ولنسقي من نهر جيحون كوبا ... مذهبا مذهبا هناهم راسي
واصطحبنا يوم الدخول إليها ... بمحب في العلم والفضل آسي
أحمد الاسم أحمد الوصف قد ... حط لدى أحمد الأنام المراسي
أخذ عن أعلام شام كرام ... حافظ للحواس والأنفاس
خص قربا ممن يحب وشربا ... وكذلك الأحباب قومي وناسي
في أدنة والأناضول في طريق الحج إلى استنبول
(الأستانة) دار السعادة
(ثم دخلنا في الصباح (أدن) ولم نخف منع حماة سدنة، لأن ركب الحاج، آمنوا من أعوان الحجاج، وطرقنا بها يوما، فاسترحنا إقامة ونوما، ثم قطعنا الشاقط الساقط، بعد جهد بالأساناياقط، وأتينا (اليايلا) أي النجعة بوزن الدقعة، طلب الكلأ في موضعه، تقول منه انتجع فلان فلانا أي يطلب معروفه، والمنتجع بفتح الجيم المنزل في طلب الكلأ، ويقال أربعوا أي أقاموا في المربع، وأربع إبله في مكان كذا أي رعاها في الربيع، فوجدنا من النصب الشديد، ما ليس عليه مزيد، وقطعنا من العقاب، ما جمع كل عقاب، وسرنا منها إلى (خانين) تقابلا بعد قطع مخاضات أربعين، لا تكاد تقطع لفرطشقة وعنا، لولا أن المعين يعين، وصعدنا منها جبلا لا ينتهي صعودا إلى الجوزاء من غير سلم، وعقبه هبطات مزعجة جدا تهبط حيل نازلها ولكن الله سلم، إلى أن وصلنا (أولى قشلة) فانتشلنا بالنزول لديها أي نشلة، ثم منها توجهنا بلا مهلة، إلى مدينة (أركلة) ونزلنا لدى ماء خرار، فتذكرنا الشام الكثيرة النها، وأقمنا للراحة، إذ للمكارين بها عادة استراحة، ولولا اعتناؤهم بهذه الإقامات، ما بلغت دوابهم دور السلامات، وليس في هذا الطريق راضة كطريق الحاج، وبه وعد كثير يدهدك لأبراج. وفي يوم الأحد ورد من أهل البلد، من لهم على الجدلجلد، برد جلدهم عليه وحسنة الخلد، ظنا أنه يدني دار الخلد من الأرضة أخلد، ينتمون إلى الزادية، ويعظمون النكير على الصوفية، بسند عليه لا يعتمد، فاظهر أحدهم ميلا ما به عند، فتكلمنا معه بما التهم الأحد، ورأيت الكلام مه أهل الخصام كالكلام ينكيالقلب والجسد، ومع أهل الاستسلام فكالقند الأملد، ثم سرنا إلى (قرة نبار) أي النبع الأسود، ومنها إلى(943/30)
(أصمل) بجد دون قرار، ومنها إلى (قونية) بلدة المنلاخنكار، وزرناه وجلسنا في المقابلة، فحظينا بإمدادات مسبلة للسابلين، وإنعامات مختصة بكل قابل وقابلة، وسرنا إلى (اللادق) فأصابنا ريح بارد صادق، ونبه أن هذا الطريق في الصيف برده ينكي، ففي الشتاء عن وصفه أيها المعبرلا تحكي، مرشدنا لي إياك والسير في أكنافي، إلا إن كان في الصيف الصافي. وسرناإلى (الغن ذات القبلوجة) ومنها أتينا (آق شهر) على خيول مسروجة ومنها أممنا (بلاوضون) ومررنا على جسرها الطويل الذي يهون وقبيل غيبوبة قمر، سرنا إلى بياض بليل أظلم بعد ما أخمد، ومنها إلى (خان الوزير) ومنه إلى (الس غازي) ذي المقر الخطير، ومنه إلى (اسكي شهر) من أهلها في السدقة مهارة أمرها شهر، وكتبت منها كتابا للصهر، وكذلك كتابا للولد محمد كمال الدين، ومنها لم نزل نسير في طولها والعرض، ونقطع طول القفار، إلى أن وصلنا (اسكدار) فتلقانا بها أحباب أخيار
في مدرسة شمي باشا:
وأنزلونا مدرسة شمي باشا، وانتعش القلب بالراحة من الأفكار انتعاشا، واجتمعت بجانب المحب الأوحد، المفرد السيد محمد الأمجد، وكتبت منها للصهر كتابا، وآخر للولد، وكتابا للأخ الحاج حسن بن مقلد (الجيوسي) وأخر لمحمد جلبي مكي زادة، صدرته، بـ:
سلام من ديار الروم يهدي ... لخدن حبه أهدى وأهدى
في دعوة ابن عم الشيخ:
(ولما وصلنا (اسكدار) أقمنا من يوم الأحد إلى يوم الخميس، وكان دعانا ابن العم الرئيس، إلى داره للتأنيس، فسرنا إليها ذلك اليوم النفيس، وبعد أن أقمنا عنده أيام الضيافة، وشربنا في حانته صرف السلافة، أتينا بإشارته مدرسته، وكان أراد أن يدخلنا حوزته، فلم نجبه لحب في العزلة المحمودة، ورعاية الأحباب يردون على منزلتنا المقصودة، والمدرسة منسوبة لحسن باشا المقتول، المبنية فوق سبيله المقبول، ونحن إلى الآن فيها نرتجي حصول الوصول إلى حومل القبول والدخول، ثم يطلب الشيخ من محمد جلبي مكي في ختام كتابه (أن يسدي أجزل تحية لسدة قدوة عمدة الوزراء الفخام (أي سليمان باشا العظيم والي الشام، من نثني عليه ألسنة قلوب ملئت من لطفه بالغرام، حميد الذكر والشيم الكرام،(943/31)
عند الخاص والعام، من أرباب السؤدد والاحترام، الوحيد الهمام، والفريد المقدام، من نرجو له دوام خدمة بيت الله الحرام، ليحي الدارس في تلك الطلول والآكام، وينشئ ما يجوز به الإكرام من السلام في دار السلام، ويجدد ما يحتاج إليه الحاج فينال الأجر التام، ويحوط أراضي الشام، ويسعى في عمارها ورفع جور الحكام، لهم على الظلم إقدام.
للكلام بقية
سامح الخالدي(943/32)
رسالة الشعر
سألتني. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
سألتني وهي نشوى من رحيق القبلات
في خميل رائق الزهر ندى النسمات
مخملي العشب مطلول بعطر الزهرات
والدراري عائمات في خضم الظلمات
من ترى توحي إليك الشعر عذب النفحات؟
فتحيل الليل قيثارا شجي النغمات؟
قلت يا أغرودة الروح ويا سر حياتي
من ترى غيرك توحي لي نشيد الصبوات
أنا لولاك لما سلسلت في الناس شكاتي
ولما ساجلت بالشدو هزار الربوات
ثم قالت: وهي تدني ثغرها الظامي لثغري
أصحيح أنت لن تعشق يا شاعر غيري؟
هل أنا الأولى التي ألهمتك الشعر بسحري؟
إن أكن علمتك الحب فلم أفشيت سري؟
قلت يا بهجة أيامي ويا فرحة عمري
بالذي أفرغ في مبسمك الغيسان خمري
والذي أودع في صدرك اثماري وزهري
أنت من كان هواها مالكا قلبي وفكري
وإليها كان بثي، ونجاواي وشعري
فدموعي ملء عيني وحنيني طي صدري
ثم ألقت صدرها الناهد للقلب العميد
ومضت تسال: هل تعشق غيري من جديد؟(943/33)
قلت، والنسمة تهفو فوق أفنان الورود:
يا هنائي، يا هواي البكر، يا لحن قصيدي
أنت من كانت نشيدا قبل لقياها بعودي
أنت من كانت خيالا طاف بالفكر الشرود
ومثالا يتراءى لعيوني من بعيد
فلم التسآل عن حبك يا سر وجودي؟
أنت من هيج قيثار غنائي للنشيد
فترنمت مع الحبيب بألحان الخلود(943/34)
مهاجر وفلسطين
إليهم تحت كل خيمة، وخلف كل جدار، وداخل كل كهف
أخي في الكفاح في العذاب ... أتسمع مثلي عواء الذئب؟
تفزع أطفالنا النائمين ... وتنذر أحلامهم بالخراب
ويفتح في الظلام ... دوي الرصاص ولمع الحراب
فقم وداع مثلي ليوم الخلاص ... وميلاد تلك الأماني العذاب
وإن قيدوك، وإن عذبوك ... وإن هددوك بشر العقاب
فلا تستكن يا ابن هذا التراب ... أمام وحوش الحياة الغضاب
أخي يا ابن هذا التراب الحزين ... أتسمع مثلي أين التراب؟
وقد ملأته جموع العراة ... أساري الرغيف سكارى العذاب
طريقهم ملأته القبور ... ورنت بها نعباب الغراب
ومسكنهم هاويات الخيام ... وملبسهم باليات الثياب
ولكن خلف دجاها الكئيب ... تبدو منازلهم والقباب
وهم يرفعون إليها العيون ... ولا يملكون إليها الذهاب
وهم، والليالي تنسى الغريب ... وتلقى على الذكريات الحجاب
مضوا يحفرون العيون ... ودموع القلب طريق الإياب
معين توفيق(943/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
رمزية في الشعر:
أود في هذه الرسالة أن أقف موقف السائل، كما أحب أن تقف مني موقف المجيب. وأتمنى أن تكون معي في هذين الموقفين صريحا وجريئا شأنك في كل المواقف التي عرفتك فيها من قبل.
أنا لا أنكر عليك الجرأة والصراحة، ولكني أخاف أن تحول صداقتك بينك وبين ما عارضه عليك وأخشى مرة أخرى أن تتغلب عليك النزعةالإقليمية التي تتغلب على الكثير من كتاب مصر - وحاشاك من هذا الظن الخاطئ - عندما يسألون عن كتاب أو كتاب وقيمته في ميزان النقد الأدبي فليفون ويراوغون، ويجيبون على قدر ما تقضيه حقوق الزمالة وصلة الجوار، خصوصا إذا كان الكاتب مصريا والسائل من بلاد أخرى، متخذين من الألفة عينا تغض النظر عن العيوب ما دام الأثر الفني الكسيح صديقا يجب ألا ينال منه معول النقد النزيه أو من أثره المتصدع الأركان!
والسؤال الذي أعرضه عليك يتعلق بالشعر، هذا الفن الجميل الذي أصبح الآن ملهاة بيد أناس لا يحسنون حتى أداءه! أما هذا الشعر فهو يتعلق بقصيدة وسمها وناظمها باسم (إلى فتاة)، وأما صاحبها فهو صديقك - كما قيل لي - بشر فارس الحائر على شهادة الدكتوراه من السربون، وقد نشرت هذه القصيدة أو هذا الهذر المنظوم في العدد الثامن عشر من المجلد الخامس من مجلة (الكاتب المصري) التي كان يرأس تحريرها معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف المصرية، ولم يتسن لي الاطلاع عليها في حينها لانشغالي بقراءات أخرى متعددة.
لقد عرض علي هذه القصيدة قبل أيام صديق من شباب الأدباء، وطلب إلي أن أبدي رأي فيها. . ولقد قرأتها عدة مرات وفي كل مرة كنت أخرج منها بعدم الفهم أو بلا شيء! وخفت أن أظلم الدكتور بشر فارس، أو اتهم نفسي بالمغالاة والأنانية، فجئت أعرض قصيدته عليك لتقف حكما بين فهمي وذوقي وبين شعر الدكتور الشاعر، ناظم هذه المعجزة التي حيرت عقول البشر من شعراء ونقاد. . إن قراء (الرسالة) في الشرق والغرب(943/36)
ليتطلعون إلى حكمك النزيه الذي أعتقد أن روابط الصداقة لن تحول بينك وبين إصداره، أو بينك وبين صراحتك المعهودة وجرأتك النادرة المثال! وهذه هي القصيدة:
فيض أهواء العيون ... تنشد المرمي اللطيف
خاف جسات الجفون ... تحصر الوهم الرهيف
فر هفاف الجنون ... نحو أبراج الطريف
يجتلى ما قد يكون ... بعد منظور كثيف
عاد من قطب الظنون ... من سنا أوج عفيف
مثل زهو في الغصون ... ولم يروضه الخريف
بصريني يا (وضوح) ... ثروة القطب الخطير
أنا في وهج الفتوح ... يقظ لكن حسير
خف كشف طموح ... وكبا فهم كسير
فسرت فوحات روح ... في غيابات الضمير
لمحات قد تبوح ... بخيفات الأثير
ويه جودي بالشروح ... يسري أنس الغرير!
وختاما لك مني أصدق المودة وأخلص التحية. . . واسلم للأدب وللقراء ولأخيك:
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
مشكلة النزعة الإقليمية التي ورد ذكرها في رسالة الأستاذ الناصري، تفرضعلي أن أعود وبالقراء إلى الأمس القريب، إلى ذلك اليوم الذي ظهر فيه العدد (915) من الرسالة حاملا إلى هذه الكلمات من قارئ أديب:
(قبل أن تطلع علينا بهذا المذهب النقدي الجليل - مذهب الأداء النفسي - كنت أتوق وأتمنى لو أن في أدبنا العربي مثل هذا المنهج في دراسة الأدب ونقد الشعر وعندما قرأت مقالك الأول، وأخذت في قراءة الثاني أمسكت عن القراءة وعزمت على أمر. . . عزمت علي أن انتظرك حتى تتم هذه المقالات أو هذا المنهج في فصولك النفيسة، فتضع بذلك(943/37)
حجر الزاوية في بناء النقد العربي الحديث، لأني أردتها قراءة مترابطة آخذا بعضها بعرى بعض.
إلى هنا يا سيدي وأنا أوافقك على ما ترى، وأذهب معك إلى أن (الأداء النفسي) هو المنظار الأفضل الذي يجب أن ننظر منه إلى القرائح وفيض العقول. . . ولكن يظهر - واسمح لي بهذه - أني أخالفك فيمن طبق عليه هذا المذهب وذلك التطبيق الواسع، أو فيمن يجوز أن نجده في شعره بصورة واضحة، ومن يقرأ تعقيباتك وردوك، ودمعة الذكرى على الشاعر الراحل يعرف أنك تقصر هذا المذهب على نابغة المنصورة، وإن اضطررت - لسبب ما - ألا تغفل بعض من يسكنون الشام وأستطيع أن أخرج من هذا بأن العصبية الإقليمية ما زال لها مكان مرموق وصوت مسموع، حتى عند أئمة النقد وحاملي لوائه)!
بالأمس اتهمني هذا القارئ الفاضل - وهو من الأدباء السوريين - بالعصبية الإقليمية، يوم أن تحدثت في بحث متصل الفصول عن شعر علي محمود طه. . . واليوم أسمع هذه الكلمة نفسها من صديقنا الأستاذ الناصري - وهو من الشعراء العراقيين حين يشفق علي من أثرها في معرض الحكم على شعر الدكتور بشر فارس! إن ردي على هذا الإشفاق هو ردي على ذلك الاتهام حين قلت معقبا عليه منذ شهور:
(الشيء الوحيد الذي لم أكن أنتظره أو أفكر فيهن هو أن يتهمني قارئ فاضل بالعصبية الإقليمية، أنا الذي حاربت هذه العصبية بكل ما أملك من جهد على صفحات (الرسالة) كلما أطلت برأسها من قلم كاتب أو من لسان أديب. . ومع ذلك فقد فوجئت بالقارئ الذي اتهمني على غير ترقب وانتظار!
لقد طبقت مذهب (الأداء النفسي) على شعر علي محمود طه، وغن تلك النماذج الفنية التي استشهدت بها من شعره، هي الحكم الفاصل بيني وبين كل معترض على أمانة النقد وسلامة التطبيق. ولن أضيق أبدا بأي قارئ يجادلني فيما كتبت، ما دام نقده قائما على أسس واعية من الفهم والذوق والمراجعة!
إن إيليا أبا ماضي الذي أضعه في الطبقة الأولى من الشعراء ليس شاعرا مصريا، ولعل القراء يذكرون أن أول تطبيق لمذهب الأداء النفسي على صفحات (الرسالة) كان منصبا على شعر هذا الشاعر، حتى لقد دفعته الدهشة من أن يحتفل ناقد (مصري) بشعره، إلى(943/38)
يبعث إلينا الصداقة وشكره الخالص، على لسنان صديقنا وصديقه الأستاذ محمد الحوماني. . . ماذا أقول بعد هذه اللفتة التي أذكرها لأول مرة، حين دعت إليها المناسبة واقتضاها المقام)؟!
هذه الكلمات التي تصور موقفنا من العصبية الإقليمية هي التي فرضت علينا أن نعود بالأستاذ الناصري وبالقراء إلى الماضي القريب، الماضي الذي لا يختلف عن الحاضر في شيء من أهدافه ومراميه. . وإذن فليس هناك ما يدعو الأستاذ الصديق إلى أن يشفق علينا من هذه العصبية التي ما زلنا نحاربها بالقلم واللسان، في كل مناسبة وكل زمان!
وإذا كان الأستاذ الناصري يريد أن يعرف رأينا في هذه القصيدة الرمزية، فلا بأس من مطالعته بهذا الرأي الذي يستطيع على ضوئه أن يزن شعر الدكتور بشر فارس، وهو رأي نقتطفهمن كتابنا الثاني الذي يتطلع بعد الأول إلى النور في الغد القريب. . إنه دراسة فنية عامة للرمزية النفسية والرمزية اللفظية أو الرمزية المطبوعة والرمزية المصنوعة، أو الرمزية المستحسنة والرمزية المستهجنة، ومن خلال تلك السطور التي وضعنا تحتها الخطوط، يتضح رأينا في رمزية (صديقنا) الدكتور بشر وكل رمزية أخرى تماثلها في الصورة وتشاركها في الإطار:
(ما دمنا نقسم الأداء في الشعر إلى قسمين: أداء لفظي وأداء نفسين وننسب الموسيقى في الشعر إلى نوعين: موسيقي اللفظ وموسيقي النفس، فإننا نفرق أيضا بين لونين من الرمزية: هما الرمزية اللفظية والرمزية النفسية. . ومادمنا ننكر القسم الأول من الأداء ولا نقيم كبير وزن للنوع الأول من الموسيقى فإننا نستهجن أيضا ذلك اللون الأول من الرمزية! إن الفارق بين الرمزية اللفظية والرمزية النفسية هو الفارق بين الرمزية المصنوعة والرمزية المطبوعة. إننا ننشد الوضوح في الفن لأنه ركن من أركان الجمال فيه، وطريق من طرق إحساس بهذا الجمال، والشعر فن من الفنون الجميلة لا مراء، إذا أخفينا هذا العنصر الفعال الذي يسلكه في عداد تلك الفنون، إذا أخفينا وراء ستار من التعقيد والغموض والتعمية والإبهام فقد تلاشى أول بريق أخاذ يمكن أن تتملاه النفس في هذا الفن، ونعني به الجمال! نريد في شعر الأداء النفسي تلك الرمزية النفسية المطبوعة، الرمزية التي تلف الفكرة العامة أو الموضوع العام بوشاحها الرقيق الذي لا يحجب الضوء(943/39)
ولا تضيع من ورائه المعالم. . وكل رمزية في واقع الأمر نقاب يلقى على الوجه الجميل، ولكن هناك وجها يحول النقاب الكثيف بين جماله وبين جمال العيون، ووجها آخر يكسبه النقاب الكثيف بين جماله وبين جمال العيون، ووجها آخر يكسبه النقاب الشفيف فوق جماله ألوانا من الفتون. . . وهكذا تجد الفارق الدقيق بين الرمزية اللفظية والرمزية النفسية!
إن الرمزية في جوهرها ما هي إلا وسيلة من وسائل التعبير تستحيل معها المدركات الحسية إلى مدركات نفسية. . . إنها الجسر الذي تعبره الألفاظ والأخيلة والمعاني لتلتقي في بقعة فكرية بعينها تنطمس فيها الماديات لتحل محل المعنويات. وهي في الشعر بعد ذلك ألوان. رمزية جزئية تصب في قالب اللفظ وحده ولا تتعداه، ورمزية مماثلة تقع من الصورة الصوفية موقع الإطار، ورمزية كلية تشمل الهيكل العام أو الموضع العام للقصيدة. . أما رمزية اللفظ فهي رمزية الشطحات التعبيرية، وأما رمزية الصورة فهي رمزية الشطحات التخيلية، وكلتاهما تمثل ذلك النقاب الكثيف الذي يلقى ظلاله المبهمة الداكنة على وجه الفن، ويحيل الومضة النفسية ظلاما تتخبط فيه الأذواق وتضطرب المقاييس في تحديد مداه. . هناك لفظ يدفعك إلى أن تبذل في استجلاء مراميه كثراً من العناء لأنه يمنح من نبع شفوي معقد يتدفق من وجود داخلي، وهناك صورة تجهد فكرك إذا حاولت أن توفق بين خطوطها المتنافرة، لأنها مرسومة بريشة الحركة اللا واعية، ألا لأنها من صنع المخيلة المحلقة في آفاق ذهنية لا تنعكس منها غير مظاهر الضباب، وهكذا نجد الرمزية المصنوعة حين تردها إلى شطحات التعبير والتحليل في نطاق الصور والألفاظ. ولا كذلك الرمزية المطبوعة لأنها حركة استبطان نفسي قبل كل شيء، استبطان تبدأ مرحلته الأولى بجمع المادة الأولية لكل ظاهرة حسية في مجالها المادي، وتبدأ مرحلته الثانية بفحص هذه المادة الأولية فحصا يرجعها إلى مصادرها من النفس والحياة، وتبدأ مرحلته الثالثة بعملية المقابلة والموازنة بين الطابع الحسي للظاهرة المادية وبين الطابع النفسي للفكرة الفنية. وفي هذه المرحلة الأخيرة يتم التوافق الدقيق الكامل بين عالمي الماديات والمعنويات!.
هذه الرمزية المطبوعة التي نعنيها بهذه الكلمات، هي الرمزية التي يرفل فيها اللفظ في أثوابه النفسية البسيطة التي لا تختلف كل ما يماثلها في الشعر من أثواب، والتي تخطر فيها الصورة الوصفية في مواكبها البيانية وهي مغمورة بأضواء الحركة الواعية التي تعمل(943/40)
في وضح النهار، وهي الرمزية التي يبقى فيها الرمز بعد ذلك مقصورا على الفكرة العامة للقصيدة أو منصبا على الموضوع العام. عندئذ تكون الرمزية في الشعر عملا فنيا جديرا بالنظر فيه والاطمئنان إليه، وكذلك كل عمل فني يخلو من الشعوذة اللفظية والشعوذة الفكرية!
ونخطو إلى أبعد من لك خطوة أخرى حين نطالب بأن تكون تلك الرمزية الموضوعية أشبه بالخريطة الجغرافية فيها مواقع المرتفعات والمنخفضات، عن طريق (الإيماء) إلى هذه وتلك بما يتعارف عليه من ألوان. . هنا في مثل هذه الخريطة (ألوان مادية) تومئ أو ترمز للجبال والوديان والأنهار، وهناك في مثل تلك الرمزية (ألوان نفسية) تومئ هي الأخرى أو ترمز للظواهر والخواطر والمدركات)!
ترى هل يحتاج الأستاذ الناصري بعد هذه الدراسة الفنية إلى إبداء رأينا في هذه القصيدة الرمزية؟ مهما يكن من شيء فإن الذنب ليس ذنب (صديقنا الدكتور بشر فارس) ولكنه ذنب الصحافة الأدبية التي تنشر له مثل هذا السخف وتشجعه على مثل هذا الهراء. . . ومعذرة للصداقة التي تربطنا بالدكتور الصديق، لأننا قد تعودنا في النقد الأدبي ألا نجامل الأصدقاء!!
أنور المعداوي(943/41)
رسالة النقد
في عالم النقد
الوجودية
(2)
(مهداة إلى الدكتور محمد القصاص
للأستاذ علي متولي صلاح
في الكلمة الموجزة التي قدمت عن (الوجودية) ما يكشف عن الخطوط الرئيسية لهذا المذهب، ويوضح معالمه الكبرى، وإن يكن الحديث عن (الوجودية) كلمات وكلمات، حتى يمكن أن تستقر في أذهان الناس مبادئ هذا المذهب الذي أعتقد أننا - نحن الشرقيين على وجه العموم - أشد ما نكون حاجة إلى قراره في نفوسنا، لتحلل من الميوعة والوغادة والانحلال الساري بها.
وقد أوضحت في كلمتي أن (الوجودية) تطلب إلى الناس أن يكونوا شجعانا في حمل المسئوليات التي تلقيها الحياة عليهم، أشداء أقوياء من أعمال، وأن يهدفوا بأفعالهم وأقوالهم - فإن القول عند المذهب الوجودي إنما هو عمل إيجابي بل الصمت ذاته نوع من العمل وإن يكن سلبيا - أن يهدفوا إلى تغيير أو تعديل أو هدم لوضعية من وضعيات الحياة، لا أن يهرفوا في الهواء بكلام ولكن لا غناء فيه ولا فيه أثر له!
ولكي أقرب إلى أذهان القراء المذهب أربد أن أعقد في كلمتي هذه مقارنة بين أسطورة تناولها بين اليونان الأقدمون على طريقتهم التقليدية الكلاسيكية المعروفة، وتناولها (جان بول سارتر) على طريقته الوجودية المستحدثة، وتوضح فرق ما بين خصائص المذهب الوجودي وما عداه من المذاهب، وتكشف في جلاء عن القواعد الصحيحة التي يقوم عليها هذا المذهب الذي يناله الجاهلون بالذم والإساءة، ويقصدونه بالتشهير والتعيير، ليزجوا النكتة إلى القارئ، ويقدموا غليه التسلية والتلهية، ويكونوا عنده من الظرفاء المحبين!!
فنحن نعرف الأسطورة اليونانية الشهيرة التي نظمها أول الشعراء الممثلين النابهين من(943/42)
اليونان إسكيلوس في القرن الخامس قبل الميلاد، ونظمها من بعده الشاعر اليوناني الخطير سوفوكليس في مسرحيتين ما زالتا تنبضان بالحرارة والحياة، وما زالتا معينا خصبا للشعراء والكتاب على مختلف العصور، وأعني بها أسطورة (أجا ممنون)، التي نلخصها في أيجار شديد وفي اقتضاب لا يمكن أن يجزئ عن قراءتها كاملة - بما يأتي:
هب (أجا ممنون) مع الذاهبين إلى حرب (طروادة) تلك الحرب الضروس التي عقد (هوميروس) الإلياذة وعلى العودة منها (الأوديسة) وغاب (أجا ممنون) عشر سنوات عن زوجه التي لم تكن تعلم عنه خلال هذه السنين شيئا ولا تدري من أنبائه قليلا أو كثيرا، فاتخذت لها من دونه عشيقا (إيجست) أخاه، وظلت تقاسمه الفراش طوال هذا الزمن، وبيتت معه أمرا إن آذنت الأقدار بعودة (أجا ممنون)!
وكتب الله النصر لليونانيين على الطرواديين، وعاد (أجا منون) فيمن عاد من الظافرين المنتصرين، فاستقبلته زوجه استقبالا رائعا وأبت أن تمس قدماء الأرض فمدت له البسط الأرجوانية وأقامت له معالم الفرح والسرور. وما هو غلا أن يدخل إلى الحمام حتى تشده فيلباس يحتويه كالشبكة إذ تحتوي السمكة، ثم تهوي على عنقه فتصميه!
وكان كل منها ابنة اسمها (ألكترا) وابن اسمه (أورست)، أما الابن فقد استطاعت أخته إخفاءه وتهريبه مع مربيه الذي لازمه وما فتئ يلقنه كيف يأخذ بثأر أبيه، وأما الابنة فقد ظلت في قصر أبيها القتيل أشبه ما تكون بالخادم أو الأمة تشهد عشيق أمها يقاسمها فراش أبيها (أجا ممنون) وتنتظر أخاها الغائب - وقد شب عن الطوق وصار رجلا يستطيع أن ينهض بما ينهض به الرجال - تنتظره ليأخذ بثأر أبيه ويخلصها مما تعاني، وقد أوحى إليها أنه لا محالة عائدة فعاشت على هذا الأمل المرجو.
ثم يجيء (أورست) بوحي من الإله (أبولون) فيقتل أمه ويقتل عشيقها (إيجست) تنفيذاً للوحي، ثم يهرب إلى معبد هذا الإله محتميا به طالبا إليه ألا يتركه وألا يتخلى عنه، ثم يحاكم (أورست) أمام مجلس من أهل أتينا ترأسه الإلهة (أتينا) فيدفع (أورست) عن نفسه بأنه لم يقترف جريمة القتل إلا استجابة لما أوحى إليه به الإله (أبولون)، ويعترف الإله (أبولون) بذلك وبأنه هو الآخر قد أوحى إلى (أورست) بما أوحى استجابة لما أمره به كبير الآلهة (ذوس)! ويدافع عنه دفاعا مجيدا حتى تنتهي المحاكمة بتبرئته!.(943/43)
هذا هو ملخص مضغوط جدا لأسطورة (أجا ممنون) كما ذكرتها الأساطير اليونانية. والذي يهمنا من هذه الأسطورة جميعها هي شخصية (أورست) وعليه سنعقد المقارنة، فماذا كان (أورست) هذا في الأسطورة اليونانية؟ ثم كيف صار عند زعيم المذهب الوجودي؟
لم يكن (أورست) في الأسطورة اليونانية غير آلة في يد الأقدار اتخذته لتنفيذ إرادتها، فلم يكن له هدف خاص في جريمته ولم تكن لديه (فكرة) عنها، ولم تكن لجريمته هذه علاقة بالحياة. . بحياته هو أو حياة الناس الذين يعايشهم، ولم يكن ينبغي بها تغيير أو تبديلا لشيء في الحياة، وهو قد تنصل منها بعد أن أتاها وضعف واستخذى وخارت قواه، وفر إلى الإله (أبولون) ثم إلى الإلهة (أتينا) يستجير بهما من ربات الانتقام اللائى يلاحقنه يبغين قتله جزاء على فعلته، فكانت جريمته بلهاء صماء لا معنى لها ولا أثر ولا هدف تهدف إليه.
وكيف كان (أورست) هذا عند زعيم الوجودية (جان بول سارتر)؟
إنه أخرج هذه الأسطورة على طريقته في روايته الشهيرة المسماة (الذباب أو الندم) التي قام بترجمتها الكاتب الكبير المبشر بالوجودية في مصر (الدكتور محمد القصاص) والتي أدعو القراء وبخاصة هؤلاء الذين يتهكمون على الوجودية أن يقرءوها في إخلاص وتجرد من الهوى. . . وأنا زعيم لهم بأن ينقلبوا لهذا المذهب أنصارا ومحبين.
جعل سارتر من (أورست) رجلا آخر يغاير تمام المغايرة ما كان عليه عند اليونان، جعله الرجل (الوجودي) المنشود!
يقترف الجريمة وهو يعني ما يفعل، ويقترفها حرا كريما مسئولا عنها وحده دون وحي سابق أو معونة خارجية، ويقترفها وهو يهدف باقترافها إلى احتمال آثام الناس التي يتردون فيها، والانفراد بالندم الذي يلاحقهم ويملأ عليهم حياتهم، وتلاحقه ربات الانتقام وتلازمه ليضعف أو يندم أو يهن فلا يكون ذلك منه أبدا. . ويقول في قوة وعنف (لقد فعلت ما فعلت ولن أندم عليه.) ويخاطب أخته (ألكترا) في أمر شعبة البائس النادم الغارق في الإثم فيقول لها: - (أصغي إلي: هؤلاء الناس الذين يرتعدون فرقا في غرفاتهم المظلمة تحيط بهم فقداؤهم الأعزاء. ما ترين لو أخذت على كاهلي جميع خطاياهم؟ ولو أردت أن ألقب عن جدارة (يسارق الندم)! وأن أفسح في نفسي مكانا لجميع توباتهم)(943/44)
ثم يخاطب شعبه المجتمع بين يديه فيقول لهم: (. . . إن جريمة لا يقوى صاحبها على الاضطلاع بحملها ليست جريمة إنسان بل هي أقرب إلى الحادث العارض. . . وأنا أصر أمام وجه الشمس على نسبتها إلي وهي كنه حياتي ومعدن كبريائي، ولم أرتكب جريمة القتل إلا من أجلكم. . . من أجلكم أنتم. . . ألقوا على بخطاياكم وبندمكم وبالضيق الذي يقبض لياليكم وبجريمة (إيجست) وليضطلع بجميعها كاهلي)
هذا هو (أورست) الوجودي، أو على الأصح هذه هي (الوجودية) ممثلة في أورست، فماذا تكون الوجودية إذن؟ إنها الرجولة والحرية والشجاعة واحتمال المسئولية والصراحة والجرأة، والاتفاق مع النفس في السر والعلن، وبذل الجهد لإصلاح الحياة الراهنة وتطورها. . .
فقل للذين يعيبونها دون فهم، ويزدرونها دون علم، ما ضر لو صبرتم حتى تدركوا وما تكتبون، وتفهوا ما تقولون؟
انتهى
علي متولي صلاح(943/45)
الكتب
نظرات في إصلاح الريف
تأليف الأستاذ عبد الرزاق الهلالي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(143 صفحة، مطابع دار الكشاف ببيروت - الطبعة الثانية)
والمياه النقية، لا تزال بعيدة عن (88) قصبة وقرية، يتراوح عدد السكان في كل منها من ألف إلى ألفين.
وأما التعليم في الريف فلا يزال في مراحله الأولى، إذ تبلغ نسبة الأميين في العراق اثنتين وتسعين في المائة، وأكثرهم يعيشون في الريف.
والجهود التي بذلت لنشر التعليم هناك تتضاءل إذا ما قورنت بما يبذل في سبيل التعليم في المدن، ومراكز الأقضية، ومرد ذلك إلى عدم وجود سياسية تعليمية خاصة بنشر التعليم بين أبناء الريف، وموقف بعض الشيوخ، ورؤساء العشائر، ومقاومتهم رسالة المدرسة والمعلم، لرغبتها الشديدة في بقاء القديم على قدمه، وترك الناس في الريف كالأنعام، في ضلالهم يعمهون.
يقول بول منرو في تقريره عن إصلاح المعارف في العراق، (والمشكلة التي تستوجب اهتمامنا هي مشكلة القرية الزراعية. إن منهج المدارس المعمول به في القوت الحاضر، منهج مدني، يتضمنن على الأكثر، درس اللغات بصورة مشددة، وهو ما لا تحتاج إليه الحياة الريفية، وليس منهج المدرسة محشوا بإفراط فحسب، بل إنه لم يؤسس على أسس رشيدة، إذ لا يتلاءم والاحتياجات الريفية. . .)
ويعاني معلم القرية في مشاكل العيش، وما لا يجده أمثاله في غير الأرياف، فوسائل الراحة مفقودة، ذلك إلى جانب ما يجده من مقاومة الشيوخ والرؤساء الأقطاعيين، كتهديد حياته، ونهب أمواله، وسرقة أمتعته.
والذي يحول بين الفلاح وبين تعليم أبنائه، اضطراره إلى النقل من مكان إلى آخر، جريا(943/46)
وراء الرغيف، غير مستقر في مكان، لأنه لا يملك أرضا يستقر عليها.
هنالك في أرياف العراق (449) مدرسة للبنين، عدد طلابها (82128)، وعدد معلميها (1489)، وفي ذلك أيضا مدارس للبنات عددها (24) مدرسة، وعدد طالباتها (1408) ومعلماتها (79) معلمة.
وفي المدن العراقية مدارس للبنين والبنات يبلغ عدد طالباتها وطلابها (78118)، وعدد المعلمات والمعلمين (3030)
ونحن إذا ألقينا نظرة دقيقة على هذه الأرقام، وجدنا أن مدارس القرى تزيد في عددها على مدارس المدن بمقدار (82) مدرسة، ووجدنا طلاب المدن وطالباتها يزيدون على القرى بمقدار (34482)، وأن زيادة عد المعلمات والمعلمين تبلغ (1517) أيضا.
ونخلص من هذه المقارنة بنتيجة تهز مشاعرنا هزا عنيفاً شديدا، ذلك أننا نجد سبعين في المائة من سكان يملئون ريف العراق لا يقام لهم وزن، ولا يحسب في توزيع عدالة التعليم بين أبناء الشعب، وإنما على النقيض من ذلك يعطى الاهتمام لمن يعيشون في المدن وعددهم اثنتان وعشرون في المائة من السكان، وذلك يستدعي من المسئولين تبديل نظراتهم إلى التعليم الريفي، وإعطاء ما يستحق من الاهتمام، لأن الفلاحين يؤلفون هيكل الأمة العظمى، ولا حياة لجسد هيكله العظمى غير سليم.
والمساكن في الريف تتألف من بيوت حقيرة صغيرة مبنية من القصب، أو اللبن أو الطين، بغير ترتيب، فهي ضيقة لا يدخلها النور والهواء، يعيش فيها الإنسان جنبا إلى جنب مع الحيوان، طرقها معوجة تكثر فيها الحفر والأكوام الأوساخ، والبرك التي تنتشر منها الروائح الكريهة، وعلى الرغم من سعة الأراضي في العراق، فإنها متلاصقة، دون نظام وخالية من المرافق
العامة.
وحالة العمال الذين يعيشون في المدن وضواحيها لا يقل في سوئها عن الريف. فإن الزائر الذي يزور بغداد، ويعرج على محلة (الشيخ عمر)، و (باب الشيخ) و (العاصمة)، ووراء سدة (ناظم باشا)، وغيرها من الجهات، يؤسفه اشد الأسف أن يرى هذه الألوف العديدة من أبناء البلاد، في هذا الوضع السيئ على الرغم من أنهم يعيشون ضمن حدود أمانة العاصمة(943/47)
وما يضيق على بغداد يصدق على جميع مدن العراق.
وحاول المسؤولون تشييد قرى حديثة تتوفر فيها الوسائل الصحية في بيوتها، فصدر عام 1926 القانون رقم (70) ولكنه بقي حبرا على ورق، ولو نفذ في حينه، لكان لسكان الأرياف في العراق الآن، قرى صحية نموذجية، تليق بكرامة الإنسان، وتلا ذلك محاولتان فاشلتان في السنتين 1941و1949.
وهجرة الفلاحين من الأرياف إلى المدن، ظاهرة اجتماعية شديدة الخطر على قطر زراعي كالعراق، وسببها انحطاط مستوى المعيشة، وسوء العلاقة بين الفلاحين والشيوخ، وما يثقل كاهلهم من تبعات وأعمال، ثم ما يشعر به شبابهم من غبن، بعد عودتهم من خدمة العلم، حيث لا يجدون وجها للمقارنة بين حياتهم في القرى وبين حياة الناس في المدن.
ولقد ملأ هؤلاء المهاجرون مدينة بغداد، والبصرة، والناصرية، والعمارة، وارتضوا لأنفسهم الحياة في الأكواخ الحقيرة، التي نراها منتشرة في جهات متعددة من بغداد، وفي الفجوات بين قصورها، فتعقدت بهجرتهم مشكلة الفقر في المدن، وازدادت المتاعب الصحية والإدارية، والأمن، لأن الفقر كثيرا ما يدفعهم إلى السرقة، وارتكاب الجرائم، ذلك إلى جانب الارتباك الاجتماعي الذي يحدثه وجود جماعات لا يشعرون برابطة نحو أحد، وأثر ذلك المباشر على كثير من التراخي في الضبط الاجتماعي، وظهور المشاكل الإدارية، والأخلاقية والنفسية، ويزيد في المشكلة، الفيضان السنوي الذي يدمر في العادة، أكواخ هؤلاء التعساء، ومصيرهم بلا مأوى، هائمين على وجوهم، فيولدون ارتباكا لسلطات الأمن. وقد فشلت الحلول التي تفضي بإعادتهم إلى الأرياف التي هاجروا منها.
هذه لمحات عابرة، صور فلم المؤلف حقائقها تصويرا رائعا استمده من قلب ينبض بحب الخير المطلق، وهو في هذا التصوير الدقيق، لا يهدف إلى التجريح والإيلام إلى تشخيص الداء العضال، ليتيح الفرص للمخلصين، فيتقدمون بالعلاج الناجع. وهو في هذا العمل، أشبه ما يكون بالطبيب الحاذق الرحيم، يمد أدواته الجراحية إلى جسم المريض وهي تحمل في أطرافها الحادة، المعاني التي تخفف الألم، وتزيل الأوجاع.
والجرأة على تصوير الحقائق المريرة، التي ينفر الناس من النظر إليها، ولا يقوون على مواجهتها، التي هي بطولة لا يتقدم إلى ميدانها الأصيل، إلا كل مغامر جرئ، لا يخشى(943/48)
الباطل ويقاوم المنكر بأقوى الأيمان.
والرياء الاجتماعي، والنفاق الرخيص الخسيس، والشعور بالحقارة، إنما هي العار الذي قد التصق بجيل العبيد الحاضر، فراح الناس في غمرتها يسمون الأسماء بغير مسمياتها، ويسيرون في ركاب الباطل، ولكن بعض النفوس الأبية في بعض شباب هذا الجيل قد تمردت على هذا الهوان، ولم تسر وراء القطيع في طريق الاستعباد.
والمعجزة التي تنتظر حدوثها الأرواح الخاملة، لترفع مجتمعنا من الهوان الذي تردى فيه، لن تحدث أبدا، ذلك لأن زمن المعجزات قد سار في ركاب الأنبياء. وتوارى في ظلام الزم البعيد. والمعجزة إنما يجب أن ينبثق نورها من إيماننا العميق بالإصلاح الاجتماعي العاجل، ذلك الإصلاح الذي يملأ المعد الجائعة بالخبز، والأدمغة الفارغة بالعلم الصحيح، والنفوس المستغربة الحقيرة الخاملة بالرجولة، وبمعاني الكرامةالقومية والعزة الإسلامية، فتبادر إلى العمل المنتج، وتشيح بوجهها عن التبجح الرخيص بعظام الأبطال من البائدين، ونحن في حقارة القرود بين الأمم المتمدنة.
إن الوطنية المدركة، تتطلب من أفراد الأمة أن يجدوا الحلول العملية لهذه المشاكل، وكل تقاعس عن ذلك، يدفعنا موثقين بها، في تيارات دولية عنيفة، تتربص وتضمر لنا الشر والحقد الدفين.
يجب أن تنتقل ملكية الأرض إلى الفلاحين، وأن تقام لهم المساكن التي تليق بكرامة الإنسان، وأن تكون العناية بصحتهم، وغذائهم، وتعليمهم، شغل القلوب المخلصة الشاغل التي تستطيع - حتى يتساوى الجميع في عدالة اجتماعية - أن تكفل الطمأنينة لكل مواطن في حدود التبعات والواجبات.
والأمة حين تفكر جديا، في حل هذه المشاكل، لا تبصر غير مصلحة الوطن العليا.
ولقد اقترح مؤلف الكتاب حلولا سليمة لكثير من المشاكل التي أثارها، لو أخذنا بها لجعلت الريف جنة وارفة، وجعلته مصدر قوة رهيبة يحسب لها الأجنبي حسابا يحطم أعصابه ويبتعد عنها إلى حيث ذهبت أم قشعم.
ومشروع (الدجيلة) العظيم الذي أتاح الاستقرار لآلاف من الفلاحين في العراق على أرض يملكونها، وبرعن الفلاحون باستتباب الأمن، وخلودهم إلى الاستقرار في بيوت صحية على(943/49)
طمأنينة ووعي عميقين، إنما هو تباشير الفجر الذي سيعقبه إشراق شمس العدالة، فلا يبقى سيد وعبد، وظالم ومظلوم في مواطن العروبة.
وقصة الحاج رويس - التي قصها المؤلف معالي الشيخ علي الشرقي - ذلك المرابي الذي سلف أحد المزارعين مائتي روبية على أساس أن يدفع له الفلاح وزنة من الشعير عن كل روبية وبمرور الزمن أصبح هذا المبلغ ستين ألف روبية دفع الفلاح المسكين نصفها في حياته وبقى ورثته مدينين بنصفها الباقي، إنما هي المثال الصارخ على ظلم الفلاحين واستعبادهم.
يجب أن ترتبط أجزاء الوطن العربي الكبير، بنظام اقتصادي، عميق الجذور، قوي الأركان، يستمد كل جزء من أجزائه، حاجته من أيد عاملة، أو رؤوس أموال، أو خبراء، من الجزء الذي يتوفر فيه ذلك، فتصان الثروة للشعوب العربية. وينبغي أن يسبق ذلك أو يتبعه، تغيير جارف في مناهج التعليم، لتصبح عملية، تواجه مطالب الحياة الحديثة بإعداد جيل قوي من المهندسين، والكيميائيين، والإخصائيين، وعلماء الطبيعة والرياضيين والمخترعين. ولقد آن للشبان في هذا الجيل أن يشيحوا بوجوههم عن دراسة اللغات والآداب والتاريخ، وأن ينصرفوا بشعور وطني عميق إلى التخصص في الرياضيات والطبيعيات والكيمياء والتعدين، والهندسة والزراعة، بكل أنواعها ودقائقها وفروعها، فإننا في حاجة ملحة إليها الآن.
وبعد فإن الأستاذ عبد الرزاق الهلالي، مؤلف هذا الكتاب، يستحق الشكر الجزيل، والتقدير العميق، على هذا الاتجاه الرشيد في معالجة مشاكلنا الاجتماعية، ونحن نرجو أن يكون فاتحة خير للشباب، يخرجهم من عزلتهم، فيظهرون شجاعة أدبية في التوفر على دراسة المشاكل التي يواجهها الجيل الحاضر، تلك المشاكل التي تتعذب في جوها أرواح هي أجزاء من أرواحنا، ونفوس هي نفوسنا، وما أبشع ذنب الذي يقف على طرف الماء فيرى غرقنا ولا يمد يد المساعدة إليه.
وأسلوب المؤلف في الكتاب يغلب عليه تكرار الحقائق، وكأنه يريد أن يبالغ في إظهارها، ولكنه أسلوب متين، سلس، تطل من وراءكلماته حرارة الروح، ووجيب القلب، وأنسام العواطف الرفيقة الرحيمة.(943/50)
ووسائل الإعجاب التي ألحقتها بالكتاب من بعض أصدقائه، إنما هي أمور شخصية لا شأن للقراء بها، وهي كالقذى في العين الجميلة التي تبعث الفتنة إلى القلوب.
بغداد
دار المعلمات الابتدائية
علي محمد سرطاوي(943/51)
من هنا ومن هناك
جوائزنوبل:
أصدرت اليونسكو بياناً عن سيرة ألفرد نوبل وجوائزه جاء فيها:
نوبل العالم والمخترع قضى معظم حياته في إنتاج أنواع المتفجرات. في عام 1854 أخرج أول نوع من الألغام والمتفجرات، وفي 862 ابتدأ بصنع النيروغلسرين والديناميت، وبعد مدة قصيرة اخترع البارود بلا دخان.
ولما بلغ نوبل الثالثة والأربعين اتخذ فتاة نمساوية اسمها برث كينسكس كاتبة سر له ولم يلبث أن علق بها وطلبها للزواج ولكنها اعتذرت بكونها خطيبة لمواطن لها يدعى أرثر فون سوتنر وكان من دعاة السلام العالمي.
وفي عام 1869 أوصى نوبل بربع ثروته التي كانت تقدر بنحو أربعين مليون كروا أسوجية ليوزع سنويا على الذين يخدمون الإنسانية بعلومهم وأفكارهم. والوصية تحدد الجوائز بخمس: فالجائزة الأولى للكيمياء، والثانية للطبيعيات، والثالثة للطب والرابعة للآداب والخامسة للإخاء البشري والسلام العالمي.
ووزعت الجوائز لأول مرة في العاشر من ديسمبر عام 1901، وأربع سنوات منحت جائزة السلام لتلك الفتاة التي كانت أمينة سر نوبل وغدت تقلب بعدئذ بارونة فون سوتنر لأعمالها السلمية وكتاباتها الداعية إلى الإخاء الإنساني.
والجوائز المالية تختلف قيمتها باختلاف دخل مؤسسة نوبل، ففي السنوات الأخيرة كان المعدل نحو مليون و120 ألف فرنك لكل جائزة.
أما ترشيح الأشخاص فتتولاه المؤسسات الرسمية والجامعات والمجامع العلمية ويعرض على هيئة تحكمية. فجائزة الآداب تحكم الأكاديمية الأسوجية، وجوائز الكيمياء والطبيعيات تمنحها الأكاديمية العلمية الأسوجية، وجائزة الطب يمنحها معهد كارولينا في اسوكهولم، وجائزة السلام تمنحها لجنة تنتخب من مجلس النواب النرويجي. ولا يخفى أن أسوج ونروج كانتا مملكة واحدة عندما توفي نوبل.
وفي عام 1935 حظر هتلر على الألمان فبول جوائز نوبل بعد أن محت جائزة السلام لكارل فون أوسياتزكي الذي اعتقله النازيون. وعلى رغم ذلك فقد منح ريشاركوهن جائزة(943/52)
الكيمياء لعام 1938 لأبحاثه في خصائص الفيتامين. وفي العام التالي منح أدولف فردريك جوهن بوتسينتدت الجائزة نفسها لمباحثه في الهرمونات.
وفي خلال الحرب الأخيرة حبست جائزة السلام لعدم التئام المجلس النيابي النرويجي بسبب الاحتلال الأماني. وكثيرا ما تختلف الآراء في اللجان التحكمية فيحول الاختلاف دون منح الجائزة كما جرى في العام الماضي فلم تمنح لأحد الجائزة الأدبية أما الذين فازوا بجائزة نوبل الأدبية.
أما الذين فازوا بجائزة نوبل الأدبية منذ إنشائها حتى اليوم فهم: 1901 سيلي برودم (فرنسا) 1902 تيودور مومسن (ألمانيا)، 1903 بجورنسون (نروج) 1904 فردريك مسترال (فرنسا) وخوسة اتشاغارى (أسبانيا) 1905 هنريك سينكويز (بولونيا) 1906 غيوسوه كردشي (إيطاليا) 1907ريدارد كبيلنغ (إنجلترا) 1908 رودلف أوكن (ألمانيا) 1910 بول فون هيس (ألمانيا) 1911 موريس مترلنك (بلجيكيا) 1912 مرهرت هوتمن (ألمانيا) 1913 رابندراناتطاغور (الهند) 1915 رومان رولان (فرنسا) 1910 فرنرفون هيدنستام (أسوج) 1917 كارل غلروب (الدانيمراك) وهنريك بونتوبيدان (الدانيمراك) 1919 كارل سبيتلر (سويسرا) 1920 كنويت همسون (نروج) 1921 أناطول فرانس (فرنسا) 1922 خاسينتو بافنتي (أسبانيا) 1923 وليم يتس (أيرلندا) 1924 برناردشو (إنجلترا) 1926 غرازيا ديلادا (إيطاليا) 1927 هنري برغسون (فرنسا) 1928 سيغريد أوندست (أسوج) 1929 توماس (ألمانيا) 1930 سانكليرلاوس (الولايات المتحدة) 1931 أريك كارفلدت (أسوج) 1932 دجون غلاسورثي (إنكلترا) 1923 إيفان بونين (روسيا) 1934 لويجي بيراندللو (إيطاليا) 1936 أوجين أونيل (الولايات المتحدة) 1939 روجه مرتين دي غارد (فرنسا) 1938 بيرك بوك (الولايات المتحدة) 1939 فرانزأميل سيلامبا (فنلندايا) 1944 جوهانس جنسن (الدانيمرك) 1945 غبريالا ميسترال (شيلي) 1946 هرمن هس (سويسرا) 1947 أندره جيد (فرنسا) 1948 ت. اليوت (إنكلترا).(943/53)
القصص
قصة واقعية
من الأعماق
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
إلى الأستاذ المعداوي، وكل من في حياته قصة وفي أعماقه
حب قديم وفي قلبه أشجان، أهدي قصتي. ع. ع
صديقي. . .
إنك أعرف الماس بمقدار حرصي على الإبقاء لهذه الذكرى طي الكتمان في أعناق القلب الذي حملها سنوات، وما تثيره هذه الذكرى في نفسي من ألام وأشجان تذهب بهناءتي أياما بل شهورا لأنها تذكرني بجريمة ارتكبتها جنيت فيها على قلب كبير، وتصور لي نفسي مذنبة آثمة، فيهب ضميري من رقاده فلا يزال وخزه كالحراب حتى يقيض الله لي من ينسيني هذه الذكرى بعض الوقت.
ألست أنت الذي حاول مرارا أن ينتزع ها السر الذي احتفظت به وضننت به على أقرب الناس إلي وغليها، فهل تظن أن البعد الذي بيننا بحل عقدة لساني فأقص عليك قصتي التي من أجلها هجرت بلدي إلى غير رجعة، وأفضي إليك بذات نفسي فأطلعك على جرح قلبي الدامي الذي تجعله الذكرى ينزف كأول عهده؟
إن هذا الجرح هو الذيحال بيني وبين مشاركة الناس التمتع بهذا الجمال الذي وهبه الله عباده. إنني لا آتمن هذه الصحائف لأخط عليها ما عجز عن انتزاعه الآخرون ولكن. . . لا! محال أن البوح. لقد كثر إلحافك بعد أن افترقنا وأنا أريد أن اسكت هذا اللسان الذي يطاردنيفي حضوره وغيبته مهما بعدت بيني وبينه المسافات، وكأنك تتعمد إيلامي لأفضي لك بسري. وماذا لو أخبرتك خبرها، وأنا اليوم لا أخاف قالة السوء ولا أخشى أن يزاحمني عليها أحد.
كان ذلك منذ أعوام سبعة يوم كنت معي والتقينا بصديقنا (م) بعد عودته من الغيبة التي طال أجلها بيننا، ثم التقيت به مرات ولم تكن أنت معنا. ودعاني يوما لزيارته فلبيت دعوته(943/54)
ولا أدري لم دعاني وقد مضت سنوات على صداقتنا ولم يدع أحدنا الآخر إلى منزله؟ ولا لماذا خرجت أنا عن مألوف عادتي فلبيت دعوته؟ ذهبت فراعني منزلهم الجميل ورياشه الفاخر وتلك الحديقة الزاهرة التي تحيط به.
ولما استقر بي المقام جاءت شقيقته (ن) وهي إذ ذاك في الثالثة عشرة من سني حياته، وهي طالبة في المدرسة وقدمني إليها قائلا: (أستاذك الذي سيقوم بإعطائك درس اللغة العربية) وأخذت بهذه المفاجأة إذكنت أتحاشى دائما هذا النوع من الدروس مهما كانت سن الفتاة. بيد أن الموقف ألجم لساني وصداقتنا حالت بيني وبين الاعتراض، كل ذلك كان سهلا بجانب نظرتها إلي، نظرة فيها كل أنواع البراءة والدلال، فوجدتني أومن على قوله بغير شعور مني.
ومدت يدها الصغيرة تصافحني وعلى ثغرها ابتسامة جميلة خلت من أنواع المخاتلة والرياء، لأنها بسمة تكسوها براءة الطفولة، إذ كانت إلى هذه السن لا تزال طفلة في كل أعمالها. فإذا قدرت سني حياتها عند رؤيتها ما زادت على عشر سنوات لضمور جسمها ووداعة خلقها وتعثر كلماتها في النطق.
وحددنا موعد الرس، وفي اليوم التالي ذهبت إلى منزل صديقين أو بالأحرى تلميذتي، فوجدتها في حجرتها الخاصة تنتظرني فقضينا بعض الساعة في ترتيب وتنظيم، واتفقنا على الخطة التي تناسبها.
صرت بعد ذلك أذهب إليها في الموعد المحدد. وعلى مر الأيام زال ما بها من تلعثم، وكنت أرى منها غبطة وسرورا كلما رأتني قادما، فقد كانت تنتظرني في نافذة حجرتها المطلة على الحديقة فإذا رأتني هبت تتلقاني بباب حجرتها. وبدأت ألحظ عليها أنها تبذل جهداً كبيراً لتعوقني عن الخروج وتحتال لذلك الحيل، وأكثرها توجيه أسئلة أجدني مضطرا للإجابة عنها لأني كنت أخشى أن تظن بي العجز. وكم من مرة أضاعت علي فرصا كنت أنتظرها بفارغ صبر. مر العام على خير وجوه. وكانت أولى المتقدمات من زميلاتها وانتقلت من مرحلة إلى مرحلة أخرى.
وظننت أن مهمتي قد انتهت، فانقطعت عنها، وماذا بقي علي؟ لقد أديت واجبي وقمت بما تقتضيه الصداقة.(943/55)
وبعد أيام من انقطاعي وكنت جالسا في حجرتي غارقا بين أوراقي، إذ طرق الباب طارق، فلما أذنت له بالدخول وكنت أحسبه خادمي فلم أهتم بالأمر. ولما رفعت وجهي لأسأله ما يريد، رأيت أمامي صديقي (م) وتلميذتي فأخذت بهذه المفاجأة ومددت يدي مسلما معتذرا. فلما تقدمت أسلم عليها مدت يدها وهي تتصنع الغضب ولكنها لن تستطع أن تخفي تلك الابتسامة الحلوة التي عودتني إياها كلما لقيتها.
جلسنا في غرفتي، وكلما نظرت إليها ازدادت شفتاها انفراجاً، ولكنها سرعان ما كانت تسردها بمظهر الغاضبة. ثم انفرجت شفتاهالا عن ابتسامة ولكن عن عتاب جميل لتقصيري عن زيارتهم بعد انتهاء العام الدراسي. ولقد كانت في إلقاء الأسئلة وتضييق الحلقة ماهرة كأنها نائب يحقق في حادثة يريد أن يصل إلى الجاني، وكلما هربتمن طريق جاءتني من آخر. وقدمت لها من المعاذير ما لا يحصى ولكنها تقبل منها واحدا وكانت كلما ألقيت إليها عذرا رأيتها تهز ذلك الرأس الصغير علامة عدم الارتياح، ولم تتركني حتى قطعت على نفسي عهدا باستئناف زيارتهم مرة أخرى وسيكون ذلك بعد غد. ذهبت إلى منزلها فإذا بي أفاجأ باستعداد الحفل. باسمة الثغر طلقة المحيا عليها سماء من تجاوزن سنها، وكان حف تزينه زهرات لم تتفتح مثلها وما زالت قلوبهن في الأكمام وتم عقد المدعوين ووقفت تقول كلمة صغيرة كما قالت فإذا هي تبدع وتجيد، وفي نهاية كلمتها قدمتني للمدعوين على أن أتكلم كلمة فلم أسر لاقتراحها قدر ما سرني كلمتها التي أشادت فيها مما بذلت معها من مجهود أهلها لهذا التقدم، فكدت أعتذر لولا نظرتها إلي وما رايته منعيون متجهة إلى شخصي.
وقدمت لنا بعض زميلاتها أغنيات ورقصات أضفت على الحفل عنصر البهجة والسرور.
وكانت جلستي بجانب فتاة وسيمة الوجه طلقة المحيا ذات شعر فاحم أهيف. . وعلى غير قصد مني لمست يدي ذراعها العاري فسرت رعشة غريبة في يدي فاضطربت ولحظت فتاتي ذلك إذ كانت لا تفارقني، فأسرعت تقدمها إلي، فإذا هي ابنة عمها قد أتممت دراستها الجامعية هذا العام، وحادثتني حديثاً شهياً خلب لبي واستولى على مشاعري ولم ينته الحفل حتى كنا على موعد للقاء في اليوم التالي. وتكرر لقاؤنا فازددت بها شفا وهمت بها حبا، وترامت الأخبار إلى تلميذتي بعلاقتي بابنة عمها، فكنت كلما زرتها شاهدت على وجهها(943/56)
مسحة من الهم والألم، وكانت تتعمد ذكر ابنة عمها أمامي وتنظر إلي أثناء ذلك نظرات لم أعرف مغزاها إلا بعد فوات الأوان.
وصحبتها إلى السينما وكنت على موعد مع ابنة عمها فاختارت المقعد الأوسط لتجلس بيننا فنفذت رغبتها ولكن فعلها آلم ابنة عمها، فعتبت علي على مصاحبتي لهذه الصغيرة وإذعاني لرغبتها، فقد كانت كل منهما تتربص بالأخرى ولكنها تتحاشى لقاءها، عرفت حبيبتي أن ابنة عمها تحبني ولكنها لم تذكر لي شيئا عن ذلك.
وها لني ما طرأ على تلميذتي من تغير ملحوظ فأصبحت تؤثر الوحدة وتتحاشى الناس. وتجلس معي صامتة واجمة، وبدأت عيناها تذبلان ونظراتها تتكسر، فحاولت أن اعرف سر ذلك منها فلم أفلح. وكانت كلما خرجت معي بمفردها - لأنها كانت ترفض دعوتي إذا علمت أن ابنة عمها سترافقها - تسر لذلك ويذهب عنها بعض حزنها وصارت لا تذكر غريمتها أمامي كما كانت تفعل قبل اليوم.
وذهبت لأطلب يد ابنة عمها فلما تم كل شيء بعثت من يعلن الخبر في بيتها وكانت ترمي من وراء ذلك إلى غرض في نفسها. ولما ذهبت في اليوم التالي إلى صديقي إذ كنا على اتفاق لنذهب إلى إحدى الحفلات، ولم أجد تلميذتي تنتظرني كما هو مألوف. وهنأني الجميع ولكنها لم تحضر، فسألت عنها فعجب الجميع لغيابها، وبحثوا عنها حتى وجدوها، فلما جاءت رأيتها قد انكمشت في نفسها.
وسألتها عن تقدم استعدادها للذهاب معنا فاعتذرت بتعب تحسه. وحاولت كثيراً فلم توافق. وفي اليوم التالي علمت بأنها مريضة فزرتها وواظبت على زيارتها كل يوم، غير أن حالها كان يسير من سيئ إلى أسوأ. وكانت تسرع خطواتها إلى العام الآخر فأضفت على البيت الحزن والكآبة. وفي أحد الأيام ذهبت لعيادتها فانتهزت فرصة خلو حجرتها من الآخرين وسلمتني غلافا. فلما ههمت بفضه أشارت إلي إشارة فهمت منها أنهالا ترغب في ذلك. ولما صرت خارج الدار فضضت الغلاف فوجدت صورتها بين أوراقه وتصفحت كتابها فإذا فيه. . .
(حبيبي لقد أحببتك وأنت لا تدري، وان كنت قد بادلتني هذا الحب، غير أنك كنت تستخف به لأنه في نظرك حب طفلة وما دريت أن لهذه الطفلة قلبا. . .(943/57)
(وكم ندمت على أني كنت سبباً في تعرفك بتلك التي سلبتك مني واستولت عليك من دوني، وكثيراً ما حدثتني نفسي أن أسحقها كما سحقت قلبي وأحطم حياتها كما حطمت حياتي. ولكني كنت أخشى أن يكدر فعلي هذا صفو حياتك ويسبب لك الشقاء والآلام.
(لقد كان أسعد يوم في حياتك هو أشقى أيام حياتي، فبينما أنت تنعم بقرب حبيبتك وقد فاضت منك كأس السعادة. كنت أنا أقاسي آلاما تهد الجبال وأتجرع كأس الخيبة والحرمان غارقة في حمى الحب الذي حطم أعصابي. بينما أنت تضحك ملء فمك، كنت أنا أبكي مصير حبي وأندب ذكرياتي الجميلة واشبع آمالي الواسعة، في حجرتي المظلمة التي تذكرني كل قطعة فيها بحبي، وبأنك كنت في يوم من الأيام لي وحدي فكم تمتعت فيها بالجلوس إليك لا يشاركني فيك أحد. في هذه الحجرة رحت أشكو منك وكنت قبل اليوم أشكو لك. في هذه الحجرة سعدت بأحلامي الجميلة واليوم أذرف فيها الدمع على أطلال سعادتي الذاهبة.
(لقد ههمت كثيرا بأن أكتب إليك بما ألاقيولكن كان الوقت قد مضى والفرصة ضاعت. وهل كنت تصغي لكلماتي وأنا في نظرك لا أعدو طفلتك الصغيرة؟
(أتذكر يوم لقيتني في حجرتي منفردة أضع رأسي بين يدي وعلامات الألم تبدو على وجهي فقلت لي: لقد كبرت وغدوت تفكرين كما يفكر الكبار. ثم جلست تربت على كتفي وتمسح بيدك شعري، وأنت تسألنيعن سبب همي، فكدت أجثو على ركبتي وافتح قلبي بين يديك وأريق أمامك كل ما كنت أكظمه من الحنان وما يكربني من لاحب، ويملأ قلبي من العواطف.
(لقد أصبح كل شيء في هذا الوجود مصدره عذابي فكرت كل شيء وأحست بأبغض لهذا العالم ومن فيه فلم أعد أطيق رؤية أحد.
(لقد كان حبي لك كبيرا وكانت خيبته أكبر. فلم أقدر على تحمل ثقلهما. فإذا طواني الموت فابك يا حبيبي على حبي لك لأنه سيبلىولأنه قد توسد الثرى وكان يحلم بتوسد ذراعك ولأنه ضمه القبر وكان الواجب أن تضمه في أحضانك، ولفه الكفن وكان حقيقيا أن يلفه وإياك فراش واحد، واحتوت صحراء مقفرة وكانت أمنيته أن يحتويه عش تكون أنت سيده.(943/58)
(إن تعلقي بالحياة لا لأن نفسي عزيزة علي ولكن للحب الذي تكنه لك. فإذا مت فلا تبك علي لأن بكاءك يؤلمني. . ولا تحزن فان حزنك يشقيني. . . ولكن اذكرني كلما خلوت إلى نفسك).
في هذا الأسلوب الذي لا غموض فيه ولا تكلف فيه كتبت إلي خطابها وهو خطاب طويل، فما انتهيت من قراءته حتى أحسست الدمع يتساقط من عيني، وان الأرض تدور بي، ولم أعرف أين أنا سائر، وكدت أعود لأضمها بين ذراعيوأغمر وجهها بالقبل لأخفف عنها وطأة آلامها ولكني لم أستطع إذ كانت قواي قد خارت ونفسي قد تضعضعت فجلست عل أقرب مقهى وجدته، وما شعرت إلا والنادل ينبهني إلى موعد الانتهاء من سهرته. فقت أهيم على وجهي طيلة الليل وأنا حائر ماذا أفعل وقد قطعت مع عمها وعدا بالزواج من ابنته. ولو كان الحب فقط الذي أكنه لابنة عمها لكتمت أنفاسه وتخلصت منه. . . ولكن كيف أتخلص من وعدي وبماذا لأعود إلى تلك أحبتني في صمت وتعذبت في سبيلي كل هذا العذاب وأنا سادر عنها غافل عن أشجانها وآلامها، فذبلت كما تذبل الزهرة قبل تفتحا لأنها حرمت الساقي الذي يتعهدها.
وفي اليوم التالي بكرت في الصباح وقد بيت في نفسي أمرا. وقبل أن أصل إلى الدار صكت أذني أصوات النساء يندبنها. فلما ولجت الباب رأيت خادمها حزينا. فلما سألته أخبرني أن شريانا قد انفجر إثر صدمة نفسية لم تستطع لها احتمالاً. هكذا قال الطبيب. يا رحمتاه لها.
فعلمت أني قد قتلتها وأنا عنها غافل.
وبعد أسبوع كنت أستقل القطار مبتعدا عن معهد ذكرياتي المؤلمة، ولكنها ما زالت تطاردني كلما وقعت عيني على صورتها التي لا تفارقني.
عبد الموجود عبد الحافظ(943/59)
العدد 944 - بتاريخ: 06 - 08 - 1951(/)
الملك عبد الله
على عتبة المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله خر الملك عبد الله صريعاً ليديه، فصرعت بمصرعه الأليم سياسة، وتزعزع نظام، وتراجع أمل، وتضعضع حلف، وتغير تاريخ!
ذلك لأن الملك عبد الله كان قوة مؤثرة في سياسية الشرق والغرب. اكتسب هذه القوة بفعل هذه الحوادث وحكم الظروف وموقفه المعبر الدال على اتجاه الإنجليز في شؤون العرب. ولم يكن من الميسور أن يكتسبها لو لم يكن قوي الشخصية بعيد الهمة واسع المطامع، لا يقنع بالتمني، ولا يكتفي باليسير، ولا يُدخل في حسابه آراء غيره ولا أراب قومه
دخل الأمير عبد اله بن الحسين التاريخ من الثغرة التي ثغرها الإنجليز بين الترك والعرب في الحرب العالمية الأولى. وكان المغفور له والده قد فهم من لغة الإنجليز في الوعد الذي واعدوه غير ما أرادوه! فهم أن غنيمته من محاربته الأتراك معهم ستكون للأمة العربية الاستقلال والوحدة، وكانوا هم يريدون بهذين اللفظين الانتداب والتجزئة! فلما تقاسم بنو الحسين الميامين تيجان العرب في الأقطار التي انبسط غليها النفوذ البريطاني من تراث الخلافة الصريعة كان ما أصاب الأمير عبد الله رقعة من أجادب الأرض في شرق الأردن، لم تتسع لهمته ولم تستجب لطموحه. وظل فيها كما يظل الأسد في القفص متململاً من الحصر، متبرماً بالضيق، يتطلع من خلال القضبان إلى سواحل فلسطين، ثم تمتد عينيه الرقيبة إلى سهول سورية، ثم يشرق بفكره وقلبه إلى أرياف العراق، ثم يرتد بذكرياته وحسراته إلى أباطح الحجاز، ثم ينطوي على نفسه في قصر ترغدان ويصوغ ما تشاه وتمناه وما تذكره خططا سياسية يسميها: فلسطين الموحدة أو سورية الكبرى أو الهلال الخصيب، ويستعين على تنفيذ هذه الخطط وتحقيق هذه الأماني بمصفحات من جيش (جلوب)، وصفحات من كتاب (الأمير)، ولكن الملك كان يفكر، والقدر كان يدبر، (فحال الجريض دون القريض)، وانهار ما شاد الثائر الطموح من الأمل العريض!
عرفت أصحاب التيجان الهاشمية من بنى الحسين معرفة خبزة وصداقة. عرفت الملوك علياً وفيصلاً وغازياً في بغداد، فرثيتهم رثاء الخبير، وبكيتهم بكاء الصديق! إلا الملك عبد الله فقد لقيته مرة واحدة في القاهرة وهو أمير. لقيته أنا والأستاذ السراج في أحد القصور من جاردن سيتي، فلم يكد يفرغ من تكاليف اللقاء الجميل حتى أخذ يتلو عن ظهر قلب قول الله تعالى: وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم. . . آخر الربع من سورة(944/1)
(فصلت)، ثم انتهت الزيارة بانتهاء القراءة، فلم أعرف عنه إلا أنه يحفظ القرآن!
من أجل ذلك لا أستطيع أن أتحدث عنه ولا أن احكم عليه إلا من وراء ما يُرى ويُسمع. والناس إنما يرون ويسمعون بعين المخلوق وأذنه. ولعل فيما أبصروا من أفعاله، وسمعوا من أقواله، مبرراً من طيب سريرته وصدق عقيدته. والتاريخ يحاسب المرء على عمله، ولكن الله يحاسبه على نيته!
أحمد حسن الزيات(944/2)
ورطة يهود اليمن في إسرائيل
للأستاذ عمر حليق
تواجه الدولة اليهودية اليوم مشكلة داخلية أولدتها هجرة يهود اليمن إلى إسرائيل. ونستعرض فيما يلي أوجه هذه المشكلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومصادر هذا التقرير عديدة توفرت لنا هنا من هيئة الأمم في نشرات وبحوث مختلفة، بعضها يهودي والبعض الآخر من تحريات المرسلين الأجانب
توطئة:
قامت دائرة الأبحاث الشرقية في الجامعة العبرية بالقدس بدراسة تاريخ اليهود في اليمن وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية إلى ما قبيل عملية الترحيل التي قامت بها القيادة الصهيونية العالمية - هذه العملية التي سميت بساط الريح نظراً للسرعة الفائقة التي تمكن بها أعوان الصهيونية في محمية عدن من نقل عشرات الألوف من يهود اليمن على متن القلاع الجوية الطائرة في مدة لا تتجاوز بضعة أسابيع
ونحن ننقل في هذه التوطئة ملخص هذه الدراسة على علاتها. تقول هذه الدراسة إن يهود اليمن كانوا يستوطنون بقعات مختلفة من البلاد بلغ عدد جالياتهم فيها حوالي 800 بين صغيرة وكبيرة ومتوسطة العدد
وكان جزء من يهود اليمن قد استقر هناك منذ الأجيال التاريخية القديمة، وكان الجزء الآخر - وهو الأقل عدداً - قد هاجر من الشواطئ الأفريقية أو نزح من أعالي بلاد الشام والعراق بقصد المتاجرة مع اليهود الأصليين في اليمن السعيد
ويعرف يهود اليمن بتعلقهم بمذهبهم على الطريقة التقليدية، وقد خالط يهوديتهم بعض الدخائل الوثنية ولكنهم مع ذلك بقوا من اشد الجاليات اليهودية تعلقاً بالعادات والتقاليد القديمة وكان يهود اليمن يتكلمون العربية طبعا، ولكن عربيتهم كانت تختلف إلى حد كبير عن العربية التي يتكلم بها يهود العراق مثلاً
حياة يهود اليمن الاقتصادية:
استعرضت المجلة الجغرافية الأمريكية في مجلد عام 1947 نصيب يهود اليمن من الحياة(944/3)
الاقتصادية هناك فقالت إن طبيعة المناخ الجبلي والسهول الخصبة في ربوع اليمن قد ساعدت على نشوء تجارة وصناعة محلية سيطرت عليها الجاليات اليهودية هناك سيطرة تامة وفرت لها بعض الرخاء على نحو ما كان متوفراً لأكثرية اليمنيين العرب. وقد شرح كاتب يهودي - كانت الجمعية الصهيونية العالمية قد أرسلته إلى اليمن قبل مأساة فلسطين بسنتين - الوضعية الاقتصادية ليهود اليمن في كتاب أسماه ابن سفير فقال - لا تخلو منطقة من المناطق اليمنية التجارية والزراعية من جالية يهودية تتحكم في الوضع الاقتصادي للمنطقة. فقد كانت معظم حوانيت البيع في يديهم. وفي يدهم تركزت صناعة الجواهر والسلع التجارية المحلية والخارجية. وكان يهود اليمن على اتصال مستمر مع يهود العالم الخارجي عن طريق محمية عدن مما ولهم توسيع نشاطهم التجاري بحيث شمل الداخل والخارج. ولم يقتصر تركز يهود اليمن الاقتصادي على التجارة والصناعة وأعمال المصارف (القروض والربا والرهن) وإنما شمل احتلال الأراضي الزراعية والسيطرة على مصادر المياه والتحكم في توزيعها على صغار المزارعين اليمنيين العرب في القرى والدساكر. ومع ذلك لم تنشأ في اليمن أزمة يهودية كما نشأت في بلدان أوربا مثلاً. وسبب ذلك سماحة الإسلام وما طبع عليه المسلمون من إكرام للغرباء والصبر على المكاره. ولم يكن ملاك اليهود في اليمن قائمين على الزراعة بأنفسهم، وإنما كانوا يؤجرون الأرض للمزارع اليمنى وينالون من أتعابه نصيباً كبيراً مما سعاد على تركز جزء كبير من الثروة الزراعية والنفوذ الاقتصادي في أيديهم
وفي عام 1946 اليمن مبعوث أرسلته لجنة التوزيع اليهودية الأمريكية المشتركة (وبعث بتقرير إلى مرءوسيه في نيويورك قال فيه): إن يهود اليمن بالرغم من العزلة الجغرافية التي كانت تحيط بهم استطاعوا توحيد جهودهم وتنظيم وحدتهم المذهبية والطائفية وتبادل التجارة والمنفعة الاقتصادية في أسلوب لم يثر حفيظة اليمنيين العرب، وذلك لأن هذا النظام والتكاتف كان محاطاً بالسرية الدقيقة، وكان يلاقي معونة مادية وأدبية من المنظمات اليهودية العالمية في بريطانيا وأمريكا والعراق ومصر وغيرها من الأمصار التي كانت للجاليات اليهودية فيها نفوذ وقوة عالية وسياسية بالغة)
وكانت حلقة الاتصال بين يهود اليمن وبين هذه المؤسسات اليهودية الخارجية وكر يهودي(944/4)
اتخذ مدينة عدن مركزاً. وكان هذا الوكر معروفاً للحاكم البريطاني في عدن الذي كان يرعاه ويحنو عليه ولا بدافع العطف فحسبن بل بدافع المنفعة المادية التي كان هذا الوكر يفرقها بسخاء على الموظفين البريطانيين في جنوبي شبه جزيرة العرب
ولقد كان هذا الرخاء الاقتصادي وهذا التنظيم الداخلي، وهذه المعونة الخارجية (اليهودية البريطانية) التي توفرت ليهود اليمن - كان هذا كله من أهم العوامل التي حفظت ليهود اليمن كيانهم سالماً لن يتأثر مطلقاً في ناحيته السياسية أو المالية أو الدينية. ولذل حرص اليهود على السكنى متجاورين معاملة بعضهم مع بعض وستر اجتماعاتهم وإخفاء تدابيرهم عن أعين اليمنيين المسلمين. وهذا هو السر الذي حقق لليهودية العالمية سرعة نقل يهود اليمن إلى فلسطين في دقة فائقة، إذ أن هذه السرعة كانت مسبوقة باستبعاد داخلي وتنظيم دقيق مستتر عن طريق الوكر اليهودي المنظم في محمية عدن
وقد كان من ألوان هذه المخادعة التي ستر بها يهود اليمن خططهم للرحيل إلى فلسطين تفاديهم الظهور بمظهر الباذخ المثري، فقد كان أغنياؤهم حريصين على أبسط الثياب والسكنى في بيوت ظاهرها لا تأخذه العين وإنما تتجمع في داخلها ثروات من المال والجواهر والسلع الغالية الثمن. ولم يكن في اليمن ما يدفع اليهود إلى هذا اللون من الخداع إلى ما كانوا يضمرونه من خطط لمستقبل، فلم تكن الحكومة اليمنية متعسفة في معاملتهم ولم يسبق لمسلمي اليمن أن اعتدوا على يهودي بغير حق
كتب أحد عملاء الصهيونية الذين زاروا اليمن قبيل هجرة اليهود منها في مجلة (كومانتري) الأمريكية اليهودية في عدد يوليو سن 1951 ما يلي:
(لم أسمع من يهودي اليمن في مساورتي لهم سوى المديح لجيرانهم المسلمين. فلم يحدث في تاريخ اليمن أن احرق كنيس يهودي أو انتهكت له حرمة. وكانت معابد اليهود تضاء وتحلى بألوان الزينة تحت أعين اليمنيين المسلمين وأبصارهم. وكان هؤلاء المسلمون يقدرون عنصر التوحيد في الديانة اليهودية حق تقديره، ولم تنشأ في حاضر اليمن أو قديمها أي حركة توخت الحد من الحرية الدينية والاجتماعية للجاليات اليهودية هناك. وكان حاخاميو اليمن يلقون بعض العون المادي من حكومة جلالة الإمام اليماني. ومن الأدلة على سماحة المسلمين في هذه الأيام أن الجاليات اليهودية هناك كانت تحتفظ بنسخ من التوراة(944/5)
يرجع عهدها إلى مئات السنين في حين أن مثل هذا الرث الدينين قد أعدم مراراً في أوربا الشرقية والغربية خلال القرون الوسطى وفي التاريخ المعاصر)
(وكتب يهودي آخر في مجلة (كومنري) نفسها قال: (إن خلو حياة يهودي اليمن من الاضطهاد المحلي لم يمنعهم من الانقسام إلى طوائف متخاصمة. فقد كانت بعض الجاليات اليهودية لا ترضى بزعامة بعض الحاخاميين من الجاليات الأخرى، وهذا الأمر كثيراً ما أولد بينهم الشقاق ولطالما لجأت هذه الجاليات اليهودية إلى الحكومة اليمنية أو الأئمة المسلمين في اليمن بغية التوسط في وضع حد لمثل هذه الخلافات الطائفية بين اليهود أنفسهم. . ومع ذلك لم يكن هذا الشقاق ليحول دون تكاتفهم (يهود اليمن) على الخطط التي وضعتها لهم القيادة الصهيونية العالمية للرحيل عن اليمن السعيد والامتثال لتعليمات مبعوثي تلك القيادة الذين كانوا يتخذون وكر الصهيونية في محمية عدن مركزاً لهذه الخدعة الكبرى)
والآن وقد أنتجت هذه الخدعة الكبرى ثمارها وتم رحيل يهود اليمن عن هذا البلد الإسلامي إلى إسرائيل فلنلتفت إلى وضعية يهود اليمن في إسرائيل وما خلقوه لأنفسهم والدولة اليهودية من متاعب أصبحت تؤلف مشكلة داخلية من النوع العويص. ولا ريب أن هذه التدابير البعيدة التي اتخذتها القيادة الصهيونية العليا لنقل يهود اليمن إلى إسرائيل تتوخى أهدافاً سياسية واقتصادية معينة سنحاول أن نتعرف على داخلها من صميم المصادر اليهودية والأجنبية المتوفرة لدينا
(للكلام صلة)
نيويورك
عمر حليق(944/6)
10 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو ريه
كعب الأحبار وعمر:
لما قدم كعب الأحبار إلى المدينة في عهد عم بن الخطاب مظهراً إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لما اسلم من أجلهن وكان مما وجه غليه همه أن يفتري الكذب على النبي صلوات الله عليه ولكن عمر فطن لكيده فنهاه عن الروية عن النبي وتوعده أن يلحقه بأرض القردة
وعلى أن عمر قد ظل يرقب هذا الداهية بحزمة وحكمته وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته كما سترى في قصة الصخرة فإن شدة دهاء هذا الرجل اليهودي قد تغلبت على فطنة عمر ويقظته فظل يعمل بكيده في السر والعلن إلى أن قتل عمر، ومن ثم انفجر بركانه بالخرافات والأساطير التي لم يسلم منها كتاب في التفسير والحديث والتاريخ
قصة الصخرة
لما افتتحت إيلياء في عهد عمر في سنة 16هـ ودخل عمر بيت المقدس وجد على الصخرة زبالة عظيمة كان النصارى من الروم قد ألقتها عليها معاندة لليهود الذي يعظمون الصخرة ويصلون إليها، فأخذ عمر ومن معه في تنظيفها، وبينما هم في عملهم إذ سمع عمر تكبيراً من خلفه فقال ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره! فقال علي به. فقال يا أمير المؤمنين أنه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة!! قال وكيف؟ قال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه. . . إلى أن وليت - فبعث الله نبيا على الكنانة فقال ابشري أو يرى شلم عليك الفاروق ينقيك مما فيك
ولما فرغوا من نظيف الصخرة قال عمر لكعب: أين ترى أن ابني مصلى المسلمين؟ فقال: ابنه خلف الصخرة - أي أن تكون الصخرة قبلة - فقال له عمر: ضاهيت والله اليهودية يا كعب. وفي رواية أخرى، خالطتك يهودية يا ابن اليهودية وقد رأيتك وخلفك نعليك!! أبنية في صدر المسجد. فبناه في قبلي المسجد - وهو الذي يسميه كثير من العامة اليوم الأقصى، والأقصى اسم للمسجد كله(944/7)
وظلت الصخرة مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ثم كذلك في إمارة معاوية وابنه وحفيده. فلما كان زمن عبد الملك ابن مروان بنيت القبة على الصخرة. وقد تم بناؤها وعمارة المسجد الأقصى في سنة 73 هجرية وكان السبب في ذلك على ما رواه صاحب (مرآة الزمان): أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة وكان يخطب في أيام عرفة ومقام الناس بمكة وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بني مروان ويقول: إن النبي لعن الحكم وما نسل منه وأنه طريد رسول الله ولعينه. . وكان يدعو الناس إلى نفسه وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحجج ويستعطف قلوبهم. . وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم
وذكر ابن تيميه في اقتضاء الصراط المستقيم غير ذلك، أن عبد الملك بن مروان قد جعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف ليكثر قصد الناس للبيت المقدس فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن ابن الزبير - والناس على دين الملوك - وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه، وصار بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها حتى روى بعضهم أن كعب الأحبار قال: إن الله قال للصخرة أنت عرشي الأدنى. وقد وصف طائفة من الناس مصنفات في فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع بالشام وذكروا فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب وعمن أخذ عنهم ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم. . وأمثل من ينقل عنه تلك الإسرائيليات كعب الأحبار. وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيراً من الإسرائيليات
ومما قاله كعب في الصخرة كذلك أن الله قد نظر إلى الأرض فقال: إني واطئ على بعضك فاستبقت له الجبال وتضعضعت الصخرة فشكر لها فوضع عليها قدمه
قتل عمر ويد كعب فيه:
مما ريب فيه أن قتل عمر كان بمؤامرة اشترك فيها هذا الدهى وجماعة منهم الهرمزان ملك خراسان وكان قد جيء به إلى المدينة أسيراً في عهد عمر
ذكر المسور بن مخرمة أن عمر لما انصرف إلى منزله بعد أن أوعده أبو لؤلؤة جاءه كعب الحبار فقال يا أمير المؤمنين جاءه كعب الأحبار فقال يا أمير المؤمنين (أعهد) فإنك في(944/8)
ثلاث ليال (رواية الطبري في ثلاثة أيام) قال، وما يدريك؟ قال أجده في كتاب التوراة! قال عمر: أتجد عمر بن الخطاب في التوراة! قال اللهم لا ولكن أجد حليتك وصفتك وإنك قد فني أجلك! قال لك وعمر لا يحس وجعاً. فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان! فلما كان الغد جاءه كعب فقال: مضى يومان وبقي يوم (ورواية الطبري - وبقي يوم وليلة وهي إلى صبحتها، فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته
وأتى كعب عمر بعد أن ضرب فقال له: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيداً وإنك متى أين وأنا في جزيرة العرب؟ وفي رواية أنه قال له قبل هذه العبارة. الحق من ربك ف تكونن من الممترين
وعن شداد بن أوس عن كعب قال: كان في بني إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر، وإذا ذكرنا عمر ذكرناه، وكان إلى جنبه نبي يوحي إليه فأوحى الله إلى النبي أن يقول له أعهد عهدك واكتب إلى وصيتك فإنك ميت إلى ثلاثة أيام. فأخبره النبي بذلك، فلما كان اليوم الثالث وقع بين الجدار والسرير ثم جاء إلى ربه فقال: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أعدل في الحكم وكنت وكنت فزد في عمري حتى يكبر طفلي وتربوا أمتي، فأوحى الله إلى النبي: قد زدته في عمر عشرة سنة، فلما طعن فقال: اللهم اقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم مخلصاً
ولم يكن قتل عمر على يدي أبي لؤلؤة تنفيذاً لتلك المؤامرة التي دبرها الهرمزان لما كان يكنه من الحقد والموجدة للعرب بعد أن نالوا عرش الفرس ومزقوا دولتهم وأعانه عليها كعب لأن عمر هو الذي أجلى اليهود عن جزيرة العرب. ومما يمتلخ عرق الشك من أن كعباً له يد في قتل عمر والتآمر به ما أخرجه الخطيب عن مالك أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي (وهي زوجته) فوجدها تبكي فقال ما يبكيك؟ قالت هذا اليهودي - أي كعب يقول إنك من باب من أبواب جهنم. . . فقال عمر ما شاء الله! ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة، فقال ما هذا!؟ مرة في الجنة ومرة في النار! قال: أنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها فإذا مت اقتحموا! وقد برت يمينه لعنه الله فقد قتل عمر(944/9)
في ذي الحجة سنة 23هـ
هل تجوز رواية الإسرائيليات:
جاءت الشريعة الإسلامية فنسخت ما قبلها من الشرائع، وبين القرآن أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد بدلوا من كتاب الله وكتبوا بأيديهم كتباً زعموا أنها من عند الله ليشتروا بها ثمناً قليلاً، ومن أجل ذلك نهى رسول الله صلوات الله عليه عن أن يأخذ المسلمون عن أهل الكتاب شيئاً، وكان يغضب أشد الغضب إذا رأى أحداً نقل عنهم أو استمع إليهم، فروى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عم بن الخطاب أتى النبي بكتاب أصابه عن بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال: أمهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني
ولقد كان صلوات الله عليه يقول لأصحابه لا تصدقوهم ولا تكذبوهم إذ قد يكون في قولهم الكذب مما بدلوه فتصديقه يضر. . وقد يكون في قولهم الصحيح الذي لم يبدلوه فتكذيبه يضر كذلك. وهذا قول حكيم. ونحن هنا بعض ما روى عن النبي (ص) في ذلك: روى البخاري عن أبي هريرة لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهاكم واحد ونحن له مسلمون. وروى أحمد عن أبي نملة الأنصاري عن أبيه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمناً بالله وكتبه ورسله فإن كان حقاً لم تكذبوهم وإن كان باطلاً لم تصدقوهم - وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث الكتب تقرءونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه بأيديهم وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ألا ينهاك ما جاءكم من العلم عن مسألتهم! لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل إليكم)
هذا بعض ما روى عن النبي (ص) في النهي عن رواية الإسرائيليات وهو الحق الذي يتفق مع مبادئ الإسلام الصحيحة وتفكير العقول السليمة، ولكن ما لبث الأمر بعد أن أغتر المسلمون بمن اسلم من أحبار اليهود خدعة إلا أن ظهرت أحاديث رفعت إلى النبي تناقض نهيه الأول وتبيح الرواية عن بني إسرائيل إباحة مطلقة
فقد روى أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: حدثوا عن بني(944/10)
إسرائيل ولا حرج. . ومعلوم أن أبا هريرة وعبد الله بن عمرو كانا من الذين تلقوا عن كعب، وأن عمرو هذا كان قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من علوم أهل الكتاب فكان يحدث منهما بأشياء كثرة من إسرائيليات قال فيها الحافظ ابن كثير: منها المعروف والمشهور والمنكور والمردود. وسنحدث إن شاء الله عن ابن عمرو وزاملتيه وقيمتها
رواية يعص الصحابة عن إجابة اليهود:
ولقد كان اثر ذلك أن بعض الصحابة روى عن أحبار اليهود وقد نص رجال في كتبهم في باب رواية الأكابر عن الأصاغر أو رواية الصحابة عن التابعين: أن العبادلة وأبا هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار وأخذوا عنه - وكان أبو هريرة أكثر الصحابة وثوقاً بهم وأخذ عنهم وانقياداً لهم كما تبين لك من تاريخه الذي سيقابلك إن شاء الله. وقد استطاع هذا اليهودي كما دعته السيدة الجليلة أم كلثوم بوسائله الشيطانية أن يدس من الخرافات والأوهام والأساطير في الدين ما امتلأت به الكتب وكانت شبها على الإسلام يحتج بها عليه أعداؤه، ويضيق بها ذرعاً أولياؤه
ومما يدلك عل أن الصحابة كانوا يرجعون عليه فيما لا يعرفون ما رواه عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس قال: أربع آيات من كتاب الله لم أدر ما هي حتى سألت عنها كعب الأحبار وذكر منها آية (وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب) وكان جواب كعب عن ذلك: أن الشيطان اخذ خاتم سليمان الذي فيه ملكة فقذف به في البحر فوقع في بطن سمكة ثم وقعت هذه السمكة في يد سليمان فاشتهوها وأكلها فإذا فيها خاتمه فرجع إليه ملكه!
وفي تفسير الطبري أن ابن عباس سأل كعباً عن سدرا المنتهى فقال إنها على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق ثم ليس لأحد وراءها علم ولذلك سميت سدرا المنتهى لانتهاء العلم إليها
وفي حديث أبي هريرة - هي شجرة من اصلها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن وأنهار من خمر وأنهار من عسل وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها والورقة منها تغطي الأمة كلها. ولا نستكثر فهي لا تعد على أن كثرة رواياته الباطلة قد أوحيت أن يشك في روايته بعض الصحابة حتى قال فيه وهو أحد تلاميذه إنه من أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب رواه البخاري وغيره(944/11)
اليد اليهودية في تفضيل الشام:
ذكرنا لك من قبل أن إشارة كهان اليهود إلى أن ملك النبي سيكون في الشام إنما هو لأمر خبئ في أنفسهم. ونبين هنا أن الشام ما كان لينال من الإشادة بذكره والثناء عليه إلا لقيام دولة بني أمية فيه، تلك الدولة التي قبلت نظام الخلافة. إلى ملك عضوض، وتحت كنفها نشأت الفرق الإسلامية التي فتت في عضد الدولة ومزقتها تمزيقاً. . أفكان جديراً بكهنة اليهود أن ينفخوا في نار الفتنة ويهيئوا لها وقودها. وكان من هذا الوقود أن يبالغوا في مدح الأم وأهله. وان الخير كله فيه والشر في غيره
لم يكتف هؤلاء الكهان بما قالوه في الشام وفي أهله وما صنفوه من كتب في فضائل بلادهن وان الإبدال سيظهرون به، بل زادوا على ذلك أن جعلوا الطائفة الظاهرة على الحق إنما تكون بالشام كذلك. . . وحتى نزول عيسى سيكون به. . فقد روى الشيخان: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك - وفي البخاري - هم بالشام! وعن مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة - قال أحمد وغيره هم أهل الشام! وفي كشف الخلفاء أن كعب الحبار وقال: أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم من العصاة. ولعل العصاة هم الذين جاءوا من المدينة والكوفة وغيرها بقيادة أمير العصاة على!!
ومن أحاديث الجامع الصغير للسيوطي التي أشرنا عليها بالصحة: الشام صفوة الله من بلاده إليها يجتبى صفوته من عباده، فمن خرج من الشام غلى غيرها فبسخطه، ومن دخلها فبرحمته. طوبى للشام إن الرحمن لباسط رحمته عليه. ليبعثن الله من مدينة بالشام يقال لها حمص سبعين ألفا يوم القيامة لا حساب عليهم ولا عذاب، مبعثهم فيما بين الزيتونة والحائط
ومدينة حمص هذه يجب أن يكون لها هذا الشان العظيم حتى في الآخرة لن سيدنا كعب الأحبار قد اتخذها مقاماً له. ثم مات فيها، ولا نطيل بإيراد كل ما قيل في فضل الشام أهله لأنه يملا مصنفات
المنصورة
للكلام بقية(944/12)
محمود أبو ريه(944/13)
2 - ألمانيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
امتاز تاريخ ألمانيا بظهور عبقريات فذة وأبطال عظام استأثروا بالسلطة في الدولة وكانوا أول خدامها، وكان اعظم هؤلاء البطال أربعة: فريديك الأكبر وبسمارك وليم الثاني (غليوم) وهتلر. وإني هنا احدث القراء عن البطل الأول وهو فريدريك الأكبر
ولكني قبل أن أبدأ حديثي احب أن أذكر أننا إذا رجعنا القهقري إلى العصور الوسطى وجدنا العالم الأماني مقسماً على عدة ولايات ولم تكن هناك دولة موحدة في ألمانيا. وكانت النواة الأولى لقيام الدولة الألمانية دوقية برندنبرج، وقد استطاع حكامها وهم من أسرة الهوهنزلون ضم بقع متناثرة من شرق ألمانيا وغربها ووسطها وكونوا منها دولة موحدة هي مملكة بروسيا، وكان أول ملك لها فرديك الأول 1688 - 1713
وقد خلفه على العرش فردريك وليم الأول 1713 - 1740الذي استطاع أن يصلح حال روسياً اقتصادياً وكون لها جيشاً قوياً ونظم إدارتها وشؤونها حتى أن كثيرين من المؤرخين يعدونه من أقوى واحسن ملوك بروسيا
فردريك الأكبر 1740 - 1772:
في 1740 لفظ فردريك وليم الأول آخر أنفاسه وترك لابنه فردريك دولة قوية اقتصادياً وحربياً، ولعله قد مات ونفسه تقطع حسرات على ملكه ودولته، ذلك أن وراثة فردريك الثاني لم يثبت في شبابه أنه سينهض بأعباء المملكة بعد وفاة، والده بل أنه على العكس أثار استياء والده بشغفه بقراءة الكتب الفرنسية وبحبه للشعر والموسيقى، وقد حاول الهرب من التعليم العسكري وهو في الثامنة عشرة من عمره ولكن اكتشف أمره وأحضر أمام والده الذي بلغ به الغضب أن كان على وشك أن يقتله بسيفه
تولى فردريك الثاني في ربيع 1740 يلبث إلا قليلاً حتى اثبت عبقريته وعظمته لنفسه لقب فردريك الأكبر
وكان أول أعماله عمله على توسيع رقعة املاكه، واصطدم في هذا بالنمسا وكانت صاحبة السيادة على العالم الألماني وتحكم إمبراطورية واسعة تشمل النمسا والمجر وبوهيميا وغيرها. ولم يرهب النمسا رغم اتساع أملاكها وسرعان ما قامت الحرب بينه وبينها(944/14)
ضمان وراثي:
كان شارل السادس إمبراطور للنمسا وكانت ابنته ماريا تريزا هي الوارثة للمملكة، واحتياطاً طلب شارل إلى ملوك الدول (بروسيا وروسيا وإنجلترا وفرنسا وإسبانيا) أن يقرروا قبولهم اعتلاء ماري لعرش دون نزاع، وقد وافق الملوك على ذلك وتعرف هذه الوثيقة في التاريخ بوثيقة الضمان الوراثي
ومات شارل السادس في خريف 1740 حين من الدهر اعتلت فيه ماريا العرش ولم تجد منازعاً فانصرفت بقوتها وشبابها إذ كانت في الثالثة والعشرين من عمرها إلى العناية بشؤون إمبراطوريتها الشاسعة الأطراف المتعددة الشعوب والأجناس وإصلاح أحوالها والنهوض بها
حرب الوراثة النمساوية: 1740 - 1748
لكن حلم بالسلام لم يدم طويلاً، ذلك أن فردريك - رغم أن والده كان من الموقعين على الضمان الوراثي - لم يعبأ بهذا الضمان وعرض على ماريا أن نزل عن سيلزيا فرفضت وقالت إنها مستعدة للدفاع عن بقايا رعاياها ولن تبيعهم. حينذاك تقدم فردريك إلى سيلزيا واحتلها واستولى على برزلاو أشهر مدنها ولم يعلن الحرب، وكانت حجته أن سيلزيا كانت ملكاً لأحد أجداده
جمعت ماريا قواتها وتقدمت للقاء فردريك ولكنه انتصر عليها انتصاراً رائعاً في معركة مولتر في أبريل 1741. . انتهزت فرنسا وإسبانيا وبافاريا وسردينيا الفرصة وحاولت انتزاع أملاك ماريا. تقدمت جيوش فرنسا وبافاريا ودخلت بوهيميا واحتلت براج في نوفمبر 1741 دوق إمبراطوراً بدلاً من ماريا ولقب شارل السابع)
توغل الأعداء داخل أملاك ماريا ومع هذا لم تفقد شجاعتها ولجأت إلى رعاياها المجربين أقنعتهم بالاشتراك معها فقبلوا
وفي فبراير 1742 يوم تتويج شارل السابع إمبراطوراً ودخلت جيوش ماريا ميونخ عاصمة فرنسا. ولتتفرغ ماربا لأعدائها تصالحت مع فردريك وتنازلت له من سيلزيا. قبل فردريك الصلح وترك فرنسا وحيدة وقال عبارته المعروفة (ما اسعد أولئك الذين يستطيعون(944/15)
تحقيق آمالهم ثم ينظرون في هدوء وابتسام إلى أولئك الذين أوقعوا أنفسهم بين شقى الرحى)
وقد دامت الحرب أكثر من سبع سنين وفي 1748 انتهت بصلح إكس لا شابل به وأعيدت الحالة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وأخذ فرربك سيلزيا واعترف هو والدول بماري إمبراطورة وبزوجها فرنسيس إمبراطور للنمسا
حرب السنين السبع 1756 - 1763
كان صلح أكس لا شابل هدنة بين فردريك وماري. ذكر مبعوث إنجليزي أن ماري إذا رأت أحد رعاياها السيلزيين نسيت أنها ملكة وأجهشت بالبكاء، ولهذا عملت جاهدة على استرداد سيلزيا. لكنها قبل أن تبدأ الحرب عمدت إلى اتخاذ وسائل النصر فتحالفت مع فرنسا رغم الخصومات السابقة بينهما والروسيا والسويد وسكسكونيا وكلهم طامع في تقسيم أملاك فردريك، وأعدت جيشها. ولم يجد فردريك حليفاً أمامه سوى إنجلترا
انقسمت أوربا إلى معسكرين: الأول البروتستانية وهي إنجلترا وبروسيا في ناحية، والدول الكاثوليكية في ناحية أخرى
ووقعت الحرب 1756 وتقدم أعداء فردريك من نمساويين وفرنسيين وروسيين وغيرهم يهاجمون املاكه، واحتلت ماريا سيلزيا أعلنت أن حقوقها قد ردت إليها موقف فردريك حرجاً للغاية
لكنه مع هذا لم يتزعزع وتذرع بالثبات والحزم وعمد إلى مباغتة أعدائه فهزم الفرنسيين هزيمة منكرة في موقعه روسباخ 1857 ثم هزم النمساوين فذعرت السويد وذهلت سكسونيا وتوقف الروس بعد أن أوقع بهم فردريك الهزيمة
وأما إنجلترا فكان هناك ما يشغلها، فقد قامت تحارب فرنسا فيما وراء البحار وتستولي على مستعمراتها في أمريكا والهند، واقتصرت مساعدتها لفردريك على استخدام فرقة مرتزقة من الأمان شغلت الفرنسيين عن التمكن من مساعدة أعدائه. وفي 1761 بقبول الصلح ولكنه رفض وظل يكره إنجلترا مدى حياته
وقد ساعد الحظ فردريك فماتت قيصرا روسيا 1762 بطرس الثالث وكان من المعجبين بفردريك، فعقد معه صلحاً. عندئذ تفرغ فردريك للنمسا فطردها من سيلزيا واضطر ماري(944/16)
إلى عقد الصلح
وفي عام 1763 صلح باريس وبه أخذت إنجلترا من فرنسا مستعمراتها في أمريكا والهند، وصلح هيوبرتسبرج وبه أخذ فردريك سيلزيا من النمسا مقابل اعترافه بأن يكون ابن ماريا تريزا إمبراطوراً بعد أبيه، أو بعبارة أخرى وارثاً للعرش الإمبراطوري
مصلح:
لكن فردريك لم يكن قائداً حربياً فحسب، ولكنه كان مصلحاً كبيراً: في فترات السلم كان شديد العناية بالإصلاح. فعنى بالزراعة والتجارة والصناعة عناية كبيرة، وكان قصره مجمع العلماء ومنتدى الفلاسفة والشعراء، وكان فلتير من الأدباء الذين أقاموا حيناً في بلاطه، كما كان فردريك نفسه شغوفاً بالقراءة والكتابة وخاصة ما يتعلق بالتاريخ والسياسية، وقد كتب 24 مجلداً في هذه المسائل وكلها باللغة الفرنسية
أبو الفتوح عطيفة
المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية(944/17)
فلسفة الإيمان
للأستاذ حامد بدر
بعض الناس يأتي الإثم فتنهاه تارة، وتزجره أخرى، فلا يزداد إلا مواظبة على ما هو فيه؛ كأن المعاصي هي الدماء التي تبث في كيانه الحياة!
وهذا لا يعترف بالخطب والمواعظ والمحاضرات التي تدعو إلى الفضيلة، وتحض على التقوى، ولا يؤثر حالاً على تلك الحال
قال الواعظ المتعبد للعاصي المسرف في الذنوب:
- أنت اليوم في الدنيا، فما لك لا تعمل فيها من الصالحات ما ينفعك بعد الممات؟
فأجاب العاصي:
- إن اللذة الحاضرة لا تتاح كل يوم، والغد المجهول ليس في يدك ولا في يدي. فدعني أفعل ما يطيب لي، وآخذ من حاضري ما أتيح اليوم، وبعد اليوم قد لا يتاح
قال الواعظ
- ليس من الصواب أن تضيع الباقي من أجل الفاني. . .
قال العاصي:
- بل من الخطأ أن تضيع ما في يدك، وانتظر ما لا تملك
قال الواعظ:
- كيف تيأس من الغد وقد وعد الله المؤمنين خيراً، وأعد للكافرين عذاباً!
قال العاصي:
- ومن أين عرفت المؤمنين وغير المؤمنين، وحكمت بأن من أباح لنفسه متاع الدنيا ليس بمؤمن؟
قال الواعظ:
- عرفت هؤلاء وهؤلاء بأعمالهم، وحكمت بأن من تشغله الدنيا لا يعمل للآخرة ولا يستحق نعيمها
قال العاصي:
- كلا يا صاح. إن الإيمان والكفران من الأسرار التي استقرت في أعماق القلوب، والعمل(944/18)
الظاهر ليس وحده كفيلا بالثواب أو العقاب
قال الواعظ:
- إن لنا أن نأخذ بالظاهر، وليس علينا أن نتنبأ بما خفي
قال العاصي:
- إن كنت تأخذ بالظواهر، فكم للظواهر الكاذبة من ضحايا، وإن الخفي على الناس لا يخفى على الله، فما لنا لا نترك الأمر كله لله؟
قال الواعظ:
- علينا أن نطيع ما أمر الله به، ونتجنب ما نهى عنه
قال العاصي:
- إن المذنب الذي لا يستكثر ذنوبه على رحمة الله خير من العابد الذي يظن أنه بعبادته استحق جنة الله، واستأثر برحمته سبحانه. وإن الذي يطمع في رحمة الله برغم كثرة ذنوبه لأكثر إيماناً ممن يزعم أنه دفع ثمن الجنة عملاً صالحاً!
قال الواعظ:
- إن لم يكن العمل الحسن هو الطريق المؤدي إلى الجنة، فهل نصل إليها من طريق السيئات؟
وهنا رأيتني مدفوعاً إلى الكلام، فقاطعت الواعظ مستأذناً وقبل أن أدخل في موضوع لا حديث قال الواعظ:
- ألا توافقني؟
قلت:
- ليس في كل ما تقول
قال:
- إن كان لك اعتراض فهاته
قلت:
- لي رأي وسط، فإن رضيتماني حكماً غير متحيز لأحدكم كان ذلك ما أردت. . .
قال:(944/19)
- هات رأيك
قلت:
- لا شك في أن الإيمان سر من الأسرار المستقرة في القلوب، ولكن آثره الطيب يظهر في الخارج ظهوراً جلياً، فإن العمل بمقتضى الإيمان غير العمل بمقتضى الكفران، والسير في طريق الطاعة غير السير في طريق العصيان. . .
ومن الذنوب ما يغفر ومنها ما لا يغفر، وأقربها من المغفرة أبعدها عن الإصرار والصالحات الظاهرية المشوبة بالرياء لا تنفع عند الله ولا عند الناس، بل لا يصح أن يسمي صالحاً ما ليس خالصاً، فإن الرياء إذا اختلط بعمل حبط، وذهبت الحكمة من أجلها شرع، ولنضرب لذلك مثل الذي يعطى فقيراً ثوباً مكتوباً عليه تلك العبارة: صدقة من فلان إلى فلان!
فإذا كان المقصود من الثوب هو الستر فكيف يجمع ذلك الذي زعم أنه محسن بين الستر والفضيحة فيكسو العاري بثوب، ويجرده في الوقت ذاته بمنه وأذاه؟!
الإيمان في القلب، ومن السهل استشفافه من آثاره الطيبة الدالة عليه فمن آمن عمل بمقتضى إيمانه، وسبقت نيته الطيبة عمله الطيب، فأنى بالخير لأنه خير وكفى، لا ابتغاء الظهور بمظهر الورع والصلاح
وليس اجتناب المعاصي دليلاً على اليأس من رحمة الله، كما أن رحمته سبحانه ليست وقفاً على الطائعين وحدهم، بل وإنما تشمل العصاة التوابين الذين يرجعون إلى ربهم وإلى أنفسهم نادمين، ولم يؤيدوا العصيان بالإصرار
حامد بدر(944/20)
رسالة المربي
(ظهور المدرسة، الطريقة النفسية والمنطقية، التقاليد)
للأستاذ كمال السيد درويش
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
لقد عرف الإنسان الطريقة النفسية أولاً وعمل بها ثم أنتقل إلى العمل بالطريقة المنطقية. والواقع أنه منذ أن نشأت المدرسة كمعهد علمي متخصص في تربية النشء، بدأ سلطان الطريقة المنطقية وأخذ يزداد حتى أصبحت في النهاية شبحاً مخيفاً جاثماً على صدور الأطفال الأبرياء. وقد استطاعت هذه الطريقة فرض ديكتاتوريتها على التعليم ولا تزال حتى اليوم. لذلك يمكن القول أن العلة الأساسية في فساد نظم التربية حالياً في جميع ميادينها المختلفة، سواء في المدرسة أو الأسرة أو المجتمع نفسه، إن هي إلا في العمل بتلك الطريقة المنطقية. وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يدعو إلى التمسك بها والخضوع لغيرها؟ الواقع أن السبب الحقيقي الذي دعا إلى الاعتماد عليها هو ما تمتاز به من سرعة وسهولة. ولقد جرب المربي في حياته واستخلص واستنتج ثم رتب خلاصه تجاربه خلال حياته في شكل نتائج وقوانين ونصائح وأخلاق وحكم وأمثال. فما اسهل تلقين ذلك كله للناشئين وحثهم على العمل بها، سواء أرادوا أم لم يريدوا، قبلوا أم رفضوا، فهموا أم لم يفهموا. إنما المهم أن يحفظوا بعقولهم الناشئة هذه الحكم القيمة والمعلومات النادرة والمثال السائرة. وكيف لا تكون قيمة نادرة وقد بلنا كل مرتخص وغال في سبيل الحصول عليها؟ لذلك يجب على هؤلاء الناشئين أن ينصاعوا صاغرين وإلا فهم شياطين خاسرة لم تكتب لهم الهداية ولم يقدروا لهم التوفيق. وإذا ضرب أحدهم بتقاليدنا ونصائحنا عرض الحائط. إذا نأى عنها واعرض بجانبه سلقناه بالسنة حداد واعتبرناه خارجاً على التقاليد، تقاليد الآباء والأجداد. ومارقاً كافراً ملحداً يستحق اللعنة ومختلف ألوان العذاب
تلك هي أول مساوئ الطريقة المنطقية. هي أنها تخلق تقاليد معينة لها حرمتها وقدسيتها ولا يمكن المساس بها. وهنا يحق لنا أن تساءل، وما هو الضرر في تقديس التقاليد؟ وفي الخضوع لها؟ ولم لا يكون في التقديس والطاعة ما يرغب فيه؟! يجرنا ذلك إلى سؤال(944/21)
آخر: ولكن ما هي التقاليد؟! نحن نعني بالتقاليد تلك التعاليم التي كانت لدى الإنسان الأول، والتي لازمت المجتمعات الإنسانية منذ أن ظهرت على سطح الأرض، والتي لا تزال تحيا وتعيش حتى اليوم سواء في المجتمع البدائي أو المجتمع الذي وصل إلى أرقى درجات الحضارة والتقدم. هي تعاليم يفرضها المجتمع فرضاً على أفراده الناشئين وعلى هؤلاء نقبلها في خضوع واستسلام دون مناقشة أو كلام إلا لأنها تقاليد واجبة التقديس. إطاعة الكبير وتوقيره وإطعام الغريب وإيواؤه من بين الأمثلة العديدة على التقاليد السائدة في مجتمعنا الإنساني بوجه عام. ولقد اتسع سلطان التقاليد فأصبحت ولها في كل ميدان سلطان. . وأي سلطان؟! هي في القرية غيرها في المدينة وهي في مدينة غيرها في الأخرى، وتجدها تظهر في الملبس وفي العادات وفي الأخلاق وبين جميع الأمم تجدها، وفي مختلف الطبقات تشاهدها. لذلك لا نعجب داخل جدران المدرسة بطبيعة الحال. بل يمكن القول أن عملية التربية بعد أن سارت على الطريقة المنطقية قد أصبحت هي نفسها تقليداً متبعاً. وهنا يحق لنا أن نتساءل. وما السر في وجود التقاليد؟! الواقع أن أي تقليد لم ينشأ إلا نتيجة عملية مارسها الإنسان على الطريقة النفسية الطبيعية. شاهد الإنسان غيره وقد اصبح كبيراً مسناً في حاجة إلى احترام الناس ومعونته وتصور حاله اصبح مثله! عند ذلك أيقن أن احترام الكبير فيه احترام للجميع ووقاية من التحقير على يد الصغير. لذلك تمسك الإنسان بهذه الفكرة، فكرة احترام الصغير الكبير وجعلها تقليدا إحاطة - وهو يلقنها للصغار الذين لا يعلمون عن سر حكمتها شيئاً - بهالة من التقديس وذلك حتى يضمن بقاءها والعمل بها. وهكذا غدت تقليدا يحافظ عليه أفراد المجتمع. ولذلك يمكن القول أن من الممكن أن ترد كل تقليد ظهر في أي مجتمع من المجتمعات إلى ظروف خاصة دعت أولاً إلى وجوده وأدت ثانياً إلى بقائه كأن تكون له أهمية حيوية بالنسبة لحياة المجتمع التي نشأ فيه. إن الكرم عند البدوي في البيداء هو تقليد حيوي ضروري تمليه البيئة الصحراوية. ولقد نمت التقاليد بنمو المجتمع الإنساني وتحضره
ولكن لم نوافق على أن تصبح التقاليد نفسها أهدافاً تربوية ما دامت التقاليد في حد ذاتها خلاصة الخبرة السابقة للمجتمع الإنساني مصوغة في قالب التقاليد لتسهيل المحافظة عليها وفرض الطاعة لها؟!(944/22)
الواقع أن التقاليد إذا كانت تحتوي على خير كثير فإنها تحمل في طوياها من الشر إضعاف ما تحمله من الخير. ولكن من اين جاء ذلك الشر الذي ترمى به التقاليد؟! الواقع أن الضرر الناجم عن التقاليد يرجع إلى طريقة تعليمها. . إلى فرضها على الناس مجردة عن الخبرة الجدية التي توضح السر في قيامها والغرض من وجودها والظروف نشأت فيها، إلى فرضها منطقيا على الأفراد الجدد، في المجتمع، هؤلاء الذين لا يدركون من أمرهم ولا من أمر مجتمعهم شيئاً. كن كريماً. هذا صوت المجتمع يأمره فعليه أن يطيع. هو تقليد جرى عليه العرف والناس. ولكنه في هذا الشهر قليل الدخل مختل الميزانية فهل يخرج على التقاليد؟ كلا. . ليتكرم. . وإذا لم يجد المال فليستدن نفقات الكرم وليتورط إلى أعماق أذنيه في الديون. . . ولن يهمه شي. . لن يهمه إفلاس يهدده ولا إملاق يدمره ما دام قد أرضى صوت التقاليد. . . وهكذا يصبح الإنسان عبدا ذليلا خاضعا لسلطان التقاليد
إن ضرر التقاليد يأتي من التقيد التام بحذافيرها. . . من تقدسيها والتمسك بها والخضوع التام لها. ولكن أي ضرر في ذلك؟ ولم لا نتمسك بها ونخضع لها ما دامت كما ذكرنا الخلاصة النهائية لمجهود الأجداد؟ ولا بد من وجود سبب رئيسي يؤدي إلى هذا الخضوع ولك الاستمساك. إن هذا صحيح ولكن التقاليد تحتوي إلى جانب ذلك الخير على شر كثير، ولكن كيف جاءها ذلك الشر؟ إن تفسير ذلك من البساطة بمكان لقد جبل الإنسان على المباهاة بعلمه ومداراة جهله ونظر في الحياة فما استطاع معرفة أسبابه من غوامض شؤونها ومظاهرها، بادرة إلى ذكره، وما لم يستطع عليه أن يكشف عمله جهله، وتظاهر كعادته بالعلم والمعرفة وأخذ يخترع له من الأسباب والعلل ما يوهم بأنه بكل شيء عليم. كان المرض ظاهرة غامضة بالنسبة للإنسان الأول. ولا تزال ظاهرة المرض غامضة لدى الكثير من المجتمعات البدائية. هم يجهلون أسبابه كما كان الإنسان الأول. ليعللوه إذن بمختلف العلل والأسباب بدلاً من الاعتراف الصريح بالجهل التام. هو لعنة من الله ونقمة
فإذا كان المريض صالحاً طيباً لا يستحق اللعنة كان المرض في هذه الحالة امتحاناً واختباراً. وهكذا تسير التقاليد على هذا المنوال. وفي هذا يكمن الخطر. ذلك أن التقاليد - بتفسيرها الخاطئ لكل ما هو مجهول غامض - تقفل باب التفكير أمام المفكرين، بل تحول بينهم وبين العمل لمعرفة العلل الحقيقية والأسباب المجهولة للظواهر الغامضة. أن حقيقة(944/23)
المرض بطبيعة الحال ليست في كونه نقمة أو نعمة، بل في تلك الجراثيم الحية التي أكتشف العلم الحديث بعض أحوالها ولا يزال يجاهد في سبيل اكتشاف ما خفي عليه من أمورها. ألم يكن هذا التفكير العلمي أول خطوات التقدم العملي في سبيل التخلص من شبح الكثير من الأمراض؟
حقاً أن التقاليد بقدسيتها وديكتاتوريتها وجمودها وادعاءها سلاح قتال بل سم زعاف لو تناولته لتربية لأوردها موارد الهلاك. قد تنفع التقاليد في مبدأ ظهورها، ولكن مضى الزمن وتغير الظروف سرعان ما يظهر عيوبها وخطرها. إن التقاليد أبدا تأبى إلى أن تقف حجر عثرة في سبيل كل تفكير حر منتج مبتكر. التقاليد هي الحاجز المنيع أمام رقي المجتمع وتقدمه. هي العقبة الكؤود. هي السلاسل والأغلال. . . هي القيود الحديدية. . . كم من عقول حجتها التقاليد فتحجرت، وآمنت بالتقاليد فما فكرت. ان المجتمع الخامد الهادئ. . النائم ليل نهار، الساكن سكون العدم والراقد رقود الموت، هو المجتمع الذي يخضع خضوع العبد الذليل لتقاليده. حقا كلما ازدادت قوة التقاليد انحط الشعب وضعف، وكلما ضعف سلطانها أو زال تقريبا ازداد تقدم الشعب ورقيه. إن نظرة واحدة إلى الصين تقابلها نظرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد هذه الحقيقة أعظم تأييد
لقد قيدت التقاليد التربية حين قيدت الحرية، حرية العقل الإنساني في التفكير الحر المستقل , , حين قدمت تفسيراتها الخاطئة الخيالية التي لا تتمشى مع العقل ثم طالبت الإنسان باعتناقها والإيمان بها والدفاع عنها - وأغفل العقل إذا اعترض والتفكير إذا قاوم - أليست تقاليد الأباء والأجداد؟!
حقاً لقد لعبت التقاليد دورها التربوي الخطير خلال التاريخ، فهي التي سيطرت داخل المدرسة عن طريق الطريقة المنطقية، تلك الطريقة التي وطدت نفوذها وسلطانها حتى اصبح من المعتاد مثلا أن يطالب التلميذ بحفظ هذا وترك ذاك دون أن يعلم السر في ضرورة حفظ هذا أو ترك ذاك
لم يقبل العقل الإنساني الخضوع لدكتاتورية التقاليد، فكان أن ثار وتذمر واندفع يحطم تلك العبادة. إلى يتجلى ذلك في مختلف الحركات الكبرى والثورات الفكرية التي قام بها كبار الفلاسفة والمفكرين خلال العصور؟! نعم يتضح ذلك جلياً في كثير من المواقف. في موقف(944/24)
إخناتون خلال التاريخ القديم، وفي قيام الكثيرين من كبار المصلحين في الدين المسيحي وفي الإسلام. . في مارتن لوثر وفي جمال الدين. ولكن بالرغم من قيام الكثير من هذه الحركات لهدم أصنام التقاليد إنها غدت بدورها وقد حلت محل التقاليد وتجلى ذلك في التعاليم الدينية بوجه خاص، ولا سيما حين قام المتأخر ون من رجال الدين أخذوا خلاصة التعاليم والحكم وقاموا بترتيبها وتنسيقها، تاركين الظروف التي دعت إليها، أو بعبارة أصح قاموا يدرسون الدين ويعلمونه على الطريقة المنطقية تاركين الطريقة النفسية الطبيعية في تعليمه، وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت تعاليم الدين مسيحية كانت أو إسلامية، وقد اندمجت في التقاليد واختلطت بها اختلاطاً تاماً ولم يتورع رجال الدين عن التمسك يحرفيتها، ووقفوا حراساً على قدسيتها. وعن طريق هذا السياج المقدس من التقاليد الدينية، استطاعوا إقامة تلك الدكتاتورية الدينية التي كانت أشد وأقسى من دكتاتورية التقاليد الاجتماعية العادية. وقد امتازت العصور الوسطى بتلك الدكتاتورية الدينية المتحكمة. وبقدر شدة الضغط الذي عاناه المجتمع لك الحين، بقدر ما تولد الانفجار قوياً شديداً. ذلك الانفجار الذي يتمثل في انطلاق التفكير الحر الذي أتجه أو ما أتجه إلى نسف تلك الأغلال والقيود. قام مارتن لوثر يحتج، وانفصل أنصاره عن الكنيسة الكاثوليكية فتلاه اليسوعيون بحركة إصلاح ولذلك كانوا أقرب إلى رضاء المجتمع. حدث هذا في المجتمع المسيحي بينما اشتدت ظاهرة التصوف في المجتمع الإسلامي، وكانت حركة التصوف كحركة مارتن لوثر ترمي إلى التحرر من سيطرة التقاليد الدينية بنبذها وعم التقيد بها، كذلك وجدت في المجتمع الإسلامي وكانت إصلاحية لم تلجأ إلى نبذ التقاليد الدينية دفعة واحدة بل إلى تنقيتها وتثبيت الصالح منها، وقد قامت هذه الحركات على يد كبار المصلحين من السنيين كابن تيميه وغيره الذين قاموا بدور شبيه إلى حد كبير بذلك الدور الذي قاموا به اليسوعيون. لقد كانت هذه الحركات في كل من المجتمعين المسيحي والإسلامي، ترمي إلى التحرر من سيطرة التقاليد العمياء، لا عن طريق نبذها واحتقرها وإنكارها، بل عن طريق فهما وبث الروح فيها، أو بعبارة أصح عن طريق تعلمها وتعليمها بفهم الظروف أو الدواعي التي أدت إليها، أي بالسير وفق الطريقة الطبيعية النفسية. وهكذا ظل المجتمع الإنساني خاضعاً لسلطان التقاليد، يتخلص من احتلالها البغيض حيناً ليقع في أحابيلها ثانياً، سواء باسم الدين أو باسم السياسية.(944/25)
ويوضح ذلك التخبط بجلاء تاريخ الجزء الأخير من العصور الوسطى حتى مطلع العصور الحديثة، ذلك الجزء الذي يمثل بحق تأرجح المجتمع بين دكتاتورية التقاليد وبين رد الفعل الذي يحدث عادة متى تحرر المجتمع من كل شيء ونبذ كل قيد. . . متى تذوق الحرية المطلقة
حقاً أن النهضة الأوربية ثم جهود جاك جاك روسو ثم جهود أعلام التربية في العصر الحديث ما هي إلا بعض مراحل الكفاح ضد التقاليد، ما هي إلا حركات ترمي إلى التخلص من قيودها، وإحلال الحرية وتوطيد دعائمها محلها
ويتضح من ذلك العهد السريع إن رسالة المربي يجب أن تتجه إلى العمل بالطريقة النفسية ونبذ الطريقة المنطقية، أو بعبارة اصح في القضاء على دكتاتورية التقاليد وإقامة قوائم الحرية
وهنا يحق لنا أن نتساءل عن معنى الحرية. . . تلك الحرية يجب على المربي إن يجعل من المحافظة عليها بعض أهداف رسالته الكبرى في الحياة؟!
ذلك هو موضوع المقال القادم بأذن الله
كمال السيد درويس
ليسانيسه الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي
مدرس بالرمل الثانوية(944/26)
3 - رحلة إلى ديار الروم
للسيد مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
شرح ترجمان الأسواق لمؤلفه المحبوي:
(وجاءني المحب المفرد جناية السيد محمد، وتذاكرنا معه في (شرح ترجمان الأشواق) لمؤلفه المحيوي، فقال المذكور إني الحظ فيه من قصيدتين: الأولى (بابي الغصون المائسات عاطفا) والثانية (مرضى من مريضة الأجفان) ولا أظن أن أحداً يمكنه أن يحذو على نسقها للطف مباني وظرف معاني. فحرك جمادى بذكرى هذه المعاني
وفي صبيحة يوم الحادي والعشرين من جمادى الأولى، فتح الأحد، بقصيدة اقتفيت فيها أثر العارف الأوحد، سيدي محي الدين بن العربي المفرد، التي ذكرتها في ترجمان أشواقها الذي يتوقد، ومطلعها:
بأبي الغصون المائسات عاطفا ... العاطفات على الخدود سالفا
وهي قصيدة حارقة المعاني، خارقة المباني، صحيحة الأفاظ، مريضة الألحاظ، تقتل العاشق وتحبى الناشق، تخطف الألباب رشاقتها، وتسكر الحجاب لطافتها، معارضها به عارض، ولو بلغ رقة ابن الفارض، هذا والقصد التشرف بالاقتفاء، والتعرف باتباع أهل الوفاء وإني لمعترف بالقصور، عن ارتقاء هذه القصور، مغترف من بحر البحور، ودر النحور، مقر أن قصيدته الثريا وقصيدتي الثرا، متبرك بنفسه الذي في عالم الأنوار سرى، ومطلعها:
قال الشيخ لا فض فوه:
بأبي وامي من جلبن متلفا ... وجلين كأسا قد أعان التالفا
وفي عشية ليلة الثالثة والعشرين من جمادى الثاني، جاد الحق على عبده الحاني، بقصيدة اقتفيت بها أثر العالم الرباني، سيدي محي الدين محمد بن علي العربي الداني، في قصيدته التي أودعها ترجمانه الحاوي، ومطلعها:
مرضى من مريضة الأجفان ... عللا ني بذكرها عللا ني(944/27)
ومطلع قصيدتي التي لقصيدته لا تداوي، هو:
ألقياني يا صاحباي القياني ... جب حب في الكاعبات القيان
واتركاني في خلوة حلوة النيل ... كنيل إذا فاض أو سيحان
وكتبت كتاباً في سادس الشهر المرقوم إلى صديقنا فخر النجار حسن آغا مير صدرته:
تحايا كالفرائد والعقود ... تفوق شذا على نشر الورود
(ونعلم المحب الحسن الودود لأهل الودود، أنا اجتمعنا بالأخ المحمود السمات والولد المسعود، لدى الوزير المشير المعمود، وكان حدثنا جنابة عن بعض إشراف لكم يسود، ويعود على من قام به بنفحات الجود، وذكرنا الجناب الأخ الوفي الوعود، إسماعيل أغا ولدكم عبد الله جلبي الموقفين للوقوف مع الحدود من جهة الورد المورود، فوعد الولد والأخ المعدود، في عداد جناب المشهود لأهل الشهود، وبإرسال نسخة منه لضياع نسختنا عن يد حسود لا يسود، فالمرجو المساعدة في إرسالها دون إهمال ولكم الثواب في اليوم المورود بحول المعبود. والسلام عليكم وعلى من لديكم ما لاح من الصباح عمود، وقد طلب ولده الحاج عبد الله الإجازة في السند فكتبت له ذلك:
نشر الشيخ لطريقته الحلونية في الآستانة:
(وكان ممن اصطحب معنا ونحن في اسكدار ذات الشروق، المحب الفالح الشيخ أحمد الملقب بذوق، الجزائري بن الشيخ عبد اللطيف منح رعاية الحقوق، ثم نم به فرط الحب الزائد البروق، حتى بالطريق المسلوك المطروق
وأخبرت أن ليلة أخذه حال المبايعة التي مددها يحوق، اخذ جماعة من الروحانيين أهل اللحوق، وكان تقدم الجماعة منهم أخذ يفوق، في نابلس المحروسة وغيرها من الأماكن المقدسة التي للقرب تسوق، وعدهم يتوف على الألوف ما بهم عقوق، وفيهم من طائفة (الحناينية) سرب مسوق، وكبارهم أربعة سباق ما بهم مسبوق، أحدهم أحمد الطام، وابن باها، وعلى الذراري، وقدابو، وغيرهم تحت حكمهم مسبوق، فلما سمع هذه القصيدة الأخ المذكور المأسور المطلوق، قال غنها ليست في طوق البشر المخلوق، وإنما هذه كرامة أكرمت بها لسريانها في القلوب مسرى الدم في العروق، وكذلك المحب الصدوق، السيد محمد العاشق المعشوق، ومدح وقال يدرك أنها من الفتح اللدني كل من يشم الرائح(944/28)
والمطاعم يذوق
سليمان باشا العظم يعتب على الشيخ البكري فيعتذر الشيخ له:
(وفي يوم ثمانية وعشرين من جمادى المكور، ورد على كتاب من الصهر المشكور، ذكر فيه أن جناب الوزير الكبير الوقور، (سليمان باشا العظم والى دمشق والشام) عتب على الفقير من عدم كتابة سطور، في رق حب منشور، فكتبت لجنابه كتابا يفور يحب كأسه يدور، وصورته:
ما زلت أستخدم النسائم ... تسعى لإغلاء أعلى الدعائم
تكريمات لا تحملها أجمال الطروس، وتسليمات لا تعادلها أحمال عطر عروس، يعطر الكون رياها، ويشرق من لامع محياها، كنت أرسلت للصديق الأمجد الذكي، جناب محمد جلبي بن مكي، كتابا، ووكلته بإبلاغ سلام تام جمع لبابا، ثم ورد علي من جناب الصهر المحترم، العالم العامل الأفخم، كتاب لذ وطاب، وأنبأ عن عتاب من الجناب، والحال أن الإحجام، مراعاة للمقام، الخطير العطير المطير، بغزير ماء العمير، ولما تحقق الفقير ان الجناب الكبير يقبل مكاتبة الحقير، بدارت لها مشمراً أي تشمير، فالمرجو من الأخلاق الكريمة المسامحة فيما وقع من تقصير
وأرسلت للأخ الحسن الحاج بن مقلد كتابان في هذا التاريخ جواباً عن كتاب في الحب يشهد، كما كتبت لولد الصلبة ثمرة قلبي، كتاباً جواباً جواباً عن كتاب نفي كربي)
(وممن صحبني محب مريش، الأخ الحاج مصطفي بن الحاج خليل الشهير بابن كشيش، ومعناه بالعربية القسيس وكان يقول لولاه، نسبنا إلى الخسيس، البغدادي وطناً ومسكناً، وكنت اجتمعت به في الرحلة العراقية وبيده مقاطعة الدجيل، وهي مواصلة لمن كان ذا قوة في المال والخيل والحيل، ولما رآني وعرفني لا زمني إلى أن اندرج في سمط أهل الطريق، يوم الوداع الذي اذاع كامن الحريق، والمذكور له فرط سخا، لأنه ابن رخاء واعتقاد وانقياد، ي أهل الله الأمجاد
(وممن صحبني لديه، لإقباله عليه ونظره إليه، الشيخ صالح الحافظ وولده ولما توجه ولد المذكور، الشيخ عبد القادر لدار السلام بمعنونة الغفور، كتبت كتاباً بما تقدم من سطور، للأخ الأمجد السيد أحمد القادري المفرد(944/29)
الشيخ يستخير الله في السفر:
(وكان الخاطر تحرك إلى السير في المركب المصري فاستخرت الله في السير لتلك الممالك فوقعت الإشارة في قرب الإذن بهذه الزيارة ثم رأيت أول شهر رجب أن رجلاً تسمى بهذا الاسم المجرب، اعتنقته ونمت مع على الفراش، والقلب من السرور في خفة الفراش، فأخبرني المحب الأمجد، السيد محمد الأوحد، أنه رأى فيما يراه النائم أن الحقير، قد حوط بيديه على عمود من نور كبير، فأخبرته بما رأيت وقلت له أظن أن هذا المحاط، حقيقة شهر رجب الرفيع الاغتباط، فقال نعم رأيتك حوطت عليها إلا بمقدار أربعة أصابع صغار، فقلت إن كثيراً من حقائق الأشهر المباركة، يقع لي معهم هذه الوصلة والمشاركة، وقال لي، أبشرك الآن مطلق، فأين ما أردت توجه فإنك موفق
السيد محمد خليل البكري يعارض في سفر الشيخ في الشتاء:
وفي ليلة الخميس، الثاني من رجب الأنيس، توجهت إلى دار ابن العم، محمد خليل أفندي الأكرم، وبت لديه وعرضت أمر لسفر عليه، فلم يطلب له التوجه في الشتا، ولكن لا يرد الأمر إذا الله أتى
للكلام بقية
سامح الخالدي(944/30)
رسالة الشعر
مع لاجئة في العيد
للآنسة الفاضلة فدوى طوقان
أختاه، هذا العيد رف سناه في روح الوجود
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد
وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالا شقيا
متهالكا، يطو وراء هموده ألما عتيا
يرنو إلى آلا شيء. مرحا مع الأفق البعيد
أختاه، مالك إن نظرت إلى جموع العابرين
ولمحت أسراب الصبايا من بنات المترفين. .
من كل راقصة الخطى كادت بنشوتها تطير
العيد يضحك في محياها، ويلتمع السرور
أطرقت واجمة كأنك صورة الألم الدفين
أختاه، أي الذكريات طغت عليك بفيضها
وتدفعت صوراً تثيرك في تلاحق نبضها
حتى طفا منها سحاب مظلم في مقلتيك
يهمى دموعا اومضت وترجرجت في وجنتيك
يا للدموع البض! ماذا خلف رعشة ومضها؟
أترى ذكرت مباهج الأعياد في (يافا) الجميلة!
أهفت بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولة!
إذ أنت كالحسون تنطلقين في زهو غرير
والعقدة الحمراء قد رفت على الرأس الصغير
والشعر منسدل على الكتفين محلول الجديلة!
إذ أنت تنطلقين بين ملاعب البلد الحبيب
تتراكضين معا للدات بموكب فح طروب(944/31)
طوراً إلى أرجاحة نصبت هناك، على الرمال
طوراً إلى ظل المغارس، في كنوز البرتقال. .
والعيد يملأ جوكن بروحه المرح اللعوب
واليوم، ماذا اليوم غير الذكريات ونارها
واليوم، ماذا غير قصة بؤسكن وعارها
لا الدار دار، لا ولا كالأمس! هذا العيد عيد
هل يعرف الأعياد أو أفراحها روح طريد
هل تقبله الحياة على جحيم قفارها
أختاه، ها العيد عيد المترفين الهانئين
عيد الآلي بقصورهم - وبروحهم متنعمين!
عيد الآلي، لا العار حركهم، ولا ذل المصير
فكأنهم جثث هناك. . بلا حياة أو شعور
أختاه لا تبكي، فهذا العيد عيد الميتين!!
فدوى طوفان(944/32)
صوفية
نشوتي!
للأستاذ محمود رمزي نطيم
نشوتي حين أراك ... لا تقدر يا حبيبي
سكر روحي في هواك ... ليس بالشيء العجيب
أنت يا مسعد قلبي
يا حبيبي
أنت يا شغلة فكري ... أنت يا روح وجودي
أنت يا ملك أمري ... بين سري وشهودي
أنت يا حبة قلبي
يا حبيبي
لحظة منك حياتي ... ودوائي وشفائي
أصبحت ذاتك ذاتي ... وانتفى وهم شقائي
واستراح اليوم قلبي
يا حبيبي
برهة للصفو حانت ... ورأت عيناي حبي
رؤية المحبوب كانت ... رحمة من عند ربي
هكذا يشعر قلبي
يا حبيبي
غاب من أقصاك عني ... فليمت لا عاد حيا
أنا لا أطلب من دنياي إلا أنت شيا
تلك أنشودة قلبي
يا حبيبي
لست أدري يا حبيبي ... قبل هذا أين كنا!
كل ظني إننا في غير دنيانا التقينا(944/33)
ربما يذكر قلبي
يا حبيبي
إن في الروح صفاء ... عكر الجسم صفاه
إن في الناس وفاء ... طمع الناس طواه
عالم يوجع قلبي
يا حبيبي
نحن لولا طمع الدنيا لكنا سعداء. .
إنما الأجسام للأرواح سجن وبلاء
جسدي مزق قلبي
يا حبيبي
ها أنا من شرفة الرو ... ح أرى مصرع جسمي
ها أنا يمحى مع الأشباح في العالم رسمي
لم يعد يخفق قلبي
يا حبيبي
محمود رمزي نظيم(944/34)
رسالة النقد
في عالم النقد
السلسلة والغفران
مسرحية جديدة للأستاذ علي أحمد باكثير
في عنق النقد للأستاذ علي أحمد باكثير، دين كبير فقد أنفق الأستاذ شبابه وهو لا يفتأ يضيف إلى المكتبة العربية ثروة هي أشد ما تكون افتقاراُ إليها بقصصه ومسرحياته التي يخرجها تباعاً والنقد لا يكاد يتابعها! ولقد قاربت مؤلفاته - فيما أعلم - العشرين، وما احسب النقد أولاها عشرين كلمة منه!
إن النقد مقصر جداً في ذات الأستاذ علي أحمد باكثير، وفي ذات الفن الذي ينهض به صابراً جلداً محتملاً أشد صنوف التضحية والجهد والحرمان، وإني لمحاول أن أسد قليلاً من هذه الثغرة السحيقة، بتناول مسرحيته الجديدة التي ظفرت بجائزة وزارة المعارف - وإن كان ذلك ليس مما يسمو بها - والتي سماها السلسلة والغفران)
وإذا أردنا أن نلخص هذه المسرحية في كلمات فإنه يمكن أن نقول: -
إن عبد التواب بن صالح المقدادي اعتدى على (غيداء) زوجة صديقة الحميم (قاسم المغربي) في أثناء غيابه عنها، فلما حملت منه وأراد إخراج ثمرة الإثم من أحشائها، ماتت عند إجهاضها، وعاش (عبد التواب) حياته بعد لك نادماً، وصار كاسفاً حزيناً، وركبه هم مقيم مقعد لما أتى من منكر شديد
وسارت الأيام، وتزوج عبد التواب من الفتاة الصغيرة كوثر ابنة (إسماعيل المرزوقي)، ثم حدث أن اضطر إلى الغياب عنها في تجارة له مع الشام مع صديقه وشريكه قاسم المغربي وتركها في بيته وليس بها أثر من حمل، ثم عاد فلم يجدها في بيته وإنما وجدها في بيت أبيها مريضة ملازمة فراشها، ثم عرف أنها ليست مريضة وإنما هي حبلى!. وعرف أن الذي أحبلها إنما هو مستور شقيق (غيداء) ضحيته من قبل!
ولكن عبد التواب يتستر على زوجته كوثر ويعود بها منزله، ثم تضع كوثر حملها، وتأتي بغلام سموه أسامة يصطنعه عبد التواب على عينه، وينشئه في ظله وبيته، ويتخذه قرة(944/35)
عين له!
وتسير الأيام ويتزوج هذا المعتدي الجديد مستور من فوز شقيقة قاسم المغربي وتضطره الحياة هو الآخر إلى الغياب عنها حيث يستدعي إلى ميدان القتال في حلب، فيمضي إليه مخلفاً عروسه الشابة ولما يمض على زواجها غير أسبوعين ثم يعود هو الآخر كذلك فيجدها حبلى! فما هو إلا أن يمسك بالسكين ويهوي بها على عنقها فيذبحها ذبح الشاة!
تقع هذه الحوادث تباعاً يلاحق بعضها بعضاً، وفي صور متماثلة، وعبد التواب هناك غارق في ندمه واستغفاره وضراعته إلى الله أن يعفو عما جن، حتى كلت قواه، وضعفتن منته، وأحس قرب نهايته، فدعا إليه بأم (غيداء) واعترف لها بجريمته، ثم دعا إليه كذلك بزوجها قاسم المغربي واعترف له كما اعترف لهان وطلب منهما العفو والمغفرة، وألح عليهما في ذلك كثيراً حتى غفرا له وسامحاه، فغفر الله له وسامحه، وانقطعت السلسلة التي كانت متصلة الحلقات بقدرة أحكم الحاكمين، ولولا ذلك لظلت السلسلة متصلة تتناول واحداً من الناس بعد واحد إلى نهاية لا يعلمها إلا علام الغيوب!. .
. . . هذا ملخص المسرحية ولبابها، وهو - كما ترى - بسيط سهل قريب المأخذ، يوشك أن يكون حكاية كتلك الحكايات التي نسمعها في بيوتنا من الآباء والأجداد والعقدة في هذه المسرحية ذات غور ضحل تكاد أن تلمس بيدك، أو قل أنه لا عقدة فيها على الاطلاق. . . ولكن الأستاذ علي أحمد كثير - وهو المؤلف المقتدر والمسرحي البارع - استطاع أن ينفخ في هذه الحوادث البسيطة، وأن ينفث فيها، فحواره ولا شك قوي نابض، وأشخاصه أحياء يتكلمون، وليسوا كلاماً ما يجري على أفواه أشخاص هم أقرب إلى التماثيل المنصوبة كما يفعل الكثير من مؤلفينا الأفاضل، وبهذا استطاع الأستاذ أن يجعل من الحبة - كما يقولون قبة!
وقد بنى الأستاذ مسرحيته على نظرية (كما تدين تدان) ونص على ذلك صراحة، فجعل الجاني في كل مرة مجنياً عليه في المرة التالية، وهكذا انكسرت السلسلة بفضل استغفار (عبد التواب)!
ووجه الرأي عندي أن نظرية (كما تدين تدان) ليست من واقع الحياة في شيء، فليس كل معتد عليه غدا، فقد يسلم المعتدي من كل سوء، وقد يقضي حياته في جرائم متصلة دون أن(944/36)
يناله أذى أو قصاص! ولكنها نوع من المثالية التي يبغي الأستاذ أن تكون قوام الحياة وهيهات أن تكون!
على أن الناس لو آمنوا بنظرية (كما تدين تدان) أشربتها نفوسهم حقداً وصدقاً، لكان قعودهم عن إيتان الجرائم إنما هو عن يقين منهم بأنها ستحيق بهم عليهم، لا عن إيمان بأن الجريمة في ذاتها شر يجب على الإنسان ذي الخلق القويم أن ينأى بجانبه، ويكف عن ارتكابه، سواء أدى إلى الإضرار بصاحبه أو انتهى إلى إسعاده، فإن السعادة الناجمة عن ارتكاب الجريمة - في نظري ذي الخلق القويم - إنما هي سعادة وحشية ينبغي الترفع عنها واحتقارها. والأستاذ المؤلف يعلم أن الكثير من الجرائم يؤدي إلى سعادة مرتكبيها، وهو يعلم أيضاً أن مصائب قوم عند قوم فوائد!
. . . هذا شيء: وهناك شيء آخر كنت أود أن أقف به طويلاً مع الأستاذ علي أحمد باكثير ومع المؤلفين عام، ولكن هذه الكلمة لا تتسع له ولا تفي به، وسأتناوله فيما أكتب من فصول في انقد، ولكنني أشير هنا إشارة عاجلة. .
ذلك أن المؤلف الذي يخلق في مسرحية من مسرحياته مثلاً، شخصية رجل مجرم، يرتكب في المسرحية جريمة تضطرب لها النفوس وتغضب وتثور، ثم ينزل المؤلف بهذا المجرم ما يستحق من قصاص في نفس المسرحية فأنه بذلك لا يكون قد فعل شيئاً!! إن المؤلف الذي يفعل ذلك يكون قد قام بدور المؤلف والقارئ معا، ولعله يجهل أن للقارئ دوراً هاماً في مؤلفه!! أي أثر يستبقيه المؤلف إلي يفعل ذلك في نفس القارئ وقد أرضاه بهذا القصاص إلي أنزله المجرم فهدأ به ثورته ومحابه وغضبه؟ وجعله يخرج من مشاهدة المسرحية أو من قراءتها سعيداً مسروراً مستريح البال ناسياً كل ما كان؟
يجب أن يفهم المؤلف أن القارئ ليس طرفا في الموضوع فحسب، بل أنه الطرف الأهم الأعم، إن القارئ هو الحياة ومن واجب الكاتب أن يجعل الحياة - أي القراء - تحارب الجريمة وتضطهدها وتعاقبها وتمحقها رويداً رويداً، وبهذا وحده تتطهر الحياة من الشرور والآثام، وبهذا وحده تتطور الحياة وتتقدم، أما أن يجمع الكاتب بين وظيفة الكاتب والقارئ معاً، فلا يترك القارئ إلا بعد أن يجرده من كل عاطفة ومن كل انفعال، فلا سخط ولا إعجاب ولا ثورة ولا غضب ولا شيء من أمثال هذه العواطف،. . . فإن هذا الكتاب لم(944/37)
يزد على أنه كان يزجى فراغ القارئ كما يلعب معه الطاولة أو الكوتشينة!. . .
. . . أريد من الكتاب أن يشفي القارئ مما تتركه القراءة بنفسه من غيظ وثورة وموجدة على الجناة والآثمين، فلا يحل القضايا التي يعرض لها حلاً تهدأ له نفس القارئ وتنسى ما قرأت أو شاهدت، بل أريده على أن يحفر في نفسه أثراً عميقاً، وأن يهيج فيه جرحاً لا يندمل إلا أن تتطهر الحياة وتسلم من الأدران والموبقات. . .
فلو أن الأستاذ علي أحمد باكثير - مثلاً - جعل (عبد التواب) معتدياً على عرض (غيداء) أو جعل (مستور) معتدياً على عرض (كوثر) ثم لم يجعل من كل منها معتدى عليه بعد ذلك، بل أبرز أثر اعتدائه على المجتمع وعلى أشخاص المعتدى عليهم - وهم كثيرون غير غيداء وكوثر كالأزواج والآباء والأمهات - والتمس الوسائل الكثيرة لتهييج الناس عليهم، وإثارة حفيظتهم نحوهم، ومطاردتهم أينما وجدوا، ثم تركهم على هذا النحو، لكان أدعى إلى أن تمتلئ قلوب الناس حقداً وكراهية لكل معتد على الأعراض، وتظل ذاكرتهم تختزن ما فعل (عبد التواب) و (مستور)، أما أن يحاول المؤلف أن يؤكد للقارئ أن المقادير ستفعل بالجاني مثل ما فعل، وستتولى هي أن تجعل المعتدي معتدى عليه لا مناص له من ذلك ولا منجاة، فقد أراح القارئ وسره وأفرحه، وأخلاه من كل مسئولية عن مفاسد هذه الحياة!!
وأريد - بعد هذا - أن أقف مع الصديق المؤلف وقفات قصيرة أناقش معه فيها بعض الأمور: -
1 - فكيف استطاع (عبد الوهاب) - وهو إنسان من لحم ودم وبه غرائز لا سمو الملائكة الأبرار - أقول: كيف استطاع (عبد الوهاب) هذا أن يسمو هذا السمو كله؟ ويتجرد هذا التجرد كله من غرائز البشر؟ فيتسر - أولاً - على زوجته التي حملت من غيره، ويأخذها في رفق وهوادة، أو على الأصح في جمود وبلادة إلى منزله فيها حملها. ثم - ثانيا - يتخذ من وليدها ابنا له، ويقيمه معه في منزله، وما إن يدخل لا منزل كل مرة حتى يحمل بين ذراعيه، ويقبله من وجنتيه، ويقول له: أنت خير من هؤلاء جميعهم أي من أهل البيت جميعاً وفيهم ابنته من صلبه!! ما جعل (أم مستور) لا تملك تفسيراً لهذا إلا بقولها (لعل أهلها سحروه. . لعلهم عملوا سحراً فارتضى هذه الدياثة وسكت عليها)!! ثم - ثالثاً -(944/38)
يجعل من هذا الولد وريثا شرعياً له مستجيباً في ذلك لتلك الفتوى الفجة المبسترة التي أفتاه بها القاضي (بكار)؟؟
قد يفسر الأستاذ المؤلف موقف عبد التواب هذا بأنه يكفر عن سيئته التي ارتكب، وبأنه يشعر في قرارة نفسه بأنه سبب هذه الجنيات جميعها التي تمخضت عنها جنايته الأولى، وأنا لا أنكر على الأستاذ المؤلف أن لهذا بعض الثر في موقف عبد التواب ولكني أنكر أن يكون الثر نشازاً بعيداً كهذا عن طبيعة الإنسانية التي من أشد غرائزها وأقواها الغيرة على العرض، والحقد على ثمرة زلة المرأة والنفور الشديد منه، وإذا كان الإنسان - الإنسان أيا كان - يضيق بولد المرأة من زوجها السابق وهو حلال، فكيف به مع ولدها من فجورها وهو حرام؟
الحق أن الأستاذ علي أحمد باكثير قد وضع عبد التواب في موضع لا يتفق لإنسان كائناً من كان هذا الإنسان أن يقفه، وجعله في درجة لا تكون إلا للملائكة الأبرار، ومسرحية الأستاذ المؤلف لا تعالج أمور الملائكة وإنما تعالج أمور البشر من أمثالنا الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق!
2 - ومن الظواهر التي يلمسها القارئ في الرواية ظاهرة أحب أن يتجنبها الأستاذ الصديق ما وسعه جهده، وهي ظاهرة (الترشيح). . فهو يرشح لكل حادثة من الحوادث المقبلة بما ينئ عنها ويكشف عن سيرها قبل أن تقع! فالقارئ يحس منذ الفصل الأول بان السلسلة قد ابتدأت! ويشعر بأنها ستدور على واحد إثر واحد! فأم مستور في الفصل الأول تدعو الله فتقول اللهم يا شديد الانتقام انتقم لي منهم فرداً فرداً، (اللهم لا تمت أحدهم حتى تنكبه في زوجته بمثل ما نكب ابنتي (غيداء!) وتقول بعد ذلك لعبد التواب. . (انتظر! الله هو سينتقم منك وسيكون انتقامه عظيماً) وهذا في الحقيقة تصريح لا ترشيح! ومثله أن تقول أم مستور عن ولدها (مستور) - وهي تعلم أنه المعتدي على عفاف (كوثر) - (إنه سيفترق عن عروسه ولم يمض على زواجها غير أسبوعين! كان الله أراد ان ينتقم لكوثر منه!) فمن أين لها العلم بما ستجري به الأقدار فيما بعد؟ ولست أحصي هذه الظاهرة عدا في هذه المسرحية فهي كثيرة منتشرة في أرجائها، وإنك لتجدها في الأمور الصغيرة والحوادث البسيطة، وفي رأيي أنه يجب على المؤلف المسرحي أن ينأى عن الترشيح تماماً فلا يكون(944/39)
بمسرحيته أثر منه فإنه يضعف وقع الحوادث في نفس القارئ أو المشاهد، ويقلل من أثرها عنده، ويجعلها كالعادة المكررة، ويخليها من الجدة التي تخلب لب المشاهد أو القارئ وتجذب انتباهه
3 - وفي المسرحية بعض أخطاء لغوية قد لا يؤاخذ عليها المؤلفون المسرحيون، ولكن من كان مثل الأستاذ باكثير حفياً بلغته، قادراً على سلامتها، فإنه يكون منا موضع المؤاخذة! ولست كذلك محصيها ولكني مشير إلى بعضها، فلا يقول - مثلاً - (ص61) (لشد ما كانتا تتلهفان على أنبائك وتترقبان يوم قدومك) واستعمال الفعل (تلهف) بهذا المعنى خطأ مشهور وصواب استعماله للحزن والتحسر، تقول (لهف على الشيء وتلهف عليه) أي حزن وتحسر. وهو يقول (ص90) على لسان (آسية) حيث تقبل على صياح (أسامة) فتسأله (مالك تبكي يا حبيبي؟ هل أحد ضربك؟) والأولى أن تقول (هل ضربك أحد؟) فإن الاستفهام هنا عن سبب البكاء أي عن. ويقول (ص96) على (آسية) مخاطبة (كوثر) عندما استنكرت مجيء (ميمونة) في وقت الطعام. . (هل نسيت أن أهلك لا يؤخرون الغداء مثلنا إلى قرب العصر) واستعمال كلمة (الغداء) في معنى طعام الظهر خطأ مشهور كذلك فإن (الغداء) طعام الغدة التي تكون في الصباح، وعلى هذا المعنى جرى قول الله عز وجل (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، وهناك بعض الهنات الهينات الأخرى نتجاوز عنها لأننا لم نبلغ الحضر وإنما ابتغينا المثال!
وبعد: فلا يذهبن أحد إلى هذه المآخذ اليسيرة التي أخذناها على صديقنا تغض منه، أو تنال من مكانتهن أو تزحزحه عن مركزه في الصف الأول بين مؤلفينا
فلا والله ما هو عندنا إلا في الصابرين المجاهدين من المؤلفين، وما هو في رأينا إلا من أولى العزم نرقب منهم الخير الكثير
وما كلامنا هذا إلا تحية لجهوده الكثيرة المشكورة، وتنويه بأثره من آثاره الضخمة ما تحسبها تحتاج إلى تنويه
علي متولي صلاح(944/40)
الكتب
البداية والنهاية
قصة للأستاذ نجيب محفوظ
للأستاذ ثروت أباظه
هي الوثبة الأخيرة التي وصل غليها قلم القصاص الكبير الأستاذ نجيب محفوظ صورة صادقة حية جياشة بالحياة عن الفترة التي تمر بها مصر اليوم. . . أخذ نجيب فيها أشخاصه من الطبقة المتوسطة فهي عائلة كان عائلها موظفاً يعيش بالنسبة إلى الحي الذي يقطن به عيشة رضية لا يقلقها المال كل القلق
وتقوم الرواية بعد موت هذا العائل فأسرته بعده في حيرة كبيرة لا يدرون كيف يواجهون الحياة ولا مال لديهم ولا سند لهم وإفرادهم كثر والحال ضنك. كبير العائلة (حسن) شاب لم ينل من التعليم إلا حظ المقل الذي لا يغنى، وأخواه الصغيران طالبان ما زالا في تعليمهما الثانوي، وأخته بنية ليس لها في الدنيا عن قبحها إلا قول أبيها - رحمه الله - إنها خفيفة الظل. . ولا يبقى بعد ذلك إلا الأم وهي كل شيء. . سيدة حازمة قوية أدركت الموقف وواجهته فلم تنظر إلى ابنها الأكبر إلا نظرة الإشفاق عليه والخزي من نفسها أنها لم تستطع أن تقوم على تربيته قياماً صالحاً، ولكنها لا تفوت هذه النظرة المشفقة الآسفة دون أن تفيد منها عبرة صالحة تنفعها وهي تخطو بوالديها الآخرين إلى طريق الحياة، وهكذا نجد الأم لا تترك شيئاَ دون أن تفيد من. فابتنها تجيد الحياكة وكانت تقوم بها ترويحاً عن النفس فلتقم بها حرفة تكسب منا المال، وولداها يأنفان أن يملأ بطونهما من طعام الغداء في المدرسة فهي تحتم عليهما أن يكتظا من طعام المدرسة فالعشاء قد ألغى نم البيت. وهكذا أخذت تدبر الأمور في تصميم قاطع واثقة أن جلدها لن يتخلى عنها
وسار الأولاد كل في طريقه الملتوي أو السوي. فحسن لا يريد أن يحصل على عمل إلا إذا كان موافقا لمزاجه. . . ومزاجه أرعن عربيد فهو يطوف بالأعمال الهزيلة الواحد بعد الآخ، وتتطوف به البطالة فيلذها حتى ينتهي به المطاف إلى حامي مقهى (بدرب طياب) في أقذر وباءات القاهرة، ولا يكتفي بهذا الكسب بل هو يعمل في تجارة مخدرات ضيقة(944/41)
الحدود
وأكبر الوالدين يحصل على التوجيهية فتجتمع العائلة لتنظر في أمره ولكنه كان شبيها بأمه وقتياً في نظرته فهو يخبرهم أنه انتوى التوظف ليوفر لهم بعض العيش وأما الولد الآخر وكان يصغره بعام فقد احب جارته. وقد أخرجها الأستاذ نجيب صورة رائعة لفتاة عفيفة من الطبقة المتوسطة، متمسكة كل التمسك بما تسمعه أمها من حكم ومواعظ وأمثال، حتى أن حبيبها لم يستطع أن يصل معها إلا على وعد بالزواج. . ولكنه كان يخشى أمه فهو يخاطب أباها وهو صديق المرحوم أبيه الصدوق. يخاطبه لا ليخطب إليه ابنته ولكن ليرجوه هو أن يخطبه من أمه. . . وتتم الخطوبة وأنف الأم راغم فهي لا تريد أن تخسر صديق المرحوم الذي لا زال منذ مات العائل يواصل الأولاد ويرعى مصالحهم. . .
يخطب الأصغر الفتاة ويسير في تعليمه قدما حتى يصل يدخل الكلية الحربية
وأما الأخت خفيفة الظل فهي ما تزال تخيط الملابس حتى يأتي يوم يغازلها فيه ابن البقال ويعدها بالزواج ثم ينجز الوعد فعلاً قبل أن يسمح بذلك المأذون - ويتركها ليتزوج من أخرى ادعى أن أباه أرغمه على الزواج بها فتثور في وجهه، ولكن ماذا يفيد. . . وتذهب إلى العروس لتخيط لها ملابس الفرح ولكن الغيظ يمنع عنها هذا الرزق فهي تثور بالعروس أيضاً وترمي خطيها أمامها بكل ما تكره خطيبة أن تسمع عن خطيبها ولكنها أبداً لا تبوح بما كان. . . وتمر فترة وهي هادئة أن أحداً لم يكتشف ما اصبح ينقصها فهو لا يكتشف إلا بالزواج وقد يئست منه. . يئست من زيجة مشروعة واحدة فعدلت عنها إلى زيجات متعددة غير مشروعة لا يعنيها إلا أن يكون زوجها فحسب. . ويعنيها أيضاً ألا يعلم عن هذه الزيجات إلا أطرافها الآخرون دون غيرهم. . . ولا بأس بها إن قبلت بعض المال ما دامت ستقوم بالمر وما دامت أصبحت وهي لا تستطيع عن هذا بعداً
والولد الأكبر تاجر مخدرات فهو يستطيع أن يبرر عائلته من حين إلى حين ولا يهم أن تعلم من ابنها شيئاً عن عمله أو هي في الحق تخشى أن تعلم عن عمله شيئاً. والأستاذ نجيب كما سبق أن قلت يحب أن يرسم شخصياته كما خلقهم الله. . . فالشرير مهما بلغ به الشر فيه للخير نصيب مهما قل. وهكذا كان حسن شريراً ولكنه كان باراً بأهله حتى أنه ليعطي أكبر الصغيرين من المال ما يستطيع به أن يسافر إلى مقر عمله وينفق حتى(944/42)
يصرف له مرتبه، وهو أخاه الأصغر بالقسط الأول من نفقات الكلية الحربية. . . وحين يصبح أخوه ضابطا يأتي إليه ليسأله أن يسير في طريق أكثر استقامة ويبتعد عن الشر الذي يرزح تحته. . . ولكنه يفهمه أن هذا الشر هو الذي صيره ضابطاً، وأن ما يعتقده هو خيراً، ولا فرق بين الاعتقادين وإنما الفارق بين البيئتين، فهو حيث هو محترم موقر، وهو لن يذهب إلى أخيه ولن يحتاجه، وهكذا ينصرف الضابط بعد أن يئس من إصلاح أخيه
وصاحب التوجيهية موظف بطنطا يهم بأن يتزوج من ابنة رئيسه ولكن الأم تدركه فيعدل دون أن تواجهه بالكلمة الصريحة. . فقد كان يحسبه أن تشير لكي يفهم وينفذ
والضابط بعد أن يتخرج ينظر هو إليه فيروعه ما يحيط به من وسط وبيئة ويحقد في نفسه وتثور النار. . فهو ساخط على أخيه ساخط على ماضيه ساخط على حاضره ساخط حتى على عروسه بعد أن تبين له أنه لم يكن يحبها هي وإنما كان يحب أن يقبلها وقد اغتصب منها القبلة فهو لا يريدها، وهو طامح غلى التغيير فهو ينتقل إلى مصر الجديدة، وهو يتلخص من خطيبته بعد خطبة دامت ثلاث سنوات، وهو يتقدم إلى ابنة موظف كبير كان يعطف على أبيه وعليهم من بعدهن ولكن طلبه يرفض فيزداد سخطه
وكم كان نجيب رائعا حين لمس ذلك الحب الذي يكنه أكبر الصغيرين لخطيبة أخيه. . . حب يترقرق دون أن يتبلور. . . يهم بأن يصل من القلب إلى العقل، ولكن عقل الفتى قوي جبار يحبس هذه الهمسة ويكتمها حتى يفسخ أخوه الخطبة فيتقدم هو لخطبة الفتاة، وهو أمام عائلته يصلح خطأ أخيه، وهو يحاول أن يقنع نفسه بذلك أيضاً ولكن الهمسة قد أصبحت صرخة وليكن ما يكون
أما الأخت فإنها تظل تنتقل من رجل إلى رجل حتى يضبطها بوليس الآداب وتحتمي بأخيها الضابط فتكون الطامة. . . لقد كان ثائراً على ماضيها أن كانت تعمل خياطة، ولقد ضاع ماضيها هذا ابنة الموظف الكبير من يده. أفلا يكفيها هذا الأبد أيضاً أن تكون هكذا. . . يحاول أن ينتقم، ولكن أخته كانت مطمئنة لمصيرها هادئة إلى نهايتها. . . إنها لم تكلمه أن ينتقم. . . إنها ستنتحر. . إنها انتحرت
وكأنما أراد نجيب أن يقول لهذا الضابط المتعجرف وأن يقول لأمثاله الذين أكثرت من وجودهم الأجواء العاصفة بنا في هذه الأيام أراد أن يقول (إن كنت لا تصدق أن هناك شرا(944/43)
من ماضيك وحاضرك فأنظر. . . هذا بعض ما خفي فبعض الإيمان أيها البادئ الصغير)
هذه هي القصة في جملتها محبوكة الأطراف ذات شخصيات رائعة الرسم بريشة فنانة جريئة هي ريشة نجيب. . وليس في القصة من ناحية قوة الشخصيات وروعة الحوار وصدقه. . ليس في كل هذا جديد بالنسبة لما دعونا نجيب
فالحوار إلي يدور بين حسن ورفيقته، وبين الفتاة وأزواجها الذين عرضهم علينا نجيب، والحوار بين الحسن وصديقه الغني وفي غيرها من المواقف. حوار من صميم الحياة بحيث أتساءل كيف تسنى لنجيب محفوظ هذا الصدق. . أتساءل وأحب أن يجيب الأستاذ نجيب عن هذا التساؤل
ليس في القصة من هذه النواحي جديد لأن نجيباً في قصصه السابقة كان قد بلغ القمة التي لا يمكن أن يبلغ إلى أكثر منها. . . ولكن الرائع الجديد أن نجيبا قد تعمق إلى النفس ومزق عنها الأستار في جرأة لم يسبق نفسه إليها، فهذه الخواطر المتناثرة الثائرة بنفوس شخصياته شيء جديد في القصة المصرية. وهذا الكره الثائر بنفس العانس لكل عروس وغير هذا من التحليل العميق، كل ذلك جديد
نجيب. . لقد كتبت عن قصصك السابقة معجباً بها، وأكتب عن قصتك هذه معجباً به، ولن أغلف هذا المدح أو أدور به بل سأظل أقوله صريحاً قوياً لا أخففه بمحاولة انتقاد. . , إني لأكبر أمام نفسي حين أعجب بهذه القصص وقد قلت يوما إنك ستصبح في القمة الشاهقة التي يعتليها كبار كتاب القصة المصرية. . . واليوم أقول إنك قد اعتليتها. . . أقولها مرتاحاً لما أقول. . . مهنئك بما ارتقيت، مهنئا القصة المصرية بل. راجياً أن يديم الله عليك التوفيق ويديم على قصصك إشراقة الإيمان
ثروت أباظة(944/44)
بين المسموع والمقروء
للدكتور أحمد زكي بك
للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد
هذا الكتاب القيم مرآة تعكس كثيراً من الظواهر الاجتماعية والخلقية والنفسية لبيئتنا الراهنة. وما يتراءى في مجالنا الاجتماعي والنفسي بقلم الأديب ذي السليقة الفنية، ومنطق العالم صاحب النزعة العلمية، نشعر بالروح العلمية في ذلك الحرص على استخلاص النتائج الاجتماعية والخلقية والنفسية التي تتضمنها الصور. فالفن الذي تضفيه الذاتية الوجدانية لا يستأثر بالمجال بل تساهم فيه روح الموضوعية العلمية في استخلاص الأهداف والكشف عن الدلالات الفلسفية والعلمية. تستطيع أن تستجلي هذه الألوان في كل ما عالجه هذا الكتاب من جوانب، ففي عرضه لظاهرة كظاهرة انتحار في موضوع - ليته درى - يكشف لك عن المشاكل الاجتماعية والنفسية التي يعرض لها المنتحر اسرته، والعقد النفسية التي تهد كيانهم الروحي، وتحطم وجودهم الاجتماعي. فأي مرارة صبها ذلك الرجل المنتحر في كأس حياة زوجته وأولاده، ليته درى؟ أنه ورث أولاده فيما ورث الكفر بالحياة والريبة في أمر أنفسهم. وجنى على زوجته فضاعف أساها وسلبها حتى برد عزاء المعزين. وحال بينها وبي السلوان - فالمرأة المرزوءة في زوجها على الطبيعة، تلقى من الناس فلا تخشى شيئاً. والناس لا يخشون أن يطيلوا لها في الرثاء ويسهبوا، أما المرزوءة في زوجها انتحاراً فتلقى الناس فتخشاهم وتخشى سؤالهم والإكثار، وهم من جانبهم يخشون الحرج فتكون تعزيتهم اقتضاباً وكثيراً ما يكون كلامهم صمتاً. . . وجلست المرزوءة تستعيد ذلك الشريط الذي يحمل ألوان ماضيهم فلا تجد بعد الذي حدث صفاء، ولا تجد لها طعماً. وتلك النكات، وتلك الضحكات، ومظاهر الحب والعطف والفرح في العيش معا لما ستر، والحزن معا لما ساء، كلها ربطت بين الزوج والزوجة روابط لم يعبأ بها الزوج عندما أراد أن يقطعها. . وتسأل الله في أحلامها: لو اتصلت الخيوط والتحمت الشرايين! فيقول الله: ليس على هذه الأرض وصل بعد فصل، ولا التحام بعد قطع. . . ويوقع أولاده في أزمات نفسية عنيفة مستعصية. فإذا تحدث صديقات البنت عن آبائهن فتسكت فلا تطارح الصديقات المتدفقات حديثاً بحديث. ويتحدث أصدقاء الولد عن آبائهم فيسمع الولد(944/45)
ولا ينطق. تتسع أذنه للألم. وينعقد لسانه عن إفصاح. وفي الإفصاح التنفس من ضيق. وفي الحديث استشفاء من ألم. . . ثم يأخذ في تحليل العوامل النفسية التي قذفت بالمنتحر إلى هوة الانتحار فيقول: قد نشأ هذا الزوج على الفقر. وكان فقراً مدقعاً. في البيت، وعل المائدة، وعند النوم. وظل يمضغ الحياة المسرة سنوات لأنه لم يجد ما يتبلغ به سواها - ثم لانت الحياة وهادنته صروفها فاستعادوا هدوءه فلما تجهم له وجههاً وثارت أعاصيرها وعاد إلى الزوج خوفه القديم. خوف الفقر وخوف الحياة. لم يلبث أن انهارت أعصابه واختل توازنه وخر صريعاً. . .
ويترك زوجته تجتر هذه الخواطر السود!! كيف ساغ عنده أن في وفاء حاجة الجسم غناء عن حاجة النفس. . . وهو لو عاش لكافحنا سوياً كان لنا في الكفاح على الإخلاص لذة فلمن تقول هذا واأسفاه!! والأذن التي تريد أن تسمعها ملؤها التراب. أنه الألم الدائم واليأس الذي رجاء فيه. . .
أرايت أن هناك جانباً من الجوانب لم يطرق في هذه الظاهرة؟ ورأى يمكن أن يستخلص وأغفل؟ وفلسفة اجتماعية أو أخلاقية أتيحت لها الفرصة ولم تقرر؟ بل لقد صور بنضرة بيانه، وحيوية أسلوبه، وغزارة هذه الظاهرة وعلى هذا الأسلوب الفني العلمي تقوم صورة ما قصه الدكتور علينا في هذا الكتاب، فهي نماذج ممتعة للذوق. بفنها وللعقل بسلامة منطقها. وموقظه للوعي الاجتماعي بما تتناوله من مشاكلنا الاجتماعية، فهو كتاب يرشحه لمصاف الأدب الحي اكثر من سبب
محمد عبد الحليم أبو زيد
دبلوم في التربية وعلم النفس ومدرس اللغة العربية بالمدارس
الأميرية(944/46)
ابن الفارض والحب الإلهي
للأستاذ محمد خفاجي
رسالة جامعية علمية، ألفها الدكتور مصطفى محمد حلمي، ونال بها درجة الدكتوراه في الفلسفة من كلية الآداب عام 1940، ونشرتها لجنة التأليف في 326 صفحة. . وقد أعجبت البيئات الفلسفية والعلمية بهذا البحث القيم، ولقى تقديراً خاصاً في الأوساط الجامعية وبين المستشرقين وهو يعد بمثابة فتح جديد في ميدان بحوث الفلسفة الإسلامية والتصوف
والمؤلف رجل جامعي كرس حياته للبحث والدراسة، ويشغلا لآن منصب أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب بجامعة فؤاد
والرسالة حديث عميق عن ابن الفارض الصوفي المصري (576 - 632 هـ)، وسيرته، وحياته الصوفية، وآثاره وحبه الالهي، والمنازع الفلسفية لها الحب، وما مر به من أطوار، إلى غير ذلك من شتى البحوث العلمية الدقيقة عن إمام شعراء الصوفيين، وسلطان العاشقين في الله، وتصحيح معارفنا عنه، والرد على المستشرقين فيما أثاروه من شبه حول صوفيته وحياته
والكتاب فوق روحه العلمي القوي مكتوب بذوق المؤمن وأدب المتصوف. ويلمس فيه القارئ نفحات روحية صادقة بأسلوب بارع، استمدها المؤلف من روحية شاعرنا الصوفي
محمد خفاجي(944/47)
البريد الأدبي
تحية باريس لمعالي الأستاذ العميد:
إلى العميد وارث (العميد) ... أزجي تحياتي مع النشيد
هواتف في الشدو والتغريد ... وإن لبسن حلة القصيد
حرائر من صنعة التقليد ... كأنهن من بنات البيد
لم تنتظم من زهر نضيد ... ولم تصغ من لؤلؤ فريد
وإنما من قلبي الودود ... ومن دم يجري مع الوريد
النعمة الخضراء طوق جيدي ... لقد ملكتم بعدها وجودي
إلى العميد وارث العميد ... أزجي تحياتي مع النشيد
باريس حيت فيك يوم العيد ... واستقبلت في الشرق صنو (جيد)
المرسل البيان في الوجود ... أجمل من موشية البرود
من تالد في رقة الجديد ... وطارف في روعة التليد
والباعث الفصحى على التجديد ... كشأنها في زمن (الرشيد)
فخورة بعهدها المجيد ... عزيزة بملكها العتيد
موهوبة كدولة الحديد ... مقصودة كالمنهل المورود
وللبيان دولة في الجود ... تزحم في السلطان ملك الصيد
أقلامها خوافق البنود ... وكتبها بواسل الجنود
أنعم بها رسالة العميد ... وإنها رسالة الخلود
من (طارق) تجري إلى (بيرود) ... ومن ربا (الفسطاط) للنجود
علي شرف الدين
باريس
دكتور من جامعة باريس
ملاحظة أم غفلة:(944/48)
قرأت في العد (941) الرسالة، كلمة بعنوان (ملاحظة على مقال) خلاصتها أني أخطأت الطريق حين نشرت مقالي (سؤال الناس) في الرسالة، لأني وجهت (نصائحي الغالية!) إلى المتسولين المحترفين، وهؤلاء - بالطبع - لا يقرءون الرسالة، ولا يسمعون إلا نداء معداتهم
وكنت أحب للكاتب الفاضل أن يتعمق في فهم المقال وأن يقراه متبصراً، وأن يوسع أفق نظرته في الناس، ولو فعل ذلك لأدرك أن هذا مقال لم يوجه إلى المتسولين المحترفين. وإنما وجه إلى أصناف من الناس، كلهم ممن يحتمل أن يقرئوا الرسالة وغير الرسالة
فجمهور المسلمين الذين يعطفون على هؤلاء المتسولين من المخاطبين بها المقال، وذلك في الفقرات التي أغفل عنها الكاتب فظن أنها وجه إلى السؤال، فعندما أقول (إن العلاج الوحيد هو أن يفهم الناس دينهم على حقيقته) ثم أردفه بالحديث عن الإعطاء، وأن المعطى يجب أن يتلمس صاحب الحاجة، لم أكن اقصد الآخذين، وإنما كنت أقصد المعطين، وأظن أنه لا يحق لنا أن نجرد قراء الرسالة من فضيلة الإعطاء!
وعندما قلت (وهناك جماعة يعيشون على كسب غيرهم، وهم - في نظري - لا يختلفون عن هؤلاء السؤال في شيء) كنت أقصد إلى أصناف من اناس، منهم (مشايخ الطرق) وفي هؤلاء المثقفون، بل والعلماء، بل والمدرسون في الأزهر الشريف، ولعل الكاتب لا يخالفني في ان بعض هؤلاء يجوز أن يقرأ - ولو مصادفة - مجلة كالرسالة
ولو كان الكاتب الآن بجانبي لهمست في أذنه بحقائق مرة، وذكرت له كيف يعيش بعض المثقفين، ولكني أكتفي - دائماً. . في هذه الأمور بالتلميح وإني لأعرف أشخاصاً بأعيانهم يقرئون مجلة الرسالة باستمرار، وهم ممن يعتمدون على غيرهم - وهم قادرون - في تحصيل القوت
ثم ليعلم الكاتب أن مثل هذه المقالات الاجتماعية لا توجه - فقط - إلى المعنى بها، وإنما توجه إلى رجال الحكم ورجال الإصلاح الاجتماعي. وليس بضروري فيما أظن - أن تكتب عيادة الإهداء في أول المقال، على وزير الشؤون الاجتماعية، حين نقصد أن نوجهه إليه
أما قول صاحب الملاحظة (إن المعد الخاوية لا تفهم إلا منطق الطعام) فدليل واضح على(944/49)
أنه غفل الغفلة الكبرى عن روح المقال، فأنا لما قصد الحديث عن أصحاب المعدات الخاوية، وإنما قصدت إلى أولئك الذين يسألون وهم تجار لا سؤال
وأخيراً اوجه نصيحة غالية أيضاً إلى الكاتب عبد الفتاح الجزار صاحب الملاحظة، أن يفهم أولاً ثم ينقد ثانياً، ولعلها تنفعه فلا يدعونا إلى أن نمسك نصائحنا
علي العماري
1 - نسبة شعر
جاء في الصفحة (42) كتاب (الشعر العربي في بلاطات الملوك) في صدد البحث عن سعر النابغة أن الأستاذ نسيم نصر مؤلف الكتاب نسب البيات التالية إلى النابغة وهي:
المرء يأمل يعيش وطول قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بع طوال العيش مرة
وتخونه الأيام حتى لا يرى شيئا يسره
كم شامت بي إن هلكت وقال لله دره
وكذلك نسبتها للذبياني صاحب كتاب (الشعراء الجاهليون) الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي اعتماداً على بعض كتب الأدب. والأصوب نسبتها إلى لبيد بن ربيعة حيث نشرها جامع ديوانه مع شعره، وقد طبع هذا الديوان سنة 1905 في أوربا، كما أن البيت الأول كما ذكره صاحب كتاب (الشعر العربي في بلاطات الملوك) ناقص الوزن وصوابه:
المرء يأمل يعيش وطول قد يضره
وهي بشعر لبيد انسب من شعر النابغة. لأن لبيدا من المعمرين الذين سئموا طوال الحياة. كما يقو ل
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد
2 - تصحيح لابد منه:
في العدد 937 من مجلة الرسالة الغراء قصيدة لصديقنا الأستاذ الشاعر محمود فتحي المحروق بعنوان (في لجة الصمت) وجدت فيها بعض الهنات وأحببت أن أشير إليها مع العلم بان قصيدة الشاعر المحروق تستحق الإعجاب. وها أنا أدرج تلك الأخطاء(944/50)
قال الشاعر:
أنا - يا صمت - لو علمت فؤادا ... سادرا في اللجاج ضيع لحنا
وصوابه: أنا فؤاد سادر، لأن (فؤاد) خبر أنا و (سادر) صفة لفؤاد وقال:
ليس في الحياة أي أمال. . فوا خيبة المنى والرغاب
وفي هذا البيت خطأ أولهما في الوزن وأقصد صدر البيت ليس في الحياة أي آما
وثانيهما في فقه اللغة واقصد كلمة (الرغاب) فقد أوردها الشاعر مرادفة لكلمة منى وهي جمع وهذا الجمع خطأ فقد جاء في لسان العرب ما يلي:
إن رغبة بمعنى الأمنية والمطلوب جمعها رغائب ورغبات، أما رغاب فجمع للفظة رغيب ورغيب بمعنى واسع، ومنه حوض رغيب ومال رغيب. قال الرصافي وهو حجة في فقه اللغة وضبط المفردات بالرغم من أنه لا يصل غلى أفق المرحوم شوقي بك في الإبداع الفني:
ألا إن بطنا واحدا أنتج الورى ... كثيرون في أفعالهم لرغيب
ووزن هذا البيت هو الخفيف والشاعر الشاب محروق معذور إن جعله زاحفا فقد كان المرحوم جميل صدقي الزهاوي كثير الوقوع في هذا الزحاف الشأن
عبد القادر رشيد الناصري
بغداد - أمانة العاصمة
أول من أمس (لا أمسى الأول)
(حلف الأستاذ عبد الحميد بك علي عطية. . . أمس الأول
اليمين القانونية الخ) هذه عبارة وردت بجريدة الأهرام بتاريخ
11751 وقلما تخلو من مثلها صحيفة يومية أو أسبوعية.
وهي مع شيوعها وانتشارها تخالف ما نقل عن العرب وورد
في كلامهم؛ فقد جاء في (فصيح ثعلب) باب حروف منفردة:(944/51)
(وتقول ما رأيته منذ أول من أمس. فإن أردت يومين قبل ذلك
قلت ما رأيته منذ أول من أول من أمس)
وجاء في (اللسان) مادة (وأل). (وتقول ما رأيته منذ أمس فإن لم تره يوماً قبل أمس قلت ما رأيته منذ أول من أمس الخ)
فيكون الصواب إذن أن يقال (حلف الأستاذ. . . أول من أمس اليمين القانونية)
أحمد مختار عمر
محنة التواضع
أرأيت كيف تحال الفضائل في الزمن المعوج إلى محن تكاد أن تقارب الرذائل!
أرأيت المجتمع الذي أشكلت عليه الأمور، فجعل بين الأضداد مشاكله!
أرايت التنافي بين الصفات جعل المرء محيراً بين أصالة الخلق وتكلف التخلق!
هذا هو منطق الحياة الأخرس، لكن الناس استنطقوه فكان ذا (نشاز) وشذوذ!
إن التواضع طريق المحبة، ومنهج الألفة، ومشرق الأنس. لكن الناس فهموم فهماً ملتوياً، فألحقوه بالسذاجة، والمطاولة وعدم الاعتبار وضياع الشخصية، والمساواة في الأقدار!
نرى الرجل الفاضل يتبسط في الحديث مع الحاهل السوقي، فيلوى الناقص رقبة ذليله جلس فوقها رأس خغيض فارغ!
ونرى ذا القدر المحاط بالمهابة قد أزال الفوارق لينزل إلى المجتمع، فيجد من كان يتهيبه قد توعده، ومن يباعده داناه وطلب المساواة!
ونرى الكبير يأنس إلى الصغير بدعة طبعه، وصفاء سريرته ولطف معاملته، فنجد الشيطان قد أفرخ في روع غرور القميء انه معه على تساو، وتدفعه وقاحة الجرأة إلى مساجلته ومطاولته!
فليس عجباً - بعد هذا التصوير - أن نسمي التواضع محنة؛ لأنه يجلب إلى صاحبه عنت القحة، وحطة السليقة، ورداءة التربية!
يجب ألا يكون الحصيف (على نياته) حتى لا يطمع فيه الذليل، ويبيح حرمه الرذل الفدم!(944/52)
الحياة سهلة، لكن ذوي الطبائع المعقدة جعلوها ذات تعقيد! والتواضع بين النظراء تسامح، لكنه مع الأخساء خسة!
نرى أن نحيا في نور المثالية. . . لكنها اليوم ليس لها مثال!
أحمد عبد اللطيف بدر
بور سعيد(944/53)
القصص
الفخ
لوليام سارويان
ترجمة الأديب حسين أحمد أمين
نصب الفخ على النحو التالي:
في قطعة الأرض الممتدة من الشارع (م) إلى شارع (ل) المجاور لمنزل كازاكيان حفر الصبية حفرة كبيرة طولها ست أقدام وعرضها ثلاث وعمقها ثلاث. وذلك بعد أن أوى الجيرات جميعهم إلى منزلهم للنوم. . لكي يقع فيها أبكار بوبكورن وهو أول من يقطع هذه القطعة من الأرض في الصباح الباكر، ولكي لا يشك ذلك الرجل في المر غطوا الحفرة بالورق والأقذار حتى بدت لا تبعث شكاً ولا ربية
وفي الساعة الخامسة والنصف من صباح اليوم التالي أجتمع الصبية خلف منزل كازاكيان ليشاهدوا أبكار بوبكورن وهو يقع في فخ
هؤلاء الصبية هم أرسن وآرداش وكيشميش وباريكوميان وهيج وجورج وأولاد ميلسكونيان وولدا شيمشاميان ويدعيان فاسي وجاز
وفاسي وجاز هما مدبرا المؤامرة. . فقد طارت دجاجتان من منزلهما إلى منزل أبكار بوبكورن فاخذهما أبكار وأنكر رؤيتهما. . لذلك صمما على الانتقام منه
ولم تكن بقية الصبية تعلم شيئاً عن مسألة الدجاجتين ولكنها مع ذلك رحبت بفكرة نصب الفخ لأبكار بوبكورن لكي تشاهده واقعاً فيه
وفي الساعة السادسة إلا الثلث ظهرت امرأة ضثيلة الجسم متجهة في سرعة نحو الحفرة في الأرض الفضاء. . وكان هذا على خلاف ما قدره الصبية؛ لذلك علا وجوههم الوجوم وعقل الذهول ألسنتهم
وأخيراً تكلم كيشميشن موجهاً الكلام إلى فاس شيمشاميان: (أحسب أنها والدتك)
أجاب فاسي: (لا. . إن والدتي بالبيت تصنع الخبز)
قال كيشميشن لجاز أخي فاسي: (أليست هذه أمك يا جاز؟)(944/54)
أجاب جاز: (بلى. . أنها أمي. . ماذا تصنع هنا في مثل هذه الساعة؟)
وتمتم بقية الصبية بعضهم لبعض: (إنها أم فاسي وجاز)
وهمس هيج: (ألن يمنعها أحد كي لا تسقط في الحفرة؟)
قال فاسي: (لا أستطيع. . إنها ستقتلني إن علمت ما صنعته)
وقال جورج: (بل يجب أن يمنعها واحد منكم. . أتسقط أمامكما في الحفرة وأنتما نتظران أليها؟. لقد حفرناها لأبكار بوبكورن لا لأمكما.)
وقال بوبكورن: (جاز. . يجب أن تسرع فتمنع والدتك من السقوط) أجاب فاسي: (لقد فات الوقت)
وحبس الصبية أنفاسهم كي يلاحظوا مسز شيمشاميان وهي تقع في الحفرة التي أعدوها لأبكار بوبكورن. . ورأوا قدمها تميل بجسمها كله ثم تسقط في الحفرة
وسمعوا صرخة.
لقد كان الفخ محكماً لا يبعث شكاً ولا ريبة. .
وجرى الصبية بأقصى سرعتهم دون توقف. جروا دون وجهة حتى عجزت أرجلهم عن التقدم فوقفوا يفكرون فيما يفكرون فيما يحدث
واتفق الجميع على إخفاء الأمر وأقسموا ألا يتحدث واحد منهم في أمر الحفرة إلى أحد
وهكذا انتهى الأمر
وكانت إصابة مسز شيمشاميان غير خطيرة غير أنها رقدت أسبوعاً في فراشها
وبقيت الحفرة كما هي عدة سنوات دون أن يفكر أحد في ردمها. . وأخيراً ملأها مستر كازاكيان من طمى حديقته. .
وأما أبكار بوبكورن فكان يمر عليها كل صباح في طريقه إلى عمله فكان يقفز من فوقها ثم يتابع السير. .
حسين أحمد أمين(944/55)
العدد 945 - بتاريخ: 13 - 08 - 1951(/)
1 - في دنيا الشعر:
أنفاس محترقة
للأستاذ سيد قطب
في الجو رائحة تفوح، رائحة شعر، إنها (أنفاس محترقة) للشاعر محمود أبو الوفا، ذلك الشاعر الذي لم نعرفه في حين، لأننا كنا في غفلة عن إدراك حقيقة الشعر في ذلك الحين! كنا نتلمس مخنوقا في ركام (الفكرة) المعتلة الجامدة، أو متقززاً في اللفتة الذهنية البراقة! وكنا نتلمسه في قلب الرواية، لأن ببغاوات كثيرة قالت لنا: إن الشعر لا يكون إلا في هذا القلب. نقلا عن الإغريق والرومان والمحدثين في أوربا! وكنا نتلمسه في وسوسة العبارة، وفي اصطناع الصورة، وفي فرنجة المشاهد، وفي صقل الإيقاعات كما لو كانت ملفوفة في أوراق (السلوفان!)
ودع عنك شعر (الصالونات) وشعر الحفلات، وشعر المناسبات. وشعر الغناء الذي يفرغه بعضهم على الناس. . . فهذه ألوان ليست في حساب النقد، ولا اعتبار لها في هذا المجال! فأما الشعر، الشعر كما هو مجرداً من القوالب والأشكال، طليقاً من ثقلة الفكر ولمعة الذهن، واصطناع المشاهد والموضوعات. . الشعر كما هو طليقاً رفافا طلاقة العطر والشذى فهو ما لم نحفل به كثيراً
ولقد كتبت قبل سنوات أربع تحت عنوان: (آن للشعر أن يكون غناء) في فصل من فصول كتاب: (النقد الأدبي: أصوله ومناهجج) أصور حقيقة الشعر وطبيعته في هذه الفقرات: (. . . إنه الغناء، الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات، حين ترتفع هذه المشاعر والأحاسيس عن الحياة العادية، وحين تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق، أو الرقرقة والانسياب على نحو من الأنحاء)
(ولسائل أن يسأل: أو تنفى الفكر من عالم الشعر أيضا؟ ولست أتردد في الإجابة. إن هذا الفكر لا يجوز أن يدخل هذا العالم إلا مقنعا غي سافر، ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائبا في وهج الحس والانفعال، أو موشي بالسبحات والسرحات!. . ليس له أن يلج هذا عالم ساكنا باردا مجردا! (ولحسن الحظ أن الإنسانية لا تزال تحمل هذه الشعلة المقدسة، ولا يزال ضميرها يزخر بالمشاعر والخواطر، ولا تزال تهتدي بالغريزة والإلهام(945/1)
بجانب الذهن البارد الجاف. وهناك لحظات تنفض عنها ذلك السكون البارد والوعي المتقيد؛ وتنطلق رفافة مشرقة، أو دافقة متوهجة، أو ساربة تائهة، أو نشوانة حالمة. . وفي كل اللحظات الفنية الفائقة لا تجد إلا التعبير الشعري، يتسق بإيقاعه القوي، وصوره، وظلاله، مع هذه الحظات الملاء الوضاء)
في هذا العالم الذي وصفت سماته نلتقي بالشاعر محمود أبو الوفا صاحب الأنفاس المحترقة. نلتقي به شاعرا كله شاعر يخلص من اصطناع القوالب، واصطناع الأفكار، واصطناع الأحاسيس، واصطناع التعبير، ويلقانا بروحه كما خلقه الله. يلقانا بلا تكلف ولا تجمع ولا غشاء. يلقانا كما تلقانا الزهرة لتفرغ لدينا عبيرها وعطرها وتمضي! ويحدثنا أبو الوفا عن نفسه وحبه وآلامه ونجواه. . . أو يحدثنا عن الإنسانية والوطن والشعب. . . فهذا هو أبو الوفا الشاعر الغنائي المرفرف، عذب الروح حتى وهو يتجرع صاب الحياة، سمح الخليفة حتى وهو يحرق الأنفاس
استمع إليه يغني (في انتظار الصباح)
جدد لي الأقداح ... يا ساقي الراح
على أرى في الراح ... أطياف أفراحي
في مزهري ألحان ... أخشى أغنيها
أخشى على الأوتار ... من حولها ما فيها
يا مزهر الأقدار غن ... بها غني
واشرح على الأطيار ... ما غاب من فني
لكل يوم شراب ... لابد من كأسه
وكل معنى العذاب ... في لون إحساسه
من ذا يرد الصواب ... للدهر في ناسه
للغاب يا ابن الغاب ... اهرب فداك اللواح
تبا لضعف التراب ... أغرى عليه الرياح
لولاي في ذا الإهاب ... ما هيض مني الجناح
لا تسألوا يا شهود ... عن حكمة الأقدار(945/2)
وأين نحن العبيد ... مما وراء الستار
ومن تخطى الحدود ... يلقى به في النار
(النار ذات الوقود) ... يا رب يا ستار!
ربان بحر الوجود ... أدرى بموج البحار
فاستسلموا للوعود ... وامضوا مع التيار
هات اسقني يا صاح ... كأس الهوى الفضاح
سكران لكن فؤادي ... مما يعانيه صاح
يا ليل هل من مداو ... يا ليل، يشفي جراحي؟
لم يجد فيك اصطباري ... وليس يجدي نواحي
يا هل ترى لي صياح ... أم ليس لي من صباح
إنه مطلق غناء. لا تربط بينه قافية واحدة، ولا تربط بينه فكرة جامدة. إنما تربط بينه تلك النغمة المنسابة. نغمة الروح الحزين. العابث. المتطلع. الأليف. الوديع. روح الفراشة البضاء والعصفور والراقص المزقزق الصداح!
ومن هذا اللون والجو قصيدته: من الأعماق:
يا ليل هل ترثي لواجد؟ ... يا ليل أنت علي شاهد
أشكو الوسائد للمرا ... قد، والمراقد للوسائد
وجد أقض مضاجعي ... هيهات ينجو منه واجد
بيني وبين هواي أب ... عاد نضل بها المراصد
(عيسى) أخوك (محمد) ... وكلا كما: تبان وشائد
ما للنصارى في كنا ... ئس والحنائف في مساجد!
ما للرواشد ما لهم ... لا يصهرون مع الرواشد!
أو ليس آدم واحدا ... أوليس دين الله واحد
لم لا يكون الحب وه ... والأصل رائد كل رائد
من فك بين عرى القلو ... ب وشد من العقائد؟
ومن الذي خلى القوا ... رح لعبة بيد الولائد؟(945/3)
رفقا بأفئدة تحر ... ق في المجامر للمعابد
رفقا على الأنف الشكي ... م من الشكائم والمقاود
أصبحت من خوف القيو ... د أخاف وسوسة القلائد
جعلوا قواعد للحيا ... ة هل الحياة لها قواعد؟
يا قلب ويحك فاتئد ... يكفي الذي بك من مواجد
من ذا تناغى في دجىالل ... يل البهيم ومن تناشد؟
لغة البلابل أين تذه ... هب بين هدهدة الهداهد؟!
. . . الخ
فهنا كذلك تفوح رائحة الأسى والعتاب مضمخة بشذى الود والحب. . الحب الذي يلقى به الشاعر الحياة، وهي تفزعه وتروعه، فيغدو فيها كالطائر الحذر المفزع، لا يتم نهله من ري، ولا يأمن لروح من ظل، إلا وهو يتلفت ذات اليميم وذات الشمال
أصبحت من خوف القيو ... د أخاف وسوسة القلائد
وهي لمسة فنية بارعة متحركة لحالة نفسية فريدة في بضع كلمات ويبلغ الشاعر قمته في هذا المعنى أو قريب منه، وهو يرسم في قصيدة (ضحايا) تلك الصورة العجيبة، النادرة في شعر الإنسانية كلها، وهو يقول:
أحب أضحك للدنيا فيمنعني ... أن عاقبتي على بعض ابتساماتي
هاج الجواد فعضته شكيمته ... شلت أنامل صناع الشكيمات
ويبلغ الفن ذروته هنا في توافق الحركة الشعورية للشاعر والحركة الحسية المتخيلة للجواد. وتأخذ الحركة الشعورية في البروز والتجسم بتواكب الحركة الحسية ونبضها، حتى تنتهي بذلك الدعاء الكظيم: (شلت أنامل الشكيمات) فتبلغ ذروتها النفسية والفنية جميعا، وتترك في النفس إيقاعها الشاجي وصداها الحزين
والآن فلنصحب الشاعر في جولة أخرى. (على شاطئ النيل):
الكأس قبلك مرت في فم نجس ... وكيف تشرب منها بالفم الطاهر
يا نيل إن لم تطهرها فمعذرة ... إن عف عنها، وإلا عافك، الشاعر
ولا أزيدك لم الشاطئين وما ... عليهما اليوم من خاف ومن ظاهر(945/4)
عليهما الأمر يجري حسب ما سمحت ... به الرياح ولا ناه ولا زاجر
أقسمت يا نيل - لو تدري - لما التطمت ... فيك الشواطئ إلا بالدم الفائر
يا ليت شعري لمن تلك الكروم على الش ... طين تسبي القلب والناظر
في سندس من حقول الروض أبسطة ... بالدر قد فصلت واللؤلؤ العاطر
كأنها لوحة من عبقر رفعت ... في باب عبقر يستهدي بها الزائر
ما أجمل الأفق يبدو في شروقهما ... وفي غروبها غب السما الماطر
سرادق الظل في أفواف ظلهما ... كأنه أفق فجر غائم سافر
كأنه سحب من فوق مجمرة ... قد بات يشملها في كهفه ساحر
قل لي: أللشعب منها غير منظرها ... وسقيها أويد الحصاد والباذر؟
إن لم تدر بين أيدينا معاضرها ... فما أردت ولا دارت رحى عاصر
قم حطم الكأس أو فاملك مواردها ... أو فانس حقك إن الحق للقادر!
هنا تلتقي مواجع الشاعر بمواجع الشعب المحروم، وتلتقي آلامه بآلام الجماهير الكادحة؛ فترتفع نغمة الألم، وتشتد حرارة النفثة، وتتحول شواظا وضراما. ولكن الشاعر يظل يلقاك بروحه الشاعرة، وفنه الأصيل. سواء كان ذلك في تصوراته الشعرية ورؤاه، أم في الزاوية التي يطل منها على المشاهد والمرائي. فلا يسف ولا يجف، ولا يتحول فنه إلى خطابه جوفاء، وليس فيها سوى الجعجعة والضجيج!
وهكذا يثبت أبو الوفا أن الفنان الأصيل يملك أن يغمس ريشته في جراح الإنسانية، ومواجع الكادحين والمحرومين، ثم يبقى مع ذلك فنانا يحس بطريقته الخاصة، ويرسم بيده لا بيد العوام والأمين وهي ظاهرة أحب أن أبرزها هنا، لأن هنالك خلطا في هذه الأيام بين وظيفة الفنان ووظيفة خطيب الجماهير! في الإحساس بالآلام العامة. وفي طريقة التعبير عن هذه الآلام، تختنق في غمرتها روح التقدير الفني الصحيح
وبعد فليست (أنفاس محترقة) كلها من هذا الطراز الفني بطبيعة الحال، ففيها الأنفاس المشتملة والأنفاس الخابية، وفيها المقطوعات التي يصيبها الإعياء سواء في النبض أو في التعبير، وفيها المقطوعات التي يصعب أن تعدها من الشعر أصلا، ولكنني أحب أن أقرر بعد هذا كله أن شعر أبو الوفا (ظاهرة فنية) لها مظاهر قوتها الخاصة، ومظاهر ضعفها(945/5)
الخاصة. ظاهرة فنية مستقلة تستحق الدراسة في تاريخ الشعر العربي كله ظاهرة نية لم تدرس بعد حق دراستها لأن النقد الفني لم يكن من اليقظة بحيث يلتفت إلى الظواهر الفنية التي تولد بين الحين والحين
سيد قطب(945/6)
2 - مشكلة يهود اليمن النازحين إلى إسرائيل
للأستاذ عمر حليق
تقول النشرة الرسمية للمؤتمر اليهودي العالمي (ومركزه نيويورك) إن الدافع الرئيسي لهجرة يهود اليمن إلى فلسطين هو الاضطهاد الذي لحق بهم بعد حرب فلسطين، والمجاعة التي لحقت باليمن عامة ويهودها خاصة. أضف إلى لك النزعة الدينية القومية التي حفظها اليهود على مر الأجيال وهي (إن نسيتك يا أورشليم فلتشل يداي). هذا نوع من التضليل والدعاية المغرضة التي تشوب تصريحات أولي الأمر في اليهودية العالمية فقد استعرضنا في مستهل هذا البحث ما سجلته دائرة الأبحاث الشرقية في جامعة اليهود العبرية بالقدس وآراء مبعوثي الهيئات اليهودية إلى اليمن من حسن المعاملة التي لقيتها الطائفة اليهودية في اليمن قديما وحديثا. واضطهاد اليهود بدعة تتفنن القيادة اليهودية من أجلها شنت حملة غزو الأراضي المقدسة في فلسطين
والقول بأن في اليمن مجاعة ينفيه أن ما يعرف عن البلاد اليمنية من انتشار الرخاء فيها، فالبلاد اليمنية مزيج من الجبال الشماء والسهول الخصبة تتوف فيها المياه وتنتشر فيها الزراعة من أقدم العصور. وليس في سجل المعلومات عن اليمن أنها أصيبت بمجاعات
أما النزعة الدينية التي دفعت يهود اليمن إلى النزوح لإسرائيل فهي حقيقة لا تنكر. ولكن الذي أذكى نار الحماس اليهودي لغزو فلسطين هو ما أثارته الحركة الصهيونية العالمية في نفوس الجاليات اليهودية في الشرق والغرب من نار القومية اليهودية العنيفة
وليس أدل على لون الخداع والغش الذي يشوب أعمال الحركة الصهيونية من أن هجرة يهود اليمن إلى فلسطين لم تتحقق على هذا النحو من السرعة والإتقان إلا لأنهها كانت وليدة تدابير يرجع عهدها إلى سنين مضت قبل أن تدخل الدول العربية في حرب مع اليهود وقبل أن تولد الدولة اليهودية
وتشجيع الحركة الصهيونية ليهود اليمن على الهجرة غلى إسرائيل هو جزء من الخطوة التي ترمي غلى حشد أكبر عدد ممكن من يهو العالم في (أرض الميعاد) ليزدادوا قوة وعددا ويحققوا برامج بني إسرائيل في إقامة دولتهم في الحدود التي دونتها التوراة: (من ضفاف النيل إلى ضفاف دجلة والفرات. وم طرسوس إلى صحراء الجزيرة العربية) والمهم حين(945/7)
نستعرض هذه الناحية في قضية يهود اليمن أن نسجل أن عملية قد تمت بنجاح. فقد نقل اليهود الجزء الأكبر من أموالهم (ما خف حملة وغلا ثمنه) ويقول كاتب يهودي زار عدن أثناء اليهود فيها لركوب الطائرات التي نقلتهم إلى إسرائيل - يقول هذا الكاتب (في مجلة كونتري عدد يوليو 1951) إن القوافل اليهودية التي اجتازت حدود اليمن إلى عدن لم تلق أذى أو صعوبة. فلا الحكومة اليمنية وضعت في وجه هذه القوافل العراقيل، ولا قبائل البادية عارضوها، وكل ما فعله المشرفون على هذه القبائل اليهودية أن رشوا بعض المشاغبين مع رؤساء القبائل على حدود اليمن - عدن، فسهل هؤلاء لهم المرور أضف إلى ذلك المساعدة الأوربية التي وفرها حاكم عدن البريطاني أعوانه لحماية هذه القوافل اليهودية في ظل ما له هناك من سلطة ونفوذ
وكانت حين تصل قافلة من هذه القوافل إلى حدود عدن يتلقاها جماعة من يهود أمريكا وبريطانيا كان حاكم عدن البريطاني قد سمح لهم بتنظيم عمليات المعونة والإسعاف والراحة من عناء السفر. ولم تكن هذه القوافل لتنتظر كثيرا قبل أن تجلس في مقاعد وثيرة وفي طائرات ضخمة حديثة من نوع القلاع الطائرة التي وفرتها السلطات الأمريكية الرسمية (للجنة التوزيع الأمريكية اليهودية المشتركة) التي قامت بنقل يهود اليمن إلى (أرض الميعاد). والمشرفون على هذه اللجنة يهود أمريكانيون كان في استطاعتهم التنقل في عدن والسودان والصومال وإرتريا لأنهم من رعايا أمريكا ومن حاملي جوازات سفرها. وقد كلفت عملية نقل يهود اليمن حوالي (65) مليون دولار وهي جزء من التبرعات التي يقدمها يهود أمريكا للحركة الصهيونية - تبرعات مخصومة من ضريبة الدخل الحكومية المفروضة على الرعايا الأمريكان وفي مثل هذه الظروف المواتية نزح يهود ايمن إلى إسرائيل ودفعوا إلى مراكز التجمع لليهود القادمين حديثاً إلى إسرائيل وتكاثر عددهم حتى بلغ عشرات الألوف، ومن هنا نشأت المشكلة (اليمنية) في إسرائيل
أسباب المشكلة:
رأينا من مقدمة هذا البحث أن يهود اليمن كانوا قبل رحيلهم عنها في بحبوحة من العيش والرخاء الاقتصادي، وانهم كانوا ملاكا للأراضي الزراعية وتجارا وصناعا وصيارفة. وبالرغم من أنهم نقلوا معظم أموالهم (الخفيفة الحل الغالية الثمن) معهم إلى إسرائيل لم(945/8)
تسمح لهم الحكومة اليهودية بالتعامل التجاري أو بامتلاك الأراضي والاشتغال بالزراعة أو التجارة على نحو ما كانوا يقومون به في اليمن
والواقع أن الحركة الصهيونية لم تخدع العالم فقط بل خدعت اليهود أنفسهم. . ومشكلة يهود اليمن مثال لذلك
فقد كانت الدعاية الصهيونية في الجاليات اليهودية في اليمن تزين لهم (أرض المعاد التي تدر لبنا وعسلا) والتي تقام فيها شعائر المذهب اليهودي بدقة تامة. ولقد رأينا أن إذكاء الحماس الديني بين يهود اليمن من أهم الدوافع التي مكنت للحركة الصهيونية وأعوانها في محمية عدن من تشجيع يهود اليمن على الرحيل إلى إسرائيل. وعندما استقرت هذه الألوف من اليهود اليمنيين في (أرض الميعاد) تبخرت أموالهم حين كشفت لهم القيادة الصهيونية عن رغبتها الحقيقية في نقلهم إلى إسرائيل - وهذه الرغبة تتوخى جعل يهود اليمن مصدرا للعمل الرخيص في المصانع والمزارع اليهودية في إسرائيل، إذ أن العامل اليهودي المهاجر من أوربا يصر على أن ينالوا أجرا مرتفعا، الأمر الذي لا يشجع سياسة التصنيع والإنتاج التي تبتغي الدولة اليهودية جعلها أساسا لحياتها الاقتصادية وسياستها التوسعية في الشرق العربي
وغضب يهود اليمن حين اكتشفوا ذلك وسقط في أيديهم لأن أولي الأمر في الدولة اليهودية أصروا على التقييد من حريتهم في التجارة والزراعة والصناعة. ولم تكتف بذلك بل أصرت حكومة تل أبيب - وهي حكومة إلحادية النزعة - على أن يطلق يهود اليمن عاداتهم الدينية، ومنعوا من تربية أولادهم تربية وأرغموا على البقاء في معسكرات اللاجئين وحيل بينهم وبين الدخول في ميدان التجارية والزراعية
ثم جاء دور السياسية الحزبية فزاد المشكلة تعقدا. فليس يهود اليمن وحدهم هم الذين غررت بهم الحركة الصهيونية على هذا النحو، بل إنهم ويهود العراق وشملي إفريقيا وإيران سواء في هذه الخدعة التي تحاول أن تقيد حريتهم في مزاولة التجارة والحرف الناجحة - التي أتقنوها على حساب عرب اليمن والعراق وشملي إفريقيا - لتجعل منهم ذخيرة من الأيدي العاملة الرخيصة النفقات لتسد حاجة المصانع والمزارع التي تديرها الحكومة اليهودية أو الشركات الكبرى التي تمولها رءوس أموال يهود أمريكا وبريطانيا(945/9)
ومصر وجنوبي أفريقيا. أو ليست الحركة الصهيونية مغامرة اقتصادية سترت بلون من (الروحانية) والقومية اليهودية العتيدة لتحقيق السيطرة على صميم الشرق الأوسط في ملتقى القارات الثلاث؟
قلنا إن السياسية الحزبية في إسرائيل تدخلت في مشكلة يهود اليمن ويهود العراق وشمالي إفريقيا فزادتها نقدا. فلقد كان لأفراد هذه الجاليات ضلع كبير في أعمال الإرهاب والتجسس الذي ساد فلسطين قبيل المأساة. . . وكان من السهل على يهود البلدان العربية المقيمين في فلسطين أن يتسربوا إلى صميم القطاعات العربية لأعمال الإرهاب والغدر. وقد سهل لهم ذلك تمكنهم من العربية ولون بشرتهم وملامحهم الشرقية، والمكر والمواربة التي اشتهر بها يهود الشرق بصورة خاصة. وقد ساء أن تعاملهم الحكومة اليهودية الحالية هذه المعاملة بعد أن أبلوا في سبيل الصهيونية بلاء حسنا. فأخذوا في تنظيم جموعهم والسعي لإزالة هذه القيود التي فرضتها عليهم الحكومة اليهودية واشتدت غطرستهم، وقوى نفوذهم بعد التكتل، وأخذت الأحزاب في سعيها لاستمالة أصواتهم في الانتخابات تشمل الضغينة والحقد فيهم ضد الحكومة القائمة
ويستفاد من الأنباء التي تسربت من نطاق الصهيونية الحديدي في إسرائيل أن يهود اليمن والعراق وشمالي إفريقيا قد ثاروا مرتين خلال هذا العام. . . وفي كل مرة كانوا يحتلون المنازل ودور الحكومة وأماكن الاستراحة الشعبية إعرابا عن استيائهم. وفي إحدى هذه الثورات رجموا البوليس وأصيبوا بعد قتلي وجرحي. ولم يكتفوا بذلك بل إنهم حملوا شيكاتهم إلى معاقل الصهيونية في أمريكا وبريطانيا، ولكن سعيهم ذهب سدى. فصهيونيو أمريكا وبريطانيا من أشد اليهود تفهما لحقيقة أهداف إسرائيل لأن في كيانها منفعة اقتصادية كبرى. . ولن يسعى صهاينة أمريكا وبريطانيا في عرقلة برامج التوسع الاقتصادي اليهودي رأفة بيهود اليمن، والعراق، وإيران، وشمالي إفريقيا أو ليسوا هؤلاء أقرب عناصر الصهيونية إلى العرب لونا وتكوينا؟ وحكماء صهيون الذين خدعوا طوال هذه الأجيال أمكر من أن يتركوا يهود اليمن يفلتون من قبضتهم ترى هل يذكر هؤلاء اليهود الذين وقعوا في أحضان العرب واصبحوا في بحبوحة العيش وحسن الجوار ما قاله المثل العربي (على نفسها جنت براقش.)(945/10)
عمر حليق
نيويورك
للكلام صلة(945/11)
3 - الصلات الشخصية بالعباقرة
للأستاذ محمد خليفة التونسي
ومهما يكن من شيء فإنه يحق لنا بعد ما قدمنا (الرسالة العدد941) أن نتعبر العقائد سواء أكانت دينية أم سياسية أم فنية أم غير ذلك قيما وخصائص فردية وإن تكن ظواهر اجتماعية، فالدين، مثلا - ووظيفته الهداية والإصلاح - قد يعجز عن إصلاح المفسد وإرشاد الغوي، بل قد يزيدهما فسادا وغواية لأن الدين - ومثله كل عقيدة نوعها - ليس من الإنسان في البيئة التي حولها، أو أنه جانب من صورة هذه النفس، فإسلام النبي محمد صورة نفسه وإسلام عمر صورة نفسه وكذلك إسلام أبي بكر وعلي وخالد ومعاوية ويزيد وأب ذر والحجاج، وكذلك إسلام كل منتسب إلى الإسلام سواء أكان صالحا أم طالحا، كريما أم بخيلا، شجاعا أم جبانا، على اختلاف النفوس في الطبائع والأخلاق والأمزجة والمسالك في مختلف البيئات
فالإسلام مثلا دين واحد من حيث هو نظام معقول، أي من حيث يراه العقل، ولكن صورته التي يمثلها لنا محمد عليه السلام تختلف قليلا أو كثيراً عن الصورة التي يمثلها لنا كل واحد من أصحابه وأتباعه والمنتسبين إليه إلى اليوم، وإن كانوا جميعا مسلمين يسلمون بالمبادئ العامة التي جاء بها الإسلام، وما اختلفت صور إسلام هؤلاء جميعا كل عن الأخريات كما تبدو لكل متأمل إلا لاختلاف طبائعهم وأخلاقهم وأذواقهم وسائر ملكاتهم الخلقية والشعرية والفكرية
كل عقيدة من العقائد، وكل دين من الأديان طبعا - إنما هو نظام واحد من ناحية تعقله ليس غير، ولكنه من ناحية الإحساس والعمل به صور مختلفة متعددة بمقدار المنتمين إليه، وما من سبب لهذا الاختلاف والتعدد إلا اختلاف كل إنسان قليلا أو كثيرا عن الآخرين من حيث الطبائع والأخلاق والأذواق وما إليها اكثر من اختلافهم في الفهوم، وإن كان لاختلافها حظ في اختلاف الصور العقيدية، غير انه حظ ضئيل وقد يكون غير واقع، بل قد تكون العقول متأثرة لا مؤثرة ومسوقة لا سائقة خضوعا للأمزجة والبائع، فلا ترى العقول إلا ما تريها هذه، ولا تعقل إلا كما تشاء لها مما تقدر عليه وتريده وتؤخر ضرب الأمثلة الكثيرة لذلك، وحسبنا هنا مثلا النظر إلى عقيدة القدر لم يكن أحد يؤمن بهذه العقيدة ويتوكل على(945/12)
الله بكل ما في طاقته من توكل اشد من إيمان النبي محمد عليه السلام، ولكننا لا نجد أمراً من الأمور صغيرها وكبيرها عزم عليه قبل البعثة وبعدها إلا دبره فحزم تدبيره وأحكامه وهيأ له وسائله الدنيوية المألوفة كأشد المفكرين للقدر، وما ترك فجوة في خطة إلا حاول سدها بما بين يديه ومن بين يديه كان ليس لهذه الفجوة سداد إلا عمله وعمل من حوله. وما انتوى أمرا إلا أخطر لبصيرته كل احتمالاته، واستعد بكل أهبة في طاقته من الأهب المادية والمعنوية أشد واكثر مما يستعد لمثلها من لا يؤمنون بقوة غيبية
بينما الإيمان بهذه العقيدة عند الضعفاء الفارغين يدفعهم ويسوغ لهم أن يحملوا القدر أو المجتمع أو نحو ذلك كل مسئولياتهم وسخافتهم ورذائلهم، كأنما حاولوا وبذلوا كل ما وسعهم من حول وحيلة في سبيل أهدافهم، فحال القدر أو المجتمع أو نحو ذلك بينهم وبين ما إليه يهدفون
ولا يقتصر المر في ذلك على العقائد، بل هو عام في كل ما يخضع للإرادة والعواطف والأمزجة كالفنون
فالناس جميعا يؤمنون كل الإيمان بان الموت غاية كل إنسان مهما جل أو هان: وكذلك كان المتنبي وأبو العلاء المعري يعرفان، ويريان الناس وهم يتنازعون أعراض الدنيا ويقتتلون عليها. لا اختلاف على الشاعرين الحكيمين فيما يريان ويعقلان، ولكن هذا ينتهي مما يرى إلى نتيجة تناقض كل المناقضة النتيجة التي ينتهي إليها صاحبه
أبو العلاء المعري يرى ذلك فيزهد وييأس ويعدو الناس إلى الزهد واليأس. يقول:
(تجربة الدنيا وأفعالها ... حثت أخا الزهد على زهده)
وله؟ يجيب:
(لو عرف الإنسان مقداره ... لم يفخر المولي على عبده
أمس الذي مر على قربه ... يعجز أهل الأرض عن رده
أضحى الذي أجل في سنه ... مثل الذي عوجل في مهده
ولا يبالي الميت في قبره ... بذمه شيع أم حمده
والواحد المفرد في حتفه ... كالحاشد المكثر من حشده
وحالة الباكي لآبائه ... كحالة الباكي على ولده)(945/13)
ونحو ذلك، مما بين أن أسباب الزهد في الحياة عنده بل السخرية والتهكم بها إلى أن الفناء مصير كل خير وشرن، وحسن وقبيح
(زحل أشرف الكواكب طرا ... من لقاء الردى على ميعاد
ولنار المريخ من حدثان الد ... هر مطف وإن علت في اتقاد
واللبيب اللبيب من ليس يغتر ... يكون مصيره للفساد)
وكذلك
(سيسأل قوم من قريش ومكة ... كما قال قوم من جديس ومن طسم)
فكل عمل يقوم به الإنسان جهد ضائع يتلوه جهد ضائع لا يستحق الأسف
(تعب كلها الحياة فما أع ... جب إلا من راغب في زدياد
أسف غير نافع واجتهاد ... لا يؤدى إلى غناء واجتهاد)
إلى مئات الأبيات في هذا المعنى ونحوه والأسباب واحدة والنتيجة واحدة
والمتنبي يرى ما يرى، ومن السباب التي يستنتج منها المعري وجوب الزهد ويستنتج هو وجوب الإقبال على الحياة والانغماس في معاركها على قدر الطاقة. فيقول:
(وإذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم)
ولماذا؟
(فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم)
ويقول:
(صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ... وعناهم من شأنه ما عانا
وتولوا الناس قبلنا كلهم من ... هـ، وإن سر بعضهم أحيانا
ربما تحسن الصنيع ليالي ... هـ ولكن تكدر الإحسان)
وليس الإنسان ضحية شرور القدر وحده، بل ضحية شرور أخيه الإنسان أيضاً، واتخاذه من كل وسيلة للخير وسيلة للشر
(وكأنا لم يرض فينا بريب الد ... هر حتى أعانه من أعانا
كلما اثبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا)
وهل المغنم الذي يجتنيه الإنسان من وراء كل ذلك يستحقه هذا العناء؟ ولا، والمتنبي لنا(945/14)
ذلك
(ومراد النفوس أصغر من أن ... نتعادى فيه وان نتفانى)
وإذن أفتزهد في هذا الصغار أيها الحكيم؟ ذلك ما ينكره المتنبي اشد الإنكار، ويحرمه كل التحريم، ويعتده كفرا:
(غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحات ولا يلاقي الهوانا
ولو أن الحياة تبقى الحي ... لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بد=فمن العجز أن تكون جبانا)
وماذا من العذابات التي نلقاها من مخاوف الموت ووقعه؟
لا داعي للتردد حيالها فهذه أوهام:
(كل ما لم يكن من الصعب في الأن ... فس سهل فيها إذا هو كانا)
أو كما قال في موضع آخر:
(فما الخوف إلا ما تخوفه الفتى ... ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا)
أو كقوله في غيره:
(والأسنى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق)
ويكرر المتنبي ذكر الأسباب نفسها في عشرات المواضع من ديوانه، وينتهي إلى هذه النتيجة نفسها كقوله:
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه)
وما نتيجة ذلك أيها المتنبي؟
فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه.
وإذا فليست الغيرة في الحياة بما نرى وما نريد أو لا نريد، ولكن الغيرة بالدوافع والأمزجة فهي التي تحدد المذهب والإحساس والنظر، والمعري والمتنبي كلاهما صادقان فيما يحسان وما يقولان، وكل منهما في كل ما يقول وفي لمزاجه، وفي لمذهبه ودوافعه في الحياة، فلا(945/15)
تناقض بينهما في منطق العواطف، وإن تناقضا في النظر العقلي المجرد، وإذا كان المنطق العقلي المجرد لا يحتمل أكثر من نتيجة واحدة ومذهب واحد إذا تحدث الأسباب؛ فإن منطق العواطف يتسع لملايين الملاين من النتائج والمذاهب المتناقضة بقدر عدد النفوس العاطفة، ومنطق العواطف أصدق من كل هذا التناقض من كل منطق عقلي مجرد ولو كان أحكم الحكماء
والناس جميعاً في ذلك على نحو المعري والمتنبي كما يظهر من دراسة أحوالهم في كل زمان ومكان.
فيقول طرفة بن العبد على نحو قريب من نحو المتنبي لمن لامه في المغامرة بنفسه في الحرب والإسراف في اللذات
(ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وإن اشهد اللذات هل أنت مخلدي
إذا كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي)
كما يقول أبو العتاهية على نحو قريب من نحو المعري:
(لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكمو يصير إلى ذهاب)
أو قوله:
(أيلهو ويلعب من نفسه ... تموت ومنزله يخرب)
أو قوله:
(بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح
كلنا في غفلة والم ... وت يغدو ويروح
نح على نفسك يا مس ... كين إن كنت تنوح
لنموتن وإن عم ... رت ما عمر نوح)
أو كقوله:
(ألم تر ريب الدهر في كل ساعة ... له عارض فيه المنية تلمع
أيا باني الدنيا لغيرك تبتني ... ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع
أرى المرء وثابا على كل فرصة ... وللموت يوما - لا محالة مصرع)
وحب النفس مثل آخر لما يتصل بالطبائع والأخلاق والعواطف، فهل يتأدى بنا جميعا إلى(945/16)
مذهب واحد؟ لا، بل يذهب بالناس مذهبين كل منهما يناقض الأخر كل المناقضة، والأمر فيه كالأمر في القدر، وموقف الإنسان من الحياة، ويلخص لنا المتنبي هذين المذهبين من وراء حب النفس تلخيصا حكيما، ويمهد له، ويعقب عليه، فيقول:
(أرى كلنا ينبغي الحياة لنفسه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده البقا ... وحب الشجاع أورده الحربا
ويختلف الرزقان، والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنيا)
وأذكر أني قرأت قصة أوربي لا يحضرني الآن أسمه ولا اسم قصته. . تدور حول قسيس رأى امرأة تزل أحيانا، ففكر أن يهديها، وارتحل إلى إيطاليا في أمر وفكر في هدية يهديها إليها بعد عودته، فلم يجد امرأة ميتة، ففرح بها إيمانا منه بأن رؤيتها الجمجمة تذكرها بالموت فترتدع عن غيها، ولكن ما إن سلم إليها الهدية الثمينة حتى رآها تغرق في الفساد وتزداد ضلالا وغواية، وعجب من ذلك إذ رأى من مسلكها عكس ما كان يرجو، فلما سألها عن ذلك أعلمته أن رؤيتها الهدية قبلها تفارقها دون أن تنغمس فيها. . ذلك أنها فكرت فانتهت إلى أنه ما دام مصيرها كمصير هذه الجمجمة فأحر بها إلا تحرم نفسها إرضاء شهوة من الشهوات، وهذه دون شك نتيجة لا تزيد غرابة عن النتيجة التي كان ينتظرها القسيس الأريب وهي تعففها عن الشهوات. نتيجتان ليست إحداهما بأرجح من الأخرى. . ولا أدنى إلى العاطفة والعقل، لأن العبرة في أعمال الإنسان بدوافع حياته وطبيعته ومزاجه وحاجاته وشهواته، لا بعقله ولا بمذهبه الديني والسياسي ولا بما يسره أو يسوءه، فما دينه ولا وطنيته ولا عواطفه ولا أقواله وأعماله وآراؤه إلا صورة نفسه، وكلها معلومات وكلها حتى دينه إنما منزلتها بمنزلة الإناء الصافي من الشراب لا يتلون إلا بلونه، ولا ينضح إلا به
محمد خليفة التونسي(945/17)
خواطر في كتاب الله
آداب السلوك
للأستاذ محمد عبد الله السمان
إن للمجتمع تقاليده، وللسلوك آدابه، ولهذه التقاليد والآداب احترامها، ولا يحاول الشذوذ عنها إلا أولئك الذين نكبوا بقصور في عقولهم، وسقم في ألبابهم، وعتو في تفكيرهم
وتربية القرآن النفس على مراعاة المجتمع وآداب لسلوك فيه تقديرا وإكبارا له - ولا جدال في أن العجب لآخذ منك مأخذه حين ترى القرآن يلم بهذه الآداب دون أن يغادر منها صغيرة ولا كبيرة، محاولا صقل النفس بالذوق السليم وطبعها بالطابع المحمود
فالجالسون يجب عليهم أن يتفسحوا في المجالس ليجلس القادمون، وينهضوا وقوفا إذا لم يكن هناك أماكن لجلوسهم، لأن الذوق السليم والمروءة تقتضيان هذا وتحتمانه عليهم:
(يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فأفسحوا يفسح الله لكم، وإذا قيل انشزوا فانشزوا، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات. . .) والزائرون يجب عليهم الاستئذان قبل الدخول، والتسليم إذا أذن لهم - كما يجب عليهم المبادرة بالرجوع من حيث أتوا إذا لم يجدوا أحدا، أو وجدوا ولكن لم يؤذن لهم، وذلك أصون لكرامتهم وعورهم، واكرم لشرفهم ومروءتهم:
(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون - فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا، هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم)
والخدم والأطفال يجب أن يكون لاختلاطهم بالنساء والفتيات حد داخل البيوت، وإن كانت المصلحة تقتضيه، فأوقات النهوض من الفراش، والإواء إليه أوقات دقيقة قد تكون كل من المرأة والفتاة فيها بحالة لا يحسن رؤيتها عليها:
(يا أيا الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانهم والذين لم يبلغوا الحلم منك ثلاث مرات: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم، ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن، طوافون عليكم بعضكم على بعض، كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم)(945/18)
ويعيب القرآن سلوك الذين يتهاونون في مروءتهم، ويتحايلون في أن يدعوا إلى الموائد، فتراهم يتربصون بالأطعمة، فإذا ما تم نضجها تعللوا بالزيارة وغيرها، وسهموا في تناولها. وليتهم يقفون عند هذا الحد، ولكنهم يأبون إلا أن يقاسموا أهل البيت أوقاتهم مستبدين بها، غير مبالين بأن في هذا إيذاء لهم وإهانة لأنفسهم: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا، ولا مستأنسين لحديث. إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم، والله لا يستحي من الحق. . .) وليس من أدب السلوك ولا من حسن التصرف أن يأتي الإنسان البيت من ظهره، فإن في هذا قلبا للأوضاع ولا أن ينادي أهل المنزل من وراء الحجرات، فان فيه إحراجا لشعورهم واستخفافاً بأقدارهم: (وأتوا البيوت من أبوابها - إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم.)
ومن الفظاظة التي يمجها الذوق السليم أن لا يحترم المرء من يكبره مقاما أو سنا وعلماً، فيرفع صوته فوق صوته، ويناديه مناداة فيها كثير من التهاون، كما ينادي إنسانا عاديا: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم - لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا. .) ومن الفوضى أن تهاون الإنسان في آداب الاجتماعات، ومن أهم آداب الاجتماعات الاستئذان من الرئيس، والشذوذ عن الإجماع، وانتهاز غفلة الرئيس للهرب من القاعة متسلالا، ولا سيما في الاجتماعات المهمة التي تتعلق بشؤون الأمة وحياتها: (إنما المؤمنون الذين آمنوا باله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامعه لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم - قد يعلم الله الذين يتسللون منك لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)
وللحديث آداب يجب أن تقدر، والاستهانة بها مما يجعل المستهين مستهيناً في نظر الناس. وليس من آدابه في شيء أن يأخذ بعض الجالسين من المجلس، فيتحدثوا سرا بما شاءوا أن يتحدثوا، فتدب الفوضى في الحديث، كما يدب القلق في نفوس الكثير:(945/19)
(إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا، وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
وما أهون أولئك الذين لا يؤمنون بآداب السلوك في الشارع، فإذا سار أحدهم أمال خده تكبرا، وإذا مشى اختال في خطواته عجبا، ولم يقصد في مشيته ولم يغضض من صوته:
(إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا - ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا، إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)
وما أعجب أولئك الذين لم يحفلوا بآداب الأخوة الإنسانية وخيل إليهم أنهم فوق الناس وأسمى منهم، وهان عليهم أن يسخروا من البعض. ويعيبوه ويستخفوا به حتي في مناداته، فتراهم ينادونه بالألقاب التي تسيء إلى نفسه وإنسانيته:
(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. .)
والأخوة الإنسانية تفرض على الإنسان تحية أخيه عند لقائه كما تفرض على الآخر رد التحية بخير منها، أو على الأقل بمثلها. . وذلك ضمان لبقاء الرابطة متينة قوية:
(وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها، إن الله كان على كل شيء حسيبا)
للحديث صلة
محمد عبد الله السمان
القاهرة(945/20)
مع شوقي الخالد:
مسرحية مصرع كليوباترا
للأستاذ حسين كامل عزمي
مقدمة:
المشهور أن المسرحية فن غريب على الأدب العربي والنقد الأدبي الحديث منوط به البحث عن سبب هذه الظاهرة، بخاصة إذا عرفنا أن الأدب المسرحي في أصيل الآداب العالمية، ففي أدب اليونان القدماء نجد المسرحية مكتملة العناصر إلى حد كبير حتى أن أسس المسرحية التي وضعها أرسطو في بحثه في الفن، كانت - ولا تزال - من عمد الفن المسرحي. .
وتاريخ الفن المسرحي الحديث في مصر لا يزال في حاجة إلى تأريخ مدون. . . ولعل أقرب تاريخ لهذه الحركة الحديثة هو مقدمة مسرحية (أوديب) لتوفيق الحكيم. . ومنها نعلم أن المسرحية الحديثة قد بدأت معتمدة كل الاعتماد على الآثار الفنية للمسرحين: الفرنسي والإنجليزي. . . وخاصة آثار القطبين: موليير وشكسبير. .
وإن كان المصريون وقد شاركوا فيها متاخرين، فإن مشاركتهم تلك كانت تأثرية لا فنية، كما اعترف الأستاذ الحكيم في مقدمته السالفة الذكر
بيد أننا نستطيع أن نلمح حركة تسعى نحو التقدم بفضل جهود ركني المسرح المصري الحديث من الفنانين الأدباء، ونعني بهما شوقي في مسرحياته الشعرية، وتوفيق الحكيم في مسرحياته النثرية. . . ملاحظين أن فن الحكيم في المسرحية أثبت قدما، فمواطن الإجادة عنده نراها متميزة جلية، في حيوية الشخصيات وفاعلية الحوادث، ونبض الجو بالحياة، والقوة التأثيرية الكامنة في الحوار. .
كذلك نلاحظ أنه - أي الحكيم - لا يعتمد اعتمادا كليا على التراث التاريخي في مسرحياته، كما فعل شوقي. . .
1 - طبيعة الحوادث:
الفصل الأول - المنظر الأول: يبدأ بنشيد شعبي، المقصود منه شيئان: أولهما التمهيد(945/21)
للحديث عن الحركة الوطنية (بين حابي وديون وزينون)، وثانيهما التلميح إلى وفاء شرميون للملكة. . . وإذن فقد وفق في الإفادة من هذه الحادثة، وبعد ذلك تظهر هيلانة. فيمهد شوقي في كلمة لامحة من حابي، لعاطفة الحب التي استغلها في توضيح جانب عاطفي من الملكة، وجانب الوفاء من هيلانة للملكة. . ثم همس زينون لنفسه وتجاذبه أطراف الحديث مع حابي، والتمهيد من هذا للإيحاء القوي، الذي أراد شوقي أن يبسطه على الجمهور، فهو كما سنرى يحاول أن يضع في شخصية الملكة شيئا يشبه المغناطيسية الجنسية، ابرز تعلق زينون - وهو شيخ - بها. . . ثم افتتان حبرا الساحر بفتنتها، حين تغني بجمالها وتغزل. . بدلا من أن يرجم لها بالغيب. . ناهيك عما صوره من وله أنطونيو بها. . . مما لا مزيد عليه، ثم عطف أونبيس بعد ما أبدى بغضه، وشدة إخلاص وصيفاتها، وشاعرها، ومضحكها. . . حتى لقد كان شوقي أن يخلق لنا دراما أخرى في طيات الدراما الأصلية ليحقق هذا الغرض - غرض وصف إخلاص خدمها لها - ونقصد به، أي بالدراما الأخرى، انتحار هيلانة، رغم وجود عاطفة بينها وبين حابي. . ولكنه استدرك استدراكا - ليته ما استدركه - فلقد تخبط فيه بعد أن حله بمعجزة. . .! (معجزة حقة النجاة التي أعطاها أوبيس لحابي حتى تنجو هيلانة بعد ذلك. .) ويكفي هذا المنظر لنعلم إلى أي حد كان شوقي حريصا على أن تكون الحادثة التي يردها مؤدية إلى أهدافها التي يرمي إليها، فطبيعة الحوادث كانت منتقاة خاصا، في شيء كثير من الاصطناع والتعمل، الأمر الذي يبعد المسرحية عن الجو الواقعي الطبيعي إلى حد كبير. .
زد على هذا الخطأ الذي ارتكبه في اعتماده على المعجزة كما قدمنا
ب - طبيعة الحوار:
يتميز الحوار في مسرحية كليوباترا بقوة في واقعيته وطبيعة تكوينه حينا، ويضعف في واقعيته وطبيعته حينا آخر. . ومرد هذه الذبذبة بين القوة والضعف شيء واحد، وهو تمكن شوقي من ناصية النظم. . .
إذ أنه عندما يستهويه معنى من المعاني يخرج عن طبيعة الحوار، إذ يغربه ذلك بالاسترسال، فيطيل إطالة غريبة شاذة عن الواقعية في فاعلية الحوار، وحركته الجدلية الطبيعية، وتجاوبه المألوف. . خذ مثلا حوار أوروس وانطونيوس ابتداء من ص 58، فإن(945/22)
مشاركة أوروس في الحوار لا تتعدى خمسة أبيات على حين أربت أبيات انطونيوس على السبع صفحات. . . لا لشيء إلا لأن شوقي يريد أن يفرغ جعبته من الألفاظ الحربية المستمدة من الثقافة العربية الصرفة، غير بال بخرقه لقواعد المنطق السليم فيما يكون بين المتحاورين. . . على حين أنه - كما قدمنا - كان يمتلك ناصية الحوار حتى ليصل به إلى قوته الواقعية بنفس الملكة - ملكة النظم. . .
فنراه مثلا يدير دفة الحوار في سرعة، وتجاوب، وتفاعل. . . فلا تزيد العبارة عن لفظة، ويكتمل المعنى في كل ذلك، ومثلنا على ذلك الشواهد التالية:
يا ابنتي ودي هلما زيناني للمنية
غسلاني طيباني بالأفاويه الزكية
ألبساني حلة تعجب أنطونيو سنية
من ثياب كنت فيها أتلقاه صبية
ناولاني التاج تاج الشمس في ملك البرية
وانثرا بين يدي عرشي. . الرياحين البهية
. . . إنما نرى أن شوقي قد ركز شاعريته على الفصل الرابع فهو قد كان يعلم - وهو الشاعر المقتدر الأريب - مبلغ تأثير خواتيم الأحاسيس في النفوس
لقد كان يعلم أنه - لا بريق الفظ ولا رنين الجرس، ولا تصوير عظمة الملك. . . بأدوات كافية لإثارة العطف على البطلة. . وإنما يحدث هذا التأثير تصوير جوانب الضعف الإنساني
ج - لمحات نفسية:
ج - الفنان الذي يقدم للمسرح إنتاجه مطالب من الوجهة النفسية بشيئين:
أولهما: الفهم العميق للحركات النفسية لأبطال مسرحيته، وثانيهما التنبه لمواد التأثير في نفوس النظارة، الذين يتلقون هذه المسرحية بما يتفق والغرض الذي يرمي إليه من إثارة نفوسهم. . . وبمعنى آخر، فيما يتصل بموضوعنا. نريد أن نقول إن شوقي مطالب - إلى جانب فهمه لشخصيات أبطاله - بأن يوجه أدوات التعبير وجهة تأثيرية قوية، على من يطمع في رضائهم عن أبطاله، بما يحقق هدفه. . . وهدف شوقي في هذه المسرحية، فيما(945/23)
يبدو، هو تبرئة ساسة كليوباترا. . فكيف تأتى له ذلك. .؟
لقد اهتم اهتماما واضحا جليا بمس الجوانب الأنسانية من شخصية البطلة. . جعل لها بريقا. . ثم أطفأه. . وإن (المصائب المنزلية، والحوادث الاجتماعية لا تدهشنا حقيقة كما تدهشنا مصائب الملوك، ومخاطر الأبطال، وحوادث القصور. . ولكنها تؤثر فينا كل التأثير، لاتصالها بنا، واقترابها منا. .) كما يقول أستاذنا المتمكن الزيات بك في بحثه الفريد عن الرواية المسرحية في التاريخ والفن
لقد بث شوقي في تضاعيف شخصية البطلة كل ما يمكن بثه من خصائص الأنثى الجذابة المحبوبة العاطفية، ثم بالغ في لمس حياتها الحزينة، التي تستثير العطف والرثاء. . . فقد بدأ الفصل الرابع، واستلهم أسلوب المفاجأة العاطفي (الرومانس) وأجرى على لسان كليوباترا صرخة المرأة التي سلبت حبيبها، وتفردت بالألم. . ثم أجرى حديثا بينها وبين وصيفتها، ليس فيه شيء مما يكون بين السيد والمسود، فتركها إنسانة مجردة من كل شيء إلا من إنسانيتها. . . ثم صور أسى العظيم المهزوم حين تسمع كليوباترا دبيب حارس الأعداء فتقول إنه (معربد الخطو من نشوة النصر لا تسع الأرض رجليه من كبر) حتى إذا حادثها الحارس صانعته في غي كبر الملك، ثم تلتفت إلى وصيفتها قائلة:
يا شرميون تعلمي الدنيا ويا ... هيلانة اختبري الزمان القاسي
إن التي حرست بأبطال الوغى ... باتت تصانع سفلة الحراس
حتى إذا ما جاء حابي صالحته مصالحة الإنسان للإنسان، لا مصالحة الملك لفرد من الرعية، تقول:
وفيت لي حابي ولم تكن تفي
ثم تتلطف مع خادمتها فتقول للوصيفتين:
يا خادمي، بل ابنتي، تلطفا ... في البحث حتى تاتيا بإياس
وتقول:
يا ويح صحبي بعد طول سرورهم ... قعدوا إلى أحزانهم يبكون
وتقول:
أنشو. . يعز على إنك ساهم ... يبدو عليك الهم والتفكير(945/24)
البقية في العدد القادم
حسين كامل عزمي
السويس(945/25)
4 - رحلة إلى ديار الروم
السيد مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
الشيخ بستسكري محلا في المركب، وشروعه في السفر إلى مصر بحرا:
(وبت ليلة الجمعة في (قاسم باشا) لدى صيدقنا الحاج محمد اليالقجي، لدعوة سابقة لجل حضور زواج ابنته، ثم بت ليلة السبت لديه أيضا لخلوصي في مودته، واستكرينا محلا في المركب المسافر لديه، وكانت هاتان الليلتان باجتماعنا بالوالد السيد محمد عقود اللبثين واخبر في الليلة الأولى أن بعض الناس دخل في بغاز الأندلس لمدائن لا تحصى، وعاين فيها غرائب لا تستقصى، وحدث بما لم يسمع وفي الكتب لم يودع، وان رسالة العرائس، وشرح الصلوات البشيشة المسمى بالروضات العريشة نقلت منها الطائفة الحناينية نسخا كثيرة وكذلك الابتهالية التي مطلعها (يا رب بالذات العلية)
(وفي الليلة الثانية كانت المذاكرة في الكنز المطلسم والاسم الأعظم، وكنت أسمعته الكتابة التي كتبتها في الجزء الثاني، من (شرح الورد السحري) الرباني على الاسم الكريم فقال لم يبق في هذه السطر القليلة، ما يحتاج لذكره إلا ذكرته بعبارة قصيرة غير طويلة، وأسمعته في ذلك المجلس النبوية المسماة (بجريدة المآرب، وخريدة كل شارب) فقال لم أر فيها رأيت صلوات أجمع منها فإنك ذكرت فيها الآل والأصحاب، والخلفاء الأنجاب، والمجتهدين الأقطاب، والختم وأعوانه الأنساب
وبت عنده قبل هذه الجمعة ليلتين، طيبتين، وحدث فيهما من أخبار الخليفتين، الممهد والمهدي الأنورين والأفخرين. وفي ليلة الاثنين دعانا مصطفى بن كشيش للعشاء عنده صحبة الوالد، ثم ودعنا الداعي بعد المبايعة)
(وسرنا معه (أي الداعي الحاج مصطفى بن كشيش) وبعض المحبين إلى البحر وبتنا في المركب بعد الودع بليلة متسعة وجاءنا في الصباح الأخ الملتاح الشيخ ذروق، والحاج مصطفى المشوق، والأخ الشيخ عبد الوهاب التميمي الخليلي، وغيرهم من أحباب، وجاءني تابع ابن العم الملا محمد بالمقامة الشامية والمغربية السامية، وطلب الاندراج في سلك أهل المعراج، فأجبته لطلبته، وأسعفته برغبته)(945/26)
الشروع في السفرة البحرية - من الأستانة إلى الإسكندرية:
(وسرنا قبيل الظهر من (بشك طاش) إلى (قوم لي) والعقل من الفراق طاش، وبتنا في أكنافة وقد حفنا الله بالطاقة، ووجهنا دفة الانكسار إلى ناحية (بغاز حصار) وأقمنا الثلاثاء والأربعاء، وفي الإقامة نرجو السلامة لما الفؤاد وعا، ورحلنا عند يوم الخميس متوجهين إلى مسامته جزيرة (ساقز) ولم نقف عندها حتى أتينا (أستن كوي) وقاربنا حداها وأقمنا لدى (قره باغ) ثلاثة أيام، وسرنا في اليوم الرابع من خلف (رودس) بسلام، ودخلنا الإباحة ونحن في بسط وراحة، ودارك المولى بالعناية ومن بفضله بالرعاية، فطوى شقة المشقة الطويلة وجاد بإمداد مآثر جميلة. وكان صديقنا المجد السعيد الشيخ خليل أفندي أبو سعيد، مفتى الديار المقدسة حالا، أصلح الله منا ومنه مآلا وحالا، ممن نزل في المركب المذكور، طالبا المنزل المعمور، وصحبته الشاب النجيب الحميم السيد إبراهيم نجل المرحوم الشيخ موسى الفتياني منح التداني)
(وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين من شهر رجب وصلنا الإسكندرية المحروسة ذات الوهب ولما وصلناها وحللنا فناها جاءنا أرباب المكس (الجمرك) والنكس، الذين قرب زوالهم دون لبث ومكث، لأنهم أهل وعقد ونكث، وفتشوا الأثواب ورموا البعض على التراب، فتغير الفؤاد، من فعل هؤلاء الأوغاد معنا ومع جملة العباد، ورجونا الولي الجواد بدفع هذه الأنكاد، عن أمة الهدى والرشاد، وتقريب زمن الإسعاد، بظهور نورد ممهد البلاد والأغوار والأنجاد، بجاه سيدنا محمد سند الأفراد وآله وصحبه الأجواد)
وصف الرحالة الأندلسي أبن جبير (لجمرك الإسكندرية) قبل
الشيخ البكري بخمسمائة وسبعين سنة!
لعل من الطريف أن نأتي هنا على ذكر ما قاله ابن جبير الرحالة الأندلسي، على جمرك الإسكندرية، فنرى أن الحال لم تتغير كثيرا في معاملة الوافدين على ثغر الإسكندرية، مع اختلاف العهدين:
قال أبن جبير في رحلته طبعة 1326. ص - 7 (شهر ذي الحجة من السنة المكورة (578 هـ 1182 م) أوله يوم الأحد ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية، فمن أول ما شاهدنا فيها(945/27)
يوم نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها، لتقييد جميع ما جلب فيه، فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحدا واحدا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم وأسماء بلادهم وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناص ليؤدي زكاة ذلك كله دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو لم يحل، وكان أكثرهم متشخصين لأداء الفريضة لم يستصحبوا سوى زاد لطريقهم فلزموا أداء زكاة ذلك دون أن يسال هل حال عليه حول أم لا، واستنزل أحمد بن حسان منا، ليسأل عن أنباء المغرب وسلع المركب، فطيف به مرقبا على السلطان أولا ثم على القاضي ثم على أهل الديون، ثم على جماعة من حاشية السلطان، وفي كل، يستفهم ثم يقيد قوله: فخلى سبيله، وأمر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم ويحمل جميع ما أنزلوه إلى الديون فاستدعوا واحدا واحدا وأحضر ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص بالزحام، فوقع التفتيش لجميع الأسباب ما دق منها وما جل، واختلط بعضهم ببعض وأدخلت الأيدي إلى أوساطهم بحثا عما عسى أن يكون فيها ثم استحلفوا بعد ذلك، هل عندهم غير م وجدوا لهم لا؟ وفي أثناء ذلك هب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام، ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم، نسأل الله أن يعظم الآجر بلك، وهذه لا محالة من الأمور الملبس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين، ولو علم بذلك على ما يؤثر عنه من العدل وإيثار الرفق لأراك ذلك، وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة واستردوا الزكاة على أجمل الوجوه، وما لقينا ببلاد هذا الرجل، ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة التي هي من نتائج عمال الدواوين). انتهى ابن جبير
الشيخ البكري يزور الإسكندرية
ولنرجع الآن إلى الشيخ البكري فإنه بعد أن قاسى على أيدي أرباب المكس في الإسكندرية ما قاسى يقول:
(واجتمعنا بالصالح الفالح الذي على الفضائل حاوي، الشيخ مصطفى الشعراوي، خطيب سيدي عبد الله المغاوري فأنزلنا داراً قريبة من داره، فقر بها قراري، وكان رفيقنا السيد إبراهيم الفتياني هو المعرف والدليل للمنزل الثاني)
(وفي يوم الثلاثاء ضحوة النهار توجهت إلى زيارة رجالها الأخيار، فأول من زرته منهم(945/28)
رضى اله تعالى عنهم، جناب سيدي عبد الله المغاوري، ثم زرت الموازيني ونزلت لدى سيدي محمد شرف الأبو صيري وصليت ركعتين، وزدت بعده جناب سيدي الإمام أبا العباس أحمد بن عمر الأنصاري، خليفة الأستاذ الملاذ الولي، سيدي أبي الحسن على الشاذلي، وزرت ضريحا لصيق ضريحه الطيب المهاب، يقال إن فيه من له إليه انتساب، ثم توجهت على الأقدام لزيارة سيدي ياقوت العرشي، ثم زرت سيدي مكين الدين الأسمر الأزهر، والأنور الأبدر الأقمر، وغيرهم من سادات أعيان
(وفي صحوة يوم الأربعاء توجهت لزيارة رجال العتيقة فرأيت آثار سورها مهدمة، كادت تكون منعدمة، ونرجو لها العمار وتشعشع الأنوار في تلك الديار، فإن آية ليل محاسنها محيت بها والدمار، حتى كأنها لم تكن في سالف الإعصار، وذهبنا إلى جامع العطارين، وزرنا المصحف العثماني، وزرنا الشيخ عبد الرزاق الوفائي، والشيخ علي البدوي والشيخ مفرح وأبو غزالة، والشيخ جابر والشيخ يعقوب والشيخ صفوان والشيخ العجمي، والصوري والفتياني؟ وجامع العطارين الثاني، وغيرهم من أرباب تداني وأصحاب تهاني)
في مدينة رشيد:
(وفي يوم الخميس توجهنا صحبة أصحابنا من كل رئيس نحو (رشيد) التي ساكنها رشيد، وصلينا الظهر لدى الجبانة، وزرنا الشاطئ رفيع المكانة، وقطعنا المعدية ليلا بعد اللتيا واللتي، وسلمنا على تلك المعاهد وبتنا مع مفتينا السابق، الذي للمحامد يسابق، في الوكالة وبعد صلاة الصبح توجهنا نحو (رشيد) مستمدين من أهلها السادة أهل المكانة والجلالة، في (وكالة الباشا) وفي الطبقة العالية مع رفاقنا أهل المراتب الغالية، وحصل بعض مطر، منع من زيارة ساداتها أرباب المقام الأعظم، ثم أنا في ظهر يوم الاثنين المبارك توجهنا صحبتهم في معاش في المسير نتشارك، ونزلنا إلى زيارة الشيخ محمد أبي العباس الباني مرتبة التداني على أساس، وصليت لديه الظهر جامعاً للعصر مقلداً للأمام ابن إدريس رفيع القدر منيع النصر، ثم أهديت بقية رجالها الفواتح كالمحلاوي وأبو الريش والعرابي وسكان كوم الأفراح ولما سامتنا الشيخ أبا منصورة قرأنا له الفاتحة، وما زلنا إلى الساعة الرابعة من الليل باللبان نسير، إلى أن وصلنا بمعونة الكبير إلى مساواة (محلة الأمير) ولم ننم إلا اليسير، خوفاً من طروق سراق، لهم باع فيه الغير فاق، واخبرنا أنهم ربما هجموا على(945/29)
المعاش والتجأنا إليه في رد كيدهم في نحورهم، وجدنا في الصباح أقاح برد حادق، يرد الغرزان من الغلمان إلى مرتبة البوادق، وكنت وضعت في البحر المالح ورداً يناسب استعماله فيه وللحلو صالح، ووسمته (بالجوهرة الثمينة. . فيما يقول راكب السفينة)
(ومررنا ضحوة النهار على سيدي محمد الهلابي ودفينه والشيخ يوسف المغربي، وسيدي علي الخزرحي، وسيدي عبد الوهاب أبي مخلوف والشيخ عامر والبهيسي، فقرأنا لكل منهم الفاتحة وهاج عند الظهر ريح في وجهنا شديد، فربطنا لما لم نستطع المشي الذي ملقه نسميها للقر مفيد، وعند الغروب سرنا لما سكن ذاك الهوا الهبوب، ومازالوا يجرون اللبان، إلى أن عمود نصف الليل بان، وربطنا عند صليبة، ورجال لنا بالبر مجيبة، وبعد بزوغ الشمس، وكان الهم أبعد منه أمس، قرأنا الفاتحة لفرد هذه النواحي، القطب الذي الأمداد ناحي، سيدي إبراهيم الدسوقي، ورجينا منه الشفاعة بحل قيودي وثوقي ونشر قلوعي، ووقد شموعي، وما زلنا بالقلوع نسير، والحق يهون كل عسير، إلى أن وصلنا بلدة الشيخ حسن الولي، الحسن، فهاج ريح، وماج البحر الفسيح، ولم يمكنا الذهاب لتراكم السحاب، وطبق الجو بزائد النو، وسحت المطار مصحوبة بألطاف الستار ولما أذن مؤذن الصباح رحيل محيمل الفلاح، سرنا إلى أن سامتنا (دسوق) ذات اللمع والبروق، والطلوع والشروق، ثم لما مررنا على (مرفض) التي يحق لها أن ترقص طرباً بحلول أبي المجد فيها قدس الله سره، فقرأنا له الفاتحة، وعندما جئنا محلة أبي علي زرنا على البعد كل من حل بها من ولي، وهي على ما قيل ثلث الطريق، فقلنا عسى أن يسعف المولى بالريح المريح من التعويق، وقرأنا بالخصوص الفاتحة لابن الشرمي، ومازلنا نسير بمعونة السميع البصير، وكلما جزنا على قبة علم كبير، قرأنا له الفاتحة، وجونا كامل البشير، فقلت:
ألا يا ظاهرين بقطر مصر ... أغيثوني وزيحوا غيم حصري
(ثم إنا ربطنا لدى الشط، ووارد الأكابر شط، وسرنا غب الغروب، ليلا مع معاشات كثيرة لها للمسير هبوب، إلى أن وصلنا قرية (شابور) وبتنا بها في سرور فيها هلال شعبان المبارك
للكلام بقية
سامح الخالدي(945/30)
رسالة الشعر
من ذكريات باريس:
الخطو الناعم. .
(حسنا إسبانية التقى بها الشاعر في باريس فكانت وحي هذا
اللحن)
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
حينما تخطرين ينداح ظل ... عبقري الرؤى ويشرق فجر
وإذا أنت والطريق ابتهال ... قدسي وخطوط الحلو شعر
تتندي الظلال أنى تمرين ... ويخضل في الربى الفيح زهر
وإذا بالطريق بمتد والنو ... ر على جانبيه عرس وبشر
خطوك الحلو يا عروس قصيدي ... هينمات الفراش فوق الورود
أو خفوق النسيم في الأفق المخض ... ل بالنور في الربيع الوليد
أو رفيف الجناح رف على الر ... وض يحي بزوغ فجر جديد
حيثما تخطرين ينطلق اللحن رخيم الإيقاع حلو النشيد
خطوك الناعم الرشيق انثيال الطي ... ب من برعم تفتق عطرا
حيثما سرت فالدروب ارتعاشات ... غناء يموج في الأفق سحرا
خطوات كأنها خطرات الحلم ... إن راود النواظر فجرا
يرقص الصخر تحتها ويذوب الصم ... ت فيها، وتنطوي الأرض طرا
لا حدود، ولا دقائق إن سر ... ت وليس الوجود إلا صدانا
عدم مطلق متى لفنا الح ... ب نسخنا من الحياة الزمانا
ما الوجود الجميل لولا هوانا ... غير نار تنفست عن أسانا
أنذوق الهوى ونبقى ظماء=ونعب الهوى ونخشى فنانا
أتعدين بالثواني لقاء ... من حياة تعد بالساعات(945/32)
اتركي للمشيب تلك الضلالا ... ت ولا تحسبي حسابا لآت
أبدع العقل ما ترين لينجو ... من لهيب الفراغ والأوقات
ملأ الحب كوننا فنسينا ... كل شيء سوى جمال الحياة
نحن في فجر عمرنا كنسي ... م الفجر غضا وكالسنا إشراقا
كلحون الربيع غنى بها الطي ... ر والكعطر في الفضاء انطلاقا
فتعالي نبث في الأفق ... الساجي أغاريد حبنا أشواقا
حسبنا في الوجود أنا عشقنا ... وأخذنا من الهوى ميثاقا
عبد القادر رشيد الناصري
بغداد(945/33)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الشوق إلى المتاعب:
ما زلت أذكر مسرحية (حورية من المريخ) التي قدمتها من نحو شهرين فرقة المسرح المصري الحديث، تلك المسرحية التي تقوم فكرتها على أن الإنسان يضيق بما جرى على هذه الأرض وما يحدث له من متاعب في حياته ويود لو خلص منها، فإذا أتيح له الخلاص مما يقلقه ويشقيه، إلى حياة ناعمة صافية لا يجد فيها من يشغب عليه ويعاكسه، ضاق بها وشقي بهذه (السعادة) التي تحرمه ما جبل عليه حب الشغب والميل إلى خلط الصفو بالكدر
شاهدنا في المسرحية الزوج الذي يتبرم بزوجته لما تأتيه من تصرفات حمقاء وما يعانيه من شقاق بينهما الدائم، ثم يرى فيما يرى النائم حوريات من المريخ. . ولا بد أن تعجب من منافسة المريخ للجنة! ولا أحب أن أدعك في هذا العجب فأسر لك السبب قبل أن نمضي في الحديث:
عرضت المسرحية - وكان اسمها (حورية من الجنة) - على الرقيب بوزارة الداخلية ليجيز تمثيلها، فاستأني حتى طالت لحيته. . ولبس عمامة كبيرة. . . ثم أفتى - نجانا الله من فقهه. آمين - بأن الحورية لا يجوز أن تهب من الجنة إلى المسرح لا حرج أن تهبط من المريخ، وإن لم توجد في المريخ حوريات فيجوز أن تنتقل من الجنة أولا إلى المريخ، ثم تسافر منهو إلى مسرح حديقة الأزبكية الصيفي. . فلم يسع الأستاذ زكي طليمات إلا أن يرضخ و (يخرج) الحورية من المريخ كما يستخرج الشراب من الفسيخ. .
رأى ذلك الزوج ثلاث حوريات يرقصن ويغنين، فأحب إحداهن وأحبته، ورضيت أن تعيش معه على سطح الأرض زوجة وفية مخلصة، وجرت الأمور بينهما كما تجري في. . . المريخ! فلا مخالفة ولا شقاق، بل طاعة عمياء وصفو خالص، ولكن يظهر أن في الإنسان غريزة لم يكشفها علماء النفس بعد، هي غريزة المشاغبة التي تدفعه إلى الهرب من الاستقرار والراحة والدعة ليطلب المتاعب و (المناكفات) فاشتاق الرجل إلى زوجته الأولى وإلى مشاغباتها اللذيذة الممتعة، حتى قيض له ما أراد، واستيقظ من النوم ليجد زوجته الأرضية عائدة من السينما. . ذكرت تلك المسرحية الممتعة وحوادثها الشائقة، وأنا(945/34)
في هذا الصيف الهادئ النائي الذي يكاد يشبه المريخ في الخلو من الحوريات. . . والذي لجأت إليه من نحو شهر هربا من متاعب القاهرة وحرها وزحامها وخلوها من البطيخ (الشلين بلاك) وقد أخذت هذا المصيف الفطري لأكون بعيدا عن زحمة المدن ومثيرات الأعصاب فيها، وآثرت أن أخلد إلى السكون والراحة التامة، ورجوت صديقي الشاعر، وهو يصطاف قريبا مني أن يجنبني سماع ما يقرض.
وتم لي ذلك وشملني السكون وتلقاني البحر، يدعوني إليه أحيانا فيبل ما جف من أعصابي، ثم لا يلبث أن يضجر مني فيقذفني إلى رمال الشاطئ فأرتمي عليها وأشكو إليها ضعفي وجراح نفسي. .
ثم وجدتني أهرع إلى صديقي الشاعر لأسمع منه، وآخذ مع الرفاق في حديث الأدب والفن، بل أجرهم إليه وأحملهم عليه وأنظر حولي فلا أبصر إلا الماء والرمل والسماء، وأشواقا إلى القاهرة والى الاضطراب في أنحائها والاختلاف إلى ما جريت على الاختلاف أليه فيها، بل إلى صخبها وضجيجها وترامها كان البحر يقول لي: هنا الروح والدعة، فتعالي إلي ودع الدنيا وألق مشاغلها على الشاطئ واغسل همومك بين أحضاني ثم صوت أسمع من أمواجه الصاخبة المتحاربة دائما: أن هلم إلى معترك الحياة وعد إلى معامعها، فالسكون موت والحركة حياة وما أزل مصغيا إليه، أستمع ولا أقتنع، انتظارا لعاقبة التي أقتدر بها على تمام الاقتناع.
ابن حمديس
تلقيت من الصديق الكريم الذي لم أتشرف بلقائه بعد، الأستاذ الشاعر عبد القادر رشيد الناصري، رسالة مطولة ناقش فيها رأياً للأستاذ عباس محمود العقاد في (ابن حمديس) الشاعر الصقلي، والرسالة هي كما بلى بعد شيء من الاختصار وحذف التحيات التي يستحق الأخ أحسن منها: أنا لا أنكر أن الأستاذ العقاد ذهن جبار متوقد، بل هو أكثر أدباء الشرق ثقافة، فهو أديب وشاعر وخطيب وسياسي وناقد ومترجم، وإن كان شعره لا يبلغ منزلة نثره، ولكني قرأت له قبل أيام رأيا استغربت أن يصدر من رجل مثله له مكانته في عالم النقد، وهذا الرأي منشور في الصفحة (93) من كتابه (خلاصة اليومة) ولم أكن قد اطلعت قبل الآن، يقول عن ابن حمديس: شاعر صدرت عنه الشهرة بعد أن أقبلت عليه،(945/35)
وطواه الخمول بعد أن طبق ذكره الآفاق، ولكن هذا الشاعر المجهول قد زاد بديوانه على ثروة اللغة العربية خيرة أضاعها التفريط، وأودع من المعاني ما لم يضمنها إياها شاعر عربي آخر. ولقد كان ينبغي أن لا نذكر المتنبي وابن أبي حفصة وابن هانئ وغير هؤلاء من محترفي الشعر - كان ينبغي أن لا نذكرهم مرة إلا ذكرنا ابن حمديس مرارا، هذا الذي لا يذكره قراء العربية إلا كما يذكرون شعراء الغرب والصين، ولولا (ابن) قبل حمديس لما درى أكثرنا إن كان اسم رجل أو اسم مكان، ثم يسترسل العقاد حتى يقول:
وما ألطف قوله
تطيب أفواهن الحديث ... بحمر الشفاه وبيض الثغور
كما مر بالورد والأقحوان ... نسيم مشوب بريا العبير
ألا يترشف من بيتيه هذين رضاب الحسان، وتتنسم ريح الورد والأقحوان؟
وما أغزر دموع هذين البيتين:
ويا ريح إما مريت الحيا ... ورويت منه الربوع الظماء
فسوقي إلى جهام السحاب ... لأملأهن من الدمع ماء
وهل قال (شلي) في قصيدته (القنبرة) أحدث من هذا
أصبا هبت بريحان الصبا ... أو شمال أسكرتني بالشمول
حيث غنتني شوادي روضة ... مطربات بخفيف وثقيل
في أعاريض قصار خفيت ... دقة في الوزن عن فهم الخليل
ولحون حار فيها معبد ... وله علم بموسيقى الهديل
والدجى يرنو إلى صاحبه ... بعيون من نجوم الجو حول
وأين بيتنا صبري وشوقي في تنزيه صاحبتيهما عن هذا
البيت:
لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك
وإلى هنا يختتم الأستاذ العقاد كلمته عن هذا الشاعر، ونراه يوازن بين ابن حمديس وباقي الشعراء فيجعله في مصاف المتنبي والبحتري وابن هانئ! في أي ميزان من موازين النقد يوضع ابن حمديس مع المتنبي والبحتري؟ ويقول العقاد إن ابن حمديس أودع اللغة العربية(945/36)
من المعاني ما لم يضمنها غياها شاعر آخر! إذن أين مكان ابن الرومي وأبي تمام وأبي نواس وبشار بن برد وابن المعتز؟ وما هي الثروة التي أضافها ابن حمديس وشعره لا يتعدى التقليد لشعراء بني العباس وبني أمية؟ وكيف يتهم الأستاذ العقاد أدباء العربية بجهل ابن حمديس؟! أما قوله عن بيتي ابن حمديس (تطيب أفواهن. . . الخ) فأحيله إلى الأستاذ العقاد وأقول إنني لم أترشف منه رضاب الحسان، ولا أتنسم ريح الورد، وعندي أن أبيات بشار في وصف أحاديث الحسان خير بكثير من هذين البيتين، وكذلك أبيات الرومي وبعض ما قال عم بن أبي ربيعة، ولا شك أن الأستاذ مطلع أكثر من غيره على ما ذكرت
والعقاد بعد هذا أكثر أدباء العرب فهما للأدب الإنجليزي فكيف يقول إن أبيات حمديس اللامية من قصيدة (شلي) في وصف القبرة؟ وهذه القصيدة لا تعد فذة في الأدب الإنجليزي فقط بل في الأدب العالمي والغنائي، ومن شاء فليرجع إلى نصها الإنجليزي أو ليقرأها مترجمة إلى العربية وخير ترجمة لها ترجمة المرحوم علي محمود طه وهي منشورة بكاملها في كتابه (أرواح شاردة) فهل توافقني أيها الصديق على أن قصيدة ابن حمديس التي ذكرها العقاد لا تقاس بقبرة شلي إلا كما يقاس الصدف بالدر؟ ويقارن الأستاذ العقاد بيت ابن حمديس:
لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك
ببيتي صبري ووقي، ويقصد بيت صبري (إسماعيل صبري باشا):
أنت روحانية لا تدعي ... أن هذا الحسن من طين وماء
وبيت شوقي:
صوني جمالك عنا إننا بشر ... من التراب وهذا الحسن روحاني
أما أنا فأقول إن بيت شوقي أحسن الأبيات وأحلفها وأقواها ديباجة وأملؤها للنفس. ولولا (روائح الجنة) التي اقتبسها من أبي العتاهية لما بقي للبيت أي جمال. واترك لك يا صاحب الدب والفن في أسبوع المقارنة بين الأبيات الثلاثة فها الشاعر الذي أعجب به العقاد لو درسه الأدباء دراسة استقصاء وبحث لعلموا أن الأستاذ العقاد لم ينصف المتنبي وابن هانئ عندما قرنه بهما. هذا هو رأيي. وأقول أكثر من ذلك إنه لولا بعض القطع التي تحفل بالصور الشعرية في شعر ابن حمديس لما استحق الذكر، فهل أقرأ رأيك في هذا الذي كره(945/37)
الأستاذ العقاد قريبا؟ ودم لأخيك:
عبد القادر رشيد الناصري
بغداد
أجل يا صديقي. سأدل بما أراه لا فيما قال به أديبنا الكبير فحسب، بل كذلك فيما ارتأيته أنت، وسأخالفك في بعضه، وقد خالفتك من قبل في بيت للدكتور إبراهيم ناجي، وأكبر الظن أنك أوسعت صدرك لتلك المخالفة، واكبر الظن أيضا - كما يعبر عميدنا الدكتور طه حسين باشا - أنك موسع صدرك للمرة الثانية في هذه المخالفة الجديدة أصدر العقاد كتاب (خلاصة اليومية) من نحو ثلاثين سنة، ولعله أول كتاب ظهر له. وقد درس بعد ذلك ابن الرومي وأبن أبي ربيعة وابن برد وغيرهم من شعراء العربية دراسة دقيقة مستقصية ولا بد أن قد تبين له من تلك الدراسات أن ما أودعه ابن حمديس اللغة العربية من المعاني لا يعد شيئا بجانب ما ضمنه إياها شاعر كابن الرومي مثلا
وقد كان ابن حمديس مجهولا لاحقا في ذلك القوت، وقد التفت إليه الأدباء بعد ذلكن وإن كانت هذه التفاتات يسيرة، واذكر أننا سمعنا محضرة قيمة عن هـ الشاعر الرقيق من الأستاذ السباعي بيومي بك، ألقاها سنة 1943 في ناد بالخرطوم، وكنت هناك في ذلك الوقت وديوان ابن حمديس غير متداول في مصر، ولم أر له غير نسخة واحدة بدار الكتب المصرية، طبعها ونشرها أحد المستشرقين. ولابن حمديس بيت سائر معجب هو:
أواه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
وهذا يدل على أن الشاعر اصبح معروفا، وإن لم ينل بعد حقه من التعريف به ودراسته ونشر شعره
وأنا أوافقك يا صديقي على أن ابن حمديس لا يبلغ شأو من ذكرت من الشعراء، عدا ابن هانئ الأندلسي على رغم ما يقولونه من أنه (متنبي الغرب) ولا أتحرج من المصارحة بأني لا أجد مصداق كل ما يقولون في شعراء الغرب العربي وفي أشعارهم. ولا أرى العربية ظفرت في عصورها المختلفة بأمتع وأبدع من شعراء بغداد في عهد العباس، وليقل من ياء في جمال الطبيعة وتأثير البيئة الطبيعية ما يقول(945/38)
ولكني مع ذلك لا أرى ابن حمديس في المكان الذي نزلت به إليه، وأراك قد حملت على أبياته حملة غير منصفة. وقد قرأت وصف بشار وابن الرومي لأحاديث الحسان في أبيات جميلة لست أذكر نصها، وليس لدى من الكتب في مصيفي النائي ما أرجع إليه من أجلها، ولكن هذا لا يغض من جمال بيتي ابن حمديس. أما ابن ربيعة فلست أعلم عنه إلا حكايته لأحاديث النساء، وهي شيء آخر وصف أحاديثهن. ويشبه معنى حمديس للمرحوم مصطفى صادق الرفاعي هو:
إذا سألوها لجلجت فكأنما ... غرا اللفظ - لما مر من فمها - سكر
وتصوير الرافعي للفظ المترنح بديع
ولست أدري يا أخي لماذا لا يعجبك قول حمديس:
لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك
وكيف تفضل عليه بيت شوقي؟ حقا إن بيت أمير الشعراء أقوى ديباجة، ولكن انظر أليه وهو يأمرها أن تبتعد عنه وهو أمر لا يستساغ مهما كانت الأسباب. وخاطر شوقي ذهني جاف لا ينديه ماء الشعور. أما (روائح الجنة) فهي تدل على ما وراءها من حسن مرهف. وإنك لتظلم الشاعر إذ تسلبه فضل هذا التعبير لأن أبا العتاهية سبقه إلى الكلمة في قوله:
إن الشباب حجة التصابي ... روائح الجنة في الشباب
فإن استعمال كل منهما (روائح الجنة) غير استعمال الآخر
وليس هناك أية صلة بين المعنيين.
والحمد لله على أن أهملت بيت صبري في المقارنة بين الأبيات الثلاثة. . . وإني لعلى يقين أن التي يصفها لم تدع حسنها من ماء وطين. . حتى يقف موقف المفند لدعواها! وقد استحسن مؤلف (خلاصة اليومية) مخاطبة ابن حمديس للريح لتسوق إليه السحب الخالية من المطر ليملأها من دمعة لأنها تدل على غزارة دمعه. . وهي مبالغة ليس وراءها شيء إلا إذا كانت العبرة بالكمية!
أما المقارنة بين أبيات حمديس اللامية وبين قصيدة شلي في القبرة، فليس لدي الآن في المصيف ما ارجع إليه من أجل هذه القصيدة، وقد أجد في أمرها ما يدعو إلى تناولها بعد العودة إلى القاهرة إن شاء الله.(945/39)
عباس خضر
مصيف بلطين(945/40)
الكتب
الإسلام المفترى عليه
تأليف الأستاذ محمد الغرالي
للأستاذ محمد رجب البيومي
الإسلام في حاجة ماسة غلى الدفاع عنه، فقد نسجت حوله المفتريات من أعدائه، وأظهره المغرضون في صورة لا تتفق مع إنصافه ورحمته، بينما نشط أصحاب المذاهب الإلحادية في ترويحها وإظهارها في معرض براق أخاذ، فاتجهت إليها الأنظار ووقف الإسلام صامتا لا يجد من يفصح عن مبادئه ومثله، حتى قيض الله له أقلاما تنصره، وتعلن كلمته، وفي طليعتها قلم الأستاذ محمد الغزالي الذي يحارب به جوار الأستاذ قطب في معركة الحق والإصلاح!
وكتاب (الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين: حلقة من تلك السلسلة التي يوالي الأستاذ الغزالي إصدارها منذ سنوات دفاعا عن دينه وعقيدته، ولكل كتاب ناجح فكرة تدور عليها صفحاتخ، وتنطق بها أبوابه، وقد جاءت فكرة هذا الكتاب واضحة صريحة تعلن عن نفسها في كل سطر من سطوره، فالمؤلف ينظر غلى المذاهب الاقتصادية المعاصرة نظرة دراسة، ثم يقرنها بالمذهب الإسلامي نطق به القرآن وطبقه الرسول وصحابته، وقد انتهى من ذلك إلى أن الإسلام ينظر إلى الرأسمالية والشيوعية معا نظرة عداء واحتقار، فهو لا يعترف بقوانينها المتداولة، بل يقيم مذهبه العادل على أساس من الإخاء والمساواة
وقد ناقش الأستاذ الغزالي الرأسمالية مناقشة منصفة تستمد عناصرها من الواقع الملموس، كما اقتحم على الشيوعية معاقلها معقلا معقلا، وقد أسهب في مناقشة الأولى إسهابا يتطلبه الوضع الحاضر للمجتمع الإسلامي، ويعلل ذلك بأنها تقيم بين ظهرانينا داخل الحدود فهي أولى بالمحاربة من الشيوعية التي لم تقتحم بعد علينا السبيل، وذلك لم يحل دون منازلتها هي الثانية والتجهيز عليها بسيف الإسلام
ومحاربة الرأسمالية الحاضرة تتطلب إيمانا صادقا، وعقلا راجحا، والمؤلف بحمد الله منهما(945/41)
على أتم نصي، وقد سلك في نزاله الطريق المنطقي الذي يستعصم بالحجة والبرهان، ويمهد للنتائج بمقدمات مقبولة، فهو أولا يفصح عن معنى الرأسمالية وبين جنايتها على الشرق الإسلامي في شتى حواضره، وقد أحال إليها ما يفشو لدى السواد الأعظم من تأخر وانحطاط، وما يقع على الكواهل الكادحة من عنت وإرهاق، وكانت في نظره المنبع الأول الذي تفجرت منه روافد الجهل والفقر والمرض، ولم يفته بعد أن أوضح اعتداءها المادي الصارخ، أن يلفت النظر إلى أضرارها المعنوية العريقة، وقد اختار لها أبو بارزة في كتابه فتحدث عن الشلل العقلي الذي يطمس إفهام المعوزين فيدورون وراء سادتهم كالآلة في الصنع، ولا يناقشونهم الرأي أو يقاسمونهم الربح، كما يهبط بنفوسهم إلى مستوى العبيد، فهم كما قال المؤلف يهدءون ويتحركون مرضاة لأشخاص يعملون لهم ويعيشون في دائرتهم، وتكون أصواتهم النيابية لهم في النهاية دون كفاءة واستحقاق
وقد عجب الأستاذ الغزالي بقاء هذا الوضع الظالم قروناً متوالية وتساءل عن أسلحة الرأسمالية التي مهدت لها البقاء في هذا الجو النهم الفاجع، وكم كان اليماً أن يكون الدين المستغل المشوه أفتك أسلحتها في هذا المضمار، فالدعوة إلى الزهد الصوفي، وتحوير النصوص الصريحة، وذم الدنيا في بعض الأحاديث النبوية، كل أولئك كان مادة وافرة للمحترفين من رجال الدين، فطفقوا يخدمن الرأسمالية عن قصد وغير قصد بما وه محاسن الإسلام وجلب عليه النوائب من كل باب!! وهو في هذه المعركة بريء شهيد وقد أردف المؤلف تشخيصه الصادق لعلاج ناجع يستمد أصوله من الدين الحنيف، وقد عرض نماذج مختلفة من نصوص القرآن وآحاديث الرسول، ومواقف الصحابة والخلفاء الراشدين، لتكون دعامة ثابتة في إقامة مجتمع نظيف يدين بالإخاء والمساواة، وكانت أعمال محمد وعلي وأبي بكر وعمر وأبي ذر عمادا يرتكز عليه الإصلاح المنشود، هذا إلى الواعد الأصولية المقررة في الفقه الإسلامي، كسد الذرائع، ورفع الضرر ومنع الحرج وتقييد المباحات، وكان موفقا كل التوفيق في قوله (واستنباط الحكم ما من أحكام الإسلام، ليس سبيله أن نعثر على نص من النصوص، فنطير به ونبني عليه القصور، كلا! فلابد أن نرجع إلى جميع النصوص الواردة في موضوعه، وأن نفهم روح الإسلام العامة التي يصدر عنها قوانينه، ثم لنا بعدئذ أن نقارن وأن نرجح عند تعارض الأدلة ما ينقدح في(945/42)
آذاننا ترجيحه (وهو بذلك يسد السبيل على من يعثرون على نص غير متواتر، أو أثر منسوخ ثم يبنون عليه من الفتاوي الزائفة ما يشوه محاسن الإسلام ويهوى به من القمة إلى الحضيض.
وقد دار في هن المؤلف ما ستقابل به آراؤه الصريحة لدى المغرين من افتيات وإجحاف، وأيقن أنها ستنسب إلى الشيوعية الحمراء كما جرت العادة في الشرق المستضعف، فكر على الشيوعية الإلحادية، ونازلها بسلاح المنطق والدين، وهو في كتابه يندد بتعصب الشيوعية لآرائها تعصبا لا يستمع معه إلى الحجة الصادقة، والدفاع البريء، كما ينقم منها هجومها الآثم على ما قدسه الدين من مثل وأفكار، بل هجومها الآثم على ما قدسه الدين من مثل وأفكار، بل هجومها على الدين نفسه وما يشيع في مباحاته من روحانية وإيمان. وقد فضح الرأسماليين فضيحة قاصمة حين أعلن أنهم يفرون من الشيوعية فرارا سريعا لا لإلحادها العنيف - كما يفر المؤمنون الصادقون - بل خشية منها على أموالهم المحتكرة، وأوضاعهم المغلة (ولو كانت الشيوعية هدما للآداب والأعراض لتقبلها هؤلاء، بل لوجدوا فيها متنفسهم العميق، أما وهي هدم لما ملك ويقتني، فيجب أن تحارب باسم الدين!! فإن حدث أن ناقشهم الدين الحساب، وسألهم كيف ملكتم؟ وأين حق الله وحق الناس فيما أخذتم؟ فالويل كذلك للدين والعاملين عليه! إنهم إذن شر من الشيوعيين مكانا وأسوأ قليلا) وفي الكتاب - فوق هذا - آراء صريحة لأعلام الشريعة الإسلامية كابن حزم وأبي حامد الغزالي ومحي الدين النووي وغيرهم من أئمة السلف تبين رأي الشريعة في الاشتراكية الإسلامية، والإرث الشرعي، ومدى الملكية الفردية، وللقارئ أن يوازنها بما تورط فيه الشيخ محمد حسنين مخلوف من آراء يقابلها المخلصون بالحسرة ولأشفاق!! وقد أماط الأستاذ الغزالي عنها اللثام، كما قطع السبيل على كل محاولة يراد بها الشعوب باسم الدين، وتستخيرها لمطامع الاستعباد!!
لقد فهم الأستاذ محمد الغزالي الفقه الإسلامي، وأدرك أصوله ومنازعه إدراكا يمده الذكاء الناقد والنقد البصير، كما ألم بمشكلات عصره، وعلل مجتمعه، وأخذ يستلهم السماء في إصلاح الأرض، ويضمد بالوحي الإلهي والهدى النبوي جراح الأمة الناغرة، فكثر قراؤه، وتشعب إنتاجه وتعددت طبعات مؤلفاته، كما ترجم بعضها إلى لغة يهتم قراؤها بالإسلام(945/43)
والمسلمين، وفي هذا دليل على أن الحق لن يعدم أنصاره في كل مكان، بل يزحف إلى غايته النبيلة ساخراً بما يعترضه من الحواجز والسدود
محمد رجب البيومي
الكفر الجديد(945/44)
البريد الأدبي
1 - الشعر لأبي تمام:
جاء في الصفحة الثالثة من ديوان البحتري المطبوع في مصر سنة1911 م بتصحيح عبد الرحمن البرقوقي أن البيتين التاليين
يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفست ... في أوجه الأرواح والأنداء
إنهما للبحتري من قصيدته التي يمدح بها أبا سعيد محمد بن يوسف التي مطلعها
زعم الغراب منبئ الأنباء ... أن الأحبة آذنوا بتناء
والذي أجزم على صحته أن البيتين الأنفي الذكر لأبي تمام وهما من قصيدته الخمرية ذات المطلع الرائع
قدك اتئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وانتمو سمرائي
التي يتخلص منها إلى مدح يحيى بن ثابت كما هو المعروف في كتب الأدب وفي جميع طبعات ديوانه، وأنها أقرب إلى نفس أبي تمام من البحتري
2 - خطأ شائع:
أصدرت سلسلة اقرأ كتابها الأخير وهو ملامح من المجتمع العربي للأستاذ الشاعر محمد الغني حسن، وهو كتاب جدير بالإعجاب والاقتناء لما حوى من طرائف وأخبار لا يتاح جميعها إلا لبحاثة مطلع، إلا أنني وجدت الأستاذ المؤلف استعمل كلمة (الشحاذة) بمعنى (الاستجداء) في اكثر من موضع كما جاء في الصفحة (12) (ما عرف مجتمعنا على مختلف العصور صورة الشحاذة وحرف الاستجداء والسؤال) و (كان للشحاذين منذ القرن الأول الإسلامي وسائلهم في اجتلاب شفقة المحسنين). . وهكذا في أكثر من موضع عند صدد الكلام عن (المجتمع العربي وطبقاته وأغنياء وفقراء) من ص12 إلى 17 - والي أعلمه أن هذه اللفظة غير عربية ولا تعطي هذا المعنى الذي يرديه الكاتب البارع، ولو استعمل بدلا عنها لفظة، استجدى أو سأل، أو استعطى أو غيرها لكان أبلغ في مقاله، فقد جاء في لسان العرب ص27 الجزء الخامس مادة (شحذ) ما يلي: الشحذ: التحديد، وشحذ السكين والسيف ونحوهما يشحذ شحذا أحده بالمسن وغيره مما يخرج حده فهو شحيذ(945/45)
ومشحوذ كقولهم: (يشحذ لحيته بناب أعصل) والمشحذ المسن. وفي الحديث. (هلمي واشحذيها) ورجل شحوذ حديد نزق، وشحذ الجوع معدته: ضرمها وقواها على الطعام وأحدها، وشحذه بعينه أحدهما إليه ورماه بها. وكذلك ذرقته وحدجته وشحذته أي سقته سوقا. قال أبو نخيلة:
قلت لإبليس وهامان خذا ... سوقا بني الجعراء سوقا مشحذا
واكنفاهم من كذا ومن كذا ... تكنف الريح الجهام الرذذا
ومر يشحذهم أي يطردهم وفلان مشحوذ عليه أي مغضوب عليه، ورجل شحذان سواق قال الأخطل:
خيال لأروى والرباب ومن يكن ... له عند أروى والرباب تبول
يبث وهو مشحوذ عليه ولا يرى ... إلى بيضتي وكر الأنوف سبيل
أي مغضوب عليه، وقال ابن شميل لامشحاذ الأرض المستوية فيها حصى. وقال غيره الأكمة القزواء التي ليست بضرسة الحجارة. وقال أبو زيد شحت السماء تشحذ شحذا، وحليت حليا وهي فوق البغشة)
3 - زحاف:
في قصيدة الأستاذ عبد الرحيم عثمان صاروا (أول موعد) المنشورة في العدد (940) من الرسالة الزاهرة بيت زاحف
واها لأزهاري التي ... قطفتهن لتفرحي
والقصيدة ذات القوافي العديدة وهي من مجزوء الكامل إلا البيت المذكور لا يستقيم وزن عجزه (قطفتهن لتفرحي) إلا بزيادة حرف كالواو أو الفاء.
4 - الشعر لعباس بن مرداس:
نسب الأستاذ الجليل محمد عطية الإبراشي في الصفحة 117من كتابه (القيم الشخصية) الطبعة الخامسة الأبيات التالية إلى كثرة عزة في صدد الكلام عن (التواضع وعدم التصنع)
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور
بغاث الطير أطوالها رقابا ... ولم تطل البزاة ولا الصقور(945/46)
الخ والصواب أنها لعباس بن مرداس
5 - استعمال خاطئ وشعر غير مستقيم:
(في العدد 991) من جريدة الهاتف البغدادية قصيدة لأديب مصطفى جمال الدين بعنوان (في ضفاف الفرات) جاء منها
وسقى الجداول من نمير شرابه ... كأسا - يطوف بها الحباب - شمولا
ولا تأتي الشمول صفة للكأس، لأن الشمول اسم من أسماء الخمر. . ولا يقال كأس بل كأس دهاق وروية وغيرها من الصفات وفي العدد نفسه قصيدة أخرى للأديب بشير حسن القطان بعنوان (أوهام) منها الأبيات وهي موشحة مختلفة الأوزان
وعلى الحفيف، وعويل إعصار الخريف
ولا يستقيم وزن هذا البيت إلا برفع واو العطف على هذه الصورة
وعلى الحفيف، عويل إعصار الخريف
وهذا البيت:
فأجابني صوت بعيد ... أن المطامع لن تعود
ولا يستقيم وزنه إلا بتسكين كلمة (بعيد) وتسكين تعود بعد لن خطأ نحوي فظيع. ولست ادري كيف غربت هذه الأخطاء عن بال الأستاذ جعفر الخليلي صاحب الهاتف الأغر؟!
6 - الشعر لأبي نواس:
في الصفحة 99 إلى 103 من كتاب سحر البلاغة للمرحوم السيد محمد توفيق البكري الذي جمعه السيد عثمان شاكر من كتبه، صهاريج اللؤلؤ وفحول البلاغة، وأراجيز العرب. . أن جميع المختارات في تلك الصفحات هي من شعر ابن هانئ الأندلسي وأكرها خمرية والصواب أنها للحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس، وخصوصاً وجميع هذه المختارات في الخمر كقصائده المنورة في هذا الكتاب
أيها اللائمان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
أو قوله:
كأن بقايا ما عفا من حبابها ... تفاريق شيب في سواد عذار(945/47)
الخ. ولا إخال هذه النسبة إلى ابن هانئ الأندلسي إلا من تصرف الجامع لا المرحوم البكري نفسه
عبد القادر رشيد الناصري
بغداد - أمانة العاصمة
شوقية أخرى لم تنشر:
قرأت في العدد 939 من الرسالة مقالا تحت هذا العنوان للأستاذ عبد القادر رشيد النصاري. . جاء فيه، في قصيدة شوقي رحمه الله:
العبقرية غير مالكة ... إذا مشى غيره لصا وجنانا
وقد علق على كلمة (غير) بقوله: أظنها محرفة
وعندي أن كلمتي: غير مالكه، محرفتان معا. عن: عين مالكه. أي ذات رسالة إلهية. . أو غير مألكه. . أي خير رسالة إلهية. . . أي في هذا الفن. . وذلك لأن المألكة: الرسالة. وأراد بها هنا الرسالة الإلهية. . ويؤيد فهم معنى الشطر الأخير. . فالمعنى أنه مطبوع على الفن لم يقلده غيره، ولم يسط على فن سواه. . ولذلك قال مؤيد هذا المعنى:
لا تسأل الله فنا كل آونة ... واسأله في فترات الدهر فنانا
محمد أحمد رضوان
للقاهرة
كلما:
. . (كلما كان جمهور الفنان عددا كلما كان لرسالته في الحياة قيمة). . هذه العبارة وردت في مقال (أدبنا القومي) للأستاذ حسين عزمي بالعدد (942) ولا أرى فيها محلا لتكرير كلما، وإليك ما كتبه العلامة ابن هشام في (مغنى اللبيب) متصلا بهذه الملاحظة:
(كل في نحو. . كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا. . منصوبة على الظرفية باتفاق، وناصبها الفعل الذي هو جواب في المعنى مثل (قالوا) في الآية، وجاءتها الظرفية من جهة (ما) فإنها محتملة لوجهين، أحدهما أن تكون حرفا مصدريا والجملة بعده صلة له فلا محل(945/48)
لها، والأصل كل (رزق). . والثاني أن تكون اسما نكرة بمعنى وقت. . ثم أورد قوله تعالى: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها)، (كلما أضاء لهم مشوا فيه)، (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه)، (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم). . وعلى ضوء هذا كله يتعين أن يكون الصواب في عبارة الأستاذ الكبير: (كلما كان جمهور الفنان عديدا كان لرسالته في الحياة قيمة) بحذف (كلما) الثانية، وتحياتي إليه
محمد محمد الابشبهي(945/49)
القصص
الفانية!.
للأستاذ كمال رستم
(مهداة إلى سعادة الأستاذ محمد كامل البهنساوي بك صاحب
الأقاصيص المأثورة)
. . يحيط الطبيب في حياته العملية أكثر من أي إنسان آخر بالطبيعة البشرية، فهو يلم بأحاسيس مريضة وانفعلاته. . ويراه وهو يتجرد من الثياب في حالة أشبه بحالة الرجل البدائي. . لا زيف في الشعور. . ولا ادعاء. . ولا دهاء. وهو يلاحظ مرضاه كيف يتصرفون عند الشدائد وعند أستهدفهم للموت. . ويرقب سلوكهم إبان المرض. وفي أعقاب الشفاء. وهو في ذلك كله يقابله الكثير من القصص المثيرة. . ولا جرم أن أشد ما يحز في نفسه أن يقف عاجزا مكتوف اليدين من إنقاذ روح بها أو مطمئنة ألم. وليس من يدرك مشاعر الطبيب في مثل هذه الظروف القاسية إلا المشتغلون بهذه المهنة. ولعل من أكبر المشاهد التي أثرت في نفسي الأيام الأخيرة، مشهد الدموع التي رايتها تلتمع في عيني إحدى مريضاتي وهي تقول لي:
- إذن!
هذه الدموع التي طفرت من عينها وتحدرت في خطين دقيقين على وجنتيها، لا زلت أجتلها مثلما اجتليتها لحظة هطولها! ولا زلت أذكر كيف غيضت بمنديل يدها الصغير هذه الدموع. . وكيف تحاملت على نفسها واقفة أمامي. كأنما ذكرت فجأة أنه لا يجدر بها أن تتخلى عن شجاعتها وأن تتهم بالخور والجبن! أسمها نادية. . عذراء في التاسعة عشرة. . فتاتة بما يعني مدلول اللفظ. ومع أنها وقت أن جاءتني كانت مريضة. . لا بل. . كانت ماضية إلى الموت ذاته. . لم تتخل عن وجهها سمات الفتنة الآسرة! وكانت قصتها قد بدأت قبل أن تحضر إلي بوقت طويل!. كانت مريضة بالسرطان! والسرطان متى أفلت زمامه من أيدينا فإن أية قوة. . . وأية حكمة لا تفيد في دفعه أو كبح جماحه. والحد العلمي لها المرض الخطير أنه مجموعة من الخلايا تنمو في الجسم على حساب التركيبات المحيطة.(945/50)
وخارجة عن تحكم الجسم. . فالجسم الإنساني يتكون من مجموعة من الخلايا تنجم عن انقسام خلية ثم انقسام أجزائها. . ثم انقسام هذه الأجزاء. . وهكذا إلى أن يتم نمو الإنسان. فإذا تصورنا أنه ليس من قوة تحكم هذا النمو. . فإننا نحصل في النهاية على مجموعة من الخلايا لا شكل لها. وإذا افترضنا أن إحدى الخلايا ابتعدت لسبب ما عن اتصالها العصبي وهي لا تزال حية وفي موضع يمكنها أن تحصل فيه على غذائها من السائل الدموي، فالذي يحدث هو أنها تأخذ في النمو والانقسام وتكبر في الحجم وتغير على جاراتها من الخلايا العادية. وهذا ما نسميه (بالتضخم البغيض) أو (التضخم القاتل). . هذا هو السرطان الذي يحطم الخلايا العادية المجاورة وينتشر خلال الأوعية الليمفاوية وينطلق في مسرى الدم غلى سائر الجسم!.
يدرك الطبيب أن دملا صغيرا هو تضخم بغيض بسبب أعراض معينة فيقول لنفسه: فلأبتره قبل أن يشق علي أن أعالجه. . وقبل أن يبتدئ في مكان لا يمكنني فيه أن أبتره من إتلاف عضو حيوي. . أبتره سريعا قبل أن يغدوا حرا وينتشر في سائر الجسم. . إلى الرئتين. . أو إلى العمود الفقري. . أو عظام الساق. . أو الصدر. . أو الكبد أو أي مكان آخر حيث لا يمكنني أن أزيله تماما دون أن اقتل المريض! هذا هو السبب الذي من أجله ننصح الناس دائما بان يستشيروا طبيبهم حالما يرون دملا غريب الشكل!. وها هو السبب الذي من أجله نتألم تقول لنا السيدة إن لديها تضخما منذ ستة اشهر ولكنها لم تشأ أن تخبر بأمره أحدا. . ستة أشهر أضاعت خلالها على نفسها فرصة العلاج السريع لأنها أبت أن تكاشف أحدا بمرضها!.
كانت هذه هي الحالة التي جاءتني عليها نادية وكانت مخطوبة إلى ابن خالتها. . وراحت تنتظر معه اليوم الذي يربطهما فيه الرباط المقدس. . ولكن هذا اليوم السعيد الذي تتحقق فيه المنى لم يحدث أن أقبل أبدا! العاطفة المشبوبة. . واللهفة والحنان. . كل أولئك لم أعرفه في غير هذين الخطيبين! كان يحب أحدهما الآخر حبا يتضاءل أمامه كل حب رأيته أو سمعت به. . وكان الوفاء الذي يستخف بالتضحية. . وتهون عليه الصعاب هو ذلك الوفاء الذي يعشعش في صدري هذين العاشقين الصغيرين!. رأيت ذلك عن قرب ولمسته في الوقت القصير الذي قضياه في عيادتي!. أبدا لم أسمع في حياتي أرق من ذلك الصوت(945/51)
الذي كان يخاطب به الخطيب خطيبته. . ولا تلك اللهفة التي كانت تبين في صوته وهو يقول لي: - أريد أن أطمئن يا سيدي
كانت قولته هذه التي انبجس منها الشعور الحلو دافقا جياشا. . هي كل ما قاله لي. . وزايل الغرفة وتلبث خارجها ينتظر الكلمة التي تنفرج عنها شفتاي. تلبث ينتظر حكمي بالحياة أو الموت على فتاته. . وكان في الغرفة أن قصت علي قصتها عندما ظهر التضخم في صدرها حسبته بادئ الأمر دملا. . ولم يجد العلاج الذي استطبت به. . وراح ما حدسته دملا يكب. . ويكبر وغاضت الابتسامة من وجهها. وبدأ التفكير العميق يستغرقها والهواجس تستبد بها!. لاحظ الفتى أن فتاته غدت موزعة النفس مشتركة الذهن! وأخته حيرة مضنية وراح يلحف في سؤالها عن السر في سهومها المطرق. وكان جوابها عن كل الأسئلة التي ألقاها عليها هو قولها:
- ليس بي شيء! أية صدمة أصابته. . وأي حزن كاد يطيح بصوابه عندما أطلعته آخر الأمر على ما استسر طويلا في صدرها من الوساوس!
وبدا له أن يعرضها على طبيب. . وأشار الطبيب بأن يجري لها سريعا جراحة استئصال التضخم وأجريت الجراحة: واختفى المرض. . وتوارت آثاره البغيضة وكان من الممكن أن تعود الابتسامة إلى مكانها من شفتي الخطيبين وأن يمضيا في مشروع زواجهما الذي عطله المرض! ولكنهما كانا في خوف متصل من أوبته! كانت تمر بهما الساعات الطوال وهما مستغرقان في إطراقة الصمت وينتبهان إلى نفسيهما فيجد كل منهما أنه أمام صاحبه. . وتجري على شفاههما ابتسامة حزينة. . كانا يدركان أن ماردا جبارا يهدد سعادتهما!.
. . ودرجت الأيام. . ولم يظهر أثر ما لعودة المرض وقال الحبيب لحبيبته وفي قلبه ابتسامة كبيرة: - سنتزوج! أجابته وهي لا تتمالك نفسها من السعادة قائلة: - نعم سنتزوج.!
وطافا بصالات الأثاث. . واقتنيا أثاث غرفات أربع. وحددا يوم الزفاف. . وجرى كل شيء على ما يشتهيان عندما أحست الفتاة فجأة بتغييرات في مساحة الجراحة، بدأت تظهر فيها بثور شائهة راحت تكبر على الأيام. . كل يوم كانت تطالعها بوجه أكثر باعة ودمامة من اليوم السابق! لقد آب المرض الكريه. . ولكنها لم تستطع أن تنبئ فتاها بأويته. . إنه(945/52)
كان قد غدا مرة أخرى سعيدا بخدودا. . وزايلت وجهه سمات الحيرة والقلق! ولأنها كانت أجمعت أمرها على أن تنفرد دونه بالألم فقد أطبقت على السر الرهيب صدرها! وراحت تتحامل على نفسها لتحتفظ بمرحها وروحها العذبة. وكتمت السر طويلا حتى ضمر جسدها، وبانت عليها نهكة المرض. . ولكن الفتى لم يكن بحاجة لمن ينبئه بالحقيقة السافرة. . وقال لها: - ينبغي أن تعرضي نفسك على الطبيب مرة أخرى وتهالكت على المقعد في إعياء وهي تمسك براحتها صدرها قائلة: - لم تعرض فتاة معافية نفسها على طبيب؟ قال لها: - ولكنك لست معافية يا حبيبتي! ومضى بها إلى الطبيب ورأى الطبيب بنظرة واحدة أن المرض قد عاد. ففي خلال أسابيع التستر والتكتم الطويلة تقدم تقدما حثيثا وأصبح لا غناء في أية جراحة ولا جداء في أي علاج! أينبئهما بالحقيقة؟ ما الخير في ذلك؟. . ليس من شيء يمكن أن يوقف تقدم المرض. إن إنباءها بالحقيقة معناه أن يغرقها وفتاها في ظلمات اليأس القاتل. .! لقد كانت أيامها معدودة. . فلم لا يجعل حياتها فيما يستطيع خالية من الشقاء والتعاسة. .؟ وفي حال من التأثر بهذه الروح الإنسانية الغالية قال لها وهو يربت على كتفها في جذل مصطنع:
- لا محل إطلاقا لأوهامك وهواجسك فأنت معافاة سليمة.
- كثيراً ما يقسو الناس في أحكامهم على الطبيب إذا جاءت النتائج على عكس ما قال لهم. . البعض يتهمه بالغفلة. . والبعض الآخر بالشره. . وليس فيهم من يدرك الموقف الدقيق الذي تفرضه عليه بعض أمراضهم!. ولا من يدرك أنه بشر مثلهم. . وإن أقسى ما يشعر به هو أن يعجز عن أن يعيد الابتسامة إلى مكانها من شفاه مرضاه التعساء.!
وحدثت المريضة نفسها قائلة بعد أن غادرت عيادة الطبيب: - لشد ما خدعت نفسي. . وخدعتني أوهامي. . ولشد ما أنا آسفة على القلق الذي استسلمت له وتركته يأخذ بخناقي!. ولا شك أن الفتى قال لنفسه بعد أيام من زيارتهما للطبيب:
- لقد أكد الطبيب أن صحتها على ما يرام وأكدت لي نفسها أنها في عافية. . ففيم إذن ضعف فتاتي وسقامها؟.
ومرة أخرى أقلقه الشك فأجمع أمره على أن يستشير طبيبا آخر. . وكنت أنا الطبيب الأخير الذي استشاره!. .(945/53)
كانت النظرة التي تمليتها من المريضة كافية لأن أعلم أن برئها محال. واشكلت على وجوه الرأي ولم أدر هل أصارحها بالحقيقة أم أكتمها عنها وأطمئنها كما طمأنها طبيبها من قبلي، وأدع الأقدار وحدها تقول كلمتها وهي فصل الخطاب!. . ولكنني كنت استمعت منها إلى قصتها. وعرفت ظروف حياتها وكنت إلى ذلك أعرف أن فتاها ينتظر في صبر أرعن الكلمة التي ستنفرج من بين شفتي. . فأية قسوة أن أقول أمامه لفتاته:
- لا أمل في شفائك يا ابنتي
من يتصور أن أصدم فتاة في حياتها. . وفتى في أمله في الحياة؟ ورأيتني أميل إلى أن أكتم عنها الحقيقة فقد رأيت من الرحمة ألا أطفئ جذوة الأمل الأخيرة في حياة هذين العاشقين.! وما كدت انتهي إلى هذا القرار حتى انساب إلى صوتها الواهن وهو يقول:
- أرجو أن تنبئني بالحقيقة يا سيدي - إنني أعلم دقة مركزك. . ولكن يجب أن أعلم مهما كانت قاسية. .! وشئت أن أتكلم. . ولكن الكلمات ماتت على شفتي وأطرقت أفكر بينما تابعت هي حديثها قائلة:
- يريد خطيبي أن يعلم الحقيقة. . ولك ينبغي ألا تخبره بها إن كانت قاسية فهي حرية بأن تطيح برشاده وتشقيه. . ولكنني أستحلفك بشرف المهنة أن تنبئني بها!.
- وهكذا رأيتني في موقف يتحتم علي فيه أن أتكلم!. وصعدت إليها بصري لأول مرة منذ تكلمت فرأيت العزم والتصميم في وجهها فقلت:
- ما دامت تلك هي إرادتك. . فانه يحزنني أن أقول لك أن الزمام قد أفلت من أيدينا ومع أن وجهها كان قاسيا إلا أن الدموع طفرت فجأة وتحدرت على وجنتيها في خطين دقيقين!. أدركت في لحظة واحدة أنها امرأة فانية. . وأنها بعد وقت طويل أو قصير سترحل عن الدنيا وعن فتاها وعن ذويها. . وعن كل ما وعزيز لديها وحبيب. .! قالت في صوت يزخر بالانفعال:
- أما يوجد. . أي علاج؟
- يؤسفني أن أقول لا!
- أما ينتظر أن أعيش ستة أشهر أخرى؟
- يؤسفني أن أقول. . . لا. . أيضا!(945/54)
قلتها وفي قلبي كآبة كبيرة. . . ورأيتها تخرج منديلا من حقيبة يدها راحت تكفكف به الدمع المنحدر من عينيها! وفي لحظة واحدة تبدلت الفتاة الفانية التي كانت أمامي واستحالت إلى فتاة جديدة. . في عينيها توكيد وعزم وقالت.
- ينبغي ألا يعرف!
وتقدمتني إلى الباب وفتحته في هدوء وقد جرت على شفتيها ابتسامة كنت وحدي أدرك كنهها وما تنطوي عليه من اليأس القاتل. . وانتفض الفتى واقفا عندما فتح الباب. . الابتسامة الوضيئة! الابتسامة المريرة. . الابتسامة الشجاعة كانت هي كلمة الأمان التي قالتها له فتاته وإن لم تتكلم.!
ولكنه تقدم مني ملهوفا كأنه يتهم عينيه وقال:
- أهي بعافية يا سيدي؟
وابتسمت له ونياط قلبي تقطع وقلت:
- أنت ترى بعينيك يا ولدي أنها بعافية. . وعلى ما يرام! وشد على يدي في حرارة وقوة وقال في شغف:
- شكراً لك يا سيدي. . شكراً لك.!
وما كادا يغادران العيادة حتى أطللت عليهما من النافذة وفي عيني دمعتان كبيرتان! كانت الفتاة تمضي في الطريق إلى جانب فتاها وهي متأبطة ذراعه في جذل كاذب!. . أية سعادة وهمية تلك التي كانت تعشعش في صدر الفتى.! وأي شقاء كان في صدر الفانية؟
تدبرت هذه المفارقة الفذة وأنا واقف إلى النافذة أتبعهما بصري عندما قفز إلى رأسي هذا السؤال:
لم سألتني عن المدة التي يمكن أن تعيشها؟ أتراها تزعم أن تنعم فتاها بالزواج بها ما تبقى من حياتها وهي قصيرة.! أم تراها تريد أن تتعجل أيامها الباقيات؟. أبدا لم يخل ذهني لحظة واحدة من التفكير في نادية فقد كنت أعلم أنها غادرت عيادتي لتموت. . .
كمال رستم(945/55)
العدد 946 - بتاريخ: 20 - 08 - 1951(/)
تغير. . .
أخذت مصر في عهدها الأخير تغير ما بنفسها ليغير الله ما بها كما قال عز قوله في كتابه الخالد. . . وأصدق الأدلة على هذا التغيير ما نراه من القلق على كل وجه، وما نسمعه من السخط على كل لسان، وما نقرأه من المعارضة في كل صحيفة
وليس ما نراه من القلق على كل وجه، وما نسمعه من السخط على كل لسان، وما نقرأه من المعارضة في كل صحيفة وليس ما نراه وما نسمعه ونقرأه من كل أولئك صادرا عن تقليد كما كان يصدر، ولا واردا عن تحريض كما كان يرد. إنما هو أنفه المستذل حين يحس، وغضبه المستغل حين يعي. والقطيع من البقر أو من الغنم إنما يظل قطيعا ما دام لا يعرف إلا العشب يخضمه والماء يجرعه والراعي يطيعه. فإذ ما أدرك يوما أن راعيه يأكل لحمه ويشرب لبنه ويستغل جهده، وليس من فضل عليه إلا أن يرأسه حيلة أضيق من قواه، وفي يده هراوة أضعف من قرونه، لم يعد قطيعا وإنما يصبح أمة
يعلن الناس اليوم ما كانوا يتأثمون أن يسروه، ويفعلون اليوم ما كانوا يحذرون أن يقولوه؛ ويدركون اليوم أنهم أصحاب الثروة وأرباب البلد ومصدر السلطان، فما في خزائن الدولة من الأموال ملك لهم، ومن في دواوين الحكومة من الرجال أجراء عندهم، وأن الكبراء الذين يلهمون ولا ينتجون، ويأخذون ولا يطيعون، ويقولون ولا يفعلون، ويحكمون ولا يعدلون، إنما هم الكبائر التي توجب العقوبة، والدلائل التي تعلن الكارثة، تصديقا لقول الله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)
لو كانت الصحافة وحدها هي التي تنتقد وتعارض وتشتكي وتحتج لقلنا: جماعة من المثقفين المرهفين رأوا المنكر فنددوا به، وأبصر الخطر فنبهوا إليه، ولكن الواقع أن قراء الصحف وسامعيها من كل طبقة ومن كل حزب قد رأوا فيما تنشر من اعتراض أو امتعاض تعبيرا دقيقا يضطرب في رءوسهم من فكر، وتصوير صادقا لما يعصف في نفوسهم من ثورة. فلما أراد من أراد أن يخفت من صوت الصحافة بالكمائم، ويضيق من خطوها باللجم انفجر في وجهه الرأي العام من ذات نفسه ومن جميع نواحيه، يدافع عن المنبر الحر الذي تتنزل عليه كلمته وتتجلى في أرادته
ولو كان الذين انفجروا في طريق (التشريعات الصحفية) من المعارضين للحكم القائم، لقلنا(946/1)
نزوة من نزوات المعارضة، وشهوة من شهوات المنافسة، ولكن الأمر الذي تعجب له وتعجب به أن الذين خاضوا وقادوا معركة الرأي الحر في محنة الصحافة كانوا من شباب الوفد وكهوله! وذلك يؤيد ويؤكد ما قلنا من أن مصر بأسرها تغير ما بنفسها، وسيغير الله ولا ريب ما بها فتساس سياسة وطن لا سياسة إقطاع، وتقاد قيادة أمة لا قيادة قطيع!
المنصورة
أحمد حسن الزيات(946/2)
السرقين والسماد في الزراعة قديما
لم يكن علم الفلاحة ومعاناة الأرض من العلوم التي انصرفت إليها في
الشرق أنظار العلماء والمؤلفين، فلن يقم في الأقطار الزراعية كالشام
ومصر والعراق والأندلس من انقطع إلى الدرس والبحث في علم
الفلاحة وعنى بإذاعة تجارية وأسراره إلا فيما ندر وقل. ومن راجع
كتابي الفهرست وكشف الظنون - وهما كل ما وصل إلينا من أسماء
الكتب والفنون - لا يكاد يجد فيهما إلا بضعة مؤلفات تدل على قلة
عناية القوم بتدوين تجارب الزراعة. ومن أشهر المصنفات فيها:
- كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية. وفي دار الكتب المصرية الجزء الأول منه رقم 39 في 35 ورقة، كتب في 22 رجب سنة 995
- كتاب الفلاحة اليونانية لقسطا أو قسطوس بن لوقا الرومي، طبع في المطبعة الوهبية بمصر سنة 1293 للهجرة
- كتاب الفلاحة للروم لعلي بن محمد بن سعد، ذكره ابن النديم
- كتاب الفلاحة لابن العوام الإشبيلي. طبع في مجريط (مدريد) سنة 1802 وفي مصر
- كتاب الدر الملتقط، من علم فلاحتي الروم والنبط، تأليف محمد بن أبي بكر بن أبي طالب الأنصاري الصوفي الدمشقي المعروف بشيخ حطين رقم 21 في مكتبة الدار المصرية، فيه لغاية الباب التاسع والعشرين 64 ورقة
- كتاب بغية الفلاحين في الأشجار المثمرة والرياحين تصنيف السلطان الملك الأفضل العباس ابن الملك المجاهد علي ابن الملك المؤيد داود بن الملك المظفر يوسف بن الملك المنصور عمر بن علي بن رسول. ناقص من آخره قليلا. ذكر أنه نقله واستخرجه من مطالعة الكتب المدونة في الفلاحات، وسمي منها الكتاب الموسوم بالإشارة في العمارة تصنيف والده، وكتاب ملح الملاحة في معرفة الفلاحة لجده الملك الأشرف. وفي دار الكتب المصرية نسخة من بغية الفلاحين رقم 155، في 164 ورقة فيه إلى الباب السادس عشر وفي خاتمته فوائد زراعية يمنية. ويظهر أن المؤلف توفي سنة 778 للهجرة(946/3)
- كتاب الفلاحة المنتجة لطيبغا الجركلمشي منه نسخة حسنة في دار الكتب المصرية رقم 219 في 118 ورقة، وفي خزانة باريس نسختان منه رقم 2807 و2808
- كتاب الفلاحة لأبي عبد اله محمد الحسين رقم 4746 في خزانة باريس
- كتاب مفتاح الراحة في علم الفلاحة رقم 237 في مكتبة الدار المصرية وأوراقه189، وأكثر منقول من كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية
- كتاب جامع فرائد الملاحة في جوامع فوائد الفلاحة لرضى الدين الغزي رقم 134 في دار الكتب المصرية، 117 ورقة وفيه فوائد كثيرة
- الفن الرابع في النبات والزراعة والفلاحة في تسعة أبواب من كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر لجمال الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى الوراق المعروف بالوطواط. ومنه ثلاث نسخ في دار الكتب المصرية، إحداها مصورة في ثلاث مجلدات رقم 359. وهو ينقل عن ابن بصال في كتاب الفلاحة الرومية، وعن كتاب النبات لأبي الخير الأندلسي، قال: وهو غريب جدا لم أجد من ورآه. وينقل أحيانا عن كتاب ابن الوحشية وكتاب الفلاحة المصرية
- علم الملاحة في علم الفلاحة للشيخ عبد الغني النابلسي، طبع في مطبعة نهج الصواب بدمشق سنة 1299، اختصره من كتاب الغزي المتوفى سنة 935 السابق الذكر
- عمدة الصناعة في علم الزراعة لعبد القادر الخلاصي من القرن الثاني عشر
وقد طالعنا كل ما وجدناه من هذه المؤلفات في دار الكتب المصرية فوجدناه كتاب ابن العوام أجودها وأتمها وأجدرها بالمراجعة والاعتبار. وقد استوفى فيه كل ما كان مألوفا في زمانه من علاج الأرضين وزراعة البقول والحبوب وغراس الأشجار وتربية الحيوانات والدواجن، وروى كل ما يتعلق بهذه الأبواب علما وعملا، فهو خير ما يعتمد عليه في ها الدرس وفيه فوائد وفرائد توضع عليها اليد وتعد ذخراً للزراع والأكار
ومعلوم أن الأسمدة التي هدت إليها الكيمياء ونبهت على خصائصها وفضائلها في إنعاش الأتربة وتعويض ما تفقده من المواد والقوى في تغذية النباتات وتثمير الأشجار ولم تكن معروفة في أوربا قبل القرنين الأخيرين، فكان الأكرة ورجال الفلاحة لا يعرفون إلا السرقين لإصلاح الأرضين وإزكاء الزروع ولذلك قال الخاركي(946/4)
لا أغرس الغرس إلا في مسرقنة ... والغرس أجود ما يأتي بسرقين
وقد فرقت كتب اللغة بين السرقين والسماد، فالسرقين هو الزبل والروث وحده وأما السماد فهو السرقين مخلوطا برمل وتراب. وجاء الدمال بمعناه وبمعنى السرقين: يقال دمل الأرض أصلحها أو سرقتها. ومن مزاعمهم في التقاليد المروية عن محمد بن علي بن عبد الله أن (أول من دمل الأرض أي ألقي فيها السماد داود عم). وحكي الأصبهاني أن أول من جمع السماد بالبصرة وباعه هو عيسى بن سليمان بن علي العباسي من بيت الخلافة حينما كان أمير البصرة (وكانت له محابس يحبس فيها البياح ويبيعه فقال فيه أبو الشمقمق:
إذا رزق العباد فإن عيسى ... له رزق من (أعجاز) العباد
فلما تزوج عيسى فاطمة بنت عمرو بن حفص قال محمد بن عيينة في ذلك:
أفاطم قد تزوجت عيسى فأبشري ... لديه بذل عاجل غير آجل
فإنك قد زوجت من غير خيرة ... فتى من بني العباس ليس بعاقل
فإن قلت من رهط النبي فإنه ... وإن كان حر الأصل عبد الشمائل
رأيت أبا العباس يسمو بنفسه ... إلى بيع بياحاته والمباقل
ولم ترد لفظة البياح في المعجمات ولا في تكملة دوزي. وإنما جاء البياحة شبكة الحوت، وبعد طويل والبحث والتنقير وفقنا للعثور على الحديث الأتي في كتاب البخلاء لجاحظ قال:
(حدثني إبراهيم بن عبد العزيز قال: تغذيت مع راشد الأعور فأتونا بجام فيه بياح سبخي الذي يقال له الدارج، فجعلت آخذ الواحدة فأقطع رأسها ثم أعزله، ثم أشقها باثنين من قبل بطنها فآخذ شوكة الصلب والأضلاع فأعزلها، وأرمي باقي بطنها وبطرف الذنب والجناح، ثم أجمعها في لقمة واحدة وآكلها) ولا شك أن هذا الوصف هو وصف سمك كان بالبصرة تجمع رذالته ونفايته وما يرمي به من شوكة وأضلاعه وأطرافه وتحفظ في محبس لها حتى يغلب عليها العفن، فتباع على البساتين كالسماد. ومن ثم تكون البياحات في حكاية الأصبهاني المواقع التي يحبس فيها البياح والسماد. وهذا أقرب ما يبدو لنا في تفسير هذه الكلمة الغريبة
وقد فاتنا لا محالة كثير من اختبارات الأكرة وأرباب الضياع والبساتين وفنون علاجهم(946/5)
للأرض وتنميتهم للبقول والأزهار والأثمار. وتكفي مطالعة كتاب ابن العوام الآنف الذكر لمعرفة ما كان لبعض مصطلحاتهم وطرائقهم من الشأن والقيمة. ومن بعض الأدلة عليها تنبههم إلى ما في الدماء والأبوال من القوة والدواء لإصلاح الأرض لما فيها كما هو معلوم اليوم من الأزوت والنترات، فأشاروا بهما لطب النباتات والمغروسات. قال ابن العوام: (وقد يعالج بعض أدواء النباتات بدماء وأبوال لأن للدماء قوى عجيبة في إنعاش بعض الشجر والنبات). ولكن فأنه أن ينبه على وجوب تجفيف الدم قبل استعماله
راجعنا مقالاتهم في أنواع السرقين والمفاضلة بين ذرق الحمام وأرواث الخيل والبغال والحمير، وأحثاء البقر والجواميس وأبعار الغنم والضأن والماعز، فإذا أفضل الأزبال عندهم ذرق الحمام، واختلفوا في ما يتلوه في الجودة فقدم بعضهم زبل الحمير على روث الخيل ثم زبل الغنم ثم زبل البقر. ونقلوا عن قسطوس أحد علماء الفلاحة، وهو قسطا بن لوقا، أنه قال: (أحسن زبل الطير ذرق الحمام فبحرارته يميت الأعشاب، ثم زبل الحمير ثم زبل الغنم ثم زبل البقر، وأنفع الآزبال العامة للنبات زبل الخيل والبراذين). وهذا الرأي هو الشائع اليوم في تفضيل روث الخيل للمزروعات عامة.
وهنالك سرقين آخر أشادوا بجودته، وأجمعوا على إيثاره والمغالاة فيه وهو ما نستميح القارئ أجمل العذر في التعريض به، وقد سبق الإيماء إليه في بيت الشمقمق ويسمونه الروث الآدمي وزبل الناس. ومن غريب ما عرف به أيضا ولم نره إلا مرة واحدة اسم (قوسان) نقلة ابن الأخوة في كلامه على حسبة الفاخرانيين والقصارين فقال: (يشرط عليهم ألا يقدروا على الكوز بقوسان وهو روث الآدمي ولا بشيء من الأزبال فإنه نجس، بل الحلفاء والقيشة وهي قشر الأرز وما أشبه). ومن أشهر أسمائه أيضا الغائط والنجو والعذرة. وإنما الغائط المكان المطمئن. وكانوا إذا أرادوا الخلاء انحدروا إلى الغيطان أي بطون الأرض تسترا وانتباذا. وكثر ورود الغائط في كلامهم فانتقل أسمه إلى الحدث نفسه واشتقوا منه الفعل تغوط، كما انتقل اسم الحش وهو في الأصل البستان إلى بيت الخلاء لأنهم اعتادوا أن يتبرزوا في البساتين. وأما النجو فهو الارتفاع من الأرض وكان الرجل إذا خرج لقضاء الحاجة يتستر بنجوة فقالوا من ذلك ذهب ينجو كما قالوا ذهب يتغوط إذا ذهب إلى الغائط لك الأمر. وأما العذرة فهي فناء الدار وكانوا إذا قضوا حاجتهم ألفوها في(946/6)
الأفنية اسم المحل على الحال
وفي أخبارهم عنها السماد الآدمي من النكات والمضحكات وهجن العادات والحكيات الغريبة ما يدخل في أوصاف الحضارة وتاريخ الفلاحة، ولذلك لم نتوقف عن رواية بعضها بعد أطراح مالا يجمل ذكره واستبدال ما يقبح التصريح به من ألفاظه المبتذلة الفاحشة
وقد عده ابن العوام بعد ذرق الحمام في الجودة والامتحان الأرض والمنابت كلها. ووصف أيضا كيف يعمل به قبل الاستعمال له فقال: (ينبغي أن يجفف من رطوبته الأولى حتى يكمل جفافه ويسود ثم يجعل في الحفائر ويرش عليه الماء العذب ثانية ويحرك تحريكا كثيرا ويختلط ويجفف حتى يجف جفافا جيدا ثم يخلط به رماد)
وكان لأصحاب البساتين طلب عليه شديد وتنازع متواصل (فلا يعافون تسميد بقولهم قبل نجومها وتفتق بزورها ولا بعد انتشار ورقها وظهور موضع اللب منها، حتى ربما ذروا عليها السماد ذرا ثم يرسل عليها الماء حتى يشرب موضع اللب قوى العذرة. بل من لهم بالعذرة وعلى أنهم ما يصيبوها إلا مغشوشة مفسدة، وكذلك صنيعهم في الريحان، فأما النخل فلوا استطاعوا أن يطلوا بها الأجذاع طليا لفعلوا)
ومما يدل على الاعتقاد الشائع في أثر هذا السماد البشري نكتة رواها البلاذري عن معاوية بن مروان وكان محمقا قال: (مر بحقل وقد سمع أهل الشام يقولون لا يفلح حقل لا يرى (عجز) صاحبه فنزل وأحدث) ومن أهزل الأبيات التي قيلت في هذا المعنى ما رواه أبو الفرج الأصبهاني قال:
(اجتمع جعيفران الموسوس ومحمد بن بشير في بستان فنظر إلى محمد بن بشير وقد انفرد ناحية ثم قال عن شيء عظيم خرج منه فقال جعيفران:
قد قلت لابن بشير ... لما رمى من عجانه
في الأرض تل سماد ... علا على كثبانه
طوبى لصاحب أرض ... (خلوت) في بستانه
وكانت البصرة فيما قيل أشهر أسواق السرقين، وأميرها كما سبق كان من يتجر به (وللحوش فيها أثمان وافرة فيما زعموا تجار يجمعونها. فإذا كثرت عليها أصحاب البساتين ووقفهم تحت الريح لتحمل نتنها فإنه كما كانت أنتن كان ثمنها أكثر، ثم ينادى عليها فيتزايد(946/7)
الناس فيها. وقد قص هذه القصة صريع الدلاء المصري. . ولذلك ذم الشعراء البصرة وأهلها فقال محمد بن حازم الباهلي (في هجاء البصري):
يعتق (نجوه) كيما يغالي ... به عند المبايعة التجار
ومن النوادر المروية عن البصرة (دخل فتى من أهل مدينة البصرة فلما انصرف قال له أصحابه: كيف رأيت البصرة؟ قال: خير بلاد الله للجائع والغريب والمفلس. أما الجائع فيأكل خبز الأرز والصحناة فلا ينفق في شهر إلا درهمين. وأما الغريب فيتزوج بشق درهم. وأما المحتاج فلا عليه غائلة ما بقيت له عجزه، (يحدث ويبيع)
وأشبهت أصبهان البصرة في نفاق الحشوش فيها (فإن قيمتها عندهم وافرة) قال ياقوت: حدثني بعض التجار قال: رأيت بأصبهان رجلا من التناء يطعم قوما ويشرط عليهم أن يتبرزوا في خربة له قال: ولقد اجتزت به مرة وهو يخاصم رجلا وهو يقول: كيف تستجير أن تأكل طعامي وتفعل كذا عند غيري - ولا يكني - ولبعض الشعراء في ذم أصبهان وأهلها أبيات قال فيها أن ليس للناظر في أرجاء اصبهان من نزهة تحي القلوب غير أوقار العذرة ومن أقبح ما وصف به أيضا أهل أصبهان قول أبي القاسم البغدادي: (يحملون (نجوهم) على رؤوسهم وعلى ظهور دوابهم إلى بساتينهم فينجسون به الأنهار ويربون به الثمار ويأكلونها. أي لعمري هو (نجوهم) منهم بدا وإليهم يعود وهم أحق به. بلدة حشوشها في المسابل وطرقها كالمزابل. لا يوجد ذو كرم ولا نائل)
وعيبت مدينة توزر في إفريقية (بأن أهلها يبيعون ما يتحصل في مراحيضهم من رجيع الناس يفخلون به بقولهم وبساتينهم ولكنهم لا يرغبون فيه إلا إذا كان جافا فيحملهم ذلك على عدم الاستنجاء في مراحيضهم، ويخرج أحدهم من بيته حتى يأتي القناة فيستنجي من مائها وربما اتخذ أحدهم المراحيض على قارعة الطريق للواردين عليها ليأخذ ما يتحصل من ذلك ويبيعه) ولذلك قال الجاحظ: (من أكرم سمادهم الأبعار كلها والأخثاء. إذا جفت، وما بين الثلط جافا والخثاء وبين العذرة جافة ويابسة فرق)
وأقبح ما هنالك ما كان يجري في قابس (فإن أكثر دورهم لا مذاهب فيها وإنما يتبرزون في الأفنية فلا يكاد أحدهم يفرغ من قضاء حاجته إلا وقد وقف عليه من يبتدر أخذ ما خرج منه لطعمة البساتين، وربما اجتمع على ذلك النفر فيتشاجرون فيه فيخص به من أراد منهم،(946/8)
وكذلك نساؤهم لا يرين في ذلك حرجا عليهن إذا سترت إحداهن وجهها ولم يعلم من هي)
وأشد ما الطلب على السماد في بغداد حتى بعث الطمع بعض أصحاب الرباع على احتكار ما كان يلقى على الكساحة والمزابل، قال بعضهم: نزلنا دارا بالكراء لكندي فكان في شرطه على السكان أن يكون له روث الدابة وبعر الشاة ونشوار العلوفة) ولابن السميسر في بلنسية وهي من أهم مغارس النارنج والبرتقال في إسبانية تطيف بها منهما حدائق وبساتين ملء البصر:
بلنسية بلدة جنة ... وفيها عيوب متى تختبر
فخارجها زهر كله ... وداخلها برك من قذر
ومن الغريب جدا أن يتنازع الناس إلى هذا الحد القبيح أوقار الأقذار! فهل كان سرقين الحيوانات دون الكفاية؟ ولعل أقرب ما يعلل به هذا الطلب الشديد أن ألبعار والأخثاء كانت تجفف وتدخر للوقود ولا سيما في البلاد التي قلت فيها الأحراج والغياض وتعددت الحمامات كما أشار إليه صاحب كتاب البخلاء حيث قال: (أما الفرث والبعر فحطب إذا جفف عجيب) ولا شك أن مثل هذه العادة كانت في الشرق معروفة شائعة منذ القدم، ولا تزال متبعة في القرى والجبال إلى اليوم وقد ألمح أليها الشعراء قال الهذلي:
وليلة يصطلى بالفرث جازرها ... يختص بالنقرى المثرين داعيها
وللأخطل في إحدى نقائضه
صفر اللحي من وقود الأدخنات إذا ... رد الرفاد وكيف الحالب القرر
يقول هم صفر اللحى من الدخان، والأدخنات السرقين، والرفاد قدح ضخم، والقرر جمع قرة وهي البرد
وفيما عدا الوقود للاصطلاء كان السرقين تحمى به الحمامات وأتانين الملال صانع خبز الملة وتنانير الخبز. ومن مآثر طاهر بن الحسين أنه رأى يوما في قصره ببغداد (دخانا مرتفعا كريه الرائحة فتأذى فسأل عنه فقيل له إن الجيران يخبزون بالبعر والسرجين فقال: إن من اللؤم أن يقيم بمكان بتكلف الجيران شراء الخبز ومعاناته. . . اقصدوا الدور واكسروا التنانير واحصوا جميع من بها من رجل وامرأة وصبي وأجروا على كل واحد منهم خبزة وجميع ما يحتاج إليه. . . فسميت أيامه (الكفاية) وعزم أحد الخلفاء العباسيين(946/9)
على الشرب يوما واستنكف من رؤية الرجيع واستنشاقه بين أزهار البستان، فزينت له أنفته أن يستعيض عنه بما لا يخطر في أذهان الملوك وهو ما رواه التنوخي قال:
(أراد المقتدر الشرب على نرجس في بستان في صحن دار من صغار صحونه فقال بعض من يلي أمر البستان: سبيل هذا النرجس أن يسمد قبل شرب الخليفة عليه بأيام فيحسن ويقوى، فقال هو: ويلك يستعمل (الرجيع) في شيء بحضرتي وأريد أن أشمه قال: بهذا جرت العادة في كل ما يراد تقويته من المزروع، فقال: وما العلة؟ قال: لآن السماد يحميه ويعينه على النبات والخروج، قال: فنحن نحميه بغير السماد. وتقدم فسحق من المسك بمقدار ما احتاج إليه البستان من السماد وسمد به وجلس يشرب عليه يومه وليلته واصطبح من غده عليه، فلما قام أمر بنهبه فانتهب البستانيون والخدم ذلك المسك كله من أصول النرجس واقتلعوه مع طينه حتى خلصوا المسك فصار البستان قاعا صفصفا، وخرج من المال شيء عظيم كثير في ثمن ذلك المسك)
باريس
السربون
شاكر محمود(946/10)
رسالة المربي
الحرية. . . المعنى الحقيقي لها. . . صلتها بالتربية. . .
تحديد رسالة المربي
للأستاذ كمال السيد درويش
(تابع)
لقد اختلف الناس حول تفسير الحرية منذ القدم وسوف يظلون على اختلافهم هذا. وهل ينعم المجتمع الإنساني حتى الآن بالحرية كما يجب أن يكون؟
إن أول معنى للحرية هو الذي فهمه الإنسان الأول حين كان يسعى في الغابات: حرية مطلقة غير مقيدة اللهم إلا بقيود البيئة التي يعيش فيها
ثم تطور معنى الحرية ينمو المجتمع الإنساني وظهور التقاليد تلك التي استبدت بحرية الإنسان وأخذت تسلبه إياها رويدا رويدا حتى شعر في النهاية بسلطانها الديكتاتوري فقام يثور ضد عبودية التقاليد. . . قام يستعيد حريته الأولى. . . حريته المطلقة عرف الإنسان الحرية بمعناها المطلق وما كاد يبتعد عنها حتى عاد إليها. وهذه هي الحرية التي نادى بها جان جاك روسو: (لقد ولد الإنسان حرا. .)
ولكن الحرية المطلقة كانت نكبة على الإنسان فنفر منها وهجرها. وكيف لا يفر منها وقد وجدها تقتل نفسها بنفسها فتستحيل بذلك إلى الديكتاتورية بعينها. ألست حرا في أن أفعل ما أشاء؟ وغيري أليس بدوره حرا؟ سأستعبده بحريتي المطلقة، وسيستعبدني بدوره وهكذا يصبح كل منا عبدا للآخر
جرب الإنسان الحرية المطلقة كما جرب الديكتاتورية فوجد أنهما اسمان لمسمى واحد، ذلك هو العبودية. وواجهته المشكلة فماذا فعل لحلها؟ لقد لجأ إلى الحل الوسط: يجب ألا يتمتع بالحرية هكذا مطلقة من كل القيود كما يجب ألا يعيش بدونها. الحرية المقيدة هي علاج حيرة الإنسان
وخرج الإنسان من المشكلة ليجد مشكلة أخرى اشد تعقيدا، حقا يجب تقييد الحرية ولكن إلى أي حد يجب تقييدها؟!(946/11)
ما اكثر القوانين التي وضعت لتقييد الحرية فإذا بها تلتف حول عنقها لتخنقها وتزهق روحها؟! ما الفائدة إذا كنا سنصيح مرددين: إيه أيتها الحرية، كم من الجرائم ترتكب باسمك؟! لا بد من تحديد المدى الذي يجب أن نذهب إليه في تقييد الحرية حتى لا تنقلب إلى ديكتاتورية وعبودية. ولكي نحدد المدى سنسير مع الطريقة النفسية فنسأل أنفسنا أولا:
ما هو الغرض من تقييد الحرية؟! أليس الغرض هو الكف من ضرر إطلاقها للمحافظة عليها؟ لتكن قيود الحرية هي تلك القيود التي تؤدي حقا إلى تقدمها ونموها لا إلى تأخرها وضمورها وهنا تتضح الصلة الوثيقة بين التربية وبين المعنى الحقيقي للحرية التربية قيد ووسيلة. هي قيد نقيد به حرية المتعلم كوسيلة من وسائل المحافظة على نمو هذه الحرية وازدهارها. وهذا مقياس يمكن أن نقيس به نجاح التربية في الوقت الحالي. أهي قيد يزيد في حرية الإنسان وفي مدى تمتعه بالحياة؟ أم هي عبء ثقيل حرم الإنسان حريته ولا يزال يسلبه إياها كبيرا؟
هذا الطفل الناشئ! لماذا نعلمه؟ أليس غرضنا من ذلك أن نجعله أقدر على فهم مجتمعه والاندماج فيه والتمتع بأكبر قسط من الحرية في الحياة؟ ألسنا نزوده بخبرة من سبقه من الناس لينتفع بها في التغلب على ما يصادفه من عقبات، وكلما تمكن من ذلك اتسع مجال الحرية أمامه لينعم بالحياة؟ إن التربية قيد ضروري لحرية الإنسان وهي بذلك جزء لا يتجزأ منها وعلى العكس من ذلك لو زودنا الطفل بتعليم جاف جامد ليست له أية قيمة علمية في الحياة لن يستفيد منه قط ولن يستخدمه في تذليل ما سيصادفه من مشاكل وعقبات - وما أكثرها - في الحياة. لم يعطه ذلك التعليم أية حرية في الحياة. وهكذا يصبح في نظره مجرد قيد لا اكثر ولا اقل. . مجرد عبء يضاف إلى أعبائه فيثقلها، ومشكلة تضاف إلى مشاكله فتعقدها، ويكون مثل المتعلم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا
يتضح من ذلك أن رسالة المربي يجب أن تكون في العمل بالطريقة السيكولوجية (النفسية) لا المنطقية وفي التخلص من ديكتاتورية التقاليد وفي توطيد دعائم الحرية. . الحرية المقيدة لا المطلقة،. . والحرية المقيدة بأي نوع من أنواع القيود؟! بالقيود التي تزيد في الحرية نفسها
هذا هو الأساس الفلسفي لرسالة المربي في الحياة سواء أكان مدرسا أم غير مدرس. وتلك(946/12)
هي الخلاصة التي استخلصتها الإنسانية خلال العصور، وبعد أن جربت مختلف الاتجاهات فلم تنته إلا إليها، والتي تتمثل في كتابات كبار فلاسفة التربية في الوقت الحالي
ولكن. . كيف يمكن إخراج هذا الأساس الفلسفي إلى خير الوجود العملي؟! سوف يكون ذلك موضوع المقال القادم بإذن الله
كمال السيد دروبش
ليسانيسية الآداب بأمتياز - دبلوم معهد التربية العالي
مدرس بالرمل الثانوية(946/13)
3 - ألمانيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
0يأيها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب
أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله في
بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم أن كنتم تعلمون) صدق الله
العظيم
مطالب:
لمصر في عصرنا الحاضر قضيتان أو إن شئت قضية واحدة ذات شقين: الجلاء والوحدة، فمصر لم تعد تحمل استمرار احتلال إنجلترا لأراضيها منها. ومهما تقدم بريطانيا من حجج فلن يستطيع المصريون أن يؤمنوا بغير الجلاء حلا. وهم على حق، فان احتلال دولة - مهما كانت صديقة - لأراضي دولة أخرى أو جزء منها يعتبر عدوانا عليها واعتداء على استقلالها وأمر لا يقبله عقل سليم أو يرضاه وطني مخلص
وكذلك لا تستطيع مصر أن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى وحدة الوادي تتحطم أمام عينها، وهي وحدة أقامتها العوامل الجغرافية والتاريخية واللغوية والدينية. إن مصر لا تطلب سيادة على السودان وإنما تريد أن تعيد وحدة وادي النيل التي أقامها محمد علي الكبير منذ سنة 1820 وإنشاء دولة قوية موحدة من مصر والسودان، للسودان فيها ما للمصري من حقوق وعليه من واجبات
وبريطانيا ما تزال حجر عثرة في سبيل تحقيق الأمنيتين، بل
إن وزيرها موريسون يعلن في خطابه بتاريخ 307 1951أن
على شعوب الشرق الوسط أن تخفف من غلوائها الوطنية وان
تقبل الأمر الواقع. ويزيد أن إسرائيل أقيمت لكي تبقي ولا(946/14)
يمكن إلقاؤها وإلقاء أهلها في البحر، وأن بريطانيا حريصة
على بقائها. ونحن نسائل الوزير البريطاني: كيف جاز أن
تلقوا بالعرب الآمنين من أهالي فلسطين خارج بلادهم
وأوطانهم في بداية جدباء، وارض قفر لا زرع فيها ولا ماء؟
أيها الوزير: أنت لا ترضى أن تلقي بإسرائيل وأهلها في البحر، فأمامك العرب العزل المشردون فألق بهم في البحر إن لم يعجبك إلقاؤهم في البادية
أيها الوزير: لقد أثمتم في حق بريطانيا وفي حق التاريخ، فجرائمكم في الشرق الأوسط ستظل وصمة عار في جبينكم، وعليكم إن أردتم أن تكفروا عن ذنوبكم أن تردوا الحقوق إلى أهلها. فليرجع عرب فلسطين إلى أوطانهم، ولتعط مصر حقوقها كاملة غير منقوصة فإن ذلك هو الطريق إلى الاستقرار في الشرق الأوسط. لقد صبرنا على عدوانكم سنين طوالا ولم يبق في قوس الصبر منزع. إن كل مصري يهتف من أعماق قله في وجوهكم أن (اخرجوا من بلادنا)
وإني في هذا الحديث أقدم لمواطني قصة قيام ألمانيا الحديثة عسى أن تتخذ منها مثلا والله ولي التوفيق
اصطلاح جغرافي:
كانت ألمانيا مقسمة إلى عدة ولايات ودول وكانت مملكة بروسيا أعلاها شأنا، وكانت السيادة على العالم الألماني للنمسا فلم تكن هناك دولة إذن تجمع شتات الألمان عنهم العدوان، وقد ذاق الألمان على يد نابليون الكثير من صنوف العذاب وألوان الهوان. ومع هذا فإن مؤتمر فينا 1815 أهمل مطالب الألمان القومية وبقيت ألمانيا مقسمة وتسودها النمسا حتى 1863 وتمت وحدتها على يد داهيتها بسمارك
بسمارك:
يقول أحد المؤرخين (إن القرن التاسع عشر يقتسمه رجلان: نابليون في النصف الأول(946/15)
وبسمارك في النصف الثاني: ويطلق المؤرخون على الفترة من 1870 - 1890 اسم (عصر بسمارك) لأن بسمارك كان قطب السياسية الدولية لدفتها في تلك الفترة
ولد بسمارك سنة 1815وتعلم في جامعتي جوتنجن وبرلين، ثم التحق بخدمة الحكومة ولكنه استقال، وظل كذلك حتى انتخب عضوا في برلمان برلين سنة 1848 ثم عين مندوبا بروسيا في الديت الألماني. وبعد تعين سفيرا لبروسيا في بطر سبرج ثم في باريس. وهناك اتصل بساسة الدولتين وعرفهم عن قرب عاد بسمارك إلى برلين وتولى الوزارة. كان أسمى أمانيه إنشاء اتحاد يشمل جميع الولايات الألمانية تحت رياسة بروسيا، ولهذا عمد إلى تقوية الجيش، لكن البرلمان عارض فقال بسمارك عبارته المشهورة (إن المسألة الألمانية لا تحل بمناقشات برلمانية ولكن تحل بالدم والحديد) ولم يعبأ بمعارضة البرلمان وكون لبروسيا جيشا قويا كان عدتها في تكوين وحدتها
كان بسمارك يعلم أن وحدة ألمانيا لن تتم إلا بقيام حربين: حرب مع النمسا، وأخرى مع فرنسا. وهنا تتجلى عبقرية بسمارك الدبلوماسية، فقد قرر أنه في حالة قيام الحرب يجب عليه أن يحارب دولة واحدة فقط، ولذلك كان يعمد إلى عزل هذه الدولة حتى لا تجد لنفسها نصيرا أو حليفا، وبذلك سرعان ما تنهزم أمام قواته المدربة
الحرب مع النمسا:
كان ملك الدانمارك يحكم ولايتين ألمانيتين: شلزديج وهولشتين. وفي عام 1864 اتفق بسمارك مع النمسا على انتزاع الولايتين من يد الدانمارك، وسارت جيوشها فأخذت بروسيا شلزويج وأخذت النمسا هولشتين
بعد هذا عمد إلى عزل النمسا دوليا. . جامل الروسيا أثناء إقامته فيها وأثناء الثورة البولندية إذ وقف في وجه الثوار يمنع عنهم العتاد والأسلحة ويمنعهم من الفرار من بولندا فحفظت روسيا هذا الجميل
وأما فرنسا فقد قابل إمبراطورها نابليون الثالث في بيارتز وهناك اتفق معه على أن يقف على الحياد وفي مقابل ذلك يأخذ بلجيكا أو بعض ولايات الرين الألمانية
وأما إيطاليا فقد انضمت إلى صفة لأن النمسا كانت تحتل البندقية فتعهدت بالدخول في الحرب مع بروسيا لتأخذ البندقية أعد بسمارك قواته، وعزل النمسا دوليا واصبح الطريق(946/16)
إلى الوحدة أمامه معبدا، فاتهم النمسا بأنها تسيء الحكم في ولاية هولشتين وسير فاحتلها. أعلنت النمسا الحرب وسرعان ما سحقت قوات بروسيا قواتها في معركة سادرا 2 يولية سنة 1866 وهنا نرى لونا آخر من عبقرية بسمارك: لقد أصبح الطريق إلى فينا مفتوحا أمام القوات البروسية، ولكن بسمارك أمرها بالوقوف وبدأ مفاوضات الصلح معها فعقدت معاهدة براغ 1866وبها اعترفت النمسا بتكوين اتحاد بزعامة بروسيا من الولايات الألمانية الشمالية
لماذا لم يتقدم بسمارك ويحتل فينا؟ إنه كان يطمع في صداقة النمسا وكان يؤمن بأن الحرب مع فرنسا آتية لا ريب فيها، ولذلك رأى عدم إذلال النمسا حتى لا تنضم في النزاع المقبل إلى فرنسا
الحرب مع فرنسا:
كانت سياسية فرنسا تقوم على أساس منع قيام دولة ألمانية موحدة، ولك ثار الشعب الفرنسي على إمبراطورة عقب سادرا واعتبر الكتاب الفرنسيون أن فرنسا هي التي هزمت في سادرا لا النمسا واتهم الإمبراطور بالتقصير
كان بسمارك يستعد للمعركة، فأعد الجيش، ومد الطرق الحديدية إلى الحدود الفرنسية، وعمد إلى عزل فرنسا دوليا: فروسيا صديقته وإيطاليا كذلك إذا بر بوعده لها وأعطاها البندقية. وأما النمسا فكانت لا ترى نفسها في حالة تدفعها إلى الدخول في حرب جديدة
بقيت إنجلترا وهذه لا تهتم إلا بالبلجيك، وسياستها تعمل داما على منع وقوع بلجيكا في يد دولة معادية سواء كانت فرنسا أو ألمانيا. طالب نابليون الثالث بمكافأته حتى يغطي مركزه في فرنسا، ولكن بسمارك رفض إعطاءه أراضي ألمانية أو بلجيكية، ونشر مكتبات نابليون فأثار الشعور الأماني ضده وأثار الإنجليز وهكذا بقيت فرنسا وحيدة بعد هذا عمد بسمارك إلى إثارتها واتخذ من مسألة النزاع حول العرش الإسباني في إشعال الحرب. واندفعت فرنسا فسقطت في الهوة التي حفرها بسمارك. وقامت الحرب وسرعان ما هزمت الجيوش الفرنسية في كل مكان وسقطت إمبراطورية نابليون الثالث غير مأسوف عليها. وتقدم الألمان واحتلوا باريس وتوج الملك ولهلم إمبراطوراً لألمانيا في قصر فرساي في 18 يناير سنة 1871وهكذا تم الاتحاد الألماني بقوة الدم والحديد ومنذ قيام ألمانيا الحديثة أصبحت(946/17)
إحدى الدول الكبرى التي تتحكم في مصير العالم، وقد ظل وزيرها بسمارك يسيطر على السياسية الدولية ويدير دفتها حتى عزله الإمبراطور ولهلم الثاني، ومما لا شك فيه أن بسمارك يعتبر أستاذ الساسة الألمان وأبرعهم، فقد كان يرسم خطة المعركة قبل خوضها ويحيطها بالعوامل التي تكفل له النصر. وعلى نهجه حاول هتلر أن يسير، ولكن التوفيق جانبه في النهاية، بينما لازم التوفيق بسمارك طوال حياته
للكلام بقية
أبو الفتوح عطيفة
المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية(946/18)
2 - شاعر مجهول
للأستاذ حسني كنعان
شاع في سوريا أن قوة كثيفة قادمة من الأناضول التركي يتقدمها كبار القادة والصدر الأعظم قد أعدها السلطان للقضاء على جيش إبراهيم باشا والقضاء على حركته التحريرية قبل أن يستشري شرها ويستفحل أمرها. وما كادت تتخطى هذه القوة حلب وتصل إلى منبج حتى تلقتها أيدي الصقور المصرية، فأسرت القادة ثم أسرت الصدر الأعظم نفسه، فتمزق ذلك الجيش الذي أطلقوا عليه جيش الخلاص والإنقاذ، ففر منه عائدا إلى تركيا، وأسر من أسر من أفراده، فكانت هذه النكسة للأتراك بمثابة فضيحة كبرى طمعت الدول الأجنبية بهم، وجعلتهم يطلقون على الدولة العثمانية الرجل المريض، فأزمعوا تقسيمها مذ رأوا أن عاملا من ولاتها استطاع أن يغلبها على أمرها ويضطرها إلى الاستعانة بهم. وكان من أمر الأجانب المستعمرين الطامعين ما كان من التدخل في شؤون الدولة العثمانية، وتغير وجه التاريخ، ولولا ذلك التدخل لرفرف العلم المصري فوق سراي يلديز مقر سلاطين آل عثمان ولتحررت البلاد العربية جميعها، فاستدعى محمد علي ولده إبراهيم إلى القاهرة ليتداولا في الأمر، وكان معه شاعرنا الجندي الذي سبقه اسمه إلى مصر وذاع خبره فيها، لأن قصائده في مدح الباشا القائد ووصف معاركه قد تنقلها الأيدي وتداولتها الأسماع، فلقى هناك من حفاوة شعراء ذلك العصر وأدبائهم ما جعله مغتبطا مسرورا بهذه الزيارة، فمدح أميرها بما جعله مرموقا في أعين أمرائها وزعمائها. ومما قاله في مدح محمد علي الكبير من قصيدة جاء فيها
سرت والنور يغشاها سحيرا ... وعرف المسك يصحبها مليا
وسرت متابعا بللثم منها ... وماطيء نصلها الرطب الزكيا
إلى أن أجلستني فوق عرش ... لدى قصر حوى روضا بهيا
ذكرت لها الأفاضل فاستهلت ... بمن لأبي الحسين غدا سميا
إماما عارفا برا تقيا ... خفاجيا كريما أريحيا
إذا ما قال أما بعد يبدي ... لنا إيضاحه المعنى الخفيا
به مذ شرفت ضمياط قدرا ... كساها المجد ثوبا سندسيا(946/19)
أعار الزي أحنف بن قيس ... وفاق يحسن سيرته الثريا
يمر على البلاد كنيل مصر ... فيروى أهلها حيا فحيا
نعم أم الزمان غدت عقيما ... إذا عن مثله فاقصر أخيا
لنحو علاك بنت الفكر وافت ... وغيرك لم نجد خلا وفيا
فهب تقصير شعري لاعترافي ... أيا من فاق في الفضل الرضيا
فإني فيك قد شرفت نظمي ... وجئت أروم منحا أخرويا
وصل مسلما دوما على من ... على بالجسم مرتبة الثريا
وآل ما البديعة في خباها ... بدت شمسا وماست سمهريا
فكان لهذه القصيدة تأثيرها الحسن لدى الأمير المصري الكبير وكان لها وقعها وصداها
مكث الجندي مدة في القاهرة يتمتع بعطف الأسرة العلوية ويرتع في خبراتها ومباراتها، ينظم فيها القصائد ويضع القدود والموشحات، وكان طوال إقامته في مصر كعبة قصاد أهل الفن، أخذ عنه أرباب الفن كثيرا من الموشحات والمواويل والقدود والأدوار والقصائد، فلحنوا هناك. وكانت لهم بمثابة مادة فنية جديدة أكبوا على تلحينها والتغني بها مدة من الزمن أفاضت على القطر لونا جديدا من ألوان الغناء، فيها المتعة واللذة والمعاني المبتكرة الأخاذة، ولا تزال موشحاته وقدوده تستعمل في المغنى القديم حتى الآن دون أن تعرف أنها من نظمه ووضعه، منها موشح
يا غزالي كيف عنى أبعدوك (من نغمة الإصبعان)
ومنها موشح تيمتني (من نغمة البياتي) ومنها موشح أهوى الغزال الربربي باهي الجمال من نغمة الحجاز التي نشرت في الرسالة سابقا. ومن الموشحات المشهورة التي لم تنشر هنا بعد قوله من نغمة البياتي - نواه
يا صاح الصبر وهي مني ... وشقيق الروح نأي عني
بالحسن يفوق على الند ... إن ماس بأثواب الند
وحسام لواحظه الهندي ... قد جرد من غمد الجفن
شمس بأطالسها حلت ... ولبند ذوائبها حلت
وبشهد مباسمها حلت ... للكأس فما بنت الدن(946/20)
بلطافة معناها رقت ... ولمد محاسنها رقت
ولفرط نحولي مذ رقت ... لطفا أحسنت بها ظني
زارت والعنبر يصحبها ... وسحاب النور يحجبها
وإذا ما لاح منقبها ... أبصرت الشمس على الغصن
ما أحلى حين أشاهدها ... وبما ترضاه أناشدها
واجلي للقلب مشاهدها ... من راجي الغفلة والظن
وهناك موشحات في الديوان أرى من الفائدة الإتيان على ذكرها في هذه الكلمة تتمة للفائدة: منها موشح من نغمة الرصد: مطلعه
الحب في صدق النية ... خير الصفات المرضية
قد لذ صافي المشرب ... في حالة الباز الأشهب
وصار لي نعم المذهب ... هجر السوي بالكلية
طابت ليالي الأفراح=وراق خمر الأقداح
وقد زكا للأرواح ... نشر الرياض الإنسية
سلطان أهل التحقيق ... بعد الإمام الصديق
ما حي ظلام التعويق ... راقي مقام القطبية
مالي إذا عز الناصر ... إلا حمى عبد القادر
راعي الحمى الزاخر ... سر المعاني القدسية
إن كنت معنا فاتبعنا ... واصبر على البلوى معنا
وإن تسل عن ذي المعنى ... هذا طريق الصوفية
صلاة مولاي الباري ... على النبي المختار
والآل عد الأمطار ... أزكى صلاة مرضية
هذا لون من ألوان الموشحات الصوفية المتداولة لدينا حتى الآن في حلقات الأذكار، وأردته على صوفية شاعرنا وهوايته في المذهب. ولقد كان أهل زمانه يضعونه في مصاف الأقطاب أهل الكشف أصحاب الكرامات. وقيل إنه زار حلب في سنة من السنين وكانت سنة ما حلة مجدبة ما بضت السماء بقطرة مطر واحدة، فخرج الحلبيون إلى العراء(946/21)
يستسقون ويستغيثون وكان هذا الجندي في طلعيتهم، فنظم في الحال موشحه المشهور الذي نشرته الرسالة سابقا ومطلعة
يا ذا العطا يا ذا السخا يا ذا الوفا ... إسق العطاش تكرما فالعقل طاش من الظما
إلى آخر الأبيات، ويذكر الطاعنون في السن في بلادنا الشامية نقلا عن آبائهم وأجدادهم، أن مواكب المستغيثين ما كاد يصل إلى المدينة راجعا من العراء حتى جادت السماء بغيث مدرار لم تحصل عليه التربة الحلبية منذ عشرات السنين، وبهذا أنقذ الموسم. . . وكانت سنتئذ تعد من السنين المخصبة الممرعة لديهم. ولهذا لا يزال الحلبيون حتى الآن يفزعون إلى العراء كلما ضنت عليهم السحب بالأمطار، ينشدون هذه الموشحات إذ يعتقدون فيها الخير والبركة. . . ولكن الخير والبركة بعيدتان عن أهل هذا العصر الذي طغى عليهم فيه الكفر والإلحاد. . . فلم تعد تفيدهم في ضن مواسمهم وشحها لا توسلات إسق العطاش ولا بل الفراش. . . فديوان شاعرنا قد حوى الكثير من أمثال هذه الموشحات التي يضيق المقام عن سردها. أما في الأشعار الغزلية فلقد فاضت ريحة الشاعر المطبوع بالشيء الكثير، ومن أغرب ما رأيته فيها قوله من قصيدة له مشهورة مطلعها
هزوا القدود فأخجلوا سمر القنا ... وتقلدوا عوض السويف الأعينا
وتبادروا للعاشقين فكلهم ... طلب النجاة لنفسه إلا أنا
لا خير في جفن إذا لم يكتحل ... أرقا ولا جسد تجافاه الضنا
لما انثنى من سندس ... قالت غصون البان: ما أبقى لنا؟
وبثغره وبخده وعذاره ... معنى العذيب وبارق والمنحنى
أقسى علي من الحديد فؤاده ... ومن الحرير نراه خدا لينا
قلبه القاسي ورقة خصره ... هلا نقلت إلى هنا من ها هنا
شبهته بالبدر قال ظلمتني ... يا عاشقي بالله ظلما بينا
من أين للبدر الأتم ذوائبا ... أو مقلة أو ورد خد يجتني
البدر ينقص والكمال لطلعتي ... فلذاك قد أصبحت منه أحسنا
لو أن رقة خصره في قلبه ... ما كان جار على المحب ولا جنى
هذا نوع من أنواع أشعاره في الغزل وهي كثيرة ولا يحصى لها عد، أقل ما يقال فيها أنها(946/22)
وإن كانت قديمة لا تتمشى مع رغبات أبناء العصر الحاضر، إلا أنها في ثناياها حشاشة شاعر تكاد تذوب ورقة وتقطر حلاوة وفنا
يتبع
حسني كنعان
دمشق(946/23)
مع شوقي الخالد:
مسرحية مصرع كليوباترا
تتمة ما نشر في العدد الماضي
للأستاذ حسين كامل عزمي
ثم يضرب شوقي ضربته النفسية الرائعة، المؤثرة، البليغة. في إسداله ستائر الموت على الجو الأخير، بنشيد الموت. . حتى إذا ما انتهى الموت، وضمن الشاعر تهيئة الجو النفسي للجمهور، يدخل القائد بالمعاهدة المهينة. فيضمن الشاعر بذلك سخط الجمهور على الدخيل، ثم يجري على لسان القائد تلميحا، كالسهم الموجع، يمس الأنثى المسكينة (كما صورها شوقي) فيضمن أيضا ثورة الجمهور، متضمنة عطفا انفعاليا غير واع على البطلة. . . ثم يأتي تصوير الانتحار. . . الملكة متخاذلة، ضعيفة، مسكينة، تصانع الحراس، وتتلقى تجريح القائد، وتتعاطف مع الخدم، و. . وتذوي في نشيد الموت. . . ثم تناجي زنبقة في الآتية. . . ولكم أحسن شوقي تصوير كليوباترا الأنثى في هذا الموقف. . . فها هي ذي منحنية على زنبقة في أصيص، تعاطف مع الطبيعة الصامتة شاعرة، متصوفة - ما أبعدها عن كليوباترا التاريخ الخاطئة - اسمها تقول:
زنبقة في الآنية ... ضحية الأنانية
جنت عليها غربة ال ... أسر الأكف الجانية
وبدلت من سعة الرب ... وة ضيق الباطيه
يسقونها من جرة ... بعد العيون الجارية
يا جارتا شأنك لا ... يشبه إلا شانيه
لم يبق من ملكي العر ... يض غير دار خاويه
وكلنا ذابلة ... عما قليل ذاويه
زال النعيم وفرغ ... نا من حياة فانية
وبعد. . فكليوباترا أم لا تقوى على مراجعة طفليها وحدها فتستند إلى شرميون قائلة:
أدخلي بي ياشرميون على طفلي ... أودعهم الوداع الرهيبا(946/24)
فعساهم إذا تحجب صدري ... وجدوا صدرك الحفي الرحيبا
ثم تبارك - خاطئة التاريخ - الحب الطاهر بكلام ككلام المتصوفين، تقول:
ولدي اهجروا القصور فإني ... قد وجدت النعيم فيها غريبا
ثم تمنحها ضيعة للحب. .
وشوقي بعد كل هذا حريص على أن يترك ساحة كليوباترا نقية. . فهو يبارك هذا الحب أيضا، ولا يجني على هيلانة فتقع تبعة موتها على كليوباترا، فيخترع معجزة (حلقة النجاة) ضاربا بالواقعية عرض الحائط، في سبيل الوصول إلى الغرض الأول والأخير. . . ثم لا يترك كليوباترا إلى راكعة أمام تمثال إيزيس نائبة، مستغفرة، مسترحمة، ملقية تبعة خطاياه على الحياة. . في فلسفة واهية الأساس، وغن كانت متساندة، بعد أن هيأ لها شوقي ذلك الجو الذي أسلفنا تحليله. . .
ولحظة الانتحار - وإن مرقت كالبرق - إلا أنها أضاءت بالأمل الذي يريد أن يتشبث بالشباب، فيمنعه شيء في النفس. . كما تجلى ذلك في قولها:
الملكة: عجل فديتك
أنطونيو: لا. . لا نريد من ثمن
الملكة: كرائم المال
أنطونيو: ما للمال مقدار
الملكة: إلى الأفاعي؟
أنوبيس: لا إلى المحراب
الملكة: رأيكما في المكث والذهاب
زينون: أتعلم يا غلام على عشقا
حابني: دع الإنكار قد برح الخفاء
زينون: ومن أنبأك
حابي: أنت
زينون: وكيف؟
حابي: تهذي. . . فتفضحك الوساوس والهذاء(946/25)
الملكة: ماذا وراء الجندي؟
الحارس: رسالة من عبد هل تأذنين؟
الملكة: أد
د - شعر المسرحية:
في هذه المسرحية قصائد خالدات يسجلها تاريخ الأدب للأجيال المتعاقبة باحترام صادق عميق، وهو مؤمن بشاعرية شوقي. . . فلو سأل سائل ما هو الشعر لقرأنا له: (يا طيب وادي العدم)، ولقرأنا له (أنا أنطونيو وأنطونيوا أنا)، ولقرأنا له: (زنبقة في الآنية)، ولقرأنا. (نام مركو ولم أنم). . ثم سكتنا. . . وهو - أي السائل - لا بد شاعر بما سأل عنه. . . فهذا الشعر ليس في حاجة إلى الإقناع بأنه شعر، إنه مناجاة عاطفية ذاتية إنسانية، مناجاة آتية من بعيد - كالأمواج المنسابة في ريث - تأخذ طريقها إلى نفسك وفي رفق، وصمت وعمق. . فتصغي إليها بكل حواسك، وكأنك تصغي إلى حبيب وأنت نشوان غائب فيه. . أراد شوقي أن يناجينا مناجاة العدم، فأتى بنشيد الموت. . وقد تمثله حقا، فاستطاع أن يمثله لنا، وأن يجذبنا إليه، وأن يجعلنا معه. . .
ذلك الموت الحالم المريح الذي قدمه لمزمعة الانتحار كليوباترا. . . ذلك الوادي الطيب، حيث الهروب مما لا نطيق، حيث العزلة، حيث تلاقي كليوباترا حبيبها، وتكون له خالصة ويكون لها كذلك. .
ما أجمل هذا الوادي، وما احبه للنفس اليائسة الراغبة في الانتحار. . . إن وادي شوقي هذا هو وادي العدم حقا. إنه واد (لم تمش فيه قدم) مجدب خال. إنه الموت. . . وحلق مع شوقي وارتفع بخيالك واسبح مع الشراع الفضي الذي يسري (كالحلم في الغمض)، وهو ثابت متحرك، لأنه حلم (يجري ولا يجري). . . واسمع الأحزان الموت المريح، لهذا النداء الحزين:
يا موت مل بالشراع ... واحمل جريح الحياة
وانظر مع شوقي لهذا الفلك وإلمحه من بعيد، وهو يخترق اليم (تحسبه نجما. . .) وتأمل سلبية هذا الزور، فهو ليس به ملامح، وهو:
من نفسي يجري ... لم يجره مجداف(946/26)
وهو يجري ولا يجري. . إنها أمور محيرة. . إنه الموت، لا بلاغة يجول فيها العلماء. . . وهنا يخجل التحليل والتشريح. . . إنها أنفاس شاعر قد بثها في كل شطر. . أما النغم في هذه القصائد فهو يبدو في اللفظ والوزن والتركيب، وفي أبعد من هذا نفس الشاعر التي امتلأت بما يقول أما هذا النغم فهو همس صادق حزين، مستريح وأوى لحزنه. . حسبك أن تنصت لهذا الشعر، فتحسب أنه أغان تهمس بها نفسك أنت وهي كلمة قصيرة عن هذا الشعر الرفيع في هذه المسرحية. . . وإذا بحثنا عن عثرات فنية في شعر شوقي في هذه المسرحية فلن نجد ما يهبط بشاعريته. . .
فما يقوله دائما له مدلول ليس فيه فضول. .
فهو يتهالك على الشعر لينظم، بل عنده ما يقوله، بل ما يجب أن يقوله. . .
وإذا أردنا أن نلتمس شعراً ضعيفا فلنلتمسه في أبيات متبادلة بين أشخاص المسرحية. . . وذلك لطبيعة الشعر المسرحي. . . وللشاعر عذر في ذلك إلى حد ما، فهو لا يستطيع أن ينقل إلينا الكلام العادي الذي يجري على ألسنتنا ولا يستطيع أن يمثل لناحياتنا اليومية إلا بمثل هذا النظم. . .
والذي نلاحظه بجلاء أن شوقيا أسير لجلجلة الشعر العربي القديم، وذلك واضح جدا في كثير من قصائده الطوال في هذه المسرحية، مثل:
(وداعا كليوباترا إلى يوم نلتقي. . .)، (اليوم أقصر باطلي وضلالي. .)، (هلمي منقذي هلمي. .)، (أمانا إله الحرب ما أنت صانع. .)، (روما حنانك واغفري لفتاك. .)
في كل هذه القصائد يحمل شوقي روح الشعر العربي القديم ولا يمنع هذا من أنه يصف الحال ويعبر أحسن التعبير. . وتتجلى هذه الروح حينما ينفرد شوقي بنفسه ويطلق لها العنان على ألسنة أبطاله، وكأنه يثأر من قيود الحوار
وخلاصة رأينا في شوقي هي أننا - كما يقول أستاذنا الجليل الزيات بك (قد علمناه بالدرس، وعرفناه بالصحبة، فما أنخذل يوما في تحليقه وإسفافه عن مواقف العبقرية. . . ولئن كان في شعر شبابه مأسور الفكر، محصور الخيال، محدود النظر، لا يعبر إلا عن رأي القصر، ولا يصور إلا بألوان البيئة، لقد كانت هذه الحقبة الرسمية غيبة للشاعر عن نفسه، وذهولا منه عن وجوده، وقديما كانت صلات الشعراء بالملوك والخلفاء عاهة الشعر(946/27)
وآفة العبقرية، فلما أعتقته الحرب من رق الوظيفة، وأطلقته إنجلترا بالنفي إلى الأندلس، تيقظ فيه الرسول الشاعر والحكيم المصلح. . فحلق بخياله في كل جو، وسطع بعقله في كل أفق، وشدا بالإسلام والعروبة شدوا ردده كل لسان واهتز له كل قلب. . ثم زاد في القيثارة العربية الأوتار الناقصة. . . فاضاف الشعر القصصي، والشعر التمثيلي، إلى شعرنا الغنائي، فكان بذلك وحده: الشاعر الكامل)
السويس
حسين كامل عزمي(946/28)
عبد الرحمن بن الأشعث
للأستاذ حمدي الحسيني
لم يكن في العراق رجل أبغض إلى الحجاج من عبد ارحمن ابن الأشعث لخيلائه وزهوه وطموحه وعلو همته. ولم يكن في العراق رجل أبغض إلى أين الأشعث من الحجاج لقوته وحزمه ويقظة عينه وقلبه. كان الحجاج يقول: (والله ما رأيت ابن الأشعث قط إلا أردت قتله. وقد رآه ذات يوم يختال في مشيته مزهوا فقال لبعض أصحابه: انظر إلى مشيته والله لهممت أن أضرب عنقه. فنقلت هذه القولة إلى ابن الشعث فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه فأجهد الجهد إذا طال بي وبه بقاء. ولكن كره الحجاج لابن الشعث هذا الكره ومجدته عليه كل هذه الموجدة لم تمنع الحجاج من انتدابه للأمر الخطير، وتوجيهه إياه للتغلب على الصعوبة العظيمة والخطب الجسيم
نقض روتبيل ملك الترك شروط الصلح بينه وبين المسلمين فساء ذلك الحجاج وكربه فامر عامله علي سجستان أن يغزو روتبيل فيستبيح أرضه ويهدم قلاعه ويقتل مقاتلته ويس ذريته فصدع بالأمر وغزا فتظاهر الترك أمام الغزاة بالهزيمة وما كاد المسلمون يوغلون في البلاد حتى أطبق عليهم أهلها إطباقه محكمة، فذعر المسلمون ذعرا شديداً واضطروا أن يطلبوا الصلح من رتبيل ولكن أي صلح؟ طلبوا من رتبيل أن يصلاحهم على أن يدفعوا له مبلغا عظيما من المال لقاء أن يفتتح لهم طريقا للانسحاب فانسحب المسلمون وهم في أسو حال. وصل خبر الهزيمة إلى الحجاج فقام له وقعد وبرق ورعد، فكتب إلى عبد الملك يقول إن جند أمير المؤمنين الذين بسجستان أصيبوا فلم ينج منهم إلا القليل. وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم وغلبوا على حصونهم وقصورهم. وقد أردت أن أوجه إليهم جهدا كثيفا من أهل المصرين فأحببت أن أستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك فإذا رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده مع إني أتخوف إن لم يأت روتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك القطر كله. فأجابه عبد الملك: أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان وأولئك قوم كتب اللع عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وعلى الله ثوابهم. وأما ما أردت أن يأتيك فيه رأي من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك القطر إلى أصيب فيه(946/29)
المسلمون أو كفها فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشداً موفقاً
ما كاد يصل أمر الخليفة إلى الحجاج بالتعبئة العسكرية حتى عبأ أربعين ألفا من أهل الكوفة والبصرة، أعطاهم أعطياتهم كاملة وسلحهم بأحسن السلاح وحملهم على أروع الخيول وأخذ يستعرضهم استعراضا عسكريا فلا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، ولكن من لهذا الجيش (جيش الطواويس) كما كان يسميه الحجاج يقوده فيؤدب به أولئك المشركين الغادرين ويسترجع بلادا إسلامية تكاد تطير من حظيرة الإسلام؟ ليس لهذا الأمر العظيم غير عبد الرحمن بن الأشعث. فولاه الحجاج على قيادة هذا الجيش العظيم برغم نصيحة إسماعيل بن الأشعث له بعدم تولية عبد الرحمن إذ قال للحجاج: لا تبعثه فإني أخاف خلافه والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطاناً
طار عبد الرحمن إلى سجستان فما كادت قدمه تطأ أرضها حتى جمع الناس فصعد المنبر ثم قال: أيها الناس إن الأمير الحجاج ولاني وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم. فإياكم أن يختلف منك رجل فيحل بنفسه العقوبة. اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس. فعسكر الناس كلهم في معسكرهم فبلغ ذلك روتبيل فكتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره بأنه كان لذلك كارها الصلح عليه ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج. ولكن عبد الرحمن عرف أن روتبيل يخادعه فلم يعبأ بقوله وسار بجيشه الجرار حتى دخل بلاد المشركين فانكمش المشركون أمامه انكماش هزيمة، وأخذوا يحلون له بلادهم بلدا بلدا وحصونهم حصناً. . حصناً، فأخذ عبد الرحمن كلما حوى بلدا بعث إليه عاملا وبعث معه أعوانا، ووضع البرد بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على المرتفعات والشعاب، ووضع المخافر المسلحة في كل مكان مخوف. حتى إذا حاز من أرض المشركين قسطاً عظيما وملأ يديه من الغنائم والأموال وقف الزحف وقال: نكتفي بما أصبناه هذا العام من بلادهم حتى نجيبها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثم تحتل في العام المقبل ما ووراءها، ثم لم نزل تنتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذر أريهم وممتع حصونهم ثم لا تزال بلادهم حتى يهلكهم الله
كتب عبد ارحمن بن الأشعث إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو وبخطته العسكرية التي وضعها للاستيلاء التدريجي على بقية البلاد المغزوة فأجابه الحجاج: إن(946/30)
كتابك أتاني وفهمت ما ذكرت فيه وكتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة. قد صانع عدوا قليلا ذليلا قد أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا وغناؤهم في الإسلام عظيما. لعمرك إنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لتحي النفس عمن أصيب من المسلمين
إني لم أعد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأي مكيدة ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك والثياث رأيك فامض لما أمرتك به الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلهم وسلب ذراريهم ثم أردفه كتابا آخر قال فيه: مر من قبلك من المسلمين فليحرثوا ويقيموا فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم أردفه كتابا ثالثاً قال فيه: امض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم وإلا فإن إسحاق بن محمد أخاك أمير الناس فخله وما وليته. بمثل هذه اللهجة القاسية المذلة يخاطب الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث الحاقد الطموح القابض على زمام أكبر جيش مؤلف من أهل البصرة والكوفة الحاقدين على الحجاج وبني أمية. في حين أن ابن الشعث قد عمل عملا حربيا صحيحا أنتج طيبة وارتأى رأيا عسكريا فيه الشيء الكثير من الحكمة والحزم، فكان على الحجاج إما أن يقره على رأيه ويناقشه مناقشة تقوم على حفظ الكرامة وعدم إثارة كوامن الحقد في نفسه. ولننظر الآن الأثر الذي أحدثته كتب الحجاج لابن الأشعث
جمع ابن الأشعث الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني لكم ناصح ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأي فيما بينكم وبين عدوكم رأي استشرت فيه ذوي أحلامكم وأولي التجربة في الحرب منكم فرفضوه لكم رأيا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا، وقد كتب إلى أميركم الحجاج فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو وهي البلاد التي هللت إخوانكم فيها بالمس وإنما رجل منك أمضي إذا مضيتم وأبي إذا أبيتم وماك ينتهي ابن الشعث من خطابه حتى هب الجيش محتجا على الحجاج ثم أفضى الأمر إلى خلع الحجاج وإعلان العصيان له والخروج عليه، وهذا ما أراده ابن الأشعث الطموح المزاحم للحجاج على إمرة العراق. خلع جيش العراق الحجاج وبايع ابن الأشعث فهب عبد الرحمن يقود الجيش إلى العراق ليحتله ويتربع على كرسي الحكم فيه. وكان ابن الأشعث يضمر أكثر من هذا فقد(946/31)
كان يضمر خلع عبد الملك وانتزاع الخلافة منه. وصل خبر انتفاض إلى الحجاج فأبلغه الحجاج في الحال إلى عبد الملك فكان وقع الخبر على الحجاج وعبد الملك عظيما جدا لأنهما كانا يقدران لابن الشعث قدره ويعرفان مبلغ حقد أهل العراق على الحجاج والأمويين كل المعرفة، ولكنهما استعدا لمقاومة ابن الأشعث بجيوش هل العراق فتولى الحجاج القيادة بنفسه وسار بجيشه يستقبل ابن الأشعث في طريق للأهواز فوقعت بين الفريقين معركة دامية انهزم فيها الحجاج فاستولى ابن الأشعث على البصرة فبايعه أهل البصرة جميعهم على حرب الحجاج وخلع عبد الملك، ولكن الحجاج لم يضعف أمام هذه الصدمة فاستعد لمعركة أخرى وقعت بينه وبين أبن الأشعث في الزاوية التي دارت فيها الدائرة على الحجاج أيضاً فاستجابت مدن العراق لابن الأشعث بعد هذا النصر فتزجه إلى الكوفة فخرج إليه أهلها يستقبلونه استقبال المنقذ لهم من براثن الحجاج فأصبح الحجاج ولا أثر لسلطانه على البصرة والكوفة، فاتصل الخبر بعبد الملك ففزع له وتوقع أسوأ العواقب فبعث بأخيه وابنه إلى أهل العراق الثائرين يعرض عليهم شروطا للصلح تقوم على عزل الحجاج عن العراق وتولية ابن الأشعث مكانه فرفض الثوار شروط الصلح رفضا باتا، فأخذ الحجاج يقاتل الثوار برغم ما تركته محاولة عبد الملك الصلح مع الثوار في نفسه من الألم
جرت بين الفريقين حروب كثيرة ومعارك حامية الوطيس في دير الجماجم بالقرب من الكوفة كانت نتيجتها انهزام جيش ابن الأشعث ففر ابن الشعث إلى بلاد روتبيل فدخلها لاجئا وعاد الحجاج إلى ما كان له سلطان في العراق وكان من أمر ابن الأشعث أن قبض عليه روتبيل وقتله وقبض على أهل بيته أرسلهم مع رأس عبد الرحمن إلى الحجاج كسبا لمرضاته
حمدي الحسيني(946/32)
5 - رحلة إلى ديار الروم
للسيد مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
في الطريق إلى القاهرة:
وبعد الشمس قطعنا الصخور وبان بان الجفا والشرور، ولم نزل نقطع بحيرة بحيرة، وقرية قرية ما بها طيرة، إلى أن وصلنا بإسعاف اللطيف الخبير، إلى محل بإمداد مطير، كاد لولا المعونة والتبشير، تحصيل الانقلاب في الطيار الكبير، ورجفت القلوب واتسع رنق الخطوب، وكان الليل دهم وزاد ولم ننم إلا اليسر، لغلبة وارد، وهم مبير، وخرجنا في الصباح المنير للبر المبر بأهله، وانتظرنا المعاش، ولحقناه في قياسه، بانتعاش، وطاب معنا الريح المريح، إلى أن وصلنا إلى (مونسة) وبتنا بها ليلة مؤنسة، وزرنا من حولها من سادات وأعيان، ثم إنا خرجنا إلى البر نروح النفس بمشاهدة ملك البر وأردنا أن نسير على ظهور الحمير، نحو (بولاق) لعظم اشتياقه فرأينا المركوب لا يركب، فعدنا إلى المراكب ثم سرنا إلى أن سامتنا (وردان) الساحبة بعمارها على غير ذيل الخيرات وزرنا رجالها السبعة الفائقين على النجوم السيارة والميزان. ثم خرجنا إلى (بحر التضامي) وحزت بزوته بر مرامي، ثم وقبل أن وصلنا (مجر الخمسين) قرأنا الفاتحة لسيدي إبراهيم ساكن الجميز ومن حوله من سادات له على الغير ميز، ولما وصلنا المجر، خرجنا ثانيا إلى البر، وسرنا وقد طاب المسير، إلى القاهرة ذات الوجه المنير، وبهجوم الليل واختلاف الميل حولت المعاشات إلى ناحية البر، ولذا لهم حسن المقام والمقر، وبتنا فيه والبسط يصافينا نتسامر مع الإخوان، ما يكون وما كان، وعلت أصوات الملاحين، بالنغمات المصرية والتلاحين، وغنى ممسك الدفة مواليا في المديح النبوي له حقه فاستعدناه وكتبناه وهو:
خذني معك يا دليل الركب يا منصور ... أزور قبر التهامي فج منه النور
قال الدليل يا صبي تقدر تدوس الدور ... فقلت عيان زي يجبر المكسور
وثنى فقال:
لما قرص صاحب الشيبة كتم ما باح ... نايم حبيبو على فخذه وهو مرتاح(946/33)
نزلت دموعو فقال لو ليش تبكي ارتاح ... قال لو قرصني الحنش في العقب يا مصباح
قال النبي للحنش لم صبت صديقي ... ذا مؤنسي في ظلام الليل ورفيقي
نطق الحنش للنبي بلسان تحقيق ... قال لو أتيت الزيارة رام تعويقي
(ثم إنا لما أشرقت الغزالة، على وجه أخت الخالة، سرنا باللبان إلى ان أتينا بطن البقرة، فاستعذنا بالله من هوله متوسلين بسورة البقرة
في بولاق، وفود الإخوان والمجاورين في الأزهر:
(ولم ندخل بولاق إلا بعيد العشا، وعلينا ضوء القمر مد وغشى، وما استقر بنا المقام غب الوصول للمقر المكين، حتى ورد علينا إخوان من المجاورين منهم الشيخ أحمد الأشبولي الرزين، وإسماعيل أفندي وغيرهما من محبين وسرنا معهم (لتكية الأعجام) وبتنا آمنين بخط مكين، وفي الصباح وفد الأخ المداوي الشبخ محمد الحفناوي، ومعه أحباب لهم لحبل الود وانتساب، ودخلنا ونحن في سرور المدينة، وزرنا الجناب العالي مقام السيد السند الأوحد الحسين، ونزلنا (وكالة محسن الجديدة) وبتنا بها ليلة الأربعاء ثم بتنا ليلة الخميس ببسط وافر وذهبنا يحنها الديماس، مع إخوان لهم طيب أنفاس، ورد فيه علينا أحباب أجله، من كل واله ومدله، وفيه أخذ الطريق واندرج في سلك أهل هذا الذيق، الشيخ أحمد المقدم والسيد نجم الدين الخيري الأقدم، والسيد حسين العسلي القدسي، والشيخ محمد المغربي محتسين الكأس الأنسي، ثم أخذ احمد الشبر أوي. ثم إنا بتنا ليلة الجمعة ذات الإشراف واللمعة، وكاد أن يمتعنا السحاب، من الخروج إلى صلاة الجمعة، مجمع الأحباب، ثم إنا صلينا في جامع قريب من المحل، يعرف (بالجامع الجمالي) وفي عشية يوم السبت المعطار أخذ الأخ الشيخ محمد الزهار، وغيره من الأخيار، وفي يوم الأحد أخذ الشيخ أحمد العروسي، ثم حضر الأخ الشيخ محمد الحفناوي، وسرنا معه إلى زيارة السيدة نفيسة ذات الكأس المداوي ومعنا جماعة لكل خير جماعة ممن أخذ الطريق، وغيرهم ومن محب هذا الفريق، ولما خرجنا من باب النصر دخل وارد السرور والقلب وحل ذلك القصر، وما زلنا كلما مررنا على مرقد ولي صلى، نبسط كف الطلب ونترجى فيض العلي، إلى أن حاذينا (قلعة الجبل) وحكمنا أنها تقرب من القدس النافية الخبل، وما زلنا نتفرج ونتدرج ونقرأ الفواتح إلى أن وصلنا دوح روضة حضرة السيدة النفيسة، الدينة نفسية، وكنت امتدحت(946/34)
جنابها لأشواق رسيسة، واثبته في (الحلة النصرية في الرحلة المصرية)
(وعطفنا على زيارات كثيرة، وأحباب أقدارها كبيرة، وعجبنا على حانة أرباب الصدق والتصديق، من أسلافنا بني الصديق، وجلسنا عندهم حصة يسيرة، لتمسي بهم الأمور العسيرة يسيرة وزرت في هذه الكرة لا منيرة العم المرحوم أحمد أفندي
استمرار الشيخ في نشر طريقته في مصر
(ثم اكرينا على زيارة الأعلام ومنهم أشهب بن عبد العزيز العامري المصري، وسيدي عبد الرحمن بن القاسم ومنهم إصبع ابن الفرج، وأبو جعفر احمد بن محمد بن سلمة الأزدي المصري الطحاوي، ومنهم أبو بكر أحمد الدقاق، وإسماعيل المزني والشيخ شاهين والشيوحي وغيرهم، ومنهم سيدي عمر بن الفارض، وزرنا الجلال المحلين وكان يوم مولده الذي ما مر من عيش به يحلى، وزرنا الجلال السيوطي، وسيدي إبراهيم الجعبري، وابن رفاعة من فيضه فيض بني رفاعة، وعدنا للأماكن
(وكان الشيخ يوسف الحفني (أخو الشيخ الأمجد الشيخ محمد) جاءني بقصيدة فريدة وعدته بإثباتها في هذه المرحلة، وجعلت جائزتها الإجازة بما أجازني به كل رحلة، ومطلعها:
(سرائر سر السر بالحال تعرب ... وداعي التجلي بالمدائح يطنب)
وأما الإجازة التي جعلتها الجائرة المفيدة الخ فصورتها:
(لربى حمدي ماله أتقرب ... وشكري ما منه أخاف وأرهب الخ)
(ثم اخذ طريق الخيار الشيخ علي شقيق محمد الزهار، والشيخ موسى والد العروس، وإسماعيل افندي، والسيد حسن نجل السيد محمد الفشفشي، وتقدم الشيخ حسن اليمني وطلب الإجازة لفاضل نبيل اسمه الشيخ إسماعيل بن غنيم فأجزناه ثم التحق بالطريق (وفي يوم الاثنين دعانا محب زين، يدعى أحمد افندي، فقصدناه زيارة سيدنا مولانا الحسين)
(وبعد تمام الزيارة، ودعته وأودعت قلبي لديه، فتلقانا جناب العارف بربه الشيخ أحمد المعلوي، وأخبر أنه كان مقصده الاجتماع، ثم بعد السلام والمصافحة، قرأنا الفاتحة، ودعا بدعوات الأطياب، فسررت بدعائه ورأيت عليه أبهة الصالحين، أهل القرب الفالحين، وحمدت على هذا للقارب العالمين
(وتطلبت الاجتماع، جناب الشيخ محمد العياشي فعرض له بعض الحواشي، بالجمعية(946/35)
بالفقير، فقال المحبة في عدم الظهور سيما في هذا الزمان الغادر الواشي، وحصل الاجتماع في الباطن فقبلنا هذا الاجتماع المورث انتعاشي
(وفي يوم الثلاثاء دعانا لداره المحب المتين الحجاج علي بن المرحوم الحجاج فخر الدين، وفي ليلة الأربعاء دعانا العالم العلامة الشيخ عبد الرؤوف البشيشي، وهما الشيخ محمد والشيخ علي
في الجامع الأزهر:
(وزرنا الجامع الأزهر، وصعدنا الرواق الشامي الأبهر، ودعونا للساعي في عمارته بنيل العمار في دنياه وآخرته
وذهبنا بعد أكل ضيافتهما الحمام صديقنا الحمام الحاج محمد المحب الأوحد، وزارني في محل قراري، جناب الشيخ عبد الله الشبراوي وطلب الإجازة والدعاء لولده الشيخ عامر، وأخبرت أن صديقنا الأقدم ذي المقام الإحاطي، الشيخ أحمد الإسقاطي، شرف المحل يوم توجهنا فلم يقسم نصيب بالاجتماع لسوء الحظ
(وقد ورد علينا جمعهن المجاورين، وأخذ كل منهم الطريق لفرط حب متين، وغيرهم من أحباب ربما يبلغ عدهم الأسنى عدا الاسماء، أو ينوف عدها ويزيد
الطريق البري إلى القدس صحبة الوزير المثير عثمان باشا
(وكنا أكرينا مع الحجاج خليل العريشي صحبة الوزير المشير عثمان باشا فحصل التيسير، وتوجهنا بعد ظهر الخميس، الرابع عشر من شعبان المبارك التأسيس، وودعنا الإخوان منهم داخل البلد ومنهم خارجها لفرط حب المصان، وبتنا لدى (بركة جامع العرب) منفردين. ولما صاح النفير من طرف الوزير، تأهبنا للمسير، وسرنا غب صلاة الصبح بيسير إلى (الخانكة) بوجد منير، وبتنا فيها، ثم إنا سرنا إلى (بلببس) فقلت:
ثم سرنا إلى فنا ببليس ... نتهادى فخرا كامرئ قيس
وتلاقيت بالصديق الأنيس ... ذا خليل مفتي حمى التقديس
ثم زرنا (النوادي) خير نفيس ... وبها بت مثل نوم عروس
وتأخر بعض الخدم عن أمر يلزم، فقلت نجاك الله من شره ولا نحاك من بره، وأغرقك في طمطمام فضله، وأعرفك من خزام وصلة دون فصله(946/36)
ورحلنا بهمة للقرين ... أترجى إسلام شر قرين
وإلى صالحية قد سرينا ... وأقمنا يوما لراحة عين
وقرأنا للحاجري قبل نأتي ... لحانها فاتحات أبواب زين
نخيل الصالحية
(وفي الصالحية من النخيل، ما يحيل العقل البخيل أن يضاهيه، مثيل لكن به نحيل، عند ذوي الأعراق، أنه يقارب كثرة سواد العراق، وفيها طائفة الصوالحة، التي نفوسهم للتأديب غير صالحة، وأخرى تدعى القصاصة، المؤرقة للمارة الفضاضة الغصاصة، والعجب من حكام، ما لها في معرفة التدبير أحكام، ولا سعى ووعى في تأمين البلاد، وتسكين متحرك غض الشر المياد، ولا عدل في الأمور، بل عدل عنه إلى جور يمور، ونرجوا من المنان الغفور الحنان الشكور، أن يسهل حزن هذه الصخور، بمحو أهل الضلال والفجور، وأن ينظم شمل العدل في الأحكام الموفور، على يد المؤيد المظفر المنصور من السلام، المعيد لوطنه الإسلام، سفاح الأموال ودماء أهل الانحلال، من ربقة الذين بانتحال
من القناطر إلى بئر العبد:
(ومنها توجهنا بوجه ناضر لنحو القناطر
وبحب الحبيب وجداً نخاطر ... ونخوض المياه أزعج خاطر
وتوسلت في سبأ ثم فاطر ... أن نجوز الربا بشيم العواطر
ثم جئنا بئر الدويدار نسعى ... باجتهاد وللأوامر ندعى
وأتينا قطية وقطين؟ ... ونزلنا الأولى بجد لمرعى
ثم قطعنا تلالا رملية، لا تخرج في الأشكال الرملية، وأنينا (بير العبد) الآبق بفرط ملوحته، عن منزل حلاوته وعذوبته، إذا الأصل في المياه الجارية ذلك، فمن تغرب عن وطنه فهو طريق الإباقة سالك
(ولما وصلنا المحطة، وقلنا لدى بابها حطة، بكت عيون السحاب، من غير انسكاب
من البريقات إلى خان يونس:
(ومنها سرنا إلى (البريقات) عندما لاحت البريقات، وفاحت أطياب الأويقات من غير ميعاد(946/37)
وميقات، حتى أتينا بعد ما سرينا (لعريش) والجناح منا بالوجد مريش، ثم (الدعقة) الوحشة الرقعة والدعقة ومنها إلى (خان يونس) للوارد يونس وقلت فيه لشرب صافية. . . مواليا
لما أتينا لخان عمره يونس ... بالأنس فزنا لأنو للغريب يونس
عوذته ببرآة هود مع يونس ... من شر قوم لئام ما بهم مونس
في غزة:
(ولما بلغ خبر قدومنا صديقنا الرئيس، محمد بن المرحوم الريس محمد الهليس، ووالده صديق محمود، ورفيق ودود، فتلقانا ولديه أنزل وفي إكرام أجزل، وكذلك صديقنا الحاج محمد مكي ذو الود الزكي المسكي، وأولاده وأولاد ولده الذي محمد جلبي، وأرسل الأخ الممنوح انصياعا الشيخ إبراهيم بن صفر أغا بعد اجتماعه بنا هدية توجب ثبوت ما بنا وأصحابها ببيتين. (يقول له فيهما إنه لو كان لا يهديه إلى أن يرى شيئا على قدره، لكان واجب أن يهديه سدرة المنتهى بأثوابها الخضر)
(وصليت الجمعة في جامعها القديم الجامع، فرايته يحتاج لعمارة، كالبلدة التي برها للمبرات جامع، وبحرها بالمسرات هامع، وهواها العدي لعرفها الندي لامع لكل حسن به القلب طامع، وماؤها العذب السلسال، يشفي العليل ويطغي الغليل من محب غير سال
نحو الرملة والى القدس
وفي ليلة السبت الأول من شهر رمضان المعظم توجهنا نحو الرملة والرئيس معنا، وبتنا في فتوح ما به سدود لدى (قرية) سدود وزرنا سيدي سلمان الفارسي والمتبولي، وعند الوصول إلى الرملة بتنا لدى مفتيها الخيري (السيد محمد) وفي ثالث يوم من شهر الصوم يوم الاثنين أتينا الديار المقدسة فرحين بملاقاة قرة العين، ودخلناها قريب الغروب بقلب طروب. فلما دخلنا الباب أخبرت أن ابنتي علما متمرضة عن ألم برجلها، وبعد السلام عليها والتملي بمحاسن لديها، قالت لي: (يا أبتي قد تعوقت علي) فقلت (يا بنية الأمر في هذا ليس إلي) ثم عزتني في الشيخ نور الدين وقالت: (تسلم أنت يا أبتي فيه) فقلت: (وأنت تسلمي بجاه مصطفية) وما زال مرضها الجزئي يزيد ويمتد إلى ليلة الأحد، التاسعة من شهر رمضان وفي سحرها تهنان بالأحزان سلمتها في يد جدها العتيق، وترجمتها في(946/38)
كراسة لما سقتني من الشراب الهمي كأسه، وسميتها (الغيوب الملجمة والغيوث المسجمة، في ترجمة ابنتي المنفية قدرا سما، الشريفة الصديقة البكرية علما) وذكرت رحلتها عنا في (الكمامة النرجسية في المقامة الأنسية القدسية). وكنت لما ورد هذا الوارد على أشغل القلب وأشعل اللب، وحرك ساكن ما لدى فلم أتم هذه ارحلة إذ ذاك بل أخرته إلى هذا الشهر الشوالي.
(وكان أرسل الأخ الأمجد محمد الحفني المفرد لنا كتابا مصدرا بقصيدة صحبة الأخ الشيخ محمد المغربي، فنهب القفل وضاع الكتاب الفريد، ولكنه أنشدني ابياتا منها تصيد. فأجبته حالا وكان ذلك ضحوة الأحد التاسع عشر من ذي القعدة سنة (1148 هـ)
(ولما كنا في المنازل الكنانية وعد الأخ الشيخ محمد بزيارة الأماكن المقدسة، قدم علينا في منتصف جمادي الثاني وصحب معه جملا من الهدايا منها المواهب لأخيه الذاتي، فرأيت فيها ما ذكرته
(وكنت أرسلت له القصيدة السابقة من غير كتاب، فلما توجه صديقنا السيد الكردي، صحبته بكتاب إلى الأخ محمد الحفني قلت له فيه: (إن الشيخ محمد المغربي كان ورد علينا شكيا من نفسهن وكان أضاع بعض أمتعته نهبا، وأخذ خرجه الحاوي على القصيدة، وأنشدنا بعض أبيات، وقد حذونا أثركم وأرسلناها لكم، ونهدي أخاكم الكرم السلام، وجميع من لديكم من إخوان
(وأرسلت لجناب وزير الشام سليمان باشا (العظم) إلى معان، كتابا في أواخر شوال، وصدرته بأبيات حسان وقد جاءني كتابه، بعد السلام والدعوات، بالحج المبرور (أنه لما ورد العبد الديار الرومية رأى هموم أهل نامية، والقلوب وجلة سامية، من السفر العجمي حامية، متوافرة الأشجان، وغب حصول الصلح المطلوب على الوجه المرغوب، صدر الإذن بالتوجه للقدس بعد الاستخارة، وعانيا في البحر المالح تيسيراً واقما في الكنانة، وعنا إلى القدس)
(وبعد عودة جنابه من الحج وأداء نسك العج والبج، أرسلت كتابا مهنئا بالسلامة، وحصول الكرامة، في منتصف صفر المبارك. كما أرسلت لمحبنا الأمجد محمد جلبي بن مكي المفرد، كتابا أهنئه بعوده للحمى، كما أرسلت للصهر الجميل الشيخ إسماعيل النبيل كتابا،(946/39)
وآخر سبق اضريت عن ذكره فقد من سبق)
الزيارة العليلية السنوية:
(ولما توجهت إلى الزيارة العليلية (مقام سيدي علي بن علي العمري) في أوائل صفر المبارك، وجرى على اللسان مدح سيدي (يامين) وكذلك من بجواره صاحب الإفاقة (سيدي سراقة) (ولما حللت نابلس المحروسة نزلت في (الدرويشية) على جاري العادة جرى على الخاطر أول موشح لشيخنا الشيخ عبد الغني (النابلسي):
(دع جمال الوجه يظهر ... لا تطغى يا حبيبي
كل شيء عقد جوهر ... حلية الحبس المهيب
فقلت مرتجلا:
أيها الصب المخبر ... نسبا بنت العريب
غب بها في الحب وأسكر ... كاتم السر الغريب
(وأرسل مفتى السادة الحنفية داخل رملة فلسطين السيد محمد الخيري، كتابا مصدراً بقصيدة مطلعها:
أشمس أفق بدت في دورة الحمل ... أم ومض برق صيب الحمل
وكتبت جوابا عنها ليلة وصولها قصيدة على وزنها:
سربي لسربي عسى اسقي من العلل ... وانعم بشربي ليشفي القلب من علل الخ
وأتبعها (أي المفتي) بديباجة إذا قامت في نفس يعقوب السر حاجة فقضاها، وفاز بمقتضاها، وكان أرسل مع والده الكبير، ولده الوسط والصغير، وأمرهما بالانتساب، وبعده طلب الوسط بهاء الدين (الخيري) وصية على ظهر كتاب الأوراد فكتبت له:
(وقبل أيام ورد كتاب من المحب الأخ الحنفي، يقول فيه: إنا عزمنا على التوجه لحرم أمنكم صحبة الأخوين المتوجهين إليكم فعاقت الأقدار عن اللحوق بهما من الطريقين، وإن شاء الله نلحق بهما في منتصف ربيع الأول
(وكان قدومه منتصف جمادي الثاني (سنة 1149 هـ) وأقام لدينا مصحوبا بالظفر والتهاني إلى شوال المبارك وتوجه لوطنه (وتحركت بعده منا الهمة إلى الحجة الموعود بها الفؤاد، عقبة بثلاثة اشهر حيث الإذن وقع، والشوق زاد، وشرعت في الرحلة لتلك البلاد(946/40)
سحر يوم الاثنين الثلاث من صفر المبارك الوصف والعين، وفي هذا التاريخ شرعنا في الرحلة الثالثة المصرية والحجازية. والشامية ذات الإمدادات النصرية الإنجازية. والحمد لله
(تمت الرحلة)
سامح الخالدي(946/41)
رسالة الشعر
1 - حبيبتي السمراء
للشاب محمد مفتاح الفيتوري
حبيبتي سمراء ... سمراء مثل الكروم
ناعمة كالضياء ... حالمة كالنسيم
خمرية كالماء ... نقية كالغيوم
في مقليتها السماء ... في وجنتيها النجوم
في شفتيها الهناء ... بين يديها النعيم
حبيبتي السمراء
أجمل حور السماء
أحب لون الخفر ... في صوتها الملهم
وكبرياء النظر ... وكبرياء الفم
وثغرها المختصر ... ونهدها البرعمي
وخصلات الشعر ... تموج أو ترتمي
كالسنبل المنتثر ... في نسق محكم
على جبين نضر ... توج بالأنجم
مثل جبين القمر
مغتسلا بالمطر
يا آهات الصباح ... ويا عذارى الجنان
اقطفن زهر الأقاح ... وللفل والسوسان
ومرن غيد الرياح ... يفرشن هفي افتنان
على المروج الفساح ... والهضاب والوديان
هيا طيور الصباح ... فظللي المهرجان
غني وهزي البطاح ... فغننا آتيان
لنا الغرام وشاح(946/42)
لنا الربيع جناح
2 - غموض
كم رحت أنظر للسماء محدقا ... متشوق الرؤيا صباح مساء
أرنو إلى الفجر الجميل كساحر ... حملت يداه ريشة عذراء
فمضى يخط على الفضاء رسومه ... ويوزع الألوان والأضواء
وإلى الظهيرة وهي حلم مفزع ... يتألف الأصوات والأحياء
والشمس في كف الهجير توجهت ... كأسا. . . وشعت ماسة زرقاء
وإلى الأصيل وقد تدلى كرمة ... أغصانها تتسلق الأرجاء
وكأنه فوق الروابي معطف ... نسجته كف تنثر الإغراء
وإلى المياه وقد تدفق جدولا ... أزرق أمواها وشف نقاء
عريت بشاطئه النجوم وفصلت ... من مائه أزياءها الملساء
كم كنت أنظر للسماء وفي دمي ... حلم يضج تمردا وإباء
فاليوم أنظر للتراب منكسا ... رأسي على حصبائه استحياء
محمد مفتاح الفيتوري(946/43)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مقال لا ينسى للأستاذ الزيات:
هو مقال ذعر في (الرسالة) منذ أثني عشر عاما فكان له في النفوس وقع، وفي الآذان دوي، وفي القلوب مكان
. . . وأشهد ما ذكرتني به هذه المناسبة التي أرويها هنا ودفعتني إلى الكتابة، لأنني أذكره منذ أن قرأته وقبل أن أعرف صاحبه وبعد أن عرفته وربطت الأقدار بيننا برباط من الود العميق. ولست وحدي الذي أذكره فيما أظنن ولكن يذكره معي الكثيرون ممن لا يسمحون ليد الزمن أن تطمس ما يؤثرون لغيرهم من قيم ويحفظون من كلمات!
أما المناسبة التي دفعتني إلى الكتابة وأثارت القلم بين يدي وبعثت التاريخ من مرقده، فهي سطور كتبها الأستاذ مصطفى أمين بك في كتابه الجديد الذي أصدرته (أخبار اليوم) وأعني به (عمالقة وأقزام). . سطور أشار فيها إشارة عابرة إلى ذلك المقال وهو في معرض الحديث عن الزعيم العظيم محمد محمود، وهناك حيث مر مسرعا وكان يجب أن يطيل الوقوف، وقال موجزا وكان يجب أن يطنب ويفيض:
(وفي سنة 1929 قمت بحملة في مجلة آخر ساعة ضد نادي الفروسية، وضد الكبراء الذين يتعالون على الشعب. . . وذات يوم استدعاني رفعة علي ماهر باشا وكان رئيسا للديوان الملكي، وقال لي إن هذه الحملة قد تؤدي إلى إسقاط وزارة محمود، وذلك لأن محمود رفض تقديمي إلى محكمة الجنايات!
وذهبت إلى محمد محمود وقلت له: إنني مستعد أن أقف الحملة مؤقتا وقصصت عليه حديثي مع علي ماهر. فقال رئيس الوزراء: إنه يشرفني أن تستقيل الوزارة بسبب الدفاع عن حرية رجل يدافع عن شعور المصريين! وقال لي: لقد طلبوا إلى محاكمتك فقلت لهم: أنا الذي أمليت عليه هذه المقالات، فإذا كان الدفاع عن شعور المصريين جريمة فأنا المجرم الأول!
وحدث بعد هذا أن كتب الأستاذ أحمد حسن الزيات مقالا في (الرسالة) في موضوع الطبقات وهاجم فيه بعض الكبراء. . فذهب أحد الكبراء إلى محمد محمود وطلب إليه(946/44)
تعطيل مجلة الرسالة، وتصادف أني كنت أزور محمد محمود فاخبرني بما حدث، وطلب منا أن نذكره في اليوم الثاني بالموضوع في مكتبه برياسة مجلس الوزراء!
وقبل أن يذكره أحد بالموضوع. . كتب بخطه الأمر التالي: (يجب أن تشترك وزارة المعارف في مجلة الرسالة، وأن تعطي إعلانات حكومية أسوة بباقي المجلات)!
وسلم الأمر إلى سكرتيره وهو يقول لي: هذا هو العقاب الذي أنزلته بمجلة الرسالة. .)!
هذه هي الإشارة العابرة التي وردت في كلمة الأستاذ مصطفى أمين عن مقال الأستاذ الزيات. إنها تعطيك فكرة ضخمة عن كبرياء محمد محمود وعراقة مصريته وأصالة قوميته، وبقى أن أحدثك أنا عن موقف الأستاذ صحاب الرسالة حديثا يحدد مكانة في نفسك ويقدم شخصه إلى حكمك وحكم الناس. ولقد دفعني إلى هذا الحديث أن الأستاذ مصطفى أمين بك قد مر بهذا الموقف مسرعا كما قلت لك وكان يجب أن يطيل الوقوف، وتعرض له موجزا وكان يجب أن يطنب ويفيض! لقد نسى الأستاذ مصطفى أمين بك أن مقال الأستاذ صاحب الرسالة كان يدور حول الموضوع نفسه الذي دارت حوله حملة (آخر ساعة) ضد نادي الفروسية وضد الكبراء الذين يتعالون على الشعب ونسى مرة أخرى أن يقول لقرائه إن الزعيم المصري العظيم محمد محمود قد وقف من الأستاذ الزيات نفس الموقف الجليل النبيل، حين طلب إليه أن يقدمه إلى القضاء فرفض هذا الطلب في إصرار وإباء. . . ونسى مرة ثالثة أن يقص على قرائه قصة مادي الفروسية التي ألهبت شعور الزيات وأثارت قلمه وأخرجت إلى الناس أعظم مقال كتب في تاريخ الكرامة المصرية!!
لقد حدث أن ذهب المغفور له محمد محمود باشا يوما إلى نادي الفروسية وهو رئيس للوزراء عام 1939، فوقعت عيناه على لوحة على الباب الخارجي تحمل إلى الزبائن هذه الكلمات: (منوع دخول الفلاحين). . . وثار الزعيم العظيم وهتف وهو يدق الباب بقدمه ويفتح على مصراعيه: (إن حكومة جلالة الملك لا يمكن أن تسمح بإعادة الطبقات. نحن هنا في بلد ديمقراطي، وكل المصريين سواء، وجلالة الملك يضرب كل يوم أعظم الأمثال في ديمقراطيته ومصريته. أنا فلاح وابن فلاح، وأفخر بأن أكون كذلك. . والفلاح هو عماد هذه البلاد وفخرها، وإذا كان بين أعضاء (نادي الفروسية من لا يعجبه هذا الكلام فليرحل عن بلاد الفلاحين)!(946/45)
نطق محمد محمود بهذه الكلمات فألهب شعور الزيات كما قلت لك وأثار قلمه فأخرج إلى الناس أعظم مقال كتب في تاريخ الكرامة المصرية. . زولا تظن أنني أجامل الزيات بهذه العبارة الأخيرة أو أغلو في وصف أثر من آثاره، ولكنها كلمة حق من قلم لا يعرف المجاملة ولا يطيق الغلو ولا يفرق في النقد بين الصديق وغير الصديق! وإذا بقى في نفسك شيء من الشك فقرأ معي هذا المقال الذي إليك من الصفحة الحادية والستين من المجلد الثاني من كتاب (وحي الرسالة)، وهناك حيث يبرز لك الزيات على حقيقته من وراء السطور والكلمات:
(جلست كعادتي في عصر كل سبت أفكر في موضوعي الأسبوعي للرسالة، فتردد على خاطري المكدود معان شتى من وحي الساعة وحديث الناس وحواز القلوب، كمأساة حلحول في فلسطينن وصلة الجديد بالقديم في الأدب، فكنت أذودها بالفتور والإهمال، لأن معنى من المعاني القوية كان قد استبد بذهني منذ الصباح، فهو يرواده ويعاوده ويلح عليه حتى لم يكن من الكتابة فيه بد. ذلك هو بيان رئيس نادي الفروسية الذي بعث به إلى الأهرام) وطلب إليها أن تنشره في عدد اليوم. والذي استفزني من هذا البيان لهجته المنتفخة في الرد على رئيس الوزراء، والدفاع الظنين عن نظام الطبقات، والتفسير المجازف لكلمتي الفلاح والديمقراطية، والتلميح المحتزل إلى السامية والطورانية، فإن هذه مسائل دقيقة ما كان له أن يعرض لها بهذا الاستكبار في بيان دفاعي فيه عن التنصل أو الاعتذار! لست والحمد لله من طبقة أولئك المنادين إلى هذه (الكلبات) التي تتضاءل فيها الديمقراطية بين أرستقراطية الدم أو المال أو المنصب، فلا أزعم أني سمعت الأشداق الملوية تأمر، ورأيت الأنوف الوارمة تمتعض، ولكني قرأت كما قرأ الناس ثورة رئيس الشيوخ وزارة رئيس الحكومة، فعلمت والأسى يحز في الصدر أن لعض الذي جعلناهم عظماء وكبراء لا يزالون على عقلية ذلك التركي الفقير الذي كان يقرع الأبواب مستجديا، فإذا أجابه المجيب الفزع قال له في عنف وصلف وأنفة: (هات صدقة لسيدك محمد أغا).
ولا أدري ما الذي سوغ لهم أن يعتقدوا أن الله خلقهم من المسك للملك، وخلقنا من الطين للطين، وجعلهم للثروة والسيادة، وجعلنا للخدمة والعبادة؟ إن كانوا مسلمين فلإسلام قد محا الفروق بين الطبقات إلا البر والتقوى، فالعرب والعجم سواء، وقريش وباهلة أكفاء. وإن(946/46)
كانوا وطنيين فالوطن لا يعرف التفاضل بين أبنائه إلا بأثرهم في تقويته وترقيته وخدمته، فالفلاحون على درجته العليا، لنهم عماد ثروته وعدة دفاعه وقوة سلطانه، والكبراء على درجته السفلى، لأنهم فيه معنى السرف الذي يفقر، والترف الذي يوهن، والبطالة التي تميت! وبين هاتين الدرجتين تتفاوت مواقف الوزراء والزعماء على حسب ما لكل منهم عليه من فضل
لا يا سيدي الأمير! ليس نظام الطبقات هو القائم في مصر وأوربا كما تقول، فإن جعلك نفسك ونظراءك طبقة متميزة واقعة. إن مصر كلها من أعلى شلالها إلى أسفل دالها طبقة واحدة، فيها الغني والفقير، والمالك والجير، والصحيح والمريض، والعالم والجاهل، فهل تجعل كل حال من هذه الحالات طبقة؟ وهل تستطيع أن تعين لي الفرق بين طبقتك المرفوعة وطبقتنا الموضوعة إذا كان الدستور الذي تخضع له الطبقتان يستطيع أن يجعل ابن الخادم الذي ينظف لك الحذاء جليسك ورئيسك؟ لقد كان امتياز طبقتك أنك تمسك الكرباج ونحن نمسك الفأس، وتأكل الذهب ونحن نأكل التراب، وتعبد الشيطان ونحن نعبد الله، وتتكلم اللغة الأجنبية ونحن نتكلم العربية. فلما قيض الله لمصر العظيمة فؤادا العظيم فتزوج منا وحكم بنى وسعى لنا ونشأ على خلائقه المصرية المحض شبله المرموق (فاروق)، شعرنا بأن العرش يستقر على كواهلنا، والعلم يخفق على معاقلنا، والسلام الوطني يتردد في شعورنا، والحكومة تقوم بأمرنا، والنيل يجري بخيرنا، ورأينا حين أخذكم - رضوان الله عليه - بأدب الإسلام والشرق الذي بأطراف الغربة، وقبعتم في زويا العزلة، وكنتم من مصر وثروتها مكان البالوعة تطفح بعرق الفلاح ودمه لتصب في منافع البلدان الغربية!
لا يا سيدي الأمير! ليس المصريون في الجنسية والوطنية بمنزلة سواء، فإن منهم من تمصر بالقانون لا بالأصالة، وتوطن للمنفعة لا للعاطفة. وكيف يستوي في الميزان من يقف على مصر يده وقلبه وكسبه، ودمه لا يعرفها إلا معرفة الغرماء، ولا يعيش إلا شهور الشتاء، ولا يعنيه من أمرها إلا أجرة العامل وسوق القطن! كذلك من خالص الحق قولك: (إن حق الشخص في الانتساب إلى أمة إنما يناله بما يؤديه إلى وطنه من الخدمات سواء أكان ذلك بنفسه أم بأفراد أسرته من آبائه وأعمامه وأجداده وأجداد أجداده) فإن أموال أبيك(946/47)
لك، ولكن أمجاده له. والوطني الصميم هو الذي يرفع ما بنى أبوه، ويتمم ما بدأ جده. ولا ينفع المرء عند الوطن أن أباه وطني وهو خائن، ولا عند الله أن أباه مسلم وهو ملحد!
أيها الكبراء والعظماء! في لكم في سيدكم الفاروق أسوة حسنة. فخذوا أخذه الجميل في سيرته ومصريته وشعبيته ودينه، فإن ذلك يكفل لكم رضا الشعب في الدنيا ورضا الله في الآخرة)! هذا هو المقال الذي ظهر في (الرسالة) منذ أثني عشر عاما فكان له في النفوس وقع الآذان دوي وفي القلوب مكان. . واليوم حين تدعوني المناسبة إلى إثباته، اشعر شعورا عميقا بأن من حق الزيات علي أن أخفض قلمي تحية لمصريته، وكرامته. وأقسم أن هذا الشعور ليس مرجعه إلى أنه صديق وإنما مرجعه إلى أنه (مصري). . . وأعظم بكل مصري ولو كان خصما من الخصوم!!
إلى الشاعرة فدوى طوقان:
إذا قلت لك إنك من هذه الفئة القليلة التي تملأ نفسي اطمئنانا على حاضر الشعر العربي وتذهب بأكثر ما فيها من قلق على مستقبله، فانظري إلى هذا القول على أنه تقرير لحق وتصوير لواقع، ولا تنطوي إليه على أنه مجاملة لآنسة شاعرة وقصيدة مهداة. . . لقد تفضلت فأهديت إلى قصيدتك المحلقة في العدد (944) من الرسالة، وأنا إذا أتقبلها شاكرا فإنما أغترف الشكر من منابع تقديري لشعرك. وما أكثر دواوين الشعر التي يهديها إلي شعراء (كبار) فلا يسمعون مني كلمة شكر، لأن الشكر عندي أساسه التقدير، ولأن التقدير عندي مبعثه الإثارة النفسية التي يلهب بها الشعور كل فن جميل!
إن قصيدتك لتذكرني بأنني مقصر في حقك وحق شعرك لأن للفن الجميل حقوقا على النقد يجب أن يؤديها بإخلاص ويرعاها بأمانة. ولست أدري كيف شغلت عن حقوق فنك وأنا حريص على حقوق الناس. . . مهما يكن من شيء فإن بوسع الغد المرتقب أن يستدرك ما غفل عنه الأمس الغابر واليوم المشهود. وأشهد أن شعرك جدير بأن يحتل من تاريخ الدب مكانا ملحوظا وسطورا مشرقة. وأشهد مرة أخرى أن هذه الكلمات خالصة لوجه الحق وحده دون سواه، وليس مرجعها إلى مجاملة الآنسة الشاعرة وقصيدتها المهداة! تذكرني قصيدتك بهذا كله ثم تعود فتعصف بالوجدان وهي تقدم إلي قصة (لاجئة في العيد)، لاجئة رسمت ريشة الشعر قصة بؤسها على لوحة الشعور، شعور فدوى الإنسانة وفدوى الفنانة. . .(946/48)
فدوى التي تقول في هذه الأبيات وتزفرني هذه الأنات:
أختاه هذا العيد عيد المترفين الهانئين
عيد الألى بقصورهم وبروحهم متنعمين
عيد الألى لا العار حركهم ولا ذل المصير
فكأنهم جثث هناك بلا حياة أو شعور
أختاه لا تبكي، فهذا العيد عيد الميتين!
أجل يا فدوى إنه عيدهم، عيد هؤلاء الذين عنيتهم بهذه الكلمات يوم أن تحدثت منذ شهور عن مأساة اللاجئين، وأطلقت هذه الزفرة المحترفة على صفحات الرسالة: (قلت مرة إنني كفرت بالضمير الإنساني، كفرت به حين كفر هو بكل وشيجة من وشائج الإنسانية وكل خليقة من خلائق الأحياء، حين تكون تلك الوشائج مجموعة من المشاعر والأحاسيس، مشاعر الدم الواحد واللغة الواحدة والتقاليد الواحدة، وأحاسيس الأخوة والعروبة والجوار!
قلت هذا فاعترض بعض الناس، وحجتهم أن الضمير الإنساني لا يزال بخير، في هذه البقاع الطيبة التي عنيتها بكلمات رسبت في نفسي رسوب اليقين. . . هم ينظرون إلى الجزء وأنظر أنا إلى الكل، ويحكمون في ضوء الفرد وأحكم أنا في ضوء المجموع، ويتكلون عن الضمير الإنساني من زاوية ضيقة ينحصر فيها فلان وفلان من عشاق الخير وصناع الجميل، وأتكلم أنا عن الضمير الإنساني في صورته الكاملة الشاملة التي تعني أكبر عدد من أقطار العروبة!
إن الضمير الإنساني في هذه البقاع الطيبة وبهذا المعنى الذي رميت إليه قد مات. . . ولو كان حيا لما سمح لنفسه بأن يطيق منظر الموت البشع وهو يحصد بمنجله الرهيب جموعا من الأحياء شردهم الظلم والطغيان فهاموا على وجوههم في كل فلاة: بطونهم خاوية، وأجسادهم عارية، بينما شبعت الكلاب واكتست الأضرحة واطمأنت إلى المأوى الأمين أخس أنواع الحشرات!
وأتطلع إلى هؤلاء المشردين الذين أضناهم البرد وقتلهم الجوع ولفح شعورهم الهوان، ثم أتذكر أن هناك غيرهم ممن أنعشهم الدفء وضاقت بطونهم بالتخمة وامتلأت نفوسهم بالأمان. . أتطلع إلى هؤلاء وأولئك ثم أخرج من جولة الفكر وفورة الأسى بهذه الحقيقة،(946/49)
وهي أنني لا أملك لهؤلاء الجياع العراة غير هذا القلم! وماذا يجدي القلم يا رب وهناك من ينتظر الثوب الذي يستر الجسد، واللقمة التي ترد عادية الجوع، والقطرة التي ترطب حرارة الظمأ، والوطن الذي يشعر بكرامة الحي ويعبر عن جمال الحياة؟! وماذا يصنع القلم وهو لا يجد ما يهديه إلى هؤلاء الجياع العراة غير هذه الفروش الفكرية؟ ومن يخاطب وقد مات الضمير الإنساني عند حراس الخزائن وملاك الضياع وسكان القصور؟ إننا لا ندعو إلى الشيوعية ولكننا ندعو إلى الإنسانية، الإنسانية التي تصرخ في وجه هؤلاء جميعا بأن في أموالهم حقا لكل فقير وكل جائع وكل محروم، وتقول لكل واحد منهم في همسة إن لم تكن جازعة فهي ضارعة: تنكر للفتك إذا شئت، ولعروبتك إذا أردت، ولقوميتك إذا أجبت، ولكن. . . ولكن لا تنس أنك إنسان!
إنها قروش فكرية كما قلت، وحسبي حين أجود بها أنني أجود بخلجات النفس وخفقات القلب ودفقات الوجدان. حسبي هذا، وحسب اللاجئين أن يتقبلوا على أنها نفحة من نفحات الألم، فيها من مشاركة الشعور ما يقوم مقام العزاء، حين يضيع كل أمل في الضمير الإنساني ويخيب كل رجاء)!
لحظات مع أندريه جيد:
قارئ من قراء الرسالة يسألني: لماذا لم تكتب (الرسالة) كلمة واحدة عن الكاتب الفرنسي أندريه جيد بعد أن أصبح في ضيافة الخلود؟ لقد كتبت مثلا عن برناردشو مقالين تعرضت في أولهما لشخصيته الأدبية والإنسانية، ثم تحدثت في الثاني عن موقفه من الرأسمالية. . . ترى هل يستحق شو أن تكتب عنه كلمتين ولا يستحق أن تكتب عنه كلمة واحدة؟ وجوابي عن هذا السؤال هو أن مكانة أندريه جيد في نفسي لا تقل عن مكانة برناردشو على التحقيق. . وإذا كنت حتى الآن لم أكتب عنه فليس معنى ذلك أنني صرفت القلم عن الكتابة أو صرفت الذهن عن التفكير فيه. وأزيد على هذا أن أقول للأديب الفاضل صاحب السؤال: لقد كانت لفتة جميلة منك أن تذكرني بهذا الواجب الأدبي الذي تسأل عنه (الرسالة) ويسأل عنه كاتب هذه السطور، وهو واجب لم أغفل عنه وإنما أرجأته إلى حين، وقد يكون هذا الإرجاء إلى الأسبوع المقبل أو الأسبوع الذي يليه!
أنور المعداوي(946/50)
الكتب
عرض ونقد:
العقل المؤمن
تأليف الأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
للأستاذ بركات
- 1 -
ذلك - أيها القارئون - قبس له وهج ونور، إلى على نفسه الكاتب - أن يقف به لا يريم، في معتنق الدروب، وملتقى السبل. يجمع السارين السكارى على حجة الله، وصيحة الكون، ويود في إخلاص لو تنشق له كل نفس ليواقف أصل الفطرة وروح الطفولة، ومنطق البراءة (إن الإسلام دين الطبيعة، ولو لم يكن دينا موحى به لكهان المذهب العقلي الفلسفي الوحيد الذي يحب اتباعه وحمل العقل عليه لاحترام النفس، والاحتفاء بالحياة العاجلة والاطمئنان إلى المصير السعيد). . وإن طوفة تعطف بالمرء على كل فصل في رفقة الأستاذ عبد المنعم خلاف - لكفيلة باستقرار وجدانه، وهدوء نفسه
لقد سحق القلق قلوبا حتى ذرها رمادا فيالهواء، ومن هنا ضاقت مسارح الإنسانية بين فكي القنوط، وصار الأمل كله قارا على مرتكز بعيد في أغوار المستقبل هو: الإنسان الكامل، وبين يدي ذلك اليأس الكافر هوت قيمة الفرد وصار معبرا وطريقا إلى الغائب المنشود، وكأنه مسمار في باب، أو خيط في ثوب، ولكن العقل المؤمن بسناه النافذ يكشف الغمة، ويطارد تلك الظلمات (تقول بعض الفلسفات إن الحل لهذه المشكلة هو في القول بالامتداد المستمر في الأفراد الآتية من النوع. فالكمال الذي ينشده الأفراد يحلمون به سيتحقق في أنوع. وكان الإنسانية في خيال هؤلاء هي المعنى الواحد في الأفراد. أما أجسام الأفراد فهي أثواب تنضوها الإنسانية في الأجيال المتعاقبة وتلقيها جثثا ميتة على طريقها إلى غايتها. . . ولكن في هذه الفلسفة إهدار تاما للفرد وارتدادا بالإنسانية إلى أفق واطئ جدا هو أفق النبات والبذور، دع عنك أفق الحيوان، ونظرة واحدة إلى إخراج الأفراد من الأرحام بصور متعددة الوجود وشكول مختلفة في العقول والنفوس - وهذا في الإنسان فقط -(946/52)
تحملك على الجزم والاعتقاد بان القصد في الطبيعة متجه إلى خلق الفرد بالذات، وإحساسه على انفراد بالحياة التي فيه هو، وأنه مخاطب وحده مباشرة من خالق الوجود) وهكذا نصل إلى المنتهى فنجد الفلسفات الداكنة قد دقت بالطارق حتى سادت الأرض وجملة مل يمكن أن يقال عن كتاب (العقل المؤمن) هو أنه استجابة صادقة لقول الخالق الأعظم. . (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) ورحمة الله على أبي اسحق فقد قال.
ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينه شاهد
وفي كل شيء له أية ... تدل على أنه واحد
- 2 -
بقيت كلمة. .
يقرر المؤلف وهو مندفع في غمرة الحماس (أن الإنسانية القديمة أصدق من الحديثة إحساسا، وأحياء شعورا. . حين شغلتها المسألة الدينية في جميع مواقفها، وجعلتها تنشئ شؤونها المادية، ومعها شعورها الديني) وكلما يعلم أن الدين في معتقد الأقدمين غفلة وذل، ولعل الهرم أعظم برهان يقدم دليلا وشاهد إثبات على هوان الرعية وتجبر الرعاة، وتواضع الشعب وسطوة الحاكم، وكان كل ذلك باسم الدين ولخير عندي أن يتمرد (إنشتين) أبو الذرة فيقول: (ما هو الله؟. . سؤال ليس له معنى) من أن توصر أجيال السالفين بالأديان في خدمة الكهنة والمتألهين
وفي مكان آخر بعد الذي مضى يقول (وقد كانت عقول قدمائنا حتى عقول بعض الأنبياء لا تدرك عمل الله سبحانه في التكوين والإحياء وتتوهمه سبحانه خاضعا في عمله للوسائط والأدوات والكيفيات المادية) ولعل الكاتب الكريم لا يخالفني في أن النبي هو الصورة المثلى للأيمان، وهو العبقري شاذ في الطبيعة يستند في تفوقه الإلهامي إلى الوحي، وفي قدرتها الخارقة إلى المعجزة وما يحمله عرض المؤلف من معاني هو كل ما يأتي النبي لهدمه وطرده من عقول أمته. وإذا كان المؤلف قد أتى بطائفة من آيات القرآن المحكمات فرجاؤنا أن يبحث لها عن تفسير غير تفسيره يكن أسلم
وكتاب اليوم هو الأخ الثاني لسفر تقدمه وأحدث ضجة كنا نتبعها بشغف في سنة1946(946/53)
وكلاهما على يسير صراط واحد نحو أساس روحي للحضارة المادية. . وسيتلوهما ثلاثة ينتظمها المنهاج، والذي أبديت في سالف القول لا ينال من هذا الكتاب القيم وفي اعتقادي إني في صدر ملاق المؤلف رحبة فسيحة للرأي فيها مكان وسلامي عليه
بركات(946/54)
البريد الأدبي
ملامح من المجتمع العربي!
بهذا العنوان أصدرت دار المعارف كتابا جديدا من سلسلة (اقرأ) للأستاذ محمد عبد الغني حسن المدرس بكلية البوليس الملكية، وقد جال فيه الأستاذ جولات موفقة في صميم المجتمع العربي في جميع عصوره، بل أحسن الاختيار في تبويبه وصياغته وما فيه من حقائق أفصح عنها المؤلف بقوله (فلن أذكر لك في هذه الضمات إلا حقائق قرأتها لك في عشرات من الكتب، وألفت بين موضوعاتها نسبا، فضمت الفرع إلى أصله. وقرنت الشبه إلى مثله، وكنت أقيد لك كل صيد من الحوادث بقيد من الكتابة، حتى إذا اجتمع لي من ذلك - على فترات من الزمن - مادة صالحة لأن أقدمها إليك تشجعت على أن أختارك معي رفيقا في رحلة ممتعة كل المتاع على خلال العصور، فترى معي ألوانا من المجتمع العربي بعد الفتح الإسلامي.)
فلنترك الأستاذ يقص علينا من ملامحه اللطيفة الممتعة حتى نصل إلى ص 108 من كتابه المذكور فنراه قد استشهد ببيت من الشعر في غير موضعه أثناء عرضه لعادة النقوط، تلك العادة المنتشرة بيننا إلى الآن ولها صولة خصوصا في صميم الريف المصري، إذا قال (. . . على أن العروس نفسها كانت تنقط كما يدل عليه قول الشاعر:
هذي عروس الزهر نقطها الندى
بالدر فابتسمت ونادت معبدا. . .)
والقائل لهذا البيت يصف زهرة نبات لا زهرة إنسية، وإذا فليست هناك مناسبة بين عروسنا الآدمية في نقوطها المعروف أن هذا البيت ضمن أبيات للشيخ نصيف اليازجي المتوفى سنة 1871 م في وصف الرياض والزهر: -
هذي عروس الزهر نقطها الندى ... بالدر فابتسمت ونادت معبدا
لما تفتق سترها عن رأسها ... عبث الحياء بخدها فتوردا
عبث البنفسج مقلة مكحولة ... غمز الهزار بها فقام وغردا
ولا ينكر ما يبذله صاحب الملامح النقادة من جهد مشكور يقدره الأدب والأدباء سواء في تأليفه أو نقده(946/55)
هذا ونشكر الأستاذ أن أتاح لنا فرصة الحديث عن كتابه مع قبول تحياتي وإعجابي
شطا نوف
محمد منصور خضر
دلالة الانفعالات الفكرية القائمة في مصر الآن
ليس من الحكمة أن ينظر بعض من يهمهم أمر هذه الأمة، بين الريبة والشك إلى الانفعالات الفكرية القائمة في مصر الآن فيحيطوها بشيء من الحذر والحيلة والسياسة، ويعملوا على حصرها في داخل الدائرة المرنة ظنا منهم أن هذه الانفعالات مقدمة ثورة أو انقلاب، وما هي في الواقع إلا نتيجة شعور بالحسرة والخيبة والألم، ودليل طموح إلى غايات سامية يرمى في جملتها إلى تحقيق ما يحلو من الآمال ودفع ما يحز الشعور
لقد كانت عنايتنا بالمسائل الحزبية والحركات السياسية داخل بلادنا في ربع القرن الأخير أكثر من عنايتنا بالعلاقات الاجتماعية والحركات الإصلاحية. وهذه هي علة ضعفنا وسقوطنا في ميدان الكفاح وإخفاقنا في إحراز المثل العليا في الحياة
وإن المنطق التاريخي للوطنيات الواعية ليدعونا إلى ترك الخلافات، ونبذ الخصومات وتناسي الحقاد، والتباعد عن الأثرة والأنانية، وبذل أقصى الجهود واصدقها لإقامة المجتمع المصري على أسس قوية متينة من الإيمان بالوطن والعلم بماضيه وحاضره، والعمل الذي يلبي نداء الوطن ويقضي حقوق المواطنين فيه
ويدعونا أيضا ذلك المنطق إلى احترام هذه الانفعالات الفكرية المنبثقة عن تنبع شعور الأمة بثقل وطأة الاستعمار وتزايد إحساسها بما ناله على يديه من ضيم وإجحاف وهوان وشعور الأمة هو كل حياتها القومية والاجتماعية كما انه يدعونا بعد ذلك إلى الانتفاع بهذه الانفعالات واستغلالها استغلالا حكيما للخلاص من مخلفات الماضي البالية، والقضاء على معالم البؤس والشقاء البادية. ولا يمكن ذلك إلا إذا اتحد الزعماء والقادة، وتجمع المفكرون والمصلحون تحت راية توحيد الأهداف ووسائل الإصلاح وتوجيه الرأي العام وجهة الخير والفلاح
سرابيوم(946/56)
محمد يوسف الغزالي
الشيخ راغب الطباخ الحلبي
توفي في رمضان سنة 1370 عن 78 سنة. كان يحترف التجارة أولا ثم أكب على العلم فتلقاه عن كبار العلماء كالشيخ محمد الزرقا والشيخ بشير الغزي. ثم تخصص في التاريخ والحديث والتراجم. وألف كتابه الثمين (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء) في سبعة أجزاء، ولبث في جمعه وتدوينه نحو من عشرين سنة
كان يدرس في الكلية الشرعية في حلب علم الحديث والمصطلح والتاريخ الاسلامي، ثم اختير مديرا لها. ومن تلامذته الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ محمد الحكيم والدكتور معروف الدواليبي - رئيس مجلة النواب السوري اليوم - وغيرهم
وهو من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وله في مجلته كثير من المخطوطات في الحديث والفقه والأدب وغيرها. برد الله مضجعه وعوض الأمة الإسلامية عن فقده خير عوض
عبد اللطيف الطباخ(946/57)
العدد 947 - بتاريخ: 27 - 08 - 1951(/)
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين
للأستاذ سيد قطب
ما أحوج المسلمين اليوم إلى من يرد عليهم إيمانهم بأنفسهم، وثقتهم بماضيهم، ورجائهم في مستقبلهم! ما أحوجهم لمن يرد عليهم إيمانهم بهذا الدين الذي يحملون اسمه ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة أكثر مما يتخذونه بالمعرفة!
وهذا الكتاب الذي بين يدي: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لمؤلفه (السيد أبي الحسن علي الحسن الندوي) من خير ما قرأت في هذا الاتجاه، في القديم والحديث سواء
إن الإسلام عقيدة استعلاء، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزة في غير كبر، وروح الثقة في غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تواكل. وأنها تشعر المسلمين بالتبعة الإنسانية الملقاة على كواهلهم، تبعة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتبعة القيادة للقطعان الضالة، وهدايتها إلى الدين القيم والطريق السوي، وإخراجها من الظلمات إلى النور بما آتاهم الله من نور الهدى والفرقان: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). . (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً.
وهذا الكتاب الذي بين يدي، يثير في نفس قارئه هذه المعاني كلها، وينفث في روحه تلك الخصائص جميعاً. ولكنه لا يعتمد في هذا على مجرد الاستثارة الوجدانية أو العصبية الدينية بل يتخذ الحقائق الموضوعية أدانه، فيعرضها على النظر والحس والعقل والوجدان جميعاً؛ ويعرض الوقائع التاريخية والملابسات الحاضرة عرضاً عادلاً مستنيراً؛ ويتحاكم في القضية التي يعرضها كاملة إلى الحق والواقع والمنطق والضمير، فتبدو كلها متساندة في صفه وفي صف قضيته، بلا تمحل ولا اعتساف في مقدمة أو نتيجة.
وتلك مزية الكتاب الأولى
انه يبدأ فيرسم صورة سريعة - ولكنها واضحة - لهذا العالم قبل أن تشرق عليه أنوار الإسلام الأولى. يرسم الصورة لهذا العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً من الهند والصين إلى فارس والروم، صورة المجتمع وصورة الضمير في هذه الدنيا العريضة في الجامعات التي تضلها الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية والتي تضلها الديانات الوثنية كالهندوكية(947/1)
والبوذية والزرادشتية وما إليها. . .
إنها صورة جامعة تعرض رقعة العالم وتصفها وصفاً بيناً، لا يتعسف المؤلف فيه ولا يستبد؛ إنما يشرك معه الباحثين والمؤرخين من القدامى والمحدثين، وممن يدينون بغير الإسلام، فلا شبهة في أن يكونوا مغرضين له، وللدور الذي أداه في ذلك العالم القديم
إنه يصف العالم تسيطر عليه روح الجاهلية، ويتعفن ضميره، وتأسن روحه؛ وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية؛ وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التعس؛ وتغشاه غاشية من الكفر والظلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي قد أدركها التحريف، وسرى فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة لا حياة فيها ولا روح؛ وبخاصة المسيحية التي يصورها مستر (ج. هـ. دينسون) صورة دقيقة في كتابه فيقول:
(في القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هار من الفوضى؛ لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يكن ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها، وكان يبدو إذ ذاك أن المدينة الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانحلال، وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام
أما النظم التي خلفها المسيحية، فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلا من الاتحاد والنظام. وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله. . واقفة تترح، وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب. . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه
. . . فإذا فرغ المؤلف من رسم صورة العالم في جاهليته هذه بدأ يعرض دور الإسلام في حياة البشرية، دوره في تخليص روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال، ودوره في تخليص المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن فوارق الطبقات واستبداد الحكام واستذلال الكهان، ودوره في بناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في(947/2)
الحياة
كل أولئك في أبان الفترة التي كانت القيادة فيها للإسلام في أي مكان، والتي كان الإسلام فيها يعمل. وهو لا يستطيع أن يعمل إلا أن تكون له القيادة، لأنه بطبيعته عقيدة استعلاء، ومنهج قيادة، وشرعة ابتداع لا اتباع
ثم تجيء التي فقد الإسلام فيها الزمام، بسبب انحطاط المسلمين وتخليهم عن القيادة التي يفرضها عليهم هذا الدين، والوصايا التي يكلفهم بها على البشرية، والتبعات التي ينو طها بهم في كل اتجاه
وهنا يستعرض المؤلف أسباب هذا الانحطاط الروحي والمادي ويصف ما حل بالمسلمين أنفسهم عندما تخلوا عن مبادئ دينهم ونكصوا عن تبعا تهم؛ وما نزل بالعالم كله من فقدان لهذه القيادة الراشدة، ومن انتكاس إلى الجاهلية الأولى. ويرسم خط الانحدار الرهيب التي ترتكس فيه الإنسانية في ذات الوقت التي تفتح فيه آفاق العلم الباهرة. يرسم هذا الخط رسماً حياً مؤثراً عن طريق التأمل الفاحص، لا بالجمل النارية والتعبيرات المجنحة. فالحقائق الواقعة كما عرضها المؤلف فنية عن كل بهرج وكل تزويق
ومن خلال هذا الاستعراض يحس القارئ بمدى الحاجة البشرية الملحة إلى تغيير القيادة الإنسانية، وردها إلى الهدى الذي انبثق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى المعرفة. ويشعر بالقيمة الكلية لوجود هذه القيادة في الأرض، وبمدى الخسارة التي حلت بالبشر جميعاً، لا بالمسلمين وحدهم في الماضي والحاضر وفي المستقبل القريب والبعيد. . كذلك يثور في نفس المسلم بصفة خاصة روح الندم على ما فرط، وروح الاعتزاز بما وهب، وروح الاستشراف إلى القيادة التي ضيع
ولعله مما يلفت النظر تعبير المؤلف دائماً عن النكسة التي حاقت بالبشرية كلها منذ أن عجز المسلمون عن القيادة بكلمة (الجاهلية)
وهذا تعبير دقيق الدلالة على فهم المؤلف للفارق الأصيل بين روح الإسلام، والروح المادي الذي سيطر على العالم قبله، ويسيطر عليه اليوم تخلى الإسلام عن القيادة. . إنها (الجاهلية) في طبيعتها الأصيلة: فالجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة، ولكنها طابع روحي وعقلي معين. طابع يبرز بمجرد أن تسقط القيم الأساسية للحياة البشرية كما أرادها(947/3)
الله، وتحل محلها قيم مصطنعة تستند إلى الشهوات الطارئة، والنزعات الهابطة. وهذا ما تعانيه البشرية اليوم في حالة الارتقاء الآلي، كما كانت تعانيه من قبل في أيام البربرية الأولى
(فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله، والإيمان باليوم الآخر. وجائزته هي الخروج من الظلمات إلى النور ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده، والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر، فقد افتضحت الجاهلية، وبدت سوأتها للناس، واشتد تذمر الناس منها. فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام، لو نهض العالم الإسلامي، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماسة وعزيمة، ودان بها كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تقف العالم من الانهيار والانحلال. . .) كما يقول المؤلف الفاضل قرب نهاية الكتاب
وأخيراً فإن الخصيصة البارزة في هذا الكتاب كله هي الفهم العميق لكليات الروح الإسلامية في محيطها الشامل. وهو لهذا يعد نموذجاً لا للبحث الديني والاجتماعي فحسب. بل نموذجاً كذلك للتأريخ، كما ينبغي أن يكتب من الزاوية الإسلامية
لقد مضى الأوربيين يؤرخون للعالم كله من زاوية النظر الغريبة، متأثرين بثقافتهم المادية، وفلسفتهم المادية؛ ومتأثرين كذلك بالعصبية الغريبة؛ والعصبية الدينية - شعروا بذلك أم لم يشعروا - ومن ثم وقعت في تأريخهم أخطاء وانحرافات، نتيجة إغفالهم لقيم كثيرة في هذه الحياة، لا يستقيم تاريخ الحياة ولا يصح تفسير الحوادث والنتائج بدونها، ونتيجة تعصبهم الذي يجعل أوربا في نظرهم هي محور العالم ومركزه دائماً؛ ولإغفالهم العوامل الأخرى التي أثرت في تاريخ البشرية، أو التهوين من شأنها إذا لم يكن مصدرها هو أوربا
ولقد درجنا نحن على أن نتلقف التاريخ من أيدي أوربا كما نتلقف كل شيء آخر، نتلقفه بأخطائه تلك، وهي أخطاء في المهج بإغفال قيم كثيرة وعوامل كثيرة، وأخطاء في التصوير نتيجة النظر من زاوية واحدة للحياة البشرية، وأخطاء في النتائج تبعاً للأخطاء المنهجية والتصويرية
وهذا الكتاب الذي بين يدي نموذج للتاريخ الذي ينظر للأمور كلها، وللعوامل جميعها،(947/4)
وللقيم على اختلافها. ولعل القارئ لم يكن ينتظر من رجل مسلم واثق بقوة الروح الإسلامي متحمس لرد القيادة العالمية إليه. . أن يتحدث عن مؤهلات القيادة، فلا ينسى بجوار (الأستعداد الروحي) أن يلح في (الاستعداد الصناعي والحربي) و (التنظيم العلمي الجديد) وأن يتحدث عن الاستقلال التجاري والمالي
انه الإحساس المتناسق بكل مقومات الحياة البشرية. وبهذا الإحساس المتناسق سار في استعراضه التاريخي، وفي توجيهه للأمة الإسلامية سواء. ومن هنا يعد هذا الكتاب نموذجاً للتأريخ كما يجب أن يتناوله المسلمون، مستقلين عن التأثر بالطريقة الأوربية، التي ينقصها هذا التناسق، وهذه العدالة، وهذا التحقيق
وانه ليسعدني أن أتحدث عن هذا الكتاب بذلك الإحساس ذاته، وأن أسجل هذه الظاهرة وأنا مغتبط بهذه الفرصة التي أتاحت لي أن أطلع عليه في العربية. . اللغة التي أثر صاحبه أن يكتبه بها، وأن ينشره في مصر للمرة الثانية: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد)
سيد قطب(947/5)
الملك الشهيد عبد الله بن الحسين
تعقيب على مقال (الرسالة)
بقلم الأستاذ أحمد رمزي بك
القنصل العام السابق لمصر بفلسطين وشرق الأردن بين
1935 و1937
- 1 -
حينما بدأت هذه الكلمة كان أمامي ديوان البحتري مفتوحاً فوقع نظري على بيتين من الشعر لا أدري من الممدوح فيهما، ولكني رأيتهما ينطبقان على عبد الله بن الحسين، رحمة الله عليه:
لو أن كفك لم تجد لمؤمل ... لكفاه عاجل وجهك المتهلل
وتصرفت بك في المكارم همة ... نزلت من العلياء أعلى منزل
رحم الله الملك الراحل! لقد مات ميتة الشهداء وانتقل إلى الرفيق الأعلى. ولقد (كانت قوة مؤثرة في سياسة الشرق والغرب) كما قال عنه الأستاذ أحمد حسن الزيات بك في مقاله الافتتاحي الذي أثار شجوني، ودفعني إلى الكتابة. وأنا الذي آليت أن أعتكف في المسائل العربية منذ أمد طويل، فجاء مقال الأستاذ الكريم وذكريات الملك الراحل، الذي تشرفت بمعرفته عن كثب، وعاشرته وحظيت بوده وكرمه وبعطفه، مدة من الزمن، فحملني كل أولئك على أن أتكلم. لقد أنهى عبد الله بن الحسين، ولم يعد يرهب الناس ولا يجتذب لصفه أحداً يقال أننا نخدم سياسته وندعو إلى عترته ونحاول إعطاءه لوناً براقاً إنها كلمة الحق، وصورة واضحة، لا نقصد منها سوى تسجيل حياة عاهل عربي عظيم، قد أصبح بين يدي الله وفي ذمة التاريخ
إنني لا أزال أذكر أول لقاء معه في قصره بعمان في حجرته التي كان يخلو فيها مع بعض أخصائه، ليقرأ الكتب ويلعب الشطرنج، وكان ابن عمي ضابطاً في الجيش العربي، إذ لنا فرع من عائلتنا استوطن هذه البقاع منذ أكثر من أربعين عاماً، وهو الذي قدمني للعاهل كأحد موظفي السفارة المصرية في أنقرة. وكان هذا اللقاء في صباح يوم الأحد 6 مايو سنة(947/6)
1934 وكان يشاركنا في الجلسة فؤاد باشا الخطيب، الشاعر الأديب
ودار الحديث عن تركيا وحالتها السياسية والاقتصادية، وقد حاول الملك الراحل أن يجعل الحديث بالتركية، فاعتذرت بقلة بضاعتي فيها. ولما تحدثت كنت أتكلم بصراحة تامة: إذ كانت تعاليم الثورة الكمالية وأهدافها نبراساً أسير في هداه، وكانت كلمات الأتاتورك مصطفى كمال لا تزال ترن في أذني وتحرك نفسي، وكنت أؤمل في شيء واحد أن أعيش وأكافح لأرى مصر قد حققت استقلالها التام وحطمت قيودها التي تحول دون تقدمها، ولذلك تحمس فؤاد الخطيب باشا وأنشد (السيف أصدق أنباء من الكتب. . .)
وكنت أمضيت خمسة أعوام أقرأ عن أحوال الدولة العثمانية وعوامل تأخرها وعلة تفككها، فجئت من أطراف الأناضول: إلى قيصرية - الوقيشلة - بوزانتي فوزي باشا - حلب - حماة - حمص - دمشق. هناك حيث تقوم فرنسا بانتدابها، لأكتشف في نهاية سوريا الجنوبية جزءاً صغيراً من الأرض يمثل أثراً حياً من آثار الدولة العثمانية - تلك هي دولة شرق الأردن - لقد كنت أقول لنفسي أفي حلم أنا أم في يقظة؟ للآن ما هو الأثر الذي تركته في نفس الملك عبد الله، إذ لا بد أنه قال هذا شاب قد افتقدته المدينة الكثير. ولكن تحمس فؤاد الخطيب باشا جعله ينقل الحديث لناحية أخرى ويوجه إلى السؤال الآتي: هل تقدر الجمال التركي؟ والحقيقة أنى لم أشغل نفسي كثيراً بالجمال التركي أو المصري أو الشامي حتى أجيب على مثل هذا السؤال؛ لأن المرأة في الشرق قد تلقت الكثير من المديح في الصحف والمجتمعات وعلى السنة القادمة لدرجة أنه أصبح من الخطر مواجهة الرأي العام بأفكار لا تتفق مع الدعاية القائمة في صالحها، وأن كنت من أنصار تحريرها، ولذلك أجبت العاهل العربي بجملة غريبة قلت له (يجب أن تنتظر جيلاً جديداً حتى تحكم على جمال المرأة التركية). ففهم أنني لا أعير المرأة اهتماماً كبيراً في نظرتي إلى الحياة. . وأن كنت أعد أولى واجبات الدولة إعداد جيل قوي من النساء القادرات على زيادة النسل؛ بشرط أن يكون الجيل قوياً. . زيادة تستحق الأمة أن تكون بها موضع احترام الأمم الأخرى
والحقيقة التي لم أشأ أن أبوح بها، وكانت تدور بمخيلتي ساعتئذ، هي انحطاط الأمم الشرقية والإسلامية يعود إلى ضعف المرأة جسمياً وعقلياً، ولكنني لم أشأ أن أثير مشكلة(947/7)
كهذه في أول لقاء. .
وكتبت في مذكرتي (عاهل الأردن أمير شرقي لا يفهم ضرورات ومستلزمات العصر الحالي التي قذفتنا الأقدار لنعيش فيه. وسط أمم قوية راقية تسير على هدى مدنية جبارة دافعة زاحفة ونحن نيام. . فالويل لنا والويل للمغلوب على أمره ممن هم على شاكلتنا. أننا نسير حتماً بخطوات واسعة إلى الفناء العاجل. . . كما سارت آشور وبابل وفرعون وثمود وعاد. . . أن الصمت والسكون والبيداء هي كل ما لدينا، وسيستمر هذا طويلاً حتى ننقرض وتذهب ريحنا كبعض الحيوانات التي تشغل بهياكلها العظيمة أركاناً في المتاحف وقاعات العرض. . . إذا لم نعمل عملاً حاسماً
وتناولت الغذاء بفندق فلادلفيا ثم دعيت عند الجنرال بك باشا الذي دعاني إلى زيارة مركز الجيش العربي والمدرسة الخاصة بأبناء الجنود والمسجد الذي أنشأه، كما دعيت إلى نادي ضباط الجيش ولقيت الكثير من الترحاب. وفي اليوم التالي توجهت إلى مدينة القدس، وأمضيت اليوم بالقنصلية المصرية مع أصدقاء عباس حلمي وحسين عزيز وأحمد عبد المجيد. .
وزرت الممرض العربي فلفتت أنظاري صور خالد بن الوليد وطارق بن زياد والمجاهد الطرابلسي عمر المختار، وهنا اغرورقت عيناي بالدموع إذ شعرت بأن الوسط العربي بالقدس أقرب إلى مشاعري وإحساسي من الوسط في مصر، ولكن نفسي كانت حزينة حتى النهاية. كان كل شيء يظهر أمامي كأنه مؤقت، وكان يبدو على العرب وهم يسيرون في الطرقات ويجلسون في المجتمعات أو يتحادثون في منازلهم وكأنهم على سفر منزل كسكان منزل قد أنذرهم صاحبه بالإخلاء السريع وهم يستعدون في أي وقت للرحيل العاجل. . .
ولم أنم تلك الليلة رغم تقليبي صفحات نسخة إنجليزية من الكتاب المقدس. لقد نسيت كل ما مر بي، في شرق الأردن وعلى جسر النبي وأجنحة المعرض العربي وحديث أخواني، وترحيب رجال العرب وتناول العشاء في مطعم يهودي وسماع تلك الموسيقى الغربية التي تقدمها فرقة من الفتيات المهاجرات في أواسط أوربا. لقد جعلني كل هذا أسرح في المستقبل البعيد، وكان كل ما حولي يدعو إلى التأمل والتساؤل. . .
أما أنا فوجدت في تلك النغمات الأوربية الإجابة على سؤال العاهل العربي العظيم. ما(947/8)
رأيك في الجمال التركي؟
إننا أمام زحف جارف أيها الأمير الخطير. . .
ويقول أستاذنا الجليل أحمد حسن الزيات بك في مقالة البديع (لا أستطيع أن أتحدث عنه ولا أن أحكم عليه إلا من وراء ما يرى ويسمع)
وإني أحاول أن أنقل لقراء الرسالة صورة من آراء الملك الفقيد وأقواله كما جاء في بعض ما كتبه وبعض ما تحدث به
لقد وضع الفقيد كتاباً تحت اسم (من أنا) كتبه على طريقة الأسئلة والأجوبة: بدأه بقوله:
من أنت؟
أنا عربي أنتسب إلى العرب وبهم أفخر
ما هي مفاخرك؟ ديني ونسبي
ما هو دينك؟ ديني الإسلام وربي الله ونبيي محمد عليه الصلاة والسلام
وقال عن العرب: (انهم بالهداية ألا لاهية والرسالة النبوية والمؤهلات العنصرية، أسسوا المجد العظيم في سنوات معدودة)
وأراد تبرير ثورة العرب ضد الأتراك فقال:
عندما شاخت دولة بني عثمان وسلك رجالها مسلكاً يتعارض مع المبادئ العربية دنيا وديناً بدأ الخلاف المسلح بين الأمتين
وذكر والده الحسين بن علي فقال:
(وبإرادة الله تعالى اتحدت كلمة الأمة مرة أخرى مقتدية بالمنقذ الأعظم رحمه الله)
ولما تقطعت أوصال البلاد العربية قال: (إن البلاد العربية تقسمت زعامتها فئة من الناس تضع نصب العين الحرص على الحكم والتحكم، مرة بالعصبية وأخرى بالحربية، وأحيانا بالقوى الأجنبية)
وله رأي في الأمة العربية يؤمن به إذ يقول: (أمة واحدة في بقعة واحدة تحدها آسيا الصغرى في شمالها، وبلاد فارس في شرقها؛ والخليج المعروف بها، ومن الجنوب يحدها بحر الهند، ومن الغرب حدها البحر الأحمر فالحدود المصرية ثم بحر الروم)
وهو الرأي الذي أخذ به نوري السعيد في مذكرته المشهورة إلى المستر كايزي، وكان(947/9)
يؤمن به رياض الصلح ويصرح به كثير من زعماء العرب للإنكليز والأميركيين، أي أنهم لا يعدون المصريين عربا. . .
وللفقيد آراء صريحة في الحكم إذ يقول:
(ليست الأمة بميراث يورث، وليست مصالح الشعب منحة للمتغلبين، وليس القول لمن يحسن القول، ولكن جل هذا تراث للأمين بعد الأمين، من يظهره الله سبحانه وتعالى، ويثبت هو جدارته في تأدية واجبه بأمانة وإخلاص)
ورأيه هذا يتلخص في أن العروبة والهاشمية صنوان لا يفترقان، وأن هذا الأمر في هذا البيت من قريش. أنه يؤمن إيماناً لا يتزعزع برسالة بني هاشم وزعامتهم وقيادتهم للعرب كافة، ويشاركه في ذلك كثيرون من أبناء بلاده وأتباعه وأنصاره
وكان الكونت جاك دومال قنصلا عاما لفرنسا بالقدس، أمضى هناك سنوات عدة، وكتب كتابا سماه (أصوات من الشرق، وذكريات دبلوماسي) تحدث في خاتمته عن مقابلة له تمت مع صاحب السمو الأمير عبد الله بن الحسين عاهل المملكة الأردنية وكان ذلك في يوليه 1937، وكان مع القنصل الفرنسي صديقان، وجه أحدهما السؤال الآتي: أتعتقد بنهضة العرب وأن تعود الخلافة إلى الوجود بعد أن ألغيت باستنبول؟
والإجابة التي وضعها، الكونت دومال عن لسانه هو، تكاد تنطق بأن الكثير منها من وحي الحديث الذي دار في ذلك الاجتماع مع الأمير. اقرأ معي (الخلافة في ركن من أركان الإسلام، والخليفة في الشريعة حامي الدين وخادم الشرع، إذن يجب أن تكون بلاده حرة وقوية، مهيبة الجانب، تتمتع بكامل سيادتها واستقلالها حتى تقوى به كلمة الحق والدين)
(الخليفة هو أمير المؤمنين الذي يتولى أمور المسلمين للعمل بالكتاب والسنة والمشورة العامة والخروج في الجمع، وتلقي الأسئلة على منبر الخطابة، والإجابة عليها - هذه هي الخلافة النبوية الغير الوراثية، والمشترط فيها القرشية)
وهي كما ترى غير الملك والسلطان، ولقد استشهد مرة الملك الفقيد بقول عمر بن الخطاب الذي قال: (أما ولي سلطان فلا. . .)
وبعد فهذه كلمات مأخوذة عن الملك عبد الله بن الحسين، الذي كان أقرب الأبناء شبهاً بوالده الحسين بن علي، وأشدهم تمسكا بالتشبه به، أضعها أمام القارئ ليعلم أنه آمن منذ البدء(947/10)
بتعاليم والده، قائد الثورة العربية والنهضة الهاشمية فكان يعد نفسه وارث هذه الحركة، والأمين عليها والحارس على اتجاهاتها، وأنه ليس في بني هاشم من هو أحق بها منه، ولذلك قال: (هي تراث للأمين بعد الأمين)
لقد تأثر الحسين بن علي بالبلاط الحميدي وبالتربية التركية وكذلك كان الملك عبد الله بن الحسين. لقد كان أثر الناحيتين ظاهراً عليه، كان مثال الحاكم الشرقي الذي يعنى بملبسه ومظهره، والذي تحيط به هالة من الاحترام والحشمة، وكان كذلك متأثراً بالحجاز تتجه أنظاره إليه ويحبه من أعماق قلبه، فكان ينزل إلى مكتبه ويفتح بابه ليقابله من يشاء من رعيته. . . وتلك نفحة حجازية
وسنرى في العدد القادم ذكريات سنتين قضيتهما في القدس أعمل كقنصل عام لمصر وفلسطين وشرق الأردن، وما لقيته من كرم الأمير وما قيدته من أحاديثه مع كبار الساسة
أحمد رمزي(947/11)
النسيان في نظر التحليل النفسي
للآنسة فائزة علي كامل
كان العلماء النفسانيين يوجهون كل اهتمامهم إلى دراسة الذاكرة، تاركين جانبا ظاهرة النسيان، إلى أن كان أواخر القرن التاسع عشر فانعكست الآية واحتلت الأبحاث في النسيان مكان الصدارة. ويرجع الفضل في ذلك إلى (فرويد) الذي ألقى ضوءا على هذه العملية فأبان ما فيها من ديناميكية لم تكن معروفة من قبل
لقد كانت الآراء السائدة ترد النسيان تارة إلى عدم الانتباه؛ وأخرى إلى علل فسيولوجية، وثالثة إلى عوامل نفسية وفسيولوجية معاً. درس (فرويد) هذه النظريات وصرح بأنها ليست خاطئة من أساسها، ولكنها في حاجة إلى التعديل، إذ ليست جامعة لتفسير كل حالات النسيان
أخذ (فرويد) يدرس ما سماه (الأفعال الفاشلة)، وهي تلك الحوادث البسيطة التي نصادفها في حياتنا اليومية كفلتات اللسان، وفلتات القلم، وأخطاء السمع. وكالنسيان الذي يظل لفترة معينة مثل نسيان اسم شخص أو موضع شيء ثم نذكره بعد مدة قد تطول أو تقصر
إن هذه الوقائع لو طلبنا تفسيرها من شخص عادي فإنه قد يستخف بنا في بادئ الأمر وينظر إلينا شزرا، ثم يقول أنها أشياء تافهة في نظره، يتحكم فيها عامل الصدفة ولا تحتاج إلى شرح أكثر من ذلك. فإذا عدنا وسألناه: ماذا تعني بذلك؟ هل تعني أنه توجد حوادث تقع خارج سلسلة ظواهر العالم وقد بلغت حدا من التفاهة جعل حدوثها وعدم حدوثها سيين؟ أنك بذلك تحطم قانون الحتمية وتقلب التصور العلمي للعالم. هنا نجد أن الشخص سيتراجع ويحاول أن يجد علة لهذه الأفعال فيقول: إنها تحدث عندما يكون الإنسان منحرف المزاج أو متعبا أو عندما يستثار أو عندما يشرد ذهنه عن الشيء الذي يقوله أو يقوم بأدائه
لو أنعمنا النظر فيما أتى به هذا الشخص العادي لوجدنا أنه يقول بعامل واحد هو عدم الانتباه، وهذا ينشأ نتيجة عوامل فسيولوجية كالتعب، والصداع، والهزال. . الخ. أو عوامل نفسية فسيولوجية كتشتت الفكر، الاستثارة. . . الخ. ولكن هل حقا أن عدم الانتباه هو وحده الذي يوقع في فلتات اللسان فيجعل الخطيب يخطئ ويأتي بكلمة عكس المقصود مثلاً؟ يجيب (فرويد) بأن ذلك وأن كان عاملا مساعدا إلا أنه ليس العلة الحقيقية. فماذا(947/12)
نقول إزاء نسياننا كلمة معينة على الرغم من توجيه الانتباه إليها وقول الشخص (إنها على طرف لساني)!؟
يرى (فرويد) أن العلة الحقة هي الاضطراب في الانتباه لا القلة فيه. فسبب هذه الأفعال هو اضطراب في الانتباه نشأ من تدخل مجرى آخر من الأفكار. ففلتات اللسان مثلاً هي نتيجة تداخل غرضين أثناء الكلام، فإذا تغلب أحد الغرضين يؤدي إلى تشويه أو تحوير الكلمات والأسماء فتأتي الفلتة بمعنى تهكمي أو هزلي. ويسري هذا على فلتات القلم وأخطاء السمع ونسيان الكلمات والأسماء لزمن معين. فهذه كلها أفعال لها معنى، إنها أفعال نفسية لها هدف خاص
إن فكرة التقاء القوى هي الفكرة الأساسية لدى فرويد وأثرها ظاهر في تفسيره للنسيان. فهو لا يرجعه إلى ضعف في الذاكرة، وإنما يراه نتيجة دافع مكبوت بواسطة قوى معاكسة، هو نتيجة اصطدام مؤثر محرك في طريقه إلى التصريف بمؤثر آخر فيؤدي ذلك إلى كبته. فالاسم المنسي أو الكلمة المنسية غالباً ما يكون لها علاقة بشخصية الفرد ويثيران فيه انفعالات عنيفة ومؤلمة. فتبعا لمدرسة زيورخ نستطيع أن نقول انهما يمسان (عقدة شخصية). قد تكون هذه العقدة مهنية كما نسى (فرويد) اسم مستشفى وهو لأنه يتصل بالأعصاب وقد تكون عائلية كنسيان (فرويد) أيضا اسم محطة لأن أخته كان اسمها فمن أهم الدوافع التي تساعد على النسيان الميل إلى تحاشي عودة الألم إلى الذاكرة، إذ أن كل شخص يود نسيان الأشياء المكدرة. أنه يوجد صراع نفسي مستمر لاستبعاد الخبرة المؤلمة من الشعور، وهكذا. . فالنسيان ليس إلا عملية دفاعية تتم بطريقة لا شعورية لتصل الأنا إلى حالة نتمتع فيها بالارتياح
كذلك يلاحظ أن الشيء قد ينسى لارتباطه بشيء له أثر مؤلم. ويأتي (فرويد) بمثال شاب غير موفق في حياته الزوجية لبرود الزوجة. وفي ذات يوم قدمت له تلك الزوجة كتابا اشترته له لعلمها بأن فيه ما يهمه. فشكرها على هذا الاهتمام ووعدها بأن يقرأه. ومر شهران دون أن يقرأه، ثم تذكره وقام ليبحث عنه ولكنه لم يستطع العثور عليه إذ نسي نسيانا تاما ذلك الموضع الذي وضعه فيه. ومرت ستة شهور ثم مرضت أم الزوج مرضاً خطيراً ولم تكن تقطن مع ابنها، وهنا تركت الزوجة منزلها وذهبت إلى منزل حماتها،(947/13)
وقامت بتمريضها خير قيام وأظهرت عناية فائقة بها مما أفعم قلب الزوج بحب زوجته لما تبين فيها من نبل ووفاء. وفي هذه الأثناء عاد الزوج إلى منزله وإذا به يتقدم من المكتب ويفتح درجا معينا فيجد الكتاب المفقود
إن الميل إلى نسيان الأشياء التي لا يحبها الإنسان شيء عام، وما الانكارات والتكذيبات التي يصادفها الطبيب أثناء عمله إلا إحدى نتائج هذا الميل. فمثلا جاءت أم إلى فرويد وعرضت عليه ابنها العصبي وفي أثناء حديثها ذكرت له أن الولد يتبول تبولا لا إراديا أثناء الليل، وأن أخوته وأخواته كانوا مثله أيضا، ثم مرت عدة أسابيع وحضرت الأم فسألها (فرويد) عن بعض الأشياء ومن بينها مسألة (البول) وإذا بها تنكر هذه الواقعة بالنسبة للمريض وبالنسبة لأخوته وتعجب وتتساءل: من أين عرفت هذا؟! وهنا ذكرها فرويد بسياق الحديث السابق الذي دار بينهما وظهر أنها هي التي صرحت بذلك!
وإن (دارون) يؤيد قول (فرويد) بأن الأشياء المؤلمة تكون أسرع إلى النسيان من غيرها. فهو يذكر أنه يسير على قانون ذهبي يتلخص في أن يأخذ مذكرة بكل واقعة أو فكرة أو ملاحظة جديدة تنشر وتكون معارضة نتائجه العامة. فقد اتضح له من تجاربه أن مثل هذه الوقائع والأفكار أكثر فرارا من الذاكرة عن الوقائع والأفكار المحببة إلى الشخص
وهكذا يأتي (فرويد) بهذه النظرية الجديدة لتفسير النسيان، فهو في نظره إنما يرجع إلى اضطراب في الانتباه منشؤه دوافع لا شعورية تعمل على إبعاد الأفكار التي توقظ شعورا مؤلما. فكل عملية عقلية يصحبها قدر معين من الطاقة النفسية فإذا زاد هذا القدر إلى حد كبير فإن الشخص يشعر بعدم الارتياح، ولذلك يوجد ميل دائم إلى تصريف هذه الطاقة حتى يتجنب الألم ويمنع نشوب التوتر النفسي. فإذا حدث أن حلت عملية عقلية معارضة لمؤثرات أخرى واصطدمت بالنشاط الترابطي المعتاد فإن هذه العملية العقلية تفصل وهذا دفاع شبيه باستجابة الهرب لمنبه مؤلم
ان الميل لنسيان ما هو مكدر وغير سار شيء ضروري ولازم لكل إنسان يعيش على سطح البسيطة. . إذ أنه لا يستطيع الخلاص من حدوث أشياء مؤلمة تنغصه. . كما لا يقدر على التحرر من الانفعالات الشديدة الناجمة عن تأنيب الضمير أو الشعور باللوم والخجل. . أو الإحساس باقتراف الإثم واستحقاق العقاب(947/14)
فائزة علي كامل
طالبة ماجستير بقسم الفلسفة(947/15)
4 - ألمانيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
مستقبل ألمانيا:
يتساءل الناس في أيامنا هذه: أقضي حقا على ألمانيا نهائيا؟ ألا تعود إلى سابق قوتها وعظمتها؟ وهل نسي الألمان عن مصيرهم الأخير؟
والجواب عن هذه الأسئلة واضح كل الوضوح، فلن تستطيع أية قوة على وجه الأرض أن تمحو أمة ناهضة. صحيح قد تغلب الأمة على أمرها حينا من الزمن ولكنها لا تلبث أن تسترد نهضتها وأن تعيد مجدها وعظمتها. ولم ينس الألمان هتلر ولن ينسوه لأنه في نظرهم بطل ضحى بحياته من أجل ألمانيا ورفاهيتها
والدليل على صدق ما أقول أن إحدى الصحف نشرت أخيرا صورة رائعة لمدينة برنسويك بألمانيا وهي تستقبل الجنرال رامك قائد فرقة جنود المظلات الألمانية التي هاجمت كريت واستولت عليها إبان الحرب العالمية الأخيرة. وقد حضر هذا الاستقبال الذي أقيم لمناسبة خروج الجنرال من السجن ما يزيد على خمسة آلاف من الجنود النازيين السابقين الذين عملوا في هذه الفرقة. ومما قاله الجنرال رامك أثناء الاجتماع (انه لا يمكن الاعتماد على ألمانيا في المساهمة في الدفاع عن غرب أوربا ما لم تطلق بريطانيا وأمريكا وفرنسا سراح من سمتهم مجرمي الحرب). وقد حمل الجنود القائد على أكتافهم ووضع على حائط السرادق الشعار القديم للفرقة
وأكثر من هذا أن أعداء ألمانيا بالأمس ما عدا روسيا وفرنسا يعملون على إعادة قوتها إليها؛ لا حباً في ألمانيا وسيادتها ولكن لأنها القوة الوحيدة التي تستطيع الوقوف في وجه العدوان الروسي. أما فرنسا فإنها تعارض في عودة وحدة ألمانيا لما ذاقته على يدها من ألوان المحن والهوان
وقد زار المستر موريسون وزير خارجية بريطانيا منذ شهور ألمانيا الغربية وتحدث مع رئيس الجمهورية الألمانية الغربية عن اشتراك ألمانيا في الدفاع عن غرب أوربا، فكان رد الرئيس (إن ألمانيا لا تستطيع أن تتعاون مع محتليها، فإذا أردتم أن نتعاون فعليكم بالجلاء عن أراضينا). وتعمل بريطانيا فعلاً على إنهاء الاحتلال لغرب ألمانيا، أما روسيا فتعارض(947/16)
في الجلاء عن البلاد التي تحتلها وذلك لأنها تعلم ما يبيت لها الحلفاء
وجدير بنا أن نبحث عن أسباب هزيمة ألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية. أكان ذلك لضعف ألمانيا أم لنقص في شجاعة جنودها؟ الواقع أن قوة ألمانيا كانت عظيمة وكان استعدادها هائلاً، وخططها مرسومة منظمة، ومن ثم نجح الألمان في السيطرة على غرب أوربا بسرعة عجيبة أفزعت الناس أجمعين. وما زال الناس يذكرون كيف استولت ألمانيا على الدانمرك والنرويج من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب في ليلة واحدة. الواقع أن السر في هذا النجاح راجع إلى دقة الخطط الألمانية وحسن تنظيم قواتها
إذن فما سبب هزيمة ألمانيا؟ يرجع سبب هزيمة ألمانيا إلى عاملين: أولاً غدر روسيا بها، فقد عقدت روسيا ميثاق عدم اعتداء بينها وبين ألمانيا قبيل قيام الحرب الأخيرة 1939، فلما اطمأنت ألمانيا على حدودها الشرقية دخلت الحرب ولاقت قواتها نجاحاً رائعاً لم يشهد له التاريخ مثيلاً. لقد خطب هتلر في القوات الألمانية قائلا (أنتم تقررون مصير ألمانيا مدى ألف عام)
واندفعت القوات الألمانية فاستولت على هولندا وبلجيكا وفرنسا في مدى شهر من الزمان أو أقل؛ ثم استولت على الدنمرك والنرويج في ليلة واحدة؛ ثم ولت وجهها شطر الجنوب الشرقي للقارة، فاستولت على البلقان
وهنا غير الدب الروسي سياسته، وطلب من ألمانيا أن تعطيه ميناء على البحر الأبيض، ولكن هتلر رفض فوقعت الحرب بين روسيا وألمانيا سنة 1942 مما كان له أكبر الأثر في تغيير مجرى الحرب
ثانيا: دهاء بريطانيا وساستها ومقدرتهم العجيبة على الكذب والنفاق والغدر، مما لا ترى له مثيلاً في التاريخ، وسعة حياتهم فبريطانيا إذا وقعت في خطر جعلت من قضيتها قضية العالم أجمع، واجتهدت في أن تكسب الحلفاء والأنصار للدفاع عن قضيتها. ألسنا نذكر جميعا بكاء الثعلب الماكر تشر شل؟ أنه كان يدعي أنه يبكي على حرية العالم التي يحاول الألمان القضاء عليها. والتفت الأمم حول بريطانيا لأنها رأت في انتصار بريطانيا وحلفائها انتصاراً للحرية. وانتهت الحرب وإذا بتشرشل العجوز يتنكر لماضيه ويطعن الحرية التي كان يبكي عليها طعنة نجلاء. ألسنا نذكر جميعا كيف كان يشيد بالخدمات التي قدمتها مصر(947/17)
لقضية الحلفاء! وكيف كان يذكر أن وقوف مصر بجانب الحلفاء كان من أهم العوامل في انتصارها. فلما انتهت الحرب تنكر لمصر ومن ثم نراه في كل جلسة من جلسات مجلس العموم البريطاني يلوم وزير خارجية بريطانيا على تساهله مع مصر ويطلب إليه عدم إمداد مصر بالأسلحة، وتدفع مصر ثمن الأسلحة ولكن لا ترد إلى مصر ولا يرد الثمن. فإن أعطيت مصر أسلحة فإن هذه الأسلحة تكون إما تالفة أو غير صالحة بتاتاً. وهكذا يكون وفاء الإنكليز بالعهد. لقد حار الناس في فهم حقيقة الخلق البريطاني! انهم الأفعى التي تلدغ الشعوب جميعاً. لقد كسبت بريطانيا الحرب بالعتاد الأمريكي وبالدم الروسي وبدماء الشعوب الأخرى، أما هم فكانوا أقل الشعوب تضحية ومع ذلك فازوا بنصيب الأسد من ثمرات النصر
ومثال آخر من أمثلة الغدر البريطاني. في سنة 1914 قامت الحرب العالمية الأولى وعمدت إنكلترا إلى إثارة العرب ضد تركيا التي كانت قد انحازت إلى جانب ألمانيا على أساس أن تعطى الشعوب العربية حريتها واستقلالها بعد انتهاء الحرب، ووفت الشعوب بما عاهدت وانتصرت إنجلترا والحلفاء، ومع هذا ماذا كان جزاء العرب؟! احتلت إنجلترا فلسطين والعراق ومصر. واحتلت فرنسا سوريا ولبنان، ثم كان من نتائج هذا الوفاء بالعهد والغدر من جانب إنكلترا قيام دولة إسرائيل وطرد العرب الآمنين حلفاء الإنكليز من ديارهم وبلادهم!!
ولعلك تسألني ما سر العداء بين بريطانيا وألمانيا؟ وأنا أجيبك بأن ألمانيا بعد أن كونت وحدتها ونهضت صناعتها أرادت أن تكون لها مستعمرات وأساطيل بحرية تجارية وحربية، ومن ثم بدأ الصراع بين إنجلترا التي تريد احتكار الأسواق العالمية وبين ألمانيا التي تريد أن تكون التجارة العالمية حرة حتى تأخذ ألمانيا نصيبها من تجارة العالم، وكان من نتائج هذا الصراع قيام الحربين الأولى والثانية، وهزيمة ألمانية
أما بعد:
فان ألمانيا أمة قوية ودولة فنية وشعب ناهض وقطر غني ومواردها المعدنية والزراعية عظيمة، والعقل الألماني من غير شك من أرقى العقليات العالمية. ونحن جميعا ما زلنا نتمتع بثمار هذا العقل. والصناعات الألمانية تمتاز بجودتها ورخصها. بل أكثر من هذا أن(947/18)
أرض ألمانيا غير صالحة للزراعة ولكن العقل الألماني قد استطاع أن يحيل هذه الأرض الجدبة إلى أرض زراعية خصبة وافرة الإنتاج
ومن ثم فإن ألمانيا لن تلبث طويلا حتى تسترد مجدها وتستعيد قوتها
وأما بريطانيا فقد انكشفت ألاعيبها وحيلها وشاخت إمبراطوريتها، ولن يلدغ العالم من جحرها مرتين، وقد تنبهت الشعوب تماما ووقفت جميعا تناضل في سبيل حريتها نضال المستميت، ولن يجدي بريطانيا ما أقامته من هيئة أمم متحدة تعمل في الخيال لمصلحة الشعوب والأمم ولكنها في الحقيقة تخدم المصالح البريطانية
ولعل من الخير لبريطانيا أن تعدل عن سياستها القديمة وأن تحترم حرية الشعوب وإرادتها، فإن ذلك فقط هو الكفيل بتحقيق السلام العالمي
أبو الفتوح عطيفة(947/19)
صحيفة مطوية في البلاغة العربية
للأستاذ أمين محمد عثمان
لا يسعك وأنت تجول في ميدان الدراسات النفسية الحديثة، وتخوض في بحر الثقافة الأوربية الخضم، إلا أن تعترف لعباقرة العرب بفضل السبق في هذا الميدان، وتؤمن إيمانا بأن في التراث العربي العريق كنوزا مطمورة تحتاج إلى من ينقب عنها، ويخرجها من كهوف النسيان إلى عالم النور والعرفان
لقد كان علم النفس القديم يرى أن إدراكنا للعالم الخارجي يبدأ بالأجزاء والتفاصيل، ثم يربط بين بعضها وبعض حتى يتألف الكل، فأنت - على هذا الزعم - حينما ترى الشخص تبدأ في إدراك أجزائه أولاً (شعره. عينيه. فمه. . . الخ) فإذا كررت النظر أدركت الشخص في جملته وهيئته. وعلى هذه النظرية كانت التربية التقليدية إلى عهد قريب، تبدأ في تعليم الرسم بالخطوط والمنحنيات والدوائر والأشكال الهندسية ثم تنتقل بعد ذلك إلى رسم القصص والحوادث والمناظر الطبيعية، وعلى هذا الأسلوب سرنا ولا زلنا نسير في تعليم القراءة والكتابة على الطريقة الأبجدية، فنبدأ بتعليم الطفل حروفا ثم كلمات ثم جملا، ضاربين صفحا عن كل أساس سيكولوجي أو تربوي
فلما ظهر علم النفس الحديث، وبزغت في أوائل القرن العشرين (مدرسة الصيغ الإجمالية) قلبت هذا الوضع رأسا على عقب، وقامت بتجارب شتى دلت كلها على أن الإدراك عند الحيوان والإنسان يسير من المجمل إلى المفصل، ومن الكلي إلى الجزئي، على العكس مما تقول التربية القديمة، فلو أنك ألقيت نظرة على شخص أو على صورة، لكان أول ما تراه من الشخص شكله العام، وأول ما تأخذه عن الصورة انطباعا مجملاً عاماً، فإذا أطلت النظر والتأمل، أودعتك ضرورة عملية إلى التحليل، أخذت تفاصيل الشخص أو الصورة تثب إلى عينيك واحدة بعد أخرى
والإدراك الإجمالي أكثر ما يكون وضوحا وبروزا عند الأطفال والحيوان، فالطفل لا يحلل الأشياء في إدراكه، وليست به حاجة إلى التحليل، والعنكبوت لا يعرف الذبابة أن قدمت إليه لا على نسيجه، بل في مكمنه الذي يتربص لها فيه، كأن الذبابة جزء من كل، أن انفصلت عنه لم يعد لها معنى. ومن أجل ذلك اختلفت الأفراد في نظرها إلى الأشياء،(947/20)
فنظرة الفنان إلى اللوحة الفنية غير نظرة الرجل العادي، لأن الأول يدرك من تفاصيلها ودقائقها ما لا يدركه الثاني، ونظرة الفلكي إلى السماء ليست كنظر سائر الناس
وقد أجرى العالم النفساني (كهلر) تجارب على الدجاج أيد بها أن الكل سابق لأدراك أجزائه، فقد وضع بعض الدجاج في أقفاص تسمح لها بإخراج رؤوسها لتلتقط الحب من لوحة أفقية، ووضعت على اللوحة ورقتان رماديتان: إحداهما فاتحة والأخرى داكنة، وكلما حاولت دجاجة التقاط الحب من الورقة الفاتحة طردت، ومن الأخرى تركت، حتى تعلم الدجاج الالتقاط من اللون المقصود بعد (65) تجربة، ثم استبدلت الأوراق الفاتحة بأخرى أشد سوادا من الأوراق الداكنة. فبادر الدجاج إلى الالتقاط من هذه الأوراق الجديدة، وهذا دليل قاطع على أن الدجاج لم يدرك كل لون على حدة، بل أدركه بالنسبة إلى الشكل الذي يضم اللونين معا، ولو كان يدري كل لون على حدة لأستمر يلتقط الحب من الورقة التي تدرب على الالتقاط منها. وقد أحدثت هذه النظرية انقلابا خطيرا في التربية الحديثة، واستفاد منها المربون في أسلوب التربية والتعليم كما فعل العالم البلجيكي (دكرولي) في تعليم القراءة والكتابة، حيث سار على الطريقة السيكولوجية، فبدأ بالجملة ثم بالكلمة ثم انتهى إلى تعليم الحرف، وأخذ الفنانون ومدرسو الرسم يبدءون في تعليم الطفل برسم الحوادث والقصص والمناظر الطبيعية لأنها تلائم نفسية الطفل وعقليته على عكس ما كانت التربية القديمة
هذا ما ذكره علم النفس الحديث. وقد تراءى لي بعد البحث والتروي أثناء دراساتي بالعيادة السيكولوجية بمعهد التربية أن هذه النظرية على جدتها وقرب عهدها بالعصر الذي نعيش فيه ليست بالنظرية المبتكرة، ولا هي بالرأي المخترع - كما يدعي بعض علماء أوربا المعاصرين - فلقد سبق إليها عبد القاهر الجر جاني إمام البلاغة في عصره، منذ تسعة قرون. ولعلك تغرق في الإعجاب إذا علمت أنه لم يخرم من هذه النظرية حرفا واحداً. . واليك ما ذكره عبد القاهر الجر جاني في كتابه (أسرار البلاغة) وكان في معرض الحديث عن التشبيه البليغ (إنا نعلم أن الجملة أبدا أسبق إلى النفوس من التفصيل، وأنك تجد الرؤية نفسها لا تصل بالبديهة إلى التفصيل، ولكنك ترى بالنظر الأول الوصف على الجملة، ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر، ولذلك قال العرب! النظرة الأولى حمقاء، وقالوا لمن(947/21)
يصف الشيء على غير حقيقته: فلان لم ينعم النظر ولم يستقص التأمل. وهكذا الحكم في السمع وفي غيره من الحواس؛ فإنك تتبين من تفاصيل الصوت بأن يعاد عليك حتى تسمعه مرة ثانية ما لم تتبينه بالسماع الأول، وتدرك من تفصيل طعم الذوق بأن تعيده إلى اللسان ما لم تعرفه بالذوق الأول، وبادراك التفاصيل يقع التفاضل بين راء وراء وسامع وسامع) وهكذا يسترسل عبد القاهر في الكلام عن المحسات حتى يصل بك إلى قوله (والأمر في المعقولات كذلك، تجد الجملة أبدا هي تسبق إلى الأوهام وتقع في الخواطر أولا، وتجد التفاصيل مغمورة بينها، وتراها لا تحضر إلا بعد أعمال الروية واستعانة بالتذكير)
أما بعد: فقد أن لنا أن نبحث في تراثنا العربي على ضوء العلم الحديث، لنكشف للعالم ما أثبتت التجارب العلمية صحته ومطابقته للواقع، ولا زال فينا - مع الأسف - من ينظر إلى هذا التراث نظرته إلى خرق بالية قد مزق أديمها، ولم يدر أن بها من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، ورحم الله (حافظاً) إذ يقول على لسان اللغة العربية:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
أمين محمد عثمان
دبلوم معهد التربية العالي
مدرس بمدرسة الرمل(947/22)
رحلة إلى الحجاز للشيخ مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
في هذه الرحلة يصف لنا الشيخ في أسلوبه الخاص رحلته إلى الحجاز، وزيارته قبر الرسول، وأدائه مناسك الحج ثم عودته
وقد دعاه إلى الحج وهون عليه الأمر، صديقه الوزير رجب باشا وقد كان أميراً للحج. فأذعن الشيخ، ويلاحظ الشيخ أن رجب باشا كلمه (بالتركي المعرب) وعرض عليه أن يستصحبه ففعل
ثم يصف لنا الشيخ وصوله إلى المدينة، وزيارته الحجرة المطهرة ثم مكة، ومناسك الحج. وقد اجتمع وهو في مكة بالشيخ محمد التافلاني (مفتي الحنفية) في القدس ودعاه إلى مرافقته إلى القاهرة فاعتذر
ويستدل من الرحلة، على عدد من الأمور الشيقة، فمنها أن الحج المصري كان قائماً في ذلك العهد، وأنه والحج الشامي يؤلفان أهم موكبين من مواكب الحجاج، وكيف كان الحرم في مكة يفتح في الليل خصيصا لأمير الحج الشامي، وقد فات الشيخ استمتاعه بهذه الفرصة النادرة لانشغاله في الوضوء، إذ لم يكد يستعد لدخول الحرم في الليل حتى أقفلت أبوابه
وكان أمير الحج، قد أقام مولداً وفرق الدنانير، ويصف لنا الشيخ تأثراته في المدينة ومكة، وقد أخذه الحال، حتى كاد يتأخر عن الركب الراجع بعد الحج
ويظهر من وصف الشيخ أن قوافل الحجاج كانت تحرسها الجنود، ويصفهم بالجردة، ويقول أن تأخر وصولهم أقلق الحجاج، ولما أطلوا، عادت إليهم طمأنينتهم
كما يصف لنا الشيخ ما فعلته الأمطار في (الحسا) من اضطراب، ونقص في الجمال
وإننا نترك الآن للشيخ البكري أن يصف لنا رحلته الشيقة في حجه المبرور:
وبعد: فيقول أفقر الأنام وأحقر الخدام بكثرة الآثام مصطفى بن كمال الدين بن علي الصديقي، لما كان الحج على المستطيع من الأمة فرضا، كانت النفس تشوق لأدائه لتكون ممن الحق أرضى، ونتشوق لزيارة تلك الأماكن، التي إليها القلب متحرك غير ساكن، لكن عدم وجود الاستطاعة لها مانع، وكلما هم العبد أعجزته الأقدار وأقعدته الموانع، إلى أن فتح الحق الوهاب بابا لزيارة البيت المقدس المستطاب، وذلك عام (1122هـ - 1710م)(947/23)
وذكرت ما اتفق لنا في هذه الخطرة في الرحلة المسماة (بالخمرة المحسية في الرحلة القدسية) ثم عدنا إلى الديار، وأقمنا فيها مدة بحكم الاضطرار، فهاجت بنا دواعي الشوق، ودبت فينا نشوة التوق، إلى تلك الآثار المقدسة وثارت الأشجان إلى لقاء الأخوان في سنة (1126هـ - 1714م) وأودعت ما وقع هذه الكرة وما جرى هذه المرة، في كراسة وسميتها (الخطرة الثانية الأنسية للروضة الدانية القدسية) وكرينا على الأوطان، وأعددنا أنفسنا من القطان، في شهر رمضان سنة (1127هـ) وأقمنا إلى شهر رجب من شهور عام ثمانية وعشرين، فحرك الحق سبحانه الهمة إلى زيارة علم الشرق وما حواه العراق من السادات المتكاثرة. ولما وصلنا إلى محروسة حلب لم تقسم الزيارة لأمر محتم، فقصدنا زيارة سلطان الزهاد سيدي إبراهيم بن أدهم، ومكثنا في طرابلس الشام نحو سبعة أشهر وأيام، وتراجعنا للآثار المقدسة، لعلاقة لا تنسى، وضمنت بعض ما شهدناه في جزء سميته (الحلة الذهبية في الرحلة الحلبية) وعطفنا على المرابع السامية الشامية؛ عام ثلاثين راجين القرب من رب البرية وازداد وارد الأدكار والأفكار، كيف الوصول إلى سعاد الحجاز الرفيع المنار، وكان عام ثمانية وعشرين توجهت همة الأخ عبد الكريم القطان، إلى الحج الشريف، فقال له الأخ ذو الود والوفا الشيخ مصطفى ابن عمرو، أنت حجيت واجعل هذه عن أخيك فلان، ليحصل لك الثواب سبعين حجة كما جاء في بعض الآثار، فقبل منه ذلك وقرأ الفاتحة وتوجه لذلك المقام، نائباً عن الفقير في رحلته، وذكرت ذلك في ترجمته المسماة (بالصراط المستقيم في ترجمة الأخ الشيخ عبد الكريم) ولما عدت للديار ودخلت سنة (1130هـ) وقرب زمن مسير الحاج، أنشدني المجذوب الشيخ أحمد بن سراج مطاوعياً، ثم قال لي يا مصطفى (أن مرادهم يرسلوني إلى الحج في هذا العام) ففهمت إشارته ومقصده، في هذا الكلام، فقلت له (أرسلني نائبا عنك) فقال (أتروح)؟ فقلت (نعم ولو أن الروح تروح) فقال (ان رحت أرسلك مكاني) فقلت (عسى أن يدنو التهاني). ثم غاب وحضر بعد مضي جملة أيام. وجاءني قائلا (مرادنا نرسلك إلى الحج في هذا العام) فقلت (حفظك الله السلام، هذا هو القصد والمرام). وكنت ذهبت لوداع الحاج قبل هذا العام بعامين أو أكثر، وأنشدت حين شهدت الهوادج والأجمال تسير بلامين للسيد الأكبر:
زجروا العيس نحو وادي العقيق ... ليت شعري هل لي له من طريق(947/24)
ولما رأيت (الأجمال) سائرة تخب الأرض خبا، والقلوب طائرة، والأقدام تطوي السباسب خبا، تزايدت منا الحسرات، وبعد العود من التوديع، قيدت هذا القصيد الآتي مخافة أن يضيع، وأنشدتها الرفيق الأعز الأخ الشيخ عبد الكريم الجمل فهاج وماج، ولمفصل ما عنده أجمل، وبكى واستبكى، والمدامع أهمل، وهي:
أبروق لاحت بتلك البوادي ... أم بواد في حي سلمى بوادي الخ
اجتماعه بصديقه رجب باشا والى الشام وأمير الحج:
(وكنت لما اجتمعت بجناب الدستور الأكرم، والمشير الأفخم محبنا الأعظم، والى الديار الشامية، وأمير الحج في هذه السنة السنية، رجب باشا، حبي من الخيرات ماشا، سألني (هل حججت؟) قلت (لا) فعرض أن نصحبه في الزيارة، وصرح في كلامه التركي المعرب الآن، بعد التعريض والإشارة، فأحلنا الأمر على الإرادة، ورجونا حجاً مبروراً لنيل السعادة
عم الشيخ البكري يحج أيضا:
(ولما توجهت همة العم، زاد السرور وزال الغم، وكنت أرى لي قبله مالاً، فقلت أحسب مصرفه على منه مآلا. وسألته الرفق والإرفاق، فأجاب بالوفاق والإشفاق، وأخبرت أن الوزير المشار إليه، أمره بأخذ الفقير فهان الصعب عليه، وعند الحزم والعزم على الرحيل، ودعنا قطب رحى الوجود، شيخنا صاحب الكشف الأنسي، جناب الشيخ عبد الغني النابلسي، وجميع من عنده. ممن أصحبهم رفده
زيارة المشاهد وقبور الأجداد قبل التوجه إلى الحج:
(وزرنا قدوة العارفين سلطان الغارقين في بحر الوحدة والعارفين سيدي محبي الدين، وتوجهنا بأهل السفح، ثم زرنا الوالد والأجداد الكرام في مقبرة الشيخ أرسلان، وتممنا الزيارة بشيخنا المرحوم الشيخ عبد اللطيف، وختمنا بمرقد سيدي عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، وهذا المرقد على التحقيق لجدنا سيدي محمد ابن عبد الرحمن المعروف بابن أبي عتيق، وسبب ذلك أن محمد بن عبد الرحمن هذا ولد له عبد الله وله عقب، فاتفق أن عدة من أولاد أبي بكر رضي الله عنه، تناضلوا، فقال أحدهم (أنا ابن الصديق) وقال الآخر:(947/25)
(أنا ابن ثاني اثنين) وقال آخر: (أنا ابن صاحب الغار) وقال محمد بن عبد الرحمن: (أنا ابن أبي عتيق) فنسب إلى ذلك هو وولده إلى اليوم. ذكره ابن قتيبة في تاريخه. وأما عبد الرحمن الحد الأعلى فمات فجأة سنة (53 هـ أو 58 هـ) وحمل إلى مكة ودفن بها، ذكره الشيخ محمد بن عبد الدائم البرماوي في (شرحه الزاهر البسام فيما حوته عمدة الأحكام)
(وبعد إتمام الزيارة وتوديع الأهل والأحباب الأخيار توجهنا مع العم إلى قبة الحاج، عشية النهار، وبتنا في سرور وبسط تام. بين رفقة أعزة وأحبة كرام)
في طريق الحج:
(وفي صبيحة اليوم الأزهر الميمون، سرنا إلى (الكسوة) ونزلنا قريبا من تلك العيون، وساروا بنا ليلة السبت إلى (المزريب) فوصلناه وأقمنا فيه أياما بعيش خصيب، وفيه شرعت في مسودة هذه الرحلة المباركة المسماة (الحلة الحقيقية لا المجازية في الرحلة الحجازية)، ولم نزل نسير، والحق سبحانه يهون العسير، إلى أن وصلنا (معان) والحاج كما يقال معان، والزفرة في وهج، تصلى بحرها المهج
وأقمنا يوما بها ثم سرنا ... نحو تلك الرحاب نرجو الأمانا
نترامى على الوشاة غراما ... كي يمر الزمان نأتي المكانا
ولديه يلتذ سمعي بمغنى ... فيه نغنى عن الشوادي يدانا
(وكنا نشتغل في المحفة ببعض أذكار وأوراد، تدني الإمداد وتبعد الأنكاد، ولما وصلنا (المعلى) سبحنا العلي الأعلى، وأهدينا الفواتح لمن حلها من أهل التكريم، وخصينا بفاتحة الأخ الشيخ عبد الكريم، فإنه دفن بها بعد العودة من الحج المبرور، نائبا عن الفقير، كما قدمنا قريبا بهذه السطور
(وما زلنا نسير إلى أن وصلنا منزلا نلنا به غاية الابتهاج، إذ يلاقي فيه أهل المدينة الحجاج، وفي عشية تلك الليلة رأى الناس طلائع الأنوار، من ناحية السيد السند الحبيب الطبيب المختار، وحج الحجيج لرؤية ذلك، بالصلاة والتسليم على زين الممالك، ولم نزل بحول من أعلى وأنزل، نطوي البيد طي، طالبين وادي العقيق، إلى أن لاحت للعين لوائح القرب، وطاب للشارب من دموعه هناك الشرب، وحق لنا أن نلثم أخفاف الجمال، التي حملتنا إلى أن شاهدنا هذا الجمال. وفي هذا المعنى أنشد الواله المعنى:(947/26)
وإذا المطى بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام
قريننا من خير من وطئ الثرى ... فلها علينا حرمة وذمام
وحق للزائر، أن ينشد مكان تلك الدوائر:
فيا ساكني أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
(ولما عجنا على وادي العقيق ضحى، سالت الآماق الجامدة، واضطرمت الأنواق الخامدة، وأنقينا العين على شهود العين، وحبذا عين تنفق في عين، ونزلنا إذ رأينا على البعد المنارات النيرة، والبناء المدهش نوره وبروق آثاره محيرة، فألقينا عن الرواحل من فرط المسرة أنفسنا، وقلنا للأنفس، هذا الأنفس الذي من أنفسنا وأنفسنا، ونزولنا عند رؤية الآثار من السنة لا يقال فيه لبس، لأنه أقر على ذلك سيد الأكوان وقد عبد قيس. قال الفاكهي (في حسن التوسل في زيارة أفضل الرسل) في الفصل التاسع والأربعين، أي من الآداب أن ينزل عن راحلته إذا رأى المدينة ومنائرها تواضعا لله، وإجلالا لنبيه، صلى الله عليه وسلم وأن يمشي إلى المسجد إذا استطاع بلا مشقة شديدة، وآلا مشى قليلا، لأن وفد عبد قيس لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا عن الرواحل ولم ينكر عليهم وكانوا نزلوا بإلقاء أنفسهم قبل أن ينخوها، فإلقاء النفس بحيث لا يتأذى ولا يؤذي الدابة وغيرها حسن فيما يظهر
ونقل أن العلامة أبا الفضل الجوهري ترجل عند قرب بيوتها باكيا منشداً:
ولما رأينا ربع من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حل فيه أن نلم به ركبا
انتهى. وهذا الكتاب يعزى للمحقق المقدم الهيتمي، وكتابه (الدر المنظم في زيارة القبر المعظم). والقينا في الخيام عصي التسيار، وقلنا ما بعد العشية من عرار، وبادرنا إلى الزيارة، فرحين بمن حللنا داره
للمقال بقية
سامح الخالدي(947/27)
رسالة الشعر
الميعاد
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
كتب في مذكراته يقول:
(حملت إليه طاقة من الزهر. وافترقت على أن تلقاه في
روضة الملتقى، وشاءت الأقدار أن تخلف وعدها. . ورجع
شاعرها إلى أزهارها يبثها هواه ويهرق عليها دموعه. .
وعندما أوشك الفجر أن يبتلج كان قد أتم هذا اللحن تزفه إلى
أفقه ملهمته الخالدة. مهدية الزهر. ومخلفة الميعاد
يا مهدي الزهر نواحا لعاشقه ... ماضي لو رحت تهديه الهوى عبقا
تركته نهب أوهام وأخيلة ... حيران يضرب في بيد المنى فرقا
لكم سقى زهرات الحب أدمعه ... وظل حران يستسقي الظما أرقا
فاعجب لظمآن قد جفت مناهله ... والورد من دمعه المسفوح قد شرقا
ناداك والليل قد شابت ذوائبه ... من السهاد، ونجم الصبح قد خفقا
وظل يصرخ حتى ذاب من ألم ... فؤاده وجرى من ثغره مزقا
دخلت روضتنا الغناء أسألها ... عن موعد كان لي في ظلها ولقا
والشمس معتلة الأضواء شاحبة ... كأنما لقيت من حيرتي رهقا
وقد توارت عن الأنظار تاركة ... على حواشي السما من جرحها شفقا
فلم أجد غير طيف منك يصحبني ... أني التفت أراه نيرا ألقا
ضممته بين أجفاني فهيج لي ... شوقي، فرحت عليه أطبق الحدقا
(هناء) يا كوكبا ما زال مؤتلقا ... لكنه لم يجد إلا الأسى أفقا
أأنت ناديت أم صوت يخيل لي ... سمعته من وراء الغيب منطلقا(947/28)
قد مر بي وطوى الآباد أجمعها ... حتى استقر بسمعي حينما طرقا
فديته من صدى ما رن في أذني ... إلا، وأهدى لي الأشجان والحرقا
في لحظة ردت الأقدار عاجزة ... عن سيرها. وأعادت كل ما سبقا
فجسد الوهم لي الماضي وصوره ... شخصا لعيني إذا كلمته نطقا
يا لحظة تربط الماضي بحاضره ... لا كنت يا لحظة منها الأسى انبثقا
أعدت لي ذكريات كلما سطعت ... في خاطري جددت لي الحزن والقلقا
يا ليت من أيقظت عيناه عاطفتي ... للحب، يشعر من في حبه احترقا
أوليت خالق هذا الحسن من علق ... أحب يوما إذن ما ذل من عشقا
يا من تمثل فيه الروض مبتسما ... والبحر منبسطا والنجم مؤتلقا
ما لي أجرعك الأحلام صافية ... وأنت تملأ لي كأس الهوى رنقا
أغرك الحسن أخاذا فتهت به ... على، حتى ظننت الحسن ما خلقا
أم قد علمت بما في القلب من حرق ... فرحت تمنح عيني الدمع والأرقا
عبد القادر رشيد الناصري(947/29)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
قرينة طه حسين:
مسألة النساء في حياة الرجال مسألة معروفة، من الإملال وفضول الكلام أن نتخذ منها مقدمة لهذا الحديث الذي نريد أن نسوقه في هذه الكلمة. وهو حديث عن السيدة الجليلة قرينة عميد الأدب والأدباء معالي الدكتور طه حسين باشا
كثيراً ما جال بفكري أمر هذه السيدة، من حيث أثرها في حياة طه حسين وفي أدبه. لقد تحدثت إلى مراسل لمجلة (آخر ساعة) في باريس، فصاغ من حديثها موضوعا ضمنه ما أفضت به إليه من معلومات تتعلق بالحياة العامة للزوجين الكبيرين، وهي معلومات نعرف بعضها ويسرنا أن نقرأ ما لم نكن نعلمه منها
إن قرينة العميد شريكة حياة مثالية، فهي شريكته المهيأة له أسباب الراحة والاطمئنان في حياته الخاصة، وهي شريكته المشاركة له في آلام نفسه وأمانيها. فقد كانت خير معين له في فترات شديدة من حياته، إذ كانت خير معين له في فترات شديدة من حياته، إذ كانت تحاول دائما أن تثبت فيه الصبر والشجاعة، وتربت إحساسه المرهف، فيمر بالشدائد كريما جلداً ظافرا. وأستطيع أن أقول - على ما ألمح من بعيد - إنها تدفعه إلى المجد، وأن ما تدفعه إليه قد جنت منه البلاد ولا تزال تجني أطيب الثمرات. جاء في حديث (آخر ساعة) ما يلي:
(ولطه حسين وزوجته ذوق واحد في كيفية قضاء أوقات فراغهما، فهما يفضلان الموسيقى أو المطالعة إذا لم يكونا مرتبطين بموعد لقضاء سهرة. وهما يحملان معهما أسطواناتهما الكلاسيكية المفضلة في جميع أسفارهما لأنهما يشعران براحة تامة في الاستماع إليها عندما يكونان وحيدين)
وهذا جانب لا يستهان به في الحياة الزوجية، وهو التعاون على قضاء وقت الفراغ فيما يمتع ويفيد، فيذهب ما مضى من عناء وينبعث النشاط لما يأتي من أعمال. وإذا كان الرجل العادي يستريح إلى زوجته التي تعد له ما يشتهي من أطباق، فإن من أسباب السعادة التي يستشعرها مفكر ذو إحساس مرهف، زوجة تهيأ له ما يحب من غذاء العقل والروح. ومما(947/30)
نعلمه عن عميدنا الكبير شغفة بسماع الموسيقى الراقية، وهو يحرص على حضور حفلاتها التي تقام بمسرح الأوبرا الملكية في موسمها الشتوي السنوي بمصر، بل هو فوق ذلك يحرص على ألا تفوت متعتها من يؤثره، وسوف لا أنسى دعوته الكريمة التي تفضل فوجهها إلي لحضور بعض هذه الحفلات في الموسم القادم
وجاء أيضاً في ذلك الحديث أن قرينة العميد ترى في الحركة النسائية أن على المرأة المتزوجة أن تهتم ببيتها وبأولادها وأن تترك السياسة للأرامل والفتيات
إن فكري وخيالي يذهبان إلى التساؤل: كيف كان طه حسين وكيف يكون إذا مني بزوجة من هؤلاء المتصايحات المشتغلات بكل شيء عدا بيوتهن وأولادهن؟ وكيف يكون حال الأدب والعلم والتعليم عندنا إذا ابتلي بامرأة ممن يطفئن النور في القلوب ويبعثن بأزواجهن إلى القهوات والجلوس على الطوارات فرارا من نكد الزوجة وتعب البيت؟ إنني أتصور ذلك الفراغ الهائل في عالم الأدب العربي الحديث، فيهولني التصور. . وطه حسين كتلة من المواهب والحيوية الأدبية، ولكن هذه تحتاج إلى تهيئة الجو الصالح لتنميتها، الملائم لتنفس صاحبها
إن طه حسين - وهو الإنسان الحساس - يعرف لقرينته فضلها، وقد عب عنه بإهدائه إليها بعض مؤلفاته. ولكننا نحن اللذين انتفعنا بآثار ذلك الفضل، نحن أهل هذه البلاد المصرية وكذلك إخواننا في سائر البلاد العربية، ينبغي أن نذكر تلك السيدة الجليلة، ونذكر فضلها وأثرها في أدبنا وحياتنا، وأن نقرنها بزوجها العظيم فيما قدم لنا من نتاج أدبي وعمل مثمر، فنجلها كما نجله، ونحبها كما نحبه
عهد جديد
هذه مجموعة قصصية لكاتب قصصي جديد، هو الشاب العراقي الأستاذ شاكر خصباك، أنست بها في هذا المضيف المعتزل وكانت مما وصلني بالعالم الحبيب المتعب الممتع. . الذي نهرب منه ونحن إليه: عالم الأدب والفن
أعرف نزعة شاكر مما قرأته له من قبل في (الرسالة) وفي مجموعة سابقة، وأعرفها منه صديقا طالما التقيت به في القاهرة خلال السنوات التي قضاها طالبا بجامعة فؤاد الأول. فلما أصدر مجموعته هذه صدر هذا الصيف وقبيل رحيلي إلى المصيف، كانت مما(947/31)
احتقبته، عسا أن يذهب عن نفسي ما ألم بها فأشتاق إلى المتاعب الممتعة
أحب من الأدب - أكثر مما أحب - ذلك النوع الذي يتخذ كاتبه أخاه الإنسان موضوعا له، على أنه أخوه. . أخوه كيفما كان، لا يترفع عنه لأن الأقدار أو الأسباب الاجتماعية أرادت له الحرمان والجهل وسوء الحال، لا يتخذه إلهية ولا طرفة يلهى بها ويطرف، بل يراه أخا له يرثي لحاله ويأسو جراحه ويلتمس له - كمطلق إنسان - البرء والسعادة
وعندما قلت (أعرف نزعة شاكر) كنت أعني تسديده إلى ذلك الهدف الذي أحببت أن أرافقه - بقراءته - في الاتجاه إليه
هذه قصة (عهد جديد) - وهي قصة كبيرة جعلها في مقدمة المجموعة وسماها باسمها - تعرض لنا أسرة جزار عراقي جعل الكاتب نفسه أحد أبناءه وتحدث بلسانه كدابة في سائر القصص، ولابد أنه يتخذ هذه الطريقة - طريقة التحدث بضمير المتكلم - استكمالا للاندماج في جو القصة، وهو وأن كان تخيلا إلا أن ضلال شخصية الكاتب تظهر في كثير من قصصه، كالقصص التي يصور فيها حياة شباب ينزلون في القاهرة لدى أسر (بنسيون)
نعود إلى قصة (عهد جديد) فنراه يصور لنا حياة تلك الأسرة تصويرا ينقلنا إلى ذلك البيت الصغير الذي تعيش فيه، وكأننا نجالس الرجل وابنيه ونؤاكلهم على الحصير الذي يفترشونه في مدخل البيت. والحادثة التي تدور عليها القصة في غاية البساطة وهي تتلخص في أن الجزار يعامل أسرته بخشونة وغلضة، وخاصة زوجته وابنه الكبير، فلا يفتأ يوبخ الولد على كل تصرفاته، ويوجه إلى أمه قوارص الكلم، فيثور الابن وينفجر في وجه أبيه محتجا على إهانة أمه في إحدى المرات، ويغادر المنزل والبلد (الحلة). . . وتمر أيام لا يعلمون له مقرا ولا مرتحلا؛ حتى يهتدي الوالد إلى أنه رحل إلى كربلاء ليعمل عند قصاب هناك على أن يستدعي أمه لتعيش معه بعيدا عن أبيه الفض الغليظ، فيجزع الرجل ويلين جانبه ويخفض صوته ويحسن ألفاظه، ثم يبعث بزوجته إلى كربلاء، فتعود بولدهما، وما يراه الأب حتى يخرج من صلاته ويتجه إلى ابنه فرحا قائلا بصوت متهدج: الحمد لله على السلامة يا نجم!
الوقائع الظاهرة قليلة بسيطة، ولكن الكاتب يأخذنا إلى وقائع وأحفل، هي التي تجري في نفوس أفراد الأسرة جميعاً، فبعد أن عرفنا شخصية كل منهم عن طريق تصرفاته جعل(947/32)
يحركهم عندما وقعت المحنة التي زلزلت أركان البيت، وهي اختفاء نجم، جعل يحرك مشاعرهم ويصف حركاتهم وفقا لطبيعتهم، فالأخت البكاءة (أم دمعة) لا تنفك عن البكاء، والأخت الجامدة تعبر عن التياعها لاختفاء أخيها بجمودها. . على طريقتها! وقد أفاض في وصف المعالم الظاهرة والدقائق النفسية، وهو في كل ذلك يسير في خطة القصة المؤدي إلى نهايتها والمعرض عن عقدتها وهي تغير الأب من حال إلى حال واستئناف الأسرة عهدا جديدا صار فيه الرجل الجافي إنساناً رقيقا.
وتتمثل في هذه القصة خصائص قصاصنا الشاب، وأولاها نظرته الإنسانية، فقد نقد الأب وصور حماقته نقداً وتصويراً بالغين ولكنه ما تخلى عن العطف عليه كإنسان مسكين ظل سواء السبيل ثم اهتدى أو هدى إليه
وثانية الخصائص دقة الرسم مع تجنب الفضول، فقد عرفنا بكل شخصية من الشخصيات حتى كأنهم من معارفنا الأقدمين وحتى لأحسبني أن ذهبت إلى (الحلة) سأبحث فيها عن منزل ذلك القصاب وأسأله عن أفراد أسرته لأطمئن على حالهم جميعاً! وهو يفيض بالحديث عن أشياء فلا يمل لأنك تشعر انك في طريق القصة لم يعرج بك إلى هنا أو هناك، وفي خلال هذا الحديث تتجسم لك أصالة الكاتب في تصوير البيئة، وفي إجراء الكلام على ألسنة الأشخاص بما يناسب حالهم، فالجزار مثلاً يشبه زوجته بالنعجة، وابنه بالخروف؛ وأبناء هذه الأيام بالجاموس الهائج!
وثالثة الخصائص التي ألمحها في قصص شاكر خصباك هي النقد الاجتماعي فليست واقعيته من قبيل (التصوير الفوتوغرافي) وإنما هو ينظر إلى ما وراء الظواهر لينفذ إلى الحقائق ويلقي الضوء على ما يعترضه من مظاهر الحياة الإنسانية، وفي كثير من قصصه أهداف بعيدة، كقصة (أغلال) التي يثير فيها قضية حب بين حمال وإحدى طالبات المدارس، فيصور الفارق الاجتماعي بينهما عائقاً ظالماً، أليس للحمال قلب كغيره من الناس!
وأنت بعد كل ذلك تحس روح القصاص العذبة وظله الخفيف وطلاوته التي تأسرك وتشوقك إلى النهاية، على رغم ابتعاده عن الأغراب وافتعال المفاجآت
وقبل أن أنظر إلى (الكفة الثانية) أحب أن أهنئ عالم الأدب العربي الحديث بهذا الشاب(947/33)
الذي يرجى أن يكون فيه من أعلام القصة المبرزين
وهاك ما أراه من المحتويات (الكفة الثانية):
لاحظت في بعض القصص اهتمامه بما يشبه التعليق على النهاية أو الزيادة على النهاية بما لا داعي إليه وأحيانا تفسد الزيادة الموقف، وذلك كما في قصة (الرهان) و (قلب كبير) فقد عنى فيهما بالتعبير عن ألمه بعد الخاتمة التي كان يحسن السكوت عليها، والحالة النفسية مفهومة وينبغي أن يدع القارئ يدركها من طبيعة الموقف، وفي قصة (بدور بنت عمي) كانت نهايتها مصرع الفتاة التي أثارت حنقه وغيرته، وكان يحسن صنعاً لو أنه ترك القارئ يفكر في هذا المصرع وكيف وقع، وكنه راح يتساءل: هل اختل توازنها أو أنه دفعها بيده؟ فأفسد الموقف احتمال دفعه إياها أي قتلها. وفي رأيي أن القصاص غير مسئول عما يحدث بعد أن يعرض صفحة معينة من الحياة هي التي انفعل بها وتعلق بها موضوعه، فليس مطالباً بأن يجعل الأبطال يعيشون في (التبات والنبات) ويخلفون صبياناً وبنات، أو يلحق بهم مفرق الأحباب وهادم اللذات. . .
لاحظت في بعض القصص مجانبة لمنطق الواقع، ففي (قصة الدخيل) سكن غرفة في شقة تسكنها أرمل توفي زوجها منذ شهر، اسمها (ثريا) فلم يمض الأسبوع الأول حتى تأبط ذراع الحزينة على زوجها المخلص. . . وقضيا المساء في قهوة بمصر الجديدة، وبعد أسبوع آخر ذهبا إلى السينما، فلو فرضنا أنها (استلطفته) بهذه السرعة استلطافاً اذهب الحزن من قلبها بهذه السرعة أيضا، أفما كان من اللائق أن تتحرج قليلا فلا تخرج معه إلى القهوة والسينما بهذه السرعة ما وهو متأبط ذراعها أمام الناس في الشهر الثاني لوفاة زوجها الذي تنطق حوادث القصة بحزنها عليه؟ كل ذلك وأسمها (ثريا) لا (مرجريت) ولا (راشيل)!
أسلوب شاكر خصباك عذب حي والحوار فيه طبيعي جميل، وهو يستكمل بذلك أدوات القصصي الفنان. ولكن. . وليس قليلا ما بعد (لكن) تعوزه السلامة اللغوية والنحوية في كثير من المواطن، ومن أمثلة ذلك استعماله الامتنان بمعنى الشكر في قوله (ص110): (والحق أنني عظيم الامتنان لذلك الطفل) والخطأ النحوي ظاهر في قوله (ص111): (ولم أكن بأحسن حال منها) وهو يستعمل حيث للتعليل في قوله (ص114): (وكذلك يفقد الموقد(947/34)
الذي حفرته في إحدى زوايا الغرفة صلاحيته للعمل حيث يمتلأ بالماء) ويقول (إحدى المستشفيات) في (ص135) بدل (أحد المستشفيات). ويقول (الأشياء المفقودة التي يعثر بها) في (ص144) بدل (يعثر عليها)
وأني آسف لهذا النقص في كتابة صديقي شاكر خصباك، وتدفعني الغيرة عليه وعلى مواهبه الممتازة إلى إبدائها، وأدعوه إلى أن يتألم من هذا الذي أكتبه، كي يعمل على تمام ذلك النقص وهو من القادرين على التمام
عباس خضر(947/35)
الكتب
نماذج فنية من الأدب والنقد
تأليف الأستاذ أنور المعداوي
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
علم من أعلام النقد الأدبي في العصر الحديث، وأديب من أدباء الطبقة الأولى. . ظهرت مقالاته الأدبية منذ سنوات، فلفتت إليه الأنظار والأفكار، وجمعت حوله القلوب والعقول، وهيأت له مكانة عجز عن الوصول إليها كثير من الأدباء. قرأت له تعقيباته التي يوالي نشرها في الرسالة الزاهرة، فوجدته يمتاز في هذه التعقيبات بالنفاذ إلى صميم ما يعرض له من موضوعات الأدب، وشؤون الفكر، ونظريات الفن، ومن هناك يسلط أضواءه القوية على كل زاوية من زوايا الموضوع الذي يتناوله بالدراسة والنقد، فتبدو الأشياء سابحة في النور، بعد أن كانت مغلفة بالظلام، ويصبح ما كان بعيداً عن الإفهام، وقد صار أدنى إليها من كل شيء سواه. وسر هذه المقدرة أن الأستاذ لا يفكر بذهنه فحسب، ولكنه يفكر بقلبه أيضاً، وحين يستطيع القلب أن يفكر، فإنه ينفذ إلى حقائق الأشياء
ثم لقيت الأستاذ المعداوي، وتوطدت بيننا أواصر المودة وصلات الأخوة، فلم أجد فارقا جوهريا بين شخصيته في الأدب وشخصيته في الحياة، فهو في كليهما قوي الشخصية، يعرف لنفسها حظها من التفوق، ونصيبها من الامتياز، فلا يضعها إلا فيما يليق بها؛ ومن هنا يأتي اعتداده بنفسه، ذلك الاعتداد الذي لا يبلغ حد الغرور. وهو جريء في الحق، صريح في إبداء الرأي، لا يتأثر بصداقة الأصدقاء، ولا يتهيب سطوة ذوي الجاه والسلطان. ومواقفه في ذلك معروفة مشهورة. وهو متسامح مع الناس في شؤون الحياة، ولكنه لا يتسامح معهم في شؤون الفن والأدب. ومن هنا كان عنفه في مدافعة ما يراه خطأ وباطلا من الآراء والأفكار، ومن هنا أيضاً كان اتهامه بأنه معول هدم في الحياة الأدبية، وليس عامل بناء! وقد دافع هو عن نفسه دفاعا قويا (هدم) به هذا الاتهام من أساسه، وذلك في المقدمة الرائعة التي قدم بها لكتابه الأول (نماذج فنية من الأدب والنقد)
وهذا الكتاب يضم بين دفتيه طائفة من المقالات والدراسات الأدبية، منها تعقيباته(947/36)
المشهورة، بعد أن تناولها بشيء من التنقيح والتجويد، وبشيء من الحذف هنا، والزيادة هناك. وهو يعطينا صورة واضحة عن الأستاذ المعداوي كناقد أدبي وكدارس شخصيات، يملك موهبة فائقة، واستعداداً ممتازاً، واطلاعاً واسعاً منوعاً، ويملك فوق ذلك تجارب إنسانية مختلفة تعينه على إدراك الأعمال الأدبية إدراكا صحيحا، وعلى فهم الشخصيات الإنسانية فهما مباشراً، لأن هذه التجارب الإنسانية المختلفة تجعله أقدر على التجاوب مع أصحاب هذه الشخصيات، وتلك الأعمال، في تجاربهم الخاصة. والتجاوب النفسي شرط أصيل في إدراك الأعمال الأدبية وفي فهم الشخصيات الإنسانية على السواء، واللذين ينقصهم هذا التجاوب من النقاد يقفون بنقدهم عند المظاهر الواضحة دون أن يصلوا إلى البواعث النفسية. وقارئ هذا الكتاب يرى بوضوح أن صاحبه قد احتفل بكل موضوع من موضوعاته أتم احتفال، واحتشد له أكمل احتشاد حتى لم يدع زيادة لمستزيد، أو سؤالاً لمستفهم، ويرى كذلك أنه يتفوق على نفسه في بعض ما كتب، وذلك حين تتيح له طبيعة الموضوع أن يبدي كل ما لديه من موهبة، ويعرض كل ما يملك من استعداد، ثم هو يجد الأستاذ يفكر دائما بعمق وبوضوح وهذه ميزة، ويجده مع ذلك يملك المقدرة الفائقة على الإبانة والتوضيح، وهذه ميزة أخرى؛ لأن الإنسان قد يفكر بعمق في شأن من الشؤون، فإذا أراد أن يعبر عن أفكاره خانته وسائل التعبير؛ لأنه لا يملك منها الشيء الكثير
أما أسلوب الأستاذ، فإنه يمتاز بالدقة والتناسب والانسجام ونعني بالدقة اختيار الكلمات التي تحدد المعنى تحديداً تاماً، وذلك من ألزم اللوازم في النقد الأدبي؛ ونعني بالتناسب أنه يوجز في مواضع الإيجاز، ويطيل في مواضع الإطالة، فلا يخل بذلك، ولا يمل بهذه. أما الانسجام فهو تلوين الأسلوب بحيث يلائم طبيعة الموضوع. ولهذا الموضوع موسيقى رائعة الوقع، شجية الرنين، تمتاز بالجلال في موضوعات النقد ودراسة الشخصيات وتتفرد بالجمال في موضوعات العاطفة والوجدان. وليس من شك في أن أسلوب الأستاذ المعداوي يعد من أجمل الأساليب الأدبية المعاصرة. وما كان الأسلوب الأدبي في أي عصر من العصور أجمل منه في هذا العصر الذي نعيش فيه
والخلاصة أن الأستاذ المعداوي ناقد ملهم، قوي الطبع، عظيم الموهبة، وافر الأداة، كامل الاستعداد، مخلص في عمله، مؤثر له، متوفر عليه، وهذه الصفات مجتمعة لا تكاد تتحقق(947/37)
الآن في أحد سواه
يرى الأستاذ في مقاله (حول مشكلة الفن والقيود) أن العقل الواعي هو الذي يقول للشاعر أن الجو الشعري لهذه القصيدة يصلح له هذا الوزن دون ذاك، ونتلاءم معه هذه الموسيقى الداخلية دون تلك. . .
وهذا بالتجربة غير صحيح، لأن العقل الباطن هو الذي يدرك أولا الصلة بين الجو الشعري للقصيدة، والوزن الموسيقي الذي يصلح له، والموسيقى الداخلية التي تلائمه. . . ثم ينبعث منه بعد هذا الإدراك - ذلك الوزن الصالح، وتنبع منه هذه الموسيقى الملائمة. أما العقل الواعي فإنه (يلمس) بعد ذلك هذه الصلة
ومطلع القصيدة الذي يحدد وزنها الشعري، هو عند الشعراء الملهمين هدية من العقل الباطن لا دخل للعقل الظاهر فيها، ولا صلة له بها. . . أما النظامون، فإن القصيدة عندهم من مطلعها إلى مقطعها (وليدة) الذهن الواعي. . . الواعي للتقليد والمحاكاة والسرقات!
ويقول الأستاذ في مقاله (العبقرية والحرمان): (إن العبقريات معادن. . بعضها يتوهج في ظلال النعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان)
والذي أراه أن العبقريات لا تتوهج ولا تتأجج إلا في سعير الحرمان الروحي، أما الترف والفاقة فإنهما مظهران خارجيان لا يؤثران في العبقريات إلا بمقدار ما يكون لهما من صلة بالحرمان الروحي. . وهذا الحرمان ألوان، فهناك الحرمان من احترام الناس، وهناك الحرمان من التمتع بالجمال، وهناك الحرمان من الحب - والحب أنواع -، إلى غير ذلك من ألوان هذا الحرمان. ولا يمكن لعبقرية من العبقريات أن تتوهج في ظلال ترف لا يكون معه حرمان روحي، أو تتأجج في رحاب فاقة لا تولد مثل هذا الحرمان
وعلى ضوء ذلك نستطيع أن ندرس العبقريات جميعها، فنجدها كلها من هذه الناحية معدنا واحداً، وليست معادن مختلفة
وقد كتب الأستاذ مقالا عن أبي العلاء كما يراه، بلغ فيه القمة حين أثبت أن القلق هو الظاهرة الكبرى في شخصية أبي العلاء، وليس التشاؤم كما ذهب إلى ذلك غيره من الباحثين، وحين أثبت أن سر هذا القلق هو ما كان يشكوه أبو العلاء من فراغ النفس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد، ثم رأى أن حرمان أبي العلاء من المرأة هو مصدر الحرمان(947/38)
كله، ومركز الفراغ كله. . وذلك حق لا سرية فيه، ولكن الأستاذ لم يبين السبب الذي من أجله حرم أبو العلاء من المرأة، وذلك لازم لفهم هذه الشخصية النادرة. والذي أراه أن أبا العلاء هو المسئول عن حرمانه من المرأة؛ لأنه حين صدمته الحياة سخط عليها سخطا شديدا دفعه إلى المجاهرة بآرائه الشاذة عن النسل، وعرفت عنه هذه الآراء، واشتهر هو بها، وأصبحت من عناصر شخصيته، وخصائص فلسفته، فلم يستطع أن يتراجع عنها، ولم يستطع كذلك أن يجعلها بمعزل عن حياته، حرصاً منه على مذهبه الفكري من مهاجمة الأعداء المتربصين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأنه كان عنيدا بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وهكذا حرم أبو العلاء نفسه من المرأة روحها وجسدها، فكبرت عقدته النفسية، وازداد معها قلقه النفسي، وتبرمه بالناس وبالحياة
فشخصية أبي العلاء فيما نراه شخصية مريضة، ظلت طول حياتها تعاني كبتا جنسيا وآخر نفسياً. وهي المسؤولة عن هذين الكبتين أكثر من غيرها. وهناك سؤال وجه إلى الأستاذ المعداوي عن هذين البيتين من شعر جميل:
وأني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المرجو قد خاب أمله
والسائل يعترض على قول جميل: لم أبصره الواشي لقرت بلابله، ويرى في ذلك تغييراً لطبيعة الواشي الذي لا تقر بلابله حين يرى العاشقين على هذه الحال من الطهر والبراءة، ولكن تقر هذه البلابل حين يراهما في حالة مريبة!
وقد أجاب الأستاذ عن هذا السؤال بشرح للبيتين يتمثل جوهره في قوله: (هذا الواشي الذي يعنيه جميل لم (يبصر) هذا الذي يقنع به دائماً من حبه لبثينة، لو أبصر لما (تخيل. . لما تخيل أن كل محظور قد وقع في عالم المنظور)
وليس في هذا الكلام ما يدفع اعتراض السائل، وإنما يدفع اعتراضه أن نقول له أن الواشي هو في صميم طبيعته النفسية عاش مغلوب على أمره، أو حاسد يشقى بنعمة محسودة، وهو هنا في قول جميل عاشق لبثينة، وحاسد له؛ ومن شأن العاشق الحاسد أن (تقر بلابله) حين (يبصر) ما بين العاشق المحسود، ومعشوقه الذي يحسده عليه، فيعلم أنه شيء كالحرمان أن لم يكن أوجع منه، وأشد إيلاماً(947/39)
ثم يبدي الأستاذ إعجابه بهذين البيتين من قصيدة بدوي الجبل في أبي العلاء:
من راح يحمل في جوانحه الضحى ... هانت عليه أشعة المصباح
وجلى المصون من الضمائر، فانتهى ... همس النفوس لضجة وصياح
مشاركا في هذا الإعجاب الأديب السوري المعروف الأستاذ روحي فيصل. فهل علم الأستاذان الناقدان أن البيت الثاني قد نظر صاحبه إلى هذا البيت من شعر المتنبي في صفة الجياد:
وتنصب للجرس الخفي سوامعا ... يخلن مناجاة الضمير تناديا
وهل علم الأستاذان الناقدان أن (الضجة والصياح) يثيران في نفس السامع صوراً مادية مبتذلة من شأنها أن تفسد الصورة الفنية التي تكون للكشف عن أسرار النفوس؟!
وكلمة أخيرة أحب أن أقولها قبل أن أدع القلم؛ هي أن هذا الكتاب يضم بين دفتيه من الآراء والأفكار والنظريات ما يعد اتجاهاً جديداً في النقد الأدبي، ولذلك أقترح على وزارة المعارف أن تجعله ضمن كتب المطالعة الأدبية المقررة على تلاميذ المدارس الثانوية. وفي يقيني أن هذا الكتاب وحده يعد أجدى على التلاميذ من كل الكتب المفروضة عليهم في البلاغة وتاريخ الأدب، هذه الكتب التي تفسد الأذواق، وتنحرف بالمواهب عن وجهها الصحيح
وأملي أن يستجيب وزير المعارف - وهو الرجل الأديب - لهذا الاقتراح، وأن يضعه موضع التنفيذ
إبراهيم محمد نجا
(بيام مشرق) لإقبال
نقله إلى العربية سعادة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
للأستاذ س. م. ي.
لقد عهد قراء (الرسالة) في الدكتور عبد الوهاب عزام بك أديبا مطبوعاً واثقاً من نفسه، صامداً أمام تيارات الغرب، جادا في تفكيره، صادقا في تعبيره وأدائه، ومن أهم ما امتاز به هذا الأديب أنه واسع الأفق، اضطلع بالآداب الفارسية الغزلية والأردوية واطلع على(947/40)
الآداب الغريبة؛ كما أن صدره انشرح لآمال الشعوب الإسلامية جمعاء متخطياً في ذلك القومية الضيقة والوطنية المتطرفة ومع أنه انخرط في السلك السياسي منذ أعوام إلا أنه لا يدع أعمال منصبه الجديد تصرفه عن نزعته الأدبية كما أنه لا يصعب عليه الجمع بين الدبلوماسية بين مصر والباكستان لا تتطلب إلا توفر روح الود والصداقة وشيء من الجرأة الأدبية في مناصرة الحق والعدل من غير مبالاة بمصالح قصيرة الأمد.
ولعل الأوساط العلمية والأدبية قد سمعت من العمل الأدبي الجليل الذي قام به أخيراً سفير مصر في الباكستان، أعني الترجمة العربية ل (بيام مشرق) تصنيف الفيلسوف وشاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال الذي أراد أن يجعل من تلك المجموعة من الشعر رسالة من الشرق إلى الغرب مضاهاة لما فعله الحكيم الشاعر الألماني (جيته) في ديوانه
وها أنذا أورد فيما يلي ملخصا لما كتبه الأستاذ برويز صاحب مجلة (طلوع الإسلام) وهي من كبريات المجلات العلمية في الباكستان، بشأن قيمة هذه الترجمة العربية وشخصية المترجم الكبيرة المتواضعة، وأثرها في توحيد الأفكار وتوثيق عرى الصداقة بين الأقطار الإسلامية
يقول الأستاذ يرويز، وهو من كبار الباحثين عن المعارف القرآنية وفلسفة إقبال، وفي عدد يوليو من مجلته (ألح علي صديق لي منذ وقت قريب في زيارة الدكتور عبد الوهاب عزام بك، وقد كنت راغباً عنها لضيق صدري بمقابلة (الأمراء والكبراء) على وجه العموم، إلا أنني تو ما جلست أمام سعادة الدكتور عزام بك أيقنت بأنني أن لم أقم بتلك الزيارة لكنت قد حرمت نفسي من سعادة أية سعادة، فقد شعرت وأنا في بهو السفارة المصرية الذي لا يعدمه شيء من أسباب الزينة والزخرفة ومظاهر البذخ والثراء - شعرت هناك كأنني في صحبة (درويش) لم يأبه بما يجري به التقليد من التقديم والتعارف وما إلى ذلك، بل أخذ يحدثني عن كبار أئمة الأدب
والشعر مسترسلاً في ذلك على سجيته من غير أن يبدو في حديثه أدنى أثر للصنعة والتكلف، بل كان بالعكس متسما بطابع الصدق وعمق التفكير، وهكذا انتهت المقابلة الأولى كما بدأت بدون أي اهتمام بالتقاليد الرسمية
ثم يتكلم الأستاذ برويز عن قيمة الترجمة العربية لشعر إقبال فيقول: والدكتور عزام بك من(947/41)
المفتونين بشعر إقبال وفلسفته، ومن حسن الحظ حقاً أنه مستكمل المدة لترجمة إقبال إلى العربية ترجمة تحافظ على روح الشعر من غير أضرار بالخصائص اللفظية وذلك لعمري ليس بالأمر الهين. إلا أن الله قد وهب الدكتور عزام ملكة قوية لقول الشعر بحيث أنه يقرض الشعر كما لو كان ينشد شعر غيره على التوالي، وهو يتمتع بقدرة فائقة على اللغة العربية - أعني العربية الفصحى التي يفهمها ويتذوقها (الأعاجم) - مع تعمقه في دراسة الفارسية والأردوية، أضف إلى ذلك أنه قد أحاط بجميع نواحي فلسفة إقبال وأدرك كنهها، وأخيراً يمتاز الدكتور عزام بأنه دائم التعطش ويعني بالاستزادة من كل مصدر أياً كان
وإذا فيعتبر تصدي الدكتور عزام لترجمة شعر إقبال استجابة لدعاء إقبال نفسه لأنه، رحمة الله، كان شديد الرغبة في إبلاغ رسالته إلى الأمة الإسلامية قاطبة، وقد صرح بأن هذه الرغبة هي التي حدت به إلى قول الشعر بالفارسية بدلاً من الأردوية في كثير من الأوقات، إلا أنه لم يكن في وسعه - وكم كان يأسف لذلك - أن يتحدث إلى العرب بلغتهم، والآن وقد وجد إقبال خير مترجم له في الدكتور عزام بك، فلنأمل أن يؤدي الاطلاع على أفكار اقبال وفلسفته إلى (وحدة القلب) تلك الوحدة التي هي أسمى وأفضل من (وحدة اللغة) - كما يقول إقبال - بين الشعوب الإسلامية المختلفة، ولعل الاطلاع على شعر إقبال أيضاً يبرز الحقيقة التي عبر عنها اقبال بقوله: أن (لا اله إلا) لا بد وأن يبقى كلمة غريبة ما لم يشهد القلب به، سواء في ذلك العرب والعجم كلاهما
وترجمة الدكتور عزام تفيض بإعجابه الشديد بإقبال وإيمانه القوي بالمبادئ التي نادى بها شاعر الإسلام، وانه لمن المدهش حقاً أن يتمكن المترجم لا من نقل الروح والمعنى فحسب، بل من تتبع الأصل فيما يتعلق بالشكل وديباجة الشعر أيضاً، والترجمة مذيلة بكلمة شعر طويلة للدكتور عزام بك يعرض فيها خلاصة وافية لتعاليم اقبال، ويبتهل إلى الله أن يكون انتشارها سبباً لإنقاذ العالم من محنته الحاضرة
ويختتم الأستاذ برويز كلمته بإهداء التهاني إلى شعب مصر الذي قام ممثله بإيجاد مثل هذه الحلقة المحكمة للربط بين العالم الإسلامي، تلك الحلقة التي هي أبعد أثراً من أية عهود ومواثيق سياسية لأنها ترمي قبل كل شيء إلى (وحدة الفكر) ووحدة الفكر هي الأساس المتين (لوحدة العمل) لا غير(947/42)
س. م. ي
الإسلام وجهاً لوجه
للأستاذ محمد الخفاجي
الأستاذ (السمان) من خيرة شبابنا الذين يفهمون رسالتهم في الحياة على وجهها الصحيح، ويذودون عن حرية الرأي والقلم بكل ما يستطيعون، ويرون للإصلاح في مصر والبلاد الإسلامية وجها واسعا غير الوجه الذي يسير فيه الآن ببطيء وتعثر شديد وهو يقظ يقظة فكرية شديدة في رأيه ومعانيه وتعابيره
وقد صاحبته في كتابة (الإسلام حائر بين أهله) فوجدت ما يعجب كل قارئ من خصائصه الفكرية والأسلوبية
واليوم أقدم للقراء أثره الجديد الثاني وهو (الإسلام وجها لوجه) الذي أفاض فيه في شرح الإسلام وبادئه ومناهجه؛ دينا ودولة، سيفا ومصحفا؛ والذي يرسم فيه خطوط الإصلاح وفق نواميس الإسلام الخالدة، وينقد مظاهر الحياة الاجتماعية الحاضرة على أضوائها، ويفلسف عقيدة (الأخوان المسلمين) الدينية والإسلامية، ويتحدث عن آرائه فيه بأيمان قوي
ولا شك أنه جدير بالعناية والاهتمام من كل قارئ وباحث، لما حواه من جديد الآراء في الدراسات.
صلوات على الشاطئ
كتاب خصب، ألفه الأستاذ أحمد الشرباصي الأستاذ بالأزهر الشريف، ونشر هدية أدبية سنوية لمجلة البعثة الكويتية التي تصدر بمصر. . وقد طبع الكتاب بمطبعة دار الكتاب العربي بالقاهرة عام 1951 في نحو 128 صفحة طبعة أنيقة جميلة
والكتاب مذكرات أدبية روحية، أملاها المؤلف على شاطئ رأس البر، وقدمها إلى شاطئ الخليج العربي وصدرها بإهداء إلى حضرة صاحب السمو الأمير المعظم الشيخ عبد الله السالم الصباح أمير الكويت
وإذا كان أدب الطبيعة في اللغة العربية قليلا محدودا، وكان أدب الشواطئ أقل وأندر. . فإن هذه الفصول جديدة التصوير للطبيعة ومظاهرها، وللبحر وأسراره، وللنفس الإنسانية(947/43)
وأغوارها
ولا شك أنها متعة أدبية روحية عالية، وأثر طيب من آثار الشرباصي المفعمة بالروحية الصادقة، والصوفية الطاهرة ومختلف المشاعر الحية.
محمد خفاجي(947/44)
البريد الأدبي
إلى السيدة أمينة السعيد!
جاء في باب (اسألوني) في العدد 1399 من مجلة المصور الصادر في 3 أغسطس سنة 1951 استفهام من سائلة عن ختان البنات وكان الجواب (إن عملية الختان ليس لها أصل ديني مطلقا بل هي تقليد توارثه الناس عن الفراعنة ويقول الأطباء إنها مضرة بالفتاة. . وأن معظم الولادات العسرة يعود إليها والمسلمات المتمدينات. . . إلى آخره
والإجابة على هذه الصورة لا تشفي غليلا وليس لها سند تعتمد عليه، فقد تواتر تأييد الدين الإسلامي لهذه العملية وأجازها بصورة حكيمة وضحتها الأحاديث النبوية الكريمة
وهذا الموضوع بالذات قد تناولته أقلام الباحثين في المجلات الطبية والأدبية والإسلامية وقامت مجلة الرسالة الغراء مشكورة بنشر الأبحاث المتعلقة بهذه العملية. وخوف التكرار الذي لا طائل تحته أحيل السيدة الفاضلة على مجلة الرسالة ففيها بحث وافي في العدد 937 ومجلة لواء الإسلام العدد الأول من السنة الخامسة، وتعليقنا في العدد 938 من مجلة الرسالة، ففيها شفاء وكفاء
وليس من شك في أن لزاما على الباحث الفطن أن يستقصي وينقب في الموضوع الذي يتعرض له قلمه ولا يلقي الكلام إلقاء وفيه ما فيه من بلبلة الأفكار. . بل قد يتخذه بعض القراء حجة على وهنه وضعفه وفي ذلك ما فيه من نقص في البحث وقصور في الاطلاع، ونعيد قلم الكاتبة الفاضلة من الدنو من ذلك في رسالتها السامية، وفقنا الله جميعا للصواب
شطانوف
محمد منصور خضر
نسبة شعر
اطلعت مؤخرا على العدد (944) من الرسالة الأغر فإذا الأستاذ الشاعر عبد القادر رشيد الناصري يستنكر في صفحة البريد الأدبي على الأستاذ صاحب كتاب (الشعر العربي في بلاطات الملوك) نسبة أبيات إلى النابغة الذبياني وهي:
المرء يأمل أن يعيش وطول عيش قد يضره(947/45)
تفنى بشاشته ويبقى بعد طول العيش مره
وتخونه الأيام حتى لا يرى شيء يسره
كم شامت بي أن هلكت وقائل: الله دره
ويقول أن الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي نسبها هو الآخر كذلك إلى النابغة الذبياني خطأ في مؤلفه (الشعراء الجاهليون) اعتمادا على بعض كتب الأدب (. . والأصوب نسبتها إلى لبيد ابن ربيعة العامري حيث نشرها جامع ديوانه مع شعره). .!! ما هذا يا أستاذ عبد القادر! أليس من المحتمل أن يكون هذا الذي جمع ديوان لبيد وطبعه في مطابع أوربا قد دس في تضاعيفه هذه الأبيات دسا دون تحقيق أو تمحيص وأخطاء في نسبتها إليه؟! وهل يصح عقلا أن تخطأ النصوص والمراجع الأدبية قديمها وحديثها ونضرب بها عرض الحائط لنصدق زعم زاعم من المحدثين مهما كان مركزهم الأدبي ومهما كانت درجة ثقافته
انك لو رجعت إلى الجزء الأول من (الشعر والشعراء) لابن قتيبة مثلا - وهو كما نعلم مرجع من المراجع الأدبية الموثوق بها - لوجدت فيها هذا النص:
(. . قال أبو عبيدة عن الوليد بن روح قال: مكث النابغة زمانا لا يقول الشعر، فأمر يوما بغسل ثيابه، وعصب حاجبيه على عينيه، فلما نظر إلى الناس قال:
المرء يأمل أن يعيش وطول عيش ما يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتخونه الأيام حتى لا يرى شيئا يسره
كم شامت بي أن هلكت وقائل: الله دره
ومنه يتضح لك أن الأبيات الآنفة الذكر من شعر النابغة الذبياني لا من شعر لبيد بن ربيعة العامري كم تبادر إلى ذهنك خطأ. . .
بور سعيد
محمد عثمان محمد
تساؤل:
نشرت مجلة الرسالة قصيدة بعنوان (النور الحائر) للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري(947/46)
ولا أدري مدى التطابق بين العنوان والقصيدة، ولكن القصيدة جيدة جعلتني أهمهم بها مرات، وقد لفت نظري بيت محجوب بالغموض ولا أقول بالخطأ لأن الشاعر قد يؤوله إلى الصواب قال: - وهو يناجي الرب -
يا أيها الأزل المحجوب بالقدم ... يا أيها الأبد المستور بالعدم
إني أسأل الشاعر هل يجوز وصف الله بالأزل والأبد بدون نسبة أي (الأزلي) و (الأبدي) وما معنى الأزل المحجوب بالقدم؟ مع أن كلا اللفظين مترادفان؟ ثم ما هو المراد بالأبد المستور بالعدم. أظن البلاء جاء من القافية
عاموده
عقيقي الحسيني
عبرة:
سئل بعض بني أمية عن سبب زوال ملكهم فقال:
شغلنا بلذاتنا عن التفرغ لمهماتنا، ووثقنا بكفاتنا فأثروا مرافقهم علينا، وظلم عمالنا رعيتنا ففسدت نياتهم لنا، وحمل على أهل خراجنا فقل دخلنا، وبطل عطاء جندنا فزالت طالعتهم لنا، واستدعائهم أعداؤنا فأعانوهم علينا، وقصدنا بغاتنا فعجزنا عن دفعهم لقلة أنصارنا، وكان أول زوال ملكنا استتار الأخبار عنا فزال ملكنا عنا بنا
حفني مصطفى العظامي
تصحيح:
جاء في كتاب الدكتور أحمد أمين (المهدي والمهدوية) في الحديث عن مهدي السودان ما يأتي (وقوى هذه العقيدة في نفس صديقه عبد الله وهو المعروف بالتعايشي الذي أصبح خليفته من بعده وأصله من دنقلة كذلك)
وإذن فقد نسب الدكتور المهدي إلى دنقلة وهو صحيح، أما نسبه للخليفة إلى دنقلة فهو خطأ. كنا نود ألا يقع فيه حضرة الباحث الكبير. . والمعروف أن الخليفة من دارفور من قبيلة التعايشة العربية(947/47)
أبوه حمد حسب الله
الإجهاز لا التجهيز
كتب الأستاذ محمد رجب البيومي في العدد 945 من الرسالة الزهراء عن كتاب الإسلام المفترى عليه لمؤلفه غزالي القرن العشرين فألقيت في ثنايا حديثه كلمة أوقفتني وهي: (التجهيز) فقد جاءت في صدد قوله عن الشيوعية (والتجهيز عليها بسيف الإسلام) والأصح والإجهاز لأن التجهيز هو التهيؤ والاستعداد فلا تؤدي المعنى الذي يقصده حضرة الكاتب الفاضل دون الإجهاز. وقد جاء في مختار الصحاح ما نصه في مادة (جهز) أجهز على الجريح أسرع قتله وتممه وجهز العروس والجيش تجهيزا، وجهزه أيضاً هيأ جهاز سفره وتجهز لكنا تهيأ له.
العريض. فؤادية
محمد الدسوقي(947/48)
القصص
باريس: سبتمبر1792
عن البارونة أورزي
للأديب محمد البكري محمد
- 1 -
. . قبل غروب الشمس بفترة وجيزة. . وفي الباب الغربي لباريس. . كانت هناك أصوات صاخبة تصدر من كائنات لا تحمل من الإنسانية غير أسمها!
. . وظلت المقصلة سحابة اليوم ماضية في عملها المخيف. . تحصد أولئك الذين كانت فرنسا تفخر بهم في العصور الغابرة: من ذوي الأسماء التليدة، والدماء النبيلة. . لقد دفعوا الضريبة عندما هبت ثورة الحرية والمساواة!
. . وتوقفت المذبحة عند هذه الساعة المتأخرة من النهار. . لا لشيء سوى أن هنالك مناظر أكثر أهمية. . وأكثر تسلية تشاهدها الجماهير في الفترة القصيرة قبل أن تغلق أبواب باريس ليلا
. وهكذا اندفع الناس خارج ميدان (لاجريف) وتوجهوا إلى الأبواب المتفرقة كي يتسلوا بالمنظر المثير الذي كان يتكرر كل يوم. . منظر الأرستقراطيين الذين يحتالون - ويحاولون أن يهربوا من فرنسا
. . وكانت هذه الطبقة خائنة في نظر العامة. . خائنة كلها بلا استثناء. ولقد طالما اضطهد أسلافهم أبناء العامة. . وداسوهم تحت أحذيتهم المترفة. ولكن ها قد أصبح العامة حكام فرنسا. . وداسوا سادتهم الأولين لا تحت أحذيتهم، فقد كانوا في الغالب حفاة - ولكن تحت سيف المقصلة!!.
- 2 -
. . كانت المقصلة تدعو إليها ضحاياها. . من رجال بلغوا أرذل العمر. . ونساء في ميعة الشباب. . وأطفال في غضاضة الزهر!. حتى جاء يوم لم ترحم مديتها فيه أن تفصل رقبة ملك. . وملكة صغيرة جميلة(947/49)
ولكن هذا ما كان ينبغي!. ألم تصبح فرنسا اليوم في قبضة الرعاع؟ كل أرستقراطي خائن. . كما كان أسلافه من قبل ولم يعد لأحفادهم مهرب من انتقام الرعاع إلا أن ينجو بأبدانهم ويفروا من فرنسا
. . لقد حاولوا أن يستخفوا. . وحاولوا أن يهربوا. . وكانوا في كل ذلك مبعث تسلية لأفراد العامة! ففي كل أصيل قبل أن توصد أبواب المدينة. . وقبل أن تخرج منها عربات الأسواق. . كان بعض الأرستقراط يحاولون الإفلات من قبضة (لجنة الأمن العام) متنكرين في أزياء مختلفة. . يبغون لهم مقرا في إنجلترا. . أو أي بلد آخر
. . ولكنهم كانوا - غالبا - يقعون في قبضة الحراس. . .
. . وكان (بيبو) ينوع خاص له حاسة غريبة يشم بها أيا منهم مهما أمعن في التنكر. وكان ينظر إلى فريسته بالعين التي ينظر بها القط إلى فأر. . يداعبه. . ويتظاهر أنه خدع بمظهره. . وأحيانا يتغافل عنه. . ويدعه يمضي. . ويتيح له أن يحلم بالنجاة ولكن سرعان ما يرسل وراءه اثنين من رجاله بعيدانه خزيان. . ليلقى حتفه
. . وليس بعجيب أن يتزاحم الناس حول (بيبو) فلقد شهدوا اليوم مائة رأس نبيل تتهاوى تحت المقصلة. . وانهم ليرجون أن يتاح لهم أن يتاح لهم أن يشهدوا مائة أخرى مع الغد
- 3 -
كان (بيبو) جالسا على برميل بجوار الباب الموكل بحراسته وتحت إمرته شرذمة قليلة من الجنود المدنيين. . وكان العمل قائما على قدم وساق في هذه الأيام الأخيرة، لأن أولئك النبلاء المناكير. قد أفرخ روعهم. . ودفع بهم الفزع إلى محاولة للفرار من باريس بأي ثمن!. ولكن (بيبو) كان بمرصد لهم دائما!. يكشف أمرهم. . ويبعث بهم إلى (تنيفيل) رئيس لجنة الأمن العام. . حيث تنتظرهم النهاية المروعة!. .
. . وكانت حماسة (بيبو) وإخلاصه وغيرته تبلغ إلى حد إعجابه بنفسه فلقد أرسل خمسين من الأشراف بمجهوده إلى ساحة المقصلة!. . .
. . ولكن أوامر خاصة صدرت إلى الحراس اليوم!. . . أن عددا غفيرا من الأشراف قد نجح في الهروب. . وأن شائعات غريبة تلوكها الأسئلة عن هذا الهرب. . وأن هذا الأمر قد أصبح شغل الناس. . ومبعث دهشة الجميع!. . . وها هو ذا (جروسبيير) تحت سيف(947/50)
الجلاد. . جزاء ما قصر. . فأتاح لعائلة أرستقراطية أن تفر من الباب الشمالي!. .
وأصبح معروفا أن هذا التهريب تنظمه عصابة من الإنجليز كانت تفتن في أداء مهمتها. . وإنقاذ طبقة الأشراف من الإعدام. . ونمت الشائعات وترعرعت. . ولم يعد هناك شك في وجود هذه العصابة الغامضة. . وأكثر من هذا فقد أصبح من اليقين أنها تحت إدارة رجل ذي مرة وحيلة فوق الوصف!. .
. . أن أحدا لم ير هذه العصابة المخيفة. . وأن أحدا لا يجرؤ أن يذكر رئيسها. . إلا في رعب. . كأنما يتحدث عن الشيطان!
وكان (تينيفل) تصل إليه رسالة غامضة. . يجدها مرة في جيب ردائه. . وأخرى تصل إلى يده في غمرة الزحام. . وفي كل مرة. . كانت تنبئ عن نشاط العصابة. وقوتها. . وكانت تحمل في نهايتها. . ختم العصابة (الزهرة القرمزية). . ولا تزال الأخبار تصل إلى أعضاء اللجنة أن عددا من الملكيين قد غادروا الشاطئ إلى إنجلترا حيث الأمان!. . .
- 4 -
. . ضوعف عدد الحراس. . وهددوا بالموت، وانبعثت المكافآت هنا وهناك لمن يرشد عن هذه العصابة الآثمة. . أما رئيسها. . فإن خمسة آلاف فرنك لمن يقبض عليه!. . وقد أحسن (بيبو) أنه سيحظى بهذه المكافأة دون شك. . بل أنه واثق من هذا! ولذلك لم يك غريبا أن تجمع الناس حوله كل يوم. . ليشهدوا بأنفسهم هذا الحارس الماهر عندما يتصيد ضحاياه. . والتفت (بيبو) إلى مساعده قائلا: -
(لقد كان (جروسبير) ابله بلا شك!. . . آه لو كنت مكانه!. .) ثم بصق على الأرض ليعبر عن اشمئزازه من غباء زميله. . . فأسرع مساعده إلى سؤاله: -
(كيف؟!. ماذا حدث؟!). وهم (بيبو) بالإجابة في رزانة مفتعلة. . بينما تزاحمت الجماعة لتنصت - في شغف - إلى حديثه:
(في الوقت الذي كان فيه (جروسبير) عند بابه. . يلاحظه في انتباه كانت عربات السوق تمر إلى الخارج. . وكانت إحداهما محملة بالبراميل ويقودها رجل عجوز والى جواره ولد. . وكان (جروسبير) ثملا نوعا ما. . ويعتقد في نفسه المهارة الفائقة. . نظر في البراميل - في معظمها على الأقل - وظن أنها فارغة. . فترك العربة وشأنها! ولم يمض نصف ساعة(947/51)
حتى أقبل عليه أحد ضباط الحراسة ومعه اثنا عشر جنديا. . وسأله:
هل مرت عربة من هنا. . يقودها رجل عجوز بجواره ولد؟
نعم! منذ نصف ساعة
عندئذ صاح فيه الضابط:
- وتركتهم يهربون! ويلك. . إلى المقصلة جزاء ما فرطت. . أن هذه العربة كانت تقل (دوق دي شالي) وعائلته!
فانتفض (جروسبير) من الوجل. . ثم أردف القائد قائلا:
- أجل! والسائق العجوز لم يكن شخصا غير رئيس العصابة الإنكليزية!
. . وهنا تصايحت الجماعة من الدهشة. وأخذ (بيبو) يضحك كثيرا ثم استأنف قائلا:
-. . . ثم صاح الضابط في جنوده الإثني عشر يهيب بهم أن يدركوا هذه العربة الهاربة. . . ويذكرهم بالمكافئة. . واندفع إلى الخارج وتبعه رجاله
. . . وهنا تصايحت الجماعة مرة أخرى واستبعدوا أن يلحق الضابط ورجاله بالعربة. . بينما كان (بيبو) يضحك من هذا التصايح حتى بدت نواجذه. . وطفرت الدموع من عينيه. وسرعان ما قطع دهشة الجميع حين قال:
إن النبلاء لم يكونوا في العربة. . ولم يكن السائر العجوز لرئيس العصابة بل أن الضابط نفسه هو ذلك الإنكليزي الجريء. . ورجاله الإثني عشر كانوا كلهم من الأرستقراطيين. وقد هربوا!.
. . . وفي هذه المرة. . لم تتصايح الجماعة ولم تحر جوابا. . في الحق أن هذا الإنكليزي الغامض لا بد أن يكون الشيطان نفسه!
- 5 -
. . . كانت الشمس تدنو إلى الغروب. . . فاستعد (بيبو) أن يقفل. . . وصاح أن تتقدم العربات الخارجة. . . وكان هناك يضع عشرات من العربات المقفلة على استعداد أن تغادر المدينة لتحضر المحاصيل من الريف، ابتغاء السوق في الصباح. . .
. . . وكانت هذه العربات معروفة جد المعرفة لدى (بيبو) لأنها تمر من خلال بابه. . . مرتين كل يوم! ولذلك كان يبدو عليه الأسف عندما أخذ يفتش هذه العربات. . . ثم لمح(947/52)
(بيبو) امرأة عجوزا بين سائقي العربات وسائقاتها. . . وكان قد رآها في الصباح قريبا من المقصلة فقال لها:
هيا. . . يا أم! ماذا أتى بك إلى هنا؟!
فأخذت تعبث بسوطها بأصابعها الغليظة المعروقة بينما ضحكت ضحكة خشنة إلى (بيبو) وأشارت إلى مقبض سوطها المحاط بخصل من الشعر مختلفة الألوان. . . وقالت له:
لقد صادقت الجلاد!. . وقد أهدى إلي هذه الخصل من الرؤوس التي تتهاوى تحت سيفه. . . وقد وعدني خصلا أخرى غدا. . ولكن لا أدري. لعلي لا أكون هنا في الغد!
فأسرع (بيبو) إلى سؤالها عن السبب فأشارت بسبابتها إلى داخل العربة وأجابت:
أن حفيدي مصاب بالجدري، ويقول البعض أنه الطاعون! وإذا كان الأمر كذلك، فسوف لا يسمح لي أن أدخل باريس في الصباح!
ولم تكد العجوز تذكر كلمة (الجدري) حتى تراجع (بيبو) إلى الوراء، وعندما ذكرت (الطاعون) تقهقر عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وتحاشت الجماعة كلها هذه العربة وصاح (بيبو) في العجوز:
- عليك اللعنة
- بل عليكم أنتم، أيها الجبناء! أي رجل هذا الذي يرتاع من المرض؟! وظلت الجماعة واجمة، خائفة، يبدو عليها الفزع، لأن هذا الداء الخبيث (الطاعون) هو الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يثير الرعب والضيق في هذه المخلوقات المتوحشة!؟ وأخيرا صاح (بيبو) في المرأة مرة أخرى:
- أغربي عنا. . . أغربي بطفلك هذا المصاب بالطاعون!
. . وفي ضحكة خشنة ألهبت العجوز ظهر حصانها بالسوط وانسلت خارج باريس!.
. . وأفسدت هذه الواقعة أصيلة اليوم. . ولا يزال أفراد الجماعة التي حول (بيبو) ينظر بعضهم إلى بعض في ريبة وحذر ولا يزالون يتحاشون بعضهم خشية أن يكون (الطاعون). . قد اندس بينهم من قبل. . ثم أقبل فجأة ضابط من الحرس. . وكانت حقيقة هذه المرة. . لأنه معروف شخصيا (لبيبو). . ولا خوف أن يتكشف عن ذلك الإنجليزي المخادع المتنكر. . وقبل أن يصل الضابط إلى الباب: -(947/53)
- عربة. . العربة!. . .
فسأله (بيبو) في لهفة: -
- أية عربة؟!. . .
- تقودها امرأة عجوز. . . عربة مغطاة!. . .
- امرأة عجوز تزعم أن حفيدها مصاب بالطاعون!. . .
- أوه!. . . نعم!. . .
- بالطبع. . . أنت لم تتركها تذهب!!. . .
فأجاب (بيبو) وقد استحالت حمرة خده إلى شحوب الموت: -
كلا!. . .
- إن هذه العربة تحمل (الكونتس دي تورنيا) وطفليها. . وهم من الخونة. . الذين تنتظرهم المقصلة!. . .
. . . وكانت رعدة الخوف قد تملكت (بيبو) عندئذ. . . فتمتم المحموم قائلا: -
- ومن السائق؟!. . .
- لا شك أنه ذلك الإنجليزي الملعون. . . رئيس العصابة الغامضة!. . .
الكيمان
محمود البكري محمد
جامعة فؤاد الأول
-(947/54)
العدد 948 - بتاريخ: 03 - 09 - 1951(/)
نماذج فنية من الأدب والنقد
قليلا ما اكتب عما يصدر من كتب الأدب. لأن كثيرا من هذه الكتب لا يرضيني. وليس ما يرضيني من الكتاب الأدبي شيئا وراء الإمكان أو فوق الطاقة. إنما هو الفن ولا شيء غير الفن. والفن الكتابي على ما أرى أسلوب من الجمال المصنوع المطبوع. عنصره الأول فكره قويه أصيلة. وعنصره الأخر صورة صادقة جميلة. فإذا فقد أحد هذين العنصرين أو فسد كان الأسلوب أسلوب عالم تجد فيه الروح ولا تجد الصورة. أو أسلوب مثال تجد فيه الصورة ولا تجد الروح. والعالم أو المثال رجل آخر غير الكاتب أو الشاعر: العالم همه توضيح الغامض في الموضوع. والمثال همه تحقيق الشبه في الشكل. أما الكاتب أو الشاعر فهو خالق مصور: يبدع الجسم على أجمل هيئة. ويبعث فيها الروح على أكمل حالة. ثم يهب لمخلوقه خصائص الحي فينمو ويتحرك ويعمل. ولكن نموه يكون في خيالك. وحركته تكون في نفسك. وعمله يكون في ذهنك. فيفيد ويقنع بأثر العقل في المعنى. ويعجب ويتمتع بأثر الذوق في اللفظ
ذلك جوهر ما يرضيني من العمل الأدبي في أي موضوع أنشأه صاحبه. وهذا الجوهر هو ما أتفقده الحين بعد الحين في نتاج العصر فأجده زائفا في أكثره صحيحا في أقله. وهذا الأقل إنما أجده فيما ينتج الخواص من شيوخ الأدب الذاهبين! أما الشباب وا أسفاه فإنهم ينتجون الأندر من هذا الأقل. والذين ينتجونه منهم نفر ميزهم الاستعداد ومحصهم الاجتهاد فشاخوا في الأدب على طراءةالسن وضآلة الناتج. وإن من أعيان هذا النفر صديقنا الأستاذ أنور المعداوي. وكتابه الذي عنونت باسمه هذه الكلمة ينطق عليه بالحق. وينهض إلي بالدليل.
تخرج الأستاذ المعداوي في كلية الآداب من جامعة فؤاد فكان شذوذا من القاعدة التي تزعم ان التضلع من علوم اللغة، والتبسط في فنون الأدب، وقف على خريجي الأزهر ودار العلوم.
ولعل هذا الشذوذ نفسه هو القاعدة السليمة التي تقول إن الكتابة ملكة يؤتيها الله من اصطفى من عباده في أي سن ومن أي جنس ومن أي معهد
أسلوب المعداوي كما تراه في كتابه من الأساليب التي جاء فيها التأليف بين المعنى واللفظ جاريا على سنن الفن الصحيح. فالتفكير قوي عصبي حار، والتعبير دقيق أنيق مهذب.(948/1)
وليس ما في أسلوب المعداوي من العصبية والنارية آتيا من شبابه؛ فإن الشباب هو المتقد يخبو، والحس النير يظلم، إذا لم يكن من ورائهما نار الطموح ونور النبوغ. إنما هي شعلة الفن في روح الفنان، تضيء وتدفيء، وتصهر وتطهر. وقد تلدغ وتحرق أحيانا في نفس أنور، ولكن الزمن وحده كفيل بتهدئة الثائر وتفتير الحار، فيذهب الإحراق ويبقى الإشراق، وينجلي الدخان ويخلص الضوء!
المنصورة
أحمد حسن الزيات(948/2)
الملك الشهيد
عبد الله بن الحسين
للأستاذ أحمد رمزي بك
- 20 -
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعا ... هيهات تكتم في الظلام مشاعل
فلقد علوت فما تبالي، بعدما ... عرفوا، أيحمد أم يذم القائل
(المتنبي)
كان الجو السياسي قاتماً، يشبه الجو الذي يمر بنا الآن، وكانت إيطاليا تستعد لغزو الحبشه، ولاهم لساسة الغرب سوى حصر النزاع في دائرة ضيقه، كما يفعلون الآن في كوريا، وأخذت بريطانيا الأهبة لنفسها حتى لا تفاجأ، فبعثت برجالها يجوبون الشرق الأوسط والبلاد العربية، فكان جورج لويد المندوب السامي السابق بمصرفي طليعتهم، إذ جاء إلى فلسطين ونزل ضيفاً على المندوب السامي لفلسطين، في ذلك القصر الذي شيد على طراز صليبي، والذي كان يذكرني دائماً بأنني داخل حصن يسكنه عميد الأسبتار أو قائد الداوية، وهما منظمتان للفرسان الصليبين التقينا بأفرادهما في كثير من المعارك التاريخية، وعرفت سيوف السلف كيف تلين قناتهم، وترسل الأسرى من أبطالهم هدايا إلى ملوك الهند وبقية آسيا. ما دخلت هذا القصر حتى غمرتني الذكريات وشعرت بشيء من العطف على اليهود، فقلت إن هذا البناء يدعوني أن أقول لهؤلاء الخصوم يوماً (لقد جمع الشقاء بيننا). . ولكن الأيام لم تسمح لي أن أنطق بذلك، لقد خلع هؤلاء الظلم والشقاء، ويقيناً نحن نجر ثياب الخزي والشقاء
وفي مساء يوم السبت 11 يناير سنة 1936، أقام المندوب السامي السير آرثر وكوهوب حفلة عشاء ساهرة بقصره احتفاء بمقدم اللورد لويد، وكان على راس المائدة المرحوم الملك عبد الله ابن الحسين، طيب الله ثراه، وعلى يمينه اللورد، وجاء ترتيب مقعدي على يمين المندوب السامي السابق، الذي كان يهز مصر هزاً في يوم من الأيام.
وحضر دعوة العشاء سماحة مفتي فلسطين الأكبر الحاج أمين الحسيني، وراغب بك(948/3)
النشاشيبي، وروحي بك عبد الهادي، وأمين بك عبد الهادي، ورؤساء بلديات حيفا ويافا ونابلس وغزه والرمله، وجاء مع الملك مستشاره فؤاد باشا الخطيب، كما حضرها شكري بك التاجي ويعقوب أفندي فراج وإحسان هاشم، أما الجانب البريطاني فمثله الأميرالاي جارفس حاكم سيناء، وجلوب باشا، والمندوب السامي في عمان كيرك برايد وعقيلته، والمستر ريتشمورد والمستر فيرنس مدير المطبوعات ثم المستر موري من كبار موظفي حكومة فلسطين وعقيلته.
وكنت قد طفت أنحاء الدار برفقة المستر فيرنس، أحادثه عن عوائد الأسكوتلنديين وطرائفهم وأنواع القبائل، وشعار البطون والأقسام، لأني رأيت المندوب السامي حريصاً على إظهار قوميته بشكل واضح، ولا أخفي أنني أعجب بصراحة القوم واندفاعهم السريع نحو الغضب ونحو الرضا.
ولما دخلنا حجرة الطعام وعرفت مجلسي مع اللورد، لم أكن مرتاحاً لتلك الجيره، فقد كنت أعرف كيف كان اللورد يتعالى على المصريين، فما هو موقفه مع ممثل مصر، والكل يعرف ما نحن فيه؟ فلم أشأ أن أبدأ حديثاً معه، وإنما جعلت كلامي مع جاري الأيمن المستر ريتشموند مدير الآثار، واستعنت ببعض معلوماتي الأولية في التاريخ لكي أجعل الحديث متواصلاً وبلا انقطاع. وبعد دقائق تحرك اللورد العظيم فوجه إلي بعض الأسئلة: أين تعلمت الإنجليزية؟ وهل أقمت بإنجلترا؟ كم مده لك بالقدس؟ ولما علم أنني كنت قبل مجيئي الى فلسطين بمفوضية مصر بأنقرة أخذ يسأل عن رجالها واحداً واحداً، وعن نهضتها وسياستها الخارجية وعلاقاتها بالسوفيت وإيطاليا وفرنسا، وعن جيشهاواستعدادها وما تنوي عمله إذا ما هوجمت من قبل موسوليني. ولما كنت أجيب أسئلته بطريقه منطقية وصريحة كما أعلمته من المبدأ أن ما أعرفه من الإنجليزية هو من صناعة مدارسنا المصرية وأنني لم أكن خريج أي معهد بريطاني، اعتدل كثيراً في مناقشته وبدأ يرحب بالإجابة على أسئلتي التي وجهتها إليه عن حقيقة مهمته في الشرق ولماذا يترك واجباته السياسية وأعماله المالية ليقوم برحلته الطويلة: وكما كنت صريحاً معه، كان هو من جانبه صريحاً معي. . ونعلم جميعاً ما تمخضت عنه رحلة اللورد من إنشاء المعاهد والمجالس البريطانية، لزيادة الروابط الثقافية بين بلاده وبقية بلدان الشرق.(948/4)
لم يكن يدور بخلدي ساعتئذ أنني أستعد لأداء امتحان للترجمة بين الملك عبد الله بن الحسين واللورد لويد، إذ بعد دقائق دار حديث سياسي بين الرجلين العظيمين عن شؤون الشرق والبلاد العربية، وكان الملك يتتبع بنظراته كل كلمه أنطق بها وكان اللورد بما يعرفه من العربية يتتبع كل تعريب ونقل لآرائه.
ولا أخفي على القارئ أنني خرجت من الحديث وأنا أؤمن بوطنية الملك عبد الله بن الحسين، وعبقريته السياسية ووسائله في إقناع محدثه واجتذابه لصفه لقد وفق الملك الراحل بكلماته من أن يجعل اللورد الإنجليزي يعطف على قضية شرق الأردن، ويثق بمقدرة الملك العربي ولباقته وإخلاصه لمبادئه.
ولقد كان عبد الله بن الحسين مدافعاً عن حق العرب في فلسطين وشرق الأردن وفي سوريا ولبنان وفي العراق: كان يقول بأن الأمم العربية لها مطالب يجب على بريطانيا أن تجيبهم إليها إذ لهم حقوق ومواثيق ووعود. . . وأنه يجب أن تضع بريطانيا قبل أن تستعد للحرب عسكرياً، إجابة هذه المطالب في المقدمة، وأن صداقة العرب في أي نزاع أثمن لها من صداقة الغير، وأفيد لها عند الجد من تعبئة الجنود وزيادة القوة العسكرية في بلادهم.
قال إن العرب بطبعهم لا يميلون إلى إيطاليا بعد الدور الذي لعبته في طرابلس، وبعد أن نكلت جيوشها بالمجاهدين وبعمر المختار، وأنهم يطمئنون الى صداقة بريطانيا إذا أوفت بعهودها ومكنتهم من وحدهم وحريتهم واستقلالهم.
وكانت بريطانيا تخشى دعاية الطليان وآثارها، فقال إن أخطاء بريطانيا هي التي ستمكن لهذه الدعاية أن تتغلغل في أفكار العرب وتسمم نفسية الشباب نحو بريطانيا، وأن كل تردد أو موقف سلبي سيزيد هذه الدعاية ويقويها.
ولما سأله عن شرق الأردن قال إنه يتمتع باستقرار لا يتمتع به غيره من البلاد. . وأشار إلى سوريا التي كانت تجتاحها الأزمات ويقوم فيها ممثلو فرنسا بالتجربة وراء الأخرى.
وكان الملك يعلم بنية بريطانيا في زيادة قوات الطيران وفي زيادة قوات الحدود بشرق الأردن. . وهي القوه التي كانت تتحمل مصاريفها الحكومة وحكومة فلسطين، فقال بصراحة: إن الاعتماد على صداقة العرب أجدى من هذه الزيادة، ولكن الحصول على ثقة العرب يتطلب في المقام الأول منح العدالة لهم في فلسطين وصد تيار الهجرة إقناع سكان(948/5)
فلسطين بأن الانتداب ليس معناه خدمة الصهيونية فحسب، بل الدفاع عن كيان العرب والمحافظة على حقوقهم وتأمين مستقبلهم. . .
لقد دهشت من منطق عبد الله بن الحسين، إذ ما كنت أتصور فيه تلك الجرأة في التعبير عن آرائه، أما اللورد الذي كانت إرادته هي كل شيء في مصر، وكانت عباراته قويه لدرجه أن وافقه اللورد عليها بل وأظهر عطفه على مطالب العرب وقال إن بلاده لم تسلم لفرنسا إلا باحتلال الساحل، إن سوريا كان مفهوماً ومتفقاً عليه أن تكون مستقلة لا ولاية ولا مستعمره تحتلها فرنسا وتفعل بها ما تشاء. وقال إن الانتداب يجب أن يتجه لحماية العرب من توغل اليهود في فلسطين، وكان اللورد بادي الانفعال لا يقدر على إخفاء مشاعره نحو العرب مندفعاً مع الملك في حديثه حينما وجد على المائدة طبقاً من الزنجبيل المسكر فأخذ يقدم ما فيه للملك ولي ويتناول منه قطعه وراء قطعه حتى اكتشف في النهاية سؤالاً نقلنا من كل هذا. . . إذ قال ما رأي الأمير في الملك عبد العزيز بن السعود؟ فالتفت إلي الملك وقال اسأله ما رأيه هو فيه؟ أريد أن أسمع حكمه أولاً. فتردد اللورد قليلاً ثم قال إني أعرف الحجاز تماماً وأعرف قبائله ورجال البادية في ربوعه إذ عشت هناك طول مدة الحرب الماضية، وقد قرأت كثيراً عن الملك عبد العزيز بن السعود وقدرت مواهبه ولكن الصورة التي انطبعت في مخيلتي عن جلالته، زالت حينما لقيته لأول مرة في الطائف وكان ذلك في سنة 1925.
كنت أنتظر من رجل البادية الذي أسس ملكه بسيفه، وأستنقذ الرياض وجمع حوله الأخوان وربط بين أجزاء الجزيرة فكون منها وحده في القرن العشرين، رجلاً آخر. ولعل رؤيتي له في وقت كان يستعد فيه ويستجم بعد طول الجهاد والكفاح، أظهرته لي على غير حقيقته.
ولعلنا نحن معاشر الإنجليز نخطيً في الحكم لأول وهله، فنحن نراه رجلاً للبادية لا يستوعب ضرورات المدنية الحديثة وينفر من كل جديد، ولا نشك في أن فتح الحجاز كان عبئاً عليه، وإن هذه البلاد الفقيرة ستتحمل زيادة على فقرها استغلال السعوديين لمرافقها.
وكان الملك لبقاً في إجابته إذ قال إنه متفق تماماً على رأي اللورد في أن أهل الحجاز ما انفكوا يشكون في الإدارة السعودية وأنهم يأتون إلى عمان وينقلون أخبار الفاقة هناك.
وقال اللورد: إن الذي يهمنا هو استيعاب الأمن والنظام وإيجاد حكومات تشعر بأهمية ذلك.(948/6)
ومادامت الحدود محفوظة ولا تقوم ثورات في شمال الحجاز. وقد صفيت مشكلة الجوف نهائياً فلا أعتقد بوجود خطر من هذه الناحية. . كما أن الحرب إذا قامت في أي وقت في أوربا أو أفريقيا فأغلب الظن أن هذه الجزيرة العربية سوف لا تتأثر بقيام نزاع مسلح بين زعماء العرب.
كانت حوادث الاعتداء على حدود الأردن الصحراوية لا تزال ماثله، وكذلك حركة ابن رفادة في شمال الحجاز، وما دار بين ابن سعود وفيصل الدويش، ولكن أنظار اللورد كانت تحوم حول العراق وما قد تحدث فيه من الحوادث بعد وفاة فيصل الأول وتحت قيادة غازي الأول، كانت عيناه تتجهان يميناً شمالاً حينما ذكر العلاقة بين الملك عبد العزيز وقبائل الدولة في الشام
كل هذا لم يثن الملك عبد الله بن الحسين عن أن يذكر الحجاز، وأن الهاشميين أبناؤه وسدنته وأنه الأرض المقدسة التي يتجه لها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: وأن توليه عرش الأردن لا يمنعه من تتبع أخبار الحجاز وآماله ومستقبله، لأن لديه بشرق الأردن عدداً من الحجازيين قد لجأوا إليه فهم يذكرونه عند كل لقاء بأن عليه أن يعمل شيئاً لهم، وأختتم كلامه بأنه لا يقدر أن يرد واحداً منهم لو جاء إليه، وأنه ليسعد أن يعطي كل ما يملك لهم وأن يقتسموا ملبسة ومأكله معه.
وكان كلامه مؤثراً في تلك اللحظة وكنت أجد متعه في نقله والتعبير عن آراءه. . لقد خرج عبد الله بن الحسين عن الملك والأمارة وأصبح إنساناً يتحدث بعاطفته وقلبه وشعوره، ولم يقف عند هذا الحد إلا بعد أن قام المندوب وشرب نخب ملك الإنجليز، والأمير الأردني واللورد بكوبه ماء احتراما للحاضرين، ودخل أفراد من فرقة القرب بكامل ملابسهم الحمراء يحيون الحاضرين بعزف بعض المقطوعات الاسكتلندية: وانصرفنا جميعاً الى الردهة الكبرى. . . حيث يسودها ذلك الجو الصليبي الذي يشعرني بأني وسط غمرات الحروب الصليبية وجنود الإفرنج وأعلامهم ورنوكهم وأسلحتهم.
أحمد رمزي(948/7)
النسيان في نظر التحليل النفسي
للآنسة فائزة علي كامل
- 2 -
وقنا مع فرويد في المقال السابق على تفسير جديد للنسيان بناء على دراسته لبعض الأفعال التي تحدث في حياتنا اليومية كنسيان اسم شخص أو موضع شيء. . . الخ، وسنعرض هذه المرة لعملية النسيان في المجال المرضى. فهنا نجد أن فرويد قد نسب إلى هذه العملية أهمية بالغة إذ تبين إنها العلة لبعض الأمراض النفسية كالهستيريا. فما الذي أدى به إلى هذه النتيجة!
فيما قبل فرويد كانت توجد بديهية طبية هي (فكر تفكيرا تشريحيا) فكانت فكرة المرض مرتبطة بفكرة الإصابة. فمعنى أن نفكر تشريحيا هو أن ننظر إلى الإنسان من ناحية بناء جسمه ونتناسى الناحية الوظيفية للأعضاء. فنعتقد بوجود (أشياء) لا (أفعال). ولكن اتضحت مضار الأخذ بهذا الرأي إذ كان له أسوأ النتائج من الناحية العلاجية إذ ساد الأيمان بأن ما هدم أو فقد فلا أمل في برئه. فكان الأطباء يقفون مكتوفي الأيدي أمام مرض (الأفازيا) أي اختلال الوظائف اللغوبية) بناء على ذلك الأساس.
ثم عدل عن هذه البديهية وأخذ ببديهية أخرى هي (فكر تفكيراً فسيولوجيا) أي يجب ان نراعي الأفعال فلا نهمل ما تقوم به الأعضاء من وظائف. ولكن جاء فرويد وأظهر ان التفكير الفسيولوجي لا يكفي أيضاً، ويجب ان نفكر تفكيرا سيكلوجيا، ففي كثير من الحالات التي ترددت عليه وجد أن العلة مشكله سيكلوجيه. هذا بالإضافة إلى أبحاث (بروير التي ساعدته الى حد كبير على الوصول إلى ما وصل إليه خاصاً بالهستيريا.
فقد حدث أن جاءت (لبروير) فيما بين سنة 1880 وسنة 1881 فتاة تدعى تعاني حاله هستيرية. كانت في العشرين من عمرها، على جانب من الذكاء، طيبة القلب، تبالغ في مرحها وتفرط في حزنها. كانت تعيش في عالم من أحلام اليقظة إذ لم تشأ الظروف أن تجعلها تقع في شراك إحدى تجارب حب الشباب. وكانت أعراضها الهستيرية تنحصر في شلل الذراع الأيمن بصفة خاصة. وبعد أربعة شهور من ظهور هذه الأعراض توفى والدها فأصابها (التجوال النومي عقب ذلك(948/8)
عد (بروير) فترة حضانة المرض من بداية مرض والدها إذ كانت متعلقة به تعلقاً شديداً وتمضي كل وقتها في القيام بتمريضه. فبعد وفاته ازدادت حالتها سوءاً فاشتدت هلوستها التي كانت تدور حول الأفاعي ووصلت الى حد مرعب شنيع. وصارت تراودها فكرة الانتحار من حين لآخر وتصيبها غيبوبات في ميعاد واحد كل يوم. كذلك فقدت معرفتها للغتها الأصلية وهي الألمانية، وأصبحت لا تستطيع إلا تكلم اللغة الإنجليزية وأخيراً تكلمت الفرنسية والإيطالية.
ابتدأ (بروير) في تطبيق طريقته العلاجية مع هذه الفتاة فلاحظ إنها تعود الى حالتها الذهنية العادية عندما يساعدها أثناء التنويم المغناطيسي على تذكر الموقف والأشياء المرتبطة به مع إفساح المجال للانفعالات التي قد يثيرها هذا التذكر. فهذا التنظيف الروحي أدى الى اختفاء كثير من الأعراض، وكانت هي نفسها تسمي هذه الطريقة أو وقد كان ذلك تشجعاً (لبروير) على الاستمرار إذ كانت تصرح له المريضة بأن يدعها تتحدث لأنها تجد في ذلك شفاء.
ومن حديثها استطاع (بروير) الوصول إلى كيفية تكون العرض الخاص بشلل ذراعها. ففي ذات ليله كانت المريضة تجلس إلى جوار سرير والدها المريض واضعه ذراعها اليمنى على ظهر الكرسي. وفي حلم يقظة رأت أفعى سوداء تخرج من الحائط وتسعى للدغ والدها وهنا حاولت أن تبعدها ولكنها لم تستطيع. إذ شعرت بشلل في ذراعها الأيمن الذي كانمنملا) بحكم وضعه. وفي هذه اللحظة حاولت أن تصلي ولكنها وجدت أنها لا تعرف شيئاً من الألمانية ولم تجد في ذهنها إلا دعاء الإنجليزية فرددته.
وحدث أثناء العلاج أن ظهر عرض جديد. فكانت المريضة تأخذ كوب الماء في يدها ولكن ما كاد يلمس شفتيها حتى تدفعه بعيدا كما لو كانت تعاني مرض الهيدروفوبيا الخوف المرضي من الماء) فكانت لا تستطيع الشرب على الرغم من شدة الحر في تلك الأيام، وكانت تلجأ إلى أكل الفواكه مثل البطيخ لتخفيف من شدة عطشها. استمر الحال كذلك لمدة ستة أسابيع وفي ذات تحدثت أثناء نومها المغناطيسي عن مربيتها الإنجليزية التي كانت تكرها. ثم ذكرت حادثه مؤداها أن هذه المربية سمحت لكلب ذات مره أن يشرب من كوب كانت تشرب منه المريضة فتضايقت أشد المضايقة ولكنها اضطرت الى قمع اشمئزازها(948/9)
تأدبا. بعد أن سردت هذه الواقعة وعبرت تعبيراً قوياً عما سبب غضبها وأثار اشمئزازها طلبت كوبا من الماء وشربته، وأفاقت من غيبوبة التنويم المغناطيسي وكوب الماء على شفتيها. ومنذ هذه الجلسة زال خوفها من الماء وبالمثل اختفت كل أعراضها الهستيرية والقليل الذي بقي كان عضوي المنشأ.
انتهى (بروير) من هذه الحالة إلى نتيجتين: الأولى، وهي خاصة بالناحية العلية، ومجملها أن بعض الأعراض المرضية سببها ذكريات لا يستطيع الشخص استحضارها إراديا. . أي أنها على أنها ذكريات لا شعورية. الثانية، وتتعلق بالطريقة العلاجية، وهي تبين أن مجرد استكمال الذكرى المؤلمة المنسية في الشعور مع التصريف الانفعالي يؤديان إلى الشفاء. وقد قام التحليل النفسي على هاتين النتيجتين اللتين توصل إليهما (بروير) إذ اتخذ منهما (فرويد) بداية في أبحاثه في (العصاب العظيم) وهو الهستيريا. ففي عام 1895 ظهر لهما هما الاثنان بعنوان (دراسات في الهستيريا).
في هذا الكتاب أتى (فرويد) بآراء جديده على جانب من العمق فأظهر أن الهستيريا مرض نفسي يمتاز بضيق في ميدان الشعور. وكان (جانيه) يرجع ذلك الضيق إلى أسباب عضويه. . أما (فرويد) فإن كان لم يستبعد تلك الأسباب كليه إلا إنه أعلن أنها لا تعد تعليلا كافيا. ففي نظر (فريد) أن فشل بعض التصورات في شق طريقها الى الشعور إنما يرجع إلى استبعادها نتيجة لانعكاس دفاعي، فهذه التحولات محملة بشحنه مؤلمة لتعارضها مع الميول الرئيسية الموجودة في الشعور. ولذلك فإنها تكبت ومن ثم فالهستيريا تقوم على الكبت. وهذه أول إضافة فرويد إلى آراء (بابنسكي) و (جانيه).
لقد اتفق (فرويد) مع (جانيه) على أن علة الاضطراب الهستيري هي التأثير اللاشعوري، ولكن فيما عدا ذلك فإنه يوجد تباين شديد بين آرائهما. فالنسبة لجانيه يمكن أن يشبه النشاط النفسي بقاطرة إذا توقفت فذلك يرجع أما إلى كسر أو التواء في بعض أجزائها. وهذا يمثل التوتر. وإما إلى حاجة القاطرة الى ماء أو فحم، وهذا يمثل الاضطراب الديناميكية النفسية أو العصبية التي يمكن إصلاحها. أما فرويد فينظر الى الامر نظرة أخرى. . فهو يمثل النشاط النفسي بقاطرتين إذا سارتا في اتجاهين متقابلين في طريق واحد فإنهما سيتصادمان ولن يستطيعا التقدم، وهذا يمثل نوعا جديدا من الاضطراب لم يقل به أحد قبل (فرويد)(948/10)
وهو الكف فهذا الاضطراب لا يرجع إلى التوتر ولا الى نقص عصبي أو نفسي وإنما يرجع إلى اضطرابات ديناميكية متقابلة. فآراء فرويد مركزة حول فكرة إيجابية هي الصراع بينما آراء (جانيه) تدور حول فكرة سالبة هي النقص
وثمت فكرة اخرى فسرها (فرويد) وهي الاعراض الجسمية الهستيرية كانحباس الصوت او الرجفة او الشلل. وقد اطلق عليها اسم (الهستيريا التحولية) فهذه ليست الا الطاقة المؤثرة المكبوتة المتجمعة في اللاشعور. ولكن كيف يمكن لهذه الطاقة ان تتحول الى اعراض جسمية؟ يجيب (فرويد) بان العرض الهستيري مثله كمثل الحلم. فهو يدل على رغبة مكبوتة يجب الا تظل كذلك لانها ما دامت هي مدفونة في اللاشعور فانها لنتكف عن التعبيرعن نفسها بواسطة اعراض شديدة الاختلاف انه لا يكفي استبعاد الاعراض لان مثل ذلك كمثل من يقطع الاعشاب السطحية ويبقى على الجذور. فالمصابون بالاعراض الهستيرية لم ينتهوا بعد من الموقف المؤلم او الصدمة التي لحقت بهم، انهم يظلون متعلقين بالموقف الماضي ويصبحون غرباء عن الحاضر والمستقبل. ثم يختفي ذلك الموقف في طيات النسيان ويصبح لا شعوريا ويحل محله الاعراض الهستيرية التي ما هي الا الصراع فيصور، مختلفة. ولا يحدث ذلك من صدمة واحدة وانما بعد معاناة عدة صدمات. وهو يعني بالصدمة كا ما يجلب استثارة في الحياة النفسية تبلغ حدا من العنف بحيث يصبح قمعها او التسامي بها امرا مستحيلا بواسطة الطرق العادية. فتلك هي العلة الحقيقية لنشوء المتاعب الهستيرية.
وقد اشار (فرويد) الى نقطة هامة وهي ان كل عرض هستيري يكشف بوجه عام عن مجموعة من التأثيرات حدثت في حياة المريض فيما مضى ويؤكد انه نسبها تماما. وقد ترجع هذه التأثيرات الى السنين الاولى من الحياة. . ولذلك فان (فرويد) ينظر الى حياة الفرد كتيار متصل تترابط فيه الميول والرغبات. وهو يعتقد ان خلق الشخص يتكون قبل نهاية الخمس سنوات الاولى من العمر، ونحن اذا انكرنا ذلك فانما نعلن جهلنا بالعمليات العقلية لمرحلة الطفولة ومالها من تأثير لا شعوري. كذلك قد يرجع ذلك الانكار الى نسيانها لهذه الفترة من الحياة، ذلك النيسان الذي يحتاج الى تفسير لانه ليس عملية فسيولوجية طبيعية في نظر (فرويد).(948/11)
بقول (فرويد) ان سبب نسياننا لمرحلة الطفولة الكبت الذي يقوم بدور كبير في مرحلة التعليم المبكرة. فالاطفال يأتون وهذا العالم وهم مزدون بميول ورغبات بريئة تتناسب وسنهم، ولكن هذه الرغبات وتلك الميول لا تتفق وعقلية الكبار الذين يعملون بكل ما في وسعهم لفطم الطفل عنها وتوجيه ذهنه الى ميول اخرى. وهذا ما يسمى (بالتسامي). ومن هنا يضطر الطفل الى قمع ميوله البدائية ودفنها في اللاشعور. ولكن هذه الميول والرغبات المكبوتة لا تفقد شيئا من ديناميكيتها مدى الحياة، فاذا لم تكف طرق التسامي للتخفيف من الطاقة التي تحتوي عليها فان النفس تعمل على تصريف تلك الطاقة بشتى الطرق ولو ادى ذلك الى ظهور اعراضمرضية. فالاعراض العصابية تمثل في صورة مثيرة تحقيق الرغبات المكبوتة.
ان للنسيان اهمية بالغة في الحياة النفسية، ولذلك يقول (فرويد) ان ما يجب عمله ازاء فكرة ينقصها معنى او عمل ليس له هدف هو ان نعثر على الموقف الماضي الذي تحققت فيه الفكرة ووصل العمل الى هدف. (وكان (جانيه) يستخدم التنويم المغناطيسي ليصل الى ذلك الموقف الماضي ثم يهاجم الافكار بعد ظهورها بوسائل مختلفة كالايحاء او ايجاد عناصر منافسة لها او تحل محلها. ولكن تبين (بروير) و (فرويد) انه لا يمكن استعمال التنويم المغناطيسي في جميع الحالات واكتشفا ان اكمال الذكرى المؤلمة باعادة الجزء المنسي منها الى الشعور مع التصريف الانفعالي. . فيهما الكفاية للشفاء وزوال الاعراض. لهذا لم ياخذا بالابحاء المباشر لمحاربة الاعراض ولم يوافقا على استبدال افكار بافكار. لقد حصرا العلاج التحليلي في حل العادات المرضية وذلك باستذكار الحوادث التي نبعث منها. فيجب ملء كل الثغرات التي في ذاكرة المرضى، أي يجب استبعاد (الامنيزيا) وجعل كل ما هو لا شعوري شعوري.
اما سر زوال الاعراض بمجرد استحضار الذكريات المنسية فيرجع الى ان التحليل النفسي يحول العرض الى صورته الاصلية. هذا من جهة. ومن جهة اخرى نلاحظ ان التداعي الحر يسمح للمريض باسترجاع الذكريات المؤلمة على دفعات. فما لوحظ ان الذكرى المكدرة لا تسترجع اولا وانما تأتي الافكار التي ترتبط بهذه الذكرة. . ومنها يتدرج الى الذكرى المؤلمة حقا. وهكذا فان المريض لا يواجه ما ينغصه مرة واحدة. . بل يأخذه(948/12)
جرعة فجرعة، يضاف الى ذلك ان وجود المحلل يشجع المريض ويقوي انيته، فكل اضطراب نفسي له علله مهما كان غموضه في الظاهر، وعمل المحلل الكشف عن هذه العلل. . ولا يستطيع القيام بذلك الا من هيىء ليقابل بهدوء كل محتويات الذهن اللاشعورية. . وكان لديه خبرة بطريقة حل الصراع.
البقية في العدد القادمفائزة علي كامل(948/13)
الواقعية الفنية
للاستاذ عبد الوهاب محمود
عاشت المدرسة الابتدائية في عالم من خيال تتقاذفها صور الكآبة والحنين واليأس، ويشق الاغتراب الروحي طريقه الى نفوس كتابها، فلجوا بدورهم في دنيا من ضباب، وسلكوا في اساليبهم مسلكا تشيع منه الاحزان والمشاعر النفسية المضطربة. ولعل (هوجر) خير من يمثل هذا المذهب الفني الادبي.
وكرد فعل لهذه المدرسة التي غالت في الخيال برزت المدرسة الواقعية في ميدان الادب، وسرعان ما سارت في هذا الميدان واتجه اليها كثير من الادباء اتجاها فنيا صادقا يتمشى مع روح الواقعية الحقة بينما سلك اخرون سبيلا ملتوية، لا تمت الى الواقعية الفنية بصلة. ومن اثارها ذلك الانتاج الغزير الذي (تقذفه) الينا الصحف والمجلات، وبخاصة تلك الصحف التي تبغي الكسب المادي. وكثر انصار هذه الواقعية الحمقاء التي تتجسم بنقل الواقع (فوتوغرافيا) جافا جامدا كما تتمثل بتلك اللغة الهزيلة حتى ذهب بعضهم الى الالتجاء للغة العامية، الا ان حقيقة هذا المذهب الادبي غير ما يرى هذا الفريق؛ فالفنان كما يقول توفيق الحكيم ليس بمحرر تقارير، وانما هو محرر عواطف. وليست الامانة المطلوبة منه نقل الاحداث دون المشاعر والعواطف، فالواقعية كما يرى جبهاميل ليست بالواقعية الفوتوغرافية التي لا يخرج عملها عن عمل الة التصوير التي (كلفت) بالتقاط الواقع بحركة الية عمياء جافة. ولعل الذي دفعني الى كتابة هذه العجالة تلك المسالك السود، وغدا ادبهم لا يعدو تلك (اللقمة) التي تتربع على مائدة الطعام، او تلك الصور التي يشيع فيها التشاؤم والرعب من الحياة.
الواقعية الفنية لا تبعدنا عن حياتنا ـ كما يظن ـ بل هي الواقع المحس قد داعبته انامل الفنان، وقد يرسم الفنان ـ الشاعر او القصاث ـ صورا ماثلة في الواقع، واقعة حقا، وقد لا تكون كذلك كما لا يلزمنا ان تكون تلك الصورة المنقولة صورة سامية حسنة جميلة، بل كل ما يطلبه الفن نقل الصورة نقلا فنيا، وكل ما يطلبه الواقع نقلها بامانة. واذاصهرنا مطاليب الفن ومطاليب الواقع ـ في بوتقة واحدة ـ ظهر لنا (الادب الواقعي الفني) الذي هو نفسه الادب المصور المؤثر.(948/14)
ويحضرني الان راى للاستاذ المعداوي نشره في تعقيباته في عدد الرسالة الفائت اذ قال: الواقعية ضربان، واقعية اولى ويكون فيها نموذج الشخصية موجودا (بالفعل) في الحياة، والواقعية الثانية، ويكون فيها نموذج الشخصية موجودا (بالامكان). ولم يقف الاستاذ المعداوي عند هذا الحد، انما ذهب الى تعريف الواقعية الاولى فقال (هي نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الاحياء، كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه العين وتألفه النفس) ولو وقف الاستاذ عند قوله: (انها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الاحياء) لهان الخطب وما جعل ذلك النقل مقيدا (بما تلمسه العين وتألفه النفس) كما انه لو احترس الاستاذ في قوله وقال: (انها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الاحياء كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه عين الفنان وتألفه نفسه) بدلا من اطلاق (العين والنفس) التي تدعو الى جعل الفن ضربا من ضروب العبث، كما يجعل ـ هذا الاطلاق نفسه ـ الفنان والرجل العادي في كفة متساوية من حيث الاحساس، اقول لو قال الاستاذ (عين الفنان ونفسه) لسهل الامر ومادعانا الى الولوج في دهاليز الظلمة والجهل، وهو يقصد الايضاح والاعلام. ورأى الاستاذ المعداوي ايضا يبعث الينا من جديد تلك الصفعة التي وجهها افلاطون لفن الشعر، كما يعيد الينا صدى العبارة اليونانية التي تقول: (ان الفن تقليد للطبيعة) والتي استغلها افلاطون نفسه للطعن في الشعر، وبودنا لو استطاع الاستاذ انور المعداوي ان يجيب على هذه الاسئلة التي (تقلق) بالى في تعريفه الذي ذكرته، واول ما يتلقانا من الاسئلة هذا السؤال، اذا كانت الواقعية نقلا مباشرا لصور الحياة التي تلمسها العين وتألفها النفس، فما فائدة هذا النقل اذن؟ وما فائدة تلك الصورة (المقلدة) للواقع ما دمنا نستطيع النظر الى الاصل نفسه؟ بل، ما فائدة الفن اذا كان نقلا مباشرا لما تألفه النفس وتلمسه العين؟. . .
يقول افلاطون: ان عناية الرجل العاقل تنصب في الوصول الى الحقيقة، لذا كانت عنايتنا بالاشياء، لانها ممثلة للحقيقة. وتكتسب هذه الاشياء حقيقتها من الافكار التي تمثلها. فالمصور يقلد الاشياء، والاشياء بدورها تمثل الافكار، والافكار هي الحقيقة، فيكون اتصال الفنان المصور بالحقيقة اتصالا بعيدا عنها بثلاثة مراتب. ولما كان الشاعر يقلد اعمال الناس وظواهر الامور فعمله هذا بعيد عن الحقيقة بمرتبتين، فالفن اذن ـ على هذا الرأى ـ ضرب من العبث ما دام يبعدنا عن الحقيقة، والرجل العاقل لا ينشد ذلك. ولو كان الفن(948/15)
ـ الادب ـ تقليدا للطبيعة حقا، او هو نقل مباشر لها، لتقبلنا رأى افلاطون وسكتنا، ولتقبلنا رأى الاستاذ المعداوي وصمتنا، ولكن الفن ليس تقليدا للطبيعة فقط، كما انه ليس نقلا مباشرا فقط. انما يتدخل الخيال وتلج المهارة الفنية في ذلك الميدان لترفعه عن حضيض التقليد الاعمى الى قمة الخلق والابداع، وتقليد ما يتصوره الخيال، فيكون عمل الخيال ـ هنا ـ لا يعدو مجرد تقطير الاحداث الواقعية باستبعاد جميع نواحيها السخيفة. ولكن هذا وحده ـ كما يقول لاسل ابركرمبي ـ كاف لان يجعل الشعر (الادب) الناتج عن هذا شيئا مخالفا لتلك الصورة المنسوخة التي توهمها افلاطون نفسه، وجعلها سببا للطعن في الشعر، ونضيف نحن ايضا ان تقطير الاحداث الواقعية بواسطة الخيال كفيل لان يكون لنا شيئا مخالفا لتلك الصورة التي ننقلها نقلا مباشرا عن الواقع والتي يراها الاستاذ المعداوي مادة للواقعيين.
ولو سلمنا ان الفن تقليد للطبيعة او نقل مباشر لصور الحياة او ان الفن مرآة للواقع؛ كنا بذلك قد ابتعدنا عن الحقيقة بمرتبتين او ثلاثة ـ كما يقول افلاطون ـ انما الفن دفعه من النور تكشف لا عن مظاهر الحياة التي تألفها النفس وتلمسها العين؛ ولكن عن خفايا تلك المظاهر؛ عما وراء المظاهر، فظواهر الامور كثيرا ما تخفي شيئا (دسما) للفن، فالحزن في صورته الظاهرة تقطيب الوجه وتقارب الحاجبين مثلا، ولكن هل هذا هو كل الحزن الذي نشعر به؟؟. . . كلا. . . باستطاعة أي انسان ان يقطب وجهه ويقرب حاجبيه، ولكن هل يشعر هذا (الممثل) شعور ذلك المفجوع المكلوم؟!. . . على هذا، فهل من الانصاف ان ننصف الظاهر (الآلى) ونعرض عن تلك (الحرقة الاليمة) التي هي في الحق مشاعرنا التي تنتابها.
والادب كما يقول (كرمبي) توصيل يحدث بين المؤلف والقارىء، يعرض المؤلف ادبه بوصف مشاعره واحساساته وتبيان اثرها في نفسه، وهذه الاصداء النفسية هي التي تمثل (الذاتية) الاس الاكبر للرومانتيكية الابتدائية، ولكن الادب ليس كل ذلك، انما يراد للتوصيل ان يلج المؤلف ساحة اخرى هي (الموضوعية) وبذلك يرضي قارئة حتى يتقبل ذلك الادب، وحتى يتم ذلك التوصيل. والموضوعية كما نعلم ـ تخاصرالواقعية ـ وبذا تكون لنا في الادب جانبان هما الموضوعية والذاتية (ولكن كل منهما على حده لا يعبر عن(948/16)
الحقيقة) لذا نرى ان على الاديب الواقعي الفنان ان يلتزم هذين الجانبين في ادبه ولا يهمل (الذاتية) في نقل الواقع فيجىء نقله محايدا (ان صح وجود النقل المحايد في الادب. . ذلك لان الادراك نفسه غير محايد كما تقول نظرية الكاتب الفرنسي الوجودي سارتر).
فالواقعية الفنية تتمثل بالجانب الذاتي والموضوعي، كما تتمثل بالعناية بوساطة الادب (اللغة) وعنايتها بالغة تتم عن طريق معرفة المفردات وما توحيه كل لفظة من صور ومعان، وما تحدثه من جرس.
ومن ادب الواقعية الفنية قصة (الام) للكاتب الروسي مكسيم غوركي و (قصة انا كارنينا) للفيلسوف الروسي (ليوتولستوى) وقصة (تس سليلة ربرفيل) للشاعر القاص توماس هاردى، وتحفة غلوبير الخالدة (مدام بوفارى)، كما نجد الواقعية العنيفة تتجلى في كتاب (الايام) للدكتور طه حسين، وكتاب (عصفور من الشرق) للاستاذ توفيق الحكيم. ومن قرأ القصص لا يستطيع انكار الخصائص الفنية التي ذكرناها عن الادب الواقعي الفني.
ولعل قصيدة هوسمان الشاعر الانجليزي (الى السوق اول مرة) خير مثال للواقعية التي ذهبنا اليها، فلذا راينا ان نعرضها لزيادة الايضاح:
ـ يوم انشأت اذهب الى السوق، اوائل عهدى بالاسواق كانت الدراهم في الكيس جد قليلة
وكم طال بي النظر وكم طال بي الوقوف!
على اشياء في السوق لا تنال
ـ تغير الزمن اليوم، فلو اردت الشراء لاشتريت هنا الدراهم في الكيس، وهناك اشياء الامس في السوق ولكن يا ترى ذلك الفتى المحروم؟
ـ طالما شكا قلب الانسان لان (اثنين واثنين اربعة)
لا هي ثلاثة كما نودها حينا ولا هي خمسة كما نودها بعد حين واحسبه سيشكو الى اخر الزمان.
هذه صورة من الواقع، ولكن هل هي نقل مباشر لصور.
* *
الحياة. . مما تلمسه العين وتألفه النفس؟ هل هذه الصورة التي نقلها هوسمان هي صورة الواقع المحس فقط؟. الم يضف هوسمان شعوره وعواطفه واماله التي سرعان ما تتبدل(948/17)
وتتغير؟. . .
لقد صور لنا هوسمان الواقع المحس ونقل الينا احاسيسه ومشاعره نقلا فنيا من الصعب ـ بل من الصعب جدا ـ ان ننكر ذلك الواقع الفني الذي نقله هوسمان.
العراق. بصرة
محمود عبد الوهاب(948/18)
دفاع عن الوجودية
مهداة للاستاذ علي متولي صلاح
للسيد نهاد التكرلى
ما كادت الوجودية تنتشر في فرنسا في اعقاب الحرب العالمية الثانية حتى انهالت عليها الانتقادات والاتهامات من كل حدب وصوب. وقد صار النقاد على مختلف نزعاتهم، من شيوعيين الى مسيحيين، يكيلون لها التهم جزافا. فاتهموا جان بول سارتر ـ مؤسس هذه الفلسفة في فرنسا ـ بانه استوحى فيلسوفا المانيا نازيا هو مارتن هيدجر، ومن ثم فلابد ان تكون فلسفته ذات نزعة فاشية. ونسبوا اليه نشره باسم الوجودية نزعة ركونية للقلق تجعل الانحلال والفساد يدب الى الشبيبة وتصرفها عن العمل. لان سارتر كما يقولون يثير الشباب لاستغلال نوع خاص من اليأس واتهموا سارتر بانه يدافع عن مذاهب عدمية (والبرهان على ذلك غي نظر احد النقاد هو ان عنوان كتاب سارتر الفلسفي هو (الوجود والعدم)!) في مثل هذه السنوات التي يجب فيها اعادة بناء كل شيء من جديد، والعمل لتكريس الجهود لربح الحرب وربح السلام. ثم اتهموه اخيرا بان الوجودي لا يطيب له الا الانهماك في الاقذاع واظهار شرور الناس وضعتهم اكثر من ابرازه الجانب المضيء من مشاعرهم وعواطفهم الجميلة.
وقد حاول سارتر الرد على بعض هذه الاتهامات التي تبدو مستوحاة بباعث من سوء النية والجهل. خاصة وان اصحابها كما يبدو جليا لم يقراوا أي كتاب من الكتب التي يتحدثون عنها، والظاهر انهم قد اختاروا الوجودية هافا يسددون اليه سهام نقدهم لانهم اولا بحاجة الى شخص او مبدأ يتحمل خطايا الاخرين، ولانهم ثانيا وجدوا ان الوجودية مذهب مجرد لاتعرفه ال فئة ضئيلة من الناس؛ ولن يحاول احد التحقق مما يقولون. ومن بين الردود التي فند فيهاسارتر مزاعم هؤلاء النقاد مقال نشره في جريدة الا كسيون الفرنسية بتاريخ 29 ديسمبر عام 1944 نحاول تلخيصه لقراء الرسالة في هذا المقال، ومحاضرة عنوانها (الوجودية نزعة انسانية) القاها سارتر في نادي (منتنان) وقد لخصناها لقراء مجلة الاديب البيروتية في العام المنصرم.
يقول سارتر عن النقد الخارجي الذي وجه اليه: ان هيدجر كان فيلسوفا قبل ان يكون نازيا(948/19)
بوقت طويل. وبمكن تفسير اتفاقه مع الهتلربة بالخوف وربما بالوصولية، او بالانقياد والخضوع وهو الامر الاكثر يقينا. وهذا على كل حال امر ممقوت لا يحبذه احد ابدا غير انه كاف وحده للطعن في استدلال النقاد. فهم يقولون: (ان هيدجر عضو في الحزب الاشتراكي الوطني واذن فلا بد ان تكون فلسفته نازية). بينما الحقيقة على خلاف ذلك، اذ ان هيدجر لا خلق له وهذا هو كل شيء. فهل هناك من يجرؤ على الاستنتاج من هذا بان فلسفته تبرير لجبنه؟ اليس المعروف بان هنالك كثيرا من الاشخاص لم يرتقوا الى مستوى مؤلفاتهم؟ هل يجب ان نبين (العقد الاجتماعي) لان روسو كان يضع اطفاله في ملجأ اللقطاء؟ ثم ما اهمية هيدجر؟ اذا اكتشف سارتر فكرته الخاصة فيفكرة فيلسوف اخر او اذاطلب الى هذا الفيلسوف اصطلاحات فنية وطرقا كفيلة بابلاغه الى مشاكل جديدة كان ذلك دليلا على انه يعتنق جميع نظرياته؟ لقد اقتبس ماركس من هيجل منطقه الجدلي فهل يقول احد بان كتاب (رأس المال) مؤلف بروسى؟
ولنأت الان الى الوجودية فنرى هل حاول هؤلاء النقاد تعريفها على الاقل الى قرائهم؟ انهم يحاولوا هذه المحاولة لانهم يعلمونبان ذلك يورطهم في جدال فلسفي ليكلفهم مجهودا كبيرا لا يتناسب وهذه الهجمات المبتذلة التي يشنونها على الفلسفة. ومع ذلك فان هذا التعريف بسيط الى درجة كبيرة. يقول سارتر: من المقرر ـ لو استعملنا عبارات فلسفية ـ ان لكل شيء ماهية ووجودا. والماهية معناها مجموع ثابت من الخصائص؛ بينما الوجود يعني نوعا من الحضور الفعلي في العالم. والشيء الذي يعتقد به كثير من الناس هو ان الماهية تأتي اولا ثم الوجود، فالبسلة الخضراء مثلا تنبت وتستدير طبقالفكرة البسلة، والمخلل مخلل لانه يساهم في ماهية المخلل، وهذه الفكرة تنبع في الاصل من فكرة دينية. وفي الواقع ان الذي يريد ان يبنى بيتا لابد ان يعرف بالضبط اى نوع من الاشياء سيبدعه. فهنا ايضا نجد ان الماهية تسبق الوجود وهذه الفكرة موجودة لدى كل الذين يعتقدون بالله وبانه خلق الانسان، اذ لابد ان يكون قد قام بهذا العمل وفقا للفكرة او المفهوم الذي كان لديه عن الانسان. غير ان بعض المفكرين قد قالوا بالالحاد مع محافظتهم على هذا الرأى التقليدي، وهو (ان الشيء لا يوجد ابدا الا وفقا لماهيته).
وكان جيل القرن الثامن عشر باجمعه يفكر بان هنالك ماهية مشتركة بين جميع البشر(948/20)
تدعى (الطبيعة البشرية). غير ان الوجودية قد جاءت اخيرا فقلبت الوضع لانها قالت بان الوجود لدى الانسان ـ ولدى الانسان فقط ـ سابق على الماهية. وهذا يعني بكل بساطة ان الانسان (يوجد) اولا ثم يكون بالتالي هذا الشخص او ذاك. وبكلمة واحدة ان الانسان يجب ان يخلق ماهيته الخاصة بنفسه. فهو عندما يرمي بنفسه في العالم ويتألم ويناضل فيه انما يعرف نفسه شيئا فشيئا. . ومجال هذا الانسان قبل ان يموت. . ولا ماهي الانسانية قبل ان تزول من على وجه الارض.
والان وبعد ما تقدم: هل الوجودية فاشية ام محافظة ام شيوعية او ديمقراطية؟ من الواضح ان هذا السؤال سخيف لا معنى له. . اذ الوجودية وهي على هذه الدرجة من العمومية ليست سوى طريقة معينة لمواجهة المسائل الانسانية. . رافضة اعطاء الانسان اية طبيعة ثابتة على الدوام. لقد كانت الوجودية سابقا تقترن بالمعتقد الديني كما نجدها لدى كير كجورد. . والوجودية الفرنسية التي يمثلها سارتر تميل اليوم الى الاخذ بالالحاد. . غير ان هذا ليس ضروريا بصورة مطلقة. وسارتر يقول ان كل ما يمكن ذكره في هذا الصدد هو انها لا تبتعد كثيرا عن التصور الذي تصوره مارس للانسان. الا يرتضي ماركس في الواقع هذا الشعار الذي اتخذه سارتر شعارا للانسان: ان يعمل وبعمله يصنع نفسه ولا يكون شيئا سوى ما صنعه من نفسه؟
والان نقول: اذا كانت الوجودية تعرف الانسان بواسطة فعله فمن البديهي انها ليست فلسفة للركونية؛ اذ الانسان في الواقع لا يمكن الا ان يفعل، فافكاره تصاميم والتزامات، وعواطفه مشروعات. انه لا شيء سوى حياته وما حياته الا وحدة سلوكه. اما (القلق) الذي تعلن عنه وجودية سارتر والذي قال عنه النقاد بانه يأكل الانسان ويشله عن العمل، فانه ـ بالرغم من سمو هذه الكلمة ـ يدل على حقيقة يومية في غاية البساطة. يقول سارتر اننا (لا نكون) بل (نصنع انفسنا) ونحن عندما نصنع انفسنا نتحمل مسؤولية الجنس البشري بأجمعه. واننا عند اقدامنا على الفعل لا نجد ازاءنا قيما او اخلاقا منحت لنا بصورة قبلية. . بل علينا في كل حالة ان نقرر ونبت في امرنا بصورة منفردة دون ان تكون لدينا نقطة ارتكاز او هاد يهدينا سواء السبيل، مع كوننا نفعل من (اجل الجميع). فكيف يمكن بعد هذا الا نشعر بالقلق عندما يتحتم علينا الفعل؟ ان كل فعل من افعالنا يمس معنى العالم(948/21)
ومكان الانسان في الكون، ونحن نؤسس بواسطة كل فعل من افعالنا ـ حتى لو لم نرد ذلك ـ سلما من القيم الشاملة. فكيف يمكن الا يأخذنا الخوف ازاء هذه المسؤولية الكلية؟
لقد قال بونج في عبارة بديعة للغاية ان (الانسان مستقبل الانسان) وسارتر معجب بهذا القول. وهو يقول بان هذا المستقبل لم يصنع بعد ولم يبت في امره. اننا نحن الذين سنصنعه، وان كل واحدة من حركاتنا تساهم في رسمه، ويجب ان يكون المرء على شىء كبير من النفاق لكي لا يشعر بالقلق ازاء هذه الرسالة الهائلة الملقاة على عاتق كل واحد منا. ولا شك ان النقاد قد خلطوا عمدا بين القلق والنورستانيا لكي يدحضوا سارتر بصورة اكثر يقينا، فجعلوا من هذا الجزع الرجولي الذي يتحدث عنه الوجودي خوفا باثولوجيا موهوما. ولذلك يقول سارتر ان القلق لا يمكن ان يكون عائقا للفعل لان نفسه شرط للفعل. وهو جزء لا يتجزأ من معنى هذه المسؤولية الساحقة: مسؤولية الكل امام الكل التي تسبب عذاب الانسان وعظمته في نفس الوقت.
انا اليأس الذي يقولون عنه بأنه يسود الحياة في نظر الانسان ويصرفه عن العمل فيجب ان نفهم معناه ونتعمق مدلوله. يقول سارتر: من الجلى ان الانسان يخطىء اذ (يأمل) في امر من الامور، وهذا القول لا يعنى سوى ان الامل اسوأ قيد للفعل. هل كان يجب على الفرنسيين ان يأملوا في انتهاء الحرب من تلقاء نفسها؟ او ان يمد النازيون لهم ايديهم؟ او هل لنا ان نأمل في ان يتخلى اصحاب الامتيازات في المجتمع الرأسمالى عن امتيازاتهم عن طيب خاطر؟ يقول سارتر اننا لو كنا نأمل في كل هذا فلن يبقى علينا الا ان ننتظر مكتوفي الايدي. ان الانسان لا يمكنه ان يريد الا اذا ادرك اولا بانه لا يستطيع ان يعتمد الا على نفسه، وبانه وحيد متروك على هذه الارض وسط مسؤولياته الانهائية من دون سند او مساعدة. لا غاية له سوى الغاية التي سيعطيها لنفسه. ولا مصير له سوى المصير الذي سيبتدعه لنفسه. هذا اليقين وهذه المعرفة الغريزية التي لدى الانسان عن موقفه في العالم هو ما يدعوه سارتر باليأس. فهو ليس ضلالا خياليا جميلا، بل وعلى جاف واضح بالحالة الانسانية. وكما ان القلق لا يتميز عن معنى المسؤوليات فان اليأس يتحد مع الارادة في وحدة لا انفصام لها. ومع هذا النوع من اليأس يبدأ التفاؤل الحقيقي: تفاؤل الانسان الذي لا ينتظر شيئاً ويعلم بانه لا يملك أي حق ولم يترتب عليه أي واجب. تفاؤل الانسان الذي(948/22)
يبتهج بالاعتماد على نفسه وحدها وبالعمل وحيدا لخير الجميع.
وبعد فهل تلام الوجودية على انها تؤكد الحرية الانسانية؟ يقول سارتر مخاطبا النقاد: انكم جميعا بحاجة الى هذه الحرية، وما اراكم الا واضعين النقاب عليها مراءاة ونفاقا لانكم تعودون اليها بدون انقطاع رغما عنكم. يقوم احد الناس بعمل شرير فتفسرونه باسبابه وبموقفه الاجتماعي ومصالحه الخاصة وتسخطون عليه فجأة وتؤاخذونه على مسلكه بمرارة. بينما يوجد على العكس اناس اخرون تعجبون بهم وتتخذون افعالهم نماذج تسيرون بموجبها. فماذا يعنى كل هذا؟ هل يعني سوى انكم لا تساوون بين الاشرار وبين دودة الكرم. . ولا بين الطيبين وبين الحيوانات المفيدة؟ انكم تلومونهم او تمدحونهم لانهم كان بوسعهم ان يفعلوا غير ما فعلوه وبذلك تفترضون فيهم الحرية من غير ان تشعروا.
يقول سارتر ان نضال الطبقات حقيقة واقعة لاشك فيها؛ وانه يساهم فيها بصورة تامة. لكن كيف يمكن وضع هذه الواقعة على مستوى غير مستوى الحرية؟ اننا نرى ان الشيوعيين يتهمون سارتر واقرانه ويقولون لهم انكم بافيون الحرية هذه تمنعون الانسان من ان يكسر عنه قيوده. غير ان هذا الكلام يدل على سوء فهم تام للحرية التي ينادى بها سارتر ـ فهو عندما يقول بان العامل العاطل حر لا يعنى بانه يستطيع ان يفعل كل ما يروق له وان يتحول في لمح البصر الى بورجوازي غني مسالم. انه حر لانه يستطيع دائما ان يختار قبول نصيبه باستسلام او ان يتمرد على هذا النصيب. حقا انه قد لا يتوصل الى تجنب الشقاء غير انه يستطيع ان يختار من صميم هذا الشقاء الملتصق به النضال ضد جميع انواع الشقاء، باسمه وباسم الاخرين جميعا. . انه يستطيع ان يختار نفسه كانسان يرفض ان يكون الشقاء نصيب البشر.
فهل سارتر خائن اجتماعي لانه يستدعي احيانا هذه الحقائق الاولية؟ يقول سارتر لقد كان ماركس اذن خائنا اجتماعيا لانه قال: (اننا نريد تغيير العالم)، فعبر بهذه الجملة البسيطة على ان الانسان سيد مصيره. سيكون هؤلاء النقاد جميعا اذن خونة اجتماعيين لان هذا هو ما يفكرون به في الواقع عندما يخرجون من حدود المذهب المادي الذي ان كان قد قدم خدمات لا يمكن نكرانها فانه قد شاخ ولم يعد يصلح لهذا العصر. اما اذا كانوا ينكرون هذه الحقيقة الاولية فسيكون الانسان لديهم شيئا مثل باقي الاشياء تماما. سيكون قليلا من(948/23)
الفوسفور والكاربون والكبريت وعندئذ لن يكون من الضروري الاحتفاء به او الاهتمام بامره.
بعقوبة ـ العراق نهاد التكرلى(948/24)
لبيد يعدد سنى حياته
للاستاذ عبد القادر رشيد الناصري
هذا شاعر جاهلي من الذين يتصف شعرهم بالفخامة والقوة والبداوة، وقلة الحشو وقوة اللفظ، ولد في الجاهلية وعاش حتى ادرك الاسلام فأسلم كما يقول:
الحمد لله اذ لم يأتنى اجلى ... حتى اكتسيت من الاسلام سربالا
اما اسمه فلبيد بن ربيعة من بنى عامر بن صعصعة وهي قبيلة مضرية، واما ترجمته فميسورة لكل اديب، كتب عنه صاحب الجمهرة، والشعر والشعراء، والمزهر، لذلك سنضرب عنها صفحا. ولكن الذي يهمنى هو الوقوف عند شعره الجزل الذي عدد فيه سنى حياته. اذ لا اظن في العربية تطرق الى هذه الناحية عداه.
وقد عمر هذا الشاعر طويلا حتى ان الروايات اختلفت في تاريخ وفاته، فقد قال بعضهم انه عاش 140 عاما وقال بعضهم انه عمر حتى سنة 41 هـ ومات في زمن خلافة معاوية بن ابي سفيان وعمره انذاك 175حتى انه سئم الحياة فقال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وكيف لا يتطرق السأم الى نفس رجل طال عمره الى ما بعد المائة بنصف قرن سبقه زهير بن ابي سلمى فقال يصف سأمه وهو في الثمانين:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا ابالك يسأم
ولبيد هذا ذكره شوقي في رائيته الرائعة عن ابي الهول:
وشكوى لبيد لطول الحياة ... ولو لم لتشكي القصر
وهي قصيدة تعد من عيون الشعر العربي ومن مختارات ابي على بل من افخم ما نظمه في حياته
ولبيد هذا اشار الى منزلته ومكانته في الشعر الامام الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يزرى ... لكنت اليوم اشعر من لبيد
كما نوه باسمه ابو تمام استاذ الشعر حين قال من قصيدة يمدح ابا عبد الله احمد بن ابي دؤاد
ظنوا فكان بكاى حولا بعدهم ... ثم ارعويت وذاك حكم لبيد(948/25)
ان كان مسعود سقى اطلالهم ... سيل الشؤون فلست من مسعود
ومطلع هذه القصيدة:
ارايت أي سوالف وخدود ... عنت لنا بين اللوى فزرود
قلنا ان الرواة اختلفوا في المدة التي عاشها هذا الشاعر وهذا لا يهم ما دام نفسه قد سجل عمره فقد قال وهو في العشرين:
كأني وقد جاوزت عشرين حجة ... خلعت بها عن منكبي ردائيا
واذا علمنا انه في الايام الاخيرة أي بعد اسلامه انقطع عن النظم وانه اقام بالكوفة حتى مات، وعندما وصلت به السن الى العام العاشر بعد المئة قال:
اليس في مائة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر
علمنا صحة ما ذهب اليه بعض الرواة من انه اكمل قرنا ونصف القرن، وهي حياة طويلة بالنسبة لغيره من المعمرين في الجاهلية والاسلام.
فقد قال وسنه انذاك 77 مخاطبا نفسه:
باتت تشكي الى الموت مجهشة ... وقد حملتك سبعا سبعينا
فان تزيدي ثلاثا تبلغى املا ... وفي الثلاث وفاء للثمانينا
شعر جميل بالرغم من وجود اشباع في لفظة تزيدي من صدر البيت الثاني كما يقول العروضيون.
ثم درجت به السنون حتى اشرف على قمة الثمانين فهتف من اعماق قلبه:
ان الثمانين ـ وبلغتها ـ قد احوجت الى ترجمان
يا لله من روعة لفظة وبلغتها، ويالسحر هذا الحشو الرائع!
بالشاعر الارض حتى اشرفت به على التسعين فصاح صيحة المنهوك الحائر:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة ... خلعت بها عنى عذار لجامي
رمتنى بنات الدهر من حيث لا ادري ... فكيف بمن يرمي وليس برامي
فلو اني ارمى بنبل رأيتها ... ولكنني ارمي بغير سهام
الا يرى القارىء هذه الصورة التي وصفها لبيد (رجل اعزل من السلاح يرمي بنبل لا يراها ولكن يحس بوقعها) الا يشعر بالالم؟ الا يستحق الرثاء!! الم تكن هذه السنوات(948/26)
الطوال التي مرت عليه باعبائها واثقالها سهاما قاتلة ولكن غير منظورة!.
اتعجب بعد هذا منه اذا ما ضاق ذرعا بالحياة. . فهتف بذلك الشعر الجزل الحزين؟
وراح الزمن يسير واذا بالشاعر يلتف الى وراء فيرى انه قطع سنوات طويلة حافلة بالعجائب، واذا به كما قلت يصل الى العاشرة بعد المائة فيقول:
اليس في مائة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر
وهو عمر طويل حقا ولكن ما يقول اذاجاوزها؟ اسمه وقد مضت عليه عشرون بعد المئة كما يقول الرواة ـ ولكنه انذاك لا يسجل ـ السنين كما سجلها من قبل يصرخ صرخة: العزاء
ولئن كبرت لقد عمرت كأننى ... غصن تفيؤه الرياح رطيب
وكذلك حقا من يعمر يفله ... كر الزمان عليه والتغليب
مرط القذاذ غليس فيه مصنع ... لا الريش ينفعه ولا التعقيب
ويريد بهذا ان الذي يقطع تلك الفجوة الطويلة من الحياة يصبح كالطائر الذي نتف شعره من جراء كر الزمان عليه وكثرة ما مر عليه من عواصف الحياة، فكيف يستطيع بعد ذلك الطيران؟!
ويقول الرواة او شعره على الاصح انه عندما احس بالموت يدنو منه، وان حياته ستختم. . نظر الى اولاده وهم حوله يبكون فقال:
تمنى ابنتاي ان يعيش ابوهما ... وهل انا الا من ربيعة او مضر
وفي ابنى (نزار) اسوة ان جزعتما
وان تسألاهم تخبرا فيهم الخبر
فقوما فقولا بالذى قد علمتما ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا خليله ... اضاع ولا خان الصديق ولا غدر
الى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
نعم هو من ربيعة ومن مضر، وكيف ينكر الموت وهو الرجل المؤمن الذي يقول عنه الرواة ان رسول الله (ص) قال فيه (اصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد) ويعني قوله:(948/27)
الا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وهو نفسه يقول في شيخوخته:
ان تقوى ربنا خير نفل ... وباذن الله ريثى والعجل
احمد الله ولا ند له ... بيديه الخير ماشاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء اضل
والذي يقول:
وما المرء الا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعدما هو ساطع
وما المال والاهلون الا ودائع ... ولا بد يوما ان ترد الودائع
وما الناس الا عاملان: فعامل ... يتبر ما يبنى، واخر راقع
والقائل يصف الموت ايضا:
وكل اناس سوف تدخل بيتهم ... دويهية تصفر منها الانامل
فهل بعجيب اذن لا يطلب من بنتيه ان لا تعجبا من موته؟
اسمعه وقد سئل عن رأى الناس فقال:
المرء يدعو للسلام وطول عيش قد يضره
= كم شامت بي ان هلكت وقائل لله دره
ولكن ما يهم الميت الذي ينفض الحى ترابه من راحته ان يقول فيه ما يقول؟ اليس الموت غاية الحياة؟ او ليس الناس اثنين اما قادح او مادح.
وبعد هذه كلمة قصيرة ذكرنا فيها طرفا من شعر لبيد الذي سجل فيه سنى حياته، ولبيد هذا من الشعراء البارزين في الجاهلية فقد جاء في الصفحة 297 من الجزء الثاني من المزهر (وسئل لبيد من اشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل ثم الشاب القتيل (طرقة) ثم الشيخ ابو عقيل ويعنى نفسه) وهو صاحب المعلقة الشهيرة:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأيد غولها فرجامها
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زير تجد متونها اتلامها
فرقفت اسالها وكيف سؤالنا ... صما خوالد ما يبين كلامها
ومنا هذا الفخر الرائع يذكرنا بفخرا بن كلثوم. وغير مستغرب من لبيد ان يفخر وهو(948/28)
الشاعر الشريف ذو المجد الاثيل والحسب العريق، ومن الذين لم يكتسبوا بالشعر وهو الذي قال عنه صاحب الجمهرة (كان لبيد جودا شريفا في الاسلام والجاهلية) والتي قالت عنه عائشة رضى الله عنها: رحم الله لبيدا ما اشعره فيقوله:
ذهب الذين يعاش في اكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الاجراب
لا ينفعون ولا يرجى خيرهم ... ويعاب قائلهم وان لم يشعب
فهذا شأن شاعر شريف الا يحق ان يفخر فيقول من ـ المعلقة ـ
من معشر سنت لهم اباؤهم ... ولكل قوم سنة وامامها
فبنوا لنا رفيعا سمكه ... فما اليه كهلها وغلامها
فاقنع بما قسم المليك فانما ... قسم الخلائق بيننا علامها
واذا الامانة قسمت في معشر ... اوفى باعظم حظنا قسامها
قهم السعاة اذا العشيرة افظعت ... وهمو فوارسها وهم حكامها
وهمو ربيع للمجاور فيهمو ... والمرملات اذا تطاول عامها
هذا ما عن لى ذكره ولا اريد ان اختم البحث دون ان اشير الى بيتيه الخالدين:
اهمرك ما تدري الضوراب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
سلوهن ان كذبتموني متى الفتى
يذود المنايا او متى الغيب واقع
ولنا رجعة ان شاء الله الى هذا الشاعر حيث نأخذ شعره وحياته واخباره بالتفصيل.
بغدادعبد القادر رشيد الناصري(948/29)
رحلة الى الحجاز
للشيخ مصطفى البكري الصديقي
للاستاذ سامح الخالدي
ومن باب السلام لقد دخلنا ... واهدينا السلام من السلام
وقمنا عند شباك نزيه ... ودمعى في اشتباك وانسجام الخ
وتذكرت في هذا المقام قول الامام سيدي احمد بن الرفاعي قدس الله سره:
في حالة البعد روحى كنت ارسلها
تقبل الارض عنى وهي نائبتى
وهذه دولة الاشباح قد حضرت
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتى
(ثم صليت تحية المسجد لدى المنبر، وتذكرت قصيدة من نفائس القصائد نقلتها من مجموع جامع، وكان رآها شيخنا الشيخ محمد بن ابراهيم الدكدكجى، فاخبرني ان جناب شيخنا الغنى بربه، سمع في زيارته منشدا لها على سدة الحرم النبوي والمسجد، فاجرت المدامع كالسحب الهوامع، فطلبها ليثبتها في رحلته الكبرى، فلم يجب الطلب، والقصيدة هي:
يا عين هذا السيد الاكبر ... وهذه الروضة والمنبر
فشاهدى في حرم المصطفي ... من نوره الساطع ما يبهر
(وعطفنا بعد هينة على زيارة بقيع الفرقد، وصرنا بعد الزيارة والطواف على من حل فيه من اهل الاشارة، نتردد على الحرم المنير، وكانت ليلة دخولنا المدينة الثلاثاء واقمنا الاربعاء والخميس، وذلك الخامس والعشرون من ذي القعدة، ولم يتيسر لى المبيت في حرم الثبيت الا ليلة الحبور، ولذا سميت بالخميس، وبعد ان صليت العشا جلست في الروضة الجنانية، مواجها للحجرة الشريفة الامانية، وختمت كتاب الادلائل، وصليت ما تيسر، تقدمت الى ما بين الاسطوانتين، مستقبلا للوجه الازهر، ولم اتقدم الى الشباك، واستأذنت في عرض (ورد السحر) على اسماعه الكريمة، فأتمته وانا بين يديه واقع، وكنت اذ ذاك وحدى، وتقدمت يسيرا لقبالة وجه جدنا الاعلى الصاحب في الغار، فعرضته عليه، وواجهت وجه سيدى عمر بن الخطاب وكررته على اسماعه، ثم(948/30)
اتيت باب جبريل، واعدته، ثم بيت الزهراء اتيت، وبالباب صاغرا وقفت وقرأته راجيا بشفاعة السيدة الفاخرة فاطمة، وفي الحديث الذي رواه الديلمي عن ابي هريرة عن المختار: (انما سميت فاطمة، لان الله فطمها ومحبيها عن النار) وجعلت هذه التلاوة الجامعة، وقبيل الاتمام اذن المؤذن الفجر، فاسرعت وشرعت فيه مغتنما للاجر، وقد ذكرت في اوائل شرح هذا الورد المسمى بالضيا الشمسي على الفتح القدسي بعض ما وقع لنا ولاخواننا في التلاوة وغيرها ما يبشر نفوس الملازمين عليه بحسن سيرها. . وعدنا للخيام، والعين عن هذا السير نيام، وكررنا العود لاحمد الخلق احمد، وهو كما قيل للمحمود احمد.
(ولما دخلت ليلة العروبة بت في الحرم ايضا، راج كما عودت فيضا، وبعد صلاة العشا، غلب وارد النوم، ثم كريت في الصباح، على زيارة اهل البقيع الصباح، وبعد صلاة الجمعة عزمنا على السير فودعنا حجرة من اودعنا القلوب لديه، ولو استقصينا ما ورد في فضل المدينة ومسجدها وروضة البقيع ورقعته، ومساجدها الرفيعة، ومعابدها المنيعة، وجبالها المرغوبة، واوديتها المحبوبة، لا تسع المجال والوارد، في هذه المصادر والموارد، وقد افصح بعض افصاح، الحافظ ابو عبد الله محمد النجار صاحب (الزواهر والجواهر الثمينة، في كتابه (النزهة الثمينة في اخبار المدينة)
وكم رمت مدحا في الجناب المحمدى
= فما طاوعتنى من مهابته يدى
وكريت بالمداح في الذات اقتدى
= لعلى ان انجو بذلك في غد
ورحم الله احمد بن محمد من اهل غرناطة، حيث يقول:
اروم امتداح المصطفى فيردنى
= قصورى عن ادراك تلك المناقب
ولو ان كل العالمين تألفوا
= على مدحه لم يبلغوا بعض واجب
فأمسكت عنه هيبة وتواضعا(948/31)
= وخوفا واعظاما لارفع جانب
ورب سكوت كان فيه بلاغة
= ورب كلام فيه عتب لعاتب
(وكنت وانا في المخفة، المثقلة بغفلاتى، فهى غير مخفة، اتسلى ببعض كتابات في مدح سيد الاكوان).
وبعد ان ودعنا اماكن نورها نابغ، وصلنا منزل (رابغ) واحرمت بالحج، وسبقنا الحج المصري الى بدر، وابتدرنا المسير بعدهم بيسير أي بدر، واهديت شهدائنا الفواتح، وسرنا الى وادى فاطمة، ولم نشعر الاوقد اشرق النور، وقد اتينا البيت العتيق نزور. وكان نهار يوم الاربعاء، والمبيت (بمزدلفة) ليلة الخميس. ولما اتينا (منى) رمينا الجمرة الاولى، ثم ذبحنا وقربنا وحلقنا الشعور، واجتمعنا ثاني يوم عند رمى الجمرة الثانية بالصديق الاوحد السيد محمد بن السيد احمد الثافلاتى (مفتى الحنفية بالقدس) فلما رايته طرت به فرحا، وسرت به الى الخيمة منشرحا، واقام هينة وسار، ولم ابلغ من الجمعية به الاوطار. وبعد ما رمينا الجمرة الثالثة، سرنا بعيون فياضة، وادينا واجب طواف الافاضة، واجتمعنا ثاني يوم القدوم بالسيد المذكور المعلوم، في الحرم تجاه البيت، وعرضت عليه قصيدتين كتبتهما في ذلك المجلس في كتابين وارسلتهما لبيت المقدس، ليقف عليهما ارباب اقتراب نفيس، فانحظ بهما، وسالته ان يرفقنى الى القاهرة لانشق عرف مآثره الفاخرة، فابدى اعذارا فلم تقبل ذلك منه نفسي، لانها قاسته عليها كما قسته بابناء جنسي، واذا الامر بخلاف هذا المفهوم، لما تحققت وشاهدت في بلاد الروم.
(وكنت اجلس في المقام الحنفي واتملى بانوار البيت الشريف الوفي، وكنت اتردد على الحرم اوقات الصلاة، متى سمعت المؤذن حيعل ولعل حجازا بادرت مجيبا، اذ نغمة اهل تلك الاماكن نغمة مترقبة تحرك من الحب السواكن، وما احلى همهمة الزمزى اذ يدمدم بتلك الزمزمة، وكان اول من وضعها من جدودها وبقيت في الذرية).
(وقد بت ليلة في خلوة قريبة من الحرم، فايقظنى رفيقي برفق وقال: قم فان الباب فتح للامير الشامي الكبير، فبادرت للطهارة لالحق الدخول، فقفل الباب، فبكت النفس عليه لا(948/32)
على حومل والدخول، ثم سليتها ومنيتها ليذهب الحزن عنها، بان بعض الحجر من غير شك منها، فدخلته والتزمت البيت التزاما، ووقفت تحت الميزاب اجرى الدموع انسجاما.
(وقد اردت العمرة؛ فمنعتنى من الذنوب الغمرة، وتوجهت مع صويحب لي لزيارة سيد سمي جعفرا، فرايت صدرا رحيبا ودرا مصيبا، ولم اجتمع بالشيخ محمد عقيلة، الدرة العقيلة، لان الاجتماع العيني الجسمي، تابع للتعارف الغيمي العلمي الاسمي، والسيد جعفر المذكور، له قدم صدق مذكور مشكور. وقد بشر بحصول الالطاف وحباني بعد ان حيانى بعد عطفه، ودعا دعاء يملا الاناء، وودعته منصرفا، وبفضله معترفا ومنه مغترفا).
(وفي ثاني يوم ودعنا البيت الشريف المحمود، ونزلنا مع رفاقنا الكرام (في الشيخ محمود) ولما طفت طواف الوداع، طفت الدموع ولها على الخدود اندفاع. وقلت:
طفت الدموع على الخدود سراعا ... لما فتحت من الوداع شراعا الخ
(ولما مللت تلك الديار المبرقة التي شموسها مشرقة، وطوسها حارقة للنفوس وللحجب خارقة، بادرت الى الزيارة الجامعة لكل بارقة، اللامعة اضواؤها بكل طارقة، وعند الوصول الى الوصول المأمول في السابقة والاحقة، جرت خيول سيول دموع دافقة.
ولما سكن القلب انشد:
سكن الفؤاد فعش هنيا يا جسد ... هذا النعيم هو المقيم الى الابد الخ
وفي ثاني يوم، عمت في بحر الزيازة البقيعية أي عوم؛ وبت في الليلة الثالثة من القدوم في الحرم.
الامير يعمل مولدا وبفرق الدنانير:
وكان الامير (أي امير الحاج رجب باشا) عمل مولدا بين العشائين، وبت في الخدم دنانير الكرم.
وكان يتردد على احيانا صديقنا الواعي، سيما عند الطواف
بالبيت الجميل المساعي، الشيخ محمد البقاعي، حباه الله
البواعث والدواعي؛ فقلت في سرى ولم يشعر بما فيه زرى،
مخاطبا السيد الاعظم ذى الكوكب الدرى، يا سيدي ان كان(948/33)
لمحمد في اخذ الطريق خيره بها لا يدري، فسقه الام وحرك
سره واثلج للعطاء صدري، فرايته قام من مجلسه وامنى،
وجلس بين يدي وصافحنى، وطلب تخذ العهد، ولم يكن لد
بذلك من عهد، فامرته ان يجدد الطهارة وياتى قبالة الشباك
الرفيع، ويستغفر مئة مرة ويصلى ويسلم كمثلها على خير
شفيع، ثم يستأذن فيما اليه قصد، وينظر ما الذي يرد على قلبه
بعد ما للوارد رصد، فعاد واسره وجهة تبرق وقال وقد انشرح
صدري، فاجبته ولم اطرق وبات عندى، واكات في ليلة عيدى
قندى، ولم اقم من منامى، الا قبيل الفجر لقلق طفح به جامى،
ومذتذكرت الفراق الذي يتحصن منه بالف راق، طار لي
وطاش عقلي واندهش الفؤاد، الجامع من وديان الحب على
الف وادواذهب التذكار للبعد السرور والحبور والفرحا،
ورايت ثقله على قلب الشفوف ينوف الف رحى، واستوحشت
لنزل قرب الفنا به، ما يعجز عن حصره وعده الف نابة،
وقلت وقد عضنا البعاد بنابه، ليت ما حل بنابه:
يا سادة قلب المشوق اراعوا ... بوداعهم والسر منه اذاعوا الخ
(وقد نص الخواص ومنهم الخواص ان خلع القبول، لا تخلع على الحاج الا عند الرسول، ليزداد منه السرور، فيقول السعى المشكور ولا بد للزائر من اكرام، وهذه الخلعة نهاية(948/34)
الانعام. وفضل الزيارة، احاديثه انجم سيارة، وفي بعضها: (ومن لم يزرني. . وفي اخرى بزر قبرى فقد جفاني) فحق على وان كنت المتواني ان اسعى على اجفاني.
وذكر بعض اهل الكشف الرباني، ان المجاورة في المدينة لا يقدر عليها الا الاقوياء من كل دانى، لفرط ظهور النور المحمدى، في ذلك المقام الاوحدى، وما احق بيت ابي الطيب، ان ينشد عند فراق ابي الطيب:
يا من يعز علينا ان نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
وقوله:
لولا مفارقة الاخيار ما وجدت ... لها المنايا الى ارواحنا سبلا
وقصيدة السباق في ميدان السباق، سيدي محمد البكري، ومطلعها:
يا رائحا نحو الحجاز ميمما ... يطوي الفلا بنجائب ونياق
ليلة الخيام:
وفي الليلة الرابعة بت في الخيام، وكانت تلك الليلة ليلة الختام، فايقطت سحرا ابن عمى، وجئت للحرم، مودعا فزال غمى، وقرات ورد السحر كما فعلت في المرة الاولى، وتقدمت بعده لمواجهة الشيخين راج ان امنح سولا. ودعوت بما اجراه قلم التقدير، على لسان الفقير وقبل اتمام المرة الثانية صاح صائح الفجر، بعدما لاح لائح الاجر، فركعناه جماعة ثم سرنا بعد ساعة للبقيع، وقد هالنا الوداع الفظيع، ثم عدنا للخيمة المظلة، ولم نطف غلة الفراق المطلة.
هد الخيام:
ثم لما هدت الخيام، وعزم الحج على المسير، جون قيام اسرعت لتوديع المقام، واطلت الاقامة حتى كاد ان تفوتنى الرفاق الكرام، وتذكرت قول شيخنا المقدام الشيخ عبد الغنى (النابلسي):
يا بني الهدى اليك اعتذاري ... انني من هواك في الارض سائح
لم يطب غير طيبة لفؤادى ... انا منها اشم طيب الروائح
كيف تبرى جراحتى في بلاد ... لحيبيى ثرائها المسك فائح
اجتماع برجل مصري صالح:(948/35)
وكنت اجتمعت في الروضة الشريفة اللماعة، يوم العروبة ونحن منتظرون صلاة الجمعة الجماعة، برجل مصري عليه هيئة العز، وهيبة الصحا اهل العز، فسالنى عن الاسم والبلد والاهل والوطن والمولد فاجبته وسالته عن مدة الاقامة في جوار صاحب العمامة، والغمامة فاخبر انها عد جيب فهى هي، وصيب الحب يبتدي فلا ينتهى. فغبطته وسالته ان لا ينساني. وكنا صلينا الجمعة ونحن متوجهون للحرم المكى والخطيب في الكرتين واحد. وكنت اسمع خطيبنا يقول (يا سعد زوار الرسول) اذ يقول خطيبهم مظهرا بقوله استلذاذا قال نبيكم هذا، فلم اسمع هذه المقالة من الخطيب ثم رجعت مفكرا عن السبب فاذا هو مصيب، فان الحاضر وان اشير اليه بهذا لا نرى حسنا قولنا في حضرة سلطاننا قال ملكنا هذا وربما لو سمعناه من غيرنا نقول هذا هذا، ونحمل حال من قال، على مقام الادلال.
(ولما جرى في وادى العقيق عقيق الدمع العقيق، وخلفت جباله خلفي جعلت النوم خلفي ولم نزل نحنى الكف، بدمع قانى عن وكفع ما انكف، الى ان وصلنا (العلا)، وخاف الحاج من عدم وجدان الجردة الغلا، وامسينا نضرب حيرة لا خديعة للاسداس، وقد وفد علينا جيش الوسواس، فبذا نحن في وهم والتباس، وقد التقى البطان والحقب معا من الباس، اذ سمعنا صوت كاس، فتباشر الناس، وهاجموا وماجوا واخذوا بايمانهم اكواب ايناس، ولما تحققوا بقدوم اكياس تقتبس منهم نبراس اخبار نفاس عن اهل واوطان فتراجع احساس واجتمع كل ناس بناس، وزالت الوحشة ووقع البسط بلا قسطاس، وجئنا قلعة (تبوك) وثوب الصفا محبوك.
في محطة المست، سقوط الامطار، واضطراب الناس:
وما برحنا نقطع السباسب والقفار بدون اسا، حتى وصلنا لمحطة (الحسا) فلما سرينا منها سح السحاب، واضطرب الناس أي اضطراب، وحصل نقص في الجمال لموجب الفسخمن الاوحال، وسقط كثير احمال؛ وكان يوما عبوسا، لكن كفانا مولانا منه بوسا وحفت بنا الطاف مددها وافى بسبب ذكر اللطيف والحفيظ والكافى. ودخلنا الشام في صحة وانعام، في السابع والعشرين من محرم. الحرام عام (1131 هـ) احسن الله منها الختام.
سامي الخالدي(948/36)
ليلة حمراء
للاستاذ ابراهيم محمد نجا
قضيتها ليلة حمراء عاصفة ... قضيت فيها لباناتى واوطارى
دخلت مخدعها الوردى فاشتعلت ... في القلب نيران اشواقى وافكارى
رايتها في رداء الليل فاتنة ... سيان في جسمها المكسو والعارى
ترف من حولها الازهار نادية ... تضم احلام قلب واله وار
وبرقص النور اطيافا معطرة ... كانها قبلات الكوكب الساري
لما راتنى وفي عيني امنية ... للصمت يكشفها، والمدمع الجاري
رنت الى بطرف عابث غزل ... معربد ذي احاديث واخبار
واومأت لي بنهد لابنى ابدا ... يعنو كطفل، ويستعلى كجبار
كانه رغبة حمراء والهة ... تجسدت، فتوارت خلف استار
لكنها حينما اوشكت الثمها ... وكدت اقطف منها بعض اثمار
تمنعت والغوانى شانها عجب ... في الحب ما بين ايسار واعسار
تقول: حسبك ما ابصرت من ثمرى ... فاذهب ودعنى؛ فقد هتكت استارى
فقلت: رحماك انى معرم كلف ... دامى الفؤاد، غريب، نضو اسفار
لم تشد في دوحة الايام اطياري ... ولم ترف على الافنان ازهارى
قضيت عمرى اغنى للجمال سدى ... حتى تحطم في كفى مزمارى
وكلما خلت انى قد ظفرت به ... ولى وادبر عنى اى ادبار
عشرون عاما مضت صحراء قاحلة ... لا تبصر العين فيها طيف انهار
ماتت على رملها الاحلام وانبعثت ... كتائب الياس تسرى كالردى السارى
فلا الربيع جميل في مسارحها ... ولا الشتاء لذيذ الدفء في الغار
ولا الصباح غناء الطير رنحها ... مر النسيم على غناء معطار
ولا المساء رجوع الطير تدفعها ... ذكرى ليالى الهوى في جوف اوكار
قد عشت فيها غريب الروح يقلقنى ... دهرى بكأس من الحرمان موار
واليوم جئتك روحا صيغ من لهب ... لا يستقر، وجسما صيغ من نار(948/37)
وجئت بابك ضيفا يبتغى نزلا ... له. . . فاين حقوق الضيف والجار؟
* * *
يا هند لوعنى دهرى وحيرنى ... واننى اليوم ابغى الاخذ بالثار
رضيت بالياس زادا ليس ينفعنى ... والياس زاد محب غير مختار
يا هند انى لظمان الحشا قلق ... وانت يا هند. . انت الجدول الجارى
يا هند انت كتاب الحسن سطره ... رب الوجود. . وانى وحدى القارى
انا الهزار حياتى كلها نغم ... موله وقمته كف اقدار
انا المحب حياتى كلها شغف ... يسرى بجسمى كنار او كيتار
انا الغريب حياتى كلها قلق ... كاننى زورق في كف اعصار
تهتز كاسى بدمع الياس مترعة ... ما ضر لو ملئت من خمر عصار؟
انى فتى عشق الاحلام ساحرة ... فليس يتركها الا بمقدار
ارعى نجوم الليالى وهى ساهرة ... وما نجوم الليالى غير سمارى
* * *
اشكو اليها عشياتى التي ذهبت ... سدى فتملا بالاحلام اسحارى
وهبت للحسن ايامى واعمارى ... فضيع الحسن ايامى واعمارى
وعشت للحب لا ابغى به بدلا ... فالحب اغنيتى، والحب قيثارى
كان قلبي اذا ما الحب عانقه ... فراشة تتغنى بين انوار
لا اشتهى غير قلب صيغ من شغف ... يحنو على، ويمحو طيق اكدارى
وليس في الكاس من خمر الحياة سوى ... بقية احتسى منها بمقدار
غدا سامضى، فلا الانوار راقصة ... حولى تعانقها انغام اوتارى
غدا ستبكى الليالى وهي قاتلتى ... ويسال الدهر عنى وهو حفارى
غدا تقولين: كم اشجى باغنية ... ارق في السمع من انغام اطيار
واليوم لم يبق من هذا الغناء سوى ... نوح الحمائم في افنان اشجار
غدا يوروننى والدمع يغلبهم ... حاشاك الا تكونى بين زوارى
يا هند حسبى انى عشت منفردا ... كما يعيش سجين بين اسوار(948/38)
وليس في الحب او تدرين من حرج ... يا اخت روحى ولا في الوصل من عار
فنولينى الذي ابغيه من زمنى ... ولا تخافى حديث العائب الزارى
للناس فلسفة حمقاء جاهلة ... ولست ابصر فيهم غير ثرثار
فاذعنت، ثم لانت، ثم ما فتئت ... حتى انالت جناها كف ستار
فرحت املا عينى من مفاتنها ... والمس الجسم منها لمس اوتار
اهيىء الشعلة الحمراء في جسدى ... ويستمد فؤادى وحى اشعارى
حتى انثنيت وفي صدرى معربدة ... هوجاء تهدر فيه اى تهدار
اضمها ضمة المشتاق روعه ... قرب الفراق، وبعد الاهل والدار
الصدر للصدر يشكو حر لهفته ... والثغر للثغر يشكو حرقة النار
حتى ارتمت في فراش الحب شاكية ... كزهرة الروض تشكو مس اعصار
فبان من جسمها ما كان مستترا ... ولا تسلنى. . . فتلك اليوم اسرارى
ابراهيم محمد نجا(948/39)
الادب والفن في اسبوع
للاستاذ عباس خضر
ما قولكم في (فتوى كولا)؟
قال الرواى. . . وجاء الشيخ محمد عبده من الشام الى مصر لابسا (ككولا) فهبت عليه عاصفة الازهريين وافتوا بان ارتداء هذا الملبس الذي يسمى (الككولا) حرام! ونشبت يوم ذاك معركة حامية دارت رحاها حول (الككولا) وحكم لبسها في الشرع: اهو حلال ام حرام. .
روى لنا الرواى ذلك الذي حدث في مصر منذ عشرات السنين، بمناسبة الفتوى التي اصدارها بعض كبار العلماء في شان (البيبسى كولا) مفتيا بانها من طيبات ما احل الله. . .
ولعل الذي ربط بين الحادثين، فجعل هذا يذكر بذاك ان كلا من موضع الفتوى فيهما ينتهى بلفظ (كولا)، وان كان هناك فروق بينهما، فـ (الككولا) قيل انها حرام وان صارت فيما بعد حلالا ولبسها الازهريون عامة ولبسوا اكثر منها. . . و (البيبسي كولا) هاهى ذي يقال انها حلال ولم تنته المعركة بعد، ولسنا ندري عم تتمخض؟
ولكن متحدثا اخر في المجلس يكاد ينبه الى امر اخر يربط بين الحادثتين، فيقول: اقد فرغ علماؤنا الاعلام من كل ما يرجى منهم في الامور الخطيرة بهذا البلد الحافل بالسيئات فلم يبق امامهم الا (البيبسى كولا)، ولم يكن يبقى امامهم الا لبس (الككولا)؟ الا يدل ذلك على انهم لا يتصدرون الا في (الهايفة)!
ثم لننظر في الفتوى التي اصدرها فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف (عضو هيئة كبار العلماء ومفتى الديار المصرية سابقا) مبينا فيها حكم الشرع في شرب (البيبسى) قائلا بانه حلال، وقد نشرت صورة فضيلته مع الفتوى في مختلف الصحف.
لا اريد ان اتعرض للفتوى في ذاتها، فهى تافهة، اذ كل ما فيها من فقه ان ثلاثة من الشتغلين بالتحليل الطبي قالوا انها خالية من المواد الكحولية والمواد المخدرة ومادة (البيبسين) المستخرجة من معدة الخنزير، فهي اذن حلال. وكل مسلم يعرف انه متى ثبت ذلك فلا بد ان تكون حلالا!(948/40)
انما اريد ان اشير الى ملابسات في تلك الفتوى لاصل الى امر معروف بالبداهة. . وصبرا ايها القارىء الكريم، فيظهر ان بعض البدهيات يحتاج الى تبين وتدليل! وتلك الملابسات هي:
1ـ نشرت الفتوى في عدد من الصحف ومعها صورة فضيلة الشيخ الاعلانات
2ـ نشر قبلها اعلان يتضمن نفس التحليلات الي قال فضيلة الشيخ في التمهيد للفتوى انها وردت اليه
3ـ قال فضيلة الشيخ في اول فتواه: (تلقيت كثيرا من الرسائل يستفتينى اصحابها عن شراء البيبسى كولا. . الخ) فلماذا قصر الاستفتاء والافتاء على (البيبسى) ولم يشملا (الكوكا) و (الزمبا) مع ان الشبهة في الثلاثة واحدة؟
4ـ كتب تحت العنوان في وصف فضيلة الشيخ (عضو هيئة كبار العلماء) ولابد ان شركة (البيبسى كولا) لا تعلم ان كلمة (هيئة) قد استبدل بها (جماعة) من زمان
5ـ جاء في الفتوى ان تلك الشراب (مستحضرات نباتية بحتة) وهي عبارة اعلانية معروفة، وقد تكرم فضيلته بزيارتها على ما جاء في تحليلات المختصين فمم عرف ان (البيبسى كولا) مستحضرات نباتية بحتة وفضيلته ليس محللا كيميائيا وانما هو (محلل شرعي) فقط. .؟
من ذلك كله نعلم ـ وان كان هذا العلم بدهيا كما قدمت ـ ان الفتوى نشرت على انها اعلان من شركة (البيبسى كولا) دفعت الشركة ثمنه للصحف بطبيعة الحال لان اصحابها ليسوا ممن يبتغون الثواب عند الله بعمل المعروف للشركات. . ولا ادري شيئا من ذلك بالنسبة الى فضيلة الشيخ مخلوف، ولهذااوجه الى فضيلته والى غيره من اهل العلم الاستفتاء التى بهذا النص:
ما قولكم دام فضلكم فيمن يكتب فتوى دينية لتنشر اعلانا عن شىء؟
واوجه الاستفتاء بهذا النص، فلا شان لنا بمن ياخذ ثمن الفتوى.
ولمن يفتينا الاجر والثواب من الله تعالى، فسنعلم ان كان ذلك غير جائز شرعا انه كذلك، وان كان جائزا اضفناه الى بابه في الفقه باعتباره من المستحدثات العصرية البحتة. . .
الداء والدواء:(948/41)
كانت وزارة الشؤون الاجتماعية خصصت في ميزانيتها خمسة الاف جنيه لمكافأة احسن ثلاثة افلام في العالم، فلما عرضت هذه الميزانية على مجلس الشيوخ قرر حذف هذا المبلغ منها، ذاهبا الى ان الارشاد الاجتماعي عن طريق الشينما في صورتها الحالية غير مجداطلاقا.
وهذا صحيح لا شك فيه، بل الأمر على العكس، فالسينما كما هي الآن وسيله للإفساد الاجتماعي. . فكيف يقر البرلمان هذا الإفساد ويوافق على ان تكافئه الدولة؟
وليس بغائب عني ان وزارة الشؤون الاجتماعية إنما تريد استجابة الداعين الى هذه المكافأة بقصد ترقية الأفلام، أي أنها تثيب الإنتاج القيم وتشجعه.
ولكن مجلس الشيوخ نظر من زاوية الواقع السيئ ولعله لم يجد أمامه طريقة مرسومة تضمن صرف المكافآت المطلوبة إلى أفلام تتوافر بها صفات وعناصر معينة، من لون آخر غير هذا المتفشي.
والواقع السيىء أو الداء المتفشي، هو اللجوء الى اجتذاب الجماهير إلى الوسائل المثيرة للغرائز: من رقص خليع وأوضاع فاضحة، وغناء مريض، وكلمات نابية، وكل ما عدا ذلك إنما هو في خدمة هذه الوسائل وإظهارها، فالقصة والحوار والأغنيات وغير ذلك، تتجه إلى هذا ((الرقيق الفني))
ومفهوم طبعا ان اهداف الفن الحقيقية بعيدة عن تلك المقاصد
ولكن ما العمل؟
أقول أولا: إن نفوس الناس تشتمل على ناحيتين: أحدهما غريزية حيوانية، والأخرى إنسانية رفيعة، والناس يستجيبون لإثارة الناحيتين. فصناعة السينما عندنا الآن تثير الناحية الأولى وعندنا أشياء اخرى غير السينما تسلك هذا السبيل لجلب ((الزبائن)) منها بعض الصحف والمجلات، وكلها تعتمد على هذه الوسائل لستر الفقر الفني والموضوعي وانعدام الشعور بتبعة ((الرسالات))
وهذا العمل يطغى على كل عمل موضوعي يرضي الإنسانية الرفيعة ويراد منه إحياؤها في نفوس الناس
والدولة من واجبها تنضيم الحياة الإنسانية في أغراضها البعيدة، كما تنظمها في مظاهرها(948/42)
القريبة، فهي تمنع وسائل الكسب الحرام كالسرقة والغش والاحتيال وما إليها، لتمنع الإضرار بالناس وتحمل الأفراد على سلوك الطريق المستقيم في كسب العيش، فواجبها كذلك أن تضرب على أيدي العابثين بالفنون والمنحرفين في قيادة الرأي العام، وتمنع عبثهم وانحرافهم من إفساد المجتمع، وتمكن بذلك لذوي الشعور بالتبعات القادرين على الإنتاج الموضوعي الذي ينفع الناس ويغذي الناحية الرفيعة في نفوسهم.
وليس سبيل ذلك إعانات تقرر، لا ندري كيف ستوجه، وليس سبيله ان تتدخل في الإنتاج من حيث الإرشاد والتوجيه، كما نسمع من يقول بذلك أحيانا، فقد دلت التجربة على جهل الموظفين الذين يتولون ذلك.
إنما السبيل ان تمنع الحكومة وسائل الإغراء المفسدة، وهذا هو كل شيء في نظري. . فإن ذلك المنع يقطع الطريق على أولئك العابثين الفارغين، لأن انتاجهم سيخلو مما يغري الناس ولا يبقى فيه فن صحيح ولا موضوع قيم، فيضطر الجاهل منهم إلى أن يبحث له عن مرتزق آخر أو يعود إلى مرتزقه الأول قبل ان يصطنع وسائل الاتصال بالجمهور! والقادر على العمل المجدي لا يجد له إلا العمل المجدي ولو كان ربحه قليلا. وعندما يظهر الميدان ينزل إليه الشرفاء المنقبضون.
ذلك هو كل المطلوب من الحكومة لترقية الفنون في هذا البلد، على ان تكون جادة وحازمة فيه، فتشرع له وتسن القوانين الرادعة، ولا يقتصر الأمر على التصريحات التي تلقى إلى الصحف على أثر كتابات وشكايات، والتي لاتزيد دائما على ان تكون حبرا على ورق
يقرأ وهو نائم:
هو الأديب حلمي إبراهيم محمد الساوي، يقول في رسالته إلي: ((لقد بلغ بي حب الأستاذ صاحب العزة الزيات بك الى حد أني أقرأ له في المنام كما أقرأ له في اليقظة، فقد سمعني احد الأصدقاء وكان يبيت معي ـ أقرأ مقال (الإسلام دين القوة) ومقال (ثوروا على الفقر قبل ان يثور) ومقال (أدب المجنون) ومقال (تحية أبطال الفلوجة) فدهش وأخذه العجب. . . وانتظر حتى انتهيت من القراءة فأيقظني وقص علي، فقلت إنني يا صديقي عاشق من عشاق الأدب فلا غرابة في ذلك، وأنشدت الأبيات الآتية تحية للزيات الأمير
وبلى ذلك قصيدة عصماء في مدح صاحب ((الرسالة)) لا نستطيع نشرها عملا بما جرى(948/43)
عليه أستاذنا من الامتناع عن نشر ما يمدح به في الرسالة، وما زلت اذكر موقفه من الشاعر الراوية المرحوم أحمد الزين، إذ أنشأ الشاعر الراحل قصيدة في تحية الأستاذ الزيات بك والإشادة بأدبه لمناسبة ظهور أحد مؤلفاته، وكان الأستاذ الزين من المشغوفين بكتابة الزيات، وكان يترنم بفقراتها كما يترنم بالشعر الجيد على طريقته التي يعرفها أصدقاؤه. ومما يذكر بذلك أن الزين كان إذا أراد أن ينظم شعرا مهد للدخول في جو الشعر بترنمه ببعض الأبيات التي يستعذبها وبعد ذلك لا يشعر بما حوله حتى يفرغ مما يقول. وأذكر أيضا أن كنا في لجنة التأليف والترجمة والنشر في إحدى الندوات التي كانت تنعقد بها في أمسيات أيام الخميس، فرغب أحدهم إلى الأستاذ الزين أن ينشد مترنما على طريقته تلك، فأبى لأنه لم يكن يفعل ألا إذا انبعث من تلقاء نفسه في خلوته أو مع بعض خاصته. فأراد الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف بك أن يداعبه فقال: إن صوت الأستاذ الزين أجمل من صوت أم كلثوم! فغضب الزين من هذا التشبيه، ولم تنبسط نفسه حتى ترضاه الأستاذ خلاف.
نعود بعد ذلك الاستطراد أو تلك (الدردشة) إلى موقف الأستاذ الزيات من قصيدة الزين، فقد أبى نشرها في الرسالة على الرغم من إلحاح الزين ومحاجته بأن ذلك من حقه، لأن الرسالة ملك أدبي عام. . وأظن أن تلك القصيدة نشرت في ((الثقافة))
رحم الله الزين، وعذرا لأديبنا ((الساوى))(948/44)
تاريخ العرب قبل الإسلام
تأليف الدكتور جواد علي
للأستاذ حمد الجاسر
هذه باكورة من بواكير ثمار ((المجمع العلمي العراقي)). وخير بواكير الثمار ما سد فاقة، وجاد في إبان الحاجة إليه. ولقد كانت ((المكتبة العربية)) مفتقرة إلى كتاب شامل مفصل لتاريخ الأمة العربية، في الأحقاب التي تقدمت عهد ((الرسالة)) يجلو غامض تاريخها السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، لأن مؤرخي هذه الأمة قد عنوا بتاريخها من ذلك العهد، وما حوله وما بعده، وتركوا الهوة السحيقة التي سبقته مجهولة المعالم، خافية الصوى، وعرة المسالك، إذا رام سالك التوغل في بيدائها وجدها كمفازة أبي الطيب:
يتلونالخريتمنخوفالتوى فيها كما تتلون الحرباء
غير أن حضرة الأستاذ العلامة الدكتور ((جواد علي)) أمين سر ((المجمع العراقي)) جاز تلك المهامة جوزة الرائد، وعاد منها عودة الفائز، فأتحف الباحثين من أبناء العروبة وغيرهم، المتطلعين إلى من يجلو لهم من خبرها اليقين، المتعطشين إلى الارتواء من مورد معرفة احوالها في تلك الغعهود القديمة، بكتاب قيم هو ((تاريخ العرب قبل الإسلام)) الذي قام ((المجمع العراقي)) بطبع الجزء الأول منه في مطبعة التفيض ببغداد سنة 1370 - 1951، فبلغ 417 صفحة، سوى الرسوم الأثرية والمصورات الجغرافية التي نافت على العشرين.
يتحدث حضرة المؤلف الفاضل في كتابه قائلا: (هذا كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام جمعت فيه قدر طاقتي كل ما استطعت أن اجمعه من تاريخ أهل الجاهلية، شرعت فيه سنة 1936 أيام دراستي للهجات العربية الجنوبية، وتاريخ العرب قبل الإسلام على المستشرق ((شتروتمن)) في جامعة ((هامبرك)) بألمانية، وانتهيت منه على هذه الصورة في سنة 1950، ولا أقصد أنني انتهيت من تاريخ الجاهلية، فان هذا الموضوع في رأيي بحر لا ساحل له، وأنا ما برحت واقفا عند طرفه. . وصنيعي هذا هو صنيع رجل طالب للبحث. . وهذا مما سوغ تسرعي في إخراج هذه الأوراق وإن كنت لا أبرىء نفسي من الأغلاط التي قد تكون فيها، وهي غاية جهدي ومنتهى اجتهادي، والمجتهد ان أصاب فله أجران،(948/45)
وإن أخطأ فله أجر. . وبعد فالكتاب يتألف من أقسام ثلاثة، تناولت في القسم الأول منه الحالة السياسية للعرب قبل الإسلام_وهو هذا القسم الذي أقدمه، ويقع في أجزاء_وتناولت في القسم الثاني الحالة الدينية، وفي القسم الثالث الحالة الثقافية، وحضارة شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام)
ويحوي هذا الجزء فصولا خمسة، الفصل الأول (من صفحة 6 إلى 85): الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي. يحدد المؤلف في هذا الفصل معنى كلمة ((الجاهلية)) ثم يوضح المصادر التي يستقي منها ذلك التاريخ وهي - عند المؤلف
النقوش والكتابات القديمة
كتب اليهود كالتوراة والتلمود ونحوها
الكتب ((الكلاسيكية)) والسريانية ونحوها
المصادر العربية وهي القرآن الكريم، والتفسير، والحديث، والشعر
وفي الفصل الثاني (86 - 147) شبه جزيرة العرب، حدودها، وتكوينها الطبيعي، ومعادنها ونباتاتها وحيواناتها وأقسامها، ويتحدث المؤلف في الفصل الثالث (148 - 219) عن صلات العرب بالساميين، فيعرف الساميين، ويحدد موطنهم ويتكلم عن موجاتهم ولغتهم وعقليتهم، ثم يعود إلى تحديد كلمة ((العرب)) ويتبع ذلك بالكلام على الأقلام واللغات العربية. ثم يسهب المؤلف في الفصل الرابع (220 - 374) في الحديث عن طبقات العرب وأنسابهم، فيتحدث عن العرب البائدة، وعن القحطانيين ثم عن العرب المستعربة، ثم ينتقل إلى الكلام عن ((الدراسات الأنتروبولوجية)) ثم يتكلم عن الأنساب، فالقحطانية والعدنانية)) ثم يشير في اثناء الكلام على دراسة أسماء القبائل إلى بعض الآراء المتعلقة بهذا الموضوع ((كالطوتمية)) والأمومة ثم يلمع إلى شيء من الحياة الاجتماعية، ويختم الفصل بالكلام على طبقات القبائل. ويختم هذا الجزء بالفصل الخامس (375 - 411) تاريخ شبه جزيرة العرب، متحدثا عن الآثار، وعن الدولة المعينية، ولا يتجاوز حديثه ذلك.
هذه أهم مواضيع الجزء وهي مواضيع أوفى المؤلف جلها حقه بحثا وتفصيلا، وإيضاحا، ندر وجوده في كتاب غير هذا. ولقد حاول بعض المؤرخين المتأخرين كجرجي زيدان في كتابه ((تاريخ العرب قبل الإسلام)) أن يقوم بمثل هذا العمل إلا ان قدم كتابه، ووفرة ما(948/46)
عثر عليه من آثار بعده، وما قام به كثير من المستشرقين من الكتابة والتحقيق والتنقيب للوصول إلى حقائق أوفى وأصح في هذا الباب، وما امتاز به حضرة الدكتور الفاضل ((جواد علي)) من سعة اطلاع على آثار أولئك المستشرقين مع دراسة تلك الآثار على أساتذة تخصصوا في دراستها، كل ذلك من الأمور التي تحمل على القول بأن هذا المؤلف جاء فريدا في بابه. وليس معنى هذا انه بلغ الغاية، وحقق القصد في جميع النواحي، فجهد الفرد مهما بلغ من القوة ينوء عن الإضطلاع بمثل هذا العمل العظيم: كتابة تاريخ واف كامل للعرب في عهودعم القديمة التي لا تزال خافية المعالم، مجهولة المسالك. وقد أوضح المؤلف ذلك حينما قال: (وإني اعتقد أن الوقت قد حان لقيام العرب أنفسهم بالبحث عن تاريخهم القديم، وقد اصبح لديهم نفر من المتخصصين، لايريدون من حكوماتهم إلا مؤازرتهم ومعاضدتهم، في إعداد وسائل النشر والبحث، والسفر إلى مواطن الآثار، للكشف عن آثار الأجداد، وهو واجب قومي إنساني معا. ومن العار ان يوسم هذا الشعب بالجهالة والبداوة، وأن يقال عنه إنه شعب ساذج بسيط ظهرت الحضارة عنده في أواخر العصر الأموي، وأوائل العصر العباسي، مع أن له تاريخا حافلا قديما، وأن تتفضل أوربا وأمريكا عليه بإرسال بعثتها إلى شبه الجزيرة للكشف عن كنوز الأجداد، ويكون لها منة في أعناقنا وفي استطاعتنا القيام بهذا العمل القومي الخطير. . وما أحوجنا إلى يوم نسمع فيه أصوات المتخصصين من العرب ترتفع لتحكم في تاريخ شبه جزيرتنا حكما علميا منطقيا يفهم التاريخ خيرا من فهم الغرباء له)
وبعد: فلنقف من تقديم هذا الكتاب لحضرات القراء، عند هذا
الحد، مزجين لحضرة مؤلفه الأستاذ الفاضل الشكر الطيب،
على ما أسداه لأمته من يد، وما قدمه للبتحثين في تاريخها من
معونة، راجين ان نتبع هذه الكلمة بأخرى، نشير فيها إلى
بعض ملاحظات ن وليس في الإشارة إليها غضاضة على
المؤلف الكريم، ذي الصدر الرحب وليس في ذكرها ما يقلل(948/47)
من أهمية هذا المؤلف القيم المفيدالقاهرة
حمد الجاسر
البريد الأدبي
بين طه حسين وعبد الرحيم محمود
في شهر مارس الماضي اشتدت العلة بالأستاذ عبد الرحيم محمود ولازم الفراش رغم انفه وهو الذي كان لا يطيق الجلوس ساعة كاملة في مكان واحد ولا يدركه المرض إلا وهو سائر في الطريق أو جالس بين أصدقائه يلعب الشطرنج أو غارق بين الأسفار القديمة يحقق لفضا لغويا ويغادره المرض أو يلازمه من غير أن يعيره اهتماما أو يمنحه أنة أو شكور إلى أن تكاثرت عليه العلل وقهرته فاستسلم لها ولكن بقدر فكان إذا غربت الشمس يأخذه الحنين إلى أصدقائه فيخرج متوكئا على كتفي إلى أن نجد سيارة حتى لا يحرم نفسه لذة الجلوس بينهم والنظر إليهم حين يلعبون الشطرنج وساعتئذ ينسى أدواءه وكأنه طلقها ثلاثا ولكنه إذا رجع إلى منزله بعد منتصف الليل وجدها تحت فراشه فيستسلم لها مرة أخرى.
وقد إضطرته قسوة المرض إلى الإكتفاء من قراءة الصحف بعناوينها اللهم إلا إذا جاءته أوراق من مطبعة المعارف من أحد كتب معالي الدكتور طه حسين باشا فإن جسمه ينشط وينسى المرض حتى يأتي عليها.
وكلن حريصا على إخفاء مرضه عن صديقه الدكتور طه لئلا تنقطع عنه هذه الأوراق أو يكون سببا في إيلامه وإزعاجه، ولكن حين رأينا اشتداد العلة عليه اتصلنا في صباح يوم 8 من ابريل بمنزل معاليه على غير علم منه وأخبرناه بحالته فكان أول عمل له في هذا اليوم الاتصال بالمستشفيات والأطباء، وفي الساعة الثالثة مساء فوجئنا بهيئة مكتب معالي الوزير تقتحم منزل الأستاذ عبد الرحيم وفي مقدمتهم الأستاذ فريد شحاتة وأركبوه قهرا في سيارة خاصة ذهبت به إلى المستشفى ومكثوا معه إلى ساعة متأخرة من الليل. وفي الليلة التالية حضر معالي الدكتور لزيارته في المستشفى فعانقه وقبله، وقد اغرورقت عيناهما بالدموع وأبى معاليه إلا الجلوس على كرسي خشبي بجوار فراشه، وبعد ان هدأت نفسه أراد أن(948/48)
يسرى عن نفس صديقه المريض فسأله عن صحته فقال الأستاذ عبد الرحيم: إنني لا اشعر الآن بمرض بل بوافر الصحة وكيف أحس بالمرض ومعالي الدكتور وزير المعارف بجانبي؟ فقال معاليه: لا تقل هذا ولكن قل: إن الشيخ طه حسين يزور صديقه وزميله الشيخ عبد الرحيم.
ثم أخذا يتبادلان بعض الفكاهات الأدبية وكان ختامها وصية الدكتور له بعدم مغادرة المستشفى حتى تكتمل صحته فقال الأستاذ عبد الرحيم: إني لا أخرج من هنا حتى تكون صحتي مثل الحصان، فضحك معاليه وقال: بل أريد ان تكون صحة الحصان مثلك.
ولم تنقطع استفسارات معاليه عنه يوما واحدا حتى سافر إلى أوربا وكان لا يطيق غياب سكرتيره الخاص فريد شحاتة ولا يغفره له إلا إذا كان في زيارة الأستاذ عبد الرحيم ويحاسب هيئة مكتبه إذا قصر أحدهم في زيارته ويسأل كل زائر له في المكتب يكون له بالأستاذ صله عن صحته.
وقد كان عليه رحمة الله - أحب شخصية إلى قلب معاليه لا يمل مجلسه ويستزيده منه، ويخصه بالإقبال عليه مهما عظمت شخصية زائريه.
وقد ذكر لي الأستاذ يوما أنه بعد نجاح الدكتور طه في الدكتوراه حضر إليه في منزله ليقدم له الشكر على معاونته ومجهوده فقال له الأستاذ: إنني لا أريد شكرا بيننا. وبعد أكثر من ثلث قرن ذهب عبد الرحيم إلى منزل معاليه ليشكره على مجهوداته في مصلحه خاصة له فقال معاليه: لقد اتفقنا على ألا شكر بيننا فأين ذلك الشاعر الذي سمع بالوفاء منذ القدم وأتعب نفسه بالبحث عنه بين الناس فلم يجده لأدله على مكانه وموضعه وأشير له إلى معالي الدكتور طه حسين باشا حتى يريح نفسه ويريحنا من قوله:
سمعتقديمابالوفاءو ليتني علمتعلىالأيامأينوجوده
ابراهيم أحمد الوقفي
الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري شاعر رقيق الديباجة فياض القريحة، وناثر مستيقظ الذهن سريع اللفتة، مطواع القلم لا يحب أن يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا غمزها بسنان قلمه، وطعنها بشباة رأيه وهو - في ما يبدو لنا من خلال تعليقاته المتلاحقة على كل شاردة وواردة وتصويباته المتتابعة لكل هينة وبينة - أديب مجتهد مسرف في الإطلاع مدمن(948/49)
على القراءة شغوف باقتفاء الآثار الأدبية. وهذا - ولاشك - حسنة من الحسنات، إلا أن تدفع بصاحبها إلى التهام القراءة التهاما خاطفا دون مضغها في ريث وتمهل، فذلك هو الجواد الجامح الذي لا تؤمن عثرته، ولا تنتفي كبوته، ولو كان فارسه المجلى الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري.(948/50)
العدد 949 - بتاريخ: 10 - 09 - 1951(/)
الكتلة الإسلامية
في الميزان الدولي
للأستاذ سيد قطب
هذه الكتلة المتصلة الحدود من شواطئ الأطلنطي إلى شواطئ الباسيفيكي؛ والتي تضم مراكش وتونس والجزائر وليبيا، ومملكة وادي النيل وسوريا ولبنان والعراق والأردن والمملكة العربية واليمن، وتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان وإندونيسيا.
هذه الكتلة التي يربى عددها على مائتين وخمسين مليونا من السكان؛ والتي تملك أغنى منابع البترول والمواد الخامة؛ والتي تتحكم بمواقعها الاستراتيجية في مواصلات العالم.
هذه الكتلة تملك أن يكون لها وزن، حتى ولو كانت مجردة من السلاح؛ وتملك أن تجعل كل كتلة من الكتلتين المتنازعتين تفكر مرتين قبل الإقدام على حرب، تجتاح فيها هذه المناطق الشاسعة، التي تقوم حاجزا بين الكتلتين لا تلتقيان إلا باجتياحه.
هذه الكتلة تملك هذا كله إذا وصلت درجة اليقظة فيها إلى الحد الذي تقف به في وجه الدعايات المزيفة التي يقوم بها دعاة كل من الكتلتين فيها. . . إذا هي عرفت كيف تجبر حكامها والمستغلين فيها على انتهاج سياسة قومية خالصة. . . إذا هي نظمت اقتصادياتها وإمكانياتها وخلصتها من الاستعمار الاقتصادي الذي يمكن له فيها حكامها أو أصحاب رؤوس الأموال المستغلين الذين لا يهمهم وطن ولا قومية ولا دين.
وأنا أكتب هذا للشعوب لا للحكومات: أكتبه للجماهير لا للمستغلين، وأنا مؤمن بالشعوب والجماهير في تلك الرقعة العريضة من الأرض، وأياما كانت عوامل الضعف والفرقة، وعوامل الضغط والكبت، فإن واجب الدعاة ألا يفقدوا إيمانهم بالشعوب، فالشعوب تملك متى تريد تملك أن تسبب المتاعب للأقوياء ولحلفائهم من أهل البلاد. تملك أن تكلف هؤلاء وهؤلاء عنتا دائما لا يأمنون معه الاندفاع، ولا يحمون ظهورهم معه من الاضطراب والانتقاض.
ولقد آن للشعوب أن تضع حدا لذلك العبث الآثم الذي يزاوله حكامهما والمستغلون فيها، وأن تقرر مصائرها بأيديها، وتقطع كل يد تعبث بهذه المصائر لغاية خاصة لا تعنى هذه الشعوب. . لقد ضاعت فلسطين على مذبح المنافسات بين عدة بيوت حاكمة، لا لأن قوى(949/1)
الأمة العربية - أيا كانت ضعيفة - عجزت عن الوقوف أمام حفنة من اليهود، مهما جاءتهم النجدة من الكتلة الشيوعية، والكتلة الرأسمالية. ولو كان في مجموعة الشعب العربي من الحيوية إذ ذاك ما تحطم به أطماع الطامعين، وتضرب على أيديهم العابثة، ما وقعت الكارثة.
إنني أهتف بالجماهير في تلك الكتلة المترامية الأطراف أن تفتح أعينها فلا تسمح مرة أخرى بتمثيل المأساة، ولا تستجيب للمستنفعين فيها، حين يريدون أن يقودوها كالذبيحة لتقف مع هذه الكتلة أو تلك، بينما هي تملك أن تسبب الربطة والاضطراب للكتلة التي تدوس أرضها، وتدوس كرامتها؛ وبذلك تملك أن يتمتع العالم بفترة سلام أخرى، تنشأ من تردد كل من الكتلتين في أن تكون البادئة، وأن تكسب بذلك عداء الكتلة الثالثة.
وليس هذه الدعوة التي ادعوها هنا مستحيل. وما يراها مستحيلة إلا الذين يختانون أنفسهم، ويحتقرون ذواتهم، وييئسون من الشعوب التي تملك كل شئ حين تريد. . . إنني يائس من الزعماء، يائس منالحكومات، يائس من مئات أو ألوف خدعتهم الدعاية الرأسمالية أو الداعية الشيوعية - ولكنني لست بائسا من الشعوب - على ما يجثم عليها من جهل ومن ضغط اقتصادي، ومن قنوط في بعض الأحيان. إن هذا كله إلا غاشية سطحية تزول. وستقف هذه الشعوب على قدميها يوما، وستحطم كل من يعترض طريقها من المستعمرين والمستغلين. . . ونحن في الطريق.
غير أنه يبقى سؤال عام: على أي أساس تقوم هذه الكتلة الثالثة؟ وما هي مقوماتها الأصلية؟
إن أول ما يخطر على البال أن تقوم هذه الكتلة على أساس من وحدتها الجغرافية والاقتصادية، وعلى أساس من مصلحتها المشتركة في اتقاء الحرب الثالثة التي ستدمرها تدميراً.
ولكن هنالك أساسا آخر أشمل وأوفى؛ يتضمن هذه المقومات السابقة، ويزيد عليها عنصر آخر له أثر العميق في النفس البشرية، ذلك هو الفكرة المشتركة عن الحياة، تلك التي تنبع منها كل مقومات الحياة الأخرى.
لقد قال (ماك أرثر) قائد الحلمة الرأسمالية السابق في كورية: إن الحرب في كورية حرب(949/2)
مذهبية؛ وهو يعني أنها حرب بين فكرتين: فكرة الشيوعية وفكرة الرأسمالية. وهذا يقتضي أن تقوم الكتلة الثالثة حين تقوم على أساس فكرة مستقلة عن الشيوعية وعن الرأسمالية جميعا، كي تستطيع أن تمسك بيدها الميزان، وأن يكون لها هدف مستقل عن هؤلاء وهؤلاء، وفكرة ثالثة تدعو إليها الفريقين، ولا تضيع هي في غمار إحدى الكتلتين.
ودعاة الشيوعية كدعاة الرأسمالية، يحاولون أن يقنعونا بشدة: أن ليس في هذا الكون إلا فكرتان ونظامان، وأنه لا يمكن تصور فكرة ثالثة ونظام ثالث. فألا تكن شيوعيا فأنت رأسمالي، وإلا تكن رأسماليا فأنت شيوعي، وهو تفكير متحجر مضحك، تفكير الذين لا يرون بعيونهم ولا يسمعون بآذانهم إنما يتلقون ما يقوله لهم هؤلاء أو هؤلاء تلقى الحاكي أو الببغاء، ونحن لسنا بملزمين أن نستحيل جميعا آلات ولا ببغاوات!
إننا نعلم - الآن على الأقل بعد ما صدرت عدة مؤلفات حديثة تكشف لنا عن النظام الاجتماعي الإسلامي، وتشرح لنا فكرة الإسلام الأصيلة عن الحياة - أن هذا النظام ليس هو النظام الرأسمالي كما تعرفه الكتلة الغربية، وليس هو النظام الشيوعي كما تعرفه الكتلة الشرقية؛ إنما هو نظام اجتماعي مستقل، يقوم على أساس فكرة عن الحياة مستقلة. وقد تتشابه بعض جزئياته أحيانا مع النظام الرأسمالي، كما تتشابه بعض جزئياته أحيانا مع النظام الشيوعي، ولكنه ليس أحدهما بكل تأكيد فهو نظام آخر ذو مقومات أخرى. ميزته أنه يحقق مزايا النظامين ويتقي عيوبهما في الوقت ذاته.
ولكنني أكتفي بالإشارة إلى مسألة واحدة تثبت كيف يجمع النظام الإسلامي بين مزايا الرأسمالية والشيوعية، وكيف يتقي عيوبهما جميعا. . . تلك هي مسألة الملكية الفردية.
إن الرأسمالية لتطلق حق الملكية الفردية، وتدع رؤوس الأموال تتضخم، فلا تتدخل حين تتدخل إلا بفرض الضرائب على الأرباح، بنسب عالية كما اضطرت إلى ذلك أخيرا. . وميزة هذا النظام أنه لا يقاوم الحوافر البشرية الطبيعية للتملك، ولا يضعف الرغبة في العمل إلى أقصى حد وبذل الطاقة إلى أقصى حد، ما دام الفرد يحس أن جهده له وعاقبه إليه. وعيبه أنه يدع الرغبة الجامحة في الكسب تطغى على المصالح الجماعية وتدوس على حقوق المنتجين الحقيقيين وهم العمال، كما تدفع بالدولة إلى الحرب لضمان الأسواق للتصريف، وضمان الخامات بسعر رخيص. . . إلى آخر عيوب الرأسمالية التي تشنع بها(949/3)
الشيوعية.
وإن الشيوعية لتصادر حق الملكية الفردية، وتضع كل الموارد ومرافق العلم في يد الدولة. . وميزة هذا النظام أنه يمنع كل عيوب الرأسمالية التي أسلفنا. ولكن عيبه أنه يقاوم الحوافز البشرية الطبيعية؛ ولا يحفز الفرد إلى بذلك أقصى طاقة ما دام الحد الأعلى لما يحصل عليه هو مجرد كفاية. . وقد اضطر ستالين أن يخرج على قاعدة رئيسية من قواعد الماركسية فيبيح التفاوت بين الأفراد بحسب تفاوت الكفايات، ويبيح نوعا من الملكية الفردية الشخصية، وبدأت الشيوعية بذلك تكذب نفسها في هذا وهي في أيامها الأولى! - كما أن عيب هذا النظام هو مقاومته لحرية الفرد في العمل، وحريته في الاعتقاد، وحريته في السلوك. وهي حريات قد يصبر جيل أو جيلان أو عدة أجيال على فقدها، لأنهم في معركة مع النظم الأخر، ولكن البشرية بطبيعتها لا تصبر على فقدان هذه الحريات طويلا، وإذا ماتت فيها رغبة الحرية فقد مسخت فطرتها مسخا؛ وخسرت كيانها الإنساني في سبيل لقمة الخبز كالماشية والحيوان!
فأما الإسلام فيبيح الملكية الفردية، محققا كل المزايا التي تحققها هذه الإباحة. وفي ذات الوقت يحرم وسائل الكسب التي تضخم رؤوس الأموال على حساب الطبقات العاملة أو على حساب المجتمع كله. فهو يحرم الربا، والاحتكار، ويقضي بتأميم المرافق العامة التي يشترك في الانتفاع بها الناس جميعا؛ ويجعل للعمال حقهم في نصف الربح الناتج من العمل (استنادا إلى تصرف النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر). . ثم هو يأخذ - اثنين ونصفا فيالمائة من رأس المال - لا من الأرباح - كل عام في صورة زكاة. . ثم - وهذا هو الأهم - يبيح للدولة الممثلة للجماعة أن تأخذ من رؤوس الأموال - لا من أرباحها وحدها - ما تستلزمه الحاجة بلا قيد ولا شرط تحقيقا لمبدأ (المصالح المرسلة) أي التي لم يرد فيها نص، ولمبدأ (سد الذرائع) أي اتقاء النتائج السيئة المحتملة - وهما مبدآن مقرران في الإسلام. وإلى المبدأ الأول يستند الإمام مالك في منح الحاكم حق الأخذ من أموال الأغنياء بقدر حاجة الجند إذا لم يسكن في بيت المال الكفاية. . ومثل حاجة الجند للدفاع سائر الحاجات الاجتماعية التي تبرز على توالي الأزمان.
وبذلك يتقي الإسلام كل عيوب الملكية الفردية ويبقي مزاياها جميعا ويحقق كما قلت مزايا(949/4)
النظامين: الرأسمالي والشيوعي ويتقي عيوبهما جميعا.
وهو بهذا نظام مستقل، تشبهه الرأسمالية أحيانا وتشبهه الشيوعية أحيانا، ولكنه ليس واحد منها بكل تأكيد، ونحن لا نكذب عقولنا، ولا نكذب حقائق النظام الإسلامي الواضحة لنقول مع دعاة الشيوعية: إن الإسلام رأسمالي، أو أنه لا يمكن أن يكون نظام ما إلا نظاما رأسماليا، أو نظاما شيوعيا، ولا ثالث لهما في الواقع ولا في التفكير، كما يقولون في تحجر، ثم ينتظرون منا أن نسلم لهما بما يقولون!
هنالك إذن فكرة ثالثة لنظام اجتماعي ثالث، يمكن أن تقوم على أساسها الكتلة الثالثة، فتكون لها كل مقومات الكتلة المستقلة، وليست هي بحاجة إذن إلى الاندماج أو الفناء في إحدى الكتلتين، أو في إحدى الفكرتين.
هذه الفكرة الثالثة ليست مجرد عقيدة دينية - كما يريد بعضهم أن يتصور - إنما هي نظام اجتماعي كامل يقوم على هذه العقيدة؛ بل نظام إنساني شامل يحدد العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبين الشعوب والحكام، وبين الدولة والدول في المجتمع الدولي، والمحيط الإنساني. . وهذه مزيتها الكبرى. ميزتها أن توحد بين عقيدة الفرد ونظام المجتمع، وشكل الدولة، وعلاقات البشرية. فإذا نفذ الفرد عقيدته، فهو في الوقت ذاته يؤدي واجبه - بهذا التنفيذ - كفرد في جماعة، وفرد في دولة، وفرد في إنسانية. بلا تعارض بين نشاطه في هذه المجالات جميعا.
والنظام الذي يقوم على أساس عقيدة، ويستمد منها وجوده وحدوده، هو نظام أقوى وأعمق وأقدر على المقاومة، لأنه يستمد قوته من داخل النفس ومن أعماق الضمير، ومن سلطان لا يعلوه في النفس سلطان.
سيد قطب(949/5)
النسيان في نظر التحليل النفسي
للآنسة فائزة علي كامل
- تتمة -
عرضنا نظرية (فرويد) الخاصة بالنسيان في المقالين السابقين وهي كما شاهدنا مملوءة بالآراء التي لا يستطيع أحد أن ينكر ما تمتاز به من الجدة والعمق. فقد طبعت النسيان بطابع ديناميكي وأقامته على أسس نفسية لم تخطر ببال أحد من قبل، ولكن هذا لا يمنع من أن تكون موضع نقد، فالدراسة الدقيقة لها تبين أنها تثير مشكلات كثيرة اعترف بها أنصار فرويد أنفسهم.
لقد كان فرويد متطرفا في قوله: كل تلك الأفعال البسيطة التي تأتيها كفلتات اللسان وأخطاء السمع ونسيان الأسماء. الخ تقوم على الصراع النفسي والكبت. إنه بذلك جعل علتها هي علة الأمراض النفسية. فإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن يتساءل الفرد: كيف يمكن أن تكون العلة واحدة وتؤدى إلى حالة مرضية مرة ولا تؤدى إلى ذلك مرة أخرى؟! واجه (رولاند دالبيز) هذه المشكلة، ووجد انه لا بد من تعديل نظرية فرويد فقال إن تلك الأفعال تحتل المستويات السطحية من البناء النفسي. . . فقالت تعرف الإثارة المكبوتة وهي شاعرة بنضالها ضدها. بعبارة أدق تستطيع أن تقول إن هذه المؤثرات التي تكون الصراع موجودة في مستوى (ما قبل الشعور) وهي في حالة (قمع) (رفض إيرادي شعوري) اكثر منها في حالة (كبت) (كيف لا شعوري أتوماتيكي).
كذلك أوضح (إرنست جونز) أنه ستنتج نتيجتان بناء على آراء فرويد: الأولى أنه لن يكون ثمة وجود للحالة العقلية العادية بمعنى أن كل فرد يصدر عنه ما يدل على نقصان في الوظيفة العقلية يتجلى في مادة مفصولة مكبوتة: وهذه العملية هي واحدة سواء لدى الأفراد الأقوياء أو المرضى بأمراض نفسية. وإذا أنعمنا النظر وجدنا أن تلك المادة المكبوتة هي نفسها التي ينتج منها العصاب. الثانية: أنه لا يوجد كما يجب حد فاصل بين الصحة العقلية والحالة المرضية. وسيكون التمييز بين هاتين الحالتين قائما على أساس اجتماعي، فإذا أدى الصراع إلى تعطيل القدرة الاجتماعية فإن الحالة تكون عصابا، أما إذا لم يحدث هذا فتكون بازاء شذوذ أو خلق شخصي. . . الخ.(949/6)
في الواقع أن تفسير فرويد للنسيان في المجال العادي لا يمكن قبوله بسهولة. فمثلا يذكر (بير أنه نسى مرة مظلته بعد أن ألقى محاضرة في بلدة ما، ولم يجد أي تفسير شخصي لذلك النسيان كأن يقال تبعا لفرويد إنه كان مكرها على إلقاء هذه المحاضرة. . الخ إن السبب الوحيد هو عدم الانتباه. ويعترف (بير) بأنه أن كان حقا هذا التفسير لا يوضح لنا العلة في نسيان المظلة وعدم نسيان أي شئ آخر إلا أنه لا يمكن إنكار أن هذه العمليات الذهنية من عدم انتباه وتشتت الفكر. . الخ تساعد على النسيان كما تشجع الظلمة والوحدة اللص على السرقة.
وبالمثل يفند (دوجاس أقوال فرويد فيتذكر أن (نيوتن) نسى لزمن معين اكتشافه الخاص بحساب التفاضل، وكان (لينيه ينسى أحيانا أنه المؤلف أثناء انهماكه في قراءة مؤلفاته فكان يصيح قائلا: (ما أجمل هذا. .! ليتني أستطيع كتابة شئ مثله. .! ويقول (بسكال) إننا لو أجرينا له امتحانا فجأة دون سابق إنذار في محتوى مؤلفاته فإنه ربما يفشل في الإجابة. فلو أخذنا برأي (فرويد) فإن مثل هذا النسيان سيرد إلى عقدة مهنية ولكنه واضح أنه تفسير غير مقنع. فهنا كما يقول (دوجاس) يجب الرجوع إلى طبيعة الأشياء، فالنفس تستبعد منتجاتها الناضجة أو الأفكار والمشاعر التي لا تجد فيها ما يثير اهتمامها. إنها تنساها ولا تبالي بها، فهي تحاول التحرر من الأفكار كما تتحرر من الأهواء، ويقول (جتيه) إنه لا يكترث بالمؤلف الذي انتهى، فهو لا يشغله بعد ذلك لأنه ستوق إلى شئ جديد. فالمؤلف يصطنع حالة عقلية معينة لكل مؤلف من مؤلفاته. فطبيعي أن يترك هذه الحالة بانتهاء موجبها. ومثله كمثل الذي يتقمص شخصيات مختلفة تبعا للأدوار التي يقوم بها. فما لا شك فيه أن هذا النسيان أمر طبيعي. أما النسيان الذي يكون فيه فقدان دون تعويض، فتختفي الأفكار اختفاء تاما وتعرض وحدة الذات للخطر، ويحطم الاتزان العقلي. . ويكون هذا بداية لاضطراب نفسي. . فهنا هو النسيان المرضي.
في الواقع إن تطرف (فرويد) يرجع إلى أنه يقيم آراءه على حتمية صارمة. فما يحدث في النفس ليس بظواهر سابقة عليها وأخرى لاحقة بها. إنه لا يوجد محل للصدفة في المجال الجسمي؛ وكذلك يجب أن يكون الحال في الميدان العقلي. لهذا لا يقتنع فرويد برد بعض الأفعال إلى العادة؛ ولا يعترف بعلل عدم الانتباه والسهو وما شابه ذلك. ولكننا شاهدنا ما(949/7)
يثيره هذا المبدأ من اعتراضات وما يؤدي إليه من مآخذ.
وهكذا إننا لا نستطيع أن نتغاضى عن أنه يوجد نسيان يعد تبسيطا للشعور أو تقليلا من محتويات الذات، وهو نسيان عادي مفيد لأنه يصون النفس ويحميها من تعدد التأثيرات ويقيها شر التشتت فيجعلها تحافظ على وحدتها. فليس كل نسيان اسم أو كلمة يرجع إلى الكبت، وليست كل فلتة لسان ناتجة عن صراع نفسي دفين إن النسيان والتذكر وجهان لوظيفة عقلية واحدة، فالنسيان هو الذي يسمح بالانتقال من حالة ذهنية إلى أخرى. فإن أنفسنا تتبلور في أنظمة مختلفة من الأفكار والتصورات فينتج النسيان عند استبدال نظام بآخر. فإذا اختفت ذكرى معنية فإنما تختفي باعبتارها مجموعة من الأفكار ليس لها ضرورة. . ومن ثم انسحبت من الطريق لتفسح المجال لذكرى أخرى. إن الفكر العادي الكامل هو الذي لا ينسى شيئا يجب أن يحتفظ به، ولا يحتفظ بشيء يجب أن ينساه.
فائزة علي كامل(949/8)
في شعر عائشة التيمورية
1840 - 1902
للأستاذ محمد سيد كيلاني
جمعت عائشة التيمورية شعرها في ديوان سمته (ملية الطراز) به 1396 بيتاً، منها 554 بيتاً في باب الغزل، والباقي في أغراض مختلفة.
وقبل أن نخوض في غزل عائشة نريد أن نسأل أنفسنا سؤالاً وهو: هل يحق للمرأة أن تقول شعراً في الغزل؟ وإذا حق لها ذلك ففيمن تتغزل؟ أتتغزل في امرأة مثلها؟ أم تتغزل في رجل؟ الواقع أننا إذا نظرنا إلى ما وصل إلينا من آثار شاعرات العرب لا نجد لهن بيتاً واحدا في الغزل. فمما لا شك فيه أن عائشة انفردت دون سائر الشاعرات العربيات بما نظمته في هذا الباب وقد تكون سلكت بذلك مسلكا وعراً، وجاءت أمرا إذا.
إن طبيعة المرأة لا تسمح لها بقول الشعر الغزلي. وذلك لأنها إذا تغزلت بامرأة مثلها كان هذا شذوذا منها، وهي لن تجرؤ على التغزل بالرجل، ونظرة المرأة إلى الرجل تختلف عن نظرة الرجل إلى المرأة، فإذا تغزلت المرأة في الرجل اختلف غزلها اختلافا كليا عن غزل الرجل فيها.
والآن نستعرض بعض أمثلة من شعر عائشة في الغزل لنرى من أي نوع هو، ومدى ما فيه من صدق الشعور، قالت:
أفديه حين نحيل الخصر منه بدا ... يهتز من خوف ردف خص بالثقل
بكر الكميت إذا دارت بحضرته ... من وجنتيه غدت حمراء في خجل
لو قابل البدر نشواناً بغرته ... لصار طالع بدر الأفق في زحل
وقالت:
أفديه لما صحا من سكره سحرا ... وللطلى أثر في خده باقي
وقام يخطر والأرداف تقعده ... وخصره يشتكي سقما لمشتاق
وقال لي بلسان السكر خذ بيدي ... فعذت من لحظة الماضي بخلاقي
وقالت:
الصب بالأعتاب أصبح يرتجي ... عطفاً ولكن المنال بعيد(949/9)
أنسيت صدقي في حروب عواذلي ... وجميعهم شاكي السلاح شديد
قصدوا بوادي بالسلو وادروا ... أن اصطباري في هواك أكيد
ولقد أذعت هواك بين عواذلي ... وسهامهم تدمى الحشا وتبيد
فأنت ترى أن عائشة تذكر الحواجب والوجنات والخصر النحيل والأرداف المكتنزة والخدود والألحاظ، وتحدثنا عن وقوفها أمام أعتاب الحبيب وما كابدته من عناء وألم في سبيل الحب، وما لقيته من عذل العذال وكيد الوشاة والحساد، وغير ذلك مما يجري على ألسنة الرجال، ويتغنى به الشعراء عادة في قصائدهم الغزلية، فكأنها - والحالة هذه - تقمصت شخصية الرجل، وخلعت عنها أنوثتها.
نصف شعر عائشة في الغزل. فإذا قيل إنها كانت تروض القول كدأب الشعراء في ذلك العصر، فلم اختارت باب الغزل بالذات لتتخذه ميدانا للتمرن على القول؟ ولم أتت بهذا القول الماجن الذي يكاد يكون مكشوفا؟ إن كثرة تغزل المرأة بواحدة من جنسها، يخلق عندها شذوذا، ويبتعد بها عن طبيعة الأنوثة ابتعادا كبيرا. وحبذا لو أنها لم تطرق هذا الباب. والظاهر أن عائشة لم تكن مكتملة الأنوثة، ولذلك أخفقت في حياتها الزوجية إخفاقا تاما. وهجرها زوجها، ثم إنها لم تذكر هذا الزوج ولا في بيت واحد من شعرها.
ولقد أرادت عائشة أن ترفع لواء النهضة النسوية في مصر وحاولت أن تخلف حولها جوا أدبيا، لذلك صنعت هذا الغزل وكانت فيه متكلفة، ونشرته في حياتها، وهذه جرأة عجيبة وبخاصة في العصر الذي عاشت فيه، ولو أنك طلبت من فتاة تعيش في هذه الأيام أن تقول مثل هذا الغزل، لوجدت منها إعراضا تاما.
وكان بعض أدباء عصرها قد نظم قصيدة جاء فيها:
ماذا تقول إذا اجتمعنا في غد ... وأقول للرحمن هذا قاتلي
فأجابته قائلة:
إن كان موتك من قسى حواجب ... كالنون أو من سحر جفن ذابل
أو غرة مثل النهار وطرة ... كالليل أو من جور قد عادل
أو من لحاظ تسحر الألباب إذ ... تروى لنا سلب النهى عن بابل
فهي التي فعلت ولم أشعر بما ... فعلت فكيف تلومني يا سائلي(949/10)
أنا ما قتلت وإنما أنا آلة ... في القتل فاطلب إن ترد من قاتل
ومتى أريد قصاص سيف أو قنا ... هل من سميع مثل ذا أو قائل
والله قد خلق الجميل ولم يقل ... هيموا بلين قده المتمايل
ما قال ربك قط يا عبدي اطل ... نظر الملاح ويا جميلة واصلي
فعلام تطلب بالدعاء وتدعى ... زورا وتطمع في محال باطل
لبث الشعراء أجيالا طوالا يشكون من سهام العيون وسحر الألحاظ ويبكون لهجر الحبيب وامتناعه عنهم، ويتألمون لقسوته وإعراضه، ويطلبون وصاله ويتمنون قربه، فلم تنهض للرد عليهم امرأة واحدة. وفي الحق أن هذا الجواب طريف ومفحم في نفس الوقت. طريف لأنه لم يسبق له مثيل في الشعر العربي. ومفحم لقوة حجته ووضوح بينته. فأنت ترى مقدمة منطقية تنتهي إلى نتيجة لا يسعك معها إلا التسليم. أما المقدمة فهي أن المرأة آلة وليست فاعلة للقتل، والنتيجة التي تصل إليها أن الآلة لا تسأل وإنما يسأل القاتل. ثم انتقلت بعد تلك الحجة المنطقية إلى حجة دينية لا تقل إفحاما وهي:
ما قال ربك قط يا عبدي أطل ... نظر الملاح ويا جميلة واصلي
ومن هنا تبطل دعوى من يطلب بدمائه المسفوكة لأن دعواه أقيمت على غير أساس كما تقول عائشة.
ولو أن الشعراء من قديم الزمن سمعوا هذا الرأي واقتنعوا به لأراحونا من بكائهم ونحيبهم على هجران الحبيب. . وأعفونا من الشكوى من بعده وصده، ولفقد الشعر العربي جزءا كبيرا من ثروته.
ولقد أضحكني قولها:
وإذا رأيت الحب من ألم الجوى ... هد القوى بشدائد البأساء
عاطيه سلفات الحديد تكرما ... من قلبك الجافي بكل رضاه
فاستخدام سلفات الحديد هنا مما يضحك. وهذه دعابة لطيفة.
وكانت الشاعرة قد أصيبت برمد شديد لازمها شهورا. وقد عانت منه مشقة كبيرة. فنظمت في ذلك عدة قصائد وصفت فيها ما فعله الرمد بها وما جره عليها من البلاء. وهذه القصائد جديدة في موضوعها. والظاهر أن عائشة وجدت مجالا جديدا للقول، فانتهزت فرصة(949/11)
أصابتها بهذا المرض، وأنشأت في ذلك جملة قصائد. وكان من المحتمل أن تصور لنا حالتها النفسية في هذا الشعر، وتنقل لنا إحساسها الداخلي الذي سيطر عليها آنئذ. ولكنا - مع الأسف الشديد - نقرأ هذه القصائد فنجد أن هم الشاعرة هو التلاعب بالألفاظ والتعابير. وهذا مما لا يفعله الحزين الذي برح به الألم، وأضناه السقم. قالت:
طفا ماء الجفون وما دنت بي ... سفين الشوق من جودي الوصال
وقد أصبحت في بحر عميق ... من الظلماء مجهود الملال
ضللت بليل أسقامي طريقي ... إليكم سادتي فانعوا ضلالي
فوا أسفا على إنسان عيني ... غدا في سجن سقم واعتقال
حجبت بسجنه عن كل خل ... وصرت مخاطبا صور الخيال
أإنسان العيون فدتك روحي ... يهون لعود نورك كل غالي
أترضى البعد عن عيني أليف ... أضر بعزمه ضيق المجال
وأنت تحاول أن تتلمس شعوراً ولو تافها في هذه القصيدة فيعجزك ذلك. وكذلك كل ما نظمته في هذا الموضوع. إلا أنك ستلاحظ أنها اتخذت من قصائدها الرمديات ميدانا للغزل. فشخصت إنسان عينها وشرعت تتغزل فيه وتتألم لبعاده، وتتمنى قربه. ومثال ذلك قولها
وقالوا مات، قل موتوا بغيظ ... فجعل القصد حيا قد أتاني
وجدد بالوصال حياة روحي ... أعوذه بآيات المثاني
فدعني يا خلي والخل تخلو ... ونكحل بالثنا جفن الأماني
لمرآة الجمال ووجه بدر ... دعاني يوسف الثاني دعاني
حبيبي بالذي أعطاك نورا ... تقود به كما ترضي عناني
فهذه الأبيات تكشف عن نفسية خاصة. فالشاعرة قد استحضرت في ذهنها صورة يوسف الصديق وقد امتنع عن امرأة العزيز حين همت به وغلقت الأبواب وقالت هيت لك فقال معاذ الله. فشبت نفسها بامرأة العزيز وإنسان عينها بيوسف. ثم تخيلت أنها نهضت وغلقت الأبواب وراودت يوسف عن نفسه وهمت به فلم يمتنع عليها ولم يقل معاذ الله، وهذا الغزل مهما كان من أمره - تظهر فيه الأنوثة. وهو بذلك يختلف عن غزلها المتقدم الذي ذكرت(949/12)
فيه الأرداف والأعجاز، والمدى تقمصت فيه شخصية الرجل ونظرت إلى المرأة بمنظاره وفكرت فيها بفكره.
وعائشة أول شاعرة تقول هذا الغزل الأنثوي المكشوف. وهي بذلك قد خرجت على العرف والمألوف. ولكنها كشاعرة لا يضرها هذا ولا ينقص من قيمتها ولا يحط من قدرها. وأي شاعر موهوب حافظ على العرف ووقف عند التقاليد؟!
وقد كررت في قصائدها الرمديات كثرا من الصور والمعاني والتراكيب. . ومثال ذلك قولها
طفا ماء الجفون وما دنت بي ... سفين الشوق من جودي الوصال
وقولها:
سفينة العين قد فازت من الغرق ... وأشرقت تزدهي من ساحل الحدق
فليس أمامها غير صورة سفينة. فتارة تقول (سفينة الشوق) وتارة أخرى تقول (سفينة العين).
ولعائشة التيمورية رثاء جيد. ولا عجب في ذلك فالمرأة بطبيعتها تجيد البكاء وتحسن العويل وبخاصة إذا أصيبت بفقد بنتها أو أبنها أو والدها أو أمها، ومن أحسن مراثيها وأشهرها قصيدتها التي رثت بها بنتها (توحيدة) ومطلعها:
إن سال من غرب العيون بحور ... فالدهر باغ والزمان غدور
ولكن يجب أن نلاحظ أن الأبيات الأولى من القصيدة فيها تكلف، وأن الشعور الداخلي فها لا يكاد يرى وأن الجزء المؤثر من هذه القصيدة يبدأ من قولها:
طافت بشهر الصوم كاسات الردى ... سحرا وأكواب الدموع تدور
بعد أن ذكرت المرض وما فعله ببنتها وتحدثت عن الطبيب الذي جاء وبشر بالشفاء، أدارت حوارا على لسان بنتها فانطقها بأبيات إذا قرأها الإنسان تحدرت منه العبرات. وهذه هو الشيء الذي أسبغ على تلك القصيدة روعة، وأكسبها قوة وضمن لها الخلود. انظر إلى قولها.
أماه قد عز اللقاء وفي غد ... سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي ... هو منزلي وله الجموع تصير(949/13)
قولي لرب اللحد رفقا بابنتي ... جاءت عروسا ساقها التقدير
وتجلدي بازاء لحدي برهة ... فتراك روح راعها المقدور
عودي إلى ربع خلا ومآثر ... قد خلفت عني لها تأثير
صوني جهاز العرس تذكارا فلي ... قد كان منه إلى الزفاف سرور
جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا ... لبس السواد ونفذ المسطور
للكلام بقية
محمد سيد كيلاني(949/14)
الولايات المتحدة الأمريكية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
- 1 -
(لم تتفق السماء والأرض على تهيئة مكان لكني الإنسان خير من هذا المكان).
جون سميث؛ مؤسس مستعمرة فرجينا 1607
(إننا لنؤمن ببداهة هذه الحقائق: وهي أن الناس جميعا خلقوا سواسية وأن خالفهم وهبهم حقوقا معينة لا تقبل التحويل منها الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة)
وثيقة إعلان الاستقلال. يولية 1776
ثالثة دول ثلاث تتحكم في السياسة الدولية في عصرنا الحاضر. . ومصير الحضارة القائمة ومستقبل العالم أمانة في أعناقها. . وعلى هذه الدول الثلاث وهي بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة تقع تبعة ما يصيب الإنسانية والإنسان من خير أو ضر.
وهي أرض الحرية. . وكانت عند كشفها وما تزال ملجأ المعذبين والمضطهدين من أهل أروبا، وقد حرص الشعب الأمريكي أشد الحرص على توكيد حريته، وعلى تحقيق سعادته، وأعلن ذلك في صراحة تامة في وثيقة إعلان استقلاله 1776.
وهي دولة فتية وأمة غنية تمتاز بعظم ثروتها الزراعية والمعدنية والصناعية، وتشغل مساحة واسعة تمتد من المحيط الأطلسي شرقا إلى المحيط الهادي غربا، وتزيد مساحتها على عشرة أمثال مساحة القطر المصري، وهي أكبر من أستراليا وأصغر قليلا من أوربا. . وأما عدد سكانها فيزيد على 120 ملين نسمة منهم نحو 12 مليونا من الزنوج يسكنون في الولايات الجنوبية.
وتتكون هذه الدولة من عدة ولايات، كان عددها في أول الأمر وعند إعلان الاستقلال ثلاث عشرة ولاية، ويبلغ عددها الآن ثمانيا وأربعين ولاية، وقد اتحدت هذه الولايات مع بعضها اتحادا فد رائيا وكونت جمهورية الولايات المتحدة وتحتفظ كل ولاية إلى الآن باستقلالها، فلكل منها حكومتها وبرلمانها وقوانينها وتشترك الولايات جميعا في الحكومة المركزية التي تشرف على المسائل العامة التي تهم الولايات جميعا، مثل الدفاع والسياسة الخارجية(949/15)
والتجارة الخارجية، وسنتناول هذا الموضوع بالتفصيل فيما بعد.
ويتحدث الناس عن هذه الدولة فيقولن (أمريكا) ولكن هذه التسمية ليست صحيحة، فإن الولايات المتحدة ليست إلا ثالثة دول ثلاث تحتل القارة الأمريكية الشمالية. أما الدولتان الأخريان فهما كندا والمكسيك. ولكن الولايات المتحدة أعظم الدول الثلاث شأنا وأقواها أثرا. . ومن هنا أطلق عليها (أمريكا) وهو من باب إطلاق اسم الكل على الجزء لما لهذا الجزء من أثر وخطر.
عالم جديد:
ظل سكان الدنيا القديمة يجهلون أن هناك أرضا واسعة لم تكتشف بعد حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. وكان كشف القارة الأمريكية مفاجئا: ذلك أن البرتغاليين عملوا كل جهودهم للوصول إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح. أثار هذا النجاح ثائرة إسبانيا، فأرادت أن تصل إلى الهند أيضا. هنا تقدم كرستوف كولمبس وهو بحار إيطالي يعرض على ملك إسبانيا وملكتها القيام بتحقيق الفكرة عن طريق السير غربا فوافقاه، وزوده الملك فرديناند والملكة ايزابلا بحاجته من الرجال والمؤن والسفن وبدأ كولمبس رحلته في أغسطس سنة 1492 واجتاز المحيط الأطلنطي أو (بحر الظلمات) كما كان يسمى. وطالت رحلته وثار عليه بحارته، ولكنه استمهلهم فأمهلوه، ووصل كولمبس إلى جزائر الهند الغربية وقد اعتقد خطأ أنه وصل إلى جزائر الهند الشرقية والهند. ولم يعرف كولمبس أنه قد وصل إلى قارة جديدة هي أمريكا.
وأما الرجل الذي أثبت أن كولمبس لم يصل إلى جزائر الهند الشرقية وإنما وصل إلى قارة جديدة كانت مجهولة، فهو أمريجو فسبوتش وإليه تنسب قارة أمريكا. وأما كولمبس فإن اسمه لم يطلق إلى على جمهورية كولومبيا بأمريكا الجنوبية وعلى ولاية كولومبيا البريطانية بكندا في أمريكا الشمالية.
وبعد كشف القارة هرع إليها كثير من المهاجرين من أهل أروبا من إسبانيا والبرتغال وإنجلترا وفرنسا وهولندا، وأصبحت هذه القارة مقصد المضطهدين والمعذبين من أهل أروبا والطامعين في الإثراء وجمع المال، وكثرت بها المستعمرات.
على أن السكان الجدد لم يلبثوا بعد أن استقروا أن نزعوا إلى الاستقلال، وقد كانت(949/16)
الولايات المتحدة أسبق هذه المستعمرات جميعا إلى الاستقلال إذ حققت استقلالها في 1776 واعترفت به الدول 1883.
عالم أفضل
ظلت الولايات الأمريكية تنتهج سياسة العزلة فإن شعبها قد آثر أن يحتفظ بحريته وأن يبتعد عن مشاكل العالم القديم المعقدة، ولكنها في خلال الحرب العالمية الأولى وجدت أن اضطراب العالم القديم سيؤدي حتما إلى اضطراب شؤونها الاقتصادية ويشل حركتها التجارية والصناعية، ولذلك اضطرت أن تخرج على مبدأ الحياد الأمريكي وأن تساهم في إعادة السلام إلى العالم القديم، ودخلت الحرب في جانب الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وحلفاءهما) وانتهى الأمر بانتصار الحلفاء وخذلان ألمانيا.
ولما قامت الحرب العالمية الثانية 1939 وقفت الولايات المتحدة الأمريكية بجانب إنجلترا وروسيا للقضاء على الخطر الألماني. . وفعلا وفقت هذه الدول وحلفاءها في القضاء على هتلر. وتحتل قوات إنجلترا وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا الأراضي الألمانية منذ 1945 حتى الآن.
ولا يستطيع أحد أن ينكر فضل الولايات المتحدة الأمريكية على إنجلترا. . فبرجالها وعتادها كسبت إنجلترا الحربين العالميتين. الأولى والثانية.
وليس يعنينا نحن الشرقيين مدى ما قدمته وتقدمه الولايات المتحدة الأمريكية من مساعدات لإنجلترا أو لغيرها. . وإنما يعنينا أن نعرف حقيقة شعورها بالنسبة لنا ومدى استعدادها لخدمة قضايانا وهي قضايا الحق والعدل والحرية، وكذلك يجب أن نعرف الشعب الأمريكي بمشاكلنا وقضايانا حتى يتخذ لنفسه سياسة تقوم على الحق والعدل. ذلك أن الشعب الأمريكي يؤمن بالحرية أشد الإيمان ولا يرضى بها بديلا، وتاريخ أمريكا ينطق بهذا.
وقد وصف ترومان رئيس جمهورية الولايات المتحدة عند توقيعه ميثاق هيئة الأمم المتحدة في 25 يونيه 1945 مركز أمريكا في العالم الحديث بأنها (بناء متين يمكننا أن نقيم عليه عالما أفضل). وبدأت أمريكا تشترك في توجيه السياسة الدولية اشتراكا تهدف به إلى سيادة الديمقراطية ومقاومة الطغيان والدكتاتورية والقضاء على أشد أعداء الإنسان: الجوع والشقاء واليأس.(949/17)
لكن أمريكا تنكبت الطريق ولم يصادفها التوفيق في حل أول مشكلة نشأت في الشرق الأوسط عقب انتهاء الحرب 1945 وهي مشكلة فلسطين وقيام إسرائيل؛ ذلك أن قيام إسرائيل وطرد العرب من أوطانهم وديارهم جريمة لا تنكر وإثم عظيم. . ولا نستطيع نحن الشرقيين أن نبرئ أمريكا من أنها لم تساعد إنجلترا والصهيونيين فيما ارتكبوه من إثم وجريمة وخزي وعار.
وأنا أحب أن أثبت هنا أن العطف الأمريكي على اللاجئين يقابل بالشكر من ناحية العرب والشرقيين. . ولكني أرى أن أمريكا قد لوثت تاريخها بوقوفها في جانب الإنجليز والصهيونيين في مأساة فلسطين.
أيها الأمريكان:
أنتم قوم تقدسون الحرية وتحترمون إرادة الشعوب وقد أعلن رئيسكم ترومان في 20يناير 1949 في بيانه إلى الكونجرس أن (السياسة الاستعمارية القديمة التي مؤداها الاستغلال من أجل الربح فقط ليس لها محل في سياستنا. وكل ما نبغيه هو التعامل الديمقراطي العادل. . . وبمساعدة الأعضاء الأقل حظا على مساعدة أنفسهم يمكن فقد أن تحيا الأسرة الإنسانية حياة لائقة راضية. . تلك الحياة التي هي من حق كل الناس، والديمقراطية وحدها هي التي تستطيع أن تمد شعوب العالم بالقوة والحيوية التي تحركهم إلى العمل المنتصر لا ضد الطغاة من البشر وحدهم. بل أيضا ضد أعدائهم الأقدمين: الجوع والشقاء واليأس؟!
أيها الأمريكان:
نحن قوم نطالب بالحرية وانتم قوم تقدسون الحرية. فأحذروا أن يجركم الثعبان البريطاني إلى مالا نحب وما لا ترضون فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
أبو الفتوح عطيفة(949/18)
3 - رسالة المربي
الطريقة العملية - مميزاتها - الطريقة العلمية - عملية النمو
للأستاذ كمال السيد درويش
لجأ رجال التربية إلى الطريقة الطبيعية السيكولوجية يبحثون خلالها عن الطريقة العملية التي يمكن اقتباسها لإدخالها في المدرسة الحالية.
لقد زودت الطبيعة الإنسان بغرائزه ففرضت عليه أن يتعلم سواء أراد أم لم يرد. . . أفلا تكون قد زودته في نفس الوقت بالطريقة العملية التي نحن بصدد البحث عنها وعن مميزاتها؟ قد نجدها لدى الإنسان حين يستجيب لغرائزه. ولكن الإنسان الحالي المتحضر يتحكم في تسيير سلوكه مراعيا في ذلك تقاليد المجتمع الحالي فلا يسمح لغرائزه بالظهور في شكلها الطبيعي إلا بمقدار ما اصطلح المجتمع على السماح به.
ولذلك يجب علينا أن لا نبحث عن الطريقة الطبيعية للتعلم لدى هذا الإنسان المتحضر المتكلف؛ والذي يظهر غير ما يبطن ويعمل غير ما يشتهي. وإنما يجب علينا أن نبحث عنها لدى الإنسان البدائي الذي يعيش على الفطرة أو لدى الطفل الناشئ الذي يطلق على سجيته ولا يعبأ بمن حوله من الناس. ولو نظرنا إلى الطريقة الطبيعية التي يتعلم بها الإنسان البدائي أو الطفل الناشئ لوجدنا أنها طريقة عادية جدا؛ طريقة طبيعية تتمشى مع الطريقة السيكولوجية. يتعلم الطفل في منزله كل شئ، يتعلم الكلام ويتعلم المشي ولكن كيف؟! لم يطلب إليه والده أن يتهيأ ليأخذ دروسا في الكلام أو في كيفية الأكل وهلم جرا كما تفعل مدارسنا الحالية؛ ولكنه اقتبس ذلك كله دون أن تشعر الأسرة بكيفية تعلمه. هو يتعلم عن طريق غير مباشر، عن طريق حياته في الأسرة وعن طريق تفاعله معها. هو في حاجة إلى أمه دائما لأنت لديها الثدي مصدر غذائه. فإذا ابتعدت عنه أمه لتقضي عملا ما، شعر بحاجته الماسة إلى ندائها. قد يلجأ إلى البكاء ولكن البكاء قد يؤدي إلى مجيء الأخ أو الأخت أو الوالد فهل يجد بغيته عندهم؟! كلا. هو يريد أمه بالذات دون غيرها. وعلى ذلك فهو مضطر إلى ندائها. وهكذا ينطق كلمة (ماما) أو هكذا يتعلم الطفل كيف يتكلم. مشكلة تثور في وجهه؛ مشكلة حيوية بالنسبة له تضطره إلى التفكير في حلها والتغلب عليها. ويشعر الطفل أثناء ذلك بقيمة ما يتعلمه فلا عجب إذا رأينا سلوكه خلال ذلك سلوكا(949/19)
تلقائيا. فهو ينطق بمحض رغبته ويتعلم بمحض إرادته، ثم سرعان ما نجده يستعمل ذلك العلم - الذي كان غرضا في أول الأمر - وسيلة لتحقيق أغراض حيوية أخرى ترتبط به. فكلمة ماما سرعان ما تجر معها غيرها من الكلمات (عاوز ماما) وهكذا.
هذه هي الطريقة العملية للتعلم داخل الأسرة وهي نفسها الطريقة الموجودة لدى الإنسان البدائي ولدى الطبقات التي ما زالت حتى اليوم تعيش على الفطرة. يصبح الابن فيشاهد والده متوجها إلى الحقل فيسأل: لماذا؟ ويذهب مع والده فيراه وهو يزرعه. ينظر إليه أولا ثم سرعان ما يشترك شيئا فشيئا، في حراسة المواشي وإطعامها أو في السير خلف المحراث، وهكذا يشترك اشتراكا عمليا في الزراعة فيتعلمها لأن عليها تتوقف حياته وحياة أسرته. لقد امتص واشتق جميع ما يلزمه من معلومات حتى أصبح في النهاية فلاحا أصيلا مع أنه لم يتلق أي درس في أصول الزراعة.
هذه هي الطريقة الطبيعية العملية السيكولوجية التي يمكن أن نلاحظ عليها الميزات الآتية:
1 - إن المتعلم يبدأ فيها كنتيجة لاعتراض مشكلة ما سبيل التعلم، وإن مدى استجابته لها يتوقف على مدى حيويتها بالنسبة إليه.
2 - إن نزوع المتعلم إلى حل مشكلة نزوع تلقائي نابع من ذات نفسه وغير مفروض عليه من الخارج.
3 - إن ظاهرة التغير - لا الجمود - هي التي تلازم سلوك المتعلم، وإن المعلم هو الذي يسيطر على تغيير سلوكه حتى يصل إلى تحقيق هدفه النهائي.
4 - حيوية المادة التعليمية وثبوتها وعدم قابليتها للنسيان وكيف يمكن أن تنسى وقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان.
5 - إن المتعلم يتعلم فيها عن طريق غير مباشر بمعنى أن التعليم ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو فرض يتحول إلى وسيلة ترمى إلى تحقيق هدف جديد. . يغدو بدوره وسيلة أخرى تفتح أمام الإنسان آفاقا جديدة وهكذا تظل المعلومات مستعملة باستمرار فتظل لذلك دائما أبدا خبرة حية نابضة في القلوب والأذهان.
6 - إن ظاهرة النمو والاستمرار في التعلم صفة أساسية في الشخص الذي يتعلم بهذه الطريقة؛ لن ينقطع تعلمه ما دام يحيا ويعيش وسيظل يطلب العلم من المهد إلى اللحد.(949/20)
7 - إن الناحية العملية تغلب على هذه الطريقة. فالطفل داخل الأسرة كالإنسان البدائي في الغابة وكالفلاح في الحقل يعتمد على الناحية العملية في تعلمه إلى حد كبير.
لقد تعلم الطفل النطق لينادي أمه وقد استجابت لندائه فانحلت المشكلة. . ولكن ماذا يفعل إذا ناداها فلم تلب النداء؟! هذه مشكلة جديدة تستدعي منه التفكير والعمل على حلها. قد يحاول الذهاب إليها بنفسه سعيا على أربع. . ولكن المشي أفضل لأنه أسرع فليتعلمه هو الآخر. وهو في كل هذه الأحوال يتعلم بطريقة عملية؛ يقع حينا ويسير حينا آخر. إن الطريقة الطبيعية ذات مظهر عملي يتجلى بوضوح في ممارسة المتعلم بنفسه لما يتعلمه.
8 - إن هذه الطريقة تتمشى مع الطريقة السيكولوجية بمعنى أنها تستند إلى غرائز الإنسان. فنداء الطفل لأمه مصدره حافز غريزي هو البحث عن الطعام.
9 - إن هناك تماثلا وتشابها بين هذه الطريقة وبين الطريقة العلمية الحديثة؛ تلك التي وصل إليها علماء العلوم التجريبية مثل علماء الطبيعة أو الكيمياء، والتي تعتبر في الحقيقة سر ازدهار وتقدمهذه العلوم بل وسيطرتها على توجيه دفة الحضارة الإنسانية في العالم بأسره. تلك الطريقة التي لا تؤمن إلا بالتجارب لأنها سبيل التأكد من صحة الفروض. ولو نظرنا إلى موقف الطفل أثناء تعلمه لوجدناه يشبه في طريقة تعلمه إلى حد كبير جدا عالم الطبيعة أو الكيمياء أثناء تجاربه داخل معمله. ينادي الطفل أمه فتستجيب إليه أحيانا ولكنها أحيانا لا تستجيب. عند ذلك يجرب طريقة أخرى غير النداء. . . يلجأ إلى الحبو ولكن الحبو بطئ. عند ذلك يلجأ إلى المشي. . وهكذا يستمر في تعلمه؛ يجرب هذه الطريقة ثم يتركها إلى غيرها وهكذا. وهو في أثناء تجريبه يحذف الخطأ فلا يتقيد به ويحتفظ بالصواب ويستمسك ما دام يحقق أغراضه في الحياة. وكذلك شأن العالم في معمله بين الغازات والمساحيق وبين الأواني والمخابير. يختبر خواص الأكسجين مثل فيعرف أنه يساعد على الاحتراق. قد يجرب اكتشاف صفات أخرى فإذا لم يجد احتفظ بهذه الصفة المتميزة. ولكن لا يقف عند تحقيق غرضه واكتشافه. . بل يتخذ من هذا الاكتشاف وسيلة إلى تحقيق أغراض أخرى وقد نجح فعلا في استخدام الأكسجين في عمليات اللحام وفي صهر المعادن. وما لنا نذهب بعيدا وقد كان تحطيم الذرة غرضا يتجه إليه العلماء فأصبح الآن وسيلة إلى استخدامها في التدمير كما تبذل الجهود الآن لاستخدامها كوسيلة من وسائل(949/21)
البناء والتعمير.
ألا يحق لنا بعد توضيح هذا التماثل والتشابه بين الطريقتين الطبيعية والعلمية أن نقول إن الطريقة التي يتعلم بها الطفل أو الإنسان البدائي هي طريقة علمية أيضا؟!
لقد وضحنا مميزات الطريقة الطبيعية التي يتعلم بها الطفل داخل الأسرة، ولكننا لم نوضح بعد موقف ولي الأمر في الأسرة من الطفل خلال تعليمه، وكيف يكون؟ فإن ذلك بالنسبة لنا كمربين من الأهمية بمكان حتى نستنتج حدود رسالة المربي كما يجب أن تكون.
أما موقف الأم من ابنها فهو تمهيد السبيل أمامه حتى يستطيع السير فيها. تسدد محاولاته بإرشاده وتصحيح كلامه. تصحيح خطواته هو، وإرشاده إلى مواضع الخطأ في كلامه هو. هي لا تفرض عليه كلاما معينا أو السير وفق خطوات مرسومة. تصحح كلماته وجمله حتى تساعده على التعبير عما يجول بذهنه هو من رغبات وآراء قد تبدو مضحكة بالنسبة لنا ولكنها حيوية بالنسبة إليه. وتقف الأم نفس الموقف من طفلها حين يتعلم المش تحوطه بعنايتها وتقيه ما قد يتعرض له من أخطار. تترك له الحرية في المشي ولكن بعيدا عن أماكن السقوط. تأخذ أولا بيديه ثم بإحدى يديه، ثم تتركه ولكن وهي أقرب ما تكون إليه حتى إذا اختل توازنه استند إلى صدرها الحنون.
موقف الأم، هو موقف الممهد المعبد المذلل للعقبات، لا موقف المتحكم المسيطر المتربص للزلات.
هذا هو الموقف الذي يجب أن يقفه المربي ممن يتعلم على يديه. وقد شبه بعض العلماء تعهد المربي لتلميذه وهو يتعلم، كتعهد الزارع لنباته حين ينمو، وشبهوا نمو التعليم في هذه الحالة بنمو النبات. تنو الشجرة منذ أن كانت بذرة في باطن الأرض إلى أن تذبل وتموت. كذلك يجب أن يشبه التعليم النبات في نموه؛ فيستمر من المهد إلى اللحد، والنمو في النبات نمو تلقائي. تنمو الشجرة من تلقاء نفسها وبنفسها، ولا يستطيع الزارع إصدار الأوامر إليها بالنمو سريعا أو بطيئا، وكذلك يجب أن يكون نمو المتعلم تلقائيا أيضا.
ولا يترك النبات مع ذلك هكذا دون عناية؛ بل إن الزارع يحوطه بعنايته دائما ويلازمه خلال أطوار نموه، وهكذا يجب أن لا نترك المتعلم نفسه.
والنمو في النبات عملية مشتركة بين الزارع وبين النبات. . وكذلك يجب أن يكون التعليم(949/22)
عملية نمو متواصل مشترك بين المعلم والمتعلم.
ويشبه موقف الزارع من النبات الموقف الذي يجدر بالمربي أن. . يقفه فالزارع لا يترك نباته حرا ينمو كما يشاء، وإلا اعوج عوده، وما استقام له ظل قط. كما أنه لا يتركه بمفرده ليقاوم آفات الزراعة من ديدان وحشرات، وإلا كان معنى ذلك أنه يتركه ليموت. وكذلك لا يجدر بالمربي أن يترك تلميذه هكذا حرا يفعل ما يشاء، ولكن ليس معنى ذلك أيضا أن يقيد حريته ليتحكم فيه ويستعبده، وهل يتحكم الزارع في النبات فيطلب من بذور الجرجير أن تنتج تفاحا، أو يأمر القمح بالنمو سريعا حتى يحصده بعد شهر، بينما هو يحتاج إلى شهور؟! كلا ولكنه يرعى نباته ويقف منه في نموه موقف المدافع عنه ضد كل ما يعوق سير هذا النمو المتصل. يلتقط الديدان ويحرقها، ويجلب السماد، ويمنح نباته الماء ولكن بمقدار، وفي ميعاده بالذات. وكذلك المربي سواء كان ولي أمر أم غيره، يجب ألا يصدر الأوامر إلى ابنه بأن يصبح طبيبا أو مهندسا، وألا يجبره على تعلم ما لا يريد، وأن لا يحرمه من تعلم ما يريد. وإنما يجب على المربي أن يقدم للمتعلم ما يطلبه بنفسه من زاد علمي، وأن يزيل من طريقه العقبات حتى يستمر في تعلمه وإشباع ميوله ورغباته. . وهذا يضطر المربي إلى التفكير فما يجب تقديمه للمتعلم، فيعمل هو الآخر ويشترك. . وتيسر عملية التعلم سيرها الطبيعي: نمو مشترك وعمل متواصل من جانب المتعلم والمعلم، وكما أن النمو هو دليل الحياة في النبات. فهو كذلك دليل على حياة المتعلم أيضا.
للكلام صلة
كمال السيد درويش
ليانسيه الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي مدرس
بالرمل الثانوية(949/23)
رحلة إلى الحجاز
للشيخ مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
- 2 -
بين رحلة الشيخ الأولى إلى الحجاز سنة (1130هـ) والثانية (1145هـ) خمسة عشر عاما. وفي هذه الرحلة وصف أدق للطريق من الأولى، وقد رافقه فيها كل من الشيخ جرار، كبير جبل نابلس، والشيخ حسن بن مقلد الجيوسي شيخ بني صعب، وكلاهما من شيوخ الحزب القيسي في جبال نابلس.
وقد اجتمع الشيخ بعبد الله باشا، وذلك بواسطة محمد ابن مكي الغزي، وكان الأخير في معية الباشا، ومن أتباع الشيخ، وعبد الله باشا أحد ولاة الشام، وقد كان واليا لها سنة (1143هـ) أي قبل سليمان باشا العظم.
ويتعرض الشيخ إلى ذكر أذية الأعراب للحج، ويصف لنا زيارته للمدينة، ومكة، وينزل في مكة في بيت الشريف يحيى ابن بركات ويمدحه ويثني عليه، ولا يترك الشيخ هذه الفرصة تمر، فينشر طريقته في الحجاز، ومن بين الذين أخذوا عليه العهد مدرسان في الحرم الملكي.
ثم يصف لنا طريق رجوع الحج، وما قاساه في طريقه، ويذكر الجردة، وقلعة هدية التي عمرها سليمان باشا العظيم، وقلعة (جفيمان) التي عمرها الوزير عبد الله باشا.
ولنترك الشيخ البكري يقص علينا الآن رحلته الثانية إلى الحجاز فيقول:
(وبعد فيقول العبد الفقير للمولى الغني، مصطفى سبط الحين الصديقي، لما شاء الحق التوجه إلى بيت الله وزيارة رسول الله وقد هيأ الله للمسير لوازمه وسهل أسبابا وتوجهت الهمة، غب عزمة، للمنازل الرفيعة، وذلك بعد تكرار سنة استخارة وتحرر استشارة، وكان المسير إلى المقام الخطير، يوم السبت خامس شوال في ثاني ساعة منه، حان الارتحال، عن الأهل والأولاد والعيال، عام خمس وأربعين ومائة وألف (1145هـ - 1732م) وكنا ودعنا خلانا وأصحابا، وجيرانا وأحبابا، وإخوانا وأنسابا، ولم ينزعج الفؤاد، إلا لوداع(949/24)
ثمرات أكباد من الأولاد، لم تدر من عجمة إعرابا، فطفت المدامع على الخدود بروقها لوامع، مرسلات كالهوامع، القوامع التي لا تقر انسكابا، ولم نخرج من الدار حتى ودعتها كالحرم الجامع للأنوار، بركعتين، وفيض العين كالعين، أضحى منسابا وذكرت بعض ما ورد في الخبر لمن أراد السفر للسفر هلاله الأبدر لا يقدر حسابا. وفيه من قاله رزق خير ذلك المخرج وصرف عنه شره، وهو بسم الله واعتصمت بالله، وتوكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
في وداع الشيخ البكري:
(وممن خرج للوداع شيخنا الأوحد، بيضة البلد، جانب الشيخ محمد الخليلي المفرد، ومعه جمع يحمد، رفع الله منهم ومنه جنابا، وقد ألهم في تلك المواقف دعوات يعجب منها صاحب المقاصد والمواقف، ألاقت دواة المدامع وأجرت انسحاب الواقف، إذ جبرت في الميادين جوابا، وتذكرت هنا قول قرنيا السيد نصري نجل السيد أحمد الحصري الحسيني، حين ودع شيخه من إقامة خليفة بعده فأحسن ذهابا وإيابا، الشيخ عيسى الكناني منحهما ديانى صوابا وحباهما آدابا (السم من ألسن الأفاعي؛ أيسر من قبلة الوداع).
(وحين عزمت على السير إلى معالم الميراث والمير، أحببت أن أضع رحلة تجمع ما يحصل منه خير، وأن أسميها (الحلة الرضوانية الإنجازية الدانية، في الرحلة الإحسانية الحجازية الثانية).
(وبعد أن ودعنا أولى الوجوه النيرة، وسرنا إلى قرية (ألبيرة) بمقلة دامية غير قريرة، واحشا بوحشة الفراق كسيرة ولدي أرجائها الندية، ودع صديقنا ابن هندية.
ومنها أتينا (الحلزون) بهون، وعاد الرفاق مصاحبين العون والصون، وارتحت هنية عند بير زيت ودعيت إلى المبيت فأبيت، ولما صليت استدعيت كاسات قهوة سودا وكان الفراق سقاني الحمرا، راجيا بشرب ابنة اليمن يمنا يطفي من الزفرات جمرا، وجلسنا في قرية (عارورة) جلسة خطيب مشهورة، وأتينا (المزارع) والقلب من الندم قارع، وبتنا وقد تخلف زارع الجميل، الجاني بتأخره فلم يجن ثمرة الإكرام من الجميل، مع ادعائه الحب الرابي كالحب المرابي وأنه في فنائنا المحلي لدى القرع بحلاوة القرع تربى، فكانت الليلة ليلة محب سليم، أو ضرير وقع في غدير، وخيم، سماءها ناقية من الصفا، أنقى من الراحة في(949/25)
حان الوفا، وأسريت وقلت:
قد علونا متن الخيول صباحا ... كي نرى في السرى وجوها صباحا
فتلقى من أهل (سلفيت) ناس ... لست ناس لهم عقودا صحاحا
وهذا الأخ ماله في الصداقة أخ، وقد ترجمته في (أردان حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان) وفي الرحلة القدسية الأولى والثانية، أسكنه الله جنة قطوفها دانية، وتلقانا أهل (مردا) من لم نجد لدعوتهم مردا، وبتنا في (جماعين) فجاءنا الأخ المساعد والمعين، الحاج حسن مقلد (الجيوسي) ونزلنا معه إلى نابلس.
في نابلس ومنها إلى كور فجينيين:
(وذلك نهار الاثنين ورحلنا يوم الخمس من (الدرويشية) إلى قرية كور غور بأمور فرشية، وكنا حصلنا في نابلس بسطا بساطه مهدور، والإخوان يناجون الودود في الأسحار بكبد مقصور، وقد حمى الثغر منهم بالوداع وهو مبرور.
(وبتنا ليلة الجمعة في (كور) ونصبنا الخيام يومها المشكور، وسرنا يوم السبت غب وداع مذكور، إلى حوض السيلة والدمع زاد الفراق سيلة، وكنا نزلنا (رامين) لسلاح الافتضاح رامين، وفي (الحوض) ودعنا إخوان الصفا وسرنا إلى (برقين) وفيها ورد الأخ الأمجد الشيخ أحمد الموقت ناو على الحج، وعمدنا (جينين) واجتمعنا بالمجذوب ذي الفنون، الشيخ أحمد قبون، وكان قد صحبنا الشيخ خاطر، فبشر بما يسر الخاطر
من الجالوت إلى جسر المجامع إلى الطيبة فهما فأريد:
(وارتحلنا إلى (الجالوت) المباح غيره لا كنهر طالوت، وكنا اجتمعنا بكبير جبل نابلس الشيخ جرار، عازما على التوجه إلى الحجاز وتلك الدار، ولم يصحبنا إلا طالب الاغتنام، المدعو في الآكام غنام، وسلامه القيصني قاصدا بالخدمة الاستخدام، وجزنا جسر المجامع، وحزنا البسط الجامع، واسترحنا لدى (الصما) والأذن عن الفحشاء صما وقلت:
عدت أذني عن الفحشاء صما ... سويعة إذ مررت بأرض صما
وطاب الوقت لما أن حللنا ... بطبية وأفنى والحق غما
ومن (الطيبة) نحونا (أريد) والوجه يرغى ويزيد.(949/26)
في المزيديب مع الحج:
(ومنها في الصباح، عمدنا المزيديب للاصطباح، ولما قبيل الظهر إليه وصلنا، وعلى الهموم والأكدار صلنا، رأيت حجا موفورا، وجمعا موقورا، وأول من تلقانا، وأكرم بالتأهيل مثوانا، صديقنا المعجون المعروك في أواني السلوك إلى ملك الملوك الشيخ يوسف المملوك، المنظوم المحبوك، في سلك أهل اليقين لا الشكوك، وهذا الذي صدق فيه، قول النبيه بملء فيه:
وإذا العناية ساعدت عبد الشرا ... نفذت على ساداته أحكامه
وأنزلنا في خيامه، وقابلنا بإكرامه، وجاءنا بعد أن استقر بنا المقام في فسيح الخيام، الصديق الرفيق والخطيب الإمام، الشيخ نور الله الجامعي وولده الأخ في الله الشيخ عبد الحق المراعي، فسلما سلاما التزام، واشتياق ينبئ عن أوام، ورأيت في مزاج ولده كثير فتور، فقلنا يزول بمعونة الغفور النور
اجتماع الشيخ البكري بالوزير عبد الله باشا:
(واجتمعنا بواسطة الصديق الأمجد، محمد أفندي مكي المفرد، بالوزير عبد الله باشا، منحه الله انبساطا وانتعاشا.
(وجاءني محب أهل الصلاح، الشيخ محمد صلاح، وهو ممن يسلم للطائفة العلية الملية الأقداح، لما له لائح الحق الصراع لاح، سيما الأكبر فقدألقى لدى شطه المراسي وأرمى السلاح، ومعه الباب من الفتح الملكي المملوء الأقداح، بالكلام على الأسماء الإلهية المجلوة الألواح، وطلب أن يسمعه الفقير في كل نزل حضره أو أكثر تغنى عن الراح، ولم يزل إلى أن ختمه في العود الجليل فارتاح.
في الطريق إلى المدينة المنورة:
وتوجهنا نقطع المراحل الحجازيه، المسماة في الحلة الحقيقية لا المجازية في الرحلة الحجازية، إلى أن وصلنا (العلا) بحول طول من جلا وعلا. وبتنا ثاني ليلة على نية الإقامة، وكانت للأخ الشيخ عبد الحق كرامة، فانه انتقل ثلث الليل الأول، إلى جور الكريم الرحيم الأول، وصبر والده وصبر مجاد، ودفناه قرب الجبل في تلك المهاد. رحمة الّله.(949/27)
(وقد غبطه على هذا الاندراج، لما في الحديث الشريف الذي يرفعه جابر، (من مات في طريق مكة لم يعرضه الّله يوم القيامه، ولم يحاسبه) وقد ذكرت هذا الأخ في الرحلة الثانية القدسية، لأخذه الطريق واندراجه في النسبة الأنسية،
(ثم سرنا قاصدين مدينة الرسول، دار الحصول، ومنزل السول، قبلة الإسلام، ودار الأعيان وارض الهجرة، ومبوء الحلال والحرام، حرم الأمان المفتوحة بالقران، التي رمضانها وجمعتها خير من ألف رمضان وجمعة فيما سواها من البلدان، والتي لا يدخلها رعب المسيحالدجال ولا الطاعون، ومن كاد أهلها انماع كما ينماع الملح في الماء، فليحذر الكائد المفتون، المؤذي جيران قرة العيون، فان الأمين المأمون لا يتخلى عنهم ولا يكون. نسأل الّله أن يلهم ولاة الأمور إلى السعي في إكرامهم كما يكرمون، والتوجه إلى ما فيه راحتهم وأمنهم من كل ضرر من حرب أو غيرهم يكون.
للرحلة بقية
سامح الخالدي(949/28)
رسالة الشعر
إلي هناء. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
(هناء): يا ملاحن الأطيار ... وفرحة النسيم بالأزهار
وبسمة الخميلة المعطار ... وضحكة الأمواج للدراري
ورقصة الغصون في الأسحار ... ورنة الأقداح والأوتار
ويا صدى ترنيمة الهزار ... ويا ربيع الحب في آذار
لو لاك ما جن هوى قيثاري
وفاح عطر الحب في أشعاري
(هناء): يا بهجة عين الرائي ... يا كوثر الجوانح الظلماء
يا نفحة الزنبقة العذراء ... يا عبق الطيوب والأشذاء
يا قمرا أشرق في سمائي ... أقسمت بالحاجر الشهلاء
وبابتسام الشفة اللمياء ... وبائتلاف الليلة القمراء
لو لاك ما طربت للغناء
ولا تنسمت شذى الأنداء
(هناء): يا إشراقة الجمال ... ويا مثالا صيغ من جلال
يا بسمة الأوطار والآمال ... رفت على ثغر المنى حيالي
أهواك يا أنشودة الليالي ... رددها في مسمع الأجيال
شاعرك المفتون بالخيال ... فالوتر النشوان بالوصال
لما يزل يقتات بالمحال
ويستثير الشك بالسؤال
(هناء): يا ترتيلة الحنان ... ويا شعاع القمر النشوان
ويا شذى البنفسج الغيسان ... ويا أماني العاشق الولهان
ويا مثال الطهر في الحسان ... فداء عينيك الذي أعاني
هواك يا نعمائي قد أضواني ... وألهب الأشواق في جناني(949/29)
وفجر الدموع من بياني
فمشت كالمفجوع بالأماني
(هناء): ما أنت سوى هناءي ... يا نجمة زهراء في سمائي
ونسمة مرت على رمضائي ... وواحة تحلم في صحرائي
وفرحة تهزأ من بكائي ... حبك ينبوع من الرجاء
يفيض بالآلاء والنعماء ... يا أملي في غمرة الأرزاء
خذي بكفي في دجى الشقاء
ونضرى عودي باللقاء
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
مشهد من مآسي الحياة بين اللاجئين
للآنسة سميرة أبو غزالة
مشت في وجوم الأباء الطريد ... كطيف (حبيب) لحلم قريب
وشاح الشقاء على جسمها ... وفوق المحيا وشاح المغيب
تجر خطاها وئيدا وئيدا ... فيسمع للمشي لحن كئيب
وفي ذلة تستجير المجير ... وتبدي يداها إلى من يجيب
وفي صدرها أنة الفاقدات ... وقصة ذاك النعيم السليب
نظرت إليها وفي لهفة ... تراءى لعيني خيال حبيب
معاذ الإله فأين الثراء ... أيحرق في هبوات اللهيب؟
أحقا سليمى تراءيت لي ... أم للعقل في غمرات الشيب
أحقا أراها وفي البؤس تحيا ... وفي مثل هذا الصراع المهيب
وفي رجفة الحزن تابعتها ... لأكشف ذاك القناع الرهيب
دخلت بصحن به نسوة ... من (اللد) كل شريد طريد
فتلك تئن وأخرى تنوح ... وطفل يموت وكهل قعيد(949/30)
وفي آخر البهو باب ينادي ... تعالى ترى ما يفل الحديد
فأسرعت في خطوات السكارى ... وبؤس الحياة بقلبي يزيد
أدق بكفي باب المآسي ... وأقرعه في ذهول الشريد
وطال انتظاري فلا من مجيب ... ولا من برد ولا من يريد
فألقيت جسمي على الباب فورا ... وقاومته في صراع شديد
إذا كومة من حجار تزول ... ويكشف ذاك الستار الجديد
هنا مشهد من مآسي الحياة ... هنا مصرع للجهاد الشهيد
هنا جسم سلمى هنا روحها ... لبت أن تعيش معاش العبيد
سليمى تعانى أقسى الرزايا ... تشد إلى الصدر طفلا رضيع
وقد أسلمت روحه للإله ... ومالت عليه بشكل مريع
وفي وجنتيها اصفرار المنايا ... وفي ناظريها الإباء الفجيع
وفي الجسم من طعنات المآسي ... بقايا حطام النعيم الصربع
سليمى دوا بؤس تلك الحياة ... أتلقين هذا الجحود السريع
لقد كنت نورا ومجدا ونبلا ... وقد كنت للحق ركنا منيع
فيا موطني حاد عنك الوفاء ... وزاد البلاء وزاد الفجيع
ويا موطني داهمتك الليالي ... كوحش هصور لحمل وديع
توالت عليك رعاة المآسي ... ومالت إليك ذئاب القطيع
سميرة أبو غزالة(949/31)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
(الريفبيرا) المصرية:
ما زالت أذكر ما كتبته إلى صديقي الأستاذ سيد قطب حين كان بأمريكا، في رسالة خاصة، إذ قال ما معناه: إن بلادنا أحفل بلاد الدنيا بالخير والقوة والجمال. وكل ما في الأمر أن الطبيعة والإنسان فيهما مهملان. وكنت أجادله في رسائلنا الخاصة التي نشرت طرفا منها في هذا الباب من (الرسالة)، ساخطا على ما أراه في البلاد من قبح واضطراب، وكان يجيبني بالمشاركة في هذا السخط، ولكنه يردني إلى تلك الحقيقة التي زاد إيمانه بها سفره إلى هنالك. .
ذكرت ذلك وأنا على هذا الشاطئ الذي أبدعت صنعه يد الله وقصرت بجانبه يد الإنسان. . هنا شاطئ البحر الأبيض المتوسط يمتد على الساحل المصري بجوار بلطيم نحو ثلاثين كيلومترا، حيث يتآخى الرمل والماء، ويتعاونان على تهيئة مصيف لعله يصلح أن يكون أجمل مصيف في العالم.
الرمل منبسط ممهد على طول الشاطئ تقف الكثبان على حراسته من بعيد، ويفد إليه الموج رفيقا فيثب على أديمه الداني يداعبه، كما يثب الكلب الودود على صاحبه يلاعبه، ويرتد عنه تاركا صفحة بيضاء مسواة كأرضية رخامية أبدعها يد صناع. وكأن البحر يريد أن يعلم الإنسان كيف يجمل هذه البقعة، ولكن الإنسان يأبى أن يتعلم!
وكثيرا ما يطيب للبحر هنا أن يغفو، فتراه كسلان مخدرا، كأنه (مسطول!) مما يلقى إليه من (حشيش) الشآم. .! فأنفاسه خافته، وحركته بطيئة وانية، وصوته ضحكة مجرجرة منغمة. . لست أدرى أهي مثل ضحك سائر الحشاشين لا سبب لها ولا باعث إلا مجرد الرغبة في الضحك. . أم هي ضحكة استهزاء وسخرية من هذا الجندي الواحد الذي تزعم الحكومة أنه يحرس سبعة كيلومترات على الشاطئ من أن ترسو عنده إحدى سفن التهريب بالليل أو بالنهار! واستيقظ البحر مرة عندما لمح ذلك الجندي إحدى تلك السفن تقترب في الظلام من الشاطئ، فأطلق عليها بندقيته المتواضعة، فأجابته السفينة بمدفع متكبر أرداه. . استيقظ البحر فعلا صوته، لا أدري هل زمجر غاضبا من المهاجمين بالسموم والنار، أو(949/32)
قهقه ساخرا من قلة الحراس ووهن الحراسة.
وأدع للشعراء مرأى شروق الشمس ومشهد غروبها، عساهم يصوغون من منظر الغروب قرصا ذهبيا فيودعونه المساء في الغرب، ثم يرتقبون بزوغه على الماء من الشرق وهو يحمل على السحب بأشعته النافذة حتى يدميها. . فتبدو زرقتها مختلطة بالدم في لون بهيج!
أدع ذلك وما إليه لإخواننا الشعراء يهيمون فيه، لأعرج على هذه الأعشاش القائمة الآهلة برواد البحر ومنتجعي السكون وطلاب الجمام في هذا المكان. وهنا نرى مدى التقصير في حق ذلك الجمال! بل مدى الغفلة عن الانتفاع بطبيعة ساحلنا الذي يفتح لنا ذراعيه فنعرض عنه وننأى.
أول ما يتجشمه القاصد إلى المصيف عناء السفر ووعورة الطريق، فإن القادم من القاهرة عن طريق المواصلات العامة، يكاد ينفق يومه كله حتى يبلغ المصيف. تتعاوره وسائل النقل الحديثة والمتوسطة والقديمة، فإذا تسامحنا واعتبرنا هذه القطر التي تستعملها السكة الحديدية من الوسائل الحديثة. . فبعدها شيء يسمونه (قطار الدلتا) وهو يسابق السلحفاة في البطء. . فيسبقها بكثرة العطب! وهذا من الوسائل المتوسطة لأنه هو الذي قيل فيه عند اختراع القاطرة: إنه يزعج الدجاج فلا يجعلها تبيض!
أما الوسيلة الثالثة فهي الحمير. . وما أكثر الحمير هنا! ذلك كله والمسافة كلها لا تزيد على 180 كيلومتر، أي أنها أقل مما بين القاهرة والإسكندرية.
ونسمع أن مصلحة السياحة قررت صرف ثلاثة آلاف جنيه لإصلاح هذا المصيف، وهي جعجعة لا نرى لها طحنا. . وحسبك أن تعلم أن ماء الشرب يجلب إلى المصطافين من أبار بعيدة ويباع لهم بثمن يساوي اللتر فيه خمسة مليمات! فهل رأيت مثل ذلك فيبلاد للنيل فيها غدوات وروحات. . .؟
وتصور الساحل الثاني لهذا البحر في (الريفييرا) الفرنسية و (الريفيرا) الإيطالية وغيرهما - تصور ما يغمر ذلك الساحل من أضواء وأنوار، ثم انظر إلى (الريفييرا) المصرية ترها متلفعة برداء من الظلام ذي ثقوب تطل منه المصابيح ذات (الشريط نمرة 10) وسيقولون إن المصيف أنير في هذا العام بالكهرباء، وهي دعوى لا دليل عليها إلا الأسلاك الممتدة التي تنوء بعبء التيار، فتقطعه ولا توصله، فلا تغني عن تلك المصابيح شيئا، وهناك دليل(949/33)
آخر على تلك الدعوى هو ما دفعه المصطافون من النقود لقاء عدم الاستهلاك!
والمرافق الأخرى ليست بأحسن حالا. فرسائل البريد والبرق لا موزع لها، إنما تبلغ مستقرها عند الشباك حتى يأتي من يسأل عنها! والخبز أحيانا نتفقده فلا نجده، وقد أقيم له مخبز لا بقى عجينه من الرمل. . وهذه آخر مرحلة تطور إليها خلط الرغيف منذ الحرب الماضية!
والعجيب أن يكون مصيف بلطيم على هذه الحال البدائية، وعمره أربعون سنة. فقد ظل هذا الزمن لا يلتفت إليه أولو الأمر وفي الوزارات لجان لتحسين المصايف وتشجيع الاصطياف وعندنا سياسة مرسومة للسياحة أهم أغراضها جلب السائحين إلى البلاد لتستفيد منهم استفادة اقتصادية. . وفي رأيي أن الشاطئ المصري، في مواقفه المختلفة لو وجهت إليه العناية أصبح كعبة القصاد من خارج البلاد، فضلا عن أهلها الذين يرحلون عنها ليبذروا المال ويغدقوه على الأجانب.
مقامة الرغيف:
ومن طريف ما وقع هنا، أن ضاق أحد الزملاء، وهو الأستاذ عبد الله حبيب، برداءة الخبز. وبجوارنا أستاذ فاضل من بلقاس هو الأستاذ عبد القادر الشايب المدرس الأول للغة العربية بمدرسة بلقاس الثانوية، وقد رتب أمره - لخبرته بالمصيف - على أن يخبز له في منزله ببلقاس ويرسل الخبز إليه في (عشته). . فما عرف الأستاذ عبد الله حبيب بهذا حتى تذكر (أبا زيد السروجي) فاستعان بطريقته، وكتب إلى الأستاذ الشايب ما يلي:
(كتابي إلى السيدالجليل، نضر الله عشه، وأكثر (عيشه) وأدام على الأيام هشه وبشه. فقد جئت إلى هذا المصيف، فحيرتي منه أمر الرغيف، فهو تارة كالحندويل! وتارة كعيش بردويل (أسم بلد). الرمل في خلاياه شائع، وعجينه صائص مائع، والأمعاء - أجارك الله من هذا وذاك - لا تقوى على هضمه، والأسنان لا تقدر على قضمه وقد تفضل السيد ببعض (عيشه) فهرعنا إلى عشه، وما زلنا به نستجير، وهو نعم المجير، ثم صدنا الحياء عن ورده، فعدلنا عن قصده. ودلنا جيران السوء على عجوز في أقصى المصيف. قالوا إنها تحسن صنع الرغيف، فأحضرنا لها الدقيق، فظهر أنه من السويق، وخلطته - لا بارك الله فيها - بالرمل والتراب، فجاء كعيش الغراب، وقد عافته نفسي، بعد أن أذهب أنسى،(949/34)
وآذى حسي. وأنت أيها السيد عن ضيوف إقليمك مسئول، فلا بد من إرسال شحنة صغيرة. لتكون تصبيرة، ولا بد من أن تدلنا على أمثل طريق، أيها الرفيق، فإذا لم تدركنا بالمشورة، فسنوالي طلب التصبيرة، وأمرك لله من قبل ومن بعد، وسلام الله عليك ورحمته)
الثقافة المصرية في السودان:
تعمل الآن وزارة المعارف على الإعداد لموسم المحاضرات الثقافية التي يلقيها بعض الأساتذة المصريين في الأندية السودانية وهو موسم جرت الوزارة على تنظيمه منذ سنة 1944، وقد نشر أن معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف سيفتتح الموسم القادم بالخرطوم في نوفمبر القادم. ولا شك أن معاليه لو استطاع أن يفرغ من شواغله الكثيرة ويسافر إلى السودان ويفتتح الموسم فعلا، فإن ذلك يكون ظفرا عظيما لإخواننا في الجنوب، ويكون منهجه فيما يحاضر به هناك مثالا للأساتذة الذين اعتادت الوزارة أن توفدهم إلى هناك.
وهذا الكلام يحتاج إلى شئ من البسط.
جرت وزارة المعارف على أن تختار أولئك المحاضرين من موظفيها كمفتشي التعليم، وأحيانا تضم إليهم بعض الموظفين في مكتب معالي الوزير، وهؤلاء لهم خصائص معينة فيما يعدون من محاضرات، هي خصائص مدرسية مكررة لا ابتكار بها ولا يتميز فيها جهد بارز، وأذكر أن بعض الصحف السودانية وصفت هذه المحاضرات بأنها معلومات تدرس في المدارس الثانوية وليس في هذا الوصف مجانبة للحقيقة، فإن المحاضرين من المدرسين الذين قضوا سنين كثيرة مشغولين بما في مناهج المدارس لا يكادون يخرجون عنه. . وبعضهم من مؤلفي الكتب المدرسية المعروفة في مدارس السودان كما هي معروفة في مصر. ولا شك أن إخواننا السودانيين الذين يقرءون الإنتاج المصري الحر، ويطالعون ما فيه من روائع، ثم يسمعون تلك المحاضرات التقليدية (الرسمية) - معذورون إذا هم صدموا بالفارق بين هذه وتلك، كما أنهم محقون إذا وصفوا الأشياء بصفاتها.
وهناك نوع من أولئك المحاضرين، يحب أن يدل على (تجديده) أو على (عمقه) أو على (وطنيته) فيشوب الموضوعات الثقافية بإشارات سياسية، تفسد الثقافة، وتفسد السياسة، أما إفسادها الثقافة فتأتي من ناحية التكلف الذي يحرف الأمور عن مواضعها والذي يفسد كل(949/35)
شئ، وأما الجانب السياسي فنحن لا نجني من هذه الإشارات إلا ما نجنيه في مصر من المهاترات الحزبية، ويجب أن يعلم هؤلاء الأساتذة أنهم مبعوثون إلى إخواننا الجنوبيين جميعا على اختلاف أحزابهم وطوائفهم، وأن مهمتهم الثقافية الخالصة هي التي تخدم الوحدة، أما ما يبغونه من الظهور بمظهر البطولة فإن عاد إليهم بشيء من (الوجاهة) في نظر السطحين، فإنه يجر إلى جانب ذلك كثيرا من الحزازات ويغرس النفور في النفوس.
وليت وزارة المعارف تخرج عن تلك (الرسمية) المقفرة فتختار بعض الأدباء المعروفين بآثارهم القلمية الناضجة ليشاركوا في موسم المحاضرات المصرية بالسودان فتتيح لأهله أن يروا الوجوه التي يقرؤون لأصحابها، ويصلوا ما يقرؤون بما يسمعون، ولعل في هؤلاء من يطلع بما يفتقدونه في أولئك.
توصيات اللجنة الثقافية:
تجتمع بالإسكندرية الجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، وقد بدأت اجتماعاتها يوم 20 أغسطس الماضي، ولا تزال توالي هذه الاجتماعات حتى كتابة هذا. وقد فرغت من النظر في بعض الموضوعات المعروضة عليها، فقررت توصياتها فيها.
نظرت في موضوع ترجمة الكتب العالمية التي تهم العالم العربي فأوصت الإدارة الثقافية باتباع الوسائل التي تراها كفيلة بعدم تكرار الجهود في الحكومات العربية وبين المترجمين الأحرار في الترجمة العربية.
ونظرت في تشجيع التأليف، فرأت أن تخصص الجامعة العربية جائزتين لهذا الغرض تمنحان سنويا، على أن تؤلف لجنة خاصة لوضع شروط هذا المنح، وقد رؤى أن تخصص الجائزة الأولى لأحسن كتاب عربي علمي أو أدبي يخدم فكرة تتصل بتحقيق غايات الجامعة العربية وأهدافها العامة، وأن تخصص الجائزة الثانية لتكليف مؤلف عربي أو أكثر وضع كتاب يستكمل وجها من اوجه النقص في مجال التأليف العربي المتصل بدراسة حياة العرب وفكرهم وحضارتهم، وترى اللجنة أن في حياة العرب وتراثهم القديم ونهضتهم الحديثة كثيرا ما يستحق التسجيل بالوسائل العصرية كالسينما، ولذلك توصي بأن تعني الدول العربية بتصوير أفلام تعليمية وتعريفية عن حياة كل منها لتعريف العرب بعضهم ببعض، وتعريف العالم الخارجي بالحياة العربية ونهضتها في العهد الحديث.(949/36)
ونظرت اللجنة في موضوع نشر الثقافة بين الكبار، فسجلت بالتقدير ما أصابته تجربة تثقيف الكبار في مصر من نجاح، وأوصت سائر الدول العربية بتعميمها، على أن تتبع في ذلك المبادئ الآتية:
1 - أن يبدأ تثقيف الكبار بعد المرحلة الإجبارية من التعليم وحيث تنتهي فترة التعليم الأساسي.
2 - يعهد إلى المختصين في وضع كتب في الحد الأدنى لما يلزم المواطن العربي الصالح لتعريفه حقوقه وواجباته الأساسية. ووضع كتب لمعالجة مشاكل الحياة اليومية كالصحة والاجتماع والتدبير المنزلي وبعض الحرف البسيطة للرجال والنساء.
3 - تعد أشرطة سينمائية للتثقيف والإرشاد.
4 - إعداد دراسات ثقافية في دورات معينة لخريجي المدارس الثانوية الذين حالت ظروف الحياة دون إكمال تحصيلهم. .
عباس خصر(949/37)
رسالة النقد
نقد
معجم شمس العلوم
طبعة أوربا صفحاتها 346 طبع في بريل بليدن 1370هـ (1951) طبعة اليمن صفحاتها 491 (مطبعة الحلبي بالقاهرة 1370)
للأستاذ أحمد عبد الغفور عطار
عندما قرأت منذ عشرة شهور في مجلة الرسالة نبأ اعتزام حكومة اليمن نشر معجم (شمس العلوم) تأليف نشوان بن سعيد الحميري كتبت كلمة أحيي فيها حكومة اليمن ومن انتدب لتحقيقه والإشراف على طبعه وقلت:
(إنني أرجو من حكومة اليمن التي تتولى طبع المعجم وإخراجه أن تعنى به عناية لا مزيد عليها، لأن حياة الكتاب طبعه طبعا أنيقاً، مصححا تصحيحا دقيقا، ونشره نشرا علميا صحيحا، ولا بد لطبع هذا المعجم النفيس من لجنة تشرف عليه لجنة فاحصة محققة تتولى تحقيقه وتصحيحه وتجنيبه التصحيف والتحريف والخطأ، وتعلق عليه، وتسهل مراجعته لكل من يريد الكشف عن كلمة من الكلمات).
واقترحت تكوين هذه اللجنة، وأن يكون بينها عالمان جليلان هما الأستاذان عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر.
وكانت كلمتي بالرسالة تحية لليمن وتقديرا لجهوده العلمية ويقظته الجديدة ومشاركة مصر جهودها الضخمة في ميدان العلم والفكر.
والآن وقد انتهى طبع الجزء الأول من (شمس العلوم) ووصل إلى بعض القراء واطلعت عليه فإن من اللازم على أن أقف القارئ على حقيقة عمل إخواننا اليمنيين وما بذلوا من جهد في سبيل إخراج هذا المعجم.
ومن عجيب المصادفات أن تصدر من (شمس العلوم) طبعتان في سنة واحدة. أحدهما في أوربا والثانية بالقاهرة، ولكن شتان ما هما، وصدرت طبعة أوربا شهر رجب 1370 وطبعة اليمن منذ شهر.(949/38)
أما طبعة اليمنيين فرديئة إلى حد بعيد من الناحية العلمية وإن كان الورق صقيلا والطباعة حسنة جميلة تشهد لدار الحلبي بالجودة والإتقان والتقدم. وأما طبعة أوربا فممتازة رائعة: الورق أبيض صقيل من الورق الغالي المترف، والطباعة متقنة. وتفضل طبعة أوربا طبعة اليمن في كل شئ، في خلوها من الخطأ والدقة في التصحيح، والعناية بالنشر والتحقيق والمراجعة التي لا مزيد عليها، ووصف الكتاب وطريقة مؤلفة ونقده.
وقد قام بنشر (شمس العلوم) في أوربا المستشرق السويدي العلامة زترستين وصدر منه الجزء الأول منذ شهور، وطبع بمطبعة بريل بليدن، وهو يحوي أربعة حروف: أ، ب، ت، ث، وعدد صفحاته 275 صفحة، وكلاهما باللغة الألمانية، درس فيه (زترستين) هذا المعجم الرحب الفضفاض دراسة دقيقة.
والحق أن طبعة أوربا صحيحة دقيقة متقنة، وقد قرأت منها صفحات كثيرة فألفيتها صحيحة دقيقة لا خطأ فيها مما يدل على العناية البالغة والخدمة التامة والجهود العظيمة التي بذلها هذا المستشرق المخلص في عمله.
أما الجزء الأول الذي أخرجته حكومة اليمن، ووقف على تصحيحه القاضي عبد الله بن عبد الكريم الجرافي اليمني مندوب وزارة المعارف اليمنية فلا يوثق به، ويجب أن يهمل، لأن كل صفحة منه لا تخلو من خطأ يسئ إلى اللغة والفكر، وأنصح الحكومة اليمنية أن تتلف هذا الجزء وتعيد طبعه من جديد إذا كانت حريصة على نشره، وتكل تحقيقه إلى محققين يوثق بعلمهم وتحقيقهم وفهمهم للنصوص العربية واللغة والشعر من أمثال الأستاذ الجليل عبد السلام هارون.
إنني آسف جد الآسف على هذه الخسارة التي تكبدتها حكومة اليمن، وكنت أود أن يبذل من الجهود في نشر (شمس العلوم) ما يكون كفاء ما بذل من المال، فحكومة اليمن - جزاها الله خيرا - أنفقت بسخاء، لطبع هذا المعجم، ولكن لم ينشر علميا، ولهذا كان الكتاب مزدحما بالخطأ الفاحش المعيب.
ويحوي بالجزء الأول من طبعة اليمن ستة حروف: أ، ب، ت، ث، ج، ح، وعدد صفحاته 491 من القطع الكبيرة.
ولأبين فسادها هذه الطبعة من الناحية العلمية أقدم للقارئ (عينات من الأغلاط التي تعد(949/39)
كبائر في اللغة وقواعد العربية، وتقيم الدليل على أن من نشره لم يفهم النصوص فهما مستقيما، وأنه كان ضعيفا في اللغة، وغير عارف بالعروض والشعر، حتى الآيات القرآنية أصابها التشويه والغلط.
جاء في الصفحة الأولى من (شمس العلوم) وتحمل رقم 3: (واجتهدوا في حداسة ما وضعوه، وضبط ما حفظوا وصنفوا من ذلك وجمعوه)
والصواب: (حراسة) لا (حداسة) و (حفظوه) بدل (حفظوا) كما في نسخة مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمة الله الحسيني بالمدينة المنورة.
وجاء في الصفحة نفسها: (جعل تصنيفه حارسا للنقط) وفي نسخة المدينة المنورة: (حارسا النقط)
وفيها أيضا: (وكشفوا عنه ما ستر من الحجب) وفي نسخة المدينة: (يستر) بدل (ستر).
وفي الصفحة الثانية وتحمل رقم 4: (حملني ذلك على تصنيف، يأمن كاتبه وقارئه من التصحيف، يحرس كل كلمة بنقطها، ويجعلها مع جنسها وشكلها، ويردها إلى أصلها).
وبهذا السطر أربع غلطات، أولاها: ضم عين الفعل من يأمن وإذا قبلنا صنع الناشر الشيخ الجرافي فإنه يعد من المستدركين على واضعي قواعد العربية، لأنه أوجد بابا جديدا للمجرد الثلاثي وهو فعل يفعل، وبهذا يكون عدد أبواب الفعل الثلاثي المجرد سبعة بدل ستة، وهذا ما لم يقل به أحد.
إن أمن يأمن من الباب الثالث قطعا وكان الواجب أن يكون (يأمن) يأمن.
وثلاث الغلطات الأخر جعله المصدر المسبوق بالباء فعلا مضارعا، فأصبحت هذه المصادر المسبوقة بالباء: يحرس، ويجعلها، وبردها، أفعالا عند الشيخ الجرافي، مع أن السياق يضطرب بذلك.
وصواب الجملة كلها هكذا: (حملني ذلك على تصنيف، يأمن كاتبه وقارئه من التصحيف، بحرس كل كلمة بنقطها وشكلها، ويجعلها مع جنسها وشكلها، ويردها إلى أصلها)
وكذلك جاء في نسخة المدينة المنورة.
وفي الصفحة نفسها: (والأمثلة حارسة للحركات والشكل، ورادة كل كلمة من بنائها إلى الأصل) وفي نسخة المدينة: (حارسة الحركات)(949/40)
وفيها أيضا: (ويدرك الطالب فيه ملتمسه سريعا، بلا كد فطنة غريزية، ولا أتعاب خاطر ولا روية) وفي طبعة أوربا ومخطوطة عارف حكمة اله بالمدينة: (بلا كد مطية غريزية).
وطبعة اليمن تصحف (مطية) وتجعلها: (فطنة) وتسئ إلى المؤلف الذي سمى معجمه (الأمان من التصحيف).
ولو أراد المؤلف - رحمه الله - النسبة إلى (غريزة) لما قال: (غريزي) بل لسار على القاعدة وقال: (مطية غرزية) ولكن الشيخ الجرافي يخطئ فهم النصوص فينسب إلى المؤلف قصد (المطية الغريزية) لأنه قال بعدها: (ولا أتعاب خاطر ولا روية) وإنما قصد أن يقول: - وهو معنى ما يريده - إن هذا المعجم سهل مستوعب، ولهذا يدرك الطالب فيه ما يريده سريعا دون أن يتعب أو يضني، ولا يتكلف شيخا يقرأ عليه، ولا مفيدا يحتاج إليه؛ كما أنه لا يحمله مؤونة السفر فيكد راحلته التي لا تجهد ولا تعيا).
وطلبة العلم في زمن المؤلف كانوا يكدون الرواحل (الغريزية) في سبيل العلم، وما يزالون في بعض بلاد العرب كذلك حتى الآن.
وصواب الجملة: (بلا كيد مطية غريرية) والغرير كما جاء في صفحة 335 من الجزء السادس من السان العرب: (فحل من الإبل) وقال اللسان في الصفحة نفسها: (الإبل الغريرية منسوبة إليه).
ومن هنا يظهر لنا أن المؤلف أراد: (بلا كد مطية غريرية) لا (فطنة غريرية) كما جاء في طبعة الشيخ الجرافي وتصحيحه الخاطئ.
وفي صفحة 5 من طبعة الجرافي: (إنه أقبع آثارهم، واقتفى منارهم، وآخذ ما اختار من علمهم) والصواب: اتبع لا (أقبع) وأخذ بدل (آخذ).
وفي صفحة 7: (فعرض عليهم الصلاة الخ) وصحتها: (نفرض)
وفي صفحة 11: (وشمألعلى وزن فأعل) والصواب: فعأل
وفي صفحة 13: (وفي مثل قحطبة وطلحبة قال:
رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
والصواب: طلحة. لا (طلحبة) كما ذكر الشيخ الجرافي، والدليل البيت الذي استشهد به المؤلف.(949/41)
وفي صفحة 13 أيضاً: (ضيفن وعشن وخلبن الخ) والصواب: (عيشن) لأن المؤلف كان يتحدث عن زيادة النون في مثل ضيفن.
وجاء في صفحة15: (قال أحمد بن يزيد المبرد) والصواب محمد
في صفحة 16: (ديار وضياع. والأصل: ديوار وصواع) والصواب: صيواع.
وفي صفحة 19: (فم، وفمويمها) والصواب: فتح الفاء في كليهما. ولا ضرورة (لتشكيل) فم، والشيخ الجرافي يدع (تشكيل) الكلمات التي يفرض تشكيلها، ويشكل الكلمات التي لا يخطئ في نطقها الأطفال.
وفي صفحة 23: (قراءة أبي عمرو الكسائي) وصوابها: قراءة أبي عمرو والكسائي. لأن أبا عمرو ليس الكسائي
وفي صفحة 30: (والتصغير فويه) مريدا تصغير فم والصحيح: فويه
وفي صفحة 37: (مفصل الإل) وصوابها: الأل. لأن المؤلف يفتتح هذا الباب بقوله: (فعل بفتح الفاء وسكون العين ويذكر من الكلمات ما كان على وزن فعل.
وفي صفحة 43: لقد جئت شيئا إده وإدا) والصواب: (إدة) جاء في لسان العرب ص37 ج: (الإد والإدة العجب).
وفي صفحة 47 أيضا: (وجمع الإدة. أدد) وأدد هنا تقرأ بفتح الهمزة وضمها، وهذا لم يرد في اللغة، وإنما الوارد: إدد - على وزن عنب - كما جاء في 37ج4 من لسان العرب (وجمع الإدة إدد)
وفي صفحة 48 يقال: (أززت الشئ أزا) صوابها: أززت (بتخفيف الزاي) لأنه ثلاثي ومصدره (أز) يدل على ذلك، أما أزز (بتشديد الزاي) فلم يسمع إلا من الشيخ الجرافي
جاء في صفحة 171 من الجزء السابع من السان العرب: (أززت الشئ أؤزه أزا، ولم يذكر غيره.
وفي صفحة 50: (أثث أعالي النحلة أثاثة إذا التفت) والصواب: (أثث) لأن الفعل ثلاثي وهو (أث)
وفي صفحة 50 أيضا:
(فأثث أعاليه وأدت أصوله ... ومال بقنوان من البسر أحمرا)(949/42)
والصواب: (فأثت) وبذلك يستقيم وزن البيت
وفي صفحة 55: (وعبد الله بن أباض الذي تنسب إليه الأباضية من الخوارج. وهو من تميم من بني مرة)
وفي صفحة 211: (هم ولد تميم بن مر بن أد الخ)
والصحيح ما جاء في صفحة 211: (مر) لا ما جاء في صفحة 55: (مرة) و (أباض) صوابها: (إباض) و (الأباضية) صوبها: (الإباضية).
وفي صفحة 56: (أبلت الوحش تأبل: لغة في تأبل) والقارئ غير المتمكن في اللغة لا يستطيع معرفة اللغة الثانية في تأبل، ولعل الشيخ الجرافي نفسه لا يعرفها، ولذا تركها بدون ضبط، وكان الواجب عليه أن يضبطها هكذا: أبلت الوحش تأبل لغة في تأبل. جاء في ص6 ج13: (وأبلت الإبل والوحش تأبل وتأبل)
البقية في العدد القادم
أحمد عبد الغفور عطار
-(949/43)
البريد الأدبي
1 - استعمال خاطئ:
نشرت جريدة المثال الموصلية الغراء في عددها (16) من السنة الأولى قصيدة للشاعر بشير حسن القطان بعنوان (أطياف) جاء فيها البيت التالي:
و (غنوة) العذراء في ... حضر الصباح الباكر
وأراد الأديب القطان (غنوة) بمعنى أغنية وهو خطأ شائع لأن (غنوة) من الغنى بمعنى الاكتفاء والسيار كما في جميع المعاجم العربية ولم يرد بمغنى الغناء أي النشيد ولو قال (ونغمة العذراء) لاستقام الوزن، وقد وقع في هذا الخطأ نفسه صديقنا الأستاذ الشاعر كمال نشأت صاحب ديوان (رياح وشموع) إذ أورد هذه اللفظة نفسها في قوله من قصيدته (رياح وشموع) إذ أورد هذه اللفظة نفسها في قوله من قصيدته (نسمة الفجر) ص26 من الديوان
يا زفرة الفجر الوليد ... وغنوة الروض النضير
دوري ودوري غنوة ... جمعت ترانيم الدهور
2 - من عيوب القافية:
وجاء في العدد نفسه من الجريدة الموصلية (المثال) أبيات للأستاذ عبد المجيد لطفي رفعها لصاحب الجريدة الصديق الأستاذ عبد الباسط يونس منها:
أخي (باسط) لا عيد ... لمن يشعر بالنكبة
ومن يعصره الهم ... ومن تخنقه العبرة
والأبيات من قافية واحدة وفي البيت الثاني عيب فظيع من عيوب القافية يسمى (الإجازة) وهو الجمع بين رويين مختلفين في المخرج لأن الروى في أبيات لطفي الباء لا الهاء.
3 - في كتاب (هارون الرشيد):
جاء في الصحيفة (43) من كتاب الدكتور أحمد أمين بك (هارون الرشيد) الذي أصدرته دار الهلال ما يلي:
(ويصف لنا بشار الأعمى كأسا عليها صورة كسرى بقلنسوته، ورسم حد للخمر الصرف ورسم حد آخر للماء الممزوج به)(949/44)
ويقصد بالوصف الأبيات التالية:
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مهى تدريها بالقسى الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليها القلانس
والشعر هذا لأبي نواس وليس لبشار. وأبياته هذه من الشهرة بحيث يتغنى بها تلامذة المدارس
4 - وذكر الدكتور أحمد أمين بك ص59 أبياتا إلى أبي نواس
مطلعها.
إنني أبصرت شخصا ... قد بدا منه صدود
جاء فيها البيت التالي
عندها صاح حبيبي ... يا معلم، لا أعود
والبيت على الصورة التي رواها الدكتور أحمد أمين بك غير صحيح، لأن وزنه لا يستقيم إلا بسكون ميم معلم وسكون يا معلم لا يجوز لأن الاسم منادى معرفة وحركته الرفع، أما إذا رفعها فالوزن لا يستقيم.
5 - وروى الدكتور أحمد أمين في الكتاب نفسه ص84 أبياتا
إلى أبان اللاحقي قالها على لسان الخليفة هارون الرشيد عند
وفاة جاريته (هيلانه) مطلعها
بت ضجيع الحزن ما أغفى ... لحادث جل عن الوصف
ثم هذا البيت
أنت أهل الترب من فوقها ... مواريا تحت الثرى أنفي
وقد حاولت أن أفهم معناه فلم أستطع، ورجعت إلى بعض المصادر التي تحوي شعر أبان اللاحقي فلم أعثر على هذه الأبيات
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(949/45)
6 - مقالاتي عن الشعر العراقي
تفضل الأستاذ عفيفي الحسيني فكتب في العدد 941 من الرسالة الزاهرة يذكرني بالوعد الذي وعدت به القراء الكرام حول كتابة سلسلة مقالات احلل بها أعلام الشعر العراقي المعاصر، وأحب أن أقول للأستاذ إنني لم أنس وعدي، ولكنني كتبت إلى بعض من أعتقد انهم من الشعراء الذي يستحقون التحدث عن نتاجهم الشعري ليكون بحثي تاما، وإنشاء الله وسأوافي الرسالة في الأسابيع القادمة بأول فصل من هذه الدراسة التي ستكون في المستقبل كتابا يصور الشعر الحديث في العراق أجمل تصوير. كما أرجو أن أكون عند ظن الأستاذ الحسيني الكريم وإخوانه الذين كتبوا لي طالبين منى إبقاء هذا الوعد. وأن تكون هذه الكلمة فاتحة لذلك العمل الأدبي الذي أتشرف أن أقوم به خدمة لبلدي الذي حرمني حتى نعمة العلم والدرس.
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري
الجريدة لا السياسية:
في أول أغسطس سنة 1951 نشر صاحب العزة محمد عمران عبد الكريم بك في المصري (حينما أنشأ جماعة من الأعيان جريدة السياسة لتدافع عنهم وعن مبادئهم في ذلك الوقت 1906) ومحمد مختار يونس يقول تصحيحا لهذا إن الذي أنشئ هو (الجريدة) لا السياسة، الأمة بزعامة محمد سليمان باشا وبرياسة تحرير أستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا.
محمد مختار يونس
1 - حبيبتي السمراء
جاء في قصيدة (حبيبتي السمراء) للفيتوري:
حبيبتي سمراء. . . مثل الكروم، ناعمة كالضياء، خمرية كالماء.(949/46)
ولا أرى سمرة للكرم إلا الخضرة الداكنة للأوراق. . ولا أحس نعومة للضياء لأنه مما لا يلمس. ولا أرى كذلك للماء لونا يشبه الخمر أو يقاربه اللهم إلا في زيادة النيل حين يحمل معه فتات الصخور. . وما أظن ذلك إلا جموح خيال من الأستاذ الشاعر. . أما كلمة (سوسان) فلا أعرف إلا السوسن فقط. فلعل القافية هي التي جاءت بهذه الألف. . ولعلها لغة فيها. . والشاعر هو الذي يستطيع أن يفيدنا بذلك - والقاموس لم يذكر سوى سوسن وسوسنة
2 - غموض:
وفي غموض أرنو إلى الفجر الجميل كساحر ... حملت يداه ريشة عذراء
والساحر لا يحمل الريشة، وإنما هو الرسام. ولكن الوزن لا يستقيم به
والشمس. . (شعت ماسة زرقاء. .) ولا تراها حتى العين الرمداء. . زرقاء اللون. . ولو كانت كذلك لما نسخت الظل وطوت الظلام. وكلمة (تدفق) وهي (تدفقت). . وكلمة (ازرق أمواها) بعد (وإلى المياه) لا تستقر ولا تتسق مع ما بعدها.
وهي (وشف نقاء). . وللشاعر تحياتي وتقديري.
كيلاني حسن سند
المجد (المخطوف)
خطف المجد في هذا الزمان، الذي ابتدع الحرب الخاطفة، والقنبلة الذرية!
ولقد غدا يتبع (الركاب)؛ فتبعه الإمعات والأذناب!
ألست تترضى البليغ في جهله حد النبوغ وقد لوح بما نال من تمجيد في دنيا العبيد!
ألست تتكلف التصفيق له حين تتسمع إلى فهاهته وعيه، وبالود منك أن تصفع قفا غروره ليستقيم خده المصعر في وجه الصفيق؟
ألست تعجب من وثباته في المجتمع المخدوع وهو مباه بما ناله من مجد خطفه خطفة القردة والمشعوذين؟
هذا هو الشأن فيما صارت إليه الأمور؛ فإياك والاعتماد على نبوغك، وسعة أفقك، وعزة نفسك، وتحصن كرامتك!(949/47)
إن الجري وراء الركاب، والتمسح بالأذيال، وإراقة ماء الوجه، وبيع الكرامة في سوق النفاق، هي الأسباب القويمة في انتزاع المجد (المخطوف)!
أما تقويم القدر يحسن التقدير، وإنزال الاعتزاز منزلة التوقير، وإتباع الترفع رفعة النظرة؛ فأوهم تلعب بعقول التائهين في عالم المثالية! رحم الله من يؤثر العيش في غمرة عن أن يكون مجدا باغتماز شعوره!. ليهنأ متورم الأنف؛ فهو ماجد لكن أنفه غير أشم!
وليسعد العبيد بهوان النفس في بعد الصيت الخفيض!
إن حياتنا تأفك الحق، وترد الإنصاف، وتخزي كل ذي عفة وحياء!
غدا المهرج مبتدعا، والراقص في الندى ألمعيا، والأفاق الوصولي أريحيا! حياة مضطربة يضطرب فيها شعور الإنسانية، حتى انقلبت إلى ما نرى من الألاعيب والأعاجيب.
أما أصحاب المجد (المخطوف) فليس يستديم ما خطفوه إلا إذا استدامت خطفة العين أمام الأمجاد الأصيلة!
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر(949/48)
القصص
مسرحية في فصل واحد
في مضار التدخين
لأنطون تشيكوف
للأديب حسين أحمد أمين
شخصية الرواية: إيفان أفانوفيتش. . وهو زوج ضعيف تحكمه
زوجته أما هي فمديرة لمدرسة للموسيقى، ومدرسة داخلية
للبنات. .
المنظر: منصة في إحدى الجمعيات. . إيفان قائم يخطب وهو
في معطف قديم. . ينحني للحاضرين. . .
إيفان إيفانوفيتش: سيداتي، سادتي: عرض البعض على زوجتي أن ألقي محاضرة هنا في موضوع خيري مفيد بهم الناس. وما دام من المحتم على أن أحاضر، فإني لا أجد لنفسي حيلة إزاء ذلك. . وأنا - بالطبع - لست بالأستاذ المتفقه، ولا بالحاصل على درجات علمية، غير أني قضيت الثلاثين عاما الأخيرة في دراسة موضوعات علمية بحتة دون توقف ولا انقطاع، ودون مراعاة لقواعد الصحة. . إنني رجل مفكر وأقوم أحيانا بتجارب علمية ليست علمية تماما ولكنها - وأرجو المعذرة - تحمل الطابع العلمي. . وبهذه المناسبة أذكر أني كتبت منذ أيام مقالة طويلة تحت عنوان (في مضار الحشرات!!) وقد أعجبت بناتي بالمقالة كثيرا وخاصة الفقرات الخاصة بالبق. غير أني مزقتها بعد قراءتها. . إن بيتنا يعج بالبق، وحتى البيانو تراه مليئا به. . والمقالة الجيدة لا تغني في مكافحة البق عن مسحوق من الصيدلي.
أما عن موضوعا محاضرة اليوم، فقد اخترته عن المضار التي يسببها التدخين لبني الإنسان. . وأنا نفسي أدخن، ولكن زوجتي أمرتني أن أحاضر اليوم في مضار التدخين. .(949/49)
فلم يكن لي في ذلك خيار. .
حسنا - لتكن المحاضرة عن التدخين. . وهو موضوع لا أهمية له عندي. . غير أني أرى أن تعيروه أنتم كل الأهمية كي لا يحدث شئ لا نتوقعه. وعلى من يكره الموضوعات العلمية الجافة، ومن لا يعبأ بمثل هذه الأشياء ألا ينصت إلي ومن الخير أن يغادر المكان. . (يعتدل في وقفته).
وإني أطلب بصفة خاصة من المشتغلين بالطب الحاضرين الآن أن يعطوا المحاضرة كل انتباههم حتى يمكنهم أن يحصلوا منها على أفيد المعلومات. . فالطباق - إلى جانب مضاره للمدخنين - يستعمل في الطب. فإذا وضعنا ذبابة - في صندوق به طباق، قد نجدها بعد حين ميتة بسبب اختلال جهازها العصبي. . وبهذه المناسبة أذكر أنني كلما ألقيت محاضرة، أجد نفسي أغمز بعيني اليمنى. . فارجوا ألا تعيروا ذلك أهميته. . إنه مجرد تعب في الأعصاب. . وأنا - بصفة عامة - عصبي جدا. . وقد بدأت عادة الغمز منذ سنة 1889 - في 13 سبتمبر إذا أردتم الدقة. . وهو اليوم الذي وضعت فيه زوجتي ابنتنا الرابعة بربارا. . . ومع ذلك (ينظر في ساعته) فالوقت ضيق، ولا ينبغي الخروج عن الموضوع. . على أنه من اللازم أخبركم أن زوجتي تدير مدرسة للموسيقى ومدرسة داخلية. . . لست أعني مدرسة داخلية تماما. . . ولكنها تشبه المدارس الداخلية.
وزوجتي تحب دائما أن تشكو من الحالة المالية. . مع أن لديها في البنك - مما وفرته - المال الكثير. . . أما أنا فليس عند درهم واحد. . . ولكن لنترك هذا الموضوع فهو لا يهم أحدا. . .
وأنا اعمل في مدرسة زوجتي الداخلية. . فأشرف على التموين والخدم والمصروفات وأجمع الكراسات، وأكافح البق والفئران وأخرج بكلب زوجتي الصغيرة للنزهة. . .
وبالأمس كان على أن أعطي للطاهي خبزا وزبدا كي يعد لنا اليوم بعض الفطائر. . وبالاختصار دخلت زوجتي اليوم في المطبخ بعد أن انتهى الطاهي من إعداد الفطائر وقالت إن ثلاثة من تلاميذها لن يأخذوا نصيبهم منها لأنهم ابتلعوا نباتات سامة. . وعلى ذلك أصبحت لدينا ثلاث فطائر زائدة عن الحاجة. . فماذا كنتم تصنعون بها؟ أمرت زوجتي الطاهي بأن يضعها في المخزن ثم عادت ففكرت برهة وقالت:(949/50)
- لك أن تأخذها لنفسك أيها الصنم. . إنها دائما تناديني بمثل هذه الأسماء عندما تكون غاضبة. . (أيها الصنم) (أيها الشرير) (أيها الشيطان). وهكذا. . ولعلكم ترون معها أنني أبدو كالشيطان. . إنها دائما غاضبة ثائرة متأففة. . ولكني لا امضغ شتائمها بل أبلعها. . فأنا دائما جوعان. . فبالأمس مثلا لم ترد أن تمنحني عشاء وقالت: (إن من العبث أن أمنحك طعاما ما دمت تجوع بسرعة. .) ومع ذلك (ينظر إلى ساعته) فأراني قد خرجت عن الموضوع. . ولكن لنستمر. . ولو أني أشعر بأنكم تفضلون سماع قصة أو سمفونية أو أغنية. . وعلى ذكر الموسيقى، نسيت أن أخبركم أني أدرس في مدرسة زوجتي الموسيقة، الرياضة والطبيعة والكيمياء والجغرافيا والتاريخ والأدب وأني أعلم التلاميذ الرقص والغناء والرسم بينما تتقاضى زوجتي رسوما إضافية لنفسها عن هذه الدروس. . وعنوان المدرسة هو شارع الكلاب الخمسة رقم 13
وربما كان هذا الرقم المشئوم هو سبب تعاستي. . فبناتي كلهن ولدن في الأيام الثلاثة عشرة من أشهر السنة. . ونوافذ منزلنا عددها 13. ولكن ما الفائدة في ذكر ذلك؟ إن زوجتي بالمنزل تستقبل الضيوف وتدير الأعمال. . وقد سألتني أن أبيع لمن يريد منكم برنامج مدرستها بثلاثة قروش فقط. هل يرغب بعضكم في نسخة؟ (فترة صمت) لا أحد؟ حسنا. . لنجعل ثمنها قرشين. (فترة صمت) يا للضيق! نعم. . إن رقم منزلنا 13. وقد فشلت في كل شئ. لقد تقدم بي العمر وصرت غبيا. إنني أحاضر الآن وقد أبدو وجيه المنظر ولكن بي رغبة جامحة في الصراخ بأعلى صوتي والهرب إلى أقصى المعمورة. ليس هناك من يسمع لشكواي وأنا أريد أن أبكي قد تقولون عندك بناتك. . بناتي! إنني أكلمهن فيضحكن غن زوجتي لديها سبع بنات. . لا. . إني آسف ست فقط. . (بقوة) بل سبعة. الكبرى في السابعة والعشرين والصغرى في السابعة عشرة. أيها السادة (ينظر حوله) إنني يائس لقد أصبحت أحمق. . أصبحت عبثا لا قيمة لي. . ولكن أسعد الآباء. أو على الأصح يجب أن أكون كذلك ولا أجرؤ على القول بأني لست كذلك. . ولكن. آه لو تعلمون. . لقد عشت مع زوجتي ثلاثة وثلاثين عاما وباستطاعتي القول أنها كانت أجمل سنوات حياتي. . لست أقصد أجملها تماما ولكن أتكلم على وجه العموم. . لقد مرت كلحظة سعيدة واحدة. . لعنها الله ولعن من يعيشها. . (يتلفت حوله) أعتقد أنها لم تحضر بعد. .(949/51)
أني - لذلك - أستطيع أن أقول ما أريد. . إنني خائف. . أخاف نظرتها إلي. . ولكن لنعد إلى الموضوع. . كنت أقول إن بناتي لم يتزوجن بعد. . ربما كان السبب هو خجلهن ولكن السبب الرئيسي هو أن الرجال لم تتح لهم الفرصة لرؤيتهن. . فزوجتي لا تحب إقامة الحفلات ولا تحب دعوة أحد إلى العشاء. . إنها لاذعة عصبية تحب الشجار ولذلك لا يقرب منزلنا أحد. ولكن. . . سأسر لكم أمرا (يميل بجسمه نحو السامعين) باستطاعتكم رؤية بناتي في أيام الأعياد الكبرى في منزل عمتهن نانالي سيميونوفا التي تشكر دائما من الروماتيزم. هناك باستطاعتكم تناول أطيب الأطعمة. فإذا لم تحضر زوجتي هناك كان باستطاعتكم أيضا أن. . (يرفع ذراعه) يجب أن أخبركم أنني أسكر من كأس واحدة. وأني عندما أسكر أكون سعيدا جدا وتعسا جدا بصورة لا أستطيع وصفها لكم. . عندئذ استعيد شبابي ولسبب ما أجد نفسي تريد الفرار. . الفرار إلى أية جهة. . آه لو علمتم كم أريد الفرار (بحماس) أريد أن أهرب مخالفا كل شئ ورائي ودون أن انظر خلفي. . إلى أين؟ أي مكان، ما دمت سأطرح عن كاهلي تلك الحياة التافهة، الحقيرة، التي جعلت مني غبيا تعسا أحمق وما دمت سأطرح عن كاهلي تلك الزوجة الغبية الحقيرة الثائرة العصبية البخيلة التي لم تكف لحظة عن تعذيبي طوال الثلاثة والثلاثين عاما التي عشتها معها. أريد أن أهرب من الموسيقى. . من كشف حساب زوجتي. . من كل تفاهاتها وحماقاتها. أريد أن أهرب ثم اقف في مكان بعيد. في حقل. ساكنا لا أتحرك كالشجرة أو العمود أو الصنم. تحت السماء الواسعة. . وانظر طوال الليل إلى القمر الساطع فوق رأسي. وأنسى. وأنسى. . . آه. . كم أريد ألا أتذكر. . كم أريد أنا أمزق هذا المعطف القديم الذي ألبسه منذ حفلة الزواج (يمزق المعطف) والذي ألبسه دائما عندما ألقى محاضراتي في الموضوعات الخيرية. . خذوه (يدوس بقدمه على المعطف) خذوه إنني كهل مسكين محطم كهذا المعطف الذي رقع ظهره. . (يدير ظهره للحاضرين) لا أريد شيئا. إنني أحسن وأنظف من ذلك. لقد كنت شابا في وقت من الأوقات وكنت أدرس في الجامعة. . كانت لي آمال وأحلام وكنت أعتبر نفسي رجلا. أما الآن فلا أريد شيئا. . لا أريد إلا الراحة. . الراحة. . (ينظر خلفه ثم يلبس معطفه بسرعة) إن زوجتي خلف المنصة تنتظرني (ينظر إلى ساعته) لقد انتهى الوقت. إذا سألتكم فأخبروها أن المحاضر. . الصنم. . أقصد نفسي. . تصرف بوقار. .(949/52)
أتوسل إليكم أن تخبروها ذلك. (يلتفت حوله ويتنحنح) إنها تنظر إلى. . (يرفع صوته) وبناء على ذلك، وبعد أن شرحت لكم ذلك السم الفظيع الذي يحتويه الدخان أرجو أن يمنع التدخين قطعيا وأتمنى أن تكون لهذه المحاضرة في مضمار التدخين بعض النفع لكم.
انتهت المحاضرة. . (ينحني ويسير في وقار)
(ستار)
حسين أحمد أمين
-(949/53)
العدد 950 - بتاريخ: 17 - 09 - 1951(/)
بين الجد والهزل!
للدكتور مختار الوكيل
حينما كنت في فرنسا مطلع هذا الصيف، دار حديث ودي بيني وبين رجل من أوسع الناس ثقافة - ولم يكن إنجليزيا ولم يكن فرنسياُ - ولكنه من أولئك الذين يعطفون على مصر عطفاُ حقيقياُ لطول أقامته في ربوعها، ويرجوا مخلصاُ لها النجاح في كفاحها ضد الاستعمار والطغيان. ذكر لي هذا الرجل الكبير خلال حديثه إن مصر - فيما يبدوا للعالم الخارجي على الأقل - غير جادة - مع الآسف - في طلب الاستقلال الكامل وتحقيق الجلاء والوحدة مع السودان
وضرب لي مثلاُ، أو أمثلة على عدم هذه (الجدية)، بما هو مشاهد وملحوظ من تعاون العمال المصريين مع القوات البريطانية في منطقة القنال تعاوناُ يذيع البريطانيون عنه في آفاق الدنيا انه تعاون اخوي قلبي صادق، وإقبال أولئك الشبان المصريين على العمل مع الإنجليز المحتلين إقبالاُ منقطع النظير. ونوه محدثاُ بما هو ملموس من تهافت التجار المصريين على إرسال سلعهم - وفي مقدمتها المواد الغذائية التي يحتاج إليها الأهلون احتياجاُ شديداُ - إلى منطقة القنال، لأن ربحهم من ذلك المورد التجاري عظيم. وفضلاُ عن ذلك فان الإنجليز المحتلين يعتدون في كل يوم تقريباُ على المواطنين المصريين من عمال معسكراتهم، ومن أهل المنطقة المرزوءة بهم، بل ومن أهل القاهرة والإسكندرية والعواصم الأخرى، حينما تطأها أقدام جنود الاحتلال في نزهة أو رياضة، ومع ذلك فلا تحرك مصر ساكناُ، وإن فعلت ففي نغمة الصديق العاتب والمحب المبقي على حبيبه المتجنى!
واستطرد محدثي المحيط بأحوالنا جميعاُ يقول: لقد شبعت حكوماتكم من مفاوضة الإنجليز في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية، وذهبت إحداها إلى مجلس الأمن بعد انقطاع المفاوضة وعادت بقرار من ذلك المجلس باستئناف المفاوضة فتنفس ساستكم السعداء وكأني بهم قد فرحوا بهذا الحل الموفق السعيد!
وأطرق محدثاُ قليلاُ ثم استأنف حديثه قائلاُ.
لو إنكم فعلتم يا أمة الفراعين والعرب، بعض ما فعله اليهود الذين تسمونهم شذاذ الآفاق وتطلقون على دولتهم لقب (المزعومة)، عندما جلدوا الإنجليز جهاراُ ونهاراُ وحبسوهم في(950/1)
فلسطين حتى اقضوا مضاجعهم وجعلوا مقامهم في الأرض كريهاُ بغيضاُ ممقوتاُ. . . أو لو إنكم تصرفتم مثل تصرف الثائرين في ايرلندا، على ذلك النحو الفدائي المتطرف، المنظم غاية التنظيم، أو لو إنكم، حتى، جربتم خطة غاندي في (المقاومة السلبية) والمقاطعة المنتظمة المحكمة، لكل ما هو صناعة بريطانية، إذن لوصلتم إلى أهدافكم المحبوبة بسهولة ويسر
وطال تفكيري في قول ذلك الناصح الأوربي الصديق، حتى رجعت إلى الوطن أخيراُ ورأيت كيف لا نزال نتردد في إلغاء معاهدة 1936 حتى بعد ذلك التعنت الصارخ والجهر الصريح الواضح من جانب المسئولين البريطانيين بعدم الوفاء بحقوقنا الأساسية: في الجلاء والوحدة. ورأيت كيف يتقرب بعض الكبراء في أحاديثهم الصحفية إلى الإنجليز ويعرضون خدماتهم عند الاقتضاء متحدين بذلك إجماع البلاد حكومة وشعبا، ومعلنين عن نفسية منهارة رخيصة، وتفكير معاد للوطنية مسموم بغيض. . . ثم رأيت كيف يتهافت الشباب المصري على العمل مع القوات البريطانية في منطقة القنال، وكيف يؤثر التجار المصريون بيع الحاصلات المصرية الصميمة إلى زبانية الاحتلال، ويحرمون منها مواطنيهم، وذلك لقاء ربح هين يسير!
ورأيت بعد ذلك كله كيف نواجه الموقف الضنك العصيب، بالخطب المجلجلة الطنانة الخاوية، وبالتهيج الشعبي الرخيص الذي ملت منه البلاد وسئمته، بالهتاف المدوي تعلو به الحناجر، وبالصفيق الموسيقي الرائع، وبحمل القادة المتزعمين والمتطلعين إلى التزعم على الأعناق، وبالتفكير في الاتجاه - هذه المرة وبعد كل تجاربنا المريرة المحزنة - إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدلاً من مجلس الأمن نفسه، وبإعلان الشباب المصري المرجو في يومالصدام الحقيقي والعمل الصحيح بدء الصيام حتى تلغى المعاهدة، وهذا - مع عظم إجلالي واحترامي للفكرة السامية في حد ذاتها - أسلوب في الكفاح عفي عليه الزمان، واصبح لا يقدم ولا يؤخر ولن يزيد المعتدين إلا غلوا وإغراقا في العدوان. وهبنا جمعياً صمنا عن الطعام حتى يخرج المحتلون من الديار فهل ثمة عاقل ينتظر من الإنجليز العطف علينا والإبقاء على حياتنا بتقرير الجلاء حينذاك؟ احسب أن فرحة الإنجليز سوف يكون عظيمة إذا فني الشعب المصري كله عن آخره واستقر لهم الأمر في هذه البلاد(950/2)
استقرارا أبديا! إلا إن هذا الأسلوب أسلوب رجعي لا يليق بالروح الإيجابية التي تشمل الكون كله في هذه الأيام
فهلا فكرنا في الاقتداء بمن كنا لهم في الماضي القريب خير قدوة! أجل، هلا اقتدينا حكومة وشعبا بما صنعته ايرلندا والهند ة إيران، أو حتى إسرائيل التي ظهرت في جنوبنا شوكة مدمية، لا تكف عن وخزنا وإيلامنا لحظة من ليل أو نهار؟!
هلا عمدنا إلى بعض الجد فيحترمنا العالم في الخارج، فالعالم في الخارج لا يحترم سوى الجادين، ويسقط من حسابه المتهافتين والهازلين
دكتور مختار الوكيل(950/3)
لطافة الحس
للكاتبة الفاضلة (الزهرة)
سألتها وقد جاءت من الدنيا الجديدة في سباحتها الصحفية الأولى، إلى أرض الفراعنة الغر الميامين عن أول ما لفت نظرها؟ فقالت في صراحة القلب وذكاءه، يحن يخاطب قلبا يستمد حياته من دقة الحس ورقة الشعور: شيئان استرعيا اهتمامي يا صديقتي فور أن ضمني واديكم الخصب: الشيخوخة التي تعاجل الشباب عندكم عامة؟ والفتيات خاصة؟، ثم الافتقار إلى شي من لطافة الحس، والدقة في الرقة رغم الحلاوة التي أروى النيل بها شمائلكم، والسماحة التي أدرها لغرائزكم والصفاء الذي أجراه في طبعكم، واللطف الذي مزج به أرواحكم، والاعتدال الذي سوغه لأمزجتكم
فابتسمت في حسرة يخالجها الأسف، ولا يحدوها إلا امتعاض من أن تتلقى النبأ الصحيح على حقه، وتستمع للمقال الصريح على صدقه. . ورويت قليلا وكررت بذاكرتي إلى القرون التي خلت، ولا أدي لماذا رفعت وجهي إلى صاحبي وعاجلتها بذكر نتف من عبقرية (أحمد بن أبي دؤاد) العربي الأيادي، وقلت لها أن أبا العيناء (وهو أبو عبد الله محمد بن القاسم) الضرير، صفية وخدينة (وكان من ظرفاء العالم) كثير ما كان يقول عنه: (ما خرجت من عنده يوما قط فقال يا غلام: خذ بيده، بل قال: يا غلام اخرج معه! وكنت انتقد هذه الكلمة عليه، فلا يخل بها ولا اسمعها من غيره). قات تأميلها كلمة ما يعرف في ألفاظ الناس أرق منها دلالة على يقظة القلب ولطافة الحس. لعل غيره من الناس لو أراد أن يوجه أمثال أبي العيناء إلى طريق الخروج لناله مس من الأذى أليم ورهق من الضرر جسيم)
وتمر العوام، وأذكر قريبي الذي جاءني مساء اليوم وكان مضطربا متألما، ولهذا القريب مسطحات أنيقة من المساكن والعمائر التي أقامها للإيجار، وأنشأ لمؤاجريه في مؤخرتها أفنية فسيحة جميلة يستخدمها لمنافع الخاصة، وكان أحدهما مرجع ما لمحته عليه من الانزعاج والتأثر، قبل أن وافاني بأربع ساعات. وتفصيل الأمر أن كان قد وجه عزيمته على قضاء ساعتين في تنظيم مجموعة من الطرف الفنية التي يعتز بها. وما إن شرع في استعراضها، حتى دق جرس التليفون، وإذا بصوت قاصف يناديه من الناحية الأخرى(950/4)
قائل: (إني على أثر قيامي بتعليق قطعة من الملابس على حبل الغسيل الذي مددته لنا في فنائك المعجب. . قد. أف. . فأنا الآن أوشك أن أقل من الغضب، وأتمزع من الحنق عليك وأريد أن أندمك على تصميماتك المعمارية المؤذية، وأطالبك بالعطل والأضرار -)
ولم يستطع الرجل الدهش أن يهتدي إلى الداعي الذي يصل بين غسيل السيدة الشاكية وبين ثورتها الحاضرة عليه، ولكنها تابعت كلامها قائلة: (أحسست في هذا الصباح تعبا بعد الحفلة التي أقمتها في بيتي عشية أمس، فرأيت أن أخرج إلى فنائك العجيب وأقوم بغسل قطع من الثياب، وخرجت في ردائي الفضفاض الحريري، وخفي الرقيقين المصنوعين من فاخر الديباج، وإني لأحس لآن الرطوبة تقرس رجلي، وأتأفف من أوضارها التي أصابت ذيل ردائي الثمين الجديد، وكل هذه المصائب جرها على هذا الفناء الوبيل الذي أقمته لساكني عمائرك. . وعليك أن تسارع اليوم إلى اتخاذ ما يلزم لإصلاح الشأن وإلا -.)
ثم صفعت بعنف سماعة التلفون. وتنهد قريبي بعد أن فرغ من سرد قصته وقال: (لقد أصبح الناس في هذا الزمن زهقين رهقين، سريعين إلى الحد وإيذاء الشعور بالمسافة والوعيد، ولم يخطر لهم ببال أن يقدروا ما يبذله لهم الآخرون من العناية والرعاية). قلت: (ومع ذلك فلا تزال دنيانا العتيقة، تحتفظ ببقية صالحة من ذوي العواطف الرقيقة ولأخلاق الراقية ولذوق السليم والصدر الرحيب والذهن المرهف. فقد تلقيت في هذا الصباح خطابا من صديقة عزيزة، تقيم في بعض بلاد الأدغال الذاهبة في أحضان العزلة والانفراد. وإني لأجد في خطابها مصاديق جلية، تدل على أن الفؤاد الشهم الحي اليقظ، لايزال ينبض في جوانح بني الإنسان. فصاحبة هذا الخطب سيدة شابة حسناء، نزحت مع زوجها وصغيرها إلى تلك الربوع البدائية البكر، فاستأمنت إلى سكانها العتاة المتوعرين المحربين وخبرت أهواءهم، وسبرت احوالهم وعاشت معهم، وتعاونت مع زوجها الطبيب (البيكترليوجي) على إنشاء مستشفى صغير لهم وزارهما منذ شهور رحالة عالمي، وقال لصديقتي: (إنك في حاجة إلى بقرة حلوب هنا). وبعد أن عاد إلى موطنه بعث إليهما حوالة مالية قيمة لشراء البقر الحلوب، ولاقتناء ثور أصيل. وختمت الصديقة خطابها بقول أن هذا الرحالة العظيم ممن يسرون إلى صدق العهد في ضياء الرشد. فقد تعهد كل حاجة من حاجتنا ببصيرة نافذة وتفكر دقيق وبسط علينا جناح حدبة)(950/5)
هذا وقد أتيح لي التشرف بلقاء ذلك الرحال الخير في أوائل شتاء عامنا الحاضر، وإذا كنت أتحدث إليه، تلفت من فمه حكمة عالمية، هذا نصها:
(ليكن لنا إيمان وثيق بالله، ولنذكر أننا أفاد أسرة كبيرة واحدة، فلننظر دائماً إلى السماء) إن هذا الرجل يرفع بصره إلى العلاء، ويجتلي صفحة السماء على الولاء، وينظر بمجامع عينة إلى نقطة الدائرة حيث ينتهي كل موجود، وهو لذلك بمرأى دائم من الله جل جلاله، وإنه ليلقاه هناك ويعاينه وهو لذلك بمرأى دائم من الله جل جلاله، وإنه ليلقاه هناك ويعاينه وهو تعالى بالمكان الذي لا تراه الطوارف. يراه لأنه يرفع إليه بصره ويصوبه بعيدا عن ذاته فلا يراها. ولا عجب أن إنساناً ما لن يستطيع أن يرمق ببصره اتجاهين مضادين في وقت واحد. . أمفهومه فكرتي؟ أقصد أن أقول إننا بمقدار تنحينا عن ذواتنا نستطيع أن نجاور الله عز وجل ونقوي على الاتجاه نحوه والتوجه إليه بالبصر والبصيرة ونكون بمنتزح عن الأثرة وعبادة اللذات، ونتسامى إلى ذروة الكمال الأخلاقي الممكن، ونصل إلى الله وليس وراء الله مرسى ولا مرقى. ومعلوم أن النظرة المرتقية إلى الفوق الأعلى وهي التي تجعل الناس ذوي نفوس حساسة، وبصيرة نافذة، ينظر إلى حاجات الغير من وراء ستر رقيق، وتستنيطون خلجات القلوب، كما يستخرج الكشاف الدؤوب ودائع الغيوب، تسافر صلاتهم وهم دانون لم يبرحوا. ويفاجئون بالنوال الواسع والغوث السابغ، ويعفون بالنجدة على منية المتمني وهنا أسأل لماذا لا نرتفع بأفكارنا إلى الله، ولم لا نروض ذواتنا على ذلك منذ الساعة؟ إننا إن فعلنا ندرع بحياتنا اغتباطنا؟ ونستأنف لمزاولتها نشاطا عجيبا مبدعا، ونجعل وجودها ألطف من نسيم الشمال على أديم الظلال.
الزهرة(950/6)
الولايات المتحدة الأمريكية
سياستنا الخارجية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
- 2 -
هذا هو عنوان رسالة وجهها الرئيس ترومان إلى الشعب الأمريكي محاولاُ أن يشرح سياسة الولايات المتحدة الخارجية والأسس التي بنيت عليها
ومن الخير لنا نحن الشرقيين أن نعرف هذه السياسة وان نحاول الوقوف على كنهها. ذلك أن العالم الآن اصبح وحدة متماسكة الأجزاء ولن تستطيع أمة أن تعيش بمعزل عن العالم. كذلك أرى من واجبنا نحن الشرقيين أن نقف العالم على حقيقة آمالنا وأمانينا، وأمريكا أمة لها تأثير كبير في السياسة الدولية وهي ما تزال إلى الآن انظف الأمم التي تحرك العالم، فواجب علينا أن نناقش سياستها الخارجية وان نواجهها بحقيقة آمالنا وأمانينا وهي مطالب عادلة: وإننا نريد أن نعيش أحراراُ في بلادنا لانبغى إثماُ ولا عدوانا، ولكننا لن نتوانى عن الوقوف في وجه من يهدد أمنا وسلامنا وحريتنا واستقلالنا
ولست ازعم إنني سأنقل إلى القارئ ترجمة كاملة لهذه الرسالة القيمة، ولكني سأحاول فقط تبيان الخطوط الرئيسية التي تهدف إليها السياسة الخارجية الأمريكية
أسسها:
يقول الرئيس ترومان في رسالته (لم يعد هناك فارق حقيقي بين شؤوننا الداخلية والخارجية، فإن كل شئ نعمله: من جباية الضرائب وإنفاقها، والطريقة التي نفض بها الخلافات الداخلية والخارجية، وما تكتبه جرائدنا، وما تذيعه محطات إذاعتنا، كل هذه لا تؤثر في سلامتنا الداخلية فقط، ولكنها ذات تأثير كبير خارج الولايات المتحدة. ومن هذه الأمور جميعاُ تتكون الشخصية الأمريكية والخلق الأمريكي، وعليها تتوقف كرامة الولايات المتحدة وشرفها، ومنها جميعاُ تنشأ سياستنا الخارجية إن السياسة ما هي إلا تعبير إرادة الأمة ورغبات الشعب، أو بعبارة أخرى أن سياستنا توضح حقيقة أنفسنا وحقيقة احتياجاتنا)
وقد تغيرت سياسة الولايات المتحدة الخارجية منذ قيامها سنة1776 ولكن التراث الأمريكي(950/7)
ظل قائماُ طوال هذه الحقبة من التاريخ
نحن أمة مستقلة ونريد الاحتفاظ باستقلالنا
نحن قوم نقدس الحرية الفردية ونريد أن نحتفظ بها
نحن شعب مسالم ونريد أن نتخلص من الحروب ومن التهديد بها
نحن قوم مستوى معيشتهم عالية ونريد زيادة رفاهية شعبنا
نحن شعب صديق وليس لنا أعداء تقليديون
هذه أمور نتفق عليها جميعاُ، ومهمة الحكومة القيام بتحقيق هذه الأهداف. ولكن طريق تحقيق ذلك لم يكن سهلاُ ميسراُ في كثير من الحالات، فقد واجهت الولايات المتحدة كثيراُ من الصعوبات الداخلية والخارجية: داخلياُ لأن بعض الأمريكان لم يؤمنوا بالديمقراطية التي تؤمن بها أغلبية الشعب الأمريكي؛ وخارجياُ لأن بعض الأمم تحاول أن تقيم سيادتها العالمية وسيطرتها التجارية على الأسواق العالمية بطرق الحرب
وللقضاء على هذه العوامل أمريكا إلى امتشاق الحسام ثلاث مرات في القرن العشرين لإعادة السلام العالمي، كما أن أمريكا قد قامت ببعض المشروعات السلمية مثل إنشاء هيئة الأمم المتحدة ومشروع مارشال وبرنامج النقطة الرابعة، وذلك بقصد حفظ السلام العالمي وبقصد القضاء على الصعوبات التي تهدده
ماهيتها:
إن المصالح لرئيسية لأمريكا لا تتغير ولكن السياسة التي تكفل تحقيق هذه المصالح قد تتغير من عام لآخر
في1933 كان في أمريكا اثنا عشر مليون من المتعطلين فكان هم الأمريكان القضاء على هذه البطالة وإصلاح الاقتصاد الأمريكي
في 1945 كان اثنا عشر مليونا من الأمريكان يقاتلون في جبهات مختلفة لأن دول المحور كانت تهدد سلام العالم فوجب القضاء عليها وإعادة السلام إلى العالم
في 1950 واجهت أمريكا مشكلة أخرى. لقد حاولت روسيا نشر مبادئها بالتهديد وبالقوة، فمنذ 1945 ضمت روسيا سبع مليون كيلو متر مربع ونصف، وأكثر من خمسمائة مليون نسمة تحت سيادتها، وحاولت أن تبصط سلطانها على آسيا وبدأ صراع بين الدولتين.(950/8)
وعمدت أمريكا إلى مقاومة روسيا فحاولت إنشاء (مراكز قوة) لتواجه الخطر الروسي وعمدت إلى تحسين حالة غرب أوربا كما ينجلي في مشروع التعمير الأوربي وبرنامج المساعدة الحربية
وقد عقد مؤتمر صحفي في فبراير 1950 وتحدث وزير الخارجية الأمريكية إلى الصحفيين قائلا (يجب إن نذكر أن الطريق إلى السلام شاق وطويل، ولكن يجب ألا نتردد في العمل للوصول إلى تحقيق هذا الهدف ويجب ألا نيأس من الوصول إليه)
وقد قضت الحرب العالمية الثانية على سياسة العزلة الأمريكية قضاءاً نهائياُ لأن أمريكا لن تستطيع العيش بمعزل عن العالم.
إن فيضاناُ في الصين أو مجاعة في الهند أو اغتيالا في البوسنة قد يؤدي إلى اضطراب عالمي تتأثر به أمريكا حتماُ ومن هنا جاء تفكير الأمريكان في إنشاء هيئة عالمية يستطيع الناس أن يعيشوا في كنفها في أمن وسلام يظلهم القانون وتحميهم راية العدالة
ما معنى إنشاء هيئة عالمية؟
معناها أولاُ أن تتعاون الدول جميعاُ في حل مشاكلها وفي الدفاع عن حريتها واستقلالها وكان للولايات المتحدة اليد الأولى في إنشاء هيئة الأمم المتحدة
ومعناه ثانياً إصلاح ما أفسدته الحرب، وقد كان ذلك هدف مشروع مارشال وغيره من مشروعات التعمير
ومعناه ثالثاُ إعادة الأمم الخارجية على القانون إلى حظيرة القانون، ومن هنا احتلت أمريكا ألمانيا واليابان وعمدت إلى إدخالها في دائرة الأمم الديمقراطية.
ومعناه رابعاُ مساعدة الأمم الأقل تقدماُ، ومعاونتها على النهوض، وتحسين مستوى معيشتها، وهذا هو هدف برنامج النقطة الرابعة ومعناه خامساُ إقامة نظام تجاري بحيث تستطيع الدول المشتركة في الهيئة أن تساهم في حياة العالم الاقتصادية مساهمة مفيدة.
هذا هو مشروع الهيئة العالمية ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بمدى نجاحه، فربما يؤدي هذا إلى إنشاء هيئة عالمية للأشراف على السلاح، أو إلى إقامة حكومة عالمية. ومهما يكن الأمر فإن على الأمريكان أن يقفوا كثيراُ من نشاطهم ومواردهم على دفاع عن حرية العالم.
وينتهي الكتاب أو الرسالة بما يأتي: إن الأمة الأمريكية بدأت حياتها بإعلان استقلالها،(950/9)
وجاء في هذا الإعلان: إن الناس خلقوا أحرارا متساوين، وأن خالقهم قد وهبهم حقوقنا لا يمكن تحويلها أو النزول عنها، وهي الحياة والحرية والعمل على تحقيق السعادة. ولتحقيق هذه الأهداف أقيمت الحكومات وهي تستند في قيامها إلى موافقة ورضى المحكومين.
وأن سياسة الولايات المتحدة الخارجية اليوم إنما هي إعلان وإقامة التعاون بين الأمم والشعوب على أساس احترام حرياتها. إننا نعرف كما أنبأنا الرئيس ولسن منذ أربعة وثلاثين عاماُ (إننا نساهم سواء أردنا أو لم نرد في حياة العالم. إن مصالح الأمم هي مصالحنا أيضاُ نحن شركاء الآخرين وما يؤثر على سكان أوربا أو آسيا يؤثر علينا حتماُ)
أيها الأمريكان:
إن كنتم تؤمنون بهيئة الأمم المتحدة وبمجلس الأمن فقد كفرنا بهما معاٌ كما كفرنا بعصبة الأمم من قبل. لماذا؟ لأن هذه الهيئات لا تؤدي الغرض المقصود منها. إنها تخدم مصالح الدول الكبرى فقط. وإلا فخبرونا ماذا فعلت هيئة الأمم في قضية فلسطين وفي مشروع التقسيم وفي كارثة اللاجئين، وفي مشكلة مصر والسودان والجلاء؟
إن الألفاظ البراقة والكلمات اللامعة لا تقنع صاحب الحق المظلوم ولا ترضيه، وإن هذا السراب الخادع لن يسكته
أيها الأمريكان
لقد دخلتم أخيرا في شؤون الشرق الأوسط فاحذروا أن تلوثكم السياسة البريطانية. واعلموا أن أمم الشرق تطالب بحقوقها المشروعة في الحرية والاستقلال وفي استغلال موارد بلادها، فإن عاونتموها صادقين كان لكم منا شكر عظيم
أما ان وقفتم في وجوهنا فاعلموا أن دولة الباطل ساعة وأن دولة الحق إلى قيام الساعة، أن صاحب الحق لابد أن يصل إليه مهما طال به الزمن وشق عليه الجهاد
أبو الفتوح عطيفة(950/10)
الوجودية
(فقل للذين يرفعونها فوق طاقتها دون علم، ما ضر لو صبرتم
حتى تدركوا ما تكتبون وتفهموا ما تقولون!. .)
للأستاذ شاكر السكري
نشرت مجلة الرسالة الغراء بعددها 942و943 كلمة للأستاذ علي متولي صلاح أهداها إلى صديقه في الوجودية (الدكتور محمد القصاص) الذي قال عنه في كلمته الأخيرة بأنه (المبشر بالوجودية في مصر). وقبل أن أناقش الأستاذ متولي أود أن ألفت نظره إلى كلمتي (فلسفة الوجودية) المنشورة في العدد 910 لسنة 1950 من الرسالة الغراء، ليقدر بعدئذ قيمة الذين وضعوا المذهب الوجودي ويضعونه الآن على مائدة التشريح ليخرجوا منه تلك العلل الدفينة والروائح النتنة قبل أن يعتبر خير ما يجب أن يكون للشرقيين من علاج ليتخلصوا بفضله من التحلل والميوعة والوغادة، في الوقت الذي يقوم المذهب الوجودي بذاته فوق تلك المعايب التي اعتبرها علاجا للشرق والشرقيين!
وليدرك قبل غيره ممن تزعموا الوجودية في الشرق أن الميوعة والوغادة والانحلال التي يهتم بها الشرقيين ليست إلا الصفات الظاهرة التي تمتاز بها الوجودية نفسها!
وقبل أن نضرب للأستاذ الناقد الأمثال ونضع نصب عينه الأرقام التي من شأنها أن تقرب وجهة نظره الخاطئة إلى وجهة نظر الواقع والحقيقة، حيث إذ ما ذهب إليه في رفعه المذهب الوجودي لا يمكن أن يكون خير ما يجب أن تقتوم عليه أخلاق الشرق ونظمه، وقبل أن اخذ بتلابيب الأستاذ الناقد لينظر الحقائق العلمية القائمة على الأسس الصحيحة: لأن النقد الذي تفضل به حضرته كان يعوز المنطق وتنقصه الدراسات العامة والخاصة التي ترتكز عليها مختلف المذاهب الفلسفية والمادية
والغريب في أمر الأستاذ متولي أنه ضرب لنا خير مثل لعفاف الوجودية، تلك الأسطورة اليونانية القديمة التي اعتبرها خير شاهد يبرر ذمة هذا المذهب الفاجر! والأغرب من ذلك كله الخط الذي جاء به أثناء مقارنته بين الغاية عند اليونان، والغاية عند (سارتر) في روايته (الذباب أو الندم) لا أدري ماذا يقصد بذلك. هل أن نقده ونقاشه جاء على غرار(950/11)
فكرة الأسطورة، أم أنها جاءت على غرار الأسس الفلسفية التي تقوم عليها الفلسفة الوجودية؟
لا أدري أن كان الأستاذ متولي درس فلسفة المذهب الوجودي وغايتها أم لا. . . والواقع يؤيد عدم تعمقه في الأسس الجوهرية لهذه الفلسفة
ولايمكن ان تعتبر باية حال رواية (الذباب أو الندم) كأساس يقوم عليه المذهب الوجودي، وليس بمقدور سارتر نفسه أن يعتبر الوجودية متمثلة في روايته هذه!
كنت أرجو أن يدور نقاش الأستاذ متولي في اللب لا في القشور كان يجب أن يبحث عن (الحرية الفردية) وخطوتها في المذهب الوجودي، كان يجب أن يثبت لنا الوجودية في أسسها لا في حكاياتها. . .
وبهذه المناسبة أود أن أسرد للأستاذ متولي وللقراء سذاجة الفرد الوجودي، وبلاهة الفلسفة الوجودية!
أن فلسفة الوجودية التي تريد أن يرددها الفرد بلسان الوجودية السارترية هي:
(قل لي ماذا تفعل، أقل لك من أنت)
ولنفرض جدلا بأنني أريد أن أسخر من هذا المذهب الوجودي أو هذا الدين الجديد كما سماه سابقاً (أنيس منصور) أحد زعماء الوجودية في مصر أيضا، فهل بإمكان الوجودية أن تقول لي من أنا؟
إن الفلسفة الوجودية قامت منذ اللحظة الأولى ضد فكرة (المذهب) والمذهبية، وأول من وجدت لديه البذرة المتنافرة المتناثرة للفلسفة الوجودية هو الفيلسوف الدنماركي (كير كجورد) كما أن هذه الفلسفة جاءت ضد فلسفة (هيجل) التي تتصور العالم (كلا واحد). ولأصل في الوجودية إثبات وجود الفرد ضد الفكرة الجماعية، أو إنها كرد فعل لعاطفة مكبوتة تعطف على الفرد وتدفع إليه الحرية الفردية لتمكنه من القيام بتمثيل الحياة الحيوانية كما تمثلها باقي الحيوانات الدارجة سواء بسواء!
أما مذهب (هيجل) وفلسفته التي تتصور العالم (كلا واحد) هي الفكرة الجماعية التي تحاربها الوجودية بكل قواها لإثبات وجودها. . باعتبار أن سلطان الجماعة والجماهير كان من شأنه أنجعل الفرد لاوجود له، وإنما هو يدخل في الحساب (ضمنا). والحقيقة هي أن(950/12)
الفرد كجزء وليس (كل) لأن الفرد وحده لا يكون (الكل) إلا إذا اجتمع مع غيره، مثلا: إن المحيط مجموعة بحار وليس البحر الواحد محيط، أو آنتكانسان ولكنك أصبحت (إنسان) لأنك مجموعة أعضاء وليس العضو الواحد هو الذي جعل منك إنسانا
وإذا كان القصد من وراء قيام الفرد على حريته الفردية وتفكيره الخاص وما يذهب إليه في تعريف الوجود، كان معنى ذلك أن البشرية ستعود إلى ما كانت عليه أول نشوئها، أي أنها تعود إلى حالتها الهمجية كما أوجدتها الطبيعة! وبذلك تنعدم القيم والمفاهيم والحقوق لتحل محلها هذه الفوضى (الوجودية!) أليس هذا ما يدعو إليه الفرد وما تقوم عليه الحرية الفردية!؟
أما قولها - (أنا المراجع الوحيدة وأنا المصدر الأول لكل بداية) فهذه مغالطة، لأنه إذا كانت هناك مجموعة أفكار كلية جامعة فليست معناها فكرة واحدة بل مجموعة أفكار
ومن هنا نستنتج: بأن (أنا الإنسان الفرد) ليس إلا مجموعة أفكار كلية وأحكام عامة. وليست بفكرة واحدة وحكم واحد وحرية فردية. أما الرجوع إلى الإنسان نفسه، فهو الإنسان (أنا وليس أنا المصدر لكل بداية) هذا هو الفرق
كما أن الحرية التي تقوم على أساس الفرد لا يعني أنها تعمل بحريات الآخرين (تبدأ حريتك عندما تنتهي حرية غيرك) وبالعكس. أما أن الفلسفة الوجودية أساسها الحرية الفردية فهذا هراء لا يقبله العقل ولا تقوم عليه أتفه الأسس!
إنك موجود في الحياة لوجود غيرك، وليست الحياة وجدت لأنك موجود. إن المذهب الوجودي قائم على أساس الإشباع الجنسيفي للفرد، وتحقيق ما تتطلبه الغريزة الجنسية بأبشع صورها وأقبح ما تصوره من الهدم والتخريب! إن الأمة التي تقوم على غير الأخلاق وضمان الحريات الأخرى لهي زائلة حتماً
إنك وجودي لأنك أناني تحب ذاتك إلى حد الجنون! إنك وجودي لأنك تريد أن ترقص على أشلاء الآخرين لتمثل فوق رفاتهم ما تدعوك إليه غرائزك وعواطفك وتفكيرك الخاص وحريتك الفردية. . .
وإذا كانت الفردية تهدف إلى ذلك فهي فردية مشوهة الخلقة ناقصة التكوين!
أما الوجودية عند الوجوديين قد أخرجت العدم من الوجود، فإن الطبيعة أيضاً هي التي(950/13)
أخرجت الوجود من العدم!
بغداد
شاكر السكري(950/14)
على ضفاف الفتاة:
بلد الجمال
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
لم تكد وزارة المعارف - سامحها الله - تدعني أنعم بالقاهرة بعد أن نقلت من عنيبة عاصمة بلاد النوبة المصرية، حتى ألقت بي على ضفاف القناة. . قناة السويس، وبحيرة التمساح في مدينة الإسماعيلية، حيث تقوم الإنجليز صولات وجولات. وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى، أو أرادت لي وزارة المعارف، أن ألمس السلطان الإنجليزي المقيت في منطقة قناة السويس، كما لمسته، ورأيته في السودان وما يتصل به، وتقلص السلطان المصري إلى حد يعتبر فيه الإنجليز أن البواخر النيلية التي تنقل الركاب والبضائع من وادي حلفا إلى الشلال وبالعكس - أرض سودانية، أو بمعنى أدق (إنجليزية) تجري في مياه مصرية. وعلى هذا فأية حادثة تقع فيها تختص في نظرها حكومة السودان لا الحكومة المصرية، حتى لو كان ذلك في الشلال نفسه بالقرب من أسوان.!!
ومهما يكن من شيء ففي الإسماعيلية الجميلة - التي لم أكن أعرفها من قبل إلا معرفة عابرة، حين كنت أمر بها بالقطار أو بالسيارة في طريقي إلى بور سعيد التي أمضي بها أكثر مدة الصيف غالبا - في هذه المدينة الجميلة رأيت طرازاُ جديداُ لما يجب أن تكون عليه المدن المصرية في العواصم والأقاليم. . وكنت أسمع من قبل بجمالها ونظافة شوارعها المستقيمة التي تمر بقسميها العربي والإفرنجي على السواء.
ولكني لم أكن لأتصورها على حقيقتها التي رأيتها عليها. ويمكن أن نقول صادقين: إن الإسماعيلية هي البلد الوحيد في القطر المصري الذي لا تستطيع أن تصفه بغير الجمال والنظام والحسن والنظافة مهما تجنيت عليه، أو حاولت إنقاص قدره، وتهوين شأنه، أو النيل منه لغرض من الأغراض.
ويرجع السبب في ذلك أن الإسماعيلية نظيفة بطبيعتها حيث تقع على بحيرة التمساح لتي تمر بها قناة السويس - فتأثر في جوها، وتجعله نقياُ وهادئاُ، عليلاُ بليلاُ. . وفي منظرها فنزيده روعةُ وجلالاُ، وتضفي عليه مهابة وبهاء، وأرضها صحراوية رملية، قد رصف أكثر شوارعها. إلا أن الصحراء تحيط بها من ثلاثة جهات فتهب عليها رياحاُ ساخنة(950/15)
أحياناُ، وتحمل الرمال والغبار، فتكون سبباُ من أسباب الضيق والبلاء. . إلا أن هذا لا يحدث في غير أيام الخماسين، حيث تعم الشكوى في مصر من هذه الأيام
والإسماعيلية مدينة محدودة لها أول، ولها آخر. ولعلك تعجب حين تعلم أن الناحية البحرية منها لها سور حديدي يؤذن بانتهاء المدينة في هذا المكان. . وهي مدينة إفرنجية بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من معان، حتى أن السائر في بعض شوارعها يعتقد انه يسير في بلد أوروبي صميم، لا في شارع من شوارع مدينة مصرية ومرجع ذلك أن شركة القناة هي التي وضعت تصميم هذه المدينة، وجعلها في الأصل قسمين: أولهما حي الفرنجة، وثانيهما حي العرب، وهما يقعان شرقي الخط الحديدي من القاهرة إلى بور سعيد، وغرب ترعة الإسماعيلية التي استفادت منها الشركة في تجميل المدينة إلى أبعد حد. ذلك أنها بنت على طول شاطئ هذه الترعة الغربي القصور الفخمة لموظفيها، وكبار رجالها، وعلى هذا الشاطئ يقع شارع (محمد علي) وهو أطول شوارع المدينة على الإطلاق، وأكثرها اتساعا وأهمية
وغرست الأشجار على الشاطئين في نظام جميل، وبخاصة شاطئ الترعة الغربي حيث تمتد الحدائق إلى شاطئ بحيرة التمساح في صورة غابات كثيفة رهيبة من أشجار (الكزورين) و (اللاتانية) و (الكافور) وغير ذلك من الأشجار الضخمة التي جعلت الغابة ستارا كثيفا يحجب الشمس في أيام الصيف القائض أن تصل إلى المتنزهين والمرتاضين، في أية ساعة من ساعات النهار
وما أجمل بحيرة التمساح تلك البحيرة الهادئة الوادعة التي تنساب فوقها المراكب الشراعية الصغيرة، والقوارب البخارية هنا وهناك، وكأنها الحمائم البيض فوق صفحة لا يهيجها موج، ولا يعكر صفوها ريح عاصفة - وما أجمل بحيرة التمساح حين تمر بها البواخر الكبيرة الذاهبة إلى البحر الأحمر، والآتية منه، وكأنها مدن كبيرة تتحرك ببطء وتثاقل، كأنها تحمل أوزار العالم وآلام الوجود
وحدائق الإسماعيلية ذات شهرة عالمية، ذلك لأن اليد الفرنسية التي تمتاز بالذوق والجمال، قد افتنت في تنسيقها، وأبدعت في تنظيمها فصارت طرفة فنية تأخذ بمجامع القلوب ولكن لا يتمتع بها غير الأجانب التي لا تخلوا منهم الحدائق في أية ساعة من ساعات النهار. .(950/16)
يخرج إليها الرجال والنساء والأطفال، في مظهر طبيعي لا أثر للكلفة والتصنع فيه. . أما المصريات بالذات فلا تكاد ترى لهن أثراُ في هذه الجنات الباسقات، الوارفة الظلال. وإذا قدر لك ورأيت مصرية دفعتها روح المدنية إلى أن تأخذ نصيبها من الرياضة الجميلة بين حدائق الغن، فإنك ناقم عليها أشد النقمة. . ذلك أنها لم تفهم معنى الرياضة، فهي تتخذ من عوامل الزينة ما يجعلك توقن أنها ذاهبة إلى معرض من معارض الأزياء والجمال. . يا الله! ما هذه الثياب الغالية المطرزة المفوفة التي تعوق سيرك أيتها المصرية الذاهبة إلى مواطن الطلاقة والمراح. . إلى الطبيعة المطلقة، الخالية من أسباب التصنع والتكلف المقيت. . بينما ترين الأجنبيات كالزهرات المتفتحات، وسط هذه الزهور الطبيعية، فيخيل إليك أنهن يكملن الوضع الطبيعي لهذه الزهور، وينسجمن معها في بساطة لا تدانيها بساطة، ومع هذا لا يمكن أن تحكم على هؤلاء الأجنبيات بغير الذوق والجمال الأخاذ
وقد ترى طائفة من الشباب المصري، فيتملكك الحزن لمنظرها وهي تسير في الطريق اللامع وقد حمل كل فرد عودا من القصب. . قصب السكر أطول منه، يلوكه بين ماضغيه، ويكاد يطحنه بأضراسه طحنا، ثم لا يكف أثناء المص عن الكلام البذيء، يلاحق به الرائحات دون اهتمام بما ينال في بعض الأحايين من تأنيب قاس يعتقد هو أن هذا فاتحة الباب.!
والحي الإفرنجي في الإسماعيلية نظيف جدا، شأنه في ذلك شأن الحي الإفرنجي في بور سعيد والسويس وأعني بهما بور فؤاد وبور توفيق. . وفي هذا الحي تجد العمائر الضخمة الفخمة، والفيلات الصغيرة المتناثرة، والشوارع اللامعة أرضها، والحوانيت الغاصة بأجمل السلع، وأغلى الأسعار. وينشرح صدرك إذا طوفت بهذا الحي سواء فالليل والنهار. . بيد انك لا تكاد ترى وجهاً مصرياً يقطن في هذا الحي، وأنمى هي وجوه غريبة من كل لون وجنس. . وجوه تنكرها ولا تعرفها. . . وجوه أجنبية كالحة أكثرها من الإنجليز الذين رمت بهم أمواج البحار، ولفظتهم بلادهم، وجاءت بهم المطامع الأشعبية اللآتمة إلى هذه الصحراء القاحلة في منطقة قناة السويس، فاحالتها أفكارهم إلى جنة وارفة الظلال. لا بأموالهم وجهودهم، وإنما بأموالنا نحن المصريين - أو بعبارة أدق بذلك الحبر على الورق، يصنعونه في مصالحهم بلا رصيد وغطاء، ويقذفون به ألينا جنيهات مصرية قشيبة لا(950/17)
نعرف لها أول من آخر. وبجهود عمالنا نحن المصريين الذين يكدون ويكدحون لقاء ما يأخذونه من أجر زهيد لا يكاد يقع موقعا من كفايتهم!
والحي العربي ليس في نظافة سابقه، وإن كانت شوارعه مرصوفة إلا أن فيه الفوضى المصرية سواء في المناول أو الدكاكين. وعلى البلدية تبعة ثقيلة جدا، ولنا معها حساب عسير، وذلك أنها لم تعمم المجاري بهذا الحي المسكين، فلم يخل شارع من شوارعه الكبيرة أو الصغيرة على السواء من أقذار يتراكم عليها الذباب، ومياه قذرة منتنة تلقى من النوافذ إذا جن الليل كأفواه القرب، أو تخرج بها النسوة والفتيات من الأبواب، أو تفيض بها أكثر الأحايين دورات المياه، حاملة معها الوباء العاجل والخطر الماحق والدمار الأليم. .
وغربي السكة الحديدية ثلاثة أحياء اخرى، دعت إليها سنة التطور وكثرت الزحام في الإسماعيلية! أولهما (عرايشية لندن) ولا تعجب لهذه التسمية فهو حي إنجليزي لحما ودما، بنيت عمائره بأيدي مصرية وضع فيها الذهب أو بعبارة أدق (الحبر على الورق) أيدي الإنجليز، وفي كل عمار من عمائره تقطن عشرات من الأسر الإنجليزية الصميمة التي نزحت إلى هذا القطر المسكين، لتشاطر أهله غلات أرضه وثماره، بل تستأثر دونهم بأطيب هذه الثمرات وخير هذه الغلات. . .
وثانيهما (عرايشة مصر) وهو حي متوسط يسكنه كثير من المصريين ذو الدخل العادي، ويشبه من وجوه كثيرة حي العرب في الناحية الشرقية الثالث (عراشية العبيد) وهو حي فقير، تسكنه الطبقات الفقيرة العاملة الكادحة في هذه المدينة الزاخرة بالناس من جميع الألوان والأشكال، والتي تفيض بالذهب في كل ناحية من نواحيها، ومع هذا لا يكاد يسمع الفقير رنين هذا الذهب ليجد منه السلوى والعزاء.!
هل كتب على المصريين أن يعيشوا دائماُ على هامش الحياة دون أن يفهموا شئُ من حقيقتها وإن طال بهم العمر وأمتد بهم الأجل!! إن الفقر ليس علة العلل كما يدعي بعض الناس، وإنما هو الجهل الفاضح بأسرار الكون، وحقيقة الوجود، وإلا ماذا تكلفنا النزهة اليومية ساعة كل يوم ومعنا أبناؤنا نتمتع فيها بالنسيم والهواء، والخضرة والماء، والجمال والصفاء؟!
عبد الحفيظ أبو السعود(950/18)
المدرس بمدرسة البنات الثانوية الأميرية بالإسماعيلية
-(950/19)
في شعر عائشة التيمورية
1840 - 1902
للأستاذ محمد سيد كيلاني
بقية ما نشر في العدد القادم
هذه الأبيات التي سردانها من قصيدتها في رثاء ابنتها هي أروع ما في القصيدة. وهي تصور شعوراُ داخلياُ لحالة فتاة قد أيست من شفائها وأيقنت بهلاكها، فهي تودع أمها الوداع الأخير وترجوا أن يترفق بها اللحاد حين يوسدها الثرى ويهيل عليها التراب. وتسأل أمها أن تصون جهاز عرسها تذكاراُ لها. واسمع إلى أمها حين تجيب ابنتها:
فأجبتها والدمع يحبس منطقي ... والدهر من بعد الجوار يجور
بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي ... قد زال صفو شأنه التكدير
لا توصي ثكلا أذاب وتينها ... حزن عليك وحسرة وزفير
هكذا ردت عائشة على ابنتها. وهو رد ضعيف، وكان ينبغي أن يكون أقوى من ذلك بكثير والمعاني في هذه الأبيات تافهة. ثم تأخذ قيمة القصيدة بعد ذلك في الانحدار، ويختفي الشعور الداخلي بيتا ُبعد بيت حتى ينعدم تماماُ وتنقلب إلى نوع من النظم الذي لا رائحة فيه للشعر. وهذا دليل على ضعف الشاعرة وضيق افقها. ولو أنها وهبت حظاُ من الشاعرية لاستوحت من المقام جملة قصائد مبكية لا قصيدة واحدة، وبخاصة أن بنتها ماتت وهي في فجر شبابها. وقد قيل أنها انقطعت عن قول الشعر بعد وفاة بنتها هذه لمدة سبعة أعوام
ولعائشة قصيدة رثت بها والدها ومطلعها:
عز العزاء على بني الغبراء ... لما توارى النجم بالظلماء
وقد ذكرت في هذه القصيدة مجئ الطبيب إلى والدها، ثم أنطقت أباها بعد أبيات مؤثرة. ثم شرعت بعد ذلك تندب وتنوح فقالت:
يا حسرة ابنته إذا نظرت لها ... بمماته عين من البأساء
قالت وحق سنا أبوتك التي ... كانت ضياء الأمن للأبناء(950/20)
مذ ما فقدتك والحشا متسعر ... والجسم منتحل من الضراء
ياكنز آمالي وذخر مطالبي ... وسعود إقبالي وعين سنائي
يا طب آلامي ومرهم قرحتي ... وغذاء روحي بل ونهر غنائي
أبتاه قد جرعتني كأس النوى ... يا مر جرعته على أحشائي
أبتاه قد حش الفراق حشاشتي ... هل يرتضي الشفوق جفائي
فإذا قرأت هذه الأبيات شعرت بأن امرأة تقف أمامك وقد تدفقت منها الدموع. وهي تتحسر وتتوجع وتئن وتتألم لما أصابها من خطب وحل بها من كرب
ورثت شقيقتها بقصيدة مطلعها:
يا من أتى للقبر يقرأ طرسه ... مهلا فليس كتابه بمداد
وقد ذكرت كذلك في هذه القصيدة عيادة الطبيب لأختها ونظمت على لسان تلك الأخت ابياتاُ مؤثرة إلى حد بعيد فقالت:
جاء الطبيب يجس نبض ذراعها ... فرأى التأثر ليس كالمعتاد
فتنفس الصعداء مرات وقد ... أعيي، وقال اليوم ضل رشادي
فتنهدت جزعاُ، وقالت سيدي ... أأموت قبل الترب والأنداد
وأسير من دون الأنام وكم أرى ... للدهر قبل الموت من رواد
ثم انتقلت بعد هذا إلى تصوير شعورها الفياض بالحزن على ما أصابها من موت أختها
والملاحظ في رثائها لبنتها ووالدها وشقيقتها أنه تضمن صورة واحدة، تلك هي مجيء الطبيب ويأسه من شفاء المريض وعجزه عن علاجه. ثم تأتي بعد ذلك محاورة بين المريض والطبيب أو بين المريض والشاعرة كما حدث لها مع بنتها، ونرى في هذه المحاورة شعراُ رائعاُ يترجم عن إحساس عميق ويعرب عن شعور متقد بين الجوانح. وهذا شيء لا نراه عند غيرها من الشعراء. فهي قد انفردت به وتميزت عن سواها ممن يقولون الشعر. وذلك راجع إلى طبيعتها الأنثوية، فإن المرأة التي تشرف على علاج المريض وتسهر الليالي في خدمته وتسمع شكواه وأنينه فكان لها من طبيعتها ما جعلها تأتي بهذه الصورة الجديدة. ولم نر شاعراُ في عصرها وفق إلى مثل هذه الصورة غير صالح مجدي في رثائه لزوجته، وذلك لأنه كان يعالجها بالبخور والتمائن والرقي فلما ماتت صور هذا(950/21)
كله في رثائه لها
ولعائشة قصيدة مطلعها:
بيد العفاف أصون عز حجابي ... وبعصمتي أسمو على أترابي
وهذه القصيدة جديدة في موضوعها، فريدة في بابها. تأمل في قولها:
فجعلت مرآتي جبين دفاتري ... وجعلت من نقش المداد خضابي
كم زخرفت وجنات طرسي أنملي ... بعذار خط أو إهاب شبابي
منطقت ربات ألبها بمناطق ... يغبطنها في حضرتي وغيابي
وحللت من نادي الشعور ذوائبا ... عرفت شعائرها ذوو الأنساب
ما ضرني أدبي وحسن تعلمي ... إلا بكوني زهرة الألباب
ما ساءني خدري وعقد عصابتي ... وطراز ثوبي واعتزاز رحابي
ما عاقني خجلي عن العليا ولا ... سدل الخمار بلمتي ونقابي
أنت تقرأ هذه الأبيات فتشعر بأنك تقف أمام امرأة. وليست هذه المرأة الخنساء، ولا ليلى الأخيلية، ولا غيرهما من شاعرات العرب، وإنما هي امرأة تعيش في العصر الحديث. اتخذت من الدفتر مرآة، ومن المداد خضابا. ولو كان هذا المداد أسود لأضحت الصورة كريهة قبيحة. فلعلها أرادت المداد الأحمر فإن صح هذا فالصورة مقبولة. وهي تقول بعد ذلك إن كونها امرأة لم يمنعها أن تنزل إلى ميدان الأدب جنباُ إلى جنب مع الرجال. وهي في دفاعها عن هذا الرأي تعبر عن شعور صادق وتنطق عن ثقة واطمئنان إلى نفسها، وهذه الصيحة بداية للمطالبة بحقوق المرأة؛ ومساواتها بالرجل وتحريرها من الرق والإسار وفي الأبيات صورة لما كانت عليه المرأة في ذلك الوقت وهذه الصورة تستوحيها من ذكر الخدر والعصابة والثوب المطرز والخمائر، فلو أن الشاعرة عاشت معنا في هذه الأيام لما ذكرت شيئاُ من ذلك، ولما أتت بهذه الصورة التي لا وجود لها بين الطبقات الغنية
ومن شعرها المتكلف قصيدة في ذكر الخمر
لاح الصبوح وبهجة الأوقات ... فاشرب وعاط الصب بالكاسات
ومنها:
ودع الوشاة وما تقول عواذلي ... فالعين عيني والصفات صفاتي(950/22)
فأنا الأسير بظل روض كرومها ... ولو أن في عنقي شهى حياتي
وليس هذا مما تقوله النساء، ولكن عائشة تريد أن تنظم الشعر ولا تجد أمامها ميداناُ للقول، فماذا تصنع؟ نظمت في ذكر الخمر كما نظمت في الغزل من قبل
وليس لها في باب المدح سوى قصيدة واحدة هنأت بيها الخديوي توفيقا عقيب القضاء على الحركة العرابية
وكانت الشاعرة تستوحي من أنوثتها كثيراُ من الصور، ومثال ذلك قولها:
ولكني أرى في الصبر طبي ... ومكحلة الجلا حسن امتثالي
وقولها:
فدعني يا خل والخل نخلو ... ونكحل بالثنى جفن الأماني
وقولها:
مرآته طمست وأصدأ وجهها ... من بعد ما سعدت بطول جلاء
ولطالما اكتحلت عيون أولى النهى ... من غدره بمصائب وبلاء
فأنت ترى أن الشاعرة تكثر من ذكر الكحل والمكحلة والمرآة، وهذه كلها من مستلزمات المرأة
وقد استخدمت التورية باسم عائشة في عدة مواضيع. فمن ذلك قولها:
إن قيل عائشة أقول لقد فنى ... عيشي وصبري والإله خبير
وقولها:
ولى التقلب في سمير تحرقي=ما دمت عائشة ليوم فنائي
محمد سيد كيلاني(950/23)
صراخ الجياع
للأستاذ أحمد قاسم أحمد
نحن. . . ومن نحن. .؟
نحن مقطوعة رعناء، تلفظها شبابة خرساء. .!
نحن أهزوجة هوجاء، تحتضر في حنجرة بكاء. .!
نحن ركام حائل من ببطون طاوية، وعيون غائرة، وصدور معتلة. .
نحن حطام أشل من ظهور دامية، وأيد مغلولة، وأفواه مكممة.
نحن. . ومن نحن. .؟
نحن الجياع الذين يهبون القوت. . والأرقاء الذين يمنحون الترف، والعذبون الذين يصنعون السياط. .
نحن الجحافل الرجيمة من أشباه الموتى وأشباه الأحياء. .
نحن القطعان الهضيمة من أبناء آدم وبنات حواء. .؟
نحن. . ومن نحن. .؟
نحن المواكب الزاحفة من الأسمال والأشلاء والهياكل، تتقدمها طبول الدم المطلول تهدر في عنف وصخب، وتظالمها ألوية الحرية الذبيحة تضطرب في جنون وتمرد، وتحدوها قوافل الألحان الزرق؛ تتراكض في ضجيج وفحيح. .
نحن الفيالق الساغبة من الشذاذ والمتشردين. .
نحن النفايات التافهة من التعساء والملاعين. .
نحن الثمار العفنة الساقطة من دوحة الآدميين. .
. . . نريد طعاما. .!
نريد طعاما لنا ولأولادنا وأزواجنا. . نريد طعاما من الأرض التي نفلحها، وكساء من القطن الذي نغرسه، وشرابا من الماء الذي أجراه الله. .
لقد آمنا بأن حقنا في الحياة ليس منحة يتعلق بذلها بالأهواء، وإنما هو شرعة يتعلق أمرها بالسماء. .
كما آمنا بأن الطين - يا سادة - معدننا ومعدنكم، والله ربنا وربكم. . يحكم بيننا وبينكم. .(950/24)
وها نحن أولاء نشرف عليكم من قمم إنسانيتنا، ونصرخ في وجوهكم، وفي وجه كل عانية جبار: لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا، فمتى كان لكم أن تستعبدوا الأحرار. .؟
اسمعوا دوينا الذي تنقض له معاقل الطغيان. . ونداءنا الذي يجلجل في كل أذن، ويعربد في كل مكان. .
نحن الجياع. . . نريد الطعام. . .!
أحمد قاسم احمد
-(950/25)
4 - رسالة المربى
ضرورة التقيد بطريقة معينة - طريقة المشروع - مزايا
المشروع
للأستاذ كمال السيد درويش
إن عملية النمو في التعليم هدف يستحق أن نعمل من أجل الوصول إليه، ولكن كيف يمكن أن نخرجه إلى حيز التنفيذ. ما أكثر الأسس الفلسفية التي يضعها الكثير من كبار المصلحين والفلاسفة لعلاج المشاكل المعقدة، حتى إذا جاءوا إلى صخرة التنفيذ تحطمت جهودهم عندها، وتبخرت آمالهم لديها وعادوا بالحسرة والخسران المبين. ومن أجل ذلك نرى أن نكتفي بتحديد رسالة المربى دون أن نتقيد بحذافير طريقة عملية معينة لتنفيذها. بل أن عملية التعلم كعملية نمو حر متواصل تدعو هي نفسها إلى عدم التقيد بطرقة عملية معينة. ذلك لأنها طريقة عملية تجريبه. وأساسها الفلسفي يحض على عدم التقيد بأسلوب معين في التنفيذ، فما يكون صالحا اليوم قد يصبح غير صالح في الغد، والطريقة التي تستعمل في المدينة، غير التي تستعمل لتعليم أهل القرية، وهم يعطون إشارة المرور وكيفية عبور الشوارع كأول درس بتعلمه الطفل في أمريكا، بينما لا نزال نحن حتى الآن نتقيد بمناهج زرع وحصد
التقيد بحذافير طريقة عملية يتنافى مع طبيعة عملية التعلم الصحيحة، إذا قد تصبح هذه الطريقة بعينها ديكتاتورا بتحكم في المعلم والمتعلم، وحجر عثرة في استمرار عملية النمو. ولذلك يمكن القول أن التقيد بطريقة معينة هو علة فساد الكثير من النظم التعليمية، فإذا كان ولابد من طريقة عملية للتعلم، فلتكن الطريقة التي ترمى إلى تحقيق فكرة عدم التقيد نفسها تحقيقها عمليا. وأقرب هذه الطريقة إلى تحقيق المعنى الذي حددناه هي طريقة المشروع ولذلك سنتناولها بوجه عام
ما هي طريقة المشروع؟ هي طريقة وضعها وأسسها أحد فلاسفة التربية بأمريكا، ومن بينها مصر
ومتى يبدأ المشروع؟ يبدأ كما تبدأ عملية التعلم لدى الأسرة وكما بدأت لدى الإنسان الأول.(950/26)
مشكاة تعترض حياة المتعلم؛ مشكلة حقيقية قد اعترضته هو فعلا تدفعه إلى محاولة التغلب عليها. يشعر الإنسان إذا اعترضته المشكلة بحاجته الشديدة إلى من يعلمه كيف التغلب عليها. يسأل أولا ما هذا أو ذاك، وعند ذلك يبدأ المربي، وهو دور الرفيق الذي يوجه بما لديه من خبرة؛ ويساعد ويعين حيى يتغلب الإنسان على مشكلته، وينتهي عند ذلك بنجاح المتعلم في حل مشكلته، ولكن المشروع الأول الذي كان غرضنا في حد ذاته سرعان ما يصبح وسيلة إلى غرض جديد هو مشروع آخر حديث , وسنضرب لذلك مثلاً: (أراد طالب أن يكبت خطابا ردا على خطاب جاء إليه، ولم يكن هذا الطالب قد سبق أن كتب خطاب قط، ولذلك لجأ إلى مدرسة يستفتيها. ولو لاحظنا موقف الطالب في هذه الحال لوجدناه موقف المستيقظ المهتم بكل ما يقوله مدرسه. هذا هو الدرس الحقيقي الذي سيتعلمه فعلا في كيفية كتابة الخطابات. درس ثابت لن ينسى لأنه سيستعمل معلوماته في الحال في كتابة الخطاب، بل وسيتوسع في استخدام هذه القدرة الجديدة التي اكتسبها فيكتب إلى آخرين، ويراسل زملاءه في إنجلترا والباكستان، هلم جرا. .
ولكن هذا المثال السابق في الحقيقة لا يمثل مشكلة بالمعنى الحقيقي للمشكلة، كما تفهمه طريقة المشروع، ذلك لأن كتابة خطاب ليست ذات أهمية حيوية قصوى بالنسبة للتلميذ، وإنما هي صعوبة عارضة، وإنما تكون المشكلة مشكلة حقا كلما كانت تمس أمرا حيويا بالنسبة للإنسان، فدودة القطن بالنسبة للفلاح المصري، بل وللدولة، كلها مشكلة خطيرة، وهي التي تثير بمجرد ظهورها مختلف الجهود للقضاء عليها، وظهور الملاريا أو انتشار الكوليرا، أو هجوم الجراد، كلها مشكلات خطيرة يمكن أن تعتبر سلوك المجتمع في التغلب عليها مشروعا من المشروعات التي توصي بها طريقة المشروع. ولذلك لا تعترف طريقة المشروع بتعلمنا الحالي، ولا بنظمنا المدرسية المنطقية. ولا تعترف بالمناهج ولا الحصص، ولا بالفصل أو الجرس، ولا بالانتقال من سنة إلى أخرى، أي لا تعترف بالامتحان. ذلك لأنها طريقة تتمشى مع الميول النفسية للطفل، وتتدرج معه وتنمو بنموه. يسأل فتجيبه، ويتعلم فتساعده وتعينه. . . يتم ذلك كله أثناء سير المشروعات التي يقوم بها والتي يأخذ بعضها يراقب بعض. ولكي يكون المشروع مشروعا بمعنى الكلمة يجب أن يلاحظ في تطبيقه ما يأتي: -(950/27)
1 - أن تكون المشكلة من وحي الطالب أو الطلاب، وان يتم تحديدها على أيديهم، ومن وحي شعورهم
أن يظل موقف المتعلم خلاله تلقائيا
أن يستمر مادامت المشكلة مستعصية على الحل أي أن المدة التي يستغرقها المشروع يجب أن لا تحدد إلا بانتهاء المشروع نفسه
4 - أن يظل الهدف الأساسي من المشروع واضحاً أمام المتعلم، ولا يتيسر ذلك إلا بالمحافظة على سر المشروع من كثرة التشعب الذي قد يؤدي إلى تشتيت الجهود وتلاشي الغرض الرئيسي منه
5 - أن يعتمد في سيره على التجارب العملية التي ستتعدد وتتنوع بحسب ما يتطلبه المشروع نفسه، وأن تتجه كلها في النهاية نحو تحقيق الهدف الأخير
6 - أن يصبح الهدف بمجرد الوصول إليه وسيلة فعالة بدوره في تحقيق أغراض أخرى وفي إثارة مشاكل جديدة بحيث يضمن استمرار العمل واستمرار النمو
وتمتاز طريقة المشروع بمزايا عديدة أخرى. فاعتمادها على المشكلة جعل سلوك المتعلمين نحوها سلوكا غريزيا له كل مظاهر السلوك الغريزي من حيوية وتغير وتلقائية واستمرار. حتى يتحقق الغرض. وبذلك ضمنت نمو المتعلم واستمرار انتباهه التلقائي، وهو ما لا نجده مطلقاً في الطريقة المنطقية التي ينأ المتعلم فيها التعليم ولا يقبل عليه إلا مضطرا وتحت ضغط خارجية. والمشكلة إذا اعترضت المظهر النزوع لشعور الإنسان حفزته، ولذلك نلاحظ كيف يكون نزوع المتعلمين نحو التعلم في طريقة المشروع قويا وواضحا ومرغوبا فيه. ويلاحظ أن طريقة المشروع تكسب المادة التي يتعلمها التلميذ قيمة وحيوية لأهميتها بالنسبة إليه؛ بينما لا تكتسب المادة أي معنا في الطريقة المنطقية. ويتلقى التلميذ في طريقة المشروع المعلومات كوحدة واحدة كلية غير مجزئة؛ يتعلم المعلومات كما هي الحقيقة وفي الحياة. وبذلك تتفادى أكبر عيوب الطريقة المنطقية التي قسمت المعلومات إلى علوم من تاريخ إلى كيمياء إلى آخره فأصبح الطالب بسبب ذلك عاجزاً عن الربط بين ما يتعلمه سواء في المادة الوحدة أو بينهاوبين غيها من المواد
وتتناول طريقة المشروع عيوب التعليم الحالية فتنقد الطالب من تحكم المناهج وكثرة المواد(950/28)
وتحكم المدرسين ومن شبح الامتحان وما يتبعه من رسوب وفشل كفيل بقل روح البحث العلمي في التلميذ، وهي تضمن نمو المتعلم باستمرار ونمو المعلم أيضا
إن طريقة المشروع أكبر حدث تربوي خطير ظهرفي العصر الحالي. وواجبنا نحن المصريين بوجه خاص والشرقيين بوجه عام التخلص من الطريقة القديمة المنطقية التقليدية التي نسير عليها، وأن ننقذ أبناءنا ومجتمعاتنا وأوطاننا بأن نؤدي لها أكبر الخدمات واجلها حين ندخل في التربية طريقة المشروع أو ما يشابهها وينبني على أساسها؛ فبذلك وحده يظهر جيل حر في تفكيره، عملي في حياته؛ جيل ينمو باستمرار ويتمشى مع ركب الحياة. جيل يخلع رداء الجمود ويتحرر مما يعوقه من قيود.
وبمثل هذا الجيل يتسنى لنا مساير الزمن ومنافسة الغربيين؛ كيف لا وقد أعدته رسالة المربى كما يجب أن تكون
كمال السيد درويش
-(950/29)
النقد والشعر
للأستاذ سامي أمين
في العدد (945) من المجلة (الرسالة) يقول في الافتتاحية الأستاذ الناقد سيد قطب عن الشعر (أن الغناء. الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات. حين ترتفع هذه المشاعر والأحاسيس عن الحياة العادية، وحين تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق، أو الرقة والانسياب على نحو من الأنحاء. .
(ولسائل أن يسأل: أو ننفي الفكر من عالم الشعر أيضا؟ ولست أتردد في الإجابة: إن هذا الفكر لا يجوز أن يدخل هذا العالم إلا مقنعا غير سافر. ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال. ذائبا في وهج الحس والانفعال. أو موشى بالسباحات والسرحات. . ليس له أن يلج هذا العالم ساكنا باردا مجردا)
ومن هذا الشعر القصيدة التالية المختارة من ديوان (أنفاس محترقة) للشاعر الأستاذ أبو الوفا. . (في انتظار الصباح):
جدد لي الأقداح ... يا ساقي الراح
على أرى في الراح ... أطياف أفراحي
في مزهري ألحان ... أخشى أغنيها
أخشى على الأوتار ... من هول ما فيها
يا مزهر الأقدار ... عن بها غنى
واشرح على الأطيار ... ما غاب من فني
لكل يوم شراب ... لابد من كأسه
وكل معنى العذاب ... في لون إحساسه
من ذا يرد الصواب ... للدهر في ناسه
للغاب يا ابن الغاب ... اهرب فداك اللواح
تبا لضعف التراب ... أغرى عليه الرياح
لولاي في ذا الإهاب ... ما هيض مني الجناح
لا تسألوا يا شهود ... عن حكمة الأقدار(950/30)
وأين نحن العبيد ... مما وراء الستار
ومن تخطى الحدود ... يلقى به في النار
(النار ذات الوقود) ... يا رب يا ستار
ربان بحر الوجود ... أدري بموج البحار
فاستسلموا للوعود ... وامضوا في التيار
هات اسقني يا صاح ... كأس الهوى الفضاح
سكران لكني فؤادي ... مما يعانيه صاح
يا ليل هل من مداو ... يا ليل. . يشفي جراحي
لم يجد فيك اصطباري ... وليس يجدي نواحي
يا هل ترى لي صباح ... أم ليس لي من صباح
هذا الهذيان المطلق الذي لا تربط بينه قافية واحدة ولا فكرة واحدة (إنما تربط تلك النغمة المناسبة. . نغمة الروح الحزين. . العابث. . المتطلع. . الأليف. . الوديع. . روح الفراشة البيضاء والعصفور الراقص المزقزق الصداح). . على حد قول الأستاذ. .
هذا العناء الذي يتكلفه الأستاذ الناقد. . فيريد الشعر بهذا الشكل المشوه الممسوخ. . لا رابط بين مقاطع القصيدة الواحدة. . ولا ولامح من قريب أو بعيد. . فهي أمشاج وتهاويل. . فمن الراح والأقداح إلى النواح وإلى حكمة الأقدار والنار ذات الوقود وإلى ما لا أدري من لغو منظوم لو تجرأ واحد وعرضه على مجلة مهمة كالرسالة مثلا لاتهموه بالجنون. . أقول هذا العناء الذي تكلفه الأستاذ لم يكن له من باعث سوى إظهار بعض الشعراء وفرضه على القراء بغير إنصاف. . وهكذا نرى أن نقادنا اليوم - للأسف - لا ينظرون إلى الشعر وإنما ينظرون إلى الشاعر فيحسبون لهذا ولذاك ألف ألف حساب. .
ثم عن تلك الخواطر المتنافرة والاهتياجات المتدفقة التي نظمها أبو الوفا يقول الأستاذ سيد قطب إنها (ظاهرة فنية) تلد بين الحين والحين وليس النقد الفني عندنا من النضج بحيث يتناولها بالتعهد والرعاية كما يكون لها كيانها الخاص فيما بعد. ولست أطلب من الأستاذ إلا أن يلقي نظرة على أي محاولة فاشلة يقدمها شاعر ناشئ في مطلع حيلته الأدبية والفكرية فسيجدها ولا شك (ظاهرة فنية) فريدة تستحق الإعجاب. .(950/31)
والآن أقدم شاعراُ (مغموراُ) نشر ديواناُ قبل زمن قصير يحوي ستا وثلاثين قصيدة، وقدم نسخاُ منه إلى دور النقاد ودور الصحف والمجلات في مصر، فلم يلتفت إليه أحد ولم يظهر له اسم. وليس له ذنب سوى إنه من البلدان المتأخرة، من العراق. . . فأما أبو الوفا الذي يقدمه الأستاذ سيد قطب (على الصفحات الأولى من الرسالة) فهو من أرض الكنانة مصر بلد (المتقدمين). .
يقول الأستاذ (شاذل طاقة) في مفتتح ديوانه (المساء الأخير) هذه الكلمات (لله هؤلاء الشعراء. . شياطين عبقر. . فإنهم يألمون مرة ثم يحيون الآم مرة أخرى. . فكأنهم يألمون مرتين) وهذه أصدق وأدق كلمة تقدم ديواناُ من الشعر ثم هذه بضع من قصائده. . وليتفضل فيقارنها من يشاء بالنماذج التي أوردها الناقد الكبير سيد قطب من شعر أبى الوفا في مقاله. . وليقل بعدئذ من يشاء بأنني أتهم سيد قطب وسواه من النقاد في مصر بالمحاذاة كذباُ وافتراء. . .
هذه إحدى قصائد الأستاذ الشاعر (شاذل طاقة) وعنوانها (ظمأ). . وهي تصوير رائع للظمأ السرمدي الذي يحسه الإنسان في أعماقه إلى الجمال. .
أذوب قلبي أم أصون لساني ... وأعذل نفسي أم أذم زماني
لك الله يا دنيا فلا حسنك انتهى ... ولا القلب من أشواقه بأمان
ولا أنا عن بث اللواعج منته ... ولا لك في وقف العذاب يدان
أناديك مبحوح النداء وأنثنني ... أنوء بما قاسيته وأعاني
طبعت على عشق الجمال فلا أرى ... مع الحسن إلا دائم الهيماني
أحوم كما حام الفراش على اللظى ... وأقضي ولا أنفك عن حوماني
أموت وفي نفسي من الحب غلة ... أبت ريها الأيام في ريعانه
وأمضي إلى ربي أبث شكايتي ... وطى الحشا ناراُ تذيب جناني
أعتقد أني في غنى عن تحليل هذه الأبيات العالية الرائعة فهي تصور وضع الإنسان بين الحسان في هذه الحياة ولوعته الدائمة وتعطشه الأبدي، وعدم استقراره. . ومن ثم حيرته وشكاته. . .
وأمضي إلى ربي أبث شكايتي ... وطي الحشا ناراُ تذيب جناني(950/32)
ثم يلاحظ في هذه القصيدة أنها متماسكة المبنى والمعنى، مترابطة الأوصال، ذات وحدة فنية تشد القارئ إليها شداُ. . فليس فيها من التفسخ المعنوي والاضطراب الفكري والضعف البياني شئ وهذه قصيدة أخرى بعنوان (توبة). . بل هذه قصة الإنسان المخطئ حين يؤوب مثقلاُ بذنوبه إلى الله مستغفراُ. . .
يقدمها الشاعر ناظمها بهذه الكلمات (لا يفزع الإنسان إلى ربه إلا حين يخطئ فسبحانه ما أعجب خليقته. .). . ولننقل الأبيات الأخيرة منها اقتصاداُ للوقت. . .
أنوء بكل الخطايا التي ... تذوب نيرانه الجلمدا
فرحماك يا بارئ الخاطئين ... أتيت إليك خفوت الندا
ويا رب ها أنا ذا تائب ... ونفسي وروحي وقلبي الفدا
أجرر ذيل الذنوب الكبار ... وأسري وملء الطريق مدى
أصارع بالحب ما آدني ... وأدفع بالشعر ما نكدا
وأرنو إلى مقبل من بعيد ... وأكح عيني بومض الهدى
ولننتقل إلى مجال آخر. . فنستمع إلى شاعرنا بعد ضياع (فلسطين). . في أبيات من قصيدة طويلة. .
فلا تقرب الوادي فها هو موحش ... ولا تسأل الأحجار. . أخرسها الرعب
ولا تطلب ذكرى لعهد تفرقت ... أماسيه ما بين النوائب والنجب
نزلت على الوادي فلا الزهر يانع ... ولا حضر السمار. . والسمر العذب
بل الشمس قتماء وفي الأفق وحشة ... والبدر إطراق ودون المنى حجب
هي النائبات السود أظلم وجهها ... وكانت ذكاء لا يحس لها غرب
ففي جانب الوادي وفي منحنى الحمى ... نفوس تولتها المصائب. . والكرب
لحى الله خطباُ قد ألم فروعت ... مطالعه زغب الحواصل لم يحبوا
هذا وفي الديوان قصائد ممتازة لا وقت لدينا ولا لدى القارئ لاستماعها جميعاُ. . وعسى الله أن يهدي النقاد عندنا فيعملوا من أجل الشعر والأدب، لا من أجل الشعراء والأدباء
دهوك
سامي أمين(950/33)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
الواقعية الفنية:
هناك نوع من الأدباء يحيرني إذا ما حاولت أن أتحدث عنه: هل أصفه بأنه لا يجيد القراءة، أم أصفه بأنه لا يحسن الفهم، أم أصفه بأنه يجهل أصول التفكير وطرائق التعبير؟ إذا أطلقت عليه كل هذه النعوت فاعذرني. . لأنه يحيرني! ولست والله غالياُ إذا قلت لك أن هذا النوع من الأدباء يستطيع أن ينطقك بما لم تفه به، وأن ينسب إليك ما لم تهدف إليه، وأن يناقشك بعد هذا كله في الموضوع طبقاُ لمزاجه هو لا طبقاُ لمزاجك، ورفقاُ لهواه هو لا ورفقاُ لهواك، ولا بأس عليه أبداُ من أن تغفر فاك من الدهشة ما دام هو قد فغر فاه ليتثاءب، منتظراُ أن تقول له محيياُ بعد نشوة السبات العميق. . صح النوم وطابت الأحلام يا صاحب المزاج الرقيق!
من هذا النوع من الأدباء ذلك الأديب العراقي الذي كتب عن (الواقعية الفنية) في العدد (948) من الرسالة، معقباُ على رأي لي كنت قد سجلته حول هذه الواقعية منذ أسابيع. . لقد ذكرني الأديب العراقي وهو يعقب على أفكاره لم تخطر لي على بال، ذكرني بقصة ذلك الزعيم المصري الذي قيل له أن أجر العامل قد بلغ في اليوم جنيهاُ في السويد، فهتف وهو لا يملك شعوره من دفقة البهجة ولا لسانه من غلبة السرور: عظيم!. . عظيم جداً!. . عظيم والله أن يحصل العامل على مثل هذا الأجر في السويس!
لا فرق أبداً بين فهم هذا النوع من الأدباء وبين فهم هذا الزعيم (الفهيم). . تتحدث عن السويد فيحسبونها السويس، وعن الأسكندرونة فيتوهمونها الإسكندرية، وعن النيل فيتخيلونه الدردنيل! ثم لا يقفون عند هذا الحد من الغفلة ولا يقنعون بهذا الحظ من الذهول، ولكنهم يجدون الجرأة العجيبة على التهجم عليك مفترضين أنهم على حق وإنك على الباطل، ولا يتحرج منطق الغافلين والذاهلين من أن يقدم إليك الدليل!
يقول الأديب العراقي الذي يمثل هذا المنطق أو يمثل ذلك النوع من الأدباء. . (ويحضرني الآن رأي الأستاذ المعداوي في العدد (939) من الرسالة إذ قال: الواقعية ضربان، واقعية أولى ويكون فيها نموذج الشخصية موجوداُ (بالفعل) في الحياة، والواقعية الثانية، ويكون(950/35)
نموذج الشخصية موجوداُ (بالإمكان) ولم يقف الأستاذ المعداوي عند هذا الحد، إنما ذهب إلى تعريف الواقعية الأولى فقال: (هي نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء، كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه العين وتألفه النفس)، ولو وقف الأستاذ عند قوله: (إنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء) لهان الخطب وما جعل ذلك النقل مقيداً (بما تلمسه العين وتألفه النفس)، كما أنه لو احترس الأستاذ في قوله وقال: (إنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه عين الفنان وتألفه نفسه) بدلا من إطلاق (العين والنفس) التي تدعو إلى جعل الفن ضرباً من ضروب العبث، كما يجعل - هذا الإطلاق نفسه - الفنان والرجل العادي في كفه متساويه من حيث الإحساس، أقول لو قال الأستاذ (عين الفنان ونفسه) لسهل الأمر وما دعانا إلى الولوج في دهاليز الظلمة والجهل، وهو يقصد الإيضاح والإعلام)!
أرأيت إلى هذا الفهم العظيم الذي يذكرك بقصة السويد والسويس، والإسكندرية والإسطندرية، والنيل والدردنيل؟!
أرأيت إلى هذه اللغة الفينيقية التي لا يستخدمها غير (الأساتذة) الراسخين في العلم، المتضلعين من الفن، والمتمكنين من مناهج التفكير! لقد أتهمني الأديب العراقي بأنني أدعو إلى جعل الفن ضرباً من ضروب العبث، وأدفع بالقراء إلى دهاليز الظلمة والجهل بدلاً من دهاليز الإيضاح والإعلام!! ألا ترى أنه فهم عظيم. . على طريقة ذلك الزعيم الفهيم؟! لقد قلت عن (الواقعية الأولى) أنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء، كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه العين وتألفه النفس. . قلت هذا فتوهم الأديب العرفي أن كلمة (النقل المباشر) معناها (النقل الفوتوغرافي) كما نص على ذلك في موضع آخر من مقالة! وتخيل أن (العين) التي أقصدها هي عين بائع الفجل والبصل والخيار، وأن (النفس) التي أعنيها هي نفس بائع اللب والحمص والفول السوداني!! تصوروا يا قراء الرسالة كيف يدعو المعداوي إلى جعل الفن ضرباً من ضروب العبث، وكيف يدفع بالقراء إلى دهاليز الظلمة والجهل العميق؟! معذرة إذا تصورتم هذا كله مادام الفهم (العابث) الذي يتمتع به الأديب العراقي قد أظهرني أمامكم على هذه الصورة العزيزة المنال والفريدة المثال، ومعذرة مرة أخرى إذا ما كان في الأدباء مثل تلك النماذج العقلية التي تعيد علينا قصة(950/36)
السويد والسويس، أو قصة الإسكندرية والإسكندرية، أو قصة النيل والدردنيل!!
النقل المباشر لصور الحياة؟ من يصدق أنني كنت أرمي لهذا المعنى وأهدف نحو هذا التفسير؟! عيب هذا النوع من الأدباء أنه يقف عند المعنى المادي للكلمة ولا يكاد يتعداه، ويدور حول الهيكل العظمي للفظ ولا يكاد يتخطاه، مثله في ذلك مثل ذلك النوع من القادة والحاكمين، أولئك الذين يتوهمون أن كل حديث عن العدالة الاجتماعية ضرب من اعتناق الشيوعية!! إنني عندما أقول عن (الواقعية الأولى) إنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء، فإنما أعني النقل الأمين، النقل الصادق، النقل الواعي، النقل الذي لا يجوز فيه الوهم على الحقيقة ولا يطغى الخيال على الواقع! هذا هو النقل الذي أعنيه، النقل الذي يجعل الفن يتصل بالحيات اتصالا مباشراً، وثيقا دقيقا، ليعكس على مشاعرنا كل مافيها من نبض وخفوق، النقل الذي قلت عنه يوما على صفحات الرسالة وأنا أتحدث عن بعض الأعمال الفنية للأستاذ توفيق الحكيم: (إنك عندما تقرأ أعمال الحكيم الأولى التي سجلها ليصور بها تلك البيئات التي عاش فيها بالجسم والفكر والروح والحواس تلمس أن الحياة كانت تتنفس تنفسا عميقا في فنه، وأن عدسة القصاص قد بلغت من دقة اللقطات مالا يتهيأ إلا لكل فنان مفتوح العينين والقلب والذهن، اقرأ مثلا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) تحس أن الحياة فيهما تكاد تنتفض بين يديك وتتحرك أمام ناظريك؛ تنتفض بمواكب لا تحصى من الصور النفسية والنماذج البشرية! لقد كانت العدسة البارعة تنتقل من الشوارع إلى الأزقة، من المدينة إلى القرية، من القصر إلى الكوخ: ترقب، وتتأمل وتسجل. . وإذا حرارة التعبير قد ارتفعت لتلفح إحساسك على الورق، وإذا لمحة الخاطر قد استحالت فكرة في ثنايا العرض وإذا ركب الأحياء قد انتقل في حركة نابضة إلى السطور والكلمات!
لقد كان توفيق الحكيم يعب الحيات عبا أن صح هذا التعبير، ويوم أن كان يطل على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه، كان يطل من نافذة مفتوحة، هي نافذة الحواس المتحفزة لالتقاط كل ما تقع عليه من صور في دقة ووعي وانتباه، وهذه هي الفترات (المستيقظة) في فن توفيق الحكيم. فترات مستيقظة نلقت عن كتاب الحياة سطورا فيها عمق وروح، فإذا (عودة الروح) و (يومياتنائب في الأرياف) نسختان أمينتان تغمض عينيك بعد الفراغ منهما(950/37)
لتبدأ الحياة سيرها في دروب النفس ومسارب الشعور، ولا بأس من أن تغمض عينيك فان الصور قد انطبعت على صفحة الفكر والخيال!)
هذه الكلمات التي كتبتها يوما عن فن توفيق الحكيم في أمسه الغابر، هي التصوير الصادق (للواقعية الأولى) التي قلت عنها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الأحياء. . ترى هل تفهم منها أنني أعني (النقل الفوتوغرافي) كما اجترأ الأديب العراقي وألصق بي هذا الاتهام؟! إنني يوم أن كتبت عن (الواقعية الأولى) وقلت عنها ما قلت، لم أشأ أن أكتب (مذكرة تفسيرية) لكلمة (النقل المباشر) كما يفعل رجال القانون، لأن مقالاتي السابقة حول هذا المعنى على صفحات الرسالة كانت تعفيني من الشرح وتغنى القراء عن التفسير! ترى هل يحتاج الأديب العراقي إلى نموذج آخر مما كتبته من قبل في هذا المجال؟ لا بأس من تقديم هذا النموذج الآخر على سبيل المثال:
لقد كتب إلي يوماً أديب من حضرموت ليعرض على موضوع قصة أخرجها أحد الأدباء هناك، كتب يقول في ختام كلمته (هذه صورة تقريبية لفصول القصة، وحيث تنتهي تبدأ قضية النزاع والاختلاف، فيرى البعض أن تتلاحق فصول القصة كمأساة حتى الشوطالأخير، بينما يرى البعض الآخر ومنهم المؤلف أن الله وهو أعدل العادلين لن يجعل لمثل هذه (المأساة) صورة ما، في عالم تجري حوادثه على قوانين طبيعية عادلة. . هذه هي نقطة الخلاف عرضناها عليكم بكل أمانة راجين أن ترشدونا برأيكم)!
وقلت معقباً على القضية المعروضة علي في انتظار الجواب (أود أن أقول للأدب الحضرمي إن هذا الجدل الذي دار بين جماعة من أصدقائه جدل غريب. ومصدر الغرابة فيه أصحاب الرأي الأول يريدون أن يطبعوا موضوع القصة بطباع المأساة، وأن أصحاب الرأي الأول يريدون أن يطبعوا موضوع القصة بطباع المأساة، وأن أصحاب الرأي الثاني يريدون أن يخضعوا الموضوع لعدالة الله. . وكلا الرأيين بعيد عن جوهر الفن القصصي لأنه يمثل منطق القائلين به أكثر مما يمثل منطق الوقائع الطبيعية!
جوهر الفن هو أن نستوحي الحياة وحدها عندما نريد أن نخلق عملا من الأعمال الفنية، والقصة كعمل من هذه الأعمال لابد أن تخضع لمجرى الحياة في صورتها الواقعية التي لا تنكرها العين ولا يرفضها العقل، فالحياة التي صورتها الواقعية التي لا تنكرها العين ولا(950/38)
يرفها العقل، فالحياة التي ترفرف عليها عدالة الله فيها الخير وفيها الشر، وفيها الفضيلة وفيها الرذيلة، وفيها السعادة وفيها الشقاء، وفيها ما شئت من ألوان المفارقات وضروب المتناقضات، فإذا صورنا الحياة تصويراً صادقاً فمن الطبيعي أن نقبل المأساة المستمدة من واقعها كما نقبل الملهاة، على شرط أن تكون عرضنا لهذه وتلك مسايراً لمنطق الحوادث المألوفة ومطابقاً لطبيعة الأمور كما يألفها الأحياء!
خذ موضوع القصة من هذا الوجود المتحرك أمام ناظريك ثم اخلع عليها بعد ذلك من ألوان الفن ما يبعد عنها صفة الجمود الذي لا يتفق مع الحركة، ونزعة الخيال الذي لا يلتقي مع الواقع ولا مبرر بعد ذلك لأن تفرض على موضوع القصة أن يسير في هذا الطريق دون ذاك! إن الحياة هي التي ترسم خط السير، وتقرر غرض الاتجاه، وتحدد طبيعة الموضوع. . أعني أننا يجب أن نقتفي أثر الحياة في كل خطوة من الخطوات. . وكل نقلة من النقلات. . ثم نسجل ما شاهدناه كما يحدث في الواقع المشهود أو كما يحدث في الواقع الذي يمكن أن يكون. فإذا كان مجرى الحوادث في القصة لا يضيق بشبح المأساة فلا ضير من توجيه دفتها نحو هذا الذي نبتغيه، فإذا ضاق بها فلا حاجة بنا إلى تحمل الحياة فوق ما يمكن أن تطيق)!
أرأيت مرة أخرى إلى حقيقة النقل المباشر الذي أعنيه؟ لقد عمدت إلى نقل هذا النموذج الآخر بالذات لأرد به على فقرة أوردها الأدب العراقي في مقالة ليضفي على من علمه الغزير! قال حضرته وهو يحاول أن يفهمني حقيقة الواقعية الفنية بكلمات سبقته بمثلها منذ عامين: (والواقعية الفنية لا تبعدنا عن حياتنا - كما يظن - بل هي الواقع المحس قد داعبته أنامل الفنان، وقد يرسم الفنان - الشاعر أو القصاص - صوراً ماثلة في الواقع، واقعية حقاً، وقد لا تكون كذلك. . كما يلزمنا أن تكون تلك الصورة المنقولة سامية حسنة جميلة، بل كل ما يطلبه الفن نقل الصورة نقلا فنياً، وكل ما يطلبه الواقع نقلها بأمانة!)
أليست كلماته التي وضعت تحتها الخطوط هي من حيث المعنى نفس كلماتي التي وضعت تحتها مثلتلك الخطوط؟! يا عجباً. . لقد كتبت تلك الكلمات منذ عامين ثم جاء الأديب العراقي فكتب مثلها منذ أسبوعين، ومع ذلك يتهمني بأنني أنظر إلى الواقعية الفنية على أنها النقل الفوتغرافي. . ويحاول أن يلقي على بعض الدروس!! هذا عن (الواقعية الأولى)(950/39)
أو الواقعية الفنية، واذا كان الأديب العراقي قد نسب ألي في موضع آخر من مقاله أنني أقصد بالنقل المباشر لصور الحياة ذلك (التقليد الأعمى) للطبيعة كما ذهب إلى ذلك أفلاطون، فأنني أود أن ألفت نظره إلى أن (الفهم الأعمى) وحده هو أوحى أليه بان ينسب إلى مثل هذا القول العجيب. . ومرة أخرى أقسم له بمن علمني أصول الفن ومناهجه، أنني حين قلت (الواقع المحس الذي تلمسه العين وتأمله النفس)، كنت أقصد العين والنفس اللتين أنعم بهما الله على القصاص المحلق والأديب المتذوق والناقد الفنان، ولم أكن أقصد أبدا عين بائع الفجل والبصل والخيار، أو نفس اللب والحمص والفول السوداني. . وإذا لم يصدق فلا بأس من أن أنقل أليه الفقرة الأخرى من مقال آخر كتبته أيضا منذ عامين على صفحات الرسالة:
الحياة هي المنبع الأصيل لكل أثر من آثار الفن يترك ظله في النفس وبقاءه على الزمن: في أدب الكاتب، في شعر الشاعر، في لحن الموسيقار، في لوحة الرسام، لتكن الحياة نقمة أو نعمة، لتكن مأساة أو ملهاة، لتكن ألما أو لذة، لتكن دمعة أو ابتسامة. . حسب الفن أن يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير، وأن يترجم عن رؤية العين وإحساس القلب فيسمو بالأداء)! هذا الفن الذي يترجم عن رؤية العين وإحساس القلب في هذه العبارة، أليس معناه العمل الذي ينتجه كل فنان؟! وهذا القلب وتلك العين إلى من ينسبان هنا في رأي الذين يفهمون؟ ألا ينسبان إلى ذلك الذي ينتج كل عمل يسلك في عداد الفنون؟! إن الذنب ليس ذنبي كما رأيت، ولكنه ذنب الذين يحسبونها السويس وهي السويد، ويتوهمونها الإسكندرية وهي الاسكندرونة، ويتخيلونه النيل وهو الدردنيل. . وهلم جرا أو هلم جرجرة كما كان يعبر الرافعي رحمه الله!!
هل انتهى العجب؟ كلا! وكيف ينتهي ونحن نتحدث عن الواقعية في القصة فينقلنا الأديب العراقي إلى الواقعية في الشعر، ويأتي لنا بنموذج من شعر (هوسمان) ليتسائل: هنا واقعية. . ولكن هل هي من النقل المباشر الذي تلمسه العين وتألفه النفس؟ لو كان حضرته يعلم أن الواقعية في الشعر غير الواقعية في القصة!!
لما أوقع نفسه في هذه (اللخبطة) الطريفة. . ترى هل يريد أن يعرف الفارق بين الواقعية هنا والواقعية هناك؟ عليه أن رجع إلى هذا المقال وإلى الآخر الذي عقب عليه ليدرك(950/40)
طبيعة الواقعية القصصية، وعليه أن يرجع مرة أخرى إلى مذهب (الأداء النفسي) على صفحات الرسالة ليفهم حقيقة الواقعية الشعرية، فإذا لم يستطيع أن يلمس هذا الفارق فليكتب إلي لأسمك بالقلم من جديد!!
أنور المعداوي(950/41)
رسالة النقد
معجم شمس العلوم
طبعة أوربا صفحاتها 346طبع في بريل بليدن 1370 هـ
(1951) طبعة اليمن صفحاتها 491 (بمطبعة الحلبي بالقاهرة
1370)
للأستاذ أحمد عبد الغفور العطار
بقية ما نشر في العدد الماضي
وفي صفحة 190: (البينك: الأصل) والصواب: البنك. قال الصنعاني في (التكملة) (1): (بنك. أبن دريد. بنك الشيء بالضم خالصة)
وفي صفحة 210: فعل بفتح الفاء (خ) التخ بالخاء معجمة والصواب: فعل، لأن التخ ثلاثي مجرد، و (فعل) مزيد، والمؤلف يريد الفعل الثلاثي لا المزيد، والتخ وزنه: فعل
وفي صفحة 214: (قال عبد الخالق بن أبي الطلح الشرابي) والصواب: الشهابي كما جاء
في الأكليل وصفة جزيرة العرب للهمداني
وفي صفحة 225: (التنفل بضم التاء وفتح الفاء ولد الثعلب والجمع التنافل قال: وارجا سرحان وتدريب تنفل. ويقال تنفل بضمها وتنفل بكسر التاء وفتح الفاء عن الكسائي
والتنقل لم يرد في العربية بهذا المعنى بل لم يرد: التنفل والصواب (التتفل)
جاء في صفحة 81 من الجزء الثالث عشر من لسان العرب: التتفل بالتاء. . وبيت امرئ القيس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
وقال الأزهري: سمعت غير واحد من الأعراب يرويه يقولون نفل على وزن فعل وأنشده أي بيت امرئ القيس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وعارة سرحان وتقريب تفل
ويدل هذا على (التنفل والتنفل والتنفل) خطأ، وكذلك (التنافل) والصواب بالتاء فيهن جميعاُ(950/42)
وأما (إرجا) فلا معنى لها هنا، وجعلها مقصورة يخل بوزن البيت، وما أدري كيف ينسى الشيخ الجرافي بيتاُ مشهوراُ في معلقة جد مشهور ويخطئ في شطر منه في ثلاثة مواضع؟
1 - إخلاله بالوزن وذلك بقصر الممدود وجعله (الإرجا) (إرجا)
2 - تصحيفة: (إرخاء) وذلك بجعلها: (إرجا)
3 - تتفل بحعلها (تنفل)
أما الخطأ الرابع فابداله (تقريب) بتدريب دون أن يذكر مصدر هذه الرواية، فهو يخطئ في هذا حتى يذكر المصدر
وفي صفحة 225 أيضاُ: (لاتمنعوا آماء الله مساجد الله) والصواب: (إماء) بدون مد
وفي صفحة 235: (تيما: أرض كان بها سموأل)
والصواب: تيماء
وفي صفحة251: (قال أعشى حمدان) وأنا لا أعلم أن ببني حمدان أعشى كان شاعراُ، فهل يدلنا الشيخ الجرافي على أعشى حمدان إذا كان موجوداُ حقاُ؟!
إن الأعشى المقصود هنا أعشى همدان لا حمدان، وما أدري كيف يخطئ الشيخ الجرافي هذا الخطأ الشنيع؟ إنه يمني وأعشى همدان يمني وهمدان في اليمن فكيف يجهل الشيخ ذلك؟ أبمثل هذه السهولة يقضي فخر همدان في الشعر عنها؟!
وفي صفحة 256: (قيل: يعنى الزرقاء. وقيل بنت الحسن وذلك أنها رأت الخ) والصواب:
بنت الخس لا الحسن
وفي الصفحة 29: (إلى بيته يؤتى الحكم) وصحة المثل: في بيته يؤتى الحكم
وأما الشعر الذي استشهد به المؤلف فقد مسخه الشيخ الجرافي وكسر وزنه وحرفه، وها نحن أولاء نقدم للقارئ نماذج من ذلك
جاء في الصفحة 18 من شمس العلوم تحقيق الشيخ الجرافي اليمني:
ضربت صدرها إلي وقالت ... يا عدي لقد وقتك الأواقي
وهذا البيت مشهور يتداوله تلامذة المدارس فلا يخطئون في قراءته وإعرابه، ولكن الشيخ الجرافي لا يعرف ذلك، وصحة البيت كما روي بالإجماع:
ضربت صدرها إلي وقالت: ... يا عديا لقد وقتك الأواقي(950/43)
وفي صفحة 49:
إنى يكون، وليس ذاك بكائن ... لبنى البنات وراثة ولدي الأعمام
وهذا البيت برواية الجرافي مكسور، ويدرك كسره كل من كان له ذوق، وما ادري من أين زاد في المعجم (ولدي) والصواب حذفه حتى يستقيم الوزن:
أنى يكون - وليس ذاك بكائن - ... لبنى البنات وراثة الأعمام
وفي صفحة 52:
الناس من جهة التمثيل أكفا ... أبوهم آدم وألام حواء
وصحته:
الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم، وألام حواء
وفي صفحة 52 أيضا:
أيها الفاخر جهاراً بالنسب ... إنما الناس لأم ولأب
وهو مكسور، ولا يستقيم إلا إذا وضعنا (جهراً) مكان (جهاراً)
وفي صفحة 37:
جدنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأب فيها والكرع
والعجز مكسور، ويستقيم إذا روي كما نظمه الشاعر وهو هكذا:
ولنا الأب بها والمكرع
وفي صفحة 42:
وهل يأتمن ذو أمة وهو طالع
وذلك خطأ، وصوابه:
وهل يأتمن ذو إمة وهو طالع
وفي صفحة 65:
إني سينهى عني وعيدهم ... بيض رهاب ومجنأ أجد
والبيت يروى هكذا:
إني لينهى الخ
وفي صفحة66:(950/44)
حلت سليما ساحة القليب ... بأجلى محلة الغريب
والصواب: محلة
وفي صفحة 90:
وحل الحي حي بني نمير=قراضية ونحن لهم إطار
قراضية: اسم موضع
ولا وجود لقراضية هذه، وصحتها: قراضية كما جاء في المفضليات
وفي صفحة 91:
له أيطلا ظبي وساق نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تنفل
والرواية المعروفة (ساقا نعامة) لا ساق نعامة، وكان من اللازم ذكر مصدر رواية الإفراد إذا كانت هناك رواية، وأما تنفل فصحتها تتفل
وفي صفحة 96:
وأبيض صولياً كأن عراره ... تلألؤ برق في حي تأكلا
والبيت لأوس بن حجر وصحة (حي) حي
وفي صفحة 97:
فخر على الألآءة لم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل
والبيت هكذا مكسور، ومختل المعنى وصوابه:
فخر على الألاءة الخ
وفي صفحة 113:
ألا تلك سلمى اليوم بت جديدها ... وضنت وما كان النوال يئدها
كان من الحتم تشكيل (بت) ويئدها خطأ، وصوابها: يؤدها
وفي صفحة 213:
إني أتمم أيساري وأمنحهم مثنى الأيادي ... وأكسو حفنة الأدما
وكتابة البيت بهذا الشكل خطأ، لأن (مثنى الأيادي) يجب أن يكون في العجز لا الصدر حتى يستقيم الوزن، والحفنة خطأ وصحتها: الجفنة
وفي صفحة 221:(950/45)
وما كان عن تراث ورثته ... ولا صدقات من نساء أوايم
والبيت من الطويل، ولكن ينقص من صدره في رواية الجرافي سبب خفيف، وهذا النقص أخل بالوزن وصحته هكذا:
وما كان مالي عن تراث ورثته الخ
وفي صفحة 230:
ولو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله ضرورة متبتل
يجب في صدر هذا البيت وصل همزة القطع من (أنها) حتى لا ينكسر البيت، ويكون هكذا (ولو إنها) الخ
وأما (ضرورة) فخطأ والصواب: صرورة
وفي صفحة 243:
باتت تلوم على ثادق ... ليشرى فقد جد عصيانها
والبيت من المتقارب، ووزنه:
فعولن فعولن فعولن فعولن=فعولن فعولن فعولن فعولن
ويلحقه بعض الزحافات، إلا أن فعولن لا تصير (عولن) ولهذا فالبيت كما رواه الشيخ الجرافي في (الشمس) خطأ، ويجب أن يكون هكذا:
وباتت تلوم على ثادق الخ
وفي صفحة 257:
ألا ليت أمي لم تلدني ولم أكن ... عشية حزا السيف رأس بن تامر
وصواب (حزا) حز
وفي صفحة257 أيضاُ:
يا رب بيضاء على حقير ... يجيبها نصخ من التعبير
والصواب:
يا رب بيضاء على حفير ... يجيبها نضح من العبير
وحفير اسم موضع
وفي صفحة 274:(950/46)
ورسم دار وقفت في طلله ... كدت أقضي الحياة من جلله
والواو زائدة في (ورسم) ويجب حذفها حتى يستقيم الوزن. وجاء في لسان العرب ج13 ص127:
ورسم دار وقفت في طلله ... كدت أقضي الغداة من جلله
وفي صفحة 278:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بمكة حولي إذخر وجليل
والرواية المشهورة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
ويروى لسان العرب في صفحة 127 من الجزء الثالث عشر البيت هكذا:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفج وحولي إذخر وجليل
وفي صفحة 278 أيضاُ:
رعت بأرض البهي جميما وبسره ... وصمعاء حتى آنفتها نصالها
والبيت كما رواه الشيخ الجرافي غير صحيح. . لأن (البهي) - هنا - لا معنى له وصحته: البهمي جاء في اللسان ج8 ص385: الأصمعي: البهمي أول ما يبدو منها البارض فإذا تحرك قليلا فهو جميم) وفي صفحة279: كعقيلة اللأوحي بات يحفها
والشطر هكذا مكسور ولا معنى له وصحته:
كعقيلة الأدحي بات يحفها
وفي صفحة 88:
نفى اللوم عن آل المحلق جفنه ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
و (جفنه) خطأ والصحيح: جفنة وفي صفحة274 (قالت نادبة الأحنف بن قيس:
لله درك من مجن في جنن ... ومدرج في كفن
وهذه الكلمة ليست شعرا، ولكن الشيخ الجرافي لا يعرف العروض، وهذا ما حمله على أن يرتب الكلمة ترتيب الشعر.
هذه (عينات) من خطأ الشيخ الجرافي في فهم النظم وتصحيحه وروايه، ومعظم الشعر في الكتاب كله مختل ومحرف ومسيخ، ولسنا في مقام الإحصاء حتى نستقصي شواهد(950/47)
(الشمس) الشعرية، ولكننا نقدم (عينات) ليعلم القارئ أن طبعة شمس العلوم اليمنية رديئة جد رديئة، ولا يعتمد عليها ولا يوثق بها والآيات القرآنية نفسها لم تنج من التحريف والتشويه، وهاهي ذي بعض الآيات أذكرها للقارئ الكريم ليعلم أن الشيخ الجرافي لم يعن ألبتة بمعجم شمس العلوم ولم يحققه أو يصححه ومن هذه (العينات) ما جاء بصفحة 97: (فبآي آلاء ربكما تكذبان) وصحت كتابتها: فبآي الخ وفي صفحه 103: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) يظن الشيخ الجرافي أن (القوي) مفعول استأجرت وفاته أنه خبر إن، وكان يجب أن تكون (القوي) وفي صفحة 165: (ولا يستوي الأعمى والبصير) وصوابها: وما والآية في صورة فاطر وفي صفحة 212: (تبت يدا أبي لهب وتب) ورسم (تب) يجب أن يكون هكذا: (تب) وسكون الوقف ينطق به ولا يكتب
وفي صفحة 216: وقرأ نافع (وأن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) وقراءة نافع بكسر الباء، بل بفتحها مع تخفيف التاء. (يتبعوكم) وفي صفحة 88: (الجبار المتكبر) ويجب عدم إسكان الراء من (المتكبر) في الرسم وإن سكنت في النطق حتى ترقيم الصفحات لم يسلم من الخطأ فصفحة 224 أصبح رقمها 244
هذا بعض ما عنت لي كتابة عن الجزء الأول من شمس العلوم طبعة اليمن. وليعذرني القارئ إذا لم أذكر في نقدي المراجع لبعدها عني، ولكنى مع ذلك أعتقد أن ما ذكرته حق يوافق ما في تلك المراجع. وليعذرني القارئ مرة أخرى إذا رأى في بعض السطور (انفعالا) شديداُ فإن رد ذلك إلى الإخلاص للعلم واللغة
وما مبعث ألمي إلا الخسارة التي يتحملها اليمن. واشد ما يؤلمني أن يبذل هذا القطر العربي المحتاج آلاف الجنيهات لطبع (شمس العلوم) رغبة منه في نشر العلم وخدمة لغة القرآن، ومع هذا السخاء في الإنفاق والاحتمال فوق الطاقة لا نجده جهداً علمياً مبذولاً في التحقيق والنشر يكون كفاء تلك الآلاف الضائعة سدى
ولو أضاف اليمن ألفا وألفين من الجنيهات إلى الآلاف التي وقفها للطبع والنشر ودفع ذلك إلى بعض المحققين الممتازين أمثال: عبد السلام هرون أو أحمد شاكر أو أحمد صقر أو أحمد أمين لكان هذا المعجم (شمسا) مشرقة ساطعة لا (شمسا) كاسفة في المحاق
وأرجو من حكومة اليمن أن تتلف الجزء المطبوع من الشمس حرصا على كرامة اللغة(950/48)
العربية وصونا لسمعتها وحفظا لأقلام الكتاب وألسنتهم من أن يتدسس إليها بعض تلك الأغلاط، وبشيع اللحن أكثر مما هو شائع
أحمد عبد الغفور عطار
القاهرة - مكة المكرمة(950/49)
البريد الأدبي
حول الإجهاز والتجهيز:
أنكر الأديب محمد الدسوقي بالعدد الأخير من الرسالة استعمال كلمة التجهيز بمعنى القتل، ونقل نصا من مختار الصحاح يدل على أن كلمة الإجهاز هي المستعملة في هذا المعنى، وكنت أود أن يمد الناقد يده إلى المصباح المنير فيقرأ منه هذه العبارة: ج1 ص156
(وجهزت على الجريح من باب نفع، وأجهزت إجهازا إذا أتممت عليه وأسرعت قتله، وجهزت بالتثقيل للتكثير والمبالغة)
وإذن فالكلمة صحيحة، وقد كتبتها في مقالي عن قصد، لتؤدي ما أريده المبالغة والتكثير، وللناقد شكري وتحيتي.
محمد رجب البيومي
الكفر الجديد
تحقيق الحكمة:
لي صديق ماكر يعشق الأدب ويجيده جاء يعارضني بقوله:
صح عندي قول (شر الأمور الوسط) بعد أن قرأت مقالة ذلك الكاتب الكبير. فقلت له: لقد خالفت المعقول والمنقول باتجاهك عكس الحكمة الخالدة (خير الأمور الوسط) وإليك كلمات قصار تزلزل صرح هذا المقال
الوسط حقيقة في البعد بين الطرفين، ولاشك أن الإفراط والتفريط ذميمان - فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيدا عن الطرفين فكان معتدلاً فاضلا. وإنما سمي العدل وسطا لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين. وقد روى البيهقي حديث خبر الأمور الوسط، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أوسط قريش نسبا. وقال عليه السلام (عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع أليه العالي ويرتفع أليه التالي) وقال زهير:
هم الوسط يرضي الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
ثم إن كل شيء في الحياة خيره وكماله في الوسط، فالشجاعة الفضيلة وهي وسط بين التهور والجبن، والحلم وسط بين البطش والضعف، والحياء وسط بين الوقاحة والخنوثة،(950/50)
والسخاء وسط بين التبذير والتقتير
وقد مدح الله التوسط في المعيشة بقوله (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) أي وسطا، والتوسط في المأكل والمشرب من الأمور التي تجلب السعادة للإنسان في حياته!
وقد ندب الشرع إلي التوسط في العبادة فقال عليه السلام (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا) وقال تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم. . .)
فالتوسط في جميع الأحوال هو الراحة التامة بل الكمال في الاعتدال.
محمد منصور خضر
شطانوف
منطق المدنية:
يعيب أهل المدن على القرويون سيرهم في الطرقات حفاة. . وهم يحملون نعالهم بأيديهم. . إبقاء على جدتها!. .
وها نحن أولاء نشهد في أرقا أحياء العاصمة الكثيرين من رجال الأعمال، من مختلف الجاليات، يسيرون وقد حملوا (الجاكيت) على ذراعهم. . تخلصا من الحر. . وكأني بهم يريدون أن يؤكدوا بذلك للمجتمع انهم لم يخلعوا (الجاكيت) عجزا من إفتنائه. . بل تجنبا للحر والعرق. . بينما سارت نسائهم شبه عاريات!. .
لا تعيبوا أذن - يا أهل المدينة - على القرويون سيرهم حفاة فمنظر الحفاة أكرم من منظر العراة!. .
وقبل أن تسجلوا على الناس المآخذ سجلوا على أنفسكم انتم يا أهل المدينة. . العريقين في الحضارة!. .
عيسى متولي
بنك مصر - القاهرة(950/51)
القصص
السترة القديمة
للكاتب الفرنسي فرانسو كوبيه
للأستاذ حسن فتحي خليل
حينما كنت أشغل وظيفة كتابية بوزارة الحربية، كان لي زميل في نفس حجرتي يدعى جان فيدال، وهو ضابط سابق فقد ذراعه اليسرى في الحملة الإيطالية، ولكنه كان يمكنه الاكتفاء بيده اليمنى للقيام بأعمال مدهشة
كان شخصاُ وديعاُ ونموذجاُ للجندي الطيب، ومع إنه كان لا يتعدى الأربعين من عمره، إلا انه من العسير أن تميز شعرة بيضاء في لحيته ومع هذا اعتدنا أن نطلق عليه (الأب فيدال) احتراماُ له، لأننا كنا نعلم الكثير عن حياته الباسلة في مسكنه المتواضع في حي جرينبل، فقد ضم أخته أليه للإقامة معه فجاءت يتبعها طابور من الأطفال، وكان دخله يتكون من معاشه ومرتبه. وجملته ثلاثة آلاف فرنك يعيش عليها خمسة أشخاص، ولكنه بالرغم من هذه الأعباء نظيف الملبس فسترته نظيفة، وقد شبك ذراعه اليسرى الفارغة بدبوس
وكنت اسكن حينئذ أحد أحياء جنوب باريس، فكنت أصحبه دائماُ في طريقه إلى المنزل كما كنت أستشيره دائماُ ونحن في طريقنا ليحدثني عن حياته العسكرية السابقة، وكنا نمر في طريقنا بالقرب من المدرسة الحربية فتواجهنا تلك السترات الرسمية المختلفة الألوان - وكنا في آخر أيام الإمبراطورية - الثانية التي يلبسها رجال الحرس الإمبراطوري ورجال الهوسار بملابسهم الخضراء، والخيالة بملابسهم البيضاء والمدفعية بملابسهم الموشاة بالقصب التي تستحق حقاُ أن يقاتل لابسوها من اجلها حتى الموت
وكنت أدعو زميلي في أمسيات الصيف لتناول كأسين من الأبسنت، ونجلس في المقهى حوالي نصف الساعة، وحينما تأخذه النشوة منذ تلك الكأس التي انقطع عن شربها منذ أن أصبح رب عائلة يبدو رجلاُ مرحاُ، وحينئذ أتوقع أن أسمع منه قصة عن الحرب نقطع بها بقية الطريق(950/52)
وذات مساء، وكان قد تناول كأسين من الشراب، وقف فجأة أمام إحدى الحوانيت التي تباع فيها الملابس القديمة في شارع جرينبل، كان حانوتاُ قذراُ يعرض سترات قديمة لبعض الضباط لوثتها الأمطار، وأحالت أشعة الشمس ألوانها، وبعض الزراير والمسدسات العتيقة، فأمسك فيدال بذراعي بيده الوحيدة ثم إشارة بطرف ذراعه المقطوعة إلى إحدى هذه السترات. كانت لضابط برتبة كابتن، ثم قال (انظر. . هذه هي السترة الرسمية عليها علامة الفرقة التي كنت أخدم بها) وتقدم ليرى الرقم المحفور على الأزرار فقال: (يا إلهي إنها نفس فرقتي. .)
وفجأة ارتعشت شفتاه وشحب وجهه وقال في صوت فزع. .
(يالهي. . لربما كانت سترته هو!) وأمسك بالسترة يقلبها بين يديه، فلاحظ ثقباُ مستديراُ في منتصف الظهر. . ثقب رصاصة، وحوله بقعة سوداء لعلها آثار دم، وكان ذلك الثقب يثير الفزع والشفقة، وكأنه جرح حقيقي، ولمحت في وجه فيدال أن هناك قصة وراء هذه السترة، فقلت له ونحن نتابع سيرنا لأدفعه حتى يحدثني بها:
- (إن ضباط فرقتك لا يجرحون من الخلف. . أليس كذلك؟)
ولكنه لم يسمعني. . كان يهمهم ببعض الكلمات قائلا: - (كيف وصلت إلى هنا؟ إنها لمسافة طويلة من ميدان الحرب في ميلينينانو إلى شارع جرينبل. . . أنا أعرف أن هناك يسلبون الموتى ملابسهم في الميدان، ولكن من الغريب حقاُ أن تصل هذه السترة إلى ذلك الحانوت الذي لا يبعد عن المدرسة الحربية سوى مائة خطوة فحسب حيث تعسكر فرقته، ولعله مر بها وعرفها وكأنها ميت عاد إلى الحياة)
ولقد أثار ذلك اهتمامي حتى إني أمسكت بذراعه وقلت (اسمع يا فيدال) لا تتكلم هكذا فأنا لا أفهمك. . ولكن حدثني بالقصة كاملة. . بماذا ذكرتك هذه السترة؟)
وكنت أشك إنه سيتكلم فقد فحصني بنظرة كلها شك. . بل خوف، ولكن يخيل لي إنه اتخذ قرارا هاما فإذا يبدأ قائلا:
(حسنا سأحدثك بالقصة فأنت رجل أمين وشاب مثقف، وأعتقد في صدق حكمك، وحينما أنتهي من سرد قصتي أرجو أن تصارحني عما إذا كنت قد تصرفت تصرفا حكيما
والآن. . من أين أبدأ؟ آه نعم. . أولا لا يمكن أن أذكر اسم ذلك الرجل لأنه ما زال حيا،(950/53)
ولكنني سأطلق عليه الاسم الذي اشتهر به في الفرقة. كنا ندعوه (الظمأ) وكان ذلك الاسم يلائمه تماما لأنه كان لا يبرح (الكانتين) أبداُ وكان في مقدوره احتساء اثنتي عشر كأساُ حتى ينتصف الليل
كان شاويشاُ في فرقتي وكنا نعمل في مؤخرة الجيش، ومع أنه كان سكيراُ ولصاُ ومحبا للشجار إلا انه كان شجاعا كالأسد، له عينان زرقاوان باردتان كالصلب في وجهه لوحته الشمس ولحية حمراء. ولقد صرح له مرة بإجازة ثلاثة أيام قضاها في الأحياء الساقطة في الجزائر مع ستة من المجرمين على شاكلته فأعيد إلى الثكنات مشجوج الرأس بعد أن تشاجر مع بعض الجنود في منزل امرأة ساقطة. وأفاق بعدها فحكم عليه بالسجن أسبوعين، وخفضت رتبته، وكانت هذه المرة الثانية التي يجازى فيها بذلك الجزاء. ولقد كان من عائلة محترمة كما كانت ثقافته طيبة، ولو كان حسن السلوك لحظي بترقيات متوالية. ولكنه بعد مضى ثمانية عشر شهرا استعاد رتبته بفضل رئيسه الكابتن الذي قدر رباط جأشه تحت وابل النيران في الجزائر.
ولكن حدث أن نقل الكابتن الذكور وحل محله آخر كورسيكي في الثانية والعشرين من عمره واسمه جنتيل وهو شاب طموح وضابط نشيط، ولكنه يقسو في معاملة جنده، فهو يجازيك بالسجن أسبوعا إذا رأى زرارا مفقودا من سترتك، أو لاحظ بعض الصدأ على بندقيتك. هذا فضلا على إنه لم يخدم في الجزائر من قبل فلم يكن يسمح بذلك التراخي في النظام الذي تعودناه هناك حتى اعتبرناه حقا من حقوقنا.
ولأول وهلة نشأ شعور من عدم الاستلطاف بين الكابتن جنتيل وزميلنا (الظمأ) وكان جزاء أول ذنب يرتكبه الشاويش لعدم استجابته لما يطلب منه أن حكم عليه بالسجن أسبوعا. وبينما فاجأه ثملا مرة ثانية حكم عليه بالسجن لمدة أسبوعين. وقد قال الكابتن وهو يدينه:
- سأرى إن كنت ستتأدب!!
فلم يجيبه الظمأ بل سار بهدوء إلى زنزانته، ولعل الكابتن كان سيغير اعتقاده لو رأى الغضب المرتسم في عيني (الظمأ) الزرقاوين الصلبتين
وحدث بعد ذلك أن أعلن الإمبراطور الحرب على النمسا فنقلنا بحرا إلى إيطاليا، ولن أحدثك عن الحملة بل سأتابع قصتي. ففي بداية المعركة معركة (ملنيانو) التي فقدت فيها(950/54)
ذراعي عسكرت فرقتنا في قرية صغيرة. وقد ألقى علينا الكابتن خطابا قصيرا قبل أن يصرفنا وهو يذكرنا بأننا نقيم في بلاد صديقة، وإنه يجب أن نعامل الناس معاملة طيبة، وأن كل جندي يؤذي أحدا من السكان سيكون جزاؤه قاسيا
وكان (الظمأ) يرتكن حينئذ على بندقيته بجانبي، وكان ثملا بعض الشيء، فهز كتفيه ولم يره الكابتن لحسن الحظ.
ولقد استيقظت منزعجا في منتصف الليل وأسرعت نحو فناء المعسكر فوجدت - في ضوء القمر - عدة جنود ورجال مدنيين يحاولوا أن يخلصوا فتاة جميلة من بين ذراعي (الظمأ) وكان يقاومهم فقوة بينما كانت هي تصيح جزعة داعية العذراء وكافة القديسين ليخلصوا منه، فأسرعت للمساعدة، ولكن كان الكابتن جنتيل قد سبقني. كانت له عين صارمة آسرة فتراجع الشاويش أمامه، فطمأن الكابتن الفتاة ببضع كلمات إيطالية ثم نظر إلى (الظمأ) وقال (إن المتوحشين أمثالك يجب أن يعدموا. . وفي اللحظة التي سوف أرى فيها الكولونيل ستفقد رتبتك ثانية. . سنحارب غدا، ولعلك تحاول أن تموت في المعركة
وآوينا للنوم ولكن كان الكابتن على حق، فما أن شقشق الفجر حتى اندلعت نيران المدفعية، فأسرعنا نحو أسلحتنا واندفعنا للقتال وكان (الظمأ) يسير بجانبي وكانت عيناه تنذران بالسوء، وكانت الأوامر الصادرة إلينا تقضي بأن نطارد النمساويين الذين لجئوا إلى الخنادق في قرية (ملنيانو) فسرنا ما يقرب من الميل ولكن فاجأتنا نيران العدو وقتلت منا حوالي خمسة عشر رجلا فأمرنا الضباط بالانبطاح أرضا بينما ظلوا هم واقفين. وفجأة شعرت بجسم بجانبي فتلفت فوجدت (الظمأ) ينظر إلي وهو ممسك ببندقيته وقال أترى الكابتن؟
قلت - نعم هل هناك شيء؟
قال - حسناُ. . لقد أخطأ حين وجه إلى كلماته في الليلة الماضية ثم رفع بندقيتة في لحظة خاطفة وأطلق النار، فرأيت الكابتن وقد انحنى ثم دفع برأسه إلى الخلف تاركاُ سيفه وسقط في قوة على ظهره.
فقلت وأنا أمسك بذراع (الظمأ) - أيها القاتل!
ولكنه دفعني بعيدا وهو يقول - أيها الغبي. . كيف تثبت أني قتلته؟(950/55)
فقمت واقفا وأنا ثائر غاضب، ولاكن حدث في نفس تلك اللحظة أن هب بقية جنود الفرقة واقفين إذ صدرت أوامر الكولونيل بمهاجمة العدو.
كنت فاقد الحياة حينئذ لأنة كان يتحتم علي أن أهاجم العدو مع زملائي وكان القتال مريرا. . حتى أنى فقدت ذراعي في هذه المعركة.
وكان الجنرال ممتطيا صهوة جواده، فخورا بنا نحن جنوده الشجعان وهو يقول (عشتم يا رجالي فأنتم أشجع جنود العالم) وكنت مازلت قابعا في مكاني وأنا أتحسس ذراعي المكسورة حين تذكرت جريمة (الظمأ) الفظيعة. ورأيته وهو يغادر مكانه ويتقدم نحو الجنرال، وقد شج رأسه العاري والدم يشحب منه منها الدم على جبينه وخديه، وهو ممسك ببندقيته في يد وبيده الأخرى أحد الأعلام النمساوية التي استولى عليها. فنظر إليه الجنرال في إعجاب وقال (سأمنحك وسام الصليب)
وفقدت وعي بعدئذ. . ولكنك تعرف ما حدث لي، لقد بترو ذراعي وقضيت شهرين أهذي في المستشفى، وحينما كنت أضطجع أرقا في فراشي ليلا كنت أتساءل إذا كان من واجبي أن أبلغ عن جريمة (الظمأ) التي اقترفها، لكني كنت أعود فأقول إنه لا يمكنني إثبات. ومع هذا فقد حدثت نفسي بأنه إن كان مجرماٌ إلا أنه جندي شجاع، لقد قتل رئيسه ولكنه استولى على علم نمسوي. . ولم أعد أستقر على رأي فيما افعله.
ولما شفيت أخيرا بلغني أن (الظمأ) نال رتبة جديده وأنعم عليه بوسام الصليب، وقد دفعني ذلك للاشمئزاز من وسامي الذي ثبته الكولونيل بنفسه على صدري وأنا في فراشي بالمستشفى وعلى أية حال لم أعد أرى (الظمأ) منذ ذلك الوقت حتى الآن، فقد ظل في سلك الجندية بينما غادرتها أنا لعاهتي
ولكني حين رأيت تلك السترة القديمة في ذلك الحانوت بجانب المعسكر الذي يقيم فيه القاتل الآن أعاد منظرها إلى ذهني في جلاء تلك الجريمة التي لم ينل مرتكبها جزاءه بعد. . ولم أنقطع عن التفكير أن الكابتن ما زال يصيح مستنجداً بالعدالة)
وحاولت مات أستطيع أن أهدئ ببير فيدال وهو على حاله تلك من الاضطراب، وأخبرته مراراً أنه قد فعل خيراً وأن شجاعة (الظمأ) قد محت جريمته
ومرت أيام بعد ذلك وحين دلفت إلى حجرة مكتبي يوما ناولني فيدال جريدة الصباح وقد(950/56)
طواها بحيث منها ذلك الخبر الذي قرأته كما يلي:
ضحية أخرى من ضحايا الإفراط في الشراب
وحدث بعد ظهر الأمس في شارع جرينبل أن رجلاً يدعى ماليه وشهرته (الظمأ) وهو شاويش في الحرس الإمبراطوري كان قد أفرط في الشراب في إحدى الحانات هناك مع زميلين له وكان واقفاً يتطلع إلى حانوت لبيع الملابس القديمة، وفجأة اعترته حالة من الهذيان الثمل فأخرج سلاحه وجعل يعدو كالمعتوه، ولكن تمكن زميلاه من الإمساك به وهو يصيح أنه ليس بقاتل. . وإنه استولى على علم نمسوي في ملنيانو. وقد علمنا أن ماليه نال وساما على شجاعته في الحرب، وأن إدمانه على الشراب هو الذي منعه من متابعة ترقياته. وقد نقل إلى المستشفى العسكري وسيحول بعدها إلى مستشفى سارتون للأمراض العقلية حيث يقال أنه لن يستعيد قواه العقلية بتاتا.!
فأعدت الجريدة إلى بير فيدال الذي رمقني بنظرة لها معناها ثم قال. لقد كان الكابتن كورسيكيا وقد حصل على انتقامه.
حسن فتحي خليل(950/57)
العدد 951 - بتاريخ: 24 - 09 - 1951(/)
إذا جاء نصر الله والفتح. .
(مهداة إلى آية الله كاشاني)
للأستاذ سيد قطب
في الأفق بشائر - في هذه الأيام - على الرغم من كل ما يكتنفه من سحب وظلام. في الأفق بشائر بالعودة إلى حمى الإسلام، تتجلى في كل أنحاء الوطن الإسلامي. عودة الفلول الشاردة الممزقة، التي هدها الكلال وهي تلهث وراء أعلام أجنبية عن روحها وتاريخها؛ أجنبية عن أهدافها ووجتها. . .
إنها تعود رويدا رويدا في هذه الأيام إلى الحمى الذي استبيحت حرماتها عندما فارقته، والى الراية التي أزيلت عزتها حينما تخلت عنها. . إنها تعود إلى الإسلام تتنادى باسمه في كل مكان، وتطلب عنده القوة والعزة والسلامة. . وهذا هو موضع الرجاء في العالم الإسلامي في هذه الأيام.
إن الدعاة اليوم إلى تكتيل العالم الإسلامي في جبهة، والى تحكيم الإسلام في هذه الكتلة. . ليسوا هم الدعاة الدينيين وحدهم، وليسوا هم (الإخوان المسلمين) وحدهم، وليسوا هم الأفراد الذين يوجه الإسلام تفكيرهم وحدهم. . انهم ليسوا هؤلاء وحدهم فحسب في هذه الأيام، إنما هم كذلك جماعات وأحزاب وشخصيات ليست الدعوة الإسلامية طابعها البارز، أو جهتها الإسلامية. . وهذا هو الدليل على أن الأمة الإسلامية قد وجدت نفسها بعد التيه والضلال، وأنها تتجاوب بصدى واحد، منبعث من ضميرها بلا تمحل ولا افتعال.
لقد لعب الاستعمار لعبته الكبرى يوم مزق الوطن الإسلامي الأكبر، وحوله إلى دويلات تحمل الطابع القومي الهزيل، وتتخلى عن قوميتها الإسلامية الكبرى. لقد هدم حينذاك كل ما بناه الإسلام من وحدة ضخمة تذوب فيها العناصر والأجناس، وتنصهر فيها الألوان واللغات، وتهتف كلها هتافا واحدا من قلوب متآخية في الله.
ولم يكن بد للاستعمار من أن يلعب هذه اللعبة. فما كان في استطاعته أو مقدوره أن يزدرد هذه الكتلة الكبرى وهي وحدة متماسكة. فأما حين نفخ لها في بوق (القومية) الخداع فقد انفرط العقد، وانحلت العقدة، وتناثرت الفلول، وباتت كلها لقمة سائغة لمن أراد.
ثم واجهت كل دويلة مشكلاتها الداخلية. واجهتها عزلاء من راية تقف في ظلها، ومن قبلة(951/1)
تثوب إليها. وانطلقت كل دويلة تجابه الاستعمار المتجمع المتكتل وحدها. تارة في مجلس الأمن، وتارة في هيئة الأمم، وتارة في محكمة العدل. وفي كل مرة كانت تؤوب بالفشل والخيبة، لان الاستعمار هناك وحدة؛ ولان (القومية) التي خدع بها المستضعفين في الشرق لا تجعله ينسى (الصليبية) التي يواجه بها الإسلام كافة!
وانطلقت كل دويلة تجابه الطغيان الداخلي فيها والمظالم الاجتماعية بحلول ومبادئ تلهت وراءها في أرض غير أرضها؛ وفي بيئة غير بيئتها. تارة باسم الديمقراطية. وتارة باسم الاشتراكية. وتارة باسم الشيوعية وهي كلها محاولات يائسة، أنشأتها أوضاع غير أوضاع الوطن الإسلامي، وهي أمتدادت طبيعية للفكرة المادية التي يدين بها الضمير الغربي والحضارة الغربية، وتجد جذورها في الحضارة الإغريقية والرومانية، ولا مبرر لنشأتها أو امتدادها في الجو الإسلامي والتفكير الإسلامي.
وماذا كانت العاقبة؟
كانت العاقبة في الخارج هي ما نراه من تفكك العالم الإسلامي وتكتل العالم الصليبي. كانت هي ضعف الدويلات الإسلامية وقوة الاستعمار الأوربي. كانت هي هذه الحلقة المفرغة التي تدور فيها هذه الدويلات حول دول الاستعمار. كانت هي توزيع الأسلاب بين إنجلترا وفرنسا وهولندا وأمريكا. كانت هذه المواقف الهزلية التي تقفها حكومة الدويلات شبه المستقلة كمصر والعراق، تقدم رجلا وتؤخر أخرى!
وكانت العاقبة في الآخر هي هذه البلبلة في مواجهة الطغيان والمظالم الاجتماعية. منا من يريد مواجهتها باسم الإسلام، ومنا من يريد مواجهتها باسم الاشتراكية، ومنا من يدعو خفية للشيوعية. والإقطاع العارم وإلى الفاجرة يقفان في الجبهة الأخرى صفا، يضربان هؤلاء بأولئك، ويوقعان بينهم الفتنة والبغضاء!
وبين الحين والحين يخرج بغاث هزيل، وببغاوات فارغة تحذرنا من دعوة الإسلام ومن راية الإسلام. تحذرنا عداء العالم الغربي إذا نحن هتفنا باسم الإسلام، وتجمعنا كتلة تحت رايته كان هذا العالم يساقينا اليوم كؤوس المودة!. وتحذرنا الفرقة والتنابز في داخل الوطن الواحد. كأننا اليوم جبهة واحدة لا شراذم وشيع وفرق!
وتحذرنا ما هو اشد وأنكى تحذرنا طغيان الحكم الإسلامي. . تحذرنا هذا الطغيان كأنما ننعم(951/2)
اليوم في بحبوحة الحرية! وتحذرنا ألاعيب رجال الدين المحترفين. كأننا الآن لا نذوق منها الأمرين!
إنها تعلات فارغة لا تخدم أحداً إلا المستعمرين الذين يفزعون من فكرة التكتل الإسلامي تحت راية الإسلام، لأنهم يدركون ما أدركته الملكة فكتوريا، وما أدركه جلادستون من أن راية القرآن يجب أن تمزق قبل أن يتسنى للرجل الأبيض حكم هذه البقاع الإسلامية. ولأنهم يدركون أن ظل الاستعمار الأسود سيتقلص يوم ترتفع هذه الراية من جديد.
أن الاستعمار الغربي لا تخفى عليه ضخامة القوة التي يمكن أن تواجهه في ميدان الحرب والسياسة والاقتصاد لو تكتل الوطن الإسلامي. لا تخفى عليه ضخامة الموارد البشرية والمادية التي يمكن أن يحشدها لا يخفى عليه أن الدفة سيتحول اتجاهها يوم يقف أربعمائة مليون من البشر تحت راية واحدة وفي ظل عقيدة واحدة، ونظام اجتماعي واحد.
أن الرأسمالية والشيوعية كلتيهما لترتعشان من هذا اليوم (الرأسمالية) لأنها تعلم أن الأسس الاقتصادية التي تسمح لها بالربى والاحتكار والاستغلال الرأسمالي. . كلها ستتحطم يوم يحكم الإسلام، فيقيم بنائه الاقتصادي على أسسه الاقتصادية الخاصة التي تطرد المرابين والمحتكرين والمستغلين، ولا تسمح لهم في ظلها بهذا النشاط الآثم الظالم. ويومئذ يخرج من قبضتها الاقتصادية الاستغلالية هذا العالم المترامي الأطراف من شواطئ الأطلنطي إلى شواطئ الباسفيكي. يخرج من قبضته المؤامرات إلى - كما خرجت دول الكتلة الشرقية تماما في ظل الشيوعية - وعندئذ تضيق الأرض بما رحبت. فماذا يبقى للرأسمالية الغربية حين يخرج العالم الإسلامي كله من قبضتها وقد خرجت من قبل كتلة العالم الشيوعي؟ إن الرأسمالية الغربية يومئذ تختنق وتسقط جثة هامدة. وذلك ما يخشاه المستعمرون من الراية الإسلامية والحكم الإسلامي. وما قد يخيفهم اكثر من الجيوش والكتائب التي يجردها الوطن الإسلامي عليهم لتسحقهم سحقا.
(والشيوعية) لأنها تعلم أن فرصتها الوحيدة في العالم هي الاختلال الاجتماعي والاقتصادي. فلا مجال للشيوعية في مجتمع عادل متوازن، لا تتضخم فيه الثروات، ولا تتضخم فيه الفوارق، ولا يسوده الربا والاحتكار والاستغلال الرأسمالي، ولا يقوم فيه العداء بين العمال وأصحاب العمل، لأنه لا سبيل فيه لتحكم أصحاب العمل ولا إلى غبن العمال.(951/3)
ولما كان المجتمع الذي يمكن أن ينشئه الإسلام، حين يقوم على أصوله الصحيحة مجتمعا غير طبقي؛ لأن مصالح العمال لا تفترق فيه عن مصالح رأس المال، فالعمال أنفسهم أصحاب الحق في نصف الربح، كما أنهم أصحاب حق في تحويل نصيبهم أو بعضه إلى أسهم في مرفق العمل. ومجتمعا لا ترف فيه ولا شظف فكلاهما مكروه أو حرام. ومجتمعا لا تضخم فيه للثراء لأنه يحرم الربا والاحتكار والظلم في الأجور. ومجتمعا متوازنا لأن الدولة فيه ملزمة بإعادة توزيع الثروة كلما أصابها الاختلال. بل مكلفة أن تتخذ من الوسائل الوقائية ما يمنع كل ما قد يؤدي إلى هذا الاختلال. ومجتمعا كل المرافق العامة فيه مؤممة أو شائعة الملكية وليس فيها احتكار. . لما كان المجتمع الإسلامي كذلك فان فرصة الشيوعية في اقتحامها نادرة بل مستحيلة، ولهذا تحرص الشيوعية حرص إلى على مطاردة فكرة التكتل الإسلامي والحكم الإسلامي. وتطلق أبواقها يخوفون من هذه الفكرة أو يهونون من قيمتها، أو ينكرون أن تطبيقها العملي؛ ويبذلون من الجهود ما تبذله الجهة إلى سواء بسواء!.
وفي وسط هذا كله تتجاوب صيحة واحدة مشتركة في جوانب العالم الإسلامي، تدعوا إلى راية الإسلام، وتهتف بالوحدة الإسلامية، وتنادي بالحكم الإسلامي. . .
وليس الأخوان المسلمون هم الذين يستقلون بهذه الدعوة. وليس أصحاب التفكير الإسلامي من الكتاب والدعاة هم الذين ينفردون بها كذلك إنما هي دعوة تنبعث من ضمير هذه الأمة الإسلامية، من حيث تحتسب ومن حيث لا تحتسب.
إنها تنبعث من حكومة الباكستان تدعو إلى مؤتمر اقتصادي إسلامي، لتنظيم اقتصاديات العالم الإسلامي على أسس إسلامية.
إنها تنبعث من آية الله كاشاني زعيم إيران الروحي، يصرخ في وجه الإنجليز الكلاب أن يخرجوا لا من إيران، ولكن من الوطن الإسلامي. ويبعث بتشجيعه وتوجيهه إلى رئيس الوزارة المصرية. ويطلق المظاهرات في شوارع إيران تأييدا لمصر في قضيتها.
إنها تنبعث من علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني زعيمي مراكش، التي حاربتها فرنسا في دينها بالظهير البربري سنه 1931 لأنها يئست من إخضاع مراكش قبل أن تمزق وحدتها الدينية.(951/4)
إنها تنبعث من مسلمي الملايو في آسيا، والصومال في أفريقيا، وهم يتجهون إلى دول العالم الإسلام.
إنها تنبعث من احمد حسين زعيم الحزب الاشتراكي في رسالة حارة يبعث بها على صفحات الاشتراكية آية الله كاشاني والى مصدق رئيس حكومة إيران، التي طعنت احتكار البترول بخنجر الإسلام فأدماه!
إنها تنبعث من احمد أبو الفتح في كتابه: (حكايات لمصر) دعوة الخلاص، بحكم الإسلام وبعدل الإسلام.
إنها اليقظة. إنه لهدى إنه النور. إنه ضمير هذه الأمة كلها يستيقظ ويهتدي ويستنير. إنها لم تعد دعوة فرد، ولا دعوة هيئة. إنه صوت السماء يهبط مرة أخرى إلى الأرض. إنها البشائر التي تلوح في الأفق على الرغم من كل ما يكتنفه من سحب وظلام.
سيد قطب(951/5)
سلبية الرأي العام العربي
إزاء قضية كشمير
لأستاذ كبير
موقف الدول العربية من مشكلة كشمير موقف يدعوا إلى الدهشة والأسف. وانك لتلمس وراء هذا (الحياد) الذي تعتصم به الحكومات العربية، وبعض كبريات السنة الرأي العام العربي، حين نتحدث عن قضية كشمير، سلبية لا يبررها إلا اعتقاد خاطئ في أفضلية العصبية الآسيوية على التضامن الإسلام، وإلا وهم نشرته في ألسنة الرأي العام آلة الدعاية الهندية وبعض المغرورين بها من الكتاب والمعنيين بالشؤون العامة من أن الهند علم على التحرير الآسيوي الذي سيتزعم حركات التحرر في البلدان المغلوبة على أن. ويتخذ هؤلاء من مناصرة الهند لحركة التحرير الإندونيسي دليلا على هذا الادعاء. فقد خفي أن مناصرة الهند لإندونيسيا لم تكن مدفوعة برغبة اكتساب السوق الإندونيسي للإنتاج الهندي الذي لا يزال يسيطر عليه ملوك الصناعة من البريطانيين والإقطاعيين الهنود.
وإن الحقيقة لتجادل كل من يدعي بان حكومة الهند الحالية هي نصيرة مخلصة للحرية الآسيوية؛ فأن صمت الهند على مأساة العروبة في فلسطين، وتحالف نيودلهي وتل أبيب تحالف يدرك خفاياه كل من راقب صداقة اليهود والهنود في الأمم المتحدة كما أدركها كاتب هذه السطور - كل ذلك وفوقه المعرفة الصادقة لحقيقة السياسة الهندية إزاء العالم العربي يفرض على الرأي العام العربي أن يهيب لنصرة الباكستان في أزمتهامع العدوان الهندي في كشمير.
ترى هل اشتم الرأي العام العربي خطورة السياسة الهندية على مصالحه في هذا الخبر المتواضع الذي نشرته جريدة الأهرام في 30 يونيو 1951:
(العرب لا نؤيد الهند في الترشيح لعضوية مجلس الأمن).
(انتهى الرأي بين دول الجامعة العربية على عدم تأييد ترشيح الهند لعضوية مجلس الأمن بعد أن وقفت على معلومات رسمية تنبئ بتحول في سياسة الهند إزاء العالم العربي).
ولو شاء كاتب هذه السطور أن يتفرغ لسرد حقائق هذا التحول في سياسة الهند نحو دول الجامعة العربية لملأ الصفحات، ويكفي بان نذكر الآن بان الهند هي شاعرة شعورا قويا(951/6)
بعدواتها للإسلام والتكتل الإسلامي قد انتهجت نهجا جديدا منظما لعرقلة كل ما من شأنه أن يزيد في تضامن الدول العربية وان يحقق لها مواصلة اليد من صناعة واستقرار وتكافل - والعرب كلمة أوجدها الإسلام.
والهند في تخوفها من استكمال الدول العربية والإسلامية لمكانها العالمية قد شرعت في التحالف مع خصوم العروبة والإسلام. وابتدأت بإسرائيل، فكل عدو للعدو صديق. والواقع أن هناك أسبابا جوهرية عديدة تدفع إسرائيل والهند إلى التحالف والتدسس على كيانات الدول العربية والإسلامية، فلقد تسجل الآن في صميم الأيدلوجيتين الهندوسية والصهيونية أن الإسلام هو أصعب العقبات في طريق برامجهما التوسعية لأسباب تتعلق بميلاد الباكستان وما تدعوا إليه من تضامن إسلامي، وبهذا النتوء الممتلئ مكروبا والمسمى بإسرائيل، وبما يضمره من شر لعالم العرب والمسلمين.
وفوق ذلك فأن اليهودية العالمية، وقد أدركت أن لا أمل لها في حياة سعيدة في العالم المسيحي الذي اكتشف غشها وخداعها وسجله في صفحات (الكتاب المقدس) وفي تاريخ الغرب السياسي والاقتصادي، وقد تحدت العروبة والإسلام في عقر دارهما فإنها ساعية حتما للتحالف مع مذهب كالهندوسية لم تسجل كتبه الدينية لطخة عار على اليهودية كما سجلته المسيحية وكما اختبرها في مأساة فلسطين. والى أن يختبر الهنود طبيعة الخلق اليهودي وما جبل عليه من شر ومكيدة وانتهازية فإن مكاتب الدعاية اليهودية كما سجلتها المسيحية وكما أختبرها في مأساة فلسطين. وإلى أن يختبر الهنود طبيعة الخلق اليهودي وما جبل عليه من شر ومكيدة وانتهازية فأن مكتب الدعاية اليهودية ستستمر في نشاطها بنيودلهي وكلكتا وبومباي، وستضل التجارة اليهودية على تغلغلها في اقتصاديات المدن الهندية الكبرى كما سبق لها أن تغلغلت في كبريات المدن الأوربية والأمريكية.
وإنك حين تطالع حماس الكتاب اليهود ودور النشر اليهودية في أوربا وأمريكا - وهي صاحبة السيطرة التامة على الفكر الغربي المعاصر في تجميد الثقافة الهندية والطنطنة بها لسبب وغير سبب - حين تطالع مدى اتساع حركة تطعيم الثقافة الغربية بالتراث الهندي التي يحمل لواءها يهود الغرب، لا تجد بدا في أن تدرك بان هناك (حاجة في نفس يعقوب) ولا تترد في أن تفسر هذا الحماس اليهودي على ضوء تشابه الأيديولوجيتين الهندوسية(951/7)
والصهيونية في أمرين رئيسيين
أولاً - شعور كليهما بالتعاظم والأيمان بأنه نواة حضارة القرون المقبلة. وكل دارس لحاضر الثقافة الهندية كما يبثها أقطابها اليوم يمل من تكرار الفضائل (الرسالة الروحية) الخالدة التي يؤمن الهنود المعاصرون بوجوب فرضها على عالم المستقبل، (وادعاءات شعب الله المختار) في إسرائيل وفي خارج إسرائيل هو صنع لادعاءات ألسنة الثقافة الهندوسية المعاصرة.
وثانياً - أوجه التشابه بين الأيديولوجيتين الهندوسية والصهيونية هو اعتقادهما بأن الإسلام وأهله من عرب وعجم حجر عثرة في وجه هذه (الرسالة) الإنسانية الكبرى (صهيونية كانت أم هندوسية) ولعلنا عائدون إلى دراسة أوجه التشابه بين هاتين الأيدلوجيتين في بحث منفرد. ونكتفي بان نذكر الآن أن حقائق هذا التحالف الهندوسي اليهودي، هي مواقفهما المتشابهة من مشاكل مصر مع بريطانيا، وأزمة البترول الإيراني، وسلبية الهند إزاء مأساة اللاجئين الفلسطينيين، ومشكلة القدس، وعشرات القرارات والتوصيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتعلق بالشرق العربي التي عالجتها الأمم المتحدة والتي تجانست آراء وفد الهند وإسرائيل في هيئة الأمة بصددها تجانسا عجيبا.
ولنعد بعد هذه التوطئة إلى صلب هذا المقال وهي سلبية الدول العربية وألسنة الرأي العام العربي إزاء عدوان الهند على كشمير.
والباحث لتفاصيل القضية الكشميرية يستطيع أن يثبت عدوان الهند متجردا من العاطفة الدينية تجردا تاما.
فتاريخ أزمة كشمير واضح لا يدخل فيه التعقد؛ ولاية عدد سكانها 5 ملايين نسمة 90 % منهم مسلمون يحكمهم مهراجا هندوسي وهو من بقايا عهد الانتداب البريطاني. وكان من المسلم به أ، تكون كشمير جزءاً من هذه القطاعات الهندية التي كانت (العصبية الإسلامي) تطالب بجعلها دولة إسلامية. وقد تركت اتفاقية تقسيم القارة الهندية مستقبل كشمير رهينا بمشيئة أهله، ولكن الهند تواطأت مع حاكم كشمير الهندوسي ورتبت معه الانضمام إلى الحكومة الهندية غير عابئة بمشيئة السكان المسلمين وغير مراعية لحكمه ومبدأ تقسيم الهند الذي سلم به الطرفان (الهندوس والمسلمون) بعد انتهاء الانتداب البريطاني. لو كان في(951/8)
مثل هذا التواطؤ صبغة شرعية لاستطاعت الباكستان أن تكسب لنفسها بقعة غنية في صميم الهند - وهو ولاية حيدر أباد التي كانت في استطاعة حاكمها المسلم نظام الملك أن يعلن انضمامه للباكستان كما فعل حاكم كشمير الهندوسي. ولكن السياسة الهندية تقيس القانون بميزانين - واحد للمسلمين والآخر للهنود - ففي حين أن حكومة جوهر لال نهرو ابتلعت حيدر أباد عنوة واقتدارا. . أصبحت الآن تحول دون استفتاء الشعب الكشميري عن حقيقة رغبته في المستقبل الذي يرتضيه على نحو ما أقره مجلس الأمن ومختلف اللجان الدولية التي درست مشكلة كشمير عن كثب.
ومدعاة الأسف في سلبية الشعوب والحكومات العربية إزاء هذا التحدي الهندي أن العالم بأسره ينتقد السياسة الهندية إزاء كشمير انتقاداً مرا ويحمد للباكستان صبرها وحنكة أولي الأمر فيها.
وإليكم أمثلة من انتقاد الرأي العام العالمي لعدوان الهند على كشمير:
قالت جريدة الشيكاغو تربيون وهي من كبريات الصحف الأمريكية:
(إن جوهر لال نهرو رئيس وزراء الهند يرفض الأخذ بقرارات الأمة المتحدة فيما يتعلق بكشمير. وبينما يرفض الصين إدانة الشيوعية بالعدوان في كوريا - وعدوانها في كوريا حقيقة سافرة - نراه يلهب الأمم المتحدة بالسياط ليدين الباكستان بالعدوان في كشمير والهند هي المعتدية. والآن يلجأ نهرو في كشمير إلى أساليب ستالين في إقامة مجلس نيابي مزيف في كشمير يدين له بالولاء).
وقالت جريدة النيويورك تايمس أكبر صحف العالم قاطبة:
(الحق في قضية كشمير في جانب الباكستان حتما، وصلابة نهرو ومناورته في كشمير ليست إلا عنوانا على نوع (الديمقراطية) التي يبشر بها الهنود).
وقالت جريدة المانشستر جارديان صحيفة حزب الأحرار في بريطانيا:
(إن من دواعي الغرابة أن تلهب الصحافة الهندية الرأي العام حول حادثة فردية من حوادث الحدود (بين الهند والباكستان) في كشمير، بينما سجل مراقبو الأمم المتحدة في كشمير اكثر من 400 حادثة اعتداء هندي على قوات الحدود الباكستانية).
وقالت الجريدة نفسها في عدد آخر:(951/9)
(أي ديمقراطية تبشر بها الهند حين يقوم رئيس وزارتها (نهرو) بالتواطؤ مع رئيس حكومة صورية في كشمير لا يدين له الشعب بالولاء.).
(. . . قد يستطيع الدكتور فرانك جراهام وسيط الأمم المتحدة في كشمير بأن يحمل الباكستان على التخفيف من حدتها وعدتها إلى الجهاد في كشمير. وقد يكون من حق المستر نهرو أن يطلب ذلك من وسيط الأمم المتحدة لو انه (أي نهرو) كان على حق في سياسته نحو الباكستان في كشمير).
(. . . وعلى المستر نهرو (أن يظهر حسن النية) بإقلاعه عن التواطؤ مع العناصر الحزبية التي تضمر للباكستان خيرا وأن يكف عن إلهابها بالخطب النارية التي تزيد النار ضراما.)
وقالت جريدة الديلي تلغراف البريطانية:
(إن سياسة المستر نهرو التوسعية تشكل خطرا عليه وربما على العالم بأسره. ألم يقل نهرو في خطبة له في 11 يونيو (لن اسمح بعد الآن بمزيد من الهراء بصدد كشمير مهما كانت العواقب). إن المستر نهرو يعتلي الآن حصاناً عاليا مما يستوجب فحص مقدرته وحنكته، وما هي سياسته؟. هل أنه يحاول أن يفرض إرادته على الأمم المتحدة عنوة واقتدارا. . . إنه يسعى لطرح القارة الهندية في السعير في ظروف تكتنفها الأخطار.)
وقالت جريدة أوتاوا سيفيزن الكندية:
(إن الهند بمواقفها المتناقضة إزاء القضية الدولية لتلجئ أصدقاءها في العالم إلى الدهشة فهي تقول لمجلس الأمن إنها لا تستطيع تقديم وحدات من جيوشها للدفاع الجماعي العالمي بدعوى أن مشاكل العالم يجب أن تحل بالمفاوضات السلمية. ثم هي (أي الهند) في الوقت نفسه تحتفظ بأكثرية جيشها النظامي على حدود الباكستان (كشمير) وترفض قرارات الأمة المتحدة الداعية إلى حل المشكلة بالاستفتاء السلمي النزيه).
وبعد فإذا كان الرأي العام العالمي (وهو لم يكن في يوم من الأيام نصيرا للقضايا الإسلامية) على مثل هذه الحدة في انتقاده لعدوان الهند في كشمير، فحري بالرأي العام العربي أن يدرك أن للباكستان وجهة نظر وجيهة في نزاعها مع الهند. أضف إلى ذلك أن الشرق العربي بحكم جواره للقارة الهندية لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي إزاء هذه الحالة(951/10)
المتدهورة في كشمير حيث ترابط قوات الباكستان النظامية والمتطوعين المسلمين من كشمير والحدود الشمالية الغربية لمواجهة أربع فرق عسكرية هندية تامة العدة وهي تؤلف 90 % من قوات الجيش الهندي النظامي.
ولقد مرت قضية كشمير هذا العام في ثلاث مراحل كان التطور فيها من سيئ إلى أسوأ بسبب عناد الهند وإصرارها على ابتلاع هذه الولاية الإسلامية.
أما المرحلة الأولى فقد كانت في يناير المنصرم عندما عرض مؤتمر رؤساء دول الكومنولث البريطاني المنعقد في لندن أن تقوم قوات نظامية تابعة لدول الكومنولث بحفظ الأمن في كشمير خلال فترة الاستفتاء التي اقترحتها الأمم المتحدة. ورضيت الباكستان بهذا الاقتراح، ولكن الهند رفضته وأصرت على رأيها في أنه إذا كان لابد من إجراء استفتاء فليكن تحت الحراب الهندية. وهذا نوع من (الديمقراطية) ولون من ألوان (الرسالة الروحية الخالدة) التي يبشر بها الهنود في هذا العصر. وكانت نتيجة هذا الموقف الهندي أن كسبت الباكستان مزيدا من العطف في الأوساط العالمية.
وكانت المرحلة الثانية في يناير وفبراير الماضيين عندما اقر مجلس الأمن مشروعا كلفت به (الدكتور فرانك جراهام عميد جامعة نورث كار ولاينا الأمريكية) وهو شخصية محايدة لها مكانتها - للتوسط بين الهند والباكستان لسحب القوات المسلحة من كشمير تمهيدا للاستفتاء. ومرة أخرى رضيت الباكستان بهذا القرار ورفضته الهند لأنها لا تعترف بمبدأ التحكيم.
أما المرحلة الثالثة فهي جزء من سياسة (الأمر الواقع) التي اتبعها اليهود في فلسطين وأخذها عنهم الهنود، وهي مواجهة الباكستان ببرلمان مزيف من ولاية كشمير يدين للهند وأعوانها بالولاء.
وقالت الهند إن هذا البرلمان (الذي حددته الهند لإجراء انتخاباته في أكتوبر القادم) هو صاحب الكلمة النهائية في مصير كشمير. وإذا علمنا أن الجيوش الهندية تسيطر الآن على منطقة كبيرة من ولاية كشمير - وإنها قد اعتقلت آلاف الزعماء المسلمين هناك - أدركنا نوع المصير الذي سيقرره هذا البرلمان الكشميري.
وقالت جريدة أولوس التركية معلقة على هذا (البرلمان) ما يلي:(951/11)
(التحكيم مبدأ نص عليه ميثاق الأمم المتحدة (الذي وقعت عليه الهند) فهل هذا المبدأ مخالف لمبادئ الدستور الذي تضعه الهند الآن لكشمير؟ وأي نوع من الدساتير هذا الذي لا يقبل مبدأ حق الشعب في اختيار مصيره).
مرت هذه المراحل كلها وقوات الباكستان والمتطوعين المسلمين ترابط على الحدود وتشاهد بعينها هذا التحدي الهندي العنيد. واعتصمت قوات الباكستانية بالصبر في ظروف الصبر فيها مر ثقيل. وحين اشتكت الهند إلى مجلس الأمن مؤخرا من أن دوريات باكستانية نظامية ومتطوعة قد اعتدت على المراكز العسكرية الهندية، أجاب رئيس الوفد الباكستاني هنا في هيئة الأمم بتقديم مذكرة تحتوي على 492 حادثة اعتداء قامت بها القوات الهندية في الأشهر الأخيرة.
والرأي العام العالمي حساس جدا لهذا التوتر الخطير في قضية كشمير. فبالإضافة إلى أن حياة الباكستان الزراعية مرتبطة بالأنهار الثلاثة الكبرى التي تنبع في كشمير وتمتد إلى شعاب الباكستان - بالإضافة إلى هذه الأسباب فأن الأوساط الدولية تعتبر أن في مشكلة كشمير قسطا كبيرا من الخطورة بعرض السلم الآسيوي لمثل ما أولدته الحرب الكورية من ذيول.
فهذه الولاية الإسلامية تحدها من الشمال ثلاث مناطق شيوعية هي روسيا الأسيوية والتبت والصين الشيوعية. فإذا اندلعت في كشمير حرب فان هذه المنطقة الإسلامية ستصاب بمثل النكبة التي أصيبت بها الهند الصينية الفرنسية وبورما التي تسرب المفسدون إليه وخلطوا بين المبادئ القومية السليمة وبين صراع الشيوعية وخصومها من حلفاء الغرب.
وهذا وضع يدفع كال من يهمه مصلحة الثقافة الإسلامية والتضامن الإسلامي والاستقرار الآسيوي والعدالة والأنصاف أن يساهم بدفع الأذى ونصرة الحق قبل أن تدهم الكارثة.
ولقد اقترحت مجلة الإيكونمست البريطانية الواسعة النفوذ فكرة لها وزنها حين علقت (في عدد 16 يوليو 1951) على الموقف في كشمير قائلة:
(تقوم الهند بتنفيذ سياستها في كشمير على أساس الأمر الواقع خطوة خطوة. . . ومناورات الهند الآن ترمي إلى أن قضية كشمير أمر مفروغ منه، وترفض فكرة تدعو إليه هيئة الأمم المتحدة التي كانت الهند أول من رفع قضية كشمير إليه.(951/12)
أن فشل تسوية قضية كشمير يعرض السلم في جنوب آسيا إلى خطر أكيد
. . يبدو أن الشعوب والساسة الآسيويين أنفسهم يجب أن يقوموا بعمل إيجابي لحل هذا التوتر. واللجنة المؤلفة من الوفود العربية والآسيوية في هيئة الأمة التي أثبتت نشاطها لتسوية قضية كوريا تسوية سلمية تستطيع أن تقوم بنشاط مماثل في قضية كشمير.)
هذا اقل ما يمكن للشعوب والحكومات العربية عمله للعزوف عن هذه السلبية الضارة التي انتهجوها إزاء عدوان الهند لكشمير، ولإيفاء بعض ما عليهم من دين للباكستان التي كان حماسها ودفاعها عن قضايا العروبة جميعها في هيئة الأمة وخارج هيئة الأمة على اخلص ما يكون الحماس وابلغ ما يكون الدفاع
نيويورك
(عين)(951/13)
1 - أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
لست أقصد بهذا العنوان نقدا لوزراء آل الحكم إليهم أو زال عنهم، ولا أتحدث به عمن كانت لهم في الوزارة رياستان من سيف وقلم، ولا أريد أهل العوالي الذين كانوا يسكنون (العالية) في شمال المدينة المنورة، وإنما أرمي إلى الطواف على كل ذي همة عالية في التراث الإنساني عند العرب وغير العرب، في الماضي وغير الماضي، من الشعراء والفلاسفة والعلماء والمتكلمين والمناطقة وأهل الفن ورجال الدين وأساطين الاختراع، وجهابذة البيولوجية والسيكولوجية، وأستاذة الأخلاق والاجتماع والساسة والقادة وأئمة الإصلاح ورعاة الأمم ممن يمضون تحت لواء أصحاب المعالي الذين علو في سلم المجد إلى درجات العلا.
وفي الحق إنها لمخاطرة. . فما أوسع الأفاق، وما أرحب الجوانب، وما أصعب التجميع بين الأشتات، والتوفيق بين المنظوم والمنثور، والتأليف بين أعالي الجبال، والتأليف بين اعلي الجبال ومعالي الأمور.
وسنرى أن العرب - جاهلين وإسلاميين - كانوا حقا أصحاب المعالي في كل جانب من جوانب الحياة الكريمة، فقد امتلأت دواوين شعره، وسجلات نثرهم بكل مشتقات المعالي قولا وعملا حتى ليبدو للباحث المنصف أنهم أكثر أصحاب الحضارات إنتاجا في هذا الباب بحيث لم تكن تخلوا خطرات شاعرهم وناثرهم من الجبال العالية، حقيقة ومجازاً، بياناً وبديعاً، صراحة وكفاية.
لهذا انفردت اللغة العربية بوفرة المشتقات من هذه المادة. قالوا في الفعل: علا يعلو ويعلى، وتعالى يتعالى، وتعلى يتعلى، واعتلى يعتلي، واستعلى يستعلى، واعلولى يعلولي، وأعلى يعلي، وعلى يعلي، وعالي يعالي، واعل وتعال وعالي. وفي الاسم والصفة قالوا: والعلو والتعالي والاعتلاء والعلاء والاستعلاء والعلي والعلى والعلى، والعلوى والأعلى والعالي(951/14)
والمتعالي والمعتلى والمعلى. والعلوان والعالية والعلياء والمعلاة والعليا والعليا والعليات والعلية والعلاوة، والأعالي والمعالي والعوالي والعلالي والعلاوي والعليون. وفي الحرف والظرف قالوا: على وأعلى وعلوا وعاليا وعلاء وعالية ومن علة ومن عال ومعال ومن على وعلو.
والى جانب هذا اشتقت الأعلام فقيل: على ويعلى والعلاء، والعلا والأعلى وابن العلاء وأبو المعالي وأبو العالية وأبو العلاء وعبد الاعلى، وعلية، وأم العلاء، ومن أسماء الأماكن المعروفة في الحجاز: العالية والعلياء والعوالي والمعلى والعلاية وعلو المدينة.
وقالوا: سدرة المنتهى، والفردوس الأعلى والجنة العالية وأعلى عليين. واشتقوا من هذه المادة بعض الاصطلاحات الفنية فمنها:
استعلاء الحروف وهو أن تتصعد هذه الحروف في الحنك الأعلى والمستعلي من الحروف سبعة وهي الحاء والغين والقاف والضاد والصاد والطاء والظاء - ورجل علو للرجال (على وزن عدو) قاهرهم. والمرأة عالية الدم أي يعلو دمها الماء وهي تتعلي من نفاسها أي تطهر منه، والعالية في القناة أعلاها، وعوالي الرماح كناية الشباب والوجاهة، قالت الخنساء وقد خاطبها دريد: (أترونني تاركة بني عمي كأنهم عوالي الرماح ومرتثة شيخ بني جشم) وعالية الوادي حيث ينحدر الماء منه، ويقال: استعلى الفرس على الغاية إذ بلغ الغاية عن الرهان ويقال: لا تعل الرياح على الصيد فيراح ريحك ونفر، ويقال: كن في علاوة الريح وسفالتها، والمعلي (بفتح اللام) وهو القدح السابع في الميسر، وهو أفضلها لأن له غنم سبعة أنصباء أن فاز، وعليه غرم سبعة أنصباء أن خسر، وللناقة حالبان: البائن والمعلى والمستعلي. قالت الكميت:
يبشر مستعليا بان ... من الحالبين بأن لا غرارا
وعليون: ديوان الملائكة الحفظة يرفع أليه أعمال الصالحين من العباد، وهذه كلمة تستعلي لساني أي تجري عليه. وذهب الرجل علاء وعلوا إذا ارتفع، وتعلت المرأة أو تعالت أي ارتفعت وتشوقت لخطابها، وتعلى الرجل من علته إذا برأ، ويقال في الدعاء لكثير المال: اعل به أي أبق يعده. والمعتلي المقصر قال طفيل الغنوي:
ونحن منعنا يوم حرس نساءكم ... غداة دعانا عامر غير معتل(951/15)
فالمعتلي فرس عقبة بن مدلج، والعلاة فرس عمرو بن جبلة، والمعلى فرس الأشعر الشاعر، وعلوي فرس سليك. وعلوي فرس خفاف بن ندبة الذي قال فيها:
وقفت له علوي وقد خام صحبتي ... لأبني مجدا أو لأثأر هالكا
وعلوي أيضا أسم فرس كانت من سوابق خيل العرب. وكذلك الناقة ناقة عليان طويلة جسيمة، وناقة علاة وعلية وعليان. وعالية القوم وعلياهم أي أعلاهم، وعلية القوم وعليهم: أشرافهم.
وتولدت الألفاظ المرادفة للمعالي فاشتق منها. رافع وصاعد وطالع وطلاع وطلعة، وعزيز ومعتز ومعز، وقد يضاف إليها أبن أو أب أو أم. وأنف الناقة وسنام الأمر. والسمو والرفعة والعزة والقمة والذروة والخفة والهمة والصعدة والرقية والطلعة والتوقل والشرف والشرفة، والغارب والمجد والمحتد والأصل، وأبو النجم وعبد شمس وعبد الأعلى.
واقتضى ذلك معرفة بأحوال الجبال والتلال، والنجوم والأفلاك، والرياح والمشارق والمغارب، والترحل والتسيار، والمياه جاريها وراكدها، ومواطن النهوض والنكوص، وعوامل العزة والذلة، وعلامات الرفع والخفض، والأصول والمحاتد، والمبادئ البانية والهادمة، والنفوس المتقدمة والمتخلفة، والمناصب المالكة، والأوضاع المملوكة، واتجاه المرء من العالي والى السافل وبالعكس.
احتفلت كنوز العربية بهذه الذخائر، واستطاعت أن تعطي للحضارة عناصر القوة في انتقال تراثها من المادية إلى المعنوية، شأنها في ذلك شأن الإنسانية في إطارها الواسع حين تدرجت - في النظر والتأمل - من الأشياء المحيطة إلى النفوس المدركة ذاتها.
وليس من الطبيعي أن يتأمل الطفل نفسه أول ما يتأمل، بل هو يظل طويلا يتفحص الموجودات المحسوسة ثم يدقق - من بعد - في البحث وراء النفس وخصائصها.
فالجبال العالية، والسماوات العلا، والآفاق الممتدة، والأفلاك الشارقة الغاربة، الطالعة والآفلة، والأطيار الغادية والرائحة، والسهام والرماح في مروقها وهبوطها، والجمل البارك والطامح، والكثبان حين تعلوا وتسفل مع الرياح السوافي، والصواعق حين تنقض، والأمطار حين تنزل، والقوي حين يتغلب على الضعيف، وحالب الناقة حين يعلوا ويسفل، والمرء حين يرتفع ويتضع بنسبه وحسبه وقوله وعمله، والعيون في مطالعة المشاهد في(951/16)
وضح النهار، والأشباح في غبش الظلام؛ والآذان في تتبع الأصوات من مصادرها، وأصدائها البعيدة المديدة، والحيوان والإنسان في الطلوع والنزول. . ومقارنة هذا كله بعضه ببعض من حركات بين السماء والأرض؛ والعالي والسافل، من فوق إلى تحت. . هذه المدركات لابد أن ينتقل بها المنطق الإنساني من المحسوس إلى المعقول، أو من المادة إلى المعنى، ومن المدرك إلى المجرد، ومن الأشباح إلى الأرواح، فكان الإنسان - تبعا لذلك - همزة الوصل بينهما. ومصداق ذلك العلياء رأس الجبل وهي أوسع ما علا من الشيء، وهي أسم من أسماء السماء.
والمفهوم أن الفكر الأمم قد تراوح على مر العصور بين الأرض والسماء، وبين الثرى والثريا، والسماك والسمك، وتنقل بين مطالب المادة والروح. وهنا نعرض نماذج موجزة لهذه النقل قالوا. فلان خطير النفس، بعيد مرتقي الهمة، وأنه ليسموا إلى معالي الآن، ويصبوا إلى شريف المطالب، وتنزع همته إلى سني المراتب. وأنه لطلاع ثنايا (وهي الطرق في الجبال) ويؤم معالي الأمور، يجري في غلاء المجد، ويتسور شرفات العز، وفلان بنى له مجداً مؤثلا (راسخا) وتفرع (صعد) ذروة المعالي، ووثب إلى قمة الشرف، وعلى العكس من ذلك قالوا. فلان قاعد الهمة، عاجز الرأي، متخاذل العزم، لا تسموا همته إلى منقبة، ولا يدفعه طبعه إلى مكرمة، وقد استوطن مهاد الخمول، وأخلد إلى الصغار واستنام إلى الضعة، ورضى من دهره بالدون، وقعد عن ما تسموا الأمور النفوس العزيزة، وترقى الأمور الهمم الشريفة.
وفي العزة يقولون. عزيز الجانب، منيع الحوزة؛ حصين الناحية، وفلان أقام تحت ضلال العز، وبلغ عزا لا يقرع الدهر مروته ولا يفصم عروته ولا ينقض مرته، ولا يزال كعبه عاليا وهو أعلى عينا.
وفي الذلة يقولون. كليل الظفر، مهيض الجناح، ضعيف المنة (القوة)، مخضود الشوكة، مالت دعائم عزه، وتهاوت كواكب سعده، وتقوض سرداق مجده:
وفي النباهة يقولون: ذهب سمعه في الناس، وتجاوب بصدى ذكره المحافل، ورن صيته في الأقطار، وهو اشهر من القمر، واشهر من نار على علم (جبل)، وعلى الضد من ذلك: وهو خامل الذكر، ضئيل الحسب مغمور النسب، وهو نكرة من النكرات وغافل من(951/17)
الأغفال، وهو تعلوا عنه العين وتنبو عنه.
ومن باب الإيماء إلى المعالي اختيار عناوين الكتب، فللحلبي (النفحة العلوية) وللذهبي (العلو للعلي الغفار).
وإذا قال العرب: يفتله في الذروة والغارب فذلك كناية عن أن يستميله.
وهذا أبن خفاجة الأندلسي يمنح الحياة للجبل العالي، ويضفي عليه صفات الرعونة والطموح، والحركة الذاتية، إذ يقول:
وأرعن طماح الذؤابة باذخ ... يطاول أعنان السماء بغارب
يسد مهب الريح عن كل وجهة ... ويزحم ليلا شهبه بالمناكب
وهذه صورة جلمود صخر حطه السيل من علي تنعكس على حس امرئ القيس، ولا تفوت خياله وهو يرى جواده يجري في قوة واندفاع فيقول:
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من علِ
ويقول زهير:
تبصر خليلي هل ترى من ضعائن ... تحملن بالعلياء من فوق جرثم
ويتجلى طموح الذهن، وتطاول الخيال في هذا الصراع النفساني بين الواقع والمثال، حين يقول الشاعر الجاهلي القديم، وهو يتحدث عن فرسه السريع:
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
للكلام صلة
محمد محمود زيتون(951/18)
الولايات المتحدة الأمريكية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
- 3 -
ولايات متحدة:
اكتشفت أمريكا وتدفقت عليها سيول المستعمرين والهاجرين من الأسبان والبرتغاليين والفرنسيين والإنكليز، ونزل الفرنسيون في حوض نهر سانت لورنس بكندا وفي حوض المسسبي. وأما الإنكليز فقد أنشأوا عدة مستعمرات لهم على الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية، وكانت هذه المستعمرات محصورة بين أملاك الفرنسيين في حوض سانت لورنس وفي حوض المسسبي. ولم ليبث الصراع أم قام بين الفرنسيين والإنجليز، وانتهى هذا النضال 1763 بانتصار إنجلترا وطرد الفرنسيين، أصبحت إنجلترا سيدة أمريكا الشمالية.
لكن هذه السيادة لم تدم طويلا، فقد حاولت إنجلترا أن تفرض ضرائب باهظة على سكان المستعمرات، ولكن السكان رفضوا أن يدفعوا، لماذا؟ لان حكومة إنجلترا وبرلمانها فرضوا هذه الضرائب، والأمريكان غير ممثلين في البرلمان الإنجليزي. لقد نادى الأمريكان أنه لا ضرائب بدون تمثيل، وما داموا غير ممثلين في البرلمان الإنجليزي فإن هذه الضرائب غير قانونية ولا يجوز دفعها بتاتا، وحاولت إنجلترا بطريق التسويف والمماطلة المعروفة أن تحل المشكلة، ولكن سكان المستعمرات رفضوا بتاتا ما قدمته إنجلترا من الحلول، وانتهى الأفاق بقيام الثورة ثم الحرب ثم الاستقلال، وهكذا نالت الولايات المتحدة استقلالها بالثورة التي بدأت 1774.
على أو أساس تقوم الدولة الجديدة، وكيف يكون نظامها الحكومي؟ وماذا يكون مصير الولايات؟ أندمج مع بعضها اندماجا تاما وتنشئ دولة جديدة، أليه تبقى كل ولاية من الولايات مستقلة في شؤونها الداخلية، وتكون هناك حكومة مركزية تشرف فقط على المصالح المشتركة للولايات جميعا؟ طال النقاش حول هذه المسائل واشتد الجدل. لقد قاسى الأمريكان طويلا صبروا على مرارة الأذى والاضطهاد والحرمان في أوطانهم الأولى(951/19)
بأوربا، وهاجروا بعقائدهم وحرياتهم إلى وطنهم الجديد في أمريكا، ومن ثم كانوا حريصين اشد الحرص على الاحتفاظ بحرياتهم كاملة غير منقوصة. وتستطيع أم تتصور مدى النضال ومدى الخلاف إذا علمت أن سكان الجمهورية الناشئة كانوا من الإنجليز والفرنسيين والروسيين والهولنديين والبولنديين وغيرهم، ولكن خفف من حدة الخلاف أن هؤلاء المهاجرين قد اصبحوا أمريكان، (من هو الأمريكي؟) سؤال أجاب عليه مزارع أمريكي فقال: (هو أما أوربي إنها من سلالة أوربية) ومن هنا جاء المزيج العجيب الذي لا تجده في بلد آخر. . . إذ يمكنني أم أشير إلى أسرة كان الجد فيها إنجليزيا وزوجته هولندية وتزوج ابنه من فرنسية، ولأبنائه الأربعة الآن أربع زوجات ينتمين إلى أربع أمم مختلفة. إنه أمريكي، قد طرح وراءه عاداته وعصبيته القديمة، وهو الآن يتلقى عادات من أسلوب الحياة الجديدة الذي احتضنه، ومن الحكومة الجديدة التي يطيعها، ومن المكانة الجديدة التي يتبوأها.
وبلغ من حرص الولايات على استقلالها أن ولاية رود أيلند رفضت أن ترسل عنها نواب إلى المؤتمر الدستوري الذي عقدته لوضع دستور الجمهورية في فلادلفيا خوفا من أن يتعرض استقلالها للخطر إذا قامت حكومة قوية. وأخيرا انتهى الأفاق بقيام نظام حكومي جديد للجمهورية الناشئة على أساس أن تحتفظ كل ولاية باستقلالها الذاتي، وان تقوم حكومة مشتركة تدفع عن الولايات أو اعتداء وتدافع عن مصالح الدولة الخارجية، وهكذا قامت دولة الولايات المتحدة. ويشير توماس جفرسن 1790 إلى المعنى السابق فيقول (لكل إنسان، ولكل جماعة من الناس تعيش على الأرض الحق في الحكم الذاتي).
نظام الحكم في الولاية:
إن النظام الحكومي القائم في جمهورية الولايات المتحدة من أحسن الأمثلة للأنظمة الديمقراطية وأروعها، سواء في حكم الولاية أو في الحكومة المركزية بواشنطن. يعرف المؤرخون الديمقراطية بأنها حكومة الشعب ينتخبها الشعب وتعمل لمصلحة الشعب. وهذا التعريف ينطبق تماما على نظام الولايات المتحدة الحكومي.
فلكل ولاية مدير (حاكم) وهو ينتخب بالاقتراع العام، ومدة حكمه في نصف الولايات تقريبا سنتان، وفي النصف الآخر أربع سنين.(951/20)
وسلطة الحاكم مبينة في دستور الولاية، فهو يساهم في عمل القوانين بالاشتراك مع الهيئات التشريعية ويعين أعضاء كثير من اللجان، وهو رئيس الحرس الأهلي بالولاية الخ. وينتخب معه نائب الحاكم، وهو يترأس مجلس شيوخ الولاية، ويرتقي إلى منصب الحاكم إذا مات.
وحاكم الولاية رئيس الهيئة التنفيذية، ويعاونه في إدارة شؤونها كثير من الموظفين، ولكن يلاحظ أن أهم موظفي الولاية ينتخبهم الشعب. وفي بعض الولايات تعقد امتحانات مسابقة لاختيار موظفين أكفاء دائمين لمساعدة الموظفين المنتخبين على تصريف شؤون الولاية.
أما السلطة التشريعية فهي في جميع الولايات، وعددها ثمان وأربعون ولاية تتكون من مجلسين: مجلس للشيوخ وآخر للنواب، ويستثنى من هذا العدد ولاية نبراسكا، فلها مجلس تشريعي واحد. وفي معظم الولايات نجد أن عدد أعضاء مجلس النواب أكثر من أعضاء مجلس الشيوخ، ولكن مدة عضوية مجلس النواب اقل من أعضاء مجلس الشيوخ. ومهمة السلطة التشريعية إصدار القوانين ومراقبة الهيئة التنفيذية، ولكن يلاحظ أن حاكم الولاية له حق (الفيتو) أو نقض مشروعات القوانين، ويلاحظ انه لا يجوز للسلطة التشريعية أم تسن قانونا يغاير الدستور العام إنها قوانين الكونجرس إنها المعاهدات مع الدول الأجنبية.
أما السلطة القضائية فهي في يد رجال القضاء والنيابة العمومية، وجميع المحاكمات يتولاها قضاة قد انتخبهم الشعب، وفي بعض الولايات يعينهم الحاكم والمجلس التشريعي. وفي بعض القضايا الجنائية يحاكم المتهمون أمام محلفين، وهذا في الواقع مقتبس من نظام القضاء الإنجليزي، ويكون عدد المحلفين 12 عضوا، وتبدأ المحاكمة فتبدأ النيابة بتقديم دلائل الاتهام ثم تتاح للمتهم فرصة الدفاع عن نفسه، فإن لم يكن في استطاعته أن يدفع نفقات للدفاع عنه، قامت المحكمة بانتداب محام وتدفع الولاية نفقات انتدابه، ومهمة القاضي أن يفسر القانون للمحلفين، وبعد انتهاء المحاكمة يقرر المحلفون أن كان المتهم مذنبا أليه غير مذنب ويصدر القاضي حكمه طبقا لقرارهم.
ولعلك تسألني ما هي العلاقة بين سلطة الحكومة المركزية وسلطة حكومة الولاية، وكيف تقوم؟ أن الخط الفاصل بين سلطات الحكومة المركزية وسلطات حكومة الولاية ينتهي عند حدود الولاية فالمسائل الواقعة داخل حدود الولاية تخص الولاية وحدها، وليس لأحد أن(951/21)
يتدخل في شأنها، فالشعب الأمريكي يحرص اشد الحرص على ما للولاية من حقوق وسيادة.
ودساتير الولايات جميعها تشترط أن تكون السلطة العليا للشعب؛ وان ترجع إلى الشعب وتبين أغراض الحكومة، وهي الحرص على السلام والتعاون مع حكومة الولايات الأخرى على هذا الغرض وأغراض أخرى، وحقوق الأفراد مكفولة وسوء استعمالها فيما يضر بالآخرين محظورة بتاتا.
وتقوم حكومة كل ولاية بالأشراف على شؤونها الخاصة من نشر التعليم، ووقاية صحة الشعب، وتحسين وسائل النقل، والعناية بموارد الثروة وطرق استغلالها، والمحافظة على موارد الثروة الطبيعية للولاية.
وكما رأينا تقوم كل ولاية بإصدار قوانينها، ومن هنا نجد أن القوانين قد تختلف من ولاية إلى أخرى، فبعض الولايات تبيح الطلاق، والبعض الآخر يحرمه، كما أن مدة التجنيد قد تختلف من ولاية إلى لأخرى، ولكن المهم أن المبادئ الأساسية للحياة وهي الحرية والمساواة والسعي لتحيق سعادة الأفراد، تكفلها جميع دساتير الولايات ودستور الحكومة المركزية.
أما الموارد المالية لحكومة الولاية، فأهمها ما تفرضه الولاية من ضرائب على الممتلكات، وضرائب الميراث والدخل وغيرها.
ويلاحظ أن الحكومة المركزية قد تمد يد المساعدة إلى حومة الولاية فتساهم معها في المحافظة على طرق النقل وفي إنشائها، وقد تعمل على رفع مستوى التعليم بها، ويتلقى عدد كبير من الولايات مساعدات من الحكومة الاتحادية، ومقادير من المال تنفق في أغراض خاصة.
بهذا ينتهي وصف نظام الحكم في الولاية، أما نظام الحكومة المركزية إنها الاتحاد فسنتناوله بالبحث في مقالنا التالي إن شاء الله.
أبو الفتوح عطيفة(951/22)
رحلة إلى الحجاز
للشيخ مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
- 3 -
أذية الأعراب للحج:
ولما مال تبان الليل، وزاد في الشوق الكيل، تلقانا الفقراء من أهلها مبشرين بإسعاد وطول ذيل، قائلين وقد نما الليل، مسفرة يا حجاج والليالي سعود، فما أحلاها من بشارة تقود الفؤاد المفؤود إلى نسيان أتعاب للالتهاب تذود، وكان حصل من العرب بل الأعراب، بعض أذية للحج أوجبت ضياع أسباب، وبهؤلاء الخدام زال الإعدام، وجاء الإيسار والبسط التام، وعندما قاربنا المنازل المنورة، التي جلت أن تكفيها مصورة، طربت وحق الطرب، بالوصول إلى المقر الأقرب، وصبحني إخوان لهم اتصال أحب، وخلان لهم ود عن السر أعرب، ولفرط اندهاشي بمن أنا قادم عليهم من أسلاف، غبت عني كأني شربت صرف السلاف، وأنست في سرى أنسا، أنساني نفسي، وخيل لي أني انفردت عن أبناء جنسي، وأن خدام الأسلاف والجدود تلقوني رافعي البنود، فعظمت لدى ذاتي، بوافر سافر لذاتي، وامتدت الأعناق وطالت، وبهذا التلاق مالت، وأخبر بعض من بعض من كان معي، ومنهم الحاج حسن (بن مقلد الجيوسي) أن الجسم كبر وطال، في تلك الساعة وذلك الحال، وصادقة الغير، ولم أشعر بهذا المير.
الشيخ يبدأ بالزيارة:
ودخلت من باب جبريل للزيارة، وبلغ الطفل المتطفل على سادته الاماجد بها أوطاره، شرف القلب وشرق الجفن بدمعه وغرق. وزرت الحبيب بدمع صبيب، (ومن زار مرقده، وجبت له الشفاعة) كما رواه البيهقي وأبن عدي في الكامل. وعنه صلى الله عليه وسلم (من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني لا يهمه إلا زيارتي كان حقا على الله أن أكون له شفيعاً يوم القيامة) و (من لم يزر قبري فقد جفاني) وعنه صلى الله عليه وسلم (من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة).(951/23)
(وأتيت الروضة وصليت ركعتي التحية، أعددتهما من المنة لحديث (ما بين بيتي ومنبري وروضة من رياض الجنة) وروى البيهقي من حديث جابر أنه قال (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في ما سواه إلا المسجد الحرام في ما سواه إلا المسجد الحرام، وشهور رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر رمضان في ما سواه إلا المسجد الحرام).
(ثم نهضت ثانية لزيارة المرقد العظيم، مواجها للوجه الكريم، قائما بين يديه، مكثرا من الصلاة والتسليم عليه، وقرأت في المقابلة آخر براءة وآية (ولو أنهم ظلموا أنفسهم الآية) وكررت طلب الشفاعة، وعممت الدعة لحاضر وخاطر بالبال من أولاد وعيال وإخوان، ألحقت سائر الأمة الحميدة.
(وبعد أداء ما يلزم في هذا المقام، توجهت لدار قرب باب السلام، استأجرتها للنزول فيها، كيما مواطن الوحي يصافيها، وفي ثاني يوم في الصباح قصدت سكان البقيع، وبعد زيارة سيدي عثمان، عطفت على زيارة أغلب المشاهد، وعنه (يا أم قيس أترين هذه المقبرة، يبعث الله منها سبعين ألفا يوم القيامة على صورة القمر ليلة البدر). وكريت على زيارة سيدي العباس عم سيد الناس، وأخيه سيدي حمزة.
(وفي اليوم الثالث من هذا المقر المدني، بعد أداء فرض العصر، ودعنا الحبيب الأعظم، وأنشدت في السر قول أبن عباد:
فارقت طيبة مشغوفا بطيبتها ... وجئت مكة في وجد وفي ألم
لكني سررت بأني عند فرقتها ... ما سرت من حرم إلا إلى حرم
وبتنا على الأبيار، وأولجنا إلى القبور الشهدا الأخيار، ومنها إلى (الجديدة) التي لصوصها غير مؤيدة، وعرب وحرب، من لهم المعرفة في الحرب، هم حيات تلك الأرض، وحياتها في طولها والعرض، فلو قطع دابر أعيانهم، لخف فرط هيجانهم، ولله تعالى خفي مراد، فيما قدر وأراد، فإن شرهم الآن في زيادة، نمت على العادة، يريدون بوفد الله أمراً. ويأبى الله إلا ما أراده وسرينا إلى (حنين) و (بدر). ووفد للسلام المحب الفالح السيد محمد صالح نجل العالم المفرد الشيخ محمد الخليلي، وفي (رابغ) أحرمنا وفي (قدية) لم نطل الإقامة، ونزلنا (عسفان) والحر آذى الوجوه البسامة، ومن أوقعته في حبالها وأرضعته ثدي خبالها،(951/24)
صديقنا الأواه، الشيخ نور الله، وفي فم وادي فاطمة، دفن وأمواج الهم متلاطمة، وهنيئا له كل حين فإنه يبعث في الآمنين لحديث (من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة) فإن قالت الوادي ليس من الحرم، قلت ما قارب الشيء أعطى حكمه، وقد دفن فيه على يمين الوادي بالنسبة للغادي. وما أحسن قول المحيوي مروي الصادي:
عرج ففي أيمن الوادي خيامهم ... لله درك ما تحويه يا وادي
ودخانا مكة المشرفة عقب العشاء، وزرنا أهل باب المعلا، ونزلنا دارا للشريف يحيى بن بركات فحصلت لنا بها مسرات وبركات، وبعد إتمام الزيارة، ورفع مسدول الستارة، والفوز بمشاهدة البيت المعظم، والحوز على طواف القدوم، عدنا لصلاة الجمعة، ولما أذن المغرب سرنا إلى المعرف المطرب، ووصلنا انتصاف الليل، والحاج يسيل إليه كالسيل، ونزلنا لصاق خيام، كبيرة ودائرة وإحرام، وبعد الوقوف في صفوف، أهل الشفوف، والتمتع بمعروف ذلك اليوم المعروف، وما قلق القلب الطروب، فيه إلا وقت الغروب لأنها كانت ساعة جماعة، لقلوب أعيان للأكابر لساعة، تفتق الجيوب وترتق فتق الغيوب، تطهر من العيوب. وفي الحديث (لو يعلم أهل الجمع بمن حلوا لاستبشروا بالفضل من ربهم بعد المغفرة) وبعد أن جمعنا جمع التقديم، وحصل للمؤخر همع جمع التقديم، وقفنا الأرواح على المواصلة، لما وقفنا لاستقبال الإمدادات الحاصلة، وأكثرنا من التلبية والدعاء، عاملين بحديث (من أصبح يلبي غابت الشمس بذنوبه) وعنه (ص) (إذا كان عيشة عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا غفر له) قيل يا رسول الله أهل عرفة خاصة، قال بل للناس عامة. ودخل الليل، وختمنا الموقف بدعوات عامة، وهب صبا الرضا والقبول أقمنا في (المزدلفة) إلى مضي زلف من الليل لا زلفة، وحين اعتدل ميزان الليل، شمرنا الذيل، وفي (منى) بعد رمي الجمار دخلنا مكة المكرمة قبل الغروب، واجتمعنا بمكن معنا في دار الشريف، وأتيت البيت المعظم لطواف الإفاضة، وتضلعت من كاسات زمزم. ولم ادع النزول إلى حرم الحصول، إلا من شدة وهج يؤذي المهج، أو غلبة نوم، وكان جاءني محب ملهوف بأخذ الإجازة، فأجزته وأهديته نسخة من ورد السحر المعروف، فتوقف في بعض من محلات منه تنوف على الخمس، فأريته الشرح الكبير، المسمى (بالضيا الشمسي على الفتح القدسي) فزالت الإشكالات، وقرأ إخوان من جماعتنا الورد(951/25)
المذكور في الحرم الشريف، وكنت أطوف على البيت الموصوف بالجمال، ونجلس في المواجهة في أول الصفوف، ونسمع نغمات الطائفين من سائر الصنوف. وقد أغرب إذ أعرب الفاروقي مجدد ما بعد سابع الألوف، فجعل الكعبة زادها الله شرفا على غيره ينوف.
مدرسان من الحرم يطلبان إجازة من الشيخ البكري:
(وجاءني رجلان من أهل التمكين والعيان، وعرف كل واحد الآخر أنه من مدرسي الحرم المصان، وطلبا إجازة في حديث الأولية فأسمعتهما الحديث الشريف، وسأل أحدهما وهو المدعو بالشيخ محمد التكروري، عن الأسماء الأهلية، فأشر للأخ الأمجد الشيخ أحمد الموقت، فتكلم معه، فعرف أنه عارف نوري. ثم قال للفقير بلغنا أنكم تطالعون الفتوحات المكية فهل يمكنكم شرحها حرفا حرفا؟ فبدت الناجذ استعجابا من كلامه، وقلت له لو حاولت فهم ظاهر ألفاظ الخطبة لأعجزتني قطفا، فكيف ببحرها الذخار، فقال فيكم بركة. ثم ودع ورفيقه وسار، فسألت عنهما فأخبرت أنهما من أكابر المدرسين الآن. واخبرني السيد محمد التفلاتي أحد الأعيان في السفرة الثانية للروم بما قدمته فتحققت أنه وحيد زمانه. وقلت للمذكور عن سؤاله الثاني، فقال ما سألك إلا وهي متحقق أنه يمكنك من حيث الفضل الرباني.
(وأخبرت عن رجل مغربي مواطن، في الحرم الشريف قاطن، مراده الحج والعودة للبلاد، يدعى الشيخ إبراهيم من نسل سيدي عبد السلام بن مشيش صاحب الصلوات، وحدثني مادحه أن المشار إليه ما نزل المدية أقبلت أهلها عليه، وانقادت له أكابرها لما السيد قبله، وسعت إليه على الآماق إذ بجواره أنزله، وقال إنه إذا جاء للمواجهة، لا يدري بمن حاذاه وبمن واجهه، وما في المدينة المنورة بيت إلا وقد أتقد مصباحه دون زيت، فسرت لزيارته مع الصادح راغبا في دعوة صالحة، ونظرة مخصوصة تجعل النفس للقرب صالحة، وصحبني الأخ النبيل الشيخ أحمد فرأيته في جهة باب السلام مستقبلا بيت السلام، فبادرته السلام، فسر السرور التام، ولم نطل الإقامة لئلا نشغله عن طلبه، وطلبنا منه قراءة الفاتحة، والسؤال لنا من ربه، حال مواجهة بيت ربه. وطفت طواف الوداع، وطفت الدموع على الخدين تذاع.
الرجوع من الحج:(951/26)
وفي سحر ليلة الجمعة بعد أن كررنا طواف الوداع برزنا إلى الشيخ محمود، وما زلنا بعده نرحل منمحطة إلى محطة إلى أن أتينا على قبور الشهداء، وبادرنا الزيارة.
وفي الحديث (من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتب له حجتان مبرورتان) رواه الديلمي عن ابن عباس. وغب التحية أديت ركعتي التحية، وعجلت الرجعة إلى المواجهة وقرأت قوله (وعجلت إليك ربي لترضى).
(وبعد ما زرت سيد الشهداء، على بعد مسافة، دخلت قبة أخيه العباس، وما برحت أتردد من الحرم إلى الدار المعهودة، لاغتنام بركات إمدادات لا يشار إليها مقصودة، وجاءني فيها عالم تقدير، جناب الشيخ محمد الدقاق وهو مغربي واخبر أن السيد الأعظم امسكه في جواره وأنعم عليه بدنوه من نزله وقرب داره، وذكر اشتياق النفس لمهجة أكباده من أولاده، وطلب فاتحة بوصولهم إليه في هذه البلاد، دون بلاده، فأجبناه رغبة في دعوة منه صالحة، وأخبرت أنه بعد ذلك نال مطلوبة وقضى الحق مصالحه، ووفد بالمذكور على رجل يدعى عبد السلام، فشكرت صنيعه ورجوت له العفو التام، وذكر لي الجامع بهذا الجامع رجلا شريفا مهل لي من باعلوي يدعى الشريف علي، فقلت له سر بنا إليه، نغتم دعاه وأشياء مما لديه، وكانت هذه الجمعية بطراز العصابة الألمعية، مباركة المبدأ والآخر لاشتمالها على ذكر سادات حوت في المفاخر، وذكر السيد المشار إليه، أغدق الله نعمه عليه، أن بعض أشياخه ممن يشرب من نقاخه، ضمن بيتين لبعض السادة، في قصيدة وقيد إفادة، وهما:
إذا لم نطلب في طيبة عند طيب ... به طاب طيب الحان أين نطيب
إذا ما استجاب الله منا دعاءنا ... لدى أحمد المختار أين يجيب
ولقد أكرمنا غاية الإكرام، وتلطف بنا في الصحبة، وبعد ما عدت للمحل المحلي، تأملت فيما علي من فوائده أملي.
(ولما عزمنا على الوداع القطيع، وقد أثر في القلب القطيع، وألمع فيه سيوفا وأسنة، حتى امتلأت بها الأفئدة والأجنة، وعدنا بعد العشاءين من المحل الخارجي عن المدينة، لأجل الزيارة والوداع ثانية بنفوس مدينة، وبعد الصلاة في حضرة الجمع والوجود، ووداع ينبوع الهمع واللمع والجود، أتينا نسيئة النفس ونقد العين، على فراق روح الروح، وعين العين(951/27)
في العودة على طريق الحج:
وفي صباح ذلك اليوم الخطير سرنا إلى (الجرف) بطرف مطير، واللب منا أسير والقلب ذاك كسير، وما زلنا نطوي بسط البيد أي طي، ونزوي هموم الفراق عند الأحباب أي زي، إلى أن وصلنا مناما أسنى هدية صبيحة الرأي الصائب المصان، جناب سليمان باشا أحد أعيان وزراء آل عثمان، أثابه الديان.
اجتمعنا يوم الثلاثاء العاشر من المحرم، بالجردة، فكان يوم الاجتماع لدينا معظم، وأقمنا فيها كالعادة، وسرنا طالبين الرحاب للاستفادة، وكانت المكاتبات الواصلة حركت ساكن الأشجان، وتقدمنا نسير مع الشعارة، لما اتبعنا مع الحج أهل الذعارة، غلمانه المطلقين اللسان، بالسب لسفاهة برأي وعدم إحسان، فحصلنا وإن خاطرنا راحة، من منازعتهم لم تدخل في راحة، وصرنا نخب العلا ونحب الخلا لما حلا، إلى أن وصلنا (العلا) وأقمنا يومين. كانا في البسط مثل تؤمين، وأتينا (المدائن) وأقربنا منها أفازة مثلثة، إذ أمامنا الدار الحمرا، النازحة المياه، فكانت للهلكات محدثة، وكان يوم الوصول إلى (المعظم) مهول، نهبت فيه المياه المعدة، وتلفت فيه أنفس لها عدة. ولم نقم في هذه المحطة المضرة بالحجاج، إلا مقدار ما له فيها نحتاج، وأسرعنا إلى (المنزل الأخضر) فوصلناه قبل الفجر بوجه أنضر، وأقربنا منه أفازة المغائر، ولم يروي ركب الحج السائر، إلا لدى قلعة (جفيمان) التي عمرها الوزير المعان، جناب عيد الله باشا أمير حجنا الشامي قبل عامنا، وسرنا إلى منزلة (معان) والحق بجوده أعان، وأقمنا في (الحسا) يوما لعمارة جسر مهدوم، ويوم دخولنا على (الزرقا) والفؤاد مكلوم، ونحن في المحفة كؤوس المسرة نسقى وفي بحرها نعوم، ورد على اللسان مطلع مقيد، فسمعه الأخ الحاج حسن (بن مقلد الجيوسي) فانجلت غيوم، ثم تبعه آخر وثان وثالث، فطلب إثباتها لئلا تنسي ومطلع القصيدة:
سمعت حديثا يجلب البسط والصفا ... فهيج شوقا للقا كأسه طفا
(وجاء كثير ملاقيه، بالفواكه المنوعة الشامية، فحركت ساكن أشواق، وجاءت أهل (جورة حوران) بالماء كل الطيبة التي لكم جوع مضى في المفازات مطيبة، فأكلنا بنهم فرحا بوصال قرب ديار، وشربنا من ماءها العذب وجزنا سراعاً إلى (المفرق) وحزنا طربا من القدم إلى المفرق، وجاءنا بعض إخوان سوابق عهد ومحبة، فسرنا القدوم لننشق أخبار(951/28)
منازل علت منه الرتبة، وكان صحبنا الأخ الفاضل الأني، خليفتنا الشيخ محمد المكتبي، وهذا الأخ اسمه مسطور في الرحلة العراقية ناويا زيارة الديار القدسية، وتجديد آثار الصحبة المؤسسة، ومن هذه المحطة توجهنا إلى قرية تسمى (أصيلة) وبتنا بها والأنس بها حائق، ومنها ترحلنا إلى (طيبة بني كنانة) ونزلنا (الصما) لما امتلأت بسهام المواصلة الكنانة، وبتنا بليلة طيبة، وفي الصباح شددنا على النوق، وقطعنا وادي العرب، ونحن في سرور وطرب؛ ومررنا على (جسر المجامع) فلم ننزل الليل عند (عيون القصب) وبعد ما زال النصب شمرنا ذيل السير حيث انتفى الوصب، ونزلنا على (الجالوت) حصة، أذهبت على الفؤاد غصة، ودخلنا بملاقية بني صعب وجبل نابلس صباحا (جينين) وعندنا للأوطان حنين، وتوجهنا صحبة رفاق إلى قرية (كور) وبتنا بها ليلتين نسقي من علها ونهلها، وأوصلنا الذي أخذناه من أهلها لأهلها؛ وتوجهنا صحبة من معنا إلى الديار المقدسة؛ والآثار التي على الأنوار مؤسسة، وبتنا في (الزاوية) التي للهموم بالسرور زاوية، وقام بخدمتنا رضوان؛ فارتحنا راحة من رأى رضوان؛ ومنها إلى (بيتونيا) ولم نتجاوز لها حدا؛ وفي الصباح أقبلت الوجوه الصباح؛ ولم ندر لهم عدا!.
(وحصل يوم الدخول والحصول، في منازلعزت عن الحومل والدخول من البسط المقبول؛ لا سيما بملاقاة ثمرات أكباد، وقلت بعد الصلاة في الحرم الشريف مني تحية.
(وبعد الإقامة في نزل السلامة، وورود الأحباب، مهينة بنيل الآراب؛ وردت الكتب المشرفة من الأصحاب والأنساب، مبشرة بتحصيل ما لم يكن في حساب؛ وسطرت ما ورد منهم والجواب (في الأردان) فانظر هناك تر العجاب >لأني لم اختم تأليف هذا الكتاب إلا سنة خمسين. لما توجهت ثالثا لتلك الرحاب؛ على طريق مصر القاهرة بمعونة رب الأرباب.
(تمت الرحلة)
أحمد سامح الخالدي(951/29)
رسالة الشعر
عتاب.!
لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا
(1)
تجهمتني! فيم التجهم خبري ... وأضويتني حتى لأشفيت؛ فانظري
أنزوة حب أم ملالة بغضة؟ ... فإن تك صدا؛ قلت يا نفسي اصبري
وإن كانت الأخرى فأنتن هكذا ... خلقتن كالدنيا، تبيع وتشتري
فلستن من حواء أن لم تسمننا ... تلون ضوء الماسة المتغير
بعثت بأشجاني إليك وأدمعي ... تقلن احفظي ميثاقه وتذكري
تطير بها كتب كأن سطورها ... نفاثة طرد صاخب متسعر
فما بالها هانت؛ وكانت إذا هفت ... لك الكثب قرت فوق صدر معطر
عجبت لجلمود من الصخر نابض ... بأعطاف أملود من البان معصر
وللحسن في أبهى حلاه مثلما ... بسمت ربيب الغابة المتنمر
خبرتك في يومك، يوم التنكر ... ويوم رضاك الساكب المتفجر
وما كنت إلا فتنة شبح سحرها ... وأغرادها النشوان بعض التوقر
وما كنت إلا الراح مرا وكوثرا ... لكل مذاق سائغ المتحدر
ولست وإن أخلفت ودك منكراً ... سموقك، إن الحر ليس بمنكر
(2)
تنكرت لي يا منية النفس والنوى ... ترامي بمرمى الجوانح وامق
بأي دقيق في الذنوب أخذتني ... وأي جليل في الهنات الدقائق؟!
أبذلي حمى نفسي لديك موطئا ... وحبيك حبي خالقي. وهو خالقي؟!
أبالطارقات الصم يهززن مضجعي ... ويغشينني باللافحات الحوارق؟
أبالجهد موصولا؛ وبالدمع ساكباً ... وبالسهد حتى قد رثت لي نمارقي؟!
أبالعهد قدسا والوفاء منضرا ... وإن وفاء الناس إحدى الخوارق؟!(951/30)
وعاتبني صحبي وقالوا أعاشق ... وهذا شعاع الفجر ملء المفارق؟
وقالوا ألم تقسم يمينا غليظة ... ألم تملأ الدنيا بضخم المواثق؟!
فقلت وهل تلحي قلوب ظمية ... هفت لقلوب ظامئات شقائق؟!
وقلت؛ متى رد المقادير قادر ... فأقوى على دفع القضاء الملاحق؟
لقد طالعتني كالصباح فبددت ... جواشن أحداثي؛ وسحب بوائقي
وصبت أساكيب المنى في خمائلي ... وروت بصهباء الرجاء حدائقي
تنكت لي فارعي شكاتي وأنتي ... إليك تهدى في دموعي السوابق
فديتك؛ قولي هل طريق أخوضها ... إليك؛ فقد سدت على طرائقي
وعودي يعد للعين لألاء نورها ... فقد ضربت في نافر الصبح غاسق
وعودي أذق أمن الحياة وروحها ... وأنع برغد وأرف الظل باسق
وأنشط لأعناق المنى ثابت الخطى ... خفيفا فهذا البحر قد آد عتاقي
سلمت على الأيام مخضلة الصبا ... يرف رفيف الطل فوق الشقائق
ولا زلت ري الحسن مملوءة الحمى ... يطيف به يأس القلوب الخوافق
وميلت بالنعمى، وبدلت رحمة ... وعدلا وأعتابا بهذي الخلائق
بدجشتين
عزيز أباظة
من وحي رأس البر:
رحلة السماني!
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
(مهداة إلى الشيخ المحترم سعد اللبان بك رائد ندوتنا برأس
البر)
كتائب الطير: سيري ... وأقبلي يا سماني(951/31)
وبشرينا بجو ... قد عز عن أن يدانى
حوى الجمال فنوناً ... بها نهيم أفتتانا
سبتمبر حين وافى ... طابت به دنيانا
الصيف فيه بديع ... يا سحره إذ حوانا
يا ليته طال حتى ... نفني به الأزمانا
فلا نرى غير ظل ... ذقنا لديه الأمانا
سائل لدى البحر رأسا ... للبر يحكي الجنانا:
الأفق ضاح فسيح ... للعين ألقى العنانا
لا ناطحات سحاب ... نهيا بها أجفانا
ولا ضجيجا بمدن ... ولا عجيجا طوانا
الجو صحو جميل ... من راحة قد سقانا
والبحر حلو رخاء ... في رقة يتدانى
والنيل عذب فرات ... قد صب فيه الحنانا
وللسان حديث ... يروي الهوى عن هوانا
ضم الحبيبين لحناً ... فأسمع به الألحانا
وللنسيم عبير ... ننسى به الأشجانا
وتسبح الروح فيه ... تستلهم الوجدانا
فلا نرى غير سحر ... مفصل ألوانا
يعبر الصمت عنه ... إذا أردنا البيانا
فنستكين إليه ... وترهف الآذانا
ونبصر الروح نشوى ... وما شربنا دنانا
عصائب الطير: سيري ... وحلقي في الفضاء
وحدثي عن ليال ... سبحتها في العراء
في رحلة. . كل خطو ... منها نذير الفناء
لموطن حين نادى ... رآك رمز الوفاء. .(951/32)
ماذا دعاك لطير ... يا جار الغرباء؟
وما الذي ينتويه ... في السير راعي اللواء؟
أمخلص للرعايا ... وحاذر ذو دهاء
وخاتل صائديه؟ ... أم خامل ذو غباء؟
يا ويحها كل عام ... من صيفها والشتاء. .!
ترى: أشاقتك دار ... فسرت في كبرياء؟
لم تأبهي وجه موت ... أو تفزعي من بلاء؟
في الجو طرت الليالي ... من دون زاد وماء
لم يغتمض لك جفن ... أو تشعري بالهناء
البحر تحتك غول ... مستوفز للقضاء
وللصحاري فحيح ... من وقدة الرمضاء
فإن أويت لبحر ... لقيت موت الظماء
وإن هبطت برمل ... شواك أقسى شواء. .
ما بالها وهي تسري ... وديعة كالظباء
يحدو سراها رجاء ... في عالم ذي صفاء
تنجو به من كلال ... لاقت ومن إعياء
ترى الشباك أقيمت ... سفاكة للدماء؟
يا للضعيف نراه ... ضحية الأقوياء. .!
كتائب للطير: أهدي ... تحيتي وثنائي
شهرين رهن انتظار ... أن تقبلي بالرجاء
لموسم أنت فيه ... للروح أشهى غذاء
طالعتنا بليال ... ما مثلها في الصفاء
فإن أضع فيك شعري ... فذاك بعض الجزاء
في كل عام دعانا ... للرأس داعي الولاء
(الرأس) مصطاف قلبي ... ومتعتي ودوائي(951/33)
مهما لقيت لديه ... من جفوة أو غلاء
لنا به ذكريات ... تندى بطيب الإخاء
وحلبة تتهادى ... بصفوة الأدباء
في ندوة وجه (سعد) ... قد زانها بالضياء
تفيء روحي إليها ... في الصبح أو في المساء
فأنهل الوحي سحرا ... يحلو لديه غنائي
طيري لنا يا سماني ... وحلقي في سمائي
وإن تعبت فقري ... واستوطني أحشائي. .
ترى بها خير دار ... لنازح الدار ناء
فإن أبيت جواري ... أو خفت طيف اعتداء
أطلقت سربك توا ... لتسعدي بالفضاء
فما عرفنا بسوء ... يوما ولا إيذاء
ولا نصبنا شباكا ... معاشر الشعراء.
محمد يوسف المحجوب(951/34)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
معالي الدكتور طه حسين باشا:
تلقيت البلاد يا معالي الوزير، بعد رحلتك في أوربا، فرحة مستبشرة، لما انطوت عليه نفوس أهلها من العرفان لفضلكم في نهضتها التعليمية التعميمية، مطمئنة إلى أنكم مواصلون ما أخذتم على عاتقكم من هذا العمل التاريخي الجسيم.
وعدت ألينا أيها العميد العزيز بعد الصيف الذي يحكم علينا دائما أن نتراخى، وقد نهرب منه إلى هنا وهناك، ولا نستطيع على رغم ذلك أن نهمل دعاء الحياة إلى مشاغلها وأهدافها، ولكننا اعتدنا أن نؤجل الكثير من الأعمال ريثما تذهب حدة القيض ويأتي بعدها ما يتقدم بنا إلى موسم النشاط.
عدت ألينا في بداية ذلك الموسم، ونشطت في نفوسنا آمال الجماعة التي جريت على العمل لخيرها، فأهلا ومرحبا بك أولا، أما ثانية فلدي أحاديث شتى في مسائل التعليم وشؤون الأدب والأدباء، أحب أن أحدثكم بها، كما اعتدت أن افعل في أحيان قدومكم من أسفاركم الموفقة المثمرة، وأنا اشعر أني بذلك اقدم لكم تحية قدومكم ألينا، وهي تحية عجيبة لما تنطوي عليه من الطلب، مما لا يكون عادة في التحيات الطيبات، ولكني مصر عليها، ومن حسن الحظ أني أتوسم إيثاركم إياها على التحايا الخاليات المخليات.
تغلبت يا معالي الوزير على العقبات المالية في تسيير التعليم ونشره، فكافحت ضيق الميزانية، وحاججت وزارة المالية، لتعليم الشعب كله، ولو رجعنا إلى بدء عملكم في سبيله ذكرنا ما كان يقال بل ما كان يخامرنا من الإشفاق. كان يقال أما تسرفون في التصريحات وفي الأمل، وكنا نشفق من وعورة الطريق. وأصبحنا الآن لا نستكثر على همتكم شيئا ولا نشفق عليكم من المطالبة حتى بالمستحيل. .
تغلبت على العقبات المالية، فأدنيت ثمار التعليم من الجميع وأنت الآن بصدد تنظيم الشكل، ولكن هناك وراء ذلك كله اللباب. . وهو روح التعليم ومادته وطريقه. هناك المناهج المكتظة بما يثقل ولا يجدي، والخالية مما يفيد، وهناك الطريقة الآلية التي تعني بالتلقين والاستيعاب دون الهضم والامتصاص والتمثيل.(951/35)
وأنتم حينما تأخذون في هذا السبيل المؤدي إلى تقويم مناهج التعليم وبعث الروح فيه، ستعترضكم عقبات من نوع مغاير للعقبات المالية، هي عقبات في عقول المتولين المباشرين لشؤون التعليم، أعني حفظ النظم الجامدة، وورثة الأساليب الاستعمارية، أعني من هؤلاء وأولئك الجامدين والتافهين، الذين يعدون المناهج، ويؤلفون الكتب ويفتشون على المدرسين. . الخ.
لقد أطللتم على تلك الناحية من الإصلاح، من خلال التشريع الذي أعددتموه لإلغاء امتحان النقل بالمدارس، ولكن هذا لا يكفي، بل أنه لا يتفق مع المناهج والطرائق الحالية، بل مع تلك التعليقات، لأن إلغاء الامتحان مع بقاء ذلك لا ينتج غير كسل المعلمين وجهل التلاميذ.
إنك يا معالي الوزير الأديب عقلية جديدة على وزارة المعارف، وأقول لك - وقد حرضتني أو شجعتني على مثل ذلك - إن اكثر معاونيكم في الوزارة ليست عقليتهم من جنس عقليتكم، وإنما هم يحترفون وسائل الوصول، وإن سحب هؤلاء حولكم تحجب كثيرا من العناصر الصالحة.
وادعوا الله مخلصا ألينا يوفقكم ويعينكم على التغلب على العقبات العقلية، كما وفقكم وأعانكم على العقبات المالية.
وبقية حديثي إليكم هذا الأسبوع، يا عميد الأدباء، في مسألة تخص أحد إخواننا الأدباء، وهو الأستاذ عبد الله حبيب، فقد أصدرتم قبل سفركم إلى أني قرار بترقيته إلى (مراقب مساعد) في الإدارة العامة للنشاط الاجتماعي والرياضي، وحدثت قراء الرسالة إذ ذاك بهذا الصنيع الكريم لأديب قضى في خدمة الأدب العربي قرابة ثلاثين سنة، وعرفه قراء العربية ناقدا ومحققا وقاصا بارعا وعددنا ذلك مما جريتم عليه في مودة الأدباء وخدمتهم سواء في الوزارة أو في خارج الوزارة.
وكان المفروض ألينا يأخذ ذلك القرار الكريم طريقه إلى التنفيذ من مكتب المستشار الفني لوزارة المعارف، ولكنه قبع في هذا المكتب ولا يزال قابعا حتى كتابة هذه السطور. ولست ادري أنسيته سعادة المستشار؛ أم هو يحبسه لغرض لا نعلمه. الأنوار الذي أنا على يقين منه ألينا معاليكم أصدرتم هذا القرار لينفذ ويعمل به.
وتفضلوا معاليكم بقبول خالص المودة ووافر الإجلال.(951/36)
جغرافية البلاد العربية:
ذكرت من قبل في توصيات اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، أن هذه اللجنة أوصت أن تخصص الجامعة جائزتين لتشجيع التأليف تمنحان سنويا، الأولى لأحسن كاتب عربي علمي أو أدبي يخدم فكرة تتصل بتحقيق أهداف الجامعة العربية العامة، والثانية لتكليف مؤلف عربي أو اكثر بوضع كتاب يستكمل وجها من أوجه النقص في مجال التأليف العربي المتصل بدراسة الحياة العربية وإنتاجهم الفكري وحضارتهم.
وقد جالت بخاطري ناحية من نواحي النقص في التأليف تنطبق عليها الفقرة الأخيرة التي تتضمن الجائزة الثانية، تلك هي (جغرافية البلاد العربية) التي لا توجه إليها العناية الكافية في التعليم عندنا، وهي أيضا مثل من أمثلة النقص في برامج التعليم الذي أشرت إليه في الموضوع السابق الذي وجهته إلى معالي وزير المعارف. وأذكر أن توصيات المؤتمر العربي الثقافي الأول تضمنت وجوب العناية بجغرافية البلاد العربية، ولكنا لا نزال نهمل هذه الناحية، أو نحن لا نوليها حقها في معاهدنا، وأقول في هذه المناسبة أن برنامج التعليم في مصر وفي سائر البلاد العربية لم تفتح أبوابها بعد لتوصيات المؤتمرات واللجان الثقافية، كما تبين ذلك من مناقشات المؤتمر الأخير، على رغم أن وزارات المعارف بالدول العربية تمثل فيها، وعلى رغم الخطب الطنانة الرنانة التي تلقى بها!
أليس من المخجل أن يطوف مدرس الجغرافية بتلاميذه العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا دون أن يعرج على البلاد العربية التي مصر جزء منها فيعرفهم على ما اتفقنا على تسميته (الوطن العربي الأكبر)؟ والى ذلك الإهمال المعيب في تعليم الجغرافية في معاهدنا يرجع جهلنا الفاضح بالبلاد العربية، وقد كان هذا الجهل مطبقا قبل أن تتناول الصحف المسائل العربية المختلفة التي أثيرت في السنوات الأخيرة. واذكر مثلا أن سلطان الحج زار مصر منذ سنين وكتبت عنه الصحف، ولم نكن نعلم قبل ذلك أين لحج هذه التي يزورنا سلطانها!
وبعد فليت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية تبدأ بهذا الموضوع في تكليف من يؤلف للجائزة الثانية.
وأعتقد أن خير من يقوم بهذه المهمة الدكتور سليمان حزين بك المدر العام للثقافة بوزارة المعارف، وإن من وضع الأمور في مواضعها أن يسند إلى هذا الأستاذ الكبير الذي برع(951/37)
في فنه الجغرافي، والأشراف على تعليم الجغرافية أو الارتفاع به في وضع مناهج للمدارس والتأليف فيها، فإن ذلك أجدى من اشتغاله بمواعيد حضور الموظفين وانصرافهم بإدارة الثقافة وما إلى ذلك من الشؤون البعيدة عن أستاذيته.
كلوا وأعملوا:
شغلت الصحف في الأسبوعين الماضيين بأنباء المواطنين الذين اضربوا عن الطعام واعتكفوا بنادي الكتلة الوفدية، طلبا لإلغاء معاهدة سنة 1936، وأخذت هذه الحركة شكلا جديا وطنيا، لاهتمام الصحافة ولتأييد الكثيرين للمضربين، وقد تألفت لجنة لهذا التأييد. وأرادت الحركة أن تكبر حينما دعا الداعون جميع المواطنين إلى الإضراب عن الطعام يوما من الأيام. .
كان ذلك فعلا مظهرا من مظاهر إرادة الشعب للتخلص من هذه المعاهدة التي يشعر إنها من نكد الدنيا عليه. ولكن الحق أنني لم استسغ هذا العمل أو بتعبير أدق (اللاعمل) مع احترامي للدوافع الوطنية التي دفعت هؤلاء المواطنين إلى هذا الإضراب وتقديري لقدرتم على مشقة الحرمان.
الإضراب عن الطعام وسيلة سلبية الغرض منها حمل الآخرين على عمل معين، يلجا إليها الأطفال مثلا للإعراب عن غضبهم كي يحملوا الأمهات والأباء على إجابة رغباتهم؛ وكثيرون من الأباء والأمهات يقفون موقف الحزم من أولادهم الغاضبين على الطعام لكيلا يعتادوا ذلك. . ويلجأ إليها بعض الوطنيين كي يحركوا الضمير الإنساني العام الذي دلت الحوادث على فقده. . أو ليحملوا مواطنيهم على الاتفاق في وجهة وطنية معينة، وكان هذا غرض (غاندي) من صومه.
ولست أشبه مواطنينا الذين اضربوا، بالأطفال، وإنما ذلك من باب استيفاء الصور الواقعة، وقد علمنا أن الضمير الإنساني لا وجود له، بدليل أننا لم نكسب بإضرابهم، ولم يكن ينتظر أن نكسب لو متنا جميعا من الجوع، أي عطف أو تأييد من آية دولة من الدول، في آية هيئة من الهيئات العالمية!.
أما التشبيه بغاندي فلا موضع له، فكلنا - حكومة وشعبا متفقون على وجوب إلغاء المعاهدة، فلا معنى لذلك الإضراب إلا المطالبة بالإلغاء قبل الدراسة الكاملة للموضوع، ولن(951/38)
يهمل الموت المضربين حتى تتم هذه الدراسة، فتكون النتيجة الانتحار.
ذلك كله على فرض الإضراب عن الآكل وسيلة سليمة، ولولا المشاعر الوطنية التي دفعت أولئك الذين أضربوا، لوصفت هذا العمل بالصفات التي لا تسرهم. وما أشد حاجتنا إلى العمل الإيجابي لخير وطننا، واقل ما نحتاج إليه لهذا العمل أن نأكل لنقوى.
إن هذه الوسيلة السلبية الهزيلة لا ينبغي أن يشجع عليها بالنشر، ولا ينبغي أن تؤيد بالخطب وتأليف اللجان، ولا بأي نوع آخر من التأييد، إلا إذا جاز التشجيع على الانتحار وتأييده!.
والمسألة كلها إنما كانت بالتشجيع والتأييد. . وليس جديراً بهما إلا من يأكل ويعمل.
عباس خضر(951/39)
البريد الأدبي
النقد والشعر:
كتب الأستاذ سامي أمين في عدد الرسالة الماضي كلمة بهذا العنوان تعقيبا على كلمة لي عن ديوان: (أ، فاس محترقة) للشاعر المصري محمود أبو الوفا.
وكنت أحب أن أجد في كلمة الأستاذ سامي أمين ما أناقشه إيضاحا لرأيي الفني في الشعر - فأنا لا أحب إهمال آراء الناس وعدم الاهتمام بها - ولكنني أسف لأنني لا أجد هنا رأيا فنيا صالحا للمناقشة. إنما أجد تهجما ينقصه الاتزان والجد واللياقة: أولا: على صاحب أنفاس محترقة حيث يقول الكاتب: (هذا الهذيان المطلق الذي لا تربط بينه قافية واحدة ولا فكرة واحدة وثانيا: علي أنا حيث يقول: (فيريد الشعر بهذا الشكل المشوه الممسوخ) ثم باتهامي بالمحاباة لمجرد أن الشعر مصري!.
وقراء الرسالة الذين يعرفونني أكثر مما يعرفني السيد سامي يعرفون أن المحاباة وفكرة القومية المصرية الضيقة هما آخر تهتمين يمكن إلصاقها بي!. أما ذوقي الأدبي كناقد فني فأمره متروك لهؤلاء كذلك!.
وأنا أعتذر للسيد سامي أمين إذا لم أجد فيما عرض بعد ذلك شيئا أناقشه؛ فهو مجرد ذوق بدائي جدا في فهم الشعر كنت أحسب أننا انتهينا منه منذ زمن طويل. ونماذج من الشعر تمد يدك فتجد منها حيث شئت الكثير!.
وهذا الذي عرضه لا يمثل نهضة الشعر العراقي حيث تلتمع قوية مرموقة تشير إلى معقد الزعامة الشعرية في العالم العربي. ولعل الفرص تسنح لعرضها قريبا.
سيد قطب
بغداد بين الرشيد والمنصور:
ذكر الدكتور أحمد أمين بك، في كتابه الأخير عن هارون الرشيد، ص 25 ما نصه:
(فمما فعله الرشيد أن سمي بغداد مدينة السلام، تشبيها لها بالجنة (دار السلام) وسمي قصر الخلافة بالحريم تلميحا إلى البيت الحرام، وجلب بعضا من الأنصار وسماهم بالأنصار، وجعل بابا من أبواب بغداد قليل الارتفاع لكي ينحني الداخل منه تشبيها بالسجود احتراما(951/40)
للخليفة، كما يفعل الداخل إلى الكعبة، وسمي الخيزران أم الخلفاء تشبيها بما سمي به الرسول عائشة أم المؤمنين).
ولنا على هذا الكلام عدة مآخذ:
(1) للذي اجزم به أن هذا المعنى قد نسبة المؤرخون إلى الخليفة الثاني (آبي جعفر المنصور) ويخطئ من ينسبه إلى هارون الرشيد، لن أبا جعفر هو الذي أقام بغداد واختطها لتكون عاصمة ملكة، والأستاذ الكبير نفسه قد نسب هذا إلى المنصور في كتابه الأخير عن (المهدي والمهدوية).
(2) ومهما يكن من شئ فان هذه الفكرة مفتراة على آبي جعفر المنصور؛ ووضعها بعض غلاة الشيعة تشويها لحكم هذا الخليفة العظيم؛ وطعنا على خلافة العباسين، وقد تورط في هذا الأستاذ (جورج زيدان) في كتابه) (تاريخ التمدن الإسلامي) ولم يحاول أن ينقد هذه الرواية، أو ينفيها عن الخليفة المنصور، فذكر أن أبا جعفر زيادة على ما تقدم قد بنى لنفسه قبة من الذهب تعرف بالقبة الخضراء لكي يصرف الناس عن الحج إلى الكعبة إلى الحج إليها، وقد أستند مؤسس الهلال في رأيه هذا إلى خطبة مغرضة خطبها بعض العلويين الخارجين على المنصور، ليحرض على الثورة عليه.
(3) مهما قيل في استبداد المنصور وبطشه بخصومه دفاعا عن ملكه، فلا أتصور أن يبلغ به الآمر إلى المجاهرة بتعطيل ركن من أركان الإسلام، ونحن نعلم أن الدعوة العباسية لم تقم إلا على أساس الدين، والقرابة من رسول الله (ص) ومن مقتضى السياسة والكياسة إلا يجاهر المنصور بعمل كهذا، وقد ذكر الطبري في تاريخه، وأبن الأثير في الكامل: أن أبا جعفر المنصور قام في الناس خطيبا، وذكر ظلم بني أمية، واتخاذهم الكعبة غرضا فقال: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، قضاء مبرم وقول فصل، وما هو بالهزل؛ الحمد لله الذي صدق عبده؛ وأنجز وعده، وبعدا للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة غرضا والفيء أرثا؛ والدين هزوا؛ وجعلوا القران عضين، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون ذلك بما قدمت أيديهم وان الله ليس بظلام للعبيد).
أمين محمد عثمان
تحقيق نسبة أبيات:(951/41)
1 - قرأت كتاب الشهر (المهدي والمهدوية) للدكتور أحمد أمين بك فوجدت فيه البيتين منسوبين لابن هانئ الأندلسي:
لو كانعلمك بالإله قسما ... في الناس ما بعث الإله رسولا
لو كان لفظك فهم ما أنزل ... القرآن والتوراة والانجيلا
والحق أن هذين البيتين لأبى الطيب المتنبي يمدح بدر بن عمار في قصيدة طويلة ويذكر الأسد كما في ديوانه.
2 - قرأت كتاب الشهر (ملامح من المجتمع العربي) للأستاذ عبد الغني حسن فوجدته ينسب الأبيات الآتية للجارية فضل ص27 من كتابه.
لأكتمن الذي في القلب من حرق ... حتى أموت ولم يعلم به الناس
ولا أقول شكا من كان يعشقه ... إن الشكاة لمن تهوى هي الياس
ولا أبوح بشيء كنت أكتمه ... عند الجلوس إذا ما دارت الكاس
وهذه الأبيات عينها منسوبة للشاعر علي بن الجهم الذي مات مقتولا سنة 249هـ كما في كتاب المنتخب الجزء الثاني ص342 المطبعة بالمطبعة الأميرية سنة 1934 الذي جمعه وترجمه العلماء الآجلة طه باشا والسكندري رحمه الله وأحمد أمين بك وغيرهم من كبار الأدباء فأرجو التنبيه بصحة نسبة هذه الأبيات لقائلها.
عبد العليم علي محمود
غنية لا غنوة:
يقول الشاعر العراقي الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري في العدد 949 من الرسالة الغراء أن (غنوة) من الغنى بمعنى الاكتفاء واليسار كما في جميع المعاجم العربية) والذي أريد أن أنبهه إليه أن الكلمة التي تدل على هذا المعنى هي (غنية) كما في مختار الصحاح إذ يوجد فيه (عنى به عنه غنية بالضم) والمعروف عن الأستاذ عبد القادر إنه شديد الإعجاب بأمير الشعراء أحمد شوقي بك لهذا احليه على قصيدته المشهورة:
روعوه فتولى مغضبا ... أعلمتم كيف ترتاع الظبا
فإنه سيجد هذه الكلمة (غنية) في هذا البيت:(951/42)
كان عن هذا لقبي غنية ... ما لقبي والهوى بعد الصبا
وللأستاذ الفاضل خالص الثناء والتقدير
الصافية
عبد الفتاح الجزار
تصويب في تصويب:
للأستاذ الباحث عبد القادر رشيد الناصري لمحات دوال على لمعة ذهنية واجتهاد في تقصي ما يغرب عن ألفة العربية.
ولقد صوب بيتا من الشعر مرويا عن أبى نواس في كتاب (هارون الرشيد) للدكتور أحمد أمين بك حين تحدث عن معلمي الكتاتيب في هذا العهد، لكن تصويبه في التعليل كان ذا علة!.
أما البيت؛ فقول أبى نواس:
عندها صاح حبيبي ... يا معلم، لا أعود
أما التصويب فقول الأستاذ: (وزنه لا يستقيم إلا بسكون ميم معلم، وسكون يا معلم لا يجوز لأن الاسم منادى معرفة وحركته الرفع).
وأقول: إن الرفع حال أعراب، وحركته علامة؛ والمنادى من المنصوبات والاسم (معلم) مبني على الضم؛ فحركته ليست رفعا!؛ فالصواب إليه يقال (الاسم منادى معرفة وحركته ضمة بناء)، والمعرفة يبنى على ما يرفع به لا أن يكون مرفوعا!.
وجاء في موطن آخر قوله: (إنشاء الله. . وهي خطأه تقارب الخطيئة فإن (إنشاء) مصدر (أنشأ) فالهمزة والنون من كيان الكلمة، على خلاف (إن) (شاء)، آبى هما كلمتان (إن) الحرف و (شاء) الفعل، ومن ثم يجب الفصل.
ولقد أحلنا الخطأ إلى تعجيل رصاف الحروف، وإن كنت به غير ظنين!.
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر(951/43)
المدرس بالثانوية(951/44)
الكتب
معركة الإسلام والرأسمالية
تأليف الأبيات سيد قطب
بأمير صادق رستم
(هذا الوضع الاجتماعي السيئ الذي تعاني منه الجماهير في
مصر غير قابل للبقاء والاستمرار)
بهذه الجملة أفتتح المؤلف كتابه القيم ثم استمر يقول إن هذا الوضع (مخالف لطبيعة الأشياء ولا يحمل عنصرا واحدا من عناصر البقاء. . . إنه مخلف لروح الحضارة الإنسانية، مخالف لروح الدين، مخالف لروح العصر. ذلك فوق مخالفته لأبسط المبادئ الاقتصادية السليمة؛ ومن ثم فهو معطل للنمو الاقتصادي ذاته بل النمو الاجتماعي والإنساني) ثم استطر يقول (إنه وضع شاذ، يهدر الكرامة الإنسانية ويفسد الخلق والضمير ويقضي على كل معاني العدالة، ويقتل الثقة الضرورية في المجتمع والدولة وينشر القلق ويذهب بالاطمئنان).
وانبرى المؤلف الفاضل يبسط كل هذا ويتوج أدلته بالآية الكريمة (وإذا أردنا إليه نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
وقد جعل من هذا كله (صيحة نذير) أنذر بها الذين يتشبثون بهذا الوضع الشاذ ويقيمون له الإسناد وهم ما بين مستغل يعز عليه إليه يساهم في التكاليف لإقامة المجتمع الصالح، وطاغ لا يرى ألا إليه يقوم المجتمع على السلطان الزائف، ومستمتع مرن على الاستمتاع الفاجر، ورجل دين محترف باع نفسه للشيطان بدراهم معدودة، وهو جميعا يلقون بأيديهم إلى التهلكة ومعهم أوطانهم المنكوبة ما لم تأخذ هذه الأوطان على أيديهم وفي الوقت متسع ولا غرابة، فالحقائق لا تعالج كما نعالجها نحن اليوم بالخطب والمواعظ والفتاوى المحتالة، ولا بكم الأفواه وحطم الأفلام. والمعدات الجائعة لا تفهم المنطق ولو كان صحيحا (وعلينا إليه ندرك هذا قبل فوات الأوان. ولقد أوشك والله إليه يفوت الأوان).(951/45)
فإذا سكتت الأصوات كلها فهناك صوت لا يمكن إسكاته وهو صوت المعدات الخاوية للملايين التي تملأ جنبات هذا الوادي فهنا ملايين تبذل العرق والدم ولا تنال مقابلها لقمة الخبز جافة ولا خرقة الكساء متواضعة (وهذا صوت جموع من الأحياء ما عرفت الشيوعية ولا غيرها ولكنها جائعة عارية مسختها تلك الأوضاع الاجتماعية الظالمة فحرمت حتى حاسة الإحساس بالظلم، وحتى شعور الإنسان بالحرمان بينما الشرف الفاجر الداعر يعربد في المواخير والقصور والذهب المتجمد من دماء الملايين يبعثر على الموائد الخضراء وفي حجور الغواني).
ثم شرع المؤلف يتهم هذه الأوضاع الاجتماعية فقال: تنفذ، ولكن التنفيذ يحتاج إلى المال والمال في أيدي الرأسماليين والدولة تشفق إليه تحمل رؤوس الأموال نصيبها الواجب من الأعباء لأنها لا تمثل الجماهير المحتاجة، بل رؤوس الأموال ويضاف إلى ذلك إليه الدولة فقيرة وغير جادة، وأداتها الإدارية فاسدة أفسدتها الاستثناءات والمحسوبيات وسوء النظام وبلادة الروتين والرشوة وخراب الذمة. والأثرياء الذين نمثلهم قد بشموا ثراء وعجزوا عن تصريف نما في أيديهم من ثروات، وبعد كل هذا
أولا - بأنها تشل قوى الآمة على العمل والإنتاج، وتشيع فيها التعطل فتضعف عن مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية وهي تتزايد على مر الأيام. وعلة العلل في كل هذا هي سوء توزيع الأرض، فلا تزال موزعة كما كانت في اظلم عهود الإقطاع، ومحتكرة في أيدي قليلة لا تستغلها استغلالا كاملا ولا تدعها في أيدي القادرين على الاستغلال، وهم لا يملكون شيئا مع هذا، فالأرض الصالحة للزراعة يمكن إليه تتضاعف لو إن مشروعات الري والصرف فالدولة مشغولة بالصراع الحزبي في حلبة الأقزام التي أقامها الاستعمار منذ ربع قرن باسم الدستور ووقف يتفرج ويتسلى وهي فوق هذا مشغولة بحماية تلك الأوضاع الشاذة. .
وعدا هذا يقال (الآمة مصدر السلطات) ويتكلمون عن حق الانتخاب وحرية الاختيار، وهي خرافة لا تستحق المناقشة فهذه الآمة (مصدر السلطات) هي تلك الملايين الجائعة الجاهلة المستغفلة يشير لها السادة فتنتخب، ويشيرون لها فتمتنع لأنهم خزنة أملاكها وملاك الإقطاع الذي يؤوي الجياع. . فالحديث عن الدساتير والبرلمانات تصلح مادة فكاهة يتسلى بها(951/46)
الفارغون.
ثانيا - بان الأوضاع المذكورة تفسد الخلق وتشيع الفساد في المجتمع والدولة وهذا طريق الانحلال الفردي والقومي ومضى المؤلف يدلل على هذا بالفتيان المرد والشيوخ المترهلين الذين تجبى إليهم ثمرات الكد والعرق والدماء من جهود الألوف الجياع الحفاة العراة فتنقسم الآمة إلى قسمين قسم يغري بماله في جانب، وقسم يتطلع بعوزة في جانب، وما شئت بعد ذلك من استهانة بالأخلاق والعادات استهانة فصلها المؤلف تفصيلا مؤلما، وبين ما يبني عليه من اختلال موازين العدالة الاجتماعية وقال (إنما هي الحمأة الآسنة يصب فيها الوحل والقذى ثم تتسع وتتسع حتى تحيل المجتمع كله إلى بركة من الوحل النتن تغوص فيها الضمائر والأخلاق وتغرق القوميات والأوطان).
ثالثا - بان الأوضاع الاجتماعية الحاضرة تقضي على تكافؤ الفرص وتقدم العدالة بين الجهد والجزاء وبذلك تشيع الحنق والاضطراب في نفوس الأفراد والجماعات، وتجعل المساواة أمام القانون خرافة - ومضى يدلل على هذا ويقول: إن الذين يعملون في هذا البلد هم الذين يجوعون. وإنما عني المؤلف بالأعمال الشريفة منها التي لا تدخل في قائمة السرقة والغش والاختلاس والتدليس والارتشاء واستغلال النفوذ وتجارة الرقيق الأبيض والخيانة الوطنية. . ومضى يقول: إليه النفوس متى فقدت الثقة في الخير والواجب والأمانة والضمير فقد فسد كل شيء وعم الإهمال والاستهتار وقد انتهينا إلى هذا والى ما هو أدهى منه. انتهينا إلى الشك المطلق في صلاحية الإدارة المصرية والى الترحم على أيام الاختلال وهذه كارثة الكوارث لان فيها كفر المواطن بوطنه وبشعبه وبنفسه. وتلك جريمة الاستثناآت والمحسوبيات.
رابعا - اتهام المؤلف للأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تدفع الناس دفعا إلى الشيوعية وخصوصا ذلك الجيل الناشئ من الشبان الأبرياء، فالشيوعية أن هي ضمنت كفاية الملايين الكادحين من الخبز والكساء فإنها تسلبهم الحريات جميعا، ولكن هذه الحريات مسلوبة الآن بطبيعة ما نحن فيه فلا ضير على أولئك الملايين ولا يحسون انهم فقدوا شيئا كانوا يملكونه.
خامسا - يتهم المؤلف الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها في جملها وتفصيلها مناقضة لروح(951/47)
الدين كله منذ إليه عرفت البشرية الأديان السماوية جميعا.
ثم قال:
(وهي اكثر مناقضة للإسلام الذي يصرخ في وجه الظلم الاجتماعي والاسترقاق الإقطاعي وسوء الجزاء. . ولا علاج لما نحن فيه لا بالشيوعية ولا بالاشتراكية ولا بالفاشية وغيرها. . فالدواء الناجح الدائم هو في الإسلام، فهو يقر مبدأ الملكية الفردية ولكن يعد العمل هو السبب الوحيد للملكية والكسب، ويعني العمل كل أنواعه، ويحرم الربا لأنه ينتج عن راس المال كما يحرم الغش والاحتكار والربح الفاحش والمستقطع من أجور العمال وهي تبلغ نصف الربح كما رواه بعض فقهاء الإسلام، ويحرم أيضا السرقة والنهب والسلب والإكراه ولا يعد كل ذلك وسائل للتملك أو وسائل لتنمية المال، وهذا من طبعه يمنع التضخم في الثروات منذ البداية فيقي المجتمع الأذى ويمنع فوارق الطبقات. ويضاف إلى هذا ضربة الزكاة الدائمة وهي تعادل 2ر5 % من اصل الثروة كل عام وتجبيها الدولة وتتولى أنفاقها بنظام، يعني قابل للتطور حسب حاجات المجتمع وأوضاعه، كما تجبي سائر الضرائب. فهي ليست إحسانا يخرج من يد إلى يد، وما يفعله المسلمون اليوم ليس هو النظام الذي فرضه الإسلام.
وللدولة حتى تتغير الأحوال وتبرز الحاجات حق مطلق في المال لا يقف في وجهه حق الملكية الفردية. فللدولة أن تفرض ضرائب خاصة غير الضرائب العامة تخصصها لكل وجه طارئ من اوجه الأنفاق لم يحسب حسابه في المصروفات العامة أو تعجز الميزانية العادية على الأنفاق عليه. فللدولة مثلا أن تنزع من الملكيات وتأخذ من الثروات بنسب معينة كل ما تجده ضروريا لحماية المجتمع من مختلف الآفات التي تتعرض لها المجتمعات. بل للدولة أن تنزع الملكيات والثروات جميعا وتعيد توزيعها على أساس جديد ولو كان الملك شرعيا لأن دفع الضرر عن المجتمع كله أولى بالرعاية من حقوق الأفراد وذلك هو التكافل الاجتماعي فختم على الدولة أملاكها تتلافى الضرر الذي يصيب المجتمع لأنه يقع على كل أفراده، وحتم عليها أملاكها تقي هؤلاء الأفراد من أنفسهم عند الاقتضاء!.
وللدولة أن تبقي على الملاك أراضيهم ثم تعطيهم قدرا يزرعونه في حدود طاقاتهم وتمنح حق الارتفاق على سائرها من تشاء من المحتاجين القادرين يشغلونها لحسابهم بلا اجر ولا(951/48)
إكراه
وللدولة أن تحدد إيجارات الأرض أو نسبة من المحصول لا جور فيها على المستأجر ويقترب بما يحقق العدالة ويحث على بذل أقصى الجهد في الإنتاج وهذا أعدل وأمهر وأشمل من النظام الشيوعي.
هذا فيما يخص بالنظام الزراعي.
أما فيما يختص بنظام العمل والأجر فالإسلام يقدس العمل والمبدأ العام، عدا حصول العامل على نصف الربح، أن يستجد الحاكم من الأحكام بقدر ما يجد في ألا قضية. فمبدأ (مصالح المجتمع التي لم يرد فيها نفي) ومبدأ (توقي الأخطار المحتملة) يمنحان الدولة كل الحرية في التشريع في حدود العدل وكفاية العامل ورضاه على ضوء المصلحة الاجتماعية العامة وضوء المبادئ الإسلامية ومقتضيات الأحوال. فلم يحدد الإسلام قواعد ثابتة وترك المجال حرا لقبول تجارب البشرية في كل زمان وبقي حارسا للاتجاه العام.
والإسلام لا يقر نظام الاحتكار ولا حقوق الامتياز في الوارد والخدمات العامة، وهو أي الإسلام يبيح ويقر ما يسمى (تأميم المرافق العامة) لان ذلك من مبادئه الرئيسية، وما ينتج عن التأميم يعود لخزانة الشعب لا لخزائن الأفراد.
ويحل الإسلام مشكلات أخرى فانه يمنح أهله الذاتية الشخصية التي تبرز في المجتمعات الدولية، ثم أنه عقيدة استعلاء واعتداد وهو يأبى علينا أن نسلم زمامنا ونكون ذيلا لكتلة شرقية أو غربية، ونحن نتجاوز مائتي مليون يكون غدا ونتحكم بمراكزنا الاستراتيجية ومواردنا الطبيعية في كتلتي الشرق والغرب لو كان لنا علم واحد نؤوب إليه ونتكتل في ظله.
فروح الإسلام من القوة بحيث لا تخضع للتلاشي، وإذا ما تجمعنا تحت العلم الإسلامي فقد تمسك بميزان التوازن وتكون واسطة عقد السلام فينتهي الجنون الذي تزاوله الكتلتان بأثرة حرب ثالثة، وهما إنما تتصارعان علينا نحن الممتلكات والمستعمرات والأشياء!. . وغير خاف أن الكتلة الشرقية شيوعية والكتلة الغربية رأسمالية وكفى! وفي الإسلام جميع محاسن الشيوعية والاشتراكية من دون مساوئهما وتزيد على هذه أفاق أعلى وأسمى وأشمل، وتعاونا إنسانيا كاملا وتكافلا اجتماعيا صحيحا. ولا بدع فالإسلام يرفع قيمة الحياة إلى(951/49)
المستوى اللايق مما لم يصدر عن الله.
من بعد ذلك خلص المؤلف إلى النتيجة المترتبة على ما تقدم وهي (لا بد للإسلام أن يحكم إذا أريد له أن يعمل، فما جاء هذا الدين لينزوي في الصوامع والمعابد ويستكن في القلوب والضمائر. . إنما جاء ليحكم الحياة ويصرف أو يصوغ المجتمع وفق فكرته الكاملة عن الحياة وذلك بالتشريع والتنظيم) و (مما سبق عرضه من مشكلات اجتماعية وقومية وطريقة علاج الإسلام لها يبين بما ليس فيه ضرورة الحكم للإسلام).
وفسر هذه الضرورة بان قال أن الدين المسيحي هو مجرد دعوة للتطهير الروحي ولم يتضمن تشريعا للحياة الواقعة، (وعلى توالي الأزمان أصبحت المسيحية محصورة داخل الكنيسة والحياة من حولها ابعد ما تكون عن روحها السمحة المتطهرة).
ثم نعي على المسلمين انهم حاولوا مثل هذا الأمر بالإسلام لا لأنه لم يتضمن التشريعات التي تحكم الحياة وتصريفها، بل لأننا أردنا أن نقلد في غير فطنة. . أوربا فنحكم بالقوانين المدنية، وإنما اضطرت أوربا إلى ذلك لأنها لم تجد في المسيحية تشريعا للحياة. بل هي مجرد عقيدة روحية وصلاة.
ثم مضى المؤلف يقول: إن دستور الدولة الحاضر ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ومعنى هذا أن تستمد القوانين الشرعية كلها من الإسلامية القادرة على تلبية الحياة العصرية ونموها وتجددها مع الانتفاع بتجاربنا وتجارب الإنسانية كلها فيما يتفق مع فكرة الإسلام الكلية ومبادئه العليا عن الحياة.
وإذا ما حكم الإسلام قدم للإنسانية مجتمعا من طراز آخر قد تجد فيه الإنسانية حلمها الذي تحاوله الشيوعية ولكنها تطمسه بوقوفها عند حدود الطعام والشراب، وتحاوله الاشتراكية ولكن طبيعتها المادية تجعله خلوا من الروح والطلاقة، والذي حاولته المسيحية ولكنها لم تنظم له الشرائع ولم تضع له القوانين.
ثم أخذ المؤلف في نفي الشبه عن حكومة الإسلام فقال: أنه ليس حكم المشايخ والدراويش! ويخلط الناس بل أكثرهم بين الشرعية الإسلامية في ذاتها وبين النشأة التاريخية لهذه الشرعية التي أستجابت لمطالب حياة البادية، ثم الدولة الناشئة في عهد محمد المتوسعة في عهد عمر، ثم ظلت تستجيب لحياة الحضارة فيما بعد بقيت في الأمة الإسلامية حياة، فإذا(951/50)
كان قد توقف نموها فلأن حيوية الأمة الإسلامية ذاتها توقفت، فإن دبت الحياة في هذه الأمة فالشريعة الإسلامية حاضرة تلبي حاجاتها المتجددة بما فها من سعة ومرونة وشمول، فهي قادرة على أن تمد الشرع الحديث بكل خدمات الحياة الراهنة المتجددة. ثم أن هذه الشريعة روحها من روح الجماهير، ولا دخل هنا للمشايخ والدراويش، فليس في الإسلام (رجال الدين) يعيشون متعطلين متبطلين على الأذكار والنذور، فلا جزاء بغير عمل اجتماعي منتج، ولا عبرة بمن يستبد باسم الدين، فالمرجع في الحكم على نظام ما إنما يجب أن يكون على قواعده وأصوله لا على مخالفاته بسبب الجهل والانحطاط أو الفوضى وسائر العوامل الأخرى، والمقرر أن الإسلام لا يدعوا إلى الاستبداد من الحاكم والرضا والخنوع من المحكومين.
ثم أن الإسلام لا يتدخل في الشؤون العلمية البحت ولا العلوم التطبيقية، فقاعدة (أنتم أعرف بشؤون دنياكم) من القواعد الأساسية المرعية فيه.
ثم أن الإسلام إذا نص في الحدود على قطع يد السارق، ورجم الزاني وجلده وجلد غير المحصن. . الخ فلا إقامة لهذه الحدود إلا مع قطع العذر، فإذا كانت هناك مبررات اجتماعية وفردية فلا عقوبة، بل العقوبة على من دفع المجرم إلى جريمته، والشاهد ما فعله عمر مع غلمان سرقوا ناقة لان سيدهم لا يعطيهم الكافي من الطعام فأطلق الغلمان وغرم السيد ثمن الناقة ضعفين. ثم لما كان الجوع في عام الرمادة عطل حد السرقة. ورجم الزاني لا يجوز إلا في حالة ما إذا ضبطه الشهود في تلبس كامل، وهذا في الوقت الذي لا يباح فيه أن يتسور على أحد داره أو يتجسس عليه، فمن استتر بالمعصية فأمره إلى الله، أما المستهتر ناشر الفاحشة فيؤخذ بالعقاب. أن الجموع حين تندفع في تيار العمل النشيط المنتج لن تكون هناك جرائم تقام عليها الحدود إلا في القليل النادر، ولا ننسى أيضا مبدأ (ادرأوا الحدود بالشهبات).
ومضى الكاتب يقول أن الأصول الإسلامية ليست هي الشروح والحواشي التي تقتل شباب طلاب العلم وترميهم بالجدل العقيم، أن الحلال بين والحرام بين، وكل ما صدر عن المذاهب الأربعة كان أساسه الكتاب والنسبة ثم الإجماع والقياس.
وأما في الحريم فالإسلام أباح لها الملك والكسب بالطرق المشروعة ومنحها حرية تزويج(951/51)
نفسها، فلا إرغام ولا ضغط ومنحها حرية الخروج والدخول في ثياب محتشمة، وبالجملة أتاح لها الحرية التي لا تؤذي قط ولم يأمر بوضع النساء في الحريم، ولم يحولهن إلى سلعة، ولم يقر الإباحية الحاضرة، فلا خوف من الإسلام على امرأة فاضلة تزاول النشاط الإنساني في حدود الشرف والكرامة.
ثم قال المؤلف: إنه لا خوف من حكم الإسلام على الأقليات القومية في بلاده، فما من دين في العالم وما من حكم في الدنيا ضمن لهذه الأقليات حريتها وكرامتها وحقوقها القومية. لقد دلل الإسلام وحده على الاقليات الأجنبية عنه وعن قومه وحتى في البلاد المفتوحة، وضرب الكاتب أمثلة لذلك.
ثم انتقل إلى عداوات ضد الإسلام من أول الحروب الصليبية فالاستعمار إلى الرأسمالية فإلى الإسرائيلية في فلسطين فقال إن الدولة اليهودية ليست جنسية بل ديانة تضم أخلاطا من روس وألمان وبولونيين وأمريكيين ومصريين وغيرهم، وقد شجعتها إنكلترا ومونتها أمريكا ونسيت روسيا الشيوعية مبادئها الأساسية بجنب المصلحة الشخصية.
ولا ننسى التبشير فهو اختلال روحي وفكري يوحي بنبذ الوطن. وقد أفاض المؤلف أيضا في هذا الباب وذكر أيضا عداوات المستغلين والطغاة والمحترفين من رجال الدين والمستهترين والمنحلين والشيوعيين ودلل على كل هذه بالأمثلة الحية.
ثم عقب على ذلك كله بدعوة (الجماهير) إلى تدبر كل ما مر في كتابه وأهاب بها أن (الطريق واضح ولا سواه) لمن أراد المساواة والحرية والعدالة وكان مؤمنا بنفسه وقومه ووطنه وشعر بان له مكانا كريما في الوجود).
هذا هو كتاب (معركة الإسلام وإلى) أملاه على مؤلفه الفاضل اقتناع مطلق بعد بحث طويل وثقافة صحيحة سليمة، وأيمان بالإسلام وحقه، ووطنية مصرية صميمة، وميل فطري إلى الحق والعدل، ونفور من العبودية والذلة، وبعد عن البدع والمروق، فما أشبهه بابن تيمية والأفغاني والكواكبي وإضرابهم من دعاة الإصلاح الجريئين، ونفه الله بكتابه كل قارئ ينشد الهداية والطريق المستقيم.
حلوان
محمد صادق رستم(951/52)
الأعلام الشرقية
في المائة الرابعة عشر الهجرية
1301 - 1365 1883 - 1946
الأمم الناهضة تقدر رحالها أحياء وأمواتا، فتعني بتراجمهم بعد وفاتهم، تسجلا لإعمالهم وحضا للأحياء على الإقتداء بهم في خدمة الأمة في شتى النواحي. بل دراسة تراجم كل أمة في كل عصر هي المرآة الصادقة في تحديد مركز تلك الأمة في ذلك العصر نهوضا وخمودا. ففي تراجم الرجال تتمثل حضارة الأمة وثقافتها وتقدمها وتأخرها. فهي إذا معيار صادق يرجو المخلصون في خدمة أمتهم إنصافها إياهم فيه، ويخشى المقصرون حكمها عليهم. فإذا لم يترجم لهؤلاء وأولئك ضاعت مواضع الأسوة الحسنة وسوء الأحدوثة من التاريخ، فيصبح المصلح والهدم على حد سواء.
وقد عني الأقدمون بالتراجم عناية أخرجت لنا هذه المعاجم التي يردها الباحثون. ويسرنا أن تتجه عناية الأدباء المعاصرين إلى التراجم فيقومون بما يجب على الأمة من تخليد تراجم رجالها.
ومنذ عهد المؤرخ الجبرتي ليس بين أيدي الباحثين مراجع تشفي غلة روح التراجم، حتى نهض الأستاذ زكي مجاهد بتأليف (الأعلام الشرقية) فقدم لنا فيه تراجم أعيان القرن الرابع عشر الهجري على اختلاف ديارهموأقطارهم وتنوع ثقافاتهم، متما لما قبله من كتب التراجم كحلية البشر في القرن الثاني عشر للمرادي، وخلاصة الأثر في القرن الحادي عشر للمحبي، والكواكب السائرة في المائة العاشرة للغزي، والضوء اللامع للقرن التاسع للسخاوي، والدرر الكامنة للمائة الثامنة لابن حجر، و. . . الخ ما ألف على القرون.
وقد قسم المؤلف معجمه هذا إلى طبقات؛ طبع منها وصدر:
القسم الأول في الملوك والأمراء
والقسم الثاني في الوزراء والسفراء
والقسم الثالث في زعماء الحركة الوطنية
والقسم الرابع في أعلام الجيش البري والبحري
والقسم الخامس في العلماء(951/54)
وكل قسم منها مرتب على حروف المعجم. وهو أجمع كتاب صدر في تراجم الشرقيين في هذا القرن، فنشكر للمؤلف جميل صنعه.
وقد تابع المؤلف مصادره في النصوص من غير تصرف منه في التراجم، والمحافظة على النصوص من أهم الأمور في التاريخ. وهذا يبرئ قلمه من النقد لرده الأمر إلى مصدره، والى الباحث المحقق المقارنة بين الروايات عند اختلافها، والشخصيات السياسة قد تصطنع لها هالات فخرا أو مآخذ تبعا لأهواء الأحباب والخصوم، ثم الأحداث المتصلة بشتى الجهات من آراء في تلك الأحداث، وهذه الدراسة لعلها لا تتيسر في ظروف خاصة، فيكون ترك تلك المسائل تحت البحث أدنى إلى الصواب قبل البت فيها بعاطفة مجردة، وليس التاريخ قصصا تسرد، إنما هو أسباب ونتائج.
محمد شفيق محمد(951/55)
العدد 952 - بتاريخ: 01 - 10 - 1951(/)
الدولة والأدب في الاتحاد السوفيتي
للأستاذ عمر حليق
هناك ظاهرة جديدة يلمسها المنتبه للإنتاج الفكري في الاتحاد السوفيتي فيما يصل إلى الأوساط الأدبية هنا في نيويورك من كتب ومجلات ومقتطفات تتعاون مع نشرها باللغة الإنجليزية المؤسسات العلمية الأمريكية والمعنيون بالشؤون الداخلية لروسيا السوفييتية تنويراً لأذهان الرأي العام عن اتجاهات الفكر الروسي المعاصر.
هذه الظاهرة الجديدة هي انتقاد المراجع السوفييتية الرسمية لما تعتقد بأنه (شعوبية) ألحت بطائفة من رجال الأدب والفن الروسي في معالجتهم لشؤون الحياة ونظرتهم إليها بين آن وآخر من زاوية لا تراعى مراعاة دقيقة إيديولوجية ماركس - لينين - ستالين التي هي عماد الفكر والحياة السوفييتي المعاصرة.
خذ مثلاً ما قالته جريدة (برافدا) لسان حال الحكومة الروسية الحاضرة في عدد 14 أغسطس 1951 في افتتاحية يقرؤها الملايين في مختلف اللغات الإقليمية التي تتكلم بها شعوب الاتحاد السوفييتي في شرقي أوروبا وشمال آسيا:
(الأدب والفن في روسيا يجب أن يقتديا بمبادئ الحزب الشيوعي الذي هو عماد العهد السوفييتي. والحزب (الشيوعي) لم يبخل بالجهد في إفهام الكتاب والفنانين بأن فكرة (الفن للفن) لا تتماشى مع المصلحة الجوهرية للنظام الشيوعي والعهد السوفييتي الذي حققت لروسيا هذه المكانة وهذه الرفعة.
(فالبيان الذي نشرته مؤخراً اللجنة المركزية للحزب الشيوعي يشرح بوضوح أن الأدب السوفييتي - وهو في الطليعة بين الآداب المعاصرة - يستند في أصوله إلى حقيقة واحدة وهي أن كل إنتاجه فكري لا يعالج صميم الحياة الشعبية ولا يلمس المصلحة الأساسية - عاطفية كانت أم سياسية أم اقتصادية - للكثرة من الشعب - كل إنتاج من هذا القبيل هو سوء اجتهاد:
(فهذه القصص والمسرحيات واللوحات والقطع الموسيقية التي أنتجها المبدعون خلال العهد السوفييتي ولاقت رواجاً شعبياً واسعاً لم تضمن هذا الرواج وهذه الرفعة إلا لأنها صاغت في القالب الفني ألواناً من الحياة الواقعية التي عاشها أبطال هذه الروائع الفنية في خضم(952/1)
التطور الاجتماعي الذي ألم بالحياة الروسية منذ أن اتخذت إيديولوجية ماركس - لينين - ستالين نبراساً لها.
(واستمر الأدب والفن في الاتحاد السوفييتي على هذه الصلة الوثيقة بالحياة الواقعية فحقق الفكر السوفيتي المعاصر ألواناً من الإبداع هو مدعاة للفخر. وهذا ما سأتوجب اليوم أن نشن حملة لا هوادة فيها على شذرات من الأدب والفن تسربت إلى الإنتاج السوفييتي الحديث فتجاهلت صلة الأدب والفن بالحياة اليومية وانساقت في خمرة (الفن للفن وحده). وهذه الخمرة برجوازية (رأسمالية) لا ترضى عنها إيديولوجية السوفييت. وأصبح لزاماً على هؤلاء (الشعوبيين) من الكتاب والفنانين أن يزيلوا الغشاوة عن عيونهم وأن يساهموا في دفع أذى هذه الخمرة البرجوازية). اهـ
ونشر الكاتب السوفييتي المعروف (ا. سوكوف) طعناً في هذه (الشعوبية) كراساً خص بالنقد فيه مجلتين أدبيتين حديثتين هما (ليننغراد) و (سفيرزا) وحلقات للإنتاج المسرحي في بعض المقاطعات السوفييتية الآسيوية وفي أوكرانيا.
قال سوكوف:
(ومن أبرز الإنتاج الفكري خلال الأعوام الخمسة الماضية (أعوام ما بعد الحرب) بين أدباء وفناني ولايات خوزستان وتركستان وأزبا كيستان وأذربيجان هو عزوفهم في قرض الشعر عن مواضع لا تمت إلى الحياة الشعبية السيارة والتفاتهم إلى نواح في الإنتاج الفني النثري صلتها بالحياة الواقعية صلة صادقة متينة.
وبرغم هذا الاتجاه القويم فإن السنوات الخمس الماضية قد شاهدت لوناً من الإنتاج الفني لا يليق بالفكر السوفييتي. ومثال ذلك القصص والمسرحيات التالية: (دخان الوطن) لسيمونوف و (حياة بكتوف) لسافر ونوف و (نهر النار) لخوزيفيكوف.
(والنقيصة التي تشترك فيها مثل هذه الأعمال الأدبية هي تجاهل واضعيها جوهر الحياة اليومية وانسياقهم في ألوان من التخيل لا يستمد قوته من تيار المعيشة في حياة الفرد والجماعة. حتى بعض المسرحيات الفنية كأوبريت (الحارس الشاب) يجب أن تراعي الحقائق التاريخية وجوهر الحياة اليومية مراعاتها للميزان الموسيقي والنغمة المنسجمة.
(هذا لون من الإبداع الفكري يجب أن يكون شديد الصلة بالحياة الواقعية، وكل نقد أو(952/2)
تقريظ للأدب والفن لا يراعي هذه الصلة بعد من قبيل الإهمال الذي لا يرضى عنه الأدب الحي. ولذلك فلا عذر لأندية الأدب والفن في أذربيجان وأرمينيا وأستونيا مثلاً أن تتجاهل هذه الحقيقة عندما تهاونت في انتقاء طائفة من المسرحيات والقصص والأوبرات الشعوبية التي ظهرت في الأسواق الأدبية هناك عزيزة آمنة.)
ويناصر هذا الأديب الروسي المعروف حملة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي على هذه (الشعوبية) في الأدب والفن، ولا يجد غرابة في أن تشن الصحافة الرسمية في روسيا حملتها على النقاد والحلقات الأدبية والفنية والعواصم والأقاليم. ويختار أديبنا هذا بالذات قصيدة للشاعر الأوكراني (سوسيدرا) عنوانها (أحب أوكرانيا) لاقت في مقاطعة أوكرانيا رواجاً وقبولاً حسناً. وأوكرانيا ولاية في روسيا الأوربية عرف أهلها بنزعتهم القومية المحلية وتعلقهم بها تعلقاً يعرفه كل مطلع على تاريخ الشعب الروسي.
وينتقد سوكوف حلقات الأدب في أوكرانيا لتركها هذه القصيدة تمر دون نقد يأخذ ببث الاعتبارات الإيديولوجية السوفييتية.
ثم يمضي سوكوف في استعراضه لاتجاهات الأدب السوفييتي الحديث فيقول (إنه وإن كان يحلو لنا أن نعترف بنجاح الأدباء والكتاب السوفييت نجاحاً لابد من الثناء عليه إلا أنه يجب علينا أن نعترف كذلك بأن الإنتاج الأدبي والفني في روسيا لم يصل بعد إلى الكمال ولم يستطع بعد أن يتكافأ مع عظمة النمو الصناعي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي حققه عهد ستالين).
ويستشهد الكاتب بمأثرة للأديب الروسي الكبير (ماكسيم جوركي) فيقول (يطيب لنا - والحالة هذه - أن نستذكر نصيحة جوركي للأدباء الأحداث حين قال لهم: إذا كان للأدب أن يحقق ما عليه من مسؤولية للأمة فإن عليه أن يدرك الواجب الأساسي وينقذه في غير هوادة أو اعوجاج. هذا الواجب هو مراعاة الجد والدقة في دراسة صور الحياة الواقعية المعاصرة. حياة اليوم والساعة. وعلى الأدباء أن لا يقطعوا صلتهم بالحياة اليومية وأن يمعنوا في تصوير الحياة العاملة بأوسع معانيها في إطار الفن والإلهام.)
وقد تناولت كبرى مجلات الأدب الروسي (جتزيتا لترانوريا) هذه (الشعوبية) في بحوث عديدة بأقلام عدد من كبار الأدباء الروس كلها تنتقد موجة (الفن للفن وحده) التي تسربت(952/3)
إلى بعض الأوساط والحلقات الأوربية في ولايات روسيا الآسيوية والأوربية.
وهذا الاهتمام الزائد الذي واجهت به السلطات الروسية الرسمية هذه (الشعوبية) الطارئة مدفوع باليقظة الدقيقة التي تراقب بها حكومة ستالين اتجاهات الفكر في القارة السوفييتية.
وقد توافق أو تخالف مبدأ (الفن للفن وحده). فالجدل حول هذا الموضوع لم يخل منه تاريخ الآداب الإنسانية قديمها وحديثها. إنما المهم أن نتعرف على مركزية الفكر في الاتحاد السوفييتي ومبلغ الجد في حماسها لجعل إيديولوجية ماركس - لينين - ستالين شاملة لشتى نواحي النشاط الإنساني سواء أكان اقتصادياً أم سياسياً أم فنياً.
وليس المهم أن نستعرض هنا صلاح هذه المركزية الفكرية أو طلاحها، فلقد تقرر في العهد السوفييتي تسخير النشاط الإنساني بأسره لتحقيق الاشتراكية الماركسية الكاملة.
فإذا تقرر أن الإنتاج الاقتصادي مثلاً يجب أن يتماشى مع المبدأ الشيوعي المعروف (من كل بقدر ما يستطيع إلى كل حسب حاجته) فلا مفر من أن يتقرر كذلك توجيه الأدب والفن السوفييتي ليخدم ويحقق هذا المبدأ.
فإذا كان مقياس صلاح الأشياء في إيديولوجية السوفييت هو مبلغ نفعها للكثرة من الناس، فإن على المبدعين من الأدباء والشعراء والفنانين - والحالة هذه - أن يضعوا مصلحة الأيديولوجية السوفييتية ونظام الحياة الذي اختارته فوق (خمرة) الفن للفن وحده.
ونشاط المسؤولين في الاتحاد السوفييتي لمحاربة هذه (الشعوبية) لم يقتصر على توجيه النداءات وتذكير النقاد وحلقات الأدب والفن بعلاقة الأيديولوجية السوفييتية بالإنتاج الأدبي والفني. ففي عدد 18 أغسطس من جريدة برافدا افتتاحية تناولت الدور الذي يجب على بيوت النشر والطباعة في روسيا عمله لمحاربة هذه (الشعوبية) قالت برافدا:
(الواجب الرئيسي لدور النشر والطباعة في الاتحاد السوفييتي هو صيانة الأدب الرفيع في إطار المبادئ السوفييتية. فالكتب والمجلات يجب أن تستذكر دائماً مبادئ العهد السوفييتي وأسسه الفكرية. وكل انصراف عن هذه المبادئ يضر بالحياة السوفييتية، فيجب أن لا تطرح في الأسواق الروسية كتب وجلات لا تراعي طبيعة الكيان الاجتماعي والفكري للشعب السوفييتي وتراثه الأدبي والفني ومصلحة السياسة والاقتصاد والقومية.
(وإن من دواعي الأسف أن ينساق نفر من دور النشر في غمر الأسواق بإنتاج أدبي وفني(952/4)
لا يراعي هذه الحقائق. فإذا كانت الرغبة في ترويج الكتب وزيادة أعدادها هو الدافع لهذا الاتجاه فإن هذه الرغبة خاطئة. فالمهم في الإبداع الفني قيمة الكتاب لا عدد ما يباع منه. ويجب أن يكون الكتاب السوفييتي خير كتب العالم من حيث صدق الفكرة وروعة الفن وحيوية الأدب وصلته بالحياة الواقعية لا من حيث عدد ما يطبع منه.
(والدولة السوفييتية لا تشجع أصحاب دور النشر أن يتبعوا أساليب البرجوازيين الرأسماليين في ترويج الكتاب على أساس من خمرة الحس والشهرة وأهواء المرضى من أصحاب الثقافة المشوهة.)
ولفتت (برافدا) النظر إلى ضرورة تثقيف المسؤولين عن اختيار الكتب والمقالات في بيوت النشر الروسية وترقية أذواقهم الفنية في إطار الأيديولوجية السوفييتية، وتعرضت (برافدا) بالذات إلى مجلة (الفن) (اسكوستوفو) الروسية وقالت بأن بعض محرريها تعوزهم الثقافة الصادقة والذوق الفني الصحيح.
حتى اللغة وقواعد الصرف والنحو لم تخل من اهتمام الدولة السوفييتية إزاء هذه الظاهرة.
فقد نشر ستالين نفسه منذ بضعة أشهر فقط دراسة دقيقة في كراس عنوانه (الماركسية ومسألة اللغات) عالج فيها عاهل روسيا علاقة اللغة بالأيديولوجية السوفييتية من وجهة النظر الماركسية، وقال ستالين: (إن الفهم الصادق لقوانين التطور في لغات الشعوب أمر له أهمية خاصة لتحقيق الاشتراكية الكاملة.)
وقد شرح ستالين هذه القوانين فأشار إلى (ضرورة خلق ظروف وملابسات معينة تعجل نمو لغة موحدة في دولة كالاتحاد السوفييتي تضم عشرات اللغات واللهجات والثقافات المتباينة.
وهذا التباين في المقومات الثقافية لشعوب الاتحاد السوفييتي في قطاعاته الآسيوية والأوربية كان من أبرز ما اهتم به ستالين في مطلع حياته الفكرية، وكتابه عن (الماركسية ومشاكل القوميات) يسجل إدراك ستالين للمشاكل العاطفية وتباين مقومات الخلق القومي فيما وضعه البلشفيك من نظام لروسيا السوفييتية.
وستالين - ككل ماركسي واع - من أعداء القوميات لأنها في اعتقادهم تعرقل تحقيق الاشتراكية الكاملة في عالم تتشابك فيه المصالح الاقتصادية والسياسية ويتكل بعضها على(952/5)
بعض كما هو الحال في هذا الإقليم الواسع الذي يتألف منه اليوم الاتحاد السوفييتي.
ولكن آراء ستالين في مشاكل القومية لم تعمه عن مبلغ قوتها خصوصاً بعد هذه التجارب الطويلة التي خبرها أولو الأمر في روسيا في معالجتهم للقوميات المحلية في القطاعات الآسيوية والأوربية التي تشكل اليوم الدولة السوفييتية.
ولذلك فإنك تلمس في دراسة ستالين الجديدة عن (الماركسية ومسألة اللغات) تحويراً في بعض آرائه القديمة عن القوميات. وتدرك في ثنايا هذه الدراسة مناورة فكرية جديدة.
فستالين أصبح الآن يعتقد بأن تطور الشعب نحو الشيوعية الحق يمر في مرحلتين يتوازى ويتناسق فيهما هذا التطور.
الأولى - مرحلة قديمة بحتة تعبر الجماعة فيها عن مشاعرها وآمالها القومية المحلية في لغة الجماعة وثقافاتها القومية المحلية.
والثانية - مرحلة أعم اتساعاً تنمو فيها الفكرة (الإقليمية) أولاً ثم (العالية) بعد ذلك فتتسع الآفاق على نحو تفرضه العلاقات الإنسانية في عالم اتسعت فيه المواصلات الفكرية واحتكت فيه الثقافات والأفكار احتكاكاً متزايداً.
وهاتان المرحلتان تسيران متحاذيتين. ففي حين تنمو التعبيرات القومية في اللغات المحلية نمواً طبيعياً تنمو كذلك المرحلة الثانية (الإقليمية ثم العالمية) نمواً أشد قوة لأنها تهيمن على كثير من أوجه النشاط الإنساني في عالم يزداد احتكاك أجزائه يوماً بعد يوم، ويفرض على القوميات المحلية ضرورة الاندماج.
ولا يترك ستالين آراءه هذه في إطارها العام، وإنما يستدرج القارئ إلى الهدف الخاص الذي دفعه إلى معالجة مسألة اللغات.
ويشرح ستالين كيف أن الأيديولوجية السوفييتية قد حققت للقوميات المحلية في القطاعات والولايات الروسية المتباعدة فرصاً لتنمية لهجاتها ولغاتها الوطنية على مبادئ ماركس ولينين.
وفي رأي ستالين أن اللغة تنمو في اتجاهين:
اتجاه يعمل على زيادة المفردات والمصطلحات في اللغة المحلية ويزيد من ثروتها التقليدية بفضل التعبيرات الحديثة المستمدة من الحياة الاشتراكية الجديدة وما خلقته من تطور(952/6)
اجتماعي وصناعي وسياسي واقتصادي وثقافي.
أما الاتجاه الثاني فيعمل على توحيد هذه المفردات والمصطلحات والمشتقات والتعبيرات المستعارة في الحياة السوفييتية الجديدة بين مختلف اللغات القومية المحلية التي تعيش على النظام الأيديولوجي الجديد. ويجري هذا التوحيد في إطار قواعد نحوية وصرفية جديدة تشترك في اقتباسها هذه اللغات المحلية فتخلف فيما بينها تعبيراً مشتركاً، وبذلك تثبت دعائم النظام السوفييتي الجديد الذي وفر لها هذا التطور اللغوي.
ويقول ستالين أنه لولا توفر النظام اللغوي الجديد (أي الأيديولوجية السوفييتية) لما تيسر للغات المحلية أن تزيد ثروتها اللغوية من المفردات والمصطلحات والتعبيرات وقواعد الصرف والنحو المستحدثة، وستالين واثق من اليوم الذي يتم فيه تناسق هذه اللغات المحلية في إطار لغة الوطن الروسي الأكبر على أساس هذين الخطين اللذين شرحهما.
وستالين في دراسته الجديدة عن (الماركسية ومسألة اللغات) لا يقول بأفضلية لغة على أخرى بين لغات العالم الأكبر من حيث جمال اللفظ وسهولة النطق، وإنما يعتقد - استناداً إلى هذه الخطط التي شرحها - أن العالم سيأخذ في المراحل النهائية باللغة التي تحتوي على ذخيرة واسعة في المفردات والتعبيرات التي هي أقرب صلة بالحياة العملية الواقعية.
وهدف ستالين الرئيسي من بحثه هذا هو دعوة الكتاب والشعراء والفنانين السوفييت لأن يجعلوا تصويرهم للحياة أكثر تعبيراً عن الواقع حتى يضمنوا للغة الروسية مرونة وواقعية تحقق لها الفوز في سباق التفوق والسيادة بين لغات العالم.
وستالين في دعوته هذه يساهم شخصياً في محاربة هذه الظاهرة الجديدة في إنتاج روسيا الأدبي والفني في عالم ما بعد الحرب.
فالأيديولوجية السوفييتية لا ترضى عن مبدأ (الفن للفن وحده) وتعده من الأسباب التي تخدر الشعوب وتعمي قادة الفكر والدهماء فيها عن دقائق الحياة الواقعية ومشاكلها.
ولا تزال حملة المسؤولين الروس على هذه (الشعوبية) في الإنتاج الأدبي والفني على أشدها كما تشهد على ذلك ألوان الأدب والفن الروسي المعاصر التي تجد سبيلها إلى العالم الخارجي.
نيويورك(952/7)
عمر حليق(952/8)
عقدة الأب
في رأي الفيلسوف ابن خلدون
للأستاذ أمين محمد عثمان
آمنت ولازلت أؤمن بأن في التراث العربي العريق، كنوزاً مطمورة، تحتاج إلى من ينقب عنها، يخرجها من كهوف النسيان، إلى عالم النور والعرفان. وقد بينت في مقالي الأسبق (صحيفة مطوية في البلاغة العربية) أن نظرية الإدراك بالإجمالي والتفصيلي، لم تكن وليدة القرن العشرين، ولا هي بنتاً من بنات أفكار علماء النفس المحدثين، بل سبق إليها عالم من علماء العرب منذ تسعة قرون، وهذا مثل آخر من آلاف الأمثال أسوقه للأدباء والباحثين الذين بهرهم زخرف الحضارة الأوربية، علهم يعطون الحضارة الإسلامية التي أساءوا الظن بها، قسطاً وافراً من العناية.
لقد كانت الفلسفة المسيحية تذهب إلى عهد قريب، إلى أن الطفل الشرير بطبعه، وأنه يولد محملاً بكثير من السرور والآثام فيجب أن يقمع ذلك فيه بالشدة والعنف، وأن يسلك به سبيل التعذيب والإيلام. وقد نحا المتنبي هذا المنحى في شعره فقال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد=ذاعفة فلعلة لا يظلم
وهذا عين الخطأ، فلا الطفل شرير بطبعه كما تقول الفلسفة المسيحية، ولا هو خير بطبعه كما يقول (جان جاك روسو) كما أن عقليته ليست كالصحيفة البيضاء يسطر المربي عليها ما يشاء، كما ذهب إلى ذلك (جون لوك).
ولكن الطفل يولد مزوداً بالغرائز والنزعات الفطرية، وهي ميراثه من أبويه ومن النوع الإنساني، فعلينا أن نعمل مع هذه النزعات لا ضدها، وأن نحاول إعلاءها، وتكوين العواطف النبيلة فيها.
وهناك مرحلتان من مراحل النمو لهما أكبر الأثر في حياة الناشئ فإن هو جازهما بسلام، فقد اجتاز العقبة كلها إلى شاطئ الأمان، وإن تعثرت خطاه فيهما أو لعبت بنفسه أعاصير التربية الصارمة فإنني أخشى أن تهوى بنفسه أمواج الأمراض النفسية إلى قرار سحيق.(952/9)
أما أولهما: وسنقتصر الكلام عنها الآن: فهي مرحلة الطفولة المبكرة ويعلق فرويد عميد علماء التحليل النفسي، و (آدلر) مؤسس مدرسة علم النفس الفردي أهمية كبرى على هذه المرحلة، ففيها تتكون أهم قوالب السلوك عند الإنسان وهي التي تحدد الخطوط الشخصية الأساسية فيما بعد، ولقد دلت البحوث النفسية على أن كثيراً من الانحرافات النفسية الحقيقية والخطورة التي يصاب بها الشاب أو الرجل، ترجع إلى صدوع نفسية في الطفولة الأولى، وفي هذه المرحلة يأخذ الطفل فكرة عن نفسه، مما نوحي به إليه نحن. فالطفل الذي ننعته بأنه شقي وبأنه مجرم، وبأنه لا يفلح سرعان ما يتشرب هذه الفكرة عن نفسه ويعمل على أن يسير بمقتضاها، وعلى العكس إذا أخذنا نصف الطفل بأنه مهذب، وبأنه شجاع فإنه يتقبل عن نفسه هذه الفكرة ويتشبع بها، ويجهد نفسه في تنفيذها، وفي هذه المرحلة يتكون لدى الطفل سلطة داخلية هي ما نسميها بالضمير أو الرقيب أو النفس اللوامة، أو الحافظ، كما يقول الله تعالى (إن كل نفس لما عليها حافظ) هذا الضمير أو الرقيب إن هو إلا خليفة الأبوين ويتكون لا شعورياً عن طريق الأوامر أو النواهي التي تصدر منهما إليه، فإن كان الأب من الصنف الصارم الجافي الذي يحاسب على اللفتة والحركة ويعاقب على السهوة، ويسرف في الأمر والنهي، والصفع واللكز، ويفرط في التأنيب واللوم، فإن هذه التربية كما يقول الدكتور عزت راجح في كتابه (الأمراض النفسية). . تصبح لها صدى في ضمير الطفل اللاشعوري يمثل السلطة الأبوية، فترى قد أصبح يتطلب من الطفل ما يتطلب ذلك من الأب التعسف وأكثر، يحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، ويحرم عليه القيام بأشياء لا ضرر منها، ولا ضير عليها، فترى الطفل يشب وقد أمسى شديد الحساب لنفسه وللناس، شديد الحذر والتوجس من نفسه ومن الناس، يغشاه شعور صريح أو مضمر أنه مخطئ أو آثم) وبهذا تتكون عنده عقدة الإثم والحاجة إلى عقاب النفس.
وجاء في كتاب (أسس الصحة النفسية) للدكتور عبد العزيز القوصي، عند الكلام على (عقدة الأب)، منشأ هذه العقدة قسوة السلطة وصرامتها، وشدة الجو المنزلي ويترتب على قسوة السلطة وامتصاص الطفل لها، أن يعكسها على نفسه، ويعكسها على نفسه يكون قاسياً عليها شديد النقد لها، كثير التبرم بها، غير راض عنها، شاعراً بخطئه على الدوام، يخشى لوم الناس ونقدهم، ويحسب لهم ألف حساب، وعندما يعكسها على الناس يكون أيضاً شديد(952/10)
النقد لهم، قاسياً عليهم، يتمتع بإبراز خطاياهم).
وقد ذكر علماء النفس: أن هذا باب جديد، فتحه فريق من أصحاب (التحليل النفسي) وخطوا فيه خطوات موفقة، واستطاعوا به تعليل كثير من مظاهر السلوك الزائغ والاعتلال النفسي.
وفات هؤلاء، أن هذا الباب الجديد، قد طرقه الفيلسوف ابن خلدون واستقصى فيه منذ ستة قرون، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته المشهورة أن (الشدة على المتعلمين مضرة بهم) وعلل هذا بأن من كانت نشأته في أحضان القهر، وتربيته في مهاد القسوة والعنف لا سيما إذا كان صغيراً، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها؛ وذهب بنشاطها ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعمله المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين).
ولم يكتف ابن خلدون ببيان الأثر الذي تحدثه سياسة الشدة بالأفراد، بل قال إن أثرها في الأمم أشد خطراً وأبعد أثراً، فالأمة التي تقع فريسة للاستعمار، صديقة للشدة والعنف، هي أمة تنشأ على الذل والخوف، وتربى في أحضان الفساد الخلقي فيصير ذلك خلقاً وطبيعة لها. انظر إلى بني إسرائيل، وقد لبثوا تحت حكم الفراعنة أحقاباً يسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فلما أذن الله لهم، وأخرجهم موسى بعصاه، من أرض الفراعنة إلى صحراء سيناء، أوحى الله إلى موسى بأن يستعد هو وقومه لدخول الأرض المقدسة ومقاتلة من فيها من العمالقة. ولكن الخوف كان قد استبد بهم، وذهب الرعب بقلوبهم كل مذهب وقد تعود زعماؤهم أن يكونوا عبيداً المستعمرين (قالوا إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين). وبين ابن خلدون بعد ذلك أن الحكمة في وقوعهم في التيه أربعين سنة، هو انقراض هذا الجيل الذي نشأ في أحضان(952/11)
القهر والعنف، ومجيء جيل آخر تربى في أحضان الصحراء، تحت سمع الحرية وبصرها، وكان على يديه فتح الأرض المقدسة.
وكما يحلوا لعلما النفس، أن يوجهوا نصائحهم وإرشاداتهم إلى مربي النشء فإننا نرى كذلك ابن خلدون، بدل المربين على الطريقة المثلى في التربية الصحيحة فيقول: فينبغي للمعلم في متعلمه، والوالد في ولده، ألا يستبدوا عليهم في التأديب. ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: يا أحمد إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه. وثمرة قلبه. فصير يدك فيه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. . أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة.
أمين محمد عثمان
دبلوم معهد التربية العالي(952/12)
الولايات المتحدة الأمريكية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
- 4 -
حكومة فدرائية
نحن شعب الولايات المتحدة، رغبة منا في اتحاد أكمل، وفي إقامة العدالة، وكفالة الطمأنينة الداخلية، وتهيئة وسائل الدفاع المشتركة، ورعاية الخير العام، وضمان بركات الحرية لنا ولذريتنا، رسمنا وقررنا هذا الدستور للولايات المتحدة الأمريكية.
من ديباجة الدستور 1787
في 1774 ثارت المستعمرات الأمريكية على إنجلترا، ثم أعلنت استقلالها 1776، وأجتمع مؤتمر يمثل الولايات الثلاث عشرة لوضع دستور للدولة الجديدة، وقد ثار نقاش عنيف بين مندوبي الولايات وذلك بسبب تضارب مصالح سكان الولايات ونزعاتهم ورغباتهم ومذاهبهم الدينية وحرصهم على حريتهم الفردية وعلى استقلال ولاياتهم المختلفة. ولكن المندوبين أظهروا صبراً وتحملوا جهداً حتى وضعوا دستوراً يحقق لسكان الولايات حرياتهم الفردية وسعادتهم، ويكفل قيام حكومة مركزية أو اتحادية (فدرائية) تدافع عن سلامة الولايات وترد عنها أي عدوان خارجي، وتحقق السلام الداخلي وتقيم العدالة وتصون الحرية وتنهض بشؤون الولايات الاقتصادية.
وتم بذلك وضع نظام حكومي جديد في نوعه فترك للولايات الحكم الذاتي وقامت حكومة مركزية ساهمت فيها الولايات جميعاً، وهذه هي أهم المبادئ التي تضمنها الدستور الجديد:
أولاً: إن الناس جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات ولهم الحق في الحياة والحرية.
ثانياً: إن الحكومة ما وجدت إلا برضى الشعب ولخدمة الشعب، وموظفوها يختارون بالاقتراع العلني تلبية لإرادة أكثرية الشعب.
ثالثاً: إن الحكومة التي لا تعمل وفق رغبات الشعب والتي لا تحرص على تحقيق سعادة الشعب، ولا تحافظ على حقوق الأفراد وحرياتهم يجب أن تزول ويجب أن يقيم الشعب مكانها حكومة تخدم مصالحه وتحرص على حقوقه، وإن خير حكومة لهي حكومة تنتخب(952/13)
بواسطة الشعب ومنه وتعمل لمصلحته وبرضاه وهذه هي الحكومة الديمقراطية الحقة.
ويلاحظ أن هذه المبادئ كانت تعتبر ثورة على أنظمة الحكم القائمة وقتذاك. ذلك أن الدول التي كانت قائمة في أوربا وفي غيرها من بلاد العالم - ما عدا بريطانيا - كان نظام الحكم فيها نظاماً استبدادياً رجعياً يقوم لمصلحة بعض الطبقات فتنعم بينما تشقى أغلبية الشعب التي كانت محرومة من حرياتها وكافة حقوقها وعليها أن تشقى وأن تعمل لإسعاد فئة قليلة مترفة من الشعب، وكان ذلك من أهم أسباب الثورة الفرنسية الكبرى (1789) التي قلبت نظام الحكم في فرنسا وأقامت الحريات لأول مرة في أوربا في تأريخها الحديث.
رابعاً: تقرر أن يترك لكل ولاية حكمها الذاتي وأن تتمتع بحق السيادة، ولا تتدخل الحكومة الاتحادية في حقوق الولاية الخاصة.
خامساً: تقرر أن تنشأ حكومة اتحادية أو فدرائية للولايات جميعاً، ولكن ما مدى سلطتها وما مدى حقوقها وكيف تتكون؟ كانت كل ولاية حريصة على حريتها وعلى عدم الحد من سيادتها، ولكن من جهة أخرى لم تكن الولايات آمنة من غزو الدول الأخرى، وما من ولاية كانت قوية إلى حد يمكنها من حماية تجارتها الخارجية، وكانت الولايات في حاجة ماسة إلى شبكة من الطرق لأجل التجارة والنقد والبريد. وإذن فلتقم الحكومة الاتحادية لتتكفل تحقيق هذه المصالح المشتركة للولايات جميعاً. وقد وضح الدستور نظامها وسلطاتها ووافقت عليه الولايات المختلفة، وأصبحت أمريكا أرض الحرية فهرع إليها المعذبون والمضطهدون من سكان القارة الأوربية.
سادساً: تقرر أن تكون الدولة الجديدة جمهورية، وقد اختير جورج واشنطن زعيم حركة الاستقلال فكان أول رئيس للجمهورية ثم أعيد انتخابه للمرة الثانية، ولكنه رفض أن يرشح نفسه مرة ثالثة خوفاً من أن يصبح ذلك قاعدة، وربما تمكن أحد الرؤساء الذين يتجدد انتخابهم من قلب هذا النظام الجمهوري إلى نظام ملكي، وهذا يدل على تمكن النظام الجديد من نفس الشعب الأمريكي.
وفيما يلي وصف لتوزيع السلطات الثلاث في الحكومة الفدرائية:
أولاً: السلطة التشريعية:
تقرر أن تكون في يد الكونجرس (البرلمان) وهو يتألف من مجلسين:(952/14)
أ: مجلس الشيوخ ويتكون من 96 شيخاً باعتبار شيخين عن كل ولاية صغيرة كانت أو كبيرة، ومدة عضويته ست سنوات ويسقط ثلثه كل عامين حتى يكون دائم التجدد مع مجلس النواب. وأعضاؤه جميعاً منتخبون ويشترط ألا تقل سن الشيخ عن ثلاثين سنة عند انتخابه.
ب: مجلس النواب: وعدد أعضائه 435 نائباً، وترسل كل ولاية نواباً عنها إلى المجلس حسب تعداد سكانها، فكلما زاد عدد سكانها زاد عدد نوابها في مجلس النواب، ولا بد أن يمثل الولاية نائب على الأقل. ومدة عضوية المجلس سنتان، ويشترط ألا تقل سن العضو عن 25 عاماً عند انتخابه. وينتخب المجلس رئيسه، أما رئيس مجلس الشيوخ فهو نائب رئيس الجمهورية.
ويجتمع المجلسان في مقرهما بمدينة واشنطن وهي عاصمة الولايات المتحدة.
السلطات المخولة للمجلسين:
للكونجرس سلطة فرض الضرائب على الدخل وجبايتها، وعقد القروض ووضع قوانين وأنظمة للتجارة بين الولايات ومع البلاد الأجنبية، وضرب العملة، ووضع قوانين الجنسية، وإعلان الحرب والتجنيد والإنفاق على الجيش وتجهيز الأسطول وسن لوائح وقوانين للجيش والبحرية والتعاون مع الولايات على تنظيم قوة الجيش والأسطول وإنشاء مكاتب وطرق البريد الخ.
وبحسب الدستور لمجلس الشيوخ وحده السلطات الآتية:
1 - يستطيع مجلس الشيوخ عدم الموافقة على اختيار رئيس الجمهورية للموظفين في كثير من الوظائف المهمة.
2 - لمجلس الشيوخ أن يوافق بأغلبية ثلثيه على أي معاهدة تعقدها الولايات المتحدة حتى تصبح نافذة.
3 - لمجلس الشيوخ الحق في محاكمة المتهمين من أعضاء الكونجرس، ولمجلس النواب السلطة الوحيدة في اتهام أي موظف مدني في الولايات المتحدة بإساءة التصرف بحيث تقتضي العدالة عزله ويحاكم أمام مجلس الشيوخ.
وأما مجلس النواب فقد منحه الدستور سلطة واسعة في جمع المال للدولة، فجميع القوانين(952/15)
الخاصة بإيرادات الدولة يجب أن تقرر أولاً في مجلس النواب قبل أن يعمل مجلس الشيوخ بمقتضاها. والسبب في ذلك أن مجلس النواب أكثر تمثيلاً للولايات، فالولايات الكبرى لها عدد كبير من النواب وهي تدفع قسطاً أكثر من إيرادات الدولة، وعلى هذا وجب أن تكون سلطة مجلس النواب في الناحية المالية واسعة.
ومجلس الشيوخ يستطيع أن يدخل تعديلات على أي قانون، وإذا اختلف المجلسان تعين لجنة من أعضاء المجلسين لحسم الخلاف.
وعند افتتاح كل كونجرس جديد يجتمع أعضاء كل حزب سياسي ممثل في مجلس الشيوخ وينتخبون زعيماً لهم ويعينون شيوخاً آخرين أعواناً له وكذلك في مجلس النواب. ويختار هؤلاء الزعماء بحسب تقاليد الحزب السياسي ويقومون بدور كبير في سن القوانين بمقتضى الدستور.
الأحزاب السياسية:
يوجد في الولايات المتحدة حزبان سياسيان كبيران هما:
1 - الحزب الديمقراطي: وهو من أقدم الأحزاب إن لم يكن أقدمها؛ ويؤمن أتباعه بسيادة الديمقراطية سيادة تامة ويعتبر منذ نشأته حامي الحرية والمدافع عن حقوق الإنسان.
1 - الحزب الجمهوري: وكان يسمى في أول الأمر الحزب الفيدرالي أو الاتحادي، وكان يدعو إلى قيام حكومة اتحادية قوية والى أن يمنح الأغنياء امتيازات معينة والى استئثارهم بالحكم. وقد نجح الديمقراطيون في تحقيق أهدافهم واستأثروا بالحكم سنوات طويلة حتى أقاموا في أمريكا حكومة جمهورية ديمقراطية.
على أن هذا الحزب الجمهوري كان من البداية حزباً وطنياً، وكان حزب رجال الأعمال ومن أشهر رجاله إبراهام لنكولن أعظم رؤساء الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر والذي كان له الفضل الأكبر في تحرير العبيد بأمريكا وفي المحافظة على وحدة واتحاد الولايات الأمريكية 1860 - 1864.
ومنذ عام 1932 نجح الديمقراطيون في الفوز برئاسة الجمهورية الأمريكية.
للكلام صلة(952/16)
أبو الفتوح عطيفة(952/17)
مع الراحلين
الشيخ محمد راغب الحلبي
عضو المجمع العلمي العربي
مهداة إلى محقق تاريخ حلب الدكتور سامي محمد الدهان
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
نشرت الرسالة الغراء في العدد 946 أسطراً معدودات للسيد عبد اللطيف الطباخ ينعى فيها المرحوم (الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبي) ويعرف به تعريفاً وجيزاً لا يوازي المكانة العلمية التي كان يحتلها الشيخ منذ أخرج للعالم العربي في سنة 1342هـ - سنة 1923م موسوعته التاريخية الخاصة بمدينة حلب وأعلامها. والتي أسماها (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء).
وتعد هذه الموسوعة التاريخية أحدث المصادر عهداً عن تاريخ حلب بعد كتاب (نهر الذهب في تاريخ حلب) الذي ألفه الشيخ كامل حسين الغزي الحلبي، والذي ظهر مع (إعلام النبلاء) في وقت يكاد واحداً، فقد شهدت سنة 1342هـ مطلع الكتابيين اللذين يتحدان في موضوع واحد هو التأريخ لمدينة حلب والترجمة لأعيانها على مر العصور. وكان كل من المؤلفين يعلم عزم صاحبه على التأليف في هذا الموضوع. ومضى كل منهما إلى غايته على منهجه الخاص، وعلى هدى مصادره التاريخية والأدبية الخاصة. ولم يئن أحد الشيخين عنان العزم عن المضي في تأليفه، بل قام بينهما من التعاون العلمية ما يجب أن نسطره بالحمد. وخاصة عند فقيدنا المترجم له. . . فقد زار الشيخ كامل الغزي في منزله واطلع على أجزاء من (نهر الذهب) ونقل منه بعد استئذانه - ترجمة ابن أبي طي يحيى بن حميدة الحلبي المؤرخ المتوفى سنة 630هـ، وترجمة ابن عشائر الحلبي المؤرخ المتوفى سنة 789هـ. لأنه لم يظفر بهما بعد طويل بحث، فلما رآهما في كتاب الشيخ كامل الغزي أستاذنه في نقلهما إلى كتابه.
ولم يقم بين الشيخين الغزي وراغب الطباخ ما يقوم عادة بين المتنافسين من أهل الصنعة الواحدة، ولم تجد أحدهما يحط من قدر الكتاب الذي ألفه صاحبه ترويجاً لكتابه ورفعاً لشأنه(952/18)
على حساب الآخر. . بل تجد على الضد من ذلك أن الشيخ راغب الطباخ يثني على عمل صاحبه ويزن عمله وزناً صحيحاً لا يعرفه إلا من كابد التأليف ويقول:
(وإني من الشاكرين لمساعيه. المقدرين لجليل عمله. فقد عانى في جمع تاريخه ما عانيته، وقاسى ما قاسيته. . . هذا وقد أجتمع عند كل واحد منا من المواد ما لم يجتمع عند الآخر، واطلع على ما لم يطلع عليه، فسترى في تاريخه ما لا ذكر له عندي. وستجد في تاريخي ما لا تجده في تاريخه، فلا يستغني بأحدهما عن الآخر، كما قيل: لا يغنى كتاب عن كتاب).
وهذه الروح العلمية الرحيبة الآفاق الواسعة الصدر قل أن تجدها في زماننا هذا، حيث يظن الناقد - مثلاً - أنه ليس في الدنيا غيره، وأنه الأديب ليس في العالم إلاه. . . وأنه - وحده - اجتمعت له التجربة الكاملة، والثقافة الرفيعة والذوق المرهف. . ثم لا يستحي أن ينشر هذا الكلام - الذي أستحي أن أنعته - في مجلة سيارة، ثم بعد ذلك في كتاب.
ولقد ترجم الشيخ راغب الطباخ في كتابه لمئات ومئات من الرجال الذين أنجبتهم حلب الشهباء. ولكنا لا نظفر في كتابه بترجمة ذاتية له، ولو صنع لكان أراح المؤرخ الأدبي من عناء الترجمة له، كما فعل السيوطي المؤرخ مثلاً حينما ترجم لنفسه في كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة). وكما فعل المقرئ المؤرخ في كتابه (نفح الطيب). وكما صنع من المعاصرين الأستاذ محمد كرد علي بك في كتابه (خطط الشام)، والأستاذ محمد الأسمر في ديوانه (تغريدات الصباح).
على أننا لم نيأس من معاناة الترجمة لراحل وقف أكثر من حياته على تأليف كتاب واحد في التاريخ لحلب الشهباء، ورأينا أن هذه اللفتات الصغيرة في مقدمة كتابه الكبير، وفي الترجمة لجده الشيخ هاشم الطباخ ولوالده الشيخ محمود ولأخيه الشيخ محمد، ولعميه الشيخ عبد السلام والشيخ على الطباخ قد تعيننا على إخراج صورة لهذا العالم المتواضع الذي لم يحفزنا إلى الكتابة عنه إلا واجب الوفاء لعلمائنا الراحلين الذين لم يضنوا بجهد ولم يبخلوا ببذل في سبيل المعرفة والبحث، فكيف نبخل عليهم بصفحات مشرقة من تاريخهم نستأنس في كتابتها بما تلفظه عين البصيرة من هنا وهناك، وبما نجده مبعثراً في خلال السطور التي كتبوها. اعترافاً منا بفضلهم، وتلبية لواجب الوفاء لهم.(952/19)
ولا أعرف بالضبط السنة التي ولد فيها المرحوم الشيخ راغب الطباخ. إلا أن ناعيه في مجلة الرسالة الغراء يذكر أنه توفي في رمضان الفائت سنة 1370هـ عن ثمانية وسبعين عاماً. ومعنى هذا أنه ولد في سنة 1292هـ الموافقة لسنة 1875م. على أننا نجد في الجزء السابع من كتابه، وفي خلال ترجمته لعمه الشيخ عبد السلام أنه كان بمدينة (جدة) سنة 1308هـ مع عمه وكانا يزوران الشيخ محمد مراد الطرابلسي وهو من أهل العلم والفضل فتدور بينه وبين العم مطارحات ومناقشات طويلة، (فكان يتراءى لي - وأنا صغير - أن الحق تارةً يكون مع السيد الطرابلسي وتارةً مع سيدي العم). ومعنى هذا أن سنه كانت عند المناقشة في جدة سنة 1308 ستة عشر عاماً. فهل كان في السادسة عشرة صغيراً كما يقول بنص عبارته؟ ومهما يكن من أمره، فقد ولد رحمه الله في محلة باب قنسرين بحلب في دار ذات أواوين ثلاثة مفروش صحنها بالرخام الأصفر. وفي الوسط بركة صغيرة. وهي دار قديمة أستظهر المترجم له أنه مضى عليها 300 سنة إلى وقت ولادته واشتراها والده الحاج محمود الطباخ سنة 1276هـ.
وينتمي الشيخ راغب إلى أسرة جمعت بين التجارة والعلم والتصوف. فقد عرض على جده الشيخ هاشم منصب القضاء في الآستانة، فأبى معتذراً بأن لهم صنعة أغناهم الله بها عن الوظائف وهي صناعة بصم الشاش الأبيض بألوان ونقوش لتتخذ منه العصائب والمناديل في بلاد كثيرة من الشرقين الأدنى والأوسط، وقد نشأ أبوه أيضاً في صناعة البصم وتجارتها أسوةً بأبيه، جامعاً بين العلم والتجارة، إلا أن مسائل العلم انحصرت عنده في الأمور الفقهية التي تتعلق بأحكام المعاملات في الشريعة الإسلامية، حتى يكون مثال التاجر المسلم الحق في بيعه وشرائه. ونجد عميه أيضاً يشتغلان بالتجارة. على أننا نجد المؤلف نفسه يعترف في خلال ترجمته لوالده بأنه مع اشتغاله بخدمة العلم كان يتعاطى صناعة بصم المناديل والملافع. كما تعاطى التجارة مع أخويه في خان العلبية وخان البرغل إلى سنة 1339هـ 1920م وهي السنة التي تركوا فيها صناعة البصم نهائياً لقلة رواج هذه المناديل والملافع الملونة في بلاد الشرق العربي وتركية. وخاصةً بعد أن غير كما أتاتورك زي بلاده إلى القبعة الغربية. فلم تعد المناديل توضع على رءوس الفلاحات التركيات. .
وفي أسرة الطباخ نزعة تصوفية من ميراث القرون الماضية ولكنها بقيت فيهم إلى عهد(952/20)
غير بعيد. . فجده الشيخ هاشم وهو من رجال القرن الثالث عشر الهجري أخذ الطريقة الخلوتية القادرية على الشيخ إبراهيم الدار عزاني ولازم زاويته، ثم لزم بعد وفاته ولده الشيخ محمد (وسلك على يديه؛ وصار يختلي معه الخلوة الأربعينية في كل سنة). وأبوه الحاج محمود الطباخ كان يختلف إلى الشيخ محمد الهلالي ابن الشيخ المتصوف الزاهد الشيخ إبراهيم الهلالي شيخ التكية الهلالية بحلب. وأخوه الشيخ محمد الطباخ لازم الزاوية الكيالية وشيخها إذ ذاك الشيخ حسن بن طه الكيالي (فأخذ عنه الطريقة الرفاعية، ولازمه ملازمة الظل لصاحبه. . وأخذ في مطالعة كتب السادة الصوفية، وطالعا عدة كتب في الزاوية المذكورة، وصار يختلي معه فيها كل سنة أربعين ليلة على حسب عادة أهل الطريق). وعمه الشيخ علي الطباخ أخذ الطريقة الخلوتية القادرية على الشيخ إبراهيم الهلالي، وبعد وفاته لزم ولده الشيخ مصطفى الهلالي. . وفي سنة 1310هـ صار خليفة للشيخ وأذن له بإقامة الذكر والإرشاد. فصار له بعض المريدين الذين كانوا يقيمون الأذكار معه في مسجد الروضة في محلة سراي إسماعيل باشا.
ولم أقع فيما قرأت عن الشيخ راغب على نص يدل على أنه سلك طريق الصوفية أو أختلي الخلوات الأربعينية مثل أخيه الشيخ محمد، ولكن الذي أعرفه - مما نبشت في كتاب أعلام النبلاء - أن المترجم له تتلمذ على أستاذين من أكبر علماء الشام وهما الشيخ محمد الزرقا، والشيخ بشير الغزي. أما الشيخ الزرقا فقد كان حجة في فقه الإمام أبي حنيفة، وكان كما يقول تلميذه: (لو شاء إملاء مذهب أبي حنيفة من حفظه لأملاه بنصوصه وحروفه). وقد تولى التدريس في المدرسة الشعبانية أولاً، ثم اشتغل بالقضاء أو رياسة كتاب المحكمة الشرعية بحلب، وظل أكثر حياته الطويلة معلماً يلتف حوله التلاميذ ويردون أصفى موارده، إلى أن توفي سنة 1343هـ - 1924م. أما الشيخ بشير الغزى فقد كان أميناً للفتوى بحلب فعضواً بمحكمة الحقوق فرئيساً لها، فمدرساً بالمدرسة الرضائية، فقاضياً إلى أن عين في آخر أيامه قاضياً لقضاة حلب، وظل في المنصب إلى أن توفي سنة 1339هـ - أي قبل الشيخ محمد الزرقا بأربع سنوات.
وعلى قدر ما كان الشيخ محمد الزرقا متمكناً من الفقه الإسلامي ضالعاً فيه، كان الشيخ الغزي متمكناً من اللغة العربية وشعرها وأدبها، وكان حاضر الذهن في الاستشهاد باللغة أو(952/21)
بالشعر، وأعجب من ذلك أن كتب الأغاني لأبي الفرج، والحماسة لأبي تمام، والآمالي للقالي، والكامل للمبرد، ودواوين أبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري كانت كلها على مناط الطلب. بحفظها ويروي عنها ويعيها في صدره، فلا يكاد يخطئ في الرواية عنها أو يعز عليه الاستشهاد منها.
ومن هذين المزاجين عند شيخين من أكابر شيوخ الشام في وقتهما اجتمع للشيخ راغب الطباخ مزاج ثالث في التحقيق والصبر عليه واللجوء إلى المصادر والسعي وراءها لا يمنعه منها مانع من زمن أو بعد شقة غيره. ففي المدينة المنورة عثر على أوراق في تاريخ حلب لمؤرخ مجهول - كما يقول فهرس مكتبة عارف بك حكمت - فاستنسخ الأوراق فإذا هي ليست تاريخاً لحلب. . وإنما هي موشح للشيخ علي الميقاتي الحلبي في ذكر متنزهات الشهباء ومدح بعض أعيانها. .!
وفي حلب نفسها يلتقي بالمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون سنة 1921 ويذكر له أمله في الحصول على نسخة من مخطوطة كتاب (الدر المنتخب) لابن خطيب الناصرية من علماء القرن التاسع الهجري، فيعود ماسينيون إلى باريس ويصور المخطوطة ويبعث بالنسخة المصورة إلى الفقيد الكريم. ثم يكتب إلى العلامة المرحوم أحمد تيمور باشا سائلاً إياه أن يدله على كتب في مكتبته تتصل بتاريخ حلب. فيكتب له تيمور باشا عن جزءين في مجلد واحد من كتاب (كنوز الذهب في تاريخ حلب) للإمام المحدث موفق الدين أبي ذر. ثم يعثر في مكتبة محمد أسعد باشا الجابري بحلب على مخطوطة (در الحبب) لرضي الدين الحنبلي فيستعيرها ثم ينقلها بخطه إلى نسخة حسنة الخط صحيحة الرسم يراها أسعد باشا فيستحسنها ويأخذها بدلاً من مخطوطته. . . ثم يجد نسخة من كتاب (الدر المنتخب) المنسوب لابن الشحنة عند أحد علماء حلب فيكتبها بخط يده ويقابلها بغيرها من النسخ المخطوطة، ويحقق أن هذا الكتاب لأبي اليمن بن عبد الرحمن البتروني، وليس لأبن الشحنة كما كان معروفاً قبل ذلك. ثم يذهب إلى دمشق فينسخ عشرات وعشرات من المخطوطات التي وجدها في مكتبات العاصمة السورية مما يتصل بموضوع تاريخه لمدينة الشهباء. ثم نجد الكرام من العلماء يعيرونه من نفائس المخطوطات والكتب ما يعينه على إخراج كتابه (إعلام النبلاء) كالمرحوم أحمد تيمور باشا الذي أعاره كتب (المنهل الصافي)(952/22)
لابن تغرى بردى في خمسة مجلدات، و (كنوز الذهب) كما سلف القول، و (رحلة القاضي ابن آجا مع الأمير يشبك).
وليس هذا الشغف يجمع الكتب القديمة والمخطوطات الثمينة طارئاً على الشيخ راغب الطباخ، فقد اقتنى جده الشيخ هاشم الطباخ كتباً خطية نفيسة كثيرة، منها (الجامع لآداب الراوي والسامع) للحافظ الخطيب وهي نسخة قديمة قيمة، وكتاب (أسرار التنزيل) للفخر الرازي، وكتاب (شرح المناوي الكبير على الجامع الصغير) و (شرح منظومة الإمام النسفي الحنفي) و (جزء عبد الله بن المبارك في الحديث) وغيرها.
وقد توزع الأبناء هذه الكتب وتصرفوا فيها بالبيع إلى أن استقرت منها جملة وافرة في مكتبة المجلس البلدي بالإسكندرية. وعلى كثير من هذه الكتب خط الشيخ هاشم الجد.
ويظهر لي أن الشيخ راغب الطباخ لم يكن يعرف من اللغات الأوربية ما يعنيه على استكمال عدة البحث العلمي الصحيح! فقد استحضر أحد وجهاء حلب الإيطاليين (أندريه ماركوبولي) من باريس قطعة من كتاب (بغية الطلب) لابن العديم مترجمة إلى الفرنسية، وأطلع عليها المترجم له، وترجم له - كما يقول - جانباً منها، وهو نص يدلنا على عدم معرفة الفقيه للغة الفرنسية. وفي موضع آخر من مقدمة كتابه يذكر أن اللجنة الألمانية الأثرية التي زارت مدينة حلب سنة 1326هـ قد أطلعوه على الجزء الثاني من تاريخ (بروكلمان) (واستخرجوا لي ما هو موجود من تواريخ الشهباء في المكتبات الأوربية). ولو كان يعرف الأبجدية اللاتينية - على الأقل - لاستطاع أن يستخرج بنفسه تواريخ حلب من كتاب المستشرق الألماني بروكلمان. . .
وطريقة المؤلف في (إعلام النبلاء) هي الجمع والنقل عن السابقين وعن نوادر المخطوطات مع توسع في النقل (فما رأيت من الحوادث في كتابين أخذت الأوسع منهما، وإذا كان في الأقل زيادة مفيدة التقطتها وأضفتها إلى تلك لتكون الفائدة أتم). ونراه التزم في باب التراجم خطة التوسع في النقل والجمع (فلم يقع نظري على ترجمة لحلبي في كتاب من الكتب التي اطلعت عليها إلا ونظمتها في عقد هذا التاريخ).
وإذا كان الشيخ راغب لم يسلك في كتابه مسلك المؤرخ الحديث من تحليل ونظرة عامة إلى العصور، وتفاعل بين الظروف والشخصيات، ودراسة للأحوال الاجتماعية، وتأريخ(952/23)
للشعب فإن المؤرخ بالمعنى الحديث يستطيع أن يجد في هذه الموسوعة التاريخية مادة غزيرة يستخرج منها ما يريد دراسته من تاريخ حلب، فإن الكتاب - على طريقة صاحبه - هو سجل زمني حافل بالأحداث والتراجم، ويكفي أن صفحاته التي زادت على أربعة الآلاف نسخة قد اشتملت على 1136 ترجمة لرجالات حلب من الوزراء والأمراء والشعراء والعلماء والمحدثين والفقهاء والأطباء وأرباب التجارة وغيرهم. كما يكفي أن جمع هذه المواد الكثيرة للكتاب قد استغرق من المؤلف أثنين وعشرين عاماً حيث ابتدأ يضعه سنة 1323هـ، وانتهى من تأليفه سنة 1345هـ.
ولقد كان المؤلف يعالج نظم القريض، إلا أنه لم يكثر فيه، ولعل اشتغاله بالكتب والمخطوطات ونسخها لم يعنه على إتمام المعالجة، ونجد في أول الكتاب صورته الفوتوغرافية وتحتها هذان البيتان:
إليكم يا بني الشهبا كتابا ... حوى تاريخ أجداد عظام
وروحي في ثناياه تجلت ... وذا رسمي إذا غابت عظامي
ثم نجد في المقدمة بعض شعر نظنه له لأنه لم ينسبه لقائل. ومنه:
يا ناظراً فيما قصدت لجمعه ... أعذر فإن أخا الفضيلة يعذر
واعلم بأن المرء لو بلغ المدى ... في العمر لاقى الموت وهو مقصر
إلا أن الفقيد لاقى الموت غير مقصر في واجب، فقد ملأ عمره بالعمل المتصل، حتى استطاع أن يخرج للناس كتاباً منشوراً يقرءونه ويرجعون إليه، حين يودون أن يرجعوا إلى تاريخ السابقين، من أبناء العرب الميامين.
رحمه الله، وعوض العرب والمجمع العلمي العربي خير العوض، وجعل ما بين الأمة العربية الإسلامية وحاضرها موصولاً حتى يوفى العقد على تمامه، والسلك على نظامه.
محمد عبد الغني حسن(952/24)
2 - أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
والسموأل يباعد ويقارب بين الطرفين البعيدين في هذه الصورة الشعرية إذ يقول:
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل
هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره ... يعز على من رامه ويطول
علونا إلى خير الظهور وحطنا ... لوقت إلى خير البطون نزول
ولم يكن أمام الحارث بن حلزة ما يعوق رقيه وانتماءه إلى ذروة الشرف، يقول:
فبقينا على الشناءة تنمينا ... حصون وعزة قعساء
ويقول عنترة العبسي وقد جمع بين الحركة إلى أعلى وخوض الحروب ونيل الرتب:
ولى بيت علا ذلك الثريا ... تخر لعظم هيبته البيوت
وخضت بمهجتي بحر المنايا ... ونار الحرب تتقد اتقادا
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلا من طبعه الغضب
وهو الذي لم يقعد بسواد وجهه عن النهوض والجهاد. وفي ذلك يقول:
وأختر لنفسك منزلاً تعلو به ... أو مت كريماً تحت ظل القسطل
إن كنت في عدد العبيد، فهمتي ... فوق الثريا والسماك الأعزل
وبذابلي ومهندي نلت العلا ... لا بالقرابة والعديد الأجزل
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل
تلك هي مؤهلات المجد التي ابتدعها عنترة، وحرص على إبرازها، فكان له مكانه الممتاز بين أصحاب المعالي، وحسبه شرفاً أن له - وهو العبد الأسود - همة عالية نالها بالقوة لا بالانتساب إلى سادة العرب محتداً وعديداً، وأحق معادن الرجولة بالإشادة هذا المعدن(952/25)
العنتري النادر أو كما يقول شاعر قديم:
شباب قنع لا خير فيهم ... وبورك في الشباب الطامحينا
وأصحاب المعالي من القوة بحيث يتفاوتون في درجات التصعيد، كل على حسب طاقته من التصميم على إدراك الغاية: فهذا النابغة الذبياني يمدح عمرو بن الحارث_ألا أنعم صباحاً، أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك. . والسخاء ظهارتك، والحمية بطانتك، والعلا غايتك.) وتلازمه هذه النزعة حتى وهو يمدح النعمان بن المنذر ملك العرب:
كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
هذا في حين نرى عنترة - وهو الباطش الشديد - يتوعد النعمان بهذا الشعر المليء بالذخيرة، المفعم باللهيب، المختضب بالدماء:
اليوم تعلم يا نعمان أي فتى ... يلقى أخاك الذي قدر غره العصب
فتى يخوض غمار الحرب مبتسماً ... وينثني وسنان الرمح مختضب
إن سل صارمه سالت مضاربه ... وأشرق الجو وانشقت له الحجب
والخيل تشهد لي أني أكفكفها ... والطعن مثل شرار النار يلتهب
والنقع يوم طراد الخيل يشهد لي ... والضرب والطعن والأقلام والكتب
ومن هنا نرى الفرق بين النعمان وعنترة في القدرة على التصعيد في طلب المعاني النادرة، والامتزاج بالطبيعة في توليد القوى الدافعة الرافعة معاً.
وهذا ابن المنير الطرابلسي ينزل القمر - كرمز للجمال - من السماء إلى الأرض فيقول:
وأنزل النير الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسوراني
ومثله في هذا محمد بن وهيب إذ يقول:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
وكان زهير بن أبي سلمى - على تقواه وروعه وسيادته وغناه - من دعاة المغامرة في طلب العزة ولو لقي في ذلك حتفه، قال يمدح الرجلين الساعيين في إصلاح ذات البين بين عبس وذبيان، وذلك كنز من المجد يرفع صاحبه: قال:
عظيمتين في عليا معد هديتما ... ومن يستبح كنزاً من المجد يعظم(952/26)
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدواً صديقه ... ومن لا يكرم نسفه لا يكرم
ويقول أمية بن أبي الصلت: وقد أدرك الإسلام ولم يسلك:
ورثنا المجد من كبرى نزار ... فأورثنا مآثرنا بنينا
وهو المادح بقوله:
وأرضك كل مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء
وبذلك جعل الطريف سقفاً للتليد. والسماء أشرف من الأرض على كل حال.
ومن أصحاب المعالي الشعراء من جعل للعلا عينا وحاجباً، واختار لها خدنا وقرينا، من هؤلاء الخطيب أبو محمد إذ يقول:
(لقد رأيت الثناء حقاً واجباً. على من غدا للعلا عيناً وحاجبا، وسلب الوفاء صاحب القوس (حاجبا). وقال أيضاً:
من ذا يفيد فديتكم زواره ... خطط النوال غرائبا ورغائبا
أم من غدا خدن العلا وقرينها ... فظننت ذا عينا وهذا حاجبا
وجعل أبو العتاهية للعلا يداً إذ قال في مدح الرشيد:
بسطت لنا شرقاً وغرباً يد العلا ... فأوسعت شرقياً وأوسعت غربياً
وأكثرهم يجعل المجد بناء يسقفونه بالممدوح أو يجعلونه رداء وإزاراً له، قالت الخنساء في صخر:
وإن ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم ارتدى
وقال أبو فراس الحمداني في رثاء جابر بن ناصر الدين:
لما تسربل بالفضائل وارتدى ... برد العلا واعتم بالإقبال
وقال الإمام السبكي وقد جعل للمعالي أذيالاً يجرها بنو النجار فخراً بالنبي:
نزلت على قوم بأيمن طائر ... لأنك ميمون السنا والنقيبة
فيا لبني النجار من شرف به ... يجرون أذيال المعالي الشريفة(952/27)
وحافظ إبراهيم قد تجشم الصعب لكي يلبس المجد معلماً، بينما جعل محمود صفوت الساعاتي للعلا عيوناً تبكي على عزيز راحل:
بكت عيون العلا وانحطت الرتب ... ومزقت شملها من حزنها الكتب
ومنهم من نصب خيام العز على ظهر السماك، فهذه نقية بنت الخطيب تقول:
أعوامنا قد أشرقت أيامها ... وعلا على ظهر السماك خيامها
ومنهم من لم يرض بالأرض مقاماً، فارتفع إلى ما فوق السماء بالعفة والكرامة، قال أبو ليلى النابغة عبد الله بن قيس في حضرة رسول الله:
علونا السماء عفة وتكرماً ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فتغضب رسول الله، وبان ذلك في وجهه وقال: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟
قال: إلى الجنة يا رسول الله. فقال النبي: أجل إن شاء الله ذلك لأن الله سبحانه وتعالى وصف الجنة بالعلو فقال:
(في جنة عالية)
ويقول أبو النجم العجلي:
ثم جزاه الله عنا إذ جزى ... جنات عدن في العلالي والعلا
ويقول أبو العتاهية في القلم:
لك القلم الأعلى الذي بسنانه ... يصاب من المرء الكلى والمفاصل
ومن شعراء العرب من يقصر المعالي أحياناً على الممدوح فيقول:
قل لأمير المؤمنين الذي ... له العلا والمثل الثاقب
وقد ينزل أحدهم الثريا من السماء ليضعها على نحر الحبيب فيقول:
كأن الثريا فوق نحرها ... توقد في الظلماء أي توقد
وإنما يرتفع الفرد وتعلو الجماعة ينشدان الكمال جداً واجتهاداً كما يقول القائل:
دنوت للمجد والساعون قد بانوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا الجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تدرك المجد حتى تلعق الصبرا
ولا يخفض القبيلة وأفرادها إلا التخلف عن طلب المعالي، قال الشاعر في (قصي):(952/28)
ألهي قصياً عن المجد الأساطير ... ورشوة مثلما ترشى السفاسير
وأكلها اللحم بحتاً لا خليط له ... وقولها: رحلت عير. . أتت عير
وما أبدع الجمع بين الغرام والجهاد في قول الشاعر الذي يطلب العزة في الكأس والقبلة، وقد تمناهما في قبة الفلك وجبهة الأسد، وترفعا بهما عن الابتذال:
ليت الملاح وليت الراح قد وضعا ... في جبهة الليث أو في قبة الفلك
كما يقبل ذا حسن سوى ملك ... ولا يطوف بحانات سوى ملك
ويضع الحافظ أبو الطاهر السلقي أهل الحديث في أعلى مكان حيث لا يدانيهم أحد من الناس:
أهل الحديث هم الرجال البزل ... ومن المعالي في الأعالي نزل
هل يستوي السمك الذي تحت الثرى ... أبداً مقيم والسماك الأعزل
أما الخنساء فقد قالت ترثى أخاها صخراً وفي مرجل نفسها تعتمل عناصر القوة مع مؤهلات المجد:
طويل النجاد رفيع العما - د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا أياديهم ... إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهمو ... من المجد ثم مضى مصعدا
يحمله القوم فوق ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
وإن ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم ارتدى
وتقول أيضاً:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم من فوقه نار
ومن الناس من يتعالى بنفسه إذا تكبر عليه أحد أو تباعد عنه، قال الشاعر:
وإني إذا ما لم تصلني خلتي ... وتباعدت مني اعتليت بعادها
أي علوت بعادها ببعاد أشد منه، وقال أحمد بن بلال بن جرير
لعمرك إني يوم فيد لمعتل ... بما ساء أعدائي على كثرة الرجز
أي عار قادر قاهر
وليس يتساوى عند الموت خامل وعامل، فمن كان في الحياة عالياً فهو كذلك عند الموت،(952/29)
قال أبو الحسن الأنباري في رثاء أبي طاهر محمد بن بقية وزير عز الدولة بن بويه عندما صلبه عضد الدولة، وتمنى الشاعر أن لو كان هو المصلوب، وقيلت فيه هذه القصيدة التي قال في مطلعها:
علو في الحياة وفي الممات ... لحق تلك إحدى المعجزات
ومنها:
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا ... عن الأكفان ثوب السافيات
ومنها:
ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات
حتى المرأى كانت ترى أنه صاحبة المعالي حين تبدي زينتها وتمشي تيهاً ودلالاً، فقد كتبت ولادة بنت المستكفي على تاجها بسلوك من الذهب:
أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وآتيه تيهاً
وأمكن عاشقي من لثم ثغري ... وأعطى قبلتي من يشتهيها
وليس يصلح للمعالي كل من استند إلى نسب أو حسب، وإن كان يصلح لها خامل الآباء إذا طلب الأسباب، لهذا يقول أبو الأسود الدؤلي:
كم سيد بطل آباؤه نجب ... كانوا الرءوس فأمسى بعدهم ذنبا
ومقرف خامل الآباء ذي أدب ... نال المعالي بالآداب والرتبا
وبالعزيمة الصادقة يبلغ المرء هذه الدرجات كما تقول ليلى الأخيلية:
فتى كانت الدنيا تهون بأسرها ... عليه ولا ينفك جم التصرف
ينال عليات الأمور بعزمه ... إذا هي أعيت كل خرق مشرف
ويتفلسف ابن المعتز في (مؤنة المعالي) فيقول:
(لن تكسب - أعزك الله - المحامد، وتستوجب الشرف إلا بالحمل على النفس والحال، والنهوض بحمل الأثقال، وبذل الجاه والمال، ولو كانت المكارم تنال بغير مؤنة لاشترك فيها السفل والأحرار، وتساهمها الوضعاء من ذوي الأخطار، ولكن الله تعالى خص الكرماء الذين جعلهم أهلها. فخفف عليهم حملها وسوغهم فضلها، وحظرها على السفلة، لصغر(952/30)
أقدارهم عنها وبعد طباعهم منها، ونفورها عنهم واقشعرارها منهم).
أما الفرزدق فيرى مؤهلات المجد في عزة النفس وكثرة العدد:
لنا العزة القعساء والعدد الذي ... عليه إذا عد الحصى يتخلف
ويرى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب أن الإسلام هو العيش العالي، ولو أصيب في سبيله بما أصيب، فهو القائل عندما قطعت رجله في غزوة بدر، وتوسد قدم النبي عليه السلام:
فإن يقطعوا رجلي فإني مسلم ... أرجى به عيشاً من الله عاليا
وألبسني الرحمن من فضل منة ... لباسها من الإسلام غطى المساويا
ويرى الإمام علي كرّم الله وجهه أن مطالب العلا كثيرة، وتستلزم بذل المال، وحسن الخلق، والاعتصام بالله وحده، وشكر نعمه، وكذلك العلم والسفر فهو القائل:
ونافس ببذل المال في طلب العلا ... بهمة محمود الخلائق ماجد
وبالله فاستعصم ولا ترج غيره ... ولا تك في النعماء عنه بجاحد
ويقول:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمو ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
ويقول:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا ... وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج غم واكتساب معيشة ... وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة ... وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من مقامه=بدار هوان بين واش وحاسد
ويرى البارودي كل شيء محبب في سبيل المعالي:
ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب
أما شوقي فيتخذ عزة النفس والإباء سلماً لطلب العلا:
ينال العلا من لا يرى في سبيلها ... رضاء يخسف أو قعودا إلى حكم
أأقبل أن يستعبد الضيم مهجتي ... وما خلقت إلا قضاء على الضيم
والعلم في نظر الشيخ طنطاوي جوهري هو مذهبه في المعالي:(952/31)
لي في العلا مذهب سارت به السلف ... فلا أبالي إذا ما ضله الخلف
ومنها:
أبيت إلا المعالي والمعارف إذ ... أرى الجهالة عاراً ليس ينكشف
وكم خطبت المعالي وهي ترمقني ... ولم يعقني عن إدراكها الترف
ولم يكن خجل عائشة التيمورية ولا الحجاب بمانعها عن العلياء:
ما عاقني خجلي عن العليا ولا ... سدل الخمار بلمتي ونقابي
عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت ... صعب السباق مطامح الركاب
ويحتفل صفي الدين الحلي بالأخطار والأخلاق، ما دامت عليات الأمور رائد الكريم:
لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ... ولا ينال العلا من قدم الحذرا
ومن أراد العلا عفواً بلا تعب ... قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
لا بد للشهد من نحل يمنعه ... ولا يجتني النفع من لم يحمل الضررا
لا يبلغ السؤل إلا بعد مؤلمة ... ولا يتم المنى إلا لمن صبرا
ويقول:
ولا ينال العلا إلا فتى شرفت ... خصاله فأطاع الدهر ما أمرا
والعفاف والإقدام والحزم والجود هي المؤهلات التي لا بد منها - في نظر أبي العلاء - في سبيل المجد:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل ... عفاف وإقدام وحزم ونائل
ولا يحمي الشرف العالي من الأذى إلا السيف في رأي المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
ولا يصون العلا في نظره إلا استعمال الشدة في موضع الشدة، والحلم في موضع الحلم:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهمو ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
للكلام صلة
محمد محمود زيتون(952/32)
2 - على ضفاف القناة:
معمل تكرير البترول
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
وأعني به المعمل الحكومي الذي يقع في الزيتية قرب مدينة السويس، بجوار المعمل العظيم الضخم الذي (تمتلكه) الشركة الإنجليزية لحماً ودماً، والمعروفة بشركة (شل).!
زرت هذا المعمل الحكومي مع تلميذاتي، طالبات القسم الثانوي بمدرسة الإسماعيلية الثانوية الأميرية للبنات، وفي ذهني صورة مشرفة عنه، تعتز بها كوطني غيور، وأستاذ يحاول أن يشرب نفوس تلاميذه وتلميذاته حب الوطن، والاعتزاز بمرافقه الحيوية، ومقومات وجوده. .
أقول في ذهني صورة كونتها من المعلومات الكثيرة المتنوعة - في الواقع - التي تنشر في الصحف والمجلات والكتب المدرسية، التي في أيدي الطلاب والطالبات، والتي تصور هذا المعمل في إطار من الجلالة والكمال، والروعة والعظمة، ما تمتلئ له نفس المصري بالفخار والإجلال.
ومن العجيب المؤلم أنني فجعت في هذا الأمل. في هذه الصورة الجليلة العظيمة التي كونتها من الصحف والمجلات، والكتب المدرسية، لا من البحث والدرس والتنقيب. . ووقفت ذاهلاً حيران، حينما علمت الحقيقة المرة، التي تسيء إلى مصر والمصريين أجمعين، وتدل دلالة واضحة على غفلتنا وبلهنا، وتمكن العنصر الإنجليزي اللعين في البلاد، أو بعبارة أدق السلطان الإنجليزي، وتمكنه في مرافقنا الحيوية إلى حد كبير، حتى ليخيل إلى الآن، أن صراخنا وهتافنا بين الحين والحين، ومطالبتنا بالجلاء الناجز، ما هو إلا عبث أطفال عاجز، والطريق الوحيد إلى الحرية والاستقلال هو غير ما نفعل بلا مراء. . أنه أشبه بهتاف الأطفال والصغار كلما رأوا طائرة في الجواء، محلقة في الفضاء، ارتفعت أصواتها مدوية مجلجلة: (يا عزيز يا عزيز. . كبة تأخذ الإنجليز. .).!
والعزيز القهار الذي لا يغلبه شيء في الأرض ولا في السماء قادر على أن يأخذ الإنجليز، ولكنه لا يأخذهم إلا إذا حاولنا نحن أخذهم والقضاء عليهم، واتخذنا طريق الجد والسعي والعمل، لا طريق الهزل والنقاش والفرقة والجدل، ومهما كانت جهودنا ضعيفة ضئيلة، فإن(952/34)
العزيز القاهر سينصرنا حينئذ عليهم نصراً مبيناً، ويتولى هو أخذهم ما دمنا نتذرع بالإخلاص، ونتذرع بالإيمان والعزم. .
إن الزائر العابر لهذا المعمل الحكومي يعجب بما فيه من عدد وآلات، ومساحة واسعة، وبناء فخم ضخم، فيه بذخ وسخاء. كما جرت بذلك عادة حكومتنا السنية الرشيدة في عنايتها الكبيرة بالبناء والعمارة، ومبالغتها في تشييدها وتنسيقها. وتنظيمها إلى حد يخرج بها عن الغرض الذي بنيت من أجله، وبدل دلالة واضحة على المبالغ الكبيرة التي أنفقت عليه، والتي يذهب أكثرها إلى جيوب المرتشين من القائمين بكل عمل حكومي نظير تغاضيهم عن الأصول المرعية، والقواعد المرسومة، والاشتراطات الموضوعة، والمتفق عليها، والقوانين التي يجب أن تسود. .
وإن الزائر العابر يؤخذ بما يقال له من معلومات معسولة جذابة، وعبارات منمقة حماسية، كلما طاف باتجاه المعمل، وتجول في أرجائه ونواحيه. . معلومات تسيطر على حواسه، وتملك عليه جوانب نفسه، ويعتقد أن مصر سعيدة به إلى حد ليس بعده سعادة، ويخيل إليه أن إنتاجه يغمر البلاد بأسرها، ويسد حاجة مصر من هذه المواد الضرورية في مختلف نواحي الحياة من بنزين وكيروسين وديزل ومازوت وفزلين إلى غير ذلك من منتجات البترول، أو الذهب الأسود بعبارة أدق.! ولكن الواقع غير ذلك، إذ أن هذا المعمل بجلالة قدره لا يعمل للسوق. . هذا المعمل الذي تشرف عليه وزارة التجارة والصناعة لا ينتج للاستهلاك الشعبي، وإنما يعمل وينتج للمصالح الحكومية فحسب. ينتج البنزين والكيروسين والسولار والمازوت، ولا شيء غير ذلك، ومع هذا فإن جماع إنتاجه لا يكفي هذه المصالح، ولا يسد غير جزء يسير مما تحتاج إليه، والتي تمد يدها دائماً مستجدية معمل شل، وغيره بقية معامل العالم، فتستورد مقادير كبيرة تسد بها حاجياتها، وبخاصة مصلحة الميكانيكا والكهرباء التابعة لوزارة الأشغال.!
إن هذا المعمل الحكومي العظيم يعيش على فتات موائد معمل شل، أي أنه يكرر نصيب الحكومة في استغلال آبار البترول، ويقدر بحوالي خمسة عشر في المائة مما تخرجه هذه الآبار، وهي كمية أقل ما يقال فيها: إنها نصيب الخائب، المغلوب على أمره، والذي ليس له من الأمر شيء، إلا أن يسمع فيطيع. .!!(952/35)
هذه الحقيقة المرة التي فجعت آمالي، وخيبت ظني في هذا المعمل الوطني، لأنه في الواقع يستمد حياته من معمل شل، ولا يكاد يستقل بأمره، أو ينهض فريداً بأعباء العمل الذي من أجله قد بني، إلا إذا أردنا نحن المصريين له مخلصين. .
أما معمل تكرير البترول الإنجليزي، وأعني به معمل شل فإنه يفوق معمل تكرير البترول المصري بمئات المرات لا أقول مساحة وإنما أقول إنتاجاً وكفاية، واستعداداً للطوارئ، ومواجهة للظروف كائنة ما كانت. . إنهما كالعملاق الجبار الذي يزهو بقوته وجبروته، والقزم الذليل الهزيل الضعيف، الذي يتضاءل ويتضافر خجلاً واستحياء لئلا تقع عليه العيون، لشعوره بضعفه وحقارته، وضآلة شأنه، وهوانه على الناظرين. .!!
وينتج هذا المعمل بجانب الأنواع التي ينتجها المعمل الحكومي - الديزل والفزلين والإسفلت وغير ذلك مما يحتاج إليه الاستهلاك الشعبي، والسوق في مختلف نواحي العالم. ولا يخفى ما في ذلك من ربح وفير. . وإن زيادة واحدة لمدينة السويس حيث يقوم هذا المعمل الكبير المترامي الأطراف، وجولة خاطفة بالغردقة ورأس غارب وسناجة. . تجعلنا ندرك إلى أي حد تتدفق الأموال باستمرار في جيوب هذه الشركة العاتية، أو بعبارة أدق كيف يسيل الذهب من مصر إلى خزائن الإنجليز براقاً يخطف بالأبصار. . ثم لا يعجب بعد ذلك لما يراه من مظاهر الغنى والثراء التي تكتنف هذه الشركة، وتحيط بموظفيها من الإنجليز بخاصة لأنهم الذين يستأثرون مع قلتهم بالمناصب الكبيرة ذات المرتبات الضخمة جداً، ولا يضير الشركة ذلك ما دام سيتمتع بمرتباتها الكبيرة أبناؤها من الإنجليز، لأن الإنجليزي يعرف كيف لا ينفق قرشاً واحداً خارج بلاده، ويدفع بجميع ما يمتلكه داخل بلاده، ولعلنا ندرك بعد هذا السر في تقشف هؤلاء الإنجليز المصطنع وبخاصة كبار الإنجليز في وزارة المعارف وغيرها من الوزارات، يرتدون أقل الملابس قيمة، وأحقرها شأناً، إلى حد أن يوقع الناظر إليهم في الضحك الساخر، والهزء اللاذع، وإن كانوا لا يقيمون وزناً لكل ما يسمعون، فلقد ضرب بهم المثل في الصفاقة والبرود، ولهم دائماً أذن من طين، وأخرى من عجين كما يقولون. .
وتحتل إدارة هذه الشركة في القاهرة أكبر عمارة في ميدان توفيق، مكونة من ستمائة حجرة، ومجهزة بآلات تكييف الهواء صيفاً، وأنابيب التدفئة شتاء، ويمتلك هذه العمارة(952/36)
شركة مصر للتأمين، وتدفع شركة شل إيجاراً لها قدره خمسة وثلاثون ألفاً من الجنيهات سنوياً. ويقال إن القيادة البريطانية هي التي تدفع إيجار هذه العمارة مستترة وراء شركة شل، وذلك لاستعمالها في أغراض حربية عند اللزوم، ويدلل أصحاب الرأي على صحة ما يقولون بأن شركة شل كانت تسكن في عمارة بها ستون حجرة فقط، فكيف يقفز عدد الحجرات من ستين إلى ستمائة دفعة واحدة، وبلا سابق إنذار!!
ومما هو جدير بالذكر أن المركز الرئيسي لهذه الشركة في لندن، وله مجلس إدارة يدير شركة شل يرأسه سير (فردريك جوبر) وجميع أعضاء هذا المجلس من الإنجليز، ما خلا عضواً واحداً مصرياً، هو مندوب الحكومة المصرية. . وأننا نحن المصريين قد جددنا امتياز احتكار هذه الشركة للبترول المصري ثلاثين عاماً ابتداء من سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف ميلادية!!
وبعد: فإن مجرد زيارتي لمعمل التكرير الحكومي بالسويس ووقوفي على هذه الحقائق المرة، أضعفت ثقتي إلى حد كبير بما يكتب وينشر من أناس تضعهم في مقدمة المؤلفين والباحثين والمنتجين، وبما يذاع في أنحاء البلاد ممن لا يتوخون الحقائق حين يكتبون، وبخاصة في هذه الموضوعات الاقتصادية الوطنية، وكان الأولى بهم أن يتحروا الحقائق خدمة لهذا الوطن المرزوء.!
وإن من البلاهة والغفلة أن نقنع أنفسنا حكومة وشعباً بأننا نملك معملاً للبترول، ثم نملأ الدنيا ضجيجاً باستعداده وإنتاجه ما دمنا لا نستقل نحن باستغلال هذه الآبار التي حيت بها الطبيعة بلادنا المصرية العزيزة، وليس لنا دخل فيها، وإنما هو خير ساقه الله إلينا، ولم نعرف بعد كيف ننميه ثروة قيمة يكون لها دخل كبير في رقي البلاد، بل لم نعرف كيف نحافظ عليه من أيدي الغاصبين الذين ينتهبون كل شيء، ويستغلون هذه البقرة الحلوب - مصر - إلى أبعد حد، دون خوف ولا استحياء ولا إصاخة لصوت الضمير. .
إننا لآثمون في حق هذا الوطن الغالي، مفرطون في حق هذه البلاد الغنية الوفية، حيث لا تتعاون الجماعات ولا تنشأ الشركات المصرية الصميمة، لاستغلال مرافق البلاد، وما أودع الله فيها من عظيم النعم، وجليل الخيرات. .
وإننا ضقنا ذرعاً بجعجعة ساستنا الذين يستغفلون هذا الشعب المسكين، الذي لا يكاد يفيق(952/37)
من آلامه، وجراحه العميقة الناغرة على الدوام، ولا يحرصون على خيره ونفعه حرصهم على مناصبهم وكراسي حكمهم، ولا يخلصون له النصح في تنمية موارده، وتكثير ثروته، إخلاصهم في تنمية مواردهم وتكثير ثروتهم، بل جعلوه قنطرة يصلون بالتظاهر بالإخلاص له والعمل لخيره - إلى ما يريدون، من تكوين ثروات، واقتناء ضياع، وتشييد عمارات وقصور، واستغلال مؤسسات وشركات. . وإن الأمل لمعقود الآن على جهود الشباب حتى يتم إنقاذ هذا الوطن المسكين. . فهل آن الأوان. .!!
عبد الحفيظ أبو السعود(952/38)
عهد
ختام
للأستاذ محمد محمود جلال بك
وثمة صلة تخفى على النظرة العابرة. تلك صلة القرية وقرباها. (برطباط) بلد الشاعر التي هام بها وكانت في مجموعها مصدر أنسه، فصديقاه منها، ومعالمها أحب المعالم إليه، وعشراؤه الذين يعمرون ندوته من أهلها. إذا غاب عنها ونزل القاهرة دعاها هاتفاً:
يا (برطباط) سلام الله أهديك ... أنت الحبيبة قلبي ليس سلوك
يا قرة العين يا دار الخليل ويا ... مهد الأحبة ما حب كحبيك
وإذا طال مقامه عما قدر، وقد لا ينزل القاهرة إلا لعلاج أو لضرورة عمل، عزفت عينه عن مباهجها، ورأى في (برطباط) شخص حبيب يرفع إليه اعتذاره:
حالت صروف الليالي دون مجتمعي ... يا ليتها ما مضت عنا لياليك
مرت سراعاً فسارت إذ مضت وقضت ... على حشاشة أنسي بعد أهليك
ولم أظفر بنظير - فيما عرفت وقرأت - لهذا العمق في حب المكان - ولعل ما أشرت إليه من إرهاف حسه، وحب الخلوة أثر في ذلك:
ما مصر يوماً وإن جلت محاسنها ... أبهى وأحسن عندي من مرائيك
وشاعرنا في هذا الوضع يشارك المرحوم رفاعة بك الطهطاوي إذ يقول في مقدمته (الوطنية المصرية) يشير إلى طهطا (ولأرضك حرمة وطنها، كما لأمك حق لبنها، ومن طبع الأحرار الحنين إلى الأوطان، وإن ألبستني المحروسة (القاهرة) نعما)
ولا شك أن الوفاء أظهر وأوضح حين يتصل بالقديم من المنازل والأول من الذكريات، فلكل واحدة من أولئك فضل الانبثاق العاطفي، وأول الإشراق للتقدير الشخصي.
يقولون إن الرسول الكريم - وهو مثل الكمال الإنساني عليه صلاة الله وسلامه - نظر إلى معالم البلد الحرام أول هجرته وقبل أن يستدير ثم قال (اللهم إنك أحب بلد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما هاجرت). وهذا أرق تبرير وأدق، وهو لم ير إلى ذلك التاريخ إلا جفوة منكرة من أهلها. ومعالم احتفظت بهول العذاب للنفر الغر من صحبه الكرام لا لشيء إلا أن يقولوا ربنا الله. ولكنه يعرف للبلد الذي نشأ فيه حرمته وحقه، ولا ينساه حتى وهو(952/39)
مقبل على يثرب حين ينتظره الأنصار الفادون وحيت الظل والماء.
وقد يبلغ القلق من شاعرنا - وهو في عصر المواصلات السريعة - حداً تتراكم به هواجسه فتظهر على فمه شعراً يخاطب بلده:
بالله هل أحدثت أيامنا غيراً ... أم أنت باقية ترجين راجيك
عمت خطوب الزمان الخلق كلهمو ... فالله أسأله منهن يحميك
أما (برطباط) هذه فمن أقل البلاد حضارة، وأنآها قربة من مركز مغاغة مديرية المنيا - غربي بحر يوسف! وهذا مظهر أرقي للوفاء؛ ودليل قاطع على النسبية والشخصية في النظرة والحكم.
حدث سنة 1870 وقبيل سقوط باريس أن جمع الأديب مما طبع من القطع التمثيلية ودواوين الشعر مما يرضي ذوقه. وأنفق أكثر ما كسب من مال في تجليدها تجليداً فنياً رائعاً، ووفق إلى دار صغيرة في الضواحي حيث رتبها، كما نسق سكناه تنسيقاً أنيقاً، وما كاد يفرغ من كل ذلك حتى فاجأه الحرس الوطني يطلب إليه الرحيل لاقتراب جيوش الألمان! ذعر الشاب وقد حددوا له أسبوعاً قال إن هذه الفترة قد لا تكفي لمجرد البحث! وفي اليوم التالي جاء الحرس مرة أخرى يحدد له أربعاً وعشرين ساعة!! شده الرجل فودع بيته وما حوى. وفي حقيبة صغيرة وضع ما يحتاج إليه وآوى إلى أول فندق ثم أصبح وهو في الدار الآخرة! - أسلم روحه بعيد أن أسلم ماله في هذه الدنيا!!
وبقدر وفاء شاعرنا الفقيد كان ألمه لما يلقى من نكران أو يلمس من جحود، فيقول في قصيدته الطويلة تلك:
غاض الوفاء فلست ألقى صاحباً ... إلا بغير فضيلة ووفاء
ولكنه مؤمن تقي. نشأ في بيئة تقوى. كان أبوه من أعلام المروءة وأهل الرأي في بلده. فتسمعه في أواخرها يقول:
ولقد شفى نفسي وأصغر همها ... أن كل شيء صادر بقضاء
فهو يثور قضاء لحق المروءة عليه وترجمة لوفائه، ثم يعود ملتمساً عذراً في السكون من إنسان وحادث، ولما تمر به الدنيا أو يمر بها من تفاعل، يرجع بهذا إلى شيمة الرضى وهي وليدة التسليم لمبدع الكون وما قسم من حظوظ.(952/40)
مررت مع صديقي أحمد الأزهري ذلك العام ذاته سنة 1946 بحقل للقطن استلفت منا النظر، فشجراته تستطيل على ما في الحقول المجاورة، وعهدنا بمعدن الأرض واحداً! واسترعى الانتباه منا قلة ما يحمل من ثمرات بينما تلك القصار تنوء بما حملت، وتساءلت فعرفنا أن الأول تجربة للقطن (السكلاريدس) وأما باقي الحقول فمن القطن (الأشموني) قلت أيها الصديق. . أما نذكر أقرب ما يتمثل به هاهنا؟ ولعله أقرب كذلك إلى البر. . قال ما تذكر؟
قلت ذلك قول صديقنا الفقيد (أحمد توفيق):
إن راح قوم للسماء بحظهم ... فالحظ أسبق ما يكون ورائي
لا غرو أن نال اللئيم مكانة ... ما نالها ذو حكمة وذكاء
فالغصن ينمو وهو خلو من جنى ... وتراه يثمر عن قليل نماء
ألا ترى في هذين الحقلين المتجاورين بل المتلاحقين وما بينهما من فارق. مسرحاً تتمثل فيه هذه المحكمة. وتمثل فيه هذه الرواية؟!
ذكرت هذه الأبيات مرة على مسمع فقيد العربية الشاعر الخالد أحمد شوقي بك منذ ربع قرن وكنا نسير على شاطئ البحر بكازينو سان أستفانو فوقف يستعيدها ويستفسر عن قائلها، وقد أعجب بالمعنى وترحم على (أحمد توفيق) حين علم أنه أرتحل عن دنيانا باكراً.
وكذلك كان حظها من تقدير الصديق الأديب واصف غالي باشا وهو حجة في الذوق - سمعها بين أفياء (لؤلؤة البحيرة) وهو المتنزه المشهور في جنيف.
فلم أنس الصديق الراحل على شاطئ بحر أو بحيرة، في بستان أو في حقل، ولم تفارقني ذكراه في صحة ولا علة، بين كروب أو في سرور، ولكني حقاً نسيت وصاته سنين فلم أنشر فضله ولا أعلنت عهده حتى ذكرني صديق كريم على شاطئ البحر في بور سعيد سنة 43، ثم طوت المحن صحيفة الازدهار من الذاكرة حتى نشرها فبعثت بأول البحث إلى صديقي وأستاذي صاحب الرسالة وهو عندي أرعى الناس لعهد وأبر الأدباء بالبر وأكبر الإخوان عوناً على خير.
ولعل خير ما أكرم الله به الذكرى أن جعل (الرسالة) رسالة الظهر والخلق المتين - مظهراً لها، كما كان لقرائها الأكرمين تقدير ما راقهم وغض الطرف عما بها من قصور.(952/41)
ديفون
محمد محمود جلال(952/42)
رسالة الشعر
من روائع الشعر الغنائي:
حنين. .!
لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا
خميلة في حواشي النيل مونقة ... يلفها الضاحكان، الروض والماء
منضورة طلقة الأعطاف رواحها ... بالضم صبح وبالتقبيل إمساء
كأنما من شعاع الراح نمنمها ... مجودا عبقري الفن وشاء
تمسي وتضحي بها سمراء لاعبة ... لأنها فتنة يقظى وإغراء
تمسي تهادى دلالاً خطو مترفة ... لقاء وهي هضيم الكشح هيفاء
إذا انتشت في صدور الليل فهي رشا ... وحين تهفو هواديه فرقطاء
وإن سكبت رجائي فاحتست عللاً=فالعقل مستيقظ والعين سجواء
تلقى الحديث خفيف الجرس منخزلاً ... كأنما يعتريها فيه إغفاء!!
وقد تساعف عيناها فتكمله ... إن البلاغة تكسير وإيماء
يا جارة النيل في عليا (زمالكه) ... حيث الضحى ذهب والليل لألاء
أبثك الشوق مشبوباً تساقطه ... على مغانيك أرواح وأنداء
ترى أعهدي مرعى أم انبعثت ... تعطو إلى لذة التغيير حواء؟!
وأن حواء والدنيا بفتنتها ... سحر وعزف وأنغام وصهباء
طلسم دهر، فلن تجلى له سجف ... ونحن للضعف والأهواء أنضاء
إليك أشكوك، والشكوى لذي جن - ف ضراعة يتحاماها الأعزاء
لم تهف لي منك مذ بدا محبرة ... كأنها من نشيد الخلد أجزاء
مخمورة الشوق جالت في رقائقها ... يد مقبلة القفاز بيضاء
مسكية الرقم تسنى في غلالتها ... كأن أحرفها السوداء أضواء
أطالع الصبح مطوياً على شجن ... فإن دجا الليل فالظلماء رمضاء
وأسأل البرق، هل وافت نوابضه؟ ... والطائرات أفيها عنك أنباء؟(952/43)
حتى إذا الليل لفت بي جواشنه ... قلت الصباح، فإن الصبح جياء
وكم أهبت بقلبي أن يكف، وأن ... يسلو، فأعرض عني وهو أباء
وقال، ما القلب إلا رحمة وهوى ... فإن خلا منهما، فالقلب أشلاء
وقال فاختر. فقلت الصبر أجمل بي ... وربما حمد الرق الأرقاء
يا أبخل الناس بالحسنى وأن أسيت ... بها جراح وآلام وأدواء
أمعنت في الجور. شر الجور ما عملت ... ثقال أعبائه الصحب الأحباء
لمن خلائق أطلاع سطوت بها ... وقد نمتك المساميح الأجلاء؟
زيدي جفاء، وحسبي أنني رجل ... أنت الهواء له والشمس والماء
وأن عيني ترى الأيام محسنة ... إذا ترامتك، والأيام أعداء
وأن قلبي وإن صارمت مثله ... وأن أذني إذا تلحين صماء
زيورخ
عزيز أباظة(952/44)
أغنية الشاطئ الخالي
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
(شاطئ كليوباترة في عام 1950. والصيف يجود بأنفاسه الأخيرة. بين أيدي الخريف!. . والشاعر الحائر يسير على الشاطئ الخالي. . . في موكب من جلال المغيب!. . .)
أين يا شاطئ روادك أينا ... والأغاريد التي كانت لدينا
والأماني وهي تروي مهجتينا ... انتهت تلك الأماني. . وانتهينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
أين أحلام الليالي الماضيات ... والتلاقي في المغاني الساهرات؟
لم نعد نملك غير الذكريات ... بعد أن كان الهوى ملك يدينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
كم سهرنا وحدنا في (كليبترا) ... والمنى تهدي لنا زهراً وعطرا
وأنا أرسل أنغامي سحراً ... وهي تصغي والهوى يحنو علينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
ها أنا أحيا هنا وحدي غريباً ... أذكر الأيام والعهد القريبا
وأناجي الموج والرمل الحبيبا: ... هذه آثارنا ترنو إلينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
كلما جئت إلى تلك المغاني ... رفرفت روحي، وفاضت بالحنان
أين أيام التداني. . . يا زماني؟ ... قد أضعناها، وعدنا فاشتكينا
آه لو عادت، وعدنا فالتقينا!
أيها الشاطئ إن عدنا إليكا ... واسترحنا ها هنا بين يديكا
فأقم للحب أعراساً لديكا ... وترنم فالمنى في راحتينا
وكفاني وكفاها ما بكينا(952/45)
إبراهيم محمد نجا
من أعياد باريس:
شهرزاد مدريد
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
ومن ذكريات عيد الحرية في باريس سنة 1950 أيام كان الشاعر يتلقى علومه هناك وقد أهداه إلى أديبة إسبانية حسناء كانت برفقته أثناء ما كانت (الكرنفالات) قائمة في كل مكان.
عبرت بي وهي شقراء لها وجه صبوح
في مساء تعيق الفتنة منه وتفوح
شاعري الظل مخضل له النور مسوح
قلت: يا ضاحكة العينين ماذا لو أبوح؟
أنا لو تدرين قلب يهوى الغيد جريح
شاعر طوف في الأرض فأشقاه النزوح
سئم القيد (ببغداد) وأدمته الجروح
فأتى (باريس) في ظل الأماني يستريح
فرأى حلم لياليه بعينيك فهاما
وتسامى نغماً يشرق بالحب ضراما
ووقفنا نتملى (السين) والليل سكون
الثرى سحر ونور القمر الظامي حنين
عرس، فالورد والإنسان رقص ولحون
وعذارى الشهب في حاشية الأفق عيون
فتعانقنا بروحينا وهزتنا الشجون
وهتفنا: لمن الصهباء واللحن الحنون
ههنا يحلو لعشاق اللذاذات الجنون
فهلمي نتعاطاها فدنيانا فتون(952/46)
ما على مغتربي دار (بباريس) أقاما
إن أحالا الليل جاما والمسرات مداما
وانتحينا حانة تحكي أساطير الليالي
السنى في جوها الصاخب شرقي المثال
واندفعنا بين حشد من نساء ورجال
يتساقون على نخب ليالي (الكرنفال)
قلت: يا ملهمتي الشعر ويا وحي خيالي
أنزعيها من جنى (بوردو) ومن تلك الدوالي
خمرة تكشف للشاعر عن سر الجمال
ما علينا لو أذبنا الروح في نار الوصال
أنت يا زهرة (مدريد) ويا زهو الدلال:
عيد أفراحي، وعطري، ومدامي، والندامى
قربي ثغرك أسكب فوقه روحي هياما
قالت: اشرب قلت: (سنيورا) اشربي نخب لقانا
لا تقولي قد خلا الحان ولم يبق سوانا
الهوى العاصف لا يعرف للنجوى مكانا
نحن أغرودة حب ردد الدهر صدانا
ما علينا لو ختمنا بدم القلب هوانا
حسبنا أنا احترقنا في جحيم من أسانا
قدر نادى، وقلبان أجابا من دعانا
فعسى نبعث ذكرى (شهرزاد) والزمانا
وتلاقت شفتانا ساعة كانت مناما
أمر الحب فكنا في فم الدنيا ابتساما
عبد القادر رشيد الناصري(952/47)
رسالة النقد
الحياة قصص
تأليف الأستاذ يوسف جوهر
للأستاذ ثروت أباظة
بهذا الاسم ظهرت أخيراً مجموعة أقاصيص للقصاص الشهير الأستاذ يوسف جوهر. والأستاذ في غير حاجة إلى تعريف. فقد تعدت شهرته الفئة المتأدبة إلى غيرها. . وهو فنان راسخ القلم صاحب مدرسة في لأقصوصة. . ومجموعته هذه الأخيرة منهاج جديد لهذه المدرسة. فلكل أقصوصة معنى عميق تشير لك إليه حوادث القصة دون لفظها. والشخصيات بارزة الخطوط جلية التكوين، والأسلوب عربي رفيع، وليس يسيراً أن يأخذ فنان نفسه بكل هذا في أقصوصة صغيرة إلا إذا كان هذا الفنان هو يوسف جوهر.
وقد أنحاز الأستاذ جوهر في أغلب أقاصيص مجموعته إلى جانب الواقعية في قالب فني رائع. وإنني بمناسبة الواقعية أعتذر إلى الأستاذ أنور المعداوي إذا عجزت أن أضع هذه الأقاصيص في واحدة من واقعيتيه، فالفرق الذي أوجده دقيق يعز على غيره أن يستعمله مقياساً للواقعيات؛ فأنا أرى الواقعية نقلاً عن الحياة، ولا يهمني بعد إذا كان النموذج موجود فعلاً أو قابلاً للوجود ما دمت أستطيع أن أعيش معه إذا كان إنساناً، فإن تلك حادثة عشت في جوها.
والقصاص الواقعي لابد أن يكون قد رأى انحرافاً سجله في قصة. فما القصة إلا عقيدة تكونت من مجرى خاطئ للحوادث أو من التواءات متراكبة في نفس الشخص الذي يرسمه القصاص. . فنحن إن رأينا شخصاً عادياً سارت به الحياة سيراً لا التواء فيه ولا غرابة ولا شر؛ لا يمكن لنا أن نجعل من هذا الشخص أو من حوادث حياته قصة.
فالواقعية في القصة إذن نقل عن صورة شاذة من صور الحياة. أو تصور لصورة شاذة ولكنها قابلة للوقوع. ولا فرق بين الواقعيين لأننا لا نطلب إلى القصاص الواقعي القسم أن يقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق. وإنما بحسبنا أن يقص أمراً قابلاً للتصديق. فإن لم يفعل فهو قد تجاوز الواقعية إلى الخيال أو الرمزية.(952/48)
نعود إلى حياة القصص التي رسمها الأستاذ يوسف جوهر فنراه قد التزم فيها الواقعية إلى أقصى حد لها فهو نقل لنا القصة التي قد تكون حدثت بالفعل أو القابلة للحدوث دون أن يدخل إليها مصادفة قصصية أو نهاية ذات عظة، أو غير ذلك مما سار عليه أغلب القصاص. ولعله ألزم نفسه بذلك حتى تكون المجموعة صوراً من الحياة حقاً بغير زيادة أو نقصان. فهو لم يعاقب المجرم على فعلته، وهو لم يجز المحسن على إحسانه، وإنما سير الحوادث في مجراها الدنيوي لا القصصي، فقصته الأولى يعاقب غي المجرم وفي الثانية لا يثاب المحسن وفي ديون رهيبة لا يفك العقدة. وهكذا وهكذا صور من الحياة يضعها لك على الورق بغير تنميق قصصي في الحوادث. ولست أدري أهذا خير أم لا. فالقصة اليوم تنحرف إلى عكس ذلك؛ فالجاني لابد له من عقاب والمحسن لابد له من ثواب. . هكذا نرى القصص العربية والغربية، ولكن يظهر أن الأستاذ يوسف جوهر قد بدا له أن يجعل القارئ هو نفسه الذي يعاقب المجرم فيحتقره، وهو نفسه الذي يكافئ المحسن فيكبره دون أن يحكم على أشخاصه. وفي المجموعة صرخات إلى القوم أن يثوبوا إلى رشدهم، فهو يهيب بالفلاح أن يطلب حقه، وبصاحب الأرض أن يخفف من عجرفته، ومن الغني أن ينظر إلى الفقير، ومن الفقير أن يطلب إلى الدولة أن ترعاه. . كل هذا دون أن يتكلم هو. بل أنه ليطلق الحوادث تتكلم في صراحة واضحة مبينة. وثمة صور نقلها دون أن يحيك حولها قصصاً ذات بداية وعقدة ونهاية. . وإنما هي صور التقطتها عدسته من أوساط القصص دون أن تغريها هذه الصورة أن تتبع هذه الخيوط إلى النهاية. . مثال ذلك (ديون رهيبة). وهناك أقصوصة لابد لي أن أذكرها معجباً بها كل الإعجاب، وهي (أربعة ذئاب ونعجة) وقد استطاع الأستاذ يوسف أن يرسم هؤلاء الذئاب أو الرجال رسماً قوياً صادقاً كل الصدق، وقد ربط ثلاثة من هؤلاء الرجال بواحد منهم كلاً بوشيجة تدل على نظرة دقيقة إلى الحياة. . إنها أقصوصة رائعة.
والمجموعة على غالبية الواقعية فيها لم تخل من الرمزية الطفيفة، أو هي في الحق لم تخل من الخيال، فأقصوصة (هذه هي الحرب) أخرج الأستاذ يوسف مصباحاً غازياً على كوبري قصر النيل. . . أخرجه يتكلم. . خيال ولكن المصباح لو تكلم لما قال غير الذي قال، ولا فعل غير الذي فعل لأنه مصباح منير مشرق النفس، تابع للميري غير محتاج إلى(952/49)
مداهنة أو مصانعة لينال مالاً، وهو جماد غير محتاج إلى زلف أو تقرب ليكسب قلب امرأة. وهكذا كان الأستاذ يوسف جوهر واقعياً في خياله.
لست أعرف إذا كان الأستاذ يوسف جوهر قد أحسن أم أساء في التزامه هذه الواقعية فهو قيد نفسه بعنوانه. . والأقاصيص قد أدت الهدف التي أرادها أن تهدف إليه، ولم يعاقب على شر، ولم يثب على فضل ولكنه أدى، فإذا أراد المتزمتون المحافظون على الأخلاق أن يثوروا به فما عليه إلا أن يقول لهم: (هذه دنياكم فلا تثوروا علي؛ وإنما ثوروا بها إن استطعتم، وأنتم لا تطيقون ثورة فاسكنوا حتى يثب الله المحسن ويعاقب المسيء).
وإذا أراد القصاص الذين ينحون إلى المنحى الآخر من الإنابة والجزاء أن يثوروا قائلين: إن الأقاصيص لم تنته؛ فهو قائل لهم (بل قد انتهت وعلى القارئ أن يقيم نفسه، قاضياً وأنا إنما أروي لكم وأصور أشخاصاً، ولا أحب أن أكون قاضياً بينهم؛ بل إنني لا أحب أن أكون محامياً في الأدب.)
أحار فيما إذا كان قد أحسن أم أساء حيرة أنظر فيها إلى العرف الذي كان جارياً، أما إذا نظرت إلى نفسي فهو قد أحسن وأصاب ما أراد أن يصيب، وليس عليه من حرج ولا جناح ولكنني آخذ عليه هذه الصبغة المتشائمة التي أراقها على قصص الحياة ما إن الحياة ليست قائمة إلى هذا الحد، والتشاؤم بعد يأس. . وليس مع اليأس فلاح. . لابد للمحاول من قبس يهتدي به إذا حاول، فالصور الداكنة لا تشجع على المحاولة.
وبعد فكل ما نرجوه إلى الأستاذ يوسف جوهر أن ينظر إلى أدبه أكثر مما يفعل الآن، فهو قلم نحب أن نقرأ له، وتحب العربية أن تقرأ له أدباً خالصاً، وفناً رفيعاً. نرجو منه ذلك مهما كان في رجائنا حيف عليه، ومهما كنا نعلم ما سيلحق به إذا حقق هذا الرجاء، ولكنه فنان وأديب فعليه أن يؤدي للفن حقه، ما دام الفن قد أدى إليه حقه.
ثروت أباظة(952/50)
البريد الأدبي
مولانا محمد علي:
قرأت ما كتبه الأستاذ سرطاوي في عدد الرسالة 938 و939 عن مولانا محمد علي، وقد أرتفع به إلى القمة الشامخة التي لم يبلغها غيره من رجالات الإسلام، وأظهره في مظهر المدافع عن الإسلام، الذاب عن حوزته والذائد عن حوضه، فهو يقول بعد كلام طويل ترجم به لحياته:
(لقد بلغ مولانا محمد علي من النجاح شأواً بعيداً قلما بلغه إنسان مثله، بسبب إيمانه العميق بالله، وذلك الإيمان الذي لم تكن لتقوى أعاصير الحياة على زعزعته، والذي كان يزيد في رسوخه ومتانته إدمانه قراءة القرآن والأحاديث المأثورة عن الرسول، والذكريات القومية العميقة الجذور في عواطفه عن مؤسس الحركة الأحمدية، وخشوعه في صلواته التي لا تنقطع لله تعالى. . .
ثم يقول ولعل بساطته التي نسبته إلى حد بعيد، إلى بساطة الأطفال ترجع إلى عمق اتصاله بالأبد وعالم الروح وهو على الأرض. وعلى الرغم من أن مولانا محمد علي يعيش في عالم يضطرب بالخداع والنفاق والغرور والنميمة والأذى، فإنه في أخلاقه كالكتاب المفتوح، يستطيع كل إنسان أن يقرأ فيه من النظر إلى قسمات وجهه كل ما يجيش في عواطفه من شعور السخط والغبطة، وهو كالمرآة الصافية الأديم، يرى الناظر فيها كل ما في تلك النفس العظيمة من استحسان واستنكار، تلك النفس التي لا تعرف الخداع والتضليل والأباطيل. . .
ثم يقول: وبعد فهذه شخصية إسلامية جليلة القدر بعيدة الأثر في خدمة الدين، تعمل أعمال الجبابرة وراء صمت التواضع ليكون العمل خالصاً لوجه الله العظيم.
وسيمر الزمن وتتلفت الأجيال المقبلة من أبناء المسلمين إلى التراث الخالد الذي صنعه مولانا محمد علي لنشر الدين، فتعطيه ما يستحقه من تقدير وتنصفه من الحياة التي لا تسدد النظر في مواكبها إلى الدجالين والمشعوذين، فيخلد مع الخالدين.
والآن وبعد مرور نصف قرن من جهاد مولانا محمد علي على ذلك الجهاد الذي فتح الآفاق الموصدة في وجه رسالة الإسلام الخالدة؛ يقف فوق الحياة بعد أن أشاع في ظلامها النور(952/51)
الإلهي الذي يبعث الرحمة إلى القلوب المعذبة فيه).
وفي نفس المقال يصف ميرزا غلام أحمد مؤسس الحركة الأحمدية بأنه مجدد في الإسلام. ذا شخصية جبارة تعمل على خير الإسلام والمسلمين في بقاع الأرض.
وقرأت ما جاء في عدد شهر أغسطس من سلسلة اقرأ عن المهدي والمهدوية للدكتور أحمد أمين حين يتكلم عن الحركة الأحمدية وعن مؤسسها. فيقول في ص76: (وهذه الفرقة تسمى أحياناً القاديانية وأحياناً تسمى الأحمدية نسبة إلى غلام أحمد. وأكثر المسلمين ينفرون منهم، ويعتقدون أنهم مارقون عن الإسلام خارجون على أهله؛ وقد صرح مصطفى كمال باشا وشيخ الإسلام ومفتي الإسلام بخروج القاديانية عن الإسلام، ويزعم محمد علي وأتباعه أنهم مسلمون، وأن غلام أحمد ليس إلا مسلماً ومجدداً؛ ولكن في كتبهم الأساسية ما يثبت غير ذلك؛ فقد نشر في مجلة الديانات مجلد 6 ص299: أن محمد علي رئيس القاديانية كتب أن الصاحب (ميرزا) نبي آخر الزمان؛ ويعنون بميرزا هذا غلام أحمد، وجاء في الخطبة الإلهامية لميرزا هذا قال: رأيت في المنام أني إله فأنا في اعتقادي كذلك (ع كمالات ص 565) ويقول إني أعتقد أن الإيحاءات التي أتلقاها معصومة من الخطأ كتلك التي كان ينزل بها القرآن (الدار الثمين) وقال: إن إيماني بما يوحي إلي ليس أقل على حال من إيماني بالقرآن وجاء في كتاب الأخبار: (أن الله يقول له أي ميرزا: أني أخبر الناس كافة أنك الرسول المقدس إليهم جميعاً) وجاء في كتاب آخر أن الله الحق هو الذي أرسل نجيه في قاديان؛ وإن مدينة قاديان ستظل في مأمن من الوباء إذا كانت محل إقامته. ثم تدلى فزعم أنه أعظم من الحسين بن علي، وأنه المهدي المنتظر.
هذان رأيان متناقضان كل التناقض، فعلى الرغم من أن الدكتور أحمد أمين بك لم يذكر شيئاً عن حياة محمد علي وصفاته؛ ولم يخصه إلا بإشارة عابرة فإننا نشتم منها أن محمد علي هذا خارج على الدين. وكيف يكون متصفاً بتلك الصفات التي ذكرها الأستاذ سرطاوي من يؤمن بأن هناك نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبع رجلاً يدعى أنه إله وأنه نبي، ويعلن أن من لا يصدق به لا يدخل الجنة أبداً.
أما نحن من جانبنا فلا نستطيع أن نؤيد أحد الرأيين الآن حتى نقف على بعض جوانب هذه الشخصية وأعمالها ليكون حكمنا صحيحاً.(952/52)
وإني أتقدم إلى قراء الرسالة الكرام بأن يدلني كل من يعرف شيئاً يخص هذا الموضوع إليه، وله مني خالص الشكر، ومن الباحثين عن الحقائق أجزل الثواب.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ
1 - تعقيب على نفر:
ينتقد الأديب كيلاني حسن سند قولي (سمراء مثل الكروم) إذ لا لون للكروم في حدود نظره إلا تلك الخضرة الورقية الداكنة. ولو تصفح حضرته أحد كتب البلاغة لعلم أن (المجاز المرسل) يبيح لقائل أن يقول (شربت الكروم) وهو يريد عصيرها. وعصيرها هذا كما لا يجهل الأديب ذو ألوان مختلفات أحدها السمرة المرادة في التشبيه. . . وينتقد وصفي للضياء بالنعومة لأنه مما لا يلمس باليد؛ وأنا أسأله: وهل لنا أن نصفه بالخشونة؟ وإذا كان الجواب الطبيعي بالنفي، فلماذا تحرمون على شاعر أن يتخيل إيجابية شيء لم تستطيعوا للآن تقرير سلبيته. . . وأنا لم أقل (خمرية كالماء) ولكن (خمرية كالمساء) والتحريف مطبعي فلا محل لنقده؛ ومن ثم للرد عليه.
2 - غموض:
ثم ننتقل إلى غموض - إلى البيت الثامن:
أرنو إلى الفجر الجميل كساحر ... حملت يداه ريشة عذراء
يقول الأديب النابه إن الساحر لا يحمل الريشة. وإنما هو الرسام، وهذا من البديهة بحيث نخجل عن ذكره - ولو شئنا لقلنا (كراسم) ولن يختل الوزن الشعري. . . ولو أتيحت للأديب رؤية الفجر وهو يوزع الألوان والأضواء على لوحة الأفق لوقف مثلي مشدوه الفكر ملتهب الشعور منجذب الروح. نحو هذه المعجزة السماوية المتجددة. . . تماماً كما يقف المسحور تحت تأثير الساحر القدير. . . أما عن الشمس (شعت ماسة زرقاء) فهناك وجه الشبه البياني يرخص للشاعر والكاتب أيضاً أن ينظر للشيء من زاوية معينة ليشبهه بآخر لا يطابقه إلا من هذه الزاوية نفسها. والشمس إذ تبعث بأشعتها النفاذة في كل اتجاه إنما هي ماسة مكبرة ولو لم ترها البصائر الرمداء. . كذلك هذا، ولم يكن القمر يشبه(952/53)
العرجون في كل حالاته عندما قال الله تعالى (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم).
ولو رزق الأديب الكيلاني شيئاً من النفاذ أو الإنصاف لساقته تنقلات القصيدة الفكرية من مشاهدة (الفجر) إلى (الظهيرة) إلى (الأصيل). . . لساقته هذه التنقلات الزمنية المتعاقبة إلى المشهد الأخير يشهد المساء الجديد.
والى السماء وقد تدفق جدولا ... أزرق أمواهاً وشف نقاء
وبعد فعلى الأديب سلام الشعر
محمد مفتاح الفيتوري
ملاحظتان:
ذكر الأستاذ محمد سيد كيلاني بالعدد (949) من الرسالة أن شاعرات العرب لم يقلن بيتاً واحداً في الغزل قبل عائشة التيمورية!! وهو كلام عجيب غريب. وأحب أن ألفت الكاتب إلى بحث ممتع عن (الغزل في شعر المرأة) قد نشر بمجلة الرسالة منذ ثلاثة أعوام بقلم الأستاذ محمد رجب البيومي، ففيه الرد البليغ.
جاء بالعدد (950) من الرسالة بقلم الأستاذ أحمد عبد الغفور العطار أن فعولن في أول المتقارب لا تصير (عولن) كما في قول الشاعر:
باتت تلوم على ثادق ... لبشرى فقد جد عصيانها
وختم الكاتب زيادة الفعل الأول ليصبح البيت في رأيه، والحقيقة أن (الخرم) وهو حذف المتحرك الأول من فعولن يدخل المتقارب والطويل، كما في حاشية الدمنهوري على الكافي، وعليه فالزيادة لا معنى لها على الإطلاق، وفقنا الله للصواب.
عبد المنصف ناصف(952/54)
القصص
تمثيلية قصيرة:
الديك والثعلب
عن جفري شوكر
للأستاذ محمود البكري محمد
(مهداة إلى العقلاء. . والمجانين أيضاً)
أشخاص التمثيلية:
الديك، الدجاجة (زوجته). الثعلب. مسز مالكين (فلاحة). خمس دجاجات.
(. . قبعت الدجاجة والديك في المرقد. . ورأساهما بين أجنحتهما. . فجأة تنبعث من حلق الديك نغمة متحشرجة في ألم، كأن شيئاً ما قد مسه. . فتصحو (زوجته) مذعورة. . . وترنو إليه في شغف).
الدجاجة. ماذا أصابك يا رفيقي العزيز؟!
(يخرج الديك نفس النغمة. . وهو لا يزال في إغفاءته).
الدجاجة: (تنقره بخفة) ماذا حدث لك. . أتئن هكذا؟
الديك: (مفيقاً. . وفي صوت وسنان) لا تراعي من أجلي. . يا إلهي!. لقد اعتقدت أن شيئاً مزعجاً حدث لي!. وإن الرعدة لتعروني عندما أفكر فيه.
الدجاجة: (ضجرة منه) ماذا حدث لك؟
الديك: (في صوت مرتعد). . لقد وجدتني أتوثب هنا وهناك في الحظيرة. . وجلاً من وحش تساوره الرغبة الجامحة في أن يقتنصني. . ويقتلني!.
الدجاجة: يقتلك؟! وماذا يشبه هذا الحيوان؟
الديك: يكاد يشبه الكلب. . . لونه مزيج من الأحمر والأصفر. . وفي ذيله وأذنيه نقط(952/55)
سوداء. . وإن له أذناً قصيرة وله (في رعدة) عينان متوهجتان! إن شيئاً ما في منظره. . أكاد أموت من الفزع عند تذكره!.
الدجاجة: (تدفعه. . وتقول بحدة) كم أنا خجلة منك! ولن أحبك بعد!. كيف تحمل الوجه الذي يقول لي إنك خائف؟ أنت؟! بعرفك الأحمر المشرشر كأنه قمة برج قلعة، ومنقارك الأسود اللامع كأنه حجر ثمين، وساقيك الزرقاوين، وأظفارك التي هي أشد بياضاً من أزهار السوسن، ولونك الذي يشبه الذهب المجلو. . أنت؟! يا جبان!
الديك: (بتلطف) أنه حلم مفزع. . يا عزيزتي!
الدجاجة: حلم؟ وأنت مرتاع من حلم؟! إن كل ما بك هو سوء هضمك!. يحلم الرجال أحياناً بدببة سوداء وثيران كالحة، وأشباح حالكة تلاحقهم. . والديكة تحلم بالكلاب: صغيرة وكبيرة. . و. . (باحتقار) بالوحوش الحمراء التي تريد أن تنهشها حتى الموت!. . و. . (في تأثر) لا ينقص الرجال والديكة غير جرعة من الدواء!.
الديك: مغتماً. . وتعتقدين هذا حقاً؟
الدجاجة: نعم!. . وعندما نهبط من هذا المثوى. . ستتجرع واحدة. . وإلا فإنا أراهن على بنسين إن لم ترقد من الحمى أو البرداء التي ستفضي بك - على أي حال - إلى الموت.!
الديك: (منتفضاً في اضطراب). . الموت؟
الدجاجة: (مؤكدة) لابد أن تزدرد واحدة من الديدان أو اثنتين ثم بلعة من هذا النبات أو ذاك. . تسرع إلى تجرعه أنى تجده في الحظيرة. . وتبتلعه جيداً. . (يئن الديك ثانية) يا رفيقي أبتهج بربك. . ولا تروعنك الأحلام!
الديك: يا دجاجتي الحبيبة! جميل جداً أن تسخري من هذا الحلم وتهونيه، ولكني قرأت مرة قصة رجلين كانا نائمين معاً في الليل قبل أن يبدأ رحلة. . ورأى أحدهما في منامه شخصاً يقبل ويأخذ مكاناً بجوار سريره. . ويقول له: (إذا سافرت في الغد فإنك غارق لا محالة. . وهذا كل ما أقوله لك). .
فأيقظ صاحبه، وأفضى إليه بذات نفسه. . ولكن صاحبه يقول له أنه لا يعبأ بالأحلام، ثم سافرا. . وبغتة وبلا سبب تنقلب السفينة، ويغرق صاحبنا!. . هذا حق وحقيقة!
الدجاجة: لا تفكر في هذا بعد الآن!(952/56)
الديك: (بحنان) يا رفيقتي! إن من أجلك أن أحزن هكذا. فإني عندما أتملى هذه الحمرة القرمزية حول عينيك. لا أستطيع أن أتحمل مجرد التفكير في الموت، والبعد عنك!. لكم أنت حبيبة!
الدجاجة: أنه الفجر!. ومن عدانا غارق في سباته. . .
الديك: يا لله. . حقاً ما تقولين.
يخفق بجناحيه ويصيح عالياً. . ثم ينزل هو والدجاجة من القن. . وكذلك باقي الدجاجات. . يتبختر الديك في مشيته، ويعدو عابساً كأنه أسد. . . مختالاً كأنه أمير! يخطر على أطرافه لا تكاد تمس الأرض قدماه!
وبينما هم كذلك يزحف الثعلب. . ويربض مستخفياً بين الأعشاب. . ثم تخرج الدجاجات واحدة بعد الأخرى. . ويخرج الديك وحيداً في خيلائه باحثاً - في كبرياء - عن القوت. . وعلى حين غفلة يلمح الثعلب. فيجري بعيداً في صياح. . ولكن الثعلب يبرز من مكمنه. . ويتحدث إليه في رقة.
الثعلب: أوه. . لا تجر بعيداً. . أوه! أنا آسف إذا كان انزعاجك بسببي. . وإن من المؤلم أن أراك هارباً كأنك خائف!. إني لم أجيء لأسمع ما يجري بينكم، أو لأتجسس عليكم. . ولكن (في سرور) لأسمع صوتك الشجي!.
الديك: (متوقفاً. . ولكن على مسافة آمنة من الثعلب) لتسمع صوتي؟!
الثعلب: نعم صوتك! وإن كان من قول. . فإن لديك حاسة موسيقية لا يتمتع بها أي موسيقي سمعته. . إن صوتك أشبه بصوت ملاك من السماء.
الديك: (شاكراً. مقترباً). . أتعتقد هذا؟
الثعلب: أعتقد هذا؟! (في حديث ودي) إن أباك بارك الله روحه - وأمك كانا في منزلي. . وكان يسرني أن يكونا هناك. . ومع استثنائك أنت أستطيعأن أقول إني لم أسمع شخصاً يغني كما كان أبوك في الفجر. .
. . يا إلهي! لقد كانت موسيقاه تنبعث من الأعماق!. . لقد كان يقف على أطرافه ويمد عنقه، ويجهد نفسه ليخرج ذلك الصوت الرقيق إلى أن تغمض عيناه من الجهد!. .
الديك: يقولون إني صورة من أبي!. .(952/57)
الثعلب: ولم تكن لأبيك الحاسة الموسيقية فحسب. . بل كان أيضاً حكيماً جداً. . حذراً كثيراً. . ولكن يا سيدي هلا تغني؟!. .
أرجوك. . فإني أبغي أن أعرف هل تستطيع أن تطرب كأبيك!. .
(يضرب الديك بجناحيه. . ويتمطى، ويمد رقبته، ويغمض عينيه، ويصيح بأعلى صوته، وفي لحظة ينقض الثعلب عليه. . ويمضي به بعيداً. . بينما الديك يحشرج ويقاوم، ويصيح في فزع. . وتندفع الدجاجات صائحات في ارتياع)
الديك: (في صوت ضئيل يائس) لماذا تعدو بي إلى الغابة؟ لقد انتصرت علي وخير أن تأكلني ها هنا. . وتنهي الأمر!
الثعلب: حقاً!. . سأفعل ذلك. . ومن بعدك الدجاجات السبع!. .
(بينما يفتح الثعلب فمه ينفلت الديك منه، ويسرع عائداً إلى الحظيرة)
الثعلب: يا عزيزي!. . أنا لم أقصد إفزاعك هكذا. . . تعال أحدثك عن قصدي!. .
الديك: لا. أشكرك، فأنا أعرف. . ولن تنالني مرة أخرى!. .
(تدخل (مسز مالكين) ومعها طبق من الحبوب. . وحيثما ترى الثعلب تطرده إلى الخارج ثم تستدعي الديك والدجاجات إليها. . وتطعمها).
الدجاجة: لم أكن أعتقد أني سألقاك ثانية. يا رفيقي الأثير.
الديك: آه. . لقد تعلمت الآن شيئين: ألا أغمض عيني حينما يجب أن تظلا مفتوحتين، وثانياً: ألا أعمل بنصيحة زوجتي!
الدجاجة: وكذلك قد عرف الثعلب أن من الحماقة أن يثرثر حينما يجب أن يمسك لسانه!
محمود البكري محمد(952/58)
العدد 953 - بتاريخ: 08 - 10 - 1951(/)
في مفرق الطرق
للأستاذ سيد قطب
(من كتاب السلام العالمي والإسلام يصدر بعد أيام. .)
تقف الكتلة الشيوعية اليوم في جانب، وفي الجانب الآخر تقف الكتلة الرأسمالية، وتحاول كلتاهما أن تستدرج البقية الباقية من العالم إليها؛ وأن تستخدم في المجزرة موارد هذه البقية، مواردها البشرية والاقتصادية ومواقعها الإستراتيجية.
فأما الكتلة الرأسمالية بقيادة أمريكا فتستخدم عدة وسائل لهذه الغاية:
تستخدم أولاً عامل التخويف للرأسمالية في كل أنحاء العالم - وبخاصة العالم العربي - من الشيوعية التي تزحف يوماً بعد يوم، وتناشدهم المصلحة المشتركة بينهم وبينها؛ وتلجأ في ذلك إلى المحالفة الطبيعية بين الرأسمالية المحلية والرأسمالية العالمية.
وتستخدم ثانياً الضغط المسلح في البلاد الواقعة في رقبة الاستعمار المباشر وغير المباشر، كما هو الشأن في مجموعة البلاد العربية.
وتستخدم ثالثاً إغراء الدولار تحت عنوانات كثيرة، منها ذلك العنوان الجديد الذي خلف مشروع مارشال، وهو عنوان: (النقطة الرابعة) في مشروع ترومان!
وهي على العموم تخاطب الطبقات الحاكمة والمستغلة، ولا تعتمد كثيراً على الجماهير الكادحة؛ لأن مصالح هذه الطبقات معلقة بانتصار الكتلة الرأسمالية، وتبذل جهوداً ضخمة في هذا السبيل دون أن تلقى بالاً إلى مطالب الشعوب القومية، لفرط ثقتها بالطبقات الحاكمة والمستغلة، ويقينها أن هذه الطبقات لا تعادي الاستعمار عداء حقيقياً في سبيل مطالب شعوبها القومية. . وسيظل موقفها كذلك إلى أن تتولى هذه الشعوب قضاياها بأنفسها؛ وتبرهن على أنها لا تستنيم لشعوذات المشعوذين من زعمائها وكبرائها، وأنها معتزمة أن تسبب للاستعمار وللجبهة الرأسمالية متاعب حقيقية، وتعرض مصالح هذه الجبهة وجيوشها لأخطار حقيقية. . . وعندئذٍ فقط تفكر الكتلة الرأسمالية الاستعمارية في الإنصات لصيحات هذه الشعوب.
إن هذه الكتلة تريد أن تضمنا إليها لتستطيع أن تجند من العرب وحدهم مليوناً - كما ورد في بعض البرقيات - ثم لتتخذ من بترولنا ومواردنا الغذائية، ومواقعنا الإستراتيجية عدة(953/1)
للنصر في المذبحة العالمية المنتظرة وبخاصة بعد تلك الصفعة القاسية التي أصابتها في إيران، وما تزال تترنح منها.
ولقد قيل في الحرب الماضية: إن الحلفاء كانوا يطهرون حقول الألغام أحياناً في الصحراء الغربية بإطلاق الجمال والبغال فيها، فإذا عزت عليهم الجمال والبغال أطلقوا زنوج المستعمرات الأفريقية، يطهرون بأشلائهم المتطايرة حقول الألغام!
وسواء صح هذا أم لم يصح، فإن وظيفة جند المستعمرات كانت دائماً هي تطهير حقول الحرب، وتمهيدها للسادة البيض، واحتمال الصدمة الأولى في المعارك الحامية.
وفي الحرب الكورية الحديثة نلقى الألاي التركي الذي ذهب إلى هناك نفس المصير، وقام بنفس الدور، ولن يكون مصير المليون من الخراف العربية التي سيقدمها السادة هنا لحلفائهم الطبيعيين، إلا كمصير جند المستعمرات، ومصير الألاي التركي، في الحرب القادمة، إذا قدر لها أن تهيج!
. . . وأما الكتلة الشيوعية فتخاطب الجماهير الكادحة، تخاطب الملايين التي تنتج كل شيء وتجوع، تخاطب المعدات الخاوية والأجساد العارية، تخاطب الضحايا التي طال عليها الإهمال، وطال عليها الحرمان، فأصبحت تستجيب لكل من يلوح لها بالرغيف، وكل من بعدها الخلاص من الترف الفاجر الداعر الذي تزاوله على مرأى منها ومسمع فئة قليلة العدد، فاحشة الموارد، بينما الشظف الكافر السافر يجعل هذه الملايين الكادحة حطاماً، ثم يفتت ذلك الحطام!
وهي تستخدم كذلك أخطاء الاستعمار وجرائمه؛ ورغبة الشعوب المستعبدة في إلقاء هذا النير عن أعناقها، والاستمتاع بالحرية الطبيعية التي يغتصبها الاستعمار الفاجر الآثم، بمعاونة الخونة من المستغلين في هذه البلاد، كما تستفيد من مقاومة الصليبية الغربية، والرأسمالية المحلية لكل دعوة إسلامية حقيقية، وكل عدالة اجتماعية إسلامية.
وعلى أية حال فإن كلتا الكتلتين تحاول أن تلقى في روع البقية الباقية من العالم، أن ليس للبشرية كلها إلا أن تسلك طريقاً من طريقين، وأن تنضم إلى كتلة من الكتلتين، وأنه لا مفر من أن تنتصر الجبهة الغربية، أو أن تنتصر الجبهة الشرقية، ليسود السلام، وتنعم البشرية بالأمن، وتصل الإنسانية إلى استقرار؛ وأن انضمام البقية الباقية من العالم هو السبيل(953/2)
الوحيد لتغليب إحدى القوتين على الأخرى بصفة حاسمة، لإنهاء حالة القلق والتأرجح والاضطراب. .
فأين وجه الحق في هذه الدعوى، وأين وجه المصلحة القومية والمصلحة الإنسانية في هذا الادعاء؟
إنه ليس من مصلحتنا نحن ولا من مصلحة الإنسانية أن تغلب الآن إحدى الكتلتين على الأخرى وتمحوها من الوجود محواً؛ فنحن في دور استكمال وجودنا الطبيعي في الحياة، واستنقاذ مصالحنا المغصوبة بأيدي المستعمرين، ليس من مصلحتنا أن تهزم الجبهة الشرقية هزيمة نهائية، ولا من مصلحة الإنسانية كذلك وإن وجود هذه الكتلة بهذه القوة في هذه الفترة لهو إحدى الضمانات لنا لنستخلص هذه الحقوق يوماً بعد يوم؛ كما أنه الضمانة المؤقتة للبشرية ألا تسيطر عليها قوى الاستعمار الجائر الغاشم الظالم. . وإذا كان فينا من يحسن الظن بأمريكا، ويظن أن سيطرتها ستحد من شرة الاستعمار، فلينظر كيف تقف أمريكا في صف هذا الاستعمار، وكيف تمده بقوة الحديد والنار عند الاقتضاء، على أنني أعيذ البشرية أن يستبد بها الصلف الأمريكي السخيف، الذي لا يقاس إليه الصلف البريطاني ذاته في أرض المستعمرات. إن عداوة الأمريكي للملونين عداوة كريهة بغيضة؛ وإن احتقاره للملونين لتهون إلى جانبه تعاليم النازية؛ وإن صلف الرجل الأبيض في أمريكا ليفوق كل ما كانت تتصوره الهتلرية، وويل للبشرية يوم يوقعها سوء الطالع في ربقة هذا الصلف الأمريكاني بلا قوة في الأرض تخشى ويعمل لها حساب!
كذلك نحن في حاجة مؤقتة إلى وجود القوة الشيوعية في الأرض، لتخويف الطغاة والمستغلين، واسترداد حقوق الجماهير المسلوبة، في ظل هذا التخويف! وإننا لندين لوجود هذه القوة بالشيء الكثير من مشروعات العدالة الاجتماعية الضئيلة التي تحاولها السلطات في هذه البلاد، ولولا الخوف من الشيوعية ما تم منها كثير ولا قليل!
ولكن هذا كله ليس معناه أنه من الخير لنا وللإنسانية أن ينتصر المعسكر الشرقي انتصاراً حاسماً كاملاً، وأن يتحقق ذلك الحلم الشيوعي الواهم، ويدين للشيوعية الجميع.
إن هذا المعسكر لا ينبغي لنا الخير، ولا يطيق أن تكون لنا فيه كرامة، أنه يريدنا جنوداً له أو عبيداً، لا أن يكون لنا وجود ذاتي وكيان محترم. ولقد دلتنا تجربة فلسطين على حقيقة(953/3)
ما تضمره لنا روسيا الشيوعية، لقد وقف منا موقف العداء في مجلس الأمن، كما أن أسلحة الكتلة الشيوعية لليهود هي التي وقفت في وجوهنا بفلسطين، ذلك أن روسيا كرهت أن يكون للأمة العربية كيان، وأشفقت أن تستحيل الكتلة العربية قوة حقيقية تستعصي على السيادة الشيوعية في المستقبل، فآثرت أن تتبخر كل دعاواها في حقوق الشعوب الطبيعية، وأن تخسر أساساً من أسس دعايتها ضد الاستعمار، وأن تسمح بقيام دولة إسرائيل على أساس الدين وحده - وهو أكبر ما تنكره الشيوعية - آثرت ذلك كله على تقوية الكتلة العربية، وضربتها تلك الضربة القاسية المنكرة، لتقوم إسرائيل في جنبها كالشوكة؛ تمزق وحدتها الجغرافية، وتفصل حدودها المتصلة، وتحرمها التماسك والقوة والشخصية. إن روسيا عدوة وحدتنا وقوتنا ووجودنا الذاتي، وكل ما تلوكه ألسنة دعايتها هو مجرد أسلحة في صراعها مع الكتلة الغربية، كدعاية هذه الكتلة ضدها سواء بسواء.
إنه لا بأس في نظر الشيوعية الروسية أن تأبى على الكتلة الغربية في استخدام مواردنا في الحرب ضدها. أما أن يكون لنا كيان ذاتي، وقوة شخصية، ووجود قومي فلا! وإن دعاتها في بلادنا ليفزعون كما لو كانت قد لدغتهم أفعى، إذا سمعوا دعوة للتكتل الذي يوجد لنا شخصية قومية، إنهم لا يريدوننا إلا ذيولاً ذليلة تنعق بالشيوعية، وتؤدي لها التسهيلات الممكنة في أرضنا حين يستمر القتال! وهو وضع تأباه علينا كرامتنا، وتأباه علينا مصالحنا، بل يأباه مجرد الشعور بأننا أناس، لا سوائم ولا أشياء!
والشيوعية قد يكون لها اليوم لألاء في عيون الكادحين المحرومين، الذين تصاغ دماؤهم يواقيت للنحور والصدور، ويقطر عرقهم كؤوساً للسكارى والمخمورين. . ولكن تصور البشرية كلها نسخاً مصبوبة في قالب الشيوعية الواحد، لا يسمح لفكر واحد فيها أن يشذ، ولا لقلب واحد فيها أن ينبض بخالجة لا يرضاها ستالين. . هذا التصور وحده تقشعر منه الأبدان، ويشفق من تحققه كل إحساس آدمي سليم!
على أن طبيعة الحياة تأبى الانتصار الكامل الحاسم لقوة واحدة من هاتين القوتين الماديتين اللتين لا يفرق بين طبيعتهما إلا اختلاف المصالح والمطامع. وإن الهزيمة لتنبت في زحمة النصر، كما أن النصر ينبت في ركام الهزيمة، وها نحن أولاء نرى أن الخلفاء الذين بذلوا ما بذلوا ليقهروا ألمانيا واليابان؛ ينحنون اليوم على الحطام والأشلاء ليستنقذوا منها المارد(953/4)
الذي صرعوه بالأمس، كي يستعينوا به على المارد الجديد. . نفس الذي فعلوه بعد الحرب العالمية الأولى، ولئن انتصروا غداً على الجبهة الشرقية، فليواجهن ألمانيا من جديد، ولئن انتصرت الشيوعية فلينبتن لها عدوها من ذات نفسها، من الضغط والكبت اللذين لا تطيقهما البشرية طويلاً. وقد بدأت يوغسلافيا حتى قبل المعركة، وسيتبعها التشقق في المعسكر الشيوعي لنفس الأسباب، أو بسبب الجمود والتوقف الناشئين من صب البشرية كلها في قالب واحد، تسيطر عليه فكرة واحدة، لا تسمح بأي تطور بعد مرحلة الشيوعية التي نعدها ختاماً للحلم الماركسي لا تتعداه! وإنها للعنة لا تصاب بها الإنسانية إلا وقد أريد بها شر عظيم.
إنه لمن السذاجة أن نتصور أننا نستطيع أن نجني ثمار السلام العالمي من وراء اصطدام هاتين الكتلتين الضخمتين في حرب حاسمة أخيرة، ولقد كان الطيبون الأبرياء في العالم يتخيلون هذه الثمرة الحلوة يانعة بعد كل من الحربين الماضيتين، فلم تطلع شجرة الحرب إلا ثمرات مرة، تجرعها هؤلاء الطيبون الأبرياء، وكان الجني الحلو كله للطغاة والمستغلين، من الشرقيين أو من الغربيين إن طريق الخلاص للبشرية المنكودة الطالع لن يكون هو الانضمام إلى هذا المعسكر أو ذاك، ليسحق أحدهما الآخر سحقاً ويخلو له وجه العالم، ويسيطر عليه وحده، ويسيره كما يريد.
إن المعركة في صميمها ستدور في أرض غير الكتلتين، ستدور في تركيا والعراق وسورية ومصر والشمال الأفريقي، وفي باكستان وأفغانستان، وفي منابع البترول العربية في عبادان والظهران. . . إنها ستدمر مواردنا نحن، وتحطم حياتنا نحن، وتدع أرضنا بلقعاً خراباً يباباً، وسواء علينا انتصرت هذهأم انتصرت تلك، فسنخرج نحن من المعركة فتاتاً وحطاماً، لا كما خرجت أوربا من الحرب الماضية، ولكن كما لم تخرج أمة من حرب قط، وإذا كانت هيروشيما قد ذهبت مثلاً بقنبلة ذرية صغيرة، فسنكون نحن تلك الفئران الصغيرة لتجارب القنابل الذرية؛ والقنابل الهيدروجينية، وغاز الموت الزاحف، وأشعة الموت السحرية، وحرب الميكروبات الطائشة، وسائر ما يتمخض عنه الذهن الكافر في دنيا الضمير الغربي الملوث.
إن طريق الخلاص هو أن تبرز إلى الوجود من أرض المعركة المنتظرة كتلة ثالثة تقول(953/5)
لهؤلاء: لا! لن نسمح لكم بأن تديروا المعركة على أشلائنا وحطامنا. إننا لن ندع مواردنا تخدم مطامعكم، ولن ندع أجسادنا تطهر حقول ألغامكم، ولن نسلمكم رقابنا كالخراف والجداء!
إن هذا وحده هو الذي يعيد إلى الأدمغة المحمومة شيئاً من الهدوء، والى الخطوات المجنونة شيئاً من الاتزان، ثم يشعر هؤلاء وهؤلاء أن في هذه الرقعة الفسيحة الضخمة الهامة ناساً، يحسب لهم حساب، لا كميات مهملة، ولا ماشية وأذناب.
وإن الذين استعمرت دعايات الكتلتين أرواحهم ليقولون: إن هذا مستحيل ما إليه من سبيل، فنحن لا نملك القوة التي نقف بها حاجزاً بين الكتلتين، وستدوسنا الأقدام من هنا أو من هناك، ولا يغني عنا أن نعلن الحياد، أو أن ننضم إلى هذا أو ذاك.
وأنا أدرك كيف تستعمر الدعاية الأرواح والأذهان، ولكني لا أدرك كيف يهون الناس على أنفسهم إلى هذا الحد الزري، وكيف لا يخجلون أن يصبحوا بإرادتهم عبيداً وأشياء.
إن جيشنا ما لا يأمن أن يدير المعركة في أرض معادية؛ يتربص به أهلها الدوائر، ويتلفون ذخيرته ومؤنه؛ ويقطعون خطوطه ومواصلاته؛ ويتجسسون عليه للعدو؛ ويحرمونه الهدوء والراحة؛ سواء سالمهم فتركهم إلى ما هم فيه، أو تولى الحملة عليهم، ليواجه الثورة الداخلية بينما هو يواجه الأعداء في الميدان.
ولقد هزم الجيش الألماني الظافر مرتين بسبب الثورات والانتفاضات الداخلية، قبل أن يهزم في ميادين القتال. وما من جيش يواجه عداء الشعوب وهو آمن في قديم الحروب أو حديثها، وما يؤمن بذلك إلا المستغفلون الأذلاء!
إن هذه الشعوب التي تعد مئات الملايين، والتي تتحكم مواقعها الاستراتيجية في نتائج أية حرب عالمية؛ وتتحكم مواردها الطبيعية في النصر والهزيمة. . إن هذه الشعوب لا تعجز عن شيء حين تريد، وكل قول غير هذا هراء!
سيد قطب(953/6)
أبو الثناء الألوسي الكبير
(بمناسبة مرور مائة عام على وفاته)
للأستاذ محمود العبطة
1 - عصر الألوسي الكبير:
عاش الألوسي الكبير السيد أبو الثناء في بغداد، وفيها ولد وبها مات. وكانت بغداد في العصر الذي عاش فيه، وهو يمتد من منتهى القرن الثامن عشر حتى ينيف على منتصف القرن التاسع عشر للميلاد، أيالة من أيالات الدولة العثمانية، تتعاورها الخطوب، وتصب عليها المصائب؛ فمن جهل وأمية وأوبئة واغتصاب للحقوق وسلب للحرية، وغزوات من القبائل المجاورة إلى غارات متتالية متتابعة من إيران وبلاد نجد. . . وقد عاصر الألوسي الكبير خمسة ولاة من ولاة بني عثمان على بغداد، اثنان منهم وهما داود باشا (1770 - 1849م) وعلي رضا باشا (تولى عام الولاية 1831م)، من أشهر ولاة بني عثمان الذين تولوا مدينة السلام بعد المصلح الشهير المرحوم مدحت باشا الذي جاء بعدهما بسنين قليلة. إذ أدخل الأول - داود باشا - أنظمة جديدة للإدارة الحكومية وأوجد حرساً من المماليك والأغوات لقصره، وتمكن بدهائه وذكائه أن يجعل الأمن يستتب في أنحاء العراق، كما قضى على الفتن والثورات الداخلية وقام بأعمال عمرانية وشق الترع والأنهر، وكان مع ذلك يؤيد التقدم العلمي والثقافة العقلية حتى بلغت المعاهد العلمية في عهده ثمانية وعشرين معهداً ودام حكم داود في بغداد أربع عشرة سنة وقد رغب في أواخر حكمه الانفصال عن الدولة شأن محمد علي الكبير والي مصر وعزيزها؛ فأعلن استقلال العراق عام 1245هـ أما الوالي الثاني وهو علي رضا باشا الشهير باللاز، فقد كان كسلفه داود، يحب النظام ويسعى إلى تطبيقه، وهو الذي أمر القائد التركي (قاسم باشا) بضرب الحصار على مدينة بغداد وإخراج داود منها، ودام الحصار مدة ولم يرفع إلا بانتشار الطاعون في الجيش المحاصر الذي تسرب إلى المدينة، وقد اتفق مع هذا المرض الساري الوبيل فيضان دجلة على أطراف بغداد فبغداد نفسها، فكان كرب عظيم. وكانت النفوس تقضي بين القتل والغرق وفتك المكروب، وكان يموت أو يقتل في اليوم الواحد مائة وخمسون نفراً على أقل(953/7)
تقدير، وقد وقع الطاعون والفيضان في أواخر عام 1246هـ، وبعد دخول الوالي الجديد على رضا وقد هلكت أكثر نفوس بغداد حتى لم يبق من نفوسها غير عشرها! كما تدمرت مرافقها العمرانية وقصورها ومنشآتها الأخرى، وهنا لابد أن نشير إلى التصادم المسلح الذي وقع بين أعوان الوالي القديم وأعوان الوالي الجديد وهذا أدى إلى قتل الكثير كما أدى إلى حريق عظيم أنتشر في بغداد.
وقد عمد الوالي الجديد علي رضا إلى ترميم ما وقع، كما سعى بهائه إلى القضاء على سلطة المماليك والانكشارية وبذلك أنهى عصر المماليك الذي دام ثلاثة وثمانين عاماً (من 1750 إلى 1833) والذي ختم بانتهاء حكم داود باشا، وبعد القضاء على سلطة المماليك التي أنزلت على البلاد خسفاً وظلماً، دبت الحياة في بغداد ورجع إليها أهلوها الذين تفرقوا أيدي سبأ في القرى المجاورة والمدن البعيدة؛ كما دخلتها التقسيمات الإدارية والتنظيمات الحديثة في جهاز الدولة المتداعي؛ إذ أنه في عهد علي رضا أصدر الخليفة العثماني عبد المجيد (خط كولخانة) وذلك في عام 1255هـ (1839م)، وهذا الخط في أول بشائر الإصلاح في الولايات العثمانية الذي بدأ في عهد سلفه السلطان محمود الثاني القاضي على سلطة الانكشارية في الدولة عام 1241هـ (1826) وأول من أدخل التنظيمات العسكرية الحديثة في الجيش العثماني، وتبع علي رضا في تسلم ولاية بغداد محمد نجيب باشا (ولايته عام 1842م) ونجيب هذا قوي وذكي. سار كسلفيه علي رضا وسابقه داود على منهج إصلاحي وأشتهر بتأديبه العشائر الثائرة في أطراف العراق واستعماله سياسة القوة في ذلك. وكان الأخير هو عبد الكريم باشا ولم يكن كأسلافه في شؤون الولاية والإدارة وبعده جاء رشيد باشا. عاصر الألوسي أبو الثناء هؤلاء الولاة، وكان كل منهم الحاكم بأمره والمطيع الأعمى أيضاً ينفذ ما يريده السلطان العثماني من جباية المال، وجمع الضرائب. والألوسي بطبيعة الحال وبطبيعة مراكزه ووظائفه المتصلة اتصالاً مباشراً بالجمهور، ينصاع لتيار الرأي العام ويستجيب لمطالبه وحاجاته، ولم يكن الألوسي بالرجل الجبان ولا بالشخص المستسلم لمشيئة أولي الأمر ولولاة البلد، بل كان على العكس لا يهاب السلطان، ولا يخشى الولاة، ولهذا نراه ينضم إلى الأحزاب المعارضة للسلطة الحاكمة، نراه يناصر داود باشا على علي رضا باشا في وقت عز النصير لداود، وانفرط من كان حوله من(953/8)
الحاشية والأنصار، وأدت مناصرته لداود باشا، ومؤازرته له أن حبس في سجن (نقيب أشراف بغداد). وبعد أن أفرج علي رضا عنه ابتسمت الدنيا له وشرب القليل من نعيمها، ولكن لم يطل له ذلك إذ سرعان ما عاد عليه النحس بعد السعود وذلك في عهد ولاية نجيب باشا الذي عزله من منصبه العظيم (الفتوى) وأساء. معاملته، فساءت حاله واسود الزمان في وجهه فصبر وثابر حتى قصد عاصمة السلطنة العثمانية (استنبول) فنال من دهره ما أراده. عاش الألوسي أكثر من نصف قرن، وفي عهد اختلت فيه القيم الاجتماعية والمقاييس الأدبية كما أن الحرية الشخصية والكرامة والعقيدة كانت حديث خرافة ليس إلا! عاش في عصر مظلم ليس فيه للقوانين والأنظمة سلطان ولا سيادة، هذا مع العلم - كما أشرنا - أنه عاصر ولاة مصلحين محبين للصالح العام، ولكن ماذا يفيد الوالي المصلح إذا كان الجهل ضارباً يجرانه؛ والتعصب والتخريب هو السائد وهو المتحكم؟ كما أن الرغائب الفردية هي الكل في الكل، والبلد كله في هرج ومرج، إذن نقولها غير مترددين: إن الألوسي الكبير عاش في عصر الظلم والظلام. . وكل عصور الظلم والظلام حيث لا عدة للشخص في الحياة إلا القوة والبطش أو استعمال الذكاء والأساليب الملتوية، في كل عصر من هذه العصور السود، تسود البلاد الفتن والفوضى، ويخيم الجهل والخرافات كما تنعدم المرافق الزراعية والصناعية والثقافية، وهذه كلها هي العلامة الفارقة لبغداد بعد سقوط خلافة بني العباس وبعد هجمات التتر والإيرانيين والتركمان والأتراك. . وعصور الظلم والظلام التي ذكرنا صفتها البارزة تمتاز مع ذلك بظهور النبوغ الفردي، والكفاءة الشخصية، إذ يظهر أشخاص يجدون في هذه المفارقات الاجتماعية، وفي تقلبات الظروف والأحوال مجالاً لعبقريتهم النفاذة وشخصيتهم اللامعة، كما أن التجارب المتعددة والمفاجئات المباغتة توجه أعصابهم للتكيف الاجتماعي وأهتبال الفرص لنيل مآربهم وغاياتهم. والألوسي الكبير، بلا ريب، من هذه الشخصيات، لأنه زج نفسه في زحام المعارك وكان في عهود الولاة الأربعة ممثلاً للرأي العام في قصور الولاة والحكام على رغم الحوادث التي لم تنل منه بل زادته صلابة وثباتاً! لأنه - وهو أبن بغداد الصميم - والمتصل اتصالاً مباشراً بالجماهير التي يعظها ويخطب فيها ويفتي في شؤونها الأخروية والدنيوية، لأنه وجد ألا سبيل لمقارعة الحكام الظلام، والولاة الطائشين، ومن يحيط بهم ويؤازرهم من(953/9)
ذوي الأغراض والأطماع إلا بالتكتل والتجمع والمطالبة الصريحة بالإصلاح، وهذه الصفات بينة في حياته المضطربة القلقة، تبيانها في مؤلفاته الدينية والعلمية والأدبية، فهو في كلتا الحالتين متأثر في بيئته ومجتمعه؛ وكل كتبه المطبوع منها والمخطوط ترينا صحة هذا القول، فهو العربي العراقي البغدادي الأول الذي ناوأ السلطة وجاهر بعداء الولاة، هذا فوق أنه صدر العلماء وزعيم الحركة الثقافية والعلمية في عصره والمجتهد الديني؛ وهو كما قال أحد تلامذته (فخر علماء المسلمين الواصل إلى رتبة الاجتهاد) فهو المصلح الديني والاجتماعي، وتفسيره الفخم (روح المعاني) يرينا صدق قول تلميذه بأنه واصل إلى مكانة الاجتهاد، لأن الألوسي يوجه المسلمين إلى إصلاح وتقويم وترميم كيانهم الاجتماعي المنحل المنفسخ قبل مائة عام. . وهو بعد ذلك مرآة حساسة دقيقة لعصره الذي رسمنا ملامحه في السطور السابقة، وهو يرينا بعواطف الأديب، وأحاسيسه الرقيقة وذوقه السليم، يرينا الحالة الاجتماعية والثقافية والأدبية لذلك العصر بصورة واضحة بينة، لا كذب فيها ولا تزويق.
2 - البيت الألوسي:
أشتهر الشرق العربي ومنه (العراق) في القرن الماضي بوجود عائلات علمية تحمل العلم والأدب من الأجداد إلى الأحفاد. . ومن هذه العائلات أو البيوتات في مصر، الشرقاويون والرازقيون (آل عبد الرزاق) والرافعيون وغيرهم، ومنها في لبنان اليازجيون والبستانيون والشرتونيون، أما في العراق فقد أشتهرت في بغداد بيوتات كثيرة تمتاز بحصر العلم والأدب بأبنائها فحسب، وأشهر هذه البيوتات الألوسيون والسويديون والواعظون والرحبيون والحيدريون والزهاويون والقمريون والطبقجليون. . الخ
وهذه العوائل البغدادية تمتاز فوق أنها تحمل الصفة العلمية التي تتوارثها، فهي اختصت بصفة أخرى لا تقل عن الأولى أهمية وخطورة، ألا وهي فروع العلوم من منطق وكلام وأدب وحديث، تنحصر في عائلة منها فقط، ويبقى هذا الفرع في نماء وازدهار في الأجيال القادمة من العائلة نفسها، فبيت السويدي أشتهر بالحديث والمنطق، وبيت الواعظ بالوعظ، وبيت الزهاوي بالمنطق والكلام، وكثير من الفقهاء ظهروا من بيت الطبقجلي والرحبي، ويضاف إلى ذلك ما لانحصار الثقافة العلمية في العائلة الواحدة من أثر عظيم في خلق الجو العلمي والأدبي في صقل المؤهلات وتقويم الملكات والتوجيه الصحيح المستقيم، إذ أن(953/10)
الطفل في أمثال هذه العوائل يشاهد أول ما تتفتح عقليته ويشتد ساعده، يشاهد جواً علمياً يقومه ويعينه في خلق مستقبل علمي صحيح. . . وهذا القول يظهر جلياً واضحاً في الألوسي المترجم له، إذ أنه تتلمذ على أمه وأبيه قبل أن يبلغ سن الحلم، ثم لقي من رعاية أبيه وأستاذه وتوجيهه وإرشاده ما جعله مضرب الأمثال في الرواية والحفظ وسرعة البديهة ودقة النظر.
فالوراثة والبيئة والتوجيه الصحيح تعاونت في سبيل خلق رجال هذه العوائل وإعدادهم للعلم والأدب.
و (ألوس) التي ينتسب إليها أبوالثناء، قرية تقع على نهر (الفرات) قرب (عانات) وينتسب إليها من العلماء والأدباء محمد بن حصن الألوسي الطرسوسي، والشاعر المؤيد الألوسي (توفي عام 557هـ)، وقد تضاربت الأقوال في صلة العائلة بألوس، فمن قائل إن العائلة بغدادية النجار، ولكن أحد أجداد العائلة فر إلى ألوس من وجه هولاكو التتري عند دخوله بغداد، ثم رجع أحد أبنائها إلى بغداد في القرون المتأخرة، وهذا رأي الأستاذ محمد بهجت الأثري، ويقول صاحب (حديقة الورود) ما معناه أن أجداد أبي الثناء عاشوا ببغداد، وقد سافر الشيخ إسماعيل الألوسي من علماء القرن الحادي عشر للهجرة إلى (استنبول) إذ أنعم عليه السلطان العثماني بالمنح والهدايا، ومما منح له أراض واسعة في جهات عانات وألوس، فسكن الشيخ إسماعيل وأهله ألوس، وبقي أبناؤه فيها حتى القرن الثالث عشر للهجرة إذ هاجر منها السيد محمود الخطيب بن السيد درويش وأقام بمدينة السلام، والرأي الثالث هو رأي كاتب مقدمة (روح المعاني) إذ يقول: (انتقل منها - من ألوس - أجداد شيخنا من نحو مائتي سنة إلى الزوراء) وروح المعاني قد طبع عام 1301هـ فيكون تاريخ هجرة الألوسيين إلى بغداد هو القرن الحادي عشر للهجرة (السابع عشر للميلاد). ومن ملخص هذه الآراء الثلاثة المختلفة والمتفقة معاً، لنا أن نقول إن العائلة الألوسية بغدادية الأصل، وأنها اضطرت إلى النزوح من بغداد لعوامل قهارة، منها كثرة الفتن والاضطرابات والغزوات المتعددة، وأنتشار الأمراض، وأنها سكنت (ألوس) وجعلتها لها مستقراً ومقاماً.
والذي لا خلاف فيه ولا جدال أن السيد عبد الله بن السيد محمود والد المترجم له ورئيس(953/11)
مدرسي بغداد في عصره، قد ولد في بغداد وبها ترعرع، وبعد أن بلغ عبد الله المذكور سن الحلم تزوج (صالحة) بنت الشيخ حسين العشاري المتوفى في حدود عام (1200هـ)، والألوسي عبد الله والد محمود الألوسي توفي في بغداد في الطاعون المشهور (عام 1246هـ) بعد أن أنجبت له صالحة ولدين من الذكور هما عبد الرحمن ومحمود، ولم يكن عبد الحمن بن عبد الله الألوسي (1244 - 1284هـ) أقل شأناً وشهرة من أخيه أبي الثناء، وقد قضى عمره في حل القضايا العامة ومشاكل الناس حتى قيل إن الحكومة المحلية في بغداد كانت تشكو انصراف أبناء الكرخ إليه، وصدهم عنها في فصل القضايا، ورجل هذا شأنه لم ينصرف بكليته إلى التحصيل انصراف شقيقه الصغير، والذي أجمع عليه مؤرخو الأدب في العراق ومترجمو العائلة الألوسية أن هذه العائلة تنتهي إلى الدوحة النبوية الكريمة، وهذا شرف يزيد شرف العلم والأدب وحسن الأخلاق، والمترجم له حسنى الأب حسيني الأم؛ ومن المناسب أن نثبت هنا أرجوزة نظمها الشاعر المعاصر للألوسي عبد الباقي العمري ذكر فيها إياه الألوسي وأجداده ابتداء من الألوسي الكبير أبي الثناء وحتى جده الأعلى عليه السلام، قال العمري:
السيد (المحمود) في الأفعال ... سليل (عبد الله) ذي الأفضال
أبوه (محمود) بن (درويش) الذي ... ينعى (بعاشور) غياث اللائذ
ابن (محمد) سليل (ناصر) ... للدين ينعى (للحسين) الطاهر
ابن (علي) بن (الحسين) المقترى ... إلى (كمال الدين) ذي التقرر
سليل (شمس الدين) ذي اليقين ... أبن (محمد) بن (شمس الدين)
سليل (حارس) لشمس الدين ... يعزى وذا النجل شهاب الدين
ابن (أبي القاسم) طاهر النسب ... أبن (أمير) ذاك طاهر الحسب
ابن (محمد) إلى (بيدار) ... يعزى كما قد جاء في الأخبار
وجاء من بعده أبيه (عيسى) ... (محمد) بن (أحمد) بن (موسى)
و (أحمد) من بعده (محمد) ... و (أحمد الأعرج) فهو السيد
ينعى إلى الشهير (بالمبرقع) ... (موسى) إلى (الجواد). . . .
(أبن الرضا) أبوه (موسى الكاظم) ... أبوه (جعفر) الإمام العالم(953/12)
أبن (محمد) الإمام الباقر ... سليل (زين العابدين) الطاهر
نجل (الحسين) السبط عالي الهمم ... ريحانة الهادي شفيع الأمم
نجل (على) الطهر ذي المفاخر ... حاز العلا من كابر عن كابر
وأمه (فاطمة) البتول ... بضعة (طه) المجتبى الرسول
صلى عليه الملك الوهاب ... ما اتصلت بين الورى الأنساب
3 - حياة الألوسي:
إن الدارس لحياة الألوسي الكبير، تلك الحياة الخصبة المليئة تمتاز بعمقها وعرضها، ولا تمتاز بطولها، إذ أن الألوسي لم يزد عمره على الخمسين سنة إلا قليلاً، وهذا العمر القصير لم ينصرف إلى الخدمة العلمية والأدبية فحسب، بل أنصرف إلى حمل أعباء ثقيلة، منها عبء التدريس والإفتاء، وعبء الزوج والأهل، ثم عبء مجالسة الأنيس والصديق، وقد وصفه واضع مقدمة التفسير بقوله (فهو وإن رأيته يسامر أحبته مشغول الفكر بحل المشكلات، أو مشياً لمسجده فهو متفكر بحل المعضلات)، وهذا لعمري وصف صادق لهذا الرجل الحازم، الذي لا يعرف للراحة نصيباً، فهو مع مسامرته لأحبائه وخلانه، أو مع ذهابه وإيابه، يكون عقله الباطن يقلب المسائل ويضع التصاميم، وإذا عرفنا أنه ذاق مرارة الفقر والحرمان في طفولته، وعرفنا أيضاً حالة عصره المظلم وما فيه من مآس ومشاكل، وفقد للقيم والمفاهيم، إذا عرفنا ذلك كله، لا بد لنا وأن نحني الرأس إجلالاً وإكباراً لهذا الرجل عظيم الذي شارك - على الرغم من هذه العراقيل - في سائر علوم زمانه وعبر عن روح عصره أحسن تعبير، مع أن عمره هو دون عمر الإنسان، ولنا أخيراً أن نعلل موته المبكر - إن صح التعبير - بسبب جهد أعصابه ومغامراته السياسية ورحلاته وقيامه بمهام التدريس والإفتاء والتأليف.
وحياة الألوسي ظاهرة مبسوطة لمن يريد دراسته على الرغم من ندرة التدوين في زمانه وقلة وسائل النشر والطبع أيضاً، فهو قد كتب تاريخ حياته بتفصيل دقيق في مقاماته، كما ألمع إليها كثيراً في رحلته (غرائب الاغتراب) وهناك ترجمة وافية لحياته في مقدمة تفسيره (روح المعاني) كما أن أحد تلامذته النجباء، كتب عن حياته كتاباً لم يزل مخطوطاً وهو (حدائق الورود) هذا بالإضافة إلى معاصريه من الشعراء وأشهرهم الأخرس(953/13)
والعمري، وأحمد عزت والتميمي الذين رسموا في شعرهم ملامح متعددة عن حياة الألوسي الكبير، ولا يقل المتأخرون من علماء العراق عن المتقدمين في العناية بالسيد الألوسي، وأشهر هؤلاء حفيده العلامة محمود شكري والأستاذ محمد بهجت الأثري والمؤرخ عباس العزاوي والدكتور محمد مهدي البصير، والألوسي الكبير الذي لقي العناية التي يستحقها شخصه وأدبه وعلمه في حياته وبعد مماته، جدير وأهل بأن تزداد عنايتنا به ودراستنا له، وبخاصة أن ذكرى وفاته المئوية مناسبة حسنة في هذا الموضوع.
للكلام صلة
محمود العبطة(953/14)
شاعر مجهول
للأستاذ حسني كنعان
لما حط الصقر المصري إبراهيم باشا بثقله على (طورس) وأخذ يتوثب ويتحفز من أعاليه على البلقان، ليغزوها كما عزا البلاد الشامية، سأله أحد الدبلوماسيين الفرنسيين. . .
إلى أين يذهب بفتوحاته، وهلا يتوقف عند حدود تركيا؟ فأجاب:
- إنني أتباع التقدم إلى البلاد التي لا أستطيع أن أتفاهم مع أهلها باللغة العربية.
- ثم سأله أحد جنوده الذين لهم دالة عليه عندما كان يزجي الصفوف ويهيئها للقتال، كيف تتحدث سموكم بهذا الشكل عن الأتراك، وأنت من أصل تركي، وفرع أناضولي. . .؟
فأجاب:
- أجل أنا من نبتة تركية، ولقد ولدت في البلقان ولكنني عشت في مصر، وإن أرض هذه البلاد وسماءها جعلت مني عربياً، صهرتني هذه التربة الخصبة ببوتقتها، ومصرتني بمصريتها. . .
وقائد هذا شأنه وهذا حبه للعرب قمين بأن يكون معبود جنوده المصريين والشاميين، وخليق بهذه المدائح التي خلد الشاعر الجندي اسمه فيها. وما كانت هذه الأماديح مقتصرة في تخليد مآثره في الأشعار والقصائد العامرة فحسب، بل تعدتها إلى الإشارة بذكراه من قبل شاعرنا في الموشحات والمواويل والقدود والأناشيد، ومن هذا القبيل قوله من موشح يصف به غزو عكا مما يدل على أن الشاعر كان في ركابه يوم غزاها. ولقد عثرت في الديوان على موشح من نغمة الجهاركاه يصف الشاعر به هذه الغزوة، والموشح معنون (بعنوان زارني الحبيب).
صاحب السعود قاهر الأسود ... الغازي الغضنفر قائد الجنود
في عكا أقام ساعة الزحام ... علم القيام رتبة السجود
رتب الألوف حولها صفوف ... عود السيوف فرقة الصمود
غارت العساكر كالأسد الكواسر ... غنت القنابر تشبه الرعود
لاحت البيارق فوقهم خوافق ... جازت الخنادق وهي كالفهود
دقت الصنوج والطبل الرجوج ... أبحر تموج ما لها خمود(953/15)
والجيش الجهادي مطلق الأيادي ... ألحق الأعادي في بني ثمود
والسور العظيم صار كالرميم ... وانثنى الغريم يلطم الخدود
أول النهار خيم الغبار ... وانتهى الحصار وابتدأ الصعود
ذاك اليوم كان أوحد الزمان ... لا تسل فلان، الدنيا شهود
أيها القدير أيد الوزير ... الغازي الشهير وأعطه الخلود
ما كان الشاعر متغالياً ولا متزلفاً في مدحه هذا القائد الفذ، وإنما كان عشقاً له معجباً به ولا سيما بعد أن صحبه مدة، وعرف مراميه ونزعاته، وقد أعلن الأمان على الجدران في إعلانات خاصة عند ابتداء الفتح ودخوله القدس، وأخرج منادين ينادون في الطرقات بأن عدالته تشمل الجميع على السواء، وأنه يفتح قصره لسماع كل شكاة ورفع كل ظلامة - وأن جميع الطوائف حرة في معتقداتها، وممارسة طقوسها الدينية والمذهبية كيفما تريد، وأنه سيحذو في هذا السبيل حذو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ويسير في النهج على منواله، وهذا ما حبب الشاعر به، وحبب الرعية إليه مما حز في نفوس الأمم الاستعمارية الطامعة في تركيا وجعلها تعجل بإطفاء هذا القبس المتوهج الذي لو ترك وشأنه لاهتدى بأضوائه خلق كثير. . فوضع شيخ المستعمرين العراقيل في تقدم النور، وسارع لإطفائه، حيث ألب على الفاتح العظيم شعوبه الراضية به. وأقام الثورات من خلف جيشه في سواحل لبنان. . . وفي جبل العرب أعني جبل الدروز، ونزل شيخ (الشياطين). . . من الشواطئ وأعمل المكائد في قفاه، فخشي القائد شر الفتن الداخلية والثورات المحلية وجلا عن بلاد الشام، وعاد الجيش التركي من حلب بمساعدة الشيطان الرجيم شيخ المستعمرين. . وأحتل البلاد من جديد وأخذ يتتبع خطا أتباع الباشا الفاتح، لينكل بهم ويثأر منهم، وكان شاعرنا في طليعة المغضوب عليهم فما نجاه من حمل المشنقة سوى فراره إلى مصر مع القائد الكبير. . . فوجد هناك في القاهرة آفاقاً جديدة في سخاء الشعر مفتحة أمامه فحلق في أجوائها كل محلق، وتعرف على أدبائها وشعرائها وأمتدح أمراءها وزعمائها ومدح مآثرها ومساجدها وحصونها وقلاعها، والديوان مفعم بمآثر مصر الخالدة، ولقد أمتدح قلعة محمد علي باشا الكبير بقصيدة عامرة تقع في (32) بيتاً أختزل منها بعض أبيات لضيق لأبرهن بها على تأثير هذه الآفاق الجديدة في نفسه:(953/16)
عروس كنوز قد تحلت بمسجد ... مكللة تيجانها بالزبرجد
أم الجنة العليا تزخرف قاعها ... بأبهج ياقوت وأبهى زمرد
أم المكرمات الآصفية أبدعت ... هيولي أعاجيب بصورة مسجد
فذا مسجد معناه يشهد أنه ... بعمره المسعود من غير مسعد
فدع قصر غمدان وأهرام هرمس ... وإيوان كسرى وأنظرنه لتهتدي
ودع إرماذات السوارى وحسنها ... وعرشاً لبلقيس كصرح ممرد
ودع أموي الشام وأنزل بمصرنا ... وبادر لهذاك البناء المعمد
لئن جاء في الدنيا وحيداً ومفرداً ... فلا غرو فالمنشي له ذو تفرد
محمد آراءه على مآثر ... عزيز ومولى كل سام ممجد
هو الشمس لم يحجب سناها غمامها ... ولا أنكرت أضوائها عين أرمد
وكم منشآت كالرواسي بني لها ... فعجباً جرت في البحر ذات تشيد
معاليه جلت عن نظير وأصبحت ... تباهي جميع العالمين بمفرد
فعرج على تلك المآثر وابتهج ... بآثار هذاك الخديوي الممجد
وعاين بناء يستضئ منزها ... لطرفك في روض البهاء المخلد
أمين بني الجندي قال مؤرخاً ... تربك على قدر العزيز محمد
فأنت تعرف من ثنايا هذه الأبيات مقدار الأثر البالغ الذي تركته في نفسه هذه القلعة التاريخية العظيمة التي يصفها في شعره بمنزلة قصر غمدان وأهرام هرمس، وإرم ذات الأسوار والمناعة، ويضعها في القداسة بمنزلة الأموي في دمشق، بيد أن هذه القصيدة على إعجاب ناشر الديوان بها، وتلك المقدمة النفيسة التي قدمها لها في الديوان، لا أراها تعدل في الروعة أشعاره في الغزليات والأماديح والتشاطير والتخاميس، وله فيها أبيات يعجز القلم الثر عن وصفها لجودتها وروائها وجمالها وتنسيقها، ومتى أتينا على بحث هذا النوع من الشعر نريك نوعاً منها، ويبدو أن صاحبنا لم يك ذا باع طويل في الوصف، ومن أبيات له من هذا القبيل في وصف الشطرنج أرى ألا مندوحة عن نشرها للأطراف فقط وليس للفن، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على هيامه بهذه اللعبة التي كانت سلوته وسلوة القائد المصري في ساعات الاستجمام والراحة. .(953/17)
أقول إن لاعب الشطرنج ... كفارس هاج ببحر السرج
ولا يزال ناصب الفخاخ ... يصطاد من جاء من الرخاخ
كأنه ليث الشرى المفترس ... لا سي إن أرخى عنان الفرس
وصالت الأفيال للأفيال ... في حومة القتال والجدال
ابتدرت أمامها البيادق ... تسعى فمنها سابق ولاحق
وبارز الشاه أخوه الفرز ... وانهتك الستر وزال العز
وميز الغالب بالتأييد ... وبان فضلل باعه المديد
وأقبل النصر من الإله ... وأنفصل الحرب بموت الشاه
ولا أنكر أن إقامته في مصر صقلت شاعريته ورققت من حواشيه، بيد أن هذه الإقامة كانت مقتصرة على إظهار الولاء والمحبة للمضيف الكبير الذي أغدق على ضيفه الشاعر المنح الكثيرة والأعطيات، وكان جل هم الشاعر في مصر أن يوسع آفاق علومه ومعارفه، ويتعرف إلى أكبر عدد ممكن من أرباب هذه الصناعة، أعني صناعة الشعر والفن، وكان الوالي التركي يلح في طلبه ليثأر منه جزاء وفاقاً لما أحدثته أشعاره من دعاية موفقة للفاتح المكتسح الذي دانت له سلطة البلاد التي غزاها طوال هذه المدة.
(يتبع)
دمشق
حسن كنعان(953/18)
شرعة القومية وشرعة الإسلام
بمناسبة مرور 1370 سنة على هجرة النبي
عن العلامة وليم ماكدوجل
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
إن الشرائع العالمية وهي المسيحية والإسلام والبوذية، كل منها تتطلع إلى السيطرة على العالم، وجعل الناس جميعاً تحت لوائها، وترمي كذلك إلى تحديد قواعد الفضيلة والخلق للبشر.
أما الشرائع القومية، ومنها شرائع اليهود والبراهمة واليابانيين والصينيين، فإنها تحدد مراميها في جماعة أو قبيلة أو أمة أو دولة بعينها، لأن تعاليمها لا يمكن أن تناسب جميع البشر بعكس الشرائع العالمية السابقة الذكر.
ونحن نعلم أن المبادئ الخلقية في جميع المدنيات تنحصر في طائفتين كبيرتين من الشرائع الزمنية والخلقية. فالأولى هي الشرائع القومية التي تعمل في حدود جماعة أو قبيلة أو دولة أو أمة، وهي كذلك لا تقتصر على توجيه الأفراد إلى الخير والسعادة عن طريق معاملته وسلوكه مع غيره، ولكنها تسيطر عليه في علاقته بالدولة أو الأمة التي هو فرد منها منتم إليها، والتي يجب أن ينظم حياته تبعاً لمقتضيات مصالحها وحاجاتها.
أما الثانية فهي الشرائع العالمية، وهذه تعمل على السيطرة على العالم وإخضاع البشر لقواعد الفضيلة التي ترى أنها صالحة لحياتهم، ملائمة لهم في كل زمان ومكان. والفرق بين هاتين الشرعيتين: أن الأولى قومية وسياسية، والثانية عالمية خلقية، وهذا الفرق يظهر واضحاً عند مقارنة الشريعة اليهودية أو البرهمية بالشريعة المسيحية أو الإسلامية.
ففي الدولة اليهودية مثلاً لك يكن الحكم حكماً روحياً، إذ عبد إسرائيل إلهاً قومياً، فلم تكن شريعتهم تقصر غايتها على تنظيم سلوك الفرد، ولكنها رمت إلى خير الشعب جملة، واليهود في نظر أنفسهم أفضل شعوب الأرض بما امتازوا به من مميزات وخصائص بأن جعلهم الله شعبه المختار، ذا العزة الخالدة والمجد المقدس، وفي نظر شريعتهم أن الأخلاق دين وسياسة معاً، وأن الشريعة قامت على رواس من الوطنية فكفلت البقاء للشعب المشتت(953/19)
في بقاع الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وكذلك استطاعت أن تبقى عليه وتصونه من الفناء في الكثرة العالمية.
أما الشريعة المسيحية فإنها روحية بحتة لم تتدخل في الشئون السياسية بل تركت ما لقيصر لقيصر، وبذلك طغت تعاليمها على النظام القومي، فجردته من العنصر السياسي وعملت على إزالته وهدمه، لأنها تعمل على غزو العقائد والأوضاع القومية بغير تمييز ولا تفرقة بين جنس وآخر، أو بين فرد وآخر من أفراد الجنس الواحد، وهدفها من ذلك انحلال القومية وجعل العالم كله خاضعاً للسيطرة الروحية، وفات العاملين عليها أن انهيار صرح القومية الإغريقية كان بسبب فلاسفتهم إلى الفكرة العالمية الحرة، ولم يدركوا أن هذه الفكرة لا تأتلف مع فكرة القومية ومميزاتها، وقد تقوضت أركان الدولة وزالت من الوجود لأنها عملت على بسط سلطانها على شعوب كثيرة مختلفة الشرائع متباينة العقائد، فلم يستطيع نظامها القومي وشريعتها السياسية (أي نظام وشريعة الدولة الإغريقية) أن تمتص كل هذه العناصر المتنافرة وإن كانت سيطرت عليها زمناً غير قليل، وقد جاء انتشار المسيحية في أرجائها تحولاً خطيراً في هيكل أوضاعها الخلقية، بل أنه أبدل نظامها القومي بشرعة عالمية مجردة عن الفكرة السياسية.
وأما اليابانيون والصينيون فقد احتفظوا بعناصرهم الوطنية وروحهم القومية لأن مبادئهم الخلقية تستند إلى دعامة قومية ثابتة، ومن خصائص الشرائع القومية أنها إذا خرجت من بيئتها وامتدت إلى الأمم الأجنبية، فإنها لا تقوى على الاحتفاظ بأثرها في تكييف حياة الأفراد وتوجيه أفكارهم ونزعاتهم، إذ من طبيعة الأقوام عدم مقدرتهم على الاحتفاظ بمميزاتهم وشخصياتهم إلا داخل حدود أنظمتهم ومبادئهم.
والتاريخ العالمي يحكي لنا قصة النضال بين الشرائع القومية ومميزاتها من يوم أن خلقت الشرائع العالمية. أما تاريخ الإسلام فإنه يضرب لنا أقوى الأمثال على اتجاهات الشرائع العالمية وقوتها، فإن النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) استطاع أن يغرس نظامه الخلقي ومبادئه العالمية في شعب على حالة من البداوة والفطرة، ولكن له عبادته وعقائده وطقوسه الخاصة، ورغم هذا فإن نظام الإسلام سرى في هذا الشعب سريان الماء في العود اليابس فأعاد إليه الحياة، وأكتسح تياره كل العقبات التي كانت أمامه، وتكشف عن قوة فائقة من(953/20)
النماذج والتمثيل، وخضعت له شعوب متباينة الجناس والأشكال، متغايرة الألوان من بيض وسود وصفر، وكان خضوع هذه الشعوب عن رضى وإيمان، كما يتبخر الماء في الهواء، وذلك لأن نظام الإسلام سوى بين الناس، وجعلهم صفاً واحداً كلهم سواء، ومحا بينهم من فوارق الجنس واللون والطبقة والقبيلة، وحطم الحواجز التي كانت بين أبناء الشعوب بل بين أبناء الشعب الواحد، وسوى بين الرجل والمرأة، ونادى بأن الناس سواسية لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلا بالتقوى والعمل الصالح المثمر، وقد تزاوج العرب مع جميع الأجناس والشعوب التي افتتحوا بلادها فكان هذا سبباً من أسباب الانتشار.
هذا الانتشار السريع الذي حدث في أقل من قرن من الزمان يرجع إلى أسباب كثيرة. . منها، وأهمها: المساواة بين المسلمين مساواة مطلقة في الدين والدنيا، وبساطة تعاليمه وقربها من الفطرة، والنماذج في كثير من عناصر الجنس والثقافة، وتلاقح الأمزجة من صنوف البشر، كل هذا وغيره أخرج مدنية بهرت شعوب العالم بجلالها وبهائها ورحابة ساحتها وتعدد مناحبها ولم يمض زمن طويل حتى طأطأت رؤوس البشر في مختلف بقاع الأرض للثقافة الإسلامية من علوم وفنون، وحتى غمرت هذه الثقافة الجزء المحصور بين آسيا الشرقية وإسبانيا بالجامعات الكبيرة ودور الكتب العامرة والمساجد الفخمة، في هذا الوقت الذي كانت تزحف فيه الثقافة الإسلامية زحفاً سريعاً كانت أوربا ترزح تحت أنقاض المدنية الرومانية، وتئن من الظلم والفوضى والاستبداد.
غير أن هذه المدنية الشامخة سرعان ما رأيناها تهوى بنفس السرعة التي سمت بها وذلك لتفكيك الشرائع القومية التي غزاها الإسلام ودخلت في حوزته وما أعقب هذا من ازدهار فلم تلبث هذه الحركة أن أعقبها السكون وتبدلت القوة وهناً وضعفاً، فإذا بنا نرى النور المتألق سناً وقوة، ويخيم عليه ظلام قاتم ويصبح المجد الزاهر قصصاً يحكيها لنا التاريخ كأمثلة نادرة لعدالة الحكم والخدمة العامة والبطولة الفذة والتضحية بالنفس والمال في سبيل العقيدة.
لا مراء في أن الدين الإسلامي ينتشر في الأمم التي تعيش على البداوة والفطرة، وأنه كلما التقى بالمسيحية في ميدان التنافس الحر، صرعها وتغلب عليها، ولكنه اليوم يعيش بعيداً عن الثقافة البشرية، والمم الإسلامية ترزح تحت أنظمة من الحكم الذي يخالف الإسلام(953/21)
الصحيح، ودستور محمد وأصحابه الذي استطاعوا به أن يبهروا العالم أجمع، والذي رضيته جميع الشعوب التي خضعت له في ذلك الوقت.
كثيراً ما سمعنا من البعض أن المبادئ الخلقية الإسلامية مخالفة بطبيعتها للتقدم في شؤون الحياة السياسية، وهذا افتراء لا يقول به منصف، وتدحضه وثبة الإسلام القوية في أول عهدهن، وما تخللها من التماسك الروحي والحماس القومي، وما ظهر منها من دلائل الإيمان والقوة والمرونة، كما أن تاريخ المدنية الإسلامية يدلنا على قوة أوضاعها الخلقية السامية، غير أن بواعث تقدمها السريع هي بعينها نفس بواعث تأخرها وركودها السريع، وذلك لأن الشرائع العالمية وخاصة الشريعة الإسلامية، قد فكت قوى معتنقيها من آسار شرائعهم الضيقة الحدود، وأطلقت لهم الحرية في التعبير والاختيار، فتنبهت في نفوسهم قوى الإجماع على فكرة واحدة والعمل من أجل هدف واحد والسعي لغاية واحدة، فكان هذا التقدم السريع والارتقاء الخاطف وفاتها وهي تهدم حواجز الجنس والقومية، أنها تقضي على قوى الارتباط بالأصل والتحلل من الماضي، فكان هذا الانتكاس السريع الذي حل بهذه الإمبراطورية العظيمة، لأن التمسك بالقديم في نظري يعتبر عاملاً لازماً متمماً لحركة التقدم السليم، وما النعرة القومية أو ما يسمونه (التعصب) إلا اعتداد المرء بنفسه وتمسكه بقوميته وتقاليده، وهي عاطفة نبيلة ترمز إلى فكرة التحمس الوطني الذي هو عماد الرقي والتقدم وثباتهما، فإذا تلاشت هذه العاطفة أو ضعفت، أنهار الإحساس القومي وخمدت في الفرد روح التضحية من أجل الجماعة، وانتفت مميزاته وصفاته الوطنية وصبغته الشخصية، وزال طابعه الوطني الذي يعتد به، وهان عليه كل شيء.
إن الإسلام قد ظهر في بلاد تعتبر ملتقى قارات ثلاث تسكنها أجناس مختلفة من بيض وسود وصفر، ويختلفون في معنى القومية، فلما هدم الإسلام هذه الفوارق ونادى بفكرة المساواة بكل معانيها الواسعة، تزاوج المؤمنون من الأجناس التي دخلت حوزة الإسلام، بلا ضابط ولا قيد.
وإن كان هذا التزاوج سبباً من أسباب ازدهار الثقافة الإسلامية بفعل التلاقح البعيد المدى، إلا أن هذا الاختلاط الذي حدث بين جميع العرب وجميع الشعوب وخاصة الزنوج الذين دل التاريخ البشري على أنهم جنس عقيم الاستعداد للمدنية، بطئ الاستجابة لداعي الثقافة،(953/22)
لأن حقائقهم العقلية لا تؤهلهم للنهوض فوق مستوى البربرية، لذلك تغير الدم العربي، وقلت نقاوته، وضاعت صفاته المميزة له، وفسدت سلالات العرب ذات الاستعداد القوي والقدرة على الإنتاج.
وبذلك بدأ التدهور يحل بالأمة الإسلامية ويدب في أوصالها الفناء، ولولا قوة تماسك نظم الشريعة الإسلامية وصلاحية قوانينها والتفاف المسلمين حولها، لزالت كما زال غيرها من الشرائع العالمية الأخرى، ولما استطاع أن يصمد لكل هذه الأعاصير التي تتزاحم عليه.
عبد الموجود عبد الحافظ(953/23)
أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
ويضارع المتنبي في هذا أبوفراس الحمداني الذي يجعل الدم سلاحاً ذا حدين، فهو للأضياف تارة، وللأعداء تارة أخرى، والكرم والجهاد للمعالي سبيلان:
للقا العدى بيض السيو ... ف وللندى حمر النعم
هذا وهذا دأبنا ... بودي دم وبراق دم
ويقول بشار بن برد:
وأبسطهم راحة في الندى ... وأرفعهم ذروة في العلا
ومن أصحاب المعالي الممتازين الشريف الرضي، ففي أبياته الآتية ذخيرة عالية:
لغير العلا مني القلى والتجنب ... ولولا العلا ما كنت في الفضل أرغب
ملكت بحلمي فرصة ما أسترقها ... من الدهر مفتول الذراعين أغلب
فإن يك سني ما تطاول باعها ... فلي من وراء المجد قلب مدرب
بحسبي أني في الأعادي مبغض ... وأني إلى عز المعالي محبب
فللحلم أوقات وللجهل مثلها ... ولكن أوقاتي إلى الحلم أقرب
يصول على الجاهلون وأعتلى ... ويعجم في القائلون وأعرب
ولست براض أن تمس عزائمي ... فضالات ما يعطى الزمان ويسلب
فهو راغب فضل، وصاحب حلم وإباء عن دنيات الأمور، لا يباعد بينه وبين عز المعالي أراجيف العدو، ولا فضالات الدنيا ولا حداثة السن.
ويلاحقنا في هذا المضمار الملك أبوفراس مرة أخرى، فلا يرتضي لأصحاب المعالي أن يحول صغر السن دون مآربهم:
أما أنا أعلى من تعدون همة ... وإن كنت أدنى من تعدون مولداً
ويقول الشماخ في عرابة بن أوس الذي اصطف للقتال وهو دون الأربعة عشر يوم أحد:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين(953/24)
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وفي الحق أن أبا فراس كان عالي النفس سواء في حديثه مع نفسه أو عند المحنة النازلة، فما كانت صفته هذه لتزايله فتى أو ملكاً أو أسيراً في بلاد الروم:
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امريء ... فليس له بر بقيه ولا بحر
وقال أصيحابي الفرار أو الردى ... فقلت هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولا خير في دفع الردى بمذلة ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا ... وأكرم من فوق التراب ولا فخر
ثم هو القائل يحدث نفسه، متثبتاً من خطاه في مدارج العلياء:
وما عابك ابن السابقين إلى العلا ... تأخر أقوام وأنت مقدم
وليس تميم بن المعز لدين الله الفاطمي أقل من أبي فراس في هذه الحلبة إذ يقول:
وإني لألقي كل خطب بمهجة ... يهون عليها منه ما يتصعب
وأستصحب الأهوال في كل موطن ... ويمزج لي السم الزعاف فأشرب
فما الحر إلا من تدرع عزمة ... ولم يك إلا بالقنا يتنكب
ومالي أخاف الحادثات كأنني ... جهول بأن الموت ما منه مهرب
خليلي ما في أكؤس الراح راحتي ... ولا في المثاني لذتي حين نضرب
ولكنني للمدح أرتاح والعلا ... وللجود والإعطاء أصبو وأطرب
ومن بين جنبيه كنفسي وهمتي ... يروح له فوق الكواكب مركب
وهذا الزمخشري يرى أن المجد مكسوب لا موهوب، فيقول:
(لا تقنع بالشرف التالد، وهو الشرف للوالد، واضمم إلى التالد طريفاً، حتى تكون بهما شريفاً، ولا تدل بشرف أبيك ما لم تدل بشرف فيك، إن مجد الأب ليس بمجد، إذا كنت في نفسك غير ذي مجد، الفرق بين شرفي أبيك ونفسك، كالفرق بين رزقي يومك وأمسك،(953/25)
ورزق الأمس لا يسد اليوم كبداً، ولن يسدها أبداً)
وهذا ما نسجه أبو العلاء من قبله، إذ أنزل نفسه منازل السادة وأعتز بطارفه قبل تالده:
ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي ... على أنني بين السماكين نازل
لدي موطن يشتاقه كل سيد ... ويقصر عن إدراكه المتناول
ويقول:
ينافس يومي في أمسي تشرفاً ... وتحسد أسحاري على الأصائل
وطال اعترافي بالزمان وصرفه ... فلست أبالي من تغول الغوائل
ويقول إذ أصبح بمكان لا يناله غيره، ومن السفاهة أن يساميه فيه من هو دونه:
وطاولتلأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجناد
ويقول:
إليك تناهي كل فخر وسؤدد ... فإبل الليالي والأنام وجدد
وما تواضع أحد إلا ارتفع، ولا سيما عند القدرة على الاستيلاء لهذا قال القائل:
سدت الجميع فسدت غير مسود ... ومن البلاء تفردي بالسؤدد
وقال أبو العلاء:
ولو أني حببت الخلد فرداً ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
وفي مقابل هذا يقول ابن مصر القاضي ابن سناء الملك:
توقد عزمي يترك الماء جمرة ... وحيلة حلمي تترك السيف مبرداً
وإنك عبدي يا زمان وإنني ... على الرغم مني أن أرى لك سيداً
أليس ابن سناء الملك سليل الفراعنة الشداد الذين حولوا النيل عن مجراه، ورفعوا الأهرام، وطاولوا الزمن بالبقاء، وضارعوا الخلود بالتحنيط.
وأختصر أبن المولى جميع المؤهلات في كل كلمة واحدة هي (الإسلام) فهو القائل في مدح الحسن بن يزيد:
ولو أن أمراً ينال خلوداً ... بمحل ومنصب ومكان
أو بيت ذراه تلصق بالنجم ... قراناً في غير برج قران(953/26)
أو بمجد الحياة أو بسماح ... أو بحلم أو في علا ثهلان
هم ذوو النور والهدى ومدى ... الأمر وأهل البرهان والعرفان
وهو الذي جعل النبي كالجبل الأشم، ورهطه كالكواكب العالية، وكذلك أمير المؤمنين المهدي وأهله من أصحاب المعالي لأنهم ورثة النبي الكريم:
وما قارع الأعداء مثل محمد ... إذا الحرب أبدت عن حجول الكواعب
فتى ماجد الأعراق من آل هاشم ... تبحبح منها في الذرى والذوائب
أشم من الرهط الذين كأنهم ... لدى حندس الظلماء زهر الكواكب
وإن أمير المؤمنين ورهطه ... لأهل المعالي من لؤي وغالب
أولئك أوتاد البلاد ووارثو ... النبي بأمر الحق غير التكاذب
ويجري أبو العتاهية في هذا المضمار إذ يرى الزهادة سبيل المجد:
دعني من ذكر أب وجد ... ونسب يعليك سور المجد
ما الفخر إلا في التقى والزهد ... وطاعة تعطي جنان الخلد
لا بد من ورد لأهل الورد ... إما إلى ضحل وإما عد
والفضائل وحدها هي عدة المعالي كما يرى الطغرائي بقوله:
أبى الله أن أسموا بغير فضائلي ... إذا ما سما بالمال كل مسود
ولقد قال أحد الخلفاء:
(لأن يضعني الصدق وقلما يضع. . . أحب إلى من أن يرفعني الكذب وقلما يرفع)
وللطغرائي مكانة لامعة بين أصحاب المعالي، حتى أنه ليجعل للعلا حديث صدق، وهو العامل بما تمليه عليه من انتقال وحركة، ففيهما العز، وليس ببعيد على من ولى الوزارة بمدينة إربل أن يأتي بهذه المعاني السامية التي تتدرج بها لامية العجم المشهورة إذ يقول:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيراً، ومجدي أولاً شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها، ولا ناقتي فيها ولا جملي
ومنها:
حب السلامة يثني عزم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل(953/27)
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً ... في الأرض أو سلماً في الجو فاعتزل
يرضى الذليل بخفض العيش مسكنة ... والعز عند رسيم الأينق الذلل
إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ مني ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
ومنها:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
لم أرتض العيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
ومنها: تقدمتني أناس كان خطوهمو ... وراء خطوي لو أمشي على مهل
علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
فهذا رجل أصيل من أصحاب المعالي، فحسبه أن يحفل بالشمس والحمل وزحل ليتخذ من كل ذلك درعاً للحياة النشيطة العاملة، فعرف قدر نفسه وصانها عن كل رخيص دون. وأمتطي الأمل الفسيح في سبيل الارتفاع، ولم يتخاذل حينما رأى مندونه يتقدمه في مدارج الحياة.
وليس بلوغ المعالي رهين العجلة، فقد يكون التأني سبيل السبق وذلك كما يرى شاعر قديم:
من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويداً وتجى في الأول.
للكلام صلة
محمد محمود زيتون(953/28)
رسالة شعر
نحو الصباح
للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري
(مهداة إلى الناقد الكبير الأستاذ سيد قطب)
حيران يقظان يا فؤادي ... والناس هانون راقدونا
الليل نحو الصباح جسر ... بني الدجى فوق الحصونا
تعبره الكائنات وسنى ... بيننا عبرناه ساهرينا
فامش معي يا أبن ذاتي ... ولندع القوم حالمينا
لعلنا ندرك الأماني ... من قبل أن ندرك المنونا
لا تحسد الناعمين واحسد ... بني العذاب المسهدينا
أولاء آباؤهم بنوهم ... ونحن من يبتني البنينا
ومن يرم مثلنا طموحاً ... هيهات أن يطبق الجفونا
والنوم للخاملين لا لل ... مكبلين. . . المعذبينا
لست أبن من أقطع الرعايا ... ولا أبن من شيد السجونا
لست أبن العواصف أبن ... السيول والنار أجمعينا
أبنك يا شعب يا صباحاً ... يستل أنفاسه دفينا
ماذا أرى يا ظلام؟ ركباً ... تحت الدياجي محدبينا
حافين عارين لاهثينا ... باكين شاكين ضارعينا
وراءهم مارد رهيب=يزرع في الأنفس الشجونا
تقطر جنباه كبرياء ... ويغتلي صدره جنونا
تدوس هذي العظام دوسا ... كأنه طاحن طحينا
فابك معي موكب الضحايا ... يصعد الشجو والأنينا
رواية مثلت قديماً ... مخرجها خفرع ومينا
ولم يزل بعد ألف قرن ... فرعون يستعبد القروتا(953/29)
قد سارت الكائنات قدماً ... فما لنا نحن جامدينا
ماذا أرى يا دموع؟ قصراً ... أراده المجد أن يكونا
حيطانه تلك أم مرايا ... من فوق حيطانه جلينا؟
كأن جدرانه الزواهي ... سقين بالشمس أو طلينا
يا جنة الخلد في مداه ... وحوله تفتن العيونا
إنا عدمناك مشتهينا ... كما اشتهيناك عادمينا
لا تقبلي بالنسيم إنا ... من نتن الأرض زاكمونا
لا ترقصي للربيع إنا ... من ظلمة الكوخ قد عمينا
ماذا أرى يا حياة؟ إني ... جننت من حيرتي جنونا
قبران ذا شيد من رخام ... تخطف ألوانه العيونا
وذاك في صخرة نحيت ... أقسمت ما كاد أن يبينا
هذا عليه الربيع ضاف ... يرف ورداً وياسمينا
وذاك يمشي الخريف فيه ... يبارك العوسج اللعينا
ويلاه يا عدل. . يا سطوراً ... تنطق بالسخريات فينا
حتى أمام الفناء فرق ... ميزنا جوهراً وطينا. .؟
يا أمة تعبد التماثيل ... والطغاة المتوجينا
أقسمت لا تحملين إلا ... منافقين أو كافرينا
فامش معي امش يا رفيقي ... مثلي مستغرقاً حزينا
فماسة الصبح قد أشعت ... والقوم قد فتحوا الجفونا
محمد مفتاح الفيتوري(953/30)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
إلى معالي وزير المعارف:
سيدي الأستاذ
حديث اليوم إليك كلمات تنوء بالألم وتفيض بالمرارة، وما أجدر حديثاً كهذا الحديث أن تنصت إليه بقلبك قبل أن تنصت إليه بإذنك، لأطمئن إلى أنه قد هز منك منافذ الشعور قبل أن يهز منافذ الأسماع!
هذا الألم الذي يلهب القلم في يدي مرجعه إليك، وهذه المرارة التي تلفح الأفكار في رأسي مرجعها إليك أيضاً. . . ومعذرة لهذه البداية الثائرة أو لهذه الصراحة السافرة، لأنها حق (رسمي) تفضلت يوماً فسمحت لي به، وأعربت لي عن تأييدك له، ما دام شاهده الصدق ورائده الضمير!
لقد كنت أنتظر بعد ذلك اللقاء الذي تحدثت فيه إليك ذات مساء ثم طالعت به الناس على صفحات الرسالة، أنك ستقف من الأدب والأدباء نفس الموقف الذي وقفته من التعليم والمعلمين: عناية ورعاية، وتأييد واهتمام، وعطف على كل أمل مظلوم وكل حق مهضوم. كنت أنتظر هذا كله وينتظره معي الناس، ولكن الأيام تمضي وعجلة الزمن تدور، وأنت مشغول عن تلك الحقوق والآمال. . . وتذهب مع الريح كل صرخة جازعة، ولهفة ضارعة، وكل أمنية جميلة كان لها في النفوس وقع وفي القلوب مكان!
أليس عجيباً حقاً أن تشغل عن حقوق فئة تجمع بينك وبينها قرابة الروح، وعن آمال طبقة تربط بينك وبينها صلات الأدب؟! صدقني إذا قلت لك إن عجب الأدباء لا ينتهي، وإن أسفهم لا ينقضي، وإن كل مظلوم بينهم قد بات ينظر إلي وهو يردد قول الشاعر القديم:
وأرى الأيام لا تدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي!
أتحب يا سيدي أن تسمع قصة واحد من هؤلاء المظلومين في عهدك؛ عهدك الذي ترقبوه كما يترقب الممحل قطرات الغيث، وتلقوه كما يتلقى الغريق أسباب النجاة، وعاشوا على الأمل فيه كما يعيش المحروم على حرارة الرجاء؟!
إن لدى بضعة أسماء أود أن أقدمها إليك، ولكني أكتفي اليوم بتقديم اسم واحد هو على(953/31)
التحقيق شهيد هذا الأسبوع. . هذا الاسم الواحد هو النموذج الصارخ الذي يشير إلى غيره من النماذج، أو هو المثل الواضح الذي يدل على غيره من الأمثال، وأستمع يا سيدي لقصة هذا الشهيد:
شاب من هؤلاء الشباب المخلصين لنشر التراث العربي القديم: يسعى إلى نوادر مخطوطاته في كل مكتبة هنا وكل مكتبة هناك، ويمنحها من وقته وجهده وماله فوق ما يحمل طوق أمثاله ممن يجودون في سبيل العلم بالوقت والجهد والمال. . عمل جليل كما ترى، ومع ذلك فقد ظلمته وزارة المعارف حين نسيت جهده أو تناسته، أو حين جهلت قدره أو تجاهلته! ظلمته حين وضعته في مكان غير مكانه، هناك حيث ترهق الأعصاب وتخور الهمم وتخمد الأنفاس، وهناك حيث قدر له أن (يلقن) أطفالاً أكثرهم من أبناء الأجانب (مبادئ) القراءة والكتابة باللغة العربية. . أرأيت يا سيدي الأستاذ؟ أرأيت كيف تجبر وزارة المعارف أديباً على أن يقضي أكثر وقته مع (أطفال) يقوم منهم نطق اللسان، ثم لا تتيح له من هذا الوقت إلا أقله ليقضيه مع (رجال) من طراز أبي الفرج أو أبي حيان؟!
لقد قضت وزارة المعارف أن ينفق الأستاذ السيد أحمد صقر سبع سنوات من عمره في مدارس الليسيه الفرنسية. . وكأنما أرادت بعد هذا العمر الطويل أن تكافئه على ما قدم من جهود وما بذل من تضحيات، فأمرت منذ أيام بنقله إلى أقاصي الصعيد ليستقر مرة أخرى بين أطفال مدرسة (كوم أمبو) الابتدائية! أعذرني يا صاحب المعالي إذا تعثر القلم في يدي وتنزت الأفكار في رأسي واستحالت الكلمات إلى صرخات: من المسئول أمام الله حين تفرق وزارة المعارف بين هذا الأديب وبين أولاده الصغار الذين يتعلمون في مدارس القاهرة، وهو يقوم منهم مقام الأب والأم التي فارقت الحياة وتركتهم وديعة بين يديه؟! ومن المسئول أمام التاريخ - تاريخ الأدب على الأقل - حين يلقى الأدباء على يد وزارة المعارف مثل هذا الغبن ويتعرضون لمثل هذا الهوان؟! إن الحياء يمنعني من اتهامك، ولكن الحق يدفعني إلى هذا الاتهام. لماذا؟ لأنك لو شملت الأدباء بعطفك، وأفضت عليهم من برك، وقربتهم منك حتى تعرف من منهم مهضوم الحق ومن منهم مظلوم المصير، لما أهملت وزارة المعارف شأنهم وجحدت فضلهم وتركتهم نهباً لمتاعب الأيام. . من هنا يا سيدي - وأغفر للشعور ثورته وللقلم جرأته - تأتي مسئوليتك أمام الله وأمام التاريخ، لأنك(953/32)
في الطليعة من هؤلاء الذين يعنيهم هذا القول الكريم: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته!!
ماذا أقول لك يا صاحب المعالي بعد هذه الكلمات؟ أقول لك إن هذا الأديب يجب أن ينصف وأن يوضع في مكانه. . إن مكانه هناك في دار الكتب، أو في مجمع اللغة، أو في تلك الإدارة التي تسميها وزارة المعارف (إدارة نشر التراث القديم) أقسم لك إنها تسمية ظالمة؛ ظالمة لأن تلك الإدارة موجودة حقاً ولكنها لا تفعل شيئاً. . وتسألني لماذا فأقول لك: لأن الذين يصلحون لها ويستطيعون أن ينهضوا بها قد قدر لجهودهم أن تذهب هباء مع الريح، بين مدرسة فرنسية هنا ومدرسة مصرية هناك!
يا سيدي رحمة بالأدب ورفقاً بالأدباء، ومعذرة لهذه الكلمة الثائرة لك لا عليك، وحسبك منها أن شاهدها الصدق ورائدها الضمير!!
بين شوقي والرصافي:
أعرف فيك إخلاصك للفن، وصدقك في النقد، وجرأتك في الحق، وترفعك عن المجاملات. . . ولهذا كله أود أن أعرض عليك هذه القضية الأدبية التي أوغرت على الصدور في العراق وأثارت من حولي ضجيج الأقلام! أود أن أعرضها عليك لتشارك فيها برأيك، هذا الرأي الذي أحتكم إليه لينصفني أو لينصف غيري من المعترضين والمتهجمين:
لا شك أنك تذكر أنني كتبت في الرسالة الغراء بضع مقالات أبديت فيها رأيي حول شعر الشاعرين: شوقي والرصافي. . ولقد قلت إن شوقي قمة شامخة من قمم الشعر في العربية، وإن الرصافي لا يمكن أن يلحق بغباره مهما قال القائلون، لأن شوقي شاعر العبقرية والرصافي شاعر القريحة، وشتان بين المطبوعين على قول الشعر وبين النظامين!
قلت هذا فهاجمني بعض الأدباء هنا على صفحات الصحف وهاجمني البعض الآخر بالرسائل واللسان، وهاأنذا أنقل إليك ألوانا من هذا الهجوم الأخير:
كتب إلي صديق من (الموصل) يقول: (إنك قد تجنيت على الرصافي حين فضلت عليه شوقي، لأن الرصافي أشعر من شوقي ولأن المصريين يسوؤهم أن يؤمر عليهم شاعر عراقي، ولذلك أهملوه. . ولولا أنني أعرف نزعة (الرسالة) الإقليمية لكتبت رداً عنيفاً حول هذا الموضوع، ولكنني أعرف الناس بأنانية المصريين! ولهذا فأنا عاتب عليك تفضيلك شوقي على الرصافي وأنت شاعر عراقي)!(953/33)
وكتب إلي أديب آخر من (البصرة) يقول: (ما كنت أحسب أن المجاملة للمصرين تصل بك إلى هذا الحد الذي تفضل فيه شوقي على الرصافي! ترى هل أنت مصري أم عراقي؟ وكيف تزعم أن شوقي أعظم من الرصافي؟ والله إن ذلك ليسوؤني منك. . ولولا أنني أخاف ألا تنشر الرسالة ردي لبعثت إليها بهذا الرد في المفاضلة بين الشاعرين)!
وقال لي أحد الشعراء العراقيين في معرض الحديث عن مقالاتي حول شوقي والرصافي: (إنني أعجب منك يا أستاذ، لأنك تريد أن تنال الشهرة بواسطة مصر، ولهذا لم تجد طريقة سوى أن تحطم الرصافي لترفع من شوقي! لا يا أستاذ! إن الرصافي عظيم عظيم حتى لا يفضل عليه أحد)!
وهكذا كان أسلوب النقد الذي وجه إلي من الأدباء والشعراء. . وبقي أن نسمع رأيك الفاصل في المشكلة، رأي الكاتب الحر والناقد النزيه.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
أنا والله في حيرة من أمر الأدباء العراقيين؛ إذا تحدث ناقد مصري عن أديب مصري صاح أكثرهم فيما يشبه الغضب والعجب والاستنكار: نزعة عنصرية وعصبية إقليمية! وإذا سكت الناقد المصري وأحتل مكانه في التحدث عن الأدباء المصريين ناقد عراقي، صاح أكثرهم مرة أخرى فيما يشبه التأنيب والتثريب: متنكر للعراق ومجامل لمصر وكافر بالقيم!
ونحن بعد ذلك في رأيهم أنانيون متعصبون، نحيد عن الحق ونميل مع الهوى حين تحدد للأدب المعايير وتقام الموازين!
ومن العجيب حقاً أن يوجه إلينا مثل هذا الاتهام وما أكثر ما نفيناه، مقدمين الدليل القاطع والبرهان الناصع على أننا فوق الظنون والشبهات، ويا ظالماً حاربنا تلك العصبية البغيضة على صفحات الرسالة، ودعونا إلى نبذها بالقلم واللسان، ورفعنا الصوت عالياً بأن ليس في الأدب والعلم والفن مصري ولا عراقي، وإنما هناك كلمة واحدة نعتز بها ونطالب بأن تكون لنا خير شعار وعنوان. . هذه الكلمة الواحدة هي أن تنتسب جميعاً إلى (العروبة)(953/34)
التي تشمل هذا الوطن الكبير، وتنثر ظلالها السمحة على كل اسم من أسماء أهل الأدب والفن هنا وهناك!
قلنا هذا وكررناه، حتى مللناه! ومع ذلك فالأدباء العراقيون غير راضين ولا مقتنعين، حتى نسبح بحمدهم ونشيد بذكرهم ونقيم لأدبهم المعابد والمحاريب. . وإن لم نفعل فالويل لنا من ألسنتهم وأقلامهم، والويل كذلك لكل عراقي يشير إلى الأدب المصري من بعيد أو قريب! من يصدق بعد هذا كله أننا أصحاب تعصب وأنانية أو أصحاب أهواء وأغراض؟! ألا فليرجعوا إلى كلماتهم التي وجهوها إلى الأستاذ الناصري وليراجعوا أنفسهم ليعلموا - إذا أنصفوا الحق والواقع - إلى أي فريق يجب أن يوجه الظن أو يقدم الاتهام!
وأعود إلى الأستاذ الناصري لأقول له إن فكرة المقارنة بين الشاعرين (العربيين) باطلة. . باطلة في رأي الحق والذوق والمنطق السليم! إن المقارنة مثلاً بين شوقي والمتنبي أو بين شوقي وأبن الرومي أو بين شوقي وأبي تمام شيء معقول ومقبول. . معقول لأن الطاقات الفنية هنا متقاربة، ومقبول لأن الملكات الشعرية هنا متشابهة، (معدنها) واحد وإن اختلفت مظاهرها تبعاً لاختلاف الذوق بين (الصائغين)! لهذا كله أقبل المقارنة بين شوقي وهؤلاء وأطيق المفاضلة، أما أن يقارن بين شوقي والرصافي فهي المقارنة بين النهر الكبير والجدول الصغير، أو بين الذهب والقصدير. . وليغفر لي الأدباء العراقيون (ضعف) الملكة الناقدة أو (غلبة) العصبية الإقليمية!!
ولا حيلة لي بعد ذلك فيمن ينكرون شوقي ويعترفون بالرصافي وأمثاله من الشعراء، إنهم أشبه بذلك الذي يذهب إلى سوق الفاكهة فتقع عينه على الكمثرى والتفاح ثم لا تقع يده إلا على الجميز والجوافة. . أمثال هؤلاء لا ينتظرون مني جدلاً ولا مناقشة، لأنني لا أطيق أن أناقش أذواقاً تجهل فنون الطعم والمذاق، حين تعرض عليها أنواع الفاكهة في كل سوق من الأسواق!!
شاعر يودع الحياة:
كنت أقرأ شعره فأعجب به وأثنى عليه، ومن أضواء هذا الشعر وظلاله رسم له الخيال على لوحة الشعور صورة إنسان، إطارها الحس المرهف والفكر النقم والشجن المقيم. . لم أكن قد رأيته بعد، وحين رأيته عدت إلى الصورة التي رسمها الخيال فلم أجد فارقاً بينها(953/35)
وبين الصورة التي رسمها الواقع: كلتاهما تنقل عن الحياة ألوانها الحزينة القاتمة، تلك الألوان التي تترك أثرها العميق في قسمات الوجه ونبرات الصوت وطريقة الأداء. . . وهكذا لقيت الشاعر المصري الراحل، صالح شرنوبي رحمه الله!
قال له أحد الأصدقاء الأدباء إنني أذكر شعره بما يرضي الحق ويرضيه، وإذا هو يسعى إلى ذات مساء ليقدم إلى شكره بعد أن قدم إلى نفسه، في صوت يقطر حياء ورقة؛ حياء الإنسان ورقة الفنان. . وحين أكدت حرارة اللقاء صدق ما بلغه متن ثناء، تبسط اللسان الحيي وتهلل الوجه الحزين، وأنطلق الشعور الملتاع يقص علي فصولاً من رواية طويلة، كتبها بمداد الشجن تجهم الحياة وعقوق الناس!
وودعت صالح شرنوبي في تلك الليلة. . ودعته وأنا أؤكد له سروري بلقائه، وأكرر له إعجابي بشعره، لتطمئن نفسه إلى أن له عند الحرصاء على القيم مكاناً في الأدب العربي الحديث!
ومضت الحياة بصالح شرنوبي حتى علمت يوماً أنه قد حورب في رزقه، حين فصل من عمله في إحدى المدارس الأجنبية وكان يحصل منه على أجر زهيد. . فصل من عمله كما قيل لي، لأنه كان كريماً على نفسه فلم يرض لها أن تضام، ومخلصاً لمصريته فلم يرد لها أن تهان؛ ومن هنا ثار على القائمين بأمر المدرسة دفاعاً عن كرامة وطنه. . وطنه الذي لم يلتفت يوماً إلى حقه عليه كأديب أو حقه عليه كإنسان!
وتناولت القلم لأعرض مأساته على الدكتور طه حسين، باشا ولكن معاليه كان قد غادر مصر إلى فرنسا فأمسكت القلم عن الكتابة إلى حين. . ويعود الوزير الأديب إلى أرض الوطن وأوشك أن أتناول القلم مرة أخرى لأتحدث إليه، ولكن صالح شرنوبي يعفيني من أداء هذا الواجب، ويودع الحياة والأحياء ويمضي في طريقه إلى لقاء الله. . فإلى قبره في ذلك المكان المقفر حيث قدر لهذا الجسد المكدود أن يستريح، أقدم عزاء القلب ورثاء القلم!. .
أنور المعداوي(953/36)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
وفاة شاعر ومباهج شعراء
دعا جماعة من الشعراء، يوم الجمعة الماضي، إلى ندوة شعرية ينشدون بها في (مباهج الصيف) بحديقة جمعية الشبان المسيحية، وكان بين هؤلاء الشعراء الذين سيقولون في المباهج أسم الشاعر صالح الشرنوبي، ولكن الأقدار أبت على الطائر الذي ظل حياته كسير الجناح أن يذهب إلى فننه ليغرد، وشاءت أن تصنع مفارقة في مجال الشعر والأدب، فقد نشر نعي الشاعر في نفس العدد (من الأهرام) الذي نشر به أسمه مع شعراء الندوة!
عرفت الأستاذ صالح الشرنوبي من نحو عام، لقيته أول مرة في إحدى الأمسيات بندوة (الرسالة) ولقيته بعد ذلك بضع مرات، وقرأت له شعراً أطربني، لمست في شخصه روح الإنسان وأنس الأديب، ورأيت في شعره روعة الفن وصدق الأداء ولمحت فيه رقة الحال المستترة بالتجمل، ويخيل إلي أنه كان يتجمل بالشعر. . كان يعيش بقصائده التي تعمر جيبه. . ولم يكن يشعر أحداً بحاله، فقد كان من البؤساء المتعففين، فلم يثر جلبة حوله، وكان حيياً متواضعاً، إن ذكر شعره بالثناء خجل وأبدى شكره في تواضع عذب.
إنسان رقيق النفس ورقيق الحال، عاش وديعاً موادعاً، ومر بأصدقائه ومعارفه مرور النسمة اللطيفة، وكان في مصر. . ومع ذلك برز أسمه بين الشعراء!
ويظهر أن شدة الأيام قد استحت من طول محاسنته، فحاسنته، وأخذت به منذ شهور إلى مكان في تحرير جريدة الأهرام. وأخيراً أراد أن يتغنى بين إخوانه الشعراء بمباهج الصيف، ولكن الموت عاجله، فخلى مكانه في الندوة، وكان موته حرياً أن يحيلها كلها إلى حزن وحداد، ولكن الشعراء - سامحهم الله - منحوه نصف ساعة ذكروه فيه على عجل، ثم أسرعوا إلى مباهجهم منشدين!
بدأت الندوة بكلمة من الأستاذ خالد الجرنوسي، رثي فيها الفقيد وعبر عن أساه لفقده، وألقت الآنسة روحية القليني أبياتاً في رثاء الشاعر، كما ألقى الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي قصيدة رثاء أيضاً كانت أحسن ما قيل في الندوة، ووقف خطيب لم يعلق اسمه بذاكرتي فارتجل كلمة كنا نسامحه على ما جاء فيها من أخطاء وما لابسها من فهاهة لولا أنه ألقى(953/37)
أبياتاً من قصيدة للشاعر الفقيد فأقض مضجعه وآلم روحه بما أرتكبه فيها من تكسير وتشويه!!
والأبيات تنتهي بهمزة مكسورة، فبلغت الجناية مبلغها حينما كان يقلب القافية على أوجه الإعراب المختلفة من رفع ونصب وجر.
ومما قاله ذلك الخطيب أن الشاعر مات ولم يحن حينه (بفتح الحاء) يقصد أنه مات في شبابه قبل الأوان. . وكنت أغض عن هذه الزلات لولا أننا في ندوة شعراء يقصدها الناس ليستمعوا إلى ما يلقى فيها وقد يأخذون عن أصحابها.
ومن تلك الزلات أن الأستاذ خالد الجرنوسي أثنى على الشاعر الكبير السيد حسن القاياتي الذي كان (ضيف الشرف) في الندوة، فخاطب الحاضرين قائلاً عنه: هذا الماثل أمامكم ولم يكن السيد القاياني واقفاً بل كان جالساً على كرسي. .
وتكلم مدرس بكلية أصول الدين، قدم على أنه سيعقب على الندوة فقال إن مشاركة الآنسة روحية قليني في الندوة تذكر بالشاعرة (الفحلة) الخنساء. . والفحولة هي الذكورة، بل الذكورة العارمة، وقد استعملت مجازاً في الشعر لدلالتها على القوة والاقتدار، فهل يستساغ أن توصف بها الأنثى؟ على أن وصف الشاعر بأنه فحل أصبح غير مقبول في الذوق العصري.
وكنت أود أن يؤثر شعراء الندوة حسن الذوق على رغبتهم في إلقاء ما أعدوه في مباهج الصيف، فإما أن يجعلوا الندوة كلها في الرثاء أو يكتفوا بما تيسر منه ويفضوها. .
ولكن يظهر أن تلك الرغبة عارمة في نفوسهم، فاستسلموا لشهوة الإلقاء، وجانبوا ما يليق، فراحوا يتحدثون عن البحر والأمواج والجمال والأزهار والتفاح والرمان. .
رحم الله الفقيد وغفر لإخوانه الشعراء.
أدباء الثقافة بوزارة المعارف:
في الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف طائفة من الأدباء بعضهم من المعروفين لجمهور القراء بأقلامهم وإنتاجهم وبعضهم متأدبون ذوو ثقافة واطلاع. وهم هناك في وضعهم الملائم من حيث قدرتهم وخبرتهم وثقافتهم التي تتطلبها أعمال الإدارة في الشؤون الثقافية المختلفة، فهناك مثلاً من يقرؤون الكتب التي تقدم للتقرير في مكتبات المدارس لإبداء(953/38)
الرأي في صلاحها لهذا العرض، وهناك من يترجمون الكتب التي يقع عليها الاختيار، وهناك من يحررون السجل الثقافي الذي يصدر سنوياً مبيناً نواحي الثقافة العامة في البلاد المصرية معرفاً بما يصدر فيها من مؤلفات ومترجمات وما بها من جمعيات وأندية ومعارض ومتاحف. الخ
وقد تولى الإشراف على هذه الإدارة منذ إنشائها أساتذة من كبار الأدباء، منهم طه حسين وأحمد أمين وفريد أبو حديد، والأول هو منشئها وصاحب فكرتها، وقد اختير لها في أوائل هذا العام الدكتور سليمان حزين بك الذي كان أستاذاً للجغرافية بجامعة فاروق، وهو وإن لم يكن معروفاً بإنتاج أدبي إلا أنه في السنوات الأخيرة شارك في النشاط الثقافي العام بأحاديثه وتعليقاته في الإذاعة وبعض الأبحاث الأخرى.
ومن المعروف أن الأعمال الأدبية والثقافية تحتاج إلى مزاج رائق وراحة شعورية موفورة، فأهلها يستهلكون أعصابهم ويعتصرون أفكارهم.
لهذا جرى الأمر في إدارة الثقافة على أن يتاح لموظفيها الفنيين شيء من الحرية في مواعيد الحضور والانصراف وخاصة أن بعضهم تقتضي طبيعة عمله انتقاله إلى هنا أو هناك للاتصال بالهيئات الثقافية، ومنهم من يؤثر إنجاز ما لديه في منزله.
وبعض الناس حينما يرون ذلك يظنون أن أولئك الموظفين لا عمل لهم. . وقالت بعض الألسنة الطويلة إن إدارة الثقافة (تكية) للأدباء! وقد زين لكثير من المدرسين أن يلجئوا إليها فأرهقوا الوزراء والكبراء بطلب الوساطات. .
ويظهر أن الدكتور سليمان حزين بك مدير الثقافة العام، تأثر بتلك الأقاويل. . ويظهر أيضاً أن بالقرب منه موظفين تقصر بهم الأسباب الطبيعية دون الغايات المرموقة فيحاولون أن يصطنعوا أسباباً أخرى من الملق والإيقاع بمن ينفسون عليهم. . . زين هؤلاء للدكتور حزين أن يغير الوضاع المألوفة في معاملة الفنيين، واستغلوا في ذلك رغبته في أن ينفي عن الإدارة ما ترمي به من التقصير ومما يدل على هذه الرغبة قوله: أنه يريد أن يغير سمعة الإدارة إلى النقيض حتى لا يرغب فيها المدرسون، فيخف الضغط على الوزراء!
وعلى ذلك جعل الدكتور حزين بأخذ أدباء الثقافة بالشدة ويعاملهم بالحرفية في مواعيد الحضور والانصراف وأتخذ في ذلك وسائل جاوز فيها عماله المدى اللائق، فقد حدث مثلاً(953/39)
أن صعد سكرتيره إلى بعض الحجرات فوجد حجرة خالية بها ثلاثة مكاتب لثلاثة من الأساتذة الموظفين، وكان واحد منهم يتحدث بالتليفون في حجرة أخرى، والثاني يقف في الردهة، والثالث في المرحاض، فأغلق السكرتير الحجرة الخالية لأن موظفيها ليسوا على مكاتبهم. . وذهب بالمفتاح إلى سعادة المدير العام، فحكم على العمل أن يظل معطلاً بقية اليوم. .
ونحن مع الدكتور في رغبته المحمودة أن يدفع عن إدارة الثقافة ما ترمي به من التقصير، ولكنا نخالفه في الطريقة.
الواقع أن أدباء الثقافة لا يستخدمون في تحقيق الأغراض الثقافية المنشودة كما ينبغي، ولكن ليست الوسيلة أن يحضروا في الثامنة صباحاً وينصرفوا في الثانية بعد الظهر، وأن تغلق حجراتهم ليشربوا قهوة لدى المدير العام، إنما الوسيلة الصحيحة أن ينظم العمل الفني وتذلل عقباته وتوضع المشروعات الثقافية التي تستغل فيها جهود أولئك الفنيين، والدكتور حزين بك أستاذ موفور النشاط، ويمكن أن يكون نشاطه مجدياً لو وجه طاقته إلى معالجة المسائل الثقافية وتوجيه الجهود إلى الإنتاج الذي يرفع شأن الإدارة ويدفع عنها ما تعاب به، فهناك مثلاً التراث الثقافي المعطل، والذي يتمثل في عشرة كتب مخطوطة دفعت الوزارة ثمنها لمحققيها، ثم حكم عليها بالحبس! وهناك - مثلاً أيضاً السجل الثقافي الذي شعرت البيئات الثقافية في مصر والخارج بفائدته، وأبدى الجميع أرتياحهم إليه، هذا السجل صدر منه عددان عن سنتي 1948، 1949 ولا يزال سجل 1950 واقفاً ينظر إلى الميزانية وينتظر أن يسمح بالأخذ في إجراءات طبعه وقد أوشكت سنة 1951 أن تنتهي. . وقد صدر كل من السجلين الأولين في أوائل السنة التي تلي سنته وكان ذلك في الوقت الذي لم يكن فيه أحد يقول لمحرريه: لماذا تأخرتم وأين كنتم!
والدكتور حزين بك أستاذ جامعي، والذي يليق به أن يهتم بالبحث الثقافي ويتبادل الرأي مع من يعملون معه من الأدباء بقية الوصول بالأعمال الثقافية إلى أهدافها المقصودة، وقد بدأ استعداده لذلك حينما دعا الموظفين الفنيين إلى الاكتتاب لإقامة حفلات شاي، وقد توالت هذه الأكتتابات، وأقيم بعض الحفلات، ولكن لم يحدث فيها سوى تناول الشاي وبعض الحلوى، فلم يتحدث في موضوع، ولم يجد تعارف، فالجميع زملاء يعرف بعضهم بعضاً من قبل،(953/40)
وكان كل جماعة في حجرة والمدير العام في حجرة أخرى مع بعض الخاصة والزائرين، ولعل حفلة الشاي المزمع إقامتها قريباً تكون اكثر جدوى من حفلات الشاي السابقة.
إن كل ما نبغيه أن تكون إدارة الثقافة بوزارة المعارف أداة فعالة في حركة البلاد الثقافية، والسبيل الذي نراه لذلك أن نستغل الطاقات في الإنتاج. بدلاً من استهلاكها في مراعاة المراسيم والشكليات.
عباس خضير(953/41)
الكتب
نماذج فنية من الأدب والفن
تأليف الأستاذ أنور المعداوي
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
الأستاذ أنور المعداوي الكاتب المصري المعروف غني عن التعريف فهو ناقد فذ وأديب ممتاز ومن طلائع المثقفين القلائل في البلاد العربية، وأقول القلائل لأننا لو أحصينا الأدباء الذين جمعوا بني الثقافتين الشرقية والغربية وأطلقنا عليها أسم المثقفين كما تدل عليها كلمة الثقافة من معنى لوجدناهم من القلة بحيث لا يذكرون تجاه الأغلبية الساحقة من المتأدبين أشباه المثقفين وأنصاف الكتاب.
عرفه قراء الرسالة الزاهرة منذ سنوات في تعقيباته التي أعجبت كل أديب كما عرفه النقاد الموجودون الآن بين ظهرانيناً فإذا به يختلف وعدم التحيز لصديق أو قريب ومهاجمته الكثيرة من شيوخ الدب الذين يشطون فيما يكتبون:
وقال قائل منهم عنه (إنه عامل هدم في الحياة الأدبية لا عامل بناء) لماذا (لأنه منذ أن تناول قلمه ليكتب تحول القلم في يده إلى معمول ثائر، معول متعصب تنصب ثورته على بعض القيم والأوضاع!)
ولكنه وهو المارد الجبار الذي نذر نفسه ليغير من مناهج النقد القديمة البالية لم يبال بهذا الكلام الفارغ الذي يلقيه على عواهنه من لهم نصيب ضئيل من الثقافة أو من الذين لم يثبتوا أقدامهم في مواضعها؛ راح يكتب ويكتب بكل جراءة وصرامة غير ملتفت إلى نعيب الغربان ونقيق الضفادع، حتى مضت أشهر وإذا اسمه على كل لسان وإذا شهرته تسبقه في كل بلاد تشرق عليها من بلاد الشرق العربي، وإذا هو بين عشية وضحاها معروف وأثير لدي الجميع، وإذا يريد الرسالة يتلقى كل يوم عشرات الرسائل وكلها موجهة إليه، ليعقب على هذا المقال أو يجيب على ذلك السؤال أو يوجه ويرشد أو ينقد ليدل على مواضع القبح والجمال وكنت أحد الذين يقرؤون للأستاذ المعداوي وأحد الذين يعجبون بآراء المعداوي وأحكامه في عالم النقد والأدب، وقد شاء ربك أن تتصل الأسباب بيني وبينه، فإذا(953/42)
بنا نصبح من أول مراسلتنا أصدقاء، ولا عجب فالأدباء إخوان وأقارب تجمعهم رابطة الفن قبل رابطة الدم والقرابة. ورحم الله أستاذ الشعراء حيث يقول:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من الغمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
وأمضى أنا إلى باريس ومن باريس أكتب إليه ثم أعود لأشكو له مأساتي فإذا به يقف مني ذلك الموقف المشرف النبيل الذي يفسد عليه صداقة الوزير في سبيل الأدب، وفي سبيل إنصاف شاعر، وآنذاك تتجلى لي أخلاق المعداوي على حقيقته أخلاق سافرة للعيان، وإذا به قلب كبير وروح مثالية تضحي بكل شيء في سبيل الأدب، ومن ذلك الوقت وأنا لا أشك بأن أحكامه في الأدب والنقد والفن لا تصدر إلا عن دراية وثقافة وحق وخبرة واطلاع، ثم تمر الأسابيع وإذا ببريد الكنانة يحمل لي من الصديق الحبيب كتباه الثمين الذي رسمت به هذا العنوان. والكتاب من الحجم الكبير يقع في (250) صفحة طبعته لجنة النشر للجامعيين على نفقتها الخاصة، وقد تصفحته بإمعان فإذا يحتوي على (40) مقالة في مختلف الفنون و (10) منها عن نقد الكتب. . وقد قلت إن تلك الصفحات الفذة في تاريخ النقد في مصر والتي ضمنها الكتاب قد نشرت في مجلة الرسالة الغراء، واطلع عليها القراء في جميع البلاد الناطقة بلغة القرآن، ولكن يسرني أن أشير في هذه الكلمة العاجلة إلى بعضها.
أسلوب المعداوي في هذا الكتاب وفي جميع ما يكتب رصين سهل: لفظ رقيق وديباجة جزلة أنيقة، وهو كما قال فيه أستاذنا الزيات بك في افتتاحيته العظيمة عدد 948 من الرسالة.
(أسلوب المعداوي كما تراه في كتابه من الأساليب التي جاء فيه التأليف بين المعنى واللفظ جارياً على سنن الفن الصحيح؛ فالتفكير قوي عصي حار، والتعبير دقيق أنيق نهذب)
أما آراؤه فناضجة قويمة تقوم على العقل والعاطفة والتجربة والاطلاع، فمن مقالاته التي تغلب عليها العاطفة وأناقة اللفظ حتى لتنسيك نفسك وتأخذك إلى عالم الكاتب والسطور، (شاعرية مصرية تودع الحياة) و (من الأعماق) ولتقف لحظة لنقرأ مرة أخرى قوله في من(953/43)
الأعماق) ص164.
(وأبداً لن ينسى يا دار هواه، يا من كنت وحي قلمه ومهبط إلهامه وحديث أمانيه. . لن ينسى حين غاب عنك أياماً ثم ذهب ليرى أهلك في آخر يوم من رمضان، ملء يديه كما كان بالأمس زهر، وملء عينيه أمل، وملء قلبه حب، وملء نفسه دنيا من الأحلام. . لقد كنت يا دار واجمة، كئيبة، يمرح في جنباتك الصمت، ويطبق السكوت! أين يا دار من كانت تفتح له أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها؟ أين. . أين. . الخ. .)
فأنت إذ تقرأ هذه السطور تحس كما لو كنت أنت صاحب من الأعماق أيا جئت إلى دار الحبيبة لتزورها فإذا بالدار واجمة، والأهل صامتون والدنيا مظلمة وكل شيء ينطق بالموت، بالخراب، بالدمار. . ورحمة الله على صاحبه ذلك القلب الكبير. . . وعزاء للصديق المفجوع بأعز أمانيه. .
ومن تلك الآراء التي أوافق عليها موقفه (حول مشكلة الفن والقيود) ص16 و (حول مشكلة الأداء النفسي) ص39 و (الفن والحياة) ص85 و (رأي في كتابة القصة) ص172 و (بيتان لجميل بثينة) ص175.
وأكثر آرائه في القسم الثاني من الكتاب بعنوان (كتب في الميزان) من ص179 إلى ص247. اللهم إلا رأيه في أبيات عمر أبو ريشة:
أتريد الوجود، منهتك يرينا أسراره عريانا
ويفض الفدام عن قلبه السمح ... ويجريه للعطاش دنانا
لو بلغنا ما نشتهي لرأينا الله ... في نشوة الشعور عيانا
وأبيات محمد مهدي الجواهري:
على الحصير وكوز الماء يرفده ... وذهنه ورفوف تحمل الكتبا
أهوى على كوة في وجهه قدر ... فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا
فأنا أخالفه. . فهو يعتبر أبيات عمر أبو ريشة عادية لا حس فيها ولا حركة، وأبيات أو بيتي الجواهري من الفن الأصيل الذي يهزه ويهتز لها صاحب (تحت المبضع)، فأنا بالرغم من الذين يقدرون موسيقى اللفظ وقوة السبك وأصالة الديباجة لا أظن أن شعر الجواهري مهما سما يصل إلى أخيلة أبو ريشة. ولما كنا في صدر الكلام عن الأبيات(953/44)
المتقدمة فإن الجواهري لولا بيته الثاني:
أهوى على كوة في وجه قدر ... فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا
لما بقي جمال أو معنى لبيتيه. .
كما أخالفه مرة أخرى في رأيه بقصة الأستاذ أحمد الصاوي محمد (زوجات) فأنا أعد الصاوي في كل ما ترجم وألف واقتبس لا أثر له في التوجيه أو الإرشاد اللهم إلا إثارة غرائز الشباب باسم الفن والأدب.
وختاماً فإن كتاب الصديق الأستاذ المعداوي في هذه الأيام التي طغت فيها موجة السياسة على الأدب وكثر التهريج والتزمير باسم النقد. ليعد اللبنة الأولى في صرح بناء النقد الحديث على ضوء العلم والفن والتروي. . فهنيئاً للمكتبة العربية بهذا المؤلف النفيس. . وتحية صدق وإعجاب لمؤلفه. . وألف شكر على هديته الثمينة
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(953/45)
البريد الأدبي
حول الثقافة المصرية في السودان:
إلى حضرة الأخ الفاضل الأستاذ عباس خضر
أرفع إليك تحية طيبة وتقديراً عظيماً وإعجاباً كثيراً بما تقدمه لقراء الرسالة الزاهرة في باب (الفن والأدب في أسبوع) من مقالات شيقة نافعة، وأشكر لك هذه اللفتات الكريمة التي تخص بها إخوانك أبناء جنوب الوادي من حين إلى حين، هذا وقد دعني إلى كتابة هذه السطور إليك ما نشرته لك الرسالة في العدد (949) تحت عنوان: (الثقافة المصرية في السودان) وأستطيع أن أعتبر موجزاً في قولك (وليت وزارة المعارف تخرج عن تلك الرسمية المقفرة فتختار بعض الأدباء المعروفين بآثارهم القلمية الناضجة ليشاركوا في موسم المحاضرات المصرية بالسودان فتتيح لأهله أن يروا الوجوه التي يقرئون لأصحابها ويصلوا ما يقرئون بما يسمعون. .) وأستطيع أيضاً أن أؤكد لك يا سيدي الأستاذ أن هذه هي الرغبة الحقيقية لكل أديب هنا بل رغبة كل قارئ وقارئة في السودان من الذين يتتبعون الحياة الفكرية في مصر.
ومع أننا قدرنا للفاروق العظيم ولمصر إرسال تلك البعثات واستفدنا من كل الأساتذة المصريين الذين حاضرونا وعلى رأسهم الأستاذ الجليل الدكتور محمد عوض بك، إلا أننا نقرر للحقيقة ونقرر تأييداً للغتك البارعة التي سبقت الإشارة إليها أن مجرد ذكر اسم الأستاذ العريان في بعثة العام الماضي أحدث دوياً شديداً وتطلعاً عظيماً لرؤية هذا الرجل الذي عرفه السودان علماً من أعلام الأدب منذ نيف وعشرين عاماً وكانت محاضراته من النوع الذي ننشده فعلاً، ونتعطش إلى سمائه ولا سيما وأنه أعاد لنا ذكرى مشكلة الجديد والقديم في الأدب العربي، ذكرى ذلك الصراع الفكري بين عمالقة الأدب في حلبة الرسالة منذ أمد طويل وما يزال له إلى اليوم صدى ورنين.
وإذا كان لي أن أقترح فإني أقول يا حبذا لو ضمت البعثة هذا العام رجالاً في وزارة المعارف قرأنا لهم كثيراً وعرفناهم حق المعرفة كالأستاذ سيد قطب والأستاذ أنور المعداوي وعلماء أصحاب ابتداع وتفكير ديني حديث كالأستاذ خالد محمد خالد. وإذا كانت البعثة لا يشترط في أعضائها أن يكونوا من موظفي وزارة المعارف فكم نحن مشوقون لنرى(953/46)
ظهرانينا أساتذة الجيل أمثال الزيات وأحمد أمين.
وأخيراً وليس أخرا كما يقولون فإني أذكر أن أعضاء نادي الخريجين بالخرطوم كانوا في آخر محاضرة استمعوا إليها من محاضرات الأستاذ محمد سعيد العريان في العام الماضي طلبوا منه أن يبلغ عميد العروبة وأدبها طه حسين رغبة كل المجتمعين بالنادي في تلك الليلة ورجائهم أن يتفضل فيشرف العروبة في السودان برؤيته.
فهل تحقق تلك الأماني بقدومه هذا العام على رأس بعثة المعارف؟
الخرطوم
جعفر حامد البشير
الولايات المتحدة الأمريكية:
اطلعنا على المقال المنشور في العدد 949 الصادر في 10 سبتمبر الجاري تحت عنوان (الولايات المتحدة الأمريكية) للأستاذ أبو الفتوح عطيفة وقد آلمني أن يتضمن دعاية سافرة لدولة استعمارية لم تترك فرصة إلا انتهزتها للتنكيل بالعرب وإذلال المسلمين، فقد جاء في هذا المقال بالحرف الواحد: (أن الشعب الأمريكي يؤمن بالحرية أشد الإيمان، ولا يرضى بها بديلاً وتاريخ أمريكا ينطق بهذا) (وأن العطف الأمريكي على اللاجئين يقابل بالشكر من ناحية العرب والشرقيين) وأن أمريكا بعد توقيع ميثاق هيئة الأمم المتحدة في 25 يونيو سنة 1945 بدأت تشترك في توجيه السياسة اشتراكاً تهدف به إلى سيادة الديموقراطية ومقاومة الطغيان والدكتاتورية والقضاء على أشد أعداء الإنسان: - الجوع، الشقاء، اليأس.
ولا يخفف من سوء وقع هذه الدعاية في نفوس الوطنيين هذه الفقرات البسيطة التي ضمنها الكاتب عتاباً رقيقاً لموقف أمريكا من فلسطين العربية. . فإن الدعاية التي قام بها الكاتب للأمريكان من الوضوح لدرجة لا تخفى على السذج. . بل إنني أؤكد أن الجرائد الاستعمارية التي تتقاضى أجراً من السفارة الأمريكية لا يمكنها أن تفكر في استخدام مثل هذا الأسلوب للدعاية.
ولما كنت معتقداً أن الرسالة الغراء لا تستكتب سوى الأحرار من الكتاب الذين يساهمون معها في أداء الدور العظيم الذي قامت ولا تزال تقوم به في بعث الروح الثقافية والوطنية(953/47)
لا في مصر وحدها بل في البلاد العربية والإسلامية - أقول لما كنت معتقداً ذلك - فقد رجحت أن كاتب المقال قد تورط فيه ولم يقدر الأثر السيئ الذي نجم عنه.
وإنني أرجو أن تنشروا هذه الكلمة لا باسم حرية الرأي فحسب ولكن لكي يتأكد آلاف القراء الذي شاركوني دون شك شعوري بالاستياء من هذا المقال أن (الرسالة) الحبيبة إلى قلوبهم لا يمكن أن تتخذ منبراً للدعاية الأمريكية الاستعمارية كما أطمع أن يعاود الأستاذ أبو الفتوح عطيفة النظر فيما كتبه وأن يراعي في مقالاته المقبلة عن الولايات المتحدة الأمريكية أن هذه الدولة هي أشد الدول استنكاراً للحرية وعدواناً عليها.
ففي الولايات الجنوبية 12 مليوناً من الزنوج لا يسمح لهم بالتساوي مع مواطنيهم في التمتع بحقوقهم العامة والخاصة لا لشيء إلا لاختلاف لون بشرتهم، وهو سبب يدل على الجهل الذي يغرق فيه الأمريكان، والتعصب الذي يتنافى مع الحرية المقول بأنهم من أنصارها، وهذه الدولة هي وحدها التي أعانت اليهود بسلاحها وأموالها ونفوذها فمكنتهم من السيطرة على فلسطين، وتشريد الألوف من أبنائها، فما أشبه الأستاذ أبو الفتوح وهو يسجل شكر العرب للأمريكان لعطفهم على اللاجئين، ما أشبه بهذا الذي يسجل شكر القتيل لقاتله والسجين لسجانه.
إن أمريكا اليوم هي العدو الأكبر الذي يريد أن يرث إنجلترا في سيطرتها على الشرق الأوسط، فما أحرانا بالهجوم عليها، والتشهير بها، والتكتل ضدها، بدلاً من التورط في إزجاء شكر لها لا تستحقه ومدح لا تستأهله.
عباس الأسواني
المحامي(953/48)
القصص
قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الخامس
يوم استقبال
برح السلطان الغوري قصره الكبير عدة مرات إلى ناحية النيل، ليراقب نشاط العمل في بناء السواقي التي أمر بإنشائها لتمد حدائق الميدان بالمياه العذبة المتدفقة في القنوات الخاصة بين النيل والقلعة.
وفي أحد أيام 915هـ كان العمل في السواقي والقنوات قد تم، وأنسلت مياه النيل جارية تسعى إلى البساتين السلطانية. فأشاعت فيها حياة جديدة، ضحكت بها الأرض عن زرع نضر ونبات وسيم، واهتزت الأشجار وتثنت غصونها تثنى الساكر النشوان، ودبت بشاشة الحياة في الأعواد، فاخضر يابسها وانبسط عابسها، وتجمع نوارها وأشرقت أزهارها، ودنت قطوفها، وألقت على الأرض ظلا ممدوداً.
وكان كل بناء في الميدان قد أخذ سمته إلى الكمال كما شاء السلطان: من قصور غضة إلى غرف بضة، ومن مقاعد وثيرة إلى سلالم مدرجة، ومن جداول رقراقة إلى برك مموهة، إلى غير ذلك مما ينم عن ترف أصيل وعز أثيل، فيه للعين جلوة، وللنفس سلوة، وللأحبة دعاء، وللمسرة نداء. .
وأراد السلطان أن يكتمل أنسه، ويبتهج مجلسه، بالعلية من أمراء دولته، والجلة من أعيان مملكته، والصفوة من رجال سلطنته، ليقضي معهم يوم فرح وليلة سرور، ويتذاكرون بعض الشؤون؛ ويزيدون في المودة رباطاً؛ وفي المحبة وشيجة، وليقاسموه المتعة بما بناه، واللذة بما شاده، وليسمع منهم أحاديث الثناء عليه، وأناشيد الدعاء له. .
أنتشر الخدم ورجال القصر، منذ هذا اليوم في أرجاء الميدان، ينظفون وينظمون ومعهم البستانيون، فجنوا من الفواكه، ومن الأزهار ما ابتسم، وفرشوا المقاعد بحشياتها الثمينة(953/49)
الوثيرة، وفصلوها بالوسائد الحريرية، ونشروا أمامها البسط الهندية النفيسة، ثم زينوا ما بين فرجها بطاقات من الورود والرياحين، ونثروا من فوقها حمائل القناديل الزيتية الفنية البديعة، وفي الصدر كنت ترى مقعد السلطان يمتاز عن غيره بعلو يسير مجملاً من الممتاز من الحشيات والوسائد، وقد نصبت من فوقه قبة مدورة كبيرة من حرير خالص ذات أهداب ذهبية منتظمة.
وقد أمر السلطان أن تملأ البركة الكبرى من ماء النيل عن طريق قناتها الخاصة، وبث مماليكه وغلمانه بين أسواق القاهرة وحدائقها ليجمعوا ما يستطيعون جمعه من الورد. .
ثم نثروه في البركة؛ فاختلط شذاه بعنبر مائها، وغام على سطحها وعام، وابتل وجهه منها واخضل، وفتح فمه فنهل من مائها وعل، فدار على قدمه ساكراً، وانطلق لسانه شاكراً، وبنى للسلطان عرشاً على الماء، وعطر بذكره الأنجاء.
وحول هذه البركة أجتمع قراء المدينة ووعاظها يقرءون ويذكرون، حتى دنا منهم الليل، فانصرفوا في هداة منه بعد ما أصابوا من الطعام والشراب ما لذ وطاب، ولبثوا زمناً حالمين بما رأوا من لذة ونعيم.
كان الطهاة قد شمروا منذ الصباح عن ساعد الجد. يطهون الطعام، ويتأنقون في طهيه ما شاء لهم الفن والابتكار، ويبدعون في تنظيم أنواعه وتلفيق صنوفه، وتصفيفها بما يلبي عن ذوق سليم، يناسب هذا الحفل العظيم، وحشدوا لذلك مئات من الدجاج والإوز، وعشرات من الضأن السمين، وشنان من الماء القراح البارد، وجفان الفاكهة اللذيذة ما بين تفاح وكمثرى وأعناب، وهيئت أواني الحلوى التركية والشامية والمصرية، إلى غير ذلك مما أنفق عليه نحو ألف دينار، في ذلك الزمن الرغد الرخي الرخيص.
وما إن انصرف القراء والوعاظ حتى مدت عشرات الأسمطة الحافلة المنمقة، وامتلأت الموائد بالأواني الخزفية وغير الخزفية، ورص فوقها نحو أربعمائة صحن صيني، ثم وزعت المأمونية الحموية كل قطعة منها نصف رطل، وفاضت أطباق الأحمال والطير. . .
وأهل السلطان وفي إثره أقبل الجمع، واتخذ السلطان مكانه في المقعد السلطاني تحت القبة، وعن يمينه جلس قضاة الشرع والعلماء والكتاب والمباشرون ومن على شاكلتهم من طبقة(953/50)
المتعممين، وعن يساره جلس الأمراء في أبهة أزيائهم وروعة أسلحتهم، وبجانبهم عدد من الأعيان.
وأنتشر في الميدان حوله كثير من الجند والمماليك الغورية يحافضون على الجمع الحافل، والعامة عن كثب تروح وتغدو، وتحدس ما يجري في داخل الميدان، ويظنون ما شاءت لهم الظنون.
أكل الأضياف هنيئاً وشربوا مريئاً، وبعد اطمئنانه أنصرف الجمع إلا عدداً من العلماء والأمراء استبقاهم السلطان ليجاذبهم أطراف الأحاديث ويتذاكروا معا شؤون الدولة، ويقلبوا ما مضى من أيامها المجيدة، ويرددوا ما تنشد من أحلامها السعيدة فقال السلطان: إن ليلتنا هذه من أسعد ليالي السلطنة.
فقال أحد القضاة: أجل يا مولانا إنها للعين قرة، وفي جبين الزمان غرة، أدام الله لمولانا الابتهاج والمسرة، وأطال عهد حكمه السعيد. . إن هذا الميدان ليدين بتلك الحياة الجديدة للمشيئة السلطانية الشريفة، الله ما أجمل القصر والبستان! وما أروع البركة والمجرى، وما أبهى الغرف والمقاعد! إن تلك القبة المضروبة فوق المقعد السلطاني الشريف وهذه البسط والوسائد الحريرية وهذه الموائد الشهية، ومن أجتمع حولها من أقذاذ الرجال، لتذكرنا بما يرويه التاريخ عن الملوك الصيد من خلفاء بغداد، أحيا الله بمولانا دولة الإسلام، وأعز به جانب الدين. .
السلطان: الفضل في هذا التنسيق والنظام يرجع إلى ناظر الخاص المقر علاء الدين وأعوانه.
علاء الدين: مولانا! الشكر لله وللمقام الشريف، إنما تم كل شيء بإرشاد مولانا وإشارته.
السلطان: كنا نود أن يشاركنا الخليفة الجديد في ليلتنا هذه. . . ما رأيك أيها القاضي في الخلافة وما قام بسببها من خلاف؟ ألا أننا حسمنا أمرها على خير وجوهه؟
القاضي: أجل يا مولانا! لقد كاد يستشري النزاع بين الخليفة يعقوب وابن عم أبيه خليل؛ فقد أدعى خليل أن يعقوب لا يصلح للخلافة لأنه أعمى، فرد عليه ابنه الناصري محمد قائلاً (وأنت أيضاً لا تحسن قراءة الفاتحة)! فلما أمر مولانا باختبار خليل وجدناه وهو يقرأ الفاتحة قد تعثر فيها وتلعثم، ولم يكمل قراءتها، وذلك للثغة في لسانه، وقد كنت عادلاً يا(953/51)
مولانا حينما وكلت الخلافة إلى الناصري محمد وأقررت عهد أبيه بها إليه، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعل عهدكما عهد يمن وإقبال ورخاء للمسلمين أجمعين.
السلطان: إن عامنا هذا عام رخاء، ولنا في وفاء النيل فيه فأل حسن، فقد بلغ نحواً من عشرين ذراعاً، ولا نزال نحتفل بعيد وفائه شكراً لله على نعمائه، ونحن قوم نتفاءل دائماً.
القاضي: إن البلاد جميعها للتفاؤل بسلطنتكم المجيدة، والدين أمرنا - بجانب الحذر والحيطة - أن نتفاءل ونقابل الحياة دائماً بالأمل والرجاء، وكما نعمل للآخرة كأننا نموت غداً، ونعمل للدنيا كأننا نعيش أبداً. . .
السلطان: صدقت! وإن دأبي الانتشاء والبناء، ولن آلو جهداً في أن أترك بكل موضع أثراً مشيداً نافعاً، وأن أسلك سبيلي لإعلان شأن السلطنة وإظهار عظمتها، وللترفيه عن عامة سكانها، وتزويد البلاد بما ينمي ثروتها يوسع نفوذها، إن سلطنة مصر اليوم - بعون الله - أقوى سلطنة إسلامية، وهي من أوسع دول الأرض جاهاً وقوة ومالاً، وستبقى كذلك ولن ينال منها العابثون منالاً. . أين القاضي معين الدين؟
(يأتي القاضي معين الدين بن شمس، وكيل بيت المال ونائب كاتب السر - وكان في وجهه دمامة - ثم يتقدم إلى جانب السلطان من الخلف ليقرأ على مسامعه المراسلات والقصص - المظالم -)
السلطان: ما عندك من أخبار البلسان؟ لقد كانت بلادنا تفخر بزرعه في أرضها لأن له دهناً عجيباً يغالي ملوك الفرنجة في ابتياعه، إذ يستخدم عندهم في ماء المعمودية، ثم أنقطع تبته من بلادنا جملة.
معين الدين: لقد خاطبنا بلاد الحجاز عندما علمنا أن البلسان ينبت في بعض جهاتها، وكلفنا بعض نوابنا فحملوا إلينا شجيرات منه غرسناها بالمطرية، فنبتت نباتاً حسناً يبشر بمستقبل عظيم، فليطمئن بال مولانا.
(يميل السلطان إلى بعض خاصته، ويسر إليه أنه يخجل من مماليكه حينما يرون رجلاً مثل معين الدين يقرأ قصصه ومراسلاته)
السلطان (موجهاً الخطاب إلى معين الدين): وما أخبار الشاه إسماعيل الصوفي؟
معين الدين: يعلم مولانا أن الشاه إسماعيل الصوفي، كان قد تحرك وزحف على الممتلكات(953/52)
الشريفة، وأعد له مولانا تجريدة كبرى لرده وتأديبه. فلما وردت مراسلات الأمير (علي دولات) أمير التركمان، بأنه هزم الشاه هزيمة منكرة، أوقفت التجريدة. وقد أرسل إلينا (علي دولات) عدداً من رؤوس قتلى العجم من جنود الشاه إسماعيل، فعلقت على باب زويلة، ولكن الآن يقال إن جند الشاه يعبثون بأطراف إمارة بغداد.
السلطان: لقد وفد إلينا رسول من لدن الشاه ينبئ أن جنوده زحفوا على ممتلكاتنا خطأ وبغير إذن منه؛ فقبلنا عذره وخلعنا على رسوله. . ولكنه لا يزال في الخاطر من عمله شيء. .
فما الرأي عندك أيها الأمير قرقماس؟
الاتابكي قرقماس: يا مولانا. . الرأي عندي السمع والطاعة لك. إذا أمرت فالسيوف مسلولة، والرماح مشروعه، والنفوس تواقة إلى الجهاد والنصر.
وللفصل بقية
محمد رزق سليم(953/53)
العدد 954 - بتاريخ: 15 - 10 - 1951(/)
هبي يا رياح الخريف هبي
هبي وأحطمي هذه الأشجار الغلاظ التي تأكل خير الأرض، وتحجب نور السماء، وتقطع سبيل الناس، ولا تحمل إلا شوكا من غير ثمر، وخشباً من غير نفع، وخضرة من غير جمال!
هبي يا رياح الخريف هبي!. . هبي واهدمي هذه الأوكار القباح التي اتخذت أشكال القصور وانتحلت أسماء الأندية، فباض فيها الشر باسم السياسة، وفرخ فيها الفجر باسم الرياضة، وأوت إليها أبابيل من البوم التي تعلن الخراب، والخفافيش التي تمج الظلام، والغربان التي تذيع الفرقة، فلا نرى فيها ولا نسمع منها إلا خمراً تعربد، وقماراً يصطرع، وترفاً يفسق، وسرفاً يدمر!
هبي يا رياح الخريف هبي!. . هبي واكسحي هذا الغثاء العفن الذي زكم الطرق وسد المسالك مما فني من الجذوع وبلى من الفروع، وذبل من الأوراق، فأصبح شوهاً في الأعين وثقلاً في الأرجل؛ ثم لا يكون إلا أذى إذا عطنه المساء، وإلا قذى إذا أثاره الهواء، وإلا لظى إذا مسته النار!
هبي يا رياح الخريف هبي!. هبي واقشعي هذا السحاب المتراكم الذي أرتفع ارتفاع الدخان، وأنتفش أنتفاش العهن، فحجب الشمس، وحصر الأفق، وأحر الأرض، ثم لا نجد من ورائه مطراً يدفع الجدب، ولا ظلاً يمنع الحرور!
هبي يا رياح الخريف هبي!. . هبي واقلعي ذلك النبات الدنيء الذي يتطفل على أشجار الوادي، فيتغذى على أصولها، ويتسلق على فروعها. حتى إذا أدرك الهواء والضياء والرفعة، التف بمساليجه وكلاليبه على أعاليها التفاف الأفعوان، فيكظم أنفاسها فلا تنسم، ويشل حركتها فلا تميس، ثم يقول مشيراً بأطرافه الرخوة إلى كل عابر. انظر! ألست أنا الأمير وهذا الشجر هو الفلاح؟ وإذا لم يسخر الله لي الشجر فكيف أنمو؟ وإذا لم يسخر الفلاح للأمير فكيف يسمو؟
هبي يا رياح الخريف هبي!. . هبي واعصفي بما ذكرت وما لم أذكر من زبد يقول أنه زبد، وسراب يزعم أنه شراب، وحطام مختلف من بقايا الشعوب والخطوب والعقائد والحضارات والأساطير يدعى أنه أمة!
ولكنك يا رياح الخريف تهبين كل عام بين وقدة الصيف وخبوة الشتاء فتنكسين ما تنكسين،(954/1)
فإذا دارت الأرض دورتها الكبرى عاد كل شيء إلى حاله، ورجع كل شخص إلى ضلاله. فأية ريح إذن تستطيع أن تنسف ما نعانيه من فساد تأصل في كل عمل، وتغلغل في كل أمر، وتدخل في كل حكم؟ لعلها الريح التي أهلك الله بها عاداً الأولى فأهلك معها الطغيان والبهتان والكفر! إنها الريح التي تصحبها الروح، والرجفة التي يتلوها البعث، والقرة التي يعقبها الربيع!
أحمد حسن الزيات(954/2)
خواطر في كتاب الله:
ضريبة الإنسانية
للأستاذ محمد عبد الله السمان
إن للإنسانية ضريبة على كل فرد، ولا يكاد يوجد فرد واحد يعجز عن تأديتها؛ اللهم إلا من ملأت الأنانية نفسه، واستولت الأثرة على قلبه، وهذا حري بأن يحذف من المجتمع، وتلفظه الإنسانية لفظة مهينة لا كرامة فيها!
والقرآن الكريم حين يشعر المرء بهذه الضريبة، وأنها واجب تحتمه المروءة، إنما يهدف إلى غرضين جليلين ساميين: أما الأول، فإثبات وجوده، وإظهار كيانه، وطبعه بطابع الخير والبر والتعاون، وتجنيده في خدمة الإنسانية، وإعداد نفسه للمعروف كلما ناداه الواجب واستصرخته المروءة. وأما الثاني، فدفع المرء إلى استغلال أوقات الفراغ فيما يفيد المجتمع ويسعده، واستنفادها في تدعيم أسس الخير التي يقوم عليها بناء كل أمة تبغي العزة في حياتها. .
وأولى أنواع هذه الضريبة بالإشادة هو فعل الخير، لأن الإنسانية في كل زمان ومكان متعطشة إلى الخير الذي يشد أزرها ويؤيدها في نضالها وكفاحها، ويضفي على رسالتها في الحياة إشراقاً يزيدها رفعة وسمواً، ويكلل مسعاها بالنجاح. .
(ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات. . . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات. . - فمن تطوع خيراً فهو خير له. . - ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم. . . ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير - يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون - وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم).
والإحسان نوع من ضريبة الإنسانية جدير بكل تقدير، لأن فيه تدعيماً للإخاء الإنساني، وبه تتقارب القلوب وتتآلف، وتترابط النفوس وتتصافى، والإحسان إما خير يفعله الإنسان بدافع من شعوره الإنساني، وإحساسه الأخوي، وإما عفو عن شرور الأشرار، ومقابلة إساءة المسيئين بالإحسان، وصبر على أذى المتعنتين من الظلمة والطغاة:(954/3)
(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. . . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون - إن الله يأمر بالعدل والإحسان. . . وقولوا للناس حسناً - للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة - ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، أدفع بالتي هي أحسن - الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين - أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا، ويدرءون بالحسنة السيئة - والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية، ويدرءون بالحسنة السيئة، أولئك لهم عقبى الدار).
والبر من أنواع الضريبة الإنسانية التي لها قدرها ولا غرو. فهو جماع أنواع الخير، وفيه تتجلى آيات الرحمة والإخاء والوفاء. ولا يكون المرء المعترف بضريبة الإنسانية مؤدياً لها إلا إذا جند نفسه للبر جهد المستطاع. وليس بعجيب بعد هذا أن تر في كتاب الله تعالى يدفع المسلمين إلى التعاون على البر، ليعيشوا في ظلال الأخوة الصادقة. وقد أشار القرآن الكريم إلى البر وإلى أن سبله جميعها تلتقي عند هدف واحد هو الخير، وخلاصة هذه السبل إيمان كامل، ومعروف دائم، وطاعة خالصة، ووفاء بالعهود، وصبر على المكاره:
(وتعاونوا على البر والتقوى. . . - ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون).
والمرء حين يؤمن بأن هناك نعماً عظمى أسبغها عليه الخالق جل وعلا، يجب عليه أن يؤدي شكر هذه النعم العظمى له، وليس هناك أعظم شكراً لله من أن تدفع ضريبتك الإنسانية في حياتك. ولقد ندد القرآن بالإنسان المارق، المنغمر في نعم الله، وهو في نفس الوقت مصر على الكفران بها، وعدم الاعتراف بما تفرضه الإنسانية عليه من ضريبة، فلم يحطم العقبة، ليفك رقبة ويحررها ويطعم اليتيم والمسكين في يوم ذي مسغبة، ويكون من الذين يتواصون بالمرحمة. . .
(لقد خلقنا الإنسان في كبد - أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ يقول أهلكت مالاً لبداً، أ(954/4)
يحسب أن لم يره أحد؟ ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين، فلا أقتحم العقبة، وما أدراك مل العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة، والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة، عليهم نار مؤصدة).
ولقد قص علينا القرآن الكريم قصة سبأ، أولئك الذين غمرهم الله بنعمه فما شكروه، ووهب لهم حياة طيبة فتهربوا من ضريبة الإنسانية، وكان جزاؤهم، أن سلبهم الله النعم، وأبدلهم بحياتهم الطيبة حياة تعسة، وجعلهم عبرة وعظة للأجيال من بعدهم:
(لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا، فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا، وهل نجازي إلا الكفور؟ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم، فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق. . إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).
وهناك إنسان يعيش في حياته كما تعيش الأنعام، يأكل ويشرب ويتمتع وكفى، ولا يشعر بوجوده كعضو في المجتمع يجب أن يؤدي نحوه واجباً، ويجهل أن للإنسانية ضريبة على كل فرد منتسب إليها، وهذه الضريبة لا يعجز عنها غني أو فقير، فالغني يستطيع أن يبذل من ماله في سبيل الخير، والفقير يستطيع أن يبذل شيئاً من وقته، فيحث الأغنياء على التصدق؛ ويدفع بهم إلى طريق البر، ويأمر بالمعروف ما وسعه الجهد، ويعمل إن استطاع في كل لحظة للإصلاح بين الناس. وقد سد القرآن الكريم أبواب الأعذار أمام العاجز عن أن يؤدي الضريبة من ماله، وفتح له طرقاً من الخير يستطيع أن يسلكها دون احتياج إلى شيء من المال، وأعتبر المتقاعد عن سلوك هذه الطرق محذوفاً من المجتمع، ومن المهملين الذين لا خير لهم في وجودهم، ولا فائدة من حياتهم:
(لا خير في كثير من نجواهم، إلا من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).
محمد عبد الله السماق(954/5)
أبو الثناء الألوسي الكبير
(بمناسبة مرور مائة عام على وفاته)
للأستاذ محمود العبطة
- 2 -
أ - مولد الألوسي الكبير:
ولد السيد محمود عبد الله الألوسي في بغداد في منتصف شعبان من عام 1217هـ (1802م) في دار أبيه بجانب الكرخ، ووالده السيد عبد الله بن محمود، والقارئ - ولا شك - قد عرف نسب العائلة الألوسية ولماذا انتسبت إلى ألوس وتضارب الأقوال في ذلك، فلا نعود إليه ولا نكرر القول فيه، أما أمه فهي - كما قلنا - صالحة بنت الشيخ حسين العشاري من بيت علم وحسب ونسب. وسمي (محموداً) إحياء لاسم جده محمود بن درويش، وعادة إحياء الأسماء عادة مستحبة عند العراقيين، وعلى الأخص البغاددة منهم، ولا تزال هذه العادة محترمة حتى الآن في البيوتات العريقة في العراق، ولقب بعد مولده (بشهاب الدين) كما كني (بأبي الثناء) وهذه كتلك عادة أخرى لكل مولود جديد في بيوتات العلم والأدب في بغداد.
وقد نظم أحد الشعراء الذي لم أقع على أسمه وتاريخ وفاته ببيتين من الشعر على طريقة الحساب الشعري فقال:
لقد أشرق البدر السماوي مذ بدا ... سنا نوره عن مشرق لاح بالجود
به كمل الدين الحنيف مؤرخ ... (تكملت الدنيا بميلاد محمود)
ب - دراسته:
فتح الألوسي عينيه في بيته، وآثار النجابة والألمعية تلوح في حركاته وسكناته، وبعد أن نما وترعرع ووعى ما حوله وما يحيط به، درس مبادئ الخط، وحفظ القرآن في بيته وعلى يد أمه وأبيه. . وعلى يد أبيه الذي هو رئيس المدرسين في بغداد درس (الأجرومية) في مبادئ النحو العربي، ثم درس ألفية (ابن مالك) في النحو أيضاً، تناول بعدها كتب الفقه فقرأ (غاية الاختصار) في فقه الإمام الشافعي إمام العائلة التقليدي (فالمنظومة الرحبية) في(954/7)
الفرائض كما قرأ مقدمات الفقه الحنفي. ولم يبلغ الربيع العاشر من عمره الزاهر حتى أحاط علماً بالنحو والفقه والمنطق والعلوم الأخرى. لقد تشبع فتانا الألوسي في باكورة عمره من منهل العلم. إن روحه في هيام دائم مهما بلغ تحصيله العلمي. . . وعلى هذا القياس فقد تتلمذ على جلة علماء البلد كعلي السويدي ومحمد أمين الحلي وخالد النقشبندي وعبد العزيز الشواف وعلي المزوري العماري وحصل على الإجازة العالمية من رئيس محدثي الشام في عصره عبد الرحمن الكزبري ومن مفتي بيروت عبد اللطيف فتح الله.
إن الألوسي - كما نرى - تتلمذ على جلة علماء بلده بغداد، وحصل على الإجازة بالعلم من علماء سورية ولبنان. . وقد عثرت على أوراق مخطوطة كتبها الألوسي المترجم له، ونقلها عنه أحد الألوسيين الآخرين، وهذه الأوراق تلقى ضوءاً نفاذاً على هذه الفترة من حياة الألوسي، إذ قال في بعض منها يصف حاله حين تحصيله العلمي، ويذكر فيها وفاة أمه وحنو والده عليه: (وقد ماتت أمي قبله، عليه الرحمة، بعدة سنين، فازداد حنوه علي بعدها، بيد أنه لضيق ذات يده لم يوسع أكمامي، ولم يجعلني أباهي بأثوابي أبناء أخوالي وأعمامي. . ومما اتفق أن بعث ثياب الشتاء لشراء قرطاس، وطالعت على نور القمر حيث أعوزني نبراس، وكم قاسيت من شدائد، تذيب لا در درها الجلامد.)
من هذه السطور نلمح الألوسي الفتى الذي فقد أمه فوجد أباه أماً له وأباً في حنوه ورعايته وحدبه؛ بيد أن فقر أبيه منعه من التنعم في شبابه باللباس واللذات، شأنه شأن الشباب في كل جيل. وفي الفقرات الأخيرة من هذه السطور، حيث يبيع الألوسي الشاب ثياب الشتاء ليشتري بثمنها أوراقاً يستعين بها في دراسته وشؤونه العلمية ويدرس على ضوء القمر، ما يقرأه في النهار على شيوخه. . . من هذه السطور تعلم درجة فقر هذه العائلة الكريمة التي اتخذت سبيل العلم رسالتها في الحياة، كما نرى أن الإرادة القوية والصبر على احتمال المكاره، والحيلة في الخروج من المآزق، طرق مستقيمة في الوصول إلى المطالب والغايات، وهذه قد سار فيها الألوسي فكان فيها الأمثولة والقدوة. والأستاذ الأخير الذي تتلمذ عليه أبوالثناء وأرتشف من مناهل علمه وفضله هو الشيخ علي علاء الدين الموصلي الذي مكث يتتلمذ عليه أربع عشرة سنة كان له فيها خير معين على تفهم دقائق العلوم المنقول منها والمعقول. وأستاذه الشيخ الموصلي كان حاد الذكاء، حاد المزاج معاً، ولهذا نرى قلة(954/8)
من طلبة العلم من تقرب إليه ودرس عليه، وعبقرية التلميذ النجيب تلاقت مع عبقرية الأستاذ القدير، إذ أن عقول العباقرة تلتقي على ما يقول الفرنسيون، فأمسى مقام الشيخ علي في تقويم مواهب الألوسي وصقل ملكاته كمقام أبيه السيد عبد الله، أستاذه الأول ومعلمه في بيته. والألوسي يذكره بالخير ويشيد بفضله ويترحم عليه، كما أنه أرخ حياته في المقامة الثانية من (مقامات الألوسي) وأرخها أيضاً في (غرائب الاغتراب) وفي غيرهما من مؤلفاته المختلفة. . ودرس الألوسي على الشيخ المذكور في المدرسة الخاتونية الواقعة في باب (الشيخ) من رصافة بغداد.
جـ - وظائفه العلمية:
لعل أول وظيفة نالها أبو الثناء أثناء تتلمذه على أساتيذ زمانه وعلماء عصره، أنه ألف رسالة في أحد العلوم لداود باشا الدالي وقد أعجبته كل الإعجاب فوظف له في كل يوم درهمين من وقف جامع (محمد الفضل) وهذه الوظيفة الأولى قد أعانته أثناء تحصيله العلمي في عيشه، والقارئ يعلم درجة حاجته وفاقته، أصبح بعدها أو أثناءها محافظاً لمكتبة مدرسة الشهيد (علي باشا) التي كان أبوه أحد أساتذتها ثم أصبح مدرساً في بيت خاله الحاج عبد الفتاح الراوي في جانب الكرخ وبعد أن نال الإجازة في التدريس من أستاذه علاء الدين في المدرسة الخاتونية في باب الشيخ أقامت السيدة (عاتكة) من محسنات زمانها مأدبة حافلة حضرها جلة علماء بغداد وفضلائها، وأعيانها وكان من جملة الحاضرين رئيس صنف التجار نعمان الباجه جي البغدادي، الذي لمح ألمعية الألوسي فأراد أن يخلد اسمه فاقترح على الشيخ علاء الدين أن يكون تلميذه الألوسي مدرساً في مدرسة جامع الباجه جي في محلة (سبع البكار) في الرصافة فأشار الأستاذ على التلميذ الذي صار أستاذاً، أن يدرس في المدرسة المذكورة فأنصاع له وجلب تلامذته من مدرسته التي كانت في بيت خاله، وعمره إذ ذاك عشرون سنة. . . وقد رأى التلاميذ عجباً في مدرسة الباجه جي إذ الراحة متوفرة والمكان واسع، والتقدير موجود، فذاق الألوسي أول أفاويق السعادة ونال شيئاً مما كان يطمح له ويأمل، ولكن القدر كان له في حرب دائم متواصل إذ نظم أحد التلامذة أبياتاً من الشعر وصف فيها المدرسة الجديدة وأناقتها وقارن بينها وبين مدرسة الراوي، فوجد حساد الألوسي منفذاً للافتراء، وأنه سب خاله الحاج عبد الفتاح فشاغب عليه الحساد،(954/9)
وأرادوا أن يخرجوه من مدرسة الباجه جي بحجة السب! ولما لم ينالوا ما أرادوا استعانوا بمفتي الحنفية ومفتي الشافعية لغاياتهم هذه، كما استعانوا بمحمد الكركولي أحد المتنفذين ببغداد، وذهبوا هم وأنصارهم إلى الوالي داود فتكلم نيابة عن الجمع الحاشد الكركوكي المشهور بابن النائب الذي يضمر للألوسي الحسد والعداء، فحاك وأصحابه دسيسة جديدة وهي أن أبا الثناء قد سب الإمام أبن حجر أثناء وعظه في جامع القمرية في الكرخ، فلم تنطل الفرية على الوالي الداهية، فأجابهم بما أسكنهم وأخزاهم! وهنا أنقل للقارئ جواب الوالي لابن النائب الكركوكي، ولكن على لسان المدعي عليه، أو المتهم في لغة القانون وهو هنا الألوسي محمود إذ نقل الجواب بإنشائه البليغ الرائع فقال (إن ابن الألوسي شافعي المذهب، فيبعد من طريق العقل أن يسب ذلك العلامة وهو بين أئمة مذهبه المشار إليه بأكف الفضل، وأعجب من ذلك وأعظم، تأخير شكوى هذا الذنب الواقع في رمضان إلى المحرم، فما أظن ذلك إلا افتراء، أصر على إنشائه قهرمان الحسد، وكم جمع الحسد جيوش البغي على المحسود وحشد، فبالله تعالى عليكم إلا ما تركتم هذا الرجل وحاله، وأرى الأحرى بكم أن تصالحوه وخاله. . . فإني أظن أن يأتي على الرجل زمان، يشار إليه بين علماء الإسلام بالبنان. وبعد أن أطفأت هذه الفتنة التي واجهها الألوسي بصبر وثبات، والتي انتهت بحرمانه من التدريس في مدرسة الباجه جي، كان أنصار الألوسي يعملون على إيجاد وظيفة تليق بمكانة أبي الثناء وفضله. وأخيراً وجدوا ضالتهم بمساعي الزعيم الشعبي (عبد الغني جميل زاده) رئيس الحزب الذي يضم أحرار البلد أمثال السيد الألوسي، فتم على يد الزعيم عبد الغني إزالة ما وقع سابقاً ثم عين بمساعدة أنصاره مدرساً وواعظاً وخطيباً في جامع أمين الباجه جي شقيق نعمان رئيس صنف التجار، الواقع في محلة رأس القرية. . . وبقي يدرس ويربي الجيل الجديد تربية العالم الخبير القدير، ولاقت دروسه قبولاً واستحساناً من تلامذته ومريديه، وكانت بغداد في أواخر عهد داود تضم نهضة أدبية يرعاها القصر ويحميها السلطان. ولم يكن الألوسي مع قيامه التام بشؤون التدريس والخطابة والوعظ والإرشاد بالرجل القانع القعددة شأن أكثر المعممين ورجال الدين في عهده بل كان على العكس رجلاً طلاعة يستمع لتيار الرأي العام، ويستجيب لداعي القضايا العامة، وكان أكثرية البغاددة يناصرون داود باشا في الانفصال عن قاعدة الخلافة(954/10)
والاستقلال بالعراق عن الدولة العثمانية، والألوسي كان من دعاة هذه الفكرة ودليل ذلك حبسه بأمر الوالي الجديد علي رضا في سجن نقيب الأشراف.
د - تصدره للافتاء:
بقي الألوسي بسجن النقيب يتجرع الغصص ويتحمل النكبات منتظراً الفرج من الله مترقباً أفاعيل القدر. . . وتم له ما أراد إذا طلب منه محمود النقيب رئيس النقباء الوعظ في جامع الشيخ عبد القادر الجيلي القريب من دور نقباء بغداد وكأنه وضعه بسجن ثان قريب من السجن الأول، فقبل الألوسي الطلب وأجاب النقيب بما أراد، وإن كانت العيون يحصون عليه أنفاسه، ويعدون عليه حركاته، ووعظ في جامع الجبلي أكبر جوامع بغداد وأشهرها، فسار اسمه وذاع صيته وقصده القاصي والداني من الأهلين والموظفين والعسكريين والعلماء، ليستمعوا إلى مجلس وعظه ويستفيدوا من حسن محاضرته فطرقت أذن الوالي علي رضا المشهور بحريته الفكرية وحبه العلماء شهرته واسمه، فقصد جامع الجبلي وذلك في أواخر رمضان ليشاهد هذه الأعجوبة الذي تم سجنه على يده فخلب لبه وأسر سمعه فرضى عنه وصالحه وأمر أحد خاصته المدعو (عبد الرحمن الأعظمي) أن يجلب الألوسي معه إلى قصره - قصر الوالي - في اليوم الثاني من عيد الفطر. وعند حضوره في اليوم الموعود قربه إلى مجلسه وحادثه بأرق الحديث وطلب منه التردد إلى قصره مرتين في الأسبوع، فكان الألوسي يزور الوالي الذي أعجب به كل الإعجاب وأعاد إليه وظائفه التي اغتصبت منه فألف له الألوسي رسالة جيدة أثبتت أن الألوسي من فلاسفة الحكم ومن ذوي الرأي في السياسة، فأجازا الوالي أبا الثناء بتولية أوقاف مدرسة جامع مرجان وتولية هذا الجامع مشروطة لأعلم أهل البلد وذلك في 17 محرم سنة 1249 ونال قبل التولية خطبة الجمعة والعيدين في جامع الجبلي، وبعد أن نال التولية أخذ يفر إلى جو الرفعة والكرامة - كما قال حفيده محمود شكري الألوسي - وفتحت له باب الأمل التي داعبها منذ كان يافعاً فنال رتبة علمية لها مغزاها العالي في ذلك الوقت وتلك الرتبة العلمية هي (تدريس الأستانة) التي صدرت بمرسوم سلطاني ولم تقف رتبه العلمية عند هذا الحد العظيم، بل نال أقصى ما يناله رجل العلم من الرتب العالية؛ إذ أن صديقه الشاعر العمري وصديق آخر بشراه أن الوالي علي رضا سينصبه مفتياً للمذهب الحنفي، وكان سروره عظيماً جداً(954/11)
إذ لبس بزة الإفتاء في 16 ذي القعدة سنة 1250 وبعد ما شاع لهذا الخبر الذي فرح به أنصاره واستاء له أعداؤه وحساده، هنأ الشعراء والأدباء والعلماء الذين شغفوا بالألوسي الكبير حباً وولاء. وها نحن ننقل أبياتاً من قصيدتين لشاعري العراق في ذلك الحين وهما عبد الباقي العمري وعبد الغفار الأخرس يؤرخان الإفتاء ويمدحان المفتي. وقال الأول:
كالبدر طلعته والبحر راحته ... والعزم والحزم مثل النار والجبل
لو شاء باحث أهل العلم قاطبة ... عن المذاهب والأديان والملل
يا من به لاذت الفتوى فسجلها ... وصانها عن جميع الزيغ والزلل
من عين كل عدو يا مؤرخة ... (محمود) قد يحرس الفتوى بعين (علي)
وفي عجز البيت الأخير الذي أرخ سنة الفتوى تورية لطيفة باسمي الوالي والمفتي. وقال الأخرس البغدادي:
إن الشريعة فيك لابس تاجها ... قوم وحامل سيفها صنديد
وتتوف في كل العلوم فأرخوا ... (نوفت بالإفتاء يا محمود)
والألوسي الكبير بعد أن نال هذه الرتب العالية التي لا تصلح إلا له، وليس يصلح إلا لها - كما قال أبو العتاهية الشاعر وردت أسئلة علمية دقيقة من علماء فارس وفطاحل إيران، إلى علماء بغداد يطلبون إجابتها وحل غوامضها، فأجاب عليها شهاب الدين مفتي بغداد، جوابا شافياً مقنعاً أسكت السائلين والمتحدين برسالة علمية جليلة، وبعد أن ذهب رسول علماء فارس جاءت الألوسي الكبير رسالة تهنئة مشفوعة بوسام سلطاني (نشان افتخار) من (استنبول) فزين صدر الألوسي بالوسام، أو أزدان الوسام بصدر الألوسي.
تقلد الألوسي رتبة الإفتاء، ونال الرتب العلمية العالية، وهو لم يتجاوز الثلاثين ربيعاً إلا قليلاً، فكانت صفحة جديدة من حياته تطفح بالهناء والسعادة، نالها الألوسي الكبير - وهو الأهل لها - بصبره ومصابرته وقابليته العلمية. وفي هذه الفترة من حياة الألوسي اشترى داراً فخمة في أشهر محلات بغداد (محلة العاقولية) كما جلب له الخدم والحاشية، على الأصول المتبعة في عصره. والألوسي مع ما نال من اسم وثراء ومكانة اجتماعية، لم ينس إخوانه وأبناءه رجال العلم وطلبته، بل على العكس ازدادت رعايته لهم، وعنايته بهم، إذ خصص قسماً من داره الكبيرة للطلبة الغرباء يقدم لهم فيه الغذاء والكتب والخدمات الأخرى(954/12)
مجاناً ومن جيبه الخاص فأمست داره مدرسة هو عميدها وبيته بنايتها كما أمست بغية لطلبة العلم من سائر أنحاء العراق والأقطار الإسلامية وقد بلغت دروسه أربعة وعشرين درساً في اليوم وكانت داره العامرة مجمعاً علمياً وندوة للشعر، يحضرها العمري وعبد الغني والأخرس وأحمد عزت والتميمي والواعظ وغيرهم وغيرهم، من جلة القوم وأعيان البلد. . وفي أواخر فترة الإفتاء بدأ بتأليف تفسيره الخالد (روح المعان) وكان هذا سبباً لأن تصبح دروسه في اليوم ثلاثة عشر درساً، وبقى يفتي ويدرس ويؤلف مدة زادت على ثلاث عشرة سنة.
للكلام صلة
محمود العبطة(954/13)
الولايات المتحدة الأمريكية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
- 5 -
الحكومة الاتحادية
السلطة التنفيذية:
الولايات المتحدة جمهورية ولها رئيس ينتخبه الشعب ومدة رياسته أربع سنوات. ونحن نقرأ كل يوم عن ترومان رئيس الجمهورية الأمريكية وعن سياسته ومشروعاته وأعماله، والواقع أن منصب رئيس الجمهورية الأمريكية من أعظم المناصب وأرفعها في العالم كله لأنه يتمتع بسلطة كبيرة لا يتمتع بها كثير من أمثاله من الملوك أو رؤساء الدول.
وطبقاً للمادة الثانية من الدستور الاتحادي وضعت السلطة التنفيذية في يد الرئيس، وليس لنائب الرئيس - وهو ينتخب معه كل أربع سنوات أيضاً. ويتولى رئاسة مجلس الشيوخ - أية سلطة تنفيذية.
وتجري الانتخابات للرئاسة وللنيابة عنها في شهر نوفمبر، وقبل المعركة الانتخابية يعلن كل حزب سياسي مرشحيه لكل من الرئاسة والنيابة عنها، وتضع الأحزاب كذلك قائمة بأسماء مندوبيها في الانتخابات. وفي الموعد المحدد من نوفمبر ينتخب الناخبون من كل ولاية منتخبي الرئيس (مرشحي الأحزاب في الولايات) وعددهم مساوٍ لعدد النواب والشيوخ في الكونجرس. ومهمة هؤلاء الناخبين التصويت لمرشحي الحزب للرئاسة وللنيابة. والمرشح الذي يفوز بأغلبية الأصوات يصبح رئيساً للجمهورية وهكذا نرى أن رئيس جمهورية الولايات المتحدة يمثل الشعب الأمريكي أصدق تمثيل؛ لأن جميع الناخبين في سائر أنحاء الولايات يشتركون في انتخابه، ومن هنا نرى أن انتصار رئيس ليس إلا انتصاراً لمبادئه التي يعلنها إلى الشعب ومعناه إيمان الشعب بهذه المبادئ، والرئيس مكلف في حالة نجاحه بتنفيذ السياسة التي رسمها وباتباع المبادئ التي نادى بها.
ويتولى الرئيس منصبه في 20 يناير الذي يلي انتخابه في نوفمبر، وتقام لذلك حفلة تسمى حفلة التولية أو المبايعة، ويذهب الرئيس إلى دار الكونجرس ويقسم اليمين التالي:(954/14)
(إني بكل وقار أقسم أني سأنفذ بكل أمانة واجبات منصب رئيس الولايات المتحدة، وإني سأبذل كل ما لي من قوة لأحافظ وأحمي وأناضل عن دستور الولايات المتحدة) ثم يلقي الرئيس خطبة يوضح فيها السياسة التي تلتزمها إدارته. وأثناء مدة الرئاسة يقيم الرئيس في قصر أعد له هو (البيت الأبيض) بواشنطن.
سلطات الرئيس:
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية - طبقاً للدستور - هو المهيمن على السلطة التنفيذية، وجميع الموظفين مسئولون أمامه ويستمدون منه سلطتهم، وعليه أن يعنى بتنفيذ القوانين وأن يدير المنظمة الكبرى التي تقوم بمهام الحكومة، وهو الموظف الوحيد ما عدا نائبه الذي ينتخبه الشعب وهو مسئول أمام الشعب وعليه أن يسعى دائماً إلى تحسين أحوال الشعب والبلاد.
وسلطات الرئيس التنفيذية كثيرة ومنوعة: فهو ينفذ الدستور والقوانين التي يسنها الكونجرس، وهو القائد الأعلى للجيش والبحرية والفرق المحلية (المليشيا) للولايات، وهو الذي يرسم سياسة الولايات المتحدة الخارجية ويعين الوزراء والسفراء بموافقة مجلس الشيوخ، وبواسطته يمكن أن تعترف حكومته بأي دولة جديدة، ويمكن أن يفاوض حكومات الدول الأخرى وأن يعقد معاهدات بشرط أن يوافق عليها مجلس الشيوخ.
وله أن يرسل جيش الولايات المتحدة إلى أية بقعة من بقاع الأرض.
وهو يختار الوزراء المسئولين عن تسيير شؤون الحكومة الاتحادية في الخارج والداخل ولكن يشترط أن يوافق مجلس الشيوخ على اختيارهم، ومن هؤلاء الوزراء تتكون وزارة الرئيس.
وقد اختار واشنطن الرئيس الأول للجمهورية أربعة وزراء لمساعدته ولكن زاد عدد الوزارات فبلغ تسعاً 1948: الخارجية المالية، الدفاع (الجيش والبحرية والطيران) العدل، البريد، الداخلية، الزراعة، التجارة والعمل.
ويشرف وزير الخارجية - وهو تابع للرئيس ومستشار له - على السياسة الخارجية: ومهمة وزارة الخارجية إقامة العلاقات الودية بين الولايات المتحدة والدول الأجنبية، وتقوية العلاقات التجارية والصناعية مع الدول الأجنبية وحماية الرعايا الأمريكان وأملاكهم في(954/15)
الخارج.
وأما وزارة المالية فمهمتها تدبير الشؤون المالية لحكومة الولايات المتحدة، وحماية دخل الحكومة وزيادته وحماية قوة شراء العملة الأمريكية وقيمة الثقة بمالية الحكومة الأمريكية وجباية الضرائب للحكومة الخ.
ومهمة وزارة الدفاع المحافظة على سلامة الأمة من أي عدوان خارجي أو فتنة داخلية سواء في زمن السلم أم في زمن الحرب.
ومهمة وزارة العدل تنفيذ القانون الاتحادي تنفيذاً فعالاً وحماية حقوق الولايات المتحدة القانونية وحماية حقوق الأفراد وتنفيذ قوانين الهجرة والجنسية.
وأما وزارة الداخلية فتعمل على تحسين الرفاهية ورعاية مصادر الثروة الأهلية وتنميتها؛ فتعنى بالإشراف على الأراضي ومنها أراضي المراعي، وتعمل على حسن استغلال الأراضي الزراعية، وتنظم موارد الأخشاب من الغابات، وتدرس المصادر الطبيعية للثروة المعدنية؛ وتستغل مساقط المياه في توليد الكهرباء.
ووزارة الزراعة تعمل على توفير الغذاء للشعب وذلك بتحسين الإنتاج الزراعي والحيواني للمواد الغذائية.
وأما وزارة التجارة فمهمتها ترقية تجارة الأمة وتوسيعها، وفتح الأسواق الخارجية لها.
وتعنى وزارة العمل بشؤون العمال، وبتحسين حالتهم وزيادة رفاهيتهم وتسوية الخلافات التي تقوم بينهم وبين أصحاب الأعمال.
السلطة القضائية:
وهي تتكون من المحاكم الاتحادية، ومهمتها تفسير القوانين الاتحادية وشرحها والحكم في القضايا بين رعايا الولايات المختلفة ومعاقبة مخالفي القانون.
وتقوم محاكم الحكومة الاتحادية بعدة واجبات أخرى. . إذا اتهم شخص في الولايات المتحدة بالاعتداء على القانون يؤتى به إلى المحاكم الاتحادية ليحاكم.
وتقوم المحاكم الاتحادية بوظيفة الحكم إذا قام خلاف بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وإذا قام خلاف بين ولايتين يعرض النزاع على المحاكم الاتحادية للفصل فيه.
المحكمة العليا:(954/16)
نص دستور الولايات المتحدة على إنشائها، ولا يمكن إلغاؤها إذا عدل الدستور، وهي أعلى محكمة في البلاد، وإليها تستأنف الأحكام. ويعين قضاتها الرئيس، ويوافق مجلس الشيوخ على التعيين.
وهناك محاكم اتحادية أخرى. ويستطيع سكان الولايات المختلفة أن يستأنفوا أحكام محاكم الولايات أمام المحاكم الاتحادية إذا لم يقتنعوا بالحكم الأول.
ولرئيس الجمهورية حق تخفيف العقوبة وحق العفو عن المجرمين وتعيين قضاة المحاكم الاتحادية.
اتحاد فدرائي:
سألني أديب عن معنى كلمة (اتحاد فدرائي) وأنا أجيبه فأقول إن الاتحاد الفدرائي هو اتحاد عدة ولايات لتكوين دولة، وفي هذا الاتحاد تحتفظ الولاية بحكمها الذاتي، وتقوم الحكومة المركزية أو الاتحادية بالإشراف على الشؤون العامة للدولة كما رأينا في شرحنا للنظام الحكومي في الولايات الأمريكية؛ فإن هذه الدولة هي خير مثل للاتحاد الفدرائي.
وهناك اتحاد آخر هو الاتحاد الكنفدرائي. وفي هذا الاتحاد تفقد الولاية شخصيتها وتنتقل سلطة الولاية إلى الحكومة المركزية. وخير مثل لهذا هو الاتحاد الذي قام في ألمانيا الحديثة سنة 1780.
قويسنا
أبو الفتوح عطيفة(954/17)
على هامش النكبة
نفوس كبيرة
للأستاذ حسني كنعان
عاد من غرفة مدير المدرسة يتأبط مجموعة للكتابة ومسطرة وقلم رصاص، وكان بجانبه في المقعد تلميذ ظريف مداعب يحب مداعبته دائماً، وما كاد يلج الصف ويجلس مكانه على المقعد حتى فاجأه هذا الرفيق (الدعوب) يقول له:
- هنيئاً لكم معشر التلاميذ اللاجئين الفلسطينيين هذه المنح والأعطيات والهدايا التي تقدم إليكم مجاناً الفينة بعد الفينة، ونحن ننظر بأعيننا دون أن يصل إلينا مثل الذي يصل إليكم. .
فمن كتب مدرسية إلى أقلام ودفاتر وماحيات وحرامات للتدفئة وسراويل وصداري). . . ثم إلى آخر ما هنالك من حاجات تبهج الفؤاد وتقر العين وتثلج الصدر. فلماذا لم يوزعوا علينا مثلها؟ ألسنا تلاميذ مثلكم، نتعلم كما تتعلمون، وندرس كما تدرسون. . وكان هذا الحار يتكلم والبسمة لا تفارق شفتيه القرمزيتين زيادة في الدعابة، فحسبه صديقه جاداً في قوله، وليس من عادته أن يركبه بمثل هذه الدعابة التي أثرت في نفسه تأثيراً عميقاً، فرجع بالذاكرة إلى الماضي القريب كيف كان يدفع إليه مثل هذه الهنوات المدرسية ليوزعها على فقراء الطلاب في مدرسته الأولى قبل أن يغادرها مجلياً مشرداً طريداً، فطفرت من مقلتيه الدموع حارة على المصير السيئ الذي انتهى إليه، ثم نظر إلى رفيقه نظرة عتاب وسلامة، بيد أن صديقه ما قصد بقوله ذاك سوى الدعابة والمباسطة والإيناس ليدخل إلى روع صديقه أن قبول الهدايا لا ضير فيه ولا عار، وأنها لو قدمت إليه نفسه على شرف والده وثرائه وغناه لما استنكف عن قبولها، لكن هذا اللاجئ حسب أنه جاد لا هازل فقال له فيما قال:
- أتحسدوننا على هذه الحاجات التي لا تعدل شيئاً في نظرنا، وقد تركنا الأطيان والأموال والحلي والرياش والمتاع والعقار. . وخرجنا من بلادنا حفاة عراة لا نلوي على شيء. .
وما هذه العطايا التي تعتبرونها هدايا لنا إلا كالهبات ومسليات لنا عن مصابنا الأليم الفادح، فو الله لا آخذها ولن أقبل شيئاً منها بعد الآن. .
وهنا أخذت الحدة مأخذها من الطفل اللاجئ الذي لا يتجاوز تحصيله السنة الثانية من سني(954/18)
المدارس الابتدائية وأعتبر أن مزاح رفيقه قد مس كرامته فأهوى على المجموعة فمزقها، وعلى القلم والمسطرة فحطمهما، وألقاهما في سلة المهملات ومضى يقول:
أجل كيف نقبل مثل هذه المنح الرخيصة، من يد المتعسفين الظالمين الذين أذلونا وشردونا وأخرجونا من ديارنا وأقاموا مقامنا حثالة من شذاذ الآفاق! إن هذا لن يكون. . . فبهت رفيقه، وندم على ما بدر منه، وأخذ يعتذر له ويطلب منه العفو والمغفرة، فلم يفد من اعتذاره ومؤانسته شيئاً. . بينما كان معلم الصف منهمكاً بكتابة الوظيفة الليلية على اللوح سمع حوارهما الرقيق بلسان الطفولة البريئة، ورأى أن هذه الحركة غير عادية في درسه، فترك اللوح وأقبل على الطفلين يستطلع خبرهما. ولما أدرك القضية وعرف سببها أوقفهما على انفراد في زاوية من زوايا الصف ريثما ينتهي من عمله فيجري معهما التحقيق اللازم ويعاقبهما بعده لإخلالهما في درسه. .
انتهى الدرس وخرج التلاميذ إلى الفسحة، فتقدم المعلم من التلميذين الموقوفين وبدأ بالتلميذ اللاجئ قائلاً:
- أيجوز لك (يا عامر) أن تتلف المجموعة وتحطم المسطرة والقلم وترمي بهما جميعاً في السلة، ثم ترفض النعمة التي أنت أحوج الناس إليها؟ إن عملك يا عامر لا يعمله تلميذ عاقل، في حين أن رفيقك لم يقل ما قاله إلا مداعباً ومازحاً. . ومن عادة الأصدقاء الدعابة والتظرف والإيناس. . فرفع عامر إصبعه بأدب وطلب من أستاذه أن يسمح له بالكلام، فسمح فاستهل الصبي كلامه قائلاً: أنت يا سيدي بمقام والدي ومن حق الوالد على الولد أن يصغي إلى شكوى ولده بروية وهدوء. .
- فقال المعلم: أحسنت يا بني تكلم وأوجز. .
- سيدي إن من عادة رفيقي هذا الدعابة والمزاح فهو يمازحنا جميعاً، وما علمت أن أحداً أزعجه مزاحه ودعابته، لكنني هذه المرة لا أدري كيف أثرت دعابته بي هذا التأثير الذي اعتبرته جارحاً للعاطفة مثيراً للنفس في حين أنه كان صداه الدعابة ولحمته المزاح على الغالب. . .
وقد أثقل على ذلك وأنا ربيب نعمة وأليف خير ورخاء، ما تعودت تناول العطايا من أحد أو أن أسمع شيئاً مما قاله اليوم صديقي، وما فعلت ذلك في أدواتي إلا ترفعاً وإباء وندماً(954/19)
على أخذ هذه الهدية، فلأن أعيش جاهلاً ثم أهلك برداً وجوعاً وعرياً أحب إلي من سماع قول كهذا وأخذ يجهش بالبكاء. .
وكان هذا الولد ابن رجل ثري في حيفا يملك ثلاث بيارات واثنتي عشر مفتاحاً لدور ودكاكين ومخازن، وكان إلى جانب هذا يملك ثروة تقدر قيمتها بثمانين ألف جنيه ذهبت جميعها نهباً مقسماً لشذاذ الآفاق، حتى أن والده عندما شعر بأن السلطة الحاكمة هناك حالت دون وصول النجدة من المجاهدين الأشاوس إلى حيفا وألجأت أهلها إلى الخروج منها بالقوة، وأنها ساعدت الغزاة الغادرين على مطاردتهم منها، عاد إلى الدار ليحمل ما يقدر على حمله من الأموال، فقتل وهو هارب بها وسلبت منه، وقد علمت الأسرة بمصرعه وهي مؤلفة من زوجة ثكلى وولد وبنت، أما الولد فهو عامر صاحب قصتنا هذه، وأما البنت فهي التي عالت هذه الأسرة كما سترى، وأخيراً أتت هذه الأسرة المروعة بأعز عزيز لديها إلى حيفا، وقد أجلتها السلطة المنتدبة عن ديار الآباء والأجداد على الجملة، ولم تدعها تودع فقيدها الغالي ولو بنظرة أخيرة تلقي على جثمانه الطاهر الذي همد كالصرح مجندلاً بدمه، أجل أتت إليها تلك السلطة الشيطانية فأركبتها سيارة أقلتها إلى الميناء ومن ثم قذفوا بها في قارب مع من قذف من سكان حيفا ووجهتهم ميناء صيدا تحت وابل من رصاص الآثمين المعتدين. . .
وبعد مشقة وعذاب وصلوا إلى ميناء هذه المدينة الساحلية انتقلوا بعد ذلك إلى بيروت، وأقاموا حقبة من الزمن كأنها دهر، فزين لهم أقاربهم اللجوء إلى دمشق فأموها وهم في حالة يرثى إليها من التعب والمسغبة. . .
ولما وصلوا إليها متأخراً لم تدون أسماؤهم في جمعية الصليب الأحمر. وكان لا دخل لديهم إلا معاش البنت التي عينت معلمة للغة الإنجليزية في المدارس الخاصة، وذلك بعد أن من الله عليهم بالإقامة فيها وكانت الأجرة زهيدة. .
وكان المعلم يعرف هذا كله فلم يستغرب ما رأى وما سمع منه فرق لحاله، وأخذ يخفف عن الصبي ويسري عنه ويربت على كتفه ويقول:
- نعم العمل عملك يا بني، ونعمت النفس الأبية نفسك. ثم تقدم وأخرج من منضدته مجموعة ومسطرة وقلم رصاص ودفعها إلى الصبي بلطف راجياً منه قبولها هدية منه،(954/20)
وزاد في الإيناس والتلطف حتى تخيله الصبي والداً له، فاستحيا منه وتناول الأدوات والاحمرار باد على وجهه، والعرق يتصبب من جبينه، ذهب التلميذ مساء إلى البيت يحمل بيده الراعشة الهدايا من يد معلمه الأب المعنوي له. . .
ولكن الصبي عاد في اليوم التالي بالأدوات إلى المدرسة ودفعها إلى أستاذه مع رسالة من والدته تشكر المعلم على حسن صنيعه وتصرفاته مع ولدها ثم تعتذر من قبول الهدية وتقول:
إنها لا تريد أن ينشأ ولدها على مد يده للهدايا ما دام في يديها وعنقها حلي وأطواق تبيعها تباعاً لتنفقها على ولدها كلما أبصرته بحاجة إلى المال للحصول على اللازم من أدوات المدرسة وتكاليفها. .
هذه حادثة واقعية ليست من نسج الخيال يلفقها كاتب أو شاعر للدخول إلى قلوب القراء وتملقهم واستمالتهم ولفت أنظارهم إلى أسلوب خاص بالأدب القصصي: بل هي من القصص الواقعية التي نراها ونسمع عنها تصدر كل يوم عن هذا الشعب العربي الأبي الذي نهنهته النكبة وأذلته الفاقة وهو ما انفك محافظاً على إبائه وكرامته. . .
فإن دلت هذه الأفاحيص على شيء فإنما تدل على كبر هذه النفوس التي تحلي هذه الجسوم الصغيرة، وأنا لنأمل يوماً أن يستطير شررها فتنقلب إلى براكين جياشة تنفجر فتقض مضاجع أولئك المستعمرين الغاصبين الذين سببوا هذه النكبة، وسيكون إنقاذ البلاد السليبة ما تقاسى الآباء على أيدي هؤلاء الأحداث الذين تفتحت أعينهم على ظلام النكبة فغلت نيران الثأر في نفوسهم ورضعوها مع اللبن.
دمشق
حسني كنعان(954/21)
بمناسبة ذكرى شوقي
المرأة في شعر شوقي
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
شوقي قمة من القمم الشوامخ في تاريخ الأدب في العصر الحاضر، فهو من شعراء الطليعة، يضطرك بروعة بيانه وقوة عارضته واتساع أفق خياله وغزارة مادته، وما تلمس في آياته الشعرية من جزالة وسهولة، أن تضعه في مقدمة الصفوف.
وهو أقوى دليل وأكبر برهان على ما وصل إليه الأدب المصري الحديث من نهضة وتقدم، فقد جمع شوقي في شعره بين القديم والجديد في أسلوب بليغ يتمشى مع جزالة الأدب العربي القديم، والتفكير العصري والذوق الحديث، فتراه يعمد إلى الألفاظ اللغوية القديمة التي نسبها الناس وصاروا لا يستسيغونها ولا يقوون على سماعها لأنهم لا يعرفون معانيها فيبعثها في شعر يحيط فيه بما في الغرب من صور بديعة ومعان رائعة وخيالات واسعة واضحة ترضاها الحضارة الشرقية ويستسيغها الطبع الشرقي.
فقد كان يعتبر أن البعث للألفاظ الدارسة وسيلة من وسائل التجديد، وسبيلاً من السبل التي تصل بين مدنية قديمة بائدة ومدنية حديثة طارقة، يجب ألا تنقطع الصلة فيهما بين السلف والخلف، وقد كفل لهذه الألفاظ حياة جديدة بما أفاض عليها من ثوب شعري جميل جعلها تتسع لما ظنها الناس أنها لم تتسع له من الصور والأخيلة والمعاني.
وشوقي كغيره من الشعراء طرق أبواب الشعر القديم ثم زاد عليها ما استجدت به الأيام من الاجتماعيات والحوادث التي عاصرها وما أحدثت في نفسه من آثار بالغة، ومن هذه الحوادث البالغة الأهمية، الضجة التي قامت حول تحرير المرأة وإعطائها نصيباً موفوراً من الحرية التي حمل لواءها قاسم بك أمين.
وقد شارك شوقي في هذه الدعوة بنصيب لا بأس به، ولكنه كان كغيره من الشعراء والكتاب يخضع لقانون البيئة الاجتماعية الذي تفرضه على الألسنة فلا تنطق إلا بحذر، وعلى الأقلام فلا تكتب إلا بمقدار، وعلى الجوارح فلا تتحرك إلا في تلصص، وعلى القلوب فلا تنبض إلا في خوف ووجل، لأنهم كانوا يخشون أن يكون في شيء من هذا ما يثير سخط المحافظين الذين يعتبرون - في ذلك الوقت - السواد الأعظم الذي يسيطر على(954/22)
الجانب الخلقي من الحياة المصرية فكان على شوقي بحكم هذه الاعتبارات، ولأنه لا يريد أن يباعد بينه وبين محبيه أو ينفر منه القلوب التي أجلسته على عرش الإمارة، وزانت جبينه بتاجها، ألا يعرض لهذا الموضوع فيما ينشر على الناس إلا مترفعاً متأنياً حذراً غاية الحذر.
ويتخذ شعر شوقي عن المرأة صورتين. منفصلتين لا تقارب بينهما: أما الصورة الأولى فهي تقليده لمن سبقه من الشعراء، إذ يفتتح قصائده بالنسيب الذي اعتاده الشعراء القدامى، كما في قوله من قصيدته (لبنان)
السحر من سود العيون لقيته ... والبابلي بلحظهن سقيته
الفاترات وما فترن رماية ... بمسدد بين الضلوع مبيته
الناعسات الموقظات على الهوى ... المغريات به وكنت سليته
القاتلات بعابث في جفنه ... ثمل الغرار معربد أصليته
الشاهرات الهدب أمثال القنا ... يحيى الطعين بنظرة ويميته
الناسجات على سواء سطوره ... سقماً على منوالهن كسيته
ثم يقول فيها:
إن قلت تمثال الجمال منصباً ... قال الجمال براحتي مثلته
دخل الكنيسة فارتقبت فلم يطل ... فأتيت دون طريقه فزحمته
فازور غضباناً وأعرض نافراً ... حال من الغيد الملاح عرفته
فصرفت تلعابي إلى أترابه ... وزعمتهن لبانتي فأغرته
فمشى إلى وليس أول جؤذر ... وقعت عليه حبائلي فقنصته
في هذه الأبيات الأخيرة بين لنا شوقي طبيعة المرأة عندما يتقرب منها الرجل طالباً ودها فتتمنع وتظهر الإعراض والصد حتى إذا رأته ينظر إلى غيرها أو يحادث إحدى صويحباتها ثارت غيرتها، وطامنت من كبريائها، وحاولت هي التقرب منه حتى لا تظفر به غيرها.
وشيء آخر يظهر لنا من هذه الأبيات، وهو معرفة شوقي لمواطن الضعف عند حواء، وكيف أنه يعرف متى يقبل عليها ومتى يعرض عنها.(954/23)
وفي سنة 1919 ثارت البلاد على مختلف طبقاتها تطالب باستقلالها، وسافر الوفد المصري لغرض قضية البلاد على مؤتمر السلام في فرساي وهناك تلقى دعوة من لورد (ملنر) وزير المستعمرات الإنجليزية إذ ذاك ليتفق مع الوفد على مركز البلاد وتحديد علاقة إنجلترا بها. وتمخضت المحادثات عن مشروع قدمه لورد (ملنر) واتفق مع الوفد على عرضه على البلاد لأخذ رأيها فيه مع التزام الحيدة، فأنتدب الوفد أربعة من أعضائه للقيام بهذه المهمة، وقد اختلف القوم في صلاحية المشروع أو عدم صلاحيته.
وقد شارك شوقي في هذه الحركة وعبر عنها أصدق تعبير في قصيدة طويلة بدأها بالنسيب فقال:
أئن عنان القلب واسلم به ... من ربرب الرمل ومن سربه
ومن تثنى الغيد عن بأنه ... مرتجة الأرداف عن كثبه
ظباؤه المتكسرات الظبا ... يغلبن ذا اللب على لبه
بيض رقاق الحسن في لمحة ... من ناعم الدر ومن رطبه
إلى قوله:
يا ظبية الرمل وقيت الهوى ... وإن سعت عيناك في جلبه
ولا ذرفت الدمع يوماً وإن ... أسرفت في الدمع وفي سكبه
هذى الشواكي النجل صدن امرأ ... ملقى الصبا أعزل من غريه
صياد آرام رماه الهوى ... بشادن لا برء من حبه
قد شاب في أضلعه صاحب ... خلو من الشيب ومن خطبه
واه بجنبي خافق، كلما ... قلت تناهى، لج في وثبه
فأنت ترى بالرغم من أن الموضوع الذي نظم فيه القصيدة موضوع سياسي بحت، إلا أنه سار على سنن من قبله من الشعراء الأقدمين؛ فبدأ قصيدته بهذا النسيب مهد لموضوعه الذي نظم من أجله القصيدة فقال:
ما بال القوم اختلفوا بينهم ... في مدحة المشروع أو ثلبه
كأنهم أسرى، أحاديثهم ... في لين القيد وفي صلبه
يا قوم هذا زمن قد رمى ... بالقيد واستكبر عن سحبه(954/24)
الخ. . .
وعندما أطلق سراح شباب الحركة الوطنية في عهد وزارة سعد زغلول، وأحتفل شباب مصر بنجاة إخوانهم وإخراجهم من السجون، شارك شوقي في تكريمهم بقصيدة عامرة افتتحها بأبيات غزلية رقيقة هي:
بأبي وروحي الناعمات الغيدا ... الباسمات عن اليتيم نضيدا
الرائيات بكل أحور فاتر ... يذر الخلي عن القلوب عميدا
الراويات من السلاف محاجرا ... الناهلات سوالفاً وخدودا
أقبلن في ذهب الأصيل ووشيه ... ملء الغلائل لؤلؤاً وفريدا
يحدجن بالحدق الحواسد دمية ... كظباء وجرة مقلتين وجيدا
حوت الجمال فلو ذهبت تزيدا ... في الوهم حسناً ما استطعت فريدا
لو سر بالولدان طيف جمالها ... في الخلد خروا ركعاً وسجودا
وما أشبه هذا البيت الأخير بقول كثير عزة حيث يقول:
رهبان مكة والذين عهدتهم ... يبكون من خوف العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خروا لعزة راكعين سجودا
في هذه القصائد يظهر تقليد شوقي لمن سبقه، فهو يدفع بالمرأة دفعاً في قصائده وفي مواقف يحسن أن تكون بعيدة عنها كل البعد، إذ أن الغزل والتشبيب الذي يبدأ به قصائده لا يكون إلا في وقت تكون النفس هادئة تنعم بالطمأنينة والأنس، ولكنك لا تملك نفسك من الإعجاب ببراعة الشاعر وافتتانه في الإتيان بروائع المعاني وفخم الألفاظ.
أما غزله الخالص قاله متغزلاً فهو قصير قليل تظهر فيه الصناعة والتأثر في لفظه ومعناه بمن تقدمه من الشعراء. فإذا تصفحت باب النسيب في الجزء الثاني من الشوقيات فإنك لا تكاد تعثر على شعر تستطيع أن تقول عنه بوصال وقرب. مما يجعلنا نعتقد أن الشاعر لم يصب بهذا الداء - داء الحب -، لذلك نجد هذا النوع من شعره أكثر صناعة وتكلفاً، ولولا قوة الشاعر وبراعته لما وجدت في نفسك دافعاً لقراءته. فاسمعه يقول وهو تقريباً أجود ما قاله في هذا الباب:
خدعوها بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن الثناء(954/25)
أتراها تناست اسمي لما ... كثرت في غرامها الأسماء
إن رأتني تميل عني كأن لم ... تك بيني وبينها أشياء
جاذبتني ثوبي العصي وقالت ... أنتم الناس أيها الشعراء
فاتقوا الله في قلوب العذارى ... فالعذارى قلوبهن هواء
وقوله في قصيدة أخرى:
أداري العيون الفاترات السواجيا ... وأشكو إليها كيد إنسانها ليا
قتلن ومنين القتيل بألسن ... من السحر يبدلن المنايا أمانيا
وكلمن بالألحاظ مرضى كليلة ... فكانت صحاحاً في القلوب مواضيا
حببتك ذات الخال والحب حالة ... إذا عرضت للمرء لم يدر ماهيا
وأنك دنيا القلب مهما غدرته ... أنى لك مملوءاً من الوجد وافيا
صدودك فيه ليس يألوه جارحاً ... ولفظك لا ينفك للجرح آسيا
وبين الهوى والعذل للقلب موقف ... كخالك بين السيوف والنار ثاو
وبين المنى واليأس للصبر هزة ... كخصرك بين النهد والردف واهن
وعرض بي قوم يقولون قد غوى ... عدمت عذولي فيك إن كنت غاو
يرومون سلوانا لقلبي يريحه ... ومن لي بالسلوان أشربه غاليا
وما العشق إلا لذة ثم شقوة ... كما شقي المخمور بالسكر صاحيا
على هذا النمط تجد شعره الذي يندرج تحت هذا الباب كله صناعة وتقليداً للسابقين.
هذه هي الصورة الأولى التي ذكر فيها الشاعر المرأة ومنها نرى أن نصيبها من هذا القسم من شعره نصيب لا يساير روح العصر ولا يتمشى مع تطور الزمن ونهضة المرأة في الميدان الاجتماعي وما وصلت إليه.
أما الصورة الثانية فهي التي سنقدمها إلى القراء في العدد القادم إن شاء الله.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ(954/26)
رسالة المربي
صلتها بأهداف التربية الأخرى. . . التربية الاجتماعية. . . التربية الخلقية التربية البدنية
للأستاذ كمال السيد درويش
إذا كانت تلك هي رسالة المربي في الحياة فما هو موقفها من أهداف التربية الأخرى؟ سنبدأ بالكلام عن موقفها من التربية الاجتماعية لأنها من أهم الأهداف التي تتردد على الألسن في الوقت الحالي.
إن الصيحة التي انبعثت تنادي بضرورة الاهتمام بالتربية الاجتماعية هي نتيجة طبيعية للأحوال المضطربة التي يجتازها المجتمع في العصر الحالي. إن الإنسان مضطر إلى الحياة مع غيره من الناس فهو كائن اجتماعي والمجتمع نتيجة حتمية لوجود الإنسان. ومع الحياة في المجتمع تتعقد الأمور وتتعارض، وتنمو المشاكل، ولقد كانت مشاكل المجتمع البدائي بسيطة سهلة ومع ذلك حاول الإنسان التخلص منها فابتكر واخترع وكان يأمل من وراء ذلك إلى توفير جهوده مع تحقيق أكبر قسط ممكن من السعادة. وعلى عكس ما كان منتظراً لم يأت كل اختراع جديد إلا وفي طياته من المشاكل الظاهرة والخفية ما زاد في آلام الإنسانية ومتاعبها حتى أصبحنا في القرن العشرين نعاني من الآلام والويلات ونجابه من الأزمات ما أكد لدينا أن المجتمع الإنساني قد أصبح مريضاً حتى أصبحنا الآن نفكر في علاج هذا المجتمع المريض. ولما كانت التربية من أهم وسائل العلاج، فقد انبعثت الصيحة؛ تلك الصيحة القوية التي نادت ولا تزال تنادي بضرورة الاهتمام بالتربية الاجتماعية بل وبجعلها هدف التربية الأسمى.
وتقف رسالة المربي من هذه الصيحة موقفاً آخر غير موقف المؤيدين. ذلك أن أنصار هذا الهدف سيخضعون كل وسائل التربية لتحقيق هذا الهدف الذي سيصبح تقليداً جامداً وديكتاتوراً متحكماً يقف في وجه التطور والتقدم، وسيقتل النمو وهو ما يتنافى مع رسالة المربي. تنظر رسالة المربي إلى التربية الاجتماعية من وجهة نظرها الخاصة بمواصلة النمو. هي تنظر إلى التربية الاجتماعية لا على أنها هدف في ذاته؛ ولكن على أنها وسيلة إلى هدفها هي، فالتربية الاجتماعية تؤدي إلى إيجاد التوافق الاجتماعي الذي يساعد الإنسان على مواصلة التقدم والنمو، وهكذا يرفع هدف رسالة المربي في هذه الحالة من قيمة(954/27)
التربية الاجتماعية ويحلها مكاناً سامياً ويفرض على المشتغلين بالتربية الاهتمام بها.
إن الإنسان اجتماعي ولذلك يحتاج إلى معرفة كيفية الحياة في هذا المجتمع حتى يستطيع الاندماج فيه والتآلف مع أفراده وتكييف نفسه حسب ظروف المجتمع الذي يوجد فيه، وهذا شرط أساسي لكي يستطيع بعد ذلك العمل باستمرار والسير في طريق التقدم. ونمو الأفراد أساس نمو المجتمع وتقدمه، وإذا كان النمو دليل الحياة في الأفراد فكذلك نجده دليلاً على حياة المجتمع.
إن رسالة المربي تستخدم التربية الاجتماعية كوسيلة من الوسائل الفعالة في نمو المجتمع.
ونحن نعني بالتربية الاجتماعية تلك التي تمكن أفراد المجتمع من التآلف بتنمية قدرتهم على التكيف حسب الظروف المحيطة بهم في المجتمع وحتى يستطيعوا مواصلة التقدم في الحياة. وهذا هو ما يحتاج إليه المجتمع الإنساني، فالتطور الذي انتهى إليه بعد قرون عديدة هو نتيجة خيرات تلك القرون، وتتعقد مشاكله حتى يقف أمامها معظم أفراد المجتمع عاجزين عن فهمها أو حتى عن محاولة التفكير في حلها أو التخلص منها. وما الأزمات والحروب التي تهدد العالم من أن لآخر إلا أعراض تعارض المصالح الإنسانية وتضاربها. وعجز الإنسان عن التخلص منها هو الدليل على ضعف التوافق الاجتماعي لديه. لقد عجز أفراد الأسرة العالمية عن تنظيم شؤونها بأنفسهم فأخذت تنحط بعد رقيها وتتأخر بعد تقدمها. ألا يدل ذلك على جهل أفرادها بالخصائص الاجتماعية الضرورية للحياة في وفاق ووئام. يجب أن تقوم التربية الاجتماعية بهذا التنظيم الاجتماعي في حدوده الضيقة داخل الأسرة وفي مجاله الكبير بين العالم. إن الذي ينقص الفرد فالأسرة فالمدينة فالدولة فالعالم هو التوافق الاجتماعي، ولو نجحت التربية في إيجاد التوافق الاجتماعي لدى الأفراد لاطرد نحو المجتمع ولأصبح العالم كله أسرة كبيرة منسجمة، يعمل أفرادها في توافق وانسجام، ويسير ركابها دائماً نحو الأمام، ولكن كيف نستطيع التربية الاجتماعية وتحقيق التوافق الاجتماعي بين الأفراد؟ إن ذلك من السهولة بمكان. لقد عاش الإنسان مع غيره من الناس فوجد أن الصدق يؤدي في النهاية إلى تقدم الجميع، فقال: إن الصدق فضيلة. ومن خبرته وجد كما وجد غيره أن الكذب رذيلة. وهكذا نشأت الأخلاق وأخذت تنمو بنمو المجتمع ذلك لأنها ضرورية لا لحياة المجتمع بل لتقدمه أيضاً. فظهور الأخلاق نتيجة حتمية لحياة(954/28)
الإنسان الاجتماعية. ولابد من الأخلاق لصالح المجتمع وبدونها لا تستقيم حياته. فهي التي تحدد نوع العمل الذي يجب أن نعمله وبفضلها نستطيع أن نتبين نوع العمل الذي يجب أن لا نعمله، لا لأننا لا نرضاه فقد يكون من أحب الأعمال إلى نفوسنا، ولكن لأنه يتعارض ومصلحة المجتمع الذي نعيش فيه. الأخلاق هي الرقيب على تصرفات المجتمع وأفراده، وهي البوليس الذي يحمي المجتمع، ورجل المرور الذي يصرف حركاته. وإذا عاش المجتمع بدون أخلاق أصبح كالمدينة بدون البوليس، والشوارع بدون رجل المرور، أصبح حافلاً بالاضطراب والفوضى.
لذلك يجب أن تحتل الأخلاق مكانها اللائق في التربية. فبدون الأخلاق ينهار ما بين أفراد المجتمع من توافق اجتماعي فينهار المجتمع كله. ولهذا اهتمت الأمم الحية في جميع العصور بالأخلاق حتى أننا نجد الملحدين الذين لا يعترفون بالأديان يهتمون بالأخلاق وبالتمسك بأهدابها. ولقد قامت المذاهب الفلسفية وتعددت ولم نجد من بينها مذهباً واحداً استطاع إغفال ما للأخلاق من أهمية. بل لقد ذهبت بعض المجتمعات إلى حد تقديسها وجعلها هدف التربية الأسمى. ونحن بطبيعة الحال لا ننظر إلى التربية الخلقية إلا من حيث وضعها الطبيعي أي كوسيلة من الوسائل التي تساعد على إيجاد التوافق الاجتماعي اللازم للإنسان حتى يستطيع مواصلة نموه والسير في ركب الحياة دائماً أبداً إلى الأمام.
ولا يستطيع المؤرخ إغفال تلك الحقيقة التي يجدها ماثلة أمام عينيه باستمرار، والتي تدل على أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه الأخلاق في المجتمع. ذلك أن عصور التدهور والانحلال في الأمم ما هي إلا نتيجة الانحلال الخلقي الذي يكون قد أصاب الأمة قبل ذلك وأخذ ينخر في عظامها حتى تقع في النهاية فريسة سهلة للانقسام الداخلي أو العدو الخارجي. وأن الفرد العادي منا ليلمس نتائج الأخلاق في حياته. إن الرجل الذي يتمسك بالأخلاق غير ذلك الذي انحلت أخلاقه فهوى إلى الحضيض. وأسرة ذات أخلاق غير أسرة لا أخلاق لها. وقد لمس الأدباء والشعراء بإحساسهم المرهف ما للأخلاق من قيمة فمجدوها ورفعوا من شأنها. فهي سر بناء الأمم:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وهي مرجع صلاح أمر الإنسان:(954/29)
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ... فقوم النفس بالأخلاق تستقم
ولكن ما هي الأخلاق؟ إنها شيء أساسي وضروري لإيجاد التوافق الاجتماعي، وهذا هو الذي يحدد معناها. وبمقدار صلاحية الأخلاق في إيجاد هذا التوافق يكون مقدار ما يجب على الناس أن يتمسكوا به. إن تطور المجتمع يؤدي إلى تغير المستويات الخليقة وتطورها، ذلك أنها بمضي الزمن تصبح غير صالحة للغرض الذي وجدت من أجله أي غير صالحة لإيجاد التوافق الاجتماعي، ولذلك يجب أن لا يتمسك الناس بها وبهذه النظرة إلى الأخلاق نستطيع التخلص من إطارها الحديدي وسلطانها الديكتاتوري.
ومعنى ذلك أننا لا نهتم بالأخلاق في حد ذاتها بقدر ما نهتم بالروح الأخلاقية نفسها. يجب أن يهتم رجال التربية بإيجاد تلك الروح الأخلاقية حتى تصبح أساساً يحدد الإنسان بواسطة الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها ليكون عضواً عاملاً ناجحاً في الحياة. ولكن معنى ذلك أن الأخلاق ليست ذات قيم ثابتة في الحياة لأننا لا ننادي بتطور معناها وتغيره، وإنما بتطور طريقة تناولها والفهم لها والعمل بها.
وما دمنا قد أبرزنا أهمية تنمية الروح الأخلاقية فلابد من الكلام عن أهمية الدين. ذلك أن الأديان السماوية هي التي تحض على الأخلاق القويمة فضلاً عن أن الإنسان متدين بطبيعته فهو مضطر إلى التفكير في الصلة التي تربطه بالكون، ولذلك يجب أن تحتل التربية الدينية مكانها اللائق باعتبارها أساساً تنهض عليه الأخلاق القويمة التي لا تتم بدونها التربية الاجتماعية التي تساعد على نجاح عملية التربية.
وتنظر رسالة المربي إلى التربية الدينية نظرتها إلى التربية الخلقية. وبهذه النظرة يمكن التحرر من ديكتاتورية التربية الدينية التي قيدت حرية التفكير الإنساني بسلاسل من حديد كما حدث في المجتمع الصليبي خلال العصور الوسطى.
وكما تقودنا التربية الاجتماعية إلى الاهتمام بالتربية الخلقية والتربية الدينية فهي كذلك تقودنا أيضاً إلى الاهتمام بالتربية البدنية. ذلك أن العلاقة بين الجسم والعقل وتأثير كل منهما في الآخر من القوة بحيث يؤدي إهمال أحدهما إلى أضعاف الآخر. ولما كان غرضنا من الاهتمام بالتربية الاجتماعية إيجاد التوافق بين أفراد المجتمع حتى يسير وينمو، لذلك يجب أن نعتني بأفراد ذلك المجتمع لا من الناحية العلمية أو الخلقية أو الدينية فحسب، بل(954/30)
وكذلك من الناحية الصحية حتى تكون سلامة الأبدان مدعاة إلى حفظ العقول والتمسك بالأخلاق، وحتى يتم التوافق والانسجام بين قوى الفرد ونوازعه المختلفة فيؤدي ذلك إلى توافق أفراد المجتمع وانسجامهم. وهكذا نجد للتربية البدنية أهميتها التي لا تقل عن التربية العقلية والخلقية والدينية فكلها تشترك في نمو الإنسان وتقدمه.
وما دمنا نريد ترقية المجتمع ونموه فيجب تربية جميع أفراده بلا استثناء أي إلى إقرار مبدأ تكافؤ الفرص وتوطيد العدل الاجتماعي، وسيؤدي ذلك إلى أن تصبح المواهب والميول الطبيعية هي الأساس الذي يحدد مستقبل الأفراد.
بمراعاة ذلك كله يتم التوافق الاجتماعي بين الأفراد، وتزول من المجتمع مظاهر التعارض والشذوذ، ويحل الانسجام والوئام، محل التنافر والخصام، ويسير المجتمع في رقيه وتقدمه إلى الأمام.
كمال السيد درويش
ليسانس الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي
مدرس بالرمل الثانوية(954/31)
4 - أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
ويكاد أحمد بن منير الطرابلسي يكون الطغرائي الثاني في مطالع معانيه:
وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ... في منزل فالحزم أن يترحلا
كالبدر لما أن تضاءل جد في ... طلب الكمال فحازه متنقلا
سفهاً لحلمك إن رضيت بمشرب ... رتق ورزق الله قد ملأ الملا
فارق ترق كالسيف سل فبان في ... متنيه ما أخفى القراب وأخملا
لا تحسبن ذهاب نفسك موتة ... ما الموت إلا أن تعيش مذللا
للقفر لا للفقر هبها إنما ... مغناك ما أغناك أن تتوسلا
لا ترض من دنياك ما أدناك من ... دنس وكن طيفاً جلا ثم انجلى
أنا من إذا ما الدهر هم بخفضه ... سامته همته السماك الأعزلا
ولأبي العتاهية مثيل في التذرع بالزهد والتقوى التي هي أوضح السبل إلى جانب الحزم والجد والثبات والحركة، ذلك هو الصفدي القائل:
الجد في الجد والحرمان في الكسل ... فانصب تصب عن قريب غاية الأمل
إن الفتى من بماضي الحزم متصف ... وما تعود نقض القول والعمل
ولا يقيم بأرض طاب مسكنها ... حتى يقد أديم السهل والجبل
ومنها:
ولا يصد عن التقوى بصيرته ... لأنها للمعالي أوضح السبل
والبيان في نظر سهل بن هارون هو سبيل المعالي التي يفصح عنها اللسان يقول: (إن الله رفع درجة اللسان فوق جوارح الجسد. . . فهو أداة يظهر بها البيان. . . ومفصاح بمعالي الأمور، ودليل على ما بطن في القلوب.،)
وفي هذا يقول الشاعر:(954/32)
رأيت العز في أدب وعقل ... وفي الجهل المذلة والهوان
وما حسن الرجال لهم بحسن ... إذا لم يسعد الحسن البيان
كفى بالمرء عيباً أن تراه ... له وجه وليس له لسان
ونفطويه يجمع بين لسان العرب ودين الإسلام:
سبيلي لسان كان يعرب لفظه ... فيا ليته في موقف العرض يسلم
وما ينفع الأعراب إن لم يكن تقي ... وما ضر ذا التقوى لسان معجم
وسلم الناس إلى المجد في العصر الحديث هو العلم كما يقول شوقي:
كل يوم آية دلت على ... أن للعلم القوى والغلبا
لو بنوا فوق السها مملكة ... لوجدت العلم فيها الطنبا
سلم الناس إلى المجد إذا ... طلبوا سلمه والسببا
أما أبو تمام فيرى أن المعالي من غير شعر كالأرض لا معالم فيها:
وإن العلا ما لم ير الشعر بيتها ... كالأرض غفلاً ليس فيها معالم
وما هو إلا القول يسري فيغتدي ... له غرر في أوجه ومواسم
ويرتفع المتنبي بالشعر فوق الجبال، ويطير به عبر البحار إذ يقول:
قواف إذا سرن عن مقولي ... وثبن الجبال، وخضن البحارا
ويقول عن شعره أيضاً:
إن هذا الشعر في الشعر ملك ... سار، فهو الشمس والدنيا فلك
ومن طلب المعالي فليشمر لها وليسهر الليالي، هكذا يرى عبد الله فكري:
إذا نام غر في دجى الليل فاسهر ... وقم للمعالي والعوالي وشمر
وخل أحاديث الأماني فإنها ... علالة نفس العاجز المتحير
ولن تحط الأحداث من قدر رجل عالي الهمة كمحمود صفوت الساعاتي إذ يقول:
ماذا تريد الحادثات من امرئ ... من جنده الشعراء والأمراء
دعها تمد كما تريد شباكها ... فلربما علقت بها العنقاء
ومنها:
أتحط قدري الحادثات وهمتي ... من دونها المريخ والجوزاء(954/33)
ومنها:
أنا والمعالي عاشقان وطالما ... وعد الحبيب فعاقه الرقباء
ويلتقي الشيخ طنطاوي جوهري مع الساعاتي في أن الأول عاشق المعالي والآخر محب المعالي. وكذلك يلتقي مع عبد الله فكري في التوسل إلى المعالي بسهر الليالي، وإن كان يربي عليهما بالتحليق إلى آفاق أسمى وأرجاء أرحب، يقول:
محب المعالي في معاليه يسهر ... وذو الشوق في العلياء يصبو ويصبر
ألا إنما المجد المؤثل والمنى ... بأن تشرئبوا للعلا وتشمروا
ولا تقتصر إن رمت عزاً ورفعة ... على الرتب الدنيا فنفسك أكبر
فسافر لنيل المجد في كل فدفد ... ولو كانت الأسفار بالحتف تسفر
هي النفس فلتصرف عنان جوادها ... إلى قمة الأفلاك إذ هي أجدر
وخاطر ببذل الروح في كل صولة ... فنقد المنايا في المنى ليس يكبر
ولم ينل العلياء من خار عزمه ... إذا نابه أمر يذل ويضجر
وهو القائل:
أف لمن نام والعلياء ترمقه ... كم حسرة تعتريه حين يختطف
وقال كعب بن سعد الغنوي لابنه:
أعمد لما تعلو فما لك بالذي ... لا تستطيع من الأمور يدان
نرى من هذا كيف أن معالي الأمور شغلت الشعراء قديماً وحديثاً، ولئن اختلفوا وأنفقوا على وسيلة إدراكها، فما ذلك إلا دليل كبير على الحيوية الإنسانية في الشعر العربي، والارتفاع بالنفس الخبيرة المجربة عن التقليد، فإذا كل واحد يختط سبيله إلى العلا حراً من كل قيد، مما يجعل للشخصية العربية الشاعرة أصالة وثقافة ممتازتين.
وليس أدل على هذا من عرض مواطن القوة عند شاعرين بينهما من الزمن ما يكاد يقارب الألف من السنين. وهما المتنبي والبارودي:
أما المتنبي فقد تشربت نفسه المعالي في كل أمر حتى لا يطالعنا من شعره بيت إلا بالمعاني الخالدة من مغامرة وسماحة وعلو همة وكبح جماح. يقول:
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم(954/34)
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
والله إني لأخو همة ... تسمو إلى المجد ولا تفتر
لا تنكري عطل الكريم من الغني ... فالسيل حرب للمكان العالي
ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهمو بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
أي محل أرتقي ... أي عظيم أتقي
وكل ما قد خلق الله ... وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي
لا أشرأب إلى ما لم يفت طمعاً ... ولا أبيت على ما فات حسرانا
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
وترى الفتوة والمروءة والأبوة ... في كل مليحة ضراتها
هن الثلاث المانعاتي لذتي ... في خلوتي، لا الخوف من تبعاتها
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
ولا شك أن هذه الأبيات المختلفة وزناً وقافية وقصيداً إنما تنتظم كلها في عقد فريد للمتنبي، لا بأس من أن نطلق عليه (عقد المعالي)، لأن عمدة الشعراء بتجاربه في الحياة وتأملاته في المعالي إنما يشغل سمع الزمن، مهما تغيرت النظرات، كما أنه شاعر إنساني درج عالياً في سلم النشوء والارتقاء إلى أعلى القمم.
وهل من المعقول أن نجد تناقضاً بين نفسية البارودي وحياته، حين نقارن بين البواعث والآثار. وهو الشاعر الفارس الوزير، ورئيس الوزراء، بل وهو الذي نفى بسبب الثورة العرابية التي اتقدت نيرانها من مشاعل الوطنية مما يفخر به شعب أبي مترفع كالشعب المصري الذي أطلع أمثال البارودي رب السيف والقلم. قال:
ولي شيمة تأبى الدنايا وعزمة ... ترد لهام الجيش وهو يمور
إذا سرت فالأرض التي نحن فوقها ... مراد لمهري والمعاقل دور(954/35)
فلا عجب إن لم يصرني منزل ... فليس لعقبان الهواء وكور
همامة نفس ليس ينفي ركابها ... رواح على طول المدى وبكور
معودة ألا تكف عنانها ... عن المجد إلا أن تتم أمور
لها من وراء الغيب أذن سميعة ... وعين ترى ما لا يراه بصير
وأصبحت محسود الجلال كأنني ... على كل نفس في الزمان أمير
إذا صلت كف الدهر من غلوائه ... وإن قلت غصت بالقلوب صدور
ملكت مقاليد الكلام وحكمة ... لها كوكب فخم الضياء منير
وقال:
وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت ... لسلطانه البدو المغيرة والحضر
من النفر الغر الذين سيوفهم ... لها في حواشي كل داجية فجر
إذا استل منهم سيد غرب سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر
لهم عمد مرفوعة ومعاقل ... وألوية حمر وأفنية خضر
ونار لها في كل شرق ومغرب ... لمدرع الظلماء ألسنة حمر
تمد يداً نحو السماء خضيبة ... تصافحها الشعري ويلثمها الغفر
ويقول:
وما بي من فقر لدنيا وإنما ... طلاب العلا مجد وإن كان لي مجد
ومن كان ذا نفس كنفسي تصدعت ... لعزته الدنيا وذلت له الأسد
ويقول:
وما أنا ممن تأسر الخمر لبه ... ويملك سمعيه اليراع المثقب
ولكن أخوهم إذا ما ترجحت ... به سورة نحو العلا راح يدأب
نفى النوم عن عينيه نفس أبية ... لها بين أطراف الأسنة مطلب
لها غدوات يتبع لوحش ظلها ... وتغدو على آثارها الطير تنعب
همامة نفس أصغرت كل مأرب ... فكلفت الأيام ما ليس يوهب
ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب
خلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة ... لدي يداً أغضي لها حين يغضب(954/36)
أسير على نهج يرى الناس غيره ... لكل امرئ فيما يحاول مذهب
للكلام صلة
محمد محمود زيتون(954/37)
رسالة الشعر
انتظار
للأستاذ محيي الدين فارس
عد يا حبيبي إنني في انتظارك. . في الخميله
أرعى خيالك عابراً في الوهم. . في الذكر الجميلة
أرنو إلى الأفق البعيد. . إلى مغانيك الظليله!
كالناسك اللهفان يخشع في محاريب الفضيله
طال انتظاري ههنا والليل قد أرخى سدوله
عد يا حبيبي إنني أنا ههنا منذ الصباح
أغدو على شوك الرؤى وأروح مهتاج الجناح
قلبي! فراشتك التي لعبت بها أيدي الرياح
شفق الغروب جوانحي أواه. .! دامية الجراح
أرعى نجوم الليل يا حسناء بالجفن القريح
ولعاطر الأنسام كم أستاف؟ علك أن تفوحي!
يا زهرة في جنة الأحلام. . يا محراب روحي
وأنت على شفتي أطياف من الأمل الجريح
والبدر رقرق ضوءه حولي. . يسائل من أنا؟
متلهف النجوى، رقيق الخطو، حيران السنا
فكأنه روح الحنان على جراحي هيمنا. .
وأنا هنا طيف الشتاء حرمته خمر المنى
سحرتك موسيقى الحياة. . هناك. في الروض النضير
غاستور في ظل الهناءة، والرغادة، والحبور
فأنا هنا في مجهل النسيان، في الليل الضرير
ظمآن! والنبع الرغيب بثغرك الحار الصغير
وإذا النسائم أرقصت قلب الخمائل والزهور(954/38)
وتعانقت خضر الغصون تذيع مكنون العطور
وتواثبت فوق المروج، وفي السموات الطيور
أومضت في قلبي - مجنحة الشذى. طفلاً غرير!
لا تسأليني إذ تلوح على أشباح المنون
أنت التي أضرمت نار الحب في قلبي الطعين
وأثرت شجو الليل في دنياي. . والسر الدفين!
وتركتني نهب العواصف في متاهات السنين
أترعت كأسي في صحاري العمر من خمر العذاب
وجعلت زادي من لظى الحرمان. . من دمع الشباب
وصنعت لي قيداً من الشوق العنيف من الضباب
فبكيت في حان الظلام كأنني شكوى التراب!
ولى الصباح. . وهاهو الليل الكئيب على البطاح
وأنا هنا. . في هوله الجبار حيران الجراح. .
حتام أحرق مهجتي بالشوق يا ألق الصباح
هذا سراج العمر سوف تغوله هوج الرياح!
عد يا حبيبي إنني أنا في انتظارك. . في الخميله
أرعى خيالك عابراً في الوهم. . في الذكر الجميله
أرنو إلى الأفق البعيد. . إلى مغانيك الظليله!
كالناسك اللهفان يخشع في محاريب الفضيله
طال انتظاري ههنا والليل قد أرخى سدوله
محيي الدين فارس(954/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الفن للفن
تلقيت من صديقي الشاعر العراقي الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري، رسالة من رسائله التي يتفضل بكتابتها إلي يناقشني ويحدثني بها عن شؤون أدبية، يجر فيها الحديث إلى الحديث، ويقدح الفكر زناد الفكر. والرسالة الأخيرة فيما يلي، بعد حذف التحيات المشكورات:
(كنت في انتظار رأيك في قصيدتي: (أبن حمد يس الصقلي) و (قبرة شيلي) تلك التي أشرت إليها في أعداد الرسالة الماضية، أقول كنت في انتظار ما ذكرت عندما طلعت علينا الرسالة الحبيبة تحمل مقالك (الأدب والفن في أسبوع) وبه كلمتك عن (الريفيرا المصرية) وفيه تترك وصف شروق الشمس وغروبها والبحر والرمل للشعراء. وكنت في الصيف الماضي قد زرت الإسكندرية وقضيت وقتاً طيباً على البحر وشاهدت مفاتن الرمل والسابحات إبان عودتي من باريس في الطريق إلى بغداد، وبقيت تلك الذكريات أو تلك المناظر مخزونة في فكري، وكانت تراودني من حين لآخر كما تراود الأطياف مخيلة النائم، وكنت أود أن أرسم تلك الألواح على صفحة الشعر، ولكن مشاغل الحياة ألهتني، إلى أن قرأت دعوتك وأنا في انتظار رأيك فيها، وثق بأنني واسع الصدر لكل ما تبديه من آراء. هذا وأريد أن أقول إن المصايف المصرية تنقصها الدعاية، لتقصير الجهات المسئولة، ولعل هذه الجهات تنشط لتلك الدعاية بوساطة الصحف والإذاعة، ثم ما يضرها لو وضعت عدة جوائز للشعراء الذين يصفون تلك الأماكن. . أنا أقترح ذلك ولست أدري أتستجيب الدولة لهذه الفكرة أم لا.
أخي، قبل أن ألقي القلم أهمس في أذنك. . إن بعض المتخلفين عن الركب الذين يسؤوهم أن أنال المجد والشهرة في هذه السن، يقولون إن الناصري ليس بشعبي، لأنه يعبر عن عواطفه، وهو يعيش في برج عاجي، لأن شعره كله غزل وغناء، فهل يضرني هذا القول يا كاتب (الأدب والفن في أسبوع)؟ إنني أريد أن أتفرغ لهذا اللون من الشعر.
إن الشعر العربي لم يجد شاعراً غنائياً بعد امرئ القيس حتى الآن غير المرحوم علي(954/40)
محمود طه، وقد مات شاعر الجندول فلم لا أكون أنا في مكانه؟! ثم ماذا يريد مني أولئك الذين ينعتونني بعدم الشعبية؟ وهل من الضروري أن ينزل الشاعر إلى مستوى العامة وكلهم أميون؟ إن على الشعب أن يثقف نفسه ليفهم الشاعر، إن اللغة التي أنظم بها لغة القرآن ولغة العرب، وأنا على هذا الأساس لا أحسن اللغة العامية لأنظم بها حتى يفهم الرعاع. . أما الشعر السياسي، فأنا لا أحسنه أيضاً لأنه شعر الأقذار والدس والنفاق، ولا أريد أن أنحط إلى مستواه، ثم إنني أعتز بنظرية الفن للفن. هذا هو رأيي، فهل توافقني يا أخي الحبيب؟)
لم تأت الفرصة بعد للنظر في قصيدتي شبلي وابن حمد يس وأرجو أن يكون ذلك قريباً. لن تستجيب الدولة إلى اقتراحك يا أخي، فدون ذلك كثير مما لا تهتم به. . أما قصيدتك فقد دفعت بها إلى أستاذنا لزيات بك، ولعلها الآن قد أخذت طريقها إلى مطبعة الرسالة، وهي قصيدة جيدة في بابها (العاجي) وإني أعتمد على الله وعلى سعة صدرك التي أحمدها لك، فأصارحك بأنني أصبحت لا أميل إلى هذا اللون من الشعر إلا إذا ارتفع إلى قمة الخواطر الإنسانية الرفيعة، فأنا أرى أن أكثر ما يقال من الشعر في التعبير عن العواطف الفردية لا يهم إلا صاحبه. .
إنك يا أخي (غير شعبي) لأنك شاعر غنائي، عاجي باعترافك فلماذا تتهم من يصفك بصفاتك. .؟ وما دمت تحس بدافعك إلى هذا الاتجاه فمن العبث أن يلويك عنه أحد. . وما دمت لا تريد أن تشارك الجماعة مشاعرها فأنت وما تريد. غير أنه لا ينبغي لك أن تلوم الشعب على أن لا صدى لشعرك فيه، أنت تعرض عنه وهو يعرض عنك، وليست المسألة مسألة ثقافة وتعليم وإنما هو اتجاه يوافق أو لا يوافق، وليست المسألة أيضاً مسألة لغة عربية أو عامية، فمن الواضح أن الدعوة إلى اتصال الأدب بالحياة وعنايته بإحساس الجماعة ومسائلها، ليس معناها القول بالعامية. وما يضر الشعر إذا عالج التوجيه السياسي فحارب ما في السياسة من الأقذار والدس والنفاق؟
ولست أريد أن أسترسل قبل أن أبدي العجب من قولك إن الشعر العربي لم يجد شاعراً غنائياً بعد امرئ القيس إلا علي محمود طه!
ماذا أبقيت إذن للشعر العربي؟ هل أنا في حاجة إلى أن أقول لك إن الشعر العربي في(954/41)
مجموعه غنائي من امرئ القيس إلى الناصري. .؟
وكن يا أخي مكان علي طه. . ولكن يجب أن تعلم أن علي طه نزل إلى الشعب وتغنى بإحساسه في أروع قصائده كالقصيدة التي خلد بها أبطال الفلوجة وقصيدة (أخي أيها العربي) التي غناها عبد الوهاب.
وكيف تسألني الموافقة على رأيك ذاك وكتابتي - إن كانت تنال شرف تتبعك لها - تدل على أنني من أنصار الدعوة إلى اتصال الأدب بالحياة الواقعية الجارية؟ وبعض الناس يسئ فهم هذه الدعوة، فيظن غايتها الكتابة العلمية أو الصحفية المجردة من الجمال الفني. كلا، إننا نبغي أن يتناول الأديب صورة الحياة الشعبية ويعنى بإنسانها وصوالحه، بعد أن يخلطها بنفسه ويمزجها بشعوره، ويمسها بعصا فنه السحرية، فيخرجها أدباً حياً جميلاً، ينفع ويمتع. كل ذلك ولا يخرج الإنتاج عن أن يكون فناً، ولم نجعل الفن جمالاً فارغاً؟ أليس الأحسن أن يخرج جماله بالتوجيه والتسديد؟ ثم ما هو معنى (الفن للفن) هل هو أن تكون غاية الإنتاج الفني الجمال الذي لا شيء وراءه؟ إذا كان كذلك فإننا ندع أصحابه وشأنهم، يقولون ما يريدون ويقرأ لهم من يحب قراءتهم، كما ندع (هواة طوابع البريد) مثلاً. لكل امرئ شأن يغنيه. ولا أحب أن نذهب في ذلك مذهب السوفيتيين من حيث فرض الاتجاه، كما عرض لنا ذلك الأستاذ عمر حليق في مقاله القيم (الدولة والأدب في الاتحاد السوفيتي) فليكن عندنا ذلك اللون العاجي ما دام فينا من يريده من المنتجين والمستهلكين.
وإذا اعتبرنا الأدب المتصل بالحياة الواقعية فناً، وهو كذلك، فإن الكلمة الذائعة (الفن للفن) تنطبق عليه أيضاً، فهو فن ينشأ لأنه فن. . ولم تخرجه موضوعيته الحيوية عن فنيته. وعلى هذا التفسير يمكن أن تقبل هذه القضية، وليكن الفن للفن.
ولم يعجبني منك يا أخي أن تزدري الشعب، إن الناس في طريق التعلم ولابد أن يدنو الأدب منهم ليدنو منه، فليلتقوا به في منتصف الطريق، يرون به صورهم ويلمسون فيه اهتمامه بهم ونحن من صميم هذا الشعب، ولا ينبغي أن يبعدنا عنه ما أصبنا من أدب وعلم وثقافة، وقد قام فعلاً أدباء من صميم الشعب وضاقوا بجهالته وأعرضوا عنه، ولكننا الآن في طريق جديد، هو الاهتمام بهذا الشعب والأخذ بيده في مختلف نواحي الحياة، فلم لا يكون الأدب كذلك من وسائل ترقيته، بل لم لا يكون هو اللسان المعبر عن النهضة الشعبية(954/42)
في جميع نواحيها؟
ذلك يا صديقي الكريم ولك الشكر على رحابة صدرك السالفة والمتوقعة، ولك أيضاً خالص المودة وعاطر التحية. .
الواقعية والتاريخ:
ومن اتصال الأدب بالحياة الواقعة التصوير الفني للتاريخ مرتبطاً بالواقع، ومن أمثلة ذلك في الشعر قصيدة للأستاذ محمود حسن إسماعيل قالها بمناسبة العام الهجري الجديد، وقد نشرت (الأهرام) جزءاً منها، قرأته فأعجبت باتجاهه الواقعي في تصوير حالنا وموقفنا من الغاصبين، ويعجبني أيضاً من محمود إسماعيل ما أخذ به أخيراً من الوضوح واستعمال التعبير الناصع، ومن قصيدته تلك قوله:
جئناك تحمل حيرة الظلماء ... فاسكب لنا قبساً من الأضواء
وارحم ضلال التائهين بأرضهم ... فهمو أحق برحمة الغرباء
أوطانهم! لكنهم في ظلها ... ضاعوا، بلا ثمر ولا أفياء
متكابرين على جراح بلادهم ... متدابرين لسطوة الدخلاء
متناهشين على تمزق حالهم ... وهوائه في ألسن الأعداء
يتراشقون، وقيدهم متربص ... تقتات قبضته من الشحناء
نفث الدخيل بهم سموم سياسة ... يدري الدهاة سطورها في الماء
توبيخ ابن الرومي في الإذاعة:
سمعت يوم الأربعاء الماضي (برنامجاً خاصاً عن ابن الرومي) من محطة الإذاعة المصرية ضمن البرنامج المدرسي الصباحي، وابتدأ البرنامج بحوار بين ابن الرومي وبين التاريخ يمثل كلاً منهما رجل ممن يمثلون في الإذاعة.
وقد كنت أتوقع - بحسن ظني - أن يعرض هذا البرنامج المدرسي طائفة جديدة سهلة من شعر ابن الرومي، ويبين دقائقها ورقائقها، ويدنيها من إفهام المستمعين وخاصة الطلبة، ولكن سرعان ما تبين لي خطأ حسن الظن بما تذيعه محطتنا ولا سيما في الأدب، على قلته في برامجها. .(954/43)
شغل أكثر الوقت في برنامج ابن الرومي بذلك الحوار بين الشاعر الذي لم ينل حقه من التقدير في زمنه، وبين التاريخ الذي لم يكد يحفل به، ولم يكف التاريخ أن استهان بابن الرومي أو لم يكف الإذاعة المصرية ذلك، فألبت عليه التاريخ ممثلاً فيها فجعل يلقي على الشاعر درساً طويلاً ملأه بالتقريع والتوبيخ. . لماذا؟ لأنه لم يكن دساساً وكاذباً ومنافقاً على شاكلة أهل عصره الذين تقدمت بهم هذه الصفات واهتم بهم التاريخ الجبار. . فكلما تذرع الشاعر المسكين بفنه ووجدانه سخر به التاريخ. .
وإني أسأل: ما هدف ذلك؟ أهو درس للنشء في الأخلاق والصفات التي تؤدي إلى النجاح في الحياة. . أم هو درس في الأدب وقد خلا من الأدب؟!
عباس خضر(954/44)
الكتب
الشيوعية على حقيقتها
تأليف عمر بك الإسكندري
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
مؤلف هذا الكتاب أستاذ قديم، غني عن التعريف به، هو الأستاذ عمر بك الإسكندري، شقيق المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري، فقيد العالم العربي والإسلامي على السواء. .
وعمر بك رجل لم يعرف في حياته غير الجد والعمل، والإخلاص والسعي، فأمكنه أن يستفيد من كل لحظة من لحظات حياته، وشغله العلم وجلاله، عن السياسة وسلطانها الغالب، وزخرفها الكاذب.
زاول التدريس شاباً في معاهده الثانوية والعالية، فأقبل على العلم يستزيد منه، وينهل من مناهله، ويغترف من بحاره ما وسعه الاغتراف، فألف التاريخ كتابيه تاريخ مصر إلى الفتح العثماني، وتاريخ مصر من الفتح العثماني إلى العصر الحديث - في وقت لم يكن من السهل التأليف في التاريخ. ثم ارتقى في مناصب التعليم الإدارية، حتى آثر الراحة والهدوء، فطلب إحالته إلى المعاش قبل السن القانونية، فأجيب إلى طلبه. . ولكن المرحوم النقراشي باشا لم يعفه من العمل والجد، فأسند إليه ترجمة كل ما تصل إليه وزارة الداخلية من نشرات خاصة عن الشيوعية - لما يعهده فيه من اقتدار على الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى العربية، وبصيرة بدقائق هاتين اللغتين، فقام بما عهد إليه خير قيام، وكان من نتيجة ذلك هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم إلى القراء. .
ولقد ضل كثير من الناس، وبخاصة في مصر - في فهم حقيقة الشيوعية ومبادئها وأغراضها وأهدافها القومية والبعيدة، وطرائق الحكم والمعيشة في البلاد الواقعة تحت سلطانها، واتجاهات أبنائها الفكرية والدينية، والخلقية والاجتماعية، واعتقدوا أنها السبيل إلى الحياة الرخية والمعيشة الراضية السعيدة، التي تصل بالبشرية إلى الغاية المنشودة، والأمل المرجو. . ذلك أن كل ما يعرفه هؤلاء عن الشيوعية أنها تسوى بين الناس جميعاً على اختلاف طبقاتهم في مستوى المعيشة، وانتزاع ثروات الأغنياء، وتوزيعها على(954/45)
الفقراء من أفراد الشعب، بحيث لا يكون هناك غني ولا فقير، ولهذا فكل من أعتقد هذا يمني نفسه بذلك اليوم الذي تبسط فيه الشيوعية رواقها على بلاده، ليصبح سعيداً منعماً، بعد طول الكد والكفاح، والشقوة والنضال.!
ويسود هذا الرأي بين طبقات العمال بخاصة، أما أهل الريف فأكثرهم بمنجاة منه ولله الحمد، فلا يزال فيهم بقية من دين وإيمان، وصلاح وتقوى، يعصمهم كل أولئك من هذه العقائد، أو بمعنى أدق من هذه الأخطار، ولعل السبب في ذلك أنهم لم تتح لهم الفرص لاجتلاء غوامض هذه الموضوعات، ولا مبهمات مسائلها وأهدافها. .
وقد أتيحت الفرصة للمؤلف الكبير أن يطلع على الآراء والمذاهب الشيوعية في أمهات كتب الشيوعيين وغيرهم من مؤلفات الأجانب، كما اطلع على آراء فيلسوف الشرق، السيد جمال الدين الأفغاني عن الشيوعية في رسالته الخالدة (الرد على الدهريين) التي ترجمها من الفارسية إلى العربية الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
والكتاب مكون من مقدمة في خطر الأوهام الشيوعية، وأن الدسائس والأقاويل وما ينبغي عليها من وعود، هي التي مهدت لقادة الحركة الشيوعية الأولى في روسيا السبيل للاستيلاء على عقول الملايين من العمال والفلاحين، فانقادوا لهم، وانساقوا وراءهم، واستماتوا في الكفاح معهم لنيل ما قالوا أنه مرتع الحرية ومنبت النعيم، حتى تم لهم ما أرادوه في قرارة نفوسهم من قلب نظام الحكم في بلادهم والاستئثار بالسلطة فيها - وستة فصول: يتناول الفصل الأول منها نشأة الشيوعية الحديثة وظروف انتشارها في روسيا دون غيرها، وقد ساعد على رواج هذه المبادئ في روسيا تفشي الجهل وقتئذ بين الملايين من أهلها. واشتداد تذمرهم من الحكم القيصري الذي لم يكد التاريخ يرى أشد منه ظلماً وقسوة أو كبتا للحرية. . يتجلى ذلك في الحادثة المشهورة التي سبقت الثورة الروسية الأولى سنة 1905 كما ذكرها تاريخ الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي (البلشفيك) حينما أضرب العمال يوم 3 يناير سنة 1905 في مدينة بطرسبورج، فقررت الحكومة القضاء على الحركة بالقوة، ودست على الثوار قساً يدعى (جابون) فأفهمهم أن خير وسيلة لنيل مطالبهم أن يجتمعوا يوم 9 يناير ويسيروا في موكب هادئ حاملين أعلام الكنيسة وصور القيصر إلى قصر الشتاء حيث يقدمون للقيصر عريضة بمطالبهم، وسار موكبهم صبيحة ذلك اليوم كما أراد(954/46)
القس ومعهم نساؤهم وأطفالهم حتى بلغ عدد الجميع مائة وأربعين ألف نفس، فما كان من القيصر (نيقولا الثاني) إلا أن أصدر أمره بإطلاق النار على هذا الحشد الحاشد، والجمع الزاخر، فمات منهم ما يزيد على الألف، وجرح أكثر من ألفين، حتى جرت الدماء أنهاراً في شوارع بطرسبورج.
ومن هنا أستغل البلشفيك، وهم الأكثرية المتطرفة من الشيوعيين، هذه الحادثة حيث كانوا يسيرون في الموكب، وقتل بعضهم وقبض على البعض الآخر، فأفهموا فيما بعد العمال أنهم مخدوعون في القيصر ورجاله، وأن خلاصهم مما يعانون لا يكون إلا عن طريق القوة المسلحة. .!!
ويتناول الفصل الثاني من الكتاب عجالة في تاريخ نشأة الشيوعية في روسيا وتطورها إلى ابتداء الحكم الشيوعي. وكيف كان الشيوعيون الروس في أول أمرهم ينتمون إلى دوائر وهيئات (ماركسية) سرية صغيرة نبتت في البلاد تباعاً، وكانت أقدمها (هيئة تحرير العمال) التي تألفت عام 1883، ألفها (بليخانوف) أحد أعضاء الهيئات الثورية القديمة التي كانت تعمل في روسيا سراً قبل أن تعرف (الماركسية) وفي 1895 أسس (لينين) (عصبة سان بطرسبورج الكفاحية لتحرير طبقة العمال) ووحد فيها جميع دوائر العمال الماركسية بالمدينة، ويعتبر لينين أبو الشيوعية المتطرفة في روسيا، وأكبر حاقد على الحكومة القيصرية!!
وقد أغتنم البلشفيك فرصة الاستياء من القيصر لهزيمة الجيوش الروسية في الحرب العالمية الأولى، فأعلنوا ثورتهم يوم 26 فبراير سنة 1917 وظلوا في نشاطهم حتى تم لهم قلب الحكومة المؤقتة في يوم واحد، يوم 25 أكتوبر سنة 1917 وفي المساء عقد مؤتمر عام لمجالس السوفييت، فصار هذا منذ تلك اللحظة أساس نظام الحكم في روسيا، وألف المؤتمر أول حكومة اشتراكية سوفييتية في روسيا وجعل إدارتها في يد مجلس يسمى (مجلس مندوبي الشعب) وأسندت رياسته إلى (لينين).
وتحدث الأستاذ الكبير في الفصل الثالث عن سير الحكم الشيوعي في روسيا من الوجهة الاقتصادية، وموت (لينين) في هذه الأثناء، وترشيح (ستالين) لرياسة الحزب خلفاً منه، وفي الفصل الرابع عن الحالة السياسية والاجتماعية نقلاً عن كتاب الشيوعية في ميدان(954/47)
العمل، وهو مصور معتمد من مجلس نواب الولايات المتحدة كمستند رسمي من مستندات المجلس، وقد تم وضعه على أن يكون خالياً من التحيز، حاوياً للمحاسن والمساوئ معاً، ولا أدل على أنه قد حقق ذلك ما يحويه من آراء عن الدفاع الوطني، واعتراف بما يبذله الشيوعيون في سبيل نهضة التعليم من مجهودات تؤتى ثمارها حسب سياسة موضوعة، ثم كيف يستغلون أوقات الفراغ فيما ينفع ويفيد، باعتبار أن قضاء الفرد لأوقات فراغه على الوجه الصحيح من مستلزمات نمو ثقافته وتحسين حالته الصحية، وأن الواجب على كل مواطن أن يكون دائماً على استعداد لعمله وللدفاع الوطني، وهذا الاستعداد يكفله إلى حد كبير قضاء الجماعات لأوقات فرغ مجتمعين، وبالطريقة المثمرة التي تعد لهم بإشراف الحكومة والحزب الشيوعي. .!!
وتناول الفصل الخامس الشيوعية قديماً وحديثاً، والسادس السياسة السوفييتية الحاضرة، ومن هذا نرى قيمة هذه الموضوعات الهامة، وحاجة المجتمع إلى دراستها بإنعام نظر، وحسن تدبير، والوقوف على حقيقتها، وتبين أوجه الإنصاف فيها. .
وما أحوج المجتمع المصري بخاصة، والبلاد العربية بعامة، إلى هذا النوع من الدراسات، حتى يكونوا على بينة من أمرهم في كل ما يحيط بهم من أخطار وشرور، ويذيع فيهم من أفكار وآراء. .
عبد الحفيظ أبو السعود
المدرس بالمدارس الثانوية الأميرية(954/48)
البريد الأدبي
تحقيق نسبة أبيات - لفضل الشاعرة، لا لعلي بن الجهم:
ذكرت في كتابي (ملامح من المجتمع العربي) الذي صدر في سلسلة (اقرأ) الأبيات السينية التالية ونسبتها - معتمداً على أوثق المصادر وأصحها - إلى الشاعرة (فضل) المجودة للشعر في عصر المتوكل العباسي. والأبيات هي:
// لأكتمن الذي بالقلب من حرق ... حتى أموت ولم يعلم به الناس
ولا يقال شكا من كان يعشقه ... إن الشكاة لمن تهوى هي الياس
ولا أبوح بشيء كنت أكتمه=عند الجلوس إذا ما دارت الكاس
ولكن الأستاذ عبد العليم علي محمود استدرك في العدد 951 من (الرسالة) الغراء، ذاكراً أنه وجد الأبيات بعينها في كتاب (المنتخب) منسوبة للشاعر علي بن الجهم. ثم ذكر الأستاذ في خلال تحقيقه طبعة هذا الكتاب المدرسي بالمطبعة الأميرية، كما ذكر أسماء (العلماء طه باشا والسكندري رحمه الله وأحمد بك أمين وغيرهم).
وليس طبع هذا المنتخب المدرسي في المطبعة الأميرية، وإشراف هؤلاء العلماء الآجلة على جمعه وترتيبه بمانعنا من أن نقول إن نسبة هذه الأبيات لعلي بن الجهم من باب الوهم الذي يجب أن يصحح.
ولا نقول هذا القول من غير دليل. . ففي الجزء العاشر من الأغاني طبعة دار الكتب المصرية ص214 وفي أخبار علي أبن الجهم بالذات قصة الشاعرة (فضل) التي أمرتها الجارية (قبيحة) جارية الخليفة المتوكل أن تقول أبياتاً عنها في وصف حكاية حال لها مع المتوكل. فخرجت (فضل) الشاعرة إلى المتوكل بهذه الأبيات السينية التي قالتها، فقرأها المتوكل وقال لها: (أحسنت يا فضل!) وأمر لها ولابن الجهم بعشرين ألف درهم، لأن أبن الجهم كان قد صنع في المناسبة نفسها أبياتاً بائية أولها:
تنكر حال علتي الطبيب ... وقال أرى بجسمك ما يريب
ومن هنا جاء الوهم بأن الأبيات السينية هي لابن الجهم لاشتراك الشاعر والشاعرة في مناسبة واحدة، مع أن رواية كتاب (الأغاني) يفهم منها بدون جهد أن الأبيات للشاعرة (فضل) كما ذكرت ذلك في كتابي (ملامح من المجتمع العربي).(954/49)
على أن هناك دليلاً آخر، وهو أن ديوان (علي بن الجهم) هو بين أيدينا في طبعته الوحيدة المحققة التي أخرجها أخيراً الأستاذ الجليل مردم بك ونشرها المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1949 عن نسخة خطية وحيدة في العالم كله، محفوظة في (الإسكوريال) تحت رقم 369، ومنسوخة سنة 1002 هجرية بخط مغربي. فليس في هذا الديوان المطبوع حديثاً لابن الجهم أثر لهذه الأبيات السينية، على الرغم مما بذله العلامة مردم بك من جهد في إضافة أشياء من شعر أبن الجهم لم تكن في النسخة الخطية، ولكنه استخرجها من بطون كتب الأدب والتاريخ والتراجم مطبوعة ومخطوطة.
والعجيب أننا لا نجد في ديوان أبن الجهم وفي قافية السين إلا خمس مقطعات صغيرة، ليس منها من بحر (البسيط) إلا اثنتان لا تعتمدان على ألف التأسيس كما تعتمد التي للشاعرة (فضل) التي أوردتها في كتابي، والتي هي موضع هذا الرد.
وقد فطن المرحوم الأستاذ عبد الله بك عفيفي إلى الوهم في نسبة الأبيات إلى علي بن الجهم، فذكرها في الجزء الثالث من كتابه (المرأة العربية) صفحة 36 منسوبة إلى (فضل) الشاعرة. فأقر بذلك الأمر في نصابه، ووضع الأبيات موضعها الصحيح، بل أغلى من قيمة الشاعرة في أبياتها هذه فقال: وهل يحسن البحتري وأشباه البحتري أن يقولوا خيراً مما تقول فضل؟. وذكر الأبيات.
على أنه بعد هذه الأدلة المادية لا نرى وجهاً لأن تستكثر هذه الأبيات على الشاعرة (فضل) بعد ما قال عنها إبراهيم ابن المهدي: (كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطاً، وأفصحهم كلاماً، فقلت يوماً لسعيد بن حميد: أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتقيدها وتخرجها، فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك. فقال لي وهو يضحك: ما أخيب ظنك! ليتها تسلم مني لأخذ كلامها ورسائلها! والله يا أخي لو أخذ أفاضل الكتاب وأماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك).
وأشكر الأستاذ الفاضل عبد العليم علي محمود الذي أتاح لي أن أدافع عن مسألة كنت واثقاً منها وأنا أضعها في كتابي (ملامح من المجتمع العربي).
محمد عبد الغني حسن
دائرة المعارف الحديثة:(954/50)
الأستاذ أحمد عطية الله، مدير متحف التعليم، من الأساتذة المشهود لهم بوفرة الإنتاج وغزارة المادة، فله ما يقرب من خمسة وأربعين كتاباً (مطبوعاً) بين مؤلف ومترجم. .! ولكنه أحياناً لا يدقق في بعض ما يكتب وفي بعض ما يسرد من حقائق ووقائع. .!
فها هو ذا مثلاً بين يدي الجزء الثامن من دائرة المعارف الحديثة التي تتولى مكتبة الأنجلو المصرية نشرها له في أجزاء شهرية منذ ديسمبر سنة 1950. . فهو يقول تحت مادة (فاروق الأول) أنه (. . الابن الوحيد للملك أحمد فؤاد. .)، مع أنه من المعروف للعامة قبل الخاصة أنه كان لجلالة الملك فاروق أخ أكبر غير شقيق هو الأمير إسماعيل، من والده المرحوم الملك فؤاد وزوجه الأولى المرحومة الأميرة شويكار، وقد توفى منذ زمن بعيد، فكيف غابت هذه الحقيقة المعروفة عن الأستاذ عطية الله.
ثم هو يستطرد فيذكر في نهاية تلك الأحداث التي نمت في عهد الفاروق، فيذكر بعضها ويهمل البعض الآخر. .! فهو يهتم بتسجيل اجتماع جلالة الملك فاروق بالرئيس روزفلت - على تفاهته السياسية - عام 1945، إذا به يغفل مثلاً زواج جلالته الأول. .
وقد يخونه التعبير عما يريد أحياناً (فيقول مثلاً) في سياق تعداد تلك الأحداث ما نصه: (. . وجلاء القوات البريطانية عن القاهرة والمدن المصرية عام 1947. .)، وهو بالطبع لا يريد: (القاهرة والمدن المصرية) القطر المصري برمته.!
هذا، وما أردت بهذه الكلمة أن أقلل من قيمة هذه الدائرة الحديثة التي لا أشك أبداً في جزيل نفعها، ولكني أردت أن أضرب مثلاً فتناولت مادة من موادها العديدة وأشرت إلى ما أشرت إليه ليتداركه ويتدارك أمثاله الأستاذ المؤلف في الطبعات المقبلة إن شاء الله.
بور سعيد
محمد عثمان محمد
رد على نقد:
في البريد الأدبي العدد 949 يتساءل الأستاذ كيلاني حسن سند عن كلمة سوسان الواردة في قصيدة للفيتوري يقول:
(أما كلمة (سوسان) فلا أعرف إلا السوسن فقط فلعل القافية هي التي جاءت بهذه الألف. .(954/51)
ولعلها لغة فيها والشاعر هو الذي يستطيع أن يفيدنا ذلك. والقاموس لم يذكر سوى سوسن وسوسنة).
ونقول للأستاذ إن كلمة (سوسان) وردت في قصيدة أبي نواس التي يقول فيها:
صهباء تبني حباباً كلما مزجت ... كأنه لؤلؤ يتلوه عقيان
كانت على عهد نوح في سفينته ... من حر شحنتها والأرض طوفان
إلى أن يقول:
وما بها من هشيم العرب عجرفة ... ولا بها من غذاء العرب خطبان
لكن بها جلنار قد تفرعه ... آس وكلله ورد وسوسان
وللأستاذ تحياتي واحترامي
صالح بيلو(954/52)
القصص
ابتسامة صفراء!.
للأستاذ يوسف يعقوب حداد
لا يدري سليم متى هاجر عمه إلى البرازيل، ولكنه يدري أن أمه كثيراً ما كانت تضمه إلى صدرها وهو صبي صغير، وتهمس في أذنيه أن عمه إبراهيم سيعود يوماً ما من بلد الخيرات، وأنه سيحمل إليه من هناك ذهباً كثيراً، ومالاً وفيراً، ويعيشا بعد ذلك عيشاً سعيداً، هنياً!
ولقد شب سليم وهو يرضع هذا الأمل اللذيذ، ويتطلع إلى أفق يتوهج فيه بريق الذهب!
لم يذهب إلى المدرسة يطلب فيها العلم، ولم يبحث لنفسه عن عمل يعيش منه، فعمه إبراهيم سيعود بالذهب الوهاج ذات يوم، وعندئذ سيتقلب على بساط النعيم، ويعب من متع الدنيا!. . وماذا يضيره لو أن أمه غسلت اليوم ملابس الناس، وخبزت لهم الخبز وتحملت بذلك شيئاً كثيراً من نكد الدنيا وتعب الحياة؟!
شب سليم عن الطوق، واشتد ساعده. . . وهو كلما كبر جسده وانفتل عضله. تضخم في رأسه الأجوف ذاك الأمل الضاحك الذي أرضعته إياه أمه، واشتد في أفق حياته الساذجة بريق الذهب الذي سيعود به عمه أبو خليل. . . من البرازيل!
ولكن الأيام مضت يلتهم بعضها بعضاً، والأعوام تتابعت يسابق بعضها بعضاً، ولا خبر من العم إبراهيم يطرق آذان سليم وأمه الغارقة في مسوحها السوداء. . . حتى كان ذلك اليوم من أيام الشتاء لا يزال سليم يذكره جيداً، لأن الناس لا ينسون الأيام التي تغير مجرى حياتهم!
كان مساء ذلك اليوم البارد يجلس في مقهى القرية يتحارب بقطع النرد على زمرة من زملائه. ومن بعيد سمع ساعي البريد العجوز يسأل عن بيت سليم العنتبلي، فقفز من مقعده في غير وعي، وجرى نحو ساعي البريد يختطف من يده الرسالة ويهرع بها إلى مختار القرية ليقرأهاله!
ولا يستطيع إنسان أن يصف سعادة الفتى حين كانت الكلمات تنساب من فم المختار العجوز بصعوبة لتتسلل إلى أعماق سليم العنتبلي وتهزه هزاً رفيقاً هيناً؛ فيه نشوة من(954/53)
تحقيق أحلامه وإصابة الصميم من أهدافه!
وفي دقائق معدودة، عرف سليم وأمه ما كانا يجهلانه سنين عديدة. . . في دقائق معدودة، عرف سليم أن عمه في البرازيل قد أصاب ثروة كبيرة، وأنه قد تزوج ولكن زواجه ظل عقيماً، وأن هذا العم يحتضر اليوم ويريده على عجل ليهبه نصف الثروة التي جمعها في بلاد الغربة. . . أما النصف الآخر فهو للزوجة التي شاركته الكد والتعب وجمع المال وتكديس الذهب!
واتكأ الفتى على حاجز الباخرة في يأس وفتور، وراحت شفتاه تتهامسان والظلام يجثم على صدر البحر كالعبء الثقيل - ولكن لماذا تقاسمني هذه المرأة الغريبة نصف الثروة التي وعدت بها؟!، من أي حائط قد برزت هذه الجنية البغيضة لتسلبني نصف الذهب الذي انتظرته أكثر من عشرين عاماً متحملاً من أجل ذلك عذاب الانتظار وشظف العيش وقساوة الحياة؟!
وافترت شفتاه عن ابتسامة صفراء خبيثة. . . وسحق عقب سيجارته برأس حذائه، ودلف إلى غرفته لينام لأول مرة منذ وصلته رسالة عمه، نوماً هادئاً عميقاً متواصلاً!
واستقبلته في الميناء سيارة فارغة هي سيارة العم إبراهيم، واحتضنته في القصر الفخم ذراعان دب فيهما دبيب الموت هما ذراعا العم إبراهيم، وابتسمت له شفتان ساحرتان هما شفتا زوج العم إبراهيم!. . .
وفي اليوم التالي، أعدت للغذاء قرب سرير العم المريض مائدة صغيرة حافلة بكل طعام شهي لذيذ، وجلست زوجة العم على رأس المائدة تقطع من هذا القديد وذاك الفطير، وتضعه أمام الفتى مرحبة به مكرمة ضيافته. . . وقد فات الفتى أن يغوص في أعماق عينيها ليرى تلك النظرة الغريبة التي كانت ترمقه بها بين الحين والحين!
وقبل أن يمد سليم يده إلى الطعام، لحظت عيناه قطة جميلة لا ترضى لها مجلساً إلا تحت قدمي زوجة العم، فأحب الفتى أن يداعبها ويلاطفها وقد رأى زوجة عمه تعز قطتها وتعطف عليها، فمد يده إليها بقطعة من اللحم الذي وضعته زوجة عمه في صحنه، فما كاد يفعل هذا حتى ندت عن شفتي زوجة العم صيحة خافتة بدا عليها أنها حاولت كثيراً أن تخنقها في فمها أو تقتلها على شفتيها، ولكنها كانت على ما يظهر أشد قوة وانطلاقاً من أن(954/54)
تقاوم أو تحبس!
وأرتاع الفتى للصرخة الخافتة وسقطت من يده قطعة اللحم وهوت من بين أنامله، لا إلى الأرض كما ظن وإنما إلى بطن القطة الجميلة المدللة!
وفجأة. . . ماءت القطة مواءاً مرعباً، واهتزت في مكانها اهتزازاً فظيعاً، ثم سقطت إلى الأرض جثة هامدة لا حس فيها ولا حركة!
وأنتفض العم إبراهيم في سريره، وتشنجت أعصابه، وشحب وجه الزوجة واستحال لونه إلى مثل صفرة الأموات. . . وجمدت نظراتها المذعورة على وجه الفتى وهو يقهقه قهقهة مدوية هستيرية!. ثم تمالك سليم نفسه وتنفس الصعداء، ومال على أذن عمه يهمس بصوت مسموع وهو يرمق زوجة عمه بنظرة عتاب مرة، ساخرة - الحمد لله يا عم إبراهيم. . لقد كتب لي اليوم عمر جديد بفضل القطة الجميلة!
ولم تحتمل زوجة العم أكثر مما تحملت في خزي وفشل وهذه جريمتها قد انكشفت بهذا الشكل الفظيع الذي لم تكن تتوقعه، فدفعت كرسيها إلى الوراء بقوة وعصبية، وأسرعت إلى مخدعها لتكتب قصاصة من الورق تعلن فيها فرارها بعيداً عن مسرح جريمتها الفاشلة. .
وفيما هي تعد حقيبتها وتكدس فيها ملابسها، شعرت بظمأ شديد يكاد يفطر لسانها ويحرق كبدها، فأسرعت إلى قنينة الماء التي اعتادت أن تضعها إلى جوار فراشها، وتجرعت منها جرعة كبيرة. .
وحين أرادت أن تعود لتستأنف إعداد حقيبتها شعرت بالضعف يدب في ساقيها، وأحست بألم فظيع يقطع أحشاءها، وانعقد لسانها وهي تحاول أن تطلق من صدرها صرخة مدوية تعبر عن فزعها وهي ترى بعينيها قبرها المظلم يسرع نحوها فاغراً فاه لالتهامها!. . وسقطت إلى الأرض وهي جثة هامدة لا حس فيها ولا حركة!
وألقى الزوج نظرة احتقار على جثة زوجته الغادرة، فقد ظنها انتحرت بعد أن فشلت في قتل ابن أخيه العزيز، وربت على ظهر الفتى وهو يسلمه ثروته كلها!
ولم يدر العجوز الطيب القلب، أن ابن أخيه كان في تلك اللحظة يضغط بأنامله على زجاجة من نقيع السم، كان قد أفرغ محتوياتها في قنينة الماء التي عرف أن زوجة عمه قد(954/55)
اعتادت الشرب منها!
البصرة: عراق
يوسف يعقوب حداد(954/56)
العدد 955 - بتاريخ: 22 - 10 - 1951(/)
تركيا الصغيرة!!.
الأستاذ سيد قطب
ها نحن أولاء نخوضها في الأيام حرباً صليبية جديدة، بل ها نحن أولاء نخوضها معركة من معار الحروب الصليبية القديمة. . فما خمدت قط نار هذه الحروب بيننا وبين الصليبيين. .
ها نحن هؤلاء نخوضها حرباً مقدسة في وادي النيل، وفي الشمال الإفريقي، وفي إيران، وفي العراق. . ولقد كسبنا الجولة الأولى في إيران العظيمة، ونحن في طريقنا إلى كسب الجولة الثانية في وادي النيل. ولن يقف الشعب العراقي القوي المتحمس دون خطوات إيران، ولا دون خطوات الوادي. والشمال الأفريقي كله يتأهب استعداد للوثبة الكبرى. .
الظل الأسود يتقلص. . ظل الاستعمار البغيض. ظل الصليبية التي عجزت عن مكافحة الإسلام باسم الدين، فقامت بحركة التفاف عن طريق الاقتصاد، وعن طريق الثقافة، وعن طريق الاستعمار. وهي تحمل الصليب في قلبها وتخبئه، بدل أن كان تشهره على الرؤوس وترسمه على الحراب والسيوف!
الظل الأسود يتقلص، وحطام الاستعمار يتطاير، فتنحني عليه الأساطيل، تلتقطه غارقا من اليم، كما انحنى الطراد الإنجليزي (موربتيوس) ليلتقط بقايا الإمبراطورية من مياه إيران العظيمة!
الظل الأسود يتقلص والراية الإسلامية الكبرى تنشر ظلالها الشفيفة الحبيبة، تنشرها وتنشر معها القوة والثقة واليقين في النصر؛ وتنشر معها العزة والاستعلاء على الذل والقهر.
لقد ارتفعت هذه الراية الحبيبة فأنمت في شهر ما ظل حزب تودة الشيوعي يحاوله في عشر سنوات ولا يستطيع!
وامتدت عدوى الضربة الإيرانية الإسلامية القوية إلى وادي النيل، ولا غضاضة في أن نسجل أن إيران قد سبقتنا، فإيران بضعة من جسم الوطن الإسلامي الحي، ولا غضاضة في أن تتحرك الكف لتصفع، قبل أن تتحرك القدم لتركل، ولا غضاضة في أن تتحرك الذراع لتضرب قبل أن تتحرك الرجل لتسحق! - والعراق على الإثر - فشعب العراق الأبي الفتى لا يقبل أن يكون متخلفاً. . إن بترول العراف سيؤمم، وإن معاهدة العراق(955/1)
ستلغي. . ستضرب العراق ضربتها الواحدة لتحقق بها ما حققت إيران وما حققت مصر في ضربتين متتاليتين. . والشمال الإفريقي كله على الإثر. . ويتطهر العالم الإسلامي. . يتطهر من أرجاس الصليبية الغربية، ومن عار الاستعمار الغربي. . .
الظل الأسود يتقلص. ولن تعصمه قوة الأرض عن التقلص. (لقد دالت دولة الرجل الأبيض) - كما يقول برتر أند رسل الفيلسوف الإنجليزي المعاصر - وتلك سنة الله في أرضه. ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ولكن الصليبية التي لم يهدأ لها بال، ولم تغمض لها عين منذ القرن الحادي عشر إلى اللحظة الحاضرة. . . هذه الصليبية لن تلفظ أنفاسها الأخيرة في الشرق إلا بعد أن تبذل طاقتها، وقبل أن تنثر كنانتها.
إنها تدرك أن حركات التحرير في الشرق الإسلامي إن هي إلا صحوة العقيدة التي ظنتها الصليبية قد ماتت إلى الأبد. . . إنها لا تخطيء عناصر هذه العقيدة الخالدة في وثبة التحرير الحاضرة، وفرنسا التي قادت الحروب الصليبية، فرنسا هذه أشد حساسية بذلك الروح الإسلامي النابض في كل حركات التحرير. فهي تحذر من هذا الروح. تحذر منه اليوم علانية، وتنذر خطر (العالم الإسلامي). . أحست به في قوة، وإن كانت طوال حياتها لم تنس وجوده، ولم تفتر عن مكافحته، كما لم تفتر إنجلترا وسواها من أمم العالم الغربي عن هذا الكفاح!
وها هي ذي الصليبية تتجمع مرة أخرى لوقف المد الإسلامي الزاحف - ولكن هيهات! - لقد فات الموعد، ومضت عقارب الساعة ودارت دورة الفلك، وما عاد لقوة بشرية. على الأرض أن تقف في وجه التيار.
لقد انبثقت من ثنايا العدم باكستان. وتفلتت من قبضة الاستعمار إندونيسيا وسوريا ولبنان. وأفلتت من القراصنة إيران، وضربت مصر ضربتها المدوية، فوقفت الإمبراطورية المحطمة تترنح، وتطوح بيديها ورجليها في الهواء توهم الناس أنها قوية وأنها ستضرب، وإن هي إلا سكرات الموت، وصرعات الحمام! والشمال الإفريقي كله في الطريق، ولن يمتد الزمن طويلا قبل أن يضرب ضربته كذلك.
الظل الأسود يتقلص، والراية الإسلامية ترتفع، وترف وخفق، والكتلة الثالثة تتجمع في(955/2)
ظل هذه الراية النورانية. راية النصر والعزة والاستعلاء.
وفي ضجة المعركة الفاضلة الأخيرة. وفي عجيج الموقعة التي تحول سير التاريخ. وفي اندفاع السيل المتدفق الفوار. .
في ثنايا هذا كله تتسلل من الصف ثعلبة غادرة، وتتخلف عن الميدان قطة لئيمة، وتتوارى عن الجمع فأرة حقيرة. . إنها. . تركيا الصغيرة!
تركيا وحدها دون بقية العالم الإسلامي كله، تركيا وحدها هي التي تطعن مصر في ظهرها، وتتخنس مع أعداء الشرق، وأعداء الإسلام، وأعداء الإنسانية. تركيا وحدها هي التي تقبل اليد التي صفعتها والقدم التي ركلتها. تركيا وحدها هي التي تنحني على الخنجر الذي مزق أوصالها وأجهز على (الرجل المريض)!
ويطير أمين جامعة الدول العربية إلى تركيا ثم يعود ليذيع البشرى على العرب بعودة تركيا إلى راية الإسلام وصفوف المسلمين. . ثم إذا تركيا هذه في مجلس الأمن تعانق إسرائيل!
وتعلن مصر تحطيم النير الذي يشد عنقها إلى عجلة الإمبراطورية الفانية. ويخرج شعبها يهتف للحرية، ويتنفس الصعداء. . ثم إذا تركيا هذه تحتج على هتاف الحرية من المصريين!
وتتجمع الصليبية ممثلة في أمريكا وإنجلترا وفرنسا، فتتآمر على مصر المسلمة في صورة الدفاع المشترك، وترسل بسفرائها الثلاثة يحملون نتائج المؤامرة اللئيمة. . فإذا هم ثلاثة رابعهم كلبهم يحمل نفس النتائج!
وإنها تركيا. . تركيا التي تستكثر على مصر أن ترفع رأسها، لأن الفلاحين العبيد لا يجوز أن يتحرروا. . هذه هي العقدة الحقيقية في نفس تركيا! والعقدة الأخرى هي الإيمان بأوربا والكفر بكل ما هو شرقي، وكل ما هو إسلامي، منذ أيام الانقلاب!
إنها تركيا. . تركيا التي ما إن تصاب بكارثة أو زلزال حتى تتدفق عليها الأموال والتبرعات من هنا. من المتمصرين الذين يعيشون في مصر، ومن خير مصر، ومن دماء مصر، وهواهم مع تركيا، واعتزازهم بالعنصر التركي وبالدم التركي!
إن هذه الأموال التي تتدفق من مصر لهي دماء المصريين الكادحين، مقطرة ومكثفة ومبلورة. فأما (الفلاحون) فهم الفلاحون. هم العبيد. هم رقيق الأرض. وأما السادة فهم الذين(955/3)
يعتزون بالعنصر التركي وبالدم. هم الذين يصوغون دماء الرقيق ذهبا يتقاطر على تركيا. تركيا الخائنة لمصر وللشرق وللإسلام. تركيا حليفة الصليبيين في القرن العشرين.
إن الذين يعيشون هنالك في القصور على ضفاف البوسفور؛ حيث تجبي إليهم ثمرات العرق والكد والدماء من ضفاف الوادي. . . إن هؤلاء الذين يطعمون تركيا الخائنة لحم المصريين وعظامهم. وهم الذين يسقون تركيا الخائنة عرق المصريين ودمائهم
(ولقد آن لمصر أن تضع لهذا كله حداً. آن لمصر أن تمنع تسرب قرش واحد إلى تركيا الملعونة. الملعونة من المسلمين أجمعين. الملعونة من الإنسانية المنكوبة بالاستعمار في مشارق الأرض ومغاربها. الملعونة من الأرض والسماء إلى يوم الدين.
لقد آن أن تقول مصر لمن يعيشون في قصورهم هناك على ضفاف البوسفور. إما أن تعيشوا هنالك من كدكم وعرقكم، أو في ضيافة تركيا التي تعتزون بها وتنتسبون إليها. وإما أن تعودوا إلى مصر التي تطعمكم وتسقيكم. فمصر لم تعد أمة من العبيد. ولن تكون يوماً أمة من العبيد.
إن العالم الإسلامي كله يتحفز للوثبة الكبرى. وإن الكتلة الإسلامية كلها لتتأهب للظهور على المسرح العالمي، لتمسك بيدها ميزان التعادل والتوازن. فلتلهث تركيا وهي تعدو في ذيل القافلة: قافلة الاستعمار وقافلة الصليبية. وليركلها العالم الإسلامي بقدمه القوية. فتركيا الصغيرة لم تعد ذات وزن في كفة الميزان. لقد اختارت لنفسها أن تلهث وراء القافلة. فلتلهث. وليلهث معها المتمصرون والمتتركون. . ولكن لتعرف مكانها، ولتعرف عنوانها. . إنها. . إنها تركيا الصغيرة!
سيد قطب(955/4)
الولايات المتحدة الأمريكية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
- 6 -
سياسة العزلة:
كان سكان الولايات المتحدة الأوائل قوما عذبوا في سبيل دينهم وحرياتهم، وقد دفعهم الظلم الواقع عليهم إلى الهجرة إلى العالم الجديد. وهجرة الوطن والاغتراب عنه ليسا أمراً هيناً.
ولكن الظلم والاضطهاد يحببان الإنسان الحر فيهما ويدفعانه إليهما.
ولا يقيم ضيم يراد به ... إلا الأذلان عبر الحي والوتد
ولما استقر سكان الولايات في ولاياتهم حاولت إنجلترا أن تستغلهم شأنهم في ذلك شأن المستعمرات، ولكنهم وقفوا في وجهها وانتهى الأمر باستقلالهم 1776.
قرر الأمريكان منذ اللحظة الأولى أن العالم القديم مملوء بالشرور والآثام والمشاكل، وانتهجوا (سياسة العزلة) ومضمونها ألا تساهم الولايات المتحدة قي اتحادات أوربا السياسية وألا تشترك مع أية دولة أوربية في حل المشاكل التي تقوم في أوربا، كما قررت الولايات عدم التدخل في شؤون البلاد الأمريكية التي حررت نفسها من المستعمر الأوربي باعتبارها دولة أمريكية.
وقد سارت أميركا على هذه السياسة ولكن الحرب لم تلبث أن نشبت في أوربا عقب قيام الثورة الكبرى في فرنسا سنة 1789، وانقلبت أوربا إلى أتون حربي في الفترة من سنة 1793 - 1815، وكان النضال بين إنجلترا وفرنسا عنيفا وعنيفا جدا: ذلك أن إحداهما كانت سيدة البحار، وهي إنجلترا وقد تيسر لها القضاء على البحرية الفرنسية، ولكنها لم تستطع أن تنزل إلى البر لتقضي على فرنسا.
وكانت الثانية فرنسا سيدة البر التي استطاع ابنها العبقري نابليون أن يصرع الملوك وان يذل القياصرة، ولكنة لم يستطع أن ينزل بإنجلترا الهزائم في البحر، بل بالعكس حطمت إنجلترا أساطيله.
طال النضال بين الدولتين ولجأتا إلى الحرب الاقتصادية: فقررت إنجلترا محاصرة(955/5)
الشواطئ الفرنسية، ورد نابليون عليها فقرر أن الجزائر البريطانية في حالة حصار، وحرم على الدول الأوربية الاتجار معها، وكان غرضه أن يميتها جوعا. فردت إنجلترا عليه بأن قررت منع دخول سفن البلاد المحايدة (ومنها أمريكا) الموانئ الفرنسية أو الموالية لها إلا بعد مرورها على الموانئ الفرنسية أو الموالية لها إلا بعد مرورها على الموانئ الإنجليزية ودفع الإتاوة المطلوبة.
وقرر نابليون أنه ما دام الحياد قد أصبح ممنوعاً في البحر فهو ممنوع أيضا في البر، وطال النضال واشتدت الحرب حتى انتهت بهزيمة فرنسا وتسليم نابليون1815.
وقد أصاب التجارة الأمريكية ضيق شديد بسبب سياسة إنجلترا البحرية، ومنعها للسفن الأمريكية من دخول الموانئ الأوربية، وبلغ الضيق أقصاه (1812) فقامت الحرب بين الدولتين.
لم تكن الحرب بالنسبة للولايات المتحدة نصرا خالصا وإن انتصرت في النهاية، كما أنها لم تفد شيئاً من هذا النصر، فلم تنل توسعا إقليميا ولم تظفر بأي كسب خارجي يبرر ما أنفقت من أموال وما فقدته من رجال (21 ألف بحار، 30 ألف جندي) وبرغم هذا يؤمن بعض المؤرخين بأن هذه الحرب قد أفادت الولايات الأمريكية فوائد جمة:
أولا - دعمت هذه الحرب الوحدة القومية إذ أنها دفعت سكان الولايات إلى أن يقفوا صفاً واحدا يدافعون عن وطنهم واستقلالهم. وقد أكد البرت جالاتين وزير مالية أمريكا (1801 - 1813) أن الأمريكيين كانوا أنانيين جداً، شديدي التفكير تفكيرا محليا، فلما جاءت الحرب (جددت الشعور الوطني والخلق الوطني اللذين جاءت بهما الثورة، واللذين كانا يتضاءلان مع الأيام، فلقد أصبحت للشعب أهداف توثق بين أفراد وترتبط بها كرامتهم وأفكارهم السياسية. فهم الآن أمريكيون أكثر من ذي قبل، وهم يشعرون ويتصرفون كأمة. وإني لشديد الأمل بأن هذا التطور خير ما يضمن دوام الاتحاد (وتعتبر هذه الحرب حرب الاستقلال الثانية).
ثانيا - عرفت أمريكا أن الاستقلال الاقتصادي جوهري تماما مثل الاستقلال السياسي، بل عرفت ما هو أكثر من هذا، عرفت أن الاستقلال السياسي لا يمكن أن يقوم ولا يمكن أن تكون له قيمة إلا إذا قام على أساس الاستقلال الاقتصادي، ولهذا لجأت الولايات المتحدة(955/6)
إلى حماية استقلالها الاقتصادي ففرضت تعريفة جمركية تسمح بازدهار الصناعة الأمريكية.
مبدأ منرو:
سارت الولايات الأمريكية في سياستها الخارجية على مبدأ العزلة كما رأينا، وقررت عدم الاشتراك في أي اتحاد أوربي، كما قررت عدم التدخل في شؤون الولايات الأمريكية التي تحصل على استقلالها.
وفي 1817 تولي جيمس منرو رئاسة الجمهورية الأمريكية وكان شديد الرأي حازما فيما يقر رأيه عليه (وقد وضع منرو مبدأ هاما في السياسة الأمريكية عرف باسمه وأهم ما جاء فيه:
أولا - إن أية أمة أمريكية تحصل على استقلالها لا يمكن أن تعود مستعمرة ثانية، وأن أي اعتداء على استقلالها تعتبره الولايات المتحدة عملا عدائيا بالنسبة لها أو بعبارة أخرى وضع منرو مبدأ وجوب عدم تدخل الدول، الأوربية في الشؤون الأمريكية.
ثانيا - إن قارتي أمريكا بما تتمتعان به وتحافظان عليه من حرية واستقلال قد أصبحتا غير خاضعتين لاستعمار أية دولة أوربية في المستقل.
ثالثا - إن النظام السياسي للدول الأوربية يختلف تماما عن نظام أمريكا، ويجب أن تعتبر أية محاولة من جانب تلك الدول لبسط نظامها على أي جزء في هذا النصف من الكرة الأرضية خطرا على سلامتنا وامتنا.
رابعا - لم نتدخل ولن نتدخل في شؤون المستعمرات القائمة أو البلاد التابعة لأية دولة أوربية.
خامسا - لم نساهم بأي نصيب في الحروب التي نشبت بين الدول الأوربية لأمور خاصة بها، كما أنه ليس مما يتفق مع سياستنا أن نفعل ذلك.)
ولعل أحد القراء يسألني: ما هي الظروف التي أدت إلى أن يصدر الرئيس منرو تصريحه هذا؟ والجواب على ذلك أن بعض الأمم الأمريكية مثل الأرجنتين وشيلي قد انتهزت فرصة الثورة الفرنسية وانشغال أوربا أثناء حروب نابليون وأعلنت استقلالها وخروجها على إسبانيا. وفي 1822 خول الرئيس مونرو - تحت ضغط شعبي عنيف - سلطة الاعتراف(955/7)
بالدول الجديدة وهي كولومبيا وشيلي والمكسيك والبرازيل، وتبادلت الولايات المتحدة التمثيل السياسي مع هذه الدول الناشئة، وتم اعتراف الولايات المتحدة بهذه الدول على أنها دول شقيقة مستقلة تقف معها على قدم المسواة مكونة جزءا من أمريكا الحرة.
في هذه الأثناء كانت الدول الأوربية الكبرى قد كونت التحالف الرباعي وكان الغرض الرئيسي من إقامته منع فرنسا من العودة إلى الثورة وتهديد السلام الأوربي، ولكن مترنيخ رئيس وزراء النمسا وزعيم الرجعية وعدو الحرية والقومية حاول تأويل نصوص المحالفة الرباعية تأويلا يمكنه من دعم الحكم المطلق الذي كان قائما في النمسا ومن مقاومة الحركات القومية. وقد نجح في كسب قيصر روسيا وملك بروسيا بل وفرنسا إلى جانبه. احتجت إنجلترا على ذلك التدخل في شؤون الأمم الذاتية ولكن احتجاجها ذهب عبثا، فقررت الدول القضاء على الثورات التي قامت في نابلي وفي بيرمنت 1820 تطلب الحكم الدستوري وعهدت إلى النمسا بتنفيذ ذلك.
ثم قامت ثورة دستورية إسبانيا 1820 فقررت الدول القضاء عليها ي مؤتمر 1823 ووكلت إلى فرنسا تحقيق ذلك. خافت أمريكا من أن تقضي فرنسا على الثورة الدستورية في إسبانيا ثم تنتقل بعد ذلك إلى القضاء على استقلال الدول الأمريكية الناشئة لتكون لها مناطق نفوذ فأعلن رئيسها مترو مبدأه السابق حتى يمنع فرنسا أو غيرها من التدخل في شؤون الدول الأمريكية الجديدة.
وقد احتجت إنجلترا على تدخل الدول في شؤون إسبانيا، وخافت أيضا من أن يمتد نفوذ فرنسا إلى الدول الأمريكية التي كانت تستأثر بجانب كبير من تجارتها الخارجية، ولكن احتجاجها ذهب أدراج الرياح فسارع وزير خارجيتها كانتج إلى الاعتراف باستقلال الدول الأمريكية الجديدة (حتى ينشئ) كما قال (عالما جديدا يوازن ما تحصل عليه غيره من الفوائد في العالم القديم).
قويسنا
أبو الفتوح عطيفة(955/8)
في الأدب المفارق:
الرديف في الشعر الشرقي
للأستاذ عطا الله ترزي باشا
إن الأشعار الشرقية في جمالها وجوهرها تتشابه إلى حد عظيم، وقد حصل هذا التشابه نتيجة بعض العوامل التي أثرت في كل من الأشعار. فقد اصطبغ الأدب الشرقي بوجود هذه العوامل، وهي كثيرة، بلون خاص يميزه في أساسه عن الأدب الغربي تمييزا بينا. وينبغي أن نجعل رابطة الدين في مقدمة تلك العوامل.
لقد كان أثر الإسلام عظيما في الحياة الأدبية عند العرب. ونجد أن هذا الأثر قد امتد كذلك إلى الآداب الشرقية الأخرى. فأصبحت الآداب متأثر بعضها ببعض؛ فقد تأثر الأدب الفارسي بالأدب العربي وبالعكس، كما أن الأدب التركي تأثر بهما، حتى لأصبح الشاعر التركي في وقت من الأوقات يجيد اللغتين العربية والفارسية بقدر ما يجيد لغته الأصلية فينظم الأشعار. وقد خلف كثير من شعراء الترك دواوين كثيرة في الفارسية والعربية.
وكذلك كان حال الشعراء الفرس؛ فقد اصطبغ الشعر الفارسي بطابع الشعرين العربي والتركي. وهكذا قل عن الشعر الأردأ فإنه مزيج من عدة لغات إسلامية حية أهمها الفارسية والعربية والتركية وعليه فقد وجد، بسبب هذا الدين الحنيف، اتصال وثيق بين الأشعار الشرقية.
ولقد بلغ هذا التشابه درجة توحدت فيها قواعد الأوزان وكثير من الأسس الأخرى الموضوعة للمنظومات الشعرية في الشرق.
ومع ذلك كله فإن كلا من هذه الآداب يحتفظ بطابعها الخاص الذي يميزه عن غيره. فهنالك مظاهر قوية تميز الأشعار الشرقية بعضها عن البعض الآخر، وهي التي تستند عليها قواعد نظم الشعر من بعض الوجوه.
ويدور هذا المقال حول (الرديف) الذي يميز الشعريين التركي والفارسي وغيرهما من الأشعار عن الشعر العربي تمييزا واضحا.
والرديف في اللغة بمعنى الراكب خلف الراكب وكذلك الردف بكسر الفاء (المنجد). وقال الفيروز آبادي: الردف بالكسر الراكب خلف الراكب كالمرتدف والرديف. . وكل ما تبع(955/9)
شيئا. . ولليل والنهار وهما ردفان. . وجليس الملك عن يمينه يشرب بعده ويخلفه إذا غزا. . الخ (القاموس المحيط)
وقال القاموس أيضا الردف في الشعر حرف ساكن من حروف المد واللين يقع قبل حرف الروي ليس بينهما شيء.
وسكت كل من فريد وجدي والبستاني في دائرتيهما عن ذكر اصطلاح الردف أو الرديف في الشعر.
ومما يجدر الإشارة إليه أن الأدبيين التركي والفارسي يفرقان بين الردف والرديف. فالشعر (المردف) بفتح الدال اصطلاحا هو غير الشعر (المردف) بتشديد الدال، وقد عالجنا الأخير في هذا المقال.
ومن الجدير بالذكر أيضا أن الشعريين التركي والفارسي يختلفان عن الشعر العربي حتى في الردف. فقد جوز العرب الردف في حرفي الواو والياء، ذاهبا إلى صحة القافية بين (الفعيل) و (الفعول). مثال ذلك ما قاله المتنبي في رثاء محمد بن إسحاق التنوخي في قصيدة مطلعها:
إني لأعلم واللبيب خبير ... أن الحياة وإن حرصت غرور
فجعل كلا من الملمات (خبير، غرور، بصير، نور، تسير، طور. . الخ) قافية لقصيدته. وهذا الاستعمال غير جائز في الشعريين التركي والفارسي إطلاقا.
والرديف في اصطلاح شعراء الترك والفرس لفظ يتكرر في نهاية كل بيت من الشعر. فهو عبارة عما تلا حروف الروي من حروف أو كلمات في البيت مباشرة.
وعلى هذا الاعتبار فإن الرديف يتكون من حرف أو حرفين أو أكثر، أو من كلمة أو كمتين أو أكثر، إذ يكرر الشاعر أحيانا ربع البيت أو ثلثه كما يتبين من الأمثلة الآتية:
قالت الشاعرة التركية (فطنت):
غناي قلبه سبب دولت قناعت (ايمش
جهاندة جاي فرح كوشة فراغت (ايمش
ومعناه: أن من استغناء الفؤاد القناعة، ومن دواعي السرور في هذا الكون الانزواء إلى الخلوة!(955/10)
وقال الشاعر الفارسي العظيم (عمر الخيام) في إحدى رباعياته:
آنان كه در آمدند ودرجوش (شدند
آشفته ناز وطرب نوش (شدند
خورنده نبياله ومدهوش (شدند
درخواب عدم جملة هم آغوش (شدند
وترجم هذه الرباعية إلى اللغة التركية نظما شاعر تركيا الأول وسفيرها السابق في الباكستان الأستاذ يحي كمال، مراعيا فيها قواعد الردف:
أونلر كه كلوب بودهره يرجوس (أولرق
أذواقه صار يلديلر قدح نوش (أورلرق
إبجد كلري باده لرله مدهوش (أورلرق
صوك أويقوبه والديلرهم آغوش (أولرق
بمعنى (هاج الذين غاروا في بحر السرة يشربون، مرحين مدهوشين، من كؤوس فناموا، وهم سائرون إلى الفناء، متعانقين.)
ولهذا الشاعر التركي غزل مردف مشهور، ننقل؟ إلى القراء بعض أبياته، ومنه يتبين أن الرديف يتكرر في نهاية الشطر الثاني من كل بيت من الشعر بخلاف مطلعه حيث يتكرر في شطريه:
آهسته جك كوره كلري مهتاب (أويانمسون
بر عالم خيله دالان آب (أويانمسون
آغوش نوبهارده خوا بيده درجهان
سورسون صباحي حشرة قدر خواب (أويانسمون
أي كل سكونه وارمابي أمرايله بلبلة
كلشندة مست ذوق أولان أحباب (أويا نمسون
ومعناه: (مهلا أيها الملاح لا تحرك مجدافيك سريعا فيهتز الماء اللجي الغارق في الخيال، فيوقظ ضوء القمر!
إن الكون تمثال رائع وقد ضمه الربيع البهي إلى صدره، فليتنا لم نتيقظ من سنة الكرى،(955/11)
وليت الصبح أبد الدهر لم ينجل!
أيها الورد ناد البلبل يسكت، لكي لا يتنبه الأحبة وهم في الروض نائمون فرحين)
تلك أمثلة ذكرناها والرديف فيها متكون من كلمة واحدة، وإليكم هذا المثال وفيه الرديف كلمتان:
بنم تك هيج كيم زار وبريشان (أولمسون يا رب
أسير درد عشق وداغ هجران (أولمسون يا رب
يقول الشاعر: رب لا تجعل أحدا من الناس مثلي، يشقي في نار الفراق مضطجعا بآلام الغرام.
ويصادف أن يستوعب الرديف كل البيت باستثناء كلمة تترك للقافية، كما قال الشاعر:
صفا (ي عشقي كيم آكلير كيمكله سويلشه لم
وفا (ي عشقي كيم آكلر كيمكله سويشله لم
بمعنى من يفهم صفو الغرام! مع من نتحدث؟!. ومن يفهم معنى الوفاء في الغرام! مع من نتحدث؟!.
ومن النادر جدا استعمال مثل هذا البيت - الذي جرى مجرى المثل - في الشعر.
ولا يتسع المقال أن يسرد الأمثلة على الرديف الذي أصبحت الدواوين التركية والفارسية زاخرة، بل وأن الأشعار المردفة في هذين الأدبيين تفوق الأشعار غير المردفة عدا. والنوع الأول (أي المردف) أسهل نظما وأكثر تأثيرا على السامع من غير المردف. وأن نظم الشعر الخالي عن الرديف أصعب من نظم الشعر المردف. بيد أن المردف أكثر انسجاما، وأشد وقعا من حيث النغمات من غير المردف.
ولا يصادف هذا اللون من الشعر في الأدب العربي إلا ما ندر، بل وذهب البعض إلى أن الرديف غير وارد في الشعر العربي إطلاقا. فيذكر الشاعر التركي الشهير (نامق كمال) أن الرديف خاص بالشعريين التركي والفارسي دون الآداب الأخرى والى هذا يشير الدكتور طه حسين باشا قائلا: (إن الشعر العربي وحده، هو الذي يختص بالتزام قافية واحدة في القصيدة)
ولقد استشكل على البعض من الكتاب أمر التفريق بين الرديف والإيطاء، فخلطوا بينهما(955/12)
خلطا عجيبا يكاد يذهب عن الردف جماله.
والإيطاء هو أن يتكرر لفظ القافية ومعناها واحد، كما قال امرؤ القيس في قافية - سرح مرقب - وفي قافية أخرى - فوق مرقب - وليس بينهما غير بيت واحد. .
ويلاحظ أن الإبطاء كلما تباعد كان أخف. وكذلك إن خرج الشاعر من موضوع إلى موضوع كأن يخرج من مدح إلى ذم. .
ومن الإيطاء قول ذؤيب:
سبقوا هوى وأعنقوا لهواهمو ... فتخرموا ولكل جنب مصرع
ثم قال صفة الثور والكلاب:
فصرعنه تحت العجاج فجنبه ... متترب ولكل جنب مصرع
فكرر ثلث البيت. . . ولو أن الشاعر كان قد التزم القافية في موضعي (فتخرموا) و (متترب) لعددنا (ولكل جنب مصرع) رديفا.
وإذا اتفق الكلمتان في القافية واختلف معناهما لم يكن إبطاء. وقال الفراء يواطيء الشاعر عن عي. وإذا كرر الشاعر قافية للتصريح في البيت الثاني لم يكن عيبا. نحو قول امرئ القيس:
خليلي مرابي على (أم جندب
ثم قال في البيت الثاني: لدى (أم جندب
والواقع أن هذا المثال الأخير لا يخرج عن كونه حالة من حالات الرديف. إذ ينبغي أن نعتبر كلمتي (أم جندب) رديفا.
ويقرب من هذا ما قاله توبة مخاطبا بعل ليلى الأخيلية:
لعلك يا تيسا نزا في مريرة ... تعاقب ليلى أن تراني (أزورها
على دماء البدن إن كان بعلها ... يرى لي ذنبا غير أني (أزورها
وهذه قطعة مترجمة من شعر الشاعر الأزدي الكبير (محمد إقبال) مردفة في الأصل. وقد حافظ المترجم في نفس الوقت على رديفها في العربية:
أخلقن دنياك كي تحيا بها ... سر هذا الكون بالحق (الحياة)
هي في الحرية بحر زاخر ... وغدير في حمى الرق (الحياة)(955/13)
تختفي في الطين سرا وترى ... بقوى التسخير والخلق (الحياة)
هي في الغافل ترب هامد ... وهي في اليقظان سيف جاهد
وفي هذا يقول الدكتور عبد الوهاب عزام بك في هامش المقال الذي نشره في العدد الأول من مجلة الثقافة حول الأدب الهندي الإسلامي:
(إن شعراء الفارسية والأردية يجيزون أن تكرر كلمة واحدة في آخر الأبيات ويسمونها رديفا، ولكنهم يلتزمون قبلها قافية. فالحياة في الأبيات الثلاثة رديف، والقافية في الكلمات التي قبلها).
وينبغي اعتبار الضمائر التي تلحق بأواخر الأبيات في الشعر العربي رديفا كما يتبين من هذه الأمثلة:
قال المعري في لزومياته:
مل المقام فكم أعاشر أمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤ (ها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها وهم أجراؤ (ها
فهنا ينبغي أن نعتبر (ها) في نهاية الأبيات رديفا.
وقال سالم بن وابصة:
لعمرك ما أهويت كفي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وهنا ياء المتكلم رديف. . وفي المثال الآتي الضمير (نا) رديف. . وهو من شعر بشامة النهشلي
إنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ... يوم سراة كرام الناس فادعينا
وإلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي يعجز المقال عن ذكرها. . .
ويشير الأستاذ محمد مهدي البصير إلى نوع من الشعر المردف اخترعه البغداديون لسرد الحكايات والخرافات يسمى بـ (الكان وكان) وهو نوع من الشعر العامي قافيته مردوفة دائما. . . وقد تطور حتى نظمت به الحكم والمواعظ ولكنه ظل محافظا على صبغته العامية إلى أن انقرض. . .(955/14)
ومهما يكن من أمر فإن العرب كما سبق لم تستعمل في أشعارها الرديف إلا نادرا جدا. إذ يصعب على المحقق الباحث أن يعثر في الدواوين الشعرية على أمثلة وافية من الشعر العربي المرد وف. . أما الأمثلة التي أتينا بها في هذا المقال وغيرها من الأشعار المردفة إنما وردت على لسان شعراء العرب عرضا من غير قصد. . هذا بعكس ما عليه الأمر في الشعرين التركي والفارسي، فإن الأشعار المردفة فيهما كثيرة. بحيث أنك لا تجد شاعرا من شعرائهما إلا وقد استعمل هذا اللون من الشعر في ديوانه.
ولا يخفى لما لهذا النوع من الشعر من اللطافة والجمال والحلوان ما لا نتذوقه في غيره من أنواع الشعر، فنرى القارئ ينجذب إليه بقوة السحر الذي يتجلى في سلاسة ألفاظه وسهولة تراكيبه، ولذا يفضل الكثيرون من شعراء الترك والفرس نظم الأشعار المردفة. وقد شاع استعمال هذا اللون من الشعر في الغزل أكثر من شيوعه في باقي الأغراض.
ولا غرابة في أن نعثر في آداب الأمم الأوربية على أمثلة لهذا النوع من الشعر، لا نشك في أن شعراءهم قد أقتسبوها من الشرق. وخير مثال نورده هنا القصيدة الإنكليزية التي مطلعها:
- '
وهي من نظم الشاعر المعروف (توماس أوبزبرن). ويلاحظ هنا أن الشاعر كلمة (لاند) في آخر الأبيات رديفا، والتزم في الكلمات التي قبلها قافية. .
كركوك - العراق
عطا الله ترزي باشي(955/15)
أبو الثناء الألوسي الكبير
بمناسبة مرور مائة عام على وفاته
للأستاذ محمود العبطة
- 3 -
عزلة من الإفناء:
بعد سنين حافلة بجليل الأعمال، يانعة بنهضة العلم وتقدم الأدب ورقي المعارف، يرعاها الألوسي الكبير بعلمه الوافر وأدبه الثر، وشخصه اللامع. . . بعد هذه السنين التي هي بمثابة ضوء لامع ساطع يمده شهاب الدين الألوسي بالقوة والحياة، في تلك السنين المظلمة المعتمة، وبعد تلك السنين الخصبة صدرت إرادة الخليفة العثماني بنقل الوالي المصلح علي رضا من ولاية بغداد وتعيين الوالي نجيب باشا مكانه (كانت ولايته عام 1842م) ولم يكن الوالي الجديد يقل عن الوالي القديم حبا للإصلاح وإيثارا للأمن والسلام، وإن كان يفرق عنه في إيثار القوة حين ينقع العقل، والتصرف الصحيح، ويفرق عنه أيضا في عنجهيته وكبريائه، وعذره في الخيلاء والكبرياء أنه من بيت السلاطين، ويجري في عروقه الدم الملوكي! وكما كانت بداية علي رضا دليل شؤم ونحس على الألوسي، إذ سجن فيها وعذب، فقد كانت نهاية ولايته دليل شؤم ونحس على الألوسي بالذات وعلى (بغداد) التي وجدت فيه خير باعث لاسمها ومجدها أخيرا. . جاء محمد نجيب للولاية، ولم يكن يعلم حالة أهلها وما هم عليه من تحزب وشقاق، وحسد ونفاق، وبعد أن استقر به المقام وتسلم زمام الولاية، تحركت جيوش البغي والنفاق، التي أخرسها عدل علي رضا، إذ تمكن أعداء الألوسي الكبير أن يفهموا الوالي الجبار أن مفتي بغداد يكره ويكيد له، وأثر ما تمكن هذا القول من قلب الوالي، تجمع الأعداء وعددهم أكثر من مائتين تبعهم جمع كبير من السوقة والرعاع ثم قصدوا قصر الوالي نجيب الواقع في خارج بغداد القديمة وعلى شاطئ دجلة. وعندما قربت الجموع من قصر الوالي اندهش مما رأى وقال في سره إن ثورة حدثت، أو انقلابا يهدد ولايته وخليفته بالويل والثبور، وعندما استطلع الخبر أخبره زعماء المظاهرة أن سبب البلاء ورأس الفتنة هو أبو الثناء الألوسي مفتي الحنفية الذي يشاركه فيها واعظ(955/16)
الجيلي، وأن من الخير وقطعا لدابر الفساد عزل المفتي الألوسي من الفتوى ونفي الواعظ إلى مدينة البصرة! فأجاب الوالي طلب المتظاهرين وأصدر حالا أمره بعزل الألوسي من الإفتاء، وذلك عام 1263هـ وقد سبقت هذه الحادثة، حادثة أخرى تصور درجة حقد الوالي على اللألوسي ودرجة لؤمه أيضا، وتلك الحادثة الأخرى هي أن كتابا ورد اللألوسي المفتي من قصر السلطان في الآستانة، يطلب فيه رجال القصر حضور مفتي بغداد إلى العاصمة العثمانية للاشتراك في ختان أبناء السلطان عبد المجيد؛ فطلب الوالي من المفتي الاعتذار عن حضور الختان، فأجاب المفتي اللألوسي طلب وأرسل رسالة يعتذر فيها عن الاشتراك في الحفلة والوالي الذي يطلب من الألوسي عن السفر يقوم بدور الثعلب المراوغ فيرسل إلى القصر العثماني رسالة يتقول فيها ما يشاء ويتهم الألوسي بأنه لم يحضر الحفلة إلا كبرياء واحتقارا!
ومهما كان السبب فقد عزل الألوسي من الإفتاء، وانصرف بكليته إلى إتمام تفسيره وتعليم تلاميذه ومنادمة خلانه. وقد قابل أمر العزل برباطة جأش معهودة فيه بكل أطوار حياته مترقبا الأيام، وتقلب الأحوال. . كل هذا والوالي يتحين الفرص للقضاء عليه، والفتك به، ولما لم يجد سبيلا لذلك فقد قطع عليه مصدر رزقه الوحيد، وهو ما تدره عليه تولية جامع مرجان من مال قليل يقتات به وأهله الكثيرون، فأصدر الوالي نجيب أمره بعزله من التولية بعد أن عزله من الإفتاء وصادر وظائفه الأخرى، وذل بعد عزله من الإفتاء بخمسة أيام مع أنه عين متوليا على جامع مرجان قبل تعيينه مفتيا على مدينة بغداد، هكذا تقول المصادر التاريخية، وقولها الصدق، ولكن للجبروت والاستبداد صولة وسلطة في عهد لم تقيد فيه سلطة الحاكمين بالقوانين والأنظمة والعرف المستقر.
وبرفع الفتوى والتولية عن الألوسي الكبير توالت النكبات عليه، وعضه الفقر بنابه حتى باع كتبه وأثاثه وحاجاته البيتية ليقتات أهله وعائلته الكبيرة بثمنها. وهو مع هذه المصائب منصرف إلى إنجاز التفسير والقيام بواجب الدراسة ومجالسة الإخوان. ويقول اللألوسي في مقاماته التي هي منبع غزير وصور صادقة لحياته وعصره، خصوصا وأنه كتبها في سنيه الأخيرة. يقول واصفا وظيفة الإفتاء وتدخل الحكام في شؤون المفتي (وقد كنت أرى أمر الإفتاء، أمر من القضاء حيث مزقت الشورى أذاك أديمه، وأسقمه أعضاء المجلس ذوو(955/17)
الآراء السقيمة، أعضاءه السليمة، فلم يكن يختاره إلا ذو جهالة، قد جعل والعياذ بالله تعالى دينه لدنياه حباله، وحاشاني أن أكون كذلك.) وبقي في حاجة ملحة إلى المادة، وفي قلق نفسي لا يزيله إلا مجالسة إخوان الصفاء ومدارسة التلاميذ والطلبة. وعند وصول أحمد أبن الوالي بغداد، عرض شكواه عليه، ووصف سوء حالته له، فوجد منه أذنا صاغية، وقلبا رحوما، أزال منه بعض بلواه.
ورحلته إلي الأستانة:
مضت السنة الأولى والثانية والثالثة والألوسي يتحمل ضربات القدر، بعد أن سد باب رزقه، وبعد أن لم يبق في بيته من أثاث وأشياء ما يباع، حتى كاد - على ما يقول أن يأكل الحصير على مداد التفسير، وقد وجد - وهو الخبير بتقلب الأحوال وطباع الناس - أن خير مخرج له هو أن يشد الرحال إلى العاصمة العثمانية: خصوصا وحالته المعاشية تزداد في الهبوط، إذ لا مصدر للرزق له، ثم إن دروسه التي يلقيها في بيته تلقى مجانا على سنة علماء بغداد. . عزم الألوسي على السفر إلى أستا نبول، ليعرض شكا يته إلى أولي الأمر، ويرفع ما بقلوبهم من كراهية وحقد. فشد رحاله في غرة جمادى الثانية عام 1267هـ (1845م) وكان معه في قافلته المؤرخ سليمان والوالي عبد الكريم ومصطفى الربعي وإقبال الدولة الهندي. . تحركت القافلة ضحى جمادى، تحمل كبار القوم ومعهم الألوسي وولد عبد الباقي، وكان لسان حاله يردد قول الأمير الحميري:
ففيم الإقامة في بلدة ... تناكرني بعد عرفانها
سارت القافلة على بركة الله فوصلت الموصل فجزيرة أبن عمر فديار بكر حتى وصلت سامون ومنها ركب الألوسي إلى القسطنطينية. وصل المدينة التي كان يحلم بها والتي كانت المركز العصبي للدولة الواسعة وكانت استنبول في عهده عروس الشرق الأوسط لأن الأموال تجبى من أطراف المملكة لكي تسعد هذه المدينة وتتزين! فأتصل بشيخ الإسلام عارف حكمت الحسيني وقدم له التفسير فقابله الشيخ ببرودة غير معهودة، وأخيرا تمكن الألوسي من إقناعه وإزالة ما في صدره من أقاويل، وجرت بين شيخ الإسلام والمفتي السابق مناضرات ومباحث دلت على سعة اطلاعهما، أعانه شيخ الإسلام للنزول بدار الضيافة في القصر، إذ قدم مذكرة إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) ضمنها مطالبة(955/18)
وشكواه وأردف بهما بيتين من الشعر ضمن بها شطرا لأبي فراس الحمداني:
قصدت من الزوراء صدرا معظما ... وقد سامني ضر وقد ساء ني دهر
فقلت لنفسي والرجاء موقر ... (لنا الصدر دون العالمين أو القبر)
وبعد دراسة المذكرة صدرت إرادة سلطانية بتوجيه رتبة قضاء (أرضروم) له مع إعطاء هدية مالية عظيمة وبقي في العاصمة أشهرا مكرما محاطا بالإجلاء ثم أراد العودة إلى الوطن معتذرا من شيخ الإسلام الذي اقترح عليه الإقامة في العاصمة فتوجه إلى بغداد في 21 شوال عام 1268هـ ومعه في القافلة والي بغداد الجديد رشيد باشا الذي جعله ساعده الأيمن في بغداد، ثم وصلها في 15 من ربيع الأول عام 1268هـ وحين الوصول أجرى له استقبال عظيم من قبل إخوانه، ومدة غيابه في الرحلة الميمونة تقرب السنتين.
والألوسي في أيام الأخيرة:
رجع الألوسي إلى بغداد بعد رحلة طويلة شاقة، ورجع إلى عادته القديمة يحاضر دروسه في بيته وينادم أصحابه وقد يتردد إلى قصر الوالي الذي كان يستعين به، والألوسي قد شاهد في حله في بغداد وترحاله إلى جزء مهم من الدولة العثمانية، وشاهد الانهيار الروحي والمعنوي في الدولة، فأراد أن يبعث الروح الإسلامية حية يقظة تكون مستعدة حيت اعتداء الغربيين على دول المسلمين فألف رسالة مهمة في (الجهاد) وشرح كتبا أخرى قد ألفها قبلا وكأنه كان يعلم بدنو أجله فأراد أن يهدى إلى الأجيال المقبلة تاريخا مفصلا لحياته ولعصره فكتب (مقامات) خالدة هي في مقدمة كتبه الأدبية، وكانت المقامة الأولى إرشادات طيبة إلى أولاده النجباء دلت على نخبة اجتماعية وحس دقيق. والألوسي مع قيامه بهذه الأعمال الجسام كان يتحمل ألم الحمى النافقة التي أصيب بها أثناء رجوعه من الرحلة إلى بغداد، إذ ابتلت جميع ثيابه، وبقى يتحمل هذا المرض الذي كان يعاوده
ز - وفاته:
وهكذا يتم الفصل الأخير من حياة الألوسي الكبير!
حياة كلها كفاح مرير، ورجولة مثلى ورعاية للأدب، وتقديس للعلم
تخدر جسم الألوسي الكبير، بعد أن نحل عظمه، وهزل لحمه، ثم ارتفعت روحه إلى خالقها(955/19)
وذلك في صباح 25 ذي القعدة 1270هـ، وقد شيع جثمانه تشييعا حافلا، سارت به بغداد أجمعها، وبين التأسف والتوجع دفن الألوسي في مقبرة عائلته في مقبرة الشيخ معروف الكرخي. رحم الله الألوسي الكبير!
تمت
محمود العبطة(955/20)
صالح علي شرنوبي
للأستاذ رجاء عبد المؤمن النقاش
في أمسية من أماسي سبتمبر الجاري، وعلى شاطئ مدينة سمنود، في جلسة حالمة ضمتني أنا والأستاذ أبو الفتوح عطيفة، أخذ الأستاذ يحدثني عن الآثار الفكرية التي تركتها في نفسه إحدى زياراته للقاهرة، وأخذت أصغي إلى حديثه الرقيق الدسم. . وفي لفتة من لفتاته المشرقة، انطلق يحدثني عن الأثر الذي تركه الشاعر الشاب صالح شرنوبي في نفسه، حين سمعه للمرة الأولى في جمعية الشبان المسيحيين ضمن جماعة من شعراء الشباب، وقد كان فيهم من المبرزين، إن لم يكن أبرز شخصية وأميزها بينهم جميعا.
قلت للأديب معقبا على لفتته تلك: إنني آمل أن يسد هذا الفنان الشاب ثغرة تركتها في الشعر العربي وفاة علي محمود طه، إذ أنني في الواقع أنظر إليه بعين الأمل في مستقبله، ذاك الذي يلوح لي مشرقا باسما من وراء الإرهاصات الطيبة التي أراها فيشهره وخصوصا وأنه ما زال في ريق شبابه، وميعة عمره.
ومضى ذلك اليوم، وفي صباح اليوم التالي، وبينما أتصفح جريدة الأهرام، لفت نظري في صحيفة الوفيات اسم الفنان المبدع وقرأت. . فإذا بالشاعر الذي كنا نتحدث عنه بالأمس قد شد راحلته إلى هناك. . إلى عالم الفناء، أو قل عالم الخلود.
لقد كانت لحظة رهيبة أشد الرهبة على نفسي، عنيفة أقسى العنف على شعوري، تلك اللحظة التي قرأت فيها النبأ المؤسف. . لقد وقع علي وقع الصاعقة التي زلزلت كياني كله، وأشعلت في أعماقي كوامن الشجن، ونكأت في روحي جرحا عميقا كاد أن يندمل. . أجل! لقد حملني هذا النبأ على جناحه هناك. . إلى صفحات الماضي القريب للأدب العربي، فمنذ مطلع الربع الثاني من هذا القرن، وحظ الأدب العربي سيئ إلى حد يدعو إلى الأسف، فكلما لاح في أفقه نجم، وتطلع الحيارى إليه على أمل أن يكون بزوغه هدى لهم. . كلما لاح هذا النجم وبدأ ضوءه يملأ الآفاق، ويخترق حجب الظلام، ويشق طريقه إلى القمة، استيقظ الحالمون بعد قليل غفوة على حقائق الواقع المخيفة، وأفاق السكارى ليروا جثة باخوسهم أشلاء ممزقة ولما يرتووا بعد من كأسه المحطمة أمامهم في فناء الحانة الكئيبة الشاحبة.(955/21)
يوم فقد الأدب الغربي أحمد العاصي ومازال في شبابه، ممتلئ النفس، غض الجناح. . ولم يكد الأدب العربي يفيق من هول الصدمة، حتى تمزقت من تاريخ الشعر العربي صفحة كادت أن تكون أخلد صفحة فيه. . هناك. يوم أصبح الناس على صوت الناعي لينبئهم أن أبا القاسم الشابي قد كفنته أعوامه الخمسة والعشرين. وما يكاد الناس ينفضون عن أفئدتهم غبار الذهول، الذي عراهم حتى رأوا الأدب العربي يكاد ينفطر قلبه على فقيد جديد. . وكان الفقيد من السودان. . وكصاحبه أبي القاسم - لم يكن التيجاني يوسف بشير قد أتم في طريق العمر خمسة وعشرين عاما. . وتتولى الفجائع على رأس أدبنا المسكين، فلا يمضي عام إلا وهو يودع إلى شاطئ الأعراف محمد عبد المعطي الهمشري، ثم يتبعه إلى نفس النهاية فخري أبو سعود، ويليه فؤاد بليبل. وها نحن نرى أمامنا نجماً جديداً يخبو، وعلى صرخات الأنين من الأفئدة الحرى، والنفوس الملتاعة، نشيع في موكب الأحزان. . صالح علي شرنوبي.
لم يكد نوره يسطع على الدنيا فيلفت إليه الأنظار، حتى سقط في طرفه عين كالبرق الخالب، والسراب الكذوب. . إلا أنها قصة جديدة نستمعها من تاريخ أدبنا المعاصر. . وصفحة أخرى ريانة الصبا مياسة الجمال، يطويها هذا التاريخ ليحل محلها أخرى صفراء ذابلة، توحي إلى النفس بالأسى وتدفع إلى محاجرنا منهمر الدمع.
مضى صالح. . في رونق شبابه، فمضت معه شاعرية ناضجة وهي إثره جناح جبار، وانطوت بموته صفحة للفن الرفيع ما كانت لتقدر على طيها الأنوار والعواصف. . ولكنه الموت؛ ولكنه القدر، كانت روحه ألصق ما تكون بالفن، وكان الفن ألصق ما يكون بروحه. . كل ما عرفته عنه يتفق كل الاتفاق مع شخصيته الفنية، التي رسمتها له في ذهني إثر قراءتي المتتابعة له، إذ لم تتح لي الظروف أن أتصل به اتصالا مباشرا يتيح لي أن أعرف كل شيء عنه. . كان المرجع في رسم هذه الصورة في رأسي هو شعره، ثم بعض أصدقائه وزملائه الذين اتصلت بهم عن كثب وعرفت منهم بعض طباعه وخلائقه. . أول ظاهرة تلفت نظر الدارس في شخصية هذا الفنان هي الصدق. . الصدق في أجمل صورة، حيث يصدر عن طبيعة أصيلة، ولا أثر للتكلف ولا للصنعة فيه. . فهذا لا يخرج القصيدة إلى حيز الحياة إلا بعد تجربة نفسية تصهر فيها أحاسيسه ومشاعره. تجربة يعيش فيها(955/22)
ويحس جوها، ويكتشف دقائقها، ويلم بحقائقها. . فأنت تشم من شعره في كل قصيدة وكل بيت، رائحة (الصدق) تفعم أحاسيسك، وتملأ مشاعرك فتهزك من أعماقك هزاً عنيفاً، وتدفعك قسراً إلى متابعته والاندماج في جو قصيدته بعد أن يلهب نفسك، ويشعل وجدانك - استمع إليه في قصيدته على ضفاف الجحيم، وهو يخاطب القاهرة وأضوائها القاسية:
إني هنا فعبدي وثوري ... ملء عنان اللهو والسرور
ومزقي بضحك المخمور. . ... غلالة ينسجها تفكيري
ليستر العريان من شعوري ... ويحجب اللافح من سميري
الجائح المدمر الضرير ... يود لو يعصف بالقصور
وساكنيها عابدي الفجور ... النائمين في حمى الحرير
الغافلين عن أسى الفقير ... ولوعة الشرد الدحور
الوالغين في دم المهدور ... من عصب الكادح والأجير
إني هنا يا جنة الحقير ... آكل جوعي وأضم نيري
قف طويلا أمام تلك التعبيرات الصادقة، المنطلقة من إحساس صادق، لتتفيأ الظلال التي تتركها على صفحات الشعور الملفوح بحرارتها وقوتها، قف أمام (العريان من شعوري) ثم أمام (عابدي الفجور). . (التأمين في حمى الحرير). . ثم قف بربك أمام الشطر الثاني من البيت الثامن (آكل جوعي وأضم نيري). . ثم قل هل هناك أصدق في الإحساس والتعبير وفي دقة الأداء وعمقه، من تلك التعبيرات؟
ثم استمع بعد ذلك إلى هذه الومضات المتدفقة من أعماق وجدانه المشتعل:
هذا أنا في العالم الكبير ... فوق ربي المقطم المهجور
متخذاً من أرضه سريري ... من الحصى والطين والصخور
وتحت سقف الأفق المطير ... والقاصف المزمجر المقرور
أنام نوم العاجز الموتور ... على عواء الذئب والهرير
وقهقهات الرعد في الديجور ... تسخر من عجزي ومن تقصيري
هنا تصوير صادق، وصادق جداً، لا يقدر عليه إلا شاعر أحس أثر التجربة العميق في نفسه، بعد أن جمع إحساسه، وحشد قدرته الفنية، ليلتقط دقائق المنظر حتى يخرج صادقاً(955/23)
كما هو في نفس الفنان، وكما هو في أعماق الواقع - ولا أترك هذه القصيدة قبل أن أقف أمام هذه الأبيات:
وأنت يا زنجية الضمير ... تدرين قدري وترين نوري
فتجرين ضحكة المغرور ... أو ترتدين كفن المقبور
هازئة كالزمن المبهور ... من المثالي الفتى الطهور
قف أمام (زنجية الضمير). . فلعل هذا التعبير يكون المفتاح الصادق لكل وثبة من وثبات شعوره وقفزة من قفزات فنه، في القصيدة كلها. . إنه يخاطب زنجية الضمير. فعليه أن يفترق من منبع السخط عليها، كل لفظة تتناسب مع جو القصيدة العاصف، وكل حركة تتفق وموسيقاها الصاخبة. الصدق. . صدق الفنان. هو الظاهرة الأولى في شخصية صالح شرنوبي. . ويلي ذلك ظاهرة الانطلاق. . الانطلاق الحر الذي لا يقيده قيد ولا تحده حدود. . وهذا انطلاق الفني لا يتوفر إلا لكل شاعر جبار الجناحين، قادر على التحليق في الآفاق الواسعة، مكتمل الأداة، يعبر في حرية من فنه الذي لا يضيق به، ومن نفسه التي تتسع لزاد من الأحاسيس، لا يفنيه ضعف في الملكة أو همود في الطاقة، ترى ماذا أقصد بالانطلاق؟ الانطلاق في رأيي، هو أن يكون الفنان صاحب (نفس خاصة) ينظر بها إلى زوايا الحياة نظرة خاصة به وحده، ويتأثر تأثرا له خصائصه المنفردة، ومميزاته التي تهيأ للفنان شخصية لا تضيع في غمار الشخصيات الفنية الأخرى، ثم هو التعبير عن الإحساس بصدق بالغ مع التحلل من كل القيود التي تفرض من خارج النفس الفنان. . الانطلاق مجملا، هو كما يقول صالح نفسه في قصيدة (الشاعر):
شاعر الكون لا يقيده الكو ... ن وإن ضمه تراب وماء
ساحر النور والظلام، وكم يسمو. . فتفي في نوره الظلماء
قلبه العالم الكبير ونجوا ... هـ حنين ورحمة وإخاء
خلقه كالضياء في كل حال ... فهو في الحان والمصلى ضياء
عقله مسرح بنته المقادي ... ر ووشت ظلاله الأضواء
أزلي. . ممثلوه رؤاه ... والأماني المجنونة الخرساء
فالنظرة الفاحصة التي بدقتها وروعتها وعمقها ظواهر الأشياء، والإحساس الشامل، والأفق(955/24)
الواسع، والتعبير الصادق، والشخصية الخاصة. كل هذه الأشياء هي حدود الانطلاق الذي يرفع من قيمة الفنان شاعراً كان أو موسيقياً أو مصوراً.
وهذا الانطلاق ظاهرة تلفت النظر في شخصية صالح الفنية في كل شعره على الإطلاق، تحسه وأنت تقرأ له: في لفظه وموسيقاه، في لفتاته وصوره، في دفقات وجدانه الشاعر، ونبضات قلبه الفنان. . أو ليس منطلقاً ذلك الذي كأنه يستشف حجب الغيب وهو يقول في (أشواق الربيع):
تعالي نخلق الحب ... فقد يخلقنا الحب
لنروي ظمأ الدنيا ... بما يوحي به القلب
فقد يخنقنا الترب ... ولم نعشق ولم نصب
وننسى أننا (كنا) ... وفي أيامنا جدب
تركناه بلا ري ... وفينا المنهل العذب
تعالي فالردى الحبار ... لا يحنو ولا يرحم
وهذا سيفه المخضو ... ب لا يبلي ولا يثلم
يريني ومضه ملا ... يريني ظله الأقتم
تعالي فاغد المرهوب غيمان السنا مبهم
ويا ضيعة دنيانا ... إذا ولى ولم تعلم. .
أو ذلك الذي يقول في (الأفعى) مصوراً لنا موقفاً خالداً من مواقف البشرية، هناك. . . حيث يتصارع جسد المرأة، وجسد الرجل صراعاً خالدً،. . ولكن المرأة في هذه القصيدة ليست امرأة عادية،. . إنها أفعى، إنها بغي،. . وعليه ينطلق في تلوين الصورة وتظليلها مختاراً لها ما يناسبها من الألوان والظلال. . وذلك م يبدو واضحاً في القصيدة الرائعة:
اشغليني بما تريدين مني ... واملئي بالغرام سمعي وعيني
بفنون الأغراء باللهب الثا ... ئر من جسمك البديع الأغن
جسمك العبقري شكلا وظلا ... الغوى الغنى عن كل حسن. .
اشغليني فقد تنالين من عمري يوما، نقضيه كالحالمين
عند هذا الركن القريب من الأر ... ض وإلا فعند أبعد ركن(955/25)
هو يوم كأي يوم سيمضي ... أو مضى فالحياة لون كلون
سوف نقضيه وحدنا. . ثم ترضين، وأشكو، وتشمتين، وأثنى
في غرام مستهتر. . . يتصبى ... كل شيء فينا، ويحيى ويغنى
في صراع يطول بالراحتين ... وبجسمي وجسمك الماردين
وبما في شبابنا من حياة ... واشتهاء يطغى، وشوق يغنى
بين خمر رخيصة وأغان ... ساقطات، تجري، على غير لحن
ودخان معطر، نتعاطا ... هـ بعيداً، في وكرنا المستكن
وحديث مهلهل عن لياليه وعن قلبك الصغير المسن
نكات حفظتها عن (أبي النوا ... س) أو عن جحا الحكيم المفن
تتقاضينني عليها حياتي ... وتقولين قد رجعت بغبن. . .
وننتقل بعد ذلك إلى شعر المناسبات عنده، لنرى أن أهم ظاهرتين فيه أيضاً هما: الصدق والانطلاق
وبين يدينا قصيدته (فاروقية) قائمة على ذلك بالدليل، شاهدة عليه بالبرهان،. . يقول في مطلعها: -
حادي الشمس لا تعجل سراها ... فهنا لو علمت نبع سناها
مل بها ساعة. . . تبث هواها ... لجميل هامت به مقلتاها
ويقول في ختامها الرائع: -
ملك تخشع القوافي لديه ... ناهلات من سحره معناها
كل أيامه، ملامح مجد ... ملأ الدهر كأسه من طلاها
إن تناهى القصيد دون علاه ... فمعاني علاه. . . لا تتناهى
وكل ما عرفته عن حياته بعد ذلك موافق تماماً لشخصيته الفنية التي استخلصنا حدودها من شعره. . . فقد كان - على ما علمت - مسرفا لا يبقى في يده على شيء، سمح الخلق، رضى النفس. . . شيء واحد أثار تعجبي ودهشتي، ذلك أنه كان شاباً حدث السن، إذ ما كنت أن أتصور أن كل هذا النضج وكل هذه الأصالة، يمكن أن تتوفر لشاب في مثل سنه، والخطأ في دهشتي وتعجبي واضح بين، إذ أن القرائن في ماضي أدبنا العربي، وغيره،(955/26)
وغيره من الآداب، لا تنكر حدوث ذلك، وفوق هذا، فإن، فإن العبقرية غلابة على السن والجنس والنوع، فليس من لوازمها أن يكون العبقري شيخاً، ولا من مانعها أن يكون رجلا لا امرأة، أو مصرياً لا فرنسياً. . . ذلك لأن العبقرية كما قلنا لا حدود لها من سن، أو جنس، أو نوع.
رحمك الله يا صالح. . . إنها لخسارة فادحة حلت بالأدب العربي، كم أدمت من نفوس، كنت موضع آمالها، وقبلة مناها، وكم حطمت من أفئدة، كنت ساكن سويدائها، ورب هواها. . .
ولئن كانت حياتك مثلا من الصدق والانطلاق، لقد كان موتك ضربا من العبر التي لا تكرر في كل حين ولكنها - إلى قلتها - خالدة وصفحة باقية، جذبت إثرها من كتاب التاريخ صفحات،. . . ولن يجد قائل ما يرثيك به خيراً من قولك أيها الفنان:
مات فرد ممن شدا الحق فيهم ... (أنتم الناس أيها الشعراء)
رجاء عبر المؤمن النفاس(955/27)
5 - أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
هذا هو البارودي أو بالأحرى فلذات من شخصيته المالية الدائبة على طلب التمجيد والتخليد، وليس ثمة أبعد همة من احتقار اللذة خمرا ومزمارا، وأسمى مكانة من الاعتماد على النفس في سلوك النهج بغية العزة والتماس الكرامة.
والبارودي - والحق يقال - من طراز الأبيوردي الذي من شيمه معالي الأمور، أما قمة انجم فهي موطئ قدمه، فكيف برأسه:
الناس من خولي والدهر من خدمي ... وقمة النجم عندي موطئ القدم
وللبيان لساني والندى خضل ... به يدي، والعلا يخلقن من شيمي
لو صيغت الأرض لي دون الورى ذهبا ... لم ترضها لمرجى نائل همهمي
وعن قليل أرى في مأزق حرج ... به تشام السريجيات في القمم
ويقول:
عجبت لمن يبغي مداى وقد رأى ... ما حب ذيلي فوق هام الفراقد
ولي نسب في الحي عال بقاعه ... رحيب ماري العرق زاكي المحاتد
ورثتنا العلا وهي التي خلقت لنا ... ونحن خلقنا للعلا والمحامد
أبا فأبا من عبد شمس وهكذا ... إلى آدم لم ينمنا غير ماجد
ومن العجيب أن العرب في شتى الإعصار والأمصار لم يفارقهم هتا المجد في الروحات والغدوات، وما من شيء يحتلفون بذكره في نثرهم وشعرهم أهم عندهم من المعالي.
يقول حسا بن ثابت في مدح جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان:
دار لقوم قد أراهم مرة ... فوق الأعزة عزهم لم ينقل
بيض الوجوه كريمة أحسبهم ... ثم الأنوف من الطراز الأول
ويقول لبيد:(955/28)
فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها
فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه ... فما إليه كهلها وغلامها
ويقول شاعر في رثاء الأحنف بن قيس:
فما كان قيس هلكه هلك واجد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
ويقول لبيد عند النازلة، والنجوم والشهب والجبال تراوده:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وكذلك صفي الدين الحلي وهو يرثي صديقا له غرق بدجلة:
أصفيح ماء أو أديم سماء ... فيه تغور كواكب الجوزاء
ما كنت أعلم قبل موتك موقنا ... أن البدور غروبها في الماء
ومنها:
أنف العلاء عليك من لمس الثرى ... وحلول باطن حفرة ظلماء
ويقول:
حبك الأوطان عجز ظاهر ... فاغترب تلق عن الأهل بدل
فبمكث الماء يبقى آسنا ... وسرى البدر به البدر اكتمل
والساعاتي أيضا يذكر المعالي عند الرثاء فيقول:
بكت عيون العلا وانحطت الرتب ... ومزقت شملها من حزنها الكتب
وقال آخر:
كل شيء إذا تناهى تواهى ... وانتقاص البدور عند التمام
وقال غيره:
كأن الفتى يرقى من العمر سلما ... إلى أن يجوز الأربعين فينحط
وقال أبن سارة:
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ... الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضر
وفي الكرم يول الشاعر مادحاً عمرو العلا هاشم:(955/29)
عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه ... مر السحاب ولا ريح تجاريه
وفي الهجاء يقول الحطيئة للزرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وفي الحكم يقول الهذلي:
تا لله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس
وفي المال يقول الحافظ:
تباً لمن آتاه رب العلا ... مالاً ولم يرزقه إنفاقا
فالمال كالآل متى لم يكن ... يبين الإنفاق إشراقه
وكان في العرب رجل اسمه (أنف الناقة) نسبت إليه قبيلته لأنه سيدها وهو جعفر بن قريع، وكان كل فرد في هذه القبيلة عرضة للسب والتسيير حتى قال الحطيئة فيهم قوله:
قوم إذا عقد عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
قوم هموا الأنف والأذناب غيرهموا ... ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا
عند إذ جعلوا يفخرون، وإذا سأل أحدهم عن نسبه لم يبدأ إلا بقوله:
أبن أنف الناقة. وقد كان يغضب إذا ذكر
وفي المدح يضع زهير بن أبي سلمى هرم وقومه فوق الشمس:
لو كان يعقد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
وقالت بنت لبيد تمدح:
أشم الأنف أصيد عبشمياً ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا عليها من بني حام قعودا
وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان (عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها مجراها. .)
وعدى هذا هو القائل:
نحن كنا قد علمتم قبلكم ... عمد البيت وأوتاد الإصار
ويقول ذو الإصبع يرثي قومه:
لهم كانت أعالي الأرض ... فالسران فالعرض(955/30)
إلى ما حازه الحزن ... فما أسهل المحض
إلى الكفرين من ... نخلة فالدارين فالمرض
لهم كان جمام الماء ... لا المزجي والبرض
فمن ساجلهم حربا ... ففي الخيبة والخفض
وهم نالوا على الشنآن ... والشحناء والبغض
معالي لم ينلها الناس ... في بسط ولا قبض
وقال محمد بن وهب الحميري:
ولما رأى الله الخلافة قد وهت ... دعائمها والله بالأمر خابر
بنى بك أركان عليها محيطة ... فأنت لها دون الحوادث ساتر
وأرعن فيه للسوابغ جنة ... وسقف سماء أنشأته الحوافر
لها فلك فيه الأسنة أنجم ... وتقع المنايا مستطير وثائر
ولو لم تكن إلا بنفسك فاخرأً ... لما انتسبت إلا إليك المفاخر
وقال شاعر قديم:
قلال مجد فرعت آصاصا ... وعزة قعساء لن تناصى
وقال يزيد بن الطثربة:
عدت من عليه تنقض الطل بعدما ... رأت حاجب الشمس استوى فترفقا
وقال أحدهم يصف حديقة:
ترفعت عن ندى الأعماق وانحدرت ... عن المعاطن فاستغنت بمسقاها
فاهتز بالبقل والريحان أسفلها ... وأعتم بالنخل والرمان أعلاها
أيا معاوية اشكر فضل واهبها ... وكلما جئتها فاعمر مصلاها
وقال البلوى في وصف بيت:
وقد حلوا أعاليه بتبر ... وقد بسطوا أسافله رخاما
وقد جعلوا له بابا وقفلا ... وحلوا بابه ورقا وسلما
وقال آخر:
فاستنزلوا أهل (جو) من منازلهم=وهدموا شاخص البنيان فاتضعا(955/31)
وقال حسان يهجو نوفل بن الحارث:
وما ولدت أبناء زهرة منهمو ... صميماً ولم يلحق عجائزك المجد
والبهاء زهير يقول:
على الطائر الميمون يا خير قادم ... وأهلا وسهلا بالعلا والمكارم
ويقول ابن سناء الملك:
وما أنا راض أنني واطئ الثرى ... ولي همة لا ترضى الأفق مقعدا
ولو علمت زهر النجوم مكاني ... لخرت جميعا نحو وجهي سجدا
ويقول صفي الدين الحلي:
سلى الرماح العوالي عن معالينا ... واستشهدى البيض هل خاب الرجافينا
وفي وصف الفرس يقول الثعالبي:
يا أيها الملك العزيز ومن له ... شرف يجر على النجوم ذوائبا
أصلحت بين العالمين بهمة ... نذر الأجانب بالوفود أقاربا
ويقول مهيار الدليمي:
وأبى كسرى علا إيوانه ... أينفي الناس أب مثل أبي
وتقول هند بنت طارق في النسوة يوم أحد وهن يضربن الدفوف والمعازف:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
والطارق هو النجم الذي هو زحل، فهي تقول نحن بنات من بلغ العلو وارتفاع القدر كالطارق، وما أدراك ما الطارق: النجم الثاقب.
وأنشد أبو بكر الأيادي لامرأة العرب عنن عنها زوجها:
فقدتك من بعل علام تدكني ... بصدرك لا تغنى فتيلا ولا تعلى
ويقول شاعر ارتفع بأمانيه للناس فوق ما يتمنى الناس:
سقى الله أرض العاشقين بغيثه ... ورد إلى الأوطان كل غريب
وأعطى ذوي الهيئات فوق مناهمو ... ومتع محبوبا بقرب حبيب
هذه شوارد كلها شواهد على الشعراء العرب لم يكونوا بمنأى من المعالي مادية وروحية في كل ما تتفتق به قرائحهم، وهذه ظاهرة قلما توجد في الآداب الأخرى على هذا النحو من(955/32)
التنويع والتوزيع. وصدق أبن قتيبة حين يقول:
(. . ويقال ما استدعى شارد الشعر بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمكان الخضر الخالي)
نستطيع أن نقول في أمان وأمانة إن الروح العربية كانت مجالا لتوليد هذه المعاني، ونشدان تلك المعالي، حتى إذا جاء الإسلام كانت منه في موضع الرعاية والتقدير، ولا سيما فيما يرفع المجتمع إلى أسمى الدرجات الإنسانية، وذلك يؤدي حتماً إلى انعكاس المعالي الاجتماعية على النفس المفردة، فكان الإسلام أشبه بالبؤرة من العدسة اللاقطة العاكسة مما: تلتقط ما دون العصبية الممقوتة، وتحتفظ بالمفاخر لتتسلط إشعاعاتها على نفوس المؤمنين بهذه الرسالة الجديدة التي يدعو إليها محمد وهو من أواسط العرب وأشرفهم محتداً وفعالاً.
والله تعالى هو العلي العظيم المتعالي الأعلى ذو العلا والعلا والمعالي. وصفة الله العليا هي شهادة ألا إله إلا الله.
محمد محمود زيتون(955/33)
المقامة المدريدية
للأستاذ إبراهيم الابياري
أقلنا البحر على مبسوط مائه، وتحت منشور سمائه. وما هي إلا أن الفنان الوجود، في مثل المشدود، قد انضمت أطرافه، نبحر ما نبحر وما في ملتقى السماء بالماء منفذ، وطوانا الغيب في ظلمات ريب قد تراكبت إلفافه، نفكر حين نفكر فيلتاث علينا السبيل والمأخذ.
ونحن إذا صافانا الماء، وكتب للماخرة الاستواء، مردودون إلى كل ملهية، مرددون بيت الشادية:
وخطت هونا تهادي ... خطو ظبي لم يفزع
ونراع بالمائجة الهائجة، فتلفتنا عما نحن فيه، إلى ما لا يد إلى تلافيه، ويصطخب مع لج البحر لج الفكر، وكأنهما قد التقيا على أمر، فنلفي غرقى الأفكار، لا البحار. ويميد الطود فيترنح كل من عليه ترنح السكارى قد أفلت منهم حبلان حبل العيون، وحبل البطون، هذا عن خوف، وذاك لانقلاب الجوف.
ومنا من لو ملك أن يقطع ما بينه وبين الحياة لفعل يشتري الآجل بالعاجل، آخذ يقول القائل:
إن المعنى إن يمكن قاطع ... أوداجه إن جاوز الصبر المدى
ويدركنا الغوث، بعد غيث، ونلحق البر، على مستقر
ولي لسان إذا طاوعته جهراً ... يكرر الحمد للمولى ويشكره
وأخطو إلى مدريد، على عجل حديد، وإذا أنا بين عشيةٍ وضحاها، على مغناها، فألتقي عصا التسيار بياض نهار، وما أن أفيء، حتى أتهيأ.
أمضى إلى الدار التي ... قد جملت ياسمين
فاروق أرسى أسها ... بيمينه طه حسين
هنا آمال في أمل، وأعمال للعمل، ودفائن مستورة، ومعالم مطمورة، حف بها الحافون، وخف إليها الخافون، نلقن عنهم، ولا نشركهم، على رابطة بيننا وبين الدارس، ووشيجة تجمعنا بالوارث.
أنا وإياكم بمنطق صادق ... أهل وإن بعد المدى بصلات(955/34)
وحسبنا هنا عربية إليها نعزى، فنجزي بها أحسن ما نجزي، فالأيدي ممدودة إلينا بالعون،
ونحن في ظل من الرعاية والصون.
وغداً سيثمر غرس غارسكم ... وغد مع العزم الصدوق فريب
مدريد
إبراهيم الابياري(955/35)
رسالة الشعر
من وحي رأس البر:
في دولة الطير
رحلة (الفجافيج)
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
يا دولة الطير: كم سطرت موعظة ... للناس لو فكروا في الطير أحيانا
فيك الوفاء. . . وفيك النيل أجمة ... لو أرهف الناس أسماعاً وأذهاناً:
سل السماني وقد تاقت لوطنها ... واستعذبت غمرات الموت تحنانا
طارت تجوب عباب البحر. . ما طعمت ... زادا، ولم ترو قلبا بات ظمأنا
تطوى الليالي خماصا كي ترى وطنا ... يا من رأى طاويا يشتاق أوطانا
إن ينشد المرء رمزاً للوفاء ففي ... بذل السماني وفاء قام عنوانا
يا من بيد مثلا للإخاء: لدى ... دنيا الطيور إخاء لاح ألوانا:
سل (الفجافيج) لما شاقها وطن ... - مثل السمائي - سرت في الجو رهبانا
وهي الصغار الضئال الجسم. . لو نظمت ... سمطا لأبصرت عقداً ضم مرجانا
طارت تجوب عباب البحر. . لست ترى ... جسماً لها. . يا لسرب سار حيراناً
الريح تدفعه خطوا. . وترجعه ... خطوين. . فهو نزيل عندها هانا
لما تعثر واشتد البلاء به ... أوى لأكرم طير عاش رحمانا
أوى لأجنحة (الكركي) ينشد في ... ظلالها من صروف الدهر أعوانا
فراح يحمله عطفا، ويمنحه ... قلباً حنونا على الأيام ما خانا
في رحلة ترتجي الأطيار لو لفظت ... أجسامها ومضت بالروح وحدانا
حتى تخف لأهوال تنوء بها: ... مما يشيب وينسى الروح نسيانا
عشراً وعشراً رأت من صدره نزلا ... ومن جناحيه أعشاشا وأكنانا
فلم تبال عباب البحر مصطخبا ... ولم تحاذر ضباب الجو إن رآنا
ولا أحست بلفح الشمس يصهرها. .=ألقت عن الروح أعباء أشجانا(955/36)
ونام عنها شقاء الدهر فابتهجت ... أسلمت للكرى قلبا وأجفانا
وطالع الوطن المحبوب مقلتها ... حلماً جميلا فناجت منه أغصانا
حتى إذا وصلت للشط سالمة ... طارت فلم يزجها (الكركى) شكرانا
ولا رأت عنده منا يكدر ما ... أسدت يداه. . ولا بغيا وعدوانا
ولم يصبها بسوء. . بل رأى - كرما - ... عون الضعيف الذي لم يلق معوانا
ولو أراد لكانت على قبضته ... زادا شهيا لجوف بات جوعانا
يا للإخاء نرى (الكركي) آيته ... فهل نرى مثله في الدهر إنسانا؟
إن القوي ليجتاح الضعيف بنا: ... سلبا، وغدرا، وإيذاء، وحرمانا
والطير ترعى على الأيام دولتها ... فأنظر لدنياهم. . واعجب لدنينا
محمد يوسف المحجوب(955/37)
دليلة
كانت تمر في عهد، ثم مرت في عهد آخر. . . وبين العهدين
مات رجاء!!
الأستاذ أحمد كمال زكي
قيل لي مرت وهي بطيئة ... وخطاها رهن قيد ومشيئة
عبرت تحفر لحنا شله ... اصبح يفح إثما وخطيئة
كفنت في شعرها سو سنة ... وأمان بين نهديها خبيئة
وتقيئ المطر من زنارها ... فتقيئ الأرض. . والأرض بريئة
خصرها أنقاض خصر قد هوى ... يوم أغفى النور والشمس مضيئة
خلفها ماض وتسعى لا ترى ... عميت حتى على الماضي جريئة
قيل لي مرت كما مرت دليله ... تحمل الحب لشمشون وسيله
تنظر الأفق وفي أهدابها ... سرها تؤثر فيه كل حيله
يالها. . . تذهب إني واقف ... فوق شلو كان في نفسي خليله
لم أضع تحت سماها أملا ... لترى ما كنت أخشى أن أقوله
كنت ما شئت، وكانت لعبتي ... لا كما كان الذي ضل سبيله
ضاع شمشون بحب غادر ... وأنا ما كان لي يوما دليله
قيل لي مرت. . ومرت في سكينه ... لا ترى الباب ولا تلحظ دجونه
نهدت في خطوات لا تعي ... مثل هذا الطير يستجدى سجينه
لم أهن بعد، وما كانت لها ... لتمر اليوم تجترر عونه
أنت يا هذى ضلال صاحب ... فاتقى الأعين فيما تفعلينه
قد رأيت الباب، بل ما خلفه ... فبه حفنة آمال رهينه
إنها لي. . بل لأنثى حرة ... لا لطين في رواء الياسمينه
قيل مرت. . ثم ماذا ياغبية ... ليس حقلي ما ترويه شقيه
قذفتك النار شيطانا به ... أيريد القوت في أرض تقيه(955/38)
أنا تكفير أبينا آدم ... وحياتي مالها حوا دعيه
مالها فيك هوى أو بغيه ... وبها فيض أمان أزليه
مالها إلا انعتاق مطلق ... لذرى شم وراء الأبدية
أنا ذات. . فكرة. . بل نفحة ... إن خطت جاءت حياة سمديه
أحمد كمال زكي
مدرس بالمدرسة المحمدية
-(955/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الاتجاهات الأدبية الحديثة:
طلبت محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية إلى محرر هذا الباب، أن يتحدث إلى مستمعيها عن (الاتجاهات الأدبية الحديثة في مصر) فأعد لها هذا الحديث الذي سجل في (استوديوهات السيد بدير بالقاهرة) وأذيع مساء يوم الأربعاء الماضي. ويظهر أن المحطة ستذيع أحاديث أخر عن الاتجاهات الأدبية الحديثة في الأقطار العربية الأخرى. فأنشر حديث الاتجاهات المصرية فيما يلي، راجيا أن يتاح لي تتبع ما عسى أن يذاع عن الاتجاهات الأخرى، فأحدث به قراء الرسالة لنقف على وجهات النظر في عالم الأدب العربي الحديث بمختلف بلاده
وهذا نص حديثنا:
كان أساتذتنا شيوخ الأدب المصري، أصحاب دعوة جديدة في التوجيه الأدبي، ظهروا بها في الثورة على من عاصروهم من قدامى الأدباء، وقاموا بدورهم الخالد في نهضة الأدب العربي الحديث، ارتادوا آفاق الآداب الأوروبية، وهم ذوو ثقافة عربية ومواهب أصيلة، ثم كتبوا وألفوا، حتى جمعوا لنا هذه الثروة الأدبية التي تكون أدبنا الحديث
وموضوعنا - وهو (الاتجاهات الأدبية الحديثة في مصر) - لا أريد له أن يعنى أدب أولئك الأعلام وذلك لأمرين، الأول أن ذلك الأدب قد شبع من درسه والحديث عنه، الأمر الثاني أنه قد تقادم عهده بعض الشيء، وجد بعده أو معه أدب أولى منه بلفظ (الحديث) من الناحية الزمنية على الأقل.
وقبل أن نقصد إلى هذا الأدب الحديث، ونأخذ في تبين اتجاهاته، أحب أن أذكر أمرا أراده محور هذا الموضوع ذلك أن المسألة في اتجاه الأدب ليست مسألة الأدباء وحدهم، وإنما هي كذلك مسألة القراء، بل إننا إذا نظرنا إلى الكتاب كانوا قراء قبل أن يكونوا كتابا، ولعلهم أكثر الناس قراءة - إذا نظرنا إلى هذا وجدنا الأمر كله في توجيه الأدب راجعا إلى القراء، فالجيل من الناس يشعر بحاجاته، ويطلب من التفكير والتعبير ما يلائم روحه وعصره، فيخرج من صميمه كتاب يعربون عنه ويقودون أفكاره ,(955/40)
كان الأدباء قديما يلوذون بالملوك والمراء وأشباههم من الكبراء، لأنهم هم الذين يقرئونهم أو يسمعونهم، ويجزونهم على ما يقولون، ثم جاءت العصور الحديثة بالثورة على الطبقات الأرستقراطية، فتقدمت طبقات متوسطة إلى الصفوف الأولى في المجتمع وفي الحكم والسياسة. وقد تهيأت الفرصة للطبقة المتوسطة في مصر عن طريق التعليم في صدر هذا القرن العشرين، فارتفع منها أفراد إلى الطبقة العالية، وكان القراء يتكونون من هؤلاء وممن ظلوا متوسطين في حال حسنة، وكان حظ النوع الأول من الشعور بأنفسهم موفورا، وكان الآخرون المتوسطون يتطلعون إلى الأولين ويحاكونهم، فلم يكن يهم أولئك ولا هؤلاء ما تعانيه سائر طبقات الشعب من فقر وجهل ومرض. في هذه البيئة وفي ذلك الطور من الزمان نشأ أدباء الجيل الذي كان حديثا في ذلك الوقت، فكانوا لسان الطبقة المتوسطة ومن ارتفع منها.
وأرى من الضروري قبل الاسترسال في الحديث أن أنبه على أننا في هذا الموضوع بصدد اتجاهات الأدب، لا وصفه والحكم على قيمته، وأذكر كذلك أننا مضطرون إلى إجمال الكلام في هذا الحديث القصير، فليس ما نقوله ينطبق على كل الأدب وجميع الأدباء، وإنما هو على وجه العموم والأجمال.
كان أولئك الأدباء يحلقون في أجواء متعددة، وكان أكثر ما يطرقونه الدراسات الأدبية، دراسة الأدب العربي القديم، ودراسة الآداب الأوروبية القديمة والحديثة، ومنهم من اتخذ التاريخ الإسلامي مجالا للتأليف في عرضه وتحقيقه، ومنهم من اتخذ منه مادة لخيال أدبي وعمل فني. وهم كالطبقة التي صحبوا تقدمها في شدة الشعور بأنفسهم، فكانوا أحيانا يسرحون مع الخيال ويلزمون الأبراج العاجية، يستوحون فيها الخواطر والأفكار البعيدة عن معترك الحياة الدنيا، فإذا قصدوا إلى تصوير المجتمع لمسوه لمسا مترفا وعرضوه عرضا ملهيا يقصد منه الإقناع أكثر مما تلمس فيه الحرارة.
ثم تقدم الزمن وانتشر التعليم، وألحت الآلام على الناس في أعقاب الحرب الأخيرة، فأصبحوا ينظرون شزرا إلى تلك الآداب السابحة في أجواز الفضاء، ويعدونها ضربا من العبث، فهم لا يجدون فيها أنفسهم، ولا يرون بها صدى لما يشغلهم، فصاروا عنها من المعرضين.(955/41)
وقصد بعض الكتاب إلى الأدب الخفيف اللذيذ الخالي مما يفيد، أو الأدب الماجن الذي يشبه الصورة العارية، وكثيرا ما يرافقها، وذلك ليجتذبوا القراء، وانجذب القراء إليهم فعلا، فتخدروا حينا، ثم أفاقوا أو أخذوا يفيقون.
سادت الكتابة الخفيفة الفارغة والماجنة بعض السنوات في أعقاب الحرب، ولكن جاذبيتها أخذت تتضاءل بعد ذلك حتى كادت تمحى وأصبحنا نرى في السنوات الأخيرة كتابات تتجه إلى الشعب وتتناول مسائله ومشكلاته، تراها في الصحف وفي الكتب، وترى الناس يقبلون على قراءتها ويستزيدون منها، والذي يسترعي النظر أنك إذا ذكرت كلمة الأدب أمام بعض هؤلاء الكتاب أو أمام الذين يقرؤون لهم، بدا عليهم عدم الاكتراث، كأنهم يقولون: دعنا في حالنا! مالنا وللأدب. . وهم معذورون في ذلك، لأن تحليق المحلقين من الأدباء في عالم الكواكب والنجوم قد جنى على المفهوم العام للأدب، وصار كثير من الناس لا يفهمونه إلا على أنه مناقشة في الكلاسيكية والرمزية أو معركة على نسبة من الشعر إلى المتنبي أو أبي تمام!
وعلى ذلك أستطيع أن أقول إن الأدب الحديث في مصر يتجه الآن إلى الواقعية التي تهدف إلى صميم الشعب على أيدي كتاب من الشباب ومن الشيوخ أيضا، يوجههم القراء الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم، وهذا الاتجاه لا يزال في أوائله، وهو بطبيعة الحال سيزداد كلما انتشر التعليم وزاد عدد القراء من سواد الناس.
وأرى أن هذا الاتجاه لو يرد إلينا من الخارج، أن كان مصاحبا لأشباهه في البلاد الأخرى، وإنما هو وعي جديد مستمد من داخل النفوس. وقد حاول بعض الأدباء أن يستوردوا مذاهب أوروبية كالوجودية والرمزية والسريالية، ولكن أحدا لم يلق باله إليهم.
ذلك هو الاتجاه، وهو كما قلت شيء آخر غير قيمة الإنتاج في ذاته، ولا شك أن فيما يكتب كثيرا من الجيد الرائع، وفيه أيضا كثيرا مما تدفع إليه العجلة وحب الإكثار وابتغاء الكسب، وفيه مع هذا وذاك كثير من الهذر والإسفاف.
وإني متفائل بمستقبل الأدب في مصر، لثقتي بهذا الشعب الذي يتعلم فيكثر فيه القراء الذين سيوجهون الأدب ويحملون الأدباء على الإجادة بالإقبال عليهم، وبالتنبيه إلى قيمة ما يكتبون.(955/42)
ونسمع أحيانا من يعيب كتاب هذا الجيل لعدم عنايتهم باللغة والأسلوب، ويرد عليهم آخرون بأن المهم هو المعنى، ومعركة اللفظ والمعنى معركة قديمة، تثار من حين لآخر، ولاشك أن الذوق السليم يتطلب الجمال في كل شيء، فلماذا لا نطلبه في أسلوب الأدب ليكمل به جمال المعنى؟ وإذا اعتبرنا المعنى بمثابة الروح واللفظ بمثابة الجسد أفليس من الكمال أن يكون الروح الجميل؟ غير أنني لا أوافق القائلين بأن كتاب الجيل يهملون هذا الجانب في كتابتهم، فالجمال مسألة تتعلق بذوق العصر، فالفتاة العصرية - مثلا - تتبع في حليتها وتنسيق هندامها وثيابها غير ما كانت تصنعه الفتاة في العصور الماضية، وكذلك الأسلوب، فكما تركت الفتاة الأقراط الذهبية ذات الوزن الثقيل. وكما نبذت العقود ذات الأقراص المستديرة الكبيرة، وكما تحولت عن الألوان الزاهية الصارخة، كذلك فعل أدباء هذا الجيل، إذ جانبوا العبارات الطنانة والتراكيب الرنانة، ووجهوا همهم إلى الكلمة العذبة والأسلوب الأساس، أي أنهم يتجهون إلى البساطة واستخدام الكلام للوصول إلى الهدف، وليس معنى هذا أنهم أهملوا ناحية الجمال، وإنما هم يسيرون في اتجاه الذوق العصري العام الذي يؤثر جانب البساطة في كل شيء. ومما يلاحظ في هذا المقام أن أدباء الشباب جميعا متمسكون باللغة الفصيحة، لا نرى فيهم من يدعو إلى العامية، كما كان في الجيل الماضي من يدعو إليها، وكل ما في الأمر أنهم يريدون أن يطوعوها ويقربوا بينها وبين اللغة الدارجة برفع الدارجة إلى الفصيحة.
سيداتي وسادتي - لعلكم تلاحظون أنني إلى الآن قصرت الحديث على الكتابة، ولم أتعرض للشعر. إنني فعلت ذلك حقا لأن اتجاه الأدب إلى الحياة الواقعة في مصر إنما هو في ناحية الكتابة فقط، أما الشعر - على وجه الإجمال - فلم يتفضل بعد أن يأكل من طعام الناس ويمشي في أسواقهم.
ونرى أن الشعر المصري يسير الآن في اتجاهين: الأول إتباعي كلاسيكي، لا يزال أصحابه يقولون كما كان يقول القدماء، وينظرون إلى الأشياء كما كانوا ينظرون، وقد وصف أحد الظرفاء هذا الفريق من الشعراء بأنهم (شعراء الفنادق)، يستقبلون القادمين، ويودعون الراحلين، وتظهر على وجوههم دلائل مختلفة ليس فيها ما يدل على حقيقة ما يعتلج في نفوسهم. والاتجاه الثاني اتجاه خيالي فردي، وهو اتجاه المدرسة الحديثة، لا تزال(955/43)
مشاعر أصحابه معلقة بالحبيب الهاجر والبحيرة الساجية والخطرات المغرقة في التأمل السابح بعيدا عن حياة الناس.
وأعتقد أن تخلف الشعر عن النزول مع الكتابة إلى معترك الحياة، هو الذي جعل الناس ينصرفون عنه، أو هو على الأقل أحد الأسباب في هذا الانصراف. والكلام هنا - كما سبق أن قلت - إجمالي، فهناك من غير شك فلتات من الشعر تتصل بالحياة، وكما أن من الكتابة ما لا يزال بعيدا عن الحياة.
عباس خضر(955/44)
البريد الأدبي
علم يغيب
غيب الموت منذ بضعة أيام علما من أعلام فلسطين، هو المربي الكبير الأستاذ أحمد سامح الخالدي، فقد توفاه الله عن كهولة فاضلة، ممتلئة بالخير والتقوى والمروءة، ولقد وهب حياته منذ شبابه للثقافة والوطنية والمثل العليا، حتى غدا كاتبا مرموقا وعالما خبيرا بالتربية وأصول التدريس، أشرف على التعليم العام، وأدار الكلية العربية بالقدس الشريف بكفايته وتوجيهه إلى جانب بحوثه وتحقيقه، وله أشتات المؤلفات مطبوعة ومخطوطة، وقد نزح عن موطنه حين عدا عليه الأعداء، فأقام ببيروت عاكفا على التأليف والتصنيف، ومديرا لشركة الطيران اللبناني التي أسسها آل زوجته الأديبة الفضلى السيدة عنبرة سلام.
وكانت (الرسالة) حفية بمقالاته حتى عددها الأخير، فما أجدرها بالعزاء والتنويه بمآثر الفقيد الخالد.
ولعل الأيام القريبة تتيح لي القيام بهذا الواجب.
القاهرة
وداد سكاكيني
1 - إلى الأستاذ قطب:
أخي صاحب التصوير الفني في القرآن. . .
قرأت في البريد الأدبي من مجلة الرسالة الغراء العدد (951) تعقيبك على مقال السيد سامي أمين (النقد والشعر) فاستغربت من كاتب كبير له مكانة مرموقة في العالم العربي أن يتصدى للرد على أديب لم نسمع به عدا هذه المرة، ثم أخذني العجب مرة أخرى عندما عرض الكاتب نماذج من شعر السيد شاذل طاقة في العدد (951) من المجلة نفسها ولم يتعرض لشعر غيره من شعراء العراق المبدعين، فهذا الشاعر الذي تعرض لشعره السيد سامي أمين كان قد أصدر مجموعة من الهذر المنظوم (المساء الأخير) وعندما عرضت في أسواق بغداد لم تصادف الرواج لأنها ليست من الشعر بشيء لذلك أعرض عنها النقاد والأدباء.(955/45)
أنا شاكر لك حسن ظنك بالشعر العراقي حيث تقول: (وهذا الذي عرضه لا يمثل نهضة الشعر العراقي حيث تلتمع قوية مرموقة تشير إلى مقعد الزعامة الشعرية في العالم العربي، ولعل الفرص تسنح لعرضها قريبا (لأنك أثبت أنك وأخوك صديقنا المعداوي وصديقنا عباس خضر وأستاذنا الزيات فوق الريح الإقليمية والعصبية المصرية. أما نع آرائك في النقد فيكفي أنك صاحب كتاب (النقد الأدبي) و (العدالة الاجتماعية في القرآن) وأرجو أن لا تكون في المستقبل إلا في المكان المرموق الذي أتمناه لك ولأمثالك من النابغين، ومحيا الله مصر، واقبل من أخيك أصدق وأسمى آيات الإعجاب والإخلاص. .
2 - نسبة شعر:
قرأت في العدد الأخير من مجلة (المستمع العربي) التي تصدرها دار الإذاعة العربية بلندن مقالا للأستاذ (أبو الوفا محمود رمزي نظيم) عن الموشحات في الشعر نسب فيه الموشحة التالية إلى ابن المعتز الشاعر العباسي:
أيها الساقي إليك المشتكي ... قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته
ويشرب الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليه واتكا ... وسقاني أربعا في أربع
ونسبتها إلى المعتز خطأ شائع صححه العلامة المرحوم طه الراوي إذ أثبت بعد بحث وتنقيب أنها للشاعر الأندلسي (ابن زهر) وقد نشر المرحوم بحثه في مجلة (الرسالة) منذ سنوات ولا أتذكر الآن العدد المنشور به البحث. . .
3 - لمن هذا الشعر:
ذكر الأستاذ عبد العليم علي محمود في العدد (951) من الرسالة الحبيبة أن الأستاذ عبد الغني حسن الشاعر المعروف ينسب في كتابه (ملامح من المجتمع العربي) الأبيات الآتية إلى الجارية فضل:
لأكتمن الذي في القلب من حرق ... حتى أموت ولم يعلم به الناس(955/46)
ولا أقول شكا من كان يعشقه ... إن الشكاة لمن تهوى هي اليأس
ولا أبوح بشيء أكتمه عند الجلوس إذا ما دارت الكأس ونسبتها إلى فضل بل هي إلى الشاعر العباسي علي ابن الجهم حسب ما قرأها في الجزء الثاني من كتب المنتخب. .
وأقول أنا (بأن لدى نسخة من ديوان علي ابن الجهم) بتحقيق صديقنا معالي العلامة الشاعر خليل مردم بك سكرتير المجمع العلمي العربي بدمشق ووزير الشام المفوض فوق العادة ببغداد الآن فلم أعثر على الأبيات المذكورة آنفا في الديوان، وهو ديوان بذلت في سبيل إخراجه على هذه الصورة جهود لا تنكر، ولا أخال أن تلك الأبيات إلا لعباس بن الأحنف الشاعر الغزل المشهور لأنها أقرب لعاطفته، ورغم ذلك فهل في الباحثين من أدباء العرب من يعرف نسبة الأبيات المذكورة فيرشدنا لها وله منا ألف تحية وإعجاب؟!
4 - غنوة وغنية:
أخذ الأستاذ الفاضل عبد الفتاح الجزار من إلصاقية في العدد 951 من مجلة الرسالة الغراء بأن كلمة (غنوة) لا تدل على الاكتفاء واليسار ولكن كلمة (غنية) بالضم هي التي تدل كما في مختار الصحاح، وإيضاحا لذلك التنبيه أود أن ألفت نظر الأستاذ الجزار إلى كلمة وغنية وغنوة هما في معنى واحد وهذا هو الدليل. .
جاء في الصفحة (374) من لسان العرب لمؤلفه ابن منصور الأندلسي المتوفى سنة 711هـ. وهو أقدم مؤلفي المعاجم بعد ابن دريد صاحب (الجمهرة) المتوفى سنة 321 الذي يعد أقدم من وضع المعاجم في العربية، مادة (غنا) ما يلي:
استغنى الله سأله أن يغنيه قال وفي الدعاء اللهم إني أستغنيك عن كل حازم وأستعينك على كل ظالم، وأغناه الله وغناء (التشديد) وقيل غناه في الادعاء وأغناه في الخير والاسم بالسكون أيضا والغنيان وتغانوا أي استغنى بعضهم عن بعض قال المغيرة بن حيناء التميمي:
كلانا غنى عن أخيه حياته ... ونحن إذا فتنا أشد تغانيا
واستغنى الرجل أصاب غنى
وجاء في الصفحة 271 المجلد العاشر من (تاج العروس) للسيد محمد مرتضى، الزبيدي المتوفى سنة 1205 هـ مادة (غنوة).(955/47)
الغنوة بالضم قال الكسائي هو الغني وتقول لي عنه غنوة أي غنا وجاء في الجزء الرابع ص 364 من القاموس المحيط للفيروز أبادي الطبعة الثالثة ببولاق مصر سنة 1302 مادة (الغنى)
والغنوة بالضم الغنى تقول لي عنه غنوة والغنوة والغنيان بالضم والاسم الغنية بالضم والكسر وكلها بمعنى اليسار والاكتفاء كما قلت في 949 من الرسالة.
ومن هذا أود أن يعرف الأستاذ الجزار بعد شكري له على ملاحظته أنني لا أعتمد على مختار الصحاح بقدر اعتمادي على لسان العرب لأن الفرع يجب أن يتبع الأصل والفضل للمتقدم كما قد قيل.
عبد القادر رشيد الناصري
فتح الحرم المكي في الليل:
جاء في التلخيص الذي قدم به المرحوم الأستاذ سامح الخالدي الرحلة الحجازية لسيدي مصطفى البكري الجملة الآتية في ص977 من العدد 947 الصادر في 24 من ذي القعدة هذه السنة ما يأتي:
(وكيف كان الحرم في مكة يفتح خصيصا لأمير الحج الشامي). وهي عبارة توهم أن الحرم المكي كان يغلق في الليل وهو أمر لم يحدث لأنه يمنع الطواف. والطواف لا يمنع في أي وقت. وإنما وهم الأستاذ الخالدي فظن أن البيت هو الحرام. وذلك أن الشيخ البكري ذكر في ص 1009 العدد 948 من الرسالة ما يأتي: (فأيقظني رفيقي برفق وقال قم فإن البيت فتح للأمير الشامي الكبير الخ.) وبديهي أن المراد من البيت هو الكعبة المشرفة زادها الله تعظيما وأما الحرم فالمراد منه عرفا هو المسجد الكبير المتسع المحيط بالكعبة والمحتوى على المطاف وبئر زمزم - وأقول عرفا لأن حقيقة الحرم هي ما يدخل ضمن أعلامه التي هي من الشرق قرب عرفات ومن الغرب الشمسي قرب الحديبية ومن الشمال التغيم أي مسجد السيدة عائشة وهكذا.
لذا أرجو نشر هذا تصحيحا لعبارة المغفور له الأستاذ الخالدي.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام(955/48)
عبد السلام النجار(955/49)
القصص
اللص الشريف
للكاتب الأمريكي الفكاهي ستيفن ليكوك
ترجمة الأديب مصطفى أبو غربية
- سأقص عليكم أيها السيدات والسادة قصتي، ولكم الخيار أن تصدقوا أو لا تصدقوا ما حدث لي. أما أنا فما علي إلا أن أروي الحادثة بدون زيادة ولا نقصان فأعيروني أسماعكم بضع دقائق.
في صباح أحد أيام الأسبوع وقع نظري على شاب وسيم الطلعة، واقفا أمام شباك التذاكر في إحدى دور السينما، فقلت في نفسي - لقد سبق أن رأيت هذا الشاب مرات واقفا أمام شباك التذاكر، فمن المحتمل أن يكون هناك سرا. ولم يخب ظني - ففي لمحة البصر مد الشاب يده إلى جيب جاره وأخرجها بخفة وبها محفظة نقوده، وبكل هدوء وسرعة دسها في جيبه وسار بخطى متئدة بعيدا عن شباك التذاكر خشية أن يراه أحد.
وكنت لما أزل طالبا أدرس العلوم الجنائية، فأنا لست من رجال الشرطة ولم تكن مهمتي مراقبة اللصوص ومطاردتهم، وقد سبق لي أن كتبت مقالة عن العلوم الجنائية وقد حازت إعجاب كل من قرأها. ولم يسبق لي أن تفهمت أو درست عقلية اللصوص النشالين أو شاهدتهم يسرقون، ولأول مرة أرى فيها هذا اللص يمارس مهنته في مثل هذا المكان، ففكرت في الأمر عاجلا وقلت في نفسي - هل أترك الفرصة تمر بدون أن أستفيد منها؟ فلماذا لا أتتبع خطوات هذا اللص وأقف على حقيقة أمره - والدافع الذي يدفعه لارتكاب مثل هذه الأعمال. فلحقت بالشاب الذي نشل المحفظة من جيب جاره ورأيته داخلا صالات الرقص فتبعته مقتفيا أثره، ثم دنوت منه وابتدرته قائلا - هل لي أن أجالسك؟ ولا يريبك أمري، فأنا لست من رجال الشرطة ولا ممن يودون مشاركتك في غنيمتك، فلا تقلق ولا تضطرب فكل ما هنالك أنني طالب يدرس العلوم الجنائية وكاتب صحفي مبتدئ، وقد لمحتك منذ فترة من الزمن قد مددت يدك إلى جيب جارك وأخرجتها بحافظة نقوده، وانسللت بخطى بطيئة. وتبعتك إلى أن دخلت هنا فلا تخف شيئا من أمرك عني، فهل لنا(955/50)
أن نتحدث بضع دقائق؟
فابتسم الشاب ولم يضطرب ولم يرتب، وأجابني قائلا - إنني أعرف أنك لست من رجال الشرطة، ومن الواجب علي أن أخبرك بأنني أنا أيضا لست من اللصوص المجرمين، ولكن لي رجاء أرجو أن تسمح لي بأن نواصل حديثنا في مكان يفضل هذا المكان. فأجبته بالقبول، وخرجنا من الصالة وقد تأبط الشاب ذراعي كأن صداقتنا وطيدة منذ زمن وبدون كلفة وسرنا معا في طريق مؤدية إلى سوق عمومية تزدحم فيه عربات الخضار والمشروبات المنعشة وتكثر فيه بائعات اللبن وهنا أشار الشاب إلى امرأة عجوز ممن جلسن وراء عربة لبيع اللبن وفي يدها وعاء فارغ انهمكت في تنظيفه بعد أن أفرغته لأحد المشترين.
فسألته - هل عزمت على سرقة هذه العجوز المسكينة؟
فابتسم ولم يجب - ولكنه تركني واتجه نحوها وألقى في وعاء اللبن الفارغ المحفظة التي سرقها عند شباك بيع تذاكر السينما، وعاد إلي متأبطا ذراعي وتابعنا مسيرنا من جديد. وابتدرني قائلا - أظنك أدركت الآن ما هي رسالتي التي اؤديها؟ وحسبي أنك فهمت ما هو العمل الذي أسعى من أجله؟ - أنني من محبي حفظ التوازن بين حظوظ الناس وثرواتهم - فكل ما ابغي أنني أساعد المساكين الفقراء! فها أنا أسرق من الأغنياء وأعطى الفقراء، آخذ من ذلك المترف الغني محفظة نقوده وألقيها في وعاء لبن هذه المرأة العجوز المسكينة المحرومة من نعم الدنيا، فها هي الحكومات تتقاضى الضرائب والرسوم من الأثرياء وأصحاب العقارات والدخل السنوي لتنفقه على المعدمين الفقراء، فأنا أساعد الحكومة بقدر أستطاعتي، وثق أنني أفعل هذا بالرغم مني مدفوعا بدافع غريزي لا أستطيع مقاومته، وقد دأبت على فعله منذ نعومة أظفاري. . . ولكن هيا بنا لنذهب لبيتي حيث أطلعك على السر كله - هل تحب؟ فأجبته بكل سرور - فقال إنك سترى على باب بيتي اسما محفورا على لوحة نحاسية (بيت شريف) وقد يحملك هذا الاسم على التفكير، فلا داعي إذن للتفكير فهو اسم والدي عن جدي - إن أجدادي كلهم كانوا يحترفون العمل الذي أحترفه اليوم. سنجد باب الدار مقفلا، وقد تكون مريم خرجت لزيارة إحدى صديقاتها. وفعلا وجدنا الباب مقفلا ولكنه قال لي سندخل من باب المطبخ - تعال معي - فدخلنا ودعانا الشاب للجلوس(955/51)