حاوله، أو بقى الناس الفتنة به، فمن وراء فتنة الناس (بالصاحب) الفاضل دون المبدأ نسيانهم المبدأ الذي فتح إيمانهم به سبل النمو والازدهار لمواهبهم، وبلغهم ما بلغوا من الفضل والكفاية، وفي ذلك ما فيه من خسران كل جهاد في سبيل استقرار المبدأ وانتشاره، فإن الناس إذا تحولوا عن الإيمان بالمبدأ إلى الإيمان بتابعه الذي لم يكن فاضلا إلا به خسروا كل قوى الإيمان الدافعة التي استجاشها المبدأ في سرائرهم، وفقدوا الإحساس بكل الصلات التي تربطهم بالوجود، وما كانوا ليحسوا بها دون الإيمان بهذا المبدأ، وبذلك يفسد إيمانهم ذاته وتفسد معه كل آثاره، وفي ذلك فساد الفاضل الذي هم مناط فتنتهم، وفسادهم هم لكل أسباب الفساد التي ذكرنا. وقد لا تفسد فتنة الناس بالفاضل فضله، فلا يفسدون طول حياته مع فساد إيمانهم بالمبدأ، ولكنهم خليقون بعد موته أن يخسروا أنفسهم بذهابه بعد أن خسروا في حياته إيمانهم بالمبدأ، وخسروا كل قوى الدفع والتماسك التي ابتعثها الإيمان بالمبدأ في نفوسهم، على أن خسران الإيمان بالمبدأ وخسران آثاره لا بد أن تظهر بعض عواقبه الوخيمة في حياة الفاضل، ولا بد أن تظهر كلها بعد موته. هذا إلى أن عمر الفاضل - مهما يطل - قصير، أو هو على الأقل غير قابل للامتداد كعمر لمبدأ. ومن أجل ذلك كان هم المصلحين في كل زمان ومكان أن يثبتوا في نفوس الناس الإيمان بالمبادئ دون الأشخاص ولو كانوا هم عباقرتها، لأن أعمار الأشخاص قصيرة، وأعمار المبادئ قابلة للامتداد، ولقد أصاب أبو بكر إذ قال بعد موت النبي (ص) وهو يخطب الصحابة (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)
وإذا كنا قد أشرنا قبل إلى أن الممتاز في استعمال العبقري على الطريقة الأولى لا يعدو أن يكون (رقما) في عملية جمع حسابية كبيرة أو صغيرة، فما أحرانا أن نشير إلى أنه يبدو في استعماله على الطريقة الثانية (رقما) في عملية ضرب حسابية سواء أكان المضروب فيه كبيرا أم صغيرا، فكل رقم في المضروب فيه الرقم الممتاز يبدو أعظم من حقيقته، وحسبنا لفهم ذلك أن نقارن بين حالين لجماعة من الجماعات سواء كانت أمة أم قبيلة أم حزبا أم نقابة أم جيشا: حالها وقد ولى أمرها رئيس عاجز، وحالها والمدبر لأمرها رئيس كفء، إن الجماعة في حالها الأولى تبدو مختلفة اختلافا كثيرا عنها في الحالة الثانية، وقد تبدو في الحالتين وكأنها جماعتان مختلفتان كل الاختلاف، لا جماعة واحدة في حالين لا اختلاف(931/25)
فيهما عليها إلا استبدال رئيس فرد برئيس فرد. والبيانات من التاريخ على ذلك ولا سيما تاريخ الحروب، فكثيرا ما فشل جيش في مهمته بعد أن حاول النجاح فيها طويلا، فلم يكن من الحاكم إلا أن استبدل قائدا بغيره، فنجح هذا الجيش في مهمته، كأنما أمده الحاكم بالألوف من الجنود والمعدات ولم يمده بقائد فرد. إذ يبدو كل مقاتل تحت لواء القائد الممتاز وكأنه شريك قائده في امتيازه، وله منه مثل ماله. فالقائد هنا ليس رقماً جمع إلى أرقام، بل رقماً يضاعف الأرقام التي تسند به أضعافاً بمقدار امتيازه. ولا تقل البينات على ذلك في تاريخ الإدارة عنها في تاريخ الحروب
وما أشبه استعمال العبقري أصحابه على الطريقة الأولى بإحراقنا عدة أرطال من الفحم تحت قدر لإنضاج ما فيها من الطبيخ واستعمالنا المراد بكميات كبيرة في أغراض كثيرة كهذا الغرض، بينما هباءات من الفحم تفنى في إنضاج ملء مئات من القدور لو فجرت قواها تفجيراً ذريا، وكذلك لو استعملنا تفجير الذرات في نحو هذا الغرض كتسيير القطر والسفن وإدارة الآلات المختلفة لأغني عن الكميات الكبيرة التي نستعملها من المواد في هذه الأغراض، معشارها أو أقل منه، واستعمال العبقري صحابته على الطريقة الثانية يشبه استعمالا ذريا كما أشرنا هنا، فقد يفنى الممتاز وحده في موضع امتيازه ما لا تفنى أمة كاملة من غير الممتازين.
للكلام بقية
محمد خليفة التونسي(931/26)
3 - الحاج خواجة كمال الدين
(187 - 1932)
للأستاذ أرسلان بوهانووكز
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
ذكريات حزينة
شاع الحزن في البلاد الإسلامية عندما وصل النبأ المفزع - مات خواجة كمال الدين - والحملة العنيفة المركزة التي كانت عليه في إنجلترا قد هدأت، وأخذ الناس في جميع بلاد الإسلام. ينظرون إليه نظرة الإكبار والإجلال، وكان الشعور بالحزن بالغا عليه أقصى مداه في تلك البلاد. . . فتلقت أسرته وإمامة المسجد في وكنج سيلا من الرسائل التي تفيض بالحزن العميق، وتعبر عن الخسارة الفادحة التي أصابت المسلمين
أما في لاهور، فقد احتشد جم غفير من المسلمين في قاعة الكلية الإسلامية في الثامن من كانون الثاني 1933، ورأس ذلك الاجتماع السر شهاب الدين صاحب، رئيس الجمعية التشريعية في البنجاب. وقد أجمع الخطباء في ثنائهم على السياسة الحكيمة التي سار عليها في وكنج، وأشادوا بالأعمال التي أداها في ديار الغرب للإسلام، وأهابوا بالناس أن يثابروا على العمل العظيم الذي بدأه في بلاد الإنجليز
وفي اليوم السابع عشر من آذار 1933 جرى احتفال رائع بافتتاح المكتبة التذكارية وقاعة المطالعة الملحقة بها، وقد أطلق عليها اسمه، وقد أقيم لهما بناء ضخم، آية في الجمال، وألحقتا بمسجد بيجام شاند بورتيرا في البنغال. وقد كانت هذه المؤسسة الأولى من نوعها في ذلك الوقت، وسن لها نظام يشابه نظام وكنج للسير بموجبه في أعمالها ومناهجها
وعقدت عشرات من الاجتماعات في البلاد الإسلامية بعد عام 1932 للاحتفال بذكرى وفاته، ونشرت الصحف عشرات المقالات في هذه الذكرى، وقد جمع عدد كبير من هذه المقالات، ووصفت تلك الاحتفالات في عدد تذكاري من إسلامك ريفيو صدر في أبريل - أيار 1933، ومما ورد في ذلك العدد ملخص لمقال نشرته مجلة (ليث) قالت فيه:
لقد عودنا القراء في مطلع كل سنة جديدة أن نقدم لهم رسالة ترفع أعينهم إلى النور،(931/27)
ونحسب أننا في هذه السنة لا نجد رسالة أروع من قصة موت جندي الإسلام الشهيد العظيم خواجة كمال الدين. إن قصة حياته لأبناء وبنات المسلمين أروع أمثلة البطولة، ولكم نرجو لو أن كل نقطة من دم الراحل الذي سقط شهيدا تحت راية الجهاد، تتحول إلى ينبوع في القلوب يملؤها بحب الإسلام وإعلاء كلمته، والتفاني في خدمته
سجاياه العالية
كل ما ذكرناه عن شخصية خواجة كمال الدين لم يكن غير المظهر الخارجي الذي نستطيع أن نلمحه من وراء آثاره المكتوبة ومن النتائج الخطيرة التي انتهت إليها تلك الأعمال. وهذه الشخصية الجبارة لم يستطع النفوذ إلى بعض أسرار العظمة فيها غير اؤلئك الذين كانت لهم صلات مباشرة معه في حياته وأعماله ولكي نفتح الباب الذي يؤدي إلى هذه الشخصية نقبس بعض الفقرات التي كتبها عنه أصدقاؤه المقربون. كتب المحامي الإنجليزي الشهير المستر بكتال في سبيل التحدث عن رقته، وجلده، وحنانه، وإنسانيته، يقول: (لقد ولد بالفطرة محاربا من الطراز النادر في سبيل القضية التي وقف عليها حياته، ولم يعترف بالهزيمة أبدا، وكانت الابتسامة لا تفارق شفتيه، وكان لا يرى غير الناحية المشرفة من الأشياء والناس، سائرا في طريقه قدما لا يلتفت وراءه، يقابل كل خيبة أو فشل بإعادة آية من كلام الله. . لقد كان وفيا في صداقته إلى أبعد حدود الوفاء، لبقا، كريم السجايا، وفوق كل شيء كان متزنا جداً)
وكتب عنه زميله في العمل الدكتور جيلان محمد من لاهور بالباكستان يقول: (وحتى وهو تحت وطأة المرض الشديد، لا يستطيع الحراك من فراشه، لم يتحلل من العمل المضني الذي فرضه على نفسه. لقد كان صورة رائعة للجلد والاحتمال والصبر - وكأنه عمود من القوة والجبروت، أو برج شاهق من النور يشع على ما حوله. . . كان وديعا، رائعا، يفيض قلبه بالحب، وكان الإحساس يتدفق من طبيعة عميقة. . . .)
ولعل اللورد هدلي قد وفق في التعبير عن عواطف الحزن العميقة حين فجعه الموت في صديقه الحميم؛ فعبر عن كل ذلك الحزن أو بعضه بكلمات تنفذ إلى مواطن الشعور من النفس الإنسانية، فيها بساطة التعبير وعمق الإحساس. (نحن نبكي اليوم لفقد مسلم لا مثيل له في العصر الذي نعيش فيه. . . فلقد ترك أخونا العزيز وراءه مثلا جميلا لحياة طاهرة،(931/28)
قضاها في منفعة الآخرين فإن روح الإسلام قد أشرقت على جوانب تلك الشخصية العظيمة فغدت فوق الأرض نموذجا رائعا في حياتها اليومية، في خشوعها نحو الخالق. . . لقد تلاقى في تلك الشخصية النادرة، قلب رحيم وعقل عبقري. . . لا أذكر أنني سمعته مرة يتفوه بكلمة تمس شعور أي إنسان. . . وأولئك الذين كانت الظروف تسعدني بتقديمه إليهم؛ لم يلمسوا في حديثه أو سلوكه أي شيء من التعب). . . وبعد أن يحدث اللورد هدلي عن المجهود الجبار الذي بذله في التعليق على آي الكتاب الكريم؛ ختم ذلك الحديث الرائع بهذه الكلمات. . . (لقد واتتني الظروف فاطلعت على طريقته في تفسير كلام الله، وكيف كانت حياته صورة حية لتلك المعاني الألمعية)
جهاده في سبيل الإسلام
إن ما تركه اللورد هدلي في آخر حديثه لينطبق تمام الانطباق على الطريقة التي سار عليها خواجة كمال الدين في الخدمات الجلي التي قام بها لرفع لواء الإسلام. لقد أدرك جيدا أن نجاح أجدادنا في صدر الإسلام لم ينبعث إلا من السير وراء تعاليم الدين، وإن الأحفاد حينما استظلوا بغير لواء هذا الدين انقلبوا من غزاة تهتز الدنيا رعبا وهلعا من سيوفهم، إلى جيل من العبيد، لا يقام لهم وزن في حساب الكرامة بين البشر، وغدوا مجموعة من الجهلة المتأخرين، بعد أن كانوا ينيرون ظلام العالم بمشعل العلم والعرفان. . .
ولكن الخدمة التي أداها خواجة كمال الدين للإسلام لم تقتصر على فتحه الطريق المغلق إلى مرضاة الله في وجوهنا، وإنما دفعنا بسرعة فوق هذا الطريق بما بذل من جهود جبارة مستمرة جعلت هذا الطريق صالحا للسير، وبما وضع في بصائرنا من زاد التقوى. والوسائل التي مهد بها ذلك الطريق الوعر لم تكن غير آثاره الفكرية الرائعة التي لم نعرف عنها حتى الآن إلا القليل، ومن أبرز تلك الآثار الحية مجلة إسلامك ريفيو، والجمعية الإسلامية لإشاعة الإسلام في وكنج
لقد حاول آخرون قبله نشر الإسلام في أوروبا، ولكن الله أراد أن لا يتم النجاح إلا على يد خواجة كمال الدين. وعلى الرغم من مرور سبعة عشر عاما على وفاته فإن ثمرة ذلك العمل ما تزال في جدتها، وكأنها من عمل الحاضر تتجدد على مرور الزمان ماثلة أمام أعيننا(931/29)
لقد ذكر المستر مارما دوك بكتال مترجم القرآن إلى الإنجليزية وهو يتحدث عن هذا الأمر فيما يتصل ببلاد الهند. . . (أن أعماله في إنجلترا ليست غير جزء من عمله العظيم، ولم أستطع إدراك ذلك حتى أتيت إلى الهند فلمست الأثر المباشر لكتاباته عن مبادئ الدين، وعملها في بعث الحياة في العالم الإسلامي الذي يغط في سبات الغفلة، ليس في الهند فحسب وإنما في كل جزء من أجزاء العالم الإسلامي، حيث أخذت الحمية والحماسة والوعي تأخذ طريقها إلى قلوب الأجيال الجديدة من المسلمين. . .)
وقال المستر يعقوب خان (إن الأجيال الجديدة من المسلمين الذين تتلمذوا على الحضارة الغربية، وقفوا مندهشين وهم يرون مبادئ الإسلام تنحني لها رقاب الطبقات التي تحكمهم خشوعاً وإكباراً، وتدخل في دين الله أفواجا، فراحت تذوب من نفوسها رذائل الشعور بالنقص، وأخذت تدرك أن الإسلام ليس الدين الذي يخجل الإنسان من اعتناقه. هذا هو العامل الأساسي الذي حفظ للإسلام شبابه من التدهور في مادية الغرب الإلحادية، وأعادهم إلى حظيرة الدين الحنيف. . .)
أما في بلاد الإنجليز. فقد أتم الله على يدي خواجة كمال الدين نصر الإسلام، وأضحى دين الإنسانية الذي يعتز الناس بالانتساب إليه، وجعل الإنجليز يدركون في سهولة ويسر المشاكل التي يتعرض لها العالم الإسلامي في علاقاته معهم
والباكستان - مسقط رأس خواجة كمال الدين - الدولة الإسلامية الفتية التي تسير في الطليعة رافعة علم الإسلام عاليا أمام العالم الإسلامي، ليس لأنها أكبر دولة إسلامية، بل لأن المسلمين فيها تدفعهم جميعا رغبة عنيفة ملحة لخدمة مبادئ الدين بأوسع ما في الخدمة من معنى، والباكستان نفسها مدينة بما يضطرم في نفوس أبنائها المسلمين من الحماس الديني - إلى حد بعيد - إلى خواجة كمال الدين
لقد قدر لبعض الناس في سير الحياة أن يؤسسوا الممالك ويشيدوا أمجادا طواها التاريخ وألقاها في نهر الحياة المتدفق ليحملها إلى ما وراء الحياة مع أصحابها، ولكن الله أراد أن يكون خواجة كمال الدين الدعامة التي قامت عليها نهضة الدين الحنيف، ذلك الدين الذي يدعونا إلى محبة الذين حولنا، وهذا الشعور هو أثمن ما ربحته الإنسانية في مسيرها الطويل من تراث خالد عظيم. .(931/30)
رحم الله خواجة كمال الدين رحمة واسعة. بما قدم للإسلام من خدمات ستبقى ما بقي الدين مشرقة مع الشمس والقمر. ذلك المجاهد الذي كان يقنع من دنياه بمائدة يستعملها في النهار للكتابة والطعام، وينام عليها إذا أقبل الليل في وكنج
وحيا الله الأمة الباكستانية العظيمة التي أنجبت خواجة كمال الدين، ومكن لها في دنياها ودينها، ونصر بها الحق، وأمدها بروح من عنده
بغداد - أعظمية
علي محمد سرطاوي(931/31)
5 - الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا
بمناسبة مرور ألف عام على وفاته
للأستاذ ضياء الدخيلي
ويحدثنا أبن خلكان عن أسلوب الفارابي في التأليف فيقول (وكان أكثر تصنيفه في الرقاع ولم يصنف في الكراريس إلا القليل؛ فلذلك جاءت أكثر تصانيفه فصولا وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصا منثورا) ولعل هذا الذي ذكره أبن خلكان هو علة ما وجده صاحب (التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) من غموض واضطراب في بعض الأحايين
وهذا أندلسي من القرن السادس الهجري يثني على الفارابي ويفضله على أبن سينا والغزالي، فقد جاء في عيون الأنباء في ترجمة أبن باجة أن أبا الحسن عليا بن عبد العزيز بن الإمام من غرناطة وكان كاتبا فاضلا متميزا في العلوم وصحب أبن باجة مدة واشتغل عليه - إن أبا الحسن هذا قال في صدر المجموع الذي نقله من أقوال أبن باجة الفيلسوف الأندلسي - في العلوم الفلسفية - قال ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فإنه إذا قرنت أقاويله بأقاويل أبن سينا والغزالي وهما اللذان فتح عليهما بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم ودونا فيها - بان لك الرجحان في أقاويله وفي حسن فهمه لأقاويل أرسطو، والثلاثة أئمة بلا ريب
وكان أبن باجة السرقسطي من رجال القرن السادس الهجري وقد توفى شاباً بمدينة فاس ودفن بها، وكان من جملة تلاميذه أبن رشد. وذكروا في مؤلفات محمد بن باجة تعاليق على كتاب أبي نصر في الصناعة الذهنية (أي علم المنطق)
فها أنت ترى كيف أن شهرة الفارابي كانت قد طبقت العالم الإسلامي وعبرت البحر إلى الأندلس. وقد ذكر أبن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في جملة مؤلفات أبي الوليد بن رشد كتابا فيما خالف فيه أبو نصر الفارابي أرسطوطاليس في كتاب البرهان من ترتيبه وقوانين البراهين والحدود
ومن مصر الطبيب أبن رضوان عام 459هـ وكان في عهد الحاكم - تحدث عن كتب العارفين التي يشهد بفضلها ويعتز بها، فذكر كتب أفلاطون وأرسطوطاليس والإسكندر وثامطيوس ومحمد الفارابي، قال وما انتفع موجود به فيها وما سوى ذلك إما أبيعه بأي ثمن(931/32)
اتفق، وإما أن أخزنه في صناديق، وبيعه أجود من خزنه
وهذا الشيخ موفق الدين عدنان بن العين زربي كان من أهل عين زرية وأقام ببغداد مدة، واشتغل بصناعة الطب والعلوم الحكمية ومهر فيها وخصوصا في علم النجوم، ثم بعد ذلك انتقل من بغداد إلى الديار المصرية وتميز في دولتهم، وكان من أجل المشايخ وأكثرهم علما في صناعة الطب فيما يقوله ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء - ولقد ذكر له الرسالة المقنعة في المنطق وبين أنه ألفها من كلام أبي نصر الفارابي والرئيس ابن سينا، وقد توفى ابن العين زربي سنة 548هـ بالقاهرة، فهو من القرن السادس الهجري
ولنقفز الآن قفزة عريضة إلى أوربا فنسمع دي بوير في جامعة أمستردام في هولندا يقول في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) كان الفارابي رجلا ممن يخلدون إلى السكينة والهدوء وقد وقف حياته على التأمل الفلسفي يظله الملوك بسلطانهم، ولد في (وسيج) وهي قرية صغيرة حصينة تقع في ولاية فاراب من بلاد الترك فيما وراء النهر، وقد حصل على علومه في بغداد وقرأ بعضها على معلم مسيحي وهو يوحنا بن جيلان الذي توفى بمدينة السلام في أيام المقتدر، وقد ألم الفارابي في دراسته بالأدب والرياضيات، ويدلنا بعض مؤلفاته ولا سيما في الموسيقى على أنه درس الرياضيات، وتقول الأساطير إنه كان يتكلم بلغات العالم كلها (سبعين لغة) وقالوا أنه من براعته في الموسيقى أضحك الجالسين ثم أبكاهم ثم أنامهم وانصرف. ويرى (دي بوير) أن الفلسفة التي تدرب عليها الفارابي يرجع أصلها إلى مدرسة مرو، والظاهر أن أعضاء هذه المدرسة كانوا يعنون بمسائل الإلاهيات أكثر مما عني بها أهل حران والبصرة، فقد كان ميل هؤلاء متجها إلى الفلسفة الطبيعية
وكل حديثنا السابق أو جله كان يدور حول فلسفة الفارابي، ولكن كم لهذا الرجل الفاضل من مزايا أخرى يجدر بنا الوقوف عندها، فمنها عبقريته في الموسيقى التي أشار إليها (دي بوير) وقد قال أبن أبي أصيبعة في عيون الأنباء إن الفارابي كان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غاياتها وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه، ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع منها ألحانا بديعة يحرك بها الانفعالات. وقال (كارادفو في دائرة المعارف الإسلامية: وكان الفارابي موسيقاراُ معروفاً ونحن مدينون لقلمه في تدبيجه رسالة ذات أهمية بالغة في الناحية النظرية من الموسيقى الشرقية، وكان هو بنفسه موسيقاراً فنانا(931/33)
هاويا وفنانا مؤلفا، وأن نبوغه أثار إعجاب سيف الدولة الحمداني، وأن الدراويش المولوية لا يزالون يرتلون الأغاني القديمة المنسوبة إلى الفارابي (راجع مادة من دائرة المعارف الإسلامية) ويقول زكي علي تحت عنوان (أوربا مدينة للحضارة الإسلامية) من رسالة نشرتها دار المكشوف في بيروت باسم (أوربا والإسلام) - وساهم المطربون والموسيقيون العرب في تقدم الفن الغنائي وتحسين آلة الطرب. ويعود الفضل إلى الفارابي (من القرن العاشر الميلادي) في القضاء على النظريات الموسيقية القديمة، وفي تفسير الإيقاع وكيفية حصول الأنغام. وقد اخترع الموسيقيون العرب الموسيقى الموقعة. وعنهم أخذت شبه الجزيرة الأيبرية وبالتالي أوربا كلها آلات الطرب؛ ومنها العود والرباب والقيثارة والطبل. ويظهر أن بعض فلاسفة العرب كان يملك اطلاعا واسعا وغريبا على الموسيقى وأثرها في الإنسان. وقد كانوا يستخدمونها في الطب وتنقل عنهم في هذا الباب قصص نقف بين يديها حائرين، فقد نقل القفطي في أخبار الحكماء في ترجمة يعقوب بن اسحق الكندي الفيلسوف العربي الشهير أنه استدعاه جاره للنظر في أبنه الذي اعترته سكتة فجأة فأجاب وصار إلى منزل التاجر، فلما رأى أبنه وأخذ مجسه أمر بأن يحضر إليه من تلامذته في علم الموسيقى من قد أنعم الحذق بضرب العود، وعن الطرائق المخزنة والمزعجة والمقوية للقلوب والنفوس، فحضر إليه منهم أربعة فأمرهم أن يديموا الضرب عند رأسه وأن يأخذوا في طريقة أوقفهم عليها، وأراهم مواقع النغم بها من أصابعهم على الدسانين ونقلها، فلم يزالوا يضربون في تلك الطريقة والكندي آخذ مجس (نبض) الغلام، وهو في خلال ذلك يمتد نفسه ويقوى نبضه، ويراجع إليه نفسه شيئا بعد شيء إلى أن تحرك ثم جلس وتكلم، وأولئك يضربون في تلك الطريقة دائما لا يفترون، فقال الكندي لأبي الولد: سل أبنك عن علم ما تحتاج إلى علمه، فجعل الرجل يسأل وهو يخبره، ويكتب شيئا بعد شيء فلما أتى على جميع ما يحتاج إليه غفل الضاربون عن تلك الطريقة التي كانوا يضربونها وفتروا، فعاد الصبي إلى الحالة الأولى وغشيه السكوت فسأله أبوه أن يأمرهم بمعاودة ما كانوا يضربون به، فقال هيهات، إنما كانت صبابة قد بقيت من حياته. ولا سبيل لي ولا لأحد من البشر إلى الزيادة في مدة من قد انقطعت مدته، وقد كان ذلك التاجر من كبار التجار موسعا عليه في تجارته وكان أبنه هذا قد كفاه أمر بيعه وشرائه، وضبط دخله وخرجه،(931/34)
فعرضت لأبنه السكتة فجأة فورد عليه من ذلك ما أدهله وبقي لا يدري ما الذي في أيدي الناس وما لهم عليه، مع ما دخله من الجزع على أبنه فلم يدع بمدينة السلام طبيبا إلا ركب إليه واستركبه لينظر أبنه ويشير عليه من أمره بعلاج، فلم يجبه كثير من الأطباء - لكبر العلة وخطرها - إلى الحضور معه، ومن أجابه منهم فلم يجد عنده كبير غناه، فقيل له أنت في جوار فيلسوف زمانه، وأعلم الناس بعلاج هذه العلة فلو قصدته لوجدت عنده ما تحب، فدعته الضرورة إلى أن تحمل علي الكندي بأحد إخوانه، فأجاب وصار إلى منزل التاجر بالرغم من أنه كان كثير الازدراء بالكندي والطعن عليه، مدمنا لتعكيره والإغراء به وقد أسعف الكندي طلبه وقام بما تقدم ذكره استجابة لداعي الإنسانية، وما تحتمه آداب مهنة الطب المقدسة. وتنقل عن الفارابي قصص مماثلة في الموسيقى معروفة
وبعد فقد أطلنا الحديث عن أبي الفلسفة الإسلامية ومؤسسها ومشيد مدرستها الأول (المعلم الثاني) وأرى أن نقطع الحديث مؤقتا، وإن بقيت لدي صبابة في الكأس وثمالة نرجئ عرضها إلى عودة ثانية للموضوع فإلى الملتقى
بغداد
تم البحث
ضياء الدخيلي(931/35)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
براعم الفصحى:
ذهبت إلى مدرسة محمود فهمي النقراشي باشا النموذجية الابتدائية بحدائق القبة، وبي شوق إلى رؤية تلاميذها وسماعهم يتحدثون باللغة العربية الفصحى؛ وكان هذا هو الداعي إلى زيارتي للمدرسة، وكأني يئست أن أسمع العربية في التخاطب بين الكبار وفيهم من تلقى من خواص المتعلمين والمثقفين، فشاقني أن أجد طلبتي لدى أولئك الصغار الفصحاء. . .
كنت على موعد مع ناظر المدرسة الأستاذ عبد الفتاح المنياوي الذي تفضل فرحب بهذه الزيارة، وأخذت مكاني في حجرة الناظر، وكان هناك الأستاذ عبد الحميد السيد المفتش العام للغة العربية بالمدارس الابتدائية، وبعد قليل دخل الحجرة تلميذ صغير لا يبلغ العاشرة من عمره - دخل هذا التلميذ يقول:
أين حضرة المفتش؟
قالها بنبر عربي جميل، فشغلت بتأمله في إعجاب، وكأنني ألقف أول ثمرة من هذه الدوحة، وهش له المفتش وأجابه:
- أنا. . .
- كلفني الأستاذ. . . أن أحضر لك هذه الكراسات
ودلفت في صحبة الأستاذ أحمد عبيد إلى إحدى حجرات الدراسة، وكان التلاميذ في زئاط، فقال الأستاذ رافعا صوته في لهجة المعلم الحازم الحاني:
ما هذا؟ إني أسمع لغطا يا شريف
قال شريف - وهو (بوليس الفصل) - ٍإن هذا التلميذ يزعق. . فنهض تلميذ آخر ليضبط الشرطي متلبسا بالخطأ. . . قال: إنه أخطأ إذ قال: (يزعق) ويجب أن يقول (يصيح)
والمدرسون يجتهدون في تعريب ما يرد على ألسنة التلاميذ من الكلمات العامية، أو بعبارة أخرى يردونها إلى أصلها العربي فيسيرون على النهج التربوي في الانتقال من المعلوم إلى المجهول، فهذا التلميذ يعمل (غلبة) وبنقاش قليل تقلب الغين جيما فتصير (جلبة) وذاك التلميذ يصر على دعواه قائلا: هذا القلم (بتاعي) ولا بأس أن يكون القلم متاعه. . .(931/36)
ومهد الأستاذ لأن يتحدث التلاميذ، فوصف أحدهم الاحتفال بـ (سبوع) أخيه المولود، فكان مما قاله: وأمسك أحد المدعوين بالهاون وجعل يدقه ويخاطب الطفل: أسمع كلام أبيك. . . أسمع كلام أمك. . . قال التلميذ: فضحكت لأن هذا كلام ليس له معنى!
وحدثنا آخر عن قضية مراكش حديث الفاهم الواعي، ولحظت حماسة في الكلام فقلت له: وماذا يسيئك من الاعتداء على مراكش؟ لأنها بلاد عربية إسلامية مثل بلادنا يؤلمنا ما يؤلمها. . .
وتحدث تلميذ عن المجتمع المصري وسوء حاله، فحميت أفكار التلاميذ واشتدت المناقشة بينهم. . . سأل أحدهم: أليس الشعب يحكم نفسه؟ قال المتحدث: بلى، ولكن البرلمان يتكون من الأغنياء الذين يشترون أصوات الناخبين. . . وسأل آخر: مادام الأمر بيد الأغنياء الذين لا تهمهم مصالح الناخبين فما العمل؟ قال التلميذ المتحدث: العمل أن يتعلم الشعب ويفهم حقوقه وواجباته، ويستطيع أن يختار من يمثله ويعمل من أجله، ولا شك أن مجانية التعليم تحقق هذا الغرض. . .
دارت هذه الأحاديث بين تلاميذ تقع أعمارهم بين العاشرة والثانية عشرة. . . وأكثر تلك العبارات من نص كلامهم، والعجيب المعجب أن ألسنتهم تنطلق بالعربية في يسر وانطلاق وبعضهم رقباء على بعض، فإذا أخطأ أحدهم أسرع أحد زملائه إلى تصويبه، والعناية بصحة اللغة تصحبها قوة الفكر وانتباه الذهن، يتمثل ذلك في الأسئلة والأجوبة التي يتبادلون في موضوع الحديث. . .
وتسير التربية والدراسة في هذه المدرسة النموذجية على طريقة (المشروع) الأمريكية التي تقوم على تهيئة مجتمع كاملداخل المدرسة، يكون صورة مصغرة للحياة خارجها، وأساس الدراسة في هذه الطريقة أن يشعر التلاميذ بالحاجة إلى دراسة موضوع ما، وليس للمعلم إلا انتهاز الفرصة والإشراف، أي يحس التلاميذ أن الموضوع موضوعهم، وما الملمون إلا معاونون ومرشدون لهم. مثال ذلك أن تلميذا بدت عليه أعراض الألم فجعل ممسك بطنه ويتلوى ويتأوه، فأسرع إليه زملاؤه التلاميذ وأسعفوه بما استطاعوا من العلاج. وسأله المعلم عما أكله في هذا اليوم، فقال: لقد أتت سيارة المدرسة إلى منزلنا في الصباح ولم أكن تناولت الطعام بعد، فأسرعت وركبت السيارة، وعندما نزلت منها قرب باب المدرسة رأيت(931/37)
بائع شطائر، فاشتريت منه شطيرة وأكلتها. . . هنا عرف الجميع أن الشطيرة هي سبب الألم، وهنا انتهز المعلم الفرصة وناقش التلاميذ فيما يجب عمله حتى لا يتكرر هذا الحادث، ثم اتفق الرأي على القيام ب (مشروع المقصف) ثم أخذوا في إقامة مقصف بالمدرسة يشتمل على كل ما يحتاجون إليه من حلوى وشطائر وما إليها. وراحوا يقيسون الأبعاد ويحسبون النفقات، ويرجعون في ذلك إلى مدرس الهندسة والحساب. . . وأخذ المشروع يتفتق عن حاجة التلاميذ إلى سائر مواد الدراسة، ففرصة اللغة - مثلا - كتابة التقريرات عن نواحي المشروع كتابة عربية سليمة، حتى تحسين الخط وجد فرصته، فقد شعر التلاميذ بالحاجة إلى الإعلان عن المشروع في بيئة المدرسة، فكان الحل أن يكتب مدرس الخط الإعلان بخط نموذجي هكذا (ساهموا في مشروع المقصف) وجعل التلاميذ يحاكون هذا النموذج، حتى كتبوا عشرات منه، ثم قاموا بتوزيعها. . . وهكذا يختارون سائر المشروعات ويفتنون في دراستها
ومجتمع المدرسة - كما سبق - صورة للمجتمع الخارجي، والتلاميذ هم وحدهم أفراد هذا المجتمع، تحت إشراف المشرفين، فهناك فرقة للإسعاف سرعان ما ينشط أفرادها إلى العلاج اليسير بما يستطيعون من وسائل الإسعاف، وهناك شرط يقومون بحفظ النظام ويعملون على استتباب الأمن ويقومون بضبط الحالات التي يخالف فيها المخالفون، ويكتبون تقريرات عنها ترفع إلى (الأسرة) التي تتولى عقاب المخالف. وبالمدرسة أربع أسرات، هي: أسرة أحمس، وأسرة المعز، وأسرة صلاح الدين، وأسرة محمد علي وكلها مكونة من التلاميذ بطبيعة الحال. ويشرف على هذه الحركة مشرف المدرسة وهو الأستاذ محمود رضوان شرف وقد جلست معه في فناء المدرسة نشاهد التلاميذ من بعيد. وقد استرعت نظري حركة (رجال الشرطة) إذ رأيتهم يسرعون إلى كل حالة تستدعي عملهم، وقد رغبت إلى الأستاذ رضوان أن يطلعني على التقريرات التي كتبوها عن هذه الحالات، فرأيت فيها ما يستدعي الإعجاب. كتب أحدهم: (تكرر من التلميذ. . . شراء بعض المأكولات من خارج المدرسة وقد عملنا مراراً على منعه ولكنه أبى، وقد بينا له أضرار هذه المأكولات فلم يستمع إلى كلامنا فاضطررنا إلى تسجيل هذا) وكتب آخر: (بينما كنت أسير في فناء المدرسة بجانب المطعم وجدت التلاميذ. . . و. . . و. . . يلعبون بالكرات(931/38)
الزجاجية (البلى) فأخذتها منهم ثم سألتهم عن أسمائهم ولكنهم أخذوا يقولون أسماء مستعارة، وبعد قليل وجدت تلميذاً يعرفهم فكتبت أسماءهم) وكتب ثالث: (أثناء مروري في فسحة الصباح رأيت أحد التلاميذ قد دخل حديقة المدرسة وقطف وردة فأمسكته وأخذت أسمه وهو. . .)
ولا شك أن رجال الشرطة الكبار في حاجة إلى أن يطلعوا على هذه (المحاضر) ويحاكوها. . .
وللمدرسة مجلة يحررها كلها التلاميذ، وهي سجل شامل لنواحي النشاط في المدرسة، على ما في هذه النواحي من تنوع واتساع، وهي تدلنا على جانب ثقافي عام تهتم به المدرسة أو يهتم به تلاميذها. . ذلك غير المحاضرات والمناظرات التي تتناول مختلف الشؤون العامة. ويدعى إليها ويحضرها أقرباء التلاميذ وغيرهم، ولا أقول أولياء أمورهم. فما يليق بهؤلاء (الرجال الصغار) إلا أن يكونوا أولياء أنفسهم: يكتب التلاميذ عن هذه المحاضرات والمناظرات في مجلتهم كما أصنع في هذا الباب من (الرسالة) ولا فخر! هذا زميل صغير يكتب عن مناظرة أقيمت بين السنة الرابعة الابتدائية وبين السنة الأولى من المدرسة الثانوية بحدائق القبة، وهي نموذجية أيضا، وكان موضوع المناظرة (هل الأصلح لمصر أن تكون بلدا زراعيا أو صناعيا؟) يعلق التلميذ الكاتب (إسماعيل زكي) على المناظرة فيقول: (وكانت كل الكلمات محل إعجاب المدرسين وناظري المدرستين وخصوصا أيهاب كمال الذي أثر على التلاميذ بإنشائه لا بحججه وهو من مؤيدي رأي الصناعة. وفي النهاية أخذت الأصوات، وفاز فريق مؤيدي الصناعة لإنشاء الطالب أيهاب كمال فقط لا غير. . وانتهت المناظرة)
ويحدثنا (عادل أمام) في المجلة فيذكر كيف اختاروا (مشروع الحشرات) للدراسة، وذلك أن المدرس سأل تلميذا عن حرفة والده، فقال: دكتور في الحشرات، فضحك عادل من هذا الذي ظنه يعالج القمل والصرصور، ولكن المدرس قال له: ليس الأمر كما تظن، فإنه نال الدكتوراه في علم الحشرات فيقترح عادل أن يدرسوا مشروع الحشرات
وما أجمل هذا المقال الصغير لكاتبه الصغير (شريف عمر) وهو كما يلي (في يوم من الأيام قال لنا الأستاذ عبيد نريد أن نعين أميناً للمكتبة، فأجرينا انتخابا ففزت أنا. وبعد ذلك(931/39)
علمني الأستاذ عبيد كيفية الاستعارة وسرنا بنظام جيد، ثم انتهت كراسة الاستعارة فسطرت غيرها، وخصصت لكل واحد من التلاميذ صحيفة تحمل اسمه ورقمه، وطلبت من المدرس أن يختار أميناً غيري فقال: إن الشخص الذي يحبه الناس يجب أن يدفع ثمن هذا الحب من راحته. فقلت له: إني تعبت جداً فقال لي: لا تتعجل وتحدث في هذا مع زملائك أولا. ولكني ما زلت مصرا على الاستقالة) وعنوان الموضوع (هذا ذنبي) وهو ذنب نرجو أن يكثر الله منه بين كبار الرجال. . .
وقال لي تلميذ إنه كتب في المجلة (العدد الذي تحت الطبع) (مناظر مؤذية) منها (بوليس المدرسة الذي يأتي مثل ما ينهى عنه) وقد داخلني الإشفاق على المدرسين من عيون هؤلاء التلاميذ. . أخشى أن تقع أنظار هؤلاء على أساتذتهم وهم يتخاطبون بالعامية، فلا يكون هناك منظر أشد إيذاء من هذا المنظر!
ولا يخفى علي أن بنفسك سؤالا هو: هل كل المدرسين في المدرسة يتحدثون إلى التلاميذ باللغة العربية؟ الواقع أن مدرسي اللغة العربية يحرصون على ذلك كل الحرص، ويجتهد باقي المدرسين أن يسايروا هذا الجو، ولكن بعضهم - مع الأسف لا يحسن التكلم بالعربية، فقد حدث مرة أن أراد أحدهم أن يبدي للتلميذ استحسانه فقال (لم بطال!) فيا ليت الوزارة تتنبه إلى هذه النقطة عند اختيار المدرسين لمثل هذه المدرسة
وبعد فمن الواضح أن أول ما يلاحظه المرء على أولئك التلاميذ الصغر الواعد. . والرجولة المبكرة. وأرى أن هذا يرجع إلى الطريقة التربوية وهي (طريقة المشروع) التي يسيرون عليها، وإلى اللغة الفصيحة التي تحملهم على التفكير، وكأنها حين تجري على ألسنتهم تستحث القوى المفكرة، ثم هي تكسبهم سمتا يدعو إلى الاحترام والإعجاب
ويا ليت لمصر جبلا من هذا الطراز! لقد اتفقوا على أن خير طريقة لترقية المجتمع المصري أن يتعلم الشعب ويعرف حقوقه وواجباته، فهل يتاح للشعب أن يتعلم مثل ما يتعلمون؛ ويستنير كما يستنيرون؟
إن لهذه المدرسة أختاً واحدة فقط هي مدرسة الأورمان بالجيزة وليس في البلاد كلها من هذا النوع غيرهما، وهما تسيران على تلك الطريقة في السنوات الأولى والثانية والثالثة، فإذا وصل التلاميذ إلى السنة الرابعة ساروا على المنهج العام ليدخلوا امتحان الشهادة الابتدائية،(931/40)
وقد دلت التجربة على تفوقهم وعلى أنهم يحصلون في دراساتهم للمشروعات معلومات أوفى مما يحصله التلاميذ في المدارس العادية؛ إلى ما في الطريقة نفسها من حسن الهضم والتمثيل
وأستطيع أن أقول أن المسألة بهذا الوضع لا تخرج عن أن المدرستين حقل للتجربة التربوية أكثر منها قصدا إلى إعداد جيل وذلك لضيق الحدود وانحصار الفائدة، حتى التلاميذ الذين تضمهم المدرستان ليس مستقبلهم مضمونا، من حيث السير على هذه الخطة في مراحل تعليمهم المختلفة، ومن حيث ظروف المكان، فقد ينتقل أهل أحدهم إلى بلد آخر فتضيع عليه الفرصة
وأعتقد أننا الآن في الطور الذي يقصد فيه إلى تعميم الفائدة في تكوين المواطنين، وقد نجحت تلك التجربة فلم يبق إلا الأمل في إتاحة الفرصة للجميع كي ينتفعوا بها. وأعتقد أيضا أن الجهود التي تبذل في التعليم الآلي المجهد العقيم يمكن توجيهها إلى تلك الوجهة النافعة.
عباس خضر(931/41)
الكتب
ديوان الأعشى الكبير
شرح الدكتور محمد حسين
للأستاذ أحمد بك رمزي
أهدي إلى الدكتور محمد حسين، أستاذ الأدب العربي بجامعة فاروق نسخة من ديوان الأعشى ميمون بن قيس، الذي قام بشرحه والتعليق عليه، وقد وجدت نفسي إزاء هذه اللفتة الكريمة، وأمامي مجلد ضخم من الشعر الجاهلي، تأنق الأستاذ الكريم في إخراجه للناس، بعد أن بذل الجهد في تحقيقه. فهو يقول إن صلته بالأعشى بدأت عام 1934 حينما كان طالبا بقسم اللغة العربية بجامعة فؤاد، فأتخذ العصر الجاهلي ميدانا لدراساته وأبحاثه، وجاء ديوان الأعشى باكورة لعمله العلمي، أرجو أن يتبعها الكثير من تحقيقه، وقد أكبرت فيه همة إخراج هذا العمل العظيم، أقول ذلك وليس الأدب صناعتي، لأني أقر بأن بضاعتي قليلة فيه، أقول هذا من غير تواضع وإنما لأقرر حقيقة واقعة، فأنا أتذوق الأدب العربي وغيره من آداب اللغات الأجنبية، أتذوقه كما أتذوق الموسيقى الحية، ولست من أهل الموسيقى، لأن الأدب في نظري فن رفيع، ولا يمكن للإنسان أن يحيا ويعيش من غير أن يتذوقه، بل أذهب إلى أكثر من هذا فأقول إنني أحب معاشرة الأدباء وأهرع لمجالستهم وترتاح نفسي إليهم، بل أعد كل لحظة أقضيها معهم متعة لي، ويرجع هذا إلى ما ألمسه في الأديب من رقة الإحساس وجمال الطوية، بل إنني أراهم من خيرة الأنام وسط هذا العالم الذي وجدنا أنفسنا ونحن نعيش فيه، فدخلنا في أوساطه وولجنا غمرته، وفيه الحسن والسيء من الناس والأشياء. فهل غريب علينا أن ننعم بما فيه من أطيب الأشياء، والأدب والأدباء هم في الحقيقة من أطيب النعم التي جاء بها هذا الكون على الناس، ولذلك فإني أشكر الأستاذ الدكتور محمد حسين إذ أتاح لي أن أعيش في جو شاعرية الأعشى فترة من الزمن، وسط مشاغل الدنيا ومتاعب الناس. . . أذكر أنني قرأت في كتب الأدب أن الأعشى كان أول من سأل بشعره وانتجع أقاصي البلاد وكان يغني به فسموه (صناجة العرب)(931/42)
ولست أشك في شاعرية الأعشى، ولا أقلل من قوة ومتانة الشعر الجاهلي وأثره في حياة العرب، بل أن الأمة التي أخرجت هذه الثروة الأدبية وقامت عليها دعامة الإسلام، لا بد أن أراضيها وبقاعها كانت أكثر جمالًا وعمراناً مما هي عليه الآن، ولي في هذا الرأي ما يمكن أن يقنعني ويقنع الناس بصحة ما أقول
ومع هذا فإني قد أنست بقراءة جزء كبير من شعر الأعشى وسأعود إلى شعره من آن لآخر، لأنه مورد لا ينضب، فيه كل الدوافع التي تحتاج إليها النفس، لكي تتريض على مواجهة حوادث هذه الحياة المرة
لقد قرأت له قصيدته التي مطلعها:
ذريني لك الويلات آتى الغوانيا ... متى كنت زراعا أسوق السوانيا
فما وصلت إلى البيت السابع الذي يقول فيه:
وإن بشر يوما أحال بوجهه ... عليك فحل عنه وإن كان دانيا
حتى وقفت أمام هذه الفلسفة التي تتمثل في حياتي التي أحياها اليوم، فكأن الأعشى يعبر عن كل ما خالج نفسي وملأ ضميري، وكأنني لم أفقد شيئا من محاسن الدنيا حينما أخذت بهذا الرأي
ويفسر الأستاذ الدكتور هذا البيت بقوله:
(وإن صد عنك رجل من الناس، فاصدد عنه كائنة ما كانت قرابته) كما فسر مطلع القصيدة. يقول:
(ذريني - لك الويل - أمتع نفسي من النساء: فما أنا بصاحب زرع؛ ولا أنا ممن يسوق الجمال)
وأختلف معه في تفسير كلمة زرع هذا التفسير، فأقول أنه يقصد الذرع من باب ذرع، وهو مما يذرع به. أي أنه يسوق الإبل فيقطع بها المسافات البعيدة فيسلمها لأصحابها ويعود ليسوق غيرها، فكأنه ذراع يقيس المسافات ويتلقى أجره عليها، ولا يستقر به مكان، فهو لا يقصد هنا صاحب زرع وقوله (ولعله من ساس الدواب يسوسها سياسة إذا قام عليها وراضها) ويظهر من شعر الأعشى أن المكلفين بإيصال الإبل وقطع الفيافي كانوا يتقاضون أجورا باهظة: ولقد عشت في وقت كانت قطعان الإبل تمر على بلادنا بإقليم الشرقية(931/43)
جماعات طويلة يقودها رجال من نجد يلهجون بلغة بدوية، ولهم مصطلحات في أنواع الإبل وجماعاتها وسيرها وركبها، ولا يزال تجار الجمال في فاقوس وبلبيس يستوردونها من الشام رغم قيام إسرائيل بين مصر وجزيرة العرب، وهم يجمعون الثروات من ذلك
وأقول أنني معجب بطريقة الدكتور محمد حسين في الشرح والتعليق، وأكثر من ذلك أعجب بحله لأشعار الأعشى نثراً وأمام كل بيت، أن هذا المنهج إذا أتبع مع دواوين الشعر لجعل الأدب العربي تحت متناول الناس جميعا: ولذا فمنهج الأستاذ فتح كبير للأدب العربي، ويذكرني هذا بما قرأته في كتاب المثل السائر حين يقول صاحبه: (ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها. . . فما وجدت أعون الأشياء عليها إلا حل آيات القرآن الكريم والأخبار النبوية وحل الأبيات الشعرية)
ثم ذكر أن حل الأبيات الشعرية ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول - أن يأخذ الناثر بيتا من الشعر فينثره بلفظة من غير زيادة
الثاني - وسط بين الأول والثالث
الثالث - أن يؤخذ المعنى فيصاغ بألفاظ غير ألفاظه، ثم يتبين حذق الصائغ في صياغته، ويعلم مقدار تصرفه في صناعته
ثم ساق أمثلة كثيرة على ما يقول. .
وأكرر قولي بأني أعجبت أيما إعجاب بما قام به الأستاذ الدكتور محمد حسين من حل أبيات ديوان الأعشى. فأي طريقة من الطرق الثلاث اتبع؟ أغلب الظن أنه أخذ بالثلاثة منهاج
ولا أخفي على القارئ أنني بدأت القراءة في شعر الأعشى بنثر الأستاذ الدكتور محمد حسين، ولا أبالغ إذا قلت في أن محاسن شعر الأعشى قد بدت في نثر الأستاذ قبل أن أقرأ النظم، بل أن شاعرية الأعشى تضاعفت في ذهني لدى قراءة شعره بعد أن استحضرت المعاني في نثر الأستاذ الشارح، وهذا ما أقول عنه أنه فتح جديد، وتمهيد لدراسة الأدب العربي، وجعله تحت متناول شعوب العرب، وهم ملايين الناس قد انقطعت الصلة بينهم وبين ماضيهم وتراث أسلافهم، فعمل الدكتور إذا سار فيه وقدر لغيره أن يسير على منهاجه، وأن تطبع دواوين الشعر وما جاء في كتب السلف على هذا النحو، سيهز العربية(931/44)
هزا، وسيجعل الآلاف من أبنائها يرتشفون محاسنها، ويعودون إلى جمالها، ويحنون إلى أيامها، ويعرفون من ماضي لغتهم ما يجعلهم يعتزون بها ويغارون عليها،، ويتغنون بها ويتمثلون بشعرها
انظر إلى نثره. .
(قالت سميه، إذ لاح لها البرق من فوق الجبال:
يا حبذا وادي النجير، وحبذا قيس، رجل الخير والإفضال. .
القائد الخيل الجياد الضوامر، تمضي في عدوها كالسهام. .
والمتعفف عن الكسب الخبيث إذا تهيأ للقتال)
يبدو الكلام لي هنا، وقد أخذ الشارح بالطريقة الأولى أي أخذ الناثر بيتا من الشعر فنثره بلفظه، وقد جاء الحل هنا من غير زيادة، ولكنه نثر شعري يحمل قوة الأصل ومتانة لفظه واسترساله، ولا عيب بتاتا فيه
والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد تكون هذه الفقرة أسهلها، ولذا أجزم بوجود فقرات وجمل كثيرة تزيد عليها فصاحة وجمالا،
فلله دره وألف شكر على هديته، وعلى ما بذل من جهد في إخراج شعر الأعشى إلى النور
أحمد رمزي
المدير العم لمصلحة الاقتصاد الدولي(931/45)
طبقات الحنابلة
لابن رجب عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة 795هـ
نشره الدكتور سامي الدهان
للأستاذ إبراهيم الابياري
الطبقات - ولا ضير أن أميل بك نحو اللغة ميلة - جمع طبقة بفتح فسكون، ومعناها ما تعرف. . القوم المتشابهون. ويكاد يكون الناظر في هذا التصنيف بادئ ذي بدء رجال الحديث ومن لفة لفهم. فعن هذه الطبقات المحدثة الرواية نقل إلى المسلمين تراثهم الديني الخالد. ولهذا الأمر خطر. فلا غرو أن تسبق العناية به غيرها في نواحي أخرى، ويسبق المحدثون إلى الرواة يميزونهم على الأسنان واللقيا والسبق إلى الإسلام، أمنا للشبهات وتخلصا من التدليس
ونعرف في الطليعة أبن سعد المتوفى سنة 230 بكتابه الطبقات الكبرى، أو طبقات الرواة كما يقول حاجي خليفة. ثم حذا حذوه أبن عبد البر وأبن منده وأبو نعيم وأبن الأثير وأبن حجر
ونرى الأدب يجري مع الحديث في هذا الميدان. فإن أبن سلام صاحب طبقات الشعراء مات سنة 232 أي بعد أبن سعد بعامين والرجلان بصريا النشأة، جاران في الحياة، وكلاهما له كتاب في الطبقات، هذا في الحديث وذاك في الشعر، وسبق عامين يكاد لا يرجح، ولكن طبيعة الفكرة وما توحي به وتدعو إليه يجعلنا مع ما سبقنا بظن، وهو أن السبق في هذا للمحدثين، وأن هذا العمل بتلك البابة أدنى وأشبه، ومع غيرها محاولة المقلد، وأن أبن سلام مشاكل لا مبدع وأنه ألتقط الفكرة التقاطا ثم أخضع لها ما يملك من تراث الشعراء فصنفهم طبقات
ثم شاع هذا النوع من التأليف فلم يقف عند رجال دون رجال، ولا عصر دون عصر؛ وخرج عن غرضه الأول إلى منهج المؤرخين لولا ما يزيده من ضم المترجم لهم إلى فئات
وتكاد تكون طبقات المذاهب الأربعة من هذا، وإن حملت في سنيها الأولى ظلا من ذلك المعنى الذي حدا المحدثين إلى وضع رجالهم على طبقات. فالمتصلون بأئمة المذهب(931/46)
والمتتلمذون عليهم الآخذون عنهم محدثون واعون قد ينقلون شيئا يفوت التدوين ويعز على التحرير. ولكن الأمر في غير هذا وبعد أن قيدت الأقلام ما تنطق به الألسنة، وبعد أن أملى الأشياخ وكتبوا، هو من التاريخ لا يقوم إلا على تلك الفكرة الأولى التي عنت المحدثين والتي أسسوا عليها طبقاتهم. وحسبك أن الأمر انقضى عند المحدثين وبقى موصولاً عند غيرهم. ولو شاء مؤرخو اليوم أن يصلوه لوصلوه. ومالي أنسى أن الغزى الحنبلي انتهى في طبقاته إلى 1207هـ وأن الشطي وصلها إلى سنة 1325هـ
والحنبلية والشافعية أسبق من الحنفية والمالكية في جميع طبقاتهم. ويكاد يكون الحنابلة أسبق من الشافعية. فللخلال المتوفى سنة 311 أول جولة في هذا الميدان؛ وأن وفاة أبن حنبل - كما تعلم - سنة 241هـ. ولعل سبب ذلك هو الصراع الذي قام بين المذاهب في نشأته، وبين الرأي المحيط به، وأنه لم يحظ برعاية ذوي الجاه، بل أوذي وأوذي أصحابه، وحورب وحورب رجاله، فكان هذا داعيا لأن يلتفت أصحابه إلى مذهبهم يحفظونه، وإلى رجالهم يترجمون لهم. وقد عرفنا الشدائد مع الأيام حافزة
وتلا الشافعية الحنابلة، فكان أول من صنف في الطبقات منهم محمد بي سليمان المتوفى سنة 404. وبعد الشافعية المالكية، وأحسب ترتيب المدارك ليعارض باكورتهم في هذا. ثم جاء الحنفية بأخرة، فكان القريشي عبد القادر بن محمد المتوفى سنة 775 أول من صنف لهم الجواهر المضيئة
وأبن رجب ذيل لطبقات الحنابلة لأبي يعلى الفراء المتوفى سنة 526هـ. الذي جمع رجال المذهب من لدن عصر الإمام إلى سنة 512، وابتدأ أبن رجب بأصحاب أبي يعلى حتى سنة 751. وفي جمع أبن رجب في ذيله تراجم لنحو قرنين ونصف من الزمن على نحو فيه إفاضة وفيه سعة، فقد ذكر كثرة من الأحاديث بأسانيدها، كما عرض لكثير من المسائل الفقهية وغيرها من الفتاوى. بث ذلك كله خلال التراجم لم يتخفف منه حرصا على أن يفيد وينفع، كما لم يفته أن يروح بما أثر للفقهاء من شعر
والرجل ذو أسلوب متميز فيه وضوح وفيه سلاسة، هذا هو الكاتب الذي شمر له الأستاذان الجليلان هنري لاووست وسامي الدهان. أما أولهما فنعرف له صلته القديمة بالحنابلة ورسالته القديمة في أبن تيمية التي تعد مرجعا في هذا الباب، وأما ثانيهما فقد عددنا له(931/47)
جولات في النشر موفقة، وكاد أسمه يحفظه كل متصل بالحركة الأدبية. وفي الأمس القريب عرفت بكتابه (زبدة الحلب). وأكاد أمضي أشكر لاحقاً بعد سابق فأجدني غير موف، وتسرع إلي ذاكرتي تلك الأحدوثة التي لقناها صغارا عن عجوز كان يغرس نخلة ورآه الخليفة، وحين أخذ يحاوره راقته إجابته فكافئه على الأولى ثم على الثانية، وما أن أمره وزيره بمنحه الثالثة حتى هم بالانصراف وهو يقول لوزيره سوف تفرغ خزائننا ولا تفرغ أجوبته الحلوة
ألا رفقاً بنا أيها الزميل الكريم فسوف نعيا بوفائك على الخليفة بمكافأة ذلك العجوز الغارس، فلك الله عنا يرزقك العوم والصبر لنرى لك مع كل عام جديدا في النشر
وإنا لنرجو للأستاذين الجليلين توفيقا متصلا في هذا العمل الجليل الذي بدأ به، سائلين الله لهما المديد من العمر، والمزيد من العافية؛ لنرى لهم الجهود الموفقة في هذا الميدان
إبراهيم الأبياري(931/48)
القصص
إلياس القنوع
عن ليو تولستوي
بقلم الأستاذ رمزي مزيغيت
أفاق إلياس يوما ليجد أن ولده وسنده الأوحد قد أرتحل عنه إلى الدنيا الثانية، تاركاً إياه وزوجته الفتية وحيدين معدمين، لا يملكان من حطام الدنيا إلا رقعة أرض صغيرة لا تكاد تأتيهما بما يسد الرمق
ولكنه تشدد وصبر على الخطب وقال له رابط الجأش. ثم اتكأ على عصا نفسه وسل صارم عزيمته وامتطى جواد الشبيبة ودفع به إلى حلبة الكد والجد. وانقلب إلى أرضه الصغيرة يحرثها وينقي تربتها ويسقي غرسها ويتعهد نبتها. وقضى في ذلك سنوات عدة لم يستبطئ خلالها النتائج أو يستكبر أن تكون. بل ثابر على العمل ووضب على مصادمة الأيام ومغالبة الحوادث، وثبت أمام العقبات يذللها بجد جاد وعزم وقاد حتى أتته منقادة إليه ونال من نتائجها ما يروم. فأصبحت أرضه الصغيرة سهلا شاسعا تؤتيه ثمرا شهيا وأكلا موفرا، وانقلب البيت الصغير الحقير قصرا منيفا يغص بالخدم والحشم. وتحدث الناس وتهامسوا - انظروا -، لقد أصبح إلياس من كبار الأغنياء، وغدت الحياة عنده جنة من جنان الله
وذاع اسم إلياس في كافة الأنحاء وعلت منزلته بين الناس، وتسابق كبار القوم وأشرافهم إلى كسب وده ومرضاته. فكان يرحب بهم ويحسن وفادتهم، فينصرفون وألسنتهم تلهج بشكره وحمده
ولم تمنعه علو منزلته وعظيم نعمته عن مواصلة الجد والاجتهاد ورعاية أملاكه ومواشيه بنفسه دون أن يعتمد على من كان يعمل في خدمته من عمال وأجراء
وكان لإلياس صبيان وصبية، وكان ثلاثتهم يأخذون بيده ويساعدونه في عمله يوم كان فلاحاً بسيطاً فقيراً. فلما أتسع رزقه زوجهم جميعا وأجرى عليهم من نعمه نصيبا كبيرا. ولكن الترف والبحبوحة أفسدا الولدين، فارتديا رداء الرذيلة وأعطيا النفس الصامتة هواها.(931/49)
ولم يلبث الأكبر أن قتل في مشادة، واختلف الأصغر مع والده بتأثير من زوجته الخبيثة وطلب الانفصال عنه. فأعطاه الوالد بيتا وقسما من ماشيته، فقلت بذلك ثروته. ولم تلبث النكبات بعد ذلك أن أخذت تتوالى عليه متعاقبة. فتفشى المرض بين الماشية وقضى على معظمها، وتلا ذلك سنوات عجاف أجدبت فيها مواسم الحصاد، ومات ما تبقى لديه من ماشية. وهكذا أخذت ثروته تذوب شيئا فشيئا بعد أن طوى عهد الشباب والقوة وأعجزه الكبر وجاء يوم وهو على أبواب السبعين من عمره، باع فيه كل ما يملك، ووجد نفسه وجها لوجه أمام الفقر والعوز. وكانت أبنته قد ماتت وأبنه الذي انفصل عنه قد ارتحل إلى بلاد نائية، فلم يكن هناك من يحتضنهما ويدفع عنهما غائلة الجوع، ولم يجدا لكسب معيشتهما سبيلا إلا أن يطرقا باب الخدمة والعمل
وكان لهما جار يدعى محمد شاه، فأخذته الشفقة عليهما وتذكر سابق نعمتهما، فدعاهما إليه وعرض عليهما الخدمة عنده قائلا: تعاليا واسكنا في بيتي، وإن شئتما عملا يمكنكما أن تعملا في حقل البطيخ صيفا، وفي الشتاء ترعيان ماشيتي. وسأقدم لكما مقابل ذلك الغذاء والكساء والمأوى، ولن أمنع عنكما أية حاجة تسألانها
وقبل إلياس وزوجته عرض جارهما الطيب والتحقا بخدمته كعاملين. وشق الأمر عليهما بادئ ذي بدء، ولكنهما تذرعا بالصبر وانصرفا إلى العمل بإخلاص قانعين راضيين. ووجد محمد شاه فيهما خير عاملين إذ كانا يعرفان ما ينتظره السيد من مخدومه من نشاط وإخلاص، فكانا يعملان ما تسمح به قوتهما دون تذمر أو تأفف. ولكن محمد شاه كان يحزنه في الوقت نفسه أن يرى كيف ذل إلياس، بعد عز، وافتقر بعد بحبوحة، واتضع بعد رفعة
وحدث يوما أن هبط على محمد شاه بعض الأقارب قادمين من بلاد بعيدة لزيارته. فرحب بهم وأحسن وفادتهم. وبعد أن أكلوا وشربوا جلسوا يتحدثون ويتسامرون. وبينما هم في حديثهم إذمر إلياس أمام الباب في طريقه إلى غرفته. ووقعت عينا محمد شاه عليه فالتفت إلى ضيوفه وقال لهم - هل رأيتم ذلك الكهل الذي مر الآن من هنا؟ فرد عليه أحدهم بقوله - نعم، وماذا في ذلك؟ قال لاشيء سوى أنه كان أغنى رجل في الجوار وهو يدعى إلياس، ولا بد أنكم سمعتم باسمه. فصاح الضيف: طبعاً، ومن لم يسمع باسمه وقد طبقت شهرته الآفاق؟ فقال محمد شاه - هذا صحيح، ولكنه اليوم لا يملك ثاغية ولا راغية، وها هو ذا(931/50)
يعيش وزوجته في بيتي عاملين أجيرين. ودهش الضيف لهذا الخبر وهز رأسه قائلا - حقا إن الدهر دولاب يدور، فتارة يرفع هذا إلى أعلى عليين، وتارة يخفض ذاك إلى أسفل سافلين. ولكن قل لي ألا يندب هذا الكهل سالف مجده، ويبكي سابق عزه؟ فقال محمد شاه - علم ذلك عند ربي، ولكن مظهره ومنظره يؤكدان عكس ذلك، فهو إنما يشدو بذكر خالقه، ويترنم بفضل رازقه، فقال الضيف - هل أستطيع أن أتحدث إليه - بودي أن أسأله سؤالا أو سؤالين. . .
فنهض محمد شاه ونادى إلياس ودعا زوجته للانضمام إلى المجلس فدخل إلياس وحيا وجلس بقرب الباب وهو يتمتم بالصلاة. وتبعته الزوجة وجلست وراء الستار مع سيدتها. وبعد أن استتب بهم المقام نظر الضيف إلى إلياس متأملا ثم سأله قائلا - قل لي يا عماه ألا يبعث فيك مرآنا شعورا بالأسى واللوعة؟ لا شك أن هذا المجلس يعيد إلى ذهنك أيامك الخوالي ويذكرك بحالتك الراهنة، وتبسم إلياس ثم قال - لو شئت أن أخبرك ما هي السعادة الحق وما هي التعاسة المرة
لما آمنت بصدق قولي وحسبتني كاذبا مماريا وأرى من الخير أن تسأل عن ذلك زوجتي فهي امرأة وما في قلبها يفضحه لسانها. أسألها ما شئت وستخبرك بالحقيقة غير منقوصة
والتفت الضيف إلى ناحية الستار وقال - حسنا يا أختاه، هلا أخبرتنا عن حقيقة شعورك؟ فردت عليه الزوجة من وراء الستار حبا وكرامة، فأصغ جيداً إلى ما أقوله - (خمسون عام عشتها وزوجي نبحث عن السعادة ونفتش عنها، ولكننا لم نجدها أو نذق لها طعما إلا في هاتين السنتين بعد أن فقدنا كل ما نملك، وزالت عنا أسباب النعمة وبتنا أجيرين فقيرين؛ وهي والله حال لا نبغي أفضل منها ولا أحسن)
ودهش الجميع بهذا القول ومن جملتهم محمد شاه. بل لقد بلغت منه الدهشة أنه تقدم من الستار وأزاحه ليرى وجه الزوجة، فإذا به منتصبة وقد طوت يدها على صدرها، وتعلقت عيناها بعيني زوجها، وعلت شفتيها ابتسامة رضية. . وتابعت الزوجة قولها (نعم أيها السادة نصف قرن قضيته أنا وزوجي بحثا عن السعادة، ولكنها تنكبت طريقنا طيلة أيام عزنا وغنانا. . فلما أن دالت دولتنا وذابت ثروتنا وشمرنا عن ساعد الجد والعمل، إذا بها تنقاد إلينا وتعمر قلبينا، ولسنا نرضي عنها اليوم بديلا).(931/51)
فسألها الضيف مستغربا - ولكن كيف تفسرين هذه السعادة وأنت على هذه الحال من العوز والإملاق؟؟ فردت عليه قائلة - من الناس من يعتقد أن السعادة في المال والجاه، ولقد دلت التجارب على عكس ذلك، فعندما كنا من الأغنياء والوجهاء كانت لي وزوجي من المشكلات والتبعات ما لا نجد معها وقتا للتحدث أو التفكير في نفسينا والصلاة لخالقنا. فيوما يزورنا زائر، وعلينا أن نفتن في مرضاته كي نسكت لسانه عن الطعن في كرامتنا والحط من قدرنا. ونحن دوما في خصام مع الأجراء والعمال. . هم يتبادلون في عملهم ويطلبون أحسن الطعام، ونحن ننقص من أجرهم ونستغلهم إلى أبعد ما يمكن، وفي هذا خطيئة أية خطيئة. . هذا عدا تخوفنا الدائم من أن تفترس الذئاب ماشيتنا أو يسرق اللصوص خيلنا أو أن ترقد الأغنام على صغارها فتقتلها. . كنا في خوف دائم وقلق مستمر، لا نسوي مشكلة حتى تبرز لنا مشكلة أخرى. وفوق هذا وذاك كنت أنا وزوجي في خلاف مستحكم. . له رأيه ولي رأي نتمسك به ولا نحيد عنه، فنتخاصم ونتباعد، ونتردى في مهاوي الخطيئة من حين لحين. . أما الآن فأنا نستهل يومنا بكلمة حب ووفاء، ونقضي نهارنا في وئام وصفاء. . وليس هناك ما يشغل بالنا سوى مرضاة سيدنا على أحسن وجه، فنعمل قدر طاقتنا بعزيمة وإخلاص، وهدفنا أن نعود على سيدنا بالخير والفائدة. . وإذا ما عدنا من عمل يومنا وجدنا شرابا سائغا وطعاما شهيا، وإذا ما أوينا إلى فراشنا تحدثنا قليلا وصلينا طويلا. .
خمسون عاما قضيناها نبحث عن السعادة وقد وجدنا اليوم في حالتنا الراهنة. إن راحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام. .
وضحك الضيوف وقهقهوا. . فالتفت إلياس إليهم وقال - لا تضحكوا أيها السادة، إذ ليس هناك ما يدعو إلى الضحك، لقد كنت أنا وزوجي أحمقين، فبكينا ضياع ثروتنا وندبنا ذهاب عزنا. أما الآن فقد فتح الله أعيننا على الحقيقة المضاءة، فحسبنا لزفرات وكفكفنا الدمع هذه هي حقيقة الحياة، وقد سقناها إليكم لا عزاء لنفسينا، وإنما عظه لكم أن كنتم تتعظون
فقال أحد الضيوف - هذا لعمري هو الصدق مجردا، ولقد ورد مثل هذا القول الحكيم في الكتب السماوية المنزلة. فأمسك الجميع عن الضحك. وغرقوا في لجة من التفكير العميق
رمزي مزيغيت(931/52)
البريد الأدبي
أنها طرابلس الشام:
حينما قلت: إن المتنبي يعني طرابلس الشام لا الغرب في بيته:
أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصر عن طرابلس
لم أبن رأيي على الحدس والتخمين ولكن بنيته على حقائق لا يتطرق إليها الشك، وإليه البيان:
1 - منذ خروج المتنبي ببادية السماوة إلى اتصاله بسيف الدولة سنة 337هـ لم يمدح غير رجالات الديار الشامية
2 - بعد انفصاله عن سيف الدولة انحصرت جولاته بين الفسطاط غربا، وشيراز شرقا، ولم يعرف عنه أنه زار طرابلس الغرب أو مدح أحدا من أهلها ولو بطريق المراسلة، بل لم يعرف عنه أنه مدح أحدا من المغاربة، وهذا ديوانه - وكل قطعة منه جزء من حياته - شاهد بذلك
3 - حينما مدح المتنبي عبيد الله بن خلكان الأمير الطرابلسي الشامي كان في سن صغيرة، فلم يكن هناك مجال لشاعر ناشئ مغمور أن يتصل بغير الأقربين من أمراء بلده وسرواتهم
جاء في الديوان: (وقال في صباه ارتجالا وقد أهدي إليه عبيد الله بن خلكان هدية فيها سمك من سكر ولوز في عسل)
ومن هذه المقطوعة قوله:
هدية ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
أقل ما في أقلها سمك ... يسبح في بركة من العسل
وجاء في الديوان (وقال أيضا يمدحه)
وأورد القصيدة السينية التي منها البيت موضوع الخلاف
ومعنى هذا كله: أن المتنبي عرف آل خلكان صبيا، وأنه زارهم في طرابلس الشام ومدحهم ورآهم رأى عين وصلته هداياهم، وهذه الهدايا - كما يؤخذ من وصفها - مما يحمله الخدم، إذ غير معقول أن هذه الإلطافات الصغيرة الرقيقة الرشيقة التي تؤكل لوقتها وتفسد بعد زمن قصير، ترسل من طرابلس الغرب على متون السفن إلى بحر المشرق(931/54)
5 - لم يقل أحد من شراح الديوان بغير هذا القول: فالعكبري يقول: طرابلس: بلدة الممدوح من بلاد الشام
واليازجي: يقول: وطرابلس: بلدة الممدوح، والمراد بها طرابلس الشام
الحق أن ياقوت أورد الأبيات حينما تكلم عن طرابلس الغرب، ولكنه لم يشر إلى الممدوح من قرب أو بعد، بل قال فقط: (وقال أبو الطيب يمدح)
فالممدوح في رأي ياقوت مجهول لا ندري أشامي هو أم مغربي؟
ولكنا إذا سلمنا بعصمة ياقوت من الخطأ - يمكن أن نرجع هذا إلى سهو الناشر أو الطابع، فهذه الأبيات كان من حقها أن تذكر بسبيل طرابلس الشام، ولكن لأمر ما ذكرت في طرابلس الغرب!
هذا وإني أعلن للأستاذ الفاضل أني لم أقصد التعالم فالأمر هين، ولكن أردت بيان الحقيقة التي هي رائدة أيضا. والسلام عليه ورحمة الله
محمد الفاتح الجندي
تصحيح يحتاج إلى تصحيح:
طالما غمطت عجلات المطبعة وهي تغذ السير حقوقا للكاتبين، وطالما أوجدت في الطريق ثغرات، ومن هذا القبيل ما حملته الرسالة الغراء من بيان وجيز لي حول رأي تقوله على أحد طلابي فيما يتعلق بالدعوة الوهابية، ويهمني أن أؤكد هنا أن الرأي المنسوب إلي كما جاء في كلمة الطالب وفي بيان الناقد بعده لم يصدر عني، ولست أدري من أين تطرق إلى قلم الطالب المتوثب. والذي أستطيع تقريره في مثل هذا المجال المحدود أن مبادئ الدعوة الوهابية القائمة على الاهتداء بالكتاب والسنة، الداعية إلى سواء السبيل والتمسك بقواعد الإسلام وأهداب التوحيد الصحيح لا يمكن أن تكون إلا من صميم الإصلاح الذي نرجو أن يأخذ طريقه القويم في ميدان الإصلاح المنزه عن الغلو والانحراف
وإذا كان بعض أتباع هذه الدعوة أو أدعيائها يشوهون جمالها السلفي النقي بما ينزلقون إليه من غلو أو تحريف أو مبالغة أو إسراف، فلن يضير ذلك أبدا صميم المبدأ النابع من منهل الإسلام الطهور؛ ولعل الذين تسبق ألسنتهم أو أقلامهم بالحملة المشبوبة على هذه الدعوة(931/55)
يتمثلون أمامه حين يكتبون أو ينطقون صورا من شطط هؤلاء الغلاة هنا أو هناك
وكم يتمنى المصلح الغيور لو تجتمع كلمة المسلمين في سائر الأقطار على كلمة الله وهدى كتابه وسنة رسوله الكريم
الدكتور محمد يوسف موسى
مذهب قديم:
جاء في (الرسالة) الكريمة (عدد 930) تحت العنوان السابق، أصلا وتعقيبا:
أن القول بأسبقية الشعر على النثر، رأي يقول به الدكتور طه حسين، والأستاذ الزيات؛ وأن المرحومين: السكندري، والعناني، يقولان بعكسه
والخلاف في أسبقية أحد الفنين على الآخر، خلاف قديم؛ وممن ذكره أبو حيان التوحيدي؛ فإنه في (المقالة الخامسة والعشرون) قرر أن النثر أقدم من الشعر؛ وعلل ذلك بقوله. (لأن الشعر صناعي محصور بالأوزان والعروض والقوافي؛ والإنسان لا ينطق في أول حاله، منذ طفولته، إلى أمد مديد، إلا بالنثر. فإن قيل: إن النظم قد سبق العروض بالذوق، والذوق طباعي؛ قيل في الجواب: الذوق، وإن كان طباعيا، فإنه مخدوم الفكر، والفكر مفتاح الصنائع البشرية؛ كما أن الإلهام مستخدم للفكر، والإلهام مفتاح الأمور الإلهية. الخ. راجع ص 130 ج2. من (الإمتاع والمؤانسة)
وقد عرفنا (الرسالة) بأنها خير من يحمل رسالة الحق، في مذاهب الأدب العربي الكريم
أستاذ في الأزهر الشريف(931/56)
العدد 932 - بتاريخ: 14 - 05 - 1951(/)
رحلات عزام
الرحلة سبيل من المعرفة، وفي الأمثل: من يعش ير كثيراً، ومن يمش ير أكثر، وفي الزمن القديم كانت الرحلة وحدها متصل الفكر بالفكر، وملتقى المتعلم بالعلم. ولا يزال لها في الزمن الحديث علمي سرعة الاتصال بين أجناس الناس في بقاع الأرض بالإذاعة والصحافة والنشر، أثر ظاهر في اكتساب العلوم وتقدم الثقافة وهي في تاريخ الإسلام بوجه أعم، وفي تاريخ الأدب بوجه أخص عظيمة الخطر في جمع اللغة ورواية الحديث، قوية الأثر في نشر الأدب وتوسيع الفقه، وكانت الرحلات الذاهبة الآتية من العراق إلى مصر، ومن مصر ومن مصر إلى الأندلس ومن هذه الأقطار جميعاً إلى الحجاز، مورداً ثراً لعلوم الدين وفنون الأدب، جنيناً من ثماره طائفة كثيرة من عيون الكتب في وصف البلاد وطبائع الشعوب وتراحم الرجال، وغرائب العادات وعجائب الكائنات، وطرائق الملح.
على أن الله لم يؤت الرحالين أجمعين مثل ما آتي البيروني، والبغدادي وابن جبير وأبن بطوطة وإضرابهم، من قوة الملاحظة وشهوة التطلع وحب التحدث ورغبة الإفادة ولم يؤت الله هؤلاء جميعاً ما آتاه صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام بك، من صحة العلم وسلامة الحكم ودقة الفهم وخفة الروح وعذوبة الفكاهة ولطف النادرة وجمال الأسلوب.
رحل الأستاذ إلى أكثر البلاد العربية والإسلامية في عهدين مختلفين عهد غلب فيه التأثر الأول والشعور البادر والنظر العجلان وقدوته (الرحلات الأولى) وعهد غلب فيه الإدراك الكامل والاستيعاب الشمال والتحقيق الدقيق وقد ضمته (الرحلات الثانية) وهي التي نقدمها اليوم إلى القارئ بهذه الكلمة الوجيزة وغاية الرحالة في العهدين ومن الرحلتين هي التعريف بأمصار العروبة وبلاد الإسلام وليكون التعريف سبيلاً إلى التعارف وعونا على التآلف وتمهيدا للوحدة.
وهذه الرحلات التي رحلها البحاثة الوصافة عزام إلى فلسطين، ثم إلى الشام، ثم إلى الهند، ثم إلى الحجاز وتجد، صور من البيان وطرف من الأدب ودقائق من العلم ورقائق من الفن ينقلك سحرها بحواسك ومخيلتك إلى تلك الأماكن الموصوفة فتشاهد المناظر، وترى الأشياء وتسمع الأشخاص كأنك رحلت وحللت وصاحبت في المقل وساهمت في المآدب وشاركت في الحديث وإن الإشعاع الذي ينشق من روح الكاتب على سطور الكتاب ليهدي روحك إلى روحه ويدل شعورك على شعوره فتتحد أنت وهو في الزهو بماض مرموق كله(932/1)
ذكريات مجد وبطولة وتتجه أنت وهو إلى مستقبل مرموق كله آمال بعث ونهضة.
فما أجدر كل عربي أن يحج في هذا الكتاب الأماكن التي أشرق منها نور الله، والمواطن التي استقرت بها خلافة الأرض والمعاهد التي زكت فيها ثقافة الإنسان!
إنها مهبط دينه ومصعد دنياه، وإنها متجه خاطره ومنتجع هواه!
أحمد حسن الزيات(932/2)
4 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
درجات الصحابة في العلم والفهم:
لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم طرازاً واحداً في الفقه والعلم، ولا نمطاً متشابها في الإدراك والفهم وإنما كانوا في ذلك على طبقات متفاوتة ودرجات متباينة بعضهم أعلم من بعض شأن الناس جميعاً على مر الدهور وتوالي العصور سنة الله في خلفه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
قال ابن خلدون في مقدمته (إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن والعارفين بناسخه، ومتشابه ومحكمه وسائر دلالته بما تلقوه من النبي (ص) أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم وكانوا يسمون لذلك (القراء) أي الذين يقرئون القرآن، لأن العرب كانوا أمة أمية فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ وبقي الأمر كذلك صدر الملة).
وقال أبن سعد في طبقاته عن أبي خيثمة عن أبيه قال كان الذين يفتون على عهد رسول الله (ص) ثلاثة نفر من المهاجرين وثلاثة من الأنصار، عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب ومعاذ أبن جبل وزيد بن ثابت.
وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار: دعا عمر وعثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد أبن ثابت. وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء فمضى أبو بكر علي ذلك ثم ولى عمر فكان يدعو هؤلاء النفر
وعن مسلم عن مسروق قال: شاهدت أصحاب رسول الله (ص) فوجدت علمهم انتهى إلى ستة، إلى عمر وعلي وعبد الله ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن الحارث فشامت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله.
وعن عامر قال: كان علماء هذه الأمة بعد نبيها (ص) ستة: عمر وعبد الله وزيد بن، فإذا قال عمر قولاً، وقال هذان قولاً، كان قولهما لقوله تبعاً وعلي وأبي بن كعب وأبو موسى(932/3)
الأشعري فإذا قال علي قولاً وقال هذان قولاً كان قولهما لقوله تبعاً.
وعن عامر قال: قضاة هذه الأمة أربعة، عمر وعلي وزيد وأبو موسى الأشعري ودعاة هذه الأمة أربعة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد.
وذكر ابن القيم في أعلام الموقعين عن مسروق قال:
(جالست أصحاب محمد (ص) فكانوا كالأخاذ، الأخاذة تروي الراكب والأخاذة تروي الراكبين، والأخاذة تروي العشرة، والأخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم، وأن عبد الله (أبن مسعود في تلك الأخاذة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجاذب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت فذلك مثل من فقه في دين الله. . رواه الشيخان وغيرهما.
رواية الصحابة بعضهم عن بعض وروايتهم عن التابعين
ليس كل ما جاء من الأحاديث عن الصحابة مما رووه عن رسول الله صلوات الله عليه ودون في كتب الحديث، قد سمعوه بآذانهم من النبي مشافهة، ولا أخذوه عنه بالتلقي وإنما كان يروى بعضهم عن بعض، فمن لم يسمع من الرسول كان يأخذ ممن سمع، وذلك بأن مجالس الرسول كانت متعددة، وتقع في أزمنة وأمكنة مختلفة، فما يحضره منها بعض الصحابة قد لا يحضره البعض الآخر، وإنك لتجد ذلك فيما رواه بعض الصحابة، وبخاصة أولئك الذين أقلهم صحبة لرسول الله وأكثرهم رواية عنه، كابن عباس وأبي هريرة وغيرهما.
فقد ذكر الآمدي في الأحكام أن أبن عباس لم يسمع من النبي إلا أربعة أحاديث. وقال أبن القيم في الوابل الصيب إن ما سمعه ابن عباس من النبي لم يبلغ العشرين حديثاً، وعن ابن معين والقطان وأبي داود صاحب السنن أنه روى النبي تسعة أحاديث.
وأبو هريرة أسلم في العام السابع من الهجرة، فهو بذلك لم يصاحب النبي إلا ثلاث سنين، وهو زمن قليل جداً ليس من المعقول أن يكون قد سمع فيه من النبي كل هذه الآلاف من(932/4)
الأحاديث التي رواها.
قال البراء بن عازب (ما كل ما نحدث كموه قد سمعناه من رسول الله! ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الإبل). ورواية البيهقي: ليس كلنا كان يسمع حديث النبي، وفيه والناس لم يكونوا يكذبون فيحدث الشاهد عن الغائب أي بغير أن يذكر من روي عنه.
وفي كلام ابن الصلاح وغيره في رواية الأكابر عن الأصاغر أن أبن عباس والعبادلة الثلاثة وأبا هريرة وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار الذي أسلم في عهد عمر.
على أن الصحابة في روايتهم عن إخوانهم أو عن التابعين لم يكونوا يذكرون عندما يتحدثون - كما ذكرنا - أن أحاديثهم قد جاءتهم عن سبيل الرواية عن غيرهم، ذلك بأنهم كانوا يرون ما يرون في المناسبات التي تستدعي ذلك مهما طال الزمن من غير غزو لمن سمعوا منهم ثقة بهم وقد جرت الرواية على ذلك إلى أن وقعت الفتنة؛ وقد قال ابن سيرين في ذلك كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، ولما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم.
وقال الآمدي:
(وقد قيل إن عباس لم يسمع من رسول الله (ص) سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ولما روي عن النبي (ص) (إنما الربا في النسيئة وأن النبي (ص) لم يزل يلبي حتى رمى حجر العقبة.
قال في الخبر الأول لما روجع فيه: أخبرني به أسامة بن زيد. وفي الخبر الثاني: أخبرني به أخي الفضل بن عباس) وأيضاً ما روى عن أبن عمر عن النبي (ص) أنه قال (من صلى على جنازة فله قيراط. وأسنده بعد ذلك أبي هريرة. وأيضاً ما روى أبو هريرة عن النبي (ص) أنه قال: من أصبح جنباً، في رمضان فلا صوم له. وقال ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمد قاله فلما روجع فيه قال حدثني به الفضل بن عباس.
وروى عن البراء بن عازب أنه قال: ما كل ما نحدثكم به سمعناه عن رسول الله (ص) ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه.
وأما التابعون فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار، ويدل على ذلك ما روى عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي: إذا حدثتني فأسند، فقال إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله(932/5)
فهو الذي حدثني، وإذا قلت لك حدثني عبد الله فقد حدثني جماعة عنه. . ولم يزل ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكر فكان إجماعاً).
ولم تقف رواية الصحابة بعضهم عن بعض بل رووا كذلك عن التابعين عن تابعي التابعين
ومن رواية التابعين عن - تابعي التابعين - رواية الزهري ويحي بن سعيد الأنصاري عن مالك وهو تلميذهما
ومن (الظريف للفطني) كما قال السيوطي أن يروى الصحابي عن تابعي عن صحابي آخر حديثاً
ومن ذلك حديث السائب بن يزيد الصحابي عن عبد الرحمن ابن عبد القاري التابعي عن عمر بن الخطاب عن النبي (ص) (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه في الليل) رواه مسلم في صحيحه ومن ذلك حديث لا يستوي القاعدون.
وقد جمع الحافظ العراقي من ذلك عشرين حديثاً.
المنصورة
للكلام تتمة
محمود أبو رية(932/6)
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
سيدة البحار، وزعيمة الدول الديمقراطية وأولى الدول الصناعية، وأكبر الدول الاستعمارية، ودينامو السياسة الدولية. بهذه الكلمات وصفنا بريطانيا في مقالنا السابق.
ولعل القارئ الكريم يسألني كيف استطاعت بريطانيا أن تكون لنفسها هذه المكانة الممتازة وأنا أجيبه بأن ذلك يرجع أولا وقبل كل شيء إلى الخلق البريطاني.
الخلق البريطاني
يمتاز الشعب البريطاني بمتانة أخلاقه وبثباته واستقراره وبحب أفراده لوطنهم حباً لا مزيد عليه، ومسارعتهم للتضحية في سبيله؛ ولعل ذلك راجع إلى تأثير المناخ، فإن بريطانيا تمتاز بأن شتاءها بارد نوعاً، تكتنفه الغيوم ويغشاه السحاب، وقد دفع ذلك الشعب إلى النشاط لمكافحته والتغلب على متاعبه، وهذا بدوره قد عود الشعب على الكفاح والجلاد والجهاد.
ولا تبدو حقيقة الخلق البريطاني واضحة جلية إلا في أثناء الأزمات التي تتعرض لها بريطانيا، فإن الشعب يتكتل في أثناء تلك الأزمات، ويقف صفاً واحداً للدفاع عن الوطن وعن تراثه. وقد كانت أخطر الأزمات التي تعرضت لها بريطانيا كثيرة ولكن أهمها كانت أربعاً:
أما الأزمة الأولى فقد كانت تلك التي تعرضت لها أثناء صراعها مع أسبانيا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وقد كان صراعاً عنيفاً بين دولتين: إحداهما تتزعم الدول الكاثوليكية وهي إسبانيا، والثانية تتزعم الدول البروتستانتية وهي إنجلترا. ويقول أحد المؤرخين ما ترجمته: (ومن حسن الحظ أنه عند اقتراب الأزمة الكبيرة كان الخلق البريطاني يكتب أخص مميزاته وهي الصلابة وشدة المقاومة) وقد عرف البريطانيون قوتهم فرحبوا بالنزال المقبل، وفعلاً أرسل فيلب الثاني أسطوله المعروف بالأرمادا؛ والمؤلف من 132 سفينة (وفي وجه الخطر المقبل تنوسيت الخلافات القديمة وحل محلها نشاط قومي أدى إلى وحدة جميع الأحزاب) ووقف الشعب الإنجليزي برياسة ملكيته إليصابات في وجه الخطر الإسباني، وكون أسطولاً من 197 سفينة، واستطاع أن يحطم(932/7)
الأرمادا، وبذلك نجت بريطانيا من الخطر المحدق بها، وبدأت سيادتها البحرية.
وأما الأزمة الثانية فكانت تلك التي تعرضت لها بريطانيا في أثناء صراعها مع فرنسا في عصر الثورة ونابليون (1793 - 1814) وقد انتهى الأمر بانتصارها وسقوط نابليون.
وكانت الأزمة الثالثة التي انتابتها هي الحروب العالمية الأولى 1914 - 1918 ونضالها مع ألمانيا، وقد خرجت منها ظافرة.
وأما الأزمة الأخيرة فكانت الحرب العالمية 1939 - 1945 وقد انتصرت فيها على ألمانيا وحطمت هتلر طاغية القرن العشرين.
ولعلنا نذكر تشر شل رئيس وزرائها 1942 بعد سقوط فرنسا تحت أقدام الألمان، ولعلنا نذكر كلماته التي واجه بها الشعب في ذلك الوقت الحرج: (أني أقدم لكم الدم والدموع) فهو لم يخدع الشعب ولم ينافق، بل تكلم في صراحة وعرض الموقف على حقيقته، فهو يعلم أن خداع الشعب ليس من المصلحة في شيء، وأنه إذ يصارح الشعب بحقيقة الموقف فإنما يدفعه إلى الجلاد والكفاح، وهو وثق من أن الشعب سيقبل على التضحية في سبيل الوطن وقد كان إذ ثبتت بريطانيا وانتصرت.
وتروعك الأمثلة الكثيرة التي تقدم لك عن مدى تضحية الإنجليز في سبيل وطنهم، فالتجنيد هناك ليس إجبارياً ولكن القوم يسارعون إلى التطوع من تلقاء أنفسهم خدمة لوطنهم، وقد قرأت ذات مرة أن أربعة أخوة كانوا يقيمون معا أثناء الحرب العالمية الأولى، فلما قامت الحرب حاول كل منهم أن يقنع الآخرين بأن يتركوا له فرصة التطوع، وأن يبقوا هم آمنين في دارهم، وتظاهروا بالاقتناع، فلما كان الغد أقبل كل منهم يسعى إلى مكتب التطوع لتسجيل اسمه، وهناك التقي الأخوة الأربعة ورفض كال منهم أن ينزل عن شرف المساهمة في الدفاع عن الوطن وتطوعوا جميعاً!!
ويذكرني هذا بما كان من أمر الخنساء ومن أمر بينها الذين استشهدوا في فتح فارس، وجاء رسول الجيش إلى المدينة ليبلغ الخليفة عمر نبأ انتصار المسلمين؛ ولقيته الخنساء فسألته عن الأمر فأجابها: (لقد قتل بنوك). فقالت له (ما سألتك عن أبنائي ولكني أسألك عما كان من أمر الجيش) فأجابها: (لقد انتصرنا) فرفعت يديها إلى السماء قائلة (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم). لكني أوازن بين ما كان وبين ما هو كائن فأرى فرقاً شاسعاً فهل يعود إلينا(932/8)
الأيمان؟؟
وقد كنت على سفر سنة 1942 وكان معي أحد أطفالي وجلس معنا أحد أفراد القوات الحربية البريطانية؛ فوجدته يحاول إخفاء شعور قوي جارف يتملكه، ثم رأيته يداعب طفلي فبدأت أحدثه: (لست أدرى أيها الصديق ما سر شغفك بطفلي هذا) فجابني أجابني أأأجاأجابني (إن لي طفلاً في مثل سنه) فقلت له (وأين هو؟) قال: (في لندن) قلت (ومع من يقيم) قال مع والدته فقلت وأين تعمل قبل خدمتك بالجيش) قال (كنت موظفاً في لندن) قلت له (فمن الذي ينفق الآن على وزجك وطفلك) قال (إن زوجي قد شغلت مركزي وإن الحكومة تدفع لها نفس المرتب الذي كنت أتقاضاه) قلت له (وكيف تنفق أنت) قال (إن الحكومة تدفع لي مرتباً بوصفي أحد رجالها المحاربين) قلت له (فإذا قتلت؟) قال (تدفع الدولة معاشاً لعائلتي يكفل لها الحياة الكريمة). وأنا أسوق هذه القصة لأثبت بها مدى تعاون الشعب في خدمة الدولة، ومدى رعاية الدولة لأفراد الشعب.
ولعل مما يدل على حب الشعب البريطاني للاستقرار دراسة لأحزاب السياسية في إنجلترا، إذ أننا نجد في بريطانيا حزبين كبيرين هما حزب العمال، وحزب المحافظين، وحزباً ثالثاً لا خطر له هو حزب الأحرار. ولا تختلف الأحزاب السياسية في بريطانيا في سياستها الخارجية، فالسياسة الخارجية مرسومة موضوعة، ولكنهم مختلفون في السياسة الداخلية، فحزب العمال يؤمن بأن (العرض الحق من المجتمع هو أن يرفع ويحفظ كرامة ورفاهية الفرد) ويؤمن بأن من حق العمال على الدولة أن يعيشوا كراماً، وأما حزب المحافظين فهو يتكون من الرأسماليين وكبار الملاك، وهم حريصون أشد الحرص على تدعيم كيان الإمبراطورية البريطانية.
استقالة:
أن الشعب البريطاني يمتاز بتقديسه لحريته، وهو لا يقبل أن تقيد أبداً، وقد يختلف أفراده رأياً ولكنهم يجتمعون في النهاية على هدف واحد هو خدمة بريطانيا.
ولعل من أروع الأمثلة التي أستطيع أن أقدمها للقارئ الكريم مما يدل على مدى حب الإنجليزي لحرية رأيه وحرصه على تحقيق المبادئ التي يؤمن بها؛ ما كان من أمر استقالة مستر بيفان وزير العمل منذ أيام، فهذا الرجل كان وزيراً في وزارة العمال منذ سنة 1945(932/9)
- قد كان في بدء حياته أحد عمال المناجم وكذلك كان أبوه - يمتع بجاه المنصب وسطوته ولكنا نراه يترك هذا المنصب الخطير من تلقاء نفسه حين يرى انه لا يستطيع تحقيق المبادئ التي يعتنقها، وهي العمل على أن تيسر الدولة للعمال الحياة الكريمة السعيدة. ويقول في كتاب استقالته ما ترجمته (إنه يستقيل لأنه لا يوافق على مشروع الميزانية الجديدة إذ أنه مشروع خاطئ إذ يرصد أموالاً طائلة لبرنامج التسلح مما يرهق الميزانية ولأنه يتخذ من رفع الأسعار وسيلة من وسائل الحد من الاستهلاك المحلي، ولأنه بدء لتحطيم الخدمات الاجتماعية التي كان يفخر بها حزب العمال إذ قررت زيادة الضرائب على الأسنان الصناعية والنظارات).
ويقول (إنه ليس مما يشرفني أن أقرن اسمي بتنفيذ سياسة لا يقرها ضميري ولا برضاها عقلي، وأني آسف إذ أشعر أني مضطر إلى اتخاذ هذه الخطوة بعد هذه السنين العديدة التي تعاونا فيها حكومة واحدة قامت بكثير من الخدمات لقضية العمال ولتقدم الجنس البشري).
ويقول (أن الوظائف العامة يجب أن يعهد بها إلى من يؤمنون بأنهم قادرون على النهوض بها) ويختتم استقالته متمنياً لرئيس الوزراء الصحة والعافية.
ويقبل رئيس الوزراء الاستقالة آسفاً وشاكراً له ما قدم من خدمات وتمنيات. ومع هذا فلم يفصل حزب العمال المستر بيفان من عضويته، وكذلك أعلن بيفان أنه لن يهاجم الحكومة لما يرجوه على يدها من خير للعمال. وهكذا تكون الشجاعة وحرية الرأي.
ويحرص أفراد الشعب البريطاني على أداء الواجب المطلوب منهم حرصاً تاماً، ويهتمون بالرياضة والألعاب الرياضية اهتماماً كبيراً. ومن كلمات ولنجتون المأثورة قوله (لقد كسبنا معركة واترلو فوق أرض ملاعبنا). ويمتاز البريطانيون بصبرهم وببر ودهم وسعة حيلتهم ودهائهم، ولعل موقف إنجلترا من روسيا في الحرب الأخيرة يظهر لنا ذلك واضحاً جلياً.
ففي سنة 1939 أرسلت إنجلترا وفرنسا بعثة لمفاوضة روسيا لعقد اتفاق لإتمام حركة تطويق ألمانيا، وبدأت المفاوضات ولكن ألمانيا أرسلت بعثة أيضاً لمفاوضة روسيا، فتوقفت مفاوضات روسيا مع مندوبي فرنسا وإنجلترا وبقوا بدون عمل، وانتهت المفاوضات بين روسيا وألمانيا بعقد ميثاق عدم اعتداء بين الدولتين وبعد ذلك طرد المندوبون الإنجليز والفرنسيون ولكن إنجلترا لم تغضب ولاذت بالصمت وتذرعت بالصبر. وقد كان من نتائج(932/10)
ميثاق عدم الاعتداء الألماني الروسي قيام الحرب الأخيرة؛ فإن ألمانيا وقد اطمأنت إلى سلامة حدودها الشرقية أشعلت نار الحرب.
وتقدم الألمان يفتحون البلاد غرباً وشمالاً وجنوباً حتى احتلوا شبه البلقان، وبدأت روسيا تسعى لتحقيق حلمها القديم وهو الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، فطالبت ألمانيا بأن تعطيها ميناء عليه، ولكن ألمانيا رفضت واضطرت إلى إعلان الحرب على روسيا. وسارعت إنجلترا إلى روسيا تمد يد المساعدة، وبواسطة الدم الروسي والعتاد الأمريكي كسبت بريطانيا الحرب العالمية الثانية.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بسنمود الثانوية(932/11)
المعرفة الصوفية
أداتها ومنهجها وموضوعها وغايتها عند صوفية المسلمين
للأستاذ أبو الوفا الغنيمي التفتازاني
(1) المقامات والأحوال طريق موصل إلى المعرفة
(2) علم الظاهر وعلم الباطن
(3) أداة المعرفة عند الصوفية
(4) منهج الكشف عند الصوفية وطبيعة هذا المنهج
(5) موضوع المعرفة الصوفية
(6) غاية التحقيق بالمعرفة عند الصوفية
أتفق الصوفية على أن غاية المتصوف السالك إلى الله أن يتحقق بمعرفة الله سبحانه وتعالى معرفة يقينية لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها.
ويأخذ المريد نفسه في أول عهده بالطريق بالمجاهدة النفسية فيتخلى عن الأخلاق الرديئة ويحاسب نفسه ويراقبها حتى تنقطع عنها الهواجس فتصبح طوع إرادته، ويتخلص من عوائق البدن وسطوة الشهوات التي من شأنها أن تحجب عنه الحقيقة العليا التي يصبوا إليها.
هذا وتنشأ عن المجاهدة والرياضة الروحية، حالات نفسية معينة تعرف عند الصوفية بالأحوال والمقامات، ولا يزال الصوفي يترقى في أحواله ومقاماته من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، حتى يل إلى معرفة الله تعالى معرفة يقينية لا مدخل للحواس أو العقل فيها، فيستمتع بمطالعة وجه الله سبحانه وتعالى ومشاهدة جماله وجلالة جلت قدرته.
والأحوال والمقامات هي الطريق موصل إلى المعرفة، إلا أن الصوفية اختلفوا في عدد هذه الأحوال والمقامات وترتيبها، فما يراه البعض حالاً يراه البعض الآخر مقاماً، وفي حقيقة الأمر كل يصف لنا منازل سيره وحال سلوكه. وعلى الرغم من هذا الاختلاف فيما بينهم فإنهم يقررون أن الأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، وأن الحال معنى يرد على القلب من غير اكتساب بل عن طريق الجود وأن المقام يحصل ببذل المجهود أضف إلى ذلك أن صاحب الحال مترق عن حاله وصاحب المقام ممكن في مقامه وان الحال سمي حالاً لتحوله(932/12)
والمقام مقاما لثبوته.
ومن أمثلة الأحوال التي تحل بقلب الصوفي، الطرب والحزن والبسط والقبض والانزعاج والهيبة ومن أمثلة المقامات التي تصير كسباً له؛ التوبة والورع والزهد والصبر والشكر والمعرفة والمحبة.
والكلام فيما يعرض للنفس من هواجس وخواطر، وبيان طرائق المجاهدة وما يعرض للقلوب من أحوال وما تكتسبه من مقامات، كل أولئك مباحث ذوقية سماها المتصوفة بعلم الباطن أو علم الوراثة أو الحقيقة أو الدراية، وفرقوا بينها وبين علم الظاهر أو علم النقل أو علم الرواية.
يقول السراج الطوسي في اللمع عن علم الباطن وعلم الظاهر والفرق بينهما (إن علم الشريعة علم واحد، وهو اسم واحد يجمع معنيين: الرواية والدراية، فإذا جمعتها فهو علم الشريعة الداعية إلى الأعمال الظاهرة والباطنة. . . والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح الظاهرة، وهي العبادات والأحكام مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وغير ذلك فهذه العبادات، وأما الأحكام فالحدود والطلاق والعتاق والبيوع والفرائض والقصاص وغيرها فهذا كله على الجوارح الظاهرة. . . وأما الأعمال الباطنة فكأعمال القلوب، وهي المقامات والأحوال مثل التصديق والإيمان واليقين والصدق والإخلاص والمعرفة والمحبة والرضا والذكر والشكر. . . فإذا قلنا علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي على الجارحة الباطنة وهي القلب، كما أنا إذا قلنا علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة التي هي على الجوارح الطاهرة).
وعلم الباطن عند الصوفية مستمد من الشريعة فلا خلاف بينهما، وغاية ما في الأمر أن علم الباطن علم ذوقي تنطوي عليه الشريعة، ومتى تحقق العبد بأحكام الشريعة وعمل بالكتاب والسنة، واتجه بقلبه نحو الله وسلك طريق الذوق، فقد حصل على ذلك العلم، فالحقيقة ثمرة الشريعة، وإلى ذلك أشار الشعراني بقوله عن علم الباطن (هو علم أقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالكتاب والسنة. . . والتصوف هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة).
وصور القشيري في الرسالة العلاقة بين الشريعة والحقيقة تصويراً رائعاً فقال (الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير(932/13)
مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضي وقدر وأخفي وأظهر).
وعلوم الحقيقة هي العلوم الحائزة على جميع مراتب اليقين. ورد في التعريفات للجرحاني (علم اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين ظاهر الإخلاص فيها، وحق اليقين المشاهدة فيها).
ويقول القشيري في الرسالة (علم اليقين على موجب اصطلاحهم (أي الصوفية) ما كان بشرط البرهان، وعين اليقين ما كان بحكم البيان، وحق اليقين ما كان بنعت العيان).
ومن هذا يتضح لنا أن الصوفية يعتبرون علومهم علوماً يقينية حائزة لجميع مراتب اليقين، وهي أسمى من حيث يقينها عن سائر العلوم التي تعتمد على العقل وبراهينه واستدلالاته، وهذا اليقين الذي تتميز به علوم الحقيقة عن سائر العلوم هو يقين كشفي يتحقق به العبد متى سلك طريق الصوفية.
ولعله قد أتضح لنا الآن من خلال تقسيم الصوفية للعلوم إلى علوم باطنة أن المعرفة على نوعين: النوع الأول معرفة عقلية ظاهرة تعتمد على العقل وأنظاره واستدلالاته، وعرفة باطنة ذوقية لا مدخل للعقل أو الحس فيها، وإنما هي من قبيل المكاشفات، وهذه المعرفة الذوقية الباطنة التي لا تعتمد على العقل أو الحس تتخذ من القلب أداة لها. وفيما يلي توضيح ذلك:
إن الصوفية لا يعتمدون على العقل، ولاسيما إذا كان موضوع معرفتهم هو الله سبحانه وتعالى؛ إذ أن العقل عاجز عن إدراك حقيقة الذات الإلهية، ولا يستطيع أن يتوصل إلى إدراك كنهها بضرب من القياس أو الاستدلال النظري. ويصور فريد الدين العطار - وهو من كبار شعراء الصوفية من الفرس - عجز العقل عن إدراك الله تصويراً بالغ الروعة فيقول (ذهبنا وراء عالم العقل والفهم، العقل لا يجدي عليك، إنما يأتي إليك بما يأتي به غربال من بئر. إنما يحاول العقل أن يدرك في هذا العالم، ولكن هذا العقل الذي يفقد نفسه بجرعة من الخمر لا يقوي على المعرفة الإلهية، العقل أجبن من أن يرفع الحجاب ويسير قدماً إلى الحبيب.
وحقيقة الأمر عند الصوفية أن ذات الإلهية تدرك إدراكا مباشراً، لا مدخل للعقل فيه، وذلك(932/14)
بواسطة أداة أخرى في الإنسان يسمونها عادة بالقلب، فالقلب هو مركز المعرفة، والله سبحانه وتعالى الذي يقذف بالمعرفة في هذا القلب، فيصبح صاحبه عارفاً محيطاً بكل شيء فالمعرفة لدنية بهذا المعنى، أي أنها من لدن الله عز وجل.
ويسوق الغزالي في كتابه علوم الدين مثالاً محسوساً رائعاً فيه كيف يكون القلب أداة للمعرفة الصوفية فيقول (لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض أحتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار تتفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم، وقد يكون أغزر وأكثر، فذلك القلب مثل الحوض والعلم مثل الماء وتكون الحواس الخمس مثل الأنهار، وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات، حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تتفجر ينابيع العلم داخله).
ومن هذا النص يتبين لنا الصوفية لا يعتمدون على الحواس الظاهرة في تحصيل علومهم، وإنما يعتمدون على القلب فيأخذون أنفسهم بتطهيره من شوائب الحس وأدران المادة حتى تنكشف عنه الحجب، ويصبح قادراً على إدراك الحقائق وقد أشار إلى هذا المعنى الأستاذ زينون نيكولسن بقوله (إن الصوفية لا يستعلمون اسم القلب للدلالة على تلك المضغة الجاثمة في الصدر، بل يعنون به جوهراً لطيفاً غير مادي تدرك به الحقائق الأشياء وتنعكس عليه كما تنعكس الصور على المرأة. . . ولكن مقدرة القلب على أدراك الحقائق وقبول صورها رهن بصفائه؛ لآن حجبه تختلف لطافية وكثافة بحسب ما يؤثر فيه من الحواس والشهوات والمعاصي وحب الذات، ولكن بمقدار ما ينكشف عن القلب من هذه الحجب وتكون قدرته على المشاهدة وإدراك الحقائق).
ومن كل ما سبق نستطيع أن نقرر أن الصوفية اتخذوا من القلب أداة لمعرفتهم، فهم لا يعتمدون على الحس وما يصطنعه أصحاب الحس من مناهج، ولا يعتمدون على العقل وما يصطنعه أهله من بحث نظري واستدلال منطقي، وإنما هم يعمدون إلى الذوق ومعنى هذا بعبارة أخرى أنهم يصطنعون منهجا خاصا بهم في المعرفة.
فما هو هذا المنهج وما هي خصائصه الميزة له؟ وفيما يلي الجواب على ذلك:(932/15)
4 - يصطنع الصوفية منهجا ذوقيا خاصا بهم ليس من السهل إخضاعه الدراسة العلمية فهو منهج خاص بأصحابه قاصر عليهم دون غيرهم وإذا أردنا أن نعبر عنه تعبيرا سيكولوجيا قلنا إنه من الاستيطان الذاتي كما أن الإدراكات المباشرة التي يتوصل إليها بهذا المنهج إدراكات خاصة لا يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية.
هذا والصوفية يدركون الله سبحانه وتعالى إدراكاً مباشراً مصحوباً بحالة وجدانية يصعب التعبير عنها بالألفاظ وهذا الإدراك المباشر يسمى عندهم بالكشف.
والكشف كما يعرفه الجرجاني (في اللغة رافع الحجاب وفي الاصطلاح هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً وشهوداً).
ويقول الطوسي في اللمع (الكشف بيان ما يستتر على الفهم فيكشف عنه للعبد كأنه رأى عين).
ويحدثنا أبن خلدون في مقدمته عن الكشف فيقول: إنه يعرض لأصحاب المجاهدة وقد صفت نفوسهم من شوائب الحس فيدركون به من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم، وبانكشاف حجاب الحس يتلقى الصوفي المواهب الربانية والعلوم الدينية. ويحدثنا أيضاً عن الكشف بما يفيد أنه من قبيل الوجدان، ومن ثم قصرت مدارك من لم يشارك القوم ما هم بسبيله من أذواق ومواجيد عن فهم حقيقته.
وأورد الشعراني في الميزان عن محبي الدين بن عربي في الفتوحات ما نصه (من علامة العلوم الدينية أن تمجها المقول من حيث إنكارها، ولا يكاد من غير أهلها يقبلها إلا بالتسليم لأهلها من غير ذوق، وذلك لأنها تأتي من طريق الكشف لا الفكر).
ويقول الشعراني أيضاً (وكان الشيخ محي الدين بن عربي يقول: أصل المنازعة الناس في المعارف الإلهية والإشارات الربانية كونها خارجة عن طور العقول، ومجيئها بغتة من غير نقل ونظر، فتنكرت على الناس من حيث طريقها فأنكروها وجهلوها).
وفي رسالة أرسلها الشيخ محي الدين بن عربي إلى الإمام فخر الدين الرازي (إن الرجل لا يكمل في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ. . . فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا نظر وفكر وظن).
كذلك يرى الغزالي في كيمياء السعادة أن اكتساب العلم اللدني بارتفاع حجاب الحس(932/16)
المرسل بين القلب واللوح.
ويحدثنا الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين عن اكتساب العلم اللدني فيظهرنا من خلال كلامه عن أن العلم الإنساني يكتسب بطريقين: التعلم والاستدلال ويسمى اعتباراً أو استبصاراً ويختص به العلماء والحكماء، وأما أن يهجم على القلب كأنه ألقي فيه من حيث لا يدري فهو نفث في الروع، ويسميه الغزالي في رسالته اللدنية بالتعلم الرباني).
ويعبر لنا الغزالي أيضاً في كتابه المنقذ من الضلال عن كيفية وصوله إلى اليقين بطريق الكشف والإلهام فيقول (ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق الله رحمه الله الواسعة).
وكذلك يحدثنا السهروردي المفتول في كتابه حكمة الإشراق أن ما توصل إليه من العلوم في منازلاته وخلواته لم يكن بطريق الفكر، بل كان حصوله بأمر آخر يقصد به الذوق أو الكشف وهو (ولم يحصل لي أولا بالفكر بل كان حصوله بأمر آخر ثم طلبت الحجة عليه حتى لو قطعت النظر عن الحجة مثلاً ما كان يشككني فيه مشكك).
كذلك يرى الجيلاني في كتابه الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر أن إدراك الذات العلية هو بطريق الكشف الذي هو فوق العلم ومن قبيل الذوق.
والي مثل ذلك ذهب الشيخ حسن رضوان وهو صوفي مصري توفي عام 1310 في كتابه روض القلوب المستطاب (21) فهو يرى أن علم الحقيقة لم يتوصل إليه الصوفية عن طريق التفكير أو العقل، وإنما الكشف والإلهام.
ويقول الأستاذ رينولدلسون (فإن ما يسميه الصوفية المعرفة بالله ويعتبرونه من أخص صفاتهم يرادف في اللغة اليونانية كلمة التي معناها العلم بلا واسطة، الناشئ عن الكشف والشهود.
ومن كل ما سبق نستخلص أن الكشف الصوفي يعرض لأصحاب المجاهدة وقد صفت نفوسهم من شوائب الحس، فيدركون به من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية مالا يدرك سواهم من أرباب العقول، وأن الكشف يتم بلا واسطة من نقل أو شيخ أو غير ذلك، وإنما هو إدراك ذوقي مباشر تنكشف فيه حقائق الأمور، وهو على تعبير الغزالي نور يقذفه الله(932/17)
في القلب.
هذا ولكي نبين طبيعة الكشف باعتباره منهجاً من مناهج المعرفة نفرق هنا بين نوعين من المعرفة: النوع الأول معرفة استدلالية والنوع الثاني معرفة مباشرة حدسية الاستدلالية ينتقل فيها الفكر من معنى إلى معنى، كأن ينتقل من المقدسات إلى النتائج أما المعرفة الحدسية المباشرة فتختلف باختلاف موضوع الإدراك. فهناك إدراك مباشر يتناول الأمور المحسوسة ويسمى أبن سينا بالمشاهدة، وهو معرفة مباشرة للشيء الخارجي المحسوس، وهناك إدراك عقلي مباشر وهو إما أن يكون منطقياً كأن تدرك العلاقة بين معين إدراكاً مباشراً بنظرة واحدة فهو بهذا المعنى سرعة الانتقال من مجهول إلى معلوم، أو يكون إدراكاً عقلياً ميتافيزيقياً مباشراً ويتناول موضوعات غير معطاة في عالم الحس وهذا النوع نجده مثلاً عند ديكارت وسبنيوزا، فديكارت يدرك إدراكاً عقلياً مباشراً باعتباره جوهراً مفكراً وذلك حين يقول , وهذا الإدراك العقلي المباشر لا مدخل العامل الزمن فيه فهو بر هي أو آني إن صح هذا التعبير.
وكذلك يرى سينيوزا أن معرفة الله هي معرفة حدسية كلية شاملة يسميها ويتولد عنها الحب الإلهي العقلي وهي تحمل في ثناياها يقينها ووضوحها.
ومن الواضح كل الوضوح أن المعرفة أن المعرفة الصوفية ليست من قبيل المعرفة الاستدلالية، أو المعرفة الحسية المباشرة، أو المعرفة العقلية المباشرة المنطقية، أو المعرفة الميتافيزيقية المباشرة العقلية، إذ أنها لا تعتمد على العقل واستدلالاته ولا على المشاهدة الحسية وتجاربها، وإنما هي من قبيل العرفان المباشر ويمكن تسميتها بلغة علم النفس الحديث بالمعرفة الوجدانية الصوفية المباشرة، ووسيلتها هي الإدراك الصوفي الوجداني المباشر وهذا المعنى ينطبق تماما على ما يطلق عليه الصوفية كلمة (كشف) والآن ما هو المعرفة الصوفية التي تتخذ الكشف منهجاً لها؟ وفيما يلي الجواب على ذلك:
للكلام تتمة
أبو الوفا الغنيمي التفتازاني(932/18)
لوامع النجوم مختصر شمس العلوم
للأستاذ أحمد عبد الغفور عطار
نشرت في عدد مضى من هذه المجلة الكريمة وصفاً للمعجم المسمى (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم) لنشوان بن سعيد الحميري، وقدمت صورة إلى الذهن هذا المعجم العظيم الذي لا يعرف، مع أنه معجم رحب دقيق صحيح، وذكرت في ذلك المقال: أن لهذا المعجم مختصراً، اسمه (ضياء الحلوم) وهو بمكتبة شيخ الإسلام الإمام عارف حكمة الله الحسيني بالمدينة المنورة، وأن من الأصل نسخة بهذه المكتبة.
وعلمت بعد نشر مقالي الأول في الرسالة أن لهذا المعجم مختصراً آخر اسمه (لوامع النجوم) فبحثت عنه حتى وجدته، ويستطيع قارئ هذه المجلة أن يدرك حقيقة شمس العلوم الموضوعية وطريقة تأليفه إذا ما وصفت له هذا المختصر الذي يسير في الطريق الذي سار فيه (الشمس).
وقبل أن نبدأ وصف الموضوع والطريقة، ننتهي من وصف النسخة وشكلها وما يتعلق بنعوتها المادية، حتى إذا أنجزنا ذلك انتقلنا إلى صلب الكتاب.
هذا المختصر الجديد أسمه - كما قلت - (لوامع النجوم) وعدد أوراقه 358، وكل ورقة مكتوبة صفحاتها إلا الأولى والأخيرة فإنها من وجه واحد، وطول الورقة 30 س وعرضها 16س، وفي كل صفحة 38 سطراً وفي السطر 18كلمة إلى 20، والورق جيد إلا بعضه فقد اتكلت أطرافه، ومن جراء ذلك نقصت كلمات كثيرة في بعض الصفحات، إلا أنها تعرف من السياق.
أما الخط فعربي، ولكنه غير جميل، وإن كان مقروءا بتعب، والناسخ أهمل نقط كثير من الكلمات، كما وكما أغفل بعض الحروف كحذف همزة الوصل وحذف الألف في مواضيع كثيرة.
والخط بقلم الناسخ لا المؤلف، لأن في آخر الكتاب سطراً مكتوباً بالقلم الذي خط به الكتاب كله وهو هذا: (تم الثلاث عشر الخمس والثلاثين من ماء مبارك رمضان سنة خمس وثلاثين وتسعمائة) وهو يدل على أن كاتبه أعجمي، وأغلب الظن أنه تركي الأصل لأن تركيب الجملة يدل على ذلك.(932/19)
والنسخة وقف وقد كتب في أول صفحة منه (وقف الله تعالى) كما كتبت الجملة نفسها في صفحة 348 أول باب الصاد - وهو القسم الثاني من هذا المختصر - وكتبت كلمة (وقف) في رأس صفحة 714 وصفحة 715.
ولم يذكر الناسخ اسمه، وإن كان قد ذكر تاريخ الفراغ من النسخ، وهو التاريخ الذي ذكرناه للاستدلال بصيغه على أعجمية الناسخ.
أما مؤلف (لوامع النجوم) فلم يكتب اسمه، وبحثت فيما لدي من مراجع فلم أجد أسمه ولا سنة تأليفه أو الفراغ منه، وسألت كثيراً من أصدقائي العلماء فلم يعرفوا الكتاب ولا اسم مؤلفه ولعل لدى المشتغلين باللغة والعلماء علماً به فيكتب في الرسالة ما يظهره ويكشف حقيقته.
وعكفت على الكتاب أقرئوه فلم أجد ما يشير إلى ومن المؤلف، ولم أجد ما يشير إلى شيوخه أو تلامذته أو أنداده فأهتدي بهم إليه. والمقدمة نفسها خالية من أسم المؤلف وهي في سبعة سطور، ولكن بعض كلمتها غير موجود، لأن موضعه من الصفحة قد أتكل، وها أنا ذا أنقلها بعد وضع النقط على الكلمات التي أهمل إعجابها، ووضع الكلمات المأكولة اجتهادا مني وجعلها بين أقواس للدلالة عليها.
وها هي ذي المقدمة: (الحمد لله الذي فضل الإنسان على سائر الحيوان ومن (عليه بالبيان) والسلام على رسوله أفصح من نطق بالضاد، وأفضل من أوتي الشفاعة (يوم التناد) وعلى اعترته وأحبابه. أما بعد فلما كان كتاب شمس العلوم مفيداً في علم اللغة غاية الإفادة شكر الله سعيه في كل الإجادة، لم يوضع فيه كتاب على هذا الترحيل يأمن كاتبه وقارئه (من التصحيف) بحرس كل كلمة بنقطها وشكلها، وبجملها مع جنسها وشكلها. لكن كان محتوياً على (كلام العرب) ومشتملاً على بعض قواعد من علم الأدب وعلى شيء من منافع الأشجار (وعلى) بعض ما يتعلق بالأحاديث والأخبار، وعلى تفسير بعض الآيات، وتبيين ألفاظ مما لا تعلق (له) باللغة كل التعلق، ولا يدركه من لم يتعمق في اللغة كل التعمق، أردت أن (أختصر) اللغات فيه ليسهل تحصيله على طالبيه، فجاء بحمد الله مشتملاً على جميع (الأبواب) هناك مع ذكر بعض ما يتعلق به من الأمثلة أو غير ذلك وسميته لوامع النجوم).(932/20)
وهو كشمس العلوم يسير على المعجم، وبدأ بحرف الهمزة ويسمي (كل حرف من حروف المعجم كتاباً، ثم جعل لكل حرف من حروف المعجم باباً، ثم جعل كل باب من تلك الأبواب شطرين: أسماء وأفعالاً، ثم جعل لكل كلمة من تلك الأسماء والأفعال وزناً ومثالاً، فحروف المعجم تحرس النقط وتحفظ الخط والأمثلة حارسة الحركات والشكل واردة كل كلمة بنائها إلى الأصل).
إنه سار على حروف المعجم، وسمي - مثل شمس العلوم - كل حرف منها كتاباً، فيقول مثلاً: كتاب الهمزة وكتاب الباء وهكذا حتى الياء، يذكر تحت عنوان كتاب الهمزة كل حرف مبدوء بها مقسماً إلى أبواب، فالهمزة مع غيرها من الحروف باب، وهكذا الباء والتاء والثاء الخ.
وطريقته في مختصره أن يبدأ كل باب بحروف المضاعف مبتدئاً بالمجرد من الأسماء وزن فعل (بفتح الفاء وسكون العين) فيذكر في كتاب الهمزة باب الهمزة وحروف المضاعف، ويقول
(فعل بفتح الفاء وسكون العين الأب المرعي الأب القوة وهو الآد والأيد أيضاً الأس كان ذلك على أس الدهر أي قديمه الخ).
ثم يذكر (فعل بضم الفاء أو من أسماء الفاء أو من أسماء الرجال وأد أبو قبيلة س الأس الجمع أساس كأخفاف وكان على أس الدهر أي قديمه الخ).
ثم (فعل بكسر الفاء دالإد الشيء المنكر س كان ذلك على إس الدهر أي قديم ص لإص الأصل ل الإل الله عز وجل والإل العهد واليمين والإل القرابة).
ثم: (فعل بفتحتين الأمم القريب المقابل داره أمم دارى أي مقابلتها. وبضم الفاء: دأدد أبو قبيلة من اليمن).
وإذا انتهى من المجرد بدأ بالمزيد ويفصل بينهما بكلمة (زيادات) فيقول: (فاعل جئئت بشيء أد وآد بمعنى وبالهاء (أي آدة) الآمة الشجة تبلغ أم الدماغ).
ثم يذكره (فعال بالفتح ث الأثاث متاع البيت وأحدثه أثاثه، الفراء لا واحد له من لفظه، والأثاث كثرة المال الخ).
ثم (وبالضم ج الماء الأجاج الملح ويقال الحادح الاحاح العطش والأحاح الغيظ في صدره(932/21)
أحاح ن الأنان الأنين وبالهاء الخ).
ثم (فعال بالكسر ب في إبابه في جهازه ج الاجاج شدة الحر).
ثم يذكر (فعول بفتح الماء وضم العين وكذا جميع ما في هذا الكتاب من فعول غير محروس فإن أتى خلافه حرس بوزنه ص الأصوص الناقة الشديدة).
ثم (فعيل) وهكذا حتى ينتهي من الأسماء ليبدأ الأفعال فيذكر أبواب الثلاثي الستة فالرباعي المجرد ثم مزيد الثلاثي بحرف فحرفين فثلاثة ثم مزيد الرباعي وهكذا تحت عنوان (زيادات) يجعله بين السطور.
وفي الكتاب فلمان: أسود وأحمر، أما الأسود فالكتاب كله إلا بعض هذه الإشارات مثل هذه العناوين الداخلة بين السطور: (الزيادة، والأسماء، والأفعال) وبعض العلامات فبالقلم الأحمر، ومن هذه العلامات أنه إذا أراد أن يذكر فعالاً، في باب الهمزة كتب (ب) بقلم دقيق يرمز به إلى أن الكلمة الآتية من باب الهمزة أي مبدوءة بالهمزة يعقبها حرف الباء مباشرة مثل إب، وإذا انتهى من الباء وضع أو ث صغيرة الحجم جداً وهكذا، وإذا لم يرد من وزن فعال ما فيه حرف التاء بعد الهمزة انتقل إلى الحرف أنتقل إلى الذي ورد من هذه الصيغة مثل: إجاج. ويضع الرمز بحرف جد صغير ودقيق هكذا ج الاجاج شدة الحر.
والكتاب جزءان في مجلد واحد، وإن لم يذكر المؤلف الناسخ ذلك. إلا إننا زعمنا هذا من مظهر الكتاب فهو يضع كل (كتاب) عندما ينتهي من سابقه في الموضع الذي ينتهي إليه بدون أن يجعله مستقلاً من أول الصفحة أو أول السطر، إلا أنه عندما انتهى من حرف الشين بقى ثلثا الصفحة فارغين أبيضين، وترك الصفحة على حالها من البياض وأنتقل إلى صفحة جديدة كتب في وسطها (كتاب الصاد) وهي توافق صفحة 348 أو ظهر الورقة الرابعة والسبعين بعد المائة؛ ثم ينتهي الكتاب بحرف الياء مع الألف في الورقة الأخيرة التي يوافقها في الترتيب رقم 368 أو الصفحة 715.
وفي الكتاب أخطاء جد كثيرة من الناسخ لا تخلو منها صفحة من صفحاته حتى أن غير المتمكن في اللغة لا يستطيع معرفة كثير منها مثال ذلك في الصفحة الثانية: (هو في إبانه في جهازه) وصوابها: (هو في إبابه في جهازه) (والأحاج الغيظ في صدره أحاج) والصواب: (والأحاج الغيظ في صدره أحاح) وفي صفحة 207 (الدرك بالفاف الجند فوق)(932/22)
وصوابها: (الدوق بالقاف الحندقوق) والحندقوق بفتح الحاء وكسرها بقلة كالغث الرطب نبطية معربة.
ويغلب على الناسخ قبل الهمزة في أسم الفاعل كطائر وقائم وصائم ونائم وبائع ياء فتصير: طايراً وقايماً وصايماً ونايماً وبايعاً، مثال ذلك ما ورد في صفحة 22 (الباسوس طاير) وجاء في هذه الصفحة نفسها ما خطه الناسخ هكذا: (أبلح النحل صار فيه البحل) وصحته: (أبلح النخل صار فيه البلح).
ويسقط قلم الناسخ في كثير من المواضع كلمات لا تدرك إلا بعد جهد ممن رسخ في اللغة علمه، وقل من أخطائه ما يدرك من السياق لغير المتمكن الضليع، ومن أخطائه التي تعد أقرب إلى البيان والظهور ما أنقله كما كتب للدلالة على جناية الناسخ على المؤلف - رحمها الله -
جاء في صفحة1: (البلاط الحجارة المفروشة وكل شيء فرشت به الدارين حجره وغيره فهو بلاط ع اسم من التبليغ والبلاغ والكفاية).
فالناسخ أهمل نقط كثير من الخوف وسقطت من الحروف وسقطت منه كلمة وصحف أخرى، وزاد وغير ذلك، وصواب تلك الجملة خطأ وكتابة وتركيبها كهذا (البلاط الحجارة المفروشة، وكل شيء فرشت به الدار من حجر وغيره فهو بلاط غ البلاغ اسم من التبليغ والبلاغ والكفاية).
وبعد هذا أتجه إلى الحكومة اليمينية التي تتولى طبع معجم شمس العلوم من جديد لأطلب إليها ما طلبته في كملتي السابقة، لا وهو العناية كل العناية كل العناية بترتيب هذا المعجم العظيم وتنسيقه وتبويبه وأتفان طبعه وتأليف فهرس لألفاظه ويكون مفتاحا بيد المراجع ومرشدا إياه إلى ما يريد، وذلك مثل فهرس الجمهرة لابن دريد المطبوع في الهند، ثم أطلب إلي العلامة الشيخ عبد الله ابن عبد الكريم الجرافي الذي انتدب من حكومة اليمن لنشر شمس العلوم أن يطلع على هذه النسخة الخطية من (لوامع النجوم) إذا لم تكن في مكتبات اليمن القيمة نسخة منه.
وإنني سأبعث إليه مخطوطة هذا المختصر إذا رغب، وهي بمكتبة الأستاذ السيد عبيد مدني عضو مجلس الشورى بمكة والأستاذ السيد أمين مدني رئيس بلدية المدينة المنورة اللذين(932/23)
استعدا بتقديم هذه النسخة إلى الشيخ الجرافي عارية مستردة للإطلاع عليها. وفي وسع الشيخ الجرافي أن يطلبه من أحد مالكي النسخة لأنهما مقيمان بالحجاز، أما أنا فمسافر بعد أسبوعين إلى أسبانيا للاطلاع على مكتبة الأسكوريال، ثم إلى باريس وبرلين ولندن والفاتيكان للإطلاع على مكتباتها التي تحوى نفائس التراث العربي الغالي اليمن، وأرجو الله أن يوفقنا جميعاً إلى خدمة لغة القرآن.
مكة
أحمد عبد الغفور عطار(932/24)
على هامش مشكلة اللاجئين
صوت مصر. . .
الآنسة فائزة عبد المجيد
(وقال الكاتب العربي أ. م في الرسالة قولا كريماً مشكلة اللاجئين كان له النفس هذا الصدى)
ف.
(قطرات من الدموع، نداً من الرحمة، وقليل مما يسد الرمق، ذلك ما يطلبه اليائسون من المترفين، وحسبهم منه القليل) كما يقول لا مارتين، ترى، أكان من ذلك وحيك، لتمسح جراحاً وتهز قلوباً، وتحيي ضمائر، وحولك مأساة تكاد لها الجبال الصم تميد؟. .
قلت في صرختك: (إنني كفرت بالضير الإنساني، كفرت به حين كفر هو بكل وشيجة من وشاج الإنسانية! وكل خليقة من خلائق الأحياء، حين تكون هذه الخلائق مجموع من المشاعر والأحاسيس. . . مشاعر الدم الواحد واللغة الواحدة والتقاليد الواحدة وأحاسيس الأخوة والعروبة والجوار!) وإنه لحق، لولا نفوس ترسل النداء - كما أرسلتموه - جهيراً قوياً: ألا رفقاً أيتها الحادثات، غفراناً أيها الإخاء المعذب، فما نسينا لك - على الشدائد - عهداً، وأن هادن الدهر وضلت عن السبيل القوافل:
قد هادن الدهر حتى لا قراع له ... وأطرق الخطب حتى ما به حرك
أو كفرت بالعروبة حين عادت لا تجمعها - عند النزول - جامعة من دين ولغة وتاريخ، حين دخلت معركتها الأولى بلا إيمان لتفضحها مشكلة اللاجئين ويصمها حكم التاريخ، والدليل الحق لا يدفعه دافع؟ أو راعك صوت التاريخ يقول لفلسطين ما قاله شاعر أثينا يوم هوت: (لقد اختفت أثينا من صفحة الوجود، ليختفي الربيع من فصولك أيها الزمن!.)
أو أبكاك النشيد يهز بشجوه الحضر والبيد: (يا أخت أندلس عليك سلام. .)
وهل كانت محنة فلسطين إلا محنة العروبة في شرفها تصاب، وللعروبة أبناء فلسطين يردون موارد الهلاك إدلاء، فما نقض مضاجع توجعاً من موت يسري في جموعهم، ومن شقاء يبيدهم:(932/25)
سرى الموت في الظلماء والقوم في الكرى ... وقام على ساق ونحن قعود
وهل محنة فلسطين إلا محنة العروبة في افتضاح قوتها، في عطلها من الرأي العام الذي يوجه السياسة العليا حين يقول كلمته ويملي أردته؟
ألا تعال معي، وطف في تلك الكهوف وأشهد: هنا الإنسانية تتعذب، تلك الطفولة تذوي. تتطلع إلى النور فتحجبه عن ناظرها الدموع، تشقي قبل أن يشقيها الكفاح. أو سمعتها وهي تقول: رب إني مسني الضر؟ أو رأيت كيف غضنت الهموم جباه الصغار قبل السنين، كيف غرقوا في لحج اليأس، أضحوا عبيداً قبل أن تظلهم راية الحرية، تخلت عنهم محبة الأرض والسماء، سقطوا وما من ضماد.
ألا، دع الصغار يبكون ثم ماذا ترى؟ خياماً ممزقة، أشباحاً في أسمال، نظرات جزعة، وأكفاً ضارعة.
ألا لا تسألن: دع الجراح في ألحنا يا وفي الضلوع، فأشدها حين تنكأ. دع لها الذكريات، فما أمر تذكرها! دع لها الدمع ينبئك، ففيه بلاغ:
لم يبق شيء من الدنيا بأيدينا ... إلا بقية دمع في مآقينا
فائزة عبد المجيد(932/26)
رِسَالَة الشِعْر
لا يا أخي
للشاعر محمد مفتاح الفيتوري
ألأن وجهي أسود ولأن وج - هك أبيض سميتني عبداً
ووطئت إنسانيتي وحقرت رو ... حانيتي. . فصنعت لي قيداً
وشربت كرمي ظالماً. . وأكلت بقلي ... ناقماً، وتركت لي الحقدا
وليست ما نسجت خيوط مغازلي ... وتركت لي التنهد والكدا
وسكنت أبهاء المقاصير التي ... بيدي تحت صخورها الصلدا
وإياكم استلقيت في كوخ الدجى ... أتلفح الظلومات والبردا
كالشاة. . أجتر الكآبة عاقداً ... حولي دخان تفاهتي عقدا
حتى إذا انطفأت مصابيح السما ... وانساب نهر الفجر ممتدا. .
أيقظت ماشيتي الهزيلة وأنطلق ... ت أقودها لمراجعها قودا
فإذا سمن نعمت أنت بلحمها ... ونبذت لي الأمعاء والجلدا
لا يا أخي. . إن التهاب مشاعري ... هيهات بعد اليوم أن يهدأ
هيهات. . لم أخلق عليها بومة ... تقتات بالديدان. . أو قردا
أنا كائن أمي وأمك طينة ... والنور ليس لأبنا جداً
فإلام تحرمني حقوقي بينما ... تلقى الرغادة أنت والمجدا
وإلام تستعلي بأنفك سيداً ... وأنا أطاطيء هامتي عبدا
إني صحوت. . صحوت من أمسي وذى ... فأسى تهد قبوره هذا
سأكون ناراً فالحياة تريدني ... ناراً. . وأرقص قوتها رعداً
فاخلع برافع كبريائك إنني ... أسكنت جيفة ذلت لحدا
وأضمم يديك إلى يدي نشد معاً ... صرح المحبة بيننا شيدا
إني أخوك فلا تعق أخوتي ... فتزيد بركانيتي وقدا. .
إياك لا تبذر بذور عداوتي ... فتروح تحصد شوكها حصدا
إياك لا تزرع حقولك عوسجاً ... أني زرعت حقولي الورد(932/27)
محمد مفتاح الفيتوري
نار ورماد
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
عشقتك يا فتنة الملهمين ... كما يعشق الوردة البلبل
عشقتك والحب أشهى جنون ... لدي شاعر ليله أليل
تدله فهو نبي الفتون ... وآياته شعره المرسل
وغنيت شعراً وعته السنون ... وردده الروض والجدول
وتنقله الريح للياسمين
فالدني غزل
والهوى قبل
وأنت ارتعاشات عطر سجين
أيا كرامة الحب أين الرحيق؟ ... وأين ليلك يا غانية؟
وأين القلوب التي لا تفيق ... وأين الصبايا يا سالية؟
أضلل روحك ومض البريق ... تلألأ في ليلة داجية
أما كنت لي بسمات الشروق ... وكنت بشائره الزاهية
فخفت مواعيد واه خفق
دهره ينوح
عمره جريح
فلا تسألي كيف ضل الطريق
حنانيك يا جنة الأمنيات ... إلام الطواف وراء المحال
وفيما التعلل بالذكريات ... وكل الذي نرتجيه خيال
أتنسين أنا بتيه الحياة ... زوال يخب وراء الزوال
وأنا سراب بدا في فلاة ... تقمص تيها رداء الجمال
وصال وما هو إلا رفات(932/28)
تعامى كما
تسامى السما
ويلبس زوراً رداء الثقاة
عشقنا دروب الأسى والسقم ... فأيان نسر فدنيا عذاب
لقد جمعتنا طيوف الألم ... ووحدنا حبنا للسراب
سئمنا هل الممر إلا سأم ... وشبنا ونحن يفجر الشباب
فديتك هل نحن إلا حلم ... تجد مستكبراً بالتراب
وعربد وهو ربيب العدم
عمرنا لهب
حبنا عجب
فلا تندمي ليس يجدي الندم
رمادي تأوه منذ الأزل ... وما زال ظمآن دامي الجراح
أيبقى على ناره يبتهل ... سجين الخطايا كسير الجناح
فيا بارئي أين نور الأمل ... ويا بارئي أين درب الصلاح؟!
أليس لكل كتاب أجل ... أليس لكل مساء صباح
لقد ضاق صدري ومل الملل
ودارت كؤوس
وغابت شموس
ومازال جرحي لم يندمل
دلهت روحي وأنت الأمان ... وأظلمت قلبي وأنت القمر
فأرسلتني في ركاب الزمان ... حداء تفجع منه القدر
ومنيتي والأماني دخان ... كفرت بها اليوم فيمن كفر
أأحيا بأحلام دنيا الجنان ... وترقص حولي جنونا سقر
ويلثم جرحي ثغر السنان
وجودي عدم(932/29)
شرودي ألم
ويومي دموع وعمري هوان
أيا مانح الروح هذا الجسد ... علام كتبت عليه الشقاء؟!
أتوعده بنعم الرغد ... وتحرمه من طيف الهناء؟!
أتغريه بالحسن ونهداً وخد ... وتصليه بالنار بعد الفناء؟!
أتقذفه في خضم النكد ... وتتركه بين ناب القضاء
لينهشه أفعوان الحسد
حياتي سقر
وذاتي ضجر
فهات جحيمك صبري نفذ
عبد القادر رشيد الناصري(932/30)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
إقرار كلمات محدثة:
يذكر قراء (الرسالة) البحث القيم الذي ألقاه الأستاذ أحمد حسن الزيات في العام الماضي بمؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وكان موضوعه (حق المحدثين في الوضع اللغوي) ونشرته الرسالة إذ ذاك، وقد عقبت عليه وأوردت أهم ما دار في مؤتمر المجمع.
وكان ذلك البحث تمهيداً وأساساً للنتيجة العملية التي ظفرت بها اللغة في الأسبوع الماضي، إذ عرض الأستاذ على مجلس المجمع في جلسة يوم 2مايو سنة 1951 طائفة من الألفاظ المسموعة عن المحدثين على خلاف ما سمع عن العرب الأولين في الصيغة أو في الدلالة، وعددها واحد وخمسون، أقر المجمع منها تسعة وثلاثين ورفض أربعة، وأحال ثمانية إلى لجنة الأصول لبحثها.
ولا شك أن الألفاظ التي أقرت تعتبر منذ اليوم مضافة إلى اللغة الصحيحة، وهي ليست في المعاجم الحالية بطبيعة الحال، ولابد أن يشتمل عليها ما يوضع بعد من المعاجم، ولهذا الموضوع أهمية كبيرة، ليست مقصورة على إضافة هذه المجموعة من الألفاظ بمعانيها الجديدة إلى اللغة، وإنما هي إلى ذلك في إقرار قبول الوضع والسماع من المحدثين، فلم تعد اللغة وقفاً على ما سمع من العرب الأولين، بل صار للأحياء الذين يستعملونها حق التصرف فيها على حسب حاجاتهم، على أن يشرف المجمع على استبدال هذا الحق باعتباره المختص باللغة القيم عليها.
وفيما يلي طائفة من الألفاظ التي وافق عليها المجمع مع بيان الأستاذ الزيات ما يسوغ إقرارها، والبقية في الأسبوع القادم:
1 - ساهم: يستعمل المحدثون ساهم بمعنى شارك وقاسم، والعرب لم يستعملوه إلا في المقارعة وهي الغلبة في القرعة. ولاستعمال المحدثين أصل فقد قال العرب: تساهموا واستعملوا السهم بمعنى المقاسم لغيره بالسهم، قال البديع في إحدى رسائله (أفترضى أن تكون سهم حمزة في الشهادة).
2 - هدف وأستهدف: صاغ المحدثون من الهدف بمعنى الغرض، هدف إلى الشيء قصد(932/31)
إليه، وأستهدف الشيء جعله هدفاً له. والعرب لا يستعملون هدف أليه بمعنى دخل وقارب، ولا أستهدف الشيء إلا لازماً بمعنى أنتصب وأرتفع ودنا منك.
3 - المظاهرة: يستعمل المحدثون للمظاهرة بمعنى إعلان رأي أو إظهار عاطفة في صورة جماعية، وهي تقابل في هذه الدلالة لفظ في الفرنسية والإنجليزية. والعرب يستعملونها بمعنى العون من الظهر، كالمساعدة من الساعد والمعاضدة من العضد، والمكاتفة من الكتف. والأقرب إلى المعنى الحديث تظاهروا تظاهراً، فقد قالوا تظاهر فلان بالشيء أظهره، ولكن المظاهرة شاعت حتى ليصعب على الناس العدول عنها.
4 - تجمهر: يقول المحدثون: تجمهر الناس: اجتمعوا. والعرب يقولون: تجمهر علينا: تطاول، ولاستعمال المحدثين أصل من قولهم: جمهر التراب: جمع بعضه فوق بعض.
5 - الكتلة والتكتل: يقول المحدثون: تكتل الناس: صاروا كتلة، أي جماعة متفقة على رأي واحد. والعرب لا يعرفون تكتل إلا بمعنى تجمع الشيء وتدور، ولا من الكتلة بمعنى ما جمع من التمر والطين ونحوها، والكتلة في لغة العلوم والحضارة تقابل لفظ في الفرنسية والإنجليزية.
6 - الجلطة وتجلط الدم: الجلطة بالضم هي الجزعة الخاثر من اللبن الرائب، وقد توسع فيها المحدثون فأطلقوها من باب التشبيه على الجزعة من الدم إذا تخثر، وقد اشتقوا منها تجلط الدم إذا تخثر.
7 - الدخان ودخن: يطلق المحدثون الدخان علىالتبغ، ودخن بالتشديد على إحراقه وهو من قبيل المجاز المرسل.
8 - الحشيش والحشاش: يريد العرب بالحشيش ما يبس من الكلأ، وبالحشاش من يقطع بهما فوق ذلك المادة المخدرة المعروفة، ومن يتعاطاها.
9 - القنبلة: القنبلة في اللغة: الطائفة من الناس أو من الخيل، ومصيدة يصاد بها أبو براقش، وفي استعمال المحدثين القذيفة المتفجرة يقذف بها مدفع أو طائرة أو يد (وافق المجمع على هذه الكلمة على أن ينص أصلها الفتح ثم ضمت وعلى أنها أقرت لأنها تعرفت وشاعت).
10 - الفشل - فشل الرجل: كسل وضعف وتراخى وجبن عند حرب أو شدة. والمحدثون(932/32)
يستعملون فشل بمعنى خاب، كأنهم يطلقون السبب ويريدون المسبب، فهو من قبيل المجاز المرسل.
11 - الجيل: الجيل: الصنف من الناس، وقد توسع فيه المولدون، فاستعملوه على أهل الزمان الواحد، ويظهر ان هذا الاستعمال قديم، فقد قال المتنبي (وإنما نحن في جيل سواسية شر على الحر من سقم على بدن).
12 - القاع: القاع ارض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام. والمحدثون يستعملونه في أقصى الشيء وعمقه ونهاية اسفله، فيقولن قاع بئر وقاع النهر تفادياً من ذكر القعر.
13 - القهوة: يستعمل المحدثون القهوة في المكان الذي تشرب فيه، وهو مجاز مرسل علاقته الحالية، كقولهم نزلنا على ماء بني فلان، أي على بئرهم، والمؤمنون في رحمة الله أي في جنته. وهذا الاستعمال صحيح يغنينا عن كلمة المقهى الثقيلة.
14 - غير: يدخل المحدثون عليه أداة التعريف، ويجمعونه على أغيار، ولم يسمع ذلك عن الأولين. والتعريف والجمع أمران تقتضيها الحال، وعلى الأخص في لغة القانون.
15 - الغيرية: عرف المتقدمون الغيرية مقابلاً للعينية، وهي أن يكون كل من الشيئين خلاف الآخر ويستعملها المحدثون اليوم مقابلاً للأنانية فتكون معنى من معاني الإيثار.
16 - الشقي: ضد السعيد. والمحدثون يطلقونه أيضاً على اللص وقاطع الطريق (وافق المجمع على هذه الكلمة على أن يزاد في شرحها أن تدل على الأطفال (العفاريت).
17 - التأميم: أمم الرجل المكان قصده. والمسموع اليوم من المحدثين أنهم يقولون: أمم الشيء: جعله ملكاً للأمة.
18 - التدويل: أشتق المحدثون من لفظ الدولة - دول المكان وغيره جعله دولياً.
19 - التصنيع: قال العرب: صنع الجارية: أحسن أليها وسمنها، وتصنيع الشيء: تحسينه وتزيينه بالصناعة. والمحدثون يريدون بالتصنيع معنى جديداً وهو جعل الأمة صناعية بالوسائل العلمية.
20 - التركيز: ركز الرمح ونحوه: غرزه في الأرض. والمحدثون يطلقون التركيز على التكثيف والتجميع والحصر، فيقولون: ركز اللبن ونحوه: كثفه، وركز فكره في كذا:(932/33)
حصره.
21 - أعدم المجرم: يقول المحدثون: أعدم الجلاد المجرم، شنقه. والمسموع عن العرب: أعدم الرجل: افتقر، وأعدم فلاناً: منعه، وأعدم الله فلاناً الشيء جعله عادماً له.
22 - التقاليد: جمع تقليد. ويريد بها المحدثون السنن الموروثة والعرف المتناقل. وهي من قول العرب قلده في كذا، تبعه من غير نظر ولا تأمل.
23 - القيم: يقول المحدثون كتاب قيم ومقالة قيمة، أي له ولها قيمة. ولم يسمع عن العرب هذا المعنى، وإنما يطلقون القيم على زوج المرأة وعلى من تولى الأمر. والقيمة الديانة المستقيمة.
24 - أثث البيت: أشتق المحدثون من الأثاث وهو متاع البيت: أثث المسكن جعل فيه أثاثاً، والمتقدمون لا يقولون إلا أثاث الفراش أو البساط إذا وطأه ووثره.
الأدب في تاريخ (الأهرام):
أصدرت صحيفة (الأهرام) في الأسبوع الماضي، عدداً ممتازاً لمناسبة مرور خمس وسبعين سنة على إنشائها، وقد عنيت بإبراز تاريخ مصر في هذه الفترة (1876 - 1950) ذلك التاريخ المنعكس على صفحاتها، فهي سجل حافل ومرجع شامل لما مر بالبلاد في تلك الحقبة من أحداث وما قام فيها من مسائل ومشكلات، وكانت مجال الأقلام في كل ما يهم الناس ويشغل الأذهان من شؤون السياسية والاجتماع والاقتصاد. . . الخ.
وقد حفل العدد الممتاز ببيان النواحي المختلفة للحياة المصرية من حيث انعكاسها على صفحات الجريدة، ونال كل شيء من عنايتها عدا الأدب. . . أشتعل العدد على مختلف الشؤون، حتى الرياضة وأبطالها والسباق وأسماه الخيل، أما الحركة الأدبية وأعلامها فلم تظفر بكلمة واحدة!
ولم ذلك؟ ألأن (الأهرام) لم تكن في حياتها الماضية مجالاً للأدب، ولم تعكس صفحاتها شمسه، أم أنها أصبحت الآن لا تعنى بالأدب ولا تحسب له حساباً؟
أما الأول فلا، فحياة صحيفتنا العريقة زاخرة بآثار الأدباء وقصائد الشعراء، وقد التحرير ورياسة التحرير فيها أدباء كبار، ولا أظن أدبياً من الأدباء المعروفين إلا كتب فيها، وقد خصصت في كثير من الأحيان صفحة للأدب صالت فيها الأقلام وجالت، وإن اختلط(932/34)
الحابل بها النابل. . .
ومن الطريف في هذا الصدد، بل من التليد، أن الترخيص الذي صدر بإنشاء (الأهرام) سنة 1895 تضمن ما يدل على أن الشؤون الأدبية كانت من أغراض إنشائها، وهذا هو نص الترخيص:
(رخصت الخارجية لحضرة سليم ثقلا باشا بإنشاء مطبعة تسمى الأهرام، كائنة بجهة المنشية بالإسكندرية، يطبع فيها جريدة تسمى الأهرام تشتمل على التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية، وكذا بعض كتب كمقامات الحريري وبعض ما يتعلق بالصرف والنحو واللغة والطب والرياضيات والأشياء التاريخية والحكمة والنوادر وما يماثل ذلك وقد أمرت الخارجية محافظ الإسكندرية بعدم المعارضة للمذكور في إنشاء المطبعة المحكي عنها).
ولاشك أن الكاتب التحرير الذي كتب ذلك الترخيص كان يريد أن يذكر الأدب في جملة ما ستعني به الأهرام، فعبر عن ذلك بمقامات الحريري والصرف والنحو واللغة والحكمة والنوادر. . .
هذه لمحة خاطفة عن ماضي (الأهرام) بالنسبة للحركة الأدبية التي أهملتها في عددها الممتاز الأخير، وهو ماض ينطق بأن الأدب كان من أهم نواحي حياتها، لا في الموضوعات الأدبية وحدها، بل الأدب يتمثل كذلك أحياناً في الأسلوب الذي تصاغ به المواد الأخرى، فقد كان محرورها يتعمدون الجزالة والإتيان بالعبارات التي يعدونها من بليغ القول على حسب المفهوم العام للأدب في عصرهم، وكثيراً ما كانوا يأتون بالأسجاع في العناوين مثل (أنباء الحرب والقتال في بلاد الترنسغال) وذلك إظهار للمقدرة الأدبية على ما كانوا يفهمونها. . .
فلم يبق إذن إلا أن (الأهرام) الآن لا تعني بالأدب ولا تحسب له حساباً. . . ولكن إذا حق لها أن تتجرد منه في الحاضر، فهل يجوز لها أن تمسحه من التاريخ. .؟
عباس خضر(932/35)
الكتب
الفتوة عند العرب
تأليف الأستاذ عمر الدسوقي
للأستاذ إبراهيم الوائلي
الأديب ومضة من ومضات الحياة تلألأ خلال الظلام وتبعث أضوائها في طريق الركب ليسير هدى ووعي. والأديب هو ابن بيئته وأمته ومجتمعه، ورسالته في الحياة رسالة عامة لا تقف عند حدود المسارب الضيقة وليست رسالة الأديب هي التي تنبع من نفسه وتعيش في نفسه فقط، سواء أكان شاعراً أم كاتباً قصاصاً أم مؤلفاً، وسواء أكان يستوحي الماضي البعيد أم الحاضر المشاهد، وإذا كان الإنتاج العسكري هو ما يتصل بالحياة العامة ويواكب المجتمع فإن ماعدا ذلك إنتاج عائم يطفوا كما يطفو الطحلب على سطح الماء؛ حتى إذا مرت به العاصفة ذاب وتلاشى لماذا يجب لأن يكون الأديب والمفكر كذلك؟ لأننا الآن عبيد أرقاء لا نملك من أمرنا شيئاً، ويجب أن نعيش أحراراً نتصرف في حياتنا وشؤوننا كما يتصرف البشر في حياتهم وشؤونهم، وعلى كل أديب عربي ومفكر عربي ومفكر أن يكون في رأس القافلة ليشارك في معالجة أوضاعنا واقعية، وإلا كان أديباً تافها ومؤلفاً سطحياً لا يفكر ولا يحس، أو يفكر ويحس ولكنه ضعيف الاندفاع مشلول الحركة، وكلتا الحالتين لا تؤدي إلى غاية ولا يتصل إلى هدف.
وإذا كان الشأن كذلك فما هي قيمة (الفتوة عند العرب)؟ وفي أي اتجاه يسير؟
قبل أن أتحدث عن الكتاب أحب أن أشير إلى صاحبه. وصاحبنا هو أستاذنا عمر الدسوقي أستاذ الأدب العربي في كلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول. لقد اتصلت بالأستاذ الدسوقي عن كثب، وتحدثت إليه كثيراً وتحدث إلي كثيراً، فلمست فيه ما لم ألمسه إلا في القليل ممن عرفتهم. لمست فيه روح القومية العربية، والاعتزاز بالعرب اعتزاز يكاد بالعرب اعتزازاً يكاد يصل إلى درجة الغلو، وأحسبه على حق فيما، يعتقده فما كان العرب في ماضيهم وتأريخهم العريق أمة تافهة لا شأن لها، إنما كانوا سادة أنفسهم، وأسياد غيرهم، ولكنهم فقدوا أهم ميزاتهم يوم أتيح للعناصر التي اندست في صفوفهم أن تتحكم وتسود، فرقدوا شر(932/36)
رقدة تحت مطارق العبيد والمماليك والأفاقين. حتى إذا أريد لهم التخلص من هؤلاء كانت يد أخرى تستقبل الكرة لتلقفها فإذا بالعرب يخضعون خضوع العبيد لمستعمر آخر وسادة جدد وبقايا من أولئك العبيد والمماليك والأفاقين. حتى كاد يكفر المتعلمون من العرب - الآن - بعروبتهم وتاريخهم، وحتى أشاح بعض هؤلاء المتعلمين بوجهه عن تاريخ العرب، وتراثهم، مندفعا وراء الغرب في كل شيء وحتى اصحبنا الآن في بلبلة فكرية وقومية نتيجة للاضطراب السياسي والشعور بالخيبة من يقظتنا الأخيرة، وليس لذلك من سبب إلا لأن الدم العربي قد كدر وتجمد، والنفس العربية الأصيلة قد خثرت وضعفت، فلم يعد ذلك الدم الفوار، ولا تلك النفس الحائرة الجامحة.
يمثل هذا الشعور والإحساس يندفع الأستاذ الدسوقي إلى استياء الماضي البعيد ويضع كتابه (الفتوة عند العرب) فيقص علينا من جديد تاريخ ذلك العنصر العريق من زاوية واحدة لعلها أهم الزوايا لمن يريد أن يتحدث عن العرب، وهي زاوية الفتوة وما يتصل بها من مظاهر متشبعة تلتقي عند نقطة واحدة وان تعددت من الأشكال والألوان.
يقص علينا تأريخ العرب في فروسيتهم وشجاعتهم ونخوتهم وكرمهم، ويعرض علينا ألواناً من الأشخاص الذين كان لهم شأن في الحياة العربية، الجاهلية والإسلامية، وألواناً من الشعر الذي يمثل تلك الحياة في أنبل مظاهرها.
ويتحدث - بعد المقدمة التي تشير إلى الحافز على تأليف الكتاب - عن الفتوة في معناها اللغوي وعن الفتوة في العصر الجاهلي، ومظاهر هذه الفتوة في الشجاعة والكرم: كرم اليد التي لا تعرف البخل وان لم شيئاً، وكرم القلب الذي يتسع للكبير والصغير، وكرم العقل الذي لا يعرف البلادة والتقليد. بل العقل الذي يزن ويحكم ويفكر ويرى العقل الذي عبد الأصنام ثم حطمها حين رأى أنها حجر لا يضر ولا ينفع. وفي حماية الضعيف: الجار والمستغيث والأسير، والمرأة قربت أم بعدت.
وحين ينتهي من العصر الجاهلي يتحدث عن العصر الإسلامي والدعوة الإسلامية، والكفاح في سبيل هذه الدعوة، والرجال الذين ضحوا من أجلها وزعيمهم فيما (سيد الفتيان) محمد (ص). ولا ينسى أن يتحدث عن المرأة العربية في عنايتها بولدها وتنشئته على الفروسية والشجاعة والخلال التي يتصف بها أبوه أو خاله، ويضرب لذلك أمثلة كثيرة وشواهد من(932/37)
الرجز النسائي في ترقيص الفتيان.
وعندما ينتهي من هذا العرض التاريخي الذي يغلب عليه طابع الحماسة والإعجاب؛ ينتقل بنا إلى فصل آخر يكاد من التاريخ المجرد وإن تخللته أحيانا لمحات من التحليل والموازنة، ينتقل بنا إلى الصوفية، فهو يمجدها حيناً لأنها كانت رد فعل لحياة الترف والمجون التي أنغمس فيها المسلمون أيام الدولة العباسية، ويهاجمها حينا آخر لأنها آثرت الزهد في الحياة على الكفاح والنضال، ثم يستعرض الفتوة عند بعض المتصوفين وشيئاً من تاريخهم، وكنت أود ألا يشير إلى بعض أعمال الصوفية، أو بالأحرى أعمال بعض الصوفية، فإن الكتاب دروس أمليت لتمس حياة العرب في عصرهم الحاضر وتذكرهم بماضيهم العتيد. ولم يكن من الهين علينا أن نعيد ما سجله بعض المؤرخين من فتن ومشاحنات أستغلها وأثارها رجال السياسة الذين يريدون أن يحكموا بأية وسيلة من وسائل التفريق، معتمدين على فتاوى المعممين وأصحاب الربط والتكايا من الدراويش المتنطعين.
ولنتجاوز هذا الفصل إلى فصل آخر وهو (المترفين) وتتجلى هذه الفتوة في الصيد والرماية، وأصحاب هذه الفتوة من أرباب الثراء والجاه، وأبرز مظاهر هذه الفتوة في عهد زعيمها الناصر لدين الله المتوفى سنة 622 وكان من أن يتسلل الحديث في هذا الفصل إلى الأيوبيين الذين طلب منهم الناصر أن ينتظموا في سلك فتيانه، ثم المماليك الذين جاءوا بعدهم وما كان من شأن هؤلاء في محاربة الصليبين نتيجة لتعلمهم الرماية والصيد، وكأنه أراد بهذا الفصل أن يجعل من فتوة الناصر لدين الله مدرسة تخرج فيها من جاء بعده من هؤلاء، كما كانت مدرسة النبي الكريم إذا كان لابد من التشبيه.
وينتقل بعد هذا إلى الفروسية عند الغربيين، ويوازن بينها وبين فتوة العرب، ويعزوا أكثر مظاهرها الجميلة إلى الاقتباس من العرب أيام الحروب الصليبية، وفي عهد الأندلس، ويدعم رأيه بالأدلة الكثيرة.
ثم يختم الكتاب بطائفة من الصور لفتوةالعرب، وهنا ينتقل بنا من الاستعراض التاريخي إلى الأسلوب القصصي، فيعرض لنا الصور في إطار جذاب وخيال مبدع، ينقلنا إلى آفاق تمتد بامتداد الصحراء العربية وما فيها من خصائص ومميزات طبعت العربي على تلك المزايا التي تحدثت عنها الكتاب في بدايته. ولا يسعني أن أتحدث عن هذه الصور في كلمة(932/38)
قصيرة مثل هذه، بل أدعها لمن يريد أن يستمتع بها ويتلاها كما أتيح لي ذلك.
هذا هو الكتاب بوصفه الموجز، وهو وصف لا أظنه يستطيع أن يتحدث كما يجب عن (472) صفحة دعمت بالمصادر الكثيرة من عربي وأجنبي وتجلت فيها وفرة الاطلاع فجاءت تشق طريقها من أعماق التاريخ إلى حيث تقف القافلة الآن.
فهل نستطيع بعد هذا أن نقول: أن الكتاب من العرب في أقدم عصورهم وإلى العرب في عصرهم الحاضر؟ وهل نستطيع بعد هذا أن نقول: إن الكتاب درس من دروس القومية العربية لمن يهتمون بالقومية؛ أظن إننا نستطيع أن نقول ذلك عندما نتجاوز تلك الهوة التي فصلت بين قمتين من قمم الكتاب، وهي هوة الصوفية، وقد اندست هذه الهوة تفرض نفسها بين القمتين بإيحاء من المنهج التاريخي حسب، كما اندست في حياة العرب فكانت أكبر مخدر تسمم به ذلك الجسم الفارغ السليم.
إبراهيم الوائلي
ديوان علي بن الجهم
جمع وتحقيق العلامة خليل مردم بك
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
تفضل صاحب المعالي شاعر الشام الأستاذ الجليل خليل مردم بك سكرتير المجمع اللغوي بدمشق فأهدى إليَّ نسخة من ديوان علي بن الجهم الذي بذل جهدا مشكوراً في جمعه وشرحه وتحقيقه، ونسخة أخرى من ديوان الشاعر السوري الرقيق الملقب (بالوأواء الدمشقي) الذي قام بتحقيقه والتعليق عليه الدكتور الفاضل سامي الدهان وكلا الديوانين كان آية في أناقة الطبع ودقة الشرح. . وقد صرفت - رغم مشاكلي - وقتاً غير قصير حتى قتلتهما دراسة وتمحيصاً، ويسرني أن أقدم هذه الكلمة المتواضعة رأي في الديوان الأول لقراء الرسالة الغراء هنا وهناك، على أن أعود إلى الديوان الآخر في فرصة أخرى.
يقع ديوان على بن جهم في 223 صفحة من القطع الكبير وتقع الدراسة التي كتبها الأستاذ مردم بك عن الشاعر في 47 صفحة. وهي دراسة شاملة جامعة، تطرق فيها الشارح إلى عصر الشاعر ونشأته وشعره، ودراسته والظروف التي أحاطت به حتى مقتله ووفاته.(932/39)
وليس لي اعتراض على كل ما قاله الأستاذ مردم بك، إلا إن الذي لفت نظري في هذه الدراسة الرواية التالية. .
قال الشارح في الصفحة (5) من المقدمة (ولما بلغ السن التي يذهب بها الصغار إلى الكتاب، بدأ يذهب كل يوم من داره في شارع (دجيل) ببغداد إلى كتاب في الحي يجمع بين صغار الصبيان والبنات. وكان علي حسن الوجه ذكي الفؤاد كثير النشاط. ظهرت عليه مخايل النجاية منذ طفولته، فكان يسعر البيت وثباً وقفزاً ولعباً وضجيجاً، حتى أقلق والده بضوضائه وجلبته، فسأل أبوه معلم الكتاب يوماً أن يحبسه في الكتاب، فلما رأى رفاقه ينصرفون إلى دورهم وهو محبوس ضاق صدره فأخذ لوحته وكتب فيها إلى أمه
يا أمتا أفديك من أم ... أشكو إليك فظاظة (الجهم)
قد سرح الصبيان كلهمو ... وبقيت محصوراً بلا جرم
وبعث باللوح إليها مع رفيق له من الصبيان، قال على (وهو أول شعر قلته وبعثت به إلى أمي، فأرسلت إلي أبي: والله لئن لم تطلقه لأخرجن حاسرة حتى أطلقه).
ومن حوادثه في الكتاب أن أخذ لوحته يوماً وكتب فيه إلى بنت صغيرة كانت معه
ماذا تقولين فيمن شفه سهر ... من جهد حبك حتى صار حيرانا
وأن البنت الصغيرة أخذت وكتبت تجيبه.
إذا رأينا محباً قد أضر به ... جهد الصبابة أوليناه إحسانا
وهكذا بدأ يقول الشعر وهو صغير جداً ولعله كان دون عشر سنوات من عمره.
فهذه الرواية التي يوردها الأستاذ مردم بك نقلاً عن طبقات الشعراء لابن المعتز والأغاني ومختصر طبقات الحنابلة أشك في صحتها بالرغم من المصادر التاريخية التي أعتمد عليها الشارح، وشكي يقع على سن الشاعر حين نظمه الأبيات المتقدمة، وهي العشر سنوات إذ أن من المحال أن يستطيع طفل دون البلوغ أن يقول شعراً ومنظوماً موزوناً فيه معنى بصياغة عالية. . ومهما يكن ذلك الطفل ذكياً فلا يتسنى له الإجادة في تلك السن المبكرة، لأن الشعر موهبة وصنعة تحتاج إلى حذق ومران. ولدي شواهد كثيرة من أن فحول الشعراء ما نظموا الشعر الجيد قبل العشرين أبداً. . وقبل الاطلاع على نفائس الشعر القديم وحفظه، لأن حفظ الشعر الجيد يربي الملكة ويقوي القابلية ويعصم الناظم من الاختلاف في(932/40)
وزن الشعر، وقد كنت أود أن معالي الأستاذ حين إيراده هذه الرواية أن يعلق عليها بالشك ورغم ورودها في المصادر الآنفة الذكر.
ولا أظن أن هذا الاعتراض البسيط يحط من قيمة الديوان أو من الجهد الجبار الذي بذله الشارح حين مراجعته لعشرات الكتب لتحقيق بيت أو كلمة، فهو جهد يستحق عليه كل تقدير وإجلال. كما أنني معه عند شكه في نسبة القصيدة المنشورة في صفحة 48 من الديوان والتي مطلعها.
سل الدمع عن عيني جسدي المضني ... وهل لقيت عيناي بعدكمو غمضا
إلى علي بن الجهم عن أسلوبه ونفسه وخصوصاً لما فيها من ذكر القيروان كما جاء:
وإني أرى بالقيروان أحبتي ... وأعتاض من ضنك منيت به خفضا
ومدحه لأبي مروان
بجبل أبي مروان أعلقت عروتي ... وحسبي إعلاق صريح العلا محضا
ولاشك مثله أنها موضوعة عن لسانه لأن القارئ لا يشعر فيها بالعاطفية الجياشة التي يشعر بها عادة عند قراءته شعر بن الجهم وخصوصا قوله فيها
أقول وقد عيل اصطباري من النوى ... وأصبح دمع العين للشوق مرفضا
كما قال قيس حين ضاق من الهوى ... فلم يستطيع في الحب بسطا ولا قبضا
(كأن بلاد الله حلقة خاتم ... على فما تزداد طولاً ولا عرضا)
فهذا شعر صناعة، وهو أشبه ما يكون بشعر شعراء الفترة المظلمة كما أنني مثله في أن القطعة الأخيرة المنشورة في صفحة (196) للجاحظ لا لعلي بن جهم وها هي
يا نورة الهجر جلوت الصفا ... لما بدت لي ليفة الصد
يا مئزر الأسقام حتى متى ... تنقع في حوض من الجهد
أوقد أتون الوصل لي مرة ... منك بز نبيل من الود
غالبين قد أوقد حمامه ... قد هاج قلبي مسلخ الوجد
أفسد خطمي الصفا والهوى ... نخالة الناقض للعهد
وهو أشبه ما يكون بشعر أصحاب الحمامات منه بشعر شاعر له منزلة عالية لدى الملوك كعلي بن جهم.(932/41)
هذه كلمة بسيطة أكتبها عن هذا الديوان الذي لولا جهود مردم بك يحظ قراء العربية به. إذ أن شعر أبن الجهم لم يجمع قبل الآن؛ ولولا الأستاذ خليل ما أتيح له أن يكون بين أيدينا، وخصوصاً وأن أكثر قراء العربية لم يقرأوا من شعره إلا بعض الأبيات منشورة في بطون الكتب، ومنها القصيدة المشهورة الملحقة بآخر الديوان والتي مطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن ... الهوى من حيث أدري وأدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن ... سلوت ولكن زدن جمراً على جمر
وهي قصيدة عابرة يذكرني أسلوبها القصصي الممتع بأسلوب عمر بن أبي ربيعة في أقاصيصه الشعرية، ولعله نظمها تأثراً به حيث يقول:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... لجارتها: ما أولع الحب بالحر
فقالت لها الأخرى فما لصديقنا ... معنى وهل في قتله لك من عذر
الخ الحديث بينه وبين صاحبته وجارتها حتى يتخلص منها إلى مدح المتوكل
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلي ما قلت فيه من الشعر
هذا ما عناني كتابته عن هذا الديوان شاكر للعلامة مردم بك هديته الغالية، ومقدراً الجهود التي يبذلها أعضاء المجمع العلمي العربي في سبيل إحياء التراث العربي، وعاتباً أشد العتب على الصديق الأستاذ الكبير محمد بهجت الأثري سكرتير المجمع العلمي العراقي على الكسل الذي لازمه ولازم أعضاءه، فالمجمع وقد مرت على تأسيسه لم يحقق ولم يطبع كتاباً يستحق الذكر، مع أن ميزانيته لا تقل عن أي مجمع عربي آخر، والذنب في كل ذلك يعود إلى الانتخاب الخاطئ الذي جرى بين أعضائه.
عبد القادر رشيد الناصري(932/42)
البَرِيدُ الأَدَبِيَ
حول تحقيق مسألة
تفضل أستاذنا الكبير الزيات فنوه - مشكوراً - بكتابنا (الأدب بين الجاهلية والإسلام) في عدد سابق من الرسالة الغراء، ولكنه لاحظ بعض الملاحظات فيما رجعنا إليه من كتابه (في أصول الأدب). والحق أننا لا نجحد فضله في هذا الكتاب وفي كتابه الآخر (تاريخ الأدب العربي)، وليس أدل على هذا من أننا أشرنا إليهما في كل مناسبة من كتابنا، كما لا ننكره أثره في الأدب العربي بوجه عام. وإنما كان المنهج الدراسي الذي لاحظناه في تأليفنا يقتضينا الاقتصار في بعض الموضوعات على التخليص أو الإشارة، دون تغلغل في التفصيل أو تعمق في التحليل، وخاصة بعض الآراء الفرضية كعلاقة بين أدب وآدم. أما موضوع (العوامل المؤثرة في الأدب) فقد كان هدفنا أن نرشد الطلاب الناشئين إلى كل مصدر، وندلهم على كل مرجع متقدم أو متأخر. وقد كتب في هذا الموضوع الأستاذ أحمد الشايب، وإن كنا نعلم أنه رجع في هذا الموضوع - كما رجع في غيره - إلى كاتبه الأول (الزيات)، كما كتب فيه الدكتور أحمد ضيف في مجلة دار العلوم أبريل سنة 1937؛ أما كتاب (التوجيه الأدبي) فعذرنا في الإشارة إليه كمصدر آخر، هو أننا لم نكن نعلم ما ذكره أستاذنا الكبير الزيات بك من اعتماد الدكتور عبد الوهاب عزام على محاضراته فيه.
فالمسألة إذن مسألة عرض مصادر، وعى الباحث المستقصي أن يعرف الفضل لصاحبه فليس في ذكر هذه المصادر بجانب كتاب الأستاذ (الزيات) بك مجافاة لإنصافه، أو إنكار لسبقه، أو جحود لفضله. فحسبنا دليلاً على حسن النية أننا لم نغفل التنويه بصاحب رأي، ولم نهمل الإشارة إلى مرجع، ولم نجحد مصدراً رجعنا إليه.
أما أستاذنا وأستاذ الأدباء (الزيات)، فإنا نكن له من الإجلال، ونعرف له من الفضل على الأدب، ما يسموا على كل شبهة، ويقره كل أديب.
حسن جاد - عبد المنعم خفاجي
عبد الحميد المسلوت
حول النثر والشعر(932/43)
أود أن أشير إشارة عابرة إلى تعليق الرسالة الزاهرة في تخريج أسبقية النثر على ما رأته الآراء.
فقد قرأت (لابن رشيق) في العمدة كلاما لا يخلو من جمال وتحقيق حول نشأة الشعر من حيث يقول:
(وكان الكلام كله منثوراً؛ فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم؛ فتوهموا أعارض جعلوها موازين الكلام؛ فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم شعروا به أي فطنوا. .)
ووجه الجمال في هذا القول: أنه قال (الكلام) على وجه الإطلاق؛ فلم يصرف القصد إلى (النثر الفني) لأن العرب لم تسكن أمة كتابه، ولغة التخاطب كانت موحدة الأداء مع اختلاف اللهجات، والمنثور المعتمد على التأني والابتداع لا يتم إلا إذا تمت الملكة التعبيرية التي تجمع بين طرفي الإيجاز والإطناب ومراعاة مقتضى الحال، واختيار الألفاظ والبراعة في التصوير والتحليل، فالتعليق الحكيم الموجز من الرسالة إنما هو تنصيص على حقيقة (الأسلوب الفني) الذي يطلق عليه (النثر) القسيم للشعر.
أما أسبقية النثر اعتبار إرساله من دون الاعتبارات الفنية فأمر مفرغ من اعتباره، لأن النثر مطلق، والشعر مقيد والمطلق في كل شيء مقدم على المقيد. على أن (ابن رشيق) يقول (ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشر). . والتعبير بقوله (تكلمت) يؤيد ما ذهبت إليه الرسالة من أن القصد لغة التخاطب باللسان، لا لغة الإبداع بالقلم، أما اعتبار الحفظ فإن موسيقى الشعر تنغم الإحساس فتستقر الألفاظ في واعية الشعور ولا ينالها النسيان كالنثر!
احمد عبد اللطيف بدر
المدرس بالمدرسة الثانوية
حول طبقات الحنابلة والمستشرق لاووست(932/44)
تفضلت الرسالة فنشرت لي كلمة حول هذا الكتاب سقط منها العنوان أسم المستشرق لاووست، زميل الدكتور الدهان في تحقيق هذا الكتاب.
وإني إذ أسعى لاستدراك هذا في هذه الموجزة انتهزها فرصة سانحة لأكرر الشكر للمستشرق لاووست مثنياً، والثناء كله على هذا الجهد الخالد العظيم.
إبراهيم الابياري(932/45)
القَصَصُ
2 - قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
مهداة إلى حضرة صاحب العزة الدكتور عبد الوهاب بك عزام
الفصل الثاني
خاتمة سلطان
لله ما أروع الدهر، وما أكثر عجائبه، وما أقسى ما تقدم الأيام من عظات وعبر، وما تحتوي عليه من صروف وغير
والدهر آونة يصفو لصاحبه ... حتى يعود فيسو ماءه كدرا
يعطي ويمنح ما شاءت عوارفه ... ويسلب المرء كرها كل ما دخرا
العادل الملك المزهي بداوته ... كبابه الملك حتى عاد فانحدروا
سعى إليه ولكن سعى مؤتمن ... ولم يقدر لمقهى دهره الحذرا
أيها الملك العادل طومان باى! هاهي ذي دولتك تولي، وها هي ذي دولة أخرى تقبل، وها هو ذا سلطان جديد يحتل عرشك، ويجلس فوق كرسيك، فيبذل ويهب، ويرقي ويؤمر، وينهي ويأمر، وينفي ويعفو، ويوطد دعائم سلطنته بالحزم والعزم وبالبر والوعد الحسن، يعاونه في ذلك كثير من الناقمين منك الحاسدين لك، الحاقدين عليك، الذين ناصبتهم وقت زهوك، عداء استحكمت حلقاته، وجفاء زاد أمره واستشرى خطره.
ولقد أملى لك جهلك، وضعف بصرك بالأمور، أن تبطش بهم رجلاً في أثر رجل، وتقتلهم أميراً بعد أمير، وتفتك بهم صديقاً في أعقاب صديق، مع أنهم جنود عرشك، وحاملو كرسيك، ومؤسسو سلطانك، ومدعمو دولتك، ولكنك جعلت مسرح سلطنتك مذبحاً تنحر فيه فحول رجالك، بدل أن تلتمس منهم العون، وتسترق قلوبهم بالود.
هان لهم الأمر، ورأوا بأعينهم قرب مصارعهم وأنهم على وشك أن يلقوا منيتهم بين يديك، فجميعهم الخطر المشترك؛ وآثروا اطراح أطماعهم ودخلهم والضغائن الفاشية بينهم، لكي(932/46)
يقفوا أمامك صفاً واحداً شديد المرة، حصين الثغرة وقاوموك فهزموك وأسلمت نفسك للفرار. . .
فماذا أفادك بطشك وصلفك وأجداك جورك وعسفك، لكن تمكن منك الداء حتى نكلت بالأصفياء
وظنت دهرك لا يجيئك غدره ... والصفو من كلتا يديه متاح
فمضى وخلفك المعذب قلبه ... ولك ليل بكرة وصباح
نصرك الأنا بكى (قصروه)، وأصفى لك وده، ووهب لك مكنون حبه، ونخل لك مخزون رأيه، وتقدم أمام جنودك إلى باب السلسة وسلم المدرج بالقلعة، إبان نزاعك مع سلطانك وسلطان البلاد من قبلك الأشرف جانبلاط، وقتما نقضت عهده وشققت عصا طاعته وطعمت في الملك دونه، فتقدم صديقك قصروه يعاونك وأنت في شدتك، ويؤازرك وأنت في ضيقك، ودلف إلى القلعة وكان بها جانبلاط معتصماً، فحطم بابها وسلمها، وأقتحم رحابها وهيأ لك بذلك أسباب النصر ومهد لك سبيل إلى الملك وكان وقت جهادك إلى جانبك شديد التواضع جم المروءة نزل به حب الجميل وإسداء المعروف، إلى ما لم ينزل إليه أمير. فكان ينفق على حفر الخنادق من ماله، ويعاون على إنجاز حفرها بيده وحمل الأتربة على كتفه ورأسه، حفزا لهمم العمال وحثا لحماسة الجنود وضربا للأمثال. . .
فماذا كان نصيبه منك؟ حقا لقد خلعت عليه الأتابكية - قيادة الجند - أرفع مناصب الدولة بعد السلطنة، وعظمته ولكن تعظيم الخادع الماكر. حتى إذا اطمأنت إلى نفسك ووثقت بحولك وطولك بطشت به بطشة الجبار الفاجر. وهو أكثر ما يكون ثقة بك واطمئنان إليك، واعتماد عليك وبعدا عن التفكير في خيانتك فوكلت به من قتله.
وكذلك فعلت بالسلطان جانبلاط بعد ما أمنته وأستسلم إليك ووعدته بأن تضفي عليه أسباب الأمن والحرية، فماذا كانت عاقبته وعاقبة وثوقه بك؟ نفيته إلى الإسكندرية، ووصيت به من خنقه في سجونها، دون جريرة إلا ضعفه عن مناوأتك وانفضاض الطامعين من حوله إليك.
ومن قبل هذا بطشت بالظاهر قونصوه، وغدرت بالناصر محمد بن عثمان ونكات بأرملة السلطان المستسلم جانبلاط، ولم ترع لأنوثتها حرمة، ولا لكبر منها مكانة. مع أنها سرية(932/47)
ملك وزوجته ملك، وأم ملك، وأخت ملك، فأرهقتها بما طلبت منها وأنقذت نفسها من كيدك بآلاف من الدنانير قدمتها إليك. . .
ألا فارقب الدهر وهو يدير للقصاص وستلقى جزاءك مناص. . .
قبل عيد الفطر عام 906 هجرية، وفي إحدى الدور النائية في أطراف القاهرة أجتمع عدد من أمراء السلطنة يتزعمهم الأميران: قيت الرجي، ومصر باي. وكان من بينهم طقطباى، وتمر باى، وكرتباى، وخشكادى البسقي، وغيرهم وغيرهم، ممن ينقمون على الملك العادل، وممن هددهم بالقبض عليهم ونفيهم. . .
ويقبلون وجوه الرأي في تصرفاتهم ومواقفه إزاءهم، واشتطاته في معاملتهم واجترائه في العدوان عليهم. . .
قال أحدهم: لقد تفاقم شر هذا الطاغية، وأغرم بسفك الدماء وإهدار الأبرياء حرصاً على دولته وزعماً منه أننا خطر عليها وقد أصبح بطشه قريباً منا. . . نحن الأحياء. . .
قال آخر: وإن لنا فيما أجرمه في جانب الأنابكي قصروه صديقه لعبرة. . . والعاقل من اعتبر بغيره، وأننا إذا أرخينا له في الزمام ولم تهنه من غربه، ونحد من غضبه، تطاير شرره حتى نحترق به. . .
قال آخر: ألا تقدمون له نصيحة خالصة وتطلبون إليه في صراحة وحزم أن يكف عن سيئاته، ويقلع عن خطيئاته. . . أو لكم مقترح أخر؟
قال أخر: إن مثله لا ينقاد للنصيحة، ولا يأمن ناصحه من مد مغبة غدره، فقد التاثت نفسه، واختلط حب الفتك بدمه ولحمه، وبلغ به سوء الظن مبلغاً وخيماً. . . ومثله مثل الظامئ الصادي، إذا شرب من ماء البحر، فلا نقع غلة، ولا روى ظمأ، بل أزداد أوامه، واشتد هيامه. . .
قال آخر: إذا لابد من تدمير أمر حربه. . ولابد من إزالته من الطريق! فهل لدينا من القوة ما يكفي لنجاح هذه التجربة. . .؟ وأنتم تعلمون أنه نفى جماعة إلى قوص، منهم جان بردى الغزإلى، وقرقماس قرا، وقايتباى. وهم من القوة والشجاعة والدربة، والرأي، بالمكان الذي تعلمون. . . لقد قيل أن بعضهم فقد في الطريق إلى منفاه. . . ولم نظفر بعد بخبر عنهم، لذلك ترون أننا في حاجة قصوى إلى إعداد العدة ولم الشمل وجمع العدد الكبير(932/48)
المستطاع إلى جانبنا. . . ثم. . . ثم علينا أن نغرى المترددين والوجلين حتى ينحازوا إلى صفوفنا. . .
إن العادل لا يزال لديه جمع كبير من المماليك السلطانية، ومن المماليك (العادلية) وهم مماليكه الأخصاء، وحوله عدد آخر من الأمراء، الذين اصطنعهم بالمنصب والمال والهدية، ومنهم الأمير طراباى رأس النوبة. إني اعتقد أن طراباي يبصبص بذنبه لمنصب الأتابيكية.، وقد وكل السلطان إليه أن يقوم بمهامها ريثما يعين لها الأمير ولعله يكون طراباي نفسه. . .
قال آخر: لقد بلغني أن الأنابكية ستكون من نصيب الأمير قابي بردى الدوادار الثاني. . . فهو المنافس الوحيد الخطر لطراباى فهو من عصبة العادل وخواصه، وأشعر أن طراباى بدأ يتململ من العادل بسبب إيثاره لقاني بردى عليه، ومن هنا يمكن اصطناعه وتستطاع استمالته إلى صفوفنا.
قال آخر: لو كان أمر طراباى كما نقول، لما جمع جنده وأعوانه أمس، واصطحب عدداً من الأمراء الطامعين أمثال: أنس باى وبيرس البهلوان، ومعهم الوالي والشرطة. لقد طاف هؤلاء جميعاً بعد العشاء أمس يفتشون المنازل ويفجعون سكانها، ويغلظون القول للناس، وبحثاً عنا وطمعاً في كشفنا والقبض علينا وتسليمنا لهذا السفاح. . ولو تم الأمر على ما يهوى طراباى لتم هلاكنا.
قال آخر: إن طراباى في موقفه هذا، يمسك العصا من وسطها، فهو يقوم بمهام منصبه في ظاهر الأمر، حتى لا يسرع إليه العادل فيتهمه ويقضي عليه، والعادل يأخذ بالظنة ويستمع للغربة. . . وبذلك ينجو طراباى من كيده وغدره في حين أنه حانق عليه لآنا على وشك أن يختص الأمير قاني بردى بمنصب الأنابكية دونه. ومن هنا نستطيع أن ندخل إليه من هذه الثغرة فنوسع فيها حتى نحمله إلى الانضمام لجماعتنا. وليس ببعيد أن تثور ظنون العادل ضده بعد فرار الأنابكية من يديه فيتهمه ويبطش به. فإذا لم يسرع طراباى منذ الآن باختيارها والانحياز إلينا، فقد تضيع الفرصة منه لدى الطرفين، ثم لا يجد من ينهض لمعونته حينما يقف وحده في الميدان. أما فالفرصة مواتية له. . اتركوني أتصل به وأدبر لكم أمره.(932/49)
قال آخر: لا تنسوا أيها الرفاق أن تضعوا في حسابكم مماليك جانبلاط، ومماليك قصوره. فان سخطهم الشديد على العادل يسبب فتكه بسيدهم، نستطيع استغلاله لقضيتنا. فاعملوا على ضم صفوفهم إلى صفوفنا. وادعوا إلينا كل نافر من ظلم العادل وجوره. . .
قال آخر: إذا انصرفتم أيها الرفاق، فليكن كل منكم على حذر، وليكتم الآمر جهده، حتى يتم تدبير جميع أطرافه. وقد يبعث العادل في طلب أحد منا - ومناسبات الاستدعاء كثيرة في هذه الأيام - ثم يقبض عليه ويبطش به. فلنكن إذاً على حذر. . .
أنقض هذا المؤتمر وأنصرف أعضاؤه إلى تدبير الأمر حسبما اتفقوا. بينما كان السلطان العادل قد أهمه أمر المختفين من الأمراء، وأثقل على الناس بالبحث عنهم. وساءت ظنونه في عدد آخر من الأمراء والمماليك. فقعد يدبر وسيلة للبطش بهم والقضاء عليهم.
وفي أحد الأيام كان القراء يختمون البخاري في القلعة، وبهذه المناسبة أقيم حفل أزدان بمن فيه من العلية والرؤساء، ومنهم قضاة الشرع وعدد من الأمراء.
حينذاك أرسل الملك العادل في طلب الأمير قانصوه الغورى والأمير قيت الرجى، ليتم بهما عقد الحفل ونظامه. فلم يلبيا الدعوة، وأحسا بما يكمن فيها من الغدر، وشعرا أن الفرصة حانت للصراع.
أسرع الغورى وقيت إلى الاجتماع بأعوانهما من أمراء وجنود، وأذيع بينهم جميعاً أن السلطان العادل قد اختار فرصة العيد للتنكيل بهم جميعاً. فليدافع كل فرد منهم عن حياته ضد المعتدي الأثيم.
ثارت ثائرتهم وتجمعت أحشادهم، ووفد كل أمير بخاصته من جنده.
وفي يوم الأحد آخر رمضان؛ شهروا سيوفهم؛ وشرعوا رماحهم؛ ولبسوا دروعهم؛ وركبوا جيادهم؛ واستعدوا للنزال.
وقد انحاز إلى جانبهم جملة من الناقمين وعدد غير قليل من الأمراء الهاربين والمختفين، وزحفوا إلى القلعة وفيها العادل. .
وأهاب العادل بأمرائه وجنوده أن يجتمعوا بباب السلسلة، فأجتمع عدد قليل منهم طراباي الشريفي، وأنس باى، وقرقماس، ومعهم جملة من المماليك السلطانية. فوقع بين الفريقين صدام يسير ثم انحاز كل عن غريمه. . .(932/50)
في ذلك الحين كان الأمير طراباي قد استجمع فؤاده، وعملت الدسيسة في نفسه عملها. . ففر من لدن العادل ومعه جمع من الأمراء، فتبعهم عدد من الجنود فارين إليهم، وذلك عند الغروب.
أسقط في يدي العادل وأيقن أنه مغلوب لا محالة، وأن مصيره دنا، فرأى أن يودع عرشاً لم يجلس عليه إلا قرابة ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وعينه باكية ونفسه والهة. ورأى أن ينجوا بجلده في طي الليل، وأن يختفي عند بعض خاصته وخلصانه، حتى لا يمرقه أعداؤه إرباً إرباً. . فنزل من القلعة والظلام يستره، يتحسس طريقه متنكرا كأوضع نكرة في رعيته، وأصبح حسبه من الملك أن يملك إهابه.
أما قيت الرحبي ومن معه فقد دهموا القلعة بعد قليل، وملكوا زمام الأمر فيها، ولما علم الجند فرار العادل استباحوا لأنفسهم الهجوم على مخازن الميرة والسلاح والإسطبلات السلطانية، فنهبوا منها الشيء الكثير.
أخذوا الأمراء يتشاورون توا في تعيين سلطان جديد. وبعد لأي تم اختيار الأمير قانصوه الغورى - على نحو ما وصفنا - وتمت بيعته في صبيحة عيد الفطر، ومن ثم سار موكبه، ونعم القاهريون بمرآه. .
استوى الغورى على عرش البلاد، وتسلم مقاليد السلطنة، وشغل زمناً بمواكبه، وبالخلع والمناصب التي أخذ يوزعها على أنصاره، تهدئة للخواطر وتسكينا للفتن. .
غير أنه وأعوانه من الأمراء ينامون على جمر الغض، ويتقلبون على فراش القلق والحيرة والحذر. ويعتقدون أن العادل مادام على قيد الحياة، فهو خطر دائم جاثم يهدد سلطتهم وحياتهم.
وفي يوم التأم شمل الأمراء عند سلطانهم الغورى وفيهم قتيت الرحب، وقد صار أنابيكياً، ومصر باى الدوادار، وطراباى رأس التوبة، وجان برى الغزالي المحتسب، ومهم وإلى القاهرة وآخرون.
فوجه السلطان الغورى حديثه إلى أتابكية قيت وقال
- السلطان: أيها الأمير الكبير! ألم يأن بعد الجند الثائرين أن يثوبوا إلى رشدهم، ويكفوا عن غلوائهم، ويرمجوا جانب العقل والحزم على الطمع والفتنة؟ إن الخزانة والحواصل(932/51)
السلطانية لا تستطيع الآن أن تفي بجميع ما يطلبون. ألا ينتظرون حتى تستقر الأمور وتهدأ الأحوال. . . وحتى تشحذ الهمة ونعيد النظر في وسائل تدبير المال؟ ثم نجيبهم إلى ما يطلبون.
وأنني في الوقت الذي يجتمع فيه المال والطعام والكسي لدى لن أدخر وسعاً في الإغداق والبر، ولن أقصر في الوفاء بالرواتب، ولن أتقاعد عن التعويض عما فات.
- الأنابكى قيت: إذا بذل لهم مولانا السلطان وعده الكريم وضغطنا نحن الأمراء باللين والقول الحسن فسيكون حتماً عن ثورتهم وأعتقد أنهم يدينون المقام الشريف بالطاعة والولاء، أما نحن فسنبذل قصارى جهدنا في سبيل تهدئة الفتنة محافظة على الخواطر السلطانية الشريفة.
السلطان: أنت تعلم أيها الأمير - أن أمامنا مشكلة كبرى لم تحمل إلى اليوم. وقد أنصرم شهر شوال ولم نضع لها حلاً. تلك هي مشكلة اختفاء العادل. . . ينبغي أن يؤتي به إلى هنا حياً كان أو ميتاً. ولعل الماكر الخبيث له في ثورة الجنود فتنهم وتحريضهم على طلب المتأخر من عطيتهم ورواتبهم.
- الأمير مصر باى: أجل يا مولانا إن العادل أعواناً وأنصاراً يعمل معهم في الخفاء، ويدبر الأمر للعودة إلى السلطنة بعد أن انتزعت منه انتزاعاً ولكن هيهات. . .
إنه يجتمع بهؤلاء الأعوان والأنصار في ظلام الليل الدامس ويسردون سطورا حاضة على الثورة، ويبذلون فيها الوعود السخية للجند، وينثر عليهم دراهمه ودنانيره شفاهاً، ريثما يعود. . . ويهب لكل واحد منهم مائتي دينار وفرساً مطهمة. ويتوب إليهم مما جنته يداه. ويمينهم بأنه لن يعود فيهم إلى سيرته الأولى، وسيرعى العدالة حق الرعاية، ويدفع الرواتب، ويجزل العطاء، ويفصل في الأمور برأيهم. . .
- السلطان: أمر مدهش، وأخبار عجيبة. . . من أتى لك هذه المعلومات أيها الأمير مصر باى؟ وكيف يصمت والي القاهرة على هذه الفتن، ولا يبحث عن مصدرها ويبطش به بطشة نكراء. .؟
الوالي إن ما يقوله الأمير مصر باى صحيح يا مولانا - فقد عثرنا بالقبو عند سوق السلاح على أوراق مكتوبة بهذا المعنى، معلقة على الجدران رجاء أن يقرأها المارة من الجند،(932/52)
فيكون لها أثرها في نفوسهم. . . ولنا نزعناها سراعاً، وأخذنا طريقنا إلى البحث عن مصدرها.
السلطان: مصدرها؟ عجباً! ان مصدرها معروف لا حاجة إلى تبيينه. . . إنه العادل المخلوع بلا شك. فلماذا نقصر في البحث عنه إلى اليوم؟ ومن العار أيها الوالي أن تتهاون في القبض عليه إلى الآن. فلا بد من الوصول إليه بأى ثمن.
طراباى: الواقع يا مولانا أننا لم نقصر في البحث عن العادل، طفت القاهرة مع الوالي وشرطته، ودهمنا منازل كثيرين من أصدقائه، وهجم الوالي على بيت القاضي الحنفية برهان الدين الكركي، وهو من خاصة العادل وخلصانه. ثم آل أمره إلى القبض عليه، فحبس في دار الأنابكي قيت، وقد سمعنا أن العادل أودع لدى هذا القاضي مالاً، غير أن مولانا السلطان قد أمر بالإفراج. عنه ثم دهمنا سيدي علي بن السلطان المؤيد أحمد، وقد قيل لنا ان العادل يختبئ عنده، ولكننا لم نعثر له على اثر، وفتشنا جملة من المنازل وعدداً من الزوايا الأماكن ولا نزال نجد في البحث عنه في كل مكان، وسنعثر عليه بعون الله وبفضل رضا مولانا السلطان.
السلطان: بارك الله فيك أيها الأمير طراباى، لا ننسى لك أنك كنت في مقدمة الأسباب التي أدت إلى هزيمة العادل، ولنا الأمل في أن يتم مصرعه على يديك أو يدي الأمير مصر باى.
مصر باى: إذا أذن مولانا السلطان فأطلق لي عنان العمل كما اشتهى، فقد أوفق في العثور على الضالة، وأنهى إلى مقره الشريف خاتمة هذا الطاغية.
السلطان: إنك مطلق الحرية تصرف في أمره، وأفعل ما تشاء.
أنفض الجمع وكان اختفاء العادل حديث أهل القاهرة طول شهر شوال، لم يهدأ لهم فيه لسان ولا سكن خاطر. ومما أثار ثائرة الحديث، ما كان يقوم به الوالي وشرطته وغيره من الأمراء والجند، من دهم البيوت، ومفاجأة أهلها بحثاً عنه، والأمراء فيما بين ذلك لا يأمنون المسير إلا بين رجال من حرسهم يحيطون بهم، ولا يطيب لهم رقاد إلا على ريبة وخوف. وهكذا عاش الجميع عيش قلق وهم، شهراً وبعض شهر.
والأمير مصر باى عيونه وأرصاده يتسقطون أخبار العادل. فترامى إليه أن العادل يجتمع(932/53)
مع خاصته ليلاً، ويتواري عنهم نهاراً، ولا يعرف مقره أحد من أعوانه. وان ممن يجتمع به جابي بك شاد الشراب خاناه، وجابي بك الشامي.
وكان جابي بك الشامي يسكن مقربة من دار الأمير مصر باى فبعث الأمير إليه وإلى رفيقه، وسألهما عن العادل ومكانه فأنكروا معرفة مكانه، والاتصال به. فشدد الأمير عليهما النكير، وتهددهما بالعذاب الأليم، حتى أيقنا بالهلاك فلما رأى الخوف قد أستقر في نفسيهما، ونطقت بالهلع عيونها لان لهما القول، وبذل لهما الوعد باللقب والمال والجاه. ولمح لهما لأن السلطان سيعرف لهما يد هما فيرقيهما إلى الصف الأول من صفوف أمرائه. وهكذا جعلهما بين خوف لا يستطيعان دفع شره ورجاءهما أحوج إلى غيره وبره.
حينئذ اعترفا لمصر باى بأنهما يجتمعان بالعادل بين الفينة والفينة. فقال لهما مصرباى: إنني أعتبر كما صديقين مخلصين، وعوناَ للسلطان على عدوه. فلنضع معاً خطة حكيمة، ولنحكم الشباك حتى لا يفلت منها الصيد.
فقالا له: اقترح ونحن نطيع وننفذ.
فقال مصر باى: زينا للعادل أنكما وأعوانكما تدبرون له أمر العودة إلى السلطنة، وأن كثيراً من الجند قد أنضم إليكم وأن الفتنة ضد السلطان الغورى قدزاد ضرامها، وأن المنشورات الثورية التي تذيعونها آتت أكلها، وأن الجنود على وشك إعلان السلطان بالعصيان والقتال وهم في حاجة إلى قيادته. . .
ثم ليأت العادل إلى دار جاني بك الشامي عشاء في ليلة نتفق عليها. . . ثم خذوا في الطعام والشراب إلى هدأة من الليل وألقوا في روعه أن ينتقل إلى دار الأتابكي جرباش كرت، المجاورة لدار جاني بك، وبها سرداب سري ينفذ إلى دارى. . . فيزحف مع خاصته من هذا السرداب حتى إلى فيقتتلني. . . ومن ثم يطيب له الزحف بمجموعه المنتظرة على القلعة فيملكها. . . ثم اتركاني أدبر بقية أمره. . .
أنصرف الرجلان وفي عشاء الاثنين 13 من ذي القعدة، وفد العادل على منزل جاني بك الشامي مسرفاً في الأمل، بهجاً يدنو عودته إلى عرشه. فتبسط له صديقاه في الحديث ومدا له الموائد الحافلة، وضربا له نصف الليل موعداً للهجوم على منزل مصر باى، وبينما هم في لهوهم وترقبهم إذ دهم المنزل الأمير مصر باي بجنوده. . . فأحس العادل بالخيانة(932/54)
وأيقن بالتلف، ولم يجد حوله من يدفع عنه فوقف وحده الميدان يذود عن نفسه. . . ولم يجد بداً من الفرار، فركن إليه جاهداً إلى أعلى حائط في المنزل، وقذف بنفسه إلى خارجه نحو الأرض، فكسر فخذه. وهناك تلقاه أحد مماليك جانبلاط فتهوى على رأسه بسيفه فاجتزه. . . وعدا عليه جملة من المماليك فأثخنوا فيه بسيوفهم انتقاماً منه وشفاء لما في صدورهم. .
ثم حمل رأس العادل إلى الأمير مصرباي فوضعه في طبق من النحاس وسيره إلى الأبواب السلطانية، وحاملو المشاعل من حوله ينادون:
(هذا جزاء من يسفك الدماء ويقتل الأبرياء)
محمود رزق سليم(932/55)
العدد 933 - بتاريخ: 21 - 05 - 1951(/)
أدبنا في الحديث
من الصفات المميزة للمصريين في المجتمع الحديث، أنهم إذا اجتمعوا قاعدين في قهوة، أو ما شين في شارع، لفتوا إليهم أنظار الناس بما يأتون من حركات، وبما من حركات يحدثون من ضجيج. إذا تحدثوا ضرضأراً في الحديث، وإذا ضحكوا قهقهوا في الضحك، وإذا أشاروا أغلظوا في الإشارة! لا ينتظر السامع المتكلم حتى يفرغ من كلامه، ولا يمهل المعارض المؤيد حتى يفرغ من كلامه، ويهمل المعارض المؤيد حتى يدلي بحجته، إنما هي الحنجرة الصلبة، والنكتة المكشوفة، والسخريةاللاذعة، والمقاطعة المهينة، والأمر كله للصوت الجهير النكير والضحكة المتفجرة المكركرة.
والجهر بالقول أخص خصائص العامية؛ لأن المتحدث لا يرفع صوته فوق الأصوات إلا في ضوضى أو فوضى وضوضي الحياة أو فوضاها لا تكون إلا في المجتمع البدائي أو العامي، حيث تغلط العبارة، وتخشن الإشارة، ويختلط الحديث. والجاحظ يقول في الأعراب (إنما خشنت أصواتهم لمخاطبتهم الإبل) وأنت كذلك حري أن تقول في الرجل الذي يفتح حلقه كله عند الكلام، إنما تعود ذلك لأنه لا يخاطب في أسرته وبيئته إلا الذين يتكلمون ولا يسمعون، أو الذين يسمعون ولا يصفون، أو الذين تبلدت فيهم حاسة السمع، فلا يدركون جمال الصوت الرخيم، ولا يتذوقون لذة الحديث العذب، ولقد كان من تأديب الله للعرب الذين كانوا يندون إلى الرسول فيؤذونه بما جبلوا عليه من رفع الصوت، وجهر القول، إذ قال لهم (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض. . .) ثم قال عز قوله حكاية عن لقمان إذ قال لابنه: (وأغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) وإذا عذرنا من يرفع صوته مضطراً بحكم عمله كالسماسرة الذين يشتغلون في برصة العقود، والصناع الذين يعملون في مطارق النحاس، والتجار الذين يتصافقون في سوق البهائم، فكيف نعذر ذلك المطربش الجسيم الوسيم الرافه الذي تكلمه رأساً إلى رأس، وفماً إلى فم، فيأتي إلا أن يمزق طبلتي أذنيك بصوته المجلجل الراعد!
الحق الذي يؤيده الحس أن الرجل كلما أكتمل عقله وتهذب طبعه، ولطف شعوره، كان أرغب عن الجلبة، وأزهد في العنف. فتراه إذا تكلم كسر من صوته، وإذا ضحك أفتر عن ثغره، وإذا استمع أرهف من سمعه، وإذا قاول ألان من قوله، وإذا مزح عف في مزحة،(933/1)
وإن اليوم الذي نرى فيه المصري يحضر المجلس ولا يصخب، ويناقل الحديث ويربط، ويسمع الغناء ولا يعربد، ويجتاز الشارع ولا يهرج، لهو اليوم الذي تكتمل فيه إنسانيته الحرة، ويبدأ به تمدنه الصحيح!
احمد حسن الزيات(933/2)
في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
نقد الصحابة بعضهم بعضا:
لم يقف الأمر بالصحابة عند تشديدهم في قبول الأخبار - كما بينا ذلك من قبل، ولكن تجاوزه إلى أن ينقد بعضهم بعضاً.
وقد كان عمر وعثمان وعلي وعائشة وأبن عباس وغيرهم من الصحابة يتصحفون على إخوانهم في الصحبة، ويشكون في بعض مايرون عن النبي، ويردونه على أصحابه، وإليك بعض أمثلة من ذلك تجتزئ بها خشية التطويل.
عن محمود بن الربيع - وكان ممن عقل عن رسول الله وهو صغير أنه سمع عتبان بن ما لك الأنصارى، وكان ممن شهد بدراً، أن رسول الله قال: إن الله حرم على النار من قال لا إله الله يبغي بها وجه الله - وكان رسول الله في دار عتبان فحدثها قوما فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله في غزوته التي توفي فيها بأرض الروم، فأنكرها على أبو أيوب وقال: والله ماأظن رسول الله قد قال ماقلت!.
وقد استبدلت المر جثة بهذا الحديث ونحوه على مذهبهم وقال الشاطي في الموافقات: إن عائشة ردت حديث (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، وحديث رؤية النبي لربه ليلة الإسراء، وروت هي وابن عباس حديث أبي هريرة، إنما الشؤم في ثلاث).
أما حديث عذاب الميت فقد رواه الشيخان وغيرهما وفيه أنه ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى النبي أنه قال (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) فقالت: وهل إنما قال رسول الله إنه ليعذب بخطئه وذنبه وإن أهله ليبكون عليه، وفي رواية (والله ماحدث رسول الله أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه). وفي رواية إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم، ولكن السمع يخطئ وفي القرآن مايكفيكم (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقالت عائشة مثل قوله (أي حديث أبن عمر) أن رسول الله قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول! إنما قال) إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم ثم قرأت (إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور).
وأما حديث رؤية النبي ربه ليلة الإسراء فقد رواه البخاري ومسلم عن عامر بن مسروق،(933/3)
قلت لعائشة رضي الله عنها يا أمتاه: هل رأي محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب؛ من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير - وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب؛ ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت (وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً) ومن حدثك أنه قد كتم شيئاً فقد كذب، ثم قرأت (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك).
وفي رواية مسلم قال مسروق وكنت متكئاً فجلست فقلت ألم يقل الله، ولقد رآه نزلة أخرى؟ فقالت أنا أول من سأل رسول الله عن هذا، فقلت يا رسول الله: هل رأيت ربك؟ فقال (لا إنما رأيت جبريل منهبطاً) وفي رواية أخرى عن مسلم قال: نور أني أراه! ولأحمد: رأيت نوراً.
وقد رجح القرطبي في المفهم - قول الوقف في هذه المسألة! وعزاء الجماعة من المحققين، وقال أبن حجر في فتح الباري: وليست المسألة من العمليات فيكتفي فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفي فيها إلا بالدليل القطعي).
ومما روته عائشة خبر أبن عمر وأبي هريرة (إنما الشؤم في ثلاث فقالت: إنما كان يحدث عن أحوال الجاهلية، وذلك لمعارضة هذا للأصل القطعي (إن الأمر كله لله).
ولما سمعت أن ابن عمر قال: اعتمر رسول الله عمرة في رجب قضت عليه بالسهو، وقالت عن أنس بن ما لك وأبي سعيد الخدري (ما علم أنس بن ما لك وأبو سعيد بحديث رسول الله، وإنما كانا غلامين صغيرين.
وقال طاووس: كنت جالساً عند أبن عمر فأتاه رجل فقال إن أبا هريرة يقول: أن الوتر ليس بحتم فخذوا منه ودعوا فقال أبن عمر (كذب أبو هريرة).
وقيل لعروة بن الزبير: إن ابن العباس يقول: إن رسول الله لبث بمكة بعد بعث 13 سنة فقال كذب! إنما أخذه من قول الشاعر:
ثوى في قريش بضع عشر حجة ... يذكر لو يلقي صديقاً موانيا
وعن الحسن بن علي أنه سئل عن قول الله (وشاهد ومشهود) فأجاب فيها فقيل له: إن ابن عمر وابن الزبير قالا كذا وكذا خلاف قوله، فقال كذبا وكذب علي بن أبي طالب المغيرة(933/4)
بن شعبة، وقيل لعائشة إن أبا الدرداء قال: (من أدرك الصبح فلا وتر عليه، قالت لا كذب أبو الدرداء. . كان النبي (ص) يصبح فيوتر.
وذكر لها أن ابن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينفضن رءوسهن فقالت يا عجبا لابن عمر! يأمر النساء إذا اغتسلن ينفضن رءوسهن! أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن! لقد اغتسلت أنا ورسول الله من إناء واحد ماأزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
وعن عبادة بن الصامت أنه قال: كذب أبو محمد! يعني في وجوب الوتر. وأبو محمد هذا اسمه مسعود بن أو س الأنصاري، بدري. وتكذيب عبادة له من رواية ما لك وغيره في قصة الوتر، واستشهد عبادة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خمس صلوات كتبهن الله على العباد).
وكانت عائشة وهي كما وصفوها على جانب عظيم من الذكاء والفهم وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم، ترد كل ما روى مخالفاً للقرآن، وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع أو سوء الفهم.
ولقد جمع الإمام الزركشي كتاباً برأسه فيما استدركته عائشة على الصحابة سماه (الإجابة لإبراد ما استدركته عائشة على الصحابة) فليرجع إليه من يريد أن يتسع في الاطلاع على هذا النقد.
وقد نقل الدكتور أحمد أمين بك هذه الكلمة في كتابه ضحى الإسلام من رسالة لبعض الزيدية تلاميذ المعتزلة:
(إننا رأينا الصحابة ينقد بعضهم بعضاً، بل ويلعن بعضهم بعضاً، ولو كانت الصحابة عند نفسها بالمنزلة التي لا يصح فيها نقد ولا لعن لعلمت ذلك من حال نفسها، لأنهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي. وهذا معاوية وعمر بن العاص لم يقصرا دون ضربه وضرب أصحابه بالسيف، وكالذي روى عن عمر من أنه طعن في رواية أبي هريرة، وشتم خالد بن الوليد وحكم بفسقه، وخون بن العاص ومعاوية ونسبها إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من لسانه أو يده، إلى كثير من أمثال ذلك مما رواه(933/5)
التاريخ). قالوا: (وكان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك ويقولون في العصاة منهم هذا القول، وإنما اتخذتم أرباباً نعد ذلك. والصحابة قوم من الناس، لهم ما للناس وعليهم ما عليهم من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم لأنهم شاهدوا الإعلام والمعجزات، فمعاصينا أخف لأننا أعذر)، وسنكسر فصلاً على عدالة الصحابة إن شاء الله.
محمود أبو رية(933/6)
المعرفة الصوفية
أدلتها ومنهجها وموضوعها وغايتها عند صوفية المسلمين
للأستاذ أبو الوفا الغنيمي التفتازاني
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
للمعرفة الصوفية موضوعها الخاص بها، ولكنه في حقيقة الأمر أشد ما يكون غموضاً، ومن العسير على من لم يسلك طريق الصوفية أن يعرف شيئاً مفصلاً عن الموضوع، فالحقائق التي تتكشف للصوفي في خلواتها ومنازلاته هي حقائق فردية وذاتية لا يمكن أن تتصف بصيغة العمومية، ومن ثم يأتي إنكار الناس لها باعتبارها من قبيل الوجدان الخاص، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الصوفية يعمدون إلى الرمز والإشارة فتغلب على عبارتهم صيغة الإبهام والتعقيد، فيصبح من العسير على الباحث أن يشاركهم - ولو إلى حد ما - ما هم بسبيله من أذواق ومواعيد ومعارف ونستطيع أن نقول إنه لا يمكن أن تستند معارف الصوفية وعلومهم إلى براهين وأدلة نظرية، فهي علوم ذوقية تحمل يقينها في ثناياها، ولا تخرج في إثبات وجودها إلى برهان. وقد أشار ابن عربي إشارة لطيفة إلى هذا المعنى في كتابه التدبيرات الإلهية فقال (فإن يعرض لك الأخ المسترشد من ينفرك عن الطريق فيقول لك طالبهم بالدليل والبرهان يعني أهل هذه الطريقة فيما يتكلمون به من الأسرار الإلهية، فأعرض عنه وقل له مجاوباً؛ ما الدليل على حلاوة العسل؟ فلابد أن يقول لك هذا علم لا يحصل إلا بالذوق فلا يدخل تحت حد ولا يقوم عليه دليل، فقل له هذا مثل ذاك. .)
والواقع أيضاً أن الصوفية يعتبرون علوم الحقيقة وما تتضمنه من الأسرار من الأمور التي لا يصح أن يتحدث عنها الصوفي صراحة، ولا رخصة في إيداعها الكتب، وإنما هم يتكلمون عنها بطريق الرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال.
ونستطيع أن نقرر بوجه أن موضوع العلوم اللدنية هو الذات الإلهية وصفائها وأسمائها وأفعالها، وهي أمور لا قبل للعقل بإدراكها يقول الشيخ حسن رضوان في روض القلوب المستطاب(933/7)
أسماؤه وسائر الصفات ... مجهولة لغيره كالذات
وليس للعقول فيها مدرك ... بل من وراء العقل كشفاً تدرك
والعارف بحسب ما يرى الشيخ عبد الرزاق القاشاني في اصطلاحاته (هو من أشهد الله ذاته وأسمائه وأفعاله فالمعرفة حال تحدث من شهود) ويقول القاشاني في كتابه كشف الوجوه الغر لمعاني نظم الدر وهو شرح لتائية ابن الفارض الكبرى عن معرفة الله سبحانه وتعالى من حيث أسمائه وصفاته (فمن العارفين من ليس له طريق إلى معرفة الله إلا الاستدلال بفعله على صفته، وبصفته على اسمه وباسمه على ذاته، ومنهم من تحمله العناية الأزلية فيشهد المعروف (أي الله سبحانه وتعالى) تعالى جده بعد المشاهدة السابقة في معهد ألست بربكم، ويعرف به أسماءه وصفاته عكس ما يعرف العارف الأول، وبين العارفين فرق؛ إذ أن الأول لقيه معروفه كنائم يرى خيالاً غير مطابق للواقع، والثاني لشهود معروفه كمتيقظ يرى مشهوداً حقيقياً).
ومن هذا نتبين أن نتبين أن معرفة الله على نوعين: النوع الأول يستدل منه العارف على الذات، بظاهر الأفعال والصفات، والنوع الثاني يقبل فيه العارف على ما وراء هذا الظاهر بعد أن تصفو نفسه، فتحمله عناية الله عز وجل من عالم الظاهر إلى عالم الباطن، وهناك يدرك الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهو بهذا يشاهد الصفات والأسماء عن طريق الذات، ولا يشاهد الذات بطريق الصفات. وفي الحقيقة يعرف العارف الثاني الذات الإلهية معرفة يقينية حقيقية إيجابية، في حين يعرفها العارف الأول معرفة خيالية سلبية لاحظ لها من الحقيقة.
وثمة ملاحظة على جانب كبير من الأهمية من في هذا الصدد، وهي أن موضوع المعرفة الصوفية موجود في النفس بالفطرة، إذ أن النفس تعرف الله سبحانه وتعالى بالفطرة قبل أن تحل بالبدن، وأن اتصالها بالبدن الذي أفسد عليها معرفتها السابقة. ويرى الغزالي في رسالته اللدنية أن المعرفة مركونة في النفوس بالقوة كالبذر في الأرض أو الجوهر في مقر البحر أو قلب المعدن. ويقول القاشاني في مقدمة شرحه لكتاب فصوص الحكم لابن عربي ما نصه (فإن ترقى الإنسان بالعلم والعمل، وسلك حتى انتهى إلى الأفق الأعلى ورجع إلى البرزخ الجامع كما نزل منه، بلغ الحضرة الإلهية، وأنصف بصفات الله بحسب ما قدر له(933/8)
من الإمكان وسبق العلم به عند تعيين عينه.) ومعنى هذا الكلام أن المعرفة بالله فطرية في النفس قبل التعيين، فإذا خلص المتصوف من عوائق بدنه وسلك طريق المجاهدة والتصوف، وصل إلى الأفق الأعلى وبلغ الحضرة الإلهية التي سبق له العلم بها، فاتصف بصفاتها على قدر طاقته.
ومما سبق نستخلص أن موضوع المعرفة الصوفية يدور حول الذات الإلهية وتعرف أسمائها وصفاتها وأفعالها وهذه المعرفة متوقفة على الذات الإلهية وأرادتها.
ولكن لا يفوتنا أن نشير بهذا الصدد إلى ملاحظة هامة وهي أن المعرفة لمتخل من الآثار الفلسفية، فما لاشك فيه أن الصوفية من أمثال أبن عربي والسهروردي المقتول ومن نحا نحوهم، قد مزجوا المعرفة الصوفية بالأنظار العقلية الخالصة، فالمعرفة عند هؤلاء ليست ذوقاً خالصاً وإنما هي مزيج من الذوق الخالص والنظر الفلسفي.
والآن وقد تحدثنا عن الموضوع المعرفة الصوفية، بقي علينا أن نعين الغايات التي ترمي إليها هذه المعرفة وفيما يلي بيان ذلك:
6 - أتفق السالكون لطريق التصوف على أن غايتهم القصوى هي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ومتى تحققوا بهذه المعرفة فقد توصلوا إلى السعادة واليقين في حياتهم الدنيا وفي الآخرة.
ولكي يتحقق الصوفي بالمعرفة لابد أن يتصف بصفات نفسية تؤهله لتلقي المعارف اللدنية، ومن ثم يأخذ المريد نفسه بالمجاهدة الأخلاقية، فيتنقى عن الأخلاق المذمومة وتنتفي عنه الصفات القبيحة، وتسكن نفسه وتطمئن وتزول عنها دواعي الشهوات، وتصفو وتشرق فتدرك حقائق الأمور إدراكاً يقينياً.
والمعرفة الصوفية كما رأينا متوقفة على طهارة النفس ونقائها وإشراقها، ونستطيع أن نقول إن المعرفة الصوفية بهذا المعنى ترمي إلى غاية أخلاقية، ولقد عرف القشيري المعرفة في الرسالة بقوله (هي صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته ثم صدق الله تعالى في معاملاته ثم تنتقي عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله وصدق الله تعالى في جميع أحواله، وانقطع عنه هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره فإذا صار من الخلق أجنبياً ومن(933/9)
آفات نفسه برياً، ومن المساكنات والملاحظات نقياً، ودام في السر مع الله تعالى ومناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدثاً من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجربه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك عارفاً وتسمى حالته معرفة وفي الجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه عز وجل).
من هذا النص يتبين لنا أن المعرفة لا تكون إلا بصدق المعاملة والتنقي من الأخلاق الرديئة والآفات السيئة والاتجاه بالقلب نحو الله، ولا تتم كذلك إلا بانقطاع هواجس النفس وخواطرها، وهي بهذا المعنى ترمي إلى الاتصاف بالكمال الأخلاقي.
ولكن مع إدراكنا لأهمية الغاية الأخلاقية في المعرفة لا نستطيع أن نقرر أن هذه الغاية الأخلاقية هي أسمى غايات المعرفة عند الصوفية، إذ أن هناك غايات أسمى وأرقى، هي الوصول إلى الله وبالتالي إلى السعادة الأبدية الخالدة واليقين الذي لا يأتيه الشك من أي جانب. فالمعرفة الصوفية لها غاية عرفانية إلهامية موصلة إلى السعادة واليقين في الدارين.
يقول أبن عربي في الفتوحات (ثم إذا وصل العبد إلى معرفة الله تعالى فليس وراء الله موسى ولا مرقى، فهناك يطلع كشفاً ويقيناً على حضرات الأسماء الإلهية.)
والحق كل الحق أن غاية الإنسان في حياته هي أن يصل إلى نور اليقين بعد ظلمات الشك، فيتعرف على كنه الوجود الذي يعيش فيه، ويتعرف على ماهيته ومصيره، تعرفاً من شأنه أن يلقي السكينة على قلبه. فهل استطاع العلم في عصرنا هذا أن يفسر لنا ماهية الوجود أو الحياة تفسيراً ترتاح أليه قلوبنا؟ والجواب على ذلك هو أن العلم وما يصطنعه أصحابه من مناهج تجريبية أن يكشف لنا الآن عن حقيقة ما من هذه الحقائق التي لا سبيل إلى كشفها بطريق عقلي أو تجريبي، ولا يزال عالم الروح بالنسبة إلينا مجهولاً. ثم هناك أمر آخر أشد ما يكون غرابة وهو إنكار المنكرين على الصوفية لأذواقهم ومواجيدهم ومكاشفتهم، فهذا الإنكار لا يقاوم على أساس ولا يستند على منطق سليم، فقد رد الصوفية على منكريهم أن سلكوا سبيلنا وانهجوا نهجنا ولكم بعد ذلك أن تحكموا علينا، ولكن الحقيقية أن المنكرين أنكروا عليهم علومهم، وقد غرقوا في بحار المادة وكبلوا بقيوده الحسرة.
وجماع القول فيما سبق هو أن اليقين كل اليقين في الاتصال المباشر بالله عز وجل اتصالاً من شأنه أن يبدد لنا ظلمات الشك بمعرفة كنه الوجود، وما وراء العالم المحسوس من(933/10)
عوالم أخرى هي من أمر الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يتم إلا إذا خلصت الروح والنفس من شوائب الحس، وأشرقت فارتقت إلى عالم الروح، وهناك تفيض عليها المعارف الإلهية والعلوم اللدنية، فتنعم بحضرة الجمال وتتمتع بلذة الوصل.
أبو الوفا الغنجي التفتازاني(933/11)
ابن زيدون وأسباب سجنه
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
ذكر الأستاذ جمال الدين الرمادي في ثنايا مقاله عن الشاعر الرمادي بمجلة الثقافة العدد 628 أن ابن زيدون أحب ولادة وسجن في سبيلها. والحقيقة غير هذا والتاريخ يخالفه، فلم يسجن ابن زيدون لأنه أحب ولادة وكان هذا السجن في سبيلها، لأن سيرته تبين غير ذلك، لم يكن ابن زيدون واحداً من عامة الناس ولا شاعراً كبقية الشعراء، بل كان فتى قرطبة المدلل وبطلها المرجى وشاعرها الذي لا يجارى، ووزيرها المتصرف. ولم يكن كل فهذا فحسب، فقد كان سياسياً شارك في المسائل العامة، وخاض غمار الثورة التي ذهبت بدولة بني أمية وأتت بغيرهم. وكان من أشياع أبي الحزم أبن جهور بن محمد، فما زال يعمل على تأييد ملكه حتى ثبتت أركانه وارتفع بنيانه، فاصطفاه ابن جمهور لنفسه وأشاد بفضله، وأسند إليه الوزارة جزاء خدمته وأناط به مهام الدولة، وكان لثقته فيه ينفذه إلى ملوك الطوائف سفيراً بينه وبينهم. . وكان أبو الوليد عبقرياً سريع حركة الفكر ذوب اللسان جم الفكاهة، وثاب النفس كثير الفخر بنفسه، يرى أن الأندلس كلها لم تنجب له نداً، فكان يتيه عجباً وخيلاء إذا افتخر بفضله، وربأ بنفسه أن يكون ألعوبة في يدالحوادث، فامعه يقول وهو في سجنه:
لا يهنئ الشامت المرتاح خاطره ... أني معنى الأماني ضائع الخطر
هل الرياح ينجم الأرض عاصفة ... أم الكسوف لغير الشمس والقمر
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب ... قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
قد كنت أحسبني والنجم في قرن ... ففيم أصبحت منحطا إلى القمر
ولقد كانت عبقرية ابن زيدون ومواهبه نقمة عليه، فقد أورثته الغرور بالنفس والاعتداد بها، فكان لا يقدر لرجله قبل الخطر موضعها (يرمي الكلمة لا يبالي أين رماها ويصدع بالرأي في جرأة واغترار) فقد كتب يوماً إلى فتاة كان يحبها قبل ولادة وقبل توليه الوزارة (. . . أما ابن جمهور فزق نفخته الكبرياء، وصورة من نفاق ورياء، يخدع الناس بلحيته الحمراء، ومسبحته السوداء، أنه رجل يثب عند الطمع، ويختفي عند الفزع، لو كان في الجاهلية لكان هبل، أو كان كوكباً لكان زحل. . .)(933/12)
وقد أو غر تقريب ابن جمهور له، صدور حساده، فتربصوا به الدوائر وكانوا يعملون دائماً على الإيقاع به، ومن أشد أعدائه الوزير ابن عبدوس الذي كان ينافسه في حب ولادة ويخشى مزاحمته في مهام الوزارة، وكان ابن زيدون يعرف هذا ولكن غروره جعله يستهين بعدوه، أخبرته ولادة يوماً بعد أن خطبها، أن ابن عبدوس يطاردها كما يطارد الصائد فريسته، وأنها تريد أن ينقذها من ذلك فأغتاظ ابن زيدون وكتب له: (أما بعد أيها المصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، للفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب، على الشراب، فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظفر، والجنة معك سقر، كيف رأيت لؤمك لكرمي كفاء؟ وضعتك لشرفي وفاء، وأني أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطير إنما تقع على إلفها، وهلا علمت أن الشروق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان) ثم قال:
أثرت هزير الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هذا فاغتمض
حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خفا أبي فامتعض
فإن سكوت الشجاع النهو ... س ليس بمانعه أن يعض
وأن الكواكب لا تستزل ... وأن المقادير لا تعترض
أبا عامر أين ذاك الوفاء ... إذا الدهر وسنان والعيش غض؟
أين لي ألم أضطلع ناهضا ... بأعباء برك فيمن نهض؟
لعمري لفوقت منهم النضال ... وأرسلته لو أصبت الغرض
وغرك من عهد ولادة ... سراب تراءى ومض
هي الماء يأبى علي قابض ... ويمنع زبدته من مخض
فأثارت هذه الأشياء أبن عبدوس فكان له بالمرصاد، يرقب حركاته ويتبع تنقلاته، ولا يكتفي بنقل ما يقع تحت يده بل يضيف الشيء الكثير من عنده.
حدث نأن أرسلهأأنأن أرسله ابن جمهور إلى المظفر صاحب بطليوس في شأن من شؤون الدولة، فوجدها ابن عبدوس فرصة نادرة فبعث وراءه جاسوساً، يرقب حركاته ويحصي عليه أعماله.
وأكرمه المظفر وأحسن استقباله. ولما رأى ما يتمتع به من ذكاء وفطنة رغب أن يكون(933/13)
وزيره، فعرض عليه الوزارة وألح عليه في ذلك وأخذ يغريه بالجاه والمال. ولما كان ابن زيدون لا يقدر العواقب، فقد خاض في أشياء تمس ابن جهور، وكثيراً ما كان يسخر منه، ولم يكن يعلم أن هناك من يحصي عليه القول ويرقبه عن كثب. قال مرة يمدح المظفر
عليك إذا سابقته الملوك ... حوى الخصل أو ساهمته سهم
فأطولهم بالأيادي يداً ... وأثبتهم في المعالي قدم
وأروع لا معتفى رفده ... يخيب، ولا جاره يهتضم
ذلول الدماثة صعب الإباء ... ثقيف العزيم إذا ماأعتزم
وقال مرة أخرى:
أشف الورى في النهى رتبة ... وأشهرهم في المعالي مثل
وأحرى الأنام بأمر ونهى ... وأدرى الملوك بقعد وحل
غمام يظل وشمس تنير ... وبحر يفيض، وسيف يسل
قسيم المحيا ضحوك السماح ... لطيف الحوار أريب الجدل
سواك إذا قلد الأمر جار ... وغيرك إن ملك الفيء غل
إلى آخر ما قال في مدح أسبغ فيه على الرجل صفات العظمة، بل وحصرها فيه، ولم يكتف بذلك بل عرض ويغيره من الأمراء الآخرين ومنهم سيد نعمته ابن جهور. وكان جاسوس ابن عبدوس لا يترك شاردة ولا واردة إلا قيدها، فكان يكتب كل مرة ما يفوه به ابن زيدون في مجلس المظفر وكل ما يقوله من الشعر ثم يلونه بما يشاء ويضف إليه ما يعرف أنه يزيد من عظم الأمر الذي جاء من أجله ويجزل له العطاء (أي الجاسوس).
وما أن وصلت هذه الأشياء إلى يد ابن عبدوس حتى تهلل وجهه بشراً، ثم أضاف إليها ما شاء من أشياء يعرف أنها تزيد في أيغار صدر ابن جمهور على وزيره، وقام بتبليغه بما حصل عليه من أخبار على خير وجه، وكان ابن جمهور (رجلاً أذناً، ينصت لكل نمام ويلقي السمع لكل واش) فامتلأ صدره حقداً وغلى مرجل غضبه، وقال ويل له منى! ماذا ترك لي إذا كان المظفر أشف الناس رأياً وأحراهم بالنهي، ومن سواه الذي إذا قلد الأمر جار والذي إذا ملك الفيء غل، إن يقصدني فلأمه الهبل.
فلما عاد ابن زيدون من سفارته لحظ تغييراً كبيراً في معاملة ابن جمهور له وانصرافه(933/14)
عنه، ورأى أن الابتسام الذي كان يلقاه به تبدل عبوساً، وأن الثقة أصبحت شكاً، وأن الأمر صار على خلاف ما كان، ولم يشك أن الوشاة وعلى رأسهم ابن عبدوس قد نفثوا سمومهم في صدر ابن جمهور وقد فعلت هذه السموم فعلها فكتب إليه قصيدة يستعطفه جلية الأمر، ولكنه لم يستطيع أن يغالب نفسه الكبيرة وغروره القتال فأظهر فيها إباءه وشمسه واستعلاء نفسه. ومنها:
مالي وللدنيا؟ غررت من المنى ... فيها ببارقة السراب الخادع
ما إن أرال أروم شهدة عاسل ... حميت مجاجتها بإبرة لامع
من مبلغ عني البلاد إذا نبت ... أن لست للنفس الألوف بباخع
فليرغم الحظ المولى أنه ... ولى فلم أتبعه خطوة تابع
إن الغني لهو القناعة لا الذي ... يشتف قطرة ماء وجه القانع
وكان ابن زيدون وثيق الصلة بأبي الوليد بن الحزم ابن الجمهور، وكان هذا يحبه ويصطفيه، ويدافع عنه بما أوتى من جهد وقوة، ولكن تصرفات ابن زيدون، وفلتات لسانه كانت تذهب بكل ما يبذله أبو الوليد وتحطم كل ما يشيده. فبعد عودة ابن زيدون من مهمته استمر ابن عبدوس يرصد حركاته ويحصي أعماله، وكانت عيونه لا تغفل عن ابن زيدون لحظة؛ وكلما وقع شيء في يد ابن عبدوس بعث به إلى ابن جمهور ومن ذلك ما كتب له:
(. . . أما بعد فقد أبلغني الرجل الذي وكلت إليه مرافقة ابن زيدون ومراقبته عن بعد منذ حضر من بطليوس، ينتقل من دار إلى دار والحيرة لا تفارقه، ويزور أناساً لم يكن يزورهم من قبل، وقد تردد في الأسبوع المنصرم على دار راجع الصنهاجي وكان يودعه عند الباب كل مرة، وسمعته في إحدى المرات يقول له (سيكون الأمر هينا والجو ملائماً)، وزاده منذ يومين ثابت الغافق، وخرج من عندهم ومتجهم الوجه يبدو عليه القلق والتفكير وكان بالأمس مع ابن زكوان عند ولادة وخرجا قبيل الفجر، وكانا يتهامسان في الطريق ويبدو عليهما الجد والاهتمام).
وردت هذه الرسالة بينما كان ابن جمهور وابنه أبو الوليد في مجلس لهما فلما قرأها ابن جمهور دفع بها إلى ابنه وقال أسمعني ما فيها. فلما انتهى أبو الوليد من قراءتها سكت ولم يتكلم فصاح أبوه قائلاً:(933/15)
(أرأيت أبا الوليد كيف أن الرجل لا يخالط إلا المترددين المزعزعين الذين لا يحجبهم عن الفتنة إلا العجز أو الخوف من أن يكونوا حطبا لنارها) فدافع أبو الوليد عن صاحبه دفاعا حاراً، حتى استطاع أن يغير رأي أبيه فيه، وأن ابن زيدون إنما يعمل لصالح الدولة وتثبيت الأمر له (أي لابن جمهور).
ولكن ماذا يجدي مثل هذا الدفاع وابن زيدون بغير حذر ويتكلم بلا احتراس، بل ويتصل بأعداء عميد الجماعة ليل نهار ويجتمع بهم حتى مطلع الفجر.
وكان أعداء ابن زيدون مردة شياطين لا تعوزهم الحيلة ولا يصرفهم عدم تأثرا ابن جمهور بأقوالهم. . . فلما وجدوا أن هذه الوشايات لا تأتي بفائدة، وأن أبا الوليد يفسد عليهم كل شيء؛ أجمعوا أمرهم على شيء، بأن اتفقوا على إيقاع ابن زيدون في الشرك حتى لا يستطيع الخلاص بعد ذلك ويكون لهم ما يريدون.
كان أحد أبناء الناصر لدين الله ويسمي (أبن المرتضي)، يختفي بعيداً عن قرطبة خوف بطش ابن جمهور به، وكان الناس إذا أصابتهم شدة من ابن جمهور تهامسوا باسم أبن المرتضى كمنقذ لهم مما فيه، ولماذا لا يكون هو صاحب الأمر وهو من سلالة الخلفاء. . . وقد استطاع ابن المرتضى أن يتخذ أنصاراً من أعداء ابن جمهور ثم يدخل قرطبة خفية ويختفي عند أحد أتباعه وكان ابن زيدون من هؤلاء الأتباع وقد مال إليه عندما لقي من إعراض ابن جمهور عنه وتجهمه له بل وكان يعرف أين يختفي. علم بذلك ابن عبدوس وأنصاره المبغضون لابن زيدون فاتفقوا على أن يخبروا بذلك ابن جمهور ولكن الدليل المادي يعوزهم، وأبن جمهور لا يأخذ بأقوالهم ما دام أبو الوليد راضياً عن ابن زيدون.
فاجتمعوا وتبادلوا الرأي فقال أحدهم إن ابن زيدون يعرف أن بن المرتضى يقيم بقرطية بل وهو على صلة به ويلتقي به كل ليلة، ثم اقترحوا أن يدعوا أحدهم ابن زيدون إلى داره، وأن يكون هناك ابن جمهور مستخفياً ليسمع ويرى. . .
ودعا الرجل ابن زيدون إلى ليلة في داره، وكان ابن جمهور وأعوانه مستخفين متنكرين، وبينما القوم يسمرون إذا جلبة وضوضاء في خارج القاعة، فنادى كبير خدمه وسأله في استنكار عن هذا اللغط والضجيج، فظهر التردد والخوف على وجه الخادم بادئ الأمر، ثم قال:(933/16)
(لقد علمنا سيدي من أحد أعوان صاحب الشرطة أن مولانا عميد الجماعة قد ألقي القبض على سيدتي ولادة، وهو الآن يسيمونها أشد أنواع العذاب) فقال الرجل في استنكار وصوته يكاد يخنقه الغضب:
(وأي ذنب جنته حتى يقبض عليها الشرطة ويعذبونها؟) فقال الخادم:
(قيل يا سيدي إنهم وجدوا مولانا ابن المرتضى مختفياً بقصرها).
فما سمع ابن زيدون هذا حتى ذهب صوابه وهب مذعوراً والغضب يملأ نفسه، وصاح بصوت مرتعش: هذا بهتان وزور إن ولادة لا تخفي ابن المرتضى بقصرها وهي بريئة من هذا براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وأنا يعرف أين يختفي ابن مرتضى، بل أنه في دارى، وها أنا ذاهب إلى ابن جمهور لأخبره بذلك ليكف زبانيته عن أطهر امرأة في قرطبة.
وهمَّ بمغادرة المكان ولكنه وجد أن بن جمهور يعترض طريقه كأنما انشقت عنه الأرض أو نزل من السماء، وفي وجهه صرامة وفي عينه لهب، وصاح في وجه ابن زيدون بصوت كأنه هزيم الرعد.
لقد تحققت خيانتك أيها الخائن. ثم أمر صاحب شرطته بالقبض عليه وإيداعه السجن حتى يرى رأيه فيه، وأمر آخر بتفتيش داره عله يجد ابن المرتضى هناك، ولكنه لم يجد له أثر. . .
وهكذا ذهب ابن زيدون إلى السجن لأنه لم يستطيع أن يملك زمام نفسه في مثل هذا الأمر الخطير، ولم يقدر على كبح جماح كبرياءه، برغم عبقريته ونبوغه، بل ذهب إلى السجن ضحية عبقريته ونبوغه وطموح نفسه، وقد قيل:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعنت في مرادها الأجسام
وقبله فر المتنبي من معية سيف الدولة بسب قوله:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف الرمح والقرطاس والقلم
فقال خصوم أبي الطيب، لسيف الدولة ما الذي أبقى لك بعد هذا، فتغير عليه وأغضى حتى فر إلى مصر، ثم لقي حتفه آخر الأمر، لطموحه وكبريائه.(933/17)
وكثيرون هم أولئك الذين ذهبوا ضحية عبقريتهم ونبوغهم وكبر نفوسهم. ولعلنا نستطيع أن نقدم لقراء الرسالة صوراً عن هؤلاء إن شاء الله.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ(933/18)
الشعر والحياة
(مهداة إلى الأستاذ الشاعر الكبير الأستاذ محمود غنيم)
للأستاذ أحمد مصطفى حافظ
يقول الرافعي الخالد: (لو سئلت أزمان الدنيا كيف فهم أهلها معاني الحياة السامية، كيف رأوها في آثار الألوهية عليها، لقدم كل جيل في الجواب على ذلك معاني الدين ومعاني الشعر. وليست الفكرة شعراً إذا جاءت كما هي في العلم والمعرفة، فهي في ذلك علم وفلسفة، وإنما الشعر في تصوير خصائص الجمال الكامنة في هذه الفكرة على دقة ولطافة. . كما تتحول في ذهن الشاعر الذي يلونها بعمل نفسه ويتناولها من ناحية أسرارها.
فالأفكار مما تعانيه الأذهان كلها، ويتواطأ فيه قلب كل إنسان ولسانه. . بيد أن فن الشاعر هو فن خصائصها الجميلة المؤثرة، وكأن الخيال الشعري نحله من النحل، تلم الأشياء لتبدع فيها المادة الحلوة للذوق والشعور، والأشياء باقية بعد كما هي لم يغيرها الخيال، وجاء بما لا تحسبه منها وهذه وحدها هي الشاعرية. .)
ويقول الزيات الفنان (الفكر والخيال والعاطفة هن ملكات النفس الأدبية الثلاث، يصدر عنهن فيض القريحة، ويرد إليهن إلهام العبقرية؛ لا يهيمن عليه إلا الخيال والعاطفة؛ أما حاجته إلى الفكر فمحدودة بمقدار فما يضيء لهما الطريق حتى يأمنا الضلالة.
فالفكر للعبقرية بمثابة العين، والخيال والعاطفة لهما بمثابة الجناحين، فإذا تغلبا عليه كان الشرود والزيغ، وإن تغلب عليهما كان الجفاف والعقم. ومن هنا جردوا أكثر ما قال أبو العلاء وأقل ما نظم أبو الطيب من الشاعرية).
وآراء أستاذي الجليلين المتقدمة هي لب ما هدف إلى التعبير عنه هذا الموضوع الذي لا أحب أن أحداً غير ابني بجدتها - الرافعي والزيات - قد استطاع أن يشبع نهمي وتحرقي إلى قراءة قول شاف واف فيه.
فالشعر تعبير ذاتي ممتاز، مثل شاذة القاعدة والقانون تعبير غير مطرد، عارض غير مستديم.
وقد يعترض معترض على ذاتية الشعر، فنقول إن ذاتية الشعر ليست ذاتية خالصة، فإن فيها طرفاً من الموضوعية. . فكون الشعر خاصاً لا يمنعه أن يأخذ صفة العموم يوصفه(933/19)
العموم تعبيراً، والتعبير خروج من الذاتية إلى الموضوعية؛ وعلى قدر اقتدار الفنان على أن يضمن شعره جانبي الذاتية والموضوعية تكون عبقريته.
فطبيعة الشعر - حسب هذا التحليل - لا تسمح بأن يكون لغة حياة، أو لغة حوادث ومادة حوار. . فالمسرحية الشعرية مثلاً كائن فني يبتدئ في ثوب ممتاز، غريب على الواقعية، إلا أنه على قدر هذا نجاح هذا الكائن الغريب في تمثيل الحياة، يكون نجاح الفنان وتوفيقه.
إن الشعر ليحمل في طبيعته الذاتية قوى تأثيرية، يحتاج إليها تصوير الحياة من وجهة نظر الفنان. . فوزن القصيدة - وهو في صميمه مدى الجو النفسي لأعماق الفنان حين الخلق الفني - لن تسلك فيه الألفاظ عبثاً.
ليس البحر الشعري مجرد تقسيم مقطعي للجملة الشعرية، ولكنه زمن للتعبير الذي تحمله العبارة.
ليست القافية مجرد لفظة، ولكنها لمحة تكر على وحدة الموضوع. . وفي ذلك منتهى الشعور العميق بتكامل النفسية، أداها الشاعر الفنان على غير وعى منه؛ ولم يكن الشاعر الفنان قد قرأ تكامل منازعه النفسية في كتب (أدلر) أو غيره.
بل إن علم النفس هو الذي أستقصي قوانينه من عمق الغناء، والذي أراه سليماً أن الفنان الحق تعبير صاف، خالص من الشوائب، عن أعمق، وأصرح، وأصدق المشاعر الإنسانية.
هو الشخص الذي إذا أتيح لسائر أعضاء المجتمع الذي يملك (الميكروسكوب). . وما أصدق وأدق المثل الإنجليزي القديم الذي يقول
احمد مصطفى حافظ(933/20)
جولة في الأدب العربي
للأستاذ حمدي الحسيني
أدب الجاهلية أدب شخصي وجداني يمثل غرائز الفرد ومشاعره ووجدانه. ولا يمتد هذا التمثيل لأكثر من القبيلة التي ينتسب إليها الشاعر ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً بحكم النظام القبلي القائم على التعاون للدفاع عن النفس وحفظ الحياة.
والأدب الجاهلي يتميز عن الأدب العربي في العصور الأخرى التي تلته بالصدق والصراحة وهما الفضيلتان اللتان كان يتحلى بهما العربي في ذلك العهد، فإذا وصف الشاعر شجاعته أو شجاعة فارس من قبيلته لأنه إنما يصف شعوره الخاص وبشجاعته أو ما وقع تحت حسه وإدراكه من شجاعة ممدوحة. وإذا وصف نفسه أو قبيلته بالكرم فهو صادق كل الصدق في الوصف لأنه يصف حقيقة واقعة لا يعتريها شيء من التدليس أو الادعاء الكاذب. وإذا وصف نوعاً من الجمال فإنما يصف ما يحس به شعوره بهذا الجمال، وإذا باح بعواطفه في حبه فلا يخالجنا شك في أنه محب حقاً بالقدر الذي وصفه وباح به.
وأنك لترى في الأدب الجاهلي هذا النزوع القوى للمقاتلة وهى الغريزة التي أثارها في نفس العربي النظام القبلي وما يقتضيه هذا النظام من المزاحمة على اللقمة والجرعة وما إليهما من أهداف الرغبات الغريزية التي لا غنى عنها في هذه الحياة. وقد كانت هذه الغريزة عنها من الانفعالات والعواطف والنوازع، المنبع القوى للفضائل والأخلاق التي مثلها الأدب في ذلك العهد.
وقد ظل هذا الأدب ممثلاً للنفسية العربية الخالصة ومرآة تنعكس عليها هذه النفسية بقوتها وحرارتها وبساطتها فتبدو فضائلها ومساوئها ظاهرة واضحة، فترى الصدق والإخلاص والصراحة والعفة والشجاعة والمروءة والكرم، وترى الأنانية وسرعة الغضب وحدة المزاج والقسوة والانتقام.
ظل العرب في جاهليتهم كما ذكرنا، وظل أدبهم كذلك حتى اشرف عليهم وعلى العالم نور الإسلام القوى فانبهرت عيونهم من قوة النور، وانزعجت نفوسهم من شدة المفاجأة، أغمضوا عيونهم في أول الأمر لأنها اضعف من تحتمل هذا النور القوى، وانكمشوا عن الإسلام لأنه فوق ما تحتمل النفوس البسيطة الوادعة على رمال الصحراء، وفوق ما(933/21)
تستوعبه عقولهم الساذجة المحدودة بحدود تلك الحياة الضيقة، ولكن نور الإسلام قد غمرهم عمراً ونفذ إلى عيونهم ونفوسهم وعقولهم، وحولهم في بوتقته العظيمة المقدسة إلى مؤمنين بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فاطمأنت نفوسهم بالإيمان وامتلأت بالفضائل الإسلامية، فدفعهم الإيمان من جزيرتهم القاحلة الضيقة إلى العالم الواسع الزاهر هداة مبشرين وقادة فاتحين فتحولت من قول الشعر إلى تلاوة القرآن، ومن الفرقة الجاهلية إلى الوحدة الإسلامية ومن المفاخرة بالأحساب والأنساب إلى المفاخرة بالسبق في دخول الإسلام. ومازال العرب كذلك حتى بردت حرارة الإيمان في نفوسهم فبدت ميولهم الكامنة ورغباتهم المستورة تطل من عقولهم الباطنة حتى أصبحت الخلافة الإسلامية ملكاً عضوضاً، وانقسموا على أنفسهم ورجعوا إلى عصبياتهم النائمة فبعثوها بمفاخرتهم بالأحساب والأنساب وبالسبق للإسلام، أيضاً ليتخذوا من هذا وسائل لتعضيد الملك وتعزيز السلطان، فنشأ من هذا أدب سياسي ولكنه حزبي، فهناك علي بن أبي طالب وهناك معاوية بن أبي سفيان، وعزز كل منهما نظريته بالسيف والقلم واللسان، فكان النضال العنيف الذي أنتج هذا الأدب السياسي الحزبي، وأنتج هؤلاء الخوارج الذين تركوا هم الآخرون ظلهم واضحا على صفحة الأدب العربي، كما تركوا أثرهم قوياً على صفحة التاريخ الإسلامي، فأخذ الأدب العربي في عهد بني أمية هذا الاتجاه الذي عيناه ولكنه على كل حال كان أدباً قوياً، بصور العزة العربية لابسة ثوب الإسلام ناعمة ببلاغة القرآن، ولم يستتب الأمر لبني أمية حتى انقسموا في أمورهم الدنيوية وأصبح الأدب أداة لتسليتهم وتبرير سياستهم وتصرفاتهم الحزبية، ولكن كان في هذا الوقت للخوارج أدب يمثل قوة عقيدتهم وقوة دفاعهم عن هذه العقيدة رغم انصباب بني أمية عليهم ورغم القسوة التي عاملهم بها قواد بني أمية ولاسيما الحجاج بن يوسف الثقفي وستر أدب الخوارج القوى ضعف أدب الأمويين. فقد كنت تسمع لشاعر الخوارج أو قائدهم القطعة من الشعر التي تحمل من قوة الإيمان وقوة النزوع في سبيل هذا الإيمان ما يجعلك تحس بسر البطولة والعبقرية وهاك هذه القطعة من هذا الأدب الخارجي:
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لن تطاعي(933/22)
فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
وما حل العهد العباسي الفخم بسعة الملك وامتداد السلطان ووفرة الغنى وتلون الملاهي وتمدد اللذات حتى أصبح لأدب العربي أدب ضعف وخنوع، وانقياد وخضوع أدب خلاعة وتهتك وفجور، واستهتار وزندقة وإلحاد، فأصبحت ترى قصائد المدح الذليل تساق للأمراء والعظماء، ووصف النساء والغلمان والخمر يملأ مجالس الأدب، والمفاخرة بالزندقة والإلحاد والشعوبية تدور على الألسنة في كل مكان.
بينما كان المجتمع العباسي حافلاً بكل هذا كانت الحوادث تنسج لأكفان لهذا الملك الضخم فمدت فيه الفساد وامتدت أيدي النساء والمماليك والعبيد إلى صولجان الحكم فأخذوا يستعملونه أداة لإشباع شهواتهم، وإرضاء رغباتهم، فتزلزل الملك ثم انهدم. وأما الأدب في هذه الأيام الضاحكة الباكية الحافلة بالملذات والملاهي الاجتماعية، المترعة بالآلام والمصائب السياسية والحزبية، فقد كان صورة قائمة لحياة هذا المجتمع القائم يورث النظر إليه الهم والألم لولا ومضات من نور القوة كانت تلمع في سماء ذلك الأدب الحزين الباكي ثم تنطفئ، وكان مصدر هذه الومضات نفوس متألمة مما حل بالعرب والإسلام من النكبات كنفس المتنبي الكبيرة الثائرة التي انفجرت بالشعر القوى المدوي المجلجل في سماء الأدب، ونفس أبي فراس الشاعر البطل الذي أبلى في ميدان الشعر بلاءه في ميدان الحرب. بينما هذا كان يقع في الشرق كان ملك بني أمية في الغرب قويا قاهراً والأدب في ظله زاهياً زاهراً، حتى عصف الدهر على الملك العربي الإسلامي في الشرق والغرب، فانقرض ولم يبق للسلطنة العربية صولة، ولا للأدب العربي دولة وأصبح العرب أشتاتاً في كل أرض وأوزاعاً تحت كل سلطان، وأما الأدب فانمسخ انمساخاً حتى اصبح معه علالات النفوس الضعيفة والعقول الفارغة من الجدل اللغوي العقيم والنقاش البياني الفارغ، حتى جاء القرن التاسع عشر بما فيه من أحداث فبدأ الأدب العربي يتململ في مرقده ويتماثل للنهوض من كبوته.
حمدي الحسيني(933/23)
البند في الأدب العراقي
للأستاذ محمود العبطة
طلعت (الرسالة) الزاهرة في عددها (رقم: 924) بمقالة الأديب الصديق الأستاذ عبد اللطيف الشهابي عن الشاعر العراقي (ابن خلفة الحلي) وقد أستطرد الأستاذ الشهابي في ذكر حياة ابن الحلفة، وأدبه وشعره حتى وصل إلى ذكر (بنده) المشهور، وهنا قال (وأول من أخترع هذا النوع هم أهالي (الحويزة) وهو منوال غريب قد يخرج على أو زان الشعر وقد وقد يخالفها.) وقد رأيت في هذا بعض الشطط، فجئت في مقالي هذا لتصحيح أخطائها وإبانة حقيقتها. . . فما هو البند، ومن أخترعه، ومن برع وأجاد فيه؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة يحسن بنا الإشارة إلى خصائص وميزات الشعر العربي عموماً، والشعر العراقي منه على وجه الخصوص، لأن (البند) نوع من الشعر العربي، وإن امتاز بميزات وأتصف بصفات لا يشبهها الشعر العربي على وجه العموم، ثم إن هذا النوع من الشعر لم ينشأ إلا في العراق ولم يبرع فيه العراقيون. . . عرف نقاد الأدب من العرب الشعر بأنه (الكلام الموزون المقفى) وهذا التعريف البسيط يميز الشعر عن النثر، وهو تعريف شكلي، لأنه لم يذكر الميزات الرئيسية التي تخالف الشعر عن النثر، وهي مميزات الموسيقى والنغم وسحر العبارة، وهي بالإضافة إلى اتقاد الشعور وشبوب المخيلة. وقد استمسك الشعراء العرب بهذا التعريف، فنسجوا على منوال الشعراء القدماء بالأخذ بالوزن الواحد والقافية الواحدة على طريقة العمود الشعري، ولكن هذا الاستمساك، وهذا النسج، يحولان دون بلوغ الغاية والوصول إلى هدف، من حيث تصوير لواعج القلب، وخطرات الروح، لأنه يجعل قصارى الشاعر النظم على وزن واحد وقافية واحدة، دون تصوير شعوره الذي هو الهدف الأسمى من نظم الشعر، ثم لا ننسى التحشيات والجوازات والضرورات، التي تفسد الشعر، والتي جعلها الشاعر العربي وسيلة للتغلب على الوزن الواحد والقافية الواحدة، هذا بالرغم من مرونة الشعر العربي، واتساع محوره، وغزارة مفرداته وغنى ألفاظه، وبالرغم أيضاً من وجود (المجزومات) التي هي اختصار البحور الشعرية، ووجود (الأبحر الممتزجة) التي تتركب من الأجراء الخماسية والسباعية ومنها (بحر الطويل) و (بحر البسيط) كل هذه العوامل والأسباب من جهتها الموجبة والسالبة(933/24)
دفعت الموهوبين من شعراء (الأندلس) إلى اختراع (الموشحات) التي انتشرت من (الأندلس) في الخانقين، والتي أصبحت وسيلة جديدة للتعبير الشعري، ولكنه التعبير الحر المنطلق الذي لا يتقيد بوزن واحد ولا قافية واحدة، وإن اتصف بالوزن والقافية أيضاً! والذي فعله الأندلسيون قديماً فعله العراقيون في القرون المتأخرة، فأخذوا (البند) عن الشعر الفارسي وجعلوه وسيلة طريفة وطريقة جديدة للتعبير الشعري. والذي دفع الشعراء العراقيين إلى هذا الصنيع، فسبقوا إخوانهم في الأقطار العربية الأخرى، هو مجاورتهم لفارس ثم دراستهم لعيون الأدب الفارسي وروائعه الشعرية، إذ نبغ كثير من الشعراء العراقيين بنظم الشعر الفارسي إضافة إلى نبوغهم بنظمه بلغتهم القومية. ولا ننس في هذا المجال ميزة أخرى لا تقل أهمية عما ذكرنا، وهي ميزة الغناء، إذ (البند) يغني في مجالس الأنس والطرب، وصفة الغناء هذه كما دفعت العراقيين إلى اقتباس البند من الفرس؛ ودفعت الأندلسيين إلى اختراع (الموشحات) والغناء هو السبب الأول في اختراع (الكان ما كان) و (القوما) و (الزجل) الخ. . . وهذه كلها أفانين رائعة في الشعر العربي الشعبي فما هو البند إذاً في اللغة والشعر؟
جاء في (القاموس) البند: العلم الكبير وقال (الجوهري) (البند العلم الكبير فارسي معرب) وقال الشاعر القديم
(وأسيافنا تحت البنود الصواعق)
وقال الشاعر العراقي المرحوم جميل صدقي الزهاوي (إن كلمة البند فارسية الأصل وهي بمعنى العقد والربط) وذكر الزهاوي أيضاً (والبند الحلقة الوسطى بين النظم والنثر وهو مستعمل عند الفرس والترك) وجاء في كتاب (الملحق بالمعاجم العربية) لدوزى (البند مشتق من بنود الرمح وهي ألاعيب تكون بواسطة الرمح ومنها البنود الفكرية وتكون ملاعب بالبدع والفكر.) وجاء في المعجم الفارسي اللاتيني (فوليرز) (البند مشتق من (بتستند) ويراد به الرباط وكل ما يوصل به، ويطلق مجازاً على الخيال والفكر والملاحظة والتوقع.) وقال اللغوي الأب الكرملي (ومن معاني (البند) الحيلة والفن والتوصل إلى شيء باحتيال.) ومن معانيه أيضاً (البيت ينظم بعدة أبيات ويعاد وله قافية تختلف عن قوافي سائر البيوت وله رديف يسمى (بند ترجيع) و (تركيب) كما جاء في (البرهان القاطع).(933/25)
وجاء عن (الليث) (فلان كثير البنود كثير الحيل) وجاء في كتاب (حاشية التحفة) للشيخ عمر البصري أن البند (يطلق على المحابس التي تجعل بين حبات السبحة ليعلم بها على المحل الذي يقف عنده المسبح.) وقال القاضي الأديب محمد الهاشمي البغدادي (البند ضرب من الكلام المسجع الموزون أشبه بما نسميه في هذه الأيام بالشعر النثري، وبعض أساجيعه آتية على وزن بحر (الهزج).
يتلخص لنا منكل هذه التعاريف التي أوردها أهل اللغة والأدب من عرب ومستشرقين، ومن قدماء ومعاصرين أن لفظة (البند) فارسية معربة وأن معانيها العلم والعقد والربط ونوع من الألاعيب، وحيل الفكر. . وكل هذه المعاني المختلفة المنطبقة على هذه اللفظة لا تهمنا في هذا الموضوع، ولكن الذي يهمنا معنى الكلمة وهو هذا النوع الطريف من الشعر العربي، المأخوذ من الشعر الفارسي، والذي يأتي (كله) على بحر الهزج، وهو:
مفاعيلن مفاعيلنمفاعيلن مفاعيلن
ولا يأتي بعضه فحسب، على ما يقول الأستاذ الهاشمي، ولكن ضرب البيت الثاني منه يأتي مطرداً. . . وهنا بعد أن ذكرنا لك هذه النبذة عن منشأ البند وسبب وجوده وانفراد العراقيين، به لابد وأن نذكر لك نموذجا لتتذوق هذا النوع الشعري الطريف، وهذا النموذج هو وصف حصان عربي أصيل لحد شعراء (الحلة) المجهولين، قال:
أيا مرتقياً سرج جواد ... من جياد الخيل جماح
رباعيا من الصخر في ... غرته النجم إذا لاح
طويل العنق والساق ... سريع الخطو سباق
قصير الأذن والظهر ... وسيع العين والجهة والصدر
فلا الريح يباريه إذا غار ... ولا السهم يجاريه إذا سار
ولا الطير يحاذيه، وإن طار
ولا يسبق إن مر ... ولا يلحق إن فر
ولا يصعبه الحر ... ولا يتعبه السكر
والشاعر يمضي في بنده هذا واصفاً حصانه هذا الوصف الفني البليغ، حتى يصل (بغداد) من (الحلة)، فيمدح واليها سعيد باشا وكانت ولايته في بغداد سنة 1228 هجرية وهو كما(933/26)
مدح الوالي فقد مدح أدباء بغداد كالألوسي الكبير والأخرس والعمري. . . والبند العراقي، قد نبغ في نظمه شعراء كبار كثر أشهرهم - عدا ابن الخلفة - عبد الغفار الأخرس وحسين العشاري ومحمد سعيد الحلي واحمد الجصاني وعباس العبدلي ومير علي أبو طبيخ؛ وللأخير بند بديع فيه (طائرة) حمات بعض أقاربه إلي (لبنان)، وصفها خيالياً وهو في بلدته (النجف) قعيد السقم والمرض، ولعله في حياته لم يركب الطيارة، كشاعرنا الذي وصف الحصان بعد أن قطع به طريقه، بل ولعله لم يرقى في حياته الطيارة أيضاً! قال
أيها الراكب في طائرة تحتفل السفر ... وتطوى سبل الجو فما قادمة الصقر
بخفاق جناح ذات تصويب وتصعيد ... وألحان وتغريد
كأن البرق في حيز ومها حل ... فلا وعر يغاديها ولا سهل
ولا غرق إذا تسترق السمع ... فتأتي بنبأ قاطنة السبع
فسبحان الذي أنشأ منشيها فسواه ... وأسنى سبل العلم لذي الجهل فأغناه
أرح نفسك إن أصبحت في ضفة (لبنان) ... وروحها يرشف من لمسي حور وولدان
ففيها صفوة العيش ... ولا منكر للطيش، الخ
وبعد، فلعلني أفصحت في مقالي هذا عن معنى (البند) وعمن أقتبس، ومن أجال فيه، وأن مقتبسيه هم العراقيون لا أهل (الحويزة) على ما يقول الأستاذ الشهابي، وأنه نوع من الشعر ومن بحر (الهزج) وليس هو النثر الشعري، أو من السجع على ما يقول الكثيرون.
بغداد
محمود العبطة(933/27)
مقدمة لكتابه (عقيدتي)
برتر أند رسل
الفيلسوف الإنجليزي المعاصر
للأديب عبد الجليل السيد حسن
ذهن عجيب جبار، ينشد الوضوح في كل شيء لا يقبل إلا ما يرضاه عقله ويهديه إليه فكره، وتفكير حر إلى أبعد حدود الحرية. طالما أفزع الدولة بل العالم. وجريء غاية الجرأة يقول ما يعتقده حقا وما يراه صواباً، وإن أحفظ عليه نفوساً كثيرة وأثار على شخصه عاصفة هوجاء، أدت به إلى السجن وأفقدته كرسيه في الجامعة، ولكنه لم يبال، وعاطفة زاخرة جياشة بجانب هذا التفكير العقلي البحت؛ فهو لا يعيش في برجه العاجي لا صلة له بالواقع، فحينما يرى شباب أو ربا يساق إلى الحرب استجابة لرغبة حفنة تنتفع من الحرب وتعيش على (الموت)، يلقى نفسه رداء الفكر المجرد، لينزل بعاطفة قوية عنيفة، يحارب الحرب ويصرخ أن قفوا هذه المجزرة. وإنسان صبور جلد، لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار، لا يمل العمل، ولا ينقطع عن الترحال؛ جاب البلاد خابراً ودارساً من أوربا إلى أقصى الشرق إلى الصين، وجرب كل شيء جرب السجن بل جرب الموت!
هو الإرل برتر أند أرثر وليم رسل، ينحدر من عائلة من أشرف العائلات الإنجليزية , اشهرها وأوفرها حظاً من المشاركة في أمور الدولة السياسية. وهو ليس كريم النسب من جهة أبيه فقط؛ بل من جهة أمه كذلك، فأبوه ابن اللورد جون رسل الوزير البريطاني المشهور، وأمه بنت اللورد ستانلي أف الدرلي؛ فهو أرستقراطي النشأة طيب الأرومة.
وقد ولد في 18 مايو سنة 1872؛ وحينما بلغ من العمر سنتين ماتت أمه ولحق بها أبوه في العام التالي فترك يتيما وهو ابن ثلاث سنوات، ولم يتمكن أبوه ولا أمه من تلقينه عقيدتهما في الدين والحياة. وكانا أبوين عجيبين - وعلى غرراهما سينشأ الابن - من أحرار المفكرين؛ فأبوه كان يميل إلى المذهب (اللاأدري) وكان صاحب مزاج عجيب ورأي غريب نأى به عن الحياة السياسية التي أرادها، فقد رشح نفسه للبرلمان ودخله، ولكن لما عرف عنه م، آرائه الحرة كما في تحديد النسل وحقوق المرأة والمسيحية،(933/28)
ولاستغلال خصومه ذلك في التشنيع عليه لم يدخل البرلمان ثانية، ولم ينل من الحياة السياسية ما يبتغي من أمل. أضف إلى ذلك أنه كان خجولاً، ليس له من صفات السياسي شيء كثير، كانت صفاته أقرب إلى الدرس والعلم منها إلى السياسة، فكان تلميذاً ثم صديقاً (لجون استورات مل) الفيلسوف الإنجليزي المنطقي الاقتصادي المعروف، يؤمن بآرائه ويتعصب لها، وقد تخلى عن عقيدته المسيحية في سن الحادية والعشرين ورفض الذهاب إلى الكنيسة في يوم عيد الميلاد. وحينما مل السياسة أو بالأحرى ملته هي خصص نفسه لتأليف كتاب (تحليل العقيدة الدينية) نشر بعد وفاته، وقد كانت زوجه تشاركه هذه الآراء وقبل أن يموت أوصي بتربية برتر اند رسل وأخيه تربية حرة، ولا تقيد فيها بدين معين، ولا عقيدة من العقائد، فقد أرادهما أن يكونا أثنين من أحرار المفكرين مثل أبويهما؛ ولكن المحكمة أبطلت هذه الوصية استجابة لرجاء الجد، وأخذ برتر اند رسل إلى بيت أجداده سنة 1876.
لم يعرف رسل شيئاَ عن عقيدة أبويه بالطبع، إلا حينما بلغ الحادية والعشرين وحينذاك وجد أن وصية أبويه قد طبقت على رغم جهود الجدين، وأنه قد سار نفس المسار الذي سار فيه أبواه، بل وخيراً مما ساراً، وأثر فيه (مل) كما أثر فيهما تماماً ولنتابعه الآن في تطور حياته وعقيدته:
. . . أما جده فكان في الثالثة والثمانين ضعيفاً، لا يذكر الطفل إلا أنه كان يراه في محفته محمولاً أو في كتاب يقرأ، ومات بعد مجيء رسل إلى بيته بسنتين؛ ولذا لم يؤثر فيه جده تأثيراً يذكر أما جدته فهي صاحبة الدور الأول في حياته وتربيته، وكانت سيدة غريبة؛ فقد كانت من أتباع المذهب (البرسبيتارى) الإسكتلندي وكان في طبعها صرامة، تأخذ أبناءها وحفدتها بالتربية الدينية، وتكره النبيذ، وتنظر إلى الدخان على أنه خطيئة. وفي السبعين من عمرها تحولت إلى مذهب (الموحدين) وكانت تأخذ رسل كل أسبوع إلى الكنيسة وتلقنه أصول مذهب (الموحدين) في البيت وكانت تنزع إلى كره الاستعمار - الذي سيمته رسل فيما بعد أشت المقت - فكانت تؤيد الاستقلال الذاتي والحكم الداخلي لأيرلندا. وعلمت رسل أن يرى في الحرب بين الأفغان والزولو - التي حدثت حينما كان رسل في سن السابعة - شراً أي شر، وهناك واقعة يجدر بنا أن نشير أليها كمصريين؛ فإن هذه الجدة لم(933/29)
تعلق كثيراً على احتلال مصر لا لشيء إلا لأن احتلالها كان راجعاً إلى (جلادستون) وكانت هي معجبة به. ويقول رسل (أنه يذكر نقاشاً دار بينه وبين مربيته الألمانية فقد قالت له: إن الإنجليز إذا دخلوا مصر، فلن يخرجوا منها أبداً مهما أعطوا من وعود. ولكنه أصر عن عاطفة وطنية جياشة، على أن الإنجليز لا يخالفون وعودهم قط. ثم قال: وكان ذلك منذ سبعين سنة، ومازالوا فيها ولم يبرحوها) وهذا قول نرويه دون تعليق، ولتضع أنت النقط فوق الحروف كما يقولون.
لم يلتق رسل تربيته الأولى في المدارس، فلم يبعث به إلى المدرسة، بل أحضر إليه المدرسون والمربيات. وقد أجاد على أيدي هؤلاء المدرسين، اللغة الفرنسية والألمانية إجادة تامة، وكثيراً ما كان يقلب وينقب في مكتبة جده التي كانت حجرة دراسته كما يقول.
وفي سن الحادية عشرة حدث له حادث أثر في حياته كل التأثير، أو هو الحادث الذي وجه حياته كلها، والذي أكتشف فيه رسل ما يوافق هواه وهذا الحادث: هو أن أخاه الأكبر - وكان يكبر رسل بسبع سنين - أخذ يعلمه هندسة (إقليدس) - وكتاب إقليدس كان أفضل كتاب في الهندسة - وقد سر رسل بذلك سروراً عظيماً؛ لأنهم قالوا له: إن إقليدس يبرهن على كل ما يقول؛ ولكن حينما بدأ في تعلمه، وجده يبدأ بالبديهيات التي يسلم بها بدون برهان، فما كان من هذا الذهن الذي ركب تركيباً، لا نقول رياضياً، بل تركيباً يكاد يعلو على مستوى الرياضي، إلا أن يشك في البديهيات، ولا يقتنع بها ولكن أخاه ولكن أخبره أن لا فائدة إذن من تعلم الرياضة إذا لم يسلم بهذه البديهيات، فسلم بها مكرهاً. ومع ذلك فقد وجد في الرياضة لذة لأنها أقرب الحقائق إلى الثبات، ولكنها ليست مع ذلك ثابتة، ومن هذا الحين أخذ يتعمق في درس الرياضيات التي ستؤديه إلى منطقه التحليلي الذي سيفتح به المشاكل الفلسفية.
فها هو ذا عقل يشك في كل شيء حتى في الرياضيات، ويطلب لكل شيء برهاناً حتى البديهيات!
واستمر الصبي الصغير يتربى على أيدي المربيات الألمانيات والسويسريات، وأخيراً، على أيدي المدرسين الإنجليز. وحينما بلغ الرابعة عشرة من عمره، أخذ يديم النظر والتفكير في أمر الدين، ويتساءل لماذا هو مسيحي؟ بل لماذا يؤمن بالدين؟ وأين البرهان(933/30)
الذي يجعلني أؤمن به؟ وأخذ يطيل التفكير في أمر الإدارة الحرة والخلود، والله. أما الإدارة الحرة فرفضها لأنه اعتقد أن حركات الأحياء كلها تسير تماماً بنفس القوانين الديناميكية التي تسير بها المادة، وحينئذ فلا وجه هناك للإدارة الحرة؛ ثم نبذ الاعتقاد في الخلود، ولكنه ظل مستمراً في الإيمان بالله، لأن دليل العلة الأولى ظل حافظاً مركزه أمامه.
وفي هذه الأثناء لم يكن في طوقه أن يحدث أحداً من أقاربه بآرائه هذه، وكان يكتبها في يوميات بالحروف اليونانية حتى لا يستطيع أحد أن يقرأها. ولم يستطيع أن يتحدث مع أحد في مشاكله هذه إلا مع مدرس (لا أدرى) كان يعلمه، ولكنه سرعان ما طرد خوفا من أن يؤثر فيه، وظل يافعنا هذا يتألم أشد الألم، ويعاني أقسى صنوف القلق والشقاء، وهو يرى عقيدته الدينية تنهار لبنة إثر لبنة، وقد عزا في هذه الأثناء شقاءه إلى فقده العقيدة الدينية، وظل ثلاث سنوات يفكر في أمر الدين، وقد تخلى عن عقيدته في الخلود، ولكنه ما زال مؤمنا بالله إلى أن كان ووقعت يده - وهو يومئذ في الثامنة عشرة وقبل أن يلحق بكامبردج بقليل - على الترجمة الذاتية التي كتبها (جون استورات مل) وقرأ فيها هذه الجملة (لقد علمني أن السؤال: من خلقني؟ لا يمكن الإجابة عنه لأنه يوحي في الحال بسؤال آخر وهو: من خلق الله؟ (ومنذ هذه اللحظة تخلى رسل عن إيمانه بالعلة الأولى؛ ولم يكن له حق في ذلك، إذ أنه قاس الحاضر على الغائب، والمخلوق بالخالق، إذ أن الله الذي خلق لا ينطبق عليه ما خلق، لأنه هو الذي رسم للمخلوق خلقته، وأجرى عليه قوانينه، فلا وجه لفرن المخلوق بخالقه، ولكنه نوع من تداعي المعاني الساذج الذي لا محل له في هذا المكان هو الذي يوحي بسؤال: من خلق الله؟
وظل رسل يقرأ بشغف ونهم، ويقرأ الشعر والتاريخ، يقرأ (لتنسون) و (بيرون) و (شلي) و (كارليل) ولكن الذي أغرم وأعجب به هو جون أستورات مل الذي وافق هواه، والذي يعتبره رسل أباه الروحي وقد قرأ كل مؤلفاته وغلق عليها.
وفي أكتوبر سنة1890 دخل رسل كلية (ترنتي) بجامعة كامبردج وهناك وجد عالماً رحباً وقوماً يحدثهم فيما يهمه من مشاكل فيستجيبون له ويستمعون لقوله، وتعرف على نخبة من الزملاء من بينهم الذي يهتم علاوة على دراسته المدرسية بالشعر أو الفلسفة أو السياسة أو(933/31)
الأخلاق، وكثيراً ما كانوا يقضون الأمسيات أيام السبت يتناقشون إلى الهزيع الأخر من الليل، ثم يجتمعون لتناول طعام الإفطار يوم الأحد، ويقضون بقية اليوم سائرين يتناقشون ويتحاورن ولقد كان من بين هؤلاء الأصدقاء، فيما بعد أعلاماً يعرفهم العالم الإنجليزي؛ إلا أن أشهر هؤلاء الصحاب هو الفيلسوف الرياضي الإنجليزي (هوايت هد) الذي كان يومئذ زميلاً بالكلية ثم محاضراً، ولم تتوطد الصداقة بينه وبين رسل إلا فيما بعد حيث سيشتركان في إخراج كتاب في فلسفة الرياضة، يعد في طليعة الكتب الهامة التي خرجت في القرن العشرين وكان في هذه الأثناء متهما بدارسة الرياضة ثم قرأ (هجل) وآمن به.
وكان رسل خجولاً، أول أمره منطوياً على نفسه، ولكنه ما لبث أن تفوق على أقرانه وعرف بذكائه وحصل على درجته في الفلسفة بامتياز وأنتخب (زميلاً) في كليته في خريف 1895؛ إلا أنه كان قد ترك كامبردج ولحق بالسفارة البريطانية في باريس سنة 1894 ومكث هناك بضعة شهور. وفي ديسمبر سنة 1894 تزوج رسل زوجته الأولى وذهب هو وزوجته إلى برلين، وقضيا هناك عدة شهور درس خلالها رسل الديمقراطية الاجتماعية الألمانية، ثم قفل إلى إنجلترا حيث سكن هو وزوجته منزلاً صغيراً في الريف، واعتكف في صومعته هذه على دراسة الفلسفة. وفي سنة 1900 زار مع صديقه (الفردهوايت هد) المجمع الرياضي بباريس وقابل هناك تلاميذ الرياضي الإيطالي المشهور (بيانو) وكان لذلك اكبر الأثر على رسل، إذ أنه أخذ من فوره يدرس مؤلفات بيانو، ولم يمض كثير وقت حتى أخرج أول كتاب مهم له وهو (مبادئ الرياضيات) سنة 1903، وشرح هو وهوايت هد في تأليف كتابهما المشترك المشهور (مبادئ الرياضة) وظهر الجزء الأول منه سنة 1910.
وفي تلك الأثناء كان يعيش غاية في البساطة، ويعمل عملاً دائباً ويرهق نفسه بكثرة الدراسة، وقد انتقل هو وزوجته إلى منزل صغير بجوار أكسفورد، وكان بين الحين والحين يذهب إلى الخارج، وبدأ يشارك رسل في الشؤون العامة ويتخلى بعض الشيء عن دراسته الفلسفية، ليلقي بنفسه في أتون السياسة، وينزل من برجه العاجي ليخوض غمار الحياة.
وفي سنة 1910 اختير محاضراً في كليته في جامعة كامبردج وما أن تلبد الجو بالغيوم،(933/32)
وترقب الناس هبوب عاصفة حرب عالمية، حتى عاودت رسل روح أجداده فأندفع إلى المشاركة في شؤون السياسة، ولم يستطع أن يستمر هادئاً في برجه العاجي بعد الآن وهو يرى بعيني رأسه شباب أوربا يجمع ليساق إلى المجزرة فرمي بنفسه بين عجاج المعركة، ووقف وحده في الميدان - إلا من عدة أنصار قليلين - ينادى بكل قوته أن قفوا هذه الوحشية والبربرية، ولا تشعلوا نار الحرب، وحمل رسل لواء الحرب ضد الحرب.
وفي تلك الأثناء ضاقت به الحكومة وغرمته مائة جنيه لأنه كان قد كتب كتيباً يصف فيه المسيحي الأول ذا الضمير الحي الذي يعارض المسيحية، ولم يكن رسل يملك ما يؤدي به هذه الغرامة، فبيعت مكتبته وفاء لهذا الدين، واشتراها أحد الأصدقاء، ولكن قد فقدت كتب قيمة من بين ما كانت تحويه مكتبته من رائع المؤلفات. وكانت الطامة الكبرى حين منعته كليته من أن يحاضر بها، ولكن جامعة هارفارد بعثت إليه تطلبه، بيد أن الحكومة البريطانية رفضت أن تعطيه تصريحاً بالسفر، فما كان منه إلا أن عزم على أن يلقي سلسلة من المحاضرات العامة وقد نشرت بعد ذلك تحت عنوات مثل سياسية سنة 1918 ولكن السلطات الحربية منعته من إلقاء محاضرته. وفي سنة 1918 حكم عليه بالسجن ستة أشهر لأنه كان قد كتب مقالة في السياسة، وفي السجن كتب كتابه القيم (مقدمة إلى الفلسفة الرياضية).
وقد نظم له بعض الأصدقاء اكتتاباً لإلقاء محاضرات في لندن، وكان نتيجة لهذه المحاضرات كتابه (تحليل العقل) سنة1921 وفي سنة1920 كتب كتابه عن البلشفية بعد أن زار روسيا زيارة قصيرة.
وفي خريف سنة1920 ذهب رسل إلى الصين محاضراً في جامعة بكين في الفلسفة، وفي الربيع أصيب بذات الرئة وأستمر ثلاثة أسابيع في سياق الموت حتى أن جرائد يابانية متسرعة أعلنت نبأ وفاته، وكلن عناية الأطباء الألمان المتصلة أنقذت حياته من بعد موت محقق، وحينما عاد في سنة 1921 تزوج زوجته الثانية (دور بلاك) وظلا يعيشان معاً ست سنوات في منزل صغير في أشهر الشتاء في ولم تكن هناك من سبيل إلى كسب عيشه إلا الصحافة وإلقاء المحاضرات، وكتابة الكتب الشعبية مثل (ألف باء الذرة) 1923 و (ألف باء النسبية 1925 وفي (التربية) 1926. أما أشهر الصيف التي كان يقضيها(933/33)
قريباً من فقد قصرها على العمل الجدي والدراسات الشاقة مثل الطبعة الثانية من (مبادئ الرياضة) وكتابه (تحليل المادة) 1927 وكتابه (على هامش الفلسفة) 1928و (التصوف والمنطق) 1929 و (الزواج والأخلاق) 1929 وقد ذهب إلى الولايات المتحدة ليحاضر هناك في سنة 1924وسنة 1927، وفي سنة 1927 أنشأ هو وزوجته مدرسة لتربية الأطفال، وفي سنة 1940 قوبل منحه كرسياً في سيتي كولج بنيويورك بعاصفة قوية من المعارضة لما عرف عنه من آراء أخلاقية متطرفة، وقد أبطل تقليده هذا المنصب بواسطة المحكمة، وقد يعزى أسلوب رسل المشرق المعجب، إلى أنه لم يقاس ولم يخضع في تعليمه لأسلوب التعليم (الكلاسيكي) في المدارس العامة، ولكن ذكاءه ولقانته وحبه للحقيقة وقدرته على العمل الشاق يبدو أنها فطرية في بعضها وراثية في كثير منه.
القاهرة
عبد الجليل السيد حسن(933/34)
رِسَالَة الشِعْر
كفارة الدموع
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
الإهداء. . .
(زينب) يا تسبيحة الطيوب ... يا همسة الحبيب للحبيب
ويا خشوع الحب في القلوب
هواك لي، كفارة الذنوب ... عطر أوتاري، وندى كوبي
(زينب) يا عطر الهوى الحبيب
يا فرحة في قلبي الكئيب
وواحة في عالمي الجديب
رحماك، هل تصغين للوجيب ... من شعري المخنوق بالنحيب
كفاك ما نكأت من ندوبي ... وما جني الجمال من تعذيبي
فنضري الحياة للغريب
ونوري ماأظلم من دروبي
يا فجر حب ليس بالكذوب
هي الخمر ضاحكة تسكب ... تلالاً كما لألأ الكوكب
ينور في الكأس ياقوتها ... فينداح من نورها الغيهب
وتعبق في الحان أنفاسها ... كما يعبق النرجس الطيب
إذا شعشعت أطلعت أنجماً ... من الدر أضواؤه تخلب
وحف بها حبب راقص ... شبيه من الماس أويقرب
يطوق من جيدها عاطلاً ... تزان به كلما تسكب
كعقد من الدرر الغاليات ... تحلت به كاعب ربرب
ثكلت شبابي الطري الإهاب ... إذا أنا للكأس لا أطرب
ولم تنتفض في عروق الدماء ... ولم يرتعش جسدي المتعب(933/35)
ولم أحتفل بالكؤوس الدهاق ... كما يحتفي بالصغار الأب
ثكلت شبابي، أأستافها ... عبيرا يفوح ولا أشرب
وأبصرها فوق ثغر النديم ... شهابا وسرعان مايغرب
يقبلها - يا لبؤس الجمال - ... قبيح، ويحضنها أشيب
تطوف ويتعب عشاقها ... من السهد ليلا ولا تتعب
عروس تتيه الخاطبين ... وتأبى، ومن عجب، ثيب
تقهقه إما تميل الرءوس ... وتسخر من عاشق ينحب
تدور على فتية مترفين ... صباح، يزان بهم ملعب
كما دار في أفقه مشرق ... من النجم أطلعه المغرب
أأندب عمراً كنبع يفيض ... بأفراحه وهو لا ينضب؟!
أأندب؟ يا شؤم هذي الحياة ... إذا كان مثلي من يندب
وأبي صداح هذي الرياض ... وغريدها الباسم المطرب
سأضحك عمري لا أنحب ... وللموت، للقبر من ينحب
على أي شيء أذيل الدموع ... وأعمر جفني أوأحلب
وفيم البكاء على مقفر ... من الحلم هل يمرع السبسب؟!
أأبكي على ما مل ضائع ... تولى وقد لفه غيهب؟!
وأنسى غداً وهو فجر يلوح ... لمن بات في ليله يرقب
سأغلي دموعي وإن ضامني ... زمان بأصحابه قلب
أجوع وهذي ثمار الفتون ... تصيح على الجائعين أنهبوا؟
وأظما وسلسال نبع الجمال ... يغص به كل من يشرب؟
عرائس من ناضجات الجنى ... ينوء بها الثمر الطيب
تدلت عناقيدها واستوت ... على سوقها فتنة تخلب
يجن ببهجتها الناظرون ... ويبهرهم حسنها المغرب
تمنيت لو كنت ناطورها ... وهيهات هيهات ماأطلب
دمي وشعوري وزهو الصبا ... إلي قدسها بعض ما أو هب(933/36)
أطوف بمحرابها خاشعا ... وأهفوا إليها ولا أقرب
لمن فجر الله هذي العيون ... إذا أنا عن وردها أنكب
مآرب كم حققت في الخيال ... وفي الصحو ما حقق المأرب
ولو وهب الحسن لي قلبه ... لأفنيت عمري له أدأب
تباركت يا رب، هذا الجمال ... صداك، إليك به، أقرب
عبدتك فيه ولكنه ... جفاني، وخلفني أندب
وأو صد دوني بستانه ... كأني في ساحة مذاب
أأطرد عن هيكل لم يزل ... فؤادي على بابه يشعب؟!
أحبي جرم، وهبني أسأت ... أما آن أن يصفح المعتب؟
رضيت هواني في عزه ... وكل عذابي به يعذب
وأني فراشة نور الجمال ... وهيهات عن ناره أهرب
أأهوى الجمال وأشقى به ... ولو أحظ يوما بما أطلب
كأن لم أذوب على جمره ... فؤاداً بأشواقه بلهب
ولم أنفت الشعر ملء لحياة ... أغاريد أصداؤها تطرب
ولم أرسل المرقصات الحسان ... سواحر حسادها تتعب
علام أذاد، ويحضى به ... سواي وقد ضاق بي المذهب
وأتي هزار الهوى والشباب ... وقيثارة المبدع المطرب
وقد فجر الحسن في مهجتي ... معينا من اللحن لا ينضب
سألتك بالسحر في الفاترات ... عيون الظباء لها تنسب
وبالجسد الرخص إما أنثني ... وما على وقعه المنكب
وبالنافحات عبير الصبا ... ونواهد قد زفها الموكب
وبالمرسلات نجاوى القلوب ... أحاديث يشتاقها المعجب
ألا واحة في هجير الحياة ... يموت بها الظمأ الملهب
أفيء إلى ظلها والهاً ... فأنسى خطوبا بها أنصت
وأخلع عن عاتق الهموم ... وما ينشر الدهر أويسحب(933/37)
خلي الفؤاد من المؤلمات ... فلا ما يسيء وما يتعب
كطفل سعيد بأعوامه ... وآماله أبداً لمعب
وقد واكبته طيوف الهنا ... وهش له الزمن الطيب
ولا كدرت صفو أحلامه ... ليال ولا رنق المشرب
حياتي، بعد جفاف الفؤاد ... فراغ يشابهه السبسب
يموت به المرح المستطاب ... ويحيا به العدم المرعب
ويستيقظ اليأس من جوعه ... ويصرخ جرح الظما الملهب
فلا اللهو رف على روضه ... ولا طاف في أفقه كوكب
لقد غاض فيه معين الشباب ... وجف به روضه المعشب
يمر عليه الربيع الضحوك ... فيفزع منه ولا يقرب
كمقبرة، ما لأصدائها ... مجيب، ولا بومها ينعب
جفتها الظنون فلا هاجس ... يمر، ولا شبح يسرب
سوى الدور، جال بأنحائها ... ونام على بابها العقرب
فؤادي بعد جفاء الحبيب ... يباب، وهل يمرح المجدب
وكيف ستزكو الرياض التي ... جفاها غمام الهوى الصيب
عزاءك يا قلب بالذكريات ... فمنهن قوتك والمشرب
وصبرا إذا ملك الأقربون ... وخان هواك الذي يحدب
وداوجراحات حب عفا ... وأقفر روض له مخصب
وكن حذرا من هواك الجديد ... فبرق سماء الهوى خلب
ألم تبله في قلوب الحسان ... يطوف وسرعان ما يذهب
فلا تخدعنك الوعود العذاب ... فكم مدمع بالهوى يكذب
شبابي، يحن إلى روضة ... معطرة طيرها يصخب
أجوس بأرباضها حالماً ... وتحت أماليدها ألعب
أو دع فيها لغوب الحياة ... ومن فيض ينبوعها أشرب
مللت طوافي وراء السراب ... وخلفي وهمي لا يتعب(933/38)
أو رح وأغدوا بلا ما مل ... ويا ويح من ليله يحطب
فأين (هنائي) أين التي ... على جمر أشواقها ألهب
فيا عدمي أنت أنت المنى ... ويا عدمي أنت لي ما رب
ويا أيها المترفون اللطاف ... إلى، إلى ولا ترهبوا
فلست أهاب انتشار الحديث ... وإن أو لوه وان أطنبوا
أسيان من خاض هوج الخطوب ... شجاعاً إلى موته يركب
ومن عاش في رفرف حالماً ... يخاف، ومن ظله يهرب
(أزينب) يا سحر هذي الحروف ... إذا ينطق القلب يا زينب
أيا كوكباً في سماء الخيال ... ينير وسرعان ما يغرب
مررت بقلبي مرور النسيم ... فخلفت فيه هوى ينحب
تملكني اليأس هيا أشرقي ... على فقد لغني الغيهب
أناديك، وهل تسمعين النداء ... وقد بح صوتي يا زينب
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري(933/39)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
استقبال عضوين في المجمع
أحتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي باستقبال عضوين جديدين، هما الأستاذ عبد الحميد العبادي بك والدكتور أحمد عمار، فألقي الأستاذ إبراهيم مصطفى بك كلمة المجمع في استقبال العبادي بك، فبدأ بالحديث عن الشاب عبد الحميد العبادي الذي كان يلقاه في الجامعة الأهلية القديمة، وقال إن الشباب الذين كانوا يلتقون في الدراسة بتلك الجامعة، إما ممن تلقوا ثقافة إسلامية عربية بحتة، وهؤلاء كانوا يدلون بمعرفتهم للغة العربية وقواعدها وأدبها، أو ممن في المدارس المدينة؛ وهؤلاء كانوا يزهون بتعلم اللغات الأجنبية، وكان كل من الفريقين يسعى إلى التكمل بالثقافة التي تنقصه. وكان عبد الحميد العبادي من الفريق الثاني، وقد جد في تحصيل اللغة العربية، وحفظ الأشعار، وبلغ جده في هذا السبيل أن حفظ القرآن الكريم. ثم تحدث الأستاذ إبراهيم مصطفى بك عن العبادي في حياته العملية منذ أن بدأها مدرسا بمدرسة ثانوية حتى صار عميدا لكلية الآداب بجامعة فاروق الأول وأستاذا للتاريخ الإسلامي بها، وكان فيما بين ذلك أستاذ للتاريخ الإسلامي بدار العلوم، وكانت دراسة التاريخ في هذه المدرسة تتصل باللغة العربية وأدبها وبالشريعة الإسلامية وتعني بالموجات الاجتماعية في العصور الإسلامية فأهتم العبادي بك ذلك ودرسه وأداه أحسن أداء.
ثم قال إن العبادي مدرسة وحده في التاريخ؛ يتخذ المنهج الحديث ويعتمد على النص القديم، وهو ضنين بالنشر وقليل التأليف على شدة الحاجة إلى رأيه وانتظار الباحثين كلمته على أن الأستاذ إبراهيم بك لم يطل في الحديث عن العبادي بك من ناحية اختصاصه بالتاريخ وجهوده فيه، وعلل ذلك بأن المجمع أختار لاستقباله نحويا (يعني نفسه) لا مؤرخاً، وأستطرد من هذا إلى قدرة العبادي بك وبراعته في النحو مستدلا على ذلك بما جاء في تحقيقه كتاب (نقد النثر) لقدامة، إذ يناقش كثيرا من المسائل على أساس الإعراب.
ثم أعقب ذلك الأستاذ عبد الحميد العبادي، فعبر عن شكره أعضاء المجمع وحياهم تحية طيبة، ثم قال إن حلوله محل المرحوم الدكتور محمد شرف بك في عضوية المجمع يعد(933/40)
فرصة للحديث عن الطب عند العرب، وبدأ هذا البحث بقوله إن العرب عرفوا الطب علماً إنسانياً بعيداً عن الهوى والغرض من أي نوع خالصاً من الاعتبارات الدينية والجنسية وما إليها، يدل على ذلك اتخاذ الخلفاء أطباء ومترجمين لعلوم الطب من مختلف الديانات والأجناس. وتحدث عن طائفة من الأطباء والمؤلفين في الطب، وبين أتساع اللغة العربية لمصطلحات الطب في القديم، وتحدث عن الجهود الموفقة لتي بذلت، أوائل عصر النهضة العلمية المصرية، في وضع المصطلحات الطبية، وتأليف معاجم في ذلك باللغة العربية، حتى بلغ الحديث عن معجم الدكتور شرف بك فبين خصائصه وأغراضه وأوجز تاريخ حياة سلفه وإبراز جهوده العلمية.
وكانت كلمة المجمع في استقبال الدكتور أحمد عمار للدكتور منصور فهمي باشا فأعتذر في أول كلمته عما عساه يقع في كلامه من أخطاء نحوية لأنه سيرتجل. . على أن الكلام استقام له فلم أسمع منه خطأ إلا مرة واحدة عندما قال (لست لغوى) وما كنت أعني بهذا لولا اعتذاره. . قال الدكتور منصور باشا: لست طبيباً ولست لغوياً حتى أستطيع أن أبرز مكانة الدكتور عمار في الطب واللغة. والدكتور منصور فهمي باشا من أساتذة الفلسفة فلا بد أن يجنح إليها في حديثه عن الدكتور عمار، قال: فلا أقل من التحدث عن ناحية أحسها في الدكتور عمار، وهي العصبية في اللغة التي تعتمد على نوع من الحب هو في نظري اللغة التي تعتمد على نوع من الحب هو في نظري ضرب من ضروب القومية الوطنية. وأفاض متفلسفاً في ماهية هذه الصبية وكيف نشأت حتى وصل إلى هبة من الله.
وأوجز الدكتور منصور باشا تاريخ حياة الدكتور عمار منذ حفظ القرآن الكريم في المكتب بالقرية، ذاهباً إلى أن هذا اليوم الذي يستقبل فيه المجمع عضوين حفظاً القرآن الكريم هو يوم البركة التي حلت به. .
ومما قاله أن الدكتور عمار وجه إلى الدراسة العلمية الطبية على رغم شغفه باللغة والأدب، فبرع فيها براعته في اللغة والأدب، وهذا يجلنا نعود إلى تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، إذ كان يقال إن العالم أو الطبيب فلان ثبت في اللغة، فالعضو الجديد يذكرنا بذلك الماضي ويحملنا على الأمل في أن يستفيد المجمع من هؤلاء العلماء الذين يتذوقون اللغة العربية.(933/41)
وبعد ذلك وقف الدكتور أحمد عمار فألقي كلمته، وكان يعني فيها بالإعراب وصحة النطق عناية ظاهرة إلى مافي أسلوبه من قوة وجزالة. شكر المجمع على اختياره واستقباله، وأعرب عن شعوره المتواضع إزاء اختياره خلفاً للمغفور له الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وتحدث عن سلفه بما هو أهله من الإكبار وخص فنه في كتابة المقالة قائلاً إن مقالات المازني مجد أدبي عريق. واقترح الدكتور عمار في - ختام كلمته - على المجمع أن ينسج في ترجمة المصطلحات الطبية المنحوتة على نفس المنوال، أي يترجمها إلى كلمة منحوتة من كلمات غربية ذات دلالة كدلالة الكلمات التي نحت منها الأصل، ووعد بأن يبسط هذا المقترح في بحث جديد.
إقرار كلمات محدثة:
أتينا في الأسبوع الماضي بأربعة وعشرين لفظاً من الألفاظ التي أستعملها المحدثون في معان لم تسمع عن العرب الأولين، وأقرها أخيراً مجمع فؤاد الأول للغة العربية بعد أن عرضها عليه الأستاذ أحمد حسن الزيات طبقاً لما أرتاه من حق المحدثين في الوضع اللغوي وقبول السماع منهم وهو حق بعد إقراره، كما تعد الألفاظ التي أقرت، حدثاً في تاريخ اللغة العربية، وطالما اشتجرت الأفلام في هذه الألفاظ، وطالما حمي الوطيس بين الناقدين والمنقودين بشأنها وقد هدأت تلك الحرب ثم جاء إقرار المجمع بمثابة عقد الصلح فوضحت الحدود اللغوية وصار لكل كلمة اعتبارها الذي لا يجوز الطعن فيه وهاك بقية تلك الكلمات:
25 - الثقافة: مصدر ثقف صار حاذقاً والمحدثون يستعملونها اسماً من التثقيف وهو التعليم والتهذيب، ومنه قول القائل (ولولا تثقيفك وتوفيقك لما كنت شيئاً) فهي عندهم تقابل لفظ عند الفرنج.
26 - ينقصه كذا - يستعمل المحدثون (بنقصه) بمعنى يعوزه، فيقولون هو عالم ولكن تنقصه التجارب، والعرب يقولون: نقصت الشيء أذهبت منه شيئا بعد تمامه.
27 - المقاولة والمقاول: قاوله في أمره مقاولة: فاوضه وجادله: ومن المفاوضة والمجادلة أطلق المحدثون المقاولة على عملية يتعهد فيها طرف بتنفيذ مشروع لقاء أجر معين يؤديه الطرف الآخر والمتعهد بالتنفيذ مقاول.(933/42)
28 - الإخراج والمخرج: يقولون أخرج الرواية: أظهرها بالوسائل الفنية على المسرح أوالشاشة فهو مخرج،
29 - الحماس: سمع من المحدثين استعمال الحماس بدون تاه والمسموع عن العرب الحماسة.
30 - المران: كذلك يقول المحدثون (مران) بدون تاء، والمسموع عن العرب مرانة.
31 - الرصيف: يستعمل المحدثون الرصيف بمعنى الإفريز فيقولون رصيف المحطة الثاني مثلاً، والرصيف في اللغة ضم الحجارة بعضها إلى بعض ثبات ونظام وإحكام، وعمل رصيف؛ محكم رصين ومن المادة أن يكون رصف الشارع أوالمحطة كذلك.
32 - الجرد: بالفتح بقية المال، والمولودون يستعملونه في إحصاء ما في المخزن أو الحانوت من البضائع وقيمها، وقيمها.
33 - التصفية: صفي الماء نقاه، وقد استعار المحدثون التصفية لتنقيح الحساب وتحرير الدين وحل الشركة وتأدية ديونها وتفريق مابقي من أموالها على أصحابها وهي ترجمة لكلمة في الفرنسية والإنجليزية.
34 - السباكة والسباك: سبك الفضة ونحوها أذابها وأفرغها قالب وقد توسع المحدثون في هذا المعنى فأطلقوا السبك على معالجة المعادن المختلفة بقطعها ووصلها وإصلاحها واشتقوا منها السباكة للحرفة والسباك للصانع.
35 - الجو: العرب يجمعون الجو على جواء والمحدثون يجمعونه على أجواء.
36 - بائس: يجمعه العرب على بائسين، ويجمعه المحدثون على بؤساء.
37 - زهر: يجمعه العرب على أزهار، ويجمعه المولودون كذلك على زهور.
38 - الكوز: يطلقها المحدثون على مطر الذرة، ولم يسمع على العرب.
39 - الجسر: ما يعبر عليه كالقنطرة ونحوها، وقد توسع فيه المحدثون فأطلقوه على ضفة الترعة وعلى الحد الفاصل بين أرضين وإتماماً للفائدة نورد في ما يلي مما أحيل إلى لجنة الأصول لبحثه ثم نتبعه بذكر ما رفض.
1 - السمك والسميك: السمك بالفتح الارتفاع ومن أعلى البيت إلى أسفله والثخن مطلقاً ويشتقون منه السميك بمعنى الثخين.(933/43)
2 - المتحف: القياس (متحف) ضم الميم والمحدثون يؤثرون الفتح للتخفيف،
3 - الشبهة: الشهية مؤنث الشهي والشهي المشتهى والشهوان، يقال رجل شهي أي شهوان، وشيء شهي أي لذيذ، والمحدثون يستعملون الشهية بمعنى الشهوة، ويخصصونها للرغبة في الطعام، فيقولون أصبح موعوكاً لا يجد الشهية للطعام، أما الشهوة وهي حركة النفس طالباً للملائم فقلما تستعمل في هذا المعنى.
4 - الصدفة: يستعملها المحدثون اسم مصدر بمعنى المصادفة ولم تسمع عن العرب.
5 - التقاوي: يستعملها المحدثون في الحبوب التي تبذر النبات، والعرب لا يفهمون منها إلا تقاوي الشركاء في المتاع تزيدهم فيه.
6 - موس: وجمعه أمواس: يطلقه المحدثون - من باب التخفيف - على الموس وجمعه مواسي.
7 - قراءة الأعداد المركبة مع المائة فما فوق: يقرأ العرب الأعداد المركبة مع المائة فما فوق من اليمين إلى الشمال فيقولون نحن في سنة إحدى وخمسين وتسعمائة وألف والمحدثون يقرءونها من الشمال إلى اليمن تأثراً بلغات الغرب فيقولون نحن في سنة ألف وتسعمائة وإحدى وخمسين.
8 - غيور: العرب يجمعون غيوراً على غير والمحدثون يجمعونه على غيورين.
أما الأربعة الألفاظ التي رفضت فهي:
1 - أمجاد الأمة: يريد المحدثون بأمجاد الرجل والأمة مناقبه ومفاخره ومآثره، والعرب يريدون أشراف الناس وكرامهم، قال معالي الرئيس الأستاذ احمد لطفي باشا هذا التعبير لا ضرورة له.
وقال الدكتور إبراهيم مدكور إن اللغة العربية غنية بالكلمات التي تؤدي هذا المعنى.
2 - المقهى: القياس في (مقهى) ضم الميم ولكن المحدثين يفتحونها من باب التخفيف وخير منها لفظ (القهوة) رأي الرئيس أن تحذف هذه الكلمة لثقلها والاكتفاء بكلمة القهوة التي أقرت.
3 - العضو: سمع من المحدثين إدخال التاء على العضو فيقولون فلانة عضوة في الاتحاد النسائي قال الأستاذ أحمد العوامري بك لا أرى إدخال تاء التأنيث على كلمة (عضو) فلماذا(933/44)
لا نقول: هي عضو في الاتحاد النسائي مثلاً؟
4 - حفيد: يجمعه العرب على حفدة ويجمعه المحدثون على أحفاد.
عباس خضر(933/45)
القصص
اليتيم
للقصصي الفرنسي الكبير فرانسوا كوبية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف حسين الأرناؤوط
. . . غامت الدنيا في عينيه. . واكتفت سحب الشقاء حياته. . وضاقت دائرة وضاقت دائرة عيشه حتى كاد أن يهجر حياته. . وينتقل إلى حياة ثانية سعيدة هانئة أبدية. . شأن كل شخص يكرس وقته ويضحي بهجة عمره. . في سبيل وضع قصص وتأليف روايات. . حيث يعصر كل ما لديه من موهبة وعزيمة يقدمه إلى الجمهور كي يرضيهم. . ومن وراء هذه المهنة. . . كان يرتزق ما يسد رمقه ويسكن جوع أمه وذلك مدة خمسة وعشرين عاماً. وهو لا يفتأ يكتب للصحف دون أن يبتسم له السعد. . ودون أن يحالفه الحظ ليدفعه في عداد الكتاب المرموقين والمؤلفين المعدودين. ولكنه كان برضي بهذا اليسير وبحد الله على نعمائه. . ويشكره على ما أسبغ عليه. .
ولم يتركه الفقر بما هو عليه. . بل نشر سحابة على منزله الذي اختاره في أحد أحياء الفقراء المعوزين. . ولم يجد في حياته أحداً ليزيل عنه شبح الحاجة. . ويشاركه في حرمانه وشقائه سوى والدته العجوز التي أضناها الداء. . وأقعدها العجز.
هذه هي حياة (جان فينول) الكاتب الروائي الذي كان ينشر رواياته. لكنها لم تلق قبولاً حسنا بين الجمهور: إذ أنهم كانوا يجدونها فارغة جوفاء. . لا أثر للحياة فيها. . صامتة خرساء. . لا سبيل للعاطفة إليها. . خالية من الإبداع حتى أن رئيس تحرير أحد الصحف قال له ذات يوم: إن القراء ينكرون صدق عاطفتك. . وقوة وحيك. . وخصب خيالك. . فأرجو أن تمد قصصك ورواياتك من خيالك الواسع حتى تلبسها ثوباً قشيبا من البهجة والروعة. .
وسكت جان على مضض. . وقد تحير فيما يجيب. . إلا أنه أرسل زفرة حرى انبعثت من صميم فؤاده الملكوم. . وأخذ يحدث نفسه: إنني أعتقد بموهبتي أنها أرفع شأناً. . وأعظم قدراً من أن أكون واضع روايات ومؤلف قصص لإحدى الصحف) وخرج من عند رئيس(933/46)
التحرير مهيض الجناح. . ومنكسر الخاطر. . منطوياً على نفسه. . تاركاً عنان حياته للقضاء والقدر. . فلا يدري ما يخبئ له الزمان. . ولا يعلم ما يضمر عنه الغد. وظل صابراً على الأذى، مقيماً على الضيم والحرمان. . حتى امتدت يد المنون إلى منزله. . وسلبت والدته من حياته فتركته وحيداً مفرداً. . لا أنيس له. . ولا رفيق يشاركه لوعة حرمانه. . وعذابه. . وشقائه. .
ولم تمض مدة على وفاة والدته حتى تسرب الملل إلى نفسه، ورأى السأم في حياته. . فأحاطت عيشه هالة دكناء. . وغمرت بيته. . فإذا بالوحشة تتمثل أمام عينيه وتتراءى له عن كثب كأنها أشباح تتراقص وتزغرد لتسلب منه كسرة الخبز التي يتناولها كل يوم مرة. .
فقد الأمل. . وضاع الرجاء. . دون أن يهتدي إلى شعاع يستمد منه السعادة المسلوبة. . وكان بين حين وآخر يستلق على مقعده ويحدث نفسه: يا إلهي. . ما هذا الشقاء البرم. . وما هذه الحياة الدكناء. . ألا تعساً لها. . وسحقاً لمن يرضخ إليها. .
وذات ليلة دخل غرفته كعادته. . متهالكاً على نفسه. . يجر خطاه جراً. . وألقي نظرة على أثاثه الذي أكل الدهر عليه وشرب وجلس وراء مقعده ليشرع في كتابة قصة للجريدة. . والتفت إلى نار المدفأة. . فرآها خامدة كحياته، لا أثر لها وأراد أن يوقدها. . دفعاً للبرد القارس ووقاء من الزمهرير العاتي. . وفتش عن عود ثقاب. . فلم يجد وهم بالنزول لشراء علبة جديدة ولكنه تريث قليلاً إذ طرأ على فكرة أن يفترض واحدة من جارته العجوز (أم ماتيو) التي فقدت أبنتها الوحيدة بعدما ترملت وخلفت طفلا لترعاه جدته العجوز. .
طرق جان الباب على الأم ماتيو. . ليسأل حاجته منها. . ففتحت له. . وألقى نظرة عليها فرآها وقد أضناها التعب وأنهكتها الفاقة. . ومد بصره إلى الداخل. . فشاهدها وقد جمعت فراشها. . وحزمته على ضوء شمعة ذاوية. . فبادرها: ماذا تفعلين. . وأي شيء تصنعين. .؟؟ وما السبب الذي دعاك لأن تربطي الفراش. . فأجابته بعد ما طفرت الدموع من عينيها: إنك كما ترى. . لقد صممت ان أذهب. . وأرهن فراشي مقابل مبلغ. . لأني في حاجة قصوى إليه. .
فقال: ولكن. . ترهنين فراشك لحاجتك؟(933/47)
قالت: نعم. . إنني مرغمة على ذلك. . فقد بلغني اليوم أن شقيقتي أقعدها المرض وقد رفض قبولها في المستشفى. . لأنها لا تملك ثمن دواء. . ورأيت أن واجبي نحوها يدعوني أن أقدم إليها المساعدة. . فلم أجد سوى أن أرهن فراشي راضية أن أفترش الأرض. . حتى يتسنى لي أن أجمع هذا المال فأرد به فراشي. . على أن أذهب الآن. . قبل فوات الأوان. . أما الطفل فلا أدري أين أو دعه ريثما أعود. . فهزت الشفقة والرحمة نفس جان فترقرقت دموعه في عينه وقال: دعي فراشك هنا. . وإنه ليسوئن أن أراك على هذه الحال. . هاهي عشرة فرنكات أقدمها إليك لتستعيني بها على شراء الدواء لشقيقتك المريضة. . أذهبي حالا الآن. . واتركي الطفل هنا. . أقوم على حراسته حتى تعودي. .
وحاولت أن تشكره على شهامته. . ولكن الكلمات ارتبكت على لسانها. . واستعصت في فمها فأنفجر الدمع من عينها. . وغادرته بعد ما عهدت إليه بطفلها. .
واستلقى جان فوق الفرش المحزومة. . وأخذ يتأمل أثاث الغرفة والطفل أخرى ويناجيه بقلبه: أيها الطفل المسكين. . هذه هي جناية آبائنا. . وأمهاتنا. . يرموننا في هذه الحياة بالرغم عنا. . دون أن يأخذوا رأينا. . ولو سئلنا. . لا ريب كان جوابنا. . لا. . لا نريد أن نحيا. .
ثم يعود إلى نفسه ويتساءل: ما أكثر أمثال هذا المسكين. . حيث ينتظرهم المستقبل المبهم. . ليقذفهم في مضمار شقائه. . فأي مستقبل ينتظرهم. . وأي صباح يبتسم لهم. . وأي مساء يقطب أمامهم. .
مسكين هذا الطفل. . فها هي جدته قد أنهكها طول العهد. . وقد أصبحت على حافة القبر. . تنتظر موافاة المنية بين يوم وآخر فأي مصير سيكون لهذا المسكين وأي سبيل سينتظره. . علم الله. . عله يكون من هؤلاء المنبوذين. . المتشردين في أرض الله. . يتخبطون في خضم من الجنايات وينساقون في سيل من الجرائم هؤلاء اللصوص الذين يودعون حياتهم بين جدران السجن في عذاب. . وألم. . وحرمان. .
وهكذا تسلطت هذه الأفكار. . واستولت رأس جان. . فانطلقت الدموع إلى سبيلها. . وهو مطرق ساهم. . يتأمل الطفل حيناً. . ويسبح في خياله وقد خيم عليه الهدوء والسكون. . إلى أن دخلت عليه الأم (ماتيو) فوجدته على حاله يبكي. . فاستخبرته عن سبب بكائه(933/48)
فأجابها: لاشيء. . فكرة ألمت بي ولكنني أريد أن أقترح عليك. . عملا نقوم به سوية. . فما رأيك. .
فأجابته: حسناً تفعل. . وما هو. .؟؟
قال: ماذا تقولين. . فإن ما أحصله من المال. . يكفيني. . ويكفي والدة لي - لو كان لي والدة - فهل ترضين. . أن تشاركيني العيش مع طفلك الصغير. . وبذلك نضع جل اهتمامنا في تربية هذا الطفل. .
فصاحت الأم من أعماق فؤادها بعد ما سمعت ذلك. . وهمت أن تركع أمامه لتشكر رجولته. . وتحي شهامته. . ولكنها تمتمت بعدما غلبها الدمع: يالك من رجل. . تريد أن تنق حياة طفل بريء. .
وبعد مضي مدة من قيام هذه الأسرة على قدم من الفقر وساق من الفاقة. . كان خلالها جان قد أنهى روايته الجديدة التي أطلق عليها أسم (اليتيم) وما أن انتشرت بين الناس حتى نالت رواجاً لا مثيل له. . وأحرزت تقديراً من جميع القراء على اختلاف ميولهم وأهوائهم. . فقد أحس كل فرد منهم بالروح الحية التي تنبض فيها. . وفي أحد الأيام. . التقى جان برئيس تحرير الجريدة. . فبادره قائلاً: إنني أرحب بك اليوم. . وأقدم لك أجمل التهاني. . وأعظم التمنيات على روايتك (اليتيم) وإنني أصبحت أحد المعجبين بها. . فقد لاقت. . رواجاً كبيراً في أكثر المدن. . فإذا كتبت بعد اليوم قصة أو رواية. . فابعثها إليَّ كي أنشرها لك بكل سرور وامتنان مقابل ثمن ترضى عنه. .
ومنذ ذلك الحين حالفه. . وأقبل النجاح عليه. . فأبح من الكتاب المرموقين في المدينة. . بينما لم يغير منهاج حياته. . وظل يعيش مع الطفل وجدته عيشة. . راضية هنيئة. . ترفرف عليهم السعادة والوئام. .
دمشق
عبد اللطيف حسين الأرناؤوط(933/49)
البريد الأدبي
صوت القطيع
لم ترهبين السير أيتها الحائرة البلهاء وتتهربين، وتصمين أذنيك
الحادي المسحور عندما يبتغي إدخال بعض النور وقت اشتداد الكروب
ليسهل السير ويمضي القطيع؟ لم تهربين من الجمع الصاخب وسط
الطريق، وترفعين عن اللغو والصخب المحبوب عند الجموع، أو
تمضين في الفقر المجدب وسط الهجير، بلا غاية ترجين أو ترقبين؟
ويدمي خطاك الشوك عند المسير، وتكتوي بالهجير منك الضلوع، وترهبك الأشباح عند اشتداد الظلام، وتفزعك الأصوات وقت هبوب الرياح، ويوحي لك الليل بشتى الهموم.
سيرى مع الجمع الراكض خلف (الحداء) واستقبلي الأضواء في فرح الكاسب بعض العطاء وصفقي للنور مهما بدا خافتاً، وأنسي شقاء السير واستبشري، وتوهمي الراحة بعد العناء!
هيا مع الجمع لا تعبئ بالشوك بين الخطى، فلن تشعري بالوخز بين القطيع، ولن تفزعي من الليل بين القفار، ولن تشعري بالوخز بين القطيع، ولن تفزعي من الليل بين القفار، ولن تهلعي للريح بين الصخور، ولن تصل الشمس وحر اللظى، إلى مستظل بظلال الجموع.
هيا ولا تأسي لغبن مضى أوشقاء مرير، ولا تغبطي السائر تحت الظلال، ولا تحسدي اللاهين قرب الغدير، فالكل مرفوع وراء (الحداء) إلى عالم المجهول لا يعرف سر المسير؟ هيا فلن يبقي شقي أو سعيد، ولن يأخذ المغبون معه الشقاء، وسوف يلقي الكل أعباءهم بعد حين، ويلتقي الباكي مع المسعدين، ويملأ الصمت مكان الضجيج وتطمس الريح خطى الذاهبين!؟
آنسة أمينة فطب
أبدل به وأبدل منه(933/50)
(ويجوز إبدال ورقة امتحان اللغة الأوربية بورقة إضافية في اللغة العربية).
هذه العبارة التي جريدة (المصري) في قانون التعليم الجديد لم يرض بها كاتبنا الكبير الأستاذ عباس خضر، فخطأها في (كشكول) الرسالة في العدد (932). . والذي أفهمه أن (أبدله من كذا). فالحرف (من) يدخل على المتروك و (الباء) تدخل على مقابله، قال ابن مالك: (فأبل الهمزة من وأووباء) وجاء في المصباح: (أبدلته بكذا إبدالاً: نحيت الأول وجعلت الثاني مكانه)، وعلى هذا فعبارة (المصري) صحيحة لأنها تريد تنحية الأولى وجعل الثانية مكانها. . وباستعراض المادة في القاموس المحيط نرى: تبدله وبه، واستبدله وبه، وأبدله منه، اتخذه منه بدلاً) ولم يورد (أبدل به) بمعنى (أبدل منه). . ولست بحاجة إلي مثل أقرب الموارد أو غيره من كتب اللغة، حيث ورد في إحداها وهو (المصباح) ما ينفي الخطأ عن عبارة (وزارة العلم) في جريدة المصري. .
. . هذا رأي. . تطيب نفسي بأن يبدل بغيره ما وجد الأستاذ الكبير له معتمداً من التخريج والبيان، وإليه مني تحية خالصة.
محمد محمد الأبشبهي
مواكب الذكريات:
الشعر اليوم في ركود، ودولته الآن غير مرفوعة اللواء، وسوقه كاسدة، قلت بضاعتها وقل الممتارون منها لأنفسهم؛ وأصبحنا نتلمس مواكب الشعراء التي كانت فنجدها قد توارت، أو اكتفت بجنبات غير مرئيات، وغدا المرء إذا رأى ديوان شعر يبدو في عالم الأدب أقبل عليه وفرح به وذهب ينشد ما كان يلقاه بالأمس من روعة الشاعر وفتنة الشعر. . .
وهذا ديوان جديد، هو (مواكب الذريات) للشاعر الماجد الأستاذ حسن عبد الله القرشي كبير المذيعين بمحطة الإذاعة العربية السعودية، تناولته فإذا المظهر الرشيق والفن الدقيق والحلة الفاتنة والطبع الأنيق، ولكن ذلك لم يستمهلني طويلاً، فأنا طلاب مخبر لا مظهر. . ووجدت الزيات العظيم - وهو ضنين بالثناء على غير أهله - يطوق جيد الديوان بعبارته الموجزة البليغة: (في (مواكب الذكريات) نفحات من الحجاز، ولمحات من قريش، ونغمات من ابن أبي ربيعة، وإن في أولئك كله الدليل على أن مشارق النور لا تزال تهدى، ومنازل(933/51)
الوحي لا تزال تلهم)!. .
ثم وجدت الشاعر الفرد يعرف طريقه حين يقول في مقدمته، (وليس من ريب في أن الشعر القمين بالخلود هو ما كان مرآة لنفسية قائلة، هذه المرآة تريك صورة من تجارب الشاعر، وملابسات بيئته وعصره، وظلال الأجواء التي يستوحي منها شعره، ولابد أن تكون صادقة في التعبير عن ملامح فنه، وأن تستمد صدقها الفني من حرارة العاطفة وتوهج الشعور، ووضوح التجربة وتفاعل الثقافة).
وذهبت أتلمس الشواهد على ذلك الذي قال فإذا هي مائلة في الديوان، وإذا هي كثيرة، وإذا هي تدل على عراقة في الشعر برغم قصر العهد، وشاعرنا في نضرة الشباب الآن، وإذا هي تنبئ عن مستقبل يفيض بالخير العميم في ميدان الإنتاج الشعري، فلو تضافرت جهود الشعراء من طراز ذلك الجهد، مع التجويد والتعبيد، لا ينتظرنا للشعر دولة تقوم فتعيد الإيمان به كركن من أركان الأدب الرفيع، على أني كنت أطمع أن أجد في الديوان السيل الغامر من (الإسلاميات) و (الدينيات)، ولا عجب في هذا الطمع، فالشاعر حجازي قرشي، وهو نفسه يقول في الديوان: (من روابينا هفا نور النبوة)؛ ولقد وجدت قطرات مما أريد متناثرة خلال الديوان، وكنت أطمع في المزيد، ولكن يظهر أن شبيبة الشاعر هي التي أوحت إليه أن يهيم في أو دية الجمال والخيال، وأن يستجيب لهفوات الجلوات والصبوات، وما في ذلك من عاب، فالعندليب الصداح اليوم بالهوى والشباب، سيكون له في العروبة والإسلامية غدا كتاب وأي كتاب.
للشاعر الغرد كريم التحيات، ولديوانه الجديد صادق التقدير!. .
احمد الشرباصي
المدرس بالأزهر الشريف
من صور الحياة
لي صديق عرف بالتقوى، جاءني مرة عابس الوجه قائلاً: أن أشد ما يؤلم النفس ويضعف الهمة أن يهدر الحق وتنطمس معالمه، وقد يزول أثره ثم يقام على أنقاضه الباطل على هوانه ليصبح على ضعفه مدوياً!(933/52)
قلت وما ذاك؟ فقال: ذلك أن من يعتز بشخصيته ويتفانى في أداء واجبه غير حاسب لأحد حساباً سوى ضميره والخوف من الله تعالى؛ غير مرضى عنه لأنه غير سائر في ركب الحياة الدراجة غير ماهر في التزلف والنفاق، بل لم تطبعه الأيام بطابعها الذي يبتسم بالرياء والمداهنة. . .
تلك هي جنايتي! ولا يكون من ورائها إلا أنني - على اجتهادي - أقل من غيري نجاحا في عملي، وفي هذا قلب للحقائق وتمويه شنيع مما يجعلني أسائل نفسي: أليس هناك تقدير، أليس هناك ضمير؟ ثم حيرتي بل حزني بين ضميري وواجبي!
عند ذلك أسفت واعترتني دهشة بل حسرة ثم نظرت إليه بهدوء وقلت: استعن بالله ولا ضير عليك ما دمت تعمل ما يرضي الله وضميرك، ولا يحزنك ما تراه من غمط الحق فالحياة هكذا وتصاريف الأقدار على الرقاب؛ كل يوم ذات لون جديد يحير العقول والإفهام!
ثم تدور الأيام ويذهب ذلك العهد إلى غير رجعة ويأتي عهد جديد تقدر فيه القيم، ولا ينظر فيها غير العمل المنتج والشخصية التي تعمل بهدوء وبدون ضوضاء.
وهكذا يقابلني صديق منبسط الأسارير منشرح الصدر قائلاً من فوره: قد انقشعت الغمة وزال، ومضى ذلك العهد البائد، عهد التزلف والنفاق، وفتح عهد جديد يشيد بالحق نوعا ماً.
فقلت له: على رسلك! لا تفرح الفرح كله، فسترى بعد ذلك ما يسرك أكثر مما ترى ثم ما يبغضك ثم ما يرضيك، وهكذا دواليك وفي ذلك المعنى الحقيقي للحياة في تناحرها الدائم!
ثم نظر إلى بعد أن لاذ بالصمت برهة قائلاً: أصحيح ما تقول أيها الصديق؟ فقلت له: لعلك - يا أخي - لم تجرب الحياة بعد وقد يكون ذلك لقرب عهدك بها أو لقرب عهدها بك، فستراها أمامك واسعة رحيبة مرة ثم تراها أضيق من سم الخياط! فلا تحزن الحزن كله؛ بل لا تفرح الفرح كله!!
محمد منصور خضر
الغزى ليس من الحنابلة:
قرأت ما كتبه الأستاذ الجليل إبراهيم الابياري في مجلة الرسالة الغراء عدد 931 عن طبقات الحنابلة لابن رجب؛ وقد قال ومالي أنسى أن الغزي الحنبلي انتهى في طبقاته إلى(933/53)
سنة 1027 وأن الشطي وصلها إلى سنة 1325 أقول وهل يسمح لي أستاذنا الجليل أن أذكر ملاحظة صغيرة عن الغزي - الآنف الذكر - إذ أنه قد حنبلياً وهو ليس كذلك، بل هو شافعي وكان مفتي الشافعية في زمانه وقد ذكره الشطي في مختصره ص 145 قوله (ولنذكر قبل الشروع في ذيلنا نبذة مترجمة سلفنا الغزي المشار إليه كما فعل هو سلفه عند استفتاح ذيله، وذلك تنويها بفضله وشكراً صنعه، وإن يكن غير حنبلي فإنه أخذ عن الحنابلة وخدمهم جزاه الله خيراً بما لم يخدموا به أنفسهم فنقول ملخصين ترجمته عن تاريخنا روض البشر في أعيان القرن الثالث عشر الذي عنينا بجمعه منذ سنة 1323 (هو أبو الفضل كمال الدين محمد بن محمد الشريف بن شمس الدين محمد بن عبد الرحمن زين العابدين بن زكريا بن بدر محمد بن رضي الدين بن محمد رضي الدين أيضاً بن شهاب الدين احمد الغزي العامري والدمشقي واحمد هذا هو جد بني الغزي الأعلى الذي جاء من غزة هاشم إلي دمشق سنة 770 وتوفي سنة 822 الشيخ العالم الفاضل الفقيه الفرضي الأديب مفتي الشافعية بدمشق وأبن مفتيها صاحب التصانيف الفائقة، والمجامع الرائقة، ولد بدمشق في تاسع عشر جمادي الثانية سنة 1173 وولي إفتاء الشافعية بدمشق بعد وفاة والده في محرم سنة 1203 وألف مؤلفات لطيفة أغلبها في التاريخ والأدب، فمنها هذه الطبقات التي سماها (النعت الأكل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل) ورتبها على ثلاث عش طبقة كل طبقة لخمس وعشرين سنة من أو القرن العاشر، مصدره بمقدمة ذكر فيها سبب التأليف وشيوخه من الحنابلة) ألح وتحيتي للأستاذ الجليل.
عبد العزيز المانع(933/54)
العدد 934 - بتاريخ: 28 - 05 - 1951(/)
عقبات تعترض النهضة في البلاد العربية
للدكتور محمد يوسف موسى
نعم، كلنا نحس إحساساً شديداً هذه الأيام بأن هناك عقبات تقف في سبيل النهضة في البلاد الشرقية أو العربية أو الإسلامية، وكل هذه التعبيرات تؤدي في رأينا مدلولاً واحداً. عقبات يرجع بعضها إلى سوء توزيع موارد الثروة الطبيعية إلى حد شنيع يثور من أجله الضمير والدين، فكان من ذلك الفقر والحرمان والجوع، وهذاثالوث بغيض ولا سيما وهو لم يدع لنا لحظة نفكر فيها في الغد، بله نهضة الوطن الأكبر! ويرجع بعضها، في رأي غير قليل من الكتاب، إلى أننا لم نطلق الانطلاق كله في اصطناع مظاهر الحضارة والحياة الغربية، متناسين أن لكل أمة مقوماتها التي بها يكون كيان خاص محترم. كما يرجع بعضها الآخر إلى أن الزعماء والساسة لا يريدون حقاً هذه النهضة، ما داموا لا يتخذون الطرق المؤدية لها.
على أن هناك عقبة أخرى لها في رأيي الخطوة البالغة، ومن ثم يجب أن نفعل - ولكن في تؤدة وتبصر - على إزالتها من الطريق، نعني بها افتراق عقلية الأمة العربية افتراقاً كبيراً إلى عقليتين مختلفتين، كل واحدة منهما لها فهمها للحياة وأهدافها ووسائلها التي تعارض وما للعقلية الأخرى من هذا كله، وبذلك يشقى العالم العربي بين هاتين العقليتين المتباعدتين:
عقلية مدنية تعرف الغرب وتأخذ عنه وعن نظمه وتقاليده وحضارته، أكثر بكثير ما تعرف العروبة والإسلام وحضارته. 2 - عقلية دينية تجهل علوم (العصر) وحضارته، ونشأت على الدين دون أن نفهمه صحيحاً أو تعنى بتطبيق مبادئه وأصوله، والحكم هنا طبعاً على المجموع لا على الجميع.
ورجال العقلية الأولى بيدهم أمر الحكم وسياسة البلاد، وقد فتنهم الغرب بمظاهره الخادعة، وجهلوا الدين جهلاً يكاد يكون تاماً فاحتقروا ممثليه، وظنوا من الخير التخفف منه ومن تقاليده، لأنه - كما زعموا - لا يساعد على النهوض، وتناسوا لجهلهم بالتاريخ مقدار ما أفاد الغرب والإنسانية عامة مما في الإسلام وحضارته من حيوية ومبادئ صالحة للحياة القوية العزيزة الكريمة إن هؤلاء الناس لا يعرفون، حين يشيدون بما قررت الثورة(934/1)
الفرنسية نم حرية وإخاء ومساواة، أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه هو الذي وضع أساس ذلك كله مستوحياً روح الإسلام - حين قال: (لم تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)! وحين رفض أن يصيب من طعام لا يجد عامة المسلمين السبيل إليه، وكان ذلك الطعام من سنام جزور! ولا يعرفون كذلك ان عمر أيضاً هو الذي وضع الأساس العملي للعدالة الاجتماعية وضمان المعيشة الطيبة للناس جميعاً، بما فرض على الدولة من نفقة للفرد - بله المسلم! - وعياله حين يعجز عن العمل.
أما رجال العقلية الدينية، فقد عرفوا ظاهراً من الدين، حين ظنوه رسوماً تقام وعبادات تؤدي فحسب، وتجاهلوا حقيقته وغايته ووسائله، جهلوا أو تجاهلوا أن للدين رأيه في تحصيل القوة، ورأيه في الحرية والمساواة بين الكبير والصغير، فلا سادة ولا مسودين إلا بالعمل الخير يقوم للوطن والأمة. جهلوا أو تجاهلوا أن الدين، فضلاً عن أنه صلة بين العبد وربه تقوم على ما نعرف من شعائر وعبادات مقدسة، يدعو في إلحاح إلى أن تقوم العلاقة بين الانسان وأخيه الانسان، أو بين الحاكم والمحكوم، عل أساس العدل والتسوية، كما يدعو في إلحاح كذلك إلى عدم الخوف من الله وحده، وإلى أنه لا طاعة لمخلوق، مهما علا شأنه، في معصية الخالق. أليس رسول هذا الدين صلوات الله وسلامه عليه، يقول: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما بم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)، أو كما قال!
ولو عرفوا ذلك معرفة حقة لجاهدوا مع المجاهدين في بعث الأمة من نومها، ولأعدوا الشعوب للمطالبة الجادة القوية بحقوقهم، ولجعلوا بهذا ولاة الأمر في الشرق من عوامل نهضته بدلا من أني كونوا حجر عثرة في طريق هذا النهوض.
لقد عكفنا على الماضي وحده، وتجاهلنا العصر ومعارفه وعلومه التي لا بد منها للنجاح في الحياة، ولتسخير الكون لنا كما أمر الله، واكتفينا بترديد أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. دون أن نكلف أنفسنا محاولة تبين أن له حقاً هذه المزية والفضيلة، وهذا لا يكون إلا بالبحث والمقارنات بين النظم القائمة وبين نظم الإسلام وتقاليده.
كان من هذا، كما نرى ونلمس، أن زادت الهوة بين فريقي الأمة اتساعاً. وكان من هذا أيضاً، أن صارت الأمة لا تسمع لنا، نحن رجال الدين، ما دمنا نعيش في نطاق خاص(934/2)
محدود، وما دمنا لا نضرب بأعمالنا للأمة المثل الطيبة الصالحة في تقويم المعوج وإن أوذينا في أرزاقنا وأنفسنا وأبنائنا!
ولا علاج لهذا في رأينا إلا بتوحيد التعليم على أساس قوى من التمكين للدين والثقافة الإسلامية، بأوسع معانيها وحدودها، في مرحلة التعليم العام، الابتدائي والثانوي ثم بعد هذا، يجب ألا نكتفي بالماضي نتغنى بأمجاده، بل علينا أن نبني عليه فنصل الماضي بالحاضر، وأن نفيد من حضارة العصر، فنعمل على أن يكون منا، بجانب الغربيين، مخترعون ومكتشفون ورجال صناعة. ولن يكون لنا هذا كله أو بعضه، ما لم نقض على هذه الثنوية في التعليم الأساس الذي بيناه، وحينئذ يتعاون أفراد الأمة جميعاً، سواء من آثر بعد المرحلة العامة في التعليم التخصص في العلوم المدنية، ومن آثر التخصص في العلوم والثقافة الدينية الإسلامية.
هذا، والله يهدينا جميعاً سواء السبيل.
محمد يوسف موسى(934/3)
بحث مفارق
أصلكلمة (ختن)
للأستاذ الأب مرمرجي الدومينيكي
يتهمني بعضهم بالتعصب الشديد للعربية لمجاهرتي بتفوقها على أخواتها السامية من وجوه شتى، منها محافظتها على الأصول البدائية العريقة في القدم. ويرشقني غيرهم بسهام الملام ناسبين إلى (الابتداع في العالم اللغويات) لقولي بأن (الثنائية والألسنية السامية) من أنجع الوسائل للتحقيقات المعجمية، ومن أمكن الأسس للاشتقاقات اللفظية، والتطورات المعنوية.
على أن أفضل السبل في نظري وحسب خبرتي للرد على هذه المدعيات هي اللامبالاة مع المثابرة على اتباع خطتي المختطة من أمد بعيد، وترك الخيار لأهل الذوق والعلم في قبول النظرية أو رفضها.
في هذه الفرصة أتخذ موضوعاً للبحث كلمة (ختن) الزاعم بعضهم بأنها سريانية دخيلة في العربية. وقبل إمعان النظر في الموضوع أسرد مواد البحث كما هي واردة في الألسنة السامية.
السريانية: خالية من المجرد. وفيها (حثنا): ختن، صهر، عريس. (حثين) خاتن، صاهر. (إثحتين): صاهر، تزوج.
العبرية: (ختن)، حمو: (خوتين): زوج ابنته، تصاهر. (هتختين): تصاهر. (خوتن): صهر، ختن، زوج البنت، عريس وقربى.
الأكدية: (ختانو): قطع، حمى. (ختنو) سكين، موسى، حماية. (ختانو): صهر، ختن، حمو.
الحبشية: لاوجود فيها لهذه المادة.
العربية: ختن: ختن الشيء: قطعه. ختن الغلام: قطع فلقته. اسم الفاعل: خاتن. اسم المفعول: مختون وختين. المصدر. ختن وختان، ودعوة الختان. حرفة الخاتن: الختانة. الختن: الحمو، وكل من كان من قبل المرأة، مثل الأب والعم والأخ. والختن أيضاً زوج ابنة الرجل، أو صهره. وأصل المعنى في هذه المادة القطع
تنسيق وتعليل:(934/4)
1 - إن الرس الأصيل لهذه المادة وارد في العربية وحدها، دون بقية أخواتها السامية. وهذا الرس هو الثنائي (خت)، المراد به: طعن بالسنان متداركاً. وهو بدء المعاني المتطورة، وفي الطعن قطع.
2 - توسع الثنائي (خت) بزيادة النون تذييلاً، فنجم عنه الثلاثي (ختن) ومعناه الأول: قطع، من باب الإطلاق. وهذا مدلول القطع وارد أيضاً في الأكدية، في لفظة (ختانو). ومنه (ختنو): سكين، موسى، أي آلة القطع. ثم دل في الأكدية أيضاً على (الحماية). لأنها متوقفة على منع أو قطع الأذى منأن ينزل بالشخص المحمى.
لكن في العربية وحدها جاء، من باب التقييد، الفعل (ختن) بمعنى قطع القلفة. والفاعل أو المحترف (خاتن)، والمفعول أو المتحمل العملية (مختون وختين)، واسم العمل (الختن والختان) ثم الدعوة أو الوليمة بمناسبة الختان. و (الختانة) حرفة الخاتن. وورد في السبئية (مختن): دار الختان.
كل هذه الفحاوي المتضمنة في فعل (ختن) ومشتقاته لا وجود لها في العبرية، ولا في السريانية ولا في الحبشية لأن الفعل المستعمل في العبرية لدلالة على الختان هو (مول)، والختانة (ميلة) والخاتن (موهيل). وفي السريانية ينظر إلى فعل (ختن) (جزر) والختانة (جزرتا)، والخاتن (جازورا). كذلك الحبشية لا اثر فيها لفعل (ختن) فإن الوارد فيها فعل (كسب). (مقابله في العربية: (كسف) و (جزر) (ينظر إليه في العربية: جزر) وكلاهما بمدلول: ختن.
في العربية، يطلق اسم (الختن) على أبي الزوجة، وعلى كل من كان قبل المرأة، مثل العم والأخ. ويراد به أيضاً زوج ابنة الرجل، أو صهره. ومنه صدر فعل خاتن صاهر.
في العبرية، وردت لفظة (ختن) دالة، كما في العربية، على الحمى أو أبي المرأة و (خوتن) بمعنى الصهر، أو زوج بنت الرجل، والعريس، والمختون أما السريانية فلا يوجد فيها إلا كلمة (حثنا) بمدلول الختن والصهر. ومن (حثنا) اشتق ارتجالا المزيدان (حثين) و (إثحثين). صاهر، تزوج. أما أبو المرأة فيقال له: (حيم).
في الأكدية، يطلق (ختانو) على الحمى والصهر معاً أما الحبشية فلم يرد أدنى صيغة من هذه المادة بمعنى الحمى والصهر، لأن المستعمل فيها هو (مرعاوي): صهر عريس.(934/5)
ومؤثثه (مرعات): عروس و (حم) بفحوى الحمى.
كل ذلك يدلك على أن هذه المادة قد بدأت في العربية وحدها وتوسعت بطريق التطور الطبيعي والمنطقي، من الثنائي (خت) إلى آخر المداليل لفعل (ختن) ومشتقاته. وتماثلها الأكدية في ذلك ببعض المماثلة. أما العبرية ولا سيما السريانية - فالتطور ناقص. إذلافعل مجرد فيهمايدل على الختان.
ولمعترض أن يقول: أية مناسبة بين (الختان) ورابطة القرابة الأهلية بين الأسر؟ الجواب على هذا هو أن التاريخ يعيدنا كثيراً في شأنه لأنه يعلمنا أن (الختان) كان عند أغلب قدماء الشعوب، من الشروط الضرورية لدخول المرء في الحياة الاجتماعية، ومن الأمور الممهدة للحياة الزوجية، فكان يجري قبل الزواج. وكان الأب، أو رب البيت يقوم بهذا العمل. وشاهد عمل إبراهيم الذي ختن هو ذاته ابنه إسماعيلومن كان في بيته.
وكان من حقوق الأب أن يشترط على من يخطب ابنته، أن يختن قبل زواجه، ولما كان الأب هو الخاتن، أو الملزم بختان صهره، دعى في العبرية والعربية (ختناً) أو قل (خاتناً).
وإذا كان خاطب بنت الرجل أو صهره ملتزما بأن يكون مختوماً قبل زواجه، سمي أيضاً في العربية والعبرية (وفي هذا وافقتهما السريانية)، وفي الأكدية باسم (الختن) بمعنى المختون أو الختين.
ومن يعرف العبرية ويطالع العهد القديم من الكتاب المقدس يجد التأييد لما بسطناه فيكثير منالموان. من ذلك ورد (ختن) في النص العبري بدلالة الحمى، وفي الآياتالتالية: خروج 1: 3، 18: 4، 1 - 15. قضاة 6: 1، 11: 4. وجاء
(خوتن) بدلالة الصهر، في هذه الآيات الأخر: سفر الخلق 12: 19؛ خروج 25: 4؛ قضاة 6: 15، 5: 19 - 1؛ سموئيل 18: 18؛ 14: 12.
13 - ومن باب التوسع، شمل أسم (الختن) غير أفراد من العائلة، كالعم والأخ؛ لا؛ بل أن جميع أقارب المرأة يدعون (أختاناً) بالنسبة إلى الصهر، أو زوج بنت الرجل.
فأين من كل هذه الحقائق الجلية زعم القائل (ختن حرف سرياني) ومراده بذلك أنه دخيل في العربية من السريانية. ومن هذا لابحث يظهر بوضوح تفوق العربية على أخواتها السامية، لصيانتها الأصول القديمة، والرساس البدائية. وتتجلى أيضاً فائدة (الثنائية واللسنية(934/6)
السامية) للأبحاث المعجمية، وبهذا تسقط المدعيات الاعتباطية والسلام.
الأب مرمرجي الدومنكي(934/7)
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
لعلك أيها القارئ الكريم توافقني فيما أذهب إليه من أن عظمة المم ترجع أولا وقبل كل شيء إلى عاملين هامين: أولهما قوة روحية تدفع أبناءها إلى تضحية أرواحهم من أجلها وإلى استعذاب الردى في سبيلها وهو يمكن أن يسمى بالإيمان الوطني - وثانيهما قوة مادية تحقق لهم ما يبغون لوطنهم من نصر ومجد.
وقد قصصنا عليك فيما سبق مدى قوة الشعب البريطاني الروحية وعظم ثروته الخلقية، ووصفنا لك إيمان البريطانيين بوطنهم وحبهم له وإقبالهم على التضحية في سبيله.
وعندي أن القوة الروحية هي العامل الرئيسي، ولكن ذلك لا يمنع من خطر القوة الثانية وهي القوة المادية، فإن الجندي الذي ينزل إلى ميدان القتال وهو أعزل من السلاح مصيره حتماً إلى الدمار. وقد كفلت بريطانيا لنفسها القوة الثانية ويرجع الفضل في ذلك إلى أنها أولاً وقبل كل شيء دولة صناعية؛ بل إنها أنها أولى دول العالم الصناعية.
ويحسن بي قبل أن أحدثك عن الصناعة في بريطانيا أن أحدثك عن أمر له خطر وله شأنه. ذلك أن العلماء يقسمون حياة الأمم والأطوار التي تمر بها إلى أربعة أدوار:
الدور الاول: وهو المرحلة التي يحترف فيها الإنسان القنص والرعي. وأظنك توافقني على أن هذه المرحلة بدائية لا يتقدم فيها الإنسان ولا يرقى ولا يتحضر. وإن نظرة واحدة إلى حالة الزنوج في اواسط أفريقيا وإلى حالة البدو في الصحراء ستجعلك من غير شك تؤمن بصدق هذه النظرية، فإن الزنوج والبدو يعيشون هذه المعيشة منذ خلقوا، وسيبقون كذلك ما لم يضطروا اضطراراً إلى تغيير أساليب حياتهم.
الدور الثاني: وهو المرحلة التي احترف فيها الإنسان الزراعة وقد كانت الزراعة أول خطوة في سبيل التقدم والتمدن، ذلك أن الإنسان عندما اشتغل بالزراعة استقر في مكان وبدأ يعمل على تحسين حالته والنهوض بها، ومن هنا كانت الحضارة الأولى التي ظهرت في التاريخ حضارات زراعية قامت في مصر وفي العراق وفي الصين منذ آلاف السنين.
الدور الثالث: وفي هذا الدور أشتغل الإنسان بالنجارة وتعتبر هذه المرحلة أرقى من المرحلة السابقة.(934/8)
وقد بدأ سكان بريطانيا حياتهم باحتراف الرعي والقنص ثم اشتغلوا بالزراعة، ولكن الزراعة لا تجود في بريطانيا ومن ثم اشتغل سكانها بالتجارة، وقد رأينا فيما سبق كيف أدى هذا إلى قيام الصراع بين إنجلترا وأسبانيا أولاً ثم بين إنجلترا وفرنسا ثانياً، وكيف انتهى الأمر بانتصار إنجلترا وتكوينها لإمبراطورية عظيمة هي أعظم الإمبراطوريات التي شهدها التاريخ، ورأينا كذلك كيف أصبحت بريطانيا سيدة البحار وهي الآن تملك أقوى أسطول تجاري وحربي في العالم.
ويطيب لي أن أذكر كذلك أن أهم عامل في أيام النزاع بين ألمانيا وإنجلترا منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه كان سيطرة بريطانيا التجارية على أسواق العالم.
الدور الرابع: وهو أعظم الأدوار شأناً وابعدها شأواً وأكبرها أثراً وهو الدور الذي تشتغل فيه الأمة بالصناعة، وتعتبر الأمم الصناعية أرقى الدول وأعظمها شأناً.
وبريطانيا هي أولى دول العالم ومن ثم كانت أعظم الدول شأناً وأكبرها أثراً في توجيه السياسية العالمية. ويطيب لي أن أنوه بأن التقدم الصناعي من ثمار التقدم العلمي ومن ثم كان اهتمام بريطانيا بالبحث العلمي عظيماً، فهي تتيح لصفوة علمائها كافة الوسائل لينقطعوا للبحث العلمي.
ولعلك أيها الصديق الكريم تسألني عن العوامل التي ادت إلى قيام الصناعة في بريطانيا وكيف وصلت بريطانيا إلى مكانتها الصناعية الحالية. وأنا أجيبك بأن الصناعة الحديثة تحتاج إلى الآلات أولاً، وإلى قوة تحركها ثانياً، وإلى الخام ثالثاً، وإلى اليد العاملة رابعاً. وقد توفرت هذه العوامل جميعاً لدى البريطانيين. فبلادهم غنية بالحديد ومنه تصنع الآلات، وهي كذلك غنية بالفحم والكهرباء وبهما تسير الآلات. أما المواد الخام والأيدي العاملة فهي موفورة ميسورة.
ويجدر بي أن أذكر أن الحديد دائماً ينتقل إلى مناطق الفحم ومن تركزت الصناعة حول مناطق الفحم، ذلك أن الآلات تستهلك الفحم دائماً ومن ثم فلتوفير نفقات نقله تركزت الصناعة في مناطق تعدينية ومنذ أكثر من نصف قرن استخدمت الكهرباء في إدارة المصانع والآلات فاستغلت بريطانيا مسقط المياه في توليدها، وبالتالي في إدارة آلات مصانعها به. أما عن المواد الخام فإنها موفورة ميسورة لبريطانيا، ذلك أن بريطانيا تملك(934/9)
كما رأينا أكثر من ثلث اليابس في الكرة الأرضية ولها أراضي شاسعةفي مختلف أنحاء العالم، وهذه الممتلكات تمتاز بكثرة إنتاجها للمواد الخام للصناعة، فمثلاً نستورد القطن من الهند ومصر والسودان وينيا وغيرها، والصوف من أستراليا، والمطاط من المناطق الاستوائية بأفريقيا ومن جزر الهند الشرقية الخ.
ومما يساعد بريطانيا سهولة اتصالها بمختلف أنحاء العالم، فلها أسطول تجاري كبير هو أكبر أساطيل العالم طولاً، بل أكثر من هذا أن بريطانيا قد عنيت تمام العناية بالمواصلات في داخلها، فاستغلت أنهارها وقنواتها للملاحة، وعبدت الطرق الزراعية، ومدت السكك الحديدية مما جعل المواصلات بها ميسورة مريحة: مائية وبرية وجوية.
هذه العوامل مجتمعة هي التي أدت إلى قيام الصناعة في بريطانيا، وأنا أحب أن أضرب للقارئ مثلاً يبين فوائد الصناعة من الجهة المادية: فقنطار القطن يباع في مصر بعشرين جنيهاً ثم ينتقل إلى إنجلترا حيث يغزل وينسج ويرد إلى مصر ليباع به، ووزن القنطار مائة رطل، ووزن المتر من النسيج أوقيتان تقريباً فيكون وزن الرطل يعادل خمسة أمتار تقريباً، وإذا افترضنا للمتر ثمناً 20 قرشاً يكون ثمن الرطل من النسيج مائة قرش ويكون ثمن القنطار مائة جنيه، وبذا يكون الربح في قنطار واحد ثمانين جنيهاً.
وتمتاز الصناعة في بريطانيا بتخصص كل منطقة صناعية في صناعات معينة: فتقوم صناعة القطن في منطقة لنكشير وأعظم مراكز غزله ونسيجه مدينة مانشستر، وأكبر موانئ تصديره لبفربول. وتقوم صناعة الصوف في يور كشير وأعظم مراكز غزله ونسيجه مدينة ليدز. وتقوم صناعة الأسلحة والآلات القاطعةفي وسط إنجلترا وأهم مراكزها شفلد وبرمنجهام، أما صناعة بناء السفن فأهم مراكزها جلاسجو ونيوكاسل وبورتسموث وبلموث وبلفاست وأما لندن فهي عاصمة بريطانيا العظمى والإمبراطورية البريطانية. وقديماً كان الرومان يقولون (كل الطرق تؤدي إلى روما) لأنها كانت العاصمة للإمبراطورية الرومانية، وفي العصور الوسطى كانت بغداد أكبر مدن العالم لأنها كانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية، وأما في عصرنا الحاضر فإن لندن هي أكبر مدن العالم، ونظرة واحدة إلى خريطة تبين الخطوط الملاحية للأساطيل التجارية تريك أنها جميعاً تتجه إلى لندن!!(934/10)
وأخيراً:
إن بريطانيا تتحكم في العالم بقوة إنتاجها الصناعي. ومن المفارقات أن مصر قد عقدت معها 1931، وفي هذه المعاهدة تعهدت بريطانيا بإمداد مصر بما يحتاج إليه جيشها من أسلحة وذخائر. ولكن كلما طلبت مصر من بريطانيا أن تفي بوعدها راوغت، وثار نوابها في مجلس العموم لأنهم يزعمون أن مصر قد تستخدم هذه الأسلحة ضد بريطانيا ذاتها. وها نحن أولاء في مركز لا نحسد عليه فقد قيدتنا بريطانيا بالمعادة ثم تركتنا لا نستطيع حراكاً، بل إنها أثناء حرب فلسطين 1949 منعت عنا السلاح ما كان له أسوأ الأثر، وما اصدق قول شاعر النيل حافظ بك إبراهيم:
لا تقرب التايمز واحذر ورده ... مهما بدا لك أنه معسول
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بمسنود الثانوية(934/11)
1 - من أدباء الحجاز
عبد العزيز الزمزمي 900 - 976 هـ
للأستاذ عبد الله عبد الجبار
إن كنت - أيها القارئ الكريم - من أهل مكة المكرمة، أو ام تكن من اهله وقد أتيح لك أن تستمتع بتلك اللحظة الروحية، لحظة الغروب بالمسجد الحرام وقد أخذت مكانك خلف بئر زمزم انتظاراً لأداء فريضة المغرب، لا ريب أنك قد شهدت في (منظرة) مقام الشافعي رجلاً مرتدياً جبة بيضاء أو سوداء أو بين هذينمن الألوانقد لف عمامته على رأسه في رفق، وأخرج من جيبه ساعته العتيقة مدلاة من شريط أسود ثم نظر فيها ثم رفع رأسه إلى أعلى قليلاً بعد أن وضع يده اليمنى على خده وصدغه، وإبهامه على صماخ أذنه، ثم أرتفع صوته بالآذان صوب الآذان بتلك النغمة التقليدية: الله أكبر الله أكبر - وهو يميل لفظة الجلالة إمالة طويلة ويخطف لفظة أكبر خطفة سريعة: يكررها هكذا أربع مرات، ولا يكاد صوته ينطلق حتى تتجاوب المآذن بنداء السماء، وحتى تنطلق أفواه المصلين وقلوبهم وأرواحهم بترجيع النداء.
هذا الرجل - أيها القارئ الكريم - وأحد أفراد أسرة (الريس) التي اختصت بأن يكون لها شرف (رئاسة المؤذنين) في المسجد الحرام. ومن هنا كانت تسميتها (بالريس) بعد أن كانت تسمى في التاريخ بأسرة (الزمزمى) نسبة إلى بئر زمزم.
وعن شخصية من شخصيات هذه الأسرة سيكون بحثنا هذا، فتعال معنا إذن نعبر جسر الزمن لنطل على تاريخ هذه الأسرة بمكة في القرن الثامن الهجري:
هذه الأسرة تنتمي إلى علي بن محمد بن داود البيضاوي الشيرازي الأصل: وقد قدم علي بن محمد هذا إلى مكة في سنة ثلاثين وسبعمائة هجرية عام قدمها الفيل من العراق فباشر عن الشيخ بن ياقوت المؤذن في خدمة بئر زمزم. ولما آنس فيه الرشد والخير والكفاية آثره بخدمة هذا البئر متنازلاً له عنها، وزوجه بابنته فولد له منها ولده أحمد وغيره من اخواته، وأصبح في عقبة أمر البئر ومعها سقاية العباس رضى الله عنه. بعد ذلك تعال معي ننحدر مع الزمن لنشرف على القرن التاسع الهجري وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة حيث نشهد ميلاد عبد العزيز الزمزمي وهو موضوع هذا البحث، ففي سنة تسعمائة هجرية كان(934/12)
ميلاد هذا العالم الأديب بمكة، وكانت بواكير طفولته في بواكير القرن العاشر الهجري، وغير حياته الطويلة الحافلة بالتدريس والإفتاء والصلاح والتقوى والرحلات المختلفة إلى مصر والشام والمدينة واليمن وبلاد الروم حتى وافاه الأجل المحتوم وهو في السادسة والسبعين من عمره، وتوفي بأم القرى. ويمضي نسبه على النحو الآتي:
عبد العزيز عز الدين بن علي بن عبد العزيز بن عبد السلام ابن موسى بن أبي بكر بن اكبر بن أحمد بن علي بن محمد بن داود البيضاوي.
ثقافته وكتبه: وقد أخذا العلم عن كبار المحققين وجد وأجتهد حتى ذاع صيته وبرز أفرانه، وأفاد كثيراً من العلم والتجارب من أسفاره المتعددة وكان شافعي المذهب، وقد أرتحل إلى مصر في ريعان شبابه يطلب العلم على أيدي علمائها الإجلاء. . ومن مشايخه أحمد بن موسى بن عبد الغفار المالكي الذي مدحهبقصيدة مطلعها:
أريج مسك الأسحار ... فاح خلال الأزهار
وقد تفتقت عقلية الزمزمي حسب إمكانيات عصره وكما سمحت له ظروف حياته عن مؤلفات شعرية نثرية منها:
1 - الفتح المبين في مدح شفيع المذنبين.
2 - فيض الوجود في شيبتني هود.
3 - شرح على مقامات الحريري.
4 - (نظم علم التفسير) وهو منظومة لطيفة كان الطلاب ولا يزالون يحفظونها بمدرسة الفلاح بمكة، ولها شرح للشيخ منصور سبط الطبلاوي سماه: (منهج التيسير إلى علم التفسير) وللسيد محسن بن السيد علي المساوي المكي شرح لها سماه (نهج التيسير على نظم أصول التفسير) طبع في سنة (1352) وللسيد العلوي مالكي العالم المكي المشهور في العصر الحاضر حاشية على الشرح المذكور سماه (فيض القدير) وللشيخ يحيى أمان العام المدقق والأصولي البارع بمكة شرح سماه (التيسير على منظومة علم التفسير). وما زال الزمزمي يترق في مناصب العلم حتى أصبح عميداً لعلماء مكة في ذلك الزمان. وقد ذكر القطبي في تاريخه المراتب على السنين: (أنه في السادس عشر من المحرم سنة 976 قد وجه إلى الشيخ عبد العزيز الزمزمي تدريس المدرسة السليمانية بخمسين عثمانياً، وكان(934/13)
رئيس علماء مكة يومئذ.) وقد مدحه منوهاً بعلمه أبو الفيض الصديقي من قصيدة جاء فيها:
أجل جيران بيت الله قاطبة ... علماً إذا وصفوا في مكة العلما
شعره: وللزمزمي ديوان شعر منه نسخة خطية بالمكتبة التيمورية، وقد كلفت من نسخها لي. وتقع نسخته في ست وسبعين ومائة صفحة من الحجم المتوسط. ويشتمل هذا الديوان على ثلاثة أبواب وخاتمة.
الباب الأول: (النبويات) وهي القصائد التي مدح بها النبي (ص) وقد رتبها حسب الحروف الهجائية ونظم مدائحه النبوية من أغلب حروف المعجم، وترك الحروف الآتية: الثاء. والخاء. والذال. والشين. والصاد. والضاد. والطاء. والظاء. والعين. والغين. والواو: وقد استقرت النبويات (101) صفحةمن نسختي. وربما أدخل في هذا الباب قصائد ليست منه كقصيدته في مدح أبن عباس، وقصيدته حين زار مدينة عدن: وقد عرض الهمزية والبردة وجعل قافية الأخيرة مفتوحة، ويمضي مطلعها على هذا النحو:
أمن تذكر جرم جرمه عظماً ... أرقت في الخد دمعاً أم هرقت دما
أم البكاء لما أهملت جانبه ... من طاعة قد بكت أرض لها وسما
فوت خطة رشد كنت مدركها ... فصرت تقرع سنا بعدها ندما
الباب الثاني: مدح العلماء والصالحين ومن مدحهم الأمام الشافعي والشيخ أبن عربي ومحمد بن عراق.
الباب الثالث: في ذكر الكعبة المشرفة ومكة والحرام والحجاز والمشاعر المنيفة، ويبدأفي نسختي من ص (165) ولانجد في هذا الباب إلا قصيدة واحدة طويلة نسبياً ذكر فيها المنازل من مخا إلى زبيد إلى مكة، وذكر فيها الكعبة المشرفة، وقد نظمها في سيره من اليمين مع ركب الحج اليماني:
الخاتمة: وفيها نظم خمسة أحاديث نبوية وإليك مثلاُ منها:
وصالك جنتي ونعيم جسمي ... وقربك صحتي وجفاك سقمي
علام هجرتني هجراً عنيفاً ... بليغا زائدا من غير جرم
فلا وصل ولا مكذوب وعد ... ولا رؤياك في طيف ملم
لقد أفطرت في ظلمي فهلا ... حفظت حديث ظلم دون ظلم(934/14)
وقيمة هذا الديوان الصوفية أكبر من قيمته الفنية، وهذه النزعة الروحية كثيراً ما كانت سمة من السمات التي طبعت الحياة العقلية لكثير من المفكرين والمنتجين في هذه البلاد في كثير من العصور.
ويخيل إلي أن الزمزمي كان مشدوداً برباط وثيق إلى عالم ما وراء الحياة في رحلاته الكثيرة المتعددة لا يكاد يهبط بلداً من البلاد حتى يكون من اول ما يقوم به زيارة هذا الضريح أو ذاك لالتماس البركة من هذا الولي أو ذاك، ونظم ذلك كله شعراً صوفياً يرتاح له ضميره.
وكان لا تلم به كارثة من الكوارث أو تحق به أزمة من الأزمات حتى يشد رحاله إلى المسجد النبوي ينشد الفرجة من مقام النبوة العظيم.
وربما كانت فرقته للحجاز على كره منه، فهو يصرح بذلك في شعره، ويشكو إلى الله حالته الكئيبة الحزينة، وبعده عن عياله واوطانه وعن المشاعر المقدسة ومعاهد الطهر والإيمان، ويستعرض أمام عينيه ايامه التي سلفت. فما أكثر ما ظل عاكفاً بالمسجد الحرام يصلي حيناً ويدرس ويقرأ القرآن حيناً، وما أكثر ما وقف بعرفات، فلقد حج أكثر من خمسين حجة فهل يتاح له الوقوف بها مرة أخرى، وهل تناخ له بمنى، المنى وهل يبصر نفسه بين اهله وذويه، ورهطه وصحبه، وقومه وإخوانه؟ إنه يسجل كل ذلك في شعره إذ يقول:
إلى الله أشكو من تباريح أحزاني ... وبي وبعدي عن عيالي وأوطاني
بحكم زمان ظالم جار واعتدى ... على وعن قصدي عداني وعاداتي
ترى هل ترى أم القرى عين نازح ... بجثمانه والقلب منه لها واني
أعد لي حديثاً عن مشاعرها وعن ... معاهدها دامت معاهد إيمان
وعن حرم الله الأمين ومسجد ... حرام وبيت ضم أشرف أركان
فيا طالما في ظله عاكفاً ... لتدريس علم أو صلاة وقرآن
ومن عرفات لست أنكر موقفاً ... تعرفته من قبل إبان عرفان
وقفت به نيفاً وخمسين حجة ... فكيف فمي يجري له ذكر نسيان
ألا ليت شعري بعد فرقة جمعنا ... بليلة جمع عائد عيشنا الهاني
وهل بمنى يوما تتاح مني ... إليها والشوق أضر من نيراني(934/15)
وأبصر نفسي بين أهلي وأسرتي ... ورهطي وأصحابي وقومي وإخواني
وللزمزمي قصيدة نظمها في سيرة من اليمن إلى الحجاز مع ركب الحج اليمني ذكر فيها المنازل من المخا إلى زبيد إلى مكة المكرمة. وقد بدأ (بدوقة) يوم الخميس 18 من ذي القعدة وأتمها بالليث يوم الأحد غرة ذي الحجة الحرام سنة 958 هـ، وهذه القصيدة تعتبر (خريطة شعرية) تبين لنا خط سير قاصد الحج من اليمن إلى مكة في القرن العاشر الهجري، وفي مطلعها يقول:
ظعنا فنودينا عن الشر غبتموا ... وجئنا فقال الخير وجيتمو
وما كان ذاك البعد إلا دجنة ... جلالها اقتراب صبحة متبسم
نعمنا من بعد بؤس أصابنا ... فأذهب ذاك البؤس هذا النعيم
وأن الثوى في أرض مكة جنة ... وكل دنو من سناها جهنم
فوالل ما فارقتها عن كراهة ... ولا لأمور جمة تتوهم
ولكن مقادير بها حكم القضا ... وليس على حكم القضاء تحكم
رحلنا مطايانا إليها نؤمها ... فيا حبذا منها إليها التيم
وبعد ان كر كيف مضت بهم المطايا من المخا إلى الزهارى وكيف أقاموا بزيد ليالي، وكيف راحت العيس وحاديها شوق ملح لقرية المنصور والغانمية يقول:
ومرت إلى (مور) ومنها تشاءمت ... إلى (قطبة) والأفق مظلم
ومذ قصدت (جازان) جاز اقتصارها ... فأضحت وحاديها عليها مخيم
وبعد أن يذكر عالية وأبا قريش كان مقامهم بها ثلاثة ايام يقول:
ومنها إلى صبيا بنا العزم قد صبا ... وكان لنا في (بيش) شأن ملئم
وبعد أن يذكر وادي بيش وعتود يسجل كيف بدت لهم في الشقيق وجوه توسموا فيها عصيان السلاطين:
ولما دخلتا في (الشقيق) بدت لنا ... وجوه بعصيان السلاطين توسم
ومنها انصرفنا للغدير الذي على ... (عريب) بواديه الزيالع أقدموا
ومنه مسير الركب نحو مغيزل ... تمادى به والعيس للورد حوم
فمرت إلى (ذهبان) ذاهبة وقد ... حلا عندها الماء الذي منه ينجم(934/16)
وبعد أن يمضي قليلاً يأسى لعيس كيف كانت تئن من العجز وكيف دقت بكلكلها الثرى في (دوقة) وكيف ثابت بعد أن أقامت بها يومين، وكيف جازت مسيل الواديين ولم تقف به والليل أسود حالك، وإنما مضت في سرها سواد الليل وطرفاً من النهار. حتى إذا اعتلت الشمس صاروا إلى (ذكوان) وكان لهم فيه مقيل غير محمود، فقد بلغ الإعياء بهم مبلغاً عظيماً. وكانت الشقة بعيدة، وكان لا ماء علقماً والتمسوا (العجور) فلم يجدوه. . ثم ساروا حتى وصلوا (الليث) لم يطيلوا المكث به، بل راحوا (للهضب) حتى إذا صاحت حداة الركب: (هذي يلملم) ألمت به الأفراح واهتزت نفوسهم طرباً وأناخوا ركابهم ونزلوا واغتسلوا وصلوا ولبوا وأحرموا وكان للركب ضجيج، وكانت عيونهم تذرى الدمع فرحاً ولم يمكثوا هناك إلا بمقدار ما أدوا به شعار النسك، واستهلوا بلبيك اللهم لبيك، ومن ثم يمموا نحو البيت الحرام وهو يجهشون بالبكاء:
وفي (دوقة) دقت بكلكلها الثرى ... وقامت على عجز تئن ورزم
ولكنها من بعد يومي إقامة ... أثابت فسارت وهي للركب تقدم
وجازت مسيل الواديين لم تقف ... به والدجى بين المسلمين مقتم
وصارت إلى (ذكوان) حين ذكا اعتلت ... وكان لها فيه مقيل مذمم
هزال وإعياء إلى بعد شقة ... وقد عدم العجور والماء علقم
وما طوت مذ جاءت (الليث) لبثها ... (وللهضب) راحت والحداة تترجم
ألمت بنا الأفراح لما تباشر ... وصاحت حداة الركب هذي (يلملم)
أنيخوا المطايا وانزلوا وتغسلوا ... وصلوا ولبوا خاضعين وأحرموا
فكم ضجة للركب ثم وجلة ... وكم مقلة تذرى الدموع وتسجم
وما مكثوا إلا بمقدار ما أتوا ... به من شعار النسك ثمت أحرموا
بلبيك لبيك استهلوا وأجهشوا ... ومن ثم للبيت الحرام تيمموا
ثم بدت لهم معالم مكة:
وصرح بالأمر الحداة وبشروا ... وغنوهمو هذا المقام وزمزم
وذا بيت رب العرش ما دونه سوى ... ستور بالجلالة ترقم
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... وقر عيونا باللقاء المتيم(934/17)
عبد الله عبد الجبار
مدير البعثة السعودية بمصر(934/18)
القوة المادية والإيمان بالمثل العليا
للدكتور محمد يوسف الهندي
لئن سجل تاريخ القرن الماضي انقضاضاً من الأمم الغربية المتفوقة على الشعوب الشرقية الكثيرة العدد، فقد شاهد الجيل الحاضر تنافساً بين الدول الغربية - تنافساً قد أدى صراعين عالميين. وها هو ذا شبح الحرب الثالثة يلوح في الأفق، ويقض مضاجع الإنسانية جمعاء، لا فرق في ذلك بين الذين (لم يريقوا ملء محجم) وبين الذين (دقوا بينهم عطر منشم).
وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى نية الأقوياء المنتصرين إلى إنشاء نظام يكفل للعالم السلام والهدوء على ما قالوا، ولكن هذا النظام لم يكن في الواقع يكفل شيئاً غير الأوضاع القائمة إذ ذاك لصالح الذين كانوا يرون من حقهما احتكار السيادة على العالم، ولذلك انهار ذلك النظام على أيدي من رأى أن ينازعهم ها الحق بالقوة (وقد أعيدت التجربة نفسها) مع إدخال بعض التحسينات بعد الحرب الأخيرة).
وقد صادف هذا الاتجاه - أعنى اتجاه الأقوياء إلى إبعاد إمكان الحرب فيما بينهم - نضج الوعي في الشعوب الأسيوية والأفريقية المستعمرة، فبدأ مفكروها وقادتها يبحثون عن الوسائل التي يمكن بها لتلك الشعوب التخلص من نير الاستعمار واسترداد السيادة على بلادهم، وقد واجه جميعهم مشكلة قهر القوة الغاشمة لتحقيق الحق الأعزل، وإنها لدراسة ممتعة جدا ان يقوم الواحد بين الاجوبة مقارنة بين الأجوبة التي أتى بها زعماء الشرق الحديث في الأقطار المختلفة على هذا السؤال، وخلاصة القول أن عدداً غير قليل من الذين كانت زعامتهم ترتكز على مقدرتهم لاستشارة الجمهور فقط تجنبوا رسم خطة محدودة في هذا الصدد، بل إنما استتروا بخطب بلاغية وتصريحات جدلية هي عبارة عن التمسك بالحق والعدالة والتهديد بالإضرار ببعض مصالح المستعمر هنا وهناك. أما الذين سما فكرهم إلى درجة الفلسفة وتنظيم خطة عامة بعيدة المدى فانقسموا قسمين: بعضهم انتهج نهج الاستهانة بقوة السلاح وتعيير القوى باستعمال القوة والعنف، حينما هب البعض الاخر إلى مقاومة القوة بالقوة أملين بأن كثرة العدد تفوق وفرة العدة. وقد جرب كثير من الشعوب الشرقية الخطة الأخيرة ولا سيما في بداية عهد الاستعمار فرأت عواقبها وخيمة، ولذلك أقبلت على الخطة الأولى فدرستها بإعجاب وإن لم تقبلها كمبدأ للحياة القومية.(934/19)
ولنستعرض الآن آراء إقبال، الفيلسوف الشاعر الذي احتفل منذ قريب بالذكرى الثالثة عشرةلوفاته، في المسائل التي قدمناها آنفاً. لا يفوت إقبالاً أبداً أن يحذر من الاستخفاف بالقوة أو إهمال أية وسيلة من وسائل الحصول عليها، فهو لا يتأثر مطلقاً مما يوجه بعض الناس إلى الإسلام من نقد على روح الجهاد فيه: بل يقول:
(إن الذي يرتجف العالم من بطشه وسفكه هو أولى بأن يلقن مبدأ ترك الجهاد. . . لقد تدججت أوربا بالسلاح للدفاع عن أبهة الباطل. . . إذا كانت الحرب شراً في الشرق فهي لا بد وأن تكون شراً في الغرب أيضاً. . . أما محاسبة الإسلام والصفح عن أوربا فذلك ليس من الحق في شيء).
وكذلك يسخر إقبال من خطة تعبير القوة بالقوة حينما يقص علينا قصة قطيع من الغنم وقع فيه الأسد، فتقدمت شاة كانت قد أوتيت دهاء لتتزعم القطيع، فامتنعت في نفسها بأنه من المستحيل أن تتحول الأغنام أسوداً إلا أنه يكن أن ينحط الأسد إلى درجة الأغنام، وذلك بحمله على الاستحياء من نفسه وقوته، فبدأت تلك الشاة تلقن الأسد مبدأ الاعتزاز بقوة الروح وتركاللحوم واكل العشب والإيمان بأن الجنة قد خصصت للضعفاء، وأن القوة في الحقيقة نقصان. وهكذا إلى ان وجد الأسد في هذه المواعظ انعكاساً لميله هو إلى الراحة والدعة، فانحط إلى درجة الأغنام وهو يحسب أن ذلك الانحطاط إن هو إلا مدنية وحضارة!
فهذه الخطة في رأي إقبال ليست إلا رياءودهاء - الدهاء الذي (يزداد وينمو بطبيعة احال في العبودية) والاضطهاد) - ولا يستعمل هذه الخطة إلا الضعيف الذي يئس من كسب القوة، وهو إنما يغرر ويضلل بها قوياً قد مال إلى الاستكانة.
ولكن دعوة إقبال لا تقتصر على (إعداد القوة) - ولا أقوال (تمجيد القوة) كما فعل بعض الفلاسفة الألمان - بل، وهذه هي النقطة المهمة، وهو يدعو أيضاً إلى البحث عن القيم الأخلاقية والمثل العليا في الحياة الإنسانية والإيمان بها والعمل لها، حتى لا يكون استعمال القوة إلا الحفظ ونشر تلك القيم والمثل التي تكفل الخير للعالم! أما إذا وجدت القوة منفصلة عن القيم الأخلاقية والمثل العليا فلا شك أنها تعود شراً لا شر بعده كما يتمثل ذلك الشر في إعمال الإسكندر وجنكيز. إذن فالقوة في حد ذاتها ليست شراً ولا خيراً، بل إنما يحكم عليها(934/20)
بهذا أو بذاك بالنسبة إلى وجود الغايات النبيلة أو انعدامها فيمن يملكها. ومن الضروري في هذا المقام أن نوضح أن إقبالاً لا يدعو إلى التهور أو الثورة المرتجلة التي لا تتعدى الإضراب عن العمل وتحطيم عربات الترام وما إلى ذلك من اعمال الهدم والتخريب، لا بل هو يدعو إلى إعداد القوة بالطرق العلمية والفنية - (بالتسلط على قوى الفطرة) بعبارته هو - أي بنفس التي هي الميزة الكبرى للحياة الغربية والتي هي أوثق صلة بنبوغ الغربيين من الزي الغربي والحروف اللاتينية واستباحة الرقص والخمر. ولا يخفى أن هذا الطريق الذي يدعو إليه إنما هو طريق شاق طويل يحتاج إلى التأني والصبر والجلد، ولذلك نراه ينبري في أشد الأوقات حرجاً ف يبالي بأن تهمة أحد بممالأة المستعمر وينصح مواطنيه (بإبقاء الطرب على فم الدن حتى يدرك الخمر النضج) أي بالتريث ومواصلة العمل إلى أن يستكملوا العدة. وخلاصة القول أنه كان يدعو إلى إعداد القوة التي تكفل الإنشاء والتعمير وخلق الأوضاع الجديد، لا إلى مظاهر قوة التخريب وإلحاق بعض المتاعب بالمستعمر التي هي بمثابة ما تلجأ المرأة الناشز من زوجها في بعض الاحيان ليس إلا.
ولا يصعب أننستنتج مما سبق نظرة إقبال إلى المحاولات التي بذلت ولا تزال تبذل التنظيم الأمن الدولي، فهو الذي قال عن عصبة الأمم البائدة إنها (منظمة أقامها بعض لصوص الأكفان لتقسيم القبور فيما بينهم) وقال عنها أيضاً إنها (حظية الإفرنج العجوز تعتمد على تمائم إبليس لبقائها لبعض الوقت) - ونظرة إقبال هذه مبنية على انه لا يرتاح أبداً إلى القوة، سواء أكانت تلك القوة قائمة على السيف والرمح أم القنبلة الذرية، في يد من ليس عنده وداع من الإيمان بالقيم الأخلاقية والمثل العليا وهو أيضاً يرى أن لا خير يرجى للإنسانية من أية محاولة للتحديد والإشراف على وسائل القوة لأن الذي يضمر الخبث يعكر صفو المن ولو بدون أسلاح، بل الخير كل الخير في أن تجتمع القوة المادية والإيمان بالمثل العليا في أمة أو أمم من العالم حتى نزجر بالقوة من تلقاء نفسها عن التمادي في الطغيان، وفي الوقت نفسه تكون تلك القوة ضماناً لنشر وتقوية المثل العليا في العالم، وحفظها من أن تنهك على يد أي طاغية أثيم.
ثم يعبر إقبال عن رأيه الذي وصل أليه لا عن طريق التعصب للعقيدة التي ورثها عن أبيه، بل عم طريق البحث العلمي والفكر الفلسفي، من أن الامة الإسلامية هي التي تمتاز(934/21)
من بين جميع الأمم بالقيم الأخلاقية والمثل العليا التي تجعلها جديرة بأن تتزعم قضية الأمن والسلام في العالم. إلا إنها في القوت الحاضر تفتقر إلى القوة وذلك نتيجة لإهمالها الوسائل العلمية والفنية التي توجد القوة وكم يتمنى إقبال لو اجتمع للأمة الإسلامية، إلى جانب المثل العليا، القوة التي تسندها وتؤازرها حتى تتمكن هذه الأمة من أن تلعب دوراً فعالاً لرخاء الإنسانية ورفاهيتها. وكثيراً ما يردد إقبال وقعة إسلام التتار، فإن التتار، قبل أن يسلموا، كانوا يمثلون القوة المحضة، أما المسلمون فقد ظلوا إبان انهزامهم حفظة للقيم الأخلاقية العزل من القوة حتى أسلم التتار، فكان ذلك بمثابة قران سعيد بين القوة والمثل العليا، كأن الإسلام استبدل سيفاً جديداً صارما بسيف مفلول، وهكذا استمرت عظمته بضعة قرون أخرى ولكن على الأمة الإسلامية واجباً آخر وهو العمق في دراسة المبادئ الإسلامية والتشبث بها، والإخلاص لها ريثما تتقدم بخطى ثابتة لاستكمال القوة، وذلك لأن الضعيف ربما يفقد الثقة في نفسه وفي مبادئه. وهل من شك إن الأمة الإسلامية إن هي تخلت عن مبادئها فحصولها على القوة سوف لا يكون ذا مغزى كبير. ولعل مظاهر التخلي عن المبادئ السامية تخاذل الشعوب الإسلامية لأغراض تافهة خسيسة، واعتبارت دبلوماسية مغرضة. ألا فلتسترد هذه الأمة الثقة بنفسها والايمان بمبادئها حتى تثبت جدارتها لمزاولة القوة في سبيل خير الإنسانية.
وأخيراً تتلخص مأساة (إنسان العصر الحاضر) عند إقبال في قوله:
العشق ينقصه والعقل ينهشه
لا يستطيع قياد العقل بالنظر
دور الكواكب لا يخفى على درك
لا يستطيع هدى في عالم الفكر
العشق هو الإيمان بالمبادئ العليا. والعقل هو التقدم في العلوم والفنون. والنظر هو العور بالمسئولية أمام الله.
محمد يوسف(934/22)
عاصمة السودان الوطنية
أم درمان
الأستاذ علي العماري
لعل الشرقيين أزهد الشعوب في معرفة بلادهم، فالحديث عنهاليس
بالعذب المستساغ عند أكثرهم، وربما بقي الواحد من مثقفيهم الدهر
الطويل في مدينة من المدن دون أن يعرف كثيراً أو قليلاً عن تاريخها
ومعالمهما. وقد يقرأ في كل كتب إلا الكتاب الذي يتحدث عن البلدان
وتاريخها، وعما فيها من آثار قديمة أو منشآت حديثة. ولا أنس أبداً
أني كنت مسافراً مرة في القطار الذي يبرح القاهرة إلى أسوان، وكان
في جانبي رجلاً في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، ويبدو من هيئة
حديثه أنه من ذويالثراء وتشعب بنا الحديث فنونا حتى وصل القطار
إلى مدينة المينا عروس الصعيد، فأطل الرجل من النافذة ثم عاد وفي
وجهه آثار الدهشة والاستغراب وقال بلهجة المأخوذ: غريبة! إن في
هذا البلد شوارع منظمة وأبنية جميلة، قلت له: أمصري أنت؟ قال:
نعم. قلت أين تعيش؟ قال: في الإسكندرية، قلت: أظنك تعرف روما
وباريس ولندن معرفة دقيقة. قال نعم، قلت: أما سافرت أبداً إلى
الصعيد؟ قال: لا، والفكرة التي في ذهني عنها تختلف كل الاختلاف
عما أراه الآن. قلت: ما هذا، لست مصرياً وإن اسمك رمسيس الأول!!
كما لا أنس أني لقيت رجلاً مثقفاً في مدينة أم درمان أكثر من أربع سنوات، وهو يسكن في الجانب الغربي منها جد قريب من ار المعهد العلمين وقد جرى مرة بيننا حديث في شؤون المعهد فسألني أين تقع دار هذا المعهد؟(934/23)
وفي يقيني أن هذا الجهل يرجع إلى ضعف الشعور القومي في النفوس، فإنه كلما قوي هذا الشعور أحس صاحبه أن كل شبر من أرض الوطن إنما هو ملكه، حتم عليه أن يعرفه، وأن يعرف تاريخه، وطبعي أني لا أقصد أن كل المثقفين يجهلون معالم أوطانهم، وإننا أعني أن الجمهرة الغالبة تعني بهذه الناحية العناية الواجبة، وقد حملني على كتابة هذا المقال ما لمسته في كثير من المتعلمين عندنا من جهل بشؤون المدن السودانية.
ينساب النيل الأبيض منحدراُ من المنطقة الاستزائية، ويجري النيل الأزرق هابطاً من مرتفعات الحبشة، ويمران بمدينة الخرطوم، أحدهما على جانبها الغربي، والآخر على جانبها الشرقي، وما يكادان يصلان إلى نهايتها الغربية البحرية حتى يلتقيا، ثم يسيران متناكرين مسافة قصيرة، ويستطيع النظر السطحي ان يميز بينهما حيث يفصلهما خيط دقيقي، ولكن هذا التناكر لا يستمر طويلاً فيختلطان، ويسيران على جانب النيل الأزرق الشرقي، أما أم درمان فتقع على الضفة الغربية للنيل الكبير، وقبيل التقاء النيلين تقوم حدائق جميلة تسمى حدائق (المقرن) وهي من أحسن الأمكنة وأطيبها هواء، وفيها يقول الأستاذ العقاد:
تفسير حلمي بالجزي ... رة وقفتني بالمقرن
حلمان حظهما خيالاً ... دون حظ الأعين
ما دامت بينهما فما ... أنا سائل عن مسكني
ويعجبني قول الكتاب السودانيين يصف التقاء النيلين عند المقرن، إذ يقول: (هل استمتعت بذياك المرأى الطبيعي البديع الساحر، مرأى ملتقى النيلين الحبيبين، لقد أتى أحدهما ينساب من أقصى االجنوب، والآخر من اقصى الشرق، فأصبح هذا المكان مكان التقائهما علما مقروناً باسميهما، أنهما قد التقيا عند هذا المكان، واقترنا في شوق، بل تصافحا بجسميهما، أنهما لم يفكرا في الفكاك من هذا الاقتران ولم يفكرا
ولما التقيا قرب الشوق جهده ... حبيبين فاضا لوعة وعتابا
كأن حبيباً في خلال حبيبه=تسرب أثناء العناق وغابا
ولشد ما أعجبني تمثل الكاتب بهذين البيتين في هذا الموضع ويصل بين الخرطوم وأم درمان جسر جميل، أقيم سنة 1928. أما مدينة أم درمان فهي مدينة كبيرة مبانيها فسيحة،(934/24)
وشوارعها متسعة. وأول من عمر أم الشمالية حكومة المهدية، أما جنوبها فكان حلة صغيرة قائمة في سهل فسيح رملي لا شجر فيه، وكان يسكن هذه الحلة الأهلون من (الفتيحاب) وهم سكان الخرطوم الأصليون كذلك، وكانت لهم منازل متفرقة على شاطئ النيل الأبيض الغربي، والفتيحاب من قبائل الجموعية، وهم وإخوانهم من الجيعاب، والسروراب، والجعليين والميرفاب، والرباطاب، والشايقية، ينتسبون إلى العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه. وقد استولى المهدي على أم درمان سنة 1885م ولما جاء الخليفة التعايشي حبب الى الناس السكنى فيها، فبنيت الدور، واتسع عمرانها. وكل منازلها طبقة واحدة إلا النادر القليل، وفيها مبان كثيرة بالحجر على النظام الحديث، وقد كان سكان المدينة قبل المهدية 400 ألف نسمة، ثم تناقص هذا العدد إلى 25 ألف سنة 1903، أما عدد السكان - الآن آخر إحصاء - فهو نحو 137 ألف نسمة.
ويخترق أم درمان شارع طويل يسير فيه الترام يبتدئ من الجسر الفاصل بينها وبين الخرطوم، وينتهي في الجانب الشرقي منها حيث يسير قليلاً على النيل. أما غربها وشمالها فصحراء لا نبت فيها ولاماء. ويقع جبل كرري المشهور في التاريخ شمالها، والهابط منه إلى المدينة يأخذ في شارع يسمى بهذا الاسم أيضاً.
وفي أم درمان مدارس حكومية وأهلية، وسطى، وثانوية، وأولية، فيها مدارس الأحفاد، وهي مدارس ذات فضل لا ينكر على السودان، والمدرسة الأهلية، وفيها مدارس الراهبات للبنات وهي روضة وابتدائي وثانوي. وبهذه المناسبة أذكر أن السودانيين غير متحمسين كثيراً لتعليم البنت. وفي ظاهر أم درمان من الناحية الغربية يقوم بناء المعهد العلمي، وهو معهد منذ أربعين سنة تقريباً، وكانت الدراسة في مسجد أم درمان الكبير وانتقلت قريباً إلى الدار الجديدة، وفي المعهد الآن نظامان: نظام قديم، ونظام جديد تشرف عليه الحكومة أشرافاُ كلياً، تضع له المناهج، وتعي المدرسين، والمعهد ابتدائي وثانوي وعالي، ومنه يتخرج حاملو الشهادة العالمية على نظام الأزهر القديم، وهم يؤدون الآن مهمتهم في السودان بجدارة وإخلاص، ويراد أن يكون في المعهد - بعد الثانوي - كليات، على نظام كليات الأزهر، ولا تزال المعاهد في الأقاليم ترتبط بهذا المعهد ارتباطاً، وفي هذا المعهد يقول الشاعر التيجاني يوسف بشير:(934/25)
السحر فيك وفيك من أسبابه ... دعة المدل بعبقري شبابه
قسم البقاء إليك في أقداره ... من شاد مجدك في قديم كتابه
وأفاض فيك من الهدى آياته ... ومن الهوى والسحر ملء نصابه
اليوم يدفعني الحنين فأنثني ... ولهان مضطرباً إلى اعتابه
سبق الهوى عيني في مضماره ... وجرى وأجفل خاطري من بابه
ودفنت غض صباي تحت ظلاله ... ودفنت بيض سني في محرابه
ألقيتمن عنت (الزيود) مشاكلاً ... وبكيت من (عمرو) ومن أعرابه
وطلاب المعهد يبلغون - الان - نحو ستمائة طالب، أما مدرسوه فنحو الأربعين، ومنهم منتدبون من الأزهر الشريف وهم خمسة، ومنهم سودانيون متخرجون في الأزهر، وبعضهم من خريجي كلية غردون أو المدارس الثانوية، وأكثرهم متخرجون في المعهد ذاته، وشيخ المعهد الآن مفتى السودان السابق الشيخ أبو شامة عبد المحمود، وهو سوداني، وكل من سبقه في مشيخة المعهد كان من السودانيين أيضاً.
وفي أم درمان أكثر دور الاحزاب السياسية، وهي من هذه الناحية تمتاز عن الخرطوم. كما تفد إليها السلع من كل أنحاء السودان، وفيها يمنويون كثيرون، وهنود، وشوام، ويونان، ومصريون، وكثير من التجارة في أيدي هؤلاء. وأهل أم درمان، كأهل السودان جميعاً، متدينون، يؤدون الصلوات في أوقاتها، ويخرجون الزكاة، والأمن والأمانة متوافران عندهم.
وفي أم درمان تقوم قبة المهدي، وفيها بعض آثاره ومخلفاته، وأمامها ساحة كبيرة محوطة بسور مرتفع مستطيل طوله 460 ياردة، وعرضه 350 ياردة، وفيها محطة الإذاعة السودانية. ومحطة الارسال وقد لفت نظري وأنا أطالعفي دواوينالشعراء السودانيين أني لم أجد لأم درمان موضعاً في أشعارهم، مع إني وجدت قصائد في مدن كثيرة من مدن السودان، في الابيض عروس الرمال، وفي النهود وفي كسلى، وفي سنار حيث يقول شاعرهم:
زرت سنار والجوانح أسرى ... زفرات هدت قوى الصبر هدى
اسعدتنا فيها الغداة دموع ... لم تخنا بالأمس في دار سعدى
أن محا الدهر حسنها فلقد كا ... نت مرادا للمتقين وخلدا(934/26)
كم لها في الرقاب منا ديوان ... وعزيز على إلا تؤدى
وجميل أهلها عند أهلى ... ويد بالصنائع الغر تندى
وهي قصيدة تذكرني بقصيدة البحتري في إيوان كسرى، وسناركانت عاصمة مملكة الفونج، وهي مملكة شهيرة فيالتاريخ، وبعضهم ينسب هؤلاء إلى الغمر بن يزيد بن عبد الملك، هربوا إلى السودان حين أساء العباسيون معاملة الأمويين.
والوقت الذي لا نجد فيه قصيدة واحدة في دواوين الشعراء عن أم درمان، نجد قصيدة لأحد شعرائهم المشهورين في باريس مع أنه لم يبرح السودان!
وقد أهدي إلي بعض الأصدقاء قصيدة في ام درمان مخطوطة لأحد الشعراء، كما قرأت أغنية تذاع من محطة الإذاعة عن أم درمان وهي اغنية جميلة.
(وبعد) فهذه لمحة تعرف، وفيها بعض الغناء
علي العماري(934/27)
شوقية لم تنشر في الديوان. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
يسرني أن أقدم لقراء الرسالة الغراء في كافة أقطار العروبة هذه الجريدة العصماء لخالد الذكر المرحوم أحمد شوقي بك أمير شعراء الضاد بمناسبة قضايا مصر الأخيرة المتعلقة ببريطانيا، والتي نسج ردتها الشاعر في ذكرى 13 نوفمبر سنة 1918
بـ (جهاد مصر الوطني) وقد عثرت عليها وأنا أنقب في اوراق قديمة لي كنت أحتفظ بها ضمن مجموعة من المجلات العربية. وكانت هذه الرائعة منطوية بين دفتي مجلة (الزهراء) التي كان يصدرها في القاهرة آنذاك الأستاذ محب الدين الخطيب، ويرجع تاريخ العدد من المجلة نفسها إلى سنة 1926 أو 1345هـ وقد راجعتالشوقيات بأجزائها الاربعة فلم أعثر عليها فعجبت كيف غفل أميرنا عن درجها في الجزء الاول والثاني من شوقياته وقد طبعها في حياته. وإذا كان المرحوم قد سها عنها فكيف غربت عن بال أنجاله عندما أعدوا الجزء الرابع من شوقياته للطبع؟ هذا سؤال أود أن أوجهه إلى الأستاذ علي شوقي وزير مصر المفوض في فرنسا حالياً لعل هناك سبباً أجهله أنا.
أما من ناحية القصيدة فهي له بلا ريب لأنها لا تختلف عن شعره من ناحية إشراق الديباجة ومتانة السبك وفخامة المعنى، وسلاسة الطبع. . وخصوصاً استشهاده بوقائع من التاريخ الاسلامي وإشارته إلى حالات خاصة به. وسيطلع عليها القراء ضمن القصيدة. . . هذا إلى إنني أود أن أنبه الكرام من قراء الرسالة الزاهرة إلى أن بعض الادباء وأنصاف المتأدبين من العراقيين ينحرفون في كثير من الأحيان وراء عواطفهم وعصبيتهم الإقليمية، فيدعون بأفضلية شعر المرحوم معروف الرصافي على شوقي، متأثرين بما يلقهم الجهلة من أساتذة الأدب العربي في مدارس العراق الرسمية. وأنا لا اعرف كيف يسوغ لهؤلاء الاساتذة الذين يفخرون بأنهم من حملة الشهادات العالية أن يقارنوا الرصافي بشوقي، وفي أي الحدود والموازين، وما هو وجه التفاضل بينهما، فإلى هؤلاء جميعاً أقول أن شوقي قمة شامخة من قمم الشعر العربي الأصيل، لا يرقى إليها حتى أبو الطيب المتنبي. اما الرصافي كما قال المعري عندما قرأ عليه شعر أبن هانئ الأندلسي (رحى تطحن قروناً) إذن أن أكثر شعره رحمه اله خطاب يعتمد على فخامة اللفظ وإيقاع الجرس حتى لترى في(934/28)
كثير من شعره الخلو من المعنى، وخصوصاً في قصائده التي كان يلقيها في الحفلات التي يدعى إليها، لأنه كان يعتمد على التأثير على السامعين بالألفاظ لا بالمعاني، وبعبارة أخرى خلو شعره من الفن الصادق الذي يتسم به شعر شوقي. وقد يقول قائل إنني بهذه الكلمة أتجنى على المرحوم الرصافي وأنا عراقي، ولكنني أقول إن هذا هو الحقيقة، لأنني لا زلت من أشد المعجبين حماسة بوطنيته وإبائه، وقد نوهت عن ذلك في سلسلة مقالات نشرتها في مجلة الحديث الحلبية قبل سنتين، كما قلت في رثائه من قصيدة طويلة:
فدعوا القريض لأهله فعميده ... معروف غادر عرشه محزونا
الشاعر الحر الذي بيراعه ... راع (الملوك) وورع (الطاغينا)
فأنا الآن إذن لا أتحامل ولكني أقرر الواقع، وهاهي قصيدة شوقي الخالدة، وبرغم أنها نظمت سنة 1918 فهليستطيع أن ينظم شاعر مهماً دان له البيان مثلها؟!
خطونا في الجهاد خطى فساحاً ... وهادنا ولم نلق السلاحا
رضينا في هوى الوطن المفدى ... دم الشهداء والمال المطاحا
ولما سلت البيض المواضي ... تقلدنا لها الحق الصراحا
فحطمنا الشكيم سوى بقايا ... إذا عضت أريناها الجماحا
وقمنا في شراع الحق نلقي ... وندفع عن جوانبه الرياحا
نعالج شدة ونروض أخرى ... ونسعى السعى مشروعا مباحا
ونستولي على القسمات إلا ... كمين الغيب والقدر المتاحا
ومن يصبر يجد طول التمني ... على الأيام فقد صار اقتراحا
وأيام كأجواف الليالي ... فقدن النجم والقمر اللياحا
قضيناها حيال الحرب نخشى ... بقاء الرق أو نرجو السراحا
تركن الناس بالوادي قعوداً ... من الاعياء كالإبل الرزاحى
جنود السلم لا ظفر جزاهم ... بما صبروا ولا موت أراحا
فلا تلقى سوى حي كميت ... ومنزوف وان لم يسق راحا
ترى أسرى وما شهدوا قتالاً ... ولا اعتقلوا الأسنة والصفاحا
وجرى السوط لا جرحى المواضي ... بما عمل الجواسيس اجتراحا(934/29)
صباحك كان إقبالا وسعداً ... فيا يوم الرسالة عم صباحا
وما نألوا نهارك ذكريات ... ولا برهان غرتك التماحا
تكاد حلاك في صفحات مصر ... بها التاريخ يفتتح افتتاحا
جلالك عن سني الأضحى تجلى تجلى ... ونورك عن هلال الفطر لاحا
هما حق وأنت ملئت حقاً ... ومثلت الضحية والسماحا
بعثنا فيك (هاروناً) وموسى ... إلى فرعون فابتدرا الكفاحا
وكان أعز من روما سيوفاً ... وأطغى من قياصرها رماحا
يكاد من الفتوح وما سقته ... يخال وراء هيكله (فتاحا)
ورد المرسلون فقيل خابوا ... فيا لك خيبة عادت نجاحا
أثارت وادياً من غابتيه ... ولا مت فرقة وأست جراحا
وشدت من قوى قوم مراض ... عزائمهم فردتها صحاحا
كأن، بلال نودى: قم فأذن ... فرج شعاب مكة والبطاحا
كأن الناس في دين جديد ... على جنباته استبقوا الصلاحا
وقد هانت حياتهم عليهم ... وكانوا بالحياة هم الشحاحا
فتسمع في مآتمهم غناء ... وتسمع في ولائمهم نواحا
حواريين أوفدنا ثقاة ... إذا ترك البلاغ لهم فصاحا
فكانوا الحق منقبضا حييا ... تحدى السيف من صلتنا وقاحا
لهم منا براءة أهل بدر ... فلا إثماً تعد ولا جناحا
نرى الشحناء بينهم عتاباً ... ونحسب جدهم فيها مزاحا
جعلنا الخلد منزلهم، وزنا ... على الخلد الثناء والامتداحا
يميناً بالتي يسعى إليها ... غدوا بالندامة او رواحا
وتعبق في أنوف الحج ركناً ... وتحت جباههم رحباً وساحا
وبالدستور وهو لنا حيات ... نرى فيه السلامة والفلاحا
أخذناه على المهج الغوالي ... ولم نأخذه نيلاً مستماحا
بنينا فيه من دمع رواقاً ... ومن دم كل نابتة جناحا(934/30)
لما ملأ الشباب كروح سعد ... ولا جعل الحياة لهم طماحا
سلوا عنه القضية هل حماها ... وكان حمى القضية مستباحا
وهل نظم الكهول الصيد صفاً ... وألف من تجاربهم رداحا
هل الشيخ الفتى لو استراحت ... من الدأب الكواكب ما استراحا
وليس بذائق النوم اغتباقاً ... إذا دار الرقاد ولا اصطباحا
فيلك ضيغما سر الليالي ... وناضل دون غايته ولاحى
ولا حطمت لك الأيام ناباً ... ولا غضت لك الدنيا صباحا
وبعد فهذه عصماء شوقي سقتها لتكون شاهداً على عبقريته ولتضم إلى مجموعة شوقياته، وخصوصاً إلى عشاق شعره الذين لا يحتفظون بنسخة منها.
وفي الختام أود أن أنبه أساتذة الأدب العربي في العراق وفي مدارسها التي تشرف عليها وزارة المعارف إلى أن لا يهرفوا مرة أخرى أمام طلابهم بأن الرصافي أشعر من شوقي، خوف أن يأتي زمن نكون فيه معرة المثقفين العرب. اللهم أهد لقد بلغت.
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري(934/31)
مقدمة لكتاب (عقيدتي)
برتر اند رسل
الفيلسوف الإنجليزي المعاصر
للأستاذ عبد الجليل السيد حسن
فلسفته:
لا نظنك ظاناً أننا آخذون في تفصيل فلسفة برتر اند رسل، في هذا المكان، بل حتى ننأى بك عن أن تظن أننا آخذون في إجمالها لك الآن، وأنت تعرف من دون شك أن هذا الفيلسوف قد جال في ميادين عدة، كل ميدان منها يحتاج إلى غزو وتذليل، فأنت تعرف أنه فيلسوف قبل كل شيء ومنطقي، بل إمام في المنطق، وصاحب مذهب جديد فيه، ثم هو عالم رياضي من الرعيل الاول وكاتب اجتماعي وأخلاقي وصاحب أراء في التربية، وهو في كل ذلك نسيج وحده، يتناول كل شيء بعقله الخاص وذهنه العجيب. فهو حر إلى أبعد حدود الحرية، يمقت الاستعمار ويزدريه. ويرى أن بريطانيا بدون مستعمرات، وإمبراطورية، تكون أسعد مما هي عليه الآن، ولعل في ذلك أثر من جدته، ثم هو ببغض الألقاب والمزايا الوراثية ويسخط عليها مع أنه سليل اللوردات أرستقراطي الأصل.
وأن مفتاح فلسفة رسل هو الفكر الحر والنظر العقلي البحت والاطمئنان إلى ما يطمئن إليه العقل والنفور مما لا يتفق معه، ولا شك أن عقلاً هذه طبيعته وذهنا هذه خصائصه، لابد أن يتجه إلى الرياضة، فهو مثال العلمالعقلي الدقيق ولكن عقلاً جبل على النظر الحر لا بد أن يستقرئ ويتعمق حقائق الرياضة. فقاده ذلك إلى القضايا الأولية التي تتركب منها الرياضة، ولكن هل الرياضة هي الوحيدة التي لها هذه الميزة وهذه القضايا.؟ لا، إن هناك علماً آخر هو المنطق، علم النظر العقلي الدقيق أيضاً، فليدرس المنطق، ولكنه يجد أن المنطق يتكون من بديهيات عقلية أساس للحقائق الرياضية، إذن فالرياضة والمنطق أساسهما واحد، بل إن الرياضيات والمنطق الصوري شيء واحد، وفي مقدور العقل أن يستنتج كل حقائق الرياضيات من عدد صغير من البديهيات المنطقية، إذن فلابد للعقل أن يسير بهدى هذا المنطق، ولكن ليس هو المنطق القديم العقيم. وقد اتخذ رسل طريقة قويمة هي(934/32)
طريقةالتحليل المنطقي، وكان أعظم ما عمله رسل هو تخليص التحليل المنطقي من سيطرة النحو التقليدي، فإن المهني النحوي لجملة من الجمل لا يؤدي لا معنى المنطقي لهذه الجملة، فحينما نقول: (أن وحيد القرن غير موجود حقيقة) فهذه الجملة ليست من نوع الجملة التي تماثلها من الناحية النحوية وهي (إن الأسود غير وديعة) فالجملة الأخيرة تعني أن هناك حيوانات معينة اسمها الأسود صفة معينة وهي الوداعة، ولكن الجملة (وحيد القرن غير موجود) لا تعني أن هناك حيوانات اسمها وحيد القرن وتنقصها صفة الواقعية، لأنه ليس هناك مثل هذه الحيوانات حتى تكون هناك مثل هذه الصفة.
إن أهم شيء في فلسفة رسل هو منطقه وآراؤه فيما بعد الطبيعية والأخلاق والطبيعة، والعلاقة بين المادة والعقل، ويمتاز رسل بتحليله المنطقي العميق وهو يحب أن لا توضع فلسفة في صف الفلسفة المثالية أو الواقعية، بل يفضل أن توصف بأنها (منطقية ذرية) لأن الشيء الذي يميز كل دراسته هو استخدامه للتحليل المنطقي كطريقة ومنهاج، واعتقاده أنه، بهذه الطريقة يستطيع أن يصل إلى رأي مقبول في طبيعته المادة فالمادة مكونة من ذرات وبتحليله المادة تحليلاً منطقياً يستطيع الوصول إلى حقائق ووقائع ذرية والذي يجدر بنا الإشارة الآن هو رأي رسل في المعرفة لأنه بمثابة العمود الفقري من فلسفته فيقول رسل (إن كل حقائق معرفتي عن العالمالخارجي هي حوادث في عقلي) (ص 171) ويوضحذلك فيقول (إن ما أعرفه بدون استنتاج حينما أكون حالة، ولتكن (رؤية الشمس) ليس هو الشمس بل حادثة عقلية في نفسي، وأنا لا أشعر بالموائد والكراسي الموجودة الآن، بل إن ما أحس به هو تأثيراتها المعينة فيَّ، وإن موضوعات الإدراك الحسي التي أعتبرها (خارجية) بالنسبة إليَّ مثل السطوح الملونة التي أراها ليست خارجية إلا في فراغي الخاص الذي يتوقف عن الوجود حينما أموت) (ص225).
(وحينما يقال إني أرى المائدة فإن الذي يحصل حقيقة هو أني أحس بإحساس مركب يشابه - باعتبارات معينة - في بنائه المائدة الطبيعية) فالإنسان حينما يرى المائدة لا يرى المائدة، بل إنما يرى منها لونها وشكلها، وإذا لمسها أحس بها، ولكنه لا يرى اللون أو الشكل حقيقة بل كل ما يحدث أن الإشعاع اللوني على بصره وأنه لا يرى الشكل كاملاً مستطيلا أو مستديراً مثلا بل يراه من جهة واحدة، ثم هو الذي يعطي له الشكل المستطيل(934/33)
او المستدير، وحينما يلمسها فكل ما يحدث أن يتأثر إحساسه تأثيرات خاصة (فلسنا نرى حقيقة الموضوعات الطبيعة بشيء أكثر من سماعنا للموجات الكهرطيسية حين سماعنا للراديو) (ص 311).
والأمر الرئيسي في هذا القول هو إنني حينما أرى شيئاً وليكن مائدة مثلاُ فأن إدراكي الحسي هذا هو حادثة في عقلي أنا، ولكن ما هو الإدراك الحسي؟
يجيب رسل عن ذلك بأنه - كما يستعمل اللفظة - ما يحدث حينما يرى شيئاً أو يسمع شيئاً أو حينما يعتقد في نفسه أنه أصبح يشعر بشيء خلال حواسه.
وأما آراؤه في التربية فهو يرى انه ينبغي أن تعالج التربية في السنوات الأولى من الطفولة لأنه بعد سن السادسة تقريباً يكون قد تكون لدى الطفل عادات وميول بها يسهل قياده في الطريق الصحيح المراد أن يسلكه، فنحن نستطيع أن نشكل أو نوجه غرائز الطفل وقواه في سنواته الأولى إلى ما نريده من تربية. والطفل ليس شريراً أو خيراً بفطرته، بل أن الذي يحوله إلى الخير أو الشر هو التوجيه التربوي القويم أو المعوج في السنوات الأولى، ويهدف من التربية إلى خلق أناس يتوفر لديهم من النشاط والحيوية والشجاعة وعدم الخوف والذكاء وسعة الأفق وأتساع العقلية الشيء الكثير. ولا بد من الحرية الفكرية وتشجيع العزيمة - لدى الشباب - إلى مناقشة كل أمر، والإيمان بأن المعرفة يمكن تحصيلها، وأنها ليست مستحيلة وإن كانت صعبة في بعض الأحيان.
ومن المفيد أن يربط بين العلم النظري والحياة العملية وتبين فائدة العلم النظري في الحياة للأطفال، وليس معنى ذلك إهمال العلم المحض، فهناك علوم لها قيمة كبرى بغض النظر عن تطبيقاتها العملية.
ولنستحضر أمام أعيننا أن الحياة السعيدة هي تلك الحياة التي يفعم جوانبه الحب، ولكنه ليس حباً تقوده أمور اعتباطية، بل هو الحب الذي تقوده وتدير رحاه المعرفة والعلم، فمعرفة بدون حب تؤدي إلى هلاكنا، وحب بدون معرفة يؤدي إلى هلاكنا أيضاً.
وهل هناك من إله؟ يقول رسل أن لا! وأن كان هناك إله فهو إله محدود، وليس ببعيد أن يقول ذلك فهو الذي يقول أن الانسان وحش وإله. وليس هناك من إله مطلق القوة والقدرةبالصفات التي يعتقدها المستيحيون في الله، لأن الله لو كان مطلق القدرة ما خلق هذا(934/34)
العالم الناقص. وقد برهن ليبتز على ان الشر من الضروريأن يوجد في العالم لكي يكون من الممكن إظهار خير أعظم منه ولكن ليبتز لم يلاحظ أن نفس الدليل يثبت أيضاُ وبنفس القوة أنه من الضروري وجود الخير لكي يكون من الممكن إظهار شر أعظم منه، ولو أن عالماً سيئاً بعض السوء قد خلقه إله مطلق الإحساس، فان عالماً خيراً بعض الخير قد يكون الذي خلقه شيطان مطلق الشر، وكلا الدليلين يبدوان إنهما محتملان عند رسل، ويكفى إنهما محتملان وليسا بنقيين فيالرد عليهما.
ونختتم الآن هذا العرض الموجز لحياة رسل، وطرفاً من فلسفته بنقل تجربة عاناها برتر آند رسل نفسه وسجلها في أحد كتبه قال (إني لم أولد سعيداً. . . وفي سن الخامسة تفكرت في إنني لو عشت إلى السبعين أكون فقط قد تحملت إلى الان جزءاً من أربعة عشر جزءاً من حياتي وشعرت أن الشقاء الطويل المدى الذي أمامي مما لا يمكن تحمله، وفي المراهقة عفت الحياة وكنت على شفا الانتحار الذي لم يمنعني منه إلا رغبتي في أن أتزود أكثر من الرياضيات. والآن فإني على العكس أتمتع بالحياة، وبالأحرى يجب أن أقول إنني أتمتع بها بمرور الأعوام، وهذا راجع نوعاً ما إلى توفيقي في اكتشاف الأشياء التي أرغب فيها أكثر، وقد حصلت على كثير منها تدريجاً، وهذا راجع إلى نجاحي في طرد أشياء - كانت موضع الرغبة - مثل الحصول على معرفة حقيقية لا تقبل شكاً عن شيء أو غيره - لأنها من المحال إدراكها، ولكن هذا يرجع في الغالب إلى التقليل من محاسبة نفسي، فقد كنت كالآخرين الذين تلقوا تربية جافة (حنبلية) كثير التأمل في خطاياي وحماقتي وتقصيري وبدوت لنفسي - ومن دون شك كان ذلك صادقاً - مثلاً تعساً، وبالتدريج تعلمت أن أكون قليل الاهتمام بنفسي وبتقصيري، وأخذت أركز انتباهي بازدياد نحو الموضوعات الخارجية: حالات العالم، الفروع المختلفة للمعرفة، والأشخاص الذين أشعر نحوهم بحب. وحقاً إن الاهتمام بالأشياء الخارجية له المه المحتمل: فقد يشتبك العالم في حرب، وقد تكون المعرفة من الصعب الحصول عليها في بعض النواحي، وقد يموت الاصدقاء، ولكن الآلام من هذا النوع لا تقضى على القيمة الجوهرية للحياة كهذه الآلام التي تصدر عن النفور مع النفس، وكل اهتمام خارجي يوحي - ما دام الاهتمام فعلاً قوياً - بشيء من النشاط الذي يعتبر وقاية تامة من السآمة والضجر، وعلى العكس من ذلك لا يؤدي الاهتمام بذات(934/35)
الشخص إلى نشاط من النوع المتزايد).
والآنلندع رسل يحدثنا عن عقيدته وقد عرضها في كتابه هذا الصغير، وهو على رغم صغره أحد المراجع الهامة في فلسفة رسل، وميزة الكتب الصغيرة إنها تعرض المؤلف وعقيدته الخاصة لأنه ليس هناك من مجال لعرض آراء غيره وللمناقشات الطويلة التي لا يعرف منها رأي الكاتب إلا بعد طول عناء.
للكلام بقية.
عبد الجليل السيد حسن(934/36)
رِسَالَة الشِعْر
حياتي ظلال!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
حياتي ظلال وعيشي ملال ... ونفسي مغلفة بالعذاب!
وعمري قيود لروح شرود ... تفرد. . . لا موطن أو صحاب!
وحبي سراب طواه اليباب ... وقد كان يسعد قلبي الحزين
وقلبي غريب جفاه الحبيب ... وأودع فيه لهيب الحنين
وصمتي أنين خفي الرنين ... ويناجى عهودا طواه الخفاء
وتلك العهود تراها تعود ... وتسقى حياتي رحيق الصفاء؟
وشعري نواح كشجو الرياح ... إذا مزقتها شعاب الجبال!
ومن ذا يلوم؟ وعمري غيوم ... تعربد فيها رياح الزوال!
عبرت الوجود بناي وعود ... وغنيت ما هز قلب الجماد
فضاع الغناء ومات الرجاء ... وصارت حياتي. . . بقايا رماد!
ومجدي هباء كنجم أضاء ... لعابر ليل شريد غريب
فما أتاه توارى سناه ... وخلفه للظلام الرهيب
وحظي ضياع وحقي مضاع ... أحارب من أجله الغاصبين
وكم ذا أثور كنار تفور ... فيستنصر الظلم بالظالمين
وكم ذا بليت وكم ذا اشتكيت ... فضاعت شكاتي، وضاع البكاء
وما لي معين من البائسين ... فنأخذ ما نبتغي. . . بالدماء
وبض الأنام عبيد طغام ... يسخرهم سادة أدعياء!
أذاعوا الشقاء بأرض الثراء ... لتسعدهم شقوة الاشقياء!
فقدت العزاء وعفت البقاء ... يا أرض سقتني نقيع الشجون
أريد الرحيل كشمس الأصيل ... إلى عالم لا تراه العيون
وكيف الذهاب؟ وجسمي تراب ... ليفيني كما كان قبل الوجود
أمامي ظلال وخلفي قتام ... وتحتي ركام كجون السحاب(934/37)
وفوق الركام يسير الحطام ... وما هو إلا حطام الشباب
بعيد الديار وكيف المزار ... وما من دليل، ولا من طريق
شربت الهوان بكف الزمان ... فأصبحت من سكرتي لا أفيق
بمن أستجير؟ ومالي من نصير ... كأني أقيم بأرض الذئاب!
وكم لي نداء يهز الفضاء ... وما من مجيب، وما من جواب!
علام الشكاة لصم عتاه ... بكاء الحيارى لديهم. . . غناء؟
ويا قلب. . . آه! سئمنا الحياة ... فهي نسر في طريق الغناء!
إبراهيم محمد نجا
اللب والقشور
للشاعر محمد مفتاح الغيتوري
لا تحسبي سخرك من شعوري
يطفئ بين الملهمين نوري. . .؟
يا أرض. . . يا خانقة الزهور
يا عبدة الأصداف والقشور
يا مقلة شائهة التصوير. . .
يا كعبة ملعونة النذور. . .
يا جثة منتنة البخور. . .
لسوف يوماً تبصرين نوري
نور الفتى المحتقر الفقير
فتسجدين سجدة المقهور
خاشعة. . . هنا على حصيري
باسطة كفيك كالضرير
صارخة من وطأة الضمير
فعربدي راقصة وثوري(934/38)
واحتقري واستهزئي وجوري
وأغرقي ما شئت في الفجور
واستغرقي في وهمك النضير
فوق فراش الشهوة الوثير
وزهر القطيفة المنثور. . .
وتحت ضوء المرقص البللوري
ورنة الأرغن والطنبور
ورعدة الأكؤس في الثغور
وجيشان الرغبة المثير. . .
غداً تحين ساعة النشور ويعرف اللب من القشور
محمد مفتاح الغيتوري(934/39)
الكُتُب
مواطنون. . . لا رعايا
تأليف الشيخ خالد محمد خالد
للأستاذ علي العماري
هذا كتاب يجيء في أوانه، وبقدر ما أخفق المؤلف في كتابه (من هنا نبدأ) بقدر ما أصاب من نجاح في كتابه هذا، ومقياس الإخفاق والنجاح عندي هو سلامة الفكرة، وأصالة الرأي، والقرب من الصواب، والبعد من المغالطة والتعثر والاضطراب.
ولعل كتاب (مواطنون لا رعايا) من أجدر الكتب بأن يطلع عليه كل من يستطيع أن يقرأ في مصر، بل في الشرق، فهو جدير عليه كل من يستطيع أن يقرأ في مصر، بل في الشرق، فهو جدير بأن يطالعه الزعماء وقادة الرأي في البلد إن كان عند هؤلاء رغبة في مطالعة كتاب شعبي ألفه رجل ليس من كبار المؤلفين، ولكن قوله من أحسن وأجمل وأصدق ما يجب أن يقال، وهو جدير بأن يطالعه شباب مصر المثقفون لأنه يعبر عما يجول في النفوس من الآم وآمال، وهو جدير بأن يطالعه رجل الشارع لأنه يبصره بمواضع قدميه، ويقول الكلمة التي لا يستطيع أن يقولها وإن كانت تحوم على لسانه، وتستقر في نفسه.
بدأ المؤلف كتابه في الحديث عن الاستعمار التركي، وما أصاب مصر من بلايا ورزايا، وما خلف فيها من آثار سيئة في حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ثم قال - وهنا بيت القصيد -: (ونحن ننبش قبر الاستعمار التركي لنكتشف الأوتاد المطمورة تحت ترابه، والتي لا تزال تصلنا بها سلاسل وأغلال. وما لم ننظف روحنا المسيطر من رواسب الماضي فسنظل دائماً نعيش في ذلك الماضي برجعيته وفساده واستبداده، وسيظل الشعب جاثياً تحت الأثقال التي انقضت ظهره، وهدمت قواه إننا - الدولة والشعب - لا نزال نعيش في ذلك الماضي السحيق، فالعجز السياسي، والرجعية الاقتصادية، والانهيار الخلقي، والشعب المستسلم، والحكم الأتقراطي، والفساد الإداري، والحريات المصادرة، واستغلال الدين. كل هذه الخطايا تقترف اليوم بنفس الهمة العالية التي كانت تجترح بها في تلك(934/40)
القرون. إن الاستعمار التركي قد اختفى حكامه، وبقيت تقاليده وشعائره وأحكامه).
ثم تحدث عن الاستعمار الإنجليزي، مبيناً مثالبه وأخطاره، وشارحاً دخول الإنجليز مصر، والمظاهر المختلفة التي ظهر فيها الاستعمار، وأطال جداً في هذه الناحية، وانتهى إلى أن شيئاً ما تفعله الحكومة لن يخرج الإنجليز من مصر، فالمفاوضات لا ثمرة لها، والمنظمات الدولية خداع ونفاق وأداة في يد القوة، وإنما يخرج الإنجليز من مصر شيء واحد، هو القوة، ولا شيء غير القوة.
ولتحقيق هذه الغاية يتعرض المؤلف للأوضاع القائمة في مصر، وينقدها نقداً عنيفاً صريحاً لا مواربة فيه ولا التواء، ثم يوضح الطريق للاصلاح المنشود (ولقد حاولنا جهد هذا البحث المقتصد الموجز، أن ننفض عن أمتنا طغاة البغي، ورهج الانكسار، ونعاونها في فض قيودها وأغلالها، وسنرى خلال سيرنا مع هذه السطور ما يجعلنا نرتد عاجزين عن الاقتناع بأن لنا حقوقاُ ترعى وحرمات تصان) فينقذ الحياة النيابية، ويرسم الخطة لإصلاحها، وينقد الصحافة التي تجعل (الأخلاق التجارية تسيطر عليها أكثر مما يسيطر عليها الواجب الأدبي) وينقد الأحزاب ومناهجها وسلوكها في حكم الأمة (فالحزب الذي لا يستأثر بالحكم يستأثر بكل شيء معه. لقد آمنت بأن الاحزاب لا تحترم الشعب أبداً. أن الحزب - فيما يبدو - لا يريد نائباً يشرفه بعقله وماهبه، ولكنه يريد - بوليصة تأمين - تؤمن خزينته من الإعواز، ونفوذه من الخذلان. وبعد: فإن مجالسنا النيابية حتى اليوم لم تمثل الأمة بقدر ما مثلت الحزب. والبرلمان الذي يأتي ثمرة هذه الأوضاع الفاسدة - لا يحكم الحكومة بل تحكمه) وينقد الحكومات في معالجتها كل حركة بقانون، ويرى أن السلس الذي يصيب الحكومات في وضع القوانين هو أخطر ما تصاب به أمة، وأن محاولة زجر الشعب بقانون إنما هو كمحاولة إطفاء النار بقاذفات اللهب (ولسنا بذلك ندعو إلى شغب أو فتنة، بل إلى سكينة وسلام، وإنما دعاة الفتنة والثورة، بحق هم أولئك الذين يتحدون طبائع الاشياء ويحاربونها بقانون) ثم يصف خال الشعب في عبارات صريحة جريئة (إن بلادنا محرومة من أن تفكر لأنها محرومة من أن نقرأ، ومحرومة من أن نعبر ونقول، وهي ممنوعة من ذلك كله حرصاً على سلامة الدولة، وسلامة الهيئة الاجتماعية. مطلوب من الجماهير أن تبسط يدها إلى اللقمة العفنة، أو الحشرة الدسمة، ثم تدسها في فمها، وتستحلها(934/41)
كما تفعل بأي شيء حلو لذيذ. ماذا طرأ علينا من تغيير وتطوير؟ كنا بالأمس (عبيد الباب العالي) ونحن اليوم عبيد الحزب الحاكم. . أي حزب كنا بالأمس ضحايا النهب والرشوة والاستغلال، ونحن اليوم كذلك أيضاً. كنا بالأمس مسلوبي الحرية والإرادة. . . وليس لنا دستور، ونحن اليوم مسلوبي الحرية والإرادة والكرامة ومعنا دستور. كنا بالأمس أمة مستعمرة بإكراه، ونحن اليوم أمة مستعمرة بمعاهدة) ويدعو في قوة وحماس إلى تنمية غرائز الغضب والنفور، وحب الذات في الشعب، وتركها تؤتي ثمارها في تقدم الأمة وتحريرها، ويرى أن غريزة حب الذات من انبل وأنفع السلائق الإنسانية.
ولو أن المؤلف أضاف إلى هذه المثبطات لتقدم الأمة، والعوامل في تأخرها، ولو أنه أضاف الإذاعة المصرية التي قتلت في الأمة عزتها، والصحف الماجنة التي جنت على أخلاقنا أشنع الجنيات وأقتلها، لأتم بذلك الدائرة الحقيرة التي تضغط الشعب وتحكم قيوده.
ولم أرد بهذا العرض السريع أن أوصل إلى القارئ كل ما في الكتاب من حقائق، وما يشتمل عليه من توجيهات للحكومات والشعوب، وإنما أردت - فقط - أن أشير إلى روح الكتاب ونهجه.
على أني لا أخلي المؤلف من اللوم، فإن عنده عقدة نفسية من رجال الدين، فهو يهجم عليهم لغير مناسبة، ويجنى عليهم ولا جناية، وليس أدل على ذلك من ذكره لهم عند حديثه على غريزة الغضب وغريزة حب الذات، فهو يحاول أن يحملهم وزراً مع أنهم لا يخالفونه في الرأي، وهو عند - النظر الفاحص - لم يزد على ما يقولونه شيئاً، وأنا لا أريد أن أخلي رجال الدين من التبعات، ولا من اللوم، ولكني أحب أن نلوم عندما نجد موضعاً للوم حتى يكون لومنا مفيداً. كما أن المؤلف لم يوفق في كلامه على التقاليد وبخاصة حين قال: (والحقيقة التي تغرب عن بالنا هي أن الأديان جميعها لم تأت إلا لتدمدم على التقاليد وتقلعها ثم تذروها مع الريح. .) هكذا يعمم الكلام. . . وهو خطأ ذريع.
إن المؤلف أسرف في إرخاء العنان للغرائز التي ذكرها، ولكنه دون أن يشعر رجع إلى الاعتدال، فهو مثلاً ينقل عن بعض الكتاب مؤيداً ما يقول الكاتب، وفي هذه الكلمات التي أشاد بها المؤلف هذه الفقرات عن غريزة الغضب (ولكننا إذا أرخينا الحبل لهذا الحافز العاطفي الذي لا غنى عنه كانت النتيجة مدمرة، فإن البغضاء المزمنة أو إمساك الحقد في(934/42)
القلب يمزق صاحبه) وهذا هو الاعتدال الذي ينادي به رجال الدين ورجال التربية في كل الغرائز ولا شيء غير هذا، فإذا كان المؤلف مؤمناً بهذا الاعتدال فهو - إذن - لم يأت بجديد، وإذا كان يريد أن تترك الغرائز تجري غاية حضرها فقد أخطأ الطريق.
والمؤلف ينكب الجادة عن قصد أو غير قصد حين يدعو إلى التحالف مع روسيا، وحين يشيد بعبارات جميلة بروسيا وبمواقفها مع مصر، ولو التزم جانب السداد والنظر الفاحص، لرفض أن يدعو إلى التحالف مع روسيا كما يدعو إلى رفضه مع بريطانيا وأمريكا.
بريطانيا وأمريكا دولتان استعماريتان، تضمران للشرق كل شر. هذا صحيح. ولكن روسيا - أيضاً - كذلك، ولا أدري كيف نسى المؤلف أو تناسى معاونة روسيا على قيام إسرائيل!؟
إن روسيا تحارب الاستعمار في كل مظاهره - كما يقول المؤلف - ولكنها لا ترى بأساً من أن تساعد على طرد شعب من دياره ليحل محله شعب آخر! الحق يا أستاذ أن - الكفر كله ملة واحدة - كما يجري على الألسن.
وأعود فأقول إن المؤلف كفر بكتابه (مواطنون لا رعايا) عن كتابه (من هنا نبدأ) والحسنة كفاء السيئة.
ع. ع
كتب جديدة:
حافظ وشوقي
تأليف الأستاذ حسن كامل الصيرفي - 76 صفحة من الحجم الكبير - الطبعة الثانية بالمقتطف عام 1949
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
الأستاذ الصيرفي شاعر مجدد من المدرسة الحديثة في الشعر المصري المعاصر. وديوانه: (الألحان الضائعة) و (الشروق)، وألحانه الجميلة وتأملاته التي تنشر في الصحف والمجلات، من الطراز الفني العالي، الذي ينم عن شاعرية موهوبة أو نفس شاعرة، وملكات مطبوعة. . ورمزيته في ترانيمه الموسيقية الآسرة واضحة كل الوضوح، كما(934/43)
يقول الناقد الحر مصطفى السحرتي في كتابه (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث).
ونشاط الصيرفي الأدبي نشاط مبكر جداً، فمنذ الخمسة عشر عاماً كان يشرف على تحرير بعض المجلات الأدبية، ويكتب البحوث في الأدب والنقد، وينظم القصائد الجميلة العالية.
وآخر ثمراته الأدبية كتابه (حافظ وشوقي)، الذي يدل على عقلية مؤلفه الخصبة، وملكاته القوية في النقد، ومنهجه الواضح في الموازنة والتحليل، والدراسة الأدبية الصحيحة.
وصعوبة الكتابة عن شوقي وحافظ من حيث الموازنة المنهجية بينهما، لا يجهلها أحد، ولكن الصيرفي نهض بهذا العبء في قوة واستقامةغرض ودقة تحليل وإصابة هدف.
والشاعر لا يستطيعأن ينقد شعره إلا شاعر مثله، يفهم منهج الشعر ومذاهبه وأدواته، ويتذوق أسلوبه وعناصره. . . سئل البحتري عن سلم وأبي نواس أيهما أشعر؟ فقال أبو نواس. فقيل له إن أبا العباس ثعلباً (الرواية اللغوي الأديب النحوي المتوفى 291 هـ) لا يوافقك على هذا؛ فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه المتعاطين لعلم الشعر عمله.
لذلك كان نقد الصيرفي الشاعر لشوقي وحافظ الشاعرين: وموازناته الأدبية بينهما، من الدقة والإصابة بمكان بعيد ما تحس به حين يتحدث عن ديباجة الشاعرين وموسيقاهما، أو حين يحلل شعرهما السياسي والتاريخي، أو شعرهما في الطبيعة والمرأة، وفي الرثاء، وفي بعض المواقف التاريخية والوطنية: كحادثة دنشواي، ووداع كرومر، ووفاة مصطفى كامل، وإعلان الدستور العثماني وخلع عبد الحميد، وحريق ميت غمر، وزلزال مسينا الذي صوره حافظ، وزلزال طوكيو الذي صوره شوقي، ومحاولة اغتيال سعد.
وحين يعرض الصيرفي الناقد لفن الشاعرين نلاحظ قوة وروعة لا مثيل لهما، رغم الإيجاز الشديد في حديثه عن ذلك وهذه الموازنات بين الشاعرين تسير وفق أحدث المناهج الأدبية في النقد، فهي ليست نمطاً من الموازنات القديمة، التي تنظر إلى الألفاظ والقواعد، وتحليلبيت، وتعداد محاسن وعيوب محدودة، وإنما هي موازنات تنظر إلى البواعث النفسية التي أثرت في فن كل من الشاعرينوإنتاجهما.
إن هذا الكتاب القيم الجدير بأن يضفي على شخصية الصيرفي الشاعر شخصية الناقد الحر الطليق
محمد عبد المنعم خفاجي(934/44)
مدرس بكلية اللغة العربي(934/45)
البَرَيدُ الأَدَبي
تعليق على (الدخان في الشعر)
كتب الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري في العدد 925 من الرسالة الغراء مقالة بعنوان (الدخان في الشعر) استعرض فيها بعض القصائد في الدخان لبعض الشعراء العراقيين.
وأول ما تناول كاتب المقال قصيدة (العادات قاهرات) للمرحوم الرصافي المنشورة في ديوانه الأول المطبوع سنة 1910م بالمطبعة الأهلية ببيروت.
ولقد استوقفتنا بعض العبارات التي دونها الأستاذ بيراعه على صفحات الرسالة. وإظهاراً للحقيقة ودونا التعليق والرد على ما جاء، بهذه الفقرات التالية لكي يقف على الحقيقة. الفقرة الأولى: -
علق الأستاذ على هذه الأبيات من أنها خير دليل على كذب الرصافي
إن كلفتني السكارى خمرتهم ... شربت لكن دخاناً من سيكارتي
إني لأمتص جمراً لف في ورق ... إذ تشربون لهيباً ملء كاسات
إن الرصافي نشر هذه القصيدة بديوانه المنشور سنة 1910م وربما نظمها قبل هذا التاريخ ببضع سنوات، وبهذه الفترة الزمنية في حياته كان صادق اللهجةفي إنكاره الخمرة بعيداً عما يتصوره الأديب، حيث أنه لم يتحرر من العامل الديني آنذاك تحريراً كلياً، إذ كان يقتصر على التدخين وحده، ولا يرى في الكأس إلا سماً زعافاً.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا إنه شاعر، والشاعر له احساسات وعواطف يحس فيها بقرارة نفسه، فيتناول براعته ليضعها في قوالب موسيقية متناسقة، ويلبسها حلة زاهية. ولو علم أن ما كتب مخالف لما هو عليه، فرائده تدوين ما انبثق من حسه وما يتصور من شعور.
ولو فرضنا جدلاً أن الرصافي يحتسي الخمر حقا في تلك الحقبة الزمنية فقصيدته جاء بها عن طريق النصح والارشاد حتى يتعظ القارئ ويقتنع من قول ناصحه.
ولقد سلك الرصافي مسلكاً تحليلياً لإبانة ضررها بصورة يشعر المطالع لها أن ناظمها ممن يجب الاقتفاء بأثره فيتخذ بنصحه فهذا لا يعتبر كذباً.
الفقرة الثانية: -(934/46)
استشهد الأديب بهذه العبارة للأستاذ الكبير (الزيات بك) (همه من الحياة شرب العرق، ولعب الورق، واستباحة الجمال).
إنا لا نزعم أن الرصافي لم يحتس الخمرة قط ولا ذاق طعمها، بل يعود نظم هذه القصيدة في وقت كان أبعد ما يكون فيه عن الخمر أما عبارة الأستاذ الزيات فكانت صريحة لا غبار عليها - وهذا ما نتفق به مع الأديب الناصري - إذ قدم العراق بين فترة سنة 1930م إلى سنة 1933 والرصافيبحد ذاته لا ينكر ذلك بل ينطق بصراحته التي تعهدناها فيه. وإليك قصيدته التي نظمها بعد تلك القصيدة أي (العادات قاهرات).
(شكواي من الدهر)
إذا ما عقدنا مجلس الأنس بالطلا ... فبيني وبين السكر خمس دقائق
أقوم إلى كبرى الزجاجات مدهقاً ... بمستقطر من خالص التمر رائق
فأقرع بالكأس الروية جبهتي ... بشرب كما عب القطا التمر رائق
فأقرع بالكأس الروية جبهتي بشرب كما عب القطا متلاحق
أسابق ندماني إلى السكر طائراً ... يجنح الأنس المضاعف خافق
فنادمت أصحابي على غير وحشة ... وقلت لهم ما قلت غير منافق
وأغنيتهم عن نقلهم في شرابهم ... بمز طرى من نقول الحقائق
ولم يبد في السكر عند اشتداده ... سوى شكر خلى أو سوى حمد خالقي
تعودت سبقاً في الفخار فلم أرد ... من السكر أن أحضى به غبر سابق
هذه هي صراحة الرصافي في شرب الخمر، ولو كان شاربها في ذلك الوقت الذي نظم فيه قصيدته (العادات قاهرات) لاعترف بذلك كما هو معترف بهذه القصيدة.
أما وصف الأستاذ الزيات بك الرصافي وهي العبارات المتعلقة في الفقرة الثانية فقد جاءت نتيجة قدومه إلى بغداد بين سنة 1930م إلى سنة 1933م فألفاه على ما هو عليه ووصفه بما رآه في تلك الفترة. فهل يجوز أن تكون عبارة الزيات برهاناً قاطعاً على جميع الادوار والفترات التي مر بها الرصافي؟ بينما القصيدة كانت من إنتاجه أيام شبابه حيث لم يتحرر من التقاليد الدينية آنذاك، والتي تلقاها على يد أساتذته أمثال الالوسي وعباس القصاب.
الفقرة الثالثة: ذكر الأستاذ الناصري (ولست أدرى ماذا كان الرصافي يقول لو شاهد ألان(934/47)
الغانيات وهن يدخن في شوارع بغداد) أن القارئ الكريم لو ينعم النظر في هذه الجملة لفهم أن الرصافي ولد وعاش في القرن الثامن عشر. فكيف يسوغ للأستاذ أن يكتب مثل هذه الجملة حول الرصافي. وهو الذي توفي سنة 1945م وخالط جميع الطبقات من رفيعة إلى وضيعة ووقف على أسرار كل منهما. وليعلم القارئ أن الرصافي جاب البلدان ورأى بأم عينيه مدناً كالآستانة والقاهرة ودمشق وبيروت والقدس وجالس الكثير من عوائلها المتفرنجة التي لا يشين نساءها شرب الدخان وهن يتجولن في المجتمعات العامة والحفلات الخاصة وهو صاحب الدعوة إلى السفور.
أمثل هذا الرجل لم تنظر عيناه امرأة بفمها سيجارة خلال السنين التي جاب بها تلك الأقطار؟!
وفي الختام ليعلم الأستاذ الناصري إننا لم نتطرف في التعليق على هذا الموضوع لولا ما لحق الرصافي من غبن.
بغداد
هاشم الطائي
1 - نسبة الشعر
نسب المقدم السيد نعمان ماهر الكنعاني في كتابه شاعرية أبي فراس البيتين التالين إلى أبي فراس
نحن قوم تذيبنا الأعين النج ... ل على إننا نذيب الحديدا
والصحيح إنهما لعبد الله بن قيس الرقيات شاعر مصعب بن الزبي الذي يقول فيه
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء
حكمه حكم رحمة ليس فيه ... جبروت ولا به كبرياء
كما أن البيت الثاني ورد على الصورة الآتية
وتراني يوم الكريهة آسا ... داً وفي السلم للغواني عبيدا
ولست أدري كيف غفل عن ذلك الخطأ الدكتور مصطفى جواد كاتب المقدمة وهو الصديق الذي لا تفوته هذه الأخطاء؟!(934/48)
2 - دعس لا دهس
نشر الشاعر العراقي الأستاذ أحمد الصافي النجفي في جريدة (اليقظة) البغدادية بعنوان (إلى ولي العهد الجنين) جاء فيها
كم قضى منهمو بلكم ودهس ... واختناق كما دخلت الوجودا
أمش وادهس فأنها حشرات ... ألصقوا بالثرى خدودا وجيدا
وقد لاحظت أن الشاعر أورد لفظة أدهس بمعنى ادعس وهذا خطأ شائع إذ جاء في القاموس (دعس) بفتح الأول والثاني والثالث وطسه وداسه. . أما من ناحية القصيدة فهي ركيكة الابيات مهلهلة الصياغة لست أدري كيف نشرها، إذ لا تخرج عن منظومات تلامذة المدارس الثانوية، فليت شعري ما أصاب الاستاذ الصافي وهو صاحب (الأمواج). .
3 - الشعر لأبي تمام
جاء في الصفحة (302) منكتاب الأوراق في أخبار الشعراء لأبي بكر الصولي أن المرثية التي مطلعها
كان الذي خفت ان يكونا ... إنا إلى الله راجعونا
من شعر أبي محمد (القاسم بن يوسف) ولا شك أن هذه النسبة من سوء تصرف شارح الكتاب من الصولي نفسه، لأن هذه القصيدة هي من شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وهي
وترانا في ساحة الحرب أحرا ... راً وفي السلم للحسان عبيدا
منشورة في ديوانه في باب المراثى ص (336) حرف النون ومنها هذه الأبيات الرائعة:
آخر عهدي به صريعاً ... للموت بالداء مستكينا
إذا شكا غصة وكرباً ... لاحظ أو راجع الأنينا
يدير في رجعه لساناً ... يمنعه الموت أن يبينا
يشخص طوراً بناظريه ... وتارة يطبق الجفونا
ثم قضى نحبه فأمسى ... في جدث للثرى دفينا
فهل لا نسلم بعد كل هذا من زلل فظيع كنسبة شعر لشاعر مشهور إلى غيره من نكرات(934/49)
الشعراء.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
إلى الراغبين في الحج
قيد الله أداء الحج بالاستطاعة، وقد فصل الفقهاء بإسهاب ما يجب على من يريد الحج في كتب الفقه تفصيلاً دقيقاً ويزاد عليها أن يكون المال الذي يحج به الإنسان من طريق حلال ومن كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيباً - قد أديت زكاته وقت وجوبها خال من ظلم العباد ومن الرياء والسمعة وطلب الشهرة والرفعة بين عباد الله حتى يصير خالصاً لوجهه الكريم (إنما يتقبل الله من المتقين).
على أن للحج من الأدب والمتممات ما يجب أن تؤدى على الوجه الأكمل ليكون مقبولاً، ولذا نجد - مع الأسف الشديد - أناساً قليلين أتموا أعمال الحج الظاهرة والباطنة فأنارت أفئدتهم وظهر على وجوههم وأعمالهم هذا الإشعاع النوراني الذي يضئ لهم طريق النجاح بل طريق الهداية والفلاح، والبقية الباقية وهي كثيرة لم تستند من روحانية الحج شيئاً مذكوراً خصوصاً في عصرنا الراهن الذي أصبحت فيه الأوضاع مقلوبة، فنرى أغنياء الحرب يتكالبون على طلب الشهرة من طريق الحج لأنه في نظرهم أقصر طريق لوصفهم بالطائعين وللتشبه بالصادقين.
ولكنها الدنيا العابثة تجعلنا ما دمنا بعيدين عن روح الدين وعن جادة الطريق - نحسب الشر خيراً والشبهة حلالاً.
ومن آثار الحج المقبول أن يحيي الضمائر التي أماتتها الشهوات النفسية ويجعلها ساهرة على أعمال النفس - وقد خلقها الله أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فصار لزاماً على من يحج أن يسأل نفسه: لماذا يحج، ولمن يحج، وما فائدة حجه؟ وأن يبلو نفسه ولا يفتر عن تأديبها بين آن وآخر فإجهاد النفس شديد - لقول الرسول عليه السلام في رواحه من غزوة (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) يشير بهذا إلى جهاد النفس! وأوامر الشرع الحكيم مبنية على المجاهدة.(934/50)
وجماع القول: أن الحج المقبول التام هو تغيير كلي في الأخلاق والعادات والأفعال؛ بل هو في الحقيقة انتقال من حسن إلى أحسن، ومن كمال إلى أكمل، والله الموفق للصواب.
شطانوف
محمد منصور خضر
ولقد عفا عنكم
هكذا ينبغي أن تكون الآية الكريمة، لا كما جاءت في السطر السادس والعشرين من الصفحة 296 من العدد 923 من مجلة الرسالة الغراء الصادر في 12 من مارس سنة 1951، إذ أوردت (ولقد عفا الله عنكم) في صلاة أم عمارة، وهي من أهل الجنة لا تخطئ في القرآن، وهي تصلي به.
محمد مختار يونس(934/51)
القَصَصُ
الغيب
عن الإنجليزية من روائع (وست) للأستاذ عبد القادر حميدة
(مسرحية في فصل واحد)
الأشخاص:
ريتشارد ألين: أستاذ جامعي سابق
إدوارد لين: ضابط متقاعد
المنظر:
(حجرة استقبال بمنزل المستر ريتشارد ألين في (لوتون) إحدى المدن الصغيرة بإنجلترا. . الساعة الخامسة والنصف من أصيل اليوم السادس من يونيو عام 1936 - المستر ألين جالس إلى مكتبه يكتب - وعلى مقربة منه قصاصات من أوراق مكتوبة. . وزجاجة من النبيذ وكأسان. . يتناول الكراسة فيمزق آخر ورقة سطرها. . وحين يلقي بها على المقعد. . يصل إلى سمعه دق على الباب فينهض من مكانه. . ويفتحه)
ريتشارد: أدخل يا مستر لين.
إدوارد: (في غرابة) أتعرف اسمي؟
ريتشارد: كنت أتوقعك
إدوارد: أظن أن الدكتور (راودن) تحدث وإياك بشأني معي رسالة يقدمني بها إليك. . آمل أن لا تزعجك هذه الزيارة غير الرسمية. .
ريتشارد: (يتناول الرسالة ويلقي بها على المكتب دون أن يفضها) أنا لا أهتم بالرسميات. . إني أمقتها. . أتسمح لي أن أتناول قبعتك ومعطفك.؟
(يتناولهما منه ويضعهما على مقعد بجانب المكتب). . . (إدوارد جالس)
ريتشارد: (يمسك زجاجة النبيذ وينزع سدادها. . ويفرغ منها في جوف كأسين). . لعلك تشاركني الشراب. . إنها مناسبة طيبة لنحتفي بك. . . (أثناء الشراب). . . في أي يوم نحن.؟(934/52)
إدوارد: في اليوم السادس من يونيو
ريتشارد: لنشرب حتى الساعة السادسة من اليوم السادس من الشهر السادس عام 1936
إدوارد: (وهو يتناول الكأس) إنها الآن السادسة تماماً. .
ريتشارد: (في فزع). . لا. . ليست كذلك. . والآن. . أبسط إلي الأمر الذي من أجله أردت أن تراني
إدوارد: لقد طالعتني إحدى الصحف بمقال عنك نادتك فيه بالرجل الفريد في (لوتون) والأستاذ الجامعي الذي لا يود مطلقاً أن يتحدث إلى أحد. .
ريتشارد: ترهات.!! أنا لست بمثقف. . ولست بأستاذ جامعي الآن. . ثم إني أتحدث إلى كثير من الناس. . بيد إني لا أحب أن أجادلهم. . إني أكره مباحثة الأشياء معهم. . لأنني لا أجد أية راحة في البحث والنقاش.
إدوارد: أنا لا أظن أن يوجد في (لوتون) أناس كثيرون تجد مناقشاتك في نفوسهم هوى. . فما (لوتون) إلا مدينة ضئيلة ملئ بشرذمة من أغبياء القوم. . الذين لا يثرثرون إلا في أمور عادية هي أشد تفاهة من عقولهم المصدئة. . وإذا عن لهم أن يطرقوا باب المناقشة فليكن في الحثالات والنفايات.
ريتشارد: قد يكون هذا هو الصواب. . وقد لا يكون فأنا لم أقابل إلا أفراداً قلائل منهم. . وإن كانوا قد تحدثوا إلي في شيء من الذكاء. . إلا إنني لم أجد لذة في حديثهم.!! وأنت. . هل أتيت لتقيم هنا على الدوام.؟
إدوارد: أجل. . أجل. .! ولقد اعتزلت عملي، وسأظل هنا على الدوام. . وإنه ليسعدني أن ألقاك من وقت لآخر. . وستجد في محدثاً يحسن الجدل في لباقة.! أنا لا أفخر بذكائي ولست أقصد التواضع. . فهو أغث من الكبرياء.! لقد ارتحلت كثيراً. . واطلعت بتوسع. . وخبرت الحياة. . فوقفت على الكثير من خباياها.! وإني أعتقد أنك سوف ترتاح إلي عن الآخرين. . هل تجد في حديثي إليك أي غضاضة أو عدم ارتياح؟
ريتشارد: حقاً. .! إنك تملك عقلاً سليماً. . وتستعمله استعمالاً طيباً. . ولكنك سوف لا تتمكن من الوصول إلى السر الذي أنطوي عليه. . قبل أن أودع الحياة. . وهاهو ذا اعترافي. .(934/53)
إدوارد: يمكنك أن تثق بي. . وإنه ليبدو لي أنني أعرفك من قبل.
ريتشارد: (وقد تناول وسادة موضوعة على المكتب) ضع هذه خلف ظهرك لتريحك. . أوه.! أجل. . أنت تعرفني من قبل. . لقد التقينا في مدرسة القديس أنطوني.
إدوارد: (مستذكراً) نعم. . لقد تذكرت الآن. . (ديك ألين) منافسي الخطير الذي فاز بجوائز المدرسة دوني. .
ريتشارد: أجل. . لقد كنا في المدرسة زميلين. . كنت أنا مثال الطالب الغبي الذي يتخذ مكانه في مؤخرة الصفوف. . وكنت أنت أنموذجاً رائعاً للجد. . سواء في عملك أم في لهوك. أما أنا فقد كنت أرتبك في أبسط الحاجات. . كم كنت أنظر إليك بعين الحاسد. . لنجاحك المطرد
إدوارد: إنك لم تكن غبياً كما تعتقد. . ولكنك لم تجد ميلاً من نفسك لدراسة الأشياء. . والتغلغل في أعماقها. . إنك لم تكن عملياً بالمعنى المنشود
ريتشارد: لم أكن أبداً عملياً. . . (لحظة صمت وشرود). . . ذات يوم. . . حين كنت في المدرسة. . . عثرت - دون قصد - على كتاب غريب أسمه (قوى العقل الغامضة).
إدوارد: أتقصد قراءة الأفكار؟ أذكر أني قرأت بعض تجارب لهذا النوع. . كم كانت مسلية للغاية. . فمثلاً. . الرجل يفكر في رقم من الأرقام. . أو أسم من الأسماء. . فتذكره له زوجه. . ولكن التجارب لم تكن دائماً موفقة.
ريتشارد: لا. . . لست أقصد قراءة الأفكار. . . إن ما أعنيه هو معرفة (الغيب). ومعرفة الغيب هي إدراك المستقبل والتنبؤ به. . . والإنسان الذي يوهب هذا الشيء الخارق. . تكون له القدرة على لمس الحوادث قبل وقوعها. . قال الكاتب هذا. . وقال أيضاً إن هذه القوى نادرة الوجود جداً. . ففي كل مليون آدمي. . واحد فقط هو الذي يملكها. . وغالباً ما يجهل هذا الواحد أنه يملكها! قال الكتاب إن هذه القوى يمكن تنميتها وفسر كيف يكون ذلك.
إدوارد: (في دهشة) أنا لا أفهم شيئاً مما تقول. . زدني إيضاحاً.
ريتشارد: (متضايقاً) سل نفسك عدة أسئلة عن أشياء تتوقع حدوثها. . دون أن تشغل عقلك بشيء. . وعندئذ ستتوارد الإجابات على ذهنك.
إدوارد: هراء.! إنه غير ممكن. . وليس لمخلوق القدرة على التنبؤ بالغيب.(934/54)
ريتشارد: أرجوك. . لا تقاطعني. . أنصت إلى قصتي العجيبة:
لم أكن سوى طفل صغير غير مصدق ما يضمه هذا الكتاب بين دفتيه. . وهل اكتملت فيه عوامل الصواب. . أم لا.؟. حاولت بادئ ذي بدء أن أتنبأ بأشياء صغيرة على سبيل التجربة، فمثلاً كنت أسائل نفسي: من الذي سيقتحم علي الغرفة بعد؟. وخطت محاولاتي خطوات واسعة. . حتى أقدمت على ذلك الاختبار التاريخي الذي كنت أخشاه لعقيدتي الراسخة بأنه نوع من الخداع وحاولت التنبؤ بالأسئلة التي سوف تلقى علي.
إدوارد: وماذا كانت النتيجة؟ أذكر أنك صعدت فجأة إلى القمة. . وصرت تبزني بعدها في كل الامتحانات.
ريتشارد: نعم لقد كنت دائماً أحمل لك في نفسي الحقد والحسد لتفوقك علي. . ولكن بعد ذلك. . بدأ نجمي في الصعود. . وأخذت أحوز السبق في المعمعة دونك. . لأنني أصبحت مخادعاً عبقرياً. . أجل. . إنه اعتراف صارخ مني بأن نجاحي كان خدعة كبيرة. . ثم سارت حياتي في ركب الحياة على تلك الوتيرة وهذا هو سر فشلي.
إدوارد: ولكنك بتلك القوة الخارقة. . تستطيع أن تنال قسطاً وافراً من النجاح. .
ريتشارد: انتبه. . لقد كسبت جائزة مدرسية كما تعرف. . ثم حصلت على مجانية التعليم الجامعي. . وكل جائزة جامعية وصرت في طليعة المتقدمين. . ولم يجرؤ أحد على منافستي. . ولما نلت إجازة التدريس عينت أستاذاً بالجامعة. . وأذكر أني كنت أحدث أستاذ تولى ذلك المنصب. . وبعدها. .
إدوارد: (في تحفز) ماذا حدث؟
ريتشارد: قدمت استقالتي. . . لقد كان يجب علي أن أستقيل كنت أجهل المادة التي أدرسها. . . وهي الأدب الإنجليزي. . . إذ كان عقلي لا يحمل سوى القدر اليسير الذي اجتزت به الامتحان. . . أعني الأسئلة التي تنبأت بها. . . ودرست الإجابة عنها.
إدوارد: وماذا كان من أمرك بعد؟ أوفقت في الحصول على عمل آخر؟
ريتشارد: أرسلت طلبات عدة. . . ضاعت معها محاولاتي أدراج الرياح. . . بيد أني في النهاية وفقت إلى عمل متواضع. . . كمدرس بسيط. . . ولكني استقلت.
إدوارد: (في عجب) استقلت! كيف ذلك؟ إني أعتقد أنك سوف تكون مدرساً موفقاً. . .(934/55)
لاسيما وأنك ستعرف ما ستأتي به الامتحانات. . . وسينجح تلاميذك بفضل إرشادهم إياهم إلى الإجابة الصحيحة.
ريتشارد: (في أسف) أجل: كان من السهل أن أفعل ذلك. ولكن ضميري لم يسمح لي بأن ألقي بتلاميذي في بؤرة الجهل التي تحتويني، فلم أرض أن أخدعهم. وتجنبت مواضع الأسئلة التي سيمتحنون فيها. . . وكان أن رسب جميع التلاميذ فرميت بعدم الكفاءة على التدريس. . وأقصيت من عملي وواجهتني عاصفة هوجاء من الفقر. . فقلت لنفسي. . إذا لم يتيسر لي الحصول على المال الشريف فسأنهج أي طريق آخر للحصول عليه. . (يرمق إدوارد بنظرة طويلة شاردة) ألم تذهب يوماً إلى السباق. . ألم تراهن على جواد ما؟
إدوارد: راهنت أكثر من مرة. . ولازلت أراهن على المملكة الفضية.
ريتشارد: (وقد أسبل جفنيه وقتاً). . راجا هو الأول. . المملكة الفضية هو الثاني. . الحظ هو الثالث. . سوف تخسر كل مراهناتك يا مستر إدوارد! لقد ربحت من وراء المراهنات مالاً طائلاً. . ولكني لم أتذوق لذة هذا الربح لأني كنت أعرف أنني سأربح دائماً. . إن لذة المال ليست في كسبه. . وإنما هي في التنقيب عنه والجري وراءه!!
إدوارد: إنك مثالي للغاية. . ولم تحاول مطلقاً أن تقنع نفسك بلذة الحصول على هذا المال.
ريتشارد: (مستطرداً) ولما لم أشعر بلذة هذا الربح. . عولت على ترك المراهنات. . والتحقت بمكتب للتأمين. . كنت قادراً على أن أدلي بآرائي السديدة إلى الشركة فأشير عليها مثلاً بقبول تأمين هذا. . لأنه سيحيى طويلاً. . وبرفض ذاك لأنه سيموت غداً! ولاقت توجيهاتي رواجاً محموداً. . فتبوأت في الشركة مقعد المجد والشهرة. . وعينت وكيلاً لها بإحدى المدن الضخمة. . ثم مستشاراً عاماً لجميع شركات التأمين. .
إدوارد: لعله عمل طيب ومدر للربح في وقت واحد!
ريتشارد: لا بل كان على النقيض. . لأنني كنت أدرك خطورة الجرم الذي أقدم عليه. . لقد كانت الشركة دائماً تستحوذ على أكبر قدر من المال. . والجمهور هو الذي يخسر. . هل تسول لك نفسك أن تحرم إنساناً حقه. . فتسلب أمواله. . لتقدمها إلى الشركة. . وربما أنت تعرف أن أسرته وأولاده في مسيس الحاجة إلى هذا المال؟ إن التأمين الوحيد الذي جعلني أشعر بالسرور ذلك الذي أشرت على الشركة أن تعقده - وكنت أدرك نتيجته - فخسرت(934/56)
الشركة كل أموالها. . ولهذا طردت من عملي.
إدوارد: إنك ذو قلب كبير، وضمير مستيقظ. . ولكن لماذا لم تخض ميدان التجارة. . أو الصناعة. . وفي مقدورك أن تفلح دون أن تؤذي الآخرين.؟
ريتشارد: حاولت كلتيهما ولكني لم أستمر. .
إدوارد: كيف؟ تقصد أنك لم تفلح في تجارتك؟
ريتشارد: كنت موفقاً إلى حد بعيد. . فصار لدي المال الوفير. . وأصبحت من ذوي الثراء. . ولكني فقدت لذة العراك في سبيل الكسب. . وهتفت بالسعادة من ورائه فضللت السبيل إليها. . إن مجرد كسب المال ليس كل ما ينشده إنسان طموح يحاول جاهداً أن يساير ركب البشرية المواج الذي يتدافع بالمناكب نحو غاية سامية. . إن المنافسة والنضال. . والرغبة في الغلبة. . والأمل في الربح. . هي السعادة المأمولة لرجل الأعمال. . المال يمنح النفوذ والقوة. . ولكن النفوذ والقوة لم يكونا عماداً للسعادة. إن الأعمال يجب أن تقترن دائماً بالمنافسة. . إنها مباراة يكسب فيها كل جدير بالكسب! أما أنا فكانت منافستي خالية من حرارة النضال. . لأنني كنت أعرف أن الظفر لي. . وحينما أظفر. . يتراءى أمام عيني شبح الخداع الذي أتوارى خلفه. . فأتألم.(934/57)
العدد 935 - بتاريخ: 04 - 06 - 1951(/)
شكر. . .
إلى صاحب الجلالة الفاروق أعز اله نصره، وجمل بالأدب والعلوم عصره، أرفع أخلص الولاء وأصدق الدعاء وأجزل الشكر، على تعطفه بالأنعام السامي الكريم على جندي من جنود الأدب، لا يتعزز بحزب، ولا يتقوى بمنصب، ولا يتعالى بثراء؛ وإنما هو العمل المتواضع الخالص لوجه الله والوطن، لا ينبغي من ورائه عرضاً من أعراض الدنيا، ولا غرضاً من أغراض الجاه. والعمل الذي لا يرجى ولا يخشى ولا يبتليه رجل السياسة لأنه لا يساعد على الظفر بالحكم، ولا يحفله صاحب الحكم لأنه لا يعين على البقاء فيه. إنما يذكره مالك الملك لأنه رب الجميع فيثيب عليه يوم لا أمر ألا أمره؛ ويقدره صاحب العرش لأنه ملك الجميع فيكافئ عليه حين لا قدر إلا قدره. والله يحكم على العمل بالنية لأن السرائر لا تخفى على علمه؛ والملك يحكم عليه بإخلاص لأن الشوائب لا تعلق بحكمه.
وإذا كان واجب الولاء أن أسجل بالثناء عطف جلالة الملك على رجال الأدب؛ فأن واجب الأنصاف يضطرني أن أبرئ الحكومة القائمة من تهمة الخروج على العصبية الحزبية؛ فربما سبق إلى بعضالظنون أنها التمست هذا الأنعام الملكي على عضو من أعضاء مجمعفؤاد الأول؛ لأن الوفد مدين للأدب في دعوته وثورته وقوته وروحية، منذ استولى سعد زغلول على العقول والميول ببلاغه بياناته وبراعة خطبه، إلى أن أخرج مكرم عبيد، وتوفي صبري أبو علم ولكن الحق الذي يحلو حينا ويمر أحينا، أنها أسقطت هذا الشاكر فيمن أسقطت من رجال القلم، لأنها لا تزال تعتقد أن من لم يكن لها فهو عليها، وأن من لم يكن وفديا فليس مصريا والمنطق الطبيعي لا ينفي أن يكون في المصريين قوم يخدمون السياسة العليا، أو يؤيدون القضية الكبرى، دون أن يتجهوا جهة معينة، ويتبعوا خطة مبينة؟ فيهتفون بالرجل من أي حزب إذا أحسن، وينهون بالعمل من أي عامل إذا صلح ولكن من يدري؟ ربما حذف ما حذف من الأسماء، قبل أن يعرض الأمر على الوزراء. ومن قبل ذلك قلت: إرادة الصغير أداة الكبير!
أما بعد فأن الألقاب زوائد في الأعلام لا تكمل الرجل الناقص، ولا تصحح العمل الخطأ. وآفتها أنها قد تميز بالقانون ما لم يتميز بالطبيعة، وأنها تجعل من الفروق بين الناس في الدنيا، ما لم يجعله الله بينهم في الدين. والديمقراطية التي تصوغ شعارها من المؤاخاة والمساواة؛ والديكتاتورية التي تتخذ رمزها من الموطنة والمرافقة، تنظران بعين العجب(935/1)
إلى أمة ناهضة لا تزال تقدس ألقاب التميز، وهي مسلمة بمح دينها ما بين الأفراد والجماعات من الفروق، ديمقراطية يسوى دستورها بين المواطنين في الواجبات والحقوق.
أحمد حسن الزيات(935/2)
على هامش السياسة الدولية
للأستاذ عمر حليق
وراء التوتر المخيف الذي يسود العلاقات الدولية هذه الأيام بعض العوامل الجوهرية التي قل أن يفطن لها المتتبع للشؤون الدولي عن طريق الصحف السيارة وغيرها من المواصلات الفكرية السريعة.
وهذه العوامل لا تقتصر على التنافس الاقتصادي والسياسي بمعناه الشائع؛ وإنما تشمل أوجها أخرى على غاية من الخطورة، وعلى عوامل بعيدة الأثر راسخة النفوذ في صميم المقومات الخلقية والثقافية والنفسانية لهذه الشعوب التي تنقسم الآن إلى معسكرات متطاحنة، تهددالإنسانية بويلات الذرة والهيدروجين وشتىأسلحة الحرب الحديثة المروعة.
ولقد ظهرت في الآونة الأخيرة - في أمريكا وبريطانيا على وجه الخصوص - دراسات عميقة البحث، علميةالمنهج، تحاول أن تلقي أضواء على تباين هذه المقومات الخلقية والثقافية والنفسانية في الشعوب المتخاصمة التي بلغت حدة خصومتها درجة يدركها المتتبع لمجرى الحوادث اليومية في عالم قلق مرهف الأعصاب.
وسيحاول كاتب هذه السطور أن يستعرض في فصول قصيرة ألواناً من هذه النتائج التي وصلت أليها تلك الدراسات التي توخى الباحثون فيها أهدافاً إيجابية نزيهة - نظراً لما فيها من نفع يستعين به رجل العصر على تفهم الأحداث ومكافحة الإرهاق العصبي الذي تخلقه مشاكل السياسة الدولية.
والتعرف على حقائق العلاقات الدولية ضرورة حتمية لأهل الشرق، وليست ترفا ثقافيا يمكن الاستغناء عنه.
فالموطن في مصر أو سوريا أو العراق أو نجد مثلا له مصلحة وصلة مباشرة بالتطورات السريعة المتلاحقة التي توجه العلاقات الدولية هذه الأيام - مصلحة وصلة أكثر وثوقا من مصلحة الموطن الذي يعيش في الأرجنتين أو الأروغواي أو غيرها من هذه الدويلات التي تعيش في أمريكا اللاتينية مثلا - وهي قسم من العالم لا تجاوره، وتهددهتهديدا مباشرا حدة التوتر الدولي وأخطار الحروب العالمة كما تهدد الشرق الأوسط مثلا.
والدراسات التي أشرنا أليها تتوخى التعرف معرفة جوهرية صادقة على حقيقة السلوك(935/3)
الإنساني لمختلف الشعوب - وعلى الأخص تلك التي في يدها مقدرات السلم والحرب.
ومعادل هذه الدراسات علوم اجتماعية متنوعة - منها علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، والأنترويوجيا وفلسفة التاريخ والاقتصاد بالإضافة إلى العلوم الاقتصادية والسياسية. فالاقتصاد والفلسفة السياسية والتاريخ لا تكفي للتعرف على أسباب التوتر في العلاقات الدولية. فالكثرة من المعلقين السياسيين في الصحف السيارةيقتصرون في تحليلهم للعلاقات الدولية على مطالعاتهم في التاريخ والاقتصاد والسياسة المعاصرة. وقل أن تجد من يزود نفسه بالدراسة العلمية العميقة لتلك العوامل النفسانية والاجتماعية المتباينة التي تؤثر في سلوك الشعوب والجماعات القومية إزاء المشاكل السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يواجهها العالم المعاصر.
وقد فطنت لهذه الحقيقة مؤسسة اليونسكو التابعة لهيئة الأمم فكانت جماعة من أهل الاختصاص بالتعرف على دراسة العوامل الخفية الآنفة الذكر وتعميمها بين المثقفين من صناع السياسة وأولئك الذين يوجهون الرأي العام في مختلف الدول والأمصار - من صحفيين وكتاب -
وقد صنفت اليونسكو دراستها في أربعة أبواب: -
الأول: - يبحث في نفسية المواطن في بلد ما وعلاقته بالخلق القومي العام لذلك البلد.
وتحت هذا الباب يلمس الباحث ألوانا من الحقائق الجوهرية الخطيرة التي تسير الاتجاهات العاطفية لذلك الشعبفي صلاته مع العالم الخارجي، ومبلغ التوتر أو الصفاء الذي ينتج عن سير تلك الاتجاهات العاطفية وما تخلق في المراحل النهائية من عنف أو مسلمة إذا ما أن صدمت بالاتجاهات العاطفية والمقومات النفسانية للشعوب الأخرى.
بمعنى آخر - فأن التعرف على المقومات الخلقية لشعب ما والتي يتميز بها عن غيره من الشعوب - التعرف على هذا الاختلاف يساعد كثيرا على تفهم أسس التنافس السياسي الدولي الشديد الذي نقرأ عنه في الصحف السيارة ونتساءل عما إذا كان من الممكن التغلب عليه وإحلال الصفاء والانسجام مكان الخصومة والتحدي.
والثاني: - يسعى لفهم الصورة التي يحملها شعب ما عن الشعوب الأخرى، وهل هذه الصورة صادقه - بمعنى أنها منطبقة على الصورة الحقيقية لتلك الشعوب - أم أنها وليده(935/4)
الاستنتاج الخاطئ الناتج عن سوء ٍالاجتهاد والانفعال النفساني العليل، والمعرفة المشوهة التي يحملها ذلك الشعب عن الحقائق التاريخية والاقتصادية والسياسية للشعوب الأخرى؟
وهذا بمعنى آخر - محاولة للتعرف مثلا على مبلغ الصدق فيما تدعيه دولة أو شعب ما بأن خصمه مجبول على العنف والغطرسة، وأن الحقد والدسيسة من خصائصه الخلقية الأصيلة، وأن ذلك الخصم مهما صادقته وحاولت توثيق العلاقات الودية معه فأن أهله مفطورون على التحدي والخسة والغدر. فكثير من الناس مثلا يعتقدون بأن الشعب الألماني شعب حربي لا يلتزم السلم ولا يشارك في حفظه حتى لو توفرت له أسباب الطمأنينة السياسية والعسكرية والاقتصادي. فمثل هذا الاعتقاد ظاهرة خطيرة لها أثرها البعيد في سلوك الشعوب تجاه الشعب الألماني من جهة؛ وفي سلوك الشعب الألماني تجاه الشعوب الأخرى متجهة أخرى. فأنت إذا اقتنعت بأن الناس لا تؤمن بأنك حريص على الوداد والصداقة فأنك ستسلك في المراحل النهائية - سلوك تحد مبعثه بأسك من إزالة هذه الصورة الخاطئة التي يحملها الناس عنك. وللصبر حدوده
والثالث: - يحاول أن يتعرف الأسباب التي دفعت شعبا من الشعوب لأن يحمل صورة خاطئة عن شعوب العالم الذين يعيش فيه. ويحاول كذلك أن يحصر تلك الأسباب في إطار علم النفس الاجتماعي مستندا إلى الحقائق الاقتصادية والعوامل التاريخية والسياسية التي تعيش في الحياة القومية لذلك الشعب.
وفي علم النفس الاجتماعي أسلحة يعتقد العارفون بها إزالة أسباب القطيعة وسوء السلوك والعقد النفسانيةالتي هي ليست وليدة التنافس الاقتصادي والقلق السياسي فحسب، بل هي كذلك ناتجة عن الجهل بالمقومات الخلقية والثقافية للعائلة الإنسانية على نحو ما أشرنا أليه. وفي استطاعة أولى الدراية كذلك أن يلجئوا لتلك الأسلحة لتحقيق السيطرة والتفوق السياسي والعسكري والاقتصادي على الشعوب الأخرى.
والرابع: الوصول من هذا التبويب والدراسة السابقة إلى حصر الأسباب التي تدفع الشعوب إلى الشقاق والعنف وإلى الحرب والقتال.
وهذا الحصر لا يكون بدراسة التنافس الاقتصادي وحدة الجدل السياسي - كما أشرنا سابقا - وإنما يكون بتمحيص المؤثرات الثقافية والاجتماعية للشعوب المتخاصمة، ومن الأمثلة(935/5)
هذا التمحيص معرفة الطريقة التي يربى بها ذلك الشعب أطفاله في سن الحداثة.
فقد حلل مثلا أحد العلماء في الانترويولوجيا البريطانيين من الذين قاموا بدراسة التوتر الدولي على ضوء ذلك العلم - المقدمات الخلقية للشعب العربي، فوجد العرب - والشعوب الشرقية أجمالا - تزم أطفالها في سن الحداثة زما يقيد اليدين والرجلين تقييدا كليا , ويمنع الطفل من الحركة ولا يترك له من أعضاء الجسد ما يوفر له الاتصال بالعالم الذي يحيط به سوى فمه وعينه. واستنتج العالم من ذلك أن الشعب العربي تبهره مظاهر العظمة والقوة المحسوسة (بواسطة العينين) تؤثر فيه البلاغة (بواسطة الفم). ولذلك فقد أشار على الدول والشعوب التي تتصل بالعرب بان تبهرهم بألوان العظمة والبأس المجسم (من طائرات وأساطيل وقوات عسكرية يراها بعينه) وان يخاطبهم - أي العرب - بالمنطق المعسول والكلمات المنتقاة.
هذا مثل واحد من أمثلة عديدة على هذااللون من الدراسات التي يطمح كاتب هذه السطور أن يلفت إليها النظر في استعراضه لبعض المؤثرات الجوهرية التي لا يفطن إليها كثير من الناس في معرض تفكيرهم وتأثرهم بمجرى العلاقات الدولية.
نيويورك
للكلام صلة
عمر حليق(935/6)
الثنائية والألسنية السامية
للأستاذ الأب مرمرجي الدومينيكي
نص البحث القيم الذي ألقاه الأب الفاضل في الجلسة الأخيرة
لمجمع فؤاد الأول بدعوة منه
من المتجلي للعيان ولا يختلف فيه اثنان هو أن مصر المحروسة متبوئة عرش الزعامة والتقدم بين سائر البلاد العربية، ولا سيما في ميدان النهضة الثقافية والعلمية واللغوية. ومن ظواهر ذلك الجامعات المتعددة ودور العلوم ودور الكتب الكثيرة، ولجان التأليف والترجمة والنشر. ومن ذلك خاصة خدمة اللغة العربية والسعي في إنعاشها لتصبح آلة مرنة فتجارى الحضارة والمعارف العصرية. ومن تلك الوسائل الفعلة هو مجمعكم الموقر المحلى باسم مؤسسه؛ ذلك العاهل الأعظم حامي العلم واللغة ملك مصر (فؤاد الأول) وتحت ظل ورعاية نجله وخلفه الملك المعظم فاروق الأول المالك سعيدا. ولذا اشعر بغبطة وحبور لوجودي بينكم، انتم عليه أرباب العلم والأدب والحكمة، وسدنة حرم هذه اللغة العربية الكريمة، سيدة جميع لغات بني سام. وقد لبيت بكل افتخار دعوتكم اللطيفة لأبسط لكم كيفية محاولتي المؤازرة في خدمة المعجمية العربية على ضوء الثنائية والألسنة السامية، وهي وسيلة قد بذلت الجهد في تأليفي قصد تبيان فؤادها الجمة، وان ظهرت في أول وهلة غير مألوفة، فأقول:
من العلوم العصرية التي نشأت على يد أرباب البحث في البلاد الغربية (علم المقارنة) الذي طبقوا أصوله على مختلف الفروع العلمية، فنجم عن ذلك حقائق ثمينة ومفيدة، كانت بقيت مجهولة لولاه وضمن دائرة اللغات توالدت موازنة الصوتيات والصرفيات والنحويات والمعجميات ومن ذلك كله المقارنة الألسنية السامية.
ومعلوم أن الساميات الأمهات تنقسم إلى طوائف، منها الطائفة الشرقية وهي اللغة الكدية الداخل فيها الآشورية والبابلية، والطائفة الغربية الشمالية الشاملة الكنعانية والآرامية والعمورية. الكنعانية فرعان: هما الفينيقية والعبرية. والآرامية فرعان أيضاً: هما الآرامية الغربية، والآرامية الشرقية. ولهجتها الفصحى هي السريانية. ثم هناك الطائفة الغربية(935/7)
الجنوبية الشاملة اللغات العربية واللغات الحبشية. العربية تتشعب إلى فرعين: العربية الجنوبية، وفيها السبئبية والحميرية، والعربية الشمالية، ولهجتها الفصحى هي العربية القرآنية. اللغات الحبشية ثلاثة فروع: الجعزية، وهي الفصحى القديمة، ويليها الأمحرية والنكرية.
هذا ولم يعد يكفي للتقصي عن أصول الألفاظ العربية أو السريانية أو العبرية أن يكون الباحث متضلعاً من واحد أو اثنين من هذه الألسن، بل لابد أن يكون واقفاً على قواعد وخواص معجميات كل هذه الساميات الأمهات؛ وما يرجع إلى كل واحدة منها من اللهجات، فضلاً عن معرفة بعض الألسنة غير السامية التي لها علاقة بالعربية أو بغيرها من الأخوات الساميات.
ثم أن علم التأصيل في المعجمية غير متوقف على الإشارة إلى كلمة من الكلمات مستعملة أو واردة في اللغة الفلانية، بل الارتقاء إلى اللغة الأم الصادرة عنها اللفظة المذكورة. وغير كاف الوقوف عند اللسان القناة المارة فيه تلك المفردة، فإن ادعى أحد الباحثين أن هذا الحرف سرياني دخيل في العربية، وظهر بالتقصي انه ليس بسرياني بل مسرين ودخيل من اليونانية أو الفارسية أو ألا كدية أو العبرية، فلا يجوز إذ ذك القول بسريانيته، وهو غير سرياني، إذ قد يكون دخيلاً في كلتا اللغتين من لسان ثالث، مثال ذلك الألفاظ التالية الواردة في العربية والسريانية معاً: فردوس. . بستان. . ببغا. . . . . باغ. . بإذنجان. أبنوس أسفين كعبة، كعبنا، بدوي، بدوايا.
فهل من المعقول الذهاب إلى إن كل هذه الكلمات سريانية دخيلة في العربية، في حين أن التقصي يثبت أن الست الأول منها فارسية، وان أبنوس وأسفين من اليونانية، وان كعبة وبدوي من العربية ذاتها؟
ثم أن المقارنة الألسنية السامية غير متوقفة على البحث في لغة واحدة من الساميات، بل جميعها. ثم يتحتم اعتبار هذا المجموع كلغة واحدة قد تفرقت خوصها وأسرارها في مختلف اللغات الأخوات، مما يقتضي معه الاستعانة تارة بمميزات الواحدة لفائدة الأخرى، وطورا السعي في إثارة الغامض في هذه بما هو واضح وصريح في تلك، فلا يكفي والحالة هذه وضع أصول الساميات الأخر بازاء المادة العربية؛ لان مثل هذا العمل لا يلقى على المواد(935/8)
المبحوثة إلا نورا ضئيلا، ولا يأتي إلا بفائدة جزئية، لعجزه عن إيضاح التناسق المعنوي، وإزالة التضارب والتنافر، ليس بين المفاهيم العربية وحسب، بل بين مدا ليلها ومدا ليل أخواتها السامية البواقي.
ثم لتأصيل الألفاظ عن طريق الاشتقاق، وهناك قاعدة لازمة الاتباع، وهي الانتقال من الفحاوي المادية المحسوسة إلى المداولات المجردة والمجازية، ومن حياة البداوة إلى حياة الحضارة، ومن مزاولة الرعاية والزراعة إلى معالجة الصناعات والفنون والعلوم. ومن هذا القبيل نجد العربية آلة من أنفع الآلات تبز سائر أخواتها السامية، إن لم تقل اللغات البشرية.
إن العائشين اليوم في عصر التمدن والرقي على اختلاف ضروبه، ليكرهون البادية ماقتين حياتها البدائية، وهذا معقول، لان الرقي غير متوقف على الرجوع إلى الوراء، ولا على النزول إلى اسفل، بل على التقدم دائماً لبلوغ الكمال قدر المستطاع. ويود بعض معاصرينا إجلاء معاجمنا من كل الكلم التي يشتم منها رائحة لا حياة البدوية، حتى لا يبقى فيها سوى الألفاظ والتعابير الحضرية، لا بل العصرية الحديثة وما يلزم أن نستحدثه منها اندفاعاً مع تيار التقدم المتواصل.
هذا من حيث الروح والذوق العصري، أما نحن، معشر المتخصصين للمعجمية، وما تشمله من اشتقاق وتأصيل وثنائية وألسنية، فلا تمالك من الإشادة بفضل أولئك اللغويين القدماء الذين قاموا بالرحلات العلمية، قاضين السنين الطويلة بين ظهراني أهل الوبر، فجمعوا لنا كل تلك المفردات البدوية الخالية منها الألسن السامية الأخر التي لم تجمع ولم تدون مفرداتها إلا ألبان بلوغ أربابها طور الحضارة. ففقد منها اغلب الأصول والرساس الأولية بمعانيها المادية المحسوسة. وفي هذا يظهر الفضل العميم، فضل اللغة العربية على شقيقاتها، والدليل الساطع على قدم ألفاظها، مع إنها دونت بالكتابة آخر جمعها. مما تتحقق معه هذه الحقيقة الحليلة، وهي إن العربية هي المفتاح النفيس لفك مغاليق كثير من الغاز المعجمية السامية، وذلك بالرجوع إلى الرس الثنائي الصائن عادة اقدم المدلولات؛ أي الفحاوي البدائية الفطرية المحسوسة الملموسة.
فلنر ما هي هذه الثنائية:(935/9)
أن طريقة الاشتقاق والتوسع في الساميات قائمة على الارتقاء من الأقل والأنقص، إلىالأكثر والأكمل، أي حب السنة الطبيعية، سنة الرقي، وليس بالعكس ألا من باب الاختزال وهو نادر، ولا يحدث في طور التكون والنشوء، بل في عصر الكهولة والهرم. وأنا من القائلين بأن الاشتقاق في العربية يتم بزيادة حروف، لا بطريقة النحت أو التركيب. لأن اللغات السامية عموما، والعربية خصوصاً، ليست بنحتية، والعلاقة الأساسية الثابت وجودها في الغالب بين المشتق والمشتق منه هي اللحمة أو الصلة المعنوية، مع توسع الدلالة وتطورها بالانتقال من حيز المعاني المادية الحسية إلى حيز المداليل المجردة والمجازية، ثم المقلية الروحية.
وفي طور التكون اللغوي تبدأ الزيادة بالحروف عن طريق السماع دون القياس، فتنشأ بضرب الفوضى، ثم تسير رويداً رويداً في سبيل التكامل والاستقرار. فمنها ما يبلغ درجة القاعدة والقياس المطلق أو النسبي؛ ومنها ما يتخلف فيبقى دون نظام ومما يساعد على استمرار هذه الحالة هو مفاجأة اللغة المتكلم بها بتدوينها بالكتابة، وإنزالها منزلة اللغة الفصحى المتصفة بالميل إلى المحافظة على الحالة الراهنة قدر مستطاعها لمقاومة التطور الملازم طبيعة كل الأشياء
هذا وأنا من الذاهبين إلى عدم وجود علاقة طبيعية ضرورية بين الصوت أو الحرف أو الكلمة وبين المعنى المتعلق بها. لأن الأصوات مجردة، وليس في طبيعتها ما يجعلها دالة حتماً على الشيء الفلاني أو الفحوى الفلاني، إنما تنشأ الصلة بين الصوت والمعنى اتفاقاً، أو بإدارة المتكلمين عن طريق السماع أو الاستعمال
أنا غير جاحد إن لبعض الكائنات الطبيعية دويا، وللحيوانات أصواتا. بيد أن الناس لا يقتبسون القدرة على التصويت أو التكلم بالتعلم من الطبيعة أو الحيوان. لان ذلك من خاصية أعضاء النطق فيهم، وبفضل هذه الخاصية يتمكنون من محاكاة دوي الطبيعة وأصوات الحيوانات، لكن بطريقة متباينة، إذ أن كل فريق أو قبيلة أو شعب يتوهم فيها سماع نوع من الدوي والصوت؛ فيحاكيها طبقاً لهذا الوهم.
وبعض الأحيان تجري هذه الزيادة بالحروف لمقاصد تلوح منضادة، دونكم أحرف المعارضة فأنها تستخدم لأداء دور واحد خاص بكل منها، بل للقيام بأدوار عدة متمايزة،(935/10)
فالياء تستعمل للغائب والمثنى وللجمع المذكر والمؤنث والنون للمتكلمين. لكنها تأتى أيضا في السريانية للغائب المفرد والجمع وفي بعض الأحيان اللهجات العربية للمتكلم. الهمزة تكون للمتكلم بيد أنها ترد للغائب في طائفة من اللهجات المسفورة: التاء تدل على المخاطب المذكر والمؤنث وعلى المثنى والجمع المذكر والمؤنث. وكذا القول في الميم المتوجه بعض الصيغ فأنها تدخل على اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر الميمي واسم المكان والزمان واسم الآلة وفي كل هذه المباني تختلف المداليل والحرف واحد.
زد على ذلك إن الحروف عرضة للإبدال في العربية كما في أخواتها السامية فإن الثناء العربية تبدل تاء في الأرمنية وشينا في العبرية واللأكدية والحبشية والذال العربية تبدل زايا في العبرية والاكدية والحبشية ودالا في الأرمنية. ثم أننا نجد في العربية العين والغين والحاء والخاء، وفي اللغات الباقية لا يوجد سوى حرف واحد يقابل الاثنين العربيين، وفي الاكدية لم يبق إلا الخاء، فضلا عن هذا هناك التغير الطارئ على بعض الحروف بفعل التفخيم، فإن التاء تفخم فتضحي دالا، ثم طاء، ثم ظاء، والسين تفخم فتصبح صادا، والضاد العربية تمسى صادا في العبرية، لا بل عينا في السريانية، وهلم جرا.
كل هذا دليل على ما أبديناه من إن الحروف مجردة من ذات طبعها إنما يخصص لها معان وأدوار بالسماع والاستعمال. ومن باب الإطلاق يمكن القول بأن كل الحروف - ماعدا المتنافرة غير القابلة التجاوز تركيبا ولفظا - تصلح لان تكون حرفا للتوسع، ولا سيما في طور التكون، أي طور الرساس الأولية الثنائية الذي يعقبه طور الثلاثية بزيادة حرف ثالث على الحرفين الرسبين. أما تداول هذه الحروف فمتباين، إذ منها ما يستخدم اكثر، ومنها ما يبقى نادر الورود.
ولنا مثال في العربية على بقاء حالة الفوضى وعدم الخضوع لقياس في المصادر الثلاثية المجردة، وجموع التكسير وحركة عين الماضي والمضارع من المجرد الثالث وعدم ورود كل المزايدات لكل واحد من المجردات. فأنها كلها لا ضابط لها فتستند على السماع وتعرف من المعاجم وكذا القول في الحروف التي تزاد على الرساس والأصول فإن بعضها يستمر دون قيد ولا رابط على الحالة البدائية ولا اعتماد في شأنها ألا على الصلة المعنوية بين المزيد والمزيد فيه، قدر ما يتوصل إلى تحقيقها بعد التطورات والتقلبات الكثيرة التي(935/11)
طرأت على اللغة بمرور الأحقاب إلى أن بلغت طورها الحالي.
اجل في المزايدات الثلاثية والرباعية تجري الزيادة غالبا بحروف معينة للدلالة على معان خاصة كما هو مفروض في طور التصرف إلا أن هذا بذاته لا يتم باطراد مطلق إذ لا يخلوا من اثر الفوضى القديمة لان كثيرا من هذه المزايدات المعدودة قياسية تعود إلى الدلالة على المجرد عينه زد على ما ذكر أن هذه المزايدات يراد بها مفاهيم مختلفة ومبتعدة أحيانا غاية الابتعاد عن المعنى المقصود من زيادة الحرف المعين لهذه الغاية أعنى انه لا يزال فيها شيء من الفوضى أو عدم الاستقرار الخاص بالطور القديم.
دونكم مثلا وزن (افعل) المزيد فيه همزة، حسب قول الصرفيين للدلالة على التعدية نحو أجلسته، أكرمته، أبعدته. فأنه خلافا للقصد المتوخى من زيادة الهمزة، يراد به فحوى الدخول في الشيء. نحو اصبح: دخل في الصباح، والمبالغة نحو أشغلته: بالغت في شغله. والصيرورة، نحو أقفرت الأرض: أضحت قفرا. والسلب، نحو أشفى المريض: ذهب شفاؤه وأخيراً يأتي بمعنى المجرد ذاته، مما ينافى المراد من الزيادة نحو أفلت البيع، بمعنى قلته أي فسخته. كذا وزن (فعل) المضاعف، أي المكرر العين للتعدية فانه يطلق، فضلا عن هذه الدلالة الخاصة، على التكسير، نحو قطعت الحبل: جعلته قطعا. وعلى السلب، نحو قشرت العود: نزعت قشرة، وعلى اتخاذ الفعل من الاسم بنحو خيم القوم: ضربوا خيامهم، كذلك وزن (استفعل) الدالة فيه الزيادة على الطلب، فإنه يستعمل أيضا لوجدان الفعل. نحو استعظم الأمر: وجده عظيما. وللتحول، نحو إستحجر، وللتكلف، نحو استجرأ. وللمطاوعة، نحو أراحه فاستراح، وأخيرا يرجع إلى فحوى المجرد عينه كأنه لم تكن زيادة، نحو استقر بمعنى قر، وقس على ذلك بقية المزيدات، تلك التي تدعى قياسية بتخصيص دور الحرف المضاف إليها
البقية في العدد القادم
الأب مرمرجي الدومينيكي(935/12)
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
عتاب:
أخذ على بعض الأصدقاء من القراء الكرام أنني في هذا الوقت الذي تقف فيه بريطانيا ضد أمانينا القومية حرياتنا قد امتدحت الخلق البريطاني؛ بل أنني أفضت في الثناء على البريطانيين وكان العكس أوجب. وقد سرني عتابهم هذا ولكني وجهت إليهم السؤال التالي: (أتعتقدون أن البريطاني غير مخلص لوطنه؟ وهل تشكون في تضحيات البريطاني من اجل وطنه؟ فكان الجواب بالنفي. قلت (إن بريطانيا عظيمة لان أبناءها مخلصون لها.) وإذا أردنا نحن أن نسود في أوطاننا وان نسترد ماضي مجدنا فعلينا أن نقوي عزائمنا وان نوحد صفوفنا وان نقبل على التضحية كما كان يفعل أبناؤنا وأجدادنا.
وأمر أخر احب أن الفت النظر إليه، وهو انه ليس من الخير لنا أن نتغاضى عن عيوبنا، وان نتجاهل أسباب قوة أعداءنا، فيكون مثلنا كمثل النعامة التي تخفي رأسها وقت الخطر وتعتقد أنها بهذا قد أصبحت آمنة.
وأمر ثالث احب أن أذكره؛ وهو إن هذه المقالات تتسم بسمة البحث العلمي، والبحث العلمي يجب أن يكون بعيداً عن الأهواء الوطنية والعواطف السياسية، ومن ثم فأرى لزاماً علي أن أعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله؛ وإذن فيجب علي أن امتدح البريطانيين حين يستحقون المدح، وان أهاجمهم اشد الهجوم حين يستحقون ذلك. ولا يستطيع إنسان كائناً من كان أن يبرر عدوان بريطانيا علينا واحتلالها لأراضينا وعملها على فصل جنوب الوادي عن شماله، وتشريدها لعرب فلسطين بمؤازرتها لليهود، ولكني احب أن أقول لقومي:
السيف اصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
وأنا اعد حضرات القراء بأنني قبل أن اختتم مقالاتي عن بريطانيا سأعقد فصلاً خاصاً عن علاقتنا بها وكيف يجب أن تقوم.
مشكلات
ولعل حضرات القراء يوافقونني على أننا متخلفون عن ركب الحضارة قرناً كاملاً، وأننا(935/13)
في عصرنا الحاضر نواجه مشكلات واجهتها الأمم الأوروبية في القرن التاسع عشر وتغلبت عليها. ولعل من الخير لنا أن نعرف كيف تغلبت أوروبا على هذه المشكلات حتى ننتفع بتجاربها ونستفيد منها.
تنقسم المشكلات التي نواجهها إلى قسمين: 1: مشكلات سياسية وقومية وأهمها الوحدة والجلاء، وسأتناولها بالبحث حين أتحدث عن ألمانيا وإيطاليا.
2: مشكلات اقتصادية واجتماعية وهي ناشئة عن دخول مصر في الدور الصناعي، وسأتناول فيما يلي البحث في الانقلاب الصناعي في إنجلترا والمشاكل التي قامت بسببه وكيف عالجتها وتعالجها إنجلترا.
الانقلاب الصناعي:
يقول أن أحد المؤرخين (إن الناس قد ظلوا حتى أواخر القرن الثامن عشر يفلحون أرضهم وينسجون ملابسهم وينشرون أخشابهم ويصنعون قواربهم كما كان يفعل قدماء المصريين.) وهذا القول صحيح من دون شك؛ ولكن الجزء الأخير من القرن الثامن عشر قد شاهد انقلابين خطيرين وخطرين جداً؛ وهما في الواقع أساس الحضارة الحديثة.
أما الانقلاب الأول فهو الثورة الفرنسية، فهذه الثورة هدمت الأنظمة السياسية والاجتماعية التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وأقرت الحرية والإخاء والمساواة في الحقوق والواجبات للناس جميعاً، وكذلك أقامت مبدأ سيادة الشعوب إذ قررت إن الأمة مصدر السلطات. وهكذا بدأ قيام الديمقراطية الحديثة.
أما الانقلاب الثاني فهو الانقلاب الصناعي، وهذا الانقلاب ليس أقل تأثيراً في حياتنا المعاصرة من الانقلاب الأول، بل ربما كان اعظم منه أثرا واشد منه خطراً. ذلك انه في الوقت الذي كان رجال الجمعية الوطنية في فرنسا يثيرون اهتمام الناس بخطبهم ومبادئهم الجديدة، وفي الوقت الذي كان نابليون يشغل أذهان الأمم والدول بحروبه ومعاركه، كان هناك رجال يوجهون اهتمامهم إلى المرأة التي تدبر المغزل في منزلها، وإلى النساج الذي يحرك نوله في بطأ، وإلى عمال المناجم وهم يكافحون المياه التي توشك أن تغمر مناجمهم، وقد ظل هؤلاء الأبطال في جهادهم حتى اهتدوا إلى اختراعات غيرت أساليب الصناعة وبالتالي غيرت مجرى حياة الإنسان. وقد كان أهم هذه الاختراعات من غير شك استخدام(935/14)
البخار في إدارة الآلات وفي تسير القطارات والسفن البخارية.
وقد كان من أهم نتائج هذه المخترعات انتقال الصناعة من المنزل إلى المصنع، وانتقال المصانع إلى المواطن التي يكثر فيها الفحم والحديد، فإن من الحديد تصنع الآلات، وبالفحم تسير هذه الآلات.
وفي ما يلي أهم نتائج الانقلاب الصناعي:
1: نمو مدن مزدحمة بالسكان: ذلك أن الصناعة وقد انتقلت من المنزل إلى المصنع تركزت في مناطق الفحم مما أدى إلى هجرة كثيرين من العمال الزراعيين إلى المراكز الصناعية، وقد أغرتهم زيادة الأجور نسبياً في المصنع عنها في المزارع.
2: أدى هذا إلى نقص كبير في الأيدي الزراعية العاملة، وقد حلت هذه المشكلة باستخدام الآلات الزراعية الحديثة.
3: سوء حالة العمال في المناطق الصناعية بسبب قلة أجورهم وسوء مساكنهم وانتشار البطالة بينهم وإرهاقهم بالعمل.
4: ظهور الطبقات رأس مالية كان يملك أربابها المصانع والآلات، وقد عمد هؤلاء الرأسماليون إلى استغلال العمال إلى تنمية أموالهم وزيادة أرباحهم، ولم يلبث هؤلاء طويلاً حتى نافسوا كبار الزراع والتجار في ميداني الحياة السياسية والاجتماعية.
5: زيادة الإنتاج مما أدى بدوره إلى نشاط التجارة، فمثلاً كانت تباع منسوجات منشستر في ملبورن وفي الصين وفي غيرها.
6: تحسن طرق المواصلات والنقل.
7: تسابق الدول إلى الاستعمار لتضمن موارد المواد الخام والأسواق.
8: ظهور نهضة فكرية، وزيادة الاتصال بين أنحاء العالم، وظهور آراء اقتصادية حديثة أهمها مبدأ حرية التجارة الذي نادى به آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم).
9: وجدير بي أن أذكر إن إنجلترا كانت اسبق الأمم إلى الانقلاب الصناعي الأسباب: أهمها زوال النظام الإقطاعي منها قبل غيرها، وثانياً لأنها استطاعت في أثناء عصر الثورة الفرنسية ونابليون أن تسيطر على أسواق العالم التجارية، ولذلك عملت جاهدة بعد انتهاء هذا العصر على الاحتفاظ بسيطرتها التجارية على هذه الأسواق.(935/15)
10: ازدياد عدد السكان في إنجلترا زيادة خطيرة.
الاشتراكية:
على إن اخطر نتائج الانقلاب الصناعي كان ظهور الاشتراكية، فقد قاسى العمال أهوالا كثيرة بسبب قلة أجورهم وازدحامهم في المراكز الصناعية وسكناهم في مساكن غير صحية واضطرارهم إلى العمل ساعات طوياه مضنية داخل المصانع، مما دفع كثيراً من المفكرين إلى العمل على وضع حد لإرهاق العمال وتحسين حالتهم.
وقد نبتت الفكرة الاشتراكية في رأس بعض رجال الثورة الفرنسية، وأنا أحب أن أنقل هنا ما قاله أحد رجالها وأسمه فقد ذهب إلى الطبقات الفقيرة لا يهمها أي تغير بقدر ما يهمها إن توفر لها أسباب الحياة الكريمة حيث قال: (عندما نظر إلى الفقراء فأجدهم محرومين من الكساء والأحذية التي يقومون بصنعها، وعندما انظر إلى تلك الفئة القليلة العدد التي لا تعمل، ومع هذا فهي ليست في حاجة إلى شيء لان كل شيء ميسر، أومن إن الحكومة إن هي إلا مؤامرة قديمة قامت بها الأقلية ضد الأغلبية.)
واقترح أن تستولي الحكومة على الأراضي وموارد الثروة، وان تعمل على استغلالها لمصلحة الشعب وطبقاته جميعاً.
ورغم إعدام بابيف فقد ظلت مبادئه حية في أذهان الفرنسيين لدرجة إن بعض اتباعه نادوا بها من جديد عند قيام ثورة بولية 1830 في فرنسا. وقد أذيعت هذه المبادئ في إعلانات طبعت 1832 جاء فيها:
(أننا لا نريد انقلاباً سياسياً وإنما نريد انقلاباً اجتماعياً. إن التوسع في الحقوق السياسية وفي الحقوق الانتخابية وفي إقامة حق الاقتراح كلها أشياء جميلة؛ ولكن غايتنا الرئيسية أن يكون هناك توزيع عادل لأعباء، الدولة ولما يجنيه أبناؤها من فوائد. أننا نبغي إقامة حكم عادل يكفل تحقيق المساواة لجميع أبناء الدولة.)
وقد كان من ابرز زعماء الاشتراكية في النصف الأول من القرن التاسع عشر روبرت اوبن الإنجليزي ولوي بلان الفرنسي، ولكن (كارل مركس) الألماني يعتبر واضع الاشتراكية الحديثة
ولد كارل ماركس 1818 وتربى في جامعتي بون وبرلين، ولكنه نفي من وطنه بروسيا(935/16)
(ألمانيا) بسبب آراءه الحرة، وفي منفاه وضع كتابه (رأس المال) واهم الآراء التي جاءت فيه:
1: أن طبقات الأمة المحظوظة هي التي قبضت على الحكم في الماضي، وان طبقة الممولين والرأسماليين من أصحاب المصانع هي الطبقة المحظوظة الحديثة، أما العمال فهم ضحايا الرأسماليين. وتنبأ ماركس بان طبقة العمال سيقوى نفوذها حتى تصبح الطبقة الحاكمة، وعندئذ تقوم الدولة الاشتراكية. (ولاحظ إن رئيس وزراء بريطانيا الآن هو زعيم حزب العمال).
2: كان العمال حينذاك محرومين من حق الانتخاب، وقد تنبأ ماركس بان العمال سينالون حقوقهم الانتخابية وسيصبحون نواباً، وحينئذ يصبح في مكنتهم إصدار التشريعات اللازمة لمصلحتهم، وأهمها أن تضع الدولة يدها على موارد الثروة ووسائل الإنتاج مثل المناجم والمصانع ووسائل النقل والأراضي الزراعية، وتستغله لمصلحة الشعب وهو ما يعرف الآن بالتأميم. وجدير بنا أن نلاحظ إن حكومة العمال تعمل على تحقيق ذلك في بريطانيا.
3: عدم وجود فوارق اقتصادية بين الطبقات، وقد تساءل ماركس (لم يدخل الحياة طفلان أحدهما له امتياز على الآخر؟ أحدهم يملك العزب والضياع والمصانع، والأخر لا يملك شروى فقير؟).
4: استنكر ماركس أن يعيش بعض الأفراد عالة على الشعب، وقرر إن جميع الأفراد يجب أن يؤدوا عملاً للدولة، وإلا يكون عالة على المجتمع.
5: يجب أن تسيطر الأمة على رءوس الأموال.
6: يجب أن يكون التعليم بالمجان لجميع أبناء الدولة.
وقد انتشرت هذه المبادئ في أنحاء أوروبا كان لها اثر كبير في الحياة الأوروبية المعاصرة. فقد آمنت بها إنجلترا فنال العمال حق الانتخاب، ثم اصبح منهم النواب وتولوا حكم بريطانيا. ومن غير ذاك تعمل حكومة العمال على تحسين حالة العمال وعلى تقليل الفوارق بين الطبقات، فنراها تفرض الضرائب التصاعدية التي قد تصل إلى 95 % من دخل بعض الأفراد، ونراها تعمم نظام التأمين الصحي والاجتماعي، وتيسر التعليم لجميع أبناء الشعب، وتعمل على تأميم موارد الثروة والإنتاج، ولا عجب فإن حزب العمال يؤمن(935/17)
بان (الغرض الحق من المجتمع هو أن يرفع ويحفظ كرامة ورفاهية الفرد) وبان من حق العمال على الدولة أن يعيشوا كراماً.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية
-(935/18)
من أدباء الحجاز
عبد العزيز الزمزمي
- 2 -
للأستاذ عبد الله عبد الجبار
ولقد كان الأديب الحجازي عبد العزيز الزمزمي ينظم الشعر حتى بعد أن وهى جسده وهن عظمه، وضعفت قوته. وكانت قريحته أسعفته وهو في سن السبعين بنظم القريض. ففي عام سبعين وتسعمائة انشد قصيدة عذبة، قوية النسج، جميلة الديباجة، يقل فيها اثر العمل والتكلف، وفي مفتتحها هذه الأبيات:
دعاك إلى زيارته الحبيب ... فهلا إذا دعاك لها تجيب
أيا داعي الفلاح وأنت داع ... تلين بما دعوت له القلوب
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن شأن من تدعو غريب
إذا سمع الندا ونوى نهوضا ... تنوء به وتقعده الذنوب
وتظهر قيه عجز لا يقوى ... فيوشك جسمه وهناً يذوب
ولكن ربما جذبته قهراً ... عناية من دعاء فيستجيب
ومنها يصف بزوغ فجر الإسلام:
أتيت بملة بزغت كشمس ... ولكن مالها أبدا غروب
لقد نسخت بها ملل فغابت ... طوالعها وحق لها المغيب
به الإسلام حين أتت غريب ... فآنس أهل ملته الغريب
تنادوا كلهم أهلا وسهلاً ... هلم فعدنا السوح الرحيب
فكان لهم بنصرته اغتباط ... وكان نصيبهم نعم النصيب
ولقد كان من أهم الأغراض الشعرية التي احتلت مكاناً بارزاً في شعر الزمزمى، الحنين إلى الأوطان، فهو بحكم رحلاته الكثيرة المتعددة، وما كان يلقى فيها من عنت ومشقة، وما يحسه من آلم لفراق الأصحاب والأحباب، والأهل والولد، يسفح الدم شعراً رقيقاً يملأ النفوس أسى، ففي رحلته الأولى إلى بلاد الروم شخص من مكة مع الركب المصري ثم(935/19)
إلى الروم من البحر، فلما وصل إلى منهل مشهور كان يرده الركب المصري عادة يسمى (الوجه) وهو واد فسيح به شجر من الأراك، تذكر مكة وما حولها من الأراك، واشتد به الشوق والحنين إلى والدته واخوته وبنيه، وإذا هو يهتف بهذا القصيد:
حشاً فيه من صدع الفراق قروح ... وجفن جفاء النوم فهو قريح
وحسب النوى قلب من الوجد خافق ... ووابل دمع في الخدود سفوح
تضيق بي الدنيا إذا ما ذكرتكم ... وتعرض في فكري مهامه فيح
ولا سيما طفلي الذي من صبابتي=ووجدي به روحي تكاد تروح
ولم أنسى إذ فارقته وهو مطرق ... والفت وجهي عنه وهو بنوح
ترى هل إلى أم القرى لي أوبة ... تزيح همومي والعنا وتريح
ويا حبذا (بالوجه) واد بسفحه ... أراك له طيب يشم وربح
مررنا به والركب وان من السرى ... وشمس الضحى وسط السماء تلوح
وقد أورقت أغصانه وظلاله ... ترف ومرأى العين فيه فسيح
ذكرت به وأدى الأراك من الحمى ... وعشيا مضى فيه وظلت أنوح
وبرح بي وجدي إلى أن رأيتني ... أقوم مرارا ثم ثم أطيح
رعى الله دهرا مر حلوا بمكة ... ليالي عنا النائبات نزوح
إذ العيش غض والربوع منيرة ... ودهرى بمهما رمت منه سموح
عذيرى من الأيام يجنين دائما ... على فكم من جورهن أصيح
تبين لي الوجه الذي لا احبه ... ويخفين لي إليه طموح
وربما لج بنفس الزمزمى لاعج الشوق ألح إلحاحا شديداً فادا هو يناجى عروس الشعر بالقصيدة ارتجالاً. ومن ذلك انه لما كان بمدينة (أدنه) وشاهد قافلة حمولتها فلفل، وزنجبيل وقرنفل، مما يحمل من مكة وجدة برا وبحرا إلى مصر والشام، هتف به داعي الحنين وتذكر أرض الحجاز فأنشد على البديهة قصيدة خفيفة جاء فيها:
وميض البرق بعد سنه ... نفى عن ناظري وسنه
وذكرني عهود هوى ... بها الأرواح مرتهنه
وهل نسيت فأذكرها ... إذن أنى من الخونه(935/20)
وما بالعهد من قدم ... فما مرت عليه سنه
معاذ الله أن أنسى ... فروض الحب أو سننه
وقلبي كل آونة ... يجدد ذكرها حزنه
وبي شوق لا جياد ... أهاج من الحشا شحنه
ربوع هن لي سكن ... وهل ينسى الفتى سكنه
سقى الله الحجاز ومن ... أتى منه ومن سكنه
وان ديوان الزمزمي الذي اقتطفنا منه النماذج السابقة لا يضم جميع شعره، لأنه قصره على أبواب خاصة. وان الباحث ليجد له قصائد، أو إشارة إلى قصائد، في أعراض متنوعة مبثوثة هنا وهناك في بعض الظان، فقد ذكروا انه عارض القصيدة الميمية التي نظمها القاضي أبو السعود والتي مطلعها:
أبعد سليمى مطلب ومرام ... وغير هواها لوعة وغرام
كما ذكروا انه مدح أمير مكة أبا نمى بقصيدة طويلة معارضاً بها قصيدة الخطيب (ابن داريا) ويمضى الزمزمي في مطلع هذه القصيدة على النحو الآتي من الغزل التقليدي المعروف:
ليحتس الصهباء من يحتسى ... حسبي لمي مرشفك الالمس
على أطلق منه كائني ولا ... توحش بحبس الكأس يا مؤنس
في طرفك الوسنان والخد ما ... يهزأ بالورد وبالنرجس
وجهك لي روض جديد إذا ... أخلقت الأرض القنا السندسي
ولما توفى العلامة حامد بن محمود الجبرتي وكان له صديقاً حميماً عقدت بينهما أواصر الصداقة نحوا من خمسين سنة، رثاه بقصيدة مطلعها على النحو الآتي:
أيها الغافل الغبي تنبه ... إن بالنوم يقظة الناس أشبه
وتأمل فإنما الناس سفر ... دار دنياهمو لهم دار غربة
كل يوم تحل في السرح منها ... عصبة منهمو وترحل عصبه
كيف يهنا الفتى بها وهو فيها ... يشتكي دائماً فراق الأحبة
واحداً اثر واحد قد تداعوا ... للفنا يا لكربة اثر كربه(935/21)
وهذه القصيدة الطويلة تجدها - أيها القارئ - في النور السافر وهي تدل على وفائه لصديقه الذي يقول فيه:
مزجت روحه بروحي فأضحى ... منطقي نطقه وقلبي قلبه
وكان الزمزمي - إلى وفائه - حراً أبيا لا يقيم على ضيم استمع إليه وهو يرد على الذين لاموه في تركه آهل بيته وانتجاعه اليمن داراً، ذاكراً كيف سامه الولاة الخسف، وكيف تنكرت له الأرض ونبا به السكان وإساءة الزمان، وكيف تبدأ الأحوال غير الأحوال، فإذا الذليل عزيز، وإذا العزيز ذليل، يستفزه الإذلال حتى اضطر إلى أن يخرج من مكة وحيداً في الخفاء يلتمس مضطرباً في الخافقين. ولعل خروجه كان في سنة 958
رب قوم تفاوضوا على حديثي ... واطلوا فيه وخاضوا وجالوا
زعموا بأنني أسأت بتركي ... أهل بيتي والكل كل عيال
لا تزيدوا نارا علي في قلبي ... فيه نار تأججت واشتعال
إن ارضي تنكرت وزماني ... سأني واستحالت الأحوال
فالحقير الذليل صار عزيزاً ... والعزيز استفزه الإذلال
قد رمتني الولاة عن فرد قوس ... أقصدتني سهامها والنبال
كم هموم جرعتها ما عليها ... لآبي تجلد واحتمال
واحتمال الأذى ورؤية ... جانيه قذى في الجسوم داء عضال
أكذا دائما أكون مهاناً ... ولساني تفل منه النضال
ومكاني في خدمة العلم سام ... وبدرسي للطالبين احتفال
غصة لا يسيغها ريق حر ... وشكاة يضيق عنها المقال
سعة الخافقين فيها اضطراب ... ولأرض من أختها إبدال
عبد الله عبد الجبار
مدير البعثات العربية السعودية بمصر(935/22)
قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الثالث
جلسة صاخبة
رحم الله مصرباي! لقد قتلته أطماعه! وما اكثر ما تقتل الأطماع!
بهذه الكلمات نطق السلطان الغوري في جمع من الأمراء وأرباب الدولة، وذلك بعد اكثر من عامين من بدء سلطنته، وقد اجتمعوا إليه يوماً.
فقال له الاتابكي قيد الرجي: يا مولانا! لقد لقي جزاء تمرده. لقد كان معنا أخاً وصديقاً حميماً. ثم غزا الحسد قلبه فاحتله، فتداعى على أثره وده، وانهار صرح وفائه. وملكت الأطماع جماع نفسه. وصحبها الزهو والترف، مع الوثوق والغرور بقوته. فأنظمت أما عينيه معالم الحق، وأنبهمت آيات الصواب، فاصبح كالغابة العشواء تخبط على غير هدى، وتسير دون جدوى، ولم يتخذ لنفسه عبرة ممن سبقه من الأمراء الطامعين الطامحين الذين غامروا بأرواحهم في ميدان لوثته الحقود والأهواء، وأثارت حمية فرسانه نيران الحسد والبغضاء. فذهبوا طعاماً صالحاً لهذه النيران. وبقيت اللوثة تدمغ صفحات حياتهم وتشوهها.
فقال طراباى: انه معذور يا مولانا في طموحه هذا، الذي أورده موارد والتلف والبوار. . .! فإن مولانا اثر من الله عليه بسلطنته المباركة، خلع أول ما خلع، على مصرباي. ورقاه إلى رتبة الدوادارية الكبرى، ولم يكتف كرم مولانا بذلك، بل وكل إليه مع الدوادارية الوزارة والاستدارية، ثم مكن له في شؤون الدولة. . .
أنسى مولانا أننا حين لجأنا إلى بيع الأوقاف لنستعين بها على ملء الخزائن الشيرفة، لكي نحشو به الأفواه الفارغة،. . . لم نستطع. . . فعدلنا إلى اخذ ريع سنة كاملة منها، وإلى فرض أجرة عشرة شهور كاملة على أملاك القاهرة وسائر أنحاء البلاد، ثم خفضت بعد إلى سبعة شهور، بسبب ثورة المالكين ضدنا، ولولاي إذ أنهيت إلى أسماع المقام الشريف خبر(935/23)
ثورتهم، فوافق على مقترحي بتخفيض هذه الضريبة، لوقع ما لا تحمد عقباه.
في أثناء ذلك يا مولانا! كان مصر باي أثناء ذلك مقيماً فيما وكل إليه جمع ماله. فلقد وكل إليه أن يجمع ما فرض من المال على أملاك الصليبة إلى مصر إلى دير الطين إلى غير ذلك.
شمر مصرباي عن ساعد الجد، وكتب القوائم المطلوبة مستعيناً بالمباشرين من أولاد ابن الجيعان. وبعث إلى أعيان الناس بتلك النواحي رسلاً غلاظاً شداداً لا يعصون ما أمرهم. . . واخذوا يثقلون على الناس بكل وسيلة مستطاعة، وبكل حيلة قدروا عليها، حتى وفوا بما فرض عليهم. . . نحن حقاً لا نؤاخذه بهذه الغلطة ولا بهذا الأثقال، ولا بتلك الجفوة في معاملة المالكين والآهلين، لأنه كان يقوم بواجبه في جمع المال المعروض. . . وإنما ننعى عليه حبه للمال، وانتهاز هذه الفرصة لملئ جعبته منها. . وتدبير جزء منه لنفسه.
قال السلطان: الحق إننا اجتزنا هذه المحنة بتوفيق الله ومعونته، ولولاه سبحانه، لفوجئنا بما لا نتوقعه. . لقد كان الجند في ثورة دائمة. . إذا خبت نارها آنا فتحت رمادها وميض النار. واخذ الدساسون يدسون بينهم، ويثيرون حميتهم، ويوقدون نار الثورة بينهم. وكنا نحن من ناحيتهم نلتمس لهم العذر. . . فلقد تأخرت رواتبهم جملة شهور، ولم نقدم إليهم من نفقة البيعة شيئاً. . . ولكنا كنا مكرهين، فلقد تسلمنا زمام السلطنة، والخزائن خاوية على عروشها. تصر فيها الرياح صرير اليأس الحزين. وتسرح في جنباتها الجرذان سروح الأمن اللاهي. فصابرناهم بالتهديد بترك السلطنة. . . وطوراً يبذل الوعود والملاينة. . .
ثم أحببنا أن نستولي على بعض أوقاف المساجد، ونشرع في بيعها لسد فراغ الخزائن، ونترك للمساجد ما تحتاج إليه منها لتظل مفتوحة للعبادة وذكر الله، وخير لنا أن تنفق أموال المساجد على الجنود السلطانية وضروريات السلطنة، من أن تنفق على المتعطلين من خدمتها، والمتبطلين من شيوخها، والكسالى الخاملين من مدعي المعرفة والوصول. . . لكن وقف في وجوهنا ثلاثة من قضاة الشرع وبخاصة شهاب الدين أحمد الشيشيني قاضي قضاة الحنابلة، وقبض لنا في قسماته، وعبس في غضونه، واغلظ في القول. ثم وسمنا بأننا نعبث بأموال الواقفين واعيان وقفهم على غير ما يرغبون، وأننا لن ننفقها في سبيل الخير المرسوم لها. . . كأن الخزائن الشريفة ليست سبيلاً من سبل الخير، أو لست مرجعاً للبلاد(935/24)
وملاذا لها وذخرا وقت الشدة. . . وكان تهدئة خواطر الجند والقضاة على فتهم، ودفع مرتباتهم، والعمل على استتباب السكينة بينهم وبين أهل البلاد ليست مظهراً من مظاهر الخير، ولا معبراً من معابر البر، يصح أن تحول إليه هذه الأوقات المباحة المأكولة. . وجزى الله خيرا قاضي قضاة الحنفية عبد البر بن الشحنة، فإنه وحده دون الثلاثة القضاة الآخرين كان مسايرا لنا فيما ذهبنا إليه. . .
ومهما يكن من شيء فقد أغضينا عن بيع الأوقاف، واجتزأنا بما فرضناه عليها وعلى أرباب الأملاك.
قيت: الواقع يا مولانا! أننا وفقنا، واجتزنا التجربة بثبات وعزيمة، ولولا قوة أيمان كنا نستمدها من المقام الشريف، وصبر مكين تحلينا به تحت ظله، وإخلاص زدنا به تحت لوائه، لتفاقمت ثورة الجند، ولوجدنا لدى العامة من الملاك والسكان ما يجهدنا ويضنينا، وذلك لما أصابهم من المشقة بسبب ما فرض عليهم. وقد وقع منهم قلق واضطراب عدة مرات. حتى أدى ذلك إلى تعطيل البيع والشراء، وغلقت الحوانيت وانفضت الأسواق. واحتجوا مراراً أخرى علينا. وتعرضوا لنا في الطريق العام مهللين ومكبرين تكبير الغاضب المهتاج.
وفي أحد أيام الجمعة، عقب الصلاة، قوبلت بجمع منهم غفير، تجاه باب زويلة. لقد رجموني بالحجارة أنا والأمير طراباي، حتى اضطررنا إلى أمر الجنود فاعملوا فيهم السيف، وقتلوا ثلاثة أشخاص، وجرحوا آخرين ثم تفرق الجمع.
وقد انتهز بعض السفلة والأوغاد والقطاع، هذه الفرصة، وعاثوا في أرجاء القاهرة فساداً، فسلبوا ونهبوا. ولولا همة مشكورة بذلها الأمير علان الوالي، لما إنقمع هذا الشر. لقد قبض على جماعة منهم، ووسط نحو أربعة عشر. . . خرط أوساطهم بالسيف
ثم. . يا مولانا! هناك الاشميون الطامعون الذين لا يحمدون الله على ما أولاهم من فضل، وحياهم من نعمة. أولئك الذين يفغرون فاهم كجهنم. ويقولون: هل من مزيد؟ ولا لهم إلا الاستحواذ على المال من الناس، ولا هم لهم من الخزائن الشريعة إلا أن يستدروا عط اياها ويستمنحوا جداها، أمثال. . مصرباي وجان بردا الغزالي.
لا ادري لماذا حنق مصرباي - رحمه الله - عليّ. . . وعلى أزدمر. . . وتربص بنا(935/25)
الدوائر وقعد لنا كل مقعد. .؟ إلا إننا أوعزنا بالإغلاظ عليه في أداء حساب ما جمعه. .؟ أم حسداً لقربنا من قلب مولانا السلطان. .؟ أم لأننا كنا نذوده سراً عن الأتمار بالسلطنة. .؟
السلطان: أما الجان بردا الغزالي فقد أعطيته أماني، فظهر لذلك بعدما اختفى زمناً، هارباً مني، وقد خلعت عليه ورقيته إلى حجابة حلب، وأمرته بالشخوص تواً إليها تلافياً لشره وحسماً لنزواته، أما مصرباي فلقد لقي حتفه مجاهداً في بسيل أطماعه الباطلة، بعد أن أكلت الغيرة قلبه كما يأكل النار الهشيم. .! ألا تقص علينا أيها الأمير علان، قصة مصرباي كاملة.!
علان: اجل يا مولانا! إن مصرباي لما قبض عليه بأمر المقام الشريف، وبعد مشورة الأمراء، وادخل إلى البحرة وقيد، لبث زمناً ثم سير إلى الإسكندرية، فظل إلى سجونها ردحا من الزمان. ولكنه استطاع من بعد أن يفلت من سجنه ويهرب.
لقد قيل أن مملوكة (اياسا) بعث إليه في شجنه بهدية فيها شموع، ودس وسط هذه الشموع مبرداً من الفولاذ! فتناول مصرباي هذا المبرد، وظل يعالج به قيده من كسر، استطاع بعد ذلك أن يفر. . . وقد اختفى بعد فراره، وبحثنا عنه في كل مكان فلم نعثر له على اثر. وقد احتلنا في سبيل الظفر به بجملة حيل. لقد أوعزنا إلى الجنود السلطانية أن يثوروا ضد المقام الشريف ثورة مكذوبة مفتعلة، لنغرى مصرباي بالانضمام إلى صفوف العصاة الثائرين العصاة، فنستطيع حينذاك القبض عليه. ولكنه لم يظهر. . . وكأنه لدهائه فهم الخدعة فلم تجز عليه. . .
وقد لبث مصرباي في خفائه يجمع شمل ممماليكه ويلم شعث اتباعه، ويغرى الطامعين ذوى الأغراض بالالتفاف حوله. . . فالتف من حوله جماعة من الذؤبان والثعالب. . . فأغراه هذا بالوثوق من نفسه، وظن أن الأمر اصبح له ميسراً.
فكمن برجاله في طريق الأمراء حين نزولهم من القلعة من لدن مولانا السلطان في تلك الليلة من رمضان التي نعموا فيها بتناول فطورهم على الموائد الشريفة. . . أراد مصرباي أن يقطع عليهم الطريق، ويفاجئهم بالبطش بهم. . . ثم يزحف بمن معه إلى القلعة فيملكها. . .
لكنه قد خاب فأله وكشف رخه وشالت نعامته. . فقد وقف المماليك حول أمرائهم وقفة(935/26)
روعته وزلزلت أقدامه، حتى اضطر إلى الفرار هارباً بمن معه. ولكنه بعد أن جرح الأميران طراباى وتمر الزردكاش.
رحل مصرباي بعد ذلك إلى الازبكية ليجمع شمل أعوانه ويلم شعثهم. مغريا كثيراً من الأمراء والجنود أن ينضموا إليه، ليعاود الزحف والهجوم، ولكن لم يطعه أحد.
ثم ذهبت إليه في جمع حاشد من المماليك السلطانية، فحملنا عليه حملة صادقة، هو ومن معه من الثائرين، حتى قتلناه شر قتلة، وحملت جثته على فرس إلى الأبواب السلطانية الشريفة.
طراباى: لو إن مولانا لم يغدق على مصرباى كل هذا الإغداق، ولم يبسط له رداءالأمل إلى آخر مداه، لما تطلع إلى ابعد من منصبه الذي رقى إليه، ولكفكفت أطماعه، وتضاءلت همامة نفسه وعجزت عن أن نطيع هواها، ولما خدعته نفسه الأمارة بالسوء بأنه أهل للسلطة أو الانابكية. والنفس كالجواد إذا روخى له في الخطام شرد وجمح، وإذا جبذ من الزمان تطامن وكبح.
السلطان: أيها الأمير طراباي إن لمصرباي على السلطنة يد لا تنساها، فكان حقاً علينا أن نبر له في الجزاء، ونجزل له في العطاء. . . لقد تعصب مصرباي للسلطنة قبل أن تتعصب أنت لها. . . ردعا الأمراء إليها، وأنت لاه عنها بجوار الملك العادل، يغريك من بعيد بالانابكية، ويضمرلك في نفسه الغدر والخيانة والحرمان والإقصاء عنها. . . حتى فطنت أخيرا إلى مكره، وبدأت تلمس خفي غدره. فانحزت إلى جانبنا، ولكن بعد أن لأي ومراودة
أما مصرباي فقد دبر أمر القبض على العادل بهمة وعجلة وحزم. وكان أهلا لمنصبه. ذا كفاية مذكورة، ودراية مشكورة، وإقدام كان له الأثر في النصر والظفر. . وما كنا لننعى على أحد كفايته أو نغض من شأنها، أو نسد سبل العمل أمام مواهبه، أو نجفوه. . . أن السلطنة العادلة هي التي تفسح المجال أمام الكفايات حتى تنتفع بإنتاجها. وإذا هي غضت من شأنها كبتتها، حتى تستحيل بعد حين نارا محرقة يصعب إطفاءها. ولا يشير حقد الأكفاء مثل الجفاء. . . غير أن الرجل الكفء لا يشوهه مثل نكوصه وغدره، وحيرته بين أطماعه وتردده. وان عدم الولاء آفة. وهو جرى أن يطوح بهم نحو الحضيض، ويسير بهم(935/27)
إلى الهاوية. وقد قيل: مصارع الرجال تحت بروق الطمع.
طرباي: كنت يا مولانا بجوار العادل أؤدي واجبي. وحينما تبين لي وجه الحق، وبدا لي أن مصلحة السلطنة في أن انضم إلى صفوف مولانا، انضممت. وقد كنت في سلطنة العادل اتابكيا بالنيابة. ثم عدت إلى منصبي بعد تمام أن تمت السلطنة لمولانا. ورضيت بان استظل بظلها وانضوي تحت لوائها في مصاحبة اتابكي السلطنة الأمير قيت. وهاأنذا لا أزال - كما كنت - رأس نوبة، راضياً غير طامع. فلم يغنني مال، ولم يستهوني منصب، ولم اظفر بيميني إلى شيء تأباه مشيئة مولانا السلطان، ووهبت لحياظة سلطنته الشريفة كل ما أذخر من روح وقوة ورأي.
قرقماس بن ولي الدين (أمير السلاح): ما اضن إن مولانا السلطان يشك في إخلاص الأمير طراباي ولعل يضرب رجل برجل آخر. . أليس كذلك أيها الانابكي قيت. .؟
قيت: لا ادري لماذا تغمز هذه الغمزة أيها الأمير قرقماس بين يدي مولانا السلطان! وهو أدرى ما تسكنه صدورنا لمقامه الشريف، من حب مكين واخلاص متين. وكأني بك تتهمني بالائتمار على قرار الشريف بركات آخي الجازاني من سجنه، إن هذه تهمة باطلة، وحملة ظالمة، لكنها متداعية واهنة، تحمل في اردانها دليل بطلانها.
إنني أنا الذي ذهبت بأمر مولانا السلطان إلى الأقطار الحجازية، أميرا للحاج، واصطحبت معي عدداً ضخماً من صناديد المماليك السلطانية للقضاء على الجازاني، ذلك العربي الثائر هناك. فقضيت على ثورته، وأطفأت نار فتنته. غير انه استطاع أن يفر من يدي، فقبضت تواً على أخيه وأخوته جميعاً، وسقتهم أسرى يجرون الحديد إلى الأبواب السلطانية الشريفة، فتأثرت نفس مولانا السلطان حينما رأى الشرفاء في القيد أذلاء، فأمر بسجنهم بداري في الازبكية.
قرقماس: أنت تعلم أيها الأمير أن مولانا السلطان قد فرض عليهم غرماً مالياً، ولكنهم لم يدفعوا منه شيئاً. فوكل إليك أمر رقابتهم، حتى يؤدوا ما فرض عليهم. فسجنتهم بدارك، فكيف يفر الصيد من شباكك أيها الصياد الماهر. . .؟ وأنت انابكي السلطنة وقائد جندها.؟ إن في هذه الحادثة لخطراً على سمعتنا، وضياعاً لما فرضه السلطان من الغرم، وتهوينا من شأننا، أمام الجازاني وعصبته في بلاد الحجاز، وفي ذلك خطر علينا عظيم. . ثم. . . إن(935/28)
الله عليم بذات الصدور. . .!
قيت: إذا كان السجين قد فر، هو وأخوته، فذاك تراخ وغفلة من الحراس، وسأقتص منهم. أما أنا فلا ادري كيف تستسيغ يا قرقماس، أن ترميني بأني هيأت لهم أسباب الفرار.؟ المال ابتغيه؟ وقد وهب لي الله منه الشيء الكثير، على يدي مولانا السلطان. . . أم لجاه ابتغيه؟ ومنا تستمد أسباب الجاه، أم لمنصب تتطلع إليه، وقد بلغت من المناصب الذرى. . .؟
حقاً! أنها لتهمة غريبة مريبة، ولعل في النفس شيئاً ستتكشف عنه الأيام. . .؟
السلطان: أيها الأمير قيت! إن المال لا حد لطمع النفس في جمعه. . . ما دامت النفس قد أشربت حبه. . . وأما المنصب فلا يزال أمامك فيه جوالة. . .! إن هناك منصب السلطنة. . .! وهو من القلب وقرة العين ومطمح الفؤاد.
أيها الأمراء! انتم جميعاً تعلمون أنني أزهدكم في السلطنة، وأشدكم جفاء لها. . . فمن شاءها منكم فليتقدم في غير مواربة ولا خيانة.
إنني مستعد للاختفاء من الميدان في هدوء وطمأنينة، بقلب راضٍ ونفس مستقرة شاكرة.
لقد أقمت في السلطنة زهاء ثلاثة أعوام، وان أوطد في دعائمها، واثبت من أركانها، أعالج من ثرواتها. ثم بدا لي أن اطمئن واقر بالهدوء فيها عيناً. . . فإذا أنا حالم واهم. . . وإذا الأماني في العيون سراب. وحقاً يؤتى الحذر من مأمنه.
قلقماس: حاشا يا مولانا أن يخيس أحد بعهدك، أو يشق عصا طاعتك، أو يخرج عن حظيرة ودك. . . أننا لنسيل دماءه على حد ظبانا، ونقطع أشلاءه على غرب سيوفنا، ونزهق روحه لتذهب للمعتبرين حديثاً.
إلا فليحدث نفسه بالسلطنة من شاء، وليذهب به خيال الأمل إلى ابعد الأنحاء. فنحن من وراءه نقطع جسده بدداً ونتركه طرائق قدداً.
أزدمر الدوادار: وأنا معك يا قرقماس. نحمي حوزة السلطنة، ونبذل الروح رخيصة في سبيل الذود عنها، ودفع الكائدين عن مها بالأذى.
ثم لا ادري أيها الأمير قيت؟ لماذا كنا معاً يداً واحدة ضد مصرباي. . . ذلك الذي كان ينقم منا نحن الاثنين. . . أليس ذلك لأننا كنا نحيط ائتماراته بالسلطنة. . . وندفع كيده عنها(935/29)
ونكيد له كما كان يريد أن يكيد لها.
قيت: مهزلة! وثورة عابثة! وفتنة فارغة! ومجانة جادة! ومزاح ثقيل الظل! لا ادري فيما تتحدثان، وعن أي شيء تتكلمان، وبأي امرئ تتهكمان؟ إلا أن في ذهني لحية، وفي كفي لعصية. وباطل الملامة، يشوه الكرامة. . . وارخص ما يبذل للشرف الدماء، أهون ما يباع للعز الدماء.
ولكن قبل ذلك. . .! قولاً لمن يرفع عقيرته بالقاع عن السلطنة. . إن السلطنة التي عرفت مبلغ بلائنا وصدق ولائنا وحسن وفائنا. فاحفظوا على أنفسكم الكيد، واخشوا مغبة الدسيسة، واسفروا وجوهكم عما تطمعون فيه، فإن النفاق دليل العجز، وهو لن يغنيكم فتيلاً.
السلطان: لا تختصموا لدي. . . ولا توقروا قلبي بمثل هذه الشحناء. . . أنكم جميعاً عمد السلطنة. على سواعدكم تقوم، وبأيمانكم تقوى وتشتد. وهي في حاجة إلى كل فرد منكم، فكونوا لها حراساً، ولشعبها سواساً، ولتكن صلتكم الحسنى ورابطتكم المودة والإيثار. بكم ينعقد لها لواء العزة والمنعة. وينبسط بساط القبول والرضا.
ذروا التغرير بالجنود، وإغراءهم. وليفض كل منكم إلي بدخيلة نفسه، ناصحاً أمينا. وسيجد مني صدراً رحباً، وسمعاً خصباً، وقلباً سمحاً، ونفساً طيبة، ومودة.
طراباي: أنها لحظة حكيمة حازمة يا مولانا! وشرعة منصفة، وأني اعتماداً على مالي في قلب مولانا من رضا، ومالي إلى نفسه من قرب، وما يعرفه في من إخلاص، وما تفضل به عليّ من ثقة. التمس من مقامه الشريف بإسم طائفة منا، ألا يقبض على أحد من الأمراء بالظنة، حتى يظهر له وجه الحق فيه ابلج، وبتكشف له عنه الصواب واضحاً.
السلطان: إذا! انتم تخشوني وتأتمرون بي، كما كنتم تخشون الملك العادل وتأتمرون به. . . وان خشيتكم الباطلة لتدفعكم إلى التحريض على الفتنة بين الجنود، ودفعهم إلى الثورة على السلطنة، إلا أن هذه عادة أسلافكم الذين وجتموهم على أمة، وانتم على آثارهم مقتدون.
أيها الاتابكي قيت! لقد أمرت بالقبض على مصرباي، وجان بردى الغزالي. وغيرهما من الأمراء المتهمين بالدس والائتمار واضرام الفتن ولكن هل كان هذا الأمر إلا بعد استشارتكم؟
قيت: اجل يا مولانا!(935/30)
السلطان: إذا! مم تخشون! ولم تهاون؟ ما دام الإخلاص رائدكم، والولاء قائد كم. . .؟ إلا أن هذه حالة لا يستقر معها لسلطنة، ولا يدوم بها هناء لسلطان.
وإذا فصحيح ما علمته من أن بعضكم يأتمر بي، ويثير الفتنة في سبيلي، ويتطلع إلى السلطنة ليشبع آمال طمعه.
قرقماس وأردمر معاً: نحن على استعداد لتصفية هذا الموضوع. . . وسيوفنا بين يدي مولانا مرهفة، ورماحنا مؤتلفة، وجيادنا معدة مصطفة، وجنودنا شاكية السلاح واقفة.
السلطان: أنا لا أبغي حرباً أو ضرباً، ولا لجاجاً ولا خصومة، أن أسرة إذا تفككت عراها، انتكث فتلها، ووهى غزلها، وإذا اختلف أفرادها، خارت أعضاؤها وفاجأها حسادها. وإذا تنابذ أعضاؤها اجترأ عليها أعداؤها، ولم تعد تستطيع أن تجابه أمورها الخارجية بحزم كامل وعزم شامل.
وهناك أعداء لنا في خارج بلادنا، يتربصون بنا الدوائر؛ ويقعد منا مقعد الثعلب من الفريسة، يرقبها في غفلة مصطنعة حتى إذا أمنت جانبه، فاجأها ودق عنقها. ونحن أحوج إلى توجيه قوانا لكبح هؤلاء الأعداء.
لقد سمعتم منذ حين أن الثائر (إسماعيل الصفوي) أراد الانقضاض على حلب. وكنا على وشك أن نجرد عليه حملة تأديبية.
غير أنى لا يهمني أمر الصفوي بمقدار ما يهمني أمر الدولة التي كونها بنو عثمان في بلاد الروم. لقد اتسعت رقعتها، ونمت ثروتها، وهيبت سطوتها، وأصبحت متاخمة لممتلكاتنا، وبمقدار ما نحيط به ملكنا من اتحاد وقوة وحيلة، تبقى مهابتنا في نفوسهم، وتدوم مكانتنا في قلوبهم.
لقد وفد إلينا قاصدهم - رسولهم - منذ حين، وأقام لدينا ردحاً من الزمان، لقد بعثوا إلينا معه هدايا ملكهم الثمينة، رمزاً للصداقة وتمكيناً للعودة، وتأكيداً لحسن الجوار. واغلب ظني انه إنما شخص ألينا، ليسير مبلغ ما فينا من قوة، وما لنا من التئام، وما بيننا من صلة وألفة، وما في بلادنا من ثروة. . . وكل أولئك سيكون له أثره في المستقبل المرتقب في رسم سياستهم قبلنا.
على أننا تلقينا هذا القاصد تلقياً حافلاً، ولم نذخر وسماً في إظهار عظمة مصر وقوة(935/31)
سلطنتها أمام عينه، ولم تقتصر في التنويه بفضل أمرائها ونباهة شأنهم ومبلغ شجاعتهم.
وأنت أيها الأمير ازدمر، حين ما توجهت إلى قناطر العشرة في زمن الربيع الزاهر، اصطحبت معك هذا القاصد واحتفيت به احتفاء كان مضرب المثل، وفهم عنك مبلغ ما عليه سلطتنا من جاء وقوة وحول وطول. ورأى ما لبلادنا من جمال وروعة. وعندما أراد العودة إلى بلاده خلعت عليه خلعة ثمينة، وحملته إلى ملكة هدية نفيسة تليق بمكانتها. . . ثم. . . بعثت في أثره الأمير (ثاني بك الخازندار) قاصاً من لدنا إلى ملكهم، ليقوم بمثل ما قام به قاصدهم.
هذه هي دولة بني عثمان. . . ثم هناك العربان في بلاد الحجاز بل ومختلف جهات الديار المصرية، يثورون من آونة لأخرى حاقدين علينا معشر الجراكسة ناقمين منا، يدعون أن البلاد بلادهم دوننا، وأننا عنها جد غرباء. . . يا لبلادتهم! كأن عشرات السنين التي انصرمت منذ ألف الملك المعز بن أبيك الجاشنكير دولته البحرية؛ أو منذ ألف الملك الظاهر برقوق بن أنص، دولته الجركسية، ليست كافية في نظر هؤلاء الحمقى لمصير عنصرها. . .! فهؤلاء العربان الذين يدعون حقهم في البلاد، لم ينهضوا في أغلب الأحوال، إلى معونتنا إذا دهم البلاد عدو أجنبي. . .! فلله ما أشد حدبهم على بلادهم، وما أنشطهم للذود عنها. . .!
أيها الأمراء! هكذا ترون أننا في حاجة إلى اتحاد قوى وائتلاف صميم. . . أما الخلف الذي تخفون إليه، فحالة لا تقوم بها سلطنة، ولا يهانا بها سلطان - كما ذكرت. . . لن ينفض هذا الجمع من هنا اليوم، حتى تقسموا جميعاً على المصحف العثماني، أمام قاضي القضاة، يمين الطاعة والولاء.
فأقسم الأمراء ثم أقسم لهم السلطان وأرسل إلى المماليك بالقلعة فأقسموا يمين الطاعة طبقة بعد طبقة.
(للكلام بقية)
محمود رزق سليم
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية(935/32)
رسالة الشعر
يا فلسطين. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
(إلى شباب العرب الأحرار في كافة أقطارهم لعل فيهم من يرجع مجد فلسطين الذاهب ويؤدب هؤلاء الصهاينة الذين مازالوا يكررون اعتداءاتهم على أبنائها المشردين)
أنف الحق أن يهان فثارا ... وتحدى الأزمان والأقدار
صاخباً يلطم الطغاة بكف ... لم تعود حمل الحلي سوارا
خلقت للجهاد والطعن والضر ... ب، ورد المغير إما أغارا
قاذفا في مسامع الأمة العز ... لاء، شكوى تفتت الأحجار
لاعناً (لجنة) تحاول وأد الحق، كما تستبعد الأحرار
أيهان الأحرار والسيف مسلول يقد الأجساد والأعمار
صقلته الدماء حمراء سالت ... من نفوس ترى المذلة عارا
هاجها حقدها فضجت شباباً ... عربياً على الصهايين ثارا
هم بقايا الليوث من أمة العر ... ب، وأبطالها الكماة الغيارى
عرب دوخوا المماليك قبلاً ... وأدنوا الشعوب والأمصار
هم أسود الصحراء لم يألفوا الضيم وكم تنجب الليوث الصحارى
شغفوا بالعلي وعاشوا على الد ... هر، أباة أعزة أبرارا
دوخوا الغرب بالصوارم والسمر، ودكوا الحصون والأسوار
كلما أركضوا الخيول على أسم الله، حازت من السماء انتصارا
وإذا سار جمعهم لجهاد ... واكب النصر جمعهم حيث سارا
إن نصراً به السماء استطالت ... لجدير أن يملأ الأسفار
آيه شعري أثر كوامن حقد ... في الشباب الذي هوى الأخطار
وتظلم أو أسمع الغرب لحناً ... ثورياً، وحارب الأشرار
نحن نأبى أن نستكين إلى الذ ... ل، ونأبى بأن نعيش أسارى
نحن من أرخصوا النفوس الغوا ... لي في سبيل العلا فنالوا افتخارا(935/34)
شرف المجد أن نعيش كراما ... لا أرقاء، نستكين صغارا
أو ننسى بالأمس مجداً تليداً ... قد أضعناه ذلة واحتقارا
إيه تاريخنا المعطر بالنور ... أبن، وارو للعلي الأخبار
وتكلم بل اصرخ اليوم فالقو ... م، سكارى وما همو بسكارى
قل لهم يا نيام: قد كان مجد ... يتخطى الآباد والإعصار
هل رأيتم آثاره، هل سمعتم ... وهو يبكي، فقلدوا الآثار
ذبل المجد في يديكم طريا ... وشكا من جفافه الاندثار
تلك أيامكم خوالد يزهو الدهر ... فيها ويستطيل فخارا
أنسيتم (ذي قار) والليل داج ... قبل (ذي قار) فازدهى واستنارا؟
أنسيتم سيفاً من الله قد سل على الكفر قاصعاً بتاراً؟
أنسيتم (صلاح) يقتحم الموت ... ويقتاد جحفلا جرارا؟
فعلام ارتضيتموا الذل قيداً ... وطليتم وجه الحضارة قارا؟
أو لستم أبناء من نوروا الد ... نيا، وكانوا بأفقها أنوارا؟
أو لستم فتحتمو (الصين) و (الهند) ... قديماً و (الصرب) و (البلغارا)
أيها الناطقون بالضاد هبوا ... من سبات طغى عليكم وجارا
ذي (فلسطين) قسمت بين قوم ... غمطوا حقها الصريح جهارا
عاث في أرضها اليهود فساداً ... واستباحوا النساك والأخيار
كم فتاة تبكي أباها وأم ... تتمنى لبنها الانتحار
وفتى كالهزبر سيق إلى الذبح ... وفي قلبه التمرد مارا
وكعاب كزهرة الروض في الحسن ... أزاحوا عن طهرها الأستار
لهف نفسي (لقدسها) كيف أمسى ... لأخس الأنام مأوى ودارا
لا (صلاح) يرد عنها الأعادي ... لأولا (خالد) يقيل العثارا
شغل العرب بالكلام عن الثا ... ر وهل يأخذ الكلام الثارا
البدار البدار يا أمة العر ... ب، إلى الحومة البدار البدارا
لا تناموا على المذلة فالأبقا ... ر، تأبى ولستمو أبقارا(935/35)
ذل من يحسب القيود سواراً ... في يديه ولم يحطم سوارا
فسوار الذليل نير ثقيل ... ولو إن صاغة الدخيل نضارا
لا تقولوا خان الزمان وقولوا ... نحن خنا حفاظنا والذمارا
من أراد الخلود جرد سيفاً ... أو أراد الحياة بالعز ثارا
فزمان الرقيق راح مع الظلم ... وسوق التخاسة اليوم بارا
يا فلسطين، يا أغاني البطولات ... عذابا على شفاه العذارى
أنت حلم النبي حققه العرب ... فأرضوا بذلك المختار
يا منار الهدى لقد أظلم الحق، فكوني للجائرين منارا
لا تزالين مثلنا نشتكي القيد ... ونشدوا من وقعه الأشعار
يا فلسطين، يا سماء المروآت، ... استفيقي قليل ذلك غارا
واستعدي للانتقام وكوني ... بركاناً، أن مسه الضر ثارا
وأرسلي للجحيم كل مظلوم ... يتمنى لك الفناء والدمارا
واشهري الحرب لا تهابي الصهايين، وصبي إلى الطواغيت نارا
واسحقي المارقين من نسل (سكسون) فهم قسموا البلاد ديارا
وأغضبي وافضحي نوايا طغاة ... تخذوا الحنث في الوعود شعارا
ثم ثوري كالعاصفات إذا هبت ... وكوني على العدى إعصارا
وإذا لامك الجبان فقولي: ... صدا القيد في أكف الأسرى
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(935/36)
الأدب والفن في أسبوع
للإستاد عباس خضر
أثر الدراسات القرآنية في تطور النقد الأدبي
ألقى الأستاذ محمد خلف الله بك محاضرة بنادي دار العلوم يوم الخميس الماضي، موضوعها (أثر الدراسات القرآنية في تطور النقد الأدبي) ويبدوا أن الأستاذ تحدث عن هيكل فكرته في هذا الموضوع حديثاً مجملاً مرتجلاً، فقد أعد نقط الموضوع في ورقة كان ينظر فيها عند الحاجة للتذكر، ويخلط في حديثه بين العربية والعامية.
نبه الأستاذ المحاضر أولاً، إلى أمرين يتصلان بالقرآن الكريم، الأول أن القرآن اعتبر منذ صدر الإسلام النص الأدبي الأول في اللغة العربية دون سائر اللغات.
ثم تتبع خطين في حياة النقد الأدبي، منذ أبتدأ عصر التأليف في القرن الثالث الهجري، يتمثل الخط الأول في الكتب التي ألفت خاصة بإعجاز القرآن وطرائق التعبير فيه، ويتمثل الخط الثاني في الدراسات الأدبية المتعلقة بالشعراء والخطباء والكتاب، فلما جاء القرن الرابع الذي أتزهر فيه التأليف وتميز بالتخصص في الموضوع، فألفت كتب في موضوعات خاصة وفي أفراد معينين بعد أن كانت المؤلفات جامعية - جرى ذلك أيضاً فيما يخص بالبلاغة القرآنية، فألفت كتب في البلاغة كان الغرض الأول منها بيان ما في القرآن من إعجاز؛ وجمال في التعبير، وتعرض بعد ذلك لما ينطق على النظريات البلاغية من النصوص الأدبية شعراً ونثراً. ثم جاءت بعد ذلك العصور المتأخرة التي تحولت فيها البلاغة إلى قواعد شغلت العلماء بالبحث والجدل فيها دون اهتمام يذكر بالنصوص ذاتها.
وعنى الأستاذ في أثناء الحديث، بإبراز نقط، منها:
1 - أن كلمة (النقد) كانت مهجورة في الاستعمال، مع إنها هي التي تنطبق على تلك الدراسات من قرآنية وأدبية. وعلل ذلك بأن المتبادر من هذه الكلمة عادة بيان المحاسن والمقبح في النص المنقود، فتحرز الدارسون منها نظراً إلى القرآن الكريم، ولم يجرؤ على استعمالها المؤلف أعجمي هو قدامة في كتابيه نقد الشعر ونقد النثر
2 - اختفت الدراسات الأدبية - فيما عدا العمدة لابنرشيق - في العصور المتأخرة، ووجه المؤلفون كل عنايتهم إلى البلاغة باعتبارها أداة لأدراك بعض نواحي الأعجاز في القرآن(935/37)
وفهم أسرار البيان فيه، وكان غرض المؤلفين هو خدمة القرآن الكريم أولا وقبل كل شيء.
3 - أن تراثنا في النقد الذي يتألف من كل تلك الدراسات يجب أن يكون أساسا أو ينبغي أن لا يهمل في النقد الأدبي المعاصر الذي يجب أن يتكون من ذلك التراث ومما نقتبسه من مذهب النقد الغربية الحديثة.
وفي نهاية الحديث توجه بالخطاب إلى أساتذة اللغة العربية في المدارس، متسائلا: ماذا ينبغي أن تتضمنه مناهج التعليم في المدارس الثانوية من تلك الدراسات، ولفت النظر إلى وجوب الاستفادة في المدارس الثانوية - وخاصة في السنتين الأخيرتين - من المباحث البلاغية التي تهتم بالنظر في النصوص، مثل دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر، وذلك إلى جانب القواعد البلاغية التي تدرس الآن، ويعنى مع هذا وذلك بأساليب النقد الحديثة.
وأنا لا ادري لماذا نصر على إرهاق التلاميذ في التعليم العام بتعليم البلاغة، وان كنت ارجع ذلك إلى (القصور الذاتي) الذي يدفعنا منذ القديم إلى سلوك هذا الطريق. .؟
أسأل أولا: ما الغاية من تعليم اللغة للتلاميذ في المدارس في المرحلة التي نسميها التعليم العام؟ أليست هي أن يكتب الناشئون ويتحدثوا ويقرءوا كتابة وحديثا وقراءة عربية صحيحة؟ فما هي الوسيلة إلى هذه الغاية؟
المشاهد والتي أثبتته التجارب أن دراسة البلاغة بأنواعها لم تعمل غير تنفير التلاميذ من اللغة العربية. . . وقد سمعت أحد المدرسين الذين عقبوا على المحاضرة يقول أن التلاميذ يفهمون التشبيه وأقسامه ويجرون الاستعارة. . . الخ. وأقول أن التلاميذ المساكين يحفظون ذلك الكلام لأنه مطلوب منهم في الامتحان فقط.
ولقد رأينا شيوخاً درسوا البلاغة واستوعبوا ما في كتبها، وقضوا حياتهم في تعلمها وتعليمها، وهم لا يكادون يحسنون كتابة سطر فصيح أو يلقون حديثاً بعبارة سليمة. وعلى عكس هذا الضرب من أساتذة البلاغة ودراستها، نجد الأدباء من كتاب وخطباء وشعراء، تجري أقلامهم وألسنتهم بالفصيح المعجب من الكلام العربي المبين، وما احسب هؤلاء قد وقفوا طويلا عند مباحث البلاغة وعلومها.
فقولا لنا أيها الأساتذة الإجلاء: أي الطائفتين (علماء البلاغة والأدباء) اجدر أن تكون مثلا(935/38)
في تحصيل اللغة العربية للناشئة من تلاميذ المدارس؟
الأستاذ عبد الله حبيب:
اصدر معالي وزير المعارف، في هذا الأسبوع قرارا بترقية الأستاذ عبد الله حبيب مدير خدمة الشباب بوزارة المعارف إلى درجة مراقب مساعد. وهذا التفات كريم من الدكتور طه حسين باشا نحو تقدير الأدباء الذين يعرف معاليه مقدار المعوقات التي تقف في سبيل الحياة الكريمة اللائقة بهم والمثيبة لما يسكبون من عصارات النفوس وما يذيبون من شحوم الأعصاب أن كان لأعصابهم شحوم.
وترقية الأستاذ عبد الله حبيب إلى مراقب مساعد إنما تعتبر أمرا، بالنظر إلى ما فيها من استدراك لأهوال مضى وإزالة حواجز من سبيل الإنصاف وإنزال الناس منازلهم. أما المسألة في ذاتها فليست بذات شأن كبير بالنسبة آلة هذا الرجل الذي توافرت له المنزلة في عالم الأدب، والمؤهل الرسمي العالي، والخدمة الحكومية الطويلة، ولكن الاعتبارات التي جرت الأمور في مصر على أن ترفع التافهين والفارغين قضت على مثل عبد الله حبيب أن يظل في الوظيفة - دون هؤلاء التافهين والفارغين. .
ظهر عبد الله حبيب في عالم الأدب من نحو ربع قرن، اشتغل بتحقيق أمهات كتب الأدب بدار الكتب المصرية خمسة عشر عاماً وشارك في النهضة القصصية المصرية الحديثة فكان أحد كتابها المبرزين، وله مجموعات من القصص ظفرت بها المكتبة العربية فيما ظفرت به من القصص الحديث، هذا إلى جهوده في الصحافة وما كتب في النقد وما نظم من الشعر وقد دار في خدمة الحكومة دورة انتهت به إلى خدمة الشباب بوزارة المعارف وما زلنا نذكر مهرجان الشباب للأدب والفن الذي قامت به الوزارة سنة 1948، والذي كان عبد الله حبيب عمود النشاط فيه، فكشف مواهب شباب تجلت في الشعر والقصص والخطابة.
فإن يقدر عبد الله حبيب بهذه الترقية، فليس الأمر أن ترجى إليه التهنئة، وإنما هو الاغتباط برعاية القيم والأقدار، في وقت كادت تفقد فيه ما تستحق من اعتبار.
مؤتمر اليونسكو:(935/39)
وافق مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير، على تأليف وفد مصر في مؤتمر اليونسكو برياسة معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف، وينظر أن يبحر معاليه من الإسكندرية في يوم 9 يونيه.
ويجتمع هذا المؤتمر بباريس ابتداء من يوم 18 يونيه، في دور انعقاده السادس، وهو يضم أربعة وخمسين وفداً، يمثلون الدول الأعضاء في هيئة اليونسكو، وكلهم من رجال التربية والعلوم والثقافة، ولا يحضره أحد من رجال السياسة والحرب، لان الغرض من الهيئة العمل على تحقيق السلام عن طريق ألقى بالفكر إنساني.
وقد اتجهت اليونسكو أخيرا إلى رفع مستوى الجماهير في العالم فوضعت مشروع التربية الأساسية الذي يقوم على أن يحصل كل فرد من أفراد العالم على حد أدنى من العلم والمعرفة يمكنه أن يعيش كريماً موفور الحاجات غير قابل للاستغلال أو الاستبداد، فاهما مطالب بيئته وحاجاتها، مشبعا بروح التعاون على خير المجتمع.
وسوف يهتم المؤتمر الحالي بذلك المشروع فينظر نتائج التجارب التي اجتازها، ويرسم الخطط الكفيلة بتحقيقه على نطاق واسع.
ومن المسائل المعروضة على هذا المؤتمر، والتي تتصل بالأغراض المصرية العلمية، موضوع الدراسات الصحراوية، فقد كان لإنشاء معهد الفؤاد الأول للصحراء بمصر صدى كبير في الهيئات العلمية الدولية، وكانت اليونسكو قد أنشأت مؤسسة لمشاكل المناطق الجرداء، وسيهتم المؤتمر بدراسة الخطوات العملية التي يجب اتخاذها لتعزيز هذه المؤسسة. والمرجو أن تستفيد مصر من الأبحاث التي تجري في هذا الموضوع فهي من أشد البلدان حاجة إلى استغلال الصحارى الواسعة المحيطة بها ومما يذكر أن أراضى مصر المزروعة لا تزيد على جزء من عشرين جزءا من أراضيها، والتسعة عشر جزءا الباقية صحارى جرداء.
ومن تلك المسائل، ترجمة روائع الكتب بين اللغات المختلفة، وقد سبق أن دعا معالي. الدكتور طه حسين باشا إلى الاهتمام بهذا الموضوع في مصر، وألفت لجنة في وزارة المعارف لدراسته.
وسينظر المؤتمر أيضاً في انتخاب عضو مصري في المجلس التنفيذي لليونسكو، بعد أن(935/40)
انتهت مدة الأستاذ محمد شفيق غربال بك الذي ظل عضوا في هذا المجلس منذ إنشاء هذه الهيئة
عباس خضر(935/41)
الكتب
شباب وغانيات
تأليف الأستاذ محمود تيمور بك
للدكتور زكي المحاسني
في حياة كل أديب تطور. والأديب الذي يجثم على حال لا يريم عنها يكون صخري السجية، كأنه قد سمر بمكانه. وليس من صفات الحياة الجمود، وافضل ما يميز الأحياء الحركة والتطور. كذلك حقت هذه الحالة على الأديب وعلى أدبه فكان اجمل ما يميز واحداً من غيره دراستنا لمراحل هذا التطور في أدبه وشؤون تفكيره. ولو أتيح لكل أديب أن يسجل آثار العوامل التي غيرت مجراه؛ كما تغير أحداث الطبيعة مجارى الأنهار، وكما يبدل المواسم والفصول هبات الرياح، لأتى على ذكر أمور تغرى بالمعرفة، فيها غرابة وفيها ظرف كثير. لم يتعود ذلك أدباؤنا ليوفروا المؤونة على النقاد والباحثين. وكان خيرا لو فعلوا ذلك؛ فهم اعلم بمصائر شعورهم وسير نفوسهم بين الاماسي والإصباح وعلى أطراف الشهور والسنين.
وصديقنا القاص الكبير الأستاذ محمود تيمور بك قد خضع أدبه لهذا الميزان الاجتماعي والمقياس النفسي. وأنا أجد أدبه مواتياً لذلك في تطوره واتساع آفاقه. لقد بدأ أدبه مرسلا على السجية لا تأخذ لفظه وتعبيره عنجهية ولا كلفة وكانت قصصه تجتذب قارئها بمعانيها وبساطتها وكان القارئ يسلك إلى تلك المعاني عن طريق قصيرة قريبة، وان تكن طريقاً غير ممهدة الجنبات، ولا مفروشة الثرى، بالبلاط المنقوش.
وحين استوى الأستاذ تيمور بك على أمد من الشهرة في عالم الأدب المعاصر أخذت قصته بالتطور، فأطلقت العبارة جناحيها في قصصه، وصار قراؤه يضمون إعجابهم بفنه القصصي إلى إعجابهم بأسلوبه وأدائه. وهذه الطريقة من التعبير الحر الذي ينبغي أن يضمن للقصة تخليدها. وقديما قيل: ما خلد المرء مثل أسلوبه. وكان الجاحظ من هذا الفريق الذي يؤثر جمال اللفظ وحلاوة المعنى، بل كان يقول اكثر من ذلك في أن المعاني مطروحة بالطريق.(935/42)
ذلك ما أراه من أثار التطور في أدب القاص تيمور بك في مرحلة أولى من مراحل تجديده. ثم حدثت آثار ثانية في قصصه تدعو إلى أن تعد مذهبا تجديدياً، أو تطورا أخر.
فلقد عرفناه في اكثر قصصه إذ سمت وقور، غير متخفف في اللفظ ولا في المعنى، يسوق الحوادث في تجوالها الاجتماعي فيصور الشخوص تصويرا رائعا، ويحلل المشاعر تحليلا دقيقاً. أخذ من البيسيكولوجي بنصيب كبير، لكنه لم يكن قبل هذا الكتاب الجديد الذي أخرجه للناس وسماه (شباب وغانيات) قد خاص في حوادث الغرام العنيف العارم.
كنت أقرا منذ سنين قصة آناكاريننين للشيخ تولستوي فأعجب للعنف في تصوير الغرام الآثم الذي يهدد الأسرة ويشتت شملها؛ ويرمي الزوجة في مطارح الرذيلة ومطاوي الخلاعة والعار، فلما قرأت قصص شباب وغانيات لتيمور بك قلت الآن أجد في شخوصه مثل ذلك الصخب النفسي الذي يصرخ فيه الهوى بصوت جاهز صراخ الذئاب النهمة التي يعلو عواؤها حين تعس في سواد الليالي.
كان سامي، وهو بطل القصة الكبيرة من هذه المجموعة القصصية، صفحة نقية، لكن القدر شاء أن يسطر فيها بمداد. الهوى سطورا فيها أثام وفيها نحول عنيف، فهو لم يسلم في صغره من المفاسد، فحاضنته أم تعلمه فنون الإغواء والإغراء. ثم نجد بطل القصة وهو سامي قد وقع في حبين. . واحد لفتاة كانت بنت ناظر في المدرسة الابتدائية التي كانت يتعلم فيها، وحب ثان وقع فيه لبنت امرأة سرية كانت تفد عليهم من استنبول بين الحين والحين. وتلتقي الفتاتان في بيته، وتكيد الغنية منهما للفقيرة.
وبعد ذلك تشتبك حوادث القصة اشتباكاً فيه تعقيد حينا وفيه أسجاح حينا آخر، حتى يطلع المؤلف على القاري بفجاءات هن من اجمل الفن القصصي التيموري. ما كان أبرا عه في أدائها، فإذا أخو سامي وهو الذي نشأه ورباه يتزوج الفتاة المترفة اللعوب التي كان يعشقها سامي ويغوص سامي في وحول من المساوئ الخليقة فيكون عشيقاً لزوجة أخيه. ثم يموت أخوه ويكر الزمن كرته ويتسفل سامي ويرتاد بيوتاً داعرة، فإذا هو ذات ليلة يرى في مخدع من مخادع تلك البيوت الدنيئة زوجة أخيه.
وها هنا وجه التطور الجديد في قصة تيمور، فإن هذا القاص قد عرف أن الأجيال آلاتية والمعاصرة ستحاسبه على قصصه، وسيقول له قائلوها الناقدون الذين لا يشفقون، انه أهمل(935/43)
العنف في الحوادث الاجتماعية والغرامية وهي تقع في الوجود، بل تكاد تكون مسارح زمنا وألاعيبه، فأراد أن يدخل بقصصه في هذه الزاوية. وهو تطور حديث المرحلة في القصة التيمورية.
واستطاع تيمور بك في مجموعة قصصه كلها - منذ كتب القصة - أن يصور الطبقة لا يزال الأرستقراطية لأنه قد عرفها وعاشرها وعايشها، وهذه الطبقة لا يزال الفن يطالبه في تحليل أغوارها وأسرارها. أما الطبقات التي دون ذلك فلا يخلو أدب القصة عند تيمور بك من تصوير معايشها وما يلقي البؤساء فيها من ضروب الحرمان. ويعوزه هاهنا تصوير اعمق وجلاء اكثر. فلقد سألوا الشاعر القاص المعاصر فرنسيس كاركو كيف استطعت أن تصور المباءات الشقية المعوزة التي يصهرها الفقر كما تصهر النار ذوب الحديد؟ فقال:
إني عشت فيها طويلا وتمرغت في حمأتها الوبئة.
وقد آخذ على عميد القصة المعاصرة انه ليس ذا نزعة فلسفية خاصة، أو أراء معروفة بعينها يبثها خلال قصصه فيحملها شخوصه.
لقد كان دوستويفسكي يحمل شخوصه آراءه. وفعل ذلك اناطول فرانس، وبورجيه، وشارل موراس. ويفعل هذا كثير من القصصيين المعاصرين وقد سمعت كثيرا من آراء دوهاميل في كلام شخوص رواياته، وبد لي تحليل نفسه خلال أبطاله. وهذا يعود إلى طبيعة المؤلف وحالته من هدوء يلازمه أو إعصار يهيجه.
ورائد القصة المعاصرة تيمور بك في قصته الأخيرة شبابا وغانيات داخل زاوية جديدة في فنه إذ ادخل لونا عنيفا على قصصه. وسيأتي دهر ينظر فيه القارئون أدبنا المعاصر ويؤثرون يوم ذاك التصريح على التلميح، والنقد على التفريط. وجدير بنا ألا نترك لهم مجال القول فينا ذا سعة؛ لأنه بأيدينا تصوير الوجود على ما هو موجود دون غلو وتقصير. ومن حق القراء على الأدباء ألا يقصروا من أجلهم في تعمق الأمور وجلاء الصور. كما يكون من شأنهم أيضا أن يستخلصوا من أبطال الرواية آراء المؤلفين.
هذه كلمة في ثمرة واحدة من شجرة طيبة خيرة. وتيمور بك جواد في التأليف، خير بالقصص، يتمنى النقاد والكاتبون لو ينالوا آثاره كلها بالدرس والتحليل. فإنه لا تشفى الغليل حسوة من ماء عذب فرات، ولا إطلالة واحدة على روض جميل وما كان أدب(935/44)
تيمور إلا النهر العذب والبستان الخير الريان.
القاهرة
زكي المحاسني
القسم الأول من كتاب الملل والنحل
تحقيق وتعليق الأستاذ محمد فتح الله بدرا
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
ظهر هذا الكتاب القيم، أو على الأصح القسم الأول منه في 672صفحة من الحجم الكبير بتحقيق وشرح وتعليق الأستاذ الجليل الشيخ محمد فتح الله بدران الأستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف.
وقد عكف الأستاذ بدران نحو عشر سنين على كتاب الملل والنحل للأمام الشهرستاني المتوفى علم 548هـ - 1153م دراسة وبحثاً وتحقيقاً، وهذا القسم هو أول ثمرة لهذا المجهود العلمي المشرف الطويل، وسيليه الأقسام الثلاثة الباقية المكملة للكتاب بتعليق الأستاذ بدران، حيث حقق نصوص الكتاب، وعرض أصوله وابتكر فهارسه، وانفرد بتقسيمه، ومهد لتخرجه، وعلق عليه وحلل الكتاب وترجم لمؤلفه.
ومما يضاعف من قيمة من قيمة هذا العمل العلمي القوي المشرف إن الناشر نشر مقاله زردشت في المبادئ التي سقطت من شتى طبعات الكتاب وترجماته ومن الكثير من مخطوطاته أيضا، وانه نشر مقدمة الكتاب التي قدم المؤلف بها كتابه للوزير نصر الدين، وقد سقطت كذلك من طبعات الكتاب المتعددة. . هذا فضلا عن تقسيمه الكتاب تقسيما علميا منظما، وعنايته الكبيرة به في النشر والإخراج.
إن هذه الخدمة الجليلة لكتاب (الملل والنحل) لتدل على مواهب أصيلة، واطلاع عميق، ودراسات واسعة، وفضل كثير، وهي لون من ألوان كفاح العلماء في سبيل الثقافة الإسلامية وأحياء أثارها فحيا الله الأستاذ بدران وبارك هذا المجهود الحافل.
محمد عبد المنعم خفاجي(935/45)
البريد الأدبي
تحقيقات جغرافية:
إذا كانت محطة الإذاعة المصرية قد ضربت الرقم القياسي في الأخطاء النحوية واللغوية، وفي توارد اللحن على ألسنة المذيعين والمحدثين، فأنها قد حرفت في أحيان كثيرة أسماء البلاد الجغرافية.
وذلك لان الكثيرين فيها ينسون أو يتناسون عمداً انهم في بلد عربي إسلامي، اسمه (مصر) وللعرب والمسلمين تاريخ طويل، مملوء بالحوادث والأمجاد والأيام حلوها ومرها، وقد تركوا وراءهم دويا في العالم، وصبغوا أنحاءه بلغتهم وثقافتهم وأفكارهم، وهذاشيء لا يمكن أن يزول ويفنى بالسهولة التي يتصورها البعض في مصر، والأسماء التي أطلقها العرب على البلدان في العالم هي التي يجب أن نسمعها كما نطقها العرب عندما تذاع نشرة الأخبار من محطة الإذاعة المصرية، فنحن لا ننحت أسماء غريبة عنا، ولا نقلد الفرنجة في نطقهم، وإنما نريد أن نسمع الأسماء تذاع كما ينطقها العرب.
من قبيل ما سمعته ووعته إذني:
توليدو بدلا من طليطلة
سفيل
(إشببيلية
جراندا
(غرناطة
كازا بلانكا
(من الدار البيضاء
ألجيه
(من الجزائر
وقد تعود بعض المذيعين بنطق بيرما - على الطريقة الأمريكية بدلاً من بورما.
فهل نجد من يلفت نظرهم إلى تحقيق الألفاظ الجغرافية التي قد إذاعتها؟ إننا نؤمل وننتظر!
كنت منذ أيام في زيارة لصديق عزيز وأستاذ كبير، فوقع في يدي كتاب تحت اسم (أطلس(935/47)
تاريخ القرن التاسع عشر)، تأليف وجمع الأستاذين أحمد نجيب هاشم ومحمد محمود نجا، طبعته مكتبة النهضة المصرية في مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، وبينما اقلب صفحاته وقع نظري على الخريطة (6) أمام الصفحة (166) وهي خريطة خاصة بحمل الدردنيل سنة 1915، فرأيت الأسماء منقولة من الأصول الإفرنجية؛ نقلا حرفها تماما عن أصولها، خذ لذلك مثلا:
كوم كيل بدلا من قوم قلعة
نشاناق
(جناق قلعة
اتى بابا
(عنى بابا
زد على هذا التحريف في كيليد البحر، وسد البحر، وغير ذلك من الأسماء التي كان يسهل على المؤلف الجغرافي أن يرجع في تحقيق أسماء البلدان إلى الأصول العربية والتركية وهي معروفة ومتداولة.
لقد راجعت قبل كتابة هذه الكلمة الخرائط الواردة في مؤلفات فون ساندرس والقواد الإنجليز عن الحملة وما نشره ضباط البحرية عن العمليات التي قام بها أسطول الحلفاء: وبين يدي مجموعة الجرائد المصرية لذلك العهد وفيها ذكر الدفاع المجيد لهذه الأسماء التي نقلتها صحف مصر وقتئذ بأسمائها الصحيحة كما أوردتها، فهل ننتظر ونؤمل من المشتغلين بأمور الجغرافيا بعض الاهتمام بأمور التاريخ كما يفهمه المسلمون ويعرفه العرب.
أحمد رمزي
قطع الحديث
يتصل بقوله (الزيات بك) الرائعة؛ في أدب الحديث ما تتزاحم به الألسنة من أساليب المقاطعة، ونقول (الأساليب) لأن أصحابها يفتنون في طرق أدائها ويفتنون بها افتنانا!
وان لهم تعابير عجيبة في الاعتذار عن المقاطعة، فهم يتظرفون ويتملقون الذوق بقولهم: (.(935/48)
نقول والكلام لك) أو (ما قطع حديثك إلا كل خير) أو (وأنت الصادق). . .
وعندي إن الاعتذارات ليست سوى دلالات على الاعتزاز بالرأي ولو كان باطلا، وفيه مغزى من مغازي الغرور الدال على النقص في التربية الاجتماعية!
أنى ليقف في حلقي القول حتى أكاد اشرق به بعد أن اسمع مقاطعة ثقيل يريد أن يقول بطريق غير مباشر: (اسكت أنت فأنا اعلم منك بما تقول)، أما هذه الاعتذارات المفتعلة، فهي أقنعته تغطى بها شناعة الأكذوبات!
كان الأمام علي يسأل عن الشخص؛ فإذا لم يعلم له حرفة سقط من عينيه، فيجب أن يكون هذا شأننا مع متصدري المجالس، نستدرجهم إلى الحديث حتى تلوك ألسنتهم أشداقهم؛ فإذا وقعت السقطات حق لنا أن نمد الأرجل على حد تعبير الأخفش النحوي!
إن كل نقيصة في هذا المجتمع مردها إلى المجاملة، وعدم المجاهرة بالرأي، وإغفال ذي البلة والغفلة!
يجب أن نهذب هؤلاء المضايقين ماداموا جاهلين بآداب المجتمع، فليس القصد من العلم حشو الرؤوس، بل معرفة تقاليد البيئة وأساليب السلوك الصحيح التي تحدد معنى الحياة الكاملة.
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
إلى الزيات بك
ترددت طويلا قبل أن اكتب إليك على صفحات (الرسالة) فما اعتدت أنت أن تنشر ثناء على نفسك في صفحات مجلتك، ولا اعتدت أنا أن اوجه إليك مثل هذا الثناء، لان الثناء الحق هو ما احتفظ به الإنسان بينه وبين نفسه كما يقول الدكتور طه حسين باشا.
وأحب بعد ذلك أن أقول لك إنني سمعت منذ ثلاثة أعوام أو نحوها إن كلية الآداب في جامعي فؤاد الأول رشحتك لكرسي الأدب المعاصر، بيد انك تنحيت عن هذا المركز الأدبي الممتاز لدواع صحية. وبعد ذلك فكر بعض الزملاء الصحفيين في ترشيحك عضوا لمجلس النقابة توطئة لانتخابك نقيباً للصحفيين، ولكن قال قائلنا إن (الأستاذ الزيات) عزوف عن(935/49)
مثل هذه المظاهر!
أما انتخابك عضوا في المجتمع اللغوي، فقد كان - كما عملت - مفاجأة لك، لأنك لم تسع إلى هذا الشرف وإنما سعى هو إليك سعياً. ولو قد ترك الأمر إليك لآثرت أن تبقى بعيداً عن هذا المنصب الخطير معنيا بأمر صحتك وأمر (رسالتك)!
وكذلك الرتبة يا سيدي، سعت إليك مختالة تجرر أذيالها، ما فكرت أنت فيها ولا طلبتها ولا رجوتها، وكذلك يسعى إليك المجد دون أن تسعى إليه، وتتهالك عليك المظلمة دون أن تتهالك عليها!
وأحسب إن هذه الكلمة لا تدخل في باب الثناء، ومن هنا فإني مصر على نشرها، وهبني أثنيت عليك، فهو ثناء التلميذ على الأستاذ، والصديق على الصديق، وحسبك هذا التقدير السامي الذي دونه كل تقدير
منصور جلب الله
التهذيب للأزهري والتكملة للصاغاني
كتب ألينا الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار يقول: عثرت بمكتب شيخ الإسلام عارف حكمة الله الحسيني في صيف العام الماضي على نسخة كاملة صحيحة نظيفة جميلة الخط والشكل من معجمي (التهذيب) للأمام الأزهري و (التكملة) للأمام الصاغاني، وهما بحالة سليمة، عثرت بهذين المعجمين العظيمين مصادفة بتوفيق من الله وحده بين ثمانية آلاف من المخطوطات، بعضها من فوق بعض، وقد استخرت الله في نشرهما فشرح صدري وأعانني، وقد درست كلا المعجمين وقراءتهما قراءة درس وتمحيص فلم أجد بها غلطة واحدة في الخط أو الشكل، مما يدل على العناية الكبيرة التي بذلك في نسختها نسخاً سليما من الخطأ.
وقد رأيت أن أقوم برحلة إلى شمال إفريقيا وأوربا واطلع على المكتبات التي تحوي ذخائرنا وكنوزنا التي أهملناها وأغفلناها، وأفاد منها من يريد بنا السوء والشر، رجاء أن أجد بها ما يعنيني على نشر ما أردت نشره.)
بمكة المكرمة(935/50)
أحمد عبد الغفور عطار(935/51)
القصص
أشباح
الكاتب النرويجي هنريك أبسن
بقلم الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
تعريف: هذه مسرحية: قال عنها النقاد: (إنها عمل أدبي خلق قبل أوانه) فقد أثار ظهورها سنة 1881 م، ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية في كثير من أنحاء العالم، وأبت المسارح تمثيلها في ذلك الوقت، لان الناس كانوا لا يدركون ما يرمي إليه المؤلف من آراء جريئة. وقد ظلت مسرحيتنا هذه حبيسة الملفات، سجينة العادات حتى إذا كانت النهضة القومية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين جرؤ بعض أصحاب المسارح فنفض ما تراكم عليها من تراب السنين، فمثلت ونجحت نجاحا تعدى المسرح النرويجي إلى كثير من المسارح العالمية، فترجمت إلى كثير من اللغات منها الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، فترجمت إلى كثير من اللغات منها الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، ولم يلبث المؤلفون المسرحيون إن حذوا حذوها في مسرحياتهم بل واتخذوها كثير من العلماء الباحثين موضوعاً لأبحاثهم في الوراثات التي يورثها الآباء أبناءهم. وهذه الوارثات منها الطيب والخبيث. والفكرة الرئيسية في هذه المسرحية إن (الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون). فالأب في هذه المسرحية خدن للشيطان، حليف للشر عبد للشهوة أصيب بالجنون ومات اثر نوبة قلبية متأثراً بما كان يتعاطاه، وقد ورث عنه ابنه الاستعداد للإصابة بهذا المرض رغم انه لم يكن يعرف إن له أباً شريداً مصاباً بالجنون. .)
ولقد عنى المؤلف بالفكرة اكثر مما عنى بالأشخاص، فجاءت المسرحية قوية الموضوع، ضعيفة من ناحية الأبطال، الذين جعلهم كأنهم قطع شطرنج يتحركون بغير روح.
المسرحية: - مستر انجستراند رجل محب للمال يعمل للحصول عليه من اقصر طريق، ويريد الوصول إليه بغير كد ولا عناء، ولا يهمه أن يكون الطريق شريفاً أو وضيعاً، فهو لا يحفل بالشرف، ولا تستهويه الألفاظ الرنانة التي يتشدق بها الآخرون عن الشرف والفضيلة. . . الخ(935/52)
فإذا رفع الستار نراه يتحادث مع ابنته (ريجينا) يحاورها ويراوغها، ونسمعه يفاوضها في بيع شرفها بالمال لحسابه الخاص، ويطلب منها أن تقدم جسدها طعمة سائغة لمن يدفع أغلى ثمن، فإن رأى منها الأعراض والتأبى، ذكرها بما يجب عليها من طاعته واكتساب رضاه. . . ولكن الابنة ترفض طلب أبيها في أباء وشمم، وتأبى أن تستسلم لإغرائه، فإذا حاول أن يثنيها عن عزمها ثارت في وجهه ونهرته ثم تطرده من المنزل الذي يقيم فيه، فهي تقيم في منزل ربيبتها مسز (الفنج) وهي امرأة واسعة الثراء اشتهرت بالغنى واليسار.
إن (ريجين) لا تملك قلبها الذي يريد منها أبوها أن تبيعه لدافع الثمن الأكبر، فقد وهبته من زمن (لاسوالد) ابن مسز (الفنج) صاحبة البيت الذي تربت فيه، فقد التقت به كثيراً كلما عاد إلى بيت والدته من غربته، فأحبته (ريجينا) ووهبته قلبها.
و (إسوالد) هذا وحيد أمه، ولكنها قد أبعدته منذ صغره عن البيت الذي تعيش فيه مع أبيه، فأثار هذا زوبعة من اللفظ والحديث بين أهل القرية، وخاض أهلها في كثير من التفسيرات المختلفة عن عدم حبها لابنها الوحيد، وقسوة قلبها وجمود عاطفتها.
وانه لولا ذلك لما أرسلت ابنها الوحيد إلى إيطاليا ليعيش هناك بعيداً عنها وعن أبيه.
والحق إن كل هذه التفسيرات لم يكن شيء منها صحيحاً، فلم تكن مسز (الفنج) قاسية القلب غريبة الأطوار، بل أنها كانت على عكس ذلك رقيقة القلب جياشة العواطف، حسنة التصرف، ولم يكن إبعادها لابنها ليتعلم فن الرسم كما كانت تقول هي لمن يسألها، ولا كرها له ولا قسوة عليه كما يقول الناس، وإنما الذي أوحى إليها هذا العمل، هو حبها لابنها وعطفها عليه، فقد أشفقت عليه أن يعيش مع أب شريد عربيد كالمستر (الفنج) الذي لا يفيق من سكره، وان أفاق فإنما ليبحث عن امرأة ساقطة يقضي الليل بين أحضانها، لقد أشفقت على ابنها ولم تشأ أن ينكب في أبيه كما نكبت هي، فعملت على أبعاده عن الجو المشبع برائحة الخمر والدعارة.
فكم قاست من شرور زوجها وآثامه وهي صابرة محتملة، فلم ترد أن يتحمل ابنها شيئاً مما لاقته فعملت على أبعاده، ونجحت في إنقاذه من شرور أبيه وتربيته بعيداً عنه؛ ولكنها لم تستطع أن تنقذه من الرذائل والعادات السيئة التي ورثها عن أبيه، فقد انتقلت الشرور والآثام من الأب إلى الابن في الدم كأنها أشباح سوداء في ليلة مظلمة. وكان من اثر هذه(935/53)
الوراثة أن نشأ (إسوالد) معتل الجسم في عقله استعداد للاعتلال عند الصدمة الأولى. ولقد نصحه طبيبه الإيطالي بأن يربح عقله وجسمه فلا يرهقهما بمجهود عنيف، وانذره إن لم يتبع نصحه فسيلقي حتفه عن هذا الطريق. فلما مات الأب الشريد أرسلت مسز (الفنج) إلى إيطاليا تستدعي ابنها ليعيش في كنفها، فلما حضر منحته عطفها وحنانها اللذين حرمته منهما قسوة الأيام وفساد أخلاق الأب.
والتقى (لإسوالد) و (ريجينا) فخفق قلباهما اللذين أصابهما كيوبيدبسهمه، وقد مهد لهذا الحب تلاقيهما في المرات السابقة التي كان يحضر فيها الشاب لزيارة أمه، على رقم قصرها، فلما عاد هذه المرة التي سيبقى فيها طويلا، أطلقا لنفسيهما العنان، واصبح كل منهما لا يستطع فراق الآخر، وكانت الشواهد تدل على انهما في طريقهما الطبيعي نحو الاكتمال والسعادة المحققة التي ينشدها كل حبيبين.
فلما رأى مستر (انجستراند) والد (ريجينا) هذه البوادر عز عليه أن يفقد ابنته التي يريد أن يستخدمها في مآربه الدنيئة فعاد يحوم حولها، ينذرها حيناً ويرغبها حيناً آخر. فلما أبت أن فريسة شهية لرواد منزله، لجأ إلى القس (ماندرز) يشكو له ابنته العاقة التي تأبى أن تعيش معه. وتؤثر أن تعيش مع سيدة قاسية غليظة القلب كالمسز (الفنج) التي سبقت أن أبعدت ابنها يعيش ليعيش بعيداً عنها محروماً من عطف أبيه وحنانه انه لا يأمن على ابنته في هذا المنزل وخصوصاً بعد عودة (إسوالد) الشاب. وصدق القس كلامه وخدع بمعسول قوله لأنه كان ينظر إلى المسز (الفنج) نظرته إلى امرأة فظة قاسية. ولأنه لم يكن يعلم لماذا أبعدت ابنها عن أبيه. فذهب إليها يأمرها أن ترد البنت إلى كنف أبيها الحنون.
وهنا تضطر مسز (الفنج) أن تعترف للقس بالسبب الذي من اجله أبعدت ابنها وما كان من أمر الأب الشرير الساقط، وتفهمه إن زوجها قد خانها مع خادمة لها، فتقول له: -
إن ريجينا ليست ابنه مستر (انجستراند) فيسألها القس متعجباً وكيف ذلك؟ فتقول له:
- لقد فاجأت زوجي والخادمة بين أحضانه وهما في وضع مشين والخادمة تقول له: أوه. . . أوه. . . مستر الفنج. . . اتركني. . أرجوك أن تتركني) فاضطررت إلى طرد الخادمة الفاسدة الخلق بعد أن منحتها مالا تعيش منه.
وقد تزوج مستر (انجستراند) من تلك الخادم الساقطة من اجل مالها التي أعطيته لها، وبعد(935/54)
اشهر خمسة من زواجهما أنجبت له (ريجينا).
فدمدم القس قائلاً: (إنها خادمة فاسدة حقاً)
ولكن مسز (الفنج) لا تلقى بالتبعة كلها على كاهل المرأة الساقطة دون أن تحمل شريكها الذي بذر معها بذور الخطيئة ثم تخلى عنها وقت العقاب، بعض الذنب، فتجيب القس قائلة:
(يخيل إلى يا سيدي أحيانا أننا نعيش في عالم كله رياء، وأننا جميعاً ساقطون وان أخطاء الأموات حية في دمائنا، قد أورثوها إيانا، وإني أصارحك أنى أرى هذا العالم يحوي من الخطايا والشرور اكثر مما يحوي من حصى الأرض ورمل الصحراء، وأننا جميعاً نهرب من الضوء ونخشى الظهور في النور لنعيش في الظلام الذي يحجب خطايانا عن عيون الغير)
فقال لها القس وقد ظهر الغضب على وجهه حتى ارتعشت لحيته: (كيف تقولين إننا جميعاً ساقطون وإننا نهرب من الضوء؟)
فقالت له: (ألم تزوجني زواجاً فاسداً باطلاً)؟ فقال لها:
(كيف ذلك، إن زواجك قد تم وفق القانون والواجب، وهما عمودان شامخان يباركان حياة الزوجية الماضية). فقالت له:
(إذا كان القانون والواجب، يرغمان الإنسان على أن يوقف حياته الصالحة على احتمال آثام رجل شرير فاسد لا يرجى منه خير ولا يؤمل فيه صلاح. . فإنهما عمودان شامخان يرمزان إلى مفاسد العالم وآثامه)
ولم تكد مسز الفنج تتم حديثها حتى يدخل مستر (انجستراند) ليسأل القس عما تم ويستشهد به في طلب ابنته، ولكن القس يثور عليه في وجهه إذ كيف يتزوج امرأة ساقطة نظير مالها.
فيجيبه مستر (انجستراند) بهدوء تام قائلاً: (أليست الشرائع السماوية تأمرنا، أن نمد العون لمن تزل قدمه؟ (فيؤمن القس على قوله) فيواصل (انجستراند) قائلاً: فأنا قد سمعت أمر السماء وانتشلت والدة (ريجينا) من الوحل الذي ألقاه فيه مستز (الفنج)
كان ذلك عندما اقتحمت يوما أحد المراقص الأرستقراطية هناك في المدينة حيث تراق الخمر كالماء، وتبعثر الأموال ذات اليمين وذات الشمال بغير حساب، والفقراء هنا في(935/55)
القرية يقتلهم الجوع ويفرى أجسامهم البرد، وهناك النساء مرتميات كأنهن الوسائد، وقد اقتحمت ذلك المرقص محاولا زجر أولئك القوم عن آثامهم التي يرتكبوها، ولكنهم لم يسمعوا إلى بل القوا بي إلى الخارج فكسرت إحدى ساقي، وفي محنتي تقدمت إلى والدة (ريجينيا) وساعدتني على الوصول إلى داري، ثم اعترفت لي إن رجلاً سلبها عفافها، فقلت لها لقد ارتكبت جرما وأصبحت امرأة ساقطة تحملين الآثم والفجور، ولكن ها أنا ذا اقف بجانبك لأنقذك مما أنت فيه حتى لا تضيفي إلى أبيك آثاماً، أخرى، وقد أنقذت المسكينة حتى لا تكون خطيئتها مضغة الأفواه
وخدع القس بهذا الكلام الزائف، فلبث برهة صامتا لا يتكلم وهو ينظر إلى مسز (الفنج) كأنه يؤنبها على ما قالت في حق (انجستراند) وفي أثناء ذلك خرج (انجستراند) من الدار ليعود إلى المنزل الذي يديره.
وهم القس بالكلام مع مسز (الفنج) ولكنها سمعا صوت (ريجينا) من الداخل تصيح:
أوه. . . أوه. . . مستر إسوالد. . . اتركني، أرجوك أن تتركني. . .)
ويعقب هذا أصوات اصطدام أشياء، فيلتفت القس إلى مسز (الفنج) ويسألها عن مصدر هذا، فتجيبه وقد أدركت كل شي (إنها أشباح مثقلة بالآثام والشرور ورثها الابن عن أبيه). .
ثم يخرج القس وتستدعى مسز (الفنج) إليها إسوالد وتسأله عما حدث بينه وبين (ريجينا) فيقسم لها انه لم يحاول الإساءة إليها ولكنه يحبها، ويثق أنها تحبه حباً صادقا، فيقول لها: إن حبها هو الذي صانني عن كل عبث وحال بيني وبين ما كنت أهم بارتكابه في غربتي. ولقد همت كثيراً أن افعل ما يفعله الشباب، ولكن كان مجرد تفكيري في إن هذه الفتاة البريئة الطاهرة الذيل تنتظر أو بتي وأنها تمد لي ذراعها لأتلقاها. كان هذا وحده يبعدني عن مز الق الشر ويدفعني إلى الثقة بنفسي فأبتعد عن كل ما يشين.
وهنا يظهر الارتباك على مسز الفنج وتستغرق في سهوم طويل، لا يخرجها إلا صوت ابنها (إسوالد) يسألها أن تبارك حبها، فتلتفت إليه وهي لا تزال شاردة، وتقول له في صوت شارد حزين:
أنها أختك يا بني. فيرد عليها في صوت مزعج:(935/56)
هذا محال، كيف ذلك بربك؟ أصدقيني أهي أختي حقاً؟ هذا محال. . .
فتهدئ والدته من روعه، ثم تخبره بقصة (جوانا) الخادمة التي اعتدى أبوه عليها فأنجبت (ريجينا) ولكن بعد زواجها من انجستراند بمدة قصيرة جداً. . . وهنا تنزل بالشاب المسكين الصدمة التي حذره الطبيب إياها.
وعندما تعرف (ريجينا) إن (إسوالد) أخوها وان زواجها منه مستحيل تضيق بها الحياة وتصمم على الرحيل. . .
فتسألها مسز (الفنج) (إلى أين ياريجينا) فتقول لها:
إلى حيث أراد أبي أن! أهب جسمي لدافع الثمن الأكبر. فتقول لها:
ولكنك يا ريجينا تلقين بنفسك في الهاوية.
ليكن هذا مادام مسز إسوالد سر أبيه، فلأكن أنا الأخرى سر أمي. ثم تخرج هائمة على وجهها.
وتظهر دلائل الاختلال على إسوالد، فيستولي الرعب على الأم وتلقى بنفسها تحت قدميه وتصيح:
إسوالد ابني ارحم أمك التي منحتك الحياة والحب والحنان.
ولكنها لا تسمع إلا صوت سقوط إسوالد على الأرض ميتاً، فقد انفجر شريان في فمه فخر صريعاً.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ(935/57)
العدد 936 - بتاريخ: 11 - 06 - 1951(/)
استقبال رمضان
أذيعت من القاهرة في مساء يوم الثلاثاء الماضي أول رمضان
في هذا اليوم المبارك، استقبل المسلمون في أقطار الأرض شهرهم العظيم رمضان. استقبلوه بعد أحد عشر شهراً قضوها في صراع المادة وجهاد العيش، تكدر فيها القلب، وتبلد الحس، وتلوث الضمير. فهو يجلو صدورهم بالذكر، ويطهر نفوسهم بالعبادة، ويزود قلوبهم من قوى الجمال والحق والخير بما يمسكها العام كله على فتنة الدنيا ومحنة الناس. وإذا كان المرهفون قد استقبلوا في أبريل ربيع الحواس، والمترفون قد استقبلوا في يونيو ربيع الغرائز، فإن المؤمنين استقبلوا في رمضان ربيع الأرواح. وربيع الحواس في الرياض زهور وعطور وفتنة؛ وربيع الغرائز على الشواطئ فجور وغرور ولذة؛ وربيع الأرواح في المساجد صيام وقيام ونسك. ولذلك كان رمضان في الشرع الإلهي طهوراً من رجس العام، وهدنة في حرب القوت، وروحاً في مادية الحياة.
يستقبل المسلمون في رمضان ذكريين جليلتين لحادثتين خطيرتين كان لأولاهما أكبر الفضل في تقدم الإنسانية، وكان لأخراهما أقوى الأثر في نجاح الدعوة الإسلامية: ذكرى نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، وذكرى انتصار المسلمين في غزوة بدر.
كان نزول القرآن في رمضان فرقاناً بين عهدين متغايرين: عهد ذل فيه الإنسان حتى عبد الحجر، وضل فيه العقل حتى استحب العمى، وفجر فيه الطغيان حتى أنكر الإنسانية؛ وعهد تدارك الله فيه عباده بلطفه، فهدى بنور دينه ضلال الفكر، وأقام بدستور شرعه ميزان العدل، ورفع بسلطان خلافته معنى الإحسان وكانت معركة بدر في رمضان حكماً قاطعاً من أحكام القدر، غير مجرى التاريخ، وعدّل وجهة الدنيا، ومكن للعرب في دورهم أن يبلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الحضارة، ويصلوا ما انقطع من سلسلة العلم. كان المسلمون في بدر على ضرهم وفقرهم ثلث المشركين. وكان المشركون على كثرتهم وعدتهم صفوة قريش. فموقف الإسلام من الشرك كان يومئذ موقف محنة. كان بين العدوتين في بدر مفرق الطريق، فإما أن يقود محمد زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك. وقفت مدنية الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب. فكان طريق وعقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان؛ فإما أن يتمزق تراث الإنسانية(936/1)
على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر، وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذه البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذه السبيل، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه الموقعة. ولقد أراد الله أن تتم للمعجزة فانتصر ثلاثمائة مسلم على قرابة ألف مشرك.
ويستقبل المسلمون في رمضان ثلاثين عيداً من أعياد القلب والروح، تفيض أيامها بالسرور، وتشرق لياليها بالنور، وتفتر مجالسها بالأنس. ففي المدن يغمر الصائمين فيض من الشعور الديني اللطيف يجعلهم بين صحوة القلب ونشوة الجسد في حال استغراق في الله، يتأملون أكثر مما يعملون، ويستمعون أكثر مما يتكلمون. فإذا أمسى المساء وفرغوا من الطعام انتشروا في المدينة، بالبهجة والزينة؛ فالرجال يحضرون محافل القرآن أو السمر في البيوت أو في المنتديات؛ والنساء يوزعن الوداد على منازل القريبات والصديقات؛ والأطفال يفرحون بأناشيدهم ومصابيحهم الميادين والطرقات، والدور الباقية على العهد تتقرب إلى الله بالذكر والصدقات، والمساجد المقفرة طول العام تعج بالوعظ والصلوات، والمآذن الحالية بالمصابيح، الشادية بالتسبيح، ترسل في أعماق الأبد نور الله وكلمته.
وفي القرى يرجع الفلاح في رمضان نقيا كقطرة المزن، طاهراً كفطرة الوليد، فلا يقتل ولا يسرق ولا يشهد الزور ولا يقول الهجر ولا يأتي المنكر. ثم تعتريه حال من الصوفية الشاعرة فيعف لسانه ويخشع قلبه وتلين يده، فلا تسمع منه لغواً في حديث، ولا عنفاً في جدل، ولا بغياً في خصومة، فإذا أذهله الغضب فرفع صوته ندم عجلان واستغفر وقال: الله إني صائم! وما أجمل أن ترى فانك الأمس وقد أصبح ناسك اليوم يمشي من البيت إلى المسجد في ثوبه النظيف وئيد الخطو، غضيض الطرف، لا تترك السبحة، ولا يفتر عن التسبيح لسانه. حتى إذا قضيت صلاة العصر جلسوا على المصاطب يستمعون القصص أو الوعظ إلى أن تؤذن الشمس بالمغيب، فيمدوا الموائد في الطريق أمام بيوتهم ويدعوا إليها عابري السبيل وطالبي الصدقة؛ ثم لا يلبث الإخاء المحض أن يجعل الموائد المتعددة مائدة واحدة، يصيب منها من يشاء ما يشاء.
ويستقبل القاهريون في رمضان مظهراً قومياً رائعاً يعيد إلى القاهرة عز القرون الماضية، فيصبغ لونها الأوربي الحائل بصبغة الشرق الجميلة، ويرفع صوتها الخافت بشعائر الصوم الجليلة، ويبرز شخصيتها الضائعة في زحمة الأجانب بالمظاهر الرسمية للحكومة، والتقاليد(936/2)
العرفية للشعب. وما أروع القاهرة في سكتتها عند الإفطار وجلبتها عند السحور وهزتها ساعة انطلاق المدفع! أما إذا كان في دنيا الإسلام من يستقبل رمضان بالوجه الكالح والصدر الضيق واللسان الطويل والغيظ الخانق فهم ثلاثة:
الخمار الأجنبي، والشيطان المغوي، والمسلم المزيف.
فالأجنبي صاحب القهوة أو البار يستقبل في رمضان الكساد المحزن، لأن القهوة في النهار يكثر فيها الجلوس ويقل الطلب، والبار في الليل تهجره الكؤوس ويفارقه الطرب. ورمضان هو المسؤول، لأن السكير في رمضان لا يشرب، والمقامر في رمضان لا يلعب. وصاحب القهوة مضطر بحكم الصنعة أن يقدم إلى الصائمين أدوات التسلية بالمجان حتى المغرب، وأن يقدم إلى المفطرين أكواب الماء المثلج طول السهرة حتى السحر! والشيطان يستقبل في رمضان حصناً من الخير لا يدخله الشر ولا تفتحه الرذيلة. فإذا حاول إبليس أن يدنو منه رده بالنهار، وصده القرآن بالليل، فيظل كما يعتقد القرويون مصفداً بالأغلال مقيداً بالسلاسل حتى ينطلق من إساره في آخر يوم من أيام رمضان.
والمسلم المزيف يستقبل في رمضان فطاماً لشهواته ولجاماً لغرائزه وقيداً لحريته؛ فهو يرميه بما يرميه به الأوربيون من قلة الإنتاج وكثرة الإهلاك وشل الحركة وقتل الصحة، فيشيح بوجهه عنه، ويتخذ لنفسه رمضان آخر رقيق الدين خفيف الظل باريسي الشمائل، يبيح النظرة الآثمة والكلمة العارية والأكلة الدسمة والكأس الدهاق والسيجار الغليظ، ولا يكلفه إلا أن يجعل عشاؤه من باب المجاملة عند الغروب وبعد طلقة المدفع. وإذا كان في بيوت المحافظين قارئ يقرأ القرآن، وذاكر يذكر الله، وساق يقدم المرطبات، فليكن في بيت هذا الصنف من المسلمين مقصف يجمع ما حل وما حرم من لذائذ الحس، فتجتمع إليه زمر من السيدات والأوانس ومعهن أبناؤهن وأخوتهن من الأيفاع والشباب، فيعزف البيان، ويخفق العود، ونشدوا الكواعب، ويهزج الفونغراف، ويدور الرقص على نمطيه الشرقي والغربي، فتلتف السواعد على الخصور، وتلتصق الصدور بالصدور، وتمتزج أنفاس الخمور بأنفاس العطور، ويقف رمضان الأصيل من هذه المناظر المريبة وقفة من شيوخ الدين دفعت به الأقدار إلى ماخور.
وهكذا يجد العالم ونحن نلعب! كأنما كتب علينا أن نأخذ الحياة من جانبها الفضولي العابث(936/3)
فنتأثر بها ولا نؤثر فيها! وكأنما قضى الله أن نعيش صعاليك على تقاليد الأمم دون أن تميزنا خصيصة من قومية ولا شعيرة من عقيدة! وكأنما عاقت شعائر التلمود القاسية وعقائد التوراة الصلبة أشتات اليهود من المغامرة والنبوغ والتقدم وتكوين دولة نقول إنها مزعومة، ولكنها أخذت تهدد بقوتها سلامة العرب، وتتحدى بأطماعها سيادة الشرق!
ذلكم أيها السادة موجز مما يقال في استقبال رمضان، وجدتموه ولا ريب أقل مما تجسونه في أنفسكم من الإجلال والإكبار والحب لهذا الشهر العظيم الكريم، ولكنها على كل حال تحية خالصة قالها مؤمن وسمعها مؤمنون ولا يدري إلا الله ماذا تدخر مدنية المال ومادية العلم لهذه الروحية التي تتجلى في الصوم، التي تتمثل في الصائم.
وقى الله رمضاننا الكريم شر العلم الجاهل والدين الكاذب والتقليد الأعمى والتمدن المشوه! وجدد الله عليكم به الأعوام المقبلة يا سادتي وأنتم ناعمين في ظلال الأمن ممتعون بنعمة العافية.
أحمد حسن الزيات(936/4)
2 - على هامش السياسة الدولية
للأستاذ عمر حليق
حددت هيئة اليونسكو موضوع البحث في مسألة الخلق القومي وعلاقته بتوتر العلاقات الدولية على أساس فحواه أن (هناك أوجه تباين جوهري في المقومات الخلقية والعاطفية في الثقافات المختلفة، الأمر الذي لا يزيله مجرد تنسيق التعامل الاقتصادي والتعاهد والتحالف السياسي). فزوال هذا التباين لا يتم إلا بإعادة النظر في كثير من العوامل التربوية والثقافية التي تعيش عليها الشعوب، وتوجيهها بحيث تتلقى على صعيد واحد مع العوامل التي تعيش عليها الشعوب الأخرى، وبحيث يصبح لدى العالم بأسره قاسم مشترك أعظم متين الأصول صادق النية صلب متماسك (لأن جذوره في صميم التكوين النفساني لبني آدم) وهو لذلك قادر على صهر هذه الانفعالات العاطفية التي تثور في نفس شعب ما في حالة من حالات القضية ضد شعب أو شعوب اختلف معها في بعض أوجه الحياة السياسية أو الاقتصادية.
وأول ما يلاحظ المتابع للدراسات التي عنيت بالخلق القومي وتباينه بين الشعوب أن كثيراً من أهل الخبرة يقولون بأن من الممكن التخفيف - من حدة هذا التباين بين الشعوب التي يختلف خلقها القومي عن أخلاق الشعوب الأخرى - من الممكن التخفيف من حدة هذا التباين عن طريق برنامج واسع ينفذ على مستوى عالي ويستهدف تعريف شعوب العالم تعريفاً علمياً صادقاً على طبائع الشعور الأخرى؛ وعلى المؤثرات والعوامل المحلية البحتة التي تعيش عليها تلك الشعوب. وهذه الوسيلة كما ترى تستند إلى مبدأ أولي في علم النفس.
(والتعريف) وسيلة تختلف اختلافاً أساسياً عن (الدعاية) أو (البروبوغاندة)
فالأولى - تؤمن بان المرء عدو لما يجهل، فإذا استطاع التعرف على حقيقة ما يجهله إزاء عداوة حادة لا لذلك العدو (المزعوم) وإنما للجهل الذي كان سبباً للعداوة.
أما الثانية (البروبوغاندة) فهمها الترويج لفكرة معينة كجزء من سياسة مرسومة هدفها إزالة غشاوة الجهل الذي يعمي شعباً ما من حقيقة مقاصد شعب آخر. ولكن إزالة هذه الغشاوة بواسطة البروبوغاندة تكون في أغلب الحالات بطرح غشاوة أخرى على أعين الناس لتعميهم عن حقائق ومقاصد تهتم (البروبوغاندة) بطمس معالمها تعمداً واقتداراً.(936/5)
وتعريف الشعب بالمقومات الخلقية والثقافية الحقيقية للشعوب التي تشارك هذه المعمورة هدف لا يتم إلا عن طريق التبادل الثقافي الواسع النطاق؛ بحيث لا يقتصر نفوذه على الخاصة؛ وإنما يشمل المجالس العامة. كذلك شرط أن يأتي عن يد هيئات ليس لها طابع (قومي) ولا توجه مراميها وأهدافها أوساط ذوات مصالح سافرة أو مستترة.
وتطمح مثلاً مؤسسة اليونسكو أن تكون النواة لمثل هذه الهيئات (العالية) التي تستطيع تعريف الناس في مختلف الأمصار بالثقافات والمقومات الخلقية لمختلف الشعوب في نزاهة مقصد وتجرد من (البروبوغاندة) وما إليها من أوجه الاتصال المغرض.
وهنا يتساءل المرء عن اختلاف اللغات وما يخلقه من صعوبات جمة في سبيل التعرف الجدي على ثقافات الشعوب الأخرى. فلقد باءت بفشل ذريع محاولات البعض لجعل (الاسبرانتو) لغة عالمية.
فهناك من أهل الخبرة في شؤون المواصلات الفكرية من يؤكد بأن اللغة ليست هي العائق الجوهري الوحيد.
فهناك مثلاً العادات والسلوك التقليدي والتعبيرات المتباينة التي تعبر بها بعض الشعوب عن انفعالاتها الخاصة، والتي توارثتها جيلاً بعد جيل، وأصبحت ملازمة لها ملازمة الطبيعة التي توفر لها الغذاء والمأوى فطابع الناس مزيج من الوراثة والبيئة.
فالعادة في اليابان أو الصين مثلاً أن يبتسم المرء إذا أصابته ملمة أو أهانه شخص. فالابتسام في مثل هذه الحالة يفسر على أنه إشارة مهذبة من الشخص الذي أصابته الملمة أو لحقت به الإهانة، وهذه الإشارة دليل على أنه لا يرد أن يزعج الناس بمصائبه وانفعالاته الشخصية الخاصة.
فإذا كان ابتسام الصيني أو الياباني يفسر على هذا النحو فإن كثيراً من سوء الظن والالتباس الضار يحدث فيما لو وجد أمريكي أو أوربي نفسه أمام ياباني أو صيني لحقت به مصيبة أو أصابته إهانة فظل يبتسمن فأكبر الظن أن الأمريكي أو الأوربي سيقدر في نفسه بأن الياباني أو الصيني يزدرى به في سخرية قاتلة (في حالة قبوله الإهانة بالابتسام) أو أنه لا يتأثر بالانفعالات الإنسانية المؤلمة (في حالة مواجهته المصائب والملمات باسماً).
فإذا نقلت هذا الوضع إلى أعلى مراحل الاتصال في مجال السياسة الدولية بين أمريكا(936/6)
والصين أو اليابان مثلاً فن رد الفعل سيكون ولا شك ذو عواقب وخيمة على تيار العلاقات بين البلدين. وأكبر الظن كذلك بأن مثل هذه الوضعية قد تؤثر تأثيراً سيئاً على ما يطمح إليه المتفاوضون من تنسيق العلاقات الاقتصادية أو السياسية بين البلدين.
وحين يتوفر لأكثرية الشعب الأمريكي مثلاً معرفة حقيقة (الابتسام) أو سواه من التقاليد والعادات عن الصين؛ يسهل على كلا الشعبين أن يتفاهما ويسويا مصالحهما في جو أكثر ملائمة وأدعى إلى تبادل حسن الظن والوداد.
ومن منا نحن العرب من لا ينفعل حين يقرأ أو يسمع ما يفسر به بعض الغربيين انفعالاتنا وتقاليدنا وعاداتنا وسلوكنا تفسيراً خاطئاً وهو لا يستند إلى معرفة حقة بمغازي تلك العادات والتقاليد؛ حتى لو كان التفسير مدفوعاً بروح النزاهة ونيل المقصد؟ الواقع أنك تستطيع أن تفسر كثيراً من أوجه التوتر في علاقاتنا مع الدول الغربية بسوء الفهم الذي يصدر عن صناع السياسة الغربيين في معرض تناولهم لقضايا العرب ومشاكلهم ومصالحهم في شتى أوجه السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية كذلك.
ويقترح المعنيون بهذه الناحية من العلاقات الإنسانية بأن من أفضل الوسائل للتغلب على هذا الجهل بالعادات والتقاليد هو أن تقوم جماعة من أهل الاختصاص في علوم الحياة (الأنترويولوجيا) وعلم النفس الاجتماعي والتاريخ واللغات وغيرهما بدراسة ثقافة معينة - ولنفرض ثقافة الهند - وأن ينفقوا في هذه الدراسة سنوات في صميم القطر الذي ينوون دراسة ثقافته، على أن يكون هؤلاء العلماء من جنسيات مختلفة يساعدهم عدد من العلماء وأهل الدراية من الهنود أنفسهم.
فالثابت أن الأجنبي أكثر ملاحظة للتعبيرات الخاصة والتقاليد والعادات التي تتمايز بها الشعوب. على أن الباحث الأجنبي لا يستطيع استيعاب مغزى تلك العادات والتقاليد دون الاستعانة بأهل الدراية من الذين يمتثلون لتلك التقاليد ويسيرون على تلك العادات، عندئذ يتحقق أكبر قسط من الفهم لأوجه الثقافة جميعها.
وحين تعم مثل هذه الدراسات على الشعوب الأخرى بصورة واسعة وعلى الأخص بين الدبلوماسيين والصحيين والتجار والزوار من الأجانب الذين تدفعهم الظروف للاتصال المباشر بالشعب الذي درست ثقافته دراسة علمية مسهبة - حين تعم مثل هذه الدراسات(936/7)
يسهل الاتصال الشخصي ويسهل كذلك تفهم ما يصدر عن أهل تلك الثقافة من إشارات وتعبيرات لا تفسرها الأجانب من أصحاب المصالح تفسيراً خاطئاً قد يخلق - في المجال السياسي مثلاً - مشاكل لها ذيولها على صميم العلاقات الجوهرية بين البلدين.
والواقع أن وزارات الخارجية في كثير من الدول الكبرى تقوم الآن بالإنفاق في سخاء على مثل هذه البحوث لتوفر لمبعوثيها الدبلوماسيين ورجال السياسة والحرب مثل هذه الدراسات النافعة التي تسهل لها مهمة اتصالها مع ممثلي الشعوب الأخرى؛ سواء في المجال الرسمي أو شؤون الدعاية أو التبادل التجاري.
فقبل خمس سنوات مثلاً كلفت وزارة الخارجية والحربية في واشنطن الدكتورة روث بنديكت أستاذة علم الأنتروبولوجيا في جامعة كولومبيا بنيويورك بدراسة الثقافة اليابانية على أساس من علم الأنتروبولوجيا لترى ما إذا كان من المناسب لمصلحة الاستقرار السياسي والعسكري في اليابان - من وجهة النظر الأمريكية طبعاً - أن يظل الميكادو عاهلاً لليابان أم أن إبعاده عن العرش هو خير أو أبقى، فأوصت الدكتورة بنديكت بوجوب بقاء الميكادو وبوجوب القيام بإجراءات عديدة كلها تستند إلى الدراسة الاجتماعية. وقد نفذ الجنرال ماك آرثر حاكم اليلبان العسكري آنئذ جميع تلك التوصيات فحاز نجاحاً حفظ للمصلحة الأمريكية في اليابان معظم نواحيها الهامة.
وعلى سبيل المثال أيضاً في أهمية هذه الدراسات الأنتروبولوجية في خدمة سياسات الدول؛ ما حاولت حكومة إسرائيل القيام به منذ بضعة أشهر حين وضعت تحت تصرف أحد كبار أساتذة علم النفس الاجتماعي (وهو يهودي أمريكي) مبلغاً كافياً من المال لتأليف بعثة من الباحثين من اليهود الذين يحملون جنسية أمريكية ومن بعض الأتراك لزيارة شتى بلدان الشرق العربي لدراسة عادات أهله وتقاليدهم دراسة مباشرة لمعرفة مدى العوامل النفسانية التي تؤثر في مشاعرهم. وكان هدف تلك البعثة مراقبة الطريقة التي يربي فيها العرب صغارهم، والوسيلة التي يظهرون بها انفعالاتهم الخاصة إزاء الحوادث المرة أو المحزنة، مع دراسة أمثالهم العامية والطريقة التي يأتون بها ويدفنون بها موتاهم وغير ذلك من أوجه المعيشة التي يمتثل لها الكثرة من سكان الشرق العربي وكان على أعضاء هذه البعثة اليهودية أن ينفرد كل منهم بدراسة وجه من أوجه هذا النشاط الذي أشرنا إليه، ويضع فيه(936/8)
تقرير خاصاً في أسلوب ومنهج علمي معين، ثم تجمع هذه التقارير ويشرف على صياغتها العالم الكبير الآنف الذكر ليستحق منها زبدة تكون بمثابة دليل لصناع السياسة اليهودية (إسرائيل) يستطيعون بواسطته توجيه سياستهم نحو العرب سواء في شؤون الحرب، أو في مسألة الإذاعة العربية في راديو إسرائيل، أوفي أعمال الجاسوسية داخ البلاد العربية، أو في أوجه سياسة اقتصادية أخرى.
ومن حسن الحظ أن حكومة عربية بواسطة سفارتها بواشنطن اكتشفت هذه المؤامرة اليهودية في حينها فأوعزت إلى بقية الحكومات العربية عن طريق الجامعة العربية بوجوب منع هذه البعثة اليهودية من الدخول إلى البلدان العربية. وكان ذلك بعد أن كانت حكومة لبنان قد سمحت عن حسن نية لبعض أفراد هذه البعثة بالدخول إلى أراضيها.
هذه بعض ألوان النشاط الذي حاول بعض المعنيين بالناحية النفسانية في العلاقات الدولية القيام به في مجال التعرف على قضية الخلق القومي وتباينه ووسائل التغلب على ما يخلقه من عقبات في حقل التعاون الدولي.
نيويورك
للبحث صلة
عمر حليق(936/9)
6 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
رواية الحديث بالمعنى:
يحسب كثير من الناس أن أحاديث الرسول (ص) التي يقرئونها في الكتب أو يسمعونها من الذين يتحدثون بها قد جاءت صحيحة المعنى مصونة التأليف. وأن ألفاظها قد وصلت إلى الرواة سليمة كما نطق النبي بها بلا تحريف ولا تبديل فيها.
وكذلك يحسبون أن الصحابة ومن جاء بعدهم ممن حملوا عنهم إلى زمن التدوين قد نقلوا هذه الأحاديث بنصها كما سمعوها، وأدوها على وجهها كما لقنوها، فلم ينلها تغيير ولا اعتراها تبديل، ومما وقر في أذهان الناس أن هؤلاء الرواة قد كانوا جميعاً صنفاً خاصاً من بني آدم في جودة الحفظ وكمال الضبط وسلامة الذاكرة، وأن أذهانهم قد فطرت على صورة فريدة غير ما فطرت عليه أذهان غيرهم، فلا يصيبهم النسيان ولا يدركهم السهو، وأن كل ما يسمعونه لا تفلت منه كلمة ولا بند حرف.
ولقد كان لهذا الفهم أثر ولا جرم أثر بالغ في أفكار بعض شيوخ المسلمين جعلهم يعتقدون أن هذه الأحاديث في منزلة آيات الكتاب العزيز في وجوب الاعتقاد بها، وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يرتد من يخالفها، أو ينكرها.
من أجل ذلك رأينا أن نتكلم عن هذه الناحية ليعلم الناس وجه الحق فيها، ويدركوا أن الأحاديث التي رويت عن الرسول (ص) قد وصلت إلينا بمعناها، وأن كل راو قد روى ما بقي في ذهنه منها.
الاختلاف في رواية الحديث بالمعنى:
ولما كانت الآراء في رواية الحديث بالمعنى قد اختلفت بين العلماء، وكان هذا الأمر مهماً جداً؛ فقد رأينا أن نأتي بأطراف من هذه الآراء المختلفة حتى يكون القارئ على بينة.
قال العلامة الجزائري في كتابه توجيه النظر
(اختلف العلماء في رواية الحديث بالمعنى، فذهب قوم إلى عدم جواز ذلك مطلقاً، منهم ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي وغيرهم، وروى ذلك عن ابن عمر. وذهب الأكثر ون إلى(936/10)
جواز ذلك إذا كان الراوي عرفاً بدقائق الألفاظ، بصيراً بمقدار التفاوت، نبيهاً خبيراً بما يحيل معناها. . وقد تعرض لهذه المسألة علماء الأصول. . قال الأستاذ أبو إسحق الشيرازي في اللمع: والاختيار في الرواية أن يروى الخبر بلفظه لقوله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). . وقد احتج من منع الرواية بالمعنى بالنص والمعقول. أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله من سمع مقالتي الخ. . قالوا وأداؤه كما سمع هو أداء اللفظ المسموع، ونقل الفقيه إلى من هو أفقه منه، معناه والله أعلم: أن الأفطن ربما فطن بفضل فقهه من فوائد اللفظ بما لم يفطن له الراوي لأنه ربما كان دونه في الفقه.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول - أنا لما جربنا رأينا أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما لم يتنبه له أهل العصور السالفة من العلماء والمحققين. . فلو جوزنا النقل بالمعنى فربما حصل التفاوت العظيم، مع أن الراوي يظن أن لا تفاوت (الثاني) - أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول بلفظ نفسه كان للراوي الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه؛ بل هذا أولى، لأن تبديل لفظ الراوي أولى بالجواز من تبديل لفظ الشارع، وإن كان ذلك في الطبقة الثالثة والرابعة فذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول، لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قل، فإذا توالت التفاوت كان التفاوت الأخير تفاوتاً فاحشاً، بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة. .
وحجة الجواز أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمعون الأحاديث ولا يكتبونها ولا يكررون عليها، ثم يروونها بعد السنين الكثيرة، ومثل هذا يجزم الإنسان فيه بأن نفس العبارة لا تنضبط ّبل المعنى فقطّ لأن أحاديث كثيرة وقعت بعبارات مختلفة، وذلك مع اتحاد القصة، وهو دليل جواز النقل بالمعنى، ولأن لفظ السنة ليس متعبداً به بخلاف القرآن، فإذا ضبط المعنى فلا يضر فوات ما ليس بمقصود.
وقال القاسمي في قواعد التحديث
رخص في سوق الحديث بالمعنى دون سياقه جماعة منهم: علي وابن عباس وأنس بن مالك وأبو الدرداء ووائلة بن الأسقع وأبو هريرة ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم، منهم إمام الأئمة حسن البصري ثم الشعبي وعمر بن دينار وإبراهيم النخعي. . . وكذلك اختلفت(936/11)
ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله؛ فمنهم من يرويه تاماً، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصراً، وبعضهم يغاير بين اللفظين ويراه واسعاً إذا لم يخالف المعنى وكلهم لا يتعمد الكذب، وكانوا يقولون: إنما الكذب على من تعمده
وإذا كانوا قد اختلفوا على هذا الأمر فإن العمل قد جرى على رواية الحديث بالمعنى.
قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة والمعنى واحد والألفاظ مختلفة. وروي عن عمران بن مسلم قال، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنما تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقاً وأجود تحبيراً، وأفصح منه إذا حدثنا به! فقال: إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك. وقال النضر بن شميل: كان هيثم لحاناً فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة يعني بالإعراب وكان سفيان يقول: إذا رأيتم الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فعلم أنه يقول: اعرفوني! وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه، فقال له يحيى: يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد.
وقال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني فإنما هو المعنى وقيل له يا أبا عبد الله، حدثنا كما سمعت! فقال: والله ما إليه سبيل وما هي إلا المعاني فأخبر بذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: هو كذلك. وقال النووي جمهور العلماء على جواز رواية الحديث بالمعنى. وقال الآجري عن أبي داود: كان سليمان بن جرب يحدث بالحديث ثم يحدث به كأنه ليس ذاك، قال النسائي كان ثقة مأموناً.
وقال وكيع: إذا لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس! وكان أبو الدرداء إذا حدث عن رسول الله ثم فرغ منه يقول: اللهم إن لم يكن هذا فشكله. وكان أنس بن مالك إذا حدث عن رسول الله حديثاً قال: أو كما قال. وعن مسروق عن عبد الله أنه حدث يوماً بحديث فقال سمعت رسول الله! ثم أرعد وأرعدت ثيابه وقال: أو نحو هذا أو شبه هذا. وفي رواية أخرى: أو نحو ذلك أو قريباً من ذلك.
وقال العلامة السيد رشيد رضا رحمه الله عند كلامه على أحاديث أشراط الساعة): لا شك أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه العلماء ويدل عليه رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها وما دخل على بعضها من المدرجات(936/12)
وهو ما يدرج في اللفظ المرفوع من كلام الرواة فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه، وربما وقع في فهمه الخطأ وربما فسر بعض ما فهمه بألفاظ يزيدها إلى أن قال: فهل من الغرابة أن يقع الخلط والتعارض فيما يروى عنه بالمعنى بقدر فهم المراد. وسئل رحمه الله عن رأيه فيمن قال: إنه لم يثبت عن النبي إلا 12 أو 14 حديثاً فأجاب: (هذا القول غير صحيح بل لم يقل به أحد بهذا اللفظ؛ وإنما قيل هذا أو ما دونه في الأحاديث التي توتر لفظها) وإليك أمثلة من رواية الحديث بالمعنى.
روى مسلم عن طلحة بن عبيد الله أن رجلاً جاء إلى رسول الله ثائر الرأس يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله: خمس صلوات في اليوم والليلة إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله الزكاة فقال هل علي غيرها؟ فقال لا إلا أن تطوع. فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد عن هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله: أفلح إن صدق.
وروي عن أبي هريرة حديث جبريل: جاء رجل فقال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان قال: صدقت ثم سأله عن الإيمان وعن الإحسان.
وعن أبي أيوب قال: جاء رجل إلى النبي فقال: دلني على عمل أعمله يدنيني من الجنة ويبعدني من النار، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل ذا رحمك. قال رسول الله: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة.
وعن أبي هريرة أن إعرابياً جاء إلى رسول الله، فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً أبداً ولا أنقص منه. فلما ولى قال النبي من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
قال الإمام النووي معلقاً على هذه الأحاديث ما نصه: (واعلم أنه لم يأت في حديث طلحة ذكر الحج ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غير هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها (الصوم) ولم يذكر في بعضها (الزكاة) وذكرت في بعضها صلة الرحم وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر الإيمان فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد(936/13)
خصال الإيمان زيادة ونقصاً وإثباتاً وحذفاً. وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وهذبه فقال: (ليس هذا باختلاف صادر من رسول الله بل هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات! وإن كان اقتصاره على ذلك يشعر بأنه (الكل) فقد بان بما أتى غيره من الثقاة أن ذلك ليس (بالكل) وأن اقتصاره عليه كان لتصور حفظه عن تمامه. ألا ترى حديث النعمان بن نوفل الذي اختلفت الرواية في خصاله بالزيادة والنقصان مع أن راوي الجميع واحد!
حديث زوجتها بما معك
جاءت امرأة إلى النبي وأرادت أن تهب نفسها له فتقدم رجل فقال يا رسول الله (أنكحنيها) ولم يكن معه من المهر غير القرآن فقال له النبي (أنكحتها بما معك) وفي رواية قد زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية (قد زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية (زوجتكها على ما معك) وفي رواية (قد ملكتكها بما معك) وفي رواية (قد أملكتكها بما معك من القرآن) وفي رواية أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها) وفي رواية (أمكناكها) وفي رواية (خذها بما معك) فهذه ثماني روايات في لفظة واحدة!
قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة واختلف فيها مع اتحاد مخرج الحديث. وقال العلائي: من المعلوم أن النبي لم يقل هذه الألفاظ كلها تلك الساعة، فلم يبق غلاً أن يكون قال لفظة منها وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى، فمن قال بأن النكاح ينعقد بلفظ التمليك ثم احتج بمجيئه في هذا الحديث إذا عورض ببقية الألفاظ لم ينهض احتجاجه، فإنه جزم بأن هو الذي تلفظ به النبي وقال غيره ذكره بالمعنى؛ قلبه على مخالفه وادعى ضد دعواه فلم يبق إلا الترجيح بأمر خارجي.
وروى البخاري عن ابن عمر أن النبي قال يوم الأحزاب: لا يصلين أحد (العصر) إلا في بني قريظة. فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتها وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي فلم يعنف أحداً منهم.
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري ووقع في جميع النسخ عند مسلم (الظهر) مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد(936/14)
واحد. وقد وافق مسلماً أبو يعلى وآخرون وكذلك أخرجه ابن سعد. وأما أصحاب المغازي فقد اتفقوا على أنها العصر ثم قال ابن حجر بعد ذلك إن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجوز ذلك بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيراً.
ولقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى كتب السنة.
قال العراقي في شرح الغنية: إن البيهقي في السنن والمعرفة والبغوي في شرح السنة وغيرهما يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى البخاري ومسلم مع اختلاف الألفاظ والمعاني، فهم إنما يريدون أصل الحديث لا عزو ألفاظه.
ومن هذا القبيل قول النووي في حديث (الأئمة من قريش) أخرجه الشيخان مع أن لفظ الصحيح (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان) ونكتفي بهذه الأمثلة.
المنصورة
للبحث صلة
محمود أبو رية(936/15)
الثنائية والألسنية السامية
للأستاذ الأب مرمرجي الدومينيكي
بقية ما نشر في العدد الماضي
هذا ومن المألوف ومن المقرر عند علماء العربية الأقدمين والمعاصرين، وعند الأجانب من مستسلمين ومستعربين، أن الزيادة تجري بالتتويج والإفحام والتذييل، وفي كل حال من هذه الأحوال يتم الأمر علي سبيل الأغلبية، أي بالسماع وليس بقياس محكم، وهذه طائفة من الأمثلة على أنواع الزيادة الثلاثة:
أولاً: الزيادة بالتتويج: (يقطين) كل شجرة لا تقوم على ساق. الياء زائدة تتويجاً لأن اللفظة عن قطن أي انحنى، إذ لا ساق فينحني نحو الأرض. (ترفل، تبختر كبرا، بزيادة التاء تتويجاً، لأن الأصل رفل: أرسل إزاره وتبختر.
(نهبل) من هبل بزيادة النون. (هجرع وهبلع) بزيادة الهاء تتويجاً، لأن الأصل جرع وبلع
ثانياً: الزيادة بالإقحام: (زنبيل) من زبيل، بإقحام النون. (بلطح) من بطح، بإقحام اللام. (شربك) من شبك، بإقحام الراء. (جلمح) من جلح، بإقحام الميم، (دربل) من دبل، بإقحام الراء. (طرمح) من طمح، بإقحام الراء. (عنصل) من عصل بإقحام النون.
ثالثاً: الزيادة بالتذييل: (بلسن) من بلس، بإلحاق النون. (حلكم) من حلك، بإلحاق الميم. (عبدل) من عبد بإلحاق اللام. ومن هذا الشيء كثار في العربية وبقية الساميات فما قد سلم به وقرره الأقدمون من الزيادة بالحروف وطريقة إجرائها في الرباعيات والثلاثيات يسوغ بكل حق وصواب تطبيقه على الثنائيات. وهذا ما قد حاولنا بيانه في تأليفنا الثلاثة الموضوعة لهذه الغاية على ضوء الثنائية والألسنية السامية، مع العلم اليقين بوعورة المسلك.
مع ذلك بعد التقصي والاختيار يمكن أن نضيف الحروف القابلة الزيادة على الرساس الثنائية من باب الأغلبية كما يلي:
أولاً: كل حرف من الحروف النابعة يصلح أن يكون تارة وتارة مقحمة مذيلة هي: أت ع ل م ب هـ وى
ثانياً: الحاء والشين تصلحان للتويج والتذييل(936/16)
ثالثاً: هذه الحروف التالية تستخدم للتذييل، وهي: س ب ك ق ولمعرفة الأمثلة تفصيلاً على طريقة زيادة كل حرف من هذه الحروف، يمكن الرجوع إلى كتبنا، ففيها من الشواهد المؤيدة غالب ما أبديناه. فأكتفي بإيراد نماذج على الطريقة المتنوعة الجارية بضرب من الاعتباط، أي لدواع غير داعي الدلالة على معنى خاص أو دور معين.
فهناك الزيادة من باب الإلحاق، والإلحاق يحد: بكونه زيادة لا لإضافة معنى جديد، بل لمحص الموافقة بين وزن ووزن آخر ليعامل معاملته.
ولا يكتفي لحروف الإلحاق بأن تكون من حروف سألتمونيها، بل يستعمل غيرها أيضاً. هو ذا الإلحاق من جهة اللام، نحو (ضريب) من ضرب، (جليب) من جلب، (قعدد) من قعد، رعدد، رعشن، كرمم، حرجج، دخلل، شملل، صعرر
هناك الإلحاق من غير جهة اللام، نحو (حنظل) من حظل، (جندل) من جدل، (فلحص) من فحص، (تلعس) من لعس
هناك الزيادة من باب الغنة، نحو (رنز) من رز، (حنظ) من حظ، (أنجار) من أجار، (انجاص) من أجاص
هناك الزيادة لتقوية الحركة دون قصد معني معين، نحو (برا) يقال منه: يرع والنسبة يرعى، أن يراني، كما يقال توقع من توقى، وجزأ وجزع من جزا، وبدأ وبدع من بدا.
هناك الزيادة لعذوبة اللفظ، نحو (يا أبت) عوض يا أبي، (عصاتي) عوض عصاي، قدني قطني بإقحام النون، لعلت ثمت وربت، بإلحاق التاء.
هناك الزيادة لإقامة الوزن، نحو تبيضضي بدل تبيضي هذا، ومن نتائج نظرية الثنائية، أولاً أن المثال والأجوف والناقص ما هي سوى مزيدات أو توسعات في الرس الثنائي الذي يجيء فيه التوسع بتكرار الثاني منه، أو بتشديده، أي بتكراره لفظاً ووضع الشدة عليه.
ثم من جملة أنواع التوسع في الأصول مثلاً: أن الفعل (وثب) مزيد في الثنائي (ثب) وأن (قام) هو الثنائي (قم) أشبعت حركة حرفه الأول، مما يظهر في السريانية في كلمة (قم) إذ لا ألف مقحمة فيها، ومن الكتابة العربية القديمة المتجلية في رسم المصحف المحافظ عليه حتى اليوم. إذ لا نجد فيه قام بل (قم)، كذلك الفتحات المشبعة لا يرسم عليها ألف. ويبين ذلك أيضاً في مجرى التصريف الذي إن هو إلا رس الكلمة ملحقاً به الضمائر، فيقال: (قم)(936/17)
ت (قم) تم، (قم) نا، مما جاء دليلاً واضحاً على أن الأصل هو الثنائي، وأن هذا الثنائي يدل على معنى تام في حالته الثنائية، وكذا الشأن في الناقص، فإن لامه ليست حرفاً، بل إطالة أو إشباع الفتحة السابقة، مثلاً: (رمى) هو الثنائي (رم) حرك حرفه الثاني بفتحة مشبعة علامتها في الرسم ألف، كذلك (رم) ت هي (رم) نا هما، مما يظهر فيه الأصل الثنائي ملحقاً به ضمير متصل.
أما المضاعف فهو بالحقيقة مركب من حرفين كما يتجلى ذلك في معاجم الأقدمين (ككتاب المقاييس) لابن فارس، فانه يسميه (الثنائي) ويذكر في المادة حرفين لا غير، ويرى ذلك في المضاعف الرباعي أو المطابق كما يدعوه ابن فارس، وما هو سوى ثنائيين مكررين، مثلاً: (قرقر)، (خرخر)، (دبدب)، (مرمر)، (لعلع)، (لألأ. . . إلخ).
ومن هذه المادة شيء كثير في اللغات السامية ولهجاتها، وقد جمعنا منها 350 في العربية الفصحى، ويوجد أكثر منها في اللهجات. وما هذه الأفعال وأسماؤها إلا حكاية أصوات الطبيعة والحيوانات المندفعة إلى تكرار مقاطع لا حروف، وكل مقطع مركب عادة من حرفين متحرك فساكن، مما هو وارد على هذا النمط في اللغات السامية الباقية، كالسريانية مثلاً نجد فيها (بلبل) (زلزل). وكذا الحال في اللهجات، أما الفصحى، فالفتحة الواقعة في آخر الثنائي، وفي آخر الأفعال السالمة، إنما كان داعي وجودها هو الوصل. فعوض القول: خرخر الماء، قيل في الوصل: خرخر الماء.
وبدل مثل الرجل قيل في الوصل، قبل الرجل وبعد ذلك بقيت الفتحة في غير حال الوصل.
وأنت ترى أن الطبيعة عينها ميالة إلى الثنائية، لا إلى الأحادية، كما يمكن بعضهم التوهم أن الإنسان الأول بدأ يتكلم بحروف منفصلة، لأن الحروف المنفصلة لا وجود لها إلا في جدول الأبجدية، أي في الكتابة ولا في اللفظ، والسبب أن أعضاء النطق عينها لا تخرج للتكلم حروفاً صامتة متفرقة، بل مقاطع مركبة من الصامتات تحركها الصائنات.
ومن الأدلة علو وجود الثنائي في أصل اللغات ولا سيما السامية منها، هو أن المضاعف العربي الذي يقال إنه مركب من ثلاثة حروف أصلية لا تجد مقابله في السريانية إلا بحرفين اثنين لا أكثر، مثلاً مقابل (مص) مص، وبحذاء (حم) حم، وبازاء (مس) مس(936/18)
وهكذا كل المضاعفات التي هي بالحقيقة ثنائيات. الثنائي وارد في كل الساميات متصفاً بمعنى حقيقي وتام ولنا برهان حسي جلي على وجود الثنائي في أصل اللغة يستخرج من العناصر الأولية للغة العربية، وهي أسماء الأصوات ودعاء الحيوانات وزجرها، وبعض أسماء الأفعال، فهي ثنائية. ومنها كان بدء صوغ الفعل المضاعف ومكرره. مثلاً (أف) كلمة تكره (آه) للتوجع (به) بخ لاستعظام الشيء (غس) لزجر الهر (ضع) اسم صوت يزجر به الجمل عند ترويضه (بس) دعاء، وزجر للغنم، (صه) أمر بالسكوت، (مه) أمر بالكف.
فمن هذه الثنائيات صيغ أفعال إما بتحريك الساكن وتشديده؛ وإما بتكرار الثنائي ذاته وتحريك الآخر في العربية. فقيل: أف، أه، به، بخ، غس، ضع، بس، صهصه، مهمه.
وكذا القول في: (تب)، فإنه مشتق من ثب، ومنه المكرر (ثب ثب).
أما (وثب) فهو ثب زيدت فيه الواو تتويجاً، فحصل من ذلك ما يدعى في الصرف مثالاً، وجدير بالملاحظة كيفية وقوع الزيادة في (ثب)، (ووثب) أي بإضافة حرف مع بقاء اللحمة المعنوية بين المجرد والمزيد، وهي بالحقيقة مستمرة بينهما، إذ أن (ثب) يراد به الجلوس بتمكن، و (وثب) يعني القعود في لغة حمير، ويدل على النهوض وعلى الظفر، على أن هذا التضاد يزول إذا عرفنا أن الثنائي (ثب) متضمن معنى عاماً، هو فحوى الحركة التي هي أساس هذه المداليل المختلفة، لا بل المتنافرة ظاهرياً. فعند فريق أو قبيلة من القبائل دل الفعل على القعود، لأن في القعود حركة، وعند قبيلة أخرى أطلق الفعل على القيام والقفز، لأن في ذلك كامن المدلول، وهو الحركة
أما القول - وهو قول أحد الغربيين - بأن (من وثب) هو بمنزلة من جلس في الهواء، فهو من المعاني التي لم تخطر على بال العرب حين تداولوا كلمة (وثب) لحسبان مثل هذا الحادث عصر ذاك من خوارق الأنبياء، بيد أنه يفهم في عصرنا الذي تمكن فيه الإنسان من أن يجلس نوعاً من الجلوس في الهواء أي بركوبه الطائرة
ومما يجدر بالذكر أن مقابل (ثب) العربية وارد في ومعناخ وثب، جلس، قعد. مما ينجم عنه بوضوح أن الرس الثنائي هو (ثب)، فتوسع في الزيادة بطرق مختلفة مع استمرار الصلة المعنوية بينه وبين مزايداته، أي فحوى الحركة أولاً في العربية بتضعيف حرفه(936/19)
الثاني، فجاء (ثب) ثم بإضافة واو تتويجاً في العربية ذاتها، فصدر عن ذلك فعل (وثب)، بزيادة ياء التوويج أيضاً في السريانية، وكذلك زيدت الياء بعين الطريقة في العبرية. . . الأرمية ونجد في الحبشية. . . في العربية، بالواو أما الأكدية فوارد فيها بإضافة واو كالعربية والحبشية.
من مفترضات الثنائية أن أصل المفردات حرفان، فيجري التطور بزيادة حرف ثالث عليهما إما تتويجاً وإما إقحاماً، وإما تذييلاً، مع بقاء اللحمة المعنوية بين الثنائي والثلاثي، كما هي مستمرة بين الثلاثي والرباعي، وما فوقه من المزيدات.
على أني بفضل تقصيات خاصة توصلت إلى الوقوف على أن الثلاثي غير ناشي عن ثنائي واحد ليس إلا، بل عن ثنائيين أو ثلاثة، حسب اختلاف مداليله. وقد أوردت في تأليفي شواهد تثبت هذا القول. فأجتزئ هنا بسرد واحد من الأمثلة هناك فعل (هلب) المختلف، لا بل المتنافر، لكن يمكن القول بأن (هلب) مشتق أولاً من (لب) بزيادة الهاء تتويجاً. ثانياً: من (هب) بإنزال اللام إقحاماً. ثالثاً: من (هل) بإضافة الباء تذييلاً.
هلب: كثر شعره، من (لب)، ومنه اللب أي القلب، لتراكم الشحم عليه، واللبة: اللحم المجتمع في أعلى الصدر، وفيه معنى الوفرة والكثرة.
هلب: نتف وجز، من (هب) المراد به القطع، والنتف ضرب من القطع.
هلب: السماء القوم: بلتهم بالندى، ومنه ليلة هالبة أي ماطرة. والهلابة: الريح الباردة، من (هل) الدال على هطول المطر وشدة انصبابه.
الأهلب: المنتوف الشعر، من (هب) ومنه هب السيف: قطعه.
الأهلب: كثير الشعر، من (لب) المراد به: التراكب والتجمع والتلبد. وبهذا تنسق المعاني وتزول الضدية.
أخنم بالقول أن الثنائية ليست كما يتبادر إلى الوهم، هدامة للثلاثية والرباعية، ولا هي مقوضة أركان المعاجم، إنما هي وسيلة للتأصيل السابق طور التصريف. فالقائل بالثنائية يدع التصريف على ما هو للثلاثي والرباعي، ويحصر عمله في المعجمية. وفي هذا الحقل عينه لا يتوخى محق الثلاثية والرباعية، لكنه يرتئي بأنه كما أن الرباعي يسوغ رده إلى الثلاثي، وكذلك يمكن رد الثلاثي إلى الثنائي. مما ينجم عنه أن ليس الثلاثي بدء الاشتقاق،(936/20)
بل الثنائي.
ويرى عملياً أن في هذه النظرية فوائد جمة للمعجمية، منها تجلي الانسجام والتساوق في تشعب الألفاظ بعضها من بعض، وتوسع المعاني وتطورها مما هو واضح القصدان في الحالة الثلاثية الحاضرة.
فمن ثم، لا خشية على المعاجم من الثنائية، لأنها بالعكس تتمشى فيها تنظيماً معقولاً، كما أن ترتيب المعاجم الحديثة، مثل محيط المحيط، وأقرب الموارد، والبستاني لم يضر المعجمية بل نفعها، وإن خالف في الواقع تنظيم المعاجم القديمة، أو بالأحرى عدم التنسيق فيها.
والآن أكرر للمجمع الموقر آيات الشكران، متمنياً لجميعكم التوفيق والنجاح في خدمة اللغة العربية الجليلة والسلام
الأب مرمرجي الدومنبكي.(936/21)
صديق رجيم
مهداه إلى صاحب العزة الزيات بك
للأستاذ حبيب الزحلاوي
ما أكثر ما نخدع أنفسنا بأصدقائنا لسلامة في طويتنا، أو غفلة عن النظر إليهم بغير عين الصديق.
كثيراً ما سمعت الأستاذ العقاد يقسم الصداقة إلى أنواع، ويصنف الأصدقاء أصنافاً، هذا نصف صديق من نوع كذا، وذاك ربع أو ثمن صديق من صنف كيت، وكانت لائحة الأصدقاء عنده أشبه ما تكون بورقة ذات خطوط وتعاريج في الطول والعرض يثبتها الطبيب فوق سرير المحموم تسجل المواسية فيها درجات الحرارة وتقلباتها. وما كان يضير أستاذي العقاد أن يسقط صديقاً من صفوف الأنصاف إلى الأثمان أو يرفع آخر إلى أعلى درجة، ولا يؤاخذهم على بادرة أو هنة أو هفوة إلا بالحساب القياسي لمنزلتهم من الصداقة.
كنت أستغرب تلك التقسيمات ولا ترتاح نفسي إليها، لأني تدربت منذ الصغر على أن مكان الصداقة هو الذروة إن تزحزحت عنها هبطت إلى الحضيض، وأن الوسط بين الذروة والحضيض هو النفاق، وكنت إن منحت صداقتي لإنسان فإني أمنحه إياها بسخاء كامل، وإن ظننت بها، فإني أظن ظن الشحيح المتأبي، وكنت أعتمد في الحالتين على الحدس والجاذبية.
لقد قطعت أشواطاً من حياتي، فما أكثر من خاصمت خلالها من أصدقائي، وما أقل، بل ما أندر من عاديت منهم لاعتقاد مني بأن الخصومة من شيم الأصدقاء العقلاء. أما العداوة فهو من أوصال الجهلاء والأغبياء، وإني أنزه أصدقائي عن الغباء والجهل لأنهم كلهم بين أديب ومن خيار المثقفين.
لقد أدهشتني يا صديقي، يوم عاتبتني بشدة، وعهدي بك الدمث السلس، وما عاهدت بك الفجاجة والتوعر قط، لقد أذهلتني ساعة سألتني عن ذلك الإنسان الذي جالسنا فترة بل هنيهة وانصرف. لقد أذهلتني وقد كانت نبرة الكلمة تنطلق من بين شفتيك كالسهم، تسألني بشدة وصرامة أنى وكيف عرفت ذلك الوجه الكالح المكفهر، والقدم الفظ السمج الغليظ، لقد حيرتني وأنت تنقض كالصاعقة تنزل البلاء بصديقي الذي لم تره إلا في تلك الجلسة(936/22)
العابرة. ولم تسمع سوى نتف من حديثه الخاطف، لقد تحيرت لا لأنك استثقلت روح صديقي ومججت كثافة ظله، بل لأن حكمك الجائر ينصب على ذوقي، وعلى معرفتي وتقديري فيمن أختار من الأصدقاء.
لم أحاول إقناعك بأنك جائر في حكمك على صديقي المسكين لأني كنت في تلك الساعة مشغول الذهن بك وقد جاش صدرك بالغيظ مني، لقد توهمت أنك تنتزع مني كل الصفات والمزايا التي أحببتني من أجلها، توهمت ذلك، بل دهمني التوهم فجأة، أنا الذي طالما اتفقت معك في الذوق والتقدير، والاختيار والإعجاب، ولم نتخلف في حكم واحد على أمر واحد إلا فيما قل أو ندر. وقد كنا في هذا الاختلاف النادر نلجأ إلى المنطق، والذوق والقواعد المقررة والمتعارفة، لنصل إلى الحق والخير فنقف بجانبهما.
لقد انطويت على نفسي أستعرض ملامح وجه ذلك الصديق المسكين، أستذكر حكاياته وتصرفاته، أردد أفكاره وأحكامه، استجلي ماضيه وحاضره، وأستشف غرائزه وملكاته، من جود وبخل، وكرم ولؤم، وأنفة واستكانة، وكبر وتواضع، وشجاعة وجبن، إلى آما هنالك من ملكات تحتم الصداقة معرفتها لتقر الصديق بنفس يقظة، وعين لماحة، وذهن يعي ويحصي ويسجل.
فعلت ذلك لا لأجنس خلائق صديقي، بل لأقارن بين حدتك، وبين جاذبية جذبتني إليه ودفعنك عنه، وبين إئتناسي به ونفورك منه، ولمعرفة الأسباب التي جعلتك ترضى عن أكثر أصحابي، على قلتهم، وتغضب على هذا الفرد الوحيد الذي لم أر فيه وأسمع منه ما يبعدني عنه كما نفرت أنت منه وأنكرته. لم تعد المسألة وقفاً على صديقي ذاك، بل تحولت فصارت مسألتي أنا ومسألتك أنت، وهل هذا الاختلاف الطارئ بيننا سيكون مقدمة لاختلافات تليه، وتباين في الآفة الروحية والانجذاب إلى الأشخاص والأشياء؟
من صعاب الأمور تكليف النفس الخروج على سجيتها، ومن أشقها عليها تحميلها صعاباً تثقل على الولاء بين الأصدقاء، ولكن للظن والقطانة حق علينا، بل لنا عليهما حق اللجوء إليهما في كل ما تدعو الحصافة إليه، وقد أظهرا لي في ذلك الصديق أموراً يحسن السكوت عن أكثرها لبعدها عن الغاية التي كانت موضوعاً لكتابة هذه الرسالة.
أية فائدة لغير الباحث المحلل في معرفة ما إذا كان صديقي ذاك شجاعاً أو جباناً، متديناً أو(936/23)
غير متدين، مؤمناً أو ملحداً، متعصباً أو متسامحاً، كريماً أو لئيماً، ولكني أقول في مجال العابر بعض ما استنتجت من خلائقه دون البعض الآخر: إنه مخلوق يجمع بين الأضداد التي ذكرتها كلها جميعا مضبوطاً على القد المضبوط، يتقلب في أمواجها المتدافعة والرهو، وسبب ذلك على ما يبدو لي، المرض والثقافة، فهو مريض حقاً، ومثقف متبحر متمكن، وأنت تعلم يا صديقي أن لا محيد للمثقف الحصيف عن تغليب سلطان العقل على الإيمان، كما لا مهرب للمريض من اللجوء إلى المجهول والاستغاثة به، وعلى هذا القياس أقول إنه يجمع بين الشيء وضده في زمن واحد، ولمحة واحدة.
قد تسألني عن كنه هذه الصداقة وارتباطي بها ردحاً من الزمن فأجيب: الكمال نسبي. والإنسان الذي تتوفر فيه أكثر صفات الكمال المثالي نادر، والشذوذ عنصر أصيل في طبيعة الأديب والعالم، وإن رضي الإنسان عن ناحية من الصداقة، لا يعني الرضوان المطلق عن بقية النواحي، والانجذاب إلى الصوب الداني من النفس هو الأساس الذي يشاد عليه بناء الصداقة، ومن هنا نجد أن قاعدة الأستاذ العقاد في تقسيم الصداقة إلى أنصاف وأرباع وأثمان إنما هي قاعد صحيحة.
وصديقي ذاك قوال مدره، ذرب اللسان، حاضر البديهة، واضح البيان (يأخذ من كل جانب من جوانب الأدب والعلم بطرف) فياض في الأحاديث يستقيها من مصادرها، ولست أدري كيف يتوصل إلى تلك المصادر، وإذا ما بدت لك أطراف من الإفك في رواياته فإنه من الصعب أن تتبين غير ملامح الجد في وجهه وتصلب قسماته. وهو كأكثر الناس في المغالاة والمبالغة وتزوق الكلام، مزاح ضحاك، شديد اللدد، يتقلب في لحظة واحد من حالة اللؤم وبوادرها مثلاً إلى حالة طفلة ساذجة. وهو بحكم العلة المرضية التي تنخب كبده (يدعي قول ما كان يود أن يقوله لمجادليه ما قاله لهم حين الجدل، وهو لهزاله وضعفه تصلف ويتكبر تكبر الأقوياء. فأنت ترى أن لا غيوم في أفق هذا الصديق، ولا مذاهبه مستعجمة، ولا مسالكه شائكة، ولا ثرثرته رخيصة، وأن من السهل الهين الأخذ منه ما يعرف والظن عليه بما نعرف، وهو على كل حال طرفة بالقياس لمن نعرف من الناس، ونمرة ظريفة من نوع من الأنواع.
وحدث مرة أن سألني ذلك الصديق سؤالاً لا يمت إلى حياتنا الأدبية بصلة، ولا يدنو إلى ما(936/24)
ألفنا من أحاديث الأدب والاجتماع. سألني أي أنواع المغامرة أحب إلي؟ قلت: أحبها إلى نفسي هو الجهاد في كسب الرزق. قال: لم أرم في سؤالك إلى طرق الكسب بل قل لي، ألا تميل إلى انتزاع فتاة من عشقها يستتران في الظلام؟ قلت ما قيمة حيازة فتاة دون امتلاك قلبها؟ قال مالنا وللفلسفة؟ ونظر إلي وحدق وقال: نحن الآن عند حافة صحراء (ألماظة) وأنت ترى على مقربة منا سيارة يملكها أحد الأثرياء من داخلها سيدة يغازلها ذلك الثري، ألا يخطر ببالك أن نتضافر فننقض على الرجل ننتزع حافظة نقوده وعلى المرأة تنتزع حليها؟ قلت أعوذ بالله مما تقول، هل أنت مجنون؟!!
انقضى وقت طويل على هذا الاستجواب العجيب الذي اختتمه بضحكة عريضة، ولم أعره اهتماماً لأني ما حدت في مغامراتي كلها عن جادة العمل للمجتمع، ولأن أعمالي الخاصة التي فزت بنصيب منها كانت قرينة الجرأة حليفة الإقدام والمثابرة وحدث مرة ثانية أني كنت وذلك الصديق بعينه مع رفيقين آخرين - سأحدثك عنهما فيما بعد - في مشرب عند صحراء (ألماظة) وأن القدر الذي احتسيناه من الشراب كان كافياً لأن يجعلنا نتحلل من قيود العقل، وأن ينفلت منا زمام التقدير، وأن نستهين بكل مسؤولية.
قال صديقي مخاطباً رفيقنا: ألم تكن هناك على بعد كيلومترين من هنا؟ ومد ذراعه يشير إلى قلب الصحراء من جهة الشرق ضحك الرفاق الثلاثة ضحكة غريبة الجلجلة وقال أحدهم (ملعون أبوها).
قلت: من هي تلك التي استنزلتم اللعنة على أبيها؟
فتاة اشتهيناها، إن رأيتها أنت كنت أشد شهوة منا إليها.
قلت ما حكايتها؟
أسرع كل من الرفاق الثلاثة إلى قص القصة، وأخذوا يتدافعون في حكايتها تدافعاً، هذا يمهد ويقدم، وذاك يشرع في السرد، والآخر يصحح الوقائع ويعيدها إلى أصولها، وها أنا ذا يا صديقي ألخص الواقعة وأجملها بكلمات، كلمات معدودات وددت لو اختزلتها حرصاً على الكرامة الإنسانية، واستحياء من نفسي.
رضيت فتاة من سبط لاوى أن تبيح عرضها لهؤلاء الشباب المثقفين المهذبين لقاء أجر اتفقوا عليه(936/25)
وأبت المبيحة إلا أن تقبض الأجر مقدماً، ولما تم الإثم قبض أحدهم على ذراع المرأة وانتزع الثاني حقيبتها من يدها انتزاعاً، وأسرع الثالث إلى السيارة يهيئها للهرب، وقد اندفعت السيارة بأقوى سرعتها تحمل الأبطال الثلاثة وبقيت المسكينة في الصحراء تعوي كالذئبة ولا من مجيب!
أتدري يا صديقي كم حوت حقيبة العاهرة وماذا كان فيها؟
كان فيها منديل، وقرش صاغاً واحد، ومفتاح غرفتها، والأجر الزهيد الذي قبضته ثمناً لعرضها.
أي صديقي، لقد كان كشف لدني فتحه الله على بصيرتك. يوم رأيت ذلك المخلوق التعس فنفرت منه واستثقلت روحه وكثافة ظله، أما أنا فقد كنت أعشى العين والبصيرة. أنظر إلى ذلك الصديق من خلف غشاء قدسي نسجته بيدي إجلالاً للصداقة.
لست بأول إنسان خدع نفسه بمثل هذا الصديق، إن القط الأليف هو من فصيلة النمر المتوحش، كذلك الإنسان المهذب من فصيلة الشرير الأثيم، ولكن متى بدرت بادرة الغرائز الكامنة عاد كل إلى أصله
حبيب الزحلاوي(936/26)
الرعايا غير العبيد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كنت أحب للأستاذ الفاضل الشيخ خالد محمد خالد وهو عالم أزهري أن يتأمل قليلاً في اسم كتابه الجديد - مواطنون لا رعايا - ولو أنه تأمل قليلاً في معنى كلمة رعايا لاختار له هذا الاسم - مواطنون لا عبيد - لأن موضوع كتابه في هذا المعنى. ولو أنه سماه أيضاً - رعايا لا عبيد - لما خرج عن معنى كتابه، ولما خرج عما ينبغي لعالم من علماء الدين، والأستاذ من أساتذة اللغة، لأنه أساء إلى كلمة رعايا، وحملها ما لا تحمله في اللغة والدين.
روى مسلم والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته.
وفي هذا الحديث دلالة صريحة على أن الراعي ليس معناه السيد، حتى تكون الرعية بمعنى العبيد، لأنه جعل كل واحد من الناس راعياً، فلو كان الراعي بمعنى السيد والرعية بمعنى العبيد لكان كل واحد من الناس سيداً وعبداً في وقت واحد، وهذا تناقض. على أن الحديث جعل الخادم راعياً في مال سيده، وفي هذا دلالة قاطعة على أن الراعي ليس بمعنى السيد، وإلا انقلب الوضع في هذه الحالة، لأن الخادم مسود لا سيد.
وهذا عثمان بن عفان يكتب إلى عماله في أول خلافته، فيطلب إليهم أن يكونوا رعاة لا جباة، فيعطي هذه الكلمة معناها الكريم، ويقول في ذلك: أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة، ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء، والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين، وفيما عليهم، فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة، فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون، فاستحقوا عليهم بالوفاء.
فيفرق عثمان في هذا بين الرعاة والجباة، وهذا الفرق يكاد يحمل الجباة معنى السادة الذين(936/27)
يتعالون على الرعية، وينظرون إليها من الناحية المالية، فلا يهمهم إلا أن ينتزعوا منها مالها وهم في عزة السادة، وإلا أن تقدم إليهم هذا المال في صغار وذل، وعلى هذا يكون الرعاة الذين يقابلون الجباة لا يحملون شيئاً من معنى السادة، ولا تكون الرعية لهم عبيداً، بل يجمعهم جميعاً اسم المواطن.
فإذا انتقلنا من هذا إلى معنى كلمة رعية في اللغة وجدنا القاموس يقول: الراعي كل من ولى أمر قوم، والجمع رعاة ورعيان ورعاء وقد يكسر، والقوم رعية كغنية. ثم يقول: وراعيته لاحظته محسنا إليه، وراعيت الأمر نظرت إلى م يصير، وراعي أمره حفظه كرعاه، واسترعاه إياهم استحفظه.
وإذا انتقلنا من القاموس إلى النهاية في غريب الحديث والأثر وجدناها تقول: وفي الحديث (نساء قريش خير نساء، أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده) هو من المراعاة الحفظ والرفق وتخفيف الكلف والأثقال عنه، ومنه الحديث (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) أي حافظ مؤتمن، والرعية كل من شمله حفظ الراعي ونظره، وفي الحديث إلا إرعاء عليه) أي إبقاء ورفقاً؟ أرعيت عليه، والمراعاة الملاحظة، وفي حديث عمر (لا يعطى من الغنائم شيء حتى تقسم إلا لراع أو دليل) الراعي ها هنا عين القوم على العدو، من الرعاية والحفظ، ومنه حديث لقمان بن عاد (إذا رعى القوم غفل) يريد إذا انتقلنا بعد هذا إلى المصباح المنير في غريب الشرح الكبير وجدناه يقول: وقيل للحاكم والأمير راع لقيامه بتدبير الناس وسياستهم، والناس رعية، وراعيت الأمر نظرت في عاقبته، وراعيته لاحظته.
وفي كل هذا المنقول من كتب اللغة لا نجد في كلمة راع ورعاة معنى السيادة والتسلط والتحكم، ولا في كلمة رعية معنى الخدمة والعبودية، وإنما وظيفة الراعي حفظ الرعية وملاحظتها بالرفق واللطف، والإبقاء عليها بصيانتها عن موارد الهلكة، وتدبيرها وسياستها بالعدل، وهو في هذا أقرب إلى أن يكون خادماً للرعية، والرعية فيه أقرب إلى أن تكون هي المخدومة.
وكذلك الأمر في الرعية من جهة الدين، لا شيء فيها من معنى العبودية، ولا شيء في الرعاة من معنى السيادة، وإنما الخليفة وولاته أصحاب وظائف في الرعية، يخدمونها بأجر(936/28)
تفرضه لهم على قدر حاجتهم، وهي التي تختارهم لخدمتها بمحض إرادتها، وهي التي تعزلهم إذا أساءوا في خدمتها، فهي صاحبة السلطة عليهم في الحقيقة، وهي الراعية عليهم في نفس الأمر، وهم خدامها في الواقع، وما الخليفة وولاته إلا وكلاء عنها في تدبير أمورها العامة، لأن كل فرد منها تشغله أموره الخاصة في دنياه، فلا بد لها من أفراد منها ينوبون عنها في تدبير أمورها العامة، ولا يمتازون في هذا بشيء عليها، وإنما هم رعية مثلها، يقومون بأعمالهم كما يقوم كل فرد من الرعية بعمله، ولا يستحقون ما يأخذونه من المال لذاتهم أو لشرفهم، وإنما يستحقونه بما يقومون به من عمل، ولهذا أعطاهم الإسلام اسم العمال، فقال تعالى في الآية - 60 - من سورة التوبة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) فالعاملون عليها هم الولاة، وهم العمال، ولا مانع من أن يدخل فيهم الخليفة، لأنه رئيس هؤلاء العمال، ولم تكن حكومة الخلفاء الراشدين إلا حكومة عمال، وهذا قبل أن تعرف أوربا الحديثة هذا النظام في الحكم، وقد كانت حكومة عمال صالحة، ولم تكن حكومة عمال لا تتورع عن السياسة الآثمة، كما لا تتورع حكومات العمال في أوربا الحديثة عن هذه السياسة وقد كان على الأستاذ الشيخ خالد محمد خالد أن يعرف هذا كله، وأن يدرك أن الناس حينما يطلعون على اسم كتابه - مواطنون لا رعايا - ينتقل نظرهم إلى حديث (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ويفهمون أن الحديث يقر الرعية بالمعنى الذي ينكره اسم كتابه، وفي هذا ما فيه. وعلى الأزهر أن يتدبر في أمر أهله بالإصلاح الذي دعونا إليه، وتوالى علينا الظلم بسببه، حتى يستقيم تفكيرهم، ولا تتغلب عليهم مطالعاتهم الخاصة، وقد أعذر من أنذر
عبد المتعال الصعيدي(936/29)
عقيدتي
للفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتر اند رسل
ترجمة الأديب عبد الجليل السيد حسن
مقدمة المؤلف:
حاولت في هذا الكتيب أن أقول ما أعتقده عن مكانة الإنسان في الكون ومدى إمكانياته على بلوغ الحياة السعيدة. ولقد عبرت عن مخاوفي في (إيكاروس) أما في الصفحات التالية فإني قد عبرت عن آمالي (والتناقض واضح بين الموقفين) ولكن الإنسان لم يحذق فن التنبؤ بالمستقبل إلا في علم الفلك. غير أننا نرى في الأمور الإنسانية: قوى تعمل على السعادة وقوى أخرى تعمل على الشقاء، ولا ندري لأيهما سيكون الظفر والغلبة.
فلكي نعمل بحكمة، علينا أن نكون حذرين من كليهما.
برتر اند رسل
الفصل الأول
الطبيعة والإنسان
إن الإنسان جزء من الطبيعة. وليس شيئاً يقارن بها، فأفكاره وحركاته الجسمية تخضع لنفس القانون الذي يفسر حركات النجوم والذرات، وإن العالم الطبيعي لضخم إذا قورن بالإنسان - بل وأضخم مما كان يظن أيام (دانتي) - ولكنه ليس في الضخامة التي كان يتصور عليها منذ مائة سنة، فإن كلا منها يعلو وينخفض ويكبر ويضؤل. ويبدو أن العلم آخذ في مشارفة النهاية. فالمظنون أن الكون ذو امتداد ممدود في الفضاء، وأن الضوء يستطيع أن يسير حوله في بضع مئات من ملايين السنين.
والمعروف أيضاً. أن المادة تتكون من (إلكترونات وبروتونات) ذات حجم محدود، منهما يوجد عدد محدود في العالم. ومن المحتمل أن لا تكون تغييراتهما مستمرة كما كان يظن، بل إنها تتقدم على دفعات، لا يمكن مطلقاً أن تكون أصغر عن حد أدنى من الدفعات. ويمكن إجمال هذه التغييرات بسهولة، في عدد صغير من مبادئ عامة، تحدد ماضي العالم(936/30)
ومستقبله، حين يعرف أي جزء ضئيل من تاريخه.
وهكذا يقترب العلم الطبيعي من المرحلة التي سوف يكمل عندها، وحينئذ لن يكون ذا أهمية؛ فحينما تعرف القوانين التي تتحكم في حركات الإلكترونات والبروتونات سيكون الباقي فقط عبارة عن جغرافيا - مجموعة حقائق معينة، تظهر توزيعاتها خلال جزء من تاريخ العالم. ومن المحتمل أن يكون العدد الجم من حقائق (الجغرافيا) المحتاج إليه تعيين تاريخ العالم محدوداً، ومن المستطاع كتابة كل ذلك نظرياً في كتاب ضخم، ليحفظ في بيت (سومرست) ويزود بآلة حاسبة ذات يد تدور، لتعين الطالب على أن يجد الحقائق في أي وقت آخر، بأكثر من هذه النصوص المكتوبة.
وإن لمن الصعوبة بمكان أن نتخيل شيئاً أقل أهمية أو أكثر اختلافاً من الابتهاج الشديد إزاء كشف غير تام، فذلك مثل الصعود إلى جبل شاهق، ثم لا تعثر إلا على مطعم يباع فيه شراب الزنجبيل ويحوطه الضباب، ولكنه مزود باللاسلكي، ولربما كان جدول الضرب مثيراً للعجب أيام أحمس!!
والإنسان جزء من هذا العالم الطبيعي - غير الرائع في ذاته وجسمه كأي مادة أخرى - يتكون من إلكترونات وبروتونات ويخضع تماماً لنفس القوانين، كما تخضع سائر الأشياء التي تدخل في عالم الحيوانات أو النباتات.
وهناك من يقولون: إن الفسيولوجيا: لا تحتاج إلى الطبيعيات، ولكن أداتهم على ذلك غير مقنعة، ومن الحكمة أن نفرض أنهم خاطئين.
ويبدو أن ما نسميه أفكارنا، تعتمد على نظام تلافيف المخ بالطريقة عينها التي تعتمد الأسفار بها على الطرق والسكك الحديدية. ويظهر أيضاً: أن الطاقة المستعملة في التفكير، لها أصل كيميائي - فمثلاً نقص اليود، يحول الرجل الذكي، إلى أبله - والظاهرة العقلية مرتبطة بالبناء المادي للمخ.
ولو كان هذا كذلك، لما استطعنا أن نفرض أن الإلكترون أو البروتون الفرد، يستطيع التفكير، كما لا يمكن أن نتوقع كذلك فرداً واحداً يلعب كرة القدم، ولا يستطيع أيضاً أن نفرض أن تفكير الإنسان يبقى في جسد ميت؛ لأن الموت يمزق نظام المخ ويبدد الطاقة التي تمد تلافيف المخ.(936/31)
ووجود الله وفكرة الخلود وهما العقيدتان الرئيسيتان، في الديانة المسيحي، لا يجدان لهما أية دعامة من العلم، ولا يمكن القول أن كلا من العقيدتين ضروري للدين؛ لأن كليهما لا يوجد في البوذية (أما من ناحية الخلود، فإن هذه الحالة في إحدى صورها المبهمة، قد تقود إلى الخطأ، ولكنها صحيحة في التحليل الأخير) ولكننا في الشرق، تعودنا أن نفكر فيهما كألزم لوازم اللاهوت.
وليس هناك من شك في أن الناس سيستمرون في الاستمتاع بهذه العقائد، لأنها سارة، كما أنه من السار أن نعد أنفسنا فضلاء وأعداءنا أشراراً.
أما من جانبي فأنا لا أرى أي أساس لكليهما، ومع ذلك فأنا لا أدعي أن في طوقي أن أثبت أن ليس هناك من إله؛ أو أن أبرهن على أن الشيطان خرافة، فقد يوجد الإله المسيحي، وكذلك قد توجد الأولب، أو مصر القديمة أو البابليون؛ ولكن. . . ليس هناك واحد بين هذه الفروض، بأكثر احتمالاً من الآخر، فهي كلها توجد خارجاً، حتى عن دائرة العلم المحتمل، ومن ثم. . . فلا داعي هناك لكي نأخذ بأحدهما - ولن أتوسع في هذه المسألة، فقد عالجتها في مكان آخر.
إن مسألة الخلود الشخصي، تقوم على أساس مختلف نوعاً ما، فهنا يتضح أن كلا الطريقين ممكن، فالأشخاص جزء من العالم المادي الذي يتعلق به العلم، والحالات التي تحدد وجودهم معروفة، فقطرة من الماء ليست خالدة، فهي قد تتحلل إلى (أكسجين) و (هيدروجين) ولذلك إذا فرضنا: أن أية قطرة من الماء أصرت على أن لها خاصية من المائية، ستحفظ عليها تحللها فإنا أقرب إلى أن نكون شكاكاً مسفسطين.
وبمثل هذه الطريقة نعلم أن المخ غير خالد؛ وأن الطاقة المدبرة للجسم الحي تصبح كما كانت غير موجودة عند الموت، ومن ثمت، فليست جديرة بعمل جماعي، ولذلك كان من المعقول أن الحياة العقلية تتوقف حينما تتوقف الحياة الجسمية، وهذا دليل محتمل فقط، ولكنه في قوة الأدلة التي تبنى عليها معظم النتائج العلمية، وكل البراهين ترينا أن ما نعده حياتنا العقلية مرتبط ببناء المخ، وبالطاقة المدبرة للجسم، ومن المحتمل أن تهاجم هذه النتيجة بمقتضى أسس مختلفة، فالبحث الطبيعي يقر أن الحصول على برهان علمي صحيح لا يشك في حيثياته، عن البقاء أمر صحيح من الوجهة العلمية، وبرهان من هذا(936/32)
القبيل قد يكون من القوة بحيث أن أي إنسان ذي نزعة علمية لا يستطيع رفضه، ولكن أهمية الارتباط بالبرهان يجب أن تعتمد على السابقة المحتملة لفروض البقاء؛ فهناك طرق متباينة لتعليل أية مجموعة من الظواهر، ولكننا نفضل من بينها السالفة الأقل استحالة.
وهؤلاء الذين ظنوا احتمال الحياة بعد الموت، سيكونون متأهبين لقبول هذه النظرية كخير تعليل للظاهرة النفسية، وعلى العكس هؤلاء الذين ينظرون إلى هذه النظرية على أنها شيء غير معقول، سيبحثون عن تعاليل أخرى. . . أما من جانبي فأنا إلى الآن، أعتبر أن الحجة التي يقدمها البحث النفسي في صالح البقاء أو هي من الحجة الفسيولوجية في الجانب المقابل، ولكنني أعترف كل الاعتراف أن تلك الحجة قد تصبح في أي وقت أقوى منها الآن، وحينئذ سيكون من غير العلمي، أن لا يعتقد في البقاء ولكن بقاء الجسد بعد الموت أمر مغاير للخلود، فقد يعني ذلك تأجيلاً للموت الطبيعي فقط، ولكنه هو الخلود الذي ينشد الناس الاعتقاد فيه.
والمعقدون في الخلود، سوف يرفضون الأدلة الفسيولوجية التي استعملتها بحجة أن الروح والجسد شيئان منفصلان كلية، وأن الروح شيء مفارق تماماً لمظاهرها التجريبية خلال أعضائنا الجسمية، وأنا أعتقد أن هذا خرافة (ميتافيزيقية) فإن العقل والمادة، وهما في ذلك سواء عبارات مناسبة لمآرب معينة، وليست حقائق نهائية؛ فالإلكترونات والبروتونات مثل الروح أوهام منطقية، وكل منهما في الحقيقة عبارة عن سيرة وسلسلة من الحوادث، وليس ذات يد واحدة ثابتة. وهذا جلي في حالة الروح من بين حقائق النمو؛ فإن كل من أنعم النظر في الحبل والحمل والطفولة، لا يمكنه أن يعتقد جاداً: أن الروح شيء لا يتجزأ، وأنها كاملة تامة، خلال كل هذه الأطوار. ومن الجلي أنها تنمو كالجسم، وأنها تنشأ عن كل من الحيوان المنوي والبويضة، ولذلك لا يمكن اعتبار الروح غير قابلة للتجزئة، وليس هذا هو المذهب المادي، إنه فقط التسليم بأن كل شيء موضوع للتحضر، وليس لمادة أولية وقد قدم الميتافيزيقيون حججاً لا تحصى، ليثبتوا أن الروح يجب أن تكون خالدة، ولكن ها هو ذا اختبار بسيط يمكن هدم هذه الحجج به، فهم يثبتون جميعاً أن الروح يجب أن تكتنف وتتخلل كل الفراغ. . . ولكن بما أننا لسنا متلهفين على أن نعيش طويلاً، فإن أحداً من الميتافيزيقيين في هذه المسألة لم يلاحظ قط هذا الوضع لأداتهم، وهذا مثال من سلطان(936/33)
الرغبة العجيب الذي يغفل حتى الفطنين ويجرهم إلى الأغاليط التي كانت تتضح في الحال في أي وقت آخر وإني أعتقد أنه لو لم نكن وجلين من الموت لما ظهرت فكرة الخلود أبداً.
إن الخوف أساس العقيدة الدينية كما هو أساس الكثير من أمور الحياة الإنسانية، والخوف من الكائنات البشرية، أفراداً وجماعات، يسود كثيراً من حياتنا الاجتماعية، ولكن الخوف من الطبيعة هو الذي جعل مكاناً للدين. وتباين العقل والمادة كما قد رأينا، أمر وهمي تقريباً، ولكن هناك تباين أكثر أهمية - أعني بين الأشياء التي تتأثر برغباتنا، وتلك التي لا تتأثر بمثل ذلك. والحظ بين الاثنين ليس بالنشيط أو الخامد، فكلما يتقدم العلم، تدخل تحت يد الإنسان أشياء أكثر وأكثر.
ومع ذلك توجد أشياء قطعية في الجانب الآخر، وتقع بينهما كل الحقائق الكبرى في عالمنا، وهي حقائق من النوع الذي يدرسها علم الفلك، والحقائق التي فوق - أو قريبة - من سطح الأرض هي وحدها التي تستطيع - إلى مدى محدود - تشكيلها بحيث تلائم رغباتنا، وحتى على سطح الأرض قوانا محدودة جداً، فقبل كل شيء لا نستطيع أن نمنع الموت، وإن استطعنا تأخيره غالباً.
إن كان الدين لمحاولة التغلب على هذا التناقض. ولو أن العالم يدبره الله، ويمكن تحريك الله بالصلاة والدعاء، فإنا بذلك ننال حصة من القدرة المطلقة. وفي الأيام السالفة كانت تحدث المعجزات استجابة للدعاء، وما زالوا يفعلون ذلك إلى الآن في الكنيسة الكاثوليكية، ولكن البروتستانت قد فقدوا هذه القدرة، ومهما يكن من شيء فمن الممكن أن يستغني عن المعجزات لأن الله قد قضى بأن تنفيذ القوانين الطبيعية سيأتي بخير النتائج الممكنة، ومثل هذا الاعتقاد في الله ما زال يصلح لتهذيب عالم الطبيعة. وجعل الناس يشعرون بأن القوى الفسيولوجية هي في الواقع حليف طيب. وبمثل هذه الطريقة يزيل الخلود الخوف من الموت، فالناس الذين يعتقدون أنهم حين يموتون سيرثون النعيم الأبدي؛ ينتظر أن يواجهوا الموت دون ما فزع. ومع أن هذا لا يحدث بلا تغيير لحسن حظ رجال الطب، ومهما يكن فهو يهدئ من مخاوف الناس بعض الشيء، حتى حينما لا يلاشيها كلية.
إن الدين منذ كان مصدره الرعب، قد عزز بعض أنواع معينة من الخوف؛ وجعل الناس لا يعدونها مخزية، وهو بذلك قد قدم للإنسانية أعظم إساءة، فكل المخاوف سيئة، وينبغي(936/34)
التغلب عليها، ولكن ليس بأساطير العفاريت، بل بالشجاعة والتفكير المعقول. وأنا أعتقد أني حينما أموت سأتعفن، ولن يبق من ذاتي شيء. ولست حدث السن، ومع ذلك فأنا أهوى الحياة ولكني سوف أستخف بالارتعاد فرقا لفكرة الهلاك. والسعادة لم تبلغ حتى ولا أقل من درجة من السعادة الحق؛ لأنها لا بد أن تنتهي. ولكن الفكر والحب لا يفقدان قيمتهما لأنهما ليسا بخالدين. وكم من إنسان حمل نفسه إلى المشنقة فحورا، ومن المؤكد سيعلمنا مثل هذا الفخر أن نفكر بإمعان في مكانة الإنسان في العالم؛ حتى ولو جعلتنا أول الأمر نوافذ العلم المفتحة، نرتعد من بعد الدفء المريح داخل الأساطير الإنسانية التقليدية، وفي النهاية يأتي الهواء العليل بالنشاط، وللفضاءات العظيمة جلالها الخاص.
إن فلسفة الطبيعة شيء وفلسفة القيم شيء آخر. ولن يحدث إلا الضرر نتيجة الخلط بينهما، فما نعده حسناً وما نبغيه، لا علاقة له مطلقاً بما وهو، الذي هو مطلب الفلسفة الطبيعية. وفي الجهة المقابلة لا يستطاع منعنا تقدير هذا وذاك، على أساس أن العالم غير المتحضر لا يقدره، ولا يستطاع كذلك إجبارنا على الإعجاب بشيء لأنه قانون الطبيعة. ومن دون شك نحن جزء من الطبيعة التي خلقت رغباتنا وآمالنا ومخاوفنا بناء على القوانين التي يكتشفها العالم الطبيعي: وبهذا المعنى نحن جزء من الطبيعة، وفي فلسفة الطبيعة نحن شيء ثانوي بالنسبة للطبيعة، فنحن نتيجة للقوانين الطبيعية وضحاياها أخيراً يجب أن لا تكون فلسفة الطبيعة ترابية مهنية؛ لأن الأرض ليست إلاّ واحدة من أصغر سيارات أصغر نجوم المجرة، وأنها لمهزلة أن نطوي فلسفة الطبيعة لكي نأتي بنتائج تسر الطفيليين الصغار في هذا السيار الذي لا يؤبه له. والمذهب الحيوي كفلسفة، والتطوري، يظهر أن من هذه الجهة، الافتقار إلى معنى المطابقة النسبية والمنطقية؛ لأنهما يعتبران أن وقائع الحياة ذات الأهمية لنا شخصياً، كشيء له أهميته الكونية. وليست أهمية مقتصرة على سطح الأرض. ومذهب التفاؤل ومذهب التشاؤم كفلسفات كونية، يظهر نفس سذاجة المذهب الإنساني؛ والعالم العظيم بالقدر الذي نعلم ليس خيراً أو شراً وليس حريصاً على أن يجعلنا سعداء أو أشقياء. ومثل هذه الفلسفات تبعث عن الاهتمام بالذات، وتقوم خير تقويم بقليل من علم الفلك.
ولكن ينعكس الموقف في فلسفة القيم فالطبيعة ليست إلاّ جزءاً مما نقدر على تخيله، وكل(936/35)
شيء سواء كان حقيقياً أو متخيلاً أستطيع تقديره، مع أنه ليس هناك من مقياس خارجي نتبين به الصحة أو الخطأ في تقديرنا؛ لأننا أنفسنا الحكم النهائي الذي لا ينقض في أمر القيم. والطبيعة في عالم القيم ليست إلا جزءاً، وهكذا نحن أعظم في هذا العالم من الطبيعة. والطبيعة في ذاتها محايدة في عالم القيم، فليست بالخيرة أو الشريرة، ولا تستحق الإعجاب أو العذل، فنحن أنفسنا الذين خلقنا القيمة، ورغباتنا هي التي منحتها أهمية، ونحن ملوك في هذه المملكة؛ ونحط من قدرنا إذا حنينا الهام للطبيعة، فمن أجلنا تتحدد الحياة السعيدة، لا من أجل الطبيعة أو حتى من أجل الطبيعة تتمثله في الله.
للكلام صلة
عبد الجليل السيد حسن(936/36)
رِسَالَة الشِعْر
حطام
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
إلى صديقي الأستاذ الكبير عباس خضر
صاح بي عمري: لقد ضاعت سدى ... زهراتي. . فإلى أين المفر؟!
وعلى أي ذراع أتكئ ... وبساقي من القيد أثر
وطريقي شائك محلولك ... حوم الشؤم عليه والضجر
غاضت الرحمة؛ لا أذن تعي ... صرخة القلب وهل يصغي الحجر
وأنا أقطع ليلي بالضنى ... ونهاري بالمآسي والفكر
عبثاً أقبس من جمر الصبا ... لهباً. . وهو رماد يحتضر
يا جناحاً من حنان ضمني ... قصه الأمس من كان الأبر
ومعيناً كان يروي ظمئي ... طغت البلوى عليه فاندثر
أعولت فوق فمي أنشودة ... رقص الدمع عليها فانتثر
أيها الظالم في قتلي انشد ... إن تعمدت، فما يجدي الحذر
هو جرحي كلما هدهدته ... بالأماني نكأته فنغر
أمس ولى، وغداً إن عدت لي ... لم تجد غير حطام من بشر
كان روضاً عصف الهجر به ... فذوي في أيكه حتى الزهر
وسراجاً خنقت أنفاسه ... شهقات من أساء فاحتضر
قلت يا عمر: كلانا بلبل ... أخرست أنغامه كف القدر
صائد فوق نحوي سهمه ... فثوى بين ضلوعي واستقر
ليته عاد، أريه سقمي ... ودمائي وجراحاتي الأخر
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
غاية الطموح(936/37)
للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري
لمن يبذر الحب كان الثمر ... ومن يزرع الصبر يجن الظفر
ومن يتحمل وعور الطريق ... وخوض الدجى واعتناق الخطر
فذلك من رشحته الحياة ... ليصبح سيدها المنتظر. .
إذا لم تكن عبقري الطموح ... مراميك فوق مرامي البشر
فمت وليكفنك ريح الفناء ... ويدفنك في قلبه المكفهر
فمثلك لا يستحق الحياة=وأولى به ظلمات الحفر
وإن شئت موعظة فالطبيعة ... أستاذة الحيوات الكبر
فما ولدتك لقطف الزهور ... ولا أنجبتك لحلب البقر
ولكن لتحتضن الكائنات ... إذا اسطعت. . أو تتحدى القدر
ولولا قصورك يا ابن الترا ... ب عن أن تحس وأن تذكر
وأنك لازلت طفلاً كبيراً ... عميق السذاجة فج الفكر
لأبصرت ملهمة العبقريات ... وهي تسطر اسمى العبر
تأمل بقلبك لا ناظراك ... ففي القلب أودع سر النظر
تر الفجر يولد بين حقول ... الضباب وغاب الدجى المنتشر
تر الزهر ينبت فوق القبور ... ويسخر بالميت المندثر
تر الماء ينبع بين الصخور ... ويحفر مجراه بين الحجر
تر اللحن يرقص فوق السحاب ... وقد كان منحبساً في وتر
تر الريح تسجد عند الهضاب ... وتعول هازئة بالحفر
تر الموج ما انفك يبني جبالاً ... ويهدمها جاهداً مستمر
تر النحل ترشف ريق الورود ... وما عاقها شوكها والإبر
تر الطير تجعل أعشاشها ... رؤوس الجبال وهام الشجر
تر الجاذبية نحو السماء ... تعانق حتى خيال النهر
فكن فيلسوفاً كزهر القبور ... على جثث الهالكين ازدهر(936/38)
حكيماً كماء الينابيع يمضي ... يذيب الصخور ويبلي الحجر
طموحاً كطير الربى ليس يرضى ... بما هاماتها مستقر
قوي الإرادة مثل الفراشة ... تغشى اللظى وتدوس الخطر
ولاتك كالدود تهوى الوحول ... وكالبوم تخشى ضياء القمر
فخير من الآدمي الخمول ... غراب يصيح وكلب يهر
محمد مفتاح الفيتوري(936/39)
الأدب والفنّ في أُسْبُوع
للأستاذ عباس خضر
أثر الدراسات البلاغية:
(قال لي صاحبي)، وكان في جملة المستمعين إلى محاضرة الأستاذ محمد خلف الله بك ينادي دار العلوم في أثر الدراسات القرآنية في تطور النقد الأدبي) وقرأ ما أشرت إليه في الأسبوع الماضي من أن الأستاذ كان يخلط في محاضرته بين العربية والعامية - قال: لقد مررت عابراً بهذه النقطة، فإن الأستاذ كان يخطب كبار الأساتذة وصفوة رجال اللغة العربية وهو نفسه منهم، وكان يتكلم في بلاغة اللغة العربية، والمكان نادي القوم الذين قيل إن الفصحى تموت في كل مكان وتحي في دارهم. . أفيليق مع كل هذا أن يخلط في حديثه بين العربية والعامية. .؟
سكت قليلاً وأنا أقول في نفسي: عجباً! إننا نعيب مثل هذا على أناس ليسوا من هذا الطراز، ويخطبون جمهوراً من عامة الناس في موضوعات عامة وفي أماكن أخرى. . ثم قلت لصاحبي: ترى إذا لم يكن حديث الأستاذ خلف الله خالصاً من العامية؟ ليس من المقبول أن يقال إنه أراد أن يدنو من إفهام المستمعين، فهم هم. . أتراه لا يقدر على الاسترسال في التعبير الفصيح؟
بدأ على صاحبي الإنكار لهذا التساؤل، وهو ممن يعرفون الأستاذ خلف الله منذ القديم، فأسرع يقول: لا. إني أعرفه خطيباً فصيحاً متمكناً منذ كان طالباً في دار العلوم، وطالما سمعنا منه آيات بينات، والعجيب أنه يأتينا اليوم هكذا بعد أن زادت ثقافته وكبر مقامه!
وأنا كنت أسمع عن الأستاذ خلف الله - قبل سفره في البعثة إلى إنجلترا - أنه شاعر مجيد. فلما رجع من البعثة انقطع صوته في مضمار الشعر، فلعله أيضاً فقد الحماسة للعربية فلم يعد يهتم بشد لسانه إليها!
وقلت لصاحبي: يظهر أن المسألة ليست مسألة قدرة، وإنما هي حرارة في القلب، فإن أولئك الأساتذة الذين يحدثون الجموع فلا يلتزمون التعبير الفصيح - وهم من رجال العلم والأدب - إنما يفعلون ذلك استجابة للفتور والتهاون ومطاوعة لاسترخاء اللسان؛ وعلى عكس ذلك نرى كثيراً من السياسيين والمحامين ورجال النيابة العامة تنطلق ألسنتهم في(936/40)
المحافل والمحاكم بالكلام العربي المبين، وليس أولئك بأقل قدرة من هؤلاء، ولكنها حرارة القلب. ألم يأتك نبأ أولئك الصغار تلاميذ المدرسة النموذجية الابتدائية الذين تحدثت عن التزامهم الحديث بالعربية في عدد مضى من الرسالة؟ ويظهر أن حرارة القلوب الغضة أكثر ارتفاعاً من حرارة القلوب الكبيرة.
قال صاحبي: لقد وازنت في تعليقك على المحاضرة بين الأدباء ودارسي البلاغة، أفلا ترى أن الأستاذ خلف الله كان في العهد الأول من الأدباء ثم صار الآن من دارسي البلاغة، وأن الذي يتعاظمنا وقوعه منه إنما هو من أثر الدراسات البلاغية. .؟
معرض خريجي الفنون
أقام اتحاد خريجي الفنون الجميلة العليا، معرضهم الرابع، بدار نقابة المحامين، وقد افتتح المعرض في الأسبوع الماضي، ولا يزال قائماً. وأول ما يلاحظ أنه أقيم في وقت متأخر من العام، أي بعد موسم المعارض الذي يكون عادة في أواخر الشتاء وأوائل الربيع، وجاء وقته أيضاً في أيام الامتحانات التي بشغل فيها طلبة الجامعات عن شهود مثل هذا المعرض، ولكن يبدو لي - بعد كتابة الجملة السابقة - أن هؤلاء الطلبة - في مجموعهم - لا يهتمون بالسعي إلى معارض الفن، بل يبدو لي أيضاً أن أكثر المثقفين في مصر لا يهتمون بذلك، وفي هؤلاء المثقفين الذين لا ينشطون لمعارض الفنون، أهل الفنون الأخرى كالأدباء والشعراء والموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين، ولست بحاجة إلى بيان مكانة روائع التصوير والنحت وأثرها في ثقافة المثقفين وفن الفنانين، فالخوض في ذلك من الأوليات. ثم أوجه الكلام إلى الهيئات المشرفة على المعارض وخاصة اتحاد خريجي الفنون الذي يقيم هذا المعرض: أليس في الإمكان أن يقوموا بنشاط يجذب الجمهور المثقف إلى معارضهم؟ أوجه إليهم هذا السؤال وأترك لهم التفكير في الوسائل التي تؤدي إلى هذا الغرض.
قلت إن المعرض أقيم متأخراً، وقد علمت أن سبب هذا التأخر خارج عن إرادة الاتحاد، فليس له مكان يصلح للمعرض، وهو أكبر هيئة فنية في مصر. . وهو يمثل خريجي كلية الفنون الجميلة، فهو متصل بمعينها متجدد باستمرارها، وهو بذلك تجتمع فيه روافد الفن وتتمثل به الاتجاهات الفنية في مصر، ومع ذلك لا يملك مكاناً لمعارضه، فليس أمامه إلا(936/41)
دور العرض الأهلية التي تقتضي العارضين أجوراً مرتفعة - من جنيه إلى عشرة جنيهات في اليوم! أو رجاء أصحاب النوادي الصالحة للعرض والتي يستمهل أصحابها حتى يستطاع إعدادها للمعرض، وهذا ما حدث في هذا العام.
وندرك مدى تلك المتاعب عندما نعلم أن المعرض هو الوسيلة الوحيدة للمصور والمثال التي تصله بالجمهور، فهو بمثابة الكتاب والصحيفة للمؤلف والأديب.
ذلك إلى انعدام التشجيع وعد الإقبال على شراء المنتجات الفنية، سواء من الجهات الرسمية والأهلية، فالأولى تعتذر عادة بأن الاعتماد قد نفد. . وعندنا جمعيات غنية تنتسب إلى الفن، ولكنها تقصر تشجيعها واحتفالها على الفن الأجنبي ولا تلتفت إلى الفن المصري.
وقد أدى عدم التشجيع وأزمة المكان إلى احتفاء كثير من الفنانين، وضيق الدائرة على مجموعة صغيرة ثابتة، على حين كان المفروض أن تظهر مواهب جديدة من خريجي الكلية كل عام.
هذا المعرض القائم، صورة صادقة للحركة الفنية في مصر، ويستطيع المشاهد أن يلمس فيه الصراع بين القديم والحديث، وإن كانت غلبة الاتجاهات الحديثة ظاهرة، فقد طغت هذه الاتجاهات حتى على المدرسين (الأكاديميين) وليس أدل على ذلك من تطور حسين بيكار الذي بدأ يخرج عن الاتجاه التقريري، أو الحرفية في النقل، وهي نقل الواقع المشاهد مع بعض اللمسات الجمالية إلى إدخال الفكر فيما يراه، فهو يذهب إلى تحليل الأشكال وإرجاعها إلى النظريات العلمية التي وصل إليها البحث العلمي الحديث، ومن هذا أنه يتجه إلى التكعيبيين ليستفيد من مفهومهم العلمي للمسطحات، وينظر إلى التصوير كأسلوب قائم بذاته في التعبير عن الحياة ودفع المشاهد إلى الإحساس بها دون الاعتماد على تأثير الفكرة الأدبية في موضوعاته، ومن هنا يبدأ التصوير في الاستقلال بنفسه كوسيلة للتعبير، كما تستقل الموسيقى عن الشعر والأدب بوسيلتها الإحساسية.
إن التجريد هو أسلوب الوحيد لاستقلال فن التصوير، ولكن المجتمع والجماهير المتذوقة ذات المفهوم العام تحتاج إلى الفكرة فلا تستوقفها التجريديات، لأن مكانها المتاحف باعتبارها مثابة الخاصة من الفنانين، وفهمها يحتاج إلى دراسة فنية طويلة ودرجة معينة من التأهيل.(936/42)
وفي الوقت الذي ترك فيه بيكار طريقه الأول بقي أمثال حسني البناني وصلاح طاهر في إصرار على الاتجاه الأكاديمي، فصلاح طاهر فنان حالم ينظر إلى الأشياء نظرة شاعرة، يغير في لوحاته في حدود نظرته النفسية (السيكولوجية) الواقعية دون أن تغريه المذاهب الحديثة وأبحاثها. والبناني الذي جرى على تصوير الحياة المصرية خلال النور والظل، تحت شمس مصر المحرقة وظلالها القائمة - هو هو، لم يتغير، إلا إذا اعتبرنا زيادة قدرته وتمكنه في أسلوب المدرسة التأثيرية التي تعتمد على تحليل اللون في التصوير.
والجديد في هذا المعرض، ظهور الفن الشعبي يبدأه جمال السجيني وعبد الهادي الجزار على اختلافهما في البداية. والاتجاه الشعبي لم يطرق في مصر من قبل على أهميته كفن صادق الإحساس تنعكس فيه الفلسفة المصرية الساذجة والذوق الشعبي العام في الأداء. وهذا الاتجاه يفتح مجالاً واسعاً في اللون والتكوين، فهو يشمل كل الحياة المصرية ويخرج بالتصوير عن الدائرة الضيقة، دائرة رسم الوجوه والمناظر الخلوية والأزهار، التي ترى في كل معرض.
وتظل أعمال عبد السلام الشريف وأسعد مظهر، تسترعي الأنظار في كل معرض، فهما في الطريق الذي بدأه منذ أكثر من عشر سنوات، يتوخيان الموضوع الشعبي والأداء الجمالي الذي يقوم على الخطوط الزخرفية والمساحة اللونية في توافق يلائم كل لوحة؛ فالشريف يستغل ألوان الأقمشة في التعبير عن موضوعه بأسلوب الفن العربي في زخرفة الأقمشة، وأسعد مظهر يستعمل التطعيم بالخشب في أدائه.
وهناك في النحت نرى التطورات في أعمال كامل جاويش الذي بدأ يخرج من المذهب الدراسي البحت إلى الاهتمام بالكتلة والموضوع، على حين يظل عبد القادر مختار محافظاً على القيام بدراسة الرؤوس التي تعتبر المجال الوحيد لظهور براعته.
وجدير بالذكر، في الحديث عن معرض اتحاد خريجي الفنون الجميلة العليا، الجهود الكبيرة الموفقة التي بذلها الأستاذ أبو صالح الألفي رئيس الاتحاد في إقامة هذا المعرض وتنظيمه.
عباس خضر(936/43)
البَريدُ الأَدَبِي
شهر المسابح
التحنث يعطي معنى التجريد؛ فليست العبادة طقوساً مصورة في السلوك الآلي، لكنها وصلة بين العيد وربه، وزلفى يتقرب بها ليكفر عن مساوئ سيئاته!
والإسلام دين يهذب الغريزة، ويطارد عربدة الشهوة، ويكسر الحدود التي يضعها الإثم في طريق انطلاق القلب إلى نور المعرفة!
وإن (رمضان) قد شرف بنزول القرآن؛ الذي أنزل ليصلح أوضاع البشر، ووضع الأمعاء في مخمصة الحرمان لإبعاد الاشتهاء؛ فامتلاء البطن مغر على الاشتهاء المعربد الطاغي المتمرد!
لكن الناس يفهمون العبادة على أنها مظاهر معروفة، وطقوس مألوفة، فهم يهجرون الهاجرة إلى الفراش اللين، ويقيلون ليقيلوا أنفسهم من جفاف الحلوق لحرقة الظمأ؛ ثم يصحون مع شحوب الشمس، ليؤدوا فريضة العصر على كره واستكراه! ويؤثرون قضاء الأصيل جالسين على قهوة، وقد أمسك كل واحد بمسبحته يعد عليها ما يخرجه اللسان من ذم في أعراض اللسان غير مراع إلا ولا ذمة!
يا محبي المسابح في رمضان!
عدوا حبات قلوبكم بالآية الكريمة، ودعوا حبات المسبحة لأن الشيطان يعدها لكم، فتودعون يومكم وداع الخيبة وسوء المنقلب!
يا محبي المسابح. . .
جردوا نفوسكم من أحقادها وقيدوا شهواتكم في أصفادها، وانظروا إلى الإيمان نظرة اليقين، وإليكم الكتاب الخالد تصفحوه وتفحصوه لتعارفوا معنى حب العابد للمعبود.
ليكن التسبيح في قلوبكم نجوى روحية؛ فتشرق عليكم الأنوار، وبذلك تتكشف لكم الأسرار؛ وتنكشف عنكم الأوزار!
أحمد عبد اللطيف بدر
رواية الشعر(936/44)
أعجب الأستاذ علي العماري ممثل كاتب سوداني، وهو يصف التقاء النيلين الأبيض والأزرق عند المقرن؛ في نهاية مدينة الخرطوم الغربية البحرية، بهذين البيتين:
ولما التقينا قرب الشوق جهده ... حبيبين فاضا لوعة وعتابا
كأن حبيباً في خلال حبيبه ... تسرب أثناء العناق وغابا
والبيتان للشاعر المبدع المرحوم إسماعيل صبري باشا، وعنوانهما في ديوانه ص110 (العناق) وقد وضع الكاتب السوداني كلمة حبيبين مكان كلمة شجيين كما في الديوان! وقد رواهما المرحوم مصطفى صادق الرافعي في كتابه وحي القلم جـ3 على هذا النحو:
ولم التقينا قرب الشوق جهده ... شجيين فاضا لوعة وعتابا
كأن صديقاً في خلال صديقه ... تسرب أثناء العناق وذابا
وعلق عليهما الرافعي بقول: (على أني لا أستحسن قوله (كأن صديقاً)؛ فما هذا بعناق الأصدقاء، ولو كان الصديق راجعاً من سفرة الآخرة، وإذا غاب واحد في الآخر فالآخر حامل به! وقد أخذت أنا هذا المعنى منه، ولولاه ما اهتديت إليه فقلت في ذلك:
ولما التقينا ضمنا الحب ضمة ... بها كل ما في مهجتنا من الحب
(وشد الهوى صدراً لصدر كأنما ... يريد الهوى إنفاذ قلب إلى قلب)!
فانظر أيها القارئ الكريم إلى اختلاف الرواية في الشعر، وتصحيف الأبيات، وتحريف الكلمات مع قرب العهد بالشاعر، وسهولة الاطلاع على ديوانه! ولولا تحريف الرواية ما غمز الرافعي شاعرية صبري بذلك النقد اللاذع، وصبري مما نسب إليه براء!! فكيف بالشعر القديم؛ وقد تداولته الألسن، وتناولته الأزمان، وتناقلته الرواة؟
محمد محمود بكر هلال
في المركز الثقافي بالمنصورة:
. . يعيش المركز الثقافي بالمنصورة بمعزل عن الأدباء، وكان لذلك أثره المباشر في انصراف هؤلاء عن المركز لهذه الحال وقد حدث هذا العام أن أعمل المشرف الثقافي شأن المحاضرات ثم شاء آخر الأمر أن يتدارك هذا الإهمال، فقدم محاضراً في موضوع (حقوق المرأة السياسية) ولكن لم يحضر لسماع المحاضرة (اليتيمة) سوى ثلاثة أشخاص من بينهم(936/45)
الأستاذ علي بك الهاكع مراقب عام المنطقة التعليمية الذي أشار على المسؤولين بتأجيل المحاضرة، وكان هذا هو رأي المحاضر أيضاً، لأنه رأى إهمال المشرف الثقافي في توجيه الدعوة للجمهور سبباً للاعتذار من عدم إلقاء المحاضرة!.
والعجيب أن المشرف لم يقدم طول العام سوى هذه المحاضرة بينما يقدم على المسرح الثقافي (عوالم الأفراح) يلقين المنلوجات المبتذلة، ويؤدين الرقصات الخليعة مما كان مثار الانتقاد اللاذع من الأستاذ أحمد الصاوي محمد بك في الأهرام!.
لقد انقضى هذا العام كما انقضى العام الماضي دون أن يكون للمركز نشاط أدبي. . ويبدو لي أن المشرف الثقافي يظن أن المركز ليس إلا مدرسة ليلية تقتصر على ما تلقنه للطلبة من دروس. .
فلعل الأستاذ الكبير الأنصاري بك مدير عام مؤسسة الثقافة الشعبية بعد هذه الكلمة الموجزة أن يصدر أمره بإجراء تحقيق لمعرفة الدواعي والأسباب التي دفعت بالمركز إلى هذه الحال المحزنة.
المنصورة
كمال رستم
1 - سؤال
قرأت في سيرة المستشرق السر وليم جونس أنه لما كان في جامعة أكسفورد سنة 1768 استعان بأستاذ سوري على تعلم اللغة العربية فأتقنها وترجم منها المعلقات إلى اللغة الإنكليزية وغيرها من الكتب في المواريث وفق الشريعة الإسلامية الغراء. . فمن هو هذا الأستاذ السوري الذي كان في أكسفورد وقتذاك.
بغداد
عبد الخالق عبد الرحمن(936/46)
القَصَصُ
من الماضي. .!
للكاتب الروسي أنطون تشيخوف
للأستاذ عبد القادر حسن حميدة
كان الجو في بداية أمره منعشاً هادئاً. . تنبعث خلال سكونه الحالم أغاريد طير (الأج) العذبة. . . والمستنقعات قد حفلت بأجسام ضئيلة حية ترسل أنات متحشرجة محزنة أشبه بفحيح الأفاعي. . . وانطلق طائر (البكاسين) فرددت الريح صدى دوي الرصاصة التي صوبت نحوه. . . بيد أنه حينما بدأت الظلمة الحالكة تنشر على الكون غلالتها السوداء.
هبت من ناحية الشرق ريح نفاذة. . . وغاص كل شيء في بحر من الصمت الرهيب. . . وعلت البركة طبقة متماسكة من الثلج. . . وإذا بالغابة كلها خالية مقفرة مخيفة. . .
لقد بدأت علامات الشتاء تظهر على محيا الزمن. .!!
وكان (إيفان فيلكوبولكني) عائداً إلى بيته بعد قضاء يوم مليء بالمغامرات والقنص - وهو ابن أمين مكتبة الكنيسة وطالب بالمجمع الكنائسي - وكانت أنامله قد أصابها شيء من التخدير ووجهه قد اتقد بهبات الريح. . وخيل إليه أن ذلك البرد الذي هبط فجأة. . قد أفسد على الأشياء رونقها. . وران على معالمها. . وأن الطبيعة ذاتها خامرها القلق. . وساورها الاضطراب. . وهذا علة ما شاهد من أن الحلكة قد بدأت تخيم على الأرض أسرع مما كانت عليه من قبل. . وكان كل ما يحيط به مهجوراً كئيباً. . ولم يكن ثمة بارق من الضوء يومض إلا في حدائق الأرامل - وكانت القرية. . وهي على بعد ثلاثة أميال - وكل ما يأخذ العين سابحاً في ضباب المساء البللوري. .
وتذكر الطالب أنه حين غادر بيته كانت أمه تفترش الأديم. عارية القدمين. تنظف وعاء الشاي. . وأبوه جالساً على مقربة من الموقد يعاني آلام السعال. . ولما كان اليوم هو الجمعة الحزينة لم يطبخوا شيئاً. . فاستشعر لذعات الجوع الهائل. . ثم تقلصت أعضاؤه. . ودار بخلده أن مثل هذه الموجات من البرد كانت قد اجتاحت أيام رادك وبطرس وإيفان الجبار. . وأن في زمانهم الفقر المدقع قد تفشى. . والجوع المهلك قد انتشر. . وكذلك نفس(936/47)
السقوف التي صنعت من القش التي اتخذت منها الخروق والثقوب العديدة موطناً لها. . كما اتخذ الجهل والبؤس ونفس الحيرة والظلمة والضجر من الأهليين حقلاً خصيباً تنمو فيه يوماً بعد يوم. . لقد كان ذلك في عهدهم. . وحدث بلا مراء ولا جدال. . ثم تدور على أسطوانة الدهر ألف عام. . والحياة هي. هي لا يعتريها تقدم. . ولا تحسن. . .!!
وكان متقيناً إلى نفس الشاب أن يؤوب إلى بيته. .
ويرجع السبب إلى إطلاقهم على الحدائق اسم حدائق الأرامل أن أرملتين - أما وابنتها - كانتا قد آلتا على نفسيهما أن يتعهداها بالرعاية. . ويسهرا على شؤونها. .
وكانت هناك نار مضيئة ملتهبة. . وأصوات طقطقة صاخبة. . يحملها الأثير إلى مسافات كبيرة فوق الأرض المحروثة. . وكانت الأرمل فازيليا - وهي بدينة الجسم فارعة القامة - ترتدي سترة رجل واقفة إلى جانب النيران تحدق بعينين شاردتين. . تنطويان على التفكير العميق والرحلة إلى عالم غامض مبهم. . وكانت ابنتها ليكريا جالسة على الأرض تنظف الملاعق والصحاف، وهي امرأة ذات نظرة متبلدة فاترة قد انتشرت على وجهها آثار الجدري. . وكان واضحاً لدي أنهما قد فرغتا من تناول عشاؤهما. . منذ برهة. وكان صوت العمال يصل إلى آذاننا. . وهم يسقون جيادهم من النهر. .
واتجه الطالب صوب النار. . وقال:
- لقد عاود الشتاء كرته. مساء الخير. . .!!
فارتاعت فاريليا. . غير أنها تبينته لتوها. . فارتسمت على شفتيها ظلال ابتسامة رقيقة وقالت:
- إنني لم أعرفك. .! لتحرسك عناية الخالق الأكبر سوف تصيب ثراء واسعاً. .!
ثم أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث. .
كانت فاريليا. . ذات خبرة كبيرة. قد اختلطت بالطبقات العالية. . إذ كانت تعمل وصيفة. ثم مربية للأطفال. . فراحت تطرق باب الحديث بعصا اللباقة والرقة. . ولم تفارق شفتيها. . ابتسامة ناعمة دسمة. . أما ابنتها ليكريا فكانت ريفية قد ألهبها زوجها بسياط معاملته القاسية. . فسمرت نظراتها على وجه الطالب. . ولم تشرك نفسها بالحديث، وكانت تلوح على وجهها سمة كالتي تراها ضافية دائماً على الصم والبكم. .(936/48)
وحرك الطالب يديه حول النار ينشد الدفء وهو يقول:
- لقد كان القديس بطرس يدفئ نفسه على مثل تلك النار. . فلا ريب إذن. أن الجو كانت تسوده البرودة آنذاك. . آه. . . لابد أنها كانت ليلة مروعة يا جدتي. .! ليلة طويلة مشؤومة لا محالة.!. . ثم ألقى ببصره إلى ما عقد حوله من نطاق الظلمة الدامسة وهز رأسه في تأثر بالغ وقال:
- لا شك أنك كنت تطالعين في الإنجيل ثنى عشر. .؟
فأجابت فازيليا: - أجل. .! لقد كنت أجيل الطرف خلال صفحاته. .
هل يعلق بذاكرتك أن بطرس قال في العشاء الأخير (إنني متأهب تمام الأهبة لأن أخوض برفقتك معمعة الظلمة والموت) فأجاب مولانا السيد (إنني أقول لك يا بطرس إنك ستشرك بي ثلاثا قبل أن تصيح الديكة وخرج يسوع) عقب العشاء إلى الحديقة. . ويوقد له نيران الموت وكان بطرس المسكين. . خامد النفس. . واهي القلب. . وعيناه مثقلتان. . فلم تصمدا أمام جيوش النعاس فهزمهما النوم. . ولقد أدركني أن يهوذا تقابل ويسوع في تلك نفسها. وأفشى أمره إلى مضطهديه. . وأنهم. . أدوا به إلى الكاهن الأكبر مغلولاً. . فضرب كثيراً. .!!
واستيقظ بطرس متثاقلاً وهو يتوقع أن الشيء الخطير المفزع سيحل بالأرض. . ولقد كان يحمل ليسوع الحب والتقدير الشديدين. . وهاهو ذا الآن يضرب على البعد.
. . وألقت ليكريا بالملاعق من يدها وأدارت بصرها إلى الطالب الذي استطرد في القول. .
- فلما انتهوا حيث دار الكاهن الأكبر راحوا يمطرون يسوع بوابل من الأسئلة المتزاحمة بيننا أشعل الرجال النار في الفناء يصطلون. . واندس بطرس بينهم يدفئ نفسه كشأني الآن هنا. . فرأته إحدى النساء. . فصاحت (لقد كان هذا مع يسوع. . أيسوع أيضاً؟) ومعنى ذلك أنه ينبغي أن يستجوب أيضاً. . ولابد أن جميع العمال قد نظروا إليه في ارتياب وحذر. . إذ أن الارتباك استولى عليه فقال (كلا. . إنني لست أعرفه) وما انصرمت فترة قصيرة الأمد حتى عرف شخص آخر أن هذا الرجل من تلاميذ يسوع فقال (إنك كذلك أحدهم) ولكن بطرس آثر الإنكار للمرة الثانية. . غير أن شخصاً ثالثاً تحول(936/49)
إليه وقال (كيف هذا. ألم أشاهدكما معاً في الحديقة اليوم؟) فأصر بطرس على ألا يعترف للمرة الثالثة. . وفي تلك الآونة انبعثت صيحة الديك. . ونظر بطرس إلى يسوع على البعد. . واجتر في ذاكرته تلك الكلمات التي تفوه بها في المساء إذ قال له (إنك ستشرك بي ثلاثاً قبل أن تصيح الديكة) وعندما استعاد في ذاكرته هذا. . عرته رجفة من الألم الممض. . وزايل الحديقة. . وأرخى العنان لمقلتيه. . تذرف الدمع الحار. . والإنجيل يقول (لقد انصرف والدمع السخين يهطل من عينيه مدرارا). .
إنني لألمس ذلك الآن واضحاً جلياً. . فها هي ذي الحديقة يطويها الظلام. . ويخيم على أرجائها السكون. . .
وفي ذلك الهدوء الشامل اختنق صوته بالعبرات. . حتى وقف الكلام في حلقه. .
وتنهد الطالب تنهداً عميقاً. . وسرح ببصره في متاهات التفكير. . وكانت فازيليا لا زالت على شفتيها الابتسامة المشرقة. . بيد أنها غصت بريقها بغتة. . وانحدرت الدموع على وجنتيها المتوردتين وكأنما أخجلها أن تبكي فوارت وجهها بطرف ثوبها. . أما ليكريا فكانت عيناها تحملقان في الطالب في نهم وشراهة. . فتصاعد الدم إلى وجهها. . وبدت على سحنتها علامات التبرم. . كأنما تقاسي ضيقاً مؤلماً. . .
وانقلب العمال راجعين من النهر. . بعد أن أطفئوا ظمأ خيلهم. . ومر واحد منهم على الدار ممتطياً صهوة جواده. . بينما الأضواء تترنح على جسمه. . فحيا الطالب الأرملتين. . وودعهما. . وطواه الليل برداء الظلام مرة أخرى. . وسرى التخدر في أنامله. . وكانت الريح تعصف وتهب. . حتى كأن الشتاء قد عاد حقيقة. . ولم يكن هناك من الدلائل ما يوحي بأن شمس العيد ستشرق في الصباح الباكر!
وفي تلك اللحظة كانت خواطر الطالب منصرفة إلى فازيليا (لا ريب أن نشيجها هذا له صلة بما وقع لبطرس في الليلة التي طويت قبيل صلب المسيح. وأرسل إشعاعات من بصره على ما حوله وكان الضوء لا يزال يلمع في بهمة الليل. . بيد أنه كان وحيداً. . ولم يكن بجانبه آدمي ما. . وأجهد الطالب فكره ثانية. . في أنه ما دامت فازيليا قد بكت. . وما دامت ابنتها قد اضطربت فلا ريب أن ذلك حدث منذ تسعة عشر قرناً. . والذي أفضى بحديثه الآن. . لاشك أن هناك خيوطاً قوية. . تربط ذلك الشيء بالحاضر. . بهاتين(936/50)
المرأتي،. . بالقرية الرابضة في الخلاء. . بنفسه. بالعالم كله!
لقد أجهشت تلك المرأة العجوز بالبكاء. . لا لأنه عرف كيف يروي عليها القصة. . بأسلوب له عمل السحر في النفس. . وإنما لأن بطرس. . متصل بها. . قريب منها. . ولأن ما ساور دخيلته قد هز كيانها. . واستحوذ على مشاعرها. . .
وطغت عليه موجة من المرح بغتة. . فوقف. . ليتنفس وفكر هنيهة. . قائلاً:
- ألا إن الماضي لمتماسك بالحاضر. . بحلقات من الحوادث تربط بعضها بعضاً.! وخيل إليه أنه أدرك كنه هذه الحلقات. . إنه حين يقبض على حلقة تتحرك الأخرى. . .
ثم خاض النهر في أحد القوارب. . وصعد إلى التل. . ووقف يرنو عبر قريته ثم إلى الغرب حيث يلوح في الأفق البعيد خيط واه من النور خلفته الشمس الحمراء. .
وظن أن الجمال المبدع. . والحق الخالد. . اللذين قادا ركب البشرية المواج. . هنالك في الحديقة. . وفي فناء الكاهن الأكبر،. ما زالا على جبروتهما حتى الساعة. . بل إنهما أحوج ما تكون إليه الإنسانية. . وذلك العالم الأرضي!
وبدأ يستشعر شيئاً فشيئاً. . بالحيوية. . والقوة وذلك الانتظار الحلو للسعادة - وهو انتظار لا يمكن الإحاطة بكنهه - ترقب لسعادة مجهولة غريبة. . وانقشعت السحب من أمام عينيه. . فبدت الحياة رائعة. . زاخرة بشتى المعاني النبيلة. . .
عبد القادر حسين حميدة(936/51)
العدد 937 - بتاريخ: 18 - 06 - 1951(/)
للأزهر رسالة. . . ولكنه لا يؤديها. . .
للأستاذ سيد قطب
هذا المعهد العظيم العريق، الذي قام حارساً على الثقافة العربية، والثقافة الإسلامية، زهاء ألف عام. . لم ينته دوره بعد، ولم تكمل رسالته. ودوره الذي ينتظره كبير، ورسالته التي تناديه ضخمة.
ولكنه لا يؤديها. . .!
لقد أدى الأزهر دوره في تلك الأجيال المتعاقبة التي انحسر فيها المد الإسلامي، ووقف جريانه؛ وانطوى فيها العالم الإسلامي على نفسه وانزوي عن الركب المندفع إلى الأمام، وراح يجتر ما أنبتته النهضة وما خلفته، فيستهلكه ولا يزيد عليه.
أدى الأزهر دوره في هذه الحقبة فوقف حارساً على ذلك التراث، يؤدي وظيفة الحارس ولا يضيف للتراث شيئاً بذكر، ولم تكن هذه بالمهمة الهينة في ذلك الأوان، ولا بالقليلة القيمة في تاريخ الشعوب.
ولكن هذه الحقبة قد انقضى أمرها - والحمد لله - ودبت اليقظة في العالم الإسلامي من جديد. وتطلع فإذا قرون مضت وقرون؛ وإذا هو متخلف في حقول شتى؛ وإذا هو يريد وصل ما انقطع، ويعتزم أن يتخذ له مكاناً في القافلة، ليس في ذيلها على وجه اليقين.
وتلفت الأزهر فإذا هو حيث هو، والقافلة كلها تسير. وعز على الأزهر أن يقف وحده، فإذا هويهم، ولكنه فيما يبدو منه حتى اليوم، لم يدرك أين مكانه، ولم يعرف لنفسه قدرها. إنه يحاول أن يتجدد، ولكن على طريقة التقليد. إنه يريد أن يلحق، ولكن ليلهث وراء القافلة؟، لا ليأخذ بزمامها ويوجهها وإني لأعيذ الأزهر العظيم أن يكون في ذلك الموقف المهين إن رسالة الأزهر اليوم ليست مجرد العكوف على الحواشي والشروح والتنبيهات والاعتراضات. وليست كذلك المحاكاة لبعض المعاهد والكليات الجامعية باسم التجدد. فكلتاهما هي اللدنية بالقياس إلى رسالة الأزهر الحقيقة.
إن رسالة الأزهر اليوم رسالة إنشائية إبداعية، لا تفسيرية ولا تقليدية. رسالة خلق وبناء وكفاح. رسالة بعث للفكرة الإسلامية وللنهضة الإسلامية.
إن العالم اليوم تسيره نظريات فكرية واجتماعية معينة: الاشتراكية تغلب في الغرب،(937/1)
والشرعية تغلب في الشرق. ونحن في مصر وفي العالم الإسلامي نلهث في اللحاق بإحداهما، يجذبنا البريق من هنا ومن هناك، ولا يجذبنا البريق من هنا ومن هناك، ولا وجهة لنا مقررة، ولا فكرة لنا مستنيرة.
والجامعة والمدرسة، والجماهير والدولة، كلها تلهث.
وكلها تركض، وكلها مبهورة الأنفاس والمشاعر، لاعن خيرة ولاعن بصيرة، ولكنه البهر والتلاشي والدوار!
. . هنا تتعين رسالة الأزهر، رسالته التي يجب أن يدركها، وأن يؤمن بها، وأن يؤديها حق الأداء
إن للإسلام فكرة مستقلة معينة عن الحياة. فكرة كلية تمد فروعها إلى كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية الكثيرة. وإن للإسلام رأياً في الشعور والسلوك، في العبادة والعمل، في الاقتصاد، والاجتماع، في سياسة الحكم وسياسة المال، في سياسة الدولة الخارجية والداخلية. . . في كل باب من أبواب النشاط الإنساني في كل اتجاه.
ورسالة الأزهر الأولى هي أن يعكف على استخلاص هذه الفكرة الكلية، وعلى تنميتها بالبحوث والدراسات في كل حقل من حقول المعرفة، وعلى إعدادها للتطبيق العملي في واقع الحياة اليومية الحاضرة، ثم على الدعوة إليها في النهاية بعد هذه الخطوات.
رسالة الأزهر الأولى أن ينشئ ثقافة إسلامية كاملة مستمدة من الأصول الأولى للإسلام، ومن الحياة النامية المتجددة في كل آن. . هذه الثقافة لن يجدها الأزهر في الحواشي والشروح والتنبيهات والاعتراضات، أو قد يجدها ولكن في حاجة إلى أن تعرض بأسلوب العصر وطريقته، وأن تنمى بالدراسات والإضافات، كي تصبح في متناول الجماهير كلها، وفي حقول الثقافة جميعها.
ليست وظيفة الأزهر أن يقف بين الحين والحين لينادي بتدريس الدين في المدارس على أن يتولى تدريسه والتفتيش عليه رجال الأزهر كما يقول دائماً! وليست وظيفته أن يقف بين الحين والحين ليطالب برد المجالس الحسبية إلى سلطة القضاء الشرعي. وليست وظيفته أن ينادي بالويل والثبور على انحطاط الأخلاق وانتهاك الحرمات.
إنها مجرد صيحات تقليدية صغيرة لا تلقى إلا الهزؤ والزراية من الدولة ومن الناس.(937/2)
أين هي الثقافة الإسلامية التي يريد الأزهر أن تدرس بالمدارس؟ إن كان يعني تلك الحواشي والشروح التي ثمرتها حقب الانطواء والاجترار، فتلك كفيلة أن تذهب بالتلاميذ إلى الكفر أو البلبلة! وإن كان يعني مجرد حفظ سور من القرآن وشئ من الأحكام الفقهية في العبادات، فألوف وألوف يحفظون القرآن كله ويعرفون تلك الأحكام، والإسلام بعد ذلك مهمل لا يعرفه الأكثرون.
إنه ينبغي أن توجد أولا ثقافة إسلامية. ثقافة حقيقية واضحة حية، مطبقة على واقع الحياة الحاضر، تتناول مشكلات الحياة الفردية والاجتماعية القائمة بالبحث، وتوجد لها الحلول، ويومئذ ستزحف هذه الثقافة بذاتها إلى المدارس وإلى المجتمعات، ستزحف بحكم أنها ثقافة حية، لا بحكم أن طائفة تنفع أولا تنتفع بتقريرها في المدارس والمحاكم والدواوين! وتلك هي سنة الحياة.
ما أرى الإسلام في العمل والأجور؟ ما رأيه في توزيع الملكيات والثروات؟ ما رأيه في علاقة الفرد بالدولة، وعلاقة الدولة بالفرد؟ ما رأيه في سياسة الدولة الخارجية وفي المجتمعات الدولية؟ ما رأيه في الجريمة والعقوبة؟ ما رأيه في المعاملات المالية والاقتصادية؟ ما رأيه في طرق الحكم ونظام الإدارة؟ ما رأيه في خلق الكون وناموس الحياة؟
إن للإسلام لرأيا في حقل من هذه الحقول. وحول هذه الآراء يمكن أن تنهض ثقافة متشعبة الفروع، متشابكة الأصول، تواجه فلسفات الشرق وفلسفات الغرب، وتعلن عن وجودها العالمي في هذا المضمار.
والأزهر هو الذي يجب أن يمثل هذه الثقافة، فيكون مهبطها الذي تطلب فيه، وتكون موضوعه الذي يعالجه، وعندئذ يقال: هذه فكرة الإسلام وهذه فكرة الثقافة الغربية.
وعندئذ يمكن أن تنهض الأحزاب لتمثل فكرة في الحياة ونظاماً في المجتمع، ولتضع برامجها في ظل هذه الفكرة أن تلك، وللشعب بعدها أن يختار. يختار على أسس واضحة معروفة له، لا مدسوسة في بطون الكتب الصفر، نائمة منذ ألف عام!
وعندئذ يمكن أن يقوم الحكم على أساس هذه الفكرة، فيحققها في كل حقل من حقول الحياة، لا في تلك الجزئيات التي يطالب بها الأزهر في بعض الأحيان، فتذهب صيحته في(937/3)
الهواء!
وهناك عمل جبار ينتظر الأزهر. . هناك تنمية التشريع الإسلامي الذي وقف ألف عام، ليساير حاجات الحياة كافة ميادين الحياة: في العقوبات والمعاملات، في التجارة والملاحة، في السياسة والحكم، في علاقات الأفراد والجماعات وهناك إعادة كتابة التاريخ - التاريخ الذي نتلقفه من أفواه أجنبية، مصوغا في ظل فلسفات تناقض فكرة الإسلام عن الحياة - لنكتبه من زاوية النظر الإسلامية إلى الحياة وإلى الحوادث، وإلى القوى التي تعمل في ظاهر الكون وباطنه على السواء.
وهناك اللغة العربية وآدابها وتراثها، مدروسة بعقلية إسلامية، مسلطاً عليها ضوء الفكرة الإسلامية. وما من شك في أننا نتلقى هذه الدراسات اليوم من أيدي المستشرقين، متأثرة - لا أقول بكيد المستشرقين للإسلام - ولكن على أقل تقدير البشرية، وتأثيراتهم الخاصة ببيئات لا يتفق جوها مع جو الإسلام.
إن الحياة الإنسانية وعرة، وإن الإنسان ليعيش بمجموعة نفسه وكيانه، فلا يمكن فصل فلسفته الفكرية عن مشاعره، ولا يمكن فصل شعوره عن سلوكه، ولا يمكن فصل يلوكه عما توحي به الثقافات والأحداث.
وحين نريد أن يكون لنا وجود مستقل يشعر به الآخرون يجب أن تكون لنا فكرة خاصة عن الحياة، ونظم مستمدة من هذه الفكرة، وثقافات تنبع منها وتنميها. ولن يكون معنى هذا هو العزلة الفكرية والثقافة؛ ولكن سيكون معناه أن تكون لنا بيئة حية تنتفع بالغذاء والشراب من كل حقل ومن كل ينبوع، وألا نكون جثة ميتة موشاة بالرقع من جميع الألوان والشياط!
ترى يعرف الأزهر واجبه، وينهض برسالته؟
إن أملي كبير لا في الجيل الذي شاخ في الأزهر، ولكن في جيل الشباب.
سيد قطب(937/4)
في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
ضرر رواية الحديث بالمعنى للدين:
لما كانت أحاديث النبي (ص) قد جاء نقلها بالمعنى - كما بينا من قبل - وأنهم قد أباحوا لرواتها أن يزيدوا فيها، ويختصروا منها، وأن يقوموا ويؤخروا في ألفاظها - بله ما صوغوه من قبول الملحون منها - لما كان الأمر قد جرى على ذلك، فقد نشأ منه ولا جرم - وبخاصة بسبب نقل الحديث بالمعنى - ضرر عظيم قال العلامة الجزائري في توجيه النظر.
(بعد البحث والتتبع تبين أن كثيراً ممن روى بالمعنى قد قصر في الأداء، ولذلك قال بعضهم: ينبغي سد باب الرواية بالمعنى لئلا يتسلط من لا يحسن، ممن يظن أنه يحسن، كما وقع لكثير من الرواة قديماً وحديثاً. وقد نشأ عن الرواية بالمعنى ضرر عظيم حتى عد من جملة أسباب اختلاف الأمة. قال بعض المؤلفين في ذلك في مقدمة كتابه: إن الخلاف قد عرض للأمة من ثمانية أوجه، وجميع وجوه الخلاف متولدة منها ومتفرعة عنها (الأول) منها اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة (الثاني) الحقيقة والمجاز (الثالث) الإفراد والتركيب (الرابع) الخصوص والعموم (الخامس) الرواية والنقل (السادس) الاجتهاد فيما لا نص فيه (السابع) الناسخ والمنسوخ (الثامن) الإباحة والتوسيع. وقال في باب الخلاف العرض من جهة الرواية والنقل: هذا الباب لا تتم الفائدة التي قصدناها منه إلا بمعرفة العلل التي تعرض للحديث فتحيل معناه، فربما أوهمت فيه معارضة بعض لبعض وربما ولدت فيه إشكالاً يحوج العلماء إلى طلب التأويل البعيد، فاعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله (ص) وعن أصحابه والتابعين لهم، تعرض له ثماني علل، أولها فساد الإسناد، والثانية من جهة نقل الحديث على معناه دون لفظه، والثالثة من الجهل بالإعراب، والرابعة من جهة التصحيف، والخامسة من جهة إسقاط شئ من الحديث لا يتم المعنى إلا به، والسادسة أن ينقل المحدث الحديث ويغفل السبب الموجب له، أو بسط الأمر الذي جر ذكره، والسابعة أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، والثامنة نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ.(937/5)
وقد أحببنا أن تقصر مما ذكر على أمس مما نحن بصدده (العلة الأولى) وهي فساد الإسناد. وهذه العلة هي أشهر العلل عند الناس حتى أن كثيراً منهم يتوهم أنه إذا صح الإسناد صح الحديث! وليس كذلك فإنه قد يتفق أنيكون رواة الحديث مشهورين بالعدالة معروفين بصحة الدين والأمانة غير مطعون عليهم ولا مستراب بنقلهم ويعرض مع ذلك لأحاديثهم أعراض على وجوه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك. والإسناد يعرض له الفساد من أوجه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك. والإسناد يعرض له الفساد من أوجه: منها الإرسال وعدم الاتصال، ومنها أن يكون بعض رواته صاحب بدعة أو منهما بكذب وقلة ثقة، أو مشهوراً ببله وغفلة، أو يكون متعصباً ثم الصحابة منحرفاً عن بعضهم، فإن كان مشهوراً بالتعصب ثم روى حديثاً في تفصيل من يتعصب له ولم يرد من غير طريقة لزم أن يستراب به، وذلك أن إفراط عصبية الإنسان لمن يتعصب له وشدة محبته يحمله على افتعال الحديث وإن لم يفتعله بدله غير بعض حروفه. ومما يبعث على الإسترابة بنقل الناقل أن يعلم منه حرص على الدنيا وتهافت على الاتصال بالملوك ونيل المكانة والحظوة عندهم. فإن من كان بهذه الصفة لم يؤمن عليه التغير والتبديل والافتعال للحديث والكذب حرصاً على مكسب يحصل عليه.
وقد روى أن قوما من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوا الإسلام قد ظهر وعم، ودوخ وأذل جميع الأمم، ورأوا أنه لا سبيل إلى مناسبته رجعوا إلى الحيلة والمكيدة فأظهروا الإسلام من غير رغبة فيه، وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف. فلما حمد الناس طريقتهم ولدوا الأحاديث والمقالات وفرقوا الناس فرقاً. وإذا كان عمر بن الخطاب يتشدد في الحديث ويتوعد عليه والزمان زمان والصحابة متوافرون، والبدع لم تظهر والناس في القرن الذي أثنى عليه رسول الله (ص)، فما ظنك بالحال في الأزمنة التي ذمها وقد كثرت البدع وقلت الأمانة. . .
(العلة الثانية) وهي نقل الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه، وهذا باب يعظم الغلط فيه جدا، وقد نشأت منه بين الناس شعوب شنيعة، وذاك أن أكثر المحدثين لا يراعون ألفاظ النبي (ص) التي نطق بها، وإنما ينقلون إلى من بعدهم معنى ما أراده بألفاظ أخرى، ولذلك الحديث الواحد في المعنى الواحد يرد بألفاظ شتى ولغات مختلفة يزيد بعض ألفاظها على(937/6)
بعض. . . ووجه الغلط الواقع من هذه الجهة أن الناس يتفاضلون في صورهم وألوانهم وغي ذلك من أمورهم وأحوالهم فربما اتفق أن يسمع الراوي الحديث من النبي (ص) أو من غيره فيصور معناه في نفسه على غير الجهة التي أرادها، وإذا عبر عن ذلك المعنى الذي تصور في نفسه بألفاظ أخر كان قد حدث بخلاف ما سمع من غير قصد منه إلى ذلك، وذلك أن الكلام الواحد قد يحتمل معنيين وثلاثة، وقد تكون فيه اللفظة المشتركة التي تقع على الشيء؛ وضده ففي مثل هذا يجوز أن يذهب النبي (ص) إلى المعنى الواحد، ويذهب الراوي عنه إلى المعنى الآخر، فإذا أدى معنى ما سمع دون لفظه بعينه كان قد روى عنه ضد ما أراده غير عامد، ولو أدى لفظه بعينه لأوشك أن يفهم منه الآخر ما لم يفهم الأول، وقد علم (ص) أن هذا سيعرض بعده فقال محذرا من ذلك (نصر الله امرأ سمع مقالتي وأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) هـ.
وإن أحببت أن تعرف مقدار ما قد تؤدي إليه الرواية بالمعنى فسيكفيك أن تنظر في الحديث الذي انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم قال: حديثاً الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه فقال: صليت خلف النبي (ص) وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها. ثم رواه من رواية الوليد عن الأوزاعي أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنسا يذكر ذلك. وروى مالك في الموطأ عن حميد عن أنس قال: صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وزاد فيه الوليد بن مسلم عن مالك: صليت خلف رسول الله (ص) وقد أعل بعض المحدثين الحديث المذكور وقالوا: إن من رواه باللفظ المذكور قد رواه بالمعنى الذي وقع في نفسه، فإنه فهم من قول أنس: كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، أنهم كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فرواه على ما فهم وأخطأ، لأن مراد أنس بيان. . أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة، وليس مراده بذلك أنهم كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم! فانظر إلى ما أدت إليه الرواية بالمعنى على قول هؤلاء حتى نشأ بذلك من الاختلاف في هذا الأمر المهم ما لا يخفي على ناظره. وقال ابن الصلاح في الأحاديث الواردة في الصحيح المتعلقة بدخول الجنة بمجرد الشهادة مثل حديث: من مات وهو يعلم(937/7)
أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، وحديث: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول حرم الله عليه النار، وحديث لا يشهد أحد أنه لا إله إلا اله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه: يجوز أن يكون ذلك اقتصاراً من بعض الرواة نشأ من تقصيره في الحفظ والضبط لا من رسول الله (ص) بدلالة مجيئه تاماً في رواية غيره، ويجوز أن يكون اختصار من رسول الله فيما خاطب به الكفار عبدة الأوثان الذين كان توحيدهم لله مصحوباً بسائر ما يتوقف عليه الإسلام ومستلزماً له.
واعلم أن الرواية بالمعنى قد أحس بضررها كثير من العلماء وشكوا منها على اختلاف علومهم، غير أن معظم ضررها كان في الحديث والفقه لعظيم أمرهما. وقد نسب لكثير من العلماء الأعلام أقوال بعيدة عن السداد جداً اتخذها كثير من خصومهم ذريعة للطعن فيهم والإزراء بهم ثم تبين بعد البحث الشديد والتتبع أنهم لم يقولوا بها، وإنما نشأت نسبتها إليهم من أقوال رواها الراوي عنهم بالمعنى فقصر في التعبير عما قالوه فكان من ذلك ما كان. .
وقد تعرض العلامة التحرير نجم الدين أحمد حمدان الحراني الحنبلي للضرر الذي نشأ من الرواية بالمعنى في مذهبه فقال في آخر كتاب صفة المفتي في باب جعله لبيان عيوب التأليف وغير ذلك ليعرف المفتي كيف يتصرف في المنقول، ويقف على مراد القائل بما يقول، ليصح نقله للمذهب، وعزوه إلى الإمام أو إلى بعض من إليه ينسب (اعلم أن أعظم المحاذير في التأليف النقلي إهمال نقل الألفاظ بأعيانها والاكتفاء بنقل المعاني مع قصور الناقل عن استيفاء مراد المتكلم الأول بلفظه، وربما كانت بقية الأسباب مفرعة عنه، لأن القطع بحصول مراد المتكلم بكلامه أو الكاتب بكتابته مع ثقة الراوي تتوقف على انتفاء الإضمار والتخصيص والنسخ والتقديم والتأجير والاشتراك والتجوز والتقدير والنقل والعرض العقلي، فكل نقل لا يؤمن معه حصول بعض الأسباب لانقطع بانتفائها نحن ولا الناقل، ولا يظن عدمها ولا قرينة تنفيها ولا نجزم فيه بمراد المتكلم، بل ربما ظنناه أو توهمناه - ولو نقل لفظه بعينه وقرائنه وتاريخه وأسابه انتفي هذا المحذور أو أكثره. .)
ضرر الرواية بالمعنى من الناحية اللغوية والبلاغية:
هذا بعض ما قالوه في ضرر رواية الحديث بالمعنى في الأمور الدينية، أما ضررها من ناحية اللغة والبلاغة فقد بينه نابغة الأدب وحجة العرب مصطفى صادق الرافعي بقوله(937/8)
رحمه الله.
(ليس كل ما يروى على أنه حديث يكون من كلام النبي (ص) بألفاظه وعبارته، بل من الأحاديث ما يروى بالمعنى فتكون ألفاظه أو بعضها لمن أسندت إليه في النقل، ولجواز الرواية بالمعنى لم يستشهد سيبويه وغيره من أئمة المصرين على النحو واللغة بالحديث واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب. ولو كان التدوين شائعاً في الصدر الأول وتيسر لهم أن يدونوا كل ما سمعوه من النبي (ص) بألفاظه وصوغه وبيانه لكان لهذه اللغة شأن غير شأنها؛ (ذلك بأن) ألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي ولكنها جاءت من سبيله، وإن لم يكن لها منه دليل فقد كانت هي من دليله).
المنصورة
للكلام صلة
محمود أبو رية(937/9)
عقيدتي
للفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتر ان ندرسل
ترجمة الأديب عبد الجليل السيد حسن
الفصل الثاني
الحياة السعيدة
لقد كان يوجد في أزمان متباينة وبين شعوب متباينة، تصورات مختلفة عن الحياة السعيدة. وكانت الاختلافات - إلى مدى محدود - تنقاد إلى الحجة، وذلك حينما يختلف الناس بصدد الوسائل التي يبلغون بها غاية مقصودة؛ فالبعض يظن أن السجن نهيج قويم للقضاء على الجريمة، وآخرون يعتقدون أن التربية أقوم منه. ومثل هذا الاختلاف يمكن فضه بدليل كاف، ولكن بعض الاختلافات لا يمكن أن تختبر بمثل هذه الطريقة؛ فإن (تولستوي) يحمل على جميع أنواع الحروب؛ ويعتقد آخرون أن حياة الجندي الذي يخوض المعارك من أجل الحق في غاية النبل. ومن الممكن في هذا المقام وقوع اختلاف جوهري متشابك بالنسبة للغايات عند كل منهم، فهؤلاء الذين يثنون عادة على الجندي يعتبرون عقاب الخاطئين خير في ذاته، وتولستوي لا يوافق على ذلك. وفي مثل هذا المجال لا يحتمل الجدال. ولذلك فلن أستطيع أن أجزم بأن نظرتي عن الحياة السعيدة هي الصواب، ولكن أستطيع فقط أن أطرح نظرتي وآمل أن يوافق عليها كثيرون بقدر المستطاع، أما نظرتي فها هي ذي:
(إن الحياة السعيدة هي الحياة التي يوحيها الحب وتهديها المعرفة).
وكل من المعرفة والحب غير محدود المدى؛ ولذلك فإن أية حياة سعيدة يمكن أن تتخيل حياة أسعد منها. وليس الحب بدون المعرفة أو المعرفة بدون الحب بجالب الحياة السعيدة؛ ففي العصور الوسطى كان رجال الدين حينما يظهر وباء في أحد البلاد، ينصحون السكان بالتجمع في الكنائس والدعاء للنجاء؛ وكانت النتيجة أن تنتشر العدوى بسرعة غريبة بين حشود الضارعين، وكان ذلك مثلا للحب بدون معرفة. أما الحرب الأخيرة (بقصد الحرب العالمية الأولى) فقد قدمت خير مثال للمعرفة بدون حب. وفي كلا الحالين كانت النتيجة انتشار الهلاك على نطاق واسع.(937/10)
ومع أن كلاً من المعرفة والحب ضروري؛ إلا أن الحب بمعنى من المعاني أكثر أهمية لأنه يدفع بالأذكياء من الناس إلى البحث عن المعرفة، حتى يعرفوا كيف يفيدون من يحبون، ولكن إذا لم يكونوا بالأذكياء فإنهم سيقنعون بتصديق ما قيل لهم (منذ الصغر) وقد يرتكبون بذلك ضرراً رغماً عن حبهم الصادق للخير. ولعل الطب هو الذي يقدم خير مثال لما أعني؛ فإن الطبيب القدير أنفع للمريض من أعز أصدقائه. والتقدم في المعرفة الطبية يحسن إلى صحة المجموع أكثر من محب دعا الإنسانية، ومع ذلك فإن عنصر (حب الخير) ضروري حتى في حالة الاكتشافات العلمية التي لا يستفيد منها إلا الأغنياء.
والحب نقطة تندرج تحتها ضروب من المشاعر، وقد استعملتها هادفاً إلى ذلك لأني أقصد شمولها كلها. والحب كعاطفة - وهي تلك التي أتكلم عنها لأن الحب يبدو لي أنه أصلي خالص - تتذبذب بين قطبين: في أولهما، السرور المحض في التأمل، وفي ثانيهما حب الخير المحض والسرور لا يتدخل قط إلا حينما يتعلق الأمر بالموضوعات الجامدة، فلا يمكن أن تشعر بحب الخير إزاء منظر طبيعي أو قطعة موسيقية. ومن المحتمل أن يكون هذا النمط من السرور هو مصدر الفن، وهذا أقوى عند الأطفال منه عند البالغين الذين تعودوا أن يتناولوا الموضوعات بروح المنفعة التي تلعب دوراً هاماً في التأثير على مشاعرنا، تجاه الكائنات البشرية: فبعضهم ساحر فتان، وبعضهم على الضد من ذلك، حينما يعتبرون كموضوعات لتأمل الجمال فقط.
والقطب الآخر من الحب هو الخير المحض. فهناك رجال قد وقفوا حياتهم على مساعدة المجذومين، فالحب الذي يشعرون به في مثل هذه الحالة ليس فيه أي عنصر من السرور الجمالي.
والعاطفة الأبوية يصحبها البشر حين يشرق الطفل، ولكنها تبقى قوية حين يغيب هذا العنصر تماماُ. ومن الشاذ أن نسمي عناية الأم بالطفل المريض (عاطفة حب الخير) لأننا نكون تسعة أعشار مدعين في تعودنا استعمال هذه اللفظة لنصف بها عاطفة باهته. ومع ذلك فمن الصعب أن تجد كلمة لتصف بها الرغبة في سعادة شخص آخر. وحقيقة أن رغبة من هذا النوع قد تبلغ أعظم درجة من الشدة في حالة الشعور الأبوي. وفي الحالات الأخرى تكون أقل شدة. وفي الحقيقة يبدو أنه من المحتمل أن كل عاطفة إيثارية هي(937/11)
نوع من فيضان (غمرة) الشعور الأبوي، أو في بعض الأحيان هي إعلاء له. وللافتقار إلى كلمة أصلح سأسمي هذه العاطفة (عاطفة حب الخير) ولكني أريد أن أوضح أني إنما أتحدث عن عاطفة لا عن قاعدة، وإني لا أدرج تحتها أي شعور بالسمو، كهذا الذي يقترن بالكلمة أحياناً. وكلمة (المشاركة الوجدانية) تعبر عن جزء مما أعنيه، ولكنها تترك عنصر الحيوية الذي أود أن أشمله.
والحب في أكمل مظاهره رباط وثيق بين عنصري السرور وتمني الخير، وسرور الأب بالطفل الجميل المفلح، يتضمن كلا العنصرين. كذلك يفعل الحب الجنسي في أرقى صوره؛ ولكن في حالة الحب الجنسي لن توجد عاطفة حب الخير إلا حينما توجد ملكية مضمونة، وإلا ستعصف به الغيرة، في حين إلا حين أنها ربما تزيد السرور في حالة التأمل، والسرور بدون تمني الخير قد يكون قاسياً، وتمني الخير بدون السرور يصبح بارداً وقليل السمو. والشخص الذي يرغب أو يود أن يكون محبوباً، يرغب كذلك أن يكون موضوعاً أو يود أن يكون محبوباً، يرغب كذلك أن يكون موضوعاً لحب يشتمل كلا العنصرين، ما عدا حالات الضعف القصوى، كما في الطفولة والمرض الشديد، ففي هذه الحالات قد يكون (عاطفة حب الخير) هو كل ما يرغب فيه، وعلى العكس من ذلك في حالات القوة القصوى يستحب الإعجاب أكثر من حب الخير، وهذه هي حالة الاحتفال بأصحاب الحول والطول، والغانيات المشهورات؛ ونحن نرغب فقط في تمنيات الغير الطيبة، حينما نشعر أنا في حاجة إلى مساعدتهم أو في خطر من أذاهم، وعلى الأقل يبدو أن ذلك هو المنطق البيولوجي للموقف، ولكنه ليس صادقاً كل الصدق بالنسبة للحياة، فنحن ننشد الود لكي نهرب من الشعور بالوحدة، ولنكون - كما نقول - (مفهومين). وهذا هو أهمية المشاركة الوجدانية، وليس فقط عاطفة حب الخير؛ فالشخص الذي يرضينا وده، لا يجب أن يتمنى لنا الخير فقط، بل يجب أن يعرف في أي شئ تكمن سعادتنا، ولكن هذا ينتمي إلى العنصر الآخر من الحياة السعيدة، وأعني به عنصر المعرفة.
في عالم كامل، سيكون كل كائن حساس، موضوع حب عميق للآخر متآلف من السرور وعاطفة حب الخير والفهم. كل ذلك مختلط بصورة معقدة، ولا يعني ذلك أنه يجب علينا - في هذا العالم الواقعي - أن نجهد في الحصول على مثل هذه الاحساسات تجاه كل الكائنات(937/12)
الحساسة التي نصطدم بها؛ فمنها كثيرون لا نستطيع أن نحس نحوهم شيئاً من السرور، إذ يتقزز منهم بطبيعتهم. وإذا أرغمنا أنفسنا بمحاولة رؤية أي جمال، فإنا نبلد بذلك احساساتنا نحو ما نجده جميلاً حقيقة. وقد لا نعني بذلك الكائنات البشرية فهناك البراغيث والقمل والبق، فإنه لحتم علينا أن نكره أنفسنا بشدة كالبحارة القدماء قبل أن نشعر بالسرور من تأمل هذه المخلوقات. وبعض القديسين - وهذا ثابت فعلاً - قد دعاها (لآلئ الله) ولكن ما كان يسر به هؤلاء الرجال هو فرصة إظهار قداستهم فقط.
من السهل اتساع دائرة حب الخير ولكن إلى حدود معينة. فإذا أراد رجل أن يتزوج سيدة فلا نظن أن من الخير له أن يتراجع إذا وجد شخصاً آخر يريد زواجها، بل علينا أن ننظر إلى ذلك كميدان حر للمنافسة، ومع ذلك فإن مشاعره تجاه أي منافس لا يمكن أن تكون خيرة جميعاً. وأحسب أننا هنا على الأرض عند أي وصف للحياة السعيدة يجب أن نضع نصب أعيننا بعض أسس الحياة الحيوانية والغريزة الحيوانية؛ فبدون هذا تصبح الحياة فاقدة الروح غير ذات أهمية، ويجب أن تكون المدينة شيئاً يضاف إلى هذا لا شيئاً يستعاض به عنها، فالقديس الزاهد والحكيم المتزن يفشلان على هذا الاعتبار في كونهم كائنات بشرية كاملة. وعدد صغير منهم قد يثقف ويزين مجتمعاً، ولكن عالماً مؤلفاً منهم قد يموت من الانحلال.
وهذه الاعتبارات تؤدي إلى توكيد أن عنصر السرور أحد العناصر الجوهرية في أنواع الحب. والسرور - في هذا العالم الواقعي - أمر اختياري لا مفر منه، ويمنعنا من أن يكون عندنا نفس المشاعر تجاه الجنس البشري كله وحينما ينجم التعارض بين السرور وعاطفة حب الخير يجب أن يفضا باتفاق متبادل، لا بالتسليم التام من كليهما، فللغريزة حقوقها؛ وإذا شددنا عليها النكير أكثر من حد معلوم، فإنها تثأر لنفسها بطرق ملتوية، ومن ثم ينبغي أن يكون مدى إمكانيات الإنسان حاضرة في أذهاننا حينما تهدف إلى حياة سعيدة. وها نحن أولاء قد رجعنا ثانية إلى ضرورة المعرفة.
وحينما أتكلم عن المعرفة كأحد العناصر الجوهرية في الحياة السعيدة، لا أفكر مطلقاً في المعرفة الأخلاقية، بل في المعرفة العلمية، والمعرفة ذات الحقائق الدقيقة. ولست أحسب أنه يوجد - وأنا أتكلم على سبيل الحصر - شئ اسمه المعرفة الأخلاقية. فإذا أردنا أن(937/13)
نصيب هدفاً معينا، فإن المعرفة قد ترينا الوسائل. وهذه المعرفة قد تمر مع شئ من التساهل على أنها معرفة أخلاقية؛ ولكني لا أظن أنا نستطيع أن نقرر أي نوع من السلوك هو حق أو باطل إلا بالإشارة إلى نتائجه المحتملة. وتحديد غاية لبلوغها مسألة، العلم هو الذي يكتشف لنا كيف نبلغها. وكل الأسس الخلقية يجب أن تختبر بالتحقيق من أنها تجنح إلى تحقيق الغايات التي نرغبها. وأقول الغايات التي نرغبها لا الغايات التي (ينبغي) أن نرغبها. لأن (ما ينبغي) أن نرغبه ليس شيئاً أكثر مما يريد شخص آخر أن نرغبه. وعادة هو ما ترغب السلطات أن تريده - كالوالدين والأساتذة ورجال البوليس والقضاة - وإذا قلت لي: (يجب أن نفعل كيت وكيت) فإن القوة الباعثة على قولك تكمن في رغبتي في موافقتك لما قد يحتمل من الجزاء أو العقاب المرتبط بموافقتك أو مخالفتك، وما دام كل سلوك يصدر عن الرغبة، فمن الواضح أن الأفكار الأخلاقية ليست لها من أهمية إلا بمقدار ما تؤثر به على الرغبة. وهم يفعلون ذلك رغبة في الموافقة وخوفاً من المخالفة، لأن هذه قوى اجتماعية شديدة: وسنحاول بالطبع أن نكسبها إلى جانبنا إذا رغبنا أن نحقق أي غرض اجتماعي. وحين أقول إن خلقية السلوك يجب أن يحكم عليها بنتائجها المحتملة، أعني أني أرغب أن أرى الموافقة تطلق على السلوك المحتمل أن يحقق أغراضاً اجتماعية، والمخالفة تطلق على السلوك المضاد. وهذا لا يفعل في الوقت الراهن، لأن هناك سننا تقليدية معينة، يقاس بمقتضاها الموافق والمخالف والملائم والمنافر، دون نظر إلى النتائج. ولكن هذا موضوع سنتناوله في الفصل التالي.
إن الزيادة في الأخلاق النظرية لواضحة في حالات بسيطة. فلنفرض مثلاً أن طفلك مريض، فالحب يجعلك تريد أن تشفيه، ولكن العلم هو الذي يخبرك كيف تعمل ذلك. وليس هناك من مرحلة وسطى في النظرية الأخلاقية، حيث يتضح أن طفلك كان يحسن أن يشفى، وفعلك يصدر مباشرة عن الرغبة في الوصول إلى هدف، وأيضاً في نفس الوقت مع معرفة الوسائل إليه. وهذا صادق تماماً في كل الأفعال سواء أكانت خيراً أم شراً. والغايات تتباين، والمعرفة أكثر سداداً وصلاحية في بعض الحالات منها في الأخرى، ولكن ليس هناك من طريق تتصور لجعل الناس يؤدون مالا يرغبون في أدائه، ولكن الشيء الممكن هو أن تغير رغباتهم عن طريق نظام الجزاء والعقاب اللذين من بينهما الموافقة(937/14)
والمخالفة الاجتماعية، لا تقل قوة. ومن ثم فإن المسألة للمشرع الأخلاقي هي كيف يعد نظام الجزاء والعقاب هذا حتى يصون أقصى حد ترغبه السلطة المشرعة؟ فإذا قلت أنا: إن السلطة المشرعة نياتها سيئة، فإني أعني فقط أن رغباتها تتعارض مع رغبات قسم من المجتمع أنتمي إليه، لأنه ليس هناك من مستوى خلقي خارج الرغبات البشرية.
وهكذا فإن ما يميز الأخلاق عن العلم، ليس هو أي نوع خاص من المعرفة، بل هو الرغبة. والمعرفة المحتاج إليها في الأخلاق، هي بالضبط مثل أي معرفة أخرى. والشيء الغريب هو أن هناك غايات يرغب فيها. والسلوك الحق هو الذي يفضي إليها، وبالطبع إذا كان تعريف السلوك الحق يثير رغبات واسعة متعددة، فإن الغايات يجب أن تكون كما يريد أقسام كبيرة من الجنس البشري. فإذا عرفت السلوك الحق بأنه هو الذي يزيد دخلي الخاص، فإن القراء لن يوافقوا، وإن القوة كلها في أية حجة أخلاقية لتكمن في جزئها العلمي، أعني في البرهان على أن نوعاً من السلوك أكثر من سلوك آخر وسيلة لغاية ترغب بشدة. ولكني أميز بين الحجة الأخلاقية والتربية الأخلاقية، فالأخيرة تتوقف على تقوية رغبات معينة وإضعاف أخرى، وهذه عملية مختلفة تماماً ستناقش وحدها في مكان آخر.
ونستطيع الآن أن نشرح بدقة أكثر معنى تعريف الحياة السعيدة. الذي بدئ به هذا الفصل فحين قلت إن الحياة السعيدة تتألف من الحب الذي إليه المعرفة، كانت الرغبة التي دفعتني هي الرغبة في أن ترى الآخرين يعيشون نفس الحياة. والإقناع المنطقي في هذا القول هو أنه في مجتمع يعيش فيه الناس على هذه الصورة، سترضي رغبات أكثر من مجتمع آخر، فيه حب أقل ومعرفة أقل، وأنا لا أعني أن مثل هذه الحياة (فاضلة) أو عكسها (رذيلة) لأن هذه تصورات يبدو لي أن ليس فيها تأييد علمي.
عبد الجليل السيد حسن(937/15)
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
ديمقراطية:
لعل السؤال التالي يجول بخاطرك أيها القارئ الكريم: من يحكم إنجلترا؟ أهو مليكها أم رئيس الوزراء أم مجلس العموم أم مجلس اللوردات؟ وأنا أجيبك عن هذا السؤال فأقول: إن مجلس العموم هو الذي يحكم إنجلترا؛ ذلك أن مجلس العموم يمثل الشعب البريطاني أصدق تمثيل، ورئيس وزرائها لا يستطيع أن يبقي في مركزه يوماً واحداً إذا قبض هذا المجلس عنه ثقته، وإذن فمصدر السلطات جميعا هو الشعب البريطاني، وأما ملك إنجلترا فإنه حسب التقاليد يملك ولا يحكم، وأما مجلس اللوردات فهو مجلس تقليدي ليس له من الأمر شئ.
وأجب أن أضرب للقارئ مثلاً عن الديمقراطية في بريطانيا وهو مثل قريب جداً إلى الأذهان، ولكنه يبين لنا إلى أي حد يعتبر مجلس العموم ممثلاً للشعب البريطاني، ويوضح أيضاً مدى الحرية التي يختار بها هذا الشعب نوابه وممثليه. إننا جميعاً نذكر أن مستر تشرشل زعيم حزب المحافظين كان رئيساً للوزارة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وإننا نذكر أيضاً ذلك المجهود الجبار الذي قام به حتى أنقذ بريطانيا من أشد أزمة مرت بها في تاريخها، ومع هذا فعقب انتهاء الحرب 1945 أجريت الانتخابات لمجلس العموم وأدار دقتها مستر تشرشل، وسقط مرشحوه أي مرشحو المحافظين ونجح مرشحو حزب العمال وأحرزوا الأغلبية في مجلس العموم، فانتقلت الوزارة من يد تشرشل المكافح العظيم والمناضل الكبير إلى يد المستر تشرشل في نزاهة الانتخابات طبعاً، ولم يرم الشعب البريطاني بالجحود وبنكر ان الجميل، وسلم بالأمر الواقع مطاعاً مختاراً!
ومثال آخر أحب أن أسوقه للقرئ الكريم. دعي مستر تشرشل لحضور مؤتمر بوتسدام في صيف 1945 باعتباره مندوباً عن بريطانيا - وكان هذا المؤتمر بمفرده، بل اصطحب معه المستر كلمنت أنلي زعيم المعارضة ورئيس حزب العمال. لماذا؟ لأن إنجلترا كانت مقبلة على انتخابات، وربما جاءت الانتخابات بما لم يشته مستر تشرشل - وهذا ما حدث فعلاً - وانتقلت الوزارة إلى العمال، وإذن فيجب أن يكون زعيم العمال على علم بما يجري في(937/16)
المؤتمرات الدولية.
وهكذا نرى أن بريطانيا تعتبر بحق زعيمة الدول الديمقراطية. إن جميع أفراد الشعب البريطاني البالغين رجالاً ونساء ينتخبون ممثليهم أو نوابهم إلى مجلس العموم في حرية تامة، وهؤلاء النواب هم الذين يقيمون الوزراء وبدون تأييدهم تسقط الوزارة، وإذن فالشعب البريطاني ممثلاً في نوابه هو الذي يحكم بريطانيا.
وتعتبر بريطانيا أعرق الأمم الدستورية قامت لأول مرة في التاريخ في بلاد اليونان وكان ذلك منذ آلاف السنين، ومازالت الأنظمة الديمقراطية اليونانية تعتبر خير مثال للديمقراطية. وكذلك أحب أن ألفت النظر إلى أن النظام الحكومي الذي قام في الإسلام منذ قيام الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى نهاية عصر الخلفاء الراشدين كان نظاماً ديمقراطياً سليماً، فقد كان الخلفاء الراشدين ينتخبون كما ينتخب رؤساء الجمهوريات في عصرنا الحالي تقريباً، وكانت سلطتهم مقيدة بقيدها القرآن الكريم وهو الدستور المسلمين وخوف الخلفاء من المولى سبحانه وتعالى. استمع إلى قول عمر بن الخطاب وقد طلب إليه أن يرشح ابنه عبد الله ضمن المرشحين للخلافة بعده (يكفي بني الخطاب أن يحاسب منهم عمر.) وإلى قوله (والله لو عثرت بغلة بأرض العراق لسئل عمر عنها يوم القيامة. لم يعبد لها الطريق؟) وهكذا كان الوازع الديني أكبر مقيد لسلطة الخليفة. كانوا يستشيرون الصحابة في مهام الأمور بل إن النبي صلوات الله عليه كان ذلك؛ وقد خاطبه المولى سبحانه وتعالى قائلاً (وشاورهم في الأمر).
ولعل مما يعطينا فكرة عن الديمقراطية الإسلامية أن نقرأ خطبة أبي بكر عقب انتخابه خليفة (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن كنت على حق فأعينوني، وإن كنت على باطل فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.)
وأجب أن أذكر أيضاً أن المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الحديثة وتفخر بها الحضارة القائمة قد جاء بها الإسلام الحنيف، فقد قرر الإسلام الحرية والإخاء والمساواة بين الناس جميعاً لا فرق في ذلك بين عربي أو حبشي. (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. (إنما المؤمنون أخوة) فهل يعترف علماء الغرب بهذه الحقائق(937/17)
الواضحة وهل يرد الفضل لأهله؟
على أننا حين نعرض لتاريخ الديمقراطية الحديث لابد من أن نعترف بأن بريطانيا تعتبر أعرق الأمم الديمقراطية الحديثة، فقد سعى الشعب البريطاني إلى تقييد سلطة ملوكه وحكامه منذ بدء العصور الوسطى، فقد كان الأشراف يحكمون الولايات والمقاطعات وكانت هناك مجالس نيابية بدائية في القرى والمقاطعات وقد تطورت هذه المجالس ونشأ منها مجلس بمثل الشعب البريطاني ويعرف بمجلس العقلاء
وقد حدث بعد هذا أن دخلت بريطانيا في الديانة المسيحية الكاثوليكية وسرعان ما قام نضال بين الملوك والكنيسة حول الاستئثار بالسلطة مما اضطر الملوك إلى الاستعانة بالأشراف لمقاومة نفوذ الكنيسة وبدأ بذلك قيام العهد الإقطاعي في إنجلترا.
الفتح النورماندي
في عام 1066 غزا وليم الفاتح دوق نرمنديا في فرنسا إنجلترا وهزم ملكها (هارولد) في موقعة (هستنجس) وأصبح ملكاً لإنجلترا. وقد أراد وليم أن يقضي على سلطة الأشراف فجمع الفلاحين وحلفوا له يمين الولاء والطاعة ولكن الملوك الذين جاءوا بعده كانوا ضعافاً. وكان الملك جون (يوحنا) ملكاً ضعيفاً ميالاً إلى الظلم والغدر فقد أملاكه في فرنسا فثار عليه الشعب وخاصة الأشراف ورجال الدين وأرغموه على أن يوقع (البعد الأعظم) 1215 وأهم الحقوق التي اكتسبها الشعب بمقتضى هذا العهد:
1: لا يجوز للملك أن يقبض على شخص أو أن يسجنه أو ينفيه أو يصادر أملاكه أو يحرمه من حقوقه إلا إذا حوكم أمام محكمة مؤلفة من نظرائه. وفي هذا تحديد لسلطة الملك وبدء قيام نظام المحلفين.
2: لا يجوز للملك فرض ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان وفي هذا تحديد لسلطة الملك التشريعية.
3: ليس الملك أن يعبث بالعدالة فينكر حق فرد أو يؤخره على أن نصوص العهد الأعظم لم تكن واضحة حلية ولذلك اختلف الملك والشعب في تفسرها وحاول كل منهم أن يفسرها لمصلحته هذه الوثيقة تعتبر أساس حرية الشعب البريطاني
وجدير بي أن أذكر بهذه المناسبة أن الدستور البريطاني دستور غير مكتوب، وأنهعبارة(937/18)
عن حقوق اكتسبها الشعب ولا يمكن للملك أن يرجع فيها بتاتاً. ومن الطريف أن أذكر أن ملك إنجلترا كان له حق رئاسة مجلس الوزراء ثم حدث أن تولى عرش إنجلترا فحضر بعض جلسات المجلس، ولكنه لم يكن يفهم شيئاً مما يدور في المجلس، وبذلك امتنع عن حضور جلسات المجلس، ومنذ ذلك التاريخ فقد ملك إنجلترا حقه في رئاسة جلسات مجلس الوزراء وأعود إلى مواصلة البحث فأقول إنه منذ عام 1215 والشعب البريطاني دائب على كسب حقوقه، وكلما حاول أحد الملوك الخروج على نصوص العهد الأعظم ثار الشعب في وجهه. وقد أراد هنري الثالث فرض ضرائب جديدة فثار الشعب. وفي 1265 اضطر هذا الملك إلى دعوة برلمان يضم نوايا من الأشراف ورجال الدين وفارسين عن كل مقاطعة، وبذلك أصبح البرلمان ممثلاً لجميع عناصر الأمة وقد وافق الملك على أنه لابد من دعوة البرلمان للاجتماع ثلاث مرات كل عام على الأقل.
وفي عهد إدوارد الأول انقسم البرلمان إلى مجلسين: مجلس عموم ومجلس لوردات. وفي عام 1455 قام نزاع بين أسرة لنكستر وأسرة يورك وقامت الحروب المعروفة باسم حرب اللوردتين وانتهى الأمر بفوز أسرة تيودور (لنكستر) بعرش إنجلترا 1485.
عهد أسرة نيودور
امتاز عهد هذه الأسرة بتوقف النزاع بين الملوك والبرلمان، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب؛ أهمها رغبة الشعب في السلم بعد هذه الحروب الطويلة، وانصرافه إلى طلب العلم والمال وتكون مستعمرات فيها وراء البحار، ولمعرفة ملوك التيودور للخلق البريطاني ولأنهم لم ينكروا حق البرلمان، فكان البرلمان يعمل وفق رغباتهم وبذلك انقضى عهدهم في سلام، وأهم تغيير حدث في عهدهم هو فصل كنيسة إنجلترا عن البابوية في روما
على أن أعضاء البرلمان في نهاية عهد هذه الأسرة أخذوا يناقشون الملكة إليصابات ويجادلونها وقد اضطرت الملكة أن ترد على أحدهم قائلة: (أنكم لم تأتوا إلى هنا لتناقشوا ولكن لتوافقوا).
على أن هذه الملكة قد ماتت دون وارث 1603 وانتقل عرش إنجلترا إلى جميس السادس ملك اسكتلندا إنجلترا واسكتلندا تحت تاج واحد، وبدأ عهد أسرة استورت الذي امتاز(937/19)
باحتدام النضال بين الملك والبرلمان
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بنود الثانوية(937/20)
ما فسد الناس ولكن اطرد القياس
للأستاذ علي العماري
(إن واجب الإنصاف يضطرني أن أبرئ الحكومة القائمة من
تهمة الخروج على العصبية الحزبية. . . لأنها لا تزال تعتقد
أن من لم يكن لها فهو عليها، وأن مر لم يكن وفدياً فليس
مصرياً).
(الزيات بك)
نظرت في أهل دهرنا، وحال عصرنا، فوجدت الموازين مختلفة، والمقاييس مضطربة: موازين الرجال والأعمال، ومقاييس الأخلاق والفضائل. لا تكاد تجد رجلاً في موضعه الطبيعي؛ فكثيراً ما ترى إنساناً في مكانة رفيعة، ومركز محسوس، فإذا أحببت أن تعرف كيف وصل، زكمت أنفك روائح كريهة من أخلاقه وسلوكه. وكثيراً ما تجد رجلا يشكو زمانه، ويبكي حظه، فإذا أحببت أن تعرف السر الذي قعد به، والسبب الذي من أجله تخلف عن ركب أقرانه، طالعتك صفحة رائعة من سلوكه وأخلاقه وعلمه وفضله.
ولا شك أن قيمة الأدب هانت، وهانت قيمة العلم، ونزلت قيم كثير من الأشياء، حتى الأخلاق لم تعد شيئاً مذكوراً في موازين كثير من الأفراد والجماعات والأمم، وبقي شئ واحد له قيمته، وله خطره، وله قدره في وزن الرجال والأعمال، ذلك هو (المنفعة). المنفعة هي الوسيلة، وهي الغاية وهي الدافع لكل ذي عمل إلى عمله، ولكل ذي يد إلى أن يتخذ يده عند من يظن أنه سيردها إليه أضعافاً مضاعفة. ولا أقصد - بطبيعة الحال - المنفعة العامة فتلك أسطورة من الأساطير وخرافة من الخرافات، أشبه بالغول والعنقاء والخل الوفي، وإنما أقصد المنفعة الشخصية، تلك التي تطبع الأخلاق والأعمال والسلوك بطابعها، فلا تكاد العين الفاحصة تخطئ من ذلك شيئاً، فلا بأس أن يبيع الأخ أخاه، وأن يتنكر الصديق لصديقة، وأن يطعن البرئ، ويكرم الميئ، لابأس بشيء من ذلك مادام قانون المنفعة هو القانون، ولا بأس أن نجامل في الحق، وأن ننتصر للباطل، وأن نرفع الوضيع،(937/21)
ونضع الرفيع. . لا بأس!
هذا كله ساد ويسود، والنفوس خاضعة له مستسلمة، فأينما وجهت نظرك لا تجد براً ولا فاجراً، عالماً ولا جاهلاً، كبيراً ولا صغيراً، استطاع أن يجعل الأخلاق والكفاءة والإخلاص في العمل هي المقياس.
كن أنحى من سيبويه، وأفقه من الشافعي، وأنفذ بصراً من ابن سينا، وأنور بصيرة من الحسن البصري، وكن بجانب ذلك صريحاً في الحق، لا تخشى في الله لوم لائم، ولا تداهن ولا تتملق ثم من أنك ستموت جرعاً.
وكن على ما شئت من خلق شئ، وخذ حضك وافراً من الجهل، وقسطك وافياً من الغباء، ولكن صانع الرؤساء وتملق الكبراء، وكن أداة طيعة في يد من يريد، ثم ثق أنك ستحيى حياة طيبة، وستنعم بموفور النعم، ورغداً لعيش، وسترأس أقرانك، وتغلب نظراءك، وتصل إلى أرفع المناصب.
رأيت كل هذا، وسمعت بكثير مثله، لا يخلو منه بلد من البلدان، ولا يتورع عنه رئيس من الرؤساء. ثم رجعت إلى بطون التاريخ أتعرف أحوال تلك الأزمان، وأبحث في سلوك الماضين، وحظوظهم، فرأيت عالم العربية الأكبر الخليل بن أحمد مخترع علم أوزان الشعر، وواضع أصول فن الموسيقى، ومبتكر أول طريقة لوضع المعاجم العربية، وصاحب الفضل الأكبر على النحو العربي، رأيته يسكن في خص، ويعيش على كسر الخبز اليابسة الجافة، لأنه لم يتصل بأمير أو وزير، ثم رأيت الناس يأكلون بعلمه لباب البر بجني النحل!
وخطوت إلى الأمام خطوة فإذا أديب العربية الأكبر أبو عثمان الجاحظ يشكو مما نشكو منه، ويكتب رسالة لأحد أصدقائه، ينعى فيها على دهره، ويألم لقلة من يثق به من الناس لاستحالة الزمان، وفساد الأيام، ويبكي على الماضي حين كان الصديق والحياء، وإيثار الحق مطية السلامة. وسبب النعمة، ولكن الحال تتحول، والدولة تتبدل، فيصبح (الحياء متصلاً بالحرمان، والصدق آفة على المال، وتصير الحظوة البالغة، والنعمة السابفة، في المثالب الفاضحة، والكذب المبرح، والجهالة المفرطة، واليقين الضعيف) وكل من كانت هذه صفاته يستكمل سروره، وتعتدل أموره، ويفوز بالسهم الأغلب، والحظ الأوفر والقدر(937/22)
الرفيع، والأمر النافذ، ثم يقول: (ثم نظرنا في الوفاء والأمانة، والنبل والبلاغة، وحسن المذهب، وكمال المروءة، وسعة الصدر، وقلة الغضب، وكرم النفس، والفائق في سعة علمه، والغلب لهواه، فوجدنا (فلان بن فلان) ثم وجدنا الزمان لم ينصفه من حقه، ووجدنا فضائله القائمة له قاعدة به، فهذا دليل أن الفضل قد مضى زمانه، وعفت آثاره، ووجدنا العقل بشقي به قرينه، كما أن الجهل يحظى به خدينه).
فإذا رجعنا إلى الشعر وجدنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يقول
يا محنة الدهر كفي ... إن لم تكفي فخفي
ما آن أن ترحمينا ... من طوال هذا التشفي
فلا علومي تجدي ... ولا صناعة كفي
ثور ينال الثريا ... وعالم متخف
وتمضي خطوات في الزمن فنجد الطغرائي يقول
وأعظم ما بي أنني بفضائلي ... جرمت ومالي غيرهن ذرائع
وخطوة أخرى فإذا القاضي الفاضل يقول
ما ضر جهل الجاه ... لين ولا انتفعت
وثالثة فإذا ابن دانيال يقول
كل من كان فاضلاً كان مثلي ... فاضلاً عند قسمة الأرزاق
فإذا جئنا إلى العصر الحديث وجدنا بعض شعراء الشباب يقول
عبث هذه الحياة وفوضى ... ما نراه في هذه الأكوان
ولو ان الحياة تنظم شعراً ... جعلت شعرها بلا أوزان
ولو ان الحياة ترسل نثراً ... جعلت نثرها بغير معان
بعد هذه الرحلة الطويلة ذكرت رسالة بديع الزمان الهمداني التي يقول فيها: (الشيخ الإمام يقول: فسد الزمان، أفلا يقول متى كان صالحاً؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها، أم في المدة المروانية وفي أخبارها: لا تكسع السول بأغبارها، إنك لاتدري لمن الفائج، أم السنين الحربية
والسيف يغمد في الطلي ... والرمح يركز في الكلى(937/23)
ومبيت حجر بالفلا ... والحرثان وكربلا
أم الأيام العدوية، فنقول: هل بعد البزول إلا النزول؟ أم الأيام التيمية ونقول: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام، أم على عهد الرسالة، وقيل اسكني يا رحالة: فقد ذهبت الأمانة، أم في الجاهلية والبيد يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الأهل أهل والبلاد بلاد
أم قبل ذلك وقد قال آدم عليه سلام
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
أم قبل ذلك والملائكة تقول (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)؟
هذه هي الحياة.
ولكن أليس في الناس من ينظر إلى الأمام البعيد، أليس فيهم من يثق بنفسه وإيمانه، ويؤمن أن كل ما في أيدي الناس من مال وجاه إنما هو باطل وزور، وأنه مهما عظم لا يعدل حبة خردل تنتقض من كرامته؟
أليس في الناس من إذا أقدم على عمل تلمس فيه حكم الضمير والخلق، وعرضه على ميزان الفضيلة والحق؟
أليس في الناس من يقنع بالقليل، ويرضى بالكفاف، ويحتفظ بما لنفسه من كرامة، ويضمن بها أن تكون مستعبدة للمنافع، خاضعة لذل العيش؟
بلى؛ إن في الناس من هؤلاء أعزة، ولكنهم - غالباً - يعيشون على هامش الحياة، فلا يلبث أحدهم أن ينطق كلمة الحق حتى تمسك الزبانية بتلابيبه، وتهدد المكايد مركزه، ويعيش في هم ونكد - على ما يرى الناس - ولكنه يعيش من رضا ضميره، وصفاء نفسه، وسمو قلبه، في جنة وارفة الظلال، وسعادة لا تعد لها سعادة.
علي العماري(937/24)
حول مستقبل الأزهر
للأستاذ كامل السيد شاهين
المسئولون في الأزهر قلما يمدون أبصارهم لترى مستقبله القريب أو البعيد، فلهم الساعة التي هم فيها، فإذا ما عبرت، استقبلوا ما يليها لا ممتدين ولاعابثين، ولكن ممدودي الأبدي مرتمي الصدور. وكأنهم مسئولون - حسب - عن الميزانية زادت أم نقصت، وعن العلاوات أطلقت أم حبست، وعن الترقيات أصيب بها موضعها أم جرت مع أهواء العصبية والحزبية والقرابة. فهذا من حسابهم، يدركونه مرة، ويكبون دونه مرات؛ ويرعون فيه الذمة والأمانة تارة، وينساقون وراء الآراب والشهوات تارات. فيحقرون الذمم ويخونون الأمانة، ولكنهم يرون هذه الشؤون - على أي حال - مما يدخل في حسابهم. فإما مستقبل الأزهر فما عليهم من حسابه من شئ!
أقول هذا بمناسبة ما تناوله مجلس التعليم الأعلى الذي مثلت فيه الطوائف ما عدا الأزهر الشريف، وبحث فيه أمر مراحل التعليم، وتوحيد مرحلته الأولى ثم تشعيبها أفناناً وطرائف، والأزهر يغط في نومته لا يدري أينبت الطريق إليه أم يتصل، أيعوج أم يستقيم. وليس هذا من عيب الوزارة التي أغفلته، ولكن عيب هؤلاء المسئولين فيه الذين استرسلوا في غفلتهم فلم تنبئهم الجرائد، ولم توقظهم الإذاعات، ولم يفتح أذهانهم هذا اللغط اللاغط الذي يتناثر من أفواه المتكلمين في الطرق والمقاهي والمجالس العامة أو الخاصة.
من المسئول عن هذه الغفلة من رجال الأزهر. شيخة؟ وماذا يمنع أن نقول نعم جريئة قوية. وما نحسب أن المرض الذي غشيه مانع من التفكير والتدبير. أم وكيله؟ وماذا يمنع أن نقول نعم جريئة قوية. وما نحسب أن شؤون الأزهر التي جمعها في حجره يعرفها في تؤدة وعناء وولاء، ويقوم عليها في الإصباح والإمساء ما نعته من التفكير في مستقبله، وتأمين الطريق إليه، فإن كان كذلك فقد استهلك وكيل الأزهر وقته في الجزئيات التي كان يستطيع أن يملأ بها الأيدي الفارغة التي أصابها أكال من قلة العمل. فهذا مدير الأزهر، وهذا سكرتيره العام، لا يكادان يجدان عملاً، وهما من قبل ومن بعد يقضيان صدر نهارهما في الإدارة العامة، مجالسة ومؤانسة وترحيباً.
وكيل الأزهر، يضع عائشة على أم الخير، وقد كان في أم الخير له شاغل أي شاغل،(937/25)
ولكنه يقاوم ويقوى ويعمل على رهق. . ومثل هذا جدير بأن يزل وأن يكثر منه هذا الزلل. وميزان العمل جدير بأن يختل، وأن يطول به هذا الاختلاف. . وحقيق بوكيل الأزهر مادام يدير دولاب العمل وحده أن ينصرف عن النظر في مستقبل الأزهر، إلى النظر في التوافه والسفاسف التي تملأ الوقت ولا تؤتي الثمر.
نظر مجلس التعليم في أمر المرحلة الأولى فجعلها نوعاً واحداً قائماً على دراسة ست سنوات سماها التعليم الابتدائي، منها اثنتان لرياض الأطفال. وأباح - بقرار من الوزير - إنشاء فرق لتحفيظ القرآن الكريم تمهيداً لمن شاء أن يتم دراسته في المعاهد الدينية، ثم قسم التعليم الثانوي إلى علمي وتجاري وزراعي وصناعي، وجعلها كلها إمداداً للكليات في الجامعات.
فما موقف الأزهر من هذا التنظيم؟ أيبقى على القسم الابتدائي فيه، وكيف ينسق هذا القسم مع الابتدائي العام، أيكون بعده، فيقضي التلميذ ست سنوات في الابتدائي العام ثم يتقدم للقسم الابتدائي في الأزهر؟. إننا إذا اتبعنا هذا فسوف نجد ابتدائي الأزهر خاوياً لا ينظر إليه أحد، لأن أحداً لا يضيع على نفسه ست سنوات كاملات لا لشيء إلا ليدرس في الأزهر. وما الدارسة في الأزهر بممتازة شيئاً، ولا بمعادلة في نظر الكثرة من الأمة للدراسة في المدارس أيا كان شكلها. إذا فنحن مضطرون إلى إلغاء هذا القسم، ولكن كيف ينظم هذا الإلغاء، وإلى أين يذهب هؤلاء المدرسون؟ هذا يحتاج - من غير شك - إلى مباحثة وزارة المعارف والاتفاق معها على هذه التصفية، ولندع الآن أمر هذه التصفية وطرقها، ونستقيم في طريقنا الذي نعرض فيه موقف الأزهر من التعليم العام.
إذا ألغى القسم الابتدائي من الأزهر بقي القسم الثانوي نهراً لا يرفده رافد. فالتلميذ الحاصل على الشهادة الابتدائية لا يستطيع أن بشق طريقه في القسم الثانوي بالأزهر. ثم هو راغب عن هذا الطريق لأن أمامه طرقاً كثيرة أيسر يسراً، وأوضح قصداً، وأربح غاية. والنظر اليوم للحياة نظرة تسليح الطالب والغلاب، ولاشك أن كليات الجامعة في هذه الناحية تسلح الطالب للحياة أكثر مما تسلحه كليات الأزهر، وقد كان كيان الأزهر قائماً على شيئين: القداسة والفقر. فأما الفقر فقد كان عاملاً مهما في انصراف الناس عن المدارس إلى الأزهر. فقد كان للمدرسة منذ عشر سنوات مضت مظاهرها ومصاريفها للكتب وللتعليم(937/26)
وللحفلات. أما اليوم فالكتب بالمجان والتعليم بالمجان ووجبة الغداء بالمجان، فأي مدعاة بعد انقضاض هاتين الدعامتين تدعوا أمراً إلى أن يدفع بابنه إلى التعليم الأزهري؟ لقد رأينا الأساتذة من مدرسي الأزهر حينما يوسرون بعض اليسار يعرضون عن الأزهر إعراضاً، ويسلكون أبناءهم في التعليم المدني إيثاراً له، وإدراكاً منهم أن الدولة تنظر إلى التعليم في الجامعة نظرة أعلى من نظرتها للتعليم في الأزهر. وأن الحياة تطلب النوع الأول ألحف من طلبها للنوع الآخر. . فإذا أنحينا على القسم الثانوي بلا سلم، وهو بعد بعيد كل البعد عن كل نوع من أنواع الإغراء. فالدراسة فيه ليست سهلة ممهدة. ونتيجتها ليست زاهرة باهرة محببة.
إذن فكل ظواهر المنطق تؤذن بأن الأزهر مقضي عليه لا محالة. ومخدوع من مخدوعين ذلك الذي يزعم أن النزعة الدينية في الأمة يمكن الاعتماد عليها في الإبقاء على الأزهر وحفظ كيانه فإن التيار العام أقوى وأعتى من أن يتصدى له أفراد شذاذ من سوقة الأمة ورعاعها. ومخدوع كذلك من يعتمد على وزارة المعارف في توجيه طائفة من أبناء الأمة للتعليم في الأزهر، فوزارة المعارف في توجيه طائفة من أبناء الأمة للتعليم في الأزهر، فوزارة المعارف لا تملك هذا التوجية، ولو ملكته لوجب ألا تلجأ إليه، فما لم يكن للأزهر في نفسه من المحببات فيه ما يقيمه ويدفع قلوب الناس إليه راغبين، فعليه العفاء. ونحن لا نملك أن نوجه لوماً إلى وزارة المعارف فيما يسرت من أمور التعليم واحترمت من رغبات المتعلمين، وإن عاد ذلك على الأزهر بالضمور والاضمحلال؛ فإن حجتها في ذلك أبهر وأظهر من أن يدل عليها. وكيف نطلب الحماية للأزهر من التعليم العام إلا إذا كان الأزهر نفسه لم يستطع أن يثبت صلاحيته ويقوم على قدميه، فإذا كان هذا حالة فلتذهب به الرياح ليبقى الأصلح والأنجع، وخلا المعارف ذم.
ولكن ينبغي أن نضع في حسابنا أمرين قبل أن نحكم على الأزهر بالإعدام. أول لكليات الجامعة أن تقوم بها؟ الجواب. لا. ثم نتساءل: هل هذه الدراسة مفيدة في ذاتها، مطلوبة لصيانة الأمة الإسلامية. ولو فكرنا من ناحية حفظ تراث إن لم نحتجه اليوم فربما احتجناه غداً، وإن غطى الزمن على بهارة نوره فترة، فربما كشف عنها في مقبل منه قريب أو بعيد؟ الجواب نعم: وما دام الأمر كذلك فيجب أن يبقي الأزهر. ويجب أن يفهم المسئولون(937/27)
عن التعليم أنه لابد من بقائه لأداء رسالة حاضرة أو مقبلة، ولفظ تراث مجيد من اللغة والفقه، ولو أنه حفظ يقوم على الترديد أكثر مما يقوم على التجديد حتى يتاح له من يخطو به يوماً.
وثاني الأمرين: هذه الإشاحة المعرضة عن الدراسات الأزهرية هل تنبني دائماً على حسن التقدير أو يداخلها قليل أو كثير من الوراثة لأفكار جاهلة تتبع أكثر مما تتأمل، وتنخدع أكثر مما تصيب، ويغرها الزخرف أكثر مما تبهرها الحقيقة. فالحق أن كثيراً ممن يعرضون عن الدراسات الأزهرية، قد استقر في أذهانهم أن الأزهر إنما يدرس فيه أبناء الفقراء، وان الالتحاق به عبادة أكثر مما هو دراسة، وأن أبناءه لا تنظر إليهم الحكومات بعين الاعتبار والتقدير، وإنما تجاملهم مجاملة، أو تطاولهم مطاولة، أملاً في أن تصل على ظهورهم لغاية، أو تكف بسكونهم شراً وتتقي قلاقل.
وإذن فما عند الناس من أفكار سيئة عن الدراسات الأزهرية لا يمثل الحقيقة، والدراسات الأزهرية جديرة بالإقبال عليها لذاتها. والحكومة والأمة الإسلامية جديرة أن تحميها وأن تحتفظ بها. ولكن كيف السبيل اليوم، وليس لأحد أن يرغم أحداً على اتجاه بعينه في الدراسات؟
قلنا إن الأزهر قام على عنصرين: على القداسة، وعلى الفقر. ونحن لا نحب أن نبقي على العصا الأولى لأنها عصا وهمية سخيفة، ولو أدخلناها في الأساس اليوم، فأجدر أن ينهار البناء كله وأما العصا الأخرى فما زالت باقية برغم مجانية التعليم ووجبة الغداء. ذلك بأن أقواماً - وكثير ما هم - في ضر من العيلة. فإن وجدوا مجانية التعليم ووجبة الظهيرة، فمن لهم بوجبة الصباح ووجبة المساء؟ ومن لهم بمصروف اليد والكساء؟ إذن فليحتضن الأزهر الفقراء من هذا الصنف، وليبق بأقسامه الثلاثة قائماً، وليقلل من هذه المعاهد المنبثة في أنحاء القطر، فلبست الدولة بحاجة إلى كثيرين من المتوسعين في دراسات الأزهر. وأخيراً فليكن الأزهر جامعة داخلية تضمن الطعام والكساء والتربية والتعلم على يزيد داخلوه كل عام على مائة. وليضمن لطلابه ومتخرجيه من الميزات ما تضمن الحكومة لمتخرجي الجامعات الأخرى.
وليستصف هذا الوفر الوفير من الأساتذة والكتاب عاماً في إثر عام، وليبق فيه خلاصة(937/28)
مخلصة من الأفذاذ علما وخلقا، وليرب هؤلاء الجدد من الطلاب تربية حرة لا تخضع لمبدأ من مبادئ السياسة، ولا تنقاد لغرض من أغراض الحكام. فإذا تخرج علمية وخلقية، وليقومن الأزهر بعد على قدمية، وليثبتن أنه أهل للحياة!
وقد يظن ظانون أن هذا خيال خائل، ولكن سوف يشهدون بأعينهم هذا الإعراض الشنيع عن الأزهر، وعن دار العلوم حين ينقطع سببها من الأزهر، وسيجدون أنفسهم قد أخلدوا إلى الآمال أكثر مما يصح الإخلاد، وأن ما يواجههم من الشر أكبر من أن يدفع بالتصايح والبكاء!
كامل السيد شاهين(937/29)
رِسَالَة الشِعْر
أغنية الحرمان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
إلى صديقي الأستاذ حسين وفيق الجادر
يا شاباً في دمائي يتدفق ... وشهاباً شع في أفق حياتي
عمري الأول ولي فترفق ... بالذي أبقيت لي من سنوات
سنوات قد تولين سدى ... مثلما يفني على الأرض الشعاع
لم أجد في ظلها إلا العنا ... والأسى القاتل والدمع المضاع
أنا ذوبت شبابي في هواك ... وأبحت السهد جفني ودمي
أتراني لم أنل بعد رضاك ... ولقد بح من الشكوى فمي
إن تكن تسخر من دمعي وحبي ... فلقد صغتك من نسج خيالي
دمية أبصر فيها طيف ربي ... وأرى في ظلها سر الجمال
أنا كونتك لكن لا لقتلي ... ولإلقائي بأحضان الظلما
تائهاً أقطع بالآهات ليلى ... وجراحي تتنزى ألماً
سرت والأشواق تستقبل دربي ... علني ألقاك في الوادي القريب
فلماذا عندما أصبحت قربي ... ملت عني كعدو أو غريب
أكذا سرعان ما تهجرني ... مثقل الخطو بأغلال الزمن
فكأن لم تك قد حملني ... عبء أيام ثقيلات المحن
سوف تلقاني وألقاك أنا ... وعلى كفي جراحي ودمي
فإذا رف الهوى ما بيننا ... أترى يدنيك مني سقمي
شاء وجه الحسن إن كان المصير ... ما ألاقيه ويا ويح المني
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
في لجة الصمت. .(937/30)
للأستاذ محمود فتحي المحروق
أيهذا الغريق. يا شاعر الصمت. . كفاك التديق خلف الضفاف
قد مضى الزورق الحزين. . ومازلت تغني للموج سر الطواف
هي ذي يا شقي هوج الأعاصير تدوي. . وأنت تهب السوافي
سوف تطويك عاصفات من الصمت. . فتغدو ممزق الأعطاف
وستمحو الأمواج بيض أمانيك. . وتنعى جنازة الأطياف
أيهذا الغريق. . رفقاً بدنياك. . فخلف الضفاف صمت عميق
قد تضللت!. . ما نصباك يا شاعر؟. . عد. . فالحياة بحر سحيق
كلما رمت للحياة وصولاً. . سخرت منك موجة وبروق
فيم تقضي الشباب في غيهب الصمت؟ وتطوى المني. وأنت غريق
وعداً؟. . لن تعي سوى صرخات. . يتغنى بها الظلام المحيق
أيها الشاعر الذي يتغنى. . تهت في الكائنات عرضاً وطولاً
ارجع الآن. لن ترى تم شيئاً. . أنت في الأرض ترتجي المستحيلات
أنت يا شاعر السكينة قلب. . أوصد الكون دونه المجهولا
لم هذا الوجوم؟. حسبك دنيا. . خلقتها الأحلام عرساً جميلاً
لغط هذه الحياة. . وسخف أن تظل. . الحياة. . تبغي الوصولا
أيها الصمت يا إله المآسي. . أيها الخالد الذي ليس يفنى
أنا يا صمت - لو عملت - فؤاداً. . سادرا في اللجاج ضيع لحنا
آه. . يا صمت. . قد عبت فعدبي. . . نحو دنياي خافقاً مطمئناً
موجك الساحر المروع أغرني. . فما شمت ضفافك أمنا
أبداً. . سوف يستبيني سراب. منك يا صمت. . كاذب. . يتجنى
أيها الصمت. . أيها العالم الزاخر. . رفقاً بجسمي المكدود
أنا يا صمت خافق. . رائع اللحن. . دجي الأسرار. . جم الشرود
سحرتني إلهة الشعر. في هيكلك الحالم. . الرهيب. . البعيد(937/31)
عبثاً. . أستبين زورق أحلامي. . وقد طرق الضباب وجودي
عبثاً. . لن يعود غير حطام. . يتهاوى تحت الظلام المديد
رحمة منك. . قد سئمت الشرور خلف البحور
هاأنا الآن. . بين موجك طيف. . راعب الظل. . كالشذا المأسور
ليتني كنت صرخة في فم الدهر تلاشت. . أو كنت بعض سطور
ليتني مت قبل أن أدفن الأحلام في بحرك العميق. . . الغزير
آه. . يا صمت. . لا تكن مثل دنياي خؤونا. . فخلي واكتئابي
لا ترعني. . فقد كرهت حياتي. . واجتويت المكوث فوق التراب
ليس لي في الحياة أي آمال. . فوا خيبة المنى والرغاب!
منذ أن تاه زروقي بين أمواجك. . ياصمت. . ضاع مني شبابي
أسفاً. . خابت الظنون وماتت. . أمنياتي في خاطري المرتاب
(الموصل - العراق)
محمود فتحي المحروق(937/32)
الأدب والفن في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
ويل للأدب إذا أحتاج إنتاجه الرفيع إلى التشجيع، واذكر كبار الأدباء في الشرق والغرب فإنهم قد منحوا الإنسانية هذا التراث العميق الضخم دون أن يشجعوا إلا نادراً، وتستطيع أن تقول أنهم اشتقوه من آلام نفوسهم وقلوبهم ومن استمتاعهم بلذة البؤس والحرمان، وإنها للذة حلوة لشدة قسوتها!
طه حسين
ساعة من العميد:
لم يخدعني الحرس الواقف بباب معالي الدكتور طه حسين باشا عما كان يدور بخلدي وأنا في الطريق أليه. كنت نشطاً إلى لقاء معاليه في الموعد المضروب، وأنا أعرف عن نفسي - فما أعرف عنها - التثاقل بل العزوف عن مقابلة الوزراء وأمثالهم من الكبراء، ولكني كنت موقناً أني ذاهب إلى رجل ليس من هؤلاء، أو هو منهم شكلاً ورسماً، ولكن فيه ما أقصد غير ذلك، فيه الأديب الأستاذ الذي وطالما ألقي إلى وطالما وعيت عنه، وطالما تحدث إلى وتحدثت إليه وإن لم ألقه قبل ذلك إلا لقاء عابراً، طالما أصغيت إليه في السطور وعشت معه فيما بين السطور، وطالما أنس به خيالي وأنا أسوق إليه الحديث في بعض ما أكتب.
كان ذلك ما يدور بخلدي حين أقبلت على دار العميد أستأذن في الدخول. وأذن لي، واستقبلني معاليه في غرفة المكتبة، وقد لقيت منه الأنس أول ما لقيت، وشاء أدبه أن يعتذر لوقوفي دقائق بالباب. وأخذت مجلسي بجواره، وأنا أشعر - على انقباض في - بأن التعارف بيننا قديم العهد. وأخذنا في الحديث، تنتقل من الخاص إلى العام، ومن عام إلى خاص، وكان يجيبني عما وجهت إليه من أسئلة في شؤون الأدب والفن بطلاقته المعروفة، ويمزج ذلك بمرح ودعابة في بعض المواطن، ويمسك عن الحديث العام حيناً فيسبغ على أنسه وإلطافه. . . فكان يفكر ويعبر ويلطف ويؤنس في آن. . قضيت معه ساعة ما أعظمها! وما أقصرها! وخرجت من لدنه، وقد قبست لقراء الرسالة أقباساً من أدب العميد،(937/33)
وتزودت لنفسي بما لن تنساه نفسي.
كدت أنسى:
كان أول سؤال وجهته إلى معالي الدكتور طه حسين باشا ما يلي:
أنت وزير المعارف، وأنت - قبل هذا ومع هذا وبعد هذا - عميد الأدب والأدباء. وقد رأت البلاد أعمالكم المجيدة في نشر التعليم، والأمل أن يظفر الأدب والثقافة العامة من الدولة على يديكم بمثل ذلك، فماذا أعددتم في هذا السبيل؟
قال معاليه: الواقع أن تيسير التعليم ونشره وما فيهما من مصاعب يجب قهرها ومن عقبات يحب تذليلها - كل ذلك قد استغرق وقتي وجهدي وتفكيري، حتى نسيت أو كدت أنسى أن بيني وبين الأدب صلة، ونسيت أو كدت أنسى أن للأدب على حقوقا يجب أن تؤدي. ولا أرى إلا أن سؤالك هذا سيضطرني إلى أن أحاسب نفسي وإلى أن أجعل الحساب عسيراً. وأنا الآن والآن فقط أسأل نفسي ماذا يجب على أن أفعل للأدب والأدباء، وأحسبني أؤدي لهم خدمة خطيرة مادمت أنشر التعليم فأعد للأدب والأدباء قراء قد يكون لهم أثر في نشر الأدب أولاً، وفي توجيهه ثانياً، وفي إشعار الأدباء بأنهم لا يكتبون لأنفسهم وحدها ولا يكتبون لنظرائهم من الأدباء والمتأدبين فحسب، وإنما يكتبون لشعب يقرأ قراءة مباشرة، وأظن أن هذا ليس قليلاً. ودعني الآن أسألك أنت: ماذا تحب أن أصنع للأدب والأدباء أثناء نهوضي بأعباء الوزارة؟
مظاهر النشاط الأدبي:
قلت: يمكن القول - على وجه الإجمال - بأن النشاط الأدبي الذي تتطلبه البلاد يتمثل في ثلاثة أمور: (1) خدمة التراث بإحيائه وتنميته (2) والأخذ من الآداب الأجنبية (3) ثم الإضافة الذاتية. فالأمران الأولان يحتاجان إلى الإدارات الحكومة القادرة على العمل المنتج. ويتطلب الأمر الثالث، وهو الإضافة الذاتية، تشجيع الأدباء وإثابة جهودهم إثابة لا يحققها لهم الجمهور الحالي.
إحياء التراث:
قال معاليه: أما إحياء التراث القديم فإن جهودا كثيرة تبذل فيه، فإدارة الثقافة العامة مستعدة(937/34)
لنشر الآثار الأدبية القديمة، وتشجيع الذين يعدونها للنشر ويقومون عليه تشجيعاً حسناً. ولست أشكو من تقصير المحققين الذين لا أكاد أحس منهم جهداً، وربما انتهى بي الأمر إلى أن أختار أنا طائفة من الكتب القديمة وأكلف بعض الباحثين بدرسها وتحقيقها، وأدعو بالقياس إلى بعضها الآخر أدباءنا إلى أن يستبقوا في درسها وتحقيقها، ولكن كنت أتمنى ألا يحتاج الأدباء إلى هذا التوجيه الإداري. وفي دار الكتب لجنة لإحياء الأدب العربي القديم برأسها الأستاذ أحمد أمين بك وأنا بعض أعضائها، ولكنها لم تكد تبدأ عملها بعد، وأرجو أن تكون جهودنا منتجة فيضاف عملها إلى عمل المكتبات الخاصة. وما أظنك تطلب أكثر من هذا.
الترجمة:
ثم قال معاليه: وأما النقل عن الآداب الأجنبية فقد ترجم في الأعوام الأخيرة عدد صالح من الكتب، نشر بعضه وبعضه ينتظر النشر؛ وإدارة الثقافة هي المشرقة على ذلك، وربما كان اختيار هذه الكتب موضع شئ من الجدل، ولكنها حركة على أي حال. وقد قررت في هذا العام نقل آثار شكسبير كلها إلى اللغة العربية، ونقل آثار راسين إليها كذلك. ولولا الصعوبات التي تثار دائماً في وزارة المالية لأخذنا في تنفيذ هذين العملين الخطيرين، ولكني واثق من أن هذه الصعوبات ستنتهي، ولن تصدر الميزانية الجديدة إلا وفيها الاعتماد الذي نحتاج إليه. وعسى أن يتصل هذا الجهد فتنقل إلى اللغة العربية آثار كبار الكتاب والشعراء في الغرب شيئاً.
تشجيع الأدباء:
وقال: أما الإضافة الذاتية فلست واثقاً بأنها تحتاج إلى التشجيع وحده، وأخشى أن تكون في حاجة إلى شئ آخر غير التشجيع، هو خصب القرائح وإيثار الأناة والتجويد على العجلة وابتغاء الكسب، وفي كل عام تعطى جائزة فؤاد الأول للآداب، وتعطى جوائز المجتمع اللغوي، ولعلك توافقني على أن الذين ظفروا بهذه الجوائز لم يعملوا لها ولم يسعوا إليها، وإنما اضطرهم الأدب إلى أن يكتبوا فكتبوا، وعرفت لهم الدولة قدرهم فإجازتهم. روبل للأدب إذا احتاج إنتاجه الرفيع إلى التشجيع، واذكر كبار الأدباء في الشرق والغرب، لأنهم(937/35)
قد منحوا الإنسانية هذا التراث الرفيع الضخم دون أن يشجعوا إلا نادرا، وتستطيع أن تقول إنهم اشتقوه من آلام نفوسهم وقلوبهم ومن استمتاعهم بلذة البؤس والحرمان، وإنها للذة لشدة قسوتها!
جماعة الأدباء:
ثم قلت لمعاليه: كنتم تدعون الأدباء إلى تكوين جماعة تمثلهم وترعي حقوقهم، ولعل مكانكم الآن في الوزارة مما بعين على إنشاء هذه الجماعة ورعاية الدولة إياها، فما رأيكم في ذلك؟
قال: لو أنشأ الأدباء جماعتهم هذه إنشاء جد لا عبث فيه لكنت أول من يسعى إلى الاشتراك فيها ولكنت سفيرها في مجلس الوزراء في البرلمان، ولكن جماعات الأدباء لا تنشأ بالمراسيم ولا بالقرارات الوزارية، وإنما تنشأ أولاً ثم تعترف بها الدولة بعد ذلك. ومع ذلك فبين يدي مشروع قانون أرجو أن أقدمه إلى البرلمان في أول دورته المقبلة إن شاء الله، وهو ينشئ معهد فاروق الأول للعلوم والفنون والآداب، وسيكون هذا المعهد مؤلفاً من شعب خمس: شعبة الطب. وشعبة الأدب والحديث، وشعبة الفنون الجملة. وليس هذا المشروع جديداً، وإنما حاولت استصداره مع السنهوري باشا حين كان وكيلاً لوزارة المعارف وكنت أنا مراقباً للثقافة العامة، وحاولت استصداره حين كان نجيب الهلالي باشا وزيرا للمعارف، ولم أوفق، وأرجو أن يكتب لي التوفيق في هذه المحاولة الثالثة. ولن يغني هذا المعهد عن إنشاء جماعة الأدباء الحرة، ولن يمنعني أن أكون من السابقين إلى الاشتراك فيها.
المسرح والمجلات الأدبية:
وقلت: الحكومة تمد المسرح بالإعانات المالية ليقوم إلى جانب السينما التي تجتذب إليها الجماهير، فلماذا لا تعين المجلات الأدبية لتسير إلى جانب المجلات الأخرى؟
قال: ليست وزارة المعارف هي التي تعين المسرح، لأنه كما هو الآن لا يكاد يخدم الأدب العربي، وإنما هو لون من الترفيه وإضاعة الوقت. ولن تقصر وزارة المعارف عن إعانة المجلات الأدبية الخالصة إذا جدت ووقفت نفسها على الأدب الرفيع والثقافة الممتازة، وسبيلها إلى هذه الإعانة هو الاشتراك في أعداد ضخمة منها لمدارسها الكثيرة التي تزداد كثرة من يوم إلى يوم.(937/36)
وقلت: بما للمسرح من أثر في التثقيف وتذوق الأدب المسرحي، ألا ترون أنه يجدر بوزارة المعارف أن تعين على النهوض بهذا الفن أكثر مما تفعل؟
قال: جئني بالأعوان الذين يمكن أن أعتقد عليهم في ذلك، ثم لمني إن قصرت بعد هذا.
كتابان:
قلت: أراني قد فرغت من معالي الوزير، وأريد أن أتوجه إلى طه حسين الكاتب الأديب بهذا السؤال: هل في برنامجه الحالي أن ينتهز بعض الفرص فينتج جديداً في عالم الأدب والفن؟
قال: في رأسي كتابان لن أستريح حتى أكتبهما إن مد لي في أسباب الحياة، أحدهما يسير لا احتاج فيه إلا إلى الوقت لأمليه، وهو رسائل إنسانية؛ والآخر يحتاج إلى الوقت والجهد، وهو تاريخ الشعر العربي إلى عصر أبي العلاء. ولكن الوقت يمضي والصحة تضعف وأنا أتعزى بمداعبة الأمل، والله المستعان.
روائع وإسفاف:
ثم سألت معاليه السؤال الأخير: ما رأيكم في أدب الجيل الذي يلي طبقتكم؟
قال: فيه روائع عن الشك، ولكن فيه إسفافاً كثيراً. ولا تدخل في التفصيل فلن تنال مني شيئاً
عباس خضر(937/37)
الكُتُب
ديوان العرجي
شرح وتحقيق الأستاذ خضر الطائي
(ليقرأها صديقي معالي العلامة خليل مردم بك)
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
العرجي، عبد الله بن عمر بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان من شعراء قريش الذين شهروا بالغزل والنسيب، نحا فيه نحو عمر بن أبي ربيعة وكان مشغوفاً باللهو والصيد. ولقب بالعرجي نسبة إلى (العرج) وهو ماء له بالطائف، وكان من أبرز فتيان قريش عاش إلى سنة 120 هـ وقد اشتراك في الجيش الذي غزا القسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الله في عهد سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي، وقد ذكر المؤرخون أنه كان كريماً إلى حد الإسراف ومن صفاته الفتك والنجدة والشجاعة والمجون، وقد قيل إن ميله إلى القصف واللهو ومغازلة النساء الحسناوات كان شديداً. أما شعره فيتسم بالطابع الوجداني وقد نحا فيه كما قلت نحو عمر بن أبي ربيعة حتى أنه اعتزي به عند وفاة عمر لسده مسده في هذه الطريقة، وقد ذكر الأصفهاني في الصفحة 387 من الجزء الأول من أغانيه:
أنه لما مات عمر بن أبي ربيعة بكته نساء مكة بكاء شديداً وقالت إحداهن (من لمكة وشعابها، وأبطحها، ونزهها، ووصف نسئها، وحسنهن وجمالهن ووصف ما فيها! فقيل لها خفضي عليك، فقد نشأ فتي من ولد عثمان رضي الله عنه - أي العرجي - يأخذ مأخذه ويسلك مسلكه. فقال أنشدوني من شعره. فأنشدوها فمسحت عينيها وضحكت وقالت - الحمد لله الذي لم يضيع حرمه. وديباجة العرجي في شعره مشرقة صافية عليها مسحة من الجزالة ولون من الرقة، حتى أن المغنين تغنوا بالكثير من شعره، وهو كما قال الأستاذ العقاد في كتابه (شاعر الغزل - عمر بن أبي ربيعة):
(إحدى هاتين المدرستين هي مدرسة الشعراء الذين اشتهروا بحب امرأة واحدة كما اشتهر قيس بليلى وعروة بعفراء وجميل ببثينة وكثير بعزة وتوبة بليلى. والمدرسة الأخرى هي مدرسة الشعراء الذين تغزلوا بأكثر من امرأة واحدة أو اشتهروا بحب النساء عامة كعمر بن(937/38)
أبي ربيعة والعرجي وابن قيس الرقيات. ومن هنا تتضح لنا صفات شعره.
وقد ختمت حياة هذا الشاعر الفذ بمأساة؛ إذ أضغن عليه أمير مكة محمد بن هشام المخزومي في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك وهو خال الخليفة فقبض عليه بتهمة أسندها إليه وضربه وسجنه ومكث في السجن 9 سنوات حتى توفي، وله في السجن جملة قصائد نفيسة منها قوله
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
وخلوني لمعترك المنايا ... وقد شرعت أسنتهم لنحوي
كأني لم أكن فيه وسيطا ... ولا لي نسبة في آل عمرو
ويذكر المؤرخون أن السبب في سجنه هو أنه كان قد شيب في جيداء أم محمد بن هشام المخزومي وكان والياً على مكة هجاء لابنها.
وفيها يقول
عوجي علينا ربة الهودج ... إنك أن لا تفعلي تحرجي
إني أتيحت لي يمانية ... إحدى بني الحارث من مذحج
نلبث حولا كاملا كله ... ما نلتقي إلا على منهج
في الحج إن حجت وماذا مني ... وأهلة إن هي لم تحجج
أيسر ما نال محب لدي ... بين حبيب قوله عرج
نقض إليكم حاجة أو نقل ... هل لي مما بي من مخرج
ومن رقيق شعره وقد غنى به
أماطت كساء الخز عن حروجهها ... وأدنت على الخدين برداً مهلهل
من اللء لم بحججن ببغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وليتصور القارئ الذواقة جمال قوله (البريء المغفلا)
كما شبب العرجي ببحيرة وفيها يقول
عوجي على فسلمي جبر ... فيم الصدود وأنتمو سفر
وتغزل في أم الأوقص - محمد بن عبد الرحمن المخزومي - وفي عاتكة زوجة طريح بن إسماعيل الثقفي، كما تغزل في كلابة مولاة لثقيف، كانت عند عبد الله بن قاسم الأموي.(937/39)
وفيها يقول:
قالت كلابة من هذا فقلت لها ... أنا التي أنت من أعدائه زعموا
أنا امرؤ جدبي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني سقم
لا تكليني إلى قوم لو انهمو ... من بغضنا أطعموا الحمي إذاً طعموا
وأنعمى نعمة تجزي بأحسنها ... فطالما مسني من أهلك النعيم
ستر المحبين في الدنيا لعلهمو ... أن يحدثوا توبة فيها إذا أثموا
هذي يميني رهن بالوفاء لكم ... فارضي بها، ولأنف الكاشح الرغم
وقد حدثنا الأصفهاني في أغانيه مرة أخرى ذات يوم إلى جنات الطائف متنزهاً فبصر بها مع نسوة جالسة، فعرفها وأحب أن يتأملها من قرب، دفعته الحيلة إلى ما دفعت إليه جميلاً إذ رأت أعرابياً ومعه سقاء لبن فرفع إليه العرجي ثيابه وأخذ قعوده ولبنه ولبس ثيابه ومر قريباً من النسوة، فصحن به: أمعك لبن؟ قال نعم، ومال إليهم وجعل يتأمل أم الأوقص وينظر حيناً إلى الأرض كأنه يطلب شيئاً وهن بشرين من اللبن، فقالت امرأة منهن: أي شئ تطلب يا أعرابي في الأرض؟ أضاع منك شئ؟ قال نعم، قلبي، فلما سمعت أم الأوقص كلامه نظرت إليه، وكان أزرق فعرفته. . فقالت العرجي ورب الكعبة! ووثبت وسترها نساؤها وقلن: انصرف عنا لا حاجة بنا إلى لبنك، فمضى منصرفاً وقال في ذلك:
أقول لصاحبي، ومثل ما بي ... شكاه المرء ذو الوجد الأليم
إلى الأخوين مثلهما إذا ما ... تأويه مؤرقة الهموم
لحيني والبلاء لقيت ظهراً ... بأعلى النفع أخت بني تميم
فمن هذه الرواية يتضح لنا أنه كان بجاري ابن أبي ربيعة حتى في مغامراته الغزلية وإن كان لا يجاريه في الشعر. وإخال أنه كان يتقصد هذه الأعمال طلباً للموضوع الشعري الذي ينظمه وخصوصاً وهو من فتيان قريش المعدودين في الحسب والجاه والرفعة والوسامة والفروسية والبطولة ومن ذوي اليسار.
سقت هذه الكلمة الموجزة عن هذا الشاعر بمناسبة ديوانه الخطى النفيس الذي عثر عليه صديقنا الأستاذ الشاعر خضر الطائي والديوان نسخة خطية فريدة وحيدة في العالم كله (ابن جني) استنسخها لنفسه. فقام الأستاذ الطائي بتحقيقها وشرحها والتعليق عليها بعد مقابلة(937/40)
أبيات القصائد بكثير من كتب الأدب. كما كتب لهذه المجموعة مقدمة شائقة ألم فيها بشعر الشاعر وعصره وظروف ذلك العهد من الناحية الأدبية والسياسية وحلل فيها شعره مع مقارنته بشعر ابن أبي ربيعة من الوجهة الفنية، ووصف المخطوط وكيف عثر عليه، وقد اطلعت على الديوان قبل أشهر فنصحته أو أشرت عليه أن يقدمه إلى المجمع العلمي العراقي لطبعه ونشره حتى يكون في متناول أيدي القراء في كافة البلاد الناطقة بلغة القرآن، ولكن يظهر أن المجتمع العلمي العراقي لا يريد أن يبشر ذخائر الشعر العربي الخطية، لذلك لم يقم لحد الآن بعمل يشم من رائحته أنه سيطبع الديوان أترك هذا الأمر إلى صديقي العلامة الأستاذ محمد بهجت الأثري وفي الوقت نفسه أهيب بصديقي العلامة معالي شاعر الشام الجليل الأستاذ خليل مردم بك أن يمد يده الكريمة فينشل هذا الديوان من وحدة الانطمار وببعثة من جديد وذلك بطبعه على نفقة المجمع العربي بدمشق كما فعل سابقاً. وبذلك يسدى إلى العربية جميلاً لا ينسى وخصوصاً وأن نسخة هذه الديوان فريدة من نوعها، وشعر العرجي يستحق التقدير والاحتفاء، وإن معالي الدكتور طه حسين باسا يوم كتب دراسته عن شعر العرجي تلك التي جمعت مع إخوانها في كتابة القيم (حديث الأربعاء) لو كان قد اطلع على كل شعره لكانت دراسته غير ما كتبت قبلاً. ولعله الآن يتفضل فيسدى هو يداً كريمة أخرى بتنبيه الحكومة العراقية إلى أن المخطوطات العربية إن لم يقم المجتمع العلمي العراقي بطبعها فمن الواجب أن تشكل لجنة من كبار الأدباء في العراق بطبعها فمن الواجب أن تشكل لجنة من كبار الأدباء في العراق برئاسة وزير معارف العراق غايتها دراسة تلك المخطوطات ونشرها في حلل قشيبة تناسب مقام أصحابها ومواهبهم، ولعلنا نأمل خيراً على يديه
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري(937/41)
البَرَيدُ الأَدَبِيّ
مع الصافي أيضاً:
قلت في العدد 934 من هذه المجلة إن الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي نزيل دمشق حالياً أنه استعمل كلمة (دهس) بمعنى وطئه وداسه وهو استعمال خاطئ إذ الصواب أن يقول دعس كما هو في القاموس، ولكن يظن أن الصافي لا يعترف بالخطأ في استعمال الكلمات التي لا يقرها علماء اللغة. ولست أدري مرجع ذلك الإضرار! أهو غرور أم اضطراب في الأعصاب؟! فقد قرأت له في العدد (4143) من جريدة الزمان البغدادية قصيدة بعنوان (حسناء تسوق حسناء) وجدت فيها كثيراً من الخطأ أحببت أن أنبهه إليها لعله يدركها في المستقبل. وقبل أن أدرج هذه الأخطاء أود أن ألفت نظر صاحب الجريدة السيد توفيق السمعاني إلى أن الشاعر الكبير كما وصفت الجريدة الصافي يجب أن يلم على الأقل بأبسط قواعد اللغة وبالمفردات، فهل من الجائز أن يقع الشاعر الكبير الصافي في هذا الخطأ وهو
قال في مطلع القصيدة:
غانية فاقت على جيلها ... وحق قرآني وإنجيلها
لا يقال فاق عليه بل فاق الشيء وفاقه.
ساقت أتومبيلا رقيقاُ لها ... يجري رجاء وفق مأمولها
لست أدري كيف تكون السارة رقيقة وكيف تجري رخاء إذا كانت حسناؤه تسوقها.
دقيق سير كالغنا ... بأعذب النغمة مقبولها
بالرغم عن سخف هذا المعنى ففيه خطأ نحوي وهو أن يأتي اسم التفصيل بعد أعذب أقبلها أو أكثر قبولاً فتأمل؟!
ثم يقول:
ألطف قد صيغ من جيله ... فيه التي ألطف من جيلها
أنا أعطي جائزة لمن يحل هذه الأحجية غير اللطيفة.
آخر موديل جمال كما ... موديله حلو كموديلها
إن الروى هذه القصيدة الياء والحرف الذي قبله يجب أن يكسر ولكن حرف الدال في(937/42)
الموديل مفتوحة وكذلك أخطأ في قوله:
أحيته نهو الروح حلت به ... يلمس كفيها ومنديلها
حرف اللام في منديلها بعد الروى مفتوحة لأنها معطوفة على كتفيها وهي مفعول لمس، ثم يقول في ختام هذه الأبيات الركيكة التي تشبه نظم المبتدئين لا نظم شاعر كالصافي:
أهوى ركوباً لي في جنبها ... أولا فدهساً بأتومبيلها
إن ركوباً لي تركيب أعجمي إذ لا يقال أهوى الركوب لي بل أهوى، الركوب لأن كلمة أهوى تغني عن أنا أو لي. أما كلمة جنبها فهي غير شعرية، وكلمة دهس خطأ كما بينت سابقاً إذ الصحيح أن يقال دعس. فهل يرعى بعد هذا التحذير أستاذنا الصافي فلا ينشر إلا بعد الرواية والتنقيح؟ ثم هل ألام إذا ما قلت إن جل صحفي العراق أبناؤها تقويم ألسنتهم وهم عرب وليسوا بأعاجم!.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
ختان البنات بين الطب والإسلام:
نشرت مجلة (الدكتور) ملحقاً لعدد مايو سنة 1951 خاصاً بمسألة ختان البنات استفتت فيه بعض الأطباء الذين رأوا أنه لا ضرورة لهذا الختان؛ بل لعل بعضهم رأى فيه ضرراً نفسياً واجتماعياً. وقد تعرض بعض بعضهم للدين قائلاً بأنه لا يوجد شرعاً ثم لا يوجد طبياً أي مبرر لهذا الختان، وأنه ليس في الأحاديث النبوية ولا في أقوال الأئمة ما يشير إلى الختان إن البنات كما ورد عن الذكور لذلك رأيت لزاماً أن أبين وجهة الدين ثم أتبعه برأبي الطبي الخاص.
يقول الرسول (ص) (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) فهل هناك شئ أفضل من هذه المكرمة التي تضبط اشتهاءهن وتقلل استهتارهن وفي الوقت نفسه لا تحرمهن لذاتهن (كما سأبين بعد) ثم انظر إلى قول حضرة الرسول (ص) عندما هاجرت النساء وكان فيهن امرأة يقال لها أم حبيبة وكانت تختن الجواري، فلما رآها رسول الله (ص) قال لها يا أم حبيبة، هل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ فقالت نعم يا رسول الله إلا أن يكون حراماً(937/43)
فتنهاني عنه، قال بل هو حلال، فأدني مني حتى أعلمك، فدنت منه، فقال يا أم حبيبة: إذا أنت فعلت فلا تنهكي فإنه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج.
فانظر أيها القارئ الكريم إلى كلمة (لا تنهكي) أي لا تستأصلي، أليس في هذا الحديث معجزة تنطق عن نفسها وتدل بوجهها، فلم يكن الطب قد أظهر شيئاً عن هذا العضو الحساس (البظر) ولا التشريح أيان الأعصاب التي فيه، ولكن الرسول (ص) الذي علمه الخبير العليم عرف ذلك فأمر ألا يستأصل العضو كله.
هذا وإن عملية الختان الصحيحة من الوجهة الطبية أن لا يقطع البظر من جذره، بل يقطع جزء منه فتقطع الحشفة وجزء من العضو، وهذا الجزء الأعلى هو ذو الحساسية الشديدة، ثم يبقى جزء منه توجد فيه أيضاً الحساسية ولكن بدرجة أقل ويقول حضرات الأطباء الذين استفتهم المجلة إن الختان يحرم المرأة الشعور الصحيح باللذة الجنسية، لكن الحقيقة التي لا مرية فيها أن الفتاة التي استهدفت لعملية الختان قلت فيها حساسية الشهور نوعاً ما، بخلاف التي لم يعمل لها الختان فإن أي احتكاك بالبظر - حتى يثوبها - يحرك فيها حساسية شديدة ربما لا يؤمن جانبها في الفتيات. وأما المتزوجة فالشعور لا يزال فيها لكنه شعور غير فياض، رزين غير عابث، مضبوط زمامه غير منفلت فالتأثير الجنسي لم يعدم في المرأة بعد ختانها؛ إنما وجد بمقدار إن زاد أضر بها.
هذا وإني أرى فائدة الختان للبنات تتلخص طبياً فيما يأتي:
(أولاً) الإفراز الدهني المفرز من (الشفريين الصغيرين) إن لم تقطعاً مع جزء من البظر في الختان، تتجمع وتتزنخ ويكون لها رائحة غير مقبولة، وتحدث التهابات قد تمتد إلى المهبل بل إلى قناة مجرى البول، وقد رأيت حالات كثيرة بهذه الالتهابات في بعض السيدات سببها عدم الختان.
(ثانياً) هذا القطع كما أشرنا يقلل الحساسية للبنت حيث لا شيء لديها ينشأ عنه احتكاك جالب للاشتهاء؛ وحينئذ لا تصير البنت عصبية من صغرها.
وصدق رسول الله (ص) أن الختان مكرمة للنساء، وهو أشرق للوجه إذا لم يستأصل في الختان البظر كله، وإلا كانت المرأة عصبية المزاج صفراء اللون، ونرى أن الختان يجب أن يقوم به الأطباء والحكيمات المتمرنات، لا أن يترك لهؤلاء النساء الجاهلات.(937/44)
دكتور حامد الغوابي
دائرة المعارف الحديثة
لمواطننا الأستاذ أحمد عطية الله مدير متحف التعليم بوزارة المعارف ولع بكثرة الإنتاج والتأليف، فهو من وقت لآخر يطالع القراء بأبحاثه ومؤلفاته، وآخرها فيما أظن دائرة المعارف الحديثة التي تصدرها تباعاً مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة، وقد عنيت بصفة خاصة بقراءة ما ظهر من أجزاء هذه الدائرة حرفية فلم أجد فيها ما يشعر مطلقاً بحرص كاتبها ليل يختطف من كل كتاب كلمة، وينتزع من كل صحيفة بحثاً حسبما يتفق له وبريق في نظره دون أن يكلف نفسه دقة التقل والتأكيد من صحة المعلومات التي يملأ بها صفحات دائرة معارفه. ولقد أساء بذلك إلى العلم والمعرفة كما أساء إلى نفسه، وكان خيراً له أن يقرأ ويتثقف حتى ينضج، ثم بعد ذلك يعمد للتأليف ويتصدى لمثل هذه المباحث وكان خيراً له أن يشرك معه في البحث والمراجعة علماً من أولى الخبرة والدراية ليكون إنتاجه ممحصاً مهذباً، وإني أضع بين يدي القارئ الكريم مادة واحدة من بين آلاف المواد التي تحتويها دائرة معارفه الحديثة ليرى ما في هذه المادة وحدها من خلط، تلك مادة - رمضان - ص 240 بالجزء الرابع فقد جاء بها ما يلي (ورمضان من الأشهر الحرم نزل القرآن في الرابع منه، وفي الأخير منه ليلة القدر، وفي السابع والعشرين منه حدثت موقعة بدر الكبرى) ومن المجمع عليه لدى أهل العلم أن الأشهر الحرم هي: رجب وذو العقدة وذو الحجة والمحرم. ولم يقل أحد مطلقاً أن رمضان من الأشهر الحرم. وبمراجعة ما كتبه المؤلف نفسه بصفحة 227 من هذا الجزء في مادة رجب - نجده يقول عن شهر رجب (وهو أحد الأشهر الحرم وهي المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة) وهذا خلط واضح وتناقض معيب! ولم يذكر أحد الثقاة ولا غيرهم أن القرآن الكريم نزل في الرابع من شهر رمضان كما لم يذكر أحد أن ليلة القدر في الأخير من هذا الشهر كما يقول المؤلف، وكان يكفيه أن يقف حيث وقف القرآن حين قال تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) ولكنه أبى إلا أن يتعالم بذكر المرويات فلم يحسن نقلها؛ فقد روى العلامة الألوسي في تفسير للقرآن الكريم عند قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وخرج الإمام(937/45)
أحمد والطبراني من حديث وائلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاثة عشرة والقرآن لأربع وعشرين) ولم يقل أحد مطلقاً أن ليلة القدر في الأخير من رمضان ونحن مأمورون بتلمسها في العشر الأواخر منه؛ لقول النبي الكريم تحررها في العشر الأواخر من رمضان وأكثر العلماء على أنها ليلة السابع والعشرين.
أما موقعة بدر الكبرى فكانت في السابع عشر من رمضان لا في السابع والعشرين منه كما قال المؤلف. وكثير من العامة وناشئة المتعلمين يدركون هذه الموقعة في السابع عشر من رمضان. ومؤلفنا الفاضل لا تعنيه السوق بمؤلفاته العديدة ليربح منها - فما يزعم - الصيت والمال، وهي مادامت فجة ضعيفة فلن يربح منها غير المذمة والإفلاس.
الأقصر
علي إبراهيم القنديلي(937/46)
القَصَصُ
عندما يسخر القدر
للكاتب الأمريكي أو. هنري
للأستاذ رمزي مزيغيت
تململ سوبي على مقعده في متنزه ماديسون بقلق واضطراب، ولم يلبث أن انتفض من مضجعه فزعاً مهموماً. فقد اهتزت الشجرة التي تظله وسقطت في حجرة أوراق ذاوية صفراء. وقد دلته التجارب والأيام أن الأوراق الصفراء ما هي إلا نذير الطبيعة الرؤوم لأمثاله من منا كيد الدهر تحذرهم بأن قد آن الأوان ليبحثوا لهم عن مأوى يقيهم قر الشتاء وشآبيب السماء.
واعتقد سوبي رأسه بين يديه وغرق في لجة من التفكير. . إلى أين يذهب، وأي مأوى يختار لفصل الشتاء؟ إنه لا يطمع في القصور المنيفة، ولا يبغي وثير الفراش. . إن كل ما يطلبه وتهفو إليه نفسه غرفة ضيقة حقيرة في سجن الجزيرة يقيم فيها وتعصمه من البرد خلال أشهر الشتاء الثلاثة.
وقد كان سجن الجزيرة هذا مشتي سوبي المفضل لعدة سنوات خلت. . فكان إذا ما قرعت ريح الشتاء أبواب إلى سجن الجزيرة، كما يسعى المترفون إلى اتخاذ الترتيبات للاشتاء في الريفييرا وغيرها. . وها هو ذا الفلك قد أتم دورته وحل الشتاء. وفي الليلة السابقة نخر البرد عظامه رغم ما التف به من صحف وأوراق وهو نائم على المقعد في المتنزه. . وكان بوسعه أن يلتجئ إلى أحد الملاجئ الخيرية الكثيرة في المدينة، حيث يقدم له الطعام والمأوى مجاناً. . إلا أنه كان يفضل ضيافة السلطات القانونية على ضيافة الملاجئ الخيرية، وكانت نفسه الأبية ترى في الاستجداء ضعة وهواناً، فهو إن لم يدفع لمأواه في هذه الملاجئ مالا يدفع له من عزة نفسه ضريبة. . كلا ثم كلا. . أنه لن يستجدي لقمته على حساب كرامته. .
وما كاد يقف عند هذا العزم حتى انقلب يفكر في الوسيلة التي توصله إلى السجن. . وكانت الوسائل كثيرة سهلة، ولكن أفضلها أن يدخل مطعماً من المطاعم الراقية ويتزود بأكلة شهية(937/47)
لرحلته الطويلة إلى الجزيرة، وعندما يفرغ من طعامه ويتأكد أن كل زاوية من الزوايا معدته الخاوية قد سدت وامتلأت، يدعو إليه الخادم وينبئه بخلو جيبه، فيستدعي هذا شرطياً من الخارج دون ما ضجة أو جلبة إلى حيث يمثل أمام القاضي العادل. . .
وللحال غادر سوبي مقعده في المتنزه، وانطلق في شارع طويل عريض يغص بالحركة، حتى وصل إلى مطعم فخم تنبعث منه رائحة تفتح لها شهرة المكظوظين. ووقف سوبي لحظة أمام الواجهة، وأرسل نظراته إلى الداخل متأملاً مفكراً. هاهي ذي مائدة لا تبعد كثيراً عن الباب لا يشغلها أحد. فلو قدر له أن يصلها دون أن ينتبه أحد إلى سرواله المهلهل وحذائه الممزق، لهان الأمر وتحققت الآمال. . فهو حليق الذهن نظيف المعطف، ورباط عنقه أنيق جميل أهدته إليه إحدى المبشرات يوم عيد الشكر. . فإن ما جلس إلى المائدة فلن يظهر منه إلا الجزء الأنيق، ولن يداخل الخادم أدنى شك في أنه سيد محترم. . وعندئذ يطلب منه أطيب المأكولات، ولكن باعتدال، حتى لا يثير غضبة المدير وقت الحساب فينزل عقاباً غير الذي يرغب. . وارتاح سوبي لهذا الخاطر واتجه نحو الباب، ولكنه لم يكد يتخطى العتبة حتى اتجهت عينا رئيس الخدم إلى سرواله وحذائه. . وما هي إلا لحظات حتى تلقفته أيد قوية جبارة أخذت تجره دون ما ضجة إلى أحد الشوارع الجانبية.
وقدر سوبي أن الوصول إلى السجن لن يكون سهلاً كما تصور. ثم انطلق في شارع آخر وهو يعمل الفكر في وسيلة أضمن. وما كاد يسير بضعة أمتار حتى لفت نظره واجهة متجر كبير تشع منها تشع منها الأنوار الباهرة، وقد عرضت فيها شتى الملابس الثمينة. . وللحال التقط حجراً، وقذف به زجاج الواجهة فحطمه. . فتراكض السابلة يتساءلون عن الخبر، وقدم شرطي من رأس الشارع يهرول مسرعاً. ولكن سوبي لم يتحرك من مكانه، بل وقف جامداً ويداه في جيبه. . وواجه الشرطي بابتسامة عريضة. . وسأله رجل البوليس: من فعل هذا؟ فرد عليه سوبي برزانة وهدوء: أو لا يخامرك شك بأني قد أكون أنا من تسأل عنه؟
ولكن رجل البوليس لم يفكر في ذلك قط، بل لم يشأ أن يتخذ من سوبي شاهداً على ما حدث. . فسارق الواجهات لا يقف مكانه هادئاً ويداعب رجل القانون. . بل يولى بجلده هارباً. . وتلفت الشرطي حوله، فرأى رجلاً يركض مسرعاً للحاق بسيارة، فقبض على(937/48)
هراوته بشدة وانطلق وراءه مهرولاً. . ولوى سوبي شفتيه ازدراء وتابع سيره يائساً خائباً.
وعلى الرصيف المقابل رأى مطعماً من الرجة المتوسطة، شهي الطعام معتدل الكلفة. فلم يتردد لحظة واتجه إليه ودخله دون أن يلفت إليه الأنظار. ولما جاءه الخادم طلب من أطايب المأكولات أصنافاً وألواناً. وعندما انتهى دعا الخادم إليه وقال مبتسماً: إن جيبي يا صاحبي خال، فهيا أسرع واستدع البوليس، ولا تتركني أنتظر طويلاً. . ولكن الخادم قال مزمجراً - وما حاجتي إلى رجال البوليس؟ ثم التفت إلى زميل له قريب وأشار إليه بطرف عينه، فأقبل هذا عليه وأمسك الاثنان بسوبي من كتفيه وجراه حتى الباب ثم قذفا به إلى عرض الرصيف. . ولملم سوبي نفسه ونهض. . وعلى مقربة منه رأى شرطياً فعاوده الأمل. . ولكن الشرطي قهقه عالياً وانثنى في طريقة يواصل دورته. .
وواصل سوبي سيرة وقد تملك اليأس نفسه وقوض صروح أحلامه. . وقطع مسافة طويلة دون أن يبرق في ذهنه ما يحيى ميت الآمال. . وعلى حين غرة رأى سيدة فتية ممشوقة القد تقف أمام واجهة مخزن كبير تطوف بعينيها في معروضاته وعلى مسافة قريبة منها ينتصب شرطي طويل تبدو على محياه علامات القسوة والصرامة. . فخطر ببال سوبي أن يمثل دور أفاق يعاكس السيدات، وشجعه على ذلك مظهر السيدة الأنيق ووجود رجل البوليس، وقدر أنه لن يلبث أن يحس بقبضة رجل القانون تهوى على كتفه وتسوقه إلى مشتاه المحبب في سجن الجزيرة. . وللحال أصلح سوبي رباط عنقه وأمال قبعته فوق أذنه، واتجه نحو السيدة. . ولما اقترب منها أخذ يحملق فيها ويسعل ويتنحنح ويبتسم. ثم نظر بطرف عينه إلى الشرطي فرأى أنه قد انتبه إليه وراح يصليه بنظراته الحادة. وتململت السيدة في وقفتها ولكنها لم تنتقل من مكانها. . فتقدم سوبي منها بجرأة ثم رفع قبعته عن رأسه وقال لها: أهذ أنت يا باديليا؟ هلا جئت لنلعب معاً في ساحتنا؟ وكان رجل البوليس لا يزال يرقبه، وما كان على السيدة إلا أن تشير بإصبعها إليه حتى يكون سوبي في طريقة إلى الجزيرة. ولكن السيدة لم تفعل شيئاً من ذلك، بل ألقت بيدها على كتف سوبي وصاحب جذلة: كم اشتهي ذلك يا عزيزي ما بك. . ثم تأبطت ذراعه وهمست في أذنه: اعذرني إذ لم ألتفت إليك قبل الآن، فقد كان الشرطي يرقبنا عن كثب. وسار سوبي مرغماً إلى جانب صديقته المزعومة ومرا من أمام الشرطي وقد خابت الآمال وفاته حلم(937/49)
الاعتقال. وعندما وصلا إلى منعطف الشارع تملص سوبي من رفيقته وأطلق ساقيه للريح. . ولم يقف إلا عندما وصل ميدانا يغص بالحركة، فسار في الزحمة متأملا مفكراً. وما كادت عيناه تقعان على قبعة شرطي ثالث حتى لمعت في ذهنه حيلة جديدة. فنطلق في اتجاهه يترنح في مشيته كالسكران يضرب بالمارة يميناً وشمالاً ويغني بأعلى صوته أبذأ الأنعام. . وتأمله الشرطي لحظة ثم أدار له ظهره وقال لأحد المارة - هذا أحد المحتفين بحفلة كلية هارتفورد الخيرة، ولدينا تعليمات بأن لا نعترض أمثاله ما داموا لا يؤذون. وسمع سوبي وينصرفون عنه. .؟! وتابع سيرة بعد أن زره سترته ليدرأ عن نفسه برد الليل. . وفي أحد حوانيت التبغ رأى سيداً أنيق الثياب يشعل سيجاراً وقد ترك مظلته الحريرية الثمينة بالقرب من الباب. . فلم يتردد سوبي ودخل المخزن وأخذ المظلة وعاد إلى الشارع ببطيء وهدوء، ورآه السيد وتبعه مسرعاً وهو يقول - هذه مظلتي. . هذه مظلتي. . فرد عليه سوبي بازدراء - أحقاً؟ إذا كانت فعلاً مظلتك فلم لا تدعو البوليس؟ لقد سرقتها. . أليس كذلك؟ هيا إذن واستدع البوليس. . . وها هو أحدهم يقف هناك عند المنعطف. . وخفف صاحب المظلة من سرعته وكذلك فعل سوبي مخافة أن يتراجع السيد وتفوته الفرصة. وراقب البوليس ما يجري باهتمام. . وقال السيد - عفواً، عفواً، فكثيراً ما يحدث هذا الالتباس، وإني لأعتذر عما بدر مني إذا كانت هذه مظلتك فقد أخذتها اليوم خطأ من أحد المطاعم وأنا أحسبها مظلتي، فإذا عرفت فيها مظلتك فأرجو. . . فقاطعه سوبي بحدة: طبعاً إنها مظلتي. . . وعاد صاحب المظلة أدراجه، وانصرف اهتمام الشرطي إلى مساعدة سيدة تقطع الشارع من رصيف إلى رصيف واتجه سوبي جهة الشرق وطرق شارعاً خرباً. . . ثم قذف بالمظلة إلى إحدى الحفر بغضب وثورة وهو ينزل اللعنات على رؤوس رجال البوليس الأغبياء. ووصل أخيراً إلى شارع يخف فيه الضجيج وتقل الحركة، واتجه دون ما شعور صوب متنزه ماديسون. وعند منعطف انعدمت فيه الحركة وانقطعت السابلة توقف سوبي عن السير وثبت في مكانه وقد عقل منه القدم والقلب معاً. . فعلى بعد خطوات قليلة منه رأى كنيسة عتيقة تآكلت حجارتها وتفتتت ومن زجاج نوافذها الملون ينبعث شبه ضوء أرجواني يحمل على أمواجه أنغام أرغن ناعمة شجية، نفذت إلى أعماق روحه وملكت عليه لبه. . وكان البدر يخطر في كبد السماء باسطا على الكون ستراً(937/50)
من لجين، والطير المستجم على الشجر يزقزق في أمن وهدوء. . . فكان لهذا المشهد الطبيعي وذاك النغم الهادئ في نفس سوبي فعل السحر، فوقف وقفة المتعبد الضارع في هيكل الخشوع. وترك رأسه يسقط على صدره وأرخى لفكرة العنان. . إنه ليذكر هذا اللحن السحري ويعرفه تماماً. . لطالما ترنم به وردده يوم كانت حياته هنيئة رخية يظللها عطف الأب وحنان الأم. ويجملها أنس الصحب والرفاق ولذة الأمل والرجاء. آه ما كان أحلاها من أيام. . لقد صدق من قال: إن الدهر مداج ذميم يستل الشقاء من ضلع الهناء. ولكن لم ألوم الدهر وأنا الملوم أولاً وآخر؟ لقد أبيت الهدى والإرشاد، وركبت رأسي وسرت وفق هواي تاركاً خطاي حرة مسترسلة في دروب المعاصي والآثام، حتى استقر بي المطاف على مقعد في أحد المنتزهات. . ودفن سوبي وجهه بين راحتيه كأنما يحجب عن عينيه صور ماضيه البغيض. . ولم يلبث أن أشرق في ذهنه خاطر جميل، وشعت في ظلمات نفسه بوادر أمل. . لم لا يصلح حاله ويبدأ حياته من جديد. . إنه مازال في ربيع شبابه وكامل قوته. . فليجند قواه الفتية ويشنها حربا عاتية على قوى الشر والخمول. نعم! سينزل إلى الميدان، ويزاحم بمنكبيه، ويقرع أبواب العمل بقبضتيه حتى تستجيب له. إنه يذكر أن مستورداً للغراء كان قد عرض عليه يوماً أن يعمل عنده سائقا، فأبي ترفعاً. . . سيذهب إليه في الغد ويعمل عنده بأي أجر، حتى يجعل من نفسه شخصاً جديراً بالفخر.
وضاء وجه سوبي لهذا الخاطر وافتر ثغره عن ابتسامة مشرقة. . ولكنه سرعان ما انكمش في نفسه وغاض البشر من محياه، عندما هبطت على كتفه قبضة ثقيلة. فالتفت وراءه ليرى شرطياً يتأمله. وسأله الشرطي:
- ماذا تعمل هنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
- فقال سوبي: لا شيء
- إذن فهيا معي إلى قسم البوليس. .
وفي اليوم التالي أصدر القاضي حكمه عليه بالسجن ثلاثة أشهر في سجن الجزيرة.
رمزي مزيغيت(937/51)
العدد 938 - بتاريخ: 25 - 06 - 1951(/)
3 - على هامش السياسة الدولية
للأستاذ عمر حليق
من الأساليب التي تتبعها بعض الحكومات الكبرى التي لها مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية واسعة مع شعوب الشرق للتعرف على حقائق الخلق القومي لتلك الشعوب هي جمع كل ما ينشر عن الحكومات الأوربية والأمريكية في ألسنة الرأي العام في دول الشرق من افتتاحيات صحفية ودراسات علمية وتعليقات سياسية وفصول من كتب التاريخ والآداب التي تدرس في مدارس دولة من دول الشرق، وغير ذلك من مواد الغذاء الفكري التي تتوفر لشعب من الشعوب.
ويعرف كاتب هذه السطور أن هناك ثلاث جامعات أمريكية كبرى تقوم الآن بتحليل هذه المواد المجموعة من مختلف بلدان الشرق العربي؛ وهي التي تغذي القارئ العربي بالغذاء الفكري عن أبناء السياسة الأمريكية المعاصرة، وعن التاريخ والأدب الأمريكي، وعن الإنتاج الأدبي الفني الذي يصدر إلى الشرق العربي من هوليود في شكل أفلام أو قصص أو صور فوتوغرافية تمتلئ بها صحف الناطقين بالضاد.
والجامعات الأمريكية المذكورة تقوم بهذا العمل بتكليف من المراجع الأمريكية المسؤولة وعلى نفقتها. ويقوم خبراء علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي وعلم الأنتروبولوجيا الثقافية بتحليل هذه المواد ليتيقنوا من الفكرة التي يحملها الشعب العربي عن أمريكا؛ لا في ناحية السياسة والاقتصاد فحسب، بل في شتى أوجه النشاط الفكري التي يلعب فيه الخيال والاستنتاج دوراً كبيراً.
وهذه الدراسة توفر لصناع السياسة وأرباب الأعمال وقواد الجيش أسلحة علمية على غاية من الدقة والمهارة يستطيعون بواسطتها معالجة مشاكل الشرق والغرب.
والناس في أغلب الحالات يعتقدون أن نشاط دولة ما في توثيق علاقاتها مع الدول الأخرى يقتصر فيه على الدعاية (البروبوغاندة) أو المساعدة المالية أو الضغط السياسي أو ما شاكل ذلك من أوجه السياسة الدولية التي تحمل أنباءها كل يوم الصحف السيارة ورسائل المواصلات الفكرية السريعة وقل ما يفطن القارئ إلى أن هناك أساليب أخرى لتوثيق العلاقات - خيراً أم شراً - بين دولة وأخرى سواء أنكافأت مصالحها أم لم تتكافأ.(938/1)
فالشعب العربي وشعوب الشرق إجمالاً فقراء في وساءل المواصلات الفكرية السريعة؛ وفقراء في المكتبات العلمية الحديثة، وفقراء في التحليلات والتعليقات السياسية العميقة التي تعالج المشاكل الدولية من وجهة النظر العربية البحتة. فمعظم ألسنة الرأي العام في الشرق عالة في معلوماتها واستنتاجاتها على مجرى وتطورات السياسة الدولية - عالة على وكالات الأنباء العالمية (روتر والأسوشيتدبرس وغيرهما) وعلى بحوث الأخصائيين الأجانب، وعلى هذه المجلات العلمية القليلة الانتشار التي لاتصل منها إلى الشرق العربي إلا طائفة ضئيلة. ولذلك فإن تحليل قارئ الصحف السيارة في العالم العربي عن الشؤون السياسية الدولية متأثر حتماً بما يتغذى به من أنباء وتعليقات ترد إليه مباشرة عن طريق المعلقين السياسيين والصحفيين والكتاب الذين يعنون بتوجيه الرأي العام، والذين يتأثرون بدورهم لذلك الاجتهاد الأجنبي. وقل أن تجد في العالم العربي - وفي أكثر الدول الصغيرة الشرقية والغربية كذلك - مؤسسات أهلية تعيش على دخل ثابت تتوفر على تحليل الاتجاهات الدولية من وجهة النظر القومية البحتة (كما تفعل مثلاً مؤسسات كاربنجي وروكوفلر ومعهد العلاقات الخارجية في أمريكأن وشاثام هاوس في بريطانيا) غير متأثرة بالاعتبارات السياسية الداخلية أو الضغط الحكومي أو المصلحة الاقتصادية الخاصة بطبقة من طبقات المجتمع.
وبالإضافة إلى تلك المؤسسات الأهلية فإن الجامعات في أوروبا تتوفر في دوائرها المختلفة على القيام بمثل هذه التحليلات التي همها الدقة العلمية المجردة، والبحث الثقافي الخالص. وتنشر تلك الدراسات في بحوث، وانتشارها محدود، ولكن أثرها بعيد، إذ أنها توفر لصناع السياسة الرسميين ولغيرهم من المسؤولين عن توجيه الرأي العام وللمثقفين وغيرهم من المواطنين - توفر لكل هؤلاء ذخيرة علمية نافعة.
قلنا إن الشرق وغيره من الشعوب التي لم يكتمل بعد نموها على نحو النمو في العالم الغربي - هذا الشرق يستمد استنتاجاته عن مجرى العلاقات الدولية عن طريق غير مباشر - أجنبي في أصوله وهدفه، إذ لا يعالج القضية من وجهة النظر العربية وإنما يعالجها من وجهة النظر الدولية التي صدرت فيها الدراسة.
وهذا التأثير غير المباشر يخلق في انطباعات الناس في الشعوب الفقيرة تأثيراً لا يمكن أن(938/2)
يكون إيجابياً؛ بمعنى أنه مجرد من (الدعاية) حتى لو افترضنا بأن هذه الدعاية جاءت عفواً بدون تصميم أو تعمد.
وهذا الوضع يوفر للدول ذوات المصالح في علاقاتها مع العالم العربي - وغيره من الشعوب العالم - وسائل على غاية من الدقة والمهارة لتوجيهه توجيهاً يتماشى والمصلحة الجوهرية لتلك الدول. أو لا يفطن كثير منا في بعض الحالات إلى هذا النوع من التوجيه فيما تحمله إلينا وكالات إلى هذا النوع من التوجيه فيما تحمله إلينا وكالات الأنباء (الأجنبية) من أنباء أو تعليقات المفروض فيها أن تكون صادقة نزيهة، ولكنها في الواقع صادرة من (مصدر رسمي) أو (مصدر وثيق) في وزارة الخارجية لدولة من الدول التي لها مصالح مباشرة في ترويج ذلك الخير في ألسنة الرأي العام العربي؟ فإذا فطن بعضنا إلى هذا النوع من الغش السياسي في بعض الحالات فإن أكثرنا لا يفطن إليه في جميع الحالات، إذ أنه يستند إلى أسلوب في التوجيه يستمد أصوله من الدراسات الاجتماعية والنفسانية العاطفية للمقومات الخلقية للشعب العربي على نحو ما أشرنا إليه في مكان آخر من هذا البحث، ومن التيارات السياسية والاقتصادية العابرة والوسيلة الوحيدة للتغلب على هذا الوضع - وهو وضع خطير إذا دققت فيه - هي أن توفر لصناع السياسة الرسميين في الدول العربية وللمعنيين بتوجيه الرأي العام العربي من صحفيين ومعلقين سياسيين وغيرهم من المواطنين الواعين وسائل تكشف لهم عن تلك الأساليب العلمية والبحوث العميقة التي توفرت لدى أهل الحل والربط في الدول الكبرى ذوات المصالح التي لها صلات مباشرة وعلاقات جوهرية مع العالم العربي - تلك الأساليب التي يبدو أنها قد حققت قسطاً كبيراً من النجاح لتلك الدول ذوات المصالح في علاقاتها مع العرب - وقد يكون هذا النجاح متماشياً مع المصلحة العربية أو قد لا يكون، إنما المهم أن يكون أولو الأمر والمسؤولون عن توجيه الرأي العام مدركين لتلك الأساليب عالمين بدقائقها وخفاياها. وفي الحديث الشريف (من تعلم لغة قوم أمن شرهم) , واللغة هنا يجب أن لا تعني فقط الكتابة والمخاطبة، وإنما يجب أن تشمل الاطلاع على تلك الأساليب العلمية الدقيقة التي ندرس بها وضعية جيراننا في هذا العالم - خصوماً وأصدقاء - الفكرية والعاطفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها على نحو ما سبق استعراضه.(938/3)
فدوائر الاستخبارات السياسية والحربية للدول الكبرى تعتمد على مصدرين في دراستها لوضعيات الشعوب الأخرى:
الأول يزودها به عملاؤها من (الجواسيس) من رعاياها أو من مخدوميها الغرباء. وهذا النوع من الاستخبارات لا تحتاج إليه الدول الصغرى في علاقاتها مع الدول الكبرى إلا بقدر محدود، لأنه يركز نشاطه في آلة الحرب، والاتصال بالعناصر من نظم الحكم في الدول المتخاصمة وغير ذلك من الأمور التي تهم الدول التي تقع على عاتقها مسؤولية الحرب والسلم العالمي.
والمصدر الثاني: (وهو الذي يعنينا هنا) استنتاج المعلومات الدقيقة عن الوضعية الحقيقية في دولة ما عن طريق ما ينشر فيها من صحف ومجلات وإذاعات وكتب وتقارير وما يعكسه الممثلون الدبلوماسيين من ألوان الاتجاهات المستجدة في الدولة التي انتدبوا لتمثيل حكوماتهم بها.
وتحت هذا النوع من الاستنتاج تأتي دراسات من المستشارين وأهل الاختصاص في الدوائر الحكومية في المؤسسات العلمية الأهلية والجامعات وحلقات النقاش الحديث المنتظم على النحو الذي لفتنا إليه النظر في مكان آخر من هذه الكلمة وكثير من هذه الدراسات ليس له طابع السرية في أكثر الأحيان؛ وإنما يباع ويشتري في مكتبات معينة يعرفها أكثر المعنيين بهذا اللون من ألوان الثقافة.
إذن فالحصول على النوع الثاني من الاستنتاجات شرعي لا قيود عليه. ويجب أن لا يقتصر هذا النوع من النشاط على الملحقين الثقافيين في المفوضات والسفارات، وإنما يجب أن يخصص له فرع خاص في الدوائر المسؤولة في حكومات الوطن، وأن تشجع الجامعات على القيام به، وأن تقوم على الاهتمام به المؤسسات القومية، وأن ينشر في الناس أو على الأقل يوزع على المعنيين والمسؤولين عن توجيه الرأي العام العربي من كتاب صحفيين ومعلقين بالإضافة إلى الرجال الرسميين والنواب والشيوخ وغيرهم.
وهذا بالفعل ما تقوم به مثلا الحكومتان الأمريكية والبريطانية في صلاتهما مع نواب الأمة وشيوخها والصحافة المحلية ووكالات الأنباء والمراسلين الأجانب والمدنيين السياسيين وغيرهم، إذ أنها توفر لهم من الحقائق الأوضاع السياسية في الداخل والخارج ما تسمح(938/4)
المصلحة القومية بنشره ولا يدخل في عداد ذلك طبعاً التقارير السرية وما شابهها من المراسلات الدقيقة الخاصة
ومن أمثلة الحاجة الماسة إلى هذا النوع من توصيات السياسة الخارجية ما اختبره كاتب هذه السطور منذ بضعة أشهر وقد حدثني مؤخراً عربي مسئول يقوم بعمل سياسي هام في منطقة حساسة على حدود إسرائيل بأنه كان منذ عامين أو أكثر يتلهف للحصول على معلومات عن بعض حقائق الوضع السياسي والاقتصادي والعسكري اليهودي كما يعكسها الرأي العام اليهودي في إسرائيل والخارج مما ينشر في عشرات بل مئات النشرات والدراسات التي تصدر بالعبرية واللغات الأجنبية في إسرائيل وفي أمريكا وبريطانيا؟. قال لي ذلك وهو عالم بأن اليهود يحصلون على جميع الصحف والمجلات والكتب العربية والإنتاج الفكري العربي - بوسائلهم الخاصة وهي وسائل هينة - ويستعملونها في دقة ومهارة لتوجيه مكرهم السياسي في هيئة الأمم وفي لجان الهدنة العسكرية وفي أعمالهم الجاسوسية في صميم البلدان العربية، وفي توجيه إذاعتهم العربية من راديو تل أبيب وفي بنهم للدعاية في دخيلة سواء عن طريق المراسلين الأجانب الذين يتخذون إسرائيل مركزاً لهم؛ أم عن طريق (مكاتب الدعاية اليهودية) في نيويورك وواشنطون ولندن ونيودلهي وكثير من عواصم العالم.
جرى هذا الحديث بيني وبين ذلك العربي المسؤول في نيويورك فما كان منا إلا أن اتفقنا بضعة أيام استطعنا خلالها أن نجمع بصورة شرعية لا غبار عليها مئات من النشرات والكتب والصحف والتقارير عن إسرائيل باللغة العبرية والإنجليزية والفرنسية من بعض المكتبات التجارية في نيويورك وواشنطون ومن مكاتب الدعاية اليهودية نفسها في هذا القسم من العالم
وبعض هذه المواد يباع علنا وبعضها يمكن الحصول عليه عن طريق الاشتراك الخاص، وبعضها يوزع لمن يطلبه إذا اتبع بعض اللباقة وتفادي إثارة شكوك أولى الأمر اليهود، وهم شعب حذر مرهف الحس فيما يتعلق بمصلحته ومراميه. فإذا توفر على دراسة هذه المادة جماعة من أهل الاختصاص استطاعوا أن يستبينوا كثيراً من تطورات الغش السياسي اليهودي في نطاقه المحلي وفي نطاقه العالمي كذلك، وأن يتفادوا كثيراً من(938/5)
الأخطاء التي دفعنا إليها في صراعنا مع اليهود في إسرائيل نفسها وفي خارج إسرائيل.
هذا مثل أحببت أن أورده في معرض الحديث عن هذا اللون من أساليب الاستنتاج المفيد لمجرى السياسة الدولية وطبيعة العلاقات الدولية، كما توفرها الدراسات العلمية الحديثة للمقومات الخلقية والثقافية لمختلف الشعوب التي تؤلف هذه العائلة الإنسانية وهذا اللون كما ترى جزء من حرب الأعصاب التي لا تنقطع حتى في آونة السلم أو في فترة الهدوء التي تسبق العاصفة.
نيويورك
عمر حليق(938/6)
8 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
وضع الحديث وأسبابه:
كان من آثار تأخير تدوين الحديث إلى ما بعد المائة الأولى من الهجرة وصدر من المائة الثانية، أن اتسمت أبواب الرواية وفاضت أنهار الوضع بغير ما ضابط ولا قيد، حتى لقد بلغ ما روى من الأحاديث الموضوعة مئات الألوف لا يزال شيء كثير منها منبثاً في الكتب المنتشرة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
والحديث الموضوع هو المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله (ص) زوراً وبهتاناً سواءً أكان ذلك عمداًأخطأ ووضع الحديث على رسول الله كان - كما قال أحد الأئمة: - أشد خطراً على الدين وأنكى ضرراً بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربيين، وأن تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضة وخوارج ونصيرية الخ لهو أثر من آثار الوضع في الدين.
قال المرتضى اليماني في كتابه إيثار الحقإن معظم ابتداع المبدعين من أهل الإسلام إنما يرجع إلى هذين الأمرين الواضح بطلانهما وهما الزيادة في الدين، والنقص منه، ومن أنواع الزيادة في الدين الكذب عليه.
وقال النووي في شرح مسلم نقلاً عن القاضي عياض: الكاذبون حزبان: أحدهما - حزب عرفوا بالكذب في حديث رسول الله وهم أنواع؛ منهم من يضع ما لم يقله (ص) أصلاً كالزنادقة وأشباههم. . . إما حسبة بزعمهم وتدينا كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب وإما أغراباً وسمعة كفسقة المحدثين، وإما تعصباً واحتجاجاً كدعاة المبتدعة وتعصبي المذاهب، وإما إشباعاً لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه، وطلب الفوز لهم فيما أتوه. ومنهم من لا يضع متن الحديث ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسناداً صحيحاً مشهوراً. ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ويعتمد ذلك إما للأغراب على غيره، وإما لدفع الجهالة عن نفسه. ومنهم من يكذب فيدعي سماع ما لم يلق. ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي (ص).
وقال العلامة السيد رشيد رضا في تفسير المنار(938/7)
(إن العابثين بالإسلام ومحال إفساد المسلمين وإزالة ملكهم من زنادقة اليهود والفرس وغيرهم من أهل الابتداع وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية قد وضعوا الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعها. ولقد كان الأستاذ الإمام محمد عبده يقول: (إن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الفتن).
وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: إن أصل الكذب في أحاديث الفضائل كلها من وجهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم (علي) حملهم على وضعها عداوة خصومهم. . فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث.
ولوضع الحديث والكذب على رسول الله (ص) أسباب كثيرة ذكرها المحدثون، جمعها السيد رضا ونشرها في مجلة المنار وها هي ذي: (أحدها) وهو أهمها ما وصفة الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشاً ونفاقاً وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين. قال حماد بن زيد، وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث - وهذا يحسب ما وصل إليه علمه واختباره في كشف كذبهأن وإلا فقد نقلوا أن زنديقاً واحداً وضع هذا المقدار. قالوا: لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال: وضعت فيكم أربعة آلف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل الحرام (ثانيها) الوضع لنصرة المذاهب جعل كل فريق يستفرغ ما في وسعه لإثبات مذهبة، ولم يكن المقصود من ذلك إلا إقحام مناظره والظهور عليه حتى أنهم جعلوا (الخلاف) علماً صنفوا فيه المصنفات، مع أن دينهم ما عادى شيئاً كما عادى الخلاف. . تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول: انظروا عمن تأخذون هذا الحديث، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً. وليس الوضع لنصرة المذاهب محصوراً في المبتدعة وأهل المذاهب في الأصول، بل إن من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذاهبه أو تعظيم إمامه سوف نذكر ونبين الكثير منها في موضعه إن شاء الله. وإليك الآن حديثاً واحداً وهو (يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي! وقد رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعاً. قالوا: وهذا الإفك لا يحتاج إلى بيان بطلانه، ومع هذا تجد الفقهاء المعتبرين يذكرون في كتبهم الفقهية شق الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه(938/8)
سراج الأمة. . (ثالثها) الغفلة عن الحفظ اشتغالاً عنه بالزهد والانقطاع للعبادة، وهؤلاء العباد والصوفية يحسنون الظن بالناس ويعدون الجرح من الغيبة المحرمة، ولذلك راجت عليهم الأكاذيب وحدثوا عن غير معرفة ولا بصيرة. . (رابعها) قصد التقريب من الملوك والسلاطين والأمراء. . وكما كذب علماء السوء على الرسول (ص) لأجل السلاطين كذبوا كذلك في وضع الأحكام والفروع الفقهية لأخلهم (خامسها) الخطأ والسهو - وقع هذا لقوم. ومنهم من ظهر له الصواب ولم يرجع إليه أنفة واستنكافاً أن ينسب إليهم الغلط. ولم تعرف رقة دين هؤلاء وعدم إخلاصهم في الاشتغال برواية الحديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع (سادسها) التحديث عن الحفظ ممن كانت لهم كتب يعتمد عليها فلم يتقن الحفظ فضاعت الكتب فوقع في الغلط (سابعها) اختلاط العقل في آخر العمر، وقع هذا لجماعة من الثقاة فكانوا معذورين دون من سلم بكل ما نسب إليهم من غير تمييز بين ما روى عنهم في طور الكمال والعقل وبين ما روى في طور الاختلاط والهرم (ثامنها) الظهور على الخصم في المناظرة ولاسيما إذا كانت في الملأ. وقال ابن الجوزي: ومن أسباب الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع من الاستدلال على ما يقوله كما يطابق هواه توفيقاً لجداله وتقويماً لمقاله واستطالة على خصمه ومحبة للغلب وطلباً للرياسة وفراراً من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره (تاسعها) إرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم واستمالتهم لحضور مجالسهم الوعظية وتوسيع دائرة حلقاتهم وقد ألصق المحدثون هذا السبب بالقصاص. . ونقول إن قصاص هذا الزمان قد اتبعوا خطوات أولئك الوضاع وحفظوا أكاذيبهم - فقلما نرى واعظاً يحفظ الصحاح وتراهم يكادون يحيطون بالموضوعات. . لأن معظمها خرافات وأوهام وتجرئ على المعاصي بالأماني والتشهي. . (عاشرها) شدة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس، ولعل الذي سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث الكذوبة هو قول العلماء: إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال. . وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام (حادي عشرها) إجارة وضع الأسانيد للكلام الحسن ليجعل حديثاً؛ ذكروا هذا للعلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض البحث عن حديث ووقع السؤال عن كونه صحيحاً أو ضعيفاً أو موضوعأن فيقول من في دينه رقة وفي علمه دغل هذا الحديث أخرجه فلان وصححه(938/9)
فلان، ويسند هذا إلى كتب يندر وجودها ليوهم أنه مطلع على ما لم يكن قد قرع سمعه ذلك اللفظ المسئول عنه قبل السؤال. وهذا نوع من أنواع الوضع وشعبة من شعب الكذب على رسول الله (ص) وقد يسمعه من لم يعرف حقيقة حاله فيعتقد صحة ذلك وينسبه إلى رسول الله (ص). وختم السيد رشيد رحمه الله هذه الأسباب بقوله:
والحاصل أن الثابت من الدين نقلاً بطريق القطع هو القرآن والأحاديث المتواترة وقليل ما هي وما كان عليه أهل العصر الأول من العمل الذي يتعلق بالعبادة، إذ العبادات وأساسها من العقائد وتهذيب الأرواح هو الذي كمل على عهد النبي (ص) جملة وتفصيلاً. وأما المعاملات والأمور القضائية فقد جاءت الشريعة بأصولها العامة وقواعدها الكلية. والجزئيات تجري على ما قال أحد الأئمة: (تحدث للناس أقضيه الخ).
الوضع بالإدراج
وقد يأتي الوضع من الراوي للحديث من غير قصد وعدوا ذلك من باب (الإدراج) والحديث المدرج ما كانت فيه زيادة ليست منه، والأمثلة في ذلك كثيرة نكتفي منها بحديث واحد وهو (أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم - فضيقوا مجاريه بالجوع. ذكره الغزالي في الإحياء. وقد قال العراقي - متفق عليه دون فضيقوا مجاريه بالجوع؛ فإنه مدرج من بعض الصوفية.
وقد ذكروا أن (الإدراج نوعان: إدراج في المتن وإدراج في الإسناد (ومدرج المتن) ثلاثة أقسام (الأول) في أول الحديث مثل: أسبغوا الوضوء وبل للأعقاب من النار (والثاني) في أثنائه وهو كثير مثل حديث (مس الذكر) (والثالث) في آخره وهو القلب المشهور كما في حديث الكسوف في الصحيح وهو (أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها وأما الإدراج في السند فيرجع إليه في مكانه من كتب القوم لأنه من فنهم.
وهناك أسباب أخرى للوضع ذكرها المستشرقون والباحثون في الدين الإسلامي من غير المسلمين أمسكنا عن ذكرها إيثاراً للإيجار. ومن يرد معرفتها يرجع إليها عندهم.
الوضاع الصالحون(938/10)
تبين مما ذكرناه في أسباب الوضع أن الكذب على رسول الله (ص) لم يكن مقصوراً على أعداء الدين وأصحاب الأهواء من المسلمين؛ بل كان يقع كذلك من العباد الصالحين ويجعلون ذلك حسبة في زعمهم ويحسبون أنهم بعملهم هذا يخدمون رسول الله ودينه، فكانوا إذا سألهم سائل، كيف تكذبون على رسول الله؟ قالوا (إننا نكذب له لا عليه! وإن الكذب على من تعمده)!
وقد روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن سعيد القطان قال: لم نر الصالحين في شيء أكذب نتهم في الحديث. وفي رواية لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث. قال مسلم يعني أنه يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب قال النووي: لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفون، ويروون الكذب ولا يعلمون أنه كذب
وروى مسلم عن أبي الزناد: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث. وقال إسماعيل بن إدريس سمعت خالي مالكا يقول، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم! لقد أدركت سبعين ممن يقول، قال رسول الله عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئاً لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن.
وقال الحافظ ابن حجر: وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث الترغيب والترهيب وقالوا نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعة! وما دروا أن تقويله (ص) مالم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب والندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام المكروه، ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامة حيث حوزوا وضع الحديث في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في الكتاب والسنة، واحتجوا بأنه (كذب له لا عليه) وهو جهل باللغة العربية.
وقال عبد الله النهاوندي، قلت لغلام خليل من أين لك هذه الأحاديث التي تحدث بها في الرقائق؟ فقال وضعناها لترقق بها قلوب العامة. وقد قال ابن الجوزي عن غلام خليل هذا إنه كان يتنهد ويهجر شهوات الدنيا ويتقوت الباقلاء صرفاً وغلقت أسواق بغداد يوم موته. وكان أحمد بن محمد الفقيه المروزي من صلب أهل زمانه في السنة، وأكثرهم مدافعة عنهأن ويحقر كل من خالفهأن وكان مع ذلك يضع الحديث وبقلبه.(938/11)
والأمثلة كثيرة جداً.
وقد قال العلائي: أشد الأصناف ضرراً أهل الزهد كما قال ابن الصلاح كذا المتفقهة. وأما باقي الأصناف كالزنادقة فالأمر فيهم سهل لأن كون تلك الأحاديث كذباً لا يخفي إلا على الأغبياء.
المنصور
للكلام صلة
محمود أبو رية(938/12)
مولانا محمد علي
رئيس الجمعية الأحمدية لنشر الإسلام - لاهور - الباكستان
للأستاذ علي محمد سرطاوي
تمهيد
(قدمنا لقراء الرسالة مولانا محمد على في مقال ترجمته له عن مجلة (ليت) الإسلامية التي تشرف عليها الجمعية الأحمدية في لاهور، تقديماً مختصرأن ووعدنا بكتابة مقال مفصل عن حياته المجيدة المباركة. . .
أما وقد بر بوعده صديقي الباكستاني السيد حسين تصدق القاري، فأمدني بما وصل إليه من لاهور عن مولانا محمد علي، فإنه ليشر فني أن أقدم على صفحات مجلة الرسالة الخالدة، أعظم المعاصرين خدمة للإسلام، وأقوى مبشر على الاضطلاع بجلائل الأمور.
والذين تقع في أيديهم ترجمة مولانا محمد على لمعاني القرآن إلى الإنجليزية، وهي تزيد على ألف وثلاثمائة صفحة من القطع الكبير قلما خطر لهم أن هذا العمل قد استغرق سنوات ثمانياً كان يشتغل في كل يوم منها ساعات تزيد في عددها على نصف مجموع ساعات الليل والنهار، وأنه استغرق في ترجمة معاني القرآن إلى الأردية سنوات سبعاً طويلة أخرى، وكان حفظه الله إذا ما أجهده العمل جالسأن راح يعمل واقفاً وراء منضدة مرتفعة عملت خصيصاً لهذه الغاية.
إننا ندعو إلى إقامة حفل تكريمي رائعة لمولانا محمد علي لمناسبة مرور نصف قرن على تطوعه مجاهداً بقلمه تحت راية الإسلام، ونقترح أن تقام في أرض عربية وأن يدعي عظيم المسلمين إلى ذلك الحفل البهيج، من لاهور تقديراً لجهاده وإعجاباً ببطولته، العربية للدراسات الإسلامية ومولانا محمد علي التقى الورع الذي ما انقطع عن أداء صلواته الخمس منذ كان صبياً في المدرسة، وعن صلاة التهجد من الساعة الثانية حتى مطلع الفجر منذ كان في الرابعة والعشرين حتى اليوم، وعن العمل المتواصل ليل نهار دون نصب في نشر مبادئ الإسلام، مثل من أمثلة القدرة الإلهية حين تشاء أن يتم عن طريق البشر ما ليس في استطاعتهم من المعجزات.(938/13)
ويشاء الله أن يرى مولانا محمد علي الحلم الرائع في سيطرة الإسلام على المبادئ التي يشقى البشر في ظلالها في أوروبا وأمريكا. وسيتم على يد مبادئ الإسلام تحرير الملايين العشرة من العبيد المعذبين في أمريكا الذين لم يستطيع إبراهيم لنكولن اليهودي، تحريرهم في حركته التي لم ترم إلا لبسط ظل اليهود على المسيحيين هناك؛ وسيرى تحرير المعذبين من المنبوذين في الهند، سوف يرى المبادئ الفاسدة والديانات الوثنية في طقوسها فاقدة الحياة على أقدام المبادئ المثالية الخالدة في الدين الإسلامي الحنيف.
ولعمر الحق أن لجوء ألمانيا الغربية في حل المعضلة التي خلقتها الحربان العالميتان المتتاليتان فيها من كثرة النساء وقلة الرجال، إلى السماح بالزواج بأكثر من واحدة زواجاً شرعيأن على الطريقة التي حل بها الإسلام المشكلة نفسها في صدر الجهاد، لنصر كبير لمبادئ الدين الحنيف الخالد.
لقد آن الأوان أن يهب المسلمون في بقاعهم المختلفة، يعرضون في سوق المبادئ، باللغات البشرية جميعهأن ما عندهم من مثل رائعة، ومبادئ سامية، وإنسانية صحيحة، وديمقراطية فطرية، ومساواة تامة، واشتراكية عادلة، على العالم المنهوك الذي يلفظ أنفاسه في ضجيج الآلات وانفجار القنابل الذرية.
ولقد آن للأزهر أن يستيقظ من سبات ألف سنة، وأن يشعر عن ساعد الحد ويتقدم إلى معركة الجهاد الصحيح، ويدخل في مناهجه تدريس عشر لغات على الأقل من لغات البشر المشهورة تدريساً متقناً؛ بحيث يكون في مقدرة خريجي قسم الدعاية الكتابة والخطابة والتحدث بسهولة عظيمة مع أصحاب هذه اللغات متى جاء دورهم للجهاد.
إن البشرية مشرفة على الفناء، والإنسان الذي يشاهد غريقاً ولا يمد له يد المساعدة، وهو يستطيعها؛ إنما هو إنسان غير كريم، والنبي العربي لم يخلق إلا ليتمم مكارم الأخلاق، فأدوا هذه الرسالة الأخلاقية الإنسانية أيها المسلمون.
وإذا قدر للصفحات التالية التي تفضلت الرسالة الغراء، ينشرهأن عن حياة مولانا محمد علي، أن تظهر للذين يقاومون المنكر بأضعف الإيمان، ما يصنع الإيمان الصحيح من المعجزات عن طريق العمل الخالص لوجهه تعالى، فقد وفقت إلى بعض ما ذهبت إليه في نشرها على المؤمنين. ومن يدري؟ فلعل ما فيها من حقائق تدفع العرب وهم مادة الدين إلى(938/14)
تأسيس الجمعيات التي تبشر بمبادئ الدين في الأقطار البعيدة، أسوة بالجمعية الأحمدية في لاهور.
وأتوجه، وأنا في نهاية هذا التمهيد إلى حياة مولانا محمد علي، بالدعاء إلى الله أن يمد الله في عمره المبارك المجيد، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم من خير للاسلام، وأن يحفظ الله الدولة الإسلامية الجبارة الفتية الباكستانية، وأن يمكن لها في الحياة ويعزها بالنصر، ويكلأها بعنايته. كما أتوجه بالشكر الجزيل للأستاذ محمد طفيل كاتب هذا المقال الرائع عن مولانا محمد علي، الأستاذ العلامة الباكستاني السكرتير المساعد للجمعية الأحمدية في لاهور الذي نشرة في مجلة (ليت) عدد (أيار 24 عام 1949)
لا مشاحنة في أن الحركة الأحمدية في التاريخ مدينة إلى مولانا محمد علي في الاتجاه الذي رسمه لها فسارت نحوه في خطوات وئيدة راسخة. ومن المحقق أنها كانت تكون حركة تختلف عما هي عليه الآن، لو لم يكن فجرها الذي أشرق على الظلام الذي اكتنفها في الوجود، إذ ورث عن مؤسس القاديانية ميزا غلام أحمد علمه الرائع العظيم في سيطرة الإسلام على جميع بقاع أوربا وأمريكا.
ومن المحتمل أن يكون قد ولد، ذلك الغلام الذي قدر له أن يترجم معاني الكتاب المعجز الخالد إلى الإنجليزية في قرية مرار الصغيرة التابعة لحكومة كابور ثالا في الهند ويتصل نسبه بأسرة عريقة في حسبها ونسبهأن فهو الابن الخامس لحافظ فاتح الدين زعيم القرية المذكورة.
وحينما بلغ الخامسة من عمره، أرسله أبوه مع أخيه مولانا عزيز بوخاش إلى المدرسة القريبة في قرية دباليور المجاورة، وكان أخوه أكبر منه بأربع سنين أو خمس وبعد مرور سنوات ثلاث عليهما في هذه المدرسة، أرسلا إلى المدرسة العليا في كاربو ثالا وبقيا فيها حتى أتما الدراسة الثانوية عام 1890.
وامتازت حياته في المدرسة بالذكاء والجد. وحينما كان يرجع إلى مسقط رأسه في مرار لقضاء عطلة الصيف كل سنة، كان يحرص على مشاركة القرويين في ألعابهم؛ ولاسيما في اللعبة التي كان يحب ممارستها كثيراً؛ ألا وهي لعبة (الكايادى). وكان إذا عاد إلى المدرسة يلعب (الكركيت) وبعض الألعاب الأخرى.(938/15)
وقد امتاز في هذا الوقت من عمره بالميل الشديد إلى الصدق والاستقامة في العمل والقول، والسير في ركاب الفضيلة والخلق القويم.
ولم يتعلم تجويد القرآن وتلاوته قبل الذهاب إلى المدرسة، ولكنه انصرف إلى إتقان ذلك من تلقاء نفسه، فعكف على القراءة وصبر على احتمال الصعوبات حتى أصبح يجيد التلاوة والتجويد.
ولما أتم دراسته الثانوية، كانت رغبة أبيه تتركز في أن يتمم دراسته الجامعية على الرغم من سوء حالته المادية، ولكنه استعان على كل ذلك بالصبر والجلد والعزيمة وأرسله إلى الجامعة في لاهور.
وقضى هناك خمس سنوات في الدرس المتواصل والاجتهاد فنال درجة بكالوريوس في العلوم عام 1894 ودرجة أستاذ في العلوم عام 1895.
وامتاز في دراسته الجامعية، كما امتاز في دراسته الثانوية، بالذكاء والنبوغ، وكان موضع إعجاب الجامعة بأسرها. وقد اختار اللغة العربية وتعمق في دراستها الجامعية، دون أن تكون من مواضيع اختصاصه، إذ كان الأول في الرياضيات في جامعة البنجاب وحينما طلب مرة شهادة من أحد أساتذته كتب له فيها: (أنه أحسن طالب في الرياضيات في جامعتنا) وبعد حصوله على شهادة البكالوريوس في العلوم، أخذ يستعد للحصول على شهادة الأستاذية في العلوم، فاختار اللغة الإنجليزية وتخصص فيها وعكف على دراسة آدابها فبلغ في ذلك شأوا بعيدأن وكان من بين الطلاب الخمسة الذين حصلوا على هذه الشهادة من جامعة البنجاب من مجموع ثلاثة وعشرين طالباً تقدموا للحصول عليها.
والغريب في حياته الجامعية، أنه لم يشترك في أي نشاط أدبي مهما كان نوعه، ولم يكتب في تلك الجامعة أي موضوع للنشر، ولم يرتق منصة الخطابة للتحدث عن أي موضوع، وأكثر من ذلك لم تبدر منه أية بادرة تدل على تلك الثروة الأدبية الرائعة المخزونة في ذكائه النادر، والتي قدر لها في مستقبل حياته أن تصنع المعجزات في خدمة الدين الحنيف. إنما كان منصرفاً إلى الألعاب الرياضية في أوقات فراغه في الجامعة ولاسيما لعبتي الكر كيت وكرة القدم. وحتى هذا الهدف وهو في الخامسة والسبعين من عمره السعيد المجيد المبارك، يخرج في الصباح مبكراً للسير مسافات لا يستطيعها من كان في مثل سنة، وإلى(938/16)
هذا الميل إلى الرياضة، يعزى السبب الأول في تمتعه بالصحة الجيدة في عمر من هذا النوع
وبعد اجتيازها امتحان البكالوريوس في العلوم اختارته الكلية الإسلامية في لاهور أستاذاً للرياضيات فيهأن وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وهو لا يزال مرتبطاً بجامعة البنجاب في استعداده على فحص الأستاذية في العلوم. وحينما حصل على الشهادة الأخيرة، التحق بكلية الحقوق في الجامعة نفسها وكان الثاني والأول والثالث في ترتيبه في امتحانات السنوات الثلاث في القانون في تلك الجامعة، وبذلك حصل على شهادة الحقوق بامتياز.
وفي عام 1897 ترك التدريس في الكلية الإسلامية وانضم إلى مدرسة اللغات الشرقية في لاهور وبقي أستاذاً فيها حتى عام 1900 وحين ترك عمله في هذه المدرسة ليتمرن على المحاكاة في جورادسيور اتجه اتجاها جديداً لم يدر له على خاطر أو يمر له على بال. ذلك أنه أمضى في تمرينه في تلك المدينة ثلاثة أشهر، ولكنه ترك ذلك العمل استجابة لرغبة ميرزا غلام أحمد القادياني مؤسس الحركة الأحمدية في تاريخ عام 1890، ليرأس تحرير مجلة (ريفيو أف ربلجن) التي أزمع تأسيسها لحمل رسالة الإسلام إلى أوربا وأمريكا.
وترجع صلة مولانا محمد علي بمؤسس الأحمدية إلى عام 1892 حينما زار حضر مزرا غلام أحمد مينة لاهور، فذهب الشقيقان لزيارته، لكثرة ما كان يصل إلى مسامعها في قربتهما من أخبار صلاحه وتقواه، تلك القرية التي لم تكن لتبعد عن (قاديان) مسقط رأس المجدد غير عشرين ميلاً. وقد سمعا من حديثة أن الوقت قد حان لسيطرة الإسلام على بقاع الأرض بأسرهأن متأثراً بدعوته تأثراً عميقاً.
وفتحت هذه الحادثة صفحة جديدة في حياة مولانا محمد علي ولو لم يقدر له التاريخ الاتصال بشخصية مؤسس الحركة الأحمدية الجبارة والتأثر بهأن لما كان أعظم شخصية حية الآن في عمق الاطلاع على الدين الإسلامي.
وبعد انضمامه إلى الحركة الأحمدية، بقي ثلاث سنوات في لاهور، كان يزور فيها قاديان وينقل إلى اللغة الإنجليزية النشرات والكتب التي كانت تصدر عن مرزا غلام أحمد.
وكان الوصول إلى قاديان في تلك الأيام عسيراً جداً؛ لأنها كانت تبعد أثنى عشر ميلاً عن بانالأن أقرب محطة لسكة الحديد، ولأن قطع هذه الأميال صعب جداً لوعورة الطريق،(938/17)
ولكن مولانا محمد علي، كان الرغم من تلك، يذهب أيام السبت من كل أسبوع في صحبة بعض الأصدقاء سيراً على قدمية، ويعود صباح الأحد لمواصلة أعماله في الكلية.
وحينما أراد العمل في المحاماة والتمس النصح والإرشاد من المجدد، فأشار عليه أن يتريث قليلاً في الأمر، لأنه يفكر في إصدار مجلة تحمل رسالة الإسلام إلى أوروبا وأمريكأن وأنه يرغب في أن يتولى تحرير المجلة والإشراف عليهأن فاستجاب للرغبة الكريمة، وأقلع عن فكرة الاشتغال بالقانون، وعكف على عمله الجديد بكل ما أوتي من عزيمة، كان يغذيها الإيمان العميق بالرسالة السامية التي وقف حياته عليهأن وأخذ الذكاء الجبار الجيش، ويتحرك في النفس العظيمة المؤمنة، وراحت العبقرية الفذة تنطلق إلى آفاق العمل بأجنحة من نور، ومضت المقالات المركزة تتحرك إلى ميادين المعارك في أوروبا وأمريكأن تحمل في طياتهأن بلغة إنجليزية أنيقة، يطل من وراء كلماتها خيال شرقي رائع جميل، لإيقاع العالم بما في الإسلام من جمال وروعة وحلول عملية لأعقد مشاكل الحياة، ولقد مرت عليه خمسون سنة وهو لا يكل ولا يمل في هذا العمل المجيد الذي كان توفيق الله حليفه فيه.
البقية في العدد القادم
علي محمد سرطاوي(938/18)
بريطانيا العظمى
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(تابع)
تفويض إلهي
في 1603 انتهى عصر أسرة تيودور بموت الملكة العذراء اليصابات وبدأ عصر أسرة استيورت باعتلاء جيمس الأول عرش بريطانيأن وبدأ كذلك نضال عنيف بين الملك والبرلمان.
كان جيمس يؤمن بنظرية التفويض الإلهي ومعناها أن الملك مولى من قبل الله تعالى وليس لأحد من رعاياه محاسبته على أعماله وتصرفاته، وكان جيمس يستند في ادعائه على ما جاء في الكتاب المقدس من قول الله تعالى (بأمري ونيابة عني بحكم الملوك ويقوم المستشارون بوضع القوانين العادلة وبحكم الأمراء). وكذلك جاء في العهد القديم (شخص الملك مقدس وأي اعتداء عليه إثم عظيم، إن الملوك يجب أن ينظر إليهم كأشياء مقدسة، ومن يهمل في المحافظة عليهم يستحق الموت. . إن الملك ظل الله الذي يجلس على عرشه في السماوات ويدبر شؤون الكون. أيها الملوك باشروا سلطانكم بشجاعة لأنها مقدسة وضرورية لحياة الإنسان، ولكن باشروها في تواضع ورحمة.)
وهكذا آمن جيمس بسلطانه المطلق، ولكن البرلمان لم يوافقه فيما ذهب إليه وأصر أعضاؤه على الاحتفاظ بحقوقهم وقدموا إلى الملك عريضة جاء فيها:
(إن حقوقنا وحرياتنا موروثة وهي لا تقل خطراً ولا شأناً عن أملاكنا وأموالنا التي نتوارثها إن صوت الشعب في الأمور التي يصل إليها إدراكه من صوت الله.)، واختتموا عريضتهم قائلين: (إن عنايتنا يجب أن تعمل على تثبيت حب الشعب والتفاوت قلوبه حول عرش جلالتكم، وإن ولاء النواب وحبهم لجلالتكم قوي مكين.)
ولكن جيمس غضب، وبدأ النضال، وزاد المسألة سوءأن ملوك أسرة استيورت كانوا يؤمنون بمذهب كنيسة إنجلترا الأسقفي ظاهرأن ويبطنون إيمانهم بالمذهب الكاثوليكي الذي كان الشعب بكرهه.
وقد كانت الأزمة المالية العامل الأول في قيام النزاع، فقد أراد جيمس أن يفرض الضرائب(938/19)
حق من حقوقهم وطلبوا أن يناقشوا ميزانية الدولة. وتساءل النواب الساخطون هل للملك حق فرض الضرائب دون موافقتهم؟ ومن الذي يجب أن يشرف على ميزانية الدولة؟ أهو الملك أم البرلمان؟ وكان على الشعب أن يجيب إن عاجلاً أو آجلأن وبطريق السلم أو بطريق الحرب.
وقد مات جيمس الأول 1625 وأجيب عن الأسئلة السابقة بوضوح وجلاء في عصر ابنه شارل الأول أن أجيب عن السؤال التالي: (لماذا كانت إنجلترا أسبق الأمم الأوربية إلى تقييد سلطة مليكها وإخضاعه لإشراف البرلمان، وإلى منح أفراد شعبها حرياتهم المدينة، وإلى تحرير نفسها من سلطان الكنيسة في روما؟).
يجيب بعض المؤرخين على ذلك بقولهم إن الشعب البريطاني والجنس التيوتوني يمتاز بحبه لحريته المدينة وبرغبته في أن يحكم نفسه بنفسه. ويقول مؤرخون آخرون إن موقع إنجلترا بمنأى عن القارة الأوربية لم يجعلها في حاجة إلى الاحتفاظ بجيش قوي للدفاع عن نفسها ضد غزو محتمل، ويؤمن هؤلاء المؤرخون بأن ازدهار التجارة في عصر اليصابات وجميس وانتشار الرخاء كانا من أهم العوامل التي ساعدت على قيام النضال البرلماني في عصر أسرة استيورت.
شارل الاول: 1625 - 1649
كان شارل كأبيه يؤمن بالحق الملكي المقدس ولذلك كرهه الشعب وساعد على ازدياد كراهيته له زواجه من أميرة فرنسية، وسرعان ما قام النضال بينه وبين البرلمان وكان محور النزاع (من صاحب السيادة في إنجلترا؟ أهو الملك أم البرلمان؟).
وكان سبب قيام النزاع مسألة فرض الضرائب، فقد قام شارل بعدة حروب جعلته في حاجة إلى المال، وقد رفض النواب موافقة الملك على فرض ضرائب جديدة فاضطر إلى حل البرلمان مرتين في ثلاث سنوات واضطر إلى عقد قروض إجبارية، على أن الأزمة المالية لم تحل واضطر الملك عام 1628 إلى دعوة البرلمان، وأبى النواب الموافقة على الضرائب الجديدة إلا بعد مصادقة الملك على ملتمس الحقوق 1628 وفيه اعترف الملك للشعب بالحقوق الآتية:
أولاً: لا يجوز للملك فرض ضرائب جديدة على الشعب بدون موافقة البرلمان.(938/20)
ثانياً: ليس للملك حق عقد قروض إجبارية.
ثالثاً: ليس للملك أن يسجن أي فرد إلا بعد محاكمته أمام محكمة قانونية.
رابعاً: ليس للملك أن يرغم أحداً على إيواء الجند ويعتبر ملتمس الحقوق الوثيقة الثانية في تاريخ الديمقراطية البريطانية.
حكم مطلق:
وعلى رغم توقيع شارل الأول لملتمس الحقوق فإنه ظل يجمع الضرائب بطريق غير قانونية ولم يحترم ملتمس الحقوق، واحتج النواب. ولما رأى شارل إصرارهم فض البرلمان ولمدة إحدى عشرة سنة ظل يحكم بدونه، وتعرف هذه الفترة بفترة الحكم المطلق. لكن النواب قاوموه وأعلنوا أن من يدفع ضرائب لم يقرها البرلمان يعتبر خائناً لوطنه، فاضطر الملك إلى القبص على زعمائهم وإلقائهم في غياهب السجون لامتناعهم عن الدفع، ومع ذلك لم يستسلموا؛ وكان من أشهرهم جون همبدن.
ومن أشهر الضرائب التي لجأ شارل الأول إلى فرضها في تلك الفترة ضريبة السفن وهي تعطينا فكرة عن مدى حاجة الملك إلى المال وعن مدى مقاومة الشعب له. كانت ضريبة السفن في أول أمرها عبارة عن بعض السفن تقدمها الموانئ ولكنه أمر أن تستبدل السفن بالنقود ثم عممهأن فبعد أن كانت قاصرة على الموانئ أمر الملك بجمعها من المدن الداخلية، ولكن النواب (أعضاء البرلمان المنحل) رفضوا الدفع وطلبوا من الناس أن يمتنعوا عن دفعها كذلك ففعلوا وقبض الملك على همبدن وأعوانه وسجنهم، فلم يلينوا ولم يضعفوا وذهب همبدن مثلاً للبطولة البريطانية.
وفي 1640 اشتدت حاجة الملك إلى المال بسبب حروبه مع اسكتلندا فاضطر إلى البرلمان للموافقة على الضرائب، ولكن البرلمان ناوأ الملك مما اضطره إلى فضه، ويعرف هذا البرلمان بالبرلمان القصير.
لكن الملك عجز عن تسيير دقة الحكم واضطر إلى دعوة برلمان آخر عرف باسم الطويل (1641 - 1653). اجتمع هذا البرلمان ووجه كل همه للقضاء على أعوان الملك، فقبض على لورد سترافورد ولو وأعدمهما ثم قبض على السلطة وألغى غرفة النجم وطلب أن يكون هو المتصرف في كل شيء؛ يعين الوزراء ويقيلهم وكذلك يعين قواد الجيش، ولكن(938/21)
الملك رفض قائلاً (إني لو منحتكم (النواب) ما تطلبون فلن أكون إلا ملكاً بالاسم.)
حاول الملك التخلص من النواب واسترداد سلطته فانتهز فرصة الخلاف بين أعضاء المجلس وذهب إلى دار البرلمان للقبض على زعماء المعارضة؛ ولكن المحاولة فشلت واندلعت نيران الثورة، وناصرت لندن أعضاء البرلمان، واضطر الملك إلى أن يهرب إلى شمال إنجلترا.
نظم الجمهوريون قواتهم بزعامة أليفر كرمويل وحاربوا الملك شارل الأول وهزموه في موقعتي ناسبي ومرستن مور ثم سلم نفسه للبرلمان فحاكمه وحكم عليه بالإعدام 1649 يقول جرين: (أثارت أنباء إعدام شارل الأول فزعاً ورعباً في جميع أنحاء أوربأن فطرد قيصر الروسيا وزير بريطانيا من بلاطه، وسحبت فرنسا سفيرها من لندن، وكانت هولندا أشد عداء للجمهورية التي قامت في بريطانيا.)
جمهورية:
بعد إعدام شارل الأول أعلنت الجمهورية في إنجلترا واختير كرومويل حامياً لهأن وكان من المنتظر أن تتوطد دعائم الديمقراطية في عهد الجمهورية، ولكن هذه الآمال تبددت وانتقلت السلطة إلى يد كرمويل وقد عرض عليه عرش إنجلترا فأبى وهكذا ضرب مثلاً في الإخلاص للمبدأ والبعد عن المنفعة الذاتية. وامتاز عهد الجمهورية أيضاً بسيادة التقشف والزهد. وظلت الجمهورية قائمة ما بقى كرمويل، فلما مات انتخب ابنه مكانه ولكنه كان ضعيفاً فثار عليه الشعب وطلب إلى شارل الثاني ابن شارل الأول العودة إلى إنجلترا ففعل وتولى العرش 1660 وبذلك كانت حياة الجمهورية في إنجلترا قصيرة 1649 - 1660 ويرجع ذلك إلى أن الشعب لم يكن ميالاً للجمهورية، وإلى أنه كان قد ألف النظام الملكي، وكذلك كانت الجمهورية قائمة على أكتاف كرمويل ورجال الجيش فلما مات كرومويل انتهت الجمهورية.
الملكة العائدة: 1660 - 1688
كان شارل الثاني من أحب ملوك إنجلترا إلى الشعب البريطاني، وهناك قول مشهور (إن شارل الأول كان رجلاً طيباً وملكاً سيئأن أما شارل الثاني فقد كان رجلاً سيئاً وملكاً طيباً.)(938/22)
عاد شارل إلى لندن من منفاه فكان أول أعماله دعوة البرلمان إلى الاجتماع وكان هذا البرلمان ملكاً أكثر من الملك.
وامتازت الفترة التي أعقبت عام 1660 بانتشار اللهو والمجون والترف كأن القوم كانوا ينتقمون للزهد والتقشف اللذين اضطروا إليهما زمن الجمهورية.
ورغم هذا كان شارل الثاني يؤمن بالحق الملكي المقدس ويقول (إن الملكية لا يتفق وجودها مع وجود هيئة سياسية تحاسبهأن لأن الملك الذي تنقض آراؤه ويحاسب وزراؤه ليس له من الملك إلا الاسم.) ولكنه كان بعيد النظر كثيراً التساهل ولذلك لم تقم ثورات دستورية في عهده.
وأحب أن أضرب لك مثلاً عن مدى تقيد شارل الثاني برغبات شعبه فأذكر لك أنه كان يدين بالعقيدة الكاثوليكية التي كان الشعب يكرههأن ومع ذلك ظل شارل يبطن حقيقة عقيدته الدينية حتى إذا جاءه الموت أعلن وهو يودع هذا العالم أنه قد عاش ومات وهو يؤمن بهذه العقيدة، مع أنه ظل طول حياته يظهر للشعب أنه يؤمن بمذهب كنيسة إنجلترا الأسقفي.
وقد امتاز عهد شارل الثاني ببدء ظهور الأحزاب السياسية في إنجلترأن إذ ظهر حزب التوري وحزب الهويج وقد تطورا فأصبحا حزبي الأحرار والمحافظين
ثورة: 1688
مات شارل الثاني وتولى بعده جيمس الثاني وكان كاثوليكياً متعصباً يؤمن بالحق الملكي المقدس ميالاً إلى التسامح مع الكاثوليك ولذلك كرهه الشعب والبرلمان، وقد أصدر لائحة التسامح الديني وأمر رجال الدين بتلاوتها في الكنائس ولكنهم امتنعوا فقدمهم إلى المحاكم ونكن حكم ببراءتهم.
وأخيراً كان الشعب يمني نفسه بأنه عند انقضاء أجل جيمس ستعتلي العرش ابنته ماري وكانت بروستانتية، ولكن في 1688 ولد له ولد من زوجته الكاثوليكية وبذلك صار وارثاً للعرش فلم يطق الشعب صبرأن وثار ضد جيمس واستدعى ماري وزوجها وليم أورنج من هولندا للحضور إلى إنجلترا لتولى العرش فقدما.
أرسل جيمس جيشاً ليحول بينهما وبين النزول في أرض إنجلترأن ولكن الجيش رفض أن يحارب الشعب وانضم إلى صفوفه في الترحيب بماري ووليم وأسقط في يد جيمس(938/23)
واضطر أن يغادر إنجلترا إلى فرنسا. وتعرف هذه الثورة بثورة 1688 المجيدة
بعد فرار جيمس اجتمع البرلمان وقرر أن عرش إنجلترا خال ودعا ماري ووليم لاعتلائه، وكان هذا معناه أن الملك مولى من قبل الشعب وبذلك سقطت نظرية التفويض الإلهي. بعد ذلك قدم البرلمان إلى الملكة وثيقة الثالثة في تاريخ الديمقراطية البريطانية وبمقتضاها تقرر.
أولاً: لا يعتلى عرش إنجلترا إلا من يؤمن بمذهبها الديني. (حرم العرش على الكاثوليك من أبناء جيمس).
ثانياً: ليس للملك أن يعطل القوانين التي يصدرها البرلمان أو أن يحتفظ بجيش أو أن يفرض ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان.
ثالثاً: أعضاء البرلمان أحرار في آرائهم ولا يحاسبون على أقوالهم داخل البرلمان وكذلك تقررت حرية الانتخاب للناخبين
وهكذا نرى أنه بعد نضال دام قرناً تقريباً تقررت المبادئ المعتدلة التي نادي بها أعضاء مجلس العموم فأصبحت الضرائب لا تفرض والقوانين لا توضع والجيش لا يدعى إلا بموافقة أعضاء البرلمان، كما تقرر أنه لا يجوز سجن فرد بمجرد صدور أمر ملكي، كما أنه لا يجوز أن تعطل القوانين بأوامر ملكية، وكذلك كفلت حرية المناقشة في البرلمان.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية بنود الثانوية(938/24)
عقيدتي
للفيلسوف الإنكليزي المعاصر برتر اند رسل
للأديب عبد الجليل السيد حسن
الفصل الثالث
السنن الخلقية
إن الحاجة الملحة للأخلاق نجمت عن تعارض الرغبات، سواء بين أناس مختلفين أو في أوقات مختلفة أو حتى في وقت واحد؛ فالرجل يرغب في احتساء الخمر ويرغب أيضاً أن يتهيأ لعمله في الصباح التالي، ونعده فاسداً إذا اختط لنفسه الخطة التي بالمبذرين والطائشين حتى ولو لم يصيبوا أحد غير أنفسهم بأذى. ويرى (بنتام) أن كل الأخلاق يستطاع ردها إلى (النفع الذاتي المستنير) وأن كل من يعمل دائماً ناظر على مدى الوقت إلى أقصى ما ينيله قدراً من الرضا الخالص، فإنه ينهج النهج القويم دائماً. أما أنا فلا أستطيع أن أقبل هذا الرأي؛ فالطغاة الذين وجدوا سروراً طافحاً من مشاهدة إنزال العذاب، لا أستطيع أن أثنى عليهم حينما أدى بهم الحذر والحكمة إلى أن يبقوا على أرواح ضحاياهم. رغبة منهم في تعذيبهم في يوم آخر. ومهما يكن من شيء فإن الحذر مما تتطلبه الحياة السعيدة؛ وهناك أشياء أخرى مماثلة لذلك، حتى (روبنسون كروزو) كانت عنده الفرصة لأن يمارس المثابرة، وضبط النفس، والتبصر، التي يجب أن تعد من الصفات الأخلاقية، لأن هذه الصفات زادت من مجموع رضاه دون إلحاق ضرر بالآخرين. وهذا الجزء من الأخلاق يلعب دوراً هاماً في تدريب الأطفال الذين لديهم ميل ضئيل إلى التفكير في المستقبل، ولو كان ذلك قد تحقق في زمن سالف لتحول العالم إلى فردوس، لأنه سيكون من السهل منع الحروب التي هي من عمل الهوى لا العقل. ومع ذلك فإنه رغماً عن أهمية الحذر فإنه ليس أهم جزء في الأخلاق. ولا هو بالجزء الذي يثير مشاكل ذهنية لأنه لا يتطلب اهتماماً بشيء خارج المنفعة الذاتية.
والجزء من الأخلاق الذي لا يشمله الحذر والحكمة، هو في جوهره مماثل للقانون أو لقواعد المجتمع؛ إذ أن ذلك منهج لتمكين الناس من أن يعيشوا في مجتمع مع بعضهم(938/25)
بالرغم من احتمال تعارض رغباتهم، لكن يحتمل هنا منهجان جد متباينين: فهناك منهج قانون العقوبات الذي يهدف إلى تحقيق التوافق الخارجي فقط، يربط الأفعال التي تعترض رغبات أناس آخرين في حالات معينة بنتائج غير مرغوب فيها. وها هو ذا منهج التقريع الاجتماعي: فإذا عد المرء مجتمعه الخاص شريراً فإن ذلك لون من ألوان العقاب، ولذا يتجنب ما يحذره معظم الناس من أن يعرف عنهم أنهم مخالفون لدستور مجتمعهم. ولكن هناك منهج آخر أمتن أساساً وأشد إقناعاً حينما يعمل به، وهذا المنهج هو أن نغير شخصيات الناس ورغباتهم بأن نضيق فرص التعارض والخلاف، بجعل نجاح رغبات إنسان واحد تتفق مع رغبات الكثيرين بقدر الإمكان، وهذا هو السبب في أن الحب خير من البغض، لأن الحب يحل الانسجام محل الاختلاف بين الأشخاص المرتبط بهم، وإن أثنين بينهما آصرة الحب ينجحان معاً أو يفشلان معأن ولكن حينما يكره أحدهما الآخر، فإن نجاحه هو فشل الآخر.
وإذا كنا مصيبين في قولنا إن الحياة السعيدة التي يلهمها الحب وتهديها المعرفة، فإن من الواضح أن الدستور الأخلاقي لدى أي مجتمع ليس قطعياً ولا مكتفياً بذاته، بل يجب أن يمتحن بقصد أن يرى: هل الذي أملاه مثلاً الحكمة وحب الخير؟ ولم تكن القوانين الخلقية دائماً معصومة من الخطأن فإن الآزتك يعدون من واجباتهم المشدودة، أن يأكلوا اللحم البشري، وذلك لئلا يصبح ضوء الشمس معتماً. ولقد اخطئوا في عملهم، ولعلهم كانوا يدركون وجه الخطأ فيه، لو كان عندهم شيء من الحب نحو الضحايا المضحي بها. وبعض القبائل يحسبون البنات في الظلام من سن العاشرة إلى السابعة عشرة، خوفاً من أن تجعلهم أشعة الشمس يحملون ولكن. . . من المؤكد أن قوانيننا الأخلاقية الحديثة لا تحتوي على شيء مماثل لهذه الأعمال الوحشية!! ومن المؤكد أيضاً أننا لا نحرم من الأشياء إلا تلك التي تضر حقيقة، أو على الأقل تلك التي بلغت حد الفظاعة، حتى أن أي شخص مهذب لا يستطيع أن يدافع عنها!!. . ولكني لست متأكداً مثل هذا التأكيد. وأن الأخلاق الشائعة لمزيج عجيب من المنفعة والخرافة، ولكن للجزء الخرافي القدح المعلي، لأن الخرافة هي أصل السنن الخلقية، فلقد كان في الأصل يظن أن بعض الأفعال لا ترضي الآلهة، وقد حرمت بالقانون لأن اللغة الإلهية كان من المتوقع ألا تحل بالأفراد الآثمين فقط،(938/26)
بل على المجتمع كله، ومن ثم فقد ظهر تصور الخطيئة على أنها الشيء الذي لا يرضي الإله. وليس هناك من سبب يمكن إبداؤه عن بعض الأفعال لماذا تكون غير المرضي أن يتحرق الطفل شوقاً إلى لبن أمه؟ ولكن عرف بالوحي أن ذلك هو الواقع. وفي بعض الأحايين كانت الأوامر الإلهية تفسر حبا في الاستطلاع؛ فمثلاً أمرنا ألا نعمل أيام السبت؛ وأضاف البروتستانت على ذلك معنى ألا نلعب أيام الآحاد، ولكن نفس السلطة السامية، تعزى إلى التحريم الجديد، كما هو للقديم.
ومن الجلي أن الإنسان ذا النظرة العلمية إلى الحياة، لا يدع نفسه ترهب نصوص الكتاب المقدس أو تعاليم الكنيسة، ولا يسره أن يقول إن هذا أو ذاك منالأفعال إثم، وبذلك ينتهي الأمر. بل سيتحرى إن كان ذلك يسبب ضرراً؟ وهل العكس الاعتقاد بأنه إثم يسبب ضرراً؟ وسيجد - وخصوصاً فيما يتعلق بالأمور الجنسية - أن أخلاقنا الشائعة تحتوي على قسم كبير أصله خرافي محض. وسيجد أن هذه الخرافة - مثل خرافات (الأزتك) - تحتم قسوة لا لزوم لهأن وأنها تزول إذا تأثر الإنسان بالمشاعر الرقيقة تجاه جيرانهم. ولكن المدافعين عن الأخلاق التقليدية، هم وحدهم أصحاب القلوب المتحمسة، كما فد يبدو في حب الحرب الذي يبديه رؤساء الكنيسة. وعلى ذلك، فالإنسان مدفوع إلى أن يظن أنهم يعتبرون الأخلاق كشيء قانوني يمكنهم من إشباع رغبتهم في تعذيب الآخرين: والآثم ليس من العدل خداعه، ومن ثم فهو بعيد عن التسامح الديني
ودعنا نتابع حياة الإنسان العادي من المهد إلى اللحد. ونلاحظ النقاط الخرافية التي تسبب له آلاماً. وأبدأ من الحمل والولادة، لأن تأثير الخرافة هنا جدير بالعناية، فإن الوالدين إذا لم يكونا متزوجين فالطفل ووصمة لا يستحق إلا اللعنة. وإذا كانا قد رزقا أطفالاً أكثر مما يحتمله دخل الأسرة فستكون الفاقة ونقض التغذية وتضخم السكان، بل ومن المحتمل جداً الزنا بين الأقارب؛ ومع ذلك فإن الغالبية العظمى من الأخلاقيين متفقة على أن الأحسن للوالدين ألا يعلما كيف يمنعان هذا البؤس بمنع الحمل. ولكي يسر ويغتبط هؤلاء الأخلاقيين فإن الملايين من الكائنات البشرية الذين لم يكن من الواجب أن توجد، تقاسي حياة كلها عذاب. وذلك لأنه قد فرض أن الفعل الجنسي شر إذا لم يصحب بالرغبة في النسل. وليس شراً حينما توجد هذه الرغبة، حتى ولو كان من المؤكد أن هذا النسل سيكون(938/27)
تعيساً. وقتل الإنسان فجأة ثم أكله - كما كان مصير ضحايا قبائل (الأزتك) - أقل درجة بكثير من الألم الصادر عن مولد طفل في محيط تعس وملوث بداء الزهري. ومن ثم فإن العذاب الأعظم هو الذي يسببه الأساقفة والسياسيون عن عمد وسبق إصرار باسم الأخلاق، فلو كان لديهم حتى أصغر جذوة من الحب أو الشفقة نحو الأطفال، ما ألصقوا بالقانون الأخلاقي هذه القسوة الشيطانية.
إن الطفل المتوسط يقاسي حين الميلاد؛ وفي أيام طفولته المبكرة، من الأسباب الاقتصادية أكثر مما يقاسيه من الأسباب الخرافية؛ فحينما يولد للنسوة الغنيات أطفال فإنهم يجدون خير أطباء، وخير عناية، وخير طعام وشراب، وخير راحة، وخير لعب؛ بينما النساء من الطبقة الكادحة لا يتمتعن بهذه المزايا. وقد عملت السلطات العامة بعض الشيء في سبيل العناية بالأمهات، ولكن وهي كارهة؛ ففي اللحظة التي تمنع فيها كميات اللبن المخصصة للأمهات لتغطية العجز في المصروفات، تنفق السلطات العامة مبالغ ضخمة في رصف طرق السكان الأغنياء، حيث حركة المرور ضئيلة. ويجب أن يعلموا أنهم بمثل هذا القرار يتسببون في موت عدد من أطفال الطبقة الكادحة، بسبب جريمة الفقر. ومع ذلك فإن الطبقة الحاكمة، يشد أزرها الأغلبية الساحقة من رؤساء الدين، وعلى رأسهم البابأن قد ارصدوا قوى الخرافة الضخمة في العالم لتدعيم الظلم الاجتماعي.
وتأثير الخرافة في كل مراحل التربية نكبة. فإن نسبة مئوية من الأطفال لديهم عادة التفكير. ومن أهداف التربية أن تخلصهم من هذه العادة. فالأسئلة المحرجة تقابل بالقول (صه. . صه) أو بالعقاب، وتستخدم العاطفة الجماعية في تلقين أنواع معينة من الاعتقاد، وعلى الأخص الأنواع الوطنية. والرأسماليون والحربيين ورجال الكهنوت، يتعاونون في التربية، في زيادة هذه الميول، لدى الإنسان المتوسط.
وها هي ذي طريقة أخرى تحطم بها الخرافة التربية، وهي تأثيرها في اختيار المدرسين، فلأسباب اقتصادية ينبغي ألا تتزوج المعلمة، وأسباب أخلاقية يجب ألا يكون لها صلات جنسية خارج نطاق الزوجية، مع أن كل من درس علم النفس المختص بالسقم يعلم أن إطالة أمد العذرة، جد مضر على المرأة، فلا ينبغي ألا تشجع عليه المدرسات في المجتمع السليم. وهذه القيود المفروضة تؤدي إلى رفض جانب من النسوة القويات الجريئات أن(938/28)
يتعاطين مهنة التدريس. وهذا كله يرجع إلى التأثير المستتر لمذهب الزهد الخرافي.
والأمر أسوأ في مدارس الطبقة المتوسطة والدنيأن فهناك الصلوات الكنسية والعناية بالأخلاق موكولة إلى رجال الدين؛ ورجال الدين غالباً ما يقعون في طريقتين كمعلمين للأخلاق، فهم ينكرون الأفعال التي لا تسبب ضررأن ويتجاوزون عن الأفعال التي تسبب ضرراً عظيماً. فهم جميعاً يسخطون عن الأفعال التي تسبب ضرراً عظيماً. فهم جميعاً يسخطون على الصلات الجنسية بين الشخصين غير المتزوجين اللذين يعشق كلاهما الآخر، ولكنهما بعد ليسا متأكدين أنهما يرغبان أن يعيشا معاً طوال حياتهمأن ومعظمهم يسخطون على تحديد النسل؛ ولكن أحداً منهم لا يسخط على وحشية الزوج الذي يتسبب في وفاة زوجته من كثرة الحمل. وقد عرفت قسيساً عصرياً كان لزوجته تسعة أطفال في تسعة أعوام؛ وقد أخبره الأطباء أنها إذا أتت بالعاشر فقد تموت. وفي العام الثاني حملت به فماتت، ومع ذلك فلم يسخط عليه أحد منهم، واستعمر في أبرشيته، وتزوج مرة أخرى، وما دام رجال الدين مستمرين في تجاوزهم عن القسوة وفي سخطهم على الاستمتاع البرئ، فإنهم لا يقدرون إلا على عمل الشر والضر كحراس الأخلاق الصغار.
وها هو ذا تأثيراً آخر سيئ للخرافة في التربية، وهو عدم تعليم الحقائق الجنسية، فإن الحقائق الفسيولوجية الأساسية ينبغي أن تعلم في الجنسين بكل بساطة، وبالطبع قبل سن البلوغ أي في هذا الوقت الذي لا يكونون فيه نشيطين. ففي سن البلوغ ينبغي أن تعلم أصول الأخلاق الجنسية غير الخرافية. ويجب أن يلقن البنون والبنات أنه لاشيء يبرر الاتصال الجنسي إذا لم يكن هناك ميل متبادل. وهذا على العكس من تعاليم الكنيسة التي تعتقد أنه ما دام الزوجان قد تزوجأن وما دام الرجل يرغب في طفل آخر فإن العمل الجنسي له ما يبرره أيا ما كان عظم نفور الزوجة. وينبغي أن يعلم البنون والبنات احترام كل منهما لحرية الآخر، وأن يشعروا أنه لا شيء هناك يمنح كائنا بشرياً - أياً كان - حقوقاً أكثر من الآخر، وأن الغيرة وحب التملك والاستئثار تقتل الحب. وينبغي أن يعلموا أيضاً طرق التحكم في النسل لكي يكونوا على بينة من أن الأطفال يجب أن يأتوا حينما يرغب فيهم. وأخيراً ينبغي أن يعلموا أخطار داء الزهري وطرق الوقاية والعلاج. وعلينا أن نتوقع من التربية الجنسية على هذه المناهج زيادة في السعادة البشرية لا تقاس.(938/29)
من الواجب أن يعرف أن الصلات الجنسية - في حالة عدم وجود الأطفال - أمر خاص محض لا علاقة للدولة أو الجيران به. وفي الوقت الراهن يعاقب قانون العقوبات على بعض صور معينة من الاتصال الجنسي لا تؤدي إلى ذرية، وهذا خرافة خالصة، لأن الأمر لا تأثير له على أحد إلا على الفردين المتعلق بهما مباشرة، ومن الخطأ أن يقال - حين وجود الأطفال - إن من الضروري لمصلحتهم جعل الطلاق مستحيلأن فالعربدة والسكر المعتاد، والقسوة والجنون، أمور تحتم ضرورة الطلاق لصالح الأطفال تماماً كما هو لصالح الزوجة أو الزوج. والاهتمام الغريب - في الوقت الحاضر - الخاص بالزنا ليس عقلياً تماماً. فمن الواضح أن أنواعاً عدة من سوء السلوك أشد خطراً على السعادة الزوجية من الخيانة المختلسة. وأشد خطراً من كل ذلك، هو إصرار الذكر على إنجاب طفل كل عام، هذا الإصرار الذي يبدو أنه من سوء السلوك أو القسوة المقنعين.
يجب ألا تكون السنن الأخلاقية شيئاً يجعل السعادة الغريزية مستحيلة، ولكن ذلك أثر من التشدد في الاقتصار على زوجة واحدة، في مجتمع عدد الجنسين فيه ليس متعادلاً. فبالطبع تحت مثل هذه الظروف تنتهك السنن الخلقية، ولكن حينما تكون السنن كذلك فإنها لا يمكن أن تطاع إلا بإنقاص كبير في سعادة المجتمع. ولكن حينما يكون من الخير انتهاكها (أي هذه السنن) لا مراعاتهأن فمن المؤكد أنه قد حان وقت تغييرها. وإذا لم يفعل ذلك فسيواجه كثير من الناس الذين يسيرون في طريق مضاد للمصلحة العامة، تغييراً غير مرغوب فيه في النفاق أو الذم. والكنيسة لا تحفل بالنفاق الذي هو جزية متملقة لسلطاتها. أما في أي مكان آخر فقد عرف النفاق على أنه شر يجب أن لا يحارب بهوادة.
وأشد ضرراً من خرافات اللاهوت خرافات القومية، وواجب كل فرد نحو دولته الخاصة. لأية دولة أخرى، ولكني لا أعرض في هذه المناسبة إلى مناقشة هذا الأمر أكثر من أن أشير إلى أن اقتصار اهتمام كل فرد على أبناء وطنه أمر مضاد لمبدأ الحب الذي عرفناه، كلبنة في بناء الحياة السعيدة. وهو كذلك مضاد للشخصية المستنيرة، لأن القومية الضيقة لا تخلق أبداً أمما منتصرة.
وناحية أخرى مما يعانيه مجتمعنا من جراء التصور اللاهوتي للخطيئة، وهي علاج المجرمين. فوجهة النظر القائلة بأن المجرمين (أشرار) ويستحقون (العقاب) ليست بشيء(938/30)
يستطيع أن نؤيده الأخلاق العقلية وليس من شك في أن بعض الناس يرتكبون أشياء يريد المجتمع منعهأن وهو على صواب في منعهأن ولنأخذ جريمة القتل كأوضح مثال، فمن الجلي أنه إذا أردنا مجتمعاً متماسكاً نتمتع بمباهجه ومزاياه، فلن نسمح للناس أن يقتل بعضهم بعضاً وقتما يشعرون بميل إلى أن يفعلوا ذلك. ولكن هذه المشكلة يجب أن تعالج بروح علمية محضة، فنسأل ببساطة: ما هي أنجع طريقة لمنع القتل.؟ ومن بين طريقتين متعادلتين التأثير في منع القتل نختار تلك التي تسبب ضرراً أقل للقاتل، فإن إيذاء القاتل مما يؤسف له، مثل الألم في العملية الجراحية، فقد يكون ضرورياً مثله، ولكنه ليس موضوعاً للتفكه والشعور بأخذ الحق الذي يسمى (الإهانة الخلقية) فليس إلا صورة من القسوة. وإيلام المجرم لا يمكن تبريره أبداً بفكرة العقاب لأخذ الثأر، وإذا كانت التربية المصحوبة بالشفقة. تساويها في التأثير، فإنها تفضل أكثر إذا كان تأثيرها أكثر. وبالطبع منع الجريمة وعقاب المجرم سؤالان متباينان. وموضوع توقيع الألم بالمجرم من المفروض أنه للإرهاب فقط. ومع ذلك فإذا جعلت السجون إنسانية إلى درجة أن السجن ينال فيها قسطاً عظيماً من التربية بدون مقابل، فقد يرتكب الناس الجرائم لكي يؤهلوا لدخولها. وليس هناك من شك في أن السجن يجب أن يكون أقل متعة من الحرية. ولكن خير طريق لتجنب هذه النتيجة أن تجعل الحرية أكثر متعة مما هي بعض الأوقات في الوقت الحاضر. ولكني لا أريد أن أطرق موضوع (الإصلاح الجنائي) ولكني لا أريد فقط أن أقول: إن من الواجب أن نعامل المجرم كما نعامل إنساناً مصاباً بالطاعون، فكل منهما خطر عام، وكل منهما يجب أن يحد من حريته، حتى يتوقف عن كونه خطرأن ولكن الرجل المصاب بالطاعون موضوع للعطف والمواساة، بينما المجرم موضوع اللعنة. وهذا وضع غير عقلي، وبسبب هذا الاختلاف في المعاملة فإن سجوننا أقل نجاحاً في شفاه الميول الإجرامية من مستشفياتنا في علاج الأمراض.
لكلام بقية
عبد الجليل السيد حسن(938/31)
الأدب والفن في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
مناقشة رسالة جامعية:
عافتني بعض العوائق عن حضور مناقشة الرسالة التي قدمها الأستاذ بدوي طبانة في كلية دار العلوم للحصول على درجة (الماجستير) وموضوعها (أبو هلال العسكري ومقاييسه البلاغية) ولكن شاباً أديباً هو صديقي الأستاذ حسن صبري علوان - جزاه الله صالحة - قد سد الثغرة وهو من أعزائي المدمنين على قراءة (الأدب والفن) وقد تعارفنا أولاً عن طريق المراسلة ثم التقينا فظفرت بصداقته. تفقدني صبري هناك يوم مناقشة تلك الرسالة، فلما لم يلقني حرص على أن يقوم مقامي ويؤدي مهمتي. وثمة مفارقة لا بأس بذكرهأن وهي أن صبري طالب بالسنة النهائية بكلية العلوم، ومع ذلك ستراه ينقد أساتذة الأدب في البلاغة في الجامعة: كلية دار العلوم وكلية الآداب، نقداً حصيفاً يدل على من وراء. . خرج من غازات المعامل وتجاربها وامتحاناتها إلى عالم الأدب الذي يعشقه، يرتاد آفاقه ويبحث عن مجالاته، وهو يسمى هذا العالم (العش الكبير) الذي يقابل (العش الصغير) عش دراساته في كلية العلوم. . . وهكذا نرى الأديب هو الأديب في أي مكان.
كتب إلى صديقي صبري يقول، وقد ذهب لحضور تلك المناقشة: (. . . فألقيت بجميع وراء كل كلمة قالها العارض، وكل كلمة قالها مناقش. . . ثم وجدت في نفسي حنيناً أن أكتب إليك، لأنك ناحية من نواحي العش الكبير الذي أستطيع أن أتنفس في أجوائه) ثم يحدثنا عن مناقشة الرسالة، فيقول:
(كانت هيئة التحكيم مشتملة على الأساتذة: إبراهيم سلامة رئيساً وعلى الجندي وأمين الخولي بك عضوين. . وبعد أن عرض الأستاذ طبانة رسالته. . أعطيت الكلمة للأستاذ علي الجندي الذي كان أكثر الثلاثة كما في المناقشة. . أعقبه الأستاذ أمين لخولي بك كان يهوى بفأسه. . كأنما يريد أن يقتلع الجذور! لا أن يهشم الأغصان! ثم أعقبه الأستاذ إبراهيم سلامة.
ابتدأ الأستاذ الجندي قائلاً: نحن وإن كنا سنعصرك. . فلا تخش. فقد يسكون كما نعصر عود القصب لنستخرج منه السكر!. . وقد كان كثير الاستشهاد بالشعر. . وكان يقول: قال(938/32)
أميرنا. . عندما يستشهد لشوقي!. . يريد أنه من الشعراء. . ولاشك أن هذا إعلان طيب على كل اعتراض في مناقشة الأستاذ الجندي. . وكان رأى الأستاذ الجندي ككرة المطاط إن ضغط عليها تباينت أبعاد حوافها عن مركزها. ولكن شاعرنا كان يصر في كثير أن يظل المركز على أبعاد متساوية. ومن ذلك قوله إن الجاحظ وأبا هلال لم يعطيا اللفظ كل شيء، واستشهد للجاحظ وترك أبا هلال. . فرد الأستاذ طبانة قائلاً إن النص لأبي هلال يلزمنا ويقول: (وليس الشأن في إيراد المعاني. فالمعاني يعرفها العربي والعجمي. . . وإنما هي جودة اللفظ. . . وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً) أي لا يكون خطأ!. . ولكن الأستاذ الجندي أصر. .!
وقد غمر شاعرنا النقاد غمرة ما كنت لأرضاها له قال: من هو الناقد الأدبي؟ هو رجل لم يستطيع أن يقول أي شيء! فأراد أن يقول في كل شيء!. لم يستطع أن يكون قاصاً أو شاعراً أو ناثراً. . فالتمس باب المجد من هذا الباب! وكان متحمساً كأنما يلقي قصيدة! وهو يعلم أن النقد موهبة لا تتفق لكثيرين في دولة النقد، كما أن الشعر موهبة لا تتفق لكثيرين في إمارة الشعر!
وقال إنه ألف ديواناً فإنه لا يبالي ما يقول فيه النقاد. ولكن ما يقول الجمهور المثقف. كأن النقاد ليسوا من هؤلاء! ولفت الأستاذ الجندي نظر صاحب منهجاً من مناهج الدراسات الأدبية.
وقد ذكر الأستاذ سيد قطب في المناقشة حين عرض الأستاذ الجندي لقولة الأستاذ طبانة عن كلمة عمر بن الخطاب في زهير: إنه كان لا يعاظل. . قال: إن التعليق منقول عن كتاب النقد الأدبي (للأستاذ سيد قطب). . . وكلا الرأيين خطأ! لأن كلمة عمر لم تكن أول عهدنا بالنقد المفصل! فهناك حكاية النابغة مع الخنساء وحسان. . إن صحت! وهناك محمد رسول الله. . كان ينهى عن الحوشى. . . والتشدق والتقعر! ويقول: إن من البيان لسحراً!. . . وحكاية النابغة إن صحت فإنما هي إعجاب أو حكم غير معلل. . وذيل القصة الذي يفصل ويعلل ظاهر البطلان لأنه لا يتفق مع طبيعة النقد في هذا العصر كما قال الأستاذ سيد قطب. على أن أبا الفرج لم يذكر الذيل في الأغاني. .
وأما سيدنا محمد فإنما قال ما قال في معرض التقوى والصلاح لأن من صفات المؤمن ألا(938/33)
يتشدق أو يتفيهق أو يغرب، بل أن يكون مستقيماً. واضحاً. . متواضعاً! وانتهت مناقشة الأستاذ الجندي بقوله: إنني وأن أكن قد قرأت رسالتك بين الصحة والمرض، فإنني قد تدبرتها جيداً. . . وقد لاحظت فيها أثر الجهد والسهر!
ثم تكلم الخولي بك فقال: إنني لن أكثر. سأضرب لكل نقطة مثلاً واحداً. . إنني قرأت رسالتك وحاولت أن أجد فيها صورة قلمية لأبي هلال أو ترجمة علمية له فلم أوفق! إنني أعرف أن للبحث من أول نقطة إلى آخر نقطة، ثم يخلص إلى ما يريد من نتيجة! ولكنني وجدتك تناقض نفسك مناقضة لا أدري كيف وقعت فيها. . اتهمت أبا هلال في ذمته وفي خلقه وفي ذوقه وفي أدبه. . ثم رجعت تسائل نفسك. . هل وضع أبو هلال مقاييس للبلاغة؟ ثم تجيب: كلا! إنه اعتدى على من سبقوه فنقل ما قالوا وحاول جهده أن يخفي ما فعل. .
فاتهمته كذلك باللصوصية!! وبعد هذا تجعله ومقاييسه البلاغية عنواناً لرسالتك!. ثم إنك عرفت الأدب بأنه الكلام الجيد. فما بالك بالمتوسط؟ وقلت إن موضوع الأدب علوم الأدب وهذه ليست دقة علمية. . فقال الأستاذ طبانه: هذا عند القدامى! فقال الخولي بك: تأكد أن القدامى أدق من أكبر منك ومني! كان لك أن تقول إنها من ثقافة الأديب أو الناقد الأدبي!. ثم إني رأيتك تعزو التحول في الظواهر الأدبية إلى الأشخاص وهو كالتحول في الظواهر الاجتماعية يعزى إلى العصور. . وتكلم الأستاذ إبراهيم سلامة عن الذوق والقاعدة أو عن الفن والعلم فقال، إن أرسطو نفسه كان يحيرنا في خلطه بين الفن والعلم فكان يضع أحدهما مكان الآخر فيقول عن الطب مثلاً: إنه فن الطب!
وقال: إن موضوعك كان شائكاً لأنه فترة انتقال بين عصرين أو هو عصر التردد!. . وقد لاحظ قلة المراجع في الرسالة قائلاً: لماذا تعتمد على الفرع دون الأصل. . لماذا تنقل عن فلان أو فلان. . إنهم ليسوا أحسن منك. . . لماذا تأخذ حكاية عمر عن (مش عارف مين. .) خذها من الأغاني. . . خذها من غيره. . ارجع إلى الأصل دون الفرع. . وخلت اللجنة للمداولة. . بعد مناقشة استغرقت ما يقرب من خمس ساعات تخللتها استراحات قصيرة. . . وقضت اللجنة للأستاذ بدوي بدرجة الماجستير من رتبة ممتاز.)
وما أحسب الأستاذ على الجندي - بعد قراءة هذا النقد - إلا مسلماً بأن في كنانة الأدب(938/34)
نقاداً لا يستهان بهم. . وأن المدار في الأدب على الموهبة!
وليت شعري، هل يرى الأستاذ الجندي رأيه ذاك في أبي هلال العسكري باعتباره - أعني أبا هلال - ناقداً، وهو موضوع الرسالة التي عينها وما هي إلا نقد؟ وهل يرى رأيه ذاك في نفسه وفي زميليه وهم يناقشون الرسالة وما هم في هذا إلا نقاد؟ ثم هل يرى رأيه ذاك في نفسه باعتباره أستاذاً في دار العلوم جل عمله إن لم يكن كله الدراسة التي لا تخرج عن النقد؟ وبعد فلي نظرة في مسألتين: الأولى تعريف الأدب بأنه الكلام الجيد، من حيث اعتراض الأستاذ الخولي بقوله (فما بالك بالمتوسط؟) والذي أراه أن المقصود بالكلام الجيد ما يقابل الكلام العادي غير الأدب، فالأدب المتوسط بالإضافة إلى الأدب الجيد، وهو جيد بالنظر إلى غير الأدب.
والمسألة الثانية ما قاله الدكتور إبراهيم سلامة في الفن والعلم وخلط أرسطو بينهما في قولته عن الطب إنه الطب. ولست أدري ماذا يعنيه أرسطو فلم أطلع على كلامه هذا. وإنما أقول: إن فن الطب غير علم الطب، فلأول عمل وتطبيق، والثاني أبحاث ونظريات.
الأهرام ومنصور جاب الله:
لعل قراء الرسالة يذكرون ما حدثتهم به من قبل، عن النزاع بين صحيفة الأهرام وبين الأستاذ منصور جاب الله، ذلك النزاع الذي يتلخص في أن الأستاذ كان يعمل محرراً بالأهرام وقد استقال من وظيفته بوزارة المعارف ليتفرع للتحرير بها، ولا يجهل أحد من القارئين ما كان يكتبه في الأهرام من افتتاحيات ومقالات وتحقيقات صحفية. ثم تقلبت الأحوال في الأهرام، وجاء ناس بعد ناس، وإذا الأستاذ منصور مخرج من عمله في الصحيفة دون أي مبرر. . . وحاول التفاهم، ولجأ إلى النقابة، فلم يجده شيء من ذلك، فاضطر إلى المقاضاة أمام المحكمة
وقد سرنا أن القضاة أنصفه وحكم له بتعويض، وكان لهذا الحكم وقع طيب وخاصة لدى أدباء الإسكندرية الذين عبروا عن مشاعرهم بحفلات التكريم التي أقاموها له
ثم حدثت بعد ذلك ملابسات، أدعه يحدثنا عنها في رسالته التي تلقيتها منه في هذا الأسبوع:
(. . وإذ كان المبلغ الذي قضى لي به لا يتجاوز عشر التعويض المطلوب، فقد أزمعت(938/35)
استئناف الحكم، ولكن بعض الأدباء الذين تربطهم بالأهرام صلة سعي إلى بالمودة قائلاً: إنني طالب مبدأ لا طالب مبلغ، وأن حسي هذا الحكم الرائع وعطف الرأي العام. وطلب إلى أن أتنازل عن الاستئناف على أن تدفع لي جريدة الأهرام المبلغ المحكوم به. وأجيبت الأديب الفاضل إلى ما طلب. وبعد يومين من هذه (الوساطة) علمت أن الصحيفة المذكورة قدمت استئنافاً، فلم أجد أنا بدا من الاستئناف. ولعلك عاذري يا صديقي إذا أنا لجأت إلى الأساليب ذاتها التي تلجأ إليها الأهرام. وأحب أن يعلم المسئولون فيها أنه من الخطأ أن يستضعف الخصم خصمه، فقد يصيب المستضعف مقاتل القوى. . .)
وإنني الآن لأشعر بالإشفاق على الأهرام نظراً إلى ماضيها وإلى ما تحب لهأن وإلى جانب ما أشعر به من الرغبة في الانتصاف لأديب وصديق ناله عنت، وألم به ضيق، فإنه - وإن كان يعاني هذا الذي ناله - سينصفه القضاء وقد أنصفه فعلاً، والقضاء العادل هو أعز ما تملكه في هذه البلاد. أما الصحيفة الكبيرة فلا يشرفها، ولا يتفق مع روح العصر، أن يخرج عامل فيها بعد سنين في خدمتها إلى الطريق صفر اليدين. . .
وهنا طرف آخر في هذا الموضوع، هو نقابة الصحفيين. . لست أدري أي شيء هذه النقابة إن لم يكن مثل هذا من صميم عملها؟ أليست تسعى لتقرير معاشات للصحفيين الذين يعجزون عن العمل؟ فما بالها تقف عاجزة عن إنصاف محرر عامل من صحيفة؟ إن النقابة تمثل أصحاب والمحررين فهي تجمع بين لقط والفأر. . ولا بأس بذلك على أن تقلم أظفار الأول، ولكن لبأس كل البأس أن تمكن الأول من التهام الثاني. . .
عباس خضر(938/36)
المسَرَح والسِينَما
في عالم النقد:
حورية من المريخ
للأستاذ علي متولي صلاح
تحية طيبة نبعث بها إلى تلك الفرقة الناشئة الشابة المتوثبة، من فوق منبر (الرسالة) مجلة الفن والأدب والعلم، ونعني بها فرقة (المسرح المصري الحديث) التي ظهرت خلال هذا المرسم كما تظهر بواكير الندى، وكما تتفتح براعم الورود فتجلو كامن الحسن وخفي الجمال.
أخذ الناس إشفاق على تلك الفرقة يوم رأوها تنتظم عصافير ناعمة بضة حسبوها تزقزق على خشبة المسرح فلا تبين، وتهتز الخشبة من تحتها فلا تثبت، وقالوا: من أين لزغب القطا أن تقوى على ما تنبهر أمامه أنفاس النسور؟ ومن أين للظبي الأغن أن ينهض بما يعيا به الأسد الهصور؟
. . ولكن هؤلاء المشفقين انقلوا مشدوهين عجبين عند ما رأوا هذه الفرقة تنهض بالروائع والآيات لكبار المؤلفين من أمثال: موليير وتشيخوف وتيمور، تنهض بها نهضة يرى الناس فيها بحق أن الأمر لو كان بالسن لكان في الأمة من هو أحق من أمير المؤمنين بمجلسه كما قال الغلام العربي القديم! وتنهض بها نهضة يبدو فيها - أظهر وأبين ما يبدو - معنى التضامن وفناء الفرد في سبيل المجموع، ومعنى نكران الذات. . فما رأينا واحداً منهم حاول في موقف له أن يسطع على حساب زملائه، أو أن يسلبه مجداً يراه له حقاً. ولعل مرد ذلك فيهم إلى ما لقنوه من ثقافة ومعرفة حرمهما الكثير من رجال المسرح الأقدمين.
هؤلاء بحق هم (الأعوان الذين يمكن أن يعتمد عليهم وزير المعارف) كما يقول معالي الوزير الجليل في حديثه مع صديقنا الأستاذ عباس حسان خضر، وليس عمل هؤلاء قط هو (الترفيه وإضاعة الوقت) كما يقول معاليه عن المسرح عامة في مصر، وإنما عملهم هو (التعليم وإشاعة الجمال والذوق في نفوس الناس) كما يفعلون بحق، معرضين إعراضاً(938/37)
ملائكياً عن المادة وسيطرتها على الفن، والانحدار به إلى مرتبة الوسيلة الرخيصة، والأداء الذلول!
ولقد كانت آخر مسرحية قامت بها هذه الفرقة هي المسرحية التي جعلناها عنواناً لهذا المقال (حورية من المريخ)، وهي تدور في جملتها على فكرة واحدة، تلك هي أن الإنسان كما يضيق بالمتاعب والمصاعب التي يخلقها له من يخالطونه في العيش، فتكدر صفوه، وتشرد أمنه، فإنه يضيق كذلك بالراحة الكبرى والطاعة الدائمة والصفو المقيم!
فالزواج (رفعت) يضيق بزوجته (إحسان) لما تحدثه له من متاعب متصلة، فيهب الله له حورية من المريخ حسناء رائعة الحسن تطيعه طاعة عمياء، وتوافقه في كل ما يرى، وتذهب مع هواه حيثما ذهب، فلا خلاف ولا شجار، ولا عصيان ولاشقاق، ولكنها حياة رتيبة هينة لينة! فيضيق الزوج بهذا الهدوء الشامل، ويشقى بهذا الأمن الكامل، وتعلم الحورية بما يعتل في صدره من غم، وما تسببه هذه الحياة الناعمة له من هم، فتعود أدراجها إلى المريخ بعد أن تعيد ما انقطع بينه وبين زوجه الآدمية من صلة، وتسترجع ما كان انبت بسببها من علاقة!
هذه المسرحية تلفحنا منها ريح أسطورة يونانية شهيرة، هي أسطورة (بجماليون) ذلك المثال البارع الذي صنع تمثالاً رائع الفتنة لامرأة سماها (جالاتيا) ولكنه أغرم بالتمثال وتمنى على الإلهة (فينوس) أن تمنحها الحياة ليتخذها زوجاً له، فاستجابت الإلهة لدعائه ومنحتها الحياة، وما إن دبت فيها الحياة الإنسانية حتى دبت معها غرائز الإنسان! فكان أن خانته وهربت منه! فعاد يتمنى على الإله (أيولون) أن يعيدها إليه ثم يسلبها الحياة ويرجعها كما كانت تمثالاً من العاج، فاستجاب له الإله وأعادها كما كانت فهوى عليها بجماليون فحطمها تحطيماً!
تلك هي الأسطورة القديمة التي نشتم رائحتها قوية في (حورية من المريخ) فإن صح ما نحس به فإن المؤلف يكون قد استطاع الانتفاع بالأسطورة القديمة أكبر انتفاع، ولا لوم عليه في ذلك ولا تثريب. وليت الكثير من أدبائنا يحسبون الانتفاع بهذه الأساطير إذن لأثرى الأديب العربي إثراء كبيراً ويأخذ الأستاذ زكي طليمات في مقدمته التي كتبها للرواية على المؤلف أنه (أجرى الحوار فيها تارة باللهجة العامية وتارة باللغة العربية(938/38)
الفصحى. . وقد كان يفضل أن تشمل المسرحية كلها وحدة في الأسلوب البياني حتى تحتفظ بطابع واحد من التعبير اللفظي يسوده الانسجام اللغوي) ولسنا نذهب هذا المذهب حتى ولو استطاع المؤلف أن يستنبط إمكانيات أخرى يبتغي بها استقامة مفاجآت المسرحية ومشوقاتها كما يقول الأستاذ زكي طليمات.
فلو أن الحورية تكلمت باللهجة العامية لانتفت عنها فورها صفة الحورية ولكانت بشراً ممن يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق! فنحن نعلم أن العامية هي لغة السواد من الناس وأين الحورية من هذا السواد؟
ولنا - بعد - على المسرحية ملاحظات يسيرة نتوجه بها إلى هذه الفرقة المرموقة المأمول منها خير كثير، نتوجه بها إليها في رفق ولين، ولكن هذا الرفق لن يطول أمده، وسنأخذها فيما بعد بصرامة الحق وصراحة القول فذلك أنفع لها وأجدى عليها، ونحمل تلك الملاحظات فيما يأتي: -
1 - يتكلف الأستاذ (عدلي كاسب) شخصية الأستاذ (حسن فائق) تكلفاً ظاهراً جداً. وأرجو أن يعلم الأستاذ أن في هذا التكلف إفناء لشخصية وإعلاء لشخص الأستاذ حسن فائق! فالناس إذ يرونه كذلك لا يذكرونه وإنما يذكرون حسن فائق!
2 - الأبيات التي يرويها الزوج (الأستاذ نور الدمرداش) لعلقم الفحل يرويها مكسورة وبها بعض الأخطاء. وليس مما ينهض عذراً له أنها وردت كذلك في الأصل المطبوع فقد كان عليه بل كان على المخرج أن يتلافى هذا الخطأ وبخاصة الكسر الذي في البيت الأخير. . وصحة الأبيات هي كالآتي مأخوذة من الديوان ومن الجزء الثالث من كتاب (نهاية الأرب) وكما ينبغي أن تكون وأرجو أن يرويها كذلك مستقلاً: -
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... عليم بأدواء النساء طبيب
إذا شارب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب
3 - انتقلت ملابس الحورية فجأة من ملابس الحوريات الغريبة، فصارت بمجرد هبوطها إلى الأرض ومن أول لحظة ملابس (إسبور) وبنصف كم! وعندي - ولو أن هذا مصدر من مصادر سوء التفاهم لاستحالة فهم الأناسي الذين يعاشرون الزوج أنها من حوريات(938/39)
المريخ وهي تلبس ملابسهم - عندي أنه كان الأولى أن تنتقل من ملابس الحوريات إلى ملابس الآدميين المعاصرين الإسبور انتقالاً تدريجياً لتبقى لها هالة الحوريات بعض البقاء الخفيف وبحيث لا يجب ماضيها جبأن ولم تبقى لها لغتها دون ملابسها؟؟
4 - شخصية الأستاذ (عزمي عثمان) في دور (صلاح) صديق الزوج ضعيفة باهتة جداً يمكن وصفها بأنها لا لون لها ولا رائحة، ولم يستطيع أن ينفث الحياة في شيء مما قال بتاتاً؛ مع أن في دوره ما كان يمكن أن تدب فيه حياة حارة نابضة
5 - كان وضع (الميكروفون) غير حكيم، فالصوت كان يخفت جداً إذا جرى الكلام في مؤخرة المسرح، ويقوى ويشتد حتى يمتلئ حشرجة إذا جرى الكلام في مقدمة المسرح، وصوت الممثل ينبغي أن يكون نقياً خالصاً من هذه الحشرات والنتوءات الصوتية التي قد نغتفرها في السينما.
هذا - وقد كان الزوج وزوجه والحورية وأعني بهم: الأستاذ نور الدمرداش والآنستين ملك الجمل وزهرة العلا بكير، كانوا يقومون بأدوارهم قياماً يشكرون عليه. أما الأستاذ أحمد الجزيري فقد بلغ شأواً بعيداً في تمثيله حيث كان ينطلق انطلاقاً طبيعياً لا تكلف فيه ولا صنعة مما يستحق عليه أطيب الثناء.
وبعد: فتلك كلمة إجمالية لم نذهب فيها مذهب التفصيل والإسهاب، ولم نعرض فيها إلا القليل من الحسنات والقليل من السيئات، راجين أن نتتبع الحركة الفنية القائمة بالعرض والنقد والتسجيل، ولن يحدونا إلا الحق وحده.
علي متولي صلاح(938/40)
الكُتُب
درجات الناس
تأليف الأستاذ طه محمد الساكت
للأستاذ منصور جاب الله
كلما هممت بإرسال المقال في هذا الكتاب، صرفتني عنه مشاغل طرآنية، أو حجرتني صوارف الدنيا من هم أو مرض أو عمل! بيد أني الساعة حريص على الكتابة في هذا السفر رغم هذه الشكاة التي تغرقني منذ مطالع شهر رمضان!
أول ما يطالع القارئ في هذا الكتاب صورة ضوئية لمسجد يحيى باشا الكبير في رمل الإسكندرية، والقارئ العادي لا يعرف المغزى في نشر هذه الصورة حتى يقرأ ما كتب في الصفحة المقابلة؛ إذ يروى المؤلف نص الدعاة الذي حاول (أن يدعو به مرة عقب صلاة الفاروق - أيده الله - بمسجد يحيى باشا ليؤمن المصلون على دعائه، فحال الحرس بينه وبين بغيته) وإذن فالكتاب وليد عقدة نفسية عند المؤلف بقيت تحز في نفسه طوال هذه الحقبة. ومما يؤيد هذا المذهب أن الأستاذ المؤلف ذكر في الصفحة الأخيرة من مؤلفه أن أصوله عنده منذ أربعة عشر عامأن أي منذ أن حاول الدعاء لمليكه في مسجد يحيى باشا فحيل بينه وبين ما يريد.
على ان نشر هذه الصورة العزيزة في مقدمة الكتاب قد ردني إلى الوراء بضعة وعشرين عاماً ترادفت ترادف الموج في محيط الزمان، فإني لأذكر هاتك الحلقات التي كانت تلتئم في ذلك المسجد المعمور يتوسطها العارف بالله الشيخ محمد البوريني إمام الخديو السابق، وكيف أعادت إلى تلك الدروس ذكريات مدارسات السلف الصالح من أمثال الحسن البصري وسفيان الثوري، وأشهد أني ما حضرت درساً دينياً كان له الأثر في نفشي ما كان لشيخنا البوريني رحمة الله.
ومتصفح الكتاب إذا شاء عرضه على الناس لابد واجد صعوبة، فهو من كتب التصريف التي أجهد المؤلف نفسه في جمع شتاتها ومطا منة ضروبها حتى استوت له جملة صالحة عرضها على القارئين. فهو يبدأ بمناجاة ملك الملوك محرمأن وأرسلت إلينا رسلك فضلاً(938/41)
منك وكرمأن ثم أورثت الكتاب الذين اصطفيت من عبادك، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات).
ويخلص من ذلك إلى مخاطبة (السادة الملوك) فيرفع إليهم الحديث في أدب المخضع الخاشع (هل أتتكم سادتي أنباء الأسفلين من الرعايا إذ ركبوا بحور الظلم والظلمات في سفائن باسم الشيطان مجراها ومرساها ارتدوا فيها فراعنة، وتمردوا فيها على الربابنة، ثم خرقوا أسفلها وأنتم العالون، ورقعوا في حدود الله وأنتم عليها قائمون. وقد بلغ من أمرهم أن سخروا من الناصحين حتى استيئسوا، وهزئوا بالراشدين حتى أبلسوا! فلم يبق في النجاة من أمل إلا تأخذوا بسلطان الله على أيديهم قبل أن تهلك جميعاً بشؤم معاصيهم).
ولعل في هذه الكلمات القصار التي اقتطفناها ما يوضح مقصد الكتاب وهدفه، فهو يريد النصح إلى من ملكهم الله الأمر وتبصيرهم مواطن الضعف والقوة في الأمة، فإن (صلاح كل من الراعي والرعية يؤثر في الآخر تأثيراً بليغاً، وإن كان صلاح الراعي في رعيته لأبلغ أثراً وأهدى سبيلاً، وليس من العدل والإنصاف في شيء أن نتجاهل قوة الرابطة بين الجانبين كليهما فنذكر اثر واحد دون صاحبه).
ويستطرد المؤلف من ذلك إلى تبيان درجات الأفراد ويتحدث عن المثل الكامل ودرجات الأمم، ويورد بعض الأحاديث في منزلة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغ الحديث درجات الملوك أورد ذلك الدستور الرشيد الذي وضعه الحسن البصري للإمام العادل عمر بن عبد العزيز فسار على سننه مدة حكمه القصير، حتى إذا مات نقضه الأحداث من بني أمية! وإذ يتكلم المؤلف عن درجات الناس عند الملوك لا تخونه شجاعته وإنما يقول في صراحة مؤدية (أعظم الناس عندهم - أي عند الملوك - أسرعهم إلى تحقيق رغباتهم وأشدهم ميلاً إلى هواهم، وأقل الناس كرجة عندهم ومنزلة أشجعهم على نصيحتهم وأخوفهم عليهم من بطش الله وعقابه).
(من أجل ذلك تحامي الناس نصحهم حتى الدعاة إلى الله عز وجل وكانوا بين خائف منهم ويائس، وبالغ كثير من الناس في مدحهم والثناء عليهم ابتغاء المال والدنيا).
وكم كان جميلاً من المؤلف أن يورد شذوراً عن بعض المؤلفات التي وضعت لخدمة الملوك في عهد السلف الصالح من هذه الأمة مثل سراج الملوك للإمام الطرطوشي؛ وسلوك(938/42)
المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع.
ولقد كان المؤلف بارعاً في استشهاده بنكبة المنصور لأبي مسلم الخرساني والرشيد للبرامكة على أن بطانة السوء لابد أن يفتضح أمرها على الأيام، وقد قبل لأبي مسلم (لم خرجت الدولة عن بني أمية؟) وقال (لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألفاً لهم، فبم يعد العدو صديقاً بالدنو، وصار الصديق عدواً بالإبعاد).
وجهد الكاتب جهده في بيان في القرآن الكريم فذهب إلى أنها ذكرت ثماني عشرة مرة في الكتاب المنير في أربع عشرة سورة نصفها مكي ونصفها مدني، ومضى في تخريجه إلى درجة تشهد له بالبراعة والاجتهاد.
وأفراد المؤلف فصلا لحقوق الملك استهله برواية الشعبي عن ابن عباس قال (قال لي أبي: أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب - يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله علي وسلم وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجرين عليك كذباً، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً. قال الشعبي: فقلت لابن عباس كل واحدة خير من ألف قال: إي والله ومن عشرة آلاف!).
ولا نستطيع أن نمضي في الاقتباس إلى نهايته، فحسبنا أن نذكر بالحمد تلك (العقيدة النفسية) التي تخلفت في صديقنا الأستاذ طه محمد الساكت قبل بضعة عشر عاماً، فكان نتاجها هذا الكتاب الأول من نوعه بعد عهد السلف الصالح، وعندنا أنه كتاب وضع للخاصة وإن كان صاحبه نص على ذلك في مقدمته. ففيه من المسائل الفلسفية العميقة ما يحمل القارئ على المطاولة والمجاهدة في سبيل تفهمهاً، وفيه توريات بعيدة المرمى لا يتفتق لها إلا الذهن الخصب الطيع.
فعلى هذا الأساس نتقبل كتاب الأستاذ الساكت ونعتبره كتاب تصوف وفلسفة، ونحمد له هذا الجهد الذي بذل، ونقد له هذه الشجاعة في إبداء بطريقة مؤدبة ملفوفة، فلو أن كاتباً غيره تناول مثل هذه الدقائق لزل به القلم ووقع في نزواته وشطحاته!
منصور جاب الله(938/43)
البَرَيد الأَدَبِي
ختان البنات بين الطب والإسلام:
منذ ثمانية أعوام نشرت الرسالة الزاهرة مقالاً لأحد الأطباء محبذاً عدم ختان البنات، مبيناً ضرر هذه العادة في نظره نافياً أنها من الإسلام أو أن لها أصلاً دينياً وقد عقب على المقال أحد الفضلاء مؤيداً تعقيبه بأحاديث نبوية وآراء الأئمة والفقهاء، ولم تنته هذه المشكلة إلى ناحية ترتاح لها النفوس في ذلك الحين.
وقد تجددت هذه المشكلة في أيامنا هذه، وقامت مجلة (الدكتور) باستطلاع آراء بعض الأطباء وجمعت أقوالهم في ملحق خاص مع عدد شهر مايو سنة 1951 وكلهم قد أيد عدم ختان البنات، بل إن بعضهم قد أظهر مدى ضرر هذه العادة في كثير من الحالات. . .
واستكمالاً لهذا البحث قامت مجلة (لواء الإسلام) مشكورة باستطلاع آراء كبار العلماء من رجال الأزهر في هذا الموضوع الخطير وكلهم كان له القدح المعلى في هذا الشأن بإظهار أن هذه العادة إسلامية بحتة، وقد أتى بحكم نفيسة على مشروعيتها ترتاح لها النفوس وتنشرح لها الصدور!
قال فضيلة المفتي (إن ختان الأنثى من شعار الإسلام وردت به السنة النبوية واتفقت كلمة فقهاء المسلمين وأئمتهم على مشروعيته، ومع اختلافهم في كونه واجباً أو سنة فإننا نختار للفتوى القول بسنته، ومع اختلافهم في كونه واجباً أو سنة فإننا نختار للفتوى القول بسنته لترجح سنده ووضوح وجهته والحكمة في مشروعية ما فيه من تلطيف الميل الجنسي في المرأة والاتجاه به إلى الاعتدال المحمود. . . إلى أن قال: أما آراء الأطباء مما نشر في مجلة الدكتور وغيرها من مضار ختان الأنثى فإنها آراء فردية لا نستند إلى أساس علمي متفق عليه، ولم تصبح نظرية علمية مقررة، وهم معترفون بأنه للآن لم يحصل اختبار للنساء المختلفات، وأن نسبة الإصابة بالسرطان في المختتنين من الرجال أقل منها في غير المختتنين.
وبعض هؤلاء الأطباء يرمي بصراحة إلى أن يعهد بعملية ختان الأنثى إلى الأطباء دون الخاتنات الجاهلات حتى تكون العملية سليمة مأمونة العواقب الصحية. . . إلى أن قال في ختام الفتوى وقد علمتنا التجارب أن الحوادث على طول الزمن تظهر لنا ما قد يخفى علينا(938/44)
من حكمة الشارع فيما شرعه لنا من أحكام وهدانا إليه من سنن، والله يوفقنا جميعاً إلى سبل الرشاد. . .
ومما قاله فضيلة الأستاذ رئيس المحكمة العليا الشرعية:
. . . (ولا شك في أن ختان الأنثى على هذا الوجه - أي إزالة الجزء البارز فقط وإبقاء الجزء الكامن - يكسبها صحة في الجسم وجمالاً في الأنوثة وصيانة في الخلق ومناعة في العفة والشرف مع الإبقاء على الحساسية الجنسية بالقدر المناسب الذي لا شطط فيه. أما استئصال البظر من أساسه وإزالة الأغشية الداخلية بأسرها بالطريقة المتبعة عند الجهلة من أهل القرى فإن الشريعة الإسلامية لا تقرر وتعتبره بدعة مكروهة لما ينجم عنه من فقدان حساسية الأنوثة فقداناً تاماً قد يؤدي إلى الزهد في وسائل التناسل. ويتضح مما تقدم أنه لا وجه لاعتراض بعض الأطباء في ختان البنات بالطريقة الشرعية، ولا مبرر لاقتراحهم منعه منعاً مطلقاً: ولعل اعتراضهم منصب على ما تخيلوه من أن ختان البنات يجري على طريقة الجهلة من أهل الريف. .).
ومما قاله فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت بعد أن وفي الموضوع حقه كسابقه: (هذا والشريعة تقرر مبدأ عاماً وهو: أنه متى ثبت بطريق البحث الدقيق - لا بطريق الآراء الوقتية التي تلقى تلبية لنزعة خاصة أو مجاراة لتقاليد قوم معينة - أن في أمر ما ضرراً صحياً أو فساد خلقياً وجب شرعاً منع العمل دفعاً للضرر أو الفساد، وإلى أن يثبت ذلك في ختان الأنثى فإن الأمر فيه على ما درج عليه الناس وتعودوه في ظل الشريعة الإسلامية وعلم رجال الشريعة من عهد النبوة إلى يومنا هذا. . .).
وبعد فقد كانت أقوال حضرات العلماء الأعلام حاسمة وشافية في هذه المشكلة حتى لا تثار ثانياً من جديد. وفقنا الله جميعاً إلى الصواب.
شطانوف
محمود منصور خضر
الشخصية المفروضة!
إن ما يقلق الوجدان المتحرر فرض بعض الناس ذواتهم متخذين من السماحة سماجة، ومن(938/45)
التواضع لجاجة، ومن الدعة ضعة!
والشخصية المفروضة ليس لها كيان يحدد وجودها، أو نطاق يرسم حدودها، فتتخذ من جهلها تجاهل سواها، وتدل على تفاهتها بسفاهتها!
والمجتمع مرزأ بتلك الشخصية البعيدة عن الصفاء النفسي، والسمو الشعوري، فهي قد تعرفك بسمتك، لكنها تستر المعرفة بتناسي فضلك، وتحاول أن توقع في وهمك أنك لست في حسابها، فتعمد إلى إيهامك، وتنطق اسمك من العجز إلى الصدر لتشعرك أنك مجهول في جهلة صفاقتها!. والشخصية المفروضة ناقصة، لأنها تريد السعي إلى إثبات الوجود وإكمال ما حرمته بأساليب السلوك الملتوية. . .
وإذا كان النفسيون يقولون: إن الشخصية مجموع ما في الشخص من صفات جسمية، وعقلية، وخلقية، فيتجه كل (ناقص) إلى بعض الصفات على طريقته الخاصة التي يزعج بها شعور الأحرار! والسبيل إلى مطاردة هذه الشخصية أن يحطم رأس غرورها حتى يستقيم أمرها؛ وتكون الصراحة الموجعة أداة التحطيم؛ فالبلة، والغفلة والثقل، والحمق. صفات هؤلاء المفروضين على الناس؛ فيجب أن نشعرهم بحقائق أنفسهم، ونقيدهم في قيود سخافتهم؛ ثم نرمي بهم مرمى الاستخفاف!
جاءني رجل طيب جهر الاسم ذو نشاط ملحوظ، وشكا إلى جفوة جاف جاهل جلف، يحاول أن يطمئن من قدره، لأن ظروف الحياة جعلته مفروضاً عليه؛ فكان رئيسه!
قلت: يا أخي!. لا عليك! دعه وشأنه. . . أرفض وجوده من الوجود فتجد شخصيته المفروضة مرفوضة!
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
جمع معجم
وردت كلمة - معاجم - في مقال - إقرار كلمات محدثة - للأستاذ عباس خضر ص 560ع 232 الصادرة في 14 مايو سنة 1951 من هذه المجلة. بينما الأستاذ مصطفى جواد في ص 1553 عدد خاص أكتوبر سنة 1949، من مجلة - الكتاب - ذكر أن جمع(938/46)
معجم معاجم مثل مرسل ومراسيل، ومسند ومسانيد، ومنكر ومناكير، ومصعب ومصاعيب، وكل ما كان على مفعل بضم الميم، فهذا بانه، إلا إذا كان فيه لغتان.
بعد هذا أرجو أن أقف على رأي الأستاذ خضر فيما إذا كان يتلاقى مع الأستاذ جواد أو يفترق عنه في هذا الرأي
بغداد
أحمد الظاهر
وكيل وزارة الداخلية
هنات لغوية:
اشتملت قصة (اليتيم) للأستاذ عبد اللطيف الأرناؤوط في العدد (933) على هنات لغوية أوردها فيما يلي:
1 - (حتى كاد أن يهجر حياته). . الأكثر في مثل هذا التركيب أن تترك (أن). . . ففي التنزيل (وما كادوا يفعلون). . . سورة البقرة. . وقال ابن مالك:
وكونه بدون أن بعد عسى ... نزر. . وكاد. . الأمر فيه عكسا
2 - (يكرس وقته في سبيل وضع قصص). . . التكريس تأسيس البناء كما ورد في القاموس، وتجميع الشيء كما ورد في المصباح، وأكثر الظن أن الأستاذ الكاتب لم يقصد إلى واحد من هذين كما يدل سياق الحديث حيث يرمى إلى بذل الوقت وإنفاقه.
3 - (ويشكره على ما أصبغ عليه). الأكثر (ويشكر له). . . قال المصباح: (ويتعدى في الأكثر باللام) فيقال: (شكرت له) وربما تعدى بنفسه، فقال (شكرته) وأنكره الأصمعي في السعة، وقول الناس في القنوت: (نشكرك ولا نكفرك) لم يثبت في الرواية المنقولة عن عمر، على أن له وجهاً هو الازدواج). . أهو. . هذا كله، وقد سوى القاموس بين التعدية باللام وبغيرها. . . وللكاتب أن يختار الأكثر أو سواه.
4 - (فأحاطت عيشة هالة دكناء). . . الصواب (أحاطت بعيشه). . . في التنزيل: (وأحاط لديهم)، (ولا يحيطون به علماً)، (فقال أحطت بما لم تحط به)، (ولا يحيطون بشيء من علمه). . . وإلى غير هذه الآيات. . .(938/47)
5 - (وسحقا لمن يرضخ لها). . أورد الأستاذ كلمة (يرضخ) بمعنى يخضع. . وليس كذلك. . فلها معان منها (يعطيه شيئاً ليس بالكثير)، (ويكسر)، ورضخ به الأرض جلده بها. .
6 - (ها هي عشرة فرنكات) الأولى (ها هي ذي). . بزيادة اسم إشارة.
7 - (واتركي الطفل هنا أقوم على حراسته). . الصواب (أقم) لأنه جواب الأمر فتحذف الواو لالتقائها ساكنة مع الميم الساكنة للجزم.
8 - (اقترح عملاً نقوم به سوية). . (سوية) معناها مستوية قال الله: (فتمثل لها بشراً سوياً) أي مستوياً قائماً، وإنني لأذكر أن (الرسالة) تناولت هذا البحث في عدد سابق وفيه أن (سويا وسوية) ليستا بمعنى (معاً) كما هو مرمي العبارة.
9 - (بكل سرور وامتنان). . . الامتنان تعداد النعم مثل (المن) وهو عكس ما يقصد إليه تعبير الأستاذ، والقصة فيما بعد ذلك لا يغض منها هذه الهنات الهينات، وللقصاص الكبير صادق المودة، وخالص التحية.
محمد محمد الأبشيهي
مدرس بيسيون الابتدائية(938/48)
القَصَصُ
القرار الأخير
للسيدة ألفت آدلبي
عندما تلقى أحمد أمراً بنقل وظيفته من دمشق إلى ناحية من نواحيها النائية، تأفف وتذمر، ولعن الحاجة التي جعلته عبداً ذليلاً لوظيفة صغيرة.
صعب عليه أن يترك دمشق وفيها ناديه الليلي وقهوته النهارية، وكان يعرف أن لا فائدة من الاعتراض على هذا النقل فسار إلى مقر عمله الجديد صابراً على مضض. وفي الغد باشر وظيفته. كان زميله الذي يقاسمه مكتبه رجلاً ذا فطنة وظرف، لاحظ أن أحمد رفيقه الجديد أديب مهذب، وأدرك الخيبة التي تصيب شاباً لا زوج له حكم عليه أن يترك دمشق وما فيها من لهو وتسلية إلى هذا البلد الموحش المقفر حتى من دار صغيرة للسينما. فأحب أن يخفف عنه بعض الشيء، فأخذ يحبب إليه الانضمام إلى رحلات يقوم بها بعض الموظفين في نهاية الأسبوع إلى الجبال والأردية القريبة حيث الطبيعة الأخاذة والصيد الوفير، وسهرات يقضونها في تبادل النكات ولعب الورق، يشترك فيها أحياناً بعض الموظفين ممن يرغبون في مظاهر المدينة الجديدة، فيصطحبون أسرهم ويسهرون في دار المدير يسمرون حينا ويستمعون لجهاز الراديو حيناً آخر، حيث المدير هو الموظف الوحيد الذي يملك راديو. وهو رجل مضياف أنيس وديع في بيته بقدر ما هو حازم وجاد في وظيفته. وزوجه شابه أنيقة لبقة تعرف كيف تسلي ضيوفها وتخلع على سهراتها جوا بديعاً من المرح والوقار.
فإذا أحب أحمد أن يصحبه في سهرة إلى دار المدير فعل لأن لديه من الثقة بالمدير وزوجه والدالة عليهما ما يجيز له أن يصطحب معه صديقاً له يقدمه إليهما. رضى أحمد شاكر لا حباً لمديره المضياف، ولا رغبة في زوجه الأنيقة اللبقة، بل أملا في أن تكون السهرة هناك أحسن حالا من السهرة في غرفته الباردة، ومصباح المدير أبعث نوراً من مصباحه الضئيل.
وعندما قدمه زميله إلى زوج المدير ذهل أحمد ولم يكد يحبس شهقة كادت تخرج عالية من فمه. . إنها سلمى! مثله الأعلى يعيدها القدر إليه بعد أن أضاعها عشر سنين كاملة. جلس(938/49)
أحمد في زاوية منفردة وأخذ يرد على الأسئلة والمجاملات التي توجه إلى زائر جديد رداً مقتضباً متظاهراً بالاهتمام بما تذيعه آله الراديو من أغان وأحاديث.
أما عقله فكان قد شرد بعيداً جداً. ارتد عشر سنين إلى الوراء.
ترى هل تذكرت سلمى ذلك الشاب النحيل الأسمر الذي كان يتبعها عندما كانت في الثامنة عشرة تسير في الشارع ذهاباً لمدرستها وإياباً منها فيتبع خطواتها ويبعث إليها بكلمات دعابة رقيقة. وكثيراً ما كانت تبتسم لكلماته ابتسامة مشرقة تسفر عن أسنان تلوح نضيدة لألاءة خلف نقابها الشفاف فتبعث ابتسامتها فيه أملاً وسحراً. وربما لازمه طيفها بعض الليالي حتى الصباح. كان هذا ديدنه سنة كاملة إلى أن عاد يوماً من رحلته الكشفية فلم يجدها. ولما سأل عنها قيل له: إن رب العائلة غريب من دمشق فلما أحيل على التقاعد آثر العودة إلى بلده. فعرف أنه حرم منها إلى الأبد. ولا يزال يذكركم كان وصف نفسه بالجبن والغباوة لأنه لم يكتب إليها ولم يحاول أن يجد السبيل للتعرف عليها. أليست ابتسامتها كانت كافية لتشجيعه على الكتابة إليها؟! تباً لهذا النقاب الشفاف! إنه حاجز يحول دون التعارف بين الرجل والمرأة مهما شف ورق. لعلها كانت تبادله الشعور. . . ولو أنهما استطاعا أن يتفاهما لأخلص كل واحد لصاحبه ولكانا اليوم زوجين سعيدين.
عاد أحمد من سهرته. ولو سئل عنها كيف كانت لما استطاع أن يجيب؛ لأنه ما وعي منها حديثاً، ولم يبق في ذاكرته إلا رسم قد أهيف يصلح نموذجاً لفنان: وابتسامة مشرقة لا تزال كعهده بها تسفر عن أسنان نضيدة لألاءة غير أنها كانت فيما مضى تبعث فيه أملا وسحراً. . . أما الآن فقد بعثت فيه ألماً ويأساً وشعوراً قوياً بالحرمان!
مضى شهران فإذا أحمد صياد ماهر يجوب الجبال والأودية القريبة ويمتع نفسه بالطبيعة الأخاذة، وإذا هو صديق حميم لبيت المدير يتحفهم من حين آخر بصيده الوفير ويحظى بالابتسامة المشرقة. ولو سئل عن حاله لأجاب إنه قانع ولعله سعيد. . ولو خير بين العودة إلى دمشق وفيها نادية الليلي وقهوته النهارية فربما آثر البقاء في الناحية الموحشة التي صارت في نظره عامرة آهلة.
ولكن سوء طالعه لم يشأ أن يمتعه طويلاً بهذا النزر اليسير من السعادة والرضا، فقد قدم الناحية مفتش كبير، فأثنى على المدير لحسن تصرفه وعظم كفايته، وأراد أن يكافئه فترك(938/50)
له الخيار في أن يبقى في ناحيته أو ينتخب لنفسه ناحية أخرى
لقد فرح المدير بهذه المنحة وأحال الأمر على زوجه فهي أحرى أن تبت فيه. قلق الموظفون لفراق مديرهم، وكان أحمد أشدهم قلقاً. . .
أتعاوده غباوته وجبنه المعهودان؟ فيحرم من سلمى مرة أخرى! لا. ليس هو الفتى الغر، لقد أصبح رجلاً كامل الرجولة، له صولات وجولات في ميدان الحب والغرام. ألم تبادله سلمى نظرات بنظرات؟ ألم تجاهر بإعجابها به؟ ألم تثن على آرائه وتستسيغ نكاته؟ ألم يلمح بوارق الحب تلوح في عينيها من حين لآخر مهما حاولت إخفاءها؟
فماذا عليه إذا كتب إليها يرجوها أن تبقى، أو حسبه أن تعلم أنه أحبها وظلت مثله الأعلى عشر سنين كاملة وستبقى كذلك دائماً أبداً.
تلقت سلمى رسالة احمد وقرأتها مرات كثيرة. وفي كل مرة كان يخفق قلبها بقوة وعنف وحارت ماذا تجيب. وفي المساء أوت إلى السرير الذي كانت تقتسمه هي وزوجها. . وظلت فريسة صراع عنيف قام بين ضميرها وعاطفتها حتى الفجر.
كانت العاطفة تطغى فتقرر البقاء لتتمتع بهذا الحب الذي هبط عليها من السماء وسوف لا يجود به الدهر مرة ثانية. . سترعاه نقيا طاهراً وستجعله مقتصراً على النظرات المختلفة ودقات القلب العنيفة اللذيذة، ولكن الضمير كان يغالب العاطفة ويكبتها بآيات بينات. ألم تبتدئ قصص الحب التي قرأتها أو سمعتها بنظرات بريئة وتنتهي بآثام مريعة؟! أتجيز لنفسها ما آخذت عليه الآخرين؟
وأخيراً استطاعت أن تخرس الضمير وتصم أذنيها عن آياته البينات وتقرر البقاء. كان الإعياء قد بلغ منها كل مبلغ. فشعرت بالحرارة تتمشى في أطرافها وأحست وهجها في خديها، وفي حركة عصبية أزاحت الغطاء بعيداً وأخرجت ذراعيها العاريتين على رغم البرد الشديد. فإذا يد تمتد بعطف وحنان فنعيد الغطاء يرفق وأناة وتحكمه حول عنقها وفي منحنى خصرها، وأصابع رفيقة تجس الخد لطيفاً لتطمئن على أن ليس هناك حرارة! وكأن الأصابع الرفيقة عندما مست الخد مست الضمير أيضاً فتنبه مرة ثانية، ولكنه كان أكثر نشاطاً وأبلغ حجة فاستطاع أن ينتصر.
وإذا زفرة حرى تخرج من أعماق قلبها ودمعتان كبيرتان تجولان في عينها. . أما شفتاها(938/51)
فقد تمتمتا بكلمتين قاطعتين حازمتين: (سنسافر غداً) وكان هذا هو القرار الأخير.
دمشق
ألفت آدلبي(938/52)
العدد 939 - بتاريخ: 02 - 07 - 1951(/)
هل الأدب قد مات؟!
لأستاذ سيد قطب
يقول لك الكثيرون: أن نعم! ويمصمصون شفاههم أسفا وحسرة، وهم يعدون لك شواهد الموت، ويصفون لك أعراض الوفاء، ويترحمون على الأيام القريبة التي كان للأدب قيها صولة وجولة، يوم أن كان حياة في ذاته، وكان مبعث حياة!
وما أريد أن أدفع عن الأب تهمة الموت، فقد تكون الحقيقة، ولكنني أريد أن أبحث عن القتلة! القتلة الذين فعلوا هذه الفعلة، والذين هم ماضون فيها للقضاء على الأنفس الأخيرة التي تتردد في تلك الجثة المسجاة!
انهم في نظرتي ثلاثة:
الأدباء أنفسهم بمعرفتهم الشخصية وعلى عهدتهم! والمدرسة المصرية بمعرفة وزارة المعارف العمومية!
والدولة كلها بمعرفة وزارة المالية ووزارة المواصلات!
هؤلاء هم المتهمون الثلاثة الذين خنقوا ذلك الأدب المسكين، حتى سقط جثة هامدة، والذين لا يزالون يخنقون ليلفظ الأنفاس الأخيرة التي ما تزال تتردد في فوت!
فكيف كان ذلك؟
فأما الأدباء فهم الذين انصرفوا كلهم أو معظمهم عن الإخلاص للأدب وللعمل الأدبي، لأن هذا الإخلاص يكلف جهدا ومشقه، ويكلف عزوفا عن شئ من الكسب المادي وعن فرقعه الشهيرة الكاذبة. انه يكلف صبرا على التجويد، وجهدا في الإخراج، ومعظم الأدباء - وبخاصة الذين يسمون الكبار - قد جرفتهم الحرب وما كان في إبانها من رواج في النشر، فانهالوا على السوق بإنتاج سريع (مسلوق) لأن هذا النتاج السريع يحقق لهم أرباح مادية عاجلة، ويعفيهم من جهد البحث وأمانة العمل، ويضخم في الوقت ذاته قائمة مطبوعاتهم في نظر الجماهير.
وقد أقبلت الجماهير عليهم في أول الأمر. ولكنهم شيئا فشيئا جعلوا يكررون أنفسهم، بل يهبطون عن مستواهم. . إنهم راحوا يجترون ما اختزنوه ولا يضيفون إليه شيئا، ولا يضيفون للحياة الأدبية والحياة الإنسانية جديدا.(939/1)
وكان الكثير من أدباء الصف الثاني قد اتخذوا بيرق الشهرة التي ينالها المشهورون المكثرون، فركضوا كذلك في الطريق وباتت المطبعة وأصبحت فإذا هي تساقط على رؤوس القراء كتبا اقلها قيم ومعظمها هراء. . .
واستيقظت فطرة القراء القلائل بطبيعتهم في العربية، فإذا الإعراض والجفاء عن هذا المكرور المعاد من أعمال الأدباء، وعن الأدب كله عند كثرة القراء!
وصاب هذا ركود حركة النقد الأدبي، النقد الذي يزيف الزائف، ويستبقي الصحيح، والذي يخلق في الجو الأدبي حيوية ونشاطا وتطلعا وأخذا وردا ودفعة إلى الأمام.
والذي بقى من النقد انتهى إلى أن يكون أضحوكة ومهزلة فلقد تالفة شبه نقابات أو عصابات، كل نقابا منها أو عصابة موكلة بالدعاية (لمنتجات الشركة) التي تنتمي إليها بطريقة مفضوحة مكشوفة، ولا تخفى على ذوق القارئ، ولا تزيد على أن تقتل الثقة في نفسه بما يكتب وما يقال!
وامتدت هذه النقابات إلى دور الصحف والمجلات، فعسكرت كل منها في مجلة أو صحيفة، واصبح محرما على أي كتاب لا ينتمي صاحبة إلى (شلة) معينة أن يجد له من صفحات تلك المجلات والصحف نصيبا. وبهذا أتطبق البلاه على النقد وعلى الأدب سواء
واعجب العجب ما سمعته أخيرا من أن بعض المساهمين في المجلات أو الصحف من المؤلفين أو الناشرين، يرون أن هذه المجلات والصحف لا يجوز أن تنشر عن مؤلفاتهمإلا الحمد والثناء، وقد ذهب أحدهم غاضبا محتجا لان مجلة يساهم هو فيها ماليا قد نشرت نقدا لعمل مهلهل من أعماله!
وبذلك تحولت الصحف الأدبية - في هذا المجال - إلى مكاتب إعلان ودعاية لأصحابها والمساهمين فيها. ولم يكن بد للقراء أن يدركوا هذا فنفروا من المجلات الأدبية من الأدب والأدباء!
وأخيرا فقد تخلى معظم الأدباء عن هذه الأمة في كفاحها للحياة والبقاء. بل خانوها خيانة علنية واضحة.
إنني لا أؤمن بتجنيد الأدب والأدباء لخدمة الأغراض القريبة، والصراع الاجتماعي، في فترة محدودة؛ ولكني أؤمن بأن الأديب الذي لا يحس آلام أمته القريبة أو البعيدة هو أديب(939/2)
ميت لا يتجاوب معه الأحياء.
فإذا لم يستطيع الأدب أو لم يرد أن يشارك في المعركة الحاضرة فله هذا، ولكن على أن يهتف للإنسانية بأشواقها البعيدة وأهدافها الكبرى التي قد تجاوز هذا الجيل، وتتخطاه إلى أفاق أعلى من الصراع في فترة من الفترات.
وأعتقد - من تجاربي الخاصة - أن الجماهير قد أقبلت وما تزال تقبل على نوعين من الإنتاج:
نوع يشاركها، في كفاحها الحاضر، ويستمد منها ويمدها، ويتجاوب مع حاجاتها الموقوتة بهذا الصراع.
ونوع يحدو لها بآمال المستقبل، ويهتف بها إلى مدارج البشرية العليا، ويفتح لها كوى من النور في الظلام.
وإني لأعتقد أن هذا الإقبال دلالة على سلامة وعي هذه الأمة وفطرتها - على قلة القراء فيها وندرتهم - وأنها محقة في إهمال ذلك الركام المكرور التافه الذي تخرجه لها كثرة الكتاب والمؤلفين. وبخاصة أولئك الذين كانوا يوما ما يلقبون بكبار الأدباء!
ولست غافلا عن إقبال الجماهير في جانب الآخر على غثاء القصص والروايات والأفلام والصحافة؛ فلذلك اللون يغذي الجانب الهابط في نفس البشرية. وللإنسانية جانبها؛ وجذبها بخيط الصعود ممكن كجذبها بخيط الهبوط.
وحين لا تجد الأمم من أدبائها الجادين من يلبي حاجة روحها، أو حاجة عصرها، فهي معذورة حين تنكب على المخدرات التي تقدمها تلك القصص والروايات والأفلام!
ونسيت الشعر المسكين، وما رزأتنا به المطبعة في هذه السنوات الأخيرة من ركام يتفاخر أصحابه بضخامة الحجم وكثافة الوزن، ويستعينون بصداقاتهم وبوسائلهم الخفية على الخروج به على الناس في غيره ما خجل ولا حياء!
لقد نظر أحد أصدقائنا إلى ديوان من هذه الدواوين، وقد أكتنز شحما ولحما، وهزل معنى وروحا، ثم قلبه في يديه وقال: قديما كان يقال: حمار شغل. فيها نحن أولاء قد عشنا لنرى: حمار شعر!
وفي هذا الجو تختنق روح الشعر، أو الأنفاس المترددة في جوه الكظيم. ويكره الناس(939/3)
الشعر والشعراء، وينفرون من مجرد رؤية الدواوين، فضلا عما تحتويه من نظيم!
وما من شك أن القلة من البحوث وقلة من الروايات والقصص، وقلة من الدواوين والقصائد، قد أخرجت للناس في هذه الفترة وهي تستحق الاستجابة، وتستحق الانتباه.
ولقد لقي معظمها ما يستحقه في نفوس الناس من تقدير وإقبال. والذي خانه الحظ فلم يعرف طريقه إلى الناس، إنما جنت عليه غفلة النقد في هذا البلد، ومؤامرات النقابات والعصابات، وسوء ظن القارئ بالمطبعة والمجلة والنقد في هذه الأيام.
ولو نهض المخلصون من النقاد، ووجدوا من الصحافة الأدبية مشجعا لتطهير الجو من هذه الميكروبات السالبة فيه، لاستطاعوا أن يستعيدوا ثقة القارئ بالنقد الأدبي، تلك الثقة التي قضت عليها العصابات والأوكار!
وإني لأعتقد أن صفحات (الرسالة) لن تضيق بالنقد الحر المخلص، إذا أقبل به أهله في جرأة وفي إخلاص.
ذلك نصيب الأدباء في جريمة قتل الأدب. فأما نصيب المدرسة ووزارة المعارف، ونصيب الدولة كلها ممثلة في وزارة المالية ووزارة المواصلات، فموعدي بها قريب أشاء الله.
سيد قطب(939/4)
موقف لكفار بدر لعل زعمائها يتدبرونه!
للأستاذ عبد الحكيم عابدين
لا تكاد تنتصف أيام الصيام حتى تظلنا من رمضان أحفل ذكرياته بمواكب المجد، وأغنى أيامه بمواقف البطولة، وأوفرمجاليه إشراقا بصورة الفداء والتضحية. وحسبك بذكرى (بدر) بلاغا إلى كل ما يصقل الروح من معاني العبرة، وما تستشرف إليه النفس من جلال الفكرة (وَلَقَدْ نَصَرَكُم الله بِبَدْرٍ وَأنْتُم أذِلَّة فاتَّقُوا الله لَعَلَّكُم تَشكُرون (.
بيد أنى آخذ نفسي اليوم بنهج في تحليل جانب من الذكرى أرجو ألا يثير الانفراد به حفيظة أهل الرأي، وآمل ألا يعقب غرابة السبق إليه أوزار المتزمتين في تصور قداسة الدين. فحسبي - متى أخلصت القصد - أن أبوء بثاني الأجرين، وما توفيقي إلا بالله.
إني إذن مهيب بك أيها القارئ الأثير أن تشاطرني جولة في ربوع مكة وقد استنفرت صناديد قريش لقتال محمد صلوات الله عليه، ثم تغذ معي السير إلى رحاب القليب حيث تراءى الجمعان والتقى العسكران، وإنك لسابقي حينئذ إلى استخراج منازل الفضل التي ندعو إليها زعماء اليوم لا من معسكر الصحابة فذلك ما لا خلاف في روعته وجلاله، بل من معسكر الكفر على ما عرف من بغيه وضلاله!
إي وربي لأقنعن زعماء العصر أن يقتدوا بما سجل التاريخ من رجولة كفار بدر، ولهم إن فعلوا ثناء الناس وحمد التاريخ، وأنا بهما زعيم هذه قريش في البيض واليلب، قد هبت لثأر أبي سفيان حين استصرخها لنجدته ضمضم بن عمرو (يا معشر قريش اللطيمة! اللطيمة! إن أموالكم مع أبي سفيان قد أحاط بها محمد وأصحابه، لا أضن أن تدركوها) ولكن قريشا لا تكاد تستكمل أهبتها للمسير حتى يوافيها أبو سفيان قد استطاع أن يفلت بمحاذاة الشاطئ فسلم من حصار محمد وسلمت لقريش التجارة والعروض، وانقضت بذلك حاجة مكة إلى قتال المدينة. وهنا لا يقنع صناديد مكة المغاوير وفتيان قريش الضيد بالإجابة لداعي السلام، بل (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) وتملي لهم شياطين الكفر علوا واستكبارا، فيأبون أن يضعوا اللامات، أو ينزعوا العصابات، حتى يبلغوا من القتال كما توهموا الإجهاز على محمد ودعوته، ويفضوا من الحرب إلى إعلان مجد قريش وعزتها (وإذْ زيَّنَ لَهُم الشيطانُ أعمالَهُم وقالَ لا غالِبَ لَكُم اليَومَ مِنَ الناسِ وإِنّي(939/5)
جارٌ لَكُمْ)
وتتداعى حماسة الثائرين إلى لواء زعيم الصلف والفظاظة أبي جهل فيصوغ مشاعرهم صرخات موحشة (والله لا نرجع حتى نأتي بدرا فنقيم عليها ثلاثا، نشرب الخمور، وننحر الجزور، وتعزف علينا النساء، وتسمع بنا وبمسيرنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبد الدهر)
بيد أن صوت العقل لا يضل طريقه وسط هذا الضجيج، وكلمة الفصد والحكمة لا يحجبها عن الآذان صليل هذه البيض، بل تنطلق قوية رزينة مسببة مفحمة على لسان صنديد قريش الأول وزعيمها المطاع عتبة بن ربيعة (يا قوم ما حاجتكم أن تلقوا محمداً غدا وقد سلمت لكم أموالكم ورد الله عليكم رجالكم، إنكم إن لقيتموه فأصاب منكم وأصبتم منه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قد قتل أباه أو ابن عمه أو ابن أخيه. يا قوم ما يضركم أن تدعوا محمدا والناس، فإن أصيب بيد غيركم كان ذلك الذي أحببتم، وإن كانت الأخرى لقيتموه غدا ولم تعدموا منه ما تريدون)
ويسترسل عتبة، ومن ورائه جهابذة قريش وجلة أبطالها وحكمائها؛ كحكيم بن حزام وسهيل بن عمرو، في استدراج قريش إلى وضع السلاح، وإقناعهم بحقن الدماء، في منطق تتساوق أدلته إلى الإفهام، وأسلوب توشك حججه أن تؤثر في الصم الصلاب، حتى يفضي إلى التعرض لحمل التبعة جميعا وينتهي استجابة لداعي العقل والحكمة - إلى التضحية بذكره في مجال الشجاعة وهو فارسها المجلى، والنزول عن حظ نفسه من الثناء والشهرة، وهي خير ما يحرص عليه صنديد عربي، فيقول في ختام هذه الدعوة (يا قوم. اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم).
لقد كانت هذه الكلمات من سيد شجعان مكة والمع أبطال قريش جديرة أن ترد السهام إلى كنائنها، وتوسد السيف بطون أغمادها، وتلجم الضوامر الثائرة بشكائمها، فتنساب في مكة هدأة الأمن، وتغشاها من جديد طمأنينة السلام. ولكن العروبة قرينة العنف في حقها وباطلها، وتربية الصحراء أليفة الثورة في إيمانها وكفرها.
(لا يَسألُونَ أخاهُم حينَ يَندِبُهُم ... في النائِباتِ على ما قالَ بُرهانا)
وهكذا غلب ضجيج الحماقة على صوت الحكمة، وفتكت شرة الحرب بدعوة السلم فخرجت قريش بخيلها ورجلها تحاد الله وتكذب رسوله وتبغي في الأرض الفساد. وكذلك ساخ في(939/6)
ركام النزق والغرور رأي عتبة على نضجه واستقامته، وانجرف في غمرة التيار عتبة بن ربيعة على شرفه في القوم وزعامته، ولم يدر إلا وقد فصلت الفيالق تجاه بدر، وتيممت كتائب قريش القليب!!
ترى ما عسى أن يصير إليه موقف عتبة وقد صدق عشيرته النصح فلم تنتصح، ونخل لقومه مخزون الرأي فلم يرشدوا.
هنا هنا موطن العبرة للساسة، بل منزل القدوة للزعماء والقادة.
هذا عتبة وقد أهمل رأيه على وساطته في قومه، ووضوح السداد في دعوته، لا يشغب على الجماعة، ولا يأتي عملا أو قولا يضعف هيبتها أمام الأعداء.
وهذا عتبة وقد انعقد إصرار الأمة على القتال، لا يجدوا لرأيه حقا على نفسه حتى في أن يأوي إلى الصمت والاعتزال.
وهذا عتبة ينكر ذاته، ويفنى وجوده في أمته، فيأخذ أهبته لعسرة النضال.
وهذا عتبة وقد اعتصب للحرب، لا يدع ظلا من شبهة في أنه استكره على الخروج أو أحرج في اللقاء.
بل هذا عتبة وقد جد الجد، وشمرت عن ساقها الحرب، يحتل مكان الصدارة بين المقاتلين، وقد كان بالأمس عدو القتال، فيضرب المثل الرائع في إيثار الوحدة، وفناء الفرد في الجماعة، وإذابة الرأي الواحد وإن استقام وصفا، في مشيئة الأمة متى تيممت وجهة أخرى.
إي والله. . هذا عتبة يرى في طليعة الصفوف، ويتوج هامته بعصابة الحرب ويجعل عن يمينه - في راس الجيش كذلك - أخاه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، يوقد بهما شرارة الحرب الأولى، ويعجل بنفسه وبهما غبار النقع في غزو بدر الكبرى.
اسمعوا إليه أيها السادة الزعماء وهو يلقي القفاز في وجه عصبة الحق، ويتحدى كتائب الإيمان، فيطالب الرسول (صلوات الله عليه) أن يجعلها مبارزة رجل برجل!! بل اسمعوا إليه وقد ابتدر فتيان الأنصار هذا التحدي، وخفوا لالتقاط القفاز، كيف يعرض عن قتالهم ويغلو في الاعتداد بشرف قومه - وهم الذين أهملوا رأيه ونصحه - فيقول الرسول العظيم (بل أخرج إلينا أكفاءنا من بني عمومتنا من قريش)
وأطلوا على الموقف أيها الزعماء الأجلاء، وقد استعلنت عزة الحق بلسان النبي، وصرخت(939/7)
كرامة الأيمان في ندائه الأبي، (أخرج إليهم يا علي بن أبي طالب فعليك بالوليد، ويا حمزة بن عبد المطلب فعليك بعتبة، ويا حارث بن عبد المطلب فعليك بشيبة)
لحظات من الفتوة العربية في إيمانها وكفرها، إن ملأت النفوس هيبة من جلال الحق وخشوعا لسلطان العقيدة في معسكر المؤمنين، فمن الإنصاف أن نشيد بما تصبه في مسمع الدهر من تخليد لرجولة هؤلاء العصبة المشركين.
ولا يطول ريث الفريقين حتى تخلص لهم عاقبة هذا الصراع: لقد انتصرت السماء لجندها المؤمنين، فما هي إلا لحظات حتى كانت دماء عتبة وأخيه وأبنه الوليد تتدافع من صدورهم وجنوبهم ثارة دفاقة في فجاج الثرى توشك - لو أذن لها بالإفصاح - أن تقول للتاريخ الإنسانية (أنا الثمن الطبيعي للحفاظ على وحدة الجماعة، والفدية المتقبلة للإبقاء على استمساك كلمة الأمة، لا بأس أن يهلك أبناء ربيعة وتحيا كلمة قريش أبية كريمة)
وا أسفاه يا عتبة أنك خرجت من الدنيا كافرا لا يحل الترحم عليك (ما كانَ للنَبيِّ والّذينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكينَ ولَو كانُوا أُولي قُربى) ولكن القدر الواضح في خلقك من الرجولة، والضوء الغالب على عملك من تقديس وحدة العشيرة، والمثل الساري في تاريخك من إصغار رأى الفرد في سبيل الجماعة، والأدب المتألق من سبقك - وإن أهدرت مشيئتك - إلى افتداء شرف الأمة. كل ذلك يا عتبة بل بعض ذلك ورب الكعبة مواطن للقدوة تندب إليها أئمة الزمان المحتربين ونتمنى بجدع الأنف لو وجدت لها صدى في نفوس زعماء القرن العشرين، الذين أشقوا بتناكرهم البلاد، وأطعموا شرة خلافاتهم مصاير المحكومين.
ألا فروا رأيكم، يا زعماء مصر، أين تقفون من بطولة هذا الزعيم من كفار بدر، ولا روع عليكم أن تتخذوه قدوة، وإن اتسمتم من دونه بسمة الإيمان، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها
- قيل: لا يبالي من أي وعاء خرجت.
والفضل فضل وإن اختلفت الأيدي على تناوله، والمثل الرفيع كذلك وإن خفت همم أهل الكفر إلى تداوله، (وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنْآن قُوم على ألا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى، واتقوا الله)
عبد الحكيم عابدين(939/8)
مولانا محمد علي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
صدر العدد الأول من مجلة (ريفيو أف رليلجن) في كانون الثاني 1902، وقد جاء في تحديد أهداف المجلة ما يأتي: (إننا نرمي من وراء إصدار هذه المجلة إلى غايتين واضحتين: الأولى، أن نقود البشر إلى السراط المستقيم حين نعلمهم المثل العليا ونحبب إليهم الصدق والإيمان، وحين ننشر بينهم المعرفة الحقة، وأخيرا أن تصدر أعمالهم في الحياة عن المبادئ السامية التي أنزلها الله على نبيه في الإسلام. والثانية: أن نجذبهم بمغناطيسية قوية من روعة الدين تجعلهم يسيرون مسحورين، في طريق الهدى، وتوقظ في نفوسهم القوة التي تدفعهم تحت تأثيرها للعمل بأوامر الدين واجتناب نواهيه)
ثم يمضي في شرح الرسالة السامية وينتهي عند قوله: (وستقوم هذه المجلة بالدفاع عن قضية الدين الحنيف، وتقاوم كل المعتقدات الفاسدة الممعنة في الضلال المبين، تلك المعتقدات التي ليست في حد ذاتها غير تجاوز على ما يجب نحو الخالق أو على ما يجب نحو المخلوق)
وكانت المقالة الأولى التي ترجمها مولانا محمد علي في هذه المجلة هي تلك التي كتبها مؤسس الحركة الأحمدية لهذه المناسبة، وكان عنوانها: (كيف نتخلص من الذنوب)
وأخذت المجلة تركز أبحاثها على ما كان يضطرم في عقول الناس في تلك الفترة الزمنية، من القلق، والشك، والحيرة، ولم يمض على ذلك العمل غير سنوات ثلاث، حتى كانت المجلة قد أخذت طريقها إلى أرقى الأوساط في إنجلترا وأمريكا. وكان من أبرز السمات التي امتازت بها، تركيزها المحكم الدقيق في عرض مبادئ الإسلام عرضا موفقا بديعا، على الرغم من استهدافها لحملات عنيفة قاسية، قام بها رجال الدين من الإكليروس النصراني، ولكنها صمدت لهم وهزمتهم في عقر دورهم وأخرست الباطل في ألسنتهم.
وكانت في نفس مؤسس الأحمدية رغبة قوية في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، وقد صرح بذلك في كتابه المسمى (إبتالا أو هام) غير أن المنية لم تمهله ليرى ذلك الحلم الجميل حقيقة ناصعة، فسار إلى لقاء ربه في السادس والعشرين من أيار(939/10)
1908، تاركا رئاسة الحركة التي أسسها إلى المرحوم مولانا نور الدين الذي أشتهر بين الناس بعلمه ودينه.
ودعي مولانا محمد على عام 1909 ليقوم بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، وراح في صمت المؤمن، وصبر المجاهد، يواصل العمل طيلة سنوات ثمان. ولم يكن هذا العمل بالشيء اليسير، وإنما كان شائكاً معقداً وعر المسالك، تغلب عليه بهمة أقوى من راسيات الجبال، إذ كان التعليق على الآيات وتفسيرها ونقل معانيها، يتطلب دراسة أمهات كتب الأحاديث ومراجعة جميع المعروف من المعاجم العربية لأمانة نقل المعنى الذي ينطوي عليه اللفظ العربي، إلى الإنجليزية نقلاً صادقاً دقيقاً، وكان يعمل في كل يوم من تلك السنوات الثمان اثنتي عشرة ساعة عملاً متواصلاً، حتى إذا ما أتعبه الجلوس، انتصب قائماً واستعان على عمله بمنضدة مرتفعة يعمل عليها وهو واقف في يسر وسهولة.
وتمت الترجمة بكل ما أضيف إليها من حواش وتعاليق وشروح ومقدمات وأضيف إليها النص العربي، فبلغت الآلاف من الصفحات عام 1917.
وفي هذا الوقت بدأت الخلافات في الحركة الأحمدية وانشقت على نفسها، وهو أمر يستوجب الأسف والحزن، ولكنه أمر لم يكن منه بد، ذلك أن أصدقاء مؤسسي الأحمدية وأعداءه على السواء قد نالوا منه وشوهوا أهدافه وافتروا الضلال المبين عليه، لأن فئة قليلة من أتباعه، دفعتهم العاطفة، وحملهم الوهم على اعتباره نبياً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، واعتقدوا أن جميع الذين لا ينظرون إليه على هذا الشكل إنما هم كفرة خارجون عن حظيرة الدين الإسلامي.
وبعد وفاة مولانا نور الدين عام 1914، ترك مولانا محمد علي قاديان في شهر نيسان من تلك السنة، مبتعدا بنفسه عن تلك الفتنة التي أثارت هذا النزاع في قاديان، وأستقر في لاهور، وأسس الجمعية الأحمدية لإشاعة الإسلام فيها، وانقطعت صلته بالجماعة الأحمدية في قاديان منذ ذلك التاريخ. ولكن على الرغم من الواجبات العملية الشاقة التي تتطلبها رئاسته لتلك الجمعية الإسلامية، فإن أعماله الأدبية ونشاطه الفكري لا يزالان على روعتهما وشمولهما.(939/11)
وأتم ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الأوردية بعد ظهور الطبعة الإنجليزية بسبع سنوات.
وهو كاتب من الطراز الأول، غزير الإنتاج، ألف عدداً كبيراً من الكتب عن التاريخ والدين الإسلامي باللغة الإنجليزية. ولقد كتب ما يقرب من عشرة آلاف صفحة باللغة الإنجليزية، وعشرة آلاف صفحة أخرى باللغة الأردية عن المواضيع الإسلامية.
قال المستر ماردوك باكتال وهو من الإنجليز الذين هداهم الله إلى الدين الإسلامي، من الذين تصدوا لترجمة معاني القرآن إلى الإنجليزية، عن كتاب مولانا محمد علي (دين الإسلام) الذي ألفه في اللغة الإنجليزية عام 1936 ما يأتي: (لم يستطع إنسان من المعاصرين أن يخدم الإسلام، بأوسع ما في الخدمة من معنى، كما استطاع مولانا محمد علي).
ويعتبر مولانا محمد علي من القلائل من بين بني الإنسان الذين يطيقون العمل المعقد المضني ويصبرون السنوات على احتماله بجلد عظيم. وليس ذلك كل ما يمتاز به، إنما يضاف إليه الترتيب في العمل، والاستفادة من الوقت على أحسن الوجوه بصورة لا يقدر أن يجاريه أي أوربي في مضمار من هذا النوع. وهو في عاداته شديد الاتزان شأنه في ذلك شأن دقته في الحكم على الأشياء والناس والمشاكل في عظائم الأمور. وعلى الرغم من عدم احترافه المحاماة، فإن دراسته العميقة للقانون جعلت أحكامه مبنية على الحقائق لا على العواطف المتغيرة. ولقد تركزت هذه الصفات الرائعة في الحركة الأحمدية التي رأسها في لاهور، وابتعد بذلك عن أتباع الحركة نفسها من المتطرفين في قاديان.
ومنذ موت مؤسس الأحمدية، تعرضت الحركة التي أسسها إلى عوامل مختلفة، داخلية وخارجية عنيفة، غير أن مولانا محمد علي وقف كالصخرة الراسية أمام هذه العواصف خشية أن تعصف بالناحية الروحية المثالية الرائعة التي هي رسالة هذه الحكمة في توجيه مبادئ الإسلام لخدمة الإنسانية.
لقد بلغ مولانا محمد علي من النجاح شأوا بعيدا قلما بلغة إنسان مثله، بسبب إيمانه العميق بالله، ذلك الأيمان الذي لم تكن لتقوى أعاصير الحياة على زعزعته، والذي كان يزيد في رسوخه ومتانته إدمانه قراءة القرآن، والأحاديث المأثورة عن الرسول، والذكريات القوية العميقة الجذور في عواطفه عن مؤسس الحركة الأحمدية، وخشوعه في صلواته التي لا(939/12)
تنقطع لله تعالى. وهو حين يصلي، كثيرا ما ينفصل عما يحيط به من عالم مادي، وينطلق بروحة إلى آفاق الغيب البعيدة عن حدود الدنيا، فتمر الدقائق وهو لا يشعر بما يدور حوله من حركة وما ينبعث عن الحياة من ضوضاء وتشويش.
ومن عادة مولانا محمد علي أن يستيقظ في الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، ولقد مرت عليه سبعون سنة وهو يستيقظ في هذا الموعد ليغتسل في مثل هذه الساعة المبكرة التي هي أحلى الساعات النوم عند الذين يعيشون بلا أهداف إنسانية عظيمة في الحياة، وما اضطربت هذه المواعيد مره في هذه السنين الطويلة، حتى إذا ما انتهى من الاستحمام، انهمك في صلاة التهجد حتى يطلع الفجر، ويؤذن لصلاة الصبح. ومن عادته أن يأخذ بعد ذلك قسطا من الرياضة البدنية بعد صلاة الصبح مباشرة، فيسير على قدميه مسافة تتراوح بين ثلاث أميال وخمسة أميال. ولم يقطع فريضة واحدة من الصلوات الخمس منذ أن كان طالبا في المدرسة وعمره لا يزيد على عشر سنين، ولم ينقطع عن صلاة التهجد الذي كان يشارك أستاذه ميرزا غلام أحمد منذ أن كان في الخامسة والعشرين من عمره السعيد.
ولعل بساطته، التي نسبته إلى حد بعيد، إلى بساطة الأطفال، ترجع إلى عمق اتصاله بالأبد وعالم الروح وهو على الأرض، وعلى الرغم من أن مولانا محمد علي يعيش في عالم يضطرب بالخداع والنفاق والغدر والنميمة والأذى، فإنه في أخلاقه كالكتاب المفتوح، يستطيع كل إنسان أن يقرأ فيه من النظر إلى قسمات وجهه كل ما يجيش في عواطفه من شعور السخط أو الغبطة؛ وهو كالمرأة الصافية الأديم، يرى الناظر فيها كل ما في تلك النفس العظيمة من استحسان أو استنكار، تلك النفس التي لا تعرف الخداع والتضليل والأباطيل.
والذين يعرفون مولانا محمد علي معرفة دقيقة من طول عهد الصحبة في مواكب الحياة، لا يذكرون مرة أنه مدح نفسه، أو أشار إلى ذلك من بعيد أو قريب، مهما حملت تلك الإشارة في طياتها.
وإنما يذكرون أنه دائما، يحصي على نفسه ذنوبها وهفواتها ويحاسبها حسابا عسيرا.
وبعد فهذه شخصية إسلامية جليلة القدر، بعيدة الأثر في خدمة الدين، تعمل أعمال الجبابرة وراء صمت التواضع ليكون العمل خالصا لوجه الله العظيم.(939/13)
وسيمر الزمن وتتلفت الأجيال المقبلة من أبناء المسلمين إلى التراث الخالد الذي صنعه مولانا محمد علي لنشر الدين فتعطيه ما يستحقه من تقدير، وتنصفه من الحياة التي لا تسدد النظر في مواكبها إلا إلى الدجالين والمشعوذين، فيخلد مع الخالدين.
والآن وبعد مرور نصف قرن من جهاد مولانا محمد علي، ذلك الجهاد الذي فتح الآفاق الموصدة في وجه رسالة الإسلام الخالدة، يقف فوق الحياة بعد أن أشاع في ظلامها النور الإلهي الذي يبعث الرحمة إلى القلوب المعذبة فيها.
والعبيد المعذبون في أميركا، والمنبوذون المضطهدون في الهند، والشعوب التي تئن تحت المبادئ المزيفة التي صنعها الإنسان، ينتظرون الفجر الذي يبدد الظلام الذي يعيشون فيه، من عدالة الإسلام ومبادئه الإنسانية الخالدة.
أمد الله في عمر مولانا محمد علي، ونفع به، وأعز به الإسلام، وجزاه خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين.
بغداد
علي محمد سرطاوي(939/14)
بريطانيا العظمى
لأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(تابع)
حديث:
في يونية 1945 كنت قادما من بور سعيد إلى القاهرة، وكان يرافقني أحد الزملاء الكرام ورجل إنجليزي كان يرتدي الثياب المدنية ومعه حقيبة مكتوب عليها بيروت، وكانت بيروت ودمشق تثيران اهتمام العرب كافة، والمصريين خاصة، وتشغلان القلوب بما كان يجري فيها من حوادث مروعة إذ ذاك.
ذلك أن فرنسا لم تكد تتحرر من الاحتلال الألماني حتى جاءت بجحافلها إلى الشرق تحاول أن تسترد نفوذها في سوريا ولبنان وأن تقضي على استقلالهما، وانطلقت طائراتها تضرب الآمنين من سكان بيروت ودمشق في غير إنسانية ولا رحمة، الأمر الذي أثار ثائرة الرأي العام الشرقي عامة والمصريين خاصة. وسط هذه الحوادث والفواجع كان التقائي بالرجل الإنجليزي.
ولم نلبث أن تجادلنا أطراف الحديث فقلت له: (أيرضيك ما تفعله فرنسا في بيروت ودمشق؟ إن فرنسا كانت تبكي على حريتها منذ حين، فما بالها تقتل الحرية في غير بلادها، ولم تروع الآمنين في ديارهم؟ إن الشرقيين لم يقفوا من قضية الديمقراطية موقفا عدائيا طوال الحرب، بل قدموا للحلفاء ما استطاعوا من مساعدات! فهل يكون هذا جزاؤهم؟).
ولكن الرجل لم يجب وأنتقل إلى موضوع أخر: (أكنتم تقفون حقا في صف الديمقراطية؟) قلت: (بلى) قال: (فلم قتل رئيس وزرائكم؟ (المغفور له أحمد ماهر باشا (، قلت: (إن هذه جريمة فردية ولا تؤخذ أمة بجريمة فرد، والدليل على صدق ما أقول أنه لم يوجد للقاتل شركاء)
وانتقل الرجل إلى حديث آخر قال (أعندكم نظام برلماني سليم؟ أتجرى انتخاباتكم كما يجب أن تجرى الانتخابات؟) قلت له: (مهلا. إن كان في نظامنا البرلماني بعض الهنات فإنها ستصلح سريعا وسنتغلب عليها إن شاء الله) ثم استأنفت حديثي قائلا: (إن نظامكم(939/15)
البرلماني الذي تفخرون به كان نظاما فاسدا في القرن التاسع عشر، وقد أصلح، فلم لا يصلح نظامنا البرلماني كما أصلح نظامكم؟)
عيوب:
كان النظام البرلماني الإنجليزي في القرن الثامن عشر موضع إعجاب المفكرين الفرنسيين أمثال مونتسكيو، ولكن الإصلاحات التي جاءت بها الثورة الفرنسية جعلته يظهر بعيدا كل البعد عن تحقيق الديمقراطية، فقد كان أعضاؤه من كبار الملاك والأشراف الذين وصلوا إلى مقاعد النيابة بنفوذهم وبالرشوة، ولم يكونوا يمثلون الشعب البريطاني بحال منالأحوال. وقد صبر الشعب على مساوئ النظام البرلماني أثناء الكفاح بين إنجلترا وفرنسا في عصر الثورة ونابليون، ولكن بعد سقوط نابليون تطلع الشعب إلى إصلاح النظام البرلماني. وهنا أحب أن أذكر أن الإصلاح قد تم تدريجا ودون حدوث ثورات خطيرة أو انقلابات عنيفة كما حدث في فرنسا. وقد كان أهم عيوب النظام البرلماني في أوائل القرن التاسع عشر ما يأتي:
أولا: سوء توزيع الدوائر الانتخابية: فقد بقى على ما كان علية في عصر شارل الثاني 1660 رغم التطورات التي حدثت في حياة إنجلترا وفي توزيع سكانها، وقد كان من نتائج ذلك أن حرمت مدن كبيرة - نشأت نتيجة للانقلاب الصناعي مثل مانشستر وليدز وبرمنجهام - ومن التمثيل النيابي، بينما كانت (دنوتش) التي غمرتها مياه بحر الشمال ترسل نوابها إلى البرلمان، وكذلك (سارم القديمة) كانت عبارة عن تل من الخرائب ومع هذا كان لها نواب في البرلمان!
ثانيا: لم يكن التوزيع عادلا من ناحية أخرى: فقد كانت إرلندا تنتخب مائة نائب عن ستة ملايين من السكان، وكانت إسكتلندا تنتخب 45 نائبا عن مليونين، وكانت إنجلترا تنتخب 513 نائبا عن 12 مليونا من السكان. وكذلك كان يمثل الأقاليم 186 عضوا ويمثل المدن 467 عضوا.
ثالثا: تقييد حق الانتخاب: فقد كان قاصرا على طبقات معينة، هم كبار الملاك في الأقاليم وأعضاء البلديات في المدن، وقد كان عدد الناخبين في دائرة جاتن سبعة فقط.
رابعا: كان كثير من الدوائر يقع في أملاك اللوردات؛ وكان لهؤلاء تأثير كبير على(939/16)
الناخبين، ونتيجة لذلك أختار الدوق نورفوك أحد عشر نائبا في البرلمان، ولورد لونسدول تسعة، ولورد دارلنجتون سبعة، بل إن بعض اللوردات كان يبيع دوائره لمن يدفع أغلى ثمن.
خامسا: كان حق الانتخاب مباحاً لمن يدفع الضرائب سنوية قدرها أربعون شلنا، ولكن اختفاء الملكيات الصغيرة قلل عدد الناخبين لدرجة أنه كان في دائرة (بوت) واحد، وفي أحدالانتخابات حضر هذا الناخب وحضر معه العمدة وضابط يشرف على الانتخاب، وأجريت عملية الانتخاب، وانتخب النائب نفسه، وأصبح نائبا.
سادسا: كانت قلة عدد الناخبين مدعاة لانتشار الرشوة، فكان الصوت يباع بجنيهين وربما وصل إلى عشرة جنيهات.
سابعا: عدم سرية الانتخابات.
وهكذا نرى أن مجلس العموم كان في الواقع لا يمثل الشعب البريطاني، وقد لمس كبار رجال بريطانيا الحاجة إلى الإصلاح، واقتنع به بت الأكبر ثم بت الأصغر، ولكن حوادث الثورة الفرنسية والصراع بين إنكلترا وفرنسا أوقف حركة الإصلاح. ولما انتهت الثورة قام كثير من المفكرين يدعون إلى الإصلاح وزاد الحركة قوة بؤس الطبقات العاملة وسوء حالها وانتشار الغلاء بسبب قانون الغلال الذي صدر عام 1815 لحماية كبار الملاك. ورأى هؤلاء المفكرون أن الإصلاح لن يكون إلا إذا تم الإصلاح النيابي، وزج بكثيرين منهم أمثال وليم كوبت في السجون.
وأخيرا في 1819 قامت مظاهرات في مانشستر للمطالبة بالإصلاح، لكن الحكومة استخدمت الشدة في قمعها، فقتل وجرح الكثيرون، وقد سميت هذه المعركة بمعركة (بيترلو) تهكما. وأصدرت الحكومة قوانين قيدت بها حريةالصحافة وحرية الخطابة وحرية الاجتماع. ورغم هذا ظلت حركة الإصلاح سائرة، وتبناها كثير من أغنياء التجار والصناع.
ولما قامت ثورة 1830 في فرنسا سقطت وزارة المحافظين في إنجلترا، وقامت وزارة من الأحرار بزعامة لورد جراي، وقدم اللورد جون رسل مشروعا بالإصلاح إلى مجلس العموم، ولكن المشروع لقي معارضة، فحل المجلس وأجريت انتخابات، وجاءت النتيجة(939/17)
في جانب الأحرار فوافق المجلس إلى قانون 1832، ولكن مجلس اللوردات عارض فاستقال جراي. وقد عجز الملك عن تأليف وزارة أخرى، فاضطر إلى استدعاء جراي ثانية، وصرح له برفع بعض الأحرار إلى مرتبة اللوردية حتى تكون له أغلبية، وإزاء هذا التهديد قبل اللوردات المشروع.
وبمقتضى قانون 1832 ألغيت مقاعد المدن البالية، ووزعت الدوائر الانتخابية توزيعا عادلا بحيث تمثل المدن الجديدة في البرلمان، وأنقص النصاب المالي للناخب فزاد عدد الناخبين إلى 656 ألف بعد أن كان 535 ألف.
ولكن القانون لم يحقق الديمقراطية كما كان ينشدها أفراد الشعب البريطاني، وقد أنتفع به أفراد الطبقة الوسطى، أما العمال فقد بقوا بدون تمثيل، ولذلك فبرغم صدور قانون 1833 يحدد ساعات العمل، نراهم ينهضون بزعامة روبرت أون ويطالبون بالإصلاح وقد ضمنوا مطالبهم وثيقة سميت (وثيقة الشعب) وأهمها:
1: الاقتراع العام
2: سرية الانتخاب
3: تجديد مجلس العموم سنويا
4: صرف مكافئات للنواب تشجيعيا للفقراء الأكفاء
5: عدم تقييد النواب بمؤهلات مالية
6: تقسيم البلاد إلى دوائر انتخابية متساوية
على أن هذه الحركة لم تنجح وذلك لتحسن حالة العمال بعد إلغاء قانون الغلال سنة 1846، ولكن ظل العمال يطالبون بحقوقهم السياسية، وفي عام 1867 تبنى حركة الإصلاح غلادستون زعيم الأحرار ودزرائيلى زعيم المحافظين، كل يحاول أن يجعل نفسه محبوبا لدى الشعب بالاستجابة إلى رغباته، ونتيجة لذلك صدر قانون 1867 وبه عدل توزيع الدوائر الانتخابية توزيعا عادلا، وقلل النصاب المالي للناخب فزاد عدد الناخبين وأصبح لبعض العمال حق الانتخاب، ولكن ظلت الأغلبية محرومة.
وفي 1870 تقررت مجانية التعليم الأولى وجعل إجباريا. وفي عام 1872 تقرر سرية الانتخابات.(939/18)
وفي عام 1884 صدر قانون آخر يبيح للزراع حق الانتخاب، وأعيد توزيع الدوائر بحيث أصبح لكل 50 ألف من السكان نائب في مجلس العموم.
وفي 1918 تقرر حق الانتخاب للبالغين من الرجال والنساء على السواء، وبذلك أصبح مجلس العموم يمثل الشعب البريطاني تمثيلاً كاملاً.
وأحب أن أذكر أيضا أن مجلس العموم عمد إلى تركيز السلطة في يده وسحبها من يد اللوردات، فتقرر سنة 1911 أن الميزانية تصبح نافذة إذا أقرها مجلس العموم ولو لم يقرها مجلس اللوردات، وكذلك تقرر أن القوانين التي يوافق عليها مجلس العموم (النواب) ثلاث مرات تصبح نافذة ولم يوافق عليها مجلس اللوردات. وهكذا أصبح مجلس العموم الذي ينتخبه الشعب البريطاني صاحب الكلمة العليا في بريطانيا، والوزراء ليسوا إلا منفذين لتوجيهاته وإرشاداته.
أبو الفتوح عطيفة
مدرس أول العلوم الاجتماعية
بسموند الثانوية(939/19)
بمناسبة رمضان (شهر الإحسان)
سؤال الناس
للأستاذ علي العماري
للشاعر الإسلامي جرول بن أَوس الملقب بالحطيئة وصية غريبة مشهورة عنه، ذلك أنه حين حضرته الوفاة قيل له: أوص يا أبا مليكة. فقال: مالي للذكور من ولدي دون الإناث، قالوا: فإن الله لم يأمر بذلك، قال فإني آمر به. قيل له: ألا توصي بشيء للمساكين؟، قال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فإنها تجارة لن تبور، قيل له: فلان اليتيم، ما توصي له بشيء؟، قال: أوصيكم أن تأكلوا ماله!
ومع غرابة هذه الوصية، ومع أننا نظن أنها وضعت لقصد الفكاهة، مع ذلك فإن الناس يعملون بها أكثر مما يعملون بأي وصية أخرى في هذه الشؤون، ويعنينا من وصيته ما وصى به المساكين، فإنهم اتخذوا السؤال مادة للكسب، وتجارة تدر عليهم الربح الوفير، والمال الكثير. ومع أن السؤال أردأ مهنة يحترفها الرجل، ومع أن المال الذي يجيء عن طريق أرذل كسب يكسبه، نجد العاجز والقادر، الشيخ والشاب، الرجل والمرأة، نجد من كل أولئك من يحترف السؤال ويعيش عليه، بل ويجمع الثروة الطائلة عن طريقه.
وليس أضر على المجتمع الناهض، وعلى الأمة التي تريد أن تبني مجدها، من أن يكون فيها جماعة يعيشون على كسب الغير وهم القادرون على العمل، فليس رقي الأمم هبة تعطى، وإنما هو عمل أبنائها، وجهاد في سبيل عظمتها ومجدها، وأول سلم في هذا الجهاد أن يؤدي كل إنسان واجبه، وأن يعمل كل فرد ما يستطيع من العمل. أما الكسل، وأما الاعتماد على الآخرين، فذلك ينافي طبيعة العمران، ويحط من شأن الأمة، ويعطل آلة النجاح والتقدم فيها.
ومن عجب أن أكثر هؤلاء السؤال يتمسحون بالإسلام، ويستدرون عطف الناس باسم الدين، والإسلام ليس فيه لهؤلاء حجة، فقد أزرى على السؤال، وبغض فيه، وحث على العمل، وأوجبه على القادر، ولو كان عملا دنيئا حقيرا، فهو - على كل حال - خير من مسألة الناس، وبعض أصحاب النفوس العالية يفهم ذلك تمام الفهم، فقد حدثني صديق أنه رأى رجلا يعمل عملا يستقذره الناس، فلما فرغ من مسح يديه بالتراب، وجلس يأكل، قال(939/20)
صديقي فرأيته يتحدث ويقول: أسكتي، تأدبي. والله إن لم ترضى لأهيننك. فقلت له: يا رجل، رأيتك تتحدث وليس معك أحد، فمن تخاطب؟ قال: أخاطب نفسي، فإنها لما رأتني جلست آكل تقززت مني. فقلت له: سمعتك تقول تأدبي وإلا أهينك، فأي عمل أشد إهانة لها من عملك هذا؟ فالتفت الرجل مستغربا، فقال لي: يا مسكين، إن في الأعمال ما هو أخس من عملي وأقذر، ذلك مسألة الناس شيئا.
والإسلام لم يبح السؤال إلا للعاجز عن الكسب عجزا تاما، ومع ذلك دعا إلى التعفف، والإجمال في المسألة وعدم الإلحاف فيها، حتى استحسن العلماء أن يكون الرجل عييا في المسألة، وعند وصف الفاقة، فذلك أدل على كرم الطبع والأنفة من حال المسألة، والتصون من ذكر الفاقة، وقد مدح الله قوما بمثل هذا فقال: (يَحْسَبَهُمْ الجاهِلُ أَغنياءَ مِنْ التَعَفُفِ، تَعْرِفَهُمْ بِسيماهُمْ، لا يَسْأَلونَ الناسَ إِلحافا)
لكن المحترفين للسؤال يطاردونك مطاردة من له عليك دين، وربما تطاولوا عليك وسبوك. روي أن سائلا وقف على باب قوم يسألهم فقالوا: يفتح الله عليك، فقال: كسرة، قالوا: ما نقدر عليها، قال: فقليل من بر أو فول أو شعير، قالوا: لا نقدر عليه، قال: فقطعة دهن أو قليل من زيت أو لبن، قالوا: لا نجده، قال: فشربة ماء، قالوا: وليس عندنا ماء، قال: فما جلوسكم ههنا؟ قوموا فاسألوا فأنتم أحق مني بالسؤال!
ولا شك عندي أن هؤلاء - إذا كانوا صادقين - أحق بالسؤال من هذا السائل الوقح، ولكنهم قوم كرماء النفوس يصونون ماء وجوههم، ويعتزون بأنفسهم، ويخفون ما بهم من ضر وحاجة. وقد قرأت في تاريخ السودان أن الرجل كان إذا احتاج أغلق عليه باب داره، ومكث فيها حتى يموت، وقديما قال الشاعر الجاهلي (الشنقري)
أطيل مطالَ الجوعِ حتى أميته ... وأضرِب عنه الذكر صفحا فأذهل
وأستف ترب الأَرض كي لا يرى له ... على من الطول إمرؤ متطول
وقديما سأل رجل أبا دلف العجلي، فقال أبو دلف: أتسأل وجدك الذي يقول:
ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
فخرج الرجل، وجرد سيفه، وعاش عليه.
وهناك جماعة يعيشون على كسب غيرهم، وهم - في نظري - لا يختلفون على عن(939/21)
هؤلاء في السؤال في شئ، فقد تعجبك هيئة الرجل ووجاهته، فإذا سألت من أين يعيش؟ قيل لك أن له أخا أو أبا أو قريبا غنيا فهو ينفق عليه ويعطيه، أو أن له أصدقاء وتلاميذ يعودون عليه بالخير، ويغمرونه بالهدايا والألطاف، فمنها يعيش. وتحضرني دائما عند ذكر هؤلاء قصة الرجل الذي قيل للنبي (صلى الله عليه وسلم) فيه إنه صوام قوام متبتل؛ فسألهم: فمن يصلح له أمره، ويكفيه ما يهمه؟ فقالوا: كلتا يا رسول الله، فقال: كلكم خير منه. كما يحضرني الحديث الشريف: أشد الناس عذابا يوم القيامة المكفي الفارغ. وقول خليفة المسلمين يزيد بن عبد الملك: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا لئلا أتعود العجز.
فمن أراد أن يتفرغ لعبادة ربه، فليكتف من أمر الدنيا بالقليل. واعجب ما في أر هؤلاء أنهم يبررون أخذهم لهذه الأموال بأنهم ينفقونها في سبل الخير، وما علموا أنها أموال لا وجه لعمل فيها، ولقد حدث العالم الكبير عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان يضارع أبا حنيفة في الفقه قال: إني لأساير رجلا من وجوه أهل الشام، إذا مر بحمال معه رمان، فتناول منه رمانة فعجبت من ذلك، فمر به سائل، فمر به سائل فناوله أياها، فقلت له: رأيتك قد فعلت عجبا، قال: ما هو؟ قلت أخذت رمانة من حمال وأعطيتها سائلا، قال: وأنك ممن يقول هذا القول؟ أما علمت أني أخذتها وكانت سيئه وأعطيتها فكانت عشر حسنات، فقلت: أما علمت أنك أخذتها فكانت سيئة، وأعطيتها فلم تقبل منك. قلت: ومنطق هؤلاء لا يختلف في شئ عن منطق ذاك الرجل.
(وبعد) فكيف نعالج هذا الداء المشين، لعلي لا أبعد كثيرا إذا قلت إن العلاج الوحيد هو أن نفهم الناس دينهم على حقيقته، وأن يتأكدوا أن هذه المظاهر تشين الوطن، وتحط من قدر الأمة، والنفوس بطبيعتها شحيحة فلا يمكن أن ندعوها إلى أن تزيد في شحتها، ولكن ندعوها إلى أن تتلمس ذوي الحاجة من الأقرباء والجيران والمعارف فتدفع إليهم ما تجود به، وأن تمتنع امتناعا تاما عن إعطاء هؤلاء الذين يتجرون بالسؤال. وليس صحيحا ما يفهمه الناس إعطاء السائل ولو جاء على فرس، فإن ذلك إذا لم يجد المعطي من هو أحوج من الفارس، وإذا لم يكن صاحب الفرس قد اشتراه من أموال الناس التي سألهم إياها!
وأن يعلم هؤلاء الذين يعيشون على أرزاق غيرهم من الناس أن الموت أهون من ذل السؤال، وأن الإنسان لا يجد عوضا عن ماء وجهه الذي يبذله، وصدق الشاعر:(939/22)
ما نالَ باذِلٌ وجْهَهُ بِسُؤالِهِ ... عِوَضاً ولو نالَ الغِنى بِسُؤالِ
علي العماري(939/23)
عقيدتي
للفيلسوف الإنكليزي المعاصر برتر اندرسل
للأديب عبد الجليل السيد حسن
الفصل الرابع
الخلاص الفردي والاجتماعي
إن إحدى نقائص الدين التقليدي هي فرديته، وهذه النقيصة ترجع أيضا إلى الأخلاق المقترنة، وكانت الحياة الدينية دائما بالتقليد حوارا بين الروح والله، فإن تطع إرادة الله، فذلك هو الصلاح. وكان ذلك في إمكان الفرد الذي يهمل حالة المجتمع تماما، وقد نشرت الفرق البروتستانتية فكرة (وجود المخلص) ولكنها كانت دائما موجودة في التعاليم المسيحية، وهذه الفردية في الروح المفارق كان لها قيمتها في مراحل معينة من التاريخ، ولكننا في العالم الحديث في حاجة إلى تصور اجتماعي للخير أكثر من التصور الفردي. وأود أن نرى - في هذا الفصل - كيف يؤثر هذا في تصورنا للحياة السعيدة.
ظهرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية بين شعوب مجردة من القوى السياسية، قد تحطمت حكومتها القومية وارتبطت بكتلة ضخمة فاقدة الشخصية، وفي أثناء القرون الثلاثة الأولى من العصر المسيحي، كان الأفراد الذين اعتنقوا المسيحية لا يستطيعون أن يغيروا النظم الاجتماعية والسياسية التي كانوا يعيشون في ظلالها على رغم أنهم كانوا مقتنعين تماما بفسادها. وأثناء هذه الظروف كان من الطبيعي أن يؤمنوا بالاعتقاد بأن الفرد من الممكن أن يكون كاملا في عالم غير كامل، وأن الحياة السعيدة ليس لها شأن بهذا العالم. وقد يتضح معانيه أكثر بالمقارنة بجمهورية أفلاطون؛ فحينما أراد أفلاطون أن يصف الحياة السعيدة، وصف المجتمع ككل لا كأفراد، وقد فعل ذلك ليحدد العدالة التي هي معنى اجتماعي جوهري، فقد كانت حقوق (الجمهورية) مألوفة لديه، وكانت المسؤولية السياسية عنده قضية مسلمة، وحينما فقد اليونان حريتهم إلى دور ظهور الرواقية، التي هي - كالمسيحية وليست كأفلاطون - في تصورها الفردي للحياة السعيدة.
ونحن الذين ننتمي إلى ديمقراطيات عظيمة، سنجد عند الآثينيين الأحرار أخلاقا أكثر(939/24)
ملائمة مما نجد لدى الإمبراطورية الرومانية صاحبة السلطان المطلق. وفي الهند حيث الأحوال السياسية مشابهة تماما لما كان في أرض المعاد في زمن المسيح، نجد غاندي يحث على أخلاق مشابهة جدا لأخلاق المسيح، ويعاقبه من أجلها خلفاء بلاطس المسيحيون، ولكن الوطنيين الهنديين المتطرفين، ليسوا راضين عن الخلاص الفردي، فهم يريدون خلاصا قوميا، وهم في هذا قد أخذوا بنظرة الديمقراطيات الغربية الحرة، وأريد أن أذكر بعض الجوانب التي جعلت هذه النظرة - بسبب المسيحية - إلى الآن خالية من القوة والوعي والكفاية، بل ما زال الاعتقاد في الخلاص الفردي يقيدها.
والحياة السعيدة كما نتصورها تحتاج إلى عدد عظيم من الشروط الاجتماعية التي لا يمكن أن تتحقق بدونها. والحياة السعيدة كما قلنا هي الحياة التي يلهمها الحب وترشدها المعرفة. والمعرفة المتطلبة لا توجد إلا حيث تقف الحكومات وأصحاب الملايين أنفسهم على اكتشافها ونشرها؛ فمثلا انتشار السرطان شئ مخيف، وماذا يجب علينا أن نعمل بازائه؟ في الحالة الراهنة لا يستطيع أحد أن يجيب عن هذا السؤال، لنقص المعرفة. والمعرفة ليس من المحتمل أن تظهر وتكتشف إلا بالبحث الموقوف عليها. ومرة أخرى معرفة العلم والتاريخ والأدب والفن، يجب أن يحصل عليها كل من يرغب فيها، وهذا يقتضي استعداد متعدد النواحي من جانب السلطة العامة، ولا يبلغ إلى ذلك عن طريق التحول الديني. وحينئذ فهاهنا تجارة خارجية بدونها يموت جوعا نصف سكان بريطانيا العظمى. وإذا متنا جوعا، فإن قليلا منا سوف يحيون الحياة السعيدة. ولا داعي لأن نكثر من الأمثلة، ولكن النقطة المهمة هي أنه من بين كل ما يفرق بين الحياة السعيدة والحياة السيئة، هو أن العالم وحده، وأن الإنسان الذي يدعي أنه يعيش مستقلا طفيلي، سواء شعر بذلك أم لم يشعر.
وفكرة الخلاص التي كان المسيحيون الأولون يعللون بها أنفسهم لخضوعهم السياسي تصبح مستحيلة بمجرد أن نتخلى عن التصور الضيق للحياة السعيدة، ففي تصور المسيحية السليمة أن الحياة السعيدة هي حياة الفضيلة والصلاح، والفضيلة في إطاعة إرادة الله، وإرادة الله تتضح لكل إنسان خلال صوت الضمير، وهذا تصور أناس خاضعين لسلطة مطلقة أجنبية مستبدة، والحياة السعيدة تشمل كثيرا، بجانب الفضيلة - الذكاء مثلا - وكثيرا ما يكون الضمير مرشدا مضللا، لأنه يتضمن ذكريات غامضة لمدركات منذ الطفولة،(939/25)
ولذلك فهو ليس أحكم من صاحبته المربية أو الأم. ولكي يحيا المرء الحياة السعيدة بأتم معانيها، يجب أن ينال قسطا وافرا من التربية، وأن يكون الأصدقاء والحب والأطفال - إذا أرادهم - ودخل كاف ليحفظه من العوز والقلق، وصحة جيدة، وعمل ليس بالممل. وكل هذه الأشياء بدرجات متفاوتة، وتعتمد على المجتمع؛ وتساعدها أو تعوقها الأحداث السياسية. والحياة السعيدة لا تكون أبدا إلا في مجتمع سعيد، وليست بممكنة في عالم ليس كذلك.
وهذا نقص أساسي في المثل الأرستقراطي الأعلى، فبعض الأشياء الصالحة مثل الفن والعلم والصداقة، يمكن أن تزدهر أيما ازدهار في مجتمع أرستقراطي، فقد وجدت في اليونان على أساس الرق، وتوجد بيننا على أساس الاستغلال والتسخير؛ ولكن الحب في صورة المشاركة الوجدانية وحب الخير لا يمكن أن يوجد وحده طليقا في مجتمع أرستقراطي. فالأرستقراطي يقنع نفسه بأن الرقيق أو الأجير أو الرجل الملون من طينة أدنى فإيذاءهم لا يهم وإن الرجل الإنجليزي المثقف في الوقت الحاضر ليضرب الأفريقيين بشدة، حتى أنهم يموتون بعد ساعات من الألم الفظيع. وأنا لا أستطيع أن أقول أن هؤلاء المهذبين - حتى ولو كانوا متعلمين جيدا وفنانين ومحدثين لطافا - يحيون حياة سعيدة، فإن الطبيعة البشرية لتضع بعض الحدود للمشاركة الوجدانية، ولكن ليس بدرجة مثل هذه. وفي المجتمع ذي الوعي الديمقراطي لا يسلك هذا المسلك إلا المهووس وتحديد المشاركة الوجدانية التي يشتمل عليها المثال الأعلى الأرستقراطي لهوسها. والخلاص مثال أرستقراطي لأنه فردي، ولهذا أيضا لا تصلح فكرة الخلاص الشخصي - مهما أولت ووسمت - لتعريف الحياة السعيدة.
وطابع آخر من مميزات (الخلاص) وهو أن ينجم عن تغيير محني (نتيجة محنة) كتحول القديس بولص وأشعار (شلي) تقدم صورة لهذا المعنى تنطبق على المجتمعات، فاللحظة تحين حين يتغير كل إنسان (وتطير الفوضى واختلال الحكم) (ويبدأ عمر العالم العظيم من جديد) ولكن: قد يقال إن الشاعر ليس بذي أهمية، وأفكاره لا نتيجة لها؛ ولكني أقول: إن جزءا كبيرا من القواد الثوريين كان لديهم أفكار مثل ما لدى (شلي) إلى حد بعيد، فقد فكروا في أن البؤس والقسوة والانحطاط ترجع كلها إلى الظلمة، أو القسس أو الرأسماليين، أو(939/26)
الألمانيين. ولو طرحت منابع الشر هذه لحدث تحول عام في القلوب، ولعشنا جميعا سعداء أبدا. ولاعتقادهم في مثل هذه الاعتقادات فقد أريد منهم أن يستمروا في (الحرب حتى تنتهي الحرب) وبالمقارنة نجد أن المحظوظين هم هؤلاء الذين عانوا الهزيمة والموت، وهؤلاء الذين حالفهم سوء الحظ، فظهروا كمنتصرين، كانوا في حاجة إلى شئ من احتقار اللذات أو الكلبية المسيحية، وكانوا بائسين بتحطيم كل آمالهم البراقة، والمنبع النهائي لهذه الآمال كان العقيدة المسيحية في التحول المحني كطريق للخلاص.
وأنا لا أريد أن أقول إن الثورات ليست بضرورية مطلقا، بل أريد أن أقول أن إنها ليست أقرب الطرق إلى عودة المسيح وليس هناك من طريق مختصر إلى الحياة السعيدة سواء أكانت فردية أم اجتماعية، ولكن لكي نشيد حياة سعيدة علينا أن نشيد الذكاء وضبط النفس والمشاركة الوجدانية، وهذا أمر كمي؛ أمر إصلاح تدريجي وتدريب مبكر وخبرة تربوية. والذي يجعل مكانا للاعتقاد في الإصلاح المفاجئ هو عدم الصبر فقط، والإصلاح التدريجي الممكن، والطرق التي يبلغ إليه بها، أمور قد تكفل بها علم المستقبل، ولكن في مقدورنا أن نقول شيئا الآن، وطرفا مما يمكن قوله. وسأحاول معالجته في ختامي.
عبد الجليل السيد حسن(939/27)
شوقية أخرى لم تنشر
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
قد يعجب قراء الرسالة الكرام في كافة الأقطار الناطقة بالضاد من حبي وإعجابي بشعر خالد الذكر أمير الشعراء شوقي بك. والسبب في ذلك بسيط جدا، وهو أنني أعد شوقي القمة الشامخة في الأدب العربي، تلك القمة التي لا يدانيها أحد قط منذ أن جدد بشار حتى الآن إلا حبيب بن أوس الطائي الملقب بأبي تمام، أستاذ الشعراء في عصره، والذي أعد أثقف شعراء زمانه، فحبيب عندي من الشعراء القلائل الذين قلما تجود العربية بهم. وهو يختلف عن أبن الرومي وأحمد بن الحسين بسعة أفقه وخصب خياله وعمق ثقافته.
ومن تصفح ديوانه وقرأ شعره قراءة دراسة واستقصاء علم ما أذهب إليه. ولا أريد في هذه العجالة أن أحلل شعره، أو أشير إلى مواطن الإبداع في قصائده أو أختار له من نفائسه شيا، وإنما هي عجالة ألجأتاني إليها كلمة جاءت عرضا، لذلك لم أشأ أن أمر على شعر أبي تمام دون أن أشير إلى أياته التي أبدع فيها، وخصوصا بائيته الخالدة ومطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
ورائيته:
الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار
ونونيته التي تعد في مصاف الرائية:
بذ الجلاد البذ فهو دفين ... ما إن به إلا الوحوش قطين
ومنها هذا البيت الخالد:
قد كان عذرةمغرب فافتضها ... بالسيف فحل المشرق الأفشين
ومنها هذه الأبيات:
فأعادها تعوى الثعالب وسطها ... ولقد ترى بالأمس وهي عرين
جادت عليها من جماجم أهلها ... ديم أمارتها طلى وشؤون
كانت من الدم قبل ذلك مفاوزا ... غيرا فأمست منه وهي معين
وغيرها من القصائد التي يحفل بها الديوان. هذه كلمة مناسبة قلتها وأود أن أتوسع بها في وقت آخر، وخاصة عند تعرضي لدراسة الدكتور محمد مهدي البصير عن هذا الشاعر؛(939/28)
تلك الدراسة التي اشترتها من وزارة معارف العراق العمومية بـ (700) دينار وهي لا تستحق حتى المطالعة فإذا ما قلت في المقدمة إن خالد الذكر المرحوم شوقي بك قمة شامخة في الأدب العربي فأنا لا أتعدى الواقع. . وقبل أسابيع نشرت قصيدة له لم تنشر في ديوانه، واليوم أزف لعشاق شعره قصيدة أخرى عثرت عليها عند صديقي الأستاذ الشاعر خضر الطائي وهو محقق ديوان العرجى. وقد كان هذا الأستاذ قد حصل عليها منذ سنة 1930 ميلادية وبقيت في أوراقه حتى هذه الأيام. وقد نضمها أمير الشعراء شوقي بك في تكريم الأستاذ سامي شوا عازف الكمان المشهور بعد عودته من أمريكا. وهاأنذا أزفها إلى تلك الطبقة المثقفة في البلاد العربية كما زففت من قبلها قصيدته (جهاد مصر الوطني). وقبل أن أدرج لهم القصيدة نفسها التي دعاها شوقي بـ (صاحب الفن) أود أن أهمس في أذن صديقي الأستاذ علي شوقي بك وزير مصر المفوض في باريس أن لوالده رواية (الست هدى) و (البخيلة) ولا زالتا مخطوطتين! فهل من الواجب الأدبي والوطني أن نبقي مخطوطات سيد شعراء العربية في دهاليز النسيان؟! هذا ما أردت أن أعاتب به صديقي علي بك النجل الأكبر لأمير الشعراء، وعسى أن تكون هذه الكلمة منبهة له أو لأخيه الأستاذ حسين صاحب كتاب (أبي شوقي). . . لاشك أن القارئ الكريم مل من هذه المقدمة وهو يرغب في الشوقية التي لم تنشر إلا سنة 1930 في جريدة مصرية عثر عليها صديقنا الأستاذ خضر الطائي الشاعر العراقي المعروف، وهاهي:
صاحب الفن
يا صاحب الفن هل أوتيته هبة ... وهل خلقت له طبعا ووجدانا
وهل وجدت له في النفس عاطفة ... وهل حملت له في القلب إيمانا
وهل لقيت جمالا فيدقائقه ... غير الجمال الذي تلقاه أحيانا
وهل هديت لكنه من حقائقه ... يرد أعمى النهى والقلب حيرانا
الفن روض يمر القاطفون به ... والسارقون جماعات ووحدانا
أولا الرجال به في الدهر مخترع ... قدزاده جدولا أو زاد ريحانا
العبقرية فيه غير مالكه ... إذا مشى غيرهلصا وجنانا
لا تسال الله فنا كل آونة ... وأساله في فترات الدهر فنانا(939/29)
يا واحد الفن في أشجى معازفه ... هذا أوان الثناء العدل قد آنا
يا رب ليل سمارنا الراح فأختلف ... على بنانك للسمار ألحانا
تلك اللعيبة من عود ومن وتر ... لولا بنانك لم نجعل لها شأنا
قد أنست رحمة في الصدر فانكأت ... بجانب الإذن تستوحيك شيطانا
كأنها عش طير هاج أهله ... من كل ناحية ينساب أشجانا
ضممتها وتواصت راحتاك بها ... ضم الوليد إشفاقا وإحسانا
تملى عليها الذي توحي إليك به ... كأن داود والمزمار ما بانا
حركتها فأتاها الروح فاندفعت ... تبكي وتضحك أوتارا وعيدانا
يا طيبها حين تحدرها بحنجرة ... كخرطم النحل أرواحا وألوانا
مصرية الغير وهابية عذبت ... شدوا ونوحا وترجيعا وتحنانا
ذكرت خلقا وراء البحر مغتربا ... مآلفا وصبابات وأوطانا
غنيتهم بأغاني المهدي فالتمسوا ... في ملتقى القوس والأوتار لبنانا
ولو هتفت ببيتهوفن ما انصرفت ... لك القلوب وإن صادفت آذانا
سقيتهم من سلاف طالما دخلت ... عليهم المهد أعنابا وألبانا
فن تعطل منه الشرق آونة ... وكان شغل بني العباس أزمانا
بهذا يختم شوقي هذه الرائعة التي قالها في تكريم أمير الكمان الأستاذ سامي شوا عند عوده من أمريكا ولا أريد أن أعلق عليها بمثل ما علقت عل قصيدته السالفة، لان في العراق أقواما يسوؤهم أن يكون شوقي أعظمشعراء العربية بعد أبي تمام، فهم يريدون أن تقول - وتجازف في القول - إن الرصافي أعظم منه.
وأنا لا أريد أن أجاري هؤلاء ومنهم الدكتور مهدي البصير وبعض أساتذة الأدب العربي في العراق، لأنني أفهم منهم لمعاني الشعر ودقائقه، ولكن على الرغم من ذلك أقول إن شوقي هو الشاعر العملاق، وغيره من شعراء العراق كالرصافي والزهاوي ما هما إلا أقزام صغار؛ فهلا يعتبر الجاهلون.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري(939/30)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
(بداية ونهاية) لنجيب محفوظ:
(بداية ونهاية) دليل مادي لا ينكر، على أن الجهد والمثابرةجديران يخلق عمل فني كامل.
لقد أتى عل وقت ظننت فيه أن نجيب محفوظ قد بلغ غايته في (زقاق المدق)، وأنه لن يخطو بعد ذلك خطوة أخرى إلى الأمام. أقول غايته هو لا غاية الفن، لأن (زقاق المدق) كانت تمثل في رأي الظنون أقصى الخطوات الفنية بالنسبة إلى إمكانيته القصصية. ولهذا، خيل إلى أن مواهب نجيب قد (تبلورت) هنا وأخذت طابعها النهائي وتوقفت عند شوطها الأخير. ومما أيد هذا الظن أن (السراب) وقد جاءت بعد (زقاق المدق) كانت خطوة (واقفة) في حدود مجاله المألوف، ولم تكن الخطوة الزاحفة إلى الأمام!
كان ذلك بالأمس. . أما اليوم، فلا أجد بدا من القول بأن (بداية ونهاية) قد غيرت رأيي في (إمكانيات) نجيب، وجعلتني أعتقد أنه قد بلغ الغاية التي كنت أرجوها له، غايته هو وغاية الفن حين كانت الغايتان مطلبا عسير المنال!
أنني أصف هذا الأثر القصصي الجديد لهذا القصاص الشاب، بأنه عمل فني كامل. هذا الوصف، أو هذا الحكم، مرده إلى أن أعماله الفنية السابقة كانت تفتقر إلى أشياء؛ تفتقر إليها على الرغم من المزايا المختلفة التي تحتشد فيها وتحدد مكان صاحبها في الطليعة من كتاب الرواية!
ماذا كان ينقص نجيب قبل (بداية ونهاية)؟ ماذا كان ينقصه في (خان الخليلي) و (القاهرة الجديدة) و (زقاق المدق) و (السراب)، لقد كان نجيب في هذه الروايات الأربع يمتلك من الخطوط الفنية ما يتيح له من أن يخرج (التصميم العام) للقصة وهو سليم في جملته. ومع ذلك فقد كان ينقصه عنصر الالتزام الدقيق لحدود (الواقعية الأولى) في عرض حوادث القصة وتوجيه حركات الشخوص. وأقول (الواقعية الأولى) لأن (الواقعية الثانية) هي الساحة الكبرى التي دأب نجيب على أن يعرض فيها أكثر نماذجه البشرية!
إن الفرق بين هذين اللونين من الواقعية هو أن اللون الأول نقل (مباشر) لصور الحياة وطبائع الأحياء، كما هي في الواقع المجس الذي تلمسه العين وتألفه النفس. أعني أن تكون(939/32)
الحادثة القصصية أو النموذج البشري مما يقع كل يوم في محيط اللقطة البصرية والنفسية؛ أعني مرة أخرى أن تكون تمثلنا للحوادث والشخصيات تمثيلا شعوريا لا ذهنيا عندما تقارن بين حقيقتها على الورق وبين حقيقتها في الحياة. هذا هو اللون الأول وهذه هي مظاهره، أما اللون الثاني من الواقعية وهو ما نعبر عنه بـ (الواقعية الثانية)، فهو التصوير (التقليدي) لا (الطبيعي) للحوادث اليومية والنزعات الإنسانية. أو هو تلك النسخة من الحياة التي يمكن أن نقول عنها أنها (قريبة) من الأصل، ولا يمكننا القول بأنها (طبق) الأصل، ونسخة كهذه منهما اقتربت من الواقع فهي نسخة (مقلدة) على كل حال. . وقد يكون الفن في جوهرة تقليدا للحياة، ولكن رسالة الفنان هي أن يشعرنا بأن المشهد الذي بصوره أصيل لا أثر فيه للمحاكاة.
وألا يترك لنا فرصة للشك في أن هناك اختلافا بين الصورة الحقيقية والصورة المنقولة، أو أن هناك حلقة اتصال مفقودة بين الواقع والمثال!
نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة هو ذلك القصاص الذي يمثل (الواقعية الثانية) في الكثير الغالب من الأعيان. ولست أنكر أن بالواقعية الأولى مجالا في فنه، ولكنه المجال (المحدود) تبعا لطريقته الفنية التي تغلب عليه في كتابة القصة. هذه الطريقة الفنية أساسها أن نجيب مولع بأن يضع كثيرا من نماذجه البشرية تحت مجهر التحليل النفسي، ليتخذ من سلوكها الإنساني مادته الرئيسية في تحليل ما يقع تحت المجهر من (حالات مرضية (! قل إذا شئت أنه يطبق بعض الأصول من (علم النفس المرضي) على كثير من أبطال قصصه (المنحرفين) وأنه تبعا لهذا التطبيق يفرض عل فنه أن يسير في خط اتجاه نفسي محدد تدور فيه الشخصية (المريضة) من البداية إلى النهاية؛ تدور فيه بقوة الدفع (المرضية) التي تبرر سلوكها في محيط (الواقعية الثانية). . من هنا يخرج نجيب بعض الشيء عل منطق (الواقعية الأولى)، لأنه يجبر حوادث القصة وحركات الشخوص على أن تسير نحو غاية معينة، تحقيقا لمنهجه الفني الذي يلتمس عند النتائج المادية تفسيرا للظاهرة النفسية أو تشخيصا (للحالة المرضية). وتشعر أن التشخيص النفسي لهؤلاء (المرضى) غير سليم في بعض الأحيان، ومرجع هذا الشعور إلى أن سلوكهم مفروض عليهم فرضا ولا يملكون فيه حرية الاختيار! هنا مفرق الطريق بين واقعيتين: (الواقعية الأولى) و (الواقعية الثانية).(939/33)
هذه صورة (تقليدية) للحياة كما قلت، وتلك صورة (طبيعية). وموقف الفن بينهما واضح عندما نضع أنفسنا أمام هذه الحقيقة، وهي أن النموذج البشري في حدود الواقعية الأولى موجود في الحياة (بالفعل)، وأنه في حدود الواقعية الثانية موجود في الحياة (بالإمكان). . أي أننا إذا رجعنا إلى بعض الشخصيات التي رسمها الأستاذ نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة، وسألنا أنفسنا هل هي موجودة بيننا حقا تروح وتجيء، وتقع عليها العين وتدركها الحواس، ونشعر نحوها بشيء من الألفة التي تخلق بيننا وبينها نوعا من المشاركة الوجدانية؟ إذا سألنا أنفسنا هذا السؤال فإننا ننتهي إلى هذا الجواب: وهو أنها غير موجودة (فعلا) ولكنها (ممكنة) الوجود؛ أي أن وجودها غير متعذر لأن منطق الحياة يهضمه إذا (وجد) وكذلك طبيعة الأحياء. ومن هنا نلتمس الفارق الدقيق بين كلمتين: (موجود). . و (ممكن إن وجد)، وبالطبع لا يضيق الفن بالكلمة الأخيرة وإن كان يفضل الكلمة الأولى بلا مراء!!
هذا عنصر من العناصر الفنية كان ينقص نجيب محفوظ. وثمة عنصر آخر كان ينقصه، وأعني به (التذوق الشعوري) الكامل للحياة. . هناك قصاص فهم الحياة حق الفهم وخبرها كل الخبرة، ومع ذلك فهو يتذوقها بقدر معلوم لا يتناسب وخبرته العميقة وفهمه الأصيل؛ فما هو الفارق بين طبيعة (الفهم) وطبيعة (التذوق) في حياة القصاصين؟ لتوضيح هذا الفارق الفني نقول: إنك تفهم الشيء بعقلك ولكنك تتذوقه بشعورك، أعني أن الفهم أداته الذهن الفاحص، وأن التذوق أداته الإحساس الرهيف. . إنهما طاقتان: طاقة عقلية وطاقة شعورية، والذين قويت عندهم الطاقة الأولى وضعفت الثانية هم الذين تتوقد في نفوسهم شعلة الفهم، وتخبو شعلة التذوق، بالنسبة إلى كل قيمة من قيم الأشياء وكل معنى من معاني الحياة.
إن هناك مثلا من (يفهم) قصيدة من الشعر؛ يفهم فيها اللفظ والمعنى، ويفهم فيها الوزن والقيافة، ويفهمها شرحا أن طلبت إليه الشرح والتفسير. ومع هذا كله فهو لا يستطيع أن (يتذوق) فيها الوحدة الفنية، ولا الظلال النفيسة، ولا التجربة الكبرى وهي مصبوبة في بوتقة الشعور. . وقل مثل ذلك عن الذي يفهم (النوتة الموسيقية) للحن من الألحان، ثم لا يتذوق جمال اللحن، ولا يهتز فيه لروعة الإيقاع، ولا يستجيب لأنغامه التصويرية!(939/34)
إن فهم الحياة هو أن تفتح لمشاهدها أبواب القلب. . إننا (نراها) هناك تحت إشعاع الومضة الفكرية، و (نتلقاها) هنا تحت تأثير الدقة الوجدانية! وعلى مدار هذه الكلمات تستطيع أن تنظر إلى نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة. . إنك لا تستطيع أن تجرده من التذوق الشعوري للحياة، ولكنه التذوق العابر الذي لا يتناسب وخبرته العميقة بها وفهمه الأصيل!
ويبقى بعد ذلك عنصر فني ثالث كان ينقص هذا القصاص الموهوب. . أتدري ما هو؟ هو تلوين الأسلوب القصصي تلوينا خاصا يتلائم وجو المشهد المصور، أو طبيعة النموذج البشري المرسوم. . في القصة مثلا موقف إنساني يتطلب عند تصويره أسلوبا معينا تتوفر فيه لمعات الشاعرية، وموقف آخر لا نحتاجفيه إلى مثل هذا الأسلوب الشاعري، وعندما نتناول الملامح المادية لمشهد من المشاهد أو لشخصيةمن الشخصيات، بأسلوب السرد الفني المألوف الذي تحتشد له القدرة على التقاط الجزئيات، وهناك موقف ثالث يفرض علينا أن نعالجه بأسلوب آخر هو أسلوب التجريد والتحليل، حين تعترض طريقنا تلك اللحظات
الزاخرة بألوان من الحركة الذهنية أو النفسية!
نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة يكاد يستخدم أسلوبا واحدا في تصوير شتى المواقف والسمات، وأعني به أسلوب الرد الفني المألوف. . مثل هذا الأسلوب إذا ارتضيناه في تلك المواقف المهيأة لتجسيد الملامح المادية للمشاهد والشخوص، وتجاوزنا عنه في تلك المواقف الأخرى المخصصة لتسجيل الحركة الجائشة في الذهن أو المختلجة في الشعور، فإننا لا يمكن أن نسيغه بالنسبة إلى المواقف الإنسانية؛ لأنه يفقدها طابع الجو الشعري الذي يجب أن تعيش فيه، هذا الجو الذي إذا فقدته تعرضت للهمود واعتراها الفتور!
كل من هذه العناصر الفنية الثلاثة التي كانت تنقصه بالأمس: عنصر الالتزام الدقيق لحدود
(الواقعية الأولى)، وعنصر (التذوق الشعوري) الكامل للحياة، وعنصر (التلوين الخاص) للأسلوب القصصي؛ كل منها قد أحتشد له اليوم في صورته القوية الرائعة في (بداية ونهاية)، وإذا هذه الرواية القصصية تعد في رأي النقد عملا فنيا كاملا لا مثيل له في تاريخ القصة المصرية باستثناء (عودة الروح) لتوفيق الحكيم!!
(بداية ونهاية) قصة مصرية تمثل حياة أسرة. . أسرة تذوقت طعم الفقر وتجرعت ذل(939/35)
الفاقة، بعد أن فرقت بينها وبين عائلها تلك اليد التي تفرق بين الأحياء. والفقر وحده هو المسؤول عن البناء الذي تصدع والشمل الذي تبدد، شمل الأسرة الكادحة التي كان للتضحية عند كل فرد من أفرادها طعم ومذاق.
الأم، وحسين، وحسن، وحسنين، ونفيسة؛ كل نموذج من هذه النماذج البشرية التي كونت الهيكل الإنساني العام للقصة، قد فهم التضحية فهما خاصا وكانت له فيها وجهة نظر خاصة، وجهة نظر حددت الطريق وقررت المصير. . كانوافلاسفة حياة؛ فلاسفة أخضعوا الفلسفة لمنطق الشعور المحترق بلهب الحرمان، حتى خرج بعضهم من الفلسفة وهو منحرف العقل مريض النفس، والفقر وحده هو المحور الرئيسي الذي دار حوله السلوك الإنساني لهؤلاء المنحرفين!
هذه الأم العظيمة كان عليها أن تكافح بعد موت الزوج لتخلق من هؤلاء الصغار رجالا يواجهون الحياة وهؤلاء الأبناء الأربعة لم يكن لهم مورد في الحياة غير تلك الجنيهات الخمسة التي كانت تأتيهم من معاش الوالد الراحل؛ كامل أفندي علي الذي أنفق في خدمة الحكومة زهرة العمر وعصارة الشباب! وماذا تفعل الجنيهات الخمسة لأسرة تواجه مطالب الحياة من مأكل ومسكن وملبس ومحافظة على المظهر القديم أمام الناس؟! هنا يبرز دور الأم. الأم الصابرة العاقلة الحازمة المكافحة في سبيل البقاء. لقد باعت أثاث البيت قطعة بعد قطعة لتسكت البطون الصارخة من وطأة الجوع، وهجرت (الشقة) التي كان يدخلها النور
والهواء ولجأت إلى أخرى عشش فيها البؤس والظلام توفيرا لقروش معدودات، وقضى حسنين وحسين أيام الدراسةالثانوية بلا (مصروف) يومي يشعرهما بأن للحياة فرحة يستشعرها الصغار من الأحياء، ومضت نفيسة تطرق الأبواب لتحصل لهم على الأجر الضئيل الذي كان يأتيها من حياكة الثياب بين حين وحين، وهام حسن الذي دلله أبوه حتى طردته المدرسة ونبذته الحياة، هام عل وجهه في الطرقات بحثا عن لقمة العيش من كل طريق غير شريف!
ودارت عجلة الزمن والأم العظيمة الصابرة ما زالت تكافح. . كانت الطريق طويلة، رهيبة، قد انتثرت على جانبيها الصخور. ومع ذلك فقد مضت في طريقها لا تلوي عل(939/36)
شيء: يد تجفف العرق المتصبب من حرارة الكفاح، ويد تدفع إلى الأمام بالقافلة المكدودة التي أنهكها طول المسير! لقد كان هناك أمل. . أمل يتراءى على جنبات الأفق البعيد فينسيهم أنهم متشردون وإن ضمهم مسكن، عراة وإن سترهم ثوب، جياع وإن حصلوا على الرغيف. أمل يتمثل في الغد القريب الذي سيفتح عيني الأم الصابرة المكافحة على منظر فريد، تسعد فيه برؤية الصغيرين وقد أصبحا رجلين، يشغل كل منهما بعد الفراغ من التعليم مكانه المنتظر في دنيا الناس!
وجاء الغد المرتقب يحمل إليهم البشرى. . . لقد ظفر حسين بالبكالوريا والتحق بإحدى الوظائف في مدينة طنطا. قبل الوظيفة الصغيرة ليستطيع أن يمد يد العون إلى أسرته. أخوه حسنين، أمه، أخته نفيسة، كان من الظلم ألا يختصر طريقه في الحياة ليخفف عنهم جزءا من أعباء الحياة. ترى أكان يمكنهم أن يصبروا على شظف العيش حتى ينتهي من دراسته العالية؟ محال! وحين أضمأت نفسه إلى هذه الحقيقة أقدم على التضحية وهو سعيد مرتاح البال.
لقد ضحى حسين بآماله العراض. . إن المصير الذي ينتظرهلن يفترق عن مصير أبيه، وهو مصير الألوف من الموظفين الصغار! مستقبل محدود مظلم ولكنها فلسفة حياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان! ونفيسة. . لقد ضحت هي الأخرى وكانت التضحية فادحة، ضحت بالشرف الغالي والعرض المصون. . كانت فقيرة، ودميمة، وأين الزوج المأمول وقد حرمت إلى الأبد عزة المال ونعمة الجمال؟ رجل واحد يستطيع أن يقبلها زوجة وتعيش معه تحت سقف واحد، رجل مضيع في الحياة مثلها فقير دميم! ولقد وجدت يوما هذا الرجل. . هذا الحيوان الذي استجابت له مرغمة تحت تأثير الحلم الجميل، حلم كل عذراء قبيحة الوجه وجدت بعد طول انتظار من يقول لها إنك جميلة، يا زوجة الغد القريب! وسقطت نفيسة. . وفر الحيوان الذي سلبها الشرف وتركها وحيدة تواجه الخاتمة في معركة المصير.
وقالت لنفسها يوما: ماذا بقي لك يا بائسة؟ لا مال، ولا جمال، ولا شرف. . هل بقي شيء تحرصين عليه؟ هل هناك ذرة من أمل في زوج جديد؟ وحين قهقه في أعماقها الجواب. . انطلقت تلبي رغبات الجسد عند كل عابر سبيل! وأمها، وأخواتها، لا أحد يعلم بم انتهت(939/37)
إليه من ضياع. انحدار إلى الهوة السحيقة الرهيبة ولكنها فلسفة الحياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان! وحسن، ذلك الشريد الهائم في الطرقات. . ماذا فعلت به المقادير؟ لقد جاع. . جاع لأنه لا يصلح لأي عمل (نظيف)، لقد فقد القدرة على أن يحيا حياة نظيفة، مرتبة، هادئة فيها أمن وفيها استقرار!
هناك في الحياة خط سير يستطيع أمثاله أن يسلكوه. . خط سير يعج بالدروب والمنحنيات التي تختفي فيها الكرامة، والشرف، والفضيلة، والإنسانية. . قيم ستختفي إلى الأبد، ومثل ستذهب إلى غير معاد. .
ولكن ستظهر بعدها اللقمة الدسمة التي تشبع كل معدة خاوية، وسيقبل في أثرها الثوب الجديد الذي ينعش كل جسد مهان، وستخطر البسمة المشرقة التي تسعد كل شعور ملتاع، وهذ1 هو خط السير الذي سلكه الفتى الشريد. . يتاجر بالمخدرات، ويعيش مع العاهرات، ويالها من حياة. حياة ينكرها عليه الشرفاء من أسرته وفي طليعتهم أخوه حسين، ذلك الفتى الطموح الذي تخرج في الكلية الحربية وأصبح ضابطا في سلاح الفرسان!
من فيض هذه الحياة الآثمة الهابطة استطاع حسن أن يخلق من العدم حياة أخوين. . ساعد الأخ الموظف حتى أستقر في وظيفته، ساعده بتلك الأسوار الذهبية التي سطا عليها من بيت عشيقته ذات صباح، ولولا التضحيات المماثلة التي قدمها لأخيه الضابط لما استطاع أن يسدد أقساط الكلية الحربية، وأن يرتدي الحلة لأنيقة ذات النجمة الصفراء. . ومع ذلك يعيره الضابط الشريف بحياته الشائنة، ويحاول جاهدا أن ينتشله من وهدة الإثم والهوان! لقد انحرف حسن وحاد عن الطريق، ولكنها فلسفة حياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان!
أما حسنين، الملازم حسنين كامل علي فقد كانت تضحيته من ذلك النوع النادر في حياة البشر. . كان فتى طموحا منذ نشأته الأولى في (عطفة نصر الله) بحي شبرا، تلك العطفة الحقيرة التي لم تحد من طموحه يوم أن كان تلميذا صغيرا في بالمدرسة التوفيقية! كان طموحا رغم فقره، ورغم حاجته، ورغم البيئة التي نشأ فيها ولم تكن توحي لأحد من أبنائها بأمل الطموح. . إنه يقارن منذ أن صار ضابطا بين يومه وأمسه، فيشعر بهول الفارق بين حاضره وماضيه! هذه العطفة الحقيرة التي شهدت أيام بؤسه وبؤس أسرته يجب أن(939/38)
تغادرها الأسرة إلى مكان بعيد؛ مكان يسدل الماضي البغيض ستارا من النسيان. . حسبه أن تلك العطفة القذرة قد شهدت أثاث بيتهم وهو يباع قطعة بعد قطعة ليعيشوا على الكفاف. وحسبه مرة أخرى أن تلك العطفة القذرة قد شهدت أخته نفيسة وهي تسعى إلى كسب عيشهم بعد أن كلت قدماها من السير وتعبت يداها من طرق الأبواب. وحسبه مرة ثالثة أن تلك العطفة القذرة قد شهدت رجال البوليس وهم يقتحمون المسكن الذليل بحثا عن أخيه المجرم الطريد. . كل شيء قد فسد يستطيع حسين أن يصلحه إلا شيا واحد
يتعذر معه الإصلاح، وهو أن يهتدي حسن إلى الطريق القويم! لقد استطاع الفتى الطموح أن ينتقل بأسرته إلى مصر الجديدة، وأن يرد إلى نفيسة كرامتها وكرامة الأسرة حين حال بينها وبين الهوان!
وهناك في ذلك المكان الجديد الآمن تنفس حسنين الصعداء. . لقد بدأت الحياة تبتسم بعد طول التهجم والعبوس، حين انقطعت أخبار حسن الذي كان يهدد طموحه وسمعته ونظرته إلى المستقبل كما فكر فيه!
و (بهية)، تلك الفتاة التي أحبها في عطفة نصر الله وخطبها إلى أبوها وهو تلميذ صغير، تلك الفتاة (البلدي) الفقيرة الساذجة لم تعد تصلح لأن تكون زوجة لضابط عظيم. . إن زوجة المستقبل وشريكة الحياة هناك في ذلك القصر الأنيق الذي ذهب إليه (خاطبا) منذ أيام. إنه يريد أن يقطع كل علاقة تربطه بعطفة نصر الله، ولو كان له في تلك العطفة حب قديم، حب قضى بين أحضانه أجمل أيام العمر وأسعد لحظات الشباب!
لقد اختفى حسن، واستقرت نفيسة، وذهبت بهية، وبقى أن يفتح القلب على مصراعيه ليستروح أنسام السعادة التي كان يحلم بها منذ بعيد. . ولكن القدر لا يريد للأسرة البائسة المسكينة أن تستريح، ولا يريد للفتى الطموح الأمل أ، يسعد بأحلامه وأمانيه! لقد هوى بضرباته السريعة المتلاحقة على أحلام العمر فبعثرها مع الريح في كل طريق. . لقد حيل بينه وبين حبه الجديد، حين رفضت الأسرة العريقة المترفعة أن تصاهر ضابطا يتهامس الناس حول أخته ويتحدثون عن أخيه. وحين أفاق حسين من الصدمة الأولى زلزلت
كيانه الصدمة الثانية، حين جيء إلى بيته بأخيه حسن محمولا تنزف منه الدماء، وعليه أن ينتظر اللحظة الرهيبة المنتظرة، حين طرق الباب رجل من رجال الشرطة ليستدعيه إلى(939/39)
قسم البوليس. حسن! بالطبع ليس هناك غير حسن، تلك السحابة السوداء في أفق ينذر بالغيوم. . وحوله، حوله وحده ينتظره هناك سؤال وجواب!
وفي قسم البوليس وجد أخته الساقطة بدلا من أن يجد استجوابا عن أخيه الطريد. . لقد ضبطت نفيسة في بيت يدار للفساد!! وأظلمت الدنيا في عينيه وضاق الفضاء. . لقد فقد كل شيء: فقد حبه، وفقد أمله، وفقد سمعته وفقد في الحياة القصيرة التي ملاها بالأحلام كل حلم جميل! وأخذ أخته وخرج إلى أين؟ لا يدري فكره ولا تدري قدماه. . إن في أمواج النيل الحانية مثوى لكل بائس شريد منبوذ من الحياة، هكذا قالت له نفيسة حين سألها أن تحدد لنفسها الطريق! ومضت أمامه ومضى خلفها إلى هناك. . إلى حيث يتاح للبائسين أن يعرفوا طعم الراحة بعد طول العناء! وقال الملازم حسنين لنفسه: لقد حكمت عليها بالإعدام فقبلت الحكم وهي راضية صابرة مستسلمة للقضاء. . وما كان أشجعها وهي تستقبل الموت وكأنها تستقبل الزوج الحبيب الذي قضت العمر تفتش عنه في دروب الأمل. امرأة ضحت بأيام الحياة فرارا من قسوة الحياة، وأنت؟ أنت يا رجل ماذا تنتظر؟!
ترى هل كان الملازم حسنين شجاعا حين لحق بنفيسة، أم كانجبانا حين فر من لقاء الناس؟ مهما يكن من شيء فقد كانت تضحيته فلسفة حياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان!.
أنور المعداوي(939/40)
رسالة الفن
الوجودية
(مهداة إلى الدكتور محمد القصاص)
للأستاذ علي متولي صلاح
يكتب الكثيرون عن الفلسفة الوجودية، وعن المذهب الأدبي الوجودي، فيتهمون المذهب بالشذوذ والانحراف عما يقضي به العقل السليم، ويرمونه بأنه انتكاس للطبيعة الإنسانية، ورجوع بها إلى حال الهمجية والبدائية الأولى، وهم في ذلك لم يبلغوا من فهم هذا المذهب شيئا، ولم يدرسوه دراسة تبيح لهم أن ينالوه بهذه المطاعن، والناس - بعد - أعداء ما جهلوا، وهم أسرع إلى الاتهام، وأشد نهضة إلى كلمة السوء!
وكان آخر ما كتب في هذا الصدد تلك الكلمة الفجة المبتسرة التي كتبها الأستاذ أحمد الصاوي محمد في (الأهرام) منذ أيام، فلم يبسط فيها رأيا، ولم يتكلم فيها بشيء عن قواعد المذهب الوجودي ومقوماته، ولكنه أبتدر أصحابه بالإساءة رأسا حين كتب يقول: (هل المخلوق إلا عدما!؟ من ذا الذي يقول ذلك غير زعيم (الوجوديين) جان بول سارتر زعيم ذلك الخليط العجيب من الناس الذين اجتمعت كلمتهم على تقبيل بعضهم بعضا في المقاهي دون أن يعرف بعضهم بعضا؟. لقد شهدت باريس أمس روايته التمثيلية الجديدة (الشيطان والله سبحانه)! ولم يجتمع لرؤيتها أولئك (الحرافيش) الذين ينتسبون إلى أستاذهم؛ وهم في ثياب مهللة مفتوحة، بل اجتمعت طائفة من أشهر نجوم السينما.
والعجيب في أمر هذا المذهب أنه - ولو أن براعمه لم تتفتح بعد - قد تعرض لأذى كثير، وسخرية كبيرة من الناس، ونقم عليه الشيوعيون والبرجوازيون وأصحاب المذاهب المتطرفة كما نقم عليه المواطنون والاستعماريون والمحافظون، ولعنه الكاثوليكيون والراديكاليون الفرنسيون، وأولئك يعادون الكاثوليكيين أشد معاداة! وأتخذ الناس رمز القبيح والسفه، حتى ليروي جان بول سارتر أن سيدة فرنسية غضبها بقولها (يبدو أني قد أصبحت وجودية)!
ولكن أصحابه صامدون لهذا الأذى الذي يتناولهم الناس به، مؤمنون بأنهم يقومون الإنسانية(939/41)
بأجل خدمة، إذ ينشرون مبدأ (الحرية) والعزة والكرامة الإنسانية، ويبشرون بأن الإنسان هو أثمن شيء في الوجود، وبأنه يجب أن يحيا كريما عظيما حرا.
الوجودية لا تذهب هذا المذهب الذي ألصقه بها الأستاذ أحمد الصاوي في زعمه أنها لا ترى في المخلوق إلا عدما!
إن المذهب الوجودي لا يرى هذا الرأي، وإنما نقيضه تماما، إنه يرى الإنسان هو كل شيء في هذه الحياة، ويراه محور كل هذه الدنيا التي نعيش فيها، إليه يرجع كل عمل، ومنه يصدر كل تغيير أو تعديل لأوضاع الحياة، ومن أجله تقوم التشريعات والتقاليد والنظم، فكيف يراه عدما وهو في رأيه جماع ذلك كله؟
تقوم الوجودية على فلسفة ومذهب في الأدب ينقض كل ما سبق من مذاهب أدبية كالسوريالية
والواقعية والرومانية وما إلى ذلك من المذاهب الصغيرة كالدادية والتكعيبية وسواهما من مختلف المذاهب.
أما الفلسفة الوجودية فتقوم على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له كامل الحرية في تكوين
ماهيته على الوجه الذي يراه، وعلى الصورة التي يبغيها، وهو يقوم بذلك قويا قادرا غير خاضع للبيئة والظروف كما تنادى بها نظرية (تين (، ولا خاضع للإطار العام للدولة كما ينادى بذلك (كارل ماركس) الذي يجعل من الإنسان آلة أو أداة في يد الدولة لا أكثر ولا أقل! لا يدور إلا في فلكها، ولا يتعدى تفكيره تفكيرها.
وفي هذه الفلسفة السارترية ما يأباه علينا أيماننا، وليس من بأس أن نتركه ولا نستمسك بأهدابه، ولا على المذهب الأدبي السارتري بعد ذلك من بأس إذا هجرنا الفلسفة السارترية واستمسكنا به، ونبذناها واتبعناه، وإن كان في حقيقته وجوهره مبنيا عليها ومتفرعا عنها.
وأما المذهب الأدبي الوجودي الذي ينادي به جان بول سارتر: فأنه يقوم على ما يسمى (التزام الآداب) ومعناه أن يكون للأدب هدف، وأن يكون الأدب في الحياة عملا إنشائيا إيجابيا في خلق الحياة الفاضلة، وتغيير الحياة السيئة وتطويرها، فالكاتب الذي التزم الكتابة قد حمل نفسه مسئولية عظمى في هذه الحياة، أو على الأصح حمل نفسه أعظم مسئوليات(939/42)
الحياة جميعا، فهو يكتب لا لتزجية فراغ، ولا لإظهار البراعة اللفظية والمقدرة اللغوية، ولا ليقيم مهرجانات ومواكب من العبارات الموسيقية الخلابة. ولكنه يكتب ليكشف الحياة لنفسه وللناس، ثم ليدعو الناس إلى عمل ما بازاء هذه الحياة، ويدعوهم إلى حبها إن كانت تستحق الحب، وإلى تغييرها إن رآها تستوجب التغيير، وإلى هدمها واقتلاعها من جذورها إن وجدها جديرة بذلك. . فالكتابة - عند المذهب الوجودي - عمل من الأعمال أو قل أنها أهم عمل من أعمال الحياة، وعلى الكاتب تقع مسئولية ما في الحياة من عوج وشذوذ وفساد أول ما تقع، والكلمات عند سارتر إنما هي أسلحة نارية، ومن تكلم أو كتب فقد أطلق هذه السهام، والكاتب مسئول عن الحياة اليومية الواقعية للناس وللوجود ومن هنا كان اشتقاق أسم المذهب الذي يشارك في الوجود وفي الحياة مشاركة فعالة، منتجة مغيرة، هدامة في بعض الحالات، والكتاب مشتركون، أو هم قادة للجهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الحياة التي يعيشونها، وعليهم أن يعرفوا ذلك تماما، وأن يفرضوا لمل يكتبون أوسع انتشار وأعظم دوى وأبعد صدى.
والوجودية - في تحميلها الكاتب كل هذه المسئوليات - إنما تلتمسها من الحرية العريضة التي تفترضها فيه، إنها تفترض فيه حرية شاملة كاملة لا يحد منها شيء، حرية لا تغشاها مثل ومبادئ سابقة، ولا تقهرها ظروف أو بيئة، فالكاتب الحر قدير على أن يهزم هذه الظروف ويرتفع على تلك البيئة، ولا تحدها وطنية ضيقة، فالكاتب الوجودي لا يقف عند حدود وطنه، بل يتعداه إلى دفع الظلم أيا كان موطنه، ومحاربة الفساد في أي مكان يراه، فسارتر مثلا دافع عن الزنوج وأنتصر لهم على الأمريكان في روايته المسماة (القحبة الحفية) التي قام بترجمتها الكاتب الوجودي المصري (الدكتور محمد القصاص) والتي نرجو أن ينشرها على الناس حتى يتعرفوا بحق بعض المبادئ الإنسانية العالية التي ينطوي عليها المذهب الوجودي.
والوجودية تطلب إلى الكاتب ألا يهرف في الهواء، ويرثى الحريات المضيعة، ويبكي الظلم في الحياة، ويذرف الدمع سخينا على خلو الحياة من العدالة وما إلى ذلك. إن الوجودية لا تعرف هذا النواح في الهواء الطلق، ولا البكاء في الخلاء العريض، ولكنها تطلب إلى الكاتب أن يحارب ظلما بعينة واقعا من ظالمين بأعينهم، عل مظلومين بأعينهم! إنها تطلب(939/43)
إلى الكاتب أن ينظر حواليه، فإن وجد ظالما أخذ بتلابيبه وحاربه حربا لا هوادة فيها ولا رحمة، فإن سكت الكاتب عن ظلم يراه ويشهده فقد خان الأمانة وخرج - بسكوته عن محاربة هذا الظلم - على قواعد المذهب الوجودي الصحيح.
والوجودية تطلب أن يكون الناس متفقين مع أنفسهم، صادقين معها في السر والعلن، يحملون
مسئولية ما يفعلون، ولا يتنصلون من عمل يعملونه، وألا يكونوا أوغادا منافقين يصنعون ما يطلبه إليهم ذلك الشاعر الذي يقول: فالبس لحال جديدا=والبس لآخر رثا!
تلك هي الخطوط الرئيسية جدا، للمذهب الوجودي، قصدنا بها إيضاح حقيقة المذهب وإن كان إيضاحا يسيرا قصيرا. وما أحرانا نحن المصريين أن نستمسك بأهداف هذا المذهب، فالفساد عندنا مستشر، والنفاق عندنا عام مشترك، والحريات عندنا مضيعة مهدرة. وما أحرانا - قبل ذلك كله - ألا نخوض في حديث لم نسير غوره، ونتعرف - بعد - وجه الرأي فيه، كما يفعل أولئك الذين يعيبون المذهب الوجودي. وأغلب الظن انهم لا يعرفون منه إلا أسمه.
علي متولي صلاح(939/44)
الكتب
أسرار النفس
تأليف الدكتور أحم فؤاد الأهواني
للدكتور زكي المحاسني
أحب أن أعرب عن خواطري في تأليف الفلسفة الحديثة. فإن كثيرا من كتبها في السنوات الأخيرة كان مترجما إلى العربية من اللغات الغربية، أو مقتبسا أو مصنوعا للطلاب يتدارسونه في معاهدهم. ولم أجد سوى القليل من كتب الفلسفة بمعناها الصحيح الذي يكون دراسة للفكر والشعور، وفيضا للتأمل، أو حكما على المجتمع، وتجربة ذاتية للمؤلف.
من هذا القليل المنشور كتاب (أسرار النفس) للدكتور أحمد فؤاد الأهواني. ولقد شعرت وأنا أقرأ هذا الكتاب أني أعيش في عالم فلسفي مع الفلاسفة، فرحت أجول في صفحاته وآرائه بنظري وعقلي. وكانت نفسي تنجلي كما مضيت شوطا في القراءة والتأمل. فما أجمل أن نقرأ صور العقول مرسومة على الصفحات يخاطبنا أصحابها بسديد من آرائهم، ويزجون لنا بمناظر من نفوسهم.
كتب الدكتور الأهواني كتابه هذا بروح فلسفة مجربة. فليس هذا الأثر مدرسيا صنعه من أجل طلابه وتلاميذه وإنما جعله مرآة يستطيع كل مفكر أن يرى فيها نفسه، وأن يتلمس عندها حسه. إنه تجارب بسيكولوجية، وتأملات فلسفية صافية في الكون والفساد، والحياة والمشاعر، وفي وصف الأحاسيس، والتشريح الروحي.
مضيت فيه شوطا أستكشف معاني لمسي وشمي، وأسبر أعماق ذوق وسمعي، لأجد عوالم لا تنتهي.
ومن حظنا - مع فنائنا على الأرض - أن نمرح قليلا في تفهم كوننا الذاتي، ومعرفة أنفسنا؛ لنعلو على طبقة الحيوان الأعجم. وجميل بالفيلسوف البصير أن يدلنا على نفوسنا دلالة محكمة، ويمضي بنا وهو حامل مصباحه الوقاد ليبدد لنا في ظلمات نفوسنا أغوارها الدامسة.
ما أقدر الدكتور الأهواني على ربطه الذوق بالشم، وما أجود فلسفته التي ركبها على محور(939/45)
نصبه بين الإذن والعين. العين هذا الإبداع الإلهي الذي تجلس من حواليه كل عدسات المناظير وهي حيرى في تكوينه حسرى عاجزة عن مجاراته. كذلك كان المؤلف الحكيم يربط بين خلجات الأنفس ومشاعر الوجود، داخلة إلى دنيانا الروحية من مسالك السمع وشقوق النظر. وحين تبحر في تفصيل الذوق ذكرني بقولة قالها فولتير وهي: (أستاذك ذوقك) وقد تناول في هذا الفصل ذوق اللسان وأذواق الأرواح.
ومن هنا تتجه فلسفة هذا المفكر الأديب اتجاها اجتماعيا ينساب إلى أذواق الأقوام في طعامهم
ومعايشهم. وهل كان أجدى على الناس من البحوث التي تتناول روح الجماعات في ذوقها وحسها. وحين فرع من بابه الذي سماه: (عل الدرب) استطعت أن أعرف منهجه في التأليف. فهو يطرح الموضوع طرحا، ثم يطرقه من أطراف شتى ليستنتج من حقائق في البشر والوجود، يصوغ منها عظات بالغات، ثم يطبق آخر الأمر أحكامه عل بلده وقومه فينقد ويوجه أو يفند. فهو بذلك مفلسف أو مصلح.
وأراني أنظر في فصول بكتابه لها لون آخر، ولا سيما الفصل الذي فيه انتقال الفكر من إنسان إلى آخر. وهذا هاجسه يعجبني فقد جربت أن أنقل ما يدور برأسي إلى أناس معي، فكنت أصيب قليلا وأتعثر في الخطأ كثيرا. وقفت مرة على جزار في دمشق فرأيت المنوم الدكتور سلمون يشتري لحما. وكان مبلا من مرض، وأعصابه مكدودة. فلم أشأ أن أمازحه بشيء من التأثير الفكري فما كدت أقف قريبا منه دون أن يراني حتى ألتفت إلي وقال:
لا تشفق علي فأني أستعيد قدرتي على قراءة الأفكار قد عرفتك الساعة في انهدام نال لأعصابي فتزهد في مزاحك.
وخرج الدكتور الأهواني من انتقال الأفكار إلى السحر الذي يعرفه العامة في مصر، فساق شواهد من سحر الأقدمينمسحوبة إلى عصر المحدثين، ثم أجال الطرف في شجون الروح وشؤونها وانتقالها وتعبيرها، حتى أوشك أن يحطنا حول مائدة خشبية تنقر الروح عليها نقرات هي رموزها الغيبية. ثم ألزم بحثه هذا مبضع نقده فشق به شعوذة المشعوذين، وكذب الدجالين. وجرى هذا البحث الأسطوري إلى بحث آخر هو أعلق بالحياة وأعلى، هو الاتصال الروحي وقديما قيل: (بين الروح والروح سبيل).(939/46)
قلت في مستهل الكلام إن الدكتور الأواني فيلسوف مجرب. ففي كتابه كثير من الشواهد التجريبية. وكان خير المتفلسفة أهل التجارب. . وفي كل إنسان مقدرة على هذا الاتصال الروحي تبدو فيه قوية أو ضعيفة، ويعوزها الصفاء، فكلما صفت خواطرنا، ورقت نفوسنا؛ اتصلنا بأرواحنا، وهفا بعضنا إلى بعض ولو كان بيننا ضيق السدود. ولقد سمعت بعض الصوفيين يعزى في الحب نفسه ويقول:
- إلى لأعشقها من غير أن تعلم بي
ثم سدد بطرفه شطر الأفق وقال:
- لا أطمع بوصال، حتى الزوال
كنت عصاري يوم في القاهرة منذ ثلاث سنين، مزمعا من الغداة عودة إلى دمشق، وبي شوق ولهفة إلى رؤية صديق فقلت لابد من ذلك قبل السفر. وانطلقت لأبحث عنه في الدروب وإذا بي أيلقاه في غير مشقة بناصية (عماد الدين) فابتدرني بقوله:
- والله خشيت سفرك دون أن أراك، فأنا الساعة أبحث عنك.
ويأبى على فيلسوفنا المؤلف طبعه فلا يفوت على قراءه ولا على نفسه بحثا هو اليوم من أطرف بحوث الفلسفة المعاصرة؛ ذلك كلامه على الأحلام. وكنت أن أوثر أن يتفرغ هذا الصديق إلى كتاب يصنفه في قضية الأحلام عند المسلمين والمفسرين كابن سيرين وأضرابه. وكيف تطورت الأحلام في الفلسفة الحديثة حتى صارت من أروع البحوث في التحليل النفسي عند الفلاسفة الفرويديين.
ومنذا الذي خلا ليلة من حلم. إننا لنرقد جميعا مثل الأطفال، وحين يسيطر علينا الكرى بسحره الأزلي ويطرحنا في المضاجع هناك ترف على جفوننا رؤى لا حد لها. رؤى زاهية التلوين، أسطورة التكوين، منسوجة من خيوط جنية. ونستفيق بغتة فلا نعلم لها سببا. تفر من أيدينا بمباهجها ونعيمها وجمالها الإلهي الذي لا مثيل له في الوجود. فإذا حلمنا بخير وددنا لو كان حقا، وإذا رئينا في المنام شرورا فزعنا في اليقظة فحمدناها أن لم تكن الشرور جاثمة في الحقيقة.
تلك أسرار في نفوسنا. فمن يدلنا عليها؟. لقد صنع جميلا المؤلف الأهواني في أن يعرفنا بأنفسنا، ويغوص بنا على أسرارها الرهيفة، فكان كتابه أحد ذخائر العصر في علم النفس(939/47)
الحديث. سأقول له حين ألقاه:
- لقد أدخلتنا إلى بيوت أنفسنا. وفي نفوسنا مجال لمنظر لا ينتهي التطلع إليه مدى الحياة. .
فإذا بدأت كلامي على إيثاري لفلسفة التجريب أعجبت لخواتم المؤلف في كتابه حين ورد كلامه على العداوة والمودة فلم يقع في نقص القادرين على التمام؛ وأعان ببراءته على ردنا إلى نفوسنا - وقد تركناها - وكان له أسلوب المحدث المتبسط، وقلم الكاتب المترسل. وحين انتهت من قراءة كتابه ذكرت من أجله معجزة القرآن الكريم في آيته النفيسة التي يقول فيها: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
القاهرة
زكي المحاسني
الهوامل والشوامل
لأبي حيان التوحيدي
تحقيق الدكتور أحمد أمين بك والأستاذ السيد صقر
من الشخصيات التي أضافت إلى تراثنا الأدبي والفكري ثروة يعتز بها تاريخنا الأدبي؛ والفكري - أبو حيان التوحيدي - فقد رزقت هذه الشخصية من القدرة في الأداء الفني الجميل. والتحليل النفسي العميق وإبداع، آيات فنية لا تزال ترف نضارة على تتابع العصور. لقد وثب فن الأسلوب عل يدي - التوحيدي - وثبة لم يستطعها غيره من كتاب النثر الفني القديم، وبلغ أسلوبه من الصفاء والعمق ما ممكن له من أن يحتل الذروة بين أصحاب الأساليب. ولكن هذه العبقرية قد قست عليها الأقدار فأستهدف صاحبها في حياته بألوان قاسية من البلاء الذي أصابه في رزقه وفي مكانته، ولاحق تراثه بعد خلا وجه الحياة منه فأحال بينه وبين الحياة. وظل هذا التراث يعاني مرارة الإهمال؛ وظلم التشويه هذا الأمد الطويل؛ فإذا ما رزق - أبو حيان - من ينقذ آثاره؛ ويخلصها من بطش الظلم؛ وبراثن الموت؛ وينفض عنها غبار القبر؛ فقد رد للحياة الجانب الخالد من شخصية الرجل(939/48)
العبقري. وكانت يد للدكتور - أحمد أمين بك - في نهوضه بنشر آثاره، والعناية بإصلاح ما أفسده الدهر من كيانها، وشوه من معالمها؛ حتى شق على النظر إدراكها. وما أشقاها من مهمة لا يدرك ما فيها من صعوبة، وما تتطلبه من جهد لا يقوى عل تحمل أعبائه إلا من كان ذا عزيمة لا تنهى؛ وثقافة أدبية؛ ولغوية واسعة وعميقة. وليس هذا مما يتأنى للكثير. وكتاب - الهوامل والشوامل - أثر من آثار - التوحيدي - الناضجة الحية. وهو يدور على كثير من الأفكار التي كانت سدى ولحمة النسيج الفكري والأدبي، في بيئة - التوحيدي - وعصره. وقد أخذ - التوحيدي - يعرض هذه المشاكل الأدبية والفكرية ويجيب عليها - مسكوبة - فالكتاب من هذه الناحية مرآة تعكس أمام أنظارنا التيارات التي كانت تسود هذه البيئة. والكتاب بعد وثيقة تاريخية إذ هو يصور لنا مرحلة من مراحل تفكيرنا الأدبي والعلمي. وهو آية من آيات النثر الفني من حيث الأداء والتصوير وللأستاذ - أحمد أمين بك - حسنة لا تجحد بتهيئة الميدان للأستاذ - السيد صقر - وإفساح الطريق أمامه ليتمكن من أ، يستغل مواهبه وثقافته في هذا الميدان الذي شب وترعرع مولعا به؛ معتزا بالسير فيه. فكنت تراه وهو لا يزال في مطالع بواكير حياته الأدبية يعكف في - دار الكتب - الساعات الطوال بين المخطوطات القديمة يقرأ: وينقل؛ ويستوعب؛ وكانت الثمرة الأولى لهذا المجهود - تحقيق - ديوان - علقمة الفحل - والأمل وطيد في انتظار الآثار التي يقدمها هذا الجندي في ميدان يشفق الكثيرون من اقتحامه، وهو ميدان نشر ترثنا نشرا علميا دقيقا.
محمد عبد الحليم أبو زيد
دبلوم في التربية وعلم النفس(939/49)
البريد الأدبي
الرعايا هم العبيد:
أصدر الأستاذ خالد محمد خالد كتيبه الثاني (مواطنون لا رعايا) والكتيب - كما يتضح من عنوانه - إحدى صرخات الأستاذ في سبيل تصحيح الأوضاع الاجتماعية في هذا البلد.
وكان طبيعيا أن يستقر هذا الكتيب في كل يد، وأن تلتهم سطوره كل عين، وكان طبيعيا أيضا أن تلقفه أيدي الأفاضل من علماء الأزهر، ولا عجب، فالأمر أمس بهم وأدنى إليهم، فالمؤلف عالم آثر الانطلاق والتجديد، على التقيد والتقليد، وأباح لعقله وفكره أن ينطلقا من إسار المتون والشروح، والهوامش والحواشي إلى فضاء المجتمع العريض، فعينه تقع على كل دقيقة فيه، يرى بعض الناس كل الناس، ومن بقى هملا، قطعانا تسعى إلى ساقط العيش، وترقى إلى أدنى الرزق، وما هي بمالئة منها بطنا، ولا قريرة بها عينا، بل سابغة لاغبة، واجفة خائفة، لا ترى فيما حولها هدوءا ولا أمنا، فأنى لها أن تحسن الظن؟ أنى؟!
وتعرض الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي في العدد رقم (936) من الرسالة الغراء للكتيب - أو بعبارة أدق لعنوانه - بالنقد؛ وكان كل ما أخذه على الكاتب أنه لم يكن موفقا في اختيار كلمة (رعايا) لأن المعنى الذي سيقت إليه في الكتيب هو الذل والعبودية، وهذا يخالف معناها في كتب اللغة والحديث! والذي وقع فيه حضرة الناقد، عين ما أراد المؤلف نفسه على أن نتخلص منه، وننفر عنه. .
لم يبحث الأستاذ الناقد عن معنى الكلمة في قاموس المجتمع الذي يلفظ أنفاسه، تحت لذعات السياط، وركلات الأقدام، ولا في هذه المزق تشدها إلى بعضها مسكنة تستسلم سريعا لعوامل الفناء، فوق أجساد عجاف!
ولا بين هذه الأكوام الآدمية التي تحظى دائما بامتهاد الفرش الوفيرة على جوانب الشوارع، حشوها (الزلط والأسمنت والقار) وتسعد دائما بالتحاف الطبقات الرقيقة الرفيقة من نسائم الليل، تداعب أوصالا تتداعى في إلحاف إلى الانحلال والفرقة!
لم يبحث الأستاذ الفاضل عن معنى تلك الكلمة بين ذلك كله، ولكنه آثر أن يبحث عنه في (القاموس) و (النهاية) و (المصباح المنير)! وهكذا ظن حضرته أنه قد أمسك بخناق المؤلف، وورطه وأحرجه أيما توريط وإحراج! وهو بعد ذلك وقبل ذلك ينحى على الكاتب(939/50)
باللائمة أن صرف وجه عن هذا المعنى القاموسي، فهو لذلك مخطئ، وخطؤه غير مغتفر، لأنه عالم باللغة، عالم بالدين، لاشك أن الأستاذ الصعيدي لم يدفعه إلى لومه هذا إلا حبه للأزهر وحرصه على سمعته وسمعة علمائه، خشية أن يتمسك الناس بأخطائهم وهم الذين تفترض فيهم الإمامة.
ومع ذلك فالمؤلف غير مخطئ، وعنوان كتيبه، عنوان الصواب. هو لم يشأ أن ينطلق إلى كتب اللغة يستوحيها معنى كلمته، لأنه يعلم أن هذا هو مدخل البلاء على الأزهر. .! فعلماؤه ينفصلون تماما عن الحياة حولهم وما يعتريها من تطور وتغير، ويؤثرون أن يعيشوا في أجوائهم الخاصة.
ولكنه طفق يبحث عن معناها بين الشفاه التي قددها الجوع، والحلاقيم التي جففها الظمأ،
والضلوع التي أيبستها وطوحت بها أعاصير الداء، لا مقادير الفضاء. .!
طفق يبحث عن معناها بين هذه المواكب الحافلة بالبؤس والمذلة والشقاء، والتي أطلق عليها سلفا وجهلا أنها رعية ترعى وشعب يساس.
أليس في الأولين يختصون بنصيب من حسن التدبير وحسن الإشراف، وجميل العناية، وأن الآخرين أقل من أن يقبل عليهم برعاية، وأدنى من أن ينظر إليهم بإمعان. .؟
فأين هذا التدبير الحسن، وتلك العناية الجميلة. .؟
أهما في أن تجوع وتعرى أجساد وأكباد، وأن تلهو وترتع أفراد وآحاد. .؟
أهما في أن تقتات الملايين شر القوت، وتسام جدب المرعى، وأن تكتظ معد العشرات بدمائهم وعروقهم ودموعهم. .؟
أهما في تلك الجحافل الساعية ليل نهار تسأل وتستجدي. .؟
أين يا سيدي اللقم السائغة للمنكوب والمنكود. .؟
أين الكسوة السابغة للمعروق والمكدود. .؟
أين الجرعة الصافية للمتعوس والمطرود. .؟
إن الرعايا في مصر هم العبيد، والعبيد في مصر هم الرعايا، وأنف كل قاموس راغم. .!
أحمد قاسم أحمد
بيني وبين قرائي(939/51)
تفضل الزميل الصديق الأستاذ عباس خضر فأشار في كشكوله منذ قريب، إلى أن بعض القراء قد سأله عن كاتب هذه السطور وسر انقطاعه عن الكتابة. . ولقد أفصح الزميل الصديق عن سر هذا الانقطاع بما لم يعد الحق والواقع.
أنني أكتب هذه الكلمة لأؤكد لحضرات السائلينعني ممن كتبوا إلى الأستاذ عباس وإلي، أن ما وقع في ظنهم حول صلتي بالأستاذ الجليل صاحب الرسالة، كان أبعد من أن يطيقه منطق الصلاة الروحية والودية بين الخلص من الأصدقاء!
لقد انقطعت عن الكتابة لأدفع إلى المطبعة بكتابين، شغل أولهما وقتي بين تقديم الفصول ومراجعة الأصول، وشغل الأخر قلمي بين التفكير والتحرير. وبعد أيام سيكون الكتاب الأول بين أيدي القراء، أولئك الذين طالما كتبوا إلي راغبين في إصداره. أما الكتاب الثاني فسيكون بين أيديهم أيضا في الغد القريب.
ولا يسعني بعد أن عدت بقلمي إلى هذا المكان الحبيب، إلا أن أبعث بشكري خالصا إلى كل من كتب إلى مصر والبلاد العربية، معبرا عن صادق الود وخالص الوفاء.
أنور المعداوي
مستقبل الثقافة في مصر
قرأت في العدد 936 من (الرسالة (الغراء أنه تألفت في مصر شعبة قومية برياسة معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف العمومية لدراسة المسائل المهمة في ميادين الثقافة والتربية والعلوم، ودراسة أحوال البلاد في هذه الميادين وتقديمها إلى الجهات المختصة لتنفيذها أو الاستفادة منها. وأن مجرد التفكير في مثل هذا الأمر في الوقت الحاضر ليدل دلالة واضحة على أن معالي الوزير الجليل رأى بفكره الثاقب أن يمهد لمستقبل الثقافة في مصر طريق الازدهار بتأليف هذه الشعبة للتخلص من أنانية الحياة العقلية في مصر وجمودها.
ولا شك أن هذا رأى سديد ينطوي على إحساس صاحبه العميق بخطورة المجاعة العقلية التي يرزح الشعب تحت أعبائها البغيضة في النصف الثاني من القرن العشرين. وأنا لنأمل أن توفق الشعبة القومية في تحقيق الأغراض النبيلة التي تألفت من أجلها. وفي الواقع أن(939/52)
الحياة العقلية في مصر الآن تعاني مشكلة من أكبر المشاكل، وهي أنها حياة الخاصة وليس للعامة حياة عقلية بالمعنى الحقيقي. ونحن إذا أردنا النهوض بالشعب المصري وجب أن يصل نور العلم والمعرفة إلى عقول الفلاحين والعمال قبل أن يصل نور الكهرباء والماء النظيف إلى أكواخهم ومساكنهم. وإذا أردنا أن يصل نور العلم والمعرفة إلى ملايين العقول المظلمة،
وجب أن نبدأ أولا بإصلاح البيئات العلمية والمناطق التعليمية إصلاحا شاملا يتناول الأشخاص والأدوات والمناهج والأساليب لتؤدي رسالتها على الوجه الأكمل في قوة وصراحة وإخلاص، لأن البحث عن أثر هذه البيئات طوال الثلاثين عاما الأخيرة في حياة الشعب الاجتماعية يثبت أن المجهود الذي بذلته في ذلك السبيل أفضى إلى نتائج خطيرة مفزعة: إلى الفقر والجهل والمرض، إلى الضعف والخلف والتخلف، إلى اللهو واللعب والتحلل، إلى غير ذلك مما نشكو منه ونتوجع.
محمد يوسف الغزالي(939/53)
القصص
دموع صغيرة
للأديب محمد أبو المعاطي أبو النجا
كان (رأفت بك) يغادر المحطة واضعا يديه في جيوب معطفه الصوفي الثمين وقد رفع ياقته حتى تلتف حول عنقه، فقد كان الجو شديد البرودةوالريح سريعة الهبوب. . وكان بين آن يلتفت خلفه يستعجل الحمال الذي يحمل حقيبته بكلمات مقتضبة. وكان الحمال أو بعبارة أدق الصبي الذي يحمل الحقيبة في الثامنة من عمره؛ وكان يعدو خلفه بخطوات سريعة وهو يشعر بنشوة تدفئ جسمه وتسعد خواطره. . فهو يأمل خيرا في ذلك الأفندي الأنيق. . سيعطيه ثلاثة قروش من غير شك؛ فمظاهر الثراء التي تلوح عليه تحمل (حسونة) على أن لا يتنازل عن هذا المبلغ، وهو مبلغ لا بأس به. سيستطيع أن يشتري (سندوتش) بقرش ويذهب بالباقي إلى السينما وهكذا يكون مثل محروس الذي لا يفتأ يفخر عليه بأنه يذهب إلىالسينما، ويشاهد (الشجيع) وهو في إمكانه أن يجمع نقودا كثيرة ويذهب بها إلى السينما كل مساء مثل محروس، لولا أن بقية الحمالين يسبقونه إلى أمتعة الركاب فهم أقدر منه على السير وسط الزحام، وهم أبرع منه في ركوب القطار أثناء سيره فيقومون بتنزيل أمتعة المسافرين، وبذلك يكون لهم حق المساومة فيها وهكذا يبقى هو تحت رحمة الظروف. وقد أوشك اليوم أن يمضي دون أن يحمل شيا لأحد لولا أن ساقت إليه الأقدار ذلك الأفندي الأنيق الذي ينزل من القطار دون أن يساعده أحد في إنزال حقيبته. هو الآن سعيد من غير شك؛ ففي إمكانه شراء (السندوتش) وما دام الوقت عصرا فيمكنه أن يكتفي به عن العشاء، وفي إمكانه أيضا أن يذهب إلى السينما فيرى (الشجيع) ويتعلم منه كيف يقفز إلى القطار أثناء سيره، وكيف يشق طريقه وسط الزحامببراعة وقوة، بل كيف يتغلب على محروس نفسه حين يساومه على حقيبة أحد المسافرين.
أليست هي تلك الأشياء التي تعلمها (محروس) من (الشجيع) والتي يفخر بها دائما على (حسونة)؟. . .
وكفت طيور أحلامه عن التحليق حين وقف (رأفت بك) أمام محل بيع لعب الأطفال؛ فقد نسى لكثرة مشاغله أن يشتري شيئا منها لأبنائه من القاهرة، وهو لا يستطيع أن يدخل(939/54)
عليهم بدون أن يحمل لعبهم المفضلة. . ووقف (حسونة) يتأمل اللعب في سذاجة الأطفال، ويبدو أنها قد أعجبته إلى حد كبير فقد نسى أن يضع الحقيبة عن كتفه أثناء شراء اللعب!
وسار (رأفت بك) من جديد يتبعه (حسونة). . ولكن خواطره في هذه المرة كانت تختلف تماما عن ذي قبل. . إن الطفل الراقد في أعماقه. . الطفل المستتر خلف هذه الثياب الخرقة التي مزقتها أنواء الحياة. . الطفل الذي قست عليه ظروف المجتمع فحرمته لعبه حين حرمته أبويه. . هذا الطفل قد تنبه فجأة ليهتف بحق ضائع، حق ضاع في غمار ذلك المجتمع الذي تضيع قيه حقوق اليتامى والمشردين. . وهتف في صمت: ما اجمل اللعب وما أجمل. . وما أجمل أن تكون له إحداها!
واستقرت نظراته على حصان من المطاط جميل يحمله (رأفت بك) فيما يحمل من لعب. ما أروع أن يكون هذا الحصان له؛ إذن لواصل النفخ في ذيله المثقوب حتى يكبر ويستوي حصانا كاملا؛ ثم يضعه أمامه ويتأمله بعين فرحة هي عين طفل!
ليت ذلك الأفندي يعطيه إياه بدلا من أجرته؟ وهم بأن يسأله ذلك لولا أن تذكر فجأة أن ثمنه أكثر من أجرته. .
واستولت عليه الدهشة حين أعطاه (رأفت بك) جميع اللعب ليحملها بدلا عنه. . لم يخطر بباله مطلقا أنه فعل ذلك ليتسنى له وضع يده في جيب معطفه، وإنما تسائل في حيرة أتراه أدرك رغبته في التفرج على اللعب؟
أتراه فهم تلك الرغبة من نظراته القلقة التي كانت تتردد بين اللعب والطريق منذ غادر المحل؟ مهما يكن من شيء فهو سعيد ما دامت تلك اللعب ملء حضنه الصغير، وما دام ذلك الحصان قد وجد في يده يتحسس جلده الناعم في شغف كبير!
كانت تلك هي المرة الأولى التي تمنى فيها (حسونة) أن يطول الطريق! وكانت تلك هي المرة الأولى أيضا التي مضى فيها الطريق بسرعة!
وكان حسونة يشعر بضيق نفسي غامر حين ضغط (رأفت بك) (زر) الجرس الكهربائي في شقته وانفرج الباب عن وجوه صغيرة غضة كانت تستبق إلى رأفت بك، فهذا الصغير يطوق عنقه في لهفة، وذاك يثب على كتفيه في مرح، وذلك يهتف في غبطة: ماذا أحضرت لنا يا بابا؟(939/55)
وهنا التفت رأفت بك إلى الحمال الصغير ليأخذ من اللعب، وهنا أيضا كان (حسونة) لمشاعر مختلطة مبهمة بدت حيرة في عينيه واستحالت وجوما عل شفتيه، مشاعر لم يتضح منها في خاطره غير تلك الرغبة الملحة في أن تكون له لعبة كهؤلاء الأطفال أليس هو مثلهم؟ بل إن فيهم من يكبره!
وانحسرت موجة المشاعر المختلطة عن عواطفه حين أعطاه (رأفت بك) قطعة فضية من فئة الخمسة قروش حدق فيها ببلاهة ثم قال له ليس معي (فكة) يا بك. . ولكن ألبك الذي تأثر بوجومه وانقباضه قال له في عطف وهو يربت على كتفيه
- كلها لك يا شاطر. . .!
وضم حسونة يديه معا على القطعة الفضية وجعل يتأمل وجه الأفندي الأنيق بذهول ثم تمتم بعبارات متقطعة. .
- ربنا يخليك يا بك. . .
وسار في الطريق من جديد. كان شيء واحد هو الذي يتمثل في خاطره، الحصان الجميل. . . وكان سؤال واحد هو الذي يلح عليه
- ماذا يمنعه ألان من شراء الحصان. .؟
ومضت لحظات قصيرة كان بعدها يمسك بحصان المطاط ويضع ذيله المثقوب في فمه الصغير وينفخ فيه بملء رغبته. . حتى إذا أستوى حصانا كبيرا جعل يتأمله في مرح طافر. ثم طاف بذهنه خاطر جميل: لماذا لا يذهب إلى المحطة ليتفرج عليه صاحباه (عطوة) و (أمين)؟ ولماذا لا يريه لمحروس؟ ويزهى عليه به!
وجعل يعدو تجاه المحطة وكله فرح سعادة. وبعد حين من العدو تقاربت خطواته وبدأ يتمهل في سيره. كان يشعر بأنفاسه تتلاحق، وبأعصابه توشك أن تتفكك، وبعينيه يكاد أن يختنق فيهما النور. . كان هناك إحساس آخر بدء يشعر به؛ إحساس لم يراوده منذ حين. . مرة مع الأفندي الأنيق ببائع اللعب. . إحساس بالجوع. .!!
ونظر حسونة إلى الحصان في ضيق هائل وانهال عليه بأسنانه يمزقه ثم ألقى به بعيدا في غيظ
وتابع خطواته المتخاذلة تجاه المحطة وهو يذرف فصت حزين دموعا صغيرة!(939/56)
محمد أبو المعاطي أبو النجا(939/57)
العدد 940 - بتاريخ: 09 - 07 - 1951(/)
كشف أدبي مهم:
ترجمتان لقصة (المعراج)
أحدهما لاتينية والأخرى فرنسية
للمستشرق الإيطالي أمبرتو ريزيتانو
الأستاذ بجامعة فؤاد الأول
من المعروف أن دانني ألجيري شار إيطاليا العظيم الذي عاش فيما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر - قد وضع ملحمة فذة هي (الكوميديا الإلهية) التي تعتبر أنضج ثمار الآداب الإيطالية، ولعلها أسمى تحفة فنية ظهرت حتى الآن، وقد ترجمت الكوميديا الإلهية إلى جميع لغات العالم، كما نقلت نثراً إلى اللغة العربية، أو بالأحرى لخصت في هذه الترجمة العربية رحلة دانتي إلى الجحيم والأعراف والجنة.
وكثيراً ما نقب العلماء والباحثون أثناء القرن الماضي عن المصادر التي استقى منها دانتي فكرته في وضع الكوميديا. وطالما تساءل المهتمون بالدراسات الخاصة بالشاعر الإيطالي ومعاصريه من الكتاب عما إذا كانت فكرة دانتي في ملحمته مبتكرة أو مقتبسه. ولقد مضت على ذلك سنوات دون أن يتقدم هذا البحث تقدما مرضياً، ودون أن يتعدى الأمر مرحلة الترجيح. وذلك لأن الباحثين لم يكن في استطاعتهم أن يحصلوا على البراهين القاطعة في هذا الموضوع. أما في أوائل القرن العشرين فقد تطورت الأبحاث الخاصة بالمصادر التي استقى منها دانتي فكرته، وتمت بفضل مجهودات المستشرق الأسباني آسين بلاثيوس الذي أخرج إلى الناس في سنة 1919 بحثا قيما عنوانه:
أي (العقيدة الإسلامية في الكوميديا الإلهية) فلما ظهر هذا البحث كان له وقع عظيم في نفوس المهتمين بالدراسات الدانتية، ولا سيما أولئك الذين لا يشكون في أصالة فكرة الشاعر الإيطالي. ولقد امتاز بلاثيوس في هذا المؤلف بدقة التحليل والتعليل على عادته في كل ما بحثه وكتبه أثناء حياته من البحوث العلمية الخاصة بالاستشراق. وكان بلاثيوس يعتمد في بحثه هذا على تبحره في دراسة الفلسفة العربية والعقيدة الإسلامية، وبصفة خاصة على(940/1)
إلمامه الوافي بكل ما يخص النشاط العلمي والثقافي في بلاد الأندلس في الوقت الذي التقى فيه الشرق الإسلامي والغرب المسيحي التقاء أدى إلى ازدهار رائع في الآداب والفنون والعلوم.
هذا وقد أشار بلاثيوس في مؤلفه إلى ما بين الكوميديا الإلهية والعقيدة الإسلامية الخاصة بالبعث والقيامة وخلود النفس من تشابه وتقارب، كما أشار إلى ما في الكوميديا الإلهية من صلة بالحديث المعروف عن قصة (المعراج).
أشار بلاثيوس إلى هذا كله إشارة وافية. ومن فرط افتتانه بالموضوع الذي استهواه وتملكه نسب إلهام دانتي في وضع منظومته الخالدة إلى المفكر الصوفي ابن عربي الأندلسي الذي عاش في القرن الثالث عشر. وسرعان ما استفاض الحديث عن هذا البحث واتجهت إليه أنظار المهتمين بالموضوع الذين انقسموا كما هي العادة في مثل هذه الظروف إلى فريقين: فريق أيد نظرية بلاثيوس وفريق عراضها، وظل الفريق المعارض غير مقتنع باستنساخ الباحث الأسباني القدير على دقتها ولا موافق على آرائه بالرغم من دلالتها على علمه المتين وثقافته الرصينة. والواقع أن بحث بلاثيوس كان بضعفه عدم الإشارة إلى السبل التي وصل منها الأفكار الإسلامية إلى دانتي، وذلك لانقطاع الصلة المباشرة بينه وبينها، وكان الأولى أن يشير بلاثيوس إلى تلك النصوص الإسلامية الأصيلة أو المترجمة التي لابد أن يكون دانتي قد اطلع عليها قبل وضع منظومته إذا صح أنه استلهمها من العالم العربي الإسلامي كما أكد بلاثيوس. وبعد معركة حامية بين الفريقين المؤيدين والمعارضين لكثرة ما أثاره هذا البحث من اختلاف الآراء وافتراق الأهواء؛ خيم السكون على هذا الموضوع مدة من الزمن دون أن يصل الفريقان إلى تسوية ما بينهما من اختلاف، ودون أن يقتنع فريق برأي الفريق الآخر.
ظلت الأمور على هذه الحال حتى نشر المستشرق الإيطالي مونيري دي فيبار في عام 1944 مؤلفا هاما عن دراسة الإسلام في أوربا أثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ولفت واضعه أنظار الباحثين إلى مخطوطين: أولهما مكتوب باللغة الفرنسية ومودع بمكتبة أكسفورد؛ والآخر مكتوب باللغة اللاتينية تملكه المكتبة الأهلية بباريس، وكلاهما يشتمل على ترجمتين غريبتين لقصة المعراج كما رواها أهل الحديث، وافترض المستشرق(940/2)
الإيطالي إذ ذاك أن الترجمتين أصلهما واحد وجاء من بعده المستشرق الإيطالي تشيرولي ودرس المخطوطين وسرعان ما اثبت بطريقة لا تحتمل الشك صدق نظرية (مونتيري) وقد نشر أخيراً هذين المخطوطين وأضاف إليهما كل ما استطاع إضافته من المقدمات والحواشي والتفسيرات لتوضيح المسألة التي كانت موضع الخلاف.
أما المخطوط المشتمل على الترجمة اللاتينية فعنوانه
وأما المخطوط الفرنسي فعنوانه
ومعناهما (كتاب معراج محمد) وهو ملف غفل لم يعرف واضعه للآن، ترجم أولاً من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية (نسبة إلى قشتالة) من لغات أسبانيا، وكان الذي قام بترجمته هو (إبراهيم العقيم اليهودي) الذي كان طبيباً ببلاط الملك الصالح الأسباني، كما نقله فيما بعد من هذه اللغة إلى اللغتين المذكورتين آنفاً الكاتب الإيطالي. بونافنتورا داسينا الذي كن سكرتيرا ببلاط الملك السالف الذكر في منتصف القرن الثالث عشر.
وبالرغم من أن المترجم الإيطالي قد اعتمد في نقله إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية على الترجمة القشتالية لا على النص الأصلي؛ فإن كل ما في المخطوطين اللذين قام تشيرولي بنشرهما، من المصطلحات والعبارات والتراكيب والأسلوب يدل دلالة قاطعة على أن النص الأصلي إنما هو نص عربي، كما يدل أيضاً على عروبته أسماء الأماكن وأسماء الأعلام وذكر الآيات القرآنية الكريمة الواردة فيهما. ولولا ذلك لما ذكر المترجم الإيطالي بونافنتورا داسينا جملاً عربية كاملة مكتوبة بالأحرف اللاتينية؛ في إمكان القارئ الملم بلغة الضاد أن يعيدها إلى أصلها العربي بكل سهولة مهما طرأ عليها من التحريف، ولكن ماذا يا ترى يكون ذلك النص العربي المجهول؟ ومتى ألف؟ ومن عساه أن يكون مؤلفه؟
يمكننا بالرغم من عدم استطاعتنا الإجابة عن هذه الأسئلة كلها - أن نثبت على الأقل أن المصدر العربي الذي أستيقن منه الترجمات الثلاث لابد يكون كتابا عربياً يشتمل على قصة المعراج كما كانت تروي في بلاد الأندلس في القرن الثالث عشر. وبمجرد أن ترامي إلى سمع الملك ألفونس المذكور وجود قصة ظريفة من هذا النوع أمر بترجمتها حتى يستطيع علماء الغرب أن يطلعوا عليها.(940/3)
هذا وقد يتساءل الباحث عما إذا كانت ترجمة من هذه التراجم الثلاث كانت معروفة في إيطاليا أثناء القرون الوسطى؟ والإجابة في هذه المرة لابد أن تكون بالإعجاب؛ إذ ورد ذكر هذا الكتاب الخاص بقصة المعراج في مؤلفين من مؤلفات كاتبين إيطاليين، عاش أحدهما في منتصف القرن الرابع عشر وعاش الآخر في أواخر القرن الخامس عشر، وليس هذا إلا دليلاً على انتشار المعلومات عن العقائد الإسلامية وفلسفة العرب في بلاد أوربا ولا سيما في إيطاليا في القرون الوسطى. هذا ولم يقتصر المستشرق في تشيرولي على نشر الترجمتين الفرنسية واللاتينية؛ وعلى ملخص الترجمة القشتالية، فحسب بل أضاف إلى ذلك قسماً آخر يبرهن على هذا الذيوع، كما أضاف قسما ثالثا جمع فيه كل الشواهد التي تثبت هذا الانتشار، وعلى رأسهما حوار جرى بين النبي محمد (ص) وعبد الله بن سلام اليهودي، ترجمه إلى اللاتينية أرمانو الدلماطي سنة 1141 - نقلاً عن الكتاب المعروف باسم (رد الكلام في مسائل عبد الله بن سلام).
وقد يتساءل الإنسان كذلك عن قيمة البحث الذي قام به المستشرق تشيرولي والإجابة عن ذلك أنه نجح كل النجاح في إيضاح المسألة على أساس أمتن من الأساس الذي وضعها عليه المستشرق الأسباني.
كذلك يمكن التساؤل عن موقف تشيرولي في هذا الموضوع. لقد كان المستشرق الإيطالي شديد الحذر عند الإشارة إلى تأثير هذه المعلومات الإسلامية على فكرة دانتي؛ ولذلك اجتهد في أن يثبت آراءه بأكثر مما يلزم من الأدلة وذكر أن من المحتمل كثيراً أن يكون دانتي قد تأثر بقصة المعراج بصفة عامة عندما خطرت بباله فكرة رحلته إلى الأقاليم الثلاثة؛ ولكنه لم يصل إلى الجزم بأن الملحمة مأخوذة بتفاصيلها مأخوذة عن قصة المعراج كما فعل بلاثيوس!
أمبرتو ربزيتانو(940/4)
في دنيا الشعراء
من وحي العيد
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
من الناس فئة وهبها الله خيالاً خصباً وقادا، وعاطفة مشبوبة، وحسا مرهفا دقيقا، وشعورا فياضا رقيقاً، وهؤلاء هم الشعراء المطبوعون الذي مازهم الله عن غيرهم بالقدرة على رسم الصور وتصوير ما يجول بخاطرهم وما يعتمل في قرارة نفوسهم من مشاعر وأحاسيس، بخلاف الإنسان العادي الذي يحس الألم ويجد الحزن، ويشعر بالسرور ويتذوق اللذة، ولكنه يعجز عن التعبير عن شيء من ذلك.
بل إن الشاعر المطبوع يمتاز بالقدرة على النفاذ إلى أغوار النفس البشرية؛ وإلى قرارة ما في الكون من حقائق لا يستطيع إدراك أسرارها غيره ممن لم يوهبوا موهبته.
لذلك نراهم لا تمر بهم حادثة أو مناسبة إلا سجلوها في شعر يعبرون فيه عما لهذه أو تلك من أثر في نفوسهم، بل وفي نفوس الشعوب التي ينتسبون إليها.
ولما كان عيد الفطر من المناسبات الهامة، فقد اهتم به الشعراء منذ الإسلام، فاتخذوه وسيلة لإزجاء مدائحهم للخلفاء والأمراء وغيرهم ممن بيدهم السلطان، ولكنهم لم يهتموا بتصوير ما يعتلج في نفوسهم من خواطر، وما تجيش به عواطف شعوبهم وما يعتمل فيها من أحاسيس، بل كان همهم الأول التقرب من الممدوح للوصول إلى ما يريدون من إجزال العطاء وحلول المنزلة الأولى لديه.
فها هو ذا موكب الخليفة المتوكل قد انتظم في يوم عيد الفطر للخروج لصلاة العيد، فتأخذ البحتري الشاعر روعة المنظر وعظم المناسبة، فيقول مادحاً المتوكل، واصفاً الموكب في قصيدة عامرة بليغة تعد من غرر الشعر أو من عرائسه التي يفخر بها. فيقول:
بالبر صمت وأنت أفضل صائم ... وبسنة الله الرضيعة تفطر
فانعم يوم الفطر عيدا إنه ... يوم أغر من الزمان مشهر
أظهرت عز الملك فيه بجحفل ... لجب، يحاط الدين فيه وينصر
خلن الجبال تسير فيه وقد عدت ... عددا يسير بها العديد الأكثر
فالخيل تصهل، والفوارس تعدي ... والبيض تلمع، والأسنة تزهر(940/5)
والأرض خاشعة تميد بثقلها ... والجو معتكر الجوانب أغبر
ذكروا بطلعتك النبي، فهللوا ... لما طلعت من الصفوف، وكبروا
حتى انتهيت إلى المصلى لا سيما ... نور الهدى، يبدو عليك ويظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع ... لله لا يزهى، ولا يتكبر
فلو إن مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وهذا هو أبن هانئ الأندلسي يمدح المعز لدين الله الفاطمي ويهنئه بشهر الصيام والعيد، وهو كعهدنا به قوة أسلوب ومبالغة في المدح تصل إلى حد الإسراف الذي يخرج عن حدود الاعتدال، فيقول:
جود كأن اليم فيه نفاشة ... وكأنما الدنيا عليه غثاء
ملك إذا نطقت علاه بمدحه ... خرس الوفود وأفحم الخطباء
هو علة الدنيا ومن خلقت له ... ولعلة ما كانت الأشياء
ليست سماء الله ما تروثها ... لكن أرضا تحتويه سماء
نزلت ملائكة السماء بنصره ... وأطاعه الإصباح والإمساء
أرأيت كيف يسمو الشاعر بالخليفة إلى مرتبة الألوهية وهو الذي يقول في غير هذا المكان:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
ولا أظنك قائلاً إنه نظرية الفلسفة الإسلامية التي تعرف الله سبحانه وتعالى واجب الوجود بعلة العلل. ثم كيف يشبه بالنبي في وقعة بدر إذ نصره الله بالملائكة في قوله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون، إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).
ثم يتابع الشاعر المدح فيقول:
يفديك شهر صيامنا وقيامنا ... ثم الشهور له بذاك فداء
فيه تنزل كل وحي منزل ... فلأهل بيت الوحي فيه ثناء
فتطول فيه أكف آل محمد ... وتغل فيه عن الندى الطلقاء(940/6)
ما زلت تقضي فرضه وأمامه ... ووراءه لك نائل وحباء
حسبي يمدحك فيه ذخراً أنه ... للنسك عند الناسكين كفاء
وهذا مهيار الديلمي يكتب إلى أبي الحسين أحمد بن عبد الله الكاتب مستوحشا لبعده متشوقاً للقائه، مهنئا بالصوم والعيد، من قصيدة طويلة بالغ فيها الشاعر في مدح صاحبها ولكنها على رغم ذلك فيها فن جميل وخيال بديع والتفاتات بارعة لطيفة فيقول:
فلله أنت أبن نفس سمت ... لغايتها قبل أن تولدا
إذا خير اختار إحدى اثنت ... ين إما العلاء وإما الردى
كأني أراك وقد زاحموا ... بك الشمس إذ عزلوا الفرقدا
وخاطوا النجوم قميصا عليك ... ولاثوا السحاب مكان الردا
فما أمكن اسمع أزدك ... قوافي بادئة عودا
لو استطاع سامع أبياتها ... إذا قام راويها منشدا
يصير أبياتها سبحة ... ومثل قرطاسها مسجدا
مهنئة أبداً من علاك ... بما استأنف الحظ أو جددا
وبالصوم والعيد حتى تكون ... آخر من صام أو عيدا
إنها قصيدة جيدة بديعة ولكن الشاعر يهتم فيها بممدوحه فيخصه بها كلها ولا يذكر العيد إلا ذكرا عابراً. وغير هؤلاء.
كثيرون يضيق المقام عن ذكرهم، ممن اتخذوا هذه المناسبة وسيلة لأغراضهم يرجون فيها مدائحهم للأمراء والخلفاء.
فإذا تركنا القدامى إلى المحدثين وجدنا الأمر يختلف اختلافا بينا، فقد تبدل الحال غير الحال، وسمت الأغراض، وقل مدح الشعراء للملوك والأمراء واستجداء عطاياهم، فقد أصبحوا يتأثرون بما تحسه شعوبهم من آلام وآمال، ويعبرون عما يجول في نفوسهم، مشاركين في كل حركة، مصورين ما يعتلج في قرارة نفوسهم من عواطف وأحاسيس فاعتبر شعرهم بحق سجلا لأيامهم وما يقع فيها من أحداث. . .
فهذا أمير الشعراء أحمد شوقي نراه عندما يستقبل عيد الفطر يستقبله بنفس يملأها الحزن والأسى، وتفيض بالحسرة والألم، لما يرى في مجتمعه من نفاق وغدر، ولانحلال الأخلاق(940/7)
وتفكك الروابط والصلات، فيتألم أشد الألم بعد ما يحتفل بالعيد الذي خلصه من القيود الثقيلة ليطلق نفسه على سجيتها، ويدعو كأسه ليعانقها فيقول:
رمضان ولى هاتها يا ساقي ... مشتاقة تسعى إلى مشتاق
ما كان أكثره على ألافها ... وأقله في طاعة الخلاق
الله غفار الذنوب جميعها ... إن كان ثم من الذنوب يواق
بالأمس قد كنا سجيني طاعة ... واليوم من العيد بالإطلاق
لا تسقني إلا دهاقا إنني ... أسقي بكأس في الهموم دهاق
فلعل سلطان المدامة مخرجي ... من عالم لم يحو غير نفاق
وطني أسفت عليك في عيد الملا ... وبكيت من وجد ومن إشفاق
لا عيد لي حتى أراك بأمة ... شماء راوية من الأخلاق
ذهب الكرام الجامعون لأمرهم ... وبقيت في خلف يغير خلاق
أيظل بعضهم لبعض خاذلا ... ويقال شعب في الحضارة راق
وإذا أراد الله أشقاء القرى ... جعل الهداة بها دعاة شقاق
الحق أننا ظلمنا الشاعر حين قلنا يطلب كأسه يعانقها، فهو لم يفعل هذا حبا في الكأس، ولكنه يريد أن يتخلص بها من همومه وأشجانه، وحتى لا يرى من فساد في الأخلاق كمن يقول (وادوني بالتي كانت هي الداء).
وأما الشاعر المعاصر (محمود أبو الوفا) فيلتفت إلى المجتمع المصري فيروع ما فيه من فروق ومتناقضات ومن سوء توزيع للثروة، فثراء فاحش بجانبه فقر مدقع، ويرى كيف يأكل الأغنياء حقوق الفقراء؛ فيزفر زفرات حري تخرج كأنها اللهب المحرق يلفح الوجوه فيشويها إذ يقول:
أرأيت مصر اليوم كيف أزينت ... أرأيت وجه العيد في أبنائها
الفقر في أقوامها غطى على ... آمالها وطغى على سرائها
كبراؤها والأغنياء بأرضها ... غفلوا حقوق الله في فقرائها
ويقول من قصيدة أخرى في نفس المناسبة:
عهد الصراحة ما بال الصريح به ... لا يملك النطق إلا بالكتابات(940/8)
أحب أضحك الدنيا فيمنعني ... أن عاقبتني على بعض ابتسامات
هاج الجواد فعضته شكيمته ... شلت أنامل صناع الشكيمات
أنها أنفاس محترقة، وعصارة نفس حساسة، تخر بالشعور النبيل، وتجيش بالعواطف السامية.
والشاعر الحجازي (أحمد العربي) ينظر فيرى الفقير في يوم العيد ذليلا حائراً لا يملك ما يشارك به القوم ليفرح كما يفرحون، فيتألم أشد الألم فيتمنى أن يصبح العيد وسيلة لعطف الأغنياء على الفقراء ليشيع السرور في الجميع فيقول:
ليت شعري متى يكون لنا عي ... د حقيق برمزه المكنون
فيشيع الهناء في كل نفس ... ويواسي فؤاد كل حزين
قد، لعمري، أنى لنا أن نرى ... العيد مشاها وقرة للعيون
هذه بعض نفثات قطفتها لك من شعر شعرائنا لتعرف كيف يحتفلون به كما يحتفل الأجانب بأعيادهم القومية، أعاد الله أمثال هذا العيد على الأمة الإسلامية بالخير وإقبال السعود.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ(940/9)
9 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
الإسرائيليات في الحديث:
لما قويت شوكة الدعوة المحمدية واشتد ساعدها، وتحطمت أمامها كل قوى تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها، ويصدون على سبيلها، إلا أن يكيدوا لها من طريق الحلية والاختراع، بعد أن عجزوا عن النيل منها بوسائل القوة والنزاع.
ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار، فلا يعترفون لأحد من غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة، فإن دهاتهم وأحبارهم لم يجدوا بدا بعد أن غلبوا على أمرهم وأخرجوا من ديارهم من أن يستعينوا بالمكر ويتوسلوا بالدهاء لكي يصلوا إلى ما يبتغون. فسول لهم المكر اليهودي بأن يتظاهروا بالإسلام ويطووا نفوسهم على دينهم، حتى يخفي كيدهم ويجوز على الناس مكرهم. وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء ومكرا كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سبأ فاستعلنوا بإسلامهم، واندسوا بين المسلمين مظهرين عبادتهم وورعهم.
ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت وأن المسلمين قد اعتزوا بهم وسكنوا إليهم، جعلوا همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم؛ وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التي قام عليها، ما يريدون من أساطير وخرافات، وأوهام وترهات، لكي تهيئ هذه الأصول وتضعف. ولما عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم لأنه قد حفظ بالكتابة والتدوين، وأستظهره الكثير من المسلمين، وأنه قد أصبح بذلك في منعة من أن يزاد فيه كلمة أو يتدسس إليه حرف - اتجهوا إلى السنة القولية فافتروا على النبي أحاديث لم تصدر عنه، وأعانهم على ذلك أن ما تحدث به النبي في حياته لم يكن محدود المعالم ولا محفوظ الأصول، وأن في استطاعة كل ذي هوى أو دخلة سيئة أن يتدسس إليه بالافتراء، ويسطو عليه بالكذب؛ ذلك بأنه لم يدون في عهد النبي كما دون القرآن، ولا كتبه أصحابه من بعده، وقد يسر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما يجهلون من أمور العالم الماضية والمستقبلة - واليهود بما لهم من كتاب وبما فيهم من علماء وأحبار يعتبرون أساتذة العرب الأميين فيما يجهلون.(940/10)
قال الحكيم أبن خلدون في مقدمته عندما تكلم عن التفسير النقلي، وأنه يشمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود: والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهود، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم. . وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات. وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة.
وقال أبن كثير في تفسيره (لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضى الله عنه فربما استمع له عمر فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده من غث وسمين).
ومن أجل ذلك كله أخذ أولئك الأحبار يبثون في الدين الإسلامي أكاذيب يزعمون مرة أنها في كتابهم، ويدعون أخرى أنها من مكنون علمهم، وما ذلك كله إلا من مفترياتهم. وأنى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق والكذب من أقوالهم وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتبهم، ومن جهة أخرى فإنهم أقل منهم دهاء وأضعف مكرا، وراجت بذلك هذه الأكاذيب وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يبثه هؤلاء الدهاة بغير بحث ولا نقد، معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه.
وقبل أن نعرض لبيان هذه الإسرائيليات التي امتلأت بها كتب الحديث والتفسير والتاريخ نأتي بفذلكة صغيرة من تاريخ هؤلاء الأحبار الذين بثوا هذه الإسرائيليات ليكون القارئ على بينة منهم.
كعب الأحبار
هو كعب بن مانع الحميري من آل رعين - وقيل من ذي الكلاع من اليمن، كان من أحبار اليهود وعرف بكعب الأحبار، أسلم في عهد عمر وسكن المدينة في خلافة عمر ثم تحول إلى الشام في زمن عثمان ومات بحمص سنة 32 أو سنة 34هـ.
وقد استصفاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه كما يقولون وأمره أن يقضي. . وقال(940/11)
عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ. . قدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم - وروى عنه جماعة من التابعين مرسلا.
سبب إسلامه:
وضع كعب الأحبار لإسلامه سببا عجيبا ليتسلل به إلى عقول المسلمين، فقد أخرج أبن سعد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم في عهد النبي وأبي بكر؟ فقال عن أبي كتب لي كتابا من التوراة فقال اعجل به، وختم على سائر كتبه، وأخذ على بحق الوالد على الوالد أن لا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت لعل أبي غيب عني علماً ففتحتها فإذا صفة محمد! وأمته! فجئت الآن مسلما!
وروى عن عبد الله بن عمر أن رجلاً من أهل اليمن جاء إلى كعب فقال له: إن فلانا الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة. فقال كعب هاتها! فقال: إنه يقول لك، ألم تكن سيدا شريفا مطاعا؟ فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعاً إليه؟ قال نعم: قال إن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا ينفر منك! وقل له يقول لك: أسألك بالذي فلق البحر لموسى وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى أبن عمران فيها علم كل شيء ألست تجد في كلمات الله تعالى أن أمة محمد ثلاث أثلاث، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب! وتلك يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة! وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد! فإنه سيقول لك نعم! فقل له يقول لك كعب: اجعلني في أي الثلاث شئت!
وهب بن منير:
قال المؤرخ جورجي زيدان في تاريخ التمدن التمدن الإسلامي هو فارسي الأصل جاء إلى جده إلى اليمن في جملة من بعثهم كسرى لنجدة اليمن على الحبشة، فأقاموا هناك وتناسلوا، وصاروا يعرفون بين العرب (بالأبناء) - أي أبناء الفرس ومنهم طاووس بن كيسان التابعي الشهير.
وكان آباء وهب على دين الفرس (المجوسية أو الردشتية) فلما أقاموا بين اليهود أخذوا عنهم بآداب اليهود وتقاليدهم فتعلموا شيئاً من النصرانية. وكان يعرف اليونانية (وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير) وقد أدرك عدة من الصحابة وروى عنهم. ومن أقواله: إني(940/12)
قرأت من كتب الله 72 كتابا! ومن أجل ذلك كان للمسلمين ثقة كبرى به.
وقال الذهبي عنه في تذكرة الحفاظ. ولد سنة 34هـ روى عن أبي هريرة وعن عبد الله بن عمر وأبن عباس وتوفي بصنعاء سنة 110هـ وقيل غير ذلك.
كيف استحوذوا على عقول المسلمين
اتبع هؤلاء الأحبار بدهائهم العجيب طرقا غريبة لكي يستحوذوا بها عقول المسلمين ويكونوا بذلك محل ثقتهم وموضع احترامهم. وإليك طرفا من هذه الأساليب الغربية التي كانوا يتخذونها ليستولوا بها على عقول الصحابة فيركنوا إليهم ويثقوا بهم ويأخذوا عنهم.
أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام وهو من كبار أحبار اليهود الذين أظهروا الإسلام. أنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: محمد رسول الله عبد المختار مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام وهذا الذي أخرجه الترمذي عن أبن سلام قد أحكمه الداهية كعب1 فقد ذكر الحافظ أبن حجر في الفتح أن الدرامي روى عن كعب في صفة النبي في التوراة قال: في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام. وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة أو الخرافة حتى وجدناه في سنن الدرامي كذلك، ومصدره الداهية الأكبر كعب، ووجدنا للسطر الأول تكملة لم يأت بها عبد الله بن سلام، فقد روى ذكوان عن كعب قال في السطر الأول: محمد رسول الله عبدي المختار لافظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام. وفي السطر الثاني: محمد رسول الله، أمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزل، ويكبرون على شرق رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأسها كناسة، ويأنزرون على أوساطهم ويوضئون أطرافهم وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل.
وهذا الكلام قد أورده أبن سعد في طبقاته عن أبن عباس في جواب لكعب، وذكره كذلك ممن عند نفسه أحد تلاميذ كعب: عبد الله بن عمرو بن العاص كما رواه البخاري عندما سئل عن صفة النبي في التوراة.
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: مكتوب في التوراة صفة النبي وعيسى أبن مريم يدفن معه!(940/13)
وروى الجواليفي في المغرب أن أبن الأعرابي ذكر عن كعب أنه قال: أسماء النبي في الكتب السالفة محمد وأحمد وحمياط أي حامي الحرم! وروى القاضي عياض في الشفاء أن وهب أبن منبه قال:
قرأت في أحد وسبعين كتابا فوجدت في جميعها: أن النبي أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا - وفي رواية أخرى - فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جانب عقله (ص) إلا كحبة رمل بين رمال الدنيا!
والذي أغرى كعب الأحبار بالرواية والاتساع فيها أن عمر كان في أول الأمر يستمع إليه ثم توسع الناس في الأخذ عنه، وبالغ هو - كما قال الحافظ بن كثير (في نقل ما نقل من الأشياء إلى كثير منها ما يساوي مداده) ولما تبين لعمر أنه كذاب منع الأخذ عنه، ونهاه عن الرواية عن النبي، وأنذره إذا هو روى أن يعيده إلى بلده.
المنصورة
للكلام صلة
محمود أبو رية(940/14)
الشعر المطعم
للأستاذ كامل السيد شاهين
نريد بالشعر المطعم ذلك الشعر المعرب الذي اختلطت فيه العامية بالعربية، ونهض مع ذلك شعراً سوياً، يصور الحياة في كل ناحية، فتجده في السياسة، كما تجده في الأخلاق، وتجده في الغزل، كما تجده في الحكم، وهو أبداً خفيف الروح، حلو، حلو عذب، يطربك بهذا الأسلوب اللذيذ، الذي تجتمع فيه المفارقات الحلوة. فبينما تأخذ سمعتك الكلمة العربية الجزلة، تفجؤك بعدها الكلمة العامية المأنوسة، فتجد لها ما تجد للنكتة الحارة من وقع، إذ كانت الكلمة العامية بالغة سمعتك وهو متهيئ للكلمة العربية، فتجد النفس من ذلك ما تجد لرؤية الطويل المفرط مع القصير الدحداح، أو كما تجد لرؤية المرأة متربعة في كرسي القاضي الشرعي، من حيث الفجاءة وعدم التوقع.
وتمام الحلاوة في أنك لا تجد بين العربي والعامي في البيت الواحد خللا أو اضطراباً، ذلك بأن الكلمة العامية تجيء مصقولة صقلاً عربياً، معربة إعراباً صحيحاً، كأنما تحدرت إليك من أعرابي سليقي.
وميزة الشعر المطعم عن الشعر العام أنه عصري متواضع. يمس الاجتماع الراقي كما يمس الاجتماع الشعبي، وبذلك يصور لنا ناحية يترفع عنها الشعر العام - ونحن نجني في كثير من الأحيان على التاريخ، عندما نعتمد على الشعر العام في تصوير حياة المجتمع، لأنه في برج عال رفيع لا ينحط إلى المستوى الشعبي. فكما كانت الأمثال في القديم أصدق تصويراً للاجتماع العربي من الشعر، كذلك الشعر المطعم اليوم أصدق تصويراً للاجتماع الحاضر من الشعر العام. ولذا يكون من الخطر إهدار هذا النوع من الشعر المطعم لأنه أمس بالحياة العامة. فهو يصور المجتمع وينقده نقدا لاذعاً في خفة وفكاهة.
فنحن - مثلا - تجد الفضول والتطفل داء قديماً، ولكن الشعر العام إذا تناوله لم يبلغ فيه من الصدق وتصوير الواقع ما يبلغ الشعر المطعم فهذا شاعر يقول في وصف ثقيل: -
بارد لو يخش في النار تلقى الناس في النار كلها بردانه
كلما شاف صاحبين يقولا ... ن كلاماً غري يمد ودانه
ويطيل الحديث آه يانا يا غلبي ويا وعدي من لته آه يانه(940/15)
وتراه قدامنا مادحا فينا وياما يذمنا من ورانه
يدعى أنه أبن ناس ذوات ... أورثوه في زعمه أطيافه
وهو والله يا عزيزي أيوه ... عربجي وأمه بلانه!
ثم أسمع هذا الختام المحكم القوي:
أيها الناس بعضكم عسل صا ... ف لذيذ، وبعضكم دبانه!
فكم من الأدباء عرض لوصف الثقلاء ولكنهم لم يصورا هذا التصوير البديع الصداق الذي يستمد قوته من صدقه وإبرازه الوقائع كما هي.
والناس يصرخون اليوم من أجرة الأطباء، ولكن الشعراء لا يتناولون هذه الناحية من اجتماع الأمة، ويتناولها الشعر المطعم فيقول الشاعر معارضا قصيدة أبي فراس: -
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعم أنا بردان، وعندي كحة ... ولكن مثلي لا يطيب له صدر
فهل علم الدكتور أني بكحتي ... أمزق أحشائي الغداة ولا فخر
وقال التمرجي هل معاك فزينة ... تخش بها، أو ما معاكشي فتنجر
وقال أصيحابي الدخول أو الردى ... فقلت هما أمران: أحلاهما مر
ألم تعلموا أني فقير وأنه ... إذا شافني خمسون قرشاً له أجر
بنصف جنيه نظرة فابتسامة ... فقصقوصة من دفتر فوقها حبراً
ولكن إذا حم الفضاء على امرئ ... فليس له بر بقية ولا بحر
فاضطرار المريض، وغلظة الممرض، وجشع الطيب، مصورة ههنا أروع التصوير وأبرعه.
وكثير من الأغنياء لا يسهم في المنافع العامة للشعب، ولذا تجد المجالس الشعبية تلدغهم بقارص نقدها، ويسجل ذلك الشعر المطعم:
نعم لك مال، غير انك جلدة ... فلست بمودود ولا متودد
إذا لم تكن - يا باشا - صاحب نخوة ... فخمسون طظا فيك من اليوم للغد
وتجد المجالس الشعبية تتناول عباد المظاهر هازئة ساخرة محقرة، وترى هذا في الشعر المطعم:(940/16)
وكم من فتى تلقاه تحسب أنه ... أمير لتزويق به وتبغدد
مرتبه في الشهر ليس يزيد عن ... جنيهين، وأبن الكلب عامل أفنددي
ولا يقف الشعر المطعم عند تصوير حياة الشعب واجتماعه الخاص، بل يدس أنفه في السياسة العامة، ولكن بروحه الشعبية الجمهورية العاطفية. فيهيب بالأغنياء لإمداد فلسطين قبل طغيان اليهود فيقول:
ومن يعلم بما هم فيه يصعق ... بخضته، ومنه يطق عرق
فأين الراحمون، الم تشوفوا ... ألستم تسمعون وذاك زعق
أنأكل كستليتاه بصلصا ... ونسكر ثم يعد السكر عشق
وبيت الجار مهدوم عليه ... ومعدته بها للجوع حرق
أغيثوهم وإلا قيل عنا ... مجانين رءوسهم تلقى
متبقوشي كدا، عيب عليكم ... إذا ما كنتموش غجرا حتبقوا!
كما يدس أنفه في أمر التعليم، فالمذهب الشعبي في التربية يوجب التأديب بالعصا، وقد علمنا أن بعض المعاهد في إنجلترا تحبذ الضرب في التعليم، وإن كان المربون لا يزالون ينفرون منه. ولما كان الشعر المطعم تعبيراً عن رأي الشعب، فقد جاء منتصراً محبذا للضرب.
وأنا امرؤ قد جئت مصراً ولم أكن ... إلا غلاما حافيا فلاحا
فدخلت مدرسة وكنت معفرطاً ... متنططاً متشعبطاً قراحاً
متشابطاً متلابطاً متخانقا ... متصارعاً متشاتماً رداحا
وإذا اهتديت رأيتني متمألتا ... متمسخراً، متفلسحاً مزاحا
ولا شك أن هذه (الحيثيات) لابد أن تسوق إليه العصا سوقاء، ولذا يقول: _
لكن خوجاتي على توزوزوا ... وعلى نفوخي وهات حتى راحا
فعلمت أن اللعب ليس وراءه ... إلا دمي، تحت العصابة ساحا
فجعلت أقضي الوقت بين قراءة ... وكتابة متألما وحواحا
ونجحت ثم صبحت فيكم راجلاً ... ذا شغلة، لا عاطلاً مشكاحا
أخص علي زمن يحرم أهله ... ضرب الصبي ويشربون الراحا(940/17)
والله لولا الضرب في التعليم ما ... نفع البليد ولا أصاب نجاحا
وليس من شك أن المجالس الشعبية كثيراً ما تدور حول لذائذ الأطعمة وطيباتها، والشعر
المطعم يتكلم بلسان هذه المجالس فيقول:
أرحل عن الدار التي أصحابها ... لا يطعمونك من لذيذ المأكل
بئس الطعام الفول وهو مدمس ... مهما تحاول بلعه لا ينزل!
زرنا تجد في بيتنا ما تشتهي ... من كل مطبوخ وكل مخلل
عملت لنا بالأمس عبلة كفتة ... طباخ باشا مثلها لم يعمل
وكباب عبلة، لا تقل حاتي ولا ... ماتي، وكل منه ثلاثة أرطل
إن الكنافة لو تمثل شخصها ... بين الصنوف ونتشتها في الأولى
وإذا سلاطين الخشاف تجهزت ... فاشمر لها الأكمام واشرب وانجل
والشاعر لا ينسى نفسه في زحمة الكباب والكنافة والخشاف، ولكن يذكر أنه من العزة والكرامة حتى يطيب الطعام فيقول:
لا تسقني مرق الفراغ بذلة ... بل فاسقني بالعز ماء الفلفل
مرق الفراخ بذلة لا أشتهي ... والطرشي في عز أراه يلذ لي!
ولكن. كيف الشعر المطعم فن الغزل، والحب يهز قلوب العلية والدهماء على السواء! إذا بحثنا نجد الغزل في هذا الشعر غزلا يناسب الطبقة الدنيا، ويمثلها أروع التمثيل، فلكل طبقة أسلوبها في طريق المغازلة، عملية وكلامية. وفي الطبقة الشعبية نجد من النساء من تحب من زوجها أن يضربها منذ الليالي الأولى، وإلا لم يكن شهما، فهي تشتم زوجها وتعربد عليه، ولتستثيره، وتخبر مبلغ رجولته.
بكرت تبستفني وتلعن لي أبي ... فأجبتها حالا بضرب الشبشب
مهبولة وتريد مني طبلة ... يا موت خذها من أمامي، والنبي
يا بنت الكلب، ما دخلي أنا ... البيت عندك عمري أو خربي
وبينما نجد هذا النوع من النساء في الطبقة الدنيا، نجد نوعا آخر يحب الدلال، ويحب المحاسنة، ولكن ما دلال العامة وكيف يكون هذا شاعر يصور ضربا منه فيقول:
قلت - يا منية الفؤاد أركبيني ... وامسكي شال عمتي كالعنان!!(940/18)
وتجد أسلوب الشعر العامي في الغزل مأخوذا من الحي الشعبي لا يتطفل على الأحياء الراقية، فهذا شاعر يشبه قلبه بالقبقاب، يوما في رجل هذه، ويوما في رجل تلك:
يا قلب كالقبقاب حيره الجما ... ل، فتارة تدنى، وأخرى تزجر
صبحاً برجل فهيمة وعشية ... في رجل سلمى والزمان تجرجر
وهذا آخر يسمى محبوبته بأسماء بلدية مثل ستيتة، وهنومة وكعب الخير فيقول:
ستيتة لا تكن نجواك عذلي ... فإن بمهجتي حللا بتغلي
وبين أضالعي وابور جاز ... وإبرته جفاك لمشمعل
حرام أن أعيش بلا وبور ... وفي جنبي (بريمس) منه أصلي
ثم يذكر الشاعر دلال محبوبته فيزعم أنها لجهلها بالغزل والدل، لا تميل كما يميل البان، ولكن تميل كما تميل الحائط، ولا ترنوا كما يرنو الغزال، ولكن كما يرنوا الأعمى، ولا تتلفت تلفت الظبي، ولكن تجفل إجفال البغل - وأن غزلها أن تصفعه على قفاه بكف كالرحا كما تشد شعره (جزة الخروف) ثم تمضي في تفليته، واستخراج هوامه، فيقول: -
فمالت حائطا، ورنت كأعمى ... إلى، وأجفلت إجفال بغلي
وصافح كفها الرحوي قفايا ... وشدت جزتي ومضت تفلي
فلا والله ما حرب البسوس ... بأهول من تصيدها لقملي
ولو تتبعنا ذلك لعيبنا، ولأعيينا القراء، وفي ذلك لمن شاء بلاغ.
وبعد: فإننا إذا كنا نبكي اليوم لضياع الأزجال الأندلسية الذي فوت علينا معرفة عامية الأندلس، ولو كشفت الآن لكانت أثرا تاريخيا جليلا - إذا كنا نبكي لضياع هذا التراث، فإننا أجدر بالبكاء إذا ما ضيعت هذه الثروة التي لم يعن يجمعها أحد، ولم يسرع لتقعيد قواعدها أحد، إلا شيئاً يسيراً ذكره المرحوم حسين شفيق المصري لا يشفي ظمأ ولم يعن أحد باستخراج ما تحويه من أساليب وكنايات تعد من أبرع وأروع ما تحوي بلاغات الأمم مما يصلح أن يكون رسالة شائقة فريدة، وحسبنا أننا فتحنا الباب لمن شاء أن يسلك أو يدرس.
كامل السيد شاهين
مبعوث الأزهر للسودان(940/19)
عقيدتي
للفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتر اندرسل
للأديب عبد الجليل السيد حسن
الفصل الخامس
العلم والسعادة
غرض الأخلاقي أن يصلح سلوك الناس، وهذا طموح حميد، لأن سلوكهم إلى حد بعيد يستحق الرثاء، ولكني لا أستطيع أن أمدح الأخلاقي على ما ينشده من إصلاحات خاصة أو على ما يصطفى من طرق لبلوغها، فطريقته الواضحة، هي النصح الخلقي، ومنهجه الحقيقي هو نظام الجزاء والعقاب الاقتصادي والطريقة الأولى تأثيرها غير دائم أو هام، فتأخير الإحصائيين منذ (سافونا رولا) فنازلا كان دائما وقتيا. والثانية - أي الجزاء والعقاب - لها تأثير قوي، فقد جعلت المرء مثلا يفضل عاهرة عارضة على سيدة شبه دائمة، لأنه من الضروري أن تتبع الطريقة الأسهل تخفيا، وهم من أجل ذلك يبقون على عدد من المهن الخطيرة ليحموا بها انتشار داء الزهري، ومع ذلك فليست هذه الموضوعات التي ينشدها الأخلاقي، ولكنه ليس علميا حتى يلاحظ أنها هي الموضوعات التي حصل عليها حقيقة.
ولنر الآن. . هل هناك من شيء أحسن من هذا يمكن أن يكون عوضا عن هذا الخطط غير العلمي من الوعظ والرشوة.؟ أحسب إن هناك شيئاً مثل ذلك.
أعمال الناس مضرة سواء عن جهلهم أو عن رغباتهم السيئة، وحينما نتكلم من وجهة النظر الاجتماعية قد نعرف (الرغبات السيئة) بأنها تلك التي تتجه إلى اعتراض رغبات الآخرين أو بالأحرى هذه التي تعترض من الرغبات أكثر مما تعضد، وليس من الضروري أن يقف طويلاً عند الضرر الذي ينبعث عن الجهل، فكل ما يحتاج إليه حينئذ هو معرفة كثر، ولهذا يكمن طريق الإصلاح في بحث أكثر وتربية أعظم، ولكن الضرر الذي ينبعث عن الرغبات السيئة أمر أكثر صعوبة.
وهناك مقدار من الحقد الفعال عند الرجل والمرأة العاديين ولدى كل منهما ضغن خاص(940/21)
بوجه نحو أعداء معينين، وسرور عام مبهم لمصائب الناس، وعادة يوشي كل ذلك بكلمات مغسولة، وإن ما يقرب من نصف الأخلاق المألوفة، لهو عبارة عن عباءة ورداء لها، ولكن يجب أن يواجه الأمر بصراحة، إذا أراد الأخلاقيين أن يبلغوا هدفهم في إصلاح الأعمال وقد بدا ذلك بآلاف الطرق، صغيرة وكبيرة: في الغبطة التي يكرر الناس بها الفضيحة، ويعتقدون في صحتها؛ وفي معاملة المجرمين القاسية رغما عن البراهين الجلية في أن المعاملة الحسنة أثرها أكبر في إصلاحهم؛ وفي هذه الوحشية العجيبة، التي يعامل بها جميع الأجناس البيض الزنوج؛ وفي الانشراح الذي تبديه السيدات العجائز والقسيس نحو الخدمة الحربية على الشباب أثناء الحرب؛ وحتى الأطفال قد يكونون موضوعات للقسوة الرعناء، فدافيد كوبر فليد، وألفرتوست ليست كلهم خيالية وهذا الحقد الفعال أسوأ سمة في طبيعة الإنسان؛ ومن الضروري تغييره إذا كان العالم أن يسعد. ومن المحتمل أن هذا السبب ووحده له دخل كبير في الحرب أكثر من الأسباب الاقتصادية والسياسية مجتمعة.
فكيف نعمل للقضاء على مشكلة الحقد؟
أولاً دعنا نحاول أن نفهم عللها، وها هي ذي كما أحسبها؛ بعضها اجتماعي وبعضها فسيولوجي. فالعالم الآن وكما كان في أي زمن سالف، مؤسس على النزاع بين الموت والحياة، وكان السؤال في النشرة أثناء الحرب هو: هل ألمانيا أو أطفال الحلفاء يجب أن يموتوا من الحاجة والمسبغة.؟ (وبصرف النظر عن الحقد عند كلا الطرفين فلم يكن هناك من الأسباب ما يمنع أن يعيش كلاهما؟) ومعظم الناس يتمثلون في أغوار عقولهم خوفاً ملازماً من الدمار. وهذا على الأخص صحيح عند ذوي الأطفال. أما الأغنياء فيخشون أن يصادر البلاشفة أموالهم. والفقراء كذلك يخشون فقد وظائفهم أو صحتهم، وكل منهم منهمك في مطاردة (السلام) الجنونية، ويتخيلون أمهم يبلغون إلى ذلك بإبقاء أعدائهم الأشداء خاضعين، وفي لحظات الذعر العام تنتشر القسوة على نطاق واسع وجد فظيع، والرجعيون في كل مكان يلجئون إلى الخوف، ففي إنجلترا الخوف من البلشفية، وفي فرنسا الخوف من ألمانيا، وفي ألمانيا الخوف من فرنسا. والنتيجة الوحيدة لما يلجئون إليه هو زيادة الخطر ضد ما يرغبون النجاة منه.
ومن ثم يجب أن يكون أول ما يهم الأخلاقي ذي النزعة العلمية، أن يقاتل الخوف(940/22)
بطريقتين: بزيادة الأمن ويغرس الشجاعة. وأنا أتحدث عن الخوف كانفعال غير معقول للمصائب المحتملة الوقوع، فحينما تشتعل النار في مسرح يدرك الرجل العاقل الكارثة تماماً كالرجل الذي مسه الذعر، ولكنه يتخذ طرقاً من المحتمل أن تخفف من الكارثة، بينما الرجل الذي مسه الذعر يزيدها أوارا. وأوربا منذ سنة 1914 كالمشاهد الذي مسه الذعر في المسرح المشتعل، وما يحتاج إليه هو الهدوء وإرشادات السلطات ن كيفية الهرب دون أن يسحق بعضهم بعضا أثناء هذه العملية. والعصر الفكتوري رغما عن سيئاته كان فترة تقدم سريع، لأن الناس كان يغلب عليهم الأمل أكثر من الخوف ولو أردنا التقدم ثانية يجب أن يسودنا الأمل.
وكل شيء يزيد في الأمن العام، ومن المحتمل أن يقلل من القسوة. وينطبق هذا على منع الحرب سواء عن طريق عصبة الأمم، أو يمنع الفاقة، والعمل لبلوغ صحة أحسن بالنهوض بالطب والصحة الوقائية. أو بطرق أخرى تخفف من وطأة المخاوف التي تتوارى في أغوار عقول الناس وتلوح كالكوابيس حين ينامون. ولكن لن يتم شيء بمحاولة جعل جزء من الجنس البشري يسعد على حساب جزء آخر. الفرنسيون على حساب الألمان، والرأسماليون على حساب العمال، والبيض على حساب الصفو، وهكذا دواليك، فأن مثل هذه الطرق تزيد الرعب بين الجمهور الساد مخافة أن يقود الاستياء المظلومين إلى الثورة. والعدالة هت التي تنشر (الأمن) وأعني بالعدالة، معرفة الحقوق المتساوية لكل الكائنات البشرية.
وهناك علاوة على التغييرات الاجتماعية المقصود بها أن تأتي بالأمن، وسائل أخرى فعالة لإنقاص الخوف، أعني بذلك نظاما مقتنعا يقصد به زيادة الشجاعة. ولأهمية الشجاعة في المعارك قد أكتشف الأولون وسائل لزيادتها بالتربية والطعام - فكان من المعتقد مثلا أن أكل لحوم البشر مفيد. ولكن الشجاعة الحربية كانت تعتبر امتيازاً للطبقة الحاكمة، فكان الإسربطيون يجب عليهم أن ينالوا حظا من الشجاعة أوفر من الرقيق، والضباط البريطانيون أكثر من العسكر الهنود، والرجال أكثر من النساء، وهكذا دواليك. وكان من المفروض منذ قرون أن يكون ذلك امتيازاً للأرستقراطية، وكل زيادة في الشجاعة لدى الطبقة الحاكمة كانت تستعمل في زيادة الأوقار على المظلومين، ومن ثم تزداد بواعث(940/23)
الخوف عند المستبدين، ولذلك يتركون أسباب الخوف ولا يقللونها. والشجاعة يجب أن تمقرط قبل أن تجعل الناس إنسانيين.
وقد تمقرطت الشجاعة إلى مدى بعيد بالحوادث الراهنة، فإن النسوة المطالبات بحقوق الانتخاب أبدين أن لديهن من الشجاعة ما عند أشجع الرجال، وهذا البرهان الواضح كان ضروريا لكسبهن حق التصويت. ويحتاج الجندي العادي في الحرب إلى مثل شجاعة الكابتن أو الضابط وأكثر من الجنرال والبلاشفة الذين يدعون أنفسهم أبطال (البروليتاريا) لا تنقصهم الشجاعة مهما قبل عنهم، وقد ثبت هذا باستشهادهم في حقبة ما قبل الثورة وفي اليابان حيث كان سابقاً محتكرين الأعمال الحربية دعا التجنيد الإجباري إلى الحاجة إلى الشجاعة بين الذكور من السكان وهكذا من بين كل (القوى العظمى) قد بذل الكثير في نصف القرن السالف لجعل الشجاعة أقل من ذلك وقفا على الأرستقراطيين: ولو لم تكن هذه الحالة، فإن الخطر على الديمقراطية أعظم مما هو كائن.
ولكن الشجاعة في الحرب ليست الصورة الوحيدة، بل لعلها ليست أهم الصور، فهناك الشجاعة في مواجهة الفقر، والشجاعة في مواجهة الاستهزاء، والشجاعة في مواجهة عشيرة المرء له، وفي كل ذلك غالباً ما يكون أشجع الجنود عاجزاً إلى حد محزن وهناك فوق كل ذلك شجاعة التفكير بهدوء وعقل في مواجهة الخطر، وفي كبح جماح نزوات الخوف العنيف والغضب الشديد وهذه بالتأكيد أشياء تساعد التربية على نيلها وتعليم كل صور الشجاعة يتم بسهولة بالصحة الجيدة والبنية القوية والغذاء الكافي وإخلاء الطريق للدوافع الحيوية الأساسية، وربما اكتشفت المصادر الفسيولوجية للشجاعة بمقارنة دم قطة بدم أرنب. وليس هناك من حد قد يستطيع العلم أن يفعله في زيادة الشجاعة فمثلا التدريب على الخطر، والعيشة، والبيئة الرياضية، والطعام الملائم: كل هذه أشياء يتمتع بها أبناء الطبقة الدنيا عندا إلى مدى بعيد، ولكن ما زالت إلى الآن من امتياز الأغنياء. والشجاعة التي تشجع كثيرا بين الطبقات الفقيرة من المجتمع، هي شجاعة تحت الأوامر، وليست من النوع الذي يشمل الابتكار والقيادة، وحينما تصبح الصفات التي تؤهل لقيادة عامة، فلن يكن يكون هناك قادة ومقودون، وستتحقق الديمقراطية أخيرا.
ولكن ليس الخوف هو المصدر الوحيد للحقد. فالحسد واليأس لهما دخل في ذلك؛ فالأمثال(940/24)
مستفيضة بذكر العرج والحدب من مصادر عاهات ومصائب أكثر من مصائبهما تنتج نتائج مشابهة، فالرجل أو المرأة الذي عجز جنسيا يصلح لأن يفعم بالحسد، ويظهر هذا بصورة اللعن على من هم أكثر حظاً منها. وأكثر القوى الدافعة إلى الحركات الثورية ترجع إلى حسد الفقراء للأغنياء والغيرة بالطبع شكل خاص من الحسد، (حسد الحب) وغالبا ما يحسد الشيوخ الشباب، وهو حين يفعلون ذلك يميلون إلى معاملتهم بقسوة.
وليس هناك من طريق للتغلب على الحسد كما أعلم، إلا بأن نجعل حياة الحاسدين أسعد وأحفل، وأن نشجع في الشباب فكرة المشروعات الجماعية أكثر من المنافسة وأسوأ أشكال الحسد ما عند الذين لم تكن حياتهم كاملة في سبيل الزواج أو افال أو العمل. ومثل هذه المصائب يستطاع تفاديها في أغلب الحالات بإنشاء منشآت اجتماعية أحسن من القائمة ومع ذلك فأن من المحتمل أن يمكث شيء من بقايا الجسد، ويروي لنا التاريخ أمثلة عدة عن قواد كان كل واحد منهم يغار من الآخر، حتى أنهما كانا يفضلان الهزيمة للإزراء بشهرة الآخر، وعن سياسيين من حزب واحد أو فتانين من مدرسة واحدة، كان يغار أحدهما من الآخر. وفي مثل هذه الحالات يبدو أن ليس هناك من شيء يعمل إلا أن نجعل - على قدر الإمكان - كل منافس غير قادر على ضر الآخر، وأن نعمله أنه يستطيع أن ينتصر بكفاءته الفائقة فقط. وغيره الفنان من منافسه قليلة الضرر، لأن السبيل الوحيد الفعال، لإرضاء رغبته هو أن يرسم صوراً أحسن من صور منافسة، لأنه ليس من المصرح له أن يحطم صور منافسه. وحيثما يكون الحسد أمرا لا يتفادى، يجب أن يتخذ كمحرض لمجهودات المرء الخاصة، لا لتعطيل مجهودات المنافسين.
وقد رأت العلم في سبيل زيادة السعادة ليست مقصورة على إنقاص هذه الجوانب من الطبيعة البشرية التي تدأب على تحقيق الهزيمة المتبادلة، والتي نسميها لذل، الشر، ومن المحتمل أن لا يكون هناك حدود لما يستطيع العلم أن يعمله ي سبيل زيادة الخير الإيجابي، فقد تحسنت الصحة كثيراً بالرغم من عويل هؤلاء الذين يقدسون الماضي، نعمر أكثر، ولدينا أمراض أقل من أي طبقة أو أمة في القرن الثامن عشر، وسنكون قريباً أصح ما نحن عليه الآن باستخدام المعرفة التي حصلنا عليها، ومن المحتمل أن تجعل اكتشافات المستقبل هذه العملية على أوسع نطاق.(940/25)
وللعلم الطبيعي أشد الأثر إلى حد بعيد في حياتنا، ولكن من المحتمل أن يكون في المستقبل للفسيولوجيا وعلم النفس الأثر الأكبر حينما نكشف الغطاء عن كيفية اعتماد الشخصية على الشروط الفسيولوجية، سنكون قادرين، إذا شئنا، على أن ننتج كثيراً من أنماط الكائنات البشرية التي نستجيدها. والذكاء والقدرة الفنية وحب الخير - كل ذلك يزداد بلا شك بالعلم. ونادرا ما يبدو هنا أية حدود لما سوف يأتي به استعمل الناس للعلم بحكمة في سبيل إحداث عالم سعيد وقد عبرت عن مخاوفي في مكان آخر، من أن الناس قد لا يستعملون القوة التي استخرجوها من العلم استعمالا حكيما وأنا مهتم في الحالة الراهنة بالخير الذي يستطيع الناس عمله إذا اختاروا، وليس بالسؤال: هل سيختارون ما يسيء إليهم أكثر مما ينفعهم؟
وهناك بعض مواقف بصدد استعمال العلم في الحياة الإنسانية أعطف عليها، على رغم أني لا أتفق معها في التحليل الأخير. ومن هذا موقف الذين يخشون (ما ليس بطبيعي) ولقد كان الرائد العظيم لوجهة النظر هذه في أوربا هو (روسو) وفي آسيا الحكيم الصيني (لاوتز) الذي قال بذلك منذ 2400 سنة وكان أشد إقناعا، وإني لأحسب أن هناك خلطا بين الحق والاطل في مسألة الإعجاب بالطبيعة الذي هو أمر جوهري في حل الإشكال ولكي تبدأ في حل هذا الإشكال نتساءل: ما هو الشيء الطبيعي؟ وهو - بدون لف أو دوران - كل ما كان المتكلم متعودا عليه منذ الطفولة، فلاوتز كان يعارض وجود الطرق والعربات، والقوارب ربما لم تكن معروفة في القرية التي نشأ فيها، ولكن روسو كان معتادا على هذه الأشياء، فلم ينظر إليها على أنها شيء ضد الطبيعة، ولكنه كان يرغي ويزيد ضد السكك الحديدة لو أنه عاش حتى يراها، ونحن نعلم أن الملابس والطبخ موجودان منذ القدم، بحيث لا نستطيع أن نقول إنهما أبلغا إلى الناس عن طريق أنبياء الطبيعة، ومع ذلك فهم يعترضون على الطراز الجديدة في كليهما، وأيضا يظن الذين يسمحون بالعزوبة أن تحديد النسل شر؛ لأن الأول (تحديد النسل) انتهاك جديد لحرمة الطبيعة، والثاني (العزوبة) شيء قديم. ومن كل ذلك نرى أن هؤلاء الذين يحبذون فكرة الرجوع إلى كل ما هو طبيعي متناقضون والإنسان مدفوع إلى اعتبارهم محافظين.
ومع ذلك فهناك شيء يقال في صالحهم، مثال ذلك وجود الفيتامينات التي أحدثت اكتشافها انقلابا في خدمة الأطعمة الطبيعة، ولكن يبدو (ذلك واقع الآن) أنه يستطاع استخلاص(940/26)
الفيتامينات من زيت كبد الحوت والأشعة الكهربائية، ومن المؤكد أن هذين ليسا من طعام الإنسان الطبيعي وهذه الحالة تصور ما قد يحدث من ضرر غير متوقع حين فقدان المعرفة لانتقال جديد في الطبيعة. ولكن حينما يفهم الضرر فهو يعالج عادة ببعض أشياء صناعية جديدة، وأنا أجيب فيما يختص بيئتنا الطبيعية ووسائلنا الطبيعية لإرضاء رغباتنا: أن عقيدة (الرجوع إلى الطبيعة) تبرز أي شيء بعد اتخاذ الاحتياطات التجريبية، حين اختيار شيء ملائم. مثلا: الملابس - على العكس من الطبيعة - تحتاج إلى أن يضاف إليها عمل آخر غير طبيعي؛ أعني الغسيل، وذلك إذا أريد منها ألا تأتي بالمرض؛ والعملان مما يجعلان الإنسان أصح من الحيوان الذي يجتنبها.
وهناك كلام أكثر من ذلك يقال بصدد (الطبيعة) في ناحية الرغبات البشرية، وأنه لشيء قاس وخطر أن ترغم الرجل أو المرأة أو الطفل على حياة تتنافى مع أقوى دوافعهم، وبهذا المعنى تمدح الحياة المطابقة لمقتضى (الطبيعة) وليس هناك من شيء أعظم من إنشاء سكة حديد كهربائية تحت الأرض ولكن، على أن لا يؤخذ أي طفل قسرا ليسافر في إحداهما، وعلى العكس يجد معظم الأطفال في هذا الفعل شيئاً من السرور. والأشياء الصناعية وما يماثلها من الأعمال التي تشبع رغبات الكائن البشري العادي، تعد خيرا ولكن لا يقال مثل ذلك عن وسائل الحياة الصناعية التي تفرضها السلطة أو الحاجة الاقتصادية، فمثل وسائل الحياة هذه هي من دون شك ضرورية إلى مدى بعيد في الوقت الحاضر: فالسفر عبر المحيطات يصبح شاقاً جداً إذا لم يكن هناك وقادون يتعبون في السفن البخارية، ولكن الضرورات من هذا النوع، هي مما يؤسف له، وعلينا أن نبحث عن طريق لتجنبها.
وفي الحقيقة ليس قدر معين من العمل بالشيء الذي يتألم منه، ففي تسع حالات من كل عشرة يحمل هذا الإنسان أسعد من الكسل التام، ولكن مقدار ونوع العمل الذي على معظم الناس أن يعملوه في الوقت الحاضر، هو الشر المستطير، وخاصة ما أيأس تلك الحياة الطويلة التي تجعل من الإنسان عبدا لنظام مطرد. والحياة لا ينبغي أن تكون بمثل هذا النظام الرتيب، أو هذه المنهج الدقيق، بل ينبغي أن نفسح المجال لدوافعنا، حينما لا تكون هذه الدوافع مهلكة وضارة بالآخرين. ومن الواجب احترام الطبيعة البشرية لأن دوافعنا ورغباتنا هي المجموع الذي تتألف منه سعادتنا، وليس بشيء ذي بال، أن تمنح الناس شيئاً(940/27)
مجرداً يدعى (الخير) بل علينا أن تمنحهم شيئا يرغبون فيه ويحتاجون إليه، إذا كنا نريد أن نزيد من سعادتهم وقد يصل العلم في بعض الأوقات إلى أن يشكل رغباتنا حتى لا تتصارع مع رغبات الآخرين كما تتصارع الآن، وعندئذ سنكون قادرين على إرضاء قسم أعظم رغباتنا أكثر مما هو حادث في الوقت الحاضر، وبذلك المعنى، وبذلك المعنى فقط، ستصبح رغباتنا حينئذ (أحسن) والرغبة وحدها ليست خيرا أو شرا من رغبى أخرى حينما نعتبرها وحدها، ولكن مجموعة من الرغبات خير من مجموعة أخرى إذا كانت كل مجموعة الأولى يستطاع إشباعها كلها في آن واحد، بينما المجموعة الثانية، بعضها يتناقض مع البعض الآخر، وهذا هو السبب في أن الحب خير من الكراهية.
أن توقير العالم الطبيعي، لا معنى له، لأنه يجب أن يدرس بقصد جعله له خادماً للغايات الإنسانية بقدر المستطاع، ولكنه يبقى من الوجهة الأخلاقية، ليس خير أو شرا. وحيثما يتفاعل العالم الطبيعي والطبيعة البشرية كما في مسألة السكان فليس هناك من حاجة لأن نبسط أيدينا ساجدين، ونتقبل الحرب والوباء والمجاعة على أنها الوسائل الممكنة فقط لإنقاص الزيادة المفرطة في السكان، والإلهيين يقولون إن من الشر أن نطبق في هذا المجال العلم على الجانب الطبيعي من المشكلة؛ بل يجب علينا (هكذا يقولون) أن نطبق الأخلاق على الجانب الإنساني، ونسير بشيء من الزهد وهم في ذلك يعبدون عن حقيقة أن كل فرد - بما في ذلك الإلهيين أنفسهم - يعلم أن نصائحهم لن تتقبل، فلماذا يكون من الشر أن نحل مشكلة السكان الوسائل الطبيعية لمنع الحمل؟ وليس هناك أية إجابة يحتمل ظهورها. وما عدا واحدة مبنية على عقائد عتيقة، فمن الواضح أن دفاع الإلهيين عن القسوة على الطبيعة ومخالفتها، هو على الأقل عظيم مثل الدفاع عن الرأي القائل بتحديد النسل ويفضل الإلهيين القسوة على الطبيعة البشرية ومخالفاتها، وهذا الأمر - حينما يأخذ مجاله من التطبيق - يشمل الشقاء والحسد والميل إلى الاضطهاد، وغالبا الجنون. أما أنا فأفضل (القسوة) على الطبيعة البشرية، ولكنها قسوة من نوع آخر، تشبه تلك القسوة العمل في آلة بخارية، وهذا المثل يبين إلى أي حد كيف أن العمل بالمبدأ القائل: إننا يجب أن نتبع الطبيعة غامض ومهوش.
إن العالم الطبيعي، وحتى الطبيعة البشرية، سيتوقف أكثر فأكثر، على كونه حقيقة مطلقة،(940/28)
وأكثر فأكثر سيصبح على نحو ما تشكله المهارة العلمية، والعلم إذا شاء أن يساعد أحفادنا على أن يعيشوا الحياة السعيدة بمنحهم المعرفة وضبط النفس والصفات المؤدية إلى الانسجام أكثر من الشحناء أما في الوقت الحاضر، فهو يعلم أطفالنا قتل بعضهم بعضا، لأن كثيرا من رجال يريدون أن يضحوا بمستقبل الجنس البشري من اجل سعادتهم الوقتية، ولكن هذا الأمر سيزول حينما يحرز الناس على انفعالاتهم نفس السيطرة التي أحرزوها على قوى العالم الخارجي الطبيعية. وأخيرا سنكون قد كسبنا حريتنا.
(تم الكتاب)
عبد الجليل السيد حسن(940/29)
مخطوطات نادرة
وجيز الكلام في ذيل دول الإسلام للسخاوي
للأستاذ حمد الجاسر
عني الشيخ شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي المولود في القاهرة سنة 831 والمتوفى في المدينة سنة 902 من الهجرة - بالتاريخ عناية برز أثرها فيما كتبه من المؤلفات العظيمة التي أشار إلى بعضها في ترجمته لنفسه في كتابه (الضوء اللامع) وسلم لنا منها من عبث الزمان وعبثه خير كثير، مثل: -
1 - الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع في ستة مجلدات ضخام - وقد طبع بمطبعة السعادة في مصر سنة 1353 - 1355، حذا فيه حذو شيخه الحافظ أبن حجر في كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) وسار على منواله آخرون، أتوا بعده.
2 - التبر المسبوك - ذيل به كتاب (السلوك) للمقريزي من سنة 805 إلى ما بعد سنة 899 - بقليل - ألفه كما قال (إجابة لعظيم وقته الدوادار الكبير في الأيام الأشرفية قايتباي يشبك بن مهدي الظاهري) وقال: إنه يقع في أربعة أسفار - ولعل الجزء المطبوع بهذا الاسم في مطبعة بولاق سنة 1896 قسم من هذا الكتاب.
3 - الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ - وهو كتاب في التعريف وبأشهر المؤرخين ومؤلفاتهم وهو مطبوع.
4 - الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام أبن حجر - لا يزال مخطوطا.
5 - القول المنبى في ترجمة أبن عربي - وهو مخطوط أيضاً - وفي هذا الكتاب أورد السخاوي أقوال العلماء المحققين في شطحات أبن عربي وزلاته.
6 - وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام - عنه مؤلفه في (الضوء) - إنه نافع جداً، وقال صاحب كشف الظنون (ص762 الطبعة التركية الحديثة) في أثناء الكلام على (دول الإسلام) -: ثم ذيله السخاوي من سنة 741 إلى مختصرا كأصله، وسماه الذيل التام بدول الإسلام - ثم أعاد صاحب الكشف اسم الكتاب مرة أخرى في حرف الذال. وسماه جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربي (ج3 ص169) وجيز الكلام في ذيل تاريخ دول الإسلام وقال إنه من سنة 745 إلى سنة 898 ومنه نسخ في برلين وفينا وأكسفورد(940/30)
والمتحف البريطاني وكوبرلي.
وقد اطلعت على جزء من هذا الكتاب لدى أحد علماء نجد في الرياض) فرأيت خير تحية أقدمها لحضرات الأساتذة الإجلاء موظفي (القسم الأدبي في دار الكتب المصرية) وصف هذا الجزء - فقط لا يعدمون منه عونا في تصحيح الأجزاء الباقية من كتاب (النجوم الزاهرة)، وقد يجدون فيه مرجعا نافعا في تاريخ مصر - بل البلاد العربية في ذلك العهد.
يؤرخ هذا الجزء - وهو الأول من الكتاب - الزمن الواقع بين سنتي 748 و 890 - أي ثلاثا وأربعين ومائة سنة - من منتصف القرن الثامن إلى نهاية العقد التاسع من القرن التاسع - فيذكر الحوادث ثم يتبعها بوفيات الأعيان من علماء وملوك وأمراء ومشاهير، وهو يوجز في ذلك أحيانا ويفصل حينا - فسنة حوادثها ووفياتها لا تجاوز ثلاث صفحات، وأخرى تستغرق ورقات.
مثال من إيجازه (سنة تسع وعشرين وثماني مائة في رجب برز العسكر المصري وغيره في الحراقة وقبرس (كذا) حين طرق الخبر أن صاحبها استنصر بملوك الإفرنج على المسلمين، لما جرى على بلاده، ما أشير إليه في التي قبلها. وأنهم أمدوه ليأخذ إسكندرية - زعم - تأسيا بوالده، حين طرقها في المحرم سنة سبع وستين أيام الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون - سبق - فكان التقاء الفريقين في رمضان، فخذل حزب اللعين وأمسك صاحب قبرس فقيد، وقتل من عسكرة في يوم واحد ستة آلاف فيما قيل - منهم أخوه وكذا قيد أبنه وأبن أخي صاحب الكيتلان وأخذت الأفقنسية كرسي المملكة وأقيمت الجمعة بقصره الذي وجد من الأمتعة ما لا يحصى، وأذن على صوامع الكنائس، وعادوا بعد أن قتلوا وحازوا من الغنائم القلعة في يوم الاثنين، ثامن شوال، فكان أمرا مهولا لم يعهد في هذه الأزمان مثله وخرج حتى البكر من خدرها؛ وحضر ذلك أمير مكة ورسل كل من أبن عثمان وملك تونس وأمير التركمان وأبن نعير وكثير من قصاد الشام، قرر عليه من المال بسبب افتدائه ما يفوق الوصف، مما يقوم بنصفه الآن، وبالباقي إذا رجع، سوى ما التزم به في كل سنة من المال، والصوف الملون، وأن يطلق من بقي عندهم من أسرى المسلمين وقال لما دخل إسكندرية ورأى كثرة من بها من الجند: والله إن كل من في بلاد الإفرنج لا يقاوم هؤلاء وحدهم، وفرح المسلمون بنصر الله تعالى، وطار خبر هذه(940/31)
الغزوة إلى الآفاق، وعظم بها قدر سلطان مصر، وقال الشعراء الشعر في ذلك فأكثروا، بل قيل إن الملك بلسانه قبل خلاصه مما عرب: -
يا ملكا ملك الورى بحسامه ... أنظر إلى برحمة وتعطف
وأرحم عزيزا ذل وأمتن بالذي ... أعطاك هذا الملك والنصر الوفي
إن لم تؤمني وترحم غربتي ... فيمن ألوذ ومن سواكم لي بقي
ومات في جمادى الآخرة عن دون الثمانين بدمشق العلامة الزاهد الورع الرباني التقى أبو بكر محمد عبد المؤمن الحصني ثم الدمشقي الشافعي شارح والمنهاج والغابة وأربعين النووي والأسماء الحسنى وصحيح مسلم وغير ذلك؛ كتلخيص المبهمات وقمع النفوس مع القيام بالأمر بالمعروف والنهي ن المنكر، وانجماعه التام، وتقشفه، وعدم محاباته، وانحرافه عن التقي أبنتيمية، ومبالغته في الحط عليه بحيث بسبب ذلك فتن كثيرة مما كان الوقت في غنية عنه. وفي ذي الحجة وقد زاد على الستين ببيت المقدس قاضي الشافعية بالديار المصرية وصاحب تلك الحوادث التي لا تخلوا من التعصب عليه، الشمس محمد بن عطاء الله الرازي الهروي ممن ولى صلاحية المقدس في أول أمره وآخره، والفضاء بينهما مرة بعد أخرى، وكتابة السر. وحدث ودرس وأفتى، وصنف شرح مسلم وغيره، وكان إماما عالماً غواصا على المعاني، حافظاً لكثير من المتون والتواريخ، رئيسا مهابا، ضخما، حسن الشكالة، لين الجانب، أثنى عليه غير واحد على ما فيه من طبع الأعاجم وقوادح وبني بالمقدس مدرسة وفي ذي الحجة بالقرب من المدينة النبوية وهو راجع من الحج والزيارة العلاء أبو الحسن على بن عبد اله بن محمد الدمشقي الشافعي أبن سلام بالتشديد وقد زاد على السبعين وحمل إلى المدينة فدفن بالبقيع وكان حافظاً لكثير (الرافعي) مع إشكالات عليه، وأسئلة حسنة، بحاثاً يقرئ الفقه وأصوله حسنا، مع يد في الأدب، ونظم ونثر واقتصاد في ملبسه وغيره، وحسن محاضرة، وشرف نفس، ولكنه يتكلم في كبار ويرمي بالمناضلة عن أبن عربي. وقد درس في الظاهرية البرانية والعذرانية وغيرها. وفي ربيع الآخر العلامة شيخ الشيخوخة. وأوجد الحنفية السراج عمر بن علي بن فارس القاهري ويعرف الهداية، تصدى للإقراء والإفتاء، وكثرت تلامذته، وصار الممول عليه، مع الاقتصار في أموره كلها، وإعراضه عن بني الدنيا، وعظمته في الأنفس ومحاسنه غزيرة(940/32)
وفي جمادى الآخرة عن نحو التسعين قاض المالكية بالديار المصرية الجمال أبو المحاسن يوسف بن خالد بن نعيم الطائي البساطي، مصروفا، وكان فيما قاله، وكان فيما قاله العيني: عارفاً بصنعة القضاء غير مشكور فيه، ولا متقدم في مذهبه وغيره. وفي المحرم فجأة الشيخ خليفة الغربي ثم الأزهري، وفي جمادى الآخرة الشريف أمير مكة حسن بن عجلان بن رميثة الحسنى. وفي رمضان الأتابك قجق الشعباني الظاهري، ونزل السلطان فصلى عليه، وكان متواضعا حليما لينا، خائفا على دينه، قاله العيني. واستقر بعده يشبك الساقي الأعرج. وعلبياي بن خليل أبن الغادر قتلا على يد نائب حلب جار قطلو).
ومثال آخر لتفصيله في التراجم - قال في الكلام على حوادث سنة 1748 - في سياق وفياتها (والكمال أبو الفضل جعفر بن تغلب الأدفوي الشافعي مصنف الإقناع في أحكام السماع والطالع السعيد في تاريخ الصعيد والبدر السافر في تحفة المسافر وجملة والماهر في فنون، مع فقه ونظم ونثر - في صفر بالقاهر عن نيف وستين سنة بعد رجوعه من الحج. اثني عليه الأسنوي وغيره وهو القائل:
إن الدروس بمصرنا في عصرنا ... طبعت على لغط وفرط عياط
ومباحث لا تنتهي لنهاية ... جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط
ومدرس يبدي مباحث كلها ... نشأت عن التخطيط والأخلاط
ومحدث قد صار غاية علمه ... أجزاء ترويها عن الدمياطي
وفلانة تروي حديثا عاليا ... وفلان يروي ذاك عن أسباط
والعرق بين عزيزهم وعزيزهم ... وافصح عن الخياط والحناط
والفاضل التحرير فيهم دأبه ... قول أرطاليس أو بقراط
وعلوم دين الله عادت جهرة ... هذا زمان فيه طي بساطي
ولى زماني وانقضت أوقاته ... وذهابه من جملة الأشراط
ودفن بمقبرة الصوفية)
وقد يستعمل المؤلف السجع في بعض الأحيان كقوله في حوادث سنة 821 - لؤلؤ الطواشي، كاشف الوجه القبلي - وكان من الحمقى المغفلين، والظلمة الفاتكين، في صورة الناسكين.) وقوله في حوادث سنة 871 وفي جمادى الأولى على بن رمضان، الأسملى،(940/33)
أبوه القاهري مكاس جدة - ممن ظلم وعسف، وفسق فما كف. وله دار بحارة برجوان كانت مجمعا لمحنه، وأخذ مسجدا كان بجانبها فأذهب هيئته وعمله مدرسة).
والمؤلف ينقل عن أبن كثير والمقريزي وأبن حجر وأبن دقمقاق والعيني وغيره - ولكن نقله عن هؤلاء وتعويله عليهم لا يعفيهم من النقد والتجريح - وقد يتجامل على بعضهم تحاملاً ظاهراً فلا تمر به مناسبة إلا ابتدرها، ولا هفوة إلا ذكرها، كما فعل مع برهان الدين إبراهيم البقاعي المتوفى سنة (885هـ) ويكتفي بالغمز الخفي وبالتلميح بعبارة مجملة إن لم يجد موقعا مناسبا - فصارم الدين إبراهيم بن محمج بن دقماق الذي استفاد من كتابه (الجوهر الثمين في الخفاء والملوك والسلاطين) كما صرح بذلك في الكلام على سنة (805) التي انتهى الكتاب بانتهائها، لا يجد المؤلف غضاضة في أن يصفه لما تكلم على وفاته سنة (809) بأنه مؤرخ الديار المصرية ولكنه يتبع ذلك بقوله (وعليه معول كثيرين في التاريخ مع كونه عامي العبارة). وتقي الذين المفرزي الذي لم يكتشف بنقل كثير من عباراته بدون إشارة إلى ذلك - بل عمد إلى تذييل كتبه وتكميلها يقول عنه (وصنف فيه - يعني التاريخ - وطار اسمه به مع تميزه في غيره) وهذه العبارة المبهمة المجملة يوضحها ما ذكره السخارى في ترجمة المقريزي في (الضوء) من أن عثر على مسودات لكتابه (الخطط) لأحد العلماء المتقدمين - وهو قول يرده ما عرف من تحامل السخاوي على مؤرخي صره. والتحاسد بين المتعاصرين المشتركين في عمل أمر معروف. ويقول السخاوي حينما ساق ترجمة أبن تغري بردى سنة 874 (المؤرخ الفريد في أبناء جنسه. وما عسى أن يصل إليه تركي مما مشتملا عليه يستكثر من مثله) أما موقفه مع السيوطي فما لا يحتاج إلى بيان. حتى شيخه الحافظ أبن حجر المتوفى سنة (852) والذي أفرد ترجمته بمؤلف خاص - ولغ في الثناء عليه مبالغة جاوزت الحد، حدثني الأستاذ الشيخ سليمان بن حمدان نجد أن السخاوى هذا ألف في حقه كتابا سماه (العجر والبجر من أحوال أبن ججر).
أوصاف النسخة:
يقع هذا الجزء في 592 صفحة - مقياس الصفحة 16 في 12 سنتيمترا - والمكتوب فيه منها 12 في 9 سنتيمترا - تحتوي كل صفحة على 19 سطرا - تتراوح كلمات السطور(940/34)
بين كلمات السطور بين 12 و 15 كلمة، ونوع الكتابة الخط الفارسي الدقيق المهمل من الإعجام والشكل والخالي من كتابة الهمزات - إلا نادرا ومداد الكتابة أسود سوى أسماء السنين فبالمداد الأحمر - ولا ذكر للكاتب ولا لتاريخ الكتابة ولا يبعد أن تكون هذه النسخة من مخطوطات القرن العاشر الهجري، ويؤيد هذا ما جاء النسخة من مخطوطات القرن العاشر الهجري، ويؤيد هذا ما جاء في آخرها بخط مغاير لخط الأصل مما نصبه (آخر الجزء الأول من وجيز الكلام في الذيل لدول الإسلام للذهبي - لشيخنا العلامة الحجة خاتمة الحفاظ والمتقدمين (كذا) أبي الخير محمد بن. . عبد الرحمن بن محمد بن محمد أبي السخاوي القاهري. . .) ومكان النقط كلمات غير واضحة - وكلمة شيخنا تدل على أن كاتب هذا من تلاميذ السخاوي - وكتابة النسخة أقدم من هذه الكتابة.
وقد سقط من أول هذا الجزء كراسة - في عشر ورقات - لأن كراسات جميع النسخة مرقمة من (1) إلى (31) وكل كراسة عشر ورقات سوى الكراسة الأخيرة فورقهاست. وقد يسهو الكاتب فينقص ورق بعض الكراسات ولكنه يستدرك ذلك في الكراسة التي بعدها - فيجعلها زائدة بمقدار ما نقص من التي قبلها كما في الكراستين (15 - 16).
ويبتدئ الكتاب من جملة (استكثر على دمشق فليولني أي البلاد شاء ولا أدخل مصر. ثم خرج من الغد ومعه أهله وعياله ودوابه وحواصله إلى خارج البلد عند قبته المعروفة به) ثم بعد هذا كلام يقع في ثلاث صفحات عن قتل (يلبغا) في آخر جمادى الأولى سنة 748 وعن إقامة حسن بن الناصر محمد بن قلاون سلطانا في يوم الثلاثاء رابع عشر رمضان، ثم بعده سياق خبر وفيات (الذهبي) وأبن منصور المقدسي والأدفوني وغيرهم، ثم في آخر الصفحة الأولى من الورقة الثالثة (سنة تسع وأربعين. استلت والسلطان الناصر حسن بن الناصر محمد قلاوون (كذا) ونائبه بعصر بيبغاروس (بدون نقط) الناصري).
ثم يسترسل المؤلف في سرد حوادث السنين إلى نهاية سنة 890 - على طريقة المقريزي في (السلوك) بإيجاز.
ومن أمثلة الإشارات اللطيفة الطريفة التي أوردها قوله في حوادث سنة 880 (ي شعبان اجتهد الداردار الكبير في تحصيل كتب المؤيدية حين بلغه جحد بعضهم استعارة تفسير الفخر الرازي في مجلد وإرساله لأبن عثمان، ورسم على الخازن وصهره حتى استرجع(940/35)
غالبها وعجز عن التفسير بعد إهانة أبن الشحنة الصغير بسببه. وفي رمضان احتال جماعة من تجار كيتلان الإفرنج في أسر جماعة من أعيان التجار المسلمين من ساحل الثغر السكندري ثم باعوهم لبعض الروادسة إلى أن افتكوا من أيديهم بعد أخذ القدر المتفق عليه في شعبان سنة اثنتين وثمانين).
هذا وصف مجمل لهذا الجزء. وجاء أن يتبعه أحد قراء هذه الصحيفة بوصف أتم وأكمل للكتاب كله.
الرياض
حمد الجاسر(940/36)
قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الرابع
أقوال وأحاديث
بعد تولية السلطان الغوري ببضع سنوات، جلس الشيخ (ولي الدين القوصي) الفقيه، في إحدى مسائيات شهر رمضان تجاه مسجد الغوري، الذي أنشأ حديثا في حي الشرابشيين، في حانوت صديق له يمتهن حرفة الحياكة، ويتعاطى صناعة الأدب. . ويدعى (علم الدين الخياط).
خرج (علم الدين) من غمار عاميته بعض الخروج، وأصبح ربع مثقف. ولقد كان رجلا سمح الوجه، رطب الحديث، حسن اللقاء، يحب الأدباء من مجالسهم، ومن أفواههم، خليطا من النكات البارعة، والمحاضرات اللطيفة، والقولات النافعة. ودس نفسه في مجالاتهم، وعانوه عمله على أن يكون له من بينهم عدة من الأصدقاء.
أقبل الناس على (علم الدين) وكثرت زبائنه، فاتسع حانوته وازدان وتجمل. واستطاع أن يحتجز ركنا من أركان هذا الحانوت، ليكون مكانا مطمئنا، وملتقى هادئا، يتداعى إليه أصدقائه.
وكان أجمل ما يكون اللقاء بينهم في تلك الليالي الرمضانية الجميلة التي يحلو فيها السفر والسمر والحديث.
ولقد أعد (علم الدين) بهذا الركن عدة من مصاطب واطئة كساها بالحصير الملون. وربما تجد ببعض جوانبها وسائد وحشيات تلطف الجلسة وتهون أمرها وتسهل إطالتها، بل ربما تغري بها وتدعوا الأصدقاء إليها.
وأنتشر في نواحي الحانوت، القناديل الزيتية النظيفة الوضيئة فأضفت عليه ثوبا جذابا من النور.
وكان (ولي الدين) الفقيه، ممن يفد إلى (علم الدين) ويتردد عليه من آن لآن، ومجالسه في(940/37)
حانوته ويقيم معه في ركنه المعد لضيفانه، زمنا ليس بالقليل بل ربما كان (ولي الدين) من خاصة خلصانه الذين أدمنوا القبوع في ركن حانوته الوثير وفي الليلة المذكورة وفدا إليهن وفاء لموعد اتفقا عليه، ليجتمع إلى سمرها طائفة من الأصدقاء، يطالع بعضهم بعضا بالجديد من أخباره واللذيذ الممتع من قصصه، والخفي من مذخرات علمه.
وكان علم الدين، وولي الدين، من يجلس إليهما، قد اعتادوا أن يتناولوا في مجالسهم أخلاطا من مسائل شتى قد لا تجمعها جامعة، إلا مناسبات استطرادية تافهة، وهي ما بين روايات أدبية، وطرف فكاهية، وأحاديث سياسية، ونقدات اجتماعية، ومساءلات فقهية، وعظات تاريخية، ونحو ذلك.
وقد يحمي بينهم وطيس الجدل والنقاش. وقد يسفل بهم الحديث وخفه ولجاجة، إلى مجانة ممجوجة، ودعابة مكشوفة، وقد يرتفع بهم الحديث، فيسمون إلى أعلى المقامات. . فينقدون النقد المر اللاذع حقاً كان أم باطلاً. . . صواباً كان أم خطأ. . . حتى إذا ما انفض سامرهم، وانقضى مجلسهم، انفض كل شيء من حديثهم فيه، وانقضى. ولم يبق في ذهنهم ولا لسانهم من أثره شيء وإن علقت أشياء منه بنفوسهم ولونت عواطفهم.
غير أن خطر هذا الحدث - إن كان ثمة خطر - لا يتعدى دائرة هذا الحانوت. . . وما كان لخطره أن يتعداها. . . لأن هؤلاء المتحدثين أشباه مثقفين، ثم لبس لهم صلة وثيقة بالعامة تجمعه معها على رأي: وليسوا بواجدين من يصيخ لهم إذا أهابوا، أو إذا دعوا. ثم إن العامة غافلة لاهية، وحولها هذا النطاق الحديدي للضروري من السلطان وأمرائه ورجال دولته.
ثم ما لهؤلاء والجهاد والكفاح وهم لم يجتمعوا قط إلا لتسلية وقطع وقت فراغ؟
هبت أنسام الليل وانية لطيفة، فأيقظت من الأذهان راقدها، وأنشئت من النفوس كاسدها، وكان الجمع قد التأم شمله: وانتظم عقده، ومن بينه أديب يتعاطى الشعر يدعى (شهاب الدين) ومتعمم من مستوفى الدولة يسمى (زكي الدين)، وتاجر من جيران علم الدين، ولقبه (غرس الدين)، وآخرون على غرارهم.
قال الشيخ ولي الدين: ما أجمل هذه الأنسام، وما ألطفها، وما أرق فؤادها، وما آسى يدها، إنها لتسري إلى النفس فتبعث يها نشوة غريبة، وتهزها هزة الفرح والسرور والابتهاج،(940/38)
كأنما تعطف بها على أهل الأرض سكان الجنة.
أما الأمس فقد شقت الهاجرة علينا عصا الطاعة - على غير عادتها في مثل هذا الوقت - ولفحتنا بصفات حامية من يديها متوالية. وقد عاونتها علينا تلك الرمال السافية اليقظى التي كانت ناعسة الجفون في حضن الجبل، فحركتها الرياح من سباتها، وأقلقتها من مضجعها، وشهرتها سلاحاً تؤذي به من يعترض سبيلها. . .
فقال التاجر غرس الدين: وأين كنت يا مولانا الشيخ في ذلك الوقت القائظ؟ إن المرء حين ذلك لتجتمع عليه عدة عوامل تدفعه دفعا إلى منزله، لينال قسطا من النوم أو الراحة. فالحر الشديد، والرياح الشاردة، والرمال الهابية، وانفضاض السوق من التجار والمارة، وآلام الصوم، وما تعانيه البطون من الطوى، كل أولئك يغري المرء بالتماس الدعة والجنوح إلى السكون في عقر داره. . .
فقال الشيخ ولي الدين: حقاً! كل يغري بطلب الراحة والاستجمام: ولكن لي صديقا مريضا، احتجب عن عيني منذ أمد، فوددت أن أزوره وفاء للصداقة وطلباً للأجر. . .! وكنت أخشى أن يضيق وقت الليل عن زيارته. ولقد اضطرت مرارا أن أسير غامض العينين في الطريق حتى لا يؤذيني الغبار. ولا أكاد أفتحهما حتى تقتحمهما ذراته، فتقطر عبراتهما. . .
ثم أتدري ماذا أصابني؟ صادفت حفرة لم أحتط لها، فترديت فيها عاثرا في فضل ردائي، وأصبحت بذلك عبرة للمارة من الصبية وأشباه الصبية ألا اله الهرم وضعفه.
فقال التاجر غرس الدين: هنيئاً لك مرئياً يا مولانا. . .! (ضحك).
فرد الشيخ ولي الدين قائلا: هنأك الله يا بني، وأحسن إليك بأمثالها.
فقال الشاعر شهاب الدين: جاء في الحديث الشريف ما معناه: (إنما الأعمال بالنيات) وقال بعض الشارحين عن هناك مضافا محذوفاً، تقديره (جزاء الأعمال). . . (ضحك).
فقال الشيخ ولي الدين: صه! متى عرفت الفقه والحديث أيها الشعرور. . .؟ لا تلغ فيما لا تعرف. . ولا ترف وكيف. . حسبك أبيات هزيلة تقيم أودها، وقواف نحيلة ترمم جسدها. . ثم تدفع بها بين أسماعنا المصطكة، وتطن بها الذباب. . ألا قاتل الله حمقى زماننا من أمثالك الذي يحسبون أنفسهم في الشعراء وهو لا يحسنون قراءة الشعر وتقويم بيت من(940/39)
أبياته. . . ألم ما قاله من قبلنا مجد الدين الخياط. . لقد قال:
وفي متشاعري عصري أناس ... أقل صفات شعرهم الجنون
يظنون الفريض قيام وزن ... وقافية وما شاءت تكون. . .
فقال شهاب الدين: هكذا أنتم يا معشر الفقهاء، تتأولون. . .! الشيخ أنني قصدت أن الله عجل لك الجزاء في الدنيا،. . . لعله يدخره لك في الآخرة!
أما نحن فإننا نعرف أن بعضنا من أمثالك الشيوخ بزلقون عن عمد في الطريق تمهيداً لغاية، وسبيلاً إلى مأرب. . . وقد قال أحد الشعراء:
إذا ما الشيخ ردى في طريق ... وفاء الناس من جزع إليه
فذاك لكي يرى غرا صباحا ... تحن لفرط نجدتها عليه. . .
أما فقهكوحديثك فكما قال كمال الدين الإدفوي:
إن الدروس بمصرنا في عصرنا ... طبعت على لغط وفرط عياط
ومباحث لا تنتهي لنهاية ... جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط
ومدرس يبدي مباحث كلها ... نشأت عن التخليط والإحلاط
ومحدث قد كان غاية علمه ... أجزاء يرويها عن الدمياطي
وفلانة تروي حديثاً عاليا ... وفلان يروي ذاك عن أسباط
والفرق بين عزيزهم وغزيزهم ... وافصح عن الخياط والحناط
والفاضل التحرير فيهم دأبه ... أقوال وسطاليس أو بقراط
علوم دين الله نادت جهرة ... هذا زمان فيه طي بساطي
فقال الشيخ ولي الدين: اتق الله أيها الشويعر، ولا تظن بالناس الظنون، ونحن في رمضان. . .
فقال شهاب الدين: إذا لننتظر حتى يودع رمضان. وبعد ذلك تسن لنا الظنون. . .؟ (ضحك).
فقال الشيخ ولي الدين: لا! أعني أن رمضان فترة زمنية طاهرة مباركة، يتجمل المرء فيها بالسليم من الأخلاق والكامل من الأحاديث، ليكون صيامه من كل شابة. ولعل النفس تصفو خلاله، فيستمر لها من بعده صفاؤها. . . .(940/40)
فقال التاجر غرس الدين: لقد صمت يا مولانا أكثر من أربعين وصمت أنا أكثر من ثلاثين. فهل صنت نفسك؟ أو لا تزال في حاجة إلى تجارب أخرى جديدة. . .
فقال الشيخ: قال الله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) والصوم عبادة مشروعة وتهذيب للنفوس.
فقال المستوفي زكي الدين: يبدو أن مولانا قد أثرت فيه أنسام هذه الليلة، فانسجم في حديثه. . . أفلا تخبرني أين تصلي الفجر القادم؟ ليكون لي حظ الجماعة من خلفك. .؟ (ضحك).
فقال الشيخ: حتى أنت تورى يا زكي الدين. . .؟
لقد هزأت حتى بدا من هزالها ... كلاهما وحتى سماها كل مفلس
يا معشر القاهربين! أنتم لا تفوتكم النكتة، ولا تفلتكم التورية، ولو كانت على أنفسكم، حتى أصبحتم فيها مضرب الأمثال.
وما دمت يا زكي الدين تريد المزاح، فإن لك متسعا في مسجد الشرابشين. . . (ضحك).
فقال علم الدين: الأقل لنا يا مولانا الشيخ! ما حكم الشرع في الصلاة في هذا المسجد؟
فقال الشيخ: حكم الصلاة؟ مباحة في كافة المساجد، وفي الأماكن الطاهرة، لا حرمة فيها على المصلي، أما الجمعة وخطبتها، فقد أجاز الحنفية تعددها في المدينة الواحدة. وقد أفتى قاضي الحنفية الشيخ عبد البربن الشحنة، لمولانا السلطان الغوري بجوازهما في مسجده هذا، وأذن السلطان بها.
فقال علم الدين: أنا لا أسأل عن حكم الصلاة من هذه الناحية. وإنما قيل إن السلطان بناه بأموال جميعها ظلما وجوراً وعدوانا: فهل تصح صلاة في مسجد لم يؤسس على التقوى؟
الشيخ: أما الجور فوزره على من يجور. وأما الصلاة فليس هناك ما يبطلها في مثل هذا المسجد. فالصلاة صحيحة، وإن لزم المصلى حرمة. .
ثم إن الله تعالى بذات الصدور، وهو يزن الأعمال صالحها وطالحها، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
علم الدين: أعلمت يا مولانا الشيخ كيف بنى السلطان مسجده هذا؟
الشيخ: لقد تهاوى إلى سمعي منذ أمد ما اجترحه السلطان حين تصدى لبناء هذا المسجد وتشييده وتجميله. ولكني دائما لا أسرع إلى الظن بالناس، فإن بعض الظن إثم. . ثم إني(940/41)
أكره الغيبة والنميمة، وأعرف ان أهل مصر لا تطاق ألسنتهم. . ويل لامرئ تقع عيونهم منه على مذمة، أو تسمع آذانهم عنه منقصة، فإنهم لا يغفرون له ذنبا، ولا يسترون له عيبا. وقد يبالغون في لومه والحملة عليه بما لا يستحقه. . .
ثم إن هذا المسجد قد افتتحه السلطان ومعه قضاة القضاة. فحضورهم معه في افتتاحه والصلاة فيه فتوى ضمنية للعامة بجواز إقامتها فيه. فأن يكن هناك إثم أو حرمة، فهي لاصقة بهم. . . ولكن كيف جمع السلطان هذه الأموال ظلما وجوراً؟
فقال المستوفي زكي الدين: الحق أن السلطان قد اشتط في فرض الغرامات على المتهمين، وجاوز في ذلك حد العدالة. وأصبحت أقرب عقوبة يؤدبهم بها الغرم المالي. فامتلأت بذلك الخزائن الشريفة. . .
ربما كان له عذر عند أول عهده بالسلطنة، لأنه وجد خزائنها خاوية على عروشها، بعد أن عانت ما عانت إبان عهد الملك العادل وفتنته. . . أما الآن وقد امتلأت بالدنانير، وغصت بالأموال فلا معنى لكل هذه الغرامات والمصادرات. . .
إن مدرسته المنشأة في هذا الحي، قد أنفق على أموال المصادرات ووجوه الظلم. وبعثر على تزيينها ما فرضه من الغرامات الممتلكات وأراضي الأوقاف حتى أوقاف البيمارستان المنصوري قد فرض عليها مالاً.
ولم يقف عند هذا الحد، بل غلا في البناء، وبالغ في الزخرف، وجلب إلى مدرسة الرخام النفيس النادر وقد ابتاعه من مالكيه بأبخس الأثمان. وخرب قاعة شموال اليهودي الصيرفي، ونقل منها رخامها وأبوابها قسراً، وهكذا. . . حتى سماها بعض الظرفاء: (المسجد الحرام)! (ضحك).
فقال الشاعر: وقال فيها أيضا بعض الشعراء:
بني الأشرف الغوري للناس جامعا ... فضاع ثواب الله فيه لمطالبه
كمثل حمام جمعت في شباكها ... متى تلقى عنها طار كل لصاحبه
فقال المستوفي: أجل! ثم إنه بافتتاحها، وأقام الولائم الحافلة للأمراء، والقضاة وأعيان الدولة، فأمر الناس فأقاموا علي دورهم وحوانيتهم معالم الزينة، وعلقوا القناديل الموقودة.
وقد عقد بهذه المدرسة تلك القبة العظيمة التي غلفها بالقاشاني الأزرق، وخلع على عدد(940/42)
كبير من اشترك في بنائها من المهندسين والبنائين والنجارين والمرخمين وغيرهم من الصناع خلعا ثمينة، وأنعم عليهم بالإنعامات النفسية، وأعطى كل (فاعل) ألف درهم.
(للكلام بقية)
محمود رزق سليم(940/43)
رسالة الشعر
أول موعد. . . .
طال انتظاري يا حبيبة. . منذ الغروب
والليل قد بسط الجناح على المعالم والدروب
ما جئت أنت، ولا بدا للعين موكبك الرغيب
أما أنا. . فأنا هنا. . من قبل موعدنا الحبيب
قد حان وقت لقائنا، ومضى، ولما تقبلي
أنت التي بضياء عينيك الشهي حلفت لي
ماذا ترى ألهاك عن عدة اللقاء الأول؟
ما تفعلين إذن بحبي في الزمان المقبل؟!
واعدتني القيا، فكدت أطير من فرحي بها
وطفقت أنتهب المدى - شغفا - إلى محرابها
استلهم الأنسام عطرك عالقا بثيابها
وصبابتي في أوجها، في عنفوان شبابها
ما رف حولي في شعاب الليل طيف أو هفا
إلا أطرت وراءه بصرا وسمعا مرهفا
حتى مضى الزمن العجول، كنشوتي متلهفا؛
يستطلع الفجر الوليد. . . ولم أزل مستشرفا
ويفيض بي بأسي الممض فأنثني بمدامعي
صفر اليدين من اللقاء. . . سوى لقاء مواجعي
لا شيء في كفي سوى أشلاء حلم رائع
لا شيء غير حطامة الأمل الرضيع الجائع
هي خطوة، أو خطوتا، كلهجة المتعلثم
البيت بعدهما نداء الوهم يهتف في دمي؛
بمزارك الهاني، وعدت لموضعي المتوسم(940/44)
كيما أراك، فلا أرى حتى سراب توهمي
أفنيت أيامي التي سبقت، أهدهد لهفتي
مترقبا صبح المنى يبدو بأجمل ليلة
أزجي خطاي لكل بستان، وكل صديقة
حتى جمعت من الشذى المنصور أحلى باقة
من أبيض يحكي جبينك، أو وفاء محبتي
أو أحمر خدودك، أو جواي وحرقتي
لو كنت أدري ما انتزعت الشوك منه براحتي
لتركته رمزا لغدرك قبلي أول فرحة
واها لأزهاري التي قطفتهن لتفرحي!!
وفصلت بين عروشهن وبينهن لتمرحي
واهاً لأرهاري أصابتهن خيبة مطمحي!!
فذوين بعد نضارة، وذبلن بعد تفتح
واها لأشواقي، ولى من حرها المتوقد!!
يخبطن في قفص الضلوع كثائر متمرد
يسألني سببا إليك كأن قلبك في يدي
وكأنني. . . لا أنت. . . من نسى الوفاء بموعدي
الذنب ذنبي لا تخافي ثورة الشوق المريد
وأنا الملوم، فواعدي ثم أغدري، هل من مزيد؟
يا كم خدعت، فما ارعويت وكنت ذياك الشهيد
ولدغت من نفس المكان، وسوف ألدغ من جديد
عبد الرحيم عثمان صارو
بابل في الجيزة
مهداة إلى الشاعر الشاب الأستاذ كمال نشأت بمناسبة إصداره ديوان شعر (رياح وشموع).(940/45)
للأستاذ عبد اللطيف النشار
ما سحر بابل يا كمال ... أحقيقة هو أم خيال؟
ما السحر؟ هل هو ما يفيض به على النفس الجمال
ما السحر؟ هل هو أن يدين لمن يحاوله المحاول؟
ما السحر؟ هل هو أن تقول فيبلغ النفس المقال؟
ما السحر؟ هل هو أن تجول بحيث يستعصي المجال؟
ما بابل تلك التي نالت مكانا لا ينال؟
هل لاختلاف لغاتها ... فازت بألوية الجلال؟
أم للملاكين اللذين يروضان على الظلال
أم للصروح العاليات كأنها بعض الجبال
أم للحدائق فوق أبنية مباركة الظلال
ماذا ترى في بابل؟ ... هل سحرها الموصوف زال؟
أذهب إلى الأهرام وأنظر بابلا فوق الرمل
استأسدت وتحجرت ... والسحر باق لا يزال
وأنظر إلى ثالوث أبنية بجانبها طوال
فيهن شيء ليس يدرك كنهه إلا الخيال
في حيث لا مرئي يشهد ناظر أقسى قتال
وترى القرون الأربعين وقد وضعن بها الرحال
جيش من الأجداد يهبط من ذرى فيها عوال
جيش من الأجداد يبلغ كثرة عدد الرمال
أشهدت معركة القديم مع الجديد ولم تبال
ويل لجيلك يا كمال ... أن يفوزوا في النضال
أرأيت (بنتاؤور) يدعو بعض جيلك للنزال؟
من فيكمو ند له ... إن صال بينكمو وجال؟
رأس على كتفيك يوشك أن تحطمه النصال(940/46)
إن لم تكن عوضا ... لجدك في المقال وفي الفعال
أكمال ما أدعوك إذ ... أدعوك إلا للكمال
والسحر عندك يا كمال ... والسحر يطمع في المحال
وتريد شيئاً دونها ... والمجد في طوقي الرجال
عبد الطيف النشار(940/47)
البريد الأدبي
حول تحريم الأغاني الخليعة:
قد قررت أخيراً إدارة المطبوعات تحريم عشرين أغنية سواء في الإذاعة أو الصلات أو الحفلات العامة أو الخاصة - وتلك همة مشكورة تحمد عليها - ولكن أين الأغاني الباقية المبتذلة وهي تستحق أن يسري عليها هذا التحريم!
ويعلم الله أن قد آلمنا - ونحن أمة شعارها الإسلام - أن تركنا - إلى الآن - هذه الأغاني الماجنة التي سرت وانتشرت هذا الانتشار في المدن والقرى حتى طغت على كل شيء في حياتنا وألبستها غير لباسها الذي كان الطهر والعفاف والقداسة!
ومالي أذهب بعيدا؟ فها هي ذاكرتنا بقايا أغاني الماضي التي كانت تمثل الحياء بصورة فاتنة أخاذة تبين مزاياه وتشير من طرف خفي إلى ما يدور في خلد الفتيان والفتيات من آمال وآلام!
أما أغانينا المستحدثة الهزيلة فإني لا أتصورها إلا حربا على الأخلاق والعادات، بل أني لأستحي أن أشير إلى طرف منها لما فيها من جارح القول وفاحش اللفظ. وأكبر الظن أن هذا النوع من الغناء هو العامل الأكبر في تنحي القليل من فتياتنا عن جادة الصواب وتخبطهن في مهاوي الرذيلة.
ولا يخفى على الجميع أن الغناء الفاحش هو أشد على الأخلاق من التهتك المكشوف، إذ أنه وسيلة عملية للإباحة لكثرة ترديده على ألسن الشبان والشابات من آن لآخر.
فإلى أن تظهر تلك الأغاني التي نريدها وهي التي تمثل الحياة المصرية في منها وقراه بأسلوب سهل محبوب، ويهدي إلى الأخلاق العالية، ويمجد الوطن والعروبة، وينشر بأريجه حياة الطهر والعفاف، ويحض على المثل العليا في الحياة، ويمثل في ثناياه أمراضنا الاجتماعية بصورة مزرعة حقيرة وينفر منها الطبع السليم والخلق الكامل والتربية الصالحة.
أقول ثانيا إلى أن تظهر تلك الأغاني، نريد تحريما باتاً لكل الأغاني التي يشم منها رائحة الخلاعة والمجون، لنحمي أنفسنا وذرياتنا من هذا العبث المهين.
شطانوف(940/48)
محمد منصور خضر
سلطان السليط
السلاطة (هبة) يباهي بها طوال الأسنة، في زمن معوج لطم الباطل وجه الحق غير متهيب ولا خزيا!
والسليط مسف مستخف، لا يبالي سوى نوعه، ولكل شيء آفة كم جنسه، فهو فانك لهج على الوادعين المسالمين، ومنزو منطو أمام المسلطين المؤذن، لا يعرف قدر اللئيم غير اللئيم!
والسليط يعلق بلسانه الإسفاف، ويلعق الهذر في نهم الذئب1
ومن العجب أن المجتمع يغريه على استدامة سلاطته بالمقاربة والمدراة والتخوف؛ فيكبر وهمه في رأسه حتى يغالي في نزواته وغلوائه!
وإن هذا السلطان الذي صنعه بخشونة طبعه، وخسة حسه، واتضاع نفسه، وضآلة شخصه، يجب أن يحطم على رأسه.
وإن المسالمة في جانب المخاشنة ضعف، والمراوغة مع الوضيع غفلة!
يجب أن نحرر شعورنا ونطلقه من محبس الاستحياء، ما دام الزمن لا يعرف سوى العنف في منطق المؤاخذة.
والحياة سجل يحفل بتلك الصور القاتمة التي تظلم جوانبها المضيئة فتدعونا إلى السأم، والضجر، والمضايقة، ونحن الذين نجلب إلى أنفسنا هذه المعاني بعدم مطاردة الجبناء!
حدثني رجل فاضل قال: كنت أجالس جلة المجالسين؛ فيغشى مجلسنا معتوه أعمى الجنسان، مستطيل اللسان، أغراه تسمعي إليه، وترفقي به، إلى تزييف كل قول في جرأة وقحة، والجلساء يخشون سلاطته، ويحاولون مجاراته. ولما برم شعوري به اعتزمت أمرا، وجعلت على يميني العصا التي تطوي لسان هذا الرعديد. ولقد عاود سخفه فزجرته حتى انكمش وتكور ونظر إلى عصاي نظرة الترفق، ثم طواه أفق الخزي ولم يعد إلى المضايقة! قلت: إن سلطان السليط مصنوع من الطيبة المرادفة للغفلة!
بور سعيد:(940/49)
أحمد عبد اللطيف بدر
حول رسالة الأزهر:
كنت أطالع، ما كتبه الأستاذان - سيد قطب - وشاهين - عن الأزهر وكأنه فزعة تنطلق من كياننا الثقافي والروحي لإيقاظ الأزهر وشارة الأضواء حول موقفه الغامض ومستقبله المريب. ولكن كيف يتسنى للأزهر - ما دام يحبس نفسه داخل جدران العصور الوسطى ولا يسمح لنور العصر الحديث أن يملأ آفاقه - أن تكون له رسالة إنشائية إبداعية في الميدان الديني وهو في عزلة عن تلك الدراسات التي تعوم حول رسالة الدين الاجتماعية، والتي تبلورت في علم الاجتماع الديني وعلم مقارنة الأديان. وقد أخذت دراسة الظواهر الدينية في عصرنا تحتمل مكانا هاما جدا بين مجموعة العلوم الاجتماعية. ولا شك أن الأزهر في أشد الحاجة إلى هذا النوع من البحوث، إذ ليس من الممكن أن تزدهر الدراسات الإسلامية ودراسات التوحيد بصفة خاصة دون هذا العلم. والأزهر يحرص على دراسة اللغة والأدب وشيد لهذه الغاية كلية، فهل حرص الأزهر على كيانها فطعمها بالدراسات الأدبية واللغوية التي تنهض بها الكليات التي تعنى بدراسة اللغة والأدب. والتي تقع على بضع خطوات منها - هي لا تعرف قيم لدراسة اللغة إلا للجانب الذي يتعلق بالإعراب؛ ولهذا كان - الأشموني وحاشية الصبان - يتمتعان بقسط وافر من العناية والجهد. ولكن هل عرفت - الكلية - أن هناك أبحاثا تدور حول اللغة ليست ناحية الإعراب أخصب منها ولا أجدى؛ منها الجانب الاجتماعي والجانب المنطقي والجانب النفسي والتطور اللغوي. الخ، فهل استحقت هذه الدراسات نظرة ولو خاطفة من واضح المنهج لكلية تدرس اللغة؟ وتدرس الكلية ما يقال له الدراسات الأدبية، فهل عرف الأزهر أن الدراسات الأدبية تطورت عظيما وأن هناك ما يقال له - علم النفس الأدبي - الذي أصبح ضرورة في فهم الأدباء وتأريخهم. فالدب حينما يحس ويتأثر فيجد الحاجة إلى التعبير، والناقد أو القارئ الأديب حينما يتفهم هذا التعبير والإحساس ويتذوقه ليقدره لا يستطيع أحدهما أن يقيم عمله إلا على أساس ثابت من معرفة النفس الإنسانية وحياتها الفنية، وذلك هو ميدان علم النفس الأدبي - فيجب أن نقيم دراستنا الأدبية على الفهم(940/50)
النفسي لكل نص أدبي، وإلا فإنا بدون هذا الفهم النفسي لن ندرك الدب إدراكا حقيقيا ولن نتذوقه، وسيكون حكمنا عليه قاصرا خاطئا. . .
وتدرس الكلية البلاغة في كتب أبعد ما تكون عن تكوين الذوق البلاغي. فهل تعرف كيف تدرس البلاغة في الكليات التي تدرس البلاغة؟ الدراسة المثمرة هي أن تسبق أولا بمقدمة نفسية تنظيم دراسة القوى الإنسانية عامة وصلتها بالحياة الفنية والناط الوجداني وعلاقته بمظاهر الشعور الأخرى في عمله الفني ودرس الخيال والذاكرة والإحساس والذوق ومعرفة أمهات الخوالج النفسية من حب وبغض وحزن وفرح وغضب وغيرة وانتقام وما إلى ذلك مما هو منبع المعاني الأدبية الكبرى في الآداب الإنسانية على اختلافها. . . وعلى صاحب الفن المنتج وناقدا أن يعرف آخر ما وصل إليه البحث النفسي. وقد أصبح التقسيم للبلاغة إلى معاني. وبيان. وبديع. غير ذات موضوع في البحث البلاغي. . وصارت البلاغة تدرس على أنها وعدة متصلة تبدأ من البسيط إلى ما يليه. تبدأ من الكلمة المفردة فالجملة والفقرة فالقطعة الأدبية وهكذا يقوم المنهج الفني البلاغي على أصول وأسس نفسية قبل كل شيء -
أين الأزهر - يا صديقي - من هذه الأبحاث التي تملأ شعاب المعاهد والكليات التي تشعر أن لها رسالة إنشائية إبداعية. .
فهل تنفذ هذه الصيحات إلى حيث نأمل؟ هذا ما نرجو أن يكون.
محمد عبد الحليم أبو زيد(940/51)
القصص
أعاصير
للأستاذ أحمد القادر الصاوي
خرجت إلى الطريق وفي رأسي معركة، ومشيت ومشيت، ولكنني كنت أمشي داخل نفسي، وطالت الطريق. . ترامت أمامي وامتدت. . ترامت كما يترامى الزمن ويمتد، وصعدت فيها وهبطت. وحين تطلعت بعيني لأرى ما بقى، رأيت أنه على مسافات. ومشيت ومشيت.
وكان يخيل إلي أحيانا أنني لا أمشي، بل أسبح.
وصلت، وقدامي تتخاذلان. وتواريت في حجرتي وتهالكت إلى سرير نبت على جوانبه الشوك. وتلتفت نحو نفسي المنهوكة أسالها العون. وقادتني إلى مستقبل عبوس. قطعة من ظلام دامس خضتها حائراً.
وطاف بي أمسي نقلني باردة. وانسكب وجداني في أودية من الذهول. . عميقة مظلمة.
ودققت في أمري. واكتشفت أني مريض برضاي. وفرحت جداً. . سأتخلص من الداء بيد أنني فشلت تماما واستلقيت في أحضان أوهامي، وسريعا شملت كل أفكاري.
وأغمضت العينين. وإذا بي أتهادى وسط مواكب ومشاهد، الذكريات مواكب، والأحداث مشاهد وتتابعت سلسلة من الصور طويلة جداً وما برح الذهن يجذبها إليه، فتطوي فيه طيا. وراح - وهو يستعرضها - ينمقها. . يشيد هذا الماضي الوارف. إن للماضي رونقا.
واستيقظ على صوت يناديه إلى الطعام. قام مرتبكا. وألقى جسده على أقرب كرسي. ومد يدا فاترة. وسأله:
- مالك! - وأجاب - لا شيء.
واستجمع همته ليسترد نشاطه المسلوب، فتضاحك: - تعجلتم.
- بل تأخرنا كثيراً.
وعلته دهشة، لأنه ما كان يحتج على تأخر الغذاء. وقيل له: - تعزمك؟
وأكل أثقل طعام. وأوهم من حوله أنه امتلأ. تنهدت والدته وتعجبت أخته.
وأقبل الأصيل. وهبت الريح شديدة عاتية. وسمع لها هواء رهيبا. وتمضي فترة تتكشف(940/52)
نسيما رقيقا. وتنفست بسمات خفيفة على كبدي. . أفرجت عنها قليلا أن دفعات ناعمة أهدت إليها أريج البنفسج. وتذوب فيه.
وتفتحت نافذة أمام روحي. وأطلت منها على عالم جديد.
وتنبهت. . وعت وأرهفت لتستمع بنظرة أو بضحكة أو بكلمة. وأني لها على البعد والنوى!
وعادت العاصفة
وتتابعت أفكار كثيرة مزعجة. وجرفته بين طياتها أمواج عالية ورسب واختنق.
وكانت وساوسه كزوبعة تهب فلا تبقى
وأظلته سحابة داكنة. ولا يملك فؤاده، فتمتصه مجاهل ملتوية. . أشجانه وآماله.
وظل يرقب نفسه حزينا تتحلل وتتساقط. ورثى لها!
أشعة ساخنة تدفق في جوانحه. . تشيع في أنفاسه اللهب ما احبه إليه يحيط قلبه بالدفء.
وصورة أمام عينيه لا تنحرف عنهما ما أكرمها عليه برغم حجابها الرؤية والمرئيات.
أصبحت لا أرى. . أرى فقط جمالها وأنوثتها وفتنتها
أصبحت عجولا. . أود ان أثب من فوق الحوادث. . أسبقها ولا أطيق مكثاً. . .
وأقود نفسي إلى منزلها وأشواقي تحثني وادعوا قلبي إلى الصبر، فلا يستجيب.
وتشابكت السحب، وراحت تزرف. وأحار تحت الدموع الغرزية. وحولت خطاي إلى مسكني. . . .
وفجأة صفت السماء. وانثنيت مرة أخرى إليها وتألقت النجمة في نافذتها كالماسة الكريمة. ونظرت ذاهلاً ونظرت هي ي حزينة وخفق قلبي خفقته أحسست بعدها أنه يتصدع ويتداعى
رباه، أيلقى بعض الناس ما ألقى؟!
وانتزعت رجلي العودة. انتزعها نزعا
وتجمع الظلام على الدنيا. وتراكم على قلبي جبل حالك من الترهات.
لو تستتر المرئيات. وتظهر صورتها وأشعر أن مخدرا يسري في جسدي. . أخيلة وخيمة تنثال إلى رأسي كأخيلة رجل تناول قدا كبيرا من المخدر. . . وتضيق أنفاسي.(940/53)
وفتحت النوافذ والأبواب، ولكها تتعقد في صدري واستقبلت السماء.
وتراءى القمر وحيداً حزينا. . تراءى كفجوة تخترق حائط الظلام الهائل. وجذبت نفسا طويلا. . لو استطعت كان أطول من الليل. ودخل الهواء الأسود رئتي.
وبقيت في النافذة، والليل أمواج ساكنة. . .
وسمعت صوت أقدام ثقيلة وقورة. كان رجل الدولة يتولى حراستها، ومر حوذي خاطب خيله مدللا إياها ربما أفاد كثيرا ذلك المساء. وأدار عربته ليأوي.
ويعبر أحد السكارى. . يطلق مزعجاته. . أغان مخنوقة مبتورة وفاجأه الجندي. كف! ومشى مستخذيا.
أولئك جماعة ما بعد الساعة الواحدة بعد نصف الليل. . . كلهم مرح. . كلهم سعيد. . .
والليل يزحف فوق صدري كغمامة سوداء، ليس لها نواح تدركها العين. وتحولت إلى البدر كالغريق. أنني غريق لجة قاتمة.
ويلاه! اختفى، وترك الدنيا. كانت متعلقة بأشعته، فلما قبضها هوت في بحر من الظلام.
وأنظر من قاعه، فيشاهد خيالي قمرا آخر. إنه يشرق من قلبي فيضئ حناياه. ويهتز الظلام. . يرتجف ومولي.
وأشاهد نفسي طافيا في بحيرة من الضوء. وأشاهد فتاة تسبح في ذهني، وكلها مفاتن.
. . . وجه كالزهرة الناضرة، وقوام كالرمح الممشوق، وأنوثة تتألق وتزهو. وصوت كأصوات الملائكة. . ترتيل ونغم.
تلك فتاة جمعت في نفسها حشدا من الحسن. . وستركع أمنع القلاع أمامه. . ستخر مويل قلب غزاه. . ستزلزل. . سيهوى
ويل عين رأت لن تغفى ستسهد.
وأفتك ما في الوجه عينان تثبتان على قلبي. . تصبان عليه الوهج ناعما رقيقا ما أبهجه!
وينصهر القلب تحت النظرات. . يترقرق ويسيل في مسارب ضيقة معقدة. وبحثت عنه فأخفقت. . تشربته المسارب الضيقة. غرق في أحزانه! ويلي. ويله!
أيتها العينان، ما بال ذبولكما يسري إلى قلبي؟ حسبت العين المريضة لا تمرض الأعين.
أيتها العينان، إذا تأملتكما أشرفت على قلب من النور(940/54)
أيتها العينان، أي صفاء بعتماه في روحي؟
أية مرآة أنتما أية صورة تعكسانها أية صورة ترعرعت فيكما
يا روحها، أنت أنضر صورة وأجملها وفمها؟!
إذا ما ارتسم في ذهني، تخيلته عليه قبلة، أشعر بعدها ببرودة رافية. وتقدمت بفمي أقتطعها. ولم أصل!
إنني أفيد الخيال بالواقع، فأنشئ قبلا، لا تلبث فتنتها - يا طالما تعلقت في حبال من الخيال. ويا طالما تراخت الحبال، وما أسرع أن تتراخى!
فمها وردة متوهجة. إذا تكلمت تفتحت. كثيرا ما تفتحت الوردة فعطرت الحياة حواليها.
وأتصورها الآن تتفتح، فأسمع تغريدة وترددها الوردة. . . أسمع نبرات كلها موسيقى. كلمات موشاة منمقة مختصرة كخفقة الضوء، ولكنها بليغة في أوج البلاغة وذروتها.
لو سمعتها وحدها حياتي كلها، لعمر الله، ما قنعت ولا مللت!
والجبين الوضاح. والشعر اللين. والقوام المعتدل؟
أسنة مشرعة نحو صدري
والليل متمدد على الدنيا كوحش خرافي لا يقف البصر على زواياه. . والسكون لا صور له. . موحش رهيب. .
وماتت الضوضاء
وتجمعت الحركات الساخنة في رأسي. وتحولت في تيار ساحق. وازدحمت فيه بضعة أسباب مائعة للغز الذي أقاسي من أجل حله.
ويشب الجوي، فيثير في قلبي أحزانا. ويتحامل على، فيجرد لي فيلقا من الشجن.
ويتنقل اليأس في نواحي الروح، فيهوي بها إلى قرارة الجسد، وتغيب في ظلمات وأعاصير.
ويتداعى الأمل. هل من بعث يعيد ما هلك في الأركان العتمة؟ أحاوله. . ألتمس ثغرة يتنفس منها، فأمشي نحوها. أو خيطا من نور يؤدي إليه، فأتعلق به! وعجزت جد العجز. .
وبثق في قلبي الضيق واستقر في بدني الملل. رحماك!
وتفتحت آذان السماء، فرفرفت على عيني سنة قصيرة، وانتهيت بعدها.(940/55)
تقضي الليل، وآذن الفجر أن يولد، واستهل صراخ الوليد عن ضجيج الناس وحركتهم.
واستيقظت الدنيا. واتسع الأفق وأضاء. وطلى الضوء كل شيء. . صبغه بلون الحياة والرضى والأمل. اللون البهيج.
وآن لقلبي أن يتنهد بعد امتداد بكائه
وألقى إلى صاحبه خطاب. وفضضته. وتسلسلت أمام عيني كتاباتها. واتسعت حدقتهما والتهمتا الكلمات حرفا حرفا.
كل جملة تكون معنى قائما.
كل كلمة تبرز تعبيرات شتى. . تمثل ضميرها ثم تطبعه على الورق، فيكاد المداد الأسود يضئ.
كل لفظ يستشف معه ضراوة البعد وصرامة الشوق، واستبداد الألم.
ويزدحم صدري بالمعاني الواردة ويصيغ مادة التأويل والمفكك.
والكتاب، أوله حتى آخره صورة خلجات نفس هالعة، والهلع موزع في معانيه كلمة كلمة، مرتسم عليها جملة جملة. وأول نظرة ألقيتها عليه أكدت أنه عمل روح جازع.
ليس به تاريخ ليس به عنوان ليس به إشارة إلى لقاء فأستند وأضع لهذه البلبلة حداً.
وزاد الغموض، أن بعض الكلمات أزيلت. لم يكتب شيء مكانها، فارتبك بناء الجمل والمعاني. وتكبدت في حل تلك الرموز البالية العناء.
قالت: سأحضر، انتظرني!
وانتظرت حتى أودي الصبر. وانسلخت أربعة أسابيع وأيام. . هل بررت؟!
وأصحب قلبي بعد طول المهلة إلى نافذتها. وأظل تحتها ساعة أو ما يعادلها، فلا أرى الطلعة السمحة.
ضللت معها وأبعدت
أقدمت أسير في صحراء قفراء. . أقطع الفيافي والمسافات، فإذا تركتها، وحللت من ذكراها في واحة نارية.
أقدمت على النار، وأنا أعلم أنها ليست النور ولا الدفء وأقدمت!!
أحمد عبد القادر الصاوي(940/56)
العدد 941 - بتاريخ: 16 - 07 - 1951(/)
هل الأدب قد مات؟
وزارة المعارف تقتل الأدب!
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
منذ عشرات السنين ووزارة المعارف دائبة - عن طريق المدرسة - في قتل الأدب والروح الأدبية في نفوس الطلاب!
إنها جادة في هذه العملية كما لو كانت هدفها الأولز فالمدرسة المصرية لا تجيد شيئا كما تجيد هذا الواجب، ولا تفلح في شيء كما تفلح في أدائه!
كل ما في المدرسة يعيش على هذه الغاية ويؤدي إليها: طريقة وضع المنهج. اختيار المقررات، تأليف الكتب المدرسية، طرق التدريس، استخدام المكتبة كل شيء. كل شيء يؤدي إلى هذا الهدف الأول الذي تعتز به المدرسة المصرية في ماضيها وحاضرها!
هذا المنهج المفكك الذي لا يعقد صلة بين حاجات الحياة وواقع الحياة، وبين الموضوعات التي تدرسها المدرسة وبخاصة في اللغة العربية؛ والذي ينتهي إلى تقرير عقيدة خاطئة في نفوس الطلاب، هي أنهم لا يدرسون ما يدرسون في المدرسة لأنه ذو صلة حية بحياتهم وتفكيرهم وبحاجات جيلهم واتجاه مجتمعهم: إنما يدرسونه لأنه ضريبة مفروضة عليهم، ضريبة كريهة يؤدونها للنجاح ولتسلم الورقة التي تفتح لهم مصاريع الدواوين، وغير الدواوين
ومن هنا تنشأ في نفوسهم عداوة القراءة، والاستهانة بها.
والحياة عادة؛ فإذا لم تكن القراءة عادة محبوبة في سنوات الدراسة، فقلما تكون في المستقبل، اللهم إلا للتسلية الفارغة التي تلبيها أرخص الأقلام!
وهذه المقررات الجافة الفارغة السخيفة، وبخاصة في تاريخ الأدب، وفيما يسمونه (البلاغة). إي شيء يمكن أن يثير الكراهية والسأم والنفور من القراءة ومن الأدب أكثر من هذه البلاغة؟! إي سخف وأية غثاثة أكثر من إجراء الاستعارات، وفرز التشبيهات، وتصنيف الجازات؟ وما غناء هذا كله في تكوين الذوق الأدبي، أو تكوين الشعور بجدية(941/1)
الأدب؟
إن هذه (البلاغة) كانت قواعد للنقد الأدبي. وقد وضعت في عصور انحطاط الذوق الأدبي، وعصور انحطاط النقد الفني، فهي قواعد كاذبة وخاطئة وبدائية، لا تؤدى إلا في المجال التاريخي للمحاولات الأولية للنقد في الأدب العربي، وموعد هذه الدراسة التاريخية ليس هو المدرسة الثانوية، إنما هو دراسات التخصص الجامعية
وأما تاريخ الأدب فشأنه هو الآخر عجيب. ومقرراته في المدرسة الثانوية تشهد بما لا شهادة بعده على جهالة وزارة المعارف بكل شيء عن طاقة الطلاب، وعن طاقة الزمن، وعن مهمة المدرسة. . وإلا فما غناء أن يدرس طالب المدرسة الثانوية تلك الحقبة الطويلة من الزمن من الجاهلية إلى العصر الحديث، وتلك السلسلة الطويلة الحلقات من الأدباء والشعراء في هذا المدى الواسع، وهو لم يدرس إلا القليل التافه من النصوص الأدبية التي أنتجتها تلك العصور، وأخرجها ذلك الحشد من الكتاب والشعراء!!
إن جسم الأدب هو النصوص، لا تاريخ الأدب ولا دروس البلاغة! دسم الأدب الحي الذي يمكن أن يربي حاسة التذوق الفني هو تلك القصائد والمقطوعات والقطع الأدبية، والأقصوصة والرواية والبحث. . إلى آخر الفنون الأدبية المختلفة. . وهذا ما يجب أن ينفق فيه الطلاب ذلك الوقت وذلك الجهد اللذين ينفقان في دروس البلاغة وفي دروس تاريخ الأدب المملة
وإنه لخير للطالب الثانوي أن يقرأ في كل علم كتابين: يحتوي أحدهما مختارات منوعة من جيد النصوص الأدبية الحية، يشرف على اختيارها أدباء في ذوقهم حياة، وفي حسهم تفتح، وهم غير موظفي وزارة المعارف بكل تأكيد!. . . وأما الثاني فيتناول موضوعا قائما بذاته، قصة أو بحثا أدبيا أو اجتماعيا. .
خير للطلاب أن يدرسوا كتابين على هذا النحو في العام، يجدون فيهما غذاء فكريا وغذاء روحيا، ويحسون أن للقراءة المتصلة قيمة في فهمهم للحياة وإدراكهم للأشياء. . . من تمضية الوقت في إجراء تلك الاستعارات الفارغة الهازلة، وفي المرور سراعا على خط سير الأدب الطويل، وترديد الألفاظ والعبارات كالببغاوات
وبهذا وحده يمكن أن نعقد صلة مبكرة بين الكتاب والطلاب. فلا يعود الكتاب في نظرهم(941/2)
عدوا كريها، أو نسخة زريةز ولا نعتل في نفوسهم بذرة الأدب وهم بعد في سن الطراءة والشياب!
ولقد عمدت وزارة المعارف في السنوات الأخيرة إلى تخصيص كتب للقراءة. ولكنها لم تذهب بتلك البلاغة الملعونة ولم تقتصد في تاريخ الأدب الممل. . . . ثم - في الغالب - لم تكن موفقة في اختيار كتب القراءة المناسبة لكل سن وطاقة. . . لقد دخلت المحسوبية في اختيار الكتب. المحسوبية البغيضة التي لم يكن يفوت الطلاب أن يدركوها في معظم الأحيان
كان الطلاب يعرفون أن هذا الكتاب الذي قررت عليهم قراءته، إنما قرر لأن صاحبه صديق للوزير، أو نصير لعهد الوزير، أو موظف في مكتب الوزير. . .!
كانوا يشعرون أن هذا الكتاب ضريبة مفروضة عليهم ليصل إلى جيب صاحبه بضع مئات أو بضعة ألوف من الجنيهات، وهذا الشعور وحده كفيل بأن يفسد في نفوسهم كل معنى للقراءة، وكل قيمة الكتاب، بل كل شعور بجدية هذه القراءة وجدواها! وبأن يجعل منهم أعداء لقراءة التي تحمل هذا الظلم الحقير!
فلما شاءت الوزارة أن تبدو نزيهة حذفت هذه الكتب حذفا باتا؛ فكانت نزاهتها أشد إيذاء من محسوبيتها. وباء الأدب بالخسارة في الحالين!
فأما الكتب المدرسية فطريقة تأليفها وحدها كفيلة بتنفير أي راغب في الكتاب. . إنني ما أمسكت بكتاب مدرسي حتى وأنا في هذه السن إلا أجفلت وخشيت أن تكتب على الردة إلى عهد التلمذة، فيحكم علي بقراءة هذه الكتب والعياذ بالله!
التفكك، والغثاثة، وفساد الذوق، وسطحية التصور، وجفاف التعبير. . تلك خصائص الكتاب المقرر في وزارة المعارف، وبخاصة في مقررات اللغة العربية المنكوبة باللجان الرسمية، واحتكار التأليف!
ولو ترك الأمر لكل مدرسة أن تقرر الكتب التي تراها كفيلة بخدمة المنهج المقرر والوفاء به، لا نفسح المجال للتجديد والتنويع. ولكن احتكار تقرير الكتب لوزارة المعارف حيث لا تقرر إلا كتب معينة، يعرف أصحابها أقصر الطرق للتفاهم مع المسؤولين! هذا الاحتكار هو الأداة التي تقتل الوزارة بها الأدب في ماضي الطلاب ومستقبلهم، وتوقع بينهم وبين(941/3)
القراءة عداوة الأبد وكراهة العمر!
وأما طرق التدريس فهي آفة الآفات. . إنها هي التلبية الطبيعية لطريقة الامتحانات في المدرسة المصرية، تلك الطريقة التي لا تتطلب إلا تعاطي العلم في صورة (برشامة) مركزة، تفرغ في ورقة الإجابة، فيتم المراد
ومن هنا تنتشر تلك الملخصات العجيبة التي لا نظير لها في مدارس العالم. فالمفروض في الدراسة أن تدرب الطالب على الانتفاع بالمصادر والمراجع، وعلى أن يحصل لنفسه من المطولات
أما طريقة التدريس المصرية فتهدف أول ما تهدف إلى أن يفقد الطالب قدرته الاستقلالية! وأن يعتمد على المدرس كل الاعتماد، والمدرس يعتمد على الكتاب المقرر - لا على مراجع أوسع - ويجمع للطلبة خلاصات صغيرة تعينهم على المرور في الامتحان، أو يقوم بعضهم يعمل ملخصات تغني حتى المدرس عن الرجوع إلى الكتاب المقرر!
لماذا؟ لأن الامتحان هو الامتحان!
ولما قيل لوزارة المعارف: إن طريقة امتحاناتك تؤدي إلى هذه الكارثة. قالت: وهو كذلك. وإذن فسنلغي الامتحان!
إن العيب ليس في الامتحان ذاته يا وزارة المعارف، إنما هو في طريقة الامتحان. وما من شك أن أيسر الطرق هو الإلغاء الكامل؛ ولكن هذا الإلغاء ليس هو العلاج الفني الذي يدل على أن الأمر يتولاه من لهم إلمام بهذه الأمور!
أن العلاج هو أن يوجه الامتحان إلى اختبار مجموعة قوى الطالب ودراساته، وأن يوجه الطالب إلى الاعتماد على المراجع المطولة في المادة لا على الكتاب المقرر ولا على الملخصات.
وإلغاء الكتاب المقرر، وترك الدراسة حرة في عدة كتب مختارة في كل مادة هو الخطوة الأولى في هذا الاتجاه
وأخيرا يجيء دور المكتبة، وهو الدور الذي ليس له وجود! إن مكتبة المدرسة مخزن مخلق، تبعث إليه وزارة المعارف بين الحين والحين بطائفة من الكتب التي يعرف أصحابها أقصى الطرق لمن يقررون كتب المكتبات في وزارة المعارف في جو غريب(941/4)
مريب في أكثر الأحيان!
وهناك تبقى مغلقة لا علاقة لها بنظام الدراسة، ولا بالطلبة، ولا بالمدرسين بوده عام!
لقد اقترحت مرة على وزارة المعارف أن تزيل الغبار عن سمعتها في أسواق الوراقين. وهي سمعة لا سير الوزارة أن تعرفها، ورائحة لا يريحها أن تشمها!
لقد اقترحت عليها أن تنشئ ألف مكتبة فرعية صغيرة في المدن الصغيرة والقرى الكبيرة، لا يكلف إنشاء الواحدة منها أكثر من مائة جنيه للأثاث
وأن تتفق مع دور النشر المعتمدة أن تبعث بألف نسخة من كل كتاب تصدره إلى هذه المكتبات العامة بمجرد صدوره. على شرط أن تؤلف كل دار لجنة خاصة بها من بعض الأدباء الموثوق باطلاعهم لتراجع كل كتاب تصدره، بحيث لا ترسل إلى المكتبات العامة كتابا لم تقره لجنتها التي تعرفها وزارة المعارف وتثق بها
ولكي تتأكد الوزارة أن هذه اللجان تقوم بواجبها، تنشئ هي إدارة خاصة أو مراقبة وظيفتها مراقبة مطبوعات كل دار. فإذا اتضح لها في نهاية العام أن هذه الدار أسفت في إنتاجها أو بالغت في أسعارها، حذفت اسمها من القائمة لعام أو أكثر حسب مقتضيات الأحوال
وقلت: إن هذا الاقتراح كفيل بأن يضمن للكتاب الجيد الوجود والرواج، لأن ضمانة الناشر لألف نسخة في اليوم الأول لصدور الكتاب تشجعه على النشر، وطلب الكتاب الجيد والكاتب المجود. . وكفيل كذلك بانتشار حركة القراءة في أوساط جديدة كثيرا ما يتعذر عليها شراء الكتاب أو استعارته، وكفيل في الوقت ذاته بالإعلان عن الكتاب الجيد لمن يريد اقتناءه في هذه الأوساط
ولكن هذا الاقتراح لم يؤخذ به، لأنه يحرم بعض دور النشر المحظوظة من الاستيلاء على أكبر مبلغ من ميزانية الكتب في وزارة المعارف. أو يحرم بعض ذوي النفوذ من الاتجار بنفوذهم في سوق الوراقين! ويحرم بعض ذوي الشفاعات من المؤلفين أن يستمتعوا بالربح الحرام!
وما تزال وزارة المعارف ذائبة في عملية قتل الأدب بمعرفتها الخاصة، وبمعرفة المدرسة ومناهجها ومقرراتها، وكتبها ومكتباتها، وطرق التدريس فيها وطرق الامتحان
وعلى رأس وزارة المعارف أديب. وقل أن تظفر الوزارة بأديب! فإذا لم يتم اليوم انتصار(941/5)
الأدب في وزارة المعارف فلست أدرى متى يتم الانتصار. وإذا لم يتم إنقاذ الأدب على يدي طه حسين فلست أدري على يدي من يكون الإنقاذ!
سيد قطب(941/6)
بيننا وبين الإنجليز
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(إن المسألة الرئيسية بالنسبة لنا (الإنجليز) هي كيف يمكن أن تغادر قواتنا القاهرة في الحال)
من اللورد نورثبروك وزير البحرية إلى مأجور بارنج (كرومر) في سبتمبر سنة 1883
(إن إنجلترا حريصة على أن يظل باب المفاوضات مع مصر مفتوحا). يونية سنة 1951
شر البلية ما يضحك
قل يا أهل. . . تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
في سنة 1882 احتلت إنجلترا ديارنا وقضت على الثورة العرابية وقبضت على زعمائها وحوكموا وحكم عليهم بالإعدام ثم استبدل بهذا الحكم النفي المؤبد ونفي الزعماء المصريون إلى جزيرة سرنديب
وهنا يجدر بنا أن يتساءل: لم تدخلت بريطانيا في شؤوننا واعتدت على استقلالنا؟ إن الثورة العرابية كانت ثورة دستورية ونزاعا بين الخديوي ووزرائه، وكانت مطالب العرابيين الرئيسية تنحصر في توسيع اختصاصات مجلس شورى النواب الدستورية حتى تصبح الوزارة مسئولة أمام المجلس حتى يكون للمجلس حق مناقشة الميزانية، وهو حق طبيعي للمجالس النيابية في جميع البلاد الدستورية. ومنعا لتدخل الدول استبعد المجلس حق مناقشة الجزء الخاص بالدين وبالتصفية المالية من الميزانية
ومع هذا فقد تطوعت بريطانيا بتقديم مساعداتها للخديوي وعرضت عليه حمايته ضد شعبه ووزرائه الذين لم يكونوا خارجين عليه، وقتلت أعرق أمة دستورية (إنجلترا) الروح الدستورية في مصر، واحتلت أراضيها دون أن تعتدي مصر عليها فكان هذا العدوان أول جريمة ترتكبها في الشرق الأدنى
سياسة تقليدية:
إن بريطانيا لا تسير في سياستها الخارجية وفق خطط ارتجالية، وإنما تسير وفق سياسة تقليدية يتبعها وزراء خارجيتها مهما كان لونهم السياسي ومهما اختلفت أحزابهم. وقد كانت سياسة بريطانيا التقليدية منذ قدوم نابليون في حملته سنة 1798 منع قيام دولة قوية في(941/7)
مصر، ومنع مصر من الوقوع في يد دولة أجنبية معادية. وطبقا لهذه السياسة وقفت موقفا عدائيا ضد محمد علي سنة 1839 - 1841 وألزمته أن يقبع في داخل (قوقعته) مصر على حد تعبير وزير خارجيتها بلمرستون
وقد قامت المنافسة بين فرنسا وبريطانيا حول الاستئثار بالنفوذ في مصر، وجعلت فرنسا تعمل دائما على حفر قناة السويس لتصل الشرق بالغرب مما يجعلها أقرب إلى الشرق، أما بريطانيا فقد عملت على إنشاء خط حديدي بين الإسكندرية والسويس
وقد نجحت إنجلترا في تحقيق غايتها في عصر عباس باشا الأول؛ إذ بدئ بتنفيذ مشروعها فأنشئ الخط الحديدي بين القاهرة والإسكندرية، ثم أنشئ بعد ذلك الخط الحديدي بين القاهرة والسويس
أما فرنسا فلم تيئس بعد، وبرغم أن محمد علي رفض مشروع القناة قائلا (إنني لا أريد أن أجعل من قنال السويس بسفورا آخر) استطاعت فرنسا أن تقنع سعيد باشا بفوائد المشروع، وحصلت منه على امتياز بحفره، وبدأ العمل 1858. قلقت إنجلترا على مصالحها في الهند، وصرح رئيس وزرائها بلمرستون 1860 قائلا: (أخشى أن يؤدي حفر قناة السويس إلى احتلال إنجلترا لمصر) ومات بلمرستون ولكن إنجلترا ظلت تعمل دائبة على تحقيق فكرته. وفي 1882 دون أي اعتداء من ناحية مصر احتلت إنجلترا الأراضي المصرية ثم أعلن وزراؤها منذ الساعة الأولى عزمهم على الجلاء عن مصر فوراً، ومع ذلك فحتى هذه الساعة لم تبر إنجلترا بوعدها، وما تزال تماطل في الجلاء بل وتدعي صداقتها لمصر!!
ولم يقبل المصريون هذا الاحتلال وقاوموه منذ الساعة الأولى، وكان أول أبطال مصر الذين حملوا علم الجهاد مصطفى كامل باشا. ثم في 1919 هبت مصر ثائرة تطالب بحريتها واستقلالها، ووقف المصريون صفا واحدا يبذلون دماءهم في سبيل استقلالهم، وتزعم الحركة سعد زغلول باشا وعبد العزيز فهمي باشا وعلي شعراوي باشا
ولكن مصر على رغم إيمانها العميق بعدالة قضيتها لم تستطع حتى الآن تحقيق أهدافها، وهي الجلاء ووحدة وادي النيل التي أقامها محمد علي منذ 1830. ويرجع ذلك إلى دهاء ساسة بريطانيا مما مكن لهم من إيقاع الفرقة في صفوف زعماء مصر ونجاح بريطانيا في تحقيق سياسة (فرق تسد)(941/8)
وعندي أن مصر تستطيع أن تحقق أهدافها في أقصر وقت إذا استطاع زعماؤها أن يوحدوا صفوفهم وخطتهم، وأن يقبلوا صفا واحدا رافعين لواء الجهاد وخلفهم أمة مؤمنة على أتم استعداد لبذل دوائها وأموالها في سبيل حريتها واستقلالها
وإني أضرب للقارئ مثلا يمكن به تحقيق أهدافنا بالطرق السلمية. ماذا يكون مصير القوات البريطانية في قنال السويس إذا تكتل المصريون حكومة وشعبا، ورفضوا إمداد هذه القوات بالغذاء والماء والعمال، ثم امتنع المصريون عن شراء البضائع الإنجليزية، وكذلك رفضوا بيع قطنهم وحاصلاتهم لبريطانيا؟ إنني أؤمن أن بريطانيا لن تستطيع مقاومتهم وستستجيب حتما إلى طلباتهم. وقد اتبع فاندي هذه الخطة في الهند، وبواسطتها حصلت الهند على استقلالها
إنني أنظر إلى الماضي البعيد فأرى مصر في تاريخها القديم دولة قوية، ولها إمبراطورية واسعة في وقت لم تكن فيه بريطانيا شيئا مذكورا. وفي العصور الوسطى كانت الإمبراطورية الإسلامية أقوى دول الأرض جميعا وكان اسم المسلمين يثير الرعب والفزع في قلوب أهل الغرب كافة. فماذا دها الشرق حتى استأسد عليه الغرب
قلب النظر أيها القارئ الكريم في أحوال الشرق تر عجبا؛ فبريطانيا تحتل قنال السويس في مصر، وتحتل السودان باسم مصر، وبينها وبين العراق وشرق الأردن معاهدة صداقة!! وهي تحتل عدن وليبيا أيضا. وأما فرنسا فتحتل تونس والجزائر ومراكش وتعتدي على حريات ملوكها وحكامها؛ فما سر ذلك؟
نحن قوم بلا مبادئ وبلا زعماء. إننا نريد زعماء يؤمنون حق الإيمان بعدالة قضايانا، وإن اتحاد صفوفنا وإيماننا بحقوقنا هما الطريق إلى استقلالنا
إن أمم الغرب أعلنت أكثر من مرة بأن لكل قوم الحق في تقرير مصيرهم. وفي ميثاق الأطلنطي 1941 أعلنت أمريكا وبريطانيا أنهما تحترمان الحريات السياسية والقومية والفكرية والدينية، كان ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت الدولتان تفعلان ذلك تخديرا للشعوب، وضما لها إلى جانبهما، فلما انتهت الحرب تبخرت الوعود والمواثيق وذابت المبادئ
أيها البريطانيون:(941/9)
إن كنتم تريدون صداقة العرب حقا فليس أمامكم إلا أمر واحد؛ هو الاعتراف باستقلال الأمم العربية استقلالا تاما، ورد عرب فلسطين إلى أوطانهم، وبدون ذلك لن تكون هناك صداقة بيننا وبينكم، وما عدا ذلك فهراء لا يغني ولا ينفع
أبو الفتوح عطية
مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية(941/10)
الصلات الشخصية بالعباقرة
للأستاذ محمد خليفة التونسي
إن العملة التي يتعامل الناس بها في حيواتهم هي الأشخاص وأعمالهم المنظورة، لا المبادئ والأفكار المجردة. ومن هنا تظهر خطورة (الصحبة) التي تتأثر فيها شخصية بشخصية، ويظهر لنا فشل المبادئ والأفكار المجردة عن التأثير في الناس ما لم تعززها الأعمال المعبرة عنها من أشخاص يؤمنون بها حق الإيمان
ومن أعظم ما يشرف الحياة ويجملها ويرفعنا في قلوبنا وعيوننا، ويجعل مزاولتها عملا سائغا شاقا، بل رحلة رياضية جميلة حقيقة بالتقدير والإعجاب والغبطة - أن تقدر لنا في بعض مراحل عمرنا على هذا الكوكب الحائر الخامل في ملك الله، معاصرة أحد العباقرة أصحاب الرسالات الإصلاحية الكبرى، وأن تتوشج صلاتنا به، لنستروح إلى جانبه من نفحات السماء مالا تجود به إلا على قليل من أبناء الفناء في فترات متباعدة
هذه (الصحبة) نعمة كبرى في طيها نعم مختلفات متجددات، فإن صاحب العبقرية بما يفيضه على نفوسنا خلال صحبتنا إياه من إعجاب به، وتعاطف معه، ووعي له - يمكننا من أن نستقل جناحيه ونرتفع معه إلى الآفاق العليا , ونقتبس معه ومثله من مصادر الإلهام الرفيعة ما يضيء سرائرنا، ويجلي عقولنا، ويصفي حياتنا، فنزداد ثقة إلى ثقة بأنفسنا، ونعلو أمامها على هدى وبصيرة، ومن ثم ترتفع أمامنا الإنسانية بكل ملكاتها، والحياة بكل مضامينها، والوجود بكل آباده وآزاله، إذ لا ثقة بصفة إلا بموصوف ممثل لها
على جناحي هذه العبقرية الصالحة الملهمة نطير إلى تلك الآفاق العليا، وبغير جناحيها لا نطير
بل نظل ملتصقين بتراب هذه الغبراء؛ نهيم على تربتها كما تهيم سوائمها، أو نمشي على بطوننا كما تمشي زواحفها، أو ندب كما تدب حشراتها، وقد نتورط في حماتها فنظل نسوخ في أوحالها دركا فدركا، منسلخين عن مزايانا واحدة فواحدة، كلما أمعنا في الهبوط، فنعيش كما يعيش دود الأرض في أطباقها الحالكة: كل عمله أن يجذب الطين في جوفه من طرف إلى طرف، ثم يموت فيستحيل كبعض هذا الطين في خسته وقذارته
في غمرة إعجابنا بالعبقرية الصالحة خلال صلاتنا الشخصية بها يفيض على نفوسنا، أو(941/11)
يتفجر في سرائرنا، الإحساس بالحياة الواسعة، وبواجباتنا وحقوقنا نحوها ونحو الوجود بكل آزاله وآباده، وتتأجج في صدورنا الغيرة الصادقة على أداء هذه الواجبات وطلب هذه الحقوق، فينطلق كل من تمسه تلك النفحة من أنانيته الضيقة التي لا مصدر لها إلا عدم الإحساس بالحياة وواجباتها وحقوقها، والتي تجعله يشعر بأنه خليع من المجتمع، مبتور من بنيته، بعيد عنه فيما يصيبه من خير وشر، لا هم له منه إلا ذاته الفردة الجافة، ويشعر من أجل ذلك بتفاهة نفسه، وتفاهة مجتمعه، وتفاهة الحياة كلها، كما أنه يشعر بالحرمان والانقباض والقلق والخوف من كل ما حوله وكل من حوله، ويسيء الظن بكل شيء يتعامل معه أو لا يتعامل، بسبب ودون ما سبب، ولا يرى فيما يحيط به، ومن يحيطون به، إلا عدوا مبينا يكيد له، ويتربص به الشر، فأيان أنس منه غرة أعجله بالأذى، ومن ثم لا يكون له من نشاط في الحياة إلا ما يحمي به نفيه، ويحتجن كل قوة تحميه، ولو جنى في سبيل ذلك أعظم الشرور
وما من دافع له إلى ذلك إلا إحساسه بأنه ملعون من الثقة بنفسه وبمن حوله وما حوله، فهو يتمثل اللعنة أيان ولى وجهه , ويتوقى لذلك كل شيء ويهرب من كل شيء، مع أنه لا مكان للعنة التي يتوهمها إلا في سريرته
هذه الأنانية الضيقة التي لا أصل لها إلا البلادة - هي أقوى سد يحول بين الإنسان والإحساس بالواجب ورؤيته، فضلا عن التماسه والكدح في البحث عنه ولو كان عند طرف أنفه، ويحول بينه وبين التفكير في أدائه وتهيئة الوسائل المؤدية إليه، فضلا عن أدائه فعلا ولو كان أداؤه من أيسر الميسورات
وما من قوة تصهر هذا السد العائق وتبخره كما بفعل صحبة العبقري الصالح الزعيم بشخصيته المحبوبة وأعماله الطيبة، وبخاصة إذا كان نبيا أو على شاكلة النبي في شخصيته وسيرته الأمينة، ولا تستثنى من ذلك قوة على الأرض لها مثل هذا الأثر السحري في سريرة الإنسان إلا قوة (الحب). . . والولاء للعبقري الزعيم نوع من (الحب)
من أجل ذلك استأثر العباقرة الزعماء ولا سيما الأنبياء بالهداية والتقويم، واستأثروا بما هو أعمق وأقوى من ذلك وهو انبعاث الإحساس بالحياة والواجب في النفوس المهيأة له كي تطلب الهداية والتقويم(941/12)
وما من مبدأ من المبادئ، ولا معتقد من المعتقدات، ولا فكرة من الفكر، له هذا الأثر أو ما هو دونه قوة إلا أن يكون متمثلا متجسما في شخص عبقري زعيم. وأيان لا يكن هذا الشخص الذي يتأسى به الناس فكل المبادئ والعقائد والفكر كلمات عقيمة بتراء
يقول الناس كثيرا ما يقوله الشاعر
اعمل بقولي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري
وليت هذا كان في الإمكان! إذن لكانت الفضيلة والمعرفة والجمال أعز شأنا، وأكثر جندا، بل لما كان على ظهر هذه الغبراء شرير ولا جاهل ولا قبيح، إذ ما أيسر النصيحة وأيسر فهمها على الناس ولو كانوا أغبى المخلوقات
ولكن الآفة كل الآفة بلادة السريرة التي ينشأ عنها عدم الإحساس بالحياة والواجب
والناموس الذي لا فكاك لنا منه أن العملة التي نتعامل بها هي الأعمال لا الأقوال، والأشخاص لا المبادئ
(اعمل بقولي ولا تنظر إلى عملي. . .) كلام عقيم أبتر، وعملة زائفة لا يثق بها الناس، وإن تظاهروا بقبولها نفاقا، والنفاق هو البضاعة الزائفة التي يبيعها الناس لمن يدفع لهم الأقوال دون الأعمال؛ ولا فبن في الصفقة على البائع ولا المشتري ما دامت البضاعة زائفة وأثمانها زائفة، فكل منهما خادع ومخدوع
وقديما قرر النبي محمد عليه السلام أن (الدين المعاملة) وقال (إن الله لا ينظر إلى صوركم وألوانكم ومكنه ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فالنية والعمل هما العملة الصحيحة عند الله وعند الناس أيضا
ومن هنا يظهر لنا الخطأ والخطر الذي يقع فيه عن عمد أو غير عمد رجال المبادئ الدينية والسياسية ومن على شاكلتهم حين ينصحون الناس برأي ويعملون هم بغيره، فلا تكون سيرهم مصداق مبادئهم، ثم يعجبون بعد ذلك كيف لا يثق الناس بهم ولا يدينون بمبادئهم، ولا يعملون بها ولو كانوا بها مؤمنين
ولو كان رجال المبادئ هؤلاء جادين في عجبهم لكانوا أشد عجبا من أن يلقاهم الناس بغير الإهمال والمعصية، فلا آفة أخطر على منزلة المبادئ ودعاتها في قلوب الناس كأن يروا هؤلاء الدعاة يقولون ما لا يفعلون. وقد وضح القرآن هذه الحقيقة المرة فقال: (كبر مقتا(941/13)
عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وقال: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)
إن الطعن في الديانات ونحوها من المبادئ ومحاولة التشكيك فيها لا ينال منها معشار ما ينال منها نفاق المبشرين بها. إن الطعن في المبادئ قد يوتر إيمان المؤمنين بها ويزيدهم إيمانا، ولكن نفاق الدعاة هو الذي يحل عقدة الإيمان بها في قلوب معتنقيها ويفسدها إفسادا، وتغري النفوس بعداوتها والكفر بها والتمرد عليها تحديا لنفاق دعاتها الذين يأمرون الناس بها وينسون أنفسهم وهذا هو البلاء العظيم
إن شر ما يسلط على مبدأ من عوامل الهدم هو أن يشتد تبشير حماته به بين الناس، بينما هؤلاء الحماة لا يسيرون عليه في نظر الناس. ولعل هذا يفتح عيون المنافقين من دعاة المبادئ والمثل العليا بيننا، فهم بمخالفتهم في سيرهم أقوالهم يشككون الناس فيها ويغرونهم أن يكفروا بها بشر مما ينال منها أعداؤها الذين هم بها كافرون، وعلى حربها قائمون
إن منافقا واحدا من رجال الدين أضر على دينه من ألف ملحد جبار. وإنه ليزعزع من مكانة الدين في ضمائرهم بنفاقه مالا يزعزع ألوف البراهين العقلية على بطلان الدين
وأن خيانة واحدة من زعيم سياسي أو وطني أو حاكم ممن يمثلون مبدأ أو نظاما في المجتمع ليشكك الناس في مبدئه أو نظامه ويزلزل من ثقة الناس به مالا تشكك وتزلزل منه ألوف الخيانات من غيرهم، ولا ألوف الأدلة العقلية ضد هذا المبدأ أو هذا النظام
لا بل تساهل واحد - فضلا عن خيانة واحدة - من جانب أحد القوامين على القانون - وهم ممثلوه في نظر الناس - يحمل الناس على الاستخفاف به والتمرد عليه وتحديه أكثر مما تحملهم عليه ألوف الجرائم يرتكبها من ليسوا من حماة هذا القانون وممثليه، وأكثر مما تحملهم عليه ألوف نقط الضعف فيه وجرائر الظلم في تطبيقه، لأن البراهين العقلية أضعف وسائل الإقناع وأضيعها عند البشر
وإن زلة واحدة من أب أو أم أو أخ أكبر، أو راع ما في رعيته - لتغري هذه الرعية بالزلل ما لا تغريها ألوف الزلات ممن ليسوا آبائهم ولا أمهاتهم ولا رعاتهم بأي صورة من صور الرعاية، وتجعل كل النصائح والإرشادات والديانات والقوانين ومكارم الأخلاق ضروبا من العبث الفارغ جديرة بالسخرية والتحدي لا بالطاعة والتوفير(941/14)
يقول كارليل: (إن العقيدة - مهما صحت وقويت - شيء عديم القيمة إذا لم تصبح جزءا من السلوك والخلق، بل هي في الواقع لا وجود لها قبل ذلك، لأن الآراء والنظريات لا تزال بطبيعتها شيئا عديم النهاية، عديم الصورة، كالدوامة بين الدوامات - حتى يتهيأ لها من اليقين المؤسس على الخبرة الحسية محور (تدور حوله عندئذ بصير إلى نظام معين. ولقد صدق من قال: لا يزول الشك مهما كان إلا بالعمل)
والعقيدة في نظرنا وفي الواقع لا يمكن أن تكون قائمة ولا صحيحة ولا قوية حتى تصير جزءا من السلوك والخلق، وهي بغير ذلك قيد مثبط لا باعث محرك هي قيد يلزم الإنسان بالسكون إلى حالة واحدة والجمود عليها والجبن عن التحول عنها وانظر ولو مجردا إلى غيرها، والقناعة بالبقاء فيها والرضا بها، والنفور من بذل أي جهد نظري أو عمل حتى في مناقشتها وتجربتها، وتحرمه كل رغبة في الحركة والعمل. أو هي - أحمالا - تحجر الإنسان حينئذ، وتقتل فيه بواعث الجهاد بالفكر أو بالعمل، وتبدو حينئذ تعصبا أو بلادة أو موتا والمعتقد في هذه الحال يحرص أشد الحرص على شكليات العقيدة، ويهمل روحها أشد الإهمال؛ لأن العقيدة في سريرته ميتة محنطة كالمومياء. فهو يغالط نفسه في حرصه على الشكليات عن وعي وغير وعي كي يخدر نفسه ويعميها التناقض الفاضح بين مقتضيات روح العقيدة وسلوكه المناقض لها، وفي ذلك وضع للثقة الزائفة موضع الثقة الصحيحة، أو العزاء الزائف موضع العزاء الصحيح
إن الحرص على شكليات العقيدة بعد موت روحها في السريرة الإنسانية ليؤدي وظيفتين أو يسد حاجتين من حاجات السريرة لا مناص منهما:
إحداهما: أنه يمنح السريرة الثقة بشيء ويملؤها به ولو كان وهما باطلا
والسريرة كالمعدة؛ فالمعدة بطبيعتها محتاجة إلى الطعام ولا غنى لها عنه، وهي إذا لم تجد الطعام الصالح لم يكن لها مفر من ازدراد طعام أي طعام، ولو كان متعفنا أو ساما يؤذيها أو يفسدها أو يقتلها، أو يؤذي الجسد كله أو يفسده أو يقتله، فالمعول عليه أن تمتلئ ولا تبقى فارغة ولو كانت تلفظ ما يدخلها فور ازدراده، وهي لا تكاد تلفظه حتى تطلب ما يملؤها ثانية ولو كان مما لفظته، لأن آلام الفراغ دونها آلام الموت
وكذلك السريرة الإنسانية: لا بد لها من الإيمان بشيء لأنها في طبيعتها محتاجة إلى(941/15)
الاستقرار لا على شيء أيا كان ما تستقر عليه، لأن شعورها بنفسها وبما حولها لا يتهيأ إلا باستقرار على شيء، ولا يتحقق إلا بهز وكل السرائر تؤمن لأن الإيمان وظيفتها، ولا توجد بل لا تتوهم سريرة تقوى على الحيرة والشك إلى ما لا نهاية وإن انتابتها فترات الحيرة أو الشك أحيانا قصيرة، كما أنه لا توجد بل لا تتوهم معدة تقوى على الجوع إلى ما لا نهاية وإن أمكن كل معدة الصوم مدة قصيرة أو طويلة حسب طاقتها دون أن تفسد أو تموت، ودون أن يفسد الجسم كله أو يموت
هذا - وما أكثر السرائر التي تفر إلى التسليم خوفا من عذاب الشك، وأقل السرائر التي تفر إلى الأفكار خوفا من عذاب الشك أيضا - أما السرائر التي تشك ثم تصر على الشك إلى ما لا نهاية فشيء وراء الواقع ووراء الوهم
إن السريرة إذا عجزت عن الإيمان الصحيح لجأت إلى الإيمان الزائف. الفرق بينهما أن الإيمان الزائف يقتنع بالشكليات ويكتفي بها عن الحقائق، وفي ذلك عزاء كاذب للنفوس الضعيفة، وسكينة كاذبة إلى مكانتها من الوجود، ومخادعة منها لها بأنها شريكة لأصحاب العقائد في كل مفاخرهم ومغانمهم في انتمائهم إليها
وثانية الوظيفتين أو الحاجتين أن الشريرة الضعيفة عاجزة عن احتمال مشقات الجهاد التي يستلزمها الإيمان بروح العقيدة وحقائقها. وهي بحكم ضعفها ضعيفة الضوابط منزوفة الصبر أمام أهوائها وشهواتها الحيوانية المنحطة. وما من عقيدة من العقائد إلا كانت مستلزمة ضبط النفس عن كثير مما تشتهي، محملة إياها ضروبا من جهاد أهوائها. والحرص على شكليات العقيدة - وهو لا يكلف النفس عسيرا من الجهاد - كفيل بان يبرز الإنسان أمام نفسه وأمام الناس على أنه من أصحابها، ويبيح له الحق في مفاخرها ومغانمها بلا ثمن أو ثمن زائف أو ثمن تافه، ولا حاجة مع ذلك كله إلى تكبد مشقات التجارب القاسية التي يستلزمها الإيمان الصحيح بروح العقيدة وحقائقها. فالحرص على الشكليات يعفي من كل عناء، ويضمن كل ربح، ولا يحرم النفس من الانطلاق في كل وجهة كما تملي عليها شهواتها الدنيئة. فما أربحها صفقة في عين صاحبها، وإن كانت في الواقع أخسر الصفقات، لأنها خسران للحياة كلها لقاء وهم زائف
كان المسلم مثلا على عهد محمد (ص) لا يحس بأنه حقيق بالإسلام حتى يضع حياته(941/16)
وأسرته وكل قواه وممتلكاته موضع الفداء لتعاليم دينه. وأوجب الإسلام على المسلم أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من نفسه وأسرته وأمواله. والمهم في ذلك هو أن الإسلام لم يلزم المسلم بكل هذه الفروض إلا ليقينه اقتدار المسلم يومئذ عليها، وقد كان ذلك. وأحيانا كان يضطر المسلم إسلامه يومئذ إلى تمزيق كثير من الروابط العزيزة التي تربطه بأسرته أو إخوانه أو قبيلته أو عرضه، وهي تنزل من بنية نفسه منزلة أعضائه من جسمه، فتمزيقها تمزيق لبنية نفسه كأنه نوع من الانتحار، وكان مع ذلك يقدم على تمزيقها وفي نفسه من الألم لذلك ما لا طاقة للحم والدم بهز وكل ذلك في سبيل واجب أعظم، هو تحقيق عقيدته وبسط سلطانها على كل سلطان. فابن من أبر الأبناء بالآباء يستل سيفه لقتال أبيه، وقتله نفسه أهون عليه من ذلك، ولكنه يخرج لقتاله حتى يعفيه غيره من هذا الموقف الرهيب الذي يسحق التفكير فيه العقل سحقا. وابن يهم باستلال سيفه لقتل أبيه وهو يحب أباه أشد الحب لأنه يحس أن النبي قد ضاق بكيده ونفاقه، فيتطوع هو بقتل أبيه إرضاء للنبي وغيرة على أبيه من أن يقتله مسلم غيره فيقتل قاتله المسلم به، ولكن النبي يعفيه من أداء هذه المهمة التي ينوء بحملها قلب بشري. ومسلم يخرج عن ماله الكثير الذي لم يجمعه إلا درهما درهما بشق النفس في عدة سنين. ومسلمون رضوا بضروب من شظف العيش يضيق بها المتسولون وفي أيديهم من السلطان والأموال ما لم يجتمع لكثير من القياصرة والأكاسرة والفراعنة حتى يوم كانوا يعبدون
وجرى على هذه السنة عشرات الألوف من معتنقي العقائد الدينية والمذهبية والوطنية في أوائل ظهورها
ومع ذلك نجد أن هذا الإسلام القوي الذي صنع الأعاجيب الخارقة في أولئك العرب على عهد محمد (ص) - قد عجز في ملايين الحالات اليوم وقبل اليوم عن الوقوف أمام أضعف الشهوات الطارئة، واكتفى الملايين في تحقيقه بالاسم يسمون به وبركعات وسجدات وتمتمات، وجوع ساعات، وإرسال لحي وإعفاء شوارب، مع استنباط الحيل واستنفادها للزيغ من تكاليفه، بل بلغ من ضعف سلطان هذا الدين في ملايين النفوس أن اتخذ ستارا لارتكاب ملايين الجرائم التي تتورع عن ارتكابها السباع الضارية، واتخذ في ملايين الحالات مخدرا بتجرعه الشرير ليسكت ضميره الفطري الضعيف عن تأنيبه على جرائمه،(941/17)
وقد يتخذه مسوغا يسوغ له جرائمه إرضاء لما طبع عليه من شر وضراوة
يتبع
محمد خليفة التونسي(941/18)
4 - عهد
للأستاذ محمد محمود جلال بك
في مستهل عام 1916 تلقيت من الصديق الراحل المرحوم أحمد توفيق البرطباطي كتاباً من أربع صفحات، كله شعر! قصيدة من جيد النظم، بلغت ثمانين بيتاً، همزية القافية، تؤيد ما ذهبت إليه من طول نفسه بقدر ما تؤيد اصطفاءه لوزن وقافية. ولو اقتصرت قصيدته على ما وصفنا لعدت من عيون الشعر
ولكن الشاعر - تولاه الله برحمته - ألهم فيها التعبير عن شتى النواحي من مذهبه في الحياة، حتى لأعدها ديوانا مستقلا، وإنها لتحفة رائعة. وقد نشرت في الصفحة 37 من ديوانه دون تأريخ، وحرص على أن يكون عنوانها (أرسلتها لصديقي محمد محمود جلال) وهاك مفتتحها: -
ضاع الرجاء فكن بحيث رجائي ... واحمل على حسن الوفاء وفائي
إن خان خل أو تغير صاحب ... فأنا الحري بحفظ عهد إخائي
أرسلت قلبي فهو عندك حاضر ... وبعدت حتى ما أبين لرائي
خوفا علي من العيون يواقظا ... من أن تخدش عفتي وولائي
وإذا رآني الدهر وهو مناوئي ... ومناصبي الأيام طول عدائي
ما بين أولاد له وبناته ... أغرى البنات وصاح في الأبناء
فبعدت عن أبنائه متحاميا ... أخواتهن مجانب الإيذاء
والمرء فيما بينه نسب وما ... بين أخته من جامع الآباء
أخفيت وجهي عنه لا عن فتية ... فضلاء مثلك غاية الفضلاء
يسري فيفعل فضلهم بحبيسهم ... ما يفعل المصباح في الظلماء
فهجرت هذا الناس لا عن رغبة ... في الهجر لكن كي أصون حياتي
أنا في الحقيقة من بقية معشر ... قاسوا الأمور بحكمة ودهاء
قست الأمور وسستها ببصرا أهدى ... نظرت به عيني إلى نظرائي
وطرحت أهواء الزمان وريبه ... كيلا أسب بخلة الأهواء
إلا هوى في نفس كل أخي حجا=تدلى حبائله ذرا العلياء(941/19)
لقد أحب العزلة وعزف عن ضوضاء المجتمع. أو أن حسه المرهف بكر إليه بالحقائق كأنه ينمو نحو من سبقه هاتفا:
بعدي عن الناس بعد عن سقامهم ... وقربهم للحجا والدين أدواء
كان نحيلا كثير الصمت دائم التأمل ولم تكن صحته بعيدة عن العلل، فهذه الحال في جثمانه وتلك في سلوكه وتفكيره وثيقتا الصلة، وكل منهما تدفع بالأخرى في تيارها
فكرة التأمل وطول الصمت توسعان مجال الخيال وإدمان الفكر، فينتجان! كتابا للحياة، وهذا التبرم بالعيش يؤثر بدوره في جسم صاحبه وصحته. كما أن ضعف الصحة يضعف الاحتمال ويرهف الحس عن طريق ضعف الأعصاب
عرضنا مرة في الحديث لحال الريف وأهله وما تقوى به الأواصر من تراحم بين الكبير والصغير وما في التعاون من دفع للبؤس والفقر. . . وإذا به يقص علي في تأثر بالغ أنه شهد أخاه الأكبر يوما ينهال بالضرب على قروي من أهل بلدته لسرقة بعض من أمطار الأذرة، والغريب أن الحادث كانت مضت عليه سنوات، ولكنه حين يرويه بكاد تخنقه العبرات، فهو لا يكاد يسيغه ولا ينساه، وكأنه أبن الأمس القريب!
على أنه في عزلته لا يصل إلى الحد الأقصى من مذهب الشاعر الذي ذكرت فهو لا يعيش
كالبيت أفرد لا إبطاء يدركه ... ولا إسناد ولا في اللفظ إقواء
بل لعله في مذهبه من هذه الناحية أقرب إلى المذهب القائل (الحمية من الناس كالحمية من الطعام شفاء من كل داء) فهو يصون حياءه ويصطفي قليلا من الصحاب يتحامى به جديدا من التجارب
وهو في نظرته للحياة وفي سلوكه بين تياراتها ثابت الوداد أليف الوفاء. . . يتغنى يه طربا حين تبسم له الحياة، ويزفر بذكره راثيا حين يسفر له الماء عن سراب
هاهو ذا يجعل من حفاظه طابع نفسه أو موضع اعتزازه وفخاره
إن خان خل أو بغير صاحب ... فأنا الحري يحفظ عهد إخائي
ويعود للمؤثرات وما يخشى منها على نفسه وعلى هذا الخلق الذي يعتز به فيقول:
وطرحت أهواء الزمان وريبه ... كيلا أسب بخلة الأهواء
وهل من عابث أشد فتكا بالمرء من أهواء الزمان وريبه؟ إن البعد عنهما يجعل من المرء(941/20)
موضع ثقة حتى من عدوه!. . . وإنك لتجد الرجل يحسن حكما عن أخيه وتسمع أسلوبه تطمئن به إلى الخير؛ فإذا جاءت الظروف بذكر رفيق آخر قرع سمعك العجب وفجعك التناقض، ذلك أن الريبة والهوى تختلطان بحكمه الثاني كما كانت له عونا في حكمه الأول، وإنما جهلك بصلة له بالأول مهد لفجيعتك بما مد لك من خيوط الأمل. في حلبة الإنصاف
أما أولئك الذين يطرحون الريب والهوى فقد حصنت أخلاقهم ووقاهم الله أعدى أعدائهم من نفوسهم، وهم على قلتهم حصن الفضائل وشعلتها المتوارثة على مر الدهور
ولعل أروع ما يعبر ن وحشته في هذه الدنيا وما أينتج له سقم صحته وإرهاف حيه من توجه إلى شبهة يأس قوله:
غاض الوفاء فلست ألقى صاحبا ... إلى بغير فضيلة ووفاء
ومن كانت هذه حاله كان قليل الخلطاء وأقل عددا من أصدقاء. وما عرفت له أكثر من صديقين كلاهما أكبر منه سنا. وتلك ظاهرة تستوقف النظر، وتميط اللثام عن عقل أرجح من المعتاد، وعن فكر يسبق السن. ولقد كان بعيدا عن اللهو مع حاجته إليه، عازفا عن العبث، قليل متع الحياة، وهما من أسباب العلاج
أما أحدهما فذو نشأة مدرسية تجعل فيما بينهما بعض المشاركة! أما بعد هذه المشاركة فلا وشيجة تربطهما من حيث اصطلاح العشرة ونوع الحياة ومذاهب الأخلاق! ولكن الشاعر لا يكاد يهبط القاهرة حتى يتلازما: كل منهما ظل لأخيه
أما الشاعر فعدته وفاؤه، وأما الصديق فرابطته إكباره لخلقه ومكانته، وتقديره لشعره، وله عون من ذوقه للأدب، وكذلك شاء الله أن يكون في كفتي الدوافع لدى كل منهما قرب إلى المنتصف حتى يتلاقيا
وأما ثانيهما فذو نشأة قروية، قريب الدار، وجيه في قومه، له شهرة واسعة من خلق كريم
والشاعر الراحل شديد الحنين إلى خليه حيثما يكون، ولا يفترق عن أحدهما أو كليهما ما جمعهما المكان، وشعره ترجمان لصداقته وحنينه، ولكل منهما نصيب منه
ولعل أبلغ ما يعبر عن فضيلة الإخاء ذلك الزفر المستمر، وتلك اللوعة الدافقة التي خلفتها فجيعة في إحداهما المرحوم الشيخ أحمد السيد)
ولقد قال بعض علماء الأدب إن الشاعر في شبابه قلما يجيد الرثاء إلا إذا كان المرثي من(941/21)
ذوي قرباه؛ ولكن ما هي القربى؟ أليست قربى الأرواح وتقارب الأذواق والنظرات؟ أليست العبرة بما يكمن في النفس من حب وتقدير دون نظر إلى نوع القربى أو تخصيص برابطة الدم؟ أو ليس للمرء من بين أهله أعداء ومن بين الأباعد أقرب الأقرباء؟ حتى قيل (رب أخ لك لم تلده أمك)
لقد رثاه بقصيدة طيبة شارفت على الأربعين بيتا، كل بيت فيها آية حب ووفاء. ثم تكررت مناجاته له في أكثر من موضع مع أن الديوان طبع قبل وفاته بسنوات، ولم يشمل إلا ما كان يحتفظ به حين تطوع أحد عارفي فضله بجمع شتاته وطبعه، وها هو يهتف باسمه ص 92 من الديوان:
قم خليلي واسمع نداء خليل ... لا يمل البكاء حتى يجيبا
قم أحدثك هل مللت حديثي؟ ... أن أمرا دهاك عني غريبا
أتشاغلت عن أخيك بشيء ... ما بهذا يلقى المحب حبيبا
ثم يصف صديقه وصفا يفصح لك عن الخلق الذي أحبه الشاعر وهام به طول حياته وجعله مقياسا لما يكبر فيه الناس
وترى لي حقا لتعرف حقي ... وتراه حتما عليك وجوبا
وتذهب نفسه حسرات على من فارق، فيخاطب الثرى الذي ضم رفاته:
إيه يا قبر إنما دفنوا فيك ... الأماني وأودعوك الطيبا
محمد محمود جلال(941/22)
موازنة وتحليل:
شاعران سجينان.!
للأستاذ محمد رجب البيومي
نحن الآن أمام شاعرين قذف بهما إلى غياهب السجن، ورسفا في القيود والأصفاد قدرا من الزمان، فلجأ كلاهما إلى القريض يبثه وجده، ويطارحه أساه!
والسجن رهيب موحش، ترتعد له الفرائص، وتقشعر منه الأبدان، وكما يفزع الأسد المكبل في قفصه الحديدي، فكذال يفزع الشجاع الصنديد حين يهاجمه الظلام في بقعة لا يراوحها الهراء، وأفزع منه الشاعر المرهف، ذو العاطفة المشبوبة، والوجدان المضطرم، فهو من إحساسه في عذاب أي عذاب وانظر إلى الطائر الغريد يخطف من أيكته الملتفة، ويحبس في الأسلاك المتشابكة، مقصوص الجناح، ثم ابعث عليه الحسرات
ولن نفكر اليوم في سجوننا المستحدثة بالقرن العشرين، فمهما بولغ في إيحاشها وتضييقها، فهي نظيفة محترمة تدرج فيها الشمس، ويمر بها النسيم، وليست كالسجون العباسية التي حبس بها الشاعران اللهيفان، إذ كانت نقمة من نقم الله، فهي لا تحتوي على منافذ - ومقاعد، ولكنها في الغالب سراديب متوغلة ممتدة في أعماق الأرض، يوضع فيها الأحياء كما يدفن الموتى في اللحود، وهي على ظلامها الدامس، حافلة بما يخيف من الأفاعي والهوام، وقد لا يجد السجين من المكان فير ما يسمح له بالجلوس وحده والويل له إن وقف أو سار! بل قد يمكث السجين طيلة نهاره فلا يجيئه السجان غير دقيقة واحدة، يقذف له بفتات الطعام وآسن الشراب، وهو مع ذلك يتلهف على لقائه، إذ هو رسول الأحياء إلى الأموات
وقد قدر لعلي بن الجهم أن يكون نزيل السجون مدة طويلة فانقلب إلى الظلام الموحش، بعد أن نادم المتوكل في قصر الخلافة أمدا طويلا، ونهل من النعيم والمسرة ما لا يقدر بثمن، وجلس على بساط السمر يحتسي الكؤوس ويعابث القيان، وتلك حياة أشبه بالأحلام
لقد كان بن الجهم خبيث اللسان، فاحش الهجاء، وقد تعددت وشايته إلى الخليفة بأصحابه حتى تيقن افتراءه ودسه فعاقبه بالسجن ليرتدع، ونزعه من أفواه البهجة ومطارف النعيم، ونظر الشاعر فإذا ألسنة السوء تلوك حديثه في كل مكان، فتزيد عليه ما يكابد من الغصص(941/23)
والأشجان. وقد استعطف المتوكل بقصائد باكية، فما نالت من قلبه المعرض أي منال، حتى توهم أن السجن قد أصبح مقره الدائم، أبد الحياة. هذا وأقوال الشامتين الساخرين تصل إليه في معتقلة فتمزق نياط قلبه وتخرق مسامعه فماذا يصنع لإسكات هؤلاء وقد صد عنه الخليفة أعنف صدود وأقساه؟ موقف محزن حقا وحالة تبعث الزحمة والإشفاق وقد رأى ابن الجهم أن يظهر ارتياحه لمحبسه، وقبوله إياه، في شعر يبعث به إلى الشامتين الساخرين ليقصروا ألسنتهم عنه، فنظم هذه القصيدة التي نعرض لها الآن، ذرا للرماد في الآماق، وتجلدا على نوائب الأيام
ومضت الأيام وخرج الشاعر من السجن، وبقيت قصيدته عزاء يندى على الرزوئين بالسجون بعد ذاك، فكانت الأنشودة التي يترنم بها هؤلاء المعذبون في ظلماتهم القائمة. . ثم رمى الدهر بعاصم بن محمد الكاتب العباسي إلى السجن فرأى من أهواله ما أقض المضجع، وأضرم الشجون، وقد كان يحفظ قصيدة ابن الجهم فرددها في نفسه، مرات ومرات، وأيقن أنها لا يمكن أن تعبر عن عواطف السجناء بحال، فهي وإن حفلت بأساليب العزاء والاستسلام، تجافي الواقع الصريح أعنف مجافاة، فاندفع ينقضها بقصيدة تضع الحق في نصابه أمام الناس. وها نحن أولاء نوازن بين القصيدتين لنرى أي الشاعرين أصاب حظا من التوفيق والإبداع
لقد كان ابن الجهم يعتقد أنه مقبل على أكاذيب فاضحة، فهو يدافع عن قضية خاسرة لا تجد الناصر المعين، ومن ذا يحبذ السجون من العقلاء؟ لذلك نجده يقمع عواطفه فلا يسمح لها بالظهور في مطلع قصيدته، ويستهدي بعقله الناصح فيهديه إلى غرائب التشبيه وفي التشبيه مجال فسيح للتلفيق والتنميق، حيث ينسى القارئ عادة ما بين المشبه والمشبه به من فروق، ويلهيه وجه الشبه الواضح عما هناك من أبعاد، وإذ ذاك يجد الشاعر الفرصة مواتية لما يريد أن يقنع به الناس
إن الخيال الزافر بالتشبيه ليحلق بابن الجهم في أجوائه البديعة فيرى السيف الصارم يغمد في جرابه بعد التجريد، ويلمح الليث الواثب يربض في غيله الأشب فلا يتردد في الآفاق كما تتردد صغار الوحوش، ويشاهد البدر المتألق يحتجب وراء الظلام فترة محدودة ثم يضيء واضح القسمات! كما يعلم أن النار المضطرمة تكمن في الحجر حتى يقدحها الزناد،(941/24)
والرمح القاتل تتناوله الأكف بالتثقيف وتلهبه النار حتى يستقيم، فإذا ما حجبه السجن بعد ذلك عن العيون، فله في السيف والليث والبدر والرمح والنار عزاء أي عزاء وأي عيب على الرجل إذا كان كالليث الصائل، والنار المضطرمة، والسيف البتار!
هذا منطق عجيب، وأعجب منه أن يقنع الشاعر بوجاهته وسلامته فأخذ بتلابيبه ليقول:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله ... كبرا وأوباش السباع تردد
والبدر يدركه الظلام فتنجلي ... أيامه وكأنها تتجدد
والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلي أن لم تثرها الأزند
والزاغبية لا يقيم كعوبها ... إلا الثقاف وجذوة تتوقد
فهل رأيتم ما فعل التشبيه؟ لقد كاد أن يجعل السجن أملا باسما بحلم به العيون في غفلات الرقاد، ولكنه لن يمحو الواقع الأليم، فالسجن حميم لا يطاق!
إن عاصماً الكاتب ليقرأ الأبيات ثم يقرنها بما يكابده في السجن من ويلات، فيرى أن كلام ابن الجهم يحتاج إلى تصحيح صريح، ولن يكون هذا إلا من شاعر قادر يدحض الحجة ويقيم الدليل؟ فمن يكون ذاك؟
لقد اعتمد ابن الجهم على التشبيه، فليأته عاصم منه، لينازله بسلاحه في حلبة البيان، وهنا يطهر الحق للعيان
وسيقف القارئ على المناحة الصاخبة التي تولول في أعماق عاصم حين يجده يصرخ في مطلع القصيدة بقوله:
قالوا حبست فقلت خطب أنكد ... أنحى علي به الزمان المرصد
لو كنت كالسيف المهند لم يكن ... وقت الكريهة والشدائد يغمد
لو كنت كالليث الهصور لما رعت ... في الذئاب وجذوتي تتوقد
تمضي الليالي لا أذوق لرقدة ... طعما وكيف يذوق من لا يرقد
في طبق، فيه النهار مشاكل ... لليل والظلمات فيه سرمد
فإلى متى هذا الشقاء مؤكد ... وإلى متى هذا البلاء مجدد
ولك أن تقرأ هذه الأبيات مرة ثانية، فستجدها تخاطب الشعور وتتجه إلى الإحساس، فتلتاع(941/25)
لها العاطفة، وسر ذلك ما تزخر به من الصدق والإخلاص
لقد كان الخيال الذي حلق به أبن الجهم ضعيف المنة، قصير الجناح، فالسير الحبيس ليس كالسيف أو الليث في شيء، وإلا فكيف يغمد السيف لدى الكريهة النائبة، وما خلق إلا ليمزق الأشلاء، ويسفح الدماء؟ وكيف يغضي الليث عما ينوشه من الثعالب والذئاب، وهي التي ترهب سلطانه الجبار؟ هذا ما فطن إليه عاصم، فاندفع ينقض أبيات صاحبه، ومعه الحق في دعواه ولكن لم يستطرد الشاعر فينقض التشبه بالبدر والنار، كما نقض التشبه بالسيف والليث؟ وذلك حتم أكيد عليه، لأن الشاعر الناقض فير الشاعر المعارض، فإذا قنعنا من المعارض بالتصوير الكلي، فلن نري من الناقض بغير الاستقصاء والثبات، ومثل من يعارض في شعر نقوله كمن يبني قصرا جوار قصرك، فهو لا يتقيد بأسلوبك ونظامك في البناء، وما عليه إلا أن يحدث بناء تشرأب أليه الأعناق، أما الشاعر الناقض فلا يبني بيتا جوار بيت، ولكنه يهجم في صرح مشيد، فعليه ألا يترك بعض المقاصر شاخصة للأبصار!
وقد صور عاصم ظلام السجن أو تشابه ليله بنهاره، وتأفف من غياهبه السرمدية، وشقائه المؤكد، وهو كلام لن تجد نظيره عند صاحبه، لأن الأول ثائر ناقم يذيع الفضائح والهنات، والثاني قانع راض يلتمس المحامد في كل مجال
ثم ماذا بعد ذاك؟
لقد لجأ ابن الجهم إلى الأسلوب الخطابي في تدليله، ولا عليه، فهو شاعر يستحث العاطفة ويخاطب الشعور، وقد وجد السجين يلزم حبسه كما يلزم الكريم بيته، ويزوره الناس في غياهبه دون أن يزور أحدا في رحابه، شأن العظماء المترفعين، فلم لا تحمد السجون على هذا التكريم العجيب!! ذلك رأي يعلنه ابن الجهم إذ يقول:
والحبس ما لم تغشه لدنية ... شنعاء، نعم المنزل المتردد
بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه ولا يزور، ويحمد
وهذا كلام مردود لا يقره عاصم، وقد شهد في محبسه كل مذلة وهوان، ومتى استراح السجين لزواره، وهم ما بين شامت يبدي التوجع، ويضمر السرور، وصديق يذري الدموع، ويرسل الزفرات، وهذا كذاك، يوقد الشجى في الضلوع، بزورته! وقد عرف(941/26)
عاصم ذلك فاندفع يقول:
ما الحبس إلا بيت كل مهانة ... ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت ... يبدي التوجع تارة ويفند
أو زارني فيه المحب فموجع ... يذري الدموع بزفرة تتردد
وواضح أن ابن الجهم يعترف بهذه الأبيات في أطواء نفسه، ولكنه يلفق الأدلة الوهمية كبتا للشامتين، ونحن نرفع شاعريته حين نعلم أنه يتصيد المحامد للقفر الموحش، وذلك مسلك وعر تتعثر فيه القرائح الجياد، أما صاحبه فيعف ما يرى في القفر الجديب من قسوة وجفاف، فهو يسير مع التيار، ولا يقف في وجهه متحديا العقبات والصعاب!
وقد تعجب لعلي حين ينسى موقفه الدفاعي، وتطغي عاطفته على عقله، فيرجو الفرج القريب، ويأمل الرخاء بعد الشدة:
فلكل حال معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عما تحمد
قد تعجب لذلك منه وتأباه، إذ أن المستريح في محبسه لا يحب أن يفوه بما يشير إلى الضجر والسخط، ولكن الحق ظافر غالب، وقد عجز الشاعر أن يتنكر لعواطفه إلى آخر الشوط، فعمد إلى إرضائها والترويح عنها، وهو بذلك يلتقي مع صاحبه عاصم في مأساة واحدة، وخطب مشترك، فلا مجال للمناقضة بعد ذلك، وقد ذهبا معا يتوسلان ويعتذران، عسى أن يصيبهما حظ من الصفح والغفران
ولقد كان ابن الجهم بليغا في اعتذاره، متفوقا على صاحبه، فهو يدعو إلى النصفة والسداد، ويود لو اجتمع في مجلس واحد مع خصومه أمام الخليفة ليدحض الحق الباطل، إذ ليس من العدالة أن يتحكم الشاهد في الغائب فيوفر عليه الصدور، وينهشه ما استطاع، اسمعه يقول:
أبلغ أمير المؤمنين ودونه ... خوف العدا ومهامه لا تنفد
إن الذين رموا إليك بباطل ... أعداء نعمتك التي لا تجحد
شهدوا، وغبنا عنهمو فتحكموا ... فينا، وليس كغائب من يشهد
لو يجمع الخصماء عندك مجلس ... نوما، لبان لك الطريق الأرشد
والشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والبيت الأخير ممتاز رائع، وهو فوق إقناعه السديد يدل على ما يعتقده الشاعر في نفسه(941/27)
من سمو وسموق، ونحن نستطرف قوله:
شهدوا، وغبنا عنهمو فتحكموا ... فينا، وليس كغائب من يشهد
إذ ينبئ عن الظلم الفادح الذي لحق الشاعر بابتعاده عن مقارعة الوشاة، وقد ذيل البيت بحكمة صادقة تضمن له البقاء
أما عاصم فقد نهج نهجه في الزلفى، وراح يتحدث لسيده معتذرا معاتبا، ويحوم إلى أفكار صاحبه إذ يقول عن وليه
فذبت حشاشة مهجتي بنوافل ... من سيبه وصنائع لا تجحد
عشرون حولا عشت تحت جناحه ... عيش الملوك وحاجتي تتزيد
فخلا العدو بموضعي في قلبه ... فحشاه جمرا ناره تتوقد
فاغفر لعبدك ذنبه متطاولا ... فالحقد منك سجية لا تعهد
وهذه أبيات لا تقرن بالأبيات الأولى فهي خالية من القوة والتأثير، وإن رافقتها في بعض المعاني فضلا عن الغرض العام. ولست أستطيب كلمة الحقد في البيت الأخير، فهي أبعد ما يكون عن المقام، إذ لا يليق أن يوصف بها إنسان يعتذر إليه ويتزلف عنده، هذا إلى القوافي المستكرهة التي ألصقت إلصاقا بالأبيات!
ولن نختم الحديث عن المقطوعتين قبل أن نجمل الموازنة بينهما في أسطر محدودة. فنقرر أن أسلوبهما سلس رقيق، وأن عليا رغم وعورة مسلكه، وتحديه لشعوره وعواطفه، قد هدى عاصما إلى ما نظمه من المعاني، وفتح عليه بما لم يكن يخطر له على بال، كما ارتفع عنه حين سارا معا في الاعتذار والعتاب فجاء بما لم يتطاول إليه عاصم، وإن كنا نأخذ على الشاعرين معا ضيق الأفق، وعصر النفس، وسذاجة التفكير، رغم اتساع المجال، وفي ذلك بلاغ
محمد رجب البيومي(941/28)
حول مستقبل الأزهر:
الاستقرار أولا
للأستاذ كامل السيد شاهين
إنا وما نكتم من أمرنا ... كالثور إذ قرب للناخع
أو كالتي يحسبها أهلها ... عذراء بكرا، وهي في التاسع!
كنا نرى فيها، فقد خرقت ... واتسع الخرق على الراقع!
إذا كانت الهزات الاجتماعية، والحروب الكاسحة، معوقة للتقدم العلمي، حائلة بين ركب الحضارة وبين الخطو للأمام، فإن الزلازل التي بلى بها الأزهر منذ ست عشرة سنة، جديرة أن تهزه هزا عنيفا يكاد يفقده سمعته العلمية، ويشكك الناس في رسالته، حتى ليوشك أن يبقى اسما فارغا تحته واقع من الفوضى العمياء، والتهويش المخرب، والجهل العميق، والجعجعة الكذوب!
وإذا كان الأزهر في فتائه وإخلاصه للعلم، واستفراغ جهود أبنائه في الدرس، وتوفرهم على البحث - لم يستطع أن يساير الركب إلا لاهثا منهوكا، فأحر به وقد انصرف بنوه رؤساء وأساتذة وطلابا إلى الشغب والاضطراب، وتنور الحركات السياسية المشئومة، والجري معها كما تهوى الأغراض والمنافع، وإرسال الخطب تغريرا بصغار الطلاب ومغفليهم، أحر به وقد انصرف بنوه إلى ذلك كله أن يكبوا كبوا لا يسرع معه إلى النهوض، وأن يكون بمبعدة من ركب الحياة النشط الجاد، لا يدركه إلا بالعجزة بخرق العادة، وتأتي بما وراء الظنون!
امتازت السنوات التي قضاها الشيخ الأحمدي شيخا للأزهر (بين سنة 29 وسنة 34) بأنها كانت مخلصة للعلم والدرس والنظام، ولقد أفاد الطلاب والأساتذة على السواء من هذه النهضة المباركة، ولا يزال من أصابوا حظهم من الدراسة في هذه الفترة، على قدر من الثقافة الأزهرية المؤصلة التي لا تحوج إلا إلى قدر يسير من المعاودة والمراجعة، ليستوي صاحبها عالما ملما متهيئا للإفادة
ولئن كان الشيخ الأحمدي قد أثم أكبر الإثم بما جارى من السياسة الغشوم باشا في تلك الفترة، فأرهب الطلاب والأساتذة، واتخذ بعض العلماء عيونا على بعض، وعاقب بالظنة،(941/29)
وبطش البطشة الكبرى بمن تحوم حولهم شبهة، وكان غليظ القلب في مصادرة الأرزاق، وتشريد الأسر، حتى أصبح الأزهر كله فرقا يموج بالدس والنفاق، وصار أساتذته في ذلة واتضاع من قلة الرواتب وسوء الحال. . . لئن أثم الشيخ الأحمدي هذا الإثم كله لقد ازدهرت الناحية التعليمية في عهده كل مزدهر، وآتى الاستقرار ثمارا لا تزال حلاوتها ملء الأفواه إلى يوم الناس هذا
وأقبل عهد الشيخ المراغي فكان فيه الخير والشر. كان خيره على الجيوب والبطون، وكان خيره على الكرامة الأزهرية والسمعة الخارجية الداوية، وشره كان على العلم والاستقرار، وكان على الإنتاج التحصيل والإعداد
حينما ثار العلماء والطلاب بالشيخ الأحمدي، وهتفوا بالشيخ المراغي، كانت دعواهم الإصلاح والنهوض. فإن كان الإصلاح الذي يريدون إصلاح الرواتب وإصلاح الجو الأزهري، وإصلاح سمعة الأزهر، فقد تحقق لهم من ذلك بالشيخ المراغي كثير مما يبغون. وإن كان الإصلاح الذي يرجون إصلاحا علميا، ونهضة واثبة لتحقيق رسالة الأزهر، فقد ساروا في ذلك خطوات فسيحات، ولكنز. إلى الوراء!
جاء الشيخ المراغي وفي صدره حب طاغ للأزهريين بعامة، وللطلاب بخاصة. وانثغرت الثغرة الأولى في عامه الأول، فلم تتم المقررات، ليس في الكليات وحدها، بل في المعاهد كذلك، ونادي منادون أن تريث المشيخة بالامتحان حتى يتم الطلاب دروسهم شرحا. وكان حل لهذا المشكل، ولكن على حساب العلم؛ فأوحى إلى وضاع الامتحان أن يكون في المقروء لا في المقرر، فكان هذا بدء الانثلام
وبعد هذا بدأت إضرابات واضطرابات كان يعالجها الشيخ بكثير من الرفق، وفق هوى الطلاب. فاستشعر الطلاب أنهم جانب ذو بال في تسيير دفة الأمور، فعزلوا وولوا، وكان ممن عزل بالهتاف والوقيعة، وممالأة الطلبة، الشيخ الضرغلمي شيخ معهد أسيوط، والشيخ السرتي شيخ معهد طنطا، وأمر أمر الطلاب إلى حد كبير حتى كانت المشيخة تتنور اتجاهاتهم ورغباتهم لتسير كما يطوع هواهم
نسيت المشيخة أن الطلاب لهم قلوب وآراء واتجاهات، وأن شراء ذممهم بالمال تربية سافلة، وسنة قذرة يجب أن تتوقاها مشيخة كريمة جهد التوقي(941/30)
نسيت المشيخة أنها بذلك تعلم رجال الأحزاب احتقار الأزهر وآله الذين يسخرون بالدراهم، ويسيرون بالرشا. . ولقد ذهب الطلاب إلى الدكتور ماهر ذات يوم يطلبون إليه أمرا من أمور الأزهر، ويذكرونه فضلهم في خدمة الحكومة القائمة. فأجابهم: أما ما تذكرون من الفضل. . فلا. . فقد قبضتم الثمن!
هذا العمل كان جديرا أن يصدر من شيخ غير المراغي العظيم، ولكن الشيخ - غفر الله له - باع الأزهر في سبيل الكيد والمغايظة، ولم يعبأ بانتقاء السلاح الذي ينبغي له استعماله
إن من الإجرام أن يسير الأزهر في ركاب حزب من الأحزاب. وإن من الإجرام أن يحاول حزب من الأحزاب أن يلون الأزهر بلونه. يجب أن تتوقى الأحزاب جرجرة الأزهر واستغلاله في مهاترتها ومناوراتها ومكايدها. وإذا كان لا بد للأزهر أن يتحزب، فليتحزب تحزبا إسلاميا يتفق مع دراسته ورسالته
لقد كان من الآثار الباقية لهذه الحركة المشئومة أن آمن الطلاب والأساتذة من يومئذ بأن الاضطراب أمر مشروع تسنه المشيخة وتباركه وتكافئ عليه وتدعو له، وأن الامتحان مأمون الخطر ما دام في المقروء، وما دام الأساتذة في أيدي التلاميذ، يقرءون ما أراد الطلبة لهم أن يقرءوا، وينتهون إلى حيثما يريد الطلبة بهم أن ينتهوا. . وتخرج على هذا الوضع متخرجون هم في الجهالة ما هم!
وانتهى عهد الشيخ المراغي وقد خلف للأزهر فسادا شاملا وسننا من أسوا ما ضرب للمتعلمين في أي معهد من معاهد التعليم
فإذا كان للشيخ مناح محمودة مشهودة من خلقه ووفائه، ومن عزته وإبائه، ومن علمه وجلالته، ومن حفاظه وكرامته. فليس هذا عليه بمنكور، ولكنا لسنا بصدد التحدث عن ذلك؛ وإنما نحن بصدد الحديث في أمر الفوضى والاستقرار، فليطرد فيه الكلام حسب
من بعده تولى الشيخ مصطفى عبد الرزاق، وقد جاء وصدره تتزاحم فيه الآمال. وأنهى إلى الأزهريين أنه راغب أن يدفعهم إلى الأمام بكلتا يديه. . ولكن مثقلة من انحلال خلقي، وتكتل إقليمي، ونزوع للفوضى، مما يحتاج في علاجه إلى صلابة وجه، وشدة جسم. . . أمر يتكاءد رجلا موفور الحياء، جم التواضع، بالغ الرقة، كالشيخ مصطفى أن ينجح في علاجه وتصفيته. إذن فقد مضت الأمور آخذة أخذها القديم، ولم يتأذن الله للشيخ مصطفى(941/31)
أن يغير من أمر الأزهر شيئا، ولم يكن الشيخ بطبيعته رجل هذا التغيير. . لقد مات الشيخ مصطفى مغيظا حزينا متأثرا بنداءات خشنة مجانبة للذوق والأدب، صكت سمعه في حرم الأزهر. . لقد قتل الشيخ مصطفى مظلوما. . ظلمه النقراشي باشا إذ ولاه - على رغمه - مشيخة الأزهر!
وما كاد الشيخ مأمون يقتعد كرسي المشيخة، حتى قرب وباعد، وسر وساء، ولكن في مدى معقول غير متطرف، وسار في الأزهر سيرة تعد مزيجا من (الدودشة) والدهاء. والحق أنه عزم ليردن الطلاب إلى الدرس والنظام وليقيمنهم على الطريق، وحاول ذلك جاهدا، وأذن في المفتشين ليرابطن كل مفتش في معهد لا يرميه شهرا، ثم ينتقل إلى آخر ويخلفه مفتش آخر، وكانت سيرة محمودة لو كتب لها النجاح. . ولكن ثقل النظام على الطلاب، وبرم الأساتذة بالدرس المستقر، فتلمسوا الفرص - وما أكثرها - ورجعوا لما اعتادوه من الفوضى والشغب. وحاول الشيخ أن يعالج هذا الاضطراب بضبط الامتحان؛ ولكن الطلاب قد دخل في روعهم - من قبل - أن النجاح حق لهم، وأن الغش حل، بل يدافعون عنه بالهراوي والمدي والغدارات. . . وفعلها الطلاب، ودخلوا بالكتب، وزادوا عن حقهم ما أطاقوا، وكانت حوادث، وظهر من شيوخ المعاهد من يحمي الغش ويدافع عنه ويواطيء الطلاب عليه، وظهر من الأساتذة المراقبين من يدير ظهره ليراقب المشرفين حتى إذا بدا منهم أحد اتجه إلى الطلاب يزجوهم إخفاء ما استعلن. غير أن بعض الشرفين آثر الأمانة في معهد قنا، وصدق المشيخة ما هنالك، فألغت الامتحان، وكانت هذه خطوة جريئة مشكورة
ولكن الشيخ أدركه الهرم، واضطربت أعصابه، وبقي مع ذلك يصرف شؤون الأزهر، ويقوم عليها مصبحا ممسيا، فخرجت الأمور معتلة مختلة، ولم تجن المشيخة ثمار الحزم، وعاد الطلاب إلى الفوضى والاضطراب على أشنع وجه وأبشع صورة
ومما زاد النقمة على الشيخ أنه شايع السياسة، واضطهد الإخوان المسلمين حين كانت السياسة تضطهدهم، وكان جديرا بمشيخة الأزهر أن ترفع يدها فلا تحارب قوما يؤدون رسالة هي لباب رسالة الأزهر ومخهاز وأياما كان فقد أسف الشيخ شر إسفاف بجريه في تيار السياسة التي يجب أن يباعد بين الأزهر وبين رذائلها جهد المباعدة(941/32)
وما كاد الشيخ عبد المجيد سليم يتولى المشيخة حتى أعلن أزله خططا منهجية يريد الأخذ بها، ولكنه فوجئ بمطالب، ونوهض بمصاعب، ردته عما كان يولي وجهه شطره من إصلاح. ثم أدركه الضعف فدخل مجلس الأزهر عنصر سياسي يتكلم باسم الحكومة، ويقدم طلبات المشايعين لها، ويتعصب لهم ويحمل المجلس على احتظائهم؛ لأن في رفض طلبه إهانة للحكومة واستخفافا بها، والنار والدمار للمجلس وللأزهر كله، إذا لم تسمع كلمة الحكومة، ولم يستجب لندائها
وقرب على هذا الأساس ناس، وبوعد ناس، وعاد شيخ الأزهر بعد مرضته ليلقى باليدين وبالجران لهؤلاء الذين يتكلمون باسم الحكومة، بلا مخالفة ولا اعتراض، لأن في المخالفة الشر كله
ولقد ضخم الوهم من أمر العنصر الطارئ ما ضخم حتى صارت إشارته حكما، والاستجابة له غنما، وحتى أصبح المجلس بوقا ينفخ فيه واحد فتخرج منه أصوات كثيرة عدد أعضاء المجلس الموقر، كلها منسجمة ملتئمة، لا شذوذ فيها - بحمد الله - ولا نشوز
وإذا كنا نستنكر من الشيخ المراغي أن يجيش الأزهر عام 1938 لمحاربة الوفد، فإننا نستنكر على هذا العهد أن يطا من رأسه كذلك للرغبات الحزبية أيا كان مصدرها
وإذا كنا نعز الأزهر عن أن يسير في ركاب محمد محمود والنقراشي وعبد الهادي، فإننا نعز الأزهر كذلك عن أن يسير في ركاب مصطفى النحاس
وإذا كان الهتافة في عهد السعديين مسلطين على رقاب الأزهريين، وكان الهتافة في الوفديين مسلطين على رقاب الأزهريين، فإن ذوي الكفاءات جديرون أن يعفوا أنفسهم من الجهد والعمل والجد، وأن يتربصوا بالزعماء في دورهم وفي أفواه الطرق وأعراض السرادقات هاتفين مصفقين، أولا، فليتخذوا غير الأزهر مكانا يحترم العلم، ولا يضعف أمام الحزبية كما فعل الدكتور محمد يوسف موسى
على أن الحكومة ما تفتأ تنادي بتلطيف حدة الحزبية، فيعلن وزير فيها أنه وزير للعلم لا للسياسة، ويصرح آخر بأنه يربأ بنفسه أن يكون عضوا في حكومة لا تحترم الكفاءات. . . فهل سمع الأزهر. . . وهل وعى؟
يجب أن نعالج الأزهر أولا بالاستقرار، ودعم الاستقرار لا يكون إلا بالقضاء على(941/33)
الجرثومة الخبيثة، جرثومة الحزبية، ثم يطلب منه أن يؤدي رسالته. فأما وهو على هذا النحو، فأمر من يبغون منه الخير، أمر من يطلب من مريض المفاصل أن يسير وثبا، وهو في كل لحظة يكب لوجهه كبا!
هذا ما رأينا من حال الأزهر، صورناه كما علمناه غير متجنين على أحد، ولا محابين أحدا. ونحنن نعلم أن ذلك سترم له أنوف، وتوغر منه صدور، ولكنا آثرنا أن نضع الأمور في نصابها، ليعلم امرؤ أن التاريخ غير راحم، وليرى أين يضع نفسه
كامل السيد شاهين
المدرس بمعهد القاهرة(941/34)
الشر الطريف
للأستاذ ثروت أباظة
هي الصكة التي إن أخذت لم تذر، وإن حمت لم تدع لصاحب العقل عقلا، أو لصاحب الفؤاد فؤاداً، وهي لا تدع لذي الحياة حياة وتنحط أول ما تنحط فيفقد الإنسان قوامه وتطير نفسه بددا، حتى إذا تراجعت اليد التي أنزلتها رجع الإنسان إلى بعض الرشد منه فيبين له أن الله قد أقام الرجل رجلا حتى يملك زمام أموره، يسيرها فتسير، ويصرفها فتنصرف، فإذا استقام هذا التفكير وجرى في سننه أصبح الرشد الآئب أكبر من الرشد الهارب، واتكأ المصدوع على سنة الله في عباده فيرتئب الصدع أو يكاد، وتستقيم النفس بعد التواء. وبعد ففي كل شر خير، وخير معرفة الصاحب مخلص الصحبة، من العدو مضمر البغض، خير قديم يلازم كل شر ولا جديد فيهز وقديم كذلك أن أقرب الناس إليك قد يكون أشدهم بغضا لكز فهو يخفي بغضه حتى تصيب الصكة وينزل البلاء على صاحبه، فيزاحم ببغضه هذا البلاء ويستبق إلى إنزال الشر كأنه جزء منه، ينزله فلا يملك المبتلى إلا أن يصرخ (حتى أنت؟) فإذا الصرخة في نفس العدو فرحة؛ فهو موغل في شره. حتى إذا تبين له أن كيده مردود، وأن الله قد أقام الرجل رجلا حتى يملك زمام أموره، يسيرها فتسير، ويصرفها فتنصرف. . . يبين ذلك فإذا صاحب الشر مسترجع شره، يضعه في نفسه نارا تحترق ولا تحرق غيره! فياله من مسكين! هذا هو طريف الشر إذن. . آدمي ذو عقل وصاحب قلب يختزن في نفسه النار وتحرق قلبه وهو قلبه، ويملك عقله، ولا يملك عقله أن يبعد عنه النار، ويحه فما يجديه!! ترى أي سبيل يسلك حين تنفرج الأزمة وتنفك العقدة، أهو راجع إلى ما كان يحاول إظهاره من ود؟ أم هو مستقيم مع الشر الذي زاحم فيه وبه؟ أما صاحب البلاء. أما هو فما مصيره مع هذه الشرور التي كان يظنها خيرا؟ أهو مصدق نفاقهم الذي كان يظنه حبا؛ أم هو مستبد بعقله مانع شر الشرير باللفظ الخشن والوجه الملتوي! يا هادي السبيل؟ ما السبيل؟ أهو التغابي الدال على الذكاء يرافقه الخبث المبين عن التجربة؟ أم هو الصدق الدال على الاستبانه تمازجه الصراحة الواضحة عن النقاء؟ يا هادي السبيل! أكاد أسمعك تقول وهل الدنيا إلا اصطناع غباء وتجربة؟ وهو السبيل الأول. . هو السبيل
ثروت أباظه(941/35)
عظة لوزراء اليوم
الشعراء عند عمر بن عبد العزيز
للأستاذ علي محمد حسن العماري
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ثامن خلفاء الدولة الأموية، وجده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولا شك أنه ورث عن جده هذا كثيراً من صفاته، فكان عادلا زاهداً متقشفاً حتى عده المؤرخون في سياسته وعدله خامس الخلفاء الراشدين. وقد ظل الناس خصوصا أهل البيت نحوا من ستين سنة يعانون أنواعا من الشدة والاضطهاد في دولة بني أمية؛ حتى جاء عمر ابن عبد العزيز على رأس المائة الأولى للهجرة، فملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا!
وفقد تولى عمر الخلافة وهو كاره. وكان بوده قبل أن تصير إليه أن يبعدها الله عنه، وأن يثني عزم الخليفة سليمان بن عبد الملك عن العهد إليه ولكنه لم يجد سبيلا، فلما وقع الأمر وصارت إليه الخلافة كانت أول كلمة قالها (أنا لله وأنا إليه راجعون) كأنما وقع في شر عظيم. ولا عجب فقد كان يقول: (أنا أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا ومسألة غليظة إلا ما عافى الله ورحم)
كان ورعا زاهدا تقيا فرفع يده عن بيت المال فلم يأخذ منه شيئا، وكف يده عن الفيء فلم ينل منه كثيراً ولا قليلا. وقد حبب إليه أصحابه أن يأخذ من بيت المال مقدار نفقته وقالوا إن جدك عمر بن الخطاب كان يأخذ درهمين كل يوم، فردهم قائلا: إن ابن الخطاب لم يكن له مال فحق له أن يأخذ، وأنا مالي يكفيني
ونذهب نفتش عن مورد رزق أمير المؤمنين الذي تمتد دولته من الصين شرقا إلى بلاد المغرب غربا، فنجد له عبدا يسمى (درهما) يحتطب له - وهجد درهما يضيق بعيشه، ويتبرم بحياته مع هذا الخليفة الزاهد المتقشف، فما هو إلا أن يسأله الخليفة - ماذا يقول الناس يا درهم؟ وهنا ينفث الغلام عن ذات صدره ويجيب الخليفة - وما يقولون؟ الناس كلهم بخير، وأنا وأنت بشر! إني عهدتك قبل الخلافة عطرا لباسا فاره المركب طيب الطعام، فلماذا وليت ورجوت أن أستريح وأتخلص، زاد عملي شدة وصرت أنت في بلاء،(941/36)
فيقول له الخليفة: اذهب وأنت حر، ودعني وما أنا فيه حتى يجعل الله لي منه مخرجا
ويحرم عمر أولاده المال ويباعد بينهم وبين ترف أولاد الخلفاء، حتى يموت وليس عند أولاده شيء. ولقد أحضرهم قبل موته وهم يومئذ اثنا عشر غلاما فجعل يصعد النظر فيهم ويصوبه حتى اغرورقت عيناه بالدمع ثم قال: (بنفسي فتية تركتهم! يا بني إني مثلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحد في النار. قال الرواة - فما احتاج واحد من ولد عمر ولا افتقر
أما الشعراء فكانوا في ذلك العصر الصعاليك السادة، يسيطرون على الحياة الأدبية في الدولة، ويعيشون عيشة الترف والنعيم، يأخذون من عطايا الخلفاء وجوائزهم، فما هو إلا أن ينبغ الشاعر حتى يقصد الوالي فيمدحه، ثم تسمو همته فيرحل إلى الخليفة ويمدحه فيرجع بالمال الوفير والخير الكثير ولم يكن الشاعر من هؤلاء. يعنيه أن يقول الحق أو الباطل، بل كثيرا ما كان يقول غير ما يعتقد، ويعتقد غير ما يفعل. وكان الخلفاء يبذلون للشعراء بسخاء ويعطونهم من بيت مال المسلمين ما نعده نحن إسرافا وفوق الإسراف، بل وما كان بعده معاصروهم من المتورعين ظلما للمسلمين واعتداء على حقوقهم. ولكن الخلفاء كانوا مستريحين إلى هذه الحال، لأن الشعراء في ذاك الوقت أشبه بالصحف الحزبية في وقتنا الحاضر ينشرون فضائل الأصدقاء، ويذيعون مساوئ الأعداء، وكان الأمويون بخاصة يريدون أن يشغلوا الناس حتى لا يتحدثوا في السياسة العليا ووجدوا في الشعراء شاغلا لهم أي شاغل. وقل من الشعراء من كان يربأ بنفسه أن يكون مطية لخليفة أو والي أو أمير. وقف عمران بن حطان الخارجي على الفرزدق وهو ينشد شعره فقال عمران:
أيها المادح العباد ليعطي ... أن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المقسم العواد
لا تقل للجواد ما ليس فيه ... وتسم البخيل باسم الجواد
ولكن هيهات أن يستجيب الفرزدق أو أحد أصحابه الشعراء لهذا النبل. وقد كان من عادة الشعراء أن يفدوا على الخليفة الجديد يهنئونه وينالون منه يسره وخيره فلما تولى عمر بن عبد العزيز وفدوا إليه - كعادتهم - مؤملين طامعين واجتمعوا ببابه منتظرين الإذن، ولكنه(941/37)
لم يأذن لهمز وكان على الشعراء أن يدركوا، فإن الخليفة حرم نفسه وحرم أهل بيته؛ فقد اجتمع الأمويون ببابه يوم تولى الخلافة وأعلمه الحاجب بمكانهم، فقال له: ما يريدون؟ قال الحاجب ما عودتهم الخلفاء قبلك. وكان معه ابن في سن الرابعة عشرة فقال: يا أبي دعني أجبهم عنك، فأذن له فخرج وقال: - أبي يقرئكم السلام ويقول لكم - إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم - كان على الشعراء أن يتنبهوا ولكن الطمع أعمى أبصارهم فتوسلوا إليه ببعض جلساته، فقال يا أمير المؤمنين: الشعراء ببابك وأقوالهم باقية وسهامهم مسمومة - قال عمر مالي وللشعراء؟ - قال صاحبه: يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكل مسلم قال: صدقت فمن بالباب منهم؟ قال ابن عمك عمر بن أبي ربيعة، قال: لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه، أليس هو القائل:
ويا ليت سلمى في القبور ضجيعتي ... هنالك أو في جنة أو جهنم
والله لا دخل علي أبدا. فمن بالباب غيره؟ قال: جميل بن معمر العذري - قال عمر هو الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت ... يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب ... إذا قيل قد سوى عليها صفيحها
أضل نهاري لا أراها ويلتقي ... مع الليل روحي في المنام بروحها
أغرب به، فو الله لا دخل علي أبدا - فمن غير من ذكرت؟ قال: كثير عزة، قال هو الذي يقول:
رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا
فمن بالباب سواه؟ قال الأحوص الأنصاري - قال أبعده الله، ثم من؟ قال همام بن غالب الفرزدق، قال لا دخل علي أبدا، وذكر لكل منهما شعرا يفسقه به ثم قال فمن غير من ذكرت؟ قال: الأخطل التغلبي قال: أليس هو القائل:
فلست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنسا بكورا ... إلى بطحاء مكة للنجاح(941/38)
ولست بقائم كالغير يدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا ... وأسجد عند منبلج الصباح
فو الله لا وطئ لي بساطا أبدا، وهو كافر. فمن بالباب غير من ذكرت؟ قال: جرير بن عطية قال: فإن كان لا بد فهذا - فلما مثل بين يديه قال اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقا، فأنشد قصيدة من رائع الشعر يشكو فيها ما أصاب قومه، ويذكر ما يرجونه من جود الخليفة وعطفه، ويمدح عمر مدحا سريا وفيها يقول
كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن به ... خبلا من الجن أو مسا من البشر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
أتى الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
فقال يا جرير والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله (يريد ولده) ومائة أخذتها أم عبد الله. يا غلام أعطه المائة الباقية، فخرج جرير يقول - إنها لأحب مال كسبته إليز ويسأله الشعراء: ما وراءك؟ فيقول: ما يسوءكم. خرجت من عند خليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء. . وإني لراض عنه
على محمد حسن العماري(941/39)
قانصوه الغوري سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الرابع
أقوال وأحاديث
قال التاجر: يبدو أن السلطان مولع كل الولوع بإقامة المباني الجميلة والمنازه الرائعة الممتازة
المستوفي زكي الدين: نعم إنه لكذلك. ولعلك تشير إلى ما أسسه في الميدان تحت القلعة، ذلك الميدان الذي كان فناء موحشا، وفضاء خاليا. لقد صيره قطعة من الجنة، وأصبح بما بناه فيه من القصور، وما أنشأه من البساتين وما غرسه من الأشجار، منزها ممتازا من منازه مصر. وقد أنفق في سبيل ذلك نحوا من ثمانين ألف دينار. . . لقد بدأ بتعلية حيطان سوره ودك أرضه وتسويتها. ثم بنى في وجهته الغربية مقعدا وقصرا فخما وحجرة خاصة وبركة جميلة كبرى يبلغ اتساعها نحوا من أربعين ذراعا، وبنى غير ذلك فيه من الأبنية
وقد جلب إلى بساتينه أشجار الفاكهة من مختلف الألوان وأعواد الأزهار والرياحين، وأجرى إليها المياه من النيل، برفعها السواقي في مجار خاصة
وأنشأ كذلك قصرا على باب الميدان، وطلا على الرميلة، ومهد الطريق بين القلعة والميدان بممشى جميل يتصل بالقصر بوساطة سلالم لطيفة. وأقام للميدان بابين أحدهما كبير ضخم، وهذا فضلا عما بناه من سبل وما جدده من أبنية. فقد جدد من قاعات القلعة الشهيرة، قاعة العواميد، والقاعة البيسرية. ولقد علمنا أنه أغلظ على القاضي شهال الدين أحمد ناظر الجيش هو وأخوته بأن ينزعوا الرخام النفيس من (نصف الدنيا) وهي قاعة والدهم المشهورة، ورخامها نادر المثال، أنفق أبوهم في سبيل اقتنائه مالا جزيلا، وجهدا وفيرا. وكانوا يعتبرون هذا الرخام أثرا عزيزا من آثار أبيهم. فانتزعه منهم السلطان قوة وقهرا، ليجمل به هاتين القاعتين وغيرهما. فأصبحت كل منهما زينة للناظرين، وفتنة للعيون؟ وبعد تجميلها انتقلت خوند زوجة السلطان إلى القلعة، بعد أن ظلت زمنا طويلا مقيمة ببيت الأمير ماماي بين القصرين؟ وكان يوم انتقالها حافلا. . . لقد بسطت على رأسها القبة(941/40)
والطير، ونشرت عليها خفائف الذهب ولفضة، وفرشت لها الشقق الحريرية من باب الستارة إلى قاعة العواميد
ولقد وردت إلى السلطان منذ أمد قريب هدايا من الشام حافلة، في عدادها عدة صناديق خشبية فيها أشجار صالحة للغرس لا يزال الطين عالقا بجذورها، وهي ما بين أشجار تفاح وكمثرى وسفرجل وقراصية وأعناب مختلفة. وما بين ورد أبيض وسوسن وزنبق. ومن بينها شجرة من أشجار جوز الهند. . فغرس كل ذلك في بستانه بالميدان. وزود البستان بالمقاعد الكثيرة والمناظر الوثيرة، حتى صار روضة كاملة وجنة حافلة، اعتاد السلطان أن ينفق أوقاته مرتاضا بين أحواضها وممراتها، وأن يقيم مواكبه فيها واستقبالاته، وأن يمد موائده على مقربة منها؛ وأصبحت هذه الروضة تضارع في جمالها وتنسيقها وطرافة ما فيها، ما يرويه التاريخ عن بساتين خمارويه. . .
وليس على السلطان من بأس في كل ما أنشأه، سوى هذه المصادرات الغرامات الفادحة، وسلب مقتنيات الناس بأبخس الأثمان. . .
قال الشاعر شهاب الدين: ألم تسمعوا قول الشاعر:
يا من بنيتم لخلق الله مدرسة ... أسستموها بعدل أم بطغيان
إذا بنيتم فلا تبنوا على سفه ... ولا تجوروا بسلب أو بحرمان
فكل شيء بناه الجور منهدم ... وليس يبقى سوى عقباه للباني
فقال علم الدين الخياط: صدقت. . . ولو أن السلطان نقل الرخام من (نصف الدنيا) إلى مسجده لقلنا سيئة أتبعتها حسنة؛ وقد قال علنه الصلاة والسلام ما معناه (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)؟ ولكنه نقلها إلى القاعة البيسرية وسواها، ظهورا وزينة ومتعة، فهي سيئة أتبعها سيئة. . .
التاجر غرس الدين: ليت السلطان يكتفي بعقوبة الأعيان والرؤساء، ومصادرة أموالهم ونفائسهم ولكنه يعاقبنا كذلك معشر التجار من آن لآخر، بفرض الضرائب، الباهظة، وبغيرها، كالأمر بتعلية الأرصفة أو تخفيضها. . . إن علينا نفقاتها، فوق ما نعانيه من دالة الفعلاء، وحاملي الأتربة. إذ يرفعون حينذاك الأجور، ويماطلون في العمل، فضلا عن عطلنا عن البيع والشراء، طالما ضاقت صدورنا وامتلأت بالحرج والحنق، ولكنها الأوامر(941/41)
السلطانية الشريفة يا سيدي. . . ويبدو أنها ترادف الجور في معناه في أيامنا. . . زد عليها ضريبة المشاهرة التي أبطلها السلطان حين تفشت الأوبئة في البلاد، كأنما كان يتقرب إلى الله بإبطالها. ثم سرعان ما عاد ففرضها علينا وزاد عليها. والأمر لله من قبل ومن بعد
المستوفي: إن ما يصيب التجار - يا صديقي - قليل من كثير مما يصيب أعيان الموظفين. وويل لكل موظف في الدولة من السلطان. . . لقد تعودنا أن نشتري الوظيفة بالمال، من السلطان أو من وسطائه - وهي مع أنها سلعة غالية، قليلة النفع سريعة النفاق. فمتى ساء ظن السلطان في أحد الموظفين لأقل شبهة أو نميمة، قبض عليه وصادره، وأحاط بماله، وفرض عليه غرما ماليا فادحا، وعاقبه عقابا شديدا بالضرب بالمقارع، أو التشهير في الأسواق، أو عصر الأيدي والأرجل بالعصارات. أو إحراق الأصابع بالقصب، أو لي الأصداغ بحبال القنب، وغير ذلك. وقبل هذا كله تطير الوظيفة من يديه. . .
الخياط: مسكين - والله - الشيخ بدر الدين بن مزهر. كان من خيرة زبائننا. وكان معدودا من الرؤساء والعلماء. لقد ولي عدة وظائف سنية من بينها كتابة السر وقد أخبرني أحد أقاربه أن السلطان قبض عليه وسجنه. ثم وكل أمره إلى الحاج بركات ابن موسى الذي صار محتسبا للقاهرة. وإلى معين الدين بن شمس، وكيل بيت المال، وغيرهما، فعصروا أكعابه. وركبه. وأحاطوا أصابعه بالقصب وأوقدوا النار فيه، حتى تساقطت سلامياته. واختطفوا أثداءه بكماشات الحديد المحمى، ثم وضعوها في فمه. . . ولووا أصداغه بحبال من قنب حتى نفرت عيناه. . . ثم مات. . . وقانا الله وإياكم شر العذاب
المستوفي: ولم يكتف السلطان بذلك، بل سطا بعد حين على قاعات أبيه فاقتلع رخامها وزين به الدهيشة. . .
الشيخ ولي الدين: يقال - والله أعلم - إن أبا بكر ابن مزهر يستحق هذا العذاب ن فإنه كان نكبة على الناس وآذى كثيرا منهم إيذاء شديدا. . . هذا إلى أنه كان يأتمر بالسلطنة، ويغري الأنابكي قيت بالوثوب عليها. . . ووضع أمواله تحت تصرف قيت وعصابته. . .
ونحن - وإن كنا لا ندري بواطن الأمور - نستسيغ كل خبر إلا الرشوة التي تقدم للسلطان ووسطائه في سبيل المناصب ثمنا لها، ولا أدري كيف يشتري الموظفون وظائفهم من السلطان؟ ومن المؤلم أنهم درجوا على ذلك زمنا طويلا، حتى كاد شراء الوظائف يكون في(941/42)
عداد التقاليد. وإذا استسيغ شراء بعض الوظائف فليس بمستساغ أن يشتري قضاة القضاة مناصبهم. . . وهم القوامون على الشريعة، المهيمنون على العدالة، فكيف يؤتمنون بعد ذلك على رعايتها؟ ألا رحم الله السلف الصالح. . . كان كثير منهم يعف عن ولاية القضاء جملة، ولو ضرب في سبيل ذلك أو سجن. وقد عزل بعضهم نفسه من هذه الولاية، وكلما ولوه عزل نفسه. ومنهم من أنف أن ينال من وراء ولايته درهما واحدا. . .
المستوفي: بلغني أن قاضي القضاة محي الدين بن النقيب سعى إلى قضاء الشافعية بنحو سبعة آلاف دينار، دفع منها للسلطان خمسة آلاف، وللوسطاء نحو ألفين، ومن هؤلاء الوسطاء الأمير أزدمر الدوادار. . . ومع ذلك عزل هذا القاضي بعد مدة يسيرة لم يستطع خلالها - فيما أظن - أن يستعيض عن دنانيره
الشاعر: لقد أصبح ابن النقيب هذا، والقاضي جمال الدين القلقشندي، وأضرابهما من قضاتنا الأماثل، مثلة للناس وأضحوكة لتكالبهم على مناصبهم، وأصبحوا مثاراً للقيل والقال محلا للهزء والسخرية. وقد داعب أحد أصدقائنا قاضينا ابن النقيب، فقال فيه:
قاض إذا انفصل الخصمان ردهما ... إلى جدال بحكم غير منفصل
يبدي الزهادة في الدنيا وزخرفها ... جهرا ويقبل سرا بعرة الجمل
الخياط: أما القاضي عبد البر بن الشحنة فقد هجاه صاحبنا جمال الدين السلموني بقصيدة مرة، ولكني نسيتها. . . وأصابه بسببها مكروه شديد
الشاعر: أما حادثة السلموني فقد بدأت عندما هجا هذا الشاعر، القاضي معين الدين بن شمس، وكيل بيت المال، هجاه فاحشا. ومعين الدين - كما تعرفون - كثير الشر والأذى. وكان في عداد ما هجاه به هذا البيت
وحرفته فاقت على كل حرفة ... يركب ياقوتا على فص خاتمه
وفي هذا البيت ما فيه من التورية والإقذاع. فشكاه إلى السلطان. فقال له السلطان: إن وجب عليه شيء شرعا، فأدبه. . . فاتخذ ذلك وسيلة إلى القبض على السلموني، ووضعه في القيد، وسوقه إلى بيت القاضي عبد البر، ورافعه أمامه، وادعى عليه. . . فضربه القاضي ووبخه، وأمر بإشهاره على حمار، وهو مكشوف الرأس. . .
بلغ هذا الحكم مسامع السلطان، فحنق على معين الدين، لأنه ادعى زورا أن السلطان أمره(941/43)
بإشهار السلموني، فقبض على معين الدين، وسجنه، وكاد يقطع لسانه، لولا أنه أرضى السلطان ببعض المال فعفا عنه. . . .
أما السلموني فقد سخط أشد السخط على القاضي عبد البر بسبب ما ألحقه به من الأذى، وهجاه بقصيدة طويلة هجاء فاحشا، نسب إليه فيه كل كبيرة وصغيرة. وقد شاعت هذه القصيدة وذاعت وحفظها كثير مت الناس، من محبي السلموني وغيرهم. وأخذوا يرددونها في مجالسهم تفكها بابن الشحنة. . ومنها هذه الأبيات:
فشا الزور في مصر وفي جنباتها ... ولم لا وعبد البر قاضي قضاتها
أينكر في الأحكام زور وباطل ... وأحكامه فيها بمختلفاتها
إذا جاءه الدينار من وجه رشوة ... يرى أنه حل على شبهاتها
فإسلام عبد البر ليس يرى سوى ... بعمته والكفر في سنماتها. . الخ
فشكاه عبد البر إلى السلطان. فأحضر السلطان الشيخ جمال الدين السلموني ووبخه، فأنكر أنه نظم هذه القصيدة كلها ولكن أقيمت عليه البينة، وشهد الشهود. . . فأمر السلطان بقيده وسجنه بالمدرسة الصالحية. . . ثم أراد القضاة - انتصارا لزميلهم - أن يضربوا هذا الشاعر بالسياط، ويشهروه في القاهرة، ثانيا. . . فعلم جماعة من العوام بذلك، وهم من محبي السلمونيز فتعرضوا للقضاة وهددوهم بالأذى. وجمعوا الحجارة في أكمامهم، وهموا برجم القاضي عبد البر، وهو في طريقه. . . فاضطر إلى العفو عن الشاعر دون أن يعزره أو يشهره، ولكنه تركه في سجنه زمنا. . ولهج العامة بأن السلطان على هذا الشاعر ويعني بأمره. . .
فقال الشيخ ولي الدين: ويحكم أليس لكم الليلة حديث إلا الغيبة. إنكم لكالغربان لا تسقط إلا على الجيف
للكلام بقية
محمد رزق سليم(941/44)
رسالة الشعر
ذكري غرام
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
ذكرى غرام كان ... في غابر الأزمان
طارت به الأيام ... في عالم الأوهام
الشاعر الحائر
ولما أن تلاقينا ... تعانقنا بروحينا
وضم الحب قلبينا ... وغنى لحن لقيانا
فغنى القلب أشعاري ... على أنغام قيثاري
وباح لها بأسراري ... وذاب هوى وتحنانا
ورفرف حولها يشان ... بخمر الحب والألحان
وغزل حسنها الفتان ... فرف الحسن ألوانا
وناجته وناجاها ... وغنته وغناها
فأشرق في محياها ... سنا الحب الذي بانا
شفاك الحسن يا قلبي ... من الحرمان والجدب
فعشت بجنة الحب ... خفوق الظل نشوانا
وكنت مضيع الأحلام ... وكنت مشرد الأنغام
وكنت محير الأيام ... وكنت تذوب حرمانا
وكنت تسامر الأحزان ... وأنت مع الدجى سهران
وتشرب من يد الحرمان ... بكأس الوجد نيرانا
وكنت تسير في دنياك ... على نار من الأشواك
وكأس الحب في يمناك ... تفيض أسى وأشجانا
وكنت تقلب الأوهام ... عساك ترى ظلال غرام
فلا تلقى سوى الآلام ... تحيل صباك بركانا(941/45)
وكنت تذيع ألحاني ... وفيها سر أشجاني
ليعلم قلبها الحاني ... بما ضمته شكوانا
وها قد عادت الأيام ... ترف بزهرها البسام
وعادت ربة الإلهام ... بماضينا كما كانا
سلام الحب يا ليلاي ... ونجوى القلب يل دنياي
وأزهاري وعطر صباي ... تزف إليك قربانا
هواك بمهجتي أفراح ... وعطرك نشوة الأرواح
وهجرك في حشاي جراح ... أطوف بهن حيرانا
وحبك جنة الأشواق ... وواحة قلبي المشتاق
وأنت بعالمي إشراق ... لفجر رف مزدانا
وأنت ربيع أزهاري ... وأنت خميل أطياري
وأنت الجدول الجاري ... فكيف أعيش ظمآنا؟
وأنت الجنة الفيحاء ... تقل على الربا الخضراء
محرمة الجني عذراء ... وجني ثمارها حانا
وأنت كما يحب هواي ... وأنت كما تريد مناي
وكم حنت إليك يداي ... فلاقت منك هجرانا
تعالى ننفض الأسرار ... ونهتك هذه الأستار
فيلفحنا لهيب النار ... ويسري في حنايانا
تعالي فالحياة ظلال ... تحركها رياح شمال
بضفة جدول سلسال ... لعوب الماء هيمانا
تعالي فالحياة زهور ... يرف بها الندى والنور
فتسبح في الجواء عطور ... تحيل الكون بستانا
ويأتي فجأة إعصار ... يمزق هذه الأزهار
فتنسجها يد الأقدار ... لوادي الموت أكفانا
تعالي فالفؤاد ينوح ... على ذكرى غرام الروح(941/46)
ويرسل آهة المجروح ... على الماضي الذي بانا
إلى الماضي أعيديني ... وفي الماضي أذيبي
فإن الحب يحييني ... أحاسيسا ووجدانا
تعالي قبلما نمضي ... بروحينا عن الأرض
فنفقد لذة تفضي ... إلى أسرار محيانا
تعالي قبلما نفني ... وتذهب نارنا عنا
ونرجع مثلما كنا ... هناك. . . وراء دنيانا
إبراهيم محمد نجا
مخلوقات للظلمات
للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري
وهبت قلبي للحرمان والألم ... فما تريدين ممن عاش للقمم!
يا زهرة السفح هذا السفح مقبرة ... سكرى برائحة الأجياف والرمم
جوسى بعينيك فالظلماء راعشة ... الأشباح. . والغاب وجه للحياة عمى
بسمعي لصرير الجندب انبعثت ... أصواته في نشيد غير منسجم
ميلي بجذعك تلقي كل عوسجة ... أو لرقصي بالصخور السود ترتطمي
فارضي بحظك من هذا التراب فما ... خلقت كي تبصري الأضواء من أمم
لا تنسجي من خيوط الشمس واهمة ... بردا تعريك منه راحة الظلم
فلن تكوني هوى قلبي ولن تقفي ... يوماً كما تقف الذرات من قدمي
أني هنا في سماواتي وأخيلتي ... في موكب من جلال الفن والنغم
أبني العوالم في فكري وأهدمها ... وأحشر الناس والأيام في حلمي
وأوقف الفلك الجاري بأنملة ... وأخلق الخلق من (لاشي) والعدم
كم ليلة غرقت أضواء أنجمها ... في زاخر من محيط السحب والسدم
تركت إعصارها الجبار مصطخبا ... ونوءها قاذفا بالثلج والرجم
ورحت أغرس في فردوس صومعتي ... زهر الربيع وأرعى طفلة النسم(941/47)
وأستحم بضوء الشمس مبتسما ... إلى الشتاء الذي غشى على الأمم
وغادة أنا باريها وخالقها ... كأنها حلم الآزال والقدم
عذراء لو جسدت كفي أنوثتها ... لقدست بين أهل الأرض كالصنم
ظللت ليلى تشقيني وتسعدني ... كأنني في يديها مزهر الألم
حتى إذا ما تمطى الفجر وانتشرت ... على الدروب رعاة الإبل والغنم
سكبت في أذن الأوراق قصتها ... وبت أحرق في ذاك الخيال دمي
فرضي بحظك من هذا التراب فما ... خلقت لي يا ابنة الأوحال والظلم
محمد مفتاح الفيتوري(941/48)
البريد الأدبي
الكوميدية الإلهية وقصة المعراج:
في السنة الرابعة من سني الرسالة نشر الأستاذ دريني خشية ست مقالات تحت عنوان (دانتي الجيبري والكوميدية الإلهية، وأبو العلاء المعري ورسالة الغفران) أثبت فيهما أن دانتي لم يتأثر برسالة الغفران ولا بقصة المعراج؛ وإنما بأثر بالقرآن الكريم، وبالإبنييد لفرجيل وبرؤيا يوحنا اللاهوتي. ثم نشرنا بحثا في ثلاثين مقالة لأحد علماء الأزهر الشريف من المطلعين على الأدب الحديث أثبت فيها التشابه القوي بين دانتي وأبي العلاء، وأيد رأيه بآراء المستشرقين في هذا الموضوع. وظلت المسألة معلقة بين النفي والإثبات حتى كان فصل الخطاب ذلك الكشف الذي تحدث عنه في عدد الرسالة الماضي الدكتور أمبرتو ريزيتانو الأستاذ بجامعة فؤاد الأول، وهو ترجمتان لقصة المعراج لاتينية وفرنسية، واطلاع دانتي على إحداهما. فلم يبع إذن شك في أن دانتي استوحى قصة المعراج ملحمته كما استوحاها أبو العلاء رسالته
ثروة من ثروات الأزهر تنتقل إلى جامعة فؤاد
قرر مجلس جامعة فؤاد الأول بجلسة 30 يونيو تعيين الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى أحد علماء الأزهر وخريج جامعة باريس أستاذاً مساعدا للشريعة الإسلامية بكلية الحقوق وقد كان الأزهر أولى بهذه الثمرات الناضجة التي تفتحت في جوه، وعاشت بروحه، وتعمقت في ثقافته، ثم أخذت بنصيب موفور من العلم الحديث بلغته وفي موطنه؛ فاكتملت لها الأداة لتجديد البالي، وإصلاح الفاسد، وتقويم المعوج، مما كثرت الشكوى منه وطال الجدل فيه من أنظمة الأزهر ومناهجه وكتبه. ولكن الأزهر لأمر يعلمه الله لا يريد أن يغير ما بنفسه، ولا يحب أن يعترف بالفضل لأهله. والكفاة إذا لم يجدوا الإنصاف في بيئتهم ومن عشيرتهم تحولوا إلى النظام المنصف. والعلماء إذا لم يجدوا الحقل مهيأ للغراس تركوه إلى المكان الطيب
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون همو
كتب المطالعة الإضافية للمدارس الثانوية:(941/49)
قررت لجنة النظر في اختيار كتب المطالعة الإضافية للمدارس الثانوية برياسة صاحب السعادة المستشار الفني لوزارة المعارف وعضوية أصحاب العزة الأساتذة إبراهيم مصطفى بك، وأحمد حسن الزيات بك، وأحمد علي عباس بك، تقرير الجزء الثاني من كتاب (قطوف) للبشري، ورواية في سبيل التاج للمنفلوطي ومجموعة (كل عام وأنتم بخير) لمحمود تيمور بك للسنين الأولى والثانية والثالثة من المدارس الثانوية بنين وبنات
غلام أحمد وأتباعه ليسوا بمسلمين:
هذا عنوان كلمة جامعة لأستاذنا الجليل الشيخ محمد الخضر حسين عضو (جامعة كبار العلماء بالأزهر)، وبقية السلف الصالح علما وتحقيقا وتواضعا ودعوة للدين بالتي هي أحسن. وقد رأينا أن نقبس منه كلمات ومعلومات لا ريب فيها، لنرد على كلمة للأستاذ علي سرطاوي أشاد فيها (بمحمد علي) تلميذ غلام أحمد الذي ظهر بالهند أوائل القرن
قال الأستاذ الخضر فيما قال
1 - يزعم غلام أحمد أنه يوحي أليه، فقال في كتاب (الاستفتاء) ص 25: فأوحى إلي ربي وقال إني اخترتك وآثرتك. وزعم أنه نبي، فقال ص 19 من الكتاب نفسه: ثم مع ذلك دعاني الله نبيا تحت فيض النبوة المحمدية وأوحى إلي ما أوحى. وزعم أنه رسول من الله، فقال في الكتاب نفسه ص 31: وما أرسلني ربي إلا ليكف عنكم أيدي الكفار. وقال في كتاب (أنجام التهم) ص 79: فكلمني وناداني وقال إني مرسلك إلى قوم مفسدين
2 - وله مع هذا كلمات آثمة يمدح بها نفسه، ومنها ما يزعم أنه محي من الله جل وتعالى. ز إنه يزعم في كتاب (الاستفتاء) الذكور ص 85 أن مما خاطبه به الله هذه الكلمات، لولاك ما خلقت الأفلاك؛ كما يقول ص 87 عن الله تعلى: وآتاني ما لم يؤت أحدا من العالمين. وقال في كتابه (حمامة البشري) ص28 زاعما أن الله خاطبه به: إنا جعلناك عيسى ابن مريم، وأنت مني بمنزلة لا يعلمها الخلق، وأنت مني بمنزلة توحيدي وتفريدي، وإنك اليوم لدينا مكين أمين
3 - بل إن هذا الضال الخارج عن الإسلام هو وأتباعه جميعاً، يفضل نفسه على عيسى عليه السلام، إذ يقول في كتاب (أحمد رسول العالم الموعود): (فالواقع أن الله القدير قد(941/50)
أبلغني أن مسيح السلالة الإسلامية (يعني نفسه) أعظم من مسيح السلالة الموسوية). كما يقول في كتابه (دافع البلاء) ص 13: (قد بعث الله تعالى في هذه الأمة مسيحا أفضل وأرفع في جميع الكمالات عن المسيح السابق، وسماه غلام أحمد)!
هذه العبارات إلى كثير من أمثالها، مما نجده في تضاعيف مؤلفاته بالعربية أو الأوربية أو الفارسية، لا يمكن أن تصدر إلا عن خارج عن الإسلام ضال مضل يسخر من أتباعه ويحاول أن يموه عليهم بدعواه الإسلام والعمل على نشره
وأتباع غلام أحمد - على ما يذكر الأستاذ الشيخ الخضر أيضا - فرقتان: فرقة قاديان ورئيسها اليوم محمود بن بشير بن غلام أحمد، وفرقة لاهور ويرأسها محمد علي مترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية، إلا أنه ترجمه على ما شاء ليشهد لعقائدهم الضالة على ما هو معروف لدى أهل العلم
فكيف بعد ذلك يعجب الأستاذ علي محمد سرطاوي بمولاه محمد علي ويدعو المسلمين جميعا لتكريم رجل يتزعم فرقة ثبت خروجها عن الإسلام بما لا يقبل بدلا؟
محمد يوسف موسى
ملاحظة على مقال:
قل لي بربك: ماذا يحدث لك لو أنك رأيت خطيب مسجد في قرية يدعو إلى ضرورة ائتلاف الأحزاب حتى نكسب قضيتنا الكبرى. ويقيم البراهين والأدلة على دعواه. كل هذا بين قوم أميين لا يعرفون ما هي هذه القضية فضلا عن أن يفهموا أدلة هذا الشيخ الوقور. قل لي بربك ماذا يحدث لك؟ ثم ضع هذه الصورة بجانب مقال الأستاذ علي العماري المنشور بالعدد 939 من الرسالة بمناسبة شهر الإحسان (سؤال الناس) والذي أخذ يوجه فيه نصائحه الغالية إلى المتسولين المحترفين، وأن هذا لا يليق (لأنه يضر بالمجتمع الناهض والأمة التي تريد أن تبني مجدها)
نعم والله. إنه لمجتمع ناهض هذا الذي يقرأ متسولوه مجلة الرسالة الغراء ويستفزهم ذكر الوطن والرقي والأمة إلى غير ذلك من الخرافات التي لا نظن أن كثيرا من المثقفين يراعون قداستها فضلا عن المتسولين. أنها الأستاذ الفاضل. من للمتسولين يفهمهم أبيات(941/51)
الشنفري
وأبي دلف العجلي؟ اللهم إلا إن كنت تكتب لقراء الرسالة، وقراء الرسالة والحمد لله ليس فيهم من يصح أن تقصده بكتابتك وأخيرا يدعو إلى العلاج الناجح وهو تفهيم الناس دينهم على حقيقته (وأن يتأكدوا أن هذه المظاهر مما يشين الأمة ويحيط من قدر الوطن) أن هذا المتسول أنها الأستاذ قد شان نفسه قبل أن يشين الأمة، وحط من قدرها قبل أ، يحط من قدر الوطن. وهو يعرف ذلك فعبثا تقول له (الوطن، الأمة) إن المعد الخاوية لا تفهم إلا منطق الطعام. فأمسك عليك نصائحك. . . واعلم أن هذا موضوع لا يعالج بمثل هذه السهولة
الصافية
عبد الفتاح الجزار
إلى الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
قد وعدتمونا أنها الأستاذ الكبير بدرس شعراء العصر ففي العراق تحليلا ونقدا وقد طال انتظارنا لهذا الوعد، فإن حققتم هذا العمل الأدبي يكن له صدى جميل وأثر طيب في نفوس الأدباء وهواة الأدب، إنا لذلكم مرتقبون
علودة
عفيف الحسيني(941/52)
القصص
الدكتور فيكل
للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
بقلم الأديب أزاد نوري محمود
خرجت (واندا) الحسناء من المستشفى وهي فقيرة معدمة. . . ماذا تفعل! وكل ما عندها من حطام الدنيا خاتم ذهبي ذو ماسة براقة، وقد اضطرت لشدة احتياجها للمال أن تبيعه بروبل واحد. . . ولكن روبلا واحدا لا يكفيها لشراء ما تهفو إليه نفسها
إنها تحتاج إلى ملابس جديدة لتبدو فيها أجمل مما هي الآن، وقبعة بيضاء تزهو بها بين الفتيات، وهذه الأحذية البالية التي أكل عليها الدهر وشرب تبعث الاشمئزاز إلى نفسها. . . ولكن ماذا تفعل؟
وكانت تشعر بخجل واضطراب كلما رأت العيون تحدق فيها وفي ملابسها الرثة وسحنتها الزرية. والغريب أنها تتوهم أن الحيوانات إذا ما رأتها تتقزز من منظرها وتدمدم غاضبة. وكثيرا ما انفردت بنفسها تناجيها:
- آه. أين ذلك الذي ينتشلني من هذه الوحدة، وينقذني من شقائي. . . أخشى ألا أجد أحدا
ثم فكرت في الذهاب إلى (تيفولي). . . وهناك كانت تأمل أن تلتقي بضالتها المنشودة. ولكن، أبهذه الملابس القذرة المهلهلة تذهب إلى تيفولي؟ هل تقدم على ذلك؟
وأطلقت لأفكارها العنان: إلى أين أستطيع الالتجاء؟ ولا وزر لي في تيفولي. . . أإلى (ميشيل)؟ لا، لقد تزوج منذ أيام، أم إلى الهرم الساذج (أوسيب)، وأخشى أن يكون منهمكا في أعماله
ثم هبت بغتة عندما جال بخاطرها اسم (فيكل) طبيب الأسنان في تيفولي، وتذكرت أنها زارته قبل بضعة أشهر عندما وهبها بعض الأساور الجميلة. وداعبها في تلك الليلة حتى أغاظها فلم تتمالك أن أفرغت قدحا مت الشراب على رأسه. إنه طيب القلب مرح. فلا بد أ، يعطيها شيئا إذا زارته اليوم
وهكذا جدت (واندا) السير في طريقها إلى منزل فيكل وقد سرت فيها انتعاشة فياضة(941/53)
وانبعث منها حمية ونشاط. . وكانت تتمتم بخفوت:
- إذا كان في المنزل ولم يعطني شيئا فسأجدع أنفه!! وسأحاول إغراءه بشتى الوسائل علني أحصل منه على 20 روبلا
لكنها أنكرت هذه الفكرة وحاولت إبعادها من رأسها؛ وانتابتها قشعريرة وأخذت تترنح في سيرها وشعرت بارتباك وخوف. .
وعندما اقتربت من منزل الطبيب ترددت في طرق بابه. . وتسمرت في مكانها لحظات واجمة تفكر:
- ربما يكون قد نسيني. . . ثم هذه الملابس الرثة. . . هذا المنظر الذري. . رباه!
وواتتها شجاعة حينما تقدمت غير هيابة وطرقت الباب بقوة. . . وصاحت: - هل الطبيب هنا؟
وبرزت الخادمة. . . وخطت نحوها ثم قادتها إلى غرفة الانتظار دون أن تنبس. . . وغاصت واندا فوق المقعد الوثير سارحة الفكر شاردة اللب. . . وأبصرت نفسها في مرآة مقابلة. . لقد كانت صورة واضحة للبؤس والشقاء والتشرد
ثم خاطبتها الخادمة بعد هنيهة:
- تفضلي بالجلوس هنا. . . سيحضر الطبيب بعد دقائق وكانت واندا تفكر فلم تفقه من كلام الخادمة شيئا. . . وساءلت نفسها:
لم هذا التهيب؟ سأصارحه بالقول وأقترض ما أطلب من مال. . . ولا عيب في ذلك! وسيتذكرني حالما يراني. . . ولكن هذه الخادمة السمجة، مالها جمدت في مكانها لا تبرحه؟ لن أصعد إلى غرفته إن بقيت في مكانها
وفجأة دخل (الدكتور فيكل) بقامته الفارعة ووجهه المتجهم وعينيه اللتين ينبعث منهما وميض الاعتزاز والكبرياء، تدل سحنته العابسة على أنه متشبث برأيه يصعب إقناعه. ودهشت واندا لتجهمه وعبوسه وقد عهدت فيه المرح والانشراح. وفي تلك الليلة التي زارته في منزله داعبها وهو طلق الأسارير ضحوك. ما باله تغير هكذا؟ وكأنه ببروده وتكلفه الابتسام موظف رسمي في ديوانه. . .
واقترب من واندا وقبل أن يتفرس فيها جيداً سألها بهدوء: - ماذا بوسعي أن أفعله لك؟(941/54)
ووجف قلبها عندما خاطبها الطبيب بلهجة من لا يعلم عنها شيئا. . . وأخذت تحدق في تلك الخادمة اللعينة بنظرات تتلظى وغضب مكتوم، واصطبغت وجنتاها بحمرة خفيفة عندما خاطبها ثانية: - هل أستطيع أن أقوم بشيء؟
وأجابته على الفور بصوت متهدج واهن وهي تصر على نواجذها:
- أسناني. . . أسناني تؤلمني قليلا يا دكتور. . .
- ها.؟ صحيح؟ وتذكرت واندا سنا لها كانت تؤلمها أحيانا:
- في الفك الأسفل، نحو اليمين. . . حسنا افتحي فاك جيدا. . .
وزوى فيكل ما بين حاجبيه وبدت علنه صرامة قاسية وتنهد تنهدة عميقة، ثم شمر عن ساعديه وأمر أصابعه على أسنان الفتاة بهدوء، ثم أدخل في فمها آلة قاطعة:
- هل هذه السن تؤلمك؟ نعم. .
واستسلمت بين يديه بهمود وتراخ وشرعت تفكر
- إذا عرفته بنفسي. . . فلابد أنه يتذكرني جيدا، ولكن هذه الشيطانة لا تزال جامدة هناك كالصنم
وشعرت بألم حاد حينما اقتلع سنها بقوة، وندت عنها صرخة مكتومة وحاولت أن تمسك يديه. . . وصاح فيها: - ماذا تفعلين؟ إن سنك قد فسدت ولا تصلح لك البتة. . . وعليك ألا تهملي شأن أسنانك منذ اليوم يا صغيرتي. . .
قال هذا واستوى واقفاً على قيد خطوات منها وكأنه ينتظر خروجها. . . بعد أن أنهى عمله. . . وهبت الفتاة ناهضة وتوجهت نحو الباب بخطى مضطربة والتفتت نحو الطبيب وقالت وقد أفتر ثغرها عن ابتسامة متكلفة:
- إلى اللقاء يا دكتور. . .
وأمسك فيكل زمام ضحكة كانت على وشك الانطلاق ثم أجابها بتهكم مرير:
- إلى أين؟ لقد نسيت الأجر!
واصفر وجه (واندا) ثم اكتسى بحمرة الخجل، لكنها تمالكت نفسها:
أوه. . . . المعذرة، لقد نسيت ذلك؛ عفواَ.
وازداد ارتباكها وهي تتلقى نظراته النفاذة، وسرعان ما أخرجت الروبل الوحيد الذي تملكه(941/55)
وألقته بين يدي الدكتور فيكل وهي ترتعش. . .
ومرقت من الغرفة ماضية نحو الشارع عجلى وهي تشعر بخجل لم تشعر بمثله في حياتها. وطفقت تطرق الشوارع القفراء بحذاءيها الباليين وهي ساهمة شاردة، ولعلها كانت تحلم بالملابس الجديدة والقبعة البيضاء ذات الشرائط الوردية وآمالها الموءودة. . . من يدري
أزاد نوري محمود(941/56)
العدد 942 - بتاريخ: 23 - 07 - 1951(/)
متى يغضب الفلاح؟
الرضا والقناعة والصبر هي الصفات المميزة للفلاح المصري. تأصلت فيه بالطبع والوراثة والبيئة، فأثرت في حياته، وهيمنت على سلوكه، وتصرفت بهواه!
يستبد بحكمه طاغية كالحاكم بأمر الله فيستكين؛ ويثب على عرشه خصي ككافور فيخضع، وتملك عليه امرأة كشجرة الدر فيطيع؛ ويسيطر على أمره الأجنبي فيرضى؛ ويستأثر بخيره المستعمر فيقنع؛ ويحطمه بالذل صاحب الحكم فينقاد؛ ويسمع بالأحداث تتدفق على وطنه وتتواثب على قومه فلا ينبض فيه عرق ولا يغلى له جوف! كأنما كل امرئ في الريف أمة وحده: شأنه يغنيه، ورزقه يكفيه، وكوخه يؤويه، وكل ما خرج عن غيطه وبيته لا يعنيه!
تقرع سمعه الأحاديث النُّكر عن وزير من الوزراء نشأ على تلال القرية كما نشأ، وذاق بؤس الحياة كما ذاق؛ ثم رفعته الظروف المجيبة والظروف العجيبة إلى كرسي الحكم، فتاه وتكبر، ثم طغي وتجبر، ثم سرق وغصب، ثم جامل وحابى، ثم تاجر ورابى، ثم أمكن عشيرته من دماء الشعب وأموال الأمة ومرافق الدولة، فاستحلوا ما حرم الله، واستباحوا ما حظر القانون، وإستجازوا ما منع الخلق، فيسمع كل ذاك بأذن من طين، وأخرى من عجين، كما يسمع الصوفي المعتكف أنباء الرياضة أو أخبار البرصة!
لا يغضب لمضرة عامة، ولا يرضى لمنفعة بعيدة؛ إنما يغضب أو يرضى تبعا لما يلقى من الشر أو الخير في أهله أو حقله أو بهيمته. يرضى عن الحكومة ويصفها بالصلاح إذا أعفته من تكاليف الخفر، أو كافأته على حراسة النيل، أو خفضت له أجرة السفر على السكة الحديد، أو وزعت عليه بعض الفدادين، أو ارتفعت في عهدها بالمصادفة أسعار المحاصيل. ويسخط على الحكومة ويرميها بالفساد إذا ظهرت الدودة في حقول القطن، أو فشا الطاعون في حظائر الماشية، أو نقص الماء في قنوات الري، أو هبط سعر البيض في سوق البندر!
ذلك لأن الفلاح ابن الأرض، لا يكاد ينزع جسده من حضنها، ولا يخرج يده من بطنها، ولا يفهم الحياة إلا مضافة إليها أو مقدرة بها، ولا يمد بصره إلى أبعد من حدودها. والقائمون على أمره، القابضون على زمامه، لا يريدون أن ينبهوه إلى أن فوق هذه الأرض سماء فيها الروح، وفيها الطموح، وفيها الكرامة، وفيها الأمل، وفيها الرفعة؛ وأن اللاصق بالأرض(942/1)
حيوان، والعالق بالسماء ملك، والإنسان خلق دون هذا وفوق ذاك.
فما دام الفلاح وهو سواد الشعب ممدوداً في دود الأرض يزرع ليأكل، ويحفر لينام، ولا يهمه أن ظلم حكامه أو عدلوا، وجد زعماؤه أو هزلوا؛ وسواء عليه أخرج المحتلون أم بقوا، وسعد مواطنوه أم شقوا، فهيهات أن يكون لنا رأى عام وحكم صالح ودستور صحيح ووطن مستقل! ومتى استنار ما أظلم من نفسه، واستيقظ ما غفا من حسه، أدرك أنه مصدر السلطة ومورد الثروة وعماد الأمة، فلا يقبل أن يهمله حاكم، أو يستغله ظالم، أو يتغفله زعيم. ولمن ليت شعري بأي طبل يسمع؛ وبأي بوق يفيق؟!
أحمد حسن الزيات(942/2)
مصر
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
مصر جنة عالية قطوفها دانية، وصحراء جدباء لا زرع فيها ولا ماء
وهي بلد العجائب والمفارقات: بل إني أعتقد أن الطبيعة الهي قسمت مصر إلى واد أخضر يانع ضيق، وإلى صحراء واسعة، قد قسمت مصر بنفس النسبة إلى عجائب ومتناقضات.
فمصر دولة غنية فقيرة، قوية ضعيفة، متعلمة جاهلة، مؤمنة متحررة، ناهضة متأخرة، راضية ساخطة، مستقلة محتلة، حرة مستعبدة، وهي دولة شرقية توشك أن تصبح دولة غربية!
نعم يا أخي! مصر دولة غنية: فيها الثراء الفاحش والغنى البالغ والترف الزائد. فيها قوم ينعمون بالضياع الكبيرة والعمارات الشاهقة وأسهم الشركات الرابحة والسيارات الفخمة. يسكنون القصور والدور الواسعة. لهم الخدم والحشم والأتباع والأنصار. يقضون شتاءهم في القاهرة وإن قضوا جانباً منه في مشاتي الأقصر وأسوان، ويقضون صيفهم في الإسكندرية. وربما دفع الكثيرين منهم الترف إلى السفر إلى أوربا لقضاء الجانب الأكبر من أشهر الصيف القائظ. وهؤلاء القوم مسرفون في ترفهم. ولقد بلغت قيمة ما أهدى إلى أحدهم - بمناسبة زفافه - من ورود سبعة آلاف جنيه!
وفي مصر فقر مدقع: فيها أقوام يعيشون على الكفاف، أجور مبخوسة وأرباح ضئيلة، حياتهم بؤس ومنازلهم أكواخ. بل إن بعضهم لا يجد المأوى فيقضي ليله في العراء يتخذ من الأرض مضجعا ومن السماء والهواء غطاء ولا يجد ماء ولا غذاء ولا كساء! ومن العجيب أن نسبة المترفين من الأغنياء إلى الفقراء تشبه إلى حد كبير النسبة بين الوادي وبين الصحراء! قلة مترفة وأغلبية بائسة
ومصر دولة قوية: يؤمن أبناؤها جميعاً بأن من حقها - وقد كانت فيما مضى مرموقة المكانة مرفوعة الرأس شامخة العز والمجد - أن تسترد ذلك الماضي الزاهر، وأن تحتل مكانها اللائق بها بين الأمم شرقية وغربية. وقد ضرب أبناؤها من متطوعين ومن جند ومن ضباط في حرب فلسطين الأخيرة أمثلة عليا في الشجاعة والبطولة، وقدموا أرواحهم فداء للوطن!! (العربي والمصري)(942/3)
ولكن مصر مع هذا دولة ضعيفة، فجيشها برغم قوة روحه المعنوية وبرغم شجاعة ضباطه وجنوده؛ ما يزال بعيداً عن مكانه المرموق. ولا تقع تبعة ذلك على مصر أو على المصريين. وإنما يرجع ذلك إلى موقف إنجلترا من مصر. ذلك أنه بمقتضى معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وإنجلترا سنة 1936 تعهدت إنجلترا بإمداد مصر بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر. ولمن إنجلترا - رغبة منها في بقاء مصر ضعيفة - ما تزال حتى الآن تماطل في إمداد مصر بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر. وربما كانت مصر الصديقة القوية خيراً لإنجلترا من مصر الضعيفة، ولكن (الثعبان) البريطاني لا يؤمن بذلك
ومصر دولة متعلمة: فيها جامعات أربع ومعاهد متعددة ومئات من المدارس الثانوية وآلاف من المدارس الابتدائية والأولية. فيها تعليم مدني وفيها تعليم ديني يشرف عليه الأزهر الشريف، ومع هذا فما تزال الكثرة في مصر جاهلة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى أن الحياة العلمية في مصر ما تزال دونها في أوربا وأمريكا. ولقد حلق أدباؤنا في آفاق الأدب وبلغ بعضهم مكانة ينافس بها أعظم الأدباء العالميين. أما علماؤنا فما يزالون في حاجة إلى أن ينهضوا وإلى أن ينشطوا حتى يلحقوا بزملائهم من علماء الغرب
ومصر دولة مؤمنة: فيها أقوام يؤمنون بربهم أشد الإيمان وزادهم ربهم هدى. يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. ويخلصون لله فيما بينهم وبين أنفسهم، ويعملون الصالحات ويخشون ربهم ويسعون لمرضاته
ومع هذا فإننا نرى قوماً قد تخلوا عن آداب دينهم وعن تقاليد مواطنيهم وعاداتهم، فإذا أقبل الصيف هرع القوم إلى موانئ البحر: الإسكندرية، وبور سعيد، ودمياط ورأس البر والسويس. وهناك ينزل النساء إلى البحر كاسيات عاريات كأنهن على شواطئ كاليفورنيا أو دوفيل، فإذا خرجن من الماء استلقين على الرمال وقد برزت منهن النهود وتعرت السواعد والسيقان والأفخاذ، وتناثرت الشعور ونسوا تماماً قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما)
ومع هذا أيضاً ففي مصر عائلات محافظة وبيوت ما تزال تحافظ على تقاليد الإسلام أشد المحافظة. بل أنه ما يزال هناك قوم في صعيد مصر لا يسمحون للمرأة أن تخرج بتاتا،(942/4)
وتغادر البنت دار أبيها يوم زفافها ولا تعود إليها إلا في الضرورة القصوى، وإذا خرجت فإنما يكون ذلك إذا انتصف الليل وخلت الطرقات، وتؤدى الزيارة وتعود بنفس الحال. وأما ملابسها فتغطي كافة الجسم من أعلى الرأس إلى أخمص القدم
وهكذا ترى في مصر ورعا وتقوى، وتبرجاً وخلاعة، ورجعية وتعصباً!
ومصر أمة ناهضة: تحاول جاهدة أن ترتقي بجميع مرافقها ومواردها زراعية وتجارية وصناعية، ومع هذا لم تستطيع مصر أن تبلغ غايتها من التقدم
ومصر أمة زراعية: وما تزال الطرق البدائية هي الطرق المتبعة في الزراعة، ولم تستخدم الآلات الحديثة إلا لدى كبار الملاك والزراع والشركات. على أن أرض مصر خصبة وتربتها جيدة وفلاحها صابر مثابر. كل أولئك ضمن لمصر محصولاً وافراً وخيراً عميماً
أما الصناعة المصرية فقد خطت خطوات كبيرة نحو التقدم، واستطاعت مصانع الغزل والنسيج أن تمد مصر بما تحتاج إليه من أقمشة. ونحن نرجو للصناعة في مصر مستقبلاً زاهراً؛ فهي الأمل الوحيد لحل مشكلات مصر خاصة الناتجة عن تزايد عدد السكان المستمر وهناك مرافق مصريه تفيض بالذهب على الشركات الأجنبية، أهمها قنال السويس وموارد البترول على شواطئ البحر الأحمر. فهل تؤممها مصر؟
وأهل مصر فريقان: قلة مترفة لاهية، وكثرة ساخطة تعاني من ويلات الحياة الكثيرة. وأنت تسمع بين أن وأن عن تذمر مختلف الطوائف وشكواها، وليس من شك إن مصدر الشكوى يرجع أولاً وقبل كل شيء إلى الغلاء الذي استشرى حتى شقت على الناس الحياة. أني أرجو أن يقلل السادة المترفون من ترفهم، وان يوجهوا بعض أموالهم وجهودهم نحو إنقاذ الطبقات الفقيرة فإن ذلك خير لهم وللوطن أجدى
ومصر أمة مستقلة وعضو في هيئة الأمم المتحدة: ومع ذلك فإن الجنود البريطانيين يحتلون منطقة قنال السويس من أرض مصر، ومصر وأبناؤها لن يرتضوا هذا الوضع، ولا بد أن ينتهي الاحتلال إن عاجلاً أو آجلاً سواء رضيت إنجلترا أو لم ترض
أما بعد
فهذه مصر. وأنا أرجو أن يحدثنا أدباء الأقطار الشقيقة كل عن قطره حتى يتم بيننا التعارف أني لهم من الشاكرين(942/5)
أبو الفتوح عطيفة
المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية(942/6)
علاقة الأدب العربي بالأدب السوفييتي في القوقاز
للأستاذ شاكر الدبس
منذ سنتين ونيف تقريبا قامت في الاتحاد السوفيتي حملة أدبية الغاية منها العود إلى المنشأ الصحيح للأدب والفن اللذين تمتاز بهما شعوب هذا الاتحاد. وهذا بحسب رأيهم لا يعني انهم يرفضون قبول أي أدب صحيح بأنهم من الخارج، وإنما يريدون أن يثبتوا للملأ أن ما ينسبونه في أدبهم إلى أمم أخرى هو في الواقع غير صحيح. وعلى هذا الأساس نشرت المجلة الأدبية السوفيتية (ليترانورنايا جازيتا) في عددها الصادر في 12 يناير لسنة 1949 مقالاً مطولاً باللغة الروسية للأستاذ كليموفتش في موضوع (المهمة الأدبية اليومية الضاغطة) عالج فيه هذا الموضوع معالجة دقيقة تخلص منها إلى نفي القول بأن الأدب في الجمهوريات السوفيتية في القوقاز يرجع إلى الأدب العربي. وقد آثرت نقل خلاصة عن هذا المقال لخطورته، لما له من العلاقة المباشرة بنا
بعدما يتكلم كليموفتش عن مكانة الأدب في حياة الشعوب السوفييتية، وعن الاهتمام بجعله يتفق مع (التاريخ الأدبي الخطير الذي امتازت به روسيا)، يعود فيلقى تبعة كبرى على الأدباء في ضرورة تحرى الحقائق في تاريخ الأدب في الشرق السوفيتي. ومن ثم يبدأ بحث هذا الأدب وعلاقته بالأدب العربي فيقول بأنه يعتقد بوجود علاقة بين الأدب في هذه الجمهوريات وبينه في تركيا وإيران والعالم العربي؛ ولكنه في نفس الوقت ينكر كل الإنكار ما يذهب إليه بعض الأدباء بأن منشأ الأدب في هذه الجمهوريات السوفيتية هو الأدب التركي والإيراني (الفارسي) والعربي. ولكي يضع النقط على الحروف ويفهم شعوب الجمهوريات السوفيتية الشرقية ما هي علاقة أدبهم بالأدب العربي يقول:
(إن العرب عندما تخطوا حدود جزيرتهم العربية في القرن السابع الميلادي، وتغلبوا على بلدان أخرى، ألفوا منها إمبراطوريتهم الإقطاعية التي عرفت باسم الخلافة، وهدوا شعوبها إلى الإسلام، عملوا على نشر لغتهم كلغة رسمية، على أساس أن القرآن قد أنزل بها، وأنها لغة الله نفسه، وأن ترجمة القرآن إلى لغات هذه الأمم بان في نظرهم تجديفاً. أما من ناحية مستوى العرب الثقافي فقد كانوا أقل حضارة وثقافة من الكثير من الشعوب التي تغلبوا عليها ولكي يحافظ العرب على سيادتهم عملوا على التخلص من تراث الأمم الأخرى(942/7)
الأدبي والفني. فبإمكاننا أن نقول إن هذه الطريقة التي استخدمها العرب لترسيخ قدم أدبهم وثقافتهم في البلدان التي تغلبوا عليها قد كانت السبب الرئيسي المباشر في فقد هذه البلدان تراثها الأدبي الذي كان لها قبل الفتح العربي. وعلى الرغم من نضال هذه المم للإبقاء على أدبها وثقافتها فقد اضطرت إلى استعمال اللغة العربية، هذه اللغة التي فرض العرب استعمالها فرضا في إمبراطوريتهم المترامية الأطراف، التي امتدت من الصين والهند شرقاً إلى مراكش والأندلس غربا. وما يسمى بالأدب العربي والعلوم العربية والثقافة العربية فقد أنشأها على الغالب غير العرب، أي الأمم التي تغلب عليها العرب وحكموها)
وقد استشهد كليموفتش في مقاله هذا بالأستاذ روزين، أستاذ اللغات الشرقية في بطرسبرج (لينينغراد) في سنة 1872 الذي قال: (إن العرب مدينون في أدبهم وعلومهم إلى الفرس والسريان. غير أنه لما كان هذا الأدب وهذه العلوم قد دونت باللغة العربية فقد عزى الفخر في هذا الجهد العلمي والأدبي والثقافي إلى العرب يوم كانت أوربا غارقة في ديجور حالك من الجهل)
واستشهد أيضاً بما قاله كراتشوفسكي في سنة 1919، إذ قال: (إن القول بأن الأدب العربي هو من صنع الأمة العربية إنما هو خطأ فادح، ذلك لأن الفضل في وجود هذا الأدب يرجع إلى غير العرب (الأعاجم) الذين دونوا أدبهم باللغة العربية، وحتى إلى اليهود والسريان والأسبان والأتراك والأقباط والبربر الذين اشتركوا في إيجاده) (راجع كتاب الأدب في الشرق لمؤلفه كراتشكوفسكي 1919)
ثم يعود فيقول: (ومن المعروف الآن أن العرب - بما حصلوا عليه من فخار نسب إليهم في حقلي الأدب والعلم - مدينون إلى الكثيرين من مواطنينا؛ كالأدباء الذائعي الصيت في أذربيجان وآسيا الوسطى، ومنهم الفارابي وابن سينا والخوارزمي والبيروني وسواهم. ومما هو جدير بالذكر أنه قد ثبت لمجمعي العلوم في أذربيجان وأوزباكيان أثناء تحريهما العلمي عن منشأ الأدب في بلاديهما، أنه ليس من أصل عربي بل من أصل أذربيجاني وأوزباكياني كان قائماً في البلدين قبل الفتح العربي. وقد بحث المجمع العلمي في جمهورية يوزك السوفيتية منشأ العلم والفلسفة العربيين فتوصل بنتيجة ذلك إلى الحقيقة التالية وهي: (أن الاصطلاح المعروف (بالفلسفة العربية) ليس صحيحاً، ذلك لأنه قد اشترك في إيجاد(942/8)
هذه الفلسفة مدارس فلسفية متعددة ضمت أعضاء ليس من العرب فحسب؛ بل أيضاً من شعوب الشرق الإسلامي. ومع هذا فإن عددا من العلماء قد تجاهلوا هذه الحقيقة وعزوا هذه الفلسفة إلى أصل عربي)
ويستأنف الأستاذ كليموفتش وقاله بقوله: (إن وحدة اللغة في بلد ما لا تعني وحدة الأدب فيها). واستشهد على صحة نظريته هذه بأن أعطى مثلاً على ذلك وحدة اللغة بين إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية في حين أن لكل من هذين البلدين أدبه الخاص به. وأعطى مثلا آخر على ذلك بلدان غربي أوربا التي كتبت في العصور الوسطى باللغة اللاتينية، وفي نفس الوقت لم يكن منشأ الأدب فيها لاتينيا. ثم استشهد بكتابات أدبية أخرى تعرف باليوتوبية (الخيالية) كتبها الكاتب الإنكليزي (توماس مور) باللغة اللاتينية، ومع هذا لم تخرج عن كونها أدباً إنكليزيا صرفاً
وعلى هذا الأساس قال كليموفتش: (إذا ما عثرنا على قطعة أدبية أو فنية أو فلسفية وأردنا أن نعرف ما إذا كان منشؤها عربياً أو فارسياً أو من أي أصل آخر فيجب علينا والحالة هذه أن نتحقق أولاً عن كاتب هذه القطعة، وأين كتبها، وما هي مضامينها الفكرية، وما هي صبغتها الوطنية. مثال ذلك إذا أردنا تحليل قطعة أدبية كتبت باللغة العربية لنعرف منشأها نجد أن قسما غير قليل منها - على الرغم من كتابته باللغة العربية - يتضمن ميولاً معادية للعرب من قبل الشعوب التي تغلب عليها العرب. ونجد في غالب الأحيان أن كاتبي هذه القطع الأدبية يعبرون بوضوح عن افتخارهم بكونهم ليسوا من أصل عربي. ومن هؤلاء الكتاب شاعر أذربيجان إسماعيل بن يسار الذي تنازع مع الخليفة هشام ونفي على أثر ذلك إلى الحجاز في بلاد العرب) إلى أن يقول أيضاً: (وهنالك أيضاً أدباء غير عرب استولى العرب على بلدانهم ترجموا أدبهم الخاص إلى اللغة العربية، ليس بقصد إغناء الأدب العربي، وإنما بقصد إعطاء العرب فكرة صحيحة عن أدبهم، وفي نفس الوقت لينافسوا به الأدب العربي. ومن هؤلاء عبد الله بن المقفع الذي ترجم كتاب كليلة ودمنة إلى اللغة العربية، وقد قتله الخليفة في بغداد لدعايته المعادية للعرب)
ومن ثميتخلص صاحب المقال إلى النتيجة التالية، وهي قوله: (إن ما كتبه الفارابي وابن سينا والخوارزمي والبيروني وسواهم لا يمكن اعتباره أدباً عربياً صرفاً. أما إذا أردنا أن(942/9)
نقول عنه أنه أدب عربي فيكون تحليلنا له والحالة هذه تحليلاً ذا جانب واحد. وأكثر خطا من هذا أن نقول إن ما كتبه السوفييت الشرقيين باللغة العربية هو أدب عربي لمجرد أنهم كتبوه باللغة العربية - هذه اللغة الغريبة عنهم - لأنهم لم تكن لديهم لغة مكتوبة خاصة بهم. ومن هؤلاء شعوب شمالي القوقاز الذين دونوا أدبهم باللغة العربية منذ القرن السابع عشر حتى ثورة أكتوبر الكبرى في سنة 1917. غير أن هذا لا يعني مطلقا أنه أدب عربي، لأنهم منذ أن فسح المجال أمامهم، برعاية الحكومة السوفيتية، لتصبح لديهم لغة مكتوبة بعد الثورة، رفضوا أن يكتبوا شيئاً باللغة العربية. ومن جهة ثانية لم يكن بإمكان شعوب شمالي القوقاز اعتبار القاهرة ودمشق وبغداد وسواها من عواصم الأدب العربي عواصم حقيقية لهذا الأدب، لأن هذه الأماكن كانت قبلاً ولايات في السلطنة العثمانية، ومن ثم مستعمرات (هكذا) إنكليزية وفرنسية. وفضلاً عن هذا فإن شمالي القوقاز كان قسماً من روسيا وقد دخلت شعوبه في نطاق الثقافة التقدمية وتأثيرها النافع، هذه الثقافة التي يتنعم بها الشعب الروسي العظيم)
(فالبلاشفة يعتبرون نفوسهم حراساً لمصالح الشعوب وحريتها الوطنية واستقلالها وثقافتها المادية (الاقتصادية) والروحية (العقلية) ويجاهدون ضد الإنقاص من قدر حرمة هذه الشعوب الوطنية وفنونها). وقد استشهد على هذا بقول ستالين بأن الشعوب السوفيتية تعتقد بأن لكل أمة، كبيرة كانت أم صغيرة، مميزاتها الخاصة والتي لا توجد في أية أمة أخرى، وأن هذه المميزات التي تتمتع بها كل أمة تزيد في تراث الثقافة العالمية العام وتغنيه. ولهذا فإن جميع الأمم تتساوى من هذا القبيل بعضها ببعض. فكل محاولة والحالة هذه للحط من الكرامة الوطنية لأي شعب من الشعوب، أو لاستثمار حقوق هذه الشعوب التاريخية، بما في ذلك ثقافة هذه الشعوب، يجب شجبه شجباً حاسماً كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي. ثم يختم كلامه بقوله: (إن لقضايا الميراث الأدبي أهمية حيوية، فيجب إذن أن لا يفسح المجال لأي سوء بفاهم من هذا القبيل. كما أنه من الضروري أن يفهم أن الرجعيين يستخدمون قضايا كهذه في جميع المناسبات والأمور)
شاكر الدبس(942/10)
شاعر مجهول
للأستاذ حسني كنعان
لقيني بالأمس القريب صديق فاضل من أسرة الجندي الدمشقية فقال لي فيما قال:
- لقد أنكرت فضل الرجل وما عافت له حقه. قلت:
- أي رجل بعني. .؟ قال:
- أعني عميد أسرتنا وشاعر سورية المجلي) (الشيخ أمين الجندي). . إن جميع ما ذكرته من موشحات وقدود وأشعار في فصل أسق العطاش الذي نشرته في الرسالة الغراء منذ أمد هي من نظمه، فقطعة يا غزالي كيف عني أبعدوك، وتيمتني هيمتني عن سواها شغلتني، واسق العطاش تكرماً. . . هي من نظمه. . فلماذا لا تطلعني على مقالك قبل نشره في الرسالة ليكون بحثك كاملا من كل جهاته. .؟ قلت:
- كيف أستطيع أن أتأكد من ذلك. .؟ قال:
- أنا أطلعك على ديوان له مطبوع قد حوى في طياته هذه اللطائف والرقائق. . وكنت أسمع عن هذا الشاعر الشي الكثير ولكني مع الأسف الشديد لم أقع على ديوانه. فألفيتها فرصة سانحة أن يعرض على أحدهم هذا العرض الذي وافق هوى في نفسي التواقة إليه، وذلك أملاً في أن أنصف الرجل. . مضت مدة من الزمن دون أن يفي هذا الصديق بوعده، فذكرت ذلك لصديق آخر من أفراد هذه الأسرة وهو المحامي السيد (تاج الدين) الجندي نجل العلامة الشيخ سليم الجندي أستاذ الطنطاوي، والأفغاني، والجيرودي، والعطار، وصاحب محاضرة المعري التي أعجبت الأستاذين الجليلين معالي طه حسين باشا وصاحب العزة أحمد أمين بك في المهرجان الألفي للشاعر المعري.
فأخذني نجل علامتنا إلى مكتبه، ودفع إلى الديوان للاطلاع عليه. . . فعكفت على دراسته عكوف الهائم الولهان. فوجدت فيه من الدرر واللآلئ ما يصلح أن أحلي جيد هذه الصحيفة به. فالديوان يحوي قدوداً وموشحات وأشعاراً غزلية وصوفية كنا هائمين بها ومعجبين بقائلها قبل أن نعرف مصادرها ومواطنها. . وبقدر اطلاعنا على هذا الديوان الفذ ازددنا عجباً وإكباراً لهذا الشاعر. وها أنا ذا إظهاراً للحقائق وتمشياً مع السنة التي درجت عليها من إحياء ذكرى الأعلام في ربوعنا في هذه الصحيفة التي فتحت صدرها لمثل هذه(942/11)
البحوث، وعودتنا على طرق بابها، دون أن توصده في وجه من يبغي نشر فضائل بني قومه من الأعلام المجهولين. . جئت مقدما شاعرنا المجهول المغموط الحق بهذه المقدمة الموجزة. .
الشيخ أمين الجندي شاعر مطبوع. ولد بمدينة حمص سنة 1180 ولقد جاء في مقدمه ديوانه ما ننقله بالحرف الواحد بلغة أهل ذلك العصر. .
هو عالم زمانه وشاعر عصره، الحسيب النسيب، مداح المختار الحبيب، الشيخ أمين بن خالد أغا الجندي العباسي. وبعد أن تلقى علومه في حمص على خيرة علمائها توجه إلى دمشق وقرأ على علمائها الأعلام وأخذ الأوزان الشعرية من الشيخ عمر اليافي، ولما رأى فيه هذا الذكاء النادر قال له:
أذهب فأنت أشعر أهل الغرام. فصار الشعر فيه سجيه والبلاغة له عطيه، يرسم القصائد الفريدة والموشحات المفيدة والمواليات العديدة، بحيث لم يكن يمضي عليه يوم يخلو فيه من نظم ونثراه إلى آخر ما هنالك من أقوال كثيرة وردت في المقدمة تمسك عن الاسترسال بسردها لئلا يمل القاري وكلها على هذا الديوان أن الشاعر كان معاصراً للقائد الكبير إبراهيم باشا قائد الحملة المصرية، وفاتح سورية ولبنان وغيرهما من البلاد العربية. ولقد عثرت في الديوان على مقطوعة مدح بها هذا الفاتح العظيم بقوله له:
بوق ابتسام الليث في موقف الخطر ... وخف باسمه إن غاب يوما أو حضر
وكن بطلا شهما شجاعا ولا تكن ... جبانا جزوعا قاصر الباع والنظر
فإن الجبان الوغد ما بين قومه ... يعيش ذليلا سئ الحال محتقر
ولسنا إذن في دولة قيصرية ... ولا أهل ملك كسروي كما اشتهر
ومن مصر مذ سرنا بأمر عزيزها ... كشفنا ظلام الجور والبغي والضرر
(وبارودنا) كالبرق والرعد لم تزل ... صواعقه ترمي وتحرق بالشرر
وكم حافر بئرا ليوقعنا به ... فخاب وأمسى واقعا بالذي حفر
ومسمر نار للعناد وعندنا ... بحار لها تطفي وتغرق من سمر
ولكننا في عز دين مؤيد ... وشرع بوحي جاء من سيد البشر
وإنا بحمد الله في خير دولة ... لو اعزها في الخافقين قد انتشر(942/12)
ومنا سيوف للمنايا تجردت ... على عنق الأعداء بل أسهم القدر
وليس كإبراهيم في موقف الوغا ... هز براً يرى الأعداء حلما إذا اقتدر
همام بهاب الأسد سطوة بأسه ... وترجف منه الراسيات إذا زأر
له همة في الحرب أضحت علية ... وعزم يقد الصلد والصارم الذكر
به ملة الإسلام عزت فأصبحت ... متوجة بالعدل والأمن والظفر
وأذكى صلاة الله ثم سلامه ... على خير مبعوث إلى الخلق من مضر
فلا زلت في عز العزيز الذي غدا ... لأهل العلا شمسا وأنت لهم قمر
مدى الدهر ما (الجندي) أنشد قائلا ... بوق ابتسام الليث في موقف الخطر
فقالت هذه القصيدة حظوة في عين القائد المصري العتيد وقرب صاحبها إليه وجعله في بطانته، ولقد أفسحت هذه الحظوة المجال أمام الجندي الشاعر، وغدا كبيرا في أعين الدمّاشقة بين قومه، وصار يقصده علية القوم وسراتهم لقضاء حاجاتهم عند الباشا الفاتح، وأوقف شعره في هذه المرحلة على مديح الباشا متكسباً على فرار ما كان يفعله أبو الطيب المتنبي مع سيف الدولة. وقد غدا أتبع إليه من ظله، يصحبه معه للدعاية في كل قطر حل به فطمعه هذا العطف الأريحي به، وجعل شعره في هذه الرحلات مقتصراً على مديحه والدعاية له، فوجد الفاتح في هذا الداعية المطبوع على الشعر خير نصير له في إظهار عظمته، فزاد في إكرامه وإعزازه، وصار يصحبه في روحاته وجيئاته، وكان كلما قدم إلى دمشق أو رحل عنها متنقلاً في أفياء دولته المترامية الأطراف، التي أقام دعائمها على الأسلات والشفرات، رأى الجندي في ذلك الفرص السائحة لإسماعه فيه ما يرغب، وما يرهب به الخصوم، ويفت في سواعدهم من الظهور أمامهم بهذه الأماديح الخالدة بظهور الفاتح المرضى عنه التي يعبده شعبه وتفتديه رعاياه وتفديه بأرواحها، ومما قاله فيه بعد وصوله إلى دمشق قادماً من قونية وهو معه سنة 1248 هـ وكان قد فتح عكا، ودك حصونها وقلاعها دكا: قال في ذلك
نحن الأسود الكاسرة ... نحن السيوف الباترة
من أرض مصر القاهرة ... سرنا وقد نلنا المنى
بارودنا شراره ... تشوي الوجوه ناره(942/13)
وعزمنا بتاره ... من العدا أمكننا
نحن بنو الحرب فلا ... نخشى غبارا إن علا
ولم نضق عن البلا ... صدرا إذا الموت دنا
عاداتنا أخذ الرجال ... بالبيض والسمر العوالي
ونارنا بالاشتعال ... لهيبها يبدي السنا
جهادنا لا ينكر ... في كل قطر يذكر
وسيفنا إذ يشهر ... للنصر يبدي معلنا
(أبو خليل) في الحروب ... لا زال كشاف الكروب
وحين يدعى للركوب ... بالبيض يغزو والقنا
لما غزونا عطا ... (بالطوب) دكت دكا
وللأعادي أبكى ... هجومنا وأخذنا
صبحا علونا سورها ... وقد هدمنا دورها
أما برى قصورها ... قد حلها هدم البنا
ويوم حمص لو برى ... على العداة ما جرى
وقد علا فوق الثرى ... صرعى يقاسون الفنا
هناك أضحوا هالكين ... وفي دماهم غارقين
وانحل عقد الظالمين ... وحل بالباغي العنا
ولحماة مع حلب ... سرنا وجد بنا الطلب
ولم نجد ممن هرب ... إلا طريحا في ضنى
وقد أطلنا قهرهم=لما أسرنا صدرهم
ومن ولينا أمرهم ... بالذل مالوا نحونا
هذا وهذا كله ... عزيز مصر أصله
وليس يخفى فضله ... دوما على أهل الثنا
فنسأل الله المعين ... بحرمة الهادي الأمين
يديمه للمسلمين ... مولى مغيثا محسنا(942/14)
أما القصيدة الأولى فقد نقلتها من الديوان منتخباً منها هذه الأبيات المنشورة آنفاً ومطلعها: توق ابتسام الليث إلى آخر الأبيات: وأما القصيدة الثانية: نحن الأسود الكاسرة فلقد أتحفنى بها العلامة الشيخ جميل الشطي مفتي الحنابلة بدمشق منذ علم أني أعد فصلاً للرسالة عن هذا الشاعر المجهول. . . والقصيدة مدونة عنده منذ القديم ومنشورة في كتاب له. . . ولقد جاء في نهاية هذه الحادثة أن الشاعر كوفي عليها من الباشا بـ 100ليرة عثمانية ذهباً، وكان لها وقع عظيم لدى الباشا الممدوح. وفي الديوان قصائد كثيرة منها قصيدة يمدح بها محمد علي باشا الكبير مؤسس الأسرة العلوية وباعث نهضة مصر الحديثة. نرجى نشرها في عدد قادم يأتي، لأن ديواناً يحوي على 450 صفحة لا يمكن أخذ فكرة عن صاحبه في مقال واحد. . فإلى اللقاء يا عزيزي القاري في العدد القادم
دمشق
حسني كنعان(942/15)
أدبنا القومي بين الفصحى والعامية
للأستاذ حسين كامل عزمي
كان من أثر احتكاك مصر بالغرب الحديث أن تغيرت قيم طائفة من مثقفيها في مناحي الحياة العلمية والعملية، فإذا نظرنا من وجهة نظر أدبية، رأينا أن هذا الأثر - الاحتكاك بالغرب - قد أثر كثيراً في الأدب الحديث. .
ففي الربع الأول من هذا القرن، نشب ما يشبه المعركة بين طائفتين، أو مدرستين، من الأدباء. . . طائفة تمثل مطمح المصريين إلى حياة أدبية قومية، عناصرها الروح المصرية المتطورة بالاحتكاك بالغرب، النافضة آثار الروح العربية التي سرت فيها قروناً. . . وطائفة لا تزال مستمسكة بعناصر الروح العربية: لغة، ومعنى، وثقافة، ومذهباً. .
وكانت الطائفة الداعية إلى التجديد يعتمل فيها ما يشبه الثورة على الأدب العربي، وما يشبه الانتصار للآداب الغربية.
فإذا عرفنا أن أصحاب الدعوة إلى التجديد في الأدب كانوا ينتصرون لاستعمال العلمية، إذا لزم الأمر، محافظة على روح التعبير وواقعيته، عرفنا إلى أي حد لم يتحقق أملهم، حتى اليوم في إيجاد وتكوين الأدب القومي المنشود الذي ينسجم مع هذه الدعوة. . . اللهم إلا فيما ندر اتفاقه لأديب مصري ممتاز، كتوفيق الحكيم مثلاً، الذي تلمس المصرية الحقة القحة واضحة جلية تكاد تصيح في حيوية أسلوبه الرشيق، وتشبيهاته البيئية الصحيحة، التي نورد منها الآتي: (هذه الفتاة قلبها مثل دغل البوص.) تشبيه مصري
(ووقع العمدة بخطه الذي يشبه نبش الدجاج.) تشبيه منزلي مصري
زد على ذلك غزارة التشبيه عند الحكيم، ممثلاً بهذا التعبير المصري، فالمصريون يكثرون من استعمال حرف (زي) الذي يسبق التشبيه. . . كما ترى في أدب الحكيم إقبالاً على استعمال الألفاظ العامية، خاصة في حواره. . ومن المسلم به أن لكل فنان جمهوره، وكلما كان جمهور الفنان عديداً كلما كان لرسالته في الحياة قيمة عملية فعالة. . والفنان الحق مطالب بفهم عميق لدقائق النفس الإنسانية: خوالجها، ومنازعها، ونزواتها. . . وهو مطالب بعد ذلك بصدق التعبير وواقعية الأداء، بحيث يتمشى مع روح عصره. . فيخاطب الناس على قدر عقولهم وفهومهم، وعلى قدر استعدادهم اللغوي الذي يمكنهم من استيعابه وتدبره.(942/16)
ثم الانتفاع بنتاجه. . . واللغة أولاً وأخيراً، آلة جمهورية تستعملها الأمة كلها فيما وضعت لأجله، ويتفاهم بها الشعب قاطبة فيما يريد، فجمهرة كلماتها وغمرتها تتداولها ألسن الكافة، ولا سيما الأفعال والحروف. . . وكل شي يتناوله الجمهور ويغير فيه ويبدل، حتى يوافق ذوق المجموع، واللغة جزء من مزاج الشعب، فهي تختمر رويداً رويداً، وقليلاًقليلاً، كما يختمر العجين، ولذلك كانت محاولة تعليم الناس جميعاً لغة عامة (الإسبرانتو) عملاً صبيانيا؛ كما يقول صديقنا الفاضل الأستاذ عبد الفتاح بدوي. .
وليس التطعيم - الذي حدثنا عنه الأستاذ كامل السيد شاهين بالعدد 940 من الرسالة الغراء - مما يشوه اللغة أو يحط من شأنها وقدرها، بل كثيرا ما يزيدها رقة وعذوبة. . . فبمثل هذا التطعيم المعقول المقبول يتم لنا بقريب الشقة بين الأدب والأمة، فتختفي الهوة التي تفصل المتعلمين عن العوام شيئاً فشيئاً. وعلى مر الأيام تصير اللغتان اللتان نستعملهما لغة واحدة. . . فإن الاختلاف اللغوي بين طبقتين في الأمة لمما يضعف القومية. . .
والشعر مرآة عصر قائليه، و (ميزة الشعر المطعم عن الشعر العام أنه عصري متواضع، يمس الاجتماع الراقي كما يمس الاجتماع الشعبي، وبذلك يصور لنا ناحية يترفع عنها الشعر العام - ونحن نجني في مثير من الأحيان على التاريخ، عندما نعتمد على الشعر العام في تصوير حياة المجتمع، لأنه في برج عال رفيع لا ينحط إلى المستوى الشعبي. . .) كما يقول الأستاذ شاهين. . .
وبمناسبة مقال الأستاذ شاهين عن الشعر المطعم، أذكر أن أحد أصدقائي من الأدباء البائسين، أتاني ليلة عيد الأضحى، منذ سنوات مضت، يشكو لي ضيق ذات يده، وحرمانه من تذوق لحوم الأضاحي. . . ثم تركني ومضى. . فقلت:
- على لسانه - واصفاً شتى أحاسيسه:
تثير دوما شجوني ... رؤيا بدت لعيوني
رأيت في الحلم كبشاً ... معذبا ذا أنين
يصيح في القوم: ماءا ... قبيل عصف المنون
فقلت للكبش: صبرا ... كل يزول وديني!
قد جف ريقك لما ... رأيت هول اليقين!(942/17)
ولن يجودوا بماء ... بل يذبحوا بسكون
وبعد جز الرءوس ... يزول نطح القرون!!)
ثم التفت لنفسي ... بذلة المستكين
فما أكابد دوما ... كمثل هذا الحزين
يسر قوما شقائي ... فيطربوا لأنيني
لمحض كوني أديبا ... في خسة جمدوني
ولو رأوني خروفا ... في قصعة. . أكلوني!
ولو رأوني سمينا ... بنشوة. . يذبحوني!!
وبعد فكر عميق، ... وقد كواني حنيني،
تمثلت لخيالي ... فنون أرسن لوبين
. . . جذبت حبل خروفي ... والقوم لا يبصروني
وعند صخر بكوخي ... ربطته. . كالأمين!
لكن خلق إلهي ... بسرعة لمحوني
وصاح جاري صياحا ... سمعته كالطنين:
(أيا شويش. . الحرامي ... ربيب شتى السجون!
خطف خروفي العزيز ... فياله من لعين!
أذقه طعم البواني ... بفكه والجبين
وأنت شهم مغيث ... فلا تخيب ظنوني!)
صحوت فورا!. أصوغ ... قصيدة من عيوني. .؟!
وقد سر الصديق بهذه القصيدة سروراً عظيماً، إذ وجد فيها - على حد تعبيره - شيئاً من التنفيس عما ينهش بقلبه المسكين. . .! فتركتها بين يديه، بعد أن لمحت بريق الشكر فن عينيه. .!
السويس
حسين كامل عزمي(942/18)
1 - رحلة إلى ديار الروم
للسيد مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
كانت رحلة الشيخ البكري هذه إلى بلاد الروم هي الثانية فقد رحل قبلاً إلى الآستانة سنة (1135 هـ) وأسماها (تفريق الهموم وتفريق الغموم في الرحلة إلى بلاد الروم) ولكننا لم نعثر على هذه الرحلة ضمن مجموعة رحلات الشيخ المخطوطة والمحفوظة في خزانة الكتب الخالدية، والتي علق عليها الشيخ البكري نفسه، الحواشي عليها
وفي رأينا أن هذه الرحلة من ألطف وأشيق رحلات البكري، فقد قطع فيها الشيخ مسافات شاسعة براً وبحراً، إذ توجه إلى الآستانة عن طريق طوروس وقونية، وعاد في مركب إلى الإسكندرية ماراً بسواحل الأناضول وجزيرة رودس
ويلاحظ أن الشيخ البكري لم يكن يترك الفرصة تمر لنشر طريقته الخلوتية، حيث كان، ولهذا لم يكن يحجم عن إدخال جمهور المريدين في طريقته سواء في المدن أو القرى، وسواء أكان مقيماً أم مسافراً، بل ما قولك أنه لم يتردد في إدخال المريدين إلى طريقته وهو في المركب في ميناء الآستانة؟
ولقد كان الشيخ البكري، ذا نفوذ عظيم، وقد كثرت أشياعه وأتباعه، فقد كان له أتباع في أكثر القرى والمدن الفلسطينية، كما كان له مريدون في طرابلس الشام، وحمص، وحماه وحلب، وبغداد والبصرة، ومصر، والإسكندرية، ودمياط ورشيد
ولم يوفق الشيخ في دعوته في أواسط الأناضول فقد حاول أن يستميل إليه البعض في مدينة (أركله) الأناضولية التركية ولكنه لم ينجح، ذلك لأنهم كانوا أتباع الطريقة (الزادلية) وهي طائفة تنتسب إلى قاضي زاده أجل علماء الروم ممن كانوا يقولون بهدم قبور الأولياء ومقاومة التصوف، وقد جرب الشيخ إقناعهم ففشل وبئس منهم وقال أنه ليس ثمة من فائدة لمباحثة أمثال أولئك
ولقد كان الشيخ حريصاً على أن يسير في موكب حافل حيث ذهب وحيث حل، ولذا نراه في هذه الرحلة بدلاً من أن يسلك الطريق السلطاني من القدس إلى الشام عن طريق نابلس، فجنين، فخان التجار فجسر بنات يعقوب فالقنيطرة فدمشق، يسلك طريقاً في داخلية البلاد،(942/20)
فينضم إليه الحاد حسن بن مقلد لجيوسي شيخ بني صعب والشيخ أحمد الباقاني والحاج سلامة الداميني، والحاج حسن الجماعيلي والحاج محمد الكفرعيني من شيوخ جبلي نابلس والقدس
ويصف الشيخ لنا الطريق، ويعجب من عمران منطقة النصيرية وكثرة زيتونها، وخراب سور إنطاكية، ويذكر وعورة الطريق من إنطاكية إلى أدنه نقونية، وشدة برد الأناضول في الصيف
وينزل الشيخ في مدرسة شمسي باشا في الآستانة، ولشمسي باشا هذا الذي كان حاكماً للشام، مدرسة باسمه في دمشق، ويتقبل دعوة ابن عمه السيد محمد خليل البكري وكان شيخاً (أي رئيساً) لمدرسة حسن باشا المقتول في الآستانة (قتل 1006هـ)
ومن العجب حقاً أن يكون الشيخ في سفرته هذه وفي غيرها دائم الاتصال بإخوانه ومريديه، فتراه يحرر لهم الكتب ويرسل لهم القصائد من كل مكان، كما يتلقى منهم الأجوبة على كتبه وكلها بصف شوقهم إلى لقاء الشيخ والاجتماع به
فمن ذلك أن سليمان باشا المعظم والى الشام عتب على الشيخ عدم مكاتبته له من الآستانة، فبعث الشيخ يعتذر لجناب الوالي ويذكره أنه أرسل له سلاما خاصاً عن طريق كتاب بعث به إلى صديقه الحاج حسن جلبي بن مكي الغزي، وقد كان في معية الباشا، ثم يقول له إن المانع من مكاتبته هو مراعاة مقام الباشا الخطير
ومما يلفت النظر أن الحاج خليل بن كشيش شيخ مقاطعة الرجيل في العراق، وقد كان آنذاك في الآستانة اندرج في سلك المتصوفين وأصبح من أعوان الشيخ، وكان الحاج خليل هذا قد اجتمع بالشيخ البكري يوم زار العراق
وكان من عادة الشيخ أن لا يتحرك في سفر، قبل أن يستخير الله، فإذا ما ظهرت الإشارة منبئة بالسفر فعل ذلك، على اعتبار أن إرادة الإنسان الضعيف في الرحلة والسفر، مرتبطة بإرادة الله، وأن ذوي الكشف الرباني ينتظرون ظهور مثل بلك الإشارة قبل التحرك من مكانهم
ومع أن الطريق البري يستغرق من 2 ربيع الأول إلى حوالي منتصف جمادى الأولى للوصول من دمشق إلى الآستانة فإن الرحلة البحرية في المركب لم تستنفد أكثر من أربعة(942/21)
عشر يوماً إذ ترك ميناء (بشك طاش) في الآستانة في السابع من رجب ووصل الإسكندرية في 21 منه
وعجيب حقاً ما كان يبديه الشيخ من النشاط في بث دعوته، فهو كالحركة الدائمة لا يهدأ في نشرها بين كبار الحكام، وشيوخ الإقطاع، وطبقة التجار، بل وطلاب الأزهر المجاورين من صغار الشبان!
ويصف لنا الشيخ سوء معاملة رجال المكس في الإسكندرية ويشكو مر الشكوى منهم، ومن الغريب أن ينطبق هذا على ما وصفه لنا ابن جبير في رحلته عن (جمرك) الإسكندرية في القرن السادس الهجري!
ولم يهدأ الشيخ في نشر دعوته في الإسكندرية ورشيد والقاهرة، وهو يصف لنا أشهر مشاهد هذه المدن المصرية، ويذكر لنا من اجتمع إليهم من كبار مشايخ عصره، وقد أخذ البعض منهم عنه الطريق كالشيخ الحفناوي
ويلاحظ أن الشيخ انتهز عودة الوزير المشير عثمان باشا فأنضم إلى القافلة العائدة من مصر إلى فلسطين
ويذكر الشيخ بألم ظاهر ضعف الحكام، وعدم حزمهم للضرب على أيدي قطاع الطرق في هذا الطريق العالمي، ويعجب من ضعفهم، ومما لا ريب فيه أن القوافل كانت تتعرض لتعدي العربان وأذاهم، وقد كان الشيخ يفقد بعض كتبه في هذه الغارات مما كان يؤلمه ويحز في نفسه
ويصف لنا الشيخ حسن استقباله في غزة، ويذكر خراب جامع هذه المدينة، كما ينزل ضيفاً على آل الخيري، ومنهم مفتي الرملة، وقد كان من مريدي الشيخ وأتباع طريقته
ولا ريب أن الشيخ البكري، القطب المتصوف، إنما كان يرحل هذه الرحلات لنشر طريقته وإكثار مريديه، وإذا كان أسلوبه، وتفكيره وجل همه موجهاً إلى هذه الناحية، فإنه لا مراء قد ترك لنا ثروة ذاخرة بالمعلومات والآثار مما يلقى ضوءاً على حالة البلاد ومشاهدها، ورجالها وحكامها، والأمن العام فيها في القرن الثاني عشر الهجري
وقد يقال أنه لم يصف لنا وصفاً موضوعياً ما شاهده من المدن والقرى والمعاهد، ولم يفصل حيث أوجز، ولكن لو لم يكن الشيخ متصوفاً لما قام بهذه الرحلات، ولكنا حرمنا من(942/22)
هذه المعلومات القيمة، ولكانت معرفتنا لهذا القرن المتأخر ضئيلة زهيدة
ولنترك الشيخ البكري الآن يصف لنا رحلته الرومية الثانية:
مقدمة الرحلة
يقول الشيخ: (وبعد قد أيقظ الحق جل وعلا وتبارك وتعالى، لحظ فؤاد ملاحظ في حبه يتغالى، وكان جال في ميدان الغفلة مجالا يسرح في أكنافه ويحوم، فحرك منه الساكن والجزء الراكن، لهذه الأماكن، ودعاه فلباه إلى ديار الروم (أي الترك) وهناك اشتد محلول العزم، وامتد قصير الحزم، واعتد القلب بعدة الحزم، لما آن للمقعد أن يقوم، وذلك في أوائل عام (1148 هـ) - (1725م)، ما برف عبير عنبر خيشوم)
وكان الشيخ قد رحل إليها سنة (1135 هـ - 1722 م) ودون ذلك في كتاب موسوم (بتفريق الهموم وتغريق الغموم. في الرحلة إلى بلاد الروم وأنشأ في هذه الحظرة رسالة سماها (العرائس القدسية. المفصحة عن الدسائس النفسية) وكان الواسطة في كتابتها العلم المفرد السيد محمد التافلاني (مفتي الديار القدسية)
ولما فارق بلاد الروم توجه إلى جهة العراق ودون رحلته إليها في ما سماه (كشط الصدأ وغسل ألوان. في زيارة العراق وما والاها من البلدان) ووصل البصرة وعاد فأقام في حلب نصف عام، وتوجه منها إلى دمشق وأقام فيها بعض أيام، ثم قصد زيارة القدس عن طريق جبل لبنان وكتب رحلته (أردان حلة الإحسان. في الرحلة إلى جبل لبنان)
وفي سنة (1145 هـ) توجه إلى الحج وكتب رحلته (الحلة الرضوانية الإنجازية الدانية. في الرحلة الإحسانية الحجازية الثانية) وأما رحلته الأولى للحجاز فأسماها (الحلة الحقيقية لا المجازية. في الرحلة الحجازية)
ولما عزم على التوجه إلى البلاد الرومية، كتب كتابا إلى السيد محمد نجل السيد أحمد، وقصد في هذه الأثناء غب عشر المحرم التوجه إلى الزيارة العليلية كعادته ومنها إلى نابلس فدمشق فديار الروم، وقد أسمى هذه الرحلة (النحلة الفانية بها رسوم الهموم والغموم. في الرحلة الثانية القدوم لديار الروم)
قال الشيخ: (لما كان يوم الاثنين الرابع عشر من محرم الحرام عام (1148 هـ) توجه كبير الآثام كبير الإجرام بعد ما ودعنا أولاداً أكباداً وخلاناً، وكان هم فرقة الأولاد عم(942/23)
جوانب الفؤاد، وخرج للوداع جم غفير من إخوان وأحباب، وودعناهم عند سعد وسعيد وكان منهم البنية السعيدة والولد السعيد، (علما ومحمد كمال الدين) وقصدت تسلية أحزان بزيارة (نبي الله شمويل). ورافقنا إلى زيارته الأخ الشيخ أحمد الميقاتي وغيره من الأصحاب، وأقمنا معهم في (بتيونيا) إلى أن صلينا الظهر جماعة وودعناه ومن معه من رفاق، وسرنا والدموع لها وقع على الخدود اللماعة، وثبنا في قرية (عابود) ودعانا في الصباح الأخ علي بن بدير إلى (دير غسان) فلم ندبه إلى المقصود لنفرة قلب من أهلها، فقال نجعل الدعوة إلى (شوفا) فأجبته ولم نبت إلا لدى الأخ الشيخ رضوان الزاوي وأقمنا الليلة الثانية لديه، وطرنا إلى (صنير) ومنها إلى (الخربة) بقصد أبي الحسن والإقبال عليه، ثم قرأنا له ولجيرانه الربعة وأهديناها إليه، ومنها أتينا المائين وثبنا (جماعين)، ولما أشرفت على علم الهدا، قبل الوصول إليها التمست منه الندا، وكتبت على ظهر الدابة ما أمليه من أبيات:
علم الهدى أهدى لنا الأرواحا ... فأراح أشباحا بلى أرواحا
وتوجهت ثاني يوم إلى نابلس المحروسة، التي بميائها ورياضها عروسه، وأقمنا بها ثلاثة أيام، وأخذ بها العهود جمع أحبة، ثم بتنا في (كفر قدوم) بانشراح ينفي الهموم، وثبنا أول النهار بحظ (وبسط وسرور) ورافقنا الأخ الحاج حسن بن مقلد (الجيوسي)، إلى قرية (كفر زيباد) وبتنا بها وأتينا (كفر جمال)، وبتنا (الطيبة) بأنس وجمال، وتغدينا في قرية (ارتاح) وودعنا الحاج زين محب بترك الحظ ارتاح، وبتنا في (شويكة) وتغدينا في (عثيل) وبتنا في (زثيا) وأخذ بها العهد الأصيل جماعة، وممن صحبنا إلى الشام الأخ القديم العهد، الشيخ أحمد الباقاني (نسبة إلى قرية باقا)
وقد ارتاح الأصحاب في المراح وزمارين وبتنا في (صرفند) واصطحبنا في عتليت وهي قلعة عجيبة البناء، اعبنى فيها بانيها كل الاعتناء، وزرت مقام الخضر عليه السلام، وصليت الظهر في قرية غب الإكرام، وبتنا في (المغار) لدى أولاد الشيخ سهل رفيع المنار، وبعد صلاة العصر توجهنا إلى (كفورتا) ومضينا إلى (البروة) وأضافنا بها الشيخ علي بن الكيال، وصلينا العصر في قرية (عمقا) عند محب له حسن لقا، وجاءنا محمد سعيد نجل المرحوم الأخ السيد محمد السلفيتي، وتوجهنا منها إلى موطن الشيخ حسين وبتنا(942/24)
لديه في (جدين) وكنا في السير مجدين، وصلينا العصر في (ترشيحا) المريحة من الأتعاب والمليحة الفيحاء، وأقمنا فيها إلى ظهر اليوم الثاني بعد ما دعانا المحب الفاني الشيخ أحمد نجل الشيخ حسين وقد بذل الطاقة في الإكرام، وبتنا عند (قلعة) محمد نافع، وحين أتيت في الصباح (القاسي) جاءنا من أولاد مراد، حسن وخالد، وصحبتهم الأخ الشيخ محمد بن المرحوم الشيخ عبد الهادي الصفدي
للكلام بقية
سامح الخالدي(942/25)
قانصوه الغوري
سلطان مصر الشهيد
للأستاذ محمود رزق سليم
الفصل الرابع
أقوال وأحاديث
الشاعر: يا مولانا الشيخ! ليس في هذا الحديث غيبة، وإنما هو نقد مباح ومبادلة رأي. وإذا أصررت على أن فيه غيبة، فلا حيلة لنا في إصرارك! وكيف يستطيع قوم يرون الأحداث من حولهم ببرى، وتمتلئ صدورهم بالحنق عليها، وبفيض أذهانهم بضروب الرأي فيها، ثم لا يتكلمون؟ وفي جلسة متوارية متواضعة كجلستنا؟ اللهم إن هذه هي الغفلة الكاملة، فإذا ارتضيتها لنفسك، فنرجو الله أن يعافينا منها
ولي الدين: أيها الشويعر المتعالم! هل النقد لا يتناول إلا العيوب فينشرها، والنقائص فيذكرها، أوليس للناس حسنات تستحق منكم الثناء والاقتداء؟
الشاعر: أنى لنا ذكر الحسنات، وقد طغت عليها السيئات؟ إن هؤلاء الجراكسة قد ملئوا فجاج هذا الوادي فساداً، وأصبحوا كالخمر ضررها أكبر من نفعها
انظروا. ولقد بلغني منذ أمد قريب أن أحد رعاع المماليك الجليان نزل إلى سوق الرقيق لبعض شأنه، فاختلف مع الدلال لأمر من الأمور، فاستعر بينهما الجدال، وعلا الضجيج، فما كان من المملوك إلا أن هوى على رأس التاجر بقبقاب. . . فوقع على الأرض متردياً، وحمل إلى بيته لا حراك به، ثم مات بعد زمن قريب. . . فماذا جرى لهذا المملوك؟ لم تنتطح في شأنه شاتان!
ثم. . . أتعرفون الأمير أرزمك الناشف أحد الأمراء المقدمين. .؟ لقد ضرب أحد النوتية ضرباً مبرحاً حتى مات بين يديه. . . ثم.! علم السلطان بحادثته، فتغافل عنه، مراعاة للأمير أرزمك، وقيل أنه أوعز إليه بأن يرضي أبناء قتيله بشي من المال
التاجر: لقد سلط الله بعض هذه الطائفة على بعض، ليأخذهم بظلمهم، وفداحة ضرائبهم على الرعية، وسرفهم في الأموال، وسفههم(942/26)
المستوفي: لعلكم تعرفون أن الأتابكي قيت، كان يأتمر بالسلطنة، ويتطلع إلى منصبها. فكان يراسل الأمراء الطامعين لينضموا إلى صفوفه أمثال سيباي نائب حلب، ودولات بأي نائب طرابلس، ذلك الذي فر مرة إلى ملك العثمانيين، ليحرضه على سلطنة مصر وممتلكاتها. . وبذلك أفسد الأتابكي قيت عدداً غير قليل من الأمراء. وكادت مؤامراته تنجح، لولا أن عيون الغوري يقظى. . . فدهمه وعاجله بالقبض عليه، وواجهه بأدلة قاطعة، على إدانته، فلم يستطع دحضها. . وهكذا أدى به مطاف أقماعه إلى سجن الإسكندرية ينتظر في ظلماته مصيره المحتوم. . . ثم أقام السلطان مكانه في الأتابكية عدوه اللدود الأمير قرقماس
الشيخ ولي الدين: كفى كفى.؟ ألم يعد يحلو لكم، ولا يلذ لألسنتكم، ولا تتلمسون للناس حسنة تذكرونهم بها، ولا يدا تشكرونهم عليها؟ ألا كم لسلطاننا الغوري من حسنات. . . وكم له من أيادي بيضاء
الشاعر: (فاغراً فاه): ألا يتفضل مولانا الشيخ يذكر حسنة من حسناته أو يداً من أياديه؟
الشيخ ولي الدين: ألم يأمر بجميع فقراء القاهرة في يوم عاشوراء؟ فاجتمعوا عند سلم المدرج، ثم نزل إليهم بنفسه، وهو يمتطي فرسه، وفرق عليهم الدنانير بيده؟ لقد قيل أنه أعطى كل فقير منهم ديناراً أشرفياً من الذهب
الشاعر: نعم! نذكر ذلك ولا ننساه. . . كما نذكر أيضاً أن ثلاثة من هؤلاء المساكين فد قتلوا في أثناء ذلك!
الشيخ: اتق الله يا شهاب الدين، ولا تلبس الحق ثوب الباطل. فقد قتلهم الزحام، ولم يقتلهم السلطان
الشاعر: ولهذا، صمم السلطان على عدم النزول إلى الفقراء مرة أخرى. . . حتى يئسوا من بره. . . وحتى قال قائلهم:
سل الله ربك من فضله ... إذا عرضت حاجة مقلقة
ولا تسأل الترك في حاجة ... فأعينهم أعين ضيقه. . . .
الشيخ: أن السلطان لكثير البر، وهو ر يفتأ يحسن إلى الفقراء، وقد أمر في أول رمضان أن تحمل إلى القلعة رءوس الضأن وأوعية الدقيق والخبز والسكر، وأن تعرض في ميدان القلعة على أنظاره، كما جرت العادة بذلك، بعد أن تزف في شوارع القاهرة على رءوس(942/27)
الأشهاد وإعلاناً للناس بها، وحولها المحتسب ووكيل بيت المال. . ثم وزعت على الفقراء وأهدى منها إلى الأصدقاء
الشاعر: ألا قاتل الله حب الظهور! فهم يكلف المرء ما لا يطيق، وإذا كانت للسلطان نفس بره ويد رحيمة محسنة، فلماذا قطع منذ أمد (جوامك) (رواتب) كثير من الأيتام والنساء والصبية المستحقين، الذين تعودوا أن يستعينوا بها، ورتبها لهم الملوك السابقون.؟
الشيخ: يا لك من خبيث ماكر، لا تنفق عنده يد، ولا تصلح لديه معذرة! لقد كانت خزائن السلطان أول أمره خاوية، وكان في حاجة قصوى إلى المال. فكان لا بد له من الاقتصاد في الإنفاق. فلما امتلأت يده وأخصبت خزائنه أعاد سيرة المحسنين من الملوك، وعهد البررة من السلاطين
ومع ذلك! ألم يأمر بإبطال النادبات النائحات في المآتم، والذين يدقون الدفوف خلف الموتى. . . ألا تذكر حينما تفشى الوباء في القاهرة، وفتك بالناس فتكه الذريع، كيف قام القاهريون يندبون موتاهم، وامتلأت حارات المدينة وأزقتها نواحاً وعويلاً كأنما اشتعلت النيران في ربوعها
ألم يأمر السلطان بتحريم شرب الخمر وكسر جرارها ومصادرتها في بيوتها وضبط بائعيها والضرب على يد تجارها، وأمر بكبس بيوت الحشيشة وإحراقها، وإقفال دور (البوزة) وإراقتها
ماذا تريد يا شهاب الدين أن يفعل السلاطين؟ لعل في إراقة الخور وكبس الحشيشة ما يؤلمك ويضنيك؟ ولهذا فشانت ساخط
الشاعر: أنه لا يؤلمني ذلك ولا يضنيني إلا بمقدار ما آلم وأضنى سلفنا الزجال الشاعر الأديب إبراهيم المعمار. . . . فقد قيل أن سلطان عصره الملك الأشرف شعبان بن حسين، حفيد قلاوون، حرم الخمر والحشيشة وأهدر كرامتهما. . . فقال المعمار في ذلك هذه المواليا الفكاهية:
يا من على الخمر أنكر غاية النكران ... لا تمنع القس يملا الدن والمطران
وأمر بباع الحشيشة تكتسب أجران ... وتغتنم دعوة المسطول والسكران
الشيخ: قاتله الله وقبحه من شاعر زجال. . . هكذا أنتم يا معشر المتشاعرين. . . لا يلذ لكم(942/28)
مقام إلا بين بؤرة وبيئة، وكأس مليئة. ومن شاء منكم الشهرة، فليس أمامه من سبيل إليها إلا أن يمجن كما يشاء، أو يهجو أحد العظماء
قل لي يا خليفة المعمار. لماذا رسم السلطان للأمراء بإلغاء نقبائهم الذين كان أرباب المظالم يفدون عليهم للفصل في مظالمهم؟ ورسم أن أحداً لا يشكو، ولا يرفع قصة - قضية - إلا عن طريق قضاة الشرع؟ أليس في ذلك حماية للناس ورعاية لهم من جشع الأمراء والنقباء، وجورهم. . أوليس في ذلك دعوة إلى أن تسود العدالة، وترعى أحكام الشرع الشريف
الشاعر: هذا حسن وقد رسم السلطان بذلك كله، حينما راعه أن الوباء استحر في الناس، وأعمل فيهم سيف فتكه وسفكه. فرأى أن يتقرب إلى الله بتلك القربى، لعل الله يخفف بها الكرب عن المكروبين. . . ولكن لولا الوباء لما اتجهت فطنة السلطان إلى هذه المكرمة. . . وعما قريب سترى أن الأمر عاد إلى ما كان عليه
فقال علم الدين الخياط: أنني أود من الأعماق أن يفيء الناس إلى أحكام الدين، ويرعوا العدالة، ويوكل أمر القضاء إلى قضاة الشرع دون سواهم. واعجب كيف دخل حاجب الحجاب، وغيره من الأمراء، إلى باب القضاء، واصبحوا من الحاكمين بين الناس في مظالمهم وخصوما تهم. انهم كثيراً ما يجنحون إلى الهوى، ويحكمون الغرض، ويتذرعون بمناسبهم لابتزاز أموال الناس بالباطل. . . فإذا وقف السلطان حاجزاً حصيناً دون غاياتهم الجائرة وعبثهم الظالم، فوقفته تلك، يد بيضاء مشكورة. .
الشيخ: أجل! أيها الأصدقاء! تلك يد بيضاء مشكورة، وكم للسلطان من أيادي، وكم أحيا من عادات وتقاليد شعبية، عفاها الزمان ودرست معالمها منذ أمد طويل.
إليكم مثلا دوران المحمل في رجب، ولعب الرماحة في حفلة دورانه. . تلك عادة جميلة دارسة. وتقليد بائد محبوب لم تنعم به عيون القاهريين منذ سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة هجرية، أيام حكم الملك الظاهر خشقدم. لقد كان لهم في تلك العادة متعة وترويح، وللقاهرة عندها زينة وتبرج
وها نحن أولاء نرى سلطاننا الغوري يأمر بتدريب الرماحة من جديد، وبدوران المحمل في رجب. ورجعت هذه العادة بذلك تقليدا جديدا من تقاليد بلادنا. . .(942/29)
أنسيتم في سنة تسع وتسعمائة هجرية، ليلة أن بات الغوري بالقصر، وأحرقت إحراقة النفط بالرملة. . . وفي الصباح. . جلس السلطان في شرف مطل على الرملة، وتقدم إليه الرماحة في ثيابهم الحريرية الحمراء، ومعهم رماحهم مشروعة في أيمانهم. . . لقد قاموا بألعابهم البهلوانية الجميلة الخلابة، ثم طيف بالكسوة الشريفة والمحمل مرة في بكرة النهار، ومرة بعد الظهر. واجتمع الناس للتفرج به، من كل حدب وصوب، وافدين من القاهرة والخانكاة وبلبيس ومن نواحي شتى. حينذاك كنتم ترون الفرح يغشى بأمواجه المتدافقة جموع الناس. تلك الجموع المتراصة الضاحكة. وقد ألقى كل امرئ منهم همه جانبا، وأراح كاهله من عبء أتراحه، ونسى كل أثقال الحياة إلا هذه الفرصة الماثلة. . والناس ما بين حدث يافع، وغلامة ناهد مخدرة، ونصف عوان مختمرة، وعجوز فانية مودعة. وبين شاب شارخ لدن، وشيخ هم متداعى الأوصال، وبين سيد قوم، وشجاع همام صنديد، وجبان نكس رعديد. . .
لقد سرت حينذاك بين الجميع نشوة واحدة، وانتظمتهم سكرة فرح مشتركة، حتى أخذوا يرقصون وينشدون قائلين:
بيع اللحاف والطراحه ... حتى أرى دى الرماحه
بيع لي لحافي ذي المخمل ... حتى أرى شكل المحمل
الشاعر: لله درك يا ولي الدين! لقد أذكيت في نفسي عوامل الشعر، وأوقدت الشاعرية، وأشعلت في خاطري جذوة القريض بهذه الأوصاف والمواقف العاطفية. . . وهكذا نحن معشر الشعراء. .! نراع بكل مظهر من مظاهر العاطفية، فردية كانت أم جماعية. . ويطوح بنا الخيال حينذاك في ميادينه الواهمة. وسناته الحلة. . فنعيش لحظات كالمحمومين. . .
أما أنت وأمثالك يا معشر الفقهاء. .! فلكم من هذه المظاهر ما فيها من طعام وشراب، مما لذ وطاب. . . ولله در الفاطميين الذين ابتدعوا لنا ولأسلافنا أمثال هذه المواسم، ليشغلوا أذهاننا وبطوننا عن سياستهم الخرقاء، وعن تقصيها ونقدها. . . وليبهروا أنظار العامة منا ببهارج لا طائل تحتها، ولا غنية فيها. . ولله كذلك السلطان الملك الظاهر بيبرس، أول من أمر بخروج المحمل. .!(942/30)
يا مولانا الشيخ! أنا لا أهتم بهذه الخزعبلات والترهات، ولا أنظر إليها نظرة المحلل أو المحرم، ولكني أهتم كل الاهتمام بمن حول بلادنا من الأعداء، وما بين جدرانها من الجبناء. .
أتستطيع أن تذكر لي ماذا صنع الغوري لحماية الممتلكات المصرية؟
المستوفي: الذي أعلمه أن السلطان حريص كل الحرص على هذه الممتلكات جاد في الضرب على أيدي العابثين بها. حذر على بقاء نفوذه في الأصقاع النائية
لقد أشخص إلى الأقطار الحجازية بجريدة لتأديب العرب الخارجين عليه فيها. كما بعث حملة قوية إلى شواطئ بلاد الهند للقضاء على عبث الفرنجة هناك بسواحل الممتلكات المصرية، وعلى سلبهم أموال التجار. . وربما كان لسفر تغري بردي الترجمان إلى بلاد الفرنجة للقاء بطركهم، صلة بذلك. ولعل السلطان يهدد هذا البطرك بالقضاء على النصارى ببلادنا، إن لم يدفع كيد أتباعه عن سواحلنا ومتاجرنا. .
الشاعر: هناك دولة بني عثمان. دولة بني عثمان. . .! لقد كان بينها وبين سلاطين مصر السابقين مناوشات، وتحارب. وقد قوى اليوم أمرها، واشتدت مرتها، وفتل ساعدها. ولا أدري ماذا تخبئه الأقدار في جعبتها لبلادنا العزيزة، على يد هذه الدولة الماكرة الخبيثة. . .
الشيخ ولي الدين: مهما يكن من شيء، فهم مسلمون، والجراكسة مسلمون. . والله يولي من المسلمين علينا من يصلح. .
الشاعر: هذه يا مولانا الشيخ! نغمة الذل ووحي الضعف والاستسلام. ألا تحفظ قول الله سبحانه وتعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون) صدق الله العظيم
إلى هنا سمع صوت المسحر، وأخذ يدق طبله ويردد أناشيده وقد أوقدت المصابيح إشعارا بدخول وقت السحور. وارتفع أذان المؤذن ينادي للسحور، ويقول: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا)
فأفاق القوم من جدلهم وتنحنح الشيخ ولي الدين، وحوقل. . . ثم قال باسما: (أتحبون أن ننفض؟. أو نتناول بلغة هنا. . .؟ والتفصيل على صاحبنا علم الدين. . .؟
فقال علم الدين الخياط ضاحكا: لقد نزلت على رأيك يا مولانا قبل أن تفصح به، وأعددت(942/31)
لك العدة لنتناول جميعا سحورنا هنا، ثم نصلي الفجر بإمامتك في مسجد السلطان
فأخذ القوم يلهجون بالثناء الطيب عليه
(للقصة بقية)
محمود رزق سليم
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية(942/32)
رسالة الشعر
النور الحائر
للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري
في ليلة من ليالي التي احترقت ... فيها الحياة. . وغام الناي بالنغم
مددت كفي نحو الله مبتهلا ... والنار ملء دمي. . واليأس ملء فمي:
يا رب. . يا رب هذا الكون أجمعه ... الخير والشر. . والأنوار والظلم
يا أيها الأزل المحجوب بالقدم ... يا أيها الأبد المستور بالعدم. .
يا أيها القدر العالي الذي سعدت ... به الطغاة. . وشالت كفة القيم
إني شقي بأحلامي. . بفلسفتي ... بفطرتي. . بخيالي الجامح النهم
إني غريب. . غريب عن عوالمهم ... وغربة الروح تنسى قربة الرحم
إني على الأرض عيسى في تعاسته ... ضحية الكافرين: الحقد والصمم
فامدد يد القوة العليا ترفعني ... إلى سمواتك القدسية العصم
حتى يراجع هذا النور منبعه ... إني ابن شمسك لا ابن الطين والسدم
فأشرقت فوق ودهي صفحة كتبت ... بأحرف النور روحانية الكلم
لثمتها لثمة الإيمان مرتعشا ... ورحت أقرأ فيها حكمة الحكم
(إن السماوات لا تعطي حقائقها ... إلا لكل نبي غير متهم. . .!)
محمد مفتاح الفيتوري(942/33)
المنظار المسروق
للأستاذ عبد المعطي حجازي
تنكر في غدره واستتر ... وراح ورائي يقفو الأثر
وفي زحمة العيد مال الغبي ... علي وظل يطيل النظر
وأحسن بي الظن من جهله ... فخال بأني كنز العمر
لقد سرق النذل نظارتي ... وعاد قريرا بهذا الظفر
ولو علم الخائب العبقري ... حقيقة مغنمة لانتحر
فليس بها من نفيس يباع ... إذا ما رجا طامع وانتظر
وفي السوق لا تشتري بالفلوس، ... ولو جن بائعها أو كفر
ولكنها لي شمس النهار ... وعطر الزهور ونور القمر
غذائي إما أضر الطوى ... وربي إما اللهيب استعر
ومؤنستي إذ يعز الأنيس ... وراويتي حين يحلو السمر
ومشكاة ليلى إذا مادجا ... ومرسى أماني وقت الخطر
أجوز بها كل عات عصى ... وأغزو بها كل صعب عسر
وأمشي بها في ظلام السطور ... فيسعفني نورها المدخر
وأعلو إلى وكنات النسور ... وأهوى إلى مستقر الدرر
وأعبر في محجريها الزمان ... وأطوي على كاهليها العصر
وانظر في معجزات الوجود ... وأقرأ في صفحات القدر
وفي كل فن، ومن كل روض ... أطوف وأجني شهى الثمر
فجعت بها فطواني الظلام ... وران على الدجى واعتكر
وأصبحت ألمح ظل السطور ... كأطلال بيت هوى واندثر
وترقص في عيني الكلمات ... كما يرقص الغصن وقت السحر
وأعثر في هضبات الحروف ... كأعرج يظلع فوق الحجر
وكنت رفيق المنى والكتاب ... فصرت رفيق الأسى والضجر
وما لذة العيش في روضة ... إذا أنت لم تر حسن الزهر(942/34)
ففي ذمة الله نظارتي ... ذهبت شهيدة غدر البشر
وغفلة لص قليل الحياء ... رخيص الذكاء قصير النظر
ويا أيها اللص ما من أديب ... ثوى القرش في جيبه واستقر
ولكنه كخيالاته ... يجيء ويمضي كلمح البصر
فجل وأسرق الناس حتى الحفاة ... وخذ إن لقيت الأديب الحذر
ففي جيبه ليس غير الهواء ... وإن كان في الرأس أغلى الدرر
القاهرة
عبد المعطي حجازي(942/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
المسئولون عن موت الأدب:
هل الأدب فد مات؟ سؤال جعله صديقنا الأستاذ سيد قطب عنوانا لمقاله الذي ظهر في العدد (939) من الرسالة، أما الجواب الذي يحمل وجهة نظره فقد بدأه بهذه الكلمات: (يقول لك الكثيرون: أن نعم! ويمصمصون شفاههم أسفا وحسرة، وهم يعدون لك شواهد الموت، ويصفون لك أعراض الوفاة، ويترحمون على الأيام القريبة التي كان للأدب فيها صولة وجولة، يوم أن كان حياة في ذاته، وكان مبعث حياة!
وما أريد أن أدفع عن الأدب تهمة الموت، فقد تكون حقيقة؛ ولكني أريد أن ابحث عن القتلة! القتلة الذين فعلوا هذه الفعلة، والذين هم ماضون فيها للقضاء على الأنفاس الأخيرة التي تتردد في تلك الجثة المسجاة! إنهم في بظري ثلاثة:
الأدباء أنفسهم بمعرفتهم الشخصية وعلى عهدتهم!
والمدرسة المصرية بمعرفة وزارة المعارف العمومية!
والدولة كلها بمعرفة وزارة المالية ووزارة المواصلات!
هؤلاء هم المتهمون الثلاثة الذين خنقوا ذلك الأدب المسكين، حتى سقط جثة هامدة، والذين لا يزالون يخنقونه ليلفظ الأنفاس الأخيرة التي ما تزال تتردد في خفوت! فكيف كان ذلك؟
فأما الأدباء فهم الذين انصرفوا كلهم أو معظمهم عن الإخلاص للأدب وللعمل الأدبي؛ لأن هذا الإخلاص يكلف جهدا ومشقة، ويكلف عزوفا عن شيء من الكسب المادي وعن فرقعة الشهرة الكاذبة. . إنه يكلف صبرا على التجويد، وجهدا في الإخراج، ومعظم الأدباء - وبخاصة الذين كانوا يسمون الكبار - قد جرفتهم الحرب وما كان في إبانها من رواج في النشر، فانهالوا على السوق بإنتاج سريع (مسلوق) لأن هذا الإنتاج السريع يحقق لهم أرباحا عادية وعاجله، ويعفيهم من جهد البحث وأمانة العمل، ويضخم في الوقت ذاته قائمة مطبوعاتهم في نظر الجماهير!
وقد أقبلت الجماهير عليهم في أول الأمر. . . ولكنهم شيئا فشيئا جعلوا يكررون أنفسهم، بل يهبطون عن مستواهم. إنهم راحوا يجترون ما اختزنوه، ولا يضيفون إليه شيئا، ولا(942/36)
يضيفون للحياة الأدبية ولا للحياة الإنسانية جديدا
وكان الكثيرون من أدباء الصف الثاني قد أخذوا ببريق الشهرة التي ينالها المشهورون المكثرون، فركضوا كذلك في الطريق، وباتت المطبعة وأصبحت فإذا هي تساقط على رءوس القراء كتبا أقلها قيم ومعظمها هراء. . .
واستيقظت فطرة القراء القلائل بطبيعتهم في العربية، فإذا الإعراض والجفاء عن هذا المكرور المعاد من أعمال الأدباء، وعن الأدب كله عند كثرة القراء. . . وصاحب هذا ركود حركة النقد الأدبي، النقد الذي يزيف الزائف، ويستبقي الصحيح، والذي يخلق في الجو الأدبي حيوية ونشاطا وتطلعا وأخذا وردا ودفعة إلى الأمام
والذي بقى من النقد الأدبي انتهى إلى أن يكون أضحوكة ومهزلة، فلقد تألفت شبه نقابات أو عصابات، كل نقابة منها أو عصابة. وكلة بالدعاية (لمنتجات الشركة) التي تنتمي إليها بطريقة مفضوحة مكشوفة، لا تخفى على ذوق القارئ ولا تزيد على أن تقتل الثقة في نفسه بما يكتب وما يقال!
وامتدت هذه النقابات إلى دور الصحف والمجلات، فعسكرت كل منها في مجلة أو صحيفة، وأصبح محرما على أي كتاب لا ينتمي صاحبه إلى (شلة) معينة أن يجد له من صفحات تلك المجلات والصحف نصيبا. . . وبهذا أطبق البلاء على النقد وعلى الأدب سواء!)
هذه فقرات مما كتبه الأستاذ الصديق في عدد مضى من الرسالة. فقرات فيها الحق، وفيها اصدق، وفيها العرض الموفق لجانب من جوانب المشكلة التي نضعها اليوم على بساط البحث والمناقشة، نقول اليوم ونعني بقولنا الوقت الذي أثيرت فيه ودفعنا إلى شيء من التعقيب، ونعود إلى الأمس القريب الذي عرضنا فيه للمشكلة قبل أنيعرض لها الأستاذ قطب، هناك حيث قلنا في مقدمة كتابنا الذي سيكون بين أيدي القراء بعد أيام:
(في حياتنا الأدبية ظواهر تستوقف النظر، وتغري بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة. . وتستطيع أن تسمي كل ظاهرة من هذه الظواهر مشكلة؛ مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج. . . ولك أن تضع مشكلة النقد الأدبي في مقدمة المشكلات التي تعانيها الحياة الأدبية في هذه الأيام!
أول زاوية يمكن أن ننظر منها إلى المشكلة، هي أن أكثر الذين يتولون صناعة النقد لا(942/37)
يصلحون لها على التحقيق؛ فبعضهم تنقصه الثقافة الرفيعة فهو من أنصاف المثقفين، وبعضهم تنقصه التجربة الكاملة فهو من المبتدئين، وبعضهم ينقصه الذوق المرهف فهم من ضعاف الملكة وقاصري الأداة! هذه الأركان الثلاثة من أركان النقد الأدبي نضعها مجتمعة في كفة، لنضع في الكفة الأخرى ذلك الركن الخطير الرابع ونعني به الضمير الأدبي وهو وحده مشكلة المشكلات. . . وماذا تجدي الثقافة، وماذا تجدي التجربة، وماذا يجدي الذوق، إذا كان الضمير الأدبي لا وجود له؟ لا شيء يجدي على الإطلاق! لأن الضمير يوجه الثقافة فلا تجور، ويهدي التجربة فلا تضل، ويرشد الذوق فلا ينحرف. . وماذا نفعل وكتاب النقد الأدبي في مصر هم فئة من ذوي الأهواء والأغراض، يسيرون في ركاب هذا وذاك، يصفقون وليس هناك ما يدعو إلى التصفيق، ويهتفون وليس هناك ما يبعث على الهتاف!؟ الضمير الأدبي عندنا هو مشكلة المشكلات، وأعجب العجب أن الذين يتولون صناعة النقد في هذه الأيام لا يشعرون بأنهم معرضون لميزان فيرهم من النقاد، وانهم حين يظفرون بثناء بعض الناس يفقدون من الكثرة الغالبة كل احترام وتوقير، لا يشعرون بشيء من هذا لأنهم أغمار، ولأنهم أصحاب أهواء وأغراض!
النقد الأدبي في مصر تنقصه هذه الدعائم الأربع مجتمعة: الثقافة، والذوق، والتجربة، والضمير. . . ونقول مجتمعة لأن هناك المثقف المحروم من الذوق؛ ذلك الذي يوفق حين يقدم إليك نظرية في النقد ويخفق إذا ما وصل إلى مرحلة التمثيل والتطبيق. وهناك المثقف الذي لم يمد ثقافته بروافد من التجربة الكاملة؛ ونعني بها معالجة الكتابة في النقد الأدبي على هدى الإحاطة التامة بأصوله ومناهجه. وهناك المثقف الذي تجتمع له الثقافة والذوق والتجربة ولكنه يتخلى عن الضمير؛ حين يدفعه الهوى إلى أن يهاجم الخصم ويجامل الصديق!
هذه هي بعض الزوايا التي ننظر منها إلى من يتولون صناعة النقد في هذه الأيام. . . وتبقى بعد ذلك زاوية لا تقل عن سوابقها خطورة؛ وهي أن هؤلاء الناس تنقصهم صنعة التخصص: فبعضهم يتحدث عن القصة وهو لا يعرف شيئا عن الخطوط الفنية التي تكون الهيكل العام للقصة، وعن المسرحية وهو لا يدرك على أي الدعائم يقوم البناء الفني للمسرحية، وعن أدب التراجم وهو لا يستطيع أن يفرق بينه وبين غيره من ألوان الدراسة(942/38)
الأدبية، وعن الشعر وهو محروم من نعمة الشعور. ومما يبعث على الأسف أن الذين أجادوا التحليق يوما في أفق النقد قد هجروه إلى غيره من الآفاق، دون أن يقدروا مدى الفراغ الذي تحسه المكتبة العربية في هذا المجال!
نظرت إلى النقد الأدبي في مصر فوجدته على تلك الحال: يغلب عليه طابع الغفلة والبلادة والجهل والمجاملة. . . ونظرت إلى أدبنا في محيط الدراسة الفنية فوجدته في أكثر حالاته أدب المحاكاة الناقلة لا أدب الأصالة الخالقة؛ أدب الترديد والتقليد لا أدب الإبداع والتجديد: ليس له طابع خاص وليست له شخصية مستقلة، وإنما ضاع طابعه واختفت شخصيته في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بغية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان. . لماذا لا تكون لنا آراؤنا الذاتية ونظراتنا الخاصة وأذواقنا المتميزة؟ لماذا لا نحاول أن نقف على أقدامنا دون أن يساعدنا أحد على الوقوف، وأن نسير دون أن يدفعنا أحد إلى السير أو يحدد لنا معالم الطريق؟ لماذا نجبن في أكثر الأحيان عن القيام بمثل هذه المحاولة؟ أهو ضعف في الشخصية الأدبية يحول بيننا وبين الكرامة العقلية، أم هو نقص في الوسائل وقصور في الأدوات؟! أغلب الظن أن للناحيتين أثرهما البعيد في صبغ الأدب المصري بصبغة الجمود والركود، وفي الوقوف به عند تلك المرحلة التي وصفناها بأنها مرحلة المحاكاة الناقلة لا الأصالة الخالقة
إنني أتحدث هنا عن أدبنا المصري في نطاق الدراسة الأدبية والنقدية. . . الدراسة التي تضع تحت المجهر نظرية في الأدب أو مشكلة في الفن، أو شخصية كان لها في محيط الفكر الإنساني مكان ملحوظ. إننا إذا تحدثنا مثلا عن نظرية أدبية ظهرت في أفق غير هذا الأفق الذي نعيش بأفكارنا فيه، كان كل صنيعنا أن ننقلها كما وعيناها فإن زدنا عليها شيئا فهو من أقوال غيرنا بلا مراء. . . وقل مثل ذلك إذا عرضنا في ميدان الفن لمشكلة من المشكلات أو لشخصية من الشخصيات، سواء أكانت المشكلة تتصل بكياننا الأدبي أم كانت الشخصية من تراث الغرب أو من تراثنا العربي القديم. لا نحاول مخلصين أن يكون لنا رأي مبتكر يضارع هذا الذي قرأناه. أو مذهب مبتدع ينافس هذا الذي نقلناه، أو تعقيب جديد يعترض في جرأة وشعور بالشخصية على وجهة نظر خرج بها كاتب غربي على جمهرة القراء. . . ومن هنا مات أدبنا وانصرف عنه الذين أقبلوا عليه في يوم من(942/39)
الأيام!!)
قلنا هذا في مقدمة الكتاب الذي يتطلع إلى النور في الغد القريب، ونخرج من هذا الذي قلناه بأننا متفقون مع الأستاذ قطب في هذا الجانب الأول من جوانب المشكلة، ونعني به نصيب الأدباء في جريمة قتل الأدب كما عبر هو وأصاب في التعبير. ولعلك تلاحظ أن الاتفاق هنا قد تم في ميدانين هما ميدان الأدب وميدان النقد، بالنسبة إلى ما يتصف به كلاهما من أسباب النقص وعوامل القصور. . . وإذا كان هناك اختلاف فهو في طريقة العرض واتجاه خط السير الذي لم يحل مع ذلك بيننا وبين اللقاء في نهاية الطريق!
ومرة أخرى نتفق مع الأستاذ قطب في نظرنه إلى الشعر حيث يقول: (ونسيت الشعر المسكين، وما رزأتنا به المطبعة في هذه السنوات الأخيرة من ركام يتفاخر أصحابه بضخامة الحجم وكثافة الوزن، ويستعينون بصداقاتهم وبوسائلهم الخفية على الخروج به على الناس في غير ما خجل ولا حياء!
لقد نظر أحد أصدقائنا إلى ديوان من هذه الدواوين، وقد اكتنز شحما ولحماً، وهزل معنى وروحا، ثم قلبه في يديه وقال: قديما كان يقال: حمار شغل. فها نحن أولاء قد عشنا لنرى: حمار شعر!
وفي هذا الجو تختنق روح الشعر، أو الأنفاس المترددة في جوه الكظيم. ويكره الناس الشعر والشعراء، وينفرون من مجرد رؤية الدواوين، فضلا عما تحتويه من نظيم!)
كلمات قالها الأستاذ الصديق وهو يشير إلى ديوان كبير الحجم أخرجته المطبعة منذ شهور، ولا أظن أن ذلك الديوان بعد هذه الإشارة قد خفي على فطنة القراء. . . ولقد قلنا مثلها ونحن نتحدث عن الشعر المصري في الأعوام الأخيرة عارضين ومعترضين هناك في الصفحة الحادية عشرة بعد المائتين من كتابنا الذي يتطلع إلى النور في الغد القريب: (حياتنا الأدبية تعاني تخمة في الشعر وأزمة في الشعور. . . إن نظرة واحدة إلى ما تخرجه المطبعة من دواوين الشعر في هذه الأيام، تنتهي بك إلى الإيمان بهذا الحكم؛ الإيمان به كحقيقة ملموسة. ونظرة فيها التذوق والتمعن تسلمك إلى حقيقة أخرى لا تقل عن الأولى صدقا وأصالة وهي أنك لو رحت تبحث وسط هذه التخمة الشعرية عن آثار فنية ترضي الذوق حين تحفل بصدق الشعور، لما وجدت غير بضعة دواوين لقلة من الشعراء(942/40)
المطبوعين. ونظرة ثالثة فيها التأمل والنفاذ تقنعك بأن أزمة الشعور عند الكثرة الغالبة من شعرائنا مرجعها إلى أن التجربة النفسية قد تمر بهم فكأنما ثمر بفراغ موحش، لا تلقي فيه إلا مجموعة حواس معطلة لا تستجيب لأحداث النفس والحياة)!
نحن هنا أيضا متفقون مع الأستاذ الصديق، فإذا اختلفنا فهو الاختلاف الذي يتمثل في طريقة العرض واتجاه خط السير الذي لا يحول بيننا وبين اللقاء في نهاية الفريق!
هذا الأدب المصري الذي شهدت موته على يد الأدباء المصريين، هو الذي أحال القلم يوما في يدي إلى معول ثائر معول تنصب ثورته على بعض القيم والأوضاع. . ومن هنا قيل عني أو قيل لي: إنك عامل هدم في الحياة الأدبية ولست عامل بناء! ولم أضق بهذا الاتهام السافر الذي وجه إلي على صفحات (الرسالة)، لأنني قد طبعت على ألا أضيق بأي اتهام ما دمت قادرا على الدفاع!
قالت وثيقة الاتهام بعد كلام طويل: إننا نفخر بك ككاتب له رسالة، وهدف يحاول أن يحققه عن طريق النقد والتوجيه. . . غير أن آراءك ونقدك تتسم غالبا بطابع العنف والقسوة، ولذلك فأنت في نظرنا عامل هدم ولست عامل بناء. وفرق كبير بين كاتب يحاول أن يضيء شمعة وسط الظلام، وآخر يسعى إلى ذبالة النور التي يتلمسها كل حائر ليطفئها! أنت كاتب طويل اللسان من أول يوم خطوته في طريق المجد؛ المجد الأدبي الذي يهيب بك أن تبقى على الشموع التي تضيء لنا الطريق)!
وقالت وثيقة الدفاع في مجال التفسير والتبرير: (يتهمونني بأنني كاتب طويل اللسان؟ هذا حق لا أجادل فيه! وأزيد عليه أنني واحد من الذين جبلوا على الصراحة وفطروا على الشجاعة، حتى لتدفعهم صراحتهم وشجاعتهم إلى أن يقولوا عن أنفسهم ما قد يشفق منه غيرهم من الناس. ولولا هذا الذي فطرت عليه وجبلت، لم وافقت متهمي على أنني كاتب طويل اللسان! أوافقهم على هذه المقدمة وأختلف معهم حول ما انتهوا إليه من نتيجة، محورها أنني عامل هدم في الحياة الأدبية ولست عامل بناء. . . هنا شيء من الظلم للحقيقة والمجافاة للواقع، لأنني ما استخدمت طول لساني في هدم قيمة من القيم إلا إذا كانت بالية، ومتداعية وينبغي أن تزول. أعني أنني لا أهدم إلا ونصب عيني هدف واحد هو أن أقيم البناء الموطد الأركان على ركام الأنقاض!(942/41)
أقول هذا ولا أريد أن أذكر أسماء من هاجمت من الأدباء. حسبي أنني آمنت وما زلت أومن، بأن الحياة الأدبية في مصر محتاجة إلى حركة تطهير يقوم بها لسان طويل! ذلك لأن الأدب هنا، في هذا البلد، أشبه برجل كريم النفس سمح الخلق مضياف: يفتح بابه لكل طارق، ويهيئ مائدته لكل عابر، ولو اندس بين جموع الطارقين والعابرين من هم خلاصة الأدعياء والمتطفلين! هذا الرجل، الذي هو الأدب في حاجة إلى صديق طويل اللسان ينهر تلك الجموع المتطفلة، الدخيلة، التي استغلت سماحة رب البيت ونبل محتده وكرم ضيافته، فاندفعت من أبوابه وجلست إلى موائده، في غير ما خجل ولا حياء. . . هذا الصديق الطويل اللسان هو كاتب هذه السطور، ولا ضير عليه أبدا إذا ما أنقذ الرجل الكريم المضياف من هؤلاء الضيوف الثقلاء، وألهب ظهورهم بالسياط!
وليصدقني أصحاب الاتهام أنني أضيق بأضواء الشموع؛ هذه الأضواء الضئيلة، الهزيلة، التي لا تستطيع أن ترد عادية الظلام. وإذا كنت قد دأبت على إطفائها فلأنني أوثر أن أحدق في أضواء المصابيح الضخمة، المتوهجة، التي يغمر شعاعها كل حنية وكل ركن وكل تعريجة في منعطف الطريق. فلتبق هذه ولتذهب تلك ما دمنا نريد للنور أن يقوى على مواجهة العواصف والأعاصير؛ هدم للقيم البالية المتداعية يعقبه بناء على ركام الأنقاض، وإخماد للأضواء الضئيلة الهزيلة يشع على أثره كل نور وهاج. . أهذا هو ما ألام عليه وتوجه إلي من أجله فنون الاتهام؟ أن الصورة التي نستمد أضواءها وظلالها من هذه الكلمات لجديرة بتأمل العاتبين)!
فقرات أخرى أثبتناها في مقدمة الكتاب الذي يتطلع إلى النور في الغد القريب. . من هم الذين عنيناهم بتلك الفقرات ونحن في موقف التفسير والتبرير؟ هم أولئك الأدباء المجترون الذين عناهم الأستاذ قطب بكلماته وهو يتحدث عن نصيبهم في جريمة قتل الأدب و (تطفيش) القراء؛ وهم أيضا أولئك المتطفلون على موائد الأدب في غير ما خجل ولا حياء؛ وهم مرة ثالثة أولئك الذين يمثلون العصابات في دور الصحف والمجلات!
هذه العصابات الأدبية قد هاجمت بعضها يوما على صفحات (الرسالة) هجوما لا هوادة فيه. . . من هذا البعض عصابة كان يمثلها ثلاثة: أولهم ينسب جهلا إلى الفلسفة، والثاني ينسب غفلة إلى الشعر، والثالث ينسب ظلما إلى الأدب! وهم بعد هذا كله متطفلون على(942/42)
موائد النقد. . لا يكاد يظهر لأحدهم كتاب حتى يبادر الآخران إلى الكتابة عنه في أكثر من صحيفة، مشيدين بما تزخر به صفحاته من علم، مشيرين إلى ما يتمتع به صاحبه من نبوغ! وتقرأ الكتاب فتضحك، وتقرأ النقد فتسخر
يريد صديقنا الأستاذ قطب أن يحمل الأدباء ووزارة المعارف ووزارتي المالية والمواصلات مسئولية قتل الأدب. . كلا أيها الصديق؛ أن الأدباء وحدهم هم المسئولون! هل وزارة المعارف أو وزارة المالية أو وزارة المواصلات هي التي (طفشت) القراء؟ أن هؤلاء القراء لم يزهدهم في القراءة ولم يصرفهم عنها غير هذا الأدب الهامد الذي لا حياة فيه؛ الأدب الذي ينتجه فريق من المجترين وفريق من الأدعياء والمتطفلين! ترى هل تستطيع تلك الوزارات الثلاث مهما أوتيت من القدرة على إخلاء الطريق أمام أدبنا منا العقبات، ترى هل تستطيع أن تقنع القراء بالعودة إلى هذا الأدب من جديد؟ لا أظن. . لأن هذا الأدب بوضعه الذي تحدثنا عنه وتحدث عنه الأستاذ الصديق، لا يمكن أن يحبب القراءة إلى الجمهور القارئ بعد أن خبره مرة ومرات! لا يمكن أن يحببها إليه ولو رفعت وزارة المالية قيود التصدير ويسرت وزارة المواصلات وسائل النقل وضحت وزارة المعارف فطبعت هذا الأدب على نفقتها ووزعته على الناس بالمجان!
إن المشكلة مشكلة هذا الأدب الهامد الذي لا حياة فيه، ولن تحل هذه المشكلة إلا إذا بعثنا هذا الأدب من مرقده ونفضنا عنه التراب، ولن يتم هذا البعث إلا إذا وجد لدينا عدد من الأدباء المجددين، أولئك الذين يجعلون نصب أعينهم أن ينقلوا الأدب من مرحلة المحاكاة الناقلة إلى مرحلة الأصالة الخالقة. . . عندئذ يمكننا أن نجبر القراء على القراءة بعد أن نعيد إليهم الثقة المفقودة والإيمان المسلوب، وعندئذ يمكننا أن نقضي على البقية الباقية من المجترين المتطفلين، أولئك الذين يتحملون وحدهم تبعة قتل الأدب في وضح النهار. . . مع سبق الترصد والإصرار!
أنور المعداوي(942/43)
الكتب
نظرات في إصلاح الريف
تأليف الأستاذ عبد الرازق الهلالي
للأستاذ علي محمد سرطاوي
(143 مطابع دار الكشاف ببيروت - الطبعة الثانية)
هذا كتاب الموسم في العراق؛ تلقته النفوس المؤمنة بالإصلاح الاجتماعي، باللهفة والغبطة، والشوق، كما يتلقى الثرى المكدود، الجاف، قطرات الغيث، تهطل من جفون الغيوم، فأعيد طبعه، ولما تمضي على الطبعة الأولى، غير بضعة شهور، فكان ذلك تقديرا، بليغا، صامتا لرسالة الكتاب العظيمة
ومؤلف هذا السفر النفيس، شاب في طليعة شباب العراق طموحا، وثقافة، وتفانيا في خدمة الهدف المجيد؛ طوف في الشرق والغرب، فأفاد من ذلك تجارب، لها قيمتها، وخطرها، وأثرها في صقل مواهبه وتجاربه وتوجيههما التوجيه الذي ربط روحه بأرواح الملايين المعذبة من أبناء جنسه، في سبل الحياة، فانعكست منهم على نفسه تلك المعاني التي تقشعر من هولها الأبدان، مجسمة لأولئك البائسين، في مظاهر الجوع والمرض والجهل، فكان هذا الكتاب تعبيرا صادقا عن هذه المعاني
درس الآداب متخصصا في دراسته الجامعية، وضرب بسهم وافر فيه، وصال وجال في ميادينه مؤلفا، وكاتبا، ثم مد بصره إلى لآفاق القانون فحلق إلى أعاليها كالنسر الجريء، ثم راح يتدرج في الخدمة المدنية من التدريس إلى التوجيه في وزارة المعارف ثم إلى إدارة نقابات العمال في مديرية العمل والضمان الاجتماعي، وأخيرا استقر في البلاط الملكي العامر، مساعدا لرئيس التشريفات في بغداد
والمعذبون في ريف العراق، هم أولئك الفلاحون الذين يؤلفون سبعين في المائة من مجموع السكان؛ يتضورون جوعا على مدار السنة، ويتحركون عراة، حفاة، ورضى، على الأرض التي يسخرون على زرعها بالإكراه، كما تتحرك الأنعام، التي لا تملك من أمر نفسها شيئا، وإنما يملك أمرها صاحب الأرض الظالم، ذلك الراعي، الذي يذبحها إذا شاء، ويجيعها إذا(942/44)
أراد، ويبيعها متى أحب
ومن دواعي الاغتباط العميق، والأمل الباسم، أن يبعث الله إلى الظلام الحالك فوق دنيا هؤلاء المعذبين، إقباساً من رحمته تشرق من قلوب طبقة من الشباب المتزن، المؤمن بربه، وعظمة أمته، لا تعيش على هامش الحياة في تلك الأبراج العاجية السخيفة التي يلجأ إليها، عادة، المهزومون من الحياة، والذين لا يصلحون لها، ولا تشعر بوجودهم فيها، وإنما يضطرمون في صميمها، ويجاهدون أحداثها، ويمدون أيديهم لإنقاذ الملايين من نفوس مواطنيهم، التي يدفعها الجوع والمرض والجهل إلى تصديق كل ما تزيفه لها الحضارة الغربية من أوهام وأباطيل؛ ويجولون بين أولئك المواطنين، وبين الجري وراء سراب الشيوعية الخادع، ذلك السراب الذي يتراءى لأعينهم في بيداء ظلم الحياة وعذابها، ماء، وما هو بالماء. . . وإنما هو لعاب الشيطان تعكسه زبانية الجحيم على أجنحتها في الفضاء، تغريرا بالمغفلين
وأصدرت المطابع الغربية كتبا كثيرة، بعد الحرب العالمية الثانية، تحدثت فيها عن قصة الجوع في الشرق الأوسط، وعن الظلم الاجتماعي، وما قد يجر وراءه هذا اللون من الاضطهاد والإرهاق للجماهير، ومن كوارث يخشى منها على هدم هذا المجتمع التعس؛ وحذرت المسؤولين وأنذرتهم باقتراب العاصفة، وأوصيت بالقيام بإصلاح شامل سريع
ومن بين هذه الكتب المتعددة، كتاب الإنجليزية ألفته المس وارنر، وقام بنشره معهد العلاقات الدولية في بلاد الإنجليز تحت عنوان (الفقر والجوع في الشرق الأوسط).
والكتاب دراسة مركزة لمشاكل الفلاحين في مصر وفلسطين وشرق الأردن، ولبنان وسوريا والعراق؛ قالت فيه عن مصر، إن العلاقات التي تربط الإنسان بالحيوان، عن طريق الرحمة الإنسانية، والشفقة المطلقة، لا وجود لها بين مالك الأرض والفلاح هناك، وحذرت من انفجار اجتماعي مفاجئ قد يعصف بالحياة عصفا عنيفا لا رحمة ولا هوادة فيه، وأوصلتها دراساتها إلى وجود مليونين من الجائعين في مصر يجب نقلهم إلى العراق للعمل في الزراعة، بحكم التشابه بين مناخ البلدين، وبحكم الصلاة المتينة من الدم واللغة والدين والجوار بين الشعبين، ولكنها لم تحبذ ذلك العمل الآن، لعلمها أن الفلاح العراقي يئن من(942/45)
ظلم أشد هولا، وأرجأ ذلك العمل إلى ما بعد الإصلاح الاجتماعي الشامل الذي يجب أن يتم سريعا في العراق. .
ومضت تدافع في كتابها عن سياسة أبناء جنسها في مصر وفلسطين وشرق الأردن والعراق، وعن أصدقائهم الفرنسيين في سوريا، حينما عجزوا عن تقديم أية مساعدة لتلك الطبقات المعذبة في تلك البلدان التي حكموها حكما مباشرا، أو غير مباشر، مدة ثلث قرن من الزمن أو يزيد، فزعمت في معرض دفاعها، أن الطبقات الأرستقراطية التي ورثت النفوذ من الماضي، كانت تحرض، تلك الجماهير عليها، عن طريق الوطنية الرخيصة، الرعناء، غير الواعية، وتدفعها إلى الثورة، فكانت والحالة هذه، مضطرة إلى مهادنة تلك الطبقات، وإطلاق يدها، وإفساح المجال لها تعبث بهذه الجماهير، وتظلمها وتسومها الخسف كما تشاء وتريد، حبا في استتباب الأمن
ونحن لا نريد أن نصدق هذا القول، لا لأنه يعيد الاحتمال، بل لأن التجارب علمتنا أن نكون حذرين في كل ما نسمعه عنا من أقلام الغربيين، ونشك فيه، ونعتبره دفاعا باطلا عن الظلم الذي أصاب هذه الطبقات من أبناء جنسها، وأصدقائهم الفرنسيين ونرى أن الفرص التي تتيح إشاعة العدالة، والإصلاح الاجتماعي لم تكن في استطاعة الطبقات العربية التي أشارت إليها، بحكم سوء التوجيه الخفي، الذي لا تكاد تجهله المس وارنر، وتعرفه الدنيا. .
وشيء آخر يراه القارئ المتأمل في ذلك الكتاب؛ تلك هي الصورة التي رسمتها لشقاء الفلاحين، فلقد كانت مشوشة، غامضة، بعيدة عن الواقع، بعدا كبيرا، إذا ما قارناها بتلك الصورة الرائعة التي وسمها الأستاذ الهلالي لأولئك المعذبين بألوان زاهية من دم قلبه، وعواطفه وحبه العميق
وكلما قارنت هذه الصورة بتلك التي رسمها قلم المس وارنر، وغيرها من كتاب الغريب لحياتنا الاجتماعية، كلما ازددت إيماناً بأن صاحب البيت أدرى بالذي فيه، وكلما بدا لي الضلال المبين الذي نسج في غمرة عقول لا تزال تؤمن بالغرب حتى في الحديث عن أنفسنا، وعاب أحد أصحاب هذه العقول على المؤلف عدم رجوعه إلى المصادر الأجنبية في وصف حياة الفلاحين في العراق فكانت لفتة فير موفقة، وزلة كشفت عمله في أعماق النفس، تستحق السخرية العميقة من المتزنين(942/46)
ونحن في سبيل الحديث عن الفلاح العراقي. إنما نتحدث عن الفلاح في كل جزء من وطن العروبة، فلقد وحد الألم المشترك والعذاب الذي لا يحتمل، والظلم الاجتماعي الذي لا يطاق، بين قلوب أولئك المعذبين، على بعد الدار، ونأي المزار، فكان الحديث عن أية طبقة منهم في أي مكان من الوطن الشامل، إنما هم الحديث عنهم جميعا
العراق بلد زراعي، ومساحته (435) ألف كيلومتر مربع، وعدد السكان فيه يقرب من خمسة ملايين، وكان هذا العدد زمن العباسيين يزيد على أربعين مليونا. والأرض الصالحة للزراعة في الوقت الحاضر تبلغ مساحتها (92) ألف كيلو متر مربع، لا يزرع منها فير خمسها
وتقسم الأرض الزراعية إلى منطقتين: شمالية، وهي الأرض التي تعتمد الزراعة فيها على مياه الأمطار ومساحتها (41) ألف كيلو متر مربع؛ وجنوبية وهي التي تعتمد الزراعة فيها على مياه الأنهار ومساحتها (51) ألف كيلو متر مربع
ويتألف سكان العراق، من البدو الرحل ونسبتهم العددية لمجموع السكان ثمانية في المائة، وسكان المدن، ونسبتهم العددية، اثنتان وعشرون في المائة، وسكان الأرياف، وتبلغ نسبتهم ستعون في المائة
وتؤلف القرية في منطقة الأمطار الشمالية، الوحدة الاجتماعية، وكان فيها الفلاح على وجه العموم، يتمتع بملكية صغيرة، وشبه استقلال، ولكن مرور الزمن، جعل (المختار) أو (الأغا) مستبدا، فاعتدى على الفلاحين، واستولى على أراضيهم، وسكتت السلطات، وغضت الطرف عن هذا الظلم، حتى فدا الفلاح عاملا مأجورا (للأغوات)
أما في الجنوب، فتتألف الوحدة الاجتماعية، من القبيلة، تمتعت منذ زمن موغل في القدم بحق المعيشة في أراض واسعة، بطلق عليها اسم (الديرة)، وزعت الأراضي منها على الرؤساء، والمشايخ، وغدا أفراد القبيلة مزارعين عند هؤلاء، لا يملكون شيئا. . .
وهذا النوع من الملكية في المنطقتين الذكورتين، ليس إلا لونا من ألوان الإقطاع البغيض، يجعل لفريق من أبناء الأمة سلطانا على أرض الوطن وأبنائه، مرتكزا على حق الوراثة، أو حق الغزو، أو حق العصيان، وسلطان من هذا النوع، لا يستمد قوته من إرادة الأمة، ولا يوافق مصالحها، ويجب القضاء عليه(942/47)
وظيفة الفلاحين لا تتناول ما يكفيها من الأغذية المكونة للطاقة الحرارية، أو المكتسبة للمناعة، فهم في شبه جوع دائم، ويمكن القول أن ثمانين في المائة من السكان لا تتوفر في أغذيتهم المواد التي يحتاج إليها الجسم
وسوء التغذية يجعل الجسم عرضة للأمراض الفتاكة التي يشكو منها الفلاح العراقي، كالملاريا، والبلهارسيا، والإنكلستوما، والزحار، والسل الرئوي، والزهري، والتراخوما
وعدد الأطباء في العراق (816) طبيبا، ويتركز منهم في بغداد ولوائها (527) طبيبا، ويبقى لألوية العراق الأخرى البالغ عددها ثلاثة عشر لواء (299) طبيبا، ومن تحصيل الحاصل أن يزعم إنسان أن في مقدور هذا العدد الضئيل، مكافحة تلك الأمراض الفتاكة
(البقية في العدد القادم)
على محمد سرطاوي(942/48)
البريد الأدبي
هل مات الأدب
كتب الأستاذ سيد قطب مقالا بمجلة الرسالة عنوانه (هل الأدب قد مات). وهذا التركيب ليس صحيحا، أو على الأقل ليس فصيحا، ذلك أن النحاة مجمعون على أن (هل) لها مزيد اختصاص بالفعل، وأنه إذا كان الفعل في جملتها اقترنت به، ولا تقترن بالاسم، فلا يقال عندهم في الكلام الفصيح هل الأدب قد مات، وإنما يقال هل مات الأدب
نعم تدخل (هل) على الجملة الاسمية الخالصة نحو قوله تعالى (فهل أنتم منتهون)؟ وقول الشاعر (هل الأعصر اللائي مضين رواجع)؟ والشواهد على ذلك كثيرة
ولسعد الدين التفتازاني عبارة مستملحة في التفرقة بين دخولها على الاسم إذا كان خبره اسما، وعدم دخولها عليه إذا كان خبره فعلا يقول: (قلت الفرق أنها - يريد هل - إذا رأت الفعل في حيزها تذكرت عهودا بالحمى، وحنت إلى الإلف المألوف وعانقته، ولم ترض بافتراق الاسم بينهما، بخلاف ما إذا لم تره في حيزها فإنها تسلت عنه ذاهلة)
ويقول في موضع آخر. . وما ذكره صاحب المفصل من أن نحو هل زيد خرج على تقدير الفعل فتصحيح للوجه القبيح البعيد، لا أنه شائع حسن
وحتى على ما يرى الزمخشري لا تستقيم عبارة الأستاذ قطب، فإن الكلام عليه يقدر هكذا، هل قد مات الأدب، لأن دخول (هل) على (قد) ليس بشيء
علي العماري
كلمة حق حول رسالة الأزهر:
لا جرم أن الذين يكتبون عن الأزهر في هذه الأيام منصفون مخلصون، يدفعهم إيمانهم بمكانته، وفهمهم لحقيقة رسالته، ومعرفتهم بكنه منزلته، وما يجب أن يكون عليه أهمه - يدفعهم ذلك إلى الصراحة في القول، والجرأة في تصوير الداء، وتشخيص العلة، وتجسيم المرض، ثم إلى وصف الدواء أخيرا. . . والصراحة لا تتقبلها النفوس بارتياح في هذه الأيام، ولا ترى فيها محض النصح، ولا خالص الإرشاد، بل على العكس من ذلك، وقد ترى فيها سوء النية، وفساد الطوية، والرمي إلى التجريح، والسعي إلى التشهير والتقبيح،(942/49)
سواء بالإفصاح أو التلميح!
ولذا، فإن هذه الصراحة تؤذي بعض رجال الأزهر، ممن يعتزون بأزهريتهم، ويحرصون على كرامتهم، ويرون ففي تجسيم الداء، وتكبير العلة، وتضخيم المرض، تجنيا على الأزهر والأزهريين، ويذهبون إلى أبعد من ذلك، فيعتقدون أن هناك نية مبيتة، تهدف إلى النيل منهم، والطعن فيهم، وتهوين عملهم، وبخاصة في هذه الأيام بالذات، حيث يرون عملهم عظيما، وجهدهم كريما، ولهذا يعملون جاهدين لإنصافهم، ويسعون جادين لنيل حقهم المهتضم، والذود عن حوضهم المهتدم، والدفاع عن حماهم المستباح. . .
ومما لا شك فيه أن المنصف يرى فيما نشر عن رسالة الأزهر، تجنيا إلى حد ما، ففيه تغافل عن جهود الأزهر في مختلف نواحي الحياة، حتى جهوده التي تعتبر عماد حياته، وجماع كيانه، وأساس وجوده. .
فالثقافة الإسلامية الحية المطبقة على واقع الحياة والتي يريدها الكاتب، تدرس في كليات الأزهر الثلاث كلية اللغة العربية، وكلية أصول الدين، وكلية الشريعة، دراسة مستفيضة، لا توجد في أي معهد يماثلها، في مصر كلها، بل في الشرق العربي، أو الإسلامي. . تتناولها كل كلية من زاوية خاصة، وتلونها بلونها، وتطبعها بطابعها. . دراسة عامة شاملة بادئ ذي بدء، ثم تعطى اهتماما خاصا بما يتصل بها، بالقدر الذي تسمح به مناهجها، ويعطيك في الوقت نفسه فكرة إسلامية ناضجة في هذه النواحي الثلاث، من حيث اللغة والأدب، والعقيدة الخالصة، والفلسفة الفاحصة، والشريعة ومسائلها، وفروعها وأحكامها. .
هذا ما يجدر بالمصنف أن ينكره، أو يسقطه من حسابه عند الحديث عن الأزهر ورسالته، أو يتغافل عنه ويتناساه، كما لا يجوز له أن ينكر ما يقوم به بعض أساتذة الكليات الأزهرية، وكبار العلماء، والمتخرجين في الأزهر وكلياته، بل وبعض الطلاب فيه. . لا يجوز أن ينكر ما يقومون به من جهد واضح، وسعي دائب، في توضيح المذاهب الإسلامية المختلفة، والآراء الفقهية المتباينة، وإلقاء الأضواء على جوانب الحياة الإنسانية، كما يراها الإنسان، في المناسبات المختلفة، سواء بالخطب والمحاضرات، في الأندية والمجتمعات، أو بالأحاديث الدينية والاجتماعية والأدبية في المذياع، في الصباح والمساء، أو بالمقالات والرسائل في الصحف والمجلات، إلى غير ذلك مما يؤمن الآن ويلمسه كل إنسان. .(942/50)
ولست أدعى أن هذا كل رسالة الأزهر ولا شيء غير ذلك، وإنما هو بلا شك من رسالته. وإننا لنتطلب من رجاله دائما المزيد من هذا الجهد المشكور، حتى يصل صوتهم إلى كل فج من فجاج الدنيا، وكل رجا من أرجاء الوجود، وحينئذ نقول بحق إن الأزهر قد أدى رسالته. .
وإذا كنا نغتفر للعامة والسوقة من الناس بعض التطاول على تراثنا الجليل، ومخلدات مصر الإسلامية، التي ينظر إليها العالم الآن نظره إلى شيء مقدس، له احترامه ومكانته، ومنزلته في النفوس، فإننا لا نغتفر ذلك للمثقفين المتعلمين، الذين نعتبرهم خاصة هذه الآمة الكريمة، وقلبها النابض، وفؤادها الخافق، وعقلها المفكر، ولسانها الناطق باسمها في مل مكان. .!!
إنني لأعجب بالغ العجب لعقلية حديثة تنظر إلى الأزهر الآن نظرة عامية عتيقة. وكأنها لا تسمع له صوتا، ولا ترى له جهدا، ولا تعترف بما فيه من مواد مختلفة، ونظم قد تكون حقيقة في حاجة إلى التعديل والتهذيب والتنسيق، ولكنها ليست في حاجة إلى الهدم المطلق، والنقد بلا معيار أو حدود. . وإذا نوقشت فيما تقول، وروجعت فيما تدعي، يظهر لك بجلاء جهلها المطلق بنظم الأزهر، ومواده المختلفة، وطرق الدراسة فيه. .
إن الأزهر الآن يقوم بالتدريس فيه أساتذة مشهور شأنهم معروف أمرهم، من ذوي الكفايات الممتازة، والدارية الواسعة، قد تخصص كل منهم في المادة التي يدرسها، متفرغ تفرغا تاما لخدمة هذه المادة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وتدريسها على خير ما يرجو المخلصون والمصلحون. . .
ولا ننكر أن هناك بعض العوامل والموانع التي تعوق هؤلاء الأساتذة عن تنفيذ كل ما يرجون من إصلاح، ويرون من حذف أو إضافة في بعض المواد، أو تغيير في طرق التدريس، أو الكتب المقررة، إلى غير ذلك مما يدعو إليه التطور العلمي، ولكن هذا لا يمنع من أهمية ما يدرس الآن، وأن ننظر إلى الأزهر دائما نظرتنا إلى حصن العروبة الحصين، ومعقل الإسلام المنيع، وأن نتناوله بالإصلاح الشامل في رفق وتؤدة وهوادة، ولا نهاجمه في عنف وشدة، لنجعل ذلك طريقا إلى الشهرة، وسبيلا إلى ذيوع الصيت، وطيران الذكر، موحين إلى الناس إيحاء سيئا أن الأزهر ورجاله رمز الرجعية وعنوان الجمود. .(942/51)
إني أربأ بكاتب مصري أن يفعل ذلك. أو يحاوله، لئلا يوجد الفرصة لأعداء الأزهر، وأعداء الدين على السواء، من للتجني عليه، والنيل منه بغير حق، لأن الأزهر مهما حاول المحاولون؛ هو عنوان الدراسات العربية، والبحوث العقلية والشرعية في مصر والعالم العربي والإسلامي فيما مضى، وفي هذا الزمان
عبد الحفيظ أبو السعود(942/52)
القصص
أشجار السنديان
للكاتب الروسي الكبير ايفان بوتين
للأديب حسن فتحي خليل
كنت حينئذ في الثامنة والعشرين من عمري، ولقد حدث هذا منذ زمن بعيد، أيام القيصر نيقولا الأول، وكنت قد عينت ضابطاً في الحرس القيصري
وفي تلك السنة التي لن أنساها منحت إجازة أسبوعين لزيارة عائلتي في أملاكنا القريبة من ريازان حيث تقيم والدتي بمفردها بعد وفاة والدي
وما أن وصلت البلدة حتى وقعت في شباك الحب فلقد ذهبت لتفقد أملاك جدي بالقرب من قرية بتروفسكوي التي لا تبعد عن ضيعتنا كثيراً، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحاول أن أجد عذرا لمعاودة الذهاب إلى هناك دائما، فالريف الروسي ريف مقفر وخاصة في فصل الشتاء، ولكن قرية بتروفسكوي قد أحسنت الطبيعة وضعها، يقوم على أطرافها متنزه صغير يطلقون عليه (أشجار السنديان) فهو يتاخم مجموعة من أشجار السنديان الضخمة العتيقة_يقبع تحتها كوخ قديم في محاذاة الحديقة المغطاة آنئذ بالثلوج، ويتناثر بقربه حطام مالك المقاطعة القديم المتداعي
هناك. . وفي هذا الكوخ القابع تحت كوخ أشجار السنديان كنت أذهب يوميا لأبادل لامز محضر المحكمة الذي يقطن هناك أحاديث تافهة لا معنى لها، محاولاً أن أكسب صداقته، وأنا أبعث نظرات دافئة إلى زوجه الصامتة أنفيسا التي تبدو وكأنها امرأة أسبانية أكثر منها فلاحة روسية ساذجة. كانت في نصف عمر لافر، ذلك الفلاح القاسي بوجهه الأحمر ولحيته النحاسية كأنه زعيم عصابة من اللصوص
كنت أقرأ في الصباح أي شيء يقع تحت يدي ثم أقوم إلى البيان فأعزف وأنشد أغنية (أيتها النفس. . هل تلتمسين الحب أو الفناء؟) وبعد تناول الغذاء أستعد لقضاء الغروب في (أشجار السنديان) بالرغم من الرياح والعواصف
وهكذا انقضت عطلة عيد الميلاد وقرب ميعاد عودتي إلى عملي، وقد أخبرت لافر وأنفيسا(942/53)
يوما في عدم مبالاة بقرب سفري فقال لافر، إن خدمة الإمبراطور طبعا مقدمة على كل شيء. ثم استدار خارجا من الكوخ ليحضر شيئا ما، وكانت أنفيسا تجلس وعلى ركبتيها ثوب تخيطه، فتابعت زوجها بعينيها الأسبانيتين. وفي اللحظة التي أغلق فيها الباب خلفه رفعت إلى عينيها الدافئتين وقالت في همس:
(يا سيدي. . إنه سيقضي ليلته غدا في القرية، فتعال هنا لنقضي أمسية الوداع، لقد كنت أخفي ذلك في قلبي. ولكني الآن أصرح لك بكل شيء. . فإن أشد ما يؤلمني هو أن أفترق عنك)
ولقد غمرني هذا التصريح بالغبطة طبعا ولكني حاولت أن أهز رأسي موافقا إذ دلف لافر بعدها إلى الكوخ
ويمكنك تخيل اللهفة التي كنت أشعر بها وأنا أنتظر ذلك الموعد. لم أدر ماذا أفعل لأقطع الوقت حتى غروب اليوم التالي. وكنت أفكر في شيء واحد فحسب، سأترك كل شيء وسأستقيل من فرقتي وأقضي بقية عمري في الريف وأربط حياتي بها حين يموت لافر. . وهكذا كنت أحدث نفسي (أنه رجل عجوز. . . ويجب أن يموت وشيكا) بالرغم من أني لم أضع في إعتباري أنه ما زال في الخمسين من عمره فقط
وأخيرا انقضى الليل، فجلست أدخن في غليوني وتناولت بعض الشراب وأثملتني تخيلاتي الحارة حتى انقضى النهار الشتوي القصير، وابتدأ الظلام يهبط، وقامت عاصفة هوجاء في الخارج. وتساءلت كيف أغادر المنزل وأي عذر أنتحله لوالدتي؟ فلم أحر جواباً حتى خطرت لي فكرة مفاجئة ز سأتسلل سرا. . . وهذا كل ما في الأمر
وتظاهرت بأني متعب فلم أتناول العشاء وأويت إلى فراشي. وما أن انتهت والدتي من تناول عشائها ودلفت إلى حجرتها حتى أسرعت بارتداء ملابسي في خفة وأسرعت إلى الإسطبل وطلبت من الخادم أن يجهز لي المركبة الخفيفة
كان الجو في الخارج قاتماً حتى أنه يتعسر عليك أن ترى ما هو أمام أنفك بالرغم من الثلوج المتساقطة العاصفة. ولكن الحصان كان يعرف الطريق جيدا، وما أن مرت نصف الساعة حتى ظهرت أشجار السنديان حول الكوخ، ولمع الضوء الخافت في النافذة، فربطت الحصان وألقيت عليه غطاء ثم ركضت نحو الكوخ وهناك وجدتها في أكمل زينتها ووهج(942/54)
شعلة الخشب يلقي على وجهها ظلالا جميلة وقد جلست على مقعد بجوار المائدة. كانت تنتظرني بكل ما في عينيها من حرارة. كانت الظلال المرتعشة تغطي جوانب الحجرة بالنسبة لذلك الضوء الخافت، ألا أن عينيها كانتا أكثر لمعانا من كل شيء. . . عيناها الواسعتان العميقتان. وكانت على الموائد أطباق بها جوز وبسكويت وإناء مملوء بالخمر المعتقة وكوبان صغيران، بينما جلست هي وقد أولت ظهرها إلى النافذة الصغيرة المغطاة بالثلوج وقد ارتدت فستانا حريريا بأكمام واسعة وحول رقبتها عقد من المرجان وتركت شعرها الناعم يموج على كتفيها بينما يتدلى من أذنيها قرطان من الفضة، وما أن وأتني حتى هبت واقفة وأسرعت تخلع قبعتي المغطاة بالثلج ومعطفي وسترتي ودفعتني إلى المقعد، وفي نشوة حارة، لم أكن أعتقد أنها قادرة عليها، وكنت أظنها من قبل امرأة مترفعة صعبة المنال ألقت بنفسها علي واحتضنتني وهي تمسح وجهي بخديها الناعمتين فقلت (كيف أخفيت كل ذلك حتى الوقت الذي حان فيه فراقنا؟)
فأجابتني في عاطفة دافقة (أه. . . ماذا أفعل؟ لقد استوليت على قلبي منذ مجيئك إلى هنا لأول مرة وكنت أشعر بآلامك، ولكني شريفة ولم يسبق لي أن زللت، أضف إلى ذلك أنه لم تكن هناك أية فرصة تسمح لي تأن أطلعك فيها على مكنون قلبي، فلقد كان هو دائما بيننا، ولم أتمكن حتى من مجرد مبادلتك نظراتك، فهو حاد البصر كأنه النسر، ولو لاحظ شيئا لقتلني للتو)
وعادت تحتضنني وهي تضغط يدي بين ركبتيها، وأحسست بحرارة جسدها على فخذي فكدت أفقد توازني، وإذا بها تقفز فجأة وتنظر إلي في اضطراب وهي تقول: (أتسمع؟ فأرهفت أذني ولكني لم أسمع شيئا سوى زئير العاصفة. ولكنها همست قائلة: (لقد وصل. . .)
وأسرعت تجلس إلى الوائدة وهي تحاول ضبط أنفاسها المتلاحقة، ثم قالت في صوت طبيعي مرتفع وهي تفرغ الإناء بيدها المرتعشة (لتشرب قليلا من خمرنا المعتقة يا سيدي ولتأكل فإنك ترتعش)
ودخل هو في هذه اللحظة وثيابه وقبعته مغطاة بالثلوج، ونظر حوله ثم قال في صوت خفيض (مساء الخير يا سيدي) وخلع ملابسه ثم نفض عنها الثلج وعاد يقول (حسناً) يا له(942/55)
من جو، لقد وصلت حتى بولش وتوري ثم وجدت أنه لا فائدة ترجى إذ سأفقد طريقي لا محالة، فذهبت إلى الخان وتناولت بعض الطعام ووجدت أنه من الأوفق أن أعود أدراجي، فما قيمة العمل في مثل هذا الجو الثائر المجنون)
بقينا صامتين ونحن نجلس مذهولين مضطربين فقد لاحظنا أنه أدرك كل شيء من أول نظرة، فلم ترفع عينها إليه، أما أنا فقد كنت أنظر نحوه من وقت إلى آخر، ويجب أن أعترف أنه كان مهيبا وهو واقف بقامته الطويلة وكتفيه العريضتين وحزامه الخضر حول وسطه وحذائه العالي ووجهه الأحمر من لسع الريح ولحيته تلمع فيها حبات الثلج وعينيه تفصحان عما يدور في رأسه من أفكار مخيفة
وتقدم فأشعل قطعة أخرى من الخشب ثم جلس إلى المائدة وأمسك بإناء الخمر بأصابعه الغليظة وأفرغ منها في الكوب ثم شربها حتى الثمالة ثم قال دون أن ينظر حوله (لا أدري كيف ستعود يا سيدي، لقد تأخر الوقت بك وجوادك غارق في الثلج، ولكن أرجو ألا تغضب مني إذا ما اعتذرت عن مصاحبتك فإني جد متعب من رحلتي، أضف إلى ذلك أني مشوق إلى زوجتي التي لم أرها طيلة النهار. . وعندي من الأحاديث ما أريد أن أبثها إياها)
وفي الصباح حين لاح ضوء النهار وصل أحد الفلاحين من بتروفسكوي وأخبرنا أن لافار شنق زوجه مساء الأمس بحزامه الأخضر وعلقها بخطاف في الباب. وفي الصباح ذهب إلى بتروفسكوي وأعلن الفلاحين صائحا (يا جيراني) لقد وقعت بي مصيبة فإن زوجتي شنقت نفسها، لقد أصابها مس من الجنون، فلقد عدت في الفجر فوجدتها معلقة هناك، وجهها أزرق ورأسها مدلى على صدرنا، كانت في كامل زينتها لسبب ما وقد طلت خديها الحمراوين. . وهاهي هناك معلقة وقدماها تكادان تلامسان الأرض (اشهدوا معي يا إخواني) فنظروا إليه وقالوا (ما الذي فعلته أنت بنفسك أيها المحضر. كيف تأتي للحيتك أن تنتف هكذا. . وما هذا الخمش في وجهك من أعلاه إلى أسفله. وما زال جرح عينك يدمي. . هيا أوثقوه أيها الإخوان)
وكان نصيبه الجلد. . ثم أرسل إلى سيبيريا ليعمل في المناجم
أحمد فتحي خليل(942/56)
العدد 943 - بتاريخ: 30 - 07 - 1951(/)
هل الأدب قد مات؟
الدولة تخنق الأدب!
- 3 -
للأستاذ سيد قطب
قبل أن نولد تلك المخلوقة الهزيلة المفككة المسماة: جامعة الدولالعربية. . كانت هنالك جامعة ضخمة قوية راسخة للأمة العربية خلقتها الأقلام: أقلام الأدباء والشعراء والكتاب والمفكرين والعلماء. .
. . . وكانت هنالك صلة وثيقة بين كل قلب وقلب وكل روح وروح وكل فكر وفكر في شتى أقطار العربية، يحملها الكتاب، وتحملها الصحيفة، وتحملها الجريدة، ويلتقي عليها المثقفون والقراء في شتى الأقطار.
وظلت جامعة الدول العربية تتسكع وتتلكع، وظلت تجتمع لتنفض، وتنفض لتجتمع، والأمة العربية تسمع جعجعة ولا ترى طحنا، وترى المؤتمرات والموائد ولا تجد وراءها عملا، بينما جامعة الفكر والقلم تؤدي دورها، وتقوم بواجبها، وتنشر الوعي العربي والإسلامي في أقطار العرب جميعها. . .
ولكن الدولة في مصر يجب أن يكون لها عمل. وما يكون عملها إذا لم تخنق الفكر، وتضع في يديه ورجليه الأغلال، وتفصم هذه العرى المقدسة التي كونتها الأجيال.
ما عملها إذا لم يكن هو تقييد تصدير الكتب من مصر إلى البلاد العربية - ومصر هي التي تقوم في الطور الحاضر بدور القيادة - والبلاد العربية هي السوق الأولى لما تنشره مصر من كتب ومن أفكار وتوجيهات؟
لقد فعلتها على عين جامعة الدول العربية وسمعها! فعلتها بمعرفة وزارة المالية التي أصدرت قرارا بمنع تصدير الكتب من مصر. فلما نبهناها إلى الخطر الكامن في هذا الإجراء (الروتيني) الذي اتخذته بجرة قلم، وهو أخطر ما يصيب الروابط العربية بقاصمة الظهر!. . لما أن نبهناها إلى هذا عادت فقالت: إلا بترخيص خاص يتفق عليه مع المسؤولين!(943/1)
وفي ذات الوقت رفعت رسوم البريد على تصدير الكتب من أربعة قروش للكيلو إلى أثنى عشر قرشاً. ثلاثة أضعاف كاملة فوق عقبات التصدير.
فما معنى هذا الإجراء وذاك في عالم التصدير؟
معنى تقييد تصدير الكتب إلا بترخيص خاص لكل صفقة.
. . . معناه العملي الصريح الذي يجب أن نكشفه للدولة الغافلة. . . هو إفساح المجال للمساومة والارتزاق بين المصدرين وبين المسؤولين! فهل هذا ما قصدته الدولة تيسيرا على موظفيها المختصين؟!
ومعناه كذلك أن نوعا من الكتب يمكن أن يتعرض للضغط والمطاردة والقتل. . . هو الكتب الإسلامية على وجه خاص. ولا احب هذه الإشارة العارضة أن أزيد!
ومعنى رفع رسوم التصدير هو خلق العقبات في طريق الفكر لأن هذه الرسوم سترفع ثمن الكتاب إلى حد معقول وتمنع الإقبال عليه في البلاد العربية، فيختنق الفكر في مورده ومصدره على السواء. وتتعرض الروابط الفكرية بين الأمة العربية للتفكك والانحلال. . وكل ذلك على مرأى من جامعة الدول العربية ومسمع، كما أسلفت الحديث!
إن الدولة لا تتخذ هذا إجراء مع الصحف، إنما تتخذه مع الكتاب وحده. . فلماذا؟
إن الصحف المصرية - إلا النادر القليل - مؤسسات دولية لا مصرية ولا عربية! مؤسسات تساهم فيها أقلام المخابرات البريطانية والأمريكية والفرنسية، والمصرية والعربية أخيراً! مؤسسات تحرر صفحات كاملة منها بمعرفة أقلام المخابرات هذه لتروج في أوساط الجماهير. مؤسسات تخدم الرأسمالية العالمية أكثر مما تخدم قضايا الشعوب العربية. وتخدم الاستعمار الخارجي والجهات الحاكمة قبل أن تخدم أوطانها وشعوبها الفقيرة.
وهذا هو السر في أن الدولة لا تفرض عليها القيود التي تفرضها على الكتب. لأن وراءها أقلام المخابرات ومصالح الرأسمالية العالمية، وهي كفيلة بأن تسندها، وتذلل لها العقبات وتفسد لها الطريق لنشر دعايتها المستورة في أطراف البلاد العربية جميعا. فإذا كان من بينها صحف قليلة من صحافة الرأي والكفاح الفقيرة التي لا تستند إلى هذه القوى الدولية والمحلية. . فهي تنتفع بتسهيلات التصدير ضمنا وعن غير قصد، لأنه لا يمكن استثناؤها.(943/2)
وحسبها وسائل المضايقة الأخرى وهي كثير!
أما الكتب فقلما تخدم هذه الأغراض التي تخدمها الصحافة، ومن ثم فالدولة تطاردها على هذا النحو. وكلما كانت موضوعاتها غير مرغوب فيها لسبب من الأسباب، فهناك أداة المضايقة حاضرة في الحصول على ترخيصات مفردة يتفق بشأنها مع المسؤولين! وهذه هي حكمة مراجعة أولئك المسؤولين!
ومرة أخرى نتجه إلى تلك المخلوقة الهزيلة المفككة المسماة: جامعة الدول العربية لنسألها: فيم وجودها إذن إذا كانت لا تلتفت إلى هذا الخطر الكامن وراء قيود تصدير الكتب ورفع تكاليف التصدير؟
فيم وجودها إذا كانت لا تدرك أن أساس وجودها وقيامها كلها مهددة بالانهيار، حين تنتهي تلك القيود إلى تقطيع أواصر الفكر والروح بين هذا العالم المترامي الأطراف، المقفل الحدود، الذي لا تجمعه رابطة أقوى من روابط الفكر والروح!
لقد كان الاستعمار وما يزال حريصا على تقطيع هذه الأواصر. وهذه هي فرنسا في الشمال الإفريقي كله، تعد الكتب المصرية بين المحرمات الممنوعة، لأنها تعرف أنها رابطة قوية خطرة على الستار الحديدي الذي تريد أن تضربه بين عرب المغرب وعرب الشرق، وثغرا في تلك الأسلاك الشائكة التي تقيمها على الحدود!
فهل هذا ما تريده الدولة في مصر، وما تريده تلك المؤسسة الهزيلة المفككة؟ أم كيف تسير الأمور؟
إن حجة توفير الورق للتموين في مصر حجة لا تنهض في هذا المجال، وإلا لنهضت في مجال الصحافة كذلك. فالصحف هي التي تستغرق الجانب الضخم من كميات الورق وليست الكتب المحدودة الأعداد والمقادير.
فإذا كانت أقلام المخابرات الخارجية والداخلية ومصالح المؤسسات الرأسمالية وما إليها تشفع للصحف الضخمة. . . أفلا يشفع للكاتب أنه الرابطة الأساسية من روابط الفكر والروح بين الجميع؟
إن القراء في البلاد العربية هم القراء الحقيقيون للكتاب المصري الجاد. فشبابنا في مصر مشغولون بصحافة الأفخاذ والنهود، وبأفلام السينما الداعرة، وبأغاني المخنثين المترهلين. .(943/3)
إنه لا وقت لديهم لقراءة الكتب. . فجراح القلوب. والقلوب التي في البريد. . والكتب الشهرية التافهة على أكثر تقدير، هي زادهم اليومي الذي عودتهم عليه الأفلام المترهلة والكتاب الداعرون. . .
وإنه لا بد للكتاب الجيد أن يجتاز الحدود المصرية ليؤدي رسالته للأمة العربية، ثم ليعيش.
وما لم يكن هدف الدولة في مصر هو خنق الفكر. فإن كل قيود التصدير يجب أن تلغى، وخزانة الدولة يجب أن تبحث لها عن مصدر آخر غير الزيادة في أجور شحن الكتب بالبريد.
ومرة أخرى لابد أن نتوجه إلى وزير المعارف المصري الأديب.
إنه طه حسين. طه حسين الذي يعرفه الناس أديبا قبل أن يعرفوه باشا أو وزيرا. فأين هو والدولة تخنق الأدب خنقا بيد من حديد؟
إنه في فرنسا!
نرجو له سلامة العودة. ونرجو منه تحطيم هذه القيود.
سيد قطب(943/4)
هندوكي سفيه
للأستاذ علي محمد سرطاوي
نشرت مجلة (رسالة الباكستان) التي تصدر في القاهرة في عددها المرقم 370 والمؤرخ في اليوم الأول من يونية عام 1951 ما يأتي:
كاتب هندي يطعن في النبي محمد:
وضع الأستاذ سريفاسترا المدرس بجامعة أكرا كتابا في التاريخ حاول فيه الطعن بنبي المسلمين الأكرم سيدنا محمد، والكتاب مقرر في مدارس الهند.
ومما جاء في هذا الكتاب عن الرسول: (أن محمدا لم يكن عظيما كمها بيرا جراستار (هندوسي) وهو لم يكن يؤمن بالسلام ولا بعدم العنف، ولذلك كانت مسؤولية إراقة دماء كثيرة في العالم تقع على عاتقه. وقد تزوج في أواخر حياته، وكان متعجرفا، مخدوعا، جشعا، كما كان عاطفيا يتوق إلى إرضاء شهواته، وخائنا)
والكتاب بما فيه من ملاحظات قذرة، وطعن في رسول الله الذي لم تر إنسانية مثله جمعاء، مقرر على الأولاد المسلمين الذين دوخ آباؤهم منذ قرون البلاد وهزوا الإمبراطوريات في سبيل الدعوة إلى الإسلام والسلام. ويتساءل المسلمون اليوم: هل ترضى الدولة الدنيوية التي قام فيها هذا الكتاب بأن يطعن شخص في دين مجموعة كمجموعة المسلمين؟)
يطيب للكلاب، لسبب مجهول، أن تنبح البدر المنير في كبد السماء، وهو يغمره بنوره الفضي جوانب الأرض، ويشيع في أعماق الأنفس حب الحياة، وجمال الوجود. ولكم شاهدتها العيون، من أزمان موغلة في القدم، مقعية على أذنابها، ومتجهة إلى السماء بوجوهها في مثل هذا الوقت من الأشهر القمرية، تعكر صفو السكون العميق الذي يضفيه نور البدر على الغبراء وهو يغسل ظلام الأرض وما عليها من رجس، بتيار قوي من الرحمة الإلهية تنبعث من نوره إلى آفاق الأرض وآفاق السماء. .
ولكن البدر المنير لا يحس وجود هذه الكلاب، وغنما يستمر في أفقه البعيد وفي عليائه، متهاديا بين النجوم التي تحف به، يثير الحب في القلوب، والخيال الجميل المجنح في الشعر، والأفراح في جنبات الأرض وأرجاء السماء.
ولقد مرت قرون طويلة أوشكت أن تبلغ الأربعة عشر من عمر الدنيا على الرسالة(943/5)
الإسلامية السماوية التي أنزلها الله على محمد لتكون للحياة الإنسانية جمعاء، في مشارق الأرض ومغاربها، كالنواميس الطبيعية الثابتة الخالدة، التي لا يأتيه البطل، ولا بلم بها التبديل، صالحة لكل زمان ومكان، ولكل ما خلقه الله على صور الإنسان. وهكذا كانت، فحملت في جوانحها كل ما تزخر به الطبيعة من نور، وجمال، وعطر، وربيع، وثمر، وورود، ورياحين، ولم تستطع الحياة في هذا الزمن الطويل أن تجد فيها عنتا أو ضيقا أو عثرة في المسير، وإنما كانت تصقل الجوانب الخشنة من الحياة نفسها، وتشيع النور الإلهي في ظلامهما كما يفعل القمر في الليل والشمس في النهار.
ويعرض علينا التاريخ في مسيره الطويل، منذ أن رأى رسالة الإسلام الخالدة، سجلا طويلا في غير أتباع الإسلام، ممن أنصفوا الحقيقة من أنفسهم، وأقوامهم، وزمانهم، ونوعا آخر من ذلك الطراز الذي عميت قلوبه، والذي زعم أنه لا يستطيع مذاق الماء العذب، لا لأن الماء العذب مر المذاق، وإنما بحكم تلك النفوس من مرض، وما في تلك الطبائع من اعوجاج، وما في تلك القلوب من غل موروث من البيئات المنحطة الحاقدة، التي فتحوا عيونهم على ما فيها من ظلام دامس حجب عنهم النور - ومع كل ذلك فقد بقي الإسلام هو الإسلام سائراً في الطريق المستقيم الذي لا ينحرف، كما تسير الفصول الأربعة، وكما تشرق الشمس، وتطلع النجوم، دون أن يتأثر بالإنصاف أو التجريح، لأنه أقوى من الحياة ومن الطبيعة نفسها.
لقد أنصف كارليل، وغستاف لوبون، وإمام المؤرخين وسيدهم العظيم إدوارد جبون، وغيرهم من أحرار الفكر في بلاد الغرب، النبي العربي، أنصافا انبعث من طبيعة كان الحق فيها أقوى من البيئة الموروثة التي يعشش فيها الباطل، وتسيطر عليها قوى الظلام. وتجنت على النبي نفسه طائفة اخرى من طراز المبشرين الذين اتخذوا الدين وسيلة للعيش، بعد أن أدبروا عن الحياة التي لا يصلحون لها، ومن طراز آخر يجيد افتراء البهتان على علم، وعلى سوء نية، ولؤم تدبير، وقبح غاية، كصاحب (تاريخ العالم) ولز، ومن طراز هابط حقير، يجيد التقليد، إجادة القرود محاكاة الإنسان، على جهل، كسريفا سترا الهندوسي السفيه، المدرس في جامعة أكرا، الذي تطاول على الرسول الكريم في كتابه المقرر في مدارس الهند، التي ترغم أولاد المسلمين هناك، تعلم ما فيه من المثالب(943/6)
بسيد المرسلين، وأكمل البشر، وأنف مولانا أبي الكلام أزاد، وزير معارف الهند المسلم، راغم، وألف راغم.
ونحن المسلمين، في الوقت الذي نستغرب فيه، أن تقرر الحكومة التي يرأس وزراءها جواهر لال نهروا العظيم، وارث إنسانية المهاتما غاندي الخالد، كتابا فيه مثل هذه المفتريات والمطاعن، على النبي الذي يقسه ثلاثمائة مليون من الشعوب الإسلامية التي تربطها بالهند الناشئة، صلات قوية من الجوار والتاريخ، نحتج أشد الاحتجاج على تقرير هذا الكتاب، وعلى إجبار أبناء المسلمين على تعلم المطاعن في النبي الذي يدينون بدينه الحنيف، والتي وردت فيه.
ونحن المسلمين أيضا، لا نستطيع أن نعلم سريفاسترا وبني قومه الذوق والآداب والإنسانية التي تعارف عليها البشر، في الابتعاد عن كل ما يؤذي شعور الآخرين، ذلك لأن الذوق شيء لا يتعلمه الإنسان من الكتب، ولا يجده في الجامعات، وإنما هو شيء ثمين تضعه العناية الإلهية في الجوهر الخالد في بعض الأرواح، حين تأخذ طريقها من عالم الغيب إلى عالم الوجود. ومن المحقق أن نصيبه من ذلك الذوق كان ضئيلا أو معدوما.
ونريد أن نسأل سريفاسترا عن دماء الأطفال والنساء والشيوخ من المسلمين التي أراقها أبناء بلدته في أفظع صور الوحشية، وأبشع ألوان البربرية والهمجية، تلك الأعمال التي كانت تقود الناس إلى اقترافها الشرطة التي يوكل إلى شرفها حماية أرواح المواطنين بلا تمييز، والتي كانت تتقرب باقترافها، تلك الجماهير الحاقدة، إلى أوثانها التي تعبدها من دون الله. نريد أن نسأل عن الغاية الإنسانية السامية التي كانت تهدف إليها جماعة الأرياسماج، والبراهموسماج في تحريض الناس على ذبح المسلمين؟
والشيء الذي يطيب لنا أن نقوله في هذه المناسبة لجماعة الأرياسماج وجماعة براهموسماج، الجماعتين الحاقدتين على المسلمين وعلى دينهم، واللتين ترميان إلى استئصال الدين الإسلامي من الهند، وإجبار المسلمين على ترك ذلك الدين، ومحاولة إرغام الباكستان، الدولة الإسلامية الفتية الجبارة، على الرضوخ لإرهابهما، والعودة بها إلى ظلام الوثنية والقضاء على استقلالها، نريد أن نؤكد لهما أن الإسلام في إشراقه وخلوده كالشمس، فإذا كان في مقدور البشر القضاء على الشمس وإطفاء نورها، كان في إمكان هاتين(943/7)
الجماعتينالقضاء على الإسلام في الهند.
ولقد صمد الإسلام في الحروب الصليبية للدول النصرانية التي هاجمته من أوربا في أوائل القرن الحادي عشر لميلاد المسيح، ونازلها في حروب دامية، استمرت قرنين طويلين، كان النصر في نهايتها، فانهزمت تلك الدول الواحدة بعد الأخرى، تشيعها اللعنات من التاريخ الذي سودت وجهه بما اقترفته من آثام ومحرمات، والذي ذكر بأحرف من نور سماحة الإسلام ممثلة في إنسانية صلاح الدين الأيوبي، وعفوه، وكرمه وبطولته.
إن الجماهير التي قتل الجهل والمرض والفقر جميع النوازع الإنسانية العليا في أنفسها والتي تؤلف الكثرة المطلقة في الهند، والتي لم يسلم غاندي الخالد نفسه من همجيتها، وهو يحاول قيادتها إلى طريق الفضيلة والخير، أحوج ما تكون إلى جيل قوي مؤمن بالإنسانية المطلقة من أساتذة الجامعات، يحاربون عن طريق التسامح، والنوازع الهابطة في الحيوانية في تلك النفوس، ويستمرون في أداء رسالة المهاتما غاندي، للخروج بالهند من ظلام العصور الحجرية التي تعيش فيها الآن من الناحية الإنسانية، إلى نور حضارة القرن العشرين.
لقد كفلت حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة لجميع البشر حرية العبادة، وحرية الرأي، والتحرر من الخوف، ولكن يبدو أن حكومة الهند لا تقيم وزنا لهذه الحقوق التي تكفل بها ذلك النظام للأقلية الإسلامية من رعاياها وهي من أبرز الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.
وخرجت الهند على المسلمين في التمثيل السياسي بمسرحية بارعة قابلها في جميع أقطارهم بما تستحقه من سخرية، ذلك أنالمكر المبيت قد هداها إلى إرسال نفر من رعاياها المسلمين ليمثلوا في البلدان الإسلامية، لذر الرماد في العيون، ولخدع المسلمين عما تدبره جماعة الأريا سماج ومن على شاكلتها لإخوانهم في الدين من مذابح واضطهاد، ومستقبل مظلم رهيب، يهدد حياتهم ومعتقداتهم، وينذرهم بشر مستطير وفناء محتوم، وبعض هؤلاء المسلمين لم يوصلهم إلى شرف هذا التمثيل غير زواجهم من الهندو كياب غير الكتابيات اللاتي لا تجيز مبادئ الإسلام للمسلمين التزوج بهن لنهن مشركات.
ونحن نقترح على حكومة الهند، بعد أن أدرك المسلمون إدراكا صحيحاً غايتها من إرسال(943/8)
هؤلاء الدبلوماسيين إلى بلادهم، أن ترسل هؤلاء المسلمين إلى أقطار غير إسلامية، وأن تستبد لهم بجماعات الهنادك المتعصبين المتعطشين إلى سفك دماء المسلمين من جماعات أرباسماج، ومن طراز سريفاسترا، لنعلمهم معنى التسامح الإسلامي، ولنزيل ما في نفوسهم من انحراف واعوجاج، وهي إذا فعلت ذلك أشاعت جوا من روح الود الخالص والتسامح الصحيح بيننا وبينها، وقدمت البرهان العملي على إخلاص نيتها وأنها تسير في الطريق المستقيم.
إن الظلام الذي يعيش في سرفاسترا ومن على شاكلته من الهنادك المتعصبين، ستمحوه الأجيال المقبلة من أبناء المسلمين الذين سيحسنون لغتهم السنسكريتية، ويقبلون عليهم وقد حملوا إليهم نور الإسلام، فيتم الله نعمته عليهم ويزول ظلام الشرك والوثنية عن الهند، وتتحرر فيها الجماهير، الجاهلة، ويصبح سكانها أمة واحدة لا حقود ولا نجس ولا حقير فيها، ولا يتفاوت الناس هناك إلا بما يقوله تعالى وهو أصدق القائلين (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
والمسلمون في أقطارهم المتباعدة يرقبون بعين العطف الشديد والجزع المصير الذي سينتهي إليه إخوانهم في الدين، أولئك الذين رماهم سوء الطالع تحت رحمة تلك الوحوش المفترسة من الأرياسماج. ومن يدري؟ فلعل استمرار هذه الجماعات المتعصبة في تحديها للمسلمين سيدفع البلدان الإسلامية إن آجلا أو عاجلا، إلى منازلة أولئك الهنادكة في حروب صليبية جديدة داخل الهند وخارجها، بالطريقة التي ترضاها الأرياسماج والتي لن يجبن المسلمون عن تقبلها.
لقد أفاق العالم الإسلامي من سبات القرون الطويلة، وأخذ المسلمون يشعرون بأنهم كالجسد الواحد، إذا أصاب الألم عضوا من أعضائه، أحست بصدى الألم سائر الأعضاء الأخرى. والمسلمون الذين يحكمهم الهنادك ليسوا منفردين في معركة الدين، وإنما تحيطهم بالعطف والرعاية قلوب الملايين من إخوانهم في الدين، ولن تتخلى عنهم، وإنما سنجاهد إلى جانبهم حتى نكفل لهم الحرية المطلقة في الدين والرأي، ونحررهم من الخوف.
وإذا كان الأدباء في الأمم كالرواد، يمهدون الطريق الوعرالشائك للسائرين عليه وراءهم من أبناء جنسهم وكان رجال الدين في الأمم كالمصابيح تبدد الظلام الذي قد يكتنف ذلك(943/9)
الطريق. ورجال الأزهر في مصرن باعتبارهم المؤسسة الإسلامية الخالدة التي تسهر على الإسلاموالمسلمين في ديارهم المتباعدة، ورجال الدين الإسلامي في القطار الإسلامية الأخرى، مسؤولون عن وقف هذا الهندوكي السفيه عند حدود الذوق، وعن منع استعمال كتابة القذر في المدارس التي يتعلم فيها أبناء المسلمين وغير المسلمين، بحكم ما فيه من طعن لا يليق أن يقال عن سيد المرسلين وخاتم النبيين، بالوسائل التي تكفل ذلك، دون اللجوء إلى أضعف الإيمان في مقاومة هذا المنكر، شأن العاجز الذي لا يعرف المبادرة إلى العمل السريع. وإننا لمنتظرون
بغداد
علي محمد سرطاوي(943/10)
رسالة المربي
(ظهور المدرسة، الطريقة النفسية والمنطقية، التقاليد)
للأستاذ كمال السيد درويش
إذا كانت رسالة المربي في الحياة كما نراها هي المحافظة على سلامة الاتجاه الطبيعي نحو التعليم، فإن ذلك الكلام يحتاج إلى المزيد من التوضيح. والواقع أن هذه الرسالة على بساطتها الظاهرة تستدعي مسئوليات جمة، وتتطلب مجهودات كبيرة، ولكنها إلى جانب ذلك جديرة بأن تحتل أسمى مكان وبأن تصبح المثل الأعلى للجميع.
إن بساطة تلك الرسالة وسهولة إدراكها تدعو إلى التساؤل عما إذا كان الإنسان قد سار عليها من قبل أم لا؟ وإذا كان لم يعمل بها فما هي الأسباب التي حالت بينه وبين ذلك؟ وإذا أردنا العمل بها فما هي الأسس العلمية التي يستدعيها التطبيق؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة جميعها تتطلب منا أن نسير مع عملية منذ بدأت لنرى كيف سارت خلال العصور الماضية وحتى وصلت إلى تلك الحالة التي وصلنا إليها اليوم، والتي لا يحسن السكوت عليها بأي حال.
بدأ الإنسان يتعلم - كما ذكرنا - منذ أن ظهر على سطح الأرض مدفوعا إلى ذلك بغرائزه المتعددة. فالإنسان - مثلا - حينما كان يقطن الغابة - كان إذا ما شعر بالجوع اندفع يبحث عن طعامه داخل الغابة، حتى إذا ما رآه في أعلى شجرة ممثلا في ثمارها اضطر إلى التفكير في كيفية الحصول عليه، وفي تسلق الشجرة مثلا. وقد يفشل أو ينجح، فإذا ما نجح تناول الثمرة ووجد فيها الغذاء الشهي أخذ يتعمد تسلق الشجار جرياً وراء الثمار وإشباعاً لغريزة البحث عن الطعام.
كانت حياة الإنسان الأول في الغابة إذن هي المدرسة التي يتعلم فيها. تعلم فيها كيف يتسلق الأشجار وكيف يقي نفسه شر الحيوانات الكاسرة، كان يتعلم فيها الطريقة العملية، طريقة التفاعل مع البيئة التي يعيش فيها.
وقد ظلت طريقة التعلم بالتفاعل مع البيئة قائمة حتى توالت الأجيال وتغيرت الأحوال وأصبحت لا تفي بالغرض المنشود حين بدأ الإنسان يلمس فشلها فبدأ يتخلى عنها إلى غيرها، إلى طريقة أخرى تلائم الوضع الجديد: ذلك أن المعلومات أخذت تزداد وتنمو(943/11)
بمضي السنين. واصبح عمر الأبناء عليلا لا يتسع لممارسة خبرة الآباء والأجداد بطريقتهم العملية. ووجد الآباء أنفسهم مضطرين إلى تزويد أبنائهم بخيرات ومعلومات هي خلاصة مئات السنين والآلف على أن يتم ذلك خلال سنوات الطفولة. عند ذلك أحسوا بالمشكلة، مشكلة إعداد الأبناء الناشئين حتى يستطيعوا الانسجام مع هذا المجتمع الذي سيعيشون فيه، لأنها - وهم لا يعلمون شيء عن أسلوب حياته أو طرق المعيشة فيه - طرق وأساليب قد تبلورت خلال مئات الآلف من السنين، فهل نكفي سنوات الطفولة بل سنوات العمر كله لهضم وتمثيل ما لم يهضم إلا خلال القرون والأجيال؟!
ظهرت المشكلة واعترضت الإنسان فأيقن منذ ذلك أن إعداد الطفل الناشئ أمر خطير. وازدادت المشكلة تعقيداً بنمو الإنسانية على مدى العصور حتى أصبحت في القرن العشرين تحمل في طياتها أعباء ما انقضى من القرون.
وبدلا من أن يحاول الإنسان حلها حين اصطدم بها نفض يديه منها وأحالها على غيره. أو لعله وجد حل للمشكلة في أن يتركها ويتخلص منها بإحالتها على من يتخصص للنظر فيها، على هؤلاء الذين عرفوا بين الناس من ذلك الحين بالمربين. وجاء المربي فوجد أمامه ثروة ضخمة هائلة من المعلومات المتراكمة، ووقتا ضئيلا لا يكاد يصلح لممارسة شيء من تلك المعلومات في عقول الناشئين وهل هناك طريقة أسرع وأضمن من طريقة الكلام؟ طريقة التلقين؟ عند ذلك استخدمها وفرج بها وتكالب مع غيره من المربين على اتباعها.
وهكذا انتقلت التربية من وسيلة العمل والتفاعل مع البيئة إلى وسيلة الكلام والاستماع، ومن ميدان الغابة أو ميدان الحياة إلى ميدان المدرسة بجدرانها الأربعة المحدودة. ولقد كان ظهور المدرسة أمرا حتميا للتخلص في عملية التربية، إذ استطاعت منذ ظهورها فرض سيطرتها على التربية والتعليم حتى اليوم. فهل نجحت المدرسة؟ هل أدت رسالتها أو حققت الغرض منها؟
يدرك معظمنا شبح المدرسة؟ ويلمس آثاره. يرهبها الصغير ويهرب منها الكبير ويتحمل مرارتها الصبور والمضطر، ويكفي أن نذكر أن فقدان الميل الطبيعي نحو التعلم هو من بين ضحايا شبح المدرسة الجاثم فوق صدور الناشئين حتى نعلم إلى أي حد نجحت المدرسة أو فشلت في تحقيق رسالتها.(943/12)
قامت المدرسة ولا تزال تقوم حتى الآن بالدور الرئيسي في عملية التربية، ولذلك تقع عليها معظم المسئولية ابتعاد التربية عن هدفها ورسالتها كما يجب أن تكون. ولكي نتبين ذلك بوضوح سنقارن بين الطريقة النفسية في التربية والطريقة المنطقية.
ذكرنا أن الإنسان تعلم ما تعلم في ميدان الحياة. شعر بالجوع فقام يبحث عن غذائه. سار في الغابة فشاهد حيوانا. أراد صيد الحيوان لطعامه فبدأ يهاجمه فرد عليه الحيوان بالمثل وعاد إلى كوخه جريحا جائعا. نظر إلى جرحه فأيقن فشل طريقته الأولى وبدأ يفكر في طريقة جديدة تجنبه الأخطار. وبدأ يجرب، أمسك فرعا من فروع الأشجار ليستعد به في الدفاع عن نفسه أثناء الصيد هذه المرة. وكسر الفرع ففكر في اتخاذ آلاته من مادة أصلب كالأحجار والصخور ساعدته في التغلب على عدوه والعودة بصيده في سعادة وهناء. ولقد عاد بالصيد ولكن. . . بعد أن تعلم الشيء الكثير. لقد تعلم الشيء الكثير. لقد تعلم عدم المخاطرة بنفسه ضد الحيوان الكاسر، وضرورة الاقتراب منه بحذر وهدوء، وعدم صلاحية فروع الأشجار، والاطمئنان إلى صلابة الأحجار ولا سيما أحجار الصوان بعد صقلها وتهذيبها.
هكذا كان يتعلم الإنسان الأول نتيجة لدوافع غريزية وبطريقة عملية حصل خلالها على تلك المعلومات التي اندمجت في خبرته الحسية لعل بعضها ذلك الجرح الذي لم يندمل أو ذلك الصيد الذي لم ينته من التهامه بعد.
هذه الطريقة التي تعلم بها الإنسان الأول تتمشى مع الغرائز الإنسانية هي الطريقة الطبيعية التي اصطلح العلماء على تسميتها بالطريقة النفسية.
الطريقة النفسية إذن طريقة بسيطة عادية تتمشى مع ميول الإنسان الغريزية. ولذلك كان سلوكه نحو التعلم فيها تلقائيا أو فلنقل سلوكا غريزيا، له للسلوك الغريزي من كل مظاهر التلقائية والتغير والرغبة في تحقيق الهدف المنشود. وتتضح هذه المظاهر فعلا في المثال السابق. فالإنسان الأول حين قام ليصطاد من الغابة قام من تلقاء نفسه ولم يأمره بذلك أحد، ولم يكن سلوكه أثناء الصيد جامدا ثابتا بل كان متغيرا متحولا. لقد استعمل يديه أولا فجرح، واستعمل فرع الشجرة فقصف، فلجأ إلى الأحجار يصقلها ويشحذها حتى نجح. وكان ذلك التغير في سلوكه مرتبطا بتحقيق هدفه المقصود ألا وهو الصيد المنشود. وكان(943/13)
لسلوكه هدف واضح منذ البداية هو الحصول على ذلك الحيوان. ولقد انتهى السلوك بالحصول على الغاية المنشودة.
وهو لم ينته تماما لأن الخبرة التي حصل عليها من جراء ذلك السلوك هي خبرة حسية دائمة. لن ينسى قط تلك الطريقة الناجحة في الصيد. لقد جربها بنفسه فكيف ينسى؟ لم ينقطع سلوكه تماما ما دامت هذه الخبرة الحسية موجودة وقائمة، إذ أن سلوكه سيظهر من جديد محاولات أخرى للصيد تستخدم فيها تلك الطريقة أي تستخدم فيها الخبرة الماضية ويستفاد منها في الحصول على صيد أكثر بطريقة أضمن وأسهل وأسرع.
تلك هي مميزات الطريقة النفسية التي تعلم بها الإنسان الأول هذه الطريقة التي نعم التعليم يديها بخير كثير حتى نمت الإنسانية خلال القرون والأجيال وازدادت معارف الإنسان. اكتشف المعادن فحلت الحربة النحاسية محل أختها الصوانية الحجرية، ثم ظهرت الطلقة النارية فحلت محل الحربة النحاسية. وظهر المعلم في المدرسة ووكل إليه أمر الناشئين هؤلاء الذين لا يعلمون أمر دنياهم ولا من سبقهم فيها شيئا. ولم يتردد المعلم في التعليم. ولكن كيف لجأ إلى نفس الطريقة التي لجأ إليها الأب حين سأله ابنه وهما خارجان للصيد معاً:
كيف أصطاد؟ ففكر الأب وقال في نفسه: (أأترك ولدي ليقع في الخطأ الذي وقعت فيه من قبل فيجرحه الحيوان وقد يقتله أم أزوده بخبرتي حتى ينتصر بطريقتي؟ لا، سأنصحه وسأسدد خطاه. عند ذلك التفت إلى ولده قائلا: خذ هذا الحجر وضرب به من بعيد، أو خذ هذه الطعنة واطعن بها، فهكذا أوصانا الآباء عن الأجداد.
هذه هي الطريقة وما أسهلها. يعطيه خلاصة المجهود الذي بذله في سنوات، والذي بذله الآباء والأجداد في آلاف السنين، يعطيه إياه خلال كلمة أو كلمتين. ألا يكون بهذا قد وفر عليه ضياع جهوده في تجارب فاشلة قد وقع هو فيها من قبل؟
تلك هي الطريقة المنطقية، أو هكذا اصطلح العلماء على تسميتها، هي طريقة إعطاء الخلاصة والنتائج مباشرة للناشئين. ولو نظرنا إلى موقف الابن بعد أن تسلم الحربة وبعد أن طلب إليه أن لا يصطاد إلا بها لوجدنا أنه في حاجة إلى توضيح. لقد طلب إليه ألا يصطاد إلا بها وبوده لو ترك لحربته فيصطاد بيديه ويهجم بجسمه هو ليشعر في قرارة(943/14)
نفسه أنه قد قيد بطريقة لا يفهمها ولا يدري السر في إصرار والده على ضرورة التمسك بها. وهو مضطر للعمل بها إرضاء للسلطة العليا الممثلة في شخص أبيه، فكأنه لم يقبل العمل بهذه الطريقة إلا لإرضاء السلطة العليا، ولذلك يظل عمله بها قائما وباقيا ما دامت هذه السلطة موجودة لتعد عليه حركاته وسكناته وتراقب كل تصرفاته، ولذلك نراه يتخفف من العمل بما أمر به حين يخلو إلى نفسه وحين يبتعد عن سلطة الرقباء يخالف ما تعلمه في الحال ويبدأ في الصيد بطريقة أخرى تنسجم مع ميوله وأهوائه. سيجرب الوسيلة التي كان آباؤه قد جربوها من قبل، وسيصيبه مثل ما أصابهم من ضر وعند ذلك يبدأ في إدراك الحكمة فيما علمه إياه أبوه، ويفهم السر في تمسكه وإصراره، والحكمة في إرشاده وتعاليمه.
وهكذا يمكن أن نجمل موقف المتعلم بالطريقة بذكر المظاهر الآتية: -
1 - ازوراره عن التعلم أو انعدام الرغبة لديه
2 - تقيده التام بما يراد له أن يتعلمه
3 - عدم قبوله للتعلم إلا مضطرا وتحت ضغط عوامل خارجية
4 - العجز عن الفهم أو عن إدراك الحكم فيما يتعلمه
5 - إن التعليم غير ثابت ويزول بزوال المؤثرات الخارجية المرتبطة به
6 - عدم ثبوت ذلك التعليم إلا إذا حدثت خبرة حسية يمر فيها المتعلم مصادفة فتؤدي إلى إعطاء المعلومات الشكلية السابقة قيمتها الحقيقية.
ويلاحظ أن الخبرة العملية هي عودة إلى الطريقة النفسية، وأن مرور المتعلم خلالها وممارسته لها قد غيرت من سلوكه السابق نحو عملية التعليم وحولته من الأدبار إلى الإقبال، كما حولت عملية التعليم ذاتها من الفشل إلى النجاح.
حقا إن الطريقة النفسية بعد أن قارنا بينها وبين الطريقة المنطقية تبدو وثيقةالصلة بالرسالة التي يجب على المربي القيام بها.
البقية في العدد القادم
كمال السيد درويش
ليسانسيه الآداب بامتياز - دبلوم معهد التربية العالي(943/15)
مدرس بالرمل الثانوية(943/16)
ألمانيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
أمة من الفرسان تحالف ضدها الإنسان والزمان، ودولة يحتل الأعداء أراضيها وقد كانت تحتل من معظم القارة الأوربية كل مكان، وشعب ينهزم ولكنه لا يلبث أن يقف ناهضاً، ودولة اشد الرهبة، ويرعبهم ذكر اسمها أشد الرعب، وإن كنت غير مصدق فسل فرنسا والفرنسيين، وأنت كفيل بأن تصل حتما إلى الحقيقة واليقين.
وإن أنس لا أنس سيدة فرنسية كانت تقيم في المنزل الذي كنت أقيم به في 1939 أي عند قيام الحرب العالمية الثانية وكان قومها يسكنون على حدود فرنسا الشرقية أي المجاورة لألمانيا، فلما أعلنت الحرب جاءتني فزعة ومضطرة ومعها جريدة فرنسية تحمل النبأ فحاولت أن أهدئ من روعها وأن أطمئنها فقلت لها: (يا سيدتي إن الجنود الفرنسيين البواسل سيصمدون أمام الألمان المعتدين ولن يصيب قومك سوء. .) فكان جوابها: (يا سيدي أنت لا تعرف الألمان؟ سلني عنهم أجبك: إنهم قوة قاهرة غلابة لا قبل لنا بها، وقوم متوحشون لا نعرف الرأفة إلى قلوبهم سبيلا).
في 1943 زارني صديق كان يقيم بمدينة ليون بفرنسا في الفترة من 1938 - 1942 وكان من الطبيعي أن أطلب إليه أن يصف حالة فرنسا والفرنسيين عند قيام الحرب وهن مدى الفزع الذي استولى على الفرنسيين إذ ذاك فأجابني بما يأتي قال: كان لي صديق من الفرنسيين فلما قامت الحرب جنده، فذهبت لأودعه وأبديت أسفي لفراقه وخوفي عليه وإشفاقي من طول غيابه، ولكنه أجابني قائلا (لا يا سيدي لن يطول غيابي فإنني عن قريب عائد). ولا عجب فإن الفرنسيين كانوا لا يثقون بأنفسهم ويؤمنون بأنهم لن يستطيعوا الوقوف في وجه الألمان. وفعلا عندما التقى الفرنسيون - وكانت قلوبهم هواء - بالفرسان الألمان لم يلبثوا إلا عشية وضحاها ثم ولوامدبرين!
ويتجلى مدى وف فرنسا من ألمانيا فيما تقدم به كليمنصو رئيس وزراء فرنسا غداة انتصار الحلفاء 1918 من وجوب تقسيم ألمانيا إلى دولتين حتى تضعف ويزول الخطر عن فرنسا. وقد كان كليمنصو على حق فيما ذهب إليه: لقد احتلت جنود ألمانيا باريس عاصمة فرنسا عدة مرات في خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين:(943/17)
احتلتها1814، 1815، 1870، وكانت تهددها 1915 ثم احتلتها للمرة الأخيرة 1940 - 1945 وقد نزل الدمار بشمال شرق فرنسا وبشرقها وبعاصمتها في كل غارة من هذه الغارات.
ولكن الحلفاء لم يأخذوا بوجهة نظر فرنسا، فإنجلترا رفضت لأنها كانت وما زالت ترى ضرورة قيام ألمانيا كدولة قوية في وسط أوربا حفظا للتوازن الدولي، ففي شرق القارة توجد روسيا وفي غربها توجد فرنسا ومن ثم يجب أن تكون هناك دولة قوية في وسط القارة لتمنع طغيان إحدى هاتين الدولتين (وخاصة روسيا حاليا) على القارة الأوربية. ولعلنا نلمس ذلك بوضوح في السنوات الأخيرة، فقد كان نتائج هزيمة ألمانيا سنة 1945 أن تقدمت القوات الروسية من الشرق واحتلت شرق ألمانيا وتقدم قوات الحلفاء (إنجلترا وفرنسا وأمريكا) من الغرب واحتلت كل دولة جزءاً ثم بان الخطر الروسي فحاول الحلفاء جاهدين توحيد ألمانيا (رغم معارضة فرنسا) ولكن روسيا وقفت في وجههم وبات أعداء ألمانيا بالأمس على أحر من الجمر يحاولون إعادة ما هدموه وما أنفقوا الملايين من الأرواح في سبيل هدمه، ولا ريب أن كل هذا التطور نشأ عن ظهور الخطر الروسي مما دعا إلى ضرورة إيجاد دولة قوية تقف في وجهه، وقد فطنت روسيا إلى أهداف الحلفاء فعارضت في الجلاء عن الأراضي الألمانية التي تحتلها وفي وحدة ألمانيا حاليا.
وقد عارضت أمريكا (الولايات المتحدة) طلب فرنسا سنة 1981 لأن رئيس جمهوريتها ولسن كان قد أعلن مبادئه الأربعة عشر، وأهم مبدأ فيها أن لكل قوم الحق في تقرير مصيرهم، فرأى ولسن أنه لا يستطيع أن يعلن عن مبادئ ثم يتنكر لها في نفس الوقت أو بعبارة أخرى أن يؤمن بمبادئ ويكفر بها في نفس الوقت، ولذلك رفض فكرة تقسيم ألمانيا. ومضت السنون، وفي عشرين سنة أعادت ألمانيا قوتها وقواتها. وفي 1939 اشتعلت نيران الحرب الثانية وتحققت مخاوف الفرنسيين وداست ألمانيا على حرياتهم واحتلت عاصمتهم وديارهم 1940 وأقامت إلى أن تعاون الحلفاء وأعدوا قواتهم فنزلوا بأرض فرنسا ثم أجلوا الألمان عنها وتقدموا داخل ألمانيا حتى سقطت في يدهم برلين 1945
وتحتل قوات روسيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا أراضي ألمانيا الآن، ويتمنى الإنجليز على رغم معارضة فرنسا عودة ألمانيا القوية لحفظ التوازن الدولي الأوربي ولكن.(943/18)
ما كل يتمنى المرء يدركه ... تأتي الرياح بما لا يشتهي السفن
غارة:
في أواخر القرن الرابع الميلادي وفي خلال القرن الخامس تعرضت أوربا لغارة عنيفة جاءت عليها من الشرق، ذلك أن قبائل (الهون) وهي قبائل مغولية كانت تسكن وسط آسيا بدأت تتحرك غربا وتدفع أمامها غربا الشعوب والقبائل التي تصادفها، وقد صادفت في طريقها القبائل التيوتونية أو الجرمانية فدفعتهم أمامها حتى استقروا في المنطقة بين نهري الربن والفستيولا من وسط أوربا. ومنذ ذلك التاريخ استقر الألمان في تلك المنطقة.
كان الجرمان يعيشون قبائل مستقلة، وكان نظام حكمهم ديمقراطيا فكان أحرار كل قرية يشتركون في غدارة شؤونها، وكانوا يمتازون بفروسيتهم وشجاعتهم ويعيشون على الرعي والزراعة والصيد.
وامتاز الجرمان أيضا بضخامة أجسامهم وبقوة بنيتهم وبولعهم بالحرب والخمر والميسر حتى بلغ بهم الأمر أنهم كانوا يقامرون بنسائهم وأولادهم.
وقد ظل الألمان على وثنيتهم فترة طويلة من الزمان ثم دخلوا في المسيحية في بدء العصور المتوسطة.
ولست أحب أن أتعرض بالتفصيل لتاريخ ألمانيا ولكني أحب فقط أن من يدرستاريخ الألمان يشاهد ظاهرتين بارزتين:
أولا: تأخر قيام دولة موحدة في ألمانيا، إذ تم ذلك في سنة 1870 منذ ثمانين عاما تقريباً، ويرجع السر في ذلك إلى أن القبائل الألمانية كونت ولايات مستقلة وظلت هذه الولايات تعمل على المحافظة على استقلالها. صحيح أنه في فترات مختلفة من التاريخ قامت دول وإمبراطوريات تضم جميع ألمانيا بل وكثيرا من الدول الأوربية، ولكن الدولة الألمانية الموحدة توحيداً كاملا لم تقم إلا سنة 1870
ثانيا: امتاز تاريخ ألمانيا بظهور أبطال عظام تقمصت دولتهم في شخصيتهم، وتقمصوا هم في شخصية دولتهم، أمثال فردريك الأكبر، بسمارك غليوم، هتلر.
وإننا ما نزال نذكر أن الناس كانوا يتحدثون عن هتلر كانوا يقصدون ألمانيا فكان اسم هتلر مرادفا لاسم ألمانيا. ولكن أهم من ذلك أن الألمان كانوا ينزلون لهؤلاء الأبطال عن كثير(943/19)
من حرياتهم ويمتحنون سلطة مطلقة فيصبح هؤلاء حكاما بأمرهم. ومع هذا لم يطغوا بل استخدموا هذه السلطة في خدمة الوطن، وكانوا أول خادم للوطن والشعب حتى بلغوا مرتبة التقديس عند شعوبهم.
للكلام صلة
أبو الفتوح عطيفة
المدرس الأول للعلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية(943/20)
بين المتنبي وكافور
دراسة يائية المتنبي في مدح كافور
للأديب نور الدين شمسي
ليس يعنينا في دراستنا لقصيدة المتنبي أن تقف على كل شاردة وواردة فيها، نشرحها ونعللها ونبين ما تنطوي عليه من معنى وما تحويه من لو أن القبح أو الجمال، لأن هذا يخرج بنا عن نطاق الدراسة العاجلة التي نريد بها اليوم أن تقف على قصيدة الدراسة العاجلة التي نريد بها اليوم أن تقف على قصيدة المتنبي جملة فنقرر ما إذا كنا نستطيع أن نرفع من شأنها لنضعها في عداد فوائده وروائع قصائده. . . أو أن نضع من شأنها فتلقي بها بين قصائده التي ابتعد فيها عن عبقريته وانحط من عليائه. . أو أن نلتمس لها مكانة بين المكانين لا نرفعها ولا نضعها. . وإنما ننظر إليها على أنها قصيدة استوى فيها عمود الشعر وأخذت من جماله بنصيب.
الحق أن المتنبي ليس كغيره من الشعراء، وإذا أردنا أن ندرس قصيدته فما ينبغي لنا أن ندرسها كما ندرس أية قصيدة أخرى لأي شاعر آخر. . وإنما يجب أن نراعي خلال ذلك اعتبارات لن نستطيع مطلقا أن نفهم القصيدة ما لم نقف عندها مليا ونتأملها طويلا.
فالمتنبي شاعر طموح كبير النفس، لازمه طموحه منذ أن كان صبيا حتى وافاه أجله وانتهى إلى نهايته. . وطموحه هذا هو الذي جعله في كثير نم الأحيان يخرج عن المألوف فيفخر بنفسه فخرا لا يدانيه فخر، ويعجب بقوته عجبا لا يماثله عجب، وينظر إلى نفسه على أنها من نفوس الملوك والأمراء وإن وضعتها المقادير غمطا وإجحافا في مصاف الشعراء الذين لا حول لهم ولا قوة:
همتي همة الملوك وإن كا ... ن لساني بري من الشعراء
إذا فهمنا هذه الناحية من حياة أبي الطيب فقد وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام أعذار جمة نستطيع معها أن نقبل من المتنبي إسرافه في مدح كافور في يائيته.
ذلك أن نفس أبي الطيب كانت تتململ بين جنبيه وتأبى أن تظل هكذا بعيدة عن العظمة التي خلقت لها بينما يتمتع بها أناس ليسوا بأحسن منه حالا ولا بأطول باعا ولا بأرسخ في العلم قدما. ولذا نراه يطلبها جادا وبأي ثمن فيمدح العبد ويقدم بين يديه الشعر الرفيع(943/21)
والقصيدة الخالدة وكأني بنفسه تكبر ذلك وتأباه، وكأني به ينكر ويكذب ما يقول ولكنه يرضاه مرغما ليشبع في نفسه نهما إلى الملك والعظمة وكبار الأمور. ولو لم يكن تكن بين جنبي أبي الطيب تلك النفس الكبيرة لرضى بصغائر الأمور وحقائرها ولقنع بما قنع به غيره من عطاء الملوك ونوال الأمراء.
لم تكن قصيدة المتنبي في مدح كافور ضربا من المدح المعتدل، وإنما كان فيها إغراق في لا تعظيم وإسراف في الثناء. . . وما للمتنبي من غرض يبتغيه إلا أن تبلغ القصيدة قلب الممدوح وتصل إلى وجدانه. . . وما كان له من غابة، بعد ذلك إلا أن يستجيب له ذلك القلب وهذا الوجدان فيبلغه القصد ويدنيه من الأمل.
ولذلك نستطيع أن نسيغ تلك المبالغة التي نثرها في قصيدة بغير حساب. . ثم لا نكتفي بذلك بل لا نملك أنفسنا من أن نردد بكثير من الطرب والإعجاب قوله:
كتائب ما انفكت تجوس عمائرا ... من الأرض قد جاست إليها فيافيا
غزوت بها دور الملوك فباشرت ... سنابكها هاماتهم. . . والمغانيا
وأنت الذي تفشي الأسنة أولا ... وتأنف أن تغشى السنة ثانيا
إنها مبالغة لا شك. . ولكنها على جانب كبير من الروعة والجمال، ومن ذا الذي يمنع الشاعر أن يملأ ماضغيه بمثل ذلك وما ميدانه إلا الشعر. . وما قوامه إلا الخيال الواسع البعيد؟
لننتقل الآن إلى العاطفة، ولنفتش عنها بين أبيات هذه القصيدة فهل نرى لها أثرا. . وما حظها من القوة ونصيبها من الصدق؟
لا نستطيع أن نحكم بان المتنبي كان صادقا في مدحه لكافور لأنه إنما كان يمدحه حبا في الوصول إلى غرض معين. . ولكن كيف استطاع المتنبي أن يكسب قصيدته هذا اللون من القوة والتأثير وكيف استطاع أن يرضي كافورا - وإن لم يصل به رضاه إلى حد الاقتناع فالاستجابة؟
والواقع أن المتنبي لم يكن يضمر لكافور شيئاً من الحب كما أنه لم يكن يضمر له شيئا من البغض. . وكل ما هنا أنه كان يطمع في أن يصل إلى شيء عن يديه بواسطته. . إذاً فما له لا يستعمل براعته في أن يجعل من قصيدته هذه قصيدة صالحة لأن تقدم إلى ملك بغية(943/22)
التأثير عليه وأملا في تحريك قلبه ووجدانه، وما هي حينئذ آلته إلى ذلك؟
يقول أميل فاكيه في عبقرية شاتوربريان (إن العاطفة والجمال هما قوام الشاعر. . . ولكن يكفي أحد هذين العنصرين إذا كان ممتازا أو قويا، وإن كان اجتماعهما عند شاعر ينتج أروع الآثار)
إذاً فلم يلجأ المتنبي إلى خياله الخصب ما دام أحس برودة عاطفته وجمود إحساسه وله في الخيال كعب عال وسبق وتبرز؟ وما لنا ألا نفتش عن سبب جمال القصيدة في ميدان الخيال بع أن بحثنا في ميدان العاطفة؟
إلا ترى إلى هاتيك الجرد الخفاف كيف صورهن خياله على ابرع شكل وبأرع صورة. . . وكيف وضع أمام ناظريك صورة ذلك القطيع من الجياد: يدب أناء الليل وأطراف الناهر ليبلغ كافوراَ ولو بعد المسير إليه:
وجرداً مددنا بين آذانها القنا ... فبتن خفافا يتبعن العواليا
وتنظر من سود صوادق الدجى ... يرين بعيدات الشخوص كما هيا
وتنصب للجرس الخفي لسوامعا ... يخلن مناجاة الضمير تناديا
بعزم يسير الجسم في السرج راكبا ... به ويسير القلب في الجسم ماشيا
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
أولا ترى أن الخيال وحده هو الذي ملأك دهشة وإعجابا.
وانظر إلى هذا البيت الذي اعتمد على العاطفة وحدها إلا نحس ببرودته وتشعر بجموده:
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا ... إليه وذا الوجه الذي كنت راجيا
إن الخيال مرة، والمبالغة مرة ثانية، وهذه الموسيقى العذبة تراها شائعة في كل أنحاء القصيدة، وهذا البحر الطويل الملائم الذي اختاره لقصيدته. . وذلك الأسلوب الرصين والديباجة المشرقة التي لا تستطيع أن تذل عليها ببنانك وإنما تشعر بها بجنانك. . هذا كله وشيء من الصناعة الطريفة التي جاءت م غير كد ولا تكلف، ساهم في إعطاء القصيدة درجة ممتازة ومكانة رفيعة بين سائر شعره وقصيده.
على أنه لا يبتغي لنا أن ننظر إلى القصيدة بعين واحدة فحسب هي عين الرضا والارتياح وإنما يجب أن ننظر إليها بالعين الأخرى لترى ما إذا كان عناك بعض ما يؤخذ عليها من(943/23)
عيوب:
لئن كنا أعجبنا كثيرا ببعض ضروب المبالغة التي جاءت في قصيدة المتنبي اليائية، إلا أن ذلك لا يمنعنا أن ننكر بعضها الآخر ونستقبحه ونستذريه. ولئن سوغنا له أن يتحدث عن شجاعة كافور وبسالته بالمقدار الذي أراد، إلا أننا لا نسوغ له مطلقا أن يجعل الجنس السامي كله وما يملك من نفس ومال فداء له مبالغة في الثناء وإسرافا في الامتداح:
ومن قول سام لو رآك لنسله ... فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا
كما أننا نكر أن يقول المتنبي مثل هذا القول:
فتى ما سرينا في ظهور جدودنا ... إلى عصره إلا نرجي التلاقيا
لأننا ما عهدنا المتنبي يقول ذلك وهو الذي قال صغيرا:
أي مكان أرتقي ... أي عظيم اتقي
وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي
وهو الذي قال كبيرا:
سيعلم الجمع من ضم مجلسنا ... بأنني خير من تسعى به قدم
كما قال:
وكيف لا يحسد امرؤ علم ... له فوق كل هامة قدم
ومما يجعلنا نشتط في إنكارنا هذه المبالغة في هذه الأبيات التي مرت بنا، انه ينشدها في أول زيارة لكافور حين كان هذا يعلم تمام العلم أن المتنبي لم يحبه بعد ولم يعرف عن سجاياه ما يجعله في عينه يستحق مثل هذا الإطراء، الأمر الذي أدخل الشك غلى نفس كافور وعرفه بأن هذه المبالغة إنما هي مبالغة في التملق والرياء لا في المدح والثناء.
ولو اقتصر المتنبي على الإغراق في المدح لهان الأمر. . ولكننا نراه منذ أول قصيدة أنشدها في كافور يلوح به بما في نفسه ويطلب منه الإمارة والولاية فيدرك كافور الغرض من مجيئه ويعرف سر هذه المغالاة في مدحه وتعظيمه.
ولو اقتصر الأمر أيضا على الإغراق في المدح والمطالبة بالولاية لا لتمسنا له بعض العذر - مكابرين - ولكنه أرادها جائزة تليق بعظمته، بدون ستر، أو إخفاء:(943/24)
وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكا للعراقيين واليا
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا ... لسائلك الفرد الذي جاء عافيا
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
مما جعل كافور يخاف من نواياالمتنبي ويقول كلمته المعروفة (يا قوم إن م ادعى النبوة بعد محمد (ص) ألا يدعى الملك بعد كافور؟ فحسبكم)
وشيء آخر لا نريد أن نمر بالقصيدة دون أن نقف عنده بعض الشيء، وهو خلوها من فخره بنفسه على عادته في مدحه للآخرين. . وغن كان المدح الأمثل يتطلب ذوبان شخصية المادح في شخصية الممدوح، إلا أننا نذكرها هنا وخروجه هذا عن عادته لندل أيضا على ما في هذه القصيدة من مبالغة في الرياء، فقد أراد أن يجعلها خالصة لوجه كافور ولو شئت خالصة لوجه الجيش والعراقيين!
لقد سمعناه يمدح سيف الدولة فما كان ينسى نفسه ولا كان يغادر القصيدة إلا وقد بث فيها كثيرا من فخره بنفسه. . ويحدثناالتاريخ أنه كان محبا لسيف الدولة فكانت عاطفته نحوه صادقة أمينة فلم يجد عندئذ من الغضاضة أن يفخر بنفسه ويمدحها في مدحه لسيف الدولة. . وميزة أخرى فيها عادته وطبعه وهي أنه نثر بعض الحكم في قصيدته كما اعتاد أن يفعل في كثير من قصائده فنراه يقول:
إذا كنت ترض أن تعيش بذلة ... فلا تستعدن الحسام اليمانيا
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ... ولا تتقي حتى تكون ضواريا
كما يقول:
وللنفس أخلاق تدل على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
وخلاصة القول أن قصيدة المتنبي هذه من القصائد الرائعة التي كتبت له الخلود، وغن كان فيها بعض ما، أخذه عليه، فإن ثبات المستوى ليس شرطيا في الشاعرية وقد يجمع البحر الماسة الكريمة البيضاء إلى جانب الفحمة القذرة السوداء.
نور الدين شمسي باشا
كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول(943/25)
2 - رحلة إلى ديار الروم
للسيد مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
ولما وصلنا، ألقينا لديهم عصا التسيار، وفي ثاني يوم الإقامة عندهم، حال توالي رؤيتنا برهم ورفدهم، قصدت زيارة سيدي سيلان. وممن مشى في الركاب جمع من الأحباب منهم محمد سعيد السلفيتي، وتوجهنا صحبتهم إلى (سعسع) وبعد الغدا سرنا إلى (صفد) وزرنا ابن حبيب والمغارة، وختمنا الربعة الشريفة، وتغدينا عند قاضيها إسماعيل أفندي، ذي الوثبة المنيفة، ودعانا واليها للعشا، وسرنا منها قبيل العشا، وقطعنا (الخيط) صحبة أولاد مراد، وودعناهم عند (عين الذهب) الفائقة عين العسل، وسرنا إلى خان (حاصبية) ومنه أتينا (أكمام) وسرنا إلى قرية (راس العين) فرأيناها منتزها يسر لا خاطر والقلب والعين، وبتنا عند رجلها الشيخ محمد، واجتمعنا فيها برجل مصري يسمى بالشيخ علي، له فضيلة في العلم بها مليء، وفي الصباح بعد وداع رب المنزل والضيف، سرنا كأنا نسير في وادي عوف. وعندما وصلنا (المزة) نزلنا بساحة حلوة، ووردت علينا أحباب أعزة، منهم الصهر النبيل الشيخ إسماعيل، وابن العم ذا الوفا المنلا مصطفى، والصديق احب الأحوال السمان الشيخ عبد الرحمن السمان، وغيرهممن أعيان ونزلت لدى الصهر المحترم من أجل الأخت وأولادها الحرم، وبقية الجماعة في دار قريبة منا، وورد كثير أحباب السلام، حتى حبست في البيت عدة أيام، وبعد أن أقام الحجاج حسن أياما وأخذنا ما يحتاج إليه من الهدية تماما، وزار الصالحية ورجالها، وقصد أعيانها وابطالها، طلب الإذن بالعودة الأحمد، وتوجه فحرك السواكن يوم وداعه، وتوجه صحبته الشيخ أحمد الباقاني والخ الحاج سلامة الراميني والأخ المراعي للعهد الحاج حسن الجماعيلي والحاج محمد الكفرعيني وبعد توجههم إلى البلاد، بهدية للبيت والأولاد، اجتمعت بالوزير المشير جناب سليمان باشا ذو القدر الخطير، وكنت سمعت الخالص والعام يثنون عليه بحسن الالتئام مه أهل الشام، فأكرم بما لا مزيد عليه من إكرام. حباه الله مزيد الإنعام.
(وممن اجتمع بنا المحب المجد الذكي محمد جلبي بن مكي، وأنشقنا مع حسن أدبه عرفه الزكي، ومشى أمامنا يوم وداع الدستور الأكرم المسكي، وقام في خدمتنا وهوالمشار إليه أتم(943/27)
قيام، بلغا كل مراد ومزام.
(وفي اليوم الثاني من شهر ربيع الأول، توجهنا بعد وداع أهل وأحباب إلى (حرستي) مع الصهر المحترم من الأحبة، ثم رجع الصهر وسرنا إلى (دومة) القرية المعلومة، وبتنا في دار واسعة الأكناف مع إخواننا الكرام الأشراف، وفي الساعة السادسة ودعنا ابن العم المنلا مصطفى، والأخ الأمجد الشيخ محمد السفاريني والصديق الجليل نجل شيخنا الشيخ أحمد أبي المواهب الحنبلي وغيرهم سائرين إلى (القطيفة) ثم سرنا منها إلى (النبك) ذات الحبك والسبك، وأنشدت بعد ما ذكرت الشيخ علي النبكي:
ولما أن أتيت لأرض نبك ... غدت عيني من الأبعاد تبكي
ومنها أتينا خان (حسبة) العامر الآهل بمعمره ذي الرأي الثامر، ومنها سرنا إلى مدينة حمص وزرت رجالها من الخارج، كالمدتين السابقتين، وقرأت الفاتحة لسيدي خالد بن الوليد، وورد على تاجر يسمى بالسيد عبد الرحيم، وطلب الاندراج في سلك أهل الرحيم، وآخر يقال له الحاج باكير وكان أرسل لي كتابا أودع فيه أساطير، وطلب الإجازة والانتماء للفقير، فأجبته، وأنا راج لي وله التعمير، وسرنا منها إلى حمى (حماة) ولما رأيت سورها المقول في قلب لفظة المأنوس، وسورة حماة بها محروس، شهدت من بعيد أحبابا لهم ود أكيد عرفت منهم صهر الصهر السيد عبد الرحيم العقيلي ذي الشراب السلسبيلي وغيره من أصحاب أعرفهم من دار الصهر المهاب، ثم تتابع استقبال أخبار، من أعيان تلك الديار، وأنزلنا المشار إليه في داره والرفاق، وأغدق الإكرام أي إغداق، وممن حضرنا فاضل علي، وفاصل ملي، يدعي بالشيخ علي، وطلب تحصيل النسبة، مع جماعة لهم في الفضل رتبة، فأجبناهم لذلك، راجين، لنا ولهم سلوك أحسن المسالك، وكتبوا الأوراد والقصائد الأبتهالية، وأخذ بها ما يقارب العشرين من النفس الذكية، وخرج لوداعنا إخواننا الكرام، منحهم الله وافر سافر المرام، وسرنا إلى (قلعة المضيق) وهان علي من بعد قطع كل مضيق، ومنها أتينا (الشنغر) الذي امتلأ بالناس وما شغر، ولصدر نازلة بالأمن شرح فما وغر، ثم سرنا إلى (الزنبقي) وفي الأثناء ذكرت من في الدياربقى، وتذكرت قول المصونة علما، قرة العين، قبل توجهي عنها بيومين، متى يا أبي تذهب فقلت؟ بعد غد والقلب يتلهب، فأسندت رأسها إلى الحائط القبلي، وأجرت دموعا تضنى المحب وتبلى، فمنيتها(943/28)
بقرب الرجوع، فلم يفدها غير سكب الدموع، بل قالت مرادك تخليني وتروح، وأنت أنة مستهام مجروح، وذكرت أخاها، عندما رقبته حناها، وشقيقتها النفيسة، وبكاها يوم الوداع بأشواق رسيسة، وأتواق كبيسة، فأبدى التذكار، سحاب دمع حار،
على العاصي في بلاد النصيرية:
(ونصبت لنا خيمة على كتف نهر العاصي، فانحظينا ببسط دان غير قاصي، وسرحت طرق في زيتون تلكالقرايا، التي أهلها على المذهب النصيري، وقبل أن جمعنا على مذهب الإمام ابن إدريس، تحركت إلى إنطاكية بوجد رسيس.
في إنطاكية:
(ثم أنا جمعنا وسرنا، وإليها على أجنحة الخيل طرنا، ورأينا غب الوصول سورها الخراب، المحير للألباب، ولكنه كاد يساوي التراب. وبعد أن استقر بنا على جانب العاصي، رأيت ناعورة بصوت حزين، دائرة على قلبها تجري عليه الدمع الحزين فأشجاني وأبكاني بكاها. وزرت من البعد سيدي حبيب لانجار، وكتبت للأخ الأمجد الحلبي، الشيخ محمد بن أحمد المكتبي، كتابا مختصرا على الأخبار بوصول إنطاكية. وصورته (بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على حبيب أسيافه للأعداء ناكية، وبعد فنعم الأخ الكريم غب السلام والتكريم، أنا وصلنا بالسلامة إنطاكية، نهار الثلاثاء الثلاث عشر من شهر المولد الذي طيب عرفه الأطياب حاكية، فأحببنا إعلامكم بذلك كيما يتوجه بالدعاء كل خدن محبة لقيس لبني محاكية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)
ودخلنا بها الحمام الجندي، واشتريت فرسا حمرا، لكي أطفئ من متعب السرجي جمرا، ورحلنا لنحو (بيلان) التي عقبتها أم غيلان وحصل يومها لطف صحبته سلامة لولاه، لأهلنا التراب على رفيقنا الحاج سلامة فقلت:
ثم سرنا مها إلى (باياس) ... بعد ضيق يلقي بحر الاياس
وسبقنا لها بجمع من الركب ... وفي خانها شبت بطاسي
ثم منها سرنا (لقرط قلاق) ... فأصاب الفؤاد حد احتباس
(ولمسيس) قد توجه وجه ... الجسيم كيما ينل شرب كاسي(943/29)