة، وسيقت تلك الشعوب الموعودة على نغماتها إلى جهنم بأوزار غيرها، ولمنافع غيرها. فلما خفتت المعامع، وسكتت المدافع، عادت طبيعة الكذب والإخلاف إلى مستقرها من نفوس اللصوص، وعادت الحالة إلى أشنع مما كانت عليه من تحكم واستعباد. وما انتهت تلك الحرب حتى ظهرت عليها أعراض الحمل بحرب أخرى ثالثة، وأصبح العالم كله استعدادا لها، وأوجد الطغاة العالون في الأرض بذاك مرخصا لطغيانهم ولإسكات الأصوات المطالبة بالتحرير؛ وعادت نوبة المماطلة والتسويف والوعود الكاذبة والتعلل بأن الحرب على الأبواب، فلنحتفظ بهذه الأبواب، وبأن الديمقراطية في خطر، فلنتعاون على إنقاذها مجتمعين قبل كل شيء ثم تتناصف. وهم لا يريدون من الديمقراطية إلا سيادتهم واستعلاءهم وتحكمهم في الشعوب والأوطان واستئثارهم بقواتها وخيراتها، فقالت مصر: إذا كانت الحرب لم تنصفني مع احتراقي بنارها، وكانت السلم لا تنصفني مع اضطلاعي بوسائلها وتمهيدي لأسبابها، فلأنتصف لنفسي، ولآخذ حقي بيدي. . . فأقدمت، وجاءت بها غراء شهرة الأعلام، وسنتها سنة حسنة لها أجرها وأجر من عمل بها، ممن ضاقت به الحيل، واشتبهت عليه السبل. ولعمري لئن سبقها إلى هذه المنقبة رجال من فارس، ليلحقنها فيها رجال من العرب الأشاوش. . .
الآن. . . يا مصر. الآن وقعت على مفتاح القضية، وقد أقدمت فصممي، وأحذري النكول والتراجع فإنهما مضيعان للفرصة. اجعلي من أرضك صعيدا واحدا وأجمعي أبناءك كلهم فيه صفا واحدا بقلب رجل واحد، على الحفاظ والنجدة والاستماتة في حقك والموت في سبيله؛ واجعلي على وجهيك وجها واحدا مستبين القسمات، واضح السنن، يراه عدوك فلا(964/4)
يرى إلا الحق مشرقا، والغضبة بارزة العنوان.
إن بين السبق والتخلف خطا دقيقا يتجاوزه الحر الأصيل فإذا هو مستول على القصب. وإن بين النصر والهزيمة خطوة ضيقة يخطوها الشهم الشمرى فإذا هو حائز للغلب. وإن المعالي شد حيزوم، وشحذ عزيمة، وتلقيح رأي سديد برأي أسد، وتطعيم عقل رشيد بعقل أرشد؛ ثم استجماع للقوة الداخلية كما يستجمع الأسد للوثبة.
ليت شعري. . لو لم تصنع مصر ما صنعت، فماذا كانت تصنع؟ أكانت تستخذى للغاضب فتبقى مقيدة به، يعادي فتعادي بلا سبب، ويحارب فتحارب بلا أجر ولا غنيمة، ويرضى فترضى بلا موجب، ويواصل فتواصل على مضض؟
وكنا نظن أن الإنجليز راجعوا بصائرهم، وأخذوا من تأديب الزمان بنصيب، ومحو سيئة الاستعمار بحسنة التحرير، وسنوا للمستعمرين الجائعين سنة التعفف - يوم حرروا الهند وباكستان - على ما في ذلك التحرير من شوائب - ويوم أعانوا سوريا ولبنان على التخلص من البلاء المبين. كنا نعتقد أَن تلك البوادر من إنجلترا - لو تمادت عليها - أصلح لها وأبقى على شرفها؛ لأن من ثمراتها أن تصير خصومها أصدقاء وأعوانا، ولكن معاملتها لمصر هذه المعاملة القاسية التي انتهت بالأزمة الحالية - كذبت ظنوننا، وسفهت اعتقادنا، وأقرت أعين المستعمرين أعداء التحرير
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المعبرة عن إحساس الشعب الجزائري كله، تعلن تأييدها للشعب المصري وتضامنها معه في موقفه الحازم؛ ولا تصدها عن أداء واجبات الأخوة هذه الحدود الوهمية التي خطها الاستعمار بين أجزاء الوطن الواحد، ولا هذه السدود الواهية التي أقامها بين أبناء الوطن، لأن العواطف الجياشة كعثانين السيل لا تردها حدود ولا سدود.
وجمعية العلماء تحيي جهود الشعب المصري المجاهد في سبيل حريته واستقلاله، وتدعو له بالثبات في هذا المعترك الضنك، وبالانتصار في هذه المرحلة الحاسمة؛ وأن يكون انتصاره آية من الله يثبت بها عزائم المستضعفين، ويحل بها ما عقد الأنوياء. وإن الشعب الجزائري حين ظهر بهذا الإحساس الشريف الطاهر نحو أخيه الشعب المصري - إنما يقدم جهد المقل من قلوب ملؤها الحب لمصر، والاعتزاز بأخوة مصر، والإعجاب بما(964/5)
صنعت مصر. وإنه يعتقد أن كل مصري يخرج من إجماع مصر فهو مدخول العقيدة، مغموز النسب، وأن كل عربي لا يؤيد مصر، فهو عاق للعروبة، ناكث لعهدها؛ وأن كل مسلم لا يعين مصر بما يملك فهو مارق من الأخوة الإسلامية الشاملة
البصائر
محمد البشير الإبراهيمي(964/6)
معركة الذباب!
للأستاذ محمود أبو رية
قامت في الشهور الأخيرة معركة حامية بين مجلتي لواء الإسلام والدكتور حول حديث الذباب فالأولى تتمسك بهذا الحديث وتصر على إثباته ليأخذ الناس به ويصدقوا بمدلوله مرتكنة على أن كتب الحديث قد أوردته ومنها البخاري. وأما الثانية فتدفع هذا الحديث وتستبعد صدوره عن النبي الذي لا ينطق عن الهوى؛ وحجتها ما أثبته العلم وحققته التجربة من ضرر الذباب وأنه ناقل للعدوى في أمراض كثيرة.
وإن المرء ليأسى أن يقوم إنسان في هذا العصر الذي زخرت فيه بحار العلم وأخرجت من درر المخترعات والمستكشفات ما يدهش العقول، وتسابق أهلوه في مضمار العلم ما استطاعوا للانتفاع بما خلق الله لهم وسخره لعلومهم في السماوات والأرض متخذين في ذلك كل سبب من أسباب العلم والتجربة - فيشغل الناس بهذه الأبحاث العقيمة التي لا تنفع ولا تفيد بل هي إلى إساءة الدين أدنى وإلى ضرر الناس أقرب
ولقد كان جديرا بمجلة لواء الإسلام التي نرى بين محرريها علماء فضلاء أمثال الأستاذين عبد الوهاب خلاف بك وعبد الوهاب حموده بك أن تسود صفحاتها بسطور مثل هذا البحث العقيم الذي يفتح ولا ريب على الدين شبهة يستغلها أعداؤه ويتوارى منها أولياؤه. وأن تدع الأمر في مثل هذا الحديث إلى العلم وما وصل إليه بأبحاثه الدقيقة وتجاربه الصحيحة التي لا يمكن نقضها ولا يرد حكمها!
وماذا يضر الدين إذا أثبت العلم ما يخالف حديثا من الأحاديث التي جاءت من طريق الآحاد، وبخاصة إذا كان هذا الحديث في أمر من أمور الدنيا التي ترك النبي صلوات الله عليه أمرها إلى علم الناس. وهل أوجب علينا الدين أن نأخذ بكل حديث حملته كتب السنة أخذ تسليم وإذعان! وفرض علينا أن نصدقها ونعتقد بها اعتقادا جازما!
إن الأخذ بكل ما جاء في كتب الحديث أخذ تسليم وإذعان إفراط في الثقة لم يأمر العلم ومخالف لما وضعه العلماء من قواعد لعلم الحديث. ذلك بأن الذي يجب التصديق به واعتقاده إنما هو الخبر (المتواتر) فحسب؛ وليس عندنا كتاب يجب اعتقاد كل ما جاء به اعتقادا جازما يبعث اليقين إلى القلب غير القرآن الكريم الذي جاء من طريق (التواتر)(964/7)
والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أما الأخبار التي جاءت من طريق الآحاد وحملتها كتب الحديث فإنها لا تعطى اليقين وإنما تعطى (الظن) والظن لا يغني من الحق شيئا. وللمسلم أن يأخذ بها ويصدقها إذا أطمئن قلبه بها وله أن يدعها إذا حاك في صدره شيء منها. وهذا أمر معروف عند النظار من علماء الكلام والأصول والفقه ولم يعارض فيه إلا (زوامل الأسفار) من الحشوية الذين لا يقام لهم وزن.
وإذا نحن أخذنا حديث الذباب على إطلاقه ولم نسلط عليه أشعة النقد فأنا نجده من أحاديث الآحاد وهي التي تفيد الظن - وإذا لم يسعنا ذلك في رده بعد أن أثبت العلم بطلانه فليسعنا ما وضعه العلماء من قواعد عامة - ومن هذه القواعد (أنه ليس كل ما صح سنده يكون منته صحيحا، ولا كل ما لم يصح سنده يكون منته غير صحيح - بل قالوا - إن الموضوع من حيث الرواية قد يكون صحيحا في الواقع، وأن صحيح السند قد يكون موضوعا في الواقع. ومن القواعد المشهورة: أن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.
وإذا قيل إن هذا الحديث قد رواه البخاري وهو لا يروي إلا ما كان صحيحا، فأنا نرد على ذلك بأن البخاري قد روى في كتابه ما اعتبره هو صحيحا عملا بظاهر الإسناد لا ما ثبت في الواقع أنه صحيح. ومن أجل ذلك لا يلزم غيره بما اعتبره هو. وإذا قالوا حديث (متفق عليه) فليس معنى ذلك أن الأمة كلها قد أنفقت على صحته، وإنما معنى ذلك أن البخاري ومسلم قد اتفقا على روايته.
قال الزين العراقي في شرح ألفيته (وحيث قال أهل الحديث: هذا حديث صحيح فمرادهم فيما ظهر لنا عملا بظاهر الإسناد لا أنه مقطوع بصحته في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان على الثقة. هذا هو الصحيح عند أهل العلم المحققين.
ولهذه القواعد وغيرها مما عرف من تاريخ الحديث قال عبد الرحمن بن مهدي (لا يكون إماما في الحديث من تتبع شواذ الحديث أو حدث بكل ما يسمع أو حدث عن كل أحد)
وقال أبن أبي ليلى (لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع)
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده (لا أومن بحديث تعرض لي شبهة في صحته. وليست(964/8)
الشبهة في النبي وقوله، ولكنها فيمن روى عن النبي. ولذلك قال الإمام أبو حنيفة في سبب رده لبعض الأحاديث (ردي على كل رجل يحدث عن النبي بخلاف القرآن ليس ردا على النبي ولا تكذيبا له ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل، والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله. وكل شيء تكلم به النبي فعلى الرأس والعين قد آمنا به وشهدنا أنه كما قال. . .)
على أننا إذا سلمنا كما قلنا بأن النبي صلوات الله عليه قد نطق بهذا الحديث ثم أثبت العلم ضرر الذباب فليس علينا من بأس في الرجوع عنه وعدم الأخذ به لأنه من أمور الدنيا. ولنا في ذلك أسوة حسنة بما فعل النبي صلوات الله عليه حينما رأى أهل المدينة يؤبرون النخل فأشار عليهم بأن لا يؤبروه. ولما ثبت بعد ذلك ضرر عدم التأبير وخرج الثمر شيصا قال لهم النبي حديثه المشهور (إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن؛ ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به. وفي رواية (إذا أمرتكم بشيء في دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) ثم ختم حديثه بهذه القاعدة الجليلة العامة التي يصح أن تكون دستورا للمسلمين على مر العصور كلها، والتي ثبت بحق أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وأنه صديق العلم وعدو الجهل وهذه القاعدة هي (أنتم أعلم بأمر دنياكم)
أما راوي هذا الحديث وهو أبو هريرة فقد ردوا له أحاديث كثيرة في حياته وبعد مماته حتى من التي صرح بأنه سمعها بأذنه من النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث (خلق الله التربة يوم السبت) الذي رواه عنه مسلم في صحيحه فقد قال البخاري وغيره إن أبا هريرة تلقاه من كعب الأحبار اليهودي
وأنا نكتفي بهذه الكلمة الصغيرة اليوم ونشكر لحضرة النطاسي البارع الدكتور سالم محمد الذي أثار هنا البحث النافع وندعوه وسائر زملائه الأطباء ثم رجال العلم جميعا من مهندسين وفلكيين وجغرافيين وغيرهم أن يستمروا في أبحاثهم العلمية النافعة بوسائلهم الصحيحة التي دعا إليها الإسلام ولا يخشوا أحدا في ذلك (فأنتم أعلم بأمر دنياكم)
المنصورة
محمود أبو رية(964/9)
حديث الذباب
للأستاذ محمد أحمد علي صالح
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء) أجاب بعض الأطباء بمجلة (الدكتور) عدد فبراير سنة 1949 (بأن هذا الحديث مكذوب وكلام لا يصح أن ينسب إلى النبي مهما كانت قيمة راويه، ولا الكتاب الذي وجد فيه) ومن هذا التاريخ واليت البحث للحصول على ما يؤيد هذا الحديث من الناحية الطبية، حتى أصدرت مجلة (لواء الإسلام) عدد سبتمبر سنة 1951 فتوى بأن هذا الحديث صحيح من ناحية السند، وذكرت الطرق التي ورد بها هذا الحديث، وبهذه المناسبة نشرت بمجلة لواء الإسلام عدد أكتوبر سنة 1951 ذلك البحث الطبي نقلا عن (المجلة التجارية الطبية الإنجليزية) عدد 1037 سنة 1947 ما نص ترجمته: (أطعم الذباب من زرع ميكروب بعض الأمراض، وبعد حين من الزمن، ماتت تلك الجراثيم، واختفى أثرها، وتكونت في الذباب مادة مفترسة للجراثيم تسمى (بكتريوفاج) ولو عملت خلاصة من الذباب في محلول ملحي لاحتوت على (البكتريوفاج) التي يمكنها إبادة أربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض، ولاحتوت تلك الخلاصة أيضاً على مادة خلاف البكتريوفاج نافعة، ضد أربعة أنواع أخرى من الجراثيم - وقد برهن على ذلك الأستاذ الدكتور (دريل) مندوب الصحة البحرية والكوربنتينات المصرية في الهند للبحث عن ظهور الكوليرا بها، وأنجح الطرق لمقاومتها، وقدم تقريرا مفصلا في ديسمبر سنة 1927 عما أجراه مع زملائه من الأبحاث الفنية والتجارب العلمية، فقد ذكر في تقريره أن (البكتريوفاج) أجسام حية صغيرة جدا أمكن تكوينها ورؤيتها بترسيب ذرات الفضة عليها، وأنه حصل على البكتريوفاج وتمكن من زرعه وتنميته وإذابته في الماء، وأعطى محلوله المرضي بنسب مخصوصة. وبزيادة الجرعات وتنظيم تناولها كان المريض ينال الشفاء في يومين أو ثلاثة، وأثبت أن الذباب يؤدي عملية أخرى عظيمة من نوع ما تقدم، ولكن لا أرى من المناسب ذكرها الآن - وأجريت مثل تجارب الأستاذ (دريل) في البرازيل عن الدوسنتاريا الحادة، واستعمل البكتريوفاج في إيطاليا في علاج الحمى التيفودية، وكذلك ضد جراثيم الاسنا فيلوكدك فافار)(964/11)
وبناء على ذلك قلت: إن هذا الحديث معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أثبته الطب الحديث بعد أربعة عشر قرنا - وقلت: إن من كتب بتكذيب الحديث يجهل الناحية الطبية - وأثبت في هذا المقال درجة أبي هريرة راوي هذا الحديث عن رسول الله، وحرص الإمام البخاري صاحب (كتاب البخاري) الذي ذكر فيه هذا الحديث على الأحاديث النبوية. وقد علق على هذا البحث الطبي الدكتور (نجيب بك قناوي) بعدد نوفمبر سنة 1951 من مجلة (لواء الإسلام) مثبتا لوجود (البكتريوفاج) في الذباب حيث قال بالحرف الواحد: (إنما أود أن أبين باختصار جدا أن مادة (البكتريوفاج) هذه ليست قاصرة على الذباب فحسب، بل يمكن استخلاصها من كل مكان وحيوان، فهي موجودة بكثرة في براز الفراخ وبعض الطيور والحيوانات الأخرى، ومنها الإنسان وحتى الماء والهواء) ثم ذكر مسائل دينية يطلب الإجابة عليها من العلماء الشرعيين، وأورد عبارة عن (المنار) تتعلق بحديث الذباب؛ ثم ختم عزته تعليقه بشكري على هذا البحث في تمحيص حديث الذباب، خصوصا من الوجهة الطبية: (فإنه قرب إلينا نحن الأطباء بحث مادة (البكتريوفاج) في الذباب، ولذا فإني شرعت من اليوم مع بعض زملائي البكتريولوجيين في إجراء بحوث عملية مختلفة على الذباب والبكتريوفاج أي ملتهم الجراثيم سأنشرها عند ظهور نتيجتها، لعلها تبين بطريق أوضح سر معنى حديث الذباب. ومهما قمنا من أعمال وبحوث فما زلنا عند قوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). وقد رددت على أسئلته الدينية فلم تنشرها لواء الإسلام - ثم عاد طبيبنا الأول فكتب في مجلة الدكتور عدد أكتوبر سنة 1951 ضد هذا الحديث - كما عاود الكتابة في عدد نوفمبر سنة 951 من هذه المجلة أيضاً وأيده في ذلك ثمانية من الأطباء المحترمين في هذا العدد بالذات - ونظرا لما ورد في مقالات الطبيب الأول وفي بعض المقالات الثانية حينما أرادوا معالجة (حديث الذباب) أوقعوا أنفسهم في مضاعفات دينية اتسع عليهم فيها الجرح، فذكروا أحاديث مكذوبة نسبوها إلى رسول الله، وفسر بعضهم آيات قرآنية على غير ما أريد منها، وتقولوا على فقهاء الدين وبعض العلماء الإجلاء ما لم يقولوه ورددت على هؤلاء الأطباء التسعة، وطلبت من مجلة الدكتور نشره في المكان الذي نشرت فيه مقالات الأطباء الثمانية ليطلع القراء الكرام عليه كما أطلعوا على هذه المقالات المذكورة، تمشيا مع حرية النشر، وبسط الآراء لجمهور القراء، ووقوفهم(964/12)
على الحقيقة، وتصحيحا للأخطاء الدينية التي وردت في مقالاتهم خشية أن يعتقد بصحتها لا دراية له بهذه المسائل. وبكل أسف لم تنشر هذه المجلة الرد بحجة (أنني تهجمت على الأطباء، وأن الرأيين نشرا على الجمهور: رأى المؤيدين للحديث، ورأى الأطباء المخالفين. فعلى كل إنسان أن يختار بين أبي هريرة، وبين شتى الأمراض التي ينقلها الذباب)
قلت لعل الأمر انتهى إلى هذا الحد وأقفل باب الكتابة في هذا الحديث، ولكن عاود طبيبنا الأول الكتابة في هذا الموضوع للمرة الثالثة غير الأولى وأباحت له المحلة ذاتها النشر بعد ما منعت ردنا على الأطباء الثمانية فقال في عدد ديسمبر سنة 1951: (فالبخاري رحمه الله مظلوم، ولا ذنب عليه، ولم تميز فراسته ما خفي بين طياته (أي الحديث) من شر وعبث بالصحة، وبهذا الدين الحنيف، ولا لوم على البخاري فقد وثق بإنسان فدس عليه هذا الحديث - ولو كان البخاري في زمانه يعلم مضار الذباب التي أثبتها العلم والطب، لاستحى من تدوين هذا الحديث المزعوم مهما كان مركز راويه) ثم تكلم على حديث الآحاد، وحمل حديث تلقيح النخل على غير ما يراد منه
فهل تسمح لنا (مجلة الرسالة الغراء) وتسعفنا ببسط ردودنا على هذه المقالات على صفحاتها وهي المنبر الحر الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، وأنها عودتنا والقراء أن نقرأ لها البحوث الدينية والعلمية والأدبية والآراء الحرة حتى تخلص البخاري من هذا الوصف الذي لا يتناسب مع مركزه؟
(يتبع)
محمد أحمد علي صالح
من علماء الأزهر(964/13)
9 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
وحشية الإنجليز:
فقد الإنجليز كل معنى من معاني الإنسانية وانقلبوا وحوشا آدمية يسفكون الدماء بغير مبرر ويهاجمون العزل الأبرياء لغير ما سبب. وليس هذا بجديد عليهم فتاريخهم الطويل يشهد بأنهم أمة من السفاحين والقراصنة. وإني أحدثك أيها الأخ الكريم اليوم عن فظائع الإنجليز في مصر قديما وحديثا.
من 29 نوفمبر - 6 ديسمبر 1951:
أستيقظ سكان بور سعيد في الساعة السادسة صباحا من يوم 29 نوفمبر 1951 على أزيز الرصاص يتجاوب في أنحاء مدينتهم فقد انطلقت سيارتان بريطانيتان خرجتا من باب الجمرك وراحتا تطلقان النار على كل من تصادفه في الطريق. ومرت السيارتان بمبنى قسم أول وأخذ جنودهما يطلقون الرصاص على القسم وجنود البوليس وأستشهد جنديان ومات بعض المدنيين. وكان طبيعيا أن يرد البوليس المصري العدوان بمثله. حدث هذا في الوقت الذي كان يسعى فيه المسئولون المصريون والإنجليز في الإسماعيلية وبور سعيد والسويس إلى العمل على وقف حوادث العدوان المتبادل بين المصريين والإنجليز، والذي ذكر فيه أن الجنرال أرسكين قائد القوات البريطانية في منطقة القنال قد أصدر أوامره باعتبار (بور سعيد والإسماعيلية والسويس) من المناطق المحرمة على الجنود البريطانيين.
وقد أتفق المسئولون المصريون والإنجليز في هذا التاريخ على جلاء الجنود البريطانيين عن المدن الثلاث وترك شئون الأمن فيها لرجال البوليس المصري فهدأت الحالة نوعا ما في الإسماعيلية. ولكن متى كان للإنجليز وعد؟ لقد حنثوا بوعدهم في نفس اليوم وبلغ بهم التجرد من الإنسانية أن انتهكوا حرمة الموتى وعبثوا بجثة ميت كانت منقولة من القاهرة إلى السويس وراحت قواتهم تجوب السويس بصورة استفزازية.
وفي يوم الاثنين 4 ديسمبر 1951 روعت السويس بحرب إجرامية بشعة شنها عليها الإنجليز السفاكون استشهد فيها عشرون من المواطنين الأبرياء وبلغ عدد جرحاها ثمانية(964/14)
وستين جريحا، وقضت السويس يومها من الحادية عشرة صباحا إلى التاسعة مساء وكأنها ميدان حرب لا تسمع فيه إلا طلقات المدافع والبنادق وأزيز الطائرات!
وفي يوم الثلاثاء 4 ديسمبر أصبحت السويس المجاهدة وفي أرجائها صمت رهيب يتوج جلال حدادها على شهدائها الأبرار، بتشييع جنازات الشهداءَ في أربعة مواكب وطنية رائعة سارت فيها جميع طبقات الشعب ومختلف الهيئات وقد قدر عدد المشيعين بنحو 15 ألفا
ولكن الإنجليز ارتكبوا أشنع العدوان في هذا اليوم أيضا، فلم يكفهم ما أراقوا من دماء في اليوم السابع بل زادوا إثمهم إثما وعدوانهم وحشية وفظاعة: فقد خرج الأهلون يشيعون جنازة أحد الشهداء قبل نقلها إلى الزقازيق وكانت بعض الطائرات الاستكشافية البريطانية تحلق في السماء فأبلغت القيادة البريطانية الأمر على أنه زحف شعبي على المعسكرات فخرجت قوة من ثلاث دبابات وأربع مصفحات وبضع سيارات مسلحة أخرى وأخذ جنودها يطلقون النار على المشيعين والأهلين ورجال البوليس والدور القريبة. وسقط في هذه المجزرة 14 شهيدا وجرح ثلاثون. وقد ثبت أن الإنجليز يستخدمون رصاصا من طراز (الدمدم) الشديد الفتك
وفي يوم الأربعاء شيعت السويس شهداء المجزرة الثانية واشتركت جميع هيئات الشعب في الجنازة وكان يتقدمها محافظ المدينة.
وقد رفضت السلطات البريطانية الترخيص بنقل جثث الشهداء من غير أبناء السويس إلى بلادهم.
وبرغم هذا لم يكف المعتدون عن عدوانهم فأطلقوا في الجو أسرابا من الطائرات الاستكشافية والنفاثة ذات الأزيز المفزع وسيروا قافلة كبيرة من الدبابات والمدرعات واللوريات لمحاصرة المدينة.
وقد دفع جمود الحكومة المصرية إزاء هذه الحوادث المحزنة الطلاب إلى القيام بمظاهرات في القاهرة والإسكندرية والجيزة احتجاجا على هذا العدوان الغاشم. وقد قررت الوزارة تعطيل الدراسة بتلك المدارس. ونحن نحب أن يخلد الطلاب إلى الهدوء حتى تتمكن الحكومة من مواجهة الموقف ولكنا نقول لرجال الحكومة: تحركوا وإلا فسينفجر غضب(964/15)
الشعب. إن المصريين لا يطيقون صبرا أن يروا دماء مواطنيهم تسفك دون أن يحركوا ساكنا.
ويعزينا بعض العزاء أن أبطالنا من المقيمين بمدن القنال والفدائيين قد أخذوا بثأر قتلانا فقتلوا من الأعداء 42 اثنين وأربعين قتيلا وجرحوا 67، وأن شهداءنا في الجنة وقتلاهم في النار.
أيها الإنجليز:
أعلموا أن مصر أقوى منكم وأن قواتكم مهما بلغت عددا ومهما جلبتم لها من عدة وعتاد لن تقهر مصر لأن مصر مؤمنة بحقها في الحياة الكريمة الحرة، ولن تخضع لقوتكم وجبروتكم ومهما بغيتم فمصر صامدة وهي منتصرة بإذن الله.
فظائع 1919:
في 8 مارس 1919 بدأت ثورة مصر باعتقال زعمائها ونفيهم خارجها فهبت مصر من أقصاها إلى أقصاها تطالب بحريتها واستقلالها وعودة زعمائها، وقامت المظاهرات في كل قرية ومدينة ثم خرب الشعب طرق المواصلات فقطع خطوط السكك الحديدية وأسلاك البرق والتليفون ومنذ البداية لجأ الإنجليز إلى القوة الغاشمة وإلى سفك دم الأبرياء المطالبين بحريتهم.
وفي 21 مارس 1919 عين المارشال اللنبي قائد عام الجيوش البريطانية في مصر إذ ذاك مندوبا ساميا فوق العادة ومنح السلطة العليا في جميع الأمور المدنية والعسكرية، وفي اتخاذ ما يراه من الإجراءات لإعادة النظام والأمن إلى البلاد مع تثبيت الحماية.
ولما وصل اللنبي إلى القاهرة جمع الأعيان والوزراء وأوضح لهم مهمته وهي تنحصر على حد قوله في وضع نهاية للاضطرابات القائمة وإزالة أسباب الشكوى وطالبهم بمساعدته على أداء مهمته.
وطبقا لهذه الخطة أذاع العلماء والوزراء والأعيان نداء إلى الأمة المصرية في 24 مارس دعوا فيه الشعب إلى التزام الهدوءَ والإخلاد إلى السكينة، ولكن المصريين لم يخدعهم ما قاله اللنبي ولم يؤثر فيهم النداء واستمروا في كفاحهم.(964/16)
وحدث أن ألقى اللورد كرزون وزير خارجية بريطانيا إذ ذاك أجوبة عن أسئلة وجهت إليه في مجلس العموم بشأن الحالة في مصر فقال إن الحالة أقل خطورة من ذي قبل، وأطرى موظفي الحكومة المصرية ورجال البوليس والجيش لإخلادهم إلى السكينة وحسن سلوكهم. وأستنتج من سلوكهم أن صفوة المتعلمين والعقلاء في مصر ليسوا في صف الحركة الوطنية. وإزاء هذا التصريح أحرج الموظفون واضطروا وقد طعنوا في وطنيتهم إلى تقديم احتجاج على تصريحات كرزون وقرروا الإضراب عن عملهم ثلاثة أيام وقدموا عرائض الاحتجاج إلى السلطان وإلى معتمدي الدول الأجنبية ونفذوا قرارهم.
وقد ظلت الاضطرابات قائمة، وحاولت السلطة العسكرية إصلاح الخطوط الحديدية. ولما أصلح الخط الحديدي الرئيسي بين القاهرة والإسكندرية وقنال السويس حرم السفر إلا بترخيص من السلطة العسكرية.
وقد نزل الجنود البريطانيون في مختلف أنحاء القطر سواء لإصلاح الخطوط الحديدية، أو القضاء على الاضطرابات، أو للمحافظة على النظام، فارتكبوا فظائع تقشعر منها الأبدان وتنبو عنها النفوس.
العزيزية والبدر شين:
قريتان من قرى مديرية الجيزة كانتا تنعمان بالراحة والسكون. وفي الهزيع الأخير من ليل 25 مارس أو حوالي الساعة الرابعة من صباح ذلك اليوم انقض نحو مائتي جندي إنجليزي على القريتين وأحاطوا بهما وقصدت شرزمتان صغيرتان منهم منزلي كل من عمدتي القريتين شاهرين أسلحتهم وطلبوا من العمدتين تسليم ما لديهما من سلاح، فسلم أحدهما مسدسا كان عنده، وأما الثاني فلم يكن لديه سلاح. ومع هذا انقض العساكر داخل المنزلين واقتحموا غرف النساء غير مبالين بما في هذا العمل من خروج على الآداب والأخلاق، واضطر النساء إلى الاختفاء تحت الأسرة. ولم ينس القراصنة الاستيلاء على ما وجد من مال وحلي، بل إنهم زادوا فجذبوا النساء من شعورهن وانتزعوا حليهن. وبلغت بهم القسوة أن أحدهم مزق أذن سيدة وهو يسلب قرطها.
وبعد تفتيش داري العمدتين أنتقل الجنود إلى دور مشايخ البلدتين وقاموا بالتفتيش وبالسلب والنهب المعتادين، ثم أعلن الضباط بعد ذلك أنهم سيضرمون النار في البلدتين (وأنه(964/17)
مسموح لكل امرئ أن يأخذ ما في داره من مال وحلي قبل مغادرته) وبعد قليل أشعلوا النار في القريتين وساعد على اشتعال النار ما كان على سطوح المنازل من قش وحطب، وخرج الأهالي المروعون من قريتهم الآمنة لتتلقاهم قوات القراصنة (الأشراف) ولتسلبهم ما حملوا من مال وحلي. ولم يأخذهم حياء في تفتيش ملابس النساء وأجسامهن!
وكان نصيب من حاول إخماد الحريق أن يصاب برصاصة ترديه قتيلا، وقد احترقت المواشي حية في مرابطها.
وعند الصباح أنصرف الجند عن القريتين وقد أصبحتا قاعا صفصفا، وقبض على العمدتين وسيقا إلى الحوامدية؛ وكانت التهمة التي وجهت إلى العمدتين وقريتهما الاعتداء على أحد الضباط البريطانيين وإتلاف محطتي الحوامدية والبدرشين. ورغم براءة العمدتين والقريتين فقد عوقبت القريتان بتخريبهما وحوكم العمدتان.
وقد أحرق الجنود في نفس اليوم وبنفس الطريقة قرية الشبانات مركز الزقازيق بعد نهبها.
ونزلة الشوبك:
في 30 مارس 1919 أرسل مركز العياط إشارة إلى عمدة نزلة الشوبك بإحضار العمال اللازمين لإصلاح الخط الحديدي. وفي الساعة الرابعة بعد الظهر وصل قطار حربي ووقف قرب القرية المذكورة ونزل منه الجنود وأرادوا دخول القرية فنصحهم العمدة بالعودة وأخبرهم أنه جلب العمال اللازمين ولكنهم لم يستمعوا لنصحه ودخلوا القرية وأخذوا ينهبون ما يصل إلى أيديهم من مال وذهب بل وطير ودواجن ولم يتعرض لهم أحد.
ورأوا إحدى نساء القرية فأسرعوا إليها وراودوها عن نفسها، فاستغاثت بزوجها الذي أسرع إلى نجدتها، ونزلت هراوته على رأس الجندي الذي كان ممسكا بزوجته فصرعه؛ ولكن رصاصة جندي آخر أردته قتيلا. وقامت معركة بين قوم عزل يدافعون عن أعراضهم وبين قوم نسوا كافة الفضائل وتجردوا من صفات الإنسانية. أنطلق الجند يهاجمون القرية ويقتلون من يصادفهم بلا تمييز وينهبون ما يجدون ثم يشعلون النار في المنازل.
وكان القطار الحربي بعيدا عن القرية فرجع القهقري حتى حاراها وصب عليها وابلا من رصاص مدافعه الرشاشة، واستمر إطلاق النيران طول الليل، واختبأ العمدة في داره ولكن(964/18)
الإنجليز أخرجوه في صباح اليوم التالي ونهبوا داره وأحرقوها وساقوه إلى السجن.
وقد أرتكب الإنجليز فظاعة وإنما لا يتصوره عقل، فعلاوة على ما سبق قبضوا على أحد مشايخ القرية ومعه أربعة من الأهالي ودفنوهم حتى أنصاف أجسامهم، ثم شوهوا وجوههم بوخزات الحراب، وبعد ذلك أطلقوا عليهم الرصاص فأراحوهم من هذا العذاب.
أرأيت وحشية وفظاعة أكثر من هذا؟ إن أحط أنواع البشر لا يمكن أن يصل في وحشيته إلى هذا الدرك، وإن مجازر الإسماعيلية وبور سعيد والسويس لسلسلة متممة لحوادث العزيزية والبدرشين ونزلة الشوبك؛ ولكن مهلا وصبرا فإن نهاية هؤلاء الطغاة قريبة إن شاء الله.
أبو الفتوح عطية(964/19)
2 - المستقبل وأسرار الوجود
بين السببية والمستقبلية
للأديب عبد الجليل السيد حسن
عرض لمشكاة السببية:
حينما نلقي بقطعة من القطن في النار فلا نشك في احتراقها، وحينما يأكل الجوعان فلا نشك في شبعه، وحينما تضرب الطفل فلا شك أنه سيبكي. وحينما ترى الغادة الهيفاء والوردة الناضرة فلا شك في إعجابك بجمالها إذا كنت ممن يقدر الجمال في المرأة والزهرة.
ولتسأل معنا الآن: ما الذي أحرق القطن، وأشبع الجائع وأبكى الطفل، وأثار فيك مشاعر الجمال؟ ولا أشك في أنك ستجيب على الفور: إن السبب في ذلك هو النار والأكل والضرب والجمال الكامن في المرأة والوردة. ولكن يا صاحبي لا تكن سريع الحكم، وانظر في الأمر وتدبره، هل النار حقيقة هي سبب الإحراق؟
ما هذا؟ أتريد أن تخدعني عما أحس وأرى وتقول لي: إن علة الإحراق شيء غير النار؟
- لتعلم أنني لست أريد خداعا أو تغريرا، ولكني أريدك أن تكون دقيقا أمينا فيما تشاهد وتدرك، وأن تأخذ الأمور كما ترد إليك لا تزيد فيها ولا تنقص. فما العلة اللازمة والسبب القاهر الذي يجعلك تسند الإحراق إلى النار؟ أليس هو أنك شاهدت احتراق قطعة القطن عقب إلقائها في النار، ولم تر عينك شيئا أكثر من ذلك؟ إذن ما الذي دفع بك إلى أن تجزم بأن النار هي علة الإحراق؟ لاشيء غير مشاهدة حدوث هذا مع ذاك أو مقارنا له. فكأنه ليس هناك شيء يمكن أن يعد سببا لشيء أو علة له؛ بل هناك تعاقب أو اقتران بين الحوادث، ولا شيء غير هذا؛ فقطع الرقبة ليس سببا في القتل، وكسر الرجل ليس سببا في الألم، ولقاء الحبيب ليس سببا في النشوة التي تصاحبه، وإضاءة المصباح ليست سببا في الضوء الذي يعقبه، وإعطاء المريض دواء ليس هو السبب في شفائه. . وغير ذلك من الأفعال، بل كل ذلك ما هو إلا حوادث تعقب حوادث وأشياء تقترن بأشياء؛ أما أن نقول إن هذا سبب ذلك، فهذا مالا يقره العقل.(964/20)
وهذا هو الوضع الصحيح البسيط لمشكلة السببية بين المثبتين الذين يقولون أن لا شيء يحدث بدون سبب؛ وبين المنكرين الذين يقولون أن ليس هناك شيء يمكن أن يعد سببا على سبيل التعيين
ونستطيع أن نخرج من كل ما تقدم بشيء واحد؛ وهو أن الذين أنكروا السببية أنكروها لشيء هو وقوفهم عند ما يشاهدون ويحسون فقط. وأما الذين أثبتوا القول بالسببية فهو وقوفهم عندما يحسون ويشاهدون أيضا. ولكن الفرق بين المنكرين والمثبتين: أن المنكرين قالوا (إن المشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به)، وأما المثبتون فقالوا (إن العادة اقتضت أن يتبع هذا ذاك، فلا بد أن يكون هذا هو علة ذاك، وإلا فما الداعي لحدوث هذا التعاقب؟) وقد آمن المثبتون بهذه العادة، وبنوا حياتهم وقوانينهم عليها، وقالوا إن لكل ظاهرة من الظواهر علة أحدثتها، ثم خصصوا فقالوا: إن هذه الظاهرة (ب) مثلا، علّنها الظاهرة (أ) ودليلهم على ذلك العادة التي أرتهم أن (أ) تتبعها (ب) دائما. وبينما يؤمن المثبتون بهذا، يقول المنكرون: أنه لا علة للجزم بأن (أ) لابد أن يتبعها (ب) بل قد يتبعها (ج) أو (د) من الظواهر؛ فما العلم سوى قوانين، وهذه القوانين لم تستخلص إلا بنتيجة للتجارب والشواهد التي فرضنا أن لها عللا معينة؛ وما دام ليس هناك من سند للقول بالعلية والسببية، فإذن من المحال أن يكون هناك علم، أو لو أردنا الدقة لقلنا إن صحة علمنا موقوفة على صحة ما نسميه عللا ومعلومات، وبذلك نتفادى القول باستحالة العلم إلى القول باحتمال صحته، ولا ضير بعد ذلك، فالعلم ما هو إلا تسجيل للواقع المشاهد
ولنترك الآن عرض السببية عرضا تاريخيا في الشرق عند كل من الغزالي وأبن رشد، وفي الغرب عند كل من (هيوم وكانت). ولنترك أيضاً المقارنة بين هؤلاء جميعا إلى فرصة أخرى ونخلص إلى السببية والمستقبل
السببية والمذهب المستقبلي:
إذا شاهدنا ظاهرتين متلازمتين في الماضي، مثل الإحراق ولقاء النار، أو طلوع الشمس ووجود النور، فهل يستمر هذا التلازم أيضاً في المستقبل أم لا؟ وإذا كان هذا التلازم والارتباط بين الظواهر ثابتا مستمرا، فإنه يمكننا بذلك أن نتنبأ بالأشياء التي لم تحدث بالفعل، وسوف تحدث في المستقبل. وحياتك لا شك مبنية على هذا التنبؤ، فأنت واثق من(964/21)
وجود النور غدا لأنك على يقين من طلوع الشمس فيه حاملة النور إلى الكون. ولكن. . هل خطر بذهنك أن الشمس قد تطلع غدا ولا تنير أو قد لا تطلع البتة؟ وأنت تنظم حياتك على أن هذه الظواهر المتلازمة في الماضي، لابد وأن تستمر في المستقبل، فأنت على يقين أنك لو ألقيت بهذه النقود الورقية إلى النار لاحترقت، أو لو وضعت يدك في النار لاحترقت، فأنت لا ترمي بنقودك إلى النار، ولا تضع يدك فيها. وكلنا يشرب الدواء طمعا في الشفاء، ونتجنب الميكروب خوف المرض. والعالم الطبيعي أو الكيميائي حينما يعيد أجراء تجربة فهو متأكد أنه سيحصل على نفس الظواهر التي حدثت في الماضي.
فنحن في حياتنا العملية نتغاضى عن إنكار السببية، ونتناسى أن الأمر قد يكون مجرد ارتباط فقط لا عليه فيه. ونحن نعلم تمام العلم أن معرفتنا بالأسباب تجعلنا قادرين على أن نتنبأ بما سوف يحدث في المستقبل، وبمقدار إحاطة عملنا بالأسباب يكون صحة تنبأنا بالمستقبل. ولكن ذلك لا يغرينا بتكوين رأي ومذهب في الحياة على تجاهل أن الأسباب قد تكون مجرد تلازم ومقارنة لا غير، وما نعده سبباً ما هو إلا لحكم العادة والمشاهدة فقط؛ فقد يثبت ثبوتاً قطعياً أنه ليس هناك من شيء يمكن أن يعد سبباً، وخصوصاً بعد نظرية الحكم (الكوانتم) والميكانيكا الموجبة.
بيد أن كل ذلك لا يمنعنا من أن ننظر في الأمر نظرة مستقبلية نبني عليها مذهبنا في الحياة ورأيا في الوجود.
كلما حدث شيء في الوجود، أو تغير أمر في الظواهر الطبيعية، في بد أن هنالك قوة أحدثت هذا التغير، ونقلت من ثم شيئاً كان موجوداً بالقوة إلى الوجود بالفعل، أو حققت في الواقع شيئاً كان ممكن التحقيق، وليس هناك كائن من كان يستطيع أن ينكر هذه القوة وهذا التغير.
ولن تجد أثنين يختلفان في أن حدوث هذا التغير قد حدث بقوة أو بسبب من الأسباب. ولكن ستجد من يختلف في: هل هاتان الظاهرتان اللتان يتبع بعضهما الآخر. . هل الأولى سبب للثانية، أم أن الأمر مجرد عادة ومشاهدة.؟ وبعبارة أخرى ستجد من يختلف في أن الاطراد والتلازم والمقارنة في الوقوع، هو علة التغير والحدوث.
وهذا الاختلاف الذي هو جوهر مشكلة السببية لا يعنينا أمره كثيراً، وقد كان يعنينا أمره لو(964/22)
كنا مهتمين بمعرفة ما يحدث في المستقبل بناء على خبرتنا وتجاربنا في الماضي. ولكن الأمر الذي يهمنا أكثر، من وجهة النظر المستقبلية؛ هو إثباتنا الحدوث والتغير، وشعورنا بوجودنا؛ بناء على هذا الانتقال المستقبلي، ونظرتنا إلى الوجود هذه النظرة المستقبلية، لأن كل ما نريد أن نصل إليه هو فهمنا لهذه الحياة كما هي، وهذا الوجود على حقيقته، ثم الإفادة من هذا الفهم، ورسم خطة نسير عليها في هذه الحياة.
فنحن حين نبني شعورنا بالوجود على النظرة المستقبلية، وعلى الانتقال المستقبلي الذي يجعلنا نحس بوجودنا (نذكر مثال الرجل الموجود في الشمس الطالعة والعالم الساكن في المقال السابق)؛ وحين ثبت أن وراء الحدوث والتغير قوة سببية حققت الانتقال المستقبلي. أي الانتقال من القوة إلى الفعل ومن الإمكان إلى الواقع؛ إنما نرسم لأنفسنا خطة عملية سليمة، ونهجنا نراه قويما، ومذهبنا مستقبليا في هذه الحياة وهذا الوجود. فنحن نقدس العمل لأنه وسيلتنا في الانتقال المستقبلي، وندعو إلى القوة لأنها سبيلنا إلى جعل الممكن واقعا، ونرى أنه بمقدار سرعة انتقالنا المستقبلي يكون حظنا من الوجود، وشعورنا به، وليست العبرة عندنا بطول الوقت الذي يعمره الإنسان؛ بل بمقدار انتقاله المستقبلي، وتحقيقه لإمكانياته، أي بمقدار ما بذل من مجهود، واستنفذ من قوة، وما استطاع أن يحصل عليه من جراب المستقبل.
وإن الشعور بالوجود، والإحساس بالحياة، ليتفاوت لدى الإنسان بالنسبة إلى الفعل والعمل الذي يؤديه. والقوة التي يبذلها؛ أو يتفاوت بالنسبة إلى ما يناله من الانتقال المستقبلي، والتغير الذي يعانيه، فألف سنة مثلا قد لا تساوي لحظة أو ساعة، ألف سنة خاملة ساكنة ميتة نائمة، لا تساوي ساعة حية نشيطة فعالة، يبذلها الكائن في استنفاذ إمكانيات وجوده.
وارجوا أن تطيل التأمل وتنعم النظر، وتقف طويلا معي عند أهل الكهف الذين أمضوا كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، كانت عندهم بمثابة يوم أو بعض يوم! ولتنعم النظر أيضاً وتطل التأمل في هذه الثلاثمائة عام نفسها التي عاشتها الأجيال المتتالية من الاحياء، ولننظر كيف تغير الوجود، وتبدلت الأشياء بالنسبة أليها؟ وكيف عاش هؤلاء الناس واستنفدوا بما أتوا من عمل وبذلوا من قوة إمكانيات وجودهم.
فوجدونا لا يتوقف خصبه وغناه على طول مدته، كما لا يتوقف فقره وإمحاله على قصره(964/23)
وسرعته؛ بل على قدر حظنا من الانتقال المستقبلي وشعورنا بالوجود.
السببية وغريزة الحياة:
لو فرض إننا عرفنا الأسباب كلها بكل دقة وكل تحديد، وكنا على دراية تامة بها، على رغم تشابكها وتعقدها وعظم مقدارها واستحالة عقل واحد أن يستوعبها، نقول لو إننا كنا على علم تام بهذه الأسباب على النحو الذي أسلفنا، تلك الأسباب التي يحدث نتيجة لها كل ما في هذا الكون. . فماذا يكون حالنا؟ وماذا يكون موقفنا من هذا الوجود؟
نريد أن نرى أولا نتيجة عملنا الكامل الدقيق الثابت بالأسباب ومسبباتها، وبالقوانين والسنن التي يسير عليها هذا الكون. . حينئذ سنرى المستقبل والحاضر والماضي أمامنا ونعلم ما حدث وما يحدث في كل من هذه الأجزاء، لأن إحاطتنا الكاملة بقوانين الوجود سترينا: كيف يسير الوجود فنرى كيف سار. وكيف يسير، وكيف سيسير وسترينا الوجود واحدا، فنعلم الغيب ونعرف الماضي السحيق، ويتحقق ما تمناه (لابلاس) الفلكي الفرنسي المشهور من معرفة قوانين الطبيعة، حتى يستطيع العقل الإنساني أن يرى الماضي والحاضر والمستقبل. ونستطيع أن نشبه الأمر بمرآة، إذا نظر فيها لإنسان رأى ما مضى وما هو آت، أو نشبهه بشريط سينمائي يديره الإنسان فيمر عليه ما نسج من الوجود (الماضي) وما ينسج منه (الحاضر) وما ينتظر النسج (المستقبل).
ونريد أن نرى ثانيا: حالنا وموقفنا من هذا الوجود، بعد أن يكون الوجود مجرد مرآة أو شريط.
سيكون نتيجة ذلك أمراً واحدا، وهو انعدام الحياة والوجود!
فأن الإنسان إذا تيقن مما سيحدث ورآه، أو إذا عرف ما سينتقل إليه معرفة كالرؤية - مع ملاحظة أن انتقاله المفروض حينئذ لا يشبه على أي نحو من الإنحاء الانتقال المستقبلي الذي هو علة الحياة - فلماذا سيعمل إذن؟ ولماذا يجتهد لتحقيق شيء قد رآه؟ أن الوجود سيفقد لذته لديه، وسيفقد بالتالي ذلك السر سر الحياة، وسر الوجود، وهو الانتقال المستقبلي الذي يشعر الإنسان بالحياة وبالوجود، والذي يشمل الأمل والعزاء والرغبة والرجاء، والذي يدفعه إلى أن يعمل ليحقق إمكانياته.
ولكن. . قد يعمل الإنسان لمجرد لذة تحقيق الفعل. . أفلا يعمل ذلك الإنسان الذي يرى(964/24)
الوجود كشريط أو مرآة، لمجرد لذة التحقيق؟
نحب أن نقول أن ذلك الإنسان لن يعمل لمجرد لذة التحقيق، كالذي يشاهد من إنسان لا يرى الوجود كشريط سينمائي أو مرآة حين يعمل عملا وجد فيه لذة ما، فهو يعود ليحقق نفس العمل الذي يعرف نتيجته مقدما، ثم يعود ليحققه. . ومع ذلك لا يمله ولا يتركه. لن يكون أمر هذا الإنسان الذي يرى الوجود، كأمر ذلك الآخر الذي لم يعرف من الوجود إلا جزئيه، لأن ذلك الأخير يتمتع بغريزة الحياة؛ أما الأول فبرؤيته الوجود في مرآة أو شريط، بناء على معرفته بالأسباب والمسببات سيفقد (غريزة الحياة) وان لم يفقد الطاقة على العمل. فوجودنا يشمل أمرين: الأول (غريزة الحياة) - وهي هذا الدافع الذي يدفعنا إلى الحياة الناتج عن الانتقال المستقبلي، لأن الانتقال المستقبلي يولد في الإنسان أشياء منها التوتر والقلق، والرغبة في تحقيق الفعل، والغموض، وعدم التعين الذي يدفع بالإنسان إلى الانتقال المستقبلي ليرى سره، والتعزي عما مضى بما هو آت، والتطلع الدائم إلى ما يضمه المستقبل بين جنبيه، وحالة عدم السكون الناشئة من الرغبة في تحقيق الفعل؛ وكل هذه الأمور تكون ما نسميه (غريزة الحياة) أو الدفعة التي تدفع الناس إلى الحياة. وأما الأمر الثاني: فهو (الطاقة) التي يعمل بها الإنسان ليحقق الفعل؛ ولا يكون ثمة طاقة، إذا لم يكن هناك (غريزة الحياة)، ولكن قد توجد غريزة الحياة دون طاقة، ولكنها تكون حياة ساكنة لا تحقق إمكانيات، حياة عدمها خير من وجودها. وقد رأينا أن معرفتنا التامة للأسباب ستفقدنا (غريزة الحياة) الناشئة عن هذا اللا تحدد في الانتقال المستقبلي، ففناء وجودنا، وانعدام حياتنا. . سيكون حين يكون وجودنا مجرد مرآة أو شريط.
للكلام بقية
عبد الجليل السيد حسن(964/25)
تعقيب:
الأدب وطلقات المدافع
للأستاذ علي متولي صلاح
ربما كان من أحب التهم إلى نفس الأديب تهمة (شهوة الكلام) الذي تفضل الصديق الكريم الأستاذ محمد عبد الغني حسن فرماني بها! فإن امتلاء النفس بشهوة الكلام وجيشان المعاني في صدر الإنسان واحتدام رغبته في أن يكتب ويعبر. . . هي الدلالة الصادقة على أنه الأديب حقا، فما بالك إذا كان ذلك منه للرغبة الخالصة في الدفاع عن الكتابة والأدب؟ وما بالك إذا كانت شهوته هذه لم تواته في المواسم والأعياد وحفلات الوداع والاستقبال وما إلى ذلك! وإنما واتته لدفع تهمة خطيرة عن الأدب وقيمته وأثره في حياتنا الراهنة؟ وعلم الله ما أردت تجريح الصديق الكريم ولا الزراية به، فله عندي حرمة الصديق القديم. ولكن ها لني أن يكيل الأستاذ التهم للأدب كأنه له العدو المبين! ها لني أن يرى الأدب عملا (غير جدي) كما يقول وها لني أن يحمد الأستاذ في أمته (الأفعال لا الأقوال) كما يقول أيضاً، وها لني أن يكون رأيه في الأقوال هكذا:
هذه الأقوال لا تحمى شهيدا ... من ضحايا الحق أو تشفي أواما
أطلقوا المدفع. . لا حنجرة ... وارجعوا للسيف في الحق احتكاما
وها لني أن ينادي - وهو الكاتب - في الناس بهذه الأقوال:
لا تردوا عنكموا غدر الأعادي ... بالعبارات نثارا ونظاما
الكلام اليوم لا يحمى حقوقا ... والبيان اليوم لا يرعى ذماما
وكانت الطامة الكبرى عندي أن يقول (. . فنحن اليوم إلى سلاح صوال، احوج منا إلى لسان قوال)!
ها لني ذلك وخشيت أن يتأثر به بعض ذوي العقول الساذجة من الناس، فملكتني (شهوة الكلام) لأصحح هذا الوهم ولأدفع هذا الظن، ولأبين للناس أن الأدب هو الذي يطلق المدافع ويسوق الجيوش ويحرك الجحافل، وان الأدب هو الذي يستنهض الهمم ويشحذ العزائم، وان الأدب هو الذي يحمي الحقوق ويرى الذمام ويرد غدر الأعادي. . أردت هذا فانبرى الصديق الأستاذ محمد عبد الغني حسن يعقب على كلامي بسلسلة متصلة من التهكم(964/26)
اللطيف لا تمس هذا الموضوع من قريب أو من بعيد!
ولكنني - برغم هذا - حمدت للأستاذ الصديق رجوعه إلى الحق وأعترافه بأنه (لا ينكر خطر (الكلمة) وفعلها في النفوس وأثرها في العواطف) ولكنني رأيت الأستاذ يستشهد على خطر هذه (الكلمة) فيقول (أليست الكلمة هي من روح الله التي تجلت للجبل أمام موسى الكليم فجعلته دكا وخر موسى صعقا؟ أليست الكلمة هي التي أوحت إلى النحل أن تسلك سبل ربها ذللا فتأكل من كل الثمرات ثم تلفظها شهدا شهيا فيه شفاء للناس؟) فلم أستطع - والحق يقال - أن أتبين علاقة هذين الأمرين بما نحن بصدده من بيان خطر الأدب والكتابة وأثرهما في الحياة! أما الأولى فهي أن موسى عليه السلام طلب أن يرى الله وقال (رب أرني أنظر إليك قال أن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن أستقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) فلا أدب هنا ولا أدباء ولكن الله تعالى أراد أن يعلم موسى أنه طلب أمرا عظيما حين طلب رؤيته فدك الجبل به وبمن طلب الرؤية لهم معه وخر موسى صعقا (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين). وأما الثانية فهي هداية من الله للنحل والهام لها بقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، أن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) فلا أدب هنا ولا أدباء أيضا، ولكنه وحي والهام من الله وآية على قدرته، فما إقحام هذين الأمرين في موضوع تأثير الأدب في الحياة ومدى فعله فيها؟
وأستشهد الأستاذ على تفاهة قدر القلم بالبيت الشهير الذي يحفظه التلاميذ جميعا وهو:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
ولا أدري كيف غاب عن الأستاذ الصديق أن أبا تمام لم يكن في هذا البيت يكتب موضوعا إنشائيا جميلا لطلاب المدارس (على حد تعبير الأستاذ الفاضل) يوازن فيه بين السيف والكتاب، ولكنه كان يفند أقوال المنجمين الذين أشاروا على الخليفة (المتوكل) إلا يخرج للحرب في يوم من الأيام لتطهيرهم منه وتوقعهم له الهزيمة والفشل في ذلك اليوم، فلم يستجب الخليفة لتنجيمهم ومضى إلى الحرب فكان الفائز المنتصر! فابتدره أبو تمام بقوله: (السيف أصدق أنباء من الكتب) أي من المنجمين! ويعترف صديقنا بان صديقته لم تكن(964/27)
(كفرا بالأدب ولكنها في الحق كفر بالخطب وكفر بالمقالات والكتب) كما يقول، ولا أدري أيريد الأستاذ بذلك أن يقول أن الخطب والمقالات والكتب ليست من الأدب في شيء؟ أن كان الأمر كذلك فتلك هي الآفة الكبرى التي أجل أدب الأستاذ وفهمه عنها! فإن الخطب والمقالات والكتب هي أشياء من صميم الأدب وبخاصة في مقام الاستحثاث والاستنهاض الذي نحن بصدده!
ولا أدري يا صديقي كيف وأنت تزعم قراءة عصور الأدب الفرنسي والإنجليزي جميعها إذ تقول (لقد قرأت من زمان طويل ما قاله (هازلت) فنازلا و (سارتر) فصاعدا. . ولعلك خبير بتسلسل هذه العصور في فرنسا وإنجلترا) لا ادري يا صديقي أي شيء يكون (صاعدا) بعد سارتر؟ والذي اعلمه علم يقين أن ليس بعده شيء! وانه حي يرزق! وانه لا يزيد عمره على عمرك المبارك إلا قليلا، وان مذهبه - واعني به الوجودية - هو آخر المذاهب الأدبية التي اعتورت الأدب من عصوره اليونانية القديمة إلى يومنا هذا! وهو مذهب تتفتح بوا كيره ولم يعم انتشاره بعد!
يا أخي: أن الأدب - رضيت أو لم ترض - هو الحركة الأولى لكل شيء في الحياة. وكل ثروة حربية إنما سبقتها ثورة أدبية مهدت لها وأدت اليها، والكلام في هذا يطول والشواهد عليه لا تحصى، فأما أن تقول كلاما في الموضوع وأما أن تتقبل تحيتي وسلامي!
علي متولي صلاح(964/28)
رسالة الشعر
غضبة مصر
للأستاذ أنور العطار
(. . . أن غضب الشعب كغضب الطبيعة، أن هاج لا يقدع،
وإذا وقع لا يدفع):
(الزيات)
- الرسالة العدد 962 -
حمى العرب في مصر من روعه؟ ... ومن عاث فيه ومن زعزعه
تغشى الشجون نهاراته ... وتسهد ليلاته المفزعة
تضرج آفاقه بالدماء ... وبالهول والنكبة المفظعة
وبالقلق المر يغشى الحمى ... ويدمعه حسرة موجعة
ويبتعث الفتية القاحمين ... أولى البأس والغبطة المشرعة
تنادي الكرام على خطبه ... ولبوه بالمهج الطيعه
ورووا أباطحه بالدماء ... وندوا بمخضو به أربعه
وكانوا الأضاحي يوم الفداء ... فكانوا العطاش على مشرعه
تهاووا على الموت في لهفة ... فمر بهم سنة مسرعه
فذاقوه أعذب ما يشتهي ... فيالك من ميتة مطمعه
فياطيفهم أنت ملء الضلوع ... عزيز على القلب أن ينزعه
يعيش بذكراهم دائبا ... فتسهر ذكراهم مضجعه
وتغمره بالأسى والحنين ... فان شمته شمته أدمعه
كأنهم بسمات الربيع ... تجود بها روضة مونعة
كأنهم نفحات الخلود ... فلله عطرك ما أضوعه
حمى العرب في مصر من روعه ... ومن عاث فيه ومن زعزعه(964/29)
ومن أنت يا خزي هذا الأنام ... ومن أنت يا ناشد مصرعه
ومن أنت يا بدعة الظالمين ... أما آن للحق أن يقمعه
أتنحوا على الروض نظرا جناه ... تقصف في حنق أفرعه
وتطوي مباهج سفر الوجود ... وما ضم من صور ممتعه
وتقذف بالرعب في الآمنين ... وتلتهم الطفل والمرضعه
تزلزل بالناس سكناهم ... كان ديارهم بلقعه
وتأتي على بلد صابر ... عجيب لكرك ما أفظعه
بوجه تلفع بالموبقات ... تعف الخساسة أن تصفعه
وقلب تخلع من رعبه ... تشبث بالكهف والصومعه
تسلح بالغدر يوم الصدام ... فكان على الغدر أن يصرعه
فما ضره لو أماط اللثام ... وخلى لأربابه برقعه
وعقل من الطيش مستنبط ... قضى دهره كله إمعه
إذا أزمع الناس يوم الزماع ... تلجلج مستأنيا مزمعه
وأن نهضوا للعلى والرشاد ... مشى للخنا سالكا مهيعه
ولو كان أمعن في عقله ... لكان من الخير أن برقعه
أضاع الرشاد غداة الهياج ... ولا يعرف المرشد من ضيعه
فيالك مدعيا باغيا ... ولله بغيك ما أشنعه
ويالك من مورد آسن ... يمج ضروب الأذى والضعه
بنى النيل هبوا بيوم الفخار ... فلا خير في العيشة المضرعه
بناء من الظلم جدرانه ... فلن نرجع الدهر أو نصدعه
ولا تهنوا في مجال الكفاح ... ولا ترهبوا جاحم المعمعه
ألستم بنى العربي الأبي ... ومن عاش للمعتفي مفزعه
ومن مر بالأرض مثل الغمام ... وطوقها رحمة ممرعه
إذا هجته هجت ليث الشرى ... فهاجت على أثره مسبعه
وأن رمت تقبس من هديه ... أراك السنا سابرا منبعه(964/30)
إذا كتب القوم تاريخهم ... فتاريخنا الخير والمنفعة
وتاريخنا حافل بالعلاء ... وتاريخهم ملؤه الجمجعة
سأنشر ما عشت أمجادنا ... وابعث ماضينا اسطعه
بنينا على الحمد هذا الوجود ... وصغناه أنشودة مبدعه
فلا بد للحق أن يستفيض ... ولا بد للبطل أن ندفعه
هو الرزء يجمع أشتاتنا ... فاعلوا بحبكم مجمعه
تساقي الإخلاء أمواهه ... وطافوا بأكوابه المترعة
تلاقوا كما تتلاقى الدموع ... وتشتبك الدوحة المفرعه
وصانوا العلى والإخاء القديم ... وصانوا التراث ومستودعه
ومن عاق هذا الهوى والوئام ... فأنا عليه ولسنا معه
ومن يزرع الربح في أرضنا ... فلا بد أن يحصد الزوبعة
دمشق
أنور العطار
الضيف الخالد
للأستاذ محمود عماد
ما أنا معك، لا ولا أنت مني ... أيها النازل الحمى فاغمض عني
أن تكن ضيفنا فسبعون عاما ... يلعن الضيف بعدها أي لعن!
او تكن جئتنا لتحمي فردا ... فهو والله مات من نصف قرن
وهو والله لم يحط عرشه الخو ... ف لدن جئته تجود بأمن
هو عرش في كل عهد محوط ... من أرضنا شعبه بأمنع حصن
ولنهبها مروءة لك غاضت ... فلقد جاوزت حدود التمني!
وهي منا لما تفز بشكور ... فلتفز منك يا جواد بضن
هي صنف من المروءات لا يل ... قي لدى البذل غير حقد وضغن
هي صنف من المروءات يسدي ... بأكف من كثرة السلب حجن(964/31)
ووجوه صفيقة الجلد لو شد ... ت نعالا لما اعتراها تثني!
يا ذئابا في صورة الناس تبدو ... فن تمثيلكم لهم أي فن؟
قد وصلتم بمخلب كل ظفر ... ويناب وصلتمو كل سن
أي شر خشيتموه علينا ... ومننتم بدفعه كل من؟
أي خصم أقمتمو لتصدو ... هـ بضرب عن أرضنا وبطعن؟
أنتم الشر والخصوم جميعا ... فدعونا نفز بأمن ويمن
إن نخالفكم الغداة فمن ذا ... نتقيه من بين انس وجن؟
أين ما قد اذيع في مجلس إلا ... من، أو الخوف، من أغاني المغنى؟
أين ما قد زعمتمو من حقوق ... قد سننتم قانونها خير سن؟
أين حق الإنسان أو أين حق ال ... شعب في حطم كل قيد وسجن؟
وهو إنساننا الذي صنع الله ... وترعونه بحق التبني؟
أم تراه الذي صنعتم نحاسا ... لتقودوه دون عقل وذهن؟
يا بني النيل، من ثحدر من قح ... طان في أصله ومن فرعون
أنني في عروقكم سامع صو ... تين قد دويا بوحي دمين
إن هلموا، فاليوم - أو مستحيل - ... يرجع النيل عزة الضفتين
لا تخافوا جنديهم فهو لا جن ... دي، بل أعطى أسمه حسن ظن!
انه مشجب لحمل سلاح ... فانزعوه يكن لكم شبه قن
اضربوه بسيفه أن تفضل ... تم، وإلا في ضربه النعل تغني
لم يكن راحما، فحرمت الرح ... مة منكم عليه، دينا بدين
محمود عماد
نسف قرية
للأستاذ عبد اللطيف النشار
ديار الآمنين نسفن نسفا ... فبات على الثرى منا الألوف
وما اقترفوا ولا هموا بذنب ... ولكن هكذا شاء الحليف(964/32)
ليظهر بطشه ويخيف شعبا ... يرى أن المنية لا تخيف
ألا يا أمة هرعت وشاخت ... ثقيل عداوة وأذى طفيف
ستبلعكم مقابركم لدينا ... وتغنينا عن الدور الكهوف
سلاحكموا - وان غدا قريب - ... بأيدينا فوز نكمو خفيف
وفي أجناد كم ما ليس يخفى ... على أحد وان كره العفيف
يبيع سلاحه منكم ظريف ... بعيد عن مقاصدكم عزوف
لطيف الدل ذو صوت رخيم ... وتجنى من محاسنه القطوف
وبملكه الحياء ويتقينا ... بكفيه إذا سقط النصيف
بكاس يشتري منه سلاح ... ويخلب لبه القول اللطيف
عساكركم دمى صيغت بفن ... وأولى أن تضيق بها الرفوف
وإن نسفوا منازلنا فقدما ... تجنى عند فرصته الضعيف
لقد فقدت كرامتها جيوش ... يبيع سلاحها منهم ألوف
وقد كرهوا الحروب فإن فيهم ... شيوعيين دينهموا الرغيف
وقد فقدوا رجولتهم فمنهم ... غريق في مذلته مؤوف
جنودكمو الآلي دللتموهم ... رخيم أو بهير أو نزيف
تخذتم أكثر الدنيا عبيدا ... فحارب دونكم جيش عنيف
وحررهم وغلبهم عليكم ... زمان رأيه فيكم حصيف
تولى المترفون الأمر فيكم ... دروعهمو الغلائل والشفوف
أرى متنعمين وهت قواهم ... فظل العيش عندهموا وريف
وحق عليكموا ما حق قدما ... على من سادهم أبواء جوف
نسفتم دورنا فلتذكروها ... فهلا قلعة من عهد خوفو
بناء يبتنيه أهل مصر ... يحطمه بمدفعه الحليف
فيالك ضحكة دوى صداها ... يجاوبها من الجن الزفيف
ألا إلى الآلي شردتموهم ... سيصلح أمرهم رب رؤوف
ستسمى في أكفهمو حراب ... وتصبح بين أيديهم سيوف(964/33)
فيا للثأر يا أبن منا ورمسو ... ولا يزعجك جمعهمو الكثيف
وما يكتال بالثارات آب ... دم بدم ونحسو أو نسوف
عبد اللطيف النشار(964/34)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
محنة الأخلاق في الجامعة
هذه الكلمات التي انقلها هنا، كما وردت بنصها في رسالة من أحد (تلاميذ) الدكتور عبد الرحمن بدوي، أود أن أقدمها مرة أخرى إلى معالي وزير المعارف، والى مدير جامعة إبراهيم، والى عميد كلية الآداب بتلك الجامعة. . أود أن أقدمها إلى هؤلاء الذين بيدهم الأمر، ولهم سلطة الاشراف، وعليهم في النهاية تقع المسؤولية!
قال التلميذ (الفاضل) وهو من ناشئة الجيل الذي اشرف على (تربيته) الأستاذ (الفاضل): (قرأت تعقيبكم على فقرات من كتاب (الحور والنور) للدكتور عبد الرحمن بدوي، فرأيت أن أراد ما جاء به من اتهام مجحف بما يلي:
(1) أن العلاقة الجنسية عملية (بيولوجية) لاستمرار الحياة. . فالتحدث عنها وعما يستلزمها من استمتاع بالأعطاف والأرداف ليس فيه ما يخجل!!
(2) ما هي قيم الناس المقدسة؟ أن هي إلا أضحوكة صاغها العرف ودعمها من يسميهم الناس أنبياء. . فله الحق (يقصد الدكتور بدوي) في رفضها أو قبولها!!
(3) أن عبد الرحمن بدوي لا ينال بمثل هذه الكلمات من سمعة الجامعة العلمية أو الخلقية. . بل أن الجامعة لتفتخر به)!!
إلى هنا وتنتهي رسالة التلميذ (الفاضل)، وهو كما قلت من ناشئة الجيل الذي يشرف على (تربيته) الأستاذ (الفاضل). . أن هذه الرسالة هي الدليل المادي الذي لا يدفع، على أن هذا الأستاذ قد استطاع أن يطبع تلاميذه بطباعه، وان يخلق منهم (رجالا) يواجهون معركة الحياة الطويلة بسلاح الخلق. . الخلق الذي يطالعك معدنه (النفيس) من وراء تلك الكلمات!
هذا هو ما كنت انتظره وأخشاه، وهذا هو ما دفعني إلى إثارة المشكلة من قبل أمام المسؤولين، مشكلة التدهور الخلقي الذي يخشى منه على طلاب الجامعة. هذه التيارات الفكرية التي تعصف بالقيم وتحتقر المثل وتهزأ بالتقاليد، من الذي نثر بذورها الآثمة ورعى ثمارها المجرمة في رؤوس أصحاب الغد، رؤوس هذا الجيل المرتقب من شباب الجامعة؟ ترى هل يحتاج السؤال إلى جواب؟ وإذا كان محتاجا فمن يجيب؟ هال أجيب أنا(964/35)
أم يجيب مدير جامعة إبراهيم، أم يجيب عميد كلية الآداب بتلك الجامعة؟!
أن مثل هذا الطالب الذي يدافع عن العلاقة الجنسية بأنها عملية بيولوجية، ويؤكد أن الاستمتاع بالأعطاف والأرداف ليس فيه ما يخجل، وان القيم المقدسة أن هي إلا أضحوكة من صنع العرف أو من صنع من (يسميهم) الناس أنبياء. . مثل هذا الطالب - وهو نموذج مادي صارخ لغيره من الطلاب - لا ذنب له في رأي الحق ولا لوم عليه؛ لأن هناك (الأستاذ) الذي أقنعه بان هذه هي القيم، وبان هذه هي المثل، وبان هذا هو الطريق. . هناك الأستاذ الذي أتقنعه بهذا كله في قاعات الدرس وهو يحاضر، وبين صفحات الكتب وهو يؤلف، ولا بأس في منطق (الدين الجديد) من أن نفخر الجامعة بداعي الدعاة!!
أرأيت كيف يفخر التلميذ (الفاضل) بكلمات أستاذه (الفاضل)؟! لقد علمه فاحسن التعليم، وأدبه فأحسن التأديب، ووجهه فاحسن التوجيه، وبلغ من ذلك كله الأوج واشرف على الغاية. . أن هذا الطالب وأمثاله شهداء؛ وإذا كان الشيء يذكرنا بنقيضه، فإنني لأذكر في هذا المجال شهداء آخرين، وما أبعد الفارق في حساب الشعور بين شهداء (الوطنية المحمومة) وشهداء (الأفكار المسمومة). . أن (أبناء القنال) مثلا يفخرون بحديث الجهاد والبذل، وبمعنى الفداء والتضحية، ثم بشرف الانتحار بين يدي العدو اللدود؛ أما (أبناء الجامعة) فيفخرون بحديث الأعطاف والأرداف، وبمعنى المساواة بين الخالق والمخلوق، ثم بشرف الانتحار بين النهود. . ألبست هذه الألفاظ هي ألفاظ (أستاذ الجيل) كما أزدان بها كتاب (الحور والنور)؟!
حديث وحديث، ومعنى ومعنى، وشرف وشرف، وهي في جوهرها دروس ودروس. . دروس في (الاستقلال) يتلقاها فريق من شباب مصر، ودروس في (الانحلال) يتلقاها فريق آخر من هؤلاء الشباب، وأبحث عن الدوافع النفسية لهذه الظواهر الخلقية، أبحث عنها في تعاليم (القادة) والموجهين هنا وهناك!!
لقد بقي شيء كنت أود أن أذكره وهو أسم هذا الطالب الجامعي لعله يخجل. . كنت والله أود أن افعل ولكنني تذكرت أن أستاذه (الفاضل) قد علمه وعلم أمثاله أن الهبوط والسقوط، ليس فيهما ما يبعث على الخجل أو ما يدعو إلى الحياء!!
ذكرى شاعرة سورية:(964/36)
هل تذكرون تلك الفتاة الأنيقة الرشيقة. . (الآنسة) هجران شوقي؟ وهل تذكرون ذلك اليوم الذي رفعت فيه القناع عن الوجه المزيف والحديث الكاذب والشعور المصنوع؟! لقد استطاع ذلك الشاعر السوري (المعروف) أن يلقاني بوجه امرأة، وان يتحدث إلي بصورة أمرأة، ولكنه نسي شيئاً واحداً لم يفطن أليه. . وهو أن يتزود بدهاء النساء، نسي مع الأسف الشديد هذا السلاح الخالد من أسلحة حواء. . ومن هنا انكشف أمره وانتهت المعركة!
أقسم إنني كنت اعرفه، اعني (الأستاذ) هجران. . وإنني ذكرت أسمه لكثير من أهل الأدب حين سئلت عنه، بعد تلك الكلمة التي وجهتها إليه على صفحات (الرسالة) ورجوته فيها أن يفصح عن اسمه وإلا أفصحت عنه!. . رجوته فخيب الرجاء ولج في الهجر، وأمعن في الدلائل، شأن ربات الحجال! ومن هنا خانني الصبر فبحت باسم الأستاذ الشاعر في مجالس الأدب فصدق أناس وتردد في التصديق آخرون. . ترددوا على الرغم من الأدلة المادية المقنعة التي تقوم على المقارنة بين شعره وشعر (الآنسة)، وبين النماذج الخطية لكتابتها وكتابته وهي موجودة بدار (الرسالة)؛ فضلا عن السبب الرئيسي الذي من أجله بدل من قسمات الوجه وغير من نبرات الصوت. . وهو دفاعه الصادق المخلص عن شاعر يمينه في مسابقة شعرية أقامتها مجلة (العصبة) المهجرية!!
تلك الفئة المترددة في التصديق كانت قليلة على كل حال، وعذرها في ذلك مقبول حين نضع نصب أعيننا هذه الحقيقة، وهي أن الشاعر الذي وضع على وجهه نقاب امرأة شاعرة معروف تعرفه صفحات (الرسالة) منذ خمسة عشر عاما على وجه التقريب وتبعا لهذا (الشرف) يعرفه القراء في مصر والبلاد العربية. . ومن هنا عز على بعض المقول أن تصدق تلك (الفعلة) التي لا يقدم عليها غير الأدباء الناشئين أو غير الصبية المراهقين!!
وأترك تلك الفئة المترددة وأخاطب القراء، مقدما إلى أذواقهم هذه الأبيات التي اقتطفها من قصيدة ألقاها الشاعر الذي أعنيه، في حفلة تكريم أقيمت للشاعر المهجري جورج صيدح بدمشق، ونشرتها مجلة (الأديب) اللبنانية في عدد ديسمبر عام 1951. . قال الأستاذ الشاعر وهو يتحدث عن نكبة فلسطين بصوت (لرجال) محييا الشاعر المهجري الذي نذر لها ديوانه (النوافل) هبة شعر وشعور، قال حفظ له الله وجهه الحقيقي بغير نقاب:(964/37)
عليك سلام العرب يندى مواجعا ... ويشرب دمع العين غربا إلى غرب
ولم رحت لا تلوين إلا على النوى ... أمن أمل رحب إلى أمل نهب؟
ديار الهوى لا زلت مخضرة المنى ... ترف على مغناك فينانة العشب!
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... وبي منك ما يغري المحب وما يصبي
وما غبت عن طرفي وإن بعد المدى ... ولكننا في الحب جنبا إلى جنب
وما ذكرتك النفس إلا تولهت ... وهيمها رح فباتت بلالب!
يهيج جواها الشوق والشوق عاصف ... كان على أنفاسه زفرة النحب!
دهتك من الدنيا كوارث جمة ... وألقت بك الويلات في مسلك صعب
فقد ينجلي الليل الطويل عن السنا ... وتزدهر الأعواد في المهمه الجدب!
إذا دهمته الداهمات تلجلجت ... به النفس وأنهارت تقول له حسبي
وطوف رباع الخلد تطواف عاشق ... حسير الأماني وابك بالدمع السكب
إليك أؤدي بعض ما تستحقه ... رفيفا من التحنان والنغم العذب
وأنت جدير بالدراري فليتني ... أصوغ بياتي من سنا الأنجم الشهب!
هذه هي الأبيات، ومعذرة لضياع الوحدة النفسية فيها وكذلك الوحدة الفنية، لأن هناك بيتا مقتطفا من هنا وبيتا مقتطفا من هناك، تبعا لحرصي على جمع (الأكليشيهات اللفظية) التي سأترك لك المقارنة بينها وبين (أكليشيهات أخرى) مماثلة، هناك في قصيدة قديمة وجهتها (الآنسة) هجران شوقي إلى الشاعر عزيز أباظة، في العدد (901) من الرسالة. . وهو العدد الصادر في 9 أكتوبر عام 1950! قالت (الآنسة) الشاعرة التي نسيت إنني اقرأ مجلة (الأديب) وما زلت اذكر شعرها الحبيب:
وأنت سماوي القصيد قبسته ... من اللاعج المشبوب والمدمع السكب
ولما نزل سؤل النفوس وقصدها ... وشغل الليالي الزهر والأنجم الشهب
فيالك من شعر رقيق منغم ... برف رفيف الطل في ناضر العشب
ترقرق بالشكوى وضمخ بالأسى ... فجاد بما يغري وجاش بما يصبي
وأشربته نجوى تذوب رهافة ... وتخضل بالتذكار والأمل النهب
تخلده الأحقاب في الطير شاديا ... فأما شدا بات المحب بلا لب(964/38)
وفي الغائب النائي الذي لفه الردى ... ففاض حنانا وهو في زفرة النحب
غريب حريب لا يقر قراره ... إلى أن نرى في الخلد جنبا إلى جنب
فما الشعر إلا أبن المدامع والأسى ... تجود به الأجفان غربا إلى غرب
إذا خاطب الأرواح رفت بشاشة ... ولو أنها في وحشة المهمه الجدب
يظل حداء الركب ترمي به النوى ... فينسيه ما يلقاه من مسلك صعب
نشاوي وما ملوا غناء ولا سرى ... ولا تعبوا أو قال قائلهم حسبي!
فيالك صداحا ويالك شاعرا ... تفرد بالتحنان والنغم العذب
أرأيت إلى هذه (الأكليشيهات اللفظية) المكررة في هذه القصيدة وفي القصيدة السابقة؟!. . إنها (أكليشيهات) تطالعك كثيرا في شعر هذا الشاعر، وهي من (لوازم) التعبير التي تكشف لك عن شخصية الأديب أو الشاعر ولو حججت تلك الشخصية وراء الأستار!. . (المدمع السكب)، والدمع الذي تجود به الأجفان (غربا إلى غرب)، و (الأنجم الشهب)، و (المسلك الصعب)، و (المهمه الجدب)، و (زفرة النحب)، و (بات بلا لب)، و (الأمل النهب)، وفي الحب أو في الخلد (جنبا إلى جنب)، وتلك أو الذي (يقول له حسبي)، وذلك (التحنان والنغم العذب). . إلى آخر تلك (الأكليشيهات) المحفوظة على طريقة تلاميذ المدارس، والتي يمكنك أن تجد الكثير منها بلحمه ودمه في قصيدة أخرى نشرت (للآنسة) هجران على صفحات الرسالة، وهي القصيدة التي رثت بها (أختها) الشاعرة المصرية الراحلة، الآنسة ناهد طه رحمها الله!!
عيب الأستاذ الشاعر أنه ضعيف الذاكرة، ولو لم يكن ضعيف الذاكرة لما نسي أن وظيفتي الفنية هي النقد، وان النقد من عاداته أن يرفع الستر عن الأشياء الدفينة. . لقد سطا الأستاذ في جرأة بالغة على شعر الآنسة هجران، ولم يتحرج من أن يحيى الشاعر جورج صيدح بهذا الشعر المسروق!
ليصدقني القراء إنني لم اكن أنتظر أن يسطو هذا الشاعر المعروف على شعر هذه الشاعرة الناشئة. . ق يدافع هو عن نفسه فيقول لنا بصوته الطبيعي الذي لا تشويه رقة الغانيات: هذا اتهام جائر لأن الشعر شعري هنا وهناك، سواء نظمته من وراء الأستار أم نظمته في وضح النهار. . عندئذ لا يسعنا إلا أن نعتذر للأستاذ أنور شوقي أو للآنسة هجران(964/39)
العطار!!
حول أسئلة القراء:
يؤسفني جد الأسف أن تشغلني محنة الأخلاق في الجامعة وذكرى الشاعرة السورية، عن التفرغ للأسئلة التي تلقيتها من بعض القراء وأشرت إليها في العدد الأسبق من (الرسالة). . ولقد تلقيت فيضا آخر من الرسائل في الأيام الأخيرة، وارجوا ألا تشغلني من التعقيب محن أخرى وذكريات!
بقي أن أوجه أنظار القراء إلى هذه الحقيقة، وهي أن وقتي لا يتسع لكتابة الرسائل الخاصة حول المشكلات الخاصة؛ المشكلات النفسية التي تمتلئ بها نفوس الشباب في هذا الجيل. إنني أقدر هذه المشكلات كل تقدير وأعطف على أصحابها كل العطف، ولكنني أعتذر لهم بضيق الوقت وبشيء آخر، وهو أن كثيراً من المشكلات لا يمكن علاجه بكلمة أو كلمات!
أنور المعداوي(964/40)
المسرح والسينما
مسرحية. . .
دنشواي الحمراء. . .
للأستاذ أنور فتح الله
تأليف: الأستاذ خليل الرحيمي
إخراج: الأستاذ زكي طليمات
تمثيل: فرقة المسرح الحديث
. . دنشواي. . قرية صغيرة من قرى الريف المصري، كانت تعيش هادئة آمنة إلى أن شاء القدر أن تبرز هذه القرية في صفحات التاريخ. فتهز مأساتها الضمير الإنساني، وتلطخ بالعار تاريخ الإمبراطورية العجوز. . ومنذ سنة 1906، أصبح أسم دنشواي يقترن بأبشع صور الظلم الإنساني.
ولقد أراد المؤلف خدمة القضية الوطنية بتصوير الحاضر وإثارة الشعور ببعث الماضي الذي مثل فيه الإنجليز بنا أشنع تمثيل، فأتخذ من حادث دنشواي صورة الماضي. . . . ورمزا للحاضر. .
ولما كانت هذه المسرحية، هي المسرحية الأولى التي يساهم المسرح المصري بها في خدمة القضية الوطنية مساهمة مباشرة. . فقد رأينا أن نتجه في نقدنا لها اتجاها (تحليليا)، متتبعين خطوطها الفنية، ومسجلين الأثر الذي تركته في نفوسنا؛ لنعطي للقارئ صورة صادقة لها.
. . تبدأ أحداث المسرحية في الإسماعيلية، حيث نرى أسرة مكونة من أب، وأم، وأبن، وخطيبته
. . أما الابن (عادل) فإنه يساهم في خدمة وطنه بالاشتراك غفي كتائب التحرير التي أعلنت حرب العصابات على المستعمر. . ولقد علمت الأم (رزقة) بما أعتزمه ولدها، فحاولت منعه لتدرأ عنه الخطر المحدق به. ولكنه يصر على الثأر للوطن من الغاصب(964/41)
المستبد. فتستعين بالأب (عبد الرازق)، وإذا به يأذن لولده بالخروج ليؤدي واجبه، فتصرخ الأم باكية، فيذكرها بماضيها في دنشواي. .
وفي دنشواي، نرى حادث قتل أم محمد، شقيقة عبد الرازق برصاصة أحد جنود الجيش البريطاني، ونرى مستر متشل المستشار الإنجليزي لوزارة العدل يجري التحقيق في منزل العمدة، وقد أتهم في الحادث حسن محظوظ والد رزقة، وعبد الرزاق خطيبها. . وينفذ حكم الإعدام في حسن محفوظ وزميليه. . ويفر عبد الرازق ورزقة إلى الإسماعيلية. .
وتنتهي حوادث المسرحية في الإسماعيلية، حيث ينقذ عبد الرازق ولده عادل وخطيبته سلوى ورزقة، ويقف وحده ليواجه جنود الجيش البريطاني الذين جاءوا للقبض على ولده، وينسف المنزل على نفسه وعلى أعدائه. .
. . ومن هذا العرض السريع للمسرحية، يتضح لنا أن المسرحية تصور الحاضر، والماضي. ولقد ربط المؤلف بين الماضي والحاضر بشخصيتي الأب والأم ولجأ إلى الرمز في تصويره للحاضر، فاختار أحداثه من المخيلة ليرمز للواقع وأتجه في تصويره للحقائق التاريخية إلى التركيز، فاتخذ قمم الأحداث وأستعان بالخيال في تصوير الدوافع النفسية التي تحرك أشخاص التاريخ، وبهذا بعث فيهم الحياة، وأبرز الماضي في صورة تثير الفكر والعاطفة.
. . والجو العام لهذه المسرحية مزيج من الدراما والكوميديا. . الدراما التي تمثل مآسي الظلم. والكوميديا التي تصور السخرية الثائرة على الأوضاع المقلوبة في الحياة. . ولقد بدت مشاهد الكوميديا موزعة في المسرحية لنمهد لضربات المأساة. وكانت شخصية الأسطى عطية تمثل الخط الكوميدي في الجزء الذي يصور الحاضر، وشخصية الشيخ محمد تصور امتداد هذا الخط في الجزء الذي يصور الماضي. ولقد كان الضحك في هذا الخط نتيجة للمفارقات الطبيعية المتصلة بالأحداث، كموقف الشيخ محمد عند التحامه بمستر متشل، ومحاولته تضليل ضابط البوليس حتى لا ينقبض على عبد الرازق.
والزمن في المسرحية يبدأ بالحاضر، ثم يعود إلى الماضي، ثم يرجع إلى الحاضر. وهذه الحركة تسمى في السينما وهي نادرة الحدوث في المسرح. ولقد استخدمها المؤلف في هذه المسرحية لتحقيق غرضين. . الأول رمزي. . فهو يرد شعورنا بكراهية الإنجليز اليوم(964/42)
إلى الألم الكامن في اللاشعور المصري نتيجة لكبت الظلم في الماضي. أما للغرض الثاني فهو فن. . قصد به التخلص من التسلسل التاريخي الذي ينجح بالمسرحية إلى العرض. . وأريد به المقابلة بين أحداث الحاضر وأحداث الماضي، وهذه المقابلة تزيد من قوة الحادث المسرحي. . وأحداث الماضي، وهذه المقابلة تزيد من قوة الحادث المسرحي. . ومن ناحية أخرى فإن هذه الرجعية الزمنية تساير حركة الفكر عندما يعود إلى تذكر الماضي.
. . والحادث المسرحي يصور حياة أسرة مصرية في الماضي والحاضر، وحياة هذه الأسرة تمثل حياة مصر في الماضي وفي الحاضر. . والصراع بين هذه الأسرة وبين البريطانيين نتيجة لما حل بها من ألم وظلم يمثل الصراع بين مصر وبينهم. . والرابطة بين ماضي الأسرة في المسرحية وحاضرها هي رابطة الدم التي تصل عبد الرزاق بولده. . وهي تمثل نفس الرابطة التي تصل أبناء اليوم بآباء الأمس الذين حل بهم الظلم في دنشواي وغيرها من مآسي الاستعمار. . وبهذا قابل المؤلف بين حياة تلك الأسرة الصغيرة التي ظهرت على المسرح. . وحياة الأسرة الكبرى التي يرمز إليها. . واستطاع بهذا أن ينقل التجربة التي تلقاها من الحياة ويطبقها في عمله الفني.
ومن حيث تصوير الأشخاص. . اتجه المؤلف في تصويرهم اتجاها رمزيا. . فعبد الرازق يرمز للماضي المستعمر في الحاضر. . وعادل يرمز للحاضر المستعمر في المستقبل. . والشيخ محمد والأسطي عطية يرمزان لروح الشعب المصري في الماضي والحاضر، وسلوى تمثل الفتاة المصرية التي تساهم بنصيبها في الجهاد. . ومستر متشل يمثل روح الاستعمار البريطاني. وسنتناول بالتحليل شخصيتين: الأولى خلقها المؤلف من المخيلة. . والثانية استمد اسمها ودورها من التاريخ، أما بقية الصور فمن خلقه. .
. . فقد أبرز الشيخ محمد مؤمنا بالله، صادقا بفطرته، طيب القلب ساخطا على الظلم، يعبر عن سخطه المكبوت بسخريته اللاذهعة، وإذا جرح شعوره الديني فإنه يثور ثورة عابثة ولا يبالي بالحياة. . ولقد حرص المؤلف على أن يجعل الأحداث التي يشترك فيها تبرز هذه الخطوط، وفي نطاق الواقع النفسي والفكري للشخصية المصرية
ولقد أبرز المستر متشل متظاهراً بالعدل وهو ظالم، يتهم بالقتل وهو قاتل، ويغضب من الحق، ويؤمن بالباطل، وبهذه الخطوط لخص المؤلف روح الاستعمار في شخصية متشل،(964/43)
وعبر بأفعالها وأقوالها عن المنطق الاستعماري أبلغ تعبير. . ولقد سار المؤلف على ذلك في رسم الشخوص الأخرى. . كالعمدة؛ وجندي البوليس، وشيخ البلد، وشيخ الخفر. أما شخصية عبد الرازق وعادل فإنهما ترمزان لجيلين؛ ولهذا كان المؤلف ملتزما في تصويره لهما. ولقد قيد هذا الالتزام حريته في التصوير فغلبت عليهما النموذجية، وذلك حتى لا تبعد الصورة عن الرمز. وكان الجانب الإنساني بارزا في تصوير الأم لتأرجحها بين العاطفة والواجب. . والطابع العام في رسم الأشخاص هو الصدق في التصوير والتعبير، والتفكير.
. . . والبناء في مثل هذه المسرحية (الملتزمة) يعد من أصعب الأمور على المؤلف المسرحي، لأنه عامل أساسي في التأثير على المشاهد، ونقل التجربة النفسية إليه وإذا اهتز البناء في يد المؤلف، فالمسرحية أما أن تصبح عرضا مسرحياً، أو تميل إلى الخطب المنبرية. وسنحاول هنا أن نستعرض بناء المسرحية لنرى إلى أي حد وفق المؤلف فيه. .
. . فالمنظر الأول يمثل حياة الأسرة في الإسماعيلية. . ولقد بدأه المؤلف بداية مثيرة ليغمر المشاهد في الجو العام للمسرحية. . فابرز عادل وأعوانه يتآمرون في الظلام على جنود الاستعمار. . واستخدم التعارض بين موقف الأم والأب بالنسبة لابنهما في جذب انتباه المشاهد، وتسليط الأضواء على السر الذي يطويه عبد الرازق. . وفي نهاية المنظر جعل عبد الرازق يفصح عن السر في تشجيعه لابنه على محاربة الإنجليز. . فبدأ انتباه المشاهد يتجه إلى التفكير في العلاقة التي بين عبد الرازق وبين دنشواي. . وأصبح مشوقا إلى معرفتها. .
وفي المنظر الثاني يتغير الجو. . والزمن. . والأحداث. . ويرى المشاهد أشخاصا غير الأشخاص الذين رآهم في المنظر الأول. . وقرب منتصف المنظر يبدو عبد الرازق في ثوبه الريفي. . فيسترعي النظر لاختلاف حالته في الإسماعيلية عن حالته في دنشواي. ويصور المؤلف بدء العلاقة بين عبد الرازق ورزقة. . وقرب ارتباطهما بالزواج. . ثم يمهد المؤلف للمأساة حتى لا يفاجأ بها الجمهور. . فيذكر على لسان أحد الأشخاص أن فرقة إنجليزية عسكرية بالقرية. . ثم يأتي جندي البوليس فيخبرنا بان الجنود يصطادون الحمام. . ثم يشب الحريق في أحد الأجران. . ثم يضرب المؤلف ضربته الأخيرة فيعرض أحد الجنود وهو يصطاد الحمام فيخطئ الهدف ويصيب أم محمد. . وفي هذا المنظر كان(964/44)
المؤلف موفقا في مسرحة الحادث التاريخي، فجاء مشوقا كامل البناء. .
. . أما منظر التحقيق الذي أجراه المفتش الإنجليزي فيصور فيه الصراع في المأساة بين أهل القرية وممثل الاستعمار. . ولقد أعتمد المؤلف في تجسيم هذا الصراع على تصوير التعارض بين الصورة الحقيقية للحادث التي رآها المشاهد في المنظر السابق، وبين الصورة الباطلة التي يصورها ممثل الاستعمار. . وتصل المأساة إلى الأوج عندما نعلم أن المشانق قد أعدت قبل المحاكمة. . وفي هذا المنظر يبرز المؤلف العلاقة بين عبد الرازق والزوجة وبين الحادث. . فالأول أحد المتهمين الذين فروا. . والثانية ابنة أحد المتهمين الذين اعدموا. . ومن هذه الزاوية ربط المؤلف بين الحاضر والماضي، برباط طبيعي. . .
. . . وفي المنظر الخامس. . . يجسم المؤلف اثر المأساة في نفوس أبطال المسرحية. . فعبد الرازق يختفي عن أعين الاستعمار. . ورزقة تبكي أباها الذي أعدم. . ويستغل المؤلف مطاردة البوليس لعبد الرازق في تحريك قلب المشاهد، وينتهي هذا المنظر بنجاة عبد الرازق بعد أن غلب الضابط وطنيته على واجبه. وهذا المنظر يكاد يتكامل في بنائه لولا أن المؤلف أدخل عبد الرازق من أول المنظر، وبهذا قضى على التشويق في المشهد الذي جاء فيه شيخ الخفر ليخبر الأسرة بأنه علم أنه قد قبض على عبد الرازق. . وكنا نفضل أن لا يدخل عبد الرازق إلا بعد خروج شيخ الخفر. . لينتقل الشعور بالقلق الذي أحس به أشخاص الرواية إلى المشاهد. .
. . . والمنظر السادس يصور الجانب الإنساني في حياة عادل والجانب الوطني في حياة فتاة اليوم التي تمثلها سلوى. . وجو هذا المنظر خفيف بالنسبة لجو المأساة المكفهر في دنشواي. . وهو تمهيد للمأساة التي ستنتهي لها المسرحية. . وقد اتخذ المؤلف من زيارة عادل لخطيبته، والطلق الناري الذي سمع بعد خروجه مادته لتحريك المشاهد وجذب انتباهه. . . الا اننا نرى في اخبار عطية لسلوى بزيارة عادل قضاء على عنصر التشويق في هذه الزيارة. وكان من الخير أن يدخل عادل دون هذا التمهيد. . كذلك نلاحظ التكرار في سرد قصة تجاه عادل. . فقد ذكرها والد سلوى. . وذكرها عبد الرازق وكان الأفضل أن يذكرها عبد الرازق فقط. . وكان تتبع عبد الرازق لابنه غامضاً. . فقد قال عبد الرازق في ذلك. . أنه يرى بقلبه. . ويسير وراء ابنه خطوة خطوة. . وكان من السهل على(964/45)
المؤلف تبرير ذلك بان يذكر عبد الرازق أن عطية اخبره بزيارة والده لسلوى. . وبهذا يستقيم بناء هذا المنظر.
. . . والمنظر الأخير من المسرحية يصور قصة اختفاء عادل أثناء هجومه على المعسكر البريطاني. ولقد لعب المؤلف فيه بقلب المشاهد وجعله حائراً بين الأمل في عودة عادل، واليأس من هذه العودة، وكنا نفضل أن تنتهي المسرحية بعودة عادل. وذلك لأن نسف عبد الرازق للمنزل على نفسه وعلى أعدائه كان سريعاً وبعيداً عن الطبيعة. . فكان في مقدوره أن يشعل فتيل الديناميت ويفر مع الذين فروا وبهذا يثأر لنفسه، وينتصر على أعدائه.
. . . ومن هذا العرض يمكننا أن نخرج بنتيجة عامة. . هي أن المسرحية تكاد تكون كاملة من حيث البناء لولا بعض الهنات التي بيناها في مواضعها. . وبهذا وفق المؤلف التأثير على المشاهد بهذه الصورة الحية الصادقة التي تمثل حياتنا العامة بها فيها من آلام وآمال.
ولقد كان المؤلف موفقاً في تصوير الأجواء المختلفة للمسرحية؛ فهو في الإسماعيلية يصور ذلك الجو الرهيب الذي يعيش فيه أهلها. . وفي الريف يجسم في صدق النفسية الريفية بما فطرت عليه من بساطة وبراءة وطهر. .
أما حوار هذه المسرحية فواقعي، بساير في واقعيته البيئات المختلفة للأشخاص. . وكان الحوار مساوقاً للحركة المسرحية، وبهذا خلت هذه المسرحية من النعمة الخطابية التي تغلب على المسرحيات التي تعالج موضوعاً قومياً.
وبعد. . فهذه مسرحية جريئة في موضوعها وبنائها، حاولنا أن نبرز للقارئ خطوطها الفنية. . ومؤثراتها النفسية، ونرجو أن نكون قد وفينا مؤلف هذا العمل الضخم حقه، ليتابع خطواته الفنية الناجحة. ولقد اخرج هذه المسرحية الأستاذ زكي طليمات ولقد حقق بالمناظر الإطار المادي للمسرحية في بيئاتها المختلفة. . مستخدما في ذلك الرمزية في بعض المناظر. . والواقعية المجسمة في البعض الآخر. . ويجدر بنا أن نسجل للمخرج بروزه في منظر الجرن. . حيث بدت المنازل الريفية في بساطتها. . والأفق من ورائها. . وكذلك منظر المشنقة الضخمة. . الذي يمثل طغيان الظالم وتجبره بهذه المشنقة الضخمة. . ولقد أستغل الأضواء في أحياء الأجواء النفسية. . وحرك المجموعات في مشهد المؤامرة، ومشهد الجرن، والمحاكمة في براعة فبدت حركاتها طبيعية.(964/46)
ولقد برز في مشاهد الريف من الممثلين عبد الرحيم الزرقاني في دور العمدة، ومحمد السبع في دور حسن محفوظ، فقد استطاعا تجسيم الثورة على الظلم من العبارة المحدودة التي أملاها الموقف المسرحي. أما عبد الغني محمد قمر ممثل دور الشيخ محمد فقيه القرية فقد بلغ حد الإجادة في أداء دوره لولا حرصه على جذب المشاهد إليه ولو كان ذلك على حساب الجو العام للمشهد المسرحي
ولقد أجاد عدلي كاسب الذي قام بدور المستر متشل فقد أدى إتقانه لدوره إثارة سخط الجماهير عليه لأنه يمثل السلطة الغاشمة.
أما مشاهد الإسماعيلية فقد برز من ممثليها حمدي غيث الذي قام بدور عبد الرازق، فقد جسم بثورته النفسية المتأججة الثورة العارمة على الظلم، وجاوبته في هذا النجاح والتوفيق السيدة نعيمة وصفي التي قامت بدور الأم. ولعلها وصلت إلى القمة في مشهد إخفاء عبد الرازق في دنشواي.
أما ممثل الدور الأول في المسرحية، نبيل الألفي، الذي قام بدور عادل، فمع أن عمله الدراماتيكي كما حدده المؤلف كان خارج المسرح، إلا أنه ركز مقدرته الفنية وموهبته في المشاهد التي ظهر فيها على المسرح فكان فيها موفقا خير التوفيق
وأخيراً. . . فنحن نرى أنه قد تجلت في هذه المسرحية وحدة المدرسة الفنية. . فقد تعاون أبناء المدرسة الحديثة وعلى رأسهم الأستاذ زكي طليمات على تحقيق التكامل الفني في المسرحية.
أنور فتح الله(964/47)
البريد الأدبي
الرغب تجمع على رغاب
في العدد 937 نشرت مجلة الرسالة الزاهرة قصيدة للأستاذ محمود فتحي المحروق بعنوان (في لجة الصمت) وفي العدد 944 تصدى الأستاذ الشاعر عبد القادر رشيد الناصري إلى كلمة (الرغاب) في القصيدة الآنفة الذكر من البيت التالي:
// ليس لي في الحياة أي (آمال) ... (فواخيبة) المنى والرغاب
قال الأستاذ الناصري: في هذا البيت خطأ في الوزن. (والخطأ موجود بالغفل) وفي فقه اللغة واقصد كلمة رغاب فقد أوردها الشاعر مرادفة لكلمة منى، وهي جمع وهذا الجمع خطأ محض.
وأستشهد الأستاذ الناصري (بلسان العرب) الذي جاء فيه أن رغبة بمعنى الأمنية والمطلوب، وجمعها رغائب ورغبات.
وقد قصد اللسان عندما جمع رغبة على رغبات أما رغائب ومعناها العطايا والأموال فهي جمع رغيبة ومعناها العطية من أموال وغيرها.
قال عروة ابن الورد العبسي وهو شاعر جاهلي وحجة أيضا:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً ... من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفسي عذرها مثل منجح
أما الأمثلة عن الرغائب التي هي جمع رغيبة فأكثر من أن تحصى.
قال المتنبي:
فتى علمته نفسه وجدوده ... قراع العوالي وابتذال الرغائب
أي ابتذال الأموال والعطايا
وقال الأرجاني:
فأجزل قراه من سرور وبهجة ... واثقل قراه باللهي والرغائب
أي وبالعطايا. قرى الأولى بكسر القاف (الضيافة) وقرأ الثانية بفتح القاف (الظهر).
وقال في قصيدة أخرى:
إذا ما أتاه الراغبون أعادهم ... وملء اكف الراغبين الرغائب(964/48)
وقال أبو فراس الحمداني:
وما أنا من كل المطاعم طاعم ... ولا انا من كل المشارب شارب
ولا السيد القمقام عندي بسيد ... إذا استنزلته عن علاه الرغائب
أعود إلى فعل رغب يرغب رغبا بفتح الغين وسكونها والجمع رغائب.
من أخبار (زيد الخيل) بكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني أنه جمع طيئاً وأخلاطا لهم وغزا بني عامر وحلفاءهم. وفي هذه الغزوة أسر زيد الخيل الخطيئة الشاعر فجز ناصيته وأطلقه ثم إن. غنيا تجمعت مع بني عامر وغزت طيئاً في أرضهم فغنموا وقتلوا وأدركوا ثأرهم.
فأشاد بذلك الشاعر (طفيل الغنوي) منتصراً لقومه على طئ مجيباً لزيد الخيل الذي كان ثلبهم من قبل بانتصاره عليهم قائلا:
سمونا بالجياد إلى أعاد ... مغاورة بجد وأعتصاب
نؤمهم على رعب وشحط ... يقود يطلعن من النقاب
وقتلنا سراتهم جهاراً ... وجئنا بالسبايا والنهاب
سبايا طيء: أبرزن قسراً ... وأبدلن القصور من الشعاب
سبايا طيء: من كل حي ... بمن في الفرع منها والنصاب
ثم قال:
وما كانت بناتهم سبياً ... ولا رغباً يعد من الرغاب
جاء في كتاب الحماسة لأبي تمام عن طفيل الشاعر أنه ابن عوف ينتهي نسبه إلى (عني) بن اعصر بن سعد بن قيس بن عيلان وهو شاعر جاهلي من الفحول المعدودين يقال أنه اقدم شعراء قيس هو والنابغة الجعدي وأبو داؤد الأيادي من أوصف العرب للخيل.
والرغبة بالتاء لتأنيث المصدر وجمعها رغبات مثل سجدة وسجدات ورجل رغيب على وزن شريف وكريم أي ذو رغبة في كثرة الأكل (ذو نهم) وشاهد ذلك كما جاء في العدد 944 من الرسالة من كلمة للأستاذ الكبير الزيات بك عن الملك عبد الله قال فيها: وظل فيها (أي الملك عبد الله) كما يظل الأسد في القفص متململا من الحصر، متبرماً بالضيق، يتطلع من خلال القضبان إلى سواحل فلسطين، ثم تمتد عينه الرغيبة إلى سهول سوريا، ثم يشرق(964/49)
بفكره وقلبه إلى أرياف العراق. .
وشاهدي عينه الرغيبة، أي النهمة.
وإذا أريد المبالغة من كلمة رغيب كسر وثقل فيقال رغيب. هذا ويضاف إلى ما تفضل به الأستاذ الناصري أن كلمة رغيب معناها واسع ورحيب وارجوا أن تؤخذ كلمتي هذه على أنها خدمة للعلم. . وفقنا الله جميعاً إلى طريق الصواب.
صبحي محمود سعيد
1 - فسح لا أفسح:
نبا قلم الصديق الأستاذ البيومي بالعدد (962) من الرسالة في مقاله (بين شوقي وولي الدين يكن) حيث قال: (وأفسح لنا مجال الموازنة والتحليل، وصوابها - فيما أعلم - وفسح لنا، ففي التنزيل. (إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فأفسحوا يفسح الله لكم)
2 - في العدد:
وفي مقال الأستاذ عطيفة بالعدد نفسه يقول: (استشهد عشر مواطنين، خمس من المدنيين، وخمس من الجنود) وبالرجوع إلى قانون العدد في اللغة نرى أن الصواب (عشرة مواطنين، وخمسة من المدنيين، وخمسة من الجنود)
. . وقد صح تعبير الأستاذ بعد ذلك في السطر نفسه إذا يقول: (وجرح سبعة وعشرون، وقد فقد الإنجليز ضابطين وسبعة جنود) فإن كان قد ألقي الحديث على عواهنه، فقد علم القاعدة منذ اليوم
محمد محمد الأبشيهي
خطأ عروضي:
أشكر لأخي الأديب الأستاذ محمد محمد الأبشيهي تنبيهي إلى أن البيت
وتلا الهالكين منهما. . . الخ
من قصيدتي (الشعور المكبوت) ينطوي على خطأ عروضي وصحة البيت لولا التحريف في النسخ وتلا هالكيهما الخ وإني لأشد اغتباطا بتصحيحه الخطأ مني بالثناء على سائر(964/50)
القصيدة. وإني على مقصديه لشاكر
عبد اللطيف النشار
مهيب لا مهاب:
خطأ زميلنا الأستاذ محمد محمد الأبشيهي، الأستاذ مطر في قوله من قصيدته (من الأعماق)
تحررنا من الأغلال فأنهض ... سليل المجد مرموقا مهابا
ذاهبا إلى أن الصواب (مهيب) لا (مهاب) لأن (مهاب) - كما نزعم - (من أهاب به يهيب به. وإذا زجره عن الشيء فهو مهاب أي مزجور. . . الخ
وأقول للزميل الأبشيهي أن (مهاب) بفتح الميم تؤدي المعنى الذي عناه الشاعر، وما على الأستاذ الأبشيهي إلا أن يرجع لأي مرجع من مراجع اللغة، وحسبه (مختار الصحاح) فإنه منه على طرف التمام. . .
وتحيتي للشاعر مطر، وللأستاذ الأبشيهي. . .
محمد الغزالي حرب(964/51)
القصص
بقية حية
للكاتب الروسي تورجنيف
كان تورجنيف خلال صيد يفتش عن ملجأ من المطر في مزرعة لامه. فهبط كوخا مهجورا ووجد خصا في زاوية من زوايا سرير خشبي يرقد عليه شكل إنساني صغير) قال تورجنيف:
دنوت ولكن الدهشة سمرتني في مكاني. أن إزائي كائنا حيا، ولكن ما هو هذا الكائن؟
وجه غاض منه ماء الحياة، وغشيه لون برنزي كأنما يرى فيه الناظر صورة قديسة قديمة، وأنف دق مارنه حتى أشبه حد المدية، وشفتان دقيقتان نحيفتان لا تكادان تحسان، وعينان لامعتان، وأسنان بيضاء، وبعض غدائر شقراء ناست تحت النقاب، وفي أطواء الفضاء تتحرك ببطيء أصابع يدين ووجه لا يسمه القبح، وإنما هو جميل، ولكنه غريب مؤثر، وكان اشد ما اثر في نفسي ما لمحته على الخدين المتصلبين من صورة ابتسامة تجهد نفسها عبثا لتظهر
- ألا تعرفني يا سيدي؟
تردد ذلك الصوت الذي راح يردده هذا الكائن كنفحة، تحركت به شفتان بعناء
- إنني (لو كريا) هل تذكرني؟ أنا التي كنت أرسل الأغاني وأثير الضحك عند أمك!
- أأنت (لو كريا) انت؟ هذا مستحيل
- أنا هي بذاتها
وما كان لي إلا القول والنظر كالمجذوب في هذا الوجه الأربد، وفي هاتين العينين اللامعتين الشاخصتين بدون حياة.
أهذه المومياء هي (لو كريا) أجمل وأبهى إمائنا، من كانت بضة الإهاب وردية اللون، ترقص وتضحك وتمرح وتغني؟ لو كريا. . . الرقيقة التي فتنت رفاقها، ومن كنت أبسم لها خفية حينما كنت في السادسة عشرة؟
آه يا لو كريا ماذا أصابك؟
- حادثة مروعة، ولكن لا تخش يا سيدي، ولا تعرك السآمة من حالي. اجلس مني قريبا(964/52)
على هذه الخابية لأنك لا تستطيع الإصغاء إلى بعيدا. أي صوت لي الآن؟ إنني جد مسرورة برؤيتك. .
(وهنا تقص عليه لو كريا قصتها، وأنها في ساعة عرسها سقطت عن السلم فأصابها هذا الشلل الذي عطل حركتها. وقد جربوا عبثاً أن يجدوا لها الدواء. وأخيراً قادوها إلى هذه المزرعة عند بعض الأقارب)
- وهل تظلين مضطجعة هكذا دائما؟
- نعم! وقد مر علي سبعة أعوام، في الصيف أمكث في هذا الخص الصغير، وفي الشتاء يحملوني إلى مدخل هناك
- ومن يعني بك ويقوم بحاجاتك؟
- أن هنا رجالا كرماء لا يتركونني ولكن في الغالب لا احتاج إلى شيء. كدت استغني عن الطعام والشراب، وتراني اكثر الأوقات مطروحة جانب هذا الينبوع البارد، وأستطيع أن أبلغ مقري وحدي، إذ لا تزال إحدى يدي سليمة. وهناك فترة صغيرة يتيمة ترافقني كثيرا فليجزها الله عني! كانت هنا قبل لحظة، ألم تلاقها في طريقك؟ أنها غادة شقراء تحمل إلى أزهارا احبها. كان عندنا من الروضة أزهار ولكنها ذوت. أما أزهار الحقول فهي جميلة أيضاً وشذاها أضوع! ماذا تريد أحسن من ذلك؟
- ولكن الحياة، إلا تجدينها كئيبة ثقيلة عليك يا لو كريا البائسة؟
- ما العمل؟ لا اقدر أن اكذب. كانت أيام مصابي الأولى أياما ثقيلة قاسية، ثم ما لبثت أن تعودت، وللإنسان من دهره ما تعود، وصبرت وذكرت أن آخرين - هنالك - قد يكونون أحق بالشكوى مني. .
- وكيف ذلك؟
- من لا مأوى لهم مثلا، والعميان والصم! أما أنا - فشكرا لله - ابصر وارى، واسمع ما خفت من الأصوات إذا شق خلد منفذا في الأرض فإني اسمعه، وأتروح كل العطور حتى الضئيل منها. لا تزهر شجرة في الحقول أو زيزفونة في البستان دون أن اخبر بذلك، فإذا مرت عليها الريح أكون أول كائن يحس ما تنطوي عليه هذه الريح! لا لا. . ولماذا العن حظي؟ هنالك آخرون حظهم أقسى، وكذلك الأشخاص المعافون تدفع بهم ميولهم كثيرا إلى(964/53)
عمل الشر. أما أنا فالخطيئة تركتني
- وهل أنت وحيدة دائما يا لو كريا؟ كيف تعملين لتطردي الأفكار عن نفسك؟ وعلى الأقل ألا تنامين كل الوقت؟
- لا يا سيدي! لا أستطيع أن أنام. حينما أريد وبدون أن أحس الآلام الكبيرة أجد في أعماق نفسي آلاما صماء تتمشى في عظامي، وهذا ما يحرمني النوم. لا أظل على حالة واحدة هادئة دون تفكير أحس أنني أحيا. أنني أتتنفس، وهذه كل حياتي، أنني انظر واسمع. تدوي أسراب النحل وتسقط حمامة على السقف وتمشي، ودجاجة تقاسم فراخها فتاتاً أو عصفورة أو فراشة تحوم. هذا كله يدخل السرور في نفسي، ومن عامين طرق السنونو هذا المكان، وبنى - هنا - عشا، ما اجمل هذا!
وفي بعض خطراتي اردد صلوات، ولكني لا اعرف منها كثيراً، ولماذا اضجر الإله الصالح مني؟ وماذا اطلب اليه؟ أنه يعلم حاجتي اكثر مني. أنه أرسل إلى صليبه وهذه علامة محبته لي. اعرف صلاة (يا أبانا) وصلاة (السلام عليك يا مريم) ثم أراني احلم في شيء. . . وهكذا الزمن يمضي
(وهنا يعرض عليها (تورجنيف) أن يقتادها إلى مستشفى في المدينة ولكنها ترجوه ألا يفعل)
- أنني اعرف يا سيدي أن فيما تعمله خيرا لي، ولكن هل في الإمكان مساعدة لآخرين؟ هل يمكن قراءة ما في النفوس؟ إنما يجب على الإنسان أن يجد مساعدة في نفسه. انك لا تؤمن به. في بعض خطراتي وأنا مضطجعة وحدي أحس أن لا أحد على الأرض غيري، وان لا أحد لي سواي، واشعر بان بركة تتنزل على. . . تساورني أفكار تبعث على الدهشة
- وأية أفكار تساورك يا لو كريا؟
- يستحيل الإفضاء بها يا سيدي! لأنها مما لا يمكن التعبير عنه. ثم أنساها. ثم يعرض لي ذلك كسحابة تمر فوقي. وعنها أحس نداوة تغمرني. ما هذا! لا اعلم عنه شيئاً. ولكني أقول: لو كان واحد معي لما وجد له مكانا. لا أحس شيئا إلا رزيئتي
وهنا تنهدت لو كريا تنهدا شديدا ولكن صدرها لم يسعفها على التنهد اكثر من بقية أعضائها(964/54)
- سيدي! أنني هجت فيك حس الشفقة كثيرا، فلا تأسف أصغ إلى ما سأقوله لك. . . انك تعلم، أو تذكر إنني كنت طلابة للمرح كثيرا في عهدي الأول. وتعلم كم كنت اغني!
وأنت تغنين أيضا!
- نعم: أردد أغاني القديمة، أنواعا كثيرة من الأغاني، أعرف منها كثيرا ولم أنسها ولكن الحان الرقص أصبحت لا ارددها لأن حالتي لا تساعدني
- انك تغنيها لنفسك بدون شك؟
- لنفسي. . . ارددها عاليا، قد لا اقدر أن اغني عاليا جدا، ولكن سامعها يفهمها. إنني حدثتك الآن عن غادة صغيرة تعودني. لقد علمتها إياها وأصبحت تعرف منها اربعا، وعما قليل ترى.
تنفست (لو كريا) وهذه الفكرة التي بدأت ترددها هذه الغادة الفانية قد أيقظت في نفسي هولا لا قبل لي به. ولكني قبل أن انبس بكلمة تصاعدت رنة تتعالى بصعوبة ولكنها صافية مستقيمة ملأت أذني، ثم رنة أخرى تلتها ثم أخرى. . . ولو كريا لا تزال تردد:
(في هذه المروج، هذه المروج، في هذه المروج الجميلة الخضراء) كانت تشدو دون أن تتبدل ملامح وجهها وعيناها لا تتحولان. ولكنها كانت ترسل صوتها يرن مؤثرا، هذا الصوت الضعيف الذي كان يجهد نفسه متصاعدا كأنه خيط دخان، متدفقا من كل نفسها. أصبحت لا أحس ذلك الرعب بل حل محله شفقة عنيفة تضغط قلبي.
أنت فجأة وقالت:
- لا أقدر. . . إن قوتي تخونني إن فرحي كثير برؤيتك وهنا أغمضت عينيها، ولمست بيدي أصابعها الباردة فنظرت إلى نظرة خفيفة، ثم رأيت حاجبيها الكثيفتين المنتهيين بخطوط ذهبية كخطوط الهياكل القديمة قد اغلقا كنت بالقرب من الباب عندما ذكرتني. . .
- هل تذكر يا سيدي (وقد بدت ملامح غريبة على عينيها وشفتيها) هل تذكر جديلتي الصغيرة؟ كانت تسقط حتى ركبتي مضى على ذلك عهد طويل وأصبحت لا أجزم. كانت غدائر جميلة وإني لي أن اعمل المشط فيها على هذه الحالة؟ فاضطررت إلى قصها. . . عفوا يا سيدي. . . لا أستطيع!
مرت أسابيع معدودة علمت خلالها لو أن لو كريا غادرت هذا العالم. وهنالك يقصون -(964/55)
إنها في يوم موتها - كانت تسمع بدون انقطاع نواقيس تقرع. وكانت لو كريا تزعم أن هذا اللحن الذي تسمعه لا يقبل من الكنيسة ولكنه يقبل من العالم الأعلى وكأنها لا تجرؤ أن تقول أنه من السماء
خ. هـ(964/56)
العدد 965 - بتاريخ: 31 - 12 - 1951(/)
اللغة العربية في العالم الإسلامي
مهداة إلى وزارة المعارف المصرية
للأستاذ سيد قطب
فرحت لذلك القرار الذي أتخذه المؤتمر الإسلامي في كراتشي بأن تكون اللغة العربية لغة دولية في العالم الإسلامي، تتفاهم بها الدول الإسلامية في مكاتباتها الرسمية، ويتفاهم بها المسلمون حيثما التقوا في مكان. . .
إن هذا القرار خطوة قيمة في سبيل الوحدة الإسلامية التي أصبحت اليوم حقيقة واقعة، لا ينقصها إلا التنظيم العملي. وهذا القرار هو خطوة في سبيل هذا التنظيم العملي.
ولقد قلت لسعادة سفير الباكستان في مصر الحاج عبد الستار سيت في لقاء لنا في العام الماضي: إن باكستان لن تؤدي دورها الضخم الذي تملك أداءه للعالم الإسلامي إلا يوم أن توجد وحدة لغوية بينها وبين الأمة العربية المسلمة. وليس من الضروري في هذه المرحلة أن تتخذ باكستان اللغة العربية لغة رسمية لها؛ فإنه يكفي أن يعم تعليم اللغة العربية كلغة ثانية؛ وبذلك يمكن التفاهم بهذه اللغة بين الحكومات والشعوب والأفراد. ويمكن لأهل باكستان أن يقرئوا الصحف والكتب العربية، كما يمكن للعرب أن يقرئوا اشيئا مما يصدر في باكستان باللغة العربية.
ومثل هذا يقال عن أندونسيا، وعن إيران، وعن تركيا (ومعذرة عن ذكر تركيا في سياق الحديث عن العالم الإسلامي. . فأنا أعني الشعب التركي وهو بريء من جرائر حكومته وآثامها!)
وإنه ليسرني أن أعرف أن معهدا لتعليم اللغة العربية قد افتتح في باكستان، وإن كانت معلوماتي عنه لا تزال ناقصة. وأنا بسبيل استكمالها، وتقديم كل ما يمكنني تقديمه من الجهد في هذا السبيل. وإن كنت أعرف مع الأسف أن وزارة المعارف المصرية لم تساهم إلى اليوم أية مساهمة في هذا الموضوع الخطير
إن تعميم دراسة اللغة العربية في مدارس باكستان وإندونيسيا كلغة ثانية تأخذ وضع اللغة الإنجليزية في مدارسنا المصرية. . هو حدث تاريخي هام في تاريخ الشرق، وتاريخ العالم الإسلامي. بل ربما كان أخطر حدث في تاريخ الإسلام الحديث؛ لأن نتائجه في أوضاع(965/1)
الشرق، بل في أوضاع العالم ستتجاوز بعد فترة وجيزة نتائج أي حدث عالمي في تاريخ العالم الحديث
إن معناه إضافة مقوم قوى إلى مقومات الوحدة في العالم الإسلامي، مقوم وحدة اللغة والتفاهم إلى مقومات الوحدة الجغرافية والاقتصادية والعسكرية والدينية. . وهذا المقوم الجديد هو الذي يبيح الفرصة لتقارب مناهج التعليم، ومناهج التفكير، كما يتيح الفرصة لتبادل الأفكار والمؤلفات والأساتذة والطلاب. . وبتعبير مختصر لاستكمال عناصر الوحدة التي أصبحت اليوم ضرورة حياة بالقياس إلى تلك الكتلة الإسلامية كلها، لا مجرد رغبة نابعة من عقيدة المتدينين في هذه البلاد
إن الموقف السياسي والعسكري لهذه الكتلة الإسلامية يحتم اليوم أن تقوم فيما بينها وحدة كاملة، لكي يكون لها وزن في المضمار الدولي، ولكي تستطيع تحقيق الأهداف المشتركة لجميع الشعوب المندمجة فيها. وعوامل هذه الوحدة كلها قائمة لا تحتاج إلى غير التنظيم، فيما عدا عامل اللغة والتفاهم. وهذا ما يجب توفيره عن هذا الطريق الذي اقترحته على سعادة سفير الباكستان في العام الماضي
وما من شك أن وزارة المعارف المصرية تملك الشيء الكثير في هذا المضمار. وما من شك أن تحقيق مثل هذا الهدف الضخم أكبر قيمة بما لا يقاس من إنشاء تلك المعاهد الثقافية في لندن ومدريد وطنجة والجزائر أيضا. فأنا أعرف أن معهدنا الثقافي في لندن مثلا ما يزيد على أن يعلم اللغة العربية لبضعة عشر يهوديا معظمهم قد اشتغلوا فيما بعد جواسيس على العرب في حرب فلسطين، وبضعة عشر إنجليزيا ممن يعدون أنفسهم لخدمة الاستعمار الإنجليزي في الشرق العربي! وهذه المهمة تستغرق جهود رجل مصري مثقف كالدكتور عبد العزيز عتيق. كم كانت إحدى كليات الجامعات المصرية في حاجة إليه هنا لاستكمال أساتذتها!
ولو أنشئ معهد ثقافي مصري في باكستان ومثله في إندونيسيا لاستطاع من غير شك أن يؤدي للثقافة الإسلامية، وللعالم الإسلامي من الخدمات أضعاف ما يؤدي معهد في لندن أو في مدريد، أو حتى في طنجة والجزائر؛ لأن انضمام كتلتين ضخمتين إلى نهر الثقافة العربية، واستكمال أسباب الوحدة بين العالم العربي وبقية العالم الإسلامي. . يساويان بلا(965/2)
شك شيئا كثيرا، لليوم والغد، وللسياسة والاقتصاد، وللأهداف القومية العليا في المستقبل القريب والمستقبل البعيد.
على أن إنشاء المعاهد الثقافية ليس إلا مثلا لما تملك وزارة المعارف المصرية النهوض به في باكستان وأندونسيا؛ فإنها من غير شك تملك إنشاء معاهد لتخريج معلمين للغة العربية في هذين البلدين. وستجد الكثيرين من أهل باكستان وأهل إندونيسيا يلتحقون بهذه المعاهد لو أنشأتها هناك. وستجد من أهل البلاد من يصلحون أساتذة لهذه المعاهد بمعاونة بعض زملائهم من مصر والعالم العربي. . ووظيفة هذه المعاهد هي تخريج أفواج من المدرسين المستعدين لأن يقوموا بدورهم بتدريس اللغة العربية في مدارس بلادهم. فأنا أعرف أن عقبة عدم وجود الكفاية من المدرسين عقبة حقيقة في طريق تقرير اللغة العربية في مدارس الباكستان بالذات، أو مدارس بعض ولاياتها الراغبة منذ اليوم في تقرير اللغة العربية
نعم إنني أعرف أن لمعالي الدكتور طه حسين باشا آراء قديمة تضمنها كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) من شأنها أن تجعل اهتمامه بربط مصر بأمم البحر الأبيض أشد من ربطها بالبلاد الشرقية كباكستان وإندونيسيا؛ لأن الصلة التي تربطها بعقلية البحر الأبيض - على الرغم من اختلاف الأديان والمصالح القومية - أقوى من الصلة التي تربطها بعقلية هذا الشرق ولو أتحد الدين.
ولكن هذه الآراء قد كتبت منذ خمسة عشر عاما. وإني لأحسب أن أشياء كثيرة قد جدت في الأفق، وأن هذه الأشياء كفيلة بأن تبرز حقائق جديدة، وعناصر في الموقف جديدة، وأن هذا كله كفيل بتغيير رأي الدكتور طه باشا؛ لأن الحاجة الماسة إلى قيام كتلة إسلامية، وإلى وحدة العالم الإسلامي، ذات أثر حاسم في تقريب ما بين أجزاءه، وفي استكمال أسباب الوحدة العقلية التي كان يرى أنها غير متحققة إلا في دول البحر الأبيض.
إن دول البحر الأبيض اليوم تنقسم إلى معسكرين متعاديين متباغضين: معسكر المستعمرين، ومعسكر الشعوب التي تطالب بحرياتها. وسيظل كلاهما ينكر الآخر. وستظل العداوة والبغضاء قائمة بينهما أبدا؛ لأن مصالحهما متناقضة متعارضة.
وعلى الضد من ذلك موقف شعوب العالم الإسلامي كله. تلك الشعوب التي تجمعها(965/3)
المصلحة القومية، وتجمعها روابط أخرى قوية؛ روابط تاريخية وجغرافية واقتصادية ودينية. ولا يبقى سوى رابط اللغة الذي يوحد بين شطري العالم الإسلامي التوحيد النهائي الأخير.
وعلى أية حال، فإن إنشاء معهد لتعليم اللغة العربية لجماعة المسلمين في باكستان أو في إندونيسيا لن يكون أقل ثمرة من إنشاء معهد يعلم اللغة لبضعة عشر نفرا من اليهود أو من المستعمرين الإنجليز!
إنني أهيب بوزارة المعارف المصرية أن تمنح هذه المسألة من العناية ما تستحقه؛ وإن كنت أحسب أنها مسألة تستحق عناية الدولة كلها. عناية جهازها الديبلوماسي في الخارجية، وجهازها العلمي في وزارة المعارف، وجهازها المالي في وزارة المالية. . كما أن أجهزتها الاقتصادية في وزارة التجاري ووزارة التموين ووزارة الاقتصاد الوطني ستجد حقولا خصبة وحقولا ضخمة لو شاءت أن تؤدي عملا ذا قيمة غير محدودة، عملا ذا أثر عميق في موقف العالم الدولي كله. وفي موقف قضايا الحرية في كل مكان
إن قيام الكتلة الإسلامية على أصولها الصحيحة هو الضمانة الأخيرة الباقية للعالم اليوم، لوقايته من حرب ثالثة مدمرة. أو هو على الأقل الضمانة الوثيقة لتحرير شعوب العالم الإسلامي من الاستعمار الغاشم الظالم.
وهكذا تدرك وزارة المعارف أنها حين تنهض بهذه المهمة فإنها لا تؤدي عملا ثقافيا مجردا، إنما هي كذلك تؤدي واجبا ضخما في عالم السياسة القومية والدولية، وفي عالم الحرية، وفي عالم التاريخ. . .
سيد قطب(965/4)
القوة في نظر الإسلام
للأستاذ كامل السوافيري
طوى الزمن من حياة الرسول بمكة بعد الرسالة ثلاثة عشر عاما كانت صراعا دائما بين الحق والباطل وبين الإسلام والوثنية وبين محمد يظاهره القرآن وقريش تؤيدها الفرسان.
ونزلت الآيات القرآنية الكريمة تخاطب من القوم عقولهم وتزجي الحجج، وتسوق الأدلة فيصمون آذانهم عن سماع الحق ويغلقون قلوبهم من دونه، ولما أعجزهم المنطق، وغلبهم لاذوا إلى أسلحة البطش والعدوان يحاربون بها محمدا ويضيقونه منها ألوانا مختلفة. ولا يكتفون بحربه وحده بل يصبون غضبهم على المستضعفين من الموالي المسلمين، ليردوهم عن الإسلام. ويصبر الرسول على أذى قومه، ويتجلد المسلمون في سبيل دينهم حتى يأذن الله للغمة أن تنقشع، وللإسلام أن ينتشر، ولرسوله أن ينجو من المؤامرة فيأذن له بالهجرة إلى يثرب.
وتفيأ المسلمون ظلال الأمن في يثرب فأمنوا من بعد خوف، واشتدوا من بعد ضعف، وكثروا من بعد قلة، وسكنوا من بعد اضطراب. وأخذ النور الإلهي يسري في القلوب فيجذبها اليه، ويستهوي النفوس فيدفعها نحوه، وأخذت دعائم الإسلام تتوطد وأركانه تستقر، وشوكته تقوى، والمسلمون يزيد عددهم كل يوم يصبحون آلافا مؤلفة يقودهم محمد فيدخلون مكة عام الفتح، ويطهرون كعبة الله من ربقة الوثنية، ويعلن الرسول في تواضع عفوه عمن سقوه الأذى، وجرعوه العذاب؛ ويثوب الضالون إلى الرشد ويدخل الناس في دين الله أفواجا وتنضوي قريش تحت راية الإسلام.
ما أشد حاجة كل حق في هذه الدنيا إلى قوة تثبت أركانه وترفع سلطانه إذا عارضه المعارضون وتأباه المكابرون!
لم يكن الإسلام قبل الهجرة باطلا فأصبح بعدها حقا، ولم يكن محمد كاذبا حين أنذر عشيرته برسالته في مكة فغدا صادقا في يثرب، وما عهدت قريش عليه كذبا ولا خيانة حتى فبل أن يصطفيه ربه لرسالته فهو الموسوم في طفولته بالصادق الأمين الذي حفظه الله من دنس الجاهلية، وطهره من أوزارها. ولكن الإسلام في مكة كان حقا ضعيفا لا يستند إلى قوة تحميه، ومحافل تدافع عنه فأصبح في المدينة مؤيدا بالأسنة والرماح. دشتان بين الحق(965/5)
يؤيده الفكر والبرهان، والحق يظاهره السيف والسنان.
من أجل هذا كان للقوة في نظر الإسلام الأهمية البالغة، والمكانة السامية. ومن أجل هذا فرض الله على المسلمين الجهاد إعلاء لكلمته، وتنفيذا لأحكامه وكتب عليهم القتال وهو كره لهم (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.) وأمرهم أن يكونوا أقوياء بأيمانهم وعقائدهم، وأجسامهم وجوارحهم، أشداء على الأعداء رحماء بينهم. غلاظا على الخصوم لينين مع إخوانهم (محمد والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (وليجدوا فيكم غلظة).
وللقوة في كل زمان مظهر يتفق معه، ويتلاءم مع تطوره؛ فهي في فجر الإسلام رمح وسنان. وأبطال وهو الشجاعة والبطولة يرخصون نفوسهم في سبيل الله، ويجاهدون لإعلاء كلمته؛ ولكنها اليوم في القرن العشرين بندقية ومدفع ودبابات ومصفحات وطائرات وقاذفات. وغواصات وكاسحات وفرق مدربة في البر والبحر والهواء.
وقد طالب الإسلام أتباعه بأن يعتمدوا على أنفسهم بعد الله. وبع تنفيذ دستوره والعمل بأحكامه، وألا يأمنوا أعداءهم بل يحذروهم. وحتم الإسلام على أتباعه أن يكونوا دائما على استعداد لمنازلة الأعداء وأن يعدوا لهم كل ما يستطيعون من وسائل القوة ليرهبوهم (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) والاستطاعة أيضاً تتطور بتطور الزمن وتسير مع روح البصر الذي يعيش فيه المسلمون اليوم.
دعا الإسلام المسلمين للقوة، ونشأهم على العزة، ووعدهم بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وحارب الضعف والوهن (ولا تهدوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون والله معكم ولن يترككم أعمالكم) وقاوم الجمود الجسمي وحطم الإسار العقلي ليعلو سلطانه وتنتشر تعاليمه وليتم الله نوره ولو كره الكافرون
ولم يدع الإسلام المسلمين للقوة ليتخذوا منها ذريعة للبطش بالضعفاء، أو مهاجمة الشيوخ والأطفال والنساء. أو الاعتداء على المسالمين والأبرياء أو الإفساد في الأرض والتمرد على النظام بل ليفرضوا سلطان الحق على النفوس المتمردة والقلوب المتبلدة وقد علم الله(965/6)
- جل شأنه - أن في عباده سباعا ضارية تلبس مسوح الرهبان، ووحوشا مفترسة على شكل الإنسان، ولا سبيل إلى إذعانها للحق، وردها للنظام إلا بكلمة في الصدر، أو ضربة في الرأس، أو طعنة بالسيف. وبعد فلا أخالني بحاجة للقول بأن من أهم أسباب تأخر المسلمين اليوم ضعفهم. والضعيف دائما فريسة سهلة للقوى في دنيا تسودها شريعة الغاب، وعالم بدين بأن الحق والعدل والضمير من أساطير الأولين. وضعف المسلمين اليوم معنوي ومادي؛ فالأول واضح في انقسام الرؤساء واختلاف الأحزاب، وتخاذل الحكام، وتفرق الكلمة، والثاني ظاهر في احتياج الجيوش الإسلامية للذخيرة والعتاد، وحاجة الإفطار الإسلامية والعربية لإنشاء مصانع للأسلحة المختلفة. والاتحاد قوة، وقد دعا الإسلام إليه: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا؛ والسلاح قوه وقد أمر الله به: وأعدوا لهم ما أستطعم من قوة. وقد رأينا باطلا يعلو لأنه مؤيد بالجيوش والأساطيل، وحقا ينهار لأنه ليس وراءه جنود ولا أساطيل على مرأى ومسمع من الصفوة المختارة من دول العالم المتمدن التي اجتمعت والتقت فيما يسمونه بمنظمة الأمم المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين
ففرض علينا نحن المسلمين التدريب العسكري والتربية الحربية التي تجعل من كل مسلم منا جنديا يعرف مكانه إذا هتف به الدين، ودعاه الوطن.
وحرب على الإسلام من يعارض إنشاء مصانع الذخيرة والأسلحة في أي قطر إسلامي أو بلد عربي. وخائن لوطنه من يعتمد في حماية الوطن على الأجنبي الغاصب الجاثم فوق الصدور استنادا إلى معاهدات أثيمة لا تساوى المداد الذي كتبت به. لقد بلغ من ضعفنا أن أصبحت الدولة الاستعمارية تتصرف في شؤوننا، وتقضي في أمورنا بما تريد دون أن تعنى باستطلاع آرائنا وكأن الشاعر العربي كان يعنينا حين قال
ويقضي الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود
فعلينا - أقطار العروبة الإسلام - أن نبني أنفسنا من جديد، وأن نستلهم روح العصر الذي نعيش فيه، وأن نغير من نظم التربية والتعليم لنجعلها اكثر ملاءمة لتطور العلم. وأن ننفض عنا غبار الحمول. ونسد نقصبنا ونستكمل أسباب قوتنا المادية ونصنع الأسلحة اللازمة لجيوشنا، أو نحصل عليها بأي طريق يمكن أن نتفاهم مع الاستعمار الذي لا يفهم(965/7)
غير لغة القوة، ونؤدي رسالتنا الإنسانية السامية في تحقيق الحرية لكل شعب مقيد، ورفع الظلم عن كل مظلوم، والمحافظة على الأمن والسلام العالمي المهدد دائماً بمطلع الدول القوية.
إن العزة من صفات المسلم وخلال العربي، وإن تحقيق العزة اليوم للعرب والمسلمين إلا بالطائرات المختلفة في السماء، والجواري السابحات في الماء، والجحافل المدربة على الأرض ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
كامل السوافبري(965/8)
الصلبة
فصل من كتاب (عرب الصحراء) لديكسون
ولد هـ. ر. ب. ديكسون الإنجليزي في بيروت سنة 1881 ونشأ في دمشق. ثم التحق بالسلك السياسي، فأصبح في الحرب العالمية الأولى ضابطاً سياسياً في جنوب العراق، ثم عين معتمدا سياسيا في البحرين ثم نقل إلى الكويت. وكتابه هذا في 684 صفحة وقد أثار ضجة في معظم البلاد العربية.
الصلبة تدل على جنس من الناس المفرد منهم صلبي؛ والجمع صليب بسكون الصاد.
ولقد طالما تناولت أقلام الكتاب بالحديث هذه القبيلة المنحطة، أو الجماعة بتعبير أدق، التي تسكن في القسم الشمالي من الصحراء العربية، في رقعة تقع على التقريب بين خطين يمتد أحدهما من الغرب إلى الشرق، ساراً بالمدينة فالرياض جنوبا والآخر من حلب إلى الموصل شمالا.
إن معاملة الناس لهم في الجنوب أكثر احتقارا، ونظرتهم لهم أشد ازدراء منها لهم في الشمال، كما أن مقتنياتهم الدنيوية في الجنوب أقل منها في الشمال.
إن كل قبيلة تسكن في المنطقة التي مر تحديدها، تضم في الواقع بينها جماعة من الصلبة تعيش بينها، وذلك لما لهؤلاء القوم من المنفعة الملموسة في إصلاح الأواني المنزلية وأدوات الطبخ، ولمهارتهم في الصيد والقيافة.
إن من أبرز خصائص الصلبة معرفتهم العجيبة؛ بمواقع الآبار الخفية في المناطق التي يسكنون فيها. ومن ثم فإنهم يتمتعون بتقدير القبائل التي تتولى حمايتهم لما لهذه المعرفة الكبرى في الحروب والمنفعة العظمى في الغزوات البعيدة المدى من أثر. ولهذا السبب فإن الغزاة يصطحبون معهم بصورة تكاد تكون مستمرة بعض الصلبة في غزواتهم.
وكذلك حاشية الشيخ لا تكاد تخلو من أحد الصيادين الصلبة , لنفوقه عادة على غيره في معرفة مرائع الغزلان والنعام.
يقال إن الصلبة مسلمون، إلا أن من يؤدي فريضة الصلاة منهم كما يجب قليل جداً. ولعلنا لا نجانب الحق إذا قلنا إنهم لا دين لهم، اللهم إلا حين تقتضيهم المصلحة السياسية أن يتظاهروا بالتدين كما هي حالهم في نجد والكويت.(965/9)
والرجال منهم على وجه العموم تعساء متملقون، يصطنعون في الخطاب أساليب العرب في تصغير الأسماء للتعزيز مع ضعة في الأخلاق.
وجمال وجوههم، رجالا ونساء، فوق المتوسط، ولا سيما نساؤهم اللواتي كثيراً ما نجد بينهم بعض الصبايا رائعات الجمال، إلا أن مظاهر المسغبة المألوفة فيهم تثير الاشمئزاز، وتؤيد مزاعم العرب القائلة بأن الصلبة يأكلون الفضلات وجيف الحيوانات التي يقعون عليها.
ويبدو من هيئة تقاطيعهم وجوههم أنهم غير عرب قطعاً، وليست لهم ما لهؤلاء من الخصائص السامية الثابتة.
وفي بعض المناطق التي تكون لهم فيها أحياء دائمة خارج أسوار المدينة كما هو الحال في الكويت والزبير، يظنهم الأوربيون بدواً، وهو خطأ فاحش يؤدي في بعض الأحيان إلى مواقف مربكة.
والعربي لا يستطيع أن يتخذ له زوجة من الصلبة؛ لأن أهله يقتلونه ويقتلونها معه إذا تزوجها؛ ومع ذلك فقد سمعت أن الأمير فواز أمير الدولة لم يتورع عن اصطحاب إحدى الصلبيات إلى الصحراء وأبقائها خليلة له. ولذلك أصبح اسمه لعنة على ألسنة الطيبين من البدو.
إن لأغلب الأحياء الصلبية رؤساء، ولكن عددهم عندما يكون كبيرا بين القبائل الكبرى في الجزيرة يكون لهم من أنفسهم شيوخ، ويملك بعض هؤلاء الشيوخ قطعانا كبيرة من الإبل، ويتمتعون باحترام عظيم: مثال ذلك أن.
الشيخ حمد بن شنوط هو شيخ صلبة المطير؛ والشيخ مطلج الصافي هو شيخ صلبة شمر؛ والشيخ محمد بن جلاد هو شيخ صلبة العمارات؛ والشيخ معيئف هو شيخ صلبة الرولة.
والصلبيات لا يتحجبن، ويندر بينهن من يغطين الجزء الأسفل من وجوههن بالملفع، وبهذا تسهل معرفتهن في نجد لأول وهلة والصلبة شديدو الولع بالرقص، ولذلك فأول ما يبادرون إلى القيام به أيام الأعياد والأعراس هو إعداد حفلات الرقص التي يشترك فيها الرجال والنساء يرقصون معا (وهو أمر مهين جدا ومعيب عند العرب) حيث يقبل الرجال النساء في أفواههن ما بين حين وحين أمام المشاهدين.
وللصلبة في الأعياد والحفلات وما أشبه تقليد غريب هو نصب صليب مؤلف من قطعتي(965/10)
خشب مربوطتين معا على هيئة شعار المسيحيين. ويمكن اعتباره شعارهم أو لواءهم القبلي.
يقول العارفون من العرب أمثال الشيخ عبد الله السالم الصباح (حاكم الكويت)، أبن عم (المرحوم) شيخ الكويت، وهم واثقون تمام الثقة بأن الصلبة من أحفاد ذلك العدد العظيم من اتباع المعسكرات الصليبية الذين أسروا أثناء الحرب بين الصليبين والعرب. فقد زج بأعداد ضخمة من هؤلاء الأتباع في المعارك الكبرى التي دارت الدائرة فيها على الصليبين، فاسترقهم عرب الصحراء. وإن الصلبة المعاصرين هم حفدة أولئك الصليبين. ويورد الشيح عبد الله الأدلة التالية تأييدا لرأيه:
1 - كون الصليب هو شعار الصلبة
2 - أن صيغة الجمع من أسمهم هي (صليب) وهي في غاية الوضوح نقس الاسم العربي للصليب المسيحي، وكلمة (صليب) ليست سوى تصغير للصليب ليس إلا.
ولعل هناك ما يؤيد هذه النظرية، ولكن قد يكون من الخطأ تكوين رأي حاسم قبل الحصول على الحقائق اللازمة عن هؤلاء الناس الذين يثيرون اهتمام الباحثين، وخاصة قبل الحصول على مقاييسهم الجسدية بصورة واسعة.
وتتهم الصلبيات بالقدرة على الإصابة بالعين؛ وبمعرفة خاصة بتحضير السموم، وإعداد جرعات الحب (سقوة) لمن يريدها؛ وفوق ذلك كله بالمهارة في السحر.
ولعل التهمة الأولى راجعة لكون كثير من شباب البدو قد فقدوا عقولهم في سبيل الحسان الصلبيات، فاضطروا إلى الهرب من قبائلهم. أما التهمتان الثانية والثالثة فلعل لهما نصيب من الصحة؛ فمن الثابت أن الصلبيات يدعين القدرة على إيقاع الإنسان في الحب، كما يدعين الكهانة. ومن ناحية أخرى فإنهن أهداف سهلة للعامة من الناس، فإذا أصيب أحد المشهورين بمكروه (فلا بد أن تكون صلبية قد أصابته بسحرها!)
يجب التفريق بين الكواولة أو الغجر الذين يجدهم المرء في جميع أنحاء العراق وعلى حدوده، والذين هم، كما أرى دون شك، من الغجر الرومانيين في أوربا وإنجلترا. إنهم يشبهون البدو في ملابسهم، ويعيشون في خيام صغيرة سوداء، ويتنقلون هنا وهناك على ظهور الحمير التي ليس لديهم سواها كما يبدو. وكواولة العراق لصوص، أشرار، عرافون،(965/11)
مهرة في قراءة الكف، وأخيرا وليس أخرا، كثرة الطلب عليهم للقيام بعملية ختان الفتيات، تلك العادة الشائعة في جنوب العراق، وبين قبائل المنتفك في الفرات وقبائل بني لام.
رقص الصلبة
أقيم الاحتفال في مخيم الصلبة على مقربة من قصر نايف خارج بوابة نايف مباشرة، ابتهاجا بختان أحد الأطفال. وأستمر ثلاثة أيام، مر اليومان الأولان منهما وهذا هو الثالث، وهو أحسنها وأعظمها.
كان الصليب المألوف في مكانه فوق خيمة الفرح يتدلى من فوقه نصف ثوب نسائي، إشعارا للناس بالحفلة.
ودخل رئيس الراقصين ومدير الحفلات أيضاً - وهو رجل كبير السن كان قد ختن طفله منذ أيام قليلة - حلقة الرقص المؤلفة من الصلبة، رجالا ونساء، ومن بعض المشاهدين الآخرين، يلوح بالسيف فوق رأسه، ويدعو فتيات الصلبة وفتيانها الأشداء لمصاحبته. وبعد أن دار حول الحلقة البشرية عدة مرات، حدثت حركة في إحدى الخيام المجاورة ثم اندفعت منها إحدى الحسان، وقد ارتدت ثياب العيد (زعفرانية اللون أو بنفسجيته يغطيها ثوب من الشاش) إلى حلقة الرقص، حاسرة الرأس، سافرة الوجه، محلولة الشعر، يتلاعب النسيم بشعرها. لقد كان منظرا في الحق رائعا. فقد كان شعرها طويلا غزيرا، ووجهها جميلا، وعلى ذقنها ورقبتها أشكال جميلة من الوشم. كان ظهور الفتاة دعوة لأخيها أو زوجها بالإسراع إلى الحلقة، ليحتضنها ويقبلها بلطف على شفتيها (تشجيعا ولا ريب). ثم أعطيت الفتاة خيزرانة، وابتدأ الرجل يرقص أمامها وهو (ينتخي) مقتربا منها حيناً، مبتعدا عنها حينا آخر، ولكنه ظل يواجهها في جميع الحالات. ولما ابتدأ الرقص، ابتدأ فريق المغنيات المؤلف من اثنتي عشرة صلبية في الإنشاد بصوت متقطع حاد وهن يصفقن بأيدهن.
واستمر الرقص، وأنظم إلى الحلقة شبان وفتيات آخرون رقصوا على الصورة السالفة الذكر. وكان يحدث أحيانا أن تضم الحلقة عددا من الراقصين والراقصات، يرقصون معا في وقت واحد. لم يكن في سلوك الراقصين ما يجانب الحشمة اللهم إلا ما بدا من شيخهم حينما أخذ يرقص بالسيف خلف صاحبته بصورة مثيرة، مرة أو مرتين، كان هذا العمل منه هو المخالفة الوحيدة في الحفلة للحشمة.(965/12)
كان بين الحسان الثمان أو التسع اللواتي رقصن من تميزن بالجمال، ولاسيما اثنتان منهن كان لهن شعر أحمر ذهبي، يشع في ضوء الشمس بصورة تلفت الأنظار، لطول ما عولج بالحناء. وكان رئيس الحفلة الفظ يهتف بين الراقصات قائلا: يا عوبل! يا عوبل! (تعالوا وارقصوا) ويلوح أن الفتاة كانت ترقص على المنوال التالي: كانت تتبع فتاها مواجهة له محاولة إغراءه بالاقتراب منها، فإذا استجاب لسحرها في النهاية، وانقلب من تراجعه الأول في القيام بدور المحب الخجول، إلى التقدم نحوها والتعبير عن إعجابه بجمالها في كل حركة من حركاته، بدأت في التراجع، بعد أن حققت غرضها. فإذا اقترب منها أكثر مما يجب، أو حاول مسها، ضربته بخيزرانتها بلطف، واضطرته إلى التراجع.
وكان صاحب السيف يرقص أحيانا على هذه الرجل وأحيانا على تلك، ثم يأخذ فجأة في الرقص على القدمين معا بصورة مطاطة. وكانت الفتاة ترقص كما ترقص البدويات على باطن قدميها وتنش (تقفز) ثم تعود إلى حالها الأول بأرجل قوية. وتتقدم وتتأخر أمام فتاها. وكانت تقلع (تهز رقبتها) بخفة على وقع أقدامها باتجاه رفيقها. ولكنها كانت تغير حركتها بتلويح ظفائرها حول رأسها بحركة جانبية أو مستديرة من رأسها. لم تبتسم خلال الرقص مطلقا، بل أبقت شفتيها مطبقتين تماما. وكانت تضع يدها أحيانا على فمها أو أنفها. فإذا اقترب رفيقها منها بصورة (فاضحة) كما حدث ذلك فعلا عدة مرات، ضربته بلطف بخيزرانتها كأنما تصده عن نفسها. وكانت ميزاتها الخاصة هي أنها صبغت شفتيها بالحمرة، وعلا مفرقها خط زعفراني عرضه نصف بوصة. وكان لجميع الفتيات مثل هذا الخط الذي كان يبدو كدهان من الزعفران (ولعله محلول قوى من الحناء). وقد انتهى الرقص حينما أسرع أخو الفتاة إلى الحلقة فغطى وجهها ورأسها بجزء من ثوبها الشاش ثم ذهب بها. . .
(صوت البحرين)
ع. ت(965/13)
3 - المستقبل وأسرار الوجود
للأديب عبد الجليل سيد حسن
(تتمة)
نحن والمستقبل:
قلنا إن الوجود مستقبل نسج وهو الماضي، ومستقبل ينسج وهو الحاضر، ومستقبل سينسج وهو (المستقبل) ونريد الآن أن ننظر في هذا التيار المتصل من الوجود: (1) هل هو منفصل بعضه عن بعض، بمعنى أن الذي سبق منه لا تأثير له فيما يليه؟ (2) وإلى أي حد يتأثر وجودنا وتتلون نظرتنا للحياة بمقدار هذه الأوجه الثلاثة للوجود!
أولا: مشكلة تأثير السابق في اللاحق تشمل الحديث عن -: السبب والمسبب. وعن: تأثير الماضي في الحاضر. أما عن الأمر الأول فقد تحدثنا عنه. وأما عن الأمر الثاني: فنحن نعرف أن تكويننا الجسمي والعقلي لم يتكون ولم ينم إلا في الماضي - أو المستقبل الذي نسج - بمعنى أن الماضي يدخل في بناء شخصيتنا، أو أن شخصيتنا بناء على تجارب الماضي قد صيغت. وهذه الشخصية هي التي تملي علينا اتجاهاتنا الحاضرة، وهي التي تلزمنا أن نتجه هذا الاتجاه دون سواه، ونتخذ هذه الخطة ونرفض تلك، ونختار ما يلائم شخصيتنا ويناسب مزاجنا الذي خلقته التجارب الماضية. فالماضي غير منقطع الصلة بالحاضر، وهو لا يؤثر فيه فقط، بل هو الذي يصوغه ويشكله ويوجهه. ويعين الماضي على ذلك، اللاشعور بأنواعه، من اللاشعور الجنسي أو الجمعي الذي هو عبارة عن خصائص الجماعة الإنسانية ومميزات الجنس البشري ومجموعة التجارب والخبرات التي اكتسبها أسلافنا والتي ورثناها عن أجدادنا الأولين، فهناك صفات عامة يشترك فيها النوع الإنساني، كالاستعداد للتثقيف والتعليم والتهذيب، تنتقل من جيل إلى جيل - وكل جيل يضيف إليها قليلا من التطور - كامنة في أعماق اللاشعور. وليس هذا تأثير الماضي القريب في الحاضر، بل تأثير الماضي السحيق الذي يعد بآلاف السنين في هذا الحاضر. وهناك اللاشعور الفردي الذي يختص بفرد دون آخر، ويلون حياته بلون خاص. وأيضا فالذاكرة هي التي تجعلنا واعين لتجارب الماضي، مستفيدين منها في الحاضر. وهذا إجمال(965/14)
لهذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل كبير، فالماضي مستقبل نسج وعلى غراره ينسج الحاضر
أما تأثرنا أفرادا وجماعات بأوجه الوجود الثلاثة، فهناك أمر من الوضوح بمكان كبير. فالمشاهد أن كل الناس يسيطر على تفكيرهم شيء معين فيوجههم وجهات مخصوصة، ويجعلهم ينتحون نواحي خاصة. فبعض الناس يغلب على طبعهم حب المغامرة والمخاطرة، فترى حياتهم مصبوغة بهذه الصيغة؛ وبعضهم يميلون إلى الحذر والانكماش على أنفسهم. فتصطبغ حياتهم بلون من الكسل والجمود والجبن. والسبب الذي فرق بين اتجاهات الناس وجعلهم يسلكون ما يسلكون هو انطباع شخصياتهم بطابع من أوجه الزمن الثلاثة، فنجد بعض الناس يحنون دائما إلى الماضي ويعيشون عليه، وبعضهم لا يهتم إلا بالحاضر ولا ينظر إلى ما دونه. وبعضهم ينظر إلى المستقبل ويرى سعادته في طيا ته. وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم الناس إلى ثلاثة أنماط مختلفة، لكل منها خصائصه ومميزاته. وهذا تخطيط أولى لهذه الأنماط:
1 - منطوون:
وهم الذين يوجهون اهتمامهم وانتباههم نحو الماضي، يرقعون مهلهله، ويزخرفون سيئه، ويبالغون في حسناته، ويكبرون من أمره، ويلهجون بذكره، مقرونا بالثناء والإجلال. مطابعهم الحسرة على ما فات، وإفراده وحده بالتعظيم، والانتقاص من الحاضر ورميه بالقصور والضعف (قلة الخير) أما الخير كل الخير والبركة كل البركة. ففي أيام (زمان) أيام العز والبلهنية، أيام كانت الدنيا دنيا والناس ناسا. وهذا الطابع هو طابع الشرق الذي لا تجيده إلا قيثارته؛ وسبب هذا الاتجاه الذي تمثله الحركات الرجعية والنظم المحافظة - ونحن نعلم ما لهذه النظم من خطر في شئون الحياة السياسية والدينية والفكرة - أمور منها:
أ - حب الحياة الذي يدفع بالناس إلى الكسل والجمود، ينأى بهم عن المخاطرة والمجازفة؛ والطبيعة التي تجعل الناس يتشبثون بالحياة على أية صورة كانت من عذاب مهين وبؤس مرير، فالناس لا يحبون أن يتخلصوا من الحياة بسهولة، حتى ولو كانت مملوءة بالذل، فهذا الحب للحياة على أية صورة، هو الذي يدفع بالناس إلى مقت التغيير خوفا على حياتهم الراهنة، وهذا يؤدي إلى الحنين إلى الماضي.(965/15)
ب - الرغبة المستترة في أعماق النفوس التي تدفع الإنسان إلى الفخر، والبحث عن التقدير والإحساس بالاعتبار وأن له أهمية في هذا الوجود. فالإنسان إذا فقد التقدير الذي يريده في الحاضر فلا ضير عليه أن ينسبه إلى نفسه أو إلى أجداده في الماضي. والماضي قد مضى وأندثر، فمن السهل إدخال الزيادة والنقصان عليه، ولفه في إطار جميل معجب.
جـ - سنة الحياة التي تتدرج بالإنسان من طفولة لاهية مرحة، إلى شيخوخة عاجزة عابثة، فالحياة تتدرج من سهل لين خال من المسؤلية، إلى جهم مثقل بها. فالإنسان يجب أن ينطوي على نفسه ليجتر الأيام الخالية اللاهية.
د - طبيعة الخيال الإنساني الذي يفتن ضمن ما يفتن في رسم صور الماضي زاهية يعكس عليها رغبات الإنسان وآماله التي تنقصه في عالم الحقيقة. والخيال من طبيعته التكبير والتهويل، فالرجل الطيب قديس، والملك العادل أبن الله، والفارس الشجاع بطل مغوار ومحارب قهار. يفتح المدن وحده والديار. وهكذا. . وأمامك من ذلك آلاف الأمثلة؛ فمن هو عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي؟ ألم يكونا بطلين شجاعين عاديين؟ ولكن انظر ماذا جعلت منهما الأساطير في أذهان المنطوين. وما حقيقة الأولياء والقديسين؟ ألم يكونا إلا بشرا مثلنا؟ ولكنهم بالغوا في التقوى، وأتوا قوة مهما تبدو خارقة معجزة. فهي لا تؤهلهم بحق للمكانة التي يحتلونها في صدور مقدسيهم الذين ينسبون إليهم من الأعمال كل جليل، حتى أنهم قد يؤلهونهم! وما هي حقيقة أكثر الآلهة القديمة؟ ألم تكن إلا أرواح الأسلاف والأجداد عبدها أبناؤهم في صورة آلهة، كما يقرر أكثر علماء الاجتماع
2 - انتهازيون
وهؤلاء انكبوا على الحاضر وحده، فلم يلتفتوا إلى الوراء، ولم ينظروا إلى الأمام، بل هم أبناء وقتهم. وشعارهم ما مضى فات والمغيب أمر، ولك الساعة التي أنت فيها فإطفاء نار شهواتهم مقصدهم، وأخذهم من اللذة ولو على أي نحو وبأي سبيل أو في نصيب ومن الألم أقل قدر غايتهم وأمنيتهم. وضيق الأفق وبلادة الحس وعدم تقدير الوجود صفاتهم.
3 - منفتحون
وهم هؤلاء الذين يسيطر عليهم الشعور بالمستقبل، فهم يعلقون عليه آمالهم، ويطيلون النظر(965/16)
إليه كأن فيه خلاصهم ونجاتهم؛ أو على الأقل ينظرون إليه كعزاء لهم. وهؤلاء يحسون بأن الحياة في التغير والحركة، س والموت في الثبات والجمود؛ فهم يحبون المغامرة والمخاطرة ويميلون إلى المقامرة، وهؤلاء هم الطامحون أصحاب المثل العليا وذوو القلوب الكبيرة والآمال العريضة والهمم العالية، منهم العلماء والرواد والمخترعون والمكتشفون والمصلحون وأصحاب المبادئ والمذاهب الذين ينظرون دوما إلى الأمام، ويرون في المستقبل الخلاص والنجاة. وهذا الاهتمام بالمستقبل، والتعلق بالمثل العليا هو علة التقدم والدافع الوحيد إلى الرقي، فلو لم يكن لكل إنسان أمل يجهد لتحقيقه، وغاية ما يسعى إليها، وهدف من الحياة يقصده ويلد له العذاب في سبيله، لما وجدت الدنيا، ولا وجد الناس في الحياة طعما، ولا من سبب يقهرهم على أن يعيشوا. ولو وجدوا الحياة مترعة بالآلام، وإلا فلماذا إذن يعيشون؟ ولماذا لا يتخلصون من هذه الحياة المزعجة القاسية المؤلمة بأنفسهم؟ شيء واحد هو الذي يجعلهم لا يقدمون على ذلك: أنه الأمل على شتى ألوانه من أدناها إلى أسماها؛ فبعضهم همه لقمه سائغة ووجه مليح وملبس جميل وبعضهم همه هم الإنسانية يريد سعادتها. وبعضهم همه الذي يؤرقه أن يتشبث بمركبة الخلود إن لم يستطع أن يقفز في قلبها. فالأمل وإن كان سرابا، والأماني وإن كانت خداعا، تفيد الإنسانية وتدفع الناس إلى التضحية واستعذاب الموت، فالجندي يستشهد راضيا في سبيل وهم إسعاد وطنه، والمؤمن في سبيل إرضاء ربه. وعلى قدر الآمال والعمل على نيلها يكون حظ الأمة من الحياة والرقي.
وهذا الصنف المستقبلي غير مقطوع الصلة بالماضي، فإنه كثيرا ما ينعم النظر في الماضي والحاضر وهذا التلفت الدائم إلى الماضي هو الذي يجعله يضع أمله في المستقبل ويتطلع إليه على إنه طريق الخلاص. فالرجل الذي يشعر بالخطيئة الماضية يظل ندمان أسفا، ولكنه يرجو النجاة والخلاص في المستقبل. والإنسان الذي مسه الضر ولحقه الفشل بأمل الفلاح والتوفيق في المستقبل، وتكاد تكون فكرة التأرجح بين الماضي البعيد والقريب، والمستقبل البعيد والقريب كذلك، هي التي أوجدت الأديان عامة وخلقتها وجعلت لها مكانا في الوجود، أو على الأقل هي العمد الأولى التي ترتكز عليها الأديان، ولولاها لما كان هناك شيء اسمه الدين؛ فنحن إذا أخذنا ننظر في نشأة المسيحية مثلا: وجدنا السبب في(965/17)
وجودها وقت توتر، جعل أنظار الناس تتطلع إلى المستقبل وهي يائسة حائرة متلهفة مترقبة تبحث عن مخلص يخرج من بينهم، فيفتح لهم باب الرحمة في السماء، وباب النعمة في الأرض.
. . . يفتح باب الرحمة بأن يطهرهم من أدناسهم وأرجا سهم برسالته النبوية. . ويفتح باب النعمة بأن ينشر الأمن في ربوع أرض يهوذا، ويعلى ألوية بني إسرائيل، ويخلصهم من هذا العذاب الروماني المتلاحق. وحين مولد المسيح عليه السلام كانت القلوب قد بلغت الحناجر، ولم يعد في القوس منزع. وترقب اليهود ظهور المخلص على أحر من الجمر، واعتقدوا أنهم لن يموتوا حتى يروه يخلصهم وينشر الأمن على أرض يهوذا. وكثرت النبوءات عن ظهوره، وبشر به الشيخ المهيب الذي يعمد الناس في نهر الأردن وهو يوحنا المعمدان. وما أن ظهر عيسى حتى تلقت به الأنظار وكان ما كان من أمره. وكذلك وجدت فكرة المخلص في الإسلام، ولعبت دوراها ما في التاريخ والتفكير الإسلامي. وقد ظهرت تحت أسم المهدي والإمام القائم الذي يعلمه جبريل عليه السلام، وإذا مات بدل غيره والذي لابد أن يحكم يوما ما ويملأ الدنيا عدلا بعد أن ملئت جورا.
وفكرة الخلاص والمخلص ظهرت في حقب مختلفة تحت أسماء مختلفة من إسماعيلية وقرامطة وسنوسية ووهابية، وحديثنا البابية والبهائية ومهدي السودان.
ونجد كذلك أن الناس لا يقف تأثير المستقبل فيهم عند الحد الذي يجعلهم ينتظرون الخلاص فيه في الدنيا، بل تعداها إلى الآخرة. فالمستقبل هو الذي جعل الفقراء يتعزون عن البؤس الذي هم فيه باليوم الآخر حيث يجزون على النصب والشقاء في هذه الدنيا حنة عدن ونهر عند مليك مقتدر، إذ أن الله بعدله لن يذيق الإنسان الشقاء مرتين: شقاء في الدنيا، وشقاء في الآخرة. ولا النعيم مرتين: نعيما في الدنيا ونعيما في الآخرة. وهكذا نرى خطر هذا التأثير في الدين وبالتالي في المجتمع
وقد رأينا كيف تتشكل حياة الناس أفراد وجماعات بأوجه الزمن الثلاثة. وقد كنا نود أن نحدثك عن هذا التشكيل للحياة في الدول الكبرى وكيف تسير سياستها على هذا الأساس؛ فأمريكا مثلا تسيرها سياسة الاهتمام بالحاضر والمستقبل، وبريطانيا يسيطر على سياستها التوازن بين الماضي (حزب المحافظين) والمستقبل (الأحرار) فأما نحن فأرجو أن نكون قد(965/18)
بدأنا نتجرد من تفاخر العاجز وتعزى الناقص بماضيه الوضاء ولكن نترك ذلك إلى فرصة أخرى
عبد الجليل السير حسن(965/19)
من حروب التحرير:
تحرير سرقوسة
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
(إلى تلك السيدة الجليلة التي تقدمت تريد التطوع في صفوف المجاهدين وقدمت أبناءها الأربعة للذود عن حياض مصر، وإلى كل امرأة مجاهدة في سبيل مصر، أقدم هذه الصفحة الخالدة.)
ع. ع
عندما بلغ (نابليون) أوج عظمته، وأرتفع إلى مصاف الأباطرة ووصلت فرنسا إلى ذروة المجد، كان قد وصل (شارل الرابع) ملك إسبانيا إلى درجة كبيرة من الضعف والتخاذل، ولم يكن أبنه (فرديناند) أحسن منه حالا، فقد كان متسما بالضعف والتخاذل وقلة الحيلة. فأراد نابليون أن يولي على إسبانيا أخاه (جوزيف) وكان الفربيون يحتلون إسبانيا في ذلك الوقت، فخلع (شارل) وأجلس أخاه مكانه بغير رغبة أهل البلاد وتحت ضغط السيطرة والقوة
ولكن الإسبانيين اللذين كان يغلى مرجل الغضب في نفوسهم على الغاصب المحتل ولا يجدون من يرفع الغطاء لينفجر المرجل في وجوه المستعمرين، فكان خلع (شارل) وتولية (جوز يف) بمثابة رفع الصمام، فهب الشعب الإسباني يذود عن كرامته، وهب معه النبلاء والأمراء، برغم معارضتهم لسياسة (شارل)، وصمم الجميع على الدفاع عن بلادهم والموت في سبيل استقلالهم، غير عابثين لما للعدو من عدة وعدد، فثار ثائر الفرنسيين وأرادوا سحق هذا الشعب الذي تجرأ على عصيان نابليون العظيم.
وتجمع في مدينة (سرقوسة) بعض الضباط والجنود من أبناء المدينة وصمموا على ملاقاة العدو والدفاع عن كل شبر من إسبانيا مادام فيهم دم يجري. ومع أن مدينة (سرقوسة) ليست من المناعة بحيث تستطيع الوقوف في وجه جيوش نابليون التي حطمت كل ما صادفها من حصون ومعاقل، فإن أهلها أخذوا يعدونها للمقاومة والصمود في وجه العدو بهمة لا تعرف الكال(965/20)
كانت المدينة ذات أبنية عادية ضيقة الشوارع ملتوية الطرقات ليس بها إلا بعض الميادين الواسعة نسبيا، وكان يحيط بها سور من الحجر لا يزيد ارتفاعه على ثلاثة أمتار، فكان من السهل أن يقتحمه الجنود بأقل جهد.
وحاصر الفرنسيون المدينة وظنوا أن دخولها لا يتطلب جهدا ولا مشقة وأنهم يعتبرون أنفسهم في نزهة. وفي يوم 14 يونيو سنة 1808م اندفعت فرقة من الفرق الفرنسية نحو المدينة وانقضوا عليها انقضاض الصواعق، ولكن المدافعين عن المدينة تصدوا لهم وأصلوهم نارا حامية وأجبروهم على التقهقر.
ورجح الفرنسيون يأكل صدورهم الحقد ويكاد يقتلهم الغيظ فقضوا الوقت كله في التأهب والاستعداد، حتى إذا كان اليوم التالي هاجموا المدينة بقوة وحنق، سالكين بابا من أبواب السور المسمى بباب بورتيلو، وأخذوا يلقون بأنفسهم في المعركة، ولكن المعركة انجلت عن هزيمة الفرنسيين وفوز السرقوسيين مما ضاعف حماسهم وقوى روحهم وبعث فيهم الثقة بأنفسهم فصمموا على الدفاع حتى آخر واحد منهم.
وخرج الرهبان من أديرتهم والقسس من بيعهم ولبسوا ملابس الجندية ليشاركوا أبناء وطنهم الجهاد وقسم النساء أنفسهن أقساما كل منها يقوم بعمل خاص، من حمل الجرحى ونقل المؤن والذخائر للجنود. ولم تتخلف واحدة منهن عن القيام بواجبها وأصبح كل فرد في سرقوسة جنديا يحمل السلاح.
وفي ليلة 28 يونيو بينما كان كل مواطن آخذا مكانه المعد له إذا بانفجار شديد يدوي وسط المدينة، فهب الناس مذعورين لهذا الحدث المروع الذي أخذهم على غرة، فقد استطاع الفرنسيون أن يتسلل جواسيسهم داخل المدينة فيفجروا مخزنا للذخيرة، وهي العلامة المتفق عليها لبدء الهجوم.
وهب الجنود مسرعين إلى سلاحهم وأضطر المواطنون أن يسارعوا إلى نجدتهم وأن يتركوا جثث الضحايا تحت الأنقاض والمجروحين بغير إسعاف
وأشتد الهجوم وحمى وطيس القتال، وبلغ الهول منتهاه وتساقط المدافعون واحدا إثر واحد عند أحد الأبواب، وعندما سقط آخر جندي وأصبح المكان خاليا وعرضة لأن يندفع منه المهاجمون، كانت هناك امرأة تسعى إلى هذه المنطقة الخطرة غير آبهة بما حولها، لتقوم(965/21)
بواجبها، وإذا بها ترى المدافع بغير جنود وهناك في مكان قريب جماعة يستعدون للفرار، ورأت العدو يقبل كالسيل المنهمر، فأسرعت إلى أكبر المدافع وانتزعت أدوات الإشعال من الجندي القتيل خلف المدفع وأشعلته وآلت على نفسها ألا تترك مكانها حتى الموت واستمرت في إطلاق النار. ولما رأى الجنود الآخرون ما فعلته هذه المرأة، عادوا إلى أماكنهم وأخذوا يطلقون النار على العدو وانضم إليهم بعض الضباط.
كان القتال شديدا جدا والمقاتلون يتساقطون من الفريقين من حول هذه المرأة (أوجستينا) وهي صامدة في مكانها توالى إطلاق النار وتحث الجنود على الثبات وتبعث في نفوسهم القوة والعزيمة، وهكذا ظلت تمثل أعظم أنواع البطولة النسوية، حتى تراجع المهاجمون خائبين.
وبعد أيام من هذه المعركة وكان كثير من النساء قد احتللن أماكن الجنود الذين قتلوا، وكن أشد تحمسا من الرجال، هب الفرنسيون يملأهم الغيظ والحنق، وعلى غرة اقتحموا أحد أبواب المدينة وكانوا كلما وقع في أيديهم شيء أحرقوه فأحرقوا مستشفى وديرا مليئا بالجرحى. وأرسل قائد الحملة الفرنسية إلى حاكم سرقوسة كتابا يطلب منه التسليم أو إحراق المدينة كلها، فلما شاور الحاكم المواطنين هبت أوجستينا حانقة وهي تقول: (لا، لن نسلم للعدو حتى نهلك جميعا) وأمن الجميع على قولها
فكتب الحاكم إلى قائد الفرنسيين يقول له: (ستظل الحرب بيننا حتى تصير بالمذى). فاهتاج الفرنسيون وأخذ القتال شكلا وحشيا مروعا، فقد كان ينتقل من طريق إلى طريق ومن بيت إلى بيت بل ومن غرفة إلى غرفة، واشتد الأمر وتكاثر القتلى، ولكن كل ذلك لم يفت في عضد المواطنين اللذين صمدوا للعدو صمود الأبطال.
وأخيرا وصلت إلى سرقوسة نجدات قوية، أنزلت الرعب والفزع في قلوب الفرنسيين فاضطروا إلى الانسحاب بعد قتال دام أربعة أيام وبعد حصار دام خمسين يوما.
أما أوجستينا فقد انتشرت أنباء بطولتها بين الناس فتوافدوا يكللون جبينها بأكاليل المجد والشرف، وخلدها الشعراء وعلى رأسهم الشاعر الإنكليزي العظيم (لورد بيرن) بأبيات في غاية الروعة ستظل أنشودة المجد إلى الأبد.
هذه هي أوجستينا التي بلغت قمة المجد رغم أنها من طبقة فقيرة. وكم من النساء خلدهن(965/22)
التاريخ لمواقفهن الوطنية الرائعة؛ ونساء مصر لسن أقل من غيرهن شجاعة وقوة، وهاهي بوادر هذه الوطنية تظهر في صورة هذه المرأة الخالدة
عبد الموجود عبد الحافظ(965/23)
رسالة الشعر
على أطلال الكفر المنقص:
إلى الغزاة الهاربين
للأستاذ محمود غنيم
يا أمة المنش يهني جيشك الظفر ... أبطال (دنكرك) في مصر قد انتصروا
أبطال (دنكرك) خاضوا الحرب طاحنة ... في (كفر أحمد) لا جبن ولا خور
سلوا السلاح على من لا سلاح له ... وحاصروا بلدا لم يأوه بشر
ودمروه فحرت - وهي معولة - ... عروشه وتداعت خلفها الجدر
كادت تضج بأيدهم معاولهم ... وكاد يلعنهم إذ يسقط الحجر
فيم المدافع كالأبراج جاثية ... يطير كالبرق من أفواهها الشرر؟
فيم القذائف فوق الحي حامية ... من حالق الجولا تبقى ولا تذر؟
فيم الحديد وفيم النار حامية ... كأنما فتحت أبوابها سقر؟
ما جرد الخصم غير الحق في يده ... والحق يمضي وينبو الصارم الذكر
لم تحجبوا الشمس بالأسراب طائرة ... لكن من الخزى وجه الشمس يستتر
ما كلل الناس يوم النصر هامكمو ... بالغار لكنهم من نصركم سخروا
لهفي على بلد تاهت معالمه ... أطفاله كالذبى في البيد تنتشر
باتت حيارى بلا مأوى جرائره ... لا سقف إلا الرياح الهوج والمطر
من كل هيفاء كان الخدر يحجبها ... إن أسفر النجم في الظلماء والقمر
بم تساوى بسطح الأرض شاهقة ... قد صوخ النبت فيه واختفى الشجر
كأنما القوم لم يغشوا مغانيه ... يوما ولا حرثوا فيه ولا بذروا
كأنه ما رأى وجه النهار ولا ... أحيا لياليه أنس ولا سمر
ولا أوت دوره أهلا ولا عمرت ... يوما مساجده الآيات والسور
إن الآلي في الحروب (الريخ) ما كسبوا ... حربا بمصر استردوا بعض ما خسروا
شعب يسوق شعوب الأرض قاطبة ... إلى الوغى وهو خلف الباب ينتظر(965/24)
تخفى عساكره في الحرب إن نشبت ... حتى إذا قسمت أسلابها ظهروا
أقسمت ما كسبوا في (كفر أحمد) من ... نصر ولا العزل من سكانه اندحروا
لكنهم حفروا قبرا لدولتهم ... في مصر فليسكنوا القبر الذي حفروا
لم يهدموا قرية عزلاء بل هدموا ... ركن السلام بأيديهم وما شعروا
سل الحماة حماة الأمن هل سمعوا ... بمصر أو عندهم عن أهلهم خبر؟
الأمن شاك جريح سائل دمه ... ومجلس الأمن لا سمع ولا بصر
يا قوم طال (بلك سكسس) نومكمو ... وبالكنانة نار الحرب تستعر
صونوا الحضارة من أيد تعبث بها ... وأدركوا الأمن إن الأمن يحتضر
لا تلزموا الصمت والذؤبان عابثة ... بالشاء فالصمت فيه يكمن الخطر
عاش ابن آدم عيش الغاب تحكمه ... شريعة قاضياها الناب والظفر
محمود غنيم
من الشعر الواقعي:
ليلة
للأستاذ عثمان حلمي
لا يومها يومي ولا غدها غدي ... ما منته سئم الحياة كمبتدئ
وعجبت من قلبي ومن نزواته ... ومتى يتوب عن الضلال ويهتدي
أفبعد هذا العمر لوعة وامق ... وولوع مشتاق وجفن مسهد
وصبابة تعي الجليد فكيف إن ... أخذت بلب المدنف المتجلد
ماذا أود من الحياة إذا انتهى ... شوط الشباب وما الشباب بسرمد
أولى بمن آوته قمة جيله ... نسك كنسك الزاهد المتعبد
من فاته ركب الزمان تخلفت ... معه مرارة تعسة المتجدد
فلم التصابي والتجمل بعدما ... خمد الشباب وليته لم يخمد
والحب إن مالت بعمرك شمسه ... شطط فأفرط في هواك أو اقصد
لابد من حال ينالك بأسها ... فيه ويوم للندامة أريد(965/25)
سخر الزمان أقل ما تمنى به ... تبلوه في ضحك الغواني الخرد
أما بدت تحت الخضاب حقيقة ... بيضاء تسطع تحت زور أسود
أو نورت في جنح رأسك جدبة ... كالجرح إن ضمدتها لم تضمد
ودعتك عما كل غانية إذا ... قرأت سطور جبينك المتجمد
ولقد خلا قلبي وظللني الهدى ... زمنا وسلمت الهداية مقودي
حيث انتهت فتن الشباب فأصبحت ... ذكرى نزوح مع الزمان وتغتدي
وبرأت إلا من براءة نظرة ... وخواطر شتى الرغائب شرد
حتى تعرض لي الهوى في غادة ... مجلوة في فتنة لم تعهد
خمرية هدباء تبعت روحها ... روح المحبة في الأصم الجلمد
تحكي نضارتها وغض شبابها ... للمعجبين نضارة الزهر الندى
وتموج رقة حسنها في مقلتي ... موجان عذب الماء في عين الصدى
وينم حلو حديثها عن ظرفها ... أو عن صفاء ذكائها المتوقد
طبعت على الإغراء في حركاتها ... أو في تهادى جسمها المتوأد
لم ألقها إلا تبسم ثغرها ... عن بهجة أو عن رضى متعمد
فكأنما هي في حياتي فرحة ... جاد الزمان بها وإن لم يقصد
ووفى أوان الحسن كل عجيبة ... فيها فجاءت كالمثال المفرد
ولكل حسن في الحياة أوانه ... هو والهوى يتلاقيان لموعد
نظرت إلي فأيقظت نظراتها ... قلبي وأحيت ميتا لم يلحد
فأفقت مما كنت فيه من الهدى ... ووضعت قلبي في الغرام على يدي
فإذا بنفسي طفلة ممراحة ... تعصى الوقار كأنها لم ترشد
ثارت على سنن الهدى وجلاله ... وتمردت في الغي أي تمرد
ورأت غرام القلب لا زمن له ... فزمانه في العمر غير محدد
فتلمست عذر المسيء لنفسه ... وتلمس الأعذار طبع المعتدى
والحب يسخر بالقيود فإن خطا ... بالنفس حطم غل كل مقيد
والحب مثل الطفل أعجب ما به ... طبع العنيد وسيمة المتمرد(965/26)
فإذا رأى فبعين أعمى ما يرى ... وإذا سرمى فبمهمه لا يهتدي
وإذا تغنى أطربت نغماته ... أذن السماء بغير حاد منشد
وإذا بكى أبكى القلوب نواحه ... شجواً وأسهد عين من لم يسهد
وإذا تهامس كان برقا خاطفا ... من دون صخاب العواطف مرعد
وإذا استحال إلى الضلال فما له ... هاد ولا لضلاله من مرشد
وظللت دون لجاج نفسي ساهما ... حيران بين تلهفي وتنهدي
تمضي الليالي في ضلالة حيرتي ... ما بين إقدامي وبين ترددي
أأطيع قلبي في جديد هيامه ... وأعود من حيث انتهيت فأبتدي
والحب ينميه اللجاج فإن طغى ... ما إن يصيخ لناقد ومفند
ولبثت أرقب من أضلني الهوى ... فيها ولم يوه الزمان تجلدي
حتى أحست من حديثي لهفة ... وتبينت ولهى وصدق توددي
عجبت وما عجب إذا ما ساءلت ... يوما غرور شبابها عن مقصدي
ماذا دهى الشيخ الوقور فإنه ... خلع الشباب وكنت لما أولد
ولمست ما تخفيه في ضحكاتها ... ولبثت أطرق باب قلب موصد
حتى ملكب قيادها في ساعة ... مهدتها بالصبر كل ممهد
واعدتها سرا فلم تجفل ولم ... ترفض ولم تخلف أوان الموعد
وأتت كأن بها الذي بي من جوى ... تختال كالطاووس فيما ترتدي
في ليلة قمراء أسرف بدرها ... في النور إسراف الكريم الجيد
وسرى على هام النجوم فطأطأت ... من بعد عزتها لهذا السيد
يجري وما تدري النهى المقصد ... يجري وما هو كنه هذا المقصد
فإذا تداركه الونى في سعيه ... ركب السحاب ركوب مضني مجهد
وكأنما تحدوه لهفة عاشق ... للقاء مشتاق له مترصد
فمضت به قطع السحاب بموكب ... متهدج في مقلة المتفقد
حتى إذا بلغت به أقصى المدى ... وإنجاب عنه ركامها المتلبد
ألفيته يعدو كمن فقد الهدى ... أو من تلفت من غريم معتد(965/27)
والليل مصغ للكواكب إذ صغت ... في ضوئها المتضائل المتبدد
والبحر يحلم حيث لا أمواجه ... غضبى ولا هو بالجهوم المزبد
يتأرجح الموج الضعيف بشطه ... كتأرجح التقوى بنفس الملحد
صقل انبثاق النور صفحة وجهه ... وأنارها للساهرين السهد
وكأنما أنا كنت في حلم لما ... أبصرته من حسن هذا المشهد
وبجانبي أنى سميت غريرة ... يدها وقد سرنا الهوينى في يدي
أنثى كما اكتملت لأنثى فتنة ... دعة اليمامة في غرور الهدهد
ما غرني إقبالها فتجاربي ... في العمر من أمثالها لم تحمد
وطويت من ليلات عمري ليلة ... خلدت على الذكرى وإن لم تخلد
الإسكندرية
عثمان حلمي(965/28)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
موقفنا من الاتحاد السوفيتي
في الحرب العالمية الأخيرة، جاء يوم وقفت فيه بريطانيا وحيدة بلا حليف، وحيدة بلا صديق، وحيدة بلا قوة. . حليفتها فرنسا - تلك التي تستأسد اليوم في مراكش - أنت في ذلك الوقت قد ركعت على قدميها أمام جحافل الألمان. بالفترة التي استغرقتها الدولة (العظيمة) لتركع، فكانت طويلة جدا في حساب الزمن وحساب التاريخ. . كانت سبعة عشر وما كما (يزعم) المؤرخون أو صديقتها أميركا - تلك التي ناصر الحرية اليوم في كوريا - كانت في ذلك الوقت قد التزمت خطة الحياد المزيف، عملا بموقفها (الخالد) من حرية الشعوب! القوة التي كانت تعتز بها بريطانيا وتفخر، تلك التي كم أخمدت أصوات الكرام وأخضعت رءوس السادة، كانت هي الأخرى قد تبعثرت أشلاؤها تحت مخالب النسر الألماني في كل مكان!!
في ذلك اليوم الذي خسرت فيه بريطانيا كل حليف وفقدت كل صديق، وسلبت كل قوة. . راح ونستون تشرشل - كلب الإمبراطورية العجوز - راح يتطلع في حيرة اليائس إلى كل أفق يمكن أن تشع منه ومضة أمل تضيء في نفسه مسارب الرجاء. . ولم يطل بأسه ولم تطل حيرته، فقد أقبلت الفرصة المنتظرة التي أتاحت للكلب أن يسترد أنفاسه اللاهثة، وأن يلعق جراحة النازفة، وأن يرفع رأسه من الأرض ليثبت من جديد أنه قادر على النباح!!
أقبلت الفرصة المنتظرة حين أقدمت روسيا على خوض غمار الحرب. . وانتهزها الكلب العجوز لا ليعترف بالجميل ولا ليذكر الفضل، بل ليطالع العالم بوجهه الصفيق ويقول: في سبيل القضاء على العدو المشترك، أرى لزاما على أن أضع يدي في يد الشيطان. . لقد كان الشيطان الذي يعنيه هو روسيا السوفيتية، وبفضل هذا الشيطان وحده استطاع أن يتجنب الهزيمة، وأن يقود أمة اللصوص نحو النصر!!
أليس موقفنا اليوم شبيها بموقف بريطانيا بالأمس؟ إنه يشبهه من كل الوجوه. . إننا نقف وحدنا بلا حليف، وحدنا بلا صديق، وحدنا بلا قوة، اللهم إلا قوة الإيمان بحقنا في الحياة!(965/29)
إننا - نحن أبناء الشمال والجنوب - قد قدر لنا أن نواجه العدو المشترك وفي سبيل القضاء عليه، لماذا لا نضع أيدينا في يد الشيطان؟ الحقيقة المرة هي أننا لا نزال نتحرج، ولا نزال نتردد، وأننا لا نثق كثيرا بمنطق التاريخ. . التاريخ الذي ينحني لنا في أسف، ويقول لنا في صدق، وعلى شفتيه ابتسامة رثاء: مساكين. . إن (شيطنة) روسيا ما هي إلا أسطورة ضخمة من صنع المخيلة البريطانية. . أسطورة صدقتموها لأنكم أمة تعيش على الأساطير!!
لو كنا نثق بمنطق التاريخ لما خدعنا منطق اللصوص. . لما تحرجنا من مصافحة الشيطان وقد صافحوه، لما ترددنا من محالفة الشيطان وقد حالفوه، لما وقفنا وحدنا نتطلع إلى الصديق ولا صديق! إن هذا الشيطان إذا لم تحني الذاكرة، قد ناصرنا مرة حين لجأ النقراشي إلى مجلس الأمن، وناصرنا مرة أخرى حين لجأ صلاح الدين إلى هيئة الأمم، وناصرنا مرة ثالثة حين لجأت الوفود العربية إلى تلك الهيئة لتعرض عليها قضية مراكش؛ ومع هذا كله فنحن لا نزال متحرجين ومترددين: نعرض عن المودة الروسية والصداقة الروسية، لأنهما في رأي عشاق الأساطير من رجس الشياطين!!
يا حضرات السادة، يا حضرات الزعماء، يا من بيدكم مقاليد الأمور في هذا البلد: فكروا مرة، مرة واحدة في محالفة الشيطان! أقسم لكم أن الشيطان لم يحتل بلادنا، ولم يسرق أقواتنا، ولم يسفك دماءنا، ولم يهدم بيوتنا، وإنما الذي احتل وسرق وسفك وهدم. . هم (الملائكة)!!
الشعر المرسل أو الشعر المنثور
شاع في هذه الآونة لون جديد من ألوان الأدب، أخذت تقدمه لنا الصحف والمجلات الأدبية باسم (الشعر المنثور) تارة وباسم (الشعر المرسل) تارة أخرى!
ولست أدري والله معنى هذين التعبيرين، وما هو المقصود بهما! وأية متعة فنية أو أدبية يجنيها الإنسان من قراءة كلمات متناثرة هنا وهناك، تفصل بينها النقاط الكثيرة، وعلامات التعجب والاستفهام، دون أن يربط بينهما رابط من اللفظ والمعنى فما هي إلا أفكار مشوشة مضطربة، وخواطر غريبة متنافرة لا تجمع بينها وحدة الفكر، ولا وحدة القافية!
أنا لا أستطيع أن أفهم أن هناك (شعرا منثورا) بل الذي أفهمه أن هناك شعرا له أصوله(965/30)
وقواعده وقيوده، وأن هناك نثرا له مقاييسه الخاصة به، وله صفاته التي تميزه عن الشعر. . فما هذا الخلط؟ وما هذه الفوضى الأدبية؟
لقد غفرنا لأولئك الأدباء الذين ينقلون إلى العربية روائع الأدب العالمي تحررهم من تلك القيود التي يخضع لها الشعر العربي، بغية المحافظة على روحية الشاعر ووحدة فكرته التي يهدف إلى عرضها للقارئ بأسلوب فني ووفق نظام بديع. ولكن ما الذي يدعونا إلى التماس المغفرة لهؤلاء الأدباء أو (المتأدبين) الذين جاءوا بهذه (البدعة) الأدبية الجديدة، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على عجز عن الإبداع الفني، وقصور عن إدراك ذروة الجمال في التعبير الشعري الذي يجب أن يخضع للأسلوب الفني المنظم!
أرجو من الأستاذ الناقد إفادتي برأيه في هذا الموضوع مع بيان تأثير هذه البدعة على الشعر العربي الحديث.
(بغداد)
منير آل ياسين
أنا مع الأديب العراقي الفاضل في هذه الآراء التي يبديها حول الشعر المرسل أو الشعر المنثور، ذلك لأني لست من أنصار (الشعوذة) الفكرية و (البدع) الأدبية التي يسميها الفاشلون فنا والفن منها براء. . ولو رجع الأديب العراقي إلى كتاب (نماذج فنية) لوجدني أؤيده كل التأييد فيما ذهب إليه، حين ينعت التحرر من بعض القيود في الفن بأنه (الفوضى) الناتجة عن عوامل العجز والقصور! هذا حق لا شك فيه، وأية متعة فنية أو أدبية يجنيها الإنسان كما يقول، من قراءة كلمات متناثرة هنا وهناك، تفصل بينهما النقاط الكثيرة وعلامات التعجب والاستفهام، دون أن يربط بينها رابط من اللفظ والمعنى؟
إنه سؤال يوجهه إلى الأديب العراقي، وأعود إلى بعض ما قلته بالأمس حول مشكلة القيود في الفن لأقدم إليه هذا الجواب: (إن تحرير الفن من كل قيد معناه الحرية المطلقة وإن الحرية المطلقة ليست هي الجمال الذي نتطلع إليه. . إننا حين نفرض القيود على الفن فإنما نفرضها بغية أن نبث فيه روح النظام وما هو الجمال في الفن إذا لم يكن هو الجمال على التحقيق؟ وحين نرفض الحرية المطلقة فإنما نرفضها خشية أن نبث فيه روح(965/31)
الفوضى، وما هو القبح في الفن إذا لم يكن هو الفوضى بلا جدال؟ لابد إذن من قواعد وأصول حين نحتاج في (تنظيم) الفن إلى تلك القواعد والأصول، ولا بد إذن من القيود التي تقررها المقاييس النقدية لتحديد القيم الجمالية!. . إن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسيمها (ملكة التنظيم) وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة التي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل شيء في مكانه، كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فنا، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مهوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. . إننا ننشد النظام، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء الفن!
هذه الكلمات الموجزة يستطيع الأديب العراقي أن يخرج منها بما يؤيد وجهة نظره حين يقول (إن الشعر المنثور ما هو إلا أفكار مشوشة مضطربة، وخواطر غريبة متنافرة، لا تجمع بينها وحدة الفكر ولا وحدة القافية. . أنا لا أستطيع أن أفهم أن هناك شعرا منثورا، بل إن الذي أفهمه أن هناك شعرا له أصوله وقواعده وقيوده، وأن هناك نثرا له مقاييسه الخاصة به، وله صفاته التي تميزه عن الشعر، فما هذا الخلط، وما هذه الفوضى الأدبية)؟
هذا رأي جميل، وإنه ليذكرني بذلك الرأي الذي عقبت به يوما على سؤال لأحد الأدباء العراقيين، حين تعرض لقيود القافية في فن الشعر ذاهبا إلى أنها تحد من حرية الشاعر، لأنها كثيرا ما نسوقه مرغما إلى كلام لم يقصد إليه ولم يهدف إلى معناه. . لقد قلت يومئذ وأنا في معرض الجواب حيث يغني الإيجار عن كل إطناب: (بقى أن أقول للمحامي الأديب في مجال الرد على ما أورده حول قيود القافية في فن الشعر، إن هذه القيود كما عرض لها حق لا شك فيه؛ من ناحية أنها تفرض على الشاعر لونا من التعبير قد لا يرتضيه. ولكن الأستاذ قد نسى أن تلك القيود لازمة من لوازم الشعر ليكون شعرا، له ذلك القالب الفني الذي يميزه عن قالب النثر، ويشير إلى ما بين القالبين من فروق)!
بعد هذا أنتقل إلى السؤال الأخير في هذه الرسالة المتزنة الواعية لأقول: لا خطر في رأي من هذه البدعة على الشعر العربي الحديث، لأن أصحابها لا وزن لهم عند من يفهمون رسالة الفن على وجهها الصحيح، ويحددون لها الغاية ويرسمون الطريق ويقررون(965/32)
المصير. . لا وزن لهم مهما شجعتهم على مثل هذه (الشعوذة) صحف تزعم أنها تحمل مشعل التجديد، وهي في الواقع تظلم التجديد كل الظلم حين تنظر إليه في ضوء هذا الفهم السقيم!!
حول مسرحية (دنشواي الحمراء):
أريد أن أعرض عليك مشكلة لست أدري ماذا يكون صداها لديك، ولدي القائمين بشئون المسرح العربي!. . كنت ضمن النظارة الذين شاهدوا المسرحية الوطنية الكبرى (دنشواي الحمراء)، فلاحظت أن الستار يسدل عقب انتهاء كل منظر من مناظر المسرحية العديدة والأنفاس معلقة. . ثم لا يلبث أن يرفع مرة أخرى فإذا بالمثلين قد أحنوا قاماتهم لجمهور النظارة الذي ألهب أكفه بالتصفيق إعجابا بفنهم الرفيع.
هذا أمر طبيعي، لأن الممثل يجد لنفسه صدى يتمثل عنده في تصفيق الجمهور وإعجابه ومشاركته له مشاركة تامة في كل ما يحس من عواطف وانفعالات. . ولكن هنا المشكلة! إن أفكار النظارة الفردية تتحطم في المسرح وتستحيل إلى أفكار جماعية، فالانفعالات والاحساسات تسري في الجميع ويصير (الكل في واحد) كما يقول (نشيد الموتى). . ولكن رفع الستار مرة أخرى بعد إسداله عقب انتهاء كل منظر، يؤدي إلى (اللانفعالية) المفاجئة لدى النظارة، مما يحول بينهم وبين التعاطف والاندماج في اللحظة التي أوشك أن يتم فيها التعاطف والاندماج، فإذا بالجمهور لم ينظر إلى ما عرض على خشبة المسرح نظرة الجد بل أخذ يضحك بشكل أزعجني! إن الجمهور في ذلك معذور يا سيدي، لأن رفع الستار قد قضى على طاقته العاطفية أثناء التمثيل وأحالها فجأة إلى حالة طفيلية ذات وجود مستقل، وبهذا يفقد المسرح في رأيي عنصره الأصيل وهو التأثير المباشر! أليس كذلك، أم أنا مغال فيما أقول؟
إنني في انتظار رأيك، وتقبل إعجابي واحترامي
(القاهرة)
محمد رفعت الدوباني
كلام الأديب المصري الفاضل صحيح لا غبار عليه، ولقد شهدت هذه المسرحية وغيرها(965/33)
من المسرحيات ورأيت بعيني هذا الذي يقع على المسرح ويقدم عليه الممثلون. إنها (تقليعة) لا أستطيع أن أرضي عنها ولو رضى عنها ذلك الرجل الذي أقدره دون أن أعرفه، وأعني به الأستاذ زكي طليمات!
لقد كان الجمهور مثلاً في حالة شعورية ساخطة على ذلك الممثل الذي بدور المستشار الإنجليزي المحقق في قضية دنشواي، ولكن تلك الحالة الشعورية قد انقلبت إلى النقيض حين رفعت الستارة بعد انتهاء المشهد لينحني المستشار (الإنجليزي) تحية لجمهور النظارة من (المصريين). . ولقد كان الجمهور مثلاً في حالة شعورية حزينة على (أم محمد) التي خرت صريعة برصاص الجنود الإنجليز، ولكن تلك الحالة الشعورية قد انقلبت هي الأخرى إلى النقيض حين رفعت الستارة بعد انتهاء المشهد وظهرت (الشهيدة) في أحسن صحة وأكمل عافية، لتحي (الباكين) عليها (والمحزونين). . ولقد كان الجمهور مثلاً في حالة شعورية تتدفق إعجابا وحماسة وهو يرى (عبد الرزاق) وقد نسف البيت مضحيا بحياته، مادام هذا النسف سيودي بحياة عدد من جنود الاحتلال، ولكن تلك الحالة الشعورية قد انقلبت المرة الثالثة إلى نقيض حين رفعت الستارة بعد انتهاء المشهد، وبدا الفدائي (الصريع) واقفا على قدميه ليقدم شكره الخالص لحضرات (المفجوعين). . وهكذا كنت أرى تلك (التقليعة) المضحكة وهي تتكرر على خشبة المسرح وتقضي على كل عنصر من عناصر الإثارة النفسية!
إن مثل تلك الحركات البهلوانية كفيلة بهدم ذلك التجاوب الشعوري بين الممثل والمشاهد، وبالقضاء على الواقعية الفنية في العمل المسرحي حين نخرجه في الإطار المادي الذي نهدف من ورائه إلى التأثير في الجماهير. . إن وظيفة المسرح هي أن ينقلنا من عالم الخيال إلى عالم الواقع، هي أن يخدر مشاعرنا ذلك التخدير الذي نحس معه أن هذه الساحة الضيقة التي يتحرك فوقها الممثلون، قد استحالت إلى تلك الساحة الرحيبة الأخرى غير المحدودة، وأعني بها ساحة الحياة. . ترى هل يحتمل منطق تلك الساحة الأخيرة أن ينحني الإنجليز للمصريين، وأن يستيقظ الموتى من رقدة العدم دون أن يحدد الله موعد البعث والنشور؟
إن الجواب متروك للرجل الذي أقدره وأقدر جهوده في خدمة المسرح. . زكي طليمات!(965/34)
أنور المعداوي(965/35)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضير
افتتاح مؤتمر المجمع اللغوي:
أحتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بافتتاح مؤتمره السنوي يوم الاثنين 24 ديسمبر الحالي، فاسهل الجلسة معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا رئيس المجمع بكلمة أعلن فيها افتتاح المؤتمر وحيا الأعضاء ورحب بهم.
ثم وقف الدكتور منصور فهمي باشا كاتب سر المجمع فألقى كلمته، وقد تحدث عن الذوق اللغوي وموقف المجمع مما يقرره من ألفاظ ومصطلحات من حيث فرض السلطة أو ترك الحرية لمن يأخذ بها. ثم أجمل أعمال المجمع في الدورة الماضية. وقد جنح في كثير من العبارات إلى الظرف والفكاهة.
قال الدكتور منصور باشا: إن المجمع يحكم اختيار أعضائه ممن يتذوقون اللغة العربية تكون له ذوق خاص في اللغة، وقد أخذ يرنو إلى أن يشيع في الناس هذا الذوق. وقد قال في مستهل كلمته أنه لن يحول الحديث إلى فلسفة، فللفلسفة مجالها ولها وزن ثقيل تترنح له الدار ويرتج الجدار، ويلوذ أكثر للزوار بالفرار. . . ولما وصل إلى الكلام على (الذوق السليم) شبهه (بتيار إلهي يجري في وادي الظروف والزمن) وما كدت أسمع هذا التشبيه حتى أشفقت على الدار ونظرت خائفا إلى الجدار وتطلعت أرقب الزوار. .
وقد بدأ مسألة للسلطة والحرية في اللغة متسائلا: هل آن لما تطلع إليه المجمع وطلبه على لسان بعض أعضائه أن يتحقق فيطوع السلطة التنفيذية لخدمة اللغة وسلامتها؟ ثم تحدث عن رأي معالي الأستاذ رئيس المجمع في ذلك وهو رعاية الحرية وإيثارها على التسلط، وقال: إنني أستبيح لنفسي التجانف عن هذا السبيل الحنبلي في تقديس الحرية لأكون من أنصار أبي حنيفة ومن إليه ممن يتجوزون في أشربة من الخمر في بعض الظروف. . فقد يكون للسلطان في بعض الأحايين نفع كبير، ولقد أرى أن بين السيطرة المستنيرة وبين بعض صنوف الخمر المستجادة وجها من وجوه الشبه!
قال الدكتور منصور فهمي ذلك ولم يبين لنا كيف السبيل إلى فرض السيطرة على أذواق الناس في اللغة. ولست أدري ماذا يقصد بإجازة أبي حنيفة أشربة من الخمر في بعض(965/36)
الظروف! هل يقصد تحليل أبي حنيفة للنبيذ؟ وهل يحسب نبيذ أبي حنيفة من الخمر؟ وما موقع (صنوف الخمر المستجادة) مما قال به أبو حنيفة؟
وبعد ذلك ألقى الدكتور أحمد عمار محاضرة قيمة موضوعها (المصلحات الطبية ونهضة العربية يصوغها في القرن الحاضر) بدأها بقوله: اللغات كائنات حية نامية متجددة، ما تجددت عاشت، فإن جمدت ماتت. ولقد تعتورها من آفات الإفراط والتفريط أدواء لا منجاة منها إلا أن تكون بين ذلك قواما وتلزم بينهما قصد السبيل. ثم قال: ولقد وسعت لغتنا في ريعانها من مطالب الحضارة أعلاها مرتقى وأصعبها شعابها، ومن بينها الطب، إذ بلغ شأوها فيه أن نلقاه عليها الغرب وتدارسه في كتبها حقبا طوالا. وما كان ذلك إلا لأن أسلافنا لم يبتلوا بذلك الداء الدولي وهو فرط الحذر، ولم يخشوا في النقل عمن سبقهم من الأمم لومة لائم، بل أقبلوا عليه إقبالا لعلهم كانوا فيه إلى العجلة والاندفاع أقرب منهم إلى التؤدة والأنة، فما أضر بهم ولا بلغتهم قليل الاندفاع. ولو أنهم أسرفوا في الحذر لما خلد لهم في التاريخ ذكر ولا بقى لهم في العلم أثر. ثم تحدث الدكتور عمار عن العناية بالمصطلحات الطبية في مطلع النهضة المصرية الحديثة، بعد العصور التي تخلفت فيها اللغة، حتى بلغ الحديث مجمع فؤاد الأول فأشار إلى حيرته التي طالت سبعة عشر عاما بين إشفاق على القديم ووجل من الجديد، وأهاب به قائلا: ما عدة النهضات إلا الإقدام، وقال إننا نشفق من الجمود أكثر مما نشق من الاندفاع، فلنتوسط بينهما السداد ما استطعنا إليه سبيلا. ثم فصل رأيه في ذلك بأمثلة في وضع المصطلحات الطبية سأعود إلى عرضها في عدد قادم إن شاء الله لاستكمال الفائدة من هذه المحاضرة الدسمة الشهية. . . وقد دل الدكتور أحمد عمار بجزالة لغته وإمتاع أسلوبه وعمق فكرته على أدب وفضل يحمد المجمع على إتاحة الفرصة لظهورهما.
ثم تحدث الأستاذ عبد الحميد العبادي بك عن (كتب الحسية وأثرها في المعجم اللغوي الكبير) فشرح هذا النظام في المجتمع الإسلامي وذكر ما ألف في الحرف وشئون الأسواق وما تضمنته هذه المؤلفات من نقد المجتمع وساق طائفة من ألفاظ الحرف والآلات ومصطلحاتها مما لم تضمنه المعجمات داعيا إلى تضمينها المعجم الوسيط والمعجم الكبير.
وتكلم الأستاذ ماسينيون فقال إنه قدم من باريس يحمل إلى المجمع مع التحية مطلبا خاصا(965/37)
بلجنة تخريج أستاذة اللغة العربية في فرنسا، وهو أن يمدها بالمنهج الذي وضعه لإحصاء القواعد اللغوية والكلمات العلمية التي قررها المجمع.
وختم الاحتفال بكلمة وجيزة للأستاذ حسن حسني عبد الوهاب باشا أبلغ فيها تحيات المغرب الشقيق منوها بما توارت به البشارات من فتح المعاهد العلمية التي شاءت مصر أن تنشأ في المغرب لربط الأواصر وجمع الشتات.
قالت العرب:
كان الأستاذ أحمد محمد بريري قد عاد إلى المناقشة فيما جرى بيننا من خلاف على كلمات وردت في مؤلفات الدكتور طه حسين، إذ خطأ رفع (يدخلون) في قوله (يريدون أن يضحكوا من أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها فيدخلون عليهم فصولا نشرت على أنها لم تنشر) وأنكر عليه استعمال نحو (قد لا يفعل، وسوف لا يفعل، ونفس الشيء، وما كاد يفعل كذا حتى حدث كذا) وقد بينت في هذا كله وجه الصواب الذي أستديره. . فلما عاد إلى المناقشة في صحيفة الأساس (7ديسمبر الحالي) ألفيته قد تعلق بأمور جدلية لا تؤدي مجاراته فيها إلى طائل، ولحظت أنه يحاول أن يخرج بهذه الجدليات عما واجهته به في الموضوع، فرأيت أن أمسك عن مجاراته في ذلك ضنا بالوقت والجهد أن يذهبا سدى.
ثم تناولت (الأساس) في موعد حديث الأستاذ التالي (يوم الجمعة14 ديسمبر) فوجدته يتعرض لعبارات أخرى في كتابات الدكتور طه حسين، وقلت لعله أصاب شيئا، ولكن وجدته لا يزال على طريقته في توهم الأخطاء.
ونرجع إلى موضوع الخلاف الأول لأن جزءا منه يرتبط بما طرقه في المقال الثاني، وأغض الطرف عن الهوامش قاصدا إلى الصميم، فأجمل رده فيما يلي: قال فيما يختص بإعراب (يدخلون): إن لكل منا رأيه، ثم مضى إلى سائر العبارات فأعاد ما كان قد قاله في (كاد)؛ أما البقية فقد طالب فيها بما قالت العرب قائلا: (. . . فلقد قلنا لم تقل العرب (قد لا ولا سوف لا. . الخ) فكيف يطالبنا بالإثبات؟ نحن ندعي العدم. . وقد قضى الله ألا تكلف إثباته. . وإنما على من يناقضنا أن يقول: قالت العرب. . ويأتي بهذا النص الذي نقول إنه منعدم)
أما الموضوع الذي طرقه بعد ذلك فهو استعمال الفعل (يلفت) على الوجه الذي جاء عليه(965/38)
بمقدمة كتاب (على هامش السيرة) للدكتور طه حسين في العبارة التالية: (إذا استطاع هذا الكتاب أن يلقى في نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى ويلفتهم إلى أن في سذاجتها ويسرها جمالا، ليس أقل روعة ولا نفاذا إلى القلوب من هذا الجمال الذي يجدونه في الحياة الحديثة المعقدة فأنا سعيد موفق إلى بعض ما أريد)
أنكر استعمال ذلك الفعل بمعنى التنبيه والتوجيه، لأن لفت معناه لوى وصرف.
حقا إن لفت معناها صرف، لكن هل هما مقصوران على معنى الانثناء عن الأمر والإعراض عنه؟ إنك تقول صرفت همي إلى كذا، ويقال هو مصروف إلى كذا، وانصرف إلى الشيء، والمقصود الإقبال والاهتمام، كما يقال صرفه عن كذا: لواه عنه. فالذي يعين المعنى حرف الجر كما في (رغب) مثلا. وعلى ذلك (لفت) على سبيل التضمين. على أنني ألمح في التعبير دقة بلاغية سببها (إيجاز بالحذف) وتقدير الكلام: ويلفتهم عما يخالونه في الحياة العربية من خشونة وجفاف إلى ما في سذاجتها ويسرها من جمال.
وسيقول لي الأستاذ بريري: إبت بما قاله العرب. هذه هي المسألة التي أعود إلى مساجلة الأستاذ من أجلها.
أليس بد مما قالت العرب نصا؟ أولا يجوز لنا أن نقول على نسقهم كلاما جديدا؟ وهل وقفت العصور المتتابعة عندما نطق العرب الأولون دون تطور في المعاني والتعبيرات؟
لقد لمحت في مقالك هذا كلمة (الذوق) إذ قلت في مخاطبة شيخك (مهلا يا سيدي الشيخ، فتلك كلمات غلاظ وأسئلة خشنة لا يحتملها الذوق. . الخ) فهل استعملت العرب هذه الكلمة في هذا المعنى الحديث؟ ولمحت في مقالك الأول كلمة (تطور) إذ قلت فيه (أو ترون أنا سلكنا جادة الصواب أم أخطأنا تطور الأطوار) فهل قالت العرب (تطور)؟ إنني لا أؤاخذك على هذا إلا إذا أردت أن أحاسبك بمنطقك، وهو منطق لا يتفق مع التطور اللغوي وما يبتدعه الكتاب من تعبيرات جديدة، لا تخرج عن النهج العربي، تضاف إلى ثروة اللغة وتطوعها للحياة المتجددة.
ثم أسألك يا سيدي الأستاذ: هل تمنح إطلاق (سيارة) على (الأتموبيل) لأن العرب لم تفعل؟ وهل تمنح إطلاق (قنبلة) على القذيفة المتفجرة لأن العرب لم تفعل؟
لقد رأيتك تفوض المجتمع اللغوي في أمر (كاد) معربا عن قبولك للتركيب إذا أقره، فإذا(965/39)
كان المجمع عندك حكما مرضيا فإني أحيلك إلى ما قرره في أمر تسع وثلاثين كلمة أقر استعمال المحدثين لها على خلاف ما سمع عن العرب الأولين في الصيغة أو في الدلالة، منها (ساهم) بمعنى شارك وقاسم، و (قهوة) للمكان الذي تشرب فيه. . الخ. وذلك بناء على ما أرتاه الأستاذ أحمد حسن الزيات بك من حق المحدثين في الوضع اللغوي. فإذا كنت مصرا على المطالبة بنص ما قالته العرب فإني ألفتك إلى مجمع فؤاد الأول اللغة العربية وهو - كما قالت - الذي فوضنا إليه أمر اللغة العربية.
عباس خضر(965/40)
المسرح والسينما
المسرح المصري في خدمة العقيدة الوطنية
الأستاذ زكي طليمات
في العدد الفائت من الرسالة، عقب الأستاذ علي متولي صلاح، على فصل لي نشرته هذه المجلة تحت هذا العنوان، وهو بحث أقمت فيه موازنة عابرة بين مذهبين دوارين من مذاهب الأدب والفن (وهما مذهبا الأدب والفن) أو الفن والأدب، في برجهما العاجي، ثم الأدب والفن وقد عالجا ما يستبد بتفكير الناس في فترة عصيبة من فترات الزمن.
أتيت هذا لأخلص إلى تسجيل وجهة نظري في هذه القضية التي ما زال رحابها يتسع للمتناقض من الأحكام وللمتعارض من وجهات النظر، ابتغاء أن أمهد لإخراجي مسرحية (دنشواي الحمراء) التي قدمتها (فرقة المسرح المصري الحديث) وهي مسرحية من صميم (الأدب الملتزم) الذي يستأثر بنفوس الجمهور في هذه الآونة.
وقد حرصت ألا أتعرض لمناقشة ما يسوقه كل فريق في المنافحة عن كل من هذين المذهبين، إرادة أن أنفذ إلى ما أردت من ذلك الفضل، وبغية أن أقول، ولكن بطريق غير مباشر، أن ليس هناك أدب للأدب، وأدب لغير الأدب، وإنما هناك أدب رفيع وفن رفيع، وأدب رخيص وفن تافه، وذلك باعتبار أن الأدب أو الفن إنما هو هزة وانفعال. ومأتى التجويد فيهما والابتداع إنما يرجع إلى امتلاء الأديب أو الفنان بما هزه في أصلابه وامتلاءت به أوصاله، ثم إلى قدرته على معالجة هذا معالجة إنسانية سليمة وطريفة في وسائل أدائها.
وقد جاء تعقيب الأستاذ صلاح على ما ذكرت ذا شعبتين، ويكاد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول يدور حول هذه القضية. والقسم الآخر يعالج موضوعا جديدا إذ يدور حول موقف المسرح المصري من هذين المذهبين.
وحرصا على أن يفيدا القارئ، ودفعا للبس وتقويما للانحراف أعقب بدوري على ما كتبه الأستاذ صلاح، ولكن في إيجاز.
(1) الموازنة التي أقمتها حول الأدب والفن في مذهبيهما المتعارضين ما زالت قائمة. وليست من فضول القول كما يزعم الأستاذ صلاح، لأنها تعالج أسلوبين من أساليب التعبير(965/41)
في جوهره، وذلك من حيث الباعث والحافز. ولم تكتب فيه الغلبة لأحدهما حتى الآن، بدليل أنه ما برح هناك كتاب يعالجون الآداب (من أبراجهم العالية) ويأتون بالجيد والطريف مما يقرأه الناس ويتأثرون به. وموقف النقاد من هذه القضية كموقفهم من (الشعر) بعد أن استشرت النزعة المادية في مرافق الحياة الاجتماعية، وطغت هذه النزعة على المعنويات والروحانيات فمنهم من يزعم أن (الشعر) أصبح لونا من الترف والفضول، ومنهم من يرى غير هذا، ويؤكد أن الشعر لن يموت بحكم أنه تعبير إنساني يزاوج بين موسيقى المعاني وموسيقى الألفاظ، والكائن الإنساني يستهويه الإيقاع بفطرته وسليقته.
وتباين وجهات النظر إلى الشعر، كما هو الحال في تباين وجهات النظر إلى الأدب والفن في قضيتهما هذه، كل هذا كما يلوح لي، مرجعه إلى التقدم الآلي والصناعي، وإلى إعلاء الماديات على المعنويات، ثم إلى عامل السرعة، وكل هذا من خصائص القرن الحاضر، ومن عوامل الزمن الذي نعيش فيه. ولكن هذه العوامل لم تستطع بعد أن تحول الأدب والفن إلى نظريات اقتصادية ومقايسات ميكانيكية أو صور بدائية مبتسرة.
ولو أردنا أن نسوق ما يقرره أنصار مذهب (الأدب للأدب) تحبيذا لمذهبهم وانتقاصا للمذهب الذي يكافح عنه الأستاذ صلاح لراجع نفسه كثيرا قبل أن يحاول دفع حججهم بالتي هي أحسن وأفحم، ولخلص معي إلى الأدب أو الفن في نتاجه، لا يمكن أن نقسمه إلا من حيث الجودة والرداءة، ومن حيث السمو والإسفاف ومن حيث الزوال والخلود.
2 - (مذهب الوجودية) الذي أقحمه الأستاذ صلاح (الأدب الملتزم) ليس مما يصح اتخاذه برهانا على أن نظرية الأدب للأدب قد ماتت وعفت آثارها بانقضاء القرن الماضي، لأن هذه (الوجودية إنما هي أسلوب في التفكير، وليست حافزا أو باعثا من البواعث على الابتداع الأدبي أو الفني، ولا مصدرا من مصادر الاستلهام التي تدافع الأديب أو الفنان إلى الخلق. ومعلوم أن الباعث بأني فبل التفكير؛ وإن شئت فقل إنه الشرارة التي يضطرم معها الذهن ويضيء ليعمل، ونحن في قضيتنا هذه قضية الأدب للأدب والالتزام، إنما نعالج الباعث والحافز ومصدر الإلهام ولا نعالج أساليب الفكر.
وفوق هذا فإن هذه (الوجودية) تمتد أطرافها إلى نظريات فلسفية قائمة، ولفتات اجتماعية لا تخلو من الشذوذ، لأنها قامت على أنقاض انهيار نفسي نزل بالواعية الاجتماعية الأوربية(965/42)
بتأثير الحرب الكبرى الماضية وما زالت تفتقر إلى الأرض الصلبة التي تقف عليها. وقد تزول (الوجودية) إذا زالت أسباب قيامها، باعتبار أن الحياة ليست كلها شقاء وجحيما وألما، وأن الوجود يتجدد ويقيم شرعة التوازن بين طرفيه: السعادة والشقاء، والفرح والحزن. وقد تزول هذه (الوجودية) كما زالت قبلها (الدادية) و (السريالية) وكلها من أساليب حياة الفكر. .
قد يزول كل هذا، ويبقى النضال قائما بين مذهبي (الأدب للأدب) و (الأدب الملتزم) لأنه نضال يعالج الأدب في جوهره من حيث بواعثه واستلهاماته، وليس يعالج الأدب من ناحية التيارات الفلسفية التي تنجم نجوم الأزياء وتسوده حقبة من الزمن ثم تمضى.
ويتضح مما أجملت ذكره عن الوجودية، أن الأستاذ صلاح قد التبس عليه إذ جعل (الوجودية) من دعائم (الأدب الملتزم) إذ لو صح هذا لقضى على الأدب إلا يكتب ألا في الناحية القاتمة من الحياة، ولا يسجل إلا يسجل إلا التشاؤم وفقدان الأمل، وألا يوحي إلا بما يشعر الكائن الإنساني بزيادة تبعاته أمام نفسه، ويتعدد التزاماته أمام الجميع.
وقد يكون هذا عند (بول سارتر) صاحب هذا المذهب ومن نهج نهجه بعد أن أقر في أذهانهم، بتأثير الظروف التي تحيط بهم، وبسحر المنظار الذي يركب عيونهم، أن الحياة إنما هي سلسلة من التبعات الثقال، وأن الكائن الإنساني، وهو العنصر الأولى في الوجود، لابد أن يناضل عن كيانه وأن ينازل هذه التبعات في حرب سافرة. ولا بأس أن ينكر المستقبل، ولا بأس أن يأخذ بمذهب (القدرية) إلى أبعد حدوده، باعتبار أن الإنسان مسئول عما يفعله وليس (للجبر) دخل في سلوكه.
هذه وجهة نظره، ولكنها ليست وجهة نظر (الأدب الملتزم) في كل ما يعالجه من شؤون الحياة
أما القسم الآخر من تعقيب الأستاذ صلاح فينصب ظاهره على المسرح المصري عامة، ويهدف باطنه إلى النيل من (فرقة المسرح الوطني الحديث) وكأن هذه الفرقة الحديثة العهد بالحياة مسئولة عن المسرح المصري في حياته السابقة وفي انحراف رسالة الفرق المختلفة العاملة عما يجب أن تكون عليه في معالجة ما يشغل أذهان الناس!!
وهذا القسم كسابقه يبتسم بالجور والإقساط كما يعوزه التقصي والاستقراء، لأن المسرح(965/43)
المصري - كما هو معلوم لكل متتبع مراحل تطوره إلا الأستاذ صلاح بالطبع - كان في اكثر مسرحياته المحلية يتناول مشاكل حياة الاجتماع في مصر، وفي القليل من مسرحياته لتنبيه الوعي القومي، وذلك في نطاق ما بين يديه من وسائل، وفي حدود الحرية التي يجيزها الرقيب الحكومي، وما دبجته الأقلام المصرية في هذا، بين ما هو مقتبس ومؤلف بل ومترجم، فيم الحجة على ما نقرره.
وإذا صح ما يزعمه الأستاذ صلاح من أن المسرح المصري قد قصر عن إدراك هذا الشأو، فاللوم لا يقع على أصحاب الفرق والممثلين، وإنما ينصب بكليته على من يكتبون للمسرح رواية وتوجيها ونقدا. وأسأل نفسي أين كان الأستاذ المعقب (والتعقيب كالنقد سهل وميسور، والإنشاء صعب وعسير) أين كان. . . وهذه أول مرة نطالع له كلاما على المسرح؟؟
ثم يأتي نصيب (فرقة المسرح المصري الحديث) من لوم الأستاذ المعقب ومن تقريعه، فإذا يؤكد ما قررته من أن الأستاذ ركب من التجني ومن الإقساط ما ركب. .
وآية هذا أنه ما أن هبت مصر هبتها القائمة حتى قطعت الفرقة الحديثة ما بينها وبين ما كانت تقدمه في عامها الأول من المسرحيات العالمية المترجمة، وقدمت مسرحيتي (مسمار جحا) و (دنشواي الحمراء) وهما من وضع أقلام مصرية حاذفة أحست النبض الذي يدق في قلب كل مصري فجاءت كل مسرحية منهما تعكس في مشاهدها صورا ورؤى مما يعمر رؤوسنا في هذه الفترة العصيبة من حياة مصر.
قدمت الفرقة الحديثة هاتين المسرحيتين وقد استجابت إلى ما يصح أن يطالعه الجمهور فوق المسرح، ولما يمض على حياتها أكثر من عام وربع عام. هذا في حين أن فرقة مصرية أخرى تحظى بإعانة وزارة الشئون الاجتماعية ورعايتها، لم تقدم شيئا من هذا، بل قدمت قديما من مترجمات ومقتبسات مما خفت مؤنته الفنية والأدبية من الأدب الفرنسي والإنجليزي، ومما لا يتجاوب مع ما يستبد بنفوس الجمهور في كثير أو قليل، وذلك بين مسرحي الأوبرا الملكية وحديقة الأزبكية!
وقع هذا وأمره معلوم، ولكن الأستاذ المعقب المحاسب لم يتعرض له في شيء. وأترك للقارئ أن يرد على الأستاذ المعقب بما يراه. وأعود إلى مسرحيتي (مسمار جحا) و(965/44)
(دنشواي الحمراء) فأقول أن هاتين المسرحيتين لم تروقا للأستاذ المعقب، ولا وضعا ولا معنى، ويزعم أنهما لا تحققان الأغراض القومية التي نوهنا بذكرها في مختلف المناسبات، ثم يحلو له بعد هذا أن يتهكم. ولماذا؟ وفيم التهكم؟
يزف الأستاذ المعقب كلاما إن دل على شيء فعلى أنه لم يحسن تفقه هاتين المسرحيتين. وهذا مما يؤسف له! أو هو علم وتفقه ولكنه يعتسف النقد اعتسافا ليطلع برأي يخالف آراء من شاهدوا هاتين المسرحيتين الطريفتين، وتفضلوا بالكتابة عنهما في مختلف الصحف، وهذه محنة! أو هو هذا وذاك. ويزيد أن اطلاعه في الأدب المسرحي الغربي ليس على الوجه الكامل، بدليل أنه ينتقص قدر مؤلف مسرحية (دنشواي الحمراء) لأنها لم تجمع بين دفتيها فوق ما جمعت من مواطن النضال والفداء، مواقف العمال والجنود والحكومة ومن إليهم. . وكأن المسرحية في نظره ملحمة من الملاحم، يجب أن تحيط بكل كبيرة وصغيرة وشاردة وواردة، مما يصح أن يجري في محيطها.
وفي هذا نمسك عن الكلام ولا نتهكم ولا نسخر، وأدع تفنيد مزاعمه تفنيدا مسهبا لمؤلفي المسرحيتين. .
واكتفي بأن أقول للأستاذ صلاح ما قاله غيري في مثل ما نحن فيه (شيئا من الرفق ليجمل النقد، وكثيرا من العدل ليستقيم الميزان)
زكي طليمات(965/45)
البريد الأدبي
تحقيق في بحر الرمل
أقرر مسرورا أني بقراءة البحث الممتع الذي كتبه الناقد الأستاذ محمد عبد الغني حسن عن بحر الرمل. وقد وجدتني مضطرا للتعقيب عليه أمام القراء، ولهم بعد ذلك أن يقتنعوا برأي الشاعر الكبير أو يتمسكوا بدعواي.
لقد ذكر الأستاذ المرصفي - كما نقل عنه الأستاذ عبد الغني - أن
العلة إذا أريدت لزمت في جميع الأبيات. وذكر الأستاذ محمود
مصطفى أن العلة إذا عرضت لزمت أيضا. ومعنى اللزوم عند
الرجلين أنه لا يجوز لأحد الشعراء أن ينوع في قصيدته فيلزم العلة
تارة ويتركها أخرى كما فعل الشاعر الكبير، في قصيدته العصماء، إذ
لا مناص من اللزوم حذفا أو تماما.
ولو سلمنا جدلا أن المرصفي وغيره من المؤلفين قد اختلفوا في هذه المسألة بين اللزوم وعدمه في القصيدة الواحدة، فماذا نصنع أمام الاختلاف؟ لاشك أننا نرجع إلى الشعر العربي الذي أجمع العلماء على صحة الاستشهاد به في قصائد الرمل التي نظمت في عصور الجاهلية وصدر الإسلام وبني أمية، فإذا وجدنا قصيدة واحدة تنوعت فيها العروض، فلنا أن نتمسك بها كدليل قوي للأستاذ عبد الغني. أما وقد أجهد الأستاذ البحاثة نفسه - وهو الرواية الضليع - فلم يعثر على قصيدة تشابه قصيدته - لمن يستشهد بشعرهم - فليس لي أن آخذ برأيه حتى أظفر بدليل.
وأني لأعجب كيف يكون مهيار الدليمي دليل الأستاذ في دعواه وهو لا يختلف عنه في شيء، فكما أوجه اعتراضي إلى قصيدة الأستاذ عبد الغني، فكذلك أوجه إلى قصائد مهيار، فكلا الشاعرين - رغم شاعريتهما الدافقة - يتبع قواعد مقررة، نقول لمن خالفها لقد خالفت وأبعدت، وليس لما قلت نظير فيما ورد من الشعر العربي الصحيح!
وإنه ليسرني جدا أن يكون الحق في جانب أديبنا الكبير الأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن، ولكن متى أجد الدليل الذي يقنعني بذلك فأستريح.(965/46)
محمد رجب البيومي
جمع نهار
في العدد 964 نشرت مجلة الرسالة الزاهرة قصيدة الأستاذ أنور العطار بعنوان (غضبة) وفي البيت الثاني منها يقول الشاعر:
تغشى الشجون نهاراته ... وتسهد ليلاته المفزعه
فجمع نهارا على نهارات والصواب أنهر ونهر كما جاء في مختار الصحاح:
(النهار ضد الليل ولا يجمع كما لا يجمع العذاب والسراب، وإن جمعته قلت في القليل (أنهر) وفي الكثير نهر بضمتين كسحاب وسحب)
وكما جاء أيضاً في القاموس المحيط:
(النهار يجمع على أنهر ونهر أو لا يجمع كالعذاب والسراب)
حامد السيد عطا
طه حسين
هذا الاسم عبر الأجواء من القاهرة إلى الجزيرة بسورية، فتردد على الألسنة وارتاد مطاوى الأفئدة؛ ففي شمال الجزيرة بلدة جميلة يطلق عليها أسم (عامودة) بعجب أهلوها بهذا الرجل ويجلونه، فأطلقوا اسمه الكريم على شارع يخترق البلدة دليلا على ما يكنونه له من إعجاب وتجلة وتقدير.
عامورة
طيف الحسيني(965/47)
العدد 966 - بتاريخ: 07 - 01 - 1952(/)
الرسالة والدعوة
تستقبل الرسالة بهذا العدد عامها العشرين وهي تحمد الله على أن فسح لها العمر حتى رأت أكثر ما دعت إليه يتحقق رأت الوحدة بين أمم العرب في الشعور والهوى والرأي والأمل والغرض قد تمت بفضل الصحافة والثقافة والأدب. فهم يتآلفون في القرب، ويتعاطفون في البعد، ويتناصفون في الخلاف، ويتحالفون في الكريهة، ويشد بعضهم بعضا في مجاهدة العادي ومجالدة الباغي. والوحدة بين دولهم توشك أن تبلغ التمام ولولا ما يعوقها الحين بعد الحين من وساوس يلقيها شيطان خادع من الإنجليز، في صدر إنسان مخدوع من العرب! ووسوسة الشيطان، لا تبقى مع الإيمان. وإيمان العرب بربهم وبأنفسهم قواه الوعي حتى غلب على إيمانهم بأصنام السياسة وطواغيت الحكم. فهيهات بعد اليوم أن يستكينوا لزعيم منّهم، أو يستنيموا لخصيم مخاتل!
ثم رأت الرسالة فيما رأت تباشير الجامعة الإسلامية تلوح في أفق باكستان. ولن تلبث هذه التباشير أن تسفر في آفاق الشرق المحمدي كله، فيتصل نور بنور، ويمتزج شعور بشعور، وتتحد قوة بقوة. ولباكستان إذا تكلمت العربية خطر خطير في مستقبل الأمة الإسلامية. إنها قبلة رجاء الإسلام كما أن مصر قبلة رجاء العروبة. وهي للمسلمين خير العوض من تركية الذاهبة!
وأجمل ما رأته الرسالة في سنواتها القريبة انبعاث الإسلام الصحيح الخالص في قلوب المثقفين من أهله. كان الإسلام منذ ضعف في العالمين سلطانه، واستعجم على أشباه المسلمين قرآنه، قد أصبح رسما محيلا في قلوب بعض، وصورة شوهاء في أذهان بعض. فالخاصة قنعوا بمظهره، ثم جعلوا شرعهم غير شرعه، ودستورهم غير دستوره، وقبلتهم غير قبلته. والعامة عبثوا بجوهره، فقبلوه صوفية حمقاء خرقاء لا صلة بين شعوذتها وعباداته، ولا نسبة بين سلبيتها ومعاملاته
وكانت (الرسالة) منذ حملت أمانة الدعوة إلى السبيل التي عناها الرسول الأعظم بقوله: (تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) ما فتئت تذكر المسلمين بأنهم الأمة الوسط التي نزهها الله عن مادية اليهود وصوفية الهنود ورهبانية النصارى، (وأن دينهم مصحف وسيف، وشرعهم دين ودنيا، وتاريخهم فتح وحضارة، وحربهم جهاد وشهادة، وزعامتهم خلافة وقيادة، وحياتهم عمل وعبادة) حتى أراد الله لدينه(966/1)
أن يستبين ولطريقه أن يتضح ولحبله أن ييتجدد، فتألفت (الإخوان المسلمون) على موثق الدعوة الكبرى، وأخذوا يدعون إلى الله على بصيرة. في أيمانهم المصحف للعقل، وفي شمائلهم السيف للهوى؛ ويحاولون أن يبعثوا في الهيكل الواهن المنحل وروح الإسلام الفتية القوية التي نقلت البدو الجفاة الحفاة من بوادي الجزيرة رعاة غنم، إلى حواضر الدنيا قادة أمم
فالإخوان المسلمون الذين يسمون أنفسهم رهبان الليل وفرسان النهار، هم وحدهم الذين يمثلون في هذا المجتمع الممسوخ عقيدة الإسلام الخالص، وعقيلة المسلم الحق
إنهم لا يفهمون الدين على أنه صومعة منعزلة، ولا الدنيا على أنها سوق منفصلة؛ وإنما يفهمون أن المسجد منارة السوق، وأن السوق عمارة المسجد. وكيف تفترق الروح عن الجسد إلا في الموت، وينقطه الهادي عن الركب إلا في الضلال، وينفصل الدين عن الدنيا إلا في الكفر؟ لذلك كان للإخوان المسلمين في الإرشاد لسان، وفي الاقتصاد يد، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي وهم لا يؤمنون بالحدود السياسية والجغرافية في وطن الإسلام الأكبر! إنما يبسطون تآخيهم على كل رقعة من الأرض يذكر فيها أسم الله. فلهم في كل بلد من البلاد العربية أتباع، وفي كل قطر من الأقطار الإسلامية أشياع.
وبفضل هذه الروح القدسية المحمدية التي بثها الإخوان في العالم الإسلامي بالدعاية والقدوة، دبت فيه الحرارة، وغلا به النشاط، واستولى عليه القلق، وعصفت به الحمية؛ فهو يثور على المستعمر، ويتمرد على المستبد، ويتنكر للمفسد. وما يقظة الوعي العام في مصر والسودان، وفي العراق وسورية وفي اليمن والحجاز، وفي الجزائر ومراكش، إلا شعاع من هذه الروح سيكون له بعد حين نبأ!
أما الجماعات الدينية أو الصوفية التي لا تفهم من الإسلام إلا أنه أوراد تتلى، وأذكار تقام، ولحى تعفى، وشوارب تخفى، وعذبات ترسل، فهي من الشوائب المخدرة السامة التي علقت بالإسلام حين صده الجهل والضعف عن سبيله، فتراجع فيضه وسكن تياره. والماء إذا ركد تأسن وفشت فيه الجراثيم. ودعوة الإخوان عسية أن تزيل حواجز الباطل من وجه التيار، وأن تنقى مشارع الحق من هذه الأكدار
كذلك رأت الرسالة في عامها المنصرم مظهرا من مظاهر الوعي الإسلامي تجلى في ثلاثة(966/2)
أحداث جسام روعّت الساسة وفزعّت الجيوش وشغلت المجالس: تأميم البترول في إيران، وإلغاء المعاهدة في مصر، وقيام الدولة العربية الثامنة في ليبيا! شيء جديد في حياة العرب والمسلمين لم يكن لهم به في التاريخ الحديث عهد!
من كان يظن أن إيران تصفع قذال الأسد، وأن مصر تبصق في وجهه، وهما الدولتان اللتان خضعتا طويلا لنفوذه خضوع العبد الوليه، أو القاصر لوصيه؟ لقد مزقت الدولتان عرض (جون بول) يوم مزق (مصدق) عقد الاستغلال، ومزق (النحاس) عهد الاحتلال. ولم يمزقهما الرجلان بقوة الجيش وسلاحه، وإنما مزقاهما بإرادة الشعب وكفاحه! إنه الروح الذي أرهب الموت! وإنه الوعي الذي أذهب الغفلة!
هذه بسمة الأمل في أول العام عبرت عنها بهذه الكلمة شكر الله على تحقيقه، وطلبا للمزيد من عونه وتوفيقه
أحمد حسن الزيات(966/3)
ذكرى مولد الرسول
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء وعضو مجمع فؤاد الأول
في شهر ربيع الأول من كل عام يقيم المسلمون حفلات الذكرى لميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فينصبون السرادقات، ويرفعون الأعلام، ويلقون الخطب، ويذيعون الأحاديث، ويكتبون الفصول، يشرحون للناس فيما يخطبون ويذيعون ويكتبون سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو ناحية من نواحي سيرته، ويذكرون تشريعه وأحكامه وطريقته في التأديب وإنهاض النفوس وتهذيب الأخلاق. يذكرون أطواره التي مر بها بها في حياته قبل البعثة وهو طفل رضيع في بادية بني سعد، وهو غلام حدث يرعى الغنم بمكة، وهو شاب قوي جلد يسافر ويتجر، ويحضر حرب الفجار وحلف الفضول، ثم يذكرون دعوته وكيف بدأت سرية ثم كانت جهرية، ويذكرون ما ناله من أذى قومه واضطهادهم له، وتضييقهم عليه حتى أخرجوه من دياره وأمواله إلى المدينة، فكانت الهجرة، وكانت الحروب، إلى أن نزل قوله تعالى بعد ثلاث وعشرين سنة من مبعثه (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)
على هذا النحو يحتفل المسلمون بذكرى ميلاد الرسول في يوم أو أيام ويقولون إنها ذكرى (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). ولقد كان المسلمون في عصورهم الأولى لا يعرفون احتفالا خاصا يقيمونه في مثل هذه الأيام بقصد إحياء ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يرون أن عظمته ليست من جنس هذه العظمات التي يألفها الناس في أفذاذهم ورجالهم، والتي يخشى عليها من الضياع والتلاشي في بطون التاريخ فيحتاج بقاؤها في أذهان الناس إلى ما يذكرهم بها في كل عام. كانوا يؤمنون أن عظمته خالدة، تظل دائما قارة في النفوس، ماثلة في القلوب، ممتزجة بالدماء، مؤاخية للعقيدة، تظهر في أقوالهم إذا نطقوا، وفي حركاتهم إذا تحركوا، وسكونهم إذا سكنوا. تظهر في جميع شئونهم الفردية والاجتماعية، السرية والعلنبة، الدنيوية والأخروية، إلى يوم البعث والجزاء، بل وفي النعيم الباقي الذي لا يفنى ولا يزول؛ فهي عظمة قد رسمت لهم باطن الحياة وظاهرها، وحدودها ودوائرها، لم تقف عند ناحية من نواحي الحياة، بل لم تقف عند حدود هذه الحياة الفانية(966/4)
فشملت جميع نواحي الحياة، وامتدت إلى الحياة الآخرة فكشفت عن حجب غيبها وصورت ما يكون فيها للمحسن من نعيم، وما يكون فيها للمسيء من شقاء
لم تكن عظمته بانتصار في معركة، ولا برأي في علم، ولا بنظرية في أرض أو سماء، وإنما كانت عظمته عامة شاملة بهذا آمن المسلمون في عصورهم الأولى يوم كان الإيمان قويا في النفوس، تشتعل جذوته فتلتهب الجوارح وتبذل الأنفس، ويضحي بالدماء في سبيل ترسم خطى تلك العظمة والجد في معرفتها وتبينها من مصادرها ونشرها على العالم مهذبة نقية، كي تحيا بها النفوس وتطمئن إليها القلوب؛ وبذلك كانت جميع أيامهم، وجميع أوقاتهم ذكرى عملية لهذه العظمة
ذكرى عملية يتمثلون فيها مبادئه وأحكامه، وإرشاداته الحكيمة، ويسيرون على نهجها فكانت حالتهم مثالا صادقا، ومرآة صافية ترى منها عظمة الرسول لمن أراد من غيرهم معرفة عظمة الرسول
كانوا يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كرم الله قدره ورفع ذكره أرفع قدرا وأعلى شأنا من أن يكرم كما يكرم آحاد الناس بخطبة تلقى، أو حديث يذاع، أو فصل يكتب. كانوا يرون أن الله قد كرمه وليس بعد تكريم الله تكريم: خلد اسمه في كتابه الخالد؛ فذكره باسمه الصريح، وذكره بوصف الرسالة، وذكره بوصف العبودية لله الواحد، وذكره بعظمة خلقه، وذكره برحمته للمؤمنين، وبرحمته للناس أجمعين، وذكره بأنه المزكي للنفوس المعلم للكتاب والحكمة؛ وذكره بكل هذا كما ذكره بأنه شهيد على أمته، وبأنه صاحب المقام المحمود. ثم جعل محبته م محبته، وطاعته من طاعته، وبيعته من بيعته
لم يقف التكريم الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم عند هذا الحد، بل جعل له ذكرا في الأولين إذ كتبه في التوراة والإنجيل، وجعل له ذكرا في الآخرين إذ قرن بينه وبين اسمه الكريم في كلمة التوحيد التي يكون بها المرء مسلما، والتي هي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وإذ جعل المناداة باسمه جزاءا من الأذان الذي يقرر في كل يوم خمس مرات بصوت مسموع إيذانا بالصلوات المفروضة وجمعا للمسلمين على عبادة الله. لم يكن بعد هذا كله ما يلتمس أن يكون تكريما لمحمد. ومتى كانت هذه العظمة تنسى حتى يذكر بها؟ ومتى كان هذا التكريم يخفى حتى نعمل على إظهاره؟(966/5)
آمن الأوائل بهذا كله فآمنوا بأن تمجيد رسولهم وتكريمه إنما يكون عن طريق أتباعه وإحياء سنته، والتحلي بأخلاقه، وإقامة شرعه ودينه. آمنوا بهذا وعلموا أن الإيمان الحق يثمر المحبة الصادقة، وللمحبة الصادقة حقوق وعليها تبعات، فمن حقوقها المتابعة لمن تحب، والرضا لما يرضيه، والغضب لما يغضب. ومن تبعاتها تحمل المشاق والتضحية بالنفس في سبيل رضا المحبوب (قل إن كان آبائكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره)
ظل المسلمون كذلك حتى خف ميزان الإيمان من قلوبهم وانطفأ عنهم نور تلك العظمة وأقفرت بصائرهم من أسرارها ولم يبق لهم إلا صور مرسومة بحروف في الصحف والكتب يرجعون إليها كلما عاودتهم ذكرى تلك العظمة؛ وكلما تذكروها بشهر ربيع، فوضعوها في مستوى العظمات الأخرى وجاروا الناس في تكريم عظمائهم فكرموا بأساليبهم. كرموه بالأناشيد، بالأزجال، بالأنغام، وتفننوا في المحاكاة حتى صاغوا عظمة محمد في أسلوب روائي قصصي وقالوا: قصة المولد الشريف. وما كان لعظمة محمد أن تكون قصة وهي الحقيقة الخالدة. ولكن هكذا ابتدع هذا الأسلوب في تكريم محمد كأثر من آثار الضعف حينما ابتلى المسلمون بالقول دون العمل، وحينما انقطعت الصلة العملية بينهم وبين شريعته صلى الله عليه وسلم
ابتدع هذا الأسلوب من التكريم بعد أن لم يكن، فهل بحث الناس عن سبب ابتداعه؟ وهل تساءلوا عن السر في أنه لم يكن في العصور الماضية، عصور القوة والإيمان، ثم كان في عصورهم؟ هل انصرفوا إلى هذا الجانب الذي كان يرجى أن يعرفوا منه أسباب الضعف الذي أنتاب المسلمين وأن يعملوا على تلافيها وإعادة الإسلام إلى مجده وقوته؟ كلا ولكنهم انصرفوا إلى البحث في أنه بدعة أو ليس بدعة؟ وإذا كان بدعة فهل هي بدعة حسنة أو بدعة غير حسنة؟ وهكذا اختلفت مذاهبهم وتعددت آراؤهم وظلوا إلى يومنا هذا بين محبذ ومنكر، شأنهم في كل شيء تناولوه بروح الجدل الذي صرفهم عن العمل. وما ابتليت أمة في حياتها بشر من كثرة القول وقلة العمل. قد ابتلى المسلمون بالجدل في كل شيء، فصرفهم عن العمل بقدر ما جادلوا: جادلوا في العقائد، جادلوا في الأحكام، جادلوا فيما ليس(966/6)
من العقائد والأحكام، جادلوا في الكلمات والألفاظ، جادلوا حتى في القواعد التي وضعوها للجدل! وهكذا صار الجدل شغلهم الشاغل فتلهوا به عن فهم الإسلام، وعظمة الإسلام، وسر دعوة الإسلام. تلهوا به عن إدراك مقومات الحياة، فوقعت كل الشعوب الإسلامية في قبضة المستعمرين وتحت راياتهم. وما من شعب لإسلامي اليوم إلا وتسمع مر شكواه وصرخة أنينه
كان جديرا بالمسلمين أن يعملوا جاهدين على دوام التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزام رسالته التي لم تترك سبيلا للسعادة إلا شرعته ودعت إليه، ولا سبيلا للشقاء إلا منعته ونفرت منه. أصلحت العقيدة، وكرمت بذلك عقل الإنسان وأزالت عنه وصمة الشرك والعبودية لغير الله، ثم أمدتها بمدد دائم روحي لا ينقطع:
أمدتها بالصلوات التي تصل بين العبد وربه، وتذكره بخالقه ومنشئه، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر. أمدتها بالصوم تمرينا على الصبر، وتعويدا على الطاعة، ومراقبة الله في السر والعلن. أمدتها بالزكاة تمرينا على العطف والبر والرحمة والرفق بالمحتاجين. وجعل منها نظاما يحفظ الغنى من الطغيان، والفقير من الحرمان ثم نظرت إلى أن المجتمع الصالح إنما يقوم على العلم والمال والأسرة ونظام الدولة والصحة العامة، والقوة، والعدل، وفي هذه الدوائر رسمت برنامج إصلاحها الشامل، فحثت على العلم ووضعت نظاما للتعامل من شأنه أن يبطل النزاع ويزيل الفساد، ويقضي على أسباب الفتن، ووضعت نظاما للأسرة يقيها الانحلال ويربطها بميثاق المحبة والتعاون. وضعت أصول الحكم وبينت مصادر التشريع، وحثت على اتخاذ الحيطة وإعداد القوة، وأمرت بالرحمة والعدل في كل شيء إلى آخر ما جاءت به هذه الرسالة التي سايرت مقتضيات الطبيعة البشرية، واستطاعت أن ترد العالم في فترة وجيزة عن طغيانه وأن تخرجه من الظلمات إلى النور، واستطاعت أن توجد من رعاة الشاة والإبل عباد الأصنام والكواكب، عبادة الأهواء والشهوات، أمة قوية تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لها الكلمة المسموعة والسلطان النافذ
أما بعد
فهذا هو مجال ذكرى محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى المسلمين إذا أرادوا تصحيح نسبتهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى رسالته أن يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من اللهو(966/7)
واللعب وأن يتخذوا العدة لتهيئة النفوس بالإيمان الحق والخلق الفاضل، ثم يخلصوا أحكامها مما غشاها، ويحصنوا بها حياتهم، وعندئذ تكون ذكرى الرسول فيما بينهم كما كانت ذكراه فيما بين أسلافهم إيمانا وخلقا، وعلما وحكمة، وعزة وقوة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)
محمود شلتوت(966/8)
من مشاهدة الهجرة ما فيه روعة وعبرة
لصاحب الفضيلة الأستاذ عبد القادر المغربي
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر ... لو يلقى صديقا مؤاتيا
قال هذا الشعر أحد الأنصار من أهل المدينة يذكر نعمة الله عليهم مذ جعل رسوله الأمين يهجر قومه إليهم
فهو يقول أنه (ص) لبث في قومه قريش ثلاث عشرة سنة يذكرهم ويدعوهم إلى الإسلام وهم لا يزدادون إلا عتوا واستكبارا
فرأى أخيرا أن هذا العناد من قومه يحول بينه وبين حريته في نشر دعوته، وأنه إذا بقى في مكة قريبا من المشركين سهل عليهم أمر مراقبته وإسكاته وخفق دعوته، فلا تخلص إلى سائر العرب بيسر وسهولة
وإنه إذا أراد رفع الصوت بها، والنجاح في تبليغها، واجتماع كلمة العرب عليها، كان عليه أن يهجر مكة إلى مكان آخر يأمن فيه على نفسه ويكون حرا في تبليغ دعوته، وأداء رسالته
لما رأى (ص) كل هذا وجد من الحزم أن يستعين بقوة خارجية، أي بقوة من جزيرة العرب غير قومه قريش الواقفين له بالمرصاد. وساعده على الاتصال بالقوة الخارجية أن العرب يفدون كل سنة إلى موسم الحج. فاغتنم هذه الفرصة وعرض نفسه في أحد المواسم على القبائل، فكانوا يستهزئون به؛ حتى اتفق له في بعض المواسم على القبائل، فكانوا يستهزئون به؛ حتى اتفق له في بعض المواسم أن اجتمع بطائفة من أهل يثرب (وهو اسم المدينة المنورة في زمن الجاهلية) وكانوا مشركين. . يحجون إلى البيت كسائر العرب، ويشاركهم في سكنى يثرب قوم من اليهود نزلوها منذ القديم، فعرض (ص) دعوته عليهم فأصغوا إليه بحرص وانتباه. وكانوا يسمعون مكن اليهود أن الله سيرسل إلى العرب ومن العرب نبيا ينقذهم من الضلالة. فقبلوا الدعوة منه (مبدئيا)، وكانوا ستة رجال، وقالوا له إنهم لا يقدمون على قبول الإسلام ما لم يرجعوا إلى يثرب. ويراجعوا قومهم بالأمر. وكان قومهم قبيلتين: الأوس والخزرج، وهم الذين سموا فيما بعد الأنصار، وإخوانهم الذين(966/9)
هاجروا إليها سموا المهاجرين وفي ثاني موسم أقبل اليثربيون واجتمعوا به (ص) في مكان اشتهر اسمه بالعقبة، وهو المكان الذي اجتمعوا به فيه بالموسم الماضي. فالاجتماع الأول سمي (العقبة الأولى) والثاني (العقبة الثانية). وكانوا هذه المرة اثني عشر رجلا: اثنان من الأوس وعشرة من الخزرج. فعرض عليهم (ص) الإسلام وشرح لهم الغرض من إنزاله. وبشرهم بالقرآن. فشرح الله صدورهم إليه وأسلموا، وكتموا إسلامهم ريثما يعودوا في الموسم المقبل ويأتوا بأهل الرأي والرياسة من قومهم. فعادوا ثالث مرة إلى المكان نفسه، وهذه هي (العقبة الثالثة)، وأتوا معهم بامرأتين وكانوا هم ثلاثة وسبعين رجلا: فالمرأة المسلمة ركن في نهوض الإسلام، ويحب أن يكون لها رأي في معظم (حركاته). فأسلموا كلهم على شروط شرطها النبي (ص) عليهم وهي:
توحيد الله
طاعة النبي (صلى الله عليه وسلم)
قول الحق
ترك المحرمات
احترام المرأة وعدم وأدها
فرضوا بذلك ورجعوا إلى المدينة فرحين مستبشرين بالإسلام وبشروا قومهم به. وأخبروهم أن النبي (ص) قادم إليهم. وسيقيم بين ظهرانيهم
أما النبي (ص) فرجع إلى مكة مصمما على الهجرة كما وعدهم واستأذن ربه بها. فأذن له بالرحيل:
إلى أين؟
إلى يثرب. إلى المدينة المنورة
حتى إذا جاء الميعاد: وهو اليوم الذي عينه للرحيل، خرج من دار أبي بكر ومعه أبو بكر وحده، ظهر يوم الاثنين الواقع في غرة شهر ربيع الأول ولما صار خارج مكة التفت إليها مودعا قائلا: (ما أطيبك من بلد! وما أحبك إلي! ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت) وقد وقع له صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة المنورة حوادث عجيبة، في سردها روعة الأفلام السينمائية، ولها في نفوس سامعيها هزة تحيي الذكريات الدينية، وتنعش(966/10)
الأحلام القومية. ومشاهد هذا الفلم المقدس متعددة متنوعة ليس باستطاعتي أن أعرضها كلها، فاكتفى بعرض ثلاثة مشاهد منها
(المشهد الأول) قصة أول مهاجر من مكة إلى المدينة
(المشهد الثاني) النبي (ص) في خيمة (أم معبد)
(المشهد الثالث) مهرجان الوصول إلى المدينة
وسأورد على القراء هذه المشاهد الثلاثة بطريقة تنسيني عن التعليق عليها وغمرها بالاستنتاجات، إذ أنها تعرب عن مغزاها وتنطق بنتائجها. بل إن مجرد سماعها مبسوطة هذا البسط ينبه في النفوس الشعور بخطورة الهجرة وعظم شأنها، وجلال أثرها. وإنها أشد الأحداث تأثيرا في ظهور أمر النبي (ص) ونقل دعوته من طور إلى طور: من طور القول إلى طور العمل، ومن طور العرض إلى طور التنفيذ
كان خبر عزم النبي على الهجرة بلغ قريشا فأخذوا يفكرون في أمرها وصد النبي عنها، بينما هو كان يفكر في إعداد وسائلها، وتهيئة أدواتها. غير أن بعض كرام صحابته أحبوا أن يتعجلوا السفر إلى يثرب فرارا بدينهم من المشركين وأذى القساة القلوب من أهليهم وذوي قرابتهم
هاهي ذي مكة ساكنة هادئة، وقريش وادعون في بيوتهم في وقت لا ينشط الناس فيه إلى حركة ولا ممارسة عمل.
فماذا نرى؟
ترى في بعض أزقة مكة رجلا وامرأة قد أناخا بعيرا، وأخذا يحملان على ظهره أمتعتهما وأدوات سفرهما. وكان يجول حولهما صغير لهما يطلب الركوب على البعير بدلال ولجاج حتى إذا فرغا من عملهما أركب الرجل زوجته على رحل البعير، ووضع ابنها الصغير بين يديها. ثم نهض البعير فأمسك الزوج بخظامه يريد الخروج من مكة متكلا على الله. وكان هؤلاء المسافرون يتكلمون همسا، وكأنهم كانوا يريدون أن يخفوا أصواتهم فلا يشعر برحيلهم أحد، لولا أن البعير برغائه وثرثرته فضح أمرهم، ونبه أهلهم وجيرانهم إليهم. فتألبوا عليهم. وحاولوا منعهم من السفر. فجعل الرجل يجادلهم بالمعروف، ويقول إنهم لا حق لهم في معارضته. وليس لأحد منهم دين في ذمته. فانبرى له رجلا منهم قائلا:(966/11)
يا أبا سلمة، اذهب أنت وحدك؛ أما زوجتك (أم سلمة) فهي قريبتنا ولا ندعك تسير بها في البلاد
فصاحت أم سلمة: وأنا أيضا لا أدع زوجي يسافر وحده وأبقى عندكم سجينة، وأخذت في مجادلة أهلها وتوبيخهم على صنيعهم الفضولي
وفي آخر الأمر تغلب أهلها عليها فانتزعوها من زوجها بالقهر عنها وعنه
عندها تقدم أهل أبي سلمة وكانوا إلى ذلك الحين ملازمين الصمت فقالوا لأهل أم سلمة: إذا كنتم ولا بد آخذين ابنتكم فإن ابنها الصغير (سلمة) لا نسلمكم إياه، ولا نسمح لكم بأخذه؛ فإنه ابننا لا ابنكم
ثم عمدوا إلى الصبي فأمسكوا بذراعه، وكان أخواله ممسكين باليد الأخرى، وما زالوا يتجاذبونه حتى خلعوا كتفه. فأعولت أمه واشتدت الضوضاء. وأخيرا غلب أهل الزوج وأخذوا الطفل
كل هذا يجري والبعير يرغو، والصغير تارة يبكي وطورا يلغو، وأبو سلمة المسكين ينظر إلى الفريقين أهلة وأهل زوجته حائرا لا يدري كيف يصنع. ثم صمم على الرحيل تاركا ابنه وزوجته إلى كلاءة الله. وامتطى راحلته وولى وجهه شطر المدينة معتمدا على ربه، مسلما وجهه إليه بجميع شراشر قلبه
وبقيت (أم سلمة) في مكة عند أهلها. أما أبنها ففي بيت أعمامه. وكانت في كل صباح تخرج إلى الأبطح حيث يجتمع الناس للنزهة والحديث فتندب حظها، وتبكي شجوها، صارخة: وا زوجاه! وا ولداه!
ولبثت على ذلك سنة حتى مر بها رجل من بني عمها فرحمها ورثى لحالها. وذهب إلى قومها. فقال لهم: ويحكم أما ترحمون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين ابنها وزوجها! فخجلوا. وقالوا لها الحقي بزوجك
قالت أم سلمة: فلم أكد أسمع هذه الكلمة منهم حتى هرولت إلى بيت أهل زوجي فأخذت ابني وأركبته أمامي على البعير وانطلقت أقصد يثرب وحدي لا يرافقني أحد. حتى بلغت التنعيم (وهو منزل على ثلاثة أميال من مكة) فصادفت هناك عثمان بن طلحة الحجبي وكان مشركا على دين قومه، ثم أسلم رضي الله عنه، فقال لي إلى أين؟ وكان بلغه خبري،(966/12)
فقلت إلى زوجي في المدينة. قال أو ما معك أحد؟ قلت لا، إلا الله وابني هذا. فقال والله لا أدعك تسيرين وحدك. ثم أخذ بخطام بعيري وسار بي. وكنا إذا أردنا النزول أناخ البعير واستأخر عني، فأنزل وأنزل ابني، فيجيء ويأخذ البعير فيحط عنه رحله وأداته؛ ثم يربطه بشجرة؛ ثم يذهب ناحية فيضطجع. وحين الرواح يقوم إلى البعير فيضع عليه رحاه ويستأخر. فأتقدم وأركب.
وأضع طفلي أمامي ثم نسير على بركات الله
ولم نزل هكذا حتى وافينا المدينة، وإذا أناس، وإذا بينهم زوجي. فقال لي عثمان: يا أم سلمة، هذا زوجك أبو سلمة. فما كان أشد فرحنا بتلاقينا!
وكانت أم سلمة بعد ذلك إذا حدثت عن هجرتها تقول: ما رأيت قط صاحبا في سفر أكرم من عثمان بن طلحة
ندع أم سلمة وزوجها في المدينة قريري العين، يجمع الشمل بعد البين، ثم نرجع في الحافرة: (أي في الطريق التي جئنا منها) ولا نزال نجد السير حتى نبلغ منتصف الطريق فماذا نرى؟
نرى خيمة قد نصبت على قارعة الطريق. وهي خيمة (أم معبد). وأم معبد هذه امرأة برزة جليلة (والمرأة البرزة في لغة العرب هي التي تبرز إلى الرجال فتجالسهم وتحادثهم) وقد اتخذت أم معبد في منتصف الطريق بين مكة والمدينة خيمة أعدت فيها كل ما تستطيع تقديمه لراحة المسافرين. فكان المسافرون الذين يتعبهم السير، والطريق طويل والحر حر الحجاز، يعرجون على خيمة (أم معبد) فيجدون فيها ما هم في حاجة إليه من طعام وشراب واستجمام وحديث عذب نزيه تطرفهم به صاحبة الخيمة فكانت خيمتها أشبه بمحطة من محطات سكك الحديد أو فندق من فنادق المسافرين التي تقام في الطرقات الشاسمة، وام معبد هي مديرة ذلك الفندق المتواضع ولما أشرفنا على أم معبد رأيناها منهمكة في تهيئة ما يلزم لركب كريم نزل بها: سيدان وخادمان. وأحد السيدين يمتاز في حسن سمته، وجلالة قدره، وجمال طلعته. وكنا نرى رفاقه الثلاثة يحيطون به: يرفهون عنه، ويبتغون راحته، ويسارعون في خدمته
أما (أم معبد) فكانت موزعة الفكر، ذاهلة اللب، كأنها مأخوذة بمهابة ذلك السيد الذي نزل(966/13)
بها. وما كانت تعرف من هو ولكن نحن عرفناه: هو نبينا محمد (ص) ومعه صاحبه (أبو بكر الصديق) و (عامر بن فهيرة) خادم أبي بكر، و (عبد الله بن أريقط) دليلهم في طريق هجرتهم إلى المدينة وإذا أبو بكر ينادي: يا أم معبد، أما لديك ما نأكله وندعو لك؟
بلى يا سيدي: وأسرعت فقدمت إليهم لبنا. لكنه - وا خجلتاه - دون كفايتهم. وأخذت تعتذر لضيوفها بأن السنة سنة جدب وقحط
وحانة من النبي (ص) التفاته فرأى شاة رابضة في جانب الخيمة وهي جافة الضرع مهزولة الجسم، فقام إليها ومسح ضرعها، وأم معبد تتعجب وتقول في نفسها: ماذا عساه يفعل؟! وإذا هو يحلب الشاة، وإذا هي تدر باللبن. فشربوا حتى إذا ارتووا واستراحوا هبوا عجلين إلى ركائبهم فامتطوها. واستبقوا طريقهم إلى المدينة وتركوا أم معبد في دهشة من أمرهم
وبعد هنيهة قدم عليها زوجها أبو معبد فرآها مضطربة متغيرة اللون. ورأى في جنبات الخيمة آثار أكل وشرب. ورغد وخصب
يا أم معبد ما الخبر؟ وما هذا الذي أراه؟
فأخبرته بخبر المسافرين الذين نزلوا بها، وان واحدا منهم قام إلى نعجتها هذه العجفاء الجافة الضرع فدرت لبنا غزيرا
يا أم معبد، صفي لي هذا الرجل العجيب! فقالت:
(إنه ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة. في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف. أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة. إذا صمت فعليه الوقار. وإذا تكلم سما وعلاه البهاء. كأن منطقه حزرات نظمن ثم تحدرن. حلو المنطق. لا نزر ولا هذر. أجهر الناس إذا تكلم وأجلهم من بعد. وأحلاهم وأحسنهم من قريب. ربعة. لا تشنؤه العين من طول، ولا تقتحمه من قصر. غصن بين غصنين. له رفقاء يحفون به. إذا قال يستمعون لقوله، وإذا أمر يتبادرون لأمره. محفود، محشود، لا هو عابس ولا مفند)
فلما سمع أبو معبد هذا الوصف قال وقد علاه الوجوم: ويحك يا أم معبد! هذا هو صاحب قريش الذين ما زالوا يطلبونه. وقد بذلوا جعلا لمن يرده إليهم. ثم تركها وأخذ يشتد في أثر(966/14)
الركب حتى أدرك النبي (ص) فأسلم ورجع إلى قبيلته يبشرهم بالإسلام وجعل رجال القبيلة الذين بلغهم خبر مرور النبي (ص) بأم معبد يفدون على خيمتها: يستوصفونها صفة النبي، وهي تصفه لهم. حتى قال لها بعضهم: (يا أم معبد! ما بال وصفك للرسول أوفي وأتم من وصفنا له لو رأيناه نحن معشر الرجال؟ فقالت: (أما علمتم أن المرأة إذا نظرت إلى الرجل كان نظرها أشفى من نظر الرجل إلى الرجل؟) ومعنى (أشفى) أدق وأكثر استقصاء وانتباها أحسنت فيما قلت يا أم معبد! غير أن علماء الحديث اعترضوا عليك في قولك أن النبي كان (أقرن) أي مفرود الحاجبين مع أن الذين وصفوه من الصحابة غيرك قالوا إنه كان (أفرق) أي مفروق الحاجبين متباعدهما لا مقرونهما. وقولهم هو الصحيح في وصفه
وعندي أن (أم معبد) لم تخطيء في الوصف كما زعموا، تقل (أقرن) وإنما قالت (أفرق) لكن النساخ هم الذين حرفوا كلمتها وما أسهل وقوع التحريف بين (أفرق) و (أقرن)
ندع خيمة أم معبد وننطلق مسرعين إلى يثرب
فماذا نرى؟
نرى المدينة المشرفة قد تألقت وتأرجت حتى أصبحت تحكي باقة زهر، أو ابتسامة ثغر، وقد برز سكانها إلى ساحاتها وضواحيها، وأخذوا يروحون ويغدون بينها وبين (قبا). و (قبا) قرية تبعد نحو أربعة كيلومترات عن المدينة
ونسمع فئات من الفئتين يتجادلون في النبي (ص) هل يبيت في (قبا) أو أنه بعد أن يستريح فيها يجيء المدينة؟
وكانوا يتواصفون ويذكرون من جماله وهيبته. فقال بعضهم اسمعوا: جئت الآن من (قبا) وقد رأيت أبا بكر واقفا على باب البيت الذي فيه النبي فحسبته النبي نفسه. وذلك لما رأيت من مهابته، وجلال قدره، والشيب الظاهر في لحيته. فتراميت عليه مرحبا متبركا، وإذا هو يمسكني بيدي فيقودني إلى داخل البيت ويقول هذا هو نبيك. فإذا لحيته الشريفة سوداء ليس فيها شيب. مع أنه أكبر من أبي بكر بثلاث سنوات. وكان النبي في نحو الخمسين من عمره ولما خرج النبي من قبا متهيئا للمسير إلى المدينة وقف أبو بكر يظلله بردائه وقاية له من حر الشمس. فعرفه الناس حينئذ. وجعلوا يهتفون إليه بالتحية والترحيب والإجلال(966/15)
والتعظيم
ثم ركب النبي ناقته وأردف أبا بكر خلفه. وأخذ طريقه إلى المدينة. وانساب الناس حواليه فرحين مستبشرين حتى دخلوها فإذا أجاجيرها (أي شرفات سطوحها) مزدحمات بالنساء فما رأين شخص النبي حتى علت أصواتهن بالزغردة والأناشيد
وكان صغار الصبيان والجواري يمشون زرافات بين يدي النبي يضربون بالدفوف ويغنون النشيد الذي يصلح أن نسميه (نشيد الهجرة) وأوله:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وكان الرجال يتحمسون عند سماع زغردة النساء فيترامون على ناقة النبي ويتجاذبون زمامها يريد كل منهم أن يكون هو قائدها. وتفرق الغلمان والخدم في سكك المدينة ينادون (جاء محمد رسول الله. الله أكبر. جاء محمد رسول الله) وأشباه ذلك كلمات الغبطة والفرح والتنويه بقدره الشريف. وعلى جوانب الطريق كان جماعات الجيش يرقصون ويغنون ويلعبون بالحراب فرحا بقدوم النبي
ولما تخلل الموكب دور المدينة جعل سكانها يقفون في وجه الناقة ويضرعون إلى النبي أن ينزل ضيفا عليهم. وكانوا أحيانا يمسكون بزمام الناقة ويميلون رأسها إلى جهة بيوتهم، وهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة. وكانت الناقة تنظر يمينا وشمالا كأنها تفتش عن دار تختارها لنزولها
وأخيرا بركت على باب (أبي أيوب النجاري (الأنصاري) وأرزمت (أي حنت الناقة حنينا طويلا). عندها نزل النبي ودخل الدار قائلا (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) فاستقبله أهل الدار بالترحيب، وبرز من داخل البيت جويريات بأيديهن دفوف وجعلن يغنين:
(نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار)
قال أنس خادم النبي: (إنني لم أر يوما في عمري أحسن ولا أضوء من ذلك اليوم الذي دخل فيه النبي المدينة ونزل دار أبي أيوب)
رأيتم أيها السادة القراء كيف أن الإسلام نشأ في قلة، وتكون من ضعف؛ ثم استحال الضعف إلى قوة ما لها حد، والقلة إلى كثرة لا يحصى لها عد(966/16)
عربي فرد (صلى الله عليه وسلم) بعد عشر سنين من هجرته أخضع مائة ألف عربي لحكمه، ومائة الألف عربي بعد نحو سبعين سنة أخضعوا ملايين وملايين من البشر واستولوا ممالك العالم المعروف في ذلك الزمن!
قال علماؤنا رضي الله عنهم: يجب على الأب والأم أن يلقنا طفلهما الصغير حينما يعقل هذا التعليم البسيط وهو: (يا بني إن نبينا محمدا ولد في مكة، وهاجر إلى المدينة فدفن فيها)
فإذا انتقل الصغير من دور الطفولة إلى دور النشوء (أو دور التعليم الابتدائي) فما هو أول ما ينبغي للمعلمين أن يلقنوه إياه؟
أرى أن يلقنوه بيتا من الشعر قاله أبو تمام وهو:
الصين منظوم بأندلس إلى ... جدران رومية فملك ذمار
(وذمار) اسم قديم لليمن. يقول أبو تمام في هذا البيت إن ممالك الإسلام في زمنه (أي في حدود المائتين للهجرة) كان يحدها شرقا الصين، وغربا بلاد الأندلس، وشمالا روما (وكان المسلمون اقتربوا منها وهددوها)، وجنوبا بلاد اليمن الواقعة في جنوب البحر الأحمر! فما أعجب هذا البيت السحري الذي جمع فيه أبو تمام دنيا الإسلام بحدودها الأربعة!
وهكذا كانت عاقبة الهجرة النبوية: وثب الإسلام بعدها من عسر إلى يسر، ومن ضيق إلى سعة: فهو لم يكد يخرج من ضيق خيمة (أم معبد) حتى دخل من سعة بلاد الله خيمة يحدها الخافقان، ويأوي إلى ظلها التقلان!
دمشق
المغربي(966/17)
العالم الإسلامي حقيقة واقعة
للأستاذ سيد قطب
الذين يتحدثون اليوم عن (العالم الإسلامي) بوصفه كتلة ثالثة تملك أن تلعب دورا أساسيا في سياسة العالم، وتملك أن يكون لها وضع خاص متميز لا يرتبط بسياسة الكتلة الشرقية ولا بسياسة الكتلة الغربية.
هؤلاء لا يتحدثون عن مسألة تاريخية قد انقضى أوانها، ولا يتحدثون عن أمل في ضمير الغيب البعيد يتعلق به الخيال. . إنما يتحدثون عن حقيقة واقعة. حقيقة قائمة، لا سبيل إلى إنكارها، ولا سبيل إلى المغالطة فيها. .
إنها حقيقة تاريخية، وحقيقة جغرافية، وحقيقة اقتصادية، وحقيقة فكرية وشعورية. . فلها كل مقومات الحقائق الواقعة التي لا تجدي في دفعها المغالطة والنكران. . .
إنها حقيقة تاريخية. . فالعالم الإسلامي كان كتلة واحدة ذات ثقل واحد في ميزان التاريخ، وميزان الاتجاه العالمي، وميزان السياسة الدولية، وميزان الأحداث الإنسانية. . ولقد ظل كذلك منذ القرن السابع إلى أوائل القرن التاسع عشر. أي حوالي ألف ومائتي عام على الرغم من كل ما حاق به من محن، وكل ما أصابه من ويلات، وكل ما دب في كيانه من تمزق. والفترة الوحيدة التي خف فيها وزن الكتلة الإسلامية هي هذه الفترة الأخيرة التي لا تتجاوز قرنا واحدا من الزمان وهي حقيقة جغرافية؛ فالكتلة الإسلامية تمتد في حدود متصلة أو شبه متصلة من مراكش إلى تونس، إلى الجزائر، إلى طرابلس، إلى وادي النيل، إلى فلسطين، إلى سوريا ولبنان، إلى شرق الأردن والعراق، إلى نجد والحجاز، إلى اليمن، إلى إيران، إلى تركيا، إلى أفغانستان، إلى باكستان، إلى أندنيسيا. وتكون حاجزا كاملا يفصل بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، بحيث يصعب تصور أي التحام بين هاتين الكتلتين لا يمر بذلك الحاجز الطويل العريض المتصل الحدود.
وهي حقيقة اقتصادية؛ فهذه الرقعة الفسيحة من الأرض تحوي من الخامات والموارد الطبيعية والإنتاجية ما يكفي لتكوين وحدة اقتصادية متكاملة، تكاد تكفي نفسها بنفسها. فإذا احتاجت إلى شيء فهي تمتلك أن تقدم نظيره، ويبقى الميزان الاقتصادي العام في صالحها. وقد برهنت الحرب العالمية الماضية على صحة هذه الحقيقة؛ حينما تعذر الاستيراد من(966/18)
أوربا أو أمريكا لمنطقة الشرق الأوسط، وأقيم بها مركز تموين لتحقيق كفاية نفسها بنفسها. . فإذا أضيفت إلى منطقة الشرق الأوسط تلك المساحات الإسلامية من الشرق الأقصى تمت الكفاية الذاتية، وثبتت تلك الوحدة الكاملة الاقتصادية.
وهي حقيقة فكرية وشعورية؛ فهذه الكتلة المترامية الأطراف يجمع بينها رباط فكري واحد ورباط شعوري واحد. رباط العقيدة الإسلامية، والتفكير المنبعث منها، والنظام الاجتماعي المتأثر بهذه العقيدة، حتى بعد أن طغت عليها النظم الغربية، وبعد ما بعد الكثير من حكوماتها عن حكم الإسلام وتعاليم الإسلام. وما تزال هذه الكتلة تملك ذلك الرباط الواحد الذي تستمسك به جميعا
إن هذه المقومات المتعددة المتكاملة لا يجتمع مثلها لواحدة من الكتلتين الشرقية أو الغربية. فهذه أو تلك تمتلك بعض هذه المقومات، ولكنها لا تملكها مجتمعة، كما تملكها الكتلة الإسلامية، أو العالم الإسلامي. . وإذن فلا مجال للتشكيك في قوة المقومات التي تملكها هذه الكتلة، ولا في قيمتها، ولا في أنها مقومات طبيعية، غير مصطنعة ولا متكلفة. وليست ناشئة من مجرد الرغبة في تكوين كتلة ثالثة؛ وإنما هي تفرض نفسها فرضا، وتحتم قيام هذه الكتلة المستوفية لكل شروطها ومقوماتها هذه بديهية واضحة لأنها تعتمد على الواقع المشهود. . ولكن الكثيرين يحاولون التشكيك فيها بشتى الوسائل. ففريق يزعم بأن العالم اليوم ينقسم إلى كتلتين اثنتين: الشيوعية في جانب، والرأسمالية في جانب. ويزعم أن لا سبيل إلى اختيار طريق ثالث، فإما أن ننضم إلى الكتلة الشرقية أو أن ننضم إلى الكتلة الغربية. . وليس أكذب من هذا الزعم ولا أبعد منه عن الحقيقة الواقعة التي ينطق بها الواقع المجرد من وجود كتلة ثالثة لها كل مقوماتها، ولها كل إمكانياتها.
وفريق يزعم أن الكتل لا تقوم على أساس الوحدة الجغرافية، ولا الوحدة الفكرية الشعورية. . إنما تقوم على أساس النظم الاجتماعية. والنظم الاجتماعية التي يعرفها العالم هي الشيوعية في الشرق والرأسمالية في االغرب. ولا سبيل إلى الحديث عن أي نظام اجتماعي آخر. فإلا تكن الشيوعية فهي إذن الرأسمالية ولا ثالثة لهما. . وليس أبعد من الحقيقة عن هذا الزعم القائم على الجهل، وإن كان يلبس ثوب العلم! فهناك نظام اجتماعي ثالث مستقل كل الاستقلال عن النظام الرأسمالي وعن النظام الشيوعي. نظام كامل شامل، له رأيه في(966/19)
الحكم، ورأيه في توزيع الثروة، ورأيه في العلاقات بين العمال وأصحاب العمل، وبين الملاك والفلاحين، ورأيه في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقة الأفراد مع الدولة، وعلاقة الدولة بالدول الأخرى. . وهو يصدر في كل هذا عن فكرة مستقلة غير الفكرة الرأسمالية وغير الفكرة الشيوعية. وقد يلتقي بهذه أو بتلك في بعض الجزئيات، ولكن له في النهاية هيكله الخاص، وفلسفته الخاصة، وتنظيماته الخاصة. . وهو حين يقاس إلى الرأسمالية أو إلى الشيوعية تبدو هذه كما تبدو تلك نظما متخلفة بالقياس إلى النظام الإسلامي الاجتماعي مشحونة بالأخطاء والمظالم والتعسفات. كما تبدو أقل قدرة على التطور وعلى مسايرة نمو البشرية من النظام الإسلامي.
وفريق يزعم أن هذه الكتلة الإسلامية من الضعف اليوم بحيث لا تملك أن تصبح كتلة ثالثة تقف تجاه الكتلتين أو إحديهما. وأن العالم الإسلامي قد أدى دوره قديما ولم يعد له دور جديد. . وهذا الزعم قد يكون مفهوما حين تردده إحدى الكتلتين المتعاديتين. لأن الكتلة الغربية المستعمرة تردده لتقتل كل محاولة للتخلص من ربقة الاستعمار البغيض. والكتلة الشرقية تررده كي تفهم الشعوب الإسلامية المستعمرة أو وسيلتها الوحيدة للتخلص من الاستعمار هي الارتماء في أحضان الشيوعية، وأنه لا أمل في أن يكون لها هي نفسها كيان خاص ستقل. . هذا مفهوم. . فأما حين نردده نحن، أو حين نؤمن به، فهذا هو العجب المنافي للرغبة البشرية الطبيعية في أن يكون للمرء كيان خاص، واحترام خاص. وإن هو إلا المسخ الذي يصيب الفطرة. وما يقول بهذا إلا الممسوخون الذين حولتهم دعاية هذه الكتلة أو تلك إلى فئات آدمي وحطام! إن العالم الإسلامي حقيقة واقعة. وإن كانت هذه الحقيقة قد خف وزنها فترة من الزمن، أصاب الكتلة الإسلامية فيها ما أصابها من الوهن والضعف، حتى وقعت في قبضة الاستعمار. . فإن كل الدلائل تشير اليوم إلى أن هذه الفترة قد انقضت، وأن البعث قد آن أوانه، وأن القوة الكامنة في هذه العقيدة ما تزال تعمل؛ وأن هذه القوة لم تمت ولم تنطفئ، ولكنها كانت تجتاز فترة تكون وتجمع. وقد اجتازتها الآن. .
لقد انبعثت دول إسلامية جديدة، ولقد نهضت أمم إسلامية وشعوب. ولقد انبعثت الشعلة المقدسة تضيء من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه. ولقد تناءت شعوب العالم الإسلامي(966/20)
كله كتلة واحدة، وراحت تتجمع تحت راية واحدة. . الراية التي أظلتهم أول مرة، فاندفعوا تحتها إلى أقطار الأرض جميعا. .
ولقد خفتت أو كادت تلك الأصوات المنكرة التي كانت تدعو إلى القومية الهزيلة الضيقة وراء الحدود الصغيرة المصطنهة. وتبين للغالبية الساحقة أن القومية الإسلامية هي القومية الحقيقية التي تجمع بين هذه الشعوب. وإن حدود الوطن الإسلامي هي الحدود الحقيقية، وما عداها كله فخاخ وضعها الاستعمار ليقع فيها الغافلون والمغرضون. ثم يتفرق الوطن الإسلامي إلى دويلات صغيرة ضئيلة عاجزة. تحت عنوانات القوميات! ثم لا يفيد من هذا أحد كما يفيد المستعمرون الذين واجهوا العالم الإسلامي وما يزالون يواجهونه بروح صليبية وبسياسة صليبية، يتابعهم فيها أعداء هذا العالم الإسلامي في الشرق والغرب سواء.
إن العالم الإسلامي حقيقة واقعة. وما عاد يجدي أحد أن يقف في طريق بروزها بعد اليوم. والكتلة الثالثة ضرورة إنسانية لتحقيق غرضين أساسيين من أغراض البشرية في هذا الطور من التاريخ:
الغرض الأول:
هو تحقيق استقلال جميع الشعوب المستعمرة، والقضاء على الظل الاستعماري البغيض في الأرض. فلقد استطاع الاستعمار أن يتصيد الشعوب الإسلامية واحدا واحدا، حينما تمزقت وحدتها الكبرى، وضعفت عن حماية أنفسها فرادى. فإذا ارتدت اليوم إلى نوع من الوحدة في صورة تكتل ذي كيان جغرافي واقتصادي واجتماعي. . ثم عسكري أمكن أن تصمد للاستعمار، وان تتخلص من براثنه، دون أن ترتمي في أحضان الشيوعية. . وإن كان هذا لا ينبغي ان تمد يدها إلى الكتلة الشرقية من الناحية السياسية لا الناحية الاجتماعية، فيما تتفق فيه مصالحهما. ومصالحهما تتفق عند مكافحة الاستعمار. وفي هذا المجال تستطيعالكتلتان الشيوعية والإسلامية أن تؤديا دورا مشتركا في هذا المجال وحده. وفيه الكفاية والخلاص من الاستعمار
الغرض الثاني:
هو تجنب البشرية ويلات حرب ثالثة - أو على الأقل تأخيرها إلى أطول أمد ممكن.(966/21)
فالكتلتان المتعاديتان اليوم إنما تتنازعان على ارض الكتلة الثالثة وخاماتها ومواردها. والذين يقولون على إحدى الكتلتين: إنها مجموعة من الملائكة ذوات الأجنحة البيض التي لا تبغي في الأرض إلا السلام البريء، بلا مصلحة ولا غاية، إلا غايات القديسين والملائكة الأبرار. . إنما يحتقرون عقولهم أو عقول الناس. وإنما يقولون كلاما سخيفا لا يصدقه حتى الأطفال. . وحين تبرز إلى الوجود كتلة العالم الإسلامي. ستفكر كل من الكتلتين مرتين قبل الإقدام على الحرب. لأن أرض الكتلة الثالثة ومواردها لمن تكون يومئذ صيدا رخيصا سهلا. يسيل له لعاب الشرقيين أو الغربيين. فضلا عن أن هذه الكتلة الثالثة تملك إيجاد التوازن بين القوتين، وتملك أن تهدد الفئة الباغية بأنها ستكون ضدها. ولن تقدم على الحرب كتلة تقف لها كتلة العالم الإسلامي بالمرصاد، وتنضم إلى خصومها فترجح الكفة ترجيحا لا شك فيه.
وبعد فأحب أن أقرر في نهاية الأمر أن الحديث اليوم عن الكتلة الثالثة ليس دعوة لقيامها. ولكنه تقريرا لوجودها. وجودها الذي لن يملك أحد ولا قوة أن تعدمه. لأن طبائع الأشياء، وتطورات التاريخ، وضرورات الإنسانية. . كلها تدعو إليه وتنادي به. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون
سيد قطب(966/22)
إلى السلاح. . يا عرب
للأستاذ علي الطنطاوي
يا أيها القراء! إني ما جئت أصب في أعصابكم قوة ليست فيها، ولكن جئت أثير القوة التي نامت في أعصابكم وما جئت لأجعلكم خيرا مما أنتم عليه، ولكن جئت لأفهمكم أنكم خير مما أنتم عليه. جئت أضرم جمرة الحماسة التي غطاها في نفوسكم رماد الكسل. فأعينوني على نفوسكم من رماد الكسل.
فأعينوني على نفوسكم استعادة الثقة بها، وبسلائق العروبة التي ورثتها، وبعزة الإسلام التي كانت لها. واعلموا أنكم إن فقدتم عزتكم، وأضعتم سلائقكم، لم تكونوا جديرين بمحمد، ولم يكن لكم الحق في الاحتفال بمولد محمد!
يا سادة! إن الأمم كالأفراد: ألا يكون الرجل منكم رائحا من عمله، خائر الجسم، وإني العزم، كل أمانيه أن يصل إلى الدار فيلقى بنفسه على أول مقعد يلقاه، قبل أن يستنفذ الجهد قواه، فيجد في الدار بشارة بأنه رفع درجة، أو نال جائزة، أو هبط عليه إرث ضخم، من قريب منسي، فيحس بأنه انتفض كما ينتفض العصفور بلله القطر، وانتعش كما ينتعش النبات أرواه الماء، ونشط كما ينشط الجمل أطلق من عقال؟
ألا يكون أحدكم مرخي الأعصاب، خامل الجسد، قد خدره النعاس حتى ما يقدر أن يفتح عينيه، فيعدو عليه عاد، أو يطرقه لص، أو يحقره إنسان، فيشعل الغضب في دمه نارا، ويشد من أعصابه أوتارا، فيثب ويريد أن يقتحم الجدار، أو يخوض النار؟
ألا يكون أحدكم تعبان كسلان، يجر قدميه من الونى جرا، يظن أنه سيسقط من كلاله على الأرض، فيلحقه عدو فاجر، أو يطارده وحش كاسر، فإذا هو ينطلق انطلاق القذيفة من فم المدفع، ويعدو عدو الغزال المروع؟
هذه أيها الناس القوة المدخرة في أعصاب الإنسان، يظهرها الأمل، ويبيدها الغضب، ويبعثها الخوف. وفي الأمم قوة كهذه القوة. وما الأمة إلا الأفراد. الأمة أنا وأنت وهو وهم وهن، أفلا تحس أن غضبت أو فرحت أو جزعت أن نبضك يسرع، وقلبك يخفق، ووجهك يصفر أو يحمر، وجسدك كله يتبدل ويتغير؟ فكذلك الأمم، تكون نائمة آمنة، قد غلب عليها الخمول، وشملها الارتخاء؛ فما هي إلا أن يبعث الله لها القائد العبقري، يصرخ فيها ينذرها(966/23)
الخطرا، أو يحذرها عدوا، أو يعدها نصرا مؤزرا، حتى تثب كما يثب الجندي المستريح إلى سلاحه، فتعمل العجائب، وتصنع المعجزات، وتدع التاريخ حائرا من فعلها مشدوها
هذه هي الأمثلة تملأ العصور، وتترع صفحات التاريخ، الأمثلة من الشرق والغرب، من القديم والحديث، حيثما تلتقي وجدتم مثالا
هذه مصر! كانت على عهد المماليك، بلد الجهل والافتراق والضعف والتخاذل، فما هي إلا أن بعث الله لها محمدا عليا، حتى نهضت نهضة الأسد، فكانت لها المدارس والصحف والصروح والمصانع ومعامل السلاح، وكان لها الجيش الذي فتح الشام، وقهر الأتراك سادة الجحافل، وأبطال الميادين، وكاد (لولا مكر إنكلترا وغدرها) يهد عرش آل عثمان. وكان لها الأسطول الضخم الذي كاد (لولا تلك الجريمة التي لم يحاسب عليها بعد مجرموها) يعيد البحر المتوسط، بحر العرب، كما كان أيام عز العرب
وهذه جماعة الأتراك من آل عثمان! كانت قبيلة بدوية تسكن القفار، وترعى الأبقار، ليست في عير ولا نفير؛ فلما بعث الله لها عثمان وشرفه بالإسلام، صارت به وبخلفائه الأولين؛ ومراد والفاتح وسليم وسليمان، صاحبة القسطنطينية، ومالكة ما بين خراسان وأسوار فينا، وصار البحر المتوسط بحيرة في أملاكها
وهذه فرنسا! ماذا كانت فرنسا في أعقاب ثورتها؟ أمة الفوضى والانحلال، والحيرة والضلال، والتبدل من حال إلى حال؛ فما هي ألا أن جاءها نابليون حتى ملكت تحت لوائه أوربة كلها، وصارت أمة الأمم
وهذه روسيا! كانت بلاد أدنى إلى الهمجية والجهالة، فما هي إلا أن جاءها بطرس حتى غدت به بلدا أوربيا من بلاد المدينة والعمران
بل هذا هو المثل الأغر المحجل، الذي لا تادنيه الأمثلة، ولا تضارعه في سموه النهضات
هذه القرية التي كانت ممتدة وراء الرمال، نائمة في ظلمات من الجهل والفقر والجدب فوق الظلمات، لا تدري بها المدن الكبار، ولم يسمع بها التاريخ، هزها بيمينه سيد العبقريين، وأعظم العظماء، من كان في الأرض سفير السماء، وكان إمام الرسل وأفضل الأنبياء: محمدهزها، فإذا هذه الرمال المحرقة التي لا تعيش فيها الحياة، تنبت السهول الخصاب، والرياض والجنات! وإذا هذه القرية الضائعة تلد المدن العظام: الكوفة والبصرة وبغداد(966/24)
والقاهرة والقيروان! وإذا هذه القبائل المتفرقة تخرج الجيش الذي فتح الشرق والغرب، وملك ثلثي العالم المتمدن في ثلث قرن! وإذ هذه الأمة الجاهلية تنجب الأساتذة الذين علموا الدنيا، وأرشدوا أهلها، وأقاموا أعظم حضارة عرفها البشر، حضارة خير وحق وجمال، ليست حضارة قتل وتدمير، ومصائب وإنكليز، ويهود وبارود، وقنبلة ذرية. . .
وأمامكم من هذه الأمثلة مئات
بل إننا نستطيع اليوم في كل قطر عربي أن نضرب من أنفسنا الأمثال
إنه لا ينقصنا لنعز ونسود، ونسير على سنن الجدود، إلا حرب تنبه، أو زعيم عبقري يقود. إننا لا نريد إلا أن يتحمس العرب، أو يغضب العرب، أو يخاف العرب، فتوقظهم الحماسة، أو يثيرهم الغضب، أو يحركهم الخوف، فيرجعوا إلى مكان الصدارة بين الأمم
إن سوريا الصغيرة تستطيع أن تكون من الدول الأوائل على وجه الأرض حضارة وعلما وقوة ومالا
لا. لا تقولوا نحن قليل، فاليهود أقل منا.
لا تقولوا: نحن قليل، فإن أرق دول أوربة رقيا، وأفضلها حضارة، هي أقلها ناسا، وأضيقها رقعة: سويسرا وهولندا ودول الشمال. ونحن أحسن من بعضها موقعا من الأرض، وبلادنا أوسع، وخيراتها أكثر، ونحن أسرع سيرا في طريق النجاح
ألا ترون ما صنعنا من (يوم الجلاء) إلى اليوم؟
أما عملنا في خمس سنين ما لم نعمل مثله في خمسين سنة؟
أما صار لنا جيش؟ أما غدت لنا جامعة؟ أما أقيمت في بلدنا (معامل الشركة الخماسية) التي شهد كل من رآها بأن الحضارة لم توجد اليوم أعظم منها؟ أما استبدلنا بالمحاريث التي كانت تجرها البقر أضخم الآلات فزادت زراعتنا أضعافا؟
هل لأمة مثل ما لنا من الحزم والعزم، وركوب الفوات، واقتحام اللجج، والضرب في الأرض؟ هل على ظهر هذه الكرة بلد ليس فيه رجال منا، نزلوه فقراء فصاروا فيه من كبار الأغنياء؟ أليس في الأمريكتين وفي أوربة كلها وفي السنغال وفي الكونغو وفي الكاب وفي شنغهاي وفي اليابان رجال من الشام يجاهدون للمال، ويعملون للغنى، ويدهشون أهل كل بلد نزلوه، بتلك الهمم وهاتيك العزائم؟(966/25)
هل نزل اليهود بلدا فلم يكونوا أرباب المال فيه، إلا الشام، فما كان اليهودي في الشام إلا متجرا بعتيق الثياب، يدور بها على الأبواب، أو منظفا لمجاري الكنف تحت الأرض؟ ذلك لأن أهل الشام أبصر بالعمل، وأعرف بطرق جمع المال من اليهود
وهذه والله فخر لهم، وإن عدة ناس طعنا عليهم
أفيعيينا (معشر العرب) ولنا هذه السجايا، أن نتقلد السلاح، ونرجع أمجاد الأجداد؟ أتعجزنا حرب إسرائيل؟
أهؤلاء الزعانف أو شاب الأمم، أم دول أوربا رمتنا عن قوس واحدة أيام الصليبيين؟
أهؤلاء أم سيول التتر، لما قادهم إلينا هولاكو فحطوا علينا حط الجراد؟
أهذه (الدويلة. .) بنت ثلاث سنين. . أم دول الصليبيين التي شاخت في أرضنا إذ عاشت فيها أكثر من مئة سنة؟
أهذه الدويلة. . . ونحن بالجيش والسلاح، ولنا الاستقلال، ومعنا المال، أم فرنسا ذات الحول والطول، لما حاربها رجال منا بأيديهم، لا يملكون إلا السلاح الذي أخذوه من جنود فرنسا؟ فوقفت فرنسا بدباباتها ومدافعها عند جسر تورا سنتين لا تستطيع أن تجتازه، وما عرض النهر إلا خمسة أمتار، وما يحميه إلا عشرات من الثوار.
أما نصرنا الله في أيام أشد من هذه الأيام؟
أضاعت ثقتنا بالله ثم بأنفسنا وبماضينا وبأمجادنا؟
ألا ترونها تتلظى في العروق الدماء، وتتفجر في الرؤوس الحماسة؟ أما ترون شباب مصر، وطلاب الجامعة، وتلاميذ المدارس، وعمال المصانع، يزلزلون الأرض، لا يطلبون إلا أن يفتح لهم الطريق، ليمشوا إلى حرب إنكلترا؟
إنهم لا يحفلون جندها، ولا يبالون سلاحها، ولا يخشون حديدها ونارها. ولو فتح الطريق لنساء مصر، لمشت إلى حرب إنكلترا نساء مصر!
إن ها هنا شعبنا يريد أن يموت ليحيا وطنه، فهل تستطيع إنكلترا أن تبيد الشعب كله؟
فيا أيها الحاكمون في بلاد العرب، لا تطفئوا هذه الحماسة. لا تزهقوا هذه الروح.
يا أيها الحاكمون، أجعلوا كل ميدان في البلد ساحة تدريب، وكل قادر على الحركة جنديا. دربوهم وخلوا طريقهم، فإنكم لا تدرون متى تحتاجون إليهم. (جندوا) كل يافع وكل كهل(966/26)
وكل عجوز، لا أقول ألبسوهم جميعا بزة القتال، وسوقوهم إلى المعركة، لا، فليس الجيش هو الذي يحارب فقط، ولكن أقول سوقوهم إلى الأسواق وإلى المصانع وإلى الحقول، حتى لا يبقى في البلاد كلها عاطل ولا خامل ولا سائل، ولا يبقى في البلاد كلها شبر واحد مقفر أو خال. أقلوا عدد الموظفين، وزهدوا التلاميذ في (الوظائف)، وربوهم على حب العمل، وكراهية الكسل، وأقيموا النهضة على أساس شامل كامل، واجعلوا للبلاد دستورا اقتصاديا مبنيا على أساس العلم ودواعي الحاجة، وعدلوا أسلوب الموازنة، وقوانين الضرائب، فإنه لا يجوز في شرعة العصر أن يدفع تسعة أعشار الضرائب الفقراء، ويفلت منها كبار الأغنياء. واستفيدوا من خيرات الأرض وبركات الوطن؛ فإن هذا البترول العربي لو أنفق ثمنه في أسباب القوة، وفي سبيل الإصلاح، ولم ينفق على الإثم والفسوق ومعصية الرسول، لكانت به كل مدينة عربية، مدينة أمريكية!
ثم استنهضوا همم الرجال، واستثيروا بذل الأغنياء، وحرموا إنفاق المال في وجوه السرف، وألوان الترف، وأنفقوا كل ما اجتمع لكم من مال في السلاح والعتاد. دربوا الناس على القتال، واجعلوا من الشباب جنودا مستعدين ليوم الكريهة، وانشروا في الشعب علم النجاة من الغارات والهجمات، وسخروا الصحف والإذاعات لبث القوة والرجولة في صدور الرجال.
إلى السلاح - يا عرب!
إلى السلاح - فنحن في حرب ما بقى في فلسطين يهودي واحد.
إلى السلاح - فنجن في حرب ما بقى في القناة إنكليزي واحد.
إلى السلاح - فنحن في حرب ما بقى في تونس أو مراكش أو أي قطر عربي أجنبي واحد.
إلى السلاح - يا عرب.
علي الطنطاوي
قاضي دمشق(966/27)
هجرة الرسول
للأستاذ أنور العطار
(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي. وقلة حياتي. وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني. أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي. أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماوات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك، أو تنزل علي سخطك. ولك العتبى حتى ترضى. ولا حول ولا قوة إلا بالله)
- من أدعية الرسول قبل الهجرة -
يا سيد الخلق يا نور الوجود سرت ... بأضلعي اليوم من نجواك أصداء
رفت حياتي بها بشرا وزغردة ... فالقلب تسبيحة في الثغر سجواء
من جود كفيك أنغامي وأخيلتي ... ومن سخائك للعافين إغناء
حببت فيك قريضي حين قربني ... إلى حماك فشعري منك إدناء
وبحت بالحب في سري وفي علني ... ولذ لي في هواك السمح إفشاء
لولا هواك لما أبدعت قافية ... والكون لولا الهوى بهما جرداء
والقلب لو لم يعذب لم يصغ نغما ... إن العذاب لمتلاف ومعطاء
وأنت أيقظت في الحب فانتشرت ... على محياي أفراح وآلاء
وأنت أغنيتني حسا وعاطفة ... كأنما أنا إلهام وإيحاء
وأنت فجرتني حبا ومرحمة ... فليس يعلق بي حقد وبغضاء
وأنت صفيتني كالنبع منسكبا ... والنبع مذ كان أنغام وصهباء
وأنت أزهدتني في الناس كلهم ... فهجر أطماعهم للنفس إبراء
والبعد عنهم نجاة من أذيتهم ... وما يطلق الأذى، والبعد إنحاء
ما أرتاح قلبي إلى غشيان عالمهم ... كأنهم محن سود وأرزاء
ولا ارتضت مهجتي دنياهم سكنا ... وقد علتها شكايات وضوضاء
هم علموا القلب أن ينأى مطامعهم ... فما لدنياهم زهو وإغراء
كأنما هي دار لا أنيس بها ... فآدم اليوم صدت عنه حواء(966/28)
خذ يا فؤادي حذرا من مفاتنها ... ولا تغرنك فالرقطاء رقطاء
من ظن في سمها الترياق حاق به ... من جرعة السم إهلاك وإفناء
مالي وللناس لا أحيا بألفتهم ... وإنما أنت لي بعث وإحياء
مذ هام قلبي بكم ما اختار غيركم ... ولا صبا، وقلوب الناس أهواء
أقضي ليالي في نجواك منفطرا ... كما تفطر يوم الوحي سيناء
كأنما خاطري شدو وهينمة ... وجنة من جنان الخلد غناء
شدت لها الورق ألحانا مسلسلة ... فصفقت في شعاب الدوح أحناء
ظلت تنغم في صدري وفي خلدي ... قصيدة من دموع القلب عصماء
الكون ما الكون؟ شطر من روائعها ... والمصطفى روحها والناس أجزاء
رنت إليها الدراري في مباهجها ... وفاض منها على الأيام نعماء
وبش في الفجر إصباح يمور سنا ... وهش في عتبات الليل إمساء
تلكم رغادة دنيا قد كلفت بها ... أولت نداها وكم للسعد إيلاء
أملت على بليغ القول محكمة ... إن البلاغة إيحاء وإملاء
كانت بصدري أسرارا مغلقة ... ما إن يعاودها بوح وإفضاء
ما أفصح الشعر عنها حين أعلنها ... وكيف يفصح تلميح وإيماء
يا هجرة لك فاضت همة وعلي ... يشدها خافق بالعزم مضاء
تركت مكة والأحلام تغمرها ... وللطفولة أطياب وأشذاء
والقلب رهن الحمى ما انفك مدلها ... به وللأرض أشواق وأصباء
إن غبت عنها براها الشوق واحتدمت ... نيرانه واستفاق الجرح والداء
وعشت دهرك في تذكارها وترا ... له الهوى نغم في الصدر بكاء
كلا كما ذاب تهياما بصاحبه ... والأرض أم وأهل الأرض أبناء
والمرء ما زال حنانا إلى وطن ... وإنما وطن القلب الأحباء
إن عاش عاش بهم حتى إذا رحلوا ... فإنما هو أصداء وأنباء
وأنت في الغار والصديق لفكما ... من جانب الله تثبيت وإرساء
مشت عناكب تحميه مناسجها ... وتدفع البغي، والعدوان مشاء(966/29)
وأرسلت سرحة أفنانها فنمت ... على مداخله فالغار أفياء
وأقبلت من بنات الدوح ساجعة ... كأنما الغار عش فيه ورقاء
لا الظن حام على الغار الحبيب ولا ... بدت من الشك للسارين سيماء
وكان يحميه من بغي العدا قمر ... تدرع الطهر إن الطهر أباء
من كان يعلم أن الظبية اتشحت ... بما ينوء به العد الأشداء
ففي النهار غدت عينا مراقبة ... ما حاكه في غمار الكفر أعداء
وفي المساء استحالت رحمة وندى ... على النطاقين منها الزاد والماء
بالنفس والأهل والدنيا وما حفلت ... جناتها من مجالي السحر أسماء
ذات النطاقين أسماها الرسول بما ... أسدت يداها، وللإحسان إسداء
باتت على الغار ترعاه وتحرسه ... كأنها مقلة بالسهد كحلاء
أغفت عيون الدراري في مطالعها ... وما لعين الهوى والحب إغفاء
حتى إذا غمر الليل الشعاب ولم ... يبن على الرمل في الليل الإدلاء
نشطت للسير والصديق في ملأ ... من الملائك، والإيمان حداء
يرعاكما الله في حل ومرتحل ... ويثرب القصد، والأهل الأوداء
وحين أشرفت ماجت بالسرور كما ... تلألأت بفريد الموج دأماء
هبت تلقاك أنجادا وأودية ... وكم تشوقك أنجاد وأوداء
مشى إليك بنوها والهوى ضرم ... وكل نفس من الأشواق رمضاء
يستقبلونك أرواحا وأفئدة ... ويفتدونك والأجساد أنضاء
ذاب الحنين على افواعهم نغما ... وفي يمينك للشادين إرواء
على الشفاء أناشيد مزغردة ... وفي العيون من الفراح لألاء
أذكى الهوى أنفسا للحب قد خلقت ... وللصبابة في العشاق إذكاء
أبكاهم الوجد في اللقيا وأضحكهم ... إن التوجد تضحاك وتبكاء
أصغت إليهم عيون الليل رانية ... وكم يطيب إلى الأحباب إصغاء
وشت تسابيحهم للحب أنملة ... والحب مذ كان وشاح ووشاء
طوبى ليثرب ضمت خير من سطعت ... على محياه أنوار وأضواء(966/30)
طوبى لها أن حمت جارا وإن طلعت ... رسالة الله منها وهي غراء
طافت على الرض نور اللألي فقدوا ... أنوار أنفسهم، والكفر ظلماء
كأن كل سبيل من ضلالتهم ... صحراء كالحة الأعطاف غبراء
ضجت جفاء وعجت وحشة وبلى ... كأنها القبر فاضت منه أشلاء
نامت عليها الدياجي وهي جاهمة ... ومقلة الفجر فيها الدهر عمياء
لله شرعك شرعا واضحا جددا ... ما في تضاعيفه ريب وإخفاء
أنقى من الزهر في فينان نضرته ... وقد جلته يد للحسن بيضاء
ما زال غضا على الأيام مؤتلقا ... كالخلد ليس له ند وأكفاء
كم طهر القلب من بغي ومن دنس ... وكم صفت بصفاء القلب حوباء
والدين يمن وإحسان وميسرة ... وفرحة تسع الدنيا وأنداء
من ضاق بالعيش ذرعا أو جفته مني ... فالدين تعزية كبرى وتأساء
من صد عن بابه لم يرتشف أملا ... وعاودته من الكفران غماء
ولا اطمأنت له نفس ولا هدأت ... وكيف تهدأ في الطغيان أنواء
يطوي الحياة جحيما لا نعيم بها ... كأنما هي أوجاع وأدواء
يا هجرة فجرت حبا ومرحمة ... فالقوم فيها الأحباء الإخلاء
تقاسموا نعميات العيش وائتلفوا ... كما تآلف في الأجساد أعضاء
كل يرى لأخيه الخير أجمعه ... والخير موطنه الرهط الأعزاء
جرى الإخاء عليهم بهجة وسنا ... فاستعذبوه، ودنيا الود فيحاء
كأن ألفتهم للائمين شجا ... وطعنة في صميم الكفر نجلاء
وطيبة الخير بيت ضم شملهم ... جلاله الدهر أبناء وآباء
لو أن قومي وعوا أسرار هجرته ... لما تناءى بهم بغض وشحناء
إن الحياة إذا يسرتها يسرت ... كأن إمرارها في الطعم إحلاء
وإن أردت بها شؤما ومعسرة ... فإنما هي أثقال وأعباء
خلت من البهجة الكبرى جوانبها ... كأن إضحاكها في العين إبكاء
كل له ما يرى فليتعظ فطن ... فعسرها اليسر والبأساء سراء(966/31)
والحب أثمن ما امتاز الفؤاد بها ... وفيه للنفس إحياء وإعلاء
فقل ليعرب إما رمت مكرمة ... فوثقي الحب إن الحب بناء
دمشق
أنور العطار(966/32)
الأزهر الآن
يعيش برئة واحدة
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد محمد المدني
(الجامع الأزهر هو المعهد الديني العلمي الإسلامي الأكبر،
والغرض منه: (1) القيام على حفظ الشريعة الغراء أصولها
وفروعها، واللغة العربية، وعلى نشرهما (2) وتخريج علماء
يوكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة في مختلف المعاهد
والمدارس، وبلون الوظائف الشرعية في الدولة)
هذا هو نص المادة الأولى من قانون الأزهر الساري عليه الآن، وهو التعبير الصحيح عما تفهمه الأمة الإسلامية من مهمة هذا المعهد العتيق منذ إنشاء المعز لدين الله الفاطمي إلى هذا العهد الفاروقي السعيد، ثم إلى ما شاء الله من عهود.
وأقول: (التعبير الصحيح عما تفهمه الأمة الإسلامية من مهمته) لأني لا أريد أن أدخل في تصرف النيات التي كان يبطنها الحكام والمسلطون وتدل عليها سياساتهم وأفاعيلهم في توجيه أهله وتصريف شأنه.
ومن هذا النص الذي يفصح عما استقر في ضمير الأمة يتبين أن المهمة الأولى للأزهر هي القيام على هذا التراث الخالد الذي أورثناه إياه بناة مجدنا الأولون، والذي كنا به خير أمة أخرجت للناس، وأن تخرج هذا المعهد الإسلامي الأكبر للمسلمين أو القضاة أو الموظفين هو أمر يأتي في المرتبة الثانية.
وقد تقلبت على الأزهر في تاريخه الطويل أحوال ودول، فاستقام على السراط السوي أحيانا، وأنحرف عنه أحيانا، وكان تارة قويا غلابا يعرف رسالته، ويفرض إرادته، ويلون الحياة بلونه، ويحمل الحاكمين والمتسلطين على ما يرى في حزم وصرامة. وتارة ضعيفا عاجزا مناوبا على أمره، يمشي في ركاب غيره، ويستوحي خططه وصوره ممن لا يدركون رسالته، ولا يعبأون بأمره، بل لقد حفظ التاريخ فيما حفظ أن الزهر قد عطل(966/33)
تعطيلا تاما عشرات من السنين في بعض العهود فلم يكن به درس ولا كتاب، ولا علم ولا علماء.
وإذا أردنا أن نفرق بين العصور الذهبية للأزهر، والعصور التي اضمحل فيها شأنه وأقفر واديه؛ فإننا نستطيع أن نقرر أن عصوره الذهبية هي التي كان فيها موجها للحياة مضطلعا برسالته الكبرى في القيام على حفظ الشريعة واللغة عن طريق التفرغ لهما علما وعملا، وأن عصور ضعفه واضمحلاله هي العصور التي تصور فيها أنه مدرسة للتعليم والتخريج فحسب.
ومن تأمل رسالة الإسلام وعرف أنها رسالة الرحمة العامة لهذا العالم كله، أدرك أن الأمة الإسلامية قد حملت أمانة إلهية غالية، ليست هي مجرد أن يؤمنوا بهذا الدين ويتناسلوا نسلا مؤمنا به، ولكن أن يبلغوا هذه الأمانة الإلهية تبليغا واضحا إلى كل ذي عقل في كل زمان ومكان فإن هذه الرسالة هي أساس استقامة العالم ورشاده وتمتعه بالخير والسعادة، ولم ينزلها الله للعرب فقط وإنما أنزلها رحمة للناس كافة.
(يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) فإذا آمن المسلمون بذلك، وأخذوا أنفسهم بمقتضياته، فقد عرفوا أنفسهم، وأدركوا قيمتهم في هذا العالم. وإذا جهلوا ذلك أو نكصوا عنه، فقد تخلوا عن شرف عظيم شرفهم الله به، وخسروا دينهم ودنياهم وأنفسهم وذلك هو الخسران المبين.
يقول الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) فقد بين لنا أن مرجع هذه الخيري هو اضطلاعنا في الناس بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي مهمة الإصلاح العام والدعوة إلى الاستقامة على سنن الرشاد، والإيمان بالله. ويقول عز وجل في موضع آخر (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) والمعنى في قوله (ولتكن منكم أمة) على التجريد، أي: ولتكونوا أمة هذا شأنها، وهذه رسالتها في الحياة وغايتها، تدعو إلى الخير الذي دعا الله إليه ويكون لها أثر فعال، ورأى عام قوي في إلزام الناس بالمعروف، وصرفهم عن المنكر، فإذا كنتم هذه المة، فقد ضمن الله لكم الفلاح، وإلا قضيتم أيام دهركم ضعفاء لا قيمة لكم بين الناس.(966/34)
وأول الوسائل التي تتوسل بها الأمة إلى الاحتفاظ بهذه الأمانة الإلهية الغالية وأدانها كما أمر الله إلى أهلها، أن تعنى أكبر العناية بحملة التراث الإسلامي العظيم، وأن تعمل جاهدة على تمكينهم من التقوى فيه، والتفرغ له، ونشره بين الأمم في احسن صورة وأقربها إلى القبول.
إن الأمم الناهضة تخصص للدراسات العلمية طوائف من أبنائها المبرزين فيها، وتجعلهم في معاهد مستقلة لا هم لها إلا التوفير على هذه الدراسات والتفرغ لها، معيشتهم مضمونة، وأمورهم ميسرة، وقد كفوا شأن التفكير في أنفسهم وأهليهم وشئون حياتهم، ولذلك نراهم يثمرون ثمرات طيبة فيما انقطعوا له، ويعطون أممهم من العلم والشرف أضعاف ما تعطيهم من المادة والعناية. فهل نطمع من الدولة في أن تعين الأزهر مثلا على إنشاء معهد للبحث والدرس يتعمق في أصول الشريعة الغراء وفروعها، ويدنى للناس ثمارها الطيبة، فيقدم للمشتغلين بالقانون نظريات مستقيمة تنسيهم نظرياتهم، ويقدم لأصحاب الدراسات الفلسفية نوعا جديدا من القضايا الفكرية يغذي عقولهم وقلوبهم، ويحيي ألوانا من العلم والتفكير في إحيائها الخير كل الخير؟ هل نطمع في أن تعين الدولة الأزهر على إنشاء مثل هذا المعهد؟
إن الأزهر الآن لا يعدو أن يكون مدرسة دينية نظامية لتخريج معلمين أو قضاة شرعيين أو وعاظ ومرشدين، وذلك هو أدنى الشطرين من مهمته التي يبينها قانونه، ويتطلع إليه المسلمون أن يحققها. أما الشطر الأعظم فإنه معطل، وإذا كان أهل الأزهر مسئولين عن تعطيله فإن الدولة تحمل قسطا من هذه المسؤولية، لأن الأزهر مرفق هاممن مرافقها، عليها أن تعنى به وأن تعلم السر في عدم قيامه بأداء رسالته على الوجه الأكمل، وأن تأخذ بيده إلى الطريق الصحيح إذا حاد عنه، وأن تعينه على السير فيه إذا عرفه وعجز عن سلوكه.
إن أزمة الأزهر في الحقيقة ترجع إلى أمرين:
أحدهما: أن مصر قد نسيت أو أوشكت أن تنسى مكانة الأزهر في العالم كله شرقية وغربية، وأنه من أهم أسباب زعامتها الدينية والفكرية على الدول الإسلامية، وأنها تستطيع به أن تكون في مقام عالمي كريم، إذ تجعله مصدرا قويا لدعوة عامة إلى مبادئ تغزو بها العقول والقلوب في عالم كثرت فيه الشرور والمطامع وأنهكته حروب الجشع والاستعمار(966/35)
وأصبح أهله في حاجة إلى دعوة قوية صادقة تصرفه عن الشر إلى الخير، وعن الفساد إلى الصلاح، وما هذه الدعوة إلا دعوة الإسلام.
الثاني: أن الغرب أثر فينا تأثيرا سيئا وصل الأمر فيه إلى حد الاستخفاف بديننا، وقياسه على غيره من الديان، فقد أخذنا عن أوربا فيما أخذنا أن الدين يجب أن يكون بعيدا عن ميدان السياسة والحكم، وأن يقصر على الأخلاق والتهذيب والأمور الزوجية، وإذا صح أن يقال عن دين من الأديان، فإنه لا يقال عن الإسلام دين العلم والعقل والعزة والقوة، وقد تكفل بوضع منهاج صالح للحيلة السعيدة بشهادة أعدائه وأصدقائه.
هذان هما الأمران اللذان يرجع إليهما ما نراه من إهمال للأزهر، واكتفاء بأدنى غايتيه، وهو أن يكون معهدا للتعليم والتخريج، دون أن يكون حاميا للشريعة واللغة، مبلغا تراثهما إلى الناس أجمعين. وما مثل الأزهر على هذه الحال إلا كمثل مريض يعيش بإحدى رئتيه، فليس العجب أن يعيش ضعيفا عاجزا، وإنما العجب في أن يطول على ذلك بقاؤه، ولكل أجل كتاب.
محمد محمد المدني
من علماء الأزهر(966/36)
دين العزة
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
الإسلام يمكن أن يوصف بأوصاف كثيرة كلها حق. فهو - في غير حصر لأوصافه - دين الحق ودين العدل ودين الإحسان ودين الإخلاص ودين التوبة ودين الجهاد ودين الإخاء ودين التعاون؛ ولكن هذا كله يتصل من ناحية أو من أخرى بصفة من صفات الإسلام البارزة هي أنه دين العزة، عزة الفرد وعزة المجموع وعزة الشرع الذي يدينان به ويستمدان عزتهما من عزته. والعزات الثلاث متصل بعضها ببعض ومتوقف بعضها في الحياة العملية على بعض.
وأول ما يبدؤك من عزة الإسلام أنه ليس دين صومعة وعزلة، ولكن دين حكم ودولة. الحكم في دولته لله وقانونها شرع الله، ليس للإنسان فيه إلا الفهم والفقه وحسن التطبيق. فالقوانين الوضعية منكرة في الإسلام، وكل هذه القوانين المستمدة من الغرب أو من قدماء اليونان والرومان مردودة في الإسلام ما خالفت أحكام الله. وليس بالمسلمين إليها من حاجة إن وافقت. وما حاجة المسلمين بل ما حاجة الناس إلى حكم إن خالف حكم الله فهو خطأ وقى الله الناس بالشرع شره وإن وافق حكم الله اتفاقا كان التماسه في غير الشرع إثما للمسلم وذلة. كان إثما لأنه انصراف عن شرع الله وسوء ظن به وافتراض نقص فيه يلتمس سده في غيره؛ وكان ذلة لأن المسلم حين يحتكم إلى غير دين الله ويرضى بحكم من يعلم أنه لا يؤمن بما أنزل الله فقد خلع عن نفسه رداء العزة الذي أضفاه الله عليه حين أنزل الله له شرعا جمع له فيه وبه الخير والصواب، وحرره به من الخضوع في قول أو عمل أو نية لغير الله.
وهذا الاستسلام لله وحده هو أصل عزة الفرد المسلم، لأنه ينزع من صدره كل خشية ورهبة لغير الله. فهو إذا أطاع الحاكم المسلم إنما يطيعه طاعة لله، وإذا شكر المحسن إنما يشكره طاعة لله الذي أمره بشكر من يحسن إليه، وهلم جرا في سلسلة الطاعات والالتزامات التي يلتزم فيها المسلم طاعة غيره من الناس.
والمسلم مأمور ألا يسمع لمخلوق ولا يطيعه فيما فيه معصية لله؛ فهو عبد الله وحده قد تحرر بالإسلام من العبودية والخضوع لكل ما سواه. فنفسه قد برئت من خشية غير الله أو(966/37)
رجائه بقدر ما أوتيت من الإسلام. وهذه البراءة تجتث من نفس المسلم الذلة من أصلها باجتثائها الذلة التي يشعر بها في نفسه كل ذليل ولو لم يطلع عليها غيره من الناس. وكم من عزيز في رأي الناس هو في ذاته ذليل ذلة يعرفها هو من نفسه بما يجد من رهبة أو رغبة عندما يلقي من يرهبه أو يرجوه من عدو ينافقه، أو رئيس يمالقه، أو صديق يحابيه.
وهذه العزة النفسية التي يمنحها الإسلام المسلم الصادق تزداد رسوخا بالتحرر من سلطان الوهم الذي حرر الإسلام منه نفس البصير وعقله. فالإسلام حين طالب المسلم بالخضوع لله وحده قد كفاه شر الخضوع لغير الله باسم الخضوع لله بما يبين له ووضح من الأوامر والنواهي، ومن سبل الطاعة وسبل المعصية، ومن الرشد والغي، وما هو فرض وما هو ندب، وما هو مكروه وما هو مباح. وما هو متروك للاستنباط والقياس. كل ذلك مما بينه الكتاب الكريم والسنة المطهرة يسد الطريق علىالخرافات والأوهام أن يكون لها سلطان على المسلم إذا عرف دينه كما ينبغي وتشرب حقا بروح الإسلام.
وقد صان الإسلام عزة الفرد في الجماعة الإسلامية بما قرره من مبدأ المساواة بين الأفراد على اختلاف ألسنتهم وألوانهم من غير نظر إلى نسب أو نشب أو جاه، وبما أقامه من ميزان الحق والعدل في الأحكام. فالقوي في الجماعة الإسلامية ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف فيها قوي حتى يؤخذ الحق له. كذلك أكد الخليفة الأول في أول خطبة خطبها في خلافته الراشدة. ولم يكن ذلك مبدأ وضعه الصديق رضي الله عنه وإنما هو تعبير صادق عنى اصل كبير من أصول الحكم في الإسلام يتجلى في آيات الكتاب المجيد وفي أعمال الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وفي تنفيذ هذا الأصل من أصول الإسلام في الحكم لا يلحق أي المتقاضين ذلة من حكم القاضي. فالمحكوم عليه إنما يخضع لحكم الله لا لحكم أحد، ولا غضاضة على أحد في الخضوع لحكم الله. أما المحكوم له فليس يخشى عليه إلا أن تأخذه عزة بإثم إن أساء فهم معنى الحكم، ونظر إليه من زاوية غير التي ينبغي أن ينظر منها المسلم إلى الأحكام المبنية على الشرع سواء أكانت له أم عليه.
حتى ذلة الفقر وذلة الدين قد وقى الإسلام المسلم شرهما بما جعل له من حق الزكاة عند العجز، وبما حرم من الربا عند التداين وفي التعامل، وبما تكفل به ولى الأمر من سداد الدين عن المدين الذي يموت وليس فيما ترك سداد لدينه. وهذا أمر عجيب تفرد به الإسلام(966/38)
بين الشرائع يحفظ به لذي الحق حقه، ويخفف به حساب الآخرة عن المدين، ويدفع به ذلة الدين حتى عن ورثته. والنص في ذلك وارد في أكثر من موضع من الصحاح. من ذلك ما ورد في كتاب الفرائض من الجزء الثامن من صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه). وهذا طبعا تشريع يلزم كل من يحكم المسلمين بسنة الرسول.
هذا كله في البلاد العربية التي للإسلام فيها دولة وحكم نافذ. أما حيث لا سلطان للإسلام يكفل للمسلم العزة كلها فقد كفل له الإسلام العزة النفسية حين أمره بالهجرة من كل بلد يستضعف فيه إلى بلد يعز فيه، أو يستطيع على الأقل أن يسلم فيه بدينه ولو اضطر أن ينزل بالهجرة عن بعض ماله، لأن الأصل في الإسلام أن الدين فوق كل شيء من نفس وولد ومال. فإن عجز عن الهجرة لأمر مانع، كان عليه ألا يجيز لنفسه سماع ما يشعه بالذلة في نفسه من طعن أو لمز في دينه، لأنه من غير شك يستطيع الخروج من مجلس يهان دينه فيهإن لم يستطع خروجا من بلد لا يملك فيه انتصارا لدينه. وهذا كان الحكم في العهد المكي وأوائل العهد المدني من الرسالة قبل أن يصير للإسلام دولة. وهو حكم يسري في عهدنا هذا في كل بلد يقضي فيه بغير حكم الإسلام. ودليل ذلك كله قريب في الكتاب الكريم: في قوله تعالى من سورة الأنعام المكية:
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) وفي قوله تعالى من سورة النساء المدنية قبل أن تشتد دولة الإسلام: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم وحتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذن مثلهم، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا)، وليس بعد تشبيه المسلم المتهاون المتساهل في ذلك بالمنافق والكافر تهديد ولا وعيد.
وعزة الفرد هي أساس عزة الجماعة. لكن الإسلام قد أحاط عزة الجماعة المسلمة بسياج من الأحكام والنظم التي تضمن للمسلمين استمرار العزة وازديادها على الدهر إذا عملوا بتلك النظم والأحكام.
والأصل الشامل في ذلك مبدأ الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله. وأعجب ما فيه، وهو(966/39)
أكثر ما يجهله المسلمين اليوم أن المسلمين جميعا يأثمون بترك جهاد العدو إن لم تقم به طائفة كافية لصده والتغلب عليه. وقد اكتفى المسلمون بالشطر الأول ونسوا الشطر الثاني، اكتفوا بقيام طائفة منهم للعدو ممثلة في الجيش، ونسوا الشرط الأساسي، شرط أن يكون الجيش في عدده وعدده كافيا للتغلب والظهور على العدو وإلا كان الجهاد فرضا على كل مسلم يأنم بتركه حتى تتحقق للجيش تلك الكفاية وتتحقق العزة للمسلمين.
لم يكن للمسلمين في أيام النبي وأيام الخلافة الراشدة ولحقبة طويلة بعدها جيش معين محدود، وإنما كان كل مسلم يحمل عبء الجهاد بالسلاح حين ينتدب له في السرية أو الجيش الذي يؤلف حسبما يقتضيه الظرف الداعي له، والمسلمون بعد ذلك من وراء الجيش مدد له. وكان المسلم القادر يقوم بنفقة نفسه وتجهيزها وقد يتحمل تجهيز غيره. فالجماعة الإسلامية كانت كلها جيشا واحدا بالفعل أو بالقوة والاستعداد. فالاستعداد الفردي كان عاما والخروج في الجيش بالفعل كان بين التطوع والإلزام، أو بالأخرى كان إلزاما في صورة تطوع، حقق الله به للجماعة العزة وللفرد فضيلة الجهاد عن رغبة واختيار تحقيقا للعزة النفسية عند الفرد حتى في العمل بذلك الأصل العظيم في الدين أصل الجهاد في سبيل الله.
ولم يترك أمر الاستعداد بالسلاح للفرد وحده ولكن أمرت الجماعة كلها بالاستعداد والبلوغ به أقصى مداه. وهذا هو الأصل الثاني الذي صينت به عزة المجتمع الإسلامي أن تذهب أو تنهار. نزلت بهذا الأصل العظيم سورة الأنفال في قوله تعالى:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم) وهذا الأمر وإن وجه إلى الجماعة موجه إلى الفرد أيضا كما يشهد الحديث الشريف. فالجماعة المسلمة والفرد المسلم كل مخاطب بتلك الآية الجامعة، وكل مأمور أن يعين على الاحتفاظ بالعزة للإسلام وأهله بأن يبلغ من القوة والاستعداد أقصى ما يستطاع.
ومن عجيب مظاهر العزة في الدولة الإسلامية ما أوجبه الإسلام على المسلم من حماية الذي يبذل في سبيل حمايته دمه من غير أن يكلفه قتالا أو معونة إلا مبلغا يسيرا يستطيعه كل سنة مقابل تلك الحماية، حتى إن بعض أمراء جيوش المسلمين في الفتوح الأولى رد على قوم جزيتهم بعد أخذها بأيام لما أراد الارتحال لأن ارتحاله سيحول بينهم وبين(966/40)
حمايتهم من عدو إن طرقهم، فبين بذلك مبلغ إنصاف الإسلام لمن يدخلون في ذمته من غير المسلمين. فالعزة في الأرض لله وللمؤمنين القائمين بحكم الله. أما غير المؤمنين الداخلون في ذمة الله ورسوله والمؤمنين فيحرمون من حمل الله، ويحميهم المسلمون كما يحمون أنفسهم وذراريهم، ولهم فيما عدا ذلك ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. وهذا تشريع عجيب جمع الله به للمسلمين بين عزة أنفسهم وإنصاف غيرهم إنصافا لم يسبق الإسلام إليه ولم يلحق فيه.
فاعجب إذن من أمة دينها دين العزة ثم تهمله لتصير إلى ما صار إليه المسلمون اليوم!
محمد أحمد الغمراوي(966/41)
الرسالة في عامها العشرين
للأستاذ محمد رجب البيومي
أستاذي الزيات
هذا خطاب أوجهه على صفحات الرسالة الغراء إلى زميلي الأستاذ محرز أحمد خفاجي المدرس بالمدارس الثانوية. اعترافا بما للرسالة علينا من فضل كبير في التربية والتثقيف. وأعتقد صادقا أنه يعبر عن عواطف المئات من الأدباء الذين تعهدتهم مجلتكم العظيمة بالتوجيه والتعليم. فأدت بذلك رسالتها الخالدة في الحياة. وأرجو ألا يحذف منه حرف واحد. فقد تعودتم أن تقفلوا كل ما يخصكم من ثناء. ونحن هنا نسجل تاريخا لا يجوز فيه الحذف والإغفال بحال وتفضلوا بقبول فائق احترامي.
محمد رجب البيومي
صديقي العزيز
حين تناولت القلم لأكتب إليك، تذكرت أن الرسالة تستقبل عامها العشرين، فرأيت أن يكون حديث اليوم عن تلك المجلة الحبيبة التي عقدت أواصر الصداقة بيننا، إذ لولا الرسالة لما كنا من سبعة عشر عاما مضت إلى اليوم صديقين حميمين كأحسن ما يكون الأصدقاء.
أذكر أني كنت أجلس معك في حجرة واحدة بمعهد دمياط الابتدائي، وقد لمحت في يدك مجلة تتصفحها في سرو وبهجة، فاستأذنتك في قراءتها، فخفت أن أكون عنها رأيا خاطئا لأول مرة، فدعوتني إلى الجلوس جوارك، وقلت في اهتمام: هذه أحسن مجلة أطالعها في مصر. ويجب على جميع الطلاب أن يتابعوا قراءتها باعتناء، فهي الصحيفة التي تهذب الأسلوب، وتثقف العقل. ثم مددت يدك إلى القمطر، وأخرجت كراسة الإنشاء لتريني درجاتك العالية في التعبير، ناسبا تفوقك الحميد إلى الرسالة فهي وحدها صاحبة الفضل في هذه الدرجات!!
وأذكر أن درجاتك الممتازة، قد جذبت اهتمامي إليك وإلى الرسالة فخرجت من الدراسة متجها إلى بائع الجرائد، وأخذت نسخة من الرسالة، وقضيت بقية اليوم، وجزءا غير قصير من الليل أتصفحها ورقة ورقة؛ ففهمت أكثر ما تحتويه من مقالات وقصص، وقصائد، وشعرت بإكبار وإجلال نحو ما لم أفهمه من البحوث العلمية الدقيقة، متمللا بقرب(966/42)
اليوم الحبيب الذي ستتسع فيه ملكة الفهم لدي، فأستوعب جميع ما في الرسالة الحبيبة، من الغلاف إلى الغلاف!!
ورجعت إليك في اليوم الثاني فحدثتك عما فهمته وما لم أفهمه، فوجدتك تشاركني الرأي وتقف من موضوعات الرسالة موقفي منها سواء بسواء. ومن هذا اليوم بدأنا نجلس مما على قمطر واحد، ونتنزه معا إذا أردنا أن نزهر ثم لا نترك الحديث يوما واحدا عن الرسالة فنحن إذا أتى العدد الأسبوعي نطالعه بجد ويقظة، ثم نتقابل ليذكر كل منا ما علق بذهنه من الأفكار الجديدة، والبواب الطريفة؛ وبدأنا نكون لنا آراء عن الأدباء من كتاب وشعراء. وكنا نفترق في بعض الأحيان فافضل كاتبا ترى غيره أحق منه، وأميل إلى شاعر تميل عنه، ولكل منا براهينه المسهبة، ودفاعه الطويل.
وجاءت العطلة الصيفية فم نحزن لشيء حزننا على انقطاع حديثنا الدبي عن الرسالة. ثم اتفقنا على أن نتراسل أسبوعيا، فأكتب إليك وتكتب إلي، وكان الحديث لا يتجاوز الرسالة في أكثر سطوره. وما زلت أذكر حملاتنا الصاخبة في رسائلنا السالفة - على الأستاذ الكبير السيد قطب إذ كان يهاجم الرافعي، وقد خيل إلينا في طور اليفاعة أن قطبا متجن أكثر التجني، وأن الرافعي أكبر من أن يتوجه إلى النقد بشيء!! والغريب إننا الآن نرفع الأستاذ سيف قطب إلى قمة شاهقة، ونراه رائجي في الإصلاح، وصاحب مذهب في النقد والأدب، وداعية أمة إلى الإسلام!! فانظر بربك إلى المدى الشاسع بين النظرتين، نظرة اليفاعة المتسرعة، ونظرة الشباب البسيط. وكان مما يبهج خاطرينا معا أن نرى المدرسين يرمقوننا دون الزملاء بعين الإعجاب والاهتمام، فإذا تقدم أحدنا برأي في موضوع، أو نقاش فكرة لكاتب، وجد العيون مفتحة، والعقول منتبهة، وسمع الرد مشفوعا بالإطراء والتقريظ. وكنا نرجع ذلك إلى الرسالة وحدها، فهي التي دفعت بتفكيرنا إلى الأمام، وتداولته بالصقل والتهذيب!!
ولا أزال أذكر أنك قلت لي ذات عشية: يجب أن نشتري الكتب الأدبية النفيسة. فقلت لك وكيف تشتري الكتاب قبل أن نتأكد من صلاحيته؟ فأسرعت تقول: لنا ميزان لا يخطئ، فإذا كان المؤلف من كتاب الرسالة فعلينا أن نسارع إلى اقتناء كتابه. وإذا لم يكون من كتابها فقد نشرت عنه الرسالة في صحيفة الكتب تعريفا أو نقدا، فعلينا أن نحدد موقفنا منه(966/43)
على ضوء هذا التعريف وإذا لم يكن هذا وذاك فلم نبعثر نقودنا في الهواء. وكان رأيك هذا مقبولا لدي في ذلك الحين، فلم أشذ عنه في كثير أو قليل.
أين الأيام السالفة يا صديقي العزيز، وأين أحاديثها الأدبية المشتهاة؟ ليتنا قمنا بتسجيلها برغم ما تتسم به من عجلة واندفاع، ففيها ما يعجب ويروق، وفيها ما يضحك ويدهش!! فقد كان لنا عن كل كاتب وشاعر حديث عريض نقطع به الوقت الطويل. ولا أذكر أن كاتبا أغتصب أكثر أحاديثنا في فترة الدراسة الثانوية كما اغتصبها الدكتور زكي مبارك، فقد وقف في ميدان الرسالة كما يقف الملاكم في ميدان الرياضة، يصارع هذا في عنف، ويناقش ذاك في حدة، ويثير في الأفق الدبي عواصف شديدة عاتية. وكنا نعجب بسلاسته واندفاعه، وكانت روحه الفتية تحلق بنا في أوج شاهق. وكم يتركنا الأسف الآن إذ نشهد زكيا قد نزل عن سمائه بعد أن ترك الرسالة، فنراه يقف الآن في آخر الصفوف، وكنا نرقب له الغد المشرق البهيج!
لقد قلت لك ذات مرة أن الدكتور ذكي مبارك يكتب الحديث ذا شجون في بعض الصحف فاترا مضطربا، وكان حديثه في الرسالة بهجة في العين وأنس الفؤاد؛ فكيف يتفق ذلك مع اتحاد الكاتب والموضوع؟ فقلت في سرعة بادهة: إذا أتحد الكاتب والموضوع فلم تتحد الصحيفتان! وكانت إجابة موفقة أكدت ما نجله للرسالة من تقدير وإعجاب.
ونحن الآن نشعر يحب طاغ للدولة العربية، ونشيد بعظمائها من الزعماء والأدباء، ونحس ان مصر والعراق ولبنان وسوريا وتونس والجزائر واليمن والحجاز وسائر الأمم العربية وحدة لا تنقصم، فمن أكد في نفوسنا هذا الحب الأكيد؟ أنها الرسالة يا صديقي العزيز، فلطالما طالعتنا بقضايا الدول العربية السياسية، وعالجت أمامنا مشاكلها الاجتماعية والخلقية، وأفسحت صدرها للنخبة المختارة من أدبائها ونقادها، فكانت بحق ديوان العرب المشترك، وسجلهم الحافل بأنبائهم وأخبارهم، المقرب لأفكارهم واتجاههم، بل لم تكتف الرسالة بقضايا الدول العربية وحدها! فتجاوزتها إلى الممالك الإسلامية قاطية. وكم قرأنا في صفحاتها أبحاثا هامة عن إيران وتركيا والباكستان وأندونسيا وبلاد القوقاز؛ وطالعنا لكتاب من أبناء هذه البلاد كلمات خالدة في الوحدة الإسلامية، والإخاء المحمدي، مما نرجو أن يكون حقيقة واقعة في العاجل القريب. ولعلك تذكر أننا قرأنا في الرسالة ذات أسبوع(966/44)
بحثا هاما عن الفقه الروماني وعلاقته بالفقه الإسلامي لكاتب مصري، ثم أعجبنا أن نجد الردود تتدفق على الرسالة من سنغافورة ودمشق وحضرموت والعراق دائرة حول هذا الموضوع، فكأن الرسالة قد أهابت بكل باحث في شتى الأمم الإسلامية، أن يلقي دلوه في الدلاء، فتقدم هؤلاء الأفاضل مسرعين. فإذا ما رأينا اليوم أبناء الأمم الإسلامية متكاتفين متساندين، فيجب أن نذكر الرسالة الحبيبة وكفاحها المجيد!
ثم دارت الأيام ومضت بنا الدراسة الثانوية إلى الدراسة العالية بكلية اللغة العربية، وسمعنا أساتذتنا يلقون علينا الدروس العلمية في تاريخ الأدب والنقد وفقه اللغة والنحو والعروض، فكنا نجد من يسمو بعقولنا - في محاضراته وأبحاثه - إلى أفق رفيع، ومن يعكف على مراجعه القديمة ليقدم خلاصتها دون أن يلم بما تمخضت عنه الأبحاث الأدبية في العصر الحديث. وكنا لا نفتأ نواجه هذا النوع من الأساتذة بما اكتسبناه من الرسالة وغيرها من نقد وتحليل، غير عابثين بعد ذلك بما يكون من تبرم وضيق. ولعلك تذكر بالخير شيخ أساتذة الأدب بالكلية، وسيد علمائها الأستاذ الكبير أحمد شفيع السيد فقد كان يذكر لنا الرسالة دائما بين مصادره العديدة في تاريخ الأدب العربي، وقد ينقل بعض أبحاثها الأدبية عن الشعراء الأقدمين معقبا بما يعن له من نقد أو توجيه. وكنا نسمع محاضراته في شوق وإعجاب يزيدان عن الوصف. وحين أدرك اهتمامنا بالرسالة، غمرنا بوده، وذلل لنا كثيرا من العقاب فصرنا لا ندري أنتقدم إليه بالشكر، أم إلى مجلة الرسالة التي تربط بين قلوب المتأدبين من أساتذة وطلاب برباط وثيق.
ولن أفادتنا الرسالة فائدة تامة في الدراسة العالية بالكلية، فقد كان هذا أمرا نتوقعه لما بين أبحاث المجلة ودروس الكلية من ارتباط، بل من يدري؟ ربما تكون الرسالة هي التي وجهتنا إلى كلية اللغة دون أن نشعر، لما غرسته في نفوسنا من حب للأدب وهيام بتاريخه ورسائله. ولكن الذي لم نكن نتوقعه بحال، أن نجد الرسالة الغراء تأخذ بأيدينا في معهد التربية العالي للمعلمين وتعيننا على استكناه مسائل التربية الحديثة، وتفهم علم النفس بما نشرته من أبحاث في هذين العلمين وأذكر جيدا أني جعلت الرسالة بين مصادري العلمية حين كتبت مقالاتي في امتحان الدبلوم فقد اعتمدت على ما كتبه الدكتور عبد العزيز عبد المجيد والدكتور فضل أبو بكر في الذكاء والطفولة بأعداد الرسالة، لأن الزيات الحصيف(966/45)
كان - ولا يزال - يولي الأبحاث الغربية الحديثة، ومن بينها علم النفس والتربية، عناية فائقة لينأى بالفكر العربي عن جموده وقيوده، ويطلق أمامه الباحات الرحيبة للسير، والأجواء الفسيحة للتحليق. ونحن الآن وقد جاوزنا التعلم إلى التعليم، وانتقلنا إلى تدريس اللغة العربية بالمدارس الثانوية نجد تلاميذنا في حاجة ماسة إلى مجلة أدبية تقيم الألسنة المعوجة، وتشد التفكير الواهن، وترفع الخيال الهابط، ولن تكون هذه المجلة غير الرسالة، فقد نجحت تجربتنا معها - ومع الآلاف من قرائها - أتم نجاح، وكانت نعم الناصر المعين
ولقد أطلت الحديث عن الرسالة في الأدب والثقافة، وتركت أثارها في الأخلاق والسلوك، وما أظنك تجهله، فقد انتشرت المجلات الخليعة التي تتملق الغرائز، ووقفت الرسالة أمام التيار الجارف تدعو إلى المثل العليا والأخلاق القومية، وتشن الحرب على التخنث والمجون، وقد حاربت الأدب المكشوف محاربة منتصر، فدحضت حجة هؤلاء الذين لا يرون في الأدب والشعر غير الحديث عن الفضائح والمخزيات، متشبعين بما تذيعه الصحف الملوثة عن الفضائح بودلير وفلوبير وجيد ولورنس! وكأن هؤلاء لم يرزقوا البيان الناصع إلا لشذوذهم الوضيع وإسفافهم الشائن، في رأي جماعة من المحررين، وقد ساهم مع الزيات في إيجاد أدب خلقي رفيع صفوة من أصدقائه وحواربيه، وعلت في سماء الرسالة صيحات الرافعي وعزام والزيات وفريد وجدي والطنطاوي وخلاف وقطب وإضرابهم من حماة الفضيلة والأخلاق. ولا زلت أذكر أن الأستاذ الزيات قد كتب مقالا عن تاجر يحاول أن يتحلل من قيود الخلق والكرامة لينجح في تجارته، مدعيا أن الغش والنفاق هما طريق زملائه إلى الثراء. وما كاد الزيات يفضحه أمام القراء حتى انبرى عبد الوهاب عزام وأمين الخولي وعلي الطنطاوي والزيات مرة أخرى ينتصرون للفضيلة في مقالات حارة تهدي إلى طريق النجاح، وأنا - بكل صراحة - حين أعلل اندفاعي إلى جماعة الإخوان المسلمين أجد الرسالة ذات أثر غير مباشر في ذلك، فقد غرست في نفسي حب العروبة ونصرة الإسلام، وبغض الاحتلال، كما رسمت بأقلام كتابها صورا واضحة للمسلم الأبي الغيور، وقد وجدت أهداف الإخوان لا تخرج عن ذلك. بل أذكر أني حضرت ذات ليلة مجلس الأستاذ الزيات في ندوة الرسالة فسمعته يتحدث عن محاربة الاستعمار للشرق والإسلام بكل سلاح مدمر غير مشروع، ثم انتقلت عقب ذلك إلى مجلس المغفور له الأستاذ(966/46)
حسن البنا، فوجدت الحديث متصلا يندد بفضائح الاستعمار ومحاربة الإسلام!! وكأني لم أنتقل من مكان إلى مكان، فرحم الله المرشد الشهيد، وكتب للزيات عمرا فسيحا يسعد به الشرق والإسلام.
أرى أن الحديث عن الرسالة يذهب بي كل مذهب! حتى لأعجز أن ألم بأطرافه، فهو حديث الصبا والشباب والآمال، وحديث الخلق والعروبة والإسلام! ولو كنت معي الآن لحدثتك بما يزدحم في صدري من الخواطر عن الرسالة، ولكن القدر الذي جمعنا أثناء الدراسة في معهد واحد، وأجلسنا على مقعد واحد، قد باعد ما بيننا أثناء التدريس، فأصبحت أدعوك من مكان بعيد، راجياً لك السعادة والصفاء.
فهيهات العقيق! وكيف يدنو؟ ... وهيهات الغداة فتى العقيق.
(أبو تبج)
محمد رجب البيومي(966/47)
من وحي غزوة بدر
منطق السيف
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كان المسلمون يوم (بدر) قلة، وكانوا أذلة. . . ولكن الله نصرهم لأنهم أرادوا أن ينصروه فغلبت الفئة القليلة الفئة الكثيرة بعد صبر جميل، وجهاد طويل (والله مع الصابرين).
وكانت (بدر) أول غزوة انتصف فيها الإسلام من أعدائه (بالسيف)، الذي كان علاج الأمر، حين لا يغني الكلام عن الحسام، وحين لا يجزئ (البيان)، عن طعن (السنان). . .
يا غزوة خلدت في القرآن ... فضمنت خلدك في صدى الزمان
كانت على الإسلام بدء تحرر ... من ربقة الأصنام والأوثان
السيف فيها بالحقيقة ناطق ... والحق فيها ساطع البرهان
لا خير في حق إذا لم يحمه ... حلق الحديد وألسن النيران. .
من لم يصنه من العداوة سلمه ... صانته قوته من العدوان. . .
تلك العصائب من قريش لم تزل ... في الإثم غارقة وفي الطغيان
نفروا إلى حرب يضيق ببأسها ... صدر الكماة وأنفس الشجعان
الكفر يجمعهم على راياته ... والشرك يدفعهم إلى الميدان
لا الحق يجري في عروقهم. . ولا ... صوت الهدى ينصب في الآذان
ألقو أعنتهم إلى شيطانهم ... يا ويل من لجأوا إلى الشيطان
مهلا (أبا جهل) فإنك عائد ... بالخزي من مسعاك والخسران
هلا رجعت إلى مقالة (عتبة) ... وإلى النصيحة من (أبي سفيان)
أغرنك بالإسلام قلة أهله ... بين افتقار الصحب والأعوان
ماذا يضير المسلمين إذا غزوا ... في قلة موفورة الإيمان؟
إيمانكم بالله قوي بينكم ... لحم العرى وأواصر البنيان
كانت ملائكة السماء تعينكم ... وعدوكم بالله غير معان
يا قلة بالله كانت كثرة ... بشراكمو بنبوءة القرآن
الله ألقى الرعب بين عدوكم ... وأشاع فيه دلائل الخذلان(966/48)
فخذوا السيوف إلى الحتوف وابشروا ... بالنصر موعودا من الرحمن
من كان ناصره الإله فإنه ... هيهات يخذل من بني الإنسان
يا رافع الأركان بين جماعة ... كانت بلا أس ولا أركان
الله جارك قاذفا بكتيبة ... والله حسبك طاعنا بسنان
المسلمون على ضآلة جمعهم ... خذلوا لواء الإفك والبهتان
شاهت وجوه الشرك حين قذفتها ... بحصى، وزاغت أيما زوغان
لك في جهادك معجزات جمة ... يا معجز الآيات والتبيان
محمد عبد الغني حسن(966/49)
عيش العبيد
للأستاذ إبراهيم الوائلي
لا. . لا أريد ... عيش العبيد
الصاغرين الخاضعين لكل جبار عنيد
الراسفين فلا حراك لهم وقد صدى الحديد
التائهين مع الظلام فمن شريد أو طريد
النائمين على الطوى والذل والعسف الشديد
الساكتين عن الطغاة تدوسهم دوس الحصيد
الراكعين لكل من غنى له الزمن البليد
فإذا السياط على المتون مخضبات بالصديد
يلهو بها متنمر أقسى من القدر المبيد
من ذا يريد ... عيش العبيد؟
الحالمين يعللون النفس بالأمل البعيد!
بين الخرائب والصخور وبين أكوام الجريد
والسيد الطاغي نواكبه الحياة كما يريد
بين الكئوس المترعات وبين ألحان وغيد
مغف على النغم العذاب يحوطه نهد وجيد!
والقصر يحفل بالرياش من القديم إلى الجديد
أما العبيد فحسبهم في العيش أنهم عبيد
خلقوا ليشقوا في الحياة وينعم القصر المشيد
لا. . لا أطيق ... عيش الرقيق
الحائرين فمن طريق يركضون إلى طريق
بين المصانع والحقول وكل منحدر سحيق
فيد تدير النول يربطها به الخيط الدقيق
ويد مع المحراث باتت وهي في عهد وثيق(966/50)
ولمن تراهم يكدحون وعيشهم نكد وضيق!
ألكل سكير يعب كما يشاء ولا يفيق؟
أم للصدور الناعمات يشع منهن البريق؟
أم للبطون ترهلت فإذا التجشؤ كالنهيق
من ذا يطيق ... عيش الرقيق؟
عيش الحفاة الجائعين فلا مغيث ولا شفيق
الكادحون فمن مضيق يدفعون إلى مضيق
هم يغرسون وللعتاة الزرع والشجر الوريق
ودماؤهم. . إن الدماء لكل غانية رحيق
وقلوبهم. . قطع تذوب على البنفسج والشقيق
ما للعبيد سوى الشقاء لينعم الحر الطليق
أمل يذوب مع الضباب كأنه أمل الغريق
أن يحطم القيد المجلجل ميت لا يستفيق
العراق
إبراهيم الوائلي(966/51)
آيات من الفن الإسلامي
للدكتور أحمد موسى
ظهر في جزيرة العرب في مشارق الأرض ومغاربها بفضلهم، وقامت الإمبراطورية الإسلامية بجهودهم وحسن بلائهم، ولذلك فأن الفن الذي انتشر في تلك الإمبراطورية كان له شأنه الخاص في كل بلد ظهر فيه.
فلم يكن شرقيا ولا مغربيا، كما أنه لم يكن إيرانيا صرفا ولا تركيا خالصا ولا هنديا بقسط، وعلى ذلك نجد أن الفن الإسلامي فن ظهر في العصر الإسلامي في كل هذه الأرجاء حاملا طابع البلاد التي انتسب إليها.
وكان لتسامح العرب وحسن استعدادهم وإقبالهم على استخدام الفنانين ورجال الصناعات الفنية في البلاد التي فتحوها فضل عظيم على ازدهار الفن، فوجد في مصر والشام أساليب مسيحية شرقية، وفي العراق وإيران أساليبهما المتقاربة، فكأن الفن الإٌسلامي مزيج من هذا كله نشأ عن التقاء الفنون المسيحية الشرقية، والإغريقية والهندية. امتزجت كلها امتزاجا عجيبا أخرج لنا منها تراثا عظيما خالدا، هو تراث الفنون الإسلامية.
ولا غرابة إذن أن نجد الفن الإسلامي أكثر فنون الأرض انتشارا بالقياس إلى المساحات الشاسعة التي شغلتها الإمبراطورية الإسلامية من الهند شرقا إلى الأندلس غربا، ومن القوقاز وصقلية شمالا إلى بلاد اليمن جنوبا، وأطولها عمرا بالقياس إلى الفنون الأخرى فيما عدا الفن المصري القديم والفن الصيني.
وقد بدأ الفن الإسلامي في الظهور منذ القرن الأول الهجري وأخذ ينمو رويدا رويدا حتى بلغ النضوج في القرن الرابع عشر الميلادي.
ويعنينا هنا أن نلم ببعض آياته الخالدة على الزمن قبل أن يتأثر المسلمون بالفنون الغربية، ويقبلون على تقليدها.
وبالنظر إلى اتساع الإمبراطورية الإسلامية، فانه كانت لهم فنون سميت بأسماء البلاد التي نشأت فيها كما سبق القول، كما اختلفت طرزه بالنظر إلى طول الزمن الذي استغرقه هذا الفن.
وقد بقيت الحرف والصناعات الفنية ردحا من الزمن بعد الفتح الإسلامي في أيدي أهل(966/52)
الصنعة في البلاد المفتوحة مما جعل الأساليب المحلية متصلة الحلقات في كل إقليم مع علائم التجديد التي تطلبها الوضع الجديد للبلاد، أو مع ما يتفق وما أحضره العرب من الأقاليم الأخرى الخاضعة لإمبراطوريتهم.
ومن هنا تجد اتفاق الفنون الإسلامية في الغاية، وتشابهها في مجملها وإن اختلفت في أجزاء تكوينها اختلافا قد يصعب إدراكه على غير المتخصصين.
وقد تطورت الفنون الإسلامية بتطور العصور وتأثرت بالأحداث الاجتماعية والسياسية شأنها في ذلك شأن كل الفنون.
ولعل العمارة الإسلامية من أبرز الفنون تأييدا لما نقول، ذلك لأن فن البناء أكثر الفنون تعبيرا عن الإقليم الذي ينشأ فيه، فهو خاضع للموقع الجغرافي متأثر بالوسط الجيولوجي إلى جانب الحالة الجوية والمدنية، هذا عدا ما يبدو في تفصيل العمائر من اختلاف الأعمدة وتيجانها وعقودها ومآدبها وقبابها وزخارفها فضلا عن تغطية جدرانها بوسائل مختلفة، على حين نجد أن تبادل الأنماط والأساليب أكثر يسرا وأسهل نقلا من الأعمال الفنية الأخرى كالمنتجات الصناعية التي انتقلت من إقليم إلى آخر على يد التجار الذين جابوا الإمبراطورية شرقا وغربا.
بدأ الفن الإسلامي في عصر الخلفاء الراشدين بسيطا بعيدا عن المعنى المصطلح عليه في عصرنا الحاضر، ولم يكن هذا غريبا ما دام المسلمون وقتئذ كانوا متفرغين للجهاد والفتح للجهاد والفتح والعمل على نشر الدين.
ثم تطور الحال بالفتوحات الإسلامية، فرأينا المساجد الشاهقة والقصور الفاخرة والفنون الصغرى تظهر تباعا نتيجة الاتصال بالأمم ذات الحضارات القديمة ومعاينة آثارها وما فيها من جمال الفن، فضلا عن صادق رغبتهم في ألا يظهر المسلمون فقراء في عمائرهم بسطاء في مظهرهم وهم سادة البلاد.
وظهرت الطرز حاملة أسم الدولة الحاكمة فظهر الطراز الأموي والطراز العباسي والفاطمي وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره تفصيلا.
وتشتمل الفنون الإسلامية عدا العمارة فنونا أخرى لا تقل خطرا فالنحت المعماري وإن يكن تابعا للعمارة إلا أنه لعب دورا له قيمته كعمل فني مستقل، وجاء الحفر في الخشب وأشغال(966/53)
العاج والعظم والتحف المعدنية والزجاج والبلور والأشغال الخزفية والمنسوجات والسجاد وهذه كلها لها قيمتها الفنية العظيمة.
ثم هناك فن مستقل آخر هو فن التصوير في الكتب ويدخل ضمنه فن التذهيب والخط والزخارف الكتابية التي تتصل كثيرا بالزخارف الهندسية المعمارية والزخارف البنائية.
ونحن إذ نقدم بعض النماذج لآيات الفن الإسلامي نرجو أن يلمس القارئ ناحية من نواحي الحضارة الإسلامية العظيمة جديرة بالعناية والدرس.
أحمد موسى(966/54)
من قراء كتاب الله
الشاطبي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
المدرس بكلية دار العلوم
هو القاسم بن فيره بن خلف الرعيني الشاطبي، ولد في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة بشاطبة إحدى بلاد الأندلس، فاقد البصر، فحفظ ببدلته القرآن، وقرأ بها القراءات وأتقنها، ثم رحل إلى بلنسية بالقرب من بلده، حيث عرض ما درسه من القراءات على بعض أساتذتها، وأعاد درس كتاب التيسير للداني، ودرس الحديث والنحو والأدب والفقه والتفسير، فقرأ الكتاب لسيبويه، والكامل للمبرد، وأدب الكاتب لأبن قتيبة. وربما قرأ بها كتاب الظمآن في تفسير القرآن، على مؤلفه أبي الحسن بن النعمة، كما روى تفسير عبد الحق بن عطية. وقد أوتى استعدادا خاصا، منحه النبوغ في كل مادة درسها. وكان قوي الحافظة، فكان عالما بكتاب الله قراءة وتفسيرا، مبرزا في حديث رسول الله، إذا قرئ عليه البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه، ويملي آمالي على الموطأ في المواضع المحتاج إليها، إماما في النحو واللغة ورواية الأدب، إلا أن السليقة الأدبية كانت تنقضه، فجاء شعره معقدا صعبا، تنقصه حرارة العاطفة وروح الفن، ومن ذلك قوله:
يلومونني إذ ما وجدت ملائما ... ومالي سليم حين سمت الأكارما
وقالوا: تعلم، للعلوم نفاقها ... بسحر نفاق تستخف العزائما
وهي قصيدة طويلة. وله:
بكى الناس قبلي، لا كمثل مصائبي ... بدمع مطيع كالسحاب الصوائب
وكنا جميعا ثم شتت شملنا ... تفرق أهواء عراض المواكب
ولكن ذلك لا ينقص من قدره عالما كبيرا.
ويقول أبن خلكان وصاحب نفح الطيب: إنه قد خطب ببلده مع صغر سنه. أما أبو شامة في ذيل الروضتين فيروى أن سبب انتقاله إلى مصر أنه أريد أن يتولى الخطابة ببلده فاحتج بأنه قد وجب عليه الحج وأنه عازم عليه، فتركها ولم يرجع إليها، تورءا مما كان(966/55)
الأمراء يلزمون به الخطباء من ذكرهم على المنابر بأوصاف لم يرها سائغة شرعا. وربما يكون قد أقيم في الخطابة، ثم فر منها. وترك الأندلس سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، يريد الحج، فدخل مصر في ذلك العام. ولست أدري لإن كان قد أتم فريضة الحج أو لم يتمها، وألقى عصا التسيار في مصر عندما جاء إليها مستوفيا حظه من الثقافة التي تتصل بالقرآن، ولكنه رأى أن يستكمل دراسته للحديث، فسمع بالإسكندرية الحافظ السلفي. ثم جاء إلى القاهرة تسبقه إليها شهرته، فطلبه القاضي الفاضل للإقراء بمدرسته، فأجاب بعد شروط اشترطها عليه، على ما كان فيه من الفقر. ولست ادري عن هذه الشروط شيئا، ولكن القاضي الفاضل، فضلا عن قبول هذه الشروط، أنزله على الرحب والسعة، وعظمه تعظيما كبيرا وجعله شيخ مدرسته. وظل الشاطي بهذه المدرسة متصدرا لإفراد القرآن الكريم وقراءته، والنحو واللغة، ولم يفارق القاهرة سوى مرة واحدة، زار فيها بيت المقدس، فصام هناك رمضان، واعتكف سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وهنأ صلاح الدين بفتحه، ثم عاد إلى مدرسته التي انتهى إليه فيها رياسة الإقراء، وكان يعرف مذهب الشافعي ومالك ولذا نراه في طبقات الشافعية والمالكية؛ فضلا عن أن شروط مدرس الفاضلية أن يكون ملما بالمذهبين؛ وثابر على الإفراد بمدرسته، فكان يصلي فيها الصبح بغلس، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السرى إليه ليلا. وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: من جاء أولا فليقرأ. وظل خادما للقرآن الكريم حتى توفى يوم الأحد بعد صلاة عصر اليوم الثامن والعشرين من جمادي الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة القاضي الفاضل، وخلف ابنا هو محمد الذي روى قصيدة أبيه في القراءات.
أما مواهب هذا الرجل وأخلاقه فقد أكبرها معاصروه ومؤرخوه. قالوا: كان أعجوبة في الذكاء، يجلس إليه من لا يعرفه فلا يرتاب به أنه يبصر لذكائه، وأنه لا يبدو منه ما يدل على العمى. زاهدا عابدا، مخلصا فيما يقول ويفعل، منقطعا للعلم والعمل، يتجنب فضول الكلام، ولا ينطق إلا بما تدعو إليه الضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة، وخشوع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكى ولا يتأوه. وما كان يرى التقرب إلى الأمراء، ولا النفاق والزلفي إليهم. حكي أن الأمير عز الدين موسك، الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له، بعث إلى الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده، فأمر الشيخ(966/56)
بعض أصحابه أن يكتب إليه:
قال للأمير نصيحة: ... لا يركنن إلى فقيه
إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه
وكان من تلاميذه طائفة من المبرزين، نذكر منهم أبا الحسن السخاوي، وهو أجل أصحابه، وابن الحاجب وغيرهما، وقد بارك الله في أصحابه، فكلهم قد أنجب، وكلهم كان يضمر لأستاذ أسمى آيات الحب والإجلال، حتى أنشد أبو شامة المقدسي من نظمه في ذلك:
رأيت جماعة فضلا فازوا ... برؤية شيخ مصر الشاطبي
وكلهم يعظمه ويثني ... كتعظيم الصحابة للنبي
وترك لنا القاسم أربع قصائد، عرفت الأولى بالشاطبية، وأسمها حرز الأماني ووجه التهاني. والثانية رائية، والثالثة رالية. والرابعة تدعى: تتمة الحرز من قراءة أتمة الكنز.
أما الأولى فأشهر ما خلف، وعدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا. قال عنها ابن خلكان: لقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقل من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنه سبق إلى أسلوبها. أما ابن الجزري المتوفى سنة 833هـ فيقول: ومن وقف على قصيدتي علم مقدار ما آتاه الله في ذلك خصوصا اللامية (الشاطبية) التي عجز البلغاء من بعده عن معارضتها، فإنه لا يعرف مقدارها إلا من نظم على منوالها أو قابل بينها وبين ما نظم على طريقها. ولقد رزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن، بل أكاد أن أقول، ولا في غير هذا الفن، فإنني لا أحسب أن بلدا من بلاد الإسلامية يخلو منه، بل لا أظن أن بيت طالب عم يخلو من نسخة به. ولقد تنافس الناس فيه، ورغبوا في اقتناء النسخ الصحاح منه حتى أنه كانت عندي نسخة اللامية والرائية بخط الحجيج صاحب السخاوي مجلدة، فأعطيت بوزنها فضة، فلم أقبل. ولقد بالغ الناس في التغالي فيها، وأخذ أقوالها مسلما، واعتبار ألفاظها منطوقا ومفهوما، حتى خرجوا بذلك أن تكون لغير معصوم، وتجاوز بعض الحد فزعم أن ما فيها هو القراءات السبع، وإنما عدا ذلك شاذ، لا تجوز القراءة به، وقال بعضهم يصف الشاطبية:
جلا الرعيني علينا ضحى ... عروسه البكر، ويا ما جلا(966/57)
لو رامها مبتكر غيره ... قالت قوافيها له الكل: لا
ولقيت هذه القصيدة عناية كبرى من الشراح الذين حلوا رموزها، ووضحوا مراميها. وأول من شرحها تلميذه أبو الحسن السخاوي المتوفى سنة 643هـ، وقد قرأ القصيدة على أستاذه، وسمي شرحه: فتح الوصيد، في شرح القصيد. وشرحها أبو شامة المقدسي المتوفى سنة 656هشرحا سماه إبراز المعاني. قال في كشف الظنون، وهو تأليف متوسط لا بأس به، ثم أختصره في كتاب سماه إحراز المعاني (بدار الكتب رقم 34 قراءات) وشرحها غير هذين الرجلين شروحا كثيرة تجدها في كشف الظنون، أفضلها وأدقها شرح برهان الدين الجمبري المتوفى سنة 732هـ، وأسمه كنز المعاني (بدار الكتب برقم 149 قراءات).
وقام باختصار هذه القصيدة جمال الدين بن مالك النحوي المتوفى سنة 672هـ في قصيدة سماها: حوز المعاني في اختصار حرز الأماني؛ والمختصرة من بحر الشاطبية وقافيتها. كما قام بإكمالها أحمد بن علي المحلى الضرير شيخ القراء بالقاهرة المتوفى سنة 672هـ وكان الشاطبي نفسه قد أتمها من قبل في قصيدة سماها تتمة الحزر من قراء أئمة الكنز، وهي في رواة القراءات السبعة.
وقد ساعد الشاطبي في رموزه وإشاراته ذهن يحب الإلغاز ويميل إليه، قالوا: إنه كان كثيرا ما ينشد هذا اللغز، وهو للخطيب الحصكفي في نعش الموتى:
أتعرف شيئا في السماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حيث يسير
فتلقاه مركوبا، وتلقاه راكبا ... وكل أمير يعتليه أسير
يحض على التقوى، ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير
ولم يستزر عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور
وقد ألف الشاطبي قصيدته حرز الأماني بالقاهرة، وعرفنا أن مصدرها كتب أبي عمرو الداني التي درسها القاسم بن فيره. أما الرموز والإشارات التي بها فمن بنات أفكاره.
ونظم في القاهرة أيضا قصيدته الراثية في فن الرسم، وهي نظم لكتاب آخر في هذا الفن لأبي عمرو الداني، قال ابن خلدون: وربما أضيف إلى فن الرسم أيضا، وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية لأن فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط، كزيادة الياء في (بأبيد)، وزيادة الألف في (لا أذبحه) و (لا(966/58)
أوضعوا) والواو في (جزاء الظالمين) وحذف الألفات في مواضع دون أخرى، وما رسم فيه من التاءات ممدودا، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء، وغير ذلك. فلما جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخط وقانونه احتيج إلى حصرها، فكتب الناس فيها أيضا، وانتهت بالمغرب إلى أبي عمرو الداني، فكتب فيها كتبا من أشهرها كتاب المقنع، واخذ به الناس، وعولوا عليه، ونظمه القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روى الراء، وولع الناس بحفظها، وسمى الشاطبي قصيدته الرائية: عقيلة أتراب القصائد، في أسنى المقاصد (بدار الكتب رقم ب 21446) وشرحها كذلك شارح حرز الأماني إبرا الجمبري وغيره.
أما القصيدة الرابعة فدالية تبلغ خمسمائة بيت، أحاطت في كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ عبد البر، وضعه في الفقه الحديث.
وللشاطبي كذلك كتاب الاعتصام وهو في الفقه على ما يبدو مما نقله عنه الأستاذ محمد كرد علي في كتابه: الإسلام والحضارة العربية (جـ2 ص 33)، ومنظومة رائية في بيان المدني والمكي من الآيات والسور، عدد أبياتها مائتان وسبعة وتسعون بيتا. (بدار الكتب رقم ب 22535).
وبعد فإنه لا يضير الشاطبي أنه استقى مؤلفاته من كتب غيره، فإنه انفرد ينظمها، ووضع رموزها وإشاراتها، وتقريب العلم بها لطلبة العلم وحفاظه، وقد أصبحت كتبه ملاذ طلاب هذه الفنون، أكثر من الأصول التي أخذت عنها.
أحمد أحمد بدوي(966/59)
حاجة الإسلام إلى زعيم
للدكتور محمد يوسف موسى
الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول
نعم! الإسلام بحاجة اليوم إلى زعيم يلم شعثه، ويجمع متفرقه، ويوجهه نحو الخير، ويجعله حقا قوة من قوى العالم الحي الذي يسير قدما إلى الأمام، ويسهم بذلك في سعادة البشرية
في الإسلام، باعتباره دينا له عقائده وتشاريعه ومثله العليا، قوة مذخورة لا بد من الإفادة منها في قيادة العالم، وكل ما علينا هو أن نستخلصها منه. وفي الأمم الإسلامية، إن وجدت الزعيم الموجه القادر المخلص، قوى مادية ومعنوية لا غناء عنها للبشرية. هذا كله يدهى لا يحتاج إلى بيان، وهذا كله يحسه كل منا ويملأ به فمه حين يتحدث إلى أخيه في الدين أو الوطن.
لو لم يكن العالم في ماضيه وحاضرة ومستقبله بحاجة إلى الإسلام، ما اتصلت السماء بالأرض لتوحي به وبرسالته، فإن هذا الاتصال، وهو خرق لقوانين الطبيعة، لا يكون إلا حين تدعو الحاجة الملحة والضرورة المطلقة. وكذلك كان الأمر حين نزل وحي السماء بدين جديد يوائم الإنسانية وقد بلغت رشدها، بعد أن استنفدت كل من اليهودية فالمسيحية أغراضها، ويوائم أيضا الإنسانية في جميع ما تمر به من مراحل وأزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولكن هذا الدين على حاجة العالم له، ومع قيام نهضة أوربا على كثير مما جاء به ومما خلد على الزمن من تفكير أعلامه، صار الآن مهملا من أصحابه، وصارت دولة نهب الطامعين، وصاروا لا شأن لهم في كثير من أمورهم يله أمور العالم عامة! لماذا؟ لأن الأمة الإسلامية لا تجد منذ زمن طويل الزعيم المؤمن حقا بإسلامه ورسالته، فيأخذ بيدها إلى الأمام لتقتعد مقاعد العز والمجد بين المم المختلفة.
نحن لا نشكو القلة في العلماء والمفكرين؛ فعندنا بحمد الله علماء مبرزون في التشريع، والتاريخ، والآداب، والفنون، وعندنا كذلك كتاب مشاهير، وخطباء مصاقع، وأطباء نطاسيون، ومهندسون بارعون، ودهاقنة في أمور المال والاقتصاد، إلى أمثال هؤلاء وأولئك ممن يقوم عليهم بناء الأمة ولا تستغني عنهم الدولة.(966/60)
ولكن، مع هذا كله، نرى البلاد الإسلامية لا تسير على الجادة المستقيمة، ولا تكاد تسير برأيها الخاص وفق تقاليدها الخاصة في موكب العالم. ذلك، ونكررها مرة أخرى بأن العالم الإسلامي فقد منذ زمن طويل (الزعيم) المؤمن بدينه وشريعته، الفاهم برسالته، المخلص لدينه ولقوميته؛ الزعيم الذي يجعل همه من حياته بيان طريق الخير وحمل أمته عليه، والأخذ بيدها لنسير فيه، سر ذلك الغرب أو ساءه.
نحن بحاجة إلى زعيم يفكر في غاية التي يجب أن نصل إليه، ويقدر الوسائل التي يجب أصطناعها، ولو طلب في هذا السبيل نظم التعليم مثلا رأسا على عقب لتستطيع المدرسة خلق الشباب المسلم، ويعمل على حمل قومه على الإسلام الصحيح عقيدتا وقولا وعملا قبل محاولة حمل الآخرين عليه.
أن نظام التعليم الحديث، في الزهر والجامعة على السواء، قد فشل في أداء رسالته، وهي تخريج جيل يحسن الإفادة بما تلقن من علم وحاز من ثقافة صالحة، جامعا إلى هذا الاعتزاز بدينه وقوميته ووطنه وضميره وكرامته. أن هذا النظام قد أخرج، ولا يزال، لنا من الشباب من يقول ولا يفعل، ويدعي ولا يحقق، ويتمنى ولا يريد، أو يريد ولا يصمم على بلوغ ما يريد، ومن يعرف الدين دون أن يخالط الإيمان الحق قلبه فينزل دائما عليه في حكمه، ومن يعتز بأوربا ويفتتن بكل ما رأى فيها دون تفرقة بين الحق والباطل والنافع والضار!
إن ممن تخرجوا على نظام هذا التعليم - حتى من الأوربيين - يفهم كيف تسخر الكهرباء والبخار وسائر قوى الطبيعة، للطيران في الهواء والسباحة في الماء ولكنه مع هذا كله لا يحسن أن يمشي على الأرض!
ونظام هذا قصاراه، وتلك نتائجه، يجب التغيير منه، أن لم نقل تغييره كله من أساسه، ليقوم على أسس جديدة تجعله يخلق الشاب المؤمن الكامل في طباعه وخلقه، الفاهم حقا لرسالته التي تجمع بين عز الدنيا وسعادة الآخرة. نحن بحاجة إلى زعيم يعتقد مع شاعر الإسلام السيد (محمد إقبال) أن مقام المسلم في هذا العالم مقام كبير خطير؛ مقام الإمامة والتوجيه، لا مقام التقليد والاتباع، فأنه لم يخلق ليندفع مع التيار، ويساير الركب البشري حيث يتجه ويسير؛ بل خلق ليوجه المجتمع البشري والعالم والمدنية، ويفرض على البشرية اتجاهه(966/61)
ويملي عليها إرادته، لأنه صاحب الرسالة والعلم اليقين، ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهاته. أن هذا المسلم ليس له، إذا تنكر له الزمان وعصاه المجتمع وانحرف عن الجادة، أن يستسلم ويخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر، بل عليه أن يثور عليه وينازله ويظل في صراع معه حتى يقضي الله في أمره. وما أحسن ما يقول السيد (محمد إقبال) حرفيا، متمثلا في هذا المقام: (سألني ربي هل ناسبك هذا العصر وأنسجم مع عقيلتك ورسالتك؟ قلت: لا، يا ربي! قال: فحطمه ولا تبالي!).
نريد زعيما يرى أيضا مع شاعر الإسلام أن الخضوع للأحوال القاسرة والأوضاع القاهرة، والأعتذار بالقضاء والقدر، من شأن الضعفاء والأقزام؛ أما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد. وفي ذلك يقول (إقبال) حرفيا: (إذا أحسن المؤمن تربية شخصيته، وعرف قيمة نفسه، لم يقع في العالم إلا ما يرضاه ويحبه)
نريد زعيما يرى، مع هذا كله، أن الدنيا لا قيمة لها، لا يهمه منها إلا ما يعينه على أداء رسالته. كما يوقن أن من تعدهم كبراء وعظماء ليسوا من ذلك في شيء إذا وزناهم بالميزان الصحيح، وأن هذا الميزان هو مقدار ما يقدمونه للدين والوطن والإنسانية من خير، وإن الإسلام لا يعرف احترام الرجل لنسبه أو جاهه أو ماله فحسب.
ولكن، من لنا بهذا الزعيم وقد أكثرنا من تعداد خصائصه؟ أنه لم يكن صاحب رسالة إلا وقد صنعه الله على عينه وأعده لأداء رسالته، وقد ختم الله رسالاته وسله؛ ولكنه ترك لنا بعد هذا ما أن تركناه لم نضل، وهو القرآن العظيم والخير - كما يقول الرسول الأعظم - لا يزال في أمته إلى أخر الدهر، فلماذا لا نلتمس هذا الزعيم التماسا في البيئات الصالحة لإثباته وأعداده وهي البيئة الدينية؟
أن الناس لا يزالون بحمد الله ينقادون بعامل الدين وأسمه، أكثر من أي عامل أخر، لأن الإنسان متدين بطبعه كما يقولون، ولنا في (آية الله كاشاني) على ما نقول أي دليل!
أن لنا إذا أن ننتظر ظهور هذا (الزعيم) من البيئة الدينية الوحيدة عندنا وهي الأزهر، لو أحسن القائمون على الأزهر اكتشاف العناصر الصالحة من أبنائه، وأحسنوا بعد هذا القيام عليهم؛ ليكون منهم فيما بعد الدعاة الأقوياء للدين ورسالته، لا يعيشون إلا لهذا الهم الكبير؛ وليكونوا رجالا يسمع لهم حين يتكلمون وقادة نلتف حولهم حين يتحركون والله هو(966/62)
المستعان، الموفق للصراط المستقيم.
محمد يوسف موسى
أستاذ بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول(966/63)
من دموع اللاجئين
للأستاذ محمد حسن إسماعيل
(إلى تلك الفضيحة الإنسانية التي سيخلد عارها. غدر الساسة.
. ولؤم الحضارة. ووحشية الإنسان!)
أخي. . قد مزقت ريح الدجى بيتي وأيامي
وساقتني على الأرض بهذا الهيكل الدامي
وهذا الشبح المطرود في هذا الأسى الطامي
ينادي. . . أين ملك الله تخبط فيه إقدامي؟
وأين الأرض تحملني، وتدفن بعض آلامي؟
وبعض خطاي في هذا الدجى المتفجر إلهامي. .
هنا في كهوة الأقدار بين السيل والويل
وبين عواء شيطان طريد الجن مختل
يقعقع للرعود السود مأخوذا من الهول
سمعت فحيح ثعبان على رئتي منسل
تدفق جسمه المقرور بين حفائر السل
وبين شتاء بستان بدفء الموت مخضل. .
هنا في خيمة البهتان والطغيان والزور. .
لدي مأوى كلحد الميت، في النسيان محفور
رٌميت كدعوة وقفت على درب المقادير
يصب التيه في خلدى خطا الظلمات في النور
فأشرب حيرتي وبكائي من كف الأعاصير
وأذرف أدمعي الخرساء في صمت الدياجير. .
أخي. . قد غال ذئب الجوع أطفالي مع الفجر
وبعثرهم جنون السيل بين مداخل الصخر(966/64)
فلا أدري لهم شجنا على نعش ولا قبر
كما كانوا هنا. . عادوا، بلا سكنا ولا عمر
ظللت أنوح. . يا رباه! بعض نداك للجمر. .
فجاء الموت يغفر فاه للظلمات والقفر!
أخي. . في عزلة حمراء بين ستار الحان
وتحت جناح مصباح بغى الضوء نشوان
سمعت صداك من قدح إلى الشهوات ظمآن
تدور به على جسد بسحر العار ريان. .
وحولك أمة سكرى على رشفات الطغيان
يدور بها على فلك شقي الخطو حيران. .
ضباب الذل غشانا وصوت العار أحزانا
ولم يترك لنا الطاغون شيئا فوق دنيانا
أذاقونا عذاب التيه، والتشريد ألوانا
إذا صحنا من الجوع أكلنا القوت حرمانا
وإن نحنا من العرى لبسنا الموت أكفانا
وإن رمنا ندى الناس وجدنا الناس ذؤبانا. . .
سلوهم. . واسألوا ما شئتم الإسلام، والعرب. .
وكيف على تراب الذل لم يتمزقوا غضبا!
وكيف غدت (فلسطين) بهم تتجرع النوبا
تنوح على سياستهم وتشكو القيد واللهبا
وهم لمذبح الشهوات ساقوا اللهب واللعبا. .
وقالوا: الشرق! قلت: صحا على أفواهكم كذبا. .
محمود حسن إسماعيل(966/65)
الكتلة الإسلامية والسلام العالمي
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
تحتل البلاد الإسلامية بقعة كبيرة من سطح الكرة الرضية فهي تمتد من بلاد الصين شرقا إلى المحيط الأطلنطي غربا وتضم بين دفتيها، الباكستان وأفغانستان وإيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن والمملكة السعودية العربية واليمن وعدن وعمان والكويت والبحرين - ولنخرج من حسابنا تركيا لأنها قد أخرجت نفسها من مجموعة الشعوب الإسلامية وآثرت الانضمام إلى الدول الغربية - ويضاف إلى هذه المجموعة السابقة من الدول الآسيوية أندنوسيا.
هذا في أسيا أما في أفريقيا فتوجد مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر ومراكش وبلاد الصومال.
وسكان العالم الإسلامي يزيد تعدادهم على أربعمائة مليون من الأنفس وهو عدد يزيد على عدد سكان القارة الأوربية بأسرها وهو عدد له خطره وقيمته.
وفي العصر الحاضر أنقسم العالم إلى كتلتين: إحداهما شرقية تتزعمها روسيا وتدين بالشيوعية، والأخرى غربية وتتزعمها إنجلترا وأمريكا وفرنسا وتدين بالديمقراطية والاشتراكية. وبين النقطتين نزاع ونضال. صحيح أنه في سنة 1941 أي في خلال الحرب العالمية الثانية اتفقت الكتلتان فتحالفتا للقضاء على عدوتهما المشتركة ألمانيا، فلما قضى الأمر وانتهت الحرب بانتصارهما أعتقد الناس أن العالم سينعم بفترة من السلام عقب هذه الحرب الضروس، ولكن خاب أملهم، فسرعان ما شب النضال وقامت الحرب بين حلفاء الأمس، ويتجلى هذا النزاع واضحا جليا في الخلافات المستمرة بين روسيا وبين إنجلترا وأمريكا في هيئة الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن وكذلك في الحرب القائمة في كوريا.
ولعلك تسألني ما سر هذا النزاع وهذا النضال بين الكتلتين وما سببه؟ وأنا أجيبك في صراحة أن كلا من الكتلتين تبغي السيادة على العالم. وهذا يدفعنا على أن نبحث موقف العالم الإسلامي إزاء الكتلتين، والسياسة التي يجب أن تسير عليها شعوبه، ولكن يجدر بنا قبل ذلك أن نحاول معرفة سياسة الكتلتين إزاء الشرق الأوسط، أو الوطن الإسلامي.(966/66)
أن كلا من الكتلتين تبغي السيادة على العالم الإسلامي وأكثر من هذا أن دول الكتلة الغربية تسيطر فعلا على الدول الإسلامية: ففرنسا تحتل تونس والجزائر ومراكش، وتسوم أهلها الخسف والعذاب. وبلغ من ظلم فرنسا وقسوتها في الجزائر أن حرمت تدريس اللغة العربية والدين بمدارسها، بل زادت فانتهكت الأعراض، وحاولت خلق أمة جديدة تختلط فيها الأنساب وتضيع الجنسيات، ولكن طاش سهمها وخاب رجاؤها.
وقد حاولت مصر فتح فاروق الأول للدراسات الإسلامية بمدينة الجزائر، ولكن فرنسا لم توافق. وقد رد على ذلك معالي الوزير الحر والأديب العالم الدكتور طه حسين باشا فأمر بوقف نشاط الهيئات العلمية والأثرية الفرنسية في مصر، وهو عمل نحمده لهذا الوزير الخطير.
وتحتل إنجلترا ليبيا، وبرغم أن استقلال ليبيا قد أعلن فإن إنجلتراوأمريكا وفرنسا تحاول أن تبقي قوات احتلالها في ليبيا إلى ما لا نهاية.
وفي مصر والسودان ترفض إنجلترا الجلاء وتقف حائلا أمام وحدة مصر والسودان، وهي وحدة تبررها العوامل الدينية واللغوية والجغرافية والتاريخية والاقتصادية، ولا غرابة في هذا فأن إنجلترا التي تسمى بالوقيعة لإفساد اتحاد أبناء البيت الواحد، لا تتعفف عن الواقعية بين أبناء الشمال وأبناء الجنوب من سكان وادي النيل.
وإن إنجلترا وأمريكا هما الدولتين اللتين ارتكبتا أبشع جريمة في القرن العشرين، إذ مكنتا لإسرائيل أن تقوم وسط العالم العربي لتهدد أمنه وسلامته. وفي سبيل ذلك شردت الدولتان مليونا من العرب، وأخرجتاهم من ديارهم وأوطانهم، وألقي بهم في العراء في البادية قفر حيث كتب عليهم أن يقيموا ليكونوا شاهدا على ظلم الإنسان للإنسان، ودليلا على أن الأمة التي تتهاون في شأنها ستلقي نفس المصير ونفس الهوان. ولكن ليعلم الناس جميعا أن الأمة الإسلامية لن يهدأ لها بال حتى يرد العرب إلى أوطانهم.
وتحتل إنجلترا شرق الأردن وعدن وعدة سلطنات على البحر العربي، وبينها وبين سلطنة عمان وإمارة البحرين وإمارة الكويت معاهدات تحالف!
وبين إنجلترا والعراق معاهدة تبيح لإنجلترا أن تنزل قواتها في أرض العراق إذا تعرض العراق لخطر أجنبي، وهذا الخطر لن يأتي إلا من جانب روسيا.(966/67)
وكانت إنجلترا إلى وقت قريب تسيطر على البترول الإيراني وتجني من ذلك أرباحا طائلة بلغت قيمتها 1950 115 مليونا من الجنيهات، ولكن إيران أممت بترولها وطردت الإنجليز من بلادها، ومع هذا فلم تسكت إنجلترا بل عمدت إلى شن حرب اقتصادية على إيران.
والباكستان تدخل في نطاق الكومنولت أو مجموعة الشعوب البريطانية وهي بهذا الوضع مرتبطة بالسياسة البريطانية الخارجية والاقتصادية.
وقد ألقت أمريكا أخيرا بدلوها في الدلاء، والاستعمار الأمريكي استعمار اقتصادي؛ ولاستعمار الاقتصادي من أشد أنواع الاستعمار فتكا بالشعوب. وهي لهذا تحاول أن تسيطر اقتصاديا على شعوب الشرق الأوسط. وقد أخذت من الحكومة العربية السعودية امتيازا باستخراج البترول من المنطقة الظهران الواقعة على الخليج الفارسي.
وهكذا نرى أن الدول الغربية تسيطر فعلا على العالم الإسلامي رغم كثرة عدد سكانه ورغم رخائه وكثرة موارده، تدعى دول الكتلة الغربية أنها لا تريد بدول الشرق الأوسط شرا وتبرر احتلالها لكثير من بقاعه بأنها تحميه من خطر الروسي. وتذهب إنجلترا في تبرير احتلالها لمنطقة قنال السويس إلى أن مصر قلب العالم الإسلامي وأنها ستكون هدفا للغزو الروسي
هذا هو موقف دول الكتلة الغربية من العالم الإسلامي. أما روسيا فأنها تحاول السيطرة على العالم وهي لهذا تحاول أن تزلزل الأرض تحت أقدام الكتلة الغربية وتعمد إلى إقامة روابط الود مع دول الشرق الأوسط. وتفزع الدول الغربية وتشفق على دول العالم الإسلامي من الوقوع في برائن الشيوعية وهي إنما تخاف على نفسها وتشفق على سيادتها.
وهنا يجب علينا أن نوضح حقيقة موقف الكتلة الإسلامية إزاء الكتلتين. لقد ضاق العالم العربي ذرعا بسيادة الدول الغربية عليه وهو لا يريد منها إلا أن تذهب غير مأسوف عليها وأن تتركه حرا وهي سترغم على ذلك إرغاما بالطرق السلمية إن أمكن وبالكفاح والجلاء إن لم تجد الطرق السليمة.
أما روسيا فليست خطرا على العالم الإسلامي لا، هذا العالم غني بمبادئه عن المبادئ روسيا الشيوعية، وقد كفل له الإسلام سلامته وسعادته.(966/68)
فالإسلام يأمر المسلمين بأداء زكاة أموالهم وردها على فقرائهم (خذ من أموالهم صدقة تزكيهم وتطهرهم بها) (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)
وأني أحب أن أضرب لناس المثل الآتي ليتبينوا أن الشيوعية ليست خطرا مطلقا على المسلمين.
كلنا يعلم أن قريشا رفضت أن تعتنق الإسلام وحاولت أن تفتن المسلمين الأوائل عن دينهم وأن تردهم إلى شركها وكفرها بالتعذيب والتهديد وغير ذلك من الوسائل ولكنهم صبروا على الأذى والعدوان واستعذبوا ما لاقوا من هوان في سبيل دينهم. واضطروا أخيرا أن يهجروا أوطانهم وأن يهاجروا إلى المدينة فرارا بدينهم وتركوا ديارهم وأموالهم.
ويروي صاحب السيرة أن صهيب بن سنان حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك! فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم قال: فإني جعلت لكم مالي قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب! ربح صهيب!
وهكذا ذهب المهاجرون إلى المدينة وقد تركوا أموالهم وديارهم بمكة. ماذا فعل الرسول الكريم؛ آخى بين المهاجرين والأنصار. وماذا فعل الأنصار؟ نزل كل منهم على نصف ما يملك لأخيه المهاجر. وما أظن أن في التاريخ الحديث بمبادئه الشيوعية والاشتراكية أروع من هذا المثال.
والإسلام دين الديمقراطية: كان النبي يشور أصحابه دائما (وأمرهم شورى بينهم)، وكان الرسول لا يقضي أمرا دون مشورة. أنظر إليه صلوات الله عليه قبيل غزوة بدر وقد أتخذ مكانا فجاءه الحباب بن المنذر وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزله الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
فقال: يا رسول الله فأن هذا ليس بمنزل فنهض بالناس حتى نأتي أدنى ما من القوم فتنزله ثم نغور ما ورائه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.(966/69)
فقال الرسول: لقد أشرت بالرأي. ونفذ ما أشار به الحباب والأمثلة على ديمقراطية الرسول كثيرة لا يحصيها العد.
وأستمع إلى قول أبو بكر الصديق حين بويع بالخلافة: أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم، فأن كنت على حق فأعينوني، وأن كنت على باطل فقوموني. (الخليفة يطلب من الرعية ان تقومه!! أرأيت أروع من هذا مثالا في الديمقراطية؟)
والإسلام دين المساواة والحرية. (أن أكرمكم عند الله اتقاكم) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)
والإسلام دين العمل. (إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) (والعصر أن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
والإسلام دين التعاطف والتواد والتراحم. أستمع إلى قول رسول الله (المؤمن للمؤمن كالبنيان شيد بعضه بعضا) وقوله (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضائه بالسهر والحمى)
والإسلام دين العزة يأبى على اتباعه الذلة (والله العزة لرسوله وللمؤمنين)، وهو لهذا يأمر اتباعه دائما بالجهاد:
(يا أيها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب ألم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).
وقد أقام الإسلام فيما مضى أمة سادت الدنيا وكانت أقوى أمم الأرض جميعا، وكانت دول الغرب جميعا ترهبها وتخشى بأسها. وقد بلغ من اتساع رقعتها وامتداد مساحتها أن كان الخليفة هارون الرشيد ينظر إلى السحابة ويقول (أمطري حيث شئت يأتني خراجك.)
وهكذا نجد إن العالم الإسلامي غني بمبادئه الإسلامية عن الكتلة الشرقية وعن الكتلة الغربية. وهنا حقيقة أحب أن أذكرها وهي أن العالم أجمع يجب أن يتعاون في النهضة العلمية التي تهدف إلى خير الإنسان. وعلى الشرقيين أن ينهضوا علميا حتى يلحقوا(966/70)
بالغرب؛ فإن الغرب لم يسد ولم يتفوق إلا بالعلم. ولذا أرى واجبا على أهل الشرق أن يدرسوا علوم الغرب وأن يحاول علماؤهم القيام بنصيبهم في حمل أعباء النهضة العلمية. وليس في هذا ضير فهذه الحضارة التي يفخر بها الغرب إنما هي مأخوذة في أساسها عن حضارة العرب.
ولقد كان قيام الكتلة الإسلامية حلما من أحلام الكتاب والساسة والمفكرين؛ ولكنها قد أخذت تصبح أمرا واقعا، فقد كان قيام الجامعة العربية في مارس 1944 النواة الأولى لها، ثم زاد شأنها ووضح أمرها حين زار الدكتور محمد مصدق رئيس الوزارة الإيرانية مصر منذ عهد قريب وأعلن قيام التعاون بين الدول الإسلامية وعلى رأسها مصر وإيران.
وقد تجلى شأن الكتلة الإسلامية واضحا حين وقفت مجموعة الشعوب الإسلامية بجانب مصر في نضالها ضد المغتصبين من البريطانيين. وقد قامت الباكستان بمجهود يذكر فيشكر.
أن قيام الكتلة الإسلامية كفيل بتحقيق السلام العالمي، فإن بلادها غنية بالمواد الخام والمواد الغذائية. وهي أغنى مناطق العالم طرا بالبترول؛ وإن كل نقطة من البترول تعادل قطرة من الدم، وإلى هذا يرجع تسابق الدول الغربية إلى احتكار موارد البترول في الشرق الأوسط. وسيمنع قيام هذه الكتلة اشتعال نيران الحرب بين الكتلتين، لأن قيامها سيوجد توازنا دوليا بينهما فإن انضمامهما لإحدى الكتلتين سيكفل انتصارها وإذن تحجم الكتلة الأخرى عن الدخول في صراع حربي مع الكتلتين الأخريين.
وبهذا ستكون بالكتلة الإسلامية هي الميزان الدولي إن شاء الله.
أبو الفتوح عطيفة(966/71)
العدد 967 - بتاريخ: 14 - 01 - 1952(/)
الهازلون في وقت الجد!
للأستاذ أنور المعداوي
في ليلة السبت 5 يناير عام 1952 سهرت السويس حتى الصباح، وكذلك سهرت القاهرة. . كانت السويس البائسة تضج بالألم وهي تستمع لصوت الرصاص وكانت القاهرة السعيدة تفيض باللذة وهي تستمع لصوت أم كلثوم! كان هناك مأتم وكان هناك عرس. كانت هناك دماء وكان هناك غناء. . السويس والقاهرة إن لم تكن تعلم قطعتان أصليتان من أرض مصر، مصر التي يقال عنها إنها تنظر إلى المأساة بعين واحدة، وتتلقى أنباءها بشعور واحد!
في تلك الليلة، ليلة السبت 5 يناير عام 1952، كان المجاهدون من أبناء السويس وحدهم في المعركة، يواجهون قوى الشر والغدر والطغيان. . دماؤهم فوق أسنة الحراب، وأجسادهم تحت أقدام اللصوص، وعيونهم أبدا إلى الأفق البعيد! أما القاهرة فقد تلقت الأنباء المفجعة في الساعة الثامنة والنصف، ومع ذلك فقد بدت في الساعة التاسعة والنصف وكأنها لم تسمع شيئا ولم تشعر بشيء. . وأعذروها فقد كانت في غمرة الطرب ونشوة الأنغام، كانت تنصت لأم كلثوم وتصفق لأم كلثوم!
ماذا يقول الناس عن هذه العاصمة السعيدة المرحة التي لا تعرف الحياء؟ العاصمة التي لا يضيرها أن تطرب وهناك من يئن، وأن تسعد وهناك من يشقى، وأن تضحك وهناك من يبكي، وأن تحيا وهناك من يموت؟!
شهيد واحد من شهدائنا تستقر في رأسه مائة رصاصة. . ترى هل استحالت الرؤوس في نظر الأنذال إلى حصون وقلاع؟ إن تلك الرصاصات المائة لكفيلة بأن تشعل في النفوس نار الأسى على الشهيد الذاهب، ونار الحقد على العدو الظالم، ونار التطلع إلى انتقام سريع. . إنها لكفيلة بأن تقض المضاجع، وأن تؤرق الجفون، وأن تجعلنا ساهرين حتى الصباح! ولقد فعلنا ذلك منذ أيام. . غنت كوكب الشرق، وصفق السكارى والمعربدون، واشتركت في المهزلة محطة الإذاعة الحكومية، تلك المحطة التي لا يشرف عليها غير أصحاب الثقافة القاصرة والشعور البليد!
ترى هل قدر لمدن القنال أن تعيش وحدها في الجحيم، وأن تحمل وحدها العبء الفادح،(967/1)
وأن تخوض وحدها غمار المعركة، دون أن يجد أهلها من يشاركهم في الشعور إن لم يقاسمهم المصير؟ لقد كنت أنتظر حين تجرح بور سعيد أن تضمد جراحها الإسكندرية، وحين تبكي السويس أن تكفكف دموعها القاهرة، وأن تؤلف بين نفوسنا وحدة الدم وأن تربط بين قلوبنا صرخة الوطن، في هذا الوقت الذي نوجه فيه سطو اللصوص على كل ما نملك من رصيد الشرف والكرامة. . كنت أنتظر هذا كله وما هو أكثر منه، ولكن القاهرة الماجنة قد نقلتني من عالم الخيال الجميل إلى عالم الواقع الدميم، حين أرسلت ضحكاتها الصاخبة عبر الفضاء لتحبى بها أنين الضحايا على ضفاف القنال!
إن الدم ليفور في عروقي وأنا أبحث عن الرجل الذي يملك سوط الجلاد فلا أجده، الرجل الذي يلهب ظهور اللاهين في ساعة الجد، والعابثين في وقت الشدة، والهازلين ورحى المعركة تدور. . أين هذا الرجل ليرد أصحاب الغفلة إلى الوعي، وأين سوطه ليعلم أصحاب الغفلة إلى الوعي، وأين سوطه ليعلم أصحاب المجون معنى الوقار؟! ما أشد حاجتنا إلى هذا الرجل ما دام الذوق قد تحجر، وما دام الحس قد تلبد، وما دام الضمير قد مات!!
لو وجد هذا الرجل لما امتلأت القهوات بالفارغين، ولما ازدحمت الشوارع بالمتسكعين، ولما ضاقت الأندية على سعتها بالرقعاء من لاعبي القمار. . لو وجد هذا الرجل لساق هؤلاء جميعا إلى هناك إلى تلك البقعة المجاهدة ليتلقوا في رحابها الدروس، دروس العزة والبذل والتضحية وإنكار الذات! لو وجد هذا الرجل لساقهم سوق العبيد ليفهموا معنى الحرية، ولأخذهم أخذ الأذلاء ليدركوا شرف الكرامة، ولأيقظهم بصوت القوى القاهر من هذا السبات العميق!!
إنهم في هذه المحنة القاسية وفي هذه اللحظة الحاسمة، محتاجون حقا إلى من يقنعهم بأن زمن اللهو قد انقضى وبأن وقت الهزل قد فات، ولن يقنعهم على التحقيق غير شيء واحد هو سوط الجلاد. . وما أشد افتقارنا إليه في مثل هذه الأيام!
أنور المعداوي(967/2)
المصطلحات الطبية ونهضة العربية بصوغها في
القرن الحاضر
للأستاذ الدكتور أحمد عمار بك
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
اللغات كائنة حية نامية متجددة - ما تجددت عاشت، فإن جمدت ماتت. ولقد تعتورها من آفات الإفراط والتفريط أدواء لا منجاة لها منها إلا أن تكون بين ذلك قواما، وتلزم بينهما قصد السبيل.
وإن لكل لغة أوضاعا مأثورة، ومطالب يقتضيها منها العصر - وعلى قدر توفيقها في المزاوجة بين الحفاظ على تراثها، ومسايرة زمانها يكون حظها من قوة الحياة. فإن هي اشتطت في المحافظة إلى حد الجمود، أو نبذت قديمها تهافتا على الجديد، دب إليها دبيب الوهن، وتناوشتها عوامل الفناء.
وللغة العربية ميزة فذة على سائر اللغات - إذ تنزلت بها آيات الهدى والفرقان، وإذ شرفها الله تعالى بمحكم قوله: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) وبصادق وعده: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
ولغة هذا شأن تراثها - بل شأوه من التقديس - لا عجب إذا هي انقادت بديهتها، فغلت في المحافظة حذر التجديد. . ولكنها إن أعملت رويتها، أدركت أنها إن تغل في الحذر - فمن مأمنه قد يؤتى الحذر، وأنها إن تجمد على القديم، تفد على الأيام لغة قصاراها الدين، بعد إذ كانت في عنفوانها لغة الدنيا والدين، وتتنكر بذلك لتراثها ذاته، بل لسنة الحياة لا تبديل لها، وهي أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض. فتلك سنة لا تفد عنها اللغات، فهي إنما تمكث في الأرض بما توفره من منافع للناس في شتى ضروب تواصلهم في أمور معاشهم. وإنا لتعاصرنا لغات موفورة الحياة، لا تكف عن التجدد ليل نهار، لتلاحق فيوض القرائح وأفانين الابتكار، فلا يلحقها من هذا التجدد ضير، بل لا يزيدها التجدد إلا قوة ونماء.
ولقد وسعت لغتنا في ريعانها من مطالب الحضارة أعلاها مرتقى، وأصعبها شعابا، ومن بينها الطب، إذ بلغ شأوها فيه أن تلقاه عليها الغرب، وتدارسه في كتبها حقبا طوالا. وما(967/3)
كان ذلك إلا لأن أسلافنا لم يبتلوا بذلك الداء الدوي، وهو فرط الحذر، ولم يخشوا في النقل عمن سبقهم من الأمم لومة لائم، بل أقبلوا عليه إقبالا لعلهم كانوا فيه إلى العجلة والاندفاع أقرب منهم إلى التؤدة والأناة، فما أضر بهم ولا بلغتهم قليل الاندفاع. ولو أنهم أسرفوا في الحذر - لما خلد لهم في التاريخ ذكر ولا بقى لهم في العلم أثر.
ثم دارت الأيام بهذا المجد العربي المؤثل، فدالت دولته، وطال باللغة تخلفها عن قافلة الزمان، حتى كان مبزغ النهضة المصرية الحديثة، التي تصدرها المجدد العظيم محمد علي، فأخذت اللغة تصحو من سباتها الطويل. وكان من بواكير هذا الصحو أن تعاون القائمون بالتعليم الطبي حينذاك على نقل المصطلحات الطبية إلى اللغة العربية، أثمر هذا التعاون معجم التونسي المسمى (الشذور الذهبية في المصطلحات الطبية) - ذلك المعجم الذي ألقت به عصا التيسار إلى متحف باريس، ثم نقلت عنه صورتان شمسيتان إلى دار الكتب المصرية. وهذا المعجم يشتمل على مفردات عربية مشروحة لا تقابلها مرادفاتها الأجنبية، ويقع في اثني عشر جزءا، لم يقدر لها أن تنشر، فيما عدا مائة صفحة منها عنى المرحوم الدكتور أحمد عيسى بك بنشر مفرداتها مترجمة إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية. ومن أسف أن هذا الجهد الذي كان خليقا بالنفع لم يمض إلى غايته. وحبذا لو عنى مجمعنا الموقر بتزويد مكتبته بكثرة ما حوى من مفردات صالحة للاقتباس الطبي، مستخرجة من معاجم عدة.
على أن هذه النهضة العربية في القرن الماضي، ما لبثت أن منيت بمثل ما منيت به النهضة السياسية من عثار لم يكن منه مقيل حتى مطلع العشرين، حين قيض الله سبحانه وتعالى المصطلحات الطبية العربية طبيبا كبيرا هو المرحوم الدكتور محمد شرف بك، ملك عليه حب العربية مشاعره، فبذل لها من فكره وجهده، ومن ماله ووقته، ما تنوء به العصبة أولو القوة؛ غير مشفق من أن، يحمل وحده أمانة تؤود رهطا من الإثبات إذ أخرج للناس معجمه الضخم الذي ينتظم سبعين ألفا من المصطلحات، لا في الطب بمختلف فروعه وحسب، بل في كل ما يمت له بصلة من سائر العلوم. وبحسب هذا المعجم أن يكون الأول من نوعه في العربية، وأن يقوم شاهدا على ما تستطيعه الهمة الشماء إذا ما تجشمت جلائل الأمور.(967/4)
ثم أذن الله للغة العربية أن تسترد مجدها التليد بإنشاء هذا المجمع الموقر الذي يضم صفوة من أئمة اللغة وفقهائها، وجهابذة 3804 علمائها، الخبراء بمختلف حاجاتها، البصراء بما يجدد شبابها ويعيدها سيرتها الأولى قوية فتية موفورة. فحقق بما استن من قواعد، وبما وثق من ألفاظ، بشرى أهل العربية به، على أتم وجه وأوفاه - لولا ما إعتاقه من قصور وسائله في إعلان عمله للناس، وافتقاره لطائفة من أمهات المراجع، واحتياجه لمزيد من العاملين في مختلف اللجان - ولولا شئ آخر، أرى واجبا على وقد شرفني المجمع بعضويته، أن أهمس إليه به، وهو حيرته التي طالت سبعة عشر عاما، بين إشفاق على القديم، ووجل من الجديد فما عدة النهضات إلا الإقدام.
ولئن شئنا أن نشفق فلنشفق من الجمود والاندفاع على السواء. أو فلنشفق من الجمود أكثر مما نشفق من الاندفاع، ولنتوسط بينهما السداد ما استطعنا إليه سبيلا. فلقد جاء في الأثر الشريف (خير هذه الأمة النمط الأوسط: يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي)، وإنا لهذا النمط الأوسط لمتبعون. ولنضرب لذلك الأمثال:
من قواعد صوغ المصطلحات العلمية عامة، والطبية خاصة، أن يحبس المصطلح على معنى بذاته منعا من التباسه بأي معنى سواه. ولذا لجأت اللغات الأجنبية إلى اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية فاستمدت منها أكثر مصطلحات العلوم متوسلة إلى ذلك بأية مناسبة، وإن كانت واهية، من مناسبات المعنى المراد
فالمرض الجلدي المعروف بالإكزيما مثلا - من علامات دور من أدواره ظهور نفطات أو حويصلات مليئة بما يشبه الماء على ظهر الجلد. فمن المشابهة البعيدة بين هذه النفطات وما يظهر من فقاعات على سطح الماء عند غليانه: استمدت لتسمية المرض كلمة (إكزيما) وهي كلمة لاتينية تفيد معنى الغليان، وحبست على المرض فأصبحت علما عليه لا تنصرف إلى شئ سواه.
فما عسى أن نترجم به هذا المصطلح إلى العربية؟ إن أول ما ينبغي أن نتوخاه هو أن يكون لفظنا مفردا كنظيره الأجنبي. ذلك لأن من ضرورات استعماله أن نسوقه في صيغة صفة أو مصدر أو إضافة أو نسبة - في نحو قولنا: جلد متأكزم، أو اكزيما الوجه، أو تغيرات الأكزيمية.(967/5)
فها نحن أولاء قد استخدمنا المصطلح الأجنبي على جهة التعريب فأوفى بالغاية. أفنوثق هذا التعريب من فورنا غير متحرجين، أم نتمهل لعلنا نظفر بغيتنا من سبيل الاشتقاق؟ لقد سبق أن ترجم هذا المصطلح اشتقاقا (بالغليان) على المقابلة بأصل المعنى اللاتيني. فهل تفي هذه الكلمة بالمراد؟ أإذا قلنا (الغليان) أمكن أن ينصرف المعنى في ذهن السامع إلى ذلك المرض الجلدي؟ فإن قلنا (داء الغليان) - ففضلا عن أننا تجاوزنا عن مقابلة اللفظ المفرد بمفرد مثله مما هو مستحب - فقد أوجبنا التساؤل: أداء اجتماعي هو أم فردي؟ أو نفساني هو أم جثماني؟ وأي الأعضاء يصيب؟ فان قلنا (غليان الجلد) فقد أوقعنا القول في الذهن موقع حيرة وغرابة: إذ كيف يغلي الجلد؟ وأي جلد ذاك الذي يغلي؟
وإنما الذي أوجب كل هذه الحيرة: هو أننا استخدمنا لفظا شائعا لمعنى علمي، فلا نحن تركناه لمعناه الشائع، ولا نحن استطعنا أن نحبسه على المعنى العلمي المراد بعد أن انتزعناه من استعماله العام. ومن ثم فقد سلبنا اللغة لفظا من رصيدها المتداول دون أن ننتفع به فتيلا. وهذا ما تفاداه الاصطلاح الأجنبي باستمداد الكلمة من لغة دارسة، مما لا سبيل لنا إليه إلا أن نستمد من لفظ عربي مهجور.
فإذا لم نوفق إلى مقابل لكلمة (إكزيما) عن طريق الاشتقاق على النحو الذي أوضحناه، فلم لا نلبي من فورنا حاجة الاستعمال العاجلة باللجوء إلى التعريب، بأن نعهد في غير تردد بكلمة (الاكزيما) لذوى الملكات المطبوعة من رجال اللغة، ليوثقوها كما هي أو ليلصقوها بما يتسق مع الذوق العربي، كأن يقولوا (الأقزيم) أو (الأكزيم) حسبما يرون، في غير إغراب أو ابتعاد بالنطق عن اللفظ الأجنبي.
وهبنا بعد إذ وثقنا الكلمة بالتعريب، جاءنا من يقول إنه وجد في مادة (كزم) كلمة (التكزيم) بمعنى التفقيع، وفي مادة (قفع) كلمة (القفعاء) بمعنى الأذن التي كأنها أصابتها نار فتزورت من أعلاها إلى أسفلها، ثم كلمة (القفاعي) بمعنى الأحمر ينقشر أنفه لشدة حمرته، وأحمر قفاعي لغية في فقاعي مقدمة إلغاء، وهو قفاع لماله: لا ينفقه.
وذكر القائل بعد ذلك أنه زعيم بأن الفقاعة إنما سميت لذلك لأنها تحتجن ماءها كما يختجن القفاع ماله فلا ينفقه، وأن ما تشبه الفقاعات في الإكزيما إن هو إلا دور من أدوارها يسبقه دور احمرار لك أن تصف حمرته بالأحمر القفاعي، وأن الانقشار دور من أدوار الإكزيما(967/6)
كذلك، وأن الأذن التي أصابتها نار فنزوت من أعلاه إلى أسفلها لتوحي بالأذن التي أصابتها الاكزيما بالتهاب كلذعة النار وتورم تتزوى منه أن تعوج. وخلص القائل من تفسيره هذا الذي أدهشنا أشد الدهش إلى أن من حق لغتنا علينا ألا نستعير لها الألفاظ، وإنها لتحويها.
فهل من ضير يضيرنا إذا نحن عدنا إلى الاشتقاق بعد التعريب؟ ولماذا لا نترخص في الاشتقاق من مناداة (كزم) هذه، فنقول (كزيمة) مثلا لاسم المرض، و (نكزم) للفعل، (ومكزما) للصفة، و (تكزيما) للمصدر. ولما لا يحق لنا أن نكمل تصريفها قياسا على مادة تشبهها، لغير قيود لا موجب لها في لفظ مهجور رآه مدونو المعاجم أنفسهم غير جدير باستيفاء التعريب.
وأيهما أحفظ لتراث اللغة: أن ندخل عليها لفظا أعجميا مهما صقلناه بدا في لغتنا كالرقعة المختلفة عن نسيج الثوب - أم أن نرقع ثوبنا من نسيجه نفسه فتتسق رقعتنا مع الثوب؟
وما بالنا إذ ما تأبت علينا قواعد الاشتقاق لا تقبل الكلمة المقترحة على أي جهة من جهات القبول؟ بل ما بالنا إذا ما اختلفنا في المفاضلة بين اكزيما وكزيمة، لا نوثق الكلمتين معا، تاركين للذوق العام أن يستقر على تخير إحداهما بمقتضى مزاياها في الاستعمال. وها هنا تتضح أمامنا معالم الطريق، فإن أول ما يجب أن نتجه إليه في صوغ المصطلح العلمي، هو البحث عما إذا كان لمعناه في لغتنا لفظ يقابله ويؤدي معناه في غير لبس وثقل؛ فإن وجدناك فذاك، وإلا بحثنا في مهجور الألفاظ عن لفظ يمت معناه للمعنى المراد بصلة دالة مميزة، فإن استيسرت لنا بضعة ألفاظ تمت للمعنى بمختلف الصلات، كان أولاها بالاختيار أقربها معنى وأنسبها لفظا للمصطلح الأجنبي. وليس حتما أن يكون اللفظ خفيفا وجيزا إن كان مقابله الأجنبي ثقيلا طويلا. على أنه من التوفيق أن يخفف اللفظ ويقصر، ومن غاية التوفيق أن تكون بينه وبين مقابلة مناسبة شبه في نطق، أو وزن، أو مخرج، أو حرف غالب، مما يزيده موائمة للأصل، وسهولة في الحفظ وطلاوة في الاستعمال - ومن ثم جدارة بالتداول.
والآن فلندع مثلنا الأول - هو الاكزيما - بعد إذ أفضنا فيه توضيحا لبداية الطريق، ولنضرب مزيدا من الأمثال الموجزة للاشتقاق، فالتعريب، فالنحت - توضيحا لسائر الطريق.(967/7)
فكلمة (الأوذيما) التي عربها الرئيس ابن سينا لمقابلة الكلمة الأجنبية التي تنطق (إديما) - والتي تعني ارتشاح الماء تحت الجلد لم لم يعربها (إديما) كما هي بدلا من (أوذيما) التي لا تطابق في نطقها الذوق العربي؟.
وما الذي يفيدنا بتعريب الأولين إن لم نجد ما يوجبه؟ بل لماذا لا نشقق لهذا المعنى كلمة مثل (دئيمة) من مادة (دأم) - وقد تضمنت: تدأم الماء الشيء: غمره، بل لماذا لا نقلب هذه الكلمة فنقول (إديمة) والقلب جائر في الاشتقاق؟ لعل ابن سينا نفسه، لولا تعجله بالتعريب، ملاحقة بالعلم، لوجد في مثلنا هذا مندوحة عن التعريب والاشتقاق.
ومما يؤخذ على بعض الأقدمين في تعريبهم - ولعلهم بالأغراب الشديد فيما عربوا دون ما حكمة فيه. فكلمة وهو نبات يشبه نبات اليمضيد، التي يمكن أن تعرب بكلمة (طرقساق) قد عربها الأقدمون - ومن بينهم ابن سينا وابن البيطار وداود الأنطاكي والطبري - بما ينيف على الثلاثين تعريبا، تشترك جميعا بل تتبارى في الثقل والأغراب على تفاوت ذلك ما بين (طرخشقون) و (تلخشكوك) و (تلحسكوك) و (طليخم) و (تلخ)!
ولقد أسرف قدماؤنا في التعريب حتى كادوا يهملون ما هو أحفظ منه للغة وأدل منه على محاسنها وهو الاشتقاق، فعربوا - مغربين في التعريب - حيث كان يسهل بل يجزل الاشتقاق. فعلم الحساب مثلا عربوه: (أرثماطيقا)، والتحليل: (أنا لو طيقا) وما وراء الطبيعة: (ميتا فيزيقا).
ولعل مرد إسرافهم هذا في التعريب إلى ثلاث أمور: أولها جهلهم بما لأصول المصطلحات من المعاني في قديم اللغات التي ما كانوا ليعنوا بدراستها. وثانيها مراعاتهم مقتضى الدقة العلمية بحبس المصطلح العلمي على معناه الخصيص لكي يحتفظوا بالصلة العلمية بين لغتهم وسائر اللغات. وثالثها إيثارهم سهولة التعريب وسرعته على صعوبة الاشتقاق وبطئه، تلفها منهم على ملاحقة عصرهم فيما نقلوه إلى لغتهم من مختلف العلوم.
ووجه العجب في الأمر أن يكون هذا منزع قدمائنا إلى التجديد، بينما نقف نحن حيارى نتردد ما بين المحافظة والتجديد فيلاحقوا عصرهم البطيء واثبين، ونخلد نحن في عصرنا الوثاب إلى الهوينى!
فلقد ترجمنا الفزيولوجيا مثلا بالوظائف، وسمينا المشتغل بها (الوظائفي). فأية وظائف هي؟(967/8)
أهي وظائف الحكومة وغيرها بالمعنى المتعارف الآن، أم هي المرتبات على المعنى اللغوي الصحيح؟ أإذا أردنا أن نعيد ميزانية لقسم الفزيولوجيا بكلية الطب مثلا قلنا: الوظائف لقسم الوظائف تنقسم إلى وظائف وظائفيين، ووظائف موظفين غير وظائفيين؟ ولنقس على هذه الأمثلة ما شئنا في سائر العلوم.
أية مفارقة هذه بين موقفنا وموقف الغابرين: إذ نتأبى نحن على التعريب حيثما يكاد يستوجب، بينما ترخصوا هم فيه حيث لهم معدومة عنه. ولماذا لا نعرب غير هيا بين حيثما يستعصي علينا، أو ريثما ينقاد لنا، الاشتقاق؟ وأية غضاضة في أن نعرب الفزيولوجيا وما جرى مجراها بأسمائها كاملة أو محورة أو موجزة، كأن نقول (فزلغة) للفيزيولوجي، و (بثلغة) للباثولوجي، كما قلنا فلسفة وجغرافيا وغيرهما؟ أليست هذه التسمية أحبس في الدلالة على المعنى المراد من أية تسمية أخرى يمكن أن نهتدي إليها اشتقاقا؟
ولقد أقر المجمع الموقر لكل نوع من أنواع الآلات صيغة من صيغها الثلاث، تقصر عليه ليتميز بها من النوعين الآخرين، فلم لا نقتاس بذلك في صيغ الأمراض: وهي فعال وفعيل وفعل نل لم لا نضيف إليها بالاستعارة غيرها من الصيغ كفعلان، فنقابل بكل من هذه الصيغ ما يناسبها من صيغ الأمراض في الأجنبية مثل وو ووسائر ما جرى مجراها؟ ولم لا نتوخى طريقة منظمة في صوغ المصطلحات، بأن نبدأ أولا بترجمة أدوات التصدير والإلحاق منتقلين إلى ترجمة طائفة فطائفة من المصطلحات التي تشترك في أصل الاشتقاق وتختلف في المضافات، عامدين بعد ذلك إلى النحت فيما لا يترجم إلا بوسيلة من النصطلحات الأجنبية المنحوتة؟ كأن تترجم مثلا كاسعة التي تنتهي بها أسماء أكثر العلوم في الغات الأجنبية باستعارة الأصل العربي لكلمة لغة، وهو لغو أو لغى. أو باستعارة لغة نفسها متذرعين لذلك بأن اللغة قوام العلم، إذ مامن علم إلا بلغة.
ثم نترجم أداة التذييل الدالة على مشتغل بعلم أو ما في حكمه في مثل وبحرفي الياء والتاء المنتهية بهما كلمتا عفريت ونفريت، مبالغة من عفر ونفر، فنقول مثلا (نباتيت) و (حيوانيت) بدلا من عالم بعلم النبات أو عالم بعلم الحيوان، الذي لا نستطيع بداهة أن نسميه (حيوانيا) وإن لنا إن شئنا أن ننسج على هذا المنوال عند الاقتضاء لمجالا فسيحا.
أيها السادة:(967/9)
لنضع نصب أعيننا في اضطلاعنا بما نحمل من أمانة اللغة أقوالا ثلاثة حكيمة: أولها قول الجاحظ: ما على الناس من شيء اضر من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئاً. وثانيها قول عثمان المازني: إذا قال العالم قولا متقدما فللمتعلم الاقتداء به، والانتصار له، والاحتجاج بخلافه إذا وجد إلى ذلك سبيلا، وثالثها ما جاء في كتاب نقد النثر: كل من استخرج علما أو استنبط شيئا وأراد أن يضع له اسما من عنده، ويواطئ عليه من يخرجه إليه، فله أن يفعل ذلك.
وبالله مهتدانا إلى قصد السبيل.
أحمد عمار(967/10)
في سبيل الله!
للأستاذ محمد محمود زيتون
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم، وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره. والله لا يهدي القوم الفاسقين) القرآن الكريم
القتال غريزة في البشر، لا معدي عنها، ولا مفر منها، ولو تركت الغرائز وشأنها انهدم سلم التربية، وارتكست الإنسانية في مهاوي الضلال من غير أن تقوم لها قائمة، ولكن الإسلام الحنيف كفل للنفس منافذ الطموح إلى العزة والشرف، فهذب الغرائز، وارتفع بها على خير وجه مسنون.
وليس أدل على ذلك من علاجه لغريزة القتال، وتوجيهها نحو المثل الأعلى لصالح الفرد والجماعة، فلم يترك أمامها باب شر إلا أوصده، ولا منفذ خير إلا سلكه، وصدق الله العظيم: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم)
ومن هنا كان القتال الإسلامي ذا صبغة خاصة لم نعهد لها شبيها في الأمم قديما وحديثا، وذلك لأنه لا ينتهج سبيل الفتك والطغيان، ولا يتذرع بالعصبية والحزبية، بل يمضي في خط مستقيم لا عوج فيه، سليما في بدايته ونهايته، شريفا في مبرراته وغاياته، سديدا في خطواته ومشكلاته، فلا عجب أن يكون (الجهاد) معهدا عاليا للتربية المثلى، تبذل فيها النفس جهودا شاقة بكل ما لديها من جوارح، وتمتحن فيها الغرائز الأخرى مجتمعة ومفترقة: من تملك للدنيا، وتمسك بزخرفها، إلى الحرص على صلة الدم من عصابة وقرابة وجوار.
وذلك السبيل لن يكون فريدا إلا إذا تناسقت هذه القوى سالبها وموجبها على سواء بحيث تنأى عن النقص والدون، وتنهض على أساس من التضحية والتعلية والفداء والصبر. وهذا هو الجهاد في سبيل الله، وهو شريعة لها خصائصها وميزاتها، ودعوة لها فلسفتها ومنهاجها، تقوم الأجيال وتقعد وما تزال للجهاد الإسلامي روعته وقوته، وبهما ترتد الأذهان الكليلة الهزيلة إلى القصد والرشاد.(967/11)
ولو حشدنا أمام الإسلام جيشا جرارا قوامه كل ما في اللغات من كلمات استفهامية تدور بالخلد سرا وجهرا للتزود من ذخيرة هذا الجهاد، ولتثبيت الإنسان الكريم على قواعد العزة لكان للإسلام المكانة التي لا يتطاول إليها رأي أو مبدأ أوفلسفة أو زعامة ولو كان أصحابها بعضهم لبعض ظهيرا.
متى نجاهد؟ وكيف؟ وبمن؟ ومن. . وبكم؟ وفيم؟ وبم؟ ولم؟ وأي في سبيل الله؟. . هذه كلها يستجيب لها الإسلام في هدوء ومضاء ومن غير تعثر.
والإسلام يتمشى مع طبيعة الأشياء أن يتصل ولا ينفصل، وأن يدوم مع الحياة الفردية والجماعية من المهد إلى اللحد. وهذا ما يؤكده منطوق الآية الكريمة في حكمها المطلق (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيط ترهبون به عدو الله وعدوكم) وقوله تعالى (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال).
والإرهاب هنا أمر مفروض، وصفة لازمة لا تبرج المسلم أبدا، ولا ينبغي له أن يتخلى عنها يوما دون آخر، ولا يأتيها لظرف طارئ ويدعها من بعده، وتصدق في أحاديث النبي الكريم (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) والجهاد هنا على العكس من الهجرة، إذ يقول الرسول الأعظم. (لا هجرة بعد الفتح ولكن نية وجهاد) ولقد حسب المسلمون - بعد تبوك - أن الجهاد قد انقطع فأخذوا يبيعون أسلحتهم لأهل الغنى والفضل، فنهاهم عن ذلك رسول الله وقال (لا تزال عصابة من أمتي ظاهرين يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال) ولن يخرج الدجال إلا في آخر هذا الزمان، يوم يرث الله الأرض ومن عليها.
ذلك بأن الجهاد من أشد مظاهر الإيمان لصوقا بهذا الدين المتين، وهو - على التحديد - أقرب ما يكون إلى دستوره ومصدر تشريعه، فالنبي يقول (من تعلم القرآن ثم نسيه فليس مني) وكذلك يقول (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه) ويقول (علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل)
هذا الجهاد إذن لا مقطوع ولا ممنوع، بل هو موصول غير مفصول، وذلك ما تقتضيه قوانين علم النفس فيما يتعلق بخصائص الغريزة، وهي التي لا سبيل مطلقا إلى هدمها أو تعطيلها لأنها قوة محركة للسلوك، ولن يظفر الإنسان بنعمة (العافية الاجتماعية) إذا تخلى عن قوة الدفاع عن النفس، وهذا ما يجري في دمه، وهو يدفع جيوش الميكروبات الوافدة،(967/12)
ويصدها عن كيانه الحصين.
والمجتمع كالفرد كلاهما لا غنى له عن الدفاع ضمانا للبقاء، ويم يتخلى الكائن الحي عن مقومات صراعه مع الفناء، تنمحي مظاهر وجوده وتنهدم أسباب حقيقته، فلا عجب إذا كان الجهاد من ألزم ما يلزم المجتمع السليم الذي دعائمه الراسخة حقائق دين الله.
والجهاد يستجيب لدواعي الخلود حين يستخف المجاهدين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فيها الثواب المدخر، والجزاء المنتظر، لكل من خلص نفسه من مثقلاتها ومعوقاتها، ولن تستقيم دعوة إلى خير وحق إلا إذا اقترنت بالترضية والجزاء الوفاق، والتخويف من المرتع الوخم الذي تتردى فيه الشهوات بأصحاب الرذيلة، وهذا الإعلاء في غريزة القتال هو ما يسميه رسول اللهبالجهاد الأكبر، وما أشقه على النفس.
وتحرير الوطن من الغاصبين من صميم رسالة الجهاد في الإسلام (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف) والتمكين في الأرض مقرون بالعقيدة العلمية والعملية، الدافعة الرافعة معا (ألم تر إلى الملأ من بنى إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله. قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا. فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين).
ولقد أعد الله تعالى للشهداء في سبيل الله الجزاء الأوفى. بعد أن اتجروا مع الله وباعوا أنفسهم وأنفقوا في سبيله أموالهم (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي ما بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم).
والحرص على الحياة لا يرتفع بها عما تردت فيه، ولهذا قيل (أحرص على الموت توهب لك الحياة) من غير مبالاة بشيء من هذا الحطام الفاني. كما يقول الشاعر المجاهد في سبيل الله:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله، وإن يشأ ... يبارك على أجزاء شاو ممزع
وهذا عبد الله بن الزبير يتلقى الدرس من أمه أسماء بنت الصديق، وهو في طريقه إلى(967/13)
قتال الحجاج بن يوسف، فرعون زمانه، إذ دخل ابن الزبير على أمه يوم مقتله، وقد رأى خذلان الناس له فقال لها:
يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صير ساعة، والقوم يعطونني من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت ذات النطاقين لابنها:
يا بني، أنت والله أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن رقبتك يتلعب بها غلمان بنى أمية. وإن كنت أردت الدنيا، فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابه ضعفت، فليس هذا من فعل الأحرار ولا أهل الدين. وكم خلودك في الدنيا؟
. . القتل أحسن
قال عبد الله: إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي.
فقالت: يا بني إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها فدنا منها وقبل رأسهما وقال:
هذا والله رأيي والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا، مار كنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أمه، إني مقتول من يومي هذا فلا يشتد حزنك، وسلمى الأمر لله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عمل بفاحشة ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي. اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي. أنت أعلم بي ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني.
فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي حرج حتى أنظر إلام يصير أمرك.
فقال ابن الزبير: جزاك الله خيرا، فلا تدعى الدعاء لي قبل وبعد.
فقالت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النجيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي. اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
وقاتل عبد الله بن الزبير حتى قتل ومعه صفوة من أصحابه، قطعت رءوسهم جميعاً، وبعث(967/14)
بها إلى الحجاج في المدينة، ونصبت للناس وعبثت بها الأيدي الملوثة.
وفي الجهاد الإسلامي تنطلق النفس من عقال الحياة لتسبح في ملكوت حر فسيح، كما أنها تنبثق من طاقة خصبة هي الحق ولا شيء سواه.
هذا ما يستمسك به الزبير بن العوام وهو في موقعة صفين إذ يقول:
(والله لو هزمونا حتى أوصلونا سغفات هجر، لعرفنا أننا على الحق وأنهم على الباطل) وهذا عمر بن الخطاب، وهو ما يزال حديث عهد بالإسلام، والنبي ما يبرح مستخفيا بدعوته في دار الأرقم فيقول:
يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ فيقول النبي: (بلى، والذي نفسه بيده، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم) فيقول عمر: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق، ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإسلام غير هائب ولا خائف. والذي بعثك بالحق لنخرجن يا رسول الله. لا ينبغي أن تكتم هذا الدين، أظهر دينك، والله لا نعبد الله سراً بعد اليوم.
وخرج الرعيل الأول من المسلمين وعدتهم أربعون في صفين يتقدمها حمزة وعمر، كلاهما متوشح سيفه، والغبار يثور حولهما، وللجمع كديد ككديد الطحين، وهم يطوفون بالكعبة، يرهبون عدو الله وعدوهم، وقد أخزاه الله بعد أن رأى ما رأى، وأصبحت القلة التي على الحق تقرأ القرآن جهرة، وتصلى بالمسجد علنا، وأنف الكثرة في الرغام.
سأل إعرابي رسول الله: إن الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فأيهم في سبيل الله؟ فيقول عليه السلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
الحق إذن هو الباعث على الجهاد وهو بالتالي غايته ومرماه، أي أنه يدفع بأصحاب الدين إلى الأعلى، ويجذب أصحاب الدنيا من أسفل، لهذا فهو وحدة تامة لا تتوزع ولا تعدد، (فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال) وليس من الجهاد أن نقاتل عن حسب أو نسب أو عصبية، بل ما ارتضاه هذا الدين لأهله من الاتحاد (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).
من أجل هذا الصف المتسق الملتصق. . حكم رسول الله على (قزمان) بأنه من أهل النار،(967/15)
وهو عديد بنى ظفر وقد حرضته نساؤهم على القتال مع المسلمين يوم أحد، فأخذ سلاحه، وجاء من خلف الصفوف حتى كان في الطليعة وظفر بعشرة من أصحاب الألوية المشركة صرعهم جميعا واحدا بعد الآخر، وأخذ يقول (دافعوا عن الأحساب والأنساب) ولما أثبتته الجراحة بشره المجاهدون بالجنة فسخر منهم وقال (والله ما قاتلت على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير قريش إلينا حتى تطأ سعفنا. ويقول: يا للأوس، قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثلما أصنع، وأخيرا انتحر منافقا، فلما ذكر للنبي قال (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاسد).
ومن أجل هذا الصف المتساند المتعاضد. . يصمد مصعب ابن عمير أمام الفئة الباغية يوم أحد وقد تفرق شمل المسلمين وأشاع ابن قميئة أن محمدا قد قتل، وانفض عنه من كان معه، فيدعوهم مصعب فيتذرءون بقتل محمد للفرار فيقول لهم (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) ويتنزل بذلك القرآن الكريم
ومن أجل هذا الصف الواحد المتحد (يأبى النبي كتيبة خشناء لابن أبي بن سلول قوامها أمثاله من المنافقين وأحلافه من يهود، فيردها النبي قائلا: (لا نستعين بأهل الشرك على أهل الشرك) والله تعالى يؤيده (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين).
ومن أجل هذا الصف المنتظم المنسجم. . يرد النبي يوم بدر خبيب بن يساف، وقيس بن الحارث عن القتال في صفوف المسلمين، لأنهما على غير دين الله، ولا يبغيان غير الغنيمة، وهما في القتال أعظم غناء وأشد نكاية، ولكن النبي يقول لهما (لا يخرجن معنا رجل ليس على ديننا) ويأبى عليهما القتال حتى يسلما. فلما أسلم خبيب قال له النبي أمض، أما قيس فقد تأخر إسلامه إلى أحد).
ومن أجل هذا الصف المتشابك المتماسك. . يؤخر النبي - يوم بدر - الأنصار ليقدم المهاجرين السابقين إلى الإسلام هم وعشيرته، ويقول لهم: (يا بني هاشم قوموا فقاتلوا عن دينكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا به نور الله) فوثبوا إلى الجنة سراعا، فرحين بما أتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم.
ومن أجل هذا الصف الرابط المترابط. . يسابق المسلم أخاه وأباه وابنه وخاله إلى الجنة. .(967/16)
فيتنافس سعد بن خيثمة أباه، ومعوذ بن الحارث أخاه عوف وهما غلامان على جانبي عبد الرحمن ابن عوف يوم بدر يتربصان للأبي جهل فرعون العرب. ويركض عمرو بن الجموح بعرجته وعبثا يحاول أولاده الأربعة أن يثنوه عن عزمه وقد عذره الله، ولكنه يتوق إلى الجنة ويسأل الله أن يرزقه الشهادة وألا يرده إلى أهله خائبا، ويستأذن أبو بكر قائده في أن يقتل ابنه عبد الرحمن، وعبد الله ابن رأس النفاق يسأل النبي أن يسمح له بقتل أبيه، وسعيد بن العاص يتجلد إذ يرى أباه صريع الشرك، وعمر بن الخطاب يصرع خاله العاص بن هشام، ومصعب بن عمير يأمر بالتشديد في فداء أخيه الأسير في يد المسلمين، وسعد بن أبي وقاص تراوده أمه عن إسلامه وتمتنع عن الطعام والشراب حتى يكفر، فلا يعبأ بها وهو لها الابن البار (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما).
ومن أجل هذا الصف المتكامل غير المتفاضل. . يقف أصغر المجاهدين علي بن أبي طالب إلى جانب أكبرهم سنا أبي عبيدة بن ابن الحارث، ولا فارق بين حمزة القرشي وبلال الحبشي وصهريب الرومي وسلمان الفارسي، ولا بين المهاجري والأنصاري، كل وبلاؤه (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، والأنفال تقسم بما أمر الله بين الضعفاء والأقوياء على السواء، لكل منها نصيب حسب جهاده، فالمشاة والرماة والسقاة، والقادة والسادة، والركبان والعبدان جميعا في درجات مرتبة في الحياة والموت، فقد كان النبي يقدم في دفن الشهداء أعلمهم بدين الله وأقرأهم للقرآن.
ومن أجل هذا الصف الزاحف الجارف. . كانت المرأة تسقى الجرحى، وتضمدهم وتمونهم بالذخيرة، وتتري عن رسول الله، وتحمي الظهور، وتدفع بأفلاذ كبدها إلى الفردوس الأعلى، وتحتسبهم جميعا عند الله، ولا يهمها إلا أن تسأل عن سلامة رسول الله، وجيش حزب الله.
ويدعوا النبي إلى الجهاد بينما عمير بن الحمام بيده ثمرات يأكلها، فيخشى أن تعوقه عن الجنة، فيرميها ويقول: ويحكن، والله إن بقيت حتى آكل ثمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ويرتجز:
ركضا إلى الله بغير زاد ... إلى التقى وعمل المعاد
وكل زاد عرضة النفاد ... غير التقى والبر والرشاد(967/17)
وفي سبيل الله. . يتعطل ركن من أركان الدين، كما أمر النبي بالإفطار في رمضان وهو في غزوة بدر، وأمر بتأخير العصر حتى يدرك بني قريظة في غزوة الأحزاب.
وفي سبيل الله. . تتحرك القلة المؤمنة لتقاتل الكثرة المشركة، (وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) ويقاتل المسلم بما معه والله ناصره، فقد رمى سعد بن أبي وقاص بعرجون فارتد سيفا، وكذلك عبد الله بن جحش وعكاشة بن محض، والعبرة بالإيمان لا بالسلاح، إذ تعجب المسلمون من سيف الزبير بن العوام يوم الخندق وقد ضرب بسيفه نوفل بن عبد الله بن المغيرة فشقه نصفين ووصلت الضربة إلى كاهل فرسه فقال: والله ما هو السيف ولكنها الساعد.
وثبت الله المجاهدين في سبيله بالملائكة والريح والمطر والنعاس آمنة منه وظلوا على الحق ظاهرين حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله عز وجل، إذ يقول نبي الجهاد (لا يبقين دينان بأرض العرب) ومن أجل هذا يكون الجهاد في سبيل الله.
محمد محمد زيتون(967/18)
دعوة محمد
لتوماس كارليل
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
العرب:
كان العرب أمة جاهلية عزيزة الجانب تعيش في بلاد كريمة، وكأنما الله قد خلق البلاد وأهلها على وفاق بينهما، فهناك شبه غريب بين صلابة البلاد ووعورتها وبين صلابة البلاد ووعورة مسالكها، وبين إقفار البلاد وجفاء طباع أهلها. ولكن كان يخفف من حدة صلابة البلاد ووعورتها، قيعان ذات أمواه ورياض فيحاء، وكلأ أخضر نضير، كما كان يلطف من صلابة نفوس العرب وقسوة قلوبهم، مزاج من اللين والدماثة ورقة الطبع.
كان العرب يعيشون في بلاد خرساء، تحيط بهم صحراء قفراء، تمتد إلى مدى البصر، فتخالها بحراً من الرمل. يصطلي حره طول النهار العربي ويكافح قره طول الليل، وقد ترك فيه هذا الجو أثرا ظاهراً، فكنت تراه يؤثر الصمت فلا يتكلم إلا فيما له صلة به ومساس بقومه.
وإن قوماً هذا شأنهم ينفردون وسط البيد، ويتنقلون بين الرمال والجبال، يناجون الطبيعة أسرارها، ويشاركونها أعاصيرها وجمالها، لابد أنهم يكونون خفاف الحركة، ثاقبي النظر، حداد الخواطر، أذكياء القلوب. وفوق ذلك فهم أقوياء النفوس متينو الأخلاق، لهم من شدة حزمهم وقوة إرادتهم، حصن منيع وحاجز يقيهم تقلبات الأخلاق عند غيرهم من الأمم، وهذا ولا شك منتهى الشرف وذروة الفضائل، وما بالك بقوم يضيف أحدهم ألد أعدائه، فيكرم مثواه، وينحر له ويقدم له أطايب الطعام، ويؤثره بأفضل ما عنده، فإذا أزمع الضيف الرحيل، شيعة وخلع عليه مما تملك يداه، وحملة ما يستطيع أن يجود به. فإذا لقيه في مكان بعيد عن داره وقومه، لا يحجم عن مقاتلته أخذا بثأره، رغم ما قضيناه من صحبة.
يزعم البعض أن العرب من عنصر اليهود، ولكن هذا زعم باطل، لا يقيمه دليل ولا ينهضه برهان، والحقيقة أنهم شاركوا اليهود في بعض الصفات، وامتازوا عليهم ببعضها. فقد شاركوهم مرارة الحد، وامتازوا عليهم، برقة الطبع وحلاوة الشمائل والوفاء بالعهد(967/19)
ونصرة الضعيف، وأريحية القلب وألمعية القريحة، فإن العربي رغم أنه طول وقته يظل صامتاً كما قلت، إلا أنه إذا تكلم تدفق فصاحة وقوة، وكان ذلك يظهر جلياً في منافساتهم الشعرية التي كانوا يعقدونها في جنوب البلاد، حيث تقام أسواق التجارة، فإذا انقضت الأسواق اجتمع العرب بسوق عكاظ وتناشدوا الشعر طالباً للجوائز التي كانت تعطي لمن جاد قوله وحسن قريضة. وكان هؤلاء الأعراب غلاظ الأكباد جفاة الطباع، ينصتون للمنشد فيجدون لرناته أثراً قوياً في نفوسهم، ويرتاحون لنغماته التي تأخذ طريقها إلى شغاف قلوبهم.
وأرى لهؤلاء العرب فضيلة تفوق كل الفضائل، وتجمع المحامد كلها، ألا وهي فضيلة التدين، فالعرب شديدو التمسك بدينهم، مهما كان لا يقبلون فيه طعناً ولا يسكتون على تجريحه، ولأنهم كانوا يعيشون في الصحراء يشاهدون مظاهر الكون، فكان أكثرهم يعبدون الكواكب وغيرها من كائنات الكون ويرون فيها مظاهر الخالق ودلائل عظمته.
وقد كان لهؤلاء العرب أنبياء سابقون جاءهم من عند الله، كما كان لهم أساتذة ومرشدون في كل قبيلة، يلتف حوله أهلها يقدرونه حسبما يبلغ من العلم والدراية وحصافة الرأي.
وكان مما اتصف به العرب المفكرون، الحكمة البليغة والرأي السديد، فقد اتفق النقاد على أن (سفر أيوب) أحد أجزاء التوراة، كتب في بلادهم، والدليل على هذا ما يمتاز به من فضل وشرف وحكمة. فهو أبرع ما سطر وأبلغ ما كتب، وبما فيه من عمومية الأفكار التي تخالف التعصب البغيض الذي يمتاز به العبرانيون. وسموها وشرف مقاصدها، ويكفي أنك تجد بهذا الكتاب اتصالا بكل نفس وأنه يمت إلى كل قلب، وأنه كالبيت العريق والمجد الأثيل، يفضي إليه منتهى السبل، ويتجمع فيه الأرج الضائع، وتحاول الانتساب إليه جميع الأنوق، فيه من الحزن الشريف آيات بينات، ومن التوكل الحسن الجميل دلائل ناصعة على قدرة الله وتدبيره الكون. وما بالك بكتاب يكون أول ما جاءنا عن مسألة المسائل. حياة الإنسان وما يكون له من نصيب في هذه الدار وفي الدار الآخرة، وما يكافئ الله به الإنسان على عمله، كل ذلك في يسر وسهولة ونصاعة بيان، إنه الحق من حيث أتيته، والنظر الثاقب والعلم الراسب في قرارة كل شيء وصميم كل أمر، مادي روحاني. وإن دل كل هذا على شيء فإنما يدل على فهم غزير وبصيرة نافذة.(967/20)
ما قرأت فيه يوماً إلا امتلأت نفسي سموا ورفعة، وأحس كأن قلب الإنسانية يترنم شجي ووجداً، ودمعها يفيض حرقة وكمداً. إنها الرقة في شدة والرأفة في قوة، وما أشبهها إلا بسحر الليلة الصائفة، نسيم عليل والوجود في جلال مشهد جليل عظيم. بل أشبهه بالكون وكل ما فيه من ليل ونهار وأنجم وبحار وحيوان وأطيار، ولن أكون مغالياً إذا قلت: إنه ليس في جميع أجزاء التوراة جزء يعادله قيمة وفضلا وقوة وبلاغة.
محمد النبي:
في هذه البلاد وبين هؤلاء العرب الذين ذكرت لك بعض صفاتهم، ولد محمد (صلى الله عليه وسلم) سنة 571 ميلادية من قبيلة قريش، أعز القبائل جانباً وأرفعها شأناً، ومن أعرق أسرها نسباً وهي أسرة بني هاشم. وأشتهر محمد بالجمال والعقل والفضل على صغر سنه، وقد أبصرت عين جده الهرمة ابنه عبد الله الذي كان حبيباً إلى قلبه في صورة حفيده محمد فأحبه بملء قلبه، وكان يقول: يحسن العناية بهذا الصبي فإني أرى أنه سيفوق كل أفراد الأسرة والقبيلة فضلا وحسنا؛ وعندما أحس الشيخ بدنو أجله عهد إلى ابنه أبي طالب الذي يعتبر أكبر الأسرة، والذي سيتولى مكان عبد المطلب، وكان رجلا عاقلا، بالعناية بمحمد، والقيام على تربيته أحسن القيام، فكان أبو طالب عند حسن ظن أبيه، فقد أولى الغلام عناية فائقة.
فلما اشتد عود محمد وترعرع، صار يرافق عمه في أسفاره في التجارة، وكان لهذه الأسفار أثر كبير في نفسه وفي حياته، فقد حدث في إحدى رحلاته إلى بلاد الشام، عندما بلغ حوال الخامسة عشر، أن وجد نفسه في عالم ذاخر، إزاء مسألة عظيمة الأهمية جليلة الخطر في نظره، وهي المسيحية التي تحدث عنها أمامه الراهب سرجاس (بحيرا) يوم سكن معه محمد هو وعمه
كان محمد لا يعرف إلا لغته، فلم يكن يراه من أحوال الشام ومشاهدها إلا مزيجاً من أمور لا يفهم لها معنى، غير أنه كان يرى بعينه الثاقبة النافذة، ومكس نظرة على لوح فؤاده أموراً وأشياء كثيرة، رسبت في أعماق ضميره، وإن يكن لم يفهم منها شيئاً، ولكنها بقيت ريثما يفسرها له الزمن وتجلوها الأيام، لتخرج آراء ونظرات نافذة وعقائد راسخة، فكانت هذه الرحلة لمحمد بمثابة فاتحة خير كثير وفوائد عظيمة في عالم الرسالة التي أمر بتبليغها(967/21)
لم يكن حظ بلاد العرب من العلم في ذلك العصر موفورا فقد كانوا حديثي عهد بصناعة الخط، فنشأ محمد كغيره من أبناء البلاد لا يعرف القراء ولا الكتابة وبالتالي لم يتلق دروسا عن أستاذ أو معلم، بل تلتقي علومه من الصحراء وأحوالها ووديانها وهضابها، واستطاع بقلبه أن يتلقى من هذا الكون اللانهائي درساً من أعظم الدروس فائدة وأكثرها عمقاً، دفعة إلى تدقيق النظر في معبودات قومه، فوجدها أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تدفع شراً ولا تجلب خيراً
لا ضير على محمد أنه لم يكن يعرف علوم الأرض كلها وما يضطرب فيه العالم. فقد كان في غنى عن ذلك كله بنفسه ونظره الثاقب وقلبه الكبير. إنه لم يقتبس من نور أي إنسان غيره، ولم ينهل من منهل أحد، فلم يكن كغيره من الأنبياء والعظماء الذين سبقوه، والذين استعانوا بغيرهم يتلقون عنهم ويتعلمون منهم، وإنما نشأ وعاش في كبد الصحراء بين الوهاد والجبال والأعاصير والرياح، بعيدا عن كل شيء إلا عن الطبيعة الفياضة وأفكاره الدافقة. والدي يعرف تاريخ محمد منذ نشأته يرى أنه منذ صباه كان دائم التفكير، يتجه ببصره نحو الكون العجيب، فلما بلغ الشباب أحذ يعتزل الناس شهرا كل سنة - وهو شهر رمضان الذي يصومه المسلمون الآن - فينقطع عن الناس مؤتنساً بالوحدة والسكون. متأملا في هذا العالم الواسع الذي لانهاية له، كان يخلو إلى نفسه يناجي ضميره بين الجبال الصماء، متجها بقلبه وعقله لأصوات الكون الغامضة الخفية يستطلعها أسرار الكون، ويستجليها ما غمض عليه. حتى إذا بلغ الأربعين من عمره وأقبل شهر رمضان، خلا إلى نفسه بجبل حراء قرب مكة، وقد استصحب معه هذه المرة زوجته خديجة وأنزلها في مكان قريب من الغار.
وبينما هو يتعبد ذات يوم، نزل عليه الملك الأعظم وأخبره بما كان يحير فكره وجلا له غامض الأسرار، وأرشده إلى ما يبحث عنه، فحرج إلى خديجة يخبرها أن الله تفضل عليه فأنار له الشبهة وجلا الشك، ثم أخبرها أن جميع هذه الأصنام التي يعبدها قومه ليست إلا أخشابا وأحجارا حقيرة لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، وأن الحقيقة بالعبادة هو الله الذي لا الله إلا هو، وأن سائر الكائنات ليست إلاضلا له ودليلا على عظمته وقدرته، إنه النور الأبدي والسر السرمدي. الله أكبر ولله الحق.(967/22)
أصغيت إليه زوجته في دهشة واستغراب، ولكنها ما لبثت أن أمنت به وصدقته (أي وربي إنه الحق) وقد رأى محمد في إيمانها بكلمته، جميلا يفوق كل جميل، فشكرها على هذا الصنيع وعرف لها هذا الجميل طوال حياتها، فكان يذكرها دائما بالخير والثناء، حتى أن زوجته عائشة التي اشتهرت بالفضائل بين المسلمين طول حياتها، وبما لها عند محمد من مكانه، سألته مرة: (ألست الآن أفضل من خديجة؟ هل كانت إلا أرملة قد ذهب جمالها، وأرى إنك تخصها بالحب أكثر) فرد عليها محمد في شيء من الغضب (لا! والله لست أفضل منها وكيف تكونين آثر منها عندي وهي التي آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء).
لقد عرف محمد لخديجة صنيعها، فليس أروح لنفس المرء وأثلج لصدره من أن يجد له شريكا ينظم إليه في اعتقاده ويقف بجانبه وقت المحنة والشدة، ولقد قال نوفاليس: (ما رأيت شيئا قط أوثق لاعتقادي وآكد ليقيني من أن ينظم إلى إنسان آخر يوافقني رأيي ويعتقد عقيدتي).
جهاد محمد:
خرج محمد إلى قومه يذكر لهم رسالته ويدعوهم إلى عبادة الله ونبذ عبادة الأصنام، فكان يصادف جمودا من قومه وسخرية لاذعة، كفيلة بأن ترد أي إنسان عن أعز شيء عنده وأن تحطم أقوى الأعصاب صلابة وقوة، فقد قضى أعواما ثلاثة في جهاد متواصل فلم يؤمن بدعوته إلا ثلاثة عشر رجلا، فهل هذا يعد تشجيعا؟ إن كان يعتبر هذا تشجيعا، فبئس هذا التشجيع، ولكنه المنتظر في كل دعوة كدعوة محمد، في قوم لهم عقائد وعبادات يعتزون بها ويتمسكون.
وبعد هذه الأعوام الثلاثة جمع أربعين رجلا من ذوي قرابته، وقام فيهم خطيبا، ذكر لهم دعوته، وما أوحى الله به إليه وأنه يريد أن ينشرها بين الناس وفي أنحاء الكون، فمن منهم على استعداد لأن يمد له يده ويأخذ بناصره وهم أهله وعشيرته. فدهش القوم وتملكهم العجب وسادهم صمت رهيب، وبينما هم في صمتهم، هب من بينهم شاب في السادسة عشرة من عمره وقد غاظه سكوتهم، فصاح بصوت كأنه الرعد، إنه ذاك النصير والظهير،(967/23)
هذا الشاب هو علي ابن أبي طالب. فسخر القوم منه وانفضوا ضوا ضاحكين، ولكن الأمر لم يكن مما يسخر منه بل كان في غابة الجد والخطر.
لقد كان في عمل محمد، إساءة لقريش، سدنة الكعبة وخدمة الأصنام، فسرى أمره ببطيء شديد لا يشجع أحد ولكنه كان سريان على كل حال.
ودأب محمد يؤدي رسالته إلى كل من يصغي إليه فكان ينتهز مواسم الحج فيذكر دعوته بين الحجيج مدة إقامتهم بمكة ويستميل الاتباع هنا وهناك، وهو في أثناء ذلك يلقى مجاهرة بالشر ومناسبة بالعداء ومنابذة ومناوئة في كل مكان، فاستقر رأيه هو وأصحابه على الهجرة إلى الحبشة. فلما علمت قريش بذلك ساءها الأمر وتضاعف غيظها من محمد وحنقها عليه فأقسمت بآلهتها لتقتلنه بأيديها. وشددوا عليه النكير فلم يستطع تنفيذ خطته، وصار حرجاً في غاية الحرج وخصوصاً بعد زوجته خديجة وعمه أبو طالب اللذان كانا له المعين ونعم النصير، فجعل يختبئ في الكهوف وقومه يطاردونه من مكان إلى مكان، تتوعد المهالك وتتهدده الخلوف، وتغفر له المنايا أفواهها، ويقف محمد يتلفت فلا يجد ناصراً ولا مجيراً، ولكن الأمر الذي جاوبه ذلك الأمر العظيم، لم يكن لينتهي على مثل تلك الحال، ومحمد ذلك الصابر القوي الإرادة الثابت العزيمة، لم يكن ليوهن من عزمه كل ذلك الاضطهاد والمطاردة، ليتوقف عن أداء رسالته.
فلما اشتد أذى الكفار له وحنقهم عليه وكان قد انقضى ثلاث عشرة سنة على دعوته لقومه ووجد أعداءه يتربصون به جميعاً، وقد تجمع منهم أربعون رجلاً يمثلون جميع القبائل، ليقتلوه، عرف أن مقامه بمكة أصبح مستحيلاً، لا يستطيع معه أداء مهمته، هاجر إلى يثرب حيث استجاب لدعوته أهلها الذين سموا بالأنصار وسميت البلدة بالمدينة. أي مدينة محمد.
وكان محمد إذ ذاك قد صار شيخأ كبيراً فقد باع الثالثة والخمسين من عمره، ولكن أهل مكة ما إن علموا بمكانته حتى أخذوا يلاحقونه برسائلهم وغاراتهم وكيدهم وعدائهم، فرأى أنه لا سبيل إلى الحياة ونشر الدعوة إلا إذا امتشق الحسام، الذي يزيل حدة كالحات المحن، فقد كان أمامه سبيل وعر وخطة نكراء وقوم يملأ العناد قلوبهم، فإذا لم يجد من نفسه قوة على مجالدتهم، كان مصير دعوته الزوال، وهكذا شأن كل إنسان في مثل هذه الأحوال. والحق أقول، لقد كان محمد يريد أن ينشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن مل حيلته إزاء(967/24)
هذه الصعاب، فعزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه وعن دينه دفاع رجل ثم دفاع عربي حر كريم. وكأني أسمعه يقول: أما وقد أبت قريش إلا الحرب، فلينتظروا أي فتيان هيجاء نحن.
وحقاً رأى وحسناً فعل فإن أولئك القوم الذين صموا آذانهم عن سماع كلمة الحق وغلفوا قلوبهم عن شريعة الصدق، وأبوا إلا الاستمرار في ضلالاتهم، يسلبون وينهبون ويقتلون النفس التي حرم الله، ويستبيحون المحرمات ويهتكون الحرمات، ويفاخرون بإتيان الإثم والمنكر، قد جاءهم نور من الله وكتاب مبين يدعوهم بالرفق والإثارة، فأبوا الاعتوا وطغيانا. فما على محمد إلا أن يجعل الفاصل بينه وبينهم المسند والوشيج والمقوم، وإلى كل سامجة جرداء ومسرودة حصداء، حتى تلين قناتها عزين.
وهكذا امتشق محمد وأصحابه الذين باعوا أنفسهم في سبيله وفي سبيل دعوته، سيوفهم عشر سنوات في حرب وجهاد لم يهدؤوا لحظة ولم يستريحوا غمضة عين وهو يقودهم من نصر إلى نصر كأعظم ما يكون القائد العبقري وكأشجع ما يكون المقاتل فقد كان يقف وسط المعركة لا يهاب ولا يخشى، بل كان أصحاب يلوذون به في كثير من الأحيان، وبذلك استطاع أن ينشر دينه بين أبناء الصحراء وأن يفتح مكة التي خرج منها خائفا يترقب.
الطبيعة تنصر الحق:
تحدث كثيرون عن نشر محمد دينه مجد السيف، واتخذوا هذا دليلا على كذبه وأنه واحد من أولئك الطغاة المتجبرين الذين يريدون المجد والحياة ونشر مبادئهم بالقوة سواءا كانت صالحة أم ضارة، ولكنهم مخطئون كل الخطأ وشد ما يتعسفوا في هذا القول. فهم يقولون: (إنه لولا السيف والحرب لما انتشر دين محمد ولما وجد أنصارا) ولكن فاتهم أن قوة هذا الدين التي أوجد السيف، هذا الدين الذي نشأ في رأس واحد فقط وهو محمد، الذي وقف ضد العالم أجمع، فإذا تناول هذا الإنسان سيفه وقام في وجه الدنيا ليسمع صوته القوي وحجته الدامغة ودعوته الصادقة، نعتناه بالكذب ووصفناه بالطغيان والجبروت وانتقصنا منه ومن دعوته، إنه وربكم أن المنكبون ما أنتصر هذا الدين إلا أنه الحق، فقلما يضيع إنسان يدعو دعوة الحق والصدق، إذ أن الحق ينشر نفسه بأنه طريق مهما كان نوعها.(967/25)
لقد كانت النصرانية لا تتوانى في استخدام السيف في كثير من الأحيان، وحسب هؤلاء ما فعله شرلمان بقبائل السكسون، فلا ضير على الحق أن ينتشر سواء كان باللسان أم بالسيف أم بأي نوع من الأنواع، لأن الحقائق يجب أن تنتشر ويظلل سلطانها كل مكان سواء كان ذلك بالخطابة والكتابة أم بالحديد أو النار.
لندع الحق يكافح ويجاهد بالأظافر والأيدي والأرجل، وسنرى بعد ذلك أنه سيخرج من المعركة منتصرا مهما كانت شدتها ومها طال مداها. وأنه سيفنى كل ما هو أحط وأدنأ، إن الحرب بين الحق والباطل حرب لا حكم فيها إلا للطبيعة، ونعم الحكم ما أعدله وما أقسطه. ونحن لا نخشى على الحق الانهزام لأنه أعمق جذورا وأكثر أعراقا في الطبيعة، أو التهريج والجلبة والضوضاء فلا حياة لها ولا مقام أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
لقد قلت إن الحكم بين الحق والباطل للطبيعة وما أقسط وأعدل هذا الحكم بل ما أرأف وأرحم. ألستم ترون إننا نأخذ الحبوب فنجعلها في جوف الأرض وكثيرا ما تكون هذه الحبوب مختطة بالتبن والقمامة والتراب وغير ذلك من الأقذار، إننا نلقى الحبوب بجميع ما يخالطها من القذى والأوشاب في بطن الأرض العادلة الرحيمة، فلا تلبث أن تخرج لنا نباتا نقيا خالصا، أما القذى والأوشاب فإنها تفنيه في باطنها وتطوى كشحا عنه ولا تذكر عنه شيئا. وهذا هو عمل الطبيعة في جميع أحوالها وشئونها فهي حق لا باطل فيه، وهي عادلة رحيمة حنون عظيمة، وهي مع ذلك لا تتطلب من الشيء إلا أن تكون حر المعدن صادق اللباب، وهى كفيلة بحمايته وحراسته.
أما إذا كان دخيلا عليها رديء المعدن فإنها تلفظه وتلقي به إلى الأنواء والأعاصير فلا تلبث أن يندثر ويذهب هباء.
إننا نرى لكل شيء تحتضنه الطبيعة وتحميه روحا من الحق والصدق، فإن شأن الطبيعة مع كل حقيقة كبرى جاءت إلى هذا العالم أو يقدر لها المجيء إليه، شأنها شأن الأرض مع بذور الحبوب، فالحقائق خليط نور وظلام وحق وباطل وصدق وكذب، وهي تأتينا في صور قضايا منطقية ونظريات عملية، ثم لا تلبث أن تختفي وتتغلب النور على الظلام ويظهر الحق على الباطل، فتموت الحقيقة ويفنى جسمها لأنها كائن، ولكن روحها يبقى أبد(967/26)
الدهر، ويتخذ ثوبا أنقى وبدنا أطهر، ولا يزال يتنقل من جيد إلى أجود ومن حسن إلى أحسن، سنة الطبيعة التي لا تتبدل، ولن تجد لسنة الطبيعة تبديلا.
إن جوهر الحقيقة وروحها لا يدركه الفناء ولا يعدو عليه الزمن، ولكن الشيء العام والأمر الوحيد هو هل روح الحقيقة وجوهرها حق وصوت من أعماق الطبيعة؟
إن ما نسميه بنقاء الشيء أو عدم نقائه، ليس بذي أهمية عند الطبيعة، إنما الأمر المهم عندها، هو هل هذا الشيء فيه جوهر حق وروح صدق أم لا.
فإذا تقدمت أنت مثلا أيها الإنسان إلى الطبيعة لتصدر حكمها فيك فإنها لا تسألك أفك أكدار وشوائب أم فيك صفاء ونقاء، وإنما تسألك أفيك روح وجوهر، أفيك حق وصدق؟
فإن كان فيك حق وروح، فإنها تصدر الحكم لك، وأعلم أنك خالد أبد الدهر باق رغم تقلب الأعاصير والأنواء.
إن كثيرين من الناس يقولون لك إنك نقي نظيف، وربما تقول لك الطبيعة، نعم إنك نقي ولكنك قشر، وباطل وكذب وزور وجسم بلا جوهر ولا روح، وإنك مجرد اصطلاح وليس بينك وبين الحق صلة ولا سبب وإنها منك براء. وعند ذلك فقد كتبت عليك الفناء مهما امتد بك الزمن، لأن الطبيعة تقول إن البقاء للجوهر والروح.
(أسيوط)
عبد الحافظ عبد الموجود(967/27)
الشعب المقلم
للأستاذ أحمد قاسم أحمد
لا أعتقد أن هناك شعبا وهب الحيوية الدافقة، والاستعداد الشره للتطور والرقي، والعقلية الساعية للتجديد والابتكار، ومسايرة ركب الحضارة والتمدن، مثل ما وهب ذلك المكروب. . . شعب مصر. . .!
ولا أعتقد إن هناك ظلما وقع على هذه القوى الحية الدافقة عند أي شعب من شعوب الأرض، مثل الظلم الذي وعق عليها عند هذه الشعب المنكوب. . . شعب مصر. . .!
ذهب قصار النظر في ميادين الاجتماع ودراسة نفسيات الشعوب، إلى اتهامه بما يشين ولا يشرف. قالوا إنه شعب ألف الخنوع والمذلة، واستنام إلى الضعة والمهانة، وآثر حلاوة اللقمة مع لاذعات السوط، على مرارة الكفاح مع عقبى الحرية. . . وهذه هي الفردية التي ظنها الاستعمار حقيقة، فراح يستهين به أي استهانة، ويلهو بإفراده أي لهو.
فهم القطيع العامل إن احتاج إلى العاملين. . .
وهم الطعام السائغ لرصاص أعدائه إن اشتدت به الكربة في الميادين، وهم الملهاة السائغة إن رغب في التفريج عن جنوده المكدودين. ومن هنا قال قائلهم: إن ثورة المصريين جذوة تطفئها بصقه. . .؟ ولكن الحقيقة الهائلة كانت تكمن وراء ذلك. كانت تستقر في أعماق كل فرد من أبناء هذا الشعب. . . كان الشعور بالحرية والسيادة ليس عنصرا دخيلا على نفسه، بل كان تراثا معجونا فيما ورثه عن أبنائه وأسلافه، وعن طريقه نهض يدفع ويدافع، ويبذل ويضحي في كل ثورة ثارها، حمل لواءها وأوقد نارها، واستدارت عينا الدخيل دهشة وعجبا، وتراءت له الحقيقة سافرة، تصرخ في وجهه في قوة وجبروت، أو تهزأ من ظنه في سخرية واحتقار. . . وبانت له الهوة العميقة التي عاش في قرارها ردحا من الزمن، يألف أن يحس الخماد، ولا ينفى أن يشتعل الرماد، ولكن لا يسمح لظنه وخياله أن يسبغا على الحملان الوديعة يوما صفة الثورة للكرامة، والعزيمة للسيادة.
وذهب يتحسس طريقه بعيون غاشية، وأبصار غائمة ونفوس هلعة، فأقبل بالحيلة والمكر، يقدم الاستقلال في طبق المعاهدة، فيحيله من غذاء نافع إلى سم ناقع، ومن حقيقة زاهية إلى أكذوبة واهية، ينخدع لها السذج الأغرار. . . وجازت الحيلة على الزعماء فأقبلوا على(967/28)
الوجبة المسمومة بشهية مفتوحة. . . وطفق الإنجليز يستعدون لملاقاة الشعب من جديد.
أشرفوا على الجيش فنكبوه وأماتوه. . . وساعدهم المتزعمون بالرضا والتشجيع، فتركوا قوانينهم الرزق توثق الشعب باليمين والشمال: فالإعفاء من الجندية للدافع والحافظ. . .
وحمل السلاح محظور. . . والاجتماعات لها عندهم نصوص وعقوبات. . .! وهكذا التفت الشعب فوجد أن يبذل من دم وعرق، عاد عليه قيد يغل، وسيفا يرهب، وتشريعا يجور. . .!
وهكذا نشأ الجيل الحاضر: جيلا لا يعرف كيف يمسك سكينا، ولا يصوب بندقية ولا يرمي قنبلة. . .
نشأ جيلا له الأصابع وليست له الأظافر، له الفم وليس له الناب، له القوة ولكن لها ما يحطمها، لها الحشيش والأفيون والكوكايين والهيروين. تخدر الأعصاب فلا تحس بر واعد النذر تدوي كل يوم حول آذان لا تسمع، وتبرق كل آن أمام نواظر لا ترى. . . ورضى - هذا الجيل - لنفسه أن تسمح لغيرها - في الحرب الثانية - بالدفاع عن أرضه. . . ناسيا أنها سبة لا تغسلها إلا هبة، وعار لا تمحوه إلا نار. . .!
واستنام الإنجليز للمرة الثانية؛ فقد استطاعوا أن يمدوا أيديهم إلى مواطن القوة في الشعب فخنقوها، وإلى الغدة التي تنزو بالعزة والإباء في النفوس فجففوها. . . وباتوا وأصبحوا. . . فإذا قطيع يضرب فلا ثغاء، ويحلب فلا استعصاء، ويستحث فلا إبطاء. . . ورقصت الفرحة في عيونهم رقصة النصر. . .!
ولكن الجفاف الذي أصاب الغدة كان طارئا فزال، ومؤقتا فانقشع، وعادت تنزو من جديد. . .! وعربدت في الصدور نوازع الشمم، عنيفة كأقسى ما يكون العنف، قوية كأعنف ما تكون القوة، وآثر - القطيع - هذه المرة أن يكون حذرا واعيا، وأن يجتث الشر من أصوله، لقد رأى المعاهدة تفرض على كل يد قيدا، وعلى كل عين غطاء، وعلى كل كتف نيرا، فألغاها. ورأى الاحتلال يسميه خسفا، ويقتله جوعا، ويرفع على ظهره سوطا، وأيقن أنه لا يدافع بيد عارية، وأفواه خاوية، فهب يدفع كل هذا عنه، ثم بدأ وفي كفه المخلب، وفي فمه الناب، وفي قلبه العزم. بدأ وفي يده المدفع، وفي جيبه القنبلة، وفي منطقته الرصاص، وتحت إبطه اللغم. . .(967/29)
وزحف إلى هناك. . إلى القنال. . . وفي هدوء وسكينة، راح يشعل اللغم تلو اللغم، ويستقبل الفزعين من أعدائه بالمدفع ويطارد فلولهم بالقنبلة. . .! يقتحم الشوك ويجتاز الترع، ويلاقيه وجهها لوجه، قوة لقوة، وسلاح لسلاح، وعنده فوق ذلك الإيمان بالحق. . . والإيمان بالنصر. . .
وعندهم دون ذلك الإحساس بالتطفل، والشعور بالحرج والحجة التي سقطت من بين أيديهم، والفزع الذي وقع في قلوبهم. . .!
لم يكن ما يأتيه هذا الشعب اليوم العجب أو ضريبة، قدر ما كان استجابة صادقة لتلك النوازع الأصيلة الموروثة في أعماقه. . . ألا فليشهد العالم وليسمع إن رغب عن أن يشهد، وليعلم إن رغب عن كلا الأمرين، أن كل مصري يقول اليوم: أنا مصر. . . ومصر أنا. . . لا ذله ولا هوان، ومرحبا بالقوة التي تحاول إرغامي على إنكار هذه الحقيقة. . . مرحبا بها. . . فالمدفع في يدي. . . والقنبلة في جيبي. . . والذخيرة في جعبتي، واللغم تحت إبطي. . . والله معي. . . أنا. . .!
أحمد قاسم أحمد.(967/30)
الضمير البريطاني
للأستاذ قدري حافظ طوقان
أعلنت مصر في 8 تشرين الأول سنة 1951 إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي 1899 على لسان رئيس وزرائها في بيانه الحاسم الجامع في مجلس النواب المصري. ولقد أستقبل الناس هذا النبأ بالدهشة والوجوم في إنكلترا. وبالسرور والتقدير في الأقطار الشرقية وبعض الأقطار الأوربية والأمريكية المحبة للسلام والديمقراطية، ففي هذا الإلغاء معنى رائع من معاني الوعي واليقظة، كما إن لهذا الإلغاء نتائج خطيرة ذات أثربعيد في حياة الشعوب التي لا تزال تقاسي من المستعمرين والاستعمار ألونا من الضغط والإرهاق وأنواعا من الظلم والعذاب. في هذا الإلغاء دليل قاطع على رغبة الشعوب الشرقية في التحرر والانطلاق وعلى إنها لم تعد تصبر على الأساليب التي كانت تسير عليها دول الاستعمار في القرن التاسع عشر من ادعاء مسؤولية المحافظة على الأمن والنظام في البلاد المتأخرة ومن انتحال التبعات في تمدن الرق وترقيته، وعلى أساس هذه التعليلات كان المستعمرون (وفي مقدمتهم بريطانيا) يقاومون الحقوق الوطنية والنهضات القومية.
لقد أقدمت مصر على الإلغاء والتخلص من قيود الاستعمار بعد أن صبرت طويلا، وبعد أن قامت بمداولات واتصالات متعددة ومفاوضات متكررة، ولكن الجانب البريطاني - وقد سار بعقلية القرن التاسع عشر - أبى أن يخضع للحق الصراح والحجج الدامغة؛ كما أبى أن يدرك حق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة حق مقدس قامت على أساسه مبادئ هيئت الأمم المتحدة، أقول: لقد أبى الجانب البريطاني أن يخضع وأبى أن يدرك أن الشعوب في القرن العشرين لا تحكم بعقلية القرن التاسع عشر، ولا بالأساليب الرجعية، فكان هذا التمرد على الاستعمار وقيوده في الهند وإيران والملايو ومصر، وكانت هذه الثورات على الظلم والطغيان.
لقد استهترت بريطانيا بحقوق الشعوب واستهانت بكرامتهم ولم تقيد نفسها بما توجبه عليها المعاهدات من التزامات وواجبات بل راحت تسير في معاملة مصر على أساس الاستغلال والاستعباد والاستخفاف بالعقول والحقوق.
وقد يسأل أحد الناس: ألم يدرك العب البريطاني - وقد بلغ شأوا بعيدا في التقدم المادي(967/31)
والثقافي - أن الأساليب الاستعمارية لم يعد يحتملها أو يصبر عليها أحد؟ وما هو التعليل لعدم يقظة الضمير البريطاني ولوقفة جامدا أمام الأساليب التحكمية والاستعمارية التي سارت عليها الحكومات الإنكليزية؟ وهل ما يجري في المستعمرات وفي البلاد التي ابتليت بالانتداب يتماشى مع روح العصر وتقدم الأفكار ويقظة الضمائر؟
إن الشعب الذي يستسيغ مأساة فلسطين وأقامت دولة إسرائيل بعد أن مهدت حكومته لتشريد مليون عربي وسلب أموالهم وحقهم في الحياة في بلادهم، ويستسيغ المظالم التي صبها الاستعمار البريطاني في الهند وإيران والتي لا يزال يصبها في بلاد العرب والملايو - أقول إن الشعب الذي يستسيغ كل ذلك، ولا يوقف الأساليب الباغية التي تلجأ إليها حكوماته لهو شعب ناقص التربية جامد الضمير.
ذلك لأن التربية التي لا تنمي في الشعب روح العدل الشامل وروح الخير العام وروح النفور من الظلم والاعتداء لهي تربية ناقصة قد طغت عليها المادية والنفعية فأعمت (الشعب) عن الحق والحقائق فضاق أفقه وأصبح لا ينظر إلى القضايا والمشاكل إلا من زاوية مصالحه الخاصة.
ومن يدرس مذهب بعض الفلاسفة الإنكليز يتبين له السر في جمود الضمير البريطاني؛ فمذاهب الفلاسفة الأخلاقية توضح لنا المثل الأعلى كان لهذا الشعب أو ذاك، ويمكن اتخاذها مقياسا لتقدم الضمير الإنساني لقد برز في إنكلترا في القرن التاسع عشر الفيلسوف (جون ستيوارت مل) وهو صاحب مذهب خاص في الأخلاق يطلق عليه مهذب النفعية (بوتيليتريا نزم) ويقوم هذا المذهب (أو هذه النظرية الأخلاقية) على اعتبار المنفعة أساسا للأخلاق. وقد أتى (مل) في شرح ذلك على بيان تحليل غريزة حب المنفعة وإرجاع الفضائل إليها مستعينا في هذا بعلم النفس والاجتماع. وليس المجال الآن مجال تفصيل هذا البيان، ولكن يمكن القول أن مذهب (مل) في النفعية لم ينتهي إلى الغاية التي أرادها له بعض الفلاسفة، بل جنى على الأخلاق ونزل بها عن مستواها العالي بجعله (المنفعة) أساس كل عمل وإرجاعه الأعمال الأخلاقية إلى بعض الغرائز والقوى النفسية. وعلى هذا تسير الأخلاق على ضوء الغرائز والميول بدلا من أن تضبط الأخلاق وما في الإنسان من غرائز جامحة وميول عنيفة.(967/32)
لقد تأثر الإنكليز بهذا المذهب فساروا في أخلاقهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم على أساس (النفعية) وسايروا ميولهم وغرائزهم وكيفوا أخلاقهم عليها، فكان هذا الطابع الذي تميز به الإنكليز على سواهم وهو (مصلحة بريطانيا فوق كل المصالح) حتى ولو كان في ذلك الأضرار بالناس والاستهتار بحقوق الشعوب والاستهانة بالمكرمات.
ولهذا لم يعد مجال للدهشة أو العجب من الخلق الإنكليزي ومن تسييره في الطرق المؤدية إلى المصلحة الذاتية أو الخاصة، ولا من عدم تقدم الضمير البريطاني على الرغم من التقدم الكبير الذي أصابه الإنكليز في سائر ميادين الحياة. فسياسة الإنكليز الخارجية واتجاهاتهم الخلقية تتحرك كلها في دائرة النفعية والاستغلال. وهم ينظرون إلى حقوق الشعوب الأخرى ومصالحها وإلى الإنسانية من زوايا مصالحهم ومنافعهم. وقد نجحت هذه السياسة وهذا السلوك بعض الوقت في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، ولكن بعد أن تقدم العلم هذا التقدم العجيب وبعد أن استيقظت الشعوب فهبت من غفلتها أصبح من المستحيل على بريطانيا أن تنجح في أساليبها وخططها الاستغلالية.
وهذا ما يجب أن يدركه الإنكليز حكومة وشعبا.
ويقولون أن العقلية البريطانية تمتاز (بالمرونة)، ولكنها (كما يبدو لي) مرونة بطيئة جامدة لا تساير روح العصر ولا تتحرك في إطار التقدمية. وعلى ذلك فقد فشلت السياسة البريطانية في الشرق في هذه الأيام، فتتابعت عليها النكسات مما يهدد مصالحها ويؤدي إلى القضاء على نفوذها وهيبتها.
قدري حافظ طوقان(967/33)
وجه للمقاطعة
لتاجر أديب
لنترك الفدائيين الذين وهبوا حياتهم لله والوطن يصولون في ميادين الجهاد ويجولون. ولنترك الحكومة تعمل أعمال التؤدة والترصن حسبما تقتضيه ظروف الحال وتقلبات السياسة. ولنترك الغرف التجارية في سيرها السلحفائي تتدارس أمر مقاطعة التجار الإنجليز والتحول عنهم إلى أسواق أمم تجارها أقل ضررا علينا من أعدائنا. ولندع الأمة جانبا فإن الهبة التي تهبها بين فترة من الزمان وفترة، إنما مردها الآن إلى عدوان جديد يقترفه الجيش البريطاني ضد البلاد وأهلها في القنال، إلى انتقام يقوم به أبنائنا البررة فيذيقون أجناد الإنجليز مرارة الموت، ويعلمونهم معنى القتال بين مؤمن بالله وبوطنه وبالرغبة في الحياة، وبين مؤمن آخر إيمانا وثيقا بأن مصير إمبراطوريته إلى الانكسار والزوال لأنها أدركت سن الشيخوخة وهي آيلة إلى الموت القريب، سنة الله في الشيوخ الفانين. أيقنت بعد أن أهبت بغرفتها التجارية أن تحرض التجار المستوردين أن يلغوا الطلبات التي طلبوها من التجار الإنجليز. وأن يقفوا التعامل معهم، وأن يفعلوا ذلك دفعة واحدة وفي يوم واحد حتى تكون مظاهرة التجار أبعد أثرا وأكثر نفعا من يوم اشتركت فيه جميع طبقات الأمة في التظاهر والاحتجاج على عدوان الإنجليز. أقول أيقنت أن الحكومة ستظاهر الغرف التجارية وتعضدها في إبراز فكرة المقاطعة إلى حيز الوجود؛ لكنها - سامحها الله - سلكت سبيل الدبلوماسية أو سبيل المواربة في عمل كان يجب أن يكون عاجلا، لأن اجتماع تجار مصر المستوردين على رفض جميع الطلبات من إنجلترا لا يساوي فقط حبس ستين مليون جنيه تدفعها مصر ثمنا لسلع تشتريها من أسواقها التجارية، بل هي تدفع مئات من التجار الإنجليز إلى الوقوف في وجه حكومتهم يسألون عن معنى إقفال هذه السوق التجارية في وجوههم وهم يتضورون جوعا ويطلبون غذاء يستردون عافيتهم ومركزهم المالي المزعزع.
لنترك الغرف التجارية على إشراك غرف تجارة الدول العربية معها في كيفية إحكام حلقة المقاطعة، ولنقنع أنفسنا بأن رجال الغرفة التجارية حسنو النية، وأنهم لا يقلون وطنية في ميدان المال عن وطنية أنبائنا الذين يجودون بأرواحهم، ومن أبناء الإسماعيلية والسويس(967/34)
الذين يحملون العبء بجلد المؤمن وصبر المجاهد. لنترك هؤلاء جانبا لنطالب - أستغفر الله - فأني كدت أطاوع قلمي فيسطر مطالبة الأغنياء بأن يمدوا يد المعونة إلى عائلات الشهداء أو إلى مساندة رجال الكتائب الفدائية، ولكني أستدرك هذا الأمر العظيم لعلمي بأن أغنياءنا - حفظهم الله - قد استنفذت مصا يف أوربا وموائدها الخضراء والحمراء في صيف هذا العام أكثر ما ربحوه من بيع أقطانهم، وأن ما تبقى لهم من أثمان محاصيلهم الأخرى قد تسدد مطالبهم الضرورية من إشباع المعد وإمتاع الجسد وسواهما، ولكني أطالب طبقة متوسطي الحال من موظفين وتجار وأطباء ومن يضارعهم ومن السيدات والآنسات من الطبقة الوسطى أيضا، إني أطالبهم بل أطلب منهم أن يلقوا نظرة على صوان ملابسهم فيجدون فيه أكثر من بدلة واحدة لفصل الشتاء وأكثر منها لفصل الصيف؛ أما السيدات فإن لديهم فساتين لكل فصل وكل صبح وكل مساء وحفلات. فما ضر هؤلاء السادة والسيدات لو عقدوا العزم الاكتفاء بما لديهم من ملابس؟ ما ضرهم لو صمموا فيما بينهم وبين نفوسهم على الاستغناء عن الكماليات فضلا عن الضروريات؟ ما ضرهم لو يعلنون هذا التصميم على الاكتفاء بما لديهم من لباس بين إخوانهم ومعارفهم وأندادهم فتسري عدوى حب المقاطعة الأجنبي بين الجميع؟
ليس عارا أن أظهر أمام الناس ببدله واحدة ألبسها طوال العام، ولكن من الحقارة لنفسي أن أعمل عملا واحدا يشعرها بأني أشارك جميع طبقات الشعب في إظهار العداء لمغتصبي بلادنا، وسارقي خيرات أرضنا، وقاتلي أولادنا.
إن قرشا واحدا أضن به على الإنجليزي إنما هو لقمة أنتزعها من حلقه، فما بالك بستين مليونا من الجنيهات تدفعها مصر ثمنا لبضائع تشتريها من مصانع الإنجليز؟
ليس في الطبقة الوسطى والحمد لله من مستوزر أو طامع بكرسي الوزارة حتى يجن جنون ذلك الرجل الذي قيل لنا أنه لما نزلت به نازلة الوزارة وتبوأ أريكة الحكم ذهب إلى أحد مشاهير الخياطين فأمره أن يخيط له ستين (بدله).
أي والله ستون بدله اشتراها صاحب المعالي لأن مقام الوزير لا يبرز في العظمة إلا ببدلات تستبدل في ساعات الصباح والمساء مرة ومرات!!
لي كلمة أخرى وأخرى أوجهها إلى الأطباء والصيادلة وتجار المستحضرات الطبية(967/35)
والكيميائية وتجار الآلات الزراعية والبخارية وأدوات الري على أنواعها أرجئها إلى فرصة قريبة.
تاجر.(967/36)
رسالة الشعر
صور وتماثيل لرجال الجيل:
رجال الثورات المصرية
1 - محمد بك الألفي في دمنهور
للأستاذ عبد اللطيف النشار
في دمنهور أمة تكره البغي ... وكانت ولم تزل مستقله
أقصت الأجنبي عنها فولى ... مستعيذا منها يسابق ظله
سابحا في الوجود يطلب مثله ... كل شكل منهم يوائم شكله
حيث تلقاه فالنقائص طرا ... لم تسر بعده ولم تمش قبله
والمخازي مصائد وضعتها ... ابني الشرق أمة محتله
قبل إدراكها وبعد وم ... ن عهد بعيد والبغي دين ومله
ارجعوا عن مجالنا مائة الأ ... عوام نبصر برهانهم والأدله
في المماليك واحد يطلب الم ... لك تولت هدى المدينة خذله
ما أفاد الألفي مما جناه ... في دمنهور غير بؤس وذله
راسل الإنكليز يطلب عونا ... ولدى القوم دونه ألف عله
ولدى القوم منذ كانوا وعود ... كاذبات لمن يريدون ختله
ولمن لا يحاولون أذاه ... غمروا بالمواعد الكون كله
عبثا أن نعدها حسنات ... فيه داعي العدى ليخذل أهله
كان أهلا لولا الوثوق بخصم ... ظاهر الغدر أن ينهض دوله
الكفايات كلها مجتواة ... في نفوس بغبرها مستظلة
وصديق للإنكليز عدو ... لبني مصر وللشرق جملة
لو أرادوا أن يصدقوا ما استطاعوا ... خلق الكذب عندهم في الجبلة
وعدوه من قبل أن ينصروه ... وغبين مستنجز الوغد بذله
ليس من آداب باسط الكف يست ... جدي نوالا أن يلمس الناس فضله(967/37)
أمة لا تكف تطلب شيئاً ... طلبا تنكر الفضيلة شكله
إن تنله غصباً فغصباً وإن لم ... تستطعه خفت تحاول نشله
أمة لا تعف عن أي شيء ... تنكر الأنفس الشريفة فغله
والبغي الألفي يبغي نداها ... واقفاً خيله هناك ورجله
العيون الزرقاء في الأوجه السود ... مثال لمن تشبه مطله
والعيون الزرقاء في الأوجه السود ... مثال للأمة المعتله
زعمت أن للخليفة عهدا ... ووفاء العهود للحر خله
ثم قالوا نعم سنبعث جيشا ... فانتظر حيث أنت تسعين ليله
صدق الكاذبين وانتظر الجي ... ش ومستمرئ الأكاذيب أبله
ودمنهور في نطاق من الجند ... وفي حالتي جفاف وقله
لم يعنيها ولا الذي ناصرته ... وأبت في الشقاء أن تستغله
هجمت هجمة الأسود على الألفي ... تبغي في ساحة الحرب قتله
مزقت جيشه فلولا ولم ... تبق لداعي الطغاة إلا أقله
في ثلاثين ليلة شروده ... خيبوا في عوالم الوهم فأله
مستمر بالإنكليز جدير ... بالذي نال من عواقب غفله
أنفذ الهارب الفرار ولولا ... لعانى المغرور أقبح قتله
ودمنهور لا تزال كما كانت ... فحموا نجومها والأهلة
راية النيل لم تكن من قماش ... راية النيل تشمل النيل كله
كل معنى يلقى على الجو ضوءا ... كل جسم يلقى على الأرض ظله
راية النيل في دمنهور روح ... تلعن الأجنبي فيها ورحله
محمد شريف باشا
ما أصدق اسما على مسمى ... يا رجل الجيل يا شريف
مدبر قادر نيل ... مسالم حازم عفيف
والمجد أن تكمل المزايا ... لم تغن عن جذوعها القطوف
حولك ذو صولة وجاه ... لكن بقيادته ضعيف(967/38)
ينهار إما بدا رجاء ... أو لاح في جوه مخوف
وذو طموح بغير وعى ... نصيبه في الحجى ضعيف
وصادق العزم لم يمحص ... آراءه ناصح حصيف
وماكر همه هواء ... ضميره شارد يطوف
يا رجل الجليل يا شريف ... ضحى بنا ذلك اللفيف
وأنت ما بينهم سراج ... يحمله مرشد كفيف
قد ضل في التيه قوم موسى ... حتى عفا الراحم الرؤوف
إن يعبد العجل قومي موسى ... فبيننا يعبد الحليف
وأصلح القوم نصح موسى ... ونحن نبراسنا شريف
إن ساد دستورنا نجونا ... ووحدت بيننا الصفوف
لكنه الصدق في النوايا ... والجد والقصد والسيوف
أخوة في ظلال حكم ... يحب حبا ولا يخيف
برنامج لم نزده حرفا ... يا بطل الجيل يا شريف
عبد الطيف النشار(967/39)
بين دنكرك وكفر عبده
للأستاذ عبد العزيز مطر
سلوا (دنكرك) عن جبن الجبان ... تنبئكم بألوان الهوان
تنبئكم بأن (الحمر) فروا ... من الميدان مسلوبي الجنان
سلوا (دنكرك) ثم سلوا بلادا ... يرفون فوقها علم الأمان
لعل جوابها يشفى غليلي ... ويكشف عن فؤادي ما دهاني
سلوا السبعين بيننا قد غزوها ... بآلاف من الجيش الجبان
فهل حسبوا البيوت قلاع حرب ... وخالوا في يد العزل اليماني؟
ألا مرحى. . ألا مرحى لجيش ... أجاد رحاله لسف المباني
ولو برز الكماة لهم لفروا ... وخافوا من بريق الهندواني
همو شبه الرجال ولا رجال ... هم الجبناء في الحرب العوان
لهم في السلم جمجمة تدوي ... ولا تلقاهو بوم الطعان
على المستضعفين أسود غاب ... نعام في عجاج المعمعان
ألا فافخر تشرشل أي فخر ... وسق لجال جيشكم التهاني
وشد على يد الأبطال واهنأ ... فقد خاضوا معارك ذات شأن
ألا تسعا (أرسكين) وسحقا ... (تشرشل) من عجوز ثعبان
كفا كم أيها القرصان بغيا ... كفى وطني مساوئكم كفاني
شباب النيل هبوا من رقاد ... فماء النيل لم يخلق لوائي
شباب النيل هيا للمعالي ... ورموا المجد في أسمى مكان
دم الشهداء ناداكم فلبوا ... وذودوا عن حماكم ما يعانى
(وصبروا في مجال الموت صبرا) ... فتلك سبيل تحقيق الأماني
عبد العزيز مطر(967/40)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
س وج اللغة الأجنبية الأولى:
قرأت بإنعام كلمتكم المنشورة في الرسالة الغراء تحت عنوان (أصبح الشعب حرا في اللغة الأجنبية الأولى) وقد بدا لي وأستبد بلفيف من المعجبين بكم أن تتقدم إليكم بالأسئلة الآتية راجين التفضيل بالإجابة مشكورين
(1) إن قرار حضره المعالي وزير المعارف فرض على الشعب أن يختار الفرنسية أو الإنكليزية لغة أصلية، وأن يختار إحدى اللغات الثلاث الباقيات لغة إضافية فهل أتاح هذا القرار فرصة للشعب في أن يكون حراً في اختيار اللغة التي يرضاها أصلية واللغة التي يريدها إضافية من غير فرض ولا تحديد؟
(2) إن القرار وضع اللغة الإنكليزية في الدرجة الأولى بين اللغات. وبحكم هذا الوضع يتعين بلا جدال أن اللغة الإنجليزية إن لم تكن فهي بلا مراء إضافية - فهل هذا ما قصد إليه القار؟
(3) نقول حضرتكم بأن هذا القار أتاح الفرصة للشعب نفسه أن يكون حراً في اختيار ما يريد. فماذا تقصدون بالشعب؟
أهو الكلية، أم أولياء أمورهم، أم الشعب ممثلاً في لجنة تشكيل لهذا الغرض، أم الشعب ممثلاً في البرلمان؟
(4) إن اللغة الأصلية يلاحظ فيها مدى مصلحة الشعب منها ثقافياً ومالياً وسياسياً. فأي لغة من هذه اللغات الأربع أحق بالتقدمة وأنفع للشعب في معترك الحياة؟
(5) إذا تركنا الشعب حراً في اختيار ما يشاء من اللغات فهل وزارة المعارف مستمدة لأن تفي كل المدارس حاجتها من المدرسين في كل لغة، أم أنها ستخصص مدارس لكل لغة وإذا كان كذلك فكيف يلتقي الشعب في ثقافة تربط بنفسه وتحدد أغراضه في حياته هذا ولحضرتكم منا أطيب تحية وأروع سلام.
اليماني أحمد السكري(967/41)
بكفر الشيخ فؤاد
ج 1 - قصدت بحرية الشعب في اختيار اللغة الأجنبية الأولى، أن اللغة الإنجليزية أصبحت غير مفروضة عليه، وبها تخلص من وضع الأوضاع الاستعمارية التي تعمل للتحرر منها، فالحقيقة التي لا شك فيها أننا ما كنا نحل اللغة الإنكليزية المحل الذي أخذته عندنا لولا أن الإنجليز احتلوا بلادنا. وذلك ما رميت إليه بما كتبت في هذا الموضوع، وحسبنا أن بلغناه وليكن بعد ذلك ما يكون من تحديد أو إطلاق.
ج 2 - القار وضع الإنجليزية في الدرجة الأولى حقاً ولكنه أتاح الفرصة لتركها أصلية أو إضافية، فأن الطالب عندنا يختار الفرنسية أصلية تصبح الإنجليزية بالنسبة إليه كالألمانية والإيطالية يختار من الثلاث ما يشاء.
ج 3 - الشعب المقصود هو الطلبة بالاشتراك مع أولياء أمورهم.
ج 4 - جواب هذا السؤال موضح في كلمتي الأولى (الرسالة عدد 957).
ج 5 - الشطر الأول من السؤال يتعلق بإجراءات التطبيق والتنفيذ. والمفروض أن تدبر الوزارة الأمر بما يتفق والفرض من القار. أما التقاء الشعب فهو في مجرى ثقافتنا الأصيل - الواقع أو المنشود - وما اللغات الأجنبية وثقافاتها إلا روافد.
أنا في مرآة قارئ:
تلقيت رسالة بتوقيع (سعد أبو سالم - قليوب البلد) تشمل على مسألتين، الأولى خاصة باستعمالي كلمة (مثل) إذ طلبت من الأستاذ بريري في موضوع (اللحن الفصيح) أن يأتي بمثل للطلب قبل فاء السببية المغاير للأمر والنهي وبقية الأشياء التي ذكرها. فقد أخذ على كاتب الرسالة استعمال لفظة (مثل) في هذا المعنى مفرقاً بينها وبين كلمة (مثال) وردى على ذلك أن مما يدل عليه لفظ (مثل) الوصف، وكذلك (مثال) فيقال مثل الشيء ومثاله، أي وصفه وصورته. والمقصود - على ذلك - من (مثل للطلب) جملة تبين حقيقته وهل هو شيء آخر غير الأشياء التي ذكرها.
أما المسألة الثانية فهي أنه وصفني بصفات لست أدري هل هي حقيقية أو هي مما يدل عليه وصف نفسه في ختام الرسالة بقوله: (وختاماً إليك مني تحية تلميذ أحمق. .)(967/42)
قال السيد سالم الذي أعتقد أنه (عاقل) على الرغم مما وصف به نفسه: (وأود أن أحدث الأستاذ عما أفهمه وأستسيغه حول كلمتي مثل ومثال، وله بعد ذلك أن يعدني غبياً أو جاهلاً كما هي عادته مع عشاق الأدب واللغة. . وإلاّ فما كان يقول رداً على الأستاذ البربري (ولكن ما حيلتي) والحق أنها يا سيدي طريقة طريفة لم نعهدها في النقاد من الأدباء، ولو كانت طريقة النقد هي الردع الزاجر لأصبح الأدباء في صراع جاف خاف حال من روح الأدب. . . الخ
والحق أنني سررت من هذه العبارات مما تضمنته رسالة السيد سعد أبو سالم. . سررت منها، لأني ألقيها مرآة تعكس صورة. . . إن تكمن تطابق منهجي في الكتابة فإني أقومه. . لأني لا أرضى لقلمي أن يخط صراعاً خالياً من روح الأدب!
وإن لم تكن الصورة مطابقة فلا شك أن المرآة من تلك المرايا التي كنا نراها في (لونا برك) تشوه الشحنات وتبعث الضحكات. . .
مصطلح طبي:
أشرت في الأسبوع الأسبق إلىمحاضرة الدكتور أحمد عمار بمؤتمر المجمع اللغوي عن اللغة العربية والمصطلحات الطبية، وأوردت نبذا منها تتضمن رأيه في وضع تلك المصطلحات وهو التوسط بين المحافظة والأقدام. وكنت أريد أن أورد نبذا أخرى تتضمن آراء له أخرى، ولكن الرسالة أحست صنعاً فنشرتها كلها في موضع آخر من هذا العدد
عباس خضر
بيان رابطة الكتاب السوريين:
نشر فريق من شباب الكتاب في سوريا بياناً يتألف رابطة لهم نقتطف منه هذه الفقرة التي تشرح الغاية من هذه الرابطة والطريق التي يسلكها المرتبطون لبلوغ هذه الغاية.
. . . كان يجب أن توجد هذه الرابطة للكتاب السوريين منذ أمد طويل، ولكنا لسنا هنا في مجال اللوم والندم، وإنما نحن في ميدان الإنشاء والعمل. إن هذه الرابطة لم توجد من قبل وكان يجب أن توجد، وها نحن أولاء نفعل(967/43)
(رابطة الكتاب السوريين) أسم بسيط يتألف من ثلاث كلمات، ولكنه ضخم كالقومية الكبيرة، لم نحاول فيه أن نفتش عن الرمز البراق بقدر ما أردنا أن نضع اللفظة نفسها نحن لا نمثل الكتاب السوريين أجمعين. هذه حقيقة لا ننكرها، ولكن لا يضر الإسم ألا بجمع الكل إذا استطاع أن يجمع البعض، فاتحاً الباب لمن يشاء من المنتجين المحسنين. نحن جماعة لنا في العيش مهن مختلفة، ولكن شيئاً وأحد يجمعنا، هو أننا نحمل قلماً لا نستطيع حبسه عن الورق، أو كما قال جبران: من هؤلاء الذين إذا لم يكتبوا ماتوا، كذلك نحن. مهما تنوعت أعمالنا في الحياة، فإن عملاً واحداً لا نستطيع التخلي عنه، يجمعنا ويقرب أيدينا بعضها من بعض. ولسنا نزعم أننا إذ نطلق على أنفسنا لفظة كتاب، أن الكتابة - شعراً كانت أم نثراً - قد أصبحت في أيدينا ناضجة كاملة كعناقيد العنب في أيلول. إن اتحادنا مدرسة بقدر ما هو رابطة، نتكاتف فيه ونتعلم في وقت واحد. وليس بعيداً أن يصبح الحصرم عنباً إذا ظل على أمة، ينمو في ضوء الشمس ويبهر العيون بجماله.
هؤلاء نحن. أما ماذا نريد. وكيف سنعمل؟ فتلك أشياء يجب أن نصوب نحوها الأشعة قليلاً، تاركين للعمل ذاته، فيما بعد، أن يشرح ويتكلم. .
أدخل ذات يوم مكتبة، في أي بلد سوري، واسأل صاحبها، أو استقرى فهارسها عن بضاعة الدكان، تجد أن سورية أفقر البلاد العربية إنتاجاً في ميادين الفكر والفن. ثم حاول أن تعد في ذهنك أسماء الشعراء أو لقاصين أو لكتاب آخرين، تجد أن رأسك كالصحراء الخاوية، إلا من بضع واحات. وقبضة من أشجار النخيل، بينما في لبنان، تتبادر لذهنك الأسماء على الفور كثيرة منتجة، وفي العراق نهضة مباركة، أما في مصر فإن إنتاجها يغمر أسواقنا، ترى ما هو السبب؟ ولكنه حديث طويل ذو شجون، فلنطو بساطه في هذه العجالة ولنحاول أن تكون عمليين، فنصل إلىالمشكلة فوراً ونبدأ حلها. . . . . . . . .
نحن كتاب تقدميون بكل ما في الكلمة من خصب، تقدميون أننا نستهدف أبداً أن نمشي إلىالأمام حيث يتلامح هدفنا أننا نؤمن بأمتنا، ونؤمن بأننا نستطيع خدمتها، وأننا لن نكون كتاباً إذا لم نحي حياة أمتنا. إن هدفنا هو أن نعمل للشعب لأننا منه، ولأن الفن الصحيح هو الذي ينبع من حياة المجموعة. إن الآثار العظيمة الباقية هي الآثار التي غيرت وجه الحياة فأغنها وأكسبتها أشياء صالحة جديدة. لم يعد هناك - كما يقول بعضهم(967/44)
- من فن للفن ولا من زهر للزهر. إن الفن هو للناس، كما أن الزهر هي للعيون التي تراها والأنوف التي تشمه. والزهرة لا تكون جميلة إلا إذا استطاعت أن تؤدي إلىشيئا ينصل بذاتي خدمة تحسن حياتي. نحن مع القارئين بأن الفن هو تعبير جميل عن الحياة، ولكن التعبير لا يكون جميلا إذا لم يعبر عن الحياة الحقة، حياة المجموعة. نحن لا نطالب أن يذوب الفرد في الجماعة، لأن مجموعة الصغار لا تساوي أكثر من صفر، وإنما نطالبه أن يعيش مجتمعه، ويشارك فيه، وينطلق بعد ذلك كما يشاء، فهو أن يضل وأن يبعد عنا كثيراً. الفرد الواحد المستقل عن المجموعة غير موجود. كذلك الواحدة المفردة غير موجودة، فإذا استطعت أن توجدها وأن تعبر عنها فأنت تصطنع الحياة، وبالتالي فأنت تصنع الفن. . . . . . . . .
تلك هي طريقتنا، أما وسائلنا فهي إنتاجنا الخاص ككتاب تقدميين، وعنايتنا بالنتاج الفكري العربي القديم الذي يتصل بقضايا الحرية والسلام، ونشره على الناس، كما نبرهن لهم أن هذه القضايا كانت تهم الإنسان من قبلنا بكثير من العهود. كما أننا سوف نعمل على أن نخرج من القوقعة التي نعيش فيها هنا، فلا تقرأ إلا نوعاً معيناً من الأدب، ولا نطلع إلا على زاوية واحدة من الثقافة. إن قضايا العالم الآن أصبحت قضية واحدة، ولن يستقر السلام في دولة واحدة إذا كانت الدول الأخرى يهددها غول الحرب. لذلك صارت كل محاولة لعزلنا عن التيارات الفكرية الحديثة في العالم محاولة دنيئة، يريدون بها أن يربطوا عيوننا بعصابة كي ندور في مكان واحد، والسوق الفكرية العربية أحوج ما تكون لأن تصبح ملتقى هذه التيارات، كي ندركها جمعاء، والبقاء بعدئذ للأصلح.
أما إنتاجنا فلن يظل بعد الآن مبعثراً في كل واد، إننا سنكتب، ولكن في الموضوعات التي نرغب، وبالأسلوب الذي نحبه، وفي الصفحة المخلصة الحرة.
ليان ديراني، مواهب الكبالي، شحاده الخوري، حنا مينه، سعيد حمرانية، غسان رفاعي، نبيه عاقل، أنطون حمصي، ممدوح فاخوري
حسيب الكيالي، شوقي بغدادي، صلاح ذهني - دمشق(967/45)
البريد الأدبي
خطأ مشهور
نشرت جريدة الأهرام كلمة للأستاذ الشاعر عبد الغني سلامة بمناسبة ذكرى مولد الرسول، تحت عنوان (ضاقت يا رسول الله) جاء فيها: (ضاقت الصحف. . . عن أن تفي ذكراك العطرة حقاً بسب أزمة الورق) فعدى، الفعل (تفي) إلى مفعولين، وهذا تعبير شائع لا يرى مستعملوه حرجا في استعماله، ولا يخالج نفوسهم شك في صحته في اللغة العربية وهو مجانب لما جرى عليه الاستعمال العربي، مخالف له؛ لأن (يفي) مضارع (وفى) المجرد وقد جرى العرب على لزوم هذا الفعل، فقالوا: وفي الشيء أي تم. ووفى بعهده وفاء فهو وفى. وهذا الشيء لا يفي بذلك، أي يقصر عنه ولا يوازيه.
أما الفعل المتعدي فهو (وفى) بالتضعيف؛ ففي (أقرب الورد): (وفي فلاناً حقه أعطاه إياه تاماً)، وفي التنزيل (ووجد اله عنده فوفاه حسابه) (يوفى) قال تعالى: (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم).
فينبغي إذن تصحيحاً للعبارة أن يقال: (ضاقت الصحف من أن توفى ذكراك العطرة حقها. . .)
2 - فسح وأفسح
خطأ الأستاذ محمد محمد الأبهشي بالعدد (964) من الرسالة الأستاذ محمد رجب البيومي في قوله: (وأفسح لنا مجال الموازنة والتحليل)، وذكر أن الصواب: (وفسح لنا. . .)، واستدل بقوله تعالى: (فأفسحوا يفسح الله لكم).
فهو يدعى دعوين، إحداهما: أن الفعل (فسح) قد ورد عن العرب مستعديا، والثانية أن (أفسح) لم يصح في اللغة العربية، وكلتا الدعوتين باطلة قام الدليل على عكسه. أما الأولى فلأن (فسح) لم يأت في الأسلوب العربي إلا لازما؛ ففي محيط المحيط: (يقال فسح له في المجلس فسحاً وسع وخرج له عن مكان يسعه)، وفي (الصباح المنير): فسحت له في المجلس فسحاً. . . وفسح المكان - بالضم - فهو فسيح. . . ويتعدى بالتضعيف فيقال فسحته)، وفي: (فأفسحوا يفسح الله). وأما الثانية فلأن (فسح) يتعدى بالتضعيف - كما سبق - ويتعدى أيضاً بالهمزة، وهذا مقتبس في كل ثلاثي لازم، فلك أن تأتي في أوله بالهمزة(967/46)
فيصير متعديا لواحد بعد أن كان لازما. ولم يفعل الأستاذ (البيومي) أكثر ذلك من فهو قد أتى بالفعل (فسح) ثم أدخل عليه الهمزة فصار (أفسح). وهذا ما تجيزه قواعد اللغة، وأقره المجمع اللغوي.
أحمد مختار عمر
(تخطئة):
نقل إلينا الأدبي للرسالة الغراء في العدد 960 كلاما للأستاذ محمد سعيد الجنيدي العلوي ملخصه: أن كلمة (سائر) لا تستعمل إلا بمعنى (البعض والبقية) وأورد لذلك ما ذكره القاموس المحيط وغيره من كتب الفقه. وبالرجوع إلى القاموس المحيط وجدنا أن الأستاذ لم ينقل إلينا ما جاء فيه نقلا أمينا وإذا رأيت أن أذكر هنا ما قاله لنتبين وجه الخطأ والصواب في كلام الأستاذ، قال القاموس المحيط في مادة (السؤر). (وفيه سورة أي بقية شباب، وسورة من القرآن لغة في سورة والسائر الباقي لا الجميع كما توهم أو قد يستعمل له ومنه قول الأحوص.
حملتها لنا لبابة لما ... وقذ النوم سائر الحراس
وضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية بتطييبه فقال: بطني عطري، وسائري ذرى. وأغير على قوم فاستصرخو بيني عمهم فأبطوا عنهم حتى أسروا وذهب بهم ثم جاؤا يسألون عنهم فقال لهم المسئول: أسائر اليوم وقد زال الظهر؟ أي أتطمعون فيما تفتر وقد تبين لكم اليأس لأن من كانت حاجته اليوم بأسره وقد زال الظهر وجب أن ييأس كما ييأس منها (بالغروب) ومن هنا نعلم أن كلمة (سائر) تستعمل بمعنى (البعض والبقية) كثيراً وبمعنى (كل وجميع) قليلاً؛ وإنما حملني على نقل هذه العبارات ما رايته من تخطئة الأستاذ للكتاب في استعمالهم لها بالمعنى الثاني وادعاؤه أنها لا تستعمل إلا بمعنى (البغض والبقية) وللأستاذ مني تحية عطرة.
أبوه حمد حسب الله
توجيهات نبوية:
نشرت مكتبة الآداب بدرب الجماميز هذا الكتاب الجديد للأستاذ عبد المتعال الصعيد، وهو(967/47)
كغيره من كتبه جديد في موضوعه، فقد اختار فيه أربعين حديثا نبوية مناسبة لعصرنا، ثم قام بشرحها وبيان ما فيها من التوجيهات النبوية في الدين والعلم والاجتماع والأدب والأخلاق، وما أحوج المسلمين في عصرنا إلى الاستفادة من هذه التوجيهات في دينهم ودنياهم، لأنها تنير لهم الطريق في حوالك هذه الظلم، وتبين لهم السبيل الصحيح لاستعادة مجدهم وعظمتهم، وتطلعهم على الأسرار التي كان بها الإسلام حقيقية الأديان، وهي الأسرار التي كان المسلمون الأولون يفهمونها على حقيقتها، وكانت آثارها تظهر في أفعالهم قبل أقوالهم، حتى كانوا خير أمة أخرجت للناس، وكانوا بأفعالهم وأقوالهم حجة الإسلام على غيرهم، فدخل الناس بها في دين الله أفواجا، لأنهم لم يروا من أقوالهم وأفعالهم ما يزهدهم في دينهم.
وها نحن أولاء قد انحرفنا عن ديننا في أفعالنا وأقوالنا، حتى صرنا حجة على ديننا، فنحن في أشد حاجة إلى أمثال ذلك الكتاب، ليبصرنا بأسرار هذا الدين الحنيف، ويوجهنا فيه التوجيه الصحيح.
علي حسن
تصحيح بعض الآبيات في مقال:
أستشهد الأستاذ كامل السوافيري (القوة في نظر الإسلام) المنشور في العدد 965 من الرسالة بآيات من الكتاب الكريم مستدلا بها على وجوب الجهاد وفرضيته على المسلمين فذكر آية من سورة البقرة وصورها بقوله تعالى في آية أخرى (يا أيها الذين آمنوا ذكر بعدها مباشرة كتب عليكم القتال وهو كره لكم. . . الخ) الآية 215 بقرة وصحة الآية (كتب عليكم. . الخ) بدون يا أيها الذين آمنوا. واستشهد بآية ثانية من صورة محمد فقال (محمد والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) الآية 28 من سورة محمد وصحتها (محمد رسول الله والذين آمنوا. . . الخ)
ولا أدري أكان الأستاذ حافظا فخانته ملكته أم مستشهدا بآيات سمعها عفوا فذكرها محرفة!! وإذا كان الأستاذ لا يحفظ القرآن جيدا فلماذا لا يستعين بالمصحف لينقل إلينا الآيات لا زيادة فيها ولا نقصان كما وردت في كتاب الله.(967/48)
صلاح الدين حسن علي(967/49)
القصص
قانصوه الخوري
سلطان مصر الشهيد
حادثة وجزاء
للأستاذ محمود رزق سليم
جلس الشاعر (شهاب الدين) في إحدى الليالي القريبة يقص على اصدقائه تفاصيل حادثة (المشالي) وأسرارها، فقال:
يا لها من حادثة! كانت خافية مستورة، فأصبحت بلعاء مشهورة، وكانت فردية شخصية، فأضحت مسألة اجتماعية. . .! حادثة أتحد على وقوعها، عقلة ضاربة، وحب جارف، وخيانة دنيئة، وغيره قاتلة. وخوف مستقر، وصداقة عمياء. . ولم يستطع العلم - أو قل العلماء - أن يشخصوا لعلاجها دواء شافيا، حتى تقدمت القوة، فحسمت داءها وعجلت شفاءها. . . حادثة يتضح منها ان جلالا وكبرياء قد يستخذيان حينا، ويخور عزمها حينما ينكشف ما يدخران في أطوائهما من سيئ الأخلاق وأن الرذيلة إذا تحكمت في النفوس فلن يجتث جذورها حرمه علم أو رفعه منزلة. . .
تلك هي حادثة (المشالي) التي ارتج لها ضمير السلطان الغوري، واضطرب لها علماء الدولة، وسخرت منها القوة، وعزل بسببها قضاة الشرع الأربعة، وحرمت البلاد قضاءها فعطلت الحكام بضعة أيام.
تعلمون أنه منذ عهد الملك الظاهر بيبرس، رسم بأن يكون للبلاد أربعة قضاة شرعيين، لكل مذهب قاض، وهو يعين من قبله قضاة ينوبون عنه في الحكم. وكان (نور الدين على المشالي) أحد نواب الشافعية - وكان يسكن إحدى نواحي القاهرة. وله صديق من نواب الحنفية يدعى (غرس الدين خليلا) جمعت بينهما جامعة العلم، وربطت قلبيهما رابطة الزمالة. وعقدت بينهما أواصر الصداقة.
كانا يتزاوران بغير ريبة. ويتسامران في جو من الثقة والطمأنينة. . وفي هذا الجو وقعت الحادثة:(967/50)
كان لغرس الدين زوجة حسناء فاتنة. معتزة بمالها من جمال ومحاسن، مدلة بمالها من رقة ومفاتن. . وكانت حينما تغادر منزلها تتبرج وتزدان، وتبالغ في التطرية، فتلفت بذلك النظار وتسترعي العيون وتثير الرغبات فتمشي وتخلف في كل قلب لوعة، وفي كل فؤاد جذوة.
وكان أشد الناس ولها بها والتفاتا غليها ومراقبة لها واجتراء عليها، شاب يدعى (شميسا) وهو ابن أخت القاضي نور الدين الدمياطي. وكان (شميس) قاطنا على مقربة من دارها، فكان يرقب أحوالها ويتفقد أعمالها بدافع من حبه لها ورغبته فيها وغيرته عليها، فعرض لها مرارا، وتودد إليها تكرارا، فتأبت عليه، وصعرت له خدها، ومشت في طريقها من دونه مرحا. والدال ملء إهابها، والزهو في جلبابها. . .
والتهبت نفس (شميس) حنقا عليها، وثارت سعيا في سبيل الانتقام منها. وأيقن بغريزته أن امرأة لعوبا على غرارها، لا تصفو لزوجها، وبخاصة لأن زوجها فيه طيبة قلب يأباها الرجل اليقظ. . . ولابد أن يكون وراء الأكمة ما وراءها. ولابد أن يكون لها خليل ملك عليها قلبها وأسر لبها واختصته بصادق حبها.
ورأى أن (المشالي) أكثر الزوار ورودا إلى دارها، وأنه حينما يفد إلى الدار تتبدى بها حركة غير عادية. كأنما هو ضيف لا كالضيوف، وزائر لا كالزوار. . فوقع في نفس (شميس) أنه لابد من وجود صلة لا تطيب لها النفس الكريمة، ولا تطمئن إليها الضمائر الحية. فشدد عليها في الرقابة حتى صدق حدسه، وحانت له فيهما فرصة. .
وفي يوم صفت جواؤه وتكشف سماؤه، عنت (لغرس الدين خليل) زوج هذه الحسناء، حاجة، اضطر في سبيلها إلى أن يخرج من القاهرة إلى جهة الإمام الليث - رضى الله عنه - فامتطى دابة وأخبر امرأته أنه سيقضي ليلته هناك. ويبدو أن شميسا قد علم بخروج غرس الدين وبالناحية التي خرج إليها. فأثارته الغيرة إلى أن يقعد للعاشقين بالمرصاد.
أرسلت الحسناء خلف عشيقها فأسرع إلى اللقاء، ومعه ما لذ وطاب من طعام وشراب. وجاء وفي حركته توجس وفي وجههه خيفة، وفي تلفته ريب، ويكاد يقول: خذوني. . . وأندفع إلى الدار وغلق من خلفه أبوابها. .
اعتلى شميس من فوره، راحلة عجل بها إلى مكان الزوج، واعلمه الخبر، فصعق وامتقع(967/51)
لونه، وعاد إلى داره في وحي وعجلة فرأى الجريمة رأى العين.
خار الرجل واضطرب وحار بين زوجة عابثة وصديق غادر. وثار ثورة الانتقام، وتنبهت في نفسه حينذاك قسوة جارفة كادت تقضي على المجرمين. . . لولا مسكة من طيبة، وبقية من ضعف. فرأى أن يسلمها لولاة الأمور ليعاقباهما العقاب المشروع.
خجل (المشالي) من صديقه، وأكب على قدميه يقبلهما، ويسأله العفو والمغفرة، وعرض عليه بعض المال يشتري به رضاه وينقذ نفسه من عقوبة لا ريب فيها، وفضيحة لا فرار منها. . . وتقدمت المرأة بنفس محتالة ودموع سيالة وألفاظ ختالة وضعف يستدر العطف، إلى زوجها تستجديه أن يسترها. . ووهبت له جميع ما في البيت من المتاع. فأبت نفسه أن تلين لزلتهما. وأشهد عليهما، وأقفل الباب وذهب إلى حاجب الحجاب. .
كان هناك رجل يكاد يطفر قلبه ويثب شماتة وأشتفاء. ذلك هو (شميس) كان يرقب القصة وفصولها عن كثب. فلما ذهب الزوج. حرس هو الباب ومعه عصابة من إخوانه، حتى وفدت جنود الحاجب فساقوا الجانبين إلى داره. وهناك أمام الحاجب لم يجدا مفرا من الإقرار بجريمتهما. وأستقدم الحاجب القاضي (شمس الدين بن وحيش) أحد نواب الشافعية ومن زملاء (نور الدين) فسمع إقرار زميله على نفسه، وكتب بذلك محضرا موقعا عليه منه.
أخذت النخوة حاجب الحجاب، ورأى أن يعاقب الجاني المعترف، عقابا ما، فنزع عنه ثيابه وضربه ضربا مبرحا حتى كاد يهلك. أما المرأة فقد حملت على أكتاف المشاعلية وضربت ضربا موجعا حتى كادت تموت. ثم أركب كل منهما حمارا، ركوبا معكوسا. وطيف بهما في شوارع القاهرة وأزقة الصليبية وحارات قناطر السباع. فملاء فضيحتهما أفواه الناس. وأصبحا عبرة للمعتين ثم أعيدا إلى سجن حاجب الحجاب.
إلى هنا كاد الستار يسدل على هذه القصة، لولا أن حاجب الحجاب فرض على المرأة غرما ماليا مقداره مائة جنيه ليطلق سراحها، فأنكرت أنها لا تملك مالا. فطلب الغرم من (غرس الدين) فأبى أن يدفعه. فاقتيدا إلى السجن حتى تؤدي الغرامة وهنا بدأ الستار يرتفع للمرة الثانية. .
كان لخليل - الزوج - ولد صغير يقرأ بأبواب السلطان في الدهيشة، وهو من الصغار(967/52)
المقربين إلى السلطان. . . فهاله أن يقبض على أبيه بغير جريرة، فأنهى الخبر إلى السلطان في سذاجة. .
هنا أتسع الخرق على الراقع، وخرجت المسألة إلى نطاقها الواسع. وضخم أمر الجرم في نظر السلطان، وهاله الأمر، وحز في نفسه أن يجترئ أحد نواب الحكم على اقتراف هذا الجرم. .
جمع السلطان قضاة الشرع الأربعة، وقرعهم تقريعا جارحا وهو يقول: هنيئا لكم يا قضاة الشرع، تعاليتم في البناء وأغرتكم زخارف الدنيا. وأصبحتم وديدنكم الزهو والفخار. ونوابكم منهم من يشرب الخمر، ومن يقترف الزنا، ومن يبيع الوقف، ولا يخشى الله. .
ثم عرض المحضر الذي كتبه القاضي (شمس الدين بن وحيش) وطلب إلى هذا القاضي إبداء رأيه في الموضوع. فحكم بالرجم. . . فوقع هذا الحكم من نفس السلطان موقع الرضا والقبول. وطلب من (ابن وحيش) أن يصدق على هذا الحكم حتى يأمر بتنفيذه. فتوقف (ابن وحيش) عن التصديق، منتظرا أن يجيزه به قاضي قضاة الشافعية. فأجازه القاضي - وهو كمال الدين ابن الطويل - وهيئ الحكم للتنفيذ.
شغل السلطان بعد ذلك بأمر الحجاج وخروج المحمل، فأمر بايداع المجرمين في السجن حتى يتفرغ لهما، ويعذبهما بجرمهما عذابا يكتب في تاريخ عدالته. . هنا بدأ الفصل الثالث من فصول هذه الرواية.
كان (للمشالي) صديق حميم وخل وفي كريم، ومن نواب الشافعية، دفعته الصداقة ومقتضياتها، والزمالة ودواعيها إلى إنقاذ زميله من موت محقق وعقاب منكر، وأخذ يستجدي ذكاءه وحيلته، حتى ابتكر مخرجا شرعيا بارعا، يرجم به هذا الأثيم. . ذلك الصديق هو القاضي شمس الدين الزنكلوني.
ذلك أن الزاني المعترف على نفسه بجد ويرحم. فإذا رجع عن اعترافه قبل الرجم، لا يرجم لقيام شبهة في الجريمة وهى جريمة زنا، والحدود تدرأ بالشبهات.
أوعز (الزنكلوني) إلىصديقة (المشالي) أن يرجع عن اعترافه، فرجع. . . وسطر الزنكلوني سولاً بهذا المعنى يستفتى فيه العلماء في حق الزاني في الرجوع عن اعترافه، وسقوط حده تبعاً لذلك ودار بهذا السؤال على أبوابهم، فأفتى له برهان الدين أبي(967/53)
شريفالمقدسي - وهو قاضي قضاة الشافعية السابق - بجواز ذلك. ثم أفتى له جماعة من العلماء آخرون.
وبلغ أمر الفتوى مسامع السلطان، فاهتاج وركبة الغيظ والحنق، وثار مرجل غضبه، وجمع توا مجلساً علمياً حاشداً، فيه قضاة الشرع الأربعة والقضاة المنفصلون من القضاة، وعدد من جلة علماء العصر وبينهم القاضي الأجل الشيخ زكريا الأنصاري، والقاضي أبن أبي شريف.
عرض السلطان عليهم تفاصيل المسألة. وأنكر عليهم إنكاراً شديداً أن يضبط نائب من نوابهم في فراش زميله ثم يعترف ويقر بالجريمة، ويكتب اعترافه بخطه وبحكم عليه، ثم يقال بعد ذلك إن له حق الرجوع عن الاعتراف. . . فلا يحد. وقال: هذا أمر عجيب وحكم وسبه لا يرضاها رجل عادل.
فقال له برهان الدين أبن أبي شريف. (إن هذا حكم الله وشرعه. وإليك يا مولانا ما قاله السلف في هذا الموضوع. وطفق يطلعه على المراجع والنقول. فلم يلتفت إليه السلطان، وقال له: أنا ولي الأمر، ولي النظر العام في ذلك. . . وأكيف المسألة حسبما أراه مطابقاً للعدل، فقال أبن أبي شريف: نعم! ولكن بم يوافق الشرع الشريف. وإن قتلها تلزمك ديتان عنهما. فحنق السلطان وكاد يبطش به.
ثم التفت إلىالشيخ الأنصاري وهو رأس الشافعية في ذلك الوقت، فقال له: ما تقول في هذه المسألة؟ فقال الشيخ زكريا: له حق الرجوع بعد الاعتراف. وإذا رجع سقط عنه الحد. فقال له السلطان وهو مغيظ: أتتحمل جريرة هذه الفتوى؟ فرد عليه قائلاً: ومن أنا حتى أتحملها، فليتحملها الإمام الشافعي صاحب المذهب. فقال له السلطان: إنك رجل قد كبرت وشاخ عقلك، وأصبحت لا تصلح للفتوى.
ثم التفت السلطان إلىالشيخ نور الدين المحلي يسأله عن رأيه فرد عليه قائلاً: إن ما يقوله لك يا مولنا مشايخ الإسلام، هو نص ما قاله الأمام الشافعي وغيره من علماء الأمة.
فقال السلطان نرجو أن ترزأ بمثل هذه الحادثة في بيتك. . فوجم الشيخ وقال: عافانا الله من ذلك.
وأخذا السلطان يتفرس وجوه قضاته وعلمائه وأحداً واحداً، لعله يجد في وجه واحد منهم من(967/54)
الإشارات ما يريحه ويرضيه. . ولكنه وجدهم جميعاً على قلب رجل واحد؛ فصاح فيهم حانقاً، وتنور غيظه يفور، وطردهم من مجلسه شر طردة؛ وهنا يبدأ الدور الرابع من هذه الرواية.
لم يستجيب السلطان الغوري لغير ضميره، وغير صوت العدالة التي رآها. فبدأ بعزل الدميري قاضي قضاة المالكية. وحرم أبن أبي شريف من مشيخة مدرسة السلطان ونفاه إلى القدس. أما قاضي قضاة الحنفية عبد البر بن الشحنة، الذي كان من السلطان بمنزلة جعفر البرمكي من هارون الرشيد، فقد كاد يبطش به، ولفظه من صحبته. . . ثم أقال القضاة جميعاً من مناصبهم. وقبض على القاضي شمس الدين الزنكلوني، مبتدع الفتوى، وقال له: (فليبطل حكمي، وليقض بحكمه) وأمر ببطحه بين يديه أرضاً فضرب نحو ألف عصا. وضرب ولداه كذلك نحو ستمائة عصا، إذ كانا يسعيان فيما يسعى إليه أبوهما. ونفاهم السلطان، فخرجوا هائمين على دوابهم، والدماء تسيل من أبدانهم. . . ثم أشيع أن الزنكلوني مات من هول ما أصيب به.
وأشتد حنق السلطان على الفقهاء، حتى أمر والي القاهرة بأن يقبض على كل من رآه منهم سكران، ورصد له خلعة معنية وفرساً مسرجاً جائزة له إذا قبض على واحد منهم. وحرم على المباشرين المتعممين أن يدخلوا عليه فكانوا يحتالون على ذلك، بلبس تخافيف الجراكسة.
أما المذنبان فقد أمر السلطان بشنقهما على باب بيت القاضي أبن أبي شريف مبالغة في النكاية به. فلما نصبت المشنقة على بابه - وكان منفياً - ظن أبناؤه وأسرته أنه هو الذي سيشنق فأعولوا وأشتد بكاؤهم عليه.
أجتمع الناس في ذلك الصباح الباكر، وجيء بالرجل والمرأة ووضعا مما لوجه، وشنقا بحبل واحد. . . وأرخى الستار
انتهى شهاب الدين الشاعر من قصته، وإخوانه بين معجب به ومعجب بالسلطان، وبين ناقم عليه أو متحير في أمره. وكانت هذه القصة محوراً لأحاديث طريفة دارت كئوسها بينهم حواراً وجدلاً، حتى أتموا سمرهم، وحان موعد انصرافهم، فانصرفوا - كعادتهم - على ميعاد.(967/55)
محمود رزق سليم(967/56)
العدد 968 - بتاريخ: 21 - 01 - 1952(/)
نار. . ودم
للأستاذ سيد قطب
الحمد لله الذي بدل قضية هذا الوادي من قضية محادثات ومفاوضات ذليلة مهينة. . إلى قضية نار ودم وكفاح أبي عزيز. .
الحمد لله الذي بدل هذه القضية عداء صريح جاهر للاستعمار وقراصنة الاستعمار. .
الحمد لله الذي أخرج هذه القضية من أيدي نفر قليل من السياسيين والدبلوماسيين والمستوزرين والرأسماليين. . إلى أبدي الملايين من شعب الوادي أصحاب البلد الحقيقيين.
الحمد لله، الذي سخر روبرتسون وإرسكين وأكسهام، لكي يحرقوا مراكبهم هذا الشعب، ويركبوا رءوسهم على هذا النحو، ويرتكبوا الحماقة التي أخرجتهم من أمريكا، وأخرجتهم من الهند، وستخرجهم بإذن الله قريباً من كل شبر من الأرض، دنسته أقدام القراصنة النجسة. .
اليوم قضى الأمر، وتأرثت الثارات والأحقاد بين هذا الشعب وبين القراصنة، فاللهم لا سلم بعد اليوم مع هؤلاء السفاكين: ولا معاهدة بعد اليوم مع الفجار، ولا تحالف بعد اليوم مع الأعداء. . ولا شيء إلا الكفاح الدامي، وإلا الدماء والنار، بيننا وبين الأوغاد.
اليوم قد قضى الأمر، وقطع الدم المهراق كل قنطرة وكل جسر، يمكن أن تقام عليه صلة ما، بين الوادي وجلاديه. . فاللهم لا همسة ولا نأمة بعد اليوم تتحدث عن الصداقة، أو تتحدث عن التحالف. اللهم لا رجل ولا شبه من أهل هذا الوادي يلوك شدقاء كلمة واحدة عن الجبهة الغربية، إلا أن تكون رصاصة مواجهة إلى معسكر القرصان.
أن الذي يلوك شدقاء بعد المجازر الهمجية التي يقيمها الأوغاد لأهل البلاد. . الذي يلوك شدقاء كلمة واحدة عن أية صلة، من أي نوع، تربطنا بمعسكر الهمج الغربيين، لهو رجل لا غرض له، ورجل لا كرامة له، ورجل لا نخوة له. . وحاشاه أن يستمع هذا الشعب النبيل لمن لا غرض لهم ولا نخوة ولا كرامة.
لقد دارت عجلة الزمن - وإنها لتدور سريعة عنيفة في هذه الأيام - دارت فطوت كل فرصة كانت متاحة لعباد الإنجليز أو لعباد الغرب على العموم. . لقد ذهبت إلى الأبد كل محاولة لربطنا بمعسكر الغرب المتبربر. . لقد انتهى كل شيء، فلا مجال لغير الرصاص(968/1)
والدماء. لا مجال لغير الثأر المقدس، لا مجال لغير الجهاد والكفاح.
أما من شاء أن يرتد إلى عهود المفاوضة والمسألة والمهادنة والمحالفة. . من شاء أن يرتد إلى تلك العهود التي طوتها عجلة الزمن السيارة. وفاتها عجلة الحوادث التي لا تتوقف. . من شاء شيئا من هذا، فليبحث له عن بلد غير هذا البلد، وعن شعب غير هذا الشعب، وعن وطن غير هذا الوطن. . فما عاد من هذا الوادي وأهله، من يملك شدقاه الدوران، ليتحدث عن شيء طواه الزمن وغشاه النسيان!
لا صداقة بعد اليوم للإنجليز. . فليسمع أصدقاء الإنجليز. . ولا مهانة بعد اليوم للاستعمار. . فليسمع من يربطون وجودهم بوجود الاستعمار. . مجرد الحديث عن الهدنة بيننا وبين الإنجليز جريمة. مجرد التفكير في أن يضمنا ويضمهم معسكر واحد خيانة. مجرد المحاولة لإطفاء النار المؤججة بيننا وبينهم طعنة من الخلف للفدائيين والشهداء الأبرار.
فليخرج الإنجليز من بلادنا، وليخرج معهم كل من لا تعجبه هذه الحالة. ليرحل عن هذا الوطن كل من يفكر في عقد صلة بيننا وبين من جديد. . أن الشعب سيسقط اعتبار كل من يرفع رأسه ويحرك شدقه ليقول في هذا كلمة واحدة. أن الشعب سيسحق هذه المخلوقات الشائهة الذليلة، والتي لا يثير نخوتها عرض يهتك، أو دم يهرق، أو جريمة شنعاء، مما يرتكبه القراصنة كل يوم في ضفة القنال.
ولا يحسبن أحد أنه أقوى من هذا الشعب، ولا أكبر من هذا الشعب، ولا أرفع من هذا الشعب، ولا أعلى من هذا الشعب. ولا يحسبن أحد أنه من الدهاء بحيث يخدع هذا الشعب عن أهدافه الواضحة المرسومة، ولا أنه من الحيلة بحيث يصرف هذا الشعب عن ثاراته المقدسة، ولا من القوى بحيث يقف في وجه التيار.
إن الغرور وحد هو الذي يصور لفرد أو عشرات من الأفراد أو مئات. . أنهم قادرون على أن يحولوا الدماء ماء، والنار بردا وسلاما، وعلى أن يصلوا مرة أخرى بين الشعب وجلاديه، وعلى أن ينسوا هذا الشعب دماء أبنائه الأطهار، وقد كاد أن يكون في كل بيت ثأر، وفي كل قلب جرح. . هيهات هيهات! لقد فات الأوان.
لقد سخر الله روبرتسون، وأرسكين، وأكسهام. . ومن إليهم. . سخرهم ليحطموا ما بقى من بناء الإمبراطورية التي حطمتها الشيخوخة. . سخرهم ليوقدوا نار الأحقاد المقدسة في(968/2)
قلوب الشعوب حول ذلك الحطام الفاني. . سخرهم ليخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. ولن يقوم بناء سخر الله أهله ليهدموه. ولن يعمر بيت سلط الله سكانه ليخربوه.
ولقد كان الخوف أن يتروى القراصنة في معسكراتهم على ضفة القنال؛ وأن تهبط حرارة الشعب حين لا تجد لها وقود يغذيها؛ ولكن الله غالب على أمره. وها هي ذي الأحداث تجبرهم إجبارا على الخروج من صياصتهم المحصنة. وها هم أولا يوسعون نطاق القرصنة، ويوسعون دائرة الجريمة. ها هم أولا يصلون إلى التل الكبير. وغدا يسوقهم الله بأقدامهم إلى المجزرة حين ينتشرون في أراضي الشرقية الواسعة، ويقعون في فخاخ الفدائيين على مساحات واسعة. . فاللهم سقهم إلينا بأقدامهم اللهم زدهم حماقة على الحماقة! اللهم هيئ للفخاخ المنصوبة صيد من أعدائك وأعداء الإنسانية، وأعداء هذا الوادي. .!
وبعد فهنالك كلمة أخرى. . ومن كان له أذنان للسمع فليسمع لقد خاض الشعب معركة التحرير وحده حتى اليوم. خاضها بالدماء والأرواح. وإن زهرة أبنائه ليتساقطون في ميدان الشرف غير هيابين. . فما هو دور السادة يا ترى؟ أجل ما هو دور السادة الذين يكدح هذا الشعب كله لهم، وينفق عصارة قلبه ودمه ليخرج لهم من الأرض ذهبا وفضة.
إن الشعب لا يطلب من أولئك المترفين المترهلين السادرين في لذائذهم أن يؤدوا ضريبة الدم لهذا الوادي كما يؤديها الكادحون الذين لا يملكون في هذا الوادي شيئاً! أنه لا يطلب إليهم أن يضحوا بدمائهم الغالية! ولا أن يموتوا كما يموت الشهداء!
كلا! كلا! إن الأمر لأهون من هذا بكثير. إن هذا الشعب الطيب القلب، المتواضع القانع. . لا يطلب إلى السادة إلا ضريبة المال. لا يطلب إلا أن يساهموا بتزويد الفدائيين بالسلاح والمال. لا يطلب إلا قسطا مما ينفق على موائد الخمر وسهرات الليل، وما يراق على أقدامهم الغواني من ثراء!
وما يمكن أن يمضي الشعب في كفاحه، وأن يريق في كل يوم دماءه وأرواحه، وهؤلاء السادة سادرون فيما هم فيه!
إن لكل شيئاً حدا. ومحال أن تسير الأمور على هذا النحو بلا نهاية. . فهي النصيحة المخلصة إذن نزجيها، قبل فوات الأوان!
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(968/3)
سيد قطب(968/4)
يا مصر!. .
للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي
أصدرت البصائر الغراء لسان حال العلماء المسلمين الجزائريين عددا خاصا بمصر افتتحه الأستاذ الجليل رئيس تحريرها في هذا المقال
نسميك يا مصر بما سماك الله به في كتابه، فكفاك فخرا أنه سماك بهذا الاسم الخالد الذي تبدلت أوضاع الكون ولم يتبدل، وتغيرت ملامح الأرض ولم يتغير؛ وحسبك تيهاً على أقطار الأرض أنه سماك ووصفها، فقال في فلسطين: (الأرض المقدسة) و (القرى التي باركنا فيها) وقال في أرض سبأ: (بلدة طيبة) ولم يسم إلا الطور وهو جبل، ومكة وهي مدينة، ويثرب وهي قربة. فتهيئ وافخري بهذه الملاءة التي كساكيها الله، وخذي منها الفأل على أنك منه بعين عناية لا تنام، وبذمة رعاية لا تحفر، وبجوار أمن لا يخزي جاره. .
نأسى لك - يا مصر - أن أنزلت الأقدر بهذه المنزلة التي جلبت لك البلاء، وجربت عليك الشقاء؛ وأن حبتك هذا الجمال الذي جذب إليك خطاب السوء من الأقوياء الطامحين، القواد الفاتحين؛ وأن أجرى فيك هذا الوادي العذاب الذي كان فتنة الخيال البشري، فلم يقنع، لمائة إلا بأن ينبطه من الجنة، وكان وثن القدماء من وراده فتقربوا إليه بالنذور والقوانين؛ وكان طغوى فرعون ذي الأوتاد، فحرك فيه نزعة الألوهية , فتوهم أن شاطئيه الأخضرين هما نهاية الكون وأنه كفاء لملك الله الطويل العريض؛ وأن وضعك من هذا الكوكب الأرضي في موضع الواسطة من القلادة، فتعلقت بك الأبصار حتى (كأن عليك من حدق نطاقاً)؛ وأن جعلك برزخاً فاصلاً بين الشرق والغرب، فكنت - على الدهر - مجال احتراب بين الشرق والغرب. فصبراً يا مصر، فهذا الذي تعانيه هو مغارم الجمال والشرف والسلطة.
سموك (عروس الشرق) فكأنما أغروا بك الخطاب، وهجهجوا فيك لآساد الغلاب. ووسموك (بمنارة الشرق) فلفتوا إليك الأعين الخزر، ولووا نحوك الأعناق الغلب؛ ولو دعوك (لبؤة الشرق) لأثاروا - بهذا الاسم - في النفوس معاني رهيبة، منها دق الأعناق وقصم الظهور وتنزييل الأعضاء. قديماً سموا بغداد (دار السلام) فجنوا عليها وكأنما دلوا عليها المغيرين؛ ولو سموها دار الحرب لأوحى الاسم وحده ما تنخلع منه قلوب الطامعين، وتخنس له عزائمهم، وتنكسر لتصوره الجيوش اللجبة. فغفرا - يا مصر - فما هذه الأسماء إلا من(968/5)
هيام الشعراء.
وما زلت - منذ كنت - مهوى أفئدة العظماء الفاتحين، فأخذوك اقتساراً وصلحاً، وحازوك وكرها، وما منهم إلا مهرك المهر الغالي، وساق إليك الثمين المدخر، بما خلد فيك من آثاره، وبما خلف فيك من سمات قومه ومعانيهم: حازك الاسكندر فخلد فيك الإسكندرية، وملكك قمبيز فخلف فيك شيات من فخار فارس وخيلائها، وحل فيك بطليموس فخلف فيك أثارة من حكمة يونان؛ وداعبك قياصرة الرومان فخلفوا فيك أثراً عظمة الرومان؛ وفتحك عمرو فمهرك بيان العرب كله، وهداية الإسلام كلها. ففخراً - يا مصر - فهذه المخايل اللائحة على صفحاتك هي بقايا مهورك الغالية. وإن أثمنها قيمة - وحقك - وأثبتها أثراً، وأبقاها بقاء وأشبهها بشمائلك - لمهر عمرو. . . فما زلت منذ تفيأت ظل الإسلام الظليل، تجدين منه في كل داجية نجماً، ووراء داجية فجراً. وما زلت كلما شكوت ضراً في دينك يخف إليك من يكشفه؛ كلما شكوت شراً في دنياك يحف إليك من يدفعه.
خف إليك (جوهر) حين لحقتك علامة التأنيث، وتقلب على فراشك العبيد. وخف إليك (صلاح الدين) حين أمتهن فيك الدين. وخف إليك (سليم) حين لعبت بك أهواء المماليك. وخف إليك (علي) حين تحكم فيك الصعاليك: تأخروا بركبك على زمانك، فألحقك بزمنك، وبالقوافل السائرة من بني زمنك، وأراد لك أن يكون محلك من الغرب إماماً، وأن تكوني من الشرق أما وأمة وإماماً، فما عابوك، ولكنهم هابوك، فنصبوا لك في كل حفرة عاثوراً، ووضعوا في كل فج فخاً، وأجمعوا على أن لا تكون لك جارية في بحر، ولا سارية في بر، فمن بعض ذلك كل ما تعانين.
لئن كانت أزماتك في التاريخ كثيرة، فكلما إلى انفراج عاجل. ومن المؤلم أن تطول بك المحنة في هذه الدورة من أدوار الفلك، وأن تبتلى بخصم لئيم الخصومة والكيد، يمدها زمنه بالقوة والأيد، وأن يستحيل حرماتك غاصب غريب لا تجمعك به نسبة الشرق، ولا يلتف منكما - إلى آدم - عرق بعرق، فيجعل منك أداة لكيده، وجارحة لصيده، ومعطية للصوصيته، وطريقاً لظلمته وظلامه. . . فلو أن المسالك تشترك في الإجرام مع السالك - لكان لك شرك في كل ما حمل الإنجليز من أوزار، ولجملك العدل كفلا من مآثمهم في الشرقيين. . . إذ لولا قناتك ما ثبتت له على أديم الشرق قدم. فليتك تعاسرت بالأمس فير(968/6)
حفر هذه القناة! أو ليتك تصنعين بها اليوم ما صنع العرب بمناة، فتوسعين هذه ردما كما أوسعوا تلك هدما. . . حتى إذا ملكت أمرك حفرت ما يرويك، لا مالا يرويك. وما فضل ماء استنبطته يداك، لينتفع به عداك؟ ذاد الأباة عن الحياض إلا لتكون لهم وردا.
لا توحشنك غربة. . . إن مئات الملايين من القلوب رفافة على جنباتك، حائمة مواردك , هائمة بحبك، تقطع الآنات في التفكير فيك. ولا تقطع الأنات من الامتعاض لك. وأن مئات الملايين من الألسنة رطبة بذكرك، متحركة بمدحك، ناطقة بفضلك، متغنية بمحاسنك. وأن هذا لراس مال عظيم، لم تظفر به قبلك يدان. . .
أنت اليوم مثابة العروبة، في ثراك حيى بيانها، وبسقت أفنانها؛ وفي رياضك تفتحت أزهارها، وغردت بلابلها. ففي ذمة كل عربي حر الدم لك دين واجب الوفاء، وهذا أجل الوفاء.
وأنت اليوم قبلة المسلمين، يولون وجوههم إليك كلما حزبهم أمر، حلت بهم معضلة، وينفرون إلى معاهدك، يمتارون العلم منها، وإلى كتبك يصححون الفكر والرأي عنها، وإلى علمائك يتلقون الفتيا الفاصلة بين الدين والدنيا عنهم. فلك - بذلك - على كل مسلم حق، وهذا أوان الحاجة إليه.
وأنت اليوم مآزر الإسلام، فكلما سيم الهوان في قطر، أو رماه زنديق بنقيصة، فزع إليك واستجار بك، يلتمس الغوث، ويستمد الدفاع. فلك على المسلمين في المشارق والمغارب فصل الحماية لدينهم، وعليهم إن يطيروا خفافا وثقالا لنصرتك، ثم لا منه لهم عليك ولا جميل.
وكيف بك - مع هذا - لو كنت مظهرا للإسلام الصحيح، ولمته العليا في العقائد والأعمال والأحكام؟ - إذن لكنت قدوة في إحياء سنته التي أماتتها البدع، وفي إقامة أعلامه التي طمستها الجهالات، وفي بعث آدابه التي غطت عليها سخافات الغرب، وفي نشر هدايته التي طوتها الضلالات؛ وإذن لحييت وأحييت،. ومن الغريب أنك قادرة على تغير ما بك من عهد الأدران ثم لم تغسلي. وأنك قادرة على إعادة الإسلام إلى رسومه الأولى ثم لم تفعلي. ويمينا برة فعلت لما حل بك ما حل. ولو فعلت لقدت المسلمين بزمام، ولكنت - بهم - للعالم كله إماما أي إمام.(968/7)
وسبحان من قسم الحظوظ بين الجماعات فأعطى كل جماعة حظا لا تعدوه، وفرق الخصائص على البقاع فخص كل بقمة بسر لا يعدوها، فما زلنا نستجلي من صنع الله لك وللإسلام لطيفة سماوية، وهي أنه كلما رثت جدة الإسلام، وخالطته المحدثات، سطع في أفق من آفاقه نجم يهدي السارين إلى سوائه، وارتفع صوت بالدعوة إلى أصول هدايته، ثم لا يلبث ذلك النجم أن يخبو، وذلك الصوت أن يخفت؛ إلا نجما سطع في أفقك، وصوتا ارتفع في إرجائك. وقد ارتفعت أصوات بالإصلاح الديني في أقطار الإسلام، وفي حقب معرفة من تاريخه، فضاعت بين ضجيج المبطلين، وعجيج الضالين، إلا صوت (محمد عبدة) فإنه اخترق الحدود وكسر السدود.
عهدك التاريخ صخرة من معدن الحق، تنكسر عليها أمواج الباطل، فكوني أصلب مما كنت، وأرسخ قواعد ممل كنت، تنحسر الأمواج وأنت أنت.
أقدمت فصممي. . وبدأت فتممي. . . وحذار من التراجع، فإن اسمه الصحيح (هزيمة). وحذار من التردد، فإنه سوس العزيمة.
إنك فائز هذه المرة بأقصى المطلوب، لأنك أردت فصممت وإنما يعين الله من مخلوقاته المصممين. وإذا كان المطلوب حقا، ثم صممي.
أن قلبي يحدثني حديثا كأنما استقاه من عين اليقين، وهو أنك فائزة منتصرة ظافرة من هذه المعركة، لأنك استعملت فيها سلاحا كنت تنشدينه فلا تجدينه، وهو الإرادة يحدوها التصميم، يمدها الإيمان بالحق، يربط ثلاثتها الإجماع على الحق.
إنك فائزة في هذا اليوم بالأمنية التي عملت لها قرونا، وإن فوزك فوز للعرب وللإسلام وللشرق. فيا ويح دعاة الوطنيات الضعيفة المحدودة، إذا أقدم الأبطال نكصوا، وإذا زاد الناس نقصوا. ويحهم، إن المستعمر سارق، وإن السارق الحاذق لا يسرق إلا في الظلمة أو في الغفلة، فإذا انحسر الظلام، أو انقشعت الغفلة ولى مديرا بالخبيثة والخسارة، وإن مصر لفي فجر صادق، وإنها لفي يقظة صاحية، فأي موضع يسع السارق فيها؟
صممي، وأقدمي؛ ولا يخدعنك وعد، ولا يزعجنك وعيد، ولا تلهينك المفاوضات والمخابرات، فكلها تضيع للوقت، وإطالة للذل. ولقد جربت ولدغت من حجر واحد مرارا.
أن الخصوم - كما علمت - لئام، فاقطعي عنهم الماء والطعام. وإن اللؤم والجبن توأمان(968/8)
منذ طبع الله الطباع، فحركي في وجوههم تلك القوى الكامنة في بنيك يرتعد.
صممي وقولي للمتعاقلين الذين يعذلونك على الإقدام:
(وأضيع شيء ما تقول العواذل).
انثري كنانتك - يا كنانة الله - فإن لم تجدي فيها سلاح الحديد والنار فلا تراعي. واحرصي على أن تجدي فيها السلاح الذي يفل الحديد وهو العزائم والمادة التي تطفئ النار وهي اتحاد الصفوف، والمسن الذي يشحذ هذين وهو العفة والصبر. فلعمرك - يا مصر - إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من النهار؛ وبالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالقلم الذي يزين الفاحشة وبالغي التي تخرب البيت وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثل الفجور، وبالراقصة التي تغري بالتخنث، وبالمهازل التي تقتل الجد والشهامة، وبالخمر التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب. فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة. . . ثم تصومي عن هذه المطاعم الخبيثة كلها. . . إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم. . . وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها. . . فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك وانصرفوا. . وماذا يصنع (المرابي) في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟
نعمة من الله أن امتحنك بهذه المحنة، وأنت في مفترق الطرق. ولو تأخرت المحنة قليلا لخشينا أن تسلكي أضل السبل.
فرصة من فرص الدهر، هيأها لك القدر للرجوع إلى هدى محمد، ومحامد العرب، وروحانية الشرق. فإن انتهزتها محوت آية الغرب، وجعلت آية الشرق مبصرة.
ويا مصر، نحن وأنت سواء في طلب الحق ومطاردة غاصبة. ونحن وأنت مستبقون إلى غاية واحدة في ظلام دامس؛ ولكنك أصبحت، فيا بشراك ويا بشرانا بك، ولم نزل نحن في قطع من الليل، نرقب الفجر أن يتبلج نوره، وما الفجر منا بعيد.
محمد البشير الإبراهيمي(968/9)
2 - دعوة محمد
لتوماس كارليل
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
الكعبة:
إنها أقدم المعبودات وأشرفها، فقد ذكر المؤرخ الروماني (سيلاني) أنها كانت في مدته أشرف المعابد في العالم وأقدمها طرا، وذلك كان قبل ميلاد السيد المسيح بأكثر من خمسين عاماً وتتكون الكعبة من البناء الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل ليحج إليه الناس ذاكرين ربهم، (وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل من إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا منا سكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).
والحجر الأسود الذي يعتقد بعض المؤرخين أنه ربما كان من رجوم السماء، فإذا صح هذا الاعتقاد، فلا بد أم يكون قد بصر به أحد وهو نازل من الجو. والبئر زمزم التي تنبع من بين الصخر. وأي منظر الماء ينبحس من بين الحجر الصخري الأصم كأنه الحياة من الموت! وقد اشتق لها اسمها (زمزم) من صوت تفجرها وهدير مياها. ويتفق أكثر المؤرخين على أنها قد تفجرت من تحت أقدام هاجر زوجة إبراهيم وابنها إسماعيل بعد أن أشرفا على الهلاك، فكانت لهم حياة وشفاء من الله.
وقد عظم العرب الكعبة وقد سوا البئر والحجر الأسود منذ آلاف السنين، إذ كانوا يحجون إليها تقرباً إلى الله وعبادة له. وكان من حج القبائل أن أنشئت مدينة مكة وسط هضاب مقفرة وتلال من الرمال مجدبة وعلى مسافة من البحر بعيدة، إذ كان كثير من الحجاج يطلبون المأوى فلا يجدونه، فأنشأوا هذه المدينة ليأووا إليها زمن الحج، فكانت تلتقي فيها التجارة من أول يوم يلتقي فيه الحجاج. وعلى مر الأيام وجد جماعة من العرب أنفسهم مجتمعين لأغراض كثيرة تتركز كلها حول الكعبة، فأنشأوا لهم مساكن حولها وأقاموا متيمنين ببركتها محتمين بحرمتها، ومن هذا الوقت أصبحت مكة أهم أسواق البلاد العربية بأجمعها والمركز التجاري المهم بين الشام ومصر وبين الهند، بل بين الشرق والغرب. ولأهميتها في ذلك الوقت بلغ عدد سكانها في بعض الأحيان أكثر من مائة ألف، بين تجار(968/11)